الأخبار الموفقيات للزبير بن بكار

الزبير بن بكار

حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ مَعْنِ بْنِ زَائِدَةَ: " كُنَّا فِي مَجْلِسٍ نَنْتَظِرُ الإِذْنَ فِيهِ عَلَى الْمَنْصُورِ، فَتَذَاكَرْنَا الْحَجَّاجَ، فَمِنَّا مَنْ حَمِدَهُ، وَمِنَّا مَنْ ذَمَّهُ، فَكَانَ مِمَّنْ حَمِدَهُ مَعْنُ بْنُ زَائِدَةَ، وَمِمَّنْ ذَمَّهُ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلَيٍّ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، وَأُذِنَ لَنَا فَدَخَلْنَا عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ، فَابْتَدَأَ الْحَسَنُ بْنِ زَيْدٍ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا كُنْتُ أَحْسَبُنِي أَبْقَى حَتَّى يُذْكَرَ الْحَجَّاجُ فِي دَارِكَ وَعَلَى بِسَاطِكَ، فَيُثْنَى عَلَيْهِ. فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَمَا تُنْكِرُ مِنْ ذَلِكَ؟ رَجُلٌ اسْتَكْفَاهُ قَوْمُهُ فَكَفَاهُمْ، وَاللَّهِ لَوَدَدْتُ أَنِّي وَجَدْتُ مِثْلَ الْحَجَّاجِ حَتَّى أَسْتَكْفِيَهُ أَمْرِي، وَأُنْزِلُهُ الْحَرَمَيْنِ حَتَّى يَأْتِيَنِي أَجَلِي. قَالَ: فَقَالَ لَهُ مَعْنُ بْنُ زَائِدَةَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ لَكَ مِثْلَ الْحَجَّاجِ عَدَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ لَوِ اسْتَكْفَيْتَهُمْ كَفَوْكَ. قَالَ: وَمَنْ هُمْ؟ كَأَنَّكَ تُرِيدُ نَفْسَكَ. قَالَ: وِإِنْ أَرَدْتُهَا فَمَهْ؟ قَالَ: كَلا لَسْتَ هُنَاكَ، إِنَّ الْحَجَّاجَ ائْتَمَنَهُ الْقَوْمُ فَأَدَّى إِلَيْهِمُ الأَمَانَةَ، وَائْتَمَنَّاكَ فَخُنْتَنَا حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: " قَدِمَ عَلَى مِزْيَدٍ مُخَنَّثٌ مِنْ مَكَّةَ، فَقَالَ لَهُ: بِأَبِي وَأُمِّي، دُلَّنِي عَلَى بَعْضِ مُخَنَّثِي الْمَدِينَةِ أَتَخَنَّثُ مَعَهُ. فَأَتَى بِهَ دَارَ خُثَيْمٍ، وَهُوَ شُرْطِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: دُونَكَ صَاحِبَ هَذَا الدَّارِ، فَدَخَلَ وخُثَيْمٌ يُصَلِّي، فَقَامَ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ لَهُ خُثَيْمٌ: سُبْحَانَ اللَّهِ، فَقَالَ: سَبَّحَتَ بِأُمِّ الزِّنَا فِي جَامِعَةٍ قَمْلَةٍ، انْصَرِفِي، الْجَامِعَةُ: الْقَيْدُ، وَالْقَمْلُ: أَنْ يَطُولَ حَبْسُهُ فَيَقْمَلَ قَدُّهُ، حَتَّى أَتَحَدَّثَ مَعْكِ سَاعَةً، فَلَمَّا أَطَالَ خُثَيْمٌ، قَالَ: تَتَنَسَّكِينَ زِيَادَةً، فَانْصَرَفَ مِنْ صَلاتِهِ، فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَقَالَ: مَا شَأْنُكَ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، وَوَصَفَ لَهُ مَنْ دَلَّهُ، فَعَرِفَ أَنَّهُ مِزْيَدٌ، فَطَلَبَهُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ حَدَّثَنِي الْمَدَائِنِيُّ، قَالَ: " كَانَ الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَقِيلٍ عَامِلا لِلْحَجَّاجِ عَلَى الْكُوفَةِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ أَبَا صَفِيَّةَ، وَيَغْضَبُ مِنْهَا، فَاسْتَعْدَتِ امْرَأَةٌ عَلَى زَوْجِهَا، فَأَتَاهُ صَاحِبَ الدَّعْوى عِنْدَ الْمَسَاءِ. قَالَ: نَعَمْ أَغْدُو مَعَكَ، فَبَاتَ الرَّجُلُ يَقُولُ لامْرَأَتِهِ: لَوْ قَدْ أَتَيْتُ الأَمِيرَ لَقُلْتُ: يَا أَبَا صَفِيَّةَ، إِنَّهَا تَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا، فَيَأْمُرُ بِكِ مَنْ يُوجِعُكِ ضَرْبًا، وَجَعَلَ يُكَرِّرُ عَلَيْهَا: يَا أَبَا صَفِيَّةَ، فَحَفَظَتِ الْمَرْأَةُ الْكُنْيَةَ، وَظَنَّتْ أَنَّهَا كُنْيَةَ الأَمِيرِ، فَلَمَّا تَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ، قَالَتْ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ يَا أبَا صَفِيَّةَ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَافَاكِ اللَّهُ، فَأَعَادَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ: فَأَعَادَتْ، فَقَالَ لِزَوْجِهَا: خُذْ بِيَدِهَا فَإِنِّي أَظُنُّهَا ظَالِمَةً

حَدَّثَنِي الْمَدَائِنِيُّ، قَالَ: قَالَ سَلْمُ بْنُ زِيَادٍ لِطَلَحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلَفٍ الْخُزَاعِيِّ: " أُرِيدُ أَنْ أَصِلَ رَجُلا لَهُ حَقٌ عَلَيَّ وَصُحْبَةٌ بِأَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَمَا تَرَى؟ قَالَ: أَرَى أَنْ تَجْعَلَ هَذِهِ الْعَشَرَةَ، قَالَ: فَأصِلُهُ بِخَمْسِ مِائَةِ أَلْفٍ، قَالَ: كَثِيرٌ. فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى وَقَفَ عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ، قَالَ: أَفَتَرَى مِائَةَ أَلْفٍ يُقْضَى بِهَا ذِمَامُ رَجُلٍ لَهُ انْقِطَاعٌ وَصُحْبَةٌ وَمَودَّةٌ وَحَقٌ وَاجِبٌ؟ ، قَالَ: نَعَمٌ، قَالَ: هِيَ لَكَ وَمَا أَرَدْتُ غَيْرَكَ. قَالَ: أَقِلَّنِي، قَالَ: لا أَفْعَلْ وَاللَّهِ حَدَّثَنِي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ جَدِّي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبٍ، قَالَ: " هَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجَعْدِيُّ بَصِيصَ جَارِيَةِ نَفِيسٍ، صَاحِبِ قَصْرِ نَفِيسٍ بِالْمَدِينَةَ. فَبَلَغَهُ عَنْهَا شَيْءٌ أَنْكَرَهُ، فَغَابَ عَنْهَا زَمَانًا، ثُمَّ أَتَاهَا، فَقَالَ لَهَا: تُغَنِّينَ: وَكُنْتُ أُحِبُّكُمْ فَسَلَوْتُ عَنْكُمْ ... عَلَيْكُمْ فِي دِيَارِكُمُ السَّلامُ فَقَالَتْ: نَعَمْ، وأُغَنِّي: تَحَمَّلَ أَهْلُهَا عَنْهَا فَبَانُوا ... عَلَى آثَارِ مَنْ ذَهَبَ الْعَفَاءُ قَالَ: فَازْدَادَ بِهَا شَغَفًا وَكَلَفًا، وَأَقَامَ مَلِيًّا يُدِيمُ النَّظَرَ إِلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: تُغَنِّينَ: وَأَخْضَعُ لِلْعُتْبَى إِذَا كُنْتُ ظَالِمًا ... وَإِنْ ظُلِمْتُ كُنْتُ الَّذِي أَتَنَصَّلُ قَالَتْ: نَعَمْ، وَأُغَنِّي: فَإِنْ تُقْبِلُوا نُقْبِلْ عَلَيْكُمْ بِوُدِّنَا ... وَنُنْزِلُكُمْ مِنَّا بِرَحْبِ الْمَنَازِلِ قَالَ: فَتَقَاطَعَا فِي بَيْتَيْنِ، وَتَوَاصَلا فِي بَيْتَيْنِ، وَلَمْ يَفْطِنْ مِنَ الْقَوْمِ غَيْرِي حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيُّ، قَالَ: قَالَ بَسِيلُ التُّرْجُمَانُ: كُنْتُ مَعَ الرَّشِيدِ فِي بَلادِ الرُّومِ، فَلَمَّا افْتَتَحَ أَنْقَرَةَ فَإِذَا بِحَجَرٍ عَظِيمٍ مَنْصُوبٍ عَلَى بَابِ الْحِصْنِ فِيهِ كِتَابٌ بِالْيُونَانِيَّةِ، وَهِيَ الرُّومِيَّةُ الْقَدِيمَةُ، وَكَانَ ذَوُ الْقَرْنَيْنِ مِنْ وَلَدِ يُونَنَ بْنِ يُونَانَ، فَجَعَلْتُ أَقْرَأُهُ وَأَنْقُلُهُ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ، وَالرَّشِيدُ يَنْظُرُ فَإِذَا فِيهِ: " بِسْمِ اللَّهِ الْمَلِكِ الْحَقِّ الْمُبِينِ، يَا ابْنَ آدَمَ غَافِصِ الْفُرْصَةَ عِنْدَ إِمْكَانِهَا، وَكِّلِ الأُمُورَ إِلَى وَالِيهَا، وَلا يَحْمِلَنَّكَ إِفْرَاطُ السُّرُورِ عَلَى مَأْتَمٍ، ولا تَحْمِلَنَّ عَلَى نَفْسِكَ هَمَّ يَوْمٍ لَمْ يَأْتِكْ، فَإِنَّهُ إِنْ يَكُنْ مِنْ أَجَلِكْ يَأْتِكَ اللَّهُ فِيهِ بِرِزْقِكَ، لا تَكُنْ أَسْوأَ الْمَغْرُورِينَ فِي جَمْعِ الْمَالِ، فَكَمْ رَأَيْنَا مِنْ جَامِعٍ جَمَعَ مَالا لِبَعْلِ حَلِيلَتِهِ عَلَى أَنَّ تَقْتِيرَ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ تَوْفِيرٌ مِنْهَ عَلَى خِزَانَةِ غَيْرِهِ يَنْبَغِي لِحُكَمَاءِ الْيُوَنَانِ أَنْ يَنْظُرُوا فِي هَذَا الْكِتَابِ كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: فَنَظَرْتُ فَإِذَا تَأْرِيخَهُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ سَنْةٍ حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: " كُنْتُ عِنْدَ الْمَأْمُونِ بِدِمَشْقَ، وَكَانَ قَدْ قَلَّ الْمَالُ عِنْدَهُ حَتَّى ضَاقَ، وَشَكَا ذَلِكَ إِلَى أَبِي إِسْحَاقَ الْمُعْتَصِمِ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، كَأَنَّكَ بِالْمَالِ وَقَدْ وَافَاكَ بَعْدَ جُمُعَةٍ، قَالَ: وَكَانَ قَدْ حَمَلَ إِلَيْهِ ثَلاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْ خَرَاجِ مَا كَانَ يَتَوَلاهُ أَبُو إِسْحَاقَ لَهُ.

فَلَمَّا وَرَدَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْمَالُ، قَالَ الْمَأْمُونُ لِيَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ: اخْرُجْ بِنَا نَنْظُرُ هَذَا الْمَالَ، فَخَرَجَا حَتَّى أَصْحَرَا وَوَقَفَا يَنْظُرَانِ إِلَيْهِ، وَكَانَ قَدْ هُيِّئَ بِأَحْسَنِ هَيْئَةٍ، وَحُلِّيَتْ أَبَاعِرُهُ، وُأُلْبِسَتِ الإِحْلاسُ الْمُوَشَّاةُ، وَالْجِلالُ الْمَصْبُوغَةُ، وَقُلِّدَتِ الْعِهَنُ، وَجُعِلَتِ الْبِدُورُ مَنَ الْحَرِيرِ الأَحْمَرِ وَالأَخْضَرِ وَالأَصْفَرِ، وَأُبْدِيَتْ رُؤُوسُهَا، قَالَ: فَنَظَرَ الْمَأْمُونُ إِلَى شَيْءٍ حَسَنٍ، وَاسْتَكْثَرَ ذَلِكَ الْمَالَ، وَعَظُمَ فِي عَيْنِهِ، وَاسْتَشْرَفَهُ النَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَيَعْجَبُونَ مِنَهُ، قَالَ: فَقَالَ الْمَأْمُونُ لِيَحْيَى: يَا أبَا مُحَمَّدٍ، يَنْصَرِفُ أَصْحَابُنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ تَرَاهُمْ إِلَى مَنَازِلِهِمْ خَائِبِينَ وَنَنْصَرِفُ نَحْنُ بِهَذِهِ الأَمْوَالِ قَدْ مَلَكْنَاهَا دُونَهَمْ! إِنَّا إِذًا لَلِئَامٌ، ثُمَّ دَعَا مُحَمَّدَ بْنَ يَزْدَادَ، فَقَالَ: وَقِّعْ لِفُلانٍ بِأَلْفِ أَلْفٍ، وَلِفُلانٍ بِمِثْلِهَا، وَلِفُلانٍ بِثَلاثِمِائَةِ أَلْفٍ، وَلِفُلانٍ بِمِثْلِهَا. قَالَ: فَوَاللَّهِ إِنْ زَالَ كَذَلِكَ حَتَّى فَرَّقَ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَرِجْلُهُ فِي رِكَابِهِ. ثُمَّ قَالَ: ادْفَعِ الْبَاقِيَ إِلَى الْمُعَلَّى لِعَطَاءِ جُنْدِنَا، قَالَ: فَقَالَ الْعَيْشِيُّ: فَجِئْتُ حَتَّى قُمْتُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ فَلَمْ أَرُدَّ طَرْفِي عَنْهُ، فَجَعَلَ لا يَلْحَظُنِي إِلا رَآنِي بِتِلْكَ الْحَالِ. فَقَالَ: يَا أبَا مُحَمَّدٍ، وَقِّعْ لِهَذَا بِخَمْسِينَ أَلَفَ دِرْهَمٍ مِنِ السِّتَّةِ الآلافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ لا يَخْتَلِسُ نَاظِرِي. قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ عَلَيَّ لَيْلَتَانِ حَتَّى أَخَذْتُ الْمَالَ ". حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمِ: قَالَ: لمَّا سَارَ الْمَأْمُونُ إِلَى دِمَشْقَ ذَكَرُوا لَهُ أَبَا مُسْهِرٍ الدِّمَشْقِيَّ وَوَصَفُوهُ بِالْعِلْمِ وَالْفِقْهِ، فَوَجَّهَ مَنْ جَاءَ بِهِ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ: كَمْا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] قَالَ: أَمَخْلُوقٌ، أَمْ غَيْرُ مَخْلَوقٍ؟ قَالَ: مَا يَقُولُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: يَقُولُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ. قَالَ: بِخَبَرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ، أَوْ عَنِ الصَّحَابَةَ، أَوْ عَنِ التَّابِعِينَ، أَوْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ؟ ، قَالَ: بِالنَّظَرِ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، نَحْنُ مَعَ الْجُمْهُورِ الأَعْظَمِ، أَقُولُ بِقَوْلِهِمُ، وَالْقُرْآنُ كَلامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. قَالَ: يَا شَيْخُ، أَخْبِرْنِي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ أَكَانَ يُشْهِدُ إِذَا تَزَوَّجَ؟ قَالَ: لا أَدْرِي. قَالَ: اخْرُجْ، قَبَّحَكَ اللَّهُ، وَقَبَّحَ مَنْ قَلَّدَكَ دِينُهُ وَجَعَلَكْ قُدْوَةً حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الأَنْمَاطِيُّ، وَكَانَ أَحَدَ الْفُقَهَاءِ الْعَشَرَةِ، قَالَ: " تَغَدَّيْنَا فِي يَوْمِ عِيدٍ مَعَ الْمَأْمُونِ، فَأَظُنُّهُ قَدْ وَضَعَ عَلَى الْمَائِدَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاثِمِائَةِ لَوْنٍ.

قَالَ: فَكُلَّمَا وُضِعَ لَوْنٌ، نَظَرَ إِلَيْهِ الْمَأْمُونُ، وَقَالَ: هَذَا نَافِعٌ لِكَذَا ضَارٌ مِنْ كَذَا، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ صَاحِبُ صَفْرَاءَ فَلْيَأْكُلْ مِنْ هَذَا، وَمَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ السَّوْدَاءُ فَلا يَعْرِضْ لِهَذَا، وَمَنْ أَحَبَّ الزِّيَادَةَ فِي لَحْمِهِ فَلْيَأْكُلْ مِنْ هَذَا، وَمَنْ قَصْدُهُ قِلَّةُ الْغِذَاءِ فَلْيَقْتَصَرْ عَلَى هَذَا. قَالَ: فَوَاللَّهِ إِنْ تَلِكَ حَالُهُ مِنْ كُلِّ لَونٍ يُقَدَّمُ، حَتَّى رُفِعَتِ الْمَوَائِدُ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ خُضْنَا فِي الطِّبِ كُنْتَ جَالِينُوسَ فِي مَعْرَفَتِهِ، أَوْ فِي النُّجُومِ كُنْتَ هِرْمِسَ فِي حِسَابِهِ، أَوْ فِي الْفِقْهِ كُنْتَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ فِي عِلْمِهِ، أَوْ فِي السَّخَاءِ فَأَنْتَ حَاتِمُ طَيِّء فِي جُودِهِ، أَوْ صِدْقِ الْحَدِيثِ فَأَنْتَ أَبُو ذَرٍّ فِي صِدْقِ لَهْجَتِهِ، أَوِ الْكَرَمِ، فَأَنْتَ كَعْبُ بْنُ مَامَةَ فِي إِيثَارِهِ عَلَى نَفْسَهِ. قَالَ: فَسُرَّ بِذَلِكَ الْمَأْمُونُ، وَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، إِنَّ الإِنْسَانَ إِنَّمَا فُضِّلَ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْهَوَامِّ بِفِعْلِهِ وَعَقْلِهِ وَتَمْيِيزِهِ، وَلَوْلا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَحْمٌ أَطْيَبَ مِنْ لَحْمٍ وَلا دَمٌ أَطْيَبَ مِنْ دَمٍ حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، كَانَ الْمَأْمُونُ قَدْ هَمَّ بِلَعْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ: " فَفَثَأَهُ عَنْ ذَلِكَ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ. قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ الْعَامَةَ لا تَحْتَمَلُ هَذَا، وَسِيَّمَا أَهْلُ خُرَاسَانَ، وَلا تَأْمَنُ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ نَفْرَةٌ، وإِذَا كَانَتْ لَمْ تَدْرِ مَا عَاقِبَتُهَا، وَالرَّأْيُ أَنْ تَدَعَ النَّاسَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَلا تُظْهِرْ لَهُمْ أَنَّكَ تَمِيلُ إِلَى فِرْقَةٍ مِنِ الْفِرَقِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَصْلَحُ فِي السِّياسَةِ، وَأَحْرَى فِي التَّدْبِيرِ، قَالَ: فَرَكَنَ الْمَأْمُونُ إِلَى قَوْلِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ ثُمَامَةُ، قَالَ: يَا ثُمَامَةُ، قَدْ عَلِمْتَ مَا كُنَّا دَبَّرْنَاهُ فِي مُعَاوِيَةَ، وَقَدْ عَارَضَنَا رَأْيٌ أَصَلَحُ فِي تَدْبِيرِ الْمَمْلَكَةِ، وَأَبْقَى ذِكْرًا فِي الْعَامَّةِ. ثُمَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ يَحْيَى بْنَ أَكْثَمَ خَوَّفَهُ إِيَّاهَا، وَأَخْبَرَهُ بِنُفُورِهِ عَنْ هَذَا الرَّأْيِ، فَقَالَ ثُمَامَةُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْعَامَّةُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَهَا يَحْيَى، وَاللَّهِ لَوْ وَجَّهَتَ إِنْسَانًا عَلَى عَاتِقِهِ سَوَادٌ لَسَاقَ إِلَيْكَ بِعَصَاه عَشَرَةَ آلافٍ مِنْهَا. وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا رَضِيَ اللُّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، أَنْ سَوَّاهَا بِالأَنْعَامِ حَتَّى جَعَلَهُمْ أَضَلَّ مِنْهَا سَبِيلا. وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَقَدْ مَرَرْتُ مُنْذُ أَيَّامٍ فِي شَارِعِ الْخُلْدِ وَأَنَا أُرِيدُ الدَّارَ، فَإِذَا إِنْسَانٌ قَدْ بَسَطَ كِسَاءَهُ وَأَلْقَى عَلَيْهِ أَدْوِيَةً، وَهُوَ قَائِمٌ يُنَادِي عَلَيْهَا: هَذَا الدَوَاءُ لِبَيَاضِ الْعَيْنِ وَالْغَشَاوَةِ، وَضَعْفِ الْبَصَرِ وَإِنَّ إِحْدَى عَيْنَيْهِ لَمَطْمُوسَةٌ، وَالأُخْرَى لَمُوشِكَةٌ.

وَالنَّاسُ قَدِ انْثَالُوا عَلَيْهِ، وَأَجْفَلُوا إِلَيْهِ يَسْتَوْصِفُونَهُ فَنَزَلْتُ عَنْ دَابَتِي، وَدَخَلْتُ فِي غِمَارِ تِلْكَ الْجَمَاعَةِ، فَقُلْتُ: يَا هَذَا، عَيْنَاكَ أَحْوَجُ مِنْ هَذَهِ الأَعْيُنِ إِلَى الْعِلاجِ، وَأَنَتَ تَصِفُ هَذَا الدَّواءَ، وَتُخْبِرُ أَنَّهُ شِفَاءٌ لِوَجِعِ الأَعْيُنِ، فَلِمَ لا تَسْتَعْمِلُهُ؟ فَقَالَ: أَنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً، مَا مَرَّ بِي شَيخٌ أَجْهَلَ مِنْكَ. قُلْتُ: وَكَيْفَ ذَاكَ؟ قَالَ: يَا جَاهُلُ، أَتَدْرِي أَيْنَ اشْتُكَّتْ عَيْنِي؟ قُلْتُ: لا. قَالَ: بِمِصْرَ، قَالَ: فَأَقْبَلَتْ عَلَيَّ الْجَمَاعَةُ، فَقَالُوا: صَدَقَ الرَّجُلُ، أَنْتَ جَاهِلٌ، وَهَمُّوا بِي، فَقُلْتُ: لا وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ أَنَّ عَيْنَهُ اشْتُكَّتْ بِمِصْرَ. قَالَ: فَمَا تَخَلَّصْتُ مِنْهُمْ إِلا بِهَذِهِ الْحُجَّةِ، قَالَ: فَضَحِكَ الْمَأْمُونُ، وَقَالَ: مَاذَا لَقِيَتَ الْعَامَّةُ مِنْكَ؟ قُلْتُ: الَّذِي لَقِيَتْ مِنَ اللَّهِ مِنْ سُوءِ الثَّنَاءِ وَقُبْحِ الذِّكْرِ أَكْثَرُ، قَالَ: أَجَلْ حَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا، عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ، عَنِ السَّرِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: " قَالَ لِي شُرَيْحٌ الْقَاضِي: مَا غَلَبَنِي فِي الْجَوَابِ أَحَدٌ قَطُّ كَرَجُلٍ أَتَانِي يَوْمًا فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ حِينَ صَلَّيْتُ الْغَدَاةَ وَمَعَهُ خَصْمٌ لَهُ، وَعَلَى الْفَتَى جُمَّةٌ لَهُ كَأَنَّهَا قَتَادَةٌ قُدِّرَ رَطَلُهَا، فَتَكَادُ تَقْطُرُ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ غَاظَنِي، فَقُلْتُ لَهُ: أَمَا كَانَ لَكَ هِمَّةٌ مُنْذُ أَصْبَحْتَ إِلا شَعْرَكَ هَذَا تُرَطِّلُهُ، فَقَالَ لِيَ الْفَتَى: لَيْسَ لِهَذَا جَلَسْنَا بَيْنَ يَدَيْكَ، إِنَّمَا جَلَسْنَا نَتَخَاصَمُ إِلَيْكَ، فَأَمَّا أَنْ تَكُونَ مُحْتَسِبًا عَلَى الشَّعْرِ فَلا، فَأَغْضَبَنِي. فَقُلْتُ لَهُ: أَرَاكَ مُعْجَبًا بِنَفْسِكَ؟ قَالَ: أَنَا إِذَا زَهَدْتُ فِي نَفْسِي، فَمَنْ يُعْجَبُ فِيهَا؟ قَالَ شُرَيْحٌ: فَقُلْتُ لَهُ: أَرَاكَ تُكْثِرُ الْكَلامَ! فَقَالَ الْفَتَى: فَمَنْ يُعَبِّرُ حُجَّتِي إِذَا لَمْ أَتَكَلَّمْ؟ قَالَ شُرَيْحٌ: قُلْتُ لَهُ: إِنِّي أَرَاكَ ظَالِمًا. قَالَ الْفَتَى: لَيْسَ عَلَى ظَنِّكَ تَقْضِي بَيْنَنَا، إِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ تَقْضِيَ بِالْحَقِّ الْوَاضِحِ، وَتَدَعَ الظَّنَّ. قَالَ شُرَيْحٌ: فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهِ أُمَازِحَهُ بَعْدَ هَذَا الْكَلامِ، فَقُلَتْ لَهُ: أَيَسُرُّكَ أَنَّكَ فِي مَجْلِسِي هَذَا عَلَى الْقَضَاءِ؟ فَقَالَ: أَمَّا وَأَنَا آخُذُ عَلَيْهِ الْكَرَاءَ مِثْلَكَ فَلا، وَلَكِنْ مُحْتَسِبًا لِلْمُسْلِمِينَ. قَالَ شُرَيْحٌ: فَأَخْجَلَنِي وَاللَّهِ، فَقُلْتُ لَهُ: أَعَرَبِيٌّ أَنْتَ مُزَوِّجُهَا؟ فَقَالَ: اطْلُبْ. قَالَ: مِنْ مَظَانِّهِ، يَعْنِي مِنْ قَبِيلِ النِّسَاءِ. قَالَ شُرَيْحٌ: فَتَرَكْتُ مَجْلِسِي ذَلِكَ وَقُمْتُ، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى بَابِ دَارِهِمُ، فَنَادَيْتُ فَخَرَجَتْ إِلَيَّ الْجَارِيَةُ، فَكَلَّمَتْنِي مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ، فَقَالَتْ: مَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: أَنَا شُرَيْحٌ. فَقَالَتِ: الْقَاضِي؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَتْ: حَيَّاكَ اللهُ يَا أَبَا أُمَيَّةَ، حَاجَتُكَ؟ قُلْتُ: أَرَدْتُ فُلانَةً، أَعْنِي أُمَّهَا. قَالَتْ: هِيَ غَائِبَةٌ، وَأَنَا خَلِيفَتُهَا فِي الْمَنْزِلِ. قُلْتُ: أَتَيْتُهَا خَاطِبًا فُلانَةً ابْنَتَهَا، فَاسْتَحْيَتْ مِنِّي وَتَسَتَّرَتْ مِنِّي، فَبَعَثْتُ إِلَى أُمِّهَا وَأَهْلِهَا فَجَمَعْتُهُمْ وَتَزَوَّجْتُهَا، وَبَعَثْتُ الْمَالَ، وَنَقَدْتُهُمْ مِنَ سَاعَتِي. وَقُلْتُ لَهُمْ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكُمْ إِنْ بَاتَتْ إِلا عِنْدِي.

فَقَالُوا: اللَّهُمَّ اغْفِرْ، أَنَصْنَعُهَا لَكَ؟ قُلْتُ: حَسْبِي مَا رَأَيْتُ، فَهَيَّئُوهَا ثُمَّ زَفُّوهَا إِلَيَّ مِنْ لَيْلَتِهِمْ، فَأَقْبَلَتْ تُهْدِيهَا النِّسَاءُ، فَلَمَّا وَقَفَتْ بِبِابِ الْحُجْرَةِ سَلَّمَتْ فَاسْتَجْفَى ذَلِكَ النِّسَاءُ مِنْهَا. ثُمَّ دَخَلَتِ الْبَيْتَ فَقُمْتُ إِلَيْهَا، فَقُلْتُ: أَيَتُهَا الْمَرْأَةُ، إِنَّ السُّنَّةَ إِذَا دَخَلَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا قَامَ فَصَلَّى وَتُصَلِّي خَلْفَهُ، وَيَسْأَلانِ اللَّهَ خَيْرَ لَيْلَتِهِمَا، وَيَتَعَوَّذَانِ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا. قَالَ: فَتَقَدَّمْتُ لِلْصَلاةِ، فَإِذَا هِيَ خَلْفِي، فَصَلَّيْتُ، فَلَمَّا انْفَلَتُّ إِذَا هِيَ قَاعِدَةٌ عَلَى فِرَاشِهَا، فَأَخَذْتُ بِنَاصِيَتِهَا فَدَعَوْتُ وَبَرَّكْتُ، ثُمَّ مَدَدْتُ يَدِي، فَقَالَتْ: عَلَى رِسْلِكَ، فَقُلَتْ: إِحْدَى الدَّوَاهِي مُنِيتُ بِهَا وَاللَّهِ، فَقَالَتْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَحْمَدُهُ وَأَسْتَعِينُهُ وَأُؤْمِنُ بِهِ وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، وَصَلَى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي امْرَأَةٌ غَرِيبَةٌ، لا وَاللَّهِ، مَا سِرْتُ مَسِيرًا قَطُّ هُوَ أَشَقُّ عَلَيَّ مِنْ مَسِيرِي إِلَيْكَ، وَأَنْتَ رَجُلٌ لا أَعْرِفُ أَخْلاقَكَ، فَحَدِّثْنِي بِمَا تُحِبُّ فَآتِيَهُ، وَمَا تَكْرَهُ فَأَنْزَجِرَ عَنْهُ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ. قَالَ: فَقُلْتُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، أَمَّا بَعْدُ: فَقَدِمْتِ خَيْرَ مَقْدَمٍ عَلَى أَهْلِ زَوْجِكِ، سَيِّدِ رِجَالِهِمْ، وَأَنْتِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، سَيِّدَةُ نِسَائِهِمْ. أُحِبُّ كَذَا، وَأَكْرَهُ كَذَا. قَالَتْ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَخْتَانِكَ، أَتُحِبُّ أَنْ يَزُورُوكَ؟ فَقُلْتُ: إِنِّي رَجُلٌ قَاضٍ، وَأَكْرَهُ أَنْ يَمَلُّونِي. قَالَ: فَبِتُّ بِأَعْيَشِ لَيْلَةٍ، ثُمَّ أَقَمْتُ عِنْدَهَا ثَلاثًا، ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، فَلَبَثْتُ فِيهِ حَوْلا لا أَرَى فِيهِ يَوْمًا إِلا وَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ رَأْسِ السَّنَةِ انْصَرَفْتُ مِنْ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ إِلَى مَنْزِلِي، فَإِذَا عَجُوزٌ تَأْمُرُ وَتَنْهَى، فَقَالَتْ: كَيْفَ أَنْتَ يَا أَبَا أُمَيَّةَ؟ قُلْتُ: يَا زَيْنَبُ مَنْ هَذِهِ؟ قَالَتْ: خَتَنَتُكَ فُلانَةُ، تَعْنِي أُمَّهَا. قُلْتُ: حَيَّاكِ اللَّهُ بِالسَّلامِ، كَيْفَ أَنْتِ يَرْحَمُكِ اللَّهُ؟ قَالَتْ: كَيْفَ رَأَيْتَ صَاحِبَتَكَ؟ قُلْتُ: كَخَيْرِ امْرَأَةٍ. قَالَتْ: إِنَّ الْمَرْأَةَ لا تَكُونُ فِي حَالٍ أَسْوَأَ خُلُقًا مِنْهَا فِي حَالَيْنِ: إِذَا حَظِيَتْ عِنْدَ زَوْجِهِا، وَإِذَا وَلَدَتْ غُلامًا، فَإِذَا رَابَكَ مِنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ فَالسَّوْطَ، فَإِنَّ الرِّجَالَ، وَاللَّهِ، مَا حَازَتْ إِلَى بُيُوتِهَا شَيْئًا شَرًّا مِنَ الْوَرْهَاءِ الْحَمْقَاءِ الْمُدَلَّلَةِ. قُلْتُ: أَشْهَدُ أَنَّهَا ابْنَتُكِ، قَدْ كَفَيْتِنَا الرِّيَاضَةَ، وَأَحْسَنْتِ الأَدَبَ. قَالَ: وَكَانَتْ تَأْتِي فِي كِلِّ سَنَةٍ تُوصِينِي بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ، ثُمَّ تَنْصَرِفُ، فَِذَلِكَ حَيْثُ أَقُوْلُ: إِذَا زَيْنَبٌ زَارَهَا أَهْلُهَا ... حَشَدْتُ وَأَكْرَمْتُ زُوَّارَهَا وَإِنْ هِيَ زَارَتْهُمُ زُرْتُهَا ... وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِي هَوًى دَارَهَا

قَالَ: فَأَقَامَتْ عِنْدِي عِشْرِينَ سَنَةً، فَمَا غَضِبْتُ عَلَيْهَا يَوْمًا، وَلا لَيْلَةً إِلا يَوْمًا كُنْتُ لَهَا ظَالِمًا، كُنْتُ إِمَامَ قَوْمِي، فَصَلَّيْتُ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، فَأَبْصَرْتُ عَقْرَبًا فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي رَكَعْتُ فِيهِ، وَأَقَامَ الْمُؤَذِّنُ فَعَجِلْتُ عَنْ قَتْلِهَا، فَأَكْفَأْتُ عَلَيْهَا إِنَاءً، فَلَمَّا كُنْتُ عِنْدَ الْبَابِ، قُلْتُ: يَا زَيْنَبُ، إِيَّاكِ وَالإِنَاءَ حَتَّى أَرْجِعَ. فَعَجِلَتْ فَحَرَّكَتْهُ، فَجِئْتُ وَقَدْ ضَرَبَتْهَا الْعَقْرَبُ، فَلَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَمْرُسُ إِصْبَعَهَا، وَأَقْرَأُ عَلَيْهَا فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ. وَكَانَ لِي جَارٌ مِنْ كِنْدَةَ، يُقَالُ لَهُ: مَيْسَرَةُ، لا يَزَالُ يَقْرَعُ امْرَأَتَهُ، فَذَلِكَ حِينَ أَقُولُ: رَأَيْتُ رِجَالا يَضْرِبُونَ نِسَاءَهُمْ ... فَشُلَّتْ يَمِينِي يَوْمَ أَضْرِبُ زَيْنَبَا أَأَضْرِبُهَا فِي غَيْرِ جُرْمٍ أَتَتْ بِهِ ... إِلَيَّ فَمَا عُذْرِي إِذَا كُنْتُ مُذْنِبَا فَتَاةٌ تَزِينُ الْحَلْيَ إِنْ هِيَ زُيِّنَتْ ... كَأنَّ بِفِيهَا الْمِسْكَ خَالَطَ مَحْلَبًا فَلَوْ كُنْتَ يَا شَعْبِيُّ صَادَفْتَ مِثْلَهَا ... لَعِشْتَ زَمَانًا نَاعِمَ الْبَالِ مُخْصَبًا وَكَانَتْ أَقَامَتْ مَعِي يَا شَعْبِيُّ عِشْرِينَ سَنَةً لَمْ أَغْضَبْ عَلَيْهَا، فَأَفْسَدَتْ عَلَيَّ النِّسَاءَ، لَمْ أَتَزَوَّجْ بَعْدَهَا، وَوَدِدْتُ يَا شَعْبِيُّ أَنِّي تَبِعْتُهَا، فَقَدْ أَبْغَضْتُ الْعَيْشَ بَعْدَهَا، فَعَلَيْكَ يَا شَعْبِيُّ بِنِساءِ بَنِي تَمِيمٍ حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ صَالِحٍ: " أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ جَمَعَ بَنِيهِ ذَاتَ يَوْمٍ: الْوَلِيدَ، وَسُلَيْمَانَ، وَمَسْلَمَةَ، فَاسْتَقْرَأَهُمْ فَقَرَءُوا، وَاسْتَنْشَدَهُمْ فَأَنْشَدُوا لِكِلِّ شَاعِرٍ غَيْرِ الأَعْشَى، فَقَالَ لَهُمْ: قَرَأْتُمْ فَأَحْسَنْتُمْ، وَأَنْشَدْتُمْ فَأَحْسَنْتُمْ لِكُلِّ شَاعِرٍ غَيْرِ الأَعْشَى، فَمَا لَكُمْ تَهْجُرُونَهُ؟ فَقَدْ أَخَذَ فِي كِلِّ فَنٍّ فَأَحْسَنَ، وَمَا امْتَدَحَ رَجُلا قَطُّ إِلا جَعَلَهُ مَذْكُورًا. هَذَا عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ وَعَلَقَمَةُ بْنُ عُلاثَةَ، وَهُمَا مِنْ بَيْتٍ وَاحِدٍ، هَجَا عَلْقَمَةَ فَأَخْمَلَهُ، وَكَانَ شَرِيفًا مَذْكُورًا، وَمَدَحَ عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ فَرَفَعَهُ، ثُمَّ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: لِيُنْشِدْنِي كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ أَرَقَّ بَيْتٍ قَالَتْهُ الْعَرَبُ، وَلا يُفْحِشْ وَلا يَسْتَحِيَنَّ مِنْ إِنْشَادٍ، هَاتِ يَا وَلِيدُ، فَقَالَ الْوَلِيدُ: مَا مَرْكَبٌ وَرُكُوبُ الْخَيْلِ يُعْجِبُنِي ... كَمَرْكَبٍ بَيْنَ دُمْلُوجٍ وَخَلْخَالِ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَهَلْ يَكُونُ فِي الشِّعْرِ أَرَفَثُ مِنْ هَذَا؟ هَاتِ يَا سُلَيْمَانُ، فَقَالَ: حَبَّذَا رَجْعُهَا إِلَيْهَا يَدَيْهَا ... فِي ذُرَا دَرْعِهَا تَحُلُّ الإِزَارَا قَالَ: لَمْ تُصِبْ، هَاتِ يَا مَسْلَمَةُ. قَالَ مَسْلَمَةُ: وَمَا ذَرَفَتْ عَيْنَاكِ إِلا لِتَضْرِبِي ... بِسَهْمَيْكِ فِي أَعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّلِ قَالَ: كِدْتَ وَلَمْ تُصِبْ إِذَا ذَرَفَتْ عَيْنَاهَا بِالْوَجْدِ فَمَا بَقِيَ إِلا اللِّقَاءُ، إِنَّمَا يَنْبَغِي لِلْعَاشِقِ أَنْ يَقْتَضِيَ مِنْهِا الْجَفَاءَ وَيَكْسُوَهَا الْمَوَدَةَ، أَنَا مُؤَجِّلُكُمْ فِي هَذَا الْبَيْتِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، عَلَى أَنْ لا تَسْأَلُوا عَنْهُ أَحَدًا، فَمَنْ أَتَانِي بِهِ فَلَهُ حِكْمَةٌ. فَنَهَضُوا وَخَرَجُوا عَنْهُ، فَبَيْنَا سُلَيْمَانُ فِي مَوْكِبٍ لَهُ إِذَا هُوَ بِأَعْرَابِيٍّ يَسُوقُ إِبِلا وَهُوَ يَقُولُ:

لَوْ حُزَّ بِالسَّيْفِ رَأْسِي فِي مَوَدَّتِهَا ... لَمَالَ يَهْوِي سَرِيعًا نَحْوَهَا رَأْسِي فَقَالَ سُلَيْمَانُ: عَلَيَّ بِالأَعْرَابِيِّ، فَأُتِيَ بِهِ، فَوُكِّلَ بِهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: مَا وَرَاءُكَ يَا سُلَيْمَانُ؟ قَالَ: قَدْ أَجَبْتُكَ إِلَى مَا سَأَلْتَ عَنْهُ، وَجِئْتُكَ بِالْبَيْتِ. قَالَ: هَاتِهِ، فَأَنْشَدَهُ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: أَحْسَنْتَ، أَنَّى لَكَ هَذَا؟ فَقَصَّ عَلَيْهِ خَبَرَ الأَعْرَابِيِّ، فَقَالَ: حَاجَتُكَ وَلا تَنْسَ حَظَّ صَاحِبِكَ؟ قَالَ: حَاجَتِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ عَهْدَ الْعَهْدِ لَيْسَ بِمُقَرِّبٍ أَجَلا، وَلا تَرْكَهُ بِمُبَاعِدٍ حَتْفًا، وَقَدْ عَهِدَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْوَلِيدِ، فَإِنْ رَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَعْهَدَ إِلَيَّ بَعْدَهُ فَعَلَ. قَالَ: نَعَمْ، فَأَقَامَ َالْحَجُّ لِلْنَاسِ بِمَكَّةَ وَوَصَلَهُ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَجَعَلَهَا لِلأَعْرَابِيِّ، وَهِيَ سَنَةُ إِحْدَى وَثَمَانِينَ حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: " بَيْنَمَا الْمَأْمُونُ فِي بَعَضِ مَغَازِيهِ يَسِيرُ مُنْفَرِدًا عَنْ أَصْحَابِهِ وَمَعَهُ عُجَيْفُ بْنُ عَنْبَسَةَ، إِذْ طَلَعَ رَجُلٌ مُتَخَبِّطٌ مُتَكَفِّنٌ، فَلَمَّا عَايَنَهُ الْمَأْمُونُ وَقَفَ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى عُجَيْفٍ، فَقَالَ: وَيْحَكَ، أَمَا تَرَى صَاحِبَ الْكَفَنِ مُقْبِلا يُرِيدُنِي؟ قَالَ عُجَيْفٌ: أُعِيذُكَ بِاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَمَا كَذَّبَ الرَّجُلُ أَنْ وَقَفَ عَلَى الْمَأْمُونِ، فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: يَا صَاحِبَ الْكَفَنِ , مَنْ أَنْتَ؟ وَإِلَى مَنْ قَصَدْتَ؟ قَالَ: إِيَّاكَ أَرَدْتُ، قَالَ: وَعَرَفْتَنِي؟ قَالَ: لَوْ لَمْ أَعْرِفْكَ مَا قَصَدْتُكَ، قَالَ: أَفَلا سَلَّمْتَ عَلَيَّ؟ قَالَ: لا أَرَى السَّلامَ عَلَيْكَ. قَالَ: ولِمَ؟ قَالَ: لإِفْسَادِكَ الْغَزَاةَ عَلَيْنَا. قَالَ عُجَيْفٌ: وَأَنَا أُلَيِّنُ مَتْنَ سَيْفِي لِئَلا يُبْطِئَ ضَرْبَ رَقَبَتِهِ، إِذِ الْتَفَتَ الْمَأْمُونُ، فَقَالَ: يَا عُجَيْفُ، إِنِّي جَائِعٌ وَلا رَأْيَ لَلْجَائِعِ، فَخُذْهُ إِلَيْكَ حَتَّى أَتَغَدَّى وَأَدْعُوَ بِهِ. فَتَنَاوَلَهُ عُجَيْفٌ، فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا صَارَ الْمَأْمُونُ إِلَى رَحْلِهِ دَعَا بِالطَّعَامِ، فَلَمَّا وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَمَرَ بِرَفْعِهِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أُسِيغُهُ حَتَّى أُنَاظِرَ خَصْمِي، يَا عُجَيْفُ عَلَيَّ بِصَاحِبِ الْكَفَنِ. قَالَ: فَلَمَّا جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ: هِيهِ يَا صَاحِبَ الْكَفَنِ، مَاذَا قُلْتَ؟ قَالَ: قُلْتُ: لا أَرَى السَّلامَ عَلَيْكَ لإِفْسَادِكَ الْغَزَاةَ عَلَيْنَا. قَالَ: بِمَاذَا أَفْسَدْتُهَا؟ قَالَ: بِإِطْلاقِكَ الْخَمْرَ يُبَاعُ فِي عَسْكَرِكَ، وَقَدْ حَرَّمَهَا اللَّهُ، فَابْدَأْ بِعَسْكَرِكَ فَنَظِّفْهُ، ثُمَّ اقْصِدِ الْغَزْوَ، وَبِمَ اسْتَحْلَلَتَ أَنْ تُبِيحَ شَيْئًا حَرَّمَهُ اللَّهُ كَهَيْئَةِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ؟ قَالَ: أَوَ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّهَا تُبَاعُ ظَاهِرًا وَرَأَيْتَهَا؟ قَالَ: لَوْ لَمْ أَرَهَا وَتَصِحَّ عِنْدِي مَا وَقَفْتُ هَذَا الْمَوْقِفَ. قَالَ: فَشَيْءٌ سِوَى الْخَمْرِ أَنْكَرْتَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِظْهَارَكَ الْجَوَارِي الْعَمَّارِيَّاتِ، وَكَشْفَهُنَّ الشُّعُورَ مِنْهُنَّ بَيْنَ أَيْدِينَا كَأَنَّهُنَّ الأَقْمَارُ.

يَخْرُجُ الرَّجُلُ مِنَّا يُرِيدُ أَنْ يُهْرَاقَ دَمُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَيَعْقِرَ جَوَادَهُ، قَاصِدًا أَعْدَاءَ اللَّهِ، فَإِذَا نَظَرَ إِلَيْهِنَّ أَفْسَدْنَ قَلْبَهُ وَرَكَنَ إِلَى الدُّنْيَا، وَانْصَاعَ إِلَيْهَا، فَبِمَ اسْتَحْلَلَتَ ذَلِكَ؟ قَالَ الْمَأْمُونُ: نَعَمْ، صَدَقْتَ قَدْ فَعَلْتُ ذَاكَ، وَسَأُخْبِرُكَ بِالْعُذْرِ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ صَوَابًا، وَإِلا رَجَعْتُ إِلَى رَأْيِكَ، فَشَيْءٌ سِوَى هَذَا أَنْكَرْتَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، شَيْءٌ آمُرُ وَأَحُثُّ عَلَيْهِ، خَرَجَ نَاهِيكَ يَنْهَانَا عَنْهَ. قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: الأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَبِمَ اسْتَحْلَلَتَ أَنْ تَنْهَى عَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ؟ قَالَ: أَمَّا الَّذِي يُدْخِلُ الأَمْرَ بِالْمَعُروفِ فِي الْمُنْكَرِ، فَإِنِّي أَنْهَاهُ وَقَدْ نَهَيْتُهُ، وَأَمَّا الَّذِي يَأْمُرُ بَالْمَعْرُوفِ بَالْمَعْرِفَةِ، فَإِنِّي أَحُثُّهُ عَلَى ذَلِكَ وَأَحْدُوهُ عَلَيْهِ، فَشَيْءٌ سِوَى هَذِهِ الثَّلاثِ؟ قَالَ: لا. قَالَ: يَا صَاحِبَ الْكَفَنِ، أَمَّا الْخَمْرُ لَعَمْرِي لَقَدْ حَرَّمَهَا اللَّهُ، وَلَكِنْ لا تُعْرَفُ إِلا بِثَلاثِ جَوَارِحَ: بِالنَّظَرِ وَالشَّمِّ وَالشُّرْبِ، أَفَتَشْتَرِيهَا أَنْتَ؟ قَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ أُنْكِرَ مَا أَشْرَبُ. قَالَ: فَيُمْكِنُ فِي وَقْتِكَ هَذَا أَنْ تُوقِفَنَا عَلَى بَيْعِهَا حَتَّى نُوَجِّهَ مَعَكَ مَنْ يَشْتَرِي مِنْهَا؟ قَالَ: وَمَنْ يُظْهِرُهَا وَيَبِيعُنِيهَا، وَعَلَيَّ هَذَا الْكَفَنُ؟ قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: فَكَأَنَّكَ إِنَّمَا عَرَفْتَهَا بِهَاتَيْنِ الْجَارِحَتَيْنِ. يَا عُجَيْفُ , عَلَيَّ بِقَوَارِيرَ فِيهَا شَرَابٌ. فَانْطَلَقَ عُجَيْفٌ فَأَتَاهُ بِعِشْرِينَ قَارُورَةً، فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ مَعَ عِشْرِينَ وَصِيفًا. ثُمَّ قَالَ: يَا صَاحَبَ الْكَفَنِ، نُفِيتُ مِنْ آبَائِي الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْخَمْرُ فِيهَا. فَأَيُّهَا الْخَمْرُ؟ فَإِنِّكَ تَعْلَمُ أَنَّ الْخَمْرَ مِنْ سُنَنِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَلا يَجُوزُ لِي أَنْ أَحُدَّ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ إِلا بِعَلامَةٍ أَوْ شَاهِدَيْ عَدْلٍ أَوْ إِقْرَارٍ. فَنَظَرَ صَاحَبُ الْكَفَنِ إِلَى الْقَوَارِيرِ، وَقَالَ عُجَيْفٌ: أَيُّهَا الرَّجُلُ وَالَّلهِ لَوْ كُنْتَ خَمَّارًا مَا عَرَفْتَ مَوْضِعَ الْخَمْرِ بِعَيْنِهَا مِنْ هَذِهِ الْقَوَارِيرِ. فَوَضَعَ نَظَرَهُ عَلَى قَارُورَةٍ، فَقَالَ لَهُ: هَذِهِ الْخَمْرُ. فَدَعَا الْمَأْمُونُ بِالْقَارُورَةِ، فَأُتِيَ بِهَا، فَذَاقَهَا فَقَطَّبَ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا صَاحَبَ الْكَفَنِ، انْظُرْ هَذِهِ الْخَمْرَ. قَالَ: فَتَنَاوَلَ الرَّجُلُ الْقَارُورَةَ فَذَاقَهَا، فَإِذَا خَلٌّ ذَابِحٌ. قَالَ: قَدْ خَرَجَتْ هَذِهِ مِنْ حَدِّ الْخَمْرِ. قَالَ الْمَأْمُونُ: صَدَقْتَ، إِنَّ الْخَلَّ الْمَصْنُوعَ مِنَ الْخَمْرِ لا يَكُونُ خَلًّا حَتَّى يَكُونَ خَمْرًا أَوَّلا، وَاللَّهِ مَا كَانَتْ هَذِهِ خَمْرًا قَطُّ، وَمَا هُوَ إِلا مَاءُ رُمَّانٍ حَامِضٍ يُعْصَرُ لِي فَأَصْطَبِحُ بِهِ. سَاعَتَهُ قَدْ سَقَطَتْ جَارِحَتَانِ وَبَقِيَ الشَّمُّ، يَا عُجَيْفُ صَيِّرْهَا فِي رَصَاصِيَّاتٍ وَائْتِ بِهَا. قَالَ: فَفَعَلَ، فَعُرِضَتْ عَلَى صَاحِبِ الْكَفَنِ، فَشَمَّهَا، فَوَقَعَ مَشَمُّهُ عَلَى قَارُورَةِ مُبَخْتَجٍ، فَقَالَ: هَذِهِ. فَأَخَذَهَا الْمَأْمُونُ فَصَبَّهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: انْظُرْ إِلَيْهَا، قَدْ عَقَدَتْهَا النَّارُ كَأَنَّهَا طُلاءُ الإِبِلِ يُقْطَعُ بِالْسِكِّينِ. وَقَدْ سَقَطَتْ إِحْدَى الثَّلاثِ الَّتِي أَنْكَرْتَ يَا صَاحَبَ الْكَفَنِ.

ثُمَّ رَفَعَ الْمَأْمُونُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: اللُّهُمَّ إِنِّي أَتَقَرَّبُ إِلَيْكَ بِنَهْيِ هَذَا وَنُظَرَائِهِ عَنِ الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ فِي أَعْظَمِ الْمُنْكَرِ، شَنَّعْتَ عَلَى قَوْمٍ بَاعُوا مِنْ هَذَا الْخَمْرِ وَمِنْ هَذَا الْمُبَخْتَجِ الَّتِي شَمَمْتَ، فَبِمَ تَسْلَمُ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ؟ اسْتَغْفِرِ اللَّهَ ذَنْبَكَ هَذَا الْعَظِيمَ، وَتُبْ إِلَيْهِ. مَا الثَّانِي الَّذِي أَنْكَرْتَهُ؟ َقَالَ: الْجَوَارِي. قَالَ: صَدَقْتَ، أَخْرَجْتُهُنَّ إِبْقَاءً عَلَيْكَ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ كَرَاهَةَ أَنْ يَرَاهُنَّ الْعَدُوُّ وَالْعُيوُنُ وَالْجَوَاسِيسُ فِي الْعُمَارِيَّاتِ وَالْقِبَابِ، وَالْسُجُوفُ عَلَيْهِنَّ، فَيُتَوَهَّمُ أَنَّهُنَّ بَنَاتٌ وَأَخَوَاتٌ فَيَجِدُّوا فِي قِتَالِنَا، وَيَحْرِصُوا عَلَى الطَّلِبَةِ عَلَى مَا فِي أَيْدِينَا إِلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُنَّ إِمَاءٌ نَقِي بِهِنَّ حَوَافِرَ دَوَابِّنَا، لا قَدْرَ لَهُنَّ عِنْدَنَا، هَذَا تَدْبِيرٌ دَبَّرْتُهُ لِي وَلِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً، وَيَعُزُّ عَلَيَّ أَنْ تَرَى لِي حُرْمَةً، فَدَعْ فَلَيْسَ هُوَ شَأْنُكَ وَقَدْ صَحَّ عِنْدَكَ أَنِّي مُصِيبٌ فِي هَذَا، وَأَنَّكَ أَنْكَرْتَ بَاطِلا. أَيُّ شَيْءٍ الثَّالِثَةُ؟ مَا الَّتِي أَنْكَرْتَ؟ قَالَ: الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ. قَالَ: هَذَا إِنَّكَ قَدْ أَمَرْتَ بِالْمَعْرُوفِ فَدَخَلْتَ فِي عَمَلِ الْمُنْكَرِ، فَدَعْ دِينَكَ هَذَا، وَنَسْأَلُكَ عَنْ مَسْأَلَةٍ، إِنْ أَجَبْتَ فِيهَا عَفَوْنَا عَنْكَ. تُبْصِرُ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ؟ قَالَ: نَعَمْ , أُبْصِرُهُ. قَالَ: رَأَيْتُكَ لَوْ أَنَّكَ أَصَبْتَ فَتَاةً مَعَ فَتًى فِي هَذَا الْفَجِّ، قَدْ خَضَعَا عَلَى حَدِيثٍ لَهُمَا، مَا كُنْتَ صَانِعًا لَهُمَا؟ قَالَ: كُنْتُ أَسْأَلُهُمَا: مَنْ أَنْتُمَا؟ قَالَ: كُنْتَ تَسْأَلُ الرَّجُلَ، فَيَقُولُ: امْرَأَتِي، وَتَسْأَلُ الْمَرْأَةَ: فَتَقُولُ زَوْجِي، مَا كُنْتَ صَانِعًا بِهِمَا؟ قَالَ: كُنْتُ أَحُولُ بَيْنَهُمَا وَأَحْبِسُهُمَا. قَالَ: حَتَّى يَكُونَ مَاذَا؟ قَالَ: حَتَّى أَسْأَلَ عَنْهُمَا. قَالَ: وَمَنْ تَسْأَلُ؟ قَالَ: كُنْتُ أَسْأَلُهُمَا مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ قَالَ: أَحْسَنْتَ، سَأَلْتُ الرَّجُلَ مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ أَسْبِيجَابَ، وَسَأَلْتَ الْمَرْأَةَ، قَالَتْ: مِنْ أَسْبِيجَابَ، ابْنُ عَمِّي تَزَوَّجْنَا وَجِئْنَا. أَكُنْتَ حَابِسًا الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ بِسُوءِ ظَنِّكَ الرَّدِيءِ وَتَوَهْمِكَ الْكَاذِبِ، إِلَى أَنْ يَرْجِعَ الرَّسُولُ مِنْ أَسْبِيجَابَ، مَاتَ الرَّسُولُ، أَوْ مَاتَا إِلَى أَنْ يَعُودَ رَسُولُكَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَسْأَلُ فِي عَسْكَرِكَ؟ قَالَ: فَلَعَلَّكَ لا تُصَادِفُ فِي عَسْكَرِي مِنْ أَهْلِ أَسْبِيجَابَ إِلا رَجُلا أَوْ رَجُلَيْنِ، فَيَقُولانِ لَكَ: لا نَعْرِفُ. عَلَى هَذَا لَبِسْتَ الْكَفَنَ يَا صَاحَبَ الْكَفَنِ؟ مَا أَحْسَبُكَ إِلا أَحَدَ رِجَالٍ: إِمَّا رَجُلٌ مَدْيُونٌ، وَإِمَّا رَجُلٌ مَظْلُومٌ، وَإِمَّا رَجُلٌ تَأَوَّلْتَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي خُطْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَرَوَى لَهُ الحَدِيثُ عَنْ هُشَيْمٍ وَغَيْرِهِ، وَنَحْنُ نَسْمَعُ الْخُطْبَةَ إِلَى مُغَيْرِبَانِ الشَّمْسِ، إِلَى أَنْ بَلَغَ إِلَى قَوْلِهِ: «أَلا إِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» .

فَجَعَلْتَنِي جَائِرًا وَأَنْتَ الْجَائِرُ، وَجَعَلْتَ نَفْسَكَ تَقُومُ مَقَامَ الآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ وَقَدْ رَكِبْتَ مِنَ الْمُنْكَرِ مَا هُوَ أَعْظَمُ عَلَيْكَ، لا وَاللَّهِ ضَرَبْتُكَ سَوْطًا، وَلا زِدْتُ عَلَى تَخْرِيقِ كَفَنِكَ، وَنُفِيتُ مِنْ آبَائِي الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ لَئِنْ قَامَ أَحَدٌ مَقَامَكَ، لا يَقُومُ فِيهِ بِالْحُجَّةِ، لا نَقَصْتُهُ مِنْ أَلْفِ سَوْطٍ، وَأَمَرُتُ بِصَلْبِهِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَقُومُ فِيهِ، قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَى عُجَيْفٍ يَخْرِقُ كَفَنَ الرَّجُلِ وَيُلْقِي عَلَيْهِ ثِيَابًا بِيضًا حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: " كُنَّا يَوْمًا عِنْدَ الْمَأْمُونِ وَالشُّعَرَاءُ عِنْدَهُ وَالنَّاسُ إِذْ ذَاكَ يَأْتُونَهُ فَيُكْثِرُونَ، فَأَنْشَدُوهُ وَقَامَ رَجُلٌ بَعْدَمَا فَرِغُوا، مُشَوَّهُ الْخَلْقِ، مَخْضُوبُ اللِّحْيَةِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا قُلْتُمْ وَلا بَلَغْتُمُ الَّذِي الْمَأْمُونُ أَهْلُهُ، وَلَكِنِّي قُلْتُ: مَا بَلَغَ الْمَدَّاحُ مَا فِيكَ كُلَّهُ ... وَلا الْعُشْرَ مِنْ عُشْرِ الْعَشِيرِ الْمُعَشَّرِ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ الْحَاسِبِ، فَقَالَ لَهُ: يَا إِبْرَاهِيمُ احْسِبْ هَذَا، فَانْظُرْ كَمْ هُوَ، ثُمَّ انْغَمَسَ فِي النَّاسِ فَذَهَبَ حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: " لَقِيَ الْفَضْلُ بْنُ الْرَبِيعِ طَاهِرَ بْنَ الْحُسَيْنِ، فَثَنَى عِنَانَهُ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُ الْفَضْلُ: يَا أَبَا الطَّيِّبِ، مَا ثَنَيْتُ عِنَانِي مَعَ أَحَدٍ قَطُّ إِلا مَعَ خَلِيفَةٍ، وَلِي حَاجَةٌ. قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: تُكَلِّمْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الرِّضَا عَنِّي، وَتُعَجِّلُ ذَاكَ. فَمَضَى أَبُو الطَّيِّبِ مِنْ فَوْرِهِ ذَاكَ، فَكَلَّمَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِيهِ، فَأَمَرَهُ بَإِدِخَالِ الْفَضْلِ عَلَيْهَ، وَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ: أَدْخَلْتُ الْفَضْلَ عَلَى الْمَأْمُونِ حَاسِرًا لا سِيفَ عَلَيْهِ وَلا طَيْلَسَانَ وَلا قَلَنْسُوَةَ. فَلَمَّا رَآهُ الْمَأْمُونُ وَثَبَ عَلَى فَرْشِهِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَتَدْرِي لِمَ صَلَّيْتُ يَا فَضْلُ؟ قَالَ: لا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: شُكْرًا لِلَّهِ إِذْ رَزَقَنِي الْعَفَوَ عَنْكَ، قَدْ كَلَّمَنِي أَبُو الطَّيِّبِ فِيكَ، وَقَدْ عَفَوْتُ عَنْكَ. فَقَالَ الْفَضْلُ: لِي حَاجَةٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: تَجْعَلُ لِي مَرْتَبَةً فِي الدَّارِ، قَالَ: عَجِلْتَ يَا فَضْلُ اخْرُجْ. فَخَرَجَ حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: " قِيلَ لِلْمَأْمُونِ: إِنَّ بَنِي عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ، صَاحِبِ الْمُصَلَّى مُجَّانٌ سُفَهَاءُ، وَقَدْ نَقَشَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى خَاتَمِهِ مَا يَدُلُ عَلَى مَجَانَةٍ، فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: يَا عَلِيُّ أَحْضِرْنِي أَوْلادَكَ الأَكَابِرَ وَالأَصَاغِرَ فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُرَتِّبَهُمْ وَأُرَشِّحَهُمْ لِلأَمْرِ الَّذِي يَصْلُحُونَ لَهُ. فَانْصَرَفَ فَأَخْبَرَ بَنِيهِ بِذَلِكَ، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّهَيُّؤِ لِلرُّكُوبِ إِلَى الدَّارِ. فَاسْتَعَدُّوا لِذَلِكَ بِأَحْسَنِ هَيْئَةٍ وَأَتَمِّ أَمْرٍ، وَاسْتَأْذَنْ لَهُمْ فَدَخَلُوا فَسَلَّمُوا قِيَامًا. وَأَمَرَ الْمَأْمُونُ بِأَخْذِ خَوَاتِيمِهِمْ. فَأُخِذَتْ جَمِيعًا، فَإِذَا فِي بَعْضِهَا: أأس مكنسة ااسه. وَعَلَى الآخَرِ: «أَبِي يَغْلِبْ أَبُوكُمْ بِسَيْفِهِ وَرِمَاحِهِ» . وَعَلَى الآخَرِ: «تَعِسَ الْهَنُ وَانْتَكَسَ، دَخَلَ الْهُنَّةَ وَاحْتَبَسَ» .

وَعَلَى الآخَرِ: «. . . مِنْ قِيامٍ يُضْعِفُ الرُّكْبَتَيْنِ، فَلا تَسْتَعْمِلْهُ فِي الصَّيْفِ» . فَقَالَ الْمَأْمُونُ: يَا سُفَهَاءُ، يَا مُجَّانُ، قَبَّحَكُمُ اللَّهُ صِغَارًا وَكِبَارًا، تَرَكْتُمُ الأَدَبَ، وَطَرَحْتُمُوهُ وَآثَرْتُمُ الْمُجُونَ وَالسَّفَهَ، هَذَا أَبُوكُمْ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ وَالْعُلَمَاءِ، يُسْتَضَاءُ بِرَأْيِهِ وَيُحْمَدُ هَدْيُهُ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ، فَقَالَ: أَمَّا عَلَيٌّ ذَاكَ، فَمَا الذَّنْبُ إِلا لَكَ إِذْ أَهْمَلْتَهُمْ فِي الْمُجُونِ، وَتَرَكُوا مَا كَانَ أَوْلَى بِكَ وَبِهِمْ أَنْ تَأَخُذَهُمْ بِهِ، فَقَالَ: أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، لا وَاللَّهِ إِنَّ لِي بِهِمْ قُوَّةٌ وَلا يَدٌ، سِيَّمَا هَذَا الأَكْبَرُ فِإِنَّهُ الَّذِي أَفْسَدَهُمْ وَهَتَكَهُمْ، وَزَيَّنَ لَهُمْ سُوءَ أَعْمَالِهِمْ، فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ. فَأَطْرَقَ الأَكْبَرُ مَا يَتَزَمْزَمُ. فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: تَكَلَّمْ. فَقَالَ: يَا سَيِّدِي بِلِسَانِي كُلِّهِ؟ أَوْ كَمَا يَتَكَلَّمُ الْعَبْدُ الذَّلِيلُ بَيْنَ يَدَيْ سَيِّدِهِ، حَتَّى يَتْرُكَ حُجَّتَهُ وَيَسْكُتَ عَنْ إِيضَاحِ جَوَابِهِ مَهَابةً لِمَوْلاهُ؟ فَقَالَ: تَكَلَّمْ بِمَا عِنْدَكَ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ، هَلْ أَحْمَدْتَ رَأْيَ أَبِينَا إِذَ حَمِدْتَ فِقْهَهُ وَعِلْمَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَاعْتِقْ مَا يَمْلِكُ، وَطَلِّقْ مَا يَطَأُ طَلاقَ الْحَرَجِ، وَصَدِّقْ بِمَا يَحْوِي، وَعَلَيْهِ ثَلاثُونَ حِجَّةً مَعْ ثَلاثِينَ نَذْرًا، يَبْلُغُ بِهَا الْكَعْبَةَ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَبَوَهُ عَلَى طَلَبِ سُكَّرِ طَبَرْزَدَ، فَلَمْ يُوجَدْ فِي خِزَانَتِهِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَمْ يَكُنْ وَقْتًا يُوجَدُ فِيهِ السُّكَّرُ وَلا يُبَاعُ. فَقَالَ لَهُ قَيِّمُ الْخِزَانَةِ: مَا عِنْدَنَا سُكَّرٌ. فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلِّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلا أَقُولُ: إِنَّا لَلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ وَإِنْ كَانَتِ الْمُصِيبَةُ، لأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يُقَالُ عِنْدَ الْمَصَائِبِ فِي الأَنْفُسِ، وَلَكِنْ أَحْمَدُهُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، فَإِنَّهُ حَدَّثَنَا أَصْحَابُنَا، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: «الْحَامِدُونَ الَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ» ، وَأَنَا أَرَجُو أَنْ أَكُونَ مِنْهُمْ وَمَعَهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الْخَازِنِ، فَقَالَ: ادْعُ لِيَ الْوَكِيلَ، فَدَعَاهُ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ إِذْ فُنِيَ السُّكُّرُ أَنْ تَشْتَرِيَ سُكَّرًا؟ فَقَالَ: لَمْ يُعْلِمْنِي الْخَازِنُ. فَقَالَ لِلْخَازِنِ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تُعْلِمَهُ؟ قَالَ: كَنْتُ عَلَى إِعْلامِهِ. فَقَالَ: مَا هُنَا شَيْءٌ أَبْلَغُ مِنْ عُقُوبَتِكُمَا مِنْ أَنْ أَقُومَ عَلَى إِحْدَى قَدَمَيَّ فَلا أَضَعَ الأُخْرَى، وَلا أُرَاوِحُ بَيْنَهُمَا حَتَّى يُحْضِرَانِي أَلْفًا مِنْ سُكَّرِ طَبَرْزَدَ، لَيْسَ بِمُضَرَّسٍ وَلا وَسَخٍ وَلا لَيِّنِ الْكَسْرِ، وَلا مُعْوَجِّ الْقَالَبِ.

ثُمَّ وَثَبَ , فَقَالَ: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7] ، وَاللَّهِ مُؤَكَّدَةً لا أَزَالُ قَائِمًا حَتَّى أَفِيَ بِنَذْرِي، فَتَبَادَرَ غِلْمَانُهُ وَمَوَالِيهِ وَبَعْضُ وَلَدِهِ وَعَجَائِزُهُ نَحْوَ السُّوقِ، فَوَاحِدٌ يُنَبِّهُ حَارِسًا، وَآخَرُ يَفْتَحُ دَرْبًا، وَآخَرُ يَحُلُّ شَرِيجَةً، وَآخَرُ يُوقِظُ نَائِمًا، وَآخَرُ يَدْعُو بَائِعًا، وَآخَرُ يَرْمِي كَلْبًا، وَالْغِلْمَانُ وَالْجَوَارِي وَالْجِيرَانُ والْحُرَّاسُ وَالسُّوقَةُ وَالْبَاعَةُ فِي مِثْلِ صَيْحَةِ يَوْمِ الْقِيامَةِ. ثُمَّ قَالَ: يَا قَوْمِي أَمَا لِي مِنْ أَهْلِي مُسَاعِدٌ؟ أَيْنَ الْبَنَاتُ الْعَوَاتِقُ الأَبْكَارُ، اللَّوَاتِي كُنْتُ أَغْذُوهُنَّ بِلَيِّنِ الطَّعَامِ وَلَيِّنِ اللِّبَاسِ، وَيَسْرَحْنَ فِيمَا أَرَعْنَ مِنْ خَفْضِ الْعَيْشِ وَغَضَارَةِ الدَّهْرِ، أَيْنَ أُمَّهَاتُ الأَولادِ اللَّوَاتِي اعْتَقَدْنَ الْعُقَدَ النَّفِيسَةَ، وَمَلَكْنَ الرَّغَائِبَ بَعْدَ الْحَالِ الْخَسِيسَةِ؟ أَيْنَ الأَوْلادُ الذُّكُورُ الَّذِينَ لَهُمْ نَسْعَدُ وَنَحْفَدُ، وَنَقُومُ وَنَقْعُدُ، وَلَهُمْ نَرُوحُ وَنَغْدُو؟ فَبَادَرَ إِلَيْهِ بَنُوهُ وَبَنَاتُهُ وَأُمَّهَاتُ أَوْلادِهِ. قَالَ: فَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى فَرْدِ رِجْلٍ. فَقَالَ: أَحْسَنْتُمْ وَاللَّهِ، أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ وَجَزَاكُمْ خَيْرًا، لِمِثْلِهَا كُنْتُ أَحْسَبُ الْحُسْنَى. قَالَ: وَلاحَظَ الْكُبْرَى مِنْ بَنَاتِهِ، وَآخَرَ مِنْ بَنِيهِ، وَهُمَا يُرَاوِحَانِ بَيْنَ قَدَمَيْهِمَا، فَقَالَ: يَا فُلانُ تُرَاوِحُ وَلا أُرَاوِحُ، يَا فُلانَةَ تُرَاوِحِينَ وَلا أُرَاوِحُ، صَدَقَ اللَّهُ وَبَلَّغَ رَسُولُهُ حِينَ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14] . حَذَارِ حَذَارِ مِنْكَ حَذَارِ. ثُمَّ قَالَ: عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ لَيْسَ فِي خِزَانَتِهِ سُكَّرٌ طَبَرْزَدُ، وَجَائِزَتُهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَعَزَّهُ اللَّهُ، أَلْفُ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلَهُ ضَيْعَةٌ بِالنَّهْرَوَانِ، تُغِلُّ ثَلاثَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ إِذَا كَانَ السِّعْرُ بَيْنَ الْغَالِيِ وَالرَّخِيصِ، وَضَيْعَةٌ بِالزَّابِ تُغِلُّ مِائَةَ أَلْفِ أَلْفٍ، وَضَيْعَةٌ بِالْكُوفَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْعَرَبَةِ مِنْ أَنْبَلِ ضَيْعَةٍ مَلَكَهَا أَحَدٌ، وَضَيْعَةٌ بِطَسُّوجِ الدَّسْكَرَةَ، وَلَوْلا أَنَّ سَعِيدًا السَّعْدِيَّ، أَرَاحَ اللَّهُ مِنْهُ، قَطَعَ شِرْبَهَا وَعَوَّرَ مَجْرَى مِيَاهِهَا حَتَّى انْدَفَنَتْ أَنْهَارُهَا، وَقَلَّتْ عِمَارَتُهَا إِضْرَارًا بِنَا، وَتَعَدِّيًا عَلَيْنَا مَا كَانَ لأَحَدٍ مِثْلُهَا، وَعَلَى أَنْ أَكَرَتَهَا وَمُزَارِعَهَا مِنْ أَخَابِثَ خَلْقِ اللَّهِ، وَلَوْ أَمْكَنَهُمْ أَنْ يَقْطَعُوا الْحَاصِلَ وَحَاصِلَ الْحَاصِلِ مَا أَعْطُوا شَيْئًا. وَمَنْ أَخْبَرَكَ أَنَّ الضَّيْعَةَ لِرَبِّ الضَّيْعَةِ فَقُلْ لَهُ: كَذَبْتَ لا أُمٌّ لَكَ، الضَّيْعَةُ ثَلاثُ أَثْلاثٍ: فَثُلُثٍ لِلْسُلْطَانِ، وَثُلُثِ لِلْوَكِيلِ، وَثُلُثٍ لِلأَكَّارِ، وَإِنَّمَا يَأْتِي رَبُّ الضَّيْعَةِ مِنْ ضَيْعَتِهِ صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الإِنَاءِ، وَمُخَّةٌ كَمُخَّةِ عُرْقُوبٍ، يَجِيءُ الأَكَّارُ وَقْتَ الدِّيَاسِ فَيَمُرُّ بِهِمُ الأَبَرْتَدُ، فَهَذَا يَذْبَحُ لَهُ، وَهَذَا يَخْبِزُ لَهُ، وَهَذَا يَسْقِيهِ، وَمَا نَبِيذُهُمْ إِلا الْعَكِرُ الأَسْودُ.

وَوَضَرُ الدِّبْسِ، وَمَاءُ الأُكْشُوثِ، قَبَّحَ اللَّهُ ذَلِكَ شَرَابًا، مَا أَثْقَلَهُ لِلْجَوْفِ، وَأَضَرَّهُ بِالأَعْلاقِ النَّفِيسَةِ، ثُمَّ يَأْتِي وَقْتُ الْكَيْلِ، فَمِنْ بَيْنَ رَقَّامٍ، رَقَّمَ اللَّهُ جِلْبَابَهُ بِالْمَذَلَّةِ وَالْهَوَانِ، وَمِنْ بَيْنَ كَيَّالٍ، جَعَلَ اللَّهُ لَهُ الْوَيْلَ، لِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1] مَا يُبَالِي أَحَدُهُمْ عَلَى مَاذَا يُقْدِمُ. وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ يَسْأَلُ قُضَاتَهُ، وَكُلُّهُمْ بِالْحَضْرَةِ، هَلْ عَدَّلْتُمْ كَيَّالا قَطُّ؟ فَكُلُّهُمْ قَالَ: لا. فَإِنْ أُطْعِمُوا الْجِدَاءَ الرُّضَّعَ وَنِقْيَ الْخُبْزِ مِنْ دَسْتُمَيْسَانَ وَوُهِبَتْ لَهُمُ الدَّرَاهِمُ، ظَفَرَ الْمُكِيلُ بِحَاجَتِهِ. وَوَيلٌ يَوْمَئِذٍ لِقُبَّةِ السُّلْطَانِ مِمَّا يُحْمَلُ إِلَيْهَا مَنَ الْقِشْبِ وَالْقَصَرِ، وَيُحْشَى مِنَ التِّبْنِ وَالدَّوْسَرِ. ثُمَّ قَالَ: يَا قَوْمُ، لِمَ أَسْهَبْتُ فِي ذِكْرِ هَؤُلاءِ، وَمَا الَّذِي هَاجَ هَذَا فِي هَذِهِ السَّاعَةِ حَتَّى خُضْتُ فِيهِ؟ أَمَا كَفَانِي أَنِّي قَائِمٌ عَلَى إِحْدَى رِجْلَيَّ. فَقَالُوا: هَذَا مِنْ أَجْلِ السُّكْرِ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ فِي خِزَانَتِكَ. قَالَ: أَجَلْ، وَاللَّهِ إِذَا كَانَ وَكِيلِي يَتَشَاغَلُ بِزَوْجَتِهِ وَبَنَاتِهِ، وَمَصَالِحِ حَالِهِمْ، مَتَى يُفْرِغُ النَّظَرَ إِلَى مَصَالِحِ خِزَانَتِي؟ وَاللَّهِ لَقَدْ حُدِّثْتُ أَنَّهُ حَلَّى بَنَاتَهُ بِأُلُوفِ الدَّنَانِيرِ، وَأَنَّهُ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَخْرِجِي الأَعْيادَ، وَأَدْخِلِي الأَعْرَاسَ، وَسَلِي عَنِ الرِّجَالِ الْمَذْكُورِينَ، وَاطْلُبِي الْمَرَاضِعَ الْمَعْرُوفَةَ بِالأَنْسَابِ الرَّضِيَّةِ، وَالأَخْلاقِ الْجَمِيلَةِ لِبَنَاتِكْ، وَأَخْرِجِيهِنَّ فِي الْجُمُعَاتِ يَتَفَحَّصْنَ مَجَالِسَ الْعُزَّابِ وَيَخْتَرْنَ أُولِي الأَنْسَابِ، أَلَمْ يُرْوَ عَنِ الثِّقَاتِ أَنَّهُمْ كَرِهُوا خُرُوجَ الأَبْكَارِ فِي الْجُمُعَاتِ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ فِيهِنَ السَّعْيَ إِلَى ذِكْرِهِ؟ فَنَبَغَ قَوْمٌ مِنَ الْبِدَعِيَّةِ، خَارِجَةٌ خَرَجَتْ، وَمَارِقَةٌ مَرَقَتْ، وَرَافِضَةٌ رَفَضَتِ الدِّينَ وَأَهْلَ الدِّينِ، فَتَرَكُوا فَرْضَ اللَّهِ {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ {30} اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 30-31] وَقَدْ رُوِينَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيِهِ وَآلِهِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَلا اثْنَيْنِ أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: «إِنَّ اللَّهَ قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْكُمُ الْجُمُعَةَ فِي مَقَامِي هَذَا، فِي يَوْمِي هَذَا مِنْ عَامِي هَذَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ تَرَكَهَا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهَا وَجُحُودًا لَهَا فَلا جَمَعَ اللَّهُ شَمْلَهُ، وَلا بَارَكَ لَهُ فِي أَهْلِهِ، وَلا حَجَّ لَهُ، وَلا جِهَادَ حَتَّى يَتُوبَ، فَمَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ» . ثُمَّ قَالَ: يَا قَوْمُ، مَا الَّذِي حَرَّكَنَا عَلَى هَذِهِ الْعِصَابَةِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ؟ قَالَوا: السُّكَّرُ الطَبَرْزَدُ. قَالَ: أَجَلْ، وَاللَّهِ مَا أَحْضَرْتُمُونِي أَلْفًا مَنْ سُكَّرٍ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ، أَيَا صُبْحُ، أَيَا فَتْحُ، أَيَا نَصْرُ، أَيَا نُجْحُ، بَادِرُوا إِلَى مَوْلاكُمْ فَإِنَّهُ قَدْ تَعِبَ وَنَصِبَ وَلَغَبَ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ وَاللَّهِ إِنِّي لأَحْسَبُ أَنَّ الثُّريَّا مُقَابِلَةٌ سَمْتَ رَأْسِي، ذَهَبَ وَاللَّهِ اللَّيْلُ وَجَاءِ الْوَيْلُ، وَيْلُكُمْ أَدْرِكُونِي فَإِنِّي أُرِيغُ نَوْمَةً وَلا بُدَّ مِنَ الْبُكُورِ نَحْوَ الدَّارِ.

قَالَ: فَبَادَرَ خَصْمُهُ الْخَاصَّةَ، فَفَتَحُوا أَبْوَابَ دَكَاكِينِ الْبَاعَةِ، وَنَبَّهُوا السُّوقَةَ، وَأَخَذُّوا مَا عِنْدَهُمْ عَلَى غَيْرِ سَوْمٍ وَجَاءُوا بِهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: مَا أَمَرْتَ بِهِ. قَالَ: هَلْ أَخَذْتُمُوهُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي وَصَفْتُ لَكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَهَلْ وَرَثْتُمُوهُ عَلَى الْبَاعَةِ، وَاسْتَوْجَبْتُمُوهُ؟ قَالُوا: لا. قَالَ: يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ , أَرَدْتُمْ أَنْ تُوتِغُوا دِينِي، لا وَاللَّهِ مَا طَمَعٌ مِنِّي مَضْمَضَةٌ، وَاللَّهِ لا تَزَالُ هَذِهِ حَالِي حَتَّى تَأْخُذُوهُ بَيْعًا صَحِيحًا، لا شَرْطَ فِيهِ وَلا خَيَارَ، وَلا مَثْنَوِيَّةَ وَلا حَدَّ التَّلْجِئَةِ. هَيْهَاتَ يَأْبَى اللَّهُ ذَاكَ. فَرَجَعُوا فَسَاوَمُوا بِهِ الْبَاعَةَ، وَقَطَعُوا ثَمَنَهُ وَأَخْبَرُوهُ. فَقَالَ: يُوزَنُ بَحَضْرَتِي، فَجَاءُوا بِالْقَبَّانِ، فَقَالَ: مَنْ فِيكُمْ يَزِنُ؟ قَالُوا: مَنْ أَمَرْتَهُ، قَالَ: زِنْ أَنْتَ يَا نَصَحُ، فَقَدْ دَنَا الصُّبْحُ، زِنْ فَأَرْجِحْ، فَإِنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ اشْتَرَى يَوْمًا، فَقَالَ لِلْوَازِنِ: «زِنْ فَأَرْجِحْ» وَاللَّهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الرُّجْحَانِ إِلا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ كَانَ فِي ذَلِكَ مَا يَدْعُو الْعُلَمَاءَ بِاللَّهِ، الْفُقَهَاءَ فِي دِينِ اللَّهِ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ. قَالَ: فَجَعَلَ الْغُلامُ يَزِنُهُ، وَيَقُولُ: وَيْلُكَ عَجِّلْ فِدَاكَ أَهْلُكَ، وَقَدْ دَنَا الصُّبْحُ، وَذَهَبَتْ نَفْسِي أَوْ كَادِتْ. فلَمَّا اسْتَوْفَى الْوَزْنَ خَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، لا يَدْرِي أَرْضًا تَوَسَّدَ أَمْ وِسَادًا، وَكَذَلِكَ حَالُ مَنْ كَانَ فِي مِثْلِ حَالِهِ مِنْ وَلَدِهِ وَعِيَالِهِ. فَمَا انْتَبَهَ وَاحِدٌ مِنْهُمِ لِفِرِيضَةٍ أَوْ نَافِلَةٍ إِلا بِحَرِّ الشِّمْسِ. فَهَذَهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَالُ مَنْ أَحْمَدْتَ فِقْهَهُ وَعَدْلَهُ وَرَأْيَهُ. فَقَالَ الْمَأْمُونُ: قَاتَلَكَ اللَّهُ، مَا أَعْجَبَ حَالُكَ عَلَى كَلِّ حَالٍ، وَاللَّهِ لَئِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَى أَبِيكَ فِي مَقَامِكَ هَذَا فَمَا لَكَ فِي الأَرْضِ نَظِيرٌ، وَلا فِي الدُّنْيَا شَبِيهٌ، وَلَئِنْ كُنْتَ حَكَيْتَ عَنْهُ عَيَانًا أَوْ كَفَافًا فَلَقَدْ أَجَدْتَ الْحِكَايَةَ وَأَحْسَنْتَ الْعِبَارَةَ، وَمَا لأَبِيكَ شَبِيهٌ، وِإِنَّكَ لَتَغْمُرُ مَسَاوِيَكَ بِمَحَاسِنِكَ، فَلا تَذْكُرَنَّ شَيْئًا بَعْدَ هَذَا الْمَجْلِسِ، فَإِنَّ عَيْبَهُ فِينَا أَقْدَحُ مِنْهُ فِي أَبِيكَ. قَالَ: فَذَهَبَ عَلِيٌّ لِيَتَكَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: لا تَعَضَّ عَلَى لِسَانِكَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: سَأَلْتُ عَمِّي مُصْعَبًا: هَلْ كُنْتَ حَاضِرًا لِهَذَا الْمَجْلِسِ، فَإِنَّ الصَّنْعَةَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ؟ قَالَ: لا، وَلَكِنْ أَخْبَرَنِي مَنْ كَانَ حَاضِرًا بَعْدَ مَوْتِ الْمَأْمُونِ بِسَنَتَيْنِ

حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ جَدِّي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبٍ، قَالَ: " إِنَّ مَلِكَ الرُّومِ بَعَثَ رَسُولا دَاهِيَةً مُنَكَّرًا إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَبِي جَعْفَرِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَسَأَلَهُ عَنْ أَشْيَاءَ، وَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ وَأَلْطَافٍ وَطَرَائِفَ، فَأَمَرَ عُمَارَةَ بْنَ حَمْزَةَ أَنْ يَرْكَبَ مَعَهُ إِلَى الْمَهْدِيِّ بَالرُّصَافَةِ، فَخَرَجَ، حَتَّى إِذَا كَانَ عَلَى الْجِسْرِ نَظَرَ الرُّومِيُّ إِلَى زَمْنَى عَلَى الْجِسْرِ يَتَصَدَّقُونَ، فَقَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لِهَذَا، يَعْنِي عِمَارَةَ: الَّذِي عِنْدَكُمْ زَمْنَى يَتَصَدَّقُونَ، وَكَانَ يَنْبَغِي لِصَاحِبِكَ أَنْ يَرْحَمَ هَؤُلاءِ مِنْ زَمَانَتِهِمْ، وَيَكْفِيهِمْ مَئُونَةَ أَنْفُسِهِمْ وَعِيَالاتِهِمْ، وَلا يَحْمِلُ عَلَيْهِمُ الْفَقْرَ وَالْحَاجَةَ مَعَ الزَّمَانَةِ. فَقَالَ عُمَارَةُ: قُلْ لَهُ: إِنَّ الأَمْوَالَ لا تَسَعُهُمْ. وَمَضَى إِلَى الْمَهْدِيِّ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ الرُّومِيُّ، وَرَدَّهُ عَلَيْهِ. فَقَالَ: كَذَبْتَ لَيْسَ الأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتَ، الأَمْوَالُ وَاسِعَةٌ لَهُمْ، وَلَكِنَّ عُذْرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ مَا وَصَفْتَ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الرُّومِيِّ، فَقَالَ: قَدْ بَلَغَنِي مَقَالَتُكَ لِرَسُولِي، وَرَدُّهُ عَلَيْكَ، وَكَذَبَ، الأَمْوَالُ وَاسِعَةٌ تَسَعُهُمْ , وَلَكِنْ كَرِهَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَسْتَأْثِرَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ رَعِيَّتِهِ وَأَهْلِ سُلْطَانِهِ بِشَيْءٍ مِنَ الْفَضْلِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَأَحَبَّ أَنْ يُشْرِكُوهُ فِي أُجُورِ الزَّمْنَى وَالْمَسَاكِينِ، وَأَنْ يُنِيلُوهُمْ مِنْ ذَاتِ أَيْدِيهِمْ وَمَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مِنَ الرِّزْقِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ نَجَاةً لَهُمْ فِي آخِرَتِهِمْ، وَسَعَةً عَلَيْهِمْ فِي دُنْيَاهُمْ، وَتَمْحِيصًا لِذُنُوبِهِمْ. فَقَالَ الرُّومِيُّ بِيَدِهِ، وَعَقَدَ ثَلاثِينَ، وَطَأْطَأَ رَأْسَهُ، قَالَ: وَإِنَّ هَذَا، أَيْ: جَيِّدٌ، هَذَا هُوَ الْحَقُّ حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لَمَّا مَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْعَلَوِيُّ، صَلَّى عَلَيْهِ الْمَأْمُونُ، وَكُنْتُ قَرِيبًا مِنْهُ، وَدَخَلَ قَبْرَهُ، وَعَلَيْهِ سَيْفُهُ وَقَلَنْسُوَتُهُ وَطَيْلَسَانُهُ، وَأَخَذَ بِرَأْسِهِ، فَأَعَانُوهُ حَتَّى وَضَعَهُ فِي لَحْدِهِ، وَرَأَيْتُ دُمُوعَهُ تَسِيلُ عَلَى خَدِّهِ، وَكَانَ مَعَهُ فِي الْقَبْرِ دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْكِرَامِ الْجَعْفِيُّ، فَكَلَّمَهُ لَمَّا رَأَى مِنْ رِقَّتِهِ، وَذَكَرَ حَاجَتَهُمْ، فَغَضِبَ الْمَأْمُونُ، وَقَالَ: هَذَا مَوْضِعُ ذَا! وَانْقَطَعَ بُكَاؤُهُ، فَقَالَ: هَا هُنَا وُلِدَ الرَّشِيدُ وَوُلِدَ الْهَادِي وَوُلِدَ الْمَهْدِيُّ وَوُلِدَ الْمَنْصُورُ، فَإِذَا نَظَرْتُ فِي أَمْرِهِمْ، وَأَصْلَحْتُ شَأْنَهُمْ فَأَنْتَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ أَوْلَى بِهَذَا مِنْكَ حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُتْبِيُّ، قَالَ: جَاءَنِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ الصَّنْعَةِ، فَقَالَ: اذْكُرْنِي لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي يَوْمٍ وَبَعْضِ يَوْمٍ آخَرَ.

فَقُلْتُ: يَا هَذَا، أَرِحْ نَفْسَكَ الْعَنَاءَ، وَاجْلِسْ فِي بَيْتِكَ، وَلا تَعِزَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْكَ، قَالَ: فَالْحِلُّ عَلَيْهِ حَرَامٌ، يَعْنِي بِهِ الطَّلاقُ، وَمَالُهُ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ صَدَقَةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ، وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لَهُ حُرٌ إِنْ كَانَ كَذَبَكَ فِيمَا قَالَ لَكَ، وَاللَّهِ مَا آخُذُ مِنْكُمْ شَيْئًا عَاجِلا، وَقَدِ ادَّعَيْتُ أَمْرًا فَامْتَحِنُونِي فِيهِ، فَإِنْ جَاءَ كَمَا ادَّعَيْتُ، كَانَ الأَمُرُ فِيَّ لَكُمْ، وَإِنْ وَقَعَ بِخِلافِ ذَلِكَ انْصَرَفْتُ إِلَى مَنْزِلِي، فَأَخْبَرْتُ الْمَأْمُونَ بِمَا قَالَ: فَتَمَثَّلَ بِبَيْتِ الْفَرَزْدَقِ: وَقَبْلُكَ مَا أَعْيَيْتُ كَاسِرَ عَيْنِهِ ... زِيَادًا فَلَمْ تَقْدِرْ عَلَيَّ حَبَائِلُهُ ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّ هَذَا أَرَادَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْنَا فَاحْتَالَ بِهَذِهِ، وَلَيْسَ الرَّأْيُ أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْنَا أَحَدٌ عِلْمًا فَنُظْهِرُ الزُّهْدَ فِيهِ، فَأَحْضِرْهُ. قَالَ: فَجِئْتُ بِالرَّجُلِ، وَقَعَدَ لَهُ الْمَأْمُونُ، فَأَحَضَرْتُ أَدَاةَ الْعَمَلِ، فَإِذَا هُوَ بِحِلِّ الطَّلْقِ أَجْهَلُ مِنِّي بِمَا فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ. فَنَظَرَ إِلَيَّ الْمَأْمُونُ، وَقَالَ: أَتَزْعُمُ أَنَّهُ حَلِفَ بَالطَّلاقِ وَالْعِتَاقِ وَصَدَقَةِ مَا كَانَ يَمْلِكُ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَقَدْ حَنَثَ. فَقُلْتُ لِلْرَجُلِ، وَالْمَأْمُونُ يَسْمَعُ: أَلَمْ تَحْلِفْ بِالطَّلاقِ وَالْعِتَاقِ وَصَدَقَةِ مَا تَمِلُكُ؟ قَالَ: بَلَى، فَقَدْ حَنَثْتُ، قَالَ: لَيْسَتْ لِيَ امْرَأَةٌ. قُلْتُ: فَالْعِتَاقُ؟ قَالَ: مَا أَمْلِكُ خَيْطًا وَلا مَخِيَطًا. قُلْتُ: كَذَبَ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ غُلامٌ وَدَابَةٌ. قَالَ: هُمَا، وَحَقِّ رَأْسِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، عَارِيَةٌ. قَالَ: فَتَبَسَّمَ الْمَأْمُونُ، وَقَالَ: هَذَا رَجُلٌ بِحِلِّ الدَّرَاهِمِ أَعْلَمُ مِنْهَ بِحِلِّ الطَّلْقِ. ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يُعْطَى لَهُ خَمْسَةُ آلافِ دِرْهَمٍ. قَالَ: فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ لِلْعُتْبِيُّ: رُدَّهُ، فَرَدَّهُ، قَالَ: زِيدُوهِ فِإِنَّهُ لا يَجِدُ فِي كِلِّ وَقْتٍ مَنْ يُمَخَرِقُ عَلَيْهِ. فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدِي بَابٌ مِنَ الْحِمْلانِ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِثْلُهُ. قَالَ: احْمِلْهُ عَلَى هَذِهِ الدَرَاهِمِ، فَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا صِرْتَ مَلِكًا فِي أَقَلِّ مِنْ شَهْرٍ حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: سَأَلَ الْمَأْمُونُ أَحْمَدَ بْنَ أَبِي دُؤَادٍ عَنْ أَخْلاقِ أَبِي عَبَّادٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ أَحَدُّ مِنْ سَيْفِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَأَنْزَقُ مِنْ مَجْنُونِ الْبَكَرَاتِ. قَالَ: مَا أَتَبَيَّنُ ذَلِكَ فِيهِ. قَالَ: لِمَوْضِعِ الْخِلافَةِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنْ حَرَّكْتَهُ تَحَرْكَ، فَأَرَادَ الْمَأْمُونُ أَنْ يَمْتَحِنَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ يَوْمًا فَعَرَضَ مَا مَعَهُ مِنَ الْحَوَائِجِ، فَأَمَرَ أَنْ يُوَقِّعَ فِيهَا، ثُمَّ خَرَجَ، فَلَمَّا صَارَ بِالْبَابِ، قَالَ: رُدُّوهُ، فَرَجَعَ، فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: افْعَلْ فِي أَمْرِ الأَهْوَازِ بِحَسْبِ مَا قُلْتُ لَكْ، وَلا تَعْرِضْ بِهِ مُؤَامَرَةً. قَالَ: نَعَمْ.

ثُمَّ خَرَجَ، فَلَمَّا صَارَ بِالْبَابِ، قَالَ: رُدُّوهُ، فَرَجَعَ، فَقَالَ: قُلْ لِعَمْرِو بْنِ مَسْعَدَةَ: أَخِّرْ أَمْرَ أَبِي دُلْفٍ حَتَّى آمُرَكَ فِيهِ بِمَا أُرِيدُ، قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ خَرَجَ، فَلَمَّا صَارَ بِالْبَابِ، قَالَ: رُدُّوهُ، فَجَاءَ الرَّسُولُ، فَقَالَ: ارْجِعْ، فَتَنَاوَلَ الدَّوَاةَ مِنْ غُلامِهِ، وَقَالَ: السَّاعَةَ أَضْرِبُ وَجْهَكَ الْقَبِيحَ يَا ابْنَ الْخَبِيثَةِ، فَقَالَ الْغُلامُ: وَمَا ذَنْبِي أَبْقَاكَ اللَّهُ؟ قَالَ: ذَاكَ يَنْبَغِي أَنْ تَقُولَ قَدْ ذَهَبَ إِلَى النَّارِ. فَرَجَعَ، فَقَالَ: ارْفَعْ غَدًا رُقْعَةَ الْهَاشِمِيِّينَ، قَالَ: نَعَمْ، وَضَحِكَ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لا أَرْجِعُ بَعْدَهَا حَتَّى أَسْتَطِيرَ. قَالَ: امْضِ رَاشِدًا، وَلَهُ يَقُولُ دَعْبَلٌ: أَوْلَى الأُمُورِ بِضَيْعَةٍ وَفَسَادٍ ... أَمْرٌ يُدَبِّرُهُ أَبُو عَبَّادٍ خَرِقٌ عَلَى جُلَسَائِهِ بِدَوَاتِهِ ... فَمُرَمَّلٌ وَمَخَضَّبٌ بِمِدَادِ وَكَأَنَّهُ مِنْ دِيرِ هِزْقَلَ مُفْلِتٌ ... حَرِدٌ يَجُرُّ سَلاسِلَ الأَقْيَادِ فَاشْدُدْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَثَاقَهُ ... فَأَصَحُّ مِنْهُ بَغِيَّةَ الْحَدَّادِ حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُتْبِيُّ، قَالَ: حَجَجْنَا سَنَةً فَنَزَلْنَا ضَرِيَّةَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ، فَسَأَلْنَا عَنِ الْوَالِي، فَقِيلَ لَنَا: أَعْرَابِيٌّ عَمَّا قَلِيلٍ يَخْرُجُ إِلَيْكُمْ. فَلمَا زَالَتِ الشَّمْسُ خَرَجَ عَلَيْنَا وَعَلَى رَأْسِهِ عِمَامَةٌ كَأَنَّهَا رُحًا، مُتَنَكِّبًا قَوْسًا عَرَبِيَّةً، فَصَعِدَ عَلَى كَثِيبٍ لَهُ مِنْ رَمْلٍ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَنَا بِوَجْهِهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الدُّنْيَا دَارُ مَمَرٍ، وَالآخِرَةَ دَارُ مَقَرٍّ، فَخُذُوا لِمَقَرِّكُمْ مِنْ مَمَرِّكُمْ، وَلا تَهْتِكُوا أَسْتَارَكُمْ عِنْدَ مَنْ يَعْلَمُ أَسْرَارَكُمْ، أَخْرِجِوا مِنَ الدُّنْيَا قُلُوبَكُمْ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا أَبْدَانُكُمْ، فَفِي الدُّنْيَا حَيِيتُمْ، وَلِلآخِرَةِ خُلِقْتُمْ، وَإِنَّمَا الدُّنْيَا بِمَنْزِلَةِ السُّمِّ النَّاقِعِ، يَأْكُلُهُ مَنْ لا يَعْرِفُهُ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَالْمَدْعُو لَهُ الْخَلِيفَةُ، ثُمَّ الأَمِيرُ جَعْفَرٌ، قُومُوا لِصَلاتِكُمْ، بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمْ ". حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ قَرِيبٍ، قَالَ: كُنْتُ فِي مَجْلِسِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الرَّشِيدِ، وَكَانَ فِيهِ أَبُو البَخْتَرِيِّ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ الأَصَمِّ، وَغَيْرُهُمَا مِنَ الصَّحَابَةِ، فَضَغَطَنِي الْبَوْلُ، فَلَمْ أَدْرِ كَيْفَ أَصْنَعُ. فَالْتَفَتُّ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ الأَصَمِّ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ لِي: بِي مِثْلُ الَّذِي بِكَ، قَالَ: فَإِنِّي لَكَذَلِكَ إِذْ بَصَرَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: يَا أَصْمَعِيُّ، قَالَ: قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: أَبِكَ بَوْلٌ؟ قُلْتُ: أَيْ هَاءَ اللَّهِ. قَالَ: يَا رَجُلُ، قُمْ مَعَهُ حَتَّى يَبُولَ، فَقُمْتُ فَبُلْتُ وَرَجَعْتُ، فَلَمَّا رَآنِي، قَالَ: يَا أَصْمَعِيُّ هَاتِ بَيْتًا أَنْظُرُ فِي مَعْنَاهُ، فَقُلْتُ: فَلا غَرْوَ إِلا جَارَتِي وَسُؤَالَهَا ... أَلا هَلْ لَنَا أَهْلٌ سُئِلَتْ كَذَلِكَا فَجَعَلَ يُفَكِّرُ فِيهِ، وَهَمَّ أَنْ يَقُولَ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَعِدْ نَظَرًا، فَقَالَ: وَكَيْفَ عَلِمْتَ. قُلْتُ: رَأَيْتُ نَاظِرَيْكَ يَجُولانِ، وَقَدِ اسْتَقَرَّا، كَانَ أَوْضَحَ لإِصَابَتِكَ، فَضَحِكَ حَتَّى انْثَنَى ثُمَّ قَالَ: فَأَصَابَ.

فَقُلْتُ: أَصَبْتَ وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَحْسَنْتَ. قَالَ: فَسُرَّ بِإِصَابَتِهِ وَارْتَاحَ لَهَا، وَأَمَرَ لِي بِصِلَةٍ، ثُمَّ قَالَ: قُمْ يَا أَصْمَعِيُّ نَنْظُرُ إِلَى الْهِلالِ لِشَهْرِ رَمَضَانَ، فَأَخَذَ بِيَدِي، وَصَعِدَ بَابَ دَرَجِهِ، فَجَعَلْتُ أَتَّكِئُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لِيَ الْخَادِمُ: أَتَتَّكِئُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقُلْتُ: لا، فَصَعِدْنَا فَرَأَيْنَاهُ ". حَدَّثَنِي مُبَارُكٌ الَطَّبَرِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عُبَيْدٍ، يَقُولُ: " إِنَّ أَبَا جَعْفَرٍ الْمَنْصُورَ لَمَّا بُويِعَ بِالْخِلافَةِ دَخَلَ عَلَيْهِ أَهْلُ بَيْتِهِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْقُوَّادِ فَهَنَّئُوهُ، فَحَمِدَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " إِنِّي وَاللَّهِ مَا أَنَا بِأَرْغَبِ النَّاسِ فِيهَا، وَلا أَحْرَصَهُمْ عَلَيْهَا، وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ لا يَكُونَ بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سِتْرٌ، وَأَنْ أَتَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ وَبَثِّ سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، رَاجِيًا الْعَدْلَ وِإِمَاتَةَ الْجَوْرِ، وَالأَخْذَ لِفَيْئِكُمْ مِنْ حَقِّهِ، وَوَضْعَهُ فِي مَوَاضِعِهِ الَّتِي جَرَتْ بِهَا السُّنَّةُ، وَنَزَلَ بِهَا الْكِتَابُ، وَمَنْعَهُ مِنْ بَاطِلِهِ، لِيُقَرِّبَنِي اللَّهُ بِذَلِكَ، وَيَزِيدَنِي فَضْلَهُ لَدَيْهِ، وَكَرَامَةً عِنْدَهُ مَعَ قَرَابَتِي مِنْ نَبِيِّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَرَبُّنَا الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِمَّنْ خَالَفَ قَوْلَهُ َفِعْلَهُ، وَعِظَتَهُ وَعَمَلَهُ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأُمُّ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ أُمُّ جَعْفَرٍ زَيْنَبُ بِنْتُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأُمُّهَا فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنِ يَحْيَى الرَّبَعِيُّ، قَالَ: قَالَ ابْنُ شُبْرَمَةَ " دَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَى جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، فَسَلَّمْتُ، وَكُنْتُ لَهُ صَدِيقًا، ثُمَّ أَقْبَلْتُ عَلَى جَعْفَرٍ، فَقُلْتُ لَهُ: أَمْتَعَ اللَّهُ بِكَ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، لَهُ فِقْهٌ وَعِلْمٌ. فَقَالَ لِي جَعْفَرٌ: لَعَلَّهُ الَّذِي يَقِيسُ الدِّينَ بِرَأْيِهِ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ، فَقَالَ: هُوَ النُّعْمَانُ بْنُ ثَابِتٍ؟ قَالَ: وَلَمْ أَعْرِفِ اسْمَهُ إِلا ذَلِكَ الْيَوْمَ. قَالَ: فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: نَعَمْ، أَصْلَحَكَ اللَّهُ، فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: اتَّقِ اللَّهَ وَلا تَقِسِ الدِّينَ بِرَأْيِكَ، فَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ قَاسَ إِبْلِيسُ، إِذْ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالسِّجُودِ لآدَمَ، فَقَالَ: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12 ٍ] ثُمَّ قَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: هَلْ تُحْسِنُ أَنْ تَقِيسَ رَأْسَكَ مِنْ جَسَدِكَ؟ فَقَالَ: لا، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الْمُلُوحَةِ فِي الْعَيْنَيْنِ، وَعَنِ الْمَرَارَةِ فِي الأُذُنَيْنِ، وَعَنِ الْمَاءِ فِي الْمِنْخَرَيْنِ، وَعَنِ الْعُذُوبَةِ فِي الشَّفَتَيْنِ لأَيِّ شَيْءٍ جُعِلَ ذَلِكَ؟ قَالَ: لا أَدْرِي.

قَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَلَقَ الْعَيْنَيْنِ فَجَعَلَهُمَا شَحْمَتَيْنِ، وَجَعَلَ الْمُلُوحَةَ فِيهِمَا مَنًّا مِنْهُ عَلَى ابْنِ آدَمَ، وَلَولا ذَلِكَ لَذَابَتَا فَذَهَبَتَا، وَجَعَلَ الْمَرَارَةَ فِي الأُذُنَيْنِ مَنًّا مِنْهُ عَلَيْهِ، وَلَولا ذَلِكَ لَهَجَمَتِ الدَّوَابُّ فَأَكَلَتْ دِمَاغَهُ. وَجَعَلَ الْمَاءَ فِي الْمِنْخَرَيْنِ لِيَصْعَدَ مِنْهُ النَفَسُ وَيَنْزِلَ، وَيَجِدَ مِنْهُ الرِّيحَ الطَّيِّبَةَ مِنَ الرِّيحِ الرَّدِيَّةِ. وَجَعَلَ الْعُذُوبَةَ فِي الشَّفَتَيْنِ لِيَجِدَ ابْنُ آدَمَ لَذَّةَ مَطْعَمِهِ وَمَشْرَبِهِ. ثُمَّ قَالَ لأَبِي حَنِيفَةَ: أَخْبِرْنِي عَنْ كَلِمَةٍ أَوَّلُهَا شِرْكٌ وَآخِرُهَا إِيمَانٌ مَا هِيَ؟ قَالَ: لا أَدْرِي. قَالَ: قُوْلُ الرَّجُلِ «لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ» ، فَلَوْ قَالَ: «لا إِلَهَ» ، ثُمَّ أَمْسَكَ كَانَ مُشْرِكًا، فَهَذِهِ كَلِمَةٌ أَوَّلُهَا شِرْكٌ وَآخِرُهَا إِيمَانٌ. ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ أَيُّمَا أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، قَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ أَمِ الزِّنَا؟ قَالَ: لا بَلْ قَتْلُ النَّفِسِ. قَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ اسْمُهُ قَدْ رَضِيَ وَقَبِلَ فِي قَتْلِ النَّفْسِ بِشَاهِدَيْنِ، وَلَمْ يَقْبَلْ فِي الزِّنَا إِلا أَرْبَعَةً، فَكَيْفَ يَقُومُ لَكَ قِيَاسٌ؟ ثُمَّ قَالَ: أَيُّمَا أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ، الصَّوْمُ أَمِ الصَّلاةُ؟ قَالَ: لا بَلِ الصَّلاةُ. قَالَ: فَمَا بَالُ الْمَرَّأَةِ إِذَا حَاضَتْ تَقْضِي الصِّيامَ وَلا تَقْضِي الصَّلاةَ؟ اتَّقِ اللَّهَ يَا عَبْدَ اللَّهِ وَلا تَقِسْ، نَقِفْ نَحْنُ غَدًا وَأَنْتَ وَمَنْ خَالَفَنَا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَنَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَقُولُ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ: سَمِعْنَا وَرَأَيْنَا، فَيَعْمَلُ بِنَا وَبِكُمْ مَا يَشَاءُ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، قَالَ: " خَرَجَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ يَوْمًا يَتَصَيَّدُ وَهُوَ أَمِيرُ الْعِرَاقِ، قَدْ تَفَرَّدَ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَإِذَا هُوَ بِأَعْرَابِيٍّ عَلَى أَتَانٍ لَهُ هَزِيلٍ وَمَعَهُ عَجُوزٌ لَهُ. فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ: مِمَّنِ الرَّجُلُ؟ قَالَ: مِنْ أَهْلِ الْمَآثِرِ وَالْحَسَبِ، قَالَ: أَفَأَنْتَ إِذًا مِنْ مُضَرَ، فَمِنْ أَيِّهَا أَنْتَ؟ قَالَ: مَنَ الْمُطَاعِنِينَ عَلَى الْخُيُولِ، الْمُعَانِقِينَ عِنْدَ النُّزُولِ. قَالَ: فَأَنْتَ إِذًا مِنْ عَامِرٍ، فَمِنْ أَيِّهَا أَنْتَ؟ قَالَ: مِنَ الطَّالِبِينَ الثَّارَ، وَالْمَانِعِينَ الْجَارَ. قَالَ: فَأَنْتَ إِذًا مِنْ كِلابٍ، فَمِنْ أَيِّهَا أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ أَهْلِ الْوَفَادَةِ وَالرِّيَاسَةِ. قَالَ: فَأَنْتَ إِذًا مِنْ جَعْفَرٍ، فَمِنْ أَيِّهَا أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ بَدْرِهَا وَشَمْسِهَا، وَلُيُوثِهَا وَخِيسِهَا. قَالَ: فَأَنْتَ إِذًا مِنَ الْحَوْصِ، فَمَا أَقْدَمَكَ هَذِهِ الْبِلادَ؟ قَالَ: تَتَابُعُ السِّنِينَ وَقِلَّةُ رِفْدِ الرَّافِدِ. قَالَ: فَمَنْ أَرَدْتَ بِهَا؟ قَالَ: أَمِيرَكُمُ الَّذِي رَفَعَتْهُ إِمْرَتُهُ، وَحَطَّتْهُ أُسْرَتُهُ. قَالَ: فَمَا أَرَدْتَ مِنْهُ؟ قَالَ: كَثْرَةَ دَرَاهِمِهِ لا كَرَمَ آبَائِهِ. قَالَ: مَا أَرَاكَ إِلا قُلْتَ فِيهِ شِعْرًا. قَالَ: فَقَالَ: لامْرَأَتِهِ: أَنْشِدِيهِ. قَالَتْ: كَمْ تَجَشَّمْنَا مَدَحَ اللَّئِيمِ مُنْذُ الْيَوْمِ، إِنَّ مَدَحَ اللَّئِيمِ ذُلٌّ. قَالَ: فَأَنْشِدِيهِ، فَأَنْشَدَتْ تَقُولُ:

إِلَيْكَ ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ بِالْحَمْدِ أَرْقَلَتْ ... بِنَا الْبَيْدَ عِيسٌ كَالْقِسِيِّ سَوَاهِمُ عَلَيْهَا كِرَامٌ مِنْ ذُؤَابَةِ عَامِرٍ ... أَضَرَّ بِهِمْ جَدْبُ السِّنِينَ الْعَوَارِمُ يُرِدْنَ امْرَءًا يُعْطِي عَلَى الْحَمْدِ مَالَهُ ... وَهَانَتْ عَلَيْهِ فِي الثَّنَاءِ الدَّرَاهِمُ فَإِنْ تُعْطِ مَا نَهْوَى فَهَذَا ثَنَاؤُنَا ... وَإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى فَمَا لامَ لائِمُ فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، مَا أَعَجَبَكَ وَشِعْرَكَ، جِئْتَ عَلَى أَتَانٍ هَزِيلٍ وَتَزْعُمُ أَنَّكَ جِئْتَ عَلَى عِيسٍ، وَقَدْ ذَكَرْتَ الرَّجُلَ فِي شِعْرِكَ بِخِلافِ مَا ذَكَرْتَهُ فِي كَلامِكَ. قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، مَا تَجَشُّمُنَا مِنْ مَدْحِ اللَّئِيمِ كَانَ أشدَّ مِنَ الْكَذِبِ فِي شِعْرِنَا. فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ: أَتَعْرِفُ خَالِدًا؟ قَالَ: لا. فَقَالَ خَالِدٌ: أَنَا خَالِدٌ وَأَنَا مُعْطِيكَ وَغَيْرُ مُكَافِيكَ. فَقَالَ: يَا أُمَّ جَحْشٍ، اصْرِفِي وَجْهَ أَتَانِكِ، وَمَضَى. فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ: لا تَفْعَلْ، وَقُمْ فَإِنِّي مُحْسِنٌ إِلَيْكَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لا رَزَأْتَ لأَمْرِي دِرْهَمًا أَسْمَعْتَهُ، وَضَرَبَ وَجْهَ أَتَانِهِ وَمَضَى. فَقَالَ خَالِدٌ: بِمِثْلِ هَذَا الصَّبْرِ نَالَ هَذَا وَأَبُوهُ مِنَ الشَّرَفِ مَا نَالُوهُ حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ حَفْصٍ التَّمِيمِيِّ، عَنْ حَرْبِ بْنِ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: انْصَرَفَ أَعْرَابِيٌّ عَنِ الْمَوْسِمِ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَسَقَطَ بَعِيرُهُ فِي الطَّرِيقِ، فَأَقْبَلَ بِرَحْلِهِ يَحْمِلُهُ حَتَّى أَتَى بَابَ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَسَأَلَهُ فَحَرَمَهُ، فَأَتَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ، فَقَالَ لآذِنِهِ: إِنَّ مَعِي هَدِيَّةً فَأَعْلِمْهُ. فَدَخَلَ إِلَى ابْنِ جَعْفَرٍ فَأَعْلَمَهُ، فَقَالَ قُلْ لَهُ: أَنْتَ تَحْمِلُ هَدِيَّتَكَ أَمْ يَحْمِلُهَا غَيْرُكَ؟ قَالَ: بَلْ أَحْمِلُهَا أَنَا، قَالَ: أَدْخِلْهُ، فَلَمَّا دَخَلَ، قَالَ: هَاتِ، فَأَنْشَدَهُ: أَبُو جَعْفَرٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ نُبُوَّةٍ ... صَلاتُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ طَهُورُ أَبَا جَعْفَرٍ إِنَّ الْجِيَادَ تَوَاكَلَتْ ... فَأَدْرَكَهَا عِنْدَ الْحِضَارِ فُتُورُ أَبَا جَعْفَرٍ يَا ابْنَ الشَّهِيدِ الَّذِي لَهُ ... جَنَاحَانِ فِي أَعَلَى الْجِنَانِ يَطِيرُ أَبَا جَعْفَرٍ ضَنَّ الأَمِيرُ بِمَالِهِ ... وَأَنْتَ عَلَى مَا فِي يَدَيْكَ أَمِيرُ أَبَا جَعْفَرٍ إِنَّ الْحَجِيجَ تَرَجَّلُوا ... وَلَيْسَ لِرَحْلِي فَاعْلَمَنَّ بَعِيرُ فَقَالَ لَهُ: انْطَلِقْ إِلَى إِبِلِي فَاخْتَرْ أَفْضَلَ نَاقَةٍ فِيهَا أَوْ جَمَلٍ فَخُذْهُ. فَمَضَى الأَعْرَابِيُّ إِلَى الإِبِلِ، وَكَانَ بِهَا بَصِيرًا، فَأَخَذَ نَاقَةً لابْنِ جَعْفَرٍ تَعْدِلُ رَحْلَهُ، فَأَبَى غُلامُ ابْنِ جَعْفَرٍ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَيْهِ، فَرَجَعَ الأَعْرَابِيُّ إِلَى ابْنِ جَعْفَرٍ فَأَعْلَمَهُ. فَأَرْسَلَ مَعَهُ رَسُولا، وَقَالَ لَهُ: أَعْطِهِ الَّذِي طَلَبَ، وَالْعَبْدُ الَّذِي مَنَعَهُ فَأَعْطِهِ إِيَّاهُ أَيْضًا.

أشد الناس عذابا يوم القيامة من أشركه الله في سلطانه فجار في حكمه» . قال الفضل بن سليمان:

فَدَفَعَهُمَا إِلَيْهِ، وَأَخَذَهُمَا الأَعْرَابِيُّ، وَرَجَعَ إِلَى ابْنِ جَعْفَرٍ يَتَشَكَّرُ لَهُ، فَقَالَ الْعَبْدُ لابْنِ جَعْفَرٍ: جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ، صُحْبَتِي؟ فَقَالَ: لِلأَعْرَابِيِّ: أَتَبِيعُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: بِكَمْ؟ قَالَ: بِثَلاثِمِائَةِ دِينَارٍ، قَالَ: هِيَ لَكَ فَأَعْطَاهُ ثَلاثَمِائَةِ دِينَارٍ، وَأَعْطَاهُ سَيْفًا، وَقَالَ: لا تَخْدَعَنَّ عَنْهُ، فَإِنِّي أَخَذْتُهُ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِينَارٍ، وَقَالَ لِلْعَبْدِ: إِنَّ لَكَ حَقًا وَإِنَّكَ لَطَوِيلُ الصُّحْبَةِ، فَأَعْتَقَهُ وَأَهْلَهُ وَوَلَدَهُ. فَأَنْشَأَ الأَعْرَابِيُّ، يَقُولُ: سَأُثْنِي بِمَا أَوْلَيْتَنِي يَا ابْنَ جَعْفَرٍ ... وَمَا شَاكِرٌ عُرْفًا كَمَنْ هُوَ كَافِرُهْ فَيَا خَيْرَ خَلْقِ اللَّهِ نَفْسًا وَوَلَدًا ... وَأَكْرَمَهُمْ لِلْجَارِحِينَ يُجَاوِرُهْ حَدَّثَنِي مُبَارَكٌ الطَّبَرِيُّ، قَالَ: " أَشَارَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَى الْمَهْدِيِّ أَنْ يَنْزِلَ الرَّافِقَةَ، وَأَرَادَ أَنْ يُبْعِدَهُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، فَكَتَبَ أَبُو دُلامَةَ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ: إِنَّ الْخَلِيفَةَ وَالْمَهْدِيَّ إِنْ قَرُبَا فَنَحْنُ فِي حِنْثٍ، لا مَاءٌ، وَلا شَجَرٌ، وَلا نَهَارٌ، وَلا لَيْلٌ يَطِيبُ لَنَا، وَلا يَطِيبُ لَنَا شَمْسٌ وَلا قَمَرٌ، اللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي نَاصِحٌ لَكُمْ فِيمَا أَقُولُ، وَإِنِّي حَيَّةٌ ذَكَرٌ أَرَى وَأَسْمَعُ مَا لا تَسْمَعَانِ بِهِ مِنَ الْحَسُودِ، وَفِي فِيَّ الْحَاسِدُ الْحَجَرُ. فَرَدَّ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَهْدِيَّ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي نُزُولِ الرَّافِقَةَ، وَلَمْ يُبَاعِدْهُ عَنْهُ 29 - حَدَّثَنِي الْمَدَائِنِيُّ، قَالَ: حَجَّ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَوَافَى طَاوُسًا بِمَكَّةَ، فَقِيلَ لِطَاوُسٍ: حَدِّثْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ طَاوُسٌ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ أَشْرَكَهُ اللَّهُ فِي سُلْطَانِهِ فَجَارَ فِي حُكْمِهِ» . قَالَ الْفَضْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: فَرَأَيْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ قَدْ تَغَيَّرَ وَجْهُهُ حَدَّثَنِي الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ عَوَانَةَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ لِعَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ: «إِنِّي أَرَاكَ ظَاهِرَ اللَّوْنِ لَيِّنَ الْبَشْرَةِ، فَلَيْتَ شِعْرِي مَا طَعَامُكَ؟» قَالَ: " لُبَابُ الْحِنْطَةِ، وَصِغَارُ الْمَاعِزِ، وَأَدِّهُنُ بِخَامِ الْبَنَفْسَجِ، وَأَلْبَسُ الْكِتَّانَ حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: " جَاءَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ بُرَيْهَةَ إِلَى غَسَّانَ بْنِ عَبَّادٍ يَشْكُو إِلَيْهِ غَلَبَةَ الدَّيْنِ، وَضِيقَ الْحَالِ، وَيَسْأَلُهُ أَنْ يَرْفَعَ لَهُ رُقْعَةً إِلَى الْمَأْمُونِ فِي إِدْرَارِ أَرْزَاقِهِ وَقَضَاءِ دَيْنِهِ. فَقَالَ: وَكَمْ دَيْنُكَ؟ قَالَ: ثَلاثُونَ وَمِائَةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ. قَالَ: هَاتِ رُقْعَتَكَ. فَأَخْرَجَهَا مِنْ خُفِّهِ وَذَهَبَ لِيَقُومَ.

فَقَالَ: مَكَانَكَ، ثُمَّ دَعَا بِالْغَدَاءِ، وَدَعَا بِوَكِيلِهِ، فَقَالَ: ادْنُ مِنِّي، فَسَارَّهُ، وَقَالَ: احْمِلِ السَّاعَةَ إِلَى مَنْزِلِ بُرَيْهَةَ مِائَةً وَثَلاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَحُمِلَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَغَدَّى فَلَمَا انْصَرَفَ وَجَدَهَا فِي مَنْزِلِهِ، وَرَكِبَ غَسَّانُ مِنَ الْغَدِ، فَكَلَّمَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي دَيْنِهِ وَعَرَضَ رُقْعَتَهُ، فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: قَدْ بَلَغَنِي مَا فَعَلْتَ أَمْسَ، فَوَصَلَكَ اللَّهُ بِصِلَتِكَ، فَأَنْتَ وَاللَّهِ مِمَّنْ إِذَا تَكَلَّمْ نَفَعَ كَلامُهُ، وَإِذَا سَكَتَ حَسُنَ سُكُوتُهُ، ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ وَكَرَامَةٌ، قَدْ أَمَرْنَا بِقَضَاءِ دَيْنِهِ وَالزِّيَادَةِ فِي أَرْزَاقِهِ، وَأَدْرَرْنَاهَا عَلَيْهِ. فَدَعَا لَهُ غَسَّانُ وَانْصَرَفَ، فَلَمَّا وَلَّى أَتْبَعَهُ بَصَرَهُ. فَقَالَ: لا تَزَالُ الْخِلافَةُ ذَاتَ بَهْجَةِ مَا حَضَرَ مَجْلِسَنَا مِثْلُ هَذَا، مَا اغْتَابَ عِنْدِي أَحَدًا قَطُّ، وَلا اعْتَرَضَ فِي كَلامِهِ، وَلا سَأَلَ حَاجَةً لِنَفْسِهِ، وِلا جَرَّبْنَا عَلَيْهِ كَذِبًا وَلا خِيَانَةً، وَلا سَبَقَهُ لِسَانُهُ بِلَفْظَةٍ اعْتَذَرَ مِنْهَا. ثُمَّ كَانَ أَوَّلُ تَوْقِيعٍ بَعَدَ هَذَا خَرَجَ ثَلاثَةَ آلافِ دِرْهَمٍ لِغَسَّانَ بْنِ عَبَّادٍ النَّازِلِ مَا لا يَعْنِيهِ حَدَّثَنِي مُبَارَكٌ الْمَطِيرِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: " قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ يَوْمًا لابْنِ خُرَيْمٍ، وَكَانَ آنِسًا بِهِ: إِنِّي وَاثِقٌ بِعِنَايَتِكَ، وَحِفْظِكَ وَأَمَانَتِكَ وَنَصِيحَتِكَ لأَمَانَتِكَ، وَلَيْسَ كُلُّ ذِي عَقْلٍ نَاصِحٍ يَجْتَمِعُ هَذَا فِيهِ، فَأَخْبِرْنِي عَمَّا يَعِيبُ النَّاسَ مِنْ أَمْرِي، وَيَكْرَهُونَ مْنَ سِيرَتِي. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا أَصْبَحَ النَّاسُ يُنْكِرُونَ مِنْ سِيرَتِكَ مُنْكَرًا، وَلا يَسْتَبْطُونَ خَبَرًا، إِلا أَنَّ أَهْلَ النَّصِيحَةِ لَكَ وَالإِبْقَاءِ عَلَيْكَ قَدْ غَاظَهُمْ مُبَاشَرَتُكَ أُمُورَكَ، وَتَوَلِّيكَ النَّظَرَ فِيمَا لَوْ وَكَّلْتَهُ إِلَى غَيْرِكَ كَفَاكَهُ، وَشَغَلَهُ مِنْ ذَلِكَ الصَّغِيرِ مِنَ الأُمُرِ، حَتَّى انْحَلَّ جِسْمُكَ مِنَ التَّهَنِّي بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْكَ، فَلَوْ بَاشَرْتَ جَلائِلَ الأُمُورِ، وَوَكَّلْتَ خَسَائِسَهَا إِلَى أَعْوَانِكَ انْتَظَمْتَ الأَمْرَيْنِ جَمِيعًا. ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ شَكَا إِلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قِلَةَ أَعْوَانِهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنْ تَكْتُبَ سَبْعِينَ عَهْدًا وَتَتْرُكَ مَوَاضِعَ أَسْمَاءَ الرِّجَالِ لَيُعْلِمَهُ اللَّهُ إِيَّاهُمْ فَيُسَمِّيهِمْ فِيهَا. قَالَ الْمَنْصُورُ: هَذَا مُوسَى دَلَّهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَأَوْحَى اللَّهُ فِيهِمْ، وَأَخْبَارُ السَّمَاءِ لَيْسَ يَعْلَمُهَا إِلا مَلَكٌ مَقَرَّبٌ وَنبِيٌّ مُرْسَلٌ، فَأَنَا مَنْ يُخْبِرُنِي وَالنَّاسُ كَمَا قَدْ عَلِمْتَ فِي مَسَاوِئِهِمْ وَخُبْثِ نِيَّاتِهِمْ. فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَيْنَ أَنْتَ عَنِ الرَّبِيعِ وَعَبْدِ الْمَلِكِ؟ فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مِنْ خَدَمِ الْمُلُوكِ مِثْلَهُمَا، وَكَانَ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَهُمَا حَسَنًا، فَأَحْبَبْتُ أَنْ يَعْلَمَا كَلامِي إِيَّاهُ. وَكَانَا خَلْفَ الْفُسْطَاطِ، فَرَأَى ظِلَّهُمَا، فَقَالَ الْفَاسِقَيْنِ الْمُخَنَّثَيْنِ، لَيْسَا لِذَلِكَ بِأَهْلٍ، وَإِنْ كَانَا يَسْمَعَانِ قَوْلِيَ الآنَ، ثُمَّ أَصْغَى إِلَيَّ فَقَالَ: مَعَ أَنَّهُمَا قَدْ ضَغَطَهُمَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ صَلُحَا، وَعَبْدُ الْمَلِكِ أَمِينٌ مُجْزٍ، وَالرَّبِيعُ ظَرِيفٌ نَاصِحٌ.

قَالَ ابْنُ خُرَيْمٍ: فَحَدَثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ دَعَاهُمَا، فَقَالَ: مَا سَمِعْتُ مِثْلَ كَلامِ ابْنِ خُرَيْمٍ أَوْ قَوْلِهِ، وَأَوْقَعَ عَلَى قَلْبِي مَعَ النَّصِيحَةِ وَشَدَّةِ الرَّأْيِ. قَالَ: فَأَتَيْتُ أَنَا وَالرَّبِيعُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: تَتَقَارَضَانِ الثَّنَاءَ عِنْديِ كَذَبْتُمَا، وَكُذِبَ فِيكُمَا، اخْرُجَا عَنِّي حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ قَرِيبٍ، قَالَ: " خَرَجْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فِي الْبَادِيَةِ، فَإِذَا أَنَا بِامْرَأَةٍ إِلَى جَانِبِ قَبْرٍ، وَهِيَ تَسْتُرُ جِيدَهَا، فَقُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَرأَةُ تَنْدُبُ أَوْ تَرْثِي، فَدَنَوْتُ مِنْهَا وَهِيَ لا تَدْرِي، حَتَّى قَرُبْتُ مِنْهَا، فَإِذَا هِيَ تَقُولُ: هَلْ خَبَّرَ الْقَبْرُ سَائِلِيهِ ... أَمْ قَرَّ عَيْنًا بِزَائِرِيهِ أَمْ هَلْ تَرَاهُ أَحَاطَ عِلْمًا ... بِالْجَسَدِ الْمُسْتَكِنِّ فِيهِ لَوْ يِعْلَمُ الْقَبْرُ مَنْ يَوَارِي ... تَاهَ عَلَى كُلِّ مَنْ يَلِيهِ يَا مَوْتُ لَوْ تَقْبَلُ افْتِدَاءً ... كُنْتُ بِنَفْسِي سَأَفْتَدِيهِ أَنْعَى يَزِيدًا لِمُجْتَدِيهِ ... أَنْعَى يَزِيدًا لِمُعْتَفِيهِ أَنْعَى يَزِيدًا إِلَى حُرُوبٍ ... بِوَصْفِهِ نَدَبَ نَادِبِيهِ يَا جَبَلا كَانَ ذَا امْتِنَاعٍ ... وَرُكْنَ عِزٍّ لآمِلِيهِ يَا نَخْلَةً طَلْعُهَا نَضِيدٌ ... يَقْرُبُ مِنْ كَفِّ مُجْتَنِيهِ تَحْلُو نِعَمٌ عِنْدَهُ سَمَاحًا ... وَلَمْ يَقُلْ قَطُّ لا بِفِيهِ أَيَا صَبُورًا عَلَى بَلاءٍ ... كَانَ بِهِ اللَّهُ يَبْتَلِيهِ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ قَرِيبٍ: فَحَفِظْتُ مَا قَالَتْ، ثُمَّ دَنَوْتُ إِلَيْهَا، فَقُلْتُ لَهَا: أَعِيدِي لَفْظَكِ رَحِمَكِ اللَّهُ. قَالَتْ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَسْمَعُنِي مَا قُلْتُ شَيْئًا مِنْهَا. قَالَ: فَقُلْتُ لَهَا: فَاسْمَعِي مِنِّي مَا قُلْتِ: قَالَتْ: قُلْ. فَأَنْشَدْتُهَا مَا قَالَتْ حَتَّى أَتَيْتُ عَلَى آخِرِهِ. قَالَتْ: مَا كُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّ أَحَدًا لَهُ مِثْلُ حِفْظِكَ، فَإِنْ كَانَ فِي بَلادِ الأَصْمَعِيِّ فَأَنْتَ هُوَ حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ قَرِيبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ، " أَنَّ رَجُلا مِنَ الْعَرَبِ خَرَجَ فِي طَلِبِ إِبِلٍ لَهُ نَدَّتْ، فَوَرَدَ مَنْهَلا مِنْ مَنَاهِلِ الْعَرَبِ، فَإِذَا هُوَ بِامْرَأَةٍ حَسْنَاءَ جَمِيلَةٍ، لَهَا لِسَانٌ وَبَيَانٌ، فَدَنَا مِنْهَا فَسَلَّمَ عَلَيْهَا، فَرَدَّتِ السَّلامَ، ثُمَّ قَالَتْ لَهُ: مِمَّنِ الرَّجُلُ؟ فَانْتَسَبَ لَهَا. فَقَالَتْ لَهُ: مَا أَقْدَمَكَ هَذِهِ الْبِلادَ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: خَرَجْتُ فِي طَلَبِ إِبِلٍ لِي نَدَّتْ عَنِّي، فَخَرَجْتُ فِي طَلَبِهَا، فَهَلْ أَحْسَسْتِ مِنْهَا شَيْئًا؟ قَالَتْ: لا وَاللَّهِ وَلَكِنِّي أَدُلُّكَ عَلَى مَنْ يَرُدُّهَا عَلَيْكَ. قَالَ: افْعَلِي. قَالَتْ: سَلِ الَّذِي أَعْطَاكَهَا، بِنِيَّةٍ صَادِقَةٍ، أَنْ يَرُدَهَا عَلَيْكَ، فَإِنَّهُ مَالِكُ كُلَّ شَيْءٍ. قَالَ: مِمَّنِ الْمَرْأَةُ؟ قَالَتْ: مِنْ بَنِي عَامِرٍ. قَالَ: أَلَكِ زَوْجٌ، وَتَأْمَنِينَ بَوَائِقَهُ؟ فَتَرَقْرَقَتْ عَيْنَاهَا، وَأَنْشَأَتْ تَقُولُ: كُنَّا كَغُصْنَيْنِ فِي أَصْلٍ غِذَاؤُهُمَا ... مَاءُ الْجَدْوَلِ فِي رَوْضَاتِ جَنَّاتِ فَاجْتُثَّ خَيْرَهُمَا عَنْ أَصْلِ صَاحِبِهِ ... دَهْرٌ يَكِرُّ بِعَوْلاتٍ وَتَرْحَاتِ وَكَانَ عَاهَدَنِي إِنْ رَامَنِي زَمَنٌ ... أَنْ لا يُضَاجِعَ أُنْثَى بَعَدَ مَثْوَاتِي وَكُنْتُ عَاهَدْتُهُ أَيْضًا فَغَادَرَهُ ... رَيْبُ الزَّمَانِ قَرِيبًا مُذْ سُنَيَّاتِ

فَاكْفُفْ لِسَانَكَ عَمَّنْ لَيْسَ يَرْدَعُهُ ... عَنِ الْوَفَاءِ خَلابٌ بِالنَّحِيَّاتِ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ مَيْسَرَةَ بْنِ شُرَيْحٍ الْكِنْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي مُعَاوِيَةُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ أَبِيهِ مَيْسَرَةَ، عَنْ شُرَيْحٍ، قَالَ: تَقَدَّمَتْ إِلَيَّ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: أَيُّهَا الْقَاضِي، إِنِّي جِئْتُكَ مُخَاصِمَةً. قَالَ: وَأَيْنَ خَصْمُكِ؟ قَالَتْ: أَنْتَ أَيُّهَا الْقَاضِي. فَأَخْلَى الْمَجْلِسَ، وَقَالَ لَهَا: تَكَلَّمِي. قَالَتْ: إِنِّي امْرَأَةٌ وَلِي إِحْلِيلٌ، وَلِي فَرْجٌ. فَقَالَ لَهَا: قَدْ كَانَ لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ فِي هَذِهِ قَضِيَّةٌ وَرَّثَ مِنْ حَيْثُ جَاءَ الْبَوْلُ. فَقَالَتْ: إِنَّهَ يَجِيءُ مِنْهُمَا. فَقَالَ لَهَا: فَمِنْ أَيْنَ سَابَقُ الْبَوْلِ؟ قَالَتْ: لَيْسَ مِنْهُمَا، يَسْتَوْجِبَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَيَنْقَطِعَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. فَقَالَ لَهَا: إِنَّكِ لَتُخْبِرِينِي بِعَجَبٍ. قَالَتْ: وَأُخْبِرُكَ بِمَا هُوَ أَعْجَبُ مِنْ هَذَا، تَزَوَّجَنِي ابْنُ عَمٍّ لِي، وَأَخْدَمَنِي خَادِمَةً، فَوَطَئْتُهَا فَأَوْلَجْتُهَا، وَإِنَّمَا جِئْتُكَ لَمَّا وُلِدَ لِي لِتُفَرِّقَ بَيْنِي وَبَيْنَ زَوْجِي، فَقَامَ مِنْ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، فَدَخَلَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: " عَلَيَّ بِالْمَرْأَةِ، فَأُدْخِلَتْ، فَقَالَ: " أَحَقٌّ مَا يَقُولُ الْقَاضِي؟ ، قَالَتْ: هُوَ كَمَا قَالَ. قَالَ: فَدَعَا بِزَوْجِهَا، فَقَالَ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ وَابْنَةُ عَمِّكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَعَلِمْتَ مَا كَانَ، قَالَ: نَعَمْ، أَخْدَمْتَهَا خَادِمَةً فَوَطِئَتْهَا فَأَوْلَدَتْهَا، ثُمَّ وَطِئْتَهَا أَنْتَ بَعْدُ؟ ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: لأَنْتَ أَحْسَنُ مِنْ خَاصِي أَسَدٍ، عَلَيَّ بِدِينَارِ الْخَادِمِ وَامْرَأَتَيْنِ، فَجِئَ بِهِمْ، فَقَالَ: خُذُوا هَذِهِ الْمَرْأَةَ، إِنْ كَانَتِ امْرَأَةً، فَأَدْخِلُوهَا بَيْتًا وَأَلْبِسُوهَا ثِيَابًا، وَعُدُّوا أَضْلاعَ جَنْبَيْهَا، فَفَعَلُوا، فَقَالَ: عَدَدُ الأَيْمَنِ أَحَدَ عَشْرَ وَعَدَدُ الأَيْسَرِ اثْنَا عَشْرَ. فَقَالَ عَلَيٌّ: اللَّهُ أَكَبْرُ. فَأَمَرَ لَهَا بِرِدَاءٍ وَحَذَاءٍ وَأَلْحَقَهَا بِالرِّجَالِ. فَقَالَ زَوْجُهَا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، زَوْجَتِي وَابْنَةُ عَمِّي، فَرَّقْتَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا، فَأَلْحَقْتَهَا بِالرِّجَالِ، عَمَّنْ أَخَذْتَ هَذِهِ الْقِصَّةَ؟ ، قَالَ: إِنِّي أَخَذْتُهَا عَنْ أَبِي آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، خَلَقَ حَوَّاءَ، ضِلْعًا مِنْ أَضْلاعِ آدَمَ، فَأَضْلاعُ الرِّجَالِ أَقَلُّ مِنْ أَضْلاعِ النِّسَاءِ بِضِلْعٍ "، ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَأُخْرِجُوا. وَمِنْ عِنْدِنَا انْثَبَتَ، فَرَدُّوا الأَمْرَ إِلَى أَهْلِهِ يُصْدِرُوهُ كَمَا أَوْرَدَهُ. قَالَ ثُمَّ رَجَعَ وَاللَّهِ إِلَى خُطْبَتِهِ كَأَنَّمَا يَقْرَؤُهَا مِنْ كَفِّهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ حَدَّثَنِي الْمَدَائِنِيُّ، قَالَ: كَانَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: " اتَّقُوا اللَّهَ، عِبَادَ اللَّهِ، فَكَمْ مُؤَمِّلٍ مَا لا يَبْلُغُهُ، وَطَاعِمٍ مَا لا يَأْكُلُهُ، وَمَانِعٍ عَمَّا سَوْفَ يَتْرُكُهُ، وَلَعَلَّهُ مِنْ بَاطِلٍ جَمَعَهُ، وَمِنْ حَقٍّ مَنَعَهُ، أَصَابَهُ حَرَامًا، وَأَوْرَثَهُ عَدُوًّا، فَاحْتَمَلَ إِصْرَهُ، وَبَاءَ بِوِزْرِهِ، وَوَرَدَ عَلَى رَبِّهِ، آسِفًا لاهِفًا، قَدْ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخَرَةَ، ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ

حَدَّثَنِي عَلَيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَوَانَةَ بْنَ الْحَكَمِ، قَالَ: " لَمَّا اشْتَدَّتْ شَوْكَةُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَطَالَ تَوَثُّبُهُمْ بِالْوُلاةِ، يَحْصِبُونَهُمْ وَيُقَصِّرُونَ بِهِمْ، أَمَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ مُنَادِيًا، فَنَادَى: الصَّلاةُ جَامِعَةٌ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ فَخَطَبَهُمْ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الْعِرَاقَ قَدْ عَلا لَهَبُهَا، وَسَطَعَ وَمِيضُهَا، وَعَظُمَ الْخَطْبُ. فَجَمْرُهَا ذَكِيٌّ، وَشِهَابُهَا وَرِيٌّ، فَهَلْ مِنْ رَجُلٍ يُنْتدَبُ لَهُمْ، ذِيِ سِلاحٍ عَتِيدٍ، وَقَلْبٍ شَدِيدٍ، فَيُخْمِدَ نِيرَانَهَا، وَيَبِيدَ شُبَّانَهَا؟ ، فَسَكَتَ النَّاسُ جَمِيعًا، وَوَثَبَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ، فَقَالَ: أَنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَعَظِيمُ الْقَرْيَتَيْنِ. قَالَ لَهُ: اجْلِسْ، فَلَسْتَ هُنَاكَ. ثُمَّ سَأَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ: مَنْ لِلْعِرَاقِ؟ فَسَكَتَ النَّاسُ، وَوَثَبَ الْحَجَّاجُ. فَقَالَ: أَنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: وَمَنْ أَنْتَ. قَالَ: أَنَا مِنْ قَوْمٍ رَغِبَتْ فِي مُنَاكَحَتِهِمْ قُرَيْشٌ وَلَمْ يَيْأَسُوا مِنْهُمْ، وَإِعَادَةُ الْكَلامِ مِمَّا يَنْسِبُ صَاحِبَهُ إِلَى الْعِيِّ، وَلَوْلا ذَلِكَ لأَعَدْتُ الْكَلامَ الأَوْلَ. فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: اجْلِسْ فَلَسْتَ هُنَاكَ، ثُمَّ أَطْرَقْ عَبْدُ الْمَلِكِ مَلِيًّا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، وَقَالَ: مَنْ لَلْعِرَاقِ؟ فَسَكَتَ النَّاسُ، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: مَا لِي أَرَى اللُّيُوثَ قَدْ أَطْرَقَتْ، وَلا أَرَى أَسَدًا يَزْأَرُ نَحْوَ فَرِيسَتِهِ؟ فَسَكَتَ النَّاسُ، وَوَثَبَ الْحَجَّاجُ، وَقَالَ: أَنَا لِلْعِرَاقِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: وَمَا الَّذِي أَعْدَدْتَ لأَهْلِ الْعِرَاقِ؟ قَالَ: أَلْبَسُ جِلْدَ النَّمِرِ، ثُمَّ أَخُوضُ الْغَمَرَاتِ، وَأَتَّبِعُ الْهَلَكَاتِ، فَمَنْ نَازَعَنِي طَلَبْتُهُ، وَمَنْ لَحِقْتُهُ قَتَلْتُهُ بِشِدَّةٍ، وَعَجَلٍ وَرَيْثٍ، وَتَبَرٍّ وَازْوِرَارٍ، وَطَلاقَةٍ وَاكْفِهْرَارٍ، وَرِفْقٍ وَجَفَاءٍ، وَصِلَةٍ وَحِرْمَانٍ، فَإِنِ اسْتَقَامُوا كُنْتُ لَهُمْ وَالِيًا حَفِيًّا، وَإِنْ خَالَفُوا لَمْ أُبْقِ مِنْهُمْ طَوَيًّا، فَهَذَا مَا أَعَدَدْتُ لَهُمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلا عَلَيْكَ أَنْ تُجَرِّبَنِي، فَإِنْ كُنْتَ لِلَّطُلَى قَطَّاعًا، وَلِلأَرْوَاحِ نَزَّاعًا، وَلِلأَمْوَالِ جَمَّاعًا، وَإِلا فَاسْتَبْدِلَ بِي، فَإِنَّ الرِّجَالَ كَثِيرٌ. فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: أَنْتَ لَهَا. ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى كَاتِبِهِ، فَقَالَ: اكْتُبْ عَهْدَهُ وَلا تُؤَخِّرْهُ، وَأْعِطِهِ مِنَ الرِّجَالِ وَالْكُرَاعِ وَالأَمْوَالِ.

قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ: فَبَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ فِي الْمِسْجِدِ الأَعْظَمِ إِذْ أَتَانَا آتٍ، فَقَالَ: هَذَا الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ قَدْ قَدِمَ أَمِيرًا عَلَى الْعِرَاقِ، فَاشْرَأَبَّ النَّاسُ نَحْوَهُ، ثُمَّ افْرَاجُّوا إِفْرَاجَّةً عَنْ صَحْنِ الْمَسْجِدِ، فَإِذَا نَحْنُ بَهِ يَتَبَهْنَسُ فِي مِشْيَتِهِ، عَلَيْهِ عِمَامَةٌ حَمْرَاءُ مُتَلَثِّمًا، بِهَا مُنْتَكِبًا قَوْسًا عَرَبِيَّةً، يَؤُمُّ الْمَنْبَرَ، فَمَا زِلْتُ أَرْمُقُهُ بِبَصَرِي حَتَّى صَعِدَ الْمَنْبَرَ، فَجَلَسَ عَلَيْهِ مَا يَحْدِرُ اللِّثَامَ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ يَوْمَئِذٍ لَهُمْ حَالٌ حَسَنٌ، وَهَيْئَةٌ جَمِيلَةٌ وَعِزٌّ وَمَنَعَةٌ وَيَسَارٌ، يَدْخُلُ الرَّجُلُ مِنْهُمُ الْمَسْجِدَ وَمَعَهُ عَشَرَةُ أَوْ عِشْرُونَ رَجُلا مِنْ مَوَالِيهِ وَأَتْبَاعِهِ، عَلَيْهِمُ الْخُزُونُ وَالْقُوهِيَّةُ، وَفِي الْمَسْجِدِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: عُمَيْرُ بْنُ ضَابِئٍ البُرْجُمِيُّ. فَقَالَ لِمُحَمَّدِ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ عُطَارِدَ التَّمِيمِيِّ: هَلْ لَكَ أَنْ أَحْصِبَهُ لَكَ؟ قَالَ: لا، حَتَّى أَسْمَعَ كَلامَهُ. فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ بَنِي أُمَيَّةَ حَيْثُ يَسْتَعْمِلُونَ عَلَيْنَا مِثَلَ هَذَا، وَلَقَدْ ضَبَّعَ اللَّهُ الْعِرَاقِ حَيْثُ يَكُونُ عَلَيْهَا مِثْلُ هَذَا أَمِيرًا، وَاللَّهِ لَوْ كَانَ هَذَا كُلُّهُ كَلامًا لَمْ يَكُنْ شَيْئًا. وَالْحَجَّاجُ سَاكِتٌ يَنْظُرُ يُمْنَةً وَيُسْرَةً، حَتَّى غُصَّ الْمَسْجِدُ بِأَهْلِهِ، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، إِنَيِ لأَعْرِفُ قَدْرَ اجْتِمَاعِكُمِ. أَجْتَمَعْتُمْ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: قَدِ اجْتَمَعْنَا أَصْلَحَكَ اللَّهُ، فَسَكَتَ هُنَيْهَةً لا يَتَكَلَّمُ. فَقَالُوا: مَا يَمْنَعَهُ مِنِ الْكَلامِ إِلا الْعِيُّ وَالْحَصْرُ. فَقَامَ الْحَجَّاجُ، فَحَدَرَ لِثَامَهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، أَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ. أَنَا ابْنُ جَلا وَطَلاعُ الثَّنَايَا ... مَتَى أَضَعِ الْعِمَامَةَ تَعْرِفُونِي صَلِيبُ الْعُودِ مِنْ سَلَفِي تُرَانُ ... كَنَصْلِ السَّيْفِ وَضَّاحِ الْجَبِينِ وَمَاذَا يَدَّرِي الشُّعَرَاءُ مِنِّي ... وَقَدْ جَاوَزْتُ حَدَّ الأَرْبَعِينِ أَخْو خَمْسِينَ مُجْتَمِعًا أَشُدِّي ... وَنَجَّذَنِي مُدَاوَرَةُ السِّنِينِ وَإِنِّي لا أَعُودُ إِلَى مُرَبِّي ... غَدَاةَ الْغِبِّ إِلا أَيَّ حِينِ وَاللَّهِ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ إِنِّي لأَرَى رُءُوسًا قَدْ أَيْنَعَتْ وَحَانَ قِطَافُهَا، وَإِنِّي لَصَاحِبُهَا، وَاللَّهِ إِنِّي لأَنْظُرُ إِلَى الدِّمَاءِ بَيْنَ الْعَمَائِمِ وَاللِّحَى. هَذَا أَوَانُ الشَّدِّ فَاشْتَدِّي زِيَمْ ... قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بِسَوَاقٍ حُطَمْ لَيْسَ بَرَاعِي إِبِلٍ وَلا غَنَمْ ... لا بِجَزَّارٍ عَلَى ظَهْرٍ وَضَمْ ثُمَّ قَالَ: قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بَعَصْلَبِيِّ ... وَشَمَّرَتْ عَنْ سَاقٍ شَمِّرِي أَرْوَعَ خَرَّاجٍ مِنَ الدَّوِيِّ ... مُهَاجِرٍ لَيْسَ بِأَعْرَابِيِّ ثُمَّ قَالَ: مَا عِلَّتِي وَأَنَا شَيخٌ إِدٌّ ... وَالْقَوْسُ فِيهَا وَتَرٌ عُرُدُّ مِثْلُ ذِرَاعِ البَكْرِ أَوْ أَشَدُّ وَاللَّهِ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، لا يُغْمَزُ جَانِبِي كَتِغْمَازِ التِّينِ، وَلا يُقَعْقَعُ لِي بِالشَّنَانِ. وَلَقَدْ فُرِرْتُ عَنْ ذَكَاءٍ، وَفُتِّشْتُ عَنْ تَجْرِبَةٍ، وَأَجْرَيْتُ عَنِ الْغَايَةِ، وَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَثَرَ كِنَانَتَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَعَجِمَ عِيدَانُهَا فَوَجَدَنِي أَمَرَّهَا سَهْمًا، وَأَشَدَّهَا مَكْسِرًا، فَوَجَّهَنِي إِلَيْكُمْ وَرَمَاكُمْ بِي.

يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، وَيَا أَهْلَ الشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ وَمَسَاوِئِ الأَخْلاقِ لأَنَّكُمْ طَالَمَا اضْطَجَعْتُمْ فِي مَنَامِ الضَّلالِ، وَأَوْضَعْتُمْ فِي أَوْدِيَةِ الْفِتْنَةِ، وَسَنَنْتُمْ سُنَنَ الْغَيِّ. وايْمُ اللَّهِ لأَلْحُوَنَّكُمْ لَحْوَ الْعُودِ، وَلأَقْرَعَنَّكُمْ قَرْعَ الْمَرْوَةِ، وَلأَعْصِبَنَّكُمِ عَصْبَ السَّلَمَةِ، وَلأَضْرِبَنَّكُمْ ضَرْبَ غَرِيبَةِ الإِبِلِ. فَإِيَّايَ وهَذِهِ الزَّرَافَاتِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَقَالَ وَمَا يَقُولُ، وَكَانَ وَمَا يَكُونُ، مَا أَنْتُمْ وَذَاكَ؟ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، إِنَّمَا أَنْتُمِ لَكَأَهْلِ قَرْيَةٍ {كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل: 112] . فَاسْتَوْسِقُوا وَاعْتَدِلُوا وَلا تَمِيلُوا، وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَشَايِعُوا وَبَايِعُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنِّي الإِكْثَارُ وَلا الإِهْذَارُ، وَلا مَعَ ذَلِكَ الْفِرَارُ وَالنِّفَارُ، إِنَّمَا هَوُ انَتْضَائِي هَذَا السَّيْفَ، ثُمَّ لا يُغْمَدُ الشِّتَاءَ وَلا الصَّيْفَ، حَتَّى يَظْهَرَ أَمْرُ اللَّهِ، وَحَتَّى يُذَلَّ صَعْبِكُمْ، وَيُقِيمَ مِنْ أَوَّدِكُمْ وَصَعَّرِّكُمْ. ثُمَّ إِنِّي وَجَدْتُ الصِّدْقَ مَعَ الْبِرِّ وَوَجَدْتُ الْبِرَّ فِي الْجَنَّةِ، وَوَجَدْتُ الْكَذِبَ مَعَ الْفُجِورِ، وَوَجَدْتُ الْفُجُورَ فِي النَّارِ، وَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمَرَنِي بِأَعْطَيَاتِكُمْ وَإِشْخَاصِكُمْ لِمُجَاهَدَةِ عَدُوِّكُمْ، وَقَدْ أَمَرْتُ لَكُمْ بِذَلِكَ، وَأَجَّلْتُكُمْ ثَلاثًا، وَأَعْطَيْتُ اللَّهَ عَهْدًا يَأْخُذُنِي بِهِ، وَيَسْتَوْفِيهِ مِنِّي، لَيْسَ يُخَلَّفُ أَحَدٌ مِنْكُمِ بَعْدَ قَبْضِ عَطَائِهِ يَوْمًا وَاحِدًا لأَضْرِبَنَّ عُنُقَهُ، وَلأَهَبَنَّ مَالَهُ. يَا غُلامُ اقْرَأْ كِتَابَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ الْكَاتِبُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، إِلَى مَنْ بِالْعِرَاقِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنينَ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ. فَلَمْ يَرُدَّ أَحَدٌ السَّلامَ. فَقَالَ الْحَجَّاجُ مِنَ الْمِنْبَرِ: اسْكُتْ يَا غُلامُ. يَا أَهْلَ الْفُرْقَةِ، سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمْ تَرُدُّوا عَلَيْهِ، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ بَقَيْتُ لَكُمْ لأُؤَدِّبَنَّكُمْ أَدَبًا سِوَى أَدَبِ ابْنِ أُذَيْنَةَ، أَوْ لَتَسْتَقِيمُنَّ لِي، وَلأَجْعَلَنَّ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْكُمْ شُغْلا فِي نَفْسِهِ. يَا غُلامُ: اقْرَأْ كِتَابَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ الكَاتِبُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. فَلَمَّا بَلَغَ السَّلامَ، قَالَ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ: وَعَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ السَّلامُ، وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. ثُمَّ نَزَلَ فَدَخَلَ دَارَ الإِمَارَةِ، فَحُجِبَ النَّاسُ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الرَّابِعِ أُذِنَ لِلْنَاسِ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ عُمَيْرُ بْنُ ضَابِئٍ، فِيمَنْ دَخَلَ، فَقَالَ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ، إِنِّي شَيْخٌ كَبِيرٌ، وَقَدْ خَرَجَ اسْمِي فِي هَذَا الْبَعْثُ، وَلِيَ ابْنٌ، هُوَ عَلَى الْحَرْبِ وَالأَسْفَارِ أَقْوَى مِنِّي، وَأَشْجَعُ عِنْدَ اللِّقَاءِ، فَإِنْ رَأَى الأَمِيرُ أَنْ يَجْعَلَهُ مَكَانِي فَعَلَ. فَقَالَ الحجّاجُ: أَيُّهَا الشَّيْخُ، رَاشِدًا، وَابْعَثِ ابْنَكَ بَدِيلا.

فَلَمَّا وَلَّى، قَالَ لَهُ عَنْبَسَةُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: أَيُّهَا الأَمِيرُ، أَتَعْرِفُ هَذَا؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ، قَالَ: هَذَا عُمَيْرُ بْنُ ضَابِئٍ، الَّذِي أَرَادَ أَبُوهُ أَنْ يَفْتِكَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ، وَلَمْ يَزَلْ مَحْبُوسًا فِي حَبْسِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى أَصَابَتْهُ الدُّبَيْلَةُ، ثُمَّ جَاءَ هَذَا فَوَطِئَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ مَقْتُولٌ، وُكَسَرَ ضِلْعًا مِنْ أَضْلاعِهِ، وَأَبُوهُ الَّذِي يَقُولُ: هَمَمْتُ وَلَمْ أَفْعَلْ وَكِدْتُ وَلَيْتَنِي ... فَعَلْتُ وَكَانَ الْمُعَوِّلاتُ حَلائِلَهُ فَقَالَ الْحَجَّاجُ: رُدُّوا عَلَيَّ الشَّيْخَ. فَلَمَّا أُدْخِلَ عَلَيْهِ، قَالَ: أَمَّا يَوْمُ الدَّارِ فَتَشْهَدُ بِنَفْسِكَ، وَأَمَّا فِي قِتَالِ الْخَوَارِجِ فَتَبْعَثُ بَدِيلا، أَمَا وَاللَّهِ أَيُّهَا الشَّيْخُ إِنَّ فِي قَتْلِكَ لَصَلاحٌ لأَهْلِ الْمِصْرَيْنِ بِأَحْسَنِ شَيْءٍ. اضْرِبَا عُنُقَهُ. وَسَمِعَ الْحَجَّاجُ صَوْتًا، فَقَالُوا: هَذِهِ الْبَرَاجِمُ، تَنْتَظُرُ عُمَيْرًا، قَالَ: ارْمُوا إِلَيْهِمْ بِرَأْسِهِ، فَرُمِيَ بِهِ إِلَيْهِمْ، فَوَلَّوْا هَارِبِينَ. قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عَمٍّ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ الأَسْدِيِّ قَدْ سَأَلَ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ إِلَى الْحَجَّاجِ لِيَتَخَلَّفَ عَنِ الْجَيْشِ. فَلَمَّا قُتِلَ عُمَيرًا بَادَرَ بِالْخُرُوجِ، وَلَمْ يَنْتَظِرِ الإِذْنَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَقُولُ لإِبْرَاهِيمَ يَوْمَ لَقِيتُهُ ... أَرَى الأَمْرَ أَمْسَى مُفْضِعًا مُتَصَعِّبًا تَجَهَّزْ فَإِمَّا أَنْ تَزُورَ ابْنَ ضَابِئٍ ... عُمَيرًا وَإِمَّا أَنْ تَزُورَ الْمُهَلَّبَا هُمَا خِطَّتَا سَوْءٍ نَجَاؤُكَ مِنْهُمَا ... رُكُوبُكَ حَوْلِيًّا مِنَ الثَّلْجِ أَشْهَبَا وَإِلا فَمَا الْحَجَّاجُ مُغْمِدُ سَيْفَهُ ... يَدَ الدَّهْرِ حَتَّى يَتْرُكَ الطِّفِلَ أَشْيَبَا فَأَضْحَى وَلَوْ كَانَتْ خُرَاسَانُ دُونَهُ ... رَآهَا مَكَانَ السُّوقِ أَوْ هِيَ أَقْرَبَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: " لَقَدْ سَمِعْتُ مِنَ الْحَجَّاجِ كَلِمَاتٍ وَقَذَتْنِي، فَقِيلَ: يَا أَبَا يَحْيَى، إِنَّ كَلامَ الْحَجَّاجِ لَيُقِذُكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، سَمِعُتُهُ عَلَى هَذِهِ الأَعْوَادِ، يَقُولُ: إِنَّ امْرَءًا ذَهَبَتْ سَاعَةٌ مِنْ عُمْرِهِ عَلَى غَيْرِ مَا خُلِقَ لَهُ لَحَرِيٌّ أَنْ تَطُولَ حَسْرَتُهُ. وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: امْرُؤٌ زَوَّرَ نَفْسَهُ، امْرُؤٌ لَمْ يَأْتَمِنْ نَفْسَهُ عَلَى نَفْسِهِ، امْرُؤٌ حَاسَبَ نَفْسَهُ قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ الْمُحَاسَبَةُ إِلَى غَيْرِهِ، امْرُؤٌ جَعَلَ لِنَفْسِهِ زِمَامًا وَلِجَامًا، فَقَادَهَا بِالزِّمَامِ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَكَبَحَهَا بِاللِّجَامِ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلامٍ، قَالَ: قَالَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَإِذَا الْحَجَّاجُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، وَيَا أَهْلَ الشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ وَمَسَاوِئِ الأَخْلاقِ، يَا عَبِيدَ الْعَصَا، وَأَلأَمَ الْبَشَرِ، كَالْفَقْعِ بِالْقَرْقَرِ. أَلَسْتُمْ أَصْحَابَ دُمْشُقًا، يَا ذَوُو أَصْحَابِ الزَّاوِيَةِ، وَمَسْكَنٍ وَدِيرِ الْجَمَاجِمِ حِينَ حَاكَمْنَاكُمْ إِلَى اللَّهِ فَقَضَى لَنَا عَلَيْكُمْ. تَزْعُمُونَ أَنِّي أَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ثَنَاؤُهُ: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن: 26] .

وَتَزْعُمُونَ أَنِّي سَاحِرٌ، فَبِئْسَ الدِّينُ دِينٌ ظَهَرَ عَلَيْهِ السَّحْرُ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69] . وتَزْعُمُونَ أَنِّي بَقِيَّةُ ثَمُودَ، فَوَاللَّهِ مَا نَجَا مَعَ صَالِحٍ إِلا خِيَارُهُمْ، وَهَلَكَ الآخَرُونَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} [النجم: 51] . ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ سُويَدِ بْنِ أَبِي كَاهِلٍ: رُبَّ مَنْ أَنْضَجْتُ غَيْظًا صَدْرَهُ ... قَدْ تَمَنَّى لِي مَوْتًا لَمْ يُطَعْ وَيَرَانِي كَالشَّجَا فِي حَلْقِهِ ... عَسِرًا مَخْرَجُهُ لا يُنْتَزَعْ وَيُحَيِّنِي إِذَا لاقَيْتُهُ ... وَإِذَا يَخْلُو لَهُ لَحْمِي رَتَعْ كَيْفَ تَرْجُونَ سِقَاطِي بَعْدَمَا ... شَمِلَ الرَّأْسَ مَشِيبٌ وَصَلَعْ وِإِبَّاءً لِلْدَنِيَّاتِ إِذَا ... ضَغَطَ الْمَكْرُوبَ ضَيمٌ فَقَبَعْ وَبَنَّاءً لِلْمَعَالِي إِنَّمَا ... يَرْفَعُ اللَّهُ وَمَنْ شَاءَ وَضَعْ حَدَّثَنِي الْمَدَائِنِي، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيرٍ، قَالَ: " خَطَبَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ ذَاتَ يَوْمٍ، وَخَرَجَ بِالْهَاجِرَةِ، فَمَا زَالَ يَفْتَنُّ مَرَّةً فِي أَهْلِ الشَّامِ، وَمَرَّةً فِي أَهْلِ الْعِرَاقِ، يَقُولُ: يَا أَهْلَ الشَّامِ، أَنْتُمْ كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ الذُّبْيَانِيُّ: هُمُ دِرْعِي الَّتِي اسْتَلأَمْتُ فِيهِا ... إِلَى أَهْلِ النِّسَارِ وَهُمْ مِجَنِي وَهُمْ وَرَدُوا الْجِفَارِ عَلَى تَمِيمٍ ... وَهُمْ أَصْحَابُ يَوْمِ عُكَاظٍ إِنِّي شَهِدْتُ لَهُمْ مَوَاطِنَ صَادِقَاتٍ ... أَتَيْتُهُمُ بِوِدِّ الصَّدْرِ مَنِّي ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَقَالَ: هَذِهِ الْمُدْرَةُ الْخَبِيثَةُ يَجْلِسُونَ عَلَى الْكَرَاسِي، ثُمَّ يَقُولُونَ: مَا الْهَبْرُ مَا الْهَبْرُ. وَاللَّهِ لَئِنْ تَحَرَّكَ فِيهَا مُتَحَرِّكٌ لأَتْرُكَنَّهَا كَأَمْسِ الدَّابِرِ، فَلَمْ يَزَلْ يَفْتَنَّ مَرَّةً فِي أَهْلِ الشَّامِ، وَمَرَّةً فِي أَهْلِ الْعِرَاقِ حَتَّى لا يُرَى مِنَ الشَّمْسِ إِلا حُمْرةً عَلَى شُرَفِ الْمَسْجِدِ. ثُمَّ أَمَرَ الْمُؤَذِّنَ فَأَذَّنَ، فَصَلَّى بِنَا الْجُمُعَةَ، ثُمَّ أَذَّنَ فَصَلَّى بِنَا الْمَغْرِبَ فَجَمَعَ بَيْنَ الصَّلَوَاتِ يَوْمَئِذٍ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَمَّا مَاتَ الْحَجَّاجُ، قَالَ الْحَسَنُ: " اللَّهُمَّ أَنْتَ أَمَتَّهُ، فَاقْطَعْ عَنَّا سُنَّتَهُ فَإِنَّهُ أَتَانَا أُخَيْفِشَ أُعَيْمِشَ، يَمُدُّ بِيَدٍ قَصِيرَةِ الْبَنَانِ، وَاللَّهِ مَا عَرِقَ فِيهِ عَنَانٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يُرَجِّلُ جُمَّتَهُ، وَيَخْطُو فِي مَشْيَتِهِ، وَيَصْعَدُ الْمِنْبَرَ فَيَهْذَرُ حَتَّى تَفُوتَهُ الصَّلاةُ. لا مِنَ اللَّهِ يَتَّقِي، وَلا مِنَ النَّاسِ يَسْتَحِي، فَوْقَهُ اللَّهُ، وَتَحْتَهُ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ. أَلا يَقُولُ لَهُ قَائِلٌ: الصَّلاةُ أَيُّهَا الرَّجُلُ، ثُمَّ يَقُولُ الْحَسَنُ: هَيْهَاتَ، وَاللَّهِ حَالَ دُونَ ذَلِكَ السَّيْفُ وَالسَّوْطُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَخَطَبَ الْحَجَّاجُ ذَاتَ يَوْمٍ بِالْكُوفَةِ، فَقَالَ: " يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، أَتَيْتُكُمْ وَأَنَا أَرْقُلُ فِي لِمَّتِي، فَمَا زَالَ شِقَاقُكُمْ حَتَّى انْحَصَّ شَعْرِي، ثُمَّ كَشَفَ عَنْ رَأْسٍ لَهُ أَقْرَعٍ، ثُمَّ أَنْشَأَ، يَقُولُ: مَنْ يَكُ ذَا لِمَّةٍ يُكَفِّفُهَا ... فَإِنَّنِي غَيْرُ ضَائِرِي زَعِرِي لا يَمْنَعُ الْمَرْءَ أَنْ يَسُودَ وَأَنْ ... يَضْرِبَ بِالسَّيْفِ قِلَّةُ الشَّعْرِ

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّمِيمِيُّ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ الْوَاثِقِ بَالصَالِحِيَّةِ، فَقُلْتُ: أَصْلَحَ اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَضَرَنِي بَيْتَانِ، فَقَالَ: أَنْشِدْهُمَا: فَأَنْشَدْتُهُ: طَرِبْتَ إِلَى الأَصْيَبِيَّةِ الصِّغَارِ ... وَشَاقَكَ مِنْهُمْ قُرْبَ الْمَزَارِ وَكَلُّ مُسَافِرٍ يَزْدَادُ شَوقًا ... إِذَا دَنَتِ الدِّيَارُ مِنَ الدِّيَارِ وَأَنْشَدَنِي فِي الْوَاثِقِ: أَشْكُو إِلَى اللَّهِ بُعْدِي عَنْ خَلِيفَتِهِ ... وَمَا أُعَالَجُ مِنْ سُقْمٍ وَمِنْ كِبَرِ لا أَسْتَطِيعُ رَحِيلا إِنْ هَمَمْتُ بِهِ ... يَوْمًا إِلَيْهِ وَلا أَقْوَى عَلَى السَّفَرِ أَنْوِي الرَّحِيلَ إِلَيْهِ ثُمَّ يَمْنَعُنِي ... مَا أَحْدَثَ الدَّهْرُ وَالأَيَّامُ فِي بَصَرِي حَدَّثَنِي الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ عَوَانَةَ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: " مَرِضَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الأَهْتَمِ، فَأَتَاهُ رَجُلانِ مِنْ أَصْحَابِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ يَعُوِدَانِهِ، فَلَمَّا أَنْ دَخَلا عَلَيْهِ، قَالا: كَيْفَ تَجِدُكَ يَا أَبَا مَعْمَرٍ؟ قَالَ: أَخَذَنِي وَاللَّهِ وَجَعٌ، وَمَا أَظُنُّنِي، إِلا لِمَا بِي. وَلَكِنْ مَا تَقُولانِ فِي مِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ فِي الصُّنْدُوقِ لَمْ تُؤَدَّ مِنْهَا زَكَاةٌ، وَلَمْ تُوصَلْ رَحِمٌ؟ فَقَالا لَهُ: ثَكَلَتْكَ أُمُّكَ، لِمَنْ كُنْتَ تَجْمَعُهَا؟ قَالَ: كُنْتُ وَاللَّهِ أَجْمَعُهَا لِرَوْعَةِ الزَّمَانِ، وَجَفْوَةِ السُّلْطَانِ، وَمُكَابَرَةِ الْعَشِيرَةِ. فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ فَأَتَيَا الْحَسَنَ بْنَ أَبِيِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، فَأَخْبَرَاهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: الْبَائِسُ إِنَّمَا أَتَاهُ شَيْطَانُهُ فَذَكَّرَهُ، رَوْعَةَ زَمَانِهِ، وَجَفْوَةَ سُلْطَانِهِ، فَخَرَجَ وَاللَّهِ مِنْ مَالِهِ جَرِيبًا سَلِيبًا ذَمِيمًا مَلُومًا، فَلَمَّا أَنْ مَاتَ دَعَا ابْنَهُ فَمَسَحَ يَدُهُ عَلَى رَأَسِهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ: إِيهًا عَنْكَ أَيُّهَا الْوَارِثُ لا تُخْدَعْ كَمَا خُدِعَ صُوَيْحِبُكَ أَمَامَكَ، فَقَدْ أَتَاكَ هَذَا الْمَالُ حَلالا، فِإِيَّاكَ أَنْ يَكُونَ عَلَيْكَ وَبَالا، أَتَاكَ مِمَّنْ كَانَ لَهُ جَمُوعًا مَنُوعًا، يَدْأَبُ فِيهِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَيَقْطَعُ فِيهِ لُجَجَ الْبِحَارِ وَالْمَفَاوِزِ وَالْقِفَارِ، وَمِنْ بَاطِلٍ جَمَعَهُ وَمِنْ حَقٍّ مَنَعَهُ، جَمَعَهُ فَأَوْعَاهُ، وَشَدَّهُ فَأَوْكَاهُ لَمْ يُؤَدِّ مِنْهُ زَكَاةٍ، وَلَمْ يَصِلْ مِنْهُ رَحِمًا، إِنَّ أَعْظَمَ الْحَسَرَاتِ يَوْمَ الْقَيَامَةِ أَنْ يَرَى الرَّجُلُ مَالَهُ فِي مِيزَانِ غَيْرِهِ، فَيَا لَهَا حَسْرَةٌ لا تُقَالُ، وَتَوْبَةٌ لا تُنَالُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: " كَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ إِلَى صَدِيقٍ لَهُ: أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ بَدَأْتَنِي بِلُطْفٍ مِنْ غَيْرِ خُبْرَةٍ، ثُمَّ أَعْقَبْتَنِي جَفَاءً مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ، فَأَطْمَعَنِي أَوَّلُكَ فِي إِخَائِكَ، وَأَيَأَسَنِي آخِرُكَ فِي وَفَائِكَ، فَلا أَنَا فِي غَيْرِ الرَّجَاءِ مُزْمِعٌ لَكَ اطِّرَاحًا، وَلا فِي غَدٍ وَانْتِظَارِهِ مِنْكَ عَلَى ثِقَةٍ، فَسُبْحَانَ مَنْ لَوْ يَشَاءُ كَشَفَ بِإِيضَاحِ الرَّأْيِ عَنْ عَزِيمَةِ الشَّكِّ فِيكَ، فَأَقَمْنَا عَلَى ائْتِلافٍ، وَافْتَرَقْنَا عَلَى اخْتِلافٍ

من تعرض للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن، ومن كتم سره كان الخيار إليه، ومن أفشاه كان

46 - حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ جَدِّي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «مَنْ تَعَرَّضَ لِلْتُهْمَةِ فَلا يَلُومَنَّ مَنْ أَسَاءَ بِهِ الظَّنَّ، وَمَنْ كَتَمَ سِرَّهُ كَانَ الْخِيَارُ إِلَيْهِ، وَمَنَ أَفْشَاهُ كَانَ الْخِيَارُ عَلَيْهِ، وَضَعْ أَمْرَ أَخِيكَ عَلَى أَحْسَنِهِ حَتَّى يَأْتِيَكَ فِيهِ مَا يَغْلِبُكَ، وَلا تَظُنُّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَخِيكَ سُوءًا وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا مِنَ الْخَيْرِ مَحْمَلا، وَكُنْ فِي اكْتِسَابِ الإِخْوَانِ عَلَى التَّقْوَى، وَشَاوِرْ فِي أَمْرِكَ الَّذِينَ يَخَافُونَ اللَّهَ» حَدَّثَنِي الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ عَوَانَةَ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: قَالَ الشَّعْبِيُّ: سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ يَتَكَلَّمُ بِكَلامٍ مَا سَبَقَهُ إِلَيْهِ أَحَدٌ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى الدُّنْيَا الْفَنَاءَ، وَعَلَى الآخِرَةِ الْبَقَاءَ، فَلا فَنَاءَ لِمَا كُتِبَ عَلَيْهِ الْبَقَاءُ، وَلا بَقَاءَ لِمَا كُتِبَ عَلَيْهِ الْفَنَاءُ، فَلا يَغُرَّنَّكُمْ شَاهِدُ الدُّنْيَا عَنْ غَائِبِ الآخِرَةِ، وَاقْهَرَوا طُولَ الأَمَلِ بِقِصَرِ الأَجَلِ حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ طَرِيفٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " لا تَهْتِكُوا سِتْرًا فَإِنَّهُ كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرِائِيلَ، وَكَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ تَقُولُ: هَتَكَ اللَّهُ سِتْرَ امْرَأَةٍ تَخُونُ زَوْجَهَا بِالْغَيْبِ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا يَوْمًا سَمَكَةً، ثُمَّ قَامَتْ عَلَى رَأْسِهِ فَقَالَتْ: هَتَكَ اللَّهُ سِتْرَ امْرَأَةٍ تَخُونُ زَوْجَهَا بِالْغَيْبِ، فَقَهْقَهَتِ السَّمَكَةُ وَاضْطَرَبَتْ حَتَّى سَقَطَتْ مِنَ الْخِوَانِ فَأَعَادَهَا فِي الْقَصْعَةِ، ثُمَّ قَالَ: لَهَا أَعِيدِي كَلامَكَ فَأَعَادَتْ، فَقَهْقَهَتِ السَّمَكَةُ حَتَّى سَقَطَتْ مِنَ الْقَصْعَةِ، فَعَلَتْ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ تُقَهْقِهُ السَّمَكَةُ وَتَضْطَرِبُ حَتَّى تَسْقُطَ مِنَ الْخِوَانِ، فَأَتَى عَالِمَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: انْطَلِقْ فَاذْكُرْ رَبَّكَ، وَكُلْ طَعَامَكَ، وَاخْسَأِ الشَّيْطَانَ عَنْكَ. فَقَالَ لَهُ أَخِفَّاءُ النَّاسِ: انْطَلقْ إِلَى ابْنِهِ، فَإِنَّهُ أَعْلَمُ مِنْهُ، فَانْطَلَقَ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: ائْتِنِي بِكُلِّ مَنْ فِي دَارِكَ مِمَّنْ لَمْ تَرَ عَوْرَتَهُ. فَأَتَاهُ بِهِمْ، فَنَظَرَ فِي وُجُوهِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: اكْشِفْ عَنْ هَذِهِ الْحَبَشِيَّةِ، قَالَ: فَكَشَفَ عَنْهَا فَإِذَا مَعَهَا ذِرَاعَ الْبِكْرِ، فَقَالَ: مِنْ هَذَا أَتَيْتُ، فَمَاتَ أَبُو الْفَتَى الْعَالِمِ، وَهُتِكَ بِهَتْكِهِ ذَلِكَ السِّتْرَ، وَاحْتَاجَ إِلَيْهِ النَّاسُ، فَأَتَاهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ، فَقَالُوا: وَيْحَكَ أَنْتَ كُنْتَ أَعْلَمُنَا وَأَمَلَنَا. فَلَمَّا كَثِرَوا عَلَيْهِ هَرَبَ مِنْهُمْ إِلَى أَقْصَى مَوْضِعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، مَوْضِعٌ يُقَالُ لَهُ: الرُّبَّةُ، وَهِيَ مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ، فَأُتِيحَ لَهُ امْرَأَةٌ جَمِيلَةٌ تَسْتَفْتِيهِ. فَقَالَ لَهَا: هَلْ لَكِ أَنْ تُمَكِّنِينِي مِنْ نَفْسِكِ، وَأَهَبَ لَكِ مَائَتَيْ دِينَارٍ؟ قَالَتْ: وَخَيرٌ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَجِيءَ إِلَى أَهْلِي فَتَزَوَّجْنِي، وَأَكُونَ لَكَ حَلالا أَبَدًا. قَالَ: فَأَيْنَ مَنْزِلُكِ؟ فَوَصَفَتْهُ لَهُ، فَطَالَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ اللَّيْلَةُ، فَمَضَى فَإِذَا هُوَ بِكَلْبَةٍ تَنْبَحُ فِي بَطْنِهَا جِرَاؤُهَا، فَقَالَ: مَا أَعْجَبَ هَذَا! قِيلَ لَهُ: امْضِ، لا تَكُونَنَّ مُكَلَّفًا، فَسَوْفَ يَأْتِيكَ خَبَرُ هَذَا.

فَمَضَى فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ يَحْمِلُ حِجَارَةً، كُلَّمَا ثَقُلَتْ عَلَيْهِ، وَسَقَطَتْ مِنْهُ زَادَ عَلَيْهَا. فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ لا تَسْتَطِيعُ تَحَمُّلَ هَذَا، تَزِيدُ عَلَيْهِ! قِيلَ لَهُ: امْضِ، لا تَكُونَنَّ مُكَلَّفًا، فَسَوْفَ يَأْتِيَكَ خَبَرُ هَذَا، فَمَضَى، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ يَسْتَقِي مِنْ بِئْرٍ، وَيَصُبُّهُ فِي حَوْضٍ، إِلَى جَانِبِ الْبِئْرِ، وَفِي الْحَوْضِ نَقْبٌ، فَالْمَاءُ يَرْجِعُ فِي الْبِئْرِ، قَالَ لَهُ: لَوْ سَدَدْتَ الْجُحْرَ اسْتَمْسَكَ لَكَ الْمَاءُ. قِيلَ لَهُ: امْضِ، لا تَكُونَنَّ مُكَلَّفًا، فَسَوْفَ يَأْتِيكَ خَبَرُ هَذَا. فَمَضَى فَإِذَا هُوَ بِظَبْيَةٍ، وَرَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَيْهَا، وَآخرُ يَحْلِبُهَا، وَآخَرُ يُمْسِكُ بِقَرْنَيْهَا، وَآخَرُ يُمْسِكُ بِذَنَبِهَا، وَآخَرُونَ يُمْسِكُونَ بِقَوَائِمِهَا، قَالَ: مَا أَعْجَبَ هَذَا! قِيلَ لَهُ: امْضِ، لا تَكُونَنَّ مُكَلَّفًا، فَسَوْفَ يَأْتِيكَ خَبَرُ هَذَا، فَمَضَى، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ يَبْذُرُ بِذَارًا، فَلا يَقَعُ فِي الأَرِضِ حَتَّى يَنْبُتَ. . .، قَالَ: ثُمَّ مَضَى فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مَعَهُ مِنْجَلٌ يَحْصِدُ مَا بَلَغَ وَمَا لَمْ يَبْلُغْ، قَالَ لَهُ: لَوْ حَصَدْتَ مَا قَدْ بَلَغَ وَتَرَكْتَ مَا لَمْ يَبْلُغْ، قَالَ لَهُ: امْضِ، لا تَكُونَنَّ مُكَلَّفًا، فَسَوْفَ يَأْتِيكَ خَبَرُ هَذَا، فَمَضَى فَإِذَا هُوَ بِالْقَصْرِ الَّذِي وَعَدْتُهُ، وَإِذَا دُونُهِ نَهْرٌ، وَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ عَلَى سَرِيرٍ، فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ الطَّرِيقُ إِلَى هَذَا الْقَصْرِ، وَقَدْ رَأَيْتُ فِي لَيْلَتِي أَعَاجِيبَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ كَلْبَةً تَنْبَحُ فِي بِطْنِهَا جِرَاؤُهَا. قَالَ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَثِبُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَالْوَضِيعُ عَلَى الشَّرِيفِ وَالسَّفِيهُ عَلَى الْحَلِيمِ. قَالَ: فَإِنِّي مَرَرْتُ بِرَجُلٍ يَحْمِلُ حِجَارةً، فَإِذَا لَمْ يُطِقْهَا وَسَقَطَتْ مِنْهُ زَادَ عَلَيْهَا. قَالَ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ الأَمَانَةُ فَلا يَقْدِرُ يُؤَدِّيهَا، فَيُزيِدَ عَلَيْهَا. قَالَ: فَإِنِّي مَرَرْتُ بِرَجُلٍ يَسْتَقِي مِنْ بِئْرٍ، وَيَصُبُّهُ فِي حَوْضٍ إِلَى جَنْبِ الْبِئْرِ، وَفِي الْحَوْضِ جُحْرٌ، فَالْمَاءُ يَرْجِعُ إِلَى الْبِئْرِ. قَالَ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَتَزَوَّجُ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ لا يَتَزَوَّجُهَا لِدِينٍ، وَلا حَسَبٍ، وَلا جَمَالٍ، إِنَّمَا يُرِيدُ مَالَهَا، وَتَكُونُ مِمَّنْ لا تَلِدُ، فَيَكُونُ كُلُّ شِيءٍ مِنْهَا يَرْجِعُ فِيهَا. قَالَ: فَإِنِي مَرَرْتُ بِظَبْيَةٍ، فَقَصَّ قِصَّتَهَا. فَقَالَ: أَمَّا الظَّبْيَةُ، فَالدُّنْيَا، وَأَمَّا الرَّاكِبُ عَلَيْهَا، فَالْمَلِكُ، وَأَمَّا الَّذِي يَحْلِبُهَا فَمِنْ أَطْيَبِ النَّاسِ عَيْشًا، وَأَمَّا الَّذِي يُمْسِكَ بِقَرْنِهَا فَمِنْ أَبْأَسِ النِّاسِ عَيْشًا، وَأَمَّا الَّذِي يُمْسِكُ بِذَنَبِهَا، فَالَّذِي لا يَأْتِيهِ رِزْقُهُ إِلا قُوتًا، وَالَّذِينَ يُمْسِكُونَ بِقَوَائِمِهِا فَسَفَلَةُ النَّاسِ. قَالَ: فَإِنِّي مَرَرْتُ بِرَجُلٍ يَبْذُرُ بِذَارًا فَلا يَقَعُ فِي الأَرْضِ حَتَّى يَنْبُتَ. قَالَ: يَأَتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يَدْرِي مَتَى يَتَزَوَّجُ الرَّجُلُ، وَمَتَى يُولَدُ الْمَوْلُودُ، وَمَتَى يَبْلُغُ. قَالَ: فَإِنِّي مَرَرَتُ بِرَجُلٍ يَحْصِدُ مَا قَدْ بَلَغَ وَمَا لَمْ يَبْلُغْ. قَالَ: ذَلِكَ مَلَكُ الْمَوْتِ يَحْصِدُ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ، وَأَنَا هُوَ، بَعَثَنِي اللَّهُ إِلَيْكَ لأَقْبِضَ رَوْحَكَ عَلَى أَسْوَأِ أَحْوَالِكَ

هذا والدي حقا ... وما كنت به عقا بذلت المال في رفق ... وما كنت به نزقا فلما خف من مالي ...

49 - حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُؤَمَّلِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرِ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ، رَجُلٍ مِنْ قَيْسِ عِيلانَ، أَنَّ رَجُلا اسْتَقْرَضَ مِنِ ابْنِهِ مَالا فَحَبَسَهُ، فَأَطَالَ حَبْسَهُ، فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ الابْنُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، فَقَالَ: هَذَا وَالِدِي حَقًّا ... وَمَا كُنْتُ بِهِ عَقًّا بَذَلْتُ الْمَالَ فِي رِفْقٍ ... وَمَا كُنْتُ بِهِ نَزْقًا فَلَمَّا خَفَّ مِنْ مَالِي ... وَقَدْ وَلَّيْتُهُ رِفْقًا تَوَلَّى مُعْرِضًا عَنِّي ... وَلَمْ يُعْطِنِي حَقًّا فَقَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ لِلْشَيْخِ: «قَدْ قَالَ ابْنُكَ فَمَاذَا تَقُولُ» ؟ قَالَ: قَالَ بُنَيَّ مَا تَرَى فَصَدِّقَهْ رَبَّيْتُهُ فِي صِغَرٍ أُفَيِّقَهْ طَوْرًا أُفَدِّيهِ وُطَوْرًا أُوَنِّقَهْ حَتَّى إِذَا شَبَّ وَسَوَّى مَفْرِقَهْ أَقْرَضَنِي مَالا لَهُ لأُنْفِقَهْ وَلَمْ أَكُنْ بِمَالِهِ لأَسْبِقَهْ لَولا الصِّبَا مِنَّا وَلَولا رَهَّقَهْ لَمْ يَخْشَنِي بِمَالِهِ أَنْ أَسْبِقَهْ فَاقْضِ الْقَضَا وَاللَّهُ رَبِّي يَرْزُقَهْ فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ: قَدْ سَمِعَ الْقَاضِي وَمَنْ رَبِّي فَهِمْ الْمَالُ لِلْشَيْخِ جَزَاءً بِالنِّعَمْ وَقَدْ تَسَلَّفْتُ بِتَفْضِيلِ الْقِدَمْ يَأْكُلُهُ بِرُغْمِ أَنْفِ مَنْ رَغِمْ مَنْ قَالَ قَوْلا غَيْرَ ذَا فَقَدْ ظَلَمْ وَجَارَ فِي الْحُكْمِ وَبِئْسَ مَا صَرَمْ " حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلامٍ الْجُمَحِيُّ، قَالَ: شَتَمَ رَجُلٌ مِنْ بَاهِلَةَ رَجُلا مِنْ تَمِيمٍ، فَقَالَ: التَّمِيمِيُّ: يَالَ تَمِيمٍ دَعْوَةً غَيْرَ أَمَمْ مِنْ بَاهِلِيٍّ سَبَّنِي ثَمَّتَ لَمْ يُقْتَلْ وَلَمْ يُحْصَرْ وَلَمْ يُخَضَّبْ بِدَمْ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَإِلَى هَذَا تَذْهَبُ 51 - حَدَّثَنِي سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الْمُنْكَدِرِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّ لِي مَالا، وَلِي عِيَالٌ، وَلأَبِي مَالٌ، وَيُرِيدُ أَبِي أَنْ يَأْخُذَ مَالِي. فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ» 52 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَوَانَةَ بْنِ الْحَكَمِ: " إِنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ اسْتَعْمَلَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ الْمَخْزُومِيَّ عَلَى الصَّائِفَةِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا تَصْنَعُ بِعَهْدِي يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ: أَتَّخِذَهُ إِمَامًا وَلا أَعْصِيهِ. قَالَ: ارْدُدْ عَلَيَّ عَهْدِي. قَالَ: تَعْزِلُنِي بَعْدَ أَنِ اسْتَعْمَلْتَنِي عَنْ غَيْرِ حَدَثٍ؟ أَمَا وَاللَّهِ لَوْ إِنَّا بِمَكَّةَ عَلَى السَّوَاءِ لانْتَصَفْتُ مِنْكَ. قَالَ: وَيْحَكَ لَوْ كُنَّا بِمَكَّةَ عَلَى السَّوَاءِ لَكُنْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَلَكُنْتَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَلَكَانَ مَنْزِلِي بِالأَبْطَحِ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْوَادِي، وَكَانَ مَنْزِلُكَ أَجْيَادًا أَسْفَلَهُ عَذِرَةٌ وَأَعْلاهُ مَدَرَةٌ. ثُمَّ قَالَ مُعَاوِيَةُ: عَلَيَّ بِسُفْيَانَ بْنِ عَوْفٍ الْغَامِدِيِّ، فَكَتَبَ لَهُ عَهْدَهُ ثُمَّ قَالَ: يَا سُفْيَانُ مَا تَصْنَعُ بِعَهْدِي؟ قَالَ: أَتَّخِذُهُ إِمَامًا مَا أَمَّ الْحَرَمَ، فَإِذَا خَالَفَهُ خَالَفْتُهُ.

قَالَ مُعَاوِيَةَ: هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي لا يُكَفْكَفُ عَنْ عَجَلَةٍ، وَلا يُدْفَعُ فِي ظَهْرِهِ مِنْ بُطَاءٍ، وَلا يُضْرَبُ عَلَى الأُمُورِ ضَرْبَ الْجَمَلِ الثّفَالِ، سِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ. فَسَارَ فَهَلَكَ بِأَرْضِ الرُّومِ. وَاسَتَعْمَلَ عَلَى النَّاسِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ الْفَزَارِيَّ، وَقَالَ لَهُ: إِنَّ ظَفْرًا عَظِيمًا وَغَنْمًا كَبِيرًا أَنْ يُرَجِعَ بِالْمُسِلِمِينَ لَمْ يُنْكَبُّوا وَكَانَتْ أَوَّلُ وَلايَةٍ وَلِيَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ. فَأَقْدَمَ بِالْمُسْلِمِينَ فَنُكِبُوا، فَقَالَ الشَّاعِرُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَقِمْ يَا ابْنَ مَسْعَودٍ قَنَاةً قَوِيمَةً ... كَمَا كَانَ سُفْيَانُ بْنُ عَوْفٍ يُقِيمُهَا وَسِمْ يَا ابْنَ مَسْعُودٍ مَدَائِنَ قَيْصَرٍ ... كَمَا كَانَ سُفْيَانُ بْنُ عَوْفٍ يَسُومُهَا فَلَمَّا دَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ، قَالَ: أَقِمْ يَا ابْنَ مَسْعُودٍ قَنَاةً قَوِيمَةً فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ الشَّاعِرَ ضَمَّنِي إِلَى رَجُلٍ لا تُضَمُّ إِلَيْهِ الرِّجَالُ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: وَاللَّهِ إِنَّ مِنْ فَضِيلَتِكَ عِنْدِي مَعْرِفَتَكَ بِفَضْلِكَ " حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ، عَنْ عِيسَى بْنِ مُوسَى، قَالَ: " أَرْسَلَ إِلَيَّ الْمَنْصُورُ وَنَحْنُ فِي طُرِقِ مَكَّةَ عَشِيَّةً مِنْ ذَلِكَ، فَأَتَيْتُهُ وَالنَّاسُ يَسِيرُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَخَلْفَهِ، فَسَايَرْتُهُ سَاعَةً، وَحَادَثْتُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَتَذْكُرُ أُنَيْسَةَ بِنْتِ زِيَادٍ وَنُزُولُنَا بِهَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: أَتَذْكُرُ يَوْمَ عَشَّتْنَا بِلَبَنٍ، فَقُلْتُ لَهَا: تُعَشِّينَا بِلَبَنٍ وَقَدْ ذَبَحْتِ الْيَوْمَ شَاةً؟ فَقَالَتْ: أَتَأْكُلُونَ اللَّحْمَ فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ! قُلْتُ: نَعَمْ، أَذْكُرُ مَا تَقُولُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: فِإِنِّي ذَكَرْتُهَا وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى حَالِي، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْكَ لَتَحْمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَتَشَكُرَهُ عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ. قَالَ: فَمَا زِلْنَا نَحْمِدُهُ وَنَدْعُوهُ عَشِيَّتَنَا حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الْمَدَائِنِيِّ، قَالَ: " عُرِضَتْ لِي إِلَى سَلَمِ بْنِ قُتَيْبَةَ حَاجَةٌ، وَهُو وَالِي الْبِصْرَةِ، فَلَقِيتُ بَعْضَ أَصْحَابِهِ فَسَأَلْتُهُ الْقِيَامَ بَهَا فَضَمِنَهَا، وَمَكَثْتُ أَخْتَلِفُ إِلَى بَابِ سَلَمٍ أَيَّامًا، وَالرَّجُلُ يُمْطِلُنِي وَيَذْكُرُ أَنَّ الْكَلامَ فِي حَاجَتِي لَمْ يُمْكِنْهُ بَعْدُ، فَبَيْنَا أَنَا فِي الْبَابِ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ خَرَجَ سَلْمٌ رَاكِبًا، فَوَقَعَتْ عَيْنُهُ عَلَيَّ، وَقَدْ كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ مُتَقَدِّمَةٌ فَدَعَانِي، فَقَالَ: أَتُطَالِبُ قَبْلَنَا شَيْئًا يَا أَبَا عَمْرٍو؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، حَاجَةٌ حَمَّلْتُهَا فُلانًا مُنْذُ أَيَّامٍ. فَقَالَ: إِنْ كُنْتُ لأَظُنُّ يَا أَبَا عَمْرٍو أَنَّكَ أَحْزَمُ مِمَّا أَرَى، إِذَا كَانَتْ لَكَ إِلَى رَجُلٍ حَاجَةٌ فَلا تُحَمِّلْنَهَا مَنْ لَهُ طُعْمَةٌ، فَإِنَّهُ لَنْ يُؤْثِرَكَ عَلَى طُعْمَتِهِ، وَلا تُحمِّلَنَّهَا كَذَّابًا، فَإِنَّ الْكَذَّابَ يُقَرِّبُ لَكَ الْبَعِيدَ، وَيُبَعِّدُ لَكَ الْقَرِيبَ، وَلا تُحَمِّلْنَهَا أَحْمَقَ فَإِنَّهُ يُجْهِدُ لَكَ نَفْسَهُ، ثُمَّ لا يَصْنَعُ شَيْئًا. ثُمَّ أَمَرَ بِقَضَاءِ حَاجَتِي

خرجت مع عبد الله بن أبي سرح في غزوة إفريقية، فلما دنا من جرجير ملك الغرب، وهو رجل من

55 - حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُؤَمَّلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَاسِرٍ، عَنْ أَبِيهِ عُبَيْدَةَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: خَرَجْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ فِي غَزْوَةِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ جُرْجِيرَ مَلِكِ الْغَرْبِ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنَ الرُّومِ نَصْرَانِيٌّ، وَكَانَ يُذْكَرُ بِعَقْلٍ، قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ: لَوْ بَعَثْتَ إِلَيْهِ مَنْ يُكَلِّمُهُ، فَبَعَثَنِي وَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَمَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: وَأَنَا أَسَنُّ الْقَوْمِ، فَلَمَّا جِئْنَا وُضِعَتْ لَنَا وَسَائِدُ وَإِذَا الصُّلْبُ حَوْلَهَا، فَجَاءَ الْقَوْمُ وَلَيْسَ هُنَاكَ جُرْجِيرُ، فَجَلَسُوا دُونَ الصُّلْبِ، وَأَبَوْا أَنْ يَجْلِسُوا وَهِيَ حَوْلَهُمْ، فَجِئْتُ وَجَلَسْتُ عَلَى تِلْكَ الْوَسَائِدِ وَالصُّلْبُ حَوْلِي، وَجُرْجِيرُ يَنْظُرُ إِلَيْنَا مِنْ مَنْظَرٍ لا نَرَاهُ، فَمَكَثْنَا سَاعَةً، ثُمَّ أُذِنَ لَنَا جَمَاعَةً، فَعَجِلَوا يُزَاحِمُونَنِي عَلَى الْمَدَخِلِ فَتَأَخَرْتُ عَنْهُمْ، حَتَّى كُنْتُ وَرَاءَهُمْ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ وَدَخَلْنَا، وَلِي جَمَالٌ لَيْسَ لَهُمْ، نَظَرَ إِلَيَّ فَرَمَانِيٍّ بِطَرْفِهِ فَلَمْ يَبْرَحْ يَتَطرَّحُ بِنَظَرِهِ إِلَيَّ حِينَ جَلَسْتُ دُونَهُمْ، وَهُمْ أَقْرَبُ إِلَيْهِ، فَرَأَوْا نَظَرَهُ، فَرَابَهُمْ بِذَلِكَ فِي أَمْرِهِ، فَانْتَحَى ابْنُ الزُّبَيْرِ فَبَدَأَ بِالْكَلامِ، وَالتَّرْجُمَانُ وَجُرْجِيرُ يَفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرًا، وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ يَنْظُرُ إِلَيَّ وَيَرْمُقُنِي، فَلَمَّا فَرَغَ ابْنُ الزُّبَيْرِ تَكَلَّمَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ فَقَالَ: أَأَتَكَلَّمُ؟ فَقُلْتُ: تَكَلَّمْ مَا بَدَا لَكَ. فَتَكَلَّمَ ثُمَّ أَقْبِلَ عَلَيَّ التَّرْجُمَانُ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ أَنْتَ يَا عَرَبَيُّ؟ قُلْتُ: مَا أَقُولُ إِلا مَا قَالُوا، فَلْيُجِبْ صَاحِبُكَ مَا بَدَا لَهُ، وَقَدْ دَعُوهُ. فَقَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي أَرَاهُ أَسَنَّكُمْ وَأَجْمَلَكُمْ، وَأَرَاكُمْ تُقَدِّمُونَهُ، أَمَوْلاكُمْ هُوَ؟ قَالُوا: لا وَاللَّهِ بَلْ هُوَ مِنَّا مِنْ أَنْفُسِنَا. قَالَ: فَضَعِيفٌ هُوَ فَلا تَثِقُونَ بِعَقْلِهِ؟ فَلِمَ أَرْسَلْهُ مَلِكُكُمْ؟ قَالُوا: لا وَاللَّهِ بَلْ هُوَ عَاقِلٌ. قَالَ: فَمَا أَنْتُمْ بِحُلَمَاءٍ، هُوَ أَحَدُكُمْ، وَلَهُ عَقْلٌ مِثْلُ عُقُولِكُمْ، وَهُوَ أَجْمَلُكُمْ وَأَسَنُّكُمْ، وَمَلِكُكُمُ الَّذِي أَرْسَلَكُمْ أَضْعَفُ مِنْكُمْ. وَهُوَ يَعْرِفُ هَذَا مِنْكُمْ. فَسَكَتُوا، فَقُلْتُ لِلتَّرْجُمَانِ: قُلْ لِصِاحِبِكَ أَجِبْنَا بِمَا تُرِيدُ فَنَحْنُ أَعْلَمُ بَأَمْرِنَا، وَبِمَا نَصْنَعُ بَيْنَنَا. قَالَ: يَقُولُ الْمَلِكُ: حِلْمُكَ هَذَا يَزِيدُنِي بَصِيرَةً فِي حُمْقِ أَصْحَابِكَ. فَرَطَنَ الْمَلِكُ، فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا التَّرْجُمَانُ، فَقَالَ: الْمَلِكُ يَقُولُ مَا يَمْنَعُنِي مِنْ جَوَابِكُمْ إِلا أَنَّا لا نَضَعُ جَوَابَنَا إِلا فِي مَوْضِعِهِ، أَخْبِرُونِي: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ بِالْمَلِكِ الأَكْبَرِ؟ قَالُوا: هَذَا، لِمَرْوَانَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالُوا: هَذَا، لابْنِ الزُّبَيْرِ. قَالَ: فَأَيُّكُمْ أَقْرَبُ بِنَبِيِّكُمْ وَأَسَنُّكُمْ وَأَجْمَلُكُمْ؟ قَالُوا: هَذَا.

قَالَ: يَقُولُ الْمَلِكُ: هُوَ أَقْرَبُكُمْ بِنَبِيِّكُمْ وَأَسَنُّكُمْ وَأَجْمَلُكُمْ، وَجَلَسْتُمْ فَوْقَهُ، وَتَقَدَّمْتُمْ قَبْلَهُ! لا تَلْبِثُونَ إِلا قَلِيلا حَتَّى يَتَفَرَّقَ أَمْرَكُمْ، لا أُرَاجِعُكُمْ بِشَيْءٍ حَتَّى يَتَقَدَّمَ إِلَيَّ وَيَتَكَلَّمَ وَتَتَكَلَّمُونَ بَعْدَهُ. فَقَالَ لِي الْقَوْمُ: تَقَدَّمْ يَا أَبَا الْعَبَّاسِ، وَتَكَلَّمْ حَتَّى نَنْظُرَ مَا يَرْجِعُ إِلَيْنَا وَيَقُولُ لَنَا. فَقُلْتُ لِلتَّرْجُمَانِ: أَجِبْ صَاحِبَكَ إِنِّي لا أَقُومُ مِنْ مَجْلِسِي، وَلا أُعِيهِ كَلامِي، وَلا أَبْتَدِي أَصْحَابِي. قَالَ: فَلا أُكَلِّمُكُمْ كَلِمَةً. قَدْ قُلْتُ: لا أَفْعَلُ. فَهَلْ أَنْتَ يَا رَجُلُ مُعْتَزِلِيَّ حَتَّى أَلْقَاكُمْ، فَإِنِّي لا أُحِبُ أُصِيبُكَ. قَالَ: قُلْتُ: مَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَعْتَزِلَكَ. قَالَ: أَتَتَقَبَّلُ كَرَامَتِي مِنْ بَيْنِهِمْ؟ قَالَ: قُلْتُ: لا، إِلا أَنْ تُكْرِمَهُمْ مِثْلِي. قَالَ: هَلْ أَحَدٌ أَقْرَبُ بِنَبِيِّكَ مِنْكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَفَرِحَ بِذَلِكَ وَقَالَ: مَنْ؟ قُلْتُ: أَبِي. قَالَ: وَحَيٌّ هُوَ أَبُوكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: مَا هُوَ مِنْ نَبِيِّكُمْ؟ قَالَ: عَمُّهُ. فَفَسَّرَ لَهُ التَّرْجُمَانُ كَيْفَ الْعَمُّ ومَنِ ابْنُهُ. قَالَ: فَمَا شَأْنُ الْمَلِكِ غَيْرِهِ؟ قُلْتُ: كَانَ هَذَا الْمَلِكُ وَاللَّذَانِ قَبْلَهُ خَرَجُوا مَعَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، حِينَ خَرَجَ مِنْ أَرْضِهِ، وَلَمْ يَخْرُجْ أَبِي، وَنَحْنُ نَرَى لِذَلِكَ فَضْلا، وَتَقدَّمَ مَنْ كَانَ ذَلِكَ. قَالَ: بِئْسَمَا صَنَعْتُمْ، وَلا يَصْلُحُ أَمْرَكُمْ أَبَدًا، حَتَّى يَخْرُجَ إِلَيَّ أَهْلُ بَيْتِ النَّبيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، قُومُوا وَلا أُرَاجِعُكُمْ بِكَلَمَةٍ مِمَّا تُرِيدُونَ إِلا أَنْ تُخْبِرَنِي مَا شَأنُكَ، جَلَسْتَ بَيْنَ الصُّلْبِ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِكَ وَأَنْتَ عَدُوٌ لَهَا، وَاجْتَنَبَهَا أَصْحَابُكَ؟ قُلْتُ: لَمْ يُسِيئُوا بِمَا صَنَعُوا، وَلَمْ أُسِئْ أَيْضًا، أَمَّا هُمْ فَتَأَذَّوْا بِهَا، وَأَمَّا أَنَا فَعَلِمْتُ مَجْلِسِي لا يَضُرُّ دِينِي، وَلَسْتُ مِنَهَا، وَلَيْسَتْ مِنِّي. قَالَ: مَا يَنْبَغِي إِلا أَنْ تَكُونَ حَبْرَ الْعَرَبِ. فَسُمِّيَ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ الْحَبْرَ " حَدَّثَنِي مُبَارَكٌ الطَّبَرِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ الْمُسَيِّبَ بْنَ زُهَيْرٍ، يَقُولُ: " خَرَجْنَا مَعَ الْمَنْصُورِ فِي السَّنَةِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا، فَلَمَّا صَارَ إِلَى بَعْضِ الْمَنَازِلِ قَالَ: يَا مُسَيِّبُ إِنِّي وَاللَّهِ أَعْلَمُ أَنِّي آتِي إِلَى مَصْرَعِي. قُلْتُ: فَلَوْ أَقَمْتَ. قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: أَعْلَمُ بِاللَّهِ، وَأَثِقُ بِرَحْمَتِهِ، وَبِمَا يَرْجُو مِنْهَا مِنْ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْ جُرْمِهِ وَأَمْنِهِ مَا يَتَخَوَّفُ مِنْ قَدْرِهِ، وَلَكِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ بِمَا رَضِيَ اللَّهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لا يُصِيبُهُ إِلا مَا كُتِبَ لَهُ، وَأَنَّهُ عِنْدَ اللَّهِ وَفِي قَبْضَتِهِ، فَإِنْ كَانَ كَتَبَ عَلَيَّ مَوْتًا، فَإِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَرُضْوَانِهِ، وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنِّي مَيِّتٌ وَمَبْعُوثٌ، وَصَائِرٌ إِلَى اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ. وَرَاجٍ رَحْمَتَهُ، وَأَثِقُ بِعَفْوِهِ.

فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَبِمَاذَا عَرَفْتَ أَنَّكَ تَأْتِي مَصْرَعَكَ؟ قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ فِي مَنَامِي أَنَّ رَجُلا أَتَانِي، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ بِالشَّامِ فِي أَيَّامِ وَبَاءٍ بِهِا، وَقَدْ أَصَابَنِي، وَقَدْ تَخَوَّفْتُ عَلَى نَفْسِي، فَقَالَ لِي: إِنَّكَ لا تَمُوتُ فِي مَرَضِكَ هَذَا، فَإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ أُرِيَكَ التُّرْبَةَ الَّتِي تُدْفَنُ فِيهَا. فَقُلْتُ: أَرِنِيهَا. فَأَخْرَجَ تُرْبَةً حَمْرَاءَ، وَفِيهَا نَبْذٌ مِنْ حَصًى، فَإِذَا هِيَ كَأَنَّهَا تُرْبَةُ الْحَرَمِ، فَلَسْتُ أَشُكُّ أَنِّي ذَاهِبٌ فِي سَفَرِي هَذَا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَأَسْتَخْلِفُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ بِحُسْنِ خِلافَتِهِ. فَمَضَى فَتُوُفِّيَ فِي وَجْهِهِ ذَلِكَ فِي بِئْرِ مَيْمُونٍ وَدُفِنَ بِالأَبْطَحِ أَسْفَلَ مِنْ عَقَبَةِ الْمَدَنِيِّينَ حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ جَدِّي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَلِيسٌ لَأَبِي الْعَبَّاسِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، " أَنَّهُ جَلَسَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ مُضَرَ، فِيهِمْ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ الْمِنْقَرِيُّ، وَأُنَاسٌ مِنَ الْيَمَنِ، فِيهِمْ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَخْرَمَةَ الْكِنْدِيُّ، فَمَالَ بِهِمُ الْحَدِيثُ إِلَى أَنْ قَالَ ابْنُ مَخْرَمَةَ الْكِنْدِيُّ: إِنَّ أَخْوَالَكَ هُمُ النَّاسُ، وَهُمُ الْعَرَبُ الأُولَى، وَهُمُ الَّذِينَ دَانَتْ لَهُمُ الدُّنْيَا، وِكَانَتْ لَهَمُ الْيَدُ الْعُلْيَا، تَوَارَثُوا الرِّيَاسَةَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، وَآخِرًا عَنْ أَوَّلٍ، يَلْبَسُ آخِرُهُمْ سَرَابِيلَ أَوَّلِهِمْ، يُعْرَفُونَ بِبَيْتِ الْمَجْدِ، وَمَآثِرِ الْحَمْدِ. مِنْهُمُ: النُّعْمَانَانِ، وَالْمُنْذِرَانِ، وَالْقَابُوسَانِ، وَمِنْهُمْ عِيَاضٌ صَاحِبُ الْبَحْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا، وَيَحُوزُ فِي كِلِّ نَائِبَةٍ نَهْبًا. وَمِنْهُمْ مُلُوكُ التِّيجَانِ، وَكُمَاةُ الْفِرْسَانِ. لَيْسَ مِنْ بَطَلٍ عَظِيمٍ خَطْبُهُ، وَلا طَرَفٍ كَرِيمٍ أَثَرُهُ، وَلا مِنْ فَرَسٍ رَائِعٍ، أَوْ سَيفٍ قَاطِعٍ، أَوْ دُرَّةٍ مَكْنُونَةٍ، أَوْ دِرْعٍ حَصِينَةٍ إِلا وَهُمْ أَرْبَابُهَا وَأَصْحَابُهَا. إِنْ حَلَّ ضَيفٌ أَكْرَمُوا، وَإِنْ سُئِلُوا أَنْعَمُوا، فَمَنْ ذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِثْلَهُمْ إِنْ عُدَّتِ الْمَآثِرُ، أَوْ فَخَرَ مُفَاخِرٌ، أَوْ نَفَرَ مُنَافِرٌ. فَهَمَّ الْعَرَبُ الْعَارِبَةُ، وَسَائِرُ النَّاسِ الْمُتَعَرِّبَةُ. فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ، وَدَخَلَهُ مِنْ قَوْلِهِ مَا غَمَّهُ: مَا أَظُنُ خَالِدًا يَرْضَى بِمَا تَقُولُ. فَقَالَ ابْنُ مَخْرَمَةَ: وَهَلْ يَقْدِرُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَرُدَّ قَوْلِي، أَوْ يَفْخَرَ مِثْلَ مَفَاخِرِي. فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: مَا تَقُولُ يَا خَالِدُ؟ قَالَ: إِنْ أَذِنَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمِنْتُ الْمَوْجِدَةَ تَكَلَّمْتُ. فَقَالَ: تَكَلَّمْ وَلا تَهَبْ أَحَدًا. فَقَالَ خَالِدٌ: خَابَ الْمُتَكَلِّمُ، وَأَخْطَأَ الْمُتَقَحِّمُ، وَلَقَدْ قَالَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَنَطَقَ بِغَيْرِ صَوَابٍ. إِذْ فَخَرَ عَلَى مُضَرَ، وَمِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَالْخُلَفَاءُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَمَا أَهْلُ الْيَمَنِ، أَصْلَحَ اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِلا دَابِغُ جِلْدٍ، أَوْ سَائِسُ قِرْدٍ، أَوْ حَائِكُ بُرْدٍ.

غَلَبَهُمُ الْهُدْهُدُ، وَغَرَّقَهُمُ الْجُرَذُ، وَمَلَكَتْهُمْ أُمُّ وَلَدٍ، قَوْمٌ، وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا لَهُمْ أَلْسِنَةٌ فَصِيحَةٌ، وَلا لُغَةٌ صَحِيحَةٌ، وَلا حُجَّةٌ تَدُلُّ عَلَى كِتَابٍ، وَلا يُعْرَفُ بِهَا الصَّوَابُ. وَإِنَّهُمْ مِنَّا لَبَيْنَ إِحْدَى الْخَلَّتَيْنِ، إِنْ جَازُوا قَصْدَنَا أَكَلُوا، وَإِنْ حَادُّوا عَنْ حُكْمِنَا قُتِلُوا. ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الْكِنْدِيِّ، فَقَالَ: أَتَفْخَرُ بِالْفَرَسِ الرَّائِعِ، وَالسَّيْفِ الْقَاطِعِ، وَالدِّرْعِ الْحَصِينَةِ، وَالدُّرَّةِ الْمَكْنُونَةِ؟ أَلا وَإِنِّي أَفْخَرُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، خَيْرِ الأَنَامِ، جَهِدَكَ مَنْ ذَكَرْتَ مِمَّنِ افْتَخَرْتُ بِهِ، فَالْمِنَّةُ مِنَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، إِنْ كُنْتُمْ أَتْبَاعَهُ وَأَشْيَاعَهُ، فَمِنَّا نَبِيُّ اللَّهِ الْمُصْطَفَى وَخَلِيفَةُ اللَّهِ الْمُرْتَضَى، وَلَنَا السُّؤْدَدُ وَالْعُلَى، وَفِينَا الْحِلْمُ وَالْحِجَا، وَلنَا الشَّرَفُ الْقَدِيمُ، وَالْحَسَبُ الصَّمِيمُ، وَالْجَنَابُ الأَخْضَرُ، وَالْعَدَدُ الأَكْثَرُ , وَالْعِزُّ الأَكْبَرُ، وَلَنَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، وَالسَّقْفُ الْمَرْفُوعُ، وَالْبَحْرُ الْمَسْجُورُ، وَلَنَا زَمْزَمٌ وَبَطْحَاؤُهَا وَصَحْرَاؤُهَا، وَغِيَاضُهَا وَأَعْلامُهَا، وَمَنَابِرُهَا وَسِقَايَتُهَا، وَحِجَابَتُهَا وَسَدَانَةُ بَيْتِهَا، فَهَلْ يَعْدِلُنَا عَادِلٌ، أَوْ يَبْلُغُ مِدْحَتَنَا قَائِلٌ. وَمِنَّا ابْنُ عَبَّاسٍ، عَالِمُ النَّاسِ، الطَّيِّبَةُ أَخْبَارُهِ، الْمَتْبُوعَةُ آثَارُهُ، مِنَّا أَسَدُ اللَّهِ، وَمِنَّا سَيْفُ اللَّهِ، وَمِنَّا فِرْسَانُ اللَّهِ وَمِنَّا الْوَصِيُّ، وَذُو النُّورِ، وَالصِّدِّيقُ، وَمِنَّا الْفَارُوقُ، وَمِنَّا الْعُلَمَاءُ الْفُقَهَاءُ. بِنَا عُرِفَ الدِّينُ، وَمِنَّا أَتَاكُمُ الْيَقِينُ. مَنْ زَاحَمَنَا زَحَمْنَاهُ، وَمَنْ فَاخَرَنَا فَاخَرْنَاهُ، وَمَنْ بَدَّلَ سُنَّتَنَا قَتَلْنَاهُ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الْكِنْدِيِّ، فَقَالَ: كَيْفَ عِلْمُكَ بِلُغَاتِ قَوْمِكَ؟ قَالَ: إِنِّي بِهَا عَالِمٌ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الشَّنَاتِرِ. قَالَ: الأَصَابِعُ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الصِّنَّارَتَيْنِ. قَالَ: الأُذُنَانِ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْجَحْمَتَيْنِ. قَالَ: الْعَيْنَانِ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْميزمِ. قَالَ: السِّنُ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الزُّبِّ. قَالَ: اللِّحْيَةُ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْفَقْحَةِ. قَالَ: الرَّاحَةُ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْكُتَعِ. قَالَ: الذِّئْبُ. قَالَ: أَفَتُؤْمِنُ بِكِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَكَيْفَ تَزْعُمُ أَنَّكُمُ الْعَرَبُ الأُولَى، وَأَنَّا الْمُتَعَرِّبَةُ، وَاللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يَقُولُ: فِي كِتَابِهِ: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] ، وَقَالَ عَزَّ ذِكْرُهُ {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [نوح: 7] ، وَلَمْ يَقُلْ: جَعَلُوا شَنَاتِرَهُمْ فِي صَنَانِيرِهِمْ، وَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] ، وَلَمْ يَقُلْ: الْجَحْمَةُ بِالْجَحْمَةِ، وَقالَ: عَزَّ وَجَلَّ: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45] ، وَلَمْ يَقُلِ: الْميزمُ بِالْميزمِ، وَقَالَ تَبَارَكَ اسْمُهُ: {يَابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه: 94] ، وَلَمْ يَقُلْ: لا تَأْخُذْنِي بِزُبِّي وَلا بِفَقْحَتِي، وَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف: 17] وَلَمْ يَقُلْ: فَأَكَلَهُ الْكُتَعُ.

لَكِنِّي سَائِلُكَ يَا أَخَا الْيَمَنِ عَنْ أَرْبعِ خِصَالٍ، إِنْ أَقْرَرْتَ بِهَا قُهِرْتَ، وَإِنْ أَنْكَرْتَهَا قُتِلْتَ. قَالَ: وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ أَمِنَّا أَمْ مِنْكُمْ؟ قَالَ: بَلْ مِنْكُمْ. قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ خَلِيفَةِ اللَّهِ الْمُرْتَضَى، أَمِنَّا أَمْ مِنْكُمْ؟ قَالَ: بَلْ مِنْكُمْ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ كِتَابِ اللَّهِ الْمُنْزَلِ عَلَيْنَا أَمْ عَلَيْكُمْ؟ قَالَ: بَلْ عَلَيْكُمْ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ كِتَابِ اللَّهِ الْمُسْتَقْبِلِ، أَلَنَا أَمْ لَكُمْ؟ قَالَ: بَلْ لَكُمْ. قَالَ: فَأَيُّ شَيْءٍ تَعْدُلُ هَذِهِ الْخِصَالُ. فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَاللَّهِ يَا خَالِدُ، مَا فَرَغْتَ مِنْ كَلامِكَ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُعْرَجُ بِسَرِيرِي إِلَى السَّمَاءِ، مَالَكَ يَا يَمَانِيُّ وَرِجَالَ مُضَرَ، تُفَاخِرُ هَاشِمًا؟ ثُمَّ أَمَرَ لِخَالِدٍ بِمِائَةِ أَلْفِ دَرْهَمٍ، وَأَقْطَعَهُ سَبْعِينَ جَرِيبًا فِي أَرْضِ الْعَرَبِ بِالْبَصْرَةِ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَخْزُومِيُّ، عَنْ أَبِي النَّضَّاحِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ بُدَيْلٍ التَّمِيمِيِّ، قَالَ: وَفَدَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ حَنْظَلَةَ التَّمِيمِيُّ عَلَى هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَقَامَ بِبَابِهِ أَيَّامًا، ثُمَّ دَعَا بِهِ هِشَامٌ لَيْلا فَسَاءَلَهُ عَمَّا قَدِمَ لَهُ، وَعَنْ خُرَاسَانَ، فَأَعْجَبَهُ مَا رَأَى مِنْ عَقْلِهِ وَبَصَرِهِ بِأَمْرِ خُرَاسَانَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: إِنِّي أَرَاكَ رَجُلا عَاقِلا عَالِمًا بِخُرَاسَانَ، فَسَمِّ لِي رِجَالَهَا، وَمَنْ تَرَى أَنَّ مِنْهُمْ يَصْلُحُ لَهَا. قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بَهَا عَبْدُ السَّلامِ بْنُ مُزَاحِمٍ السُّلَمِيُّ، وَهُوَ شَيْخُ خُرَاسَانَ، وَسَيِّدُهَا فِي سِنِّهِ وَفَضْلِهِ وَعَقْلِهِ مِنْ رَجُلٍ، فِيهِ خَصْلَةٌ. قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: بُخْلٌ لا يُنَادِي وَلِيدَهُ. فَقَالَ هِشَامٌ: لا يَسْتَقِيمُ لِخُرَاسَانَ رَجُلٌ يُوصَفُ بِالْبُخْلِ. سَمِّ لِي غَيْرَهُ. قَالَ: يَحْيَى بْنُ الْحُصَيْنِ بْنِ الْمُنْذِرِ الذُّهْلِيُّ، فَتَى خُرَاسَانَ سَخًى وَبَأْسًا مِنْ رَجُلٍ، فِيهِ خَصْلَةٌ. قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: يَشْرَبُ بِاللَّيْلِ. قَالَ: لَيْسَ هَذَا مِنْ أَصْحَابِهَا. سَمِّ غَيْرَهُ. قَالَ: قَطْنُ بْنُ قُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ الْبَاهِلِيُّ، رَجُلُ خُرَاسَانَ عَفَافًا وَعَقْلا وَحِلْمًا وَسَخَاءً وَكَمَالا. قَالَ: فِيهِ شَيْءٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، مَوْتُورٌ، وَتَرَهُ قَوْمُهُ. قَالَ: سَمِّ غَيْرَهُ. قَالَ: فَثَمَّ أَخُوهُ سَلَمُ بْنُ قُتَيْبَةَ، وَلَيْسَ بِدُونِ مَنْ سَمَّيْتُ لَكَ سَخَاءً وَحِلْمًا وَسُؤْدُدًا، مَا رَأَيْنَا شَيْخًا فِي نُسْكِ شَابٍ غَيْرِهَ. قَالَ: فَسَمِّ لَنَا غَيْرَهُ. قَالَ: نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ، رَجُلُ خُرَاسَانَ بَأْسًا وَحَزْمًا وَتَجْرِبَةً وَشِدَّةَ رَأْيٍ، مِنْ رَجُلٍ لا عَشِيرَةَ لَهُ بِهَا. قَالَ: وَمِمَّنْ هُوَ؟ قَالَ: مِنْ بَنِي لَيْثِ بْنِ بَكْرِ بْنِ كِنَانَةَ. قَالَ: فَأَنَا عَشِيرَتُهُ، وَلَنْ يُذَلَّ مَنْ كُنْتُ عَشِيرَتَهُ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَخْوَالِهِ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ: هُوَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ صَاحِبُهَا، وَمَنْ كُنْتَ عَشِيرَتَهُ فُهُوَ عَزِيزٌ. قَالَ: فَأَمَرَ هِشَامٌ بِالْعَهْدِ أَنْ يُكْتَبَ لِنَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ عَلَى خُرَاسَانَ، وَيُدْفَعُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، وَقَالَ لَهُ: دَعْنِي وَسِرْ إِلَيْهِ بِعَهْدِهِ. قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: فَخَرَجْتُ وَالْعَهْدُ مَعِي حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى سَرْخَسَ وَبَهَا حَفُصُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبَّادٍ الذُّهْلِيُّ.

قَالَ: فَأَكْرَمَنِي وَاحْتَبَسَنِي عِنْدَهً أَيَّامًا وَأَعْطَانِي جَارِيَتَيْنِ نَفِيسَتَيْنِ، وَلَمْ يدَعْ مِنَ الْكَرَامَةِ إِلا حَيَّانِي بِهَا. فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ مِنْهُ، قُلْتُ: يَا هَذَا قَدْ وَاللَّهِ صَنَعْتَ بِي صُنْعًا مَا أَقْدِرُ عَلَى مُكَافَأَتِهِ لَكَ، إِلا أَنَّ مَعِي شَيئًا مَا عَلِمَ بِهِ خَلْقٌ وَهُوَ عَهْدُ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ عَلَى خُرَاسَانَ. فَوَجِّهْ إِلَيْهِ مَنْ يُعْلِمُهُ فَتَكُونُ الْبِشَارَةُ لَكَ، وَيُكَافِئُكَ عَنِّي. قَالَ: فَجَزَاهُ خَيرًا وَدَعَا ابْنَيْ عَمٍّ لَهُ، وَكَتَبَ مَعْهُمَا إِلَى نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ. قَالَ: فَمَضِيَا إِلَيْهِ فَأَعْلَمَاهُ، وَهُو فِي مَعَسْكَرِ جَعْفَرِ بْنِ حَنْظَلَةَ الْبَهْرَانِيِّ، خَلِيفَةِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُمَا: أَكْتُمَا أَمْرَكُمَا. قَالَ: وَقَدِمْتُ عَلَيْهِ بِالْعَهْدِ، وَبَعَثَ إِلَى عَبْدِ السَّلامِ بْنِ مُزَاحِمٍ السُّلَمِيِّ يَدْعُوهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَتَقَوَّى بِهِ لِكَثْرَةِ تَبْعِ عَبْدِ السَّلامِ، فَلَمَّا أَتَاهُ الرَّسُولُ، قَالَ عَبْدُ السَّلامِ: وَلِيَ وَاللَّهِ خُرَاسَانَ، وَمَا كَانَ لِيدَعُوَنِي إِلا وَقَدْ وَلِيَ. قَالَ: فَرَكِبَ وَأَتَاهُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ بِالْإِمْرَةِ. قَالَ: عَلَمْتُ أَنَّكَ لَمْ تَبْعَثْ إِلَيَّ إِلا وَقَدْ وُلِّيتَ. قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَارْكَبْ بِنَا، فَرَكِبَ مَعَهُ فِي جَمَاعَةٍ، فَمَضَى نَصْرٌ، فَدَخَلَ عَلَى جَعْفَرِ بْنِ حَنْظَلَةَ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ عَلَى فَرْشِهِ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِ نَصْرٍ فَأَجْلَسَهُ عَلَيْهَا. فَدَخَلَ النَّاسُ عَلَيْهِ يُهَنِّونَهُ، فَدَعَا بِصَلَتَانَ مَوْلَى خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَأَمَرَ بِهِ فَجُرِّدَ فَضُرِبَ خَمْسِمِائَةِ سَوْطٍ. ثُمَّ دَعَا بِمَلِكِ مَرْوِ الرُّوذِ، فَأُمِرَ بِهِ فُجُرِّدَ فَضُرِبَ خَمْسَمِائَةِ سَوْطٍ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى مَنْ حَوْلَهُ، فَقَالَ: أَظُنُّكُمْ أَنْكَرْتُمْ مَا فَعَلْتُ بِهَذَيْنِ؟ أُخْبِرُكُمْ عَنِّي وَعَنْهُمَا، أَمَّا صَلَتَانُ فَإِنَّ أَسَدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ تَعَصَّبَ عَلَيْنَا وَأَسَاءَ إِلَيْنَا، وَعَهِدَ إِلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلا مِنْ مَشْيَخَةِ مُضَرَ، فَضَرَبَهُمْ بِالسِّيَاطِ، وَحَلَقَ رُءُوسَهُمْ وَلِحَاهُمْ، أَنَا أَحَدُهُمْ، ثُمَّ وَجَّهَ بِنَا مَعَ صَلَتَانَ إِلَى خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بِالْعِرَاقِ، فَمَا وَصَلْنَا إِلَيْهَا حَتَّى عَفَتْ رُءُوسُنَا وَلِحَانَا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ صَلَتَانُ، دَعَا بِحَجَّامٍ، فَقَالَ: احْلِقْ مَا نَبَتَ مِنْ رُءُوسِهِمْ وَلِحَاهُمْ، فَنَاشَدْنَاهُ اللَّهَ، فَأَبَى وَقَالَ: لا تَدْخُلُونَ عَلَى الأَمِيرِ هَكَذَا، فَجَعَلْتُ اللَّهَ عَلَيَّ إِنْ أَنَا ظَفَرْتُ بِهِ أَنْ أَضْرِبَهُ خَمْسَمِائَةِ سَوْطٍ، وَأَمَا هَذَا الْآخَرُ، فَإِنِي غَزَوْتُ مَعَ وَالِي خُرَاسَانَ، فَبَعَثَ الْعَسْكَرَ فِي بَعْضِ الْعَشِيَّاتِ، فَأَتَيْتُهُ لَيْلا، وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ، وَمَعِي خَمْسُونَ رَجُلا مِنْ أَصْحَابِي، فَتَجَنَّبْتُ الْعَسْكَرَ وَالزِّحَامَ، فَنَزَلْنَا غَيْرَ بَعِيدٍ مِنْهُ قُرْبَ أَرْضٍ وَزَرْعٍ لَهَذَا الدَّهْقَانِ، فَفَلَتَ بَعْضُ دَوَابِّنَا فَأَفْسَدُوا فِي زَرْعِهِ، فَعَمِدَ إِلَى دَوَابِّنَا كُلِّهَا، فَقَطَعَ أَذْنَابَهَا مِنَ الأُصُولِ، فَأَصْبَحْنَا شُهْرَةً لِأَهْلِ ذَلِكَ الْعَسْكَرِ، فَآلَيْتُ إِنْ مَكَّنَنِيَ اللَّهُ مِنْهُ أَنْ أَضْرِبَهُ خَمْسَمِائَةِ سَوْطٍ

قتل علي بن أبي طالب عليه السلام، فقالت عائشة: فإن تك ناعيا فلقد نعاه ... نعي ليس في فيه

59 - حُدِّثْتُ عَنِ ابْنِ دَأْبٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ ذَكْوَانَ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَتْ: " كُنْتُ يَوْمًا عِنْدَ عَائِشَةَ ابْنَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، فَإِنِّي لَعِنْدَهَا إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ مُعَتَّمٌ، عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، فَقَالَ: قُتِلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهَ السَّلامُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَإِنْ تَكُ نَاعِيًا فَلَقَدْ نَعَاهُ ... نَعِيٌّ لَيْسَ فِي فِيهِ التُّرَابُ ثُمَّ قَالَتْ: مَنْ قَتَلَهُ؟ قَالُوا: رَجُلٌ مِنْ مُرَادٍ. قَالَتْ: رُبَّ قَتِيلِ اللَّهِ بِيَدَيْ رَجُلٍ مِنْ مُرَادٍ. قَالَتْ زَيْنَبُ: فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَتَقُولِينَ مِثْلَ هَذَا لَعَلِيٍّ فِي سَابِقَتِهِ وَفَضْلِهِ؟ فَضَحِكَتْ، وَقَالَتْ: بِسْمِ اللَّهِ إِذَا نَسَيْتُ فَذَكِّرِينِي " حَدَّثَنِي عَمِّي، عَنِ الْوَاقِدِيِّ، قَالَ: رَفَعْتُ رُقْعَةً إِلَى الْمَأْمُونِ أَشْكُو غَلَبَةَ الدَّيْنِ. فَوَقَّعَ بِخَطِّهِ فِيهَا. " فِيكَ خِلَّتَانِ: السَّخَاءُ وَالْحَيَاءُ، فَأَمَّا السَّخَاءُ، فَهُوَ الَّذِي أَطْلَقَ يَدَيْكَ بِمَا مَلَكْتَ، وَأَمَّا الْحَيَاءُ فَهُوَ الَّذِي حَمَلَكَ عَلَى ذِكْرِ بَعْضِ دَيْنِكَ، وَقَدْ أَمَرْنَا لَكَ بِضِعْفِ مَا ذَكَرْتَ، فَإِنْ كُنَّا قَصَّرْنَا عَنْ بُلُوغِ حَاجَتِكَ فَجِنَايَتُكَ عَلَى نَفْسِكَ، وَإِنْ كُنَّا بَلَغْنَا بُغْيَتَكَ، فَزِدْ فِي بَسْطِ يَدِكَ، فَإِنَّ خَزَائِنَ اللَّهِ مَفْتُوحَةٌ، وَيَدَهُ بِالْخَيْرِ مَبْسُوطَةٌ حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دَاؤُدَ، قَالَ: قَالَ لِي الْمَأْمُونُ: " لا يَسْتَطِيعُ النَّاسُ أَنْ يُنْصِفُوا الْملُوكَ مِنْ وُزَرَائِهِمْ، وَلا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَنْظُرُوا بِالْعَدْلِ بَيْنَ مُلُوكِهِمْ وَحُمَاتِهِمْ وَكُفَاتِهِمْ، وَلا بَيْنَ صَنَائِعَهُمْ وَبِطَانَتِهِمْ، وَذَاكَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ ظَاهَرَ حُرْمَةٍ وَخِدْمَةٍ وَاجْتِهَادٍ وَنَصِيحَةٍ، ثُمَّ يَرَوْنَ إِيقَاعَ الْمُلُوكِ بِهِمْ مَعَ هَذِهِ الصِّفَاتِ ظَاهِرًا، لا يَزَالُ الرَّجُلُ، يَقُولُ: مَا أُوقِعَ بِهِمْ إِلا رَغْبَةً فِي أَمْوَالِهِمْ أَوْ رَغْبَةً فِي بَعْضِ مَا لا تَجُودُ النَّفْسُ بِهِ. وَلَعَلَّ الْحَسَدَ وَالْمَلالَةَ وَشَهْوَةَ الِاسْتِبْدَالِ، اشْتَرَكَتْ فِي ذَاكَ مِنْهُ، وَهُنَاكَ جِنَايَاتٌ فِي صُلْبِ الْمُلْكِ، وَفِي بَعْضِ الْحُرَمِ فَلا يَسْتَطِيعُ الْمَلِكُ أَنْ يَكْشِفَ لِلْعَامَّةِ مَوْضِعَ الْعَوْرَةِ فِي الْمُلْكِ أنْ يَحْتَجَّ لِتِلْكَ الْعُقُوبَةِ بِمَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ الذَّنْبَ، وَلَمَا يَسْتَطِيعُ الْمَلِكُ تَرْكَ عُقُوبَةٍ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْفَسَادِ عَلَى عَمَلِهِ، بِأَنَّ عُذْرَهُ غَيْرُ مَبْسُوطٍ عِنْدَ الْعَامَّةِ، وَلا مَعْرُوفٍ عِنْدَ أَكْثَرِ الْخَاصَّةِ سَأَلْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ عَنِ الْمَأْمُونِ: أَكَانَ حَلِيمًا؟ فَقَالَ: " لا وَاللَّهِ مَا حدَثْتُ عَنْ أَحْلَمَ مِنْهُ، لا مَلِكٌ وَلا سُوقَةٌ، وَلا رَأَيْتُ أَكْرَمَ مِنْهُ قَطُّ.

ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُنِي، قَالَ: بِتُّ عِنْدَهُ لَيْلَةً فَعَطِشَ، فَظَنَّ أَنِّي نَائِمٌ، وَأَنَا مُنْتَبِهٌ أَرَى كَلَّ مَا يَصْنَعُ، فَكَرِهَ أَنْ يَدْعُوَ الْغُلامَ فَانْتَبَهَ، فَمَضَى إِلَى بَرَّادَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا أَكْثَرَ مِنْ ثَلاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ، فَأَخَذَ كُوزًا مِنْهَا فَشَرِبَ مَاءَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ مُسْرِعًا فَلَمَّا دَنَا مِنْ فِرَاشِي خَطَا خُطَى لِصٍّ خَائِفٍ لَكِي لا أَنْتَبِهَ، ثُمَّ رَمَى بِنَفْسِهِ عَلَى فِرَاشِهِ، وَبِتُّ عِنْدَهُ لَيْلَةً بَعْدَ ذَلِكَ، وَنَحْنُ بِالشَّامِ، وَمَا مَعِي أَحَدٌ، قَالَ: فَجَعَلْتُ أُبَائِقُهُ وَأَتَفَقَّدُ مَا يَصْنَعُ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنِّي قَدْ نِمْتُ. قَالَ: فَعَرَضَ لَهُ سُعَالٌ فَرَأَيْتُهُ وَقَدْ أَخَذَ كُمَّ قَمِيصِهِ فَجَمَّهُ، ثُمَّ حَشَا بِهِ فَمَهُ، فَرَدَّ فِيهِ سُعَالَهُ لِئَلا يُنَبِّهَنِي. قَالَ: ثُمَّ جَعَلَ يَرْعَى حَرَكَتِي وَقَدْ طَلَعَ الْفَجْرُ، وَهُمَّ بِالنُّهُوضِ لِلْصَلاةِ، وَأَخَّرَ ذَلِكَ إِلَى أَنْ أَسْفَرَ شَدِيدًا، فَلَمَّا عَلِمْتُ أَنَّ الْوَقْتَ قَدْ ضَاقَ عَلَيْهِ، تَحَرَّكْتُ. فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبرُ، يَا غُلامُ، نَبِّهْ أَبَا مُحَمَّدٍ، ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ رَأَيْتَ مَبِيتَكَ؟ قُلْتُ: بِخَيرٍ يَا سَيِّدِي. قَالَ: إِنَّ الشِّيعَةَ أَشَدُّ رِعَايَةً لِأَوْقَاتِ الصَّلاةِ مِنَ الْمُرْجِئَةِ. مُذْ كَمْ تَرَانِي أَتَقَلَّبُ وَأَتَحَرَّكُ لِلْصَلاةِ فَيَمْنَعُنِي مِنَ النُّهُوضِ نَحْوَهَا نَوْمُكَ، وَكَرِهْتُ أَنْ أُوْقِظَكَ وَفِي عَيْنِكَ بَاقٍ مِنْ سِنَتِكَ فَأَقْطَعَهَا عَنْكَ. فَقُلْتُ: لِذَلِكَ جَعَلَكُمُ اللَّهُ أَرْبَابًا وَجَعَلَنَا لَكُمْ عَبِيدًا، إِذْ كَانَتْ هَذِهِ أَخْلاقُكُمْ. ثُمَّ نَهَضَ لِلَصَّلاةِ. وَقَالَ لِي أَيْضَا: وَمِنْ كَرِيمِ أَخْلاقِهِ، أَنِّي كُنْتُ أُمَاشِيهِ فِي بُسْتَانِ مُوسَى، وَالشَّمْسُ عَلَى يَسَارِي، وَالْمَأْمُونُ فِي الظِّلِّ، وَقَدْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى عَاتِقِي، وَنَحْنُ نَتَحَدَّثُ إِذْ أَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي ذَهَبَ فِيهِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي قَصَدَهُ، قَالَ لِي: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، إِنَّكَ جِئْتَ وَعَلَى يَسَارِكَ الشَّمْسُ، وَقَدْ أَخَذَتْ مِنْكَ، فَكُنْ أَنْتَ فِي مُنْصَرَفِنَا حَيْثُ كُنْتُ، وَأَكُونُ حَيْثُ كُنْتَ. قُلْتُ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ أَمْكَنَنِي أَنْ أَقِيَكَ بِنَفْسِي مِنْ هَوْلِ الْمَطْلَعِ لَفَعَلْتُ فِيكَ، لا أَصْبِرُ عَلَى أَذَى الشَّمْسِ لَحْظَةً. قَالَ: وَاللَّهِ لا بُدَّ مِنْهَا، آخُذُ مِنْهَا كَمَا أَخَذتْ مِنْكَ. قَالَ: فَصَارَ الْمَأْمُونُ فِي مَوْضِعِي، وَصِرْتُ فِي مَوْضِعِهِ، وَتَمَاشَيْنَا، وَأَخَذَ بِيَدِي فَوَضَعَهَا عَلَى عَاتِقِهِ، وَقَالَ: إِنَّ أَوَّلَ الْعَدْلِ أَنْ يَعْدِلَ الرَّجُلُ عَلَى بِطَانَتِهِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، حَتَّى يَبْلُغَ ذَاكَ إِلَى الطَّبَقَةِ السُّفْلَى حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: " قَالَ الْمَأْمُونُ يومَ خَمِيسٍ، وَنَحْنُ حُضُورٌ مَعَ النَّاسِ فِي الدَّارِ، لَعَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ: عَلَيَّ بِإِسْمَاعِيلَ.

قَالَ: فَخَرَجَ، فَإِذَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَأَرَادَ الْمَأْمُونُ إِسْمَاعِيلَ بْنَ مُوسَى، فَلَمَّا بَصُرَ بَهِ مِنْ بَعِيدٍ، وَكَانَ أَشَدَّ النَّاسِ بِهِ بُغْضًا، رَفَعَ يَدَيْهِ مَادًّا إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ بَدِّلْنِي بِعَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ مُطِيعًا نَاصِحًا، فَإِنَّهُ بِصَدَاقَتِهِ لِهَذَا آثَرَ هَوَاهُ عَلَى هَوَايَ، فَلَمَّا دَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، فَسَلَّمَ فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ، ثُمَّ دَنَا فَقَبَّلَ يَدَهُ، ثُمَّ قَالَ: هَاتِ حَوائِجَكَ. قَالَ: ضَيْعَتِي بِالْمُغِيثَةِ غُصِبْتُهَا وَقُهِرْتُ عَلَيْهَا. قَالَ: نَأْمُرُ بِرَدِّهَا عَلَيْكَ، قَالَ: حَاجَتُكَ؟ قَالَ: دَينٌ كَثِيرٌ عَلَيَّ فِي جَفْوَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لِي. قَالَ: نَقْضِي دَيْنَكَ، ثُمَّ قَالَ: حَاجَتُكَ؟ قَالَ: تَأْذَنُ لِي فِي الْحَجِّ. قَالَ: قَدْ أَذِنْتُ لَكَ. ثُمَّ قَالَ: حَاجَتُكَ؟ قَالَ: وَقْفُ أَبِي كُنْتُ إِلَيْهِ، فَأُخْرِجَ مِنْ يَدِي وَصَارَ إِلَى قَثَمٍ وَالْقَاسِمِ، ابْنَيْ أَبِي جَعْفَرٍ، قَالَ: فَتُرِيدُ مَاذَا؟ ، قَالَ: يُرَدُّ إِلَيَّ. قَالَ: أَمَّا مَا كَانَ يُمْكِنُنَا فِي أَمْرِكَ فَقَدْ جُدْنَا لَكَ بِهِ. وَأَمَّا وَقْفُ أَبِيكَ فَذَاكَ إِلَى وَرَثَتِهِ وَمَوَالِيهِ، فَإِنْ رَضُوا بِكَ وَالِيًا عَلَيْهِمْ وَقَيَّمًا لَهُمْ رَدَدْنَاهُ، وِإِلا أَقْرَرْنَاهُ فِي يَدِ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ. ثُمَّ خَرَجَ. فَقَالَ الْمَأْمُونُ لِعَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ: مَا لِي وَلَكَ عَافَاكَ اللَّهُ، مَتَى رَأَيْتَنِي نَشَطْتُ لِإِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، وَعُنِيتُ بِهِ، وَهُوَ صَاحِبِي بِالأَمْسِ بِالْبَصْرَةِ. فَقَالَ: ذَهَبَ فِكْرِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُوسَى. قَالَ: صَدَقْتَ، ذَهَبَ عَنْ فِكْرِكَ مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْكَ حِفْظُهُ، وَحَفِظَ فِكْرُكَ مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْكَ أَنْ لا يَخْطُرَ بِهِ، أَمَا إِذَ أَخْطَأْتَ فَلا تُعْلِمْ إِسْمَاعِيلَ مَا دَارَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ فِي أَمْرِهِ. فَظَنَّ عَلِيٌّ أَنَّهُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ إِسْمَاعِيلَ بْنَ مُوسَى، فَأَخْبَرَ إِسْمَاعِيلَ بْنَ جَعْفَرٍ بِالْقِصَّةِ حَرْفًا حَرْفًا، فَأَذَاعَهَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَبَلَغَ الْخَبَرَ الْمَأْمُونُ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي هَذِهِ الأَخْلاقَ الَّتِي أَصْبَحْتُ أَحْتَمِلُ بِهَا عَلِيَّ بْنَ صَالِحٍ، وَابْنَ عِمْرَانَ، وَابْنَ الطُّوسِيِّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَمَنْصُورَ بْنَ النُّعْمَانِ، وَزَعَامِشَ سَمِعْتُ أَبَا عَبَّادٍ، ذُكِرَ الْمَأْمُونُ، فَقَالَ: " وَاللَّهِ أَحَدُ مُلُوكِ الأَرْضِ، الَّذِي يَجِبُ لَهُ هَذَا الِاسْمُ بِالْحَقِيقَةِ، ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُ، قَالَ: كَانَ يَلْزَمُ بِابِي رَجُلٌ لا أَعْرِفُهُ، فَلَمَّا طَالَتْ مُلازَمَتُهُ قُلْتُ لَهُ بِسُوءِ لِقَائِي: يَا هَذَا مَا لُزُومُكَ بَابِي؟ ، قَالَ: طَالِبُ حَاجَةٍ. قُلْتُ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: تُوصِلْنِي إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ تُوصِلْ لِي رُقْعَةً. قُلْتُ: مَا يُمْكِنُنِي فِي أَمْرِكَ مَا تُرِيدُ. فَانْصَرَفَ، وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ شَيئًا، وَجَعَلَ يَلْزَمُ الْبَابَ، فَمَا يُفَارِقُهُ، فَإِذَا انْصَرَفْتُ فَرَآنِي نَشِيطًا تَصَدَّى لِي فَأَرَانِي وَجْهَهُ فَقَطْ. وَإِنْ رَآنِي بِغَيْرِ تِلْكَ الْحالِ، كَرَّ نَاحِيَةً. فَمَا زَالَتْ تِلْكَ حَالَهُ، صَابِرًا عَلَيْهَا حَتَّى رَفَقْتُ عَلَيْهِ. فَقُلْتُ لَهُ يومًا وَقَدِ انْصَرَفْتُ مِنَ الدَّارِ: مَكَانَكَ. فَأَقَامَ. فَقُلْتُ لِلْغُلامِ: أَدْخِلْ هَذَا الرَّجُلَ. فَأَدْخَلَهُ.

فَقُلْتُ: يَا هَذَا إِنِّي أَرَى لَكَ مُطَالَبَةً جَمِيلَةً، وَأَظُنُّكَ تَرْجِعُ إِلَى مَحْتِدٍ كَرِيمٍ، وَأَدَبٍ بَارِعٍ. فَقَالَ: أَمَّا الْمَحْتِدُّ فَرَجُلٌ مِنَ الأَعَاجِمِ، وَأَمَّا الأَدَبُ فَأَرْجُو أَنْ تَجِدَهُ إِنْ طَلَبْتَهُ. قُلْتُ: أَمَا إِنَّ عِنْدِي مِنْهُ عِلْمًا، قَالَ: وَمَا هُوَ أَدَامَ اللَّهُ بَقَاءَكَ؟ قُلْتُ: صَبْرُكَ عَلَى الْمُطَالَبَةِ الْجَمِيلةِ، قَالَ: ذَاكَ أَقَلُّ أَحْوَالِي أَعَزَّكَ اللَّهُ، قَالَ: فَدَخَلَتْنِي لَهُ جَلالَةٌ. فَقُلْتُ: حَاجَتُكَ؟ قَالَ: ضَيْعَةٌ صَارَتْ لَأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَّدَهُ اللَّهُ كَانَتْ لِسَعْدِ بْنِ جَابِرٍ وَكُنَّا شُرَكَاءَ فِيهَا، فَجَاءَ وَكِيلُهُ فَضَرَبَ مَنَارَةً عَلَى حُدُودِنَا وَحُدُودِهِ، وَهَذِهِ ضَيْعَةٌ، كُنَّا نَعُودُ بِفَضْلَهَا عَلَى الْغَرِيبِ، الصَّدِيقِ وَالْجَارِ وَالأَخِ، فَقُلْتُ: فَمَعَكَ رُقْعَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَخْرَجَ رُقْعَةً مِنْ خُفِّهِ فِيهَا مَظْلَمَتُهُ، فَلَمَّا قَرَأْتُهَا وَوَضَعْتُهَا قَامَ فَانْصَرَفَ، فَخَفَّ عَلَى قَلْبِي وَأَحْبَبْتُ نَفْعَهُ، فَأَدْخَلْتُهُ عَلَى الْمَأْمُونِ مَعَ جُمَيْعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَوَائِجِ. فَاتَّفَقَ أَنْ كَانَ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ مِنْهُمْ. فَاسْتَنْطَقَ رَجُلا فَصِيحًا حَسَنَ الْعِبَارَةِ لَسِنًا. فَقَالَ: تَكَلَّمْ بِحَاجَتِكَ، فَتَكَلَّمَ، فَقَالَ: يَا ثَابِتُ، وَقِّعْ بِقَضَائِهَا. ثُمَّ قَالَ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَرْضِي غَلَبَنِي عَلَيْهَا ابْنُ الْبَخْتَكَانِ بِالأَهْوازِ بِقُوَّةِ السُّلْطَانِ، فَأَخْرَجَهَا مِنْ يَدِي وَدَعَانِي إِلَى أَخْذِ بَعْضِ ثَمَنِهَا. فَقَالَ: يَا ثَابِتُ، وَقِّعْ لَهُ بِالْكِتَابِ إِلَى ابْنِ الْبَخْتَكَانِ وَإِلَى الْقَاضِي هُنَاكَ بِأَمْرِهِ بِإِنْصَافِهِ، وَإِخَرِاجِ ابْنِ الْبَخْتَكَانِ مِنْ حَقِّهِ، أَوْ أَخْذِهَا مِنَ الرَّجُلِ بِالْحِكْمَةِ، قَالَ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَطِيعَةٌ كَانَ الْمَنْصُورُ أَقْطَعَهَا أَبِي، فَأُخِذَتْ مِنْ أَيْدِينَا بِسَبِبِ البَّرَامِكَةِ. قَالَ: وَقِّعْ، تُرَدُّ عَلَيْهِ هَذِهِ مَوْفُورَةً، وَيُنْظَرُ مَا أَخْرَجَتْ مُنْذُ قُبِضَتْ عَنْهُمْ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ، فَلْيُدْفَعْ إِلَيهمِ حَاصِلُ غَلاتِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، عَلَيَّ دَيْنٌ، قَدْ أَبْهَظَنِي وَأَذَلَّنِي ذِكْرُهُ، وَقَوِيَ عَلَيَّ أَرْبَابُهُ. قَالَ: وَكَمْ دَيْنُكَ؟ قَالَ: أَرْبَعَةُ آلافِ دِينَارٍ. قَالَ: وَقِّعْ يَا ثَابِتُ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ. قَالَ: فَسَألَ سَبْعَ حَوَائِجَ، قِيمَتُهَا أَلْفُ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَوَاللَّهِ إِنْ زَالتَ قَدَمُهُ عَنْ مَقَرِّهَا حَتَّى قُضِيَتْ، فَامْتَلَأْتُ غَيْظًا، وَفُرْتُ فَوْرَ الْمِرْجَلِ. حَتَّى لَوْ أُمْكِنْتُ مِنْ لَحْمِهِ لَأَكَلْتُهُ. ثُمَّ دَعَا لِلْمَأْمُونِ وَخَرَجَ. فَقَالَ: يَا ثَابِتُ، تَعْرِفُ هَذَا الرَّجُلَ. قُلْتُ: فَعَلَ اللَّهُ بِهِ. مَا رَأَيْتُ وَاللَّهِ رَجُلا أَجْهَلَ مِنْهُ، وَلا أَوْقَحَ وَجْهًا مِنْهُ. قَالَ: لا تَقُلْ ذَاكَ فَتَظْلِمَهُ، فَمَا أَدْرِي مَتَى خَاطَبْتُ رَجُلا هُوَ أَعْقَلُ مِنْهُ، وَلا أَعْرَفُ بِمَا يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِهِ، قَالَ: فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ قَصَّتَهُ، أَوْلَهَا وَآخِرَهَا. فَقَالَ: هَذَا مِنَ الَّذِي قُلْتُ لَكَ. ثُمَّ قَالَ: وَأَزِيدُكَ أُخْرَى، لا أَحْسَبُكَ فَهِمْتَهَا. قُلْتُ: وَمَا هِيَ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.

قَالَ: أَوَ مَا رَأْيتَ خَاتَمَهُ فِي أُصْبُعِهِ الْيُمْنَى؟ قُلْتُ: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30] حَدَّثَنِي مُبَارَكٌ الطَّبَرِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أبَا عُبَيْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: " خَلا أَبُو جَعْفَرٍ يَوْمًا مَعَ يَزِيدَ بْنِ أُسَيْدٍ، فَقَالَ لَهُ: يَا يَزِيدُ مَا تَرَى فِي قَتْلِ أَبِي مُسْلِمٍ؟ فَقَالَ: أَرَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ بِدَمِهِ، فَوَاللَّهِ لا يَصْفُو مُلْكُكَ وَلا تَهْنَأُ بِعَيْشٍ مَا بَقِيَ. قَالَ يَزِيدُ: فَنَفَرَ مِنِّي نَفْرَةً ظَنَنْتُهُ سَيَأْتِي عَلَيَّ. ثُمَّ قَالَ: قَطَعَ اللَّهُ لِسَانَكَ، وَأَشْمَتَ بِكَ عَدُوُّكَ، أَتُشِيرُ عَلَيَّ بِقَتْلِ أَنْصَحِ النَّاسِ لَنَا، وَأَثْقَلِهِ عَلَى عَدُوِّنَا. أَمَّا وَاللَّهِ لَوْلا حِفْظِي مَا سَلَفَ مِنْكَ، وَإِنِّي أَعُدُّهَا هَفْوَةً مِنْ رَأْيِكَ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ، قُمْ لا أَقَامَ اللَّهُ رِجْلَيْكَ، قَالَ يَزِيدُ: فَقُمْتُ وَقَدْ أَظْلَمَ بَصَرِي، وَتَمَنَّيْتُ أَنْ تَسِيخَ الأَرضُ بِي. فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ قَتْلِهِ إِيَّاهُ بِدَهْرٍ. قَالَ لِي: يَا يَزِيدُ تَذْكُرُ يَوْمَ شَاوَرْتُكَ فِي قَتْلِ الْعَبْدِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. وَمَا رَأْيتُنِي قَطُّ أَقْرَبَ إِلَى الْمَوْتِ مِنِّي يَوْمَئِذٍ. قَالَ: فَوَاللَّهِ لَكَانَ ذَلِكَ رَأْيِي، وَمَا لا أَشُكُّ فِيهِ، وَلَكِنَّنِي خَشِيتُ أَنْ يَظْهَرَ مِنْكَ فَتُفْسِدَ عَلَيَّ مَكِيدَتِي حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّمِيمِيُّ، قَالَ: حُدِّثْتُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ الْمَخْلُوعُ جِيءَ بِرَأْسِهِ إِلَى الْمَأْمُونِ بَعْدَ وُرُودِ الْكِتَابِ بِسَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَقَامَ الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ بِالْجُونَةِ، وَأَنَا مَعَهُ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى الْمَأْمُونِ فَقَالَ: فُضَّ الْخَاتَمَ. فَفَعَلْتُ، ثُمَّ أَفْضَيْتُ إِلَى الْخَاتَمِ عَلَى مِنْدِيلٍ مُخَمَّلٍ فِيهِ الرَّأْسُ، فَفَضَضْتُ الْخَاتَمَ، وَإِذَا عَلَى وَجْهِهِ قُطْنٌ، فَلَمَّا رَآهُ الْمَأْمُونُ نَظَرَ إِلَيْهِ بِمُؤَخَّرِ عَيْنَيْهِ، وَكَلَّحَ وَأَعْرَضَ بِوَجْهِهِ، فَقَالَ ذُو الرِّيَاسَتَيْنِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا مَوْضِعُ شُكْرٍ، فَاحْمَدِ اللَّهَ الَّذِي أَرَاكَ بِهِ مَا كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَرَاكَ بِهِ. قَالَ ابْنُ أَبِي سَعِيدٍ: فَأَمَرَنِي فَكَشَفْتُ عَنِ الرَّأْسِ، فَتَأَمَّلَهُ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَنُصِبَ عَلَى قَنَاةٍ، وَوُضِعَ الْعَطَاءُ لِلْنَاسِ، فَكُلَّمَا أُعْطِيَ رَجُلٌ أُمِرَ أَنْ يَلْعَنَ الْمَخْلُوعَ، فَفَعَلَ، حَتَّى قِيلَ لِرَجُلٍ مِنَ الْعَجَمِ، وَقَدْ أَخَذَ عَطَاءَهُ: الْعَنِ الْمَخْلُوعَ. قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْمَخْلُوعَ وَلُعِنْتَ، وَلُعِنَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ وَلَدَهُ. ثُمَّ أُمِرَ بِتَرْكِ لَعْنِ الْمَخْلُوعِ بَعْدَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُتْبِيُّ، قَالَ: قَالَ لِي أَبِي وَهُوَ يُوصِينِي: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَتْرُكُكَ مَعَ مَنْ لا يَتْرُكُكَ، فَأَكْحِلْ عُيُونَهُمْ بِحُسْنٍ مِنْكَ تَقْطَعْ أَلْسِنَتَهُمْ عَنْكَ، وَكُنْ لِنَفْسِكَ تَكُنْ لَكَ، وَخُذْ مِنْ كُلِّ زَمَانٍ مَحَاسِنَ مَا فِيهِ. وَأَنْتَ قَلِيلٌ فَاتَّقِ تَكُنْ بِهِ كَثِيرًا، وَاعْلَمْ بَأَنَّكَ تَخْرُجُ بِمَوتِي مِنْ سَعَةِ عُذْرٍ إِلَى ضِيقِ مُدَارَاةٍ، فَضَعِ الأُمُورَ مَوَاضِعَهَا تَضَعْكَ مَوْضِعَكَ.

وَاجْعَلْ دُنْيَاكَ صِلَةً لِآخِرَتَكَ، وَلا تَرْضَ لَهَا بِهَا عِوَضًا مِنَ الْآخِرَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَرَضَهَا عِقَابًا لِمَنْ سَخِطَ عَلَيْهِ، وَلا ثَوَابًا لِمَنْ رَضِيَ عَنْهُ، وَانْظُرْ بَنَاتِي، فَوَصِيَّتِي فِيهِنَّ مَا أَوْصَى بِهِ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ فِي بَنَاتِهِ، حِينَ قَالَ: يَا عَمْرُو، انْظُرْ بَنَاتِي، فَاجْعَلِ الْبُيُوتَ لَهُنَّ قُبُورًا حَتَّى يَأْتِيَهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَأْتِيَكَ الأَكْفَاءُ. وَانْظُرْ غِلْمَانِي، فَلا تَحْبِسْ مِنْهُمْ مَنْ رَآكَ مِنْهُمْ صَغِيرًا، فَإِنَّهُ لا يُسِرُّ لَكَ هَيْبَةً، وَانْظُرْ إِلَى مَالِي فَإِنْ كَرِهْتَ مِنْهُ شَيئًا وَرَأَيْتَ الِاسْتِبْدَالَ بِهِ خَيرًا مِنْ حَبْسِهِ فَلا تَحْبِسْهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَتْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ وَانْظُرْ أَهْلَكَ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَصْلُحُوا وَأَنْتَ فَاسِدٌ، وَلْيَكُنْ لَكَ فِي مِنْزِلِكَ طَعَامٌ، وَإِنْ قَلَّ يُأْتِكَ مَنْ فِي مَنْزِلِهِ أَطْيبَ مِنْهُ وَأَكْثَرَ، انْظُرْ بَنِي زَيَادٍ أَخْوَالَكَ، فَكُنْ لَهُمُ ابْنَ أُخْتٍ مَا كَانُوا لَكَ أَخْوَالا، فَإِنْ أَرَادُوكَ عَلَى غَيْرِهَا فَأَوْسِعْهُمُ الْجَفَاءَ، وَإِنْ حَمَلُوكَ عَلَى الَّذِي حَمَلُونِي عَلَيْهَا، فَارْكَبْ غَيْرَ هَائِبٍ لَهُمْ، فَإِنَّ الَّذِي قَدَّمْتُهُ لَكَ مُعِينٌ لَكَ عَلَيْهِمْ، وَلَنْ يَدَعُوكَ حَتَّى يُخْبِرُوكَ، فَلا تَدَعْهُمْ حَتَّى يُعَرِّفُوكَ حَدَّثَنِي مُبَارَكٌ الطَّبَرِيُّ، قَالَ: " دَخَلَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: يَا عَمْرُو عِظْنِي وَأَوْجِزْ. قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ الدُّنْيَا بَحَذَافِيرِهَا فِي يَدَيْكَ، فَاشْتَرِ نَفْسَكَ مِنْ رَبِّكَ بِبَعْضِهَا، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سَائِلُكَ عَنْ مَثَاقِيلِ الذَّرِّ مِنَ الشَّرِّ وَالْخَيْرِ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى مِنْكَ إِلا بِالْعُذْرِ مِمَّنِ اسْتَرْعَاكَ وَفَوَّضَ أُمُورَهُمْ إِلَيْكَ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَكِّرْ فِي نَفْسِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ مِنْ آدَمَ خُلِقْتَ، وَآدَمُ قَبْلَكَ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ. يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ مِنْ وَرَاءِ بَابِكَ نَارًا مِنَ الْجُوْرِ وَالظُّلْمِ، فَاتَّقِ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ، وَاشْتَرِ نَفْسَكَ مِنْ هَوْلِ الْمَطْلَعِ. قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقَالَ: حَسْبُكَ مِنْ عِظَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَدْ شَقَقْتَ عَلَيْهِ. فَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: مَنْ هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ لَهُ: هَذَا أَخُوكَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُجَالِدٍ، قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَمْرُو، فَقَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَمُوتُ غَدًا، وَإِنَّ كُلَّ مَا تَرَى يَنْقَطِعُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنْتَ غَدًا جِيفَةٌ مُلْقًى قَدِ اسْتَحْضَرَ فِي بَدَنِكَ الدُّودُ. يُقَذِّرُكَ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ، لا يَنْفَعُكَ إِلا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، وَلَهَذَا الْجِدَارُ خَيرٌ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْكَ إِذَا طَوَيْتَ النَّصِيحَةَ عَنْهُ، وَأَقْبَلْتَ تَزْجُرُ مَنْ يَنْصَحُهُ.

ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ هَؤُلاءِ اتَّخَذُوكَ سُلَّمًا لِشَهَوَاتِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَسْتَعْمِلَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ عَامِلٍ، فَإِنْ رَابَكَ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَيْبٌ عَزَلْتَهُ وَاسْتَعْمَلْتَ غَيْرَهُ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ تَرْضَ مِنْهُمْ إِلا بِالْعَدْلِ، لَيَتَقَرَّبَنَّ إِلَيْكَ بِالْهَدْيِ وَالأَعْمَالِ الزَّاكِيَّةِ مَنْ وِلايَتُهُ لَهُ فِيهِ. يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ {6} إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ {7} الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ {8} وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ {9} وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ {10} الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ {11} فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ {12} فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ {13} إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ {14} } [الفجر: 6-14] ، لِمَنْ عَمِلَ بِمِثْلِ عَمَلِهِمْ، إِنَّ الدُّنْيَا لَولا أَنَّهَا مَضَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكَ لَمْ يَصِلْ مِنْهَا شَيْءٌ، فَأَنْتَ وَارِثٌ مَنْ مَضَى، وَمَوْرُوثٌ غَدًا، وَقَادِمٌ عَلَى رَبِّكَ، وَمَجْزِيٌّ بِعَمَلِكَ، فَاتَّقِ اللَّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَيْلَةً تَمَخَّضُ عَنْ يَوْمٍ لا لَيْلَ فِيهِ وَلَيلٍ لا يَوْمَ لَهُ، والسَّلامُ. قَالَ: فَبَكَى أَبُو جَعْفَرٍ حَتَّى مَسَحَ عَيْنَيْهِ مِنْ دُمُوعِهِ بِكُمِّهِ. قَالَ: وَأَرَادَ أَبُو جَعْفَرٍ أَنْ يَكْتُبَ شَيْئًا، وَالدَّوَاةُ عَلَى جَنْبِ عَمْرٍو، فَقَالَ لَهُ: يَا عَمْرُو نَاوِلْنِي الدَّوَاةَ، فَلَمْ يُنَاوِلْهُ. فَقَالَ لَهُ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ إِلا نَاوَلْتَنِي. فَقَالَ عَمْرُو: أَقْسَمْتُ، لا أُنَاوِلْكَ. فَقَالَ لَهُ الْمَهْدِيُّ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يُقْسِمُ عَلَيْكَ يَا عَمْرُو أَنْ تُنَاوِلَهُ الدَّوَاةَ، وَتُقْسِمُ أَنْتَ أَلا تُنَاوِلَهُ! ! ، فَقَالَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَقْوَى عَلَى كَفَّارَةِ يَمِينِهِ مِنِّي. فَسَأَلَهُ أَصْحَابُهُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تُنَاوِلَهُ الدَّوَاةَ؟ قَالَ: لَمْ آمَنْ أَنْ يَكْتُبَ فِي عَطَبِ مُسْلِمٍ، فَأَكُونُ قَدْ شَارَكْتُهُ فِي قَتْلِهِ بِمُنَاوَلَتِهِ الدَّوَاةَ. فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، نَادَى مُنَادٍ: أَيْنَ الظَّلَمَةُ وَأَعْوَانُ الظَّلَمَةِ؟ فَأَكُونُ مِمَّنْ أَعَانَهُ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَخْزُومِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ، قَالَ: " قَدِمَ هَارُونُ الرَّشِيدُ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمَدِينَةَ، فَأُخْلِيَ لَهُ الْمَسْجِدُ فَوَقَفَ عَلَى قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاعْتَنَقَ أُسْطُوَانَةَ التَّوْبَةِ، ثُمَّ قَالَ: قِفُوا بِي عَلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ. فَلَمَّا أَتَاهُمْ كَانَ أَبُو نَصْرٍ نَائِمًا، فَأَيْقَظُوهُ، وَقِيلَ: هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ عِبادِ اللَّهِ، وَأُمَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ خَلْقٌ غَيْرُكَ، وَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُكَ عَنْهُمْ، فَأَعِدَّ لِلْمَسَأَلَةِ جَوَابًا. فَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «لَوْ ضَاعَتْ سَخْلَةٌ عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ لَخَافَ عُمَرُ أَنْ يَسْأَلَهُ اللَّهُ عَنْهَا» .

قَالَ: فَبَكَى هَارُونُ الرَّشِيدُ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا نَصْرٍ، إِنَّ رَعِيَّتِي وَدَهْرِي غَيْرُ رَعِيَّةِ عُمَرَ وَدَهْرِهِ، قَالَ: يَقُولُ لَهُ أَبُو نَصْرٍ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا غَيْرُ مُغْنٍ عَنْكَ، فَانْظُرْ لِنَفْسِكَ، فَإِنَّكَ وَعُمَرَ تُسْأَلانِ عَمَّا خَوَّلَكُمَا اللَّهُ. قَالَ: فَدَعَا هَارُونُ بِصُرَّةِ مِائَةِ دِينَارٍ، وَقَالَ: ادْفَعُوهَا إِلَى أَبِي نَصْرٍ، فَقَالَ أَبُو نَصْرٍ: مَا أَنَا إِلا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، ادْفَعُوهَا إِلَى فُلانٍ يُفَرِّقُهَا بَيْنَهُمْ، وَاجْعَلْنِي رَجُلا مِنْهُمْ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ، قَالَ: " أَجَدَبَتِ الْمَدِينَةُ، وَاخْتَلَّ أَهْلُهَا، وَسَاءَتْ حَالُهُمْ، وَتَكَشَّفَ قَوْمٌ مَسْتُورُونَ، وَخَرَجَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ، فَمَرَرْتُ بِسُوقِ الطَّعَامِ، وَمَا فِيهَا حَبَّةُ حِنْطَةٍ، وَلا شَعِيرٌ، وَإِذَا أَبُو نَصْرٍ جَالِسٌ مُنَكَّسَ الرَّأْسِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا نَصْرٍ، مَا تَرَى فِي أَهْلِ حَرَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: أَفَلا تَدْعُو اللَّهَ لَعَلَّهُ يُفَرِّجُ مَا هُمْ فِيهِ؟ قَالَ: بَلَى. . . وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَقَالَ لِي: اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي، فَجَلَسْتُ. قَالَ: فَانْكَبَّ فَعَفَّرَ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ فَارِجَ الْهَمِّ وَكَاشِفَ الْغَمِّ، مُجِيبَ دَعْوَةِ الْمُضْطَرِّينَ، رَحْمَانَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَرَحِيمَهُمَا، صِلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَفَرِّجْ مَا أَصْبَحَ فِيهِ أَهْلُ حَرَمِ نَبِيِّكَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ غُلِبَ فَذَهَبَ، وَقُمْتُ مِنْ عِنْدِهِ. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا خَرَجْتُ مِنَ السُّوقِ حَتَّى رَأَيْتُ الشَّمْسَ قَدْ تَغَطَّتْ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا رِجْلُ جَرَادٍ أَرَى سَوَادَهَا فِي الْهَوَى، فَمَا زِلْنَ يُسْفِلْنَ، وَأَنَا وَاقِفٌ أَنْظُرُ حَتَّى امْتَلَأَتِ الْمَدِينَةُ، فَاسْتَغْنَى كُلُّ قَوْمٍ بِمَا فِي دَارِهِمْ مِنْ جَرَادٍ فَحَشَوا الأَجْوَافَ. قَالَ: فَطَبَخَ النَّاسُ، وَمَلَّحُوا وَقَلا مَنْ قَدَرَ عَلَى الزَّيْتِ، وَمَلَأَ النَّاسُ الْحِبَابَ وَالْجِرَارَ وَالْقَوَاسِرَ وَأَلْقَوْهُ فِي جَانِبِ بُيُوتِهِمْ. ثُمَّ نَهَضَ بَعْدَ ثَالِثَةٍ فَانْتَشَرَ فِي أَعْرَاضِ الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، ثُمَّ مَا مَرَّتْ بِنَا ثَلاثٌ حَتَّى جَاءَنَا عَشْرُ سَفَائِنَ دَخَلَتِ الْجَارَ، فَإِذَا هِيَ قَدْ دَخَلَتْ فِي الْوقْتِ الَّذِي دَعَا فِيهِ أَبُو نَصْرٍ، فَرَجَعَ السِّعْرُ إِلَى أَرْخَصِ مَا كَانَ، وَرَجَعَتْ حَالُ النَّاسِ إِلَى أَحْسَنِ مَا كَانَتْ. قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَا نَصْرٍ، وَهُوَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ يَا أَبَا نَصْرٍ: أَمَّا تَرَى إِلَى بَرَكَةِ دُعَائِكَ؟ فَقَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، هَذِهِ رَحْمَةُ اللَّهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ

حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُؤَمَّلِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُبَيْدَةِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ: " أَصَابَ النَّاسَ مَجَاعَةٌ شَدِيدَةٌ عَلَى عَهْدِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَذِنَ هِشَامٌ لِلنَّاسِ، فَدَخَلَ فِي غِمَارِهِمْ دِرْوَاسُ بْنُ دِرْوَاسَ الْعِجْلِيُّ، وَعَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ، مُتَفَضَّلٌ عَلَيْهَا بِشَمْلَةٍ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ هِشَامٌ أَنْكَرَ دُخُولَهُ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى حَاجِبِهِ، فَقَالَ: أَتُدْخِلُ عَليَّ مَنْ شَاءَ بِغَيْرِ إِذْنٍ؟ فَعَرَفَ دِرْوَاسٌ أَنَّهُ إِنَّمَا عَنَاهُ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا أَخَلَّ بِكَ دُخُولِي عَلَيْكَ، وَلا وَضَعَ مِنْ قَدْرِكَ وَلَكِنَّهُ شَرَّفَنِي، وَرَفَعَ قَدْرِي، وَقَدْ رَأَيْتُ النَّاسَ قَدْ دَخَلُوا لِأَمْرٍ، وَأَحْجَمُوا عَنْهُ، فَإِنْ أَذِنْتَ لِي تَكَلَّمْتُ، فَقَالَ هِشَامٌ: تَكَلَّمْ، فَإِنِّي أَظُنُّكَ صَاحِبَهُمْ، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، تَوَالَتْ عَلَيْنَا سِنُونَ ثَلاثٌ، فَأَمَّا أُوَلاهُنَّ فَأَذَابَتِ الشَّحْمَ، وَأَمَّا الثَّانِيَةَ فَأَكَلَتِ اللَّحْمَ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَهَاضَتِ الْعَظْمَ وَنَقَّتِ الْمُخَّ، وَعِنْدَكَ أَمْوَالٌ، فَإِنْ تَكُنْ لِلَّهِ فَعُدْ بِهَا عَلَى عِبَادِ اللَّهِ، وَإِنْ تَكُنْ لِعِبَادِ اللَّهِ فَعَلامَ تَحْبِسُونَهَا عَنْهُمْ؟ وَإِنْ تَكُنْ لَكَ فَتَصَدَّقْ إِنَّ اللَّهَ يُجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ. قَالَ هِشَامٌ: وَاللَّهِ مَا تَرَكْتَ لَنَا وَاحِدَةً مِنْ ثَلاثٍ، وَأَمَرَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَقُسِّمَتْ فِي النَّاسِ، وَأَمَرَ لَهُ بِمِائَةِ أَلْفِ دَرِهَمٍ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنَّا مِثْلُهَا؟ قَالَ: لا. فَقَالَ: لا حَاجَةَ لِي فِيمَا تَبْعَثُ عَلَيَّ مَذَمَّةً. فَلَمَّا صَارَ إِلَى مَنْزِلِهِ بُعِثَ إِلَيْهِ بِالْمِائَةِ الأَلْفِ الدِّرْهَمِ فَفَرَّقَ دِرْوَاسٌ فِي تِسْعَةِ أَبْطُنٍ مِنْ بُطُونِ الْعَرَبِ عَشَرَةَ آلافٍ عَشَرَةَ آلافٍ. وَأَخَذَ لِنَفْسِهِ حَوْلَ عَشَرَةِ آلافِ دِرْهَمٍ. فَقَالَ هِشَامٌ: إِنَّ الصَّنِيعَةَ عِنْدَ دِرْوَاسٍ لَتُضَاعَفُ عَلَى الصَّنَائِعِ حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: " سُئِلَ أَبُو حَازِمٍ الْمَدِينِيُّ، فَقِيلَ لَهُ: مَا مَالُكَ؟ قَالَ: الْكَثِيرُ الطَّيِّبُ. قِيلَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: الثِّقَةُ بِاللَّهِ وَالْيَأْسِ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، فَإِنْ أَعْطَانِي رَضَيْتُ، وَإِنْ مَنَعَنِي قَنَعْتُ. قَالَ: فَمَا تَرَى فِيمَا نَحْنُ فِيهِ؟ قَالَ: إِنْ كُنْتَ أَخَذْتَهُ مِنْ حِلِّهِ، فَوَضَعْتَهُ فِي حَقِّهِ فَأَنْتَ أَنْتَ، وَإِلا فَإِنَّمَا تَجْمَعُهُ لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ: لِرَجُلٍ سَعِيدٍ بِمَا شَقِيتَ بِهِ، أَوْ لِرَجُلٍ شَقِيٍّ مِثَلِ مَا شَقِيتَ بِهِ، أَمَّا مَنْ مَضَى مَنْ وَلَدِكَ فَارْجُ لَهُمْ رَحْمَةَ اللَّهِ، وَأَمَّا مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ فَقَدْ تَكَفَّلَ اللَّهُ بِرِزْقِهِ. فَعَلامَ تُهْلِكُ نَفْسَكَ "؟ ! حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ صَالِحٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْفَضْلَ بْنَ الرَّبِيعِ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ الرَّبِيعِ، قَالَ: " قَدِمَ الْمَنْصُورُ الْمَدِينَةَ، فَأَتَاهُ قَوْمٌ، فَوَشَوْا بِجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ. وَقَالَوا: إِنَّهُ لا يَرَى الصَّلاةَ خَلْفَكَ، وَيَنْتَقِصُكَ، وَلا يَرَى التَّسْلِيمَ عَلَيْكَ. فَقَالَ لَهُمْ: وَكَيْفَ أَقِفُ عَلَى صِدْقِ مَا تَقُولُونَ؟ قَالُوا: تَمْضِي ثَلاثُ لَيالٍ فَلا يَصِيرُ إِلَيْكَ مُسَلِّمًا. قَالَ: إِنْ فِي ذَلِكَ لَدَلِيلا.

فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ، قَالَ: يَا رَبِيعُ ايتِنِي بِجِعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَقَتَلَنِي اللَّهُ إِنْ لَمْ أَقْتُلْهُ. قَالَ الرَّبِيعُ: فَأَخَذَنِي مَا قَدُمَ وَمَا حَدَثَ، فَدَافَعْتُ بِإِحْضَارِهِ يَوْمِي ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ غَدٍ، قَالَ: يَا رَبِيعُ أَمَرْتُكَ بِإِحْضَارِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ فَوَرَّيْتَ عَنْ ذَلِكَ، آتِنِي بِهِ، فَقَتَلَنِي اللَّهُ إِنْ لَمْ أَقْتُلْهُ، وَقَتَلَنِي اللَّهُ إِنْ لَمْ أَبْدَأْ بِكَ إِنْ أَنْتَ لَمْ تَأْتِنِي بِهِ. قَالَ الرَّبِيعُ: فَمَضَيْتُ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، فَوَافَيْتُهُ يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ أُسْطُوَانَةِ التَّوْبَةِ. فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّتِي لا شَوَى لَهَا، فَأَوْجَزَ فِي صَلاتِهِ وَتَشَّهَدَ وَسَلَّمَ. وَأَخَذَ نَعْلَهُ وَمَضَى مَعِي، وَجَعَلَ يَهْمِسُ بِشَيْءٍ أَفْهَمُ بَعْضَهُ، وَبَعْضًا لَمْ أَفْهَمْ، فَلَمَّا أَدْخَلْتُهُ عَلَى أَبِي جَعْفَرَ سَلَّمَ عَلَيْهِ بِالْخِلافَةِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ. وَقَالَ: يَا مُرَائِي، يَا مَارِقُ، مَنَّتْكَ نَفْسُكَ مَكَانِي فَوَرَيْتَ عَلَيَّ، وَلَمْ تَرَ الصَّلاةَ خَلْفِي، وَالتَّسْلِيمَ عَلَيَّ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ كَلامِهِ، رَفَعَ جَعْفَرٌ رَأْسَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ دَاودَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أُعْطِيَ فَشَكَرَ، وَإِنَّ أَيُّوبَ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ، وَإِنَّ يُوسُفَ ظُلِمَ فَغَفَرَ، وَهَؤُلاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنْبِيَاؤُهُ، وَصَفْوتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ، وَإِلَيْهِمْ يَئُولُ نَسَبُهُ، وَأَحَقُّ مَنْ أَخَذَ بَآدَابِ الأَنْبِيَاءِ، مَنْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِثْلَ حَظِّكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ { [الحجرات: 6] ، فَتَثَبَّتْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَصِحَّ لَكَ الْيَقِينُ. قَالَ: فَسُرِّيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، وَزَالَ الْغَضَبُ عَنْهُ. وَقَالَ: أَنَا أُشْهِدُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَنَّكَ صَادِقٌ. وَأَخَذَ بِيَدِهِ فَرَفَعَهُ، وَقَالَ: أَنْتَ أَخِي وَابْنُ عَمِّي، وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ، وَقَالَ: سَلْنِي حَاجَتَكَ، صَغِيرَهَا وَكَبِيرَهَا. قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ أَذْهَلَنِي مَا كَانَ مِنْ لِقَائِكَ وَكَلامِكَ عَنْ حَاجَاتِي، وَلَكِنِّي أُفَكِّرُ وَأَجْمَعُ حَوَائِجِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ الرَّبِيعُ: فَلَمَّا خَرَجَ قُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، سَمِعْتُكَ هَمَسْتَ بِكَلامٍ أُحِبُّ أَنْ أَعْرِفَهُ، قَالَ: نَعَمْ إِنْ جَدِّي عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ أَجْمَعِينَ، يَقُولُ: مَنْ خَافَ مِنْ سُلْطَانٍ ظَلامَةً أَوْ تَغَطْرُسًا، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ احْرُسْنِي بِعَيْنِكَ الَّتِي لا تَنَامُ، وَاكْنُفْنِي بِرُكْنِكَ الَّذِي لا يُرَامُ، وَاغْفِرْ بِقُدْرَتِكَ عَلَيَّ، فَلا أَهْلَكَنَّ وَأَنْتَ رَجَائِي، فَكَمْ مِنْ نَعْمَةٍ قَدْ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ قَلَّ عِنْدَهَا شُكْرِي، وَكَمْ مِنْ بَلِيَّةٍ ابْتَلَيْتَنِي بِهَا قَلَّ لَكَ عِنْدَهَا صَبْرِي.

فَيَا مَنْ قَلَّ عِنْدَ نِعَمَتِهِ شُكْرِي، فَلَمْ يَحْرِمْنِي، وَيَا مَنْ قَلَّ عِنْدَ نِقْمَتِهِ صَبْرِي فَلَمْ يَخْذُلْنِي، وَيَا مَنْ رَآنِي عَلَى الْخَطَايَا فَلَمْ يَفْضَحْنِي، وَيَا ذَا النَّعْمَاءِ الَّتِي لا تُحْصَى، وَيَا ذَا الأَيَادِي الَّتِي لا تَنْقَضِي، بَكَ أَسْتَدْفِعُ مَكْرُوهَ مَا أَنَا فِيهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. قَالَ الرَّبِيعُ: فَكَتَبتُ بِالدُّعَاءِ، وَلَمْ يَلْتَقِ مَعَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَنْصُورِ وَلا سَأَلَهُ حَاجَةً حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَائِنِيُّ، قَالَ: " قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ لِثَابِتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَبُوكَ كَانَ أَعْلَمَ بِكَ حَيْثُ كَانَ يَشْتُمُكَ، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَتَدْرِي لِمَ كَانَ يَشْتُمُنِي؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ. قَالَ: إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُهُ أَنْ يُقَاتِلَ بِأَهْلِ مَكَّةَ، وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ لا يَنْصُرُ بِهِمَا، أَمَّا أَهْلُ مَكَّةَ، فَأَخْرَجُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخَافُوهُ، ثُمَّ جَاءُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَخْرَجَهُمْ مِنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَسيَّرَهُمْ، يُعَرِّضُ فِي قَوْلِهِ هَذَا بِالْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ حَيْثُ نَفَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَخَذَلُوا عُثْمَانَ، حَتَّى قُتِلَ بَيْنَهُمْ، لَمْ يَرَوا أَنْ يَدْفَعُوا عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: عَلَيْكَ لَعْنَةُ اللَّهِ. قَالَ: يَسْتَحِقُّهَا الظَّالِمُونَ. كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:} أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود: 18] . فَأَمْسَكَ عَنْهُ حَدَّثَنِي عَمِّي، عَنْ خَالِدِ بْنِ عَطِيَّةَ، قَالَ: " اسْتَعْمَلَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَمْرَو بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَأَسَاءَ السِّيرَةِ فِيهِمْ، فَشَكَوْهُ إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَعَزَلَهُ، وَاسْتَعْمَلَ عُثْمَانَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنِ الْمَدِينَةِ فَرَقَى الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَهُمْ وَمَنَّاهُمْ وَوَعَدَهُمُ الْإِحْسَانَ، وَنَالَ مِنْ عَمْرٍو، وَذِمَّهِ، ثُمَّ قَالَ: مَا كَانَ قُرَشِيٌّ يَفْعَلُ هَذَا بِقُرَشِيٍّ، فَقَالَ عَمْرٌو مِنْ تَحْتِ الْمِنْبَرِ، مَهْلا يَا عُثْمَانُ، فَوَاللَّهِ مَا أَنَا بِحُلْوِ الْمَذَاقِ، وَإِنِّي لَقَمِنُ الْمَضَرَّةِ، وَقَدْ ضَرَّسَتْنِي الأُمُورُ، وَجَرَّسَتْنِي الدُّهُورُ، فَزَعًا مَرَةً، وَأَمْنًا أُخْرَى، وَإِنَّ قُرَيشًا تَعْلَمُ أَنِّي سَاكِنُ اللَّيْلِ، دَاهِيَةُ النَّهَارِ، لا أَتَتَبْعُ الضَّلالَ، وَلا أُنَمِّصُ حَاجِبِي، وَلا يُسْتَنْكَرُ شَبهِي وَلا أُدْعَا لِغَيْرِ أَبِي

حضر قوم من قريش مجلس معاوية بن أبي سفيان، فيهم عمرو بن العاص، وعبد الله بن صفوان بن أمية

76 - حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِيِ بَكْرٍ الْمُؤَمَّلِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ سُلَيْمٍ، قَالَ: حَضَرَ قَوْمٌ مِنْ قُرَيشٍ مَجْلِسَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ بْنِ أَمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ هَاشِمٍ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: احْمَدُوا اللَّهَ يَا مَعْشَرَ قُرَيشٍ، إِذْ جَعَلَ وَالِيَ أُمُورِكُمْ مَنْ يُغْضِي عَلَى الْقَذَى، وَيَتَصَامُّ عَلَى الْعَوْرَاءِ، وَيَجُرُّ ذَيْلَهُ عَلَى الْخَدَائِعِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمَشَّيْنَا إِلَيْهِ الضَّرَّاءَ وَدَبَّيْنَا لَهُ الْخَمْرَ، وَقَلَبْنَا لَهُ ظَهَرَ الْمِجَنِّ، وَرَجَوْنَا أَنْ يَقُومَ بَأَمْرِنَا أَمْرٌ، وَلا يُطْعِمُكَ مَالُ مُضَرَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيشٍ حَتَّى مَتَى لا تُنْصَفُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ. فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إِنَّ عَمْرًا وَذَوِيهِ أَفْسَدُوكَ عَلَيْنَا، وَأَفْسَدُونَا عَلَيْكَ، مَا كَانَ عَلَيْكَ لَوْ أَغْضَيْتَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: إِنَّ عَمْرًا نَاصِحٌ لِي. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَطْعِمْنَا مَثْلَ مَا أَطْعَمْتَهُ، ثُمَّ خُذْنَا بِمِثْلِ نَصِيحَتِهِ، إِنَّا يَا مُعَاوِيَةُ رَأَيْنَاكَ تَضْرِبُ عَوامَّ قُرَيشٍ فِي خَوَاصِّهَا، كَأَنَّكَ تَرَى كِرَامِهَا حَازُوكَ دُونَ لِئَامِهَا، وَايْمُ اللَّهِ إِنَّكَ تُفْرِغُ مِنْ وِعَاءِ فَمٍ فِي إِنَاءٍ ضَخْمٍ، وَلَكَأَنَّكَ بِالْحَرْبِ قَدْ حُلَّ عِقَالُهَا عَلَيْكَ، ثُمَّ لا يُنْظُرُ لَكَ. قَالَ مُعَاوِيَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَا أَحْوَجَ أَهْلَكَ إِلَيْكَ، يَقُولُ: لَوْ فَعَلْتُ ذَلِكَ قُتِلْتُ. ثُمَّ أَنْشَدَ مُعَاوِيَةُ: أَغَرَّ رِجَالا مِنْ قُرَيشٍ تَتَابَعُوا ... عَلَى سَفَهٍ مِنِّي الْحَيَا وَالتَّكَرُّمُ " 77 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلامٍ الْجُمَحِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْهَمْدَانِيُّ، قَالَ: دَخَلَ أَبُو الطُّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ الْكِنَانِيُّ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: أَبَا الطُّفَيْلِ. قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَلَسْتَ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ؟ ، قَالَ: لا، وَلَكِنَّنِي مِمَّنْ حَضَرَهُ فَلَمْ يَنْصُرْهُ. قَالَ: وَمَا مَنَعَكَ مِنْ نَصْرِهِ؟ قَالَ: لَمْ يِنْصُرْهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ. قَالَ مُعَاوِيَةُ: أَمَا لَقَدْ كَانَ حَقُّهُ وَاجِبًا، وَكَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَنْصُرُوهُ. قَالَ: فَمَا مَنَعَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نَصْرِهِ، وَمَعَكَ أَهْلُ الشَّامِ؟ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَمَا طَلَبِي بِدَمِهِ نُصْرَةٌ لَهُ؟ فَضَحِكَ الطُّفَيْلُ، وَقَالَ: أَنْتَ وَعُثْمَانُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: لا أَلْفَيَنَّكَ بَعْدَ الْمَوْتِ تَنْدُبُنِي ... وَفِي حَيَاتِيَ مَا زَوَّدْتَنِي زَادِي فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: يَا أَبَا الطُّفَيْلِ، مَا أَبْقَى الدَّهْرُ مِنْ ثَكْلِكَ عَليًّا؟ قَالَ: ثَكْلُ الْعَجُوزِ الْمِقْلاتِ، وَالشَّيْخِ الرَّقُودِ. قَالَ: كَيْفَ حُبُّكَ لَهُ؟ قَالَ: حُبُّ أُمِّ مُوسَى لِمُوسَى، وَإِلَى اللَّهِ أَشْكُو التَّقْصِيرَ " حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَخْزُومِيُّ، قَالَ: قَالَ صَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ: " مَا أَعْيَانِي جَوابُ أَحَدٍ مَا أَعْيَانِي جَوابُ عُثْمَانَ، دَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُ: أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَمْوَالِنَا أَنْ قُلْنَا رَبُّنَا اللَّهِ، فَمِنَّا مَنْ مَاتَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَمِنَّا مَنْ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ , وَمِنَّا مَنْ مَاتَ بِالْحَرَمِ

حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ صَالِحٍ، قَالَ: اجْتَمَعَ عِنْدَ أبي الْعَبَّاسِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى الأَنْصَارِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ، وَكَانَ هَوَاهُمْ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ عَلَى أَهْلِ الْبَصَرَةِ، فَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ لا يَعْرِفُونَ لِأَهْلِ الْكُوفَةِ الْفَضْلَ، كَمَا يَعْرِفُ أَهْلُ مَكَّةَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ الْفَضْلَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَعَاذَ اللَّهِ نَحْنُ وَاللَّهِ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا، وَأَبْعَدُ فِي الأَرْضِ آثَارًا، لَنَا خُرَاسَانُ، وَسِجِسْتَانُ، وَالسِّنْدُ وَالْهِنْدُ، افْتَتَحْنَاهَا بِالْبِيضِ الْقَوَاضِبِ، حَتَّى أُوثِقَتْ أَعِنَّةُ الْخَيْلِ، بِأُصُولِ الْقَنَا بِأَرْضِ الْفُلْفُلِ، وَلَنَا كَرْمَانُ وَمُكرَانُ وَفَارِسُ وَالأَهْوازُ، وَالْعِرَاقُ عِرَاقُنَا، وَالأَرْضُ أَرْضُنَا، وَإِنَّمَا أَهْلُ الْكُوفَةِ أَضْيَافٌ عَلَيْنَا. فَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ: دَعْنَا مِنْ خُرَاسَانَ وَسِجِسْتَانَ، فَلَعَمْرِي أَنْتُمْ أَرْفَعُ مِنَّا بِلادًا، وَلَكِنْ بِاللَّهِ أَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّا أَكْثَرُ مِنْكُمْ فُقَهَاءَ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لا وَاللَّهِ، مَا أَنْتُمْ بِأَكْثَرَ مِنَّا فُقَهَاءَ، وَلَكِنَّكُمْ أَكْثَرُ مَنَّا أَنْبِيَاءَ، مِنْكُمْ بَيَانُ التِّبْيَانِ، وَالْمُغِيرَةُ، وَأَبُو الْخَطَّابِ. وَمَا لَنَا نَبِيٌّ إِلا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَضَحِكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَبُو الْعَبَّاسِ، وَاشْتَدَّ ضَحِكُهُ. ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، هُمْ أَكْثَرُ مِنْكُمْ أَنْبِيَاءَ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا رَأَيْتُ أَرْضًا قَطُّ أَكْثَرَ نَبِيًّا مَصْلُوبًا مِنْهَا، فَجَعَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَغْمِزُ أَبَا بِكْرٍ وَيَضْحَكُ، يَغْمِزُهْ بِالْقَضِيبِ، فَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ: إِنَّمَا كَانَ أَصْلُ الْمُغِيرَةَ مِنَ الْبَصْرَةِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَلا إِنَّمَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ. فَتَنَازَعَا طَوِيلا، فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: يَا أَبَا بَكْرٍ قَدْ صَحَّ عِنْدِي أَنَّ أَصْلَهُ مِنَ الْبَصْرَةِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنَّ الْبَصْرَةَ أَرْضٌ طَيِّبَةٌ لا تَدَعُ فِيهَا خَبَثًا إِلا أَخْرَجَتَهُ. قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: دُونَكُمُ الْهُذَلِيُّ فَقَدْ سَلَّطْتُكُمْ عَلَيْهِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِذًا لا يَنْتَصِفُونَ مِنِّي. قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: وَلِمَ ذَاكَ؟ قَالَ: لَأنَّ الْحَقَّ فِي يَدِي، وَلَيْسَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْهُ شَيْءٌ. قَالَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ: أَلا تَعْجَبُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ يُفَاخِرُ أَهْلَ الْكُوفَةِ بِأَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَيَعْدِلُهُمْ بِهِمْ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ مَا أَعْدِلُهُمْ بِهِمْ، وَلَكِنِّي أُفَضِّلُ أَهْلَ الْبَصْرَةِ عَلَيْهِمْ، وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا كَانَ بِالْكُوفَةِ شَرِيفُ قَوْمٍ إِلا وَشَرِيفُ قَوْمٍ بِالْبَصْرَةِ أَشْرفُ مِنْهُ. مَا كَانَ فِي تَمِيمِ الْكُوفَةِ مِثْلُ الأَحْنَفِ بْنِ قَيسٍ مِنْ تَمِيمِ الْبَصْرَةِ. وَلا كَانَ فِي أُزْدِ الْكُوفَةِ مِثْلُ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ مِنْ أُزْدِ الْبَصْرَةِ، وَلا كَانَ فِي قَيْسِ الْكُوفَةِ مِثْلُ قُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ مِنْ قَيْسِ الْبَصْرَةِ، الَّذِي يَقُولُ فِيهِ الشَّاعِرُ: إِذَا مَا خَشِينَا مِنْ أَمِيرٍ ظَلامَةً ... أَمَرْنَا أَبَا غَسَّانَ يَوْمًا فَعَسْكَرَا

وَقَالَ جَرِيرٌ: يَا عَيْنُ وَيْحَكِ هَيِّجِي أَحْزَانًا ... وَاسْتَعْجِلِي بِدِمُوعِكِ الأَزْمَانَا قَالَتْ رَبِيعَةُ يَوْمَ كُفَّنَ مَالِكٌ ... لا فَجْعَ أَكْبرُ مِنْ أَبِي غَسَّانَا كَانُوا إِذَا شَعِبُوا شَعِبْتَ عَلَيْهِمُ ... بَلْ كُنْتَ أَطْوَلَ فِي الْحُرُوبِ عِنَانَا وَمَا كَانَ فِي عَبْدِ قَيْسٍ الْكُوفَةِ مثلُ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَارُودِ مِنْ عَبْدِ قَيْسِ الْبَصْرَةِ، الَّذِي يَقُولُ فِيهِ الشَّاعِرُ: يَا حَكَمَ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَارُودِ ... أَنْتَ الْجَوَادُ ابْنُ الْجَوَادِ الْمَحْمُودْ سُرَادِقُ الْمَجْدِ عَلَيْكَ مَمْدُودْ قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَنْتَ تَتَكَلَّمُ بِكَلامِ رَجُلٍ، كَأَنَّكَ لا تَعْرِفُ شَرَفَ أَهْلِ الْكُوفَةِ، قَالَ أَبُو بَكْرِ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا أَعْرِفُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَعْرِفُونَ رَجُلا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِثْلَ مَلِكِ هَذَيْنِ الْمِصْرَيْنِ؟ فَقَدْ مَلَكَهُمَا يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ، وَمَلَكَهُمَا رَجُلٌ مَوْلًى لِبَنِي سَعْدٍ، يُقَالُ لَهُ: صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا قَطَعَ نَهْرَ بَلْخٍ رَجُلٌ أَوَّلُ مِنْ خَالِكَ رَبِيعِ بْنِ زِيَادِ مِنْ بَنِي الْحَارِثَ بْنِ كَعْبِ، ومَا سَارَ بِأَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ رَجُلٌ أَوَّلُ مِنْهُ. فَقَالَ الْقَاضِي: حَدَّثَنَا أَشْيَاخٌ لَنَا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ أَنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ كَانُوا يَوْمَ الْجَمَلِ ثَلاثِينَ أَلْفًا، وَإِنَّمَا كَانَ أَهْلُ الْكُوفَةِ تَسْعَةُ آلافٍ. فَقَالَ أَبُو بَكْرِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَنْ أَيْنَ كُنَّا ثَلاثِينَ أَلْفًا، فَوَاللَّهِ لَرَبِيعَةُ الْبَصْرَةِ كَانَتْ مَعَ عَلَيٍّ تُقَاتِلُ عَنْهُ، وَتَدْعُو إِلَيْهِ وَعَلِيٌّ الَّذِي يَقُولُ: يَا لَهْفَ نَفْسِي عَلَى رَبِيعَةْ ... رَبِيعَةَ السَّامِعَةَ الْمُطِيعَةْ وَلَكِنْ سَلْهُمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، كَمْ كَانَتْ عِدَّتُهُمْ يَوْمَ دَخَلْنَا مَسْجِدَهُمْ بالْكُوفَةِ، فَذَبَحْنَا مِنْهُمْ ثَلاثِينَ أَلْفًا ذَبْحَ الْحِمْلانِ؟ فَأَرَادَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ أَنْ يَكْسِرَ أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ: مَعَ مَنْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: كُنَّا مَعَ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ. قَالَ: فَمَنْ كُنْتُمْ تُقَاتِلُونَ؟ قَالَ: كُنَّا نُقَاتِلُ الْمُخْتَارَ بْنَ أَبِي عُبَيْدٍ الثَّقَفِيَّ وَرَفَعَ صَوْتَهُ. فَقَالَ الْحَسَنُ: عَلَى مَا كُنْتُمْ يَا أَهْلَ الْبَصْرَةِ، عَلَى بَاطِلٍ أَمْ عَلَى حَقٍّ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: كُنَّا عَلَى بَاطِلٍ، وَكُنْتُمْ عَلَى حَقٍّ، فَضَعُفْتُمْ عَنْ حَقِّكُمْ، وَغَلَبَ بَاطِلُنَا حَقَّكُمْ.

قَالَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ: مَنْ قَاتَلْتُمْ يَوْمَ الْجَمَلِ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَاتَلْنَا عَليًّا، وَحَرَّضْنَا عَلَى قَتْلِهِ، فَلَوَى اللَّهُ أَيْدِيَنَا وَسِلاحَنَا، نَظَرًا مِنَ اللَّهِ لَنَا، وَخَيْرَةً حَتَّى خَرَجَ سُلَيْمًا، ثُمَّ قُتِلَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْكُمْ بِالْكُوفَةِ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَثَلُ الْعَرَبِ كَمَثَلِ السِّمْسِمِ، إِنْ تَعْصِرْهُ وَحْدَهُ يَخْرُجْ مِنْهُ الْحِلُّ، وَإِنْ تَخْلِطْ مَعَهُ غَيْرَهُ تُخْرِجْ مِنْهُ أَلْوانَ الأَدْهَانِ، تَفَرَّقَتِ الْعَرَبُ مِنْ تِهَامَةِ عَلَى أَرْبَعِ فِرَقٍ: فِرْقَةٍ بِالْيَمَنِ، فَأَخَذَتْ بِآبِينِ النَّجَاشِيِّ وَشَكْلِهِمْ، وَفِرْقَةٍ وَقَعَتْ بِالْشَامِ فَأَخَذَتْ بِآبِينِ الْقِبْطِ وَشَكْلِهِمْ، وَفِرْقَةٍ وَقَعَتْ بِالْكُوفَةِ، فَأَخَذَتْ بِآبِينِ الْفُرْسِ، فَأَيُّهَا أَخْيَرُ النَّجِاشِيُّ أَمِ الْقَبْطُ أم النبط أَمِ الْفُرْسُ؟ قَالَ: بَلِ الْفُرْسُ حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيُّ، قَالَ: " قَالَ رَجُلٌ لِخَالِدِ بْنِ صَفْوَانَ: مَرْحَبًا بِكَ أَبُو صَفْوَانَ، فَقَالَ لَهُ: رَحُبَ وَادِيكَ، وَعَزَّ نَادِيكَ، وَهَطَلَتْ عَلَيْكَ مُكْفَه ِرَّاتُ السَّحَابِ. قَالَ: كَيْفَ كُنْتَ؟ قَالَ: فِي نِعَمٍ مِنَ اللَّهِ سَوَابِغَ، لا نَعْرِفُ إِلا الْمَزِيدَ فِيهَا، حَتَّى إِذَا كُنَّا فِي ثِنْيَةِ السَّمَاوَةِ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْنَا رِيحًا حَرْجَفًا، تَبَوَّأَتْ لَهَا السِّبَاعُ أَسْرَابَهَا، وَانْفَرَجَتِ الطُّيرُ إِلَى أَوْكَارِهَا، وَاحْمَرَّتْ لَهَا آفَاقُ السَّمَاءِ، فَلَمْ أَهْتَدِ لَعَلَمٍ لامِعٍ، وَلا لِنَجْمٍ طَالِعٍ، فَبَقَيْتُ كَالْمُتَحَيِّرِ لا أَجِدُ وَزَرًا، فَإِنِّي لَكَذَلِكَ إِذْ أَقْبَلَ عَلَيَّ فَوَارِسُ عَلَى خُيُولٍ كَأَنَّهَا قُضُبُ الشَّوْحَطِ، تَهْوِي هَوِيَّ الأَجَادِلِ، عَلَيْهَا كُلُّ غِطْرِيفٍ مَاجِدٍ مُتْرَفٍ كَالْحُسَامِ، وَخَلْفَهُمْ سَلُوقِيَّةٌ فِي أَرْسَاغِهَا فَدَعٌ، وَفِي أَعْجَازِهَا قِمَعٌ، فَمَرَرْنَا بِمَوزٍ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ كَأَنَهُ جُثَثُ الْيَرَابِيعِ، قَدِ احْلَوْلَكَ أَقْنَاؤُهُ فَيَا لَكَ مِنْ مَنْزِلٍ كَرُمَ مَآبُهَ، وَضَنَّ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَنَزَلْنَا، فَكُنَّا بَيْنَ آكِلٍ وَنَاشِلٍ وَمُشْتَوٍ وَطَاهٍ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، يَقُولُ: اجْتَمَعَ ثَلاثَةٌ مِنَ الرُّوَاةِ، فَقَالَ قَائِلٌ: أَيُّ نِصْفِ بَيْتِ شِعْرٍ أَحْكَمُ، وَأَوْجَزُ، قَالَ الأَوَّلُ: قَوْلُ حُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ: وَحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَصِحَّ وتَسْلَما وَقَالَ الثَّانِي: بَلْ قَوْلُ الْهُذَلِيِّ: نُوكَّلُ بِالأَدْنَى وَإِنْ جَلَّ مَا يَمْضِي وَقَالَ الثَّالِثُ: بَلْ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيبٍ الْهُذَلِيُّ: وَالدَّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبٍ مَنْ يَجْرَعُ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدِّمَشْقِيُّ، قَالَ: وَسَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: قَالَ جَابِرُ بْنُ سَلْمَى بْنِ جَعْفَرٍ وَذَكَرَ عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ: كَانَ وَاللَّهِ لا يَضِلُّ حَتَّى يَضِلَّ النَّجْمُ وَلا يَعْطَشُ حَتَّى يَعْطَشَ الْبَعِيرُ، وَلا يَهَابُ حَتَّى يَهَابَ السَّيْلُ، وَكَانَ وَاللَّهِ خَيْرَ مَا يَكُونُ حِينَ لا تَظُنُّ نَفْسٌ بِنَفْسٍ خَيرًا

وَسَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: مَرَّ بِشْرُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ بَإِبْرَاهِيمَ بْنِ جَبْلَةَ بْنِ مَخْرَمَةَ السَّكُونِيِّ الْخَطِيبِ، وَهُوَ يُعَلِّمُ فِتْيَانَهُمُ الْخَطَابَةَ، فَوَقَفَ بِشْرٌ، فَظَنَّ إِبْرَاهِيمُ أَنَّهُ إِنَّمَا وَقَفَ لِيَسْتَفِيدَ أَوْ يَكُونَ رَجُلا مِنَ النَّظَّارَةِ، فَقَالَ بِشْرٌ: اضْرِبُوا عَمَّا قَالَ صَفْحًا، وَاطْوُوا عَنْهُ كَشْحًا. ثُمَّ دَفَعَ إِلَيْهِمْ صَحِيفةً مِنْ تَحْبِيرِهِ وَتَنْمِيقِهِ وَكَانَ أَوَّلُ ذَلِكَ الْكَلامِ: خُذْ مِنْ نَفْسِكَ سَاعَةَ نَشَاطِكَ، وَفَرَاغَ بَالِكَ فِي إِجَابَتِهَا إِيَّاكَ، فَإِنَّ فَلِيلَ تِلْكَ السَّاعَةِ أَكْرَمُ جَوْهَرًا، وَأَشْرَفُ حَسَبًا وَأَسْرَعُ فِي الأَسْمَاعِ، وَأَحْلَى فِي الصُّدُورِ، وَأَسْلَمُ مِنْ فَاحِشِ الْخَطَأِ، وَأَجْلَبُ لِكُلِّ عَيْنٍ وَغُرَّةٍ، مِنْ لَفْظٍ شَرِيفٍ، وَمَعْنًى بَدِيعٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ أَجْدَى عَلَيْكَ مِمَّا يُعْطِيكَ يَوْمُكَ الأَطْوَلُ بِالْكَدِّ وَالْمُجَاهَدَةِ، وَبِالتَّكَلُّفِ وَالْمُعَاوَدَةِ، وَمَهْمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يُخْطِئْكَ أَنْ يَكُونَ مَقْبُولا قَصْدًا، وَخَفِيفًا عَلَى اللِّسَانِ سَهْلا، وَكَمَا خَرَجَ مِنْ يَنْبُوعِهِ، وَنَجَمَ مِنْ مَعْدِنِهِ، وِإِيَّاكَ وَالتَّوَعُّرَ، فَإِنَّ التَّوَعُّرَ يُسْلِمُكَ إِلَى التَّعْقِيدِ، وَالتَّعْقِيدُ هُوَ الَّذِي يَسْتَهْلِكُ مَعَانِيَكَ، وَيَشِينُ أَلْفَاظَكَ، وَمَنْ أَرَاغَ مَعْنًى كَرِيمًا فَلْيَلْتَمِسْ لَهُ لَفْظًا كَرِيمًا. فَإِنَّ حَقَّ الْمَعْنَى الشَّرِيفِ اللَّفْظُ الشَّرِيفُ. وَمِنْ حَقِّهِمَا أَنْ تَصُونَهُمَا عَمَّا يُفْسِدُهُمَا وَيُهَجِّنُهُمَا، وَعَمَّا تَعُودُ مِنْ أَجْلِهِ أنْ تَكُونَ أَسْوَأَ حَالا مِنْكَ قَبْلَ أَنْ تَلْتَمِسَ إِظْهَارَهُمَا، وَتَرْتَهِنَ نَفْسَكَ فِي مُلابَسَتِهِمَا وَفَصَاحَتِهِمَا. وَكُنْ فِي ثَلاثِ مَنَازِلَ، فَإِنَّ أَوَّلَ الثَّلاثِ: أَنْ يَكُونَ لَفْظُكَ رَشِيقًا عَذْبًا، وَفَخْمًا سَهْلا، وَيَكُونَ مَعْنَاكَ ظَاهِرًا مَكْشُوفًا، وَقَرِيبًا مَعْرُوفًا، إِمَّا عِنْدَ الْخَاصَّةِ إِنْ كُنْتَ لِلْخَاصَّةِ قَصَدْتَ، وَإِمَّا عِنْدَ الْعَامَّةِ، إِنْ كُنْتَ لِلْعَامَّةِ قَصَدْتَ وَأَرَدْتَ. وَالمَعْنَى لَيْسَ شَرَفًا بِأَنْ يَكُونَ مِنْ مَعَانِي الْخَاصَّةِ، كَذَلِكَ لَيْسَ يُتَصَنَّعُ بَأَنْ يَكُونَ مِنْ مَعْانِي الْعَامَّةِ، وَإِنَّمَا مَدَارُ الشَّرِفِ مَعَ الصَّوَابِ، وَإِحْرَازُ الْمَنْفَعَةِ مَعَ مُوَافَقَةِ الْحَالِ، وَمَا يَجِبُ لِكُلِّ مَقَامٍ مِنَ الْمَقَالِ. وَكَذَلِكَ اللَّفْظُ الْعَامِّيُّ وَالْخَاصِّيُّ، فَإِنْ أَمْكَنَكَ أَنْ تَبْلُغَ مِنْ بَيَانِ لِسَانِكَ، وَبَلاغَةِ قَلْبِكَ، وَلُطْفِ مَدْخَلِكَ، وَاقْتِدَارِكَ فِي نَفْسِكَ عَلَى أَنْ تُفَهِّمَ الْعَامَّةَ مَعَانِيَ الْخَاصَّةِ، وَتَكْسُوَهَا الأَلْفَاظَ الْمُتَوَسِّطَةَ، الَّتِي لا تَلْطُفُ عِنْدَ الدَّهْمَاءِ، وَلا تَجْفُو عَنِ الأَكْفَاءِ، فَأَنْتَ الْبَلِيغُ التَّامُّ. قَالَ بِشْرٌ: فَلَمَّا قُرِئَتْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنَا أَحْوَجُ إِلَى هَذَا مِنْ هَؤُلاءِ الْفِتْيَانِ

فأمر بإخراج جواريه، فقال لهن: تغنين لمعبد؟ ففعلن. فقال ابن عمر: هذا الحداء. فقال لهن:

حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ شَبِيبُ بْنُ شَيْبَةَ: نُبِّئْتُ أَنَّ عِيسَى بْنَ مُوسَى عَيِيٌّ، فَاشْتَهَيْتُ أَنْ أَسْمَعَ كَلامَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيَّ الْمَهْدِيُّ ذَاتَ لَيْلَةٍ بَكَرَ إِلَى الْمَسْجِدِ لِيَخْلَعَ عِيسَى بْنَ مُوسَى، فَغَدَوْتُ وَدَنَوْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ فَجَاءَ الْمَهْدِيُّ، وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ حَتَّى صَارَ عَلَى قُلَّتِهِ، وَجَاءَ عِيسَى بْنُ مُوسَى، فَصَعِدَ وَهُوَ يَعْصِرُ عَيْنَهُ، حَتَّى صَارَ دُونَهُ بِعَتَبَةٍ، فَقُلْتُ: جَاءَ مَا كَانَ يُقَالُ فِيهِ. فَغَمَزَهُ الْمَهْدِيُّ بِقَائِمِ سَيْفِهِ، فَقَامَ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، وَإِلَيْكَ الْمُشْتَكَى، وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ. اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لا أَخْلَعُهَا حَيْثُ أَخْلَعُهَا رَغْبَةً وَلا رَهْبَةً، وَمَا أَخْلَعُهَا إِلا لِحَقْنِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ خَلَعْتُ الْبَيْعَةَ عَنْ عُنُقِي، وَبَايَعْتُ لِمُوسَى، ثُمَّ وَلَّى وَجْهَهُ إِلَى الْمَهْدِيِّ فَمَسَحَ يَدَهُ عَلَى يَدِهِ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُؤَمَّلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ: دَخَلَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ عَلَى مُجَاشِعِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي دَارِهِ، وَكَانَتْ دَارُهُ شَارِعَةً عَلَى رُحْبَةِ بَنِي تَمِيمٍ، عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، فَقَالَ: أَجِزْنِي بِجَائِزَةٍ مِثْلِي، وَاحْمِلْنِي عَلَى فَرَسٍ مِثْلِي، وَمُرْ لِي بِسِلاحٍ مِثْلِي. فَأَمَرَ لَهُ بِعَشَرَةِ آلافِ دِرْهَمٍ وَحَمَلَهُ عَلَى فَرَسٍ عَتِيقٍ، وَأَمَرَ لَهُ بِسِلاحٍ تَامٍّ. وَخَرَجَ مِنْ عِنْدَهُ، فَجَعَلَ يَمُرُّ عَلَى حِلَقِ الْمَسَجِدِ، فَيَقُولُونَ: يَا أَبَا ثَوْرٍ، كَيْفَ وَجَدْتَ أَخَا بَنِي سُلَيْمٍ؟ فَيَقُولُ: بَارَكَ اللَّهُ عَلَى حَيِّ سُلَيْمٍ، مَا أَصْدَقَ فِي الْهَيْجَاءِ لِقَاهَا، وَأَثْبَتَ فِي النَّوَازِلِ بَلاهَا، وَأَجْزَلَ فِي النَّائِبَاتِ عَطَاهَا، وَاللَّهِ لَقَدْ قَاتَلْتُهُمْ فَمَا أَجْبَنْتُهُمِ، وَهَاجَيْتُهُمْ فَمَا أَفْحَمْتُهُمْ، وَسَأَلْتُهُمْ فَمَا أَبْخَلْتُهُمْ قِيلَ لِأَبِي الزِّنَادِ: لِمَ تُحِبُّ الدَّرَاهِمَ وَهِيَ تُدْنِيكَ مِنَ الدُّنْيَا؟ قَالَ: هِيَ وَإِنْ أَدْنَتْنِي مِنْهَا فَقَدْ صَانَتْنِي عَنْهَا سَمِعْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ، وَقَدْ قِيلَ لَهُ: مَا أَشَدَّ حُبَّكَ لِلدَّرَاهِمِ! قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ أَشَدَّ حُبًّا لِمَا يَنْفَعُهُ مِنِّي حَدَّثَنِي أَبُو صَخْرَةَ أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، قَالَ: قِيلَ لِجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ: كَمْ تَتَأَخَّرُ الرُّؤْيَا؟ فَقَالَ: «رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّ كَلْبًا أَبْقَعَ يَلِغُ فِي دَمِهِ، فَكَانَ شَمِرُ بْنِ ذِي الْجَوْشَنِ قَاتُلُ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلامُ ذَلِكَ» ، كَانَ أَبْرَصَ، وَكَانَ تَأْوِيلُ الرُّؤْيَا بَعْدَ سِتِّينَ سَنَةٍ 89 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: دَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، فَأَمَرَ بِإِخْرَاجِ جَوَارِيهِ، فَقَالَ لَهُنَّ: تُغَنِّيِنَّ لِمَعْبَدٍ؟ فَفَعَلْنَ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: هَذَا الْحِدَاءُ. فَقَالَ لَهُنَّ: تُغَنِّينَ لِلْغَرِيضِ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: هَذَا الْبُكَاءُ. فَقَالَ لَهُنَّ: تُغَنِّينَ لِابْنِ سُرَيْجٍ؟ فَفَعَلْنَ. فَنَفَضَ ابْنُ عُمَرَ ثَوْبَهَ وَقَامَ وَقَالَ: هَذَا الَّذِي نُهِينَا عَنْهُ " قَدِمَ ابْنُ جَامِعٍ مَكَّةَ، فَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةِ: بَلَغَنِي أَنَّ هَذَا السَّهْمِيَّ قَدْ جَاءَ بِمَالٍ كَثِيرٍ.

لا تنتفين من ولد نكحت أمه، واعلم أن كل أمانة مؤداة، وأن الرغائب في ركعتي

قَالَ: أَجَلْ، وَعَلامَ يُعْطُونَهُ؟ فَقَالَ: رَجُلٌ يُغَنِّيهِمْ. قَالَ: وَبِأَيِّ شَيْءٍ يُغَّنِيهِمُ؟ قَالَ: بِشِعْرٍ. قَالَ: فَتَرْوِي مِنْهُ شَيئًا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: هَاتِهِ. فَأَنْشَدَهُ: أَطُوِّفُ بِالْبَيْتِ فِي الطَّائِفِينَ ... وَأَرْفَعُ مِنْ مِئْزَرِي الْمُسْبَلِ فَقَالَ: أَحْسَنَ وَأَجْمَلَ. هِيهِ! فَقَالَ: وَأَسجُدُ بِاللَّيْلِ حَتَّى الصَّبَاحِ ... أَتْلُو مِنَ الْمُحْكَمِ الْمُنْزَلِ فَقَالَ: جَزَى اللَّهُ هَذَا خَيرًا. هِيهِ! فَقَالَ: عَسَى فَارِجُ الْكَرْبِ عَنْ يُوسُف ... يُسَخِّرُ لِي رَبَّةَ الْمَحْمَلِ قَالَ: فَأَشَارَ بِيَدِهِ: أَمْسِكَ أَمْسِكَ. 91 - حَدَّثَنِي عَمِّي، عَنْ جَدِّي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبٍ، قَالَ: سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَلِّمْنِي شَيئًا يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهِ، قَالَ: " احْفَظْ عَنِّي ثَلاثًا: لا تَنْتَفِيَنَّ مِنْ وَلَدٍ نَكَحْتَ أُمَّهُ، وَاعْلَمْ أَنْ كُلَّ أَمَانَةٍ مُؤَدَّاةٌ، وَأَنَّ الرَّغَائِبَ فِي رَكْعَتِي الْفَجْرِ ". ثُمَّ انْصَرَفَ 91 - فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ: «هَلْ حَفِظْتَ الثَّلاثَ» ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: " احْفَظْ إِلَيْهِنَّ ثَلاثًا أُخَرَ: اعْلَمْ أَنَّ «مَنْ كَثُرَ مَالُهُ اشْتَدَّ حِسَابُهُ، وَمَنْ كَثُرَ تَبَعُهُ كَثُرَ شَيْاطِينُهُ، وَأَنَّ الْعَبْدَ كُلَّمَا ازْدَادَ مِنَ السُّلْطَانِ قُرْبًا، ازْدَادَ مَنَ اللَّهِ بُعْدًا» حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلامٍ، عَنِ الأَحْنَفِ، أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: " أَتَعْجَبُونَ مِنْ أَخْلاقِي وَعِلْمِي؟ إِنَّمَا هَذَا شَيْءٌ اسْتَفَدْتُهُ مِنْ عَمِّي صَعْصَعَةَ، فَإِنِّي أَنَا فِي ذَوْدٍ لِأَبِي أَرْعَاهَا إِذْ عَرَضَ لِي وَجَعٌ فِي بَطْنِي، فَلَبِثْتُ أَيَّامًا أَشْتَهِي أَنْ أَرَى بَعْضَ أَهْلِي، فَأَشْكُو إِلَيْهِ، إِذْ مَرَّ بِي عَمِّي صَعْصَعَةُ يَنْتَجِعُ أَرْضًا، فَمَشَيْتُ مَعَهُ. أَوْ قَالَ: سِرْتُ مَعَهُ، فَذَهَبْتُ أَشْكُو إِلَيْهِ، فَأَسْكَتَنِي، ثُمَّ مَشَيْتُ أَشْكُو إِلَيْهِ فَأَسْكَتَنِي، أَحْسَبُهُ قَالَ: الثَّالِثَةَ. ثُمَّ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي لا تَشْكُ الَّذِي يَنْزِلُ بِكَ إِلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، فَإِنَّمَا الْحَيَاةُ رَجُلانِ: صَدِيقٌ فَيَسُوءُهُ مَا تَشْكُو إِلَيْهِ، أَوْ عَدُوٌّ فَيَسُرُّهُ، وَلا تَشْكُ الَّذِي يَنْزِلُ بِكَ إِلَى مَخْلُوقٍ مِثْلِكَ لا يَسْتَطَيْعُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ مِثْلَ الَّذِي نَزَلَ بِكَ. وَلَكِنِ اشْكُ ذَلِكَ إِلَى الَّذِي ابْتَلاكَ، وَالَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُفَرِّجَهُ عَنْكَ، يَا ابْنَ أَخِي، هَلْ تَرَى عَيْنِي هَذِهِ؟ مَا أَبْصَرْتُ بِهَا سَهْلا وَلا جَبَلا مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً، مَا أَطْلَعْتُ عَلَى ذَلِكَ زَوْجَتِي، وَلا أَحَدًا مِنْ أَهْلِي حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُؤَمَّلِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ: " كَانَ بِأَرْضِ الْيَمَامَةِ رَجُلٌ مِنْ رَبِيعَةَ، يُقَالُ لَهُ: جَحْدَرُ بْنُ مَالِكِ الْعِجْلِيُّ، وَكَانَ شَاعِرًا شُجَاعًا فَاتِكًا، وَقَدْ أَبَرَّ أَبَدًا عَلَى أَهْلِ حَجْرٍ، وَمَا يَلِيهَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ الْحَجَّاجَ، فَكَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ عَلَى الْيَمَامَةِ، يُؤَنِّبُهُ وَيَلُومُهُ بِتَلَعُّبِ جَحْدَرٍ بِهِ، وَيَأْمُرُهُ بِالتَّجَرُّدِ فِي طَلَبِهِ، وَالْبَعْثِ بِهِ إِلَيْهِ إِنْ ظَفِرَ بِهِ.

فَلَمَا أَتَى الْعَامِلَ كِتَابُ الْحَجَّاجِ، دَسَّ إِلَيْهِ فِتْيَةً مِنْ قَوْمِهِ، وَوَعَدَهُمْ أَنْ يُوفِدَهُمْ مَعَهُ إِلَى الْحَجَّاجِ إِنْ هُمْ ظَفِرُوا بِهِ، فَخَرَجَ الْفِتْيَةُ حَتَّى إِذَا كَانُوا قَرِيبًا مِنْهُ بَعَثُوا إِلَيْهِ أَنَّهُمْ يُريدُونَ صُحْبَتَهُ وَالْكَيْنُونَةَ مَعَهُ. فَمَكَثُوا بِذَلِكَ حَتَّى إِذَا أَصَابُوا مِنْهُ غِرَّةً شَدُّوا عَلَيْهِ، وَأَوْثَقُوهُ وَقَدِمُوا بِهِ عَلَى الْعَامِلِ، فَبَعَثَ الْعَامِلُ بِهِمْ إِلَى الْحَجَّاجِ، فَلَمَّا جَاوَزُوا بَجَحْدرٍ حَجْرًا أَنْشَأَ يَقُولُ: لَقَدْ مَا هَاجَنِي فَازْدَدْتُ شَوْقًا ... بُكَاءُ حَمَامَتَيْنِ تُجَاوِبَانِي تُجَاوِبُنَا بِلَحْنٍ أَعْجَمِيٍّ ... عَلَى غُصْنَيْنِ مِنْ عَرَبٍ وَبَانٍ فَقُلْتُ لِصَاحِبِيَّ وَكُنْتُ أَحْدُو ... بِبَعْضِ الْقَوْلِ مَاذَا تَحْدُوَانِ؟ فَقَالا: الدَّارُ جَامِعَةٌ قَرِيبًا ... فَقُلْتُ: بَلْ أَنْتُمَا مُتَمَنِّيَانِ فَكَانَ الْبَانُ أَنْ بَانَتْ سُلَيْمَى ... وَفِي الْغَرْبِ اغْتِرَابٌ غَيْرُ دَانِي إِذَا جَاوَزْتُمَا نَخَلاتِ حَجْرٍ ... وَأَنْدِيَةَ الْيَمَامَةِ فَانْعَيَانِي وَقُولا: جَحْدَرٌ أَمْسَى رَهِينًا ... يُعَالِجُ وَقْعَ مَصْقُولٍ يَمَانِي كَذَا الْمَغْرُورُ فِي الدُّنْيَا سَيَرْدَى ... وَتُهْلِكُهُ الْمَطَامِعُ وَالأَمَانِي فَلَمَّا قُدِمَ بِهِ عَلَى الْحَجَّاجِ، قَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: أَأَنْتَ جَحْدَرٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَصَلَحَ اللَّهُ الأَمِيرَ، أَنَا جَحْدَرٌ. قَالَ: فَمَا الَّذِي حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: جَرَاءَةُ الْجَنَانِ، وَكَلَبُ الزَّمَانِ، وَجَفْوَةُ السُّلْطَانِ. فَقَالَ لَهُ: وَمَا الَّذِي بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ، فَيَجْتَرِئَ جَنَانُكَ، وَيُكْلَبَ زَمَانُكَ، وَيَجْفُوَكَ سُلْطَانُكَ؟ قَالَ: لَوْ بَلانِي الأَمِيرُ لَوَجَدَنِي مِنْ صَالِحِ الأَعْوَانِ، وَبُهْمِ الْفُرْسَانِ، وَأَمَّا جَرَاءَةُ جَنَانِي، فَإِنِّي لَمْ أَلْقَ فَارِسًا قَطُّ إِلا كُنْتُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِي مُقْتَدِرًا. فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: يَا جَحْدَرُ إِنَّا قَاذِفُونَ بِكَ فِي حَيْرٍ فِيهِ أَسَدٌ، فَإِنْ هُوَ قَتَلَكَ كَفَانَا مَئُونَتَكَ، وَإِنْ أَنْتَ قَتَلْتَهُ خَلَّيْنَا عَنْكَ، وَأَحْسَنَّا جَائِزَتَكَ، قَالَ: نَعَمْ، أَصْلَحَ اللَّهُ الأَمِيرَ قَرَّبْتَ الْمِحْنَةَ، وَأَعْظَمْتَ الْمِنَّةَ، افْعَلْ ذَلِكَ إِذَا شِئْتَ، فَأَمَرَ بِهِ، فَقُيَّدَ وَحُبِسَ، وَكَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ عَلَى كَسْكَرَ يَأْمُرُهُ بِالْبَعْثَةِ إِلَيْهِ بِأَسَدٍ ضَارٍ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِأَسَدٍ، قَدْ أَبَرَّ عَلَى أَهْلِ كَسْكرَ فِي صُنْدُوقٍ يَجُرُّهُ ثَوْرَانِ، فَلَمَّا قَدِمَ بِهِ عَلَى الْحَجَّاجِ أَمَرَ بِهِ فَأُدْخِلَ فِي حَيْرٍ، وَسُدَّ بَابُ الْحَيْرِ، وَجُوِّعَ ثَلاثةَ أَيَّامٍ، فَأُتِيَ بِجَحْدَرٍ، فَأُمْكِنَ مِنْ سَيفٍ قَاطِعٍ، وَجَلَسَ الْحَجَّاجُ وَالنَّاسُ يَنِظُرُونَ إِلَيْهِمَا، فَلَمَّا نَظَرَ الأَسَدُ إِلَى جَحْدَرٍ قَدْ أَقْبَلَ وَمَعَهَ السَّيْفُ يَرْسُفُ فِي قُيوُدهِ، تَهَيَّأْ وَتَمَطَّى. وَأَنْشَأَ جَحْدرٌ يَقُولُ: لَيْثٌ وَلَيْثٌ فِي مَجَالِ ضَنْكِ ... كِلاهُمَا ذُو أَنَفٍ وَفَتْكِ وَسُورَةٍ فِي صَوْلَةٍ وَمَحْكِ ... إِنْ يَكْشِفِ اللَّهُ قِنَاعَ الشَّكِ مِنْ ظَفَرِي بِحَاجَتِي وَدَرْكِ ... فَذَاكَ أَحْرَى مَنْزلٍ بِتَرْكِ فَوَثَبَ إِلَيْهِ الأَسَدُ وَثْبَةً شَدِيدَةً، وَتَلَقَّهَا جَحْدَرٌ بِالسَّيْفِ، فَضَرَبَ هَامَتَهِ، فَفَلَقَهَا، حَتَّى خَالَطَ ذُبَابُ السَّيْفِ لَهَوَاتِهِ. وَسَقَطَ جَحْدَرٌ مِنْ شِدَّةِ وَثْبَةِ الأَسَدِ، وَتَخَضَّبَتْ ثِيَابُهُ مِنْ دَمِهِ، وَهُوَ يَقُولُ:

لما ادعى معاوية زيادا، وآثر عمرو بن العاص على أهل بيته، وقربهما دونهم جزع بنو أمية من ذلك

يَا جُمْلُ إِنَّكِ لَوْ رَأَيْتِ كَرِيهَتِي ... فِي يَوْمِ هَيْجٍ مُسَدِفٍ وَعَجَاجِ وَتَصَدُّفِي لِلَّيْثِ أَرسُفُ مُوهِنًا ... كَيْمَا أُكَابِرَهُ عَلَى الأَحْدَاجِ جَهْمٌ كَأَنَّ جَبِينَهُ لَمَّا بَدَا ... طَبَقٌ مُتَغَجِّرُ الأَثْبَاجِ يَسْمُو بَنَاظِرتَيْنِ تَحْسَبُ فِيهِمَا ... لَمَّا أَجَالَهُمَا شُعَاعُ سِرَاجِ وَكَأَنَّمَا خِيطَتْ عَلَيْهِ عَبَاءةٌ ... بُرْقًا أَوْ خُلُقٌ مِنَ الدِّيبَاجِ قَرْنَانِ مُحْتَضِرَانِ قَدْ مَخَضَتْهُمَا ... أُمُّ الْمَنِيَّةِ غَيْرُ ذَاتِ نِتَاجِ وَعَلِمْتُ أَنِّي إِنْ أَبَيْتُ نِزَالَهُ ... إِنِّي مِنَ الْحَجَّاجِ لَسْتُ بِنَاجٍ فَفَلَقْتُ هَامَتَهُ فَخَرَّ كَأَنَّهُ ... أَطَمٌ تَسَاقَطَ مَائِلَ الأَبْرَاجِ ثُمَّ انْثَنَيْتُ وَفِي ثِيَابِيَ شَاهِدٌ ... مِمَّا جَرَى مِنْ شَاحِبِ الأَوْدَاجِ أَيْقَنْتُ أَنِّي ذُو حِفَاظٍ مَاجِدٌ ... مِنْ سِرِّ أَمْلاكٍ ذَوِي أَتْوَاجِ مِمَّنْ يَغَارُ عَلَى النِّسَاءِ حَفِيظَةً ... إِذْا لا يَثِقْنَ بِغَيْرَةِ الأَزْوَاجِ فَقَالَ الْحَجَّاجُ: يَا جَحْدُرُ، إِنْ أَحْبَبْتَ الْمَقَامَ مَعَنَا فَأَقِمْ، وَإِنْ أَحْبَبْتَ الِانْصِرَافَ إِلَى بِلادِكَ فَانْصَرِفْ، فَقَالَ: بَلْ أَخْتَارُ صُحْبَةَ الأَمِيرِ، وَالْكَيْنُونَةَ مَعَهُ، فَفَرضَ لَهُ فِي شَرَفِ الْعَطَاءِ، وَأَقَامَ بِبَابِهِ 94 - حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ الأَثْرَمُ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى، قَالَ: لَمَّا ادَّعَى مُعَاوِيَةُ زِيَادًا، وَآثَرَ عَمْرَو بْنِ الْعَاصِ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَقَرَّبَهُمَا دُونَهُمْ جَزِعَ بَنُو أُمَيَّةَ مِنْ ذَلِكَ جَزَعًا شَدِيدًا، وَاجْتَمَعُوا فِي ذَلِكَ، فَأَتَوْا مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ فِي بَيْتِهِ، وَقَدْ كَتَبَ لَهُ مُعَاوِيَةُ عَهْدَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْبِرَ يَوْمَهُ ذَلِكَ. فَقَالَ الْقَوْمُ: يَا مَرْوَانُ، إِنَّكَ شَيْخُنَا وَكَبِيرُنَا، وَقَدْ تَرَى مَا رَكِبَنَا مُعَاوِيَةُ مِنْ أَمْرٍ لَيْسَ لَنَا عَلَيْهِ صَبْرٌ وَلا قَرَارٌ، وَلا يَنَامُ عَنْ مِثْلِهِ الأَحْرَارُ، إِدْخَالُهُ فِينَا مَنْ لَيْسَ مِنَّا، يُرِيدُ أَنْ يُدْخِلَهُ عَلَى حُرُمِنَا وَنِسَائِنَا، وَقَدِ اجْتَمَعَ رَأْيُنَا عَلَى أَنْ تَأْتِيَهُ فَتُعَاتِبَهُ. فَإِنْ رَجَعْ قَبِلْنَا، وَإِنْ أَبَى اعْتَزَلْنَا. فَقَالَ مَرْوَانُ: قَدْ وَاللَّهِ كَلَّمْتُهُ فِي هَذَا الأَمْرِ غَيْرَ مَرْةٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى شَيْءٍ مِمَّا أُحِبُّ، بَلْ يُظْهِرُ لِي التَّعَتُّبَ وَالتَّغَضُّبَ، وَيَزْعُمُ أَنِّي فِي هَذَا الأَمِرِ أَوْحَدُ. فَقَالَ لَهُ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ: يَا مَرْوَانُ، بَلْ وَاللَّهِ تُحَامِي عَلَى عَهْدِكَ. فَقَالَ مَرْوَانُ: وَاللَّهِ لَصَلاحُكُمْ فِي فَسَادِ عَهْدِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ فَسَادِكُمْ فِي صَلاحِ عَهْدِي. فَأْتُوهُ فِإِنَّهُ رَجُلٌ لَهُ إِرَبٌ وَنَظَرٌ، فَكَلِّمُوهُ بِمِلْءِ أَفْوَاهِكُمْ. قَالَ: فَانْطَلَقَ الْقَوْمُ فَاسْتَأْذَنُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَسَلَّمُوا، فَأَحْسَنَ الرَّدَّ، وَكَانَ فِيمَا قَالَ: أَهَلا وَسَهْلا، قَرَّبَ اللَّهُ الدِّيَارَ وَأَدْنَى الْمَزَارَ. أَزِيَارَةٌ فَتُحْظَى؟ أَمْ حَاجَةٌ فَتُقْضَى؟ أَمْ سَخْطَةٌ فَتُرْضَى؟ فَقَالَوا: كَلا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.

قَالَ: هَاتُوا فَجَلَسَ الْقَوْمُ، وَمَثَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَكَمِ بَيْنَ يَدَيِهِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، جَاءَتْكَ عِصَابَةٌ مِنْ رَهْطِكَ، وَأَحْرَارٌ مِنْ أُسْرَتِكَ، كُلُّهُمْ عَارِفٌ بِفَضْلِكَ، رَاعٍ لِحَقِّكَ، تَابِعٌ لأمْرِكَ، رَافِعٌ لِذِكْرِكَ، فِي أَمْرٍ سِتْرُهُ خَيْرٌ مِنْ نَشْرِهِ، وَتَرْكُهُ خُيرٌ مِنْ ذِكْرِهِ، لِعِظَمِ الْبَلِيَّةِ وَالْخَطِيئَةِ وَاللأْوَاءِ، وَالْبَلْوَى وَالآفَاتِ وَالْعَاهَاتِ، وَاعْلَمْ أَنَّا لَمْ نَأْتِكَ تَجَنِّيًا، وَلا تَجَرُّمًا، وَلا تَعتُّبًا. بَلْ جِئْنَاكَ فِي أَمْرٍ قَدْ عَجَزَتْ عَنْ حَمْلِهِ الْجُنُوبُ، وَضَاقَتْ بِهِ الْقُلُوبُ، وَكَرِهْنَا أنْ نَطْوِيَهُ عَنْكَ، فَيَثْبُتَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِنَا، مَا لا يُحْصَدُ لإِبَّانِهِ، وَلا يَبِيدُ لِزَمَانِهِ، فَإِنْ تَأذَنْ قَبِلْنَا، وَإِنْ تَأْبَ صَمَتْنَا، مَعَ أَنَّكَ إِنْ رَجَعْتَ إِلَى مَا نُحِبُّ حَمَدْنَا وَشَكَرْنَا، وَإِنْ تَأْبَ ذَلِكَ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: هَاتِ لِلِّهِ أَبُوكَ. قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ وَلَدَ عَشْرَةً ذُكُورًا، وَلَدَ حَرْبًا وَأَبَا حَرْبٍ، وَسُفْيَانَ وَأَبَا سُفْيَانَ، وَعَمْرًا وَأَبَا عَمْرٍو، وَالْعَاصِيَ وَأَبَا الْعَاصِي، وَالْعِيصَ وَأَبَا الْعِيصِ، لَمْ يَلِدْ عُبَيْدًا عَبْدَ ثَقِيفٍ، وَلا الْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ، وَقَدْ جَعَلْتَهُمَا شِعَارَكَ دُونَ دِثَارِكَ، بَلْ سِرْبَالَكَ دُونَ إِزَارِكَ، بَلْ نَفْسَكَ بَيْنَ جَنْبَيْكَ، ثُمَّ لَمْ تَرْضَ لابْنِ عُبَيْدٍ حَتَّى جَعَلْتَهُ ابْنَ أَبِي سُفْيَانَ عَضِيهَةً لِأَبِيكَ، وَازْدِرَاءً بِبَنِيكَ، وَمَعَ أَنَّ فِي ذَلِكَ السَّخْطَةَ مِنْ رَبِّكَ، وَالْمُخَالَفَةَ لِنَبِيِّكَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ قَضَى بِالْوَلَدِ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرَ، فَقَضَيْتَ أَنْتَ بِالْوَلِدِ، ثُمَّ نَسَبْتَ أَبَاكَ عَاهِرًا، وَكَانَ غَنِيًّا عَنْ ذَلِكَ، فَشَهَرْتَ أَمْرًا كَانَ مَسْتُورًا، وَرَفَعْتَ أَمْرًا كَانَ حَقِيرًا، تُرِيدُ أَنْ تُدْخِلَهُ عَلَى حُرُمِكَ، وَتَمْنَحَ وَلَدَهْ غدًا نِسَاءَكَ. ثُمَّ قَالَ: أَتَرْضَى يَا مُعَاوِيَةُ بْنَ حَرْبٍ ... بَأَنْ تَحْبُو كَرَائِمُكَ الْعَبِيدَا كَأَنِّي وَالَّذِي أَصْبَحْتُ عَبْدًا ... لَهُ بِالْقَوْمِ قَدْ شَرَكُوا يَزِيدَا فَإِنْ تَرْجِعْ فَمَثْلُكَ زَادَ خَيْرًا ... وَإِنْ تَأبَ فَلَمْ تُطِعِ الرَّشِيدَا وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، فَإِنَّكَ أَلْزَمْتَ نَفْسَكَ الْحَاجَةَ إِلَيْهَ، فَأَلْزَمَ نَفْسَهُ الْغِنَى عَنْكَ، وَايْمُ اللَّهِ لَنَحْنُ أَنْصَعُ جُيُوبًا، وَأَقَلُّ عُيُوبًا، وَأَمَسُّ رَحِمًا، وَأَوْجَبُ حَقًّا مِنْهُ، وَمَا مَنْ أَمْرٍ يَبْلُغُ فِيهِ بِنَا عَنْهُ تَقْصِيرٌ، غَيْرَ أَنَّكَ رَفَعْتَ الْمَرْءَ فَوْقَ قَدْرِهِ، فَطَغَى عَلَيْنَا بِفَخْرِهِ، وَزَخَرَ بِبَحْرِهِ، حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ شَيْءٌ وَليسَ بِشَيْءٍ. وَإِنَّكَ وَإِيَّاهُ وَإِيَّانَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ الأَوَّلُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ يَصْلُ الأَبْعَدِينَ ... وَيَشْقَى بِهِ الأَقْرَبُ الأَقْرَبُ

ثُمَّ قَامَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ خَيْرَ الْقَوْلِ أَصْدَقُهُ، وَأَشَدَّ الْقَوْلِ أَمْلَقُهُ، وَإِنَّ الْحَقَّ الأَبْلَجَ أَقْوَمُ إِلَى طَرِيقِ النَّهْجِ، وَإِنَّكَ قَدْ أُتِيتَ أَمْرًا عَظِيمًا نَاهِيًا مُتَبَايِنًا، تَتَابَعْتَ فِيهِ، وَرَكِبْتَ فِي ذَلِكَ عَقَبَةً كَئُودًا، صَيْخَدًا صَيْخُودًا، فِي تَنَائِفَ لا يُهْتَدَى فِيهِا بِدَلِيلٍ، وَلا يُؤَمُّ فِيهَا قَصْدُ السَّبِيلِ، قَصَّرْتَ فِي ذَلِكَ بِرَأْيِكَ، وَأَزْرَيْتَ بِأَبِيكَ، فَإِنْ تَرْجِعْ قَبِلْنَا، وَإِنْ تَأْبَ غَضِبْنَا، فَارْجِعْ إِلَى اللَّهِ، تَبَارَكَت أسْمَاؤُهُ، وَانْظُرْ مَا الَّذِي أَقْدَمْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّكَ عَمَدْتَ إِلَى امْرِئٍ لا رَحِمَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، وَلا هَوَادَةَ، وَإِنَّمَا عَهْدُكَ بِهِ بِالأمْسِ وَهُوَ عَامِلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، يَلْعَنُكَ وَيَلْعَنُ أَبَاكَ، وَأَهْلَ بَيْتِكَ عَلى الْمِنْبَرِ، يَتَأَوَّلُ فِينَا الْقُرْآنَ، وَيَقُولُ الْبُهْتَانَ، وَقَدْ كُنْتَ تَخْتَزِي مِنْ ذَلِكَ، إِذَا عَظَّمْتَهُ أَنْ تَجْعَلَهُ وَزِيرًا وَخُلْصَانًا فَلا يُعَابُ ذَلِكَ عَلَيْكَ، وَلا يُنْسَبُ الْخَطَأُ إِلَيْكَ، فَلَمْ يَرْضَ حَتَّى نَسَبْتَهُ إِلَى أَبِي سُفْيانَ إِلَى نَسَبٍ. إِنْ يُقْبَلْ مِنْكَ عُيِّرْتَ بِهِ آخِرَ دَهْرِكَ، وَإِنْ رُدَّ عَلَيْكَ أُزْرِيتَ بَهِ، وَصَدَّقْتَ فِي ذَلِكَ قُولَ الشَّاعِرِ، حَيْثُ يَقُولُ: أَلا أَبْلِغْ مُعَاوِيَةَ بْنَ حَرْبٍ ... مُغَلْغَلَةً مِنَ الرَّجُلِ الْيَمَانِي أَتَغْضَبُ أَنْ يُقَالَ أَبُوَكَ عَفٌّ ... وَتَرْضَى أَنْ يُقَالَ أَبُوكَ زَانِ فَأَشْهَدُ أَنَّ رَحْمَكَ مِنْ زِيَادٍ ... كَرَحْمِ الْفِيلِ مِنْ وَلَدِ الأَتَانِ وَايْمُ اللَّهِ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ وَقَدْ تَفَخَّذُوا نَسَاءَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ بَنَسَبِ أَبِي سُفْيَانَ، فَهَذَا مَا وَصَلْتَ بِهِ كَرَائِمَكَ مِنْ بِعْدِكَ، وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَإِنَّكَ آثَرْتَهُ عَلَيْنَا، وَأَدْنَيْتَهُ دُونَنَا، وَنَحْنُ فِي حَالٍ وَعَمْرٌو فِي أُخْرَى، أَمَّا نَحْنُ فَنُعَامِلُ النَّاسَ بِالْوَفَاءِ وَالْحَياءِ، وَعَمْرٌو يُعَامِلُ النَّاسَ بِالْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ، وَمَنْ كَانَ ذَلِكَ فَلا وَفَاءَ لَهُ، وَقَدْ تَبَيَّنَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ غِشُّهُ إِيَّاهُ فِي بَعْضِ الْحَالاتِ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِمَنْ غَشَّ أَوَّلا أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ آخِرًا. ثُمَّ دَخَلَ مَرْوَانُ عِنْدَ جِلُوسِ الْقَوْمِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: هِيهِ يَا مَرْوَانُ، أَعَنْ رَأْيكَ صَدَرَ هَؤُلاءِ حَتَّى أَسْمَعُونِي مَا أَكْرَهُ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ تَدْرِي مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُكَ؟ قَالَ: هَاتِ تَخْطِيطًا كَتَخْطِيطِ أَصْحَابِكَ. قَالَ: إِنَّ عَديَّ بْنَ زَيْدٍ الْعَبَّادِيَّ نَصَحَ النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ، وَقَدَّمَهُ عَلَى إِخْوَتِهِ، وَأَشَارَ عَلَى كِسْرَى بِوِلايَتِهِ، فَكَانَ جَزَاؤُهُ مِنْهُ أَنْ حَبَسَهُ فِي السِّجْنِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ وَهُوَ مَحْبُوسٌ: أَبَا مُنْذِرٍ جَازَيْتَ بِالْوِدِّ بُغْضَةً ... فَمَاذَا جَزَاءُ الْمُبْغَضِ الْمُتَبَغَّضِ مُجَازَاتُهُ فِي ذَا الْمِثَالِ كَرَاهَةٌ ... وَلَسْتُ لِشيءٍ بَعَدُ بِالْمُتَعَرِّضِ

وَاعْلَمْ أَنَّا غَيْرُ مُتَعَرِّضِينَ لِشَيْءٍ مِنْ مُعَاتَبَتِكَ فِي هَذَا الأَمْرِ بَعْدَ الْيَوْمِ، فَإِنْ تَرْجِعْ قَبِلْنَا، وَإِنْ تَأْبَ سَخِطْنَا، مَعَ أَنَّكَ وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ قَدَرْتَ أَنْ تَتَكَثَّرَ بِالذَّبْحِ عَلَى آلِ أَبِي الْعَاصِ لَفَعَلْتَ، تَوَحُّشًا مِنْكَ لِعَدَدِهِمْ، وَتَكَرُّهًا مِنْكَ لِجَمْعِهِمْ، وَتَبَرُّمًا مِنْكَ بِهِمْ. وَايْمُ اللَّهِ مَا ذَاكَ جَزَاؤُهُمْ مِنْكَ. لَقَدْ آثَرُوكَ وَأَكْرَمُوكَ. فَمَا كَافَيْتَ، وَلا جَازَيْتَ، وَلا آسَيْتَ. ثُمَّ جَلَسَ مَرْوَانُ، وَقَامَ مُعَاوِيَةُ فَدَخَلَ الْمَنْزِلَ، وَأَطَالَ الْمُكْثَ، ثُمَّ خَرَجَ قَاطِبًا مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، يَمْسَحُ عَارِضَيْهِ، ثُمَّ جَلَسَ عَلَى سَرِيرِهِ، وَاسْتَقْبَلَ الْقَوْمَ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ: أَمَا وَالَّذِي نَادَى مِنَ الطُّورِ عَبْدَهُ ... نِدَاءً سَمِيعًا فَاسْتَجَابَ وَسَلَّمَا لَقَدْ كِدْتُ لَوْلا اللَّهُ لا شَيْءَ غَيْرُهُ ... تَبَارَكَ رَبِّي ذُو الْعُلا أَنْ أُصَمِّمَا وَلَكِنَّنِي رُوِّيتُ فِي الْحِلْمِ وَالنُّهَى ... وَقَدْ قَالَ فِيهِ ذُو الْمَقَالِ فَأَحْكَمَا وَايْمُ اللَّهِ، مَعَ ذَلِكَ لَقَدْ قَطَعْتُمْ مِنْ زِيَادٍ رَحِمًا قَرِيبَةً، وَنَفْسًا حَبِيبَةً، وَقُلْتُمُ الْبُهْتَانَ فِي غَيْرِ مَا تَثَبُّتٍ وَلا بَيَانٍ، وَإِنِّي لَعَلَى يَقِينٍ مِنْ أَمْرِي، وَلَقَدْ وَضَعَ اللَّهُ مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْبَغْيِ وَالْحَمِيَّةِ، وَطلَبِ التِّرَاتِ، وَذِكْرِ قَبِيحِ الأُمَّهَاتِ. فَسَفْكُ الدِّمَاءِ، وَالشِّرْكُ بِرَبِّ السَّمَاءِ، أَعْظَمُ مِمَّا كَانَ فِيهِ أَبُو سُفْيَانَ. وايْمُ اللَّهِ، مَا إِيَّاهُ رَاقَبْتُمْ، وَلا لِي نَظَرْتُمْ، بَلْ أَدْرَكَكُمُ الْحَسَدُ الْقَدِيمُ لِبَنِي حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ. وَإِنَّ نَفْسِي لَتُؤَامِرُنِي أَنْ أُقِيمَ فِيكُمْ حَدَّ اللَّهِ، وَمَا أَرَاهُ يَسَعُنِي غَيْرُ ذَلِكَ. وَلَئِنْ عُدْتُمْ إِلَى مَا أَرَى، وَجَاءَنِي مِنْ وَرَاءِ مَا أَكْرَهُ، لأَنْهَلَنَّكُمْ صَابًا، ثُمَّ لأُعِلَنَّكُمْ عَلْقَمًا، ثُمَّ لأُورِدَنَّكُمْ حِيَاضًا مَرِيرًا طَعْمُهَا، ثُمَّ لا تُتْرَكُونَ بِغَيْرِ كَرْعِهَا، وَإِنْ جَاءَكُمُ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، حَتَّى تَعْلَمُوا مَعَ طُولِ حِلْمِي، أَنْ قَدْ مُنِيتُمْ بِمَنْ إِنْ حَزَّ قَطَعَ، وَإِنْ هَزَّ أَوْجَعَ، ثُمَّ لا تُقَالُ لَكُمْ عِنْدِي الْعَثَرَاتُ، وَلا تُعْفَا لَكُمُ السَّيِّئَاتُ، ثُمَّ لَيُسْتَصْعَبَنَّ عَلَيْكُمْ مِنِّي مَا كَانَ سَهْلا، وَلَتَتْرُكُنَّ مَا كَانَ هَيَّنًا. فَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمْ أَنِّي أَصَبْتُ السُّلْطَانَ وَالْمُلْكَ بَحَقِّكُمْ وَنِسْبَتِكُمْ، فَوَاللَّهِ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ يَا آلَ الْعَاصِ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، قُتِلَ وَأَنْتُمْ حُضُورٌ وَأَنَا غَائِبٌ، فَوَاللَّهِ مَا كَانَ فِيكُمْ مَنْ مَدَّ بَاعًا، وَلا بَسَطَ ذِرَاعًا، بَلْ أَسْلَمْتُمُوهُ لِلْحُتُوفِ، وَشِمْتُمْ مِنْ بَعْدِهِ السِّيُوفَ، فَمَا نَصَرْتُمُوهُ، وَلا آسَيْتُمُوهُ، وَلا مَنَعْتُمُوهُ بُأَكْثَرَ مِنَ الَّكَلامِ، فَمَا أَبْلَيْتُمْ فِي ذَلِكَ عُذْرًا، وَلا أَلْهَبْتُمْ نَارًا.

وَإِنْ جَمِيعَ مَنْ أَلَّبَ عَلَيْهِ وَأَجْلَبَ لَسَبَبِكُمْ، وَإِيثَارِهِ إِيَّاكُمْ، وَبِذَلِكَ قُطِعَتْ أَوْدَاجُهُ عَلَى أَثْبَاجِهِ، وَسُفِكَ دَمُهُ، وَاسْتُحِلَّتْ حُرْمَتُهُ، فَمَا شَبَّبْتُمْ نَارًا، وَلا طَلَبْتُمْ ثَارًا، حَتَّى كُنْتُ أَنَا الطَّالِبَ بِالتِّرِاتِ، الْمُثْكِلَ لِلأُمَّهَاتِ، وَلَقَدْ مُنِيتُ فِي الطَّلَبِ بَدَمِهِ بِحَرْبِ امْرِئٍ لا تَخُورُ قَنَاتُهُ، وَلا تَنْصَدِعُ صِفَاتُهُ، مَنْ إِنْ فُزِّعْتُ لَمْ يَفْزَعْ. وَإِنْ أُطْعِمْتُ لَمْ يَطْمَعْ، مَنْ لا يُطمَعُ فِي قَرَارِهِ، وَلا يُنامُ مِنْ حَذَارِهِ، بُلِيتُ وَاللَّهِ، بِلَيْثٍ ثَابِتَةٍ أَنْيَابُهُ، قَلِيلٍ غُلابُهُ، مُصَمِّمٍ غَضُوبٍ شَثْنٍ مَهِيبٍ، فَلَمْ أَزَلْ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ صَابِرًا، حَتَّى قَضَى اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحِبُّ، وَهُوَ الْحَاكِمُ فِي مُلْكِهِ بِمَا يَشَاءُ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَأَدْرَكْتُ بِالثَّأْرِ إِذْ لَمْ تُدْرِكُوا، وَصَبَرْتُ إِذْ لَمْ تَصْبِرُوا، فَأَيُّنَا أَحَقُّ بِالشُّكْرِ، أَنَا لَكُمْ، أَمْ أَنْتُمْ لِي؟ وَقَدْ كَانَتْ تَبْلُغُنِي عَنْكُمْ هَنَاتٌ قَبْلَ مَخْضَةِ زُبْدَتِكُمْ، كُلُّ ذَلِكَ أَتَعَطَّفُ عَلَيْكُمْ بِحِلْمِي، وَأَتَحَنَّنُ عَلَيْكُمْ بِجَهْدِي. وَكُنْتُ فِي ذَلِكَ، كَمَا قَالَ أَخُو بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ: أَعُوذُ عَلَى ذِي الذَّنْبِ وَالْجَهْلِ مِنْكُمُ ... بِحِلْمِي وَلَوْ عَاقَبْتُ غَرَّقَكُمْ بَحْرِي فَمَا بَالُ مَنْ يَسْعَى لأَجْبُرَ عَظْمَهُ ... حِفَاظًا وَيَنْوِي مِنْ سَفَاهَتِهِ كَسْرِي وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُنِي قَطُّ إِلا وَنَفْسِي تَدْعُونِي إِلَى الْحِلْمِ قَبْلَ سَاعَتِي هَذِهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَفَانِي شَرَّ مَا دَعَتْنِي إِلَيْهِ نَفْسِي. ثُمَّ قَالَ: أَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى أَمَا إِنِّي فِي وَعِيدِي إِيَّاكُمْ، كَمَا قَالَ الأَوَّلُ: لَقَدْ كِدْتُمُ يَا آلَ بَكْرٍ سَفَاهَةً ... تُثِيرُونَ مِنِّي أَعْصَلَ النَّابِ ضَيْغَمًا هِزَبْرًا هَرِيتًا يَكْرهُ الْقِرْنُ قُرْبَهُ ... إِذَا صَالَ مِنْ بَعْدِ الزَّئِيرِ وَصَمَّمَا وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَهَا هُوَ حَاضِرٌ، فَإِنْ شَاءَ أَنْ يُجِيبَ عَنْ نَفْسِهِ فَلْيَفْعِلْ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَدَعَ فَلْيَدَعْ، أَمَا إِنِّي أَرْضَاهُ لِلْخَصْمِ إِذَا جَمَحَ، وَلِلْقِرْنِ إِذَا طَمَحَ. ثُمَّ سَكَتَ. فَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مَائِلا بَيْنَ يَدَيِهِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَا الَّذِي أَقُولُ يَوْمَ صِفِّينَ: إِذَا تَخَازَرْتُ وَمَا بِي مِنْ خَزَرْ ... ثُمَّ كَسَرْتُ الْعَيْنَ مِنْ غَيْرِ عَوَرْ أَلْفَيْتَنِي أَلْوِي بَعِيدَ الْمُسْتَمرْ ... أَحْمِلُ مَا حُمِّلْتُ مِنْ خَيرٍ وَشَرْ

إِنِّي وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا أَنَا بِالْغِرِّ وَلا الْغُمْرِ، وَلا الضَّرَعِ وَلا الْوَرِعِ، وَلا الْوَانِي، وَلا الْفَانِي، وَإِنِّي لَأَنَا الْحَيَّةُ الصَّمَّاءُ الَّتِي لا يُبَلُّ سَلِيمُهَا، وَلا يَنَامُ كَلِيمُهَا، وَإِنِّي لأَنَا الْمَرْءُ، إِنْ كَوَيْتُ أَنْضَجْتُ، وَإِنْ هَمَزْتُ كَسَرْتُ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيُشَاوِرْ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤَامِرْ، مَعْ أَنَّهُمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ عَايَنُوا مِنْ يَوْمِ الْهَرِيرِ مَا عَايَنْتُ، أَوْ وُلُّوا مِثْلُ مَا وُلِّيتُ، إِذْ شَدَّ عَلَيْنَا أَبُو حَسَنٍ فِي كَتَائِبَهُ مَعَ أَهْلِ الْبَصَائِرِ، وَأَبْطَالِ الْعَشَائِرِ، فَهُنَاكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ شَخَصَتِ الأَبْصَارُ، وَارْتَفَعَ الشَّرَارُ، وَقَلُصَتِ الْخُصَى إِلَى مَوَاضِعِ الْكُلَى، وَقَارَعَتِ الأُمَّهَاتُ عَنْ ثُكْلِهَا، وَذُهِلَتْ عَنْ حَمْلِهَا، وَاحْمَرَّ الْحِدَقُ، وَاغْبَرَّ الأُفُقُ، وَأَلْجَمَ الْعَرَقُ، وَسالَ الْعَلَقُ، وَارْتَفَعَ غُبَارُ الْقَتَامِ، وَصَبَرَ الْكِرَامُ، وَغَاضَ اللَّئَامُ، وَذَهَبَ الْكَلامُ، وَأُزْبِدَتِ الأَشْدَاقُ، وَقَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ، وَحَضَرَ الْفِرَاقُ، وَكَثُرَ الْعِنَاقُ، وَبَانَتِ الأَعْنَاقُ، وَقَامَتِ الرِّجَالُ فِي رَكْبِهَا مِنْ بَعْدِ فَنَاءٍ مِنْ نَبْلِهَا، وَتَقَصُّفٍ مِنْ رِمَاحِهَا، فَلا يُسْمَعُ إِلا التَّغَمْغُمُ مِنَ الرِّجَالِ، وَالتَّحَمْحُمُ مِنَ الْخَيْلِ، وَوَقْعُ السُّيوفِ فِي الْهَامِ. فَدَارَ يَوْمُنَا ذَلِكَ حَتَّى طَفَقَنَا اللَّيْلُ بِغَسَقِهِ، ثُمَّ انْجَلَى الصُّبْحُ بَفَلَقِهِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنَ الْقِتَالِ إِلا الهَرِيرُ، وَالزَّئِيرُ. أَمَا وَاللَّهِ لَعَلِمُوا أَنِّي أَعْظَمُ غَنَاءً، وَأَحْسَنُ بَلاءً، وَأَصْبَرُ عَلَى اللأْوَاءِ مِنْهُمْ، وَأَنِّي كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَأُغْضِي عَلَى أَشْيَاءَ لَوْ شِئْتُ قُلْتُهَا ... وَلَوْ قُلْتُهَا لَمْ أُبْقِ لِلصُّلْحِ مَوْضِعًا فَإِنْ كَانَ عُودِي مِنْ نُضَارٍ فَإِنَّنِي ... لَأَكْرَهُ يَوْمًا أَنْ أُحَطِّمَ خَرْوَعًا وَلَئِنْ جَعَلَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ شِعَارَهُ دُونَ دِثَارِهِ، أَوْ سِرْبَالَهُ دُونَ إِزَارِهِ، أَوْ نَفْسَهَ بَيْنَ جَنْبَيْهِ، لَقَدْ أُولِيتُ ذَلِكَ، فَوَجَدْتُهُ شَكُورًا ذَكُورًا، إِذْ لَمْ تَشْكُرُوهُ، وَلَمْ تَذْكُرُوهُ، وَلا إِيَّايَ إِذْ طَلَبْنَا بِدَمِ عُثْمَانَ، إِذْ لَمْ تَحْسَبُوهُ، وَبَلَغْنَا الْغَايَةَ إِذْ لَمْ تَبْلُغُوا، وَإِذْ جَحَدْتُمْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَنْتُمْ لِلنُّعْمَى أَنْكَرُ وَأَكْفَرُ، وَأَمَّا مَا زَعَمْتَ يَا سَعِيدُ بْنَ الْعَاصِ أَنِّي أُعَامِلُ النَّاسَ بِالْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ، فَإِنِّي أَنَالُ بِالأَدَبِ، وَاللُّبِّ، وَالرِّفْقِ وَالصِّدْقِ، إِذْ خَرَقَ مَنْ لَمْ يَرْفُقْ، وَخَابَ مَنْ لَمْ يَصْدُقْ. وَأَمَّا قَوْلُكَ أَنِّي غَشَشْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَمَا غَشَّ امْرُؤٌ كَرِيمٌ امْرَأً كَرِيمًا إِنْ دَعَا إِلَى النَّصْفِ أَنْ يَقْبَلَهُ، وَإِنَّكَ فِي قَوْلِكَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لَأَهْلٌ لِلتَّضْعِيفِ وَالتَّعْنِيفِ وَالْغَضَاضَةِ وَالْمَضَاضَةِ، غَيْرَ أَنَّ حِلْمَهُ يَأْتِي عَلَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَنَا أَسْأَلُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَعْفُوَ لِلْقَوْمِ مَا قَالُوا إِنْ هُمْ آلَوْا لِاسْتِتْمَامِ نِعْمَتِكَ عَلَيْهِمْ وَأَيَادِيكَ عِنْدَهُمْ، فَلَيْسُوا رَاجِعِينَ إِلَى أَمْرٍ تَكْرَهُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ مُعَاوِيَةُ: قَدْ فَعَلْتُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، وَدَخَلَ، وَأَمَرَ الْقَوْمَ فَانْصَرَفُوا "

حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيُّ، قَالَ: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ: " عَجِبْتُ لِهَذِهِ الأَعَاجِمِ، مَلَكُوا أَلْفَ سَنَةٍ، لَمْ يَحْتَاجُوا إِلَيْنَا سَاعَةً وَاحِدَةً فِي سِيَاسَتِهِمْ، وَمَلَكْنَا مِائَةَ سَنَةٍ، لَمْ نَسْتَغْنِ عَنْهُمْ سَاعَةً حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ الْمَنْصُورُ لِجَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ حِينَ وَلاهُ الْمَدِينَةَ، بَعْدَ مَقْتَلِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ: " انْظُرْ مَنْ خَرَجَ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ قُرَيشٍ فَاسْجِنْهُ، وَمَنْ خَرَجَ مَعَهُ مِنَ الْعَرَبِ فَاجْلِدْهُ، وَمَنْ خَرَجَ مِنَ الْمَوَالِي فَاقْطَعْ يَدَهُ. حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيُّ، قَالَ: سَأَلَ مُعَاوِيَةُ عُرَابَةَ الأَوْسِيَّ، فَقَالَ: بِأَيِّ شَيْءٍ سُدْتَ قَوْمَكَ؟ قَالَ: «أَحْلُمُ عَنْ جَاهِلِهِمْ، وَأُعْطِي سَائِلَهُمْ، وَأَخِفُّ لَهُمْ فِي حَوَائِجِهِمْ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي، وَمَنْ زِدْتُ عَلَيْهِ فَأَنَا خَيرٌ مِنْهُ، وَمَنْ سَاوَانِي فَهُوَ مِثْلِي حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلامٍ،» أَنَّ أَيُّوبَ السِّخْتَيْانِيَّ كَانَ فِي مَجْلِسِ فِيهِ أَعْرِابِيٌّ، فَقَالَ لَهُ أَيُّوبُ: يَا أَعْرَابِيُّ لَعَلَّكَ قَدَرِيٌّ، قَالَ: وَمَا الْقَدَرِيُّ؟ قَالَ: فَأَخْبَرَهُ بِمَحَاسِنَ قَوْلِهِمْ. فَقَالَ: أَنَا ذَاكَ، ثُمَّ أَخْبَرَهُ بِمَا يَعِيبُ النَّاسُ مِنْ قَوْلِهِمْ، فَقَالَ: لَسْتُ بِذَاكَ، ثُمَّ أَخْبَرَهُ بِمَحَاسِنَ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ. قَالَ: أَنَا ذَاكَ. ثُمَّ أَخْبَرَهُ بِمَا يَعِيبُ النَّاسُ مِنْ قَوْلِهِمْ، فَقَالَ: لَسْتُ بِذَاكَ. فَقَالَ أَيُّوبُ: هَكَذَا يَفْعَلُ الْعَاقِلُ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَحْسَنَهُ حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ رَزِينٍ الْخُزَاعِيُّ: سَمِعْتُ دَاوُدَ بْنَ عَلِيٍّ يَخْطُبُ حِينَ بُويِعَ لأَبِي الْعَبَّاسِ، وَهُوَ مُسْنِدٌ ظَهَرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: شُكْرًا شُكْرًا، إِنَّا وَاللَّهِ مَا خَرَجْنَا لِنَحْتَفِرَ فِيكُمْ نَهْرًا، وَلا لِنَبْنِيَ قَصْرًا. أَظَنَّ عَدُوُّ اللَّهِ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ؟ أُمْهِلُ لَهُ فِي طُغْيَانِهِ وَأُرْخِي لَهُ مِنْ زِمَامِهِ، حَتَّى عَثَرَ فِي فَضْلِ خِطَامِهِ. فَالْآنَ أَخَذَ الْقَوْسَ بَارِيهَا، وَعَادَتِ النِّبَالُ إِلَى النَّزَعَةِ، وَعَادَ الْمُلْكُ فِي نِصَابِهِ فِي أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ، أَهْلُ بَيْتِ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَنَسْهَرُ لَكُمْ وَنَحْنُ فِي فُرُشِنَا مِنَ الأَسْوَدِ وَالأَبْيَضِ، لَكُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، وَذِمَّةُ الْعَبَّاسِ، لا وَرَبِّ هَذِهِ الْبِنْيَةِ لا نُهِيجُ مِنْكُمْ أَحَدًا، ثُمَّ نَزَلَ

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ الأَصْمَعِيِّ، قَالَ: " خَرَجَ مَالِكُ بْنُ أَدْهَمَ يَتَصَيَّدُ، فَصَارَ إِلَى بَلَدٍ مُقْفِرٍ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَطَلَبُوا الْمَاءَ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، فَنَزَلَ مَالِكٌ، وَضُرِبَتْ لَهُ خَيْمَةٌ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَطْلُبُوا لَهُ الصَّيْدَ، فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِ، فَأَصَابُوا خَاضِبًا فَأَتَوْهُ بِهِ، فَقَالَ: اشْوُوهُ وَلا تُنْضِجُوهُ، وَمُصُّوهُ مَصًّا لَعَلَّكُمْ أَنْ تَنْتَفِعُوا بِهِ، فَفَعَلُوا ذَاكَ، ثُمَّ أَثَارُوا شُجَاعًا، فَأَرَادُوا قَتْلَهُ، فَدَخَلَ عَلَى مَالِكٍ فِي خَيْمَتِهِ، فَقَالَ: قَدِ اسْتَجَارَ بِي فَأَجِيرُوهُ، وَلا تَقْتُلُوهُ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، ثُمَّ خَرَجَ وَأَصْحَابُهُ فِي طَلَبِ الْمَاءِ، فَإِذَا هَاتِفٌ يَهْتِفُ بِهِمْ: يَا قَوْمُ يَا قَوْمُ لا مَاءٌ لَكُمْ أَبَدًا ... حَتَّى تَحثُّوا الْمَطَايَا يَوْمَهَا التَّعَبَا وَشَدِّدُوا يَمْنَةً فَالْمَاءُ عَنْ كَثَبٍ ... مَاءٌ غَزِيرٌ وَعَينٌ تُذْهِبُ اللَّغَبَا حَتَّى إِذَا مَا أَخَذْتُمْ مِنْهُ حَاجَتَكُمْ ... فَاسْقُوا الْمَطَايَا وَمِنْهُ فَامْلَئُوا الْقِرَبَا فَأَخَذْنَا نَعْتَهُ، فَإِذَا نَحْنُ بِعَينٍ غَزِيرَةٍ، فَسَقَيْنَا مِنْهَا إِبِلَنَا وَتَزَوَّدْنَا، فَلَمَّا فَعَلْنَا ذَلِكَ، لَمْ نَرَ لِلْعَيْنِ أَثَرًا، وَإِذَا هَاتِفٌ يَهْتِفُ بِنَا، يَقُولُ: يَا مَالِ عَنِّي جَزَاكَ اللَّهُ صَالِحَةً ... هَذَا وَدَاعٌ لَكُمْ مِنِّي وَتَسْلِيمٌ لا تَزْهَدَنْ فِي اصْطِنَاعِ الْعُرْفِ مِنْ أَحَدٍ ... إِنَّ امْرَأً يَحْرِمُ الْمَعْرُوفَ مَحْرُومٌ الْخَيْرُ يَبْقَى وَإِنْ طَالَتْ مَغَبَّتُهُ ... وَالشَّرُّ مَا عَاشَ مِنْهُ الْمَرءُ مَذْمُومُ فَعَلِمْنَا أَنَّهُ ذَلِكَ الشُّجَاعُ حَدَّثَنِي مُبَارَكٌ الطَّبَرِيُّ، قَالَ: " دَخَلَ عُمَارةُ بْنُ حَمْزَةَ عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ السَّفَّاحِ، فَأَكْرَمَهُ وَرَفَعَ مَجْلِسَهُ، وَأَسْنَى جَائِزَتَهُ، وَأَمَرَ لَهُ بِجَوْهَرٍ نَفِيسٍ، فَقَالَ: وَصَلَكَ اللَّهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَرَّكَ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ أَرَدْنَا شُكْرَكَ عَلَى صِلَتِكَ إِنَّ الشُّكْرَ مِنَّا لَيَقْصُرُ عَنْ نِعْمَتِكَ، كَمَا قَصُرْنَا عَنْ مَنْزِلَتِكَ، غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَكَ الْفَضْلَ عَلَيْنَا، وَلَمْ يَحْرِمْنَا مِنْكَ الزِّيَادَةَ لِتَقْصِيرِ شُكْرِنَا. فَأَمَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَنْ يُكْتَبَ هَذَا الْكَلامُ وَيُدَوَّنُ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلامٍ، قَالَ: " أُتِيَ الْحَجَّاجُ بَخَاتَمٍ، فَأَعْجَبَهُ. فَقَالَ لابْنِ الْقِرِّيَّةِ: صِفْهُ. فَقَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ الأَمِيرَ، هَذَا خَاتَمٌ أَزَمٌ، لازِمٌ، مَلَّحَهُ صَانِعٌ، أَغْلَى بِهِ بَائِعٌ، فِضَّتُهُ صَافِيَةٌ، وَيَاقُوتَتُهُ غَالِيَةٌ، وَالْخَوَاتِيمُ لَهُ قَالِيَةٌ، وَالْعُيُونُ إِلَيْهِ سَامِيَةٌ، وَلا تُرَدُّ طِينَتُهُ، اسْتَوَتْ حَلَقَتُهُ بِزَيْنٍ لا بِشَيْنٍ. قَالَ: هَذَا كَلامٌ تَعَلَّمْتَهُ؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ، وَلَكِنَّهُ كَلامٌ أُحْكِمَتْ مَعَانِيهِ، وَأُجِيدَتْ مَبَانِيهِ. فَأَحْسَنَ جَائِزَتَهُ

حَدَّثَنِي الْمَدَائِنِيُّ، قَالَ: " خَرَجَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَبَصُرَ فِي صَحْنِ دَارِهِ بِجَارِيَةٍ مِنْ جَوَارِيهِ، أَعَزُّهُنَّ عَلَيْهِ، وَأَحَبُّهُنَّ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهَا: مَا أَوْقَفَكِ هَذَا الْمَوْقِفَ؟ قَالَتْ: ذَكَرْتُ قَوْلَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191] ، وَإِذَا هَاتِفٌ يَهْتِفُ، وَيَقُولُ: مَحْجُوبَةٌ سَمِعَتْ صَوْتِي فَأَرَّقَهَا ... مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ لَمَّا بَلَّهَا السَّحَرُ تُدْنِي عَلَى الْجِيدِ مِنْهَا مِنْ مُعَصْفَرَةٍ ... وَالْحُلِيُّ مِنْهَا عَلَى لُبَّاتِهَا حَصِرُ فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ لِحَاجِبِهِ: عَلَيَّ بَرَأسِ الرَّجُلِ السَّاعَةَ. قَالَ: وَخَلَتِ الْجَارِيَةُ بِغُلامٍ لَهَا صَغِيرٍ، فَقَالَتْ: أَنْذِرِ الرَّجُلَ وَلَكَ عَشْرَةُ آلافِ دِرْهَمٍ، وَأَنْتَ حُرٌّ. فَخَرَجَ الْغُلامُ، فَسَبَقَ إِلَى الرَّجُلِ فَأَنْذَرَهُ، فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ أَمَرَ فِيكَ بِضَرْبِ عُنُقِكَ، فَأَمْسِكَ عَلَيْكَ صَوْتَكَ. فَأَمْسَكَ، فَرَجَعَ الْحَاجِبُ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا أَحْسَسْتُ لِلْصَوْتِ أَثَرًا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلامٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، قَالَ: " كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ الْحَسَنِ بْنِ أَبِيِ الْحَسَنِ، إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ، فَوَقَفَ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، إِنَّكَ سُئِلْتَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِيِ طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقُلْتَ لَهُ: لَوْ كَانَ فِي الْمَدِينَةِ يَأْكُلُ مِنْ حَشَفِهَا وَتَمْرِهَا، كَانَ خَيرًا مِمَّا صَنَعَ. فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي كَلِمَةُ بَاطِلٍ، حَقَنْتُ بِهَا دَمِي. أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ فَقَدْتُمُوهُ سَهْمًا مِنْ سِهَامِ اللَّهِ صَائِبًا لِعَدُوِّ اللَّهِ، لَيْسَ بِالسَّرُوقَةِ مَالِ اللَّهِ، وَلا بِالنَّئُومَةِ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ، رَبَّانِيُّ هَذِهِ الأُمَّةِ فِي عِلْمِهَا وَفَضْلِهَا وَقِدَمِهَا، أَعْطَى الْقُرْآنَ عَزَائِمَهُ فِيمَا عَلَيْهِ وَلَهُ، حَرَّمَ حَرَامَهُ، وَأَحَلَّ حَلالَهُ، حَتَّى أَوْرَدَهُ ذَلِكَ عَلَى رِيَاضٍ مُونِقَةٍ، وَحَدَائِقَ مُغْدِقَةٍ، ذَاكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَا لُكَعُ حَدَّثَنِي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: " خَرَجَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ حَاجًّا، وَكَانَ إِذَا أَمَرَ بِأَمْرٍ لا يُرَاجَعُ فِيهِ. قَالَ: فَسَأَلَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ لِقَهْرَمَانِهِ: هَاتِ خَمْسَمِائَةَ، فَجَاءَهُ بِخَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ إِلا دِرْاهِمَ، فَأَمَّا إِذْا جِئْتَ بِهَا دَنَانِيرَ، فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ. قَالَ: فَصَبَّهَا فِي شَمْلَةِ الأَعْرَابِيِّ. فَطَفِقَ الأَعْرَابِيُّ يَبْكِي. فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ يَا أَعْرَابِيُّ؟ أَسْتِقْلالا لَهَا؟ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَبْكِي فَرَحًا بِهَا إِذْ جَاءَتْ، وَلا أَسًى عَلَيْهَا إِذْ فَاتَتْ، غَيْرَ أَنِّي أَبْكِي أَنَّ الأَرْضَ تَأْكُلُ مِثْلَكَ، ثُمَّ أَنْشَأَ، يَقُولُ: أَنْتَ خَيْرُ الْمَتَاعِ لَوْ كُنْتَ تَبْقَى ... غَيْرَ أَنْ لا بَقَاءَ للإِنْسَانِ لَيْسَ فِيمَا بَدَا لَنَا مِنْكَ عَيْبٌ ... عَابَهُ النَّاسُ غَيْرَ أَنَّكَ فَانِ

دفن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه، قام علي على القبر، وأنشأ يقول: لكل اجتماع من

106 - حَدَّثَنِي الْمَدَائِنِيُّ، قَالَ: " لَمَّا فَرَغَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِيِ طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ دَفْنِ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، قَامَ عَلِيٌّ عَلَى الْقَبْرِ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ: لُكُلِّ اجْتِمَاعٍ مِنْ خَلِيلَيْنِ فُرْقَةٌ ... وَكُلُّ الَّذِي دُونَ الْمَمَاتِ قَلِيلُ وَإِنَّ افْتِقَادِي وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ ... دَلِيلٌ عَلَى أَنْ لا يَدُومَ خَلِيلُ " 107 - حَدَّثَنِي الْمَدَائِنِيُّ، عَنِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ، عَن ابْنِ أَبِي مَخْنَفٍ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيسٍ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ صَبِيحَةَ جَاءَ نَعْيُ الأَشْتَرِ. فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْنَا، قَالَ: «رَحِمَ اللَّهُ مَالِكًا وَمَا مَلَكَ، لَوْ كَانَ مِنْ جَبَلٍ لَكَانَ فِنْدًا، أَوْ مِنْ حَجَرٍ لَكَانَ صَلْدًا، عَلَى مِثْلِ مَالِكٍ فَلْتَبْكِ الْبَوَاكِي، وَهَلْ يُوجَدُ مِثْلُ مَالِكٍ» . قَالَ: فَمَا زَالَ يَتَلَهَّفُ عَلَيْهِ حَتَّى كَأَنَّهُ الْمُصَابُ بِهِ دُونَنَا حَدَّثَنِي مُبَارَكٌ الطَّبَرِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عِيسَى بْنَ عَلِيٍّ، يَقُولُ: " كَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، لا يَحْجُبُنِي فِي خِلافَتِهِ. قَالَ: فَأَتَيْتُهُ يَوْمًا، فَلَمَّا دَخَلْتُ دَارَهُ، قَامَ إِلَيَّ رَجُلٌ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ بَشَّرَنِي، وَهَنَّأَنِي. فَقُلْتُ لَهُ: مَا هَذِهِ الْبِشَارَةُ وَالتَّهْنِئَةُ؟ فَقَالَ: أَنَا رَسُولُ مُوسَى بْنِ كَعْبٍ مِنَ السِّنْدِ، وَقَدْ فَتَحَهَا اللَّهُ، وَهَذَا الْكِتَابُ مَعِي. قَالَ: فَأَخَذْتُ الْكِتَابَ مِنْهُ، وَمَضَيْتُ أُرِيدُ الدُّخُولَ عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ. فَوَثَبَ إِلَيَّ وَاثِبٌ مِنْ مَجْلِسِ أَبِي الْعَبَّاسِ، فَهَنَّأَنِي وَبَشَّرَنِي. فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ الْبِشَارَةُ؟ فَقَالَ: أَنَا رَسُولُ مُحَمَّدِ بْنِ الأَشْعَثِ، مِنْ أَفْرِيقِيَّةَ. وَقَدْ فَتَحَهَا اللَّهُ لَكُمْ. قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، يُهَنِّيكَ النَّصْرُ وَالظَّفْرُ. قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ فَقُلْتُ: هَذَانِ رَسُولانِ قَدْ أَتَيَاكَ بِفَتْحِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. قَالَ: قُلْتُ: مَا لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: يَا عَمُّ، غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، وَاللَّهِ مَا كُنَّا نَسْمَعُ الْعِلمَ وَلا نَأْخُذُهُ إِلا عَنْكُمْ، أَفَلَسْتُمْ أَنْتُمْ حَدَّثْتُمُونَا: أَنَّهُ إِذَا أَتَى الْقَائِمَ مِنَّا فَتَحُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَمْ يَلْبِثْ أَنْ يَمُوتَ. قَالَ: فَأَذْكَرَنِي وَاللَّهِ حَدِيثًا قَدْ سَمِعْتُهُ وَعَلَّمْتُهُ لَكِنَّنِي أُنْسِيتُهُ، وَكَرِهْتُ أَنْ أَرْجِعَ إِلَى قَوْلِهِ فَأَغُمَّهُ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي وَاللَّهِ لَو عَلِمْتُ ذَلِكَ حقًّا، مَا حَدَّثْتُكَ بِالْفَتْحِ، وَلا بَشَّرْتُكَ بِهِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الأَحَادِيثِ بَاطِلٌ. قَالَ: دَعْ هَذَا عَنْكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُنْكِرُ نَفْسِي. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى تَدَثَّرَ، فَمَكَثْتُ أَيَّامًا، ثُمَّ دَخَلْتُ يَوْمًا، فَقَالَ: أَيْ عَمِّ، إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَعْهَدَ. فَقُلْتُ: وَفَّقَ اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.

أتي عمر ببرود، فقال للذي أتاه بها: أخرج لي خيرها وشرها، ثم قال: علي بالحسن، فلما أتاه دفع

قَالَ: فَدَعَا بِدَوَاةٍ ثُمَّ كَتَبَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا مَا عَهِدَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ، ثُمَّ كَفَّ عَنِ الْكِتَابِ، قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيٍّ، قَالَ: ثُمَّ أَتَمَّ الْكِتَابَ. هَذَا مَا عَهِدَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَإِنْ حَدَثَ بِعَبْدِ اللَّهِ حَدَثُ الْمَوْتِ فَإِلَى عِيسَى بْنِ مُوسَى 109 - حَدَّثَنِي الْمَدَائِنِيُّ، قَالَ: أُتِيُ عُمَرُ بِبُرُودٍ، فَقَالَ لِلَّذِي أَتَاهُ بِهَا: أَخْرِجْ لِي خَيْرَهَا وَشَرَّهَا، ثُمَّ قَالَ: عَلَيَّ بِالْحَسَنِ، فَلَمَّا أَتَاهُ دَفَعَ إِلَيْهِ خَيْرَهَا، ثُمَّ قَالَ لِشَرِّهَا: هَذَا نَصِيبُ عُمَرَ، وَقَسَّمَ الْبُرُودَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ حَدَثَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ حَدَثٌ، فَقَامَ عُمُرُ خَطِيبًا، وَعَلَيْهِ حُلَّةُ بُرْدَيْنِ، ائْتَزَرَ بَأَحَدِهِمَا، وَارْتَدَى بِالأُخْرَى. فَقَالَ سَلْمَانُ: لا نَسْمَعُ. قَالَ عُمَرُ: لِمَ؟ قَالَ: كَسَوْتَنَا بُرْدًا، وَنَرَى عَلَيْكَ بُرْدَيْنِ. فَقَالَ عُمَرُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، مَرَّتَيْنِ. فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ. فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ. فَقَالَ: لَبَّيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: نَاشَدْتُكَ اللَّهَ أَمَا كَسَوْتُكَ أَحَدَ هَذَيْنِ الْبُرْدَيْنِ؟ قَالَ: بَلَى. فَقَالَ سَلْمَانُ: قُلْ مَا شِئْتَ نَسْمَعُ لَكَ وَنُطِيعُ " حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ: " كَتَبَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ إِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدْ حَمَلْتُكُمْ عَلَى رَأْسِي، ثُمَّ عَلَى عَيْنِي، ثُمَّ عَلَى فَمِي، ثُمَّ عَلَى صَدْرِي، وَاللَّهِ لَئِنْ وَضَعْتُكُمْ تَحْتَ قَدَميَّ لَأَطَأَنَّكُمْ وَطْأَةً أَقِلُّ مِنْهَا عَدَدَكُمْ، وَأَتْرُكُكُمْ أَحَادِيثَ تُنْسَخُ مَعَ أَحَادِيثَ عَادٍ وَثَمُودَ. ثُمَّ تَمَثَّلَ هَذَا الشِّعْرَ: أَظُنُّ الْحِلْمَ دَلَّ عَلَيَّ قَوْمِي ... وَقَدْ يُسْتَجْهَلُ الرَّجُلُ الْحَلِيمُ وَمَارَسْتُ الرِّجَالَ وَمَارَسُونِي ... فَمُعْوَجٌّ عَلَيَّ وَمُسْتَقِيمُ وَلَكِنِّي أُلاقِي مُنْكَرَاتٍ ... فَأُنْكِرُهَا وَمَا أَنَا بِالظَّلُومُ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي، يَأْتِينِي بَعْدَ كِتَابِي هَذَا، إِلا خَلْعُكُمْ، وَلا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي إِلا نِقْمَتَكُمْ، فَإِذَا شِئْتُمْ، فَلا أَفْلَحَ مَنْ نَدِمَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُتْبِيُّ، يَقُولُ: " سَأَلَ أَعْرَابِيٌّ رَجُلا فَأَعْطَاهُ. فَقَالَ: جَعَلَ اللَّهُ الْمَعْرُوفَ عَلَيْكَ دَلِيلا، وَالْخَيْرَ شَاهِدًا، وَلا جَعَلَ حَظَّ القَّائِلِ مِنْكَ عُذْرًا ضَائِعًا ". وَقَالَ: سَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا يَدْعُو فِي الصَّلاةِ، وَهُوَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي عَمَلَ الْخَائِفِينَ، وَخَوْفَ الْعَامِلِينَ، حَتَّى أَتَنَعَّمَ بِتَرْكِ النَّعِيمِ طَمَعًا فِيمَا وَعَدْتَ وَخَوْفًا مِمَّا أَوْعَدْتَ» . حَدَّثَنِي مُبَارَكٌ الطَّبَرِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ الرَّبِيعَ بْنَ يُونُسَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ الْمَنْصُورَ، يَقُولُ: " الْخُلَفَاءُ أَرْبَعَةٌ، وَالْمُلُوكُ أَرْبَعَةٌ: فَالْخُلَفَاءُ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. عَلِيٌّ مَا نَالَ، وَنِيلَ مِنْهُ أَعْظَمُ، وَلَنِعْمَ الرَّجُلُ كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنْ رَجُلٍ لَيْسَ لَهُ مِثْلُ قِدَمِ هَؤُلاءِ وَسَابِقَتِهِمْ.

وَالْمُلُوكُ: مُعَاوِيَةُ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ، وَهِشَامٌ، وَأَنَا، وَلَنِعْمَ رَجُلُ الْحَرْبِ كَانَ حِمَارُ الْجَزِيرَةِ، مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ طَابَعُ الْخِلافَةِ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِيِ بَكْرٍ الْمُؤمَّلِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِيِ عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ: " صَارَ أَعْرَابِيٌّ مِنَ النَّمِرِ بْنِ قَاسِطٍ إِلَى مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ. فَأَقَامَ بِبَابِهِ حِينًا لا يَصِلُ إِلَيْهِ، ثُمَّ دَخَلَ فِي الْعَامَّةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَأَصَابَ مِنَ الطَّعَامِ مَعَ النَّاسِ، ثُمَّ قَامَ فَسَلَّمَ عَلَى مَسْلَمَةَ، فَرَدَّ مَسْلَمَةُ السَّلامَ. فَقَالَ: يَا ابْنَ الْخَلِيفَةِ، زُرْتُكَ وَأَنْتَ غُرَّةُ مُضَرَ وَحُسَامُهَا، حِينَ تُذْكَرُ، لِأَنَّكَ تَعَطَّفَتْ عَلَيْكَ الأَمْلاكُ، فَلَيْسَ يَخَافُ ضَيفٌ لَدَيْكَ الْهَلاكَ، وَأَنْتَ فِي فَرْعٍ مِنَ الْفُرُوعِ نُضَارٌ وَرِثْتَهُ عَنِ الأَكَابِرِ الْكِبَارِ، وَمِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ وَمَرْوَانَ، هُنَالِكَ الْفَضْلُ وَالْبَيَانُ، وَالْعِزُّ وَالسُّلْطَانُ سَادُوا النَّاسَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِدَمًا، وَفِي الْإِسْلامِ خَيْرًا وَكَرَمًا. فَلَكَ كَفَّانِ، كَفٌّ تُمْطِرُ النَّدَى، وَالأُخْرَى سِمَامٌ يَقْتُلُ الْعِدَى، وَإِنَّكَ وَاللَّهِ لَتَقِيٌّ، وَمِنَ الأَدْنَاسِ نَقِيٌّ، وَإِنَّكَ لَمُهَذَّبٌ فِي الْكِرَامِ، فَلَيْسَ يَفُوقُكَ أَحَدٌ مِنَ الأَنَامِ، وَإِنَّكَ لَفِي بَحْرٍ مِنَ الْمَجْدِ، قَدْ رُزِقْتَ مِنَ الْحَمْدِ. فَالنَّاسُ لَدَى بَابِكَ يَرْجُونَ نَدَى فَضْلِكَ، مِنْ عَوَائِدِ سِيَبِكَ، لَأَنَّكَ لِلْجُودِ حَلِيفٌ، وَلَأَنَّ الْجُودَ عَلَيْكَ يَطُوفُ. تَرَاهُ عَلَيْكَ وَطَيْفَهُ، تَسْجِلُهَا مِنْ بُحُورٍ عَرِيضَةٍ. فَقَالَ مَسْلَمَةُ: وَاللَّهِ يَا أَعْرَابِيُّ إِنَّكَ لَفَصِيحٌ. قَالَ: أَجَلْ، وَأَنَا مَعَ ذَلِكَ صَرِيحٌ. قَالَ: فَمَا تَكَادُ تَجِدُ أَعْرَابِيًّا عَاقِلا. قَالَ: وَمَا يُذْهِبُ عَقْلَهُ لَوْ كَانَ كَامِلا؟ قَالَ: لأَنَّهُ قَلَّمَا يُخَالِطُ النَّاسَ. قَالَ: فَذَاكَ أَكْيَدُ لَهُ عِنْدَ النَّاسِ. قَالَ: وَأَنَّى لَهُ بِالْبَأْسِ، وَهُوَ لا يَرَى الْقِتَالَ؟ قَالَ: يَكُونُ غَمْرًا فَيَجْتَرِئُ عَلَى الأَبْطَالِ. قَالَ: وَأَنَّى لَهُ الْجَرَاءَةُ وَلَمْ يَجْتَرِئْ؟ قَالَ: أَنْ يُصَمِّمَ الْحَمْلَةَ ثُمَّ يَصْبِرَ. قَالَ: وَكَيْفَ يَصْبَرُ عَلَى الطِّعَانِ؟ قَالَ: تَرَاهُ فَرْضًا تَفْرِضُهُ الأَقْرَانُ. قَالَ مَسْلَمَةُ: يَا عَجَبًا لِهَذا الأَعْرَابِيِّ. قَالَ: وَمَا يُعْجِبُكَ مِنِّي يَا ابْنَ الْخَلِيفَةِ، وَمِنْ صَوَابِي؟ قَالَ مَسْلَمَةُ: وَمَا جَعَلَكَ بِالصَّوَابِ، أَوْلَى مِنْ غَيْرِكَ؟ قَالَ: إِنَّهَا سَجِيَّتِي، وَعَلَيْهِ رَكَّبْتُ طَبِيعَتِي، فَنَفِّسْ كُرْبَتِي، وَأَجْزِلْ عَطِيَّتِي، وَرُدَّنِي إِلَى بَلَدِي. قَالَ: وَأَيْنَ تَسْكُنُ؟ قَالَ سَرَاةَ الطَّائِفِ. قَالَ مَسْلَمَةُ: مَعَدِنُ الْعِنَبِ وَالزَّبِيبِ؟ ، قَالَ: نَعَمْ، لِسَانٌ بَدَويٌّ، وَبَلَدٌ عَلَوِيٌّ. قَالَ فَاحْتَكِمْ. قَالَ: أَحْتَكِمُ عَشْرَةَ جِلالٍ تَمْرًا وَعَشْرَةَ أَعْنِزٍ، وَقَطِيفَةً لِلْعِيَالِ، وَجَمَلا نَجْعَلُ عَلَيْهِ مَتَاعَنَا، وَثَلاثِينَ دِرْهَمًا. فَأَمَرَ لَهُ بِمَا طَلَبَ

وليناكم قريبا، وعدلنا عليكم خير من خطبنا فيكم، وإن أعش يأتكم الكلام على جهته، إن شاء الله "

115 - حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ، قَالَ: صَعِدَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ الْمِنْبَرَ لَمَّا بُويِعَ بِالْخِلافَةِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ ارْتُجَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: وَلِينَاكُمْ قَرِيبًا، وَعَدْلُنَا عَلَيْكُمْ خَيْرٌ مِنْ خُطَبِنَا فِيكُمْ، وَإِنْ أَعِشْ يَأْتِكُمُ الْكَلامُ عَلَى جِهَتِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ " قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرُ: وَيُرْوَى عَنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنَّهُ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ ارْتُجَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ أَوَّلَ مَرْكَبٍ صَعْبٌ، وَمَا كُنَّا خُطَبَاءَ، وَسَيَعْلَمُ اللَّهُ، وَإِنَّ امْرَأً لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آدَمَ إِلا أَبٌ مَيِّتٌ لَمَوْعُوظٌ» . ثُمَّ نَزَلَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرُ: " وَقَفَ ثَابِتٌ قُطْنَةُ عَلَى الْمِنْبَرِ بِالسِّنْدِ، فَارْتُجَّ عَلَيْهِ، فَنَزَلَ، فَقَالَ: وَإِنْ لا أَكُنْ فِيكُمْ خَطِيبًا فَإِنَّنِي ... بِسَيْفِي إِذَا جَدَّ الْوَغَى لَخَطِيبُ فَقِيلَ لَهُ: لَوْ قُلْتَ هَذَا عَلَى الْمِنْبَرِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ مِنْهُ كُنْتَ أَخْطَبَ النَّاسِ قَالَ: وَارْتُجَّ عَلَى خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ القَسْرِيِّ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ، فَقَالَ: «إِنَّ هَذَا الْكَلامَ يَجِيءُ أَحْيَانًا، وَيَعْزُبُ أَحْيَانًا، وَرُبَّمَا طُلِبَ فَأَبَى، وَكُوثِرَ فَقَسَا، فَالتَّأَنِّي لِمَجِيئِهِ أَيْسَرُ مِنَ التَّعَاطِي لِأَبِيهِ، وَقَدْ يَخْتَلِجُ مِنَ الْجَرِيءِ جَنَانُهُ، وَيَنْقَطِعُ مِنَ الذَّرِبِ لِسَانُهُ، فَلا يُبْطِرُهُ الْقَوْلُ إِذَا اتَّسَعَ، وَلا يُسْكِرُهُ النُّطْقُ إِذَا امْتَنَعَ، وَسَأَعُودُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» . وَقَالَ: شَكَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ إِلَى زِيَادِ بْنِ أَبِيِهِ، وَهُوَ كَاتِبُهُ عَلَى الْعِرَاقِ، الْحَصْرَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَمِعْتَ كَلامَ غَيْرِكَ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ اسْتَكْثَرتَ مَا يَكُونُ مِنْكَ. قَالَ: فَكَيْفَ أَسْمَعُ ذَاكَ؟ قَالَ: رُحْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَكُنْ مِنَ الْمَقْصُورَةِ بِالْقُرْبِ حَتَّى أُسْمِعَكَ خُطَبَ النَّاسِ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، قَالَ زِيَادٌ: إِنَّ الأَمِيرَ سَهِرَ الْبَارِحَةَ فَلَيْسَ يُمْكِنُهُ الْخُرُوجَ إِلَى الصَّلاةِ والْتَفَتَ رَجُلٌ إِلَى رَجُلٍ مِنْ سَادَةِ بَنِي تَمِيمٍ، فَقَالَ لَهُ: قُمْ فَاخْطُبْ، وَصَلِّ بِالنَّاسِ. فَلَمَّا أَوْفَى عَلَى ذُرْوَةِ الْمَنْبَرِ، قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ. قَالُوا: قَبَّحَكَ اللَّهُ، جَلَّ ثَنَاؤُهُ، يَقُولُ: {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: 54] ، وَتَقُولُ أَنْتَ: فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ. فَنَزَلَ وَالْتَفَتَ إِلَى شَرِيفٍ لِرَبِيعَةَ، فَقَالَ لَهُ: قمْ فَاخْطُبْ، فَلَمَّا ارْتَقَى عَلَى الْمِنْبَرِ ضَرَبَ بِطَرَفِهِ، فَوَقَعَ عَلَى جَارٍ لَهُ كَانَ يُخَاصِمُهُ فِي حَدٍّ بَيْنَهُمَا. فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. وَارْتُجَّ عَلَيْهِ. فَقَالَ لِجَارِهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنْ نَزَلْتُ إِلَيْكَ يَا أَصْلَعُ لَأَفْعَلَنَّ بِكَ، وَلَأَفْعَلَنَّ. فَأَنْزَلُوهُ.

فَالْتَفَّ إِلَى رَئِيسٍ مِنْ رُؤَسَاءِ الأَزْدِ، فَقَالَ لَهُ: انْهَضْ، فَأَقِمْ لِلنَّاسِ صَلاتَهُمْ، فَلَمَا تَسَنَّمَ الْمِنْبَرَ، قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ وَاللَّهِ هَمَمْتُ أَنْ لا أَحْضُرَ الْيَوْمَ، فَقَالَتْ لِي امْرَأَتِي: أَنْشَدْتُكَ بِاللَّهِ إِنْ تَرَكْتَ فَضْلَ الصَّلاةِ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَأَطَعْتُهَا، فَوَقَفْتُ هَذَا الْمَوْقِفَ الَّذِي تَرَوْنَ. فَاشْهَدُوا جَمِيعًا أَنَّهَا طَالِقٌ. فَأَنْزَلُوهُ إِنْزَالا عَنِيفًا. وَأَرْسَلَ زِيَادٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُقِيمُ لِلْنَاسِ صَلاتَهُمْ، وَلا بُدَّ مِنْ أَنْ تَحْمِلَ عَلَى نَفْسِكَ. فَخَرَجَ فَخَطَبَ فَتَبَيَّنَ فَضْلُهُ فِي النَّاسِ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ ". حَدَّثَنِي الْمَدَائِنِيُّ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ رَبِّهِ الْيَشْكُرِيُّ عَامِلا لِعَلِيِّ بْنِ مُوسَى عَلَى الْمَدَائِنِ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ ارْتُجَّ عَلَيْهِ، فَسَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي لَأَكُونُ فِي بَيْتِي، فَتَجِيءُ عَلَى لِسَانِي أَلْفُ كَلِمَةٍ، فَإِذَا قُمْتُ عَلَى أَعْوَادِكُمْ هَذِهِ جَاءَ شَيْطَانٌ فَمَحَاهَا كُلَّهَا مِنْ صَدْرِي، وَلَقَدْ كُنْتُ وَمَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ يَوْمٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مَنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَصِرْتُ وَمَا فِي الأَيَّامِ يَوْمٌ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَمَا ذَاكَ إِلا لِخُطْبَتِكُمْ. فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: وَلِمَ تَقُولُ هَذَا، أَصْلَحَ اللَّهُ الأَمِيرَ، وَأَنْتَ أَخْطَبُ النَّاسِ؟ قَالَ: وَاللَّهِ لَخُطْبَتِي أَنْتَنُ مِمَّا فِي الْحُشِّ. يَقُولُ الْحَاجِبُ: لا يَكُونُ لِمَا فِي الْحُشِّ إِلا الْهَوَانُ حَدَّثَنِي الْمَدَائِنِيُّ، قَالَ: وَلِيَ أَخٌ لِخَالِدِ بْنِ عَتَّابِ بْنِ وَرْقَاءَ الرَّيَّ، فَمَكَثَ جُمَعًا لا يَخْطُبُ. فَقَالَ لَهُ كَاتِبُهُ: أَصْلَحَ اللَّهُ الأَمِيرَ، قَدِ اسْتُعْمِلْتَ عَلَى الرَّيِّ، وَهُوَ ثَغْرٌ مِنْ ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَطَرِيقُ أَهْلِ خُرَاسَانَ، فَلَوْ خَرَجْتَ ثُمَّ خَطَبْتَ النَّاسَ. فَقَالَ: عَلَى مَنْ أَخْطُبُ، وَيْلَكَ، هُمْ أَعْلاجٌ أُمِّيُّونَ؟ قَالَ لَهُ: لا بُدَّ مِنْ خُطْبَةٍ. فَخَرَجَ وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ. فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ ارْتُجَّ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ يَقُولُ: أَمَّا بَعْدُ، وَقُبَالَةُ وَجْهِهِ شَيخٌ أَصْلَعُ، فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، يَا أَصْلَعُ، فَوَاللَّهِ مَا غَلَّطَنِي غَيْرُكَ، عَلَيَّ بِهِ. فَأُتِيَ بِهِ، فَضَرَبَهُ أَسْوَاطًا حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: " ارْتُجَّ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ وَهُوَ عَلَى مِنْبَرِ الْبَصْرَةِ فِي يَوْمِ أَضْحَى، فَقَالَ: وَاللَّهِ لا أَجْمَعُ عَلَيْكُمْ عِيًّا وَلُؤْمًا، مَنْ أَخَذَ شَاةً مِنَ السُّوقِ فَهِي لَهُ، وَثَمَنُهَا عَلَيَّ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: " خَطَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ عَلَى مِنْبَرِ حِمَصَ، فَارْتُجَّ عَلَيْهِ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، يَا أَهْلَ حِمْصَ، فَأَنْتُمْ إِلَى إِمَامٍ عَادِلٍ أَحْوَجُ مِنْكُمْ إِلَى خَطَيبٍ مِصْقَعٍ. ثُمَّ نَزَلَ

رددت أمر المسلمين إليك فدبرهم برأيك، واتق الله الذي إليه معادك، فقد أخرجت من رقبتي ذلك.

123 - حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُؤَمَّليُّ، عَنْ عَامِرِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَالِمٍ، قَالَ: " دَخَلْتُ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ يَوْمًا، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ لِي إِلَيْكَ ثَلاثَ حَوَائِجَ، قَالَ: وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَمَّا أُولاهُنَّ فَتُقِيمُ جُلَسَاءَكَ، قَالَ: فَأَمَرَهُمْ فَقَامُوا، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلا تَغْضَبْ. قَالَ: وَلا أَغْضَبُ. قَالَ: وَمَا الثَالِثَةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: إِنَّ كُلَّ مَنْ وَرَاءَ بَابِكَ مَقْتُولٌ مَقْهُورٌ. قَالَ: فَغَضِبَ. فَقُلْتُ: أَلَيْسَ قَدْ ضَمِنْتَ أَنْ لا تَغْضَبَ. قَالَ: فَلا أَغْضَبُ إِذًا. وَأَخْرَجَ خَاتَمَهُ مِنْ يَدِهِ، فَقَالَ قَدْ رَدَدْتُ أَمْرَ الْمُسِلِمِينَ إِلَيْكَ فَدَبِّرْهُمْ بِرَأْيِكَ، وَاتَّقِ اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ مَعَادُكَ، فَقَدْ أَخْرَجْتُ مِنْ رَقَبَتِي ذَلِكَ. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْتَ ابْنُ عِمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَابْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، أُدَبِّرُ أَنَا الْخِلافَةَ؟ قَالَ: فَكَيْفَ أَصْنَعُ؟ قَالَ: قُلْتُ: تَرْفَعُ حُجَّابِكَ، وَتَطْرَحُ أَبَدًا عَلَى بَابِكَ، فَلا يَجِيءُ أَحَدٌ مُتَظَلِّمٌ مِنْ عَامِلٍ مِنْ عُمَّالِكَ إِلَى بَلَدٍ مِنَ الْبِلْدَانِ، تَصَحُّ عِنْدَكَ ظَلامَتُهُ إِلا أَمَرْتَ، فَجِيءَ بِهِ مَسْحُوبًا مَاشِيًا إِلَى بَابِكَ فَأَنْصَفْتَهُ مِنْهُ، قَالَ: فَأَطْرَقَ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ: قَدْ أَرَدْنَا ذَلِكَ، فَمَا أَمْكَنَنَا، وَلا أُعِنَّا عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اجْعَلْهُ أَكْبَرَ شُغْلِكَ، فَإِنَّكَ تُدْرِكُهُ. قَالَ: أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْمَعُونَةَ عَلَى ذَلِكَ " حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلامٍ الْجُمَحِيُّ، قَالَ: " وَفِدَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ قَاضِي الْبَصْرَةِ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَهْدِيِّ فَتَكَلَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَبَيْنَا شَبِيبُ بْنُ شَيْبَةَ يُغَدِّي أَصْحَابَهُ، إِذْ جَاءَهُ رَسُولُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، يَقُولُ لَهُ: ايتِنِي السَّاعَةَ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَتِمُّوا غَدَاكُمْ، وَرَكِبَ، فَقَالَ لَهُ: إِنْ تَكَلَّمْتَ الْيَوْمَ بَيْنَ يَدَيْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ حَاضِرٌ، فَأُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَهُ عَسَى أَنْ يَجْرِيَ لِي ذِكْرٌ، فَتَنْظُرَ هَلْ أَعْجَبَهُ كَلامِي. قَالَ شَبِيبٌ: فَجِئْتُهُ وَقَالَ: تَكَلَّمَ صَاحِبُكُمُ الْيَوْمَ بَيْنَ يَدَيْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَقُلْتُ لَهُ: فَمَا سَمِعْتَ؟ قَالَ: رَسَائِلُ غَيْلانَ، وَمَوَاعِظُ الْحَسَنِ، وَنَسْجٌ بَيْنَ ذَلِكَ مُمَلَّحٌ حَدَّثَنِي الْعُتْبِيُّ، قَالَ: " إِنَّ أَوَّلَ مَا اسْتُبِينَ مِنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَحِرْصِهِ عَلَى الْعِلمِ، وَرَغْبَتِهِ فِي الأَدَبِ، أَنَّ أَبَاهُ وَلِيَ مِصْرَ، وَهُوَ حَدِيثُ السِّنِّ يُشَكُّ فِي بُلُوغِهِ، فَأَرَادَ إِخْرَاجَهُ مَعَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَهْ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ أَنْفَعَ لِي وَلَكَ أَنْ تُرْسِلَنِي إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَقْعُدُ إِلَى فُقَهَاءِ أَهْلِهَا، وَأَتَأَدَّبُ بِأَدَبِهِمْ.

فَوَجَّهَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَقَعَدَ مَعَ مَشَايِخِ قُرِيشٍ، وَتَجَنَّبَ شَبَابَهُمْ، وَجَاءَتْهُ أَلْطَافُ أَبِيهِ مِنْ مِصْرَ، فَجَعَلَ يُقَسِّمُهَا بَيْنَهُمْ، فَشَهَرَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِعِلْمِهِ، وَعَقْلِهِ مَعْ حَدَاثَةِ سِنِّهِ، فَحَسَدَهُ فَتْيَانُ قُرَيشٍ، فَقَعَدُوا إِلَيْهِ، فَقَالُوا: كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا أَبَا حَفْصٍ؟ فَقَالَ: مَهْلا إِيَّايَ وَكَلامَ الْمَجَعَةِ، فَشُهِرَتْ مِنْهُ بِالْمَدِينَةِ حَتَّى كُتِبَ بِهَا إِلَى أَبِيهِ بِمِصْرَ، وَالْمَجَعَةُ الْقَلِيلَةُ عُقُولُهُمْ، الضَّعِيفَةُ آرَاؤُهُمْ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ عِنْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ، فَخَلَطَهُ بِوَلَدِهِ، وَقَدَّمَهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمْ، وَزَوَّجَهُ بِابْنَتِهِ فَاطِمَةَ، وَهَيِ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا الشَّاعِرُ: بِنْتُ الْخَلِيفَةِ وَالْخَلِيفَةُ جَدُّهَا ... أُخْتُ الْخَلائِفِ وَالْخَلِيفَةُ زَوْجُهَا فَلَمْ تَكُنِ امْرَأَةٌ تَسْتَحِقُّ هَذَا الْبَيْتَ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا غَيْرَهَا، وَكَانَ الَّذِينَ يَعيِبُونَ عُمَرَ مِمَّنْ يَحْسُدُهُ لا يَعِيبُونَهُ إِلا بِشَيْئَيْنِ: بِالْإِفْرَاطِ فِي النِّعْمَةِ، وَالِاخْتِيَالِ فِي الْمِشْيَةِ، وَلَوْ كَانُوا يَجْدُونَ ثَالِثًا لَجَعَلُوُهُ مَعْهُمَا، وَهُوَ قُولُ الأَحْنَفِ: الْكَامِلُ مَنْ عُدِّتْ هَفَوَاتُهُ، وَلا تُعَدُّ إِلا مِنْ قِلَّةٍ. فَدَخَلَ يَوْمًا عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ وَهُوَ يَتَجَانَفُ فِي مِشْيَتِهِ. فَقَالَ لَهُ: يَا عُمَرُ مَالَكَ تَمْشِي غَيْرَ مِشْيَتِكَ؟ قَالَ: إِنَّ بِي جُرْحًا. قَالَ: وَفِي أَيِّ جَسَدِكَ؟ قَالَ: بَيْنَ الرَّانِفَةِ وَالصَّفَنِ. قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ لرَوْحِ بْنِ زِنْبَاعٍ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَوْ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِكَ يُسْأَلُ عَنْ هَذَا لَمَّا أَجَابَ هَذَا الْجَوَابَ حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ عَوَانَةَ بْنِ الْحَكَمِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: قَالَ مَالِكُ بْنُ عُمَارَةَ اللَّخْمِيُّ: " كُنْتُ أُجَالِسُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ، وَقَبِيصَةَ بْنَ ذُؤَيْبٍ، وَعُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَكُنَّا نَخُوضُ فِي فُنُونِ الأَحَادِيثِ وَأَيَّامِ الْعَرَبِ، فَكُنْتُ لا أَجِدُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْهُمْ مِثْلَمَا أَجِدُهُ عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، مَنِ اتِّسَاعِهِ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَتَصَرُّفِهِ فِي فُنُونِ الْعِلْمِ، وَحُسْنِ اسْتِمَاعِهِ إِذَا حُدِّثَ، وَحَلاوةِ لَفْظِهِ إِذَا حَدَّثَ، فَخَلَوْتُ بِهِ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَمَسْرُورٌ بِمَا أُشَاهِدُهُ مِنْ كَثْرَةِ تَصَرُّفِكَ، وَحُسْنِ حَدِيثِكَ، وَإِقْبَالِكَ عَلَى جَلِيسِكَ، فَقَالَ لِي: إِنَّكَ إِنْ تَعِشْ قَلِيلا سَتَرَى الْعُيُونَ إِلَيَّ طَامِحَةً، وَالأَعْنَاقَ إِلَيَّ قَاصِدَةً، فَلا عَلَيْكَ أَنْ تُعْمِلَ إِلَيَّ رِكَابَكَ، فَلأَمْلأَنَّ يَدَيْكَ. قَالَ مَالِكٌ: فَلَمَّا أَفْضَتْ إِلَيْهِ الْخِلافَةُ أَتَيْتُهُ، فَرَأَيْتُهُ يَوْمَ جُمُعَةٍ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمَّا وَقَعَتْ عَيْنَاهُ عَلَيَّ بَسَرَ فِي وَجْهِي، فَقُلْتُ: لَمْ يُثْبِتْنِي مَعَرِفَةً، أَوْ عَرَفَنِي فَأَظْهَرَ لِي نُكْرَةً.

لَكِنِّي لَمْ أَبْرَحْ مَكَانِي حَتَّى قَضَى الصَّلاةَ، وَدَخَلَ، فَمَا هُوَ إِلا أَنْ دَخَلَ إِذْ خَرَجَ آذِنُهُ، فَقَالَ: أَيْنَ مَالُكُ بْنُ عُمَارَةَ اللَّخْمِيُّ؟ فَأَخَذَ بِيَدِي فَأَدْخَلَنِي إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَآنِي مَدَّ يَدَهُ إِلَيَّ وَقَالَ: إِنَّكَ تَرَائَيْتَ لِي بِمَوْضِعٍ لَمْ يَجُزْ فِيهِ إِلا مَا رَأَيْتَ مِنَ الإِعْرَاضِ وَالانْقِبَاضِ، فَأَمَّا الْآنَ فَأَهْلا بِكَ وَمَرْحَبًا، كَيْفَ كُنْتَ بَعْدَنَا؟ وَكَيْفَ كَانَ مَسِيرُكَ؟ فَقُلْتُ: بِخَيرٍ وَعَلَى مَا يُحِبُّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَهُ، قَالَ: أَتَذْكُرُ مَا كُنْتُ قُلْتُ لَكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، وَهُوَ الَّذِي أَعْمَلَنِي إِلَيْكَ. فَقَالَ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا هُوَ بِمِيرَاثٍ ادَّعَيْنَاهُ، وَلا أَثَرٍ وَعَيْنَاهُ، وَلَكِنِّي أُحَدِّثُكَ عَنْ يَقِينِي بِخِصَالٍ سَمَتْ لَهَا نَفْسِي إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَنَا فِيهِ، مَا لاحيْتُ ذَا وُدٍّ، وَلا ذَا قَرَابَةٍ، وَلا قَصَدْتُ لِكَبِيرةٍ مِنْ مَحَارِمَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَاثِبًا عَلَيْهَا، وَلا مُتَلَذِّذًا بِهَا، وَكُنْتُ مِنْ قُرَيشٍ فِي بَيْتِهَا، وَمِنْ بَيْتِهَا فِي وَسَطِهِ، وَكُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرْفَعَ اللَّهُ مِنِّي وَقَدْ فَعَلَ. ثُمَّ قَالَ: يَا غُلامُ بَوِّئْهُ مَنْزِلا فِي الدَّارِ. فَأَخَذَ الْغُلامُ بِيَدِي، وَقَالَ: قُمْ إِلَى رَحْلِكَ إِذَا شِئْتَ، فَكُنْتُ فِي أَخْفَضَ حَالٍ، وَأَنْعَمَ بَالٍ، وَحَيْثُ أَسْمَعُ كَلامَهُ، وَيَسْمَعُ كَلامِي، حَتَّى إِذَا حَضَرَ غَدَاؤُهُ أَوْ عَشَاؤُهُ، أَوْ قَعَدَ لِبِطَانَتِهِ، أَتَانِي الْغُلامُ، فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ صِرْتَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ جَالِسٌ. فَأَمْشِي إِلَيْهِ بِلا حِذَاءٍ وَلا رِدَاءٍ، فَيَرْفَعُ مَجْلِسِي، وَيَقْبَلُ مُحَادَثَتِي، وَيَسْأَلُنِي عَنِ الْعِرَاقِ مَرَّةً، وَعَنِ الْحِجَازِ أُخْرَى، حَتَّى إِذَا مَضَتْ لِي عِنْدَهُ عِشْرُونَ لَيْلَةً تَغَذَّيْتُ فِي آخِرِهَا يَوْمًا عِنْدَهُ، فَلَمَّا قَامَ مَنْ حَضَرَهُ، وَنَهَضْتُ لِأَنْ أَقُومَ، قَالَ: عَلَى رِسْلِكَ أَيُّهَا الرَّجُلُ، أَيُّ الأَمْرَيْنِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ الْمُقَامُ عِنْدَنَا، فَلَكَ النَّصَفَةَ فِي الْمُحَالَفَةِ وَالْعَشِيرَةِ مَعَ الْمُوَاسَاةِ، أَمِ الشُّخُوصُ فَلَكَ الْحِبَاءُ وَالْكَرَامَةُ. قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَارَقْتُ أَهْلِي عَلَى أَنِّي زَائِرٌ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ أَمَرَنِي بِالْمُقَامِ اخْتَرْتُ فِنَاءَهُ عَلَى الأَهْلِ وَالْوَلَدِ. قَالَ: لا، بَلْ أَرَى لَكَ الرُّجُوعَ إِلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمْ مُتَطَلِّعُونَ إِلَى رُؤْيَتِكَ، فَتُحْدِثُ بِهِمْ عَهْدًا، أَوْ يُحْدِثُونَ بِكَ مِثْلَهُ، وَالْخَيارُ بَعْدُ فِي زِيَارَتِنَا أَوِ الْمُقَامِ فِيهِمْ إِلَيْكَ، وَقَدْ أَمَرْتُ لَكَ بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَكَسَوْنَاكَ وَحَمَلْنَاكَ، أَتُرَانِي مَلَأتُ يَدَيْكَ أَبَا نَصْرٍ؟ قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَرَاكَ ذَاكِرًا لِمَا وَأَيْتَ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ. قَالَ: أَجَلْ، وَلا خَيْرَ فِيمَنْ لا يَذْكُرُ إِذَا وَعَدَ، وَيَنْسَى إِذَا أَوْعَدَ. وَدِّعْ إِذَا شِئْتَ، صَحِبَتْكَ السَّلامَةُ، قَالَ: فَقَبَضْتُ جَمِيعَ مَا أَمَرَ لِي بِهِ فِي يَوْمِي، ثُمَّ وَدَّعْتُهُ، فَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّمِيمِيُّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ الْحَدْثَانِ، عَنِ الْمُتَوَكِّلِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ يَعْمُرَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ، قَالَ: " خَرَجْتُ أُرُيدُ الشَّامَ، فَصَحِبَنِي رَجُلٌ قَصِيرُ الْقَامَةِ، ذَلِقُ اللَّسَانِ جَهُورِيُّهُ، فَقُلْتُ لَهُ: أَيْنَ تَعْمَدُ يَا عَبْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: فَهَلا سَأَلْتَ عَنِ الاسْمِ وَالنَّسَبِ؟ قَالَ عُرْوَةُ: فَقُلْتُ: فِي الْإِسْلامِ كَافٍ، وَالْمُسْلِمُونَ إِخْوَةٌ، وَأَكْرَهُ التَّفْتِيشَ. فَأمَّا سَأَلْتُ رَجُلا فَخَبَّرَنِي وَصَدَقَ، فَأَطَّلِعُ مِنْ نَفْسِهِ عَلَى مَا يَكْرَهُ، وَأَمَّا كَذِبَ فَأَثِمَ. فَقَالَ: إِنَّكَ لَمُوَفَّقٌ مُسَدَّدٌ إِنْ شَاءِ اللَّهُ، أُرِيدُ ابْنَ مَرْوَانَ، فَإِنْ أَمْكَنَتْنِي مِنْهُ قُدْرَةٌ كَانَ لِي وَلَهُ شَأْنٌ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: وَاللَّهِ مَا أَنْتَ بِمُخَيَّلٍ أَنْ تَكُونَ حَرُورِيًّا، وَمَا زَيُّكَ بِزَيِّهِمْ. قَالَ: فَضَحِكَ. قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، إِنَّ طَالِبَ الأَحَنِ وَالثَّأْرِ يَتَنَكَّرُ. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: لَيْسَتْ بِكَ مِنِّي حِشْمَةٌ أَلْقِهَا عَنِّي وَعَنْكَ، أَخْبِرْنِي: مَا قِصَّتُكَ، ومَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: بَلْ أَخْبِرْنِي أَنْتَ أَوَّلا. قُلْتُ: أَنَا عُرْوَةُ بْنُ يَعْمُرَ اللَّيْثِيُّ، خَرَجْتُ أُرِيدُ عَبْدَ الْمَلِكِ مُدْلِيًا إِلَيْهِ بِإِخَاءٍ وَمَوَدَّةٍ كَانَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ مُنْذُ دَهْرٍ. قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى مَا كَانَ فِيهِ مِنْ هَذَا الأَمْرِ الَّذِي جَنَّتْ عَلَيْهِ الْقُلُوبُ، وَقُطِّعَتْ أَعْنَاقُ الإِبِلِ، إِنَّهُ لَدَائِمُ الْعَهْدِ، عَالِمٌ بِالْجَمِيلِ، غَيْرَ أَنَّ فِي يَدِهِ بَعْضَ الْكُزَازِ، وَهُوَ الْحَزْمُ. يَا أَخَا بَنِي لَيْثٍ، أَتَدْرِي مَنِ الْقَائِلُ: أَعَاذِلُ مَا يُغْنِي عَنِ الْمَرْءِ مَالُهُ ... إِذَا جُعِلَتْ دُونَ التَّرَاقِي تَطَلَّعُ وَحَشْرَجَ وَالنِّسْوَانُ يَبْكِينَ حَوْلَهُ ... يَقُلْنَ أَبُونَا هَالِكٌ فَمُوَدِّعُ وَعَايَنَ أَمْرًا مُفْضِعًا ضَاقَ صَدْرُهُ ... فَأَجْهَشَ يَبْكِي تَارَةً وَيُرَجِّعُ أَلا لا أَرَى شُحًّا يُخَلِّدُ أَهْلَهُ ... وَكُلُّ خَدُوعٍ مَرَّةً سَوْفَ يُخْدَعُ وَخَيْرُ عَتَادِ الْمَرْءِ تَقْوًى وَمَنْ يَحِدْ ... عَنِ الْمَوْتِ يَوْمًا لا مَحَالَةَ يُصْرَعُ فَلا تَكُ هَيَّابًا إِذَا الْحَرْبُ أَحْسَمَتْ ... وَظَلَّتْ لَهَا الأَبْطَالُ تَعْرَى وَتَخْضَعُ قَالَ عُروَةُ: قُلْتُ: لا وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَنْ يَقُولُ هَذَا الشِّعْرَ. قَالَ: فَإِنِّي قَائِلُهَا. فَقُلْتُ: وَمَنْ أَنْتَ: قَالَ: الضَّحَّاكُ بْنُ عُرْوَةَ بْنِ مَالِكٍ الْعَدَوِيُّ. قَالَ: قُلْتُ لَهُ: قَرَّبَكَ اللَّهُ وَحَيَّاكَ، قَدْ عَرَفْتُ النَّسَبَ. فَأَيْنَ تَعْمَدُ؟ وَمَا الْحَاجَةُ الَّتِي تُرِيدُ؟ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَجْلِبَ لَنَا خَيْرًا، أَوْ يَدْفَعَ بِنَا شَرًّا.

قَالَ: أُرِيدُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ لِمِثْلِ مَا تُرِيدُهُ، غَبَرْتُ أَنَا وَعَبْدُ الْمَلِكِ بُرْهَةً مِنْ دَهْرِنَا لا نَفْتَرِقُ لَيْلا وَلا نَهَارًا، إِلا أَنْ يَذْهَبَ مِنَّا رَجُلٌ إِلَى مَنْزِلِهِ، ثُمَّ يَئُوبُ إِلَى مَجْلِسٍ لَنَا نَتَذَاكَرُ فِيهِ أَيَّامَ الْعَرَبِ، وَفُنُونَ الأَحَادِيثِ، وَكَانَ يَحْضُرُ مَعَنَا فِي الْمَجْلِسِ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَقَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيبٍ، فَكُنْتُ لا أَجِدُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْهُمْ مَا أَجِدُ عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ، فِي اتِّسَاعِهِ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَتَصَرُّفِهِ فِي فُنُونِ الْعِلْمِ، وَحُسْنِ اسْتِمَاعِهِ إِذَا حُدِّثَ، وَحَلاوَةِ لَفْظِهِ إِذِا حَدَّثَ، فَخَلَوْتُ مَعَهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَجَذِلٌ لِمَا أُشَاهِدُ مِنْ كَثْرَةِ تَصَرُّفِكَ، وَحُسْنِ حَدِيثِكَ، وَإِقْبَالِكَ عَلَى جَلِيسِكَ، فَقَالَ لِي: إِنَّكَ إِنْ تَعِشْ قَلِيلا، فَسَتَرَى الْعُيُونَ إِلَيَّ طَامِحَةً، والأَعْنَاقَ إِلَيَّ قَاصِدَةً، وَالرِّجَالَ قَدْ وَطِئَتْ عَقِبَيَّ، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ أَدْرَكْتَنِي لَأُكْرِمَنَّكَ وَلَأَمْلأنَّ يَدَيْكَ، فَوَلِيَ مَا وَلِيَ، وَأَدْرَكَ مَا أَدْرَكَ، فَوَاللَّهِ مَا تَاقَتْ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا هُوَ فِيهِ نَفْسِي، وَلا تَطَلَّعَتْ، حَتَّى وُلِدَ لِي غُلامٌ فَأَسْهَرَ لَيْلِي الِاهْتِمَامُ وَالِاغْتِمَامُ بِأَمْرِهِ لِئَلا يَبْقَى بَعْدِي إِذَا مِتُّ قَلَيْلَ الْوَفْرِ. فَتَاقَتْ نَفْسِي إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْهِ وَنَفْسِي مُتَعَلِّقَةٌ بِبُنَيَّ، لَيْسَ لَيْلِي بِلَيْلٍ، وَلا نَهَارِي بِنَهَارٍ. يَا أَخَا بَنِي لَيْثٍ فَمَا تَرَى وَمَا تُشِيرُ؟ قَالَ: تَقَدَّمْ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، مَلِكِ الْآفَاقِ، فَإِنْ عَرَضَ عَلَيْكَ حَاجَةً، فَلا يَكْبُرَنَّ فِي عَيْنِكَ أَنْ تَسْأَلَهُ كَثِيرًا، فَإِنَّ الْمَانِعَ وَالْمُعْطِيَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ، فَرُبَّمَا خَرَجَتِ الرَّغَائِبُ مِنْ يَدِ الْبَخِيلِ وَمِنَ الْجَوَادِ بِالْقَلِيلِ. قَالَ: فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ كَانَ لِسَانُكَ عَبَّرَ عَنْ قَلْبِي مَا عَدَا مَا قُلْتَ. قَالَ عُرْوَةُ: فَتَسَايَرْنَا أَيَّامًا وَلَيَالٍ مَا يُكِرُّ عَلَيَّ حَدِيثًا وَلا بَيْتًا مِنْ شِعْرٍ. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّكَ لَأَعْلَمُ النَّاسِ بِأَحَادِيثِ الْعَرَبِ وَأَشْعَارِهَا وَأَيَّامِهَا. فَقَالَ لِي: مَنْ أُقْدِمُ وَاللَّهِ عَلَيْهِ غَدًا أَعْلَمُ مِنِّي. وَاللَّهِ مَا أَنَا إِلا خَلَجٌ مِنْ بَحْرِهِ، وَأَيْنَ يَقَعُ الْحَقُّ الضَّئِيلُ عِنْدِ مُخَاطَرَةِ الْقُرُومِ الْقَيَاسِرَةِ وَالْفُحُولِ؟ قَالَ: قُلْتُ: وَمَنْ تَعْنِي؟ قَالَ: عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ. قُلْتُ: وَإِنَّهُ عِنْدُكَ لَكَذَلِكَ؟ قَالَ: إِي وَاللَّهِ عِنْدَ كُلِّ مَنْ عَلِمَ شَيْئًا مِنْ أَوَّلِيَّةِ الْعَرَبِ. قَالَ عُرْوَةُ: فَبَيْنَا هُوَ يَسِيرُ لَيْلَةً، وَأَنَا مَعَهُ إِذْ لَحِقَنَا أَعْرَابِيٌّ عَلَى قَعُودٍ لَهُ، وَهُوَ يُنْشِدُ شِعْرًا وَيَتَرَنَّمُ بَهِ، يَقُولُ: أَلا أَيُّهَا الْبَيْتُ الْقَرِيبُ مَزَارَهُ ... سُقِيتَ أَلَمْ يُحْزِنْكَ مِنْ أَهْلِكَ الْهَجْرُ فَمَا كَانَ هِجْرَانِيكَ مِنْ حَدَثِ الْقِلَى ... وَلَكِنَّ هِجْرَانِيكَ فِي صَرْفِهِ عُذْرُ قَالَ عُرْوَةُ: فَقَالَ صَاحِبِي: أَعِدْ وَيْحَكَ كَيْفَ قُلْتَ: فَمَا كَانَ هِجْرَانِيكَ مِنْ حَدَثِ الْقِلَى ... وَلَكِنَّ هِجْرَانِيكَ فِي صَرْفهِ عُذْرُ فَأَعَادَ عَلَيْهِ الأَعْرَابِيُّ، فَقَالَ: وَيْحَكَ مَنْ قَائِلُ هَذَا الشِّعْرِ؟ قَالَ: الَّذِي يَقُولُ:

وَأَكْثَرُ وَجْدِ ابْنِ الْغَرِيزَةِ أَمُّهُ ... عَلَى مَا أَصَابَ النَّاسَ عَضَّ بِهِ الدَّهْرُ فَأَصْبَحَ مَالُوسًا تَعَادَتْ هُمُومُهُ ... عَلَيْهِ فَأَشْجَتْهُ وَضَاقَ بِهِ الصَّدْرُ فَبَاحَ وَأَبْدَى الدَّمْعُ مَا فِي ضَمِيرِهِ ... مِنَ الْوَجْدِ حَتَّى قِيلَ لَيْسَ لَهُ صَبْرُ قَالَ: وَيْحَكَ مَنْ هُوَ؟ قَالَ: كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ابْنَ الْغَرِيرَةِ، أَحَدُ بَنِي صَخْرِ بْنِ نَهْشَلٍ. قَالَ عُرْوَةُ: وَهُوَ الْقَائِلُ: نَأَتْكَ أُمَامَةُ نَأْيًا جَمِيلا ... وَبُدِّلْتَ بِالْقُرْبِ نَأْيًا طَوِيِلا وَحَالَ أَبُو حَسَنٍ دُونَهَا ... فَمَا تَسْطِيعُ إِلَيْهَا سَبِيلا فَإِنَّ الشَّبَابَ لَهُ لَذَّةٌ ... وَلا بُدَّ لَذَّتُهُ أَنْ تَزُولا طِعَانُ الْكُمَاةِ وَرَكْضُ الْجِيَادِ ... وَقَوْلُ الْحَوَاضِنِ وَيلا وَبِيلا لَعَمْرُ أَبِيكِ فَلا تَكْذِبِي ... لَقَدْ ذَهَبَ الْخَيْرُ إِلا قَلِيلا لَقَدْ فُتِنَ النَّاسُ فِي دِينِهِمْ ... وَخَلا ابْنُ عَفَّانَ شَرًّا طَوِيلا فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: نَعَمْ. قَالَ عُرْوَةُ: فَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَنَا وَاللَّهِ أَشْعَرُ مِنْهُ حِينَ أَقُولُ: وَهُمٌّ عَرَانِي فَعَدَّيْتُهُ ... بِنَاجِيَةٍ تَسْتَخِفُّ الذَّمِيلا وَتَمْشِي اخْتِيالا إِذَا مَا مَشَتْ ... كَمَا يَخْطِرُ الْفَحْلُ سَامِي الْفُحُولا تَجُوبُ الْمَهَامِهَ خَطَّارَةً ... إِذَا مَا الْوُحُوشُ أَرَدْنَ الْمُقِيلا تَمَطَّتْ بِرَحْلِي مُزَوِّدَةً ... تُبَادِرُنِي أَنْ أَمُدَّ الْجَدِيلا وَتُصْبِحُ وَالسَّيْبُ مَوْضُوعهَا ... وَإِنْ قُلْتُ عَاجٌ رَمَتْ بِي دُلُولا مُضَبَّرَةُ الْخَلقِ مَشْهُومَةٌ ... أَمَاجُ النَّوَاعِجِ تَهْوَى نُسُولا تَكَادُ تُقَطِّعُ أَنْسَاعَهَا ... إِذَا مَا ازْلأَمَّتْ وَتَرْمَدُّ حُولا إِلَى مَلِكٍ مِنْ بَنِي غَالِبٍ ... يَمُدُّ إِلَى الْمَجْدِ بَاعًا طَوِيلا إِمَامُ قُرَيشٍ ومَنْ أَصْبَحَتْ ... إِلَيْهِ قُرَيشٌ تَجِدُّ الرَّحِيلا وَمَنْ عَزَّ بِالْحَزْمِ أَهْلَ الْهُدَى ... وَأَضْحُوا إِلَيْهِ ثُبَاتٍ حُلُولا يُرَجَّوْنَ مِنْ سَيْبِهِ نَفْحَةً ... يُعِيشُ بِهَا اللَّهُ قَوْمًا كُلُولا قَالَ عُرْوَةُ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: سَقْطَةٌ مِنْ سَقَطَاتِ الرَّجُلِ وَهَفْوَةٌ وَزَلَّةٌ حِينَ مَدَحَ نَفْسَهُ، وَلَمْ أرَ شِعْرَهُ هَذَا شَيئًا، وَلَمْ يَرَ مِنِّي ارْتِيَاحًا، وَلا تَعَجُّبًا. قَالَ: يَا أَخَا بَنِي لَيْثٍ، لَسْتُ أَعْنِي أَشْعَرَ مِنْهُ فِي شِعْرِي هَذَا، إِنِّي قَدْ أَعْرِفُ أَنَّكَ رَجُلٌ عَرَبِيٌّ تُبْصِرُ الشِّعْرَ وَتَعْرِفُهُ. فَهَلْ رَأَيْتَ شِعْرًا ارْتُجِلَ فِي هَذَا الْوَقْتِ بِلا رَوَيَّةٍ؟ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي وإِنْ كُنْتُ أَقُولُ مَا أَقُولُ، إِنِّي لَطَبٌّ بِمَا يُقْبِلُ فِيهِ الرِّجَالُ، وَإِنِّي لأَنَا الَّذِي أَقُولُ فَأُسْمِعُ. هَلْ تَرَى خِلَلا؟ قُلْتُ: هَاتِ، فَوَاللَّهِ لَنْ تَزِيدَنِي فِي نَفْسِكَ إِلا رَغْبَةً مُنْذُ صَحِبْتُكَ. وَلَقَدْ ظَنَنْتُ أَنَّهَا هَفْوَةٌ مِنْكَ. فَوَجَدْتُكَ عَالِمًا بِهَا. قَالَ: ثُمَّ أَنْشَدَنِي شِعْرًا، قَالَ: قُلْتُهُ مُنْذُ سِتِّينَ سَنَةً، وَأَنَا غُلامٌ حِينَ رَاهَقْتُ الْحُلُمَ: أَمُخْتَرِمِي الْمَوْتُ ابْنَ عُمَرٍ فَذَاهِبٌ ... بِنَفْسِيِ وَلَمْ أَتْرُكْ حُصَيْنًا مُجَدَّلا يَنُوءُ فَلا يَسْطِيعُ نَهْضًا وَقَدْ حَشَت ... يَدِي جَوْفَهُ أَضْمَى الْمَعَالِمِ مُنْحَلا جَزَى اللَّهُ مَا أَوْلَى حُصَيْنًا عَشِيرَتِي ... وَكُلُّ حُصَيْنٍ لِلْهَنَاتِ مُؤَمَّلا أَخِي دُونَ إِخْوَانِي إِذَا الأَمْرُ نَابَنِي ... وَحِصْنٌ إِذَا مَا خِفْتُ أَمْرًا مُعَضَّلا سَعَى الدَّهْرُ فِيمَا بَيِنَنَا فَتَرَكْتُهُ ... بِفِيهِ وَلَمْ أَحْفَلْ لِذَلِكَ مَحْفَلا

وَإِنْ يَكُ رَيْبُ الدَّهْرِ أَرْدَى ابْنَ خَالِدٍ ... وَكَانَ مُعِمًّا فِي الْكِرَامِ وَمُخْوِلا فَرُبَّ يِدٍ بَيْضَاءَ أَسْدَى ابْنُ خَالِدٍ ... إِلَيَّ وَنَابٍ قَدْ تَعَدَّاهُ أَعْصَلا حِفَاظًا وَإِكْرَامًا فَأَوْدَتْ بِلُبِّهِ ... مُهَفْهَفَةُ الْكُشْحَيْنِ تَرْمِي الْمُقَتَّلا فَغَيَّرَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ خَالِدٍ ... هَوًى غَالِبٌ أَعْيَا الرِّجَالَ وَعَيَّلا قَالَ عُرْوَةُ: فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ قُلْتَ هَذِهِ الَأْبَيَاتَ؟ قَالَ: أُخْبِرُكَ وَلا أَكْذِبُكَ. كُنْتُ وَحُصَيْنُ بْنُ خَالِدِ ابْنِ عَمِّي دَنِيَّةَ لا يَجْرِي الْمَاءُ بَيْنَنَا صَفَاءً، وَلِي ابْنَةُ عَمٍّ أُحِبُّهَا، وَقَدْ سُمِّيتُ لَهَا، وَسُمِّيَتْ لِي، فَلَبِثْتُ أَنْتَظِرُ أَنْ أُصِيبَ لَهْوَةً مِنْ مَالٍ فَأَتَزَوَّجُهَا وَأَبْنِي بِهَا. فَأَقْبَلَ الْحُصَيْنُ عَلَى أُمِّهَا فَخَدَعَهَا وَعَطَفَ لُبَّهَا عَنِّي. حَتَّى غَلَبَتْ زَوْجَهَا فَزَوَّجَهُ ابْنَتَهُ، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَبْتَنِي بِهَا، قَعَدْتُ لَهُ فَرَمَيْتُهُ بِسَهْمٍ. فَوَاللَّهِ مَا ظَنَنْتُ أَنَّهُ أَصَابَهُ، وَهَوَى فِيهِ كَأَنَّهُ مَاتَ مُنْذُ أَلْفِ سَنَةٍ، وَأُخِذْتُ فَحُبِسْتُ. فَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ هُوَ الْعَامِلُ لِي فِي أَمْرِي وَالْمُسْتَخْرِجُ لِي مِنَ الْبَلِيَّةِ الَّتِي وَقَعْتُ فِيهَا. وَيَعْلَمُ الرَّبُّ عِلْمًا صَادِقًا أَنِّي إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَذْعُرَهُ، وَلَمْ أَرِدْ قَتْلَهُ. فَمَضَى الْقَدَرُ السَّابِقُ وَأَعْزَزَ عَلَيَّ بِمَصْرَعِهِ. وَاللَّهِ إِنْ كَانَ، يَرْحَمُهُ اللَّهُ، لَوَسِيمًا، جَمِيلا نَبِيلا، وَإِنِّي لَعَلَى خِلافِهِ، وَإِنَّ عُذْرَ ابْنَةِ عَمِّي فِي اخْتِيَارِهَا إِيَّاهُ عَلَيَّ لَبَيِّنٌ وَاضِحٌ. أَنَا كَمَا قَدْ تَرَى، وَقَدْ أَخْبَرْتُكَ عَنِ ابْنِ عَمِّي مَا سَمِعْتَ. قَالَ عُرْوَةُ: فَتَبَسَّمْتُ. قَالَ: الْحَقُّ وَاللَّهِ قُلْتُ. فَإِنْ شِئْتَ فَاضْحَكْ، وَإِنْ شِئْتَ فَاكْفُفْ، فَإِنَّ اللَّهَ صَادِقٌ يُحِبُّ الصِّدْقَ وَأَهْلَهُ، وَيُبْغِضُ الْكَذِبَ وَأَهْلَهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّجُلَ اللَّبِيبَ أَعْلَمُ بِعَيْبِهِ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنِّي وَاللَّهِ وَإِنْ أَقْحَمَتْنِي عَيْنُكَ، وَنبَتَ عَنِّي كَمَا قَالَ الأَوَّلُ. هَلْ تَدْرِي مَنْ هُوَ؟ قُلْتُ: لَمْ أَسْمَعْ شَيْئًا. قَالَ: عَجِلْتُ، وَمِنْ عَجَلَةٍ خُلِقَ الْإِنْسَانُ عَجُولا. قُلْتُ: هَاتِ. قَالَ: أَغَرَّكُمُ أَنِّي بِمَعْرُوفِ شِيمَتِي ... رَفَيقٌ وَأَنِّي بِالْفَوَاحِشَ أَخْرَقُ وَمِثْلِي إِذَا لَمْ يُجْزَ أَحْسَنَ سَعْيِهُ ... تَكَلَّمُ نِعْمَاهُ بِفِيهَا فَيَنْطِقُ قَالَ عُرْوَةُ: فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: حَاجِبُ بْنُ زَرَارَةَ. قَالَ: قُلْتُ: الدَّارِمِيُّ، قَالَ: فَقَالَ: تَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ أَنَّ بِحَاجِبٍ لَغِنًى عَنْ دَارَمٍ. وَاللَّهِ إِنَّهَا مِنْكَ لَهَفْوَةٌ حِينَ جَهِلْتَهُ حَتَّى تَنْسِبَهُ إِلَى دَارَمٍ أَكَذَاكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: الصِّدْقُ خَيرٌ عَاقِبَةً. ثُمَّ انْقَطَعَ حَدِيثُنَا، وَقَدِمْنَا الشَّامَ، فَأَعْوَزَنَا الْإِذْنُ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، فَمَكَثْنَا لَيَالِيَ ثُمَّ مَرَّ أَبُو الزُّعَيْزِعَةِ، فَقَامَ إِلَيْهِ. فَقَالَ أَبُو الزُّعَيْزِعَةِ: أَهَلا وَمَرْحَبًا بِامْرِئٍ ظَهَرَ لَنَا جَفَاؤُهُ، وَقَلَّ وَفَاؤُهُ. قَالَ: هِيهِ، الْآنَ هُوَ سُلْطَانٌ. وَلا نَصَفَةَ لِي مِنْهُ. فَدَخَلَ، فَلا أَظُنُّهُ وَصَلَ حَتَّى قِيلَ: الضَّحَّاكُ بْنُ عُمَارَةَ الْعَدَوِيُّ، فَقُلْتُ: لا تَنْسَ أَخَاكَ. قَالَ: إِنِّي كَمَا قَالَ الأَوَّلُ الْقَبِيحُ الشَّحِيحُ الْقَلِيحُ.

ما نطعمك يا ابن حسان؟ قال: سمكا. قال: فما نسقيك؟ قال: سويقا. فقال نعيم بن عمرو بن الأهتم،

فَمَا أَظُنُّهُ زَادَ عَلَى السَّلامِ حَتَّى دُعِيتُ: أَيْنَ عُرْوَةُ بْنُ يَعْمُرَ؟ قَالَ: فَدَخَلْتُ وَإِنَّهُ لَبَارِكٌ بَيْنَ يَدَيْ عَبْدِ الْمَلِكِ قَدِ اسْتَحْسَنَ شِعْرًا لَهُ يُنْشِدُهُ، وَقَدْ أَذِنَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ فِي إِنْشَادِهِ إِيَّاهُ، فَسَلَّمْتُ، فَرَدَّ بِيَدِهِ عَلَيَّ، وَأَلَحَّ فِي النَّظِرِ إِلَيْهِ، والِاسْتِماعِ مِنْهُ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى الضَّحَّاكِ، ثُمَّ قَالَ: أَعْقِبْ. ثُمَّ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، رَجُلٌ، وَأَيُّ رَجُلٍ لِدُنْيَا وَآخِرَةٍ. قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: دَعْ عَنَّا ابنَ يَعْمُرَ، نَحْنُ أَعْلَمُ بِهِ مِنْكَ. هُوَ رَجُلُ نَفْسِهِ. قَالَ عَاصِمٌ: قَالَ الْمُتَوكِّلُ: فَحَدَّثَنِي أَبِي عُرْوَةُ بْنُ يَعْمُرَ، فَحَفِظْتُ مِنْ شِعْرِهِ الَّذِي أَنْشَدَهُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ: وَإِنْ لا أَمُتْ أَشْهَدْ سَوَابِقَ غَارَةٍ ... تُسَاقُ الْمَنَايَا بِالْوَشِيجِ الْمُقَوَّمِ بِكُلِّ رُدَيْنِيٍّ كَأَنَّ سِنَانَهُ ... سَنَا لَهَبٍ فِي عَارِضٍ مُتَضَرِّمِ فَكَمْ رَوْقَةٍ بَيْضَاءَ دَنَّسْتُ لَوْنَهَا ... بِمُعْتَبِطٍ مِنْ قَانِي الْجَوْفِ أَسْحَمِ وَرَدْتُ بِهَا بَيْضَاءَ ثُمَّ رَدَدْتُهَا ... وَقَدْ شَرِبَتْ مِنْ جَوْفِ أَبْيَضِ خَضْرَمِ سَقَاهَا فَرَوَّاهَا مِنَ الدَّمِّ فَانْطَوتْ ... عَلَى عَلَقٍ فِي ثَعْلَبٍ مُتَهَضِّمِ قَالَ: فَأَمَرَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بَجَائِزَةٍ سَنَيَّةٍ، وَكَتَبَهُ فِي أَصْحَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَمَلأتُ يَدَيْكَ. قَالَ: وَإِنَّكَ لَتَذْكُرُ يَوْمَ يَوْمٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَدْ أَعْمَلَنِي إِلَيْكَ حَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ شَيخٍ مِنْ قُرَيشٍ، قَالَ: " إِنِّي وَفِتْيَةٌ مِنْ قُرَيشٍ عِنْدَ قَيْنَةٍ مِنْ قِيَانِ الْمَدِينَةِ، وَمَعَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ، إِذِ اسْتَأْذَنَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، فَكَرِهْنَا دُخُوَلَهُ، وَشَقَّ عَلَيْنَا. قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَيَسُرُّكُمْ أَلا يَجْلِسَ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: فَمُرُوهَا إِذَا نَظَرَتْ إِلَيْهِ، رَفَعَتْ عَقِيرَتَهَا تُغَنِّي: أَوْلادُ جَفْنَةَ حَوْلَ قَبْرِ أَبِيهِمُ ... قَبْرِ ابْنِ مَارِيَةَ الْكَرِيمِ الْمُفْضِلِ يُغْشَوْنَ حَتَّى مَا تَهِرَّ كِلابُهُمْ ... لا يَسْأَلُونَ عَنِ السَّوَادِ الْمُقْبِلِ قَالَ: فَوَاللَّهِ بَكَى حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيَلْفِظُ نَفَسَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَفِيكُمُ الْفَاسِقُ؟ لَعَمْرِي لَقَدْ كَرِهْتُمْ مَجْلِسِي 129 - حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ الأَثْرَمُ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ: وَفَدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةَ: مَا نُطْعِمُكَ يَا ابْنَ حَسَّانٍ؟ قَالَ: سَمَكًا. قَالَ: فَمَا نَسْقِيكَ؟ قَالَ: سَوِيقًا. فَقَالَ نُعَيْمُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الأَهْتَمِ، وَكَانَ حَاضِرًا: إِنَّ السَّوِيقَ مَعَ الصَّحْنَاةِ مَضْرَطَةٌ لِلْآكِلِينَ. وَبِئْسَ الْمَطْعَمُ السَمَكُ. كَانَ نُعَيْمٌ رَجُلا جَمِيلا، فَأَجَابَهُ ابْنُ حَسَّانٍ: قُلْ لِلَّذِي كَادَ لَوْلا خَطُّ لِحْيَتِهِ ... يَكُونُ أُنْثَى عَلَيْهَا الْوَدْعُ وَالْمَسَكُ أَمَّا الْفَخَامَةُ أَوْ خَلْقُ الرِّجَالِ فَقَدْ ... أُعْطِيتَ مِنْهُ لَوَ أَنَّ اللُّبَّ مُحْتَنِكُ هَلْ أَنْتَ إِلا فَتَاةُ الْحَيِّ مَا لَبِسُوا ... أَمْنًا وَأَنْتَ إِذَا مَا حَارَبُوا دُعَكُ لا تَحْسَبَنِّي كَأَقْوَامٍ غَمَزْتَهُمُ ... غَمْزَ الضَّعِيفِ فَمَا أَعْطَوْا وَمَا تَرَكُوا

عبد الرحمن بن حسان كان يشبب بابنة معاوية، ويذكرها في شعره، فقال الناس لمعاوية: لو جعلته

دَخَلَ الْمَذْنُوبُ الْهَمْدَانِيُّ مِنْ وَدَاعَةِ هَمْدَانَ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَجَلَسَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَّانٍ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرُ: وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مِعَنًّا شِرِّيرًا، هَجَّاءً لِلنَّاسِ، مُبْتَدِيًا لَهُمْ. فَقَالَ لِلْمَذْنُوبِ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ. فَاغْتَمَزَ فِيهِ، فَقَالَ: أَمِيزَانَانِ مِنْ شُؤْمٍ وَلُؤْمٍ ... أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمْ عَدْلٌ قَبُوحُ فَقَالَ لَهُ الْمَذْنُوبُ: جُذَامٌ نَازِلٌ بِكَ غَيْرَ شَكٍّ ... أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمْ بَرَصٌ يَلُوحُ قَالَ: أَنْتَ الْمَذْنُوبُ؟ قَالَ: إِنَّ ذَاكَ لَيُقَالُ. قَالَ: إِنِّي عَائِذٌ بِكَ " حَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنَ الأَنْصَارِ، قَالَ: " جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ إِلَى قُبَاءٍ، فَسَمِعَ رَجُلا مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ يَتَغَنَّى فِي رَأْسٍ عَذْقٍ، يَقُولُ: لَنَا فَرْعُهَا الأَعْلَى وطِيبُ تُرَابِهَا ... وَدَارُ بَنِي النَّجَّارِ قَاصِيَةٌ وَعْلُ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانٍ: كَذِبْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ مَعْشَرٌ أَهْلَ حَرَّةٍ ... نَفَوْكُمْ وَحَلُّوا بِالدِّمَاثِ وَبِالسَّهْلِ أَبَوْا وَاسْتَعَفُّوا أَنْ يُرَى بِجِلُودِهِم ... نُدُوبٌ فَبَاعُوا السَّقْيَ بِالْحَلَّةِ الْبَعْلِ 132 - حَدَّثَنِي عَمِّي، عَنِ الْهَيْثَمِ، عَنِ ابْنِ دَأْبٍ، قَالَ: " أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ حَسَّانٍ كَانَ يُشَبِّبُ بِابْنَةِ مُعَاوِيَةَ، وَيَذْكُرُهَا فِي شِعْرِهِ، فَقَالَ النَّاسُ لِمُعَاوِيَةَ: لَوْ جَعَلْتَهُ نَكَالا؟ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لا، وَلَكِنِّي أُدَاوِيهِ بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَأَذِنَ لَهُ، وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ فِي أُخْرَيَاتِ النَّاسِ، فَأَجْلَسَهُ عَلَى سَرِيرِهِ مَعَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ وَحَدِيثِهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ فُلانَةً، لابْنَةٍ لَهُ أخرى، عَاتِبَةٌ عَلَيْكَ. قَالَ: وَفِي أَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: فِي مَدْحَتِكَ أُخْتِهَا وَتَرْكِهَا، قَالَ: فَلَهَا الْعُتْبَى وَكَرَامَةٌ، أَنَا ذَاكِرُهَا، وَمُمْتَدِحُهَا، فَلَمَّا فَعَلَ، وَبَلَغَ ذَلِكَ النَّاسَ، قَالُوا: قَدْ كُنَّا نَرَى أَنَّ تَشْبِيبَ ابْنِ حَسَّانٍ بِابْنَةِ مُعَاوِيَةَ لَشَيْءٌ، فَإِذَا ذَلِكَ عَنْ رَأْيِ مُعَاوِيَةَ وَأَمْرِهِ " حَدَّثَنِي الأَثْرَمُ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَيَّةَ النَّمَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْفَرَزْدَقُ، قَالَ: " كُنَّا فِي ضِيَافَةِ مُعَاوِيَةَ، وَمَعَنَا كَعْبُ بْنُ جُعَيْلٍ التَّغْلَبِيُّ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي ابْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، قَالَ لَهُ: إِنَّ ابْنَ حَسَّانٍ قَدْ فَضَحَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَكَمِ، وَغَلَبَهُ، وَفَضَحَنَا، فَاهْجُ الأَنْصَارَ، قَالَ لَهُ: أَرَادِّيِ أَنْتَ فِي الشِّرْكِ؟ أَهْجُو أَقْوَامًا نَصَرُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَآوَوْهُ، وَلَكِنِّي أَدُّلُكَ عَلَى غُلامٍ مِنَّا نَصْرَانِيٍّ لا يُبَالِي أَنْ يَهْجُوَهُمْ، كَأَنَّ لِسَانَهُ لِسَانُ ثَوْرٍ. قَالَ: مَنْ هُوَ؟ قُلْتُ: الأَخْطَلُ. فَدَعَا فَأَمَرَهُ بِهِجَائِهِمْ. قَالَ: عَلَى أَنْ تَمْنَعَنِي. قَالَ: نَعَمْ حَدَّثَنِي الْمَدَائِنِيُّ، " أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ كَانَ يُشَبِّبُ بِرَمْلَةَ بِنْتِ مُعَاوِيَةَ، فَأَمَرَ يَزِيدُ كَعْبَ بْنَ جُعَيْلٍ أَنْ يَهْجُوَهُ فَدَلَّهُ عَلَى الأَخْطَلِ.

وَقَالَ غَيْرُ الْمَدَائِنِيِّ: لَمَّا غَلَبَ ابْنُ حَسَّانٍ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَكَمِ، دَسَّ مُعَاوِيَةُ ابْنَهُ يَزِيدَ إِلَى الأَخْطَلِ، فَأَمَرَهُ بِهِجَائِهِمْ، فَهَجَاهُمْ، فَقَالَ: ذَهَبَتْ قُرَيشٌ بِالسَّمَاحَةِ وَالنَّدَى ... وَاللُّؤْمُ تَحْتَ عَمَائِمَ الأَنْصَارِ قَوْمٌ إِذَا هَدرَ الْعَصِيرُ رَأَيْتَهُمْ ... حُمْرًا عُيُونُهُمُ مِنَ الْمُسْطَارِ وَإِذَا نَسَبْتَ ابْنَ الْفُرَيْعَةِ خِلْتَهُ ... كَالْجَحْشِ بَيْنَ حِمَارَةٍ وَحِمَارِ فَرَدَّ عَلَيْهِ النَّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ: أَبْلِغْ قَبَائِلَ تَغْلِبَ ابْنَةِ وَائِلٍ ... مَنْ بِالْفُرَاتِ وَجَانِبِ الثَّرْثَارِ فَاللُّؤْمُ فَوْقَ أُنُوفِ تَغْلِبَ بَيِّنٌ ... كَالرَّقْمِ فَوْقَ ذِرَاعِ كُلِّ حِمَارِ فَقَالَ الأَخْطَلُ: عَذَرْتُ بَنِي الْفُرَيْعَةِ أَنْ هَجَوْنَي ... فَمَا بَالِي وَبَالُ بَنِي بَشِيرِ أَفَيْجِعُ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ شَثْنٌ ... شَدِيدُ الْقُصْرَيَيْنِ مِنَ السَّحُورِ قَالَ: فَلَمَّا بَلَغَ بَنِي النَّجَّارِ قَوْلُ الأَخْطَلِ، خَرَجَ وَفْدٌ مِنْهُمْ حَتَّى قَدِمُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ، وَضَعُوا عَمَائِمَهُمْ، وَقَالُوا: أَتَرَى لُؤْمًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ وَاسْتَعْدَوْا عَلَى الأَخْطَلِ، فَقَالَ: لَكُمْ لِسَانُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ يَزِيدُ أَجَارَهُ، وَدَسَّ إِلَى يَزِيدَ فَأَجَارَهُ، فَلَمْ يَصِلُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ يَزِيدُ: دَعَا الأَخْطَلُ الْمَلْهُوفُ بِالشَّرِّ دَعْوَةً ... فَأَيُّ مُجِيبٍ كُنْتُ لَمَّا دَعَانِيَا فَفَرَّجَ عَنْهُ مَشْهَدَ الْقَوْمِ مَشْهَدِي ... وَأَلْسِنَةَ الْوَاشِينَ عَنْهُ لِسَانِيَا قَالَ: وَكَانَ أَشَدَّ الْقَوْمِ عَلَى الأَخْطَلِ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، يَقُولُ الأَخْطَلُ: أَبَا خَالِدٍ دَافَعْتَ عَنِّي عَظِيمَةً ... وَأَدْرَكْتَ لَحْمِي قَبْلَ أَنْ يَتَبَدَّدَا وَأَطْفَأْتَ عَنِّي نَارَ نُعْمَانَ بَعْدَمَا ... أَغذَّ لِأَمْرٍ فَاجِرٍ وَتَجَرَّدَا وَقَالَ ابْنُ حَسَّانٍ يَعْنِي مُعَاوِيَةَ: أَلا مَنْ رَسُولِي أَصْلَحَ اللَّهُ بَالَهُ ... وَأُعْطِي مِنَ الْحَاجَاتِ مَا كَانَ يَطْلُبُ يُبَلِّغْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ رِسَالَةً ... تَنَخَّلَهَا مُمْلٍ وَآخَرُ يَكْتُبُ فَيُخْبِرُ فِيهَا أَنَّ بيْنِي وَبَيْنَهُ ... أَوَاصِرَ لا تُرْعَى وَلا هِيَ تُقْرَبُ وَأَنَّ يَزِيدَ لَيْسَ يَطْلُبُ عِنْدَنَا ... كِتَابًا وَلا حَقًّا وَذُو الْحَقِ يَطْلُبُ وَأَنَّ يَزِيدَ كَانَ فِي مُتَنَزَّهٍ ... وَفِي مَعْزَلٍ عَمَّا تُدَاوِلُ تَغْلِبُ رِجَالٌ أَصِحَّاءُ الْجُلُودِ مِنَ الْخَنَا ... وَأَلْسِنَةٌ مَعْرُوفَةٌ أَيْنَ تَذْهَبُ فَلا تَجْعَلَنَّا لُعْبَةً لِقَطِينِهِ ... فَيَعْلَمُ إِنْ عِشْنَا بِمَا كَانَ يَلْعَبُ وَأَنِّيَ مِمَّا أُخْمِدُ الْحَرْبَ تَارَةً ... وَأُحْمَلُ أَحْيَانًا عَلَيْهَا فَأَرْكَبُ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُؤَمَّلِيُّ، عَنْ زَكَرِيَا بْنِ عِيسَى بْنِ شِهَابٍ، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَخْزُومِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ قَيسٍ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: لَمَّا أَرَادَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانٍ أَنْ يُهَاجِيَ النَّجَاشِيَّ، قَالَ لَهُ أَبُوهُ: هَلُمَّ فَأَنْشِدْنِي مِنْ شِعْرِكَ، فَإِنَّكَ تُهَاجِي النَّجَاشِيَّ أَشْعَرَ الْعَرَبِ، فَأَنْشَدَهُ، فَأَهْوَى حَسَّانٌ إِلَى شَيْءٍ خَلْفَهُ فَعَلاهُ ضَرْبًا، ثُمَّ قَالَ: يَا عَاضَّ بَظْرَ أُمِّهِ أَبِهَذَا تُهَاجِيهِ؟ اذْهَبْ، فَقُلْ ثَلاثَ قَصَائِدَ قَبلَ أَنْ تُصْبِحَ. قَالَ: فَقَالَ ثَلاثَ قَصَائِدَ، ثُمَّ جَاءَ فَعَرَضَهَا عَلَيْهِ.

فَقَالَ حَسَّانٌ: يَا بُنَيَّ اذْهَبْ فَابْسُطِ الشَّرَّ عَلَى ذِرَاعَيْكَ، قَالَ: يَا أَبَهْ مَا هَذِهِ وَصِيَّةُ يَعْقُوبَ بِنِيهِ، وَقَامَ، فَقَالَ حَسَّانٌ: يَا بُنَيَّ، مَا أَبُوكَ مِثْلُ يَعْقُوبَ، وَلا أَنْتَ مِثْلُ بِنِي يَعْقُوبَ، اعْمَدْ إِلَى امْرَأَةٍ لَطِيفَةٍ بَأُخْتِ النَّجَاشِيِّ فَمُرْهَا فَلْتَصِفْهَا لَكَ، وَاجْعَلْ لَهُ جُعْلا، فَفَعَلَ، فَوَصَفَتْ لَهُ أَشَياءَ ذَكَرَتْ خَالا وَشَامَةً، وَقَالَ: فَخَرَجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَتَّى هَبَطَ مَكَّةَ، فَلَمَّا كَانَتْ أَيَّامُ مِنًى، قِيلَ لَهُ: إِنَّ هَهُنَا نَفَرًا مِنْ بَنِي عَامِرٍ إِخْوَةً مُطَاعِينَ فِي قَوْمِهِمْ، فَخَرَجَ إِلَى أُمِّهِمُ يُكَلِّمُهَا، وَانْتَسَبَ لَهَا، وَذَكَرَ الَّذِي أَرَادَ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ، فَقَالَتْ: قُومُوا مَعَ هَذَا الرَّجُلِ وَكَلَّمُوا بَنِي عَمِّكُمْ مَنْ يَقُومُ مَعَهُ، فَفَعَلُوا وَجَعَلُوا لَهُ غَبِيطًا عَلَى نَجِيبَةٍ، وَجَعَلُوا فَوْقَ الْغَبِيطِ رَجُلا، فَجَاءَ مُشْرِفًا عَلَى النَّاسِ، وَجَاءَ النَّجَاشِيُّ عَلَى فَرَسٍ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا النَّجَاشِيُّ عَلَى جَمَّازِ ... فَرَّ ابْنُ حَسَّانٍ بِذِي الْمَجَازِ وَرَاغَ لَمَّا سَمِعَ ارْتِجَازِي ... رَوْغَ الْحُبَارَى مِنْ خَوَاتِ الْبَازِ وَقَالَ ابْنُ حَسَّانٍ: يَا هِنْدُ يَا أُخْتَ النَّجَاشِيِّ اسْلَمِي ... هَلْ تَذْكُرِينَ لَيْلَةً بِإِضَمِ وَلَيْلَةً أُخْرَى بَجَوِّ الْحَرَمِ ... وَالشَّامَةَ السَّوْدَاءَ بِالْمَخَدَّمِ وَالْخَالَ بِالْكِشْحِ اللَّطِيفِ الأَهْضَمِ فَانْكَسَرَ النَّجَاشِيُّ لِصَفَتِهِ، وَقَالَ النَّجَاشِيُّ: سَتَأْتِي الْيَهُودِيَّيْنِ حَسَّانَ وَابَنَهُ ... قَصَائِدُ لَمْ يَخْتِمْ عَلَيْهِنَّ رَوْشَمُ لَعِينَ رَسُولِ اللَّهِ مَا لَكَ ذِمَّةٌ ... وَمَا لَكَ مِنْ دِينٍ وَمَالَكَ مَحْرَمُ أَبُوكَ أَبُو سَوْءٍ وَعَمُّكَ مِثْلُهُ ... وَخَالُكَ شَرٌّ مِنْ أَبِيكَ وَأَلأَمُ فَقَالَ ابْنُ حَسَّانٍ: أَلا تَرَوْنَ الْعَبْدَ إِذْا يَهْجُو مُضَرْ ... مِنَّا رَسُولُ اللَّهِ وَالْقَرْمُ عُمَرْ وَقَالَ أَيْضًا: أُشْهِدُ كُلَّ مُسْلِمٍ شَهَادَهْ ... مَنْ لا يَبِيعُ دِينَهُ تَلادَهْ مَا بَيْنَ أَقْصَى ضَرْغَدٍ فَصَادَهْ ... أَوْ مَلِكٍ تُلْقَى لَهُ أَسَادَهْ وَقَالَ النَّجَاشِيُّ لِقُرَيشٍ، وَكَانَ هَوَاهُمْ مَعَ ابْنِ حَسَّانٍ، وَيُقَالَ: بَلْ قَالَهَا حِينَ ضَرَبَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ، الْحَدَّ بِالْكُوفَةِ، وَنَفَاهُ عَنْهَا: ظَهَرَ النَّبِيُّ وَمَا قُرَيْشٌ وَسْطَنَا ... إِلا كَمِثلِ قُلامةِ الظُّفْرِ فَعَسَى قُرَيْشٌ أَنْ تَزِلَّ بِهَا ... غَدًا نَعْلٌ فَنَقْسِمُهَا عَلَى ظَهْرِ

حَدَّثَنِي الأَثْرَمُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ: " هَاجَ الْهِجِاءُ بَيْنَ النَّجَاشِيِّ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَّانٍ، أَنَّ امْرَأَةً مِنْ بَنِي الْحَارِثَ بْنِ كَعْبٍ كَانَتْ نَاكِحًا بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، كَانَتْ مِنْ أَجْمَلِ النِّسَاءِ، فَكَانَ ابْنُ حَسَّانٍ يُشَبِّبُ بِهَا حَتَّى يَرِقَا ذَلِكَ، فَهَجَاهُ النَّجَاشِيُّ بِنَجْرَانَ، ثُمَّ إِنَّهُمَا اتَّعَدَا سُوقَ ذِي الْمَجَازِ وَكَانَتْ تَقُومُ حِينَ يَسْتَهِلُّ هِلالُ ذِي الْحِجَّةِ، ثَلاثَةَ أَشْهُرٍ، وَمِنَهَا كَانَ يَتَجَهَّزُ النَّاسُ، وَيَمْضُونَ إِلَى مَكَّةَ إِلَى الْمَوْسِمِ، قَالَ: فَقَالَتِ الأَنْصَارُ، وَأَتَاهُمُ ابْنُ حَسَّانٍ يَسْتَنْفِرُهُمْ، شَاعِرَانِ سَفِيهَانِ، يَهْجُوَانِ النَّاسَ وَيُحْيِيَانِ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمْ تَنْفَرْ مَعَهُ جِلَّتُهُمْ، وَلا ذَوُو أَسْنَانِهِمْ، وَخَفَّ مَعَهُ شَبَابٌ مِنْ سُفَهَائِهَمْ، وَفِتْيَانٌ مِنْ قُرَيشٍ، وَأَفْنَاءُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. قَالَ عِيَاضُ بْنُ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ، وَكَانَ مَعَ ابْنِ حَسَّانٍ، قَالَ: لَمَّا قَدِمْنَا ذَا الْمَجَازِ، إِذَا النَّجَاشِيُّ قَدْ وَافَى فِي بَشَرٍ كَثِيرٍ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ ابْنُ حَسَّانٍ، سَأَلَ مَنْ أَعَزُّ مَنْ هَهُنَا؟ قَالُوا: هَذِهِ بِلادُ هَوَازَنَ، وَقَدْ نَزَلْنَا بَيْهَسِ بْنِ عَقَالِ الْعَقِيلِيِّ، قَالَ: فَأَتَيْنَاهُ فَلَمْ نُصَادِفْهُ، وَوَجَدْنَا امْرَأَةً، فَسَأَلْنَاهَا عَنْهُ، فَقَالَتْ: لَيْسَ هُوَ هَهُنَا، انْطَلَقَ يَشْتَرِي كِسْوَةً لِأَهْلِهِ، قَالَ: فَقَعَدْنَا فَإِذَا الشَّيْخُ قَدْ أَقْبَلَ، وَمَعَهُ رَجُلٌ حَامِلٌ رُزْمَةً مِنْ ثِيَابٍ، وَفِي كَفِّ بَيْهَسٍ أَثْوَابٌ كَأَنَّهُ يَشْتَدُّ بِهَا، وَإِذَا هُوَ دَالِفٌ حَتَّى إِذَا انْتَهَى إِلَيْنَا وَضَعَ مَا مَعَهُ، وَرَحَّبَ بِنَا وَنَسَبَنَا، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَنَا ابْنُ حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ، فَرَحَّبَ بِهِ، وَقَالَ: حَاجَتُكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ النَّجَاشِيَّ يَهْجُونَا، وَيُقَطِّعُ أَعْرَاضَنَا، فَوَاعَدْتُهُ، وَقَدْ وَافَى فِي بَشَرٍ كَثِيرٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ تَمْنَعَنِي حَتَّى أَلْقَاهُ، فَأُوَافِقُهُ. فَقَالَ: نَحِّ هَذَا عَنِّي يَا ابْنَ أَخِي إِلَى غَيْرِي، فَقَدْ نَوَيْتُ الْحَجَّ وَأَرَدْتُ أَنْ لا أُدْخِلَ فِيهَا شَيْئًا غَيْرَهَا، قَالَ: وَلَعَلِّي لا أَرَى حِجَّةً بَعْدَهَا. قَالَ: فَطَلَبْنَا إِلَيْهِ فَأَبَى، فَانْصَرَفْنَا، فَلَمَّا جَاوَزْنَا سَمِعْنَا امْرَأَتَهُ، تَقُولُ لَهُ: كَأَنِّي بِهَذَا الْمَوْلَى قَدْ قَالَ لَكَ قَوْلا لا يُنْكِحُ بِنْتًا لَكَ كُفْؤٌ أَبَدًا، أَتَاكَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ لِتَمْنَعَهُ فَنَبَوْتَ عَنْهُ. فَقَالَ لَهَا: وَيْحَكِ ادْعِيهِمْ فَدُعِينَا، فَرَجَعْنَا، فَقَالَ: نَعَمْ، أَنَا أَمْنَعُكَ فَمَتَى وَاعَدْتَهُ؟ قَالَ: بِالْغَدَاةِ. قَالَ: فَغَدَوْنَا، وَجَاءَ النَّجَاشِيُّ عَلَى جَمَّازٍ، وَجَاءَ بَيْهَسٌ، فَلَمَّا تَنَاقَضَا، جَعَلَ بَيْهَسٌ يَرَى أَبْصَارَ النَّاسِ إِلَى النَّجَاشِيِّ. وَقَدْ كَانَ كَلَّ سَمْعُهُ مِنَ الْكِبَرِ. قَالَ: فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ ظَنَّهُ قَدْ غَلَبَهُ، فَقَالَ: أَدْنُونِي مِنَ النَّجَاشِيِّ، فَسَمِعَهُ يَقُولُ: فَشُقَّ عَلَيْهِ، وَسَمِعَهُ يَقُولُ: بَنَى اللُّؤْمُ بَيْتًا فَاسْتَقَرَّ عِمَادُهُ ... عَلَيْكُمْ بَنِي النَّجَّارِ ضَرْبَةَ لازِمٍ

فَلَمَّا سَمِعَهَا كَلَّحَ، فَقَالَ: يَا آلَ هَوَازِنَ، فَلَمْ يَبْقَ بَيْتٌ وَلا خَيْمَةٌ إِلا قُوِّضَتْ، وَلَمْ أَرَ إِلا قَوَائِمَ جَمَلِ النَّجَاشِيِّ، وَأَفْلَتَ فَوَلِجَ فُسْطَاطًا، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ نَاحِيَتِهِ، وَاتَّبَعُوهُ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي قَارِبِ بْنِ الأَسْوَدِ الثَّقَفِيِّ، عَلَى فرَسٍ فَأَرْدَفَهُ. قَالَ: فَسَبَقَ بِهِ حَتَّى فَاتَ الْقَوْمَ. فَقَالَ النَّجَاشِيُّ يَعُمَّ الأَنْصَارَ: وَهَلْ أَنْتُمُ إِلا كَأَبْنَاءِ نَهْشَلٍ ... وَآلِ فُقَيْمٍ قُتِّلُوا وَمُجَاشِعُ بِذَنْبِ سُوَيْدٍ وَهْوَ مِنْ آلِ دَارِمٍ ... لِزَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالأَمْرُ جَامِعُ قَالَ: وَرَجِزَ بِهِ، فَقَالَ: إِذَا دَعَوْتَ مَذْحِجًا وَحِمْيَرًا ... وَالْعُصَبَ الْيَمَانِيَّاتِ الأُخَرَا فَمَا أَعَزَّ نَاصِرِي وَأَكْثَرَا قَالَ: وَاخْتَرَطَ رَجُلٌ مِنْ حِمْيَرٍ سَيْفَهُ، فَضَرَبَ بِهِ عُرْقُوبَ بَعِيرِ ابْنِ حَسَّانٍ، فَقَالَ حِينَ كُسِرَ: لَقَدْ شَمِتُوا حِينَ اسْتَخَفَّ حُلُومُهُمْ ... كَأنَ فَتًى لَمْ يَنْكَسِرْ سَاقُهُ قَبْلِي وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَرَوْنِي وَأنْ أَرَى ... سَويًّا كَأَنِّي غُصْنُ بَانٍ عَلَى نَجْلِ وَأُمْسِي تَحِلاتُ النَّجَاحِ مُجَازِيًا ... يُؤَدِّي أَهْلُ الْوُدِّ وَالتَّبْلُ بِالتَّبْلِ كَأَنِّي أَخُو الْحَلْفَاءِ أُصْبِحُ غَازِيًا ... شَدِيدُ مَشَكِّ الرَّأْسِ جَهْمٌ أَبُو شِبْلِ تَبِيتُ بَعُوضُ الْجِدِّ يَعْزِفْنَ حَوْلَهُ ... كَعَزْفِ الْقِيَانِ الضَّارِبَاتِ عَلَى الطَّبْلِ إِذَا أَنَا قَضَّيْتُ الأَمَانِيَّ خَالِيًّا ... فَأَوَّلُهَا التَّقْوَى وَمَشْيٌ عَلَى رِجْلِ كَسِيرَتِهَا الأُولَى وَذَلِكَ نَالَهَا ... إِذَا عُدَّتِ الأَشْيَاءُ عِنْدِي فَمَنْ مِثْلِي وَمَا أَنْسَ مِلَ الأَشْياءِ لا أَنْسَ مَصْرَعِي عَشِيَّةَ جَمْعٍ وْالْمُغِيرُونَ فِي شُغْلِ صَرِيعًا وَأَيْدِي السَّانِحَاتِ يُرِدْنَنِي ... كَمَا وَرَدَ الْيَعْسُوبَ رِجْلٌ مِنَ النَّحْلِ فَأَدْرَكَنِي رَبِّي بِفَضْلٍ وَنِعْمَةٍ ... وَمَا زَالَ عِنْدِي ذَا بَلاءٍ وَذَا فَضْلِ تُوَحَّدُ بِالنُّعْمَى عَلَيَّ فَأَصْبَحَتْ ... مَصَائِبُهَا كَالثَّوْبِ أُنْقِيَ بِالْغُسْلِ حَدَّثَنِي أَسْبَاطُ بْنُ عِيسَى الْعُذْرِيُّ، عَنْ أَشْيَاخِ قَوْمِهِ، قَالُوا: " لَمَّا أُخْرِجَ بِهُدْبَةَ بْنِ الْخَشْرَمِ، لِيُقْتَلَ، لَقِيَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانٍ، فَقَالَ لَهُ مُتَعَنِّتًا لَهُ: يَا هُدْبَةُ أَنْشِدْنِي. قَالَ: عَلَى هَذِهِ الْحَالِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ هُدْبَةُ: وَلَسْتُ بِمِفْرَاحٍ إِذَا الأَمْرُ سَرَّنِي ... وَلا جَازِعٍ مِنْ صَرْفِهِ الْمُتَقَلِّبِ وَلَسْتُ بِبَاغِي الشَّرِّ وَالشَّرُّ تَارِكِي ... وَلَكِنْ مَتَى أُحْمَلْ عَلَى الشَّرِّ أَرْكَبِ وَحَرَّبَنِي مَوْلايَ حَتَّى غَشِيتُهُ ... مَتَى مَا يُحرِّبْكَ ابْنُ عَمِّكِ تَحْرَبِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: عَلِمْتَ أَنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ امْرَأَتَكَ بَعْدَكَ؟ قَالَ: أَمَا إِنِّي قَدْ نَهَيْتُهَا عَنْكَ، حَيْثُ أَقُولُ: لا تَنْكِحِي إِنْ فَرَّقَ الْمَوْتُ بَيْنَنَا ... أَغَمَّ الْقَفَا وَالْوَجْهِ لَيْسَ بِأَنْزَعَا ضَرُوبًا بِلَحْيَيْهِ عَلَى عِظْمِ زُورِهِ ... إِذَا الْقَوْمُ هَشُّوا لِلْفِعَالِ تَقَنَّعَا أُصَيْهِبَ لا يُرْضِيكِ فِي الْحَيِّ جَالِسًا ... إِذَا مَا مَشَى أَوْ قَالَ قَوْلا بَلَتَّعَا

يُقَالُ: رَجُلٌ بَلْتَعَانُ إِذَا كَانَ يُكْثِرُ كَلامَهُ بِالْمُحَالِ لَمَّا وَصَفَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أُخْتَ النَّجَاشِيِّ، انْكَسَرَ النَّجَاشِيُّ لِصَفَتِهِ، قَالَ: وَبَطَحَ ابْنَ حَسَّانٍ عَنِ الرَّحْلِ فَسَقَطَ، فَانْكَسَرَتْ رِجْلُهُ، وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ هُذَيلٍ إِلَى حَسَّانٍ، فَقَالَ: قَدِمَ مُسَابِقُ الْحُجَّاجِ، قَالَ: فَأُخْبِرُ مَاذَا؟ قَالَ: الْتَقَى ابْنُكَ وَالنَّجَاشِيُّ، قَالَ: فَأَيُّهُمَا غَلَبَ؟ قَالَ: غَلَبَهُ النَّجَاشِيُّ، فَأَهْوَى حَسَّانٌ إِلَى ذَكَرِهِ، فَقَبضَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: مَا خَرَجَ إِذًا مِنْ هَذَا، مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنْ هُذَيلٍ. فَقَالَ حَسَّانٌ يَهْجُو الْقَائِلَ الْهُذْلِيَّ: فَمَنْ يَكْ بَيْنَ هُذَيْلِ الْخَنَا ... وَبَيْنَ ثُمَالَةَ لا يَفْزَعُ صِغَارُ الْجَمَاجِمِ ثُطُّ اللِّحَى ... كَأَنَّهُمُ الْقَمْلُ بِالْبَلْقَعِ إِذَا وَرَدَ النَّاسُ حَوْضَ الرَّسُولِ ... ذِيدَتْ هُذَيلٌ عَنِ الْمَشْرَعِ قَالَ: فَجَاءَتْهُ هُذَيْلٌ فَكَلَّمَتْهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ لَمْ يَأْتُونِي مَا زِلْتُ أَرْجُزُ بِهِمْ حَتَّى الْحَوْلِ. وَلَحَّ الْهِجَاءُ بَيْنَ النَّجَاشِيِّ وَحَسَّانٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّجَاشِيُّ بِأَبْيَاتٍ مِنْ شِعْرٍ مِنْهَا: بَنَى اللُّؤْمُ بَيْتًا فَاسْتَقَرَّ عِمَادُهُ ... عَلَيْكُمْ بَنِي النَّجَّارِ ضَرْبَةَ لازِمٍ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِبَيْتٍ آخَرَ: لَوْ كَانَ عُذْرٌ مُهْلِكًا أَهْلَ قَرْيَةٍ ... مِنَ النَّاسِ أَفْنَى بَاقِيَ الْخَزْرَجِ الْغَدْرُ فَدَخَلَ بِهَمَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ ضِرَارٍ الْجُشَمِيُّ عَلَى حَسَّانٍ، فَقَالَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ، أَمَا سَمِعْتَ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ اللَّذَيْنِ أَهْدَى إِلَيْكُمُ النَّجَاشِيُّ، فَقَالَ: اعْرِضْهُمَا عَلَيَّ، فَفَعَلَ، فَأَنْشَأَ حَسَّانٌ، يَقُولُ: يَا رَاكِبًا إِمَّا عَرَضْتَ فَبَلِّغَنْ ... عَبْدَ الْمَدَانِ وَجُلَّ آلِ قَنَانِ قَدْ كُنْتُ أَحْسَبُ أَنْ أَصْلِيَ أَصْلُكُمْ ... حَتَّى أَمَرْتُمْ عَبْدَكُمْ فَهَجَانِي وَقَالَ أَيْضًا: أَبَنِي الْحِمَاسِ أَلا مُرُوَّةُ فِيكُمُ ... إِنَّ الْمُرُوءَةَ فِي الْحِمَاسِ قَلِيلُ هَيَّجْتُمُ حَسَّانَ عِنْدَ ذَكَائِهِ ... غَيٌّ لِمَا وَلَدَ الْحِمَاسُ طَوُيلُ وَقَالَ أَيْضًا: حَارَبْنَ كَعْبٍ أَلا الأَحْلامُ تَزْجُرُكُمْ ... عَنِّي وَأَنْتُمُ مِنَ الْجُوفِ الْجَمَاخِيرِ لا عَيْبَ بِالْقَوْمِ مِنْ طُولٍ وَمِنْ عِظَمٍ ... جِسْمُ الْبِغَالِ وَأَحْلامُ الْعَصَافِيرِ دَعُوا التَّخَاجِيَ وَامْشُوا مِشْيَةً سُجُحًا ... إِنَّ الرِّجَالَ أُولُو عَصَبٍ وَتَذْكِيرِ كَأَنَّهُمْ قَصَبٌ جَوفٌ أَسَافِلُهُ ... مُثَقَّبٌ فِيهِ أَرْوَاحُ الأَعَاصِيرِ وَقَالَ النَّجَاشِيُّ: فَلَمْ أَهْجُكُمْ إِلا لأَنِّي حَسِبْتُكُمْ ... كَرَهْطِ ابْنِ بَدْرٍ أَوْ كَرَهْطِ ابْنِ مَعْبَدِ فَلَمَّا سَأَلْتُ النَّاسَ عَنْكُمْ وَجَدْتُكُمْ ... بِرَاذِينَ شُقْرًا أُرْبِطَتْ حَوْلَ مِذْوَدِ فَأَنْتُمْ بَنِي النَّجَّارِ أَكْفَاءُ مِثْلُنَا ... فَأَبْعِدْ بِكُمْ عَمَّا هُنَالِكَ أَبْعَدُ فَإِنْ شِئْتُمُ نَافَرْتُمُ عَنْ أَبِيكُمُ ... إِلَى مَنْ أَرَدْتُمْ مِنْ تِهَامٍ وَمُنْجَدِ وَمَا كُنْتُ أَدْرِي مَا حُسَامٌ وَمَا ابْنُهُ ... وَلا أُمُّ ذَلِكَ الْيَثْرِبِيِّ الْمُوَلَّدِ فَلَمَّا أَتَانِي مَا يَقُولُ وَدُونَهُ ... مَسِيرَةُ شَهْرٍ لِلْبَرِيدِ الْمُبَرَّدِ سَمَوْتُ لَهُ بِالْمَجْدِ حَتَّى رَدَدْتُهُ ... إِلَى نَسَبٍ نَاءٍ عَنِ الْمَجْدِ مُقْعَدِ

حَدَّثَنِي الأَثْرَمُ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ: " فَغَلَبَهُمُ النَّجَاشِيُّ، قَالَ: وَحَسَّانٌ يَوْمَئِذٍ شَيخٌ كَبِيرٌ أَعْمَى، فَقَالَ يُعَيَّرُ ابْنَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَيَهْجُوهُمْ: أَمَّا الْحِمَاسُ فَإِنِّي غَيْرُ شَاتِمِهِمْ ... لا هُمْ كِرامٌ وَلا عِرْضِي لَهُمْ خَطَرُ أَولادُ حَامٍ فَلا تَلْقَى لَهُمْ شَبَهًا ... إِلا التُّيُوسَ عَلَى أَقْفَائِهَا الشَّعَرُ وَقَالَ: أَلا أَبْلِغْ بَنِي الدَّيَّانِ عَنِّي ... مُغَلْغَلَةً وَرَهْطَ بِنِي قَيَانِ وَأَبْلِغْ كُلَّ مُنْتَخَبٍ هَوَاءٍ ... رَحِيبِ الْجَوْفِ مِنْ عَبْدِ الْمَدَانِ مَيَامِسُ غَزَّةٍ وَرِمَاحُ غَابٍ ... خِفَافٌ لا تَقُومُ بِهَا الْيَدَانِ تَفَاقَدْتُمْ عَلامَ هَجْوتُمُونِي ... وَلَمْ أَظْلِمْ وَلَمْ أُخْلَسْ لِسَانِي قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرُ: الْمَيْمَسُ الَّذِي يُسْخَرُ مِنْهُ، وَغَزَّةُ بِالشَّامِ مِنْ عَمَلِ فِلَسْطِينَ، وَبِهَا مَاتَ هِاشَمُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: لا تَقُومُ بِهَا الْيَدَانِ. فَشَبَّهَهُمْ بِالْقَصَبِ فِي ضَعْفِهِ. قَالَ: فَلَمَّا بَلَغَ النَّجِاشِيُّ أَنْ حَسَّانًا قَدْ هَجَاهُ، رَجَزَ بِهِ، فَقَالَ: يَأَيُّهَا الرَّاكِبُ ذُو الْمَتَاعِ ... ذُو الرَّحْلِ وَالْبُرْدَيْنِ وَالْإِقْطَاعِ أَآذِنُ بَنِي النَّجَّارِ بِالْوِقَاعِ ... مِنْ شَاعِرٍ لَيْسَ بِمُسْتَطَاعِ لَيْسَ مِنِ الْهِرَمِيِّ وَلا الْجَزَّاعِ ... لا يَقْتُلُ الأَقْوَامَ بِالْخِدَاعِ إِلا صَمِيمَ النَّقْرِ وَالْمِصَاعِ ... يَسْبِقُ شَأْوَ النُّجُبِ السِّرَاعِ جَاءَ عَلَى نَجِيبَةٍ وَسَاعٍ ... فِي مَوْكِبٍ عَرَمْرَمٍ قَضَّاعِ مِثْلِ أَتَيِّ السَّيْلِ ذِي الدِّفَاعِ ... إِنِّي امْرُؤٌ أَوْفَى عَلَى يَفَاعِ فِي حَلَبَاتِ الْمَجْدِ وَالْجُمَاعِ وَهِيَ طَوِيلَةٌ. وَقَالَ لِحَسَّانٍ وَابْنِهِ: إِنَّ اللَّعِينَ وَابْنَهُ غُرَابًا ... حَسَّانَ لَمَّا وَدَّعَ الشَّبَابَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانٍ شَدِيدَ السَّوَادِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: وَابْنَهُ غُرَابًا. وَنَقدَتْ أَنْيَابُهُ وَشَابَا ... اسْأَلْ رَسُولَ اللَّهِ وَالْكِتَابَا مَا بَالَهُ إِذَا افْتَرَى وَحَابَا ... وَأَخْطَأَ الْحَقَّ وَمَا أَصَابَا فَعَجَّلَ اللَّهُ لَهُ عَذَابًا ... وأَخَّرَ النَّارَ لَهُ مَآبَا يَا شَاعِرَيْ يَثْرِبَ لا تَرْتَابَا ... وَلا مُعَافَاةً وَلا عِتَابَا إِذْ تَهْجُوَانِ شَاعِرًا غِضَابًا ... لِلشُّعَرَاءِ وَاتِرًا غَلابَا لا مُفْحَمَ الْقَوْلِ وَلا هَيَّابَا ... كَاللَّيْثِ يَحْمِي جِزْعَهُ الذِّئَابَا وَأَنْتَ قَيْنٌ تَنْحَتُ الأَقْتَابَا ... لِشَرِّ أَمْرٍ إِنْ دُعِي أَجَابَا حَدَّثَنِي أَبُو غَزِيَّةَ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الأَنْصَارِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: " اسْتَثْنَى النَّجَاشِيُّ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَّانٍ حِينَ أَجْمَعَ مُهَاجَاتَهُ أَلا يُعِينَهُ أَبُوهُ حَسَّانٌ. فَسَأَلَ حَسَّانٌ ابْنَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ عَمَا قَالَ لِلنَّجَاشِيِّ فِي لَيْلَتِهِ، فَأَنْشَدَهُ، فَلَمْ يَرْضَ حَسَّانٌ، فَقَالَ: دَعُوا التَّخَاجِي وَامْشُوا مَشيَّةً سُجُحًا ... إِنَّ الرِّجَالَ أُولُو عَصَبٍ وَتَذْكِيرِ فَلَمَّا أَنْشَدَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ لِلنَّجَاشِيِّ، عَفَطَ فِي وَجْهِهِ، وَقَالَ: بَاسْتِكَ. أَنْتَ تُحْسَنُ تَرْخِيمَ الْكَلامِ. هَذَا كَلامُ الشَّيْخِ

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عِمْرَانَ، قَالَ: اجْتَمَعَتِ الأَنْصَارُ فِي مَجْلِسٍ، فَتَذَاكَرُوا هِجَاءَ النَّجَاشِيِّ إِيَّاهُمْ، وَقَالُوا: مَنْ لَهُ؟ فَقَالَ لَهُمُ الْحَارِثُ بْنُ مُعَاذٍ: حَسَّانٌ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ إِنَّ طَعَامَهُ لَيَغْلِبُهُ مِنْ ضَعْفِ حَنَكِهِ. فَيَعَرِضِهُ لِلنَّجَاشِيِّ وَلَمْ يَبْلُغْهُ شَاعِرٌ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَنْزِعُ قَمِيصِي حَتَّى آتِيَهُ، فَتَوجَّهَ نَحْوَهُ، وَهُمْ مُعْظِمُونَ لِذَلِكَ، حَتَّى دَقَّ عَلَيْهِ البَّابَ. فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: الْحَارِثُ بْنُ مُعَاذٍ. قَالَ: افْتَحِي فُرَيْعَةُ لِسَيِّدِ شَبَابِ الأَنْصَارِ. فَلَمَّا أَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ شَقَّ قَمِيصَهُ وَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ. فَقَالَ: أَيْنَ أَنْتُمْ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ: قَدْ قَاوَلَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَلَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا، قَالَ: كُنْ وَرَاءَ الْبَابِ وَاحْفَظْ مَا أُلْقِي عَلَيْكَ. فَقَامَ فَضَرَبَهُ البَّابُ فَشَجَّهُ، فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ احْفَظْ عَنِّي رَسُولَكَ. فَعَرَفْتُ وَاللَّهِ الْغَلَبَةَ إِذْ قَالَهَا، ثُمَّ قَالَ: أَبَنِي الْحِمَاسِ أَلَيْسَ فِيكُمْ سَيِّدٌ ... إِنَّ الْمُرُوءَةَ فِي الْحِمَاسِ قَلِيلُ هَيَّجْتُمُ حَسَّانَ عِنْدَ ذَكَائِهِ ... عَيٌّ لِمَا وَلَدَ الْحِمَاسُ طَوِيلُ إِنَّ الْهِجَاءَ إِلَيْكُمُ لَتَعِلَّةٌ ... فَتَحَشْحَشُوا إِنَّ الذَّلِيلَ ذَلِيلُ يَا وَيْلَ أُمِّكُمُ وَوَيْلَ أَبِيكُمُ ... وَيْلٌ تَرَدَّدَ فِيكُمُ وَعَوِيلُ لا تَجْزَعُوا أَنْ تُنْسَبُوا لِأَبِيكُمُ ... فَاللُّؤمُ يَبْقَى وَالْجِبَالُ تَزُولُ فَبَنُو زِيادٍ لَمْ تَلِدْكَ نُحُولُهُمْ ... وَبَنُو صَلاءَةَ فَحْلُهُمْ مَشْغُولُ وَسَرَى بِكُمْ تَيْسٌ أَجَمُّ مُجِذَّرٌ ... مَا لِلذَّمَامَةِ عَنْكُمُ تَحْويِلُ فَاللُّؤمُ حَلَّ عَلَى الْحِمَاسِ فَمَا لَهُمْ ... كَهْلٌ يَسُودُ وَلا فَتًى بُهْلُولُ وَقَالَ أَيْضًا يَهْجُوهُمْ: أَمَّا الْحِمَاسُ فَإِنِّي غَيْرُ شَاتِمهِمْ ... لا هُمْ كِرَامٌ وَلا عِرْضِي لَهُمْ خَطَرُ لا يَرْبُلُونَ وَلا يُلْفَى لَهُمْ شَبَهٌ ... إِلا التُّيُوسُ عَلَى أَكْتَافِهَا الشَّعَرُ إِنْ سَابَقُوا سُبِقُوا أَوْ نَافَرُوا نُفِروا ... أَوْ كَاثَرُوا وَاحِدًا مِنْ غَيْرِهِمْ كُثِرُوا شِبْهُ الزَّغَالِيلِ لا دِينٌ وَلا حَسَبٌ ... لَوْ قَامَرُوا الزِّنْجَ عَنْ أَحْسَابِهِمْ قُمِرُوا وَقَالَ أَيْضًا يَهْجُوهُمْ: يَا رَاكِبًا إِمَّا عَرَضْتَ فَبَلِّغَنْ ... عَبْدَ الْمَدَانِ وَجُلَّ آلِ قَنَانِ فَلْتُعْرَفَنَّ قَلائِدِي بِرِقَابِكُمْ ... كَالْوَشْمِ لا يَبْلَى عَلَى الْحَدَثَانِ فَلَأجْدَعَنَّ بَنِي رُهَيْمَةَ كُلَّهَا ... وَبَنِي الْحُصَيْنِ بِخِزْيَةٍ وَهَوَانِ أَمَّا الْحِمَاسُ فَلا أَقُولُ لِثُلَّةٍ ... تَرْعَى الْبِقَاعَ خَبِيثَةَ الأَوْطَانِ قَالَ: وَلَمَّا قَالَ حَسَّانُ قَصِيدَتَهُ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا: هَيَّجْتُمُ حَسَّانَ عِنْدَ ذَكَائِهِ ... غَيٌّ لِمَا وَلَدَ الْحِمَاسُ طَوِيلُ قَالَ: اكْتُبُوهَا فِي رِقَاعٍ، وَأَلْقُوهَا فِي أَيْدِي الصِّبْيَانِ، فَفَعَلُوا، فَلَمْ يَمُرَّ بِنَا إِلا بِضْعٌ وَخَمْسُونَ لَيْلَةً حَتَّى طَرَقَتْ بَنُو عَبْدِ الْمَدَانِ بِالنَّجَاشِيِّ مَوْثَقًا مَعْهُمْ، فَأَرْغَوْا بِبَابِهِ، فَقَالَ لِابْنَتِهِ: يَا بُنيَّةُ، مَا هَذَا الَّذِي أَسْمَعُ؟ قَالَتْ: لا وَاللَّهِ مَا أَدْرِي.

إذا أتي بطعام: أطعام يد أم طعام يدين؟ قال: فإذا قال له: طعام يدين. لم يأكل، وهو الشواء.

قَالَ: إِنَّ أَبَاكِ قَدْ كَانَ ذَا شِدَّةٍ فِي الْعَرِبِ بِلِسَانِهِ، فَانْظُرِي مَنْ طَرَقَنِي، فَإِنْ كَانَتِ الْإِبِلُ تَعْوِي عُوَاءَ الْكِلابِ، تُوطَأُ عَلَى أَذْنَابِهَا، فَهِي إِبِلٌ مُضَرِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَتْ تَشْكِي تَشَكِّي الذِّئَابِ، فَهِي إِبِلُ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، وَقَدْ أُتِيتُ بِالْعَبْدِ. قَالَتْ: يَا أَبَهْ، هِيَ وَاللَّهِ كَمَا تَصِفُ تَشْكِي لِي. قَالَ: أَرْسِلِي إِلَى قَوْمِكِ: أَجِيبُوا حَسَّانًا، فَمَا بَقَيَ بِعَالِيَةٍ وَلا سَافِلَةٍ أَحَدٌ إِلا جَاءَ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ، وَوُضِعَ لَهُ سَرِيرٌ، فَقَعَدَ عَلَيْهِ وَفِي يَدِهِ مِخْصَرَةٌ، قَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الدَّيَّانِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ الْفُرَيْعَةِ، جِئْنَاكَ بِابْنِ أَخِيكَ لِتَرَى فِيهِ رَأْيَكَ، وَأُتِيَ بِالنَّجَاشِيِّ، فَأُجْلِسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ الْقَوْمُ، فَقَالَ: يَا جَارِيَةُ، الْبَقِيَّةَ الَّتِي بَقِيَتْ مِنَ الْجَائِزَةِ، فَأَتَتْهُ بِمِائَةِ دِينَارٍ، إِلا دِينَارَيْنِ، فَقَالَ: خُذْهَا يَا ابْنَ أَخِي، فَعَوِّضْهَا أَهْلَكَ، وَحَمَلَهُ عَلَى بَغْلَةٍ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الدَّيَّانِ: يَا ابْنَ الْفُرَيْعَةِ، كُنَّا نَفْتَخِرُ فِي النَّاسِ بِالْعِظَمِ فَأَفْسَدْتَهُ عَلَيْنَا، قَالَ: كَلا أَنَا الَّذِي أَقُولُ: وَقَدْ كُنَّا نَقُولُ إِذَا سَمِعْنَا ... بِذِي جِسْمٍ يُعَدُّ وَذِي بَيَانِ كَأَنَّكَ أَيُّهَا الْمُعْطِي بَيَانًا ... وَجِسْمًا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمَدَانِ 140 - حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: " إِنَّ إِنْسَانًا عَمِلَ مَأْدُبَةً فِي زَمَانِ عُثْمَانَ، فَدَعَا لَهَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَفِيهِمْ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ، وَمَعَهُ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: فَجَعَلَ حَسَّانٌ يَقُولُ لابْنِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ: أَطَعَامُ يَدٍ أَمْ طَعَامُ يَدَيْنِ؟ قَالَ: فَإِذَا قَالَ لَهُ: طَعَامُ يَدَيْنِ. لَمْ يَأْكُلْ، وَهُوَ الشِّوَاءُ. قَالَ هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ: وَكَانَ فِي الْمَأْدُبَةِ قَيْنَتَانِ تُغَنِّيَانِهِمْ، وَجَعَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانٍ يُشِيرُ إِلَيْهِمَا تُغَنِّيَاهُمْ بِشْعِرِ حَسَّانٍ، فَغَنَّتَنَا بِقَوْلِهِ: انْظُرْ نَهَارًا بِبَابِ جِلَّقَ هَلْ ... تُؤْنِسُ دُونَ الْبَلْقَاءِ مِنْ أَحَدِ؟ قَالَ: فَبَكَى حَسَّانٌ وَجَعَلَ ابْنُهُ يِشِيرُ إِلَيْهِمِا تُغَنِّيَانِ بِشِعْرِهِ أَيْضًا فَبَكَى " حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ الأَثْرَمِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْكَلْبِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، وَخَالِدٌ ابْنَا سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، عَنْ أَبِيهِمَا: " إِنَّ أَوَّلَ مَا هَاجَ الْهِجَاءَ بَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَّانِ زَمَنَ مُعَاوِيَةَ وَهُمَا بِالْمَدِينَةِ وَعَلَيْهَا مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، أَنَّهُمَا خَرَجَا إِلَى الصَّيْدِ بَأَكْلُبٍ لَهُمَا، فَقَالَ: ابْنُ الْحَكَمِ: ازْجُرْ كِلابَكَ إِنَّهَا قَلَطِيَّةٌ ... بُقْعٌ وَمِثْلُ كِلابِكُمْ لَمْ تَصْطَدِ فَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ حَسَّانٍ: مَنْ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ فَرِيسَةِ صَيْدِهِ ... فَالتَّمْرُ يُغْنِينَا عَنِ الْمُتَصيِّدِ إِنَّا أُنَاسٌ رَيَّقُونَ وَإِنَّكُمْ ... كَكِلابِكُمْ فِي الوَلْغِ وَالْمُتَزَرِّدِ حُزْنَاكُمُ لِلْضَبِّ تَحْتَرِشُونَهُ ... وَالرِّيفِ، نَمْنَعُكُمْ بِكُلِّ مُهَّنَدِ

نَقْضِي فَنَمْضِي مَا أَرَدْنَا فِيكُمُ ... فِعْلَ الْعَزِيزِ بِعَبْدِهِ الْمُسْتَعْبَدِ قَالَ: ثُمَّ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ فَجَعَلا يَتَقَارَضَانِ الشَّعْرَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِي قَصِيدَةٍ: وَمَثُلُ أُمِّ أَبِيكَ الْعَبدِ قَدْ ضُرِبَتْ ... عِنْدِي وَلِي بِثَقِيلِي مِزْهَرٌ جَرِمُ وَأَنْتَ عِنْدَ ذَنَابِاهَا تُعَاوِنُهَا ... عَلَى الْقُدُورِ تَحَسَّى خَاثِرَ الْبَرَمُ قَالَ هَاشِمُ، قَالَ: أَبُو الْمُقَوَّمِ: فَنَقَضَ عَلَيْهِ ابْنُ حَسَّانِ، فَقَالَ: نَحَّاكُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِسْمِ وَحْدَكُمُ ... حَتَّى قَضَى قِسْمَةَ الْجِيرَانِ فِي الْكَرَمِ حَتَّى إِذَا كَانَ قَسْمُ اللُّؤْمِ قَالَ لَكُمْ ... حُلُّوا إِلَى حَظِّكُمْ فِي غَابِرِ الأُمَمِ يَا أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُزجِي مَطِيَّتَهُ ... إِمَّا عَرَضْتَ فَسَائِلْ عَنْ بَنِي الْحَكَمِ الْقَائِلِينَ إِذَا لاقَوْا عَدُوَّهُمُ ... خِرُّوا فَكِرُّوا عَلَى النِّسْوَانِ وَالنَّعَمِ وَاللاصِقِينَ بِحَيٍّ غَيْرِ أَصْلِهِمُ ... كَالْخَالِطِينَ صُقُورَ الطَّيْرِ بِالرَّخَمِ وَلا تَغُرَّنَّكَ أَبْرَادٌ وَأَقْمِصَةٌ ... فَإِنَّ أَرْبَابَهَا هُمْ رُضَّعُ الْغَنَمِ كَمْ مِنْ أَمِينٍ نَصْيحِ الْجَيْبِ قَالَ لَكَمُ ... أَلا نَهَيْتُمْ أَخَاكُمْ يَا بَنِي الْحَكَمِ عَنْ رَجُلٍ لا بَغِيضٍ فِي عَشِيرَتِهِ ... وَلا ذَلِيلٍ قَصِيرِ الْبَاعِ مُهتَضِمِ فَإِنَّ أُمَّكُمُ كَانَتْ مُلَعَّنَةً ... تَمْرِي الْخَلايَا وَتَرْعَى عَازِبَ الْغَنَمِ شَبَّتْ مُلَعَّنَةً بَظْرَاءَ مُؤْذِيَةً ... مِثْلَ الذُّبَابَةِ لَمْ تَنْكِحْ وَلَمْ تَئِمِ وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانٍ: أَلا أَبْلِغْ مُعَاوِيَةَ بْنَ حَرْبٍ ... فَقَدْ أَبْلَغْتُمُ الْحَنَقَ الصُّدُورَا تَقُونَ بِنَا نُفُوسَكُمُ الْمَنَايَا ... عَسَتْ بِكُمُ الدَّوَائرُ أَنْ تَدُورَا بِحَرْبٍ لا تَرَى الأُمَوِيَّ فِيهَا ... وَلا الثَّقَفِيَّ إِلا مُسْتَجِيرَا فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَئِنِ اسْتَجَارَ الأُمَوِيُّ إِنَّهُ لأَسْوَأُ حَالا مِنْهُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانٍ: صَارَ الْعَزِيزُ ذَلِيلا وَالذَّلِيلُ لَهُ ... عِزٌّ وَصَارَ فُرُوعُ النَّاسِ أَذْنَابَا إِنِّي لِمُلْتَمِسٌ حَتَّى يُبَيَّنَ لِي ... فِيكُمْ مَتَى كُنْتُمُ لِلْنَاسِ أَرْبَابَا فَارْقَوْا عَلَى ظَلْعِكُمْ ثُمَّ انْظُرُوا وَسَلُوا ... عَنَّا وَعَنْكُمْ قَدِيمَ الْعِلْمِ نَسَّابَا فَسَوْفَ يَضْحَكُ أَوْ تَعْتَادُهُ ذِكَرٌ ... يَا بَؤْسَ لِلْدَهْرِ لِلْإِنْسَانِ رَيَّابَا قَوْمٌ إِذَا رَاهَنُوا عَنْ مَجْدِهِمْ جَعَلُوا ... تَحْتَ الْعَجَاجَةِ لِلْمَسْبُوقِ جِلْبَابَا شَبَابُكُمْ شَرُّ شُبَّانٍ عَلِمْتُهُمُ ... قِصَرًا وَطُولا وَأَعْرَاضًا وَأَحْسَابَا وَشُمْطُكُمْ شَرُّ شُمْطِ الشِّيبِ مَخْبَرَةً ... وَشَرُّهُمْ فِي ثَنَا أَمْرٍ إِذَا غَابَا يُوصِي أَوَائِلُهُمْ بِالنُّوكِ آخِرَهُمْ ... وَشَرُّ مَنْ ذَاقَ طَعْمَ النُّوكِ مَنْ شَابَا إِنْ تَمْلِكُونَا قَلِيلا فِي إِمَارَتِكُمْ ... فَقَدْ مَلَكْتُمْ بَنِي الزَّرْقَاءِ أَحْقَابَا قَوْمٌ يَرَوْنَ بَنِي الأَحْرَارِ نَافِلَةً ... كَانُوا لَهُمْ خَوَلا بُرْدًا وَأَسْلابَا فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَكَمِ: لَنْ يَسْلُبَ اللَّهُ أَهْلِ الدِّينِ دِينَهُمُ ... وَلَنْ تَعُودَ فُرُوعُ النَّاسِ أَذْنَابَا مِنَّا الرَّسُولُ وَمِنَّا مَنْ يُلاذُ بِهِ ... وَلَنْ نَزَالَ لِهَذَا الدِّينِ أَرْبَابَا فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانٍ: وَأَمَّا قَوْلُكَ الْخُلَفَاءُ مِنَّا ... فَهُمْ مَنَعُوا وَرِيدَكَ مِنْ وِدَاجِ وَلَوْلاهُمْ لَكُنْتَ كَعَظْمِ حُوتٍ ... هَوَتِ فِي مُظْلَمِ الْغَمَرَاتِ دَاجِ

" فلما أهذرا في التهاجي وأفحشا، كتب معاوية بن أبي سفيان، وهو الخليفة يومئذ إلى سعيد بن

وَكُنْتَ أَذَلَّ مِنْ وَتَدٍ بِقَاعٍ ... يُشَعِّثُ رَأْسَهُ بِالْفِهْرِ وَاجٍ وَلَولاهُمْ قُسِرْتَ وَطِبْتَ نَفْسًا ... لَنَا يَا ابْنَ الْمَفَاضَةِ بِالْخَرَاجِ هُمْ دُعْجٌ وَنَسْلُ أَبِيكَ زُرْقٌ كَأَنَّ عُيُونَهُمْ فِلَقُ الزُّجَاجِ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَكَمِ: وَلِلأَنْصَارِ أَكُلٌ فِي قُرَاهَا ... لِخُبْثِ الْمَطْعِمَاتِ مِنَ الدَّجَاجِ وَأَرْبَى مِنْ خَمِيرِهِمُ وَأَبْقَى ... عَلَى لُؤْمِ الْهَوَانِ مِنَ الرِّتَاجِ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانٍ: أَبِي لَكُمْ فِي الْكُفْرِ نَكْلا ... وَفِي الْإِسْلامِ كُنْتُ لَكُمْ عِلاطَا لَقَدْ أَدْرَكْتُ عِنْدَكُمُ حَدِيثًا ... وَمَا تَضَعُونَ فِي بَيْتٍ بِسَاطَا وَمَا لِنِسَائِكُمُ إِذْ ذَاكَ رَقْمٌ ... سِوَى أَدَمٍ تُشَقِّقُهُ رِهَاطَا وَلا لِجَمِيعِهِمْ إِلا رِدَاءٌ ... قَدِ اشْتَرَطُوا لِلُبْسَتِهِ اشْتِرَاطَا صَغِيرُ الرَّأْسِ لَيْسَ بِذِي اتِّسَاعٍ ... وَلَوْ شَقُّوهُ أُعْجِلَ أَنْ يُخَاطَا وَقَالَ أَيْضًا: حَدِيثَكَ إِذْ أَتَاكَ بِعَيْبةٍ ... رَجُلٌ يَظُنُّكَ صَالَحًا وَأَمِينَا فَبَقَرْتَهَا بَقْرَ الْحُوَارِ بِمِعْوَلٍ ... يُدْعَا لِوَجْدٍ مُذْلَقًا مَسْنُونَا إِنَّ اللَّعِينَ أَبُوكَ فَارْمِ عِظَامَهُ ... إِنْ تَرْمِ تَرْمِ مُخَلَّجًا مَجْنُونَا خَمِيصَ الْبَطْنِ مِنْ عَمَلِ التُّقَى ... وَيَظَلُّ مِنْ عَمَلِ الْخَبِيثِ بَطِينَا قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ إِذَا مَشَى يَتَكَفَّأُ، وَكَانَ الْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ يُحْكِيهِ، فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَآهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ: «فَكَذَلِكَ فَلْتَكُنْ» . فَكَانَ الْحَكَمُ مُخْتَلِجًا. فَعَيَّرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِذَلِكَ 143 - حَدَّثَنِي الأَثْرَمُ، عَنْ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْخَطَّابِ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: " فَلَمَّا أَهْذَرَا فِي التَّهَاجِي وَأَفْحَشَا، كَتَبَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَهُوَ الْخَلِيفَةُ يَوْمَئِذٍ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَهُوَ عَامِلُهُ عَلَى الْمَدِينَةِ: أَنْ يَجْلِدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ سُوطٍ، قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانٍ لَمْ يَمْدَحْ أَحَدًا قَطُّ إِلا سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ. فَكَرِهَ أَنْ يُقدَّمَ عَلَيْهِ بِالضَّرْبِ، وَكَرِهَ أَنْ يَجْلِدَ ابْنَ عَمِّهِ. فَكَفَّ عَنْهُمَا، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يُوَلِّي سَعِيدًا الْمَدِينَةَ سَنَةً وَمَرْوَانَ سَنَةً. فَلَمَّا كَانَتِ السَّنَةُ الَّتِي يَعْقُبُ فِيهَا سَعِيدٌ مَرْوَانَ. قَالَ: فَأَخَذَ مَرْوَانُ ابْنَ حَسَّانٍ فَضَرَبَهُ مِائَةَ سَوطٍ، وَلَمْ يَضْرِبْ أَخَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَكَمِ. وَكَانَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ الأَنْصَارِيِّ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ، وَكَانَ أَثِيرًا عِنْدَهُ مَكِينًا، فَلَمْ يِلْتَفِتْ إِلَى ابْنِ حَسَّانٍ، وَإِلَى مَا صُنِعَ بِهِ. قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابنُ حَسَّانٍ يُعَاتِبُهُ: لَيْتَ شِعْرِي أَغَائِبٌ أَنْتَ بِالشَّامِ ... خَلِيلِي أَمْ رَاقِدٌ نَعْمَانُ أَيَّةُ مَا يَكُنْ فَقَدْ يَرْجِعُ الْغَائِبُ ... يَوْمًا وَيُوقَظُ الْوَسْنَانُ إِنَّ عَمْرًا وَعَامِرًا أَبَوَيْنَا ... وَحَرَامًا قِدَمًا عَلَى الْعَهْدِ كَانُوا أَفَهُمْ مَانِعُوكَ أَمْ قِلَّةُ الْكُتَّابِ ... أَمْ أَنْتَ عَاتِبٌ غَضْبَانُ جَفاءٌ أمْ أَعْوَزَتْكَ الْقَرَاطِيسُ ... أَمْ أَمْرِي بِهْ عَلَيْكَ هَوَانُ يَوْمَ أُنْبِئْتَ أَنَّ سَاقِيَ رُضَّتْ ... وَأَتَاكُمْ بِذَلِكَ الرُّكْبَانُ

ثُمَّ قَالُوا إِنَّ ابْنَ عَمِّكَ فِي بَلَوى ... أُمُورٍ أَتَى بَهَا الْحَدَثَانُ فَتَئِطُّ الأَرْحَامُ وَالْوُدُّ وَالصُّحْبَةُ ... فِيمَا أَتَتْ بِهِ الأَزْمَانُ أَوَ تَرَى إِنَّمَا الْكِتَابُ بَلاغٌ ... لَيْسَ فِيهِ لِبَيِّعٍ أَثْمَانُ إِنَّمَا الرُّمْحُ فَاعْلَمَنَّ قَنَاة ... أَوْ كَبَعْضِ الْعِيدَانِ لَوْلا السِّنَانُ لا يُهِينَنِّي عَلَيْكَ بِأَنِّي ضِمْنُ ... النَّسَاقِ قَدْ يَصِحُّ الضَّمَانُ وَاعْلَمْ أَنِّي أَنَا أَخُوكَ وَأَنِّي ... لَيْسَ مِثْلِي أَزْرَى بِهِ الأَخَوَانُ وَاعْلَمْ أَنِّي بَتَلْتُ مِنِّي يَمِينًا ... وَقَلِيلٌ فِي ذَلِكَ الأَيْمَانُ لا تَرَى مَا حَيِيتُ مِنِّي كِتَابًا ... غَيْرَ هَذَا حَتَّى يَزُولَ أَبَانُ أَوْ يَزُولَ الشَّنْطِيُّ مِنْ جَبَلِ الثَّلْجِ ... وَيَضْحَى صَحَارِيًا لُبْنَانُ أَوْ تُرَى الْقُورُ مِنْ عَبَاثِرَ بِالشَّامِ ... وَيَضْحَى مَكَانَهَا حَوْرَانُ أَوْ أَرَى فِي الْكِتَابِ مِنْكَ ثَلاثًا ... مُدْرِجَاتٍ لِشَدِّهِنَّ قِرَانُ إِنَّمَا الْوُدُّ وَالنَّصِيحَةُ فِي الْقَلْبِ ... وِلَيْسَتْ بِمَا يَصُوغُ اللِّسَانُ إِنَّ شَرَّ الصَّفَاءِ مَا زَوَّقَ الْحُبُّ ... فَيَبْدُو وَتَحْتَهُ الشَّنَآنُ فَأَجَابَهُ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ: لَيْسَ فَاعْلَمْ أَخُوكَ يَغْتَرُّ بِالنَّوْمِ ... وَلَكِنْ مُحَرِّشٌ يَقْظَانُ إِنَّ جَدِّي الَّذِي انْتَمَيْتُ إِلَيْهِ ... كَانَ فِي النَّاسِ شَبَهُهُ الأَضْحَيَانُ قَمَرُ الْبَدْرِ بَازِغًا إِذَا تَجَلَّى ... لَيْسَ مِنْ دُونِ مُجْتَلاهُ جِنَانُ إِنَّ عَمَرًا وَعَامِرًا أَبَوَيْنَا ... وَرِثَ الْمَجْدُ عَنْهُمَا حَسَّانُ شَيَّدَ الْمَجْدَ بِالْفِعَالِ فَأَضْحَى ... وَهُوَ مِنْ دُونِ مُرْتَقَاهُ الْعَنَانُ إِنَّ وَصْفِي وَمَشْهَدِي وَمُقَامِي ... لَكَرِهْنٌ تَهَابُهُ الأَرْكِانُ قَالَ: ثُمَّ دَخَلَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: كَتَبْتَ إِلَى سَعِيدٍ أَنْ يَضْرِبَ ابْنَ الْحَكَمِ وَابْنَ حَسَّانٍ، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَلَمَّا قَدِمَ أَخُوهُ ضَرَبَ ابن حَسَّانً، وَتَرَكَ أَخَاهُ. قَالَ: فَمَا تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ تَضْرِبَهُ كَمْا كَتَبْتَ، وَكَمْا كُنْتَ أَمَرْتَ، قَالَ: فَكَتَبَ إِلَى مَرْوَانَ بِعَزِيمَةٍ، وَسَرَّحَ فِي ذَلِكَ رَجُلا أَنْ يَضْرِبَ ابْنَ الْحَكَمِ مِائَةً، وَبَعَثَ إِلَى ابْنِ حَسَّانٍ بِحُلَّةٍ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى مَرْوَانَ دَسَّ إِلَى ابْنِ حَسَّانٍ وَهُوَ فِي السِّجْنِ: إِنِّي مُخْرِجُكَ، وَإِنَّمَا أَنَا بِمَنْزِلَةِ وَالِدِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ مَا كَانَ مِنِّي إِلَيْكَ أَدَبًا لَكَ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ ابْنُ حَسَّانٍ: مَا بَدَا لِابْنِ الزَّرْقَاءِ فِي هَذَا؟ وَاللَّهِ مَا هَذَا إِلا لَشَيْءٍ قَدْ جَاءَهُ. وَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ. فَبَلَّغَ الرَّسُولُ مَرْوَانَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِالْحُلَّةِ، فَأَعَادَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ، فَلَمْ يَقْبَلْ، وَطَرَحَ الْحُلَّةَ فِي الْحَشِّ، فَقِيلَ لَهُ: حُلَّةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ تَرْمِي بِهَا فِي الْحَشِّ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَمَا أَصْنَعُ بِهَا؟ وَجَاءَهُ قَوْمُهُ فَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: قَدْ عَرَفْتُ أَنَّهُ لَمْ يِفْعَلْ مَا فَعَلَ إِلا لِأَمْرٍ قَدْ حَدَثَ. فَقَالَ الرَّسُولُ لِمَرْوَانَ: مَا تَصْنَعُ بِهَذَا؟ قَدْ أَبَى أَنْ يَعْفُوَ، فَهَلُمَّ ابْنَ الْحَكَمِ، فَبَعَثَ مَرْوَانُ إِلَى الأَنْصَارِ، فَطَلَبَ إِلَيْهِمْ أَنْ يَطْلُبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَضْرِبَهُ خَمْسِينَ. فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَلَقِيَ ابْنَ حَسَّانٍ بَعْضُ مَنْ كَانَ لا يَهْوَى مَا نَزَلَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُ: ضَرَبَكَ مِائَةً وَتَضْرِبُهُ خَمْسِينَ.

بِئْسَ مَا صَنَعْتَ إِذْ وَهَبْتَهَا لَهُ. قَالَ: إِنَّهُ عَبْدٌ، وَإِنَّمَا ضَرَبْتُهُ مَا يُضْرَبُ الْعَبْدُ، نِصْفُ مَا يُضْرَبُ الْحُرُّ. فَحُمِلَ هَذَا الْكَلامُ حَتَّى شَاعَ بِالْمَدِينَةِ، وَبَلَغَ ابْنَ الْحَكَمِ، فَشَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَأَتَى أَخَاهُ مَرْوَانَ فَأَعْلَمَهُ ذَلِكَ، وَقَالَ: فَضَحْتَنِي لا حَاجَةَ لِي فِيمَا تَرَكْتَ. فَبَعَثَ مَرْوَانُ إِلَى ابْنِ حَسَّانٍ: لا حَاجَةَ لَنَا فِيمَا تَرَكْتَ، هَلُمَّ فَاقْتَصَّ، فَضَرَبَ ابْنَ الْحَكَمِ خَمْسِينَ أُخْرَى. فَقَالَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانٍ يَهْجُو عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَكَمِ: دعْ ذَا وَعَدِّ قَرِيضَ شِعْرِكَ فِي امْرِئٍ ... يَهْذِي وَيُنْشِدُ شِعْرَهُ كَالْفَاخِرِ وَاذْكُرْ لَهُ قِطَعَ الشَّرِيطِ وَشِدْخَهُ ... بِمُهَّنَدٍ مَاضِي الْحَدِيدَةِ بَاتِرِ قَلِقِ النِّصَالِ مِنَ الْمَغَاوِلِ مُرْهَفٍ ... ظَمِئٍ كَقَادِمَةِ الْعُقَابِ الْكَاسِرِ وَقَعَدْتَ تَأْكُلُ مَالَهُ وَتَرَكْتَهُ ... بِالشَّامِ يُنْشِدُ كُلَّ قَصِرٍ عَامِرِ وَتَرَكْتَهَا عَارًا عَلَيْكَ وَسُبَّةً ... مَا عِشْتَ تُذْكَرُ مِثْلَ طَوْقِ الطَّائِرِ عُثْمَانُ عَمُّكُمُ وَلَسْتُمْ مِثْلَهُ ... وَبَنُو أُمَيَّةَ مِنْكُمُ كَالْآمِرِ وَبَنُو أَبِيكَ سَخِيفَةٌ أَحْلامُهُمْ ... فُحْشُ النُّفُوسِ لَدَى الْجَلِيسِ الزَّائِرِ جُبُنُ الْقُلُوبِ لَدَى الْحُرُوبِ أَذِلَّةٌ ... مَا يُقْبِلُونَ عَلَى صَفِيرِ الصَّافِرِ وَسُيُوفُهُمْ فِي الْحَربِ كُلُّ مُفَلَّلِ ... نَابٍ مَضَارِبُهُ وَدانٍ دَائِرِ أَحَياؤُهُمْ عَارٌ عَلَى أَمْوَاتِهِمْ ... وَالْمَيِّتُونَ مَسَبَّةٌ لِلْغَابِرِ لَمْ تَنْظُرُونَ إِذَا هَدَرْتُ إِلَيْكُمُ ... نَظَرَ التُّيُوسِ إِلَى شِفَارَ الْجَازِرِ خُزْرَ الْعِيُونِ مُنَكِّسِي أَذْقَانِكُمْ ... نَظَرَ الذَّلِيلِ إِلَى الْعَزِيزِ الْقَاهِرِ فَقَالَ: ابْنُ الْحَكَمِ يَهْجُو الأَنْصَارَ: لَقَدْ أَبْقَى بَنُو مَرْوَانَ حُزْنًا ... مُبِينًا عَارُهُ لِبَنِي سَوَادِ يَطِيفُ بِهِ صَبِيحٌ فِي مَشِيدٍ ... وَنَادَى دَعْوَةً: يَا بْنَيْ سُعَادِ لَقَدْ أَسْمَعْتَ لَوْ نَادَيْتَ حيًّا ... وَلَكِنْ لا حَياةَ لِمَنْ تُنَادِي فَأَعْتَنَ أَبُوَ وَاسِعٍ أَحَدُ بَنِي الأَشْعَرِ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، دُونَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَّانٍ، فَهَجَاهُ وَعَيَّرَهُ بَضَرْبِ ابْنِ الْمُعَطَّلِ أَبَاهُ حَسَّانًا عَلَى رَأْسِهِ، وَعَيَّرَهُمْ بِأَكْلِ الْخُصَى، فَقَالَ: وَإِنَّ ابْنَ الْمُعَطَّلِ مِنْ سُلَيْمِ ... أَذَلَّ قِيَادَ رَأْسِكَ بِالْخِطَامِ عَمِدتَ إِلَى الْخُصَى فَأَكَلْتَ مِنْهَا ... لَقَدْ أَخْطَأْتَ فَاكِهَةَ الطَّعَامِ وَمَا لِلْجَارِ حِينَ يَحِلُّ فِيكُمْ ... لَدَيْكُمْ يَا بَنِي النَّجَّارِ حَامِ يَظَلُّ الْجَارُ مُفْتَرِشًا يَدَيْهِ ... مَخَافَتَكُمْ لَدَى مَلَثِ الظَّلامِ وَيَنْظُرُ نَظْرَةً فِي مِذْرَوِيهِ ... وَأُخْرَى فِي اسْتِهِ وَالطَّرْفُ سَامِ قَالَ: فَلَمَّا عَمَّ بَنِي النَّجَّارِ بِالْهِجَاءِ، وَلا ذَنْبَ لَهُمْ دَعَوْا اللَّهَ عَلَيْهِ، فَخَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ يُرِيدُ أَهْلَهُ، قَالَ: فَعَرَضَ لَهُ الأَسَدُ فَقَضْقَضَهُ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانٍ: أَبْلِغْ بَنِي الأَشْعَرِ إِنْ جِئْتَهُمْ ... مَا بَالُ أَبْنَاءِ بَنِي وَاسِعِ وَاللَّيْثُ يَعْلُوهُ بِأَنْيَابِهِ ... مُعْتَفِرًا فِي دمِهِ النَّاقِعِ لا يَرْفَعُ الرَّحْمَنُ مَصْرُوعَكُمْ ... وَلا يُوهِّنُ قُوَّةَ الصَّارِعِ إِذْ تَرَكُوهُ وَهُوَ يَدْعُوهُمُ ... بِالنَّسَبِ الدَّانِي وَبِالشَّاسِعِ

قَالَ: فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: مَا دَعَا أَحَدٌ لِلأَسَدِ بِخَيْرٍ قَطُّ قَبْلَكَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلا يُوهِّنُ قُوَّةَ الصَّارِعِ " حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ الأَثْرَمِ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ: " كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانٍ مُعَنًّى غَرِيضًا، ذَا كِبَرٍ وَنَخْوَةٍ، فَكَتَبَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مِسْكِينِ بْنِ عَامِرِ بْنِ شُرَيْحِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُدُسِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَارِمٍ، يَدْعُوهُ إِلَى الْمُفَاخَرَةِ، وَالتَّهَاجِي فِي كِتَابٍ، وَخَتَمَهُ، وَدَفَعَهُ إِلَى رَاكِبٍ، وَقَالَ لَهُ: ائْتِ الْكُوفَةَ، فَاسْأَلْ عَنْ بَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَارِمٍ، فَإِذَا دُلِلْتَ عَلَيْهِمْ، فَادْفَعَ هَذَا الْكِتَابَ إِلَى مِسْكِينِ بْنِ عَامِرٍ. فَارْتَحَلَ حَتَّى أَتَى الْكُوفَةَ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَدُلَّ عَلَيْهِ، فَانْطَلَقَ حَتَّى وَضَعَ الْكِتَابَ فِي يَدِ مِسْكِينٍ، فَلَمَّا قَرَأَهُ دَعَا غُلامَهُ بِشُرْبٍ، ثُمَّ خَلا فَجَعَلَ يَشْرَبُ وَيَقُولُ الشِّعْرَ وَيَكْتُبَهُ حَتَّى فَرَغَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ دَعَا بِمَا قَالَهُ فَجَعَلَ يُثْبِتُ مَا أَرَادَ وَيُلْقِي مَا لَمْ يُرِدْ، حَتَّى أَحْكَمَ ذَلِكَ، ثُمَّ خَتَمَهُ، وَدَفَعَهُ إِلَى الرَّسُولِ، فَلَمَّا قَدِمَ الْكِتَابُ عَلَيْهِ قَرَأَهُ ثُمَّ أَتَاهُ شُيُوخُ قَوْمِهِ، فَأَقْرَأَهُ إِيَّاهُمْ، وَشَاوَرَهُمْ، فَنَهَوْهُ عَنْ جَوَابِهِ، وَقَالُوا: مِنْ أَيْنَ لَكَ مِثْلُ هَؤُلاءِ الرِّجَالِ الَّذِينَ فَخَرَ بِهِمْ. فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ. وَأَجَابَهُ وَذَكَرَ أَنْ مَآثِرَ الأَنْصَارِ لا تُدْنِيهَا تَمِيمٌ، فَقَالَ مِسْكِينُ بْنُ عَامِرٍ فِي قَصِيدَةٍ: فَإِنْ يَبْلَ الشَّبَابُ فَكُلُّ شَيْءٍ ... سَمِعْتُ بِهِ سِوَى الرَّحْمَنِ بَالِ أَلا إِنَّ الشَّبَابَ ثَيَابُ لُبْسٍ ... وَمَا الأَمْوَالُ إِلا كِالطِّلالِ وَمَا أَدْرِي وَإِنْ جَامَعْتُ قَوْمًا ... أَفْيهِمْ رَغْبَتِي أَمْ فِي الزِّيَالِ وَحَامِلَةٍ وَمَا تَدِرِي أَفِيهِ ... يَكُونُ نَجَاحُهَا أَمْ فِي الْحِيَالِ لَعَلَّكَ يَا ابْنَ فَرْخِ اللُّؤْمِ تَنْمِي ... تَرُومُ الرَّاسِيَاتِ مِنَ الْجِبَالِ فَإِنَّكَ لَنْ تَنَالَ الْمَجْدَ حَتَّى ... تَرُدَّ الْمَاضِيَاتِ مِنَ اللَّيَالِي أَبِي مُضَرَ الَّذِي حُدِّثْتَ عَنْهُ ... وَكَانَ رُبَيْعَةُ الأَثَرَيْنِ خَالِي وَإِنِّي حِينَ أُنْسَبُ مِنْ تَمِيمٍ ... لَفِي الشُّمِّ الشَّمَارِيخِ الطِّوَالِ وَآبَائِي بَنُو عُدْسِ بْنِ زَيْدٍ ... وَخَالِي الْبِشْرُ، بِشْرُ بَنِي هِلالِ غُرَّتِي عَمْرُو بْنُ عَمْرٍو ... وَرَدَّانِي زُرَارَةُ بِالْفِعَالِ كَفَانَا حَاجِبٌ كِسْرَى وَقَوْمًا ... هُمُ الْبِيضُ الْكِرِامُ ذُوُو السِّبَالِ وَسَارَ عُطَارِدٌ حَتَّى أَتَاهُمْ ... فَأَعْطَوْهُ الْمُنَى غَيْرَ انْتِحَالا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرُ: قَوْلُهُ كَفَانَا حَاجِبٌ يَعْنِي كَفَى الْعَرَبَ جَمِيعًا أَمْرُ كِسْرَى حَيْثُ مَنَعَهُمْ أَنْ يَدْعُوا فِي بِلادِ الْعَجَمِ إِلا بِضَمِينٍ، فَرَهَنَهُ قَوْسَهُ فَأَطْلَقَهُ: وَذُو الْقَرْنَيْنِ آخَاهُ لَقِيطٌ ... وَكَانَ صَفِيَّهُ دُونَ الرِّجَالِ وَذُو الْقَرْنَيْنِ عُمْرُو بْنُ هِنْدٍ هُمَا حُبِيَا بِدِيبَاجٍ كَرِيمٍ ... وَيَاقُوتٍ يُفَصَّلُ بِالْمَحَالِ وَكَانَ الْحَازِمُ الْقَعْقَاعُ مِنَّا ... لِزَازُ الْخَصْمِ وَالأَمْرِ الْعُضَالِ شُرَيْحٌ فَارِسُ النُّعْمَانِ جَدِّي ... وَنَازِلُهَا إِذَا دُعِيَتْ نَزَالِ وَقَاتِلُ خَالِهِ بِأَبِيهِ مِنَّا: ... سَمَاعَةُ لَمْ يَبِعْ حَسَبًا بِمَالِ وَنَدْمَانُ ابْنُ جَفْنَةَ كَانَ خَالِي ... فَفَارَقَهُ وَلَيْسَ لَهُ بِقَالِ

وَيومٍ مُظْلِمٍ لَبَنِي تَمِيمٍ ... جَلَوْنَا شَمْسَهُ وَالْكَعْبُ عَالِ نُحِبُّ الْمَجْدَ قَدْ عَلِمَتْ مَعَدٌّ ... وَنُغْلِي الْمَجْدَ إِنَّ الْمَجْدَ غَالِ دَعَتْنَا الْحَنْظَلِيَّةُ إِذْ لَحِقْنَا ... وَقَدْ حُمِلَتْ عَلَى جَمَلٍ ثِقَالِ فَأَدْرَكَهَا وَلَمْ يَعْدِلْ شُرَيْحٌ ... وَأَعَوَجُ عِنْدَ مُخْتَلِفِ الْعَوَالِي فَغِرْنَا أَنَّ غَيْرَتَنَا كَذَاكُمْ ... إِذَا بَرَزَ النِّسَاءُ مِنَ الْحِجَالِ مَتَى نَأْسِرْ وَنُؤْسَرْ فِي أُنَاسٍ ... وَيُوجَعْ كُلَّمَا عَقْدِ الْحِبَالِ فَنَحْنُ الذَّائِدُونَ إِذَا بُدِئْنَا ... وَلا يَرْضَوْنَ مِنَّا بِالْبِدَالِ فَدَعْ قَوْمِي وَقَوْمَكَ لا يُسَبُّوا ... وَأَقْبِلْ لِلتَّمَجُّدِ وَالْفِعَالِ كِلانَا شَاعِرٌ مِنْ حَيِّ صِدْقٍ ... وَلَكِنَّ الرَّحَا فَوْقَ الثِّفَالِ وَحَكِّمْ دَغْفَلا نَرْحَلْ إِلَيْهِ ... وَلا تُرِحِ الْمَطِيَّ مِنَ الْكَلالِ تَعَالَ إِلَى النُّبُوَّةِ مِنْ قُرَيْشٍ ... مَنْ عَلا شُعَبَ الرِّحَالِ وَإِلا فَاعْتَمِدْ سُوقًا كِرَامًا ... يُفَضَّلُ فَوْقَ سَجْلِكُمُ سَجَالِي تَعَالَ إِلَى بِنِي الْكَوَّاءِ يَقْضُوا ... بِعِلْمِهِمُ بِأَنْسَابِ الرِّجَالِ تَعَالَ إِلَى ابْنِ مَذْعُورٍ شِهَابٍ ... يُخَبِّرْ بِالسَّوَافِلِ وَالْعَوَالِي وَعِنْدَ الْكَيِّسِ النَّمَرِيِّ عِلْمٌ ... وَلَوْ أَمْسَى بِمُنْخَرَقِ الشَّمَالِ كَأنَّ قُدُورَ قَوْمِيَ كُلَّ يَوْمٍ ... قِبَابُ التُّرْكِ مُلْبَسَةُ الْجَلالِ أَمَامَ الْحَيِّ تَحْمِلُهَا أثَافٍ ... مُلَمْلَمَةٌ كَأَثْبَاجِ الرِّئَالِ كَأنَ الْمُوقِدِينَ لَهَا جِمَالٌ ... طَلاهَا الزِّفْتَ وَالْقِطِرَانَ طَالِ بَأَيْدِيهِمْ مَغَارِفُ مِنْ حَدِيدٍ ... يُشَبِّهُهَا مُقَيِّرَةَ الدَّوَالِي أَسَرَتْ بَنُو أَسَدٍ رَجُلا مِنْ بَنِي زُرَارَةَ، وَفِي بَنِي زُرَارَةَ أَسِيرٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، فَعَرَضُوهُ بِهِ، فَأَبَتْ بَنُو أَسَدٍ حَتَّى زَادُوهُمْ فِي فِدَاءِ الزُّرَارِيُّ عُدُسَ بْنَ زِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَارِمٍ، وَمِسْكِينَ بْنَ عَامِرِ بِنِ شُرَيْحِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَمْرِو بْنِ عُدُسٍ، وَبِشْرَ بْنَ قَيْسِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ عَقَّةَ بْنِ هِلالِ بْنِ رَبِيعَةَ النَّمَرِيَّ، النَّمِرَ بْنَ قَاسِطٍ، وَعَمْرَو بْنَ عُمْرِو بْنِ عُدُسٍ، وَزُرَارَةَ بْنَ عُدُسِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَحَاجِبَ بْنِ زُرَارَةَ بْنِ عُدُسٍ، وَعُطَارِدَ بْنَ حَاجِبِ بْنِ زُرَارَةَ، كَانَ وَفَدَ عَلَى كِسْرَى بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ حَاجِبٍ، فَأَخَذَ الْقَوْسَ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَعْلَمَهُ بِمَوْتِهِ، وَلَقِيطَ بْنَ زُرَارَةَ، وَذَا الْقَرْنَيْنِ، وَالْقَعْقَاعَ بْنَ مَعْبَدِ بْنِ زُرَارَةَ، وَشُرَيْحَ بْنَ عَمْرِو بْنِ عُدُسٍ، وَهُوَ جَدُّ مِسْكِينٍ أَبُو أَبِيهِ، وَقَاتِلُ خَالِهِ بِأَبِيهِ، مِنَّا، سَمَاعَةَ بْنَ عُمْرِو بْنِ عَمْرِو، وَأُمَّهُ عَبْسِيَّةَ، وَكَانَتْ بَنُو عَبْسٍ قَتَلُوا عَمْرَو بْنَ عَمْرٍو يَوْمَ ثَنِيَّةِ أَقْرَنَ، فَلَمَّا شَبَّ سَمَاعَةُ جَاءَ خَالَهُ مِنْ بَنِي عَبْسٍ يَزُورُهُ، فَقَالَ: مَا أُرِيدُ بِأَبِي ثَأْرًا أَوْفَى مِنْ خَالِي، فَقَتَلَهُ بِهِ، وَدَغْفَلَ بْنَ حَنْظَلَةَ مِنْ بَنِي ذُهْلِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، وَابْنَ الْكَوَّاءِ النَّسَّابَةَ مِنْ بَنِي يَشْكُرَ، وَكَانَ بَنُو الْكَوَّاءِ أَهْلَ عِلْمٍ، وَشِهَابُ بْنُ مَذْعُورٍ يَشْكَرِيُّ، وَالْكَيِّسُ نَمِرِيُّ مِنَ النَّمِرِ بْنِ قَاسِطٍ، وَاسْمُ الْكِيِّسِ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانٍ، فَقَالَ: أَتَانِي عَنْكَ يَا مِسْكِينُ قَوْل ... بَذَلْتَ النِّصْفَ فِيهِ غَيْرَ آلِ

دَعَوْتَ إِلَى التَّفَاخُرِ غَيْرَ قَحْمٍ ... وَلا غَمْرٍ يَطِيشُ لَدَى النِّضَالِ أَخَا ثِقَةٍ بِفُرْصَتِهِ بَصِيرًا ... شَدِيدَ النَّزْعِ مُعْتَدِلِ الشِّمَالِ فَدُونَكَ فَاسْتَمِعْ تَخْلِيصَ فَخْرٍ ... يُقَصِّرُ دُونَهُ أَهْلُ الْكَمَالِ وَقَدْ نَاضَلْتُ قَبْلَكَ كُلَّ عِرْضٍ ... عَلَى الرَّسْلاتِ مَرْزُوقَ الْخِصَالِ فَمَا تَلْقَى كَشَدْوِي شَدْوَ رَامٍ ... وَمَا يَغْلُو كَغَلْوِي مِنْ أَغَالِي فَأَوْرَثَنِي الْفِعَالَ جُدُودُ صِدْقٍ ... مَضَوْا مُتَتَابِعِينَ ذَوُو فِعَالِ بِآيَدِ مَنْكِبٍ وَأَشَدَّ رُكْنٍ ... وَأَنْزَهِ طُعْمَةٍ وَأَعِفَّ بَالِ وَإِنِّي فِي الْحَدَاثَةِ رِسْتُ عَمْرًا ... وَأَحْكَمْتُ الرِّيَاسَةَ فِي اكْتِهَالِ فَأَيَّةُ خِصْلَةٍ تَرْجُو نُكُولِي ... بِهَا مِسْكِينُ وَيْحَكَ فِي الْفِضَالِ وَحسَّانُ الْحُسَامُ أَبِي فَمْنَ ذَا ... تُجَارِي فِي الْجِمَامِ وَفِي الْكَلالِ أَخَذْنَا السَّبْقَ قَدْ عَلِمَتْ مَعَدٌّ ... عَلَى الأَكْفَاءِ فِي الرَّكْضِ الشِّلالِ وَأَمكَنَنِي الْفِعَالَ بِفِعْلِ قَوْمِي ... وَأَيَّامٍ تَجِلُّ عَنِ الْمَقَالِ وَقَدْ حَادَتْ كِلابُ الْحَيِّ مِنِّي ... وَخَافَتْ بِعْدَ جِدٍّ وَاشْتِبَالِ وَقَدْ لاقَى بَنُو الزَّرْقَاءِ مِنِّي ... لِسَانًا صَارِمًا طَلْقَ الْعِقَالِ فَمَا انْتَصَفُوا وَمْنِزلُهُمْ أَمِيرٌ ... يُرَهِّبُ بِالْوَعِيدِ وِالِاحْتِيَالِ فَلَمْ يَفْلُلْ تَوَعُّدُهُ لِسَانِي ... وَلَمْ يُوهِنْ وَلَمْ يَقْطَعْ قَبَالِي وَفِي خِيفِ الْمُحَصَّبِ قَدْ عَلِمْتُمْ ... قَهَرْتُ الْحَارِثِيَّ بِلا احْتِيَالِ نَجَاشِيُّ الْحِمَاسِ وَذَلَّلَتْهُ ... قَصَائِدُ مِنْ طِرَازِي وَانْتِحَالِي وَلِي عَنْ سَبِّ قَوْمِكَ مَا كَفَانِي ... بِقَولٍ صَادِقٍ غَيْرِ الْمُحَالِ فِإِنْ يَكُ شَاعرًا مِنْ حَيِّ صِدْقٍ ... فَمَا ثَمْدٌ كَبَحْرٍ ذِي احْتِفَالَ فَأَمَّا مَا تَقُولُ فَغْيرُ شَكٍّ ... لَفَضْلٌ بَيِّنٌ غَيْرُ انْتِحَالِ بِبَذْلِ الْمَالِ فِي عُسْرٍ وَيُسْرٍ ... لِأَضْيَافِ الْجَدَاةِ عَلَى الْحَلالِ وَضَرْبُ النَّاسُ عَنْ عِرْضٍ جِهَارًا ... عَلَى الْإِسْلامِ لَيْسَ بِذِي اعْتِقَالِ عَلَى رَغْمِ الأَبَاعِدِ وَالأَدَانِي ... مِنَ الأَقْصَيْنِ وَالشَنِفِ الْمُوَالِي فَإِنْ تَفْخَرْ بِقَوْمِكَ مِنْ تَمِيمٍ ... فَأَيْنَ الأَكَمُ مِنْ صُمِّ الْجِبَالِ أَنَا ابْنُ مُزَيْقِيَا عَمْرٌو نَمَانِي ... عَلَى أَشْرَافِ أَطْوَادِ الْجِبَالِ وَمِنْ مَاءِ السَّمَاءِ وَرِثْتُ مَجْدًا ... فَدُونِي كُلُّ فَخْرٍ وَاخْتِيَالِ فَفَخْرِي قَاهِرٌ لِلنَّاسِ بَادٍ ... قُهُورُ الشَّمْسِ تَوْمَاضُ الذُّبَالِ فَإِنْ تَغْصَصْ تِهَامُ وَبَحْرُ نَجْدٍ ... فَكَمْ غُصَّا وَسَارَا بِالرِّجَالِ فَمَا وَسِعَاهُمَا ضَرْبًا وَطَعْنًا ... يَمُجُّ كَمَجِّ أَفْوَاهِ الْعَزَالِي فَمَا صَبَرُوا لَوَقْعِ سُيُوفِ قُومٍ ... كَفَوْهَا بِالْكِفَاحِ مِنَ الصِّقَالِ إِذَا لَبِسُوا سَوَابِغَهُمْ لِيَوْمٍ ... كَرِيهِ النَّجْمِ مُعْتَكِرِ الظِّلالِ وَبَارَزَ بَعْضُهُمْ لِلْمَوْتِ بَعْضًا ... كَطَمْيِ الْخَمْسِ بَادَرَ لِلسِّحَالِ تَيَقَّنَ مَنْ أَدَارَتْهُ رَحَاهُمْ ... بِصَرْفِ الْمَوْتِ إِذْ دُعِيَتْ نَزَالِ وَجَاشَتْ قُدْرُهُمُ فَرَأَيْتُ فِيهِمْ ... جُنَاةَ الْحَرْبِ عَارِيَةَ الْمَجَالِ تَفُورُ قُدُورُهُمْ وَلَهَا نَفِيٌّ ... يَكُبُّ الْمُتْرَفِينَ عَلَى السِّبَالَ وَخَلْقُ اللَّهِ كُلُّهُمُ عَلَيْنَا ... بِكُلِّ عَتَادِ أَمْرٍ وَاحْتِيَالِ فَقُلْنَا أَسْلِمُوا أَوْ قَدْ ظَعِنَّا ... إِلَيْكُمْ فَاجْهِدُوا عُقَدَ الْحِبَالِ نُصَّبِحُ أَوْ نُمَسِّي كُلَّ قَوْمٍ ... نُهَزْهِزُ عَنْ يَمِينٍ أَوْ شِمَالِ

وَنَغْزُوهُمْ فَنَقْتُلُ كُلَّ خِرْقٍ ... وَنَسِبْي كُلَّ آنِسَةِ الدَّلالِ فَلا فَرَحٌ إِذَا نِلْنَا مَنَالا ... وَلا جَزَعٌ لأَيَّامِ الْمُدَالِ لَأنَّ مُحَمْدًا فِينَا فَلَسْنَا ... وِإِنْ جَلَّتْ مُصِيبَتُنَا نُبَالِي فَسَائِلْ عَنْ بِلائِهِمُ بِبَدْرٍ ... وَقَدْ يُشْفَى الْعَمَى عَنْدَ السُّؤَالِ غَدَاةَ رَمَوْا بِجْمِعِهُمُ لُؤَيَّا ... وَكَبْشُهُمُ يَزِيفُ إِلَى الصِّيَالِ فَكَانُوا كَالْهَشِيمِ يَشُبُّ فِيهِ ... حَرِيقٌ شِبْهُ لَفْحٍ فِي الشَّمَالِ وَسَائِلْ عَنْهُمُ الأَحْزَابَ لَمَّا ... تَقَحَّمْنَا بِهِمْ حُدْبَ التِّلالِ وَنَضْرِبُهُمْ عَلَى أَلَمٍ وَقَرْحٍ ... كَضَرْبِ فَلاة وِلَدَانٍ ثِقَالِ وَقَدْ حَشَدَتْ لَنَا الأَحْزَابُ لَمَّا ... رَأَوْا نَارًا تَشُبُّ لِكُلِّ صَالِ وَلَفُّوا لَفَّهُمْ لِتَنَالَ تَبْلا ... لَدَيْنَا مِنْهُمُ عُسْرَ الْمَنَالِ فَجَدَّدْنَا لَهُمْ تَبلا وَآبُوا ... كَبَاغِي الْغَيِّ رُدَّ بِلا بِلالِ وَيَوْمَ الْفَتْحِ قَدْ عَلِمُوا بِأَنَّا ... وَطِئْنَاهُمْ بَوَاهِضَةٍ ثِقَالِ فَمَا بَرَحَتْ جِيَادُ الْخَيْلِ تَهْوِي ... خِلالَ بِيُوتِ مَكَّةَ كَالسَّعَالِي تَكُفُّ أَعِنَّةً مِنَهَا مِرَارًا ... وَتُثْنِيهَا فَتَعْطِفُ كُلَّ جَالِ وَسَائِلْ عَنْ حُنَينٍ حِينَ وَلَّتْ ... جُمُوعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَوَالِ وَنَادَانَا بِنُصْرَتِنَا مُنَادٍ ... فَثُبْنَا ثَوْبَ آلِفَةِ الْفِحَالِ وَمَا فِينَا غَرِيبٌ مِنْ سِوَانَا ... نَؤُمُّ إِلَى الْمُنَوَّهِ كَالْجِمَالِ فَوَافَيْنَا الرَّسُولَ فَقَالَ: شُدُّوا ... بِعَوْنِ اللَّهِ وَاسْمِهِ ذِي الْجَلالِ فَمَا صَبَرُوا لِشِدَّتِنَا وَلَكِنْ ... تَوَلَّوْا مُجْهَضِينَ عَنِ الْقِتَالِ وَأُبْنَا بِالنِّهَابِ وَبِالأُسَارَى ... وَبِالْبِيضِ الْمُهَفْهَفَةِ الْحِفَالِ وَأَيَّامٍ سِوَاهَا قَدْ ذَهَبْنَا ... بِسَبْقَةِ مَجْدِهَا أُخْرَى اللَّيَالِي وَآسَيْنَا الرَّسُولَ وَمَنْ أَتَانَا ... يُصَدِّقُ مَا يَقُولُ بِكُلِّ مَالِ فَنَحْنُ أُولُوا مُؤَازَرَةٍ وَنَصْرٍ ... نُكَانِفُهُ وَنَمْنَعُ مَنْ يُوَالِي فَسَلْ عَنَّا الْقَبَائِلَ حِينَ رُدَّتْ ... عَنِ الْإِسْلامِ كَالْبَقَرِ الثَّمَالِي فَوَافَيْنَا بُزَاخَةَ غَيْرَ مَيْل ... وَلا خِرْقٍ بِمُعْتَرَكِ النِّزَالِ وَأُنْزِعَ بَيْنَنَا حَوْضُ الْمَنَايَا ... بِإِنْهَالِ السُّقَاةِ وَبِالْعِلالِ فَأَفْلَتْنَا طُلَيْحَتَهُمْ جَرِيضًا ... وَأُثْكِلَ مَنْ يَعُزُّ أَبُو حِبَالِ وَزُرْنَا بِالْبِطَاحِ بَنِي تَمِيمٍ ... عَلَى جُرْدٍ ضَوَامِرَ كَالْمِغَالِ فَمَا تَابُوا وَلا امْتَنَعُوا وَلَكِنْ وَجَدْنَاهُمْ كَسَائِمَةِ الْمِئَالِ تَحَارُ جِيَادُنَا وَنُرَدُّ مِنْهَا ... خَسَائِسَهَا وَنَصْرِفُ كُلَّ حَالِ تَرَكْنَا مَالِكًا وَمسَوَّدِيهِمْ ... بِمُنْخَرِقٍ لِسَافِيَةِ الشَّمَالِ وَحُزْنًا عُرْسَهُ مِنْ بَعْدِ بِيض ... صَفَايَا مُصْطَفَيْنَ مَنَ الْحِجَالِ بِلا مَهْرٍ أَصَبْنَا سِوَى حِدَاد ... وَسُمْرٍ مِنْ مُثَقَّفَةٍ نِهَالِ وَقُدْنَا لِلْيَمَامَةِ كُلَّ طَرْفٍ ... أَقَبَّ مُقَلَّصٍ نَهْدٍ طُوَالِ نُرِيدُ لِقَاءَ كَذَّابٍ لَئِيمٍ ... مُسَيْلِمَةَ الْمُصِرِّ عَلَى الضَّلالِ فَفَاجَأْنَاهُ تَحْتَ النَّقْعِ شُعْثًا ... كَأُسْدٍ غَامَرَتْ تَحْتَ الظِّلالِ وَحَاسَيْنَاهُمُ جُرَعًا تُؤَدَّى ... عَلَى كُرْهِ الْحَيَاةِ إِلَى الزَّوَالِ وَأَوْرَدْنَا الْحَدِيقَةَ مُتْرَفِيهِمْ ... نَسُوقُهُمُ بِهِنْدِيِّ النِّصَالِ وَأَقْحَمْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ خَرْقٍ ... رَكَوْبِ الْخَيْلِ مُضْطَلِعِ النَّضَالِ فَكَانُوا كَالْحَصِيدِ غَدَتْ عَلَيْهِمْ ... طَماطِمُ لَيْسَ تُوصَفُ بِالنَّكَالِ

أهدى المقوقس صاحب الإسكندرية إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مارية ابنة شمعون

وَغُودِرَ فِيهِمُ الْكَذَّابُ رَهْنًا ... لِدَائِرَةِ الْعَوَاقِبِ بِالتَّوَالِي وَرُحْنَا بِالسَّبَايَا لَمْ تُنَاظِرْ ... مَرَاضِعُها مَتَى أَمَدُ الْفِصَالِ فَهَاتِ كَمَا أَعَدُّوا هَاتِ قَوْمًا ... كَقَوْمِي عِنْدَ مُخْتَلَفِ الْعَوَالِي وَرُمْ مِسْكِينُ حِينَ تُرِيحُ رَأْيًا ... سِوَى الرَّأْيِ الْمُضَلَّلِ وَالْمَقَالِ وَلَوْ جَارَيْتَ قَوْمَكَ مِنْ مَعَدٍّ ... كَفَوْتَ الطَّرْفَ عِيرًا فِي النِّكَالِ سَوَى رَهْطِ النَّبِيِّ فَثَمَّ مَجْدٌ ... وَفِعْلٌ قَاهِرٌ لِلْنَاسِ عَالِ وَقَبْلَكَ رَامَ يَجْرِي ذُو فَخَار ... ٍغَزِيرُ الشَّعْرِ مُشْتَهِرُ الرِّجَالِ أَتَانَا شَامِخًا يُبْدِي سُرُورًا ... بِشَأْوٍ كَانَ مِنْهُ وَهْوَ خَالِ جَعَلْنَا بِالْقَصَيْدِ لَهُ خِشَاشًا ... فَوَاتًا فِي الْعَقِيقِ وَالِارْتِجَالِ وَلَوْلا أَنْ تَحِيدَ الْيَوْمَ عَنِّي ... تَرَكْتُكَ تَرْكَ حُرٍّ ذِي اشْتِعَالِ يَقُولُ إِذَا هَجَاهُ غَيْرُ كَفْؤٍ ... ذَرُوهُ لَيْسَ نَبْلُكَ بِالنِّبَالِ قَعِيدَكَ قَدْ أَجَبْتُكَ لا بِفُحْشٍ ... وَلَمْ يَكُ غَيْرُ حَقٍ وَاسْتِطَالِ فَإِنْ تَنْزَعْ فَحَظُّكَ نِلَتَ مِنْهُ ... وَإِنْ تَلْجَجْ فَجَدُّكَ لِلسِّفَالِ سَتَبْعَثُ لِلْجَوَابِ أخَا حِفَاظٍ ... عَلَى الأَقْرَانِ يُعْنَفُ فِي السُّؤَالِ رَحِيبَ الْبَاعِ لا قِصَفًا هَدُورًا ... شَدِيدَ الشَّغْبِ يُوصَفُ بِالْبَسَالِ أَرِيبٌ زَانَهُ حِلْمٌ وَعِلْمٌ ... وَمَجْدٌ كَانَ فِي الْحُقَبِ الْخَوَالِي فَإِنْ تَحْلُمْ فَذُو حِلْمٍ جَسِيمٍ ... وَإِنْ تَجْهَلْ فَجَهْلٌ ذُو اغْتِيَالِ وَقَالَ يَهْجُو مِسْكِينَ بْنَ عَامِرِ: أَيُّهَا الشَّاتِمِي لِتُجِيبَ مِثْلِي ... إِنَّمَا أَنْتَ فِي ضَلالٍ تَهِيمُ لا تَسُبَّنَّنِي فَلَستَ بِبَذِّي ... إِنَّ بَذِّي مِنَ الرِّجَالِ الْكَرِيمُ إِنَّ سَبَّ الْكَرِيمِ فِيهِ شِفَاءٌ ... إِنَّمَا الْمَوْتَ أَنْ يُسَبَّ الزَّنِيمُ مَا أُبَالِي أَنَبَّ بِالْحَزْنِ تَيْسٌ ... أَمْ هَجَانِي بِظَهْرِ غَيْبٍ لَئِيمُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: سَرَقَ هَذَا الْبَيْتِ وَالَّذِي قَبْلَهُ مِنْ أَبِيهِ فِي هِجَائِهِ لِابْنِ الزِّبَعْرَى. 147 - حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: أَهْدَى الْمُقَوْقِسُ صَاحِبُ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مَارِيَةَ ابْنَةَ شَمْعُونَ الْقِبْطِيَّةَ، وَأُخْتَهَا شِيرِينَ، وَخَصِيًّا يُدْعَى مَابُورَا فَاتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مَارِيَةَ ابْنَةَ شَمْعُونَ لِنَفْسِهِ، فَهِيَ أُمُّ إِبْرَاهِيمَ، وَوَهَبَ شِيرِينَ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ «، فَأَوْلَدَهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنَ خَالَةِ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ» ، وَقَدِ انْقَرَضَ وَلَدُ حَسَّانٍ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرُ: " كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانٍ فِي الْكُتَّابِ، فَتَأَخَّرَ فِي الْكُتَّابِ، فَقَالَ لَهُ مُعَلِّمَهُ: أَيْنَ كُنْتَ؟ وَأَرَادَ أَنْ يَضْرِبَهُ، فَقَالَ: اللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ مُعْتَزِلا ... فِي دَارِ حَسَّانَ أَصْطَادُ الْيَعَاسِيبَا " وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: " لَسَعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ زُنْبُورٌ وَهُوَ صَبِيٌّ، فَأَتَى أَبَاهُ، فَقَالَ: يَا أَبَهْ، عَضَّنِي دَابَّةٌ، كَأَنَّهُ بُرْدُ حِبَرَةٍ. فَقَالَ حَسَّانٌ: قُلْتَ الشِّعْرَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ ". خَلَوْتُ أَنَا وَابْنُ عَزِيزٍ مَعَ الرَّشِيدِ فَذَكَرَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ كَأَنَّهُ هَمَّ بِالنَّظَرِ فِيهِ، فَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ عُرْوَةَ مُتَمَثِّلا:

لَيْتَ هِنْدًا أَنْجَزَتْنَا مَا تَعِدْ ... وَشَفَتْ أَنْفُسَنَا مِمَّا تَجِدْ وَاسْتَبَدَّتْ مَرَّةً وَاحِدَةً ... إِنَّمَا الْعَاجِزُ مِنْ لا يَسْتَبِدْ قَالَ جَدِّي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُصْعَبٍ: " فَالْتَقَيْتُ أَنَا وَيَحْيَى بْنُ خَالِدٍ بَعْدَ هَذَا الْمَجْلِسِ، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا بَكْرٍ، هَلْ وَجَدْتَ عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لِي أَثَرًا تَكْرَهُهُ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَخَلَوْتُ مَعَهُ الدَّهْرَ لَمْ أَغِبْ لَكَ بِسُوءٍ، وَخَلَوْتَ سَاعَةً فَقَرَضْتَنِي، قُلْتُ: قَدْ بَلَغَكَ الْحَدِيثُ، كُنْتُ مَعَ رَجُلٍ فَكَرِهْتُ أَنْ أَخْذُلَهُ، وَاسْتَطْمَعَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ شِكَايَتَكَ، فَشَكَوْتُكَ بِأَهْوَنِ الأَشْيَاءِ عَلَيْكَ. فَقُلْتُ: حَبْسُ أَرْزَاقِنَا وَشُغْلُ وَجْهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَنَّا، وَلَوْ أَرَدْتُ قَرَضَكَ لَوَجَدْتَ لِي أَثَرًا ". حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمِ التَّمِيمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِدْرِيسُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، قَالَ: " اسْتَعَمْلَ زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثِيُّ ابْنَ أَبِي عَاصِيَةَ عَلَى يَنْبُعَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ يَوْمًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ فَجَرَى بَيْنَهُمَا كَلامٌ، فَأَغْلَظَ لابْنِ أَبِي عَاصِيَةَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ أَبِي عَاصِيَةَ: إِنِّي قَدْ أَقْلَتُكَ، فَإِنْ عُدْتَ ضَرَبْتُكَ وَاللَّهِ مِائَةَ سَوْطٍ. فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمَنْصُورَ، فَكَتَبَ إِلَى زِيَادٍ أَنْ يَشُدَّ ابْنَ أَبِي عَاصِيَةَ فِي الْحَدِيدِ، وَيَرْفَعَهُ إِلَيْهِ. فَفَعَلَ، فَلَمَّا دَخَلَ ابْنُ أَبِي عَاصِيَةَ عَلَى الْمَنْصُورِ، قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا قُلْتُ إِلا لِمَا عُلِمَ مِنْ رَأْيِهِ، وَأَنَا الْقَائِلُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: لَيَحْبِسُكُمْ أَنْ تَمْنَعُوا بِنُبَاحِكُمْ ... ثَمَرَاتِ يَنْبُعَ شَرَّ دَارٍ يَنْبُعُ هَلا أُمَيَّةَ وَهْيَ ظَالِمَةٌ لَكُمْ ... وَلَهَا عَلَيْكَ رِحَالَةٌ لا تُنْزَعُ رَكِبُوكِ مُرْتَحَلا فَظَهْرُكِ مِنْهُمْ ... دَانِي الْحَرَاقِفِ وَالْفِقَارِ مُوَقِّعُ كَالْكَلْبِ يَأْلَفُ خَانِقِيهِ وَيَنْتَحِي ... نَحْو الَّذِينَ بِهِمْ يُعَزُّ وَيُمْنَعُ فَأَمَرَ لَهُ بِمَالٍ، وَخَلَّى سَبِيلَهُ حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْمَأْمُونَ، يَقُولُ: " لَيْسَ عَلَيَّ فِي الْحُكْمِ مَئُونَةٌ، وَلَوَدِدْتُ أَنَّ أَهْلَ الْجَرَائِمِ عَلِمُوا رَأْيِي فِي الْعَفْوِ، فَيَذْهَبَ عَنْهُمُ الْخَوْفُ، وَتُسْلِمَ قُلُوبُهُمْ لِي وَقَالَ الْمَأْمُونُ: " الْمُلُوكُ تَحْتَمِلُ كُلَّ شَيْءٍ إِلا ثَلاثَةَ أَشْيَاءَ: الْقَدْحُ فِي الْمُلْكِ، وَإِفْشَاءُ السِّرِّ، وَالتَّعَرُّضَ لِلْحُرُمِ اسْتَقْبَلَ الطَّالِبِيُّونَ الْمَأْمُونَ فِي مُنْصَرَفِهِ مِنْ خُرَاسَانَ إِلَى الْعِرَاقِ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ، فَاعْتَذَرُوا مِمَا كَانَ مِنْهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ. فَقَالَ الْمَأْمُونُ لِمُتَكَلِّمِهِمْ: كُفَّ وَاسْمَعْ مِنِّي. أَوَّلُنَا وَأَوَّلُكُمْ مَا تَعْلَمُونَ، وَآخِرُنَا وَآخِرُكُمْ مَا تُرِيدُونَ، وَتَنَاسَوْا مَا بَيْنَ هَذَيْنِ. قَالَ: وَرَكِبَ الْمَأْمُونُ يَوْمًا فَصَاحَ إِلَيْهِ الأَنْصَارُ، فَقَالَ: " أَيْنَ كُنْتُمْ يَوْمَ سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، وَالْعَبَّاسُ وَعَلِيٌّ يُرِيدَانِ نُصْرَتَكُمْ، فَلا تُرِيدُوا مِنَّا ثَوَابًا قَالَ: " وَذَكَرَ الْمَأْمُونُ يَوْمَ اخْتِلافِ النَّاسِ، فَقَالَ لِثُمَامَةَ: قَدْ كَثُرَ اخْتِلافُ النَّاسِ فِي الِاسْتِطَاعَةِ، وذِكْرِ الأَفْعَالِ، فَاجْمَعْ لِي فِي هَذَا كَلامًا تَخْتَصِرهُ لِيُفْهَمَ.

قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنِ الْجَوَابِ إِلا لِتَشْخَصَ الْقُلُوبُ إِلَى فَهْمِهِ. فَجَمَعَ النَّاسَ إِلَى ثَلاثَةِ أَيَّامِ، فَلَمَّا جُمِعُوا وَحَضَرَهُمْ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، قَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: تَكَلَّمْ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لا تَخْلُو هَذِهِ الأَفْعَالُ مِنْ أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا مِنِ اللَّهِ، فَمَا السَّبِيلُ عَلَيْنَا؟ أَوَ تَكُونَ مِنْهُ وَمِنَّا فَمَنِ الْحَكَمُ بَيْنَنَا؟ أَوْ يَكُونَ مِنَّا وَالْقُوَى مِنَ اللَّهِ. قَالَ: فَقَالَ الْمَأْمُونُ: بَلْ وَمِنَّا وَالْقُوَى مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ". كَانَ لِبَكَّارِ بْنِ رَبَاحٍ مَنْزِلٌ إِلَى دَارِ الْعِجْلَةِ، فَأَعْطَاهُ بِهِ الْمَهْدِيُّ أَرْبَعَةَ آلافِ دِينَارٍ. فَقَالَ: «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا كُنْتُ لِأَبِيعَ جِوَارَكَ بِشَيْءٍ» ، فَتَرَكَ لَهُ مَنْزِلَهُ، وَأَعْطَاهُ الأَرْبَعَةَ آلافِ دِينَارٍ، فَفَيِهِ بَعْضُ وَلَدِهِ الْيَوْمَ. قَالَ: وَبَكَّارُ بْنُ رَبَاحٍ مَوْلًى لآلِ الأَخْنَسِ بْنِ شَرِيفٍ الثَّقَفِيِّ، حَلِيفُ بْنُ زُهْرَةَ. وَأَنْشَدَنِي لِبَكَّارٍ فِي الْمَهْدِيِّ يَرْثِيهِ: أَلا رَحَمَةُ الرَّحْمَنِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ ... عَلَى رِمَّةٍ رُسَّتْ بِمَاسِبَذَانِ لَقَدْ غَيَّبَ الْقَبْرُ الَّذِي ثَمَّ سُؤْدُدًا ... وَكَفَّيْنِ بِالْمَعْرُوفِ تَبْتَدِرَانِ حَدَّثَنِي أَبُو غَزِيَّةَ، وَكَانَ قَاضِيًا عَلَى الْمَدِينَةِ، قَالَ: " كَانَ إِسْحَاق بْنُ غُرَيْرٍ يَتَعَشَّقُ عَبَّادَةَ جَارِيَةَ الْمُهَلَّبِيَّةِ، وَكَانَتِ الْمُهَلَّبِيَّةُ مُنْقَطِعَةً إِلَى الْخَيْزُرَانِ، فَرَكِبَ إِسْحَاقُ يَوْمًا وَمَعَهُ جَدِّي عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتٍ، يُرِيدَانِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْمَهْدِيَّ، فَلَقِيَا عَبَّادَةَ، فَقَالَ إِسْحَاق: يَا أَبَا بَكْرٍ هَذِهِ عَبَّادَةُ، وَحَرَّكَ دَابَّتَهُ حَتَّى سَبَقَهَا، ثُمَّ اسْتَقْبَلَهَا فَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَضَحِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُصْعَبٍ، وَمَضَيَا فَدَخَلا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَحَدَّثَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُصْعَبٍ بِمَا فَعَلَ إِسْحَاق، فَقَالَ: أَنَا أَشْتَرِيهَا لَكَ، وَدَخَلَ عَلَى الْخَيْزُرَانِ، فَدَعَا الْمُهَلَّبِيَّةَ فَسَامَهَا وَأَعْطَاهَا ثَمَنَهَا خَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ كُنْتَ تُرِيدُهَا لِنَفْسِكَ فَبِهَا فَدَاكَ اللَّهُ، هِيَ لَكَ. فَقَالَ: أُرِيدُهَا لِإِسْحَاقَ بْنِ غُرَيْرٍ، فَبَكَتْ وَقَالَتْ: تُؤْثِرُ عَلَيَّ إِسْحَاقَ، وَهِيَ يَدِي وَرِجْلِي وَلِسَانِي فِي حَوَائِجِي. فَقَالَتِ الْخَيْزُرَانُ: مَا يُبْكِيكِ؟ صَارَ إِسْحَاقُ يَتَعَشَّقُ جَوَارِيَ النَّاسِ، لا يَصِلْ وَاللَّهِ إِلَيْهَا أَبَدًا. فَأَخْبَرَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا جَرَى فِيهَا. وَقَالَ لَهُ: الْخَمْسُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ لَكَ مَكَانَهَا. فَأَخَذَهَا. فَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ: مَنْ صَدَقَ الْحُبَّ لِأَحْبَابِهِ ... فَإِنَّ حُبَّ ابْنِ غُرَيْرٍ غَرُورُ أَنْسَاهُ عَبَّادَةَ ذَاتَ الْهَوَى ... وَأَذْهَبَ الْحُبُّ لَدَيْهِ الضَّمِيرُ خَمْسُونَ أَلْفًا كُلُّهَا وَازِنٌ ... حَسَنٌ لَهَا فِي كُلِّ كِيسٍ صَرِيرُ وَقَالَ أَيْضًا: حُبُّكَ الْمَالُ لا كَحُبِّكَ عَبَّادَةَ ... يَا فَاضِحَ الْمُحِبِّينَا لَوْ كُنْتَ أَصْفَيْتَهَا الْوِدَادَ كَمَا ... قُلْتَ لَمَّا بِعْتَهَا بِخَمْسِينَا كَتَبْتُ إِلَى إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّمِيمِيِّ: يَا ضَيْفَ إِسْحَاق كُنْ فِي خَيْرِ مَنْزِلَةٍ ... فَضَيْفُ إِسْحَاق مَحْبُورٌ وَمَمْنُوحُ

واسْمَعْ مِنَ الْعِلْمِ أَنْوَاعًا عَلَى ثِقَةٍ ... أَنْ لَسْتَ نَائِلَهَا مَا هَبَّتِ الرِّيحُ لَكَ الْكَرَامةُ مِنْهُ شِيمَةٌ خُلُقٌ ... وَالْعِلْمُ عَنْ ضَيْفِهِ مَحْلٌ وَمَجْلُوحُ هَيْهَاتَ فِي الْعِلْمِ إِذْ تَرْجُو فَوَائِدَهُ ... رُمْتَ الَّذِي لَمْ تُقَعْقِعْهُ الْمَفَاتِيحُ فَكَتَبَ إِلَيَّ إِسْحَاق: الْعِلْمُ عِنْدِي شَيْءٌ لَسْتُ مَانِعَهُ ... وَكُلُّ بَابٍ لَهُ عِنْدِي فَمَفْتُوحُ لَوْلا مَوَاقِعُ أَرْعَاهَا وَأَرْقُبُهَا ... وَإِنْ لَمِثْلُكَ مِنِّي الْحِلَمَ مَمْنُوحُ إِذًا لَجَاءَكَ مِنِّي مَنْطِقٌ قَذِعٌ ... يَطِيرُ مِنْهُ إِذَا اسْتَسْمَعْتَهُ الرُّوحُ حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ قَحْذَمٍ مَوْلَى آلِ أَبِي بَكْرَةَ، وَكَانَ قَحْذَمٌ كَاتِبًا لِيُوسُفَ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَمَّا وَلِيَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ الْعِرَاقَ اتَّخَذَ أَمْوَالا وَضِيَاعًا، وَحَفَرَ أَنْهَارًا، فَكَانَ يَسْتَغِلُّ عِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ بِالْعِرَاقِ، مِنْهَا نَهْرُ خَالِدٍ، وَكَانَ يَغُلُّ خَمْسَةَ آلافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَالْجَامِعُ، وَالْمُبَارَكُ، وَلَوْبَةُ سَابُورَ، وَالصِّلْحُ، وَكَانَ هِشَامٌ حَسُودًا مُتَيَقِّظًا، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَأَحْفَظَهُ، وَأَصَرَّ عَلَيْهِ، فَكَلَّمَ خَالدًا أَخِلاؤُهُ، وَصَنَائِعُهُ الْعُرْيَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ، وَبِلالُ بْنُ أَبِيِ بُرْدَةَ، وَغَيْرُهُمَا، فَقَالُوا: نُشِيرُ عَلَيْكَ بِرَأْيٍ قَدْ أَصَبْنَاهُ وَرَأَيْنَاهُ صَوَابًا، فِيهِ دَوَامُ نِعْمَتِكَ، وَكَبْتُ أَعَادِيكَ. قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالُوا: قَدْ بَلَغَنَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ هِشَامٍ مَا غَمَّنَا مِنْ سُؤَالِهِ وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ عَنْ غَلاتِكَ وَأَمْوَالِكَ، فاكتب إليه فاعرض عليه أموالك. فقال والله ما يعارضني شك في نصيحتكم، ولكني والله لا أُعْطِي الدَّنِيَّةَ، وَلا أُخْرِجُ عَنْ يَدِي دِرْهَمًا قَسْرًا فَمَا فَوْقَهُ أَبَدًا. قَالُوا: فَإِنَّ هِشَامًا أَعْذَرَ مِنْكَ. وَلاكَ وَلا تَمْلِكُ شَيئًا، وَقَدْ عَرَفْتَ شَرَهَهُ وَحِرْصَكَ، فَإِنْ هُوَ قَبَضَ مَا تَعْرِضُ عَلَيْهِ فَعَلَيْنَا جَمْعَهُ لَكَ ثَانِيَةً، فَلَمَّا كَانَ فِي سَنَةِ تَسْعَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ كَتَبَ إِلَيْهِ هِشَامٌ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ بَلَغَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْكَ أَمَرٌ لَمْ يَحْتَمِلْهُ مِنْكَ إِلا لِمَا أَحَبَّ مَنْ رَبُّ صَنِيعَتِهِ قِبَلَكَ، وَاسْتِتْمَامُ مَعْرُوفِهِ عِنْدَكَ، وَكَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَحَقُّ مَنِ اسْتَصْلَحَ مَا فَسَدَ مِنْكَ، فَإِنْ تَعُدْ لِمِثْلِ مَقَالَتِكَ وَمَا بَلَغَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَنْكَ، رَأَى فِي مُعَاجَلَتِكَ بِالْعُقُوبَةِ رَأْيَهُ، إِنَّ النِّعْمَةَ إِذَا طَالَتْ بِالْعَبْدِ مُمْتَدَّةً أَبْطَرَتْهُ، فَأَسَاءَ حَمْلَ الْكَرَامَةِ، وَاسْتَغَلَ النِّعْمَةَ، وَنَسَبَ مَا فِي يَدِهِ إِلَى جِبِلَّتِهِ، وَبَيْتِهِ وَرَهْطِهِ وَعَشِيرَتِهِ، فَإِذَا نَزَلَتْ بِهِ الْغِيَرُ، وَانْكَشَطَ عَنْهُ عِمَايَةُ الْغِنَى وَالسُّلْطَانِ، ذَلَّ مُنْقَادًا وَنَدِمَ قَسْرًا، وَتَمَكَّنَ مِنْهُ عَدُوُّهُ قَادِرًا عَلَيْهِ، قَاهِرًا لَهُ، وَلَوْ أَرَادَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ إِفْسَادَكَ لَجَمَعَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَنْ شَهِدَ فَلَتَاتِ خَطَلِكَ، وَعَظِيمَ زَلَلِكَ، حَيْثُ تَقُولُ لِجُلَسَائِكَ: وَاللَّهِ مَا زَادَنِي الْعِرَاقُ رِفْعَةً وَلا شَرَفًا، وَلا وَلانِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ مَنْ كَانَ قَبْلِي، مِمَّنْ هُوَ دُونِي، يَلِي مِثْلَهُ.

وَلَوِ ابْتُلِيتَ بِبَعْضِ مَقَاوِمِ الْحَجَّاجِ أَهْلَ الْعِرَاقِ فِي تِلَكَ الْمَضَايقِ بِمِثْلِ الْجَمَاعَاتِ الَّتِي لَقِيَ، لَعَلِمْتَ أَنَّكَ مِنْ بَجِيلَةَ، وَلَقَدْ خَرَجَ عَلَيْكَ أَرْبَعُونَ رَجُلا فَغَلُبُوكَ عَلَى بَيْتِ مَالِكَ وَخَزَائِنِكَ، فَمَا اسْتَطَعْتُمْ إِلا بِأَمَانٍ، ثُمَّ أَخْفَرْتَ ذِمَّتَكَ، فِيهِمْ رَزِينٌ وَأَصْحَابُهُ، وَلَعَمْرِيَ لَوْ حَاوَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مُكَافَأَتِكَ بِلَفْظِكَ فِي مَجْلِسِكَ، وَجُحُودِكَ فَضْلَهُ عَلَيْكَ، فِي تَصْغِيرِ عَظِيمِ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكَ، فَحَلَّ الْعُقْدَةَ وَنَقَضَ الصَّنِيعَةَ، وَرَدَّكَ إِلَى مَنْزِلَةٍ أَنْتَ أَهْلُهَا، لَكُنْتَ لَهُ مُسْتَحِقًّا، وَلَقَدْ حَشَدَ جَدُّكَ يَزِيدُ بْنُ أَسَدٍ مَعَ مُعَاوِيَةَ يَوْمَ صِفِّينَ، وَعَرَضَ دِينَهُ وَدَمَهُ فَمَا اصْطَنَعَ إِلَيْهِ، وَلا وَلاهُ مَا اصْطَنَعَ إِلَيْكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَوَلاكَ، وقِبَلَهُ مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الْيَمَنِ وَالْبُيُوتَاتِ مَنْ قَبِيلَتُهُ أَكْرَمُ مِنْ قَبِيلَتِكَ مِنْ كِنْدَةَ وَغَسَّانَ وَآلِ ذِي يَزَنَ وَذِي كَلاعَ وَذِي رُعَيْنَ، فِي نُظَرَائِهِمْ مِنْ بُيُوتَاتِ قُوْمِهِمْ، كُلُّهُمْ أَكْرَمُ أَوَّلِيَّةً، وَأَشْرَفُ أَسْلافًا مِنْ آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ.

ثُمَّ آثَرَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِوِلايَةِ الْعِرَاقِ، بِلا بَيْتٍ عَظَيمٍ، وَلا شَرَفٍ قَدِيمٍ، وَلَهَذِهِ الْبُيُوتُ تَغْمُرُكَ وَتَعْلُوكَ، وَتُسْكِتُكَ وَتَتَقَدَّمُكَ فِي الْمَحَالِّ وَالْمَجَامِعِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الأُمُورِ وَأَبْوَابِ الْخُلَفَاءِ، وَلَوْلا مَا أَحَبَّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ رَدِّ غَرَبِكَ لَعَاجَلَكَ بِالَّتِي كُنْتَ أَهْلَهَا، وِإِنَّهَا لَقَرِيبٌ مِنْكَ مَأْخَذُهَا، سَرِيعٌ مَكْرُوَهُهَا، فَمِنْهَا إِنِ اتَّقَى اللَّهَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ زَوَالُ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْكَ، وَحُلُولُ نِقْمَتِهِ بِكَ، فِيمَا صَنَعْتَ، وَارْتَكَبْتَ بِالْعِرَاقِ مِنْ أَهْلِهِ، وَاسْتِعَانَتُكَ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ، تُوَلِّيهِمْ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ وَخَرَاجَهُمْ، وَتُسَلِّطَهُمْ عَلَيْهِمْ، نَزَعَ بِكَ إِلَى ذَلِكَ عِرْقُ سُوءٍ مِنَ الَّتِي قَامَتْ عَنْكَ، فَبِئْسَ الْجَنِينُ أَنْتَ عُدَيُّ نَفْسُهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا رَأَى إِحْسَانَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْكَ وَسُوءَ قِيَامِكَ بِشُكْرِهِ، قَلَبَ قَلْبَهُ لَكَ، فَأَسْخَطَهُ عَلَيْكَ، حَتَّى قَبُحَتْ أُمُورُكَ عِنْدَهُ، وَآيَسَهُ مَعَ شُكْرِكَ مَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ كُفْرِكَ النِّعْمَةَ عِنْدَكَ، فَأَصْبَحْتَ تَنْتَظِرُ غَيْرَ النِّعْمَةِ، وَزَوَالَ الْكَرَامَةِ، وَحُلُولَ الْخِزْيِ، فَتَأَهَّبْ لِنَوازِلِ عُقُوبَةِ اللَّهِ بِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ عَلَيْكَ أَوْجَدُ، وَلِمَا عَمِلْتَ أَكْرَهُ، فَقَدْ أَصْبَحْتَ وَذُنُوبُكَ أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُبَكِّتَكَ بِهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ذَنْبًا ذَنْبًا، وَمَنْ يُرْفَعْ عَلَيْكَ عِنْدَهُ يُبَكِّتْكَ مِنْهَا بِمَا نَسِيتَهُ، وَأَحْصَاهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَلَقَدْ كَانَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ زَاجِرٌ عَنْكَ بِمَا عَرَفَكَ مِنِ التَّسَرُّعِ إِلَى حَمَاقَاتِكَ، فِي غَيْرِ وَاحِدَةٍ، مِنْهَا الْقُرَشِيُّ الَّذِي تَنَاوَلْتَهُ بِالْحِجَازِ ظَالِمًا، فَضَرَبَكَ اللَّهُ بَالسَّوْطِ الَّذِي ضَرْبتَهُ بِهِ، مُفْتَضَحًا عَلَى رُءُوسِ رَعِيَّتِكَ، وَلَعَلَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَعُودَ عَلَيْكَ بِمِثْلِهَا، فَإِنْ فَعَلَ فَأَنْتَ أَهْلُهَا، وَإِنْ صَفَحَ فَأَهْلُهُ هُوَ، وَاللَّهِ لَوْ لَمْ يَسْتَدِلَّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى ضَعْفِ نَحَائِزِكَ، وَسُوءِ تَدْبِيرِكَ إِلا فَسَالَةَ دُخَلائِكَ، وَبِطَانَتِكَ وَعُمَّالِكَ، وَالْغَالِبَةِ عَلَيْكَ جَارِيَتِكَ الرَّائِقَةِ، بَائِعَةِ الْعُهُودِ، وَمُشْغِلَةِ الرِّجَالِ، مَعَ مَا أَتْلَفْتَ مِنْ مَالِ اللَّهِ بِالْمُبَارَكِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَاللَّهِ أَنْ لَوْ كُنْتَ مِنْ وَلَدِ عَبْدِ الْمَلِكِ لَمَا احْتَمَلَ لَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَا أَفْسَدْتَ مِنْ أَمْوَالِ اللَّهِ، وَضَيَّعْتَ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَسَلَّطْتَ مِنْ وُلاةِ السُّوءِ عَلَى جَمِيعِ كُوَرَ الْإِسْلامِ، تَحْمَلُ إِلَيْكَ هَدَايَا النَّيْرُوزِ وِالْمِهْرَجَانِ، خَالِسًا لِأَكْثَرِهَا، رَافِعًا لِأَقَلِّهَا مَعَ كَثْرَةِ مَسَاوِيكَ الْمَتْرُوكِ تَقْرِيرُكَ بِهَا، وَمُنَاصَبَتِكَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي مُوَالاةِ حَسَّانٍ وَوَكِيلِهِ فِي ضِيَاعِهِ، وَأَحْوَازِهِ فِي الْعِرَاقِ، وَسَيَكُونُ لَكَ وَلِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ نَبَأٌ إِنْ لَمْ يَعْفُ عَنْكَ، وَلَكِنَّهُ يَظُنُ اللَّهَ طَالِبَكَ بِأُمُورٍ، غَيْرَ تَارِكٍ لِتَكْشِيفِكَ عَنْهَا، وَحَمْلِكَ الأَمْوَالَ نَاقِصَةً عَنْ وَظَائِفِهَا الَّتِي جَبَاهَا عُمَرُ بْنُ هُبَيْرَةَ، وَتَرْكِ رَفْعِ مُحَاسَبَتِكَ سنَةَ كَذَا وَكَذَا لِمَا وُلِّيتَ مِنْ خَرَاجِ الْعِرَاقِ، وَتَوْجِيهِكَ أَخَاكَ أَسَدًا إِلَى

خُرَاسَانَ، مُظْهِرًا بِهَا الْعَصَبِيَّةَ، مُتَحَامِلا عَلَى هَذَا الْحَيِّ مِنْ مُضَرَ، قَدْ أَتَتْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُيُونُهُ بِتَصْغِيرِهِ لَهُمْ، وَاحْتِقَارِهِ إِيَّاهُمْ، نَاسِيًا لِحَدِيثِ زَرْنَبٍ وقَصَصِ الْهَجْرِيِّينَ، كَيْفَ كَانَتْ فِي يَزِيدَ بْنِ أَسَدٍ، فَإِذَا خَلَوْتَ أَوْ تَوَسَّطْتَ مَلأَ فَاعْرِفْ نَفْسَكَ , وَاحْذَرْ رَوَاجِعَ الْبَغْيِ عَلَيْكَ، وَعاجِلاتِ الْعُقُوبَةِ، فَإِنَّ مَا بَعْدَ كِتَابِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا أَفْسَدُ لَكَ، وَأَشَدُّ عَلَيْكَ، فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ تَأَنَّى فَيْئَكَ، وَأَمَّلَ رَجْعَتَكَ، وَاسْتَنْظَرَ تَوْبَتَكَ، وقِبَلَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ خَلَفٌ كَثِيرٌ، فِي أَحْسَابِهِمْ وُبُيُوتَاتِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ، وَفِيهِمْ عِوَضٌ مِنْكَ، وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَكَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَالِمٍ مَوْلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ سَنَةَ تَسْعَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ. فَلَمَّا دَخَلَتْ سَنَةُ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ كَتَبَ هِشَامٌ إِلَى يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ وَهُوَ عَامِلُ الْيَمَنِ بِوِلايَتِهِ عَلَى الْعِرَاقِ لَمَا بَلَغَهُ مِنْ شَهَامَتِهِ وَرُجْلَتِهِ وَخُبْثِهِ، فَسَارَ حَتَّى نَزَلَ أَهْلَ الْكُوفَةِ، فَأَرَسَلَ إِلَى طَارِقٍ فَحَبَسَهُ، وَكَانَ خَالِدٌ اسْتَخْلَفَ زِيَادَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثِيِّ، فَقَالَ يُوسُفُ لِزِيَادٍ: مَنْ أَنْتَ؟ فَانْتَسَبَ لَهُ، فَقَالَ: النَّجْرَانِيُّ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَخَلَّى سَبِيلَهُ , وَأَرْسَلَ إِلَى خَالِدٍ وَهُوَ بِالْحَمَّةِ، فَأُتِيَ بِهِ، فَحَبَسَهُ وَجَمِيعَ عُمَّالِهِ. فَجَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيَّاشٍ الْمَنْتُوفِ مَعَهُ أَخَوَهُ الَفَضْلُ، وَقَدْ كَانَ الْعُرْيَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ ضَرَبَ الْجَرَّاحَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشٍ، فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ خَالِدًا، فَلَمْ يُعْدِهُ عَلَيْهِ، فَحَقَدُوا عَلَيْهِ، فَوَثَبَ عَبْدُ اللَّهِ وَالْفَضْلُ عَلَى خَالِدٍ بِبَابِ يُوسُفَ فَشَتَمَاهُ، وَكادا يَطَآنِهِ بِأَرْجُلِهِمَا وَيَقُولانِ عَلَى مَا يُعَذَّبُ هَذَا أَلا يُؤتَى بِأُمِّهِ النَّصْرَانِيَّةِ، فَتُعَذَّبُ حَتَّى تُسْلَحَ عَلَى الصَّلِيبِ وُيُقْتَلُ هَذَا. فَأَقْبَلَ مَنْ هُنَاكَ مِنَ الْحَرَسِ عَلَيْهِمَا، فَهَرَبَ الْفَضْلُ وَضُرِبَ عَبْدُ اللَّهِ الْمَنْتُوفُ، وَخُرِّقَتْ ثِيَابُهُ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْ قَمِيصِهِ إِلا الزِّيقَ، مَكْشُوفَ الاسْتِ، مُسْتَقْبِلا فَتْقُ اسْتِهِ عَيْنَ الشَّمْسِ، وَبَلَغَ ذَلِكَ يُوسُفَ بْنَ عُمَرَ فَدَعَا بِهِ، فَقَالَ: مَنْ ضَرَبَكَ؟ قَالَ: أَهْلُ الدُّنْيَا، مَا رَأَيْتُ إِلا ضَارِبًا. قَالَ: لَكِنِّي أَدْرِي مَنْ ضَرَبَكَ، عَلَى مَنْ كَانَتِ النَّوْبَةُ؟ قِيلَ: عَلَى فُلانٍ وَفُلانٍ وَفُلانٍ، فَدَعَا بِهِمْ، فَضَرَبَهُمْ أَلْفًا أَلْفًا، وَأَغْزَاهُمُ الثُّغُورَ، وَعَذَّبَ يُوسُفُ خَالِدًا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُبْلِغَ نَفْسَهُ، ثُمَّ أَتَاهُ كِتَابُ هِشَامٍ فِي اسْتِخْلاصِهِ إِلَى مَا قَبِلَهُ، فَوَجَّهَهُ إِلَيْهِ، فَخَلَّى سَبِيلَهُ، فَكَانَ مُقِيمًا بِالشَّامِ إِلَى أَنْ مَاتَ هِشَامٌ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَرَدَّهُ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ إِلَى يُوسُفَ بِالْعِرَاقِ فَعَذَّبَهُ حَتَّى قَتَلَهُ

لما كانت فتنة علي ومعاوية كلم أهل مكة عثمان بن شيبة من بني عبد الدار أن يتولى أمرهم حتى

160 - حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ صَالِحٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: " لَمَّا كَانَتْ فِتْنَةُ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ كَلَّمَ أَهْلُ مَكَّةَ عُثْمَانَ بْنَ شَيْبَةَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ أَنْ يَتَوَلَّى أَمْرَهُمْ حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَى خَلِيفَةٍ فَفَعَلَ، وَكَلَّمَ أَهْلُ الطَّائِفِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ وَسَأَلُوهُ أَنْ يَقُومَ بِأَمْرِهِمْ حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَى خَلِيفَةٍ فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَجَاءَ إِذْنُهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقَالَ: هَذَا عَنْبَسَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بِالْبَابِ. فَقَالَ: ائْذَنْ لَهُ. فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ سَكْرَانُ، وَعِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ ابْنَةُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَهِيَ امْرَأَتُهُ، فَجَعَلَ عَنْبَسَةُ يَنْظُرُ إِلَى جَلا يَعْنِي كُوَّةً فِي الْبَيْتِ وَيَثِبُ إِلَيْهِ لِمَا بِهِ مِنَ السُّكْرِ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَالِدِ: مَا ابْتُلِيتُ بِذَا اللَّيْلَةِ. فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: وَاللَّهِ مَا جَنَى جِنَايَةً قَطُّ. وَهُوَ أَخُو أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، أَرَى أَنْ تَسْتُرَ عَلَيْهِ، وَتُخَلِّيَ سَبِيلَهُ. قَالَ: لا وَاللَّهِ، لا أُبْطِلُ حَدًّا مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، فَأَرْسَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَالِدٍ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَكَانَ بِالطَّائِفِ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ أَبِي رَبِيعَةَ: لأَيِّ شَيْءٍ بَعَثْتَ إِلَيَّ؟ قَالَ: بَعَثْتُ إِلَيْكَ لِتَنْظُرَ إِلَى عَنْبَسَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَتَشْهَدَ عَلَى سُكْرِهِ. فَقَالَ: لا وَصَلَتْكَ رَحِمٌ، مَا كَانَ هَهُنَا أَحَدٌ أَهْوَنَ عَلَيْكَ مِنِّي. فَقَالَ: لا، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ هَهُنَا أَحَدٌ أَوْثَقَ فِي نَفْسِي مِنْكَ.

قَالَ: أَمَا إِذَا فَعَلْتَ فَابْعَثْ إِلَى رَجُلٍ آخَرَ، فَبَعَثَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ، فَأَشْهَدَهُ أَيْضًا عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَلَدَهُ الْحَدَّ، فَلمَا وَلِيَ مُعَاوِيَةُ قَدِمَ عَلَيْهِ عَنْبَسَةُ أَخُوهُ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَبَعَثْ مُعَاوِيَةُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أُسَيدٍ، وَإِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةِ، وَإِلَى الثَّقَفِيِّ، فَدَسَّ إِلَى الثَّقَفِيِّ، وَإِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ لِيُبْطِلَ الْحَدَّ، فَأَبَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَالِدٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَرَجَعَ الثَّقَفِيُّ عَنْ شَهَادَتِهِ، فَمَكَثَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَالِدِ بْنِ أُسَيدٍ بِبَابِ مُعَاوِيَةَ سَنَةً لا يُأْذَنُ لَهُمَا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ أَحْرَمَ يَوْمَ جُمُعَةٍ، وَمُعَاوِيَةُ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ، أَنْ لا وَلا كَرَامَةَ، وَاللَّهِ مَا اسْتَأْذَنْتَنِي، وَلا أَذِنْتُ لَكَ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَلَيْسَ ذَاكَ لَكَ، إِنَّمَا بَعَثْتَ إِلَيَّ فَسَأَلْتَنِي عَنْ أَمْرٍ، فَأَخْبَرْتُكَ بِعِلْمِي فِيهِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَانْصَرَفَ إِلَى مَكَّةَ، وَبَقِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَالِدٍ سَنَةً أُخْرَى، ثُمَّ اسْتَأْذَنَهُ فِي الرِّجُوعِ إِلَى مَكَّةَ حَاجًّا، فَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَالِدٍ، فَسَأَلَهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ قَطَائِعُ كَانَ أَخَذَهَا بِسَبَبِ عَنْبَسَةَ، فَلَمْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَالِدٍ خَرَجَ إِلَى الْعِرَاقِ، وَعَلَيْهَا زِيَادُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، فَحَضَرَتْ زِيَادًا الْوَفَاةُ، فَاسْتَخْلَفَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَالِدٍ عَلَى عَمَلِهِ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: لا وَاللَّهِ، لا نَسْتَعْمِلُهُ، لا عَلَى صِلاتِهَا، وَلا عَلَى خَرَاجِهَا. ثُمَّ اسْتَعْمَلَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ ابْنَ أُمِّ الْحَكَمِ الثَّقَفِيَّ، فَأَخَذَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَالِدٍ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَلْفَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَشَخَصَ إِلَى مَكَّةَ، حَيْثُ بَلَغَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ اسْتَعْمَلَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ ابْنَ أُمِّ الْحَكَمِ، فَلَمَّا بَلَغَ مُعَاوِيَةُ مَا أُخِذَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَمْكَنَنِي مِنْهُ، وَاللَّهِ مَا يَسُرُّنِي أَنَّهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى عَنْبَسَةَ، فَقَالَ: قَدْ أَمْكَنَكَ اللَّهُ مِنْ ثَأْرِكَ، وَأَخْبَرَهُ بِمَا قَبَضَ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. قَالَ: قَدْ وَلَّيْتُكَ الْحِجَازَ. فَتَهَيَّأَ عَنْبَسَةُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ يُوَدِّعُهُ. فَقَالَ لَهُ: مَا أَنْتَ صَانِعٌ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ؟ قَالَ: أَضْرِبُ وَاللَّهِ بِيَدِهِ وَجْهَهُ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: بِاسْتِكَ، بِئْسَ وَاللَّهِ ابِنُ الْعَشِيرَةِ أَنْتَ. بعَبْدِ اللَّهِ تَصْنَعُ هَذَا؟ وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ عَلَيْهِ حَنِيقًا مُغْتَاظًا، وَقَدْ عَطَّفَنِي عَلَيْهِ مَا سَمِعْتُ مِنْ عُنْفِكَ بِهِ، هِيَ لَهُ وَاللَّهِ، وَلا كَتَبْتُ إِلَيْهِ فِي شِيءٍ مِنْهُ أَبَدًا. لَيْسَ مِثْلُكَ وَلِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ، قَدْ عَزَلْتُكَ مِنْ عَمَلِكَ "

أبا مسلم الخولاني، وكان رجلا من عباد أهل الشام، قام إلى معاوية، فقال: يا معاوية، على ما

161 - حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُؤَمَّلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرِ، قَالَ: " بَلَغَنِي أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ الْخَوْلانِيَّ، وَكَانَ رَجُلا مِنْ عُبَّادِ أَهْلِ الشَّامِ، قَامَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: يَا مُعَاوِيَةُ، عَلَى مَا تُقَاتِلُ عَلِيًّا، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَلَهُ مِنَ الْقَدْرِ فِي الِإِسْلامِ، وَالسَابِقَةِ وَالْقَرَابَةِ مَا لَيْسَ لَكَ، إِنَّمَا أَنْتَ رَجُلٌ طَلِيقٌ ابْنُ طَلِيقٍ؟ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: يَا أَبَا مُسْلِمٍ إِنِّي وَاللَّهِ مَا أُقَاتِلُهُ وَأَنَا أَدَّعِي فِي الْإِسْلامِ مِثْلَ الَّذِي يَدَّعِي، وَلِي فِي الْإِسْلامِ مِثْلُ مَا لَهُ، وَلَكِنِّي أُقَاتِلُهُ عَلَى دَمِ عُثْمَانَ، إِنَّ عَلَيًّا قَتَلَ عُثْمَانَ، فَأَنَا أَطْلُبُهُ بِدَمِّهِ. فَخَرَجَ أَبُو مُسْلِمٍ عَلَى نَاقَتِهِ يَضْرِبُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْكُوفَةِ، فَأَنَاخَهَا بِالْكُنَاسَةِ، ثُمَّ جَاءَ يَمْشِي حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ وَالنَّاسُ عِنْدهُ، فَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ قَتَلَ عُثْمَانَ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: اللَّهُ قَتَلَهُ، وَأَنَا مَعَهُ. فَخَرَجَ أَبُو مُسْلِمٍ وَلَمْ يُكَلِّمْهُ. حَتَّى أَتَى نَاقَتَهُ فَرَكِبَهَا، فَأَتَى الشَّامَ. وَقِيلَ لِعَلِيٍّ: إِنَّ الَّذِي كَانَ قَدْ دَخَلَ عَلَيْكَ أَبُو مُسْلِمٍ، فَأَرْسَلَ فِي طَلَبِهِ، فَفَاتَهُ، وَقَدِمَ أَبُو مُسْلِمٍ الشَّامَ، فَانْتَهَى إِلَى مُعَاوِيَةَ، وَهُوَ يَتَغَدَّى، فَلَمَّا قِيلَ لِمُعَاوِيَةَ: قَدْ جَاءَ أَبُو مُسْلِمٍ، وَمَعَهُ لُقْمَةٌ، فَمَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَسِيغَهَا حَتَّى وَقَعَتْ. قَالَ: فَدَخَلَ أَبُو مُسْلِمٍ فَحَيَّاهُ وَقَرَّبَهُ، وَرَحَّبَ بِهِ، وَسَأَلَهُ عَنْ سَفَرِهِ، وَجَعَلَ مُعَاوِيَةُ يَكْرَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ أَبُو مُسْلِمٍ قَدْ جَاءَ بِشَيْءٍ مَمِا يَكْرَهُ مُعَاوِيَةُ. قَالَ: فَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: قُمْ فَوَاللَّهِ لَنُقَاتِلَنَّ عَلِيًّا، وَلَيُقَاتِلَنَّهُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ قَدْ أَقَرَّ بِقَتْلِ عُثْمَانَ. قَالَ: فَقَامَ مُعَاوِيَةُ فَرِحًا حَتَّى صَعِدَ الْمِنْبَرَ وَاجْتَمَعَ النَّاسُ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَامَ أَبُو مُسْلِمٍ خَطِيبًا، فَحَرَّضَ النَّاسَ عَلَى قِتَالِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَنَّهُ أَقَرَّ بِقَتْلِ عُثْمَانَ، وَجَمَعَ مُعَاوِيَةُ لِعَلِيٍّ الْجُمُوعَ، وَقَدْ كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، غَلَبَ عَلَى مِصْرَ، فَسَارَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ إِلَى صِفِّينَ، فَلَمْ يَزَلْ يُوَارِبُهُ حَتَّى قَالَ: اخْرُجْ إِلَيَّ فِي ثَلاثِينَ رَجُلا، وَأَخْرُجُ إِلَيْكَ فِي ثَلاثِينَ حَتَّى نَنْظُرَ فِي أَمْرِنَا وَنَصْطَلِحَ عَلَى صُلْحٍ. فَفَعَلَ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ وَمُعَاوِيَةُ. وَقَدْ أَمَرَ مُعَاوِيَةُ جُنُودَهُ أَنْ يَسِيرُوا مِنْ تَحْتِ لَيْلَتِهِمْ، حَتَّى يُوَافُوهُمْ بِذَلِكَ الْمَكَانِ.

وَهُوَ وَمُحَمَّدُ خَارِجٌ مِنَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فَبَيَّتَهُمْ أَصْحَابُ مُعَاوِيَةَ، وَأَخَذَ مُعَاوِيَةُ أُولَئِكَ الثَّلِاثِينَ، وَكَبَّلَهُمْ فِي الْقُيودِ، وَأَتَى بِهِمُ الشَّامَ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذَا صَانَعُوا صَاحِبَ السِّجْنِ، فَخَلَّى سَبِيلَهُمْ، وَلَمَّا أَصْبَحَ مُعَاوِيَةُ قِيلَ لَهُ: إِنَّ مُحَمْدًا قَدْ خَرَجَ مِنَ السِّجْنِ، وَأَتَاهُ أَنَّ عَلَيًّا قَدْ جَمَعَ لَهُ الْجُمُوعَ بِالْعِرَاقِ لِيَسِيرُوا إِلَيْهِ، وَخُبِّرَ أَنَّ صَاحِبَ الرُّومِ قَدْ تَهَيَّأَ لِيَسِيرَ إِلَيْهِ، فَدَعَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ جَاءَنِي مُنْذُ أَصْبَحْتُ أَخْبَارٌ ثَلاثَةٌ، مَا جَاءَتْنِي قَطُّ أَخْبَارٌ أَفْظَعُ مِنْهَا، وَلا أَكْرَهُ إِلَيَّ، فَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ مَخْرَجٍ؟ خُرُوجُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنَ السِّجْنِ وَأَصْحَابِهِ، وَكِتَابُ صَاحِبِ الرُّومِ يَتَهَدَّدُنِي، وَجَمْعُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبِ أَهْلَ الْعِرَاقِ حِيلَةً، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: لا يُهَوِّلَنَّكَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَأَمَّا خُرُوجُ مُحَمَّدٍ، فَابْعَثْ فِي أَثَرِهِ الْخُيُولَ الْمُضْمَرَةِ فِي كُلِّ طَرِيقٍ نَهْجٍ وَغَامِضٍ لا يُسْلَكُ تُؤْتَ بِهِ، وَأَمَّا صَاحِبُ الرُّومِ، فَأَرْسِلْ إِلَيْهِ بِهَدِيَّةٍ يَكُفَّ عَنْكَ، وَأَمَّا خَبَرُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَمَا جَمَعَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَهُوَ الْجَلِيلُ الْفَظِيعُ، لَمْ يَأْتِكَ مِثْلُهُ قَطُّ، فَاجْمَعْ لَهُ جُمُوعَكَ ثُمَّ ارْمِهِ بِهِمْ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ عَلَيْهِمِ، فَبَعَثَ خَلْفَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حُذَيْفَةَ رَجُلا مِنْ خَثْعَمٍ، يُقَالُ لَهُ: عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، فَأَدْرَكَهُ فِي غَارٍ دُلَّ عَلَيْهِ، فَأُتِيَ بِهِ وَبِعَلْقَمَةَ بْنِ عُدَيْسٍ الْبَلَوِيِّ، قَاتِلِ عُثْمَانَ، فَقَتَلَهُمَا، وَأَهْدَى إِلَى صَاحِبِ الرُّومِ هَدِيَّةً، فَكَفَّ عَنْهُ، وَأَمَّا عَلِيُّ بْنِ أَبِي طَالِبِ، فَجَمَعَ لَهُ قَضَّهُ وَقَضِيضَهُ مِنْ جِمُوعِهِ وَخَرَجَ إِلَيْهِ "

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلامٍ الْجُمَحِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ، قَالَ: " لَمَّا قَدِمَ زِيَادٌ الْبَصْرَةَ، فَرَأَى خِصَاصَهَا مِنْ بَعِيدٍ، قَالَ: رُبَّ فَرِحٍ بِإِمَارَتِي لَمْ تَنْفَعْهُ، وَرُبَّ مُتَبَائِسٍ مِنْهَا لَنْ تَضُرَّهُ، ثُمَّ مَشَى إِلَى الْمِنْبَرِ مُتَزَمِّتًا مُتَلَبِّبًا عَلَيْهِ قَبَاءُ قُوهِيُّ، وَمَلاءَةٌ مُمَصَّرَةٌ، فَخَطَبَ خُطْبَةً بَتْرَاءَ، لَمْ يُصَلِّ فِيهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ مُعَاوِيَةَ قَدْ قَالَ مَا بَلَغَكُمْ، وَشَهِدَتِ الشُّهُودُ عَلَى مَا قَدْ سَمِعْتُمْ، وَقَدْ قَالَ النَّاسُ فِيمَا قَالُوا، وَإِنِّي امْرُؤٌ رَفَعَ اللَّهُ مِنِّي مَا وَضَعُوا، وَحَفِظَ مِنِّي مَا ضَيَّعُوا، وَإِنَّ عُبَيْدًا لَمْ يَعدُ أَنْ كَانَ رَبِيبًا مَشْكُورًا وَأبًا مَبْرُورًا، أَلا وَإِنَّا قَدْ سُسْنَا وَسَاسَنَا السَّائِسُونَ، فَرَأَيْنَا هَذَا الأَمْرَ لا يُصْلِحَهُ إِلا شِدَّةٌ فِي غَيْرِ جَبْرِيَةٍ، وَلِينٌ فِي غَيْرِ وَهَنٍ، أَلا وَإِنَّهُ لَيْسَتْ كَذِبَةٌ أَكْثَرَ شَاهِدًا عَلَيْهَا مَنِ اللَّهِ، وَمِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كَذِبَةِ أَمِيرٍ عَلَى مِنْبَرٍ، فَإِذَا سَمِعْتُمُوهَا مِنِّي فَاحْتَسِبُوهَا فِيَّ، وَاعْلَمُوا أَنَّ لَهَا عِنْدِي أَخَوَاتٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمُونِي أُجْرِي الأُمُورَ مَجَارِيَهَا، وَأُمْضِيهَا لِسَبِيلِهَا، فَلْتَسْتَقِمْ لِي قَنَاتُكُمْ، فَإِنَّ لِي فِيكُمْ صَرْعَى، فَلْيَحْذَرْ كُلُّ امْرِئٍ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ مِنْ صَرْعَايَ، أَلا وَإِنِّي آخُذُ الْمُقْبِلَ بِالْمُدْبِرِ، وَالْمُطِيعَ بِالْعَاصِي، وَالشَّاهِدَ بِالْغَائِبِ، حَتَّى يَلْقَى الرَّجُلُ أَخَاهُ، يَقُولُ: انْجُ سَعْدُ فَإِنَّ سَعِيدًا قَدْ قُتِلَ. قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ صَفْوَانُ بْنُ الأَهْتَمِ، فَقَالَ: أَيُّهَا الأَمِيرُ قَدْ آتَاكَ اللَّهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ. فَقَالَ زِيَادٌ: كَذِبْتَ، ذَاكَ نَبِيُّ اللَّهِ دَاوُدُ. فَقَامَ الأَحْنَفُ بْنُ قَيسٍ، فَقَالَ: إِنَّ الْفَرَسَ بِشَدِّهِ، وَالْعَيْشَ بِكَدِّهِ، وَالسَّيْفَ بِحَدِّهِ، وَالْمَرْءَ بِجِدِّهِ، وَإِنَّ جِدَّكَ قَدْ بَلَغَ مَا تَرَى، وَإِنَّ الثَّنَاءَ بَعْدَ الْبَلاءِ، وَإِنَّا لَنْ نُثْنِيَ عَلَيْكَ حَتَّى نَتَبَيَّنَكَ، فَابْلُ خَيْرًا نُثْنِ خَيْرًا. فَقَامَ أَبُو بِلالٍ مِرْدَاسُ بْنُ أُدَيَّةَ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْإِنْسَانُ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَدَّى عَنْ وَلِيِّهِ وَخَلِيلِهِ غَيْرَ الَّذِي أَدَّيْتَ. قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى {37} أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى {38} } [النجم: 37-38] ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِ فِي أَرْبَعِينَ رَجُلا، فَكَانَ أَوَّلَ خَارِجٍ خَرَجَ بِالْبَصْرَةِ

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِ: فَأَمَّا الْمَدَائِنِيُّ عَلَيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ حَدَّثَنِي عَنْ رِجَالِهِ، قَالَ: " لَمَّا قَدِمَ زِيَادٌ الْبَصْرَةَ، قَدِمَهَا وَالْفِسْقُ بِهَا ظَاهِرٌ فَاشٍ، فَخَطَبَهُمْ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى أَفْضَالِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَنَسْأَلُهُ الْمَزِيدَ مِنْ نِعَمِهِ وَإِكْرَامِهِ، اللَّهُمَّ كَمَا أَعْطَيْتَنَا نِعَمًا، فَأَلْهِمْنَا شُكْرًا، أَمَا بَعْدُ، فَإِنَّ الْجَاهِلِيَّةَ الْجَهْلاءَ، وَالضَّلالَةَ الْعَمْيَاءَ، وَالْغِيَّ الْمُوفِدَ لِأَهْلِهِ عَلَى النَّارِ، مَا فِيهِ سُفَهَاؤُكُمْ، وَمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ حُلَمَاؤُكُمْ، مِنَ الأُمُورِ الْعِظَامِ، يَنْبُتُ فِيهَا الصَّغِيرُ، وَلا يَنْحَاشُ عَنْهَا الْكَبِيرُ، كَأَنَّكُمْ لَمْ تَقْرَءُوا كِتَابَ اللَّهِ، وَلَمْ تَسْمَعُوا مَا أَعَدَّ اللَّهُ مِنَ الثَّوَابِ الْكَرِيمِ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ، وَالْعَذَابِ الأَلِيمِ لِأَهْلِ مَعْصِيَتِهِ فِي الزَّمِنِ السَّرْمَدِ، الَّذِي لا يَزُولُ، أَتَكُونُونَ كَمَنْ طَرَفَتْ عَيْنَهُ الدُّنْيَا، فَسَدَّتْ مَسَامِعَهُ الشَّهَوَاتُ، وَاخْتَارَ الْفَانِيَةَ عَلَى الْبَاقِيَةِ، أَلَمْ تَكُنْ فِيكُمْ نُهَاةٌ تَمْنَعُ الْغُوَاةَ عَنْ دَلَجِ اللَّيْلِ وَغَارَةِ النَّهَارِ؟ وَكَلُّ امْرِئٍ فِيكُمْ يَذُبُّ عَنْ سَفِيهِهِ صَنِيعَ مَنْ لا يَخَافُ عَاقِبَةً، وَلا يَرْجُو مَعَادًا، فَلَمْ يَزَلْ بِغُوَاتِكُمْ مَا كَانَ مِنْ قِيَامِكُمْ دُونَهُمْ، وَذَبِّكُمْ عَنْهُمْ، حَتَّى انْتَهَكُوا حُرَمَ الْإِسْلامِ، ثُمَّ أَطْرَقُوا وَرَاءَكُمْ كُنُوسًا فِي مَكِانِسِ الرِّيَبِ، مُحَرَّمٌ عَلَيَّ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ حَتَّى أَضَعَ هَذِهِ الْمَوَاخِيرَ الأَرْضَ هَدْمًا وَإِحْرَاقًا، إِنِّي رَأَيْتُ آخِرَ هَذَا الأَمْرِ لا يَصْلُحُ إِلا بِمَا يَصْلُحُ بِهِ أَوَّلُهُ. لِينٌ فِي غَيْرِ ضَعْفٍ، وَشِدَّةٌ فِي غَيْرِ عُنْفٍ، وَإِنِّي أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَآخُذَنَّ الْوَلِيَّ بِالْوَلِيِّ، وَالْمُقِيمَ بِالظَّاعِنِ، وَالْمُقِبِلَ بِالْمُدْبِرِ، وَالصَّحِيحَ بِالسَّقِيمِ، حَتَّى يَلْقَى الرَّجُلُ مِنْكُمْ أَخَاهُ فَيَقُولُ: انْجُ سَعْدُ فَإِنَّ سَعِيدًا قَدْ قُتِلَ.

أَوْ تَسْتَقِيمَ لِي قَنَاتُكُمْ، إِنَّ كَذِبَةَ الْمِنْبَرِ، تُلْقَى مَشْهُورَةً فَإِذَا تَعَلَّقْتُمْ عَلَيَّ بِكَذِبَةٍ، فَقَدْ حَلَّتْ لَكُمْ مَعْصِيَتِي، مَنْ نُقِبَ عَلَيْهِ مِنْكُمْ فَأَنَا ضَامِنٌ لَهُ، فَإِيَّاكُمْ وَدَلَجَ اللَّيْلِ، فَإِنِّي لا أُوتَى بِمُدْلِجٍ إِلا سَفَكْتُ دَمَهُ، وَإِيَّاكُمْ وَدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنِّي لا أَظْفَرُ بِأَحَدٍ دَعَا بِهَا إِلا قَطَعْتُ لِسَانَهُ، وَقَدْ أَحْدَثْتُمْ أَحْدَاثًا، وَقَدْ أَحْدَثْنَا لِكُلِّ ذَنْبٍ عُقُوبَةً، فَمَنْ غَرَّقَ قَوْمًا غَرْقَنَاهُ، وَمَنْ حَرَّقَ عَلَى قَوْمٍ أَحْرَقْنَاهُ، وَمَنْ نَقَبَ نَقْبًا نَقَبْنَا عَنْ قَلْبِهِ، وَمَنْ نَبَشَ قَبْرًا دَفَنَّاهُ حَيًّا، فَكُفُّوا عَنِّي أَيْدِيَكُمْ وَأَلْسِنَتَكُمْ، أَكُفَّ عَنْكُمْ يَدِي وَلِسَانِي، وَلا يَظْهَرْ مِنْ أَحَدٍ خِلافُ مَا عَلَيْهِ عَامَّتُكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ: وَخَطَبَ زِيَادٌ بِالْبَصْرَةِ، فَحَمَدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: كَمْ مِنْ مُغْتَبِطٍ سَيَبْتَئِسُ، وَكَمْ مِنْ مُبْتَئِسٍ بِنَا سَيَغْتَبِطُ، أَلا إِنَّ الْقُدْرَةَ تُذْهِبُ الْحَفِيظَةَ، أَلا إِنَّهُ قَدْ كَانَتْ بَيْنِي وَبيْنَ أَقْوَامٍ إِحَنٌ وَأَشْيَاءُ، وَقَدْ جَعَلْتُ ذَلِكَ دُبَرَ أُذُنِي، وَتَحْتَ قَدَمِي، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُحْسِنًا فَلْيَزْدَدْ إِحْسَانًا، وَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُسِيئًا فَلْيَنْزَعْ مِنْ إِسَاءَتِهِ. إِنِّي لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ أَحَدَكُمْ قَدْ قَتَلَهُ السُّلُّ مِنْ بُغْضِي لَمْ أَكْشِفْ لَهُ قِنَاعًا، وَلَمْ أَفْتَحْ لَهُ بابًا، وَلَمْ أَهْتِكْ لَهُ سِتْرًا، حَتَّى يُبْدِيَ لِي صَفْحَتَهُ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ أُنَاظِرْهُ، فَاسْتَأْنِفُوا أُمُورَكُمْ، وَأَعِينُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ يِرْحَمْكُمُ اللَّهُ، أَلا وِإِنِّي لا أَقُولُ قَوْلا إِلا أَنْفَذْتُهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمُونِي أَقُولُ قَوْلا لا أُنَفِذُهُ وَلا أَفِي بِهِ، فَلا طَاعَةَ لِي فِي أَعْنَاقِكُمْ. قَالَ: ثُمَّ نَزَلَ، فَلَمَّا أَمْسَى سَمِعَ أَصْوَاتَ النَّاسِ، يَتَحَارَسُونَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: إِنَّ الْبَلْدَةَ مَفْتُونَةٌ، وَإِنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرَ لَيَأْخُذْهَا الْفُسَّاقُ، فَيُقَالُ لَهَا: نَادِي ثَلاثَةَ أَصْوَاتٍ، فَإِنْ أَجَابَكَ أَحَدٌ، وَإِلا فَلا لَوْمٌ عَلَيْنَا فِيمَا صَنَعْنَا، قَالَ زِيَادٌ: فَفِيمَ أَنَا؟ وَفِيمَ قَدِمْتُ؟ فَلَمَّا أَصْبَحَ أَمَرَ فَنُودِيَ فِي النَّاسِ فَاجْتَمَعُوا، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قَدْ أُنْبِئْتُ بِمَا أَنْتُمْ فِيهِ، وَسَمِعْتُ بَعْضَ ذَلِكَ. أَلا وَإِنِّي قَدْ أَنْذَرْتُكُمْ وَأَجَّلْتُكُمْ شَهْرًا، مَسِيرَةَ الرَّجُلِ إِلَى الشَّامِ، وَمَسِيرَةَ الرَّجُلِ إِلَى خُرَاسَانَ، وَمَسِيرَةَ الرَّجُلِ إِلَى الْحِجَازِ، أَلا فَمَنْ وَجَدْنَاهُ بَعْدَ شَهْرٍ خَارِجًا مِنْ مَنْزِلِهِ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادِ، فَمَنْ دُونَهُ، فَدَمُهُ هَدَرٌ. قَالَ: فَانْصَرَفَ النَّاسُ يَقُولُونَ: هَذَا كَقَوْلِ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ. قَالَ: فَلَمَّا تَمَّ الشَّهْرُ دَعَا زِيَادٌ صَاحِبَ شُرْطَتِهِ، عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُصَيْنٍ الْيَرْبُوعِيَّ، وَكَانَتْ شُرْطَتُهُ أَرْبَعَةَ آلافِ رَجُلٍ، فَقَالَ: هَيِّئِ خَيْلَكَ وَرَجِلَكَ، فَإِذَا صَلَّيْتُ الْعِشَاءَ الآخِرَةَ، وَقَرَأَ الْقَارِئُ مِقْدَارَ سَبعٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَرُفِعَ الطُّنُ الْقَصَبُ مِنَ الْقَصْرِ، فَسِرْ فَلا تَلْقَيَنَّ أَحَدًا، عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ، فَمَنْ دُونَهُ إِلا جِئْتَنِي بِرَأْسِهِ.

قَالَ: فَصَبَّحَ بِبَابِ الْقَصْرِ تِسْعَمِائَةَ رَأْسٍ، ثُمَّ خَرَجَ اللَّيْلَةَ الثَّانِيَةَ فَجَاءَ بِخَمْسِينَ رَأْسًا، ثُمَّ خَرَجَ اللَّيْلَةَ الثَّالِثَةَ، فَجَاءَ بِرَأْسٍ وَاحِدٍ، فَكَانَ النَّاسُ إِذَا صَلَّوا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، أَحْضَرُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ وَتَرَكُوا نِعَالَهُمْ. قَالَ: ثُمَّ صَعِدَ زِيَادٌ الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: هَدَأَتِ الْبَلْدَةُ سَائِرَ الْيَوْمِ، لَكُمْ بُطُونُ بُيُوتِكُمْ، وَلَنَا ظُهُورُهَا، لا حَقَّ لَكُمْ فِي ظُهُورِهَا. ثُمَّ قَالَ: أَيُّ سِكَكِ الْبَصْرَةِ أَخْوَفُ؟ قَالُوا: الْمِرْبَدُ. فَأَمَرَ فَأُلْقِيَ فِيهَا كِسَاءُ خَزٍّ، فَبَقِيَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، لا يَقْرَبُهُ أَحَدٌ. ثُمَّ قَالَ لِلْنَاسِ: افْتَحُوا مَنَازِلَكُمْ وَحَوَانِيتِكُمْ، فَمَنْ ذَهَبَ لَهُ شَيْءٌ فَزِيَادٌ لَهُ ضَامِنٌ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ، وَرَأْيُنَا لَكُمْ خَيرٌ مِنْ رَأْيِكُمْ لِأَنْفُسَكُمْ ". قَالَ: " وَخَطَبَ زِيَادٌ حِينَ قَدِمَ الْبَصْرَةَ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّا أَصْبَحْنَا لَكُمْ سَادَةً، وَعَنْكُمْ ذَادَةً، نَسُوسُكُمْ بِسُلْطَانِ اللَّهِ الَّذِي أَعْطَانَا، وَنَذُودُ عَنْكُمْ بِنِعَمِ اللَّهِ الَّذِي خَوَّلَنَا، فَلَنَا عَلَيْكُمُ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحْبَبْنَا، وَلَكُمْ عَلَيْنَا الْعَدْلُ فِيمَا وُلِّينَا. فَاسْتَوْجِبُوا عَدْلَنَا بِمُنَاصَحَتِكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنِّي مَهَمَا قَصَّرتُ فِيهِ فَلَنْ أُقَصِّرَ عَنْ ثَلاثٍ: لَسْتُ مُجْمِرًا لَكُمْ بَعْثًا، وَلا مُحْتَجِبًا عَنْ طَالِبِ حَاجَةٍ مَعَكُمْ وَلَوْ أَتَانِي طَارِقًا بِلَيلٍ، وَلا حَابِسًا لَكُمْ عَطَاءً، وَلا رِزْقًا عَنْ إِبَّانِهِ، فَادْعُوا اللَّهَ بِالصَّلاحِ لِأَئِمَّتِكُمْ، فَإِنَّهُمْ سَاسَتُكُمُ الْمُؤَدِّبُونَ، وَكَهْفِكُمُ الَّذِي إِلَيْهِ تَأْوُونَ، فَمَتَى يَصْلَحُوا تَصْلَحُوا، وَلا تُشْرِبُوا قُلُوبَكُمْ بُغْضَهُمْ، فَيَشْتَدَّ لِذَلِكَ غَيْضُكُمْ، وَيُعَوِّلَ لَهُ حُزْنُكُمْ، وَلا تُدْرِكُوا حَاجَتَكُمْ، مَعَ أَنَّهُ لَوِ اسْتُجِيبَ لِكُمْ فِيهَا كَانَ شَرًّا لَكُمْ. أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُعِينَ كُلا عَلَى كُلٍّ، وَإِذَا رَأَيْتُمُونِي آمُرُ فِيكُمْ بِالأَمْرِ فَأَنْفِذُوهُ عَلَى أَذْلالِهِ، وايْمُ اللَّهِ إِنَّ لِي فِيكُمْ لَصَرْعَى كَثِيرَةً، فَلْيَحْذَرْ كُلُّ امْرِئٍ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ صَرْعَايَ. قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الأَهْتَمِ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَيُّهَا الأَمِيرُ لَقَدْ أُوتِيتَ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ، قَالَ: كَذِبْتَ، ذَاكَ نَبِيُّ اللَّهِ دَاوُدُ، فَقَامَ الأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، فَقَالَ: أَيُّهَا الأَمِيرُ، قَدْ قُلْتَ فَأَسْمَعْتَ، وَوَعَظْتَ فَأَبْلَغْتَ، أَيُّهَا الأَمِيرُ، إِنَّمَا السَّيْفُ بِحَدِّهِ، وَالْفَرَسُ بِشَدِّهِ، وَالرَّجُلُ بِجِدِّهِ، وَإِنَّمَا الثَّنَاءُ بَعْدَ الْبَلاءِ، وَالْحَمْدُ بِعْدَ الْقَضَاءِ، وِلَنْ نُثْنِيَ حَتَّى نَبْتَلِيَ، فَقَامَ أَبُو بِلالٍ مِرْدَاسُ بْنُ أُدَيَّةُ، وَهُوَ يَهِمُ وَيَقُولُ: قَدْ أَنْبَأَنَا اللَّهُ بِغَيْرِ مَا قُلْتَ: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 38] ، فَسَمِعَهَا زِيَادٌ، فَقَالَ: يَا هَذَا إِنِّي لا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَبْلُغَ مَا تُرْيدُهُ حَتَّى أَخُوضَ الدِّمَاءَ خَوْضًا ".

وَحُدِّثْتُ عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: " قَدِمَ زِيَادٌ الْكُوفَةَ، فَدَنَوْتُ مِنَ الْمِنْبَرِ لِأَسْمَعَ كَلامَهُ، فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَتَكَلَّمُ فَيُحْسِنُ إِلا تَمَنَّيْتُ أَنْ يَسْكُتَ، مَخَافَةَ أَنْ يُسِيءَ، غَيْرَ زِيَادٍ، فَإِنَّهُ كَانَ لا يَزْدَادُ إِكْثَارًا إِلا ازْدَادَ إِحْسَانًا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا الأَمْرَ أَتَانِي وَأَنَا بِالْبَصْرَةِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ فِي أَلْفَيْنِ مِنْ شُرَطِهَا، ثُمَّ ذَكَرْتُ أَنَّكُمْ أَهْلُ حَقٍّ، وَأَنَّ الْحَقَّ طَالَمَا دَفَعَ الْبَاطِلَ، فَخَرَجْتُ إِلَيْكُمْ فِي أَهْلِ بَيْتِي، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَفَعَ مِنَّا مَا وَضَعَ النَّاسُ، وَحَفِظَ مِنَّا مَا ضَيَّعُوا. أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّا قَدْ سُسْنَا وَسَاسَنَا السَّائِسُونَ، وَجَرَّبْنَا الْمُجَرِّبُونَ، فَوَجَدْنَا هَذَا الأَمْرَ لا يُصْلِحُهُ إِلا شدَّةٌ فِي غَيْرِ عُنْفٍ، وَلِينٌ فِي غَيْرِ ضَعْفٍ، فَلا أَعْلَمَنَّ مَا أَغْلَقْنَا بَابًا فَفَتَحْتُمُوهُ، وَلا حَلَلْتُ عَقْدًا فَشَدَدْتُمُوهُ، وَإِنِّي لا أَعِدُكُمْ خَيْرًا وَلا شَرًّا إِلا وَفَيْتُ بِهِ، فَإِذَا تَعَلَّقْتُمْ عَلَيَّ بِكَذِبَةٍ فَلا وِلايَةَ لِي عَلَيْكُمْ، وَإِنِّي آمُرُكُمْ مَا آمُرُ بِهِ نَفْسِي وَأَهْلِي، فَمَنْ حَالَ دُونَ أَمْرِي ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، أَلا وَإِنِّي لا أَهْتِكُ لِأَحَدٍ مِنْكُمْ سِتْرًا، وَلا أَطَّلِعُ لَكُمْ مِنْ وَرَاءِ بَابٍ، وَلا أُقِيلُ أَحَدًا مِنْكُمْ عَثْرَةً. قَالَ: فَحَصَبُوهُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، حَتَّى سَكَنُوا وَأَمْسَكُوا، ثُمَّ أَمَرَ الشُّرَطَ فَأَخَذُوا بِأَبْوَابِ الْمَسْجِدِ، وَأَلْقَى كُرْسِيًّا عَلَى بَعْضِ الأَبْوَابِ، ثُمَّ عَرَضَ النَّاسَ أَرْبَعَةً أَرْبَعَةً يَسْتَحْلِفُهُمْ، فَمَنَ حَلَفَ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يَحْصِبْهُ تَرَكَهُ، وَمَنْ أَبَى حَبَسَهُ. قَالَ: فَقَطَعَ يَوْمَئِذٍ أَيْدِي ثَمَانِينَ إِنْسَانًا مِمَّنْ لَمْ يَحْلِفْ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: «أَوْعَدَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَعُوفِيَ، وَأَوْعَدَ زِيَادٌ فَابْتُلِيَ» . وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: «تَشَبَّهَ زِيَادٌ بِعُمَرَ فَأَفْرَطَ، وَتَشَبَّهَ الْحَجَّاجُ بِزِيَادٍ فَأَهْلَكَ النَّاسَ» . قَالَ: " وَخَطَبَ زِيَادٌ ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ خِلالا ثَلاثًا، نَبَذْتُ إِلْيكُمْ فِيهِنَّ بِالنَّصِيحَةِ، رَأَيْتُ إِعْطَاءَ ذَوِي الشَّرَفِ، وَإِجْلالَ ذَوِي الْقَدْرِ، وَتَوْقِيرَ ذَوِي الأَسْنَانِ، وَإِنِّي أُعَاهِدُ اللَّهَ لا يَأْتِينِي شَرِيفٌ بِوَضِيعٍ لَمْ يَعْرِفْ لَهُ فَضْلَ شَرَفِهِ عَلَى ضِعَتِهِ إِلا عَاقَبْتُهُ لَهُ، وَلا يِأْتِينِي كَهْلٌ بِحَدَثٍ لَمْ يَعْرِفْ فَضْلَ سِنَّهِ عَلَى حَدَاثَتِهِ إِلا عَاقَبْتُهُ لَهُ، وَلا يَأْتِينِي عَالِمٌ بِجَاهِلٍ لاحَاهُ فِي عِلْمِهِ لِيُهَجِّنَهُ بِذَلِكَ، إِلا عَاقَبْتُهُ، فَإِنَّمَا النَّاسُ بِأَعْلامِهِمْ، وَعُلَمَائَهِمْ، وَذَوِي أَسْنَانِهِمْ، وَقَدْ قَالَ ذَلِكَ الأَفْوَهُ الأَوْدِيُّ: تُهْدَى الأُمُورُ بِأَهْلِ الرَّأْيِ مَا صَلَحَتْ ... فَإِنْ تَولَّتْ فَبِالأَشْرَارِ تَنْقَادُ لا يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لا سَرَاةَ لَهُمْ ... وَلا سَرَاةَ إِذَا أَشْرَارُهُمْ سَادُوا ".

أوصي من آمن بالله وصدقني بولاية علي بن أبي طالب، من تولاه فقد تولاني، ومن تولاني فقد تولى

قَالَ: وَقَالَ زِيَادٌ لِحَاجِبِهِ: «قَدْ وَلَّيْتُكَ حِجَابَتِي، وَعَزَلْتُكَ عَنْ أَرْبَعَةٍ، عَنْ طَارِقِ لَيلٍ، فَشَرٌّ مَا جَاءَ بِهِ، لَوْ كَانَ خَيْرًا لَمْ أَكُنْ مِنْ شَأْنِهِ، وَعَنْ رَسُولِ صَاحِبِ الثَّغْرِ، فَإِنَّ حَبْسَ سَاعَةٍ يُفْسِدُ عَمَلَ سَنَةٍ، وَعَنِ الْمُنَادِي إِذَا نَادَى بِالصَّلاةِ، فَإِنَّهَا كَانَتْ كِتَابًا مَوْقُوتًا، وَعَنْ صَاحِبِ الطَّعَامِ، إِذَا أَدْرَكَ طَعَامَهُ، فَإِنَّ الطَّعَامَ إِذَا أُعِيدَ عَلَيْهِ التَّسْخِينُ فَسَدَ» . 171 - حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُؤَمَّلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُوصِي مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَصَدَّقَنِي بِوِلايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، مَنْ تَوَلاهُ فَقَدْ تَوَلانِي، وَمَنْ تَوَلانِي فَقَدْ تَوَلَّى اللَّهَ، وَمَنْ أَحَبَّهُ اللَّهُ فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي فقَدْ أَحَبَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ» . أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْجُوْهَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الضُّبَعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الأَشْقَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: وَحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْوَرَّاقِ، قَالَ: وَحَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْحَمِيمِ الْبَصْرِيُّ الصَّيْرَفِيُّ بِمَكَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ هَاشِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْبَرَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَكَّاءُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الأَشْقَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ هَاشِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ

خذلني الناس، حتى ولدي وأهلي، فلم يبق معي إلا اليسير ممن ليس عنده من الدفع أكثر من صبر

175 - حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ الْوَالِبِيِّ، قَالَ: دَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى أُمِّهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ حِينَ رَأَى مِنَ النَّاسِ مَا رَأَى مِنْ خُذْلانِهِمْ، فَقَالَ: يَا أُمَّهْ، خَذَلَنِي النَّاسُ، حَتَّى وَلَدِي وَأَهْلِي، فَلَمْ يَبْقَ مَعِي إِلا الْيَسِيرُ مِمَّنْ لَيْسَ عِنْدَهُ مِنَ الدَّفْعِ أَكْثَرَ مِنْ صَبْرِ سَاعَةٍ، وَالْقَوْمُ يُعْطُونَنِي مَا أَرَدْتُ مِنَ الدُّنْيَا، فَمَا رَأْيُكِ؟ قَالَتْ: أَنْتَ وَاللَّهِ أَعْلَمُ بِنَفْسِكَ يَا بُنَيَّ، إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ عَلَى حَقٍّ وَإِلَيْهِ تَدْعُو فَامْضِ لَهُ، فَقَدْ قُتِلَ عَلَيْهِ مَنْ مَضَى مَنْ أَصْحَابِكَ، وَلا تُمَكِّنْ مِنْ رَقَبَتِكَ يَتَلَعَّبُ بِهَا غِلْمَانُ بَنِي أُمَيَّةَ، وَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا أَرَدْتَ الدُّنْيَا، فَبِئْسَ الْعَبْدُ أَنْتَ، أَهْلَكْتَ نَفْسَكَ، وَأَهْلَكْتَ مَنْ قُتِلَ مَعَكَ، وَإِنْ قُلْتَ: كُنْتُ عَلَى حَقٍّ فَلَمَّا وَهَنَ أَصْحَابِي ضَعُفَتْ نِيَّتِي، فَكُلُّ هَذَا لَيْسَ مِنْ فِعْلِ الأَحْرَارِ، وَلا أَهْلِ الدِّينِ، كَمْ خُلُودُكَ يَا بُنَيَّ فِي الدُّنْيَا؟ الْقَتْلُ أَحْسَنُ. فَدَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَقَبَّلَ رَأْسَهَا، ثُمَّ قَالَ: هَذَا وَاللَّهِ رَأْيِي وَعَزْمِي، وَالَّذِي هَمَمْتُ بِهِ دَاعِيًا إِلَى يَوْمِي هَذَا، وَمَا رَكَنْتُ إِلَى الدُّنْيَا، وَلا أَحْبَبْتُ الْحَيَاةَ فِيهَا، وَمَا دَعَوْتُ إِلَى الْخُرُوجِ إِلا الْغَضَبُ لِلَّهِ أَنْ تُسْتَحَلَّ حُرَمُهُ، وَلَكِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أَعْلَمَ رَأْيَكِ، فَزِدْتِنِي قُوَّةً وَبَصِيرَةً مَعَ بَصِيرَتِي، فَانْظُرِي يَا أُمَّهْ، فَإِنِي مَقْتُولٌ مِنْ يَوْمِي هَذَا أَنْ لا يَشْتَدَّ جَزَعُكِ عَلَيَّ، وَسَلِّمِي لِأَمْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ ابْنَكِ لَمْ يَتَعَمَّدْ إِتْيَانَ مُنْكَرٍ، وَلا عَمِلَ بِفَاحِشَةٍ، وَلَمْ يَجُرْ فِي حُكْمٍ، وَلَمْ يَغْدِرْ فِي أَمَانٍ، وَلَمْ يَتَعَمَّدْ ظُلْمَ مُسْلِمٍ، وَلا مُعَاهِدٍ، وَلَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُمَّالِي سُوءٌ فَرَضِيتُهُ، بَلْ أَنْكَرْتُهُ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ عِنْدِي آثَرَ مِنْ رِضَا رِبِّي، اللَّهُمَّ لا أَقُولُ هَذَا تَزْكِيَةً لِنَفْسِي، أَنْتَ أَعْلَمُ بِي، وَلَكِنِّي أَقُولُهُ تَعْزِيَةً لأُمِّي لِتَسْلُوَ عَنِّي. فَقَالَتْ أُمُّهُ: إِنِّي لَأَرْجُو مِنَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ عَزَائِي عَنْكَ حَسَنًا، إِنْ تَقَدَّمْتَنِي أَوْ تَقَدَّمْتُكَ، فَفِي نَفْسِي حَرَجٌ حَتَّى أَنْظُرَ إِلامَ يَصِيرُ إِلَيْهِ أَمْرُكَ؟ فَقَالَ: جَزَاكِ اللَّهُ خَيْرًا يَا أُمَّهْ، فَلا تَدَعِي الدُّعَاءَ قَبْلِي وَبَعْدِي، فَقَالَتْ: لا أَدْعُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَبَدًا، فَمَنْ قُتِلَ عَلَى بَاطِلٍ، فَقَدْ قُتِلْتَ عَلَى حَقٍّ. ثُمَّ قَالَتْ: اللَّهُمَّ ارْحَمْ طُولَ ذَلِكَ الْقِيَامِ فِي اللَّيْلِ الطَّوِيلِ، وَذَاكَ النَّحِيبَ وَالظَّمَأَ فِي هَوَاجِرِ الْمَدِينَةِ، وَمَكَّةَ، وَبِرَّهُ بِأَبِيهِ وَبِي، اللَّهمَّ إِنِّي سَلَّمْتُ فِيهِ لأَمْرِكَ، وَرَضِيتُ بِمَا قَضَيْتَ، فَأَثَبْنِي فِي عَبْدِ اللَّهِ ثَوَابَ الشَّاكِرِينَ الصَّابِرِينَ. ثُمَّ خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ عِنْدِهِا، وَلَبِسَ دِرْعًا وَمَغْفَرًا، فَوَقَفَ عَلَيْهَا، ثُمَّ دَنَا، فَتَنَاوَلَ يَدَهَا وَقَبَّلَهَا، فَقَالَتْ: هَذَا وَدَاعٌ، فَلا تَبْعِدْ إِلا مِنَ النَّارِ.

فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّمَا جِئْتُ مُوَدِّعًا يَا أُمَّهْ، إِنِّي لَأَرَى هَذَا آخِرَ يَوْمٍ مِنَ الدُّنْيَا يَمُرُّ بِي، اعْلَمِي يَا أُمَّهْ: إِنِّي إِنْ قُتِلْتُ فَإِنَّمَا أَنَا لَحْمٌ، مَا يَضُرُّنِي مَا صُنِعَ بِي. قَالَتْ: صَدَقْتَ. ثُمَّ قَالَتْ: يَا بُنَيَّ أَتْمِمْ عَلَى بَصِيرَتِكَ، وَلا تُمُكِّنْ بَنِي أَبِي عَقِيلٍ مِنْكَ، وَادْنُ مَنِّي حَتَّى أُوَدِّعُكَ، فَدَنَا مِنْهَا فَعَانَقَهَا، وَقَالَتْ: حَيْثُ وَجَدْتُ مَسَّ الدِّرْعِ: مَا هَذَا صَنِيعُ مِنْ يُرِيدُ مَا تُرِيدُ. فَقَالَ: مَا لَبِسْتُ هَذَا الدِّرْعَ إِلا لأَشُدَّ مِنْكِ. فَقَالَتْ: إِنَّهُ لا يَشُدُّ مَنِّي بِلْ يُخَالِفُنِي. فَخَرَجَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ عِنْدَهَا، فَنَزَعَ دِرْعَهُ، وَتَوَجَّهَ إِلَى الْقِتَالِ، وَهُوَ يَقُولُ: إِنِّي إِذَا أَعْرِفُ يَوْمًا أَصْبِرُ ... إِذَ بَعْضُهُمْ يَعْرِفُ ثُمَّ يُنْكِرُ فَفَهِمَتْ أُمُّهُ قَوْلَهُ، فَقَالَتْ: تَصْبِرُ وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَبُوكَ أَبُو بَكْرٍ وَالزُّبَيْرُ، وَأُمُّكَ صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. ثُمَّ لاقَاهُمْ فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ غَيْرَ مَرَّةٍ فَهَزَمَهُمْ، حَتَّى قُتِلَ قَالَ مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: فَمَا مَكَثَتْ بَعْدَهُ إِلا عَشْرًا حَتَّى تُوُفِّيَتْ 176 - حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَمِيلِ بْنِ مَرْثَدٍ الْكَلْبِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ، عَنْ أَبِي صِالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، زَيْدٌ الْحِبُّ، حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ابْنُ حَارِثَةَ بْنِ شَرَاحِيلَ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ عَامِرِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ وُدِّ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُذْرَةَ بْنِ زَيْدِ اللاتِ بْنِ رُفَيْدَةَ بْنِ ثَوْرِ بْنِ كَلْبِ بْنِ وَبَرَةَ بْنِ تَغْلِبَ بْنِ حُلْوَانَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ إِلْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ، وَاسْمُ قُضَاعَةَ عَمْرٌو، وَإِنَّمَا سُمِّيَ قُضَاعَةَ لِأَنَّهُ انْقَضَعَ عَنْ قَوْمِهِ، أَيِ انْقَطَعَ، وَقُضَاعَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِمْيَرَ بْنِ سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ جَمَّاعُ الْيَمَنِ. وَأُمُّ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ سُعْدَى بِنْتُ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ عَامِرِ بْنِ أَفْلَتَ بْنِ سِلْسِلَةَ مِنْ بَنِي مَعْنٍ مِنْ طَيِّئٍ، فَزَارَتْ سُعْدَى أُمُّ زَيْدٍ قَوْمَهَا، وَزَيْدٌ مَعَهَا، فَأَغَارَتْ خَيلٌ لِبَنِي الْقَيْنِ بْنِ جَسْرٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَمَرُّوا عَلَى أَبْيَاتِ بَنِي مَعْنٍ، رَهْطِ أُمِّ زَيْدٍ، فَاحْتَمَلُوا زَيْدًا، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ غُلامٌ يَفَعَةٌ، قَدْ أَوْصَفَ فَوَافَوْا بِهِ سُوقَ عُكَاظٍ، فَعَرَضُوهُ لِلْبَيْعِ، فَاشْتَرَاهُ مِنْهُمْ حَكِيمُ بْنُ حِزَامِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ لِعَمَّتِهِ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ بِأَرْبَعِ مِائَةِ دِرْهَمٍ، فَلَمَّا تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَهَبَتْهُ لَهُ، فَقَبَضَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ حَارِثَةُ بْنُ شَرَاحِيلَ فَقَدَهُ، فَقَالَ: بَكَيْتُ عَلَى زَيْدٍ وَلَمْ أَدْرِ مَا فَعَلْ ... أَحَيٌّ فَيُرجَى أَمْ أَتَى دُونَهُ الأَجَلْ فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَإِنْ كُنْتُ سَائِلا ... أَغَالَكَ سَهْلُ الأَرْضِ أَمْ غَالَكَ الْجَبَلْ

ابننا عندك، فامنن علينا، وأحسن إلينا في فدائه، فإنا سنرفع لك في الفداء. قال: «من هو» ؟ ،

تُذَكِّرُنِيهِ الشَّمْسُ عِنْدَ طُلُوعِهَا ... وَتَعْرِضُ ذِكْرَاهُ إِذَا قَارِبَ الطَّفَلْ وَإِنْ هَبَّتِ الَأَرْوَاحُ هَيَّجْنَ ذِكْرَهُ ... فَيَا طُولَ مَا حُزْنِي عَلَيْهِ وَمَا وَجَلْ سَأَعْمَلُ نَصَّ الْعَيْشِ فِي الأَرْضِ جَاهِدًا ... وَلا أَسْأَمُ التَّطْوَافَ أَوْ تَسْأَمُ الْإِبِلْ حَيَاتِيَ أَوْ تَأْتِي عَلَيَّ مَنِيَّتِي ... وَكُلُّ امْرِئٍ فَانٍ وَإِنْ غَرَّهُ الأَمَلْ سَأُوصِي بِهِ قَيْسًا وَعَمْرًا كِلَيْهِمَا ... وَأُوصِي يَزِيدًا ثُمَّ بَعْدَهُمُ جَبَلْ يَعْنِي: جَبَلَةَ بْنَ حَارِثَةَ أَخَا زَيْدٍ، وَكَانَ أَكْبَرَ مِنْ زَيْدٍ، وَيَعْنِي بِيَزِيدَ أَخَا زِيدٍ لأُمِّهِ، وَهُوَ يِزِيدُ بْنُ كَعْبِ بْنِ شَرَاحِيلَ، فَحَجَّ أُنَاسٌ مِنْ كَلْبِ فَرَأَوْا زَيْدًا، فَعَرَفَهُمْ وَعَرَفُوهُ، فَقَالَ: أَبْلِغُوا أَهْلِي هَذِهِ الأَبْيَاتَ، فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُمْ قَدْ جَزِعُوا عَلَيَّ، فَقَالَ: أَحِنُّ إِلَى قَوْمِي وَإِنْ كُنْتُ نَائِيًا ... فَإِنِّي قَطِينُ الْبَيْتِ عِنْدَ الْمَشَاعِرِ فَكُفُّوا مِنَ الْوَجْدِ الَّذِي قَدْ شَجَاكُمُ ... وَلا تَعْمَلُوا فِي الأَرْضِ نَصَّ الأَبَاعِرِ فَإِنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ فِي خَيْرِ أُسْرَةٍ ... كِرَامِ مَعَدٍّ كَابَرًا بَعْدَ كَابِرِ فَانْطَلَقَ الْكَلْبِيُّونَ فَأَعْلَمُوا أَبَاهُ. فَقَالَ: ابْنِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ. وَوَصَفُوا لَهُ مَوْضِعَهُ، وَعِنْدَ مَنْ هُوَ، فَخَرَجَ حَارِثَةُ وَكَعْبُ ابْنَا شَرَاحِيلَ لِفِدَائِهِ وَقَدِمِا مَكَّةَ، فَسَألا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَقِيلَ: هُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَدَخَلا عَلَيْهِ، فَقَالا: يَا ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَا ابْنَ هَاشِمٍ، يَا ابْنَ سَيَّدِ قَوْمِهِ، أَنْتُمْ أَهْلُ حَرَمِ اللَّهِ، وَجِيرَانُهُ، وَعِنْدَ بَيْتِهِ تَفُكُّونَ الْعَانِيَ، وَتُطْعِمُونَ الأَسِيرَ، جِئْنَاكَ فِي ابْنِنَا عِنْدَكَ، فَامْنُنْ عَلَيْنَا، وَأَحْسِنْ إِلَيْنَا فِي فِدَائِهِ، فَإِنَّا سَنَرْفَعُ لَكَ فِي الْفِدَاءِ. قَالَ: «مَنْ هُوَ» ؟ ، قَالُوا: زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «فَهَلا غَيْرُ ذَلِكَ؟» قَالُوا: مَا هُوَ؟ ، قَالَ: «أَدْعُوهُ فَأُخَيِّرُهُ فَإِنِ اخْتَارَكُمْ فَهُوَ لَكُمْ بِغَيْرِ فِدَاءٍ، وَإِنِ اخْتَارِنِي فَوَاللَّهِ مَا أَنَا بِالَّذِي أَخْتَارُ عَلَى مَنِ اخْتَارَنِي أَحَدًا» . قَالا: قَدْ زِدْتَنَا النَّصَفَ، وَأَحْسَنْتَ. قَالَ: فَدَعَاهُ، فَقَالَ: «هَلْ تَعْرِفُ هَؤُلاءِ» ؟ ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «مَنْ هَذَا» ؟ قَالَ: أَبِي، وَهَذَا عَمِّي. قَالَ: «فَأَنَا مَنْ قَدْ عَلِمْتَ وَرَأَيْتَ صُحْبَتِي لَكَ، فَاخْتَرْنِي أَوِ اخْتَرْهُمَا» . قَالَ زَيْدٌ: مَا أَنَا بِالَّذِي أَخْتَارُ عَلَيْكَ أَحَدًا، أَنْتَ مِنِّي بِمَكَانِ الأَبِ وَالْعَمِّ. فَقَالا: وَيْحَكَ يَا زَيْدُ، أَتَخْتَارُ الْعُبُودِيَّةَ عَلَى الْحُرِّيَّةِ، عَلَى أَبِيكَ وَعَمِّكَ وَأَهْلِ بَيْتِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَدْ رَأَيْتُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ شَيْئًا، مَا أَنَا بِالَّذِي أَخْتَارُ عَلَيْهِ أَحَدًا أَبَدًا. فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ أَخْرَجَهُ إِلَى الْحِجْرِ، فَقَالَ: «يَا مَنْ حَضَرَ اشْهَدُوا أَنَّ زَيْدًا ابْنِي، يَرِثُنِي وَأَرِثُهُ» .

زوج رسول الله صلى الله عليه وآله زيد بن حارثة مولاته أم أيمن، فولدت له أسامة بن زيد وبه

فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَبُوهُ وَعَمُّهُ طَابَتْ أَنْفُسُهُمَا فَانْصَرَفَا، فَدُعِيَ: زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَتَّى جَاءَ اللَّهُ بِالإِسْلامِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْحَدِيثِ: «فَزَوَّجَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ الأَسَدِيَّةَ، وَأُمُّهَا أُمَيْمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلَبِ بْنِ هَاشِمِ، فَطَلَّقَهَا زَيْدٌ، فَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ» ، فَتَكَلَّمَ الْمُنَافِقُونَ فِي ذَلِكَ، وَطَعَنُوا فِيهِ، وَقَالُوا: مُحَمَّدٌ يُحَرِّمُ نِسَاءَ الْوَلَدِ، وَقَدْ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ ابْنِهِ زَيْدٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40] ، إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5] ، فَدُعِيَ يَوْمَئِذٍ: «زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ» ، وَدُعِيَ الأَدْعِيَاءُ إِلَى آبَائِهِمْ، فَدُعِيَ الْمِقْدَادُ إِلَى عَمْرٍو، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ: الْمِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ، وَكَانَ الأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ الزُّهْرِيُّ قَدْ تَبَنَّاهُ 177 - حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: زَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ مَوْلاتَهُ أُمَّ أَيْمَنَ، فَوَلَدَتْ لَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَبِهِ كَانَ يُكَنَّى، وَكَانَ يُقَالُ لأُسَامَةَ: الْحِبُّ ابْنُ الْحِبِّ، وَكَانَ زَيْدٌ وَصِيَّ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ " 178 - حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ مَيَّاحِ، أَوْ مَنَّاحٍ، قَالَ: لَمَّا هَاجَرَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ نَزَلَ عَلَى كَلْثُومِ بْنِ الْهِدْمِ "، قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَأَمَّا عَاصِمُ بْنُ عَمْرِو بْنِ قَتَادَةَ، فَقَالَ: " نَزَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ 179 - حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُؤَمَّليُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: صَلَّى عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ بِأَصْحَابِهِ صَلاةً أَوْجَزَ فِيهَا، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ خَفَّفْتَ، قَالَ: أَمَّا عَلَى ذَلِكَ قَدْ دَعَوْتُ بِدَعَوَاتٍ سَمِعْتُهُنَّ مَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ فَاتَّبَعَهُ، فَسَأَلَهُ عَنِ الدُّعَاءِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَبِقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي مَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي، اللَّهُمَّ وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحُكْمِ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لا يَبِيدُ، وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لا تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ نَظَرٍ إِلَى وَجْهِكَ، وَأَسْأَلُكَ الشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلا فَتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيَّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ»

حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي الْوَاقِدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رِفَاعَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: " خَرَجَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ حَاجًّا سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ، وَهُوَ وَلِيُّ عَهْدٍ، فَدَخَلَ الْمَدِينَةَ فَنَزَلَ فِي دَارِ مَرْوَانَ، فَسَأَلَهُ، مَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ؟ فَقِيلَ: سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَأَتَاهُ، فَرَحَّبَ بِهِ، وَأَمَرَ لَهُ بِمِائَتَيِ دِينَارٍ، وَسَأَلَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَأُخْبِرَ أَنَّهُ تُوفِّيَ قَبْلَ قُدُومِهِ بِشَهْرٍ، فَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ، وَأَمَرَ لِأُنَاسٍ فِي الْمَدِينَةِ بِزِيَادَاتٍ فِي دَوَاوِينِهِمْ، وَقسَّمَ قِسْمًا لَيْسَ بِالْكَثِيرِ، وَبَعَثَ إِلَى أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ، وَهُوَ عَامِلٌ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أُحْرِمُ؟ قَالَ: مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ. فَأَرْسَلَ الْوَلِيدُ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسيِّبِ، فَقَالَ: أَحْرِمْ مِنَ الْبَيْدَاءِ، وَسَاقَ بُدْنًا وَأَهَلَّ بِالْحَجِّ مُنْفَرِدًا، وَجَلَّلَ بُدْنَهُ الْيُمْنَةَ وَالْقَبَاطِيَّ، وَسَارَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ إِلَى بَطْنِ مَرٍّ، فَاسْتَقْبَلَهُ وُجُوهُ أَهْلِ مَكَّةَ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تَسْتَقْبِلُونِي بِعُسْفَانَ؟ فَتَعَذَّرُوا إِلَيْهِ بِبَعْضِ مَا يَتَعَذَّرُ بِهِ النَّاسُ، فَلَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ، وَقَالَ: لَوْ كَانَتْ فِتْنَةٌ لَكُنْتُمْ إِلَيْهَا سِرَاعًا، خَالَفْتُمْ وَشَقَقْتُمُ الْعَصَا، وَنَازَعْتُمُ الأَمْرَ أَهْلَهُ تِسْعَ سِنِينَ، ثُمَّ وَلِيَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَصَفَحَ عَنْكُمْ، وَتَجَاوَزَ عَنْ مُسِيئِكُمْ، فَلَمْ تَشْكُرُوا ذَلِكَ، وَلَمْ تَعْرِفُوا قَدْرَ مَا فَعَلَ بِكُمْ. فَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: أَصْلَحَ اللَّهُ الأَمِيرَ، إِنِّهُمْ قَوْمُكَ وَعَشِيرَتُكَ وَلَيْسَ كُلَّهُمْ عَلَى خِلافِكَ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ مَعَكَ وَإِلَيْكَ، وَلَكِنَّهُمْ غُلِبُوا وَقُهِرُوا، فَمَا يَقْدِرُونَ عَلَى غَيْرِ مَا صَنَعُوا. فَقَالَ الْوَلِيدُ: مَا أَعْرَفَنِي بِطَاعَتِكَ وَطَاعَةِ مَنْ كَانَ مِثْلَكَ؟ فَقَالَ الْحَارِثُ: فَنَحْنُ عَلَى مَا يُحِبُّ الأَمِيرُ، قَدِمَ حَاجًّا مُعَظِّمًا لِهَذَا الْبَيْتِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَإِنْ رَأَى الأَمِيرُ أنْ يُعْرِضَ عَنْ هَذَا فَعَلَ، وَيُقْبِلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ، فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَهُ احْتِمَالٌ لِهَذَا، وَاتِّسَاعٌ. قَالَ: أَفْعَلُ. فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ، وَبَلَغَ عَبْدُ الْمَلِكِ مَا صَنَعَ بِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا وَهُوَ بِالطَّرِيقِ يُؤَنِّبُهُ وَيَقُولُ: مَا كَانَ حَقُّكَ أَنْ تَفْعَلَ هَذَا بِهِمْ، وَقَدْ رَأَيْتَنِي صَفَحْتُ عَنْهُمْ، وَأَنَا الْمُرَادُ بِهَذَا، وَأَنْتَ لَكَ الْعَهْدُ، وَلِأَخِيكَ مِنْ بَعْدِكَ، وَكَانَ حَقُّكَ أَنْ تَلِينَ وَتُقَرِّبَهُمْ، وَتَقْبَلَ عُذْرَهُمْ. لَعَمْرِي إِنَّ هَذَا لَمَوْضُوعٌ عَنْهُمْ وَقَدْ رَأَيْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مُعَاوِيَةَ، وَقَبْلَكَ أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ وهُوَ وَالٍ عَلَى الْمَدِينَةِ مَا يَسْتَقْبِلُونَهُ إِلا بِذِي طُوًى وَشَبَهِهَا، وَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، وَاغْتَمَّ بِهِ

أيتها العصابة التي أخرجتها عادة المراء والضلالة، وصدف بها عن الحق الهوى والزيغ، إني نذير

181 - حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: لَمَّا اسْتَوَى الصَّفَّانِ بِالنَّهْرَوَانِ، تَقَدَّمَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، أَيَّتُهَا الْعِصَابَةُ الَّتِي أَخْرَجَتْهَا عَادَةُ الْمِرَاءِ وَالضَّلالَةِ، وَصَدَفَ بِهَا عَنِ الْحَقِّ الْهَوى وَالزَّيْغُ، إِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ أَنْ تُصْبِحُوا غَدًا صَرْعَى بِأَكْنَافِ هَذَا النَّهْرِ أَوْ بِمِلْطَاطٍ مِنَ الْغَائِطِ، بِلا بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، وَلا سُلْطَانٍ مُبِينٍ. أَلَمْ أَنْهَكُمْ عَنْ هَذِهِ الْحُكُومَةِ وَأُحَذِّرْكُمُوهَا، وَأُعْلِمْكُمْ أَنَّ طَلَبَ الْقَوْمِ لَهَا دَهَنٌ مِنْهُمْ وَمَكِيدَةُ، فَخَالَفْتُمْ أَمْرِي، وَجَانَبْتُمُ الْحَزْمَ، فَعَصَيْتُمُونِي حَتَّى أَقْرَرْتُ بِأَنْ حَكَّمْتُ، وَأَخَذْتُ عَلَى الْحَكَمَيْنِ، فَاسْتَوْثَقْتُ، وَأَمَرْتُهُمَا أَنْ يُحْيِيَا مَا أَحْيَا الْقُرْآنَ، وَيُمِيتَا مَا أَمَاتَ الْقُرْآنَ، فَخَالَفَا أَمْرِي، وَعَمِلا بِالْهَوَى، وَنَحْنُ عَلَى الأَمْرِ الأَوِّلِ، فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ، وَأَنَّى يُتَاهُ بِكُمْ» ؟ فَقَالَ خَطِيبُهُمْ: أَمَّا بَعْدُ، يَا عَلِيُّ فَإِنَّا حِينَ حَكَّمْنَا كَانَ ذَلِكَ كُفْرًا مِنَّا، فَإِنْ تُبْتَ كَمَا تُبْنَا، فَنَحْنُ مَعَكَ وَمِنْكَ، وَإِنْ أَبَيْتَ فَنَحْنُ مُنَابِذُوكَ عَلَى سَوَاءٍ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ. فَقَالَ عَلِيٌّ: «أَصَابَكُمْ حَاصِبٌ، وَلا بَقِيَ مِنْكُمْ وَابِرٌ، أَبَعْدَ إِيمَانِي بِاللَّهِ، وَجِهَادِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهَجْرَتِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُقِرُّ بِالْكُفْرِ؟ ! لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ. وَلَكِنْ مُنِيتُ بِمَعْشَرٍ أَخِفَّاءَ الْهَامِ، سُفَهَاءَ الأَحْلامِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ» ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِمْ وَهَزَمَهُمْ " حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُتْبِيُّ، قَالَ: " حَجَّ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ، وَالنَّاسُ قَرِيبُ عَهْدٍ بِالْفِتْنَةِ، فَصَلَّى بِهِمُ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّا وَلِينَا هَذَا الْمَقَامَ الَّذِي يُضَاعَفُ فِيهِ لِلْمُحْسِنِ الأَجْرُ وَلِلْمُسِيءِ الْوِزْرُ، وَنَحْنُ عَلَى طَرِيقِ مَا قَصَدْنَا، فَلا تَمِدُّوا الأَعْنَاقَ إِلَى غَيْرِنَا، فَإِنَّهَا تُقَطَّعُ دُونَنَا، وَرُبَّ مُتَمَنٍّ حَتْفُهُ فِي أُمْنِيَّتِهِ، فَاقْبَلُوا الْعَافِيَةَ مِنَّا مَا قَبِلْنَاهَا مِنْكُمْ، وَإِيَّاكُمْ وَقَوْلَ لَوْ، فِإِنَّهَا قَدْ أَتْعَبَتْ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَلَنْ تُرِيحَ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَأَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُعِينَ كُلًّا عَلَى كُلٍّ بِرَحْمَتِهِ. قَالَ: فَفَتِقَ بِهِ أَعْرَابِيٌّ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْخَلِيفَةُ. قَالَ: لَسْتُ بِهِ، وَلَمْ تُبْعِدْ، قَالَ: يَا أَخَاهُ. قَالَ: قَدْ سَمِعْتُ فَقُلْ. قَالَ: وَاللَّهِ لَئِنْ تُحْسِنُوا وَقَدْ أَسْأَنَا خَيْرٌ مِنْ أَنْ تُسِيئُوا وَقَدْ أَحْسَنَّا، فَإِنْ يِكُنِ الْإِحْسَانُ مِنْكُمْ فَمْا أَحَقَّكُمْ بِاسْتِتمَامِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنَّا فَمَا أَحَقَّكُمْ بِمُكَافَأَتِنَا. قَالَ لَهُ عُتْبَةُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ يَلْقَاكُمْ بِالْعُمُومَةِ، وَيَخْتَصُّ إِلَيْكُمْ بِالْخُؤُولَةِ، وَقَدْ كَثُرُ عِيَالُهُ، وَرَقَّ حَالُهُ، وَوَطِئَهُ دَهْرٌ، وَبِهِ فَقْرٌ، وَفِيهِ أَجْرٌ، وَعِنْدَهُ شُكْرٌ.

دخل على الحجاج، فقال له: يا خبثة، شيخا جوالا في الفتن، مع أبي تراب مرة، ومع ابن الزبير

فَقَالَ عُتْبَةُ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْكَ، وَأَسْتَعِينُهُ عَلَيْكَ، فَقَدْ أَمَرْتُ لَكَ بِغِنَاكَ، فَلَيْتَ إِسْرَاعِي إِلِيكَ يَقُومُ بِإِبْطَائِي عَنْكَ 183 - حُدِّثْتُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ الضُّبَعِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جَدْعَانَ، " أَنَّ أَنَسًا لَمَّا دَخَلَ عَلَى الْحَجَّاجِ، فَقَالَ لَهُ: يَا خِبْثَةُ، شَيْخًا جَوَّالا فِي الْفِتَنِ، مَعَ أَبِي تُرَابٍ مَرَّةً، وَمَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ أُخْرَى، وَمَعَ ابْنِ الأَشْعَثِ مَرَّةً، وَمَعَ ابْنِ الْجَارُودِ أُخْرَى، أَمَا وَاللَّهِ لَأُجَرِّدَنَّكَ جَرْدَ الضَّبِّ وَلَأَقْلَعَنَّكَ قَلَعَ الصَّمْغَةِ، وَلَأَحْزِمَنَّكَ حَزْمَ السَّلَمَةِ، الْعَجَبُ مِنْ هَؤُلاءِ الأَشْرَارِ، أَهْلُ الْبُخْلِ وَالنِّفَاقِ. قَالَ عَلَيُّ بْنُ زَيْدٍ: فَقَالَ أَنَسٌ لَمَّا خَرَجَ: وَاللَّهِ لَوْلا وَلَدَيَّ لَأَجَبْتُهُ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بِمَا كَانَ مِنَ الْحَجَّاجِ إِلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ كِتَابًا مَعَ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْمُهَاجِرِ، مَوْلَى بَنِي مَخْزُومٍ، فَقَدِمَ عَلَى الْحَجَّاجِ فَبَدَأَ بِأَنَسٍ، فَقَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ أَكْبَرَ مَا كَانَ مِنَ الْحَجَّاجِ إِلَيْكَ، وَأَعْظَمَ ذَلِكَ، وَأَنَا لَكَ نَاصِحٌ، إِنَّ الْحَجَّاجَ لا يَعْدِلُهُ أَحَدٌ عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ , وَقَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ أنْ يَأْتِيَكَ، وَأَنَا أَرَى لَكَ أَنْ تَأْتِيَهُ فَيَعْتَذِرُ إِلَيْكَ، فَتَخْرُجَ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ لَكَ مُعَظِّمٌ وَبِحَقِّكَ عَارِفٌ. قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ أَتَى الْحَجَّاجَ، فَأَعْطَاهُ كِتَابَ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَجَعَلَ يَقْرَؤُهُ، وَوَجْهُهُ يَتَغَيَّرُ، فَأَقْبَلَ يَمْسَحُ الْعَرَقَ عَنْ وَجْهِهِ، وَيَقُولُ: غَفَرَ اللَّهُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، مَا كُنْتُ أَرَاهُ يَبْلُغُ مِنِّي هَذَا. قَالَ إِسْمَاعِيلُ: ثُمَّ رَمَى الْكِتَابُ إِلَيَّ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنِّي قَدْ قَرَأْتُ مَا فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: قُمْ بِنَا إِلَى أَنَسٍ. فَقُلْتُ: بَلْ يَأْتِيكَ. فَأَتَيْتُ أَنَسًا، فَقُلْتُ: اذْهَبْ بِنَا إِلَيْهِ، فَأَتَاهُ، فَرَحَّبَ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: عَجِلْتَ بِاللائِمَةِ يَا أَبَا حَمْزَةَ، إِنَّ الَّذِي كَانَ مِنِّي إِلَيْكَ عَلَى غَيْرِ تَأنِيَةٍ، وَلَكِنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ لا يُحِسُّونَ للَّهَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا يُقِيمُ حُجَّتَهُ، وَمَعَ هَذَا إِنِّي أَرَدْتُ أَنْ يَعْلَمَ مُنَافِقُوا أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَفُسَّاقُهُمْ أَنِّي مَتَى أَقْدَمْتُ عَلَيْكَ، فَهُمْ عَلَيَّ أَهْوَنُ، وَأَنَا إِلَيْهِمْ أَسْرَعُ، وَلَكَ الْعُتْبَى وَالْكَرَامَةُ، فَقَالَ أَنَسٌ: مَا عَجِلْتُ بِاللائِمَةِ حَتَّى تَنَاوَلَنَا الْعَامَّةُ دُونَ الْخَاصَّةِ، وَحَتَّى سَمَّيْتَنَا الأَشْرَارَ، وَقَدْ سَمَّانَا اللَّهُ الأَنْصَارَ، وَزَعَمْتَ أَنَّا أَهْلُ بُخْلٍ، وَنَحْنُ الْمُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَزَعَمْتَ أَنَّا أَهْلُ النِّفَاقِ وَنَحْنُ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ.

وَزَعَمْتَ أَنَّكَ اتَّخَذْتَنِي ذَرِيعَةً لِأَهْلِ الْعِرَاقِ، بِاسْتِحْلالِكَ مِنِّي مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ حَكَمٌ هُوَ أَرْضَى لِلرِّضَا وَأَسْخَطُ لِلسَّخَطِ، وَإِلَيْهِ ثَوَابُ الْعِبَادِ، وَجَزَاءُ أَعْمَالِهِمْ: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم: 31] فَوَاللَّهِ إِنَّ النَّصَارَى عَلَى شِرْكِهِمْ، لَوْ رَأَوْا رَجُلا قَدْ خَدَمَ عِيسَى يَوْمًا وَاحِدًا، لَأَكْرَمُوهُ وَأَعْظَمُوهُ، فَكَيْفَ لَمْ تَحْفَظْ لِي خِدْمَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ! فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكَ إِحْسَانٌ شَكَرْنَا ذَلِكَ، وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ صَبَرْنَا إِلَى أَنْ يَأْتِيَ اللَّهُ بِالْفَرَجِ " قَالَ: وَكَانَ كِتَابُ عَبْدِ الْمَلِكِ إِلَى الْحَجَّاجِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ عَبْدٌ قَدْ طَمَّتْ بِهِ الأُمُورُ حَتَّى عَدَوْتَ طَوْرَكَ، وايْمُ اللَّهِ، يَا ابْنَ الْمُسْتَفْرَمَةِ بَعَجَمِ الزَّبِيبِ، لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَضْغَمَكَ ضَغْمَةً كَبَعْضِ ضَغَمَاتِ اللُّيُوثِ الثَّعَالِبِ، وَأَخْبِطَكَ خَبْطَةً تَودُّ أَنَّكَ زَاحَمْتَ مَخْرَجَكَ مِنْ بَطْنِ أُمِّكَ، قَدْ بَلَغَنِي مَا كَانَ مِنْكَ إِلَى أَنَسٍ، وَأَظُنُّكَ أرَدْتَ أنْ تُخْبِرَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ غَيْرُهُ، وِإِلا مَضَيْتَ قُدُمًا، فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ، أَخْفَشَ الْعَيْنَيْنِ، مَمْسُوحَ الْجَاعِرَتَيْنِ، حَمْسَ السَّاقَيْنِ، كَأَنَّكَ نَسِيتَ مَكَاسِبَ آبَائِكَ بِالطَّائِفِ، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الدَّنَاءَاتِ وَاللُّؤْمِ إِذْ يَحْفُرُونَ الْآبَارَ فِي الْمَنَاهِلِ بِأَيْدِيهِمْ وَيَنْقُلُونَ الْحِجَارَةَ عَلَى ظُهُورِهِمْ، فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي فَالْقَ أَنَسًا فِي مَنْزِلِهِ، وَاعْتَذِرِ إِلَيْهِ، وَلَوْلا أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَظُنُّ أَنَّ الْوَلَدَ وَالْكُتُبَ كَثَّرُوا عَلَى الشَّيْخِ لَقَدْ بَعَثَ إِلَيْهِ مَنْ يَسْحَبُكَ ظَهْرًا لِبَطْنٍ، حَتَّى يَأْتِيَ بِكَ أَنَسًا فَيَحْكُمَ فِيكَ، وَلَنْ يَخْفَى عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ نَبَؤُكَ وَ {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 67] ، فَلا تُخَالِفْ كِتَابَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَكْرِمْ أَنَسًا وَوَلَدَهُ، وَإِلا بَعَثْتُ إِلَيْكَ مَنْ يَهْتِكَ سِتْرَكَ وَيُشْمِتُ بِكَ عَدُوَّكَ، وَالسَّلامُ حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: " قَدِمَ عَلَيْنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ حَاجًّا، سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَهُوَ وَلِيُّ عَهْدٍ، فَمَرَّ بِالْمَدِينَةِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ النَّاسُ، فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ، وَرَكِبَ إِلَى مَشَاهِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّتِي صَلَّى فِيهَا، وَحَيْثُ أُصِيبَ بِأُحُدٍ، وَمَعَهُ أَبَانُ بِنُ عُثْمَانَ، وَعَمْرُو بِنُ عُثْمَانَ، وَأَبُو بَكْرِ بِنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَحْمَدَ، فَأَتَوْا بِهِ قُبَاءً، وَمَسْجِدَ الْفَضِيخِ، وَمَشْرَبَةَ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ، وَأُحُدًا، وَكُلُّ ذَلِكَ يَسْأَلُهُمْ، وَيُخْبِرُونَهُ عَمَّا كَانَ. ثُمَّ أَمَرَ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ سِيَرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَمَغَازِيَهُ، فَقَالَ أَبَانٌ: هِيَ عِنْدِي، قَدْ أَخَذْتُهَا مُصَحَّحَةً مَمَّنْ أَثِقُ بِهِ.

فَأَمَرَ بِنَسْخِهَا وَأَلْقَى فِيهَا إِلَى عَشْرَةٍ مِنَ الْكُتَّابِ، فَكَتَبُوهَا فِي رَقٍّ، فَلَمَّا صَارَتْ إِلَيْهِ نَظَرَ، فَإِذَا فِيهَا ذِكْرُ الأَنْصَارِ فِي الْعَقَبَتَيْنِ، وَذِكْرُ الأَنْصَارِ فِي بَدْرٍ، فَقَالَ: مَا كُنْتُ أَرَى لِهُؤُلاءِ الْقَوْمِ هَذَا الْفَضْلَ. فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَهْلُ بَيْتِي غَمَصُوا عَلَيْهِمْ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا لَيْسَ هَكَذَا. فَقَالَ: أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ: أَيُّهَا الأَمِيرُ لا يَمْنَعُنَا مَا صَنَعُوا بِالشَّهِيدِ الْمَظْلُومِ مِنْ خُذْلانِهِ، إِنَّ الْقَوْلَ بِالْحَقِّ: هُمْ عَلَى مَا وَصَفْنَا لَكَ فِي كِتَابِنَا هَذَا. قَالَ: مَا حَاجَتِي إِلَى أنْ أَنْسَخَ ذَاكَ حَتَّى أَذْكُرَهُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، لَعَلَّهُ يُخَالِفُهُ، فَأَمَرَ بِذَلِكَ الْكِتَابِ فَحُرِقَ. وَقَالَ: أَسْأَلُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا رَجَعْتُ، فَإِنْ يُوَافِقْهُ، فَمَا أَيْسَرَ نَسْخَهُ، فَرَجَعَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَخْبَرَ أَبَاهُ بِالَّذِي كَانَ مِنْ قَوْلِ أَبَانٍ، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَمَا حَاجَتُكَ أنْ تَقْدِمَ بِكِتَابٍ لَيْسَ لَنَا فِيهِ فَضْلٌ، تُعَرِّفُ أَهْلَ الشَّامِ أُمُورًا لا نُرِيدُ أَنْ يَعْرِفُوهَا. قَالَ سُلَيْمَانُ: فَلِذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمَرْتُ بِتَحْرِيقِ مَا كُنْتُ نَسَخْتُهُ حَتَّى أَسْتَطْلِعَ رَأْيَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَصَوَّبَ رَأْيَهُ. وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ يَثْقُلُ عَلَيْهِ ذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّ سُلَيْمَانَ جَلَسَ مِنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيبٍ، فَأَخْبَرَهُ خَبَرَ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ، وَمَا نَسَخَ مِنْ تِلْكَ الْكُتُبِ، وَمَا خَالَفَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِيهَا، فَقَالَ قَبِيصَةُ: لَوْلا مَا كَرِهَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَكَانَ مَنَ الْحَظِّ أَنْ تَعْلَمَهَا وَتُعَلِّمَهَا وَلَدَكَ وَأَعْقَابَهِمْ، إِنْ حَظَّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِيهَا لَوَافِرٌ، إِنْ أَهْلَ بَيْتِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لَأَكْثَرُ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا، فَشَهِدَهَا مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ سِتْةَ عَشَرَ رَجُلا مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَحُلَفَائَهِمْ وَمَوَالِيَهِمْ. وَحَلِيفُ الْقَوْمِ مِنْهُمْ، وَمَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ. وَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَعُمَّالُهُ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ أَرْبَعَةٌ: عَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ عَلَى مَكَّةَ، وَأَبَانُ بْنُ سَعِيدٍ عَلَى الْبَحْرَيْنِ، وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ عَلَى الْيَمَنِ، وَأَبُو سُفِيَانَ بْنَ حَرْبٍ عَلَى نَجْرَانَ، عَامِلا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَرِهَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَمَا كَرِهَ فَلا تُخَالِفْهُ. ثُمَّ قَالَ قَبِيصَةُ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَأَنَا وَهُوَ، يَعْنِي عَبْدَ الْمَلِكِ، وَعِدَّةً مِنْ أَبْنَاءِ الْمُهَاجِرِيِنَ، مَا لَنَا عِلْمٌ غَيْرَ ذَلِكَ حَتَّى أَحْكَمْنَاهُ، ثُمَّ نَظَرنَا بَعْدُ فِي الْحَلالِ وْالْحَرِامِ. فَقَالَ سُلَيْمَانُ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ، أَلا تُخْبِرُنِي عَنْ هَذَا الْبُغْضِ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلِ بَيْتِهِ لَهِذَا الْحَيِّ مِنَ الأَنْصَارِ وَحِرْمَانِهِمْ إِيَّاهُمْ لِمَ كَانَ؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، ثُمَّ أَحْدَثَهُ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ أَحْدَثَهُ أَبُوكَ. فَقَالَ: عَلامَ ذَلِكَ؟ قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا أُرِيدُ بِهِ إِلا لأَعْلَمَهُ وَأَعْرِفَهُ.

الناس قد رفعوا أعينهم ومدوا أعناقهم إلى بني عبد المطلب، فلو نظرنا إلى رجل منهم فيه لوثة

فَقَالَ: لِأَنَّهُمْ قَتَلُوا قَوْمًا مِنْ قَوْمِهِمْ، وَمَا كَانَ مِنْ خُذْلانِهِمْ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَحَقَدُوهُ عَلَيْهِمْ، وَحَنَقُوهُ وَتَوَارَثُوهُ، وَكُنْتُ أُحِبُّ لِأَمِيِرِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَهُمْ، وَأَنْ أُخْرِجَ مِنْ مَالِي، فَكَلِّمْهُ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: أَفْعَلُ وَاللَّهِ. فَكَلَّمَهُ وَقَبِيصَةُ حَاضِرٌ، فَأَخْبَرَهُ قَبِيصَةُ بِمَا كَانَ مِنْ مُحَاوَرَتِهِمْ. فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَاللَّهِ مَا أَقْدِرُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَدَعُونَا مِنْ ذِكْرِهِمْ، فَأَسْكَتَ الْقَوْمَ 185 - حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ جَدِّي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبٍ، قَالَ: " بَلَغَنِي أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ رَفَعَوا أَعْيُنَهُمْ وَمَدُّوا أَعْنَاقَهُمِ إِلَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَوْ نَظَرْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فِيهِ لُوْثَةٌ فَاسْتَمَلْنَاهُ، فَقَالَ عَمْرٌو: عِنْدَكَ عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. فَلَمَّا أَصْبَحَ وَاجْتَمَعَ النَّاسُ، دَخَلَ عَلَيْهِ عَقِيلٌ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا يَزِيدَ أَنَا خَيْرٌ لَكَ أَمْ عَلِيٌّ؟ قَالَ: أَنْتَ خَيْرٌ لَنَا مِنْ عَلِيٍّ، وَعَلِيٌّ خَيْرٌ لِنَفْسِهِ مِنْكَ. فَضَحِكَ مُعَاوِيَةُ، فَضَحِكَ عَقِيلٌ. فَقَالَ لَهُ: مَا يُضْحِكُكَ يَا أَبَا يَزِيدَ؟ قَالَ: أَضْحَكُ أَنِّي كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى أَصْحَابِ عَلِيٍّ يَوْمَ أَتَيْتُهُ، فَلَمْ أَرَ مَعَهُ إِلا الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَهُمْ، وَالْتَفَتُّ السَّاعَةَ فَلَمْ أَرَ إِلا أَبْنَاءَ الطُّلَقَاءِ، وَبَقَايَا الأَحْزَابِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: يَا أَهْلَ الشَّامِ، هَلْ تَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: لا، قَالَ: أَسَمِعْتُمْ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] ، قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنَّهُ وَاللَّهِ عَمُّ هَذَا. قَالَ عَقِيلٌ: صَدَقَ وَاللَّهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. فَهَلْ قَرَأْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4] ، فَهِيَ وَاللَّهِ عَمَّةُ مُعَاوِيَة، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: الْحَقْ بِأَهْلِكَ، حَسْبُنَا مَا لَقِينَا مِنْ أَخِيكَ. قَالَ لَهُ عَقِيلٌ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ تَرَكْتُ مَعَ عَلِيٍّ الدِّينَ وَالسَّابِقَةَ، وَأَقْبَلْتُ إِلَى دُنْيَاكَ، فَمَا أَصَبْتُ دِينَهُ، وَلا نِلْتُ مِنْ دُنْيَاكَ طَائِلا. فَأَعْطَاهُ وَأَكْثَرَ لَهُ. قَالَ: فَدَعَا مُعَاوِيَةُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا عَمْرُو، هَذَا الَّذِي زَعَمْتَ أَنَّهُ أَهْوَجُ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ ! . قَالَ: مَا ذَنْبِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ إِلا مَا تَعْلَمُ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ فِي ذَلِكَ: أَلا يَا عَمْرُو عَمْرُو قَبِيلِ سَهْمٍ ... لَقَدْ أَخْطَأْتَ رَأْيَكَ فِي عَقِيلِ بُلِيتُ بِحَيَّةٍ صَمَّاءَ بَانَتْ ... تَلَفَّتُ أَيْنَ مُلْتَمَسُ الْقَبِيلِ بِعَينٍ تُنْفِذُ الْبَيْدَاءَ لَحْظًا ... وَنَابٍ غَيْرِ مَوْصُولٍ كَلِيلِ وَقَدْ كَانَتْ تُرَجِّمُهُ قُرَيْشٌ ... عَلَى عَمْيَاءَ مِنْ قَالٍ وَقِيِلِ أَلا لِلَّهِ دَرُّ أَبِي يَزِيدَ ... لَهَرَجِ الأَمْرِ وَالْخَطْبِ الَجَلِيلِ فَمَا خَاصَمْتُ مِثْلَكَ مِنْ خَصِيمٍ ... وَلا حَاوَلْتُ مِثْلَكَ مِنْ حَوِيلِ أَتَانِي زَائِرًا وَرَأَى عَلِيًّا ... قَلِيلَ المَالِ مُنْقَطِعَ الْخَلِيلِ فَقِيلَ لَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ حَرْبٍ ... فَمَالَ أَبُو يَزِيدَ إِلَى مُمِيلِ فَأَجْزَلْتُ الْعَطَاءَ لَهُ وَدَبَّتْ ... عَقَارِبُهُ لِسَالِفَةِ الدُّخُولِ

لا قود إلا بالسيف» ، ونهى عن المثلة. ثم قال لشريك: أرأيت لو رماه بسهم فلم يقتله ثم ثنى فلم

فَلَمْ يَرْضَ الْكَثِيرَ وَقَدْ أَرَاهُ ... سَخُوطًا لِلْكَثِيرِ وَلِلْقَلِيلِ فَرَجَعَ عَقِيلٌ إِلَى عَلِيٍّ فَأَخبَرَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: «كَانَ فِي نَفْسِ مُعَاوِيَةَ شَيْءٌ، فَمَا أَحَبَّ أَنَّكَ لَمْ تَأْتِهِ، فَقَدِ انْقَطَعَ ظَهْرٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ» 186 - حَدَّثَنِي عَمِّي، عَنْ جَدِّي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبٍ، قَالَ: " اجْتَمَعَ شَرِيكٌ وَالْقَاسِمُ بْنُ مَعْنٍ عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَهْدِيِّ، فَقَالَ لَهُمَا: مَا تَقُولانِ فِي رَجُلٍ رَمَى رَجُلا بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ؟ فَقَالَ شَرِيكٌ: يُقْتَلُ كَمَا قَتَلَ. فَقَالَ الْقَاسِمُ: لَيْسَ كَمَا تَقُولُ. فَقَالَ شَرِيكٌ: أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] ، فَقَالَ: بَلَى. فَقَالَ: لِمَ تَمُوقُ إِذًا؟ قَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، لَوْ جَارَيْنَاكَ لَسَبَقْتَنَا سَبْقًا بَعِيدًا. ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «لا قَوَدَ إِلا بِالسَّيْفِ» ، وَنَهَى عَنِ الْمُثْلَةِ. ثُمَّ قَالَ لِشَرِيكٍ: أَرَأَيْتَ لَوْ رَمَاهُ بِسَهْمٍ فَلَمْ يَقْتُلْهُ ثُمَّ ثَنَّى فَلَمْ يَقْتُلْهُ، ثُمَّ ثَلَّثَ، أَلَيْسَ كَانَتْ تَكُونُ مُثْلَةً؟ فَصَمَتَ شَرِيكٌ قَالَ الْمَنْصُورُ لِإِسْحَاقَ بْنِ مُسْلِمِ الْعَقِيلِيِّ: مَا بَقِيَ مِنْ لَذَّتِكَ؟ قَالَ: «أَخٌ أَشْتَهِي مَعَهُ الْعَلَّةَ طُولَ اللَّيْلِ، وَدَابَّةٌ أَشْتَهِي مَعَهَا طُولَ السَّفَرِ» . لَمَّا وَلِيَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ الْمَدِينَةَ مَنَعَ النِّسَاءَ مِنَ الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجَ إِلَيْهِ فِي شَهْرِ رَمْضَانَ إِلا الْعَجَائِزَ، وَإِنِ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى الْمَسْجِدِ تُرِيدُ أَنْ تَدْخُلَ بَيْنَ الْعَجَائِزَ فَفَطِنَ لَهَا شُرْطِيٌّ، فَأَخْرَجَهَا وَضَرَبَهَا ضَرْبًا وَجِيعًا، وَخَرَقَ طَيْلَسَانًا كَانَ عَلَيْهَا لِزَوْجِهَا لَبِسَتْهُ سِرًّا مِنْهُ، فَانْصَرَفَتْ وَهِي أَخْزَى مِنَ الَّتِي بَاعَتْ قَمِيصَهَا وَاشْتَرَتْ بِهِ هِرَّةَ، فَلَمَّا أَصْبَحَتْ جَاءَتْ إِلَى حَوَّاءٍ فِي الْمَدِينَةِ، وَأَعْطَتْهُ دِرْهَمًا وَقَالَتْ لَهُ: اطْلُبْ لِي عَشْرَ عَقَارِبَ حَرِيَّاتٍ سَمُومِيَّاتٍ، وَالْحَرِيَّاتُ هِيَ أَخْبَثُ مَا تَكُونُ مِنَ الْعَقَارِبِ، فَجَعَلَتْهَا فِي دُرْجٍ، وَذَرَّتْ عَلَيْهِ ذَرِيرَةً مُمْسِكَةً، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ جَاءَتْ إِلَى ذَلِكَ الْبَابِ بِعَيْنِهِ، وَقَدْ عَرَفَتِ الرَّجُلَ فَدَنَتْ مِنْهُ، وَقَالَتْ: يَا أَخِي، هَذِا الْمَجْمَرُ جِئْتُكَ بِهِ فَخُذْهُ فَدَخِّنْ بِهِ لِهَذَا الْعِيدِ، وَاتْرُكْنِي حَتَّى أَدْخُلَ وَأُصَلِّي هَذِهِ اللَّيْلَةَ الْعَظِيمَةَ، يَأْجُرُكَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، فَأَخَذَ الدَّرَجَ مِنْهَا، وَأَدْخَلَهَا، وَدَسَّهُ فِي حُجْرَتِهِ، ثُمَّ أَعْجَلَهُ الطَّمَعُ حَتَّى يَعْلَمُ مَا فِيهِ، وَفَتَحَ الدُّرْجَ، فَذَهَبَ لِيَشُمَّ مَا فِيهِ، فَضَرَبَ بِعْضُ الْعَقَارِبِ أَنْفَهُ ضَرْبَةً، فَطَارَ مِنْ عَيْنِيهِ مِثْلُ النَّارِ، وَسَقَطَ، وَانْتَثَرَتْ عَلَى جَسَدِهِ فَلَيْسَ مِنْهُنَّ إِلا وَقَدْ لَسَعَتْهُ مَرَّاتٍ، وَصَاحَ: الْمَوْتُ، أَدْرِكُونِي. فَابْتَدَرَهُ النَّاسُ، فَإِذَا جَسَدَهُ يَنْتَغِشُ عَقَارِبَ. وَبَلَغَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ خَبَرَهُ. فَقَالَ: مَا قِصَّتُكَ؟ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْكَلامِ. فَلَمَّا أَفَاقَ سَأَلَهُ، فَأَرَادَ كِتْمَانَ الْخَبَرِ، فَقَالَ: لِنْ يُنْجِيَكَ مِنِّي إِلا الصِّدْقُ.

فَأَخْبَرَهُ فَضِحَكَ، وَقَالَ: لَوْ عَلِمْتُ أَيْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ لَأَمَرْتُ لَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَجَدْتُهَا وَاللَّهِ حُرَّةً، وَأَمَرَ لَهُ بِصِلَةٍ. جَاءَ مَزْيدُ بِامْرَأَتِهِ إِلَى الْقَاضِي يُخَاصِمُهَا فِي نَفَقَتِهَا، فَبَكَتْ حِينَ جَلَسَتْ، فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي: وَيْحَكَ، اتَّقِ اللَّهَ، فَإِنِّي لأَحْسَبُكَ ظَالِمًا. قَالَ: وَبِأَيِ شَيْءٍ عَرَفْتَ ذَاكَ؟ قَالَ: لَمْ تَبْكِ هَذِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ خَيْرٍ. قَالَ: فَقَدْ جَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ عِشَاءً يَبْكُونَ، فَكَانُوا ظَالِمِينَ أَوْ مَظْلُومِينَ؟ قَالَ: فَهِي تَشْكُو أَنَّكَ قَدْ أَجَعْتَهَا. قَالَ: فَأَرْسِلْ إِلَى مَنْزِلِهَا، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِيهِ خُبْزًا قَدْ يَبَّسَتْهُ فَصَدَقَتْ. قَالَتْ: أَمَّا خُبْزٌ فَعِنْدِي خُبْزٌ، وَلَكِنْ لا يَشْتَرِي لِي سَوِيقًا. قَالَ: انْظُرْ تَطْلُبُ مِنِّي السَّوِيقَ مَعَ الْخُبْزِ، وَقَدْ حَبَسَ أَبُو جَعْفَرٍ الْعَطَاءَ وَمَنَعَ الْبَحْرَ، وَهِي طَالِقٌ ثَلاثًا أَلْبَتَّةَ، لَئِنْ عَاشِ أَبُو جَعْفَرٍ خَمْسَ سِنِينَ إِنْ لَمْ تَنْسَ صِنْعَةَ السَّوِيقِ، فَلا تُحْسِنُهُ. فَتُوُفِّيَ أَبُو جَعْفَرٍ لِثَلاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ حَلَفَ بِطَلاقِهَا، فَأَتَتْ بِهِ القَّاضِي: فَقَالَتْ: حَلَفَ بِطَلاقِي إِنْ مَاتَ أَبُوُ جَعْفَرٍ لَتَنْسِيِنَّ عَمَلَ السَّوِيقِ، فَلَمْ أَنْسَهُ. قَالَ: إِنَّمَا حَلَفْتُ إِنْ عَاشَ خَمْسَ سِنِينَ. قَالَ الْقَاضِي: تَرَانَا نَسِينَا عَمَلَ السَّوِيقَ فِي سَنَتَيْنِ. قَالَ: فَإِنِّي عَلَى هَذَا حَلَفْتُ. فَمَا يُدْرِيكُمْ لَعَلَّكُمْ تَنْسَوْنَ أَوْ لَعَلَّكُمْ تَمُوتُونَ. فَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ طَلاقًا. حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، قَالَ: مَاتَتْ أُخْتُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: فَشَهِدَهَا النَّاسُ، وَانْصَرَفُوا مَعَهُ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَلَمَّا صَارَ إِلَى بَابِهِ أَخَذَ بِحَلَقَةِ الْبَابِ، ثُمَّ قَالَ: " انْصَرِفُوا أَيُّهَا النَّاسُ مَأْجُورِينَ، أَدَّى اللَّهُ عَنْكُمْ، فَإِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ لا نُعَزَّى فِي أَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِلا فِي اثْنَتَيْنِ: أُمٌّ لِوَاجِبِ حَقِّهَا، وَمَا فَرَضَ اللَّهُ مِنْ بِرِّهَا، وَامْرَأَةٌ لِلُطْفِ مَوْضِعِهَا، وَإِنَّهُ لا يَحِلُّ مَحَلَّهَا أَحَدٌ سَمِعْتُ الْحَسَنَ بْنَ هَانِئٍ، يَقُولُ: كَانَ فِي دِيوَانِ الرَّسَائِلِ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ مِنَ الْكُتَّابِ الشَّامِيِّينَ، فَلَمَّا وَلِيَ سَعْدَانُ بْنُ يَحْيَى، كَاتِبُ أُمِّ جَعْفَرٍ دِيوَانَ الرَّسَائِلَ أَتَاهُ جَارٌ لَهُ فِي ابْنٍ لَهُ، يُقَالُ لَهُ: حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، فَسَأَلَهُ أَنْ يُلْزِمَهُ دِيوَانَ الرَّسَائِلِ لِيَتَعَلَّمَ، فَمَكَثَ وَحَفْصٌ يَخْتَلِفُ إِلَى الدِّيوَانِ، وَيَخْدِمُ أُولَئِكَ الشَّامِيِّينَ , وَيَخِفُّ لَهُ، وَيُمَثِّلُونَ لَهُ الْخَطَّ حَتَّى تَعَلَّمَ، وَحَرَّرَ، فَقَالَ عُمْرُ لِسَعْدَانَ: إِنَّ ابْنِي مَلازِمٌ لِلدِّيوَانِ، وَلَيسْ لَهُ رِزْقٌ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُصَيِّرَ لابْنِي رِزْقًا يَقْوَى بِهِ عَلَى الْخِدْمَةِ وَالْمُلازَمَةِ، وَيَنْفَعُنِي بِذَلكِ فَعَلْتَ، فَقَالَ لَهُ سَعْدَانُ: إِنَّمَا رِزْقُ هَذَا الدِّيوَانِ لِهَؤُلاءِ الأَرْبَعَةِ نَفَرٍ الْمُسَمَّيْنَ، وَلَسْتُ أَقْدِرُ أَنْ أُخْرِجَ أَحَدًا مِنْهُمْ، وَلا أَسْتَبْدِلَ بِهِ، وَلا أَنْقُصَهُ مِنْ رِزْقِهِ، وَلَكِنِّي أُكَلِّمُهُمْ، وَأَسْأَلُهُمْ أَنِ يَجْعَلُوا لَكَ مِنْ أَرْزَاقِهِمْ شَيْئًا. فَكَلَّمَهُمْ، وَقَالَ: هَذَا الْغُلامُ ابْنُ صَدِيقٍ لِي، وَقَدْ خَدَمَكُمْ، وَخَفَّ لَكُمْ فَأُحِبُّ أنْ يَهَبَ لَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مِنْ رِزْقِهِ شَيْئًا.

إن لم تجد من صحبة الرجال بدا، فعليك بمن إن صحبته زانك، وإن خفضت له صانك، وإن وعدك لم

فَوَهَبَ لَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقِهِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، فَدَفَعَ إِلَيْهِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَلَمَّا كَانَ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي دَفَعَ إِلَيْهِمْ أَرَزَاقَهُمْ، وَنَقَّصَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، فَصَارَتْ رِزْقًا لِلْغُلامِ، فَقَالَ الشَّامِيُّونَ: إِنَّ هَذِهِ سُنَّةٌ قَدْ سنَّهَا عَلَيْنَا سَعْدَانُ، وَانْتَقَصَ مِنْ أَرْزَاقِنَا شَيْئًا، وَصَارَ هَذَا الْغُلامُ كَأَحَدِنَا، وَلَسْنَا وَاللَّهِ نَرْضَى بِهَذا، فَأَجْمَعُوا عَلَى شِكَايَتِهِ إِلَى الْفَضْلِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ يَحْيَى. قَالُوا: يَكْتُبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا رُقْعَةً، وَيُوَقِّعُ عَلَيْهَا بَاسْمِهِ وَيُصَيِّرُهَا تَحْتَ مُصَلَّى الْفَضْلِ بْنِ يَحْيَى، فَإِنَّهُ سَيَقْرَؤُهَا إِذَا خَرَجْنَا. فَكَتَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: ذَهَبَ الْكِتَابُ وَمَلَّهُ أَصْحَابُهُ ... وَبَكَى لِضَيْعَةِ أَمْرِهِ الدِّيوَانُ وَبِحَسْبِ دِيوَانِ الرَّسَائِلِ خِزْيَةً ... إِذْ صَارَ صَاحِبَ أَمْرِهِ سَعْدَانُ وكَتَبَ عَلَى رُقْعَتِهِ فُلانٌ الشَّامِيُّ. وَكَتَبَ آخَرُ رُقْعَةً فِيهَا: أَيُّهَا الْقَاتِلُ حِرْصًا ... نَفْسَهُ قَدْ مَاتَ مَوْتَا إِنْ سَعْدَانَ بْنَ يَحَيْى ... قَدْ بَنَى لِلْقَبْطِ بَيْتَا صَبَّ فِي قِنْدِيلِ سَعْدَانَ مَعَ التَّسِلِيمِ زَيْتَا وَقَنَادِيلُ بَنِيهِ ... قَبْلَ أَنْ تَحْفَى الْكُمَيْتَا وَكَتَبَ عَلَى الرُّقْعَةِ: فُلانٌ الشَّامِيُّ. وَكَتَبَ الثَّالِثُ رُقْعَةً فِيهَا: أَتَاهُ حَفْصٌ مَعَهُ رُقْعَةٌ ... أَصْلَحَكَ اللَّهُ وَأَبْقَاكَا إِنِّي غُلامٌ رِخْوَةٌ تَكْتِي ... أَطْوَعُ مِنْ يُسْرَاكَ يُمْنَاكَ وَفِيَّ تَخْنِيثٌ وَلَوْ قَدْ تَرَى ... تَحْتَ السَّرَوِايلَ لَأَرْضَاكَا فَسَمِّ لِي رِزْقًا وَلا تُجْفِنِي ... أَكْرَمَكَ اللَّهُ وَعَافَاكَا وَقَّعَ سَعْدَانُ عَلَى رَأْسِهَا ... يُجَابُ حَفْصُونُ إِلَى ذَاكَا وَكَتَبَ عَلَى الرُّقْعَةِ «فُلانٌ الشَّامِيُّ» . وَأُلْقِيَتْ تَحْتَ مُصَلَّى الْفَضْلِ بْنِ يَحْيَى، فَلَمَّا أَنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ أَصَابُوا الرِّقَاعَ تَحْتَ مُصَلَّى الْفَضْلِ بْنِ يَحْيَى فَأَوْصَلُوهَا إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَرَأَهَا اسْتَضْحَكَ ثُمَّ دَعَا بِسَعْدَانَ، فَقَالَ: مَنْ عَرَّضَكَ لِهَؤُلاءِ الشَّامِيِّينَ، وَمَنْ حَفْصُونُ هَذَا؟ فَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةُ. فَقَالَ: أَخْرِجْ هَذَا إِلَى لَعْنَةِ اللَّهِ، وَإِيَّاكَ ثُمَّ إِيَّاكَ أَنْ تَتَعَرَّضَ لِثَلْمِ أَرْزَاقِ أَحَدٍ، فَطَرَدَ الْغُلامَ، وَاعْتَذَرَ إِلَى الشَّامِيِّينِ وَاصْطَلَحُوا ". 192 - حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ مَوْهُوبُ بْنُ رَشَيدٍ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ لَجَلِيسٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَقَدَهُ: أَبَا فُلانٍ أَيْنَ كُنْتَ؟ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ فُلانٍ أَطْلُبُ عَرَضًا مِنَ الأَعْرَاضِ. فَقَالَ لَهُ: «إِنْ لَمْ تَجَدْ مِنْ صُحْبَةِ الرِّجَالِ بُدًّا، فَعَلَيْكَ بِمَنْ إِنْ صَحِبْتَهُ زَانَكَ، وَإِنْ خَفَضْتَ لَهُ صَانَكَ، وَإِنْ وَعَدَكَ لَمْ يَحْرِمْكَ، وَلَمْ يَرْفُضْكَ، وَإِنْ رَأَى مِنْكَ حَسَنَةً عَدَّهَا، وَإِنْ رَأَى خَلَّةً سَدَّهَا، وَإِنْ سَكَتَّ عَنْهُ ابْتَدَأَكَ، وَإِنْ سَأَلْتَهُ أَعْطَاكَ» 193 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْجُمَحِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي نَوْفَلُ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخْبِرْنَا عَنَّا وَعَنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ.

ألا تخاف أن تؤتى من قبل ظهرك؟ فيقول: إذا أمكنت عدوي من ظهري فلا أبقى الله عليه إن أبقى

قَالَ عَلِيٌّ: «نَحْنُ أَصْبَحُ وَأَفْصَحُ وَأَسْمَحُ» ، فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا بَقَّيْتَ لِلْقَوْمِ شَيْئًا، قَالَ: «بَلَى، هُمْ أَكْثَرُ وَأَمْكُرُ وَأَنْكَرُ» 194 - حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ حَذِرًا فِي الْحُرُوبِ، شَدِيدَ الرَّوَغَانِ مِنْ قِرْنِهِ، لا يَكَادُ أَحَدٌ يَتَمَكَنُ مِنْهُ، وَكَانَتْ دِرْعُهُ لا ظَهْرَ لَهَا فَقِيلَ لَهُ: أَلا تَخَافُ أَنْ تُؤْتَى مِنْ قِبلِ ظَهْرِكَ؟ فَيَقُولُ: إِذَا أَمْكَنْتُ عَدُوِّي مِنْ ظَهْرِي فَلا أَبْقَى اللَّهُ عَلَيْهِ إِنْ أَبْقَى عَلَيَّ " قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْحُكَمَاءِ لِبَنِيهِ: «يَا بَنِيَّ لا تُعَادُوا الرَّجُلَ، وِإِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّهُ لا يَضُرُّكُمْ، وَلا تَزْهَدُوا فِي صَدَاقَةِ أَحَدٍ، وَإِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّهُ لا يَنْفَعُكُمْ، فَإِنَّكُمْ لا تَدْرُونَ مَتَى تَخَافُونَ عَدَاوَةَ الْعَدُوِّ، وَلا مَتَى تَرْجُونَ صَدَاقَةَ الصَّدِيقِ، وَلا يَعْتَذِرُ إِلَيْكُمْ أَحَدٌ إِلا قَبِلْتُمْ عُذْرَهُ مِنْهُ، وَإِنْ عَلَمْتُمْ أَنَّهُ كَاذِبٌ» . أَنْشَدَنِي الزُّبَيْرُ لِبَرْذَعِ بْنِ عَدِيٍّ، عَمِّ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ: بَطْحَانَ فَالسَّرَاةِ مِنْ ... صَفَنَةٍ لَعْسٌ كَأنَّهَا الأَرَامِ وَنَخِيلٌ كَأَنَّهَا دُهْمُ لَيْلٍ ... وَسَوامٌ يَحُمْنَ حَوْلَ الْخِيَامِ وَشَبَابٌ أُولُوا بَهَاءٍ وَشِيبٌ ... وَحُلُومٌ عَلَتْ حُلُومَ الأَنَامِ مَجْلِسٌ جُنِّبَ الْخِيَانَةَ وَالْغَدْرَ ... وَقِيلُ الْخِنَا وَفِعْلُ اللِّئَامِ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَخْزُومِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَحْرِزُ بْنُ جَعْفَرٍ مَوْلى أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ: عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: إِذَا كَانَ لِي سِرٌّ فَحَدَّثْتُهُ الْعِدَى ... وَضَاقَ بِهِ صَدْرِي فَلِلْنَاسِ أَعْذُرُ هُوَ السِّرُّ مَا اسْتَوْدَعْتُهُ وَكَتَمْتُهُ ... وَلَيْسَ بِسِرٍّ حِينَ يَفْشُو وِيَظْهَرُ قَالَ يَزِيدُ بْنُ مَوْهِبٍ الرَّمْلِيُّ: «إِنَّمَا بَقِيَ مِنَ الْعَيْشِ صَلاةٌ فِي جَمَاعَةٍ تُكْفَى سَهْوَهَا، وَتُرْزَقُ فَضْلَهَا، وَكَفَافٌ مِنِ رِزْقِ اللَّهِ لَيْسَ عَلَيْكَ فِيهِ تَبِعَةٌ، وَلا لأَحَدٍ عَلَيْكَ فِيهِ مِنَّةٌ، وَأَخٌ يُحْسِنُ الْعِشْرَةَ، إِذَا أَصَبْتَ ثَبَّتَكَ، وَإِنْ تَعَوَّجْتَ قَوَّمَكَ» . قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ: تَرَى الْمَرْءَ يَبْكِي لِلَّذِي مَاتَ قَبْلَهُ ... وَمَوْتُ الَّذِي يَبْكِي عَلَيْهِ قَرِيبُ يُحِبُّ الْفَتَى الْمَالَ الْكَثِيرَ وَإِنَّمَا ... لِنَفْسِ الْفَتَى فِيمَا يَحُوزُ نَصِيبُ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الضَّحَّاكِ، قَالا: " كَانَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ فِي مُجُونِهِ نَادَمَ قِرْدًا، فَأَخَذَهُ يَوْمًا فَحَمَلَهُ عَلَى أَتَانٍ وَحْشِيَّةٍ وَشَدَّهُ عَلَيْهَا رِبَاطًا، ثُمَّ أَرْسَلَ الْخَيْلَ فِي إِثْرِهَا حَتَّى كَسَرَتْهَا فَمَاتَتِ الأَتَانِ. فَقَالَ فِي ذَلِكَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: تَمَسَّكْ أَبَا قَيْسٍ بِفَضْلِ عِنَانِهَا ... فَلَيْسَ عَلَيْنَا إِنْ هَلَكْتَ ضَمَانُ فَمَا فَعَلَ الشَّيْخُ الَّذِي سَبَقَتْ بِه ... جِيَادَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَتَانُ وِبِذَلِكَ سَبَّهُ أَبُو حَمْزَةَ فِي خُطْبَتِهِ حِينَ يَقُولُ: خَالَفَ الْقُرْآنَ، وَاتَّبَعَ الْكُهَّانَ، وَنَادَمَ الْقِرْدَ، وَفَعَلَ مَا يُشْبِهُهُ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ لَعَنَهُ اللَّهُ

مصر قد افتتحت، ألا وإن محمد بن أبي بكر أصيب رحمه الله، وعند الله نحتسبه، أما والله إن كان

حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدِ الْعَوْفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي نَوْفَلُ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: " إِنَّ أَوَّلَ مَنْ أَيْقَظَنِي لِهَذَا الشَّأْنِ مُزَاحِمٌ، حَبَسْتُ رَجُلا، فَجَاوَزْتُ فِي حَبْسِهِ الْقَدْرَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ، فَكَلَّمَنِي فِي إِطْلاقِهِ. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِمُخْرِجِهِ حَتَّى أَبْلُغَ فِي الْحَيْطَةِ عَلَيْهِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِمَا مَرَّ بِهِ. قَالَ: فَقَالَ مُزَاحِمٌ: يَا عُمَرُ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، إِنِّي أُحَذِّرُكَ لِيلَةَ تَمَخَّضُ بِالْقِيَامَةِ، فِي صَبِيحَتِهَا تَقُومُ السَّاعَةُ، يَا عُمَرُ لَقَدْ كِدْتُ أَنْ أَنْسَى اسْمَكَ مِمَّا أَسْمَعُ. قَالَ الأَمِيرُ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلا أَنْ قَالَ ذَاكَ، فَكَأَنَّمَا كَشَفَ عَنْ وَجْهِي غِطَاءَهُ، فَذَكِّرُوا أَنْفُسَكُمْ رَحِمَكُمُ اللَّهُ، فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ 202 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الضَّحَّاكِ، عَنْ أَبِيهِ: " أَنَّ ابْنَ غَزِيَّةَ الأَنْصَارِيَّ ثُمَّ النَّجَّارِيَّ، قَدِمَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنْ مِصْرَ، وَقَدِمَ عَلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شَبِيبٍ الْفَزَارِيُّ مِنَ الشَّامِ، وَكَانَ عَيْنًا لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ بِهَا، فَأَمَّا الأَنْصَارِيُّ فَكَانَ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، فَحَدَّثَهُ مَا رَأَى وَعَايَنَ مِنْ قَتْلِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَحَدَّثَهُ الْفَزَارِيُّ: أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الشَّامِ، حَتَّى قَدِمَتِ الرَّسُلُ وَالْبُشْرَى مِنْ قِبَلِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ تَتْرَى، يَتْبَعُ بَعْضَهَا بَعْضًا بِفَتْحِ مِصْرَ، وَقَتْلِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى أَذِنَ مُعَاوِيَةُ بِقَتْلِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَقَالَ: مَا رَأَيْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ سُرُورَ قَوْمٍ قَطُّ أَظْهَرَ مِنْ سُرُورٍ رَأَيْتَهُ بِالشَّامِ حِينَ أَتَاهُمْ قَتْلُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ، حُزْنُنَا عَلَى قَتْلِهِ عَلَى قَدْرِ سُرُورِهِمْ بِقَتْلِهِ، لا بِلْ يَزِيدُ أَضْعَافًا، وَحَزِنَ عَلَى قَتْلِهِ حُزْنًا شَدِيدًا، حَتَّى رُئِيَ فِي وَجْهِهِ، وَتَبَيَّنَ فِيهِ، وَقَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " أَلا إِنَّ مِصْرَ قَدِ افْتُتِحَتْ، أَلا وِإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أُصِيبَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعِنْدَ اللَّهِ نَحْتَسِبُهُ، أَمَا وَاللَّهِ إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَنْتَظِرُ القَّضَاءَ، وَيَعْمَلُ لِلْجَزَاءِ، وَيُبْغِضُ شَكْلَ الْفَاجِرِ، وَيُحِبُّ هَدْي الْمُؤْمِنِينَ. إِنِّي وَاللَّهِ لا أَلُومُ نَفْسِي فِي تَقْصِيرٍ، وَلا عَجْزٍ، إِنِّي بِمُقَاسَاةِ الْحَرْبِ لَجِدُّ خَبِيرٌ، وَإِنِّي لَأَتَقَدَّمُ فِي الأَمْرِ فَأَعْرِفُ وَجْهَ الْحَزْمِ، فَأَقُومُ فِيكُمْ بِالرَّأْيِ الْمُصِيبِ مُعْلِنًا، وَأُنَادِيكُمْ نِدَاءَ الْمُسْتَغِيثِ فَلا تَسْمَعُونَ لِي قَوْلا، وَلا تُطِيعُونَ لِي أَمْرًا، حَتَّى تَصِيرَ بِيَ الأُمُورُ إِلَى عَوَاقبِ الْفَسَادِ، وَأَنْتُمْ لا تُدْرَكُ بِكُمُ الأَوْتَارُ، وَلا يُشْفَى بِكُمُ الْغِلُّ. دَعَوْتُكُمْ إِلَى غِيَاثِ إِخْوَتِكُمْ مُنْذُ بِضْعٍ وَخَمْسِينَ لَيْلَةً فَجَرْجَرْتُمْ جَرْجَرْةَ الْجَمْلِ الأَشِرِ، وَتَثَاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ تَثَاقُلَ مَنْ لَيْسَ لَهُ نيَّةُ جِهَادِ الْعَدِوِّ، وَلا احْتِسَابِ الأَجْرِ. ثُمَّ خَرَجَ مِنْكُمْ جُنَيْدٌ ضَعِيفٌ {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} [الأنفال: 6] فَأُفٍّ لَكُمْ. ثُمَّ نَزَلَ فَدَخَلَ رَحْلَهُ "

أَنْشَدَنِي الزُّبَيْرُ فِي مُحَمَّدِ بْنِ عُرْوَةَ: يَا هَالِكًا تَرَكَ الدُّمُوعَ كَأَنَّهَا ... وَشَلٌ تَغَلْغَلَ مِنْ مَعِينٍ مُهْمَلِ لَوْ كُنْتَ أَعْلَمُ أَنْ بَيْنَكَ عَاجِلٌ ... يَوْمَ الْوَدَاعِ فَعْلَتُ مَا لَمْ أَفْعَلِ وَأَنْشَدَنِي الزُّبَيْرُ لِابْنِ الْخَيَّاطِ فِي مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَأْبَى الْجَوَابُ فَمَا يُكَلَّمُ هَيْبَةً ... وَالسَّائِلُونَ نَواكِسُ الأَذْقَانِ هَدْيُ النَّبِيِّ وَعَزُّ سُلْطَانِ التُّقَى ... وَهُوَ الْمَهِيبُ وَلَيْسَ ذَا سُلْطَانِ حَدَّثَنِي جَهْمُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ لِلَرَّبِيعِ بْنِ ضَبْعِ بْنِ وَهْبِ بْنِ بَغِيضِ بْنِ مَالِكِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ فَزَارَةَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَسَّأَ لِي فِي الأَجَلِ حَتَّى بِلَغْتُ أَنْ أَرَى رَبِيعًا وَقَالَ: وَقَامَ الرَّبِيعُ بْنُ ضَبْعٍ حِينَ وَفَدَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ وَأَنْشَدَهُ: ثَلاثُ مِئِينٍ مِنْ سِنِيَّ فَقَدْ مَضَتْ ... وَهَا أَنَذَا قَدْ أَرْتَجِي مَرَّ رَابِعِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: مَا شَهِدْتَ يَا رَبِيعُ؟ قَالَ: شَهِدْتُ جَمْعَ جَدِّي عَدِيِّ بْنِ فَزَارَةَ لِلسُّودَانِ فِي أَمْرِ أَبْرَهَةَ الأَوَّلِ حِينَ أَرْسَلَتْ حِمْيَرُ تَسْتَصْرِخُ عَلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، وَدَوَّخَتِ السُّودَانُ أَرْضَ الْيَمَنِ، وَحَوَتْهُ إِلا مَنِ اعْتَصَمَ بِالْجِبَالِ مِنْ حِمْيَرَ فَسَارَ بِهِمْ، وَسَارَتْ كِنَانَةُ وَخُزَاعَةُ وَأَفْنَاءُ خِنْدِفٍ، وَعَلَيْهِمْ قُصَيٌّ حِينَ هَبَطُوا جُدَّةَ. قَالَ: وَمِثْلُ مِنْ أَنْتَ يَوْمَئِذٍ يَا رَبِيعُ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَا أَسْرَعُ النَّاسِ وَثْبَةً عِنْدَ الدَّاعِي، وَأَضْبَطُهُمْ لِرَأْسِ فَرَسٍ، وَأَجْمَعُهُمْ لِسِلاحِي. وَأَنْشَدَ جَهْمٌ لِلرَّبِيعِ بْنِ ضَبْعٍ: أَلا أَبْلِغْ بُنَيَّ بَنِي رَبِيعٍ ... فَأَشْرَارُ الْبَنِينَ لَهُمْ فِدَاءُ وَإِنِّي قَدْ كَبُرْتُ وَرَقَّ عَظْمِي ... فَلا يَغْرُرْكُمُ مِنِّي النِّسَاءُ وَإِنَّ كَنَائنِي لَنِسَاءُ صِدْقٍ ... وَمَا عَقَّ الْبَنُونَ وَلا أَسَاءُوا إِذَا جَاءَ الشِّتَاءُ فَأَدْفَئُونِي ... فَإِنَّ الشَّيْخَ يَهْدِمُهُ الشِّتَاءُ فَأَمَا حِينَ يَذْهَبُ كُلُّ قُرٍّ ... فَسِرْبَالٌ خَفِيفٌ أَوْ رِدَاءُ قَالَ جَهْمُ بْنُ مَسْعَدَةَ: الْخَرِيفُ مَا بَيْنَ طُولِ النَّهَارِ إِلَى اسْتَوَائِهِ مَعَ اللَّيْلِ، وَيَلِيهِ الرَّبِيعُ، وَهُوَ مَا بَيْنَ اسْتِوَائِهِمَا إِلَى قِصَرِ النَّهَارِ، وَيَلِيهِ الصَّيْفُ، وَهُوَ مَا بَيْنَ قِصَرِ النَّهَارِ إِلَى اسْتَوَائِهِمَا، وَيَلِيهِ الْحَمِيمُ، وَهُوَ مَا بَيْنَ اسْتَوَائِهِمَا إِلَى طُولِ النَّهَارِ ". حَدَّثَنِي جَهْمُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: " نَزَلَ عَقِيلُ بْنُ عُلَّفَةَ وَشَبِيبُ بْنُ الْبَرِصَاءِ وَأَرْطَاةُ بْنُ سُهَيَّةَ بِعَلْقَمَةَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي دَهْمَانَ بْنِ أَشْجَعَ، فَلَمْ يَقْرِهِمْ، فَقَالَ عَقِيلُ بْنُ عَلْقَمَةَ حِينَ رَحَلُوا: أَفِي سَالِفِ الأَيَّامِ أُمْ فِي حَدِيثِهَا ... تَعَوَّدَتْ أَلا تَقْرِيَ الضَّيْفَ عَلْقَمَا وَقَالَ: انْفذْْ يَا شَبِيبُ، فَقَالَ شَبِيبُ بْنُ الْبَرْصَاءِ: لَبِثْنَا طَلِيقًا ثُمَّ جَاءَ بِمُذْقَةٍ ... كَمَاءِ السِّلاءِ فِي مَائِلِ الشِّدْقِ أَضْجَمَا فَقَالَ أَرْطَاةُ: فَلَمَّا رَأَيْنَا أَنَّهُ عَاتِمُ الْقِرَى ... رَمَيْنَا بِهِنَّ اللَّيْلَ حَتَّى تَجَرَّمَا

حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ فَضَالَةَ النَّحْوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّبَيْرُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: " رَأَى عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِي النَّوْمِ امْرَأَةً ثَائِرَةَ الشَّعْرِ بَيْنَ أَضْعَافِ الْمَقَامِ، وَهِيَ تَقُولُ: أَأَذِنَتْ زِينَةُ الْحَيَاةِ بِبَيْنٍ ... وَانْقِضَاءٍ مِنْ أَهْلِهَا وَفَنَاءِ فَأَوَّلَ النَّاسُ خَبَرَ ذَلِكَ مِنْ رُؤْيَا عَامِرٍ الدُّنْيَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ عِيسَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنَ النَّصَارَى، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: «مَنْ تَجِدُونَ الْخَلِيفَةَ بَعْدَ سُلَيْمَانَ» ؟ قَالَ النَّصْرَانِيُّ: أَنْتَ. قَالَ: " فَأَقْبَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَيَّ، فَقَالَ: دَمِي فِي ثِيَابِكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ: فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ جَعَلَتُ ذَلِكَ النَّصْرَانِيَّ مِنْ بَالِي، فَرَأَيْتُهُ يَوْمًا، فَأَمَرْتُ غُلامِي أَنْ يَحْبِسَهُ عَلَيَّ، وَذَهَبْتُ بِهِ إِلَى مَنْزِلِي، وَسَأَلْتُهُ عَمَّا يَكُونُ، وَقُلْتُ لَهُ: عُدَّ لِي خُلَفَاءَ بَنِي مَرْوَانَ وَاحِدًا وَاحِدًا. فَعَدَّ لِي خُلَفَاءَ بني مَرْوَانَ وَاحِدًا وَاحِدًا، وَتَجَاوَزَ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَقُلْتُ لَهُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ ابْنُكَ ابْنُ الْحَارِثِيَّةِ، وَهُوَ الْيَوْمَ حَمْلٌ. حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرِ، قَالَ: " لَمَّا وَلِيَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ دِمَشْقَ، وَلَمْ يَكُنْ فِي بَنِي أُمَيَّةَ أَلَبَّ مِنْهُ فِي حَدَاثَةِ سِنَّهِ. قَالَ أَهْلُ دِمَشْقَ: هَذَا غُلامٌ شَابٌّ وَلا عِلْمَ لَهُ بِالأُمُورِ. وَسَيَسْمَعُ مِنَّا، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ الأَمِيرَ، عِنْدِي نَصِيحَةٌ. قَالَ لَهُ: لَيْتَ شِعْرِي مَا هَذِهِ النَّصِيحَةُ الَّتِي ابْتَدَأْتَنِي بِهَا مِنْ غَيْرِ يدٍ سَبَقَتْ مِنِّي إِلَيْكَ؟ ! . قَالَ: لِي جَارٌ عَاصٍ مُتَخَلِّفٌ عَنْ ثَغْرِهِ. فَقَالَ: مَا اتَّقَيْتَ اللَّهَ، وَلا أَكْرَمْتَ أَمِيرَكَ، وَلا حَفِظْتَ جِوَارِكَ، إِنْ شِئْتَ نَظَرْنَا فِيمَا تَقُولُ، فَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا لَمْ يَنْفَعْكَ ذَلِكَ عِنْدَنَا، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا عَاقَبْنَاكَ، وَإِنْ شِئْتَ أَقَلْنَاكَ. قَالَ: أَقِلْنِي، أَصْلَحَ اللَّهُ الأَمِيرَ. قَالَ: اذْهَبْ حَيْثُ لا يَصْحَبُكَ اللَّهُ، إِنِّي أَرَاكَ شَرَّ جِيلِ رَجُلٍ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَهْلَ دِمَشْقَ، أَمَا أَعْظَمْتُمْ مَا جَاءَ بِهِ هَذَا الْفَاسِقُ، إِنَّ السِّعَايَةَ أَحْسَبُ مِنْهُ سَجِيَّةً، وَلَوْلا أَنَّهُ لا يَنْبَغِي لِلْوَالِي أَنْ يُعَاتِبَ، كَانَ لِي فِي ذَلِكَ رَأْيٌ، فَلا يَأْتِنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ بِسِعَايَةٍ عَلَى أَحَدٍ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ الصَّادِقَ فِيهَا فَاسِقٌ، وَالْكَاذِبَ فِيهَا بَهَّاتٌ. فَحَدَّثْتُ بِهِذَا الْحَدِيثِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ دَاوُدَ، فَقَالَ: مَا أَشْبَهَ هَذَا الْكَلامَ بِكَلامِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ! ! فَقُلْتُ: عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ خَالُهُ

فخما مفخما، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع، وأقصر من المشذب، عظيم

211 - حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ النَّهْدِيُّ أَبُو غَسَّانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جُمَيْعُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعِجْلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ بمِكَّةَ، عَنِ ابْنٍ لأَبِي هَالَةَ التَّمِيمِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلَيٍّ، قَالَ: سَأَلْتُ خَالِي هِنْدَ بْنَ أَبِي هَالَةَ التَّمِيمِيّ، وَكَانَ وَصَّافًا عَنْ حِلْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَا أَشْتَهِي أَنْ تَصِفَ لِي مِنْهَا شَيَئًا أَتَعَلَّقُ بِهِ، فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ «فَخْمًا مُفَخَّمًا، يَتَلأْلأُ وَجْهُهُ تَلأْلُؤَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، أَطْولَ مِنَ الْمَرْبُوعِ، وَأَقْصَرَ مِنَ الْمُشَذَّبِ، عَظِيمَ الْهَامَةِ، رَجِلَ الشَّعْرِ، إِنِ انْفَرَقَتْ عَقِيقَتُهُ فَرَقَ، وِإِلا فَلا يُجَاوِزُ شَعْرُهُ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ إِذَا هُوَ وَفَّرَهُ، أَزْهَرَ اللَّوْنِ، وَاسِعَ الْجَبِينِ، أَزَجَّ الْحَوَاجِبِ، سَوَابِغَ فِي غَيْرِ قَرْنٍ، بَيْنَهُمَا عِرْقٌ يُدِرُّهُ الْغَضَبُ، أَقْنَى الْعِرْنِينِ، لَهُ نُورٌ يَعْلُوهُ يَحْسَبُهُ مَنْ لَمْ يَتَأَمَّلْهُ أَشَمَّ، كَثَّ اللِّحْيَةِ، سَهْلَ الْخَدَّيْنِ، ضَلِيعَ الْفَمِ، أَشْنَبَ، مُفَلَّجَ الأَسْنَانِ، دَقِيقَ الْمَسْرَبَةِ، كَأَنَّ عُنُقَهُ جِيدُ دُمْيَةٍ فِي صَفَاءِ الْفِضَّةِ، مُعْتَدِلَ الْخَلْقِ، بَادِنًا مُتَمَاسِكًا، سَواءَ الْبَطْنِ وَالصَّدْرِ، عَرِيضَ الصَّدْرِ، بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبِينِ، ضَخْمَ الْكَرَادِيسِ، أَنْوَرَ الْمُتَجَرَّدِ، مَوْصُولَ مَا بَيْنَ اللُّبَّةِ وَالسُّرَّةِ بِشَعْرٍ يَجْرِي كَالْخَطِّ، عَارِيَ الثَّدْيَيْنِ وَالْبَطْنِ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ، أَشْعَرَ الذِّارَعيَنِ وَالْمَنْكِبَيْنِ، وَأَعَالِي الصَّدْرِ، طَويلَ الزَّنْدَيْنِ، رَحْبَ الرَّاحَةِ، سَبْطَ الْقَصَبِ، شَثْنَ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ وَسَائِرِ الأَطْرَافِ، خُمْصَانَ الأَخْمَصَيْنِ، مَسِيحَ الْقَدَمَيْنِ، يَنْبُو عَنْهُمَا الْمَاءُ، إِذَا زَالَ زَالَ قُلْعًا، يَخْطُو تَكَفُّؤًا وَيَمْشِي هَوْنًا، ذَرِيعَ الْمِشْيَةِ كَأَنَّمِا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ، وَإِذَا الْتَفَتَ الْتَفْتَ جَمْعًا، خَافِضَ الطَّرْفِ، نَظَرُهُ إِلَى الأَرْضِ أَطْوَلُ مِنْ نَظَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، جُلُّ نَظَرِهِ الْمُلاحَظَةُ، يَسُوقُ أَصْحَابَهُ، يَبْدُرُ مِنْ لَقِيَهُ بِالسَّلامِ» . قُلْتُ: صِفْ لِي مَنْطِقَهُ. قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مُتَواصِلَ الأَحْزَانِ، دَائِمَ الْفِكْرَةِ، لَيْسَتْ لَهُ رَاحَةٌ، لا يَتَكَلَّمُ فِي غَيْرِ حَاجَةٍ، طَوِيلَ السَّكْتِ، يَفْتَحُ الْكَلامَ وَيَخْتَتِمُهُ بِأَشْدَاقٍ، وَيَتَكَلَّمُ بِجَوَامِعَ الْكَلِمِ، فَصْلا، لا فُضُولَ، وَلا تَقْصِيرَ، دَمِثًا، لَيْسَ بِالْجَافِي، وَلا الْمُهِينِ، يُعَظِّمُ الْمِنَّةَ، وَإِنْ دَقَّتْ، لا يَذُمُّ مِنْهَا شَيْئًا، وَلا يَذُمُّ ذَوَاقًا وَلا يَمْدَحُهُ، لا تُغْضِبُهُ الدُّنْيَا وَمَا كَانَ لَهَا، فَإِذَا تُعُوطِيَ الْحَقَّ لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ، وَلَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ حَتَّى يَنْتَصِرَ لَهُ، وَلا يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ، وَلا يَنْتَصِرُ لَهَا، إِذَا أَشَارَ بِكَفِّهِ أَشَارَ بِكَفِّهِ كُلِّهَا، وَإِذَا تَعَجَّبَ قَلَبَهَا، وَإِذَا تَحَدَّثَ اتَّصَلَ بِهَا فَضَرَبَ بِرَاحَتِهِ الْيُمْنَى بَاطِنَ إِبْهَامِهِ الْيُسْرَى، وَإِذَا غَضِبَ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ، وَإِذَا فَرِحَ غَضَّ طَرْفَهُ، جُلُّ ضَحِكِهِ التَّبَسُّمُ، وَيَفْتَرُّ عَنْ مِثْلِ حَبِّ الْغَمَامِ» .

قَالَ: فَكَتَمْتُهَا الْحَسَنَ زَمَانًا، ثُمَّ حدَّثْتُهُ، فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي إِلَيْهِ، فَسَأَلَهُ عَمَّا سَأَلْتُهُ، وَوَجَدْتُهُ قَدْ سَأَلَ أَبَاهُ عَنْ مَدْخَلِهِ وَمَجْلِسِهِ وَمَخْرَجِهِ وَشَكْلِهِ، فَلَمْ يَدَعْ مِنْهَا شَيْئًا. قَالَ الْحَسَنُ: سَأَلْتُ أَبِي عَنْ دُخُولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، فَقَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، " دُخُولُهُ لِنَفْسِهِ مَأْذُونًا لَهُ فِي ذَلِكَ، فَكَانَ إِذَا أَوَى إِلَى مَنْزِلِهِ جَزَّأَ دُخُولَهُ ثَلاثَةَ أْجَزَاءٍ: جُزْءًا لِلَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، وَجُزْءًا لأَهْلِهِ، وَجُزْءًا لِنَفْسِهِ، ثُمَّ جُزْءًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، فَيَرُدُّ ذَلِكَ عَلَى الْعَامَّةِ بِالْخَاصَّةِ، وَلا يَدَّخِرُ عَنْهُمْ شَيْئًا. وَكَانَ مِنْ سِيرَتِهِ فِي جُزْءِ الأُمَّةِ إِيثَارُ أَهْلِ الْفَضْلِ بِإِذْنِهِ، وَقَسْمِهِ عَلَى قَدَرِ فَضْلِهِمْ فِي الدِّينِ، فَمِنْهمْ ذُو الْحَاجَةِ , وَمِنْهُمْ ذُو الْحَاجَتَيْنِ، وَمِنْهُمْ ذُو الْحَوَائِجِ، فَيَتَشَاغَلُ بِهِمْ، وَيُشْغِلُهُمْ فِيمَا أَصْلَحَهُمْ، وَالأُمَّةَ مِنْ مَسْأَلَتِهِمْ وَإِخْبَارِهِمْ بِالَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ، وَيَقُولُ: لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، وَأَبْلِغُونِي حَاجَةَ مَنْ لا يَسْتَطِيعُ إِبْلاغَ حَاجَتِهِ، فَإِنَّ مَنْ أَبْلَغَ سُلْطَانًا حَاجَةَ مَنْ لا يَسْتَطِيعُ إِبْلاغِهَا إِيَّاهُ، ثَبَّتَ اللَّهُ قَدَمَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لا يُذْكَرُ عِنْدَهُ إِلا ذَلِكَ، وَلا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ غَيْرَهُ، يَدْخُلُونَ رُوَّادًا، وَلا يَفْتَرِقُونَ إِلا عَنْ ذَوَاقٍ، وَيَخْرُجُونَ أَدِلَّةً ". قَالَ: فَسَأَلْتُهُ عَنْ مَخْرَجِهِ كَيْفَ كَانَ يَصْنَعُ فِيهِ، فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ " يُخَزِّنُ لِسَانَهُ إِلا مِمَّا يُعِينُهُمْ، وَيُؤَلِّفُهُمْ وَلا يُفَرِّقُهُمْ. أَوْ قَالَ: يُنَفِّرُهُمْ، وَيُكَرِّمُ كَرِيمَ كُلِّ قَوْمٍ، وَيُوَلِّيهِ عَلَيْهِمْ، وَيُحَذِّرُ النَّاسَ وَيَحْتَرِسُ مِنْهُمْ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطْوِيَ عَنْ أَحَدٍ بِشَرِّهِ وَلا خُلُقِهِ، يَتَفَقَّدُ أَصْحَابَهُ، وَيَسْأَلُ عَمَّا فِي النَّاسِ، فَيُحَسِّنَ الْحَسَنَ وَيُقَوِّيَهِ، وَيُقَبِّحَ الْقَبِيحَ وَيُوهِنُهُ، مُعْتَدِلَ الأَمْرِ غَيْرَ مُخْتَلِفٍ، لا يَغْفُلُ مَخَافَةَ أَنْ يَغْفُلُوا أَوْ يَمِيلُوا، لِكُلِّ حَالٍ عِنْدَهُ عَتَادٍ، لا يَقْصُرُ عَنِ الْحَقِّ، وَلا يَجُوزُهُ، الَّذِينَ يَلُونَهُ مِنَ النَّاسِ خَيَارُهُمْ، أَفْضَلُهُمْ عِنْدَهُ أَعَمُّهُمْ نَصِيحَةً، وَأَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ مَنْزِلَةً أَحْسَنُهُمْ مُوَاسَاةً وُمُؤَازَرَةً ". قَالَ: فَسَأَلْتُهُ عَنْ مَجْلِسِهِ، فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ «لا يَجْلِسُ، وَلا يَقُومُ إِلا عَلَى ذِكْرٍ، وَلا يُوطِنُ الأَمَاكِنَ وَيَنْهَى عَنْ إِيِطَانِهَا، وَإِذَا انْتَهَى إِلَى قَوْمٍ جَلَسَ حِيثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمَجْلِسُ، وَيَأْمُرُ بِذَلِكَ، وَيُعْطِي كُلا مِنْ جُلَسَائِهِ بِنَصِيبِهِ، فَلا يَحْسَبُ جَلِيسُهُ أَنَّ أَحَدًا أَكْرَمُ عَلَيْهِ مِنْهُ. مَنْ جَالَسَهُ أَوْ قَاوَمَهُ فِي حَاجَةٍ صَابَرَهُ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْمُنْصَرِفُ، وَمَنْ سَأَلَهُ حَاجَةً لَمْ يَرُدَّهُ إِلا بِهَا، أَوْ بِمَيْسُورٍ مِنَ الْقَوْلِ، وَقَدْ وَسِعَ النَّاسَ مِنْهُ بَسْطُهُ وَخُلُقُهُ فَصَارَ لَهُمْ أَبًا، وَصَارُوا عِنْدَهُ فِي الْحَقِّ سَواءً. مَجْلِسُهُ مِجْلِسُ حِلْمٍ وَحَيَاءٍ وَصَبْرٍ وَأَمَانَةٍ، لا تُرْفَعُ عِنْدَهُ الأَصْوَاتُ، وَلا تُؤَبْنُ فِيهِ الْحُرَمُ، وَلا تُثْنَى فَلَتَاتُهُ.

تَرَى جُلُسَاءَهُ مُتَعَادِلِينَ، يَتَفَاضَلُونَ فِيهِ بِالتَّقْوَى، مُتَوَاضِعِينَ، يُوقِّرُونَ الْكَبِيرَ، وَيَرْحَمُونَ الصَّغِيرَ، وَيُؤْثِرُونَ ذَا الْحَاجَةِ، وَيَحْفَظُونَ الْغَرِيبَ» . قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ سِيرَتُهُ فِي جُلَسَائِهِ؟ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ " دَائِمَ السُّرُورِ، سَهْلَ الْخُلُقِ، لَيِّنَ الْجَانِبِ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلا غَلِيظٍ، وَلا صَخَّابٍ وَلا فَحَّاشٍ وَلا عَيَّابٍ وَلا مَدَّاحٍ. يَتَغَافَلُ عَمَّا لا يَشْتَهِي، وَلا يُؤْيَسُ مِنْهُ، وَلا يُجِيبُ فِيهِ. قَدْ تَرَكَ نَفْسَهُ مِنْ ثَلاثٍ: الْمِرَاءِ، وَالْإِكْثَارِ، وَمَا لا يَعْنِيهِ، وَتَرْكَ النَّاسَ مِنْ ثَلاثٍ: كَانَ لا يَذُمُّ أَحَدًا وَلا يُعَيِّرُهُ، وَلا يَطْلُبُ عَثْرَتَهُ، وَلا يَتَكَلَّمُ إِلا فِيمَا رَجَا ثَوَابَهُ، إِذَا تَكَلَّمَ أَطرَقَ جُلَسَاؤُهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرُ، وَإِذَا سَكَتَ تَكَلَّمُوا. وَلا يَتَنَازَعُونَ عِنْدَهُ، مَنْ تَكَلَّمَ أَنْصَتُوا لَهُ حَتَّى يَفْرُغَ، حَدِيثُهُمْ عِنْدَهُ حَدِيثُ أَوَّلِيَّتِهِمْ. يَضْحَكُ مِمَّا يَضْحَكُونُ مِنْهُ، وَيَتَعَجَّبُ مِمَّا يَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ وَيَصْبِرُ لِلْغَرِيبِ عَلَى الْجَفْوَةِ فِي مَنْطِقِهِ وَمَسْأَلَتِهِ حَتَّى إِنْ كَانَ أَصْحَابُهُ لَيَسْتَجْلِبُونَهُمْ، وَيَقُولُ: إِذَا رِأَيْتُمْ طَالَبَ الْحَاجَةِ يَطْلُبُهَا فَأَرْفِدُوهُ. وَلا يَقْبَلُ الثَّنَاءَ إِلا مِنْ مُكَافِئٍ، وَلا يَقْطَعُ عَلَى أَحَدٍ حَدِيثَهُ حَتَّى يَجُوزَهُ فَيَقْطَعَهُ بِنَهْيٍ أَوْ قِيَامٍ. قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ كَانَ سُكُوتُهُ؟ قَالَ: كَانَ سُكُوتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ " عَلَى أَرْبَعٍ: الْحِلْمِ، وْالْحَذَرِ، وَالتَّقْدِيرِ، وَالتَّفْكِيرِ. فَأَمَّا تَقْدِيرُهُ فَفِي تَسْوِيَتِهِ الْنَظَرَ بَيْنَ النَّاسِ، وَاسْتِمَاعِهِ مِنْهُمْ. وَأَمَّا تَفْكِيرُهُ، فَفِيمَا يَبْقَى وَيَفْنَى، وَجُمِعَ لَهُ الْحِلْمُ فِي الصَّبْرِ، فَكَانَ لا يَعْصِيهِ شَيْءٌ وَلا يَسْتَقِرُّهُ، وَجُمِعَ لَهُ الْحَذَرُ فِي أَرْبَعٍ: أَخْذِهِ بِالْحُسْنَى لِيُقْتَدَى بِهِ، وَتَرْكِهِ الْقَبِيحَ ليُنْتَهَى عَنْهُ، وَاجْتَهَادِهِ الرَّأْيَ فِيمَا أَصْلَحَ أُمَّتَهُ، وَالْقِيَامَ فِيمَا جَمَعَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ " قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرُ: قَوْلُهُ: «كَانَ فَخْمًا مُفَخَّمًا» قَالَ: الْفَخَامَةُ فِي الْوَجْهِ وَهُوَ نُبْلُهُ وَامْتِلاؤُهُ مَعَ الْجَمَالِ وَالْمَهَابَةِ. وَالْمَرْبُوعُ مِنَ الرِّجَالِ: الَّذِي بَيْنَ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ، وَالْمُشَذَّبُ: الْمُفْرِطُ فِي الطُّولِ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، قَالَ جَرِيرٌ: أَلْوَى بِهَا شَذْبُ الْعُرُوقِ مُشُذَّبٌ ... فَكَأَنَّمَا وُكِنَتْ عَلَى طِرْبَالِ وَقَوْلُهُ «رَجِلَ الشَّعْرِ» : فَالرَّجِلُ الَّذِي لَيْسَ بِالسَّبْطِ الَّذِي لا تَكَسُّرَ فِيهِ، وَالْقَطَطُ: الشَّدِيدَةُ الْجُعُودَةِ، يَقُولُ: فَهُوَ جَعْدٌ بَيْنَ هَذَيْنِ، وَالْعَقِيقَةُ: الشَّعْرُ الْمَعْقُوصُ، وَهُوَ نَحْوٌ مِنَ الْمَضْفُورِ، وَمِنْهُ قَوَلُ عُمَرَ: مَنْ لَبَّدَ أَوْ عَقَصَ أَوْ ضَفَّرَ فَعَلَيْهِ الْحَلْقُ. وَقَوْلُهُ «أَزَجَّ الْحَاجِبَيْنِ» : سَوَابِغَ، الزَّجَجُ فِي الْحَوَاجِبِ أَنِ يَكُونَ تَقَوُّسٌ مَعَ طُولٍ فِي أَطْرَافِهَا، وَهُوَ النُّبُوغُ فِيهَا، قَالَ جَمِيلٌ: إِذَا مَا الْغَانِيَاتُ بَرَزْنَ يَوْمًا ... وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ والْعِيُونَا وَقَوْلُهُ: «فِي غَيْرِ قَرَنٍ» : الْقَرَنُ، الْتَقِاءُ الْحَاجِبَيْنِ حَتَّى يَتَّصِلا.

يَقُولُ: فَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ بَيْنَهُمَا فُرِجَةً. يُقَالُ لِلْرَجُلِ إِذِا كَانَ أَبْلَجَ، وَالْعَرَبُ تَسْتَحِبُّ دَرَّ الْعَرَقِ الَّذِي بَيْنَ الْحَاجِبَيْنِ. وَدُرُورُهُ: غَلِظُهُ. نُتُوءُهُ: امْتِلاؤُهُ. وَقَوْلُهُ: «أَقْنَى الْعِرْنِينِ» يَعْنِي الأَنْفَ، وَالْقَنَا أَنْ تَكُونَ فِيهِ دِقَّةٌ مَعَ ارْتِفَاعٍ فِي قَصَبَتِهِ، يُقَالُ مِنْهُ: رَجُلٌ أَقْنَى وَامْرَأَةٌ قَنْوَاءُ، وَالأَشَمُّ: أَنْ يَكُونَ الأَنْفُ دَقِيقًا لا قِنَا فِيهِ، وَقَوْلُهُ: «كَثَّ اللِّحْيَةِ» الْكُثُوثَةُ أَنْ تَكُونَ اللِّحْيَةُ غَيْرَ دَقِيقَةٍ، وَلا طَوِيلَةٍ، وَلَكِنْ فِيهَا كَثَاثَةٌ مِنْ غَيْرِ عِظَمٍ وَلا طُولٍ. وَقَوْلُهُ: «أَشْنَبَ» هُوَ الَّذِي فِي أَسْنَانَهِ رِقَّةٌ وَتَحَدُّدٌ، وَالْمُفَلَّجُ: هُوَ الَّذِي فِي أَسْنَانِهِ تَفَرُّقٌ، وَالْمَسْرَبَةُ: الشَّعْرُ الَّذِي بَيْنَ اللَّبَّةُ إِلَى السُّرَّةِ، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: مَا بَيْنَ السُّرَّةِ إِلَى شَعْرٍ يَجْرِي كَالْخَطِّ، وَقَوْلُهُ: «جِيدُ دُمْيَةٍ» الْجِيدُ: الْعُنُقُ، وَالدُّمْيَةُ: الصُّورَةُ، وَقَوْلُهُ، «ضَخْمَ الْكَرَادِيسِ» : الْكَرَادِيسُ: الْعِظَامُ، أَيْ أَنَّهُ عَظِيمُ الأَلْوَاحِ، وَقَوْلُهُ: «شَثْنَ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ» : يُرِيدُ أَنْ فِيهِمَا بَعْضُ الْغِلْظِ. وَالأَخْمَصُ مِنَ الْقَدَمِ فِي بَاطِنِهَا مَا بَيْنَ صَدْرِهَا وَعَقِبِهَا، وَهُوَ الَّذِي لا يَلْصَقُ بِالأَرْضِ مِنَ الْقَدَمَيْنِ فِي الْوَطْءِ. وَقَوْلُهُ: «خُمْصَانَ» : يَعْنِي أَنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مِنْ قَدَمِهِ فِيهِ تَجَافٍ عَنِ الأَرْضِ وَارْتِفَاعٌ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ خُمُوصَةِ الْبَطَنِ، وَهُوَ ضُمْرُهَا، يُقَالُ مِنْهُ: رَجُلٌ خُمْصَانُ، وَامْرَأَةٌ خُمْصَانَةُ، وَقَوْلُهُ «مَسِيحَ الْقَدَمَيْنِ» : يَعْنِي أَنَّهُمَا مَلْسَاوَانِ لَيْسَ فِي ظُهُورِهِمَا تَكَسُّرٌ وَلا عُرُوقٌ، وَلِهَذَا قَالَ: «يَنْبُو عَنْهُمَا الْمَاءُ» يَعْنِي أَنَّهُ لا ثَبَاتَ لِلْمَاءِ عَلَيْهِمَا. وَقَوْلُهُ: إِذَا تَخَطَّا تَكَفَّأَ: يَعْنِي التَّمَايُلَ، أَخَذَهُ مِنْ تَكَفِّي السُّفُنِ، وَقَوْلُهُ: «ذَرِيعَ الْمِشْيَةِ» : يَقُولُ هُوَ وَاسِعُ الْخُطَا كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ. أَرَاهُ يُرِيدُ أَنَّهُ مُقْبِلٌ عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ. غَاضٌّ بَصَرَهُ: لا يَرْفَعُهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ الْمُنْحَطُّ: ثُمَّ فَسَّرَهُ، فَقَالَ: «خَافِضَ الطَّرْفِ، نَظَرُهُ إِلَى الأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ نَظَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ» ، وَقَوْلُهُ: «إِذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ جَمِيعًا» : يُرِيدُ أَنَّهُ لا يَلْوِي عُنُقَهُ دُونَ جَسَدِهِ، فَإِنَّ فِي هَذَا بَعْضُ الْخِفَّةِ والطَّيْشِ، وَقَوْلُهُ: «دَمْثًا» : هُوَ اللَّيِّنُ السَّهْلُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلرَّمْلِ دَمْثٌ وَمِنْهُ حَدِيثُهُ: أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَبُولَ فَمَالَ إِلَى دَمْثٍ، وَقَوْلُهُ: «إِذَا غَضِبَ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ» ، الْإِشَاحَةُ: الْجَدُّ، وَقَدْ يَكُونُ الْحَذَرَ، وَقَوْلُهُ: «وَيَفْتَرُّ عَنْ مِثْلِ حَبِّ الْغَمَامِ» : الِافْتِرَارُ يَكُونُ أَنْ يُكَشِّرَ الأَسْنَانَ ضَاحِكًا مِنْ غَيْرِ قَهْقَهَةٍ، وَحَبُّ الْغَمَامُ: أَرَادَ الْبَرَدُ، شَبَّهَ بَيَاضَ أَسْنَانِهِ بِهِ. وَقَوْلُهُ: «يَدْخُلُونَ رُوَّادًا» ، الرُّوَادُ: الطَّالِبُونَ وَاحِدُهُمْ رَائِدٌ.

الخط، فقال: «علم أوتيه نبي، فمن وافق علمه علم ذلك النبي فقد علم، ومن لم يصبه فقد

وَمِنْهُ قَوْلُهُ: الرَّائِدُ لا يَكْذِبُ أَهْلَهُ، وَقَوْلُهُ: «لِكُلِّ حَالٍ عِنْدهُ عَتَادٌ» : يَعْنِي عُدَّةً قَدْ أُعِدَّ لَهُ، «لا يُوطِنُ الأَمَاكِنَ» : لا يَجْعَلُ لِنَفْسِهِ مَوْضِعًا يُعْرَفُ، إِنَّمَا يَجْلِسُ حَيْثُ يُمْكِنُهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ حَاجَتُهُ، ثُمَّ فَسَّرَهُ، فَقَالَ: «يَجْلِسُ حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمَجْلِسُ» ، وَقَوْلُهُ: لا تُنْثَى فَلَتَاتُهُ: الْفَلَتَاتُ السَّقَطَاتُ، يُقَالُ مِنْهُ: نَثَوْتُ أَنْثُو، وَالِاسْمِ مِنْهُ النَّثَا. 212 - حَدَّثَنِي سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سُئِلَ عَنِ الْخَطِّ، فَقَالَ: «عِلْمٌ أُوتِيَهُ نَبِيٌّ، فَمَنْ وَافَقَ عِلْمُهُ عِلْمَ ذَلِكَ النَّبِيِّ فَقَدْ عَلِمَ، وَمَنْ لَمْ يُصِبْهُ فَقَدْ أَخْطَأَ» حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَفْصٍ، قَالَ: خُصَّتِ الْعَرَبُ بِخِصَالٍ: بِالْكَهَانَةِ وَالْقِيَافَةِ وَالْعِيَافَةِ وَالنُّجُومِ وِالْحِسَابِ، فَهَدَمَ الْإِسْلامُ الْكَهَانَةَ وَثَبَّتَ الْبَاقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ 214 - حُدِّثْتُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسِّيبِ، قَالَ: «» اشْتَرَكَ ثَلاثَةٌ فِي ظَهْرِ امْرَأَةٍ، فَوَلَدَتْ، فَجَاءَتْ بِغُلامٍ، فَتَنَازَعَهُ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ يَدَّعِيهِ، فَدَعَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ثَلاثَةً مِنَ الْقَافَةِ، وَكَانَ عُمَرُ قَائِفًا، فَأَمَرَ الصَّبِيَّ فَوَضِعَ قُدَّمَهُ عَلَى صَعِيدٍ أَوْ رَمَادٍ، وَوَطِئَ الْقَوْمُ ذَلِكَ الصَّعِيدَ، ثُمَّ قَالَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَافَةِ: انْظُرْ. فَيَنْظُرْ فَيَقُولُ: قَدْ أَخَذَ الشَّبَهُ مِنْهُمْ جَمِيعًا فَمَا أَدْرِي لِأَيِّهِمْ هُوَ، فَنَظَرَ عُمَرُ، فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِمْ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَقُولُ ذَلِكَ سِرًّا مِنْ صَاحِبِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ كَانَتِ الْكَلْبَةُ يَنْزُو عَلَيْهَا الأَبْيَضُ وَالأَسْوَدُ وَالأَبْلَقُ وَالأَنْمَرُ، فَتُؤَدِّي إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُشَابَهَةً، وَلَمْ أَدْرِ أَنْ هَذَا الأَمْرَ فِي النَّاسِ، فَجَعَلَهُ عُمَرُ لَهُمْ، يَرِثُهُمْ وَيَرِثُونَهُ، وَهُوَ لِلْبَاقِي مِنْهُمْ «» 215 - حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ، بِإِسْنَادٍ، قَالَ: قَدِمَ قَادِمٌ مِنَ الْيَمَنِ مِنْ عِنْدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، " فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ الْخَبَرِ، فَقَالَ: نُخْبِرُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ ثَلاثَةَ نَفَرٍ تَقَدَّمُوا إِلَيْهِ، وَقَدِ اشْتَرَكُوا فِي ظَهْرِ امْرَأَةٍ، فَقَالَ: أَنْتُمْ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ، وَقَدْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَكُلُّهُمْ يَدَّعِيهِ، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَأَلْحَقَهُ بِهِ، وَأَغْرَمَ الْآخَرَيْنِ ثُلُثِي الدِّيَةِ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَمَا أَنْكَرَ ذلك مِنْ فِعْلِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ " حَدَّثَنِي عَلَيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: " وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ ابْنٌ أَسْوَدٌ، فَنَفَاهُ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْقَافَةِ، فَنَزَلَ قَرِيبًا مِنْهُمْ، فَقَالَ أَبُو الْغُلامِ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: إِنَّ فِي نَفْسِي مِنْ هَذَا الْغُلامِ شَيْئًا، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي لَقِيتُ فُلانًا الْقَائِفَ، فَأَسْأَلَهُ.

قَالَ: فَهُوَ وَاللَّهِ مِنْكَ قَرِيبٌ، أَنَا آتِيكَ بِهِ، فَآتَاهُ بِهِ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: هُوَ ابْنُكَ. قَالَ: أَنَا رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَلا أَعْلَمُهُ. وَلَدِي أَسْوَدُ؟ ! قَالَ: فَهُوَ ابْنُكَ، فَبَيْنَا هُوَ يُحَدِّثُهُ، إِذْ خَرَجَ أَسْوَدُ مِنَ الدَّارِ، فَقَالَ: هَذَا وَاللَّهِ أَبُوكَ، فَدَخَلَ إِلَى أُمِّهِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهَا. قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا ذَاكَ إِلا عُقُوبَةٌ بِنَفْيِكَ ابْنِكَ، أَيْ وَاللَّهِ لَقَدْ وَقَعَ عَلَيَّ وَقْعَةً وَهُوَ شَابٌّ رَأَيْتُهُ فَأَعْجَبَنِي فَعَلِقْتُ بِكَ حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلْمٍ: قَالَ: قُلْتُ لِرَجُلٍ مِنَ الْقَافَةِ: كَيْفَ أَنْتُمْ فِي الأَقْدَامِ؟ قَالَ: ذَلِكَ أَيْسَرُ الأَشْيَاءِ عَلَيْنَا، إِنَّ السُّرَّاقَ لَيَجُرُّونَ الأَكْيِسَةَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ لِيُخْفُوا آثَارَهُمْ فَنَعْرِفَهُمْ حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ لِي رَجُلٌ: " شَرَدَتْ لَنَا إِبِلٌ فَأَتَيْتُ حَلْبَسًا الأَسَدِيَّ، فَسَأَلْتُهُ عَنْهَا، فَقَالَ لِبُنَيَّةٍ لَهُ: خُطِّي. فَخَطَّتْ وَنَظَرَتْ، ثُمَّ تَقَبَّضَتْ وَقَامَتْ، وَنَظَرَ حَلْبَسٌ فَضَحِكَ، فَقَالَ: أَتَدْرِي لِمَ قَامَتْ؟ قُلْتُ: لا. قَالَ: رَأَتْ أَنَّكَ تَجِدُ إِبِلَكَ، وَأَنَّكَ تَتَزَوَّجُهَا، فَاسْتَحْيَتَ فَقَامَتْ. قَالَ: فَخَرَجْتُ فَأَصَبْتُ إِبِلِي، ثُمَّ تَزَوَّجْتُهَا بَعْدُ حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ عَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ فَائِدٍ، قَالَ: قَالَ شُرَيْحُ بْنُ الأَقْعَسِ الْعَنْبَرِيُّ: " عَزَبَتْ لِي إِبِلٌ وَأَتَيْتُ رَجُلا مِنْ بَنِي أَسَدٍ، فَقُلْتُ: انْظُرْ لِي. قَالَ: فَخَطَّطَ خُطُوطًا، فَقَالَ: تُصِيبُ إِبَلَكَ بِكُنَاسَةِ الْكُوفَةِ. فَقُلْتُ: بَيِّنْ. قَالَ: وَتَذْهَبُ عَيْنُكَ. قُلْتُ: زِدْنِي، قَالَ: وَتُزَوَّجُ امْرَأَةً أَشْرَفَ مِنْكَ. قَالَ: فَخَرَجْتُ وَمَا شَيْءٌ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُصُيبَ إِبِلِي، لِيَكْذِبَ فِيمَا قَالَ. فَأَتَيْتُ الْكُنَاسَةَ، فَأَصَبْتُ إِبِلِي، وَخَرَجْتُ مَعَ ابْنِ الأَشْعَثِ، فَذَهَبَتْ عَيْنِي، وَحَجَجْتُ مَعَ ابْنَةِ قَيْسِ بْنِ الْخَشْخَاشِ الْعَنْبَرِيِّ. فَقَالَتْ لِي مَوْلاةٌ لَهَا فِي الطَّرِيقِ: هَلْ لَكَ أَنْ تَزَوَّجَ مَوْلاتِي؟ قُلْتُ: وَدِدْتُ. قَالَتْ: فَاخْطُبْهَا إِذَا قَدِمْتَ. فَفَعَلْتُ، فَأَبُوا ذَلِكَ، لَمْ أَزَلْ حَتَّى زَوَّجُونِيهَا حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ: لَقِيَنِي إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَأنَا لا أَعْرِفُهُ، وَلا يَعْرِفُنِي، فَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَنْتَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: عَرَفْتُكَ بِشَبَهِ عَمِّكَ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ. قَالَ: قُلْتُ: رَحِمَكَ اللَّهُ، وَأَيْنَ أَنَا مِنْ عَمِّي، وَعَمِّي رَجُلٌ ضَخْمٌ أَمْعَزُ، وَأَنَا آدَمُ نَحِيفُ الْجَسْمِ؟ . قَالَ: فَقَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: لَيْسَ الْقِيَاسُ عَلَى هَذَا حَدَّثَنِي سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سُوقَةَ: " أَقْبَلْنَا مِنْ مَكَّةَ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، فَلَمَّا كُنَّا بِالثَّعْلَبِيَّةِ أَتَى رَجُلٌ مِنَّا حَلْبَسًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، فَخَطَّ لَهُ وَنَظَرَ، فَقَالَ: أَمَا إِنَّكَ لا تَدْخُلُ الْكُوفَةَ حَتَّى تُصِيبَ مَالا. فَلَمَّا صِرْنَا بالنَّجَفِ، تَلَقَّاهُ رَجُلٌ فَأَخْبَرَهُ: أَنْ أَخَاهُ مَاتَ فَوَرَّثَهُ مَالا كَثِيرًا، وَرَوَاهُ الْمَدَائِنِيُّ عَنْ أَبِي الْيَقظَانِ: تُصِيبُ مَالا مِعَ مُصِيبَةٍ

حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مَسْلَمْةَ بْنِ مُحَارِبٍ، قَالَ: " خَرَجَ عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ، وَمَالِكُ بْنُ خِدَاشٍ الْخُزَاعِيُّ، غَازِيَيْنِ، فَمَرَّا بِامْرَأَةٍ وَعَلَيْهَا جَمَاعَةٌ، وَهِي تَخُطُّ لَهُمْ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا وَضَحِكَ مُسْتَهْزِئًا بِهَا، فَقَالَتْ: أَيُّهَا الضَّاحِكُ، أَمَا وَاللَّهِ لا تَخْرُجُ مِنْ سِجِسْتَانَ حَتَّى تَمُوتَ، فَيَتَزَوَّجُ هَذَا الرَّجُلُ امْرَأَتَكَ، وَأَشَارَتْ إِلَى عُمَرَ، فَمَاتَ بِسِجِسْتَانَ، وَتَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ عُمَرُ، وَهِي رَمْلَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلَفٍ الْخُزَاعِيِّ حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ شَيخٌ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ: " مَرَّ زَيْدُ بْنُ الأَخْنَسِ بِرَجُلٍ يَضْرِبُ امْرَأَةٌ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ؟ فَقَالَتْ أُمُّ الرَّجُلِ: إِنَّهَا أَتَتْهُ بِأَسْوَدَ ثُمَّ أَسْوَدَ، وَلَمْ يَكُ فِي جِنْسِهِ أَسْوَدُ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا وَإِلَى ابْنِهَا، فَقَالَ لَهُ زَيْدُ: لا تَضْرِبِ الْمَرْأَةَ، إِنَّمَا أُتِيتَ مِنْ قِبَلِ أُمِّكَ، أَبُوكَ عَبْدُكَ الَّذِي يَرْعَى عَلَيْكَ، ثُمَّ مَضَى. قَالَ: فَسَأَلَ أُمَّهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَقَرَّتْ لَهُ أَنَّهُ أَبُوهُ وَمَرَّ زَيْدُ بْنُ الأَخْنَسِ وَافِدًا عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَرَأَى صَبِيَّةً عَلَى مَاءٍ مِنَ الْمِيَاهِ، فَقَالَ: بِنْتُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَاللَّهِ. فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا بُنَيَّةٌ لَكَ؟ ، مَرَرْتُ بِمَاءِ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا هِيَ بِهِ؟ فَسَأَلَ عَنْهَا، فُوُجِدتَ مِنْ أَمَةٍ كَانَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ قَدْ وَطِئَهَا ثُمَّ خَرَجَتْ لِسَبَبٍ مِنَ الأَسْبَابِ. عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي سَعْدٍ، قَالَ: " أَتَى قَاضٍ مِنْ قُضَاتِنَا بِصَبِيٍّ قَدْ شَكَّ فِيهِ أَبُوهُ، فَدَعَا لَهُ الْقَافَةَ، فَقَالُوا: شَرِكَ فِيهِ بَرْبَرِيٌّ، فَسَأَلُوا أُمَّهُ، فَقَالَتْ: اشْتَرَانِي الْبَرْبَرِيُّ، ثُمَّ وَقَعَ بِي، ثُمَّ اشْتَرَانِي هَذَا، فَوَقَعَ بِي. فَقَالَ الْقَاضِي: لَوْ كُنْتُمَا اجْتَمَعْتُمَا لَأَلْحَقْتُهُ بِكُمَا، فَأَمَّا إِذَا كُنْتَ وَحْدَكَ فَقَدْ أَلْحَقْتُهُ بِكَ ". وَحَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: " حَجَجْتُ، فَصَحِبَنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَ لِيَ ابْنٌ أَشُكُّ فِيهِ، فَبَعَثَ إِلَى مُلَأهِ، فَلَمْ يَتْرُكُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهِ إِلا أَثَرَ فِيهَا أَثْرَةً وَأَثَرَ الْمَشْكُوكَ فِيهِ، فَلَمَّا قَضَيْنَا النُّسُكَ بَعَثَ إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَنَظَرَ، فَقَالَ: هَذَا أَثَرُ الْمَشْكُوكِ فِيهِ، وَهَذَا أَبُوهُ، وَهَذِهِ أُمُّهُ، وَهَذَا أَخُوهُ حَتَّى أَلْحَقَهُ بِقَرَابَتِهِ مِنْ أَبِيهِ وَأَلْحَقَهُ بِأَبِيهِ سَمِعْتُ الْمَدَائِنِيُّ، يَقُولُ: كَانَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ وَلَّى الْحَسَنَ بْنَ زَيْدٍ الْمَدِينَةَ، ثُمَّ غَضِبَ عَلَيْهِ فَعَزَلَهُ وَبِيعَتْ أَمُوَالُهُ، فَاشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَمَةً لَهُ، فَلَمَّا أَرَادَهَا، قَالَتْ: إِنَّ ابْنَ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ قَدْ وَقَعَ بِي، وَبِي حَمْلٌ، فَكَفَّ عَنْهَا، فَوَضَعَتْ غُلامًا، فَخَرَجَ بِهِ إِلَى وَلَدِ الْحَسَنِ، فَخَرَجُوا جَمِيعًا، فَأَتَوْا وَالِيَ مَكَّةَ، فَبَعَثَ إِلَى شَيْخٍ مِنَ الْقَافَةِ، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الْغُلامَ لَهُ نَسَبٌ يُلْحِقُهُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ تَنْفِيهِ مِنْهُ.

قَالَ: فَخَرَجَ الشَّيْخُ يِتَخَطَّى النَّاسَ وَيُفَرِّقُ، فَأَخَذَ بِيَدِ الْغُلامِ، فَقَالَ: هَذَا عَمُّهُ فَصِيحَ بِهِ فَتَرَكَهُ، ثُمَّ أَتَى آخَرَ، قَالَ: هَذَا عَمُّهُ. فَصِيحَ بِهِ فَتَرَكَهُ، حَتَّى عَدَّدَ وَلَدَ الْحَسَنِ غَيْرَ أَبِيهِ، وَأَرَاهُ مُتَّكِئًا، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ الشَّيْخُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، هَذَا أَبُو الْغُلامُ فَأُلْحِقَ بِهِ 228 - حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ جَدِّي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبِ، قَالَ: " دَخَلَ ابْنُ السَّمَّاكِ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ هَارُونَ الرَّشِيدِ، حِينَ وَلِيَ الْخِلافَةَ، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ غَيْرَ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ الْبَرْمَكِيِّ، فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: يَا ابْنَ السَّمَّاكِ، إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَزَلْ يَذْكُرُكُ وَهُوَ إِذْ ذَاكَ وَلِيُّ عَهْدِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، أَحَبَّ أَنْ تَكُونَ مِنْهُ فِي هَذَا الشَّهْرِ قَرِيبًا، لِمَا بَلَغَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ صَلاحِكَ فِي نَفْسِكَ، وَحُسْنِ ذِكْرِكَ. فَقَالَ ابْنُ السَّمَّاكِ: أَمَّا مَا ذَكَرَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ صَلاحِنَا فِي أَنْفُسِنِا، فَذَلِكَ سِتْرُ اللَّهِ، وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ يَطَّلِعُ النَّاسُ مِنَّا عَلَى ذَنْبٍ وَاحِدٍ، مَا ثَبَتَ لَنَا قَلْبٌ عَلَى مَوَدَّةٍ، وَلا لِسَانٌ عَلَى مَدْحَةِ، وَقَدْ خِفْتُ مِنَ السَّتْرِ الْفِتْنَةَ، وَمِنَ الْمَدْحِ الْغِرَّةَ، فَأَنَا خَائِفٌ أَنْ أَهْلَكَ بَيْنَهُمَا، وَأَنْ أَعْطَبَ مَنْ قِلَّةِ الشُّكْرِ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ سَكَتَ ابْنُ السَّمَّاكِ. فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: تَكَلَّمْ يَا ابْنَ السَّمَّاكِ. قَالَ: وَقَدْ هَيَّأْتُ لَهُ كَلامًا كَانَ عِنْدِي مَصُونًا، فَذَهَبَ وَاللَّهِ عَلَيَّ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَرْضَ لِخِلافَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ، غَيْرَكَ فَلا تَرْضَ لِلَّهِ إِلا بِطَاعَتِكه، وَبِمَا يُرْضِيهِ عَنْكَ، فَإِنَّكَ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَأَحَقُ النَّاسِ بِذَلِكَ. يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَنْ عَمِلَ فِي فِكَاكِ رَقَبَتِهِ فِي أَيَّامِ مَهْلِهِ مِنْ قَبْلِ حُضُورِ أَجَلِهِ كَانَ خَلِيقًا أَنْ يُعْتِقَ نَفْسَهُ. يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَنْ أَذَاقَتْهُ الدُّنْيَا حَلاوَتَهَا بِرُكُونٍ مِنْهُ إِلَيْهَا، أَذَاقَتْهُ الْآخِرَةُ مَرَارَتَهَا بِتَجَافِيهِ عَنْهَا، وَمَا اسْتَوَى الطَّعْمَانِ فِي عُذُوبَتِهِمَا، وَمَرَارَتِهِمَا. يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي أُنْشِدُكَ اللَّهَ، أَنْ تُقْدِمَ غدًا عَلَى جَنَّةٍ، عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ، لَيْسَ لَكَ فِيهَا نَصِيبٌ. إِنَّكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ دُعِيتَ إِلَى الْجَنَّةِ، وَنُدِبْتَ إِلَيْهَا فَلا تُقَصِّرَنَّ بِنَفْسِكَ فِي الطَّلَبِ، فَإِنَّ الْحُجَّةَ لَكَ أَلْزَمُ وَهِيَ عَلَيْكَ أَعْظَمُ.

طعامان وشرابان في إناء واحد، لا حاجة لي به، وإن كنت لا أحرمه، ولكن أحب أن يراني الله

يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، تَوَاضَعْ لِلَّهِ، فَإِنِهُ مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، خَرَجَ وَهُوَ يُرِيدُ قُبَاءً فَلَقِيَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِهَا مَعَهُ إِنَاءٌ فِيهِ لَبَنٌ قَدْ خَاضَ فِيهِ عَسَلا فَنَاوَلَهُ إِيَّاهُ، فَلَمَّا تَذَوَّقَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «طَعْامَانِ وَشَرَابَانِ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ، لا حَاجَةَ لِي بِهِ، وَإِنْ كُنْتُ لا أُحُرِّمُهُ، وَلَكِنْ أُحِبُّ أَنْ يَرَانِي اللَّهُ مُتَوَاضِعًا، فَإِنَّ مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ» . يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَاللَّهِ لَوْ لَبِسْتَ الْغَلِيظَ لَكَانَ أَحْسَنَ عَلَيْكَ مِنَ الدَّقِيقِ، دَعْ مَوَالِيَكَ فَلْيَجُرُّوا الْخُزُوزَ وَالْبُزُوزَ، وَكُنْ عَلَى التَّوَاضُعِ مِنَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضَيِّعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا. وَاللَّهِ إِنَّ أَكْبَادًا بَاتَتْ تَخْفِقُ جُوعًا أَشْبَعْتَهَا وَأَرْوَيْتَهَا، إِنَّ ذَلِكَ لَسَرِيعٌ فِي الْخَبَرِ، هُمْ رَعِيَّتُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَيْنَ يَدَيْكَ، فَأَلِنْ عِطْفَكَ، وَاخْفِضْ لَهُمْ جَنَاحَكَ، وَاكْسُ الْعُرَاةَ، وَأَشْبِعِ الْبُطُونَ، فَإِنَّكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا تَمُوتُ وَحْدَكَ، وَتُقْبَرُ وَحْدَكَ، وَتُبْعَثُ وَحْدَكَ، وَتُحَاسَبُ وَحْدَكَ، وَاذْكُرِ الْمَقَامَ بَيْنَ يَدَيِ الْجَبَّارِ، وَالْوُقُوفَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَإِنَّكَ لا تُقْدِمُ إِلا عَلَى نَادِمٍ مَشْغُولٍ، وَلا تُخَلِّفُ إِلا جَاهِلا مَغْرُورًا، وَإِنَّا وَإِيَّاكَ فِي دَارِ سَفَرٍ، وَحِيرَانِ ظَعْنٍ، وَقَدْ أُبْلِغَ الرِّيقُ وَأُرْخِيَ الْخِنَاقُ، فَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ فِيمَا مَضَى مِنْ أَجَلِهِ، فَلْيَسْتَدْرِكْ فِي قَلِيلِ مَا بَقِيَ مِنْ رَمَقِهِ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّ ثَلاثةً مِنَ الْعُبَّادِ اجْتَمَعُوا، قَدْ أَنْحَلَتْهُمُ الْعَبَادَةِ، وَيَبَّسَتْ جُلُودَهُمْ عَلَى أَعْظُمِهِمْ مِنْ حَرِّ الصَّوْمِ، فَقِيلَ لِأَحَدِهِمْ: فِيمَ عَبَادَتُكَ، رَحِمَكَ اللَّهُ؟ فَقَالَ: شَوْقًا إِلَى الْجَنَّةِ، قَدْ أَهْلَكَنِي الشَّوْقُ إِلَيْهَا لا أَنْتَفِعُ بِشَيْءٍ حَتَّى أَعْلَمَ أَنِّي قَدْ وَصَلْتُ إِلَيْهَا. وَقِيلَ لِلآخَرِ: فِيمَ عِبَادَتُكَ؟ قَالَ: فَرَقًا مِنَ النَّارِ، قَدْ أَهْلَكَنِي الْفَرَقُ مِنْهَا، لا أَنْتَفِعُ بِشَيْءٍ مِنْهَا حَتَّى أَعْلَمَ أَنِّي قَدْ نَجَوْتُ مِنْهَا. وَقِيلَ لِلْثَالِثِ: فِيمَ عِبَادَتكَ؟ قَالَ: اسْتَحْيَاءً مِنَ اللَّهِ، وَمِنَ الْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ، لِمَا عِنْدِي مِنَ الذَّنُوبِ وَالْعُيُوبِ، لا أَنْتَفِعُ بِشَيْءٍ حَتَّى أَعْلَمَ أَنِّي قَدْ نَجَوْتُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْقِفِ.

يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ الْمَوْتَ أَضَرَّ بِالدُّنْيَا، وَفَضْحَ أَهْلهَا، فَبَيْنَمَا الْمَرْءُ مَهِيبٌ عَزِيزٌ إِذَ صَارَ فِي التُّرَابِ مَهِينًا ذَلِيلا، بَيْنَمَا هُوَ ذُو الْجَمْعِ وَالتَّبَعِ، إِذَ تَفَرَّقَ عَنْهُ ذَلِكَ أَجْمَعُ، إِنَّمَا هُوَ دَبِيبٌ مِنْ سَقَمٍ حَتَّى يَؤْخَذَ بِالْكَظْمِ وَتَزِلَّ الْقَدَمُ، وَيَقَعَ النَّدَمُ، فَلا تَوْبَةٌ تُنَالُ، وَلا عَثْرَةٌ تُقَالُ، وَلا يُقْبَلُ فِدَاءٌ بِمَالٍ، إِنَّمَا هِيَ لَحْظَةٌ حَتَّى يُخْرَسَ اللِّسَانُ، وَيُصَمَّ السَّمْعُ، وَيُعْمَى الْبَصَرُ، وَيُذْهَلُ الْعَقْلُ، فَكَمْ مِنْ مُعَايِنٍ لِرُسُلِ رَبِّهِ، قَدْ صَغُرَتِ الدُّنْيَا فِي عَيْنِهِ جَنْبَ الَّذِي نَزَلَ بِهِ، نَدِمَ الْمِسْكِينُ، فَلَمْ يَنْفَعَهُ نَدَمُهُ، فِي مِنْهَاجِهِ، فَقَالَ: فِي كِتَابِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون: 99] ، مَا يَصْنَعُ بِالرَّجْعَةِ الْمِسْكِينُ؟ ، أَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى دَارِهِ فَيُبَدِّدَ مَا جَمَعَ مِنْ مَالِهِ، فَأَبَى عَلَيْهِ ذَلِكَ. يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُمْ نَدِمُوا فِي ثَلاثَةِ مَوَاطِنَ: نَدِمُوا عِنْدَ الْمَوْتِ، وَنَدِمُوا وَهُمْ فِي النُّشُورِ، وَنَدِمُوا وَهُمْ فِي النِّيرَانِ، فَقَالَ تَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ {99} لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا} [المؤمنون: 99-100] فَأَخْبَرَكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الصَّلاحِ. وَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10] ، هَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ. وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَهُمْ فِي النُّشُورِ: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12] . وَقَالُوا: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر: 37] فَنَظَرَ امْرُؤٌ لِنَفْسِهِ، وَبَادَرَ امْرُؤٌ بِعَمَلِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذُ بِالْكَظْمِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلَ مَنْ مَاتَ وَأُدْخِلَ النَّارُ، وَعَايَنَ بَلايَاهَا ثُمَّ سَأَلَ الرَّجْعَةَ، وَأُجِيبَتْ دَعْوَتُهُ، وَرَجَعَ إِلَى دُنْيَاهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَلْيَفْعَلْ. قَالَ: فَبَكَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بُكَاءً شَدِيدًا، فَقَالَ ابْنُ السَّمَّاكِ: إِنَّا بَعْدُ لَمْ نَخْرُجْ مِنَ الدُّورِ، وَإِنَّا بَعْدُ لَمْ نَصِرْ إِلَى الْقُبُورِ، وَإِنَّا بَعْدُ لَمْ نَخْتَبِرْ عَظَائِمَ تِلْكَ الأُمُورِ، وَرَسُولُ رَبِّنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِلَيْنَا سَرِيعٌ، وَكُلُّنَا بِسُرْعَتِهِ جَاهِلٌ مَغْرُورٌ.

توشكون أن يغدو أحدكم في حلة، ويروح في أخرى، وأن يغدا على أحدكم بجفنة، ويراح عليه بأخرى،

قَالَ: فَقَالَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ، قُمْ يَا ابْنَ السَّمَّاكِ، فَقَدْ شَقَقْتَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: فَنَهَضْتُ وَأَنَا أَسْمَعُ شَهِيقَهُ وَبُكَاءَهُ، حَتَّى خَرَجْتُ وَاتَّبَعَنِي يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ، فَقَالَ: يَا ابْنَ السَّمَّاكِ، أَنْتَ مُتَكَلِّمُ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَلَوْ قُلْتُ: إِنَّكَ مُتَكَلِّمُ أَهْلِ الدُّنْيَا لَصَدَقْتُ، دَخَلْتَ عَلَى مَلِكٍ حَدَثِ السِّنِّ لَمْ يَحْزَنْ قَطُّ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَيَمُوتُ لَهُ الْوَلَدُ النَّفِيسُ فَيُرَى مُبْتَهِجًا، وَلا يُظْهِرُ حُزْنًا، فَدَخَلْتَ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ وَهْلَةٍ فَذَكَّرْتَهُ الْحِسَابَ وَالْمَوْتَ وَالْبَعْثَ وَالْمِيزَانَ، فَكَلَّمْتَ قَلْبَهُ، فَإِنْ رَجَعْتَ إِلَيْهِ فَارْفُقْ بِهِ. قَالَ ابْنُ السَّمَّاكِ: فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَلِيٍّ، إِنَّكَ قَدْ أَصْبَحْتَ فِي مَوْضِعٍ قَدْ كَانَ فِيهِ قَبْلَكَ، وَهُوَ كَائِنٌ فِيهِ قَوْمٌ بَعْدَكَ، وَقَدْ مَضَى الْقَوْمُ بِالْمَدَائِحِ وَالْمَعَائِبِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ إِذْ صِرْتَ بِالْمَنْصِبِ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ أَنْ تَعْمَلَ عَمَلا يَكْرُمُ مُدَّخَرُهُ، وَيَحْسُنُ مُنْتَشِرُهُ، فَافْعَلْ. قَالَ: ثُمَّ انْصَرَفْتُ 229 - حَدَّثَنِي أَبُو غَزِيَّةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، قَالَ: لَقَدْ غَدَوْتُ فِي غَدَاةٍ شَاتِيَةٍ جَائِعًا خَصِيرًا، وايْمُ اللَّهِ لَوْ كَانَ فِي بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، طَعَامٌ لَأُطْعِمْتُ مِنْهُ، وَقَدْ أَخَذْتُ إِهَابًا مَطْعُونًا فَجِئْتُ وَسَطَهُ، ثُمَّ شَدَدْتُهُ عَلَيَّ بِخُوصٍ لِيُدَّفِينِي أَلْتَمِسُ كَسْبًا لَعَلِي أَجِدُ شَيْئًا آكُلُهُ، فَمَرَرْتُ بِيَهُودِيٍّ، وَهُوَ فِي حَائِطٍ لَهُ، يَنْزِعُ مِنْهُ بِيَدِهِ يَسْقِيهِ، فَاطَّلَعْتُ عَلَيْهِ مِنْ ثَلْمَةٍ فِي الْحَائِطِ. قَالَ: يَا أَعْرَابِيُّ مَا لَكَ؟ هَلْ لَكَ فِي كُلِّ دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ؟ فَقُلْتُ: نَعَمِ افْتَحِ الْبَابَ. فَفَتَحَهُ لِي، فَدَخَلْتُ، فَأَعْطَانِي دَلْوًا، فَجَعَلْتُ كُلَّمَا نَزَعْتُ دَلْوًا أَعْطَانِي تَمْرَةً، حَتَّى إِذَا امْتَلَأَتْ كَفِّي طَرَحْتُ إِلَيْهِ دَلْوَهُ، وَقُلْتُ: حَسْبِي ثُمَّ أَكَلْتُهُنَّ، وَحَمِدْتُ اللَّهَ، وَشَرِبْتُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي نَزَعْتُ بِكَفْيِ حَتَّى رُوِيتُ، ثُمَّ أَقْبَلْتُ حَتَّى جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدْتُهُ فِي الْمَسْجِدِ جَالِسًا مَعَ النَّاسِ، فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ، فَبَيْنَا نَحْنُ عِنْدَهُ إِذْ طَلَعَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ فِي بُرْدَةٍ لَهُ خَلِقٍ مَرْقُوعَةٍ بِفَرْوٍ. قَالَ: فَجَاءَ وَهُوَ مُسْتَحٍ يَتَقَصَّى النَّاسَ، حَتَّى جَلَسَ فِي أَدْنَاهُمْ، وَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ، وَذَكَرَ مَا أَصَابَهُ مِنَ الْجَهْدِ فِي الْإِسْلامِ. قَالَ: فَذَرَفَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: «تُوشِكُونَ أَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ فِي حُلَّةٍ، وَيَرُوحُ فِي أُخْرَى، وَأَنْ يُغْدَا عَلَى أَحَدِكُمْ بِجَفْنَةِ، وَيُرَاحُ عَلَيْهِ بِأُخْرَى، وَيَسْتُرَ بَيْتَهُ كَمَا يَسْتُرَ الْكَعْبَةَ، أَفَأَنَّكُمْ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ، أَمْ أَنْتُمُ الْيَوْمَ» ؟ قَالَ: قُلْنَا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، نَحْنُ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مِنَّا الْيَوْمَ، كُفِينَا الْمَئُونَةُ، فَتَفَرَّغْنَا لِلْعِبَادَةِ.

ما لك يا أبا الحسن؟ هل لك من حاجة» ؟ فسكت، حتى أعاد ذلك ثلاث مرات، ثم قال: «فلعلك تريد

قَالَ: «بَلْ أَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِنْكُمْ يَوْمَئِذٍ» 230 - حَدَّثَنِي أَبُو غَزِيَّةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ أَبِي الْحَجَّاجِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَتْ لِي مَوْلاةٌ لَنَا: مَا يَمْنَعُكَ مِنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهَا تُخْطَبُ إِلَيْهِ؟ . قَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ: فَوَاللَّهِ مَا زَالَتْ بِي حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْإِجْلالِ مَا لَيْسَ لِأَحَدٍ، فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأُفْحِمْتُ فَلَمْ أَقْدِرْ عَلَى الْكَلامِ، فَقَالَ لِي: «مَا لَكَ يَا أَبَا الْحَسَنِ؟ هَلْ لَكَ مِنْ حَاجَةٍ» ؟ فَسَكَتُّ، حَتَّى أَعَادَ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ: «فَلَعَلَّكَ تُرِيدُ فَاطِمَةَ» ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «مَا فَعَلَتْ دِرعٌ كُنْتُ سَلْحَتَكَهَا» ؟ ، فَقُلْتُ: عِنْدِي. قَالَ: «فَاذْهَبْ بِهَا إِلَيْهَا فَاسْتَحِلَّهَا بِهَا» 231 - وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ: لَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ فَاطِمَةَ أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مِصَرًّا مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: ابْتَعْ بِهَذَا طَعَامًا لِوَلِيمَتِكَ. قَالَ: فَخَرَجْتُ إِلَى مَحَافِلِ الأَنْصَارِ، فَجِئْتُ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فِي جَرِينٍ لَهُ، قَدْ فُرِّغَ مِنْ طَعَامِهِ، فَقُلْتُ لَهُ: بِعْنِي بِهَذَا الْمِصَرِّ طَعَامًا، فَأَعْطَانِي، حَتَّى إِذْا جَعَلْتُ طَعَامِي، قَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. فَقَالَ: ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِهَذَا الطَّعَامِ؟ قُلْتُ: أُعَرِّسُ. فَقَالَ: وَبِمَنْ؟ فَقُلْتُ: بِابْنَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ. قَالَ: فَهَذَا الطَّعَامُ، وَهَذَا الْمِصَرُّ الذَّهَبُ، فَخُذْهُ، فَهُمَا لَكَ. فَأَخَذْتُهُ وَرَجَعْتُ، فَجَمَعْتُ أَهْلِي إِلَيَّ، وَكَانَ بَيْتُ فَاطِمَةَ لِحَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ، فَسَأَلَتْ فَاطِمَةُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، أَنْ يُحَوِّلَهُ. فَقَالَ لَهَا: «لَقَدِ اسْتَحَيْيتُ مِنْ حَارِثَةَ مِمَّا يَتَحَوَّلُ لَنَا عَنْ بُيُوتِهِ» . فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ حَارِثَةُ انْتَقَلَ مِنْهُ، وَأَسْكَنَهُ فَاطِمَةَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ «يَأْتِي الأَنْصَارَ فِي دُورِهِمْ فَيَدْعُو لَهُمْ بِالْبَرَكَةِ، فَيَجْتَمِعُونَ إِلَيْهِ، فَيُذَكِّرُهُمْ وَيُحَذِّرُهُمْ وَيُنْذِرُهُمْ، وَيَأْتُونَهُ بِصِبْيَانِهِمْ» أَنْشَدَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي الزِّنَادِ يُنْشِدُ لِكِنَانَةَ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ الْيَهُودِيِّ: أَرِقْتُ وَأَمْسَيْتُ رَهْنَ الْفِرَاشِ ... مِنْ حَرْبِ قَوْمِي وَمِنْ مَغْرَمِ وَمَنْ سَفَهِ الرَّأْيَ بَعْدَ الْهُدَى ... وَعَمْهِ الرَّشَادِ فَلَمْ يُفْهَمِ فَلَوْ أَنَّ قَوْمِي أَطَاعُوا الْحَلِيمَ ... لَمْ يَتَعَدَّ وَلَمْ يَظْلِمِ وَلَكِنَّ قَوْمِي أَطَاعُوا الْغُوَاةَ ... حَتَّى تَعَكَّسَ أَهْلُ الدَّمِ وَأَوْدَى السَّفِيهُ بِأَمَرِ الْحَلِيمِ ... فَانْتَشَرَ الأَمْرُ لَمْ يُبْرَمِ

وَأَنْشَدَنِي لِأَبِي هَمْهَمَةَ: إِخْوَةٌ مَا حَضَرْتُ سَرُّونَ بَرُّونَ ... فَإِنْ غِبْتُ فَالسِّبَاعُ الْجِيَاعُ يَأْبِنُونِي حَتَّى إِذَا عَايَنُونِي ... بَانَ فِيهِمْ تَضَاؤُلُ وَاخْتِشَاعُ فَهُمْ يَغْمِزُونَ مِنِّي قَنَاةً ... لَيْسَ يَأْلُونَ غَمْزَهَا مَا اسْتَطَاعُوا مَا كَذَا يَفْعَلُ الْكِرَامُ وَلَكِنْ ... هَكَذَا يَفْعَلُ اللِّئَامُ الرِّضَاعُ وَأَنْشَدَنِي لِلْحَزِينِ الدُّئِلِيِّ: كَأَنَّمَا خُلِقَتْ كَفَّاهُ مِنْ حَجَرٍ ... فَلَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالنَّدَى عَمَلُ يَرَى التَّيَمُّمَ فِي بَرٍّ وَفِي بَحْرٍ ... مَخَافَةَ أَنْ يُرَى فِي كَفِّهِ بَلَلُ وَأَنْشَدَنِي لَلْحَزِينِ أَيْضًا لا بَارَكَ اللَّهُ فِي كَعْبٍ وَمَجْلِسِهِمْ ... مَاذَا يَجَمِّعُ مِنْ لُؤْمٍ وَمِنْ وَضَعِ لا يَدْرُسُونُ كِتَابَ اللَّهِ بَيْنَهُمُ ... وَلا يَصُومُونَ مِنْ حِرْصٍ عَلَى الشَّبَعِ أَنْشَدَنِي التَّيْمِيُّ فِي الْفَضْلِ بْنِ الرَّبِيعِ الْحَاجِبِ: لَعَمْرُكُ مَا الأَشْرَافُ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ ... وَإِنْ عَظُمُوا لِلْفَضْلِ إِلا صَنَائِعُ تَرَى عُظَمَاءَ النَّاسِ لِلْفَضْلِ خُشَّعًا ... إِذَا مَا بَدَا وَالْفَضْلُ لِلَّهِ خَاشِعُ تَوَاضَعَ لِلَّهِ لَمَّا زَادَهُ رِفْعَةً ... وَكُلُّ عَزْيزٍ عِنْدَهُ مُتَوَاضِعُ وَأَنْشَدَنِي الزُّبَيْرُ لَمْ يَكُنْ حَادِثٌ يُشَتِّتُ شَعْبًا ... لا وَلا وَحْشَةٌ تَجُرُّ التَّجَافِي فَتَعَالُوا نَرُدُّ حُلْوَ التَّصَافِي ... وَنُمِيتُ الْجَفَاءَ بِالأَلْطَافِ أَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: إِذَا شِئْتَ أَنْ تَلْقَى بَنَانًا مُخَضَّبًا ... وَعَيْنَيْنِ دَعْجَاوَيْنِ فَالْقَ الْمَوَالِيَا وَمَا بِالْمَوَالِي مِنْ دَنَاةٍ تَعِيبُهُمْ ... وَلا قِصَرٌ عَنْ أَنْ يَنَالُوا الْمَعَالِيَا يَقُولُونَ مَوْلاةٌ فَلا تَقْرَبَنَّهَا ... أَلا لَيْتَنَا كُنَّا جَمِيعًا مَوَالِيِا أَنْشَدَنِي الزُّبَيْرُ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ دَاوُدَ الْكَاتِبُ: إِنَّ الَّتِي فَخَرَتْ عَشِيَّةَ زُرْتُهَا ... بِكَلامِهَا الْفَتَّانُ وَالْإِعْرَاضِ فَخَرَتْ عَلَيْكَ بِأَنَّهَا عَرَبِيَّةٌ ... فَتَعَرَّضَتْ لِمُفَاخِرٍ نَقَّاضِ فَأَجَبْتُهَا إِنِّي ابْنُ كِسْرَى وَابْنُ مَنْ ... دَانَ الْمُلُوكُ لَهُ بَغَيْرِ تَرَاضِ فَتَطَأْطَأَتْ وَتَضَاءَلَتْ مِنْ زَهْوِهَا ... لِفَخَارِ أَصْيَدَ لِلذُّرَى خَفَّاضِ وَلَقَدْ أَقِي عِرْضِي بِمَا مَلَكَتْ يَدِي ... وَأَرَى الْعَرُوضَ وِقَايَةَ الأَعْرَاضِ أَنْشَدَنِي الْكَثِيرِيُّ: الْمَوْتُ أَجْمَلُ بِالْفَتَى مِنْ خُطَّةٍ ... فِي النَّاسِ خَوْفَ شِنَارَهَا يَتَقَنَّعُ شَتَّانَ مَنْ أَعْطَى الرِّجَالَ ظَلامَةً ... حَذَرَ الْبَلاءِ وَآخَرٌ لا يَخْضَعُ ليَسَ الْجَزُوعُ بِمُفْلِتٍ مِنْ يَوْمِهِ ... وَالْحُرُّ يَصْبِرُ وَالأُنُوفُ تَجدَّعُ فَتْحُ الْإِلَهِ عَدَاوَةً لا تُتَّقَى ... وَقَرَابَةً يُدْلِي بِهَا لا تَنْفَعُ أَنْشَدَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْكَثِيرِيُّ، قَالَ: وَدِدْتُ وَكَاتِبُ الْحَسَنَاتِ قَلْبِي ... تُقَلِّبُهُ يَدَاكِ فَتَنْظُرِينَا إِلَى أَثَرِ الْعِلاقَةِ فِي فُؤَادِي ... وَصَدْعِ الْحُبِّ فِي كَفِّي مُبِينَا وَأَنْشَدَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي هَذَا: ودِدْتُ وَكَاتِبُ الْحَسَنَاتِ أَنِّي ... وَمَنْ أَهْوَى بِمُنْقَطِعِ التُّرَابِ نَعِيشُ الدَّهْرَ مَا عِشْنَا جَمِيعًا ... وَنُقْرَنُ يَوْمَ نُبْعَثُ لِلْحِسَابِ أَنْشَدَنِي الْمُسَاحِقِيُّ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ سُلَيْمَانَ لِلْمَجْنُونِ: فَلَوْ تَلْتَقِي أَصْدَاؤُنَا بَعْدَ مَوْتِنَا ... وَمِنْ دُوْنِ رَمْسَيْنَا مِنَ الأَرْضِ مَنْكَبُ

لَظَلَّ صَدَى رَمْسِي وَلَوْ كُنْتُ رِمَّةً لِصَوْتِ ... صَدَى لَيْلَى يَهَشُّ وَيَطْرَبُ أَنْشَدَنِي الْمُسَاحِقِيُّ: تَقُولُ سُلَيْمِي حَلَّ أَهْلُكَ فَارْتَحِلْ ... وَهَلْ لَكِ هَلْ تَدْرِينَ وَيْحَكِ مَنْ أَهْلِي وَمَا لِيَ أَهْلٌ غَيْرُ ظَهْرِ مَطِيَّتِي ... تَرُوحُ وَتَغْدُو مَا يَحِلُّ لَهَا رَحْلِي أَنْشَدَنِي حَسَنُ بْنُ دَاوُدَ الْجَعْفَرِيُّ لِعَرَارَةَ الْخَيَّاطِ: صَحِبْتُكَ عَشْرًا بَعْدَ عِشْرِينَ حِجَّةً ... عَلَى غَيْرِ تَجْرِيبٍ لَقَدْ كُنْتُ جَاهِلا فَلَمَّا فَتَحْتُ الْكَفَّ عَمَّا طَوَيْتُهَا ... عَلَيْهِ وَمَا أَمَّلْتُ لَمْ أَلْفِ طَائِلا وَأَنْشَدَنِي لِحُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ: لا يُبْعِدُ اللَّهُ الشَّبَابَ وَقَوْلَنَا ... إِذَا مَا صَبَوْنَا صَبْوَةً سَنَتُوبُ لَيَالِيَ أَبْصَارُ الْغَوَانِي وَسِمْعُهَا ... إِلَيَّ وَإِذْ رِيحِي لَهُنَّ جَنُوبُ وَإِذْ مَا يَقُولُ النَّاسُ شَيْءٌ مُهَوَّنٌ ... عَلَيْنَا وَإِذْ غُصْنُ الشَّبَابِ رَطِيبُ سَمِعْتُ مُحَمَّدُ بْنُ سَلامٍ الْجُمَحِيُّ، يَقُولُ: " قَدِمَ عُثْمَانُ بْنُ عُمَارَةَ أَخُو أَبِي الْهَيْذَامِ الْمُرِّيُّ، وَكَانَ وَاليًا عَلَى سِجِسْتَانَ أَيَّامَ الرَّشِيدِ، فَحُبِسَ بِخَمْسِ مِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَسَبْعِينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَدِمَ يَزِيدُ بْنُ مَزْيَدٍ مِنْ أَرْمِينِيَّةَ، فَأَخْبَرُوهُ، فَحَمَلَهَا إِلَيْهِ، فَامْتَنَعَ مِنْ قَبُولِهَا، ثُمَّ قَالَ: وَلَكِنِ احْمِلْ لِي هَذِهِ الأَبْيَاتَ، فَأَوْصِلْهَا إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ: أَغِثْنِي أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِنَظْرَةٍ ... تَزُولُ بِهَا الْمَخَافَةُ وَالأَزَلُ فَفَضْلَكَ أَرْجُو لا الْبَرَاءَةَ إِنَّهُ ... أَبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يَكُونَ لَكَ الْفَضْلُ فَإِنْ لا أَكُنْ أَهْلا لِمَا أَنْتَ أَهْلُهُ ... فَأَنْتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ أَهْلُ حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: بَيْنَا الزُّبَيْرُ فِي بَعْضِ مَغَازِيِهِ إِذِ اصْطَفَى جَارِيَةً. قَالَ: فَتَخَلَّفَ عَنِ الْعَسْكَرِ. فَنَالَ مِنِ الْجَارِيَةِ، ثُمَّ رَكِبَ يُرِيدُ الْجَيْشَ فَعَرَضَ لَهُ لِصَّانِ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالا: أَطْعِمْنَا، فَرَمَى إِلَيْهِمَا بِسُفْرَتِهِ، فَقَالا: اكْسُنَا، فَرَمَى إِلَيْهِمَا بِثَوْبَيْنِ كَانَا مَعَهُ، فَقَالا: خَلِّ عَنِ الظَّعِينَةِ، فَقَالَ لَهَا: تَنَحَّيْ، ثُمَّ شَدَّ عَلَيْهِمَا فَأَبَانَهُمَا بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُؤَمَّلِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ: " وَفَدَ الصَّقْبُ النَّهْدِيُّ عَلَى النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَمَعَهُ رَجُلانِ مِنْ قَوْمِهِ، يُقَالُ لِأَحَدِهِمِا: الْبَرَاءُ بْنُ عَمْرٍو، وَالْآخَرِ الْحَارِثِ بْنِ مَازِنٍ، وَكَانَا شَرِيفَيْنِ، وَكَانَ الصَّقْبُ قَصِيرًا أَفْوَهَ دَمِيمًا أَسْوَدَ أَعْوَرَ، فَجَلَسُوا بِفِنَاءِ قَصْرِ النُّعْمَانِ، وَقَدْ سَمِعَ النُّعْمَانِ بِشَرَفِ الصَّقْبِ وَمَنْزِلَتِهِ فِي قَوْمِهِ. فَقَالَ لِآذِنِهِ: ائْذَنْ لِلصَّقْبِ. قَالَ: فَخَرَجَ وَاعْتَمَدَ رَجُلا عَظِيمًا جَسِيمًا، فَقَالَ: ادْخُلْ وَهُوَ يَظُنُّهُ الصَّقْبَ، فَدَخَلَ فَقَالَ لَهُ النُّعْمَانُ: أَأَنْتَ الصَّقْبُ؟ قَالَ: لا وَلَكِنِّي الْبَرَاءُ بْنُ عَمْرٍو النَّهْدِيُّ. فَقَالَ: اجْلِسْ، فَجَلَسَ، وَدَعَا لَهُ بِلَبَنٍ، فَشَرِبَهُ. ثُمَّ قَالَ: لِلآذِنِ: ائْذَنْ لِلْصَقْبِ. فَخَرَجَ، فَاعْتَمَدَ آخَرَ جَمِيلا جَسِيمًا.

فَقَالَ: ادْخُلْ فَدَخَلَ، فَقَالَ: أَأَنْتَ الصَّقْبُ؟ قَالَ: لا وَلَكِنِّي الْحَارِثُ بْنُ مَازِنٍ النَّهْدِيُّ. قَالَ: اجْلِسْ وَدَعَا بِلَبَنٍ فشَرِبَ، ثُمَّ قَالَ: نَوِّهْ بِإِذِنِ الصَّقْبِ. فَنَوَّهَ بِهِ، فَدَخَلَ فَلَمَّا رَآهُ النُّعْمَانُ ازْدَرَاهُ، وَنَبَتْ عَيْنُهُ عَنْهُ، فَقَالَ: أَأَنْتَ الصَّقْبُ؟ ثَلاثَ مَرَّاتٍ. قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: تَسْمَعُ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ. قَالَ: أَبَيْتَ اللَّعْنَ، الرَّجَالُ لَيْسَ بِمُسُوكِ يُسْتَقَى فِيهَا الْمَاءُ، وَإِنَّمَا الْمَرْءُ بِأَصْغَرَيْهِ: قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، إِذَا نَطَقَ نَطَقَ بِبَيَانٍ، وَإِذَا قَاتَلَ قَاتَلَ بِجَنَانِ. قَالَ: إِنَّهُ لَكَمَا تَقُولُ، فَكَيْفَ نَظَرُكَ فِي الأُمُورِ؟ قَالَ: أَنْقُضُ فِيهَا الْمَفْتُولَ، وَأُبْرِمُ مِنَهَا الْمَسْحُولَ، وَأَحُلُّهَا إِلَى أَنْ تَحُولَ، ثُمَّ أَنْظُرُ إِلَى مَا تَحُولُ، وَلَيْسَ لَهَا بِصَاحِبٍ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَظَرٌ فِي الْعَوَاقَبِ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْفَقْرِ الْحَاضِرِ، وَالْعَجْزِ الظَّاهِرِ. قَالَ: الْفَقْرُ الْحَاضِرُ، الْمَرْءُ لا تَسْتَغْنِي نَفْسُهُ، وِإِنْ كَانَ ذَهَبًا جَلِيسُهُ، فَأَمَا الْعَجْزُ الظَّاهِرُ، فَالشَّابُّ الضَّعِيفُ، اللَّزُومُ لِلْحَلِيلَةِ، التَّبُوعُ لَهَا، الَّذِي يَحُومُ حَوْلَهَا، إِنْ غَضِبَتْ أَرْضَاهَا، وَإِنْ رَضِيَتْ فَدَاهَا، فَذَاكَ الَّذِي لا كَانَ، وَلا وَلَدَتِ النَّسِاءُ مِثْلَهُ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّوْءَةِ السَّوْءَاءِ وَالدَّاءِ الْعَيَاءِ. قَالَ: السَّوْءَةُ السَّوْءَاءُ الْحَلِيلَةُ السَّلِيطَةُ، السَلْفَعُ الْقَصِيرَةُ، الَّتِي تَغْضَبُ مِنْ غَيْرِ غَضَبٍ، وَتَعْجَبُ مَنْ غَيْرِ عَجَبٍ، فَصَاحِبُهَا لا يَنْعَمُ بَالُهُ، وَلا يِصْلُحُ حَالَهُ، إِنْ كَانَ مُقِلا عَيَّرَتْهُ، وَإِنْ كَانَ ذَا مَالٍ لَمْ يَنْفَعْهُ مَالُهُ، فَتِلْكَ الَّتِي أَرَاحَ اللَّهُ مِنْهَا بَعْلَهَا، وَلا مَتَّعَ بِهَا أَهْلَهَا، وَأمَّا الدَّاءُ الْعَيَاءُ، فَجَارُ السُّوءِ، الَّذِي إِنْ خَالَطْتَهُ ظَلَمَكَ، وَإِنْ غِبْتَ عَنْهُ سَبَعَكَ، وَإِنْ قَاوَلْتَهُ بَهَتَكَ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ جَارَكَ، فَأَخْلِ لَهُ دَارَكَ، وَعَجِّلْ مِنْهُ فَرَارَكَ، فَإِنْ ضَنِنْتَ كُنْتَ كَالْكَلْبِ الْهَرَّارِ، فَأَقَمْتَ بِذُلٍّ وَصَغَارِ وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ لِصَّحَارٍ الْعَبْدِيِّ، وَكَانَ أَزْرَقَ: " يَا أَخَا عَبْدِ الْقَيْسِ. قَالَ: عَلَى ذَاكَ قُطِعَ سَيْرِي، يَعْنِي: قِلادَتهُ، وَمَا عَبْدُ الْقَيْسِ عَلَيَّ بِعَارٍ. قَالَ: يَا أَحْمرُ. قَالَ: الذَّهَبُ أَحْمَرُ. قَالَ: يَا أَزْرَقُ. قَالَ: الْبَازِيُّ أَزْرَقُ. قَالَ: أَنْتُمْ أَخْطَبُ الْعَرَبِ؟ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ لَيُقَالُ. قَالَ: فَمَا الْخَطِيبُ فِيكُمْ؟ قَالَ: مَنْ رَدَّ بِقَلِيلِ الَجْوَابِ كَثيرَ النُّطْقِ. قَالَ: مَا هَذِهِ الْبَلاغَةُ فِيكُمْ؟ قَالَ: كَلامٌ يَعْتَلِجُ عَلَى قُلُوبِنَا فَنَقْذِفُهُ كَمَا يَقْذِفُ الْبَحْرُ الْمَوْجَ. قَالَ: فَمَا الإِبْلاغِ؟ قَالَ: أَنْ تُسْرِعَ فَلا تُبْطِئ، وَتَقُولَ فَلا تُخْطِئ ". حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلامٍ، قَالَ: " كَانَ يُقَالُ: اتَّقِ الْقُرَشِيَّ مَا لَمْ تَكُنْ لَهُ عِنْدَكَ يَدٌ، فَإِذَا كَانَتْ لَهُ عِنْدَكَ يَدٌ فَأْمَنْهُ فَإِنَّهُ لا يُكَدِّرُهَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلامٍ، قَالَ: " كَانَ عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ النَّاجِيُّ قَاضِيًا، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ رَجُلانِ، ادَّعَى أَحَدَهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ كَفَالَةً، فَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا كَفِيلٌ، وَلَيْسَ الْحَقُّ عَلَيَّ.

قَالَ: أَقُولُ لَكَ مَا قَالَ الْعَرَبِيُّ، وَمَا قَالَ الْفَارِسِيُّ، قَالَ الْعَرَبِيُّ: إِذَا مَا الْمَرْءُ كَانَ لَهُ كَفِيلٌ ... فَأَفْلَسَ أَوْ لَوَى غَرِمَ الْكَفِيلُ وَقَالَ الفَارَسِيُّ: بَانياز دَسُتَ الريش حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلامٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، قَالَ: " كَانَ رَجُلٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَهُ مِحْجَنٌ يَسْرِقُ بِهِ مَتَاعَ الْحَاجِّ، فَإِذَا قِيلَ لَهُ: تَسْرِقُ الْحَاجَّ؟ قَالَ: مَا أَسْرِقُ إِنَّمَا يَسْرِقُ مِحْجَنِي. قَالَ حَمَّادٌ: لَوْ كَانَ هَذَا حَيًّا الْيَوْمَ، كَانَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَفْصٍ أَبُو الْيَقْظَانِ، قَالَ: عُزِّيَ خَالِدٌ عَلَى رِبْعِيِّ ابْنِهِ، فَتَمَثَّلَ أَبْيَاتَ أَبِي خِرَاشٍ الْهُذَلِيِّ: فَوَاللَّهِ لا أَنْسَى قَتِيلا رَزَيْتُهُ ... بِجَانِبِ قُوسِي مَا مَشِيتُ عَلَى الأَرْضِ قَالَ: فَعَلِمَ وَاللَّهِ أَنَّهُ سَيَكْذِبُ، فَقَالَ: عَلَى أَنَّهَا تَعْفُو الْكُلُومُ وَإِنَّمَا ... نُوكَّلُ بِالأَدْنَى وَإِنْ جَلَّ مَا يَمْضِي حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَهْلُ بْنُ طَلْحَةَ، قَالَ: قَالَ خَشْرَمٌ: " دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَمَا رَأَيْتُ فِيهَا مَوْلًى. قَالَ: قُلْتُ: صَعِدْتَ الْغُرَفَ؟ قَالَ: لا. قُلْتُ: الْمَوَالِي فِي الْغُرَفِ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلامٍ، عَنْ يُونُسَ، قَالَ: لَمَّا مَاتَ الْمُهَلَّبُ، قَالَ نَهَارُ بْنُ تَوْسِعَةَ: لَقَدْ ذَهَبَ الْغَزْوُ الْمُغَرِّبُ لِلْغِنَى ... وَمَاتَ النَّدَى وَالْجُودُ بَعْدَ الْمُهَلَّبِ أَقَامَا بِمَرْوِ الرُّوذِ رَهِينَيْ حُفَيْرَةٍ ... وَقَدْ غُيَّبَا عَنْ كُلِّ شَرْقٍ وَمَغْرِبِ فَلَمَّا كَانَ قُتَيْبَةُ بِخُرَاسَانَ، وَفَتَحَ مَا فَتَحَ، قَالَ: مَا كَانَ مُذْ كُنَّا وَلا كَانَ قَبْلَنَا ... وَلا هُوَ فِيمَا بَعْدَنَا كَابْنِ مُسْلِمِ أَشَدُّ عَلَى الأَعْدَاءِ فِينَا بِسَيْفِهِ ... وَأَكْثَرُ فِينَا مَقْسَمًا بَعْدَ مَقْسِمِ قَالَ: أَيْنَ هَذَا مِنْ قَوْلِكَ: لَقَدْ ذَهَبَ الْغَزْوُ؟ قَالَ: ذَاكَ كَانَ غَزْوًا وَهَذَا حَشْرٌ. فَلَمَّا وَلِيَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ، أَتَاهُ خَلَفٌ الأَقْطَعُ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: نَهَارٌ أَمَاتَ الْجُودَ حِينًا وَلَمْ يَكُنْ ... لِصَاحِبِنَا عِلْمٌ بِمَا فِي الْمُغَيَّبِ لَقَدْ رَجَعَ الْغَازُونَ وْاسْتُؤْنِفَ الْغنَى ... بِنَصْرٍ وَعَاشَ الْجُودُ بَعْدَ الْمُهَلَّبَ قَالَ: خَلادٌ الأَرْقَطُ، قَالَ مَرْوَانُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ لِخَلَفٍ: اصْدُقْنِي عَنْ شِعْرِي، فَإِنَّ النَّاسَ يَغْلَطُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَالنَّاسُ يَلْقَوْنَنِي بِمَا أُحِبُّ، فَاصْدُقْنِي عَنْ نَفْسِي، فَأَنْشَدَهُ قَصِيدَتَهُ هَذِهِ: حَتَّى إِذَا وَرَدْتَ أَوَائِلُ خَيْلِهِ ... جَيْحَانَ بَثَّ عَلَى الْعَدوِّ رِعَالَهَا فَقَالَ: أَنْتَ فِيهَا أَشْعَرُ مِنَ الأَعْشَى فِي قَصِيدَتِهِ: رَحَلَتْ سُمَيَّةُ غَدْوةً أَجْمَالُهَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلامٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُمَحِيِّ، عَنْ عَوْفِ، قَالَ: " قَدِمَ رَجُلٌ مِنَ الشَّامِ مِنْ آلِ أَبِي صُفْرَةَ، فَكَانَ يُحَدِّثُ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَهِنْدِ ابْنَةِ ربيعة، وأبي سفيان بن حرب، ومعاوية بن أبي سفيان، إلى أَنْ قَالَ لِي رَجُلٌ: مَا تَقُولُ فِي كَذَا؟ فَقُلْتُ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ كَذا. وَقَالَ: وَسَأَلَنِي آخَرُ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي كَذا؟ فَقُلْتُ قَالَ الْحَسَنُ.

" دخل عبد الله بن الزبير على معاوية بن أبي سفيان، وعنده جماعة، فيهم مروان بن الحكم، وسعيد

فَتَعَرَّضُوا إِلَيَّ وَتَرَكُوهُ، فَقَالَ: أَلا تَعْجَبُ مِنْ هَؤُلاءِ، أُحَدِّثُهُمْ عَنْ هِنْدٍ، وَأَبِي هِنْدٍ، وَزَوْجِ هِنْدٍ، وهذا يحدثهم عَنْ عِجْلَيْنِ مِنْ أَهْلِ مَيْسَانَ، فَيَقُومُونَ إِلَيْهِ وَيَتْرُكُونَنِي أَنْشَدَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلامٍ لِبَعْضِ الشُّعَرَاءِ فِي مَعْنِ بْنِ زَائِدَةَ: بَأَيِّ الْخَلَّتَيْنِ عَلَيْكَ أُثْنِي ... فَإِنِّي عِنْدَ مُنْصَرفِي سَئُولُ أَبَا الْحُسْنَى فَلَيْسَ لَهَا ضِيَاءٌ ... عَلَيَّ فَمَنْ يُصَدِّقُ مَا أَقُولُ؟ دَخَلَ جَدِّي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُصْعَبٍ عَلَى الْمَهْدِيِّ، فَتَكَلَّمَ بِكَلامٍ، فَلَمَّا انْصَرَفَ لَقِيَهُ مَنْ سَمِعَ كَلامَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، اكْتُبْنِي ذَلِكَ الْكَلامَ الَّذِي تَكَلَّمْتَ بِهِ، قَالَ: مَا أَحْفَظُهُ، وَلا أَعْرِفُهُ، إِنَّمَا كَانَ كَلامًا عَنَّ فَفَنَّ. 261 - حَدَّثَنِي عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ سَعِيدٍ الْمُسَاحِقِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قال: " دَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ، فِيهِمْ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَسَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، فَأَوْسَعَ لَهُ مُعَاوِيَةُ، فَجَلَسَ مَعَهُ عَلَى سَرِيرٍ، فَلَمَّا انْصَرَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَقْبَلَ مَرْوَانُ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: لِلَّهِ دَرُّكَ مِنْ رَئِيسِ قَبِيلَةٍ ... تَضَعُ الْكَبِيرَ وَلا تُرَبِّي الأَصْغَرَا فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: نَفْسُ عِصَامٍ سَوَّدَتْ عِصَامَا " 262 - حَدَّثَنِي أَبُو ضَمْرَةَ، عَنْ أُسَامَةَ، عَنْ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا، وَلا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا ثَلاثًا، فَإِنْ زَنَتِ الرَّابِعَةَ فَلْيَبِعْهَا، وَلَوْ بِضَفِيرٍ مِنْ شَعْرٍ» 263 - حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ عَامِرَ بْنَ صَالِحٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةِ، عَنْ أَبْيهِ، قَالَ: " قَالَ لِي أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: هَلْ لَكَ أَنْ أَبِيعَكَ نَعَمًا مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ، وَأُنْسِئَكَ النَّصْفَ؟ قَالَ: فَقَالَ عُرْوَةُ: وَاللَّهِ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ صَدَقَاتِ مُضَرَ الْحَمْرَاءَ كُلَّهَا لِي، لَشَهِدْتُ أَبَاكَ يَعْنِي مَرْوَانَ عَلَى هَذَا الْمِنْبَرِ أَمَرَ لِلْنَاسِ بِنِصْفِ عَطَائِهِمْ. وَقَالَ: إِنَّ الْمَالَ قَصَّرَ، وَقَدْ أَمَرْتُ لَكُمْ بِالنِّصْفِ الأَخِيرِ مِنْ صَدَقَاتِ مَالِ الْيَمَنِ. قَالَ: فَوَثَبَ النَّاسُ فَقَالُوا: لا وَاللَّهِ مَا نُرِيدُ، ذَاكَ مَالُ الصَّدَقَةِ، وَإِنَّمَا مَالُنَا مَالُ الْخَرَاجِ. فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةُ، فَأَمَرَ لَهُمْ مُعَاوِيَةُ بِمَالِ الْخَرَاجِ « كَانَ عِنْدِي سَيْفُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، اشْتَرَيْتُهُ، فَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ جَعْفَرٌ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ يَطْلُبُهُ مِنِّي بِثَمَنٍ، فَأَهْدَيْتُهُ إِلَيْهِ، وَكَانَ عِنْدَ آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ السَّيْفُ الَّذِي يُسَمَّى الْعُرْجُونَ، وَكَانَ سَبَبَهُ أَنَّ» سَيْفَ ابْنِ جَحْشٍ انْقَطَعَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عُرْجُونَ نَخْلَةٍ، فَصَارَ فِي يَدِهِ سَيْفًا "، يُقَالُ: إِنَّ قَائِمَتَهُ مِنْهُ، فَبِيعَ مِنْ بُغَا التُّرْكِيِّ بِمَائَتِي دِينَارٍ.

حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، فَإِذَا هُوَ كَالْمُغْتَاظِ، فَقُلْتُ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَامِلِكُمْ آنِفًا، يَعْنِي عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَسَلَّمْتُ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ، فَقُلْتُ: مُسَّا تُرَابَ الأَرْضِ مِنَهَا خُلِقْتُمَا ... وَفِيهَا الْمَعَادُ وَالْمَصِيرُ إِلَى الْحَشْرِ وَلا تَعْجَبَا أَنْ تُؤْتَيَا فَتُكَلَّمَا ... فَمَا حُشِيَ الأَقْوَامُ شَرًّا مِنَ الْكِبْرِ فَلَوْ شِئْتُ أَدْلَى فِيكُمَا غَيْرُ وَاحِدٍ ... عَلانِيَةً أَوْ قَالَ عِنْدِيَ فِي السِّرِّ فَإِنْ أَنْا لَمْ آمُرْ وَلَمْ أَنْهِ عَنْكُمَا ... ضَحِكْتُ لَهُ حَتَّى تَلَجَّ وَيَسْتَشْرِي قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَقُلْتُ لَهُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَمِثْلُكَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فِي سِنِّكَ وَفَضْلِكَ يَقُولُ الشِّعْرُ؟ قَالَ: إِنَّ الْمَصْدُورَ إِذَا نَفَثَ بَرَأَ حَدَّثَنِي مُبَارَكٌ الطَّبَرِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُقَالُ لَهُ: أَبُو الْمَاهِرِ، يَقُولُ: " قَدِمَ الْمَنْصُورُ لِلْحَجِّ، فَكَانَ يَخْرُجُ مِنْ دَارِ النَّدْوَةِ إِلَى الطَّوَافِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ مُسْتَتِرًا مِنَ النَّاسِ، فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ، وَيُصَلِّي وَيَدْعُو، لا يُعْرفُ مَوْضِعَهُ، فَإِذَا أَضَاءَ الْفَجْرُ عَادَ إِلَى دَارِ النَّدْوَةِ، وَجَاءَ الْمُؤَذِّنُونَ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ، وَأُقِيمَتِ الصَّلاةُ، فَيَخْرُجُ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَخَرَجَ ذَاتَ لَيْلَةٍ حِينَ أَسْحَرَ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ، فَسَمِعَ رَجُلا فِي الْمُلْتَزَمِ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ ظُهُورَ الْبَغْيِ وَالْفَسَادِ فِي الأَرْضِ، وَمَا يَحُولُ بَيْنَ الْحَقِّ وَأَهْلِهِ مِنَ الطَّمَعِ. قَالَ: فَاقْتَصَدَ الْمَنْصُورُ فِي مَشْيِهِ حَتَّى مَلَأَ مَسَامِعَهُ مِنْ قَوْلِهِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الطَّوَافِ، فَجَلَسَ نَاحِيَةً مِنَ الْمَسْجِدِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الرَّجُلِ، فَقَالَ لَهُ: أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ، وَأَقْبَلَ مَعَ الرَّسُولِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: مَا هَذَا الَّذِي سَمِعْتُكَ تَذْكُرُ مِنْ ظُهُورِ الْبَغْيِ وَالْفَسَادِ فِي الأَرْضِ، وَمَا يَحُولُ بَيْنَ الْحَقِّ وَبَيْنَ أَهْلِهِ مِنَ الطَّمَعِ؟ فَوَاللَّهِ لَقَدْ حَشَوْتَ مَسَامِعِي مَا أَرْمَضَنِي وَأَقْلَقَنِي. قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ أَمَّنْتَنِي عَلَى نَفْسِي أَنْبَأْتُكَ بِالأُمُورِ مِنْ أُصُولِهَا، وِإِلا احْتَجَزْتُ مِنْكَ، وَاقْتَصَرْتُ عَلَى نَفْسِي، فَفِيهَا شَاغِلٌ عَنْ سِوَى ذَلِكَ. قَالَ الْمَنْصُورُ: فَأَنْتَ آمِنٌ عَلَى نَفْسِكَ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ الَّذِي دَخَلَهُ الطَّمَعُ حَتَّى حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَقِ، فَأَظْهَرَ طَمَعَهُ فِي الأَرْضِ وْالْفَسَادَ وَالْبَغْيَ لَأَنْتَ.

قَالَ: وَيْحَكَ، وَكَيْفَ يَدْخُلُنِي الطَّمَعُ وَالصَّفْرَاءُ وَالْبَيْضَاءُ فِي قَبْضَتِي، وَالْحُلْوُ وَالْحَامِضُ فِي يَدِي! ! فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَلْ دَخَلَ أحدًا مِنَ الطَّمَعِ مَا دَخَلَكَ! ؟ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، اسْتَرْعَاكَ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ فَأَغْفَلْتَ أُمُورَهُمْ، وَاهْتَمَمْتَ بِجَمْعِ أَمْوَالِهِمْ، وَجَعَلْتَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ حِجَابًا مِنْ جَصٍّ وَآجُرٍّ، وَأَبْوَابًا مِنْ حَدِيدٍ، بَعْضُهَا عَلَى إِثْرِ بَعْضٍ، وَحَجَبَةً عَلَيْهَا فِي أَيْدِيهِمُ السِّلاحُ، ثُمَّ سَجَنْتَ نَفْسَكَ فِيهَا، وَاحْتَجَبْتَ بِهَا عَنْهُمْ، وَبَعَثْتَ عُمَّالَكَ فِي جِبَايَةِ الأَمْوَالِ وَجَمْعِهَا وَحَشْرِهَا إِلَيْكَ، وَقَوَّيْتَهُمُ بِالرِّجَالِ وَالْكُرَاعِ، وَأَمَرْتَ بِأَلا يَدْخُلَ عَلَيْكَ مِنَ النَّاسِ إِلا فُلانًا وَفُلانًا، لِنَفَرٍ يَسِيرٍ، وَنَهَيْتَهُمْ أَنْ يُوصِلُوا إِلَيْكَ مَظْلُومًا أَوْ مَلْهُوفًا أَوْ جَائِعًا أَوْ عَارِيًا أَوْ فَقِيرًا، لَهُ فِي هَذَا الْمَالِ الَّذِي قِبَلَكَ حَقٌّ، فَجَبَى عُمَّالُكَ الأَمْوَالَ وَجَمَعُوهَا وَحَشَرُوهَا إِلَيْكَ، فَأَوْدَعْتَهَا الْخَزَائِنَ بِمَدِينَتِكَ، وَلَمْ تُعْطِهَا أَهْلَهَا، فَلَمَّا رَآكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَؤُلاءِ النَّفَرُ الَّذِينَ اسْتَخْلَفْتَهُمْ لِنَفْسِكَ، وَخَصَصَّتَهُمْ بِبِرِّكَ، وَآثَرْتَهُمْ عَلَى رَعِيَّتِكَ، تَجِمُّ الأَمْوَالَ وَتَجْمَعُهَا، وَتَسْتَأْثِرُ بِهَا، فَلا تُقَسِّمُهَا عَلَى أَهْلِهَا، وَتَمْنَعُهُمْ حُقُوقَهُمْ مِنْهَا، قَالُوا: هَذَا قَدْ خَانَ اللَّهَ فَمَالَنَا لا نَخُونُهُ، وَقَدْ سَجَنَ نَفْسَهُ، وَأَمْكَنَنَا مِنْهُ الْفُرْصَةَ , وَاطَّلَعْنَا مِنْهُ عَلَى الْعَوْرَةِ! فَتَوَازَرُوا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَنْ لا يَصِلَ إِلَيْكَ مِنْ عِلْمِ خَبَرِ النَّاسِ إِلا مَا أَحَبُّوا، وَأنْ لا تَطَّلِعَ مِنْ أُمُورِهِمْ إِلا عَلَى مَا أَرَادُوا، وَأَنْ لا يَخْرُجَ لَكَ عَامِلٌ فَيُخَالِفَ أُمُورَهُمْ، وَيَطْرَحَ رَأْيَهُمْ، إِلا قَصَبُوهُ عِنْدَكَ، وَاغْتَابُوهُ، حَتَّى تَسْقُطَ مَنْزِلَتُهُ، وَيَتَّضِحَ أَمْرُهُ، فَأَجْمَعَ رَأْيُهُمْ وَأَمْرُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَانْتَشَرَ لَهُمْ بِذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ مِنْ رَعِيَّتِكَ أَنَّهُمْ يَضُرُّونَ وَيَنْفَعُونِ عِنْدَكَ مَنْ شَاءُوا، وَأَنَّكَ تَقْبَلُ قَوْلَهُمْ، وَتَعْمَلُ بِرَأْيِهِمْ، فَأَعْظَمَهُمْ مَنْ وَرَاءِ بَابِكَ، وَخَافُوهُمْ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صَانَعَهُمْ مِنَ النَّاسِ وَدَارَاهُمْ عُمَّالُكَ، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِمْ بِالْهَدَايَا، لِيَقَوَوْا بِهَا عَلَى ظُلْمِ رَعِيَّتِكَ، فَامْتَلَأَتِ الأَرْضُ مِنْ طَمَعِكَ الْحَاجِزِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْحَقِّ، بَغْيًا وَفَسَادًا، وَصَارَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَؤُلاءِ النَّفَرُ الَّذِينَ سَجَنْتَ نَفْسَكَ لَهُمْ بِطَمَعِكَ شُرَكَاءَكَ فِي سُلْطَانِكَ، يَكْسِبُونَ لَكَ الْآثَامَ، وَيُطَوِّقُونَكَ الْخَطَايَا، وَيُحَمِّلُونَكَ الأَوْزَارَ، وَأَنْتَ غَافِلٌ أَوْ متُغَافِلٌ، كَأَنَّكَ لا تَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا ظَلَمَ أَحَدٌ مِنْ عُمَّالِكَ أَحَدًا مِنْ رَعِيَّتِكَ، أَوْ قَوِيٌّ مِنْ جُنْدِكَ غَصَبَ ضَعِيفًا مِنْ ذَوِي الْعَهْدِ، فَجَاءَكَ مُتَظَلِّمًا، أَنَّهُ يُحَالُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَ إِلَيْكَ قَضِيَّةً عِنْدَ ظُهُورِكَ، وَجَدَكَ قَدْ نَهَيْتَ عَنْ ذَلِكَ، وَوَقَّفْتَ لِلنَّاسِ رَجُلا يَنْظُرُ فِي مَظَالِمِهِمْ، فَإِنْ أَتَى ذَلِكَ الرَّجُلُ بِمَظْلَمَةٍ لِمُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهِدٍ، وَبلَغَ ذَلِكَ

بِطَانَتَكَ، أَتُوا الرَّجُلُ فَسَأَلُوهُ أَنْ لا يَرْفَعَ مَظْلَمَتَهُ، فَإِنَّ الَّذِي يَتَظَلَّمُ مِنْهُ لَهُ بِهِ حُرْمَةٌ. وَمَا حُرْمَتُهُ قِدَمَ خِيَانَتِهِ، فَأَجَابَهُمْ صَاحِبُ الْمَظَالِمِ إِلَى ذَلِكَ، وَاخْتَلَفَ الْمَظْلُومُ أَيَّامًا يَلُوذُ بِهِ، وَيَشْكُو إِلَيْهِ، فَيَعْتَلُّ عَلَيْهِ، وَيَدْفَعُهُ ويُمَنِّيهِ، فَإِذَا ظَهَرْتَ صَرَخَ بَيْنَ يَدَيْكَ مُسْتَغِيثًا، فَضُرِبَ وَجُعِلَ نَكَالا لِغَيْرِهِ، وَأَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ تَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَتَحْتَجُّ عَلَيْهِ بَأَنَّكُ قَدْ وَقَّفْتَ لَهُ رَجُلا يَنْظُرُ فِي ظَلامَتِهِ، فَمَا بَقَاءُ الْإِسْلامِ وَأَهْلِهُ عَلَى هَذَا؟ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ كَانَتْ بَنُو أُمَيَّةَ عَلَى مَا كَانَ فِيهِمْ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ بِطَانَتَهَا، لا تَنْهَى مَظْلُومًا عَنْ رَفْعِ مَظْلَمَةٍ، وَلَقَدْ كَانَ يَأْتِي الْمَظْلُومُ فِي عَصْرِ بَنِي أُمَيَّةَ مِنْ أَقَاصِي الأَرْضِ حَتَّى إِذَا وَصَلَ إِلَى بَابِ سُلْطَانِهِمْ نَادَى: يَا أَهْلَ الْإِسْلامِ. فَيَقُولُونَ: مَا لَكَ؟ مَا لَكَ؟ لَيْسَ فِي ذَلِكَ طَلَبُ ثَوَابٍ إِلا الْتِمَاسَ مَكَارِمِ الدُّنْيَا. فَيَقُولُ أَخِي إِلَيَّ فِي الْإِسْلامِ كَذَا وَكَذَا، فَيَبْتَدِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا الْمَنْطِقَ عِنْدَ سُلْطَانِهِمْ، فَيَقُولُونَ: بِالْبَابِ رَجُلٌ يَشْكُوا كَذَا وَكَذَا، فَيُنْظَرُ فِي ظَلامَتِهِ وَيُنْصَفُ. وَقَدْ كُنْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أُسَافِرُ إِلَى أَرْضِ الصِّينِ، فَقَدِمْتُهَا فِي بَعْضِ أَسْفَارِي، وَقَدْ أُصِيبَ مَلِكُهُمْ بِسَمْعِهِ، فَبَكَى يَوْمًا بَيْنَ يَدَيْ وُزَرَائِهِ، فَقَالُوا لَهُ: مَا أَبْكَاكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ لا بَكَتْ عَيْنَاكَ؟ قَالَ: أَمَا إِنِّي لَسْتُ أَبْكِي لِلْبَلِيَّةِ الَّتِي نَزَلَتْ بِي، وَلَكِنِّي أَبْكِي لِمَظْلُومٍ يَصْرُخُ وَلا أَسْمَعُ صَوْتَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَا إِذَا ذَهَبَ سَمْعِي فَإِنَّ بَصَرِي لَمْ يَذْهَبْ، نَادُوا فِي النَّاسِ: أَلا يَلْبَسُ ثَوْبًا أَحْمَرَ إِلا مَظْلُومٌ، ثُمَّ كَانَ يَرْكَبُ الْفِيلَ طَرَفَيِ النَّهَارِ فَيَنْظُرُ هَلْ يَرَى مَظُلُومًا. يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا مُشْرِكٌ بِاللَّهِ، قَدْ غَلَبَتْ رَأْفَتُهُ بِالْمُشْرِكِينَ شُحَّ نَفْسِهِ، وَأَنْتَ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ، ثُمَّ أَنْتَ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَلا يَغْلِبَنَّكَ شُحُّ نَفْسِكَ، فَتَدَعَ الرَّأْفَةَ بِالْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لا تَجْمَعُ الأَمْوَالَ إِلا لَواحِدٍ مِنْ ثَلاثٍ.

إِنْ قُلْتَ: أَجْمَعُهُ لَوَلَدِي، فَقَدْ أَرَاكَ اللَّهُ عِبَرًا فِي الطِّفْلِ الصَّغِيرِ، يَسْقُطُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ مَا لَهُ مَالٌ، وَمَا مِنْ مَالٍ إِلا عَلَيْهِ يَدٌ حَاوِيَةٌ، وَدُونَهُ يَدٌ شَحِيحَهٌ عَلَيْهِ، فَلا يَزَالُ اللَّهُ يَلَطُفُ بِذَلِكَ الطِّفْلِ حَتَّى تَعْظُمَ رَغْبَةُ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَلَسْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِي تُعْطِي، بَلِ اللَّهِ الَّذِي يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ مَا يَشَاءُ، وَإِنْ قُلْتَ: إِنَّمَا أَجْمَعُ الأَمْوَالَ لِتَشْيِيدَ مُلْكِي، فَقَدْ أَرَاكَ اللَّهُ عِبَرًا فِي بَنِي أُمَيَّةَ، مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا جَمَعُوا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمَا اسْتَعَدُّوا مِنَ الْخَيْلِ وَالرِّجَالِ وَالْكُرَاعِ، حِينَ أَرَادَ اللَّهُ بِهمْ مَا أَرَادَ، وَمَا ضَرَّكَ وَوَلَدُ أَبِيكَ مِنَ الضَّعْفِ وَقِلَّةِ الْجِدِّ، وْالْخُمُولِ حِينَ أَرَادَ اللَّهُ بِكُمْ مَا أَرَادَ؟ وَإِنْ قُلْتَ: إِنَّمَا أَجْمَعُ الأَمْوَالَ لِطَلِبِ غَايَةٍ هِيَ أَجْسَمُ مِنَ الْغَايَةِ الَّتِي أَنَا فِيهَا، فَوَاللَّهِ مَا مِنْ غَايَاتِ الدُّنْيَا غَايَةٌ هِيَ أَجْسَمُ مِنَ الْغَايَةِ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا، وَلا بَعْدَهَا غَايَةٌ هِيَ أَجْسَمُ مِنْهَا، لا تَنْجُو إِلا بِمَا تَعْمَلُ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ. ثُمَّ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ تُعَاقِبُ مَنْ عَصَاكَ مِنْ رَعِيَّتِكَ بِأَشَدَّ مِنَ الْقَتْلِ؟ قَالَ: لا. قَالَ: فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِالْمَلِكِ الْجَبَّارِ الَّذِي خَوَّلَكَ مُلْكَ الدُّنْيَا، وَهُوَ لا يُعَاقِبُ مَنْ عَصَاهُ بِالْقَتْلَ، وَلَكِنْ يُعَاقِبُهُمْ بِالْخُلُودِ فِي الْعَذَابِ الأَلِيمِ؟ ! وَقَدْ رَأَى جَلَّ ثَنَاؤُهُ مَا قَدْ عَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبُكَ، وَأَضْمَرَتْهُ جُوَارِحُكَ، وَنَظَرَ إِلَيْهِ بَصَرُكَ، وَاجْتَرَحَتْهُ يَدَاكَ، وَمَشَتْ إِلَيْهِ رِجْلاكَ، وَمَا حَمَلْتَ عَلَى ظَهْرِكَ، فَمَاذَا تَقُولُ إِذَا انْتَزَعَ الْمَلِكُ الْجَبَّارُ مُلْكَ الدُّنْيَا مِنْ يَدِكَ، وَدَعَاكَ إِلَى الْحِسَابِ فِيمَا خَوَّلَكَ؟ هَلْ يُغْنِي عَنْكَ مَا شَحَحْتَ عَلَيْهِ مِنْ مُلْكِ الدُّنْيَا؟ فَبَكَى الْمَنْصُورُ، وَقَالَ: لَيْتَنِي لَمْ أُخْلَقَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ أَحْتَالُ لِنَفْسِي؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّكَ أَضْرَرْتَ بِآخِرَتِكَ، فَنِلْتَ مِنْ دُنْيَاكَ، فَاضْرُرْ بِدُنْيَاكَ تَنَلْ مِنْ آخِرَتِكَ. قَالَ: فَكَيْفَ أَصْنَعُ فِيمَا خُوِّلْتُ وَلَمْ أرَ مِنَ النَّاسِ إِلا خَائِنًا؟ . فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ لِلنَّاسِ أَعْلامًا يَفْزَعُونَ إِلَيْهِمْ، فَاجْعَلْهُمْ بِطَانَتَكَ يُرْشِدُوكَ، وَشَاوِرْهُمْ فِي أُمُورِكِ يُسَدِّدُوكَ. قَالَ الْمَنْصُورُ: قَدْ بَعَثْتُ إِلَيْهِمْ، فَهَرَبُوا مِنِّي. قَالَ: هَرَبُوا مَخَافَةَ أَنْ تَحْمِلَهُمْ عَلَى مِثْلِ مَا ظَهَرَ مِنْ فِعْلِ عُمَّالِكَ، وَلَكنِ افْتَحِ الأَبْوَابَ، وَسَهِّلِ الْحُجَّابَ، وَانْتَصِرْ لِلْمَظْلُومِ، وَاقْمَعِ الظَّالِمَ، وَخُذِ الْفَيْءَ وَالصَّدَقَاتَ، مِمَّا حَلَّ وَطَابَ، وَاقْسِمْهُ بِالْعَدْلِ وَالْحَقِّ، وَأَنَا الضَّامِنُ عَلَى الَّذِينَ هَرَبُوا مِنْكَ أَنَ يَأْتُوكَ وَيُشَايِعُوكِ عَلَى صَلاحِ أَمُورِهِمْ وَأُمُورِكَ، وَصَلاحِ رَعِيَّتِكَ. فَقَالَ الْمَنْصُورُ: اللَّهُمَّ وَفِّقْنِي لأَنْ أَعْمَلَ بِمَا قَالَ هَذَا الرَّجُلُ.

وَجَاءَ الْمُؤَذِّنُونُ، فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ، وَأُقِيمَتِ الصَّلاةَ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مَجْلِسِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَطَلَبَ الرَّجُلَ فَلَمْ يُوجَدْ، فَقَالَ بَعْضَ النَّاسِ: نَظُنُّهُ رَجُلا مِنَ الأَبْدَالِ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: نَظُنَّهُ الْخَضِرَ عَلَيْهِ السَّلامُ حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ عَنْ جَدِّي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبٍ، قَالَ: قَالَ شَبِيبُ بْنُ شَيْبَةَ لَأَبِي جَعْفَرٍ: " يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ تَبارَكَ وَتَعَالَى قَسَّمَ أَقْسَامَهُ بَيْنَ خَلْقِهِ، لَمْ يَرْضَ لَكَ مِنَهِا إِلا بِأعْلاهَا وَأَسْنَاهَا، فَلَمْ يَجْعَلْ فَوْقَكَ فِي الدُّنْيَا أَحَدًا، فَلا تَرْضَ لِنَفْسِكَ إِذْ فَعَلَ بِكَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فَوْقَكَ فِي الْآخِرَةِ أَحَدٌ، واتَّقِ اللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهَا وَصِيَّةُ اللَّهِ، إِلَيْكُمْ جَاءَتْ، وَمِنْكُمْ قُبِلَتْ، وَإِلَيْكُمْ تُرَدُّ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَخْزُومِيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ لْابْنِهِ: " يَا بُنَيَّ، إِذَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْكَ نِعْمَةً، فَقُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. وَإِذَا أَحْزَنَكَ أَمْرٌ فَقُلْ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ. وَإِذَا أَبْطَأَ عَلَيْكَ رِزْقٌ فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أَنَّهُ قَالَ لَبَنِيهِ: " يَا بَنِيَّ لا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لاثْنَتَيْنِ: لا تَعَلَّمُوهُ لِلْتَمَارِي، وَلا لِلتَّبَاهِي، وَلا تَدَعُوهُ رَغْبَةً عَنْهُ، وَلا اسْتِحْيَاءً مِنَ تَعَلُّمِهِ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: " لا يَكُونُ الْمَعْرُوفُ مَعْرُوفًا إِلا بِاسْتِصْغَارِهِ وَتَعْجِيلِهِ وَكِتْمَانِهِ حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيُّ، قَالَ: " كَانَ أَسْمَاءُ بْنُ خَارِجَةَ، يَقُولُ: لا أَشْتُمُ أَحَدًا، وَلا أَمْنَعُ سَائِلا أَقْدِرُ عَلَى إِعْطَائِهِ، فَإِنَّمَا يَشْتُمُنِي أَحَدُ رَجُلَيْنِ: كَرِيمٌ كَانَ شَتْمُهُ إِيَّايَ زَلَّةً مِنْهُ، فَأَنَا أَحَقُّ مَنْ غَفَرَ لَهُ، أَوْ لَئِيمٌ قَادَهُ إِلَيَّ لُؤْمُهُ، فَلا أَرَى عِرْضِي لِعِرْضِهِ خَطَرًا، وَإِنَّمَا يَسْأَلُنِي أَحَدُ رَجُلَيْنِ: كَرِيمٌ أَصَابَتْهُ خَلَّةٌ، فَأَنَا أَحَقُّ مَنْ أَعَانَهُ، أَوْ لَئِيمٌ أَفْتَدِي مِنْهُ عِرْضِي حَدَّثَنِي مُبَارَكُ الطَّبَرِيُّ، قَالَ: " كَتَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى الْمَنْصُورِ يُعَزِّيهِ، أمَا بَعْدُ: فَإِنَّ أَحَقَّ النَّاسَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالرِّضَا وَالتَّسْلِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ، مَنْ كَانَ إِمَامًا بَعَدَ اللَّهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِمَامٌ إِلا اللَّهُ

حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ الأَثْرَمُ، قَالَ: حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ، قَالَ: " كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَقَايَا عَادٍ مِمَّنْ نَجَا مَعَ هُودٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، يُقَالُ لَهُ: حِمَارُ بْنُ مُوَيْلِعِ، وَكَانَ أَشَدَّ أَهْلَ زَمَانِهِ وَأَمْنَعِهِ، وَكَانَ قَدْ حَمَى جَوْفًا مِنْ أَرْضِ عَادٍ، يُنْبِتُ حُرَّ الشَّجِرِ، وَكَانَ يَزْرَعُ فِي نَوَاحِيهِ، وَكَانَ أَخْصَبَ وَادٍ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَبِهِ مَاءٌ مَعِينٌ، وَكَانَ يُكْرِمُ الضَّيْفَ، وَيَرْعَى مَنِ اسْتَرْعَاهُ، فِي ذَلِكَ الْجَوْفِ، وَكَانَ طُولُهُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ، وَعَرْضُهُ فَرْسَخَيْنِ لِلْرَاكبِ الْمُجِدِّ، يَسِيرُ الرَّاكِبُ مِنَ أَسْفَلِهُ إِلَى أَعْلاهُ، وَمِنْ أَعْلاهُ إِلَى أَسْفَلِهِ، فَهُوَ فِيمَا شَاءَ مِنْ رَعْيٍ وَشَجَرٍ، وَكَانَ مُؤْمِنًا مُوَحِّدًا أَرْبَعِينَ سَنَةً وَلَهُ بَنُونَ عَشْرَةٌ، وَمَعَهُ نُفَيْرٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَخَرَجَ بَنُوهُ فِي سَفَرٍ لَهُمْ، فَأَصَابَتْهُمْ صَاعِقَةٌ، فَمَاتُوا كُلُّهُمْ، فَأَسِفَ وَغَضِبَ وَقَالَ: لا أعَبْدُ اللَّهِ أَبَدًا، فَرَجَعَ إِلَى عِبَادَةِ الأَوْثَانِ، وَكَفَرَ كُفْرًا عَظِيمًا، وَمَنَعَ الضِّيَافَةَ مِمَّنْ مَرَّ بِهْ مِنَ النَّاسِ، وَدَعَا مَنْ أَرْعَاهُ مِنَ النَّاسِ إِلَى عِبَادَةِ الأَوْثَانِ، فَمَنْ أَجَابَهُ تَرَكَهُ وَأَقَرَّهُ، وَمَنْ أَبَى عَلَيْهِ قَتَلَهُ وَأَخَذَ مَالَهُ، وَقَدْ أَدْرَكَهُ أَوَائِلُ قَبَائِلِ مَهْرَةَ، وَهِي كُورَةٌ مِنْ كُوَرِ الْيَمَنِ، فَأَقْبَلَتْ نَارٌ مِنْ أَسْفَلِ الْجَوْفِ بِرِيحٍ عَاصِفٍ، فَأَحْرَقَتِ الَجَوْفَ بِمَا فِيهِ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ فِي عِبَادَةِ الأَوْثَانِ، قَالَ: امْرُؤُ الْقَيْسِ: وَوَادٍ كَجَوْفِ الْعِيرِ قَفْرٍ قَطَعْتُهُ ... بِهِ الذِّئْبُ يَعْوِي كَالْخَلِيعِ الْمُعَيَّلِ وَقَالَ عَوَاءُ بْنُ ضَمْضَمِ الْمَهْرِيُّ: وَقَفْتُ عَلَى رَسْمٍ لَأَسَمْاءَ دَارِسٍ ... أُسَائِلُهُ وَلَيْسَ فِي الدَّارِ مَأْنَسُ تَحَمَّلَ مِنْهَا سَاكِنُوهَا فَأَصْبَحَتْ ... كَجَوْفِ الْحِمَارِ لَيْسَ فِيهَا مَعْرَسُ وَقَدْ كَانَ جَوْفُ الْعِيرِ لِلْعَيْنِ مَنْظَرًا ... أَنِيقًا وَفِيَهِ لِلْمُجَاوِرِ مَنْفَسُ وَقَالَ كَفَّارَةُ بْنُ مَيْسَاكٍ الْكِنْدِيُّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: مَرَرْتُ بِجَوْفِ الْعِيرِ وَهْيَ حَثِيثَةٌ ... وَقَدْ خُلِّقَتْ بِالَأَمْسِ مَحْلَ الْقَرَاضِمِ تُخَافُ مِنَ الْمَصْلَى عَدُوًّا مُكَاشِحًا ... وَدُونَ بَنِي الْمَصْلَى هُذَيْلُ بْنُ ظَالِمِ وَمَالِي بِجَوْفِ الْعِيرِ مِنْ مُتْلَدِّدِ ... مَسِيرَةَ يَوْمٍ لِلْمَطِيِّ الرَّوَاسِمِ الْقَرَاضِمُ: مِنْ مَهْرَةَ، حَيٌّ يُقَالُ لُهُمْ بَنُو قَرْضَمٍ، وَمَصْلَى بَطْنٌ، وَمُتْلَدِّدٌ مُتَلَفِّتٌ، وَيُقَالُ لِنَاحِيَتِي الْعُنُقِ: اللَّدِيدَانِ. وَقَالَ عِيَاضُ بْنُ عَدِيٍّ، وَكَانَ رَجُلا مِنْ حَاءٍ وَحَكَمٍ، وَهُمْ حَيٌّ مِنَ الْيَمَنِ يُقَالَ: حَاءٌ وَحَكَمٌ حَيَّانِ مِنَ الْعَرَبِ، وَهُمْ خَلْفُ الْحَكَمِ بْنِ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ، وَكَانُوا عَلَى أَرْضٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهَا: الْبَوْبَاةُ، وَكَانُوا يَبْغُونَ فِيهَا فَاحْتَرَقَتْ فَقَالَ عِيَاضٌ: أَلَمْ تَرَ لِلْبَوْبَاةَ كَيْفَ تَنَكَّرَتْ ... مَعَالِمُهَا مِنْ حَيِّ حَاءٍ وَمِنْ حَكَمْ وَصَبَّحَهَا يَوْمٌ عَصِيبٌ فَأَصْبَحَتْ ... كَجَوْفِ الْحِمَارِ جَدْبَةً مَا بِهَا عَلَمْ خَرَابًا يَبَابًا لَيْسَ فِيهِ مُعَرِّسٌ ... لِمُقْتَبِسٍ نَارًا إِذَا نَازِلٌ أَزَمْ

حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ صَالِحٍ، قَالَ: " خَرَجَ الْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَمَعَهُ سَيِّدُ الْحِيرَةِ فِي عِيرٍ لَهُ، يُرِيدُ الْعِرَاقَ فِي تِجَارَةٍ لَهُ، وَكَانَ سُوقُ الْحِيرَةِ سُوقًا تَجْتَمِعُ إِلَيْهَا الْعَرَبُ كُلَّ سَنَةٍ، وَكَانَ النُّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَدْ جَعَلَ لِبَنِي لأْمٍ مِنْ طَيِّئٍ رُبْعَ الطَّرِيقِ طُعْمَةً لَهُمْ، وَذَلِكَ لأَنَّ ابْنَةَ سَعْدِ بْنِ حَارِثٍ مِنْ لأْمٍ كَانَتْ عِنْدَ النُّعْمَانِ، فَكَانُوا أَصْهَارَهُ فَمَرَّ الْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ بَحَاتِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَسَأَلَهُ الْجِوَارَ فِي أَرْضِ طَيِّئٍ حَتَّى يَصِلَ إِلَى الْحِيرَةِ، فَأَجَارَهُ، وَأَمَرَ حَاتِمٌ بَجَزُورٍ فَنُحِرَتْ، ثُمَّ طُبْخَتْ أَعَضَاءً فَأَكَلُوا، وَمَعَ حَاتِمٍ مِلْحَانُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ الْحَشْرَجِ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّهِ، فَلَمَّا فَرَغُوَا مِنَ الطَّعَامِ طَيَّبَهُمُ الْحَكَمُ مِنْ طِيبِهِ ذَلِكَ، فَمَرَّ حَاتِمٌ بِسَعْدِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ لأْمٍ، وَلَيْسَ مَعْ حَاتِمٍ مِنْ بَنِي أَبِيهِ غَيْرُ مَلْحَانَ، وَحَاتِمٌ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ، وَمَعهُ فَرَسُهُ يُقَادُ، فَأَتَاهُ بَنُو لَأْمٍ، فَوَضَعَ حَاتِمٌ سُفْرَتَهُ، فَقَالَ: أَطْعِمُوا حَيَّاكُمُ اللَّهُ. فَقَالُوا: مَنْ هَؤُلاءِ مَعَكَ يَا حَاتِمُ؟ قَالَ: هَؤُلاءِ جِيرَانِي، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: فَأَنْتَ تُجِيرُ عَلَيْنَا فِي بِلادِنَا؟ ! فَقَالَ: أَنَا ابْنُ عَمِّكُمْ، وَأَحَقُّ مَنْ لَمْ تَخْفِرُوا ذِمَّتَهُ. فَقَالُوا: لَسْتَ هُنَاكَ، وَأَرَادُوا أَنْ يَفْضَحُوهُ كَمَا فُضِحَ عَامِرُ بْنُ جُوَيْنٍ، فَوَثَبُوا عَلَيْهِ، فَتَنَاوَلَ كِنْدِيُّ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ لَأْمِ حَاتِمًا، فَأَهْوَى إِلَيْهِ حَاتِمٌ بِالسَّيْفِ. فَأَطَارَ أَرْنَبَةَ أَنْفِهِ، فَوَقَعَ الشَّرُ حَتَّى تَحَاجَزُوا، فَقَالَ حَاتِمٌ: وَدِدْتُ وَبَيْتِ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ أَنْفَهُ ... هَوَاءٌ فَمَا مَتَّ الْمُخَاطِ مِنَ الْعَظْمِ وَلَكِنَّمَا لاقَاهُ سَيْفُ ابْنِ عَمِّهِ ... فَأَبْقَى وَمَرَّ السَّيْفُ مِنْهُ عَلَى الْخَطْمِ فَقَالُوا لِحَاتِمٍ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ سُوقُ الْحِيرَةِ، فَنُمَاجِدُكَ بِهَا، وَنَضَعُ الرَّهْنَ، فَفَعَلُوا، وَوَضَعُوا تِسْعَةَ أَفْرَاسٍ رَهْنًا، عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ مِنْ كَلْبٍ يُقَالُ لَهُ: امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ عَدِيِّ بْنِ أَوْسِ بْنِ جَابِرِ بْنِ كَعْبَشِ بْنِ عَلِيمٍ مِنْ جَنَابٍ، وَوَضَعَ حَاتِمٌ فَرَسَهُ، ثُمَّ خَرَجُوا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْحِيرَةِ، وَسَمِعَ بِذَلِكَ إِيَاسُ بْنُ قَبِيصَةَ الطَّائِيُّ، فَخَافَ أنْ يُعَيِّنَهُمُ النُّعْمَانُ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَيُقَوِّيهِمْ بِمَالِهِ وَسُلْطَانِهِ، لِلصِّهْرِ الَّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، فَجَمَعَ إِيَاسُ بْنُ قَبِيصَةَ رَهْطَهُ مِنْ بَنِي حَيَّةَ، وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ بَنِي حَيَّةَ، إِنْ هَؤُلاءِ الْقَوْمَ قَدْ أَرَادُوا أَنْ يَفْضَحُوَا ابْنَ عَمِّكُمْ حَاتِمًا، وَيَصْنَعُوا بِهِ كَمَا صَنَعُوا بِعَامِرِ بْنِ جُوَيْنٍ، وَحَاتِمٌ وَحْدَهُ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَأَعِينُوا ابْنَ عَمِّكُمْ فِي مِجَادِهِ. فَقَامَ رَجُلٌ مِنِ بَنِي حَيَّةَ فَقَالَ: عِنِّدي مِائَةُ نَاقَةٍ سَوْدَاءَ، وَمِائَةُ نَاقَةٍ حَمْرَاءَ، وَمِائَةُ نَاقَةٍ أَدْمَاءَ. وَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: عِنْدِي عَشَرَةُ حُصُنٍ عَلَى كُلِّ حِصَانٍ مِنْهَا فَارِسٌ مُدَجَّجٌ، لا يُرَى مِنْهُ إِلا عَيْنَاهُ.

وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ حَنْظَلَةِ الْخَيْرِ: قَدْ عَرَفْتُمْ أَنَّ أَبِي مَاتَ وَتَرَكَ عَلَيَّ كَلا كَثِيرًا، وَلَكَنْ عَلَيَّ كُلُّ خَمْرٍ وَطَعَامٍ وَلَحْمٍ يُبَاعُ فِي سُوقِ الْحِيرَةِ. ثُمَّ قَالَ إِيَاسٌ: عَلَيَّ مِثْلُ جَمِيعِ مَا أَعْطَيْتُمْ، وَمَا فِي سُوقِ الْحِيرَةِ. قَالَ: وَلا يَعْلَمْ حَاتِمٌ بِشَيْءٍ مِمَّا صَنَعُوا، وَذَهَبَ حَاتِمُ إِلَى مَالِكِ بْنِ جَبَّارٍ، ابْنِ عَمٍّ لَهُ بِالْحِيرَةِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْمَالِ، فَقَالَ: أَعِنِّي فِي مُخَايَلَتِي وَأَنْشَدَهُ: يَا مَالِ! إِحْدَى خُطُوبِ الدَّهْرِ قَدْ طَرَقَتْ ... يَا مَالِ! مَا أَنْتُمُ عِنَهَا بِزْحَزَاحِ يَا مَالِ! جَاءَتْ حِيَاضُ الْمَوْتِ وَارِدَةً ... مِنْ بَيْنِ غَمْرٍ فَخُضْنَاهُ وَضَحْضَاحِ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: مَا كُنْتُ لِأَحْرِمَ نَفْسِي وَلا عِيَالِي، وَأُعْطِيكَ. فَانْصَرَفَ عَنْهُ، وَأَتَى حَاتِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ابْنَ عَمٍّ لَهُ يقالُ لَهُ: وَهْمُ بْنُ عَمْرٍو وَكَانَ مُصَارِمًا لَهُ يَوْمَئِذٍ، لا يُكَلِّمُهُ، فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: أَيْ وَهْمُ، وَاللَّهِ أَبُو سَفَّانَةَ، حَاتِمٌ قَدْ طَلَعَ. فَقَالَ: مَا لَنَا وَلِحَاتِمٍ، أَثْبِتِي النَّظَرَ. فَقَالَتْ: هُوَ وَاللَّهِ هُوَ، لا شَكَّ فِيهِ. فَقَالَ: وَيْحَكِ هُوَ لا يُكَلَّمُنِي، فَمَا جَاءَ بِهِ إِلَيَّ؟ فَأَقْبَلَ حَتَّى سَلَّمَ عَلَيْهِ، فَرَحَّبَ بِهِ، وَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ يَا حَاتِمُ؟ فَقَالَ: أَخْطَرْتُ عَنْ حَسَبِي وَحَسَبِكَ. فَقَالَ: الرَّحْبُ وَالسَّعَةُ. هَذَا مَالِي وَعِنْدَهُ يَوْمَئِذٍ سَبْعُ مِائَةِ بَعِيرٍ، فَخُذْهَا مِائَةً مِائَةً حَتَّى تَذْهَبَ الإِبِلُ، أَوْ تُصِيبَ الَّذِي تُرِيدُ. فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: إِي وَهْمُ، أَتُخْرِجْنَا مِنْ مَالِنَا فَنَبْقَى عَالَةً؟ فَقَالَ: إِلَيْكِ عَنِّي، فَوَاللَّهِ مَا كَانَ مَا عِنْدَكِ لِيَرُدَّنِي عَمَّا قِبَلِي، فَقَالَ حَاتِمٌ: أَلا أَبْلِغَا وَهْمَ بْنَ عَمْرٍو رِسَالَةً ... فَإِنَّكَ أَنْتَ الْمَرْءُ بِالْخَيْرِ أَجْدَرُ رَأَيْتُكَ أَدْنَى مِنْ أُنَاسٍ قَرَابَةً ... وَغَيْرُكَ مِنْهُمْ كُنْتُ أَحْبُو وَأَنْصُرُ إِذَا مَا أَتَى يَوْمٌ يُفَرِّقُ بَيْنَنَا ... بِمَوْتٍ فَكُنْ يَا وَهْمُ ذُو تَتَأَخَّرُ ثُمَّ قَالَ إِيَاسُ بْنُ قَبِيصَةَ: احْمِلُونِي إِلَى الْمَلِكِ، وَكَانَ بِهِ نَقْرَسٌ، فَحُمِلَ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَنْعِمْ صَبَاحًا أَبَيْتَ اللَّعنَ. فَقَالَ لَهُ النُّعْمَانُ: حَيَّاكَ إِلَهَكَ. فَقَالَ لَهُ إِيَاسٌ: أَتُمِدُّ أَخْتَانَكَ بِالْمَالِ، وَالْخَيْلِ، وَجَعَلْتَ بَنِي ثُعَلٍ فِي قَعْرِ الْكِنَانَةِ؟ أَظَنَّ أَخْتَانُكَ أَنْ يَصْنَعُوا بِحَاتِمٍ مَا صَنَعُوا بِعَامِرِ بْنِ جُوَيْنٍ، وَلَمْ يَشْعُرُوا أَنَّ بَنِي حَيَّةَ بِالْبَلَدِ. فَإِنْ شِئْتَ وَاللَّهِ نَاجَزْنَاكَ حَتَّى تَسْفَحَ الأَوْدِيَةُ دَمًا فَلْيَحْضِرُوا مِجَادَهُمْ عِنْدَ مَجْمَعِ الْعَرَبِ، فَعَرَفَ النُّعْمَانُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ وَكَلامِهِ، فَقَالَ لَهُ النُّعْمَانُ: يَا حَلِيمَنَا لا تَغْضَبْ. فَأَرْسَلَ النُّعْمَانُ إِلَى سَعِيدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأَصْحَابِهِ: انْظُرُوا ابْنَ عَمِّكُمْ حَاتِمًا فَأَرْضُوهُ، فَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَنَا بِالَّذِي أُعْطِيكُمْ مَالِي تُبَدِّدُونَهُ، وَمَا أُطِيقُ بَنِي حَيَّةَ. فَخَرَجَ بَنُو لأْمٍ إِلَى حَاتِمٍ، فَقَالُوا: أَعْرِضْ عَنْ هَذَا الْمِجَادِ وَنَدَعُ لَكَ أَرْشَ أَنْفِ ابْنِ عَمِّكَ.

قَالَ: لا وَاللَّهِ لا أَفْعَلُ حَتَّى تَتْرُكُوا أَفْرَاسَكُمْ، وَيُغْلَبَ مِجَادُكُمْ، فَتَرَكُوا أَفْرَاسَهُمْ، وَأَرْشَ أَنْفِ صَاحِبِهِمْ، وَقَالُوا: أَبْعَدَهَا اللَّهُ فَإِنَّمَا هِيَ مَقَارِيفُ، فَعَمِدَ حَاتِمٌ إِلَيْهَا، فَعَقَرَهَا، وَأَطْعَمَهَا النَّاسَ، وَسَقَاهُمُ الْخَمْرَ، فَقَالَ حَاتِمُ يُخَاطِبُ أَوْسَ بْنِ حَارِثَةَ: هَا إِنَّمَا مُطِرَتْ سَمَاؤُكُمُ دَمًا ... وَرَفَعْتَ رَأْسَكَ مَثْلَ رَأْسِ الأَصْيَدِ لِيَكُونَ جِيرَانِي أُكَالا بَيْنَكُمْ ... بُخْلا لِكِنْدِيٍّ وَسَبِيٍّ مَرْثَدِ وَابْنُ النُّجُودِ إِذَا غَدا مُتَبَاطِنًا ... دَخَنَ الْقُدُورِ وَذِي الْعِجَانِ الأَرْبَدِ وَلِثَابِتٍ عَينَي حِرٍ مُتَمَاوِتٍ ... وَالْمعْطُ أَوْسٌ إِذْ عَرَا الْمقلدِ بَلِّغْ بَنِي لأْمٍ بَأَنَّ جِيَادَهُمْ ... عَقْرَى وَأَنَّ مِجَادَهُمْ لَمْ يَرْشُدِ أَبْلِغْ بَنِي ثُعَلٍ بَأَنِّيَ لَمْ أَكُنْ ... أَبَدًا لأَفْعَلَهَا طِوَالَ الْمُسْنَدِ لَأَجِيئَهُمْ فَلًّا وَأَتْرُكَ صُحْبَتِي ... نَهْبًا وَلَمْ تَعْدُ بِقَائِمَةِ يَدِي كِنْدِيُّ بْنُ حَارِثَةَ بْنُ لَأْمٍ، وَمَرْثَدُ بْنُ أَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ لأْمٍ. ابْنُ النُّجُودِ: الأَفْوَهُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ لأْمٍ، وَالنُّجُودُ بِنْتُ ثُوْرٍ مِنْ بَنِي رِيفِ بْنِ مَالِكِ، وَالْعَجَّانُ: سَعْدُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ لأْمٍ " حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحْرِزِ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ الْوَلِيدُ جَدُّهُ وَهُوَ مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، سَمِعْتُ مُحْرِزَ بْنَ أَبِي هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو الْخَيْبَرِيِّ، مَرَّ مُسَافِرًا وَنَفَرٌ مِنْ قَوْمِهِ بِقَبْرِ حَاتِمٍ، بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: تَبْعَةُ، حَوْلَهُ أَنْصَابٌ نَوَائِحُ مِنْ حِجَارَةٍ كَأَنَّهُنَّ نِسَاءٌ، فَنَزَلُوا بِهِ، فَبَاتَ أَبُو الْخَيْبَرِيِّ لَيْلَتَهُ كُلَّهَا يُنَادِيهِ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: أَبَا جَعْرٍ أَقْرِ أَضْيَافَكَ، أَبَا جَعْرٍ أَقْرِ أَضْيَافَكِ. اسْتَهْزَاءً بِهِ وَسُخْرِيَةً. قَالَ: فَيُنَادَى فِي سَوَادِ اللَّيْلِ: مَهْلا مَا تُكَلِّمُ مِنْ رِمَّةٍ بَالِيَةٍ! وَالرِّمَّةُ: الْعَظْمُ الْبَالِي، وَجَمْعُهَا: رِمَمٌ. فَيُجِيبُ الْمُنَادِي ردًّا عَلَيْهِ فَيَقُولُ: إِنَّ طَيْئًا تَزْعُمُ أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بِهِ أَحَدٌ إِلا قَرَاهُ، فَأُجِيبَ: ارْقُدْ فَإِنَّهُ سَوْفَ يَقْرِيكَ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَامَ أَبُو الْخَيْبَرِيِّ حَتَّى إِذَا كَانَ فِي السَّحَرِ هَبَّ فَزِعًا وَهُوَ يَصْرُخُ بِأُعْلَى صَوْتِهِ: رَاحِلَتَاهُ، رَاحِلَتَاهُ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: وَيْلَكَ، مَا دَهَاكَ؟ قَالَ: خَرَجَ وَاللَّهِ حَاتُمٌ مِنْ قَبْرِهِ بِالسَّيِفِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ حَتَّى عَقَرَ نَاقَتِي. قَالُوا: كَذَبْتَ وَاللَّهِ لا يَخْرُجُ مَيِّتٌ مِنْ بَطْنِ قَبْرٍ مَرْسُوْسٍ عَلَيْهِ. قَالَ: بَلَى، وَاللَّهِ لَقَدْ فَعَلَ.

أجود الناس حيا وميتا حاتم. قال معاوية: فكيف ذلك؟ فوالله إن الرجل من قريش ليعطي في مجلس

فَنَظَرُوا إِلَى رَاحِلَتِهِ فَوَجَدُوهَا عَقْرَى لا تَنْبَعِثُ، فَقَالُوا: فَقَدْ وَاللَّهِ قَرَاكَ، فَعَمَدَوا إِلَيْهَا فَنَحَرُوهَا، فَظَلُّوا يَوْمَهُمْ وَمَنْ عِنْدِهِمْ مُعَرِّسِينَ عَلَيْهَا يَأْكُلُونَ مِنْ لَحْمِهَا، ثُمَّ سَارُوا عِنْدَ آخرِ النَّهَارِ، وَأَرْدَفُوهُ خَلْفَ أَحَدِهِمْ، وَهُمْ سَائِرُونُ فِي بَلِادِ طَيِّئٍ، فَسَارُوا مَا شَاءَ اللَّهُ، فَنَظَرُوا إِلَى رَاكِبٍ قَدْ أَقْبَلَ كَأَنَّهُ يُرِيدُهُمْ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِمْ، فَإِذَا هُوَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، وَهُوَ رَاكِبٌ بَعِيرًا، قَارِنٌ جَمَلا أَسْوَدَ، وَقَدْ قَرَنَهُ بِحَبْلٍ يَقُودُهُ، حَتَّى إِذَا دَفَعَ إِلَيْهِمْ، قَالَ: إِنَّكُمُ الْقَوْمُ الَّذِينَ نَزَلَوا بِقَبْرِ حَاتِمٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَأَيُّكُمْ أَبُو الْخَيْبَرِيِّ؟ قَالُوا: هَذَا. قَالَ: إِنَ حَاتِمًا أَتَانِي فِي مَنَامِي، فَذَكَرَ لِي تَنَقُّصَكَ لَهُ، وَشَتْمِكَ إِيَّاهُ، وَأَخْبَرَنِي: أَنَّهُ قَرَى رَاحِلَتَكَ أَصْحَابَكَ، وَأَنْشَدَنِي فِي النَّوْمِ أَبْيَاتًا وَرَدَّدَهَا عَلَيَّ مِرَارًا حَتَّى حَفِظْتُهَا، وَقَدْ أَخْلَفَكَ مَكَانَ رَاحِلَتِكَ هَذَا الْجَمَلَ الأَسْوَدَ، فَاقْتَعْدِهُ. فَقَالُوا: أَنْشِدْنَا مَا قَالَ مِنَ الشِّعْرِ، وَمَا حَفْظَتَ عَنْهُ، فَأَنْشَدَهُمْ: أَبَا خَيْبَرِيِّ وَأَنْتَ امْرُؤٌ ... ظَلُومُ الْعَشِيرَةِ شَتَّامُهَا فَمَاذَا أَرَدْتَ إِلَى رِمَّةٍ ... بَدِاوِيَّةٍ صَخِبٍ هَامُهَا وَتَبْغِي أَذَاهَا وَتْغَتَابُهَا ... وَحَوْلَكَ غَوْثٌ وَأَنْعَامُهَا وَإِنَّا لَنُطْعِمُ أَضْيَافَنَا ... مِنَ الْكُومِ بِالسَّيْفِ نَعْتَامُهَا الْكَوْمُ: الْإِبِلُ الْعِظَامُ الأَسْنِمَةِ. وَأَخَذَ أَبُو الْخَيْبَرِيِّ مِنْ عَدِيٍّ الْجَمَلَ وَاقْتَعَدَهُ 276 - حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُؤَمَّلِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ: " اجْتَمَعَ عْنَدَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ جمَاعَةٌ، فَتَذَاكَرُوا الْجُودَ والسَّخَاءَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَجْوَدُ النَّاسِ حَيًّا وَمَيَّتًا حَاتِمٌ. قَالَ مُعَاوِيَةُ: فَكَيْفَ ذَلِكَ؟ فَوَاللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ مِنْ قُرَيْشٍ لَيُعْطِي فِي مَجْلِسٍ واحِدٍ مَا لَمْ يَكُنْ حَاتِمٌ يَمْلِكَ مِثْلَهُ وَلا قَوْمُهُ. فَقَالَ الرَّجُلُ: أُخْبِرُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِجُودِ حَاتِمٍ، أَمَّا حيًّا فَقَدْ بَلَغَكَ وَأمَّا مَيَّتًا، فَإِنَّ نَفَرًا مِنْ بَنِي أَسَدٍ مَرُّوا بِقَبْرِ حَاتِمٍ مُسَافِرَيْنِ وَرَئِيسُهُمْ رَجُلٌ يُكْنَى أَبَا الْخَيْبَرِيِّ، فَنَزَلُوا بِقَبْرِهِ مُعَرِّسِينَ، وَقَالُوا: وَاللَّهِ لَنُبْخِلَنَّهُ، وَلَنُخْبِرَنَّ الْعَرَبَ أَنَّا نَزَلْنَا بِحَاتِمٍ فَسَأَلْنَا الْقِرَى فَلَمْ يَقْرِنَا، وَأَرَادُوا عَيْبَهُ وَتَهْجِينَهُ، فَجَعَلُوا يُنَادُونَهُ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ: أَيَا حَاتِمُ أَلا تَقْرِي أَضْيَافَكَ، فَإِذَا هُمْ بِصَوْتِ مُنَادٍ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ: أَبَا خَيْبَرِيٍّ وَأَنْتَ امْرُؤٌ ... ظَلُومُ الْعَشِيرَةِ لَوَّامُهَا فَمَاذَا أَرَدْتَ إِلَى رِمَّةٍ ... بَدِاوِيَّةٍ صَخِبٍ هَامُهَا وَتَبْغِي أَذَاهَا وَتْغَتَابُهَا ... وَحَوْلَكَ غَوْثٌ وَأَنْعَامُهَا وَإِنَّا لَنُطْعِمُ أَضْيَافَنَا ... مِنَ الْكُومِ بِالسَّيْفِ يَعْتَامُهَا فَهَبَّوا مِنَ اللَّيْلِ يَنْظُرُونَ، فَوَجَدُوا نَاقَةَ أَحَدِهِمْ تَكُوسُ عَقِيرًا، فَعَجِبَ مُعَاوِيَةُ مِنْ حَدِيثِهِ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ "

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللِّهِ الزُّبَيْرُ الْعَرَبُ تَتَحَدَّثُ بِأَشْيَاءَ هِيَ عِنْدَهَا صَحَيِحَةٌ، وَقَدْ نَطَقَتْ بِذَلِكَ أَشَعَارُهَا، وَتَمَثَّلَتْ بِهِ وَلا تَكَادُ النَّفْسُ تُصَدِّقُ بِهَا، وَأَحْسَبُ أَمْرَ حَاتِمٍ حِيلَةً مِنْ وَرَثَتِهِ وَنَسَبُوهُ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَوْ مِنَ الْجِنِّ، وَهُوَ عِنْدِي أَشْبِهُ، وَقَدْ كَانَ حَاتِمٌ شَاعِرًا وَجَوَادًا، وَكَانَ شِعْرُهُ يُشْبِهُ جُودَهُ، وَكَانَ حَيْثُ مَا نَزَلَ لَمْ يَخْفَ مَنْزِلُهُ، لِبَذْلِهِ الطَّعَامَ، وَكَانَ شُجَاعًا مُظَفَّرًا كَرِيمًا، وَآلَى أَنْ لا يَقْتُلَ وَاحَدَ أُمِّهِ، وَلا يَأْسِرَهُ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: أَمَاوِيَّ إِنِّي رُبَّ وَاحِدِ أُمِّهِ ... أَجَرْتُ فَلا قَتْلٌ عَلَيْهِ وَلا أَسْرُ وَكَانَتْ قُدُورُهُ الَّتِي يَطْبُخُ فِيهَا الْجُزُرَ مِنْ نُحَاسٍ عِظَامًا لا تَزُولُ عَنِ الأَثَافِيِّ، وَلَهَا أَسْمَاءٌ، فَاسْمُ إِحْدَاهُنَّ ثَفَالٌ، وَالأُخْرَى مُشْبِعَةٌ، وِالأُخْرَى رَبَلَةٌ، وَالأُخْرَى هَوَادٍ. وَكَانَ إِذَا أَهَلَّ الشَّهْرُ الأَصَمُّ، وَهُوَ رَجَبٌ، الَّذِي كَانَتْ مُضَرُ تُعَظِّمُهُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا، كَانَ يَنْحَرُ كُلَّ يَوْمٍ جَزُورًا، وَيُطْعِمُهَا النَّاسَ وَيَجْتَمِعُونَ إِلَيْهِ فِيهِ. وَكَانَتْ أُمُّهُ النَّوَارُ، رَأَتْ فِي مَنَامِهَا، وَهِي حَامِلٌ بِهِ، فَقِيلَ لَهَا: غُلامٌ سَمْحٌ يُقَالُ لَهُ: حَاتِمٌ الأَقَلُّ، أَيْ يَكُونُ وَاحِدًا فِي جُودِهِ، أَحَبُّ إِلَيْكِ، أَمْ غِلْمَةٌ عَشْرَةٌ كَالنَّاسِ، لُيُوثٌ سَاعَةَ الْبَأْسِ لَيْسُوا بِأَوْغَالٍ وَلا أَنْكَاسٍ؟ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: الأَوْغَالُ: الَّذِينَ يَدْخُلُونَ مَعَ الْقَوْمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُدْعَوْا، فَيَشْرَبُونَ. وَالأَنْكَاسُ: الْجُبْنُ الضِّعَافُ. قَالَتْ: بَلْ حَاتِمٌ أَحَبُّ إِلَيَّ، فَوَلَدَتْ حَاتِمًا، فَلَمَّا شَبَّ وَتَرَعْرَعَ أَقْبَلَ يَخْرُجُ بِطَعَامِهِ، فَإِنْ وَجَدَ أَحَدًا يَأْكُلُ مَعَهُ أَكَلَ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدًا يَأْكُلُهُ مَعَهُ أَلْقَاهُ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَبُوهُ مِنْ فِعْلِهِ، وَأَنَّهُ يُبَدِّدُ طَعَامَهُ، قَالَ لَهُ: الْحَقْ بِالْإِبِلِ، فَخَرَجَ إِلَيْهَا لِيَقُومَ فِي رَعْيِهَا، وَوَهَبَ لَهُ أَبُوهُ جَارِيَةً وَفَرَسًا وَفَلُوُّهًا، وَكَانَ اسْمُ أَبِيهِ عَبْدَ اللَّهِ، فَلَمَّا أَتَى الْإِبِلَ، وَصَارَ فِيهَا، طَفِقَ يَلْتَمِسُ النَّاسَ لِيَقْرِيَهُمْ، فَلا يَجِدُهُمْ، وَيَأْتِي الطَّرِيقَ فَيَقِفُ عَلَيْهَا، فَلا يَجِدُ عَلَيْهِ أَحَدًا، فَبَيْنَا هُوَ فِي تَلَمُّسِهِ النَّاسَّ إِذْ بَصُرَ بَرَكْبٍ مُقْبِلِينَ، فَأَتَاهُمْ، فَلَمَّا بَصُرُوا بِهِ قَالُوا: يَا فَتَى هَلْ مِنْ قِرًى؟ قَالَ: أَتَسْأَلُونَنِي الْقِرَى وَقَدْ تَرَوْنَ الْإِبِلَ؟ ! نَعَمْ وَكَرَامَةً انْزِلُوا، وَكَانُوا ثَلاثَةَ نَفَرٍ يُرِيدُونَ النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ بِالْحِيرَةِ، وَهُمْ: عَبِيدُ بْنُ الأَبْرَصِ، وَبِشْرُ بْنُ أَبِي خَازِمٍ الأَسَدِيَّانِ، وَزِيَادُ بْنُ جَابِرِ الْقَيْسِيُّ، وَهُوَ النَّابِغَةُ نَابِغَةُ بَنِي ذُبْيَانَ، فَنَزَلُوا فَانْتَحَرَ لَهُمْ ثَلاثَةَ جُزُرٍ، لِكُلْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزُورًا، فَقَالَ عَبِيدُ بْنُ الأَبْرَصِ: إِنَّمَا سَأَلْنَاكَ الْقِرَى اللَّبَنَ، وَالَّذِي كُنَّا نَكْتَفِي بِهِ بِكْرَةً إِذَا كُنْتَ لابُدُّ أَرَدْتَ بِقِرَانَا الطَّعَامَ.

قَالَ حَاتِمٌ: قَدْ عَرَفْتُ ذَلِكَ وَلَكِنِّي رَأَيْتُ وُجُوهًا لا يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَأَلْوَانًا مُخْتَلِفَةً، فَظَنَنْتُ الأَنْسَابَ مُفْتَرِقَةً، وَالْبَلَدَ غِيرَ جَامِعٍ لَكُمْ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ يَذْكَرَ كُلُّ رَجُلٌ مِنْكُمُ إِذَا هُوَ أَتَى قَوْمَهُ مَا رَأَى، فَإِنْ مَرَّ بِي نَزَلَ. فَلَمَّا أَكَلُوا وَشَرِبُوا مِنَ اللَّبَنِ وَشَبِعُوا وَارْتَوَوْا، قَالَ عَبِيدُ بْنُ الأَبْرَصِ فِيهِ شِعْرًا يَمْتَدِحُهُ فِيهِ، فَيَذْكُرُ حُسْنَ فِعَالَهِ، وَحُسْنَ إِضَافَتِهِ إِيَّاهُمْ، وَقَالَ بِشْرُ بْنُ أَبِي خَازِمٍ أَيْضًا يِمْتَدِحُهُ، وَقَالَ النَّابِغَةُ أَيْضًا يَمْتَدِحُهُ. فَلَمَّا سَمِعَ مَا قَالُوا قَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُ إِكَرْامَكُمْ وَالِإِحْسَانَ إِلَيْكُمْ فَلَكُمُ الْآنَ الْفَضْلُ، أُقْسِمُ بِاللَّهِ لِأَضْرِبَنَّ عَرَاقِيبِهَا مِنْ آخِرِهَا أَوْ تَقُومُوا إِلَيْهَا فَتُقَسِّمُوهَا، بَيْنَكُمْ أَثْلاثًا عَلَى مَا أَحْبَبْتُمْ، فَقَامُوا إِلَيْهَا فَاقْتَسَمُوهَا، فَأَصابَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ تَسْعٌ وَثَلاثُونَ نَاقَةً، وَمَضَوْا فِي سَفَرِهِمْ، حَتَّى وَصَلُوا إِلَى النُّعْمَانِ بِالْحِيرَةِ، وَإِنَّ أَبَا حَاتِمٍ عَبْدَ اللَّهِ بَلَغَهُ مَا فَعَلَ حَاتِمٌ بِالْإِبِلِ فَأَتَاهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ مَا فَعَلْتَ بِالْإِبِلِ؟ قَالَ: يَا أَبَتِ طَوَّقْتَ بِهَا طَوْقَ الْحَمَامَةِ، وَحَوَيْتَ بِهَا مَجْدَ الدَّهْرِ، لا يَزَالُ رَجُلٌ يَحْمِلُ فِينَا بَيْتَ شِعْرٍ بِمَكَانِ إِبِلِكَ. قَالَ: أَبِإِبِلِي أَرَدْتَ الْمَجْدَ؟ قَالَ حَاتِمٌ: نَعَمْ. فَقَالَ أَبُوهُ: وَاللَّهِ لا أَسْكُنُ مَعَكَ فِي بَلَدٍ أَبَدًا. قَالَ حَاتِمٌ: إِذًا وَاللَّهِ لا أُبَالِي ذَلِكَ. فَخَرَجَ أَبُوهُ وَتَرَكَ حَاتِمًا وَمَعَهُ جَارِيَتُهُ وَفَرَسُهُ وَفَلُوُّهَا، وَأَقْبَلَ رَكْبٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ وَمِنْ قَيْسٍ يُرِيدُونَ النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ، فَلَقُوا حَاتِمًا، فَقَالُوا: إِنَّا تَرَكْنَا قَوْمَنَا يُثْنُونَ عَلَيْكَ، وَقَدْ أَرْسَلُوا مَعَنَا إِلَيْكَ بِرِسَالَةٍ. قَالَ: وَمَا هِيَ؟ فَأَنْشَدَهُ الأَسَدِيُّونَ شِعْرًا لَعَبِيدِ بْنِ الأَبْرَصِ وَلِبِشْرِ بْنِ أَبِي خَازِمٍ الأَسَدِيَّيْنِ، يَمْتَدِحَانِهُ فِيهِ، وَأَنَشْدَ الْقَيْسِيُّونَ شِعْرَ النَّابِغَةِ يَمْتَدِحُهُ فِيهِ، فَلَمَّا أَنْشَدُوهُ، قَالَ: حَاجَتُكُمْ؟ قَالُوا: إِنَّ لَنَا لَحَاجَةً. قَالَ حَاتِمٌ: وَمَا هِيَ؟ قَالُوا: صَاحِبٌ لَنَا قَدْ أَرْجَلَ، وَإِنَّا لَنَرَاكَ مُعْسِرًا مِنَ الْمَالِ يَعْنُونُ مِنَ الإِبِلِ فَقَالَ حَاتِمٌ: خُذُوا فَرَسِي هَذَا فَاحْمِلُوا عَلَيْهَا صَاحِبَكُمْ، فَأَخَذُوهَا، فَعَمَدَتِ الْجَارِيَةُ إِلَى فَلُوُّهِا فَرَبَطَتْهَا بِثْوبِهَا، كَيْ لا يَتْبَعَ أُمَّهُ، فَأَفْلَتْ وَتَبِعَ أُمَّهُ، فَاتَّبَعَتْهُ الْجَارِيَةَ لِتَرُدَّهُ، فَقَالَ حَاتِمٌ: مَا لَحِقَكُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ لَكُمْ فَذَهَبُوا بِالْفَرَسِ وَفِلُوِّهَا وَبِالْجَارِيَةِ، وَمَضَوْا فِي مَسِيرِهِمْ ذَلِكَ فَمَرُّوا بِعَبْدِ اللَّهِ أَبِي حَاتِمٍ، فَعَرَفَ الْفَرَسَ وَفَلُوَّهَا وَالْجَارِيَةَ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أَصَبْتُمْ هَذَا الَّذِي مَعَكُمْ؟ وَمَنْ أَعْطَاكُمْ؟ قَالُوا: مَرَرْنَا بِفَتًى كَرِيمٍ جَوَادٍ وَسِيمٍ، فَسَأَلْنَاهُ فَأَعْطَانَا، وَأَعْطَانَا مَا لَمْ نَسْأَلْهُ. قَالَ: وَأَيْنَ تَرَكْتُمُوهُ؟ قَالُوا: بِمَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا سَالِمًا. وَقَالَ حَاتِمٌ فِي مَسِيرِ أَبِيهِ وَتَحَوُّلِهِ عَنْهُ، وَمَا صَنَعَ بِالإِبِلِ: وَإِنِّي لَعَفُّ الْفَقْرِ مُلْتَمِسُ الْغِنَى ... وتَارِكُ شَكْلٍ لا يُوَافِقُهُ شَكْلِي

ماوية بنت عفزر كانت ملكة، وكانت تتزوج من أرادت، وأنها بعثت غلمانا لها، وأمرتهم أن يأتوها

وَشَكْلِيَ شَكْلٌ لا يَقُومُ بِمِثْلِهِ ... مِنَ النَّاسِ إِلا كُلُّ ذِي ثِقَةٍ مِثْلِي وَلِي نَيْقَةٌ فِي الْمَجْدِ وَالْبَذْلِ لَمْ يَكُنْ ... تَأَنَّقَهَا فِيمَنْ مَضَى أَحَدٌ قَبْلِي وَأَجْعَلُ مَالِي دُونَ عِرْضِيَ جُنَّةً ... لِنَفْسِي وَأَسْتَغْنِي بِمَا كَانَ مِنْ فَضْلِي وَمَا ضَرَّنِي إِنْ سَارَ سَعْدٌ بِأَهْلِهِ ... وَأَفْرَدَنِي فِي الدَّارِ لَيْسَ مَعِي أَهْلِي سَيَكْفِي ابْتِنَائِي الْمَجْدَ سَعْدُ بْنَ حَشْرَجٍ ... وَأَحْمِلُ عَنْكُمْ كُلَّ مَا ضَاعَ مِنْ ثِقْلِ وَلِي مَعَ بَذْلِ الْمَالِ وَالْجُودِ صَوْلَةٌ ... إِذَا الْحَرْبُ أَبْدَتْ عَنْ نَوَاجِذِهَا الْعُصْلِ 278 - حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ الأَثْرَمُ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى، قَالَ: " اجْتَمَعَ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ قَوْمٌ فَتَذَاكَرُوا مُلُوكَ الْعَرَبِ حَتَّى ذَكَرُوا الزَّبَّاءَ بْنَتَ عَفْزَرَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَ حَدِيثَ حَاتَمِ طَيِّئٍ وَمَاوِيَّةَ بِنْتِ عَفْزَرَ، وَكَانَتْ تُلَقَّبُ بِالزَّبَّاءِ، وَكَانَ اسْمُهَا مَاوِيَّةَ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَفَلا أُحَدِّثُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَإِنَّ مَاوِيَّةَ بِنْتَ عَفْزَرَ كَانَتْ مَلِكَةً، وَكَانَتْ تَتَزَوَّجُ مَنْ أَرَادَتْ، وَأَنَّهَا بَعَثَتْ غِلْمَانًا لَهَا، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يَأْتُوهَا بِأَوْسَمِ مَنْ يَجِدُونَهُ بِالْحِيرَةِ، فَجَاءُوهَا بِحَاتِمٍ، فَقَالَتْ لَهُ: اسْتَقْدِمْ إِلَى الْفِرَاشِ، فَقَالَ: حَتَّى أُنْبِئَكِ بِحَالِي. فَقَعَدَ عَلَى الْبَابِ، فَقَالَ: إِنِّي أَنْتَظِرُ صَاحِبَيْنِ لِي. فَقَالَتْ: دُوْنَكَ فَاسْتَدْخِلِ الْمِجْمَرَ. فَقَالَ حَاتِمُ: اسْتِي لَمْ تُعَوَّدِ الْمِجْمَرَ، فَأَرْسَلَهَا مَثَلا وَارْتَابَتْ بِهِ، وَسَقَتْهُ خَمْرًا، فَجَعَلَ يُهْرِيقُهُ تَحْتَ الْبَابِ وَلا تَرَاهُ، تَحْتَ اللَّيْلِ. ثُمَّ قَالَ: مَا أَنَا بِقَارٍ وَلا ذَائِقٍ خَمْرًا حَتَّى أَنْظُرَ مَا فَعَلَ صَاحِبَايَ. فَقَالَتْ: إِنَّا سَنُرْسِلُ إِلَيْهُمَا بِقِرًى. فَقَالَ: لَيْسَ بِنَافِعِي شَيْئًا حَتَّى آتِيَهُمَا، فَأَتَاهُمَا، فَقَالَ: أَفَتَكُونَانِ عَبْدَيْنِ لِابْنَةِ عَفْزَرَ يَرْعَيَانِ عَلَيْهَا أَحَبُّ إِلَيْكُمَا أَمْ تَقْتُلُكُمَا؟ فَقَالا: كُلُّ هَذَا نَقُصُّهُ، أَيْ نَتَّبِعُ أَثَرَهُ، وَلَبَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضٍ. فَقَالَ حَاتِمٌ: فَشَأْنُكُمَا وَالرَّحِيلُ وَالنَّجَاءُ فِي الْبِلادِ عَنْهَا هَرَبًا، فَأَنْشَأَ حَاتِمٌ يَقُولُ فِي ذَلِكَ يَذْكُرُهَا فِي شِعْرِهِ وَمَا حَبَسَ نَفْسَهُ عَنِ الرِّيبَةِ، وَأَنَّهُ عَفِيفٌ لَيْسَ مِمَّنْ يَأْتِي الرِّيَبَ. وَابْنَةُ عَفْزَرَ كَانَتْ بِالْحِيرَةِ، وَكَانَ النُّعْمَانُ مَنْ يِأْتِيهِ يُرِيدُ كَرَامَتَهُ أَنْزَلَهُ عَلَيْهَا فَقَالَ: حنَّتْ إِلَى الأَجْبَالِ أَجْبَالُ طَيٍّ ... وَجُنَّتْ جُنُونًا أَنْ رَأَتْ سَوْطَ أَحْمَرَا أَحْمَرُ: قَالَ عَمِّي: رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ كَانَ يَسُوقُ لِحَاتِمٍ إِذَا وَفَدَ إِلَى الْمُلُوكِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى: أَحْمَرُ: اسْمُ رَجُلٍ كَانَ يَعْمَلُ السِّيَاطِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَقُلْتُ لَهَا إِنَّ الطَّرِيقَ أَمَامَنَا ... وَإِنَّا لَمُحْيُو أَرْضِنَا إِنْ تَيَسَّرَا فَيَا أَخَوَيْنَا مِنْ جَدِيلَةَ إِنَّمَا ... تُسَامَانِ ضَيْمًا مُسْتَبِينًا فَتَنْظُرَا فَمَا نَكَرَاهُ غَيْرَ أَنَّ ابْنَ مِلْقَطٍ ... أَرَاهُ وَقَدْ أُعْطَى الْمَقَادَةُ أَوْجَرَا وَإِنِّي لَمِزْجَاءُ الْمَطِيِّ عَلَى الْوَجَا ... وَمَا أَنَا مِنْ خِلانِكِ ابْنَةَ عَفْزَرَا

وَمَا زِلْتُ أَسْعَى بَيْنَ نَابٍ وَدَارَةٍ ... بِلَحْيَانَ حَتَّى خِفْتُ أَنْ أَتَنَصَّرَا وَحَتَّى حَسِبْتُ اللَّيْلَ وَالصُّبْحَ إِذْ بَدَا ... حِصَانَيْنِ مُشْتَالَيْنِ جَوْنًا وَأَشْقَرَا وَإِنِّي لَوَهَّابٌ قَطُوعِي وَنَاقَتِي ... إِذَا مَا انْتَشَيْتُ وَالْكُمَيْتَ الْمُصَدَّرَا لَشِعْبٌ مِنَ الرَّيَّانِ أَمْلِكُ بَابَهُ ... أُنَادِي بِهِ أَهْلَ الْكَبِيرِ وَجَعْفَرَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ خَطِيبٍ لَقِيتُهُ ... إِذَا قُلْتُ مَعْرُوفًا لَهُ قَالَ مُنْكَرَا تُنَادِي إِلَى جَارَاتِهَا: إِنَّ حَاتِمًا ... أَرَاهُ لِعَمْرِي بَعْدَنَا قَدْ تَغَيَّرَا تَغَيَّرْتُ إِنِّي غَيْرُ آتٍ دَنِيَّةً ... وَلا قَائَلٍ يَوْمًا لِذِي الْعُرْفِ مُنْكَرَا رَأَتْنِي كَأَشْلاءِ اللِّجَامِ وَلَنْ تَرَى ... أَخَا الْحَرْبِ إِلا سَاهِمَ الْوَجْهِ أَغْبَرَا أَخَا الْحَرْبِ إِنْ عَضَّتْ بِهِ الْحَرْبُ عَضَّهَا ... وَإِنْ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقِهَا الْحَرْبُ شَمَّرَا مَتَى تَبْغِ وُدًّا مِنْ جَدِيلَةَ تَلْقَهُ ... مَعَ الشَّنِّ مِنْهُ بَاقِيًا مُتَأَثِّرَا فَإِلا يُعَاودْنَا جَهَارًا نُلاقِهِمْ ... لأَعْدَائِنَا رِدْءًا دَلِيلا وَمُنْذِرَا فَلا تَسْأَلِينِي وَاسْأَلِي أَيَّ فَارِسٍ ... إِذَا الْخَيْلُ جَالَتْ فِي قَنًا قَدْ تَكَسَّرَا وَلا تَسْأَلِينِي وَاسْأَلِي بِيَ صُحْبَتِي ... إِذَا مَا الْمَطِيُّ بِالْفَلاةِ تَضَوَّرَا وَلا تَسْأَلِينِي وَاسْأَلِي أَيَّ يَاسِرٍ ... إِذَا وَرَقُ الطَّلْحِ الطِّوَالِ تَحَسَّرَا فَلا هِيَ مَا تَرْعَى جَمِيعًا عِشَارَهَا ... وَيُصْبِحُ ضَيْفِي سَاهِمَ الْوَجْهِ أَغْبَرَا مَتَى تَرَنِي أَمْشِي بِسَيْفِيَ وَسْطَهَا ... تَخَفْنِي وتُضْمِرْ بَيْنَهَا أَنْ تُجَزَّرَا أَيْ لا تَخْتَرِطُ مِنَ الْفَرَقِ. إِذَا حَالَ دُونِي مِنْ سُلامَانَ رَمْلَةٌ ... وَجَدْتُ تَوَالِي الْوَصْلِ عِنْدِيَ أْبَتَرا " إِنَّ حَاتِمًا دَعَتْهُ نَفْسُهُ إِلَيْهَا بَعْدَ انْصِرَافِهِ مِنْ عِنْدِهَا، فَأَتَاهَا فَخَطَبَهَا، فَوَجَدَ عِنْدِهَا النَّابِغَةَ الذُّبْيَانِيَّ، وَرَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ مِنَ النَبِيتِ، وَهُمْ مِنَ الأَوْسِ، فَقَالَتْ: انْقَلِبُوا إِلَى رِحَالِكُمْ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَالَ غَيْرُ أَبِي عُبَيْدَةَ فِيمَا حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ صَالِحِ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءَ طَيِّئٍ، قَالُوا: كَانَتِ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا: مَاوِيَّةُ نَذَرَتْ نَذْرًا، لا يَخْطِبُهَا كَرِيمٌ إِلا تَزَوَّجَتْهُ، وَلا يَخْطِبُهَا لَئِيمٌ إِلا جَدَعَتْهُ، فَتَنَاذَرَهَا النَّاسُ، فَقَدِمَ عَلَيْهَا مِنَ الْجَبَلَيْنِ، جَبْلَيْ طَيِّئٍ، أَوْسُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ لأْمٍ الْجَدِيلِيُّ، وَزَيْدُ الْخَيْلِ النَّبْهَانِيُّ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ طَيِّئٍ، وَحَاتِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ الْحَشْرَجِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ أَخْزَمَ بْنِ أَبِي أَخْزَمَ، وَاسْمُهُ هزُومَةُ، وَهُوَ ابْنُ رَبِيعَةَ بْنِ جَرْوَلِ بْنِ ثُعَلِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْغَوْثِ بْنِ طَيِّئٍ، فَقَالَتْ: مَا جَاءَ بِكُمْ؟ قَالُوا: أَتَيْنَاكَ خُطَّابًا. قَالَتْ: وَمَا الَّذِي قَدْ بَلَغَ مِنْ فِعَالِكُمْ أَنِ اجْتَرَأْتُمْ عَلَى خِطْبَتِي؟ فَقَالَ أَوْسُ بْنُ حَارِثَةَ: إِنِّي أَخَذْتُ ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ شَارِبِي، فَقَالَتْ لِي سُعْدَى أَمِّي: إِنَّ لِأَخْذِكَ مِنْ شَعْرِ شَارِبِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَتَلَقَّطْتُ مَا كَانَ سَقَطَ مِنْ شَعْرِ شَارِبِي فَأَعْتَقْتُ بِكُلِ شَعْرَةٍ سَبِيَّةٍ مِنَ الْعَرَبِ. وَلِي أَرْبَعَةُ آبَاءٍ قَدْ رَبَعُوا الْغَوْثَ وَجَدِيلَةَ، وَلِي أَرْبَعَةُ بَنِينَ كُلُّهُمْ مِنِّي خَلَفٌ. قَالَتْ: أَمْسِكْ.

ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَى زَيْدِ الْخَيْلِ، فَقَالَتْ: مَا الَّذِي جَرَّأَكَ عَلَى خِطْبَتِي؟ قَالَ: أَنَا زَيْدُ الْخَيْلِ، وَبِاسْمِي تُغِيرُ طَيِّئٌ عَلَى الْعَرَبِ، وَلِي مِرْبَاعُ كُلِّ غَارَةٍ، أَخَذْتُ طَرِيقِي، وَلَمْ أُلاحِ جَاهِلا، وَلَمْ أَمْنَعْ سَائِلا. قَالَتْ: أَمْسِكْ. ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَى حَاتِمٍ فَقَالَتْ: مَا الَّذِي جَرَّأَكَ عَلَى خِطْبَتِي؟ قَالَ: أَنَا حَاتِمُ طَيِّئٍ الثَّعْلَبِيُّ، وَفَدْتُ عَلَى الْحَيَّيْنِ: الْغَوْثِ وَجَدِيلَةَ، وَأَنْهَبْتُ مَالِي ثَلاثَ عَشْرَةَ مَرَّةً، وحَكَّمَتْنِي طَيِّئٌ فِي أَمْوَالِهَا. فَقَالَتْ: قُوُلُوا شِعْرًا، وَاذْكُرُوا فِيهِ كَرِيمَ فِعَالِكُمْ مَا يُصَدِّقُ فِيهِ قَوْلَكُمْ، وَائْتُونِي بِهِ. فَقَالَ: زَيْدُ الْخَيْلِ: هَلا سَأَلْتِ بَنِي نَبْهَانَ مَا حَسَبِي ... عِنْدَ الطِّعَانِ إِذَا مَا احْمَرَّتِ الْحَدَقُ وَآبَتِ الْخَيْلُ مُبْتَلا سَوَالِفُهَا ... بِالْمَاءِ يَسْفَحُ مِنْ لَبَّاتِهَا الْعَرَقُ قَدْ أَطْعَنُ الْفَارِسَ الْحَامِي حَقِيقَتَهُ ... نَجْلاءَ يَذْهَبُ فِيهَا الزَّيْتُ وَالْخَرَقُ وَأَطْعَنُ الْكَبْشَ والْخَيْلانُ وَاقِفَةٌ ... يَوْمَ الأَكُسِّ بِهِ مِنْ نَجْدَةٍ رَوَقُ الْكُسُّ: الْقَصِيرُ الأَسْنَانِ، وَالرَّوَقُ: الطُّولُ فِي الأَسْنَانِ. وَالْخَيْلُ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ فَارِسَهَا ... وَالْهَامُ مِنَّا وَمِنْ أَعْدَائِنَا فَلَقُ إِذْ قَالَ أَوْسٌ أَمَا مِنْ طَيِّئٍ رَجُلٌ ... يَحْمِي الذِّمَارَ وَبِيضُ الْقَوْمِ تَأْتَلِقُ وَالْجَارُ يَعْلَمُ أَنِّي غَيْرُ خَاذِلِهِ ... إِنْ نَابِ دَهْرٌ لِعَظْمِ الْجَارِ مُعْتَرَقُ إِذْ لا أَرَى الْمَالُ رَبًّا بَلْ أَرَى غَبْنًا ... بُخْلا بِهِ وَمَنَايَا الْقَوْمِ تُعْتَلَقُ هَذَا رِضَائِي فَإِنْ تَرْضَيْ فَرَاضِيَةٌ ... أَوْ تَسْخَطِي فَإِلَى مَنْ تُعْطَفُ الْعَنَقُ فَقَالَ أَوْسُ: وَاللَّهِ يَا زَيْدُ لَقَدْ أَطْرَيْتَ نَفْسَكَ بِالثَّنَاءِ، وَخَصَّصْتَهَا بِالْكَرَمِ، وَلَسْتُ أَقُولُ مِثْلَ مَقَالَتِكَ، وَلَكِنِّي أَقُولُ: أَمَاوِيَّ لَمْ يَخْطِبْكِ مِنْ حَيِّ مَذْحِجٍ ... كَأَوْسِ بْنِ لأْمٍ أَوْ كَزَيْدٍ وَحَاتِمِ فَإِنْ تَنْكِحِي زَيْدًا فَفَارِسُ طَيِّئٍ ... إِذِا الْحَرْبُ يَوْمًا أَقْعَدَتْ كُلَّ قَائِمِ وَمَعْقَلَ نَبْهَانَ الَّذِي يُتَّقَى بِهِ ... رَدَى الدَّهْرِ عِنْدَ الْحَادِثِ الْمُتَفَاهِمِ وَإِنْ تَنْكِحِي مَاوِيَّةَ الْخَيْرِ حَاتِمًا ... فَمَا مِثْلُهُ فِينَا وَلا فِي الأَعَاجِمِ فَتًى لا يَزَالُ الدَّهْرَ أَعْظَمُ هَمِّهِ ... فِكَاكُ أَسْيرٍ أَوْ مَعُونَةُ غَارِمِ رَأَى أَنَّ مَا يَبْقَى مِنَ الْمَالِ هَالِكٌ ... فَأَعْطَى وَلَمْ يَحْفَلْ مَلامَةَ لائِمِ وَإِنْ تَنْكِحِينِي تَنْكِحِي غَيْرَ فَاحِشٍ ... وَلا حَافِرٍ جَرْفِ الْعَشِيرَةِ هَادِمِ وَلا مُتَّقٍ يَوْمًا إِذَا الْحَرْبُ شَمَّرَتْ ... بَأَنْفَسِهَا نَفْسِي فِعَالَ الأَشَائِمِ وَإِنْ طَرَقَ الأَضْيَافُ لَيْلا وَعَرَّسُوا ... وَجَدْتِ ابْنَ سُعْدَى بِالْقِرَى غَيْرَ عَاتِمِ فَأَيَّ امْرِئٍ أَهْدَى لَكِ اللَّهُ فَاقْبَلِي ... فَإِنِّي كَرِيمٌ مِنْ عُرُوقِ الأَكَارِمِ وَقَالَ حَاتِمُ طَيِّئٍ فِي ذَلِكَ: سَلِي الأَقْوَامَ يَا مَاوِيَّ عَنِّي ... وَإِنْ تَسْأَلِيهِمْ فَاسْأَلِينِي تُخَبِّرْكِ الْمَعَاشِرُ وَالْمَصَافِي ... وَذُو الرَّحِمِ الَّذِي قَدْ يَجْتَدِينِي بِأَنِّي لا يَهِرُّ الْكَلْبُ ضَيْفِي ... وَلا تُقْضَى نَجِيُّ الْقَوْمِ دُونِي أَيْ لا يَتَنَاجُونَ فِي الأَمْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ أَشْهَدَهُمْ. وَلا أَعْتَلُّ مِنْ قَنَعٍ بَمَنْعٍ ... إِذَا نَابَتْ نَوَائِبُ تَعْتَرِينِي الْقَنْعُ: الطَّعَامُ الْكثِيرُ.

وَإِنِّي قَدْ عَلِمْتُ إِزَاءَ طَيٍّ ... وَتَأْبَى طَيٌّ أَنْ تَسْتَطِينِي إِزَاؤُهَا: الْقَائِمُ بِأَمْرِهَا. إِذَا عَوْرَاءُ مِنْ جَنْبٍ أَتَتْنِي ... عَنِ الأُذُنَيْنِ قُلْتُ لَهَا انْفُذِينِي الْجَنْبُ: الْبَعِيدُ، وَيُقَالُ: الْقَرِيُبَ. عُنِيتُ بِهَا كَأَنَ قِيلَتْ لِغَيْرِي ... وَلَمْ يَعْرَقْ لَهَا مَنِّي جَبِينِي إِذَا أَنَا لَمْ أرَ ابْنَ الْعَمِّ فَوْقِي ... فَإِنِّي لا أَرْى ابْنَ الْعَمِّ دُونِي وَمِنْ كَرَمٍ يَجُورُ عَلَيَّ قَوْمِي ... وَأيُّ الدَّهْرِ ذُو لَمْ يَحْسِدُونِي وَذُو الْوَجْهَيْنِ يَلْقَانِي طَلِيقًا ... وَلَيْسَ إِذِا تَغَيَّبَ يَأتَلِينِي بَصُرتُ بِعَيْنِهِ فَصَفْحُتُ عَنْهُ ... مُحَافَظَةً عَلَى حَسَبِي وَدِينِي وَلَيْسَتْ شِيمَتِي شَتْمُ ابْنُ عَمِّي ... وَلا أَنَا مُخْلِفٌ مَنْ يَرْتَجِينِي فَأَطْرَقَتْ مَاوَيَّةُ تُفَكِّرُ طَوِيلا فِي مَدْحِهِمْ أَنْفُسَهمْ، لا تُجِيبُهُمْ، ثُمَّ دَفَعَتْ رَأْسَهَا، فَقَالَتْ: انْصَرِفُوَا حَتَّى أُفَكِّرَ فِي نَقَائِبِكُمْ وَتَطْرِيَتِكُمْ أْنَفُسَكُمْ، فَانْصَرَفُوا عَنْهَا. ثُمَّ إِنَّ حَاتِمًا دَعَتْهُ نَفْسُهُ بَعْدَ انْصِرَافِهِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهَا، فَرَجَعَ فَخَطَبَهَا إِلَى نَفْسِهَا، فَوَجَدَ عِنْدَهَا النَّابِغَةَ وَرَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ مِنَ النَّبِيتِ، وَهُمْ قَبِيلَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ، قَالَتْ لَهُمْ: انْقَلِبُوا إِلَى رِحَالِكُمْ، وَلَيْقُلْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ شِعْرًا يَذْكُرُ حُسْنَ فِعَالِهِ وَكَرَمَهُ، وَخَلائِقَهُ، وَمَنْصِبَهُ، فَإِنِّي لا أَتَزَوَّجُ إِلا أَكْرَمَكُمْ حَسَبًا، وَأَعْلاكُمْ مَنْصِبًا، وَأَشْعَرَكُمْ شِعْرًا، فَانْصَرَفُوا، وَنَحَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزُورًا، وَبَلَغَ مَاوِيَّةَ ذَلِكَ، فَلَبِسَتْ ثِيَابًا لِأَمَةٍ لَهَا وَاتَّبَعَتْهُمْ، فَأَتَتِ النَّبِيتِيَّ مُتَنَكِّرَةً، وَاسْتَطْعَمَتْهُ مِنْ جَزُورِهِ فَأَطْعَمَهَا ثَيْلَ جَزُورِهِ، وَالثَّيْلُ: الْقَضِيبُ. فَأَخَذَتْهُ. ثُمَّ انْتَهَتْ إِلَى النَّابِغَةِ، نَابِغَةِ بَنِي ذُبْيَانَ، فَاسْتَطْعَمَتْهُ، فَأَطْعَمَهَا ذَنَبَ جَزُورِهِ، فَأَخَذَتْهُ، ثُمَّ أَتَتْ حَاتِمًا، فَوَجَدَتْهُ قَدْ نَصَبَ قِدْرَهُ، فَاسْتَطْعَمَتْهُ، فَقَالَ لَهَا: اصْبِرِي أُعْطِيكِ مَا يُبْهِجُكِ. فَانْتَظَرَتْ حَتَّى بَلَغَتْ قُدُورُهُ، فَأَطْعَمَهَا مِنْ عَجُزِ الْجَزُورِ، وَقِطْعةً مِنَ السَّنَامِ، وَمِثْلَهَا مِنَ الْمِخْدَشِ، وَهُوَ عِنْدَ الْحَارِكِ. ثُمَّ انْصَرَفَتْ، وَأَهْدَى كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَيْهَا ظَهْرَ جَمَلِهِ، وَأَهْدَى إِلَيْهَا حَاتِمٌ مِثْلَ مَا أَهْدَى إِلَى جَارَاتِهِ. وَكَانَ حَاتِمٌ إِذَا هُوَ نَحَرَ وَأَطْبَخَ لا يَدَعُ جَارَاتهِ إِلا بِهَدِيَّةٍ، وَصَبَّحُوهَا جَمِيعًا، فَاسْتَنْشَدَتْهُمْ، فَأَنْشَدَهَا النَّبِيتِيُّ: هَلا سَأَلْتِ بَنِي النَّبِيتِ مَا حَسَبِي ... عِنْدَ الشِّتَاءِ إِذَا مَا هَبَّتِ الرِّيحُ وَرَدَّ جَازُرُهُمْ حَرْفًا مُصَرَّمَةً ... فِي الرَّأْسِ مِنْهَا وَفِي الأَطْلاءِ تَمْلِيحُ وَقَالَ رَائِدُهُمْ سِيَّانِ مَالَهُمُ ... مِثْلانِ مِثْلٌ لِمَنْ يَرْعَى وَتْسَرِيحُ الصِّرَارُ: الَّذِي يُشَدُّ عَلَى ظَهْرِ النَّاقَةِ لِيَصُرَّ لَبَنَهَا فِي ضِرْعِهَا لِيَجْتَمِعَ مَحْفُوظًا. إِذَا اللِّقَاحُ غَدَتْ مُلْقًى أَصُرَّتُهَا ... وَلا كَرِيمٌ مِنَ الْوِلْدَانِ مَصْبُوحُ فَقَالَتْ: لَقَدْ ذَكَرْتَ مَكْرُمَةً إِنْ صَدَّقَ قِيلَكَ فِعْلُكَ. ثُمَّ اسْتَنْشَدَتِ النَّابِغَةَ، فَأَنْشَدَهَا يَقُولُ: هَلا سَأَلْتِ بَنِي ذُبْيَانَ مَا حَسَبِي ... إِذَا الدُّخَانُ تَغَشَّى الأَشْمَطَ الْبَرَمَا

البَرَمُ: الَّذِي لا يَدْخُلُ مَعَ الْقَوْمُ فِي أَيْسَارِ جَزُورِهِمْ، وَجَمْعُهُ أَبْرَامٌ وَهَبَّتِ الرِّيحُ مِنْ تِلْقَاءِ ذِي أَرَلٍ ... تُزْجِي مَعَ اللَّيْلِ مِنْ صُرَّادِهَا صِرَمَا إِنِّي أُسَامِحُ أَيْسَارِي وَأَمْنَحُهُمْ ... مَثْنَى الأَيَادِي وَأَكْسُو الْجَفْنَةَ الأَدَمَا فَلَمَّا أَنْشَدَهَا، قَالَتْ: مَا يَنْفَكُّ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا حَيِيتَ لَهُمْ، ثُمَّ قَالَتْ لِحَاتِمٍ: يَا أَخَا طَيِّئٍ أَنْشَدَنِي، فَأَنْشَدَهَا: أَمَاوِيَّ قَدْ طَالَ التَّجَنُّبُ وْالْهَجْرُ ... وَقَدْ عَذَّرْتِنِي فِي طِلابِكُمُ الْعُذْرُ أَمَاوِيَّ إِمَّا مَانَعٌ فَمُبَيَّنٌ ... وَإِمَّا عَطَاءٌ لا يُنَهْنِهُهُ الزَّجْرُ أَمَاوِيَّ إِنِّي لا أَقُولُ لِسَائِلٍ ... إِذَا جَاءَ يَوْمًا: حَلَّ فِي مَالِنَا نَذْرُ أَمَاوِيَّ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى ... إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهِ الصَّدْرُ أَمَاوِيَّ إِنْ يُصْبِحْ صَدَايَ بِقَفْرَةٍ ... مِنَ الأَرْضِ لا مَاءٌ لَدَيَّ وَلا خَمْرُ تَرَيْ أَنَّ مَا أَنْفَقْتُ لَمْ يَكُ ضَرَّنِي ... وَأَنَّ يَدِي مِمَّا بَخِلْتُ بِهِ صِفْرُ أَمَاوِيَّ إِنِّي رُبَّ وَاحِدِ أُمِّهِ ... أَجَرْتُ فَلا قَتْلٌ عَلَيْهِ وَلا أَسْرُ وَقَدْ عَلِمَ الأَقْوَامُ لَوْ أَنَّ حَاتِمًا ... أَرَادَ ثَرَاءَ الْمَالِ كَانَ لَهُ وَفْرُ وَإِنِّيَ لا آلُو بِمَالِي صَنِيعَةً ... فَأَوَّلُهُ زَادٌ وَآخِرُهُ ذُخْرُ يُفَكُّ بِهِ الْعَانِي وَيُؤْكَلُ طَيِّبَا ... وَمَا إِنْ تَعَرَّتْهُ الْقِدَاحُ وَلا الْخَمْرُ وَلا أَلْطِمُ ابْنَ الْعَمِّ إِنْ كَانَ إِخْوَتِي ... شُهُودًا وَقَدْ أَوْدَى بِإِخْوَتِهِ الدَّهْرُ وَلا آخُذُ الْمَوْلَى لِسُوءِ بَلائِهِ ... وَإِنْ كَانَ مَحْنُوَّ الضُّلُوعِ عَلَى عُمْرُ غَنِينَا زَمَانًا بِالتَّصَعْلُكِ وَالْغِنَى ... وَكُلًّا سَقَانَاهُ بِكَأْسَيْهِمَا الدَّهْرُ فَمَا زَادَنَا بَغْيًا عَلَى ذِي قَرَابَةٍ ... غِنَانَا وَلا أَزْرَى بِأَحْسَابِنَا الْفَقْرُ إِذَا أَنَا دَلانِي الَّذِينَ أُحِبُّهُمُ ... لَمْلَحُودَةٍ زُلْجٍ جَوَانِبُهَا غُبْرُ وَأَثْنَوْا بِمَا قَدْ يَعْلَمُونَ وَغَيْرَهُ ... وَمَا إِنْ نَدَى مَا تَرَيْنَ وَلا سُخْرُ وَقَامُوا عَلَى أَرْجَائِهِ يَدْفِنُونِي ... يَقُولُونَ: قَدْ أَوْدَى السَّمَاحَةُ وَالذِّكْرُ وَرَاحُوا سِرَاعًا يَنْفُضُونَ أَكُفَّهُمْ ... يَقُولُونَ: قَدْ أَدْمَى أَظْافِرَنَا الْحَفْرُ إِذَا الْمَرْءُ أَثْرَى ثُمَّ لَمْ يَكُ مَالُهُ ... غِنًى لأَدَانِيهِ فَحَالَفَهُ الْعُسْرُ فَلَمَّا فَرَغَ حَاتِمٌ مِنْ إِنْشَادِهِ الشِّعْرَ، دَعَتْ لَهُمْ بِالْغَدَاءِ، وَقَدْ كَانَتْ أَمَرَتْ إِمَاءَهَا أَنْ يُقَدِّمْنَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَا كَانَ أَطْعَمَهَا حَيْثُ اسْتَطْعَمَتْهُمْ، فَقَدَّمَ الْإِمَاءُ إِلَيْهِمِ مَا أَمَرَتْهُنَّ، فَلَمَّا وَضَعْنَ الْإِمَاءُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ذَلِكَ عَرَفَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَا كَانَ أَطْعَمَهَا، فَنَكَّسَ النَّبِيتِيُّ وَالنَّابِغَةُ رَأَسَيْهُمَا، فَلَمَّا رَأَى حَاتِمٌ ذَلِكَ رَمَى بِالَّذِي قَدَّمْنَ الْإِمَاءُ إِلَيْهِمَا، وَقَدَّمَ إِلَيْهِمَا مَا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ. فَقَالَتْ: إِنَّ حَاتِمًا لَأَكْرَمُكُمْ وَأَشْعَرُكُمْ وَأَجْوَدُكُمْ، رَجُلٌ كَرِيمُ النِّسْبَةِ، تَعْرِفُهُ الْعَامَّةُ كَمَعْرِفَةِ الْخَاصَّةِ، لَهُ جُودٌ وَمَعْرُوفٌ وَبَذْلٌ، قَدْ قَبِلْتُ حَاتِمًا، وَرَضِيتُ بِهِ، فَقَامَا مُنْصَرِفَيْنَ مُسْتَحِيَيْنَ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَى حَاتِمٍ، فَقَالَتْ: خَلِّ سَبِيلَ امْرَأَتِكَ، فَأَبَى أَنْ يَفْعَلَ، وَأَبْتَ أَنْ تُزَوِّجَهُ نَفْسَهَا حَتَّى يُطَلِّقَهَا، فَانْصَرَفَ عَنْهَا.

ثُمَّ دَعَتْهُ نَفْسُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى تَزَوُّجِهَا، وَحَلَّتْ بِقَلْبِهِ، وَمَاتَتِ امْرَأَتُهُ، فَزَوَّجَتْهُ نَفْسَهَا، فَمَكَثَ عِنْدَهَا زَمَانًا، وَابْنُ عَمٍّ لِحَاتِمٍ يُقَالُ لَهُ: مَالِكٌ، قَالَ لَهَا: يَا هَذِهِ مَا تَصْنَعِينَ بِحَاتِمٍ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ مَلَكَ لَيُتْلِفَنَّ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ لَيَتَكَلَّفَنَّ، وَلِئِنْ مَاتَ لَيِتْرُكَنَّ وَلَدَكِ كَلًّا عَلَيْكِ وَعِيَالا عَلَى قَوْمِكِ، وَأَنَا لَكِ نَاصِحٌ مُشْفِقٌ، وَلَكِ مُحِبٌّ وَامِقٌ، فَطَلِّقِي، فَأَنَا أَتَزَوَّجُ بِكِ، وَأَنَا خَيْرٌ لَكِ مِنْ حَاتِمٍ، لِأَنِّي أَكْثَرُ مِنْهُ مَالا، وَأَحْسَنُ مِنْهُ حَالا، وَأَنَا أَمْسَكُ عَلَيْكِ وَعَلَى وَلَدِكَ مَا لَهُمْ، وَتَعِيشِينَ مَعِي عَيْشًا رَغْدًا، فَمَالِي لَكِ وَأَنَا قَعِيدٌ لَكِ. فَلَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى طَلَّقَتْ حَاتِمًا، وَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَقَدْ صَدَقْتَ، وَإِنَّ حَاتِمًا لَكَمَا ذَكَرْتَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَكُنَّ النِّسَاءُ هُنَّ اللَّوَاتِي يُطَلِّقْنَ الرِّجَالِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَانَ طَلاقُهُنَّ، إِنْ كُنَّ فِي بُيُوتٍ مِنْ شَعْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، حَوَّلَنَّ بَابَهُ، فَإِذَا كَانَ بَابُهُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ حَوَّلْنَهُ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ حَوَّلْنَهُ إِلَى الْمَشْرِقِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ حَوَّلْنَهُ إِلَى قِبَلِ الشَّامِ، فَإِذَا جَاءَ زَوْجُ الْمَرْأَةِ وَرَأَى ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهَا طَلَّقَتْهُ، فَيَدَعُ غِشْيَانَهَا، وَكَانَتْ مَاوِيَّةُ مِنْ أَجْمَلِ نِسَاءِ زَمَانِهَا، فَأَتَاهَا حَاتِمٌ فَوَجَدَهَا قَدْ حَوَّلَتْ خِبَاءَهَا فَأَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهَا، فَهَبَطَ حَاتِمٌ إِلَى بَطْنِ وادٍ مِنَ الأَوْدِيَةِ فَنَزَلَ بِهِ، وَاغْتَمَّ لِذَلكِ غَمًّا شَدِيدًا، وَلَمْ تَتَهَيَّأْ لَهُ حِيَلَةٌ فِيهَا. وَدَخَلَ بِهَا مَالِكٌ، وَجَاءَ قَوْمٌ سَفَرٌ فَنَزَلُوا عَلَى بَابِ الْخِبَاءِ، كَمَا كَانُوا يَنْزِلُونَ كَعَادَاتِهِمْ بِحَاتِمٍ، فَمَا زَالَ قَوْمٌ يَنْزِلُونَ بَعْدَ قَوْمٍ حَتَّى تَوَافَوْا قَرِيبًا مِنْ خَمْسِينَ رَجُلا، فَضَاقَتْ بِهْمُ مَاوِيَّةُ ذَرْعًا، فَقَالَتْ لَجَارِيَتِهَا: اذْهَبِي إِلَى ابْنِ عَمِّي مَالِكٍ، فَقُولِي لَهُ، إِنَّ أَضْيَافًا لِحَاتِمٍ قَدْ نَزَلُوا بِنَا، وَهُمْ فِي عِدَادِ خَمْسِينَ رَجُلا، فَأَرْسِلْ إِلَيْنَا بِنَابٍ نَقْرِهِمْ وَلَبَنٍ نَغْبِقْهُمْ. وَالنَّابُ: الْمُسِنَّةُ مِنَ الْإِبِلِ، وَالْغَبُوقُ: شُرْبُ اللَّبْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ. وَقَالَتْ لِجَارِيَتَها: انْظُرِي إِلَى جَبِينِهِ وَفَمِهِ، فَإِنْ بَادَرَكِ بِالْقَوْلِ: أَيْ نَعَمْ فَأَقْبَلِي مِنْهُ، وَإِنْ ضَرَبَ بِلِحْيَتِهِ عَلَى زَوْرِهِ، أَوْ ضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَى رَأْسِهِ، فَاقْبَلِي وَدَعِيهِ. قَوْلُهُ لِحْيَتُهُ عَلَى زُورُهُ: الْمَعْنَى إِنْ نَكَّسَ رَأْسَهُ وَضَرَبَ بِذَقْنِهِ عَلَى صَدْرِهِ. فَأَتَتِ الْجَارِيَةُ مَالِكًا فَوَجَدَتْهُ مُتَوَسِّدًا وَطَبًا مِنَ اللَّبَنِ، وَتَحْتَ بَطْنِهِ وَطَبٌ آخرَ، وَهُوَ نَائِمٌ فَأَنْبَهَتْهُ، وَبَلَّغَتْهُ الرِّسَالَةَ فَرَفَعَ يَدَهُ إِلَى رَأْسِهِ، فَحَكَّ رَأْسَهَ بِيِدِهِ، وَنَكَّسَ رَأَسَهُ مُفَكِّرًا، فَقَالَتْ لَهُ الْجَارِيَةُ: إِنَّمَا هِيَ اللَّيْلَةُ حَتَّى تُعْلِمَ النَّاسَ بِمَكانِ حَاتِمٍ، وَيَبْلُغَهُمْ حَالُهُ.

فَقَالَ: أَقْرِئِي عَلَى مَوْلاتِكِ السَّلامَ، وَقُولِي لَهَا هَذَا الَّذِي أَمَرْتُكِ أَنْ تُطَلِّقِي فِيهِ حَاتِمًا، وَمَا عِنْدِي نَابٌ مُسِنَّةٌ قَدْ تَرَكَتِ الْعَمَلَ، فَاسْتَحَقَّتِ النَّحْرَ، وَمَا كُنْتُ لِأَنْحَرَ صَغِيرةً بِشَحْمِ كُلاهَا مُقْبِلَةٌ لِلْخَيْرِ. وَمَا عِنْدِي مِنَ اللَّبنِ مَا يَكْفِي أَضْيَافَ حَاتِمٍ. فَرَجَعَتْ فَأَخْبَرَتْهَا بِمَا سَمِعَتْ مِنْهُ وَمَا رَأَتْ، وَمَا رَدَّ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ: وَيْحَكِ اطْلُبِي حَاتِمًا بِالْوَادِي، فَإِنْ وَجَدْتِيهِ، فَقُولِي: إِنْ أَضْيَافَكَ قَدْ نَزَلُوا بِنَا اللَّيْلَةَ، وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّكَ فِي مَنْزِلِكَ كَمَا كُنْتَ، فَأَرْسِلْ إِلَيْنَا بِنَابٍ نُقْرِهِمْ وَلَبَنٍ نَغْبِقْهُمْ، فَإِنَّمَا هِيَ اللَّيْلَةُ حَتَّى يَعْرِفُوا حَالَكَ. فَأَتَتِ الْجَارِيَةُ الْوَادِيَ فَصَرَخَتْ بِهِ، فَسَمِعَ صَوْتَهَا، فَقَالَ مُجِيبًا لَهَا: لَبَّيْكِ، قَرِيبًا دَعَوْتِ، فَانْتَبَهَتْ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: إِنَّ مَاوِيَّةَ تُقْرِئُكَ السَّلامَ، وَتَقُولُ: إِنْ أَضْيَافَكَ قَدْ نَزَلُوا بِنَا، فَأَرْسِلْ إِلَيْنَا بِنَابٍ نَنْحَرُهَا لَهُمْ، وَبِلَبَنٍ نَسْقِيهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا بِنَابٍ، ثُمَّ قَامَ إِلَى الْإِبِلِ فَأَطْلَقَ اثْنَيْنِ مِنْ عَقْلِهِمَا، ثُمَّ صَرَخَ بِهِمَا حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْخِبَاءِ، ثُمَّ بَادَرَهُمَا فَضَرَبَ عَرْاقِيبَهُمَا، فَصَرَخَتْ مَاوَيَّةُ مِنْ دَاخِلِ الْخِبَاءِ، تَقُولُ: لِهَذَا طَلَّقْتُكَ، وَقَالَتْ: تُبَذِّرُ مَالَكَ وَتُتْلِفُ مَا فِي يَدِكَ وَوَلَدُكَ مِنْ بَعْدِكَ كَلا عَلَى قَوْمِكَ. فَأَنْشَأَ حَاتِمْ يَقُولُ: هَلِ الدَّهْرُ إِلا الْيَوْمُ أَوْ أَمْسِ أَوْ غَدٌ ... كَذَاكَ الزَّمَانُ بَيْنَنَا يَتَرَدَّدُ يَرُدُّ عَلَيْنَا لَيْلَةً ثُمَّ يَوْمَهَا ... فَمَا نَحْنُ مَا نَبْقَى وَلا الدَّهْرُ يِنْفَدُ لَنَا أَجَلٌ مَا نَتَنَاهَى أَمَامَهُ ... فَنَحْنُ عَلَى آثَارِهِ نَتَوَرَّدُ بَنُو ثُعَلٍ قَوْمِي فَمَا أَنَا مُدَّعٍ ... سِوَاهُمْ إِلَى قَوْمٍ وَلا أَنَا مُسْنَدُ بِدَرْئِهِمُ أَغْشَى دُرُوءَ مَعَاشِرٍ ... وَيَحْنَفُ عِنَّا الأَبْلَخُ الْمُتَعَمِّدُ فَمَهْلا فِدًى أُمِّي وَنَفْسِي وَخَالَتِي ... وَلا يَأْمُرنِي بِالدَّنِيَّةِ أَسْوَدُ أَأَلانَ إِذْ ذُكِّيتُ وَاشْتَدَّ جَانِبِي ... أُسَامُ الَّتِي أَعْيَيْتُ إِذْ أَنَا أَمْرَدُ فَهَلْ تُرِكَتْ قَبْلِي حَضُورَ مَكَانِها ... وَهَلْ أَنَا إِنْ أَعْطَيْتُ خَسْفًا مُخَلَّدُ وَمُعْتَسِفٍ بِالرُّمْحِ مِنْ دُونِ صَحْبِهِ ... تَعَسَّفْتُهُ بِالرُّمْحِ وَالْقَوْمُ هُجَّدُ فَخَرَّ عَلَى حَرِّ الْجَبِينِ وَدَادُهُ ... إِلَى الْمَوْتِ مَطْرُورَ الْوَقِيعَةِ مِذْوَدُ فَمَا رُمْتُهُ حَتَّى أَزَحْتُ عَوِيصَهُ ... وَحَتَّى عَلاهُ حَالِكُ اللَّوْنِ أَسْوَدُ إِذَا كَانَ بَعْضُ الْمَالِ رَبَّا لِأَهْلِهِ ... فَإِنِي بِحَمْدِ اللَّهِ مَالِي مُعَبَّدُ يُفَكُّ بِهِ الْعَانِي وَيُؤْكَلُ طَيِّبًا ... وَيُعْطَى إِذَا ضَنَّ الْبَخِيلُ الْمُصَرِّدُ إِذَا مَا الْبَخِيلُ الْخِبْءُ أَخْمَدَ نَارَهُ ... أَقُولُ لِمَنِ يَصْلَى بِنَارِيَ: أَوْقِدُوا تَوَسَّعْ قَلِيلا أَوْ يَكُنْ ثَمَّ حَسْبُنَا ... وَمُوقِدُهَا الْبَادِي أَعَفُّ وَأَمْجَدُ فَإِنَّ الجَّوادَ مَنْ تَلَفَّتَ حَوْلَهُ ... وَإِنَّ الْبَخِيلَ نَاكِسُ الطَّرْفِ أَقْوَدُ كَذَاكَ أُمُورُ النَّاسِ رَاضٍ دَنِيَّةً ... وَسَامٍ إِلَى فَرْعِ الْعُلا مُتَوَرَّدُ وَدَاعٍ دَعَانِي دَعْوَةً فَأَجَبْتُهُ ... وَهَلْ يَدَعُ الدَّاعِينَ إِلا الْيَلَنْدَدُ

حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي مِسْكِينٍ، قَالَ: " كَانَتْ سَفَّانَةُ بِنْتُ حَاتِمٍ مِنْ أَجْوَدِ نِسَاءِ الْعَرَبِ، وَكَانَ أَبُوهَا يُعْطِيهَا الصِّرْمَةَ مِنْ إِبِلِهِ، فَتَهَبُهَا وَتُعْطِيهَا النَّاسَ، فَقَالَ حَاتِمٌ: يَا بُنَيَّةُ، إِنَّ السَّخِيَّيْنِ إِذَا اجْتَمَعَا فِي مَالٍ أَتْلَفَاهُ، فَإِمَّا أَنْ أُعْطِيَ وَتَبْخَلِينَ، وَإِمَّا أَنْ تُعْطِي وَأَبْخَلُ، فَإِنَّهُ لا يَبْقَى عَلَى هَذَا شَيْءٌ. وَكَانَ أَبُو جُبَيْلٍ، وَهُوَ عَبْدُ قَيْسِ بْنُ خَفَّافِ الْبُرْجُمِيُّ، أَتَى حَاتِمًا فِي دِمَاءٍ حَمَلَهَا عَنْ قَوْمِهِ، أَسْلَمُوهُ فِيهَا، وَعَجَزَ عَنْ أَدَائِهَا، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَآتِيَنَّ مَنْ يَحْمِلُهَا عَنِّي، وَكَانَ شَاعِرًا شَرِيفًا، فَأَتَى حَاتِمًا فَقَالَ لَهُ: قَدْ كَانَ بَيْنَ قَوْمِي دِمَاءٌ، فَتَوَاكَلُوهَا، وَإِنِّي حَمَلْتُهَا فِي مَالِي وَإِبِلِي، فَقَدَّمْتُ مَالِي، وَكُنْتَ أَمَلِي، فَإِنْ تَحْمِلْهَا، فَرُبَّ حَقٍّ قَدْ قَضَيْتَهُ، وَهُمٍّ قَدْ كَفَيْتَهُ، وَإِنْ حَالَ دُونَ ذَلِكَ حَائِلٌ، لَمْ أَذُمَّ يَوْمَكَ، وَلَمْ آيَسْ مِنَ غَدِكَ، ثُمَّ أَنْشَدَ: حَمَلْتُ دِمَاءً لِلْبَرَاجِمِ جَمَّةً ... فَجِئْتُكَ لَمَّا أَسْلَمَتْنِي الْبَرَاجِمُ وَقَالُوا سِفَاهًا: لِمَ حَمَلْتَ دِمَاءَنَا ... فَقُلْتُ لَهُمْ: يَكْفِي الْحَمَالَةُ حَاتِمٌ مَتَى آتِهِ فَيِهَا يَقُلْ لِيَ مَرْحَبًا ... وَأَهْلا وَسَهْلا أَخَطَأَتْكَ الأَشَائِمُ فَيَحْمِلُهَا عَنِّي وَإِنْ شِئْتُ زَادَنِي ... زِيَادَةَ مَنْ حَلَّتْ إِلَيْهِ الْمَكَارِمُ يَعِيشُ النَّدَى مَا عَاشَ حَاتِمُ طَيِّئٍ وَإِنْ مَاتَ قَامْتَ لِلسَّخَاءِ مَآتِمُ يُنَادِينَ مَاتَ الْجُودُ مَعْكَ فَلا تَرَى ... لَهُ مُجِيبًا مَا دَامَ لِلسَّيْفِ قَائِمُ وَقَالَ رِجَالٌ أَنْهَبَ الْجُودُ مَالَهُ ... إِذَا خَلَّفَ الْمَالَ الْحُقُوقُ اللَّوَازِمُ فَيُعْطِي الَّتِي فِيهَا الْغَنِيَّ كَأَنَّهُ ... لَتَصْغِيرِهِ تِلْكَ الْعَطِيَّةَ جَارِمُ بِذَلِكَ أَوْصَاهُ عَدِيٌّ وَحَشْرَجٌ ... وَسَعْدٌ وَعَبْدُ اللَّهِ وَتِلْكَ الْقَمَاقِمُ فَقَالَ لَهُ حَاتِمٌ: إِنِّي كُنْتُ لَأُحِبُّ أنْ يَأْتِيَنِي مِثْلُكَ مِنْ قَوْمِكَ، هَذَا مِرْبَاعِي مِنَ الْغَارَةِ عَلَى تَمِيمٍ، فَإِنْ وَفَتِ الْحَمَالَةَ، وَإِلا كَمَّلْتُهَا لَكَ، وَهِيَ مِائَتَا بَعِيرٍ سِوَى بَنِيِّهَا، وَفِصَالِهَا، مَعَ أَنِّي لَأُحِبُّ أَنْ لا تُؤْيِسَ قَوْمَكَ بِأَمْوَالِهِمْ، فَضَحِكَ أَبُو جُبَيْلٍ، ثُمَّ قَالَ: لَكُمْ مَا أَخَذْتُمْ مِنَّا وَلَنَا مَا أَخَذْنَا مِنْكُمْ، وَأَيُّمَا بَعِيرٍ دَفَعْتَهُ إِلَيَّ وَلَيْسَ لَهُ ذَنَبٌ فِي يَدِ صَاحِبِهِ، فَأَنْتَ مِنْهُ بَرِيٌّ، فَأَخَذَهَا مِنْهُ، وَزَادَهُ مِائَةً، وَانْصَرَفَ رَاجِعًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ حَاتِمٌ: أَتَانِي الْبُرْجُمِيُّ أَبُو جُبَيْلٍ ... لَهَمٍّ فِي حَمَالَتِهِ طَوِيلِ فَقُلْتُ لَهُ خُذِ الْمِرْبَاعَ دَهْرًا ... فَإِنِّي لَسْتُ أَرْضَى بِالْقَلِيلِ عَلَى حَالٍ وَلا عَوَّدْتُ نَفْسِي ... عَلَى عَلاتِهَا عِلَلَ الْبَخِيلِ فَخُذْهَا إِنَّهَا مِائَتَا بَعِيرٍ ... سِوَى النَّابِ الرَّدِيَّةِ وَالْفَصِيلِ وَلا مَنٌّ عَلَيْكَ بِهَا فَإِنِّي ... رَأَيْتُ الْمَنَّ يُزْرِي بِالْجَمِيلِ فَقَامَ الْبُرْجُمِيُّ وَمَا عَلَيْهِ ... مِنْ أَعْبَاءِ الْحَمَالَةِ مِنْ قَتِيلِ يَجُرُّ الذَّيْلَ يَنْفُضُ مِذْرَوَيْهِ ... خَفِيفَ الظَّهْرِ مِنْ حَمْلٍ ثَقِيلِ

حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ صَالِحٍ، قَالَ: " كَانَتْ أُمُّ حَاتِمٍ ذَاتَ يَسَارٍ، وَأَسْخَى النَّاسِ، وَأَقْرَاهُمْ لِضَيْفٍ، كَانَتْ لا تُلِيقُ شَيْئًا تَمْلِكُهُ، وَاسْمُهَا غَنِيَّةُ بِنْتُ عَفِيفِ بْنِ امْرئِ الْقَيْسِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ أَخْزَمَ، فَلَمَّا رَأَى إِخْوَتُهَا إِتْلافَهَا حَجَرُوا عَلَيْهَا، وَمَنَعُوهَا مَالَهَا، حَتَّى إِذَا ظَنُّوا أَنَّهَا قَدْ وَجَدَتْ ذَلِكَ أَعْطَوْهَا صِرْمَةً مِنْ إِبِلِهَا، فَجَاءَتْهَا امْرَأَةٌ مِنْ هَوَازِنَ، كَانَتْ تَأْتِيهَا كُلَّ سَنَةٍ تَسْأَلُهَا، فَقَالَتْ لَهَا: دُونَكِ هَذِهِ الصِّرْمَةُ خُذِيهَا، فَوَاللَّهِ لَقَدْ عَضَّنِي مِنَ الْجُوعِ شَيْءٌ لا أَمْنَعُ مَعَهُ سَائِلا أَبَدًا، ثُمَّ أَنْشَأَتْ تَقُولُ: لَعَمَرْيِ لَقَدْ مَا عَضَّنِي الْجُوعُ عَضَّةً ... فَآلَيْتُ أَلا أَمْنَعَ الدَّهْرَ جَائِعًا فَمَاذَا عَسَيْتُمْ أَنْ تَقُولُوا لِأُخْتِكُمْ ... سِوَى عَذْلِكُمْ أَوْ عَذْلِ مَنْ كَانَ مَانِعًا فَقُولا لِهَذَا اللائِمِي الْيَوْمَ: أَعْفِنِي ... وَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَعَضَّ الأَصَابِعَا وَلا مَا تَرَوْنَ الْيَوْمَ إِلا طَبِيعَةً ... فَكَيْفَ بِتَرْكِي يَا ابْنَ أُمِّ الطَّبَائِعَا أَنْشَدَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ لِحَاتِمٍ: وَعاذِلَةٍ هَبَّتْ بِلَيْلٍ تَلُومُنِي ... وَقَدْ غَابَ عَيِّوقُ الثُّرَيَّا فَعَرَّدَا تَلُومُ عَلَى إِعْطَائِيَ الْمَالَ ضِلَّةً ... إِذَا ضَنَّ بِالْمَالِ الْبَخِيلُ وَصَرَّدَا تَقَوُلُ: أَلا أمْسِكْ عَلَيْكَ فَإِنَّنِي ... أَرَى الْمَالَ عِنْدَ الْمُمْسِكِينَ مُعَبَّدَا ذَرِينِي وَمَالِي إِنَّ مَالَكِ وَافِرٌ ... وَكُلُّ امْرِئٍ جَارٍ عَلَى مَا تَعَوَّدَا وإِلا فَكُفِّي بَعْضَ لَوْمِكِ وَاجْعَلِي ... إِلَى رَأَيِ مَنْ تَلْحِينَ رَأْيَكِ مُسْنَدَا أَلَمْ تَعْلَمِي أَنِّي إِذَا الضَّيْفُ نَابَنِي ... وَعَزَّ الْقِرَى أَقْرِي السَّدِيفَ الْمُسَرْهَدَا وَأَنِّي لِأَعْرَاضِ الْعَشِيرَةِ حَافِظٌ ... وَحَقِّهِمْ حَتَّى أَكُونَ مُسَوَّدَا يَقُولُونَ لِي: أَهْلَكْتَ مَالَكَ فَاقْتَصِدْ ... وَمَا كُنْتُ لَوْلا مَا تَقُولُونَ مُفْسِدَا كُلُوا الْيَوْمَ مِنْ رِزْقِ الْعِبَادِ وَأَبْشِرُوا ... فَإِنَّ عَلَى الرَّحْمَنِ رِزْقَكُمُ غَدَا سَأَذْخُرُ مِنْ مَالِي دِلاصًا وَسَابِحًا ... وَأَسْمَرَ خَطِّيًّا وَعَضْبًا مُهَنَّدَا فَذَلِكَ يَكْفِينِي مِنَ الْمَالِ كُلِّهِ ... مَصُونًا إِذَا مَا كَانَ عِنْدِي مُتَلِّدَا قَالَ: وَأَنْشَدَنِي لَهُ: مَهْلا نَوَارُ، أَقِلِّي اللَّوْمَ وَالْعَذَلا ... وَلا تَقُولِي لِشَيْءٍ فَاتَ مَا فَعَلا؟ وَلا تَقُولِي لِمَالٍ كُنْتُ أُهْلِكُهُ ... مَهْلا وَإِنْ كُنْتُ أُعْطِي الْجِنَّ وَالْخَبَلا يَرَى الْبَخِيلُ سَبِيلَ الْمَالِ وَاحِدَةً ... إِنَّ الْجوَادَ يَرَى فِي مَالِهِ سُبُلا إِنَّ الْبَخِيلَ إِذَا مَا مَاتَ يِتْبَعُهُ ... سُوءُ الثَّنَاءِ وَيَحْوِي الْوَارِثُ الْإِبِلا اصْدُقْ حَدِيثَكَ إِنَّ الْمَرْءَ يَتْبَعُهُ ... مَا كَانَ يَبْنِي إِذَا مَا نَعْشُهُ حُمِلا لا تَعْذِلِينِي عَلَى مَالٍ وَصَلْتُ بِهِ ... رَحْمًا وَخَيْرُ سَبِيلِ الْمَالِ مَا وَصَلا يَسْعَى الْفَتَى وَحِمَامُ الْمَوْتِ مُدْرِكُهُ ... وَكُلُّ يَوْمٍ يُدَنِّي لِلْفَتَى أَجَلا إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنِّي سَوْفَ يُدْرِكُنِي ... يَوْمِي وَأُصْبِحُ عَنْ دُنَيَايَ مُشْتَغِلا فَلَيْتَ شِعْرِي وَلَيْتٌ غَيْرُ مُدْرَكَةٍ ... بِأَيِّ حَالٍ تُرَى أَضْحَى بَنُو ثُعَلا اغْزُوا بَنِي ثُعَلٍ فَالْغَزْوُ جَدُّكُمُ ... عُدُّوا الرَّوَابِي وَلا تَبْكُوا لِمَنْ قُتِلا

وَيْهًا فِدًى لَكُمُ أُمِّي وَمَا وَلَدَتْ ... حَامُوا عَلَى مَجْدِكُمْ وَاكْفُوا مَنِ اتَّكَلا إِذْ غَابَ مَنْ غَابَ عَنْهُمْ مِنْ عَشِيرَتِنَا ... وَأَبْدَتِ الْحَرْبُ نَابًا كَالِحًا عَصِلا اللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي ذُو مُحَافَظَةٍ ... مَا لَمْ يَخُنِّي خَلِيلِي يَبْتَغِي بَدَلا فَإِنْ تَبَدَّلَ أَلْفَانِي أَخَا ثِقَةٍ ... عَفَّ الْخَلِيقَةِ لا نِكْسًا وَلا وَكِلا قَالَ: وَأَنْشَدَنِي عَمِّي أَيْضًا: أَنَا الْمُفِيدُ حَاتِمُ بْنُ سَعْدٍ ... أُعْطِي الْجَزِيلَ وَأَفِي بِالْعَهْدِ وَشِيمَتِي الْبَذْلُ وَصِدْقُ الْوَعْدِ ... وَأَشْتَرِي الْحَمْدَ بِفِعْلِ الْحَمْدِ أَوْرَثَنِي الْمَجْدَ بُنَاةُ الْمَجْدِ ... أَبِي وَجَدِّي حَشْرَجٌ ذُو الْوَفْدِ هَلا سَأَلْتِ الْوَفْدَ عَنِّي وَحْدِي ... كَيْفَ طِعَانِي بِالْقَنَا وَشَدِّي وَكَيْفَ ضَرْبِي بِالْحُسَامِ الْفَرْدِ ... وَكَيْفَ بَذْلِي الْمَالَ غَيْرَ كَدِّي وَكَيْفَ تِضْيَافِي وَكَيْفَ قَصْدِي ... وَكَيْفَ إِطْلاقِي وَكَيْفَ رِفْدِي وَأَنْشَدَنِي لَهُ أَيْضًا: لا تَسْتُرِي قِدْرِي إِذَا مَا طَبْخَتِهَا ... عَلَيَّ إِذَا مَا تَطْبُخِيهِ حَرَامِ وَلَكِنْ بِهَذَاكَ الْيَفاعِ فَأَوْقِدِي ... بِجَزْلٍ إِذَا أَوْقَدْتِ لا بِضَرامِ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُؤَمَّليُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ: أَغَارَتْ طَيِّئٌ عَلَى إِبِلِ النُّعْمَانِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ الْجَفْنِيِّ، وَقَتَلُوا ابْنًا لَهُ، وَكَانَ الْحَارِثُ إِذَا غَضِبَ حَلَفَ لَيَقْتُلَنَّ وَلَيَسْبِيَنَّ الذَّرَارِيَّ، فَحَلَفَ لَيَقْتُلَنَّ مَنَ الْغَوْثِ بْنِ طَيِّئٍ أَهْلَ بَيْتٍ جَمِيعًا، حَتَّى لا يُبْقِي مِنْهُمْ مُقَاتِلا، عَلَى دَمٍ وَاحِدٍ. فَخَرَجَ يُرِيدُ طَيِّئًا، فَأَصَابَ مِنْ بَنِي عَدَيِّ بْنِ أَخْزَمَ، قَتَلَ مِنْهُمْ سَبْعِينَ رَجُلا، وَأَصَابَ رَئِيسَهُمْ، وَهَمَ بْنَ عَمْرٍو، وَأَصَابَ رَهْطَ حَاتِمٍ، وَحَاتِمٌ يَوْمَئِذٍ بِالْحِيرَةِ، عِنْدَ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، فَأَصَابَتْهُمْ مُقَدِّمَاتُ خَيْلِهِ، فَلَمَّا قَدِمَ حَاتِمٌ الْجَبَلَيْنِ، حَمَلَتِ الْمَرْأَةُ الصَّبِيَّ مِنْ وَلَدَهِا، فَتَقُولُ: يَا حَاتِمُ أُسِرَ أَبُو هَذَا، وَجَعَلَتِ النِّسَاءُ تُكْثِرُ عَلَيْهِ. فَلَمْ يَلْبِثْ إِلا لَيْلَةً حَتَّى سَارَ إِلَى النُّعْمَانِ، وَمَعَهُ مِلْحَانُ بْنُ حَارِثَةَ، وَكَانَ لا يُسَافِرُ إِلا وَهُوَ مَعَهُ، فَقَالَ حَاتِمٌ: إِلا أَنْنِي قَدْ هَاجَنِي اللَّيْلَةَ الذِّكْرُ ... وَمَا ذَاكَ مِنْ حُبِّ النِّسَاءِ وَلا الأَشَرْ وَلَكِنَّهُ مِمَّا أَصَابَ عَشِيرَتِي ... وَقَوْمِي بِأَقْرَانٍ، حَوَالَيْهِمُ الصِّيَرْ لَيَالِيَ نُمْسِي بَيْنَ جَوٍّ وَمِسْطَحٍ ... نَشَاوَى لَنَا مِنْ كُلِّ سَائِمَةٍ جَزَرْ فَيَا لَيْتَ خَيْرَ النَّاسِ حَيًّا وَمَيَّتًا ... يَقُولُ لَنَا خَيْرًا وَيَمْضِي الَّذِي ائْتَمَرْ فَإِنْ كَانَ شَرًّا فَالْعَزَاءُ فَإِنَّنَا ... عَلَى وَقِعَاتِ الدَّهْرِ مِنْ قَبْلِهَا صُبَرْ سَقَى اللَّهُ رَبُّ النَّاسِ سَحًّا وَدِيمَةً ... جَنُوبَ السَّراةِ مِنْ مَآبٍ إِلَى زُغَرْ بِلادَ امْرِئٍ لا يَعْرِفُ الذَّمُّ بَيْتَهُ ... لَهُ الْمَشْرَبُ الصَّافِي وَلا الْمَطْعَمُ الْكِدَرْ تَذَكَّرْتُ مِنْ وَهْمِ بْنِ عَمْرٍو جَلادَةً ... وَجُرْأَةَ مَغْدَاهُ إِذَا صَارِخٌ بِكَرْ فَأَبْشِرْ وَقرَّ الْعَيْنَ مِنْكَ فَإِنَّنِي ... أُحَيِّي كَرِيمًا لا ضَعِيفًا وَلا حَصِرْ

قَالَ هَذِهِ الْقَصِيدَةَ ثُمَّ دَخَلَ عَلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ الْجَفْنِيِّ، فَأَنْشَدَهُ، فَأُعْجِبَ بِهِ، وَاسْتَوْهَبَ مِنْهُ أَسْرَى قَوْمِهِ، فَوَهَبَهُمْ لَهُ، وَكَانَ مَنْ وَهَبَ لَهُ مِنْهُمْ بَنِي امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ ثُمَّ أَنْزَلَهُ عِنْدَهُ، وَأَمَرَ بِحُسْنِ ضِيَافَتِهِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، وَبِتَعَهُّدِهِ، فَحُمِلَ إِلَيْهِ الطَّعَامُ وَالْخَمْرُ. فَقَالَ لَهُ مِلْحَانُ: أَتَشْرَبُ الْخَمْرَ وَقَوْمُكَ أَسْرَى فِي الأَغْلالِ؟ سَلْهُ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِمْ، وَيَهَبَهُمْ. فَدَخَلَ عَلَى النُّعْمَانِ الثَّانِيَةَ، وَقَالَ قَصِيدَةً أُخْرَى، فَأَنْشَدَهُ إِيَّاهَا: إِنَّ امْرَأَ الْقَيْسِ أَضْحَتْ مِنْ صَنَائِعَكُمْ ... وَعَبْدَ شَمْسٍ أَبَيْتَ اللَّعْنَ فَاصْطَنِعِ إِنَّ عَدِيًّا إِذَا مَلَّكْتَ جَانِبَهَا ... مَنْ أَمْرِ غَوْثٍ عَلَى مَرْأًى وَمُسْتَمَعِ وَقَالَ أَيْضًا: أَتْبِعْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ أَمْرَ إِخْوَتِهِمْ ... أَهْلِي فِدَاؤُكَ إِنْ ضَرُّوا وَإِنْ نَفَعُوا لا تَجَعَلَّنَا أَبَيْتَ اللَّعْنَ ضَاحِيَةً ... كَمَعْشَرٍ صُلِمُوا الْآذَانَ أَوْ جُدِعُوا أَوْ كَالْجَنَاحِ إِذَا شُلَّتْ قَوَادِمُهُ ... صَارَ الْجَنَاحُ لِفَضْلِ الرِّيشِ يَتَّبِعُ فَأَطْلَقَ لَهُ النُّعْمَانُ بْنُ الْحَارِثِ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، وَهُمْ بَنُو عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ أَخْزَمَ بْنِ أَبِي أَخْزَمَ، وَبَقَيَ قَيْسُ بْنُ جَحْدَرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبْدِ رَضِيِّ بْنِ مَالِكِ بْنِ ذُبْيَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ جَرْوَلٍ الأَجَئِيُّ، وَأَمُّهُ مِنَ بَنِي عَدِيٍّ، وَهُوَ جَدُّ الطِّرِمَّاحِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ نَفَرِ بْنِ قَيْسِ بْنِ جَحْدَرٍ، فَقَالَ لَهُ النُّعْمَانُ: أَبَقِيَ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَأَنْشَدَهُ حَاتِمٌ: فَكَكْتَ عَدِيًّا كُلَّهَا مِنْ إِسَارِهَا ... فَأَفْضِلْ وَشَفِّعْنِي بِقَيْسِ بْنِ جَحْدَرِ أَبُوهُ أَبُونَا فَارْعٌ وَالأُمُّ أُمُّنَا ... فَأَنْعِمْ فَدَتْكَ النَّفْسُ نَفْسِي وَمَعْشَرِي فَقَالَ لَهُ النُّعْمَانُ: هُوَ لَكَ، وَوَهَبَهُ لَهُ مَعَ جَمْيِعِ مَنْ أَسَرَ مِنْ قَوْمِهِ. فَقَالَ حَاتِمٌ يَمْدَحُ النُّعْمَانَ بْنَ الْحَارِثِ، وَيَذْكُرُ مَا مَنَّ عَلَيْهِ مِنْ فِكَاكَ قَوْمِهِ، وَهِبَتِهِ إِيَّاهُمْ لَهُ: أَبْلِغِ الْحَارِثَ بْنَ عَمْرٍو بِأَنِّي ... حَافِظُ الْوُدِّ مُرصِدٌ لِلثَّوَابِ وَمُجِيبٌ دُعَاءَهُ إِنْ دَعَانِي ... عَجِلا وَاحِدًا وَذَا أَصْحَابِ إِنَّمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ فَاعْلَمْ ... سَيْرُ تَسْعٍ لِلْعَاجِلِ الْمُنْتَابِ فَثَلاثٌ مِنَ الشَّرَاةِ إِلَى الَحْالَةِ ... لِلْخَيْلِ جَاهِدًا وَالرِّكَابِ وَثَلاثٌ يَرِدْنَ تَيْمَاءَ رَهْوًا ... وَثَلاثٌ يُغِرْنَ بِالْإِعْجَابِ فَإِذَا مَا مَرَرْتَ فِي مُسْبَطَرٍّ ... فَأَجْمَحَ الْخَيْلُ مِثْلَ جَمْحِ الْكِعَابِ بَيْنَمَا ذَاكَ أَصْبَحَتْ وَهْيَ عَضُدَى ... مِنْ سَبِيٍّ مَجْمُوعَةٍ وَنِهَابِ لَيْتَ شِعْرِي مَتَى أَرَى قُبَّةً ... ذَاتَ قِلاعٍ لِلْحَارِثِ الْحَرَّابِ فِي يَفَاعٍ وَذَاكَ مِنْهَا مَحَلٌّ ... فَوْقَ مَلْكٍ يُدِينُ بِالأَحْسَابِ أَيُّهَا الْمُوعِدِيُّ فَإِنَّ لَبُونِي ... بَيْنَ حَقْلٍ وَبَيْنَ هَضَبٍ ذُبَابِ حَيْثُ لا أَرْهَبُ الْعَدُوَّ وَحَوْلِي ... مِنْ هِضَابٍ مَحْفُوفَةٍ بِهِضَابِ أَنْشَدَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، لِحَاتِمٍ الطَّائِيِّ: أَلا أَرِقَتْ عَيْنِي فَبِتُّ أُدِيرُهَا ... حِذَارَ غَدٍ وَأَحَجُّ أَلا يَضِيرُهَا إِذَا النَّجْمُ أَمْسَى مَغْرِبَ الشَّمْسِ مَائِلا ... وَلَمْ يَكُ بِالْآفَاقِ بَرْقٌ يُنِيرُهَا

إِذَا مَا السَّمَاءُ لَمْ تَكُنْ غَيْرَ جُلْبَةٍ ... كَجِدَّةِ بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ يُنِيرُهَا إِذَا الرِّيحُ جَاءَتْ مِنْ أَمَامِ أَطَائِفٍ ... وَأَخْلَفَ نَوْءُ الشِّعْرِ بَيْنَ دَبُورِهَا فَإِنَّا نُهِينُ الْمَالَ مِنْ غَيْرِ ضِنَّةٍ ... وَمَا يَشْتَكِينَا فِي السِّنِينَ ضَرِيرَهَا إِذَا مَا الْبَخِيلُ الْخِبُّ هَرَّتْ كِلابُهُ ... وَشَقَّ عَلَى الضَّيْفِ الْغَرِيبِ عَقُورُهَا فَإِنِّي جَبَانُ الْكَلْبِ بَيْتِي مُوطَّأٌ ... أَجُودُ إِذَا مَا النَّفْسُ شحَّ ضَمِيرُهَا وَإِنَّ كِلابِي قَدْ أَقَرَّتْ وَعُوِّدَتْ ... قَلِيلٌ عَلَى مَنْ يَعْتَرِينِي هَرِيرُهَا وَمَا تَشْتَكِي قِدْرِي إِذَا النَّاسُ أَمْحَلَتْ ... أُؤَثِّفُهَا طَوْرًا وَطَوْرًا أُمِيرُهَا وَأُبْرِزُ قِدْرِي بِالْفِنَاءِ قَلِيلُهَا ... يُرَى غَيْرَ مَضْنُونٍ بِهِ وَكَثِيرُهَا وَلَيْسَ عَلَى نَارِي حِجَابٌ يَكُفُّهَا ... لِمُسْتَوْبِصٍ لَيْلا وَلَكِنْ أَشِيرُهَا فَلا وَأَبِيكَ مَا يَظَلُّ ابْنُ جَارَتِي ... يَطُوفُ حَوَالِي قِدْرَنَا مَا يَطُورُهَا وَإِبْلِيَ رَهْنٌ أَنْ يَكُونَ كَرِيمُهَا عَقِيرًا ... أَمَامَ الْبَيْتِ حِينَ أُثِيرُهَا وَمَا تَشْتَكِينِي جَارِتِي غَيْرَ أَنَّنِي ... إِذَا غَابَ عَنْهَا بَعْلُهَا لا أَزُورُهَا سَيَبْلُغُهَا خَيْرِي وَيَرْجِعَ بَعْلُهَا ... إِلَيْهَا وَلَمْ تُقْصَرْ عَلَيَّ سُتُورُهَا وَخَيْلٍ تُنَادِي لِلطِّعَانِ شَهِدْتُهَا ... وَلَوْ لَمْ أَكُنْ فَيْهَا لَسَاءَ عَذْيرُهَا وَعَرْجَلَةٍ شُعْثِ الرُّءُوسِ كَأَنَّهُمْ ... بَنُو الْجِنَّ لَمْ تُطْبَخْ بِقِدْرٍ جَزُورُهَا شَهِدْتَ وَدَعْوَانَا أُمَيْمَةَ أَنَّنَا ... بَنُو الْحَرْبِ نَصْلاهَا إِذَا اشْتَدَّ نُورُهَا عَلَى مُهْرَةٍ كَبْدَاءَ قَوْدَاءَ ضَامِر ... ٍأَمِينٍ شَظَاهَا، مُطْمَئِنٍ نُسُورهَا وَغَمْرَةُ مَوْتٍ لَيْسَ فِيهَا هَوَادَةٌ ... تَكُونُ صُدُورَ السَّمْهَرِيِّ جُسُورُهَا صَبَرْنَا لَهَا فِي نَهْكِهَا وَمُصَابِهَا ... بِأَسْيَافِنَا حَتَّى يَبُوخَ سَعِيرُهَا وَخُوصٍ دَقَاقٍ قَدْ حَدَوْتُ بِفِتْيَةٍ ... عَلَيْهِنَّ إِحْدَاهُنَّ قَدْ حُلَّ كُورُهَا وَقَدْ عَلِمَتْ غَوْثٌ بِأَنَّا خِيَارُهَا ... إِذَا أَعْلَمَتْ بَعْدَ النَجِيِّ أُمُورُهَا وَأَنِّي امْرُؤٌ مِنْ عُصْبَةٍ ثُعَلِيَّةٍ ... كَرِيمٌ غِنَاهَا مُسْتَعَفٌّ فَقِيرُهَا وَأَقْسَمْتُ لا أُعْطِي الْمُلُوكَ ظَلامَةً ... وَحَوْلِي عَدِيٌّ كَهْلُهَا وَغَرِيرُهَا وَأَنْشَدَنِي عَمِّي لِحَاتِمٍ: أَهَاجَكَ نَصْبٌ أَمْ بِعَيْنِكَ عَائِرٌ ... إِلَى الصُّبْحِ لَمْ تَرْقُدْ فَيَوْمُكَ سَاهِرُ وَمَا هَاجَنِي ذِكْرُ النِّسَاءِ وَإِنَّنِي ... طَرُوبٌ وَلَكِنْ غَيْرُ ذَلِكَ ذَاكِرُ فَمَنْ مُبْلِغٌ عَنَّا سَلامَانَ مَالِكًا ... وَسَنْبَسَ هَلْ حَاذَرْتُمُ مَا أُحَاذِرُ أُحَاذِرُ يَوْمًا أَنْ تَسِيرَ قَبَائِلٌ ... تُوَرِّثُ شَنْوَءًا بَيْنَهُمْ وتُظَاهِرُ وَأَبْلِغْ أَبَا النُّعْمَانِ عَنِّي رِسَالةً ... وَذُو الْحِلْمِ قَدْ يُرْعَى إِلَى مَنْ يُؤَامِرُ فَلَيْتَ أَبَا النُّعْمَانِ بُيِّنَ قَبْرُهُ ... وَكَيْفَ تُجْيبُ لِلدُّعَاءِ الْمَقَابِرُ فَلَوْ كَانَ حَيًّا قَدْ أَبَاتَ عَدُوُّهُمْ ... عَلَى آلَةٍ حَدْبَاءَ مِمَّا يُحَاذِرُ بِأَنَّ بَنِيهِ قَدْ تَنَاءَوْا بِدَارِهِمْ ... فَحَوْرَانُ أَدْنَى دَارِهِمْ فَأبَايِرُ أَلا هَلْ أَتَى قَوْمِي بِأَنَّ مُحَارِبًا ... تُدَبَّرُ مِنْهَا الصُّهْوُ بَادٍ وَحَاضِرُ وَحُلَّتْ بِلا جَارٍ مَبَاءَةَ نَبْتَلٍ ... وَحُلَّتْ جُدَيَّاتٌ وَحُلَّتْ مَصَاخِرُ وَأَرْسَلَتِ الأَشْوَاكُ جَنْبِي بِوَاعَةٍ ... عِزِينٍ وَتَرْعَى بِالرَّدَاةِ الْعَشَائِرُ

وَهُمْ سَلَبُوا زَيْدًا غَدَاةَ قُرَاقِر ... رَوَاحِلَهُ وَالْمَوْتُ بِالنَّاسِ حَاضِرُ فَلَمْ يُغْنِ زَيْدًا يَوْمَ ذَلِكَ نَفْرُهُ ... وَأَفْلَتَهُمْ يَعْدُو بِهِ ثَمَّ ضَامِرُ بِزَخَّةَ مِنْ جَرْمٍ يُمَنُّونَ جِيفَةً ... وَلَمْ يُنْجِهِمْ مِنْ آلِ بُوْلانَ وَاقِرُ فَأَيْنَ بَنُو الْعِلاتِ إِنِّي عَهِدْتُهُمْ ... إِذَا مَا انْتَدَوْا فَيْهِمْ نَدًى وَبَوَادِرُ وَأَيْنَ بَنُو هِنْدٍ أَلا حَيَّ مِنْهُمُ ... فَيَسْعَوْا عَلَى مَا كَانَ قَدَّمَ عَامِرُ وَأَلْهَى بَنِي الْعَلاتِ عَنَّا وَحَارِثًا ... عَبَائِرُ تُحْدِي خَلْفَهُنُّ الأَبَاعِرُ وَحَنُّوا إِلَى فَتٍّ بِجَنْبِي بَسِيطَةٍ ... كَمَا حَنَّ للأَكْلاءِ نِيبٌ صَوَادِرُ أَبَعْدَ بَنِي رُومَانَ شَدُّوا حِبَالَهُمْ ... بِحَبْلِ بَنِي جَدْعَاءَ لَمْ يَتَزَاجَرُوا يَقُولُ لَهُمْ أَوْسٌ تَعَالَوْا جُنَيْبَةً ... أَلا إِنَّمَا أَوْسٌ وَجَدِّكَ فَاجِرُ أَيَفْعَلُهَا فِي النَّاسِ قَوْمٌ عُمَارَةٌ ... لَهُمْ نَسَبٌ وَلا نِسَاءٌ حَرَائِرُ تَبَيَّنْ فَإِنَّ الْحُكْمَ يَهْدِي مِنَ الْعَمَى ... إِذَا مَا الْتَقَيْنَا أَيَّنَا أَنْتَ ضَائِرُ فَإِنْ لا تُجِيبُونَا تصِرُّ خِيَامُنَا ... إِلَى مَذْحِجٍ إِنَّ الأُمُورَ دَوَائِرُ وَيَنْأَى حَبْيبٌ عَنْ مَزَارِ حَبِيبِهِ ... وَتَرْمَحُ حَمِيرٌ دُونَنَا وَأَبَاقِرُ وَيَنْأَى قَبِيلٌ لا قَرَابَةَ بَيْنَهُمْ ... لَهُمْ نَسَبٌ فِي أَصْلِ غَوْثٍ مَآثِرُ وَإِنْ تَذْهُبُوا إِلَى دِيَافٍ وَأَرْضِهَا ... لنِيَّتِكُمْ فَإِنَّ أَصْلِي يُحَابِرُ فَمَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي جَدِيلَةَ مَالِكًا ... وَمَا إِنْ أُحِبُّ أَنْ تُؤَدَّى الْهَوَاجِرُ فَتَاللَّهِ هَلْ كُنَّا اخْتَلَفْنَا وَأَنْتُمُ ... عَلَى النَّصْرِ مَا دَامَ اللَّيَالِي الْغَوَابِرُ وَهَلْ تَعْلَمُونَ إِذْ نَزَلْنَا وَأَنْتُمُ ... وَلَيْسَ لَنَا إِلا الْإِلَهُ مُنَاصِرُ عَطَاؤُكُمْ زَوْلٌ وَيُرْزَأُ مَالُكُمْ ... فَإِنِّي بِكُمْ وَلا مَحَالَةَ سَاخِرُ فَلَمَّا أَخَذْتُمْ مَا أَرَدْتُمْ لِقَوْمِكُمْ ... وَأَدْرَكْتُمُ ثَأْرًا وَأُدْرِكَ وَاتِرُ قَلَبْتُمْ لَنَا ظَهْرَ الْمِجَنِّ عَدَاوَةً ... فَأَيْدِيكُمُ بِالنَّصْرِ عَنَّا شَوَاجِرُ وَأَنْشَدَنِي عَمِّي أَيْضًا لَهُ: صَحَا الْقَلْبُ عَنْ هِنْدٍ وَعَنْ أُمِّ عَامِرٍ ... وَكُنْتُ أَرَاهُ عَنْهُمَا غَيْرَ صَابِرِ وَدَبَّتْ وُشَاةٌ بَيْنَنَا وَتَقَاذَفَتْ ... نَوَى غُرْبَةٍ مِنْ بَعْدِ طُولِ التَّجَاوُرِ وَفِتْيَانِ صِدْقٍ ضَمَّهُمْ دَلَجُ السُّرَى ... عَلَى ذُقُنٍ مِثْلَ السِّهَامِ ضَوَامِرِ فَلَمَّا أَتَوْنِي قُلْتُ: خَيْرُ مُعَرِّسٍ ... وَلَمْ أَطَّرِحْ حَاجَاتِهِمْ بِمَعَاذِرِ وَقُمْتُ لِمُوشِيِّ الْمُتُونِ كَأَنَّهُ ... شِهَابُ غَضًا فِي كَفِّ سَاعٍ مُبَادِرِ فَيَشْقَى بِهِ عُرْقُوبُ كَوْمَاءَ جَبْلَةٍ ... عَقِيلَةِ كَوْمٍ كَالْهِضَابِ بَهَازِرِ فَظَلَّ عُفَاتِي مُكْرَمِينَ وَطَابِخِي ... فَرِيقَانِ مِنْهُمْ: بَيْنَ شَاوٍ وَقَادِرِ شَآمِيَّةً لَمْ تُتَّخَذْ لِدَحَامِسِ ... الطَّبِيخِ وَلا ذَمُّ الْخَلِيطِ الْمُجَاوِرِ يُقَمِّصُ دَهْدَاقَ الْبَضِيعِ كَأَنَّهُ ... رُءُوسُ الْقَطَا الْكَدِرِ الدِّقَاقِ الْحَنَاجِرِ كَأَنَ هَبِيرَ اللَّحْمِ فِي فَوَرَاتِهَا ... إِذَا اسْتَحْمَشَتْ أَيْدِي نِسَاءٍ حَوَاسِرِ كَأَنَ أَنِيضَ اللَّحْمِ حِينَ تَغَطْمَطَتْ ... رِيَاحُ عَبِيرٍ بَيْنَ أَيْدِي الْعَوَاطِرِ إِذَا أُنْزِلَتْ كَانَتْ هَدَايَا وَطُعْمَةً ... وَلَمْ تُخْتَزَنْ دُونَ الْعُيُونِ النَّوَاظِرِ أَلا لَيْتَ أَنَّ الْمَوْتَ كَانَ حِمَامُهُ ... لَيَالِيَ حَلَّ الْحَيُّ أَكَنِافَ حَامِرِ لَيَاليَ يَدْعُونِي الصِّبَا فَأُجِيبُهُ ... حَثِيثًا وَلا أَرْعَى إِلَى قَوْلِ زَاجِرِ

وَدَوَيَّةٍ قَفْرٍ تَعَاوَى سِبَاعُهَا ... عُوَاءَ الْيَتَامَى مِنْ حَذَارِ التَّرَاتِرِ قَطَعْتُ بِمِرْدَاةٍ كَأَنَّ نُسُوعَهَا ... تُشَدُّ عَلَى قَرْمٍ عَلَنْدِي مُخَاطِرِ وَأَنْشَدَنِي عَمِّي لِحَاتِمِ يَرْثِي مِلْحَانَ بْنَ حَارِثَةَ بْنَ سَعْدِ بْنِ حَشْرَجٍ: لبَيْكِ عَلَى مِلْحَانَ صَيْفٌ مُدَفَّعٌ ... وَأَرْمَلَةٌ تُزْجِي مَعَ اللَّيْلِ أَرْمَلا إِذَا ارْتَحَلا لَمْ يَجِدَا بَيْتَ لَيْلَةٍ ... وَلَمْ يَلْبِسَا إِلا بِجَادًا وَخَيْعَلا وَأَوْصَيْتَنِي أَنْ أَرْفَعَ الظَّنَّ صَاعِدًا ... وِصَاتَكَ وَاسْتُودِعْتُ تُرْبَا وَجَنْدَلا فَلا انْفَكَّ رِمْسٌ بَيْنَ أَضْرَعَ فَاللِّوَى ... يَصَبُّ عَلَيْهِ اللَّهُ وَدْقًا مُجلَّلا غَزَا حَاتِمٌ، فَأَصَابَ رَاحِلَةً لِبَعْضِ الْمُلُوكِ عَلَى مَاءٍ يُقَالُ لَهُ: الْمِزَاجُ، فَقَالَ: فَلَوْ شِهِدَتْنَا بِالْمِزَاجِ لَأَيْقَنَتْ ... عَلَى ضُرِّنَا أَنَّا كِرَامُ الضَّرائِبِ عَشِيَّةَ قَالَ ابْنُ الذَّمِيمَةِ عَارِضٌ ... إِخَالُ رَئِيسَ الْقَوْمِ لَيْسَ بِآيِبِ وَمَا أَنَا بِالسَّاعِي بِفَضْلِ زِمَامِهَا ... لِأُشْرِعَهَا فِي الْحَوْضِ قَبْلَ الرَّكَائِبِ وَمَا أَنَا بِالطَّاوِي حَقِيبَةَ رَحْلِهَا ... لِأَبْعَثَهَا خِفًّا وَأَتْرُكَ صَاحِبِي إِذَا كُنْتَ ربًّا لِلْقَلُوصِ فَلا تَدَعْ ... رَفِيقَكَ يَمْشِي خَلْفَهَا غَيْرَ رَاكِبِ أَنِخْهَا فَأَرْدِفْهُ فَإِنْ حَمَلَتْكُمَا ... فَدَاكَ وَإِنْ كَانَ الْعِقَابُ فَعَاقِبِ وَمَرْقَبَةٍ دُونَ السَّمَاءِ عَلَوْتُهَا ... أُقَلِّبُ طَرْفِي فِي فَضَاءٍ سَبَاسِبِ وَمَا أَنَّا بِالْمَاشِي إِلَى بَيْتِ جَارَتِي ... طَرُوقًا أُحَيِّيهَا كَآخَرَ جَانِبِ وَلَسْتُ إِذَا مَا أَحْدَثَ الدَّهْرُ نَكْبَةً ... بِأَخْضَعَ وَلاجٍ بُيُوتَ الأَقَارِبِ إِذَا أَوْطَنَ الْقَوْمُ الْبُيُوتَ وَجَدْتَهُمْ ... عُمَاةً عَنِ الأَخْبَارِ خُرْقَ الْمَكَاسِبَ أَنْشَدَنِي عَمِّي لَهُ: وَأَشْعَثَ مِعْزَالٍ يُسَوِّقُ هَجْمَةً ... بِوَادٍ تَغَشَّتْهُ السَّحَابَةُ مِنْ عَسَلِ أُتِيحَ لَهُ مِنْ أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ ... حَمَامٌ وَمَا يَأْمُرْ بِهِ اللَّهُ يَفْعَلِ وَكَانَ يَخَالُ الأَرْضَ قَفْرًا بَرِيَّةً ... وَمَنْ لا يَخَفْ زِوَّ الْمَنِيَّةِ يَجْهَلِ فَمَا رَاعَهُ إِلا عُلُوُّ جَبِينِهِ ... بِعَضْبٍ جَلَتْ عَنْهُ مَدَاوِسُ صَيْقَلِ فَخَرَّ وَأَلْقَى ثَوْبَهُ وَتَرَكْتُهُ ... لَدَى شَجَرَاتٍ كَالْعَكِيِّ الْمُجَدَّلِ أَنْشَدَنِي عَمِّي لَهُ: إِذَا مَا بِتُّ أَخْتَلُ عِرْسَ جَارِي ... لِيُخْفِيَنِي الظَّلامُ فَلا خَفِيتُ أَأَفْضَحُ جَارَتِي وَأَخُونُ جَارِي ... فَلا وَأَبِيكَ أَفْعَلُ مَا حَيِيتُ وَأَنْشَدَنِي عَمِّي لَهُ: وَخِرْقٍ كَنَصْلِ السَّيْفِ قَدْ رَامَ مَصْدَفِي ... تَعَسَّفْتُهُ بِالرُّمْحِ وَالْقَوْمُ شُهَّدِي فَخَرَّ عَلَى حُرِّ الْجَبِينِ بِضَرْبَةٍ ... تَقُطُّ صِفَاقًا مِنْ حَشًا غَيْرَ مُبْلَدِ فَمَا رُمْتُهُ حَتَّى تَرَكْتُ عَوِيصَهُ ... بَقِيَّةَ عِرْقٍ يَحْفِزُ التُّرْبَ مِذْوَدِ وَحَتَّى تَرْكَتُ الْعَائِدَاتِ يَعُدْنَهُ ... يَقُلْنَ فَلا تَبْعِدْ وَقُلْتُ لَهُ ابْعِدِ فَطَافُوا بِهِ طَوْفَيْنِ ثُمَّ نَمَوْا بِهِ ... إِلَى ذَاتِ إِلْجَافٍ بِزَخَّاءَ قُرْدُدِ ومَرْقَبَةٍ دُونَ السَّمَاءِ طَمِرَّةٍ ... سَبَقْتُ طُلُوعَ الشَّمْسِ عَنْهَا بِمَرْصَدِ وِسَادِي بِهَا جَفْنُ السِّلاحِ وَتَارَةً ... عَلَى عُدَوَاءِ الْجَنْبِ غَيْرُ مُوسَّدِ

أنا لك كأبي زرع لأم زرع» . قالت: يا رسول الله، وما حديث أبي زرع وأم زرع؟ فقال رسول الله صلى

حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لَمَّا وَقَعَ حَرْبُ الْفَسَادِ، خَرَجَ حَاتِمُ حَتَّى نَزَلَ فِي بنِي بَدْرِ بْنِ عَمْرٍو زَمَنَ احْتَرَبَتْ جَدِيلَةُ وثُعَلٌ، وَكَانَ ذَلِكَ زَمَنَ الْفَسَادِ، وَكَانَ نُزُولُ حَاتِمٍ فِي بَنِي بَدْرِ بْنِ عَمْرٍو عَلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حَصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيِّ، فَأَحْسَنُوا جِوارَ حَاتِمٍ، وَأَكْرَمُوهُ، فَقَالَ حَاتِمٌ فِي ذَلِكَ: إِنْ كُنْتِ كَارِهَةً لِعِيشَتِنَا ... هَاتِي فَحُلِّي فِي بَنِي بَدْرِ جَاوَرْتُهُمْ زَمَنَ الْفَسَادِ فَنِعْمَ ... الْحَيِّ فِي الْعَوْصَاءِ وَالْيُسْرِ فَسُقِيتُ بِالْمَاءِ النَّمِيرِ وَلَمْ ... أَتْرُكْ أَوَاطِسَ حَمْأةِ الْجَفْرِ وَدُعِيتُ فِي أُولَى النَّدِيِّ وَلَمْ ... يُنْظَرْ إِلَيَّ بِأَعْيُنٍ خُزْرِ الضَّارِبُونَ لَدَى أَعَنَّتِهِمْ ... وَالطَّاعِنُونَ وَخَيْلُهُمْ تَجْرِي وَالْخَالِطُونَ نَحِيتَهُمْ بِنُضَارِهِمْ ... وَذَوِي الْغِنَى مِنْهُمْ بِذِي الْفَقْرِ 297 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدِ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا، وَعِنْدَهَا بَعْضُ نِسَائِهِ، فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ، أَنَا لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ» . قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا حَدِيثُ أَبِي زَرْعٍ وَأُمِّ زَرْعٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ قَرْيَةً مِنَ قُرَى الْيَمَنِ كَانَ بِهَا بَطْنٌ مِنْ بُطُونِ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَكَانَ مِنْهُمْ إِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً، وَإِنَّهُنَّ خَرَجْنَ إِلَى مَجْلِسٍ لَهُنَّ، فَقَالَ بَعْضُهُنَّ لِبَعْضٍ: تَعَالَيْنَ فَلْنَذْكُرْ بُعُولَتَنَا بِمَا فِيهِمْ، وَلا نَكْذِبْ، فَتَبَايَعْنَ عَلَى ذَلِكَ، فَقِيلَ لِلأُولَى: تَكَلَّمِي بَنَعْتِ زَوْجِكِ. فَقَالَتْ: اللَّيْلُ لَيْلُ تِهَامَةَ، وَالْغَيْثُ غَيْثُ عَمَامَةٍ، لا حَرٌّ وَلا وَخَّامَةٌ. وَقِيلَ لِلثَّانِيَةِ: تَكَلَّمِي، وَهِيَ عَمْرَةُ ابْنَةُ عَمْرٍو، فَقَالَتْ: الْمَسُّ مَسُّ أَرْنَبٍ، وَالرَّيُحُ رِيحُ زَرْنَبٍ، أَغْلِبُهُ وَالنَّاسُ يَغْلِبُ، وَقِيلَ لِلثَّالِثَةِ: تَكَلَّمِي، وَهِيَ حُيَيُّ بِنْتُ كَعْبٍ، فَقَالَتْ: مَالِكٌ وَمَا مَالِكٌ، ذُو إِبِلٍ كَثِيرَاتِ الْمَبَارِكِ، قَرِيبَاتِ المَسارِحِ، إِذَا سَمِعْنَ صَوْتَ الْمِزْهَرِ، أَيْقَنَّ أَنَّهُنَّ هَوَالِكُ، وَقِيلَ لِلرَّابِعَةِ: تَكَلَّمِي: وَهِيَ مَهْرَدُ ابْنَةُ أَبِي هَزُومَةَ، فَقَالَتْ: زَوْجِي لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ، عَلَى جَبَلٍ وَعْرٍ، لا سَهْلٌ فَيُرْتَقَى، وَلا سَمِينٌ فَيُنْتَقَى، وَقِيلَ لِلْخَامِسَةِ: تَكَلَّمِي، وَهِيَ كَبْشَةُ، قَالَتْ: زَوْجِي رَفِيعُ الْعِمَادِ، عَظِيمُ الرَّمَادِ، قَرِيبُ الْبَيْتِ مِنَ النَّادِي، وَقِيلَ لِلسَّادِسَةِ: تَكَلَّمِي، وَهِيَ هِنْدٌ، فَقَالَتْ: زَوْجِي كُلُّ دَاءٍ لَهُ دَوَاءٌ، إِنْ حَدَّثْتُهُ مَسَكَ، وَإِنْ مَازَحْتُهُ فَلَكَ، وَالأَجْمَعَ كُلا لَكِ، وَقِيلَ لِلسَّابِعَةِ: تَكَلَّمِي، وَهِيَ بِنْتُ أَوْسِ بْنِ عَبْدٍ، فَقَالَتْ: زَوْجِي إِذَا أَكَلَ لَفَّ، وَإِذَا شَرِبَ اشْتَفَّ، وَإِذَا رَقَدَ الْتَفَّ، وَلا يُدْخِلُ الْكَفَّ فَيْعَرِفُ الْبَثَّ، وَقِيلَ لِلثَّامِنَةِ: تَكَلَّمِي، وَهِيَ حُيَيُّ بِنْتُ عَلْقَمَةَ، فَقَالَتْ: زَوْجِي إِذَا خَرَجَ أَسِدَ وَإِذَا دَخَلَ فَهِدَ، وَلا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ، وَلا يَرْفَعُ الْيَوْمَ لِغَدٍ.

وَقِيلَ لِلتَّاسِعَةِ: تَكَلَّمِي، فَقَالَتْ: زَوْجِي لا أَذْكُرُهُ، وَلا أَبُثُّ خَبَرَهُ، أَخَافُ أنْ لا أَذَرَهُ. إِنْ أَذْكُرْهُ أَذْكُرْ عُجَرَهُ، وَبُجَرَهُ. وَقِيلَ لِلْعَاشِرَةِ: تَكَلَّمِي، وَهِيَ كَبْشَةُ ابْنَةُ الأَرْقَمِ، فَقَالَتْ: نَكَحْتُ الْعَشَنَّقَ، إِنْ سَكَتُّ عَلَّقَ، وَإِنْ تَكَلَّمْتُ طَلَّقَ. قِيلَ لِأُمِّ زَرْعٍ وَهِيَ أُمُّ زَرْعٍ بِنْتُ أُكَيْمِلِ بْنِ سَاعِدٍ: تَكَلَّمِي، فَقَالَتْ: أَبُو زَرْعٍ وَمَا أَبُو زَرْعٍ، وَجَدَنِي فِي أَهْلِ غُنَيْمَةٍ بِشِقٍّ فَنَقَلَنِي إِلَى أَهْلِ صَهِيلٍ وَأَطِيطٍ وَدَائِسٍ وَمُنَقٍّ، مَلأَ مِنْ شَحْمٍ عَضُدَيْهِ، وَأَنَاسَ مِنْ حُلِيٍّ أُذُنَيْهِ، وَبَجَّحَ نَفْسِي فَتَبَجَّحْتُ إِلَيْهِ، وَأَنَا أَنَامُ وَأَتَصَبَّحُ، وَأَشْرَبُ فَأَتَقَمَّحُ، وَأَقُولُ وَلا أُقَبَّحُ، بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ، وَمَا بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ، مِلْءُ إِزَارِهَا، وَصُفْرُ رِدَائِهَا، وَزَيْنُ أُمَّهَاتِهَا وَنِسَائِهَا، خَرَجَ مِنْ عِنْدِي أَبُو زَرْعٍ، وَالأَوْطَابُ تُمْخَضُ، فَإِذَا هُوَ بِأُمِّ غُلامَيْنِ كَالْفَهْدَيْنِ، تَرْمِي مِنْ تَحْتِ خَصْرِهَا بِالرُّمَّانَتَيْنِ، فَتَزَوَّجَهَا وَطَلَّقَنِي، فَاسْتَبْدَلْتُ بَعْدَهُ، وَكُلُّ بَدَلٍ أَعْوَرُ، فَتَزَوَّجْتُ شَابًّا سَرِيًّا، رَكِبَ أَعْوَجِيًّا، وَأَخَذَ خَطِّيًا، وَأَرَاحَ نَعِمًا ثَرِيًّا. وَقَالَ: كُلِّي أُمَّ زَرْعٍ وَمِيرِي أَهْلَكِ، فَجَمَعَتُ أَوْعِيتَهُ، فَمَا تَعْدِلُ وِعَاءً وَاحِدًا مِنْ أَوْعِيَةِ أَبِي زَرْعٍ " لَمَّا قَدِمَ مُصَعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ الْكُوفَةَ، دَخَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الأَسَدِيُّ، فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ: أَنْتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الأَسَدِيُّ؟ قَالَ: فَوَجِلَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَأَنْتَ الَّذِي تَقُولُ: إِلَى رَجَبٍ أَوْ غُرَّةِ الشَّهْرِ بَعْدَهُ ... تُوَافِيكُمُ بِيضُ الْمَنَايَا وَسُودُهَا ثَمَانُونَ أَلْفًا دِينُ عُثْمَانَ دِينُهَا ... مُسَوَّمَةٌ جَبْرِيلُ فَيْهَا يَقُودُهَا قَالَ: قَدْ كَانَ ذَاكَ. قَالَ: فَإِنَّا قَدْ غَفَرْنَا لَكَ ذَنْبَكَ، وَأَمَرْنَا لَكَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. قَالَ: فَخَرَجَ، وَهُوَ يَقُولُ: جَزَى اللَّهُ خَيْرًا مُصْعَبًا إِنَّ خَيْرَهُ ... يُنَالُ بِهِ الْجَانِي وَمَنْ لَيْسَ جَانِيًا وَيَعْفُو عَنِ الذَّنْبِ الَّذِي يَعْلَمُونَهُ ... وَيُعْطِي مِنَ الْمَعْرُوفِ مَا لَيْسَ فَانِيَا قَالَ: فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ، اجْتَازَ بِابْنِ ظَبْيَانَ عُبْيَدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ، فَسَلَّمَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَدْ عَمِيَ، فَقَالَ لِقَائِدِهِ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ ظَبْيَانَ، قَالَ: بَلِّغْنِيهِ. فَلَمَّا صَارَ إِلَيْهِ، قَالَ: أَبَا مَطَرٍ شُلَّتْ يَمِينٌ تَقَرَّعَتْ ... بِسَيْفِكَ رَأْسَ ابْنَ الْحَوَارِيِّ مُصْعَبِ وَلا ظَفِرَتْ كَفَّاكَ بِالْخَيْرِ بَعْدَهُ ... وَلا زِلْتَ تَسْعَى فِي تبَابٍ مُتَبَّبِ قَتَلْتَ امْرَأً كَانَتْ نَوَافِلُ فَضْلِهِ ... تَجُودُ عَلَى مَنْ بَيْنَ شَرْقٍ وَمَغْرِبِ أَغَرٌّ كَأَنَ الْبَدْرَ سُنَّةُ وَجْهِهِ ... إِذَا مَا بَدَا فِي الْجَحْفَلِ الْمُتَكَتِّبِ قَالَ: قَدْ كَانَ ذَاكَ فَمَا أَفْلَحَنَا، وَلا أَنْجَحَنَا، فَهَلْ مِنْ مَخْرَجٍ؟ قَالَ: سَبَقَ السَّيْفُ الْعَذْلَ.

حَدَّثَنِي الْعُتْبِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: " وَقَعَ مِيَرَاثٌ بَيْنَ نَاسٍ مِنَ آلِ أَبِي سُفْيَانَ وَبَنِي مَرْوَانَ، فَتَشَاحُّوا فِيهِ، وَتَضَايَقُوا فَلَمَّا قَامُوا، أَقْبَلَ عَمْرُو بْنُ عُتْبَةَ عَلَى وَلَدِهِ، فَقَالَ: إِنَّ لِقُرَيْشٍ دَرَجًا تَزُّلُ عَنْهَا أَقْدَامُ الرِّجَالِ، وَأَفْعَالا تَخْشَعُ لَهَا رِقَابُ الأَمْوَالِ، وَأَلْسُنًا تَكَلُّ مَعَهَا الشِّفَارُ الْمَشْحُوذَةُ، وَغَايَاتٍ تَقْصُرُ عَنْهَا الْجِيَادُ الْمَنْسُوبَةُ، فَلَوْ كَانْتِ الدُّنْيَا لَهُمْ، لَضَاقَتْ عَنْ سَعَةِ أَخْلاقِهِمْ، وَلَوِ احْتَفْلَتِ الدُّنْيَا مَا تَزَيَّنَتْ إِلا بِهِمْ، ثُمَّ إِنَّ أُنَاسًا مِنْهُمْ تَخَلَّقُوا بِأَخْلاقِ الْعَوَامِّ، فَصَارَ لَهُمْ رِفْقٌ باللُّؤْمِ، وَخُرْقٌ بِالْحِرْصِ، فَلَوْ أَمَكَنَهُمْ قَاسَمُوا الطَّيْرَ أَرْزَاقَهَا، إِنْ خَافُوا مَكْرُوهًا تَعَجَّلُوا لَهُ الْغَمَّ، وَإِنْ عُجِّلَتْ لَهُمْ نِعْمَةٌ أَخَّرُوا عَلَيْهَا الشُّكْرَ، أَنْضَاءُ ذِكْرِ الْعَجْزِ، وَعَجَزَةُ حَمَلَةِ الشُّكْرِ وحدثني أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: " قَطَعَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ عَنْ آلِ أَبِي سُفْيَانَ أَشْيَاءَ كَانَ يُجْرِيهَا عَلَيْهِمْ، لِتَبَاعُدٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ عَمْرُو بْنُ عُتْبَةَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَدْنَى حَقِّكَ مُتْعبٌ، وَتَقَصِّيِهِ فَادِحٌ، وَلَنَا مَعَ حَقِّكَ عَلَيْنَا حَقٌّ عَلَيْكَ، لِقَرَابَتِنَا مِنْكَ، وَإِكْرَامِ سَلَفِنَا لَكَ، فَانْظُرْ إِلَيْنَا بِالْعَيْنِ الَّتِي نَظَرُوا بِهَا إِلَيْكَ، وَضَعْنَا بِحَيْثُ وَضَعَتْنَا الرَّحِمُ مِنْكَ، وَزِدْنَا بِقَدْرِ مَا زَادَكَ اللَّهُ. فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: أَفْعَلُ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ عَطِيَّتِي مَنِ اسْتَعْطَاهَا، فَأَمَّا مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَسْتَغْنِي بِنَفْسِهِ فَسَنَكِلُهُ إِلَى ذَلِكَ. يُعَرِّضُ بِخَالِدٍ، ثُمَّ أَقْطَعَ عَمْرًا هِزَارَدرّ.

قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ، فَقَالَ: أَبَالْحِرْمَانِ يُهَدِّدُنِي؟ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ يَدِهِ مَانِعَةٌ، وَعَطَاؤُهُ دُوْنَهُ مَبْذُولٌ، فَأَمَّا عَمْرٌو فَقَدْ أَعْطَى مِنْ نَفْسِهِ أَكْثَرَ مِمَّا أَخَذَ كَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ مِنَ الْحَبْسِ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ، صَاحِبِ الدَّوْلَةِ: مِنَ الأَسْيرِ فِي يَدَيْهِ بِلا ذَنْبٍ إِلَيْهِ، وَلا خِلافٍ عَلَيْهِ، أَمَّا بَعْدُ، فَآتَاكَ اللَّهُ حِفْظَ الْوَصِيَّةِ، وَمَنَحَكَ نَصِيحَةَ الرَّعِيَّةِ، وَأَلْهَمَكَ عَدْلَ الْقَضِيَّةِ، فَإِنَّكَ مُسْتَوْدَعٌ وَدَائِعَ، ومَوْلَى صَنَائِعَ، فَاحْفَظْ وَدَائِعَكَ، وَأَصْلِحْ صَنَائِعَكَ، فَإِنَّ الْوَدَائِعَ عَارِيَةٌ، وَالصَّنَائِعَ رَعِيَّةٌ، فَلا النِّعَمُ عَلَيْنَا وَعَلَيْكَ بِمْنَذْورٍ نَدَاهَا، وَلا مَبْلُوغٍ مَدَاهَا، فَنَبِّهْ لِلْتَفَكُّرِ قَلْبَكَ، وَاتَّقِ اللَّهَ رَبَّكَ، وَأَعْطِ مِنْ نَفْسِكَ مَنْ هُوَ تَحْتَكَ مِنَ الْعَفْوُ مَا تُحِبُّ أنْ يُعْطِيَكَ مَنْ هُوَ فَوْقَكَ مِنَ الْعَدْلِ وِالرَّأْفَةِ وَالأَمْنِ مِنَ الْمَخَافَةِ، فَقَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْكَ بِأَنْ فَوَّضَ أَمُورَنَا إِلَيْكَ، فَاعْرِفْ لَنَا حَقَّنَا، فَإِنَّ عَلَيْنَا مِنْ نَقْلِ الْحَدِيدِ وَثِقَلِهِ أَذًى شَدِيدًا، مَعَ مُعَالَجَةِ الأَغْلالِ، وَقِلَّةِ رَحْمَةِ الْعُمَّالِ، الَّذِينَ تَسْهِيلُهُمُ الْغِلْظَةُ، وَتَيْسِيرُهُمُ الْفَظَاظَةُ، وَإِيرَادُهُمْ عَلَيْنَا الْغُمُومُ، وَتَوْجِيهُهِمْ إِلَيْنَا الْهُمُومُ، وَزِيَادَتُهُمُ الْحِرَاسَةُ، وِبَشارَتُهُمُ الْإِيَاسَةُ، فَإِلَيْكَ نُرْفَعُ كُرْبَةَ الشَّكْوَى، وَنَشْكُو شِدَّةَ الْبَلْوَى، وَمَتَى تَمِلْ إِلَيْنَا طَرْفًا، وَتَرِدْنَا مِنْكَ عَطْفًا، تَجِدْ عِنْدَنَا نُصْحًا، وَوُدًّا صَرِيحًا، لا يُضَيْعُ مِثْلُكَ مِثْلَهُ، وَلا يَنْفِي مِثْلُكَ أَهْلَهُ، فَارْعَ حُرْمَةَ مَنْ بِحُرْمَتِهِ أَدْرَكْتَ، وَاعْرِفْ حُجَّةَ مَنِ بِحُجَّتِهِ فَلَجْتَ، فَإِنَّ النَّاسَ مَنِ حَوَضِكِ رِوَاءٌ، وَنَحْنُ مِنْهُ ظِمَاءٌ، يَمْشُونَ فِي الأَبْرَادِ وَنَحْجِلُ فِي الأَقْيَادِ، بَعْدَ الْخَيْرِ وَالسَّعَةِ وَالْخَفْضِ وَالدَّعَةِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلانُ، صَرِيخُ الأَخْيَارِ، وَمُنْجِي الأَبْرَارِ، النَّاسُ فِي دَوْلَتِنَا فِي رَخَاءٍ، وَنْحَنُ مِنْهَا فِي بَلاءٍ، حَيْثُ أَمِنَ الْخَائِفُونَ، وَرَجَعَ الْهَارِبُونَ، رَزَقَنَا اللَّهُ مِنْكَ التَّحَنُّنَ، وَظَاهَرَ عَلَيْنَا مِنْكَ التَّمَنُّنَ، فَإِنَّكَ أَمِينٌ مُسْتَوْدَعٌ، وَرَائِدٌ مُصْطَنَعٌ. فَلَمَّا قَرَأَ كِتَابَهُ خَافَهُ فَقَتَلَهُ. حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي، مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ يَجُودُ بِنَفَسَهِ، وَذَلِكَ أَوَّلُ مَا ظَهَرَتِ الْمُسَوِّدَةُ، فَقَالَ لِي: يَا عَمْرُو أقُتِلَ مَرْوَانُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ.

قَالَ: يَا عَمْرُو إِنَّكَ خَلَفٌ فَلا تَخْلِفْ، إِنَّهُ قَدْ أَتَانِي مَا لا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ أُخِرْتُ عَنْهُ، وَأُخِرْتَ أَنْتَ لَمَا أَرَاكَ سَتَتَمَنَّى الْمَوْتَ مَعَهُ، وَتَخَافُ الْهَلاكَ مِنْهُ، وَقَدْ وَقَعَتَ فِي بَحْرٍ عَمِيقٍ، شَدِيدِ الْوُصُولِ إِلَى السَّاحِلِ، وَالسَاحِلُ وَعْرٌ مَهُولٌ، وَمَنْ وَقَعَ بَيْنَ الْبَحْرِ وَالْوَعْرِ كَانَتْ رَاحَتُهُ أَنْ يَمُوتَ، وَهَذِهْ أَيَّامُ حَاجَتِكَ إِلَى نَفْسِكَ، وَحَاجَةُ حُرَمِكَ إِلَيْكَ، فَافْدِ حُرَمَكَ بِنَفْسِكَ، وَافْدِ نَفْسَكَ بِمَالِكَ، وَعِشْ حُرًّا عَنْ مِلْكِ الطَّمَعِ، وَإِنْ رَدَدْتَ الْجُوعَ بِالْمَاءِ. قَالَ عَمْرٌو: فَلَمَّا هَلَكَ أَبِي، وَأَنَا حَدِيثُ السِّنِّ مُنْتَشِرُ الضِّيَاعِ، فَكُنْتُ لا أَنْزِلُ فِي قَبِيلَةٍ مِنَ الْقَبَائِلِ إِلا شُهِرَ أَمْرِي، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ عَزَمْتُ عَلَى لِقَاءِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ طَارِقٌ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ مُعَاوِيَةَ: فَوافَيْتُ عَمْرًا عَلَى بَابِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ، وَهُوَ يُرِيدُ الدُّخُولَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ سَرَاوِيَلُ يُمْنَةٍ، وَطَيْلَسَانُ أَبْيَضُ، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ مُتَنَكِّرًا، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ، قُلْتُ: إِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ مَا تَصَنْعُ الْحَدَاثةُ بِصَاحِبِهَا! أَهَذِهِ الثِّيَابُ مِنْ لِبَاسِ هَذَا الْيَوْمِ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ وَاللَّهِ يَا طَارُقُ مَا تَرَكْتُ فِي مَنْزِلِي شَيْئًا إِلا وَهُوَ أَشْهَرُ مِمَا تَرَى. قَالَ طَارِقٌ: فَأَخَذْتُ طَيْلَسَانِهِ وَأَعْطَيِتُهُ طَيْلَسَانِي وَشَمَّرْتُ سَرَاوِيلَهُ حَتَّى بَلَغْتُ بِهِ كَعْبَهُ، ثُمَّ دَخَلَ وَجَلَسْتُ أَنْتَظِرُهُ، فَلَمَّا خَرَجَ قُلْتُ لَهُ: أَخْبَرَنِي بِمَا جَرَى بَيْنَكُمَا. قَالَ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ لا يَعْرِفُنِي وَلا أَعْرِفُهُ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ الْبَلاءَ لَفَظَنِي إِلَيْكَ وَفَضْلُكَ دَلَّنِي عَلَيْكَ، وَأَقَامَنِي رَجَاؤُكَ بَيْنَ يَدَيْكَ، فَإِمَّا أَنْ قَبِلْتَنِي غَانِمًا، وَإِمَّا رَدَدْتَنِي سَالِمًا. قَالَ: ومَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: أَنَا عَمْرُو بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عُمَرَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ. قَالَ: اجْلِسْ، فَتَكَلَّمْ آمِنًا غَانِمًا، مَرْحَبًا بِكَ، فَمَا حَاجَتُكَ؟ قُلْتُ: إِنَّ الْحُرَمَ اللاتِي أَنْتَ أَحَقُّ بِهِنَّ مِنَّا، وَأَوْلَى النَّاسِ بِهِنِّ، بَعْدَنا قَدْ خِفْنَ لِخَوْفِنَا، ومَنْ خَافَ خِيفَ عَلَيْهِ، قَالَ: فَوَضَعَ وِسَادَتَهُ، وَمَا أَجَابَنِي إِلا بِدُمُوعِهِ عَلَى خَدَّيْهِ. ثُمَّ قَالَ: تُصَانُ وَاللَّهِ حُرَمُكَ، ويُحْقَنُ دَمُكَ، فَكُنْ آمِنًا كَمُسْتَخْفٍ، وَمُسْتَخْفِيًا كَآمِنٍ، فَلَوْ أَمْكَنَنِي ذَلِكَ فِي سَائِرِ قَوْمِكَ فَعَلْتُ. قَالَ طَارِقٌ: فَذَهَبْتُ لِأُلْقِيَ عَلَيْهِ طَيْلَسَانَهُ، وَآخُذَ طَيْلَسَانِي، فَقَالَ: مَهْ، إِنَّ ثِيَابَنَا إِذَا زَايَلَتْنَا لَمْ تَعُدْ إِلَيْنَا. ثُمَّ كَتَبَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى أَبِي الْعَبَّاسِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ قَدْ وَفَدَ إِلَيَّ وَافِدٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، وَإِنَّا إِنَّمَا قَاتَلْنَاهُمْ عَلَى عُقُوقِهِمْ لا عَلَى أَرْحَامِهِمْ، ثُمَّ يَجْمَعُنَا وَإِيَّاهُمْ عَبْدُ مَنَافٍ، فَحَقُّ الرَّحِمِ أَنْ تُبَلَّ وَلا تُوبَسَ، وَتُوصَلَ وَلا تُقْطَعَ، فَإِنْ رأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أنْ يَهَبَهُمْ لِي مُمْتَنًّا، وَيَجْعَلَ ذَلِكَ كِتَابًا عَامًّا فِي بُلْدَانِ خِلافَتِهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ شُكْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ، عِنْدَنَا فَعَلَ. قَالَ: فَأَجَابَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ إِلَى مَا سَأَلَ، فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ أَمَانِ بَنِي أُمَيَّةَ.

لَمَّا نَزَلَ بِهِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمَوْتُ نَظَرَ إِلَى وَلَدِهِ يَبْكُونَ حَوْلَهُ، فَقَالَ لَهُمْ: جَادَ لَكَمْ هِشَامٌ بِالدُّنْيَا، وَجُدْتُمْ لَهُ بِالْبُكَاءِ، وَتَرَكَ لَكُمْ مَا جَمَعَ، وَتَرَكْتُمْ عَلَيْهِ مَا اكْتَسَبَ، مَا أَعْظَمَ مُنْقَلَبَ هِشَامٍ إِنْ لَمْ يَغْفِرِ اللَّهُ لَهُ. وَقَفَتْ عَائِشَةُ عَلَى قَبْرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَتَمَثَّلَتْ: «وَكُنَّا كَنَدْمَانَيْ جَذِيمَةَ حِقْبَةً ... مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى قِيلَ لَنْ يَتَصَدَّعَا فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا كَأَنِّي وَمَالِكًا ... لِطُولِ اجْتَمَاعٍ لَمْ نَبِتْ لَيْلَةً مَعًا» وَمَرَّ عَلَيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِقَبْرِ طَلْحَةَ، فَتَمَثَّلَ: وَمَا تَدْرِي وَإِنْ أَزْمَعْتَ أَمْرًا ... بِأَيِّ الأَرْضِ يُدْرِكُكُ الْمَقِيلُ وَتَمَثَّلَ: فَتًى كَانَ يُدْنِيهِ الْغِنَى مِنْ صَدِيقِهِ ... إِذَا مَا هُوَ اسْتَغْنَى وَيُبْعِدُهُ الْفَقْرُ " وَقَفَتِ امْرَأَةُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَلَى قَبْرِهِ وَهِيَ أُمُّ كَثِيرٍ الْحَارِثِيَّةُ، فَقَالَتْ: الْجَلُّ يَحْمِلُهُ النَّفَرْ ... قَرْمٌ كَرِيمُ الْمُعْتَصَرْ أَبْكِي وَأَنْدُبُ صَاحِبًا ... لا عَيْنَ مِنْهُ وَلا أَثَرْ قَدْ خِفْتُ بَعْدَكَ أَنْ أُضَامَ ... وَأَنْ أُسَاءَ وَلا أَسَرْ أَوْ أَنْ أُسَامَ بِخِطَّتِي ... ضَيْمًا فَآخُذُ أَوْ أَذَرْ لِلَّهِ دَرُّكَ قَدْ غَنِيتَ ... وَأَنْتَ بَاقِعَةُ الْبَشَرْ وَوَقَفَ عَلَيْهِ مَصْقَلَةُ بْنُ هُبَيْرَةَ الشَّيْبَانِيُّ، فَقَالَ: إِنَّ تَحْتَ الأَحْجَارِ حَزْمًا وَعَزْمًا ... وَخَصِيمًا أَلَدَّ ذَا مِغْلاقِ حَيَّةٌ فِي الْوَجَارِ أَرْبَدُ لا يَنْفَعُ ... مِنْهُ السَّلِيمَ نَفْثُ الرَّاقِي ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتَ شَدِيدَ الْعَدَاوةِ لِمَنْ عَادَيْتَ، كَرِيمَ الأُخُوَّةِ لِمَنْ آخَيْتَ. وَوَقَفَ الْحَجَّاجُ عَلَى قَبْرِ ابْنِهِ أَبَانٍ فَتَمَثَّلَ قَوْلَ زِيَادٍ الأَعْجَمِ: الْآنَ لَمَّا كُنْتَ أَكْمَلَ مَنْ مَشَى ... وَافْتَرَّ نَابُكَ عَنْ شَبَاةِ الْقَارِحِ وَتَكَامَلَتْ فِيكَ الْمُرُوءَةُ كُلُّهَا ... وَأَعَنْتَ ذَلِكَ بِالْفِعَالِ الصَّالِحِ وَوَقَفَتْ جَارِيَةٌ لِلْحَجَّاجِ عَلَى قَبْرِهِ، فَقَالَتْ: الْيَوْمَ يَرْحَمُنَا مَنْ كَانَ يَغْبِطُنَا ... وَالْيَوْمَ نَتَّبِعُ مَنْ كَانُوا لَنَا تَبَعَا حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيُّ، قَالَ: قَالَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ: " ثَلاثَةٌ لَوْ أَدْرَكْتُهُمْ لَقَتَلْتُهُمْ: مُقَاتِلُ بْنُ مَسْمَعٍ، فَإِنَّهُ أُعْطِيَ مَالا كَثِيرًا بِفَارِسَ، فَأَجْفَلَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 61] . تَأَوَّلَ الْفَاسِقُ كِتَابَ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، وُعَبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادِ بْنِ ظَبْيَانَ التَّيْمِيُّ، فَإِنَّهُ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَتَكَلَّمَ بِكَلامٍ أَعْجَبَ قَوْمَهُ، فَقَالُوا: أَكْثَرَ اللَّهُ فَيْنَا مِثْلَكَ. قَالَ: لَقَدْ سَأَلْتُمْ رَبَّكُمْ شَطَطًا. وَأَبُو سَمَّالٍ الأَسْدِيِّ، فَإِنَّ نَاقَتَهُ شَرَدَتْ، فَقَالَ: لَئِنْ لَمْ يَرْدُدْهَا رَبُّكُمْ لا أُصَلِّي صَلاةً، فَتَعَلَّقَ خِطَامُهَا بِعَرْفَجَةٍ، فَجَاءَ حَتَّى أَخَذَهَا، فَقَالَ: عَلِمَ رَبُّكُمْ أَنَّهَا مِنِّي صِرِّي

حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَسَنٍ مَوْلَى الرَّبِيعِ بْنِ يُونُسَ، قَالَ: " قَدِمَ الْحَجَّاجُ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَصَلَّى عِنْدَهُ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ وَثَبَ وَرَكِبَ الْوَلِيدُ، فَمَشَى الْحَجَّاجُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَعَلَيْهِ دِرْعٌ وَتِرْسٌ، فَقَالَ الْوَلِيدُ: ارْكَبْ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، دَعْنِي أَسْتَكْثِرُ مِنَ الْجِهَادِ، فَإِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَابْنَ الأَشْعَثِ شَغَلانِي عَنِ الْجِهَادِ، زَمَنًا طَوِيلا، فَعَزَمَ عَلَيْهِ الْوَلِيدُ فَرَكِبَ، وَدَخَلَ مَعَ الْوَلِيدِ فَبَيْنَا هُوَ يَتَحَدَّثُ، وَهُوَ يَقُولُ: فَعَلْتُ بِأَهْلِ الْعِرَاقِ، وَفَعَلْتُ، أَقْبَلَتْ جَارِيَةٌ فَسَارَّتِ الْوَلِيدَ، ثُمَّ انْصَرَفَتْ، فَقَالَ الْوَلِيدُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، أَتَدْرِي مَا قَالَتِ الْجَارِيَةُ؟ قَالَ: لا. قَالَ: أَرْسَلَتْ إِلَيَّ أُمُّ الْبَنِينِ بِنْتُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ: إِنَّ مُجَالَسَتَكَ هَذَا الأَعْرَابِيَّ، وَهُوَ فِي سِلاحِهَ، وَأَنْتَ فِي غِلالَةٍ غَرَرٌ، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهَا: إِنَّهُ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ، فَرَاعَهَا ذَلِكَ، وَقَالَتْ: وَاللَّهِ لأَنْ يَخْلُوَ بِكَ مَلَكُ الْمَوْتِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَخْلُوَ بِكَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ، وَقَدْ قَتَلَ أَحِبَّاءَ اللَّهِ، وَأَهْلَ طَاعَتِهِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا. فَقَالَ الْحَجَّاجُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّمَا الْمَرْأةُ رَيْحَانَةٌ، وَلَيْسَتْ بِقَهْرَمَانَةٍ، لا تُطْلِعْهُنَّ عَلَى أَمْرِكَ، وَلا تُطْمِعْهُنَّ فِي سِرِّكَ، وَلا تَسْتَعْمِلْهُنَّ بِأَكْثَرَ مِنْ زِينَتِهِنَّ، وَلا تَكُونَنَّ لِمُجَالَسَتِهِنَّ بِلَزُومٍ، فَإِنَّ مُجَالَسَتَهُنَّ صَغَارٌ وَذِلَّةٌ. ثُمَّ نَهَضَ وَخَرَجَ، فَدَخَلَ الْوَلِيدُ عَلَى أُمِّ الْبَنِينَ، فَأَخْبَرَهَا بِمَقَالَتِهِ. فَقَالَتْ: فِإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَأْمُرَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّسْلِيمِ عَلَيَّ، فَسَيَبْلُغُكَ الَّذِي يَكُونُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَغَدَا الْحَجَّاجُ عَلَى الْوَلِيدِ، فَقَالَ: ائْتِ أُمَّ الْبَنِينِ. قَالَ: اعْفِنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: لَتَفْعَلَنَّ. فَأَتَاهَا فَحَجَبَتْهُ طَوِيلا. ثُمَّ قَالَتْ: يَا حَجَّاجُ، أَأَنْتَ الْمُمْتَنُّ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَتْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَابْنِ الأَشْعَثِ؟ وَكُنْتَ الْمَوْلَى غَيْرَ الْمُسْتَعْلَى، أَمَا وَاللَّهِ لَوْلا أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّكَ أَهْوَنُ خَلْقِهِ عَلَيْهِ، مَا ابْتَلاكَ بِرَمْي الْكَعْبَةِ، وَبِقَتْلِ ابْنِ ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ، ابْنِ حَوَارِيِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّا ابْنُ الأَشْعَثِ فَلَعَمْرِي لَقَدِ اسْتَعْلَى عَلَيْكَ حَتَّى عَجْعَجْتَ، وَوَالَى عَلَيْكَ الْهَزَائِمَ، حَتَّى غَوَّثْتَ.

دخل عمرو بن معد يكرب الزبيدي على عمر بن الخطاب، وعنده الربيع بن زياد، وشريك بن الأعور

فَلَوْلا أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَادَى فِي أَهْلِ الْيَمَنِ، وَأَنْتَ فِي أَضْيَقِ مِنَ الْقَرْنِ فَأَظَلَّتْكَ رِمَاحُهُمْ، وَعَلاكَ كِفَاحُهُمْ لَكُنْتَ مَأْسُورًا فِيهِمْ، قَدْ أُخِذَ الَّذِي فِيهِ عَيْنَاكَ، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّ نِسَاءَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ نَفَضْنَ الْعِطْرَ عَنِ غَدَائِرِهِنَّ وَبِعْنَهُ فِي أَعَطِيَةِ أَوْلِيَائِهِ، وَأَمَّا مَا أَشَرْتَ بِهِ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَطْعِ لَذَّاتِهِ، وَبُلُوغِ أَوْطَارِهِ مِنْ نِسَائِهِ، فَإِنْ يَكُنْ إِنَّمَا يَنْفَرِجْنَ عَنْ مِثْلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَغَيْرُ مُجِيبِكَ إِلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كُنَّ إِنَّمَا يَنْفَرِجْنَ عَنْ مِثْلِ مَا انْفَرَجَتْ بِهِ أُمُّكَ الْبَظْرَاءُ، مِنْ ضَعْفِ الْغَرِيزَةِ، وَقُبْحِ الْمَنْظَرِ، فِي الْخَلْقِ وْالْخُلُقِ يَا لُكَعُ، فَمَا أَحَقَّهُ أنْ يَقْتَدِيَ بِقَوْلِكَ، قَاتَلَ اللَّهُ الَّذِي يَقُولُ، وَسِنَانُ غَزَالَةَ الْحَرُورِيَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْكَ: أَسَدٌ عَلَيَّ وَفِي الْحَرْبِ نَعَامَةٌ ... رَبْدَاءُ تَنْفِرُ مِنْ صَفِيرِ الصَّافِرِ هَلا بَرَزْتَ إِلَى غَزَالَةَ فِي الْوَغَى؟ ... أَمْ كَانَ قَلْبُكَ فِي جَنَاحَيْ طَائِرِ صَدَعَتْ غَزَالَةُ قَلْبَهُ بِفَوَارِسٍ ... تَرَكَتْ نَوَاظِرَهُ كَأَمْسِ الدَّابِرِ ثُمَّ أَمَرَتْ جَارِيَةً لَهَا فَأَخْرَجَتْهُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى الْوَلِيدِ، قَالَ: مَا كُنْتَ فِيهِ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ؟ قَالَ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا سَكَتَتْ حَتَّى كَانَ بَطْنُ الأَرْضِ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ ظَهْرِهَا. إِنَهَا ابْنَةُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلامٍ، قَالَ: " هَنَّأَ رَجُلٌ رَجُلا فِي مَجْلِسِ الْحَسَنِ بِمَوْلُودٍ، فَقَالَ: هَنَّاكَهُ اللَّهُ، وَهَنَّاهُوكَ حَتَّى تَكُونَ كَهُ وَيَكُونَ كَكَ، فَقَالَ الْحَسَنُ: " وَاللَّهِ مَا يُبَالِي رَجُلٌ، أَطَمْطَمَ بِالْفَارِسِيَّةِ، أَمْ تَكَلَّمَ بِمِثْلِ كَلامِكَ 313 - حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُؤَمَّليُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ: دَخَلَ عَمْرُو بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ الزُّبَيْدِيُّ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعِنْدَهُ الرَّبِيعُ بْنُ زِيَادِ، وَشَرِيكُ بْنُ الأَعْوَرِ الَحَارِثَيَّانِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَأَبْرَامٌ بَنُو مَخْزُومٍ؟ قَالَ: «وَمَا ذَاكَ يَا أَبَا ثَوْرٍ» ؟ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى خَالِكَ أَبِي سُلَيْمَانَ يَعْنِي خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، فَأَتَانِي بِثَوْرٍ وَقَوْسٍ وَكَعْبٍ، فَأَطْعَمَنِيهِ. فَقَالَ عُمَرُ: «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَسَعَةً» . فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَكَ أَوْ لِي، قَالَ: «بَلِ لِي وَلَكَ» . قَالَ: كَلا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي آكُلُ الْجَدْعَةَ حَتَّى أُنِقَّهَا عَظْمًا عَظْمًا، وَأَشْرَبُ التِّبْنَ مِنَ اللَّبَنِ، رَثِيئَةً وَصَرِيفًا. قَالَ: فَنَظَرَ عُمَرُ إِلَى الرَّبِيعِ بْنِ زِيَادٍ كَالْمُتَعَجِّبِ مِنْ قَوْلِهِ.

فَقَالَ الرَّبِيعُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ لَكَذَاكَ، وَإِنَّ الْخَيْلَ لَتَتَّقِي ذُرَاهُ إِذَا كَانَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ وَانْتَعَلَتِ الْخَيْلُ الدِّمَاءَ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ نَقَصَ إِلَّنَا، وَقَطَعَ أَوَاصِرَنَا، فَقَالَ عَمْرٌو: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، جَاوَرْتُ هَذَا الْحَيَّ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ عِشْرِينَ سَنَةً فَمَشَوْا إِلَيَّ بِالضَّرَّاءِ، وَدَبُّوا إِلَيَّ الْخَمْرَ، فَلَمَّا بَدَتْ لِي ضَبَابُ صُدُورِهِمْ، وَحَسَكُ قُلُوبِهِمْ، أَوْجَرْتُهُمْ أَمَرَّ مِنْ نَقِيعِ الْحَنْظَلِ، فَقَالَ شَرَيكُ بْنُ الأَعْوَرِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ هَذَا أَعْجَزَنَا لَمَّا أَخَذَتْهُ أَنْيَابُنَا، وَكَلَّمَتْهُ أَظَافِرُنَا. فَقَالَ عَمْرٌو: إِلَيْكَ يَابْنَ الأَعْوَرِ، فَإِنِّي لا أَجْلِسُ عَلَى الدُّبُرِ، وَلا أُغْمَزُ غَمْزَ التِّينِ، وَلا يُقَعْقَعُ لِي بِالشِّنَانِ. قَالَ: فَلَمَّا خَشِيَ عُمَرُ أنْ يَتَفَاقَمَ الأَمْرُ بَيْنَهُمْ، وَيَخْرُجُوا إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا. قَالَ: " إِيهًا عَنْكُمُ الْآنَ. فَأَقْبَلَ عَلَى عَمْرٍو، فَقَالَ: يَا أَبَا ثَوْرٍ، لَقَدْ حَدَّثْتَ عَنْ نَفْسِكَ بِمَأْكَلٍ وَمَشْرَبٍ، وَلَقَدْ لَقِيتَ النَّاسَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلامِ، فَأَخْبِرْنِي: هَلْ صَدَفْتَ عَنْ فَارِسٍ قَطُّ "؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ كُنْتُ أَكْرَهُ الْكَذِبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا مُشْرِكٌ، فَكَيْفَ إِذْ هَدَانِي اللَّهُ لِلْإِسْلامِ؟ وَلَقَدْ قُلْتُ ذَاتَ يَوْمٍ لِخَيْلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ: هَلْ لَكُمْ فِي الْغَارَةِ؟ قَالُوا: عَلَى مَنْ؟ قُلْتُ: عَلَى بَنِي الْبَكَّاءِ. قَالُوا: مَغَارٌ بَعِيدٌ، عَلَى شِدَّةِ كَلَبٍ وَقِلَّةِ سَلَبٍ. قُلْتُ: فَعَلَى مَنْ؟ قَالُوا: عَلَى هَذَا الْحَيِّ مِنْ كِنَانَةَ، فَإِنَّهُ بَلَغَنَا أَنَّ رِجَالَهُمْ خُلُوفٌ. فَخَرَجْتُ فِي خَيْلٍ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى وَادٍ مِنْ أَوْدِيَتِهِمْ، فَدُفِعْتُ إِلَى قَوْمٍ سُرَاةٍ. فَقَالَ عُمَرُ: «وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهُمْ سُرَاةٌ» ؟ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى قُبَابٍ عَظِيمَةٍ مِنْ أَدَمٍ، وَقُدُورٍ مُثْفَأَةٍ، وَإِبِلٍ وَغَنَمٍ. فَقَالَ عُمَرُ: «هَذَا لَعَمْرِي عَلامَةُ الْيُسْرِ» . وَقَالَ عَمْرٌو: فَانْتَهَيْتُ إِلَى أَعْظَمِهَا قُبَّةً. فَأَكْشِفُهَا عَنْ جَارِيَةٍ مِثْلِ الْمَهَاةِ، فَلَمَّا رَأَتْنِي ضَرَبَتْ يَدَهَا عَلَى صَدْرِهَا، وَبَكَتْ. فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكِ؟ قَالَتْ: مَا أَبْكِي لِنَفْسِي وَلا عَلَى الْمَالِ. فَقُلْتُ: عَلامَ تَبْكِينَ؟ قَالَتْ: عَلَى جَوارٍ أَتْرَابٍ لِي، قَدْ أَلِفْتُهُنَّ، وَهُنَّ فِي هَذَا الْوَادِي. قَالَ: فَهَبَطْتُ الْوَادِيَ عَلَى فَرَسِي، فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ قَاعِدٍ يَخْصِفُ نَعْلا لَهُ، وَإِلَى جَانِبِهِ سَيْفٌ مَوْضُوعٌ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ عَلِمْتُ أَنَّ الْجَارِيَةَ قَدْ خَدَعَتْنِي، وَمَاكَرَتْنِي. فَلَمَّا رَآنِي الرَّجُلُ قَامَ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ، ثُمَّ عَلا رَابِيَةً، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى قُبَابِ قَوْمِهِ مُطَّرِحَةً، حَمَلَ عَلَيَّ وَهُوَ يَقُولُ: قَدْ عَلِمْتُ إِذْ مَنَحْتَنِي فَاهَا ... وَلَحِقَتْنِي بُكْرَةً رَدَاهَا أَنِّي سَأَحْمِي الْيَوْمَ مِنْ حِمَاهَا ... يَا لَيْتَ شِعْرِي مَا الَّذِي دَهَاهَا قَالَ: فَقُلْتُ مُجِيبًا لَهُ: عَمْرٌو عَلَى طُولِ السَّرَى دَهَاهَا ... بِالْخَيْلِ يُزْجِيهَا عَلَى وِجَاهَا حَتَّى إِذَا حَلَّ بِهَا احْتَوَاهَا ثُمَّ حَمَلْتُ عَلَيْهِ وَأَنَا أَقُولُ: أَنَا ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَحْمُودُ الشِّيَمْ ... مُؤْتَمَنُ الْغَيْبِ وَفِيٌّ بِالذِّمَمْ

الله أكبر، أحمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، في الكتاب الأول، صدق صدق، ثم قال:

مِنْ خَيْرِ مَنْ يَمْشِي بِسَاقٍ وَقَدَمْ فَحَمَلَ عَلَيَّ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا ابْنُ ذِي الأَقْيَالِ أَقْيَالِ الْبُهَمْ ... مَنْ يَلْقَنِي يُودِ كَمَا أَوْدَتْ إِرَمْ أَتْرُكُهُ لَحْمًا عَلَى ظَهْرٍ وَضَمْ قَالَ: فَاخْتَلَفْنَا ضَرْبَتَيْنِ، فَأَضْرِبُهُ أَحْذَرَ مِنَ الْعَقْعَقِ، وَيَضْرِبُنِي أَثْقَفَ مِنَ الْهِرِّ، فَوَقَعَ سَيْفُهُ فِي قَرَبُوسِ سِرْجِي فَقَطَعَ الْقَرَبُوسَ، وَعَضَّ بِكَاثِبَةِ الْفَرَسِ، فَوَثَبْتُ عَلَى رِجْلِيَّ قَائِمًا، وَقُلْتُ: يَا هَذَا، مَا كَانَ لِيَلْقَانِي مِنَ الْعَرَبِ إِلا ثَلاثَةٌ: الْحَارِثُ بْنُ ظَالِمٍ لِلْسِنِّ وَالتَّجْرِبَةِ، وَعَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ لِلشَّرَفِ وَالنَّجْدَةِ، وَرَبِيعَةُ بْنُ مكدِّمٍ لِلْحَيَاءِ وَالْبَأْسِ، فَمَنَ أَنْتَ، ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ؟ قَالَ: بَلْ مَنْ أَنْتَ، ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ؟ قُلْتُ: أَنَا عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ، قَالَ: وَأَنَا رَبِيعَةُ بْنُ مُكَدَّمِ. قُلْتُ: فَاخْتَرْ مَنِّي إِحْدَى ثَلاثِ خِصَالٍ: إِمَّا أَنْ نَضْطَرِبَ بَسَيْفَيْنَا حَتَّى يَمُوتَ الأَعْجَلُ مِنَّا، وَإِمَّا أَنْ نَصْطَرِعَ، فَأَيُّنَا صَرَعَ صَاحِبَهُ قَتَلَهُ، وَإِمَّا الْمُسَالَمَةُ. قَالَ: ذَاكَ إِلَيْكَ. فَاخْتَرْ. قُلْتُ: إِنَّ بِقَوْمِكَ إِلَيْكَ حَاجَةً، وَبِقَوْمِي إِلَيَّ حَاجَةً، وَالْمُسَالَمَةُ خَيْرٌ لِي وَلَكَ. ثُمَّ أَخَذْتُ بِيَدِهِ فَأَتَيْتُ بِهِ أَصْحَابِي، وَقُلْتُ لَهُمْ: خَلُّوا مَا بِأَيْدِيكُمْ، فَلَوا رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُ لَخَلَّيْتُمْ وَزِدْتُمْ. سَلُونِي عَنْ فَرَسِي مَا فَعَلَ. قَالَ: فَتَرَكْنَا مَا بِأَيْدِينَا وَانْصَرَفْنَا رَاجِعِينَ " 314 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الضَّحَّاكِ الْحِزَامِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَحْيَى بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ أَخِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، عَمَّا تَكَلَّمَ بِهِ جَدُّهُ زَيْدُ بْنُ خَارِجَةَ بَعْدَمَا مَاتَ وَعْظًا , قَالَ: قَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ، أَنْصِتُوا. ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، أَحْمَدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فِي الْكِتَابِ الأَوَّلِ، صَدَقَ صَدَقَ، ثُمَّ قَالَ: جِيفَتَانِ قَدْ أَصَلَّتَا، وَهُمَا يَرْجُوَانِ رَحْمَةَ اللَّهِ، أَبُو بَكْرٍ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، الضَّعِيفُ جِسْمهُ، الْقَوِيُّ فِي نَفْسِهِ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَقْوَى الرِّجَالِ، الْقَوِيُّ الأَمِينُ، الَّذِي لا يُبَالِي فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ، ثُمَّ ذَكَرَ عُثْمَانَ، ثُمَّ قَالَ: أَمِيرُكُمُ الْيَوْمَ، لَهُ عَلَيْكُمُ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ، اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا أَيُّهَا النَّاسُ، أَقْبِلُوا عَلَى أَمِيرِكُمْ، ثُمَّ أَعَادَ ذِكْرَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، أَمِيرُكُمْ، لَهُ عَلَيْكُمُ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ، أَنْتُمْ عَلَى مِنْهَاجِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، اسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا، اللَّيِّنُ يُعَافِي النَّاسَ، ويُنْفِقُ الَمْالَ، فَمَنْ تَوَلَّى فَلا يَعْهَدَنَّ. ثُمَّ قَالَ: بِئْرُ أَرِيسٍ وَمَا بِئْرُ أَرِيسٍ. ثُمَّ ذَكَرَ الصَّحِيفَةَ الَّتِي كَتَبَ بِهَا عَمْرُو بْنُ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيُّ إِلَى عُثْمَانَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ خَبَرُهُ عَنْ فَتْحٍ فَتَحَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَنَصْرِهِ إِيَّاهُمْ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا كَانَ النَّاسُ سَوَاءً، وَلَكِنَّمَا يُفَضَّلُ بَيْنَ النَّاسِ أَعْمَالُهُمْ.

وَقَالَ: جِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ، يُرَى مَعْ كُلِّ نَبِيٍّ أُمَّتُهُ جِثِيًّا. وَقَالَ: هَذِهِ الْجَنَّةُ وَهَذِهِ النَّارُ. ثُمَّ قَرَأَ مِنَ الْقُرْآنِ آيَاتٍ: {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لِلشَّوَى تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} [المعارج: 15 - 17] وَقَالَ: جَاءَتِ الْفِتْنَةُ ثُمَّ ذَكَرَ الشُّهَدَاءَ، ثُمَّ كَبَّرَ: فَقَالَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَسَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَخَلادُ بْنُ سُوَيْدٍ، وَثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَعُبَادَةُ بْنُ قَيْسٍ، وَقَالَ: خَلَتِ اثْنَتَانِ، وَبَقِيَتْ أَرْبَعٌ، انْفَضَّ النَّاسُ فَلا نِظَامَ لَهُمْ وَأَكَلَ قَوِيُّهُمْ ضَعِيفَهُمْ، وَقَالَ النَّاسُ: هَذَا أَمْرُ اللَّهِ، وَقَامَتِ السَّاعَةُ " قَالَ: وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَأَخْبَرَتْنِي جَدَّتِي أُمُّ سَعْدِ بِنْتُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ: أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ زَيْدِ بْنِ خَارِجَةَ حِينَ تُوُفِّيَ، وَحِينَ تَكَلَّمَ بِهَذَا الْكَلامِ، فَأَخْبَرَتْنِي بِبَعْضِ مَا أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ مَعْمَرٍ، وَلَمْ تَعِ ذَلِكَ كُلَّهُ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: وَكَانَ أَبُو الزِّنَادِ يُحَدِّثُ نَحْوَ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَحْيَى، إِلا أَنَّ أَبَا الزِّنَادِ كَانَ يَقُولُ: صَدَقَ صَدَقَ. وَكَانَ يَقُولُ: كُنَّا أُخْوَةً ثَلاثَةً، جِيفَتَانِ قَدْ أَصَلَّتَا، وَالثَّالَثَةُ يَنْتَظِرُ رَحْمَةَ رَبِّهِ، وَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: فَمَنْ خَالَفَهُ فَلا يَعْهَدَنَّ بِهِ، وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ، هَلْ رَأَيْتَ لِي خَارِجَةَ وَسَعْدًا، ثُمَّ كَبَّرَ، فَكَأَنَّهُ رَآهُمْ، فَقَالَ: هَذَا فُلانٌ وَفُلانٌ، لِلنَّفَرِ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ إِبْرَاهِيمُ وَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: جَاءَتِ الْفِتْنَةُ كَأَنَّهَا قِطَعُ اللَّيْلِ. وأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: كَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا، لا أَعْلَمُهُ إِلا رَدَّدَهَا ثَلاثًا، وَأَنَّهُ كَانَ يَزِيدُ فِي صِفَةِ عُمَرَ، أَنْ يَقُولَ: الَّذِي يَمْنَعُ النَّاسَ أَنْ يِأَكُلَ قَوِيُّهُمْ ضَعِيفَهَمْ، وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَضَتْ أَرْبَعٌ وَبَقِيَتْ ثَمَانٌ قَالَ: قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: " تُوُفِّيَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ بَعْدَ وَفَاةِ زَيْدٍ رَجُلٌ آخَرُ، فَكَبَّرَ فِيمَا بَلَغَنَا، بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَاسْتَمَعُوا لَهُ. فَقَالَ: صَدَقَ زَيْدُ بْنِ خَارِجَةَ. لَمْ يَبْلغْنَا أَنَّهُ زَادَ عَلَى ذَلِكَ. وَتُوُفِّيَ رَجُلٌ ثَالِثٌ، فَقَالَ فِيمَا بَلَغَنِي: لَقِيتُ رَبِّي، وَلَقِيَنِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ، وَرَبًّا غَيْرَ غَضْبَانَ، وَالأَمْرُ أَيْسَرُ مِمَّا تَظُنُّونَ، فَلا تَغْتَرُّوا حَدَّثَنِي مَيْمُونٌ الْحَضْرَمِيُّ، قَالَ: " أَرَدْتُ الْحَجَّ، فَقَالَتْ لِيَ امْرَأَةٌ كُنْتُ أَتَحَدَّثُ إِلَيْهَا: أَقِمْ فَطُفْ بِبَيْتِي سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ كَمَا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ، وَارْكُضْ بَعِيرَكَ بِهِ كَمَا يُرْكِضُونَ إِبِلَهُمْ، وَاحْلِقْ رَأْسَكَ كَمَا يَحْلِقُونَ رُءُوسَهُمْ، وَارْمِ جَارَتَنَا الَّتِي تَسْعَى بِنَا كَمَا يَرْمُونَ الْجِمَارَ، وَقَبِّلْنِي كَمَا يُقَبِّلُونَ الرُّكْنَ، قَالَ: فَفَعَلْتُ، فَقُلْتُ فِي ذَلِكَ: قَدْ كُنْتُ أَجْمَعْتُ حَجَّ الْبَيْتِ أَطْلُبُهُ ... وَالْقَلْبُ عَنْ حَجِّ ذَاكَ الْبَيْتِ مُشْتَجِرُ أَرَى خِلافًا ذَهَابَ الْبَيْتِ أَطْلُبُهُ ... وَهَهُنَا بَيْتُ جَمْلٍ مَا لَهُ سِتَرُ لِلَّهِ سَبعَةُ أَطْوَافٍ أَطُوفُ بِهِ ... كَمَا يَطُوفُونَ شِدًّا لَسْتُ أَقْتَصِرُ وَرَمْيُ جَارَتِهَا جَهْدِي كَرِمْيِهِمُ ... رُؤْسَ الْجِمَارِ الَّتِي تُرْمَى وتُبْتَدَرُ

فَسَوْفَ أَحْلِقُ رَأْسِي مِثْلَ حَلْقِهِمُ ... حَتَّى يَكِرُّوا وَرْأَسِي مَا لَهُ شَعَرُ وَسَوْفَ أَرْكُضُ نِضْوِي مِثْلَ رَكْضِهِمُ ... حَتَّى يَكِرُّوا وَهُوَ مُسْتَنْقَصٌ دَبَرُ كَانَتْ مَنَاسِكُهُمْ تَقْبِيلَهُمْ حَجَرًا ... وَمَنْ يُقَبِّلْكِ لا يَعْرِضْ لَهُ حَجَرُ لَوْ كَانَ أَدْرَكَهَا عُثْمَانُ أَوْ عُمَرُ ... مَا حَجَّ غَيْرَكَ عُثْمَانٌ وَلا عُمَرُ قَالَ: فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ الْبَكْرِيُّ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ رَحِمَكَ اللَّهُ عَلَى أنْ أَخْرَجْتَ أَبَا بَكْرٍ مِمَّا أَدْخَلْتَ فِيهِ الشَّيْخَيْنِ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، إِنِّي لَمْ أُخْرِجْهُ مِمَّا يَتَنَافَسُ النَّاسُ فِيهِ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عِمْرَانَ، قَالَ: " كُنْتُ مَعَ أَبِي بِالْيَمَامَةِ، وَقَدْ وَفَدَ عَلَى السَّرِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَأَنْشَدَنَا ابْنُ هَرْمَةَ: هَجَوْتُ الأَدْعِيَاءَ فَنَاصَبَتْنِي ... مَعَاشِرُ خِلْتُهَا عَرَبًا صِحَاحَا فَقُلْتُ لَهُمْ وَقَدْ نَبَحُوا جَمِيعًا ... عَلَيَّ فَلَمْ أَجِبْ لَهُمُ نُبَاحَا أَأَنْتُمْ مِنْهُمُ فَأَصُدَّ عَنْكُمْ ... وَأَنْسِبَكُمْ لِنِسْبَتِهِمْ صُرَاحَا وَإِلا فَاحْمَدُوا رَأْيِي فَإِنِّي ... أُزَحْزِحُ عَنْكُمُ الِابْنَ الْقُبَاحَا وَحَسْبُكُ تُهْمَةً لِصَحِيحِ قَوْمٍ ... يَمَدُّ عَلَى أَخِي سَقَمٍ جَنَاحَا حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الزَّهْرِيُّ، عَنْ رَجُلٍ قَدْ أَسْمَاهُ نَسِيتُهُ كَانَ مَعَ السَّرِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كَانَ السَّرِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: لَوَدِدْتُ أَنَّ ابْنَ هَرْمَةَ أَتَانِي، فَأَقُولَ لَهُ: لَوْ كَتَبْتَ إِلَيْهِ، فَيَقُولُ: أَكْرَهُ أَنْ يُكَلِّفَنِي مَا لا أَطِيقُ، فَكَتَبْتُ أَنَا إِلَى ابْنِ هَرْمَةَ، فَأَبَى أَنْ يَأْتِيَهُ إِلا أَنْ يَكْتُبَ إِلَيْهِ، ثُمَّ غُلِبَ صَبْرُهُ، فَشَخَصَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَدِمَ دَخَلْتُ عَلَى السَّرِيِّ، فَأَخْبَرْتُهُ فَسُرَّ بِذَلِكَ، وَأَذِنَ لِلنَّاسِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ ابْنُ هَرْمَةَ، وَكَانَ ذَمِيمًا، فَقَعَدَ وَقَعَدَ رَاوِيَتُهُ ابْنُ زَبَنَّجٍ، وكَانَ جَمِيلا وَسِيمًا. فَقَالَ لَهُ ابْنُ هَرْمَةَ: إِنِّي قَدْ مَدَحْتُكَ أَصْلَحَكَ اللَّهُ. فَأَنْشَدَ. فَقَالَ: هَذَا ابْنُ زَبَنَّجٍ يُنْشِدُ. فَأَنْشَدَ ابْنُ زَبَنَّجٍ، فَقَالَ لَهُ: مَرْحَبًا يَا أَبَا إِسْحَاقَ، مَا حَاجَتُكَ؟ قَالَ: جِئْتُكَ عَبْدًا مَمْلُوكًا. قَالَ: بَلْ حُرٌّ كَرِيمٌ. قَالَ: مَا تَرَكْتُ لِي مَالا إِلا رَهَنْتُهُ، وَلا صَدِيقًا إِلا كَلَّفْتُهُ. قَالَ: حَتَّى كَانَ لِي رَيَّانُ وَغَالِبٌ، وَهُمَا مَالانِ عَظِيمَانِ، جَعَلَ السُّلْطَانُ غَلَّتَهُمَا لِصَدَقَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُنْفَقُ عَلَيْهَا، فَمَا يَخْرُجُ يُطْعِمُهُ النَّاسَ. قَالَ: وَكَمْ دَيْنُكَ؟ قَالَ: سَبْعُ مِائَةِ دِينَارٍ. قَالَ: هُوَ عَلَيَّ. قَالَ: فَمَكَثَ ابْنُ هَرْمَةَ أَيَّامًا، ثُمَّ قَالَ لِي: لَقَدْ غَرِضْتُ. فَقُلْتُ: قُلْ شِعْرًا تَذْكُرْ فِيهِ غَرَضَكَ، وَأَنْشِدْهُ إِيَّاهُ، فَقَالَ: إِنَّ الْحَمَامَةَ فِي نَخْلِ ابْنِ هَدَّاجِ ... هَاجَتْ فُؤَادَ سَقِيمِ الْقَلْبِ مُهْتَاجِ أَمَا مُخَبِّرُ أَنَّ الْغَيْثَ قَدْ نَتَجَتْ ... مِنْهُ عِشَارٌ تَمَامًا غَيْرَ إِخْدَاجِ شَقَّتْ سَوَائِفُهَا بِالْفَرْشِ مِنْ ملَلٍ ... إِلَى الأَعَارِفِ مِنْ حَزْنٍ وَأَوْلاجِ وَقَالَ فِيهَا: هَاجَ الْعَيِيُّ إِلَى شَوْقٍ فَهَيَّجَنِي ... فَعِجْتُ مِنْ قَلْبِ مَاضٍ غَيْرِ مُنْعَاجِ

ما أسكر كثيره فقليله حرام»

وَابْنُ الزَّبَنَّجِ مِمَّا قَدْ يُهَيِّجُنِي ... بِحَلْقٍ مُنْتَحِبٍ بِاللَّيْلِ نَشَّاجِ فَأَمَرَ لَهُ بِدَيْنِهِ، وَأَمَرَ لَهُ بِمَالٍ غَيْرِ ذَلِكَ، أَرَاهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَلْفَ دِينَارٍ. 319 - حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَفْصٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، أَنَّهُ قَالَ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» 320 - حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نافع، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» حَدَّثَنِي أَخِي هَارُونُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الْمُؤَمَّلِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ التَّنُوخِيِّ الْقَاضِي، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَرْفَجَةَ الْوَاشِجِيِّ مِنَ الأَزْدِ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ، قَالَ: " كُنْتُ فِيمَنْ كَانَ يَحْرُسُ خَشَبَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَدَارَتْ عَلَيَّ النَّوْبَةُ لَيْلَةً، فَبَيْنَا أَنَا بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ، إِذَا رَجُلٌ يَهْمِسُ هَمْسًا خَفِيًّا حَتَّى وَقَفَ وَاضِعًا يَدَهُ عَلَيْهَا، فَاعْتَمَدَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، عَوَّضَكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ مِنْ قَتْلَتِكَ، وَأَثَابَكَ سُوءَ مُثْلَتِكَ، فَقَدْ كُنْتَ لِلْحَقِّ إِمَامًا، تَجْمَعُ بَيْنَ طَرَفَيْ لَيْلَتِكَ الصِّنَّبْرَةِ قَائِمًا، وَبَيْنَ طَرَفَيْ يَوْمِكِ الْقَائِظِ صَائِمًا، تَغْضَبُ فِي اللَّهِ، وَتَرْضَى لَهُ، حَدِبًا شَفِيقًا، تُنَفِّسُ كُلَّ خِطَةٍ مُرِبَّةٍ، وَتَحْبِسُ السِّرْبَ دُونَ الْكَلَأِ الْوَبِيلِ، إِنْ رَتَعَ لَمْ تَذْعُرْهُ، وَإِنْ سَكَنَ لَمْ تُنَفِّرْهُ، وَإِنْ بَغَا كُنْتَ لَهُ مُرْتَادًا، تَرَامُّهُ وَيُرَامُّكَ عَلَى ذَلِكَ، مَا كُنَّا وَكُنْتَ حَتَّى قَعَدَ بِنَا جَدُّنَا، وَنَابَكَ جَدُّكَ {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] قَالَ: ثُمَّ وَلَّى وَانْدَفَعَ يَقُولُ: أَأَلْحَقُ أَمْ لا إِنَّ خَيْرَ خِيَارِنَا ... صَرِيعٌ عَلَى أَيْدِي الْعُدَاةِ يَنْفِلُ تَهَادَاهُ ذُؤْبَانُ الْعَشَائِرِ بَيْنَهَا ... وَيَفْرِي لَهُ بِالْفَأْسِ جَذْعٌ مُرْقِلُ أَطُودًا مَنِيفًا مُشْمَخِرًّا مُمَرَّدًا ... رَسَا أَصْلُهُ بِالأَرْضِ لا يَتَحَلْحَلُ عَلَوْتُمْ بِهْ جِذْعًا لِيُعْرَفَ إِنَّمَا ... يُبَانُ الَّذِي يُخْفَى وَلا يُتَأَمَّلُ فَلَوْلا جَزَاءُ اللَّهِ كُلا بِفِعْلِهِ ... لَعَاشَ وَأَوْدَيْتُمْ وَلِلَّهِ مَوْئِلُ فَلِلَّهِ عَيْنًا مَنْ رَأَى مِثْلَ خَيْرِنَا ... قَتِيلا وَهَادَى النَّاسَ عُرْفًا جَبْأَلُ قَالَ: فَاتَّبَعْتُهُ حَتَّى أَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ أَنَا ابْنُ أَبِي ثَوْرٍ الْعَامِرِيُّ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا رُوِيتُمْ يَا أَهْلَ الشَّامِ مِنْ دِمَائِنَا، فَاشْرَبُوا مَا بَدَا لَكُمْ.

منكم لمن سبقني فرأى قبلي، ورأيت بعده، والله ما رأيت خصاصة إلا ألصقها رسول الله صلى الله

قَالَ: قُلْتُ: إِنَّكَ لَمُسْتَمِيتٌ! قَالَ: فَهَلْ إِلَى الْمَنِيَّةِ مِنْ سَبِيلٍ؟ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَرْفَجَةَ: فَوَاللَّهِ مَا مَنَعَنِي مِنْ قَتْلِهِ إِلا الْإِبْقَاءُ عَلَى نَفْسِي 322 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَخْزُومِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ سَلَمَةَ مَوْلَى مَنْبُوذٍ، قَالَ: " عَزَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ عَنْ مِصْرَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، فَدَخَلَ عَمْرٌو الْمَدِينَةَ، فَدَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: كَيْفَ تَرَكْتَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدٍ؟ قَالَ: تَرَكْتُهُ أَمِيرًا عَلَى عَمَلِهِ، جَاهِلا بِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَرِّ عُمَّالِكَ، قَالَ: شَتَمْتَنَا يَا عَمْرُ، قَالَ: إِنَّ الْمَعْزُولَ غَضْبَانُ وَلا أَحْسَبُنِي فَعَلْتُ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، إِنَّ النَّاسَ قَدْ كَثُرُوا عَلَيَّ فَاخْرُجْ حَتَّى تَعْذُرَنِي عِنْدَهُمْ. فَخَرَجَ عَمْرٌو، فَصَلَّى مَعَ النَّاسِ الْعَصْرَ، فَلَمَّا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَامَ إِلَى الْمِحْرَابِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ، يَا مَعَاشِرَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ سَبَقَنِي فَرَأَى قَبْلِي، وَرَأَيْتُ بَعْدَهُ، وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ خَصَاصَةً إِلا أَلْصَقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ دُونَ الْمُسْلِمِينَ، وَلا رَأَيْتُ خَيْرًا قَطُّ إِلا عَمَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ، أَوَ كَذَاكَ ذَاكَ، وَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، فَجَزَاهُ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الأُمَّةِ خَيْرًا. قَالَ: ثُمَّ وَلِيَكُمْ أَبُو بَكْرٍ، فَسَارَ بِسِيرَتِهِ، وَحَذَا حَذْوَهُ، وَسَلَكَ سَبيِلَهُ، وَشَمَّرَ فِي أَمْرِ اللَّهِ، حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، فِي خَلْقٍ ثَوِيبٍ، مَا لَهُ رِدَاءٌ، أَفَكَذَاكَ ذَاكَ، وَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، فَرَحِمَهُ اللَّهُ، وَجَزَاهُ عَنِ الأُمَّةِ خَيْرًا. قَالَ: ثُمَّ وَلِيَكُمْ مِنْ بَعْدِهِ ابْنُ حَنْتَمَةَ، عُمَرُ بْنِ الْخَطَّابِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فَبَعَجَتْ لَهُ الأَرْضُ أَمْعَاءَهَا، وَفَلَذَتْ لَهُ كَبِدَهَا، وَنَكَتَتْ لَهُ مُخَّتَهَا، وَأَبْرَزَتْ لَهُ شَحْمَتَهَا، وَتَزَيَّنَتْ لَهُ بِزُخْرُفِهَا، وَأَمْطَرَتْ عَلَيْهِ جُودًا، وَوَلَدَتْ لَهُ تَمَامًا، فَدَرَّتْ لَهُ غَزْرًا، فَقَبَضَ مِنْهَا قَبْضًا، وَمَصَّ ثَدْيَهَا مَصًّا، وَمَشَى فِي ضَحْضَاحِهَا، وَتَنَكَّبَ غَمْرَتَهَا مُشَمِّرًا إِزَارَهُ حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا، وَمَا ابْتَلَّتْ قَدَمَاهُ، أَوَ كَذَاكَ ذَاكَ. وَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، فَرَحِمَهُ اللَّهُ، وَجَزَاهُ عَنْ هَذِهِ الأُمَّةِ خَيْرًا. قَالَ: ثُمَّ وَلِيَكُمْ مِنْ بَعْدِهِ عُثْمَانُ، فَعَرَفْتُمْ وَأَنْكَرْتُمْ، وَقَالَ وَقُلْتُمْ، تَلُومُونَهُ وَيَعْذِرُ نَفْسَهُ. قَالُوا: فَمَهْ؟ قَالَ: فَارْفِقُوا بِهِ، فَإِنَّ الْكَسِيرَ يُجْبَرُ، وَإِنَّ الْحَسِيرَ يَبْلُغُ، وَإِنَّ الْهَزِيلَ يَسْمِنُ. أَقُولُ قُوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ. قَالَ: فِقِيلَ لِعُثْمَانَ: مَا بَلَغَ مِنْكَ أَحَدٌ مَا بَلَغَ عَمْرٌو. فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ، قَالَ: يَا عَمْرُو، قَمِلَتْ فَرْوَتُكَ مُنْذُ عَزَلْنَاكَ عَنْ مِصَرَ.

قَالَ: إِنَّكَ إِمَامٌ، وَلا يجمُلُ بِي شَتْمُكَ، وَلَقَدْ قُلْتُ بِأَحْسَنَ مَا حَضَرَنِي، وَلَوْ حَضَرَنِي غَيْرُ ذَلِكَ لَفَعَلْتُ " حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلامٍ، عَنْ أَبِي الْيَقْظَانِ، قَالَ: لَمَّا هَرَبَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ وَإِخْوَتُهُ مِنْ حَبْسِ الْحَجَّاجِ اسْتَجَارُوا سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَهُوَ بِفِلَسْطِينَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْحَجَّاجَ، فَكَتَبَ إِلَى الْوَلِيدِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ آلَ الْمُهَلَّبِ خَانُوا مَالَ اللَّهِ، وَلَحِقُوا بِسُلَيْمَانَ. وَقَدْ كَانَ بَلَغَ الْوَلِيدَ هَرَبُ يَزِيدَ وَإِخْوَتِهِ، فَخَشِيَ أَنْ يَأْتِيَ يَزِيدُ خُرَاسَانَ، فَيَنْقُضَهَا عَلَيْهِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ مَكَانُهُ عِنْدَ سُلَيْمَانَ أَعْجَبَهُ ذَلِكَ. وَكَتَبَ سُلَيْمَانُ إِلَى الْوَلِيدِ: أَمَّا بَعْدُ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ وَإِخْوَتَهُ لَجَئُوا إِلَيَّ، وَقَدْ أَمَّنْتُهُمْ، وَخَفِرْتُهُمْ، وَقَدْ كَانَ الْحَجَّاجُ أَغْرَمَهُمْ سِتَّةَ آلافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَدَّوْا مِنْهَا ثَلاثَةَ آلافِ أَلْفٍ، وَبَقِيَتْ ثَلاثَةُ آلافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَهِيَ عَلَيَّ، وَالسَّلامُ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْوَلِيدُ: أَمَّا بَعْدُ، فَوَاللَّهِ لا أُؤَمِّنُ يَزِيدَ ومَنْ مَعَهُ حَتَّى تَبْعَثَ بِهِمْ إِلَيَّ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ سُلَيْمَانُ: أَمَّا بَعْدُ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّكَ إِنْ حَمَلْتَنِي عَلَى أَنْ أَبْعَثَ بِهِمْ، قَدِمْتُ عَلَيْكَ مَعَهُمْ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْوَلِيدُ: وَاللَّهِ لَئِنْ قَدِمْتَ عَلَيَّ مَعَهُمْ لا أُؤَمِّنهُمْ أَبَدًا، فَابْعَثْ بِهِمِ إِلَيَّ فِي وِثَاقٍ. قَالَ: فَبَعَثَ بِهِمْ سُلَيْمَانُ مَعَ ابْنِهِ أَيُّوبَ. وَقَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ إِذَا أَرَدْتَ الدُّخُولَ عَلَى عَمِّكَ فَادْخُلْ أَنْتَ وَيَزِيدُ، فِي سِلْسِلَةٍ، وَاقْرِنْ نَفْسَكَ مَعَهُمْ فَفَعَلَ أَيُّوبُ ذَلِكَ.

قَالَ: فَلَمَّا رَأَى الْوَلِيدُ ابْنَ أَخِيهِ مَعَ يَزْيدَ فِي سِلْسِلَةٍ، قَالَ: لَقَدْ بَلَغْنَا مَبْلَغًا شَاقًّا، ثُمَّ تَكَلَّمَ أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، نَفْسِي فِدَاؤُكَ، لا تُخْفِرْ ذِمَّةَ أَخِيكَ، فَإِنَّكَ أَحَقُّ مَنْ مَنَعِهَا، وَلا تَقْطَعْ رَجَاءَ مَنْ رَجَا السَّلامَةَ فِي جِوَارِهِ لِمَكَانِهِ مِنْكَ، وَلا تُذِلَّ مَنْ أَمَّلَ الْعِزَّ فِي الِانْقِطَاعِ إِلَيْهِ بِعِزَّةٍ مِنْكَ، ثُمَّ دَفَعَ إِلَيْهِ كِتَابَ سُلَيْمَانَ، فَإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَوَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأَظُنُّ لَوِ اسْتَجَارَ بِي عَدُوٌّ قَدْ نَابَذَكَ، وَجَاهَدَكَ، فَأَنْزَلْتُهُ، وَأَجَرْتُهُ، أَنَّكَ لا تُذِلُّ جَارِي، وَلا تُخْفِرُ جِوَارِي، عَلَى أَنِّي لَمْ أُجِرْ إِلا امْرَأً مُسْلِمًا، سَامِعًا مُطِيعًا، حَسَنَ الْبَلاءِ وَالأَثَرِ فِي الْإِسْلامِ، وَفِي طَاعَتِنَا، هُوَ وَأَبُوهُ، وَأَهْلُ بَيْتِهِ، وَقَدْ بَعَثْتُ بِهِ إِلَيْكَ، فَإِنْ كُنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا تَغْزُو قَطِيعَتِي، وإِلا خَفَارِ بِذَمَّتِي، وإِلَّا بَلاغِ فِي مَسَاءَتِي، فَقَدْ قَدَرْتَ إِنْ فَعَلْتَ، وَأَنَا أُعِيذُكَ بِاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مِنَ احْتِرَازِ قَطِيعَتِي، وَانْتِهَاكِ حُرْمَتِي، وَتَرْكِ بِرِّي وَصِلَتِي، فَوَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا تَدْرِي مَا بَقَاؤُكَ وَلا بَقَائِي، وَلا مَتَى يُفَرِّقُ الْمَوْتُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أنْ لا يَأْتِيَ عَلَيْنَا أَجَلُ الْوَفَاةِ إِلا وَهُوَ لِي وَاصِلٌ، وَلِحَقِّي مُؤَدٍّ، وَلِقَرَابَتِي حَافِظٌ، وَعَنْ مَسَاءَتِي نَازِعٌ، فَلْيَفْعَلْ، فَوَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا أَصْبَحْتُ بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا بَعْدَ تَقْوَى اللَّهِ أَسَرَّ مِنِّي بِرِضَاكَ وَسُرُورِكَ، وَإِنَّ رِضَاكَ مِمَّا أَلْتَمِسُ بِهِ رِضْوَانَ اللَّهِ، فَإِنْ كُنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ تُرِيدُ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ صِلَتِي وَمَبَرَّتِي وَإِعْظَامَ حَقِّي، فَتَجَاوَزْ لِي عَنْ يَزِيدَ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، وَكُلُّ مَا طَالَبْتُمْ بِهِ فَهُوَ عَلَيَّ، وَالسَّلامُ. فَلَمَّا قَرَأَ الْوَلِيدُ الْكِتَابَ، قَالَ: لَقَدْ شَقَقْنَا عَلَى أَبِي أَيُّوبَ. ثُمَّ دَعَا أَيُّوبَ بْنَ سُلَيْمَانَ فَقَرَّبَهُ وَأَدْنَاهُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ بَلاءَكُمْ عِنْدَنَا، أَهْلَ الْبَيْتِ، أَحْسَنُ الْبَلاءِ، فَمَنْ يَنْسَ ذَلِكَ فَلَسْنَا نَاسِيهِ، وَمَنْ يَكْفُرْهُ فَلَسْنَا كَافِرِيهِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ بَلائِنَا، أَهْلَ الْبَيْتِ، فِي طَاعَتِكُمْ، وَالطَّعْنِ فِي أَعْدَائِكُمْ فِي الْمَوَاطِنِ الْعِظَامِ، وَفِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، مَا الْمِنَّةُ فِيهِ عَلَيْنَا عَظِيمَةٌ. فَقَالَ لَهُ الْوَلِيدُ: اجْلِسْ، فَجَلَسَ، فَآمَنَهُ وَكَفَّ عَنْهُ، وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَرَدَّهُمْ إِلَى سُلَيْمَانَ. وَكَتَبَ الْوَلِيدُ إِلَى الْحَجَّاجِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَصِلْ إِلَى يَزِيدَ وَإِخْوَتِهِ مَعَ سُلَيْمَانَ، فَلا تَعْرِضْ لَهُمْ، وَلا تُرَاجِعْنِي فِيهِمْ، وَالسَّلامُ

هززت ذوائب الرجال إليك، إذ لم أجد معولا إلا عليك، وما زلت أستدل المعروف عليك، وأجعل

324 - حَدَّثَنِي الْعُتْبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ هِشَامِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعْدِ الْقَصْرِ، قَالَ: " دَخَلَ يَعْلَى بْنُ مُنْيَةَ عَلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي هَزَزْتُ ذَوَائِبَ الرِّجَالِ إِلَيْكَ، إِذْ لَمْ أَجَدْ مُعَوَّلا إِلا عَلَيْكَ، وَمَا زِلْتُ أَسْتَدِلُّ الْمَعْرُوفَ عَلَيْكَ، وَأَجْعَلُ النَّهَارَ إِلَيْكَ مَطِيَّتِي فَإِذَا أَلْوَى بي اللَّيْلُ، فَقُبِضَ الْبَصَرُ، وَعَفَا الأَثَرُ، أَقَامَ بَدَنِي وَسَافَرَ أَمَلِي، يَقُودُنِي نَحْوَكَ رَجَاءٌ، وَيَسُوقُنِي إِلَيْكَ بَلْوَى، فَالنَّفْسُ مُسْتَبْطِئَةٌ، وَالِاجْتِهَادُ عَاذِرٌ، وَإِذَا بَلَغْتُكَ فَقَطْ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: احْطُطْ عَنْ رَاحِلَتِكَ رَحْلَهَا. ثُمَّ قَالَ: يَا كَعْبُ، أَعْطِهِ ثَلاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَلَمَّا وَلَّى شَوَّالٌ، وَلِيَوْمِ الْحَمْلِ ثَلاثِينَ أَلْفًا أُخْرَى، ثُمَّ قَالَ: الْحَقَ بِصِهْرِكَ عُتْبَةَ. وَكَانَ عُتْبَةُ مُتَزَوِّجًا بِابْنَةَ يَعْلَى. قَالَ: فَخَرَجَ إِلَى مِصْرَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى عُتْبَةَ، قَالَ لَهُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ إِنِّي سِرْتُ إِلَيْكَ شَهْرَيْنِ أَخُوضُ فِيهِمَا الْمَتَالِفَ، أَلْبَسُ أَرْدِيَةَ اللَّيْلِ مَرَّةً، وَأَسِيرُ فِي لُجَجِ السَّوَادِ أُخْرَى، مُوقِرًا مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِكَ، هَارِبًا مِنْ دَيْنٍ قَدْ آدَنِي بَعْدَ غِنَاءٍ، جَدَعْنَا بِهِ أُنُوفَ الْحَاسِدِينَ، فَلَمْ أَجِدْ إِلا إِلَيْكَ مَهْرَبًا وَإِلا عَلَيْكَ مُعَوَّلا. فَقَالَ: مَرْحَبًا وَأَهْلا، إِنَّ الدَّهْرَ أَعَارَكُمْ غِنًى، وَخَلَطَكُمْ بِنَا، ثُمَّ اسْتَرَدَّ مَا أَمْكَنَهُ أَخْذَهُ، وَقَدْ أَبْقَى لَكُمْ مِنَّا مَا لا ضَيْعَةَ عَلَيْكُمْ بَعْدَ مَا بَقِيَتِ النِّعْمَةُ عَلَيْنَا، وَأَنَا رَافِعٌ يَدَيَ وَيَدَكَ بِيَدِ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: كَمْ أَعْطَاكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: سِتِّينَ أَلْفًا، فَأَمَرَ لَهُ بِمِثْلِهَا " حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُؤَمَّلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ: دَخَلَتْ لَيْلَى الأَخْيَلِيَّةُ عَلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، فَقَالَ لَهَا مَرْوَانُ: وَيْحَكِ يَا لَيْلَى أَكَانَ تَوْبَةُ كَمَا نَعَتِّ؟ قَالَتْ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ، وَاللَّهِ مَا قُلْتُ إِلا حَقًّا، وَلَقَدْ قَصَّرْتُ، وَمَا رَأَيْتُ رَجُلا قَطُّ كَانَ أَرْبَطَ جَأْشًا عَلَى الْمَوْتِ مِنْهُ، وَلا أَقَلَّ انْحِيَاشًا حِينَ تَحْتَدِمُ بَرَاكَاءُ الْحَرْبِ، ويَحْمَى الْوَطِيسُ وَتَهِرُّ الْكُمَاةُ أَقْرَانَهَا، كَانَ وَاللَّهِ كَمَا قُلْتُ: فتًى لَمْ يَزَلْ يَزْدَادُ خَيْرًا لَدُنْ نَشَا ... إِلَى أَنْ عَلاهُ الشَّيْبُ فَوْقَ الْمَسَائِحِ شُجَاعٌ إِذَا الْهَيْجَاءُ شَبَّتْ مُشَايِحٌ ... إِذَا حَادَ عَنْ أَقْرَانِهِ كُلُّ شَائِحِ تَرَاهُ إِذَا مَا الْمَوْتُ دَرَّ بِوَدْقِهِ ... ضَرُوبًا طَلَى أَقْرَانِهِ بِالْصَفَائِحِ فَعَادَ حَمِيدًا لا ذَمِيمًا فِعَالُهُ ... وَصُولا لِقُرْبَاهُ يُرَى غَيْرَ كَالِحِ فَقَالَ لَهَا مَرْوَانُ: يَا لَيْلَى كَيْفَ يَكُونُ تَوْبَةُ كَمَا تَقُولِينَ، وَكَانَ خَارِبًا؟ قَالَتْ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ، مَا كَانَ خَارِبًا وَلا لِلْمَوْتِ هَائِبًا، وَلَكِنَّهُ فَتًى كَانَتْ فِيهِ جَاهِلِيَّةٌ، وَلَوْ طَالَ عُمْرُهُ وَأَنْسَأَهُ الْمَوْتُ لارْعَوَى قَلْبُهُ، وَلَقَضَى مِنْ لَهْوٍ نَحْبَهُ، وَلَكِنَّهُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَمِّهِ سَلَمَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ:

لِلَّهِ قَوْمٌ غَادَرُوا ابْنَ حِمْيَرَ ... أَخَاهُمْ صَرِيعًا بِالسُّيُوفِ الْبَوَاتِرِ لَقَدْ غَادَرُوا حَزْمًا وَحِلْمًا وَنَائِلا ... وَصَبْرًا عَلَى الْيَوْمِ الْعَمَاسِ الْقُمَاطِرِ إِذَا هَابَ وِرْدَ الْمَوْتِ كُلُّ صَفَنْدَدٍ ... عَظَيِمُ الْحَوَايَا خَيْرُهُ غَيْرُ حَاضِرِ مَضَى قُدُمًا حَتَّى يُعَامِسَ حَمْيَهُ ... وَجَادَ بِسَيْبٍ فِي السِّنِينَ الْقَوَاسِرِ يَرَى الْجُودُ مَالا يَحْتَوِيهِ وَصَبْرُهُ ... عَلَى الْمَوْتِ حَقًّا فَاعْتَلَى كُلَّ فَاخِرِ فَقَالَ لَهَا مَرْوَانُ: أَبَى اللَّهُ يَا لَيْلَى إِلا مَا أَرَادَ، فَأَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ دَرْكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ هَلَكَ تَوْبَةُ، وَإِنْ كَانَ لَمِنْ فِتْيَانِ الْعَرَبِ وَسِبَاعِهِمْ، وَلَكِنَّهُ أَدْرَكَهُ الشَّقَاءُ فَهَلَكَ، وَهُوَ ذَمِيمُ الْفِعَالِ، وَتَرَكَ لِقَوْمِهِ عَدَاوَةً أُخْرَى اللَّيَالِي، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى أُنَاسٍ مِنْ بَنِي عَقِيلٍ، فَقَالَ لَهُمْ: وَاللَّهِ لَئِنْ بَلَغَنِي عَنْكُمْ أَمْرٌ أَكْرَهُهُ مَنْ أَجْلِ تَوْبَةَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ، عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ، فَإِيَّاكُمْ وَدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ، وَالتَّشَبُّهَ بِأَهْلِهَا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَاءَ بِالْإِسْلامِ، وَهَدَمَ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَإِنَّ تَوْبَةَ قُتِلَ، وَكَانَ لِلَّهِ عَدُوًّا خَارِبًا، لا يِأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ، فَالْحَمْدُ لِلِّهِ الَّذِي كَفَى الْمُسْلِمِينَ شَرَّهُ، ثُمَّ قَالَ: مَضَى لا حَمِيدًا يَرْتَجِيهِ صَدِيقُهُ ... وَلا خَائِفًا مِنْهُ الْعَدُوُّ الْمُحَارِبُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرُ: وَهَذا الْبَيْتُ لِابْنِ الْبَرْصَاءِ الْمُرِّيِّ، قَالَهُ لِأَحْمَرَ بْنِ سَالِمٍ الْمُرِّيِّ الَّذِي يَقُولُ: مُقِلٌّ رَأَى الْإِقَلالَ عَارًا فَلَمْ يَزَلْ ... يَجُوبُ بِلادَ اللَّهِ حَتَّى تَمَوَّلا إِذَا جَابَ أَرْضًا أَوْ ظَلامًا رَمَتْ بِهِ ... مَهامِهُ أُخْرَى عِيسُهُ مُتَقَلْقِلا وَلَمْ يُثْنِهِ عَمَّا أَرَادَ مَهَابَةً ... وَلَكِنْ مَضَى قُدُمًا وَمَا كَانَ مُسْبَلا فَلَمَّا أَفَادَ الْمَالَ جَادَ بِفَضْلِهِ ... لِمَنْ جَاءَهُ يَرْجُو جَدَاةً مُؤَمِّلا وَأَعْطَى جَزِيلا مَنْ أَرَادَ عَطَاءَهُ ... وَذُو الْبُخْلِ مَذْمُومًا يَرَى الْبُخْلَ أَفْضَلا كَئِيبًا فَمَا يُرْجَا بِخَيْرٍ وَلا يُرَى ... بِجُودٍ لِمَنْ يَرْجُو جَدَاهُ تَفَضُّلا فَشَتَّانَ ذُوُ الْبُخْلِ الذَّمِيمُ وَذُو النَّدَى ... إِذَا ذُكِرَا أَوْ نَازَعَا الْمَجْدَ مَحْفَلا يُقَالُ ذَمِيمٌ لَيْسَ يُرْجَا فُضُولُهُ ... قَطُوبٌ إِذَا مَا جِئْتَهُ مُتَوَسَّلِا بَدَاكَ بَلا وَالْبُخْلُ مِنْهُ سَجِيَّةٌ ... فَمَا يَسْتَطِيعُ الْجُودَ إِلا كَلا وَلا وَذُو الْجُودِ يُعْطِي ضَاحِكًا مُتَبَرِّعًا ... إِذَا جَاءَ أَمْسَى لِلتَّبَرُّعِ أَجْمَلا يَرَى الْحَقَّ بَذَلَ الْمَالِ وَالْجُودَ بِالنَّدَى ... إِذَا الْبَاخِلُ الْهَيَّابُ عَنْ ذَاكَ أَجْبَلا فَلِلَّهِ مَفْقُودٌ جَوَادٌ بِمَالِهِ ... لَقَدْ مَاتَ مَحْمُودَ الْفِعَالِ مُرَقَّلا فَلا زَالَ يُسْقَى مُسْتَهِلًّا سَحَابُهُ ... يَدَ الدَّهْرِ حَتَّى يَبْعَثَ اللَّهُ قُرْمُلا وَلا زَالَ مَذْكُورًا بِخَيْرٍ وَصَالِحٍ ... حَمِيدًا ثَنَاهُ مَجْدُهُ لَمْ يُحَلْحَلا وَلا زَالَ ذُو الْبُخْلِ الضَّنِينُ بِمَالِهِ ... ذَمِيمًا إِذَا سَامَ الرِّجَالُ مُذَلَّلا مَضَى وَبَقَى مَا كَانَ حَازَ لَوَارِثٍ ... فَأَعْطَى ذَوِي الأَرْحَامِ يَوْمًا وَأَفْضَلا فَقِيلَ جَزَى الرَّحْمَنُ خَيْرًا أَخَا النَّدَى ... وَلا زَالَ مَلْعُونًا أَخَا الْبُخْلِ مُتْبِلا

قَالَ: فَدَخَلَ الأَحْمَرُ بْنُ سَالِمِ الْمُرِّيُّ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَحْمَرُ كَيْفَ قُلْتَ: مُقِلٌّ رَأَى الْإِقَلالَ عَارًا فَلَمْ يَزَلْ ... يَجُوبُ بِلادَ اللَّهِ حَتَّى تَمَوَّلا فَأَنْشَدَهُ، فَأَصْغَى إِلَيْهِ مُطْرِقًا فَلَمَّا فَرَغَ، قَالَ لَهُ: حَاجَتُكَ؟ قَالَ: أَنْتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَعْلَى بِالْجَمِيلِ عَيْنًا، فَافْعَلَ مَا أَنْتَ أَهْلُهُ، فَإِنِّي لَمَا أَوْلَيْتَنِي غَيْرُ كَافِرٍ. فَأَمَرَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بِعَشَرَةِ آلافِ دِرْهَمٍ، وَأَلْحَقَهُ فِي الشَّرَفِ، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَهُوَ يَقُولُ: بِكَفِّ ابْنِ مَرْوَانٍ حَيِيتُ وَنَاشَنِي ... إِلَهِيَ مِنْ دَهْرٍ كَثِيرِ الْعَجَائِبِ فَأَدْرَكَنِي وَالرُّكْنُ مِنِّي مُضَعْضَعٌ ... وَقَدْ أَشْرَفَ الأَعْدَاءُ مِنْ كُلِّ جَانِبِ وَقَالُوا هُوَ الْمُرِّيُّ سَيِّدُ قَوْمِهِ ... عُرُوقٌ نَمَتْهُ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ فَقُلْتُ بِحَمْدِ اللَّهِ لا حَمْدِ غَيْرِهِ ... وَحَمْدِ ابْنِ مَرْوَانٍ نَجَوْتُ وَصَاحِبِي مِنَ اللَّيْثِ إِذْ نَحَّى إِلَيَّ بَنَانَهُ ... وَكَانَ أَلِيمًا أَخْذُهُ لِلْمَحَارِبِ فَأَفْلَتُّ مِنْهُ بَعْدَمَا قَدْ تَشَبَّثَ ... بِشِلْوِيَ مِنْهُ مُوجَدَاتِ الْمَخَالِبِ وَكَانَ ابْنُ مَرْوَانَ يَرْأَبُ الثَّأَى ... وَيُشْعِبُ مَا أَعْيَا بِهِ كُلُّ شَاعِبِ وَيُعْطِي الْمُنَى مَنْ جَاءَهُ مُتَنَصِّفًا ... وَفَوْقَ الْمُنَى وَرَغْبَةَ الْمُتَرَاغِبِ وَكَمْ لِابْنِ مَرْوَانٍ عَلَى النَّاسِ مِنْ يَدٍ إِذَا ذُكِرَتْ لَمْ تُخْزِهِ فِي الْمَحَاصِبِ تَدَارَكَ دِينَ اللَّهِ إِذْ هُدَّدَ رُكْنُهُ ... وَأَطْمَعَ فِيهِ كُلُّ نَكْسٍ وَجَانِبِ بِحَزْمٍ وَجِدٍّ لا يُجَارَى وَجِدَّةٍ ... وَصَبْرٍ عَلَى وَقْعِ السُّيُوفِ الْقَوَاضِبِ وَحِلْمٍ عَنِ الْجُهَّالِ إِذَا شَنَفُوا لَهُ ... وَسَارُوا بِجَمْعٍ مُطْلَخِمِّ الْكَتَائِبِ فَنَازلَهُمْ بِالسِّيفِ صَلْتًا وَنَاصِرٌ ... مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِغَائِبِ فَوَلَّى جُمُوعُ الْمُلْحِدِينَ وَأَدْبَرُوا ... كَمَا أَدْبَرَتْ مِلَ الأُسْدِ نُورُ الثَّعَالِبِ وَقَوَّمَ دَيْنَ اللَّهِ مَرْوَانُ وَابْنُهُ ... وَلَمْ يَرْجُمَا مَا جَمَّعُوا بِالتَّكَاذُبِ هُمَا صَدَقَا الأَعْدَاءَ فِي مُرْجَحِنَّةٍ ... تَوَلَّوا حَذَارَ الشَّرْمَحِيِّ الْضُبَاضِبِ الشَّرْمَحِيُّ مِنَ الرِّجَالِ: التَّامُّ الْجَمِيلُ الْكَرِيمُ. وَلَوْ وَقَفُوا صَارُوا حَدِيثًا لِخَلْفِهِمْ ... كَمَا حَدَّثَ الأَقُوَامُ عَنْ أَهْلِ مَأْرِبِ وَقَامَ لَنَا مِنْ بَعْدُ مَرْوَانُ وَابْنُهُ ... بِحَزْمٍ وَرَأْيٍ غَيْرِ هَدٍّ مُوَارِبِ فَدَوَّخَ مَنْ عَادَى الْإِلَهَ بِصَوْلَةٍ ... يُبَصْبِصُ مِنْهَا كُلُّ خِرْقٍ مُحَارِبِ فَلَمَّا أَنْشَدَ عَبْدَ الْمَلِكِ، قَالَ: أَحْسَنْتَ، وَيْحَكَ يَا ابْنَ سَالِمٍ هَلْ كُنْتَ هَيَّأْتَ شَيْئًا مِمَّا قُلْتَ قَبْلَ الْيَوْمِ؟ قَالَ: لا. قَالَ: وَيْحَكَ، فَقَدْ أَمْكَنَكَ الْقَوْلُ، فَلا تُكْثِرْ، وَقَلِيلٌ كَافٍ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ غَيْرِ شَافٍ. ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِخُلْعَةٍ، وَأَرْبَعَةِ آلافِ دِرْهَمٍ وَحَمَلَهُ. فَقَالَ: الْزَمْ بَابِي، وَإِيَّاكَ وَأَعْرَاضَ النَّاسِ، فَإِنِّي أَرَى لَكَ لِسَانًا لا يدَعُكَ حَتَّى يُوقِعَكَ فِي وَرْطَةٍ يَوْمًا، فَاحْذَرْ أَنْ يُورِدَكَ شِعْرُكَ مَوْرِدَ سُوءٍ يُصَيِّرُكَ تَحْتَ كَلْكَلِ هَزَبْرِ أَبِي شِبْلٍ يُضْغِمُكَ ضَغْمًا لا بَقِيَّةَ بِعْدَ ضَغْمِهِ فِيكَ. فَلَمْ يَلْبَثِ الأَحْمَرُ بْنُ سَالِمِ أنْ قَدِمَ الْعِرَاقَ فَهَجَا الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ، قَالَ فِي هِجَائِهِ لَهُ:

ثَقِيفٌ بَقَايَا مِنْ ثَمُودٍ وَمَالَهُمْ ... أَبٌ مَاجِدٌ مِنْ قَيْسِ عَيْلانَ يُنْسَبُ إِذَا انْتَسَبُوا فِي قَيْسِ عَيْلانَ كُذِّبُوا ... وَقَالُوا: ثَمُودٌ جَدُّكُمْ وَالْفَخَرْنَبُ هُمُ وَلَدُوكُمْ غَيْرَ شَكٍّ فَيَمِّمُوا ... بِلادَ ثَمْودٍ حَيْثُ كَانُوا وَأَعْذِبُوا وَأَنْتَ دَعِيٌّ يَا ابْنَ يُوسُفَ فِيهِمُ ... زَنِيمٌ إِذَا مَا حُصِّلُوا تَتَذَبْذَبُ فَطَلَبَهُ الْحَجَّاجُ، وَأَجْعَلَ فِيهِ وَتَقَدَّمَ إِلَى سَائِرِ عُمَّالِهِ أَنْ لا يُفْلِتْهُ، فَأَخَذَهُ صَاحِبُ هِيتَ، وَوَجَّهَ بِهِ مُقَيَّدًّا، فَلَمَّا أُدْخِلَ عَلَى الْحَجَّاجِ. قَالَ: مَا جَزَاؤُكَ عِنْدِي إِلا أَنْ أُعَذِّبَكَ بِمَا اخْتَارَهُ اللَّهُ لِأَعْدَائِهِ مِنْ أَلِيمِ عَذَابِهَ، فَأُحْرِقَ بِالنَّارِ. وَقَالَ الْحَجَّاجُ مَتَمَثِّلا بِقَوْلِ ابْنِ مَخْلاةَ الْكَلْبِيِّ يَهْجُو هَمَّامَ بْنَ قَبِيصَةَ النَّمِيرِيَّ، وَكَانَ هَمَّامٌ ضَرَبَهُ عَلَى وَجْهِهِ ضَرْبَةً شَتَرَ عَيْنَهُ، فَلَمْ يَزَلْ أَشْتَرَ حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ: بِمَا جَرَمَتْ كَفَّاكَ لاقَيْتَ مَا تَرَى ... فَلا يُبْعِدُ الرَّحْمَنُ غَيْرَكَ هَالِكَا غَمَصْتَ نَعِيمًا لَمْ تَكُنْ أَنْتَ أَهْلَهُ ... فَصَادَفْتَ لَيْلا مَوْجُهُ الرُّكْنُ تَامِكَا فَقَضْقَضَ رَكُنًا طَالَ مَا كَانَ آيِبًا ... وَأَصْبَحَ تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ سَوَامِكَا فَبُعْدًا لِمْنَ يُبْكِيكَ مَا هَبَّتَ الصَّبَا ... وَسُحْقًا فَقَدْ لاقَيْتَ لَيْثًا مُعَارِكَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرُ: وَكَانَ الأَحْمَرُ بْنُ سَالِمٍ وَالْعَلاءُ بْنُ عَتْوَارَةَ اللَّيْثِيُّ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَلَمَّا قُتِلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لَحِقَ الأَحَمْرُ بِبِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ، فَطَلَبَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَرَبِيِّ فَظَفَرَ بِهِ، فَبَعَثَ بِهِ إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَطَلَبَ إِلَيْهِ فِيهِ، فَأَمَّنَهُ، وَأَمَّا ابْنُ عَتْوَارَةَ فَقَتَلَهُ، بَعْدَ ذَلِكَ شَبِيبٌ الْحَرُورِيُّ مِعَ الْحَجَّاجِ، وَكَانَ ابْنُ عَتْوَارَةَ شُجَاعًا وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ: مَا أُبَالِي إِذَا لَبِسْتُ سِلاحِي ... وَرَكِبْتُ الْجَوَادَ مَا قُلْتُمَا لِي مَا سَئِمْتُ الْقِتَالَ مُذْ كُنْتُ غَرًّا ... يَافِعًا لَذَّتِي مَعَ الْجُهَّالِ أَحْسَبُ الْمَوْتُ شَرْبَةً مِنْ عُقَارٍ ... شُعْشِعَتْ لِي بِمَاءٍ عَذْبٍ زُلالِ فَانْقَضَتْ شِرَّتِي وَلاحَ بَيَاضٌ ... وَاضِحٌ عَمَّ مِفْرَقِي وَقَذَالِي وَتَجَنَّيْتُ بَعْدَ حُسْنِ قَوَامٍ ... بَعْدَما كُنْتُ رَائِعًا لِلرِّجَالِ رُبَّ قَرْنٍ رَأَيْتُهُ مُسْلَحِبًّا ... فَوْقَ عِرْنِينِهِ سِفَاهُ الشِّمَالِ مُجْلَعِبًّا حَشَوْتُهُ أَزْرَقِيًّا ... صَادِقًا وَقْعُهُ غَدَاةَ النِّزَالِ أَنْشَدَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ لِلَيْلَى الأَخْيَلِيَّةِ فِي قَتْلِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قُتِلَ ابْنُ عَفَّانَ الْإِمَامُ ... فَضَاعَ أَمْرُ الْمُسْلِمِينَا وَتَشَتَّتَ سُبُلُ الرَّشَادِ ... بِصَادِرِينَ وَوَارِدِينَا فَانْهَضْ مُعَاوِيَ نَهْضَةً ... تُشْفِي بِهَا الدَّاءَ الدَّفِينَا أَنْتَ الَّذِي مِنْ بَعْدِهِ ... تُدْعَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَا أَنْشَدَنِي عَمِّي لِحَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ فِي قَتْلِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَتَلْتُمْ وَلِيَّ اللَّهِ فِي جَوْفِ دَارِهِ ... وَجِئْتُمْ بِأَمْرٍ جَائِرٍ غَيْرِ مُهْتَدِي فَلا ظَفَرَتْ أَيْمَانُ قَوْمٍ تَظَاهَرَتْ ... عَلَى قَتْلِ عُثْمَانَ الرَّشِيدِ الْمُسَدَّدِ وَأَنْشَدَنِي أَيْضًا لِحَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ فِي قَتْلِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَكَفَّ يَدَيْهِ ثُمَّ أَغْلَقَ بَابَهُ ... وَأَيْقَنَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بَغَافِلِ

وَقَالَ لِأَهْلِ الدَّارِ أَلا تُقَاتِلُوا ... عَفَا اللَّهُ عَنْ كُلِّ امْرِئٍ لَمْ يُقَاتِلِ فَكَيْفَ رَأَيْتَ اللَّهَ أَلْقَى عَلَيْهِمُ العَدَاوَةَ ... وْالْبَغْضَاءَ بَعْدَ التَّوَاصُلِ وَكَيْفَ رَأَيْتَ الْخَيْرَ أَدْبَرَ بَعْدَهُ ... عَنِ النَّاسِ إِدْبَارَ النَّعَامِ الْجَوَافلِ سَمِعْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ، يَقُولُ: " قِيلَ لِبْعَضِ السَّلَفِ: أَتَرْجُو الأَجْرَ فِيمَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَرَأَيْتَ لَوْ فَعَلْتَ شَيْئًا وَهُوَ حَرَامٌ، أَكُنْتَ تَخَافُ الْإِثْمَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَارْجُ الَأَجْرَ فِيمَا أُحِلَّ لَكَ، كَمَا تَخَافُ الْإِثِمْ فِيمَا حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكَ ". حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ الْوَاقِدِيَّ، يَقُولُ: " كَانَ أَبُو شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيُّ مِنْ عُقَلاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَكَانَ، يَقُولُ: إِذَا رَأَيْتُمُونِي أَبْلغُ بِمْنَ أَنْكَحْتُهُ أَوْ نَكَحْتُ إِلَيْهِ السُّلْطَانَ فَاعْلَمُوا أَنِّي مَجْنُونٌ فَاكْوُونِي، وَإِذَا رَأَيْتُمُونِي أَمْنَعُ جَارِي أَنْ يَضَعَ خَشَبَةً فِي حَائِطِي فَاعْلَمُوا أَنِّي مَجْنُونٌ فَاكْوُونِي، وَمَنْ وَجَدَ لِأَبِي شُرَيْحٍ سَمْنًا أَوْ لَبَنًا أَوْ جِدَايَةً فَهُوَ لَهُ حِلٌّ فَلْيَأْكُلْهُ وَلْيَشْرَبْهُ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَكَانَ لَهُ مَالٌ بِالْمَدِينَةِ فِيهِ مَا ذَكَرَ فَكَانَ النَّاسُ يَرْعَوْنَ فِيهِ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عَيَّاشٍ السَّعْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو وَجْزَةَ، قَالَ: " لَقِيتُ النَّسَّابَةَ الْبَكْرِيَّ بِمِنًى، فَسَأَلْتُهُ فَإِذَا هُوَ أَعْلَمُ النَّاسِ، فَقُلْتُ لَهُ: أَيُّ الشُّعَرَاءِ أَغْزَلُ؟ قَالَ: أَصْدَقُهُمْ وَجْدًا، الَّذِي إِذَا سَمِعْتُ شِعْرَهُ أَوَيْتَ لِقَائِلِهِ، أَمَا يَقِفُ فِي سَمْعِكَ قَوْلُ حُجَازِيِّكُمْ عَمْرِو بْنِ عَجْلانَ، وَاسْتَخَفَّهُ مَرَّةً الْوَجْدُ فَهَرَبَ، فَوَقَعَ فِي أَرْضِ بَنِي فَزَارَةَ، فَقَالَ: بَكَى فَبَكَتْ لَهُ أَجْبَالُ صُبْحٍ ... وَأَسْعَدَتِ الْجِبَالُ بِهَا مَرُوتُ حِجَازِيُّ الْهَوَى عَلِقٌ بِنَجْدٍ ... ضَمِينٌ مَا يَعِيشُ وَلا يَمُوتُ فَتَرْدَعُهُ الدَّبُورُ لَهَا أَحِيجٌ ... وَيُسْلِمُهُ إِلَى الْوَجْدِ الْمَبِيتُ كَأَنَ فُؤَادَهُ كَفَّا طَرِيدٍ ... كَأَنَّهُمَا بِشَاطِي الْبَحْرِ حُوتُ لِهِنْدٍ مِنْكَ عَيْنٌ ذَاتَ سَجْلٍ ... وَقَلْبٌ سَوْفَ يَأْلَمُ أَوْ يَفُوتُ إِذَا اكْتَنَفَا بِضِرِّهِمَا سَقِيمًا ... يُعَادِي الدَّاءُ لَيْسَ لَهُ مُقِيتُ وَأَنْشَدَنِي لِلْمُقَنَّعِ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ أَبِي شِمْرَ الْكِنْدِيُّ: وَلا أَحْمِلُ الْحِقْدَ الَقَدِيمَ عَلَيْهِمُ ... وَلَيْسَ رَئِيسُ الْقَوْمِ مَنْ يَحْمِلُ الْحِقْدَا وَلَيْسُوا إِلَى نَصْرِي سِرَاعًا وَإِنْ هُمُ ... دَعَوْنِي إِلَى نَصْرٍ أَتَيْتُهُمُ شَدًّا إِذَا أَكَلُوا لَحْمِي وَفَرْتُ لَحُومَهُمْ ... وَإِنْ هَدَمُوا مَجْدِي بَنَيْتُ لَهُمْ مَجْدَا يُعَيِّرُنِي بِالدَّيْنِ قَوْمِي وَإِنَّمَا ... دُيُونِيَ فِي أَشْيَاءَ تُكْسِبُهُمْ حَمْدَا وَكَانَ مِنْ أَجْمَلِ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَأَحسَنِهُمْ وَجْهًا، وَأَتَمِّهِمْ قَامَةً، فَكَانَ إِذَا كَشَفَ وَجْهَهُ لُطِمَ، فَكَانَ مُقَنَّعًا دَهْرَهُ، فَسُمِّيَ بِذَلِكَ الْمُقَنَّعُ. ثَلاثٌ مِنَ الْجَنَّةِ: الْمُصِيبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْمَرَضُ. وَقَالَ: لَيْسَ الْحَلِيمُ مَنْ ظُلِمَ فَحَلِمَ، وَصَبَرَ حَتَّى إِذَا قَدَرَ انْتَقَمَ، وَلَكِنْ مِنْ ظُلِمَ فَحَلِمَ حَتَّى إِذَا قَدِرَ عَفا.

«لا يبعدن ابن هند إن كانت فيه لمخارج لا تجدها في أحد بعده، والله إن كنا لنفرقه فيتفارق

وَقَالَ: صُنْ عَقْلَكَ بِالْحِلْمِ، وَمُرُوءَتَكَ بِالْعَفَافِ، وَنَجْدَتَكَ بِمُجَانَبَةِ الْخُيَلاءِ، وَوَجْهَكَ بِالْإِجْمَالِ فِي الطَّلَبِ. وَقَالَ: مَا حُصِّنَتِ النِّعَمُ بِمِثْلِ الْمُشَاوَرَةِ، وَلا اكْتُسِبَتِ الْبَغْضَاءُ بِمِثْلِ الْكِبْرِ. أَرَى لَكَ أَخْلاقًا حِسَانًا قَبِيحَةً ... فَأَنْتَ يَقِينًا مِثْلُ مَا أَنَا وَاصِفُ سَخِيٌّ بَخِيلٌ أَحْمَقٌ مُتَظَرِّفٌ ... جَبَانٌ شُجَاعٌ مُسْتَقِيمٌ مُخَالِفُ كَذَلِكَ إِنِّي عَالِمٌ بِكَ جَاهِلٌ ... كَمَا أَنَّ قَلْبِي مُنْكِرٌ لَكَ عَارِفُ تَلَوَّنْتَ حَتَّى لَسْتُ أَدْرِي مِنَ الْعَمَى ... أَرِيحُ سُكُونٍ أَنْتَ أَمْ أَنْتَ عَاصِفُ؟ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْعَزِيزِ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَطَعْتُكَ فِي أَحَبِّ الأَشْيَاءِ إِلَيْكَ، وَهُوَ التَّوْحِيدُ، وَلَمْ أَعْصِكَ فِي أَبْغَضِ الأَشْيَاءِ إِلَيْكَ وَهُوَ الْكُفْرُ، فَاغْفِرْ لِي مَا بَيْنَهُمَا 336 - حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ صَالِحِ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَدِّي، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوةَ، قَالَ: " صَلَّى بِنَا يَوْمًا مِنَ الأَيْامِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَوَجِمَ بَعْدَ الصَّلاةِ سَاعَةً. فَقَالَ النَّاسُ: لَقَدْ حَدَّثَ نَفْسَهُ. ثُمَّ الْتَفْتَ إِلَيْنَا، فَقَالَ: «لا يَبْعُدَنَّ ابْنُ هِنْدٍ إِنْ كَانَتْ فِيهِ لَمَخَارِجُ لا تَجِدُهَا فِي أَحَدٍ بَعْدَهُ، وَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَنُفَرِّقُهُ فَيَتَفَارَقُ لَنَا، وَمَا اللَّيْثُ الْحَرُبُ عَلَى بَرَاثِنِهِ، بِأَجْرَأَ مِنْهُ، وَإِنْ كُنَّا لَنَخْدَعُهُ وَمَا ابْنُ لَيْلَةَ مِنْ أَهْلِ الأَرْضٍ بِأَدْهَى مِنْهُ، فَيَتَخَادَعَ لَنَا، وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّا مُتِّعْنَا بِهِ مَا دَامَ فِي هَذَا الْجَبَلِ حَجَرٌ، وَأَشَارَ إِلَى أَبِي قُبَيْسٍ، لا يَتَخَوَّنُ لَهُ عَقْلٌ، وَلا تَنْقُصُ لَهُ مَرَّةٌ، فَقُلْنَا أَوْحَشَ وَاللَّهِ الرَّجُلُ» حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَدِّي عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، أَنَّهُ كَانَ يَصِلُ بِهَذَا: كَانَ وَاللَّهِ كَمَا قَالَ بَطْحَاءُ، وَبَطْحَاءُ رَجُلٌ مِنْ عُذْرَةَ كَانَ مَدَحَ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: رَكُوبُ الْمَنَابِرِ وَثَّابُهَا ... مُعِنٌّ بِخُطْبَتِهِ مُجْهِرُ تَرِيعُ إِلَيْهِ فُصُوصُ الْكَلامِ ... إِذَا خَطَلَ النَّثْرَ الْمُهْمَرُ ثُمَّ يَقُولُ: كَانَ وَاللَّهِ كَمَا قَالَتْ رُقَيْقَةُ، وَكَانَتِ امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ، وَأُمُّهَا بِنْتُ أَسَدِ عَبْدِ الْعُزَّى أَوْ بِنْتُ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ: أَلا أُبْكِيهِ أَلا أُبْكِيهِ ... أَلا كُلُّ الْفَتَى فِيهِ حَدَّثَنِي أَبُو ضَمْرَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: " لَقَدْ رَأَيْتُ مَشْيَخَةً بِالْمَدِينَةِ، وَإِنَّ عَلَيْهِمُ الْغَدَائِرَ وَإِنَّ عَلَيْهِمِ الْمُمَصَّرَ وَالْمُوَرَّدَ، وَفِي أَيْدِيهِمُ الْمَخَاصِرُ، وَفِي أَيْدِيهِمْ أَثَرُ الْحِنَّاءِ فِي هَيْئَةِ الْفِتْيَانِ وَدِينُ أَحَدِهِمْ أَبْعَدُ مِنَ الثُّرَيَّا إِنْ أُرِيدَ عَلَى دِينِهِ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي هُبَيْرَةُ بْنُ مُرَّةَ الْقُشَيْرِيُّ، قَالَ: " كَانَ لِي غُلامٌ يَسُوقُ نَاطِحًا لِي، فَكَانَ يَرْطُنُ بِالزِّنْجِيَّةِ بِشَيْءٍ شِبِهِ الشِّعْرِ وَلا أَعْرِفُهُ، فَجَاءَنَا رَاعٍ يَتَفَصَّحُ. فَقُلْتُ لَهُ: تَرْوِي مَا يَقُولُ هَذَا، وَأَخْبَرَنَا بِهِ. قَالَ: فَإِنَهُ يَقُولُ: فَقُلْتُ لَهَا إِنِّي اهْتَدَيْتُ لِفِتْيَةٍ ... أَنَاخَوا بِعَجْعَاجٍ قَلائِصَ سُهَّمَا فَقَالَتْ كَذَاكَ الْعَاشِقُونَ وَمَنْ يَخَفْ ... عُيُونَ الأَعَادِي يَجْعَلِ اللَّيْلَ سُلَّمَا

أَنْشَدَنِي عَمِّي مُصْعَبٌ لعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبٍ: قَالَ عُثْمَانُ زُرْ حَبَابَةَ بِالْعَرْصَةِ ... تُحَدِّثْ تَحِيَّةً وَسَلامَا قُلْتُ زُرْهَا وَائْتِ أُمَّ عَدِيٍّ ... تَرْتَدِي لَيْلَةً إِلَيْنَا الظَّلامَا ثُمَّ نَلْهُوا إِلَى الصَّبَاحِ وَلا نَقْرَبُ ... فِي اللَّهْوِ وَالْحَدِيثِ حَرَامَا وَصفُوهَا فَلَمْ أَزِلْ عَلِمَ اللَّهُ ... إِلَيْهَا مُسْتَوْلِهًا مُسْتَهَامَا هَلْ عَلَيْهَا فِي نَظْرَةٍ مِنْ جُنَاحٍ ... مِنْ فَتًى لا يَزُورُ إِلا لِمَامَا حَالَ فِيهَا الْإِسْلامُ دُونَ هَوَاهُ ... فَهُوَ هَوِيٌّ وَيَرْقَبُ الْإِسْلامَا وَيَمِيلُ الْهَوَى بِهِ ثُمَّ يَخْشَى ... أَنْ يُطِيعَ الْهَوَى فَيَلْقَى أَثَامَا أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُؤَمَّلِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ: قَالَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ: " زَعَمَوا أَنَّهُ لا يَصْفُوا لِأَحَدٍ عَيْشٌ يَوْمًا. ثُمَّ قَالَ: لا تُخْبِرُونِي غَدًا بِشَيْءٍ. وَجَلَسَ مَعَ حَبَّابَةَ، فَأَكَلا ثُمَّ أَكَلَتْ حَبَّابَةُ رُمَّانًا فَشَرِقَتْ بِحَبَّةٍ فَمَاتَتْ. فَمَكَثَتْ ثَلاثًا لا تُدْفَنُ، ثُمَّ غُسِّلَتْ وَأُخْرِجَتْ، فَمَرَّ يَزِيدُ فِي جَنَازَتِهَا فَلَمَّا دُفِنَتْ، قَالَ: فَإِنْ تَسَلْ عَنْكِ النَّفْسُ أَوْ تَدَعَ الصِّبَا ... فَبِالْيَأْسِ يَسْلُو عَنْكِ لا بِالتَّجَلُّدِ وَكُلُّ حَمِيمٍ رَاءَنِي فَهْوَ قَائِلٌ ... مِنْ أَجْلِكِ: هَذَا هَامَةُ الْيَوْمِ أَوْ غَدِ أَنْشَدَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَالِمٍ لِيَزِيدَ بْنِ مَارِيَةَ، مَوْلَى الأَنْصَارِ: وَرَأَتْ عُثَيْمَةُ أَنَّنِي مُتَبَذِّلٌ ... نَشْوَانُ قَدْ أَهْلَكْتُ مَالِيَ أَجْمَعُ فَتَجَهَّمَتْنِي ثُمَّ كَانَ جَوَابُهَا ... ارْجِعْ بِغَيْظِكَ لَيْسَ فِيهَا مَطْمَعُ إِنَّا قَدِ أطْرَفْنَا سِوَاكَ مُحَدِّثًا ... سَمْحًا، سَجِيَّتُهُ مَرِيٌّ مرْتَعُ قَدْ طَالَ مَا مَنَّيْتَنَا وَخَدَعْتَنَا ... فَاذْهَبْ بِشِعْرِكَ فَابْتَغِ مَنْ تَخْدَعُ حَتَّى مَتَى تَهْذِي بِشِعْرِكَ عِنْدَنَا ... قَدْ مَلَّ سَمْعِي لَيْتَ شِعْرُكَ يَنْفَعُ تَأْتِي فَتُخْبِرُنَا بِأَنَّكَ شَاعِرٌ ... وَالشِّعْرُ لَيْسَ بِنَافِعٍ لِلْجُوَّعِ اجْعَلْ مَكَانَ قَصَيْدَةٍ هَيَّأْتَهَا ... لِلْقَوْمِ أَقْرَنَ ذَا قَوَائِمَ أَرْبَعُ أَمَّا الْإِهَابُ فَقِرْبَةٌ تَسْقِيهِمُ ... وَاللَّحْمُ يُجْعَلُ لِلْقَدِيدِ وَيُخْلَعُ وَالشَّحْمُ تَحْمِلُهُ جَمِيعًا كُلَّهُ ... فَيَكُونُ لِلْمِصْبَاحِ شَهْرًا يَنْفَعُ وَالرَّأْسُ فِي كَرْشٍ فَيُصْبِحُ عِنْدَنَا ... فَهُنَاكُ يُرْوَى مَا تَقُولُ وَيُسْمَعُ وَالصُّوفُ يُجْعَلُ فِي الْوَسَائِدِ نَافِعٌ ... وَتَرَى الأَكَارِعِ فِي الْحَشِيشِ تُزَلَّعُ وَالقَرْنُ تَجْعَلُهُ نِصَابًا جَيَّدًا ... فَإِذَا الَّذِي أَهْدَيْتَ كلٌّ يَنْفَعُ أَكْثِرْ لَهُنَّ مِنَ الدَّقِيقِ وَزَيْتِهِ ... وَالتَّمْرُ أَوْصَفُ بِالْعِيَالِ وَأَشْبَعُ فَتَكُونَ فِينَا سَيِّدًا مَا زُرْتَنَا ... وَتَرَى عُثَيْمَةَ عِنْدَ قَوْلِكَ تَقْنَعُ حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي قُدَامَةُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْجُمَحِيُّ، قَالَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْجُمَحِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: " حَضَرَتْ رَجُلا مِنْ رَبِيعَةَ الْوَفَاةُ، فَقَالَ لابْنِهِ: يَا بُنَيَّ، إِذَا حَزَبَكَ أَمْرٌ فَاحْكُكْ رُكْبَتَيْكَ بِرُكْبَةِ مَنْ هُوَ أَسَنُّ مِنْكَ ثُمَّ اسْتَشِرْهُ.

قَالَ: فَمَاتَ أَبِي، فَأَرَدْتُ التَّزْوِيجَ، فَجِئْتُ شَيْخًا مِنْ قَوْمِي، فَجَلَسْتُ فِي نَادِيهِ، فَلَمَّا قَامَ مَنْ عِنْدَهُ، قَالَ: أَلَكَ حَاجَةٌ يَابْنَ أَخِي؟ قُلْتُ: نَعَمْ يَا عَمُّ، إِنِّي أَرَدْتُ التَّزْوِيجَ. قَالَ: أَطَوِيلَةُ النَّسَبِ أَمْ قَصِيرَتُهُ؟ قُلْتُ: فَوَاللَّهِ مَا اخْتَرْتُ وَلا أَدَّبْتُ. فَقَالَ: إِنِّي أَعْرِفُ فِي الْعَيْنِ إِذَا عَرَفْتَ، وَأَعْرِفُ فِي الْعَيْنِ إِذَا أَنْكَرْتَ، وَأَعْرِفُ فِي الْعَيْنِ إِذَا لَمْ تَعْرِفْ، وَلَمْ تُنْكِرْ. فَأَمَّا إِذَا عَرَفْتَ فَإِنَّهَا تُحَاوِصُ لِلْمَعْرِفَةِ، وَأَمَّا إِذَا أَنْكَرْتَ فَإِنَّهَا تَجْحَظُ لِلنُّكْرَةِ، وَإِذَا لَمْ تَعْرِفْ وَلَمْ تُنْكِرْ فَإِنَّهَا تَسْجُوا سَجْوًا. يَا ابْنَ أَخِي إِيَّاكَ أَنْ تَزَوَّجَ إِلَى قَوْمٍ أَهْلِ دَنَاءَةٍ، أَصَابُوا مِنَ الدُّنْيَا غَثَرَةً، فَتُشْرِكُهُمُ فِي دَنَاءَتِهِمْ، وَيَسْتَأْثِرُونَ عَلَيْكَ بِدُنْيَاهُمْ. فَقُمْتُ وَقَدِ اكْتَفَيْتُ سَمِعْتُ عَمِّي مُصْعَبًا، يَقُولُ: قَالَ مَالِكُ بْنُ أَسْمَاءَ لِهِنْدٍ: " أَعْطِنِي صَفْةَ مُسُوحِكِ. قَالَتْ: لا أُعْطِيكَهُ تُعَلِّمُهُ جَوَارِيَكَ وَلا حَيَاءَ لَهُنَّ، فَأَلَحَّ عَلَيْهَا. فَقَالَتْ: مَا أَخَذْتُهُ إِلا مِنْ شِعْرِكَ، حَيْثُ تَقُولُ: أَطْيَبُ الطِّيبِ طِيبُ أُمُّ أَبَانٍ ... فَأرُ مِسْكٍ بِزَنْبَقٍ مَفْتُوقُ خَلَّطَتْهُ بِعَنْبَرٍ وَبِنَدٍّ ... فَهُوَ أَحْوَى عَلَى الْيَدَيْنِ شَرِيفُ قَالَ لِي عَمِّي: وَهِيَ مُسُوحُ أُمِّكَ أَخْبَرَنِي ثَابِتُ بْنُ الزُّبَيْرِ بْنِ هَاشِمٍ، قَالَ: " قَدِمَ الْمَأْمُونُ مِنْ خُرَاسَانَ مَعَهُ بِشَاعِرٍ، فَلَقِيَهُ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ: مَنْ أَشْعَرُ أَنَا أَوْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنْتَ أَشْعَرُ وَأَوْلَى بِالتَّقْدِمَةِ، وَوَقَّرَهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ: كَمْ تَقُولُ فِي اللَّيْلَةِ مِنْ بَيْتٍ؟ قَالَ: رُبَّمَا أَقَمْتُ عَلَى الْقَصِيدَةِ لا تَكُونُ ثَلاثِينَ بَيْتًا شَهْرًا. قَالَ: فَأَنَا أَشْعَرُ مِنْكَ، رُبَّمَا دَعَوْتُ الْجَارِيَةَ، فَأَمْلَيْتُ عَلَيْهَا خَمْسَ مِائَةِ بَيْتٍ. قَالَ: فَحَمِيَ الْخُرَاسَانِيُّ، وَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَرْضَى مِثْلَ شِعْرِكَ لَقُلْتُ فِي لَيْلَةٍ خَمْسَةَ آلافِ بَيْتٍ. قَالَ: مِثْلُ أَيُّ شِعْرٍ؟ قَالَ: مِثْلُ قَوْلِكَ: أَلا يَا عُتْبَةُ السَّاعَهْ ... أَمُوتُ السَّاعَةَ السَّاعَهْ قَالَ: فَاسْتَضْحَكَ الْقَوْمُ مِنْهُ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَخْزُومِيُّ، قَالَ: " حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ إِخْوَانِي مِنَ الزُّهَّادِ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَجُلٍ مِنَ الْعُبَّادِ، يُقَالُ لَهُ: دَهْثَمٌ، وَالأَرْضُ تَكَادُ تَخْشَعُ لِخُشُوعِهِ، فَإِذَا نَحْنُ بِرَجُلٍ يَضْرِبُ عَبْدًا لَهُ بِسَوْطٍ، فَوَعَظَهُ دَهْثَمٌ، فَقَلَبَ السَّوْطَ، فَوَضَعَهُ بَيْنَ أُذُنَيْهِ، فَأَسْرَعْنَا وَنَحْنُ نُرِيدُ أَنْ نَبْلُغَ مِنْهُ. فَقَالَ لَنَا دَهْثَمٌ: مَهْلا فَإِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ رَضِيَ وَصِيَّةَ عَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ حَيْثُ قَالَ: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ {17} } [لقمان: 17] ، فَقَدْ أَمَرَنَا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ، فَدَعُونِي أَصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَنِي

حَدَّثَتْنِي ظَبْيَةُ مَوْلاةُ فَاطِمَةَ بَنْتِ عُمَرَ بْنِ مُصْعَبٍ، قَالَتْ: " خَرَجْتُ أَنَا وَدَهْيَةُ مَوْلاةُ مُحَمَّدِ بْنِ مُصْعَبٍ إِلَى مَسْجِدِ الْفَتْحِ، فَوَجَدْنَا فِيهِ ابْنَ جُنْدُبٍ قَدْ صَلَّى فِيهِ ثُمَّ خَرَجَ، فَقُلْتُ لَهُ: أَيْ عَمُّ. فَقَالَ: وَإِذَا دَعَوْنَكَ عَمَّهُنَّ فَإِنَّهُ ... نَسَبٌ يَزِيدُكَ عِنْدَهُنَّ خَبَالا قَالَتْ: وَأَطْلَعْتُ لَهُ يَدِي، وَقُلْتُ لَهُ: هَذَا الَّذِي قُلْتُ: يَمْشِي إِلَى مَسْجِدِ الأَحْزَابِ مُخْتَضِبَا فَقَالَتْ لِي صَاحِبَتِي: أَطْمَعْتِهِ فِي الدُّنْيَا وَاللَّهِ فِينَا. قُلْتُ لَهَا: إِنَّمَا يُطْمَعُ فِي أَهْلِ الشَّرِّ. قَالَتْ: فَصَلَّيْنَا ثُمَّ خَرَجْنَا، فَوَجَدْنَاهُ قَدْ عَرَّضَ يَدَيْهِ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ: أَيُّ مَنْ يَجْمَعُ الْمَوَاسِمَ أَنْتُم ... حَدِّثِينَا حَقًّا وَلا تَكْذِبِينَا قَالَتْ: قُلْتُ لَهُ: نَحْنُ مِنْ سَاكِنِي الْعِرَاقِ وَكُنَّا ... قَبْلَهَا قَاطِنِينَ مَكَّةَ حِينَا قَالَ: أَلا تَجْلِسْنَ تُحَدِّثْنَ وَنُحَدْثُكُنَّ، كَمَا قَالَ: رَطْبُ السُّؤَالِ لَهُ نَعْلانِ مِنْ بَقَرٍ ... حُلْوُ الْمُزَاحَةِ مَعْسُولُ الأَمَاثِيلَ قَالَتْ: فَأَبَيْنَا فَذَهَبْنَا حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيُّ، قَالَ: لَمَّا كَانَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ اسْتَشَارَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زَيْدٍ الْحَكَمِيَّ فِي الْمَسِيرِ إِلَى الْعِرَاقِ، وَمُنَاجَزَةِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ وَالَيْتَ بَيْنَ عَامَيْنِ تَغْزُوهُمَا، وَقَدْ خَسِرتَ خَيْلَكَ وَرِجَالَكَ، وَعَامُكَ هَذَا عَامُ جَدْبٍ، فَأَرِحْ نَفْسَكَ وَجَسَدَكَ، ثُمَّ تَرَى رَأْيَكَ. قَالَ: إِنِّي أُبَادِرُ ثَلاثَةَ أَشْيَاءَ: الشَّامُ أَرْضٌ الْمَالُ بِهَا قَلِيلٌ، وَأَخَافُ أَنْ يَنْفِدَ مَا مَعِي، وَأَشْرَافُ أَهْلِ الْعِرَاقِ قَدْ كَتَبُوا إِلَيَّ يَدْعُونَنِي إِلَى أَنْفُسِهِمْ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ كَلا وَلا. وَثَلاثَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ كَبُرُوا، وَنَفِدَتْ أَعْمَارُهُمْ، فَأَنَا أُبَادِرُ بِهِمِ الْمَوْتَ، أُحِبُّ أَنْ يَحْضُروا مَعِي. ثُمَّ دَعَا يَحْيَى بْنَ الْحَكَمِ، وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ أَرَادَ أَمْرًا فَلْيُشَاوِرْ يَحْيَى، فَإِذَا أَشَارَ عَلَيْهِ بِأَمْرٍ فَلْيَعْمَلْ بِخِلافِهِ. فَقَالَ: يَا يَحْيَى، مَا تَرَى فِي الْمَسِيرِ إِلَى الْعِرَاقِ؟ قَالَ: أَرَى أنْ تَرْضَى بِالشَّامِ، وَتُقُيمَ بِهَا، وَتَدَعَ مُصْعَبًا وَالْعِرَاقَ، فَلَعَنَ اللَّهُ الْعِرَاقَ. فَضَحِكَ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَدَعَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ فَشَاوَرَهُ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ غَزَوْتَ مَرَّةً فَنَصَرَكَ اللَّهُ، ثُمَّ غَزَوْتَ الثَّانِيَةَ فَزَادَكَ اللَّهُ عِزًّا، فَأَقِمْ عَامَكَ هَذَا. فَقَالَ لِمُحَمِّدِ بْنِ مَرْوَانَ: مَا تَرَى؟ قَالَ: أَرْجُو أَنْ يَنْصُرَكَ اللَّهُ، أَقَمْتَ أَمْ غَزَوْتَ، فَاغْزُ عَدُوَّكَ وَشَمِّرْ، فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُكَ. فَأَمَرَ النَّاسَ، فَاسْتَعَدُّوا لِلْمَسِيرِ، فَلَمَّا أَجْمَعَ قَالَتْ عَاتِكَةُ بِنْتُ يَزِيدَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَجِّهِ الْجُنُودَ، وَأَقِمْ فَلَيْسَ مِنَ الرَّأْي أنْ يُبَاشِرَ الْخَلِيفَةُ الْحَرْبَ بِنَفْسِهِ، قَالَ: لَوْ وَجَّهْتُ أَهْلَ الشَّامِ كُلَّهُمْ، فَعَلِمَ مُصْعَبٌ أَنِّي لَسْتُ مَعَهُمْ، لَهَلَكَ الْجَيْشُ كُلُّهُ، وَتَمَثَّلَ: وَمُسْتَخْبِرٌ عَنَّا يُرِيدُ بِنَا الرَّدَى ... وَمُسْتَخْبِرَاتٌ وَالْعُيونُ سَوَاكِبُ

قَالَ: فَقَدَّمَ مُحَمَّدَ بْنَ مَرْوَانَ، وَمَعَهُ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ، وَبِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ، وَنَادَى مُنَادٍ، إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدِ اسْتَعْمَلَ عَلَيْكُمْ سَيِّدَ النَّاسِ مُحَمَّدَ بْنَ مَرْوَانَ، وَبَلَغَ مُصْعَبَ بْنَ الزُّبَيْرِ مَسِيرُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَأَرَادَ الْخُرُوجَ، فَأَبَى عَلَيْهِ أَهْلُ الْبَصْرَةِ، وَقَالُوا: عَدُوُّنَا مُطِلٌّ عَلَيْنَا، يَعْنُونَ الْخَوَارِجَ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْمُهَلَّبِ وَهُوَ بِالْمَوْصِلِ، عَامِلُهُ عَلَيْهَا، فَوَلاهُ قِتَالَ الْخَوَارِجِ، وَخَرَجَ مُصْعَبٌ، فَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ، وَكَانَ مُصْعَبٌ يَخْرُجُ إِلَى باجُمَيْرَا يُرِيدُ الشَّامَ ثُمَّ يَرْجِعُ، وَأَوَّلُهَا: أَبَيْتَ يَا مُصْعَبُ إِلا سَيْرا أَكُلَّ عَامٍ لَكَ بَاجُمَيْرَا ... تَغْزُو بِنَا وَلا تُفِيدُ خَيْرَا فَأَقْبَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ حَتَّى نَزَلَ الأَخْنَوْنِيَّةَ، وَنَزَلَ مُصْعَبٌ بِمَسْكِنَ إِلَى جَنْبِ أَوَانَا، وَخَنْدَقَ خَنْدَقًا، ثُمَّ تَحَوَّلَ، وَنَزَلَ دَيْرَ الْجَاثَلِيقِ، وَهُوَ بِمَسْكِنَ، وَبَيْنَ الْعَسْكَرَيْنِ ثَلاثَةُ فَرَاسِخَ، وَيُقَالُ: فَرْسَخَانِ. فَقَدَّمَ عَبْدُ الْمَلِكِ مُحَمَّدَ بْنَ مَرْوَانَ، وبِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى جُنْدٍ، وَالأَمِيرُ مُحَمَّدٌ. وَوَجَّهَ مُصْعَبٌ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الأَشْتَرِ. وَكَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى أَشْرَافِ أَهْلِ الْعِرَاقِ يَدْعُوهُمْ إِلَى نَفْسِهِ، وَيُمَنِّيهِمْ، فَأَجَابُوهُ وَاشْتَرَطُوا عَلَيْهِ شُرُوطًا، وَسَأْلُوهُ وِلايَاتٍ، وَسَأَلَهُ أَرْبَعُونَ رَجُلا مِنْهُمْ أَصْبَهَانَ. فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: مَا أَصْبَهَانُ هَذِهِ؟ تَعَجُّبًا مِنْ كَثْرَةِ مَنْ يَطْلُبُهَا. وَكَتَبَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ الأَشْتَرِ: لَكَ وَلايَةُ مَا سَقَى الْفُرَاتُ إِنْ بَايَعْتَنِي، فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بِالْكِتَابِ إِلَى مُصْعَبٍ، فَقَالَ: هَذَا كِتَابُ عَبْدِ الْمَلِكِ إِلَيَّ، وَلَمْ يَخُصَّنِي بِهَذَا دُونَ غَيْرِي مِنْ نُظَرَائِي، فَأَطِعْنِي فِيهِمْ. قَالَ: أَصْنَعُ مَاذَا؟ قَالَ: تَدْعُو بِهِمْ فَتَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ. قَالَ: أَقْتُلُهُمْ عَلَى ظَنٍّ ظَنَنْتُهُ؟ قَالَ: فَأَوْقِرْهُمْ حَدِيدًا، وَابْعَثْ بِهِمْ إِلَى أَبْيَضِ الْمَدَائِنِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْحَرْبُ. قَالَ: إِذًا تَفْسَدُ قُلُوبُ عَشَائِرِهِمْ، وَيَقُولُ النَّاسُ: عَبَثَ مُصْعَبٌ بِأَصْحَابِهِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ وَاحِدَةً مِنْ هَاتَيْنِ، فَلا تَمُدَّنِي بِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَالْمُومِسَةِ تُرِيدُ كُلَّ يَوْمٍ خَلِيلا، وَهُمْ يُرِيدُونَ كُلَّ يَوْمٍ أَمِيرًا. وَأَرْسَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ رَجُلا إِلَى مُصْعَبٍ، فَقَالَ: أَقْرِئِ ابْنَ أُخْتِكَ السَّلامَ، وَقُلْ لَهُ: يَدَعُ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى أَخِيهِ، وَأَدَعُ أَنْ أَدْعُوَ إِلَى نَفْسِي، وَأُصَيِّرُ الأَمْرَ شُورَى. فَأَتَاهُ فَأَبْلَغَهُ فَأَبَى، فَقَدَّمَ عَبْدُ الْمَلِكِ أَخَاهُ مُحَمَّدَ بْنَ مَرْوَانَ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ انْصُرْ مُحَمْدًا، اللَّهُمَّ إِنْ مُصْعَبًا يَدْعُو إِلَى عَبْدِ اللَّهِ وَأَدْعُو إِلَى نَفْسِي، اللَّهُمَّ انْصُرْ خَيْرَنَا لِهَذِهِ الأُمَّةِ. وَقَدَّمَ مُصْعَبٌ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الأَشْتَرِ فَالْتَقَتِ الْمُقَدَّمَتَانِ، وَبَيْنَ عَسْكَرِ مُصْعَبٍ وَبَيْنَ ابْنِ الأَشْتَرِ فَرْسَخٌ، وَدَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ فَصَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَسْكَرِ مُحَمَّدٍ فَتَنَاوَشُوا، فَقُتِلَ رَجُلٌ عَلَى مُقَدَّمَةِ مُحَمَّدٍ، يُقَالُ لَهُ: فِرَاسٌ. وَقُتِلَ صَاحِبُ لِوَاءِ بِشْرٍ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: أُسَيْدٌ.

فَأَرْسَلَ مُحَمَّدٌ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ رَجُلا، فَقَالَ: قُلْ لَهُ إِنْ بِشْرًا ضَيَّعَ لِوَاءَهُ فَصَيَّرَ عَبْدُ الْمَلِكِ الأَمْرَ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَكَفَّ النَّاسُ، وَتَوَاقَفُوا، وَجَعَلَ أَصْحَابُ ابْنِ الأَشْتَرِ يَهِمُّونَ بِهِمْ، وَمُحَمَّدٌ يَكُفُّهُمْ، فَأَرْسَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى مُحَمَّدٍ: نَاجِزْهُمْ. فَأَبَى، فَرَدَّ إِلَيْهِ رَسُولا آخَرَ يَشْتُمُ مُحَمْدًا. فَأَمَرَ مُحَمَّدٌ رَجُلا، فَقَالَ: قِفْ فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِكَ، فَلا تَدَعَنَّ أَحَدًا يَأْتِينِي مِنْ قِبَلِ عَبْدِ الْمَلِكِ. فَوَجَّهَ عَبْدُ الْمَلِكِ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ، فَلَمَّا رَأَوْهُ أَرْسَلُوا إِلَى مُحَمَّدٍ: هَذَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ، فَقَالَ: رُدُّوهُ بِأَشَدِّ مَا رَدَدْتُمْ بِهِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ. فَلَمَّا كَانَ قُرْبُ الْمَسَاءِ. قَالَ مُحَمَّدٌ لِلْنَاسِ: حَرِّكُوهُمْ. فَتَهَايَجَ النَّاسُ، وَوَجَّهَ مُصْعَبٌ إِلَى إِبْرَاهِيمِ عَتَّابَ بْنَ وَرْقَاءَ الرِّيَاحِيَّ، فَعَجَّزَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الأَشْتَرِ، قَالَ: قَدْ قُلْتُ لَهُ. لا تَمُدَّنِي بِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلاءِ. وَاقْتَتَلُوا، وَأَرْسَلَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الأَشْتَرِ إِلَى النَّاسِ، فَقَالَ: لا تَنْصَرِفُوا حَتَّى يَنْصَرِفَ أَهْلُ الشَّامِ عَنْكُمْ. فَقَالَ عَتَّابٌ: ولِمَ لا نَنْصَرِفُ؟ فَانْصَرَفَ، وَانْهَزَمَ النَّاسُ حَتَّى أَتَوْا مُصْعَبًا، وَصَبَرَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الأَشْتَرِ حَتَّى قُتِلَ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا أَمَرَ مُحَمَّدٌ رَجُلا، فَقَالَ: انْطَلِقَ إِلَى عَسْكرِ مُصْعَبٍ، فَانْظُرْ كَيْفَ تَرَاهُمْ بَعْدَ قَتْلِ ابْنِ الأَشْتَرِ. قَالَ: لا أَعْرِفُ مَوْضِعَ عَسْكَرِهِمْ. فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَرِبَيٍّ الْكِنَانِيُّ: انْطَلِقْ فَإِذَا رَأَيْتَ النَّخْلَ فَاجْعَلْهُ مِنْكَ مَوْضِعَ سَيْفِكَ يَعْنِي يَسَارَكَ، فَانْطَلَقْ حَتَّى تَطَلَّعَ الْعَسْكَرَ. فَمَضَى الرَّجُلُ حَتَّى أَتَى عَسْكَرَ مُصْعَبٍ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: رَأَيْتُهُمْ مُنْكَسِرِينَ. وَأَصْبَحَ مُصْعَبٌ فَدَنَا، وَدَنَا مِنْهُ مُحَمَّدٌ حَتَّى الْتَقَوْا، فَتَرَكَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِ مُصْعَبٍ مُصْعَبًا، وَأَتَوْا مُحَمَّدًا، فَدَنَا مُحَمَّدٌ، فَقَالَ لِمُصْعَبٍ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، إِنَّ الْقَوْمَ خَاذِلُوكَ فَأَبَى. فَدَعَا ابْنَهُ عِيسَى، فَقَالَ لَهُ: انْظُرْ مَا يُرِيدُ مُحَمَّدٌ. فَدَنَا فَقَالَ: إِنِّي لَكُمْ نَاصِحٌ، إِنَّ الْقَوْمَ خَاذِلُوكُمْ، وَلَكَ وَلِأَبِيكَ الأَمَانُ. وَنَاشَدَهُ، فَرَجَعَ إِلَى أَبِيهِ فَأَخْبَرَهُ. فَقَالَ: إِنِّي أَظُنُّ الْقَوْمَ سَيَفُونَ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ فَأْتِهِمْ. فَقَالَ: لا تُحَدِّثْ نِسَاءَ قُرَيْشٍ أَنِّي خَذَلْتُكَ، وَرَغِبْتُ بِنَفْسِي عَنْكَ. قَالَ: فَتَقَدَّمْ حَتَّى أَحْتَسِبَكَ. فَتَقَدَّمَ، وَتَقَدَّمَ نَاسٌ مَعَهُ، فَقُتِلَ وَقُتِلُوا، وَتَرَكَ النَّاسُ مُصْعَبًا حَتَّى بَقِيَ فِي سَبْعَةٍ، وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ لِيَحْتَزَّ رَأْسَ عِيسَى، فَشَدَّ عَلَيْهِ مُصْعَبٌ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ شَدَّ عَلَى النَّاسِ فَانْفَرَجُوا، ثُمَّ رَجَعَ فَقَعَدَ عَلَى مِرْفَقَةِ دِيبَاجٍ، ثُمَّ جَعَلَ يَشُدُّ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ، فَيَنْفَرِجُونَ عَنْهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَقْعُدُ عَلَى الْمِرْفَقَةِ، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا، وَأَتَاهُ عُبيدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادِ بْنِ ظَبْيَانَ، فَدَعَاهُ إِلَى الْمُبَارَزَةِ، فَقَالَ: اغْرُبْ يَا كَلْبُ.

وَشَدَّ عَلَيْهِ مُصْعَبٌ فَضَرَبَهُ عَلَى الْبَيْضَةِ، فَهَشَّمَهَا وَجَرَحَهُ، فَرَجَعَ عُبَيْدُ اللَّهِ، فَعَصَبَ رَأْسَهُ، وَجَاءَ ابْنُ أَبِي فَرْوَةَ، مَوْلَى عُثْمَانَ، وَكَانَ كَاتِبًا لِمُصْعَبٍ، فَقَالَ لِمُصْعَبٍ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَقَدْ تَرَكَكَ النَّاسُ، وَعِنْدِي خَيْلٌ مُقَدَّحَةٌ فَارْكَبْهَا وَانْجُ بِنَفْسِكَ. فَدَثَّ فِي صَدْرِهِ، وَقَالَ: لَيْسَ أَنَا كَالْعَبْدِ أَخَيِكَ. وَرَجَعَ ظَبْيَانُ إِلَى مُصْعَبٍ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ، وَزَرَقَ زَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةُ مُصْعَبًا، وَنَادَى: يا لَثَارَاتِ الْمُخْتَارِ، فَصَرَعَهُ. وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ لِغُلامٍ لَهُ دَيْلَمِيٍّ: احْتَزَّ رَأْسَهُ. فَنَزَلَ فَاحْتَزَّهُ. فَحَمَلَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ. وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ الرِّقَاعِ الْعَامِلِيُّ، وَكَانَ شَاعِرَ أَهْلِ الشَّامِ يَذْكُرُ قَتْلَ مُصْعَبٍ، وإِبْرَاهِيمَ وَمُسْلِمٍ: وَنَحْنَ قَتَلْنَا ابْنَ الْحَوَارِيِّ مُصْعَبًا ... أَخَا أَسَدٍ وَالْمَذْحِجِيِّ الْيَمَانِيَا وَمَرَّتْ عُقَابُ الْمَوْتِ مِنَّا بِمُسْلِمٍ ... فَأَهْوَتْ لَهُ ظَفْرًا فَأَصْبَحَ ثَاوِيَا قَالَ أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: وَهَذَا الشِّعْرُ يُرْوَى لِلْبَعِيثِ الْيَشْكُرِيِّ. وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ يَرْثِي مُصْعَبًا، وَيَذُمُّ أَهْلَ الْعِرَاقِ مِنْ بَكْرٍ وَتَمِيمٍ: لَقَدْ أَوْرَثَ الْمِصْرَيْنِ خِزْيًا وَذِلَّةً ... قَتِيلٌ بِدَيْرِ الْجَاثَلِيقِ مُقِيمُ فَمَا قَاتَلَتْ فِي اللَّهِ بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ ... وَلا صَبَرَتْ عِنْدَ اللِّقَاءِ تَمِيمُ فَلَوْ كَانَ قَيْسِيًّا تَعَطَّفَ حَوْلَهُ ... كَتَائِبُ تَرْدِي تَارَةً وَتَحُومُ وَلَكِنَّهُ رَامَ الْقِيَامَ فَلَمْ يَكُنْ ... بِهَا مُضَرِيٌّ يَوْمَ ذَاكَ كَرِيمُ وَقَالَ ابْنُ قَيْسِ الرُّقِيَّاتِ، أَيْضًا: إِنَّ الرَّزِيَّةَ يَوْمَ مَسْكِنَ ... وَالْمُصِيبَةَ وَالْفَجِيعَهْ يَا ابْنَ الْحَوَارِيِّ الَّذِي ... لَمْ يَعْدُهُ يَوْمُ الْوَقِيعَهْ يَا لَهْفِ لَوْ كَانَتْ لَهُ ... بِالدَّيْرِ يَوْمَ الدَّيْرِ شِيعَهْ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرُ: وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ النَّسَبَ مِنْ مَرَاثِيهِ شَيْئًا، وَنَحْنُ ذَاكِرُونَ مَا لَمْ نَذْكُرْهُ فِي كِتَابِ النَّسَبِ. وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ خَالِدٍ الْمَخْزُومِيُّ فِي هِجَائِهِ بَنِي خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ، وَيَمْدَحُ آلَ الزُّبَيْرِ، وَيَذْكُرُ صَبْرَهُمْ فِي الْحَرْبِ: هَلا صَبَرْتُمْ بَنِي السَّوْدَاءِ أَنْفُسَكُمْ ... حَتَّى تَمُوتُوا كَمَا مَاتَتْ بَنُو أَسَدِ حَامَتْ بَنُو أَسَدٍ عَنْ مَجْدِ أَوَّلِهَا ... وَأَنْتُمْ كَنَعَامِ الْقَاعَةِ الشَّرِدِ وَقَالَ سُوَيْدُ بْنُ مَنْجُوفٍ السَّدُوسِيُّ، مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، يُحَذِّرُ مُصْعَبًا أَهْلَ الْكُوْفَةِ وَغَدْرَهُمْ: فَأَبْلِغْ مُصْعَبًا عَنِّي رَسُولا ... وَلا تَلْقَى النَّصِيحُ بِكُلِّ وَادِ تَعَلَّمْ أَنَّ أَكْثَرَ مَنْ تُنَاجِي ... وَإِنْ أَدْنَيْتَهُمْ فَهُمُ الأَعَادِي وَصَبَرَ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الأَشْتَرِ وَحَدَهُ، فَقَالَ: الأُقَيْشِرُ: سَأَبْكِي وَإِنْ لَمْ يَبْكِ فِتْيَانُ مَذْحِجٍ ... فَتَاهَا إِذَا اللَّيْلُ التَّمَامُ تَأَوَّبَا فَتًى لَمْ يَكُنْ فِي مِرَّةِ الْحَرْبِ خَامِلا ... وَلا بِمُطِيعٍ فِي الْوَغَى مَنْ تَهَيَّبَا أَمَالَ بِخَوَّارِ الْعِنَانِ لِجَامَهُ ... وَقَالَ لِمَنْ خَفَّتْ نَعَامَتُهُ ارْكَبَا أَبَانَ أَنُوفَ الْحَيِّ قَحْطَانَ قَتْلُهُ ... وَأَنْفَ نِزَارٍ قَدْ أَبَانَ فَأَوْعَبَا

فَمْنَ كَانَ أَمْسَى خَائِنًا لِأَمِيرِهِ ... فَمَا خَانَ إِبْرَاهِيمُ فِي الْحَرْبِ مُصْعَبًا وَصَبَرَ مَعَهُ يَحْيَى بْنُ مُبَشِّرٍ، أَحَدُ بَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ يَرْبُوعٍ التَّمِيمِيِّ حَتَّى قُتِلَ. فَقَالَ أَبُو السَّفَّاحِ بُكَيْرُ بْنُ مَعْدَانَ بْنِ عُمَيْرَةَ بْنِ طَارِقٍ الْيَرْبُوعِيُّ يَرْثِي يَحْيَى، وَيَذْكُرُ صَبْرَهُ، حِينَ قُتِلَ: صَلَّى عَلَى يَحْيَى وَأْشَياعِهُ ... رَبٌّ غَفُورٌ وَشَفِيعٌ مُطَاعْ يَا سَيِّدًا مَا أَنْتَ مِنْ سَيِّدٍ ... مُوَطَّأِ الْبَيْتِ رَحَيِبِ الذِّرَاعْ قَوَّالِ مَعْرُوفٍ وَفَعَّالِهِ ... عَقَّارِ مَثْنَى أُمْهَاتِ الرِّبِاعْ الوَاضِعِ الشِّيزَى لِأَضْيَافِهِ ... كَأَنَّهَا أَعْضَادُ نَهْيٍ بِقَاعْ يَعْدُو فَلا تَكْذُبُ شَدَّاتُهُ ... كَمَا عَدَا اللَّيْثُ بِوَادِي السِّبَاعْ يَجْمَعُ حِلْمًا وَأَنَاةً مَعًا ... ثَمَّتَ يَنْبَاعُ انْبِيَاعَ الشُّجَاعْ لَمَّا جَفَا الْمُصْعَبَ خِلانُهُ ... أَدَّى إِلَيْهِ اللَّيْلُ صَاعًا بِصَاعْ مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاءَ فَقَدْ سَاءَنِي ... تَرْكُ أَبَيْنَيْكَ إِلَى غَيْرِ رَاعْ إِلَى أَبِي طَلْحَةَ أَوْ وَاقِدٍ ... وَذَاكَ عِنْدِي حَقُّ عَيْنِ الضِّيَاع أَبُو طَلْحَةَ وَوَاقِدٌ مَوْلَيَانِ لَيَحْيَى كَانَ أَوْصَى إِلَيْهِمَا، وَأَبُو طَلْحَةَ هَذَا جَدُّ أَبِي النَّضْرِ يَحْيَى بْنِ كَثِيرٍ صَاحِبِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَكَانَ يَحْيَى بْنُ مُبَشِّرٍ مِنْ بَنِي رَبِيعَةَ بْنِ حَصْبَةَ بْنِ أَرْقَمَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ يَرْبُوعٍ. وَكان مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَكَانَ خَلَيْفَةُ بْنُ حِصْنٍ الثَّعْلَبِيُّ صَاحِبَ شُرَطِ ابْنِ زِيَادٍ بِالْبَصْرَةِ، فَلَمَّا أُتِيَ عبْدُ الْمَلِكِ بِرَأْسِهِ لَمْ يَعْرِفْهُ، فَسَأَلَ عَنْهُ أَصْحَابَهُ، فَعَرَفَهُ الْحَكَمُ بْنُ نُهَيْكٍ الْهُجَيْمِيُّ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَذَا وَاللَّهِ الْوَفِيُّ الْكَرِيمُ، هَذَا يَحْيَى بْنُ مُبَشِّرٍ الْيَرْبُوعِيُّ، فَأَمَرَ بهِ فَأُجِنَ، فَقَالَ جَرِيرُ بْنُ الْخَطَفِيُّ يَرْثِيهِ: صَلَّى الِإِلهُ عَلَيْكَ يَا ابْنَ مُبَشِّرٍ ... أَمَّا ثَويْتَ بِمُلْتَقَى الأَجْنَادِ وَالْخَيْلُ سَاطِعَةُ الْغُبَارِ كَأَنَّهَا ... قَصَبٌ يُحَرَّقُ أَوْ رَعَيْلُ جَرَادِ ثَبْتُ الطِّعَانِ إِذَا الْكُمَاةُ أَزَلَّهَا ... عَرَقُ الْمَنُونِ يَجُلْنَ بِالأَلْبَادِ مَأْوَى الْجِيَاعُ إِذَا السِّنُونُ تَتَابَعَتْ ... وَفَتَى الطِّعَانِ عَشِيَّةَ الْعَصْوَادِ وَقَالَ سَالِمُ بْنُ وَابِصَةَ الأَسَدِيِّ يَمْدَحُ مُحَمَّدَ بْنَ مَرْوَانَ، وَيَذْكُرُ قَتْلَهُ إِبْرَاهِيمَ وَمُصْعَبًا: أَبْلِغْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ رِسَالَةً ... لَيْسَ الْمُحَامِرُ كَالْجَوَادِ الْمُسَهِبِ فَاذْكُرْ وَلا تَجْعَلْ بَلاءَ مُحَمَّدٍ ... وَالْخَاذِلِيكَ لَدَى الْحُرُوبِ كَجُنْدَبِ يُدْعَا إِذَا مَا الْجَيْشُ أُحْسِنَ أَدْمُهُ ... وَإِذَا يَكُونُ كَرِيهُهُ لَمْ يُنْدَبِ لا تَجْعَلَنَّ مُؤثِّلا ذَا أُسْرَةٍ ... ضَخْمًا سُرَادِقُهُ وَطِيءَ الْمَرْكَبِ يَغْدُو إِذَا مَا الْحَرْبُ أُطْفِئَ نَارُهَا ... وَيَرُوحُ مَزْهُوًّا عَظِيمَ الْمَوْكِبِ يَتَّخِذُ السُّيُوفَ سُرَادِقًا ... يَمْشِي بِرَايَتِهِ كَمَشْيِ الأَنْكَبِ فَتَحَ الْإِلَهُ بِشِدَّةٍ لَكَ شَدَّهَا ... مَا بَيْنَ مَشْرِقِهَا وَبيْنَ الْمَغْرِبِ لَمَّا لَقِينَا أَهْلَ مَسْكِنَ غُدْوَةً ... كَالطَّوْدِ فِي مُتَهَوِّلٍ مُتَنَكِّبِ تَعْدُو جِيَادُهُمُ بِكُلِّ مُقَصِّصٍ ... جُدُدِ الثِّيَابِ وَحَنْظَلِيٍّ مُذْنَبِ وَمُحَزِّزِينَ لِحَاهُمُ خَشَبِيَّةٍ ... قَتْلاهُمُ مَجْهُولَةٌ لَمْ تُنْسَبِ

" الحمد لله الذي له الخلق والأمر، وملك الدنيا والآخرة، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن

وَإِلَى ابْنِ مَرْوَانَ الأَغَرِّ مُحَمَّدٍ ... مَا بَيْنَ أَشْتَرِهِمْ وَبَيْنَ الْمُصْعَبِ نَفْسِي فِدَاؤُكَ يَوْمَ ذَلِكَ مِنْ فَتًى ... يَكْفِي بِمَشْهَدِهِ مَكَانَ الْغُيَّبِ 354 - حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْمَدَائِنِيِّ، عَنْ عَوَانَةَ بْنِ الْحَكَمِ، وَالشَّرْقِيِّ بْنِ الْقَطَامِيِّ، عَنْ أَبِي جَيَّانَ الْكَلْبِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، قَالَ: " لَمَّا أُتِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ بِقَتْلِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَضْرَبَ عَنْ ذِكْرِهِ أَيَّامًا، حَتَّى تَحَدَّثَ بِهِ إِمَاءُ مَكَّةَ فِي الطُّرُقِ، ثُمَّ صَعَدَ الْمِنْبَرَ، فَجَلَسَ مَلِيًّا لا يَتَكَلَّمُ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ، فَإِذَا بُدُوُّ الْكَآبَةِ عَلَى وَجْهِهِ، وَإِذَا جَبِينُهُ يَرْشَحُ عَرَقًا. فَقُلْتُ لِآخَرَ إِلَى جَنْبِي: مَا لهُ، أَتُرَاهُ يَهَابُ الْمَنْطِقَ؟ فَوَاللَّهِ إِنَّهُ خَطِيبٌ أَرِيبٌ، وَإِنُّهُ لتَهُونُ عَلَيْهِ دُهَاةُ الرِّجَالِ عِنْدَ الْجِدَالِ وَالنِّزَالِ فَمَا يَهَابُ؟ قَالَ: أَرَاهُ يُرِيدُ ذِكْرَ مَقْتِلِ سَيِّدِ الْعَربِ الْمُصْعَبِ، فَهُوَ يُقْطَعُ بِذِكْرِهِ، وَغَيْرُ مَلُومٍ. فَقَامَ فَقَالَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ الْخَلْقُ وِالأَمْرُ، وَمُلْكُ الدُّنْيَا وَالَآخِرَةِ، يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ يُشَاءُ، وَيَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ يَشَاءُ، وَيُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ. أَلا وَإِنَّهُ يُذْلِلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ كَانَ الْحَقُّ مَعَهُ، وَإِنْ كَانَ فَرْدًا لا نَاصِرَ لَهُ، وَلَمْ يُعْزِزِ اللَّهُ مَنْ كَانَ أَوْلَيَاءُ الشَّيْطَانِ مَعَهُ، وإِنْ كَانَ فِي الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ وَالْكَثْرَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: وَإِنْ كَانَ الأَنَامُ طُرًّا مَعَهُ. إِنَّهُ أَتَانَا خَبَرٌ مِنَ الْعِرَاقِ، أَهْلِ الْغدرِ والشِّقاقِ، سَرَّنَا وَسَاءَنَا، أَتَانَا أَنَّ مُصْعَبًا قُتِلَ رَحَمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَمَغْفِرُتُهِ، فَأَمَّا الَّذِي أَحْزَنَنَا مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ لِفِرَاقِ الْحَمِيمِ لَذْعَةً، يَجِدُهَا حَمِيمُهُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، ثُمَّ يَرْعَوِي مِنْ بَعْدُ ذُو الرَّأْيِ وَالدِّينِ إِلَى جَمِيلِ الصَّبْرِ، وَأَمَّا الَّذِي سَرَّنَا مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّا قَدْ عِلِمْنَا أَنْ قَتْلَهُ شَهَادَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ جَاعِلٌ لَنَا وَلَهُ ذَلِكَ خَيْرَةً، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، إِنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ أَسْلَمُوهُ وَبَاعُوهُ بِأَقَلِّ ثَمَنٍ كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْهُ، وَأَخْبَثِهِ، أَسْلَمُوهُ إِسْلامَ النَّعَامِ الْمُخَطَّمِ فَقُتِلَ، وَلَئِنْ قُتِلَ لَقَدْ قُتِلَ أَبُوهُ وَعَمُّهُ وَأَخُوهُ، وَكَانُوا الْخِيَارَ الصَّالِحِينَ، إِنَّا وَاللَّهِ مَا نَمُوتُ حَبْجًا، وَمَا نَمُوتُ إِلا قَتْلا قَتْلا، قَعْصًا قَعْصًا بَيْنَ قَصْدِ الرِّمَاحِ، وَتَحْتَ ظِلالِ السُّيُوفِ، لَيْسَ كَمَا يَمُوتُ بَنُو مَرْوَانَ، وَاللَّهِ مَا قُتِلَ مِنْهُمْ رَجُلٌ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلا إِسْلامٍ قَطُّ. إِنَّمَا الدُّنْيَا عَارِيَةٌ مِنَ الْمَلِكِ الْقَهَّارِ، الَّذِي لا يَزُولُ سُلْطَانُهُ وَلا يَبِيدُ مُلْكُهُ، فَإِنْ تُقْبِلِ الدُّنْيَا عَلَيَّ لا آخُذْهَا أَخْذَ الأَشِرِ الْبَطِرِ، وَإِنْ تُدْبِرْ عَنِّي لا أَبْكِ عَلَيْهَا بُكَاءَ الْخَرِفِ الْمُهْتِرِ ". فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ عَدْوَانَ، مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، يِأْمُرهُ بِالصَّبْرِ وَالْجِدِّ فِي مُنَاهَضَةِ عَدُوِّهِ: لَئِنْ مُصْعَبٌ خَلَّى عَلَيْكَ مَكَانَهُ ... لَقَدْ عَاشَ عِنْدَ النَّاسِ غَيْرَ مُلِيمِ وَإِنْ مُصْعبٌ خَلاكَ وَالْحَرْبَ بَعْدَهُ ... فَأَنْتَ لَدَى الْهَيْجَاءِ غَيْرُ سَئُومِ

فَشَمِّرْ إِلَى الأَعْدَاءِ وَانْهَضْ بِقُوَّةٍ ... فَإِنَّكَ عِنْدَ الْبَأْسِ غَيْرُ ذَمِيمُ وَثِقْ بِوَلِيِّ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّمَا ... يُحَامِي عَلَى الأَحْسَابِ كُلُّ كَرِيمِ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الأَعْمَى فِي قَتْلِ مُصْعَبٍ لَمَّا بَلَغَهُ: رَحِمَ اللَّهُ مُصْعَبًا إِنَّهُ مَاتَ ... كَرِيمًا وَعَاشَ فِينَا كَرِيمَا طَلَبَ الْمُلْكَ ثُمَّ مَاتَ حِفَاظًا ... لَمْ يَعِشْ بَاخِلا وَلا مَذْمُومَا لَيْتَ مَنْ عَاشَ بَعْدَهُ مِنْ بَنِي ... الْعَوَّامِ مَاتُوا وَعَاشَ فَيْنَا سَلِيمَا لَنْ تَرَى مِثْلَهُ لَدَى الدَّهْرِ نِدًّا ... أَوْ تُزِيلُ الرِّيَاحُ ذَرْوًا يَسُومَا كَمْ لَهُ مِنْ يَدٍ عَلَى النَّاسِ بَيْضَاءَ ... قَدْ أَحْيَا بِهَا عِظَامًا رَمِيمَا وَيَدٍ غَادَرَتْ حَرِيبًا سَلِيبًا ... ذَا غِنَاءٍ فَعَادَ وَغْدًا لَئِيمَا وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ يَهْجُو آلَ الزُّبَيْرِ غَيْرَ مُصْعَبٍ، فَإِنَّهُ كَانَ يَمْدَحُهُ، وَيَمْدَحُ بَنِي أُمَيَّةَ، فَدَخَلَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بَعْدَ قَتْلِ مُصْعَبٍ، فَسَأَلَهُ عَنْ قَوْلِهِ فِيهِ. فَقَالَ: اعْفِنِي. قَالَ: هَاتِ فَلَسْنَا نَتَّهِمُكَ، فَأَنْشَدَهُ هَذِهِ الأَبْيَاتَ، فَقَالَ لَهُ: صَدَقْتَ، هُوَ كَمَا وَصَفْتَ: وَلَكِنَّهُ رَامَ الَّتِي لا يَنَالُهَا ... مِنَ النَّاسِ إِلا كُلُّ خِرْقٍ مُعَمَّمِ أَرَادَ أُمُورًا لَمْ يُرِدْهَا إِلَهُهُ ... فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى يَرْثِي مُصْعَبًا: لَعَمْرُكَ إِنَّ الْمَوْتَ مِنَّا لَمُولَعٌ ... بِكُلِّ فَتًى رَحْبِ الذِّرَاعِ أَرِيبِ فَإِنْ يَكُ أَمْسَى مُصْعَبٌ نَالَ حَتْفَه ... لَقَدْ كَانَ صُلْبَ الْعُودِ غَيْرَ هَيُوبِ جَمِيلَ الْمُحَيا يَرْهَبُ الْقِرْنُ دَرْأَهُ ... وَإِنْ عَضَّهُ دَهْرٌ فَغَيْرُ قَطُوبِ أَتَاهُ حِمَامُ الْمَوْتِ وَسْطَ جُنُودِهِ ... فَطَارُوا سَلالا وَاسْتَقَى بِذَنُوبِ وَلَوْ صَبَرُوا نَالُوا الْحَيَاةَ وَسُؤْدُدًا ... وَلَكِنَّهُمْ طَارُوا بِغَيْرِ قُلُوبِ وَقَالَ الْبَعِيثُ بْنُ مُرَّةَ بْنِ وُدِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ مُرَّةِ بْنِ سَعْدِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ كَعْبِ بْنِ يَشْكُرَ: نَحْنُ قَتَلْنَا ابْنَ الْحَوارِيِّ مُصْعَبًا ... أَخَا أَسَدٍ وَالْمَذْحِجِيَّ الْيَمَانِيَا وَأَلْوَتْ عُقَابُ الْمَوْتِ مِنَّا بِمُسْلِمٍ ... فَأَهْوَتْ لَهُ ظُفْرًا فَأَصْبَحَ ثَاوِيَا سَقَيْنَا ابْنَ سَيْدَانٍ بِكَأْسٍ رَوِيَّةٍ ... كَفَتْنَا وَخَيْرُ الأَمْرِ مَا كَانَ كَافِيَا وَمَرَّتْ عَلَى الْجَبَّارِ مِنَّا سَحَابَةٌ ... سَقَتْهُ ذُعَافِيًّا مِنَ الْمَوْتِ قَاضِيَا طَوَاغِيتُ هُمْ كَانُوا الصَّنَادِيدَ إِذَا بدَتْ ... نَوَاجِدُ حَرْبٍ تُمْطِرُ الْمَوْتَ صَافِيَا وَقَالَ أَيْضًا: سَقَيْنَا بَنِي الْعَوَّامِ كَأْسًا مَرِيرَةً ... مُسَكِّرَةً أَمْسَتْ عَلَيْهِمْ أَمَرَّتِ لِمَا اكْتَسَبَتْ أَيْدِيهُمُ وَصُدُورُهُمْ ... مَرَيْنا لَهُمْ حَرْبًا عَوَانَا فَدَرَّتِ إِذَا مَا رَجَوْا أَنْ تَخْمَدَ الْحَرْبُ عَنْهُمْ ... شَبَبْنَا لَهُمْ نِيرَانَهَا فَاسْتَعَرَّتِ بِفِتْيَانِ حَرْبٍ لَقَّحُوهَا فَأَصْبَحَتْ ... أَصَابَتْ بَنِي الْعَوَّامِ حَتَّى أَضَرَّتِ أَقَمْنَا لَهُمْ سُوقًا بِهَا قَدْ تَسُوءُهُمْ ... وَقَدْ نَبَحَتْ مِنَهَا قُرَيْشٌ وَهَرَّتِ وَقَدْ كَانَ الْمُصَعَبُ لَمَّا قَدِمَ الْكُوفَةَ سَأَلَ عُرْوَةَ بْنَ الْمُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقتْلِهِ، فَجَعَلَ يُحَدِّثُهُ عَنْ ذَلِكَ. فَقَالَ مُصْعَبٌ مُتَمَثِّلا بِبَيْتٍ قَالَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ قُتَّهْ:

إِنَّ الأُلَى بِالطَّفِّ مِنْ آلِ هَاشِمٍ ... تَأَسَّوْا فَسَنُّوا لِلْكِرَامِ التَّأَسِّيَا قَالَ عُرْوَةُ: فَعَرَفْتُ أَنَّ مُصْعَبًا لا يَفِرُّ أَبَدًا، فَكَانَ كَذَلِكَ. وَلَمَّا أَجْمَعَ عَبْدُ الْمَلِكِ السَّيْرَ إِلَى مُصْعَبٍ نَهَتْهُ عَاتِكَةُ بِنْتُ يَزَيْدَ، فَأَبَى عَلَيْهَا، فَلَمَّا رَأَتْ جِدَّهِ فِي الْخُرُوجِ بَكَتْ، فَتَمَثَّلَ عَبْدُ الْمَلِكِ بِشِعْرِ كُثَيِّرٍ: إِذَا مَا أَرَادَ الْغَزْوَ لَنْ تُثْنِ هَمَّهُ ... حَصَانٌ عَلَيْهَا نَظْمُ دُرٍّ يَزِينُهَا نَهَتْهُ فَلَمَّا لَمْ تَرَ النَّهْيَ عَاقَهُ ... بَكَتْ فَبَكَى مِمَّا عَرَاهَا قَطِينُهَا حَدَّثَنِي الْمَدَائِنِيُّ: أَنَّ زِيَادَ بْنَ عَمْرٍو الْعَتَكِيِّ غَدَرَ بِمُصْعَبٍ، وَلَحِقَ بِعَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَقْطَعَهُ، وَلَمَّا بَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَازِمٍ السَّلَمِيَّ قَتْلُ مُصْعَبٍ. قَالَ: أَشَهِدَهُ الْمُهلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ؟ قَالُوا: لا، قَالَ: أَفَشَهِدَهُ عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ؟ قَالُوا: لا. فَقَالَ: خُذِيِهِ فَجُرِّيهِ سِبَاعُ وَأَبْشِرِي ... بِلَحْمِ امْرِئٍ لَمْ يَشْهَدِ الْيَوْمَ إِصْرُهُ ثُمَّ قَالَ: هُمَامَانِ لَوْ دَارَتْ رَحَا الْحَرْبِ بَرْكَهَا ... لَقَامَا وَلَوْ كَانَ الْقِيَامُ عَلَى الْجَمْرِ قَالَ أَبُو الْحَكَمِ بْنُ خَلادِ بْنِ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ السَّدُوسِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: " لَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّبْخَةِ حِينَ عَسْكَرَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ يُرِيدُ شَبيْبًا الْحَرُورِيَّ، قَالَ لَهُ النَّاسُ: أَصْلَحَ اللَّهُ الأَمِيرَ، لَوْ تَنَحَّيْتَ عَنْ هَذِهِ الْعَذِرَةِ. فَقَالَ لَهُمُ الْحَجَّاجُ: مَا تُنَحُّونَنِي إِلَيْهِ أَنْتَنُ. وَاللَّهِ مَا تَرَكَ مُصْعَبٌ لِكَرِيمٍ مَفَرًّا ثُمَّ تَمَثَّلَ بَيْتًا قَالَهُ كَلْحَبَةُ الْعَرْنِيُّ: إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَغْشَ الْمَكَارِهَ أَوْشَكَتْ ... حِبَالُ الْهُوَيْنَى بِالْفَتَى أَنْ تقَطَّعَا وَقَالَ أَعْشَى هَمْدَانَ فِي قَتْلِ مُصْعَبٍ، وذِكْرِ قِصَّتِهِ، وَغَدْرِ أَهْلِ الْعِرَاقِ بِهِ، وَاسْمُ الأَعْشَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ: أَلا مَنْ لِهَمٍّ آخِرَ اللَّيْلِ مُنْصِبٍ ... وَأَمْرٍ جَلِيلٍ فَادِحٍ لِي مُشَيِّبِ أَرِقْتُ لِمَا قَدْ غَالَنِي وَتَبَادَرَتْ ... سَوَاكِبُ دَمْعِ الْعَيْنِ مِنْ كُلِّ مَسْكَبِ فَقُلْتُ وَقَدْ بَلَّتْ سَوَابِقُ عَبْرَتِي ... رِدَائِي مَقَالَ الْمُوجَعِ الْمُتَحَوِّبِ أَلا بَهْلَةُ اللَّهِ الَّذِي عَزَّ جَارُهُ ... عَلَى النَّاكِثِينَ الْغَادِرِينَ بِمُصْعَبِ جَزَى اللَّهُ عَنْهُ جَمْعَ قَحْطَانَ كُلِّهَا ... جَزَاءَ مُسِيءٍ قَاسِطِ الْفِعْلِ مُذْنِبِ وَجَمْعَ مَعَدٍّ قَوْمِهِ غَابَ نَصْرُهُمْ ... غَدَاةَ إِذٍ عَنْهُ وَرَبِّ الْمُحَصَّبِ جَزَاهُمْ إِلَهُ النَّاسِ شَرَّ جَزَائِهِ ... بِخُذْلانِ ذِي الْقُرْبَى الأَرِيبِ الْمُدَرِّبِ إِمَامِ الْهُدَى وَالْحِلْمِ وَالسِّلْمِ وَالتُّقَى ... وَذِي الْحَسَبِ الزَّاكِي الرَّفِيعِ الْمُهَذَّبِ لَحَى اللَّهُ أَشْرَافَ الْعِرَاقِ فَإِنَّهُمْ ... هُمُ شَرُّ قَوْمٍ بَيْنَ شَرْقٍ وَمَغْرِبِ هُمُ مَكَرُوا بِابْنِ الْحَوَارِيِّ مُصْعَبٍ ... وَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لِلصَّرِيخِ الْمُثَوَّبِ دَعَاهُمْ بِأَنْ ذُودُوا الْعِدَى عَنْ بِلادِكُمْ ... وَأَمْوَالِكُمْ فِي كُلِّ أَبْيِضَ مِقْضَبِ فَوَلَّوْا يُنَادِي الْمَرْءُ مِنْهُمْ عَشِيرَهُ ... أَلا خَلِّ عَنْهُمْ لا أَبَا لَكَ وَاذْهَبِ جَزَى اللَّهُ حَجَّارًا هُنَاكَ مَلامَةً ... وَفَرْخَ عُمَيْرٍ مِنْ مُنَاجٍ مُؤَلِّبِ

حَجَّارُ بْنُ أَبْجَرَ الْعَجْلِيُّ كُوفِيٌّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ عُطَارِدٍ الدَّارِمِيُّ كُوفِيٌّ. وَمَا كَانَ عَتَّابٌ لَهُ بِمُنَاصِحٍ ... وَلا كَانَ عَنْ سَعْيٍ عَلَيْهِ بِمُغْرِبِ عَتَّابُ بْنُ وَرْقَاءَ الرِّيَاحِيُّ كُوفِيٌّ. وَلا قَطَنٌ وَلا ابْنُهُ لَمْ يُنَاصِحَا ... فَتَبًّا لِسَعْيِ الْحَارِثِيِّ الْمُتَبِّبِ وَلا الْعَتَكِيُّ إِذْ أَمَالَ لِوَاءَهُ ... فَوَلَّى بِهِ عَنْهُ إِلَى شَرِّ مَوْكِبِ زِيَادُ بْنُ عَمْرٍو الْعَتَكِيُّ. وَلا ابْنُ رُوَيْمٍ لا سَقَى اللَّهُ قَبْرَهُ ... فَبَاءَ بِجَدْعٍ آخِرَ الدَّهْرِ مُوعَبِ يَزِيدُ بْنُ أَبِي رُوَيْمٍ شَيْبَانِيٌّ كُوفِيٌّ. وَمَا سَرَّنِي مِنْ هَيْثَمٍ فَعْلُ هَيْثَمٍ ... وَإِنْ كَانَ فِينَا ذَا غَنَاءٍ وَمَنْصِبِ الْهَيْثَمُ بْنُ الأَسْوَدِ النَّخَعِيُّ. وَلَكِنْ عَلَى فَيَّاضِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ ... سَأُثْنِي وَخَيْرُ الْقَوْلِ مَا لَمْ يُكَذَّبِ دَعَا ابْنُ الْحَوَارِيِّ الْهُمَامُ إِمَامَهُ ... لِيَمْنَعَهُ مِنْ كُلِّ غَاوٍ وَمُجْلِبِ فَأَضْحَى ابْنُ تَيْمِ اللاتِ أَمْنَعَ مَانِعٍ ... لِجَارٍ بِلا شَكٍّ وَمَأْوَى الْمُعَصَّبِ فَيَا سَائِرًا نَحْوَ الْمَشَاعِرِ لا يَنِي ... أَلا ارْفَعْ بِهَدْلاءِ الْمَشَافِرِ تَنْعَبِ أَلا وَانْعَ خَيْرَ النَّاسِ حَيًّا وَمَيِّتًا ... إِلَى أَهْلِ بِطْحَاءٍ قُرَيْشٍ وَيَثْرِبِ فِدًا لَكَ فَاذْكُرْ زَحْفَهُ وَمَسِيرَهُ ... يُزَجِّي الْخُيُولَ مِقْنَبًا بَعْدَ مِقْنَبِ سَمَا مُصْعِدًا بِالْجَيْشِ يَسْرِي أَمَامَهُ ... إِلَى بَطَلٍ مِنْ آلِ مَرْوَانَ مُحْلِبِ غَزَا بِجُنُودِ الشَّامِ يُكِبْدُ كَبْدَهَا ... يُجِيزُ إِلَيْهِمْ سَبْسَبًا بَعْدَ سَبْسَبِ فَلَمَّا تَوَافَيْنَا جَمِيعًا بِمَسْكِنٍ ... صِينَا بِنَوْعٍ مِنْ غَرَامٍ مُعَذِّبِ بِمَقْتَلِ سَادَاتٍ وَمَهْلَكِ مَاجِدٍ ... رَفِيعِ الرَّوَابِي مِحْرَبٍ وَابْنِ مِحْرَبِ هُوَ الضَّيْغَمُ النَّهْدُ الرَّئِيسُ ابْنُ مَالِكٍ ... إِذَا شَدَّ يَوْمًا شَدَّةً لَمْ يُكَذِّبِ أَتَى مُصْعَبًا فَقَالَ مَنْ كَانَ مِنْهُمُ ... فَعَاقِبْ بِوَقْعٍ مَنْ بَدَا لَكَ مُرْهِبِ وَشُدَّ عَلَى الأَشْرَافِ شدَّةَ مَاجِدٍ ... وَأَعْنَاقَهُمْ قَبْلَ الصَّبَاحِ فَضَرِّبِ وَإِلا فَكَبْكِبْ فِي السُّجُونِ سَرَاتَهُمْ ... إِلَى أَنْ يُفَيِقَ النَّاسُ تُصْحِبْ وَتُرْقِبِ وَدَعْنِي وَأَهْلَ الْقَرْيَتَيْنِ أَسِرْ بِهِمْ ... وَغَادِرْهُمُ فِي مَحْبَسٍ كَالْمُؤدِّبِ مَلامَ مُلِحٍّ قَدْ أَمِنْتَ اغْتِيَالَهُ ... وَمَا جَاهِلٌ بِالأمْرِ مِثْلُ الْمُجَرِّبِ فَقَالَ لَهُ سِرْ بِالْجُيُوشِ إِلَى الْعِدَى ... وَنَاجِزْ وَقَارِعْ وَاصْدُقِ الْقَوْمَ تَغْلِبِ فَإِنِّي بِحَقٍّ لَسْتُ أَبَدأُ مُسْلِمًا ... بِغَدْرٍ فَفِي التَّقْوَى وَفِي الدِّينِ فَارْغَبِ فَسَارَ إِلَى جَمْعِ ابْنِ مَرْوَانَ مُعْلَمًا ... فَنَاهَضَهُمْ وَالْحَرْبُ ذَاتُ تَلَهُّبِ وَجَاهَدَ فِي فِرْسَانِهِ وَرِجَالِهِ ... وَأَقْدَمَ لَمْ يَنْكُلْ وَلَمْ يَتَهَيَّبِ فَلاقَى أُسَيْدٌ يَوْمَ ذَلِكَ حَتْفَهُ ... وَقَطَّرَهُ مِنَّا فَتًى غَيْرُ جَأْنَبِ أَشَمُّ نَرَاهُ عَالِيَ الْجِسْمِ صَقْعَبًا ... وَبالسَّيْفِ مِقْدَامًا نَجِيبًا لِمُنْجِبِ وَكَادَتْ جُمُوعُ الشَّامِ يَشْمُلُهَا الرَّدَى ... غَدَاةَ إِذٍ فَاسْمَعْ أُحَدِّثْكَ تَعْجَبِ فَلَمَّا رَأَى أَبْنَاءُ مَرْوَانَ وَقْعَهُ ... بِجِمْعِهِمُ ظَلُّوا بِيَوْمٍ عَصَبْصَبِ وَأَدْبَرَ عَنْهُ الْغَادِرُ ابْنُ الْقَبَعْثَرَى ... وَمَا كَانَ بِالْحَامِي وَلا بِالْمُذَبِّبِ غَضْبَانُ بْنُ الْقَبَعْثَرَى شَيْبَانِيٌّ كُوفِيٌّ. وَقَدْ نَقَضَ الصَّفَّ ابْنُ وَرْقَاءَ ثَانِيًا ... وَغَادَرَهُ يَدْعُو إِلَى جَانِبِ النَّبِيِّ

فَثَابِ إِلَيْهِ كُلُّ أَرْوعَ مَاجِدٍ ... صَبُورٍ عَلَى مَا نَابَهُ مُتَلَبِّبِ فَضَارَبَ حَتَّى خَرَّ غَيْرَ مُوَائِلٍ ... إِلَى جَانِبٍ مِنْهُ عَزِيزٍ وَمَنْكِبِ وَصُرِّعَ أَهْلُ الصَّبْرِ فِي الصَّفَّ كُلُّهُمْ ... وَأَجْفَلَ عَنْهُ كُلُّ وَانٍ مُحَوِّبِ وَلَمَّا أَتَى قَتْلُ ابْنِ الأَشْتَرِ مُصْعَبًا ... دَعَا عِنْدَهَا عِيسَى فَقَالَ لَهُ اهْرُبِ فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ لَسْتُ بِهَارِبٍ ... أَأَهْرَبُ إِنْ دَهْرٌ بِنَا حَانَ عَنْ أَبِي فَقَالَ: تَقَدَّمْ أَحْتَسِبْكَ فَأَقْبَلَتْ ... إِلَيْهِ جُمُوعٌ مِنْ كِلابٍ وَأَذْؤُبِ فَقَالَ لِفُجَّارِ الْعِرَاقِيِّينَ أَقْدِمُوا ... فَوَلَّوْا شِلالا كَالنَّعَامِ الْمُخَضَّبِ وَشَدُّوا عَلَيْهِ بِالسُّيُوفِ فَلَمْ يَرُمْ ... كَلَيْثِ الْعَرِينِ الْخَادِرِ الْمُتَحَرِّبِ فَضَارَبَهُ يَحْيَى وَعِيسَى أَمَامَهُ ... وَضَارَبَ تَحْتَ السَّاطِعِ الْمُتَنَصِّبِ فَمَا بَرِحُوا حَتَّى أَزَارَهُمُ الْقَنَا ... شَعُوبٌ وَمَنْ يَسْلُبْ وَجَدِّكَ يُسْلَبِ فَبَكِّ فَتَى دُنْيَا وَذَا الدِّينِ مُصْعَبًا ... وَأَعْوِلْ عَلَيْهِ وَاسْفَحِ الدَّمْعَ وَانْحَبِ لَقَدْ رَحَلَ الأقْوَامُ غَدْرًا وَغَادَرُوا ... بِمَسْكِنَ أَشْلاءَ الْهُمَامِ الْمحَجَّبِ صَرِيعَ فَتًى تَسْفِي عَلَى وَجْهِهِ الصَّبَا ... وَرِيحُ شَمَالٍ بَعْدَهَا رِيحُ أَجْنَبِ وَأَضْحَى بِدَيْرَ الْجَاثَلِيقِ مُلَحَّبًا ... فَلا يَبْعِدَنَّ مِنْ قَتِيلٍ مُلَحَّبِ سَقَى السَّارِيَاتُ الْجُونُ جُثْمَانَ مُصْعَبٍ ... وَأَجْلادَ عِيسَى الْمُرْتَجَى صَوْبَ صَيِّبِ وَفِتْيَانَ صِدْقٍ صُرِّعُوا ثَمَّ حَوْلَهُ ... عَلَى الْحَقِّ مَنْ لا يَعْرِفُ الْحَقَّ يَرْتَبِ أَمُصْعَبُ مَنْ يَحْرِبُ وَيُذْمَمْ فِعَالُهُ ... فَمَا كُنْتُ بِالْوَانِي وَلا الْمُتَحَرِّبِ لَقَدْ عِشْتُ ذَا حَزْمٍ وَجُودٍ وَنَائِلٍ ... فَيَا عَجَبًا لِدَهْرِكَ الْمُتَقَلِّبِ أَلَمْ تَكُ مِعْطَاءَ الْجَزِيلِ وَنَاعِشَ ... الْفَقِيرِ وَمَأْوَى كُلِّ عَافٍ وَمُجْدِبِ وَكُنَّا مَتَى نَعْتِبْ عَلَيْكَ وَنَلْتَمِسْ ... جَدَاكَ يَنَلْنَا مِنْ جَدَاكَ وَتُعْتِبِ فَقَدْ جَاءَنَا مِنْ بَعْدِكَ الْمَعْشَرُ الْعِدَى ... وَوَالٍ مَتَى يُنْطَقْ حَوَالِيهِ يَغْضَبِ وَإِنْ تُلْتَمَسْ مِنْهُ الزَّبَادَةُ وَالْجَدَا ... وَيُسْتَمْطَرِ الْمَعْرُوفَ يَغْضَبْ وَيَحْرِبِ وَتَسْمَرْ بِلا ذَنْبٍ أَكُفُّ غُزَاتِنَا ... وتُقْطَعُ أَيْدِيهِمْ وَشِيكًا وَيُصْلَبِ فَيَا دَهْرَنَا مِنْ قَبْلِ مَقْتِلِ مُصْعَبٍ ... أَلا ارْجِعْ بِدُنْيَانَا الرَّفِيعَةِ تَحْصِبِ وَبِالأمْنِ وَالْعَيْشِ الَّذِي حَلَّ دُونَهُ ... فَهَذَا زَمَانُ الْخَائِفِ الْمُتَرَقِّبِ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ أَسْلَمُوا أَمْسِ مُصْعَبًا ... بِحَدِّ سِنَانٍ سَمْهَرِيٍّ مُذَرَّبِ وَلِلسَّيْفِ نَغْشَاهُ وَيَفْرِي شُئُونَهُ ... وَكَانَ الْحَيَا لِلْمُفْلِحِ الْمُتَشَعِّبِ وَدَانُوا لِطَاغٍ قَدْ أَرَاقَ دِمَاءَهُمْ ... عَسُوفٍ صَدُوقٍ قَاسِطِ الْفِعْلِ مُشْغِبِ وَقَالَ لَهُمْ ذُوقُوا جَنَى مَا غَرَسْتُمُ ... أَلا رُبَّ بَانٍ لِلْعِمَارَةِ مُخْرِبِ كَانَ دَاوُدُ بْنُ قَحْذَمٍ، أَحَدُ بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، أَوَّلَ مَنْ غَدَرَ بِمُصْعَبٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ. وَقَالَ ابْنُ ظَبْيَانَ: يَرَى مُصْعَبٌ أَنِّي تَنَاسَيْتُ نَابِئًا ... لَبِئْسَ لَعَمْرُ اللَّهِ مَا ظَنَّ مُصْعَبُ فَوَاللَّهِ مَا أَنْسَاهُ مَا ذَرَّ شَارِقٌ ... وَمَا لاحَ فِي شَرْقٍ مِنَ الأَرْضِ كَوْكَبُ سَطَوْتَ عَلَيْهِ ظَالِمًا فَقَتَلْتَهُ ... فَقَصْرُكَ مِنِّي. . . . . . .

حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيُّ، عَنِ ابْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ الأشْتَرِ وَهُوَ مَعَ مُصْعَبٍ كِتَابًا، فَأَتَى بَهَ مُصْعَبًا قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَهُ، فَفَضَّهُ مُصْعَبٌ فَقَرَأَهُ. فَقَالَ: يَا أَبَا النُّعْمَانِ، أَوَ مَا تَدْرِي مَا فِيهِ؟ قَالَ: لا، وَمَا فِيهِ؟ قَالَ: يَعْرِضُ عَلَيْكَ دِجْلَةَ وَمَا سَقَتْ، أَوِ الْفُرَاتَ وَمَا سَقَى، فَإِنْ أَبَيْتَ جَمَعَهُمَا لَكَ جَمِيعًا. قَالَ: أَلَقَى اللَّهَ تَعَالَى وَأَنَا أَجْذَمُ! لاهَا اللَّهُ إِذًا. فَقَالَ مُصْعَبٌ: إِنَّ هَذَا لَمَا يُرْغَبُ فِيهِ. فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: مَا كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ مِنْ أَحَدٍ أَيْأَسَ مِنْهُ مِنِّي. وَمَا تَرَكَ أَحَدًا مِمَّنْ مَعَكَ إِلا وَقَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ، فَابْعَثْ إِلَيْهِمْ، فَضَرِّبْ أَعْنَاقَهُمْ. قَالَ: كَيْفَ، وَلَمَ أَسْتَيْقِنْ؟ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: أَمَا إِذَا أَبَيْتَ ذَلِكَ فَابْعَثْ فَأَوْقِرْهُمْ حَدِيدًا، وَاطْرَحْهُمْ فِي أَبْيَضَ كِسْرَى، وَوَكِّلْ بِهِمْ مَنْ يَقُومُ بِأَمْرِهِمْ، فَإِنْ ظَفِرْتَ عَفَوْتَ، أَوْ عَاقَبْتَ، وَإِنْ كَانَتِ الأَخُرْى ضَرِّبْ أَعْنَاقَهُمُ. قَالَ: أَخَافَ أَنْ يَحْتَجُّوا عَلَيَّ عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، يَقُولُونَ: حَبَسَنَا وَفَعَلَ بِنَا. دَعْ هَذَا عَنْكَ يَا أَبَا النُّعْمَانِ، إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا هُوَ غَيْرِي أَوْ غَيْرُكَ، إِمَّا أَنْ تَسِيرُوا، وَإِمَّا أَنْ أَسِيرَ. قَالَ: إِنِّي لَسْتُ بِصَاحِبِ خَيْلٍ، إِنَّمَا صَاحِبُ الْخَيْلِ مَنْ كَرَّ وَفَرَّ، وَإِنَّمَا أَنَا صَاحِبُ مُزَاحَفَةٍ. قَالَ: وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ إِذَا لَقِيَ الْحَرْبَ كَانَ مَعَهُ كُرْسِيَّانِ، يَحْمِلُ أَحَدَهُمَا فَيَجْلِسُ عَلَيْهِ، وَيُقَدِّمُ الآخَرَ، فَإِذَا زَحَفَ الْقَوْمُ جَلَسَ عَلَى ذَا وَقَدَّمَ الآخَرَ. فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: أَنْتَ غَدًا مَقْتُولٌ بِمَضْيَعَةٍ. فَقَالَ مُصْعَبٌ: وَاللَّهِ لَوْ لَمْ أَجِدْ إِلا أَقْذِفَ بِنَفْسِي فِي الْبَحْرِ بُغْضًا لأَهْلِ الشَّامِ لَفَعَلْتُ، وَلَوْ لَمْ أَجِدْ إِلا النَّمْلَ، لَقَاتَلْتُ بِهِمْ أَهْلَ الشَّامِ. فَتَقَدَّمَ، فَلَمَّا اصْطَفَ النَّاسُ مَالَ عَتَّابُ بْنُ وَرْقَاءَ بِالْخَيْلِ فَذَهَبَ بِهِمْ إِلَى الْكُوفَةِ، فَجَعَلَ إِبْرَاهِيمُ يَقُولُ لِرَجُلٍ رَجُلٍ: تَقَدَّمْ. فَيَأْبَوْنَ عَلَيْهِ، فَتَقَدَّمَ إِبْرَاهِيمُ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلِ، ثُمَّ تَقَدَّمَ الصَّفَّ مُصْعَبٌ فَخَذَلَهُ النَّاسُ، فَقَالَ لِحَجَّارِ بْنِ أَبْجَرَ الْعِجْلَيِّ: تَقَدَّمْ يَا أَبَا أُسَيْدٍ، قَالَ: إِلَى هَذِهِ الْعَذْرَةِ؟ قَالَ: مَا تَتَأَخَّرُ إِلَيْهِ أَنْتِنُ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الْغَضْبَانِ بْنِ الْقَبَعْثَرَى، فَقَالَ: تَقَدَّمْ يَا أَبَا الشَّمْطِ. فَقَالَ: مَا أَرَى ذَاكَ. فَالْتَفَتَ إِلَى قَطْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثِيِّ، وَهُوَ عَلَى مَذْحِجٍ وَأَسَدٍ. فَقَالَ: تَقَدَّمْ. قَالَ: أُسْفِكُ دِمَاءَ مَذْحِجٍ فِي غَيْرِ شَيْءٍ. فَقَالَ مُصْعَبٌ: أُفٍّ لَكُمْ. ثُمَّ أَقْبَلَ فِي عِدَّةٍ. فَلَمَّا بَرَزَ قَالَ زِيَادُ بْنُ عَمْرٍو الْعَتَكِيُّ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ أَبَا الْبَخْتَرِيِّ إِسْمَاعِيلَ بْنَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ كَانَ صَدِيقًا لِي، وَقَدْ خِفْتُ أَنْ يُقْتَلَ، فَآمِنْهُ. قَالَ: هُوَ آمِنٌ. فَأَقْبَلَ زِيَادٌ عَلَى فَرَسٍ لَهُ.

فَقَالَ: يَا أَبَا الْبَخْتَرِيِّ إِلَيِّ أُكَلِّمْكَ وَأَسْائَلْكَ عَنْ شَيْءٍ، فَأَقْبَلَ، فَلَمَّا اخْتَلَفَ رَأْسَا فَرَسَيْهِمَا وَضَعَ يَدَهُ فِي مَنْطِقَتِهِ ثُمَّ جَذَبَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ إِسْمَاعِيلُ: يَا أَبَا الْمُغِيرَةِ، أُنَشِدُكَ اللَّهَ أَنْ تُلِيمَ الْيَوْمَ. فَقَالَ: يَا أَبَا الْبَخْتَرِيِّ، إِنِّي أَضِنُّ بِكَ مِنْ ذَاكَ. ثُمَّ انْطَلَقَ بِهِ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَأمَّنَهُ، وَأَقْبَلَ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ وَكَانَ عَلَى مُقَدِّمَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَقَالَ لِمُصْعَبٍ: يَا ابْنَ عَمِّي، إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يُؤَمِّنُكَ عَلَى كُلِّ مَالٍ وَدَمٍ أَصَبْتَهُ. قَالَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحِجَازِ. وَرُمِيَ مُصْعَبٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. فَأُثْخِنَ. فَقَالَ لابْنِهِ عِيسَى: انْصَرِفْ. فَقَالَ: لا وَاللَّهِ لا تَتَحَدَّثُ بِذَلِكَ النِّسَاءُ. قَالَ: فَتَقَدَّمْ أَحْتَسِبْكَ. فَتَقَدَّمَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. ثُمَّ أَقْبَلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادِ بْنِ ظَبْيَانَ، وَقَدْ كَانَ مُصْعَبٌ قَتَلَ أَخَاهُ النَّابِئَ، فَدَنَا مِنْ مُصْعَبٍ وَقَدْ كَانَ أُثْخِنَ، فَلَمْ يَسْتَطِعِ التَّقَدُّمَ، فَقَالَ لِفِتْيَانِ قَوْمِهِ: شُدُّوا. . . . مِنْ ظَهْرِي، فَتَقَدَّمَ وَمَا يُحَرَّكُ مُصْعَبٌ. لَمَّا تَفَرَّقَ أَهْلُ الْعِرَاقِ عَنْ مُصْعَبٍ فَلَمْ يَثْبُتْ مَعَهُ إِلا رَجُلانِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ: يَحْيَى بْنُ مُبَشِّرٍ الْيَرْبُوعِيُّ، وَمُسْلِمُ بْنُ عَمْرٍو الْبَاهِلِيُّ، وَمِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ: إِبْرَاهِيمُ بْنُ الأَشْتَرِ. فَقُتِلُوا جَمِيعًا، وَبَقِيَ مُصْعَبٌ وَحْدَهُ فِي نَفَرٍ، فَقَاتَلَ حَتَّى عُقِرَ بِهِ عِيرُ فَرَسٍ، وَصَارَ يَقْعُدُ عَلَى كُرْسِيٍّ قَدْ وُضِعَ لَهُ، حَتَّى يَشُدَّ عَلَى الْقَوْمِ فَيَنْفَرِجُونَ لَهُ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الْكُرْسِيَّ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لا يَصِلُونَ إِلَيْهِ دَثُّوهُ بِالْحِجَارَةِ، حَتَّى أَثْخَنُوهُ فَصُرِعَ، فَشَدَّ عَلَيْهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادِ بْنُ ظَبْيَانَ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ أَتَى عَبْدَ الْمَلِكِ بِرْأَسِهِ، وَذَلِكَ حَيْثُ يَقُولُ الْبَجَلِيُّ: نَحْنُ قَتَلْنَا مُصْعَبًا وَعِيسَى ... نَحْنُ أَذَقْنَا مُضَرَ التَّبْئِيسَا وَقَدْ قَتَلْنَا مِنْهُمُ رَئِيسَا وَتَنَقَّصَ رَجُلٌ مُصْعَبًا عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ شِرِّيبًا، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: «اسْكُتْ لا أُمَّ لَكَ. فَلَوْ عَلِمَ مُصْعَبٌ أَنَّ شُرْبَ الْمَاءِ يُنْقِصُ مِنْ مُرُوءَتِهِ مَا شَرِبَهُ» . وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَيُّ بَنِي الزُّبَيْرِ أَشْجَعُ؟ قَالَ: «مَا مِنْهُمَا إِلا شُجَاعٌ، وَمَا مِنْهُمَا إِلا مَنْ مَشَى إِلَى الْمَوْتِ وَهُوَ يَرَاهُ» . حَدَّثَنِي الْمَدَائِنِيُّ، قَالَ: " أَذِنَ عَبْدُ الْمَلِكِ يَوْمًا لِخَاصَّتِهِ فَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ، فَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ عَلَى عَيْبِ مُصْعَبٍ بَعْدَ قَتْلِهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ نَظْرَةَ كَرَاهَةٍ لِمَا قَالَ، وَقَالَ: أَمْسِكْ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ مَنْ صَغَّرَ مَقْتُولا صَغَّرَ قَاتِلَهُ قَالَ الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ: " أَشْجَعُ النَّاسِ ثَلاثَةٌ: ابْنُ الْكَلْبِيَّةِ، وَأَحْمَرُ قُرَيْشٍ، وَرَاكِبُ الْبَغْلَةِ، فَابْنُ الْكَلْبِيَّةِ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أُفْرِدَ فِي سَبْعَةٍ، وَأُعْطِيَ الأَمَانَ وَوِلايَةَ الْعِرَاقِ، فَأَبَى وَمَاتَ كَرِيمًا.

وَأَحَمْرُ قُرَيْشٍ عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ، مَا لَقِيَ خَيْلا قَطُّ إِلا كَانَ فِي سَرْعَانِهَا، وَرَاكِبُ الْبَغْلَةِ عَبَّادُ بْنُ حُصَيْنٍ الْحَبَطِيُّ، مَا كُنَّا فِي كُرْبَةٍ قَطُّ إِلا فَرَّجَهَا ". قَالَ: فَقَالَ الْفَرَزْدَقُ، وَكَانَ حَاضِرًا: وَيْحَكَ فَأَيْنَ أَنْتَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمِ السَّلَمِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ؟ قَالَ: وَيْحَكَ إِنَّمَا ذَكَرْنَا الْإِنْسَ، فَأَمَّا الْجِنُّ فَلَمْ نَذْكُرْهُمْ. حَدَّثَنِي الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ عَوَانَةَ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: " لَمَّا قَتَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ عَمْرَو بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ أَذِنَ لِلنَّاسِ إِذْنًا عَامًّا، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، وَجُثَّةُ عَمْرٍو فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، فَلَمَّا أَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ تَكَلَّمَ عَبْدُ الْمَلِكِ، فَقَالَ: ارْمُوا بِأَبْصَارِكُمْ نَحْوَ مَصَارِعِ أَهْلِ الْمَعْصِيَةِ، وَاجْعَلُوا سَلَفَهُمْ لِمَنْ غَبَرَ مِنْكُمْ عِظَةً، وَلا تَكُونُوا أَغْفَالا مِنْ حُسْنِ الاعْتِبَارِ، فَتَنْزِلَ بِكُمْ جَانِحَةُ السَّطْوَةِ، وَتَجُوسَ خِلالَكُمْ بَوَادِرُ النِّقْمَةِ، وَتَطَأَ رِقَابَكُمْ بِثِقَلِهَا الْمَعْصِيَةُ، فَتَجْعَلَكُمْ هَمْدًا رُفَاتًا، وَتَشْتَمِلَ عَلَيْكُمْ بُطُونَ الأَرْضِ أَمْوَاتًا. إِيَّايَ مَنْ قَوْلِ قَائِلٍ، وَسَفَهِ جَاهِلٍ، فَإِنَّمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أَنْ أَسْمَعَ النَّعْرَةَ، فَأُصَمِّمُ تَصْمِيمَ الْحُسَامِ الْمَطْرُورِ، وَأَصُولُ صِيَالَ الْحَنِقِ الْمَوْتُورِ، إِنَّمَا هِيَ الْمُصَافَحَةُ وَالْمُكَافَحَةُ، بِظُبَاتِ السُّيُوفِ، وَأَسَنَّةِ الرِّمَاحِ، وَالْمُعَاوَدَةِ لَكُمْ بِسُوءِ الصَّبَاحِ، فَتَابَ تَائِبٌ، أَوْ هَلَكَ خَائِبٌ، وَالتَّوْبُ مَقْبُولٌ، وْالإِحْسَانُ مَبْدُولٌ، لِمَنْ أَبْصَرَ حَظَّهُ، وَعَرَفَ رُشْدَهُ، فَانْظُرُوا لأنَفُسِكُمْ، وَأقْبِلُوا عَلَى حُظُوظِكُمْ، وَلْيَكُنْ أَهْلُ الطَّاعَةِ مِنْكُمْ يَدًا عَلَى ذِي الْجَهْلِ مِنْ سُفَهَائِكُمْ، وَاسْتَدِيمُوا النِّعْمَةَ الَّتِي ابْتَدَأَتْكُمْ بِرَغَدِ عَيْشِهَا، وَنَفِيسِ زِينَتِهَا، فَإِنَّكُمْ مِنْ ذَلِكَ بَيْنَ فَضِيلَتَيْنِ، عَاجِلِ الْخَفْضِ وَالدَّعَةِ، وَآجِلِ الْجَزَاءِ وَالْمَثُوبَةِ، عَصَمَكُمُ اللَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ وَفِتْنَتِهِ وَنَزْغِهِ، وَأَيَّدَكُمْ بِحُسْنِ مَعُونَتِهِ وَحِفْظِهِ، انْهَضُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ لِقَبْضِ أُعْطِيَاتِكُمْ، غَيْرَ مَقْطُوعَةٍ، وَلا مُكَدَّرَةٍ عَلَيْكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ: فَخَرَجَ الْقَوْمُ مِنْ عِنْدِهِ بِدْارًا، كُلُّهُمْ يَخَافُ أَنْ تَكُونَ السَّطْوَةُ بِهِ حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُتْبِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: جَلَسَ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ مَجْلِسًا فِي زَمَانِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَالْوَلِيدُ يَوْمَئِذٍ وَلِيُّ عَهْدٍ، وَحَضَرَ مَعَهُ فِي الْمَجْلِسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَتَمَازَحَا سَاعَةً، وَتَذَاكَرَا الشِّعرَ وَأَيَّامَ الْعَرَبَ، حَتَّى أَفْضَى بِهِمَا الْحَدِيثُ إِلَى أَنْ قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاوِيَةَ: هَلْ لَكَ يَا أَبَا مُعَاوِيَةَ إِلَى الْمُنَافَرَةِ وَالْمُفَاخَرَةِ فِي مَجْلِسِنَا هَذَا بِكَلامٍ يَحْسُنُ إِنْ رُوِيَ، وَيَعْذُبُ إِنْ حُكِيَ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ: فَخْرِي فَخْرُكَ، وَذِكْرِي ذِكْرُكَ، وَمَا لأَحَدٍ مِنَّا عَلَى صَاحِبِهِ فَضْلٌ، وَلَسْتُ آمَنُ أَنْ يُخْرِجَنَا ذَلِكَ إِلَى مَا لا نُحِبُّهُ، وَلا نُرِيدُهُ.

فَقَالَ الْوَلِيدُ: نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ أنْ يَعْرِضَ هَذَا فِي نَفْسِكَ. فَإِنَّهُ غَيْرُ كَائِنٍ. قَالَ: فَافْتَخَرَ الْوَلِيدُ مُبْتَدِئًا، فَقَالَ: أَنَا ابْنُ يَزِيدَ السَّيِّدِ الْعَمِيدِ مَنْ أَنَافَ فَفَاقَ شَرَفُهُ، وَكَرُمَ أَصْلُهُ، وَطَرْقُهُ. وَسَهُلَ بَابُهُ وَكَفُّهُ، وَاشْتَدَّ مِنَ الضَّيْمِ أَنَفُهُ، هُوَ الَّذِي قُسِّمَتْ مَنَافِعُهُ، وَعَمَّتْ صَنَائِعُهُ، وَتَتَابَعَتْ وَقَائِعُهُ، كَانَتْ إِلَيْهِ تَعْمِدُ الْوُفُودُ، وَبِسِيَاسَتِهِ تُرَاضُ الْجُنُودُ، وَبِأَمْرِهِ تُعْهَدُ الْعُهُودُ، وَتَتَضَاءَلُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ الأُسُودُ. ثُمَّ لَعَبْدِ الْمَلِكِ الَّذِي كَانَ إِذَا سَابَقَ الأَكفَاءَ سَبَقَ، وَإِذَا نَطَقَ صَدَقَ، وَيَفْرِي كُلَّمَا خَلَقَ، وَتُحْيِي مَخَائِلُهُ، إِذَا وَدَقَ، وَيَرْتِقُ إِذَا فُتِقَ، وَلا يُفْتَقُ مَا رَتَقَ، كَانَ تُهْزَمُ الْجُيُوشُ بِاسْمِهِ، وَتَضِلُّ الْحُلُومُ فِي حِلْمِهِ، وَيِعِيشُ أَهْلُ الرَّأْيِ بِعِلْمِهِ، وَيَعْدِلُ فِي حُكْمِهِ وَقَسْمِهِ، وَيَعْرِفُ فَضْلَ أَبِيهِ وَأُمِّهِ. هُوَ الَّذِي قَارَعَ عَنِ الْمُلْكِ فَفَلَجَ، وَأَدْمَجَ حَبْلَ الْجَمَاعَةِ فَانْدَمَجَ، وَأَرْتَجَ بَابَ الْبَاطِلِ فَارْتُتِجَ، وَلاقَ بِهِ الْمُلْكُ وَابْتَهَجَ. ثُمَّ لِمَرْوَانَ بَقِيَّةُ قُرَيْشٍ، وَتَالِي الْقُرْآنِ، سَمَا لِلْمُلْكِ، فَذَلَّلَ صَعْبَهُ وَرَدَّ مِنْ كُلِّ رَئِيسٍ شَغْبَهُ، وَنَفَّسَ عَنْ كُلِّ مَكْرُوبٍ كَرْبَهُ، وَأَيَّدَ اللَّهُ بِالنَّصْرِ حِزْبَهُ، وَوَرَّثَ الإِمَامَةَ وَالْخِلافَةَ عَقِبَهُ، كَانَ يُسْتَظَلُّ بِظِلِّهِ، وَيَفِي بِعَهْدِهِ، وَيَجْبِي الْمَالَ مِنْ حِلِّهِ، وَيَضَعُهُ فِي أَهْلِهِ، وَيُعْرَفُ هَدْيُهُ فِي سُبُلِهِ، ثُمَّ لِلْحَكَمِ الْمَاجِدِ الْعَلَمِ، كَانَ لا تُخْمَدُ نِيرَانُهُ، وَلا تُذَمَّ جِفَانُهُ، وَلا تُؤْمَنُ أَضْغَانُهُ، وَلا يُقَدَّرُ شَأْنُهُ، ثُمَّ لأَبِي الْعَاصِ، الْكَرِيمِ الْمَحَلِّ وَالْعِرَاصِ، كَانَ يُصْدَرُ عَنْ رَأْيِهِ، وَيُوثَقُ بِرَأْيِهِ، وَيُعَاشُ بِحِبَائِهِ، وَيُؤْمَنُ بِغِنَائِهِ، وَيُقْتَاسُ عَلَى بِنَائِهِ. ثُمَّ لأُمَيَّةَ الَّذِي وَلِيَ كُلَّ عَلِيَّةٍ، وَلَدَ الْقُرُومَ فَأَنْجَبَ، وَغَالَى بِالْحَمْدِ فَأَرْغَبَ، وَزُوِّقَ عَلَيْهِ الْمَجْدُ وَطُنِّبَ، وَأَرْوَى زَنْدَهُ وَأَثْقَبَ، وَبَذَلَ مَالَهُ فَأَنْهَبَ. ثُمَّ لِعَبْدِ شَمْسٍ فَارجِ كُلِّ لَبْسٍ، لَيَّاذِ قُرَيْشٍ إِذَا حُصِّلُوا، وَحَلِيمِهَا إِذَا جَهِلُوا، وَجَبَلِهَا إِذَا زُلْزِلُوا، وَزَعِيمِهَا إِذَا احْتَفَلُوا، وَرَبِيعِهَا إِذَا أُمْحِلُوا. وَأَفْتَخِرُ بِفَتَى الْفِتْيَانِ، يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، كَانَ سَمْحَ السُّمَحَاءِ، وَلَبِيبَ الأَلِبَّاءِ، الَّذِي كَمَّلَ الْجُودَ وَالأَصَالَةَ وَالْبَرَاعَةَ، وَلَدَتْهُ الْقَرُومُ مِنْ قُضَاعَةَ.

ثُمَّ لِقَرِيعِ الأَنَامِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ مِنْ أَثْمَنِ مَنْ فِي الْمَكَارِمِ جَوْهَرُهُ، ثُمَّ غَطَّى الْفَاخِرَ مَفْخَرُهُ، وَبَذَّ أَخْيَارَ النَّاسِ خَيْرُهُ، وَزَهَا بِهِ سَرِيرُهُ، وَمِنْبَرُهُ، طُبِعَتْ عَلَى الْحِلْمِ سَجِيَّتُهُ، وَكَمُلَتْ أَخْلاقُهُ وَمُرُوءَتُهُ، وَاسْتَوَتْ عَلانِيَتُهُ وَسَرِيرَتُهُ، وَرَضِيَتْ بِسِيَاسَتِهِ رَعِيَّتُهُ، وَحَبْرُ الأَشْرَافِ عَطِيَّتُهُ، مَنْ طَلَبَ فأَدَرْكَ بثِأَرْهِ، وَشَمَّرَ لِلْحَرْبِ بِأَنْصَارِهِ، وَأَخَذَ الأَمْرَ مِنْ أقَطْارِهِ، ثُمَّ لِصَخْرٍ مَعْدِنِ النُّبْلِ وَالْفَخْرِ، مَفْزَعِ قَوْمِهِ إِذَا رَهِبُوا، وَغِيَاثِهِمْ إِذَا أَجْدَبُوا، وَمِدْرَهِهِمْ إِذَا خَطَبُوا، وَفَارِسِهِمْ إِذَا رَكِبُوا، مُيَسِّرِ كُلِّ عَسِيرٍ، وَرَئِيسِ كُلِّ كَبِيرٍ، وَبَدْرِ كُلِّ مُنِيرٍ، ثُمَّ لِحَرْبٍ مُنَفِّسِ كُلِّ كَرْبٍ، قَائِدِ قَوْمِهِ فِي الْحَقَائِقِ، وَعِصْمَتِهِمْ فِي الْوَثَائِقِ، وَحَامِيهِمْ فِي الْمَضَايِقِ، يَعْلُو عَلَى الْمَنَازِعِ فِي خِصَامِهِ، وَتَثْبُتُ قَدَمُهُ فِي مَقَامِهِ، وَتُؤْثَرُ أَمْثَالُ كَلامِهِ، وَيَزْدَحِمُ النَّاسُ عَلَى طَعَامِهِ، وَتَتَحَدَّثُ الْمَوَاسِمُ بِأَيَّامِهِ. فَلَمَّا فَرَغَ الْوَلِيدُ، قَالَ لعَبْدِ اللَّهِ: تَكَلَّمْ. فَقَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَنَا عَبْدُ اللَّهُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَا ابْنُ الْبُدُورِ الزَّوَاهِرِ، وَالْبُحُورِ الزَّوَاخِرِ، وَالْغُيُوثِ الْمَوَاطِرِ، وَاللُّيُوثِ الْهَوَاصِرِ، الَّذِينَ بَرَزَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ شَأْوُهُمْ، وَأَنَافَ عَلَى كُلِّ بِنَاءٍ بِنَاؤُهُمْ، وَكَانَ خَيْرَ الآبَاءِ آبَاؤُهُمْ، أَنَا ابْنُ الْفُرُوعِ الزَّكِيَّةِ، وَالْمَصَابِيحِ الْمُضِيَّةِ، وَالأَشْيَاخِ الرَّضِيَّةِ، الْهُدَاةِ الْمَهْدِيَّةِ، ضَرَبُوا بِأَسْيَافِهِمْ عَلَى التُّقَى، وَأَقَامُوا لِلنَّاسِ مَعَالِمَ الْهُدَى. وَاسْتَنْقَذُوهُمْ مِنَ الضَلالَةِ وَالرَّدَى، وَدَوَّخُوا صَنَادِيدَ الْعِدَا. أَخْرَجَنَا اللَّهُ مِنْ أَكْرَمِ طِينَةٍ، وَاصْطَفَانَا مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمَكْنُونَةِ، وَاخْتَصَّنَا بِالْوَحْيِ وَالدَّيْنُونَةِ، وَجَعَلَ لَنَا السُّنَنَ الْمَسْنُونَةَ، يَنْزِلُ وَحْيُ اللَّهِ فِي أَبْيَاتِنَا، وَيُمْلِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، عَلَى آبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، تَحِلُّ الْمَلائِكَةُ بِعَقْوَاتِنَا، فَلَنَا كلُّ فَضْلٍ مَعْدُودٍ، وَسَنَاءٍ مَحْمُودٍ، وَنَحْنُ زَيْنُ كُلِّ مَشْهُودٍ , وَغُرَّةُ كُلِّ طَارِفٍ وَمَتْلُودٍ. مِنَّا خِيرَةُ اللَّهِ الْمُصْطَفَى، وَرَسُولُهُ الْمُجَتَبَى، وَأَمِينُهُ الْمُرْتَضَى، وَالْمُؤْثَرُ بِسِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنَّا حَمْزَةُ أَسَدُ اللَّهِ وَأَسَدُ رَسُولِهِ، وَحَامِيَةُ الْمُسْلِمِينَ، وَآفَةُ الْمُشْرِكِينَ، وَسَيِّدُ شُهَدَاءِ الْعَالَمِينَ، كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَهِيبًا، وَلِمَالِهِ وَهُوبًا، وَفِي الإِسْلامِ سَبَّاقًا خَطِيبًا، وَعَلَى الأَعْدَاءِ أَبَّاءً صَلِيبًا. وَمِنَّا عَلِيٌّ ذُو السَّوَابِقِ الْبَاسِقَةِ، وَالْمَنَاقِبِ الْفَائِقَةِ، الَّذِي لَيْسَتْ كَسَابِقَتِهِ سَابِقَةٌ، أَقْدَمُ قُرَيْشٍ سَبْقًا، وَأَعْلَمُهُمْ عِلْمًا، وَأَجْوَدُهُمْ فَهْمًا، وَأَرْجَحُهُمْ حِلْمًا، وَأَكْرَمُهُمْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ نَفْسًا، وَأَفْضَلُهُمْ وَلَدًا وَعُرْسًا، وَخَيْرُهُمْ مَحْتِدًا وَجِنْسًا، أَصْدَقُ الْعَرَبِ بَأْسًا وَأَشَدُّهُمْ مِرَاسًا.

وَمِنَّا الْعَبَّاسُ الْمُفَضَّلُ بِسَرِيرَتِهِ، الْمُسْتَمِرُّ لِمَرِيرَتِهِ، الْمُتَحَبِّبُ إِلَى عَشِيرَتِهِ، كَهْفُ قُرَيْشٍ إِذَا اسْتَكْهَفُوا، وَرَءُوفُهُمْ إِذَا اسَتَرْأَفُوا، وَعَدْلُهُمْ إِذَا اسْتَنْصَفُوا. وَمِنَّا ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ حَبْرُ الأَحْبَارِ، وَبَرُّ الأَبْرَارِ، الْعَالِمُ بِكُلِّ مُشْكِلَةٍ، وَالْقَائِمُ بِكُلِّ مُعْضِلَةٍ. ثُمَّ أَنَا ابْنُ مُعَاوِيَةَ، وَارِثُ كُلِّ فَضِيلَةٍ، وَمُصْطَنِعُ كُلِّ جَمِيلَةٍ، وَمُفَرِّجُ كُلِّ جَلِيلَةٍ، وَمُسَيِّلُ كُلِّ جَزِيلَةٍ. ثُمَّ لِعَبْدِ اللَّهِ مُشْتَرِي الَحْمَدِ بِنَوَالِهِ، وَالْمُؤْثِرِ عَلَى نَفْسِهِ بِمَالِهِ، وَالْمُرْوِي الظِّمَاءَ بِسِجَالِهِ. مَنْ أَنَجْدَ ذِكْرُهُ وَغَارَ، وَغَمَرَ جُودُهُ الْبِحَارَ، وَعَمَّ عَطَاؤُهُ الأَمْصَارَ، سَلَكَ سَبِيلَ الْمُرُوَّةِ، وَأَخَذَ بِأَخْلاقِ النُّبُوَّةِ، وَتَقَبَّلَ سُنَّةَ الأُبُوَّةِ. ثُمَّ لِجَعْفَرٍ الطَّيَّارِ مَعَ الْحِسَانِ، وَالْمُصَارِعِ لِلأَقْرَانِ، وَالْمُظْهِرِ لِلْبُرْهَانِ، وَالْقَائِمِ بِطَاعَةِ الرَّحْمَنِ، أَشْبَهِ النَّاسِ بِنَبِيِّهِ خَلْقًا وُخُلُقًا، وَأَقْدَمِهِمْ فِي الإِسْلامِ سَبْقًا، وَأَحَقِّهِمِ بِكُلِّ سَنَاءٍ حَقًّا. ثُمَّ لأَبِي طَالِبٍ مِدْرَهِ قُرَيْشٍ إِذَا حَشَدُوا، وَرَئِيسِهِمْ إِذَا عَقَدُوا، وَعَمِيدِهِمْ إِذَا اعْتَمَدُوا، وَفَارِجِ كُرَبِهِمْ إِذَا جَهِدُوا، وَلَدَ الْكِرَامَ وَوَلَدُوهُ، وَأَشْبَهَ أَبَاهُ، وَأَشْبَهَهُ بَنُوهُ. ثُمَّ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْوَارِي الزِّنَادِ، الرَّفِيعِ الْعِمَادِ، الْمُرْغِمِ لِلأَعَادِي، الْقَائِلِ بِالسَّدَادِ، مُحْتَفِرِ زَمْزَمَ خَيْرَ الْحَفَائِرِ، وَسَاقِي الْحَجِيجِ فِيهِ بِالْمَفَاخِرِ، جَمَعَ قُرَيْشًا بَعْدَمَا تَفَرَّقُوا، وَقَادَهُمْ حَتَّى اسْتَوْسَقُوا، وَبَذَّهُمْ حِينَ نَطَقَ وَنَطَقُوا. ثُمَّ لِهَاشِمٍ مُطْعِمِ النَّاسَ فِي الشِّتَاءِ وَالأَصْيَافِ، وَمَحَلِّ الْوُفِودِ وَالأَضْيَافِ، وَمَلْجَأِ كُلِّ هَارِبٍ وَمَضَافِ، وَالسَّابِقِ إِلَى غَايَاتِ الَأَشْرَافِ. أَطْعَمَ قُرَيْشًا حِينَ أَسْنَتَتْ، وَجَادَ بِمَالِهِ حِينَ أَمْسَكَتْ، وَسَاهَمَ الْمُهِمَّةَ لَمَّا أَضْلَعَتْ، وَقَهَرَ بِنَاؤُهُ بِنَاءَهَا لَمَّا ابْتَنَتْ. فَأَنَا خَيْرُ الْعَالَمِينَ أْشيَاخًا، وَأَكْرَمُهُمْ أَرُومَةً وَأَسْنَاخًا، وَأَعَزُّهُمْ سَيِّدًا بَذَّاخًا، وَأَخْصَبُهُمُ مَحِلَّةً وَمُنَاخًا، عَلَيْهِمِ تَنْزِلُ الأَنْبَاءُ، وَبِهِمْ وَلَّفَتْ قُرَيْشٌ الأَحْيَاءَ، وَأَقَرَّتْ بِفَضْلِهَا الأَمْلاءُ، وَأَذْعَنَتِ الرُّؤَسَاءُ، أَنَا ابْنُ الأَعْلامِ لِلأَعْلامِ، وَابْنُ سَادَةِ الإِسْلامِ، وَمَعْدِنِ النُّبُوَّةِ وَالأَحْكَامِ، وَأَكْرَمَ الإِسْلامُ أَسْلافَنَا، وَأَطْهَرَ الأَطْرَافَ أَطْرَافُنَا، وَأَعَزَّ الأَحْلافَ أَحْلافُنَا، يَضْمَحِلُّ الْفَخْرُ عِنْدَ فَخْرِنَا، وَيُنْسَى كُلُّ ذَكْرٍ مَعَ ذِكْرِنَا، وَيَصْغُرُ كُلُّ قَدْرٍ عِنْدَ قَدْرِنَا. قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ كَلامِهِمَا تَفَرَّقَا

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ، قَالَ: حَجَّ عَبْدُ الْمَلِكِ فِي بَعْضِ الأَعْوَامِ، فَأَمَرَ النَّاسَ بَالْعَطَاءِ، فَخَرَجَتْ بَدْرَةٌ مَكْتُوبُ عَلَيْهَا، مِنَ الصَّدَقَةِ، فَأَبَى أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ قُبُولِهَا، وَقَالُوا: أَفَمَا كَانَ إِعْطَاؤُنَا مِنَ الْفَيْءِ؟ فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مِثْلُنَا وِمِثْلُكُمْ، إِنَّ أَخَوَيْنِ خَرَجَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مُسَافِرَيْنِ، فَنَزَلا فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ تَحْتَ صَفًا، فَلَمَّا دَنَا الرَّوَاحُ، خَرَجَتْ إِلَيْهِمَا مِنْ تَحْتِ الصَّفَا حَيَّةٌ تَحْمِلُ دِينَارًا، فَأَلْقَتْهُ إِلَيْهِمَا، فَقَالا: إِنَّ هَذَا لِمِنْ كَنْزٍ، فَأَقَامَا عَلَيْهَا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، كُلَّ يَوْمٍ تَخْرُجُ إِلَيْهِمَا بِدِينَارٍ. فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: إِلَى مَتَى نَنْتَظِرُ هَذِهِ الْحَيَّةَ؟ أَلا نَقْتُلُهَا فَنَحْفُرُ هَذَا الْكَنْزَ فَنَأَخْذُهُ؟ فَنَهَاهُ أَخُوهُ، وَقَالَ لَهُ: مَا تَدْرِي لَعَلَّكَ تَعْطِبُ وَلا تُدْرِكُ الْمَالَ. فَأَبَى عَلَيْهِ، فَأَخَذَ فَأْسًا مَعَهُ وَرَصَدَ الْحَيَّةَ حَتَّى خَرَجَتْ، فَضَرَبَهَا ضَرْبَةً جَرَحَتْ رَأْسَهَا وَلَمْ يَقْتُلْهَا. فَثَارَتِ الْحَيَّةُ فَقَتَلَتْهُ، وَرَجَعَتْ إِلَى جُحْرِهَا، فَقَامَ أَخُوهُ فَدَفَنَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ خَرَجَتِ الْحَيَّةُ مَعْصُوبًا رَأْسهَا، لَيْسَ مَعَهَا شَيْءٌ، فَقَالَ لَهَا: يَا هَذِهِ إِنِّي وَاللَّهِ مَا رَضِيتُ مَا أَصَابَكَ، وَلَقَدْ نَهَيْتُ أَخِي عَنْ ذَلِكَ، فَهَلْ لَكِ أنْ نَجْعَلَ اللَّهَ بَيْنَنَا، لا تَضُرِّينِي وَلا أَضُرُّكِ، وَتَرْجِعِينَ إِلَى مَا كُنْتِ عَلَيْهِ؟ قَالَتِ الْحَيَّةُ لا. قَالَ: وَلِمَ ذَلِكَ؟ قَالَتْ: إِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّ نَفْسَكَ لا تَطِيبُ أَبَدًا، وَأَنْتَ تَرَى قَبْرَ أَخِيكَ، وَنَفْسِي لا تَطِيبُ لَكَ أَبَدًا، وَأَنَا أَذْكُرُ هَذِهِ الشَّجَّةَ، وَأَنْشَدَهُمْ شِعْرًا لِلنَّابِغَةِ: فَقَالَتْ أَرَى قَبْرًا تَرَاهُ مُقَابِلِي ... وَضَرْبَةَ فَأْسٍ فَوْقَ رَأْسِي فَاغِرَهْ فَيَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَلِيَكُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَكَانَ فَظًّا غَلِيظًا مُضَيِّقًا عَلَيْكُمْ، فَسَمِعْتُمْ لَهُ وَأَطَعْتُمْ، ثُمَّ وَلِيَكُمْ عُثْمَانُ، فَكَانَ سَهْلا لَيِّنًا كَرِيمًا، فَعَدَوْتُمْ عَلَيْهِ فَقَتَلْتُمُوهُ، وَبَعَثَنَا عَلَيْكُمْ مُسْلِمًا يَوْمَ الْحَرَّةِ فَقَتَلْتُمُوهُ. فَنَحْنُ أَعْلَمُ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَنَّكُمْلا تُحِبُّونَنَا أَبَدًا، وَأَنْتُمْ تَذْكُرُونَ يَوْمَ الْحرَّةِ، وَنَحْنُ لا نُحِبُّكُمْ أَبَدًا، وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَقْتَلَ عُثْمَانَ ورَوَاهُ جَمِيعُ النَّاسِ مِمَّنْ عُنِيَ بِنَقْلِ الآثَارِ وَالسِّيَرِ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَرْبَعُ خِصَالٍ كُنَّ فِي مُعَاوِيَةَ، لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلا وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ لَكَانَتْ مُوبِقَةً: انْتِزَاؤُهُ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ بِالسُّفَهَاءِ حَتَّى ابْتَزَّهَا أَمْرَهَا بِغَيْرِ مَشُورَةٍ مِنْهُمْ، وَفِيهِمْ بَقَايَا الصَّحَابَةِ وَذَوُو الْفَضِيلَةِ. وَاسْتِخْلافُهُ بَعْدَهُ ابْنَهُ يَزِيدَ، سِكِّيرًا خِمِّيرًا، يَلْبَسُ الْحَرِيرَ، وَيَضْرِبُ بِالطَّنَابِيرِ.

وَادِّعَاؤُهُ زِيَادًا، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ: " الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجْرُ رَوَاهُ الْمَدَائِنِيُّ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كَلامِ ابْنِ عَبَّاسٍ لأَبِي مُوسَى، وَقَوْلُهُ: إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَرْتَضُوكَ لِفَضْلٍ عِنْدَكَ لَمْ تُشَارِكْ فِيهِ. . . وَذَكَرَ فِي آخِرِهِ: فَقَالَ بَعْضُ شُعَرَاءِ قُرَيْشٍ: وَاللَّهِ مَا كَلَّمَ الأَقْوَامَ مِنْ بَشْرٍ ... بَعْدَ الْوَصِيِّ عَلِيٍّ كَابْنِ عَبَّاسِ أَوْصَى ابْنُ قَيْسٍ بِأَمْرٍ فِيهِ عِصْمَتُهُ ... لَوْ كَانَ فِيهَا أَبُو مُوسَى مِنَ النَّاسِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْهِ مَكْرَ صَاحِبِهِ ... أَرْجُو رَجَاءً مَخُوفًا شِيبَ بِالْيَاسِ. إِنَّ يَزِيدَ بْنَ حُجَيَّةَ التَّيْمِيَّ، شَهِدَ الْجَمَلَ وَصِفِّينَ وَنَهْرَوَانَ مَعَ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ، ثُمَّ وَلاهُ الرَّيَّ وَدَسْتَبَى، فَسَرَقَ مِنْ أَمْوَالِهِمَا وَلَحِقَ بِمُعَاوِيَةَ، وَهَجَا عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلامُ، وَأَصْحَابَهُ، وَمَدَحَ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابَهُ، فَدَعَا عَلَيْهِ عَلِيٌّ، عَلَيْهِ السَّلامُ، وَرَفَعَ أَصْحَابُهُ أَيْدِيَهُمْ فَأَمَّنُوا، وَكَتَبَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمِّهِ كِتَابًا يُقَبِّحُ إِلَيْهِ مَا صَنَعَ، وَكَانَ الْكِتَابُ شِعْرًا. فَكَتَبَ يَزِيدُ بْنُ حُجَيَّةَ إِلَيْهِ: لَوْ كُنْتُ أَقُولُ شِعْرًا لأَجَبْتُكَ، وَلَكِنْ قَدْ كَانَ مِنْكُمْ خِلالٌ ثَلاثٌ لا تَرَوْنَ مَعَهُنَّ شَيْئًا مِمَّا تُحِبُّونَ: أَمَّا الأُولَى: فَإِنَّكُمْ سِرْتُمْ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ، حَتَّى إِذَا دَخَلْتُمْ بِلادَهُمْ، وَطَعَنْتُمُوهُمْ بِالرِّمَاحِ، وَأَذَقْتُمُوهُمْ أَلَمَ الْجِرَاحِ، رَفَعُوا الْمَصَاحِفَ، فَسَخِرُوا مِنْكُمْ وَرَدُّوكُمْ عَنْهُمْ، فَوَاللَّهِ وَاللَّهِ لا دَخَلْتُمُوهَا بِمِثْلِ تِلْكَ الشَّوْكَةِ , وَالشِّدَّةِ أَبَدًا، وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْقَوْمَ بَعَثُوا حَكَمًا، وَبَعَثْتُمْ حَكَمًا، فَأَمَّا حَكَمَهُمْ فَأَثْبَتَهُمْ، وَأَمَّا حَكَمَكُمْ فَخَلَعَكُمْ، وَرَجَعَ صَاحِبَهُمْ يُدْعَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَرَجَعْتُمْ مُتَضَاغِنِينَ. وَالثَّالِثَةُ: أَنَّ قُرَّاءَكُمْ وَفُقَهَاءَكُمْ وَفُرْسَانَكُمْ خَالَفُوكُمْ، فَعَدَوْتُمْ عَلَيْهِمْ فَقَتَلْتُمُوهُمْ. ثُمَّ كَتَبَ فِي آخِرِ الْكِتَابِ بَيْتَيْنِ لِعَفَّانَ بْنِ شُرَحْبِيلَ التَّمِيمِيِّ: أَحْبَبْتُ أَهْلَ الشَّامِ مِنْ بَيْنَ الْمَلا ... وَبَكَيْتُ مِنْ أَسَفٍ عَلَى عُثْمَانِ أَرْضًا مُقَدَّسَةً وَقَوْمًا مِنْهُمُ ... أَهْلُ الْيَقِينِ وَتَابِعُو الْفُرْقَانِ

قَالَ الْمُطَرِّفُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: " دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَكَانَ أَبِي يَأْتِيهِ فَيَتَحَدَّثُ مَعَهُ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ إِلَيَّ فَيَذْكُرُ مُعَاوِيَةَ وَعَقْلَهُ، وَيُعْجَبُ بِمَا يَرَى مِنْهُ، إِذْ جَاءَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَأَمْسَكَ عَنِ الْعَشَاءِ، وَرَأَيْتُهُ مُغْتَمًّا، فَانْتَظَرْتُهُ سَاعَةً، وَظَنَنْتُ أَنَّهُ لأَمْرٍ حَدَثَ فِينَا، فَقُلْتُ: مَا لِي أَرَاكَ مُغْتَمًّا مُنْذُ اللَّيْلَةِ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ جِئْتُ مِنْ أَكْفَرِ النَّاسِ وَأَخْبَثِهِمْ، قُلْتُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: قُلْتُ لَهُ وَقَدْ خَلَوْتُ بِهِ: إِنَّكَ قَدْ بَلَغْتَ سِنًّا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَوْ أَظْهَرْتَ عَدْلا، وَبَسَطْتَ خَيْرًا فَإِنَّكَ قَدْ كَبِرْتَ، وَلَوْ نَظَرْتَ إِلَى إِخْوَتِكَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، فَوَصَلْتَ أَرْحَامَهَمْ، فَوَاللَّهِ مَا عِنْدَهُمُ الْيَوْمَ شَيْءٌ تَخَافُهُ، وَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَبْقَى لَكَ ذِكْرُهُ، وَثَوَابُهُ؟ فَقَالَ: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ! أَيُّ ذِكْرٍ أَرْجُو بَقَاءَهُ! مَلَكَ أَخُو تَيْمٍ فَعَدَلَ وَفَعَلَ مَا فَعَلَ، فَمَا عَدَا أَنْ هَلَكَ، حَتَّى هَلَكَ ذِكْرُهُ إِلا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: أَبُو بَكْرٍ. ثُمَّ مَلَكَ أَخُو عَدِيٍّ، فَاجْتَهَدَ وَشَمَّرَ عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا عَدَا أَنْ هَلَكَ حَتَّى هَلَكَ ذِكْرُهُ، إِلا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: عُمَرُ. وَإِنَّ ابْنَ أَبِي كَبْشَةَ لَيُصَاحُ بِهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَأَيُّ عَمَلٍ يَبْقَى؟ وَأَيُّ ذِكْرٍ يَدُومُ بَعْدَ هَذَا لا أَبَا لَكَ؟ لا وَاللَّهِ إِلا دَفْنًا دَفْنًا ". لَمَّا بَايَعَ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ أَبَا بَكْرٍ، وَازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَبَايَعُوهُ، مَرَّ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ بِالْبَيْتِ الَّذِي فِيهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَوَقَفَ وَأَنْشَدَ: بَنِي هَاشِمٍ لا تُطْمِعُوا النَّاسَ فِيكُمُ ... وَلا سِيَّمَا تَيْمُ بْنُ مُرَّةَ أَوْ عَدِي فَمَا الأَمْرُ إِلا فِيكُمُ وَإِلَيْكُمُ ... وَلَيْسَ لَهَا إِلا أَبُو حَسَنٍ عَلِي أَبَا حَسَنٍ فَاشْدُدُ بِهَا كَفَّ حَازِمٍ ... فَإِنَّكَ بِالأَمْرِ الَّذِي يُرْتَجَى مَلِي وَأَيُّ امْرِئٍ يَرْمِي قُصَيًّا وَرَأْيُهَا ... مَنِيعُ الْحِمَى وَالنَّاسُ مِنْ غَالَبٍ قَصِي فَقَالَ عَلِيٌّ لأَبِي سُفْيَانَ: " إِنَّكَ تُرِيدُ أَمْرًا لَسْنَا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَقَدْ عَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدًا فَأَنَا لَهُ. فَتَرَكَهُ أَبُو سُفْيَانَ، وَعَدَلَ إِلَى الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي مَنْزِلِهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْفَضْلِ، أَنْتَ أَحَقُّ بِمِيرَاثِ أَخِيكَ، امْدُدْ يَدَكَ لأُبَايِعَكَ، فَلا يَخْتَلِفُ عَلَيْكَ النَّاسُ بَعْدَ بَيْعَتِي إِيَّاكَ. فَضَحِكَ الْعَبَّاسُ، وَقَالَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، يَدْفَعُهَا عَلِيٌّ وَيَطْلُبُهَا الْعَبَّاسُ! فَرَجَعَ أَبُو سُفْيَانَ خَائِبًا. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: أَنَّ الأَوْسَ تَزْعُمُ أَنَّ أَوْلَ مَنْ بَايَعَ أَبَا بَكْرٍ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ. ، وَتَزْعُمُ الْخَزْرَجُ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ.

فَلَمَّا بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ أَقْبَلَتِ الْجَمَاعَةُ الَّتِي بَايَعَتْهُ تَزِفُّهُ زَفًّا إِلَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا كَانَ آخِرُ النَّهَارِ افْتَرَقُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ، فَاجْتَمَعَ قَوْمٌ مِنَ الأَنْصَارِ، وَقَوْمٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَتَعَاتَبُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: «يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، إِنَّكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ أُولِي فَضْلٍ وَنَصْرٍ وَسَابِقَةٍ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِيكُمْ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ وَلا عُمَرَ وَلا عَلِيٍّ وَلا أَبِي عُبَيْدَةَ» . فَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ: " إِنَّا لا نُنْكِرُ فَضْلَ مَنْ ذَكَرْتَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَإِنَّ مِنَّا لَسَيِّدَ الأَنْصَارِ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، وَمَنْ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يُقْرِئَهُ السَّلامَ، وَأَنْ يَأْخُذَ عَنْهُ الْقُرْآنَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، وَمَنْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِمَامَ الْعُلَمَاءِ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، وَمَنْ أَمْضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شَهَادَتَهُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ خُزَيْمَةَ بْنَ ثَابِتٍ، وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِمَّنْ سَمَّيْتَ مِنْ قُرَيْشٍ مَنْ لَوْ طَلَبَ هَذَا الأَمْرَ لَمْ يُنَازِعْهُ فِيهِ أَحَدٌ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ". فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ، قَامَ أَبُو بَكْرٍ فَخَطَبَ النَّاسَ، وَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي وُلِّيتُ أَمْرَكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، فَإِذَا أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي، وَإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُونِي. إِنَّ لِي شَيْطَانًا يَعْتَرِينِي، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّايَ إِذَا غَضِبْتُ، لا أُوثِرُ فِي أَشْعَارِكُمْ، وَأَبْشَارِكُمْ. الصِّدْقُ أَمَانَةٌ، وَالْكَذِبُ خِيَانَةٌ، وَالضَّعِيفُ مِنْكُمْ قَوِيٌّ حَتَّى أَرُدَّ إِلَيْهِ حَقَّهُ، وَالْقَوِيُّ ضِعِيفٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ. إِنَّهُ لا يَدَعُ قَوْمٌ الْجِهَادَ إِلا ضَرَبَهَمُ اللَّهُ بِالذُّلِّ، وَلا تَشِيعُ فِي قَوْمٍ الْفَاحِشَةُ إِلا عَمَّهُمُ الْبَلاءُ. أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللَّهَ، فَإِذَا عَصَيْتُ اللَّهَ فَلا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ. قُومُوا إِلَى صَلاتِكُمْ يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ» . قَالَ ابْنُ أَبِي عَزَّةَ الْقُرَشِيُّ: شُكْرًا لِمَنْ هُوَ بِالثَّنَاءِ حَقِيقُ ... ذَهَبَ اللَّجَاجُ وَبُويِعَ الصِّدِّيقُ مِنْ بَعْدِ مَا زَلَّتْ بِسَعْدٍ نَعْلُهُ ... وَرَجَا رَجَاءً دُونَهُ الْعَيُّوقُ حَفَّتْ بِهِ الأَنْصَارُ عَاصِبَ رَأْسِهِ ... فَأَتَاهُمُ الصِّدِّيقُ وَالْفَارُوقُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَالَّذِينَ إِلَيْهِمُ ... نَفْسُ الْمُؤَمِّلِ لِلَّقِاءِ تَتُوقُ كُنَّا نَقُولُ لَهَا عَلِيٌّ وَالرِّضَا ... عُمَرٌ وَأَوْلاهُمْ بِذَاكَ عَتِيقُ فَدَعَتْ قُرَيْشٌ بِاسْمِهِ فَأَجَابَهَا ... إِنَّ الْمُنَوَّهُ بِاسْمِهِ الْمَوْثُوقُ قُلْ لِلأُلَى طَلَبُوا الْخِلافَةَ زِلَّةٌ ... لَمْ يَخْطُ مِثْلَ خُطَاهُمُ مَخْلُوقُ إِنَّ الْخِلافَةَ فِي قُرَيْشٍ مَالَكُمْ ... فِيهَا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ مَعْرُوقُ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا بُويِعَ افْتَخَرَتْ تَيْمُ بْنُ مُرَّةَ. قَالَ: وَكَانَ عَامَّةُ الْمُهَاجِرِينَ وَجُلُّ الأَنْصَارِ لا يَشُكُّونَ أَنَّ عَلِيًّا هُوَ صَاحِبُ الأَمْرِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، فَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَخُصُوصًا يَا بَنِي تَيْمٍ، إِنَّكُمْ، إِنَّمَا أَخَذْتُمُ الْخِلافَةَ بِالنُّبُوَّةِ.

وَنَحْنُ أَهْلُهَا دُونَكُمْ، وَلَوْ طَلَبْنَا هَذَا الأَمْرَ الَّذِي نَحْنُ أَهْلُهُ لَكَانَتْ كَرَاهَةُ النَّاسِ لَنَا أَعْظَمَ مِنْ كَرَاهَتِهِمْ لِغَيْرِنَا، حَسَدًا مِنْهُمْ لَنَا وَحِقْدًا عَلَيْنَا، وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ عِنْدَ صَاحِبِنَا عَهْدًا هُوَ يَنْتَهِي إِلَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُ وَلَدِ أَبِي لَهَبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ شِعْرًا: مَا كُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّ الأَمْرَ مُنْصَرِفٌ ... عَنْ هَاشِمٍ ثُمَّ مِنْهَا عَنْ أَبِي حَسَنِ أَلَيْسَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى لِقِبْلَتِكُمْ ... وَأَعْلَمَ النَّاسِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ وَأَقْرَبَ النَّاسِ عَهْدًا بِالنَّبِيِّ وَمَنْ ... جِبْرِيلُ عَوْنٌ لَهُ فِي الْغُسْلِ وَالْكَفَنِ مَا فِيهِ مَا فِيهِمُ لا يَمْتَرُونَ بِهِ ... وَلَيْسَ فِي الْقَوْمِ مَا فِيهِ مِنَ الْحَسَنِ مَاذَا الَّذِي رَدَّهُمْ عَنْهُ فَتَعْلَمُهُ ... هَا إِنَّ ذَا غَبْنُنَا مِنْ أَعْظَمَ الْغَبَنِ قَالَ الزُّبَيْرُ: فَبَعَثَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ فَنَهَاهُ وَأَمَرَهُ أَلا يَعُودَ، وَقَالَ: «سَلامَةُ الدِّينِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ غَيْرِهِ» . وَكَانَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ شِيعَةً لأَبِي بَكْرٍ، وَمِنَ الْمُنْحَرِفِينَ عَنْ عَلِيٍّ فَقَامَ خَطِيبًا، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّا رُمِينَا فِي بَدْءِ هَذَا الدِّينِ بِأَمْرٍ، ثَقُلَ عَلَيْنَا وَاللَّهِ مَحْمَلُهُ، وَصَعُبَ عَلَيْنَا مُرْتَقَاهُ، وَكُنَّا كَأَنَّا فِيهِ عَلَى أَوْتَارٍ، ثُمَّ وَاللَّهِ مَا لَبِثْنَا أَنْ خَفَّ عَلَيْنَا ثِقَلُهُ، وَذَلَّ لَنَا صَعْبُهُ، وَعَجِبْنَا مِمَّنْ شَكَّكَ فِيهِ بَعْدَ عُجْبِنَا مِمَّنْ آمَنَ بِهِ حَتَّى أُمِرْنَا بِمَا كُنَّا نَنْهَى عَنْهُ، وَنُهِينَا عَمَّا كُنَّا نَأْمُرُ بِهِ، وَلا وَاللَّهِ مَا سَبَقْنَا إِلَيْهِ بِالْعُقُولِ، وَلَكِنَّهُ التَّوْفِيقُ. أَلا وَإِنَّ الْوَحْيَ لَمْ يَنْقَطِعْ حَتَّى أَحْكَمَ، ولَمْ يَذْهَبِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَسْتَبْدِلَ بَعْدَهُ نَبِيًّا وَلا بَعْدَ الْوَحْيِ وَحْيًا، وَنَحْنُ الْيَوْمَ أَكْثَرُ مِنَّا أَمْسِ، وَنَحْنُ أَمْسِ خَيْرٌ مِنَّا الْيَوْمَ. مَنْ دَخَلَ فِي هَذَا الدِّينِ كَانَ ثَوَابُهُ عَلَى حَسَبِ عَمَلِهِ، وَمَنْ تَرْكَهُ رَدَدْنَاهُ إِلَيْهِ، وَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا صَاحِبُ الأَمْرِ يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ، بِالْمَسْئُولِ عَنْهُ، وَلا لِيُخْتَلَفَ فِيهِ، وَلا الْخَفِيِّ الشَّخْصِ، وَلا الْمَغْمُوزِ الْقَنَاةِ، فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْ كَلامِهِ. وَمَدَحَهُ حَزْنُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيُّ، وَهُوَ الَّذِي سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ «سَهْلا» وَهُوَ جَدُّ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ الْفَقِيهِ، وَقَالَ: وَقَامَتْ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ كَثِيرَةٌ ... فَلَمْ يَكُ مِنْهُمْ فِي الرِّجَالِ كَخَالِدِ تَرَقَّى فَلَمْ يَزْلِقْ بِهِ صَدْرُ نَعْلِهِ ... وَكَفَّ فَلَمْ يَعْرِضْ لِتِلْكَ الأَوَابِدِ فَجَاءَ بِهِ غَرَّاءَ كَالْبَدْرِ ضَوْءُهَا ... فَسَمَّيْتُهَا فِي الْحُسْنِ أُمِّ الْقَلائِدِ أَخَالِدُ لا تَعْدِمْ لُؤَيُّ بْنُ غَالِبٍ ... قِيَامَكَ فِيهَا عِنْدَ قَذْفِ الْجَلامِدِ كَسَاكَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ مَجْدَهُ ... وَعَلَّمَكَ الأَشْيَاخُ ضَرْبَ الْقَمَاحِدِ تُقَارِعُ فِي الإِسْلامِ عَنْ صُلْبِ دِينِهِ ... وَفِي الشِّرْكِ عَنْ أَحْسَابِ جَدٍّ وَوَالِدِ وَكُنْتَ لِمَخْزُومِ بْنِ يَقْظَةَ جُنَّةً ... يُعِدُّكَ فِيهَا مَاجِدًا وَابْنَ مَاجِدِ إِذَا مَا سَمَا فِي حَرْبِهَا أَلْفُ فَارِسٍ ... عُدِلْتَ بِأَلْفٍ عِنْدَ تِلْكَ الشَّدَائِدِ

وَمَنْ يَكُ فِي الْحَرْبِ الْمُثِيرَةِ وَاحِدًا ... فَمَا أَنْتَ فِي الْحَرْبِ الْعَوَانِ بِوَاحِدِ إِذَا نَابَ أَمْرٌ فِي قُرَيْشٍ مُخَلِّجٍ ... تَشِيبُ لَهُ رُءُوسُ الْعَذَارَى النَّوَاهِدِ تَوَلَّيْتَ مِنْهُ مَا يُخَافُ وَإِنْ تَغِبْ ... يَقُولُوا جَمِيعًا حَظُّنَا غَيْرُ شَاهِدِ 382 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الأَنْصَارِيُّ الْمَعْرُوفُ بَابْنِ مَخْرَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ، قَالَ: " لَمَّا بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ وَاسْتَقَرَّ أَمْرُهُ، نَدِمَ قَوْمٌ كَثِيرٌ مِنَ الأَنْصَارِ عَلَى بَيْعَتِهِ، وَلامَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَذَكَرُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَهَتَفُوا بِاسْمِهِ، وَإِنَّهُ فِي دَارِهِ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمِ، وَجَزَعَ لِذَلِكَ الْمُهَاجِرُونَ، وَكَثُرَ فِي ذَلِكَ الْكَلامُ، وَكَانَ أَشَدَّ قُرَيْشٍ عَلَى الأَنْصَارِ نَفَرٌ فِيهِمْ، وَهُمْ: سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو أَحَدُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ الْمَخْزُومِيَّانِ، وَهَؤُلاءِ أَشْرَافُ قُرَيْشٍ الَّذِينَ حَارَبُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، ثُمَّ دَخَلُوا فِي الإِسْلامِ، وَكُلُّهُمْ مَوْتُورٌ قَدْ وَتَرَهُ الأَنْصَارُ. أَمَّا سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَأَسَرَهُ مَالِكُ بْنُ الدَّخْشَمِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَمَّا الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ فَضَرَبَهُ عُرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو فَجَرَحَهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُوَ فَارٌّ عَنْ أَخِيهِ، وَأَمَّا عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ فَقَتَلَ أَبَاهُ ابْنَا عَفْرَاءَ، وَسَلَبَهُ دِرْعَهُ يَوْمَ بَدْرٍ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ، وَفِي أَنْفُسِهِمْ ذَلِكَ. فَلَمَّا اعْتَزَلَتِ الأَنْصَارُ تَجَمَّعَ هَؤُلاءِ فَقَامَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّ هَؤُلاءِ الْقَوْمَ قَدْ سَمَّاهُمُ اللَّهُ الأَنْصَارَ، َأَثْنَى عَلَيْهِمْ فِي الْقُرْآنِ فَلَهُمْ بِذَلِكَ حَظٌّ عَظِيمٌ وَشَأْنٌ غَالِبٌ، وَقَدْ دَعَوْا إِلَى أَنْفُسِهِمْ وَإِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَلِيٌّ فِي بَيْتِهِ لَوْ شَاءَ لَرَدَّهُمْ، فَادْعُوهُمْ إِلَى صَاحِبِكُمْ وَإِلَى تَجْدِيدِ بَيْعَتِهِ، فَإِنْ أَجَابُوكُمْ وَإِلا قَاتِلُوهُمْ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَرَجْوُ اللَّهَ أَنْ يَنْصُرَكُمْ عَلَيْهِمْ كَمَا نُصِرْتُمْ بِهِ. ثُمَّ قَامَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، فَقَالَ: إِنْ يَكُنِ الأَنْصَارُ تَبَوَّأَتِ الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلُ، وَنَقَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى دُورِهِمْ مِنْ دُورِنَا، فَآوَوْا وَنَصَرُوا، ثُمَّ مَا رَضُوا حَتَّى قَاسَمُونَا الأَمْوَالَ، وَكَفَوْنَا الْعَمْلَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ لَهِجُوا بِأَمْرٍ، إِنْ ثَبَتُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ خَرَجُوا مِمَّا وُسِمُوا بِهِ، وَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مُعَاتَبَةٌ إِلا السَّيْفَ، وَإِنْ نَزَعُوا عَنْهُ فَقَدْ فَعَلُوا الأَوْلَى بِهِمْ، وَالْمَظْنُونَ مَعَهُمْ.

الأئمة من قريش» ، ما أنكرنا إمرة الأنصار، ولكانوا لها أهلا، ولكنه قول لا شك فيه ولا خيار،

ثُمَّ قَامَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْلا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» ، مَا أَنَكْرَنْا إِمْرَةَ الأَنْصَارِ، وَلَكَانُوا لَهَا أَهْلا، وَلَكِنَّهُ قَوْلٌ لا شَكَّ فِيهِ وَلا خيَارَ، وَقَدْ عَجَلَتِ الأَنْصَارُ عَلَيْنَا، وَاللَّهِ مَا قَبَضْنَا عَلَيْهِمُ الأَمْرَ وَلا أَخْرَجْنَاهُمْ مِنَ الشُّورَى، وَإِنَّ الَّذِي هُمْ فِيهِ مِنْ فَلَتَاتِ الأُمُورِ وَنَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ، وَمَا لا يَبْلُغُهُ الْمُنَى وَلا يَحْمِلُهُ الأَمَلُ، أَعْذِرُوا إِلَى الْقَوْمِ فَإِنْ أَبَوْا قَاتِلُوهُمْ، فَوَاللَّهِ لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ قُرَيْشٍ كُلِّهَا إِلا رَجُلٌ وَاحِدٌ لَصَيَّرَ اللَّهُ هَذَا الأَمْرَ فِيهِ. قَالَ: وَحَضَرَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّهُ لَيْسَ لِلأَنْصَارِ أَنْ يَتَفَضَّلُوا عَلَى النَّاسِ حَتَّى يُقِرُّوا بِفَضْلِنَا عَلَيْهِمْ، فَإِنْ تَفَضَّلُوا، فَحَسْبُنَا حَيْثُ انْتَهَى بِهَا، وَإِلا فَحَسْبُهُمْ حَيْثُ انْتَهَى بِهِمْ، وايْمُ اللَّهِ لَئِنْ بَطِرُوا الْمَعِيشَةَ وَكَفَرُوا النِّعْمَةَ، لَنَضْرِبَنَّهُمْ عَلَى الإِسْلامِ كَمَا ضَرَبُوا عَلَيْهِ، فَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَأَهْلٌ وَاللَّهِ أَنْ يَسُودَ عَلَى قُرَيْشٍ وَتُطِيعَهُ الأَنْصَارُ. فَلَمَّا بَلَغَ الأَنْصَارَ قَوْلُ هَؤُلاءِ الرَّهْطِ، قَامَ خَطِيبُهُمْ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، إِنَّمَا يِكْبُرُ عَلَيْكُمْ هَذَا الْقَوْلُ لَوْ قَالَهُ أَهْلُ الدِّينِ مِنْ قُرَيْشٍ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لا سِيَّمَا مِنْ أَقْوَامٍ كُلُّهُمْ مَوْتُورٌ فَلا يَكْبُرَنَّ عَلَيْهِمْ، إِنَّمَا الرَّأْيُ وَالْقَوْلُ مَعَ الأَخْيَارِ الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ تَكَلَّمَتْ رِجَالُ قُرَيْشٍ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الآخِرَةِ مِثْلَ كَلامِ هَؤُلاءِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قُولُوا مَا أَحْبَبْتُمْ وَإِلا فَأَمْسِكُوَا. وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَذْكُرُ ذَلِكَ: تَنَادَى سُهَيْلٌ وَابْنُ حَرْبٍ وَحَارثٌ ... وَعِكْرِمَةُ الشَّانِي لَنَا ابْنُ أَبِي جَهْلِ قَتَلَنْا أَبَاهُ وَانْتَزَعْنَا سِلاحَهُ ... فَأَصْبَحَ بِالْبَطْحَاءِ أَذَلَّ مِنَ النَّعْلِ فَأَمَّا سُهَيْلٌ فَاحْتَوَاهُ ابُنْ دَخْشَمٍ ... أَسِيرًا ذَلِيلا لا يُمِرُّ وَلا يُحْلِي وَصَخْرُ بْنُ حَرْبٍ قَدْ قَلَتْنَا رِجَالَهُ ... غَدَاةَ لِوَا بَدْرٍ فَمِرْجَلُهُ يَغْلِي وَرَاكَضَنَا تَحْتَ الْعَجَاجَةِ حَارِثٌ ... عَلَى ظَهْرِ جَرْدَاءٍ كَبَاسِقَةِ النَّخْلِ يُقَبِّلُهَا طَوْرًا وَطَوْرًا يَحُثُّهَا ... وَيَعْدِلُهَا بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ وَالأَهْلِ أُولِئكَ رَهْطٌ مِنْ قُرَيْشٍ تَبَايَعُوا ... عَلَى خِطَّةٍ لَيْسَتْ مِنَ الْخُطَطِ الفُضْلِ وَأَعْجَبَ مِنْهُمْ قَابَلُوا ذَاكَ مِنْهُمُ ... كَأَنَّا اشْتَمَلْنَا مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى ذَحْلِ وَكُلُّهُمُ ثَانٍ عَنِ الْحَقِّ عِطْفَهُ ... يَقُولُ اقْتُلُوا الأَنْصَارَ بِئْسَ مِنْ فِعْلِ نَصَرْنَا وَآوَيْنَا النَّبِيَّ وَلَمْ نَخَفْ ... صُرُوفَ اللَّيَالِي وَالْبَلاءَ عَلَى رَجْلِ بَذَلْنَا لَهُمْ أَنْصَافَ مَالِ أَكُفِّنَا ... كَقِسْمَةِ أَيْسَارِ الْجَذُورِ مِنَ الْفَضْلِ وَمِنْ بَعْدِ ذَاكَ الْمَالِ أَنْصَافَ دُورِنَا ... وَكُنَّا أُنَاسًا لا نُعَيَّرُ بِالْبُخْلِ وَنَحْمِي ذِمَارَ الْحَيِّ فَهْرِ بْنِ مَالِكٍ ... وَنُوقِدُ نَارَ الْحَرْبِ بِالْحَطَبِ الْجَزْلِ فَكَانَ جَزْاءُ الْفَضْلِ مِنَّا عَلَيْهِمُ ... جَهَالَتَهُمْ حُمْقًا وَمَا ذَاكَ بِالْعَدْلِ

فَبَلَغَ شِعْرُ حَسَّانٍ قُرَيْشًا، وَأَمَرُوا ابْنَ أَبِي عَزَّةَ شَاعِرَهُمْ أَنْ يُجِيبَهُمْ، فَقَالَ: مَعْشَرَ الأَنْصَارِ خَافُوا رَبَّكُمْ ... وَاسْتَجِيرُوا اللَّهَ مِنْ شَرِّ الْفِتَنْ إِنَّنِي أَرْهَبُ حَرْبًا لاقِحًا ... يَشْرَقُ الْمُرْضَعُ فِيهَا بِاللَّبَنْ جَرَّهَا سَعْدٌ وَسَعْدٌ فِتْنَةٌ ... لَيْتَ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ لَمْ يَكُنْ خَلْفَ بُرْهُوتٍ خَفِيًّا شَخْصُهُ ... بَيْنَ بُصْرَى ذِي رُعَيْنٍ وَجَدَنْ لَيْسَ مَا قَدَّرَ سَعْدٌ كَائِنًا ... مَا جَرَى الْبَحْرُ وَمَا دَامَ حَضَنْ لَيْسَ بِالْقَاطِعِ مِنَّا شَعْرَةً ... كَيْفَ يُرْجَى خَيْرُ أَمْرٍ لَمْ يَحِنْ لَيْسَ بِالْمُدْرِكِ مِنْهَا أَبَدًا ... غَيْرَ أَضْغَاثِ أَمَانِيِّ الْوَسَنْ لَمَّا اجْتَمَعَ جُمْهُورُ النَّاسِ لأَبِي بَكْرٍ أَكْرَمَتْ قُرَيْشٌ مَعْنَ بْنَ عَدِيٍّ، وَعُوَيْمَ بْنَ سَاعِدَةَ، وَكَانَ لَهُمَا فَضْلٌ قَدِيمٌ فِي الإِسْلامِ. فَاجْتَمَعَتِ الأَنْصَارُ لَهُمَا فِي مَجْلِسٍ وَدَعَوْهُمَا، فَلَمَّا أَحْضَرَا أَقْبَلَتِ الأَنْصَارُ عَلَيْهِمَا، فَعَيَّرُوهُمَا بِانْطِلاقِهِمَا إِلَى الْمُهَاجِرِينَ، وَأَكْبَرُوا فِعْلَهُمَا فِي ذَلِكَ. فَتَكَلَّمَ مَعْنٌ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، إِنَّ الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ بِكُمْ خَيْرٌ مِمَّا أَرَدْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ، وَقَدْ كَانَ مِنْكُمْ أَمْرٌ عَظِيمُ الْبَلاءِ، وَصغَّرَتْهُ الْعَاقِبَةُ، فَلَوْ كَانَ لَكُمْ عَلَى قُرَيْشٍ مَا لِقُرَيْشٍ عَلَيْكُمْ ثُمَّ أَرَدْتُمُوهُمْ لِمَا أَرَادُوكُمْ بِهِ، لَمْ آمَنْ عَلَيْهِمْ مِنْكُمْ مِثْلَ مَا آمَنُ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ، فَإِنْ تَعْرِفُوا الْخَطَأَ فَقَدْ خَرَجْتُمْ مِنْهُ وَإِلا فَأَنْتُمْ فِيهِ. ثُمَّ تَكَلَّمَ عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارَ، إِنَّ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُرِدْ مَا أَرَدْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ، فَاحْمَدُوا اللَّهَ عَلَى حُسْنِ الْبَلاءِ وَطُولِ الْعَافِيَةِ، وَصَرْفِ هَذِهِ الْبَلِيَّةِ عَنْكُمْ، وَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَوَّلِ فِتْنَتِكُمْ، وَآخِرِهَا فَوَجَدْتُهَا جَاءَتْ مِنَ الأَمَانِيِّ، وَالْحَسَدِ، وَاحْذَرُوا النِّعَمَ، فَوَدِدْتُ أَنَّ اللَّهَ صَيَّرَ إِلَيْكُمْ هَذَا الأَمْرَ بِحَقِّهِ فَكُنَّا نَعِيشُ فِيهِ. فَوَثَبَتْ عَلَيْهِمَا الأَنْصَارُ، فَأَغْلَظُوا لَهُمَا وَفَحُشُوا عَلَيْهِمَا، وَانْبَرَى لَهُمْ فَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَالَ: أَنَسِيتُمَا قَوْلَكُمَا لِقُرَيْشٍ: إِنَّا قَدْ خَلَّفْنَا وَرَاءَنَا قَوْمًا قَدْ حَلَّتْ دِمَاؤُهُمْ بِفِتْنَتِهِمْ، هَذَا وَاللَّهِ مَا لا يُغْفَرُ وَلا يُنْسَى، وَقَدْ تُصْرَفُ الْحَيَّةُ عَلَى وَجْهِهَا وَسُمُّهَا فِي نَابِهَا. فَقَالَ مَعْنٌ فِي ذَلِكَ: وَقَالَتِ ليَ الأَنْصَارُ إِنَّكَ لَمْ تُصِبْ ... فَقُلْتُ: أَمَا لِيَ فِي الْكَلامِ نَصِيبُ فَقَالُوا: بَلَى قُلْ مَا بَدَا لَكَ رَاشِدًا ... فَقُلْتُ: وَمِثْلِي بِالْجَوَابِ طَبِيبُ تَرَكْتُكُمُ وَاللَّهِ لَمَّا رَأَيْتُكُمْ ... تُيُوسًا لَهَا بِالْحَرَّتَيْنِ نَبِيبُ تُنَادُونَ بِالأَمْرِ الَّذِي النَّجْمُ دُونَهُ ... أَلا كُلُّ شَيْءٍ مَا سِوَاهُ قَرِيبُ فَقُلْتُ لَكُمْ قَوْلَ الشَّفِيقِ عَلَيْكُمُ ... وَلِلْقَلْبِ مِنْ خَوْفِ الْبَلاءِ وَجِيبُ دَعُوا الرَّكْضَ وَاثْنُوا مِنْ أَعِنَّةِ بَغْيِكُمْ ... وَدبُّوا فَسَيْرُ الْقَاصِدِينَ دَبِيبُ وَخَلُّوا قُرَيْشًا وَالأُمُورُ وَبَايِعُوا ... لِمَنْ بَايَعُوهُ تُرْشِدُوا وَتُصِيبُوا أَرَاكُمْ أَخَذْتُمْ حَقَّكُمْ بِأَكُفِّكُمْ ... وَمَا النَّاسُ إِلا مُخْطِئٌ وَمُصِيبُ

فَلَمَّا أَبَيْتُمْ زُلْتُ عَنْكُمْ إِلَيْهِمُ ... فَلِي فِيكُمُ بَعْدَ الذُّنُوبِ ذُنُوبُ فَلا تَبْعَثُوا مِنِّي الْكَلامَ فَإِنَّنِي ... إِذَا شِئْتُ يَوْمًا شَاعِرٌ وَخَطِيبُ وَإِنِّي لَحُلْوٌ تَعْتَرِينِي مَرَارَةٌ ... وَمِلْحٌ أُجَاجٌ تَارَةً وَشَرُوبُ لِكُلِّ امْرِئٍ عِنْدِي الَّذِي هُوَ أَهْلُهُ ... أَفَانِينُ شَتَّى وَالرِّجَالُ ضُرُوبُ وَقَالَ عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ فِي ذَلِكَ: وَقَالَتْ لِيَ الأَنْصَارُ أَضْعَافَ قَوْلِهِمْ ... لِمَعْنٍ وَذَاكَ الْقَوْلُ جَهْلٌ مِنَ الْجَهْلِ فَقُلْتُ: دَعُونِي لا أَبًا لأَبِيكُمُ ... فَإِنِّي أَخُوكُمْ صَاحِبُ الْخَطَرِ الْفَصْلِ أَنَا صَاحِبُ الْقَوْلِ الَّذِي تَعْرِفُونَهُ ... أُقَطِّعُ أَنْفَاسَ الرِّجَالِ عَلَى مَهْلِ فَإِنْ تَسْكُتُوا أَسْكُتْ وَفِي الصَّمْتِ رَاحَةٌ ... وَإِنْ تَنْطِقُوا أَصْمُتْ مَقَالَتُكُمْ تُبْلِي وَمَا لُمْتُ نَفْسِي فِي الْخِلافِ عَلَيْكُمُ ... وَإِنْ كُنْتُمُ مُسْتَجْمِعِينَ عَلَى عَذْلِي أُرِيدُ بِذَاكَ اللَّهَ لا شَيْءَ غَيْرُهُ ... وَمَا عِنْدَ رَبِّ النَّاسِ مِنْ دَرَجِ الْفَضْلِ وَمَا لِيَ رِحْمٌ فِي قُرَيْشٍ قَرِيبَةٌ ... وَلا دَارُهَا دَارِي وَلا أَصْلُهَا أَصْلِي وَلَكِنَّهَمْ قَوْمٌ عَلَيْنَا أَئِمَّةٌ ... أَدِينُ لَهُمْ مَا أَنْفَذَتْ قَدَمِي نَعْلِي وَكَانَ أَحَقَّ النَّاسِ أَنْ تَقْنَعُوا بِهِ ... وَيَحْتَمِلُوا مَنْ جَاءَ فِي قَوْلِهِ مِثْلِي لأَنِي أَخَفُّ النَّاسَ فِيمَا يَسُرُّكُمْ ... وَفَيْمَا يَسُؤُكُمْ لا أُمِرُّ وَلا أُحْلِي وَقَالَ فَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو وَكَانَ مِمَّنْ تَخَلَّفَ عَنْ بَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ مِمَّنْ جَاهَدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَادَ فَرَسَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَانَ يَتَصَدَّقُ مِنْ نَخْلِهِ بِأَلْفِ وَسْقٍ فِي كُلِّ عَامٍ، وَكَانَ سَيِّدًا، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ، وَمِمَّنْ شَهِدَ مَعَهُ يَوْمَ الْجَمَلِ، قَالَ: فَذَكَرَ مَعْنًا وَعُوَيْمًا وَعَاتَبَهُمَا عَلَى قَوْلِهِمَا: أَلا قُلْ لِمَعْنٍ إِذَا جِئْتَهُ ... وَذَاكَ الَّذِي شَيْخُهُ سَاعِدَة بِأَنَّ الْمَقَالَ الَّذِي قُلْتُمَا ... خَفِيفٌ عَلَيْنَا سِوَى وَاحِدَة مَقَالَكُمُ إِنَّ مَنْ خَلْفَنَا ... مِرَاضٌ قُلُوبُهُمُ فَاسِدَة حَلالُ الدِّمَاءِ عَلَى فَتْنةٍ ... فَيَا بِئْسَمَا رَبَّتِ الْوَالِدَة فَلَمْ تَأْخُذَا قَدْرَ أَثْمَانِهَا ... وَلَمْ تَسْتَفِيدَا بِهَا فَائِدَة لَقَدْ كَذَّبَ اللَّهُ مَا قُلْتُمَا ... وَقَدْ يَكْذِبُ الرَّائِدُ الْوَاعِدَة ثُمَّ إِنَّ الأَنْصَارَ أَصْلَحُوا بَيْنَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِمَا، ثُمَّ اجْتَمَعَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَوْمًا وَفِيهِمْ نَاسٌ مِنَ الأَنْصَارِ، وَأَخْلاطٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَذَلِكَ بَعَدَ انْصِرَافِ الأَنْصَارِ عَنْ رَأْيِهَا وَسُكُونِ الْفِتْنَةِ. فَاتَّفَقَ ذَلِكَ عِنْدَ قُدُومِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مِنْ سَفَرٍ كَانَ فِيهِ، فَجَاءَ إِلَيْهِمْ فَأَفَاضُوا فِي ذِكْرَ يَوْمِ السَّقِيفَةِ وَسَعْدٍ وَدَعْوَاهُ الأَمْرَ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: وَاللَّهِ لَقَدْ دَفَعَ اللَّهُ عَنَّا مِنَ الأَنْصَارِ عَظَيِمَةً، وَلَمَّا دَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَعْظَمَ، كَادُوا وَاللَّهِ أَنْ يَحِلُّوا حَبْلَ الإِسْلامِ كَمَا قَاتَلُوا عَلَيْهِ، وَيُخْرِجُوا مِنْهُ مَنْ أَدْخَلُوا فِيهِ. وَاللَّهِ لَئِنْ كَانُوا سَمِعُوا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» .

ثُمَّ ادَّعَوْهَا لَقَدْ هَلَكُوا وَأَهْلَكُوا، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَسْمَعُوهَا فَمَا هُمْ كَالْمُهَاجِرِينَ، وَلا سَعْدٌ كَأَبِي بَكْرٍ، وَلا الْمَدِينَةُ كَمَكَّةَ، وَلَقَدْ قَاتَلُونَا أَمْسِ فَغَلَبُونَا عَلَى الْبَدْءِ، وَلَوْ قَاتَلْنَاهُمُ الْيَوْمَ لَغَلَبْنَاهُمْ عَلَى الْعَاقِبَةِ. فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ وَانْصَرَفَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَقَدْ ظَفِرَ، فَقَالَ: أَلا قُلْ لأَوْسٍ إِذَا جِئْتَهَا ... وَقُلْ مَا إِذَا جِئْتَ للْخَزْرَجِ تَمَنَّيْتُمُ الْمُلْكَ فِي يَثْرِبٍ ... فَأُنْزِلَتِ الْقِدْرُ لَمْ تُنْضَجِ وَأَخْدَجْتُمُ الأَمْرَ قَبْلَ التَّمَامْ ... وَأَعْجِبْ بِذَا الْمُعْجَلِ الْمُخْدَجِ تُرِيدُونَ نَتْجَ الْحِيَالِ الْعِشَارْ ... وَلَمْ تُلْقِحُوهُ فَلَمْ يُنْتِجِ عَجِبْتُ لِسَعْدٍ وَأَصْحَابِهِ ... وَلَوْ لَمْ يُهِيجُوهُ لَمْ يَهْتَجِ رَجَا الْخَزْرَجِيُّ رَجَاءَ السَّرَابْ ... وَقَدْ يَخْلِفُ الْمَرْءَ مَا يَرْتَجِي فَكَانَ كَمُنْحٍ عَلَى كَفِّهِ ... بِكَفٍّ يُقَطِّعُهَا أَهْوَجِ فَلَمَّا بَلَغَ الأَنْصَارَ مَقَالَتُهُ وَشِعْرُهُ بَعَثُوا إِلَيْهِ لِسَانَهُمْ وَشَاعِرَهُمُ النُّعْمَانَ بْنَ الْعَجْلانِ، وَكَانَ رَجُلا أَحْمَرَ قَصِيرًا تَزْدَرِيهِ الْعُيُونُ، وَكَانَ سَيِّدًا فَخْمًا، فَأَتَى عَمْرًا وَهُوَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا عَمْرُو مَا كَرِهْتُمْ مِنْ حَرْبِنَا إِلا مَا كَرِهْنَا مِنْ حَرْبِكُمْ، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الإِسْلامِ بِمَنْ أَدْخَلَكُمْ فِيهِ، إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، قَالَ: «الأَئِمَّةُ مِنْ قُرِيشٍ» ، فَقَدْ قَالَ: «لَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا، وَسَلَكَ الأَنْصَارُ شِعْبًا، لَسَلَكْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ» ، وَاللَّهِ مَا أَخْرَجْنَاكُمْ مِنَ الأَمْرِ إِذْ قُلْنَا: مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ. وَأَمَّا مَنْ ذَكَرْتَ، فَأَبُو بَكْرٍ لَعَمْرِيَ خَيْرٌ مِنْ سَعْدٍ، لَكِنَّ سَعْدًا فِي الأَنْصَارِ أَطْوَعُ مِنَ أَبِي بَكْرٍ فِي قُرَيْشٍ. فَأَمَّا الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ فَلا فَرْقَ بَيْنَهُمْ أَبَدًا، وَلَكِنَّكَ يَا ابْنَ الْعَاصِ، وَتَرْتَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ بِمَسِيرِكَ إِلَى الْحَبَشَةِ لِقَتْلِ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ، وَوَتَرْتَ بَنِي مَخْزُومٍ بِإِهْلاكِ عُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَقَالَ: فَقُلْ لِقُرَيْشٍ: نَحْنُ أَصْحَابُ مَكَّةٍ ... وَيَوْمِ حُنَيْنٍ وَالْفَوَارِسُ فِي بَدْرِ وَأَصْحَابُ أُحْدٍ وَالنَّضِيرِ وَخَيْبَرٍ ... وَنَحْنُ رَجَعْنَا مِنْ قُرَيْظَةَ بِالذِّكْرِ وَيَوْمٍ بِأَرْضِ الشَّامِ أُدْخِلَ جَعْفَرٌ ... وَزَيْدٌ وَعَبْدُ اللَّهِ فِي عَلَقٍ يَجْرِي وَفِي كُلِّ يَوْمٍ يُنْكِرُ الْكَلْبُ أَهْلَهُ ... نُطَاعِنُ فِيهِ بِالْمُثَقَّفَةِ السُّمْرِ وَنَضْرِبُ فِي نَقْعِ الْعَجَاجَةِ أَرْؤُسًا ... بِبِيضٍ كَأَمْثَالِ الْبُرُوقِ إِذَا تَسْرِي نَصَرْنَا وَآوَيْنَا النَّبِيَّ وَلَمْ نَخَفْ ... صُرُوفَ اللَّيَالِي وَالْعَظِيمَ مِنَ الأَمْرِ وَقُلْنَا لِقْومٍ هَاجَرُوا قَبْلُ: مَرْحَبًا ... وَأَهْلا وَسَهْلا قَدْ أَمِنْتُمْ مِنَ الْفَقْرِ نُقَاسِمُكُمْ أَمْوَالَنَا وَبُيُوتَنَا ... كَقِسْمَةِ أَيْسَارِ الْجَزُورِ عَلَى الشَّطْرِ وَنَكْفِيكُمُ الأَمْرَ الَّذِي تَكْرَهُونَهُ ... وَكُنَّا أُنَاسًا نُذْهِبُ الْعُسْرَ بَالْيُسْرِ وَقُلْتُمْ: حَرَامٌ نَصْبُ سَعْدٍ وَنَصْبُكمْ ... عَتِيقُ بْنُ عُثْمَانٍ حَلالٌ أَبَا بَكْرِ وَأَهْلٌ أَبُو بَكْرٍ لَهَا خَيْرُ قَائِمٍ ... وَإِنَّ عَلِيًّا كَانَ أَخْلَقَ بِالأَمْرِ وَكَانَ هَوَانًا فِي عَلِيٍّ وَإِنَّهُ ... لَأَهْلٌ لَهَا يَا عَمْرُو مِنْ حَيْثُ لا تَدْرِي

فَذَاكَ بِعَوْنِ اللَّهِ يَدْعُو إِلَى الْهُدَى ... وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْبَغْي وَالنُّكْرِ وَصِيُّ النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى وَابْنُ عَمِّهِ ... وَقَاتِلُ فُرْسَانِ الضَّلالَةِ وَالْكُفْرِ وَهَذَا بِحَمْدِ اللَّهِ يَهْدِي مِنَ الْعَمَى ... وَيَفْتَحُ آذَانًا ثُقِلْنَ مِنَ الْوَقْرِ نَجِيُّ رَسُولِ اللَّهِ فِي الْغَارِ وَحْدَهُ ... وَصَاحِبُهُ الصدِّيقُ فِي سَالِفِ الدَّهْرِ فَلَوْلا اتِّقَاءُ اللَّهُ لَمْ تَذْهَبُوا بِهَا ... وَلَكِنَّ هَذَا الْخَيْرَ أَجْمعُ لِلصَّبْرِ وَلَمْ نَرْضَ إِلا بِالرِّضَا وَلَرُبَّمَا ... ضَرَبْنَا بِأَيْدِينَا إِلَى أَسْفَلِ الْقِدْرِ فَلَمَّا انْتَهَى شِعْرُ النُّعْمَانِ وَكَلامُهُ إِلَى قُرَيْشٍ غَضِبَ كَثِيرٌ مِنْهَا، وَأَلْفَى ذَلِكَ قُدُومَ خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ مِنَ الْيَمَنِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَهُ عَلَيْهَا، وَكَانَ لَهُ وَلأَخِيهِ أَثَرٌ عَظِيمٌ فِي الإِسْلامِ، وَهُمَا أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَلَهُمَا عِبَادَةٌ وَفَضْلٌ. فَغَضِبَ لِلأَنْصَارِ، وَشَتَمَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّ عَمْرًا دَخَلَ فِي الإِسْلامِ حِينَ لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ، فَلَمَّا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَكِيدَهُ بِيَدِهِ كَادَهُ بِلِسَانِهِ، وَإِنَّ مِنْ كَيْدِهِ الإِسْلامَ تَفْرِيقَهُ وَقَطْعَهُ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ. وَاللَّهِ مَا حَارَبْنَاهُمْ لِلدِّينِ وَلا لِلدُّنْيَا، لَقَدْ بَذَلُوا دِمَاءَهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى فِينَا وَمَا بَذَلْنَا دِمَاءَنَا لِلَّهِ فِيهِمْ، وَقَاسَمُونَا دِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَمَا فَعَلْنَا مِثْلَ ذَلِكَ بِهِمْ، وَآثَرُونَا عَلَى الْفَقْرِ، وَحَرَمْنَاهُمْ عَلَى الْغِنَى، وَلَقَدْ وَصَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِهِمْ، وَعَزَّاهُمْ عَنْ جَفْوَةِ السُّلْطَانِ، فَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ وَإِيَّاكُمُ الْخَلَفَ الْمُضَيِّعَ، وَالسُّلْطَانَ الْجَانِيَ. وَقَالَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فِي ذَلِكَ: تَفَوَّهَ عَمْرٌو بِالَّذِي لا نُرِيدُهُ ... وَصَرَّحَ لِلأَنْصَارِ عَنْ شَنْأَةِ الْبُغْضِ فَإِنْ تَكُنِ الأَنْصَارُ زَلَّتْ فَإِنَّنَا ... نُقِيلُ وَلا نَجْزِيهِمُ الْقَرْضَ بِالْقَرْضِ فَلا تَقْطِعَنْ يَا عَمْرُو مَا كَانَ بَيْنَنَا ... وَلا تَحْمِلَنْ يَا عَمْرُو بَعْضًا عَلَى بَعْضِ أَتَنْسَى لَهُمْ يَا عَمْرُو مَا كَانَ مِنْهُمُ ... لَيَالِيَ جِئْنَاهُمْ مِنَ النَّفْلِ وَالْفَرْضِ وَقِسْمَتَنَا الأَمْوَالَ كَاللَّحْمِ بِالْمِدَى ... وَقِسْمَتَنَا الأَوْطَانَ كُلٌّ بِهِ يَقْضِي لَيَالِيَ كُلُّ النَّاسِ بِالْكُفْرِ جَهْرَةٌ ... ثِقَالٌ عَلَيْنَا مُجْمِعُونَ عَلَى الْبُغْضِ فَسَاوَوْا وَآوَوْا وَانْتَهَيْنَا إِلَى الْمُنَى ... وَقَرَّ قَرَارُنَا مِنَ الأَمْنِ وَالْخَفْضِ

ثُمَّ إِنَّ رِجَالا مِنْ سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ وَمُثِيرِي الْفِتَنَ مِنْهُمُ اجْتَمَعُوا إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّكَ لِسَانُ قُرَيْشٍ وَرَجُلُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالإِسْلامِ، فَلا تَدَعِ الأَنْصَارَ وَمَا قَالَتْ، وَأَكْثَرُوا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، فَرَاحَ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَفِيهِ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، فَتَكَلَّمَ، وَقَالَ: إِنَّ الأَنْصَارَ تَرَى لِنَفْسِهَا مَا لَيْسَ لَهَا، وَايْمُ اللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ اللَّهَ خَلَّى عَنَّا وَعَنْهُمْ، وَقَضَى فِيهِمْ وَفِينَا بِمَا أَحَبَّ، وَلَنَحْنُ الَّذِينَ أَفْسَدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا، أَحْرَزْنَاهُمْ عَنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ، وَقَدَّمْنَاهُمْ إِلَى كُلِّ مَحْبُوبٍ، حَتَّى أَمِنُوا الْمَخُوفَ، فَلمَا جَازَ لَهُمْ ذَلِكَ صَغَّرُوا حَقَّنَا، وَلَمْ يُرَاعُوا مَا أَعْظَمْنَا مِنْ حُقُوقِهِمْ. ثُمَّ الْتَفَتَ فَرَأَى الْفَضْلَ بْنَ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَنَدِمَ عَلَى قَوْلِهِ، لِلْخُئُولَةِ الَّتِي بَيْنَ وَلَدِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَبَيْنَ الأَنْصَارِ، وَلأَنَّ الأَنْصَارَ كَانَتْ تُعَظِّمُ عَلِيًّا، وَتَهْتِفُ بَاسْمِهِ حِينَئِذٍ، فَقَالَ الْفَضْلُ: يَا عَمْرُو، إِنَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَكْتُمَ مَا سَمِعْنَا مِنْكَ، وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُجِيبَكَ وَأَبُو الْحَسَنِ شَاهِدٌ بِالْمَدِينَةِ إِلا أَنْ يَأْمُرْنَا فَنَفْعَلَ. ثُمَّ رَجَعَ الْفَضْلُ إِلَى عَلِيٍّ فَحَدَّثَهُ، فَغَضِبَ وَشَتَمَ عَمْرًا، وَقَالَ: آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ، ثُمَّ قَامَ فَأَتَى الْمَسْجِدَ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَتَكَلَّمَ مُغْضِبًا، فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّ حُبَّ الأَنْصَارِ إِيمَانٌ وَبُغْضَهُمْ نِفَاقٌ، وَقَدْ قَضَوْا مَا عَلَيْهِمْ وَبَقِيَ مَا عَلَيْكُمْ. وَاذْكُرُوا أَنَّ اللَّهَ رَغَّبَ لِنَبِيِّكُمْ عَنْ مَكَّةَ فَنَقَلَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَرَّهَ لَهُ قُرَيْشًا فَنَقَلَهُ إِلَى الأَنْصَارِ، ثُمَّ قَدِمْنَا عَلَيْهِمْ دَارَهُمْ، فَقَاسَمُونَا الأَمْوَالَ وَكَفُوْنَا الْعَمَلَ، فَصِرْنَا مِنْهُمْ بَيْنَ بَذْلِ الْغَنِيِّ وَإِيثَارِ الْفَقِيرِ، ثُمَّ حَارَبْنَا النَّاسَ فَوَقَوْنَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ، جَمَعَ لَهُمْ فِيهَا بَيْنَ خَمْسَةِ نِعَمٍ، فَقَالَ: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ { [الحشر: 9] . أَلا وَإِنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ قَدْ َقَامَ مَقَامًا آذَى فِيهِ الْمَيِّتَ وَالْحَيَّ، سَاءَ بِهِ الْوَاتِرَ، وَسَرَّ بِهِ الْمَوْتُورَ، فَاسْتَحَقَّ مِنَ الْمُسْتَمِعِ الْجَوَابَ، وَمِنَ الْغَائِبِ الْمَقْتَ، وَإِنَّهُ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَحَبَّ الأَنْصَارَ، فَلَيَكْفُفْ عَمْرٌو عَنَّا نَفْسَهُ ". فَمَشَتْ قُرَيْشٌ عِنْدَ ذَلِكَ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَقَالُوا: أَيُّهَا الرَّجُلُ، أَمَا إِذْ غَضِبَ عَلِيٌّ فَاكْفُفْ. وَقَالَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيُّ يُخَاطِبُ قُرَيْشًا أَيَالَ قُرَيْشٍ أَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِنَا ... وَبَيْنِكُمُ قَدْ طَالَ حَبْلُ التَّمَاحُكِ فَلا خَيْرَ فِيكُمْ بَعْدَنَا فَارْفُقُوا بِنَا ... وَلا خَيْرَ فِينَا بَعْدَ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ كِلانَا عَلَى الأَعْدَاءِ كَفٌّ طَوِيلَةٌ ... إِذَا كَانَ يَوْمٌ فِيهِ جَبُّ الْحَوَارِكِ

فَلا تَذْكُرُوا مَا كَانَ مِنَّا وَمِنْكُمُ ... فَفِي ذِكْرِ مَا كَانَ مَشْيُ التَّسَاوُكِ وَقَالَ عَلِيٌّ لِلْفَضْلِ: «يَا فَضْلُ، انْصُرِ الأَنْصَارَ بِلِسَانِكَ وَيَدِكَ، فَإِنَّهُمْ مِنْكَ وَإِنَّكَ مِنْهُمْ» ، فَقَالَ الْفَضْلُ: قُلْتَ يَا عَمْرُو مَقَالا فَاحِشًا ... إِنْ تَعُدْ يَا عَمْرُو وَاللَّهِ فَلَكْ إِنَّمَا الأَنْصَارُ سَيْفٌ قَاطِعٌ ... مَنْ تُصِبْهُ ظُبَةُ السَّيْفِ هَلَكْ وَسُيُوفٌ قَاطِعٌ مَضْرِبُهَا ... وَسِهَامُ اللَّهِ فِي يَوْمِ الْحَلَكْ نَصَرُوا الدِّينَ وَآوَوْا أَهْلَهُ ... مَنْزِلٌ رَحْبٌ وَرِزْقٌ مُشْتَرَكْ وَإِذَا الْحَرْبُ تَلَظَّتْ نَارُهَا ... بَرَكُوا فِيهَا إِذَا الْمَوْتُ بَرَكْ وَدَخَلَ الْفَضْلُ عَلَى عَلِيٍّ فَأَسْمَعَهُ شِعْرَهُ، فَفَرِحَ بِهِ وَقَالَ: وَرَيْتُ بِكَ زِنَادِي يَا فَضْلُ، أَنْتَ شَاعِرُ قُرَيْشٍ وَفَتَاهَا، فَأَظْهِرْ شِعْرَكَ، وَابْعَثْ بِهِ إِلَى الأَنْصَارِ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الأَنْصَارَ، قَالَتْ: لا أَحَدَ يُجِيبُ إِلا حَسَّانٌ الْحُسَامُ. فَبَعَثُوا إِلَى حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ، فَعَرَضُوا عَلَيْهِ شِعْرَ الْفَضْلِ، فَقَالَ: كَيْفَ أَصْنَعُ بِجَوَابِهِ! إِنْ لَمْ أَتَحَرَّ قَوَافِيَهُ فَضَحَنِي، فَرُوَيْدًا حَتَّى أَقْفُوا أَثَرَهُ فِي الْقَوَافِي. فَقَالَ لَهُ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ: اذْكُرْ عَلِيًّا وَيَكْفِكَ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَقَالَ: جَزَى اللَّهُ عَنَّا وَالْجَزَاءُ بِكَفِّهِ ... أَبَا حَسَنٍ عَنَّا وَمَنْ كَأَبِي حَسَنْ سَبَقْتَ قُرْيشًا بِالَّذِي أَنْتَ أَهْلُهُ ... فَصَدْرُكَ مَشْرُوحٌ وَقَلْبُكَ مُمْتَحَنْ تَمَنَّتْ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَعِزَّةٌ ... مَكَانَكَ، هَيْهَاتَ الْهُزَالُ مِنَ السِّمَنْ وَأَنْتَ مِنَ الإِسْلامِ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ ... بِمَنْزِلَةِ الدَّلْوِ الْبَطِينِ مِنَ الرَّسَنْ غَضِبْتَ لَنَا إِذْ قَامَ عَمْروٌ بِخُطْبَةٍ ... أَمَاتَ بِهَا التَّقْوَى وَأَحْيَا بِهَا الإِحَنْ فَكُنْتَ الْمُرَجَّى مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ ... لِمَا كَانَ مِنْهُمْ وَالَّذِي كَانَ لَمْ يَكُنْ حَفِظْتَ رَسُولَ اللَّهِ فِينَا وَعْهَدَهُ ... إِلَيْكَ وَمَنْ أَوْلَى بِهِ مِنْكَ مَنْ وَمَنْ أَلَسْتَ أَخَاهُ فِي الْهُدَى وَوَصِيَّهُ ... وَأَعْلَمَ مِنْهُمْ بِالْكِتَابِ وَبِالسُّنَنْ فَحَقُّكَ مَا دَامَتْ بِنَجْدٍ وَشِيجَةٌ ... عَظِيمٌ عَلَيْنَا ثُمَّ بَعْدُ عَلَى الْيَمَنْ قَالَ الزُّبَيْرُ: وَبَعَثَتِ الأَنْصَارُ بِهَذَا الشِّعْرِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَخَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَقَالَ لِمَنْ بِهِ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الأَنْصَارَ أَنْصَارًا، فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ فِي الْكِتَابِ، فَلا خَيْرَ فِيكُمْ بَعْدَهُمْ، إِنَّهُ لا يَزَالُ سَفِيهٌ مِنْ سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ وَتَرَهُ الإِسْلامُ، وَدَفَعَهُ عَنِ الْحَقِّ، وَأَطْفَأَ شَرَفَهُ، وَفَضَّلَ غَيْرَهُ عَلَيْهِ، يَقُومُ مَقَامًا فَاحِشًا فَيَذْكُرُ الأَنْصَارَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَارْعَوْا حَقَّهَمْ، فَوَاللَّهِ لَوْ زَالُوا لَزُلْتُ مَعَهُمْ لأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لَهُمْ: «أَزُولُ مَعَكُمْ حَيْثُمَا زُلْتُمْ» ، فقَالَ: الْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا: رَحِمَكَ اللَّهُ يَا أَبَا الْحَسَنِ، قُلْتَ قَوْلا صَادِقًا. وَتَرَكَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ الْمَدِينَةَ وَخَرَجَ مِنْهَا حَتَّى رَضِيَ عَنْهُ عَلِيٌّ وَالْمُهَاجِرُونَ.

ثُمَّ إِنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَكَانَ يُبْغِضُ الأَنْصَارَ، لأَنَّهُمْ أَسَرُوا أَبَاهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَضَرَبُوا عُنُقَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَامَ يَشْتُمُ الأَنْصَارَ وَذَكَّرَهُمْ بالْهُجْرِ، فَقَالَ: إِنَّ الأَنْصَارَ لَتَرَى لَهَا مِنْ الحَقٍّ عَلَيْنَا مَا لا نَرَاهُ، وَاللَّهِ لِئِنْ كَانُوا آوَوْا لَقَدْ عَزَّوا بِنَا، وَلَئِنْ كَانُوا آسَوْا لَقَدْ مَنُّوا عَلَيْنَا، وَاللَّهِ مَا نَسْتَطِيعُ مَوَدَّتَهُمْ لأَنَّهُمْ لا يَزَالُ قَائِلٌ مِنْهُمْ يَذْكُرُ ذُلَّنَا بِمَكَّةَ وَعِزَّنَا بِالْمَدِينَةِ، وَلا يَنْفَكُّونَ يُعَيِّرُونَ مَوْتَانَا وَيَغِيظُونَ أَحْيَاءَنَا، فَإِنْ أَجَبْنَاهُمْ قَالُوا: غَضِبَتْ قُرَيْشٌ عَلَى غَارِبِهَا، وَلَكِنْ قَدْ هَوَّنَ عَلَيَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ حِرْصُهُمْ عَلَى الدِّينِ أَمْسِ، وَاعْتِذَارُهُمْ مِنَ الذَّنْبِ الْيَوْمَ، ثُمَّ قَالَ: تَبَاذَخَتِ الأَنْصَارُ فِي النَّاسِ بَاسْمِهَا ... وَنِسْبَتُهَا فِي الأَزْدِ عَمْرُو بْنُ عَامِرِ وَقَالُوا: لَنَا حَقُّ عَظِيمٌ وَمِنَّةٌ ... عَلَى كُلِّ بَادٍ مِنْ مَعَدٍّ وَحَاضِرِ فَإِنْ يَكُ لِلأَنْصَارِ فَضْلٌ فَلَمْ تَنَلْ ... بِحُرْمَتِهِ الأَنْصَارُ فَضْلَ الْمُهَاجِرِ وَإِنْ تَكُنِ الأَنْصَارُ آوَتْ وَقَاسَمَتْ ... مَعَايِشِهَا مَنْ جَاءَ قِسْمَةَ جَازِرِ فَقَدْ أَفْسَدَتْ مَا كَانَ مِنْهَا بِمَنِّهَا ... وَمَا ذَاكَ فِعْلُ الأَكْرَمِينَ الأَكَابِرِ إِذَا قَالَ حَسَّانٌ وَكَعْبٌ قَصِيدَةً ... بِشَتْمِ قُرَيْشٍ غُنِّيتَ فِي الْمَعَاشِرِ وَسَارَ بِهَا الرُّكْبَانُ فِي كُلِّ وِجْهَةٍ ... وَأَعْمَلَ فِيهَا كُلُّ خُفٍّ وَحَافِرِ فَهَذَا لَنَا مِنْ كُلِّ صَاحِبِ خُطْبَةٍ ... يَقُومُ بِهَا مِنْكُمْ وَمَنْ كُلِّ شَاعِرِ وَأَهْلٌ بِأَنْ يُهْجَوْا بِكُلِّ قَصِيدَةٍ ... وَأَهْلٌ بْأَنْ يُرْمَوْا بِنَبْلٍ فَوَاقِرِ قَالَ: فَفَشَا شِعْرُهُ فِي النَّاسِ، فَغَضِبَتِ الأَنْصَارُ وَغَضِبَ لَهَا مِنْ قُرَيْشٍ قَوْمٌ، مِنْهُمْ ضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ الْفِهْرِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، فَبَعَثُوا إِلَى الْوَلِيدَ فَجَاءَ. فَتَكَلَّمَ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ مِنَ الْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا، لأَحْبَبْتَ الأَنْصَارَ، وَلَكِنَّكَ مِنَ الْجُفَاةِ فِي الإِسْلامِ، الْبُطَاءِ عَنْهُ، الَّذِينَ دَخَلُوا فِيهِ بَعْدَ أَنْ ظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ. إِنَّا نَعْلَمُ أَنَّا أَتَيْنَاهُمْ وَنَحْنُ فُقَرَاءُ فَأَغْنَوْنَا، ثُمَّ أَصَبْنَا الْغِنَى فَكَفُّوا عَنَّا. وَلَمْ يَرْزُءُونَا شَيْئًا. فَأَمَّا ذِكْرُهُمْ ذِلَّةَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ وَعِزِّهَا بِالْمَدِينَةِ فَكَذَلِكَ كُنَّا. وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى} وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ [الأنفال: 26] ، فَنَصَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِمْ، وَآوَانَا إِلَى مَدِينَتِهِمْ. وَأَمَّا غَضَبُكَ لِقُرَيْشٍ فَإِنَّا لا نَنْصُرُ كَافِرًا، وَلا نُوَادُّ مُلْحِدًا، وَلا فَاسِقًا. وَلَقْدَ قُلْتَ وَقَالُوا فَقَطَعَكَ الْخَطِيبُ، وَأَلْجَمَكَ الشَّاعِرُ. وَأَمَّا ذِكْرُكَ الَّذِي كَانَ بِالأَمْسِ، فَدَعِ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارَ، فَإِنَّكَ لَسْتَ مِنْ أَلْسِنَتِهِمْ فِي الرِّضَا، وَلا نَحْنُ مِنْ أَيْدِيهِمْ فِي الْغَضْبِ.

وَتَكَلَّمَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، فَقَالَ: يَا ابْنَ عُقْبَةَ، الأَنْصَارُ أَحَقُّ بِالْغَضَبِ لِقْتَلَى أُحُدٍ، فَاكْفُفْ لِسَانَكَ، فَإِنَّ مَنْ قَتَلَهُ الْحَقُّ لا يُغْضَبْ لَهُ. وَتَكَلَّمَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ، لَوْلا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» ، لَقُلْنَا: الأَئِمَّةُ مِنَ الأَنْصَارِ، وَلَكِنْ جَاءَ أَمْرٌ غَلَبَ الرَّأْيَ، فَأَقْمِعْ شِرَّتَكَ أَيُّهَا الرَّجُلُ وَلا تَكُنِ امْرَأَ سَوْءٍ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي الدُّنْيَا، وَكَذَلِكَ اللَّهُ لا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ فِي الآخِرَةِ. وَأَقْبَلَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ مُغْضَبًا مِنْ كَلامِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَشِعْرِهِ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَفِيهِ قَوْمٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّ أَعْظَمَ ذَنْبِنَا إِلَيْكُمْ قَتْلُنَا كُفَّارَكُمْ، وَحِمَايَتُنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَنْقِمُونَ مِنَّا مِنَّةً كَانَتْ بِالأَمْسِ فَقَدْ كَفَى اللَّهُ شَرَّهَا، فَمَالَنَا وَمَالَكُمْ، وَاللَّهِ مَا يَمْنَعُنَا مِنْ قِتَالِكُمُ الْجُبْنُ، وَلا مِنْ جَوَابِكُمُ الْعِيُّ. إِنَّا لَحَيُّ فِعَالٍ وَمَقَالٍ وَلَكِنَّا قُلْنَا: إِنَّهَا حَرْبٌ، أَوَّلُهَا عَارٌ وَآخِرُهَا ذُلٌّ، فَأَغْضَيْنَا عَلَيْهَا عُيُونَنَا، وَسَحَبْنَا ذُيُولَنَا حَتَّى نَرَى وَتَرَوْا، فَإِنْ قُلْتُمْ قُلْنَا، وَإِنْ سَكَتُّمْ سَكَتْنَا. فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ سَكَتَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَنْ صَاحِبِهِ، وَرَضِيَ الْقَوْمُ أَجْمَعُونَ، وَقَطَعُوا الْخِلافَ وَالْعَصَبِيَّةَ. إَنَّ سَرِيَّةً كَانَتْ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ أَوْ لُعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، جَاءَتْ إِلَيْهِ تَشْكُوهُ، فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلا تَعْذُرُنِي مِنْ أَبِي عِيسَى؟ قَالَ: «وَمَنْ أَبُو عِيسَى» ؟ قَالَتْ: ابْنُكَ عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: " وَيْحَكِ! وَقَدْ تَكَنَّى بِأَبِي عِيسَى! ، ثُمَّ دَعَاهُ، فَقَالَ: إِيهًا، أَكْتَنَيْتَ بِأَبِي عِيسَى! ، فَحَذِرَ وَفَزِعَ، وَأَخَذَ يَدَهُ فَعَضَّهَا، ثُمَّ ضَرَبَهُ وَقَالَ: وَيْلَكَ! وَهَلْ لِعِيسَى أَبٌ؟ أَتَدْرِي مَا كُنَى الْعَرَبِ؟ أَبُو سَلَمَةَ، أَبُو حَنْظَلَةَ، أَبُو عُرْفُطَةَ، أَبُو مُرَّةَ ". وَكَانَ عُمَرُ إِذَا غَضِبَ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ لَمْ يَسْكُنْ غَضَبُهُ حَتَّى يَعَضَّ يَدَهُ عَضًّا شَدِيدًا، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ كَذَلِكَ. وَلِقُوَّةِ هَذَا الْخُلُقِ عِنْدَهُ أَضْمَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فِي خِلافَتِهِ إِبْطَالَ الْقَوْلِ بِالْعَوْلِ، وَأَظْهَرَهُ بَعْدَهُ، فَقِيلَ لَهُ: هَلا قُلْتَ هَذَا فِي أَيَّامِ عُمَرَ فَقَالَ: هِبْتُهُ، وَكَانَ أَمِيرًا مَهِيبًا.

النعمة إذا حدثت حدث لها حساد حسبها وأعداء قدرها، وإن الله لم يحدث لنا نعما ليحدث لها حساد

392 - عَنْ عَمِّهِ، عَنْ عِيسَى بْنِ دَاوُدَ، عَنْ رِجَالِهِ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: " لَمَّا بَنَى عُثْمَانُ دَارَهُ بِالْمَدِينَةِ، أَكْثَرَ النَّاسُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَبَلَغَهُ، فَخَطَبَنَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ صَلَّى بِنَا، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهِ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَصَلَّى عَلَى رَسُولِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ النِّعْمَةَ إِذَا حَدَثَتْ حَدَثَ لَهَا حُسَّادٌ حَسْبُهَا وَأَعْدَاءٌ قَدْرُهَا، وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُحْدِثْ لَنَا نِعَمًا لِيُحْدِثَ لَهَا حُسَّادٌ عَلَيْهَا، وَمُنَافِسُونَ فِيهَا، وَلَكِنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ بِنَاءِ مَنْزِلِنَا هَذَا، مَا كَانَ إِرَادَةُ جَمْعِ الْمَالِ فِيهِ، وَضَمِّ الْقَاصِيَةِ، فَأَتَانَا عَنْ أُنَاسٍ مِنْكُمْ يَقُولُونَ: أَخَذَ فَيْئَنَا وَأَنْفَقَ شَيْئَنَا، وَاسْتَأْثَرَ بِأَمْوَالِنَا، يَمْشُونَ خَمَرًا، وَيَنْطِقُونَ سِرًّا كَأَنَّا غَيْبٌ عَنْهُمْ، وَكَأَنَّهُمْ يَهَابُونَ مُواجَهَتَنَا مَعْرِفَةً مِنْهُمْ بِدُحُوضِ حُجَّتِهِمْ، فَإِذَا غَابُوا عَنَّا يَرُوحُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ يَذْكُرُنَا. وَقَدْ وَجَدُوا عَلَى ذَلِكَ أَعْوَانًا مِنْ نُظَرَائِهِمْ وَمُؤَازِرِينَ مِنْ شُبَهَائِهِمْ، فَبُعْدًا بُعْدًا وَرُغْمًا رُغْمًا! ثُمَّ أَنْشَدَ بَيْتَيْنِ كَأَنَّهُ يُوْمِئُ فِيهِمَا إِلَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ: تَوَقَّدْ بِنَارٍ أَيْنَمَا كُنْتَ وَاشْتَعِلْ ... فَلَسْتَ تَرَى مِمَّا تُعَالِجُ شَافِيًا تَشُطُّ فَيَقْضِي الأَمْرَ دُونَكَ أَهْلُهُ ... وَشِيكًا وَلا تُدْعَى إِذَا كُنْتَ نَائِيًا مَالِي وَلِفِيئِكُمْ وَأَخْذِ مَالِكُمْ! أَلَسْتُ مِنْ أَكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالا، وَأَظْهَرِهُمْ مَنَ اللَّهِ نِعْمَةً! أَلَمْ أَكُنْ عَلَى ذَلِكَ قَبْلَ الإِسْلامِ، وَبَعْدَهُ! وَهَبُونِي بَنَيْتُ مَنْزِلا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، أَلَيْسَ هُوَ لِي وَلَكُمْ! ، أَلَمْ أُقِمْ أُمُورَكُمْ وَإِنِّي مِنْ وَرَاءِ حَاجَاتِكُمْ؟ فَمَا تَفْقِدُونَ مِنْ حُقُوقِكُمْ شَيْئًا، فَلِمَ لا أَصْنَعُ فِي الْفَضْلِ مَا أَحْبَبْتُ؟ فَلِمَ كُنْتُ إِمَامًا إِذًا؟ أَلا وَإِنَّ مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ، أَنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكُمْ أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: لَنَفْعَلَنَّ بِهِ وَلَنَفْعَلَنَّ. فَبِمَنْ تَفْعَلُونَ؟ لِلَّهِ آبَاؤُكُمْ! أَبِنَقَدِ الْبِقَاعِ أَمْ بِفَقْعِ الْقَاعِ؟ أَلَسْتُ أَحْرَاكُمْ إِنْ دَعَا أَنْ يُجَابَ؟ وَأَقْمَنَكُمْ إِنْ أَمَرَ أنْ يُطَاعَ؟ لَهْفِي عَلَى بَقَائِي فِيكُمْ بَعْدَ أَصْحَابِي، وَحَيَاتِي فِيكُمْ بَعْدَ أَتْرَابِي، يَا لَيْتَنِي تَقَدَّمْتُ قَبْلَ هَذَا، لَكِنِّي لا أُحِبُّ خِلافَ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ لِي عَزَّ وَجَلَّ. إِذَا شِئْتُمْ فَإِنَّ الصَّادِقَ الْمُصَدَّقَ، مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ حَدَّثَنِي بِمَا هُوَ كَائِنٌ مِنْ أَمْرِي وَأَمْرِكُمْ، وَهَذَا بَدْءُ ذَلِكَ وَأَوَّلُهُ، فَكَيْفَ الْهَرَبُ مِمَّا حُتِّمَ وَقُدِّرَ! ، أَمَا إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قَدْ بَشَّرَنِي فِي آخِرَ حَدِيثِهِ بِالْجَنَّةِ دُونَكُمْ، إِذَا شِئْتُمْ فَلا أَفْلَحَ مَنْ نَدِمَ.

قَالَ: ثُمَّ هُمَّ بِالنُّزُولِ فَبَصُرَ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَمَعَهُ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَنَاسٌ مِنْ أَهْلِ هَوَاهُ يَتَنَاجَوْنَ، فَقَالَ: إِيهًا إِيهًا! أَسِرِارًا لا جِهَارًا! أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَحْنِقُ عَلَى جِرَّةٍ وَلا أُوتِيَ مِنْ ضَعْفِ مِرَّةٍ، وَلَوْلا النَّظَرُ لِي وَلَكُمْ، وَالرِّفْقُ بِي وَبِكُمْ لَعَاجَلْتُكُمْ فَقَدِ اغْتَرَرْتُمْ وَأَقَلْتُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ. ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ يَدْعُو وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ قَدْ تَعْلَمُ حُبِّي لِلْعَافِيَةِ فَأَلْبِسْنِيهَا، وَإِيثَارِي لِلسَّلامَةِ فَآتِينِهَا. قَالَ: فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَقَامَ عَدِيُّ بْنُ الْخِيَارِ، فَقَالَ: أَتَمَّ اللَّهُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ النِّعْمَةَ، وَزَادَكَ فِي الْكَرَامَةِ، وَاللَّهِ لأَنْ تُحْسَدَ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ تَحْسُدَ، وَلأَنْ تُنَافَسَ أَجَلُّ مِنْ أَنْ تُنَافِسَ، أَنْتَ وَاللَّهِ فِي حَسْبِنَا الصَّمِيمِ وَمَنْصبِنَا الْكَرِيمِ، إِنْ دَعَوْتَ أُجِبْتَ، وَإِنْ أَمَرْتَ أُطِعْتَ، فَقَلْ نَفْعَلْ، وَادْعُ تُجَبْ، جُعِلْتَ الْخَيَرَةَ وَالشُّورَى إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيَخْتَارُوا لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ، وَإِنَّهُمْ لَيَرَوْنَ مَكَانَكَ، وَيَعْرِفُونَ غَيْرَكَ، فَاخْتَارُوكَ مُنِيبِينَ طَائِعِينَ غَيْرَ مُكْرَهِينَ وَلا مُجْبَرِينَ، مَا غَيَّرْتَ، وَلا فَارَقْتَ وَلا بَدَّلْتَ، وَلا خَالَفْتَ، فَعَلامَ يُقَدِّمُونَ عَلَيْكَ وَهَذَا رَأْيُهُمْ فِيكَ! أَنْتَ وَاللَّهِ كَمَا قَالَ الأَوَّلُ: اذْهَبْ إِلَيْكَ فَمَا لِلْحَسُودِ ... إِلا طِلابَكَ تَحْتَ الْعِشَارِ حَكَمْتَ فَمَا جُرْتَ فِي خَلَّةٍ ... فَحُكْمُكَ بِالْحَقِّ بَادِي الْمَنَارِ فَإِنْ يَسْبَعُوكَ فَسِرًّا وَقَدْ ... جَهَرْتَ بِسَيْفِكَ كُلَّ الْجِهَارِ قَالَ: وَنَزَلَ عُثْمَانُ فَأَتَى مَنْزِلَهُ، وَأَتَاهُ النَّاسُ، وَفِيهِمُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَلَمَّا أَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ، أَقْبَلَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: مَا لِي وَلَكُمْ يَابْنَ عَبَّاسٍ! مَا أَغْرَاكُمْ بِي، وَأَوْلَعَكُمْ بِتَعَقُّبِ أَمْرِي! أَتَنْقِمُونَ عَلَيَّ أَمْرَ الْعَامَّةِ؟ أَتَيْتُ مِنْ وَرَاءِ حُقُوقِهِمْ، أَمْ أَمْركُمْ، فَقَدْ جَعَلْتُهُمْ يَتَمَنَّوْنَ مَنْزِلَتَكُمْ،! لا وَاللَّهِ لَكِنَّ الْحَسَدَ وَالْبَغْيَ وَتَثْوِيرَ الشَّرِّ وَإِحْيَاءَ الْفِتَنِ، وَاللَّهِ لَقَدْ أَلْقَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيَّ ذَلِكَ وَأَخْبَرَنِي بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَاحِدًا وَاحِدًا! وَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ وَلا أَنَا بِمَكْذُوبٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَى رِسْلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَوَاللَّهِ مَا عَهِدْتُكَ جَهِرًا بِسِرِّكَ، وَلا مُظْهِرًا مَا فِي نَفْسِكَ، فَمَا الَّذِي هَيَّجَكَ وَثَوَّرَكَ؟ إِنَّا لَمْ يُولِعْنَا بِكَ أَمْرٌ، وَلَمْ نَتَعَقَّبْ أَمْرَكَ بِشَيْءٍ، أُتِيتَ بِالْكَذِبِ، وَتُسُوِّقَ عَلَيْكَ بِالْبَاطِلِ. وَاللَّهِ مَا نَقِمْنَا عَلَيْكَ لَنَا وَلا لِلْعَامَّةِ، قَدْ أُوتِيتَ مِنْ وَرَاءِ حُقُوقِنَا وُحُقُوقَهُمْ، وَقَضَيْتَ مَا يَلْزَمُكَ لَنَا وَلَهُمْ، فَأَمَّا الْحَسَدُ وَالْبَغْيُ وَتَثْوِيرُ الْفِتَنِ وَإِحْيَاءُ الشَّرِّ فَمَتَى رَضِيَتْ بِهِ عِتْرَةُ النَّبِيِّ وَأَهْلُ بَيْتِهِ؟ وَكَيْفَ وَهُمْ مِنْهُ وَإِلَيْهِ، عَلَى دِينِ اللَّهِ، يَثُورُونَ الشَّرَّ، أَمْ عَلَى اللَّهِ يُحْيُونَ الْفِتَنَ؟ كَلا لَيْسَ الْبَغْيُ وَلا الْحَسَدُ مِنْ طِبَاعِهِمْ.

فَاتَّئِدْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَبْصِرْ أَمْرَكَ، وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ، فَإِنَّ حَالَتَكَ الأُولَى خَيْرٌ مِنْ حَالَتِكَ الأُخْرَى. لَعَمْرِي إِنْ كُنْتَ لأَثِيرًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنْ كَانَ لَيُفْضِي إِلَيْكَ بِسِرِّهِ مَا يَطْوِيهِ عَنْ غَيْرِكَ، وَلا كَذَبْتَ وَلا أَنْتَ بِمَكْذُوبٍ، اخْسَ الشَّيْطَانَ عَنْكَ لا يَرْكَبُكَ، وَاغْلِبْ غَضَبَكَ وَلا يَغْلِبْكَ، فَمَا دَعَاكَ إِلَى هَذَا الأَمْرِ الَّذِي كَانَ مِنْكَ؟ قَالَ: دَعَانِي إِلَيْهِ ابْنُ عَمِّكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَعَسَى أَنْ يَكْذِبَ مُبَلِّغُكَ. قَالَ عُثْمَانُ: إِنَّهُ ثِقَةٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ لَيْسَ بِثِقَةٍ مَنْ بَلَّغَ وَأَغْرَى. قَالَ عُثْمَانُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، آللَّهَ إِنَّكَ مَا تَعْلَمُ مِنْ عَلِيٍّ مَا شَكَوْتُ مِنْهُ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ لا إِلا أَنْ يَقُولَ كَمَا يَقُولُ النَّاسُ، وَيَنْقِمُ كَمَا يَنْقِمُونَ، فَمَنْ أَغْرَاكَ بِهِ، وَأَوْلَعَكَ بِذِكْرِهِ دُونَهُمْ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ: إِنَّمَا آفَتِي مِنْ أَعْظَمِ الدَّاءِ الَّذِي يُنَصِّبُّ نَفْسَهُ لِرَأْسِ الأَمْرِ وَهُوَ عَلِيٌّ ابْنُ عَمِّكَ، وَهَذَا وَاللَّهِ كُلُّهُ مِنْ نَكَدِهِ، وَشُؤْمِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَهْلا اسْتَثْنِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قُلْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ قَالَ: إِنِّي أَنْشُدُكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ الإِسْلامَ وَالرَّحِمَ، فَقَدْ وَاللَّهِ غُلِبْتُ وَابْتُلِيتُ بِكُمْ، وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ كَانَ صَارَ إِلَيْكُمْ دُونِي، فَحَمَلْتُمُوهُ عِنِّي، وَكُنْتُ أَحَدَ أَعْوَانِكُمْ عَلَيْهِ إِذًا، وَاللَّهِ لَوَجَدْتُمُونِي لَكُمْ خَيْرًا مِمَّا وَجَدْتُكُمْ لِي، وَلَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الأَمْرَ لَكُمْ، وَلَكِنَّ قَوْمَكُمْ دَفَعُوكَمْ عَنْهُ وَاخْتَزَلُوهُ دُونَكُمْ، فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي أَدَفَعُوهُ عَنْكُمْ أَمْ دَفَعُوكُمْ عَنْهُ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَهْلا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّا نَنْشُدُكَ اللَّهَ وَالإِسْلامَ وَالرَّحِمَ، مِثْلَ مَا نَشَدْتَنَا، أَنْ تُطْمِعَ فِينَا وَفِيكَ عَدُوًّا، وَتُشَمِتَ بِنَا وَبِكَ حَسُودًا. إِنَّ أَمْرَكَ إِلَيْكَ مَا كَانَ قَوْلا، فَإِذَا صَارَ فِعْلا فَلَيْسَ إِلَيْكَ وَلا فِي يَدَيْكَ، وَإِنَّا وَاللَّهِ لَنُخَالِفَنَّ إِنْ خُولِفْنَا، وَلَنُنَازِعَنَّ إِنْ نُوزِعْنَا، وَمَا تَمَنِّيكَ أَنْ يَكُونَ الأَمْرُ صَارِ إِلَيْنَا دُونَكَ، إِلا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ مِنَّا مَا يَقُولُهُ النَّاسُ، وَيَعِيبُ كَمَا عَابُوا! فَأَمَّا صَرْفُ قَوْمِنَا عَنَّا الأَمْرَ فَعَنْ حَسَدٍ قَدْ وَاللَّهِ عَرَفْتُهُ، وَبَغْيٍ قَدْ وَاللَّهِ عَلِمْتُهُ، فَاللَّهَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا! وَأَمَّا قَوْلُكَ: إِنَّكَ لا تَدَرِي أَدَفَعُوهُ عَنَّا، أَمْ دَفَعُونَا عَنْهُ؟ فَلَعَمْرِي إِنَّكَ لَتَعْرِفُ أَنَّهُ لَوْ صَارَ إِلَيْنَا هَذَا الأَمْرُ مَا زِدْنَا بِهِ فَضْلا إِلَى فَضْلِنَا، وَلا قَدْرًا إِلَى قَدْرِنَا، وَإِنَّا لأَهْلُ الْفَضْلِ وَأَهْلُ الْقَدْرِ، وَمَا فَضَلَ فَاضِلٌ إِلا بِفَضْلِنَا، وَلا سَبَقَ سَابِقٌ إِلا بِسَيْفِنَا، وَلَوْلا هَدْيُنَا مَا اهْتَدَى أَحَدٌ، وَلا أَبْصَرُوا مِنَ عَمًى، وَلا قَصَدُوا مِنْ جَوْرٍ.

فَقَالَ عُثْمَانُ: حَتَّى مَتَى يَا ابْنَ عَبَّاسٍ يَأْتِينِي عَنْكُمْ مَا يَأْتِينِي؟ هَبُونِي كُنْتُ بَعِيدًا أَمَا كَانَ لِي مِنَ الْحَقِّ عَلَيْكُمْ أَنْ أُرَاقِبَ وَأَنْ أُنَاظِرَ، بَلَى وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، وَلَكِنَّ الْفُرْقَةَ سَهَّلَتْ لَكُمُ الْقَوْلَ فِيَّ وَتَقَدَّمَتْ بِكُمْ إِلَى الإِسْرَاعِ إِليَّ، وَاللَّهُ الُمُسْتَعَانُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَهْلا حَتَّى أَلْقَى عَلِيًّا، ثُمَّ أَحْمِلَ إِلَيْكَ عَلَى قَدْرِ مَا رَأَى. قَالَ عُثْمَانُ: افْعَلْ مَا قَدْ فَعَلْتَ، وَطَالَمَا طَلَبْتُ فَلا أَطْلَبَ، وَلا أَجَابَ وَلا أَعْتَبَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَخَرَجْتُ فَلَقَيْتُ عَلِيًّا، وَإِذَا بِهِ مِنَ الْغَضَبِ وَالتَّلَظِّي أَضْعَافُ مَا بِعُثْمَانَ، فَأَرَدْتُ تَسْكِينَهُ فَامْتَنَعَ، فَأَتَيْتُ مَنْزِلِي، وَأَغْلَقْتُ بَابِي وَاعْتَزَلْتُهُمَا. فَبَلَغَ ذَلِكَ عُثْمَانَ، فَأَرْسَلَ إِلَيَّ، فَأَتَيْتُهُ وَقَدْ هَدَأَ غَضَبُهُ، فَنَظَرَ إِلَيَّ ثُمَّ ضَحِكَ، وَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، مَا أَبْطَأَ بِكَ عَنَّا؟ إِنَّ تَرْكَكَ الْعَوْدَ إِلَيْنَا لَدَلِيلٌ عَلَى مَا رَأَيْتَ عِنْدَ صَاحِبِكَ، وَعَرَفْتَ مِنْ حَالِهِ، فَاللَّهَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، خُذْ بِنَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَكَانَ عُثْمَانُ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ عَنْ عَلِيٍّ شَيْءٌ فَأَرَدْتُ التَكْذِيبَ عَنْهُ، يَقُولُ: وَلا يَوْمَ الْجُمُعَةِ حِينَ أَبْطَأْتَ عَنَّا وَتَرَكْتَ الْعَوْدَ إِلَيْنَا؟ فَلا أَدْرِي كَيْفَ أَرُدُّ عَلَيْهِ " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، قَالَ: " خَرَجْتُ مِنْ مَنْزِلِي سَحَرًا أُسَابِقُ إِلَى الْمَسْجِدِ وَأَطْلُبُ الْفَضِيلَةَ، فَسَمِعْتُ خَلْفِي حِسًّا وَكَلامًا، فَتَسَمَّعْتُهُ، فَإِذَا حِسُّ عُثْمَانَ، وَهُوَ يَدْعُو وَلا يَرَى أَنَّ أَحَدًا يَسْمَعُهُ، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ قَدْ تَعْلَمُ نِيَّتِي فَأَعِنِّي عَلَيْهِمْ، وَتَعْلَمُ الَّذِينَ ابْتُلِيتُ بِهِمْ مِنْ ذَوِي رَحِمِي وَقَرَابَتِي، فَأَصْلِحْنِي لَهُمْ، وَأَصْلِحْهُمْ لِي. قَالَ: فَقَصَّرْتُ مِنْ خُطْوَتِي وَأَسْرَعَ فِي مَشْيَتِهِ، فَالْتَقَيْنَا، فَسَلَّمَ، فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنِّي خَرَجْتُ لَيْلَتَنَا هَذِهِ أَطْلُبُ الْفَضْلَ وَالْمُسَابَقَةَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَقُلْتُ: إِنَّهُ أَخْرَجَنِي مَا أَخْرَجَكَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَئِنْ سَابَقْتَ إِلَى الْخَيْرِ، إِنَّكَ لِمِنَ سَابِقِينَ مُبَارَكِينَ، وَإِنِّي لأُحِبُّكُمْ، وَأَتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ بِحُبِّكُمْ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّا لَنُحِبُّكَ وَنَعْرِفُ سَابِقَتَكَ، وَسِنَّكَ وَقَرَابَتَكَ وَصِهْرَكَ. قَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، فَمَا لِي وَلابْنِ عَمِّكَ وَابْنِ خَالِي! قُلْتُ: أَيُّ بَنِي عُمُومَتِي وَبِنِي أَخْوَالِكَ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ. أَتَسْأَلُ مَسْأَلَةَ الْجَاهِلِ؟ قُلْتُ: إِنَّ بَنِي عُمُومَتِي مِنْ بَنِي خُئُولَتِكَ كَثِيرٌ، فَأَيَّهُمْ تَعْنِي. قَالَ: أَعْنِي عَلِيًّا لا غَيْرَهُ. فَقُلْتُ: لا وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا أَعْلَمُ مِنْهُ إِلا خَيْرًا، وَلا أَعْرِفُ لَهُ إِلا حُسْنًا. قَالَ: وَاللَّهِ بِالْحَرِيِّ أَنْ يَسْتُرَ دُونَكَ، مَا يُظْهِرُهُ لِغَيْرِكَ، وَيَقْبِضَ عَنْكَ مَا يَنْبَسِطُ بِهِ إِلَى سِوَاكَ.

قَالَ: وَرُمِينَا بِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، فَسَلَّمَ، فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ سَلامَهُ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ مَعَكَ؟ قُلْتُ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ، قَالَ: نَعَمْ، وَسَلَّمَ بِكُنْيَتِهِ، وَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ بِالْخِلافَةِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ عَمَّارٌ: مَا الَّذِي كُنْتُمْ فِيهِ، فَقَدْ سَمِعْتُ ذَرْوًا مِنْهُ؟ قُلْتُ: هُوَ مَا سَمِعْتَ. فَقَالَ عَمَّارٌ: رُبَّ مَظْلُومٍ غَافِلٌ، وَظَالِمٍ مُتَجَاهِلٌ. قَالَ عُثْمَانُ: أَمَا إِنَّكَ مِنْ شُنَّائِنَا وَأَتْبَاعِهِمْ، وايْمُ اللَّهِ، إِنَّ الْيَدَ عَلَيْكَ لَمُنْبَسِطَةٌ، وَإِنَّ السَّبِيلَ إِلَيْكَ لَسَهْلَةٌ، وَلَوْلا إِيثَارُ الْعَافِيَةِ، وَلَمُّ الشَّعَثِ لَزَجَرْتُكَ زَجْرَةً تَكْفِي مَا مَضَى وَتَمْنَعُ مَا بَقِيَ. فَقَالَ عَمَّارٌ: وَاللَّهِ مَا أَعْتَذِرُ مِنْ حُبِّي عَلِيًّا، وَمَا الْيَدُ بِمُنْبَسِطَةٍ وَلا السَّبِيلُ بِسَهْلَةٍ، إِنِّي لازِمٌ حُجَّةً وَمُقِيمٌ عَلَى سُنَّةٍ. وَأَمَّا إِيثَارُكَ الْعَافِيَةَ وَلَمُّ الشَّعَثِ، فَلازِمُ ذَلِكَ. وَأَمَّا زَجْرِي فَأَمْسِكْ عَنْهُ، فَقَدْ كَفَاكَ مُعَلِّمِي تَعْلِيمِي. فَقَالَ عُثْمَانُ: أَمَا وَاللَّهِ إِنَّكَ مَا عَلِمْتُ مِنْ أَعْوَانِ الشَّرِّ الْحَاضِّينَ عَلَيْهِ، الْخَذَلَةِ عِنْدَ الْخَيْرِ الْمُثَبِّطِينَ عَنْهُ. فَقَالَ عَمَّارٌ: مَهْلا يَا عُثْمَانُ، فَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، يَصِفُنِي بِغَيْرِ ذَلِكَ، قَالَ عُثْمَانُ: وَمَتَى؟ قَالَ: يَوْمَ دَخَلْتُ عَلَيْهِ مُنْصَرَفَهِ عَنِ الْجُمُعَةِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ غَيْرُكَ، وَقَدْ أَلْقَى ثِيَابَهُ، وَقَعَدَ فِي فُضُلِهِ، فَقَبَّلْتُ صَدْرَهُ وَنَحْرَهُ وَجَبْهَتَهُ، فَقَالَ: يَا عَمَّارُ، إِنَّكَ لَتُحِبُّنَا وَإِنَّا لَنُحِبُّكَ، وَإِنَّكَ لَمِنَ الأَعْوَانِ عَلَى الْخَيْرِ الْمُثَبِّطِينَ عَنِ الشَّرِّ، فَقَالَ عُثْمَانُ: أَجَلْ، وَلَكِنَّكَ غَيَّرْتَ وَبَدَّلْتَ. قَالَ: فَرَفَعَ عَمَّارٌ يَدَهُ يَدْعُو، وَقَالَ: أَمِّنْ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ. اللَّهُمَّ مَنْ غَيَّرَ فَغَيِّرْ بِهِ. ثَلاثَ مَرَّاتٍ. قَالَ: وَدَخَلْنَا الْمَسْجِدَ، فَأَهْوَى عَمَّارٌ إِلَى مُصَلاهُ، وَمَضَيْتُ مَعَ عُثْمَانَ إِلَى الْقِبْلَةَ، فَدَخَلَ الْمِحْرَابَ، وَقَالَ: تَلَبَّثْ عَلَيَّ إِذَا انْصَرَفْنَا فَلَمَّا رَآنِي عَمَّارٌ وَحْدِي أَتَانِي، فَقَالَ: أَمَا رَأَيْتَ مَا بَلَغَ بِي آنِفًا! قُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ أَصْعَبْتَ بِهِ وَأَصْعَبَ بِكَ، وَإِنَّ لَهُ لَسِنَّهُ وَفَضْلَهُ وَقَرَابَتَهُ. قَالَ: إِنَّهُ لَهُ لِذَلِكَ، وَلَكِنْ لا حَقَّ لِمَنْ لا حَقَّ عَلَيْهِ. وَانْصَرَفَ. وَصَلَّى عُثْمَانُ، وَانْصَرَفْتُ مَعَهُ يَتَوَكَّأُ عَلَيَّ فَقَالَ: هَلْ سَمِعْتَ مَا قَالَ عَمَّارٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَسَرَّنِي ذَلِكَ وَسَاءَنِي، أَمَّا مَسَاءَتُهُ إِيَّايَ فَمَا بَلَغَ بِكَ، وَأَمَّا مَسَرَّتُهُ لِي فَحِلْمُكَ وَاحْتِمَالُكَ. فَقَالَ: إِنَّ عَلِيًّا فَارَقَنِي مُنْذُ أَيَّامٍ عَلَى الْمُقَارَبَةِ، وَإِنَّ عَمَّارًا آتِيهِ فَقَائِلٌ لَهُ وَقَائِلٌ، فَابْدُرْهُ إِلَيْهِ فَإِنَّكَ أَوْثَقُ عِنْدَهُ مِنْهُ وَأَصْدَقُ قَوْلا، فَالْقِ الأَمْرَ إِلَيْهِ عَلَى وَجْهِهِ. فَقُلْتُ: نَعَمْ.

وَانْصَرَفْتُ أُرِيدُ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلامُ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِذَا هُوَ خَارِجٌ مِنْهُ، فَلَمَّا رَآنِي تَفَجَّعَ لِي مِنْ فَوْتِ الصَّلاةِ، وَقَالَ: مَا أَدْرَكْتَهَا! قُلْتُ: بَلَى، وَلَكِنِّي خَرَجْتُ مَعَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ اقْتَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، إِنَّهُ لَيَقْرِفُ قَرْحَةً، لَيَحُورَنَّ عَلَيْهَا أَلَمُهَا. فَقُلْتُ: إِنَّ لَهُ سِنَّهُ وَسَابِقَتَهُ وَقَرَابَتَهُ وَصِهْرَهُ، قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ لَهُ، وَلَكِنْ لا حَقَّ لِمْنَ لا حَقَّ عَلَيْهِ. قَالَ: ثُمَّ رَهِقَنَا عَمَّارٌ فَبَشَّ بِهِ عَلِيٌّ وَتَبَسَّمَ فِي وَجْهِهِ وَسَأَلَهُ. فَقَالَ عَمَّارٌ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، هَلْ أَلْقَيْتَ إِلَيْهِ مَا كُنَّا فِيهِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قال: أَمَا وَاللَّهِ إِذًا لَقَدْ قُلْتَ بِلِسَانِ عُثْمَانَ، وَنَطَقْتَ بِهَوَاهِ. قُلْتُ: مَا عَدَوْتُ الْحَقَّ جُهْدِي، وَلا ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي، وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَيُّ الْحَظَّيْنِ أَحَبُّ إِلَيَّ، وَأَيُّ الْحَقَّيْنِ أَوْجَبُ عَلَيَّ. قَالَ: فَظَنَّ عَلِيٌّ أَنَّ عِنْدَ عَمَّارٍ غَيْرَ مَا أَلْقَيْتُ إِلَيْهِ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ وَتَرَكَ يَدِي، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يَكْرَهُ مَكَانِي، فَإِذَا رَسُولُ عُثْمَانَ يَدْعُونِي فَأَتَيْتُهُ، فَأَجَدَّ بِبَابِهِ مَرْوَانُ وَسَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، فَأَذِنَ لِي وَأَلْطَفَنِي، وَقَرَّبَنِي وَأَدْنَى مَجْلِسِي، ثُمَّ قَالَ: مَا صَنَعْتَ؟ فَأَخْبَرْتُهُ بِالْخَبَرِ عَلَى وَجْهِهِ وَمَا قَالَ الرَّجُلُ، وَقُلْتُ لَهُ، وَكَتَمْتُ قَوْلَهُ: إِنَّهُ لَيَقْرِفُ قَرْحَةً لَيَحُورَنَّ عَلَيْهِ أَلَمُهَا، إِبْقَاءً عَلَيْهِ، وَإِجْلالا لَهُ، وَذَكَرْتُ مَجِيءَ عَمَّارٍ، وَبَشَّ عَلِيٌّ لَهُ، وَظَنَّ عَلِيٌّ أَنَّ قَبْلَهُ غَيْرُ مَا أَلْقَيْتُ عَلَيْهِ، وَسُلُوكَهُمَا حَيْثُ سَلَكَا، قَالَ: وَفَعَلا؟ . قُلْتُ: نَعَمْ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَالرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، أَصْلِحْ لِي عَلِيًّا، وَأَصْلِحْنِي لَهُ! أَمِّنْ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، فَأَمَّنْتُ. ثُمَّ تَحَدَّثْنَا طَوِيلا، وَفَارَقْتُهُ وَأَتَيْتُ مَنْزِلِي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " مَا سَمِعْتُ مِنْ أَبِي شَيْئًا قَطُّ فِي أَمْرِ عُثْمَانَ يَلُومُهُ فِيهِ وَلا يَعْذُرُهُ، وَلا سَأَلْتُهُ عَنِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ أَهْجُمَ مِنْهُ عَلَى مَا لا يُوَافِقُهُ. فَإِنَّا عِنْدَهُ لَيْلَةً وَنَحْنُ نَتَعَشَّى، إِذْ قِيلَ: هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بِالْبَابِ، فَقَالَ: ائْذَنُوا لَهُ. فَدَخَلَ، فَأَوْسَعَ لَهُ عَلَى فِرَاشِهِ، وَأَصَابَ مِنَ الْعَشَاءِ مَعَهُ، فَلَمَّا رُفِعَ قَامَ مَنْ كَانَ هُنَاكَ، وَثَبَتُّ أَنَا، فَحَمِدَ عُثْمَانُ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، يَا خَالُ، فَإِنِّي قَدْ جِئْتُكَ أَسَتَعْذِرُكَ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ عَلِيٍّ، سَبَّنِي، وَشَهَّرَ أَمْرِي، وَقَطَعَ رَحِمِي، وَطَعَنَ فِي دِينِي، وَإِنِّي أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكُمْ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، إِنْ كَانَ لَكُمْ حَقٌّ تَزُعُمُونَ أَنَّكُمْ غُلِبْتُمْ عَلَيْهِ، فَقَدْ تَرَكْتُمُوهُ فِي يَدَيْ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِكُمْ، وَأَنَا أَقْرَبُ إِلَيْكُمْ رَحِمًا مِنْهُ، وَمَا لُمْتُ مِنْكُمْ أَحَدًا إِلا عَلِيًّا، وَلَقَدْ دُعِيتُ أَنْ أَبْسُطَ عَلَيْهِ، فَتَرَكْتُهُ لِلَّهِ وَالرَّحِمِ، وَأَنَا أَخَافُ أَنْ يَتْرُكَنِي فَلا أَتْرُكهُ.

أتي عمر بجوهر كسرى، وضع في المسجد، فطلعت عليه الشمس فصار كالجمر، فقال لخازن بيت المال:

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَحَمِدَ أَبِي اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، يَا ابْنَ أَخْتِي، فَإِنْ كُنْتَ لا تَحْمَدُ عَلِيًّا لِنَفْسِكَ، فَإِنِّي لا أَحْمَدُكَ لِعَلِيٍّ، وَمَا عَلِيٌّ وَحْدَهُ قَالَ فِيكَ، بَلْ غَيْرُهُ، فَلَوْ أَنَّكَ اتَّهَمْتَ نَفْسَكَ لِلنَّاسِ، اتَّهَمَ النَّاسُ أَنْفُسَهُمْ لَكَ، وَلَوْ أَنَّكَ نَزَلْتَ مِمَّا رُقِيتَ وَارْتَقُوا مِمَّا نَزَلُوا، فَأَخَذْتَ مِنْهُمْ وَأَخَذُوا مِنْكَ مَا كَانَ بِذَلِكَ بَأْسٌ. قَالَ عُثْمَانُ: فَذَلِكَ إِلَيْكَ يَا خَالُ، وَأَنْتَ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ. قَالَ: أَفَأَذْكُرُ لَهُمْ ذَلِكَ عَنْكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَانْصَرَفَ. فَمَا لَبِثْنَا أَنْ قِيلَ: هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ رَجَعَ بِالْبَابِ، قَالَ أَبِي: ائْذَنُوا لَهُ، فَدَخَلَ، فَقَامَ قَائِمًا وَلَمْ يَجْلِسْ. وَقَالَ: لا تَعْجَلْ يَا خَالِ حَتَّى أُوذِنَكَ، فَنَظَرْنَا، فَإِذَا مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ كَانَ جَالِسًا بِالْبَابِ يَنْتَظِرُهُ حَتَّى خَرَجَ، فَهُوَ الَّذِي ثَنَاهُ عَنْ رَأْيِهِ الأَوَّلِ. فَأَقْبَلَ عَلَيَّ أَبِي، وَقَالَ: يَا بُنَيَّ، مَا إِلَى هَذَا مِنْ أَمْرِهِ شَيْءٌ، ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ، أَمْلِكَ عَلَيْكَ لِسَانَكَ حَتَّى تَرَى مَا لا بُدَّ مِنْهُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اسْبِقْ بِي مَا لا خَيْرَ لِي فِي إِدْرَاكِهِ. فَمَا مَرَّتْ جُمُعَةٌ حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ " عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، قَالَ: " أَرْسَلَ إِلَيَّ عُثْمَانُ فِي الْهَاجِرَةِ، فَتَقَنَّعْتُ بِثَوْبِي وَأَتَيْتُهُ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ عَلَى سَرِيرِهِ، وَفِي يَدِهِ قَضِيبٌ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ مَالٌ دَثْرٌ: صَبْرَتَانِ مِنْ وَرِقٍ وَذَهَبٍ، فَقَالَ: دُونَكَ خُذْ مِنْ هَذَا حَتَّى تَمْلأَ بَطْنَكَ فَقَدْ أَحْرَقْتَنِي. فَقُلْتُ: وَصَلَتْكَ رَحِمٌ! إِنْ كَانَ هَذَا الْمَالُ وَرِثْتَهُ أَوْ أَعْطَاكَهُ مُعْطٍ، أَوِ اكْتَسَبْتَهُ مِنْ تِجَارَةٍ كُنْتُ أَحَدَ رَجُلَيْنِ: إِمَّا آخُذُ وَأَشْكُرُ، أَوْ أُوَفِّرُ وَأَجْهَدُ. وَإِنْ كَانَ مِنْ مَالِ اللَّهِ وَفِيهِ حَقُّ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَتِيمِ وَابْنِ السَّبِيلِ، فَوَاللَّهِ مَا لَكَ أَنْ تُعْطِيَنِيهِ، وَلا لِي أَنْ آخُذَهُ. فَقَالَ: أَبَيْتَ وَاللَّهِ إِلا مَا أَبَيْتَ. ثُمَّ قَامَ إِلَيَّ بَالْقَضِيبِ فَضَرَبَنِي، وَاللَّهِ مَا أَرُدُّ يَدَهُ حَتَّى قَضَى حَاجَتَهُ، فَتَقَنَّعْتُ بِثَوْبِي، وَرَجَعْتُ إِلَى مَنْزِلِي، وَقُلْتُ: اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ إِنْ كُنْتُ أَمَرْتُكَ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهَيْتُ عَنْ مُنْكَرٍ " 396 - عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: لَمَّا أُتِي عُمَرُ بَجَوْهَرِ كِسْرَى، وُضِعَ فِي الْمَسْجِدِ، فَطَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَصَارَ كَالْجَمْرِ، فَقَالَ لِخَازَنِ بَيْتِ الْمَالِ: «وَيْحَكَ! أَرِحْنِي مِنْ هَذَا، وَقَسِّمْهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي أَنَّهُ سَيَكُونُ فِي هَذَا بَلاءٌ وَفِتْنَةٌ بَيْنَ النَّاسِ» ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ قَسَّمْتَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَسَعَهُمْ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَشْتَرِيهِ لأَنَّ ثَمَنَهُ عَظِيمٌ، وَلَكِنْ نَدَعَهُ إِلَى قَابِلٍ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَفْتَحَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَيَشْتَرِيَهُ مِنْهُمْ مَنْ يَشْتَرِيهِ. قَالَ: «ارْفَعْهُ فَأَدْخِلْهُ بَيْتَ الْمَالِ» ، وُقُتِلَ عُمَرُ وَهُوَ بِحَالِهِ، «فَأَخَذَهُ عُثْمَانُ لَمَّا وُلِّيَ الْخِلافَةَ فَحَلَّى بِهِ بَنَاتِهِ» .

جاء رجل إلى علي عليه السلام يستشفع به إلى عثمان، فقال: «حمال الخطايا! لا والله لا أعود

فَقَالَ الزُّهْرِيُّ: كُلٌّ قَدْ أَحْسَنَ، عُمَرُ حَيْنَ حَرَمَ نَفْسَهُ، وَأَقَارِبَهُ، وَعُثْمَانُ حِينَ وَصَلَ أَقَارِبَهُ 397 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ يَسْتَشْفِعُ بِهِ إِلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ: «حَمَّالُ الْخَطَايَا! لا وَاللَّهِ لا أَعُودُ إِلَيْهِ أَبَدًا» . فَآيَسَهُ مِنْهُ 398 - عَنْ أَبِي غَسَّانَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ وَهُوَ يَخْطُبُ، فَأَكَبَّ النَّاسُ حْوَلَهُ، فَقَالَ: «اجْلِسُوا يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ» ! فَصَاحَ بِهِ طَلْحَةُ: «إِنَّهُمْ لَيْسُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ لَكِنَّهُمْ عِبَادُهُ وَقَدْ قَرَءُوا كِتَابَهُ» 399 - عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: شَهِدْتُ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَخَرَجَ عُثْمَانُ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَنْشُدُ كِتَابَ اللَّهِ. فَقَالَ عُثْمَانُ: «اجْلِسْ، أَمَا لِكِتَابِ اللَّهِ نَاشِدٌ غَيْرُكَ» ! فَجَلَسَ، ثُمَّ قَامَ آخَرُ فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ، فَقَالَ: «اجْلِسْ» ، فَأَبَى أَنْ يَجْلِسَ، فَبَعَثَ إِلَى الشُّرَطِ لِيُجْلِسُوهُ، فَقَامَ النَّاسُ فَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، قَالَ: ثُمَّ تَرَاقَوْا بِالْبَطْحَاءِ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: مَا أَكَادُ أَرَى أَدِيمَ السَّمَاءِ مِنَ الْبَطْحَاءِ. فَنَزَلَ عُثْمَانُ، فَدَخَلَ دَارَهُ وَلَمْ يُصَلِّ الْجُمُعَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، قَالَ: " صَلَّيْتُ الْعَصْرَ يَوْمًا، ثُمَّ خَرَجْتُ فَإِذَا أَنَا بِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فِي أَيَّامِ خِلافَتِهِ فِي بَعْضِ أَزِقَّةِ الْمَدِينَةِ وَحَدَهُ، فَأَتَيْتُهُ إِجْلالا وَتَوْقِيرًا لِمَكَانِهِ، فَقَالَ لِي: هَلْ رَأَيْتَ عَلِيًّا؟ قُلْتُ: خَلَّفْتُهُ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الآنَ فَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ، قَالَ: أَمَّا مَنْزِلُهُ فَلَيْسَ فِيهِ، فَابْغِهِ لَنَا فِي الْمَسْجِدِ. فَتَوَجَّهْنَا إِلَى الْمَسْجِدِ، وَإِذَا عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ يَخْرُجُ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَقَدْ كُنْتُ أَمْسِ ذَلِكَ الْيَوْمِ عِنْدَ عَلِيٍّ، فَذَكَرَ عُثْمَانَ وَتَجَرُّمَهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ إِنَّ مِنْ دَوَائِهِ لَقَطْعَ كَلامِهِ، وَتَرْكَ لِقَائِهِ. فَقُلْتُ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، كَيْفَ لَكَ بِهَذَا! فَإِنْ تَرَكْتَهُ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْكَ فَمَا أَنْتَ صَانِعٌ؟ قَالَ: أَعْتَلُّ، وَأَعْتَلُّ، فمَنْ يَقْسِرُنِي؟ قَالَ: لا أَحَدَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَمَّا تَرَاءَيْنَا لَهُ وَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْمَسْجِدِ، ظَهَرَ مِنْهُ التَّفَلُّتُ وَالطَّلَبُ لِلانْصِرَافِ مَا اسْتَبَانَ لِعُثْمَانَ، فَنَظَرَ إِلَيَّ عُثْمَانُ، وَقَالَ: يَا بْنَ عَبَّاسٍ، أَمَا تَرَى ابْنَ خَالِنَا يَكْرَهُ لِقَاءَنَا، فَقُلْتُ لَهُ: وَلِمَ وَحَقُّكَ أَلْزَمُ، وَهُوَ بِالْفَضِلِ أَعْلَمُ؟ فَلَمَّا تَقَارَبَا رَمَاهُ عُثْمَانُ بِالسَّلامِ، فَرَّدَ عَلَيْهِ، فَقَالَ عُثْمَانُ: إِنْ تَدْخُلْ فَإِيَّاكَ أَرَدْنَا، وَإِنْ تَمْضِ فَإِيَّاكَ طَلَبْنَا.

فَقَالَ عَلِيٌّ: أَيَّ ذَلِكَ أَحْبَبْتَ؟ قَالَ: تَدْخُلَ، فَدَخَلا وَأَخَذَ عُثْمَانُ بِيَدِهِ، فَأَهْوَى بِهِ إِلَى الْقِبْلَةِ، فَقَصَّرَ عَنْهَا، وَجَلَسَ قُبَالَتَهَا، فَجَلَسَ عُثْمَانُ إِلَى جَانِبِهِ، فَنَكَصْتُ عَنْهُمَا، فَدَعَوَانِي جَمِيعًا، فَأَتَيْتُهُمَا، فَحَمِدَ عُثْمَانُ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَصَلَّى عَلَى رَسُولِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ يَا ابْنَيْ خَالِي وَابْنَيْ عَمِّي، فَإِذَا جَمَعْتُكُمَا فِي النِّدَاءِ فَأَسْتَجْمِعُكُمَا فِي الشِّكَايَةِ عَنْ رِضَايَ عَلَى أَحَدِكُمَا، وَوَجْدِي عَلَى الآخَرِ. إِنِّي أَسْتَعْذِرُكُمَا مِنْ أَنْفُسِكُمَا، وَأَسْأَلُكُمَا فَيْئَتَكُمَا، وَأسْتَوْهِبُكُمَا رَجْعتَكُمَا، فَوَاللَّهِ لَوْ غَالَبَنِي النَّاسُ مَا انْتَصَرْتُ إِلا بِكُمَا، وَلَوْ تَهَضَّمُونِي مَا تَعَزَّزْتُ إِلا بِعِزِّكُمَا. وَلَقْدَ طَالَ هَذَا الأَمْرُ بَيْنَنَا حَتَّى تَخَوَّفْتُ أَنْ يَجُوزَ قَدْرَهُ، وَيَعْظُمَ الْخَطَرُ فِيهِ، وَلَقَدْ هَاجَنِي الْعَدُوُّ عَلَيْكُمَا، وَأَغْرَانِي بِكُمَا، فَمَنَعَنِي اللَّهُ وَالرَّحِمُ مِمَّا أَرَادَ، وَقَدْ خَلَوْنَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى جَانِبِ قَبْرِهِ، وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ تُظْهِرَا لِي رَأْيَكُمَا فِيَّ، وَمَا تَنْطَوِيَانِ لِي عَلَيْهِ، وَتَصْدُقَا فَإِنَّ الصِّدْقَ أَنْجَى وَأَسْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهُ لِي وَلَكُمَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَطْرَقَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَأَطْرَقْتُ مَعَهُ طَوِيلا، أَمَّا أَنَا فَأَجلَلْتُهُ أَنْ أَتَكَلَّمَ قَبْلَهُ، وَأَمَّا هُوَ فَأَرَادَ أَنْ يُجِيبَ عَنِّي وَعَنْهُ، ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: أَتَتَكَلَّمُ أَمْ أَتَكَلَّمُ أَنَا عَنْكَ؟ قَالَ: بَلْ تَكَلَّمْ عَنِّي وَعَنْكَ، فَحَمِدْتُ اللَّهَ، وَأَثْنَيْتُ عَلَيْهِ، وَصَلَّيْتُ عَلَى رَسُولِهِ، ثُمَّ قُلْتُ: أَمَّا بَعْدُ، يَا ابْنَ عَمِّنَا وَعَمَّتِنَا، فَقَدْ سَمِعْنَا كَلامَكَ لَنَا، وَخَلْطَكَ فِي الشِّكَايَةِ بَيْنَنَا عَلَى رِضَاكَ، زَعَمْتَ، عَنْ أَحَدِنَا، وَوَجْدِكَ عَلَى الآخَرِ، وَسَنَفْعَلُ فِي ذَلِكَ، فَنَذُمُّكَ وَنَحْمَدُكَ، اقْتِدَاءً مِنْكَ بِفِعْلِكَ فِينَا، فَإِنَّا نَذُمُّ مِثْلَ تُهْمَتِكَ إِيَّانَا عَلَى مَا اتَّهَمْتَنَا عَلَيْهِ بِلا ثِقَةٍ إِلا ظَنًّا، وَنَحْمَدُ مِنْكَ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ مُخَالَفَتِكَ عَشِيرَتَكَ، ثُمَّ نَسْتَعْذِرُكَ مِنْ نَفْسِكَ اسْتِعْذَارَكَ إِيَّانَا مِنْ أَنْفُسِنَا، وَنَسْتَوْهِبُكَ فَيْئَتَكَ اسْتِيهَابَكَ إِيَّانَا فَيْئَتَنَا، وَنَسْأَلُكَ رَجْعَتَكَ مَسْأَلَتَكَ إِيَّانَا رَجْعَتَنَا، فَإِنَّا مَعًا أَيَّمَا حَمِدْتَ وَذَمَمْتَ مِنَّا، كَمِثْلِكَ فِي أَمْرِ نَفْسِكَ، لَيْسَ بَيْنَنَا فَرْقٌ وَلا اخْتِلافٌ، بَلْ كِلانَا شَرِيكٌ صَاحِبِهِ فِي رَأْيِهِ وَقَوْلِهِ. فَوَاللَّهِ مَا تَعْلَمُنَا غَيْرَ مُعْذَرِينَ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ، وَلا تَعْرِفُنَا غَيْرَ قَانِتِينَ عَلَيْكَ، وَلا تَجِدُنَا غَيْرَ رَاجِعِينَ إِلَيْكَ، فَنَحْنُ نَسْأَلُكَ مِنْ نَفْسِكَ مِثْلَ مَا سَأَلْتَنَا مِنْ أَنْفُسِنَا. وَأَمَّا قَوْلُكُ: لَوْ غَالَبَتْنِي النَّاسُ مَا انْتَصَرْتُ إِلا بِكُمَا أَوْ تَهَضَّمُونِي مَا تَعَزَّزْتُ إِلا بِعِزِّكُمَا، فَأَيْنَ بِنَا وَبِكَ عَنْ ذَلِكَ، وَنَحْنُ وَأَنْتَ كَمَا قَالَ أَخُو كِنَانَةَ: بَدَا بُحْتُرٌ مَا رَامَ نَالَ وَإِنْ يُرَمْ ... نَخُضْ دُونَهُ غَمْرًا مِنَ الْغَرِّ رَائِمُهْ لَنَا وَلَهُمْ مِنَّا وَمِنْهُمْ عَلَى الْعِدَى ... مَرَاتِبُ عِزٍّ مُصْعِدَاتٍ سِلالِمُهْ

وَأَمَّا قَوْلُكَ فِي هَيْجِ الْعَدُوِّ إِيَّاكَ عَلَيْنَا، وَإِغْرَائِهِ لَكَ بِنَا، فَوَاللَّهِ مَا أَتَاكَ الْعَدُوُّ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا إِلا وَقَدْ أَتَانَا بِأَعْظَمِ مِنْهُ، مِمَّا أَرَادَ مَنْعَكَ مِنْ مُرَاقَبَةِ اللَّهِ وَالرَّحِمِ، وَمَا أَبْقَيْتَ أَنْتَ وَنَحْنُ إِلا أَدْيَانَنَا وَأَعْرَاضَنَا وَمُرُوءَاتِنَا، وَلَقَدْ لَعَمْرِي طَالَ بِنَا وَبِكَ هَذَا الأَمْرُ حَتَّى تَخَوَّفْنَا مِنْهُ عَلَى أَنْفُسِنَا، وَرَاقَبْنَا مِنْهُ مَا رَاقَبْتَ. وَأَمَّا مُسَاءَلَتِكَ إِيَّانَا فِيكَ، وَمَا نَنْطَوِي عَلَيْهِ لَكَ، فَإِنَّا نُخْبِرُكَ أَنَّ ذَلِكَ إِلَى مَا تُحِبُّ، لا يَعْلَمُ وَاحِدٌ مِنَّا مِنْ صَاحِبِهِ إِلا ذَلِكَ، وَلا يَقْبَلُ مِنْهُ غَيْرَهُ، وَكِلانَا ضَامِنٌ عَلَى صَاحِبِهِ ذَلِكَ وَكَفَيِلٌ بِهِ. وَقَدْ بَرَّأْتَ أَحَدَنَا وَزَكَّيْتَهُ، وَأَنْطَقْتَ الآخَرَ وَأَسْكَتَّهُ، وَلَيْسَ السَّقِيمُ مِنَّا مِمَّا كَرِهْتَ بِأَنْطَقَ مِنَ الْبَرِيءِ فِيمَا ذَكَرْتَ، وَلا الْبَرِيءُ مِنَّا مِمَّا سَخِطْتَ بِأَظْهَرَ مِنَ السَّقِيمِ فِيمَا وَصَفْتَ. فَإِمَّا جَمْعَتَنَا فِي الرِّضَا، وَإِمَّا جَمَعْتَنَا فِي السَّخَطِ لِنُجَازِيَكَ بِمِثْلِ مَا تَفْعَلُ بِنَا فِي ذَلِكَ مُكَايَلَةَ الصَّاعَ بِالصَّاعِ، فَقَدْ أَعْلَمْنَاكَ رَأْيَنَا، وَأَظْهَرْنَا لَكَ ذَاتَ أَنْفُسِنَا، وَصَدَقْنَاكَ، وَالصِّدْقُ كَمَا ذَكَرْتَ أَنْجَى وَأَسْلَمُ، فَأَجِبْ إِلَى مَا دَعَوْتَ إِلَيْهِ، وَأَجْلِلْ عَنِ النَّقْضِ وَالْغَدْرِ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَوْضِعَ قَبْرِهِ، وَاصْدُقْ تَنْجُ وَتَسْلَمْ، وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لَنَا وَلَكَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَنَظَرَ إِلَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ نَظْرَةَ هَيْبَةٍ، وَقَالَ: دَعْهُ حَتَّى يَبْلُغَ رِضَاهُ فِيمَا هُوَ فِيهِ، فَوَاللَّهِ لَوْ ظَهَرَتْ لَهُ قُلُوبُنَا، وَبَدَتْ لَهُ سَرَائِرُنَا حَتَّى رَآهَا بِعَيْنِهِ، كَمَا يَسْمَعُ الْخَبَرَ عَنْهُ بِأُذُنِهِ، مَا زَالَ مُتَجَرِّمًا مُنْتَقِمًا، وَاللَّهِ مَا أَنَا مُلْقًى عَلَى وَضَمَةٍ، وَإِنِّي لَمَانِعٌ مَا وَرَاءَ ظَهْرِي، وَإِنَّ هَذَا الْكَلامَ لَمُخَالَفَةٌ مِنْهُ وَسُوءُ عِشْرَةٍ. فَقَالَ عُثْمَانُ: مَهْلا أَبَا حَسَنٍ، فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَفَنِي بِغَيْرِ ذَلِكَ يَوْمَ يَقُولُ وَأَنْتَ عِنْدَهُ: «إِنْ مِنْ أَصْحَابِي لَقَوْمًا سَالِمِينَ لَهُمْ، وَإِنَّ عُثْمَانَ لِمِنْهُمْ، إِنَّهُ لَأَحْسَنُهُمْ بِهِمْ ظَنًّا، وَأَنْصَحُهُمْ لَهُمْ حُبًّا» ، فَقَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ: فَصَدِّقْ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفِعْلِكَ، وَخَالِفْ مَا أَنْتَ الآنَ عَلَيْهِ، فَقَدْ قِيلَ لَكَ مَا سَمِعْتَ وَهُوَ كَافٍ إِنْ قَبِلْتَ. قَالَ عُثْمَانُ: تَثِقُ يَا أَبَا الْحَسَنِ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَثِقُ وَلا أَظُنُّكَ فَاعِلا. قَالَ عُثْمَانُ: قَدْ وَثِقْتُ، وَأَنْتَ مِمَّنْ لا يَخْفِرُ صَاحِبَهُ، وَلا يُكَذَّبُ لِقِيلِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَخَذْتُ بِأَيْدِهِمَا حَتَّى تَصَافَحَا وَتَصَالَحَا وَتَمَازَحَا، وَنَهَضْتُ عَنْهُمَا، فَتَشَاوَرَا وَتَآمَرَا وَتَذَاكَرَا، ثُمَّ افْتَرَقَا، فَوَاللَّهِ مَا مَرَّتْ ثَالِثَةٌ حَتَّى لَقِيَنِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَذْكُرُ مِنْ صَاحِبِهِ مَا لا تَبْرُكُ عَلَيْهِ الإِبِلُ. فَعَلِمْتُ أَنْ لا سَبِيلَ إِلَى صُلْحِهِمَا بَعْدَهَا.

مَرِضَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَعَادَهُ عُثْمَانُ وَمَعَهُ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، فَجَعَلَ عُثْمَانُ يَسْأَلُ عَلِيًّا عَنْ حَالِهِ، وَعَلِيٌّ سَاكِتٌ لا يُجِيبُهُ، فَقَالَ عُثْمَانُ: «لَقَدْ أَصْبَحْتَ يَا أَبَا الْحَسَنِ مِنِّي بَمْنِزِلَةِ الْوَلَدِ الْعَاقِّ لأَبِيهِ، إِنْ عَاشَ عَقَّهُ، وَإِنْ مَاتَ فَجَعَهُ. فَلَوْ جَعَلْتَ لَنَا مِنْ أَمْرِكَ فَرَجًا، إِمَّا عَدُوًّا أَوْ صَدِيقًا، وَلَمْ تَجْعَلْنَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْمَاءِ. أَمَا وَاللَّهِ لأَنَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ فُلانٍ وَفُلانٍ، وَإِنْ قُتِلْتُ لا تَجِدُ مِثْلِي» . فَقَالَ مَرْوَانُ: أَمَا وَاللَّهِ لا يُرَامُ مَا وَرَاءَنَا حَتَّى تَتَوَاصَلَ سُيُوفُنَا وَتُقْطَعَ أَرْحَامُنَا. فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ، وَقَالَ: " اسْكُتْ لا سَكَتَّ، وَمَا يُدْخِلُكَ فِيمَا بَيْنَنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " خَرَجْتُ أُرِيدُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَلَقِيتُهُ رَاكِبًا حِمَارًا، وَقَدِ ارْتَسَنَهُ بِحَبْلٍ أَسْوَدَ، فِي رِجْلَيْهِ نَعْلانِ مَخْصُوفَتَانِ، وَعَلَيْهِ إِزَارٌ وَقَمِيصٌ صَغِيرٌ، وَقَدِ انْكَشَفَتْ مِنْهُ رِجْلاهُ، إِلَى رُكْبَتَيْهِ، فَمَشَيْتُ إِلَى جَانِبِهِ، وَجَعَلْتُ أَجْذِبُ الإِزَارَ وَأُسَوِّيهِ عَلَيْهِ، كُلَّمَا سَتَرْتُ جَانِبًا انْكَشَفَ جَانِبٌ، فَيَضْحَكُ، وَيَقُولُ: إِنَّهُ لا يُطِيعُكَ، حَتَّى جِئْنَا الْعَالِيَةَ فَصَلَّيْنَا، ثُمَّ قَدَّمَ بَعْضُ الْقَوْمِ إِلَيْنَا طَعَامًا مِنْ خُبْزٍ وَلَحْمٍ، وَإِذَا عُمَرُ صَائِمٌ، فَجَعَلَ يَنْبِذُ إِلَيَّ طَيِّبَ اللَّحْمِ، وَيَقُولُ: كُلْ لِي وَلَكَ، ثُمَّ دَخَلْنَا حَائِطًا، فَأَلْقَى إِلَيَّ رِدَاءَهُ، وَقَالَ: اكْفِنِيهِ، وَأَلْقَى قَمِيصَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَجَلَسَ يَغْسِلُهُ، وَأَنَا أَغْسِلُ رِدَاءَهُ، ثُمَّ جَفَّفْنَاهُمَا وَصَلَّيْنَا الْعَصْرَ، فَرَكِبَ وَمَشَيْتُ إِلَى جَانِبِهِ، وَلا ثَالِثَ لَنَا ". فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي فِي خِطْبَةٍ فَأَشِرْ عَلَيَّ. قَالَ: وَمَنْ خَطَبْتَ؟ قُلْتُ: فُلانَةُ ابْنَةُ فُلانٍ. قَالَ: النَّسَبُ كَمَا تُحِبُّ، وَكَمَا قَدْ عَلِمْتَ، وَلَكِنْ فِي أَخْلاقِ أَهْلِهَا دِقَّةً لا تَعْدِمُكَ أَنْ تَجِدَهَا فِي وَلَدِكَ. قُلْتُ: فَلا حَاجَةَ لِي إِذًا فِيهَا. قَالَ: فَلِمَ لا تَخْطُبُ إِلَى ابْنِ عَمِّكَ يَعْنِي عَلِيًّا؟ قُلْتُ: أَلَمْ تَسْبِقْنِي إِلَيْهِ؟ قَالَ: فَالأُخْرَى، قُلْتُ: هِيَ لابْنِ أَخِيهِ. قَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ إِنَّ صَاحِبَكُمْ إن وَلِيَ هَذَا الأَمْرَ أَخْشَى عُجْبَهُ بِنَفْسِهِ أَنْ يَذْهَبَ بِهِ، فَلَيْتَنِي أَرَاكُمْ بَعْدِي. قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ صَاحِبَنَا مَا قَدْ عَلِمْتَ، إِنَّهُ مَا غَيَّرَ وَلا بَدَّلَ، وَلا أَسْخَطَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيَّامَ صُحْبَتِهِ لَهُ. قَالَ: فَقَطَعَ عَلَيَّ الْكَلامَ، فَقَالَ: وَلا فِي ابْنَةِ أَبِي جَهْلٍ، لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْطُبَهَا عَلَى فَاطِمَةَ! . قُلْتُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] وَصَاحِبُنَا لَمْ يَعْزِمْ عَلَى سُخْطِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنِ الْخَوَاطِرُ الَّتِي لا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى دَفْعِهَا عَنْ نَفْسِهِ، وَرُبَّمَا كَانَ الْفَقِيهُ فِي دِينِ اللَّهِ، الْعَالِمُ الْعَامِلُ بِأَمْرِ اللَّهِ. فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَرِدُ بُحُورَكُمْ فَيَغُوصُ فِيهَا مَعَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ قَعْرَهَا فَقَدْ ظَنَّ عَجْزًا. أَسْتَغْفِرِ اللَّهَ لِي وَلَكَ خُذْ فِي غَيْرِهَا.

ثُمَّ أَنْشَأَ يَسْأَلُنِي عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمُورِ الْفُتْيَا، وَأُجِيبُهُ فَيَقُولُ: أَصَبْتَ أَصَابَ اللَّهُ بِكَ. أَنْتَ وَاللَّهِ أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ " عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: قَالَ لِي عُمَرُ يَوْمًا: " يَا مُغِيرَةُ، هَلْ أَبْصَرْتَ بِهَذِهِ، عَيْنِكِ الْعَوْرَاءِ مُنْذُ أُصِيبَتْ؟ قُلْتُ: لا. قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَيُعْوِرَنَّ بَنُو أُمَيَّةَ الإِسْلامَ كَمَا أُعْوِرَتْ عَيْنُكَ هَذِهِ، ثُمَّ لَيُعْمِيَنَّهُ حَتَّى لا يَدْرِيَ أَيْنَ يَذْهَبُ وَلا أَيْنَ يَجِيءُ. قُلْتُ: ثُمَّ مَاذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ مِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ أَوْ مِائَةٍ وَثَلاثِينَ وَفْدًا كَوَفْدِ الْمُلُوكِ، طَيِّبَةٌ رِيحُهُمْ، يُعِيدُونَ إِلَى الإِسْلامِ بَصَرَهُ وَشَتَاتَهُ. قُلْتُ: مَنْ هُمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: حِجَازِيٌّ وَعِرَاقِيٌّ، وَقَلِيلا مَا كَانَ، وَقَلِيلا مَا دَامَ " أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِقَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ الْمِنْقَرِيِّ: «مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ وَأَدْتَ» ؟ قَالَ: مَخَافَةَ أَنْ يُخَلَّفَ عَلَيْهِنَّ مِثْلُكَ. أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلامُ، لَمَّا بَعَثَ جَرِيرًا إِلَى مُعَاوِيَةَ، خَرَجَ وَهُوَ لا يَرَى أَحَدًا قَدْ سَبَقَهُ إِلَيْهِ. قَالَ: فَقَدِمْتُ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَوَجَدْتُهُ يَخْطُبُ النَّاسَ وَهُمْ حَوْلَهُ يَبْكُونَ حَوْلَ قَمِيصِ عُثْمَانَ، وَهُوَ مُعَلَّقٌ عَلَى رُمْحٍ مَخْضُوبِ بِالدَّمِ، وَعَلَيْهِ أَصَابِعُ زَوْجَتِهِ نَائِلَةَ بِنْتِ الْفَرَافِصَةِ مَقْطُوعَةً، فَدَفَعْتُ إِلَيْهِ كِتَابَ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَكَانَ مَعِي فِي الطَّرِيقِ رَجُلٌ يَسِيرُ بِسَيْرِي، وَيُقِيمُ بِمَقَامِي، فَمَثَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ وَأَنْشَدَهُ: إِنَّ بَنِي عَمِّكَ عَبْدِ الْمُطَّلَبْ ... هُمْ قَتَلُوا شَيْخَكُمْ غَيْرَ كَذِبْ وأنت أولى الناب بالوثب فثب قَالَ: ثُمَّ دَفَعَ إِلَيْهِ كِتَابًا مِنَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَهُوَ أَخُو عُثْمَانَ لأُمِّهِ، كَتَبَهُ مَعَ هَذَا الرَّجُلِ مِنَ الْكُوفَةِ سِرًّا أَوَّلُهُ: مُعَاوِيَ إِنَّ الْمُلْكَ قَدْ جُبَّ غَارِبُهُ قَالَ: فَقَالَ لِي مُعَاوِيَةُ: أَقِمْ فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ نَفَرُوا عِنْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ حَتَّى يَسْكُنُوا. فَأَقَمْتُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ جَاءَ كِتَابٌ آخَرُ مِنَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ أَوَّلُهُ: أَلا أَبْلِغْ مُعَاوِيَةَ بْنَ حَرْبٍ ... فَإِنَّكَ مِنْ أَخِي ثِقَةٍ مُلِيمُ قَطَعْتَ الدَّهْرَ كَالسَّدَمِ الْمُعَنَّ ... تَهَدَّرَ فِي دِمَشْقَ وَلا تَرِيمُ وَإِنَّكَ وَالْكِتَابَ إِلَى عَلِيٍّ ... كَدَابِغَةٍ وَقَدْ حَلِمَ الأَدِيمُ فَلَوْ كُنْتَ الْقَتِيلَ وَكَانَ حَيًّا ... لَشَمَّرَ لا أَلْفٌ وَلا سَئُومُ قَالَ: فَلَمَّا جَاءَهُ هَذَا الْكِتَابُ وَصَلَ بَيْنَ طُومَارَيْنِ أَبْيَضَيْنِ، ثُمَّ طَوَاهُمَا وَكَتَبَ عُنْوَانَهُمَا مِنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَدَفَعَهُمَا إِلَيَّ، لا أَعْلَمُ مَا فِيهِمَا، وَلا أَظُنُّهُمَا إِلا جَوَابًا، وَبَعَثَ مَعِي رَجَلا مِنْ بَنِي عَبْسٍ لا أَدْرِي مَا مَعَهُ، فَخَرَجْنَا حَتَّى قَدِمْنَا إِلَى الْكُوفَةِ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ فِي الْمَسْجِدِ، لا يَشُكُّونَ أَنَّهَا بَيْعَةُ أَهْلِ الشَّامِ.

فَلَمَّا فَتَحَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ الْكِتَابَ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا، وَقَامَ الْعَبْسِيُّ، فَقَالَ: مَنْ هَهُنَا مِنْ أَحْيَاءِ قَيْسٍ، وَأَخُصُّ مِنْ قَيْسٍ غَطَفَانَ، وَأَخُصُّ مِنْ غَطَفَانَ عَبْسًا؟ إِنِّي أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ تَرَكْتُ تَحْتَ قَمِيصِ عُثْمَانَ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ أَلْفَ شَيْخٍ خَاضِبِي لِحَاهُمْ بِدُمُوعِ أَعْيُنِهِمْ، مُتَعَاقِدِينَ مُتَحَالِفِينَ، لَيَقْتُلُنَّ قتلته فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَإِنِّي أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَيَقْتَحِمَنَّهَا عَلَيْكُمُ ابْنُ أَبِي سُفْيَانَ بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا مِنْ خِصْيَانِ الْخَيْلِ، فَمَا ظَنُّكُمْ بَعْدُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْفُحُولِ. ثُمَّ دَفَعَ إِلَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ، كِتَابًا مِنْ مُعَاوِيَةَ فَفَتَحَهُ فَوَجَدَ فِيهِ: أَتَانِيَ أَمْرٌ فِيهِ لِلنَّفْسِ غُمَّةٌ ... وَفِيهِ اجْتِدَاعٌ لِلأُنُوفِ أَصِيلُ مُصَابُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَهَدَّةٌ ... تَكَادُ لَهَا صُمُّ الْجِبَالُ تَزُولُ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ أَجْرَى خَيْلا، فَسَبَقَهُ عَبَّادُ بْنُ زِيَادٍ، فَأَنْشَدَ عَبْدُ الْمَلِكِ: سَبَّقَ عَبَّادٌ وَصَلَّتْ لِحْيَتَهْ ... وَكَانَ خَرَّازًا تَجُودُ قُرْبَتُهْ فَشَكَا عَبَّادٌ قَوْلَ عَبْدِ الْمَلِكِ إِلَى خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ لَهُ: أَمَا وَاللَّهِ لأَنْصِفَنَّكَ مِنْهُ بِحَيْثُ يَكْرَهُ. فَزَوَّجَهُ أُخْتَهُ، فَكَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ مَنَاكِحَ آلِ أَبِي سُفْيَانَ قَدْ ضَاعَتْ. فَأَخْبَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ خَالِدًا بِمَا كَتَبَ بِهِ الْحَجَّاجُ، فَقَالَ خَالِدٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا أَعْلَمُ امْرَأَةً مِنَّا ضَاعَتْ وَلا نَزَلَتْ إِلا عَاتِكَةَ بِنْتَ يَزِيدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَإِنَّهَا عِنْدَكَ، وَلَمْ يَعْنِ الْحَجَّاجُ غَيْرَكَ. قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: بَلْ عَنَى الدَّعِيَّ ابْنَ الدَّعِيِّ عَبَّادًا، قَالَ خَالِدٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا أَنْصَفْتَنِي، أَدَّعِي رَجُلا ثُمَّ لا أُزَوِّجُهُ! إِنَّمَا كُنْتُ مَلُومًا لَوْ زَوَّجْتُ دَعِيَّكَ، فَأَمَّا دَعِيِّي فَلِمَ لا أُزَوِّجُهُ! . أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ دَخَلَ عَلَى أَبِيهِ يَوْمًا وَهُوَ فِي قَائِلَتِهِ، فَأَيْقَظَهُ، وَقَالَ لَهُ: مَا يُؤَمِّنُكَ أَنَّ تُؤْتَى فِي مَنَامِكَ، وَقَدْ رُفِعَتْ إِلَيْكَ مَظَالِمُ لَمْ تَقْضِ حَقَّ اللَّهِ مِنْهَا؟ قَالَ: يَا بُنَيَّ إِنَّ نَفْسِي مَطِيَّتِي إِنْ لَمْ أَرْفُقْ بِهَا لَمْ تُبَلِّغْنِي، إِنِّي لَوْ أَتْعَبْتُ نَفْسِي وَأَعْوَانِي لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِلا قَلِيلا حَتَّى أَسْقُطَ وَيَسْقُطُوا، وَإِنِّي لأَحْتَسِبُ فِي نَوْمَتِي مِنَ الأَجْرِ مِثْلَ الَّذِي أَحْتَسِبُ فِي يَقَظَتِي، إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، لَوْ أَرَادَ أَنْ يُنَزِّلَ الْقُرْآنَ جُمْلَةً نَزَّلَهُ، وَلَكِنْ أَنْزَلَ الآيَةَ وَالآيَتَيْنِ حَتَّى اسْتُكْثِرَ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ، مِمَّا أَنَا فِيهِ أَمْرٌ هُوَ أَهَمُّ إِلَى أَهْلِ بَيْتِكَ، هُمْ أَهْلُ الْعِدَّةِ وَالْعَدَدِ، وَقِبَلَهُمْ مَا قِبَلَهُمْ، فَلَوْ جَمَعْتُ ذَلِكَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ خَشِيتُ انْتِشَارَهُمْ عَلَيَّ، وَلَكِنِّي أُنْصِفُ مِنَ الرَّجُلِ وَالاثْنَيْنِ، فَيَبْلُغُ ذَلِكَ مِنْ وَرَاءَهُمَا، فَيَكُونُ أَنْجَعُ لَهُ، فَإِنْ يُرِدِ اللَّهُ تَمَامَ هَذَا الأَمْرِ أَتَمَّهُ، وَإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى، فَحَسْبُ عَبْدٍ أَنَّ يَعْلَمَ اللَّهَ مِنْهُ أَنَّهُ يُحِبُّ أَنَّ يُنْصِفَ جَمِيعَ رَعِيَّتِهِ.

زنباع بن روح بن سلامة الجذامي يعشر من يمر به للحارث بن أبي شمر، قال: فعمدنا إلى ما معنا

أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ انْقَطَعَ سَيْفُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عُرْجُونَ نَخْلَةٍ فَصَارَ فِي يَدِهِ سَيْفًا، يُقَالُ إِنَّ قَائِمَتَهُ مِنْهُ، وَكَانَ يُسَمَّى الْعُرْجُونَ، وَلَمْ يَزَلْ يُتَنَاوَلُ حَتَّى بِيعَ مِنْ بَغَا التُّرْكِيِّ بِمِائَتَيْ دِينَارٍ. وَسَمِعْتُ الْعُتْبِيُّ يُصَحِّفُهُ، فَيَقُولُ: نَفِيلَةُ بِالنُّونِ. مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ فِي قِصَّةِ سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ شِعْرٌ فِي الأَنْصَارِ أَوَّلُهُ: يَا لَقَوْمِي لِخِفَّةِ الأَحْلامِ ... وَانْتِظَارِي لِزَلَّةِ الأَقْدَامِ قَبْلُ كَانُوا مِنَ الدُّعَاةِ إِلَى اللَّهِ ... وَكَانُوا أَزِمَّةَ الإِسْلامِ إِنَّ ذَا الأَمْرَ دُونَنَا لِقُرَيْشٍ ... وَقُرَيْشُ هُمْ ذَوُو الأَحْلامِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ فِي قِصَّةِ سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، قَالَ: فَقَامَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ بَنِي مَخْزُومٍ، لَيْسَ أَحَدٌ يُعْدَلُ بِهِ إِلا أَهْلُ السَّوَابِقِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْلا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «الأَئَمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» ، مَا أَبْعَدْنَا مِنْهَا الأَنْصَارَ وَلَكَانُوا لَهَا أَهْلا، وَلَكِنَّهُ قَوْلٌ لا شَكَّ فِيهِ، فَوَاللَّهِ لَمْ يَبْقَ مِنْ قُرَيْشٍ كُلِّها إِلا رَجُلٌ وَاحِدٌ لَصَيَّرَ اللَّهُ هَذَا الأَمْرَ فِيهِ. وَلِلْحَارِثِ بْنِ وَهْبٍ قِصَّةٌ مَعَ عُمَرَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَوْبَانَ، عَنْ مِحْرَزِ بْنِ جَعْفَرٍ مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: عَزَلَ عُمَرُ أَبَا مُوسَى عَنِ الْبَصْرَةِ، وُقُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ، وَالْحَارِثَ بْنَ وَهْبٍ، أَحَدَ بَنِي لَيْثِ بْنِ بَكْرٍ، وَشَاطَرَهُمْ أَمْوَالَهُمْ، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ، وَفِيهَا قَالَ للحارث «مَا أَعبدُ وَقلاصٌ بِعْتَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ» ؟ قَالَ: فَخَرَجْتُ بِنَفَقَةٍ مَعِي فَتَجَرْتُ فِيهَا. قَالَ: «إِنَّا وَاللَّهِ مَا بَعْثَنَاكَ لِلتَّجَارَةِ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ» . ثُمَّ أَمَرَهُ أن يحَمْلِهَا. فَقَالَ: وَاللَّهِ لا عَمِلْتُ لَكَ عَمَلا بَعْدَهَا، قَالَ: «تَبَدَّلْ حَتَّى أَسْتَعْمِلَكَ» 413 - عَنِ الْمَدَائِنِيِّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ خَرَجَ تَاجِرًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَعَ نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى فِلَسْطِينَ قِيلَ لَهُمْ: إِنَّ زِنْبَاعَ بْنَ رَوْحِ بْنِ سَلامَةَ الْجُذَامِيَّ يَعْشُرُ مَنْ يَمُرُّ بِهِ لِلْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ، قَالَ: فَعَمَدْنَا إِلَى مَا مَعَنَا مِنَ الذَّهَبِ، فَأَلْقَمْنَاهُ نَاقَةً لَنَا، حَتَّى إِذَا مَضَيْنَا نَحَرْنَاهَا وَسَلِمَ لَنَا ذَهَبُنَا، فَلَمَّا مَرَرْنَا عَلَى زِنْبَاعٍ، قَالَ: فَتِّشُوهُمْ، فَفَتَّشُونَا، فَلَمْ يَجِدُوا مَعَنَا إِلا شَيْئًا يَسِيرًا، فَقَالَ: اعْرِضُوا عَلَيَّ إِبِلَهُمْ، فَمَرَّتْ بِهِ النَّاقَةُ بِعَيْنِهَا، فَقَالَ: انْحَرُوهَا. فَقُلْتُ: لأَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: إِنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا ذَهَبٌ وَإِلا فَلَكَ نَاقَةٌ غَيْرُهَا وَكُلْهَا. قَالَ: فَشَقُّوا بَطْنَهَا فَسَالَ الذَّهَبُ، قَالَ: فَأَغْلَظَ عَلَيْنَا فِي الْعُشْرِ، وَنَالَ مِنْ عُمَرَ. فَقَالَ عُمَرُ فِي ذَلِكَ: مَتَى أَلْقَ زِنْبَاعَ بْنَ رَوْحٍ بِبَلْدَةٍ ... لِي النِّصْفُ مِنْهُ يَقْرَعُ السِّنَّ مِنْ نَدَمْ

كيف علمك بمضر» ؟ قال: يا رسول الله، أنا أعلم الناس بهم. تميم هامتها وكاهلها الشديد الذي

وَيَعْلَمُ أَنَّ الْحَيَّ حَيُّ ابْنِ غَالِبٍ ... مُطَاعِينَ فِي الْهَيْجَا مَضَارِيبَ فِي الْهَيَمْ " أَنَّ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ عَرَضَ الْخَيْلَ فَمَرَّ بِهِ شَبِيبُ بْنُ حَجْلِ بْنِ نَضْلَةَ الْبَاهِلِيُّ عَلَى فَرَسٍ أَعْجَفَ، فَقَالَ: بَالٍ عَلَى بَالٍ. فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَأَنْشَدَ: رَآنِي الأَشْعَرِيُّ فَقَالَ بَالٍ ... عَلَى بَالٍ وَلَمْ يَعْلَمْ بَلائِي وَمِثْلُكَ قَدْ قَضَيْتُ الرُّمْحَ فِيهِ ... فَبَاءَ بِدَائِهِ وَشَفَيْتُ دَائِي 415 - عَنِ الْمَدَائِنِيِّ، عَنْ عَوَانَةَ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: دَخَلَ صَعْصَعَةُ بْنُ نَاجِيَةَ الْمُجَاشِعِيُّ جَدُّ الْفَرَزْدَقِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «كَيْفَ عِلْمُكَ بِمُضَرَ» ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا أَعَلَمُ النَّاسِ بِهِمْ. تَمِيمٌ هَامَتُهَا وَكَاهِلُهَا الشَّدِيدُ الَّذِي يُوثَقُ بِهِ، وَيُحْمَلُ عَلَيْهِ. وَكِنَانَةُ وَجْهُهَا الَّذِي فِيهِ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ، وَقَيْسٌ فُرْسَانُهَا وَنُجُومُهَا، وَأَسَدٌ لِسَانُهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ «صَدَقْتَ» 416 - أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ , وَالْبَغَوِيُّ، وَالْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ، وَالطَّبَرِيُّ، وَابْنُ مَنْدَهْ، مِنْ طَرِيقِ شَرْقِيِّ بْنِ قَطَامِيٍّ، عَنِ أبي طَلِيقٍ الْغَامِدِيِّ، عَنْ شَرَاحِيلَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتَنَا مِنْ قَرِيبٍ وَنَحْنُ إِذَا حَجَجْنَا، قُلْنَا: لَبَّيْكَ تَعْظِيمًا إِلَيْكَ عُذْرًا ... هَذِي زُبَيْدٌ قَدْ أَتَتْكَ قَسْرَا يَقْطَعْنَ خِبْتًا وَجِبَالا وَعْرًا الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: كُنَّا نَمْنَعُ النَّاسَ أَنْ يَقِفُوا بِعَرَفَةَ، وَنَقِفُ بِبَطْنِ مُحَسِّرٍ يُمْنَةَ عَرَفَةَ فِرَقًا مِنْ أَنَّ يَتَخَطَّفُنَا الْجِنُّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «أَجِيزُوا بَطْنَ عَرَفَةَ، فَإِنَّمَا هُمْ إِذْ أَسْلَمُوا إِخْوَانُكُمْ» . قَالَ: " فَعَلَّمَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّلْبِيَةَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ". إِلَى آخِرِهَا وذكر أبو حاتم السجستاني في كتاب الوصايا: أَنَّ حِصْنَ بْنَ حُذَيْفَةَ وَصَّى وَلَدَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَكَانُوا عَشَرَةً، قَالَ: وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّ كَرْزَ بْنَ عَامِرٍ الْعَقِيلِيَّ طَعَنَهُ، فَاشْتَدَّ مَرَضَهُ. فَقَالَ لَهُمْ: الْمَوْتُ أَرْوَحُ مِمَّا أَنَا فِيهِ، فَأَيُّكُمْ يُطِيعُنِي؟ قَالُوا: كُلُّنَا. فَبَدَأَ بِالأَكْبَرِ. فَقَالَ: خُذْ سَيْفِي هَذَا فَضَعْهُ عَلَى صَدْرِي ثُمَّ اتَّكِئْ عَلَيْهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ ظَهْرِي. فَقَالَ: يَا أَبَتَاهُ هَلْ يَقْتُلُ الرَّجُلُ أَبَاهُ؟ فَعَرَضَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَاحِدًا وَاحِدًا. فَأَبَوْا إِلا عُيَيْنَةَ. فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَتِ أَلَيْسَ لَكَ فِيمَا تَأْمُرُنِي بِهِ رَاحَةٌ وَهَوًى؟ وَلَكَ مِنِّي طَاعَةٌ. قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَمُرْنِي كَيْفَ أَصْنَعُ؟ قَالَ: أَلْقِ السَيْفَ يَا بُنَيَ، فَإِنِّي أَرَدْتُ أَنَّ أَبْلُوَكُمْ فَأَعْرِفَ أَطْوَعَكُمْ لِي فِي حَيَاتِي، فَهُوَ أَطْوَعُ لِي بَعْدَ مَوْتِي، فَاذْهَبْ أَنْتَ سَيِّدُ وَلَدِي مِنْ بَعْدِي، وَلَكَ رِيَاسَتِي. فَجَمَعَ بَنِي بَدْرٍ فَأَعْلَمَهُمْ ذَلِكَ. فَقَامَ عُيَيْنَةُ بِالرِّيَاسَةِ بَعْدَ أَبِيهِ وَقَتَلَ كَرْزًا.

أذن عمر للناس فدخل عمرو بن براقة، وكان شيخا كبيرا يعرج، فأنشد أبياتا، يقول فيها: ما إن

مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَلَقْمَةِ بْنِ حُرٍّ السُّلَمِيِّ، قَالَ: جِئْتُ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَوَجَدْتُ عِنْدَهُ ابن وَثِيمَةَ النَّضْرِيَّ، وَابْنَ عَارِضٍ الْجُشَمِيَّ، فَذَكَرَ قِصَّةً فِيهَا: فَقَالَ ابْنُ عَارِضٍ: كُنْتُ مَعَ أَبِي قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ، فَوَجَدْتُ فِي الطَّرِيقِ خِشْفًا فَصِدْتُهُ لابْنَةٍ لأَبِي كَانَ يُحِبُّهَا. فَخَرَجْتُ مُحْتَضِنَهُ حَتَّى وَقَفْنَا عَلَى دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ. وَقَدْ فُنِدَ عَقْلُهُ وَهُوَ عُرْيَانُ يَكُومُ بَيْنَ رِجْلَيْهِ الْبَطْحَاءَ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَرَأَى الْخِشْفَ، فَقَالَ: كَأَنَّهَا رَأْسُ حِضْنٍ ... فِي يَوْمِ غَيْمٍ وَدَخَنٍ كَالْخِشْفِ هَذَا الْمُحْتَضِنِ ... أَحْسَنُ مِنْ شَيْءٍ حَسَنٍ ثُمَّ قَامَ فَسَقَطَ، فَقَالَ: لأَنْهَضَنَّ فِي مِثْلِ زَمَانِي الأَوَّلِ ... مُحَدَّبَ السَّاقِ شَدِيدَ الأَسْفَلِ يَا أَوَّلِي يَا أَوَّلِي يَا أَوَّلِي 419 - حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَذِنَ عُمَرُ لِلنَّاسِ فَدَخَلَ عَمْرُو بْنُ برَاقَةَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا يَعْرُجُ، فَأَنْشَدَ أَبْيَاتًا، يَقُولُ فِيهَا: مَا إِنْ رَأَيْتُ مِثْلَكَ الْخَطَّابِي ... أَبَرَّ بِالدِّينِ وَبِالْكِتَابِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَاحِبِ الْكِتَابِ قَالَ: فَقَالَ لَهُ عُمَرُ وَطَعَنَهُ بِالسَّوْطِ: «فَمَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ» ، قَالَ: لا عِلْمَ لِي بِهِ. فَقَالَ: لَوْ كُنْتَ عَالِمًا بِهِ لأَوْجَعْتُ ظَهْرَكَ " 420 - حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُؤَمَّلِيُّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ: دَخَلَ فُرَاتُ بْنُ زَيْدٍ اللَّيْثِيُّ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَكَانَ ذَا مَالٍ كَثِيرٍ، وَكَانَ يَبْخَلُ، وَكَانَ مِنْ أَلِبَّاءِ الْعَرَبِ، وَذَوِي الْعِلْمِ وَالرَّأَيْ، فَوَجَدَ عُمَرَ يُعْطِي الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارَ، فَقَالَ لَهُ: فُرَاتُ، مَنِ الَّذِي يَقُولُ: " الْفَقْرُ يُزْرِي بِالْفَتَى فِي قَوْمِهِ ... وَالْعَيْنُ يُغْضِيهَا الْكَرِيمُ عَلَى الْقَذَى وَالْمَالُ يَبْسُطُ لِلَّئِيمِ لِسَانَهُ ... حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ شَيْءٌ يَرَى وَالْمَالُ جُدْ بِفُضُولِهِ وَلْتَعْلَمَنْ ... أَنَّ الْبَخِيلَ يَصِيرُ يَوْمًا لِلثَّرَى قَالَ: لا أَدْرِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، غَيْرَ أَنِّي عَرَفْتُ أَنَّ أَخَا بَنِي ضُبَيْعَةَ أَشْعَرُ النَّاسِ حَيْثُ، يَقُولُ: وَإِصْلاحُ الْقَلِيلِ يَزِيدُ فِيهِ ... وَلا يَبْقَى الْكَثِيرُ مَعَ الْفَسَادِ فَقَالَ عُمَرُ: " قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] أَفْضَلُ ". قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 27] ، قَالَ عُمَرُ: فَبَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا، يَا فُرَاتُ، اتَّقِ اللَّهَ، وَإِنَّمَا لَكَ مِنْ مَالِكِ مَا أَنْفَقْتَ. يَا فُرَاتُ، أَطْعِمِ السَّائِلَ، وَكُنْ سَرِيعًا إِلَى دَاعِي اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُودَ وَأَهْلَهُ، وَإِنَّ الْبُخْلَ بِئْسَ شِعَارُ الْمُسْلِمِ. يَا فُرَاتُ، أَتَدْرِي مَنِ الَّذِي يَقُولُ: سَأَبْذِلُ مَالِي لِلْعُفَاةِ فَإِنَّنِي ... رَأَيْتُ الْغِنَى وَالْفَقْرَ سِيَّانِ فِي الْقَبْرِ يَمُوتُ أَخُو الْفَقْرِ الْقَلِيلُ مَتَاعُهُ ... وَلا تَتْرُكُ الأَيَّامُ مَنْ كَانَ ذَا وَفْرِ وَلَيْسَ الَّذِي جَمَّعْتُ عِنْدِي بِنَافِعٍ ... إِذَا حَلَّ بِي يَوْمًا جَلِيلٌ مِنَ الأَمْرِ قَالَ: لا أَدْرِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.

أشعر أهل الجاهلية زهير بن أبي سلمى، وكان أشعر أهل الإسلام ابنه كعب، ومعن بن أوس " عن

قَالَ: هَذَا شِعْرُ أَخِيكَ قَسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ. قَالَ: مَا عَلِمْتُهُ. قَالَ: " بَلَى هُوَ أَنْشَدَنِيهِ، وَعَنْهُ أَخَذْتُهُ، وَإِنَّ لَكَ فِيهِ لَعِبْرَةً قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَفَّقَكَ اللَّهُ وَسَدَّدَكَ، أَمَرْتَ بِخَيْرٍ وَحَضَضْتَ عَلَيْهِ، وَتَرَكَ فُرَاتٌ كَثِيرًا مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ " حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ فَلِيحٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَنَّ مَالِكَ بْنِ نُوَيْرَةَ كَانَ كَثِيرَ شَعْرِ الرَّأْسِ، فَلَمَّا قُتِلَ أَمَرَ خَالِدٌ بِرَأْسِهِ فَنُصِبَ أُثْفِيَّةً لِقِدْرٍ فَنَضِجَ مَا فِيهَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُصَ النَّاسُ إِلَى شُئُونِ رَأْسِهِ " أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ الأَخْنَسِ هَجَا الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، فَوَثَبَ عَلَيْهِ الْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَضَرَبَ رِجْلَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُثْمَانُ فَغَضِبَ، وَقَامَ خَطِيبًا فَذَكَرَ قِصَّةً. عَنْ حَبِيبِ بْنِ زَيْدٍ الطَّائِيَّ، أَوْ غَيْرِهِ: مَرَّ الْمِنْهَالُ التَّمِيمِيُّ عَلَى أَشْلاءِ مَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ، هُوَ وَرَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ حِينَ قَتَلَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَأَخْرَجَ مِنْ خَرِيطَةٍ لَهُ ثَوْبًا فَكَفَّنَهُ فِيهِ وَدَفَنَهُ. وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ مُتَمِّمٌ: لَقَدْ غَيَّبَ الْمنْهَالَ تَحْتَ رِدَائِهِ ... فَتًى غَيْرُ مِبْطَانِ الْعَشِيَّاتِ أَرْوَعَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ لِقَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ: «مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ وَأَدْتَ» ؟ قَالَ: وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ وَأَدَ، فَقَالَ: خَشِيتُ أَنْ يُخَلَّفَ عَلَيْهِنَّ غَيْرُ كُفْءٍ. قَالَ: فَصِفْ لَنَا نَفْسَكَ. فَقَالَ: أَمَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَمَا هَمَمْتُ بِمَلامَةٍ، وَلا حُمْتُ عَلَى تُهْمَةٍ، وَلَمْ أُرَ إِلا فِي خَيْلٍ مُغِيرَةٍ أَوْ نَادِي عَشِيرَةٍ، أَوْ حَامِي جَرِيرَةٍ. وَأَمَّا فِي الإِسْلامِ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32] ، فَأُعْجِبَ أَبُو بَكْرٍ بِذَلِكَ 425 - عَنْ مِحْجَنٍ الْخُزَاعِيِّ، قَالَ: " كَانَ مُعَاوِيَةُ يُفَضِّلُ مُزَيْنَةَ فِي الشِّعْرِ، وَيَقُولُ: كَانَ أَشْعَرَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى، وَكَانَ أَشْعَرَ أَهْلِ الإِسْلامِ ابْنُهُ كَعْبٌ، وَمَعْنُ بْنُ أَوْسٍ " عَنِ الْكَلْبِيِّ، قَالَ: لَمَّا هَلَكَ حَنْظَلَةُ بْنُ نَهْدِ بْنِ زَيْدٍ، لَمْ يُدْفَنْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى أَتَاهُ مِنْ كُلِّ أَوْبٍ، وَأَتَاهُ مِنْ كُلِّ حَيٍّ وُجُوهُهُمْ، فَقَامَتِ الْخُطَبَاءُ بِالتَّعْزِيَةِ، وَقِيلَتْ فِيهِ الأَشْعَارُ حَتَّى عُدَّ ذَلِكَ الْيَوْمُ مِنْ بَعْضِ مَوَاسِمِ الْعَرَبِ.

فَلَمَّا وُورِيَ فِي حُفْرَتِهِ قَامَ جَدِيلَةُ بْنُ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، هَذَا حَنْظَلَةُ بْنُ نَهْدٍ فَكَّاكُ الأَسِيرِ، وَطَارِدُ الْعَسِيرِ، فَهَلْ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مُجَازٍ بِفِعْلِهِ، أَوْ حَامِلٌ عَنْهُ مِنْ ثِقَلِهِ، كَلا وَأَجَلْ، إِنَّ مَعَ كُلِّ جَرْعَةٍ لَكُمْ شَرَقًا، وَفِي كُلِّ أَكْلَةٍ لكم غَصَصًا، لا تَنَالُونَ نِعْمَةً إِلا بِفِرَاقِ أُخْرَى، وَلا يَسْتَقْبِلُ مُعَمَّرٌ يَوْمًا مِنْ عُمُرِهِ إِلا بِهَدْمِ آخَرَ مِنْ أَجَلِهِ، وَلا يَجِدُ لَذَّةَ زِيَادَةِ أَكْلِهِ إِلا بِنَفَادِ مَا قِبَلَهُ مِنْ رِزْقِهِ، وَلا يَحْيَى لَهُ أَثَرٌ إِلا مَاتَ أَثَرٌ، إِنَّ فِي هَذَا لَعِبَرًا وَمُزْدَجَرًا لِمَنْ نَظَرَ، لَوْ كَانَ أَصَابَ أَحَدٌ إِلَى الْبَقَاءِ سُلَّمًا، وَوَجَدَ إِلَى الْمَرْحَلِ عَنِ الْفَنَاءِ سَبِيلا، لَكَانَ ابْنَ دَاوُدَ الْمَقْرُونَ لَهُ النُّبُوَّةُ بِمُلْكِ الْجِنِّ وَالإِنْسِ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ: وَهَذَا صَاحِبُ الْمُلْكَيْنِ أَضْحَى ... تُخَرِّقُ فِي مَصَانِعِهِ الْمَنُونُ فَكَانَ عَلَيْهِ لِلأَيَّامِ دَيْنٌ ... فَقَدْ قُضِيَتْ عَنِ الْمَرْءِ الدُّيُونُ وَخَانَتُهُ الْعَصَا مِنْ بَعدِ مَا قَدْ ... أَتَى مَيْتًا لَهُ حِينٌ فَحِينُ عَلَى الْكُرْسِيِّ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِ ... تَحَارُ الشَّمْسُ فِيهِ وَالْعُيُونُ وَتَضْحَى الْجِنُّ عَاكِفَةٌ عَلَيْهِ ... كَمَا عَكَفَتْ عَلَى الأُسْدِ الْعَرِين وَسُخَّرَتِ الْعُيُونُ لَهُ جَمِيعًا ... عَلَيْهِ الطَّيْرُ عَاكِفَةً عَرِينُ فَلَمْ أَرَ مِثْلَهَ حَيًّا وَمَيْتًا ... عَلَى الأَيَّامِ كَانَ وَلا يَكُونُ فَدَانَ لَهُ الْخَلائِقُ ثُمَّ هَبُّوا ... وَدَانَ فِيمَا قَدْ يَدِينُ بَنَى صَرْحًا لَهُ دُونَ الثُّرَيَّا ... وَأُجْرِيَ تَحْتَهُ الْمَاءُ الْمَعِينُ تَرَاهُ مُتْقَنًا لا عَيْبَ فِيهِ ... يَخَالُ بِصَرْحِهِ الذِّهْنُ الذَّهِينُ وَقَدْ مَلَكَ الْمُلُوكَ وَكُلَّ شَيْءٍ ... تَدِينُ لَهُ السُّهُولَةُ وَالْحُزُونُ فَأَفْنَى مُلْكَهُ مَرَّ اللَّيَالِي ... وَخَوْنَ الدَّهْرِ فِيمَا قَدْ يَخُونُ وَكُلُّ أَخِي مَكَاثِرِهِ وَعِزٍّ ... إِلَى رَيْبِ الْحَوَادِثِ مُسْتَكِينُ كَذَاكَ الدَّهْرُ يُفْنِي كُلَ حَيٍّ ... وَيَعْقُبُ بَعْدَ قُوَّتِهِ الْيَقِينُ ثُمَّ قَامَ ابْنُ كَثِيرِ بْنُ عُذْرَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَمِيمٍ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ هَذَا حَنْظَلَةُ بْنُ نَهْدٍ مَعْدِنُ الْحُكَمَاءِ، وَعِزُّ الضَّعَفَاءِ، وَمُعْطِي الْيَانِعِ، مُطْعِمُ الْجَائِعِ، فَهَلْ مِنْكُمْ لَهُ مَانِعٌ؟ أَوْ لِمَا حَلَّ بِهِ دَافِعٌ! . أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا الْبَقَاءُ بَعْدَ الْفَنَاءِ، وَقَدْ خُلِقْنَا وَلَمْ نَكُ شَيْئًا، وَسَنَعُودُ إِلَى ذَلِكَ.

قل شعرا تقتضيه الساعة وأنا أنظر إليك» . ثم أبده بصره، فانبعث عبد الله بن رواحة، يقول: إني

إِنَّ الْعَوَارِيَ الْيَوْمَ وَالْهِبَاتِ غَدًا، وَرِثْنَا مَنْ قَبْلَنَا وَلَنَا وَارِثُونَ، وَلا بُدَّ مِنْ رَحِيلٍ عَنْ مَحَلٍّ نَازِلٍ، أَلا وَقَدْ تَقَارَبَ سَلْبٌ فَأَحْسِنْ أَوْ أَهْبِطْ أَجْوَى، وَقَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي مَنْزِلٍ لا يُسْتَتَبُّ بِهِ سُرُورٌ بِيُسْرٍ إِلا تَبِعَهُ حَصِيرُ عُسْرٍ، وَلا تَطُولُ فِيهِ حَيَاةٌ مَرْجُوَّةٌ إِلا اخْتَرَمَهَا مَوْتٌ مُخَوِّفٌ، وَلا يُوثَقُ فِيهِ بِخَلَفٍ بَاقٍ إِلا وَيَسْتَتْبِعُهُ سَابِقٌ مَاضٍ، فَأَنْتُمْ أَعْوَانٌ لِلْحُتُوفِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، لَهَا بِكُلِّ سَبَبٍ مِنْكُمْ صَرِيعٌ مُجْتَزَرٌ، وَمُعَازِبٌ مُنْتَظَرٌ، فَهَذِهِ أَنْفُسُكُمْ تَسُوقُكُمْ إِلَى الْفَنَاءِ، فَلِمَ تَطْلُبُونَ الْبَقَاءَ! اطْلُبُوا الْخَيْرَ وَوَلِيَّهُ، وَاحْذَرُوا الشَّرَّ وَمُوَلِّيَهُ، اعْلَمُوا أَنَّ خَيْرًا مِنَ الْخَيْرِ مُعْطِيهِ، وَأَنَّ شَرًّا مِنَ الشَّرِّ فَاعِلُهُ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ: يَا قَلْبُ إِنَّكَ مِنْ أَسْمَاءَ مَغْرُورُ ... فَاذْكُرْ وَهَلْ يَنْفَعُكَ الْيَوْمَ تَذْكِيرُ قَدْ بُحْتَ بِالْحُبِّ مَا تُخْفِيهِ مِنْ أَحَدٍ ... حَتَّى جَرَتْ بِكَ إِطْلاقًا مَحَاضِيرُ تَبْغِي أُمُورًا فَمَا تَدْرِي أَعَاجِلَهَا ... أَدْنَى لِرُشْدِكَ أَمْ مَا فِيهِ تَأْخِيرُ فَاسْتَقْدِرِ اللَّهَ خَيْرًا وَارْضَيَنَّ بِهِ ... فَبَيْنَمَا الْعُسْرُ إِذْ دَارَتْ مَيَاسِيرُ وَبَيْنَمَا الْمَرْءُ فِي الأَحْيَاءِ مُغْتَبِطٌ ... إِذْ صَارَ فِي الرَّمْسِ تَعْفُوهُ الأَعَاصِيرُ يَبْكِي الْغَرِيبُ عَلَيْهِ لَيْسَ يَعْرِفُهُ ... وَذُو قَرَابَتِهِ فِي الْحَيِّ مَسْرُورُ حَتَّى كَأنْ لَمْ يَكُنْ إِلا تَذَكُّرُهُ ... وَالدَّهْرُ أَيْنَمَا حَالٍ دَهَارِيرُ 427 - عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: مَا سَمِعْتُ بِأَحَدٍ أَجْرَأَ وَلا أَسْرَعَ شِعْرًا مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، يَوْمَ يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُلْ شِعْرًا تَقْتَضِيهِ السَّاعَةُ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْكَ» . ثُمَّ أَبَدَّهُ بَصَرُهُ، فَانْبَعَثَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، يَقُولُ: إِنِّي تَفَرَّسْتُ فِيكَ الْخَيْرَ أَعْرِفُهُ ... وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا إِنْ خَانَنِي بَصَرُ أَنْتَ النَّبِيُّ وَمَنْ يُحْرَمَ شَفَاعَتَهُ ... يَوْمَ الْحِسَابِ فَقَدْ أَزْرَى بِهِ الْقَدَرُ فَثَبَّتَ اللَّهُ مَا أَتَاكَ مِنْ حَسَنٍ ... كَالْمُرْسَلِينِ وَنَصْرًا كَالَّذِي نُصِرُوا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَنْتَ فَثَبَّتَكَ اللَّهُ» . قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ: فَثَبَّتَهُ اللَّهُ أَحْسَنَ ثَبَاتٍ، فَقُتِلَ شَهِيدًا، وَفُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَدَخَلَهَا عَنْ مُصْعَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ ابْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ حَجَّ فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: إِنَّهُ سَيَأْتِي بِالْمَدِينَةِ الْحَزِينُ الشَّاعِرُ، وَهُوَ ذَرِبُ اللِّسَانِ، فَإِيَّاكَ أَنَّ تَحْتَجِبَ عَنْهُ وَارْضِهِ. فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ أَتَاهُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَرَأَى جَمَالَهُ، وَفِي يَدَهِ قَضِيبُ خَيْزُرَانٍ وَقَفَ سَاكِتًا، فَأَمْهَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ حَتَّى ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَرَاحَ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: السَّلامُ رَحِمَكَ اللَّهُ أَوَّلا، فَقَالَ: عَلَيْكَ السَّلامُ، وَجْهُ الأَمِيرِ، أَصْلَحَكَ اللَّهُ، إِنِّي قَدْ كُنْتُ مَدَحْتُكَ بِشِعْرٍ، فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَيْكَ وَرَأَيْتُ جَمَالَكَ وَبَهَاءَكَ رَهِبْتُكَ، فَأُنْسِيتُ مَا قُلْتُ، وَقَدْ قُلْتُ فِي مَقَامِي هَذَا بَيْتَيْنِ. قَالَ: مَا هُمَا؟ قَالَ:

لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية، ولو كانت بنت ذي الغصة، يعني يزيد بن الحصين

فِي كَفِّهِ خَيْزُرانٌ رِيحُهَا عَبِقٌ ... مِنْ كَفِّ أَرْوَعَ فِي عِرْنِينِهِ شَمَمُ يُغْضِي حَيَاءً وَيُغْضَى مِنْ مَهَابَتِه ... فَلا يُكَلَّمُ إِلا حِينَ يَبْتَسِمُ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ زُهَيْرِ بْنِ مَنْظُورٍ الْفَزَارِيُّ، قَالَ: كَانَ رَمَّاحُ بْنُ أَبْرَدَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ مَيَّادَةَ يَتَشَبَّبُ بِأُمِّ جَحْدَرِ بِنْتِ حَسَّانٍ الْمُرِّيَّةِ إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي جُذَيْمَةَ بْنِ غَيْظٍ، فَحَلَفَ أَبُوهَا لَيُخْرِجَنَّهَا إِلَى رَجُلٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ وَلا يُزَوِّجُهَا بِنَجْدٍ. فَقَدِمَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْهُمْ بِالشَّامِ، فَزَوَّجَهُ إِيَّاهَا، فَلَقِيَ عَلَيْهَا ابْنُ مَيَّادَةَ شِدَّةً، فَرَأَيْتُهُ وَمَا لَقِيَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا خَرَجَ بِهَا زَوْجُهَا نَحْوَ بِلادِهِ انْدَفَعَ، يَقُولُ: أَلا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ إِلَى أُمِّ جحْدَرٍ ... سَبِيلٌ فَأَمَّا الصَّبْرُ عَنْهَا فَلا صَبْرًا وَهَلْ تَأْتينِي الرِّيحُ تَدْرُجُ مُوهِنًا ... بِرَيَّاكِ يَعْرُورِي بِهَا دَنِفًا ضُرَّا أَلَّمَا عَلَى تَيْمَاءَ يَسْأَلْ يَهُودَهَا ... فَإِنَّ عَلَى تَيْمَاءَ مِنْ رُكَبِّهَا خُبْرَا وَبِالْغَمْرِ قَدْ جَازَتْ مَطِيُّهَا ... فَأَهْلُكِ رَوْضَاتٍ بِبَطْنِ اللِّوَى خُضْرَا 430 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمًا عَلَى الْمِنْبَرِ: أَلا لا تَزِيدُوا فِي مُهُورِ النِّسَاءِ عَلَى أَرْبَعِينَ أُوْقِيَّةٍ، وَلَوْ كَانَتْ بِنْتُ ذِي الْغُصَّةِ، يَعْنِي يَزِيدَ بْنَ الْحُصَيْنِ الْحَارِثِيَّ، فَمَا زَادَ أُلْقِيَتِ الزِّيَادةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ "، فَقَامَتِ امْرَأَةٌ مِنْ صَفِّ النِّسَاءِ طَوِيلَةٌ، فَقَالَتْ: لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ. قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَتْ: لأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، يَقُولُ: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «امْرَأَةٌ أَصَابَتْ وَرَجُلٌ أَخْطَأَ» تَزَوَّجَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ سَكِينَةَ بِنْتَ الْحُسَيْنِ، وَعَائِشَةَ بِنْتَ طَلْحَةَ، فَأَمْهَرَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ. فَقَالَ: فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَمَّامٍ: أَبْلِغْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ رِسَالَةً ... مِنْ نَاصِحٍ لَكَ لا يُرِيدُ خِدَاعًا بُضْعُ الْفَتَاةِ بِأَلْفِ أَلْفٍ كَامِلٍ ... وَتَبِيتُ حُرَّاسُ الثُّغُورِ جِيَاعًا 432 - عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَعْنٍ، قَالَ: أَتَتِ امْرَأَةٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ زَوْجِي يَصُومُ النَّهَارَ، وَيَقُومُ اللَّيْلَ، وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ أَشْكُوَهُ إِلَيْكَ وَهُوَ يَقُومُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَقَالَ لَهَا: «جَزَاكِ اللَّهُ خَيْرًا مِنْ مُثْنِيَةٍ عَلَى زَوْجِهَا» . فَجَعَلَتْ تُكَرِّرُ عَلَيْهِ الْقَوْلَ وَهُوَ يُكَرِّرُ عَلَيْهَا الْجَوَابَ، وَكَانَ كَعْبُ بْنُ سُورٍ الأَزْدِيُّ حَاضِرًا، فَقَالَ: اقْضِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا. قَالَ: «وَهَلْ فِيمَا ذَكَرَتْ قَضَاءٌ» ؟ ! فَقَالَ: إِنَّهَا تَشْكُو مُبَاعَدَةَ زَوْجِهَا عَنْ فِرَاشِهِ وَتَطْلُبُ حَقَّهَا فِي ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: «أَمَا إِنْ فَهِمْتَ ذَلِكَ فَاقْضِ بَيْنَهُمَا» . فَقَالَ كَعْبٌ: عَلَيَّ بِزَوْجِهَا. فَأُحْضِرَ، فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتَكَ هَذِهِ تَشْكُوكَ. فَقَالَ: هَلْ قَصَّرْتُ فِي شَيْءٍ مِنْ نَفَقَتِهَا؟ قَالَ: لا. فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ:

يَا أَيها الْقَاضِي الْحَكِيمُ رُشْدُهُ ... أَلْهَى خَلِيلِي عَنْ فِرَاشِي مَسْجِدُهْ نَهَارَهُ وَلَيْلَهُ مَا يَرْقُدُهْ ... فَلَسْتُ فِي حُكْمِ النِّسَاءِ أَحْمَدُهُ زَهَّدَهُ فِي مَضْجَعِي تَعَبُّدُهُ ... فَاقْضَ الْقَضَا يَا كَعْبُ لا تُرَدِّدُهْ قَالَ: فَقَالَ زَوْجُهَا: زَهَّدَنِي فِي فَرْشِهَا وَفِي الْحَجَلِ ... أَنِّي امْرُؤٌ أَذْهَلَنِي مَا قَدْ نَزَلْ فِي سُوْرَةِ النَّمْلِ وَفِي السَّبْعِ الطِّوَلْ ... وَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَخْوِيفٌ جَلَلْ فَقَالَ كَعْبٌ: إِنَّ لَهَا حَقًا عَلَيْكَ يَا رَجُلْ ... تُصِيبُهَا فِي أَرْبَعٍ لِمَنْ عَقِلْ قَضِيَّةٌ مِنْ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلْ ... فَأَعْطِهَا ذَاكَ وَدَعْ عَنْكَ الْعِلَلْ إِنَّ خَيْرَ الْقَاضِي مَنْ عَدَلَ ... وَقَضَى بِالْحَقِّ جَهْرًا وَفَصَلْ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ لَكَ مِنَ النِّسَاءِ أَرْبَعًا فَلَكَ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا تَعْبُدُ فِيهَا رَبَّكَ وَلَهَا يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: «وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مِنْ أَيِّ أَمْرَيْكَ أَعْجَبُ؟ أَمِنْ فَهْمِكَ أَمْرَهُمَا أَمْ مِنْ حُكْمِكَ بَيْنَهُمَا؟ اذْهَبْ فَقَدْ وَلَّيْتُكَ قَضَاءَ الْبَصْرَة»

§1/1