الأحكام السلطانية للماوردي

الماوردي

مقدمات

مقدمات مقدمة التحقيق ... مقدمة التحقيق: إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 1، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} 2، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} 3. وبعد: فلم يكن الإسلام في يومٍ من الأيَّام مجرَّد طقوس لا علاقة بواقع الناس وشئونهم الحياتية، ولعلَّ فهم أهل مكة من المشركين لذلك، ويقينهم بأنَّ محمدًا -صلى الله عليه وسلم- إنَّمَا يدعو بهذا الدين إلى منهج حياة متكاملٍ يمكن تلخيصه في كلمة واحدة هي: لا إله إلا الله. تلك الكلمة التي تعلن التوحيد الخالص والعبودية الكاملة لله وحده، ونزعها عن أيّ أحد، أو أيّ شيء آخر، وترجع الإنسان إلى حكم واحد هو الخالق الحكيم، وتتبرَّأ من كل

_ 1 آل عمران: 102. 2 النساء: 1. 3 الأحزاب: 70، 71. وهذه المقدّمة تسمَّى "خطبة الحاجة" كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعلّم أصحابه أن يقولوها بين يدي كلامهم. والحديث أخرجه: أبو داود في كتاب النكاح، باب في خطبة النكاح 2/ 204 "2118"، والترمذي في كتاب النكاح، باب: ما جاء في خطبة النكاح 2/ 355 "1107"، والنسائي في كتاب النكاح، باب: ما يستحب من الكلام عند النكاح 6/ 89، والطبراني في المعجم الكبير 10/ 121، 122 رقم "1008"، والحاكم في المستدرك 2/ 182، 183، وسكت هو والذهبي عنه، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب النكاح، باب: ما جاء في الخطبة في النكاح 7/ 146 جميعًا من حديث عبد الله بن مسعود.

الأنداد والشركاء المزعومين. ورغم أنَّ مسألة شمولية الإسلام وأنَّه منهج حياة كامل يعتبرها كثيرون قضية مسلَّمة، وثابتة بلا شكٍّ ولا مرية، نجد فريقًا آخر يحاول بشدة فصل الدين عن شئون الحياة، وبخاصَّة السياسية منها. وفي ظلِّ هذا الخلاف كان لا بُدَّ من الرجوع إلى تراثنا الإسلامي الزاخر نستقي منه المبادئ، ونقف منه على المعالم؛ لنرى كيف أدلى السابقون من العلماء المسلمين بدلوهم في المسائل المتعلقة بنظم الحكم، وكيف حاولوا التنظير والتقنين لنظام الحكم في الإسلام من خلال بحثهم في كتاب الله تعالى، وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم، ومن خلال استقرائهم لسيرة الرسول الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم، وتاريخ الخلفاء الراشدين من بعده. غير أنَّه من المهمّ للباحث حتى يكون محايدًا ومنصفًا أن ينظر هذه المحاولات في سياقها الزماني والفترة التي أُلِّفَت فيها؛ لنرى إذا ما كانت تعبّر عن قيمةٍ في عصرها أم لا. كما علينا أن ننظر إلى هذه المحاولات بحيادية تامَّة دون تحيّز أو تجنٍّ، ذلك أنَّ كثيرًا من الباحثين ينظرون إلى كلِّ ما هو قديم على أنَّه هو الصواب، حتى إنَّ كثيرًا من المحققين في عصرنا قد انحصر عملهم في الثناء على المصنِّف، وعلى أسلوبه وجودة تبويبه، ومحاولة التدليل على صدق كل ما يورده في كتابه. بينما نرى فريقًا آخر من الذين يسمّون أنفسهم بدعاة الحداثة والتقدُّم يبذل جهده كله لتشويه كل ما هو قديم، ونعته بالتخلف والسطحية وعَدَم الملاءمة لعصرنا. لذلك كان حرصنا على تحقيق كتاب الأحكام السلطانية للإمام الماوردي، والذي يعتبر كتابًا في الفقه يبحث في أحكام الإمامة العظمى والولاية وما يتعلَّق بهما، كما يمكن اعتباره من أوائل الكتب في نظم الحكم، إذا استثنينا كتاب العلَّامة ابن تيمية السياسة الشرعية. عملي في الكتاب: ويمكن تلخيص ما قمنا به من عملٍ في النقاط التالية: أولا: أخذنا على أنفسنا أن يكون تناولنا للكتاب ودراستنا موضوعية، فما نراه متفقًا

ومبادئ الإسلام وقواعده دلَّلْنَا عليه، وذكرنا الشواهد والنصوص لتأكيده، وما رأينا أنَّه مخالف لهذه المبادئ وتلك القواعد ذكرنا من النصوص ما يؤكِّد مخالفته. ثانيًا: قمت بعمل ترجمة للمصنِّف. ثالثًا: حرصت على تفصيل ما أجمله المصنِّف من مسائل وأحكام بالرجوع إلى كتب الفقه والأصول؛ لتتضح الصورة أكثر، وليستوثق من هذه الأحكام. رابعًا: لاحظت أنَّ المصنِّف في كتابه كثيرًا ما يغفل مذهب الإمام أحمد في كثير من القضايا والأحكام، لذلك رأيت من الإنصاف أن أشير إلى أقوال الحنابلة في هامش الكتاب. خامسًا: حرصت على تخريج الأحاديث الواردة في الكتاب مع ذكر تعليقات المحدثين وحكمهم عليها، خاصَّة الحافظ ابن حجر، والزيلعي قديمًا، وفضيلة الشيخ الألباني حديثًا. سادسًا: قمت كذلك بالترجمة لمعظم الأعلام الوارد ذكرهم في الكتاب. سابعا: قمت بتبويب الكتاب، وذلك بوضع عناوين تعبِّر عن كل فصل من الفصول التي ذكرها المصنِّف. وبعد، فأدعو الله -تبارك وتعالى- أن ينفع بهذا الكتاب وتلك الدراسة، إنَّه وليّ ذلك ومولاه. أحمد جاد

ترجمة المصنف

ترجمة المصنِّف: الإمام الماوردي [364هـ - 450هـ] [975م - 1058م] نسبه ومولده: هو علي بن محمد بن حبيب، أبو الحسن البصري، المعروف بالماورديِّ نسبةً إلى بيع ماء الورد، أقضى قضاة عصره، من العلماء الباحثين أصحاب التصانيف الكثيرة النافعة، وُلِدَ سنة 364هـ/ 975م في البصرة. اجتهاده وطلبه للعلم: وُلِدَ الماوردي في البصرة لأبٍ يعمل ببيع ماء الورد، فنسب إليه فقيل: "الماوردي". ارتحل به أبوه إلى بغداد، وبها سمع الحديث، ثم لازم واستمع إلى أبي حامد الإسفراييني، كما حدَّث عن الحسن الجيلي. عمل الماوردي بالتدريس في بغداد ثم بالبصرة، وعاد إلى بغداد مرة أخرى، كان يعلِّم الحديث وتفسير القرآن، لقِّبَ عام 429هـ بأقضى القضاة، وكانت مرتبته أدنى من قاضي القضاة، ثم بعد ذلك تولَّى منصب قاضي القضاة. مكانته العلمية: يعتبر الماوردي من أكبر فقهاء الشافعية، والذي ألَّف في فقه الشافعية موسوعته الضخمة في أكثر من عشرين جزءًا. وقد نال الماوردي حظوة كبيرة عند الخليفة المقتدر "المتولي بين سنتي 381 و422هـ"، وعند بني بويه، وربما توسَّطَ بينهم وبين الملوك وكبار الأمراء فيما يصلح به خللًا أو يزيل خلافًا. وقد كان معاصرًا لخليفتين من أطول الخلفاء بقاءً في الحكم: الخليفة العباسي القادر بالله، ومن بعده ابنه القائم بأمر الله، الذي وصل الضعف به مبلغه حتى إنَّه قد خُطِبَ في عهده للخليفة الفاطمي على منابر بغداد. وكان الماوردي ذا علاقات مع رجال الدولة العباسية، كما كان سفير العباسيين ووسيطهم لدى بني بويه والسلاجقة، وبسبب علاقاته هذه يرجِّح البعض كثرة كتابته عمَّا يسمَّى بالفقه

السياسي، وقد اتُّهِمَ الماوردي بالاعتزال، ولكن انتصر له تلميذه الخطيب البغدادي فدافع عنه ودفع عنه الادِّعَاء، وقد كان مصنِّفًا قديرًا بارعًا، تدل كتبه المختلفة على مقدرةٍ في التفكير وبراعة في التعبير. آثاره العلمية: ترك الإمام الماوردي العديد من المصنَّفات في نظم الحكم وشئون السياسة، نذكر منها: - أدب الدنيا والدين. - الأحكام السلطانية. - قانون الوزارة. أما كتبه الأخرى فمنها: - سياسة أعلام النبوة. - كتاب الحاوي الكبير، في فقه الشافعية، في أكثر من عشرين جزءًا. - كتاب نصيحة الملوك. - كتاب قوانين الوزارة وسياسية الملك. - كتاب التفسير. - كتاب الإقناع، وهو مختصر كتاب الحاوي - كتاب أدب القاضي. - كتاب أعلام النبوة. - كتاب تسهيل النظر. - كتاب الأمثال والحكم في تفسير القرآن "النكت والعيون". وقد نال الأخير عناية المفسرين المتأخِّرين ونقلوا عنه، كابن الجوزي في: زاد المسير، والقرطبي في تفسيره: الجامع لأحكام القرآن. وفاته: توفِّي الإمام في يوم الثلاثاء سلخ شهر ربيع الأول من سنة 450هـ، ودُفِنَ من الغدِ في مقبرة باب حرب، وكان قد بلغ 86 سنة، وصلَّى عليه الإمام الخطيب البغدادي.

مقدمة المؤلف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة المؤلف: وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيُّ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَوْضَحَ لَنَا مَعَالِمَ الدِّينِ، وَمَنَّ عَلَيْنَا بِالْكِتَابِ الْمُبِينِ، وَشَرَعَ لَنَا مِنْ الْأَحْكَامِ، وَفَصَّلَ لَنَا مِنْ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مَا جَعَلَهُ عَلَى الدُّنْيَا حُكْمًا تَقَرَّرَتْ بِهِ مَصَالِحُ الْخَلْقِ، وَثَبَتَتْ بِهِ قَوَاعِدُ الْحَقِّ، وَوَكَّلَ إلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ مَا أَحْسَنَ فِيهِ التَّقْدِيرَ، وَأَحْكَمَ بِهِ التَّدْبِيرَ، فَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى مَا قَدَّرَ وَدَبَّرَ، وَصَلَوَاتُهُ وَسَلَامُهُ عَلَى رَسُولِهِ الَّذِي صَدَعَ بِأَمْرِهِ، وَقَامَ بِحَقِّهِ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَعَلَى آلِهِ وَصَحَابَتِهِ. وَلَمَّا كَانَتْ الْأَحْكَامُ السُّلْطَانِيَّةُ بِوُلَاةِ الْأُمُورِ أَحَقَّ، وَكَانَ امْتِزَاجُهَا بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ يَقْطَعُهُمْ عَنْ تَصَفُّحِهَا مَعَ تَشَاغُلِهِمْ بِالسِّيَاسَةِ وَالتَّدْبِيرِ، أَفْرَدْتُ لَهَا كِتَابًا امْتَثَلْتُ فِيهِ أَمْرَ مَنْ لَزِمَتْ طَاعَتُهُ؛ لِيَعْلَمَ مَذَاهِبَ الْفُقَهَاءِ فِيمَا لَهُ مِنْهَا فَيَسْتَوْفِيهِ، وَمَا عَلَيْهِ مِنْهَا فَيُوَفِّيهِ؛ تَوَخِّيًا لِلْعَدْلِ فِي تَنْفِيذِهِ وَقَضَائِهِ، وَتَحَرِّيًا لِلنَّصَفَةِ فِي أَخْذِهِ وَعَطَائِهِ، وَأَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى حُسْنَ مَعُونَتِهِ، وَأَرْغَبُ إلَيْهِ فِي تَوْفِيقِهِ وَهِدَايَتِهِ، وَهُوَ حَسْبِي وَكَفَى. أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ اللَّهَ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ نَدَبَ لِلْأُمَّةِ زَعِيمًا خَلَفَ بِهِ النُّبُوَّةَ، وَحَاطَ بِهِ الْمِلَّةَ، وَفَوَّضَ إلَيْهِ السِّيَاسَةَ؛ لِيَصْدُرَ التَّدْبِيرُ عَنْ دِينٍ مَشْرُوعٍ، وَتَجْتَمِعَ الْكَلِمَةُ عَلَى رَأْيٍ مَتْبُوعٍ، فَكَانَتْ الْإِمَامَةُ أَصْلًا عَلَيْهِ اسْتَقَرَّتْ قَوَاعِدُ الْمِلَّةِ، وَانْتَظَمَتْ بِهِ مَصَالِحُ الْأُمَّةِ حَتَّى اسْتَثْبَتَتْ بِهَا الْأُمُورُ الْعَامَّةُ، وَصَدَرَتْ عَنْهَا الْوِلَايَاتُ الْخَاصَّةُ، فَلَزِمَ تَقْدِيمُ حُكْمِهَا عَلَى كُلِّ حُكْمٍ سُلْطَانِيٍّ، وَوَجَبَ ذِكْرُ مَا اخْتَصَّ بِنَظَرِهَا عَلَى كُلِّ نَظَرٍ دِينِيٍّ؛ لِتَرْتِيبِ أَحْكَامِ الْوِلَايَاتِ عَلَى نَسَقٍ مُتَنَاسِبِ الْأَقْسَامِ، مُتَشَاكِلِ الْأَحْكَامِ. وَاَلَّذِي تَضَمَّنَهُ هَذَا الْكِتَابُ مِنْ الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ وَالْوِلَايَاتِ الدِّينِيَّةِ عِشْرُونَ بَابًا؛ فَالْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي عَقْدِ الْإِمَامَةِ. وَالْبَابُ الثَّانِي: فِي تَقْلِيدِ الْوَزَارَةِ.

وَالْبَابُ الثَّالِثُ: فِي تَقْلِيدِ الْإِمَارَةِ عَلَى الْبِلَادِ. وَالْبَابُ الرَّابِعُ: فِي تَقْلِيدِ الْإِمَارَةِ عَلَى الْجِهَادِ. وَالْبَابُ الْخَامِسُ فِي الْوِلَايَةِ عَلَى الْمَصَالِحِ. وَالْبَابُ السَّادِسُ: فِي وِلَايَةِ الْقَضَاءِ. وَالْبَابُ السَّابِعُ: فِي وِلَايَةِ الْمَظَالِمِ. وَالْبَابُ الثَّامِنُ: فِي وِلَايَةِ النِّقَابَةِ عَلَى ذَوِي الْأَنْسَابِ. وَالْبَابُ التَّاسِعُ: فِي الْوِلَايَةِ عَلَى إمَامَةِ الصَّلَوَاتِ. وَالْبَابُ الْعَاشِرُ: فِي الْوِلَايَةِ عَلَى الْحَجِّ. وَالْبَابُ الْحَادِيَ عَشَرَ: فِي وِلَايَةِ الصَّدَقَاتِ. وَالْبَابُ الثَّانِي عَشَرَ: فِي قَسْمِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ. وَالْبَابُ الثَّالِثَ عَشَرَ: فِي وَضْعِ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ. وَالْبَابُ الرَّابِعَ عَشَرَ: فِيمَا تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهُ مِنْ الْبِلَادِ. وَالْبَابُ الْخَامِسَ عَشَرَ: فِي إحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَاسْتِخْرَاجِ الْمِيَاهِ. وَالْبَابُ السَّادِسَ عَشَرَ: فِي الْحِمَى وَالْأَرْفَاقِ. وَالْبَابُ السَّابِعَ عَشَرَ: فِي أَحْكَامِ الْإِقْطَاعِ. وَالْبَابُ الثَّامِنَ عَشَرَ: فِي وَضْعِ الدِّيوَانِ وَذِكْرِ أَحْكَامِهِ. وَالْبَابُ التَّاسِعَ عَشَرَ: فِي أَحْكَامِ الْجَرَائِمِ. وَالْبَابُ الْعِشْرُونَ: فِي أَحْكَامِ الْحِسْبَةِ.

الباب الأول: في عقد الإمامة

الباب الأول: في عقد الإمامة مدخل ... البَابُ الأَوَّلُ: فِي عَقٍدِ الْإِمَامَةِ الْإِمَامَةُ1: مَوْضُوعَةٌ لِخِلَافَةِ النُّبُوَّةِ فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا، وَعَقْدُهَا لِمَنْ يَقُومُ بِهَا فِي الْأُمَّةِ وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ شَذَّ عَنْهُمْ الْأَصَمُّ. هَلْ الخِلَافَةُ وَاجَبَةٌ بِالشَّرْعِ أَمْ بِالْعَقْلِ؟ وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهَا2 هَلْ وَجَبَتْ بِالْعَقْلِ أَوْ بِالشَّرْعِ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: وَجَبَتْ بِالْعَقْلِ لِمَا فِي طِبَاعِ الْعُقَلَاءِ مِنْ التَّسْلِيمِ لِزَعِيمٍ يَمْنَعُهُمْ مِنْ التَّظَالُمِ، وَيَفْصِلُ بَيْنَهُمْ فِي التَّنَازُعِ وَالتَّخَاصُمِ، وَلَوْلَا الْوُلَاةُ لَكَانُوا فَوْضَى مُهْمَلِينَ، وَهَمَجًا مُضَاعِينَ، وَقَدْ قَالَ الْأَفْوَهُ الْأَوْدِيُّ3، وَهُوَ شَاعِرٌ جَاهِلِيٌّ "مِنْ الْبَسِيطِ": لَا يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لَا سَرَاةَ لَهُمْ ... وَلَا سَرَاةٌ إذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: بَلْ وَجَبَتْ بِالشَّرْعِ دُونَ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَقُومُ بِأُمُورٍ شَرْعِيَّةٍ قَدْ

_ 1 قلت: والإمامة والخلافة مصطلحان مترادفان، وإن كان مصطلح الخلاقة أسبق، ومصطلح الإمامة أكثر ما يتردَّد عند الشيعة، والإمامية منهم خاصة، لكنَّ المعنى يكاد يكون واحدًا، وهو: رئاسة عامَّة في أمر الدين والدنيا، كما قال التفتازاني، أو: هي خلافة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في إقامة الدِّين وحفظ حوزة الملَّة، يجب اتباعه على كافَّة الأمة، كما قال عضد الدين الإيجي في شرح المواقف، أو: هي خلافةٌ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كما قال الشيخ رشيد رضا في كتابه الخلافة. 2 يقول الدكتور عبد الرزاق السنهوري -رحمه الله: إنَّ أهل السنَّة والمعتزلة يرون أنَّ الخلافة واجب شرعي، ولكنَّهم يختلفون في أساس هذا الوجوب؛ فأهل السُّنَّة يرون أنَّ سند وجوب الخلافة هو الإجماع، أمَّا الرأي الآخرِ وغالب أنصاره من المعتزلة، فيرى أنَّ سند الوجوب هو العقل، وهناك طائفة من المعتزلة ترى أنَّ سند وجوب الخلافة شرعيّ وعقليّ في واقت واحد، ويرى الشيعة كذلك وجوب إقامة الحكومة الإسلامية. "فقه الخلافة وتطورها: ص 59". 3 الأفوه الأودي، هو صلاءة بن عمرو بن مالك، أبو ربيعة، من بني أود، من مذحج؛ شاعر يماني جاهلي، لقِّبَ بالأفوه لأنَّه كان غليظ الشفتين ظاهر الأسنان، كان سيِّدَ قومه وقائدهم في حروبهم، وهو أحد الحكماء والشعراء في عصره.

كَانَ مُجَوَّزًا فِي الْعَقْلِ أَنْ لَا يَرِدَ التَّعَبُّدُ بِهَا، فَلَمْ يَكُنِ الْعَقْلُ مُوجِبًا لَهَا، وَإِنَّمَا أَوْجَبَ الْعَقْلُ أَنْ يَمْنَعَ كُلُّ وَاحِدٍ نَفْسَهُ مِنَ الْعُقَلَاءِ عَنِ التَّظَالُمِ وَالتَّقَاطُعِ، وَيَأْخُذَ بِمُقْتَضَى الْعَدْلِ فِي التَّنَاصُفِ وَالتَّوَاصُلِ، فَيَتَدَبَّرُ بِعَقْلِهِ لَا بِعَقْلِ غَيْرِهِ، وَلَكِنْ جَاءَ الشَّرْعُ بِتَفْوِيضِ الْأُمُورِ إلَى وَلِيِّهِ فِي الدِّينِ، قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] . فَفَرَضَ عَلَيْنَا طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ فِينَا، وَهُمُ الْأَئِمَّةُ الْمُتَأَمِّرُونَ عَلَيْنَا1. وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {سَيَلِيكُمْ بَعْدِي وُلَاةٌ، فَيَلِيكُمْ الْبَرُّ بِبِرِّهِ، وَيَلِيكُمْ الْفَاجِرُ بِفُجُورِهِ، فَاسْمَعُوا لَهُمْ وَأَطِيعُوا فِي كُلِّ مَا وَافَقَ الْحَقَّ، فَإِنْ أَحْسَنُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ} 2.

_ 1 إذن لا بُدَّ -وفي كل الأحوال- للأمَّة أن تختار من تنيطه في تطبيق أحكام وحدود شرع الله في الأرض بين الناس، وإمضاء أحكامه، بل إنَّ إقامة الإمام أو الخليفة واجب وجوب الشريعة ذاته، تطبيقًا للمبدأ القائل: ما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب. "انظر: الإسلام وأوضاعنا السياسية: عبد القادر عودة، ص: 109، 110". 2 ضعيف: رواه الدارقطني في سننه، باب: صفة من تجوز الصلاة معه والصلاة عليه "2/ 5"، والطبراني في الأوسط "6/ 247"، وقال: لم يَرْوِ هذا الحديث عن هشام بن عروة إلّا عبد الله بن محمد بن عروة، تفرَّد به إبراهيم بن المنذر، ولم يسند هشام بن عروة عن أبي صالح هذا، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد "5/ 218"، وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة وهو ضعيف جدًّا. فائدة: يقول الدكتور السنهوري -رحمه الله تعالى: والحقيقة أنَّ النصوص التي تذكر في هذا المجال ليست قاطعة في وجوب الخلافة باعتبارها ذلك النوع من نظم الحكم الذي يتميز بالخصائص التي أشرنا إليها، بل إنَّها تلزم المسلمين بإيجاد حكومة ما دون تحديد نوع هذه الحكومة، وتوجب عليهم طاعة هولاء الحكَّام، ولكنَّنَا نرى أنَّ هذه النصوص وإن لم تكف بذاتها سندًا لوجوب الخلافة، فهي على الأقلِّ كافية لتكون سندًا للإجماع الذي أوجبها. "فقه الخلافة وتطورها: ص6، هامش: 1".

فصل: "في بيان حكم الخلافة"

فَصْلٌ: "فِي بَيَانِ حُكْمِ الخِلَافَةِ" فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْإِمَامَةِ فَفَرْضُهَا عَلَى الْكِفَايَةِ كَالْجِهَادِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ، فَإِذَا قَامَ بِهَا مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا سَقَطَ فَرْضُهَا عَلَى الْكِفَايَةِ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهَا أَحَدٌ خَرَجَ مِنَ النَّاسِ فَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَهْلُ الِاخْتِيَارِ حَتَّى يَخْتَارُوا إمَامًا لِلْأُمَّةِ1. وَالثَّانِي: أَهْلُ الْإِمَامَةِ حَتَّى يَنْتَصِبَ أَحَدُهُمْ لِلْإِمَامَةِ، وَلَيْسَ عَلَى مَنْ عَدَا هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْأُمَّةِ فِي تَأْخِيرِ الْإِمَامَةِ حَرَجٌ وَلَا مَأْثَمٌ، وَإِذَا تَمَيَّزَ هَذَانِ الْفَرِيقَانِ مِنَ الْأُمَّةِ فِي فَرْضِ الْإِمَامَةِ وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمَا بِالشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِ. فَأَمَّا أَهْلُ الِاخْتِيَارِ فَالشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِيهِمْ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: الْعَدَالَةُ الْجَامِعَةُ لِشُرُوطِهَا2

_ 1 وهذا كما حدث بعد مقتل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه. 2 أقول: فالعدالة أمر مهم لا بُدَّ أن يتوافَر في أهل الشورى، حتى يؤتَمَنوا على مصالح المسلمين فضلًا على الإسلام، ولكن ما العدالة؟ يقول الأستاذ عبد القادر عودة في تحديد مفهومها: "والعدالة هى التحلِّي بالفرائض والفضائل، والتخلِّي عن المعاصي والرذائل، وعمَّا يخِلُّ بالمروءة أيضًا". فالعدالة في مجملها: هي الاستقامة الدينية التى تجعل صاحبها ملتزمًا بما يمليه عليه دينه في كل شيء؛ أقواله وأفعاله واعتقاده، فهي بمعنًى آخر: التقوى والورع. فإذا تحققت هذه العدالة في أيِّ إنسان فإنّها ستحيط جميع أقواله وأفعاله بسياج من الطهارة والوضوح، فيلتزم بما يمليه عليه ضميره الديني ووَرَعَه وتقاه. لذلك كان شرط العدالة مُهِمًّا في كلِّ مَنْ يُخْتَار ليكون من أهل الحلِّ والعقدِ، بل وهو مهم في كل فردٍ حتى يكون صالحًا نافعًا لدينه ولوطنه. لقد أثبت التاريخ أنَّ أهل التقوى هم أقدر الناس على نفع الرعية وخيرها، كما أثبت أنَّ طلاب السلطة من أهل الدنيا هم أقل الناس قدرة على هذا، بل هم دائمًا سبب شقاء العباد وفساد البلاد. لذلك فلا ينيغي أن يكون من بين أهل الشورى مَنْ يَقْدَح في ذمته أو من يستبيح الكذب وخداع الناس!

وَالثَّانِي: الْعِلْمُ1 الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مَعْرِفَةِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْإِمَامَةَ عَلَى الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهَا. وَالثَّالِثُ: الرَّأْيُ وَالْحِكْمَةُ2 الْمُؤَدِّيَانِ إلَى اخْتِيَارِ مَنْ هُوَ لِلْإِمَامَةِ أَصْلَحُ، وَبِتَدْبِيرِ الْمَصَالِحِ أَقْوَمُ وَأَعْرَفُ، وَلَيْسَ لِمَنْ كَانَ فِي بَلَدِ الْإِمَامِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْبِلَادِ فَضْلُ مَزِيَّةٍ تَقَدَّمَ بِهَا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا صَارَ مَنْ يَحْضُرُ بِبَلَدِ الْإِمَامِ مُتَوَلِّيًا لِعَقْدِ الْإِمَامَةِ عُرْفًا لَا شَرْعًا؛ لِسُبُوقِ عِلْمِهِمْ بِمَوْتِهِ، وَلِأَنَّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْخِلَافَةِ فِي الْأَغْلَبِ مَوْجُودُونَ فِي بَلَدِهِ.

_ 1 قلت: فرق كبير بين من يحكم على الأمور من خلال ميوله وانطباعاته الشخصية، أو متأثرًا بما يسمع ويرى، وبين من يحكم عليها من منطلق علمه بها وفهمه لها. فذلك الذي يحكم بميوله دون علمٍ يسهل التغرير به وإيقاعه في الخطأ، فيكون حكمه على الأمور بعيدًا عن الصواب كثيرًا. فالشورى لا بُدَّ لمن يتصدَّى لها أن يكون من أهل العلم بالأحكام الشرعية والفقهية؛ بحيث يعرف الحلال من الحرام، ويمتلك أدوات الاجتهاد من قياسٍ واستنباطٍ ومراعاة لمصالح الأمة.... إلخ، أو على الأقلِّ يمتلك معظم هذه الأدوات. "والعلم المقصود هو العلم بمعناه الواسع، فيدخل فيه علم الدين وعلم السياسة وغيرهما من العلوم، ولا يشترط أن يكون العالم منهم ملمًّا بكلِّ العلوم، بل يكفي أن يكون ملمًّا بفرعٍ من العلوم كالهندسة أو الطبِّ أو غير ذلك، وليس من الضروري أن يكون العلماء جميعًا مجتهدين، فيكفي أن يتوفَّر الاجتهاد في مجموعهم لا في كلِّ فرد منهم". 2 قلت: ويراد بهذا الشرط الحكمة والعقل الراجح الذي يمكِّنُ صاحبه من اختيار الرأي الأصوب، ويساعده على الترجيح بين الأمور؛ فلأنهم هم أهل الرأي وهم المستشارون في كل كبيرة وصغيرة، لا بُدَّ أن يكونوا من أصحاب الرأي السديد والقول الصائب، الذين يزنون الأمور بميزان العقل والحكمة، بعيدين عن الاندفاع. "ويشترط فيمن يصلح للشورى أن يكون مِمَّنْ عُرِفَ بجودة الرأي والحكمة، ولا يشترط فيه أن يكون من ذوي العصبية؛ لأن أساس الشورى هو الرأي الصحيح الحكيم المتفق مع الشرع المجرَّد من الهوى والعصبية". وقيل: "إذا كنت مستشيرًا فتوخَّ ذا الرأي والنصيحة، فإنه لا يكتفي برأي من لا ينصح، ولا نصيحة من لا رأي له". وهذه الشروط التي استنبطناها من سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم، وسنته الفعلية، وسيرة الخلفاء الراشدين من بعده، هي -في مجملها- الشروط التي يراها كثير من علماء الإسلام وفقهائه قديمًا وحديثًا.

فصل: "الشروط التي ينبغي توافرها في الخليفة"

فصل: "الشروط التي ينبغي توافرها في الخليفة" وَأَمَّا أَهْلُ الْإِمَامَةِ فَالشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِيهِمْ سَبْعَةٌ: أَحَدُهَا: الْعَدَالَةُ عَلَى شُرُوطِهَا الْجَامِعَةِ1. وَالثَّانِي: الْعِلْمُ الْمُؤَدِّي إلَى الِاجْتِهَادِ فِي النَّوَازِلِ وَالْأَحْكَامِ2. وَالثَّالِثُ: سَلَامَةُ الْحَوَاسِّ مِنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَاللِّسَانِ؛ لِيَصِحَّ مَعَهَا مُبَاشَرَةُ مَا يُدْرَكُ بِهَا. وَالرَّابِعُ: سَلَامَةُ الْأَعْضَاءِ مِنْ نَقْصٍ يَمْنَعُ عَنِ اسْتِيفَاءِ الْحَرَكَةِ وَسُرْعَةِ النُّهُوضِ3.

_ 1 أمَّا العدالة: فالمراد بها أن يكون صاحب استقامة في السيرة، وأن يكون متجنبًا الأفعال والأحوال الموجبة للفسق والفجور، فكما لا يكون الظالم والغادر مستحقًّا للخلافة، لا يكون المتَّصِف بالتآمر والتحايل كمثل تسليم قطيعٍ من الغنم للذئب وجعله راعيًا لها. وأقوى برهان على ذلك قوله تعالى لإبراهيم -عليه السلام- عندما سأله أن يجعل الإمامة في ذريته: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} ، أي: لا يستحقونها ولا يصلون إليها، والقصد الأساسي من تنصيب الخليفة هو دفع الظلم عن الناس لا تسليط الظلم عليهم، فلذا لا يجوز عند علماء الإسلام كافَّة انتخاب من هو بالظلم والبغي خليفة، كما أنَّ الخليفة الذي ارتكب الظلم والطغيان أثناء خلافته يستحقّ العزل، بل إنَّه عند قدماء الشافعية وعلى رأسهم الشافعي نفسه: ينعزل ولو لم تعزله الأمة. "فقه الخلافة وتطورها، ص 91". 2 يستلزم أغلبية الفقهاء أن يكون الخليفة على درجة كبيرة من العلم، فلا يكفي أن يكون عالمًا، بل يجب أن يبلغ مرتبة الاجتهاد في الأصول والفروع على السواء؛ لكي يكون قادرًا على تنفيذ شريعة الإسلام، ودفع الشبهات عن العقائد، وإعطاء فتاوى في المسائل التي تقتضيها، وإصدار الأحكام استنادًا إلى النصوص أو إلى الاستنباط؛ لأن الغرض الأساسي للخلافة هو صيانة العقائد وحل المشاكل والفصل في المنازعات. "فقه الخلافة وتطورها، ص 92". قلت: وينبغي أن يكون الإمام إلى جانب علمه بأحكام الإسلام مثقَّفًا ثقافة عالية، مُلِمًّا بأطرافٍ من علوم عصره، ويا حبَّذا لو كان متخصِّصًا في بعضها، ويكون على علمٍ بتاريخ الدول وأخبارها، وبالقوانين والمعاهدات الدولية، والعلاقات السياسية والتجارية والتاريخية. 3 قلت: وقد فرَّق ابن خلدون في مقدمته بين العيوب الجسمية المطلقة التي تمنع الخليفة من أداء وظيفته، كأن يكون أعمى أو أخرس، أو أصمّ، أو مقطوع اليدين، أو الرجلين، ففي هذه الحالة لا يكون المرشَّح أهلًا للخلافة، أمَّا إن كان أعور أو أصمَّ بإحدى أذنيه، أو مقطوعًا إحدى يديه، ففي هذه الحالة يبقى المرشَّح أهلًا للرئاسة.

وَالْخَامِسُ: الرَّأْيُ الْمُفْضِي إلَى سِيَاسَةِ الرَّعِيَّةِ وَتَدْبِيرِ الْمَصَالِحِ1. وَالسَّادِسُ: الشَّجَاعَةُ وَالنَّجْدَةُ الْمُؤَدِّيَةُ إلَى حِمَايَةِ الْبَيْضَةِ وَجِهَادِ الْعَدُوّ2ِ. وَالسَّابِعُ: النَّسَبُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ3؛ لِوُرُودِ النَّصِّ فِيهِ وَانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِضِرَارٍ4 حِينَ شَذَّ فَجَوَّزَهَا فِي جَمِيعِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- احْتَجَّ يَوْمَ السَّقِيفَةِ عَلَى الْأَنْصَارِ فِي دَفْعِهِمْ عَنِ الْخِلَافَةِ لَمَّا بَايَعُوا سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ عَلَيْهَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ" 5 فَأَقْلَعُوا عَنْ التَّفَرُّدِ بِهَا وَرَجَعُوا عَنِ الْمُشَارَكَةِ فِيهَا حِينَ قَالُوا: مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ، تَسْلِيمًا لِرِوَايَتِهِ وَتَصْدِيقًا لِخَبَرِهِ وَرَضُوا بِقَوْلِهِ: نَحْنُ الْأُمَرَاءُ وَأَنْتُمُ الْوُزَرَاءُ، وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَدِّمُوا قُرَيْشًا وَلَا تَقَدَّمُوهَا" 6. وَلَيْسَ مَعَ هَذَا النَّصِّ الْمُسَلَّمِ شُبْهَةٌ لِمُنَازِعٍ فِيهِ، وَلَا قَوْلٌ لِمُخَالِفٍ لَهُ7.

_ 1 قلت: ويعبِّر بعض الفقهاء عن هذا الشرط بالحكمة، والحق أنَّ هذه الحكمة غالبًا ما تُكْتَسَب بالخبرة والتجربة، لكن غاية ما ينبغي أن يتوفَّر في المرشَّحِ لمنصب الخليفة أن يكون قادرًا على سياسة الأمور سياسةً دقيقة ناتجة عن حِنْكَة وتجربة وفهمٍ للواقع. 2 ذلك أنَّ الخليفة هو قائد الجيوش الإسلامية، ولا يتَّسق أن يكون قائد جيوش المسلمين جبانًا أو متخاذلًا عن الدفاع عن قضايا الإسلام الكبرى. 3 ويشمل ذلك كل من كان من ذرية قريش، التي تنتسب إلى جدِّها الأول "النضر بن كنانة"، الملقَّب بقريش، ولقد كان لهذه القبيلة في الجاهلية نفوذ كبير بين العرب من الناحية الدينية والأدبية. وبعد انتشار الإسلام في أنحاء الجزيرة، وخاصة بعد فتح مكة، وعفو النبي -صلى الله عليه وسلم- عن القرشيين، زاد نفوذهم زيادة عظيمة، وخاصَّة لكون النبيّ وكبار صحابته كانوا من قريشِ، وقد تأكَّد هذا النفوذ نهائيًّا بتولِّي أبي بكر الخلافة، الذي كان معناه الاعتراف بسلطة قريش، وكان الخلفاء الأربعة الراشدون قرشيين أيضًا، وكذلك الأمويون والعباسيون، وطبقًا لمذهب أهل السنة: لا نزاع في وجوب توفُّر هذا الشرط، فهو لازم بالإجماع تقريبًا، إلَّا أن بعض فقهاء السنة، ومنهم ابن خلدون، فضلًا عن المعتزلة والخوارج يميلون إلى إلغاء هذا الشرط. "فقه الخلافة وتطورها: ص 96". 4 قلت: هو ضرار بن عمرو المعتزلي، إليه تنسب الفرقة الضرارية من المعتزلة، كان يقول: يمكن أن يكون جميع من في الأرض مِمَّن يظهر الإسلام كافرًا؛ توفِّي في حدود الثلاثين ومائتين. 5 صحيح: رواه أحمد "11898"، وصحَّحه الشيخ الألباني في صحيح الجامع "2758". 6 صحيح: ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح، وقال: أخرجه عبد الرزَّاق بإسناد صحيح، لكنَّه مرسل وله شواهد، وصحَّحه الشيخ الألباني في صحيح الجامع "2966". 7 والنظرية الأخرى التى أخذ بها الخوارج وغالبية المعتزلة، يقول هؤلاء: إنَّ الخلافة ممكنة لأيِّ شخص، ولو لم يمكن قرشيًّا، وحجتهم في ذلك الحديث النبوي: "اسمعوا وأطيعوا ولَوْ وُلِّيَ عليكم عبد حبشي" مما يدل -في نظرهم- على أنَّ الإمام يمكن أن يكون غير قرشي، بل إنَّ ضرار بن عمرو الغطفاني -وهو من فقهاء المعتزلة- يرى أنَّه يجب أن يفضَّل الزنجيّ على القرشيّ إذا كان كلاهما في درجة واحدة من الأهلية؛ لأنَّ الزنجي يكون من السهل عزله إذا خرج عن واجباته كخليفة. "فقه الخلافة وتطورها: ص 98".

فصل: "بم تنعقد الإمامة"؟

فصل: "بِمَ تنعقد الإمامة"؟ والإمامة تنعقد من وجهين: أحدهما: باختيار أهلِ العَقْدِ والحَلِّ1.

_ 1أقول: إنَّ اختيار الحاكم في الإسلام حقٌ من حقوق الأمَّة، كفله لها الإسلام، فلا ينبغي أن تفرِّط فيه أو أن تتنازل عنه ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا، تشهد بذلك الوقائع التاريخية المعتمدة في التشريع الإسلامي، وهي المدَّة من نزول الوحي على النبي -صلى الله عليه وسلم، وحتى آخر خلافة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ... ". ففي حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيعة العقبة الثانية يقدِّم -صلى الله عليه وسلم- أوَّلَ إرساءٍ لهذا المبدأ -مبدأ حق الأمَّة في اختيار من يمثلها- حين قال مخاطبًا الأنصار: "أخرجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيبًا ليكونوا على قومهم بما فيهم". ثم كانت بيعة أبي بكر بعد مساجلات ومناقشات حرة ومداولات مطوَّلَة بين المهاجرين والأنصار، أدلى كلٌّ منهم برأيه حتى اجتمعوا على اختياره -رضي الله عنه. ثم كان أن استَخْلَفَ أبو بكر عمر فارتضت الأمَّة ذلك منه وبايعته -رضي الله عنه- عن اقتناع حر، بعد أن أعلن كل فرد رأيه، حتى قال قائل لأبي بكر -رضي الله عنه- وهو على سرير الموت: ما أنت قائل لربِّك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا وقد ترى غلظته، وهو إذا وَلِيَ كان أفظّ وأغلظ؟ فردَّ أبو بكر قائلًا: "أبالله تخوّفني؟ خاف من تزود من أمركم بظلم!! أقول: اللهمَّ إني قد استخلفت على أهلك خير أهلك". ثم كان استخلاف عثمان بعد مشاورات قام بها الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف، استشار فيها كافَّة أهل المدينة، حتى إنَّه عبَّر عن ذلك قائلًا قبل مبايعته عثمان: "أيها الناس، إني قد سألتكم سرًّا وجهرًا عن إمامكم، فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين إمَّا عليّ وإمَّا عثمان ... ". فهذه الفترة من تاريخ الأمَّة الإسلامية، هو وحده الذي يصلح لاستنباط الأحكام والتشريعات منه ويعد ما حدَثَ بها سوابق دستورية يجب الالتزام بها والسير عليها. أما ما حدث بعد ذلك على أيدي بني أمية، فليس من الإسلام في شيء، بل لا قيمة له في ميزان الإسلام. يقول سيد قطب -رحمه الله: "فلمَّا جاء بنو أميَّة وصارت الخلافة الإسلامية ملكًا عضوضًا فيهم بالوراثة، لم يكن ذلك من روح الإسلام، إنَّمَا كان من حمق الجاهلية الذي أطفأ إشراقة الروح الإسلامي".

وَالثَّانِي: بِعَهْدِ الْإِمَامِ مِنْ قَبْلُ1. فَأَمَّا انْعِقَادُهَا بِاخْتِيَارِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ2 فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي عَدَدِ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِ

_ 1 قلت: ولا قيمة لعهد الإمام لأحدٍ من بعد بتولِّي منصب الخلافة ما لم تزكِّ أغلبية الأمة هذا الترشيح وتبايعه على ذلك، فتلك البيعة أو الانتخابات الحرَّة النزيهة كما يطلق عليها في عصرنا، هي الشيء الوحيد الذي يضفي الشرعيّة على سلطة خليفة، أو نائب أو والٍ....إلخ. 2 على الرَّغم من أنَّ مصطلحات "أهل الشورى"، و"أهل الحل والعقد"، يتردَّد ذكرها كثيرًا في الكتب التي تتناول الحديث عن الخلافة والإمامة وشئون الحكم، إلَّا أننا لا نجد في هذه الكتب ما يشير من قريبٍ أو من بعيد إلى كيفيَّة اختيار هذه الهيئة التي تُعْرَف بأهلِ الحلِّ والعقد أو أهل الشورى، ولا من الذي يقوم باختيارهم أو تعيينهم. إننا إذا نظرنا إلى آيات القرآن أو إلِى السنَّة النبوية الصحيحة، لم نجد بين نصوصهما ما يحدِّد صفات أهل الشورى ولا كيفية اختيارهم، بل لم نجد ذلك في عصر الصحابة. يقول الدكتور السنهوري: "ففي عصر الصحابة لم يكن من الممكن التفكير في وضع شروط لمزاولة حقِّ انتخاب أهل الحلِّ والعقد؛ لأن الفكرة السهلة التي سادت هي أنَّ الناخبين هم صحابة النبي، ولو بقيت الخلافة انتخابية بعد جيل الصحابة لشعرت الأمة الإسلامية بضرورة إجراءات منظّمة ومحدّدة لاختيار أهل الحلِّ والعقد وتحديدهم؛ بحيث لا تبقى المسألة الجوهرية، وهي مسألة انتخاب أهل الحلِّ والعقد، ثم انتخاب الخليفة بمعرفتهم دون قواعد محددة". ولعلَّ هذا هو السبب في ذلك الاختلاف البيِّن بين علماء الفقه السياسي الإسلامي قديمًا وحديثًا، ففي الوقت الذي نجد فيه الماوردي يحدِّد شروط أهل الاختيار في ثلاثة شروط فيقول: "العدالة الجامعة لشروطها، والثاني: العلم الذي يتوصّل به إلى معرفة من يستحقّ الإمامة، على الشروط المعتبرة فيها، والثالث: الرأي والحكمة وبتدبير المصالح أقوم وأعرف". كذلك نَجِد الإمام النووي يقول في تعريف أهل الحلِّ والعقد: "إنهم العلماء والرؤساء". بينما يرى الإمام البغدادي أنَّ أهل الشورى هم من لهم حق الاجتهاد فيقول بأنهم: "أهل الاجتهاد". ثم نَجِد من يقول: "إنَّهم الأشراف والأعيان"، ثم نَجِد الإمام محمد عبده يقول: "أهل الحلّ والعقد من المسلمين هم الأمراء والحكام والعلماء ورؤساء الجند وسائر الرؤساء والزعماء الذين يرجع إليهم الناس في الحاجات والمصالح". ويقول الإمام محمد عبده: "إن أولي الأمر في زماننا هم كبار العلماء ورؤساء الجند، والقضاة، وكبار التجار والزرَّاع وأصحاب المصالح العامَّة ومديرو الجمعيات والشركات، وزعماء الأحزاب، ونابغو الكُتَّاب والأطباء والمحامين الذين تثق بهم الأمة في مصالحها، وترجع إليهم في مشكلاتها". ثم يحاول الشيخ محمود شلتوت تعريف أهل الشورى فيقول: "أولو الأمر هم أهل النظر الذين عرفوا في =

الْإِمَامَةُ مِنْهُمْ عَلَى مَذَاهِبَ شَتَّى، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِجُمْهُورِ أَهْلِ الْعَقْدِ وَالْحَلِّ مِنْ كُلِّ بَلَدٍ؛ لِيَكُونَ الرِّضَاءُ بِهِ عَامًّا وَالتَّسْلِيمُ لِإِمَامَتِهِ إجْمَاعًا، وَهَذَا مَذْهَبٌ مَدْفُوعٌ بِبَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَلَى الْخِلَافَةِ بِاخْتِيَارِ مَنْ حَضَرَهَا وَلَمْ يَنْتَظِرْ بِبَيْعَتِهِ قُدُومَ غَائِبٍ عَنْهَا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: أَقَلُّ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِ مِنْهُمُ الْإِمَامَةُ خَمْسَةٌ يَجْتَمِعُونَ عَلَى عَقْدِهَا، أَوْ يَعْقِدُهَا أَحَدُهُمْ بِرِضَا الْأَرْبَعَةِ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ بَيْعَةَ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- انْعَقَدَتْ بِخَمْسَةٍ اجْتَمَعُوا عَلَيْهَا، ثُمَّ تَابَعَهُمْ النَّاسُ فِيهَا، وَهُمْ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَبِشْرُ بْنُ سَعْدٍ، وَسَالِم مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَالثَّانِي: عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- جَعَلَ الشُّورَى فِي سِتَّةٍ لِيُعْقَدَ لِأَحَدِهِمْ بِرِضَا الْخَمْسَةِ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ.

_ = الأمَّة بكمال الاختصاص في بحث الشئون وإدراك المصالح والغيرة عليها، وليس من شكٍّ في أنَّ شئون الأمَّة متعددة، ففي الأمة جانب القوة، وفيها جانب القضاء، وفيها جانب المال، وفيها جانب السياسة الخارجية، وفيها غير ذلك من الجوانب، ولكل جانب رجال عرفوا فيه بنضج الآراء وعِظم الآثار، وهؤلاء الرجال هم أولو الأمر من الأمَّة، وهم أهل الإجماع الذين يكون اتفاقهم حجة يجب النزول عليها". ويقول السيد رشيد رضا في تعريف أهل الحلِّ والعقد الذين يمثّلون سلطة الأمة، واختاره الأستاذ الإمام: "والمراد بأولي الأمر أهلُ الرأي والمكانة في الأمة، وهم العلماء بمصالحها وطرق حفظها، والمقبولة آراؤهم عند عامتها". ولم يختلف علماء الإسلام في تعريف أهل الشورى والمراد بهم فحسب، بل اختلفوا أيضًا في تسميتهم، فمن قائل: "أهل الحل والعقد"، ومن قائل: "أهل الاختيار"، ومن قائل: "أهل الاجتهاد"، ومن قائل: "أولو الأمر". والحقّ أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- وإن كان لم يترك قولًا يحدِّد فيه كيفية أهل الشورى، إلّا أنه -صلى الله عليه وسلم- قد ترك ذلك في سنَّتِه الفعلية برسمه الملامح والمنهاج الذي يمكن أن تسير عليه الأمة من بعده. فمن خلال استقرائنا لسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته من بعده، بل ولتاريخ أمتنا، نستطيع أن نقول: إنّ أهل الحل والعقد لا بُدَّ وأن يتمَّ انتخابهم انتخابًا مباشرًا من قِبَلِ الأمَّة.

وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْكُوفَةِ: تَنْعَقِدُ بِثَلَاثَةٍ يَتَوَلَّاهَا أَحَدُهُمْ بِرِضَا الِاثْنَيْنِ لِيَكُونُوا حَاكِمًا وَشَاهِدَيْنِ، كَمَا يَصِحُّ عَقْدُ النِّكَاحِ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: تَنْعَقِدُ بِوَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْعَبَّاسَ قَالَ لِعَلِيٍّ -رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا: اُمْدُدْ يَدَكَ أُبَايِعْكَ، فَيَقُولُ النَّاسُ: عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَايَعَ ابْنَ عَمِّهِ، فَلَا يَخْتَلِفُ عَلَيْكَ اثْنَانِ، وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ وَحُكْمُ وَاحِدٍ نَافِذٌ.

_ 1 قلت: وهذا كلام غريب وعجيب ينبغي الوقوف أمامه طويلًا؛ لبيان ما به من مخالفات لروح الشريعة الإسلامية، فما يدَّعيه البعض من أنَّ الخلافة تنعقد بستة أو بخمسة، أو حتى بواحد، كلام لا يقبل شرعًا ولا عقلًا. فكيف نجيز لواحد أو خمسة أو ستة من أفراد الأمَّة، أو حتى عدة آلاف أن تعقد الإمامة لفردٍ ما دون الرجوع لرأي الأمة؟. ثم إنَّ الخلافة لم تنعقد لأبي بكر بخمسة كما يدَّعي القائلون بذلك، ولم تنعقد لعثمان بستة كما يزعمون، فما فعله الخمسة في بيعة أبي بكر، أو الستة في بيعة عثمان لم تنعقد به الإمامة، إنَّما انعقدت بالبيعة العامَّة التي تمَّت بعد ذلك من جموع أفراد الأمة. وعلى ذلك: فلا وزن لتلك المقولات التي ساقها بعض الفقهاء في عصور الضَّعف الإسلامي، والتي تقوي نفوذ الحكَّام، وتهوّن من شأن الأمَّة وأهل الحلِّ والعقد في الأمور السياسية. فابن جماعة -مثلًا- وجدناه يفتح الباب على مصراعيه أمام أهل النفوذ والقوة المسيطرين على البلاد، ليطلبوا ما ليس لهم، ويجعل من ذلك حقًّا شرعيًّا!. يقول ابن جماعة: "إن خلا الوقت من إمام فتصدَّى لها -يعني الإمامة- من ليس من أهلها، وقهر الناس بشوكته وجنوده بغير بيعة أو استخلاف، انعقدت بيعته، ولزمت طاعته؛ لينتظم شمل المسلمين، ولا يقدح في إمامته كونه فاسقًا أو جاهلًا، ما دام قد تمَّت له الغلبة". ليس هذا فحسب، بل إنَّه يذهب إلى أكثر من هذا فيقول: "وإذا انعقدت الإمامة بالشوكة والغلبة لواحد، ثم قام آخر فقهر الأول بشوكته وجنوده، انعزل الأول، وصار الثاني إمامًا، لما قدمناه من مصلحة المسلمين وجمع كلمتهم". كما كانت أفكار الوزير السلجوقي "نظام الملك"، من أبعد تلك الأفكار عن روح الإسلام في مسألة الحكم؛ إذ يقول: "إن السلطان تختاره العناية الإلهية مباشرة، وإنه مسئول مباشرة أمام الله". ثم وجدناه هذه الأفكار التي صدرت عن نظام الملك تنتقل إلى الأندلس عن طريق محمد بن الوليد الطرطوشي، الذي يقول: "إنَّ حق السلطان في الحكم صادر عن إرادة الله، ومن ثَمَّ فهو ليس موضع مناقشة قط، وهناك بيان أو عهد بين الله تعالى والملوك، يُلْزِم الحاكم بمعاملة رعاياهم بالعدل والإنصاف والإحسان، أمَّا الحاكم الظالم فهو يعتبره بمثابة عقوبة من الله تعالى قدرَّها على عباده، جزاءً لهم على عصيانهم، ولذلك كان لزامًا عليهم أن يتحمَّلوا حكمه". فهذه الأفكار وأمثالها التي تغثّ بها بعض الكتب القديمة والحديثة على السواء أفكار انهزامية، أصدرها أصحابها في محاولةٍ منهم لجمع كلمة المسلمين، وللتوفيق بين المصلحة العامَّة من حفظٍ لدماء المسلمين، والحفاظ على وحدتهم من التفرُّق والتشتت، وبين الشريعة. وعلى أيِّ حالٍ فهي -كما قلنا- لا تعتبر سوابق دستورية ولا فتاوى يتَّكِأُ عليها اليوم أو غدًا، ذلك أنَّ لكل عصرٍ خصوصيته وظروفه.

فصل: "في وجوب اختيار الأصلح"

فصل: "في وجوب اختيار الأصلح" فَإِذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ الْعَقْدِ وَالْحَلِّ لِلِاخْتِيَارِ تَصَفَّحُوا أَحْوَالَ أَهْلِ الْإِمَامَةِ الْمَوْجُودَةِ فِيهِمْ شُرُوطُهَا، فَقَدَّمُوا لِلْبَيْعَةِ مِنْهُمْ أَكْثَرَهُمْ فَضْلًا وَأَكْمَلَهُمْ شُرُوطًا، وَمَنْ يُسْرِعُ النَّاسُ إلَى طَاعَتِهِ، وَلَا يَتَوَقَّفُونَ عَنْ بَيْعَتِهِ، فَإِذَا تَعَيَّنَ لَهُمْ مِنْ بَيْنِ الْجَمَاعَةِ مَنْ أَدَّاهُمْ الِاجْتِهَادُ إلَى اخْتِيَارِهِ عَرَضُوهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ أَجَابَ إلَيْهَا بَايَعُوهُ عَلَيْهَا، وَانْعَقَدَتْ بِبَيْعَتِهِمْ لَهُ الْإِمَامَةُ1، فَلَزِمَ كَافَّةَ

_ 1 قلت: كلَّا والله لم تنعقد إلَّا بعد بيعة غالبية الأمة له، فبيعة أبي بكر -رضي الله عنه- لم تتمّ إلّا بعد مبايعة غالبية أهل المدينة، وكذلك مبايعة غالبية باقي الأمصار. يقول الدكتور فهمي عبد الجليل: "فبيعة أبي بكر -رضي الله عنه- حدثت في مجلسٍ ضمَّ عامَّة الأنصار، وهم أكثرية أهل المدينة، وإذا كانت الخلاصة قد سبقت إلى بيعته، فإنَّ بيعة العامَّة من الحاضرين لمجلس السقيفة هي التي أعطت الشرعية لهذه البيعة". كذلك كان اختيار أبي بكر لعمر للخلافة من بعده بناءً على موافقة الأمَّة، فقد روي أنه -رضي الله عنه- قال: "أترضون بمن أستخلف عليكم، فقالوا جميعًا: سمعنا وأطعنا". وكذلك كان اختيار عثمان بن عفان -رضي الله عنه- بناءً على اختيار الأمَّة، فكان عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- يسأل قبل أن يعلن عن الخليفة الذي تَمَّ اختياره من الأمَّة. يقول الإمام السيوطي: "بويع بالخلافة -أي: عثمان- بعد دفن عمر بثلاث ليالٍ، فروي أنَّ الناس كانوا يجتمعون في تلك الأيام إلى عبد الرحمن بن عوف يشاورونه ويناجونه، فلا يخلو به رجل ذو رأي فيعدل بعثمان أحدًا، ولمَّا جلس عبد الرحمن للمبايعة، حمد الله وأثنى عليه وقال في كلامه: إنِّي رأيت الناس يأبون إلّا عثمان. ثم جاءت بيعة علي -رضي الله عنه- بناءً على اختيار الأمة؛ لتؤكِّد على دور العامَّة في اختيار من يمثِّلها، سواء كان الخليفة أو أهل الشورى أو غير ذلك.

الْأُمَّةِ الدُّخُولُ فِي بَيْعَتِهِ وَالِانْقِيَادُ لِطَاعَتِهِ، وَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ الْإِمَامَةِ وَلَمْ يُجِبْ إلَيْهَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا عَقْدُ مُرَاضَاةٍ وَاخْتِيَارٍ لَا يَدْخُلُهُ إكْرَاهٌ وَلَا إجْبَارٌ، وَعُدِلَ عَنْهُ إلَى مَنْ سِوَاهُ مِنْ مُسْتَحِقِّيهَا. فَلَوْ تَكَافَأَ فِي شُرُوطِ الْإِمَامَةِ اثْنَانِ قُدِّمَ لَهَا اخْتِيَارًا أَسَنُّهُمَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ زِيَادَةُ السِّنِّ مَعَ كَمَالِ الْبُلُوغِ شَرْطًا، فَإِنْ بُويِعَ أَصْغَرُهُمَا سِنًّا جَازَ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَعْلَمَ وَالْآخَرُ أَشْجَعَ رُوعِيَ فِي الِاخْتِيَارِ مَا يُوجِبُهُ حُكْمُ الْوَقْتِ، فَإِنْ كَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى فَضْلِ الشَّجَاعَةِ أَدْعَى لِانْتِشَارِ الثُّغُورِ وَظُهُورِ الْبُغَاةِ كَانَ الْأَشْجَعُ أَحَقَّ، وَإِنْ كَانَتِ الْحَاجَةُ إلَى فَضْلِ الْعِلْمِ أَدْعَى لِسُكُونِ الدَّهْمَاءِ وَظُهُورِ أَهْلِ الْبِدَعِ كَانَ الْأَعْلَمُ أَحَقَّ، فَإِنْ وَقَفَ الِاخْتِيَارُ عَلَى وَاحِدٍ مِنِ اثْنَيْنِ فَتَنَازَعَاهَا، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إنَّ التَّنَازُعَ فِيهَا لَا يَكُونُ قَدْحًا مَانِعًا. وَلَيْسَ طَلَبُ الْإِمَامَةِ مَكْرُوهًا، فَقَدْ تَنَازَعَ فِيهَا أَهْلُ الشُّورَى، فَمَا رُدَّ عَنْهَا طَالِبٌ، وَلَا مُنِعَ مِنْهَا رَاغِبٌ، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُقْطَعُ بِهِ تَنَازُعُهُمَا مَعَ تَكَافُؤِ أَحْوَالِهِمَا، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا وَيُقَدَّمُ مَنْ قَرَعَ مِنْهُمَا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ يَكُونُ أَهْلُ الِاخْتِيَارِ بِالْخِيَارِ فِي بَيْعَةِ أَيِّهِمَا شَاءُوا1 مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ، فلو

_ أقول: ويمكن الجمع بين قول من يقول باختيار من يمثل الأمة عن طريق أهل الحل والعقد، وبين من يرون الاختيار المباشر عن طريق الأمة، وذلك أن يتمّ الترشيح الأوليّ عن طريق أهل الحل والعقد الذين يستطيعون إنزال الناس منازلهم، ثم يعرض هذا الترشيح على الأمَّة لتختار من هذه الترشيحات ما تريد. 2 قلت: بل يرجع في ذلك إلى رأي الأمَّة لتختار من يتولَّى هذا المنصب الجليل، فالشعب وحده هو صاحب الحقِّ في اختيار الحاكم، ولا يحقّ لأحد مهما بلغت قوته ونفوذه الافتئات على الشعب، فيقوم باختيار الحاكم وتوليته من تلقاء نفسه، ومن يفعل ذلك فقد تعدَّ حدوده وخان هذه الأمة. ولعلَّ هذا ما لفت إليه الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وأرضاه الأنظار حين سمع من يقول: لو مات أمير المؤمنين لبايعت فلانًا، فقال عمر معترضًا ومؤكدًا على مبدأ سيادة الشعب: "إني لقائم العشية في الناس فمحذّرهم من هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغصبوا الناس أمرهم". غير أنَّ هناك من يرى أنَّ أهل الشورى الذين يُنَاط بهم اختيار الحاكم هم أهل الحل والعقد وحدهم وليس عامَّة الشعب، ومن هؤلاء المعتزلة الذين يرون أنَّ العامة لا تصلح لذلك، وها هو ذا أحد مفكريهم يقول: "إنَّ العامة لا تعرف معنى الإمامة ولا تأويل الخلافة، ولا تفصل بين فضل وجودها =

تَعَيَّنَ لِأَهْلِ الِاخْتِيَارِ وَاحِدٌ هُوَ أَفْضَلُ الْجَمَاعَةِ فَبَايَعُوهُ عَلَى الْإِمَامَةِ، وَحَدَثَ بَعْدَهُ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ انْعَقَدَتْ بِبَيْعَتِهِمْ إمَامَةُ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ؛ وَلَوْ ابْتَدَءُوا بَيْعَةَ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِعُذْرٍ دَعَا إلَيْهِ مِنْ كَوْنِ الْأَفْضَلِ غَائِبًا أَوْ مَرِيضًا، أَوْ كَوْنِ الْمَفْضُولِ أَطْوَعَ فِي النَّاسِ وَأَقْرَبَ فِي الْقُلُوبِ، انْعَقَدَتْ بَيْعَةُ الْمَفْضُولِ وَصَحَّتْ إمَامَتُهُ. وَإِنْ بُويِعَ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي انْعِقَادِ بَيْعَتِهِ وَصَحَّتْ إمَامَتُهُ؛ فَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ الْجَاحِظُ إلَى أَنَّ بَيْعَتَهُ لَا تَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ إذَا دَعَا إلَى أَوْلَى الْأَمْرَيْنِ لَمْ يَجُزِ الْعُدُول عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ مِمَّا لَيْسَ بِأَوْلَى كَالِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. وَقَالَ الْأَكْثَرُ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ: تَجُوزُ إمَامَتُهُ وَصَحَّتْ بَيْعَتُهُ، وَلَا يَكُونُ وُجُودُ الْأَفْضَلِ مَانِعًا مِنْ إمَامَةِ الْمَفْضُولِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُقَصِّرًا عَنْ شُرُوطِ الْإِمَامَةِ، كَمَا يَجُوزُ فِي وِلَايَةِ الْقَضَاءِ تَقْلِيدُ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْفَضْلِ مُبَالَغَةٌ فِي الِاخْتِيَارِ، وَلَيْسَتْ مُعْتَبَرَةً فِي شُرُوطِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَلَوْ تَفَرَّدَ فِي الْوَقْتِ بِشُرُوطِ الْإِمَامَةِ وَاحِدٌ لَمْ يُشْرِكَ فِيهَا غَيْرُهُ تَعَيَّنَتْ فِيهِ الْإِمَامَةُ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْدَلَ بِهَا عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ1.

_ = ونقص عدمها، ولأي شيء ارتدت، ولأي أمر أمَّلت، وكيف مأتاها والسبيل إليها، بل هي مع كل ريح تهب وناشئة تنجم، ولعلها بالمتطلبة أقر عينًا منها بالمحقين"، فأهل الشورى في نظر هذا الفريق هم: "خواص الطبقة العليا في الأمَّة الذين أمر الله -عز شأنه- نبيه بمشاورتهم في الأمر، الذين لهم شرعًا حق الاحتساب والسيطرة على الإمام والعمَّال؛ لأنهم رؤساء الأمة وكلاء العامة". أقول: وإنَّ من يرى هذا الرأي منَ المعتزلة ومن وافقهم يرون أنَّ العامة لا تصلح لاختيار الحاكم، وأنها ليست مؤهَّلة لذلك. إذًا فمن يختار أهل الشورى؟ إن قالوا: الشعب أو العامَّة ناقضوا أنفسهم، وإن قالوا: الحاكم، قلنا: فما أهمية الشورى إذا كان الحاكم هو الذي يختار أهل مشورته؟!. "وهذا ما فهمه المسلمون حين أخَّروا عليَّ بن أبي طالب ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وزوج فاطمة الزهراء وهو أقرب الناس إلى قلب وفؤاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأقربهم نسبًا وصهرًا إليه، وإذا كان علي بن أبي طالب قد غبن في تأخيره -وبخاصة بعد استشهاد عمر- إلّا أنَّ هذا التأخير كان له الفضل في التقدير العلمي لنظرية الإسلام ومبادئه في الحكم، حتى تكون بعيدةً عن شبهة الوراثة التي هي أبعد شيء عن روح الإسلام ومبادئه". 1 يقول الدكتور السنهوري: ففي الفرض الأوَّل، أي: إذا كان هناك عذر مبرّر لترك الأفضل، يكون في =

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ثُبُوتِ إمَامَتِهِ وَانْعِقَادِ وِلَايَتِهِ بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلَا اخْتِيَارٍ؛ فَذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ إلَى ثُبُوتِ وِلَايَتِهِ وَانْعِقَادِ إمَامَتِهِ، وَحَمْلِ الْأُمَّةِ عَلَى طَاعَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْقِدْهَا أَهْلُ الِاخْتِيَارِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الِاخْتِيَارِ تَمْيِيزُ الْمُوَلَّى وَقَدْ تَمَيَّزَ هَذَا بِصِفَتِهِ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إلَى أَنَّ إمَامَتَهُ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِالرِّضَا وَالِاخْتِيَارِ، لَكِنْ يَلْزَمُ أَهْلَ الِاخْتِيَارِ عَقْدُ الْإِمَامَةِ لَهُ، فَإِنْ اتَّفَقُوا أَتَمُّوا؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ عَقْدٌ لَا يَتِمُّ إلَّا بِعَاقِدٍ، وَكَالْقَضَاءِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ إلَّا وَاحِدٌ لَمْ يَصِرْ قَاضِيًا حَتَّى يُوَلَّاهُ؛ فَرَكَّبَ بَعْضُ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ الْمَذْهَبِ هَذَا الْبَابَ وَقَالَ: يَصِيرُ قَاضِيًا إذَا تَفَرَّدَ بِصِفَتِهِ كَمَا يَصِيرُ الْمُنْفَرِدُ بِصِفَتِهِ إمَامًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَصِيرُ الْمُنْفَرِدُ قَاضِيًا وَإِنْ صَارَ الْمُنْفَرِدُ إمَامًا، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْقَضَاءَ نِيَابَةٌ خَاصَّةٌ يَجُوزُ صَرْفُهُ عَنْهُ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى صِفَتِهِ، فَلَمْ تَنْعَقِدْ وِلَايَتُهُ إلَّا بِتَقْلِيدِ مُسْتَنِيبٍ لَهُ، وَالْإِمَامَةُ مِنَ الْحُقُوقِ الْعَامَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، لَا يَجُوزُ صَرْفُ مَنِ اسْتَقَرَّتْ فِيهِ إذَا كَانَ عَلَى صِفَةٍ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ تَقْلِيدُ مُسْتَحِقِّهَا مَعَ تَمَيُّزِهِ إلَى عَقْدٍ مُسْتَثْبَتٍ لَهُ.

_ = حكم غير الموجود؛ لوجود سبب كافٍ لتفضيل من هو أقل منه، ولكنَّ الفرض الثاني هو الذي تتعارض فيه النظريتان؛ فالفقهاء الذين يرون أنَّ بيعة المفضول تكون غير صحيحة ولا تنعقد بها الإمامة، يظهر أنَّهم يقولون بنظرية الصفة الكاشفة للانتخاب، أمَّا الذين يقولون بالعكس، وهم أغلبية الفقهاء والمتكلمين -كما ذكر الماوردي- فيرون الانتخاب تصرف منشئ. "فقه الخلافة وتطورها: ص109".

فصل: "في البيعة لخليفتين في وقت واحد"

فصل: "في البيعة لخليفتين في وقت واحد" وَإِذَا عُقِدَتِ الْإِمَامَةُ لِإِمَامَيْنِ فِي بَلَدَيْنِ لَمْ تَنْعَقِدْ إمَامَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْأُمَّةِ إمَامَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ شَذَّ قَوْمٌ فَجَوَّزُوهُ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْإِمَامِ مِنْهُمَا؛ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ الَّذِي عُقِدَتْ لَهُ الْإِمَامَةُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ مَنْ تَقَدَّمَهُ؛ لِأَنَّهُمْ بِعَقْدِهَا أَخَصُّ، وَبِالْقِيَامِ بِهَا أَحَقُّ، وَعَلَى كَافَّةِ الْأُمَّةِ فِي الْأَمْصَارِ كُلِّهَا أَنْ يُفَوِّضُوا عَقْدَهَا إلَيْهِمْ، وَيُسَلِّمُوهَا لِمَنْ بَايَعُوهُ لِئَلَّا يَنْتَشِرَ الْأَمْرُ بِاخْتِلَافِ الْآرَاءِ وَتَبَايُنِ الْأَهْوَاءِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَدْفَعَ الْإِمَامَةَ عَنْ نَفْسِهِ وَيُسَلِّمَهَا إلَى صَاحِبِهِ طَلَبًا لِلسَّلَامَةِ وَحَسْمًا لِلْفِتْنَةِ؛ لِيَخْتَارَ أَهْلُ الْعَقْدِ أَحَدَهُمَا أَوْ غَيْرَهُمَا، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا دَفْعًا لِلتَّنَازُعِ وَقَطْعًا لِلتَّخَاصُمِ، فَأَيُّهُمَا قَرَعَ كَانَ بِالْإِمَامَةِ أَحَقَّ. وَالصَّحِيحُ فِي ذَلِكَ وَمَا عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ الْإِمَامَةَ لِأَسْبَقِهِمَا بَيْعَةً وَعَقْدًا، كَالْوَلِيَّيْنِ فِي نِكَاحِ الْمَرْأَةِ إذَا زَوَّجَاهَا بِاثْنَيْنِ كَانَ النِّكَاحُ لِأَسْبَقِهِمَا عَقْدًا. فَإِذَا تَعَيَّنَ السَّابِقُ مِنْهُمَا اسْتَقَرَّتْ لَهُ الْإِمَامَةُ، وَعَلَى الْمَسْبُوقِ تَسْلِيمُ الْأَمْرِ إلَيْهِ وَالدُّخُولُ فِي بَيْعَتِهِ، وَإِنْ عُقِدَتْ الْإِمَامَةُ لَهُمَا فِي حَالٍ وَاحِدٍ لَمْ يَسْبِقْ بِهَا أَحَدُهُمَا فَسَدَ الْعَقْدَانِ وَاسْتُؤْنِفَ الْعَقْدُ لِأَحَدِهِمَا أَوْ لِغَيْرِهِمَا، وَإِنْ تَقَدَّمَتْ بَيْعَةُ أَحَدِهِمَا وَأَشْكَلَ الْمُتَقَدِّمُ مِنْهُمَا وَقَفَ أَمْرُهُمَا عَلَى الْكَشْفِ، فَإِنْ تنَازَعَاهَا وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ الْأَسْبَقُ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ وَلَمْ يَحْلِفْ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْحَقِّ فِيهَا، وَإِنَّمَا هُوَ حَقُّ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا، فَلَا حُكْمَ لِيَمِينِهِ فِيهِ وَلَا لِنُكُولِهِ عَنْهُ، وَهَكَذَا لَوْ قَطَعَ التَّنَازُعَ فِيهَا وَسَلَّمَهَا أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ لَمْ تَسْتَقِرَّ إمَامَتُهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِتَقَدُّمِهِ، وَلَوْ أَقَرَّ لَهُ بِالتَّقَدُّمِ خَرَجَ مِنْهَا الْمُقِرُّ وَلَمْ تَسْتَقِرَّ لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ شَهِدَ لَهُ الْمُقِرُّ بِتَقَدُّمِهِ فِيهَا مَعَ شَاهِدٍ آخَرَ سُمِعَتْ شَهَادَتُهُ إنْ ذَكَرَ اشْتِبَاهَ الْأَمْرِ عَلَيْهِ عِنْدَ التَّنَازُعِ، وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ إنْ لَمْ يَذْكُرِ الِاشْتِبَاهَ لِمَا فِي الْقَوْلَيْنِ مِنْ التَّكَاذُبِ.

فصل: "هل يقرع بين مرشحين للخلافة"؟

فَصْلٌ: "هل يقرع بين مرشحين للخلافة"؟ وَإِذَا دَامَ الِاشْتِبَاهُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الْكَشْفِ وَلَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ لِأَحَدِهِمَا بِالتَّقَدُّمِ لَمْ يُقْرَعْ بَيْنَهُمَا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْإِمَامَةَ عَقْدٌ، وَالْقُرْعَةُ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْعُقُودِ. وَالثَّانِي: إنَّ الْإِمَامَةَ لَا يَجُوزُ الِاشْتِرَاكُ فِيهَا، وَالْقُرْعَةُ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِيمَا لَا يَصِحُّ الِاشْتِرَاكُ فِيهِ كَالْمُنَاكِحِ، وَتَدْخُلُ فِيمَا يَصِحُّ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ كَالْأَمْوَالِ، وَيَكُونُ دَوَامُ هَذَا الِاشْتِبَاهِ مُبْطِلًا لِعَقْدَيْ الْإِمَامَةِ فِيهِمَا، وَيَسْتَأْنِفُ أَهْلُ الِاخْتِيَارِ عَقْدَهَا لِأَحَدِهِمَا، فَلَوْ أَرَادُوا الْعُدُولَ بِهَا عَنْهُمَا إلَى غَيْرِهِمَا، فَقَدْ قِيلَ بِجَوَازِهِ لِخُرُوجِهِمَا عَنْهَا، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَةَ لَهُمَا قَدْ صَرَفَتِ الْإِمَامَةَ عَمَّنْ عَدَاهُمَا؛ وَلِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَهَا فِي أَحَدِهِمَا.

فصل: "هل تنعقد الخلافة بولاية العهد"

فصل: "هل تنعقد الخلافة بولاية العهد"؟ وَأَمَّا انْعِقَادُ الْإِمَامَةِ بِعَهْدِ مَنْ قَبْلَهُ فَهُوَ مِمَّا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِهِ، وَوَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى صِحَّتِهِ؛ لِأَمْرَيْنِ عَمِلَ الْمُسْلِمُونَ بِهِمَا وَلَمْ يَتَنَاكَرُوهُمَا: أَحَدُهُمَا: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَهِدَ بِهَا إلَى عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَأَثْبَتَ الْمُسْلِمُونَ إمَامَتَهُ بِعَهْدِهِ1.

_ 1 قلت: الثابت تاريخيًّا أن أبا بكر -رضي الله عنه- إنَّمَا رجع إلى أهل الحل والعقد في هذا الأمر وسألهم إن كانوا يرضون من يوليه عليهم فوافقوا جميعًا، لا أنه ولَّى عمر كما يزعم البعض ثم قبلت الأمة، فقد روي أنَّ أبا بكر لمَّا ثقل عليه المرض دعا عبد الرحمن بن عوف فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب؟ فقال: ما تسألني عن أمرٍ إلّا وأنت أعلم به منِّي، فقال أبو بكر: وإن. فقال عبد الرحمن بن عوف: هو والله أفضل من رأي كثير، ثم دعا عثمان بن عفان فقال: أخبرني عن عمر، فقال: أنت أخبرنا به. فقال: على ذلك؟ فقال: اللهم علمي به أنَّ سريرته خير من علانيته، وأن ليس فينا مثله، وشاور معهما سعيد بن زيد، وأسيد بن حضير، وغيرهما من المهاجرين والأنصار.

وَالثَّانِي: أَنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَهِدَ بِهَا إلَى أَهْلِ الشُّورَى، فَقَبِلَتْ الْجَمَاعَةُ دُخُولَهُمْ فِيهَا، وَهُمْ أَعْيَانُ الْعَصْرِ اعْتِقَادًا لِصِحَّةِ الْعَهْدِ بِهَا، وَخَرَجَ بَاقِي الصَّحَابَةِ مِنْهَا، وَقَالَ عَلِيٌّ لِلْعَبَّاسِ -رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا- حِينَ عَاتَبَهُ عَلَى الدُّخُولِ فِي الشُّورَى: كَانَ أَمْرًا عَظِيمًا مِنْ أُمُورِ الْإِسْلَامِ لَمْ أَرَ لِنَفْسِي الْخُرُوجَ مِنْهُ، فَصَارَ الْعَهْدُ بِهَا إجْمَاعًا فِي انْعِقَادِ الْإِمَامَةِ، فَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَعْهَدَ بِهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يُجْهِدَ رَأْيَهُ فِي الْأَحَقِّ بِهَا، وَالْأَقْوَمِ بِشُرُوطِهَا، فَإِذَا تَعَيَّنَ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِي وَاحِدٍ نَظَرَ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَدًا وَلَا وَالِدًا جَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعَقْدِ الْبَيْعَةِ لَهُ، وَبِتَفْوِيضِ الْعَهْدِ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَشِرْ فِيهِ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ، لَكِنِ اخْتَلَفُوا: هَلْ يَكُونُ ظُهُورُ الرِّضَا مِنْهُمْ شَرْطًا فِي انْعِقَادِ بَيْعَتِهِ أَوْ لَا؟ فَذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ إلَى أَنَّ رِضَا أَهْلِ الِاخْتِيَارِ لِبَيْعَتِهِ شَرْطٌ فِي لُزُومِهَا لِلْأُمَّةِ؛ لِأَنَّهَا حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِهِمْ، فَلَمْ تَلْزَمْهُمْ إلَّا بِرِضَا أَهْلِ الِاخْتِيَارِ مِنْهُمْ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ بَيْعَتَهُ مُنْعَقِدَةٌ وَأَنَّ الرِّضَا بِهَا غَيْرُ مُعْتَبَر1ٍ؛ لِأَنَّ بَيْعَةَ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لَمْ تَتَوَقَّفْ عَلَى رِضَا الصَّحَابَةِ؛ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ أَحَقُّ بِهَا، فَكَانَ اخْتِيَارُهُ فِيهَا أَمْضَى، وَقَوْلُهُ فِيهَا أَنْفَذَ؛ وَإِنْ كَانَ وَلِيُّ الْعَهْدِ وَلَدًا أَوْ وَالِدًا فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ انْفِرَادِهِ بِعَقْدِ الْبَيْعَةِ لَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعَقْدِ الْبَيْعَةِ لِوَلَدٍ وَلَا لِوَالِدٍ حَتَّى يُشَاوِرَ فِيهِ أَهْلَ الِاخْتِيَارِ فَيَرَوْنَهُ أَهْلًا لَهَا، فَيَصِحُّ مِنْهُ حِينَئِذٍ عَقْدُ الْبَيْعَةِ لَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ تَزْكِيَةٌ لَهُ تَجْرِي مَجْرَى الشَّهَادَةِ، وَتَقْلِيدُهُ عَلَى الْأُمَّةِ يَجْرِي مَجْرَى الْحُكْمِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لِوَالِدٍ وَلَا لِوَلَدٍ وَلَا يَحْكُمَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلتُّهْمَةِ الْعَائِدَةِ إلَيْهِ بِمَا جُبِلَ مِنَ الْمَيْلِ إلَيْهِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعَقْدِهَا لِوَلَدٍ وَوَالِدٍ؛ لِأَنَّهُ أَمِيرُ الْأُمَّةِ نَافِذُ الْأَمْرِ لَهُمْ

_ 1 قلت: وهذا الكلام من المصنّف مردود عليه؛ إذ إنَّ أبا بكر لم يعهد بالخلافة إلى عمر إلّا بعد مشاورات وموافقات من الصحابة كما قدَّمنا، كما أنَّ عمر حين حدَّد من حدَّد من الصحابة لاختيار الخليفة من بينهم، إنَّمَا اختار أولئك الذين لا يختلف عليهم اثنان من الصحابة على أنهم الأفضل والأصلح، بل كانوا هم أهل الحل والعقد والمشورة في حياة الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم، وحياة أبي بكر وعمر من بعده. وعليه: فإنَّ ما نراه أنَّ موافقة الأمة على تولية الخليفة لولي العهد أمر لا بُدَّ منه لتصحَّ ولاية العهد.

وَعَلَيْهِمْ فَغَلَبَ حُكْمُ الْمَنْصِبِ عَلَى حُكْمِ النَّسَبِ وَلَمْ يَجْعَلْ لِلتُّهْمَةِ طَرِيقًا عَلَى أَمَانَتِهِ وَلَا سَبِيلًا إلَى مُعَارَضَتِهِ وَصَارَ فِيهَا كَعَهْدِهِ بِهَا إلَى غَيْرِ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ، وَهَلْ يَكُونُ رِضَا أَهْلِ الِاخْتِيَارِ بَعْدَ صِحَّةِ الْعَهْدِ مُعْتَبَرًا فِي لُزُومِهِ لِلْأُمَّةِ أَوْ لَا؟ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعَقْدِ الْبَيْعَةِ لِوَالِدِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهَا لِوَلَدِهِ؛ لِأَنَّ الطَّبْعَ يَبْعَثُ عَلَى مُمَايَلَةِ الْوَلَدِ أَكْثَرُ مِمَّا يَبْعَثُ عَلَى مُمَايَلَةِ الْوَالِدِ، وَلِذَلِكَ كَانَ كُلُّ مَا يَقْتَنِيهِ فِي الْأَغْلَبِ مَذْخُورًا لِوَلَدِهِ دُونَ وَالِدِهِ؛ فَأَمَّا عَقْدُهَا لِأَخِيهِ وَمَنْ قَارَبَهُ مِنْ عَصَبَتِهِ وَمُنَاسِبِيهِ، فَكَعَقْدِهَا لِلْبُعَدَاءِ الْأَجَانِبِ فِي جَوَازِ تَفَرُّدِهِ بِهَا.

فصل: "في عهد الخليفة بالخلافة إلى من يلي بعده"

فصل: "في عهد الخليفة بالخلافة إلى من يلي بعده" وَإِذَا عَهِدَ الْإِمَامُ بِالْخِلَافَةِ إلَى مَنْ يَصِحُّ الْعَهْدُ إلَيْهِ عَلَى الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِ، كَانَ الْعَهْدُ مَوْقُوفًا عَلَى قَبُولِ الْمُوَلَّى1. وَاخْتُلِفَ فِي زَمَانِ قَبُولِهِ فَقِيلَ: بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَلِّي فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَصِحُّ فِيهِ نَظَرُ الْمُوَلَّى؛ وَقِيلَ -وَهُوَ الْأَصَحُّ: إنَّهُ مَا بَيْنَ عَهْدِ الْمُوَلِّي وَمَوْتِهِ لِتَنْتَقِلَ عَنْهُ الْإِمَامَةُ إلَى الْمُوَلَّى مُسْتَقِرَّةً بِالْقَبُولِ الْمُتَقَدِّمِ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ الْمُوَلَّى عَزْلُ مَنْ عَهِدَ إلَيْهِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ وَإِنْ جَازَ لَهُ عَزْلُ مَنِ اسْتَنَابَهُ مِنْ سَائِرِ خُلَفَائِهِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَخْلِفٌ لَهُمْ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، فَجَازَ لَهُ عَزْلُهُمْ، وَمُسْتَخْلِفٌ لِوَلِيِّ عَهْدِهِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَزْلُهُ، كَمَا لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ الِاخْتِيَارِ عَزْلُ مَنْ بَايَعُوهُ إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ، فَلَوْ عَهِدَ الْإِمَامُ بَعْدَ عَزْلِ الْأَوَّلِ إلَى ثَانٍ كَانَ عَهْدُ الثَّانِي بَاطِلًا وَالْأَوَّلُ عَلَى بَيْعَتِهِ، فَإِنْ خَلَعَ الْأَوَّلُ نَفْسَهُ لَمْ يَصِحَّ بَيْعَةُ الثَّانِي حَتَّى يَبْتَدِئَ. وَإِذَا اسْتَعْفَى وَلِيُّ الْعَهْدِ لَمْ يَبْطُلْ عَهْدُهُ بِالِاسْتِعْفَاءِ حَتَّى يُعْفَى لِلُزُومِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُوَلَّى ثُمَّ نُظِرَ، فَإِنْ وُجِدَ غَيْرُهُ جَازَ اسْتِعْفَاؤُهُ وَخَرَجَ مِنْ الْعَهْدِ بِإِجْمَاعِهِمَا عَلَى الِاسْتِعْفَاءِ وَالْإِعْفَاءِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ لَمْ يَجُزْ اسْتِعْفَاؤُهُ وَلَا إعْفَاؤُهُ، وَكَانَ الْعَهْدُ عَلَى لُزُومِهِ مِنْ جِهَتَيْ الْمُوَلَّى

_ 1 قلت: هكذا وبكل غرابة جعل المصنِّف الأمر محصورًا في عهد الإمام وقبول المولَّى، وكأنَّ الأمة لا دخل لها في الأمر!!.

وَالْمُوَلِّي؛ وَيُعْتَبَرُ شُرُوطُ الْإِمَامَةِ فِي الْمُوَلَّى مِنْ وَقْتِ الْعَهْدِ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ فَاسِقًا وَقْتَ الْعَهْدِ وَبَالِغًا عَدْلًا عِنْدَ مَوْتِ الْمُوَلِّي لَمْ تَصِحَّ خِلَافَتُهُ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ أَهْلُ الِاخْتِيَارِ بَيْعَتَهُ. وَإِذَا عَهِدَ الْإِمَامُ إلَى غَائِبٍ هُوَ مَجْهُولُ الْحَيَاةِ لَمْ يَصِحَّ عَهْدُهُ؛ وَإِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْحَيَاةِ وَكَانَ مَوْقُوفًا عَلَى قُدُومِهِ؛ فَإِنْ مَاتَ الْمُسْتَخْلِفُ وَوَلِيُّ الْعَهْدِ عَلَى غَيْبَتِهِ اسْتَقْدَمَهُ أَهْلُ الِاخْتِيَارِ، فَإِنْ بَعُدَتْ وَاسْتَضَرَّ الْمُسْلِمُونَ بِتَأْخِيرِ النَّظَرِ فِي أُمُورِهِمْ اسْتَنَابَ أَهْلُ الِاخْتِيَارِ نَائِبًا عَنْهُ يُبَايِعُونَهُ بِالنِّيَابَةِ دُونَ الْخِلَافَةِ، فَإِذَا قَدِمَ الْخَلِيفَةُ الْغَائِبُ انْعَزَلَ الْمُسْتَخْلَفُ النَّائِبُ، وَكَانَ نَظَرُهُ قَبْلَ قُدُومِ الْخَلِيفَةِ مَاضِيًا، وَبَعْدَ قُدُومِهِ مَرْدُودًا، وَلَوْ أَرَادَ وَلِيُّ الْعَهْدِ قَبْلَ مَوْتِ الْخَلِيفَةِ أَنْ يَرُدَّ مَا إلَيْهِ مِنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ إلَى غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَةَ لَا تَسْتَقِرُّ لَهُ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ الْمُسْتَخْلِفِ؛ وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: جَعَلْتُهُ وَلِيَّ عَهْدِي إذَا أَفْضَتْ الْخِلَافَةُ إلَيَّ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَالِ لَيْسَ خَلِيفَةً، فَلَمْ يَصِحَّ عَهْدُهُ بِالْخِلَافَةِ. وَإِذَا خَلَعَ الْخَلِيفَةُ نَفْسَهُ انْتَقَلَتْ إلَى وَلِيِّ عَهْدِهِ، وَقَامَ خَلْعُهُ مَقَامَ مَوْتِهِ، وَلَوْ عَهِدَ الْخَلِيفَةُ إلَى اثْنَيْنِ لَمْ يُقَدِّمْ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ جَازَ، وَاخْتَارَ أَهْلُ الِاخْتِيَارِ أَحَدَهُمَا بَعْدَ مَوْتِهِ كَأَهْلِ الشُّورَى، فَإِنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- جَعَلَهَا فِي سِتَّةٍ. حَكَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَجَدْتُ عُمَرَ ذَاتَ يَوْمٍ مَكْرُوبًا، فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا أَصْنَعُ فِي هَذَا الْأَمْرِ؟ أَقُومُ فِيهِ وَأَقْعُدُ؟ فَقُلْتُ: هَلْ لَكَ فِي عَلِيٍّ؟ فَقَالَ: إنَّهُ لَهَا لَأَهْلٌ، وَلَكِنَّهُ رَجُلٌ فِيهِ دُعَابَةٌ، وَإِنِّي لَأُرَاهُ لَوْ تَوَلَّى أَمْرَكُمْ لَحَمَلَكُمْ عَلَى طَرِيقَةٍ مِنَ الْحَقِّ تَعْرِفُونَهَا، قَالَ: قُلْتُ: فَأَيْنَ أَنْتَ عَنْ عُثْمَانَ؟ فَقَالَ: لَوْ فَعَلْتُ لَحَمَلَ ابْنُ أَبِي مُعَيْطٍ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، ثُمَّ لَمْ تَلْتَفِتْ إلَيْهِ الْعَرَبُ حَتَّى تَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَاَللَّهِ لَوْ فَعَلْتُ لَفَعَلَ، وَلَوْ فَعَلَ لَفَعَلُوا؛ قَالَ: فَقُلْتُ: فَطَلْحَةُ، قَالَ: إنَّهُ لَزَهْوٌ، مَا كَانَ اللَّهُ لِيُوَلِّيَهُ أَمْرَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ مَا يَعْلَمُ مِنْ زَهْوِهِ، قَالَ: قُلْتُ: فَالزُّبَيْرُ، قَالَ: إنَّهُ لَبَطَلٌ وَلَكِنَّهُ يَسْأَلُ عَنِ الصَّاعِ وَالْمُدِّ بِالْبَقِيعِ بِالسُّوقِ، أَفَذَاكَ يَلِي أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: لَيْسَ هُنَاكَ إنَّهُ لَصَاحِبُ مَقْتَبٍ يُقَاتِلُ عَلَيْهِ، فَأَمَّا وَلِيُّ أَمْرٍ فَلَا، قَالَ: فَقُلْتُ: فَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، قَالَ: نِعْمَ الرَّجُلُ ذَكَرْتَ لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، إنَّهُ وَاَللَّهِ لَا يَصْلُحُ لِهَذَا الْأَمْرِ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ إلَّا الْقَوِيُّ فِي غَيْرِ

عُنْفٍ، اللَّيِّنُ مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ، وَالْمُمْسِكُ مِنْ غَيْرِ بُخْلٍ، وَالْجَوَادُ فِي غَيْرِ إسْرَافٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَمَّا جَرَحَهُ أَبُو لُؤْلُؤَةَ وَآيِسَ الطَّبِيبَ مِنْ نَفْسِهِ وَقَالُوا لَهُ: اعْهَدْ، جَعَلَهَا شُورَى فِي سِتَّةٍ وَقَالَ: هَذَا الْأَمْرُ إلَى عَلِيٍّ وَبِإِزَائِهِ الزُّبَيْرُ، وَإِلَى عُثْمَانَ وَبِإِزَائِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَإِلَى طَلْحَةَ وَبِإِزَائِهِ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، فَلِمَا جَازَ الشُّورَى بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: اجْعَلُوا أَمْرَكُمْ إلَى ثَلَاثَةٍ مِنْكُمْ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: جَعَلْتُ أَمْرِي إلَى عَلِيٍّ، وَقَالَ طَلْحَةُ: جَعَلْتُ أَمْرِي إلَى عُثْمَانَ، وَقَالَ سَعْدٌ: جَعَلْتُ أَمْرِي إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَصَارَتْ الشُّورَى بَعْدَ السِّتَّةِ فِي هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَخَرَجَ مِنْهَا أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَيُّكُمْ يَبْرَأُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ وَنَجْعَلُهُ إلَيْهِ، وَاَللَّهُ عَلَيْهِ شَهِيدٌ؛ لِيَحْرِصَ عَلَى صَلَاحِ الْأُمَّةِ، فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَتَجْعَلُونَهُ إلَيَّ وَأُخْرِجُ نَفْسِي مِنْهُ وَاَللَّهُ عَلَيَّ شَهِيدٌ، عَلَى أَنِّي لَا آلُوكُمْ نُصْحًا، فَقَالَا: نَعَمْ، فَقَالَ: قَدْ فَعَلْتُ فَصَارَتِ الشُّورَى بَعْدَ السِّتَّةِ فِي ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ فِي اثْنَيْنِ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ، ثُمَّ مَضَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ لِيَسْتَعْلِمَ مِنَ النَّاسِ مَا عِنْدَهُمْ، فَلَمَّا أَجَنَّهُمْ اللَّيْلُ اسْتَدْعَى الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَأَشْرَكَهُ مَعَهُ، ثُمَّ حَضَرَ فَأَخَذَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْعُهُودَ أَيُّهُمَا بُويِعَ لَيَعْمَلَنَّ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَلَئِنْ بَايَعَ لِغَيْرِهِ لَيَسْمَعَنَّ وَلَيُطِيعَنَّ، ثُمَّ بَايَعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ. فَكَانَتْ الشُّورَى الَّتِي دَخَلَ أَهْلُ الْإِمَامَةِ فِيهَا وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهَا أَصْلًا فِي انْعِقَادِ الْإِمَامَةِ بِالْعَهْدِ، وَفِي انْعِقَادِ الْبَيْعَةِ بِعَدَدٍ يَتَعَيَّنُ فِيهِ الْإِمَامَةُ لِأَحَدِهِمْ بِاخْتِيَارِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ1، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تُجْعَلَ شُورَى فِي اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ إذَا كَانُوا عَدَدًا مَحْصُورًا. وَيُسْتَفَادُ مِنْهَا أَنْ لَا تُجْعَلَ الْإِمَامَةُ بَعْدَهُ فِي غَيْرِهِمْ، فَإِذَا تَعَيَّنَتْ بِالِاخْتِيَارِ فِي أَحَدِهِمْ جَازَ لِمَنْ أَفْضَتْ إلَيْهِ الْإِمَامَةُ أَنْ يَعْهَدَ بِهَا إلَى غَيْرِهِمْ، وَلَيْسَ لِأَهْلِ الِاخْتِيَارِ إذَا جَعَلَهَا الْإِمَامُ شُورَى فِي عَدَدٍ أَنْ يَخْتَارُوا أَحَدَهُمْ فِي حَيَاةِ الْمُسْتَخْلِفِ الْعَاهِدِ، إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ فِي تَقْدِيمِ

_ 1 "أهل الحل والعقد": مصطلح جديد استحدثه المفكرون المسلمون، ويقصَد به: الخبراء في شئون المجتمع وأحواله الاجتماعية والسياسية، يرجع إليهم الناس في المصالح العامة، ويسمعون لهم بسبب ما توفَّر لهم من خبرة وحنكة ودراية في هذا المجال، وعلى عاتق هؤلاء مهمَّة اختيار رئيس الدولة الإسلامية من بين مَنْ تتوافر فيهم الشروط، ثم تقع على عاتقهم مهمة مراقبة ذلك الرئيس ومعاونته في اتخاذ القرارات السياسية والاجتماعية التي تعود على أفراد المجتمع بالنفع مع النصح له وتوجيهه. "انظر: نظام الدولة في الإسلام، للدكتور: عبد الله جمال الدين: ص117".

الِاخْتِيَارِ فِي حَيَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِمَامَةِ أَحَقُّ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُشَارِكَ فِيهَا، فَإِنْ خَافُوا انْتِشَارَ الْأَمْرِ بَعْدَ مَوْتِهِ اسْتَأْذَنُوهُ وَاخْتَارُوا إنْ أَذِنَ لَهُمْ، فَإِنْ صَارَ إلَى حَالِ إيَاسٍ نُظِرَ، فَإِنْ زَالَ عَنْهُ أَمْرُهُ وَغَرَبَ عَنْهُ رَأْيُهُ، فَهِيَ كَحَالِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي جَوَازِ الِاخْتِيَارِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى تَمْيِيزِهِ وَصِحَّةِ رَأْيِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ الِاخْتِيَارُ إلَّا عَنْ إذْنِهِ. حَكَى ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لَمَّا دَخَلَ مَنْزِلَهُ مَجْرُوحًا سَمِعَ هَدَّةً فَقَالَ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ قَالُوا: يُرِيدُونَ الدُّخُولَ عَلَيْكَ، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَقَالُوا: اعْهَدْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اسْتَخْلِفْ عَلَيْنَا عُثْمَانَ، فَقَالَ: كَيْفَ يُحِبُّ الْمَالَ وَالْجَنَّةَ، فَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ سَمِعَ لَهُمْ هَدَّةً فَقَالَ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ قَالُوا: يُرِيدُونَ الدُّخُولَ عَلَيْكَ، فَأَذِنَ لَهُمْ فَقَالُوا: اسْتَخْلِفْ عَلَيْنَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: إذَنْ يَحْمِلُكُمْ عَلَى طَرِيقَةٍ هِيَ الْحَقُّ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: فَاتَّكَأْتُ عَلَيْهِ عِنْدَ ذَلِكَ وَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُومِنِينَ، وَمَا يَمْنَعُكَ مِنْهُ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، أَتَحَمَّلُهَا حَيًّا وَمَيِّتًا؟ وَيَجُوزُ لِلْخَلِيفَةِ أَنْ يَنُصَّ عَلَى أَهْلِ الِاخْتِيَارِ، كَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنُصَّ عَلَى أَهْلِ الْعَهْدِ، فَلَا يَصِحُّ إلَّا اخْتِيَارُ مَنْ نَصَّ عَلَيْهِ، كَمَا لَا يَصِحُّ إلَّا تَقْلِيدُ مَنْ عَهِدَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ حُقُوقِ خِلَافَتِهِ.

فصل: "في تعدي عهد الخليفة إلى من بعده"

فصل: "في تعدِّي عهد الخليفة إلى من بعده" وَلَوْ عَهِدَ الْخَلِيفَةُ إلَى اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَرَتَّبَ الْخِلَافَةَ فِيهِمْ، فَقَالَ الْخَلِيفَةُ: بَعْدِي فُلَانٌ، فَإِنْ مَاتَ فَالْخَلِيفَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ فُلَانٌ، فَإِنْ مَاتَ فَالْخَلِيفَةُ بَعْدَهُ فُلَانٌ جَازَ وَكَانَتْ الْخِلَافَةُ مُتَنَقِّلَةً إلَى الثَّلَاثَةِ عَلَى مَا رَتَّبَهَا، فَقَدْ اسْتَخْلَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى جَيْشِ مُؤْتَةَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَقَالَ: "فَإِنْ أُصِيبَ فَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنْ أُصِيبَ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَإِنْ أُصِيبَ فَلْيَرْتَضِ الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا" فَتَقَدَّمَ زَيْدٌ فَقُتِلَ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ جَعْفَرٌ وَتَقَدَّمَ فَقُتِلَ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَتَقَدَّمَ فَقُتِلَ، فَاخْتَارَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ"1. وَإِذْ فَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَلِكَ فِي الْإِمَارَةِ جَازَ مِثْلُهُ فِي الْخِلَافَةِ، فَإِنْ قِيلَ: هِيَ عَقْدُ وِلَايَةٍ عَلَى صِفَةٍ وَشَرْطٍ وَالْوِلَايَاتُ لَا يَقِفُ عَقْدُهَا عَلَى الشُّرُوطِ وَالصِّفَاتِ، قِيلَ: هَذَا مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَتَّسِعُ حُكْمُهَا عَلَى أَحْكَامِ الْعُقُودِ الْخَاصَّةِ، فَقَدْ عَمِلَ بِذَلِكَ فِي الدَّوْلَتَيْنِ مَنْ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَصْرِ، هَذَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ عَهِدَ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ثُمَّ بَعْدَهُ إلَى يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ2. وَلَئِنْ لَمْ يَكُنْ سُلَيْمَانُ حُجَّةً، فَإِقْرَارُ مَنْ عَاصَرَهُ مِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ وَمَنْ لَا يَخَافُونَ فِي الْحَقِّ

_ 1صحيح: رواه أحمد "22045"، وصحَّحه الشيخ الألباني في تخريج أحاديث فقه السيرة لشيخننا الغزالي، ص 365. 2 قلت: من الواضح أنَّ الإمام الماوردي لا يعير أيَّ اهتمام أو دور للبيعة العامَّة التي كانت تتمّ للخلفاء، وكأنَّها لا قيمة لها، أو أنها مجرَّد تحصيل حاصل، وهذا خطأ كبير؛ فعمر بن عبد العزيز -مثلًا- وقد استشهد المصنِّف بأن سليمان بن عبد الملك قد عهد إليه بالأمر من بعده، لم يعترف بهذه الولاية إلّا بعد مبايعة الأمة، يقول السيوطي: ثم مات سليمان، وفتح الكتاب، فإذا فيه: العهد لعمر ابن عبد العزيز، فتغيَّرت وجوه بني عبد الملك، فلمَّا سمعوا: "وبعده يزيد بن عبد الملك" تراجعوا، فأتوا عمر فسلَّموا عليه بالخلافة، فعقر به، فلم يستطع النهوض حتى أخذوا بضبعيه، فدنوا به إلى المنبر وأصعدوه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إني لست بفارضٍ ولكني منفذ، ولست بمبتدع، ولكني متَّبِع، وإنَّ من حولكم من الأمصار والمدن إن هم أطاعوا كما أطعتم فأنا واليكم، وإن هم أبوا فلست لكم بوالٍ ... " "تاريخ الخلفاء: ص362".

لَوْمَةَ لَائِمٍ هُوَ الْحُجَّةُ، وَقَدْ رَتَّبَهَا الرَّشِيدُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي ثَلَاثَةٍ مِنْ بَنِيهِ؛ فِي الْأَمِينِ ثُمَّ الْمَأْمُونِ ثُمَّ الْمُؤْتَمَنِ، عَنْ مَشُورَةِ مَنْ عَاصَرَهُ مِنْ فُضَلَاءِ الْعُلَمَاءِ؛ فَإِذَا عَهِدَ الْخَلِيفَةُ إلَى ثَلَاثَةٍ رَتَّبَ الْخِلَافَةَ فِيهِمْ وَمَاتَ وَالثَّلَاثَةُ أَحْيَاءُ، كَانَتِ الْخِلَافَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ لِلْأَوَّلِ؛ وَلَوْ مَاتَ الْأَوَّلُ فِي حَيَاةِ الْخَلِيفَةِ كَانَتِ الْخِلَافَةُ بَعْدَهُ لِلثَّانِي، وَلَوْ مَاتَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي فِي حَيَاةِ الْخَلِيفَةِ فَالْخِلَافَةُ بَعْدَهُ لِلثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَقَرَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ بِالْعَهْدِ إلَيْهِ حُكْمُ الْخِلَافَةِ بَعْدَهُ، وَلَوْ مَاتَ الْخَلِيفَةُ وَالثَّلَاثَةُ مِنْ أَوْلِيَاءِ عَهْدِهِ أَحْيَاءُ، وَأَفْضَتْ الْخِلَافَةُ إلَى الْأَوَّلِ مِنْهُمْ، فَأَرَادَ أَنْ يَعْهَدَ بِهَا إلَى غَيْرِ الِاثْنَيْنِ مِمَّا يَخْتَارُهُ لَهَا، فَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ حَمْلًا عَلَى مُقْتَضَى التَّرْتِيبِ، إلَّا أَنْ يَسْتَنْزِلَ عَنْهَا مُسْتَحِقَّهَا طَوْعًا. فَقَدْ عَهِدَ السَّفَّاحُ إلَى الْمَنْصُورِ -رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَجَعَلَ الْعَهْدَ بَعْدَهُ لِعِيسَى بْنِ مُوسَى، فَأَرَادَ الْمَنْصُورُ تَقْدِيمَ الْمَهْدِيِّ عَلَى عِيسَى فَاسْتَنْزَلَهُ عَنِ الْعَهْدِ عَفْوًا لِحَقِّهِ فِيهِ، وَفُقَهَاءُ الْوَقْتِ عَلَى تَوَافُرٍ وَتَكَاثُرٍ لَمْ يَرَوْا لَهُ فُسْحَةً فِي صَرْفِهِ عَنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ قَسْرًا حَتَّى اسْتَنْزَلَ وَاسْتَطْيَبَ. وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ، وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ أَفْضَتْ إلَيْهِ الْخِلَافَةُ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْعَهْدِ أَنْ يَعْهَدَ بِهَا إلَى مَنْ شَاءَ، وَيَصْرِفُهَا عَمَّنْ كَانَ مُرَتَّبًا مَعَهُ، وَيَكُونُ هَذَا التَّرْتِيبُ مَقْصُورًا عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ الْخِلَافَةَ مِنْهُمْ بَعْدَ مَوْتِ الْمُسْتَخْلِفِ، فَإِذَا أَفْضَتْ الْخِلَافَةُ مِنْهُمْ إلَى أَحَدِهِمْ عَلَى مُقْتَضَى التَّرْتِيبِ صَارَ أَمْلَكَ بِهَا بَعْدَهُ فِي الْعَهْدِ بِهَا إلَى مَنْ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِإِفْضَاءِ الْخِلَافَةِ إلَيْهِ عَامَّ الْوِلَايَةِ، نَافِذَ الْأَمْرِ، فَكَانَ حَقُّهُ فِيهَا أَقْوَى، وَعَهْدُهُ بِهَا أَمْضَى، وَخَالَفَ هَذَا مَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ تَرْتِيبِ أُمَرَائِهِ عَلَى جَيْشِ مُؤْتَةَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْحَيَاةِ؛ حَيْثُ لَمْ تَنْتَقِلْ أُمُورُهُمْ إلَى غَيْرِهِ، وَهَذَا يَكُونُ بَعْدَ انْتِقَالِ الْأَمْرِ بِمَوْتِهِ إلَى غَيْرِهِ، فَافْتَرَقَ حُكْمُ الْعَهْدَيْنِ. وَأَمَّا اسْتِطَابَةُ الْمَنْصُورِ نَفْسَ عِيسَى بْنِ مُوسَى، فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ تَأَلُّفَ أَهْلِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي صَدْرِ الدَّوْلَةِ وَالْعَهْدُ قَرِيبٌ، وَالتَّكَافُؤُ بَيْنَهُمْ مُنْتَشِرٌ، وَفِي أَحْشَائِهِمْ نُفُورٌ مُوهِنٌ، فَفَعَلَهُ سِيَاسَةً، وَإِنْ كَانَ فِي الْحُكْمِ سَائِغًا؛ فَعَلَى هَذَا لَوْ مَاتَ الْأَوَّلُ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْعَهْدِ الثَّلَاثَةِ بَعْدَ إفْضَاءِ الْخِلَافَةِ إلَيْهِ، وَلَمْ يَعْهَدْ إلَى غَيْرِهِمَا، كَانَ الثَّانِي هُوَ الْخَلِيفَةَ بَعْدَهُ بِالْعَهْدِ الْأَوَّلِ، وَقُدِّمَ عَلَى الثَّالِثِ اعْتِبَارًا

بِحُكْمِ التَّرْتِيبِ فِيهِ، وَلَوْ مَاتَ هَذَا الثَّانِي قَبْلَ عَهْدٍ صَارَ الثَّالِثُ هُوَ الْخَلِيفَةَ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ عَهْدِ الْعَاهِدِ تَقْتَضِي ثُبُوتَ حُكْمِهِ فِي الثَّلَاثَةِ مَا لَمْ يُجَدِّدْ بَعْدَهُ عَهْدًا يُخَالِفُهُ، فَيَصِيرُ الْعَهْدُ فِي الْأَوَّلِ مِنَ الثَّلَاثَةِ حَتْمًا، وَفِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ مَوْقُوفًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ عَنِ الْأَوَّلِ فَانْحَتَمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ عَنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَوَقَفَ. وَلَوْ مَاتَ الْأَوَّلُ مِنَ الثَّلَاثَةِ بَعْدَ إفْضَاءِ الْخِلَافَةِ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْهَدَ إلَى أَحَدٍ، فَأَرَادَ أَهْلُ الِاخْتِيَارِ أَنْ يَخْتَارُوا لِلْخِلَافَةِ غَيْرَ الثَّانِي لَمْ يَجُزْ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ الثَّانِي بَعْدَ إفْضَاءِ الْخِلَافَةِ إلَيْهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْتَارُوا لَهَا غَيْرَ الثَّالِثِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَعْهَدَ بِهَا الثَّانِي إلَى غَيْرِ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّ الْعَهْدَ نَصٌّ لَا يُسْتَعْمَلُ الِاخْتِيَارُ إلَّا مَعَ عَدَمِهِ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ الْخَلِيفَةُ الْعَاهِدُ: قَدْ عَهِدْتُ إلَى فُلَانٍ، فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ إفْضَاءِ الْخِلَافَةِ إلَيْهِ فَالْخَلِيفَةُ بَعْدَهُ فُلَانٌ، لَمْ تَصِحَّ خِلَافَةُ الثَّانِي، وَلَمْ يَنْعَقِدْ عَهْدُهُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْهَدْ إلَيْهِ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ وَلِيَّ عَهْدِهِ بَعْدَ إفْضَاءِ الْخِلَافَةِ إلَى الْأَوَّلِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ إفْضَائِهَا إلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ عَهْدُ الثَّانِي بِهَا مُنَفَّذًا، فَلِذَلِكَ بَطَلَ وَجَازَ لِلْأَوَّلِ بَعْدَ إفْضَاءِ الْخِلَافَةِ إلَيْهِ أَنْ يَعْهَدَ بِهَا إلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ عَهْدٍ جَازَ لِأَهْلِ الِاخْتِيَارِ اخْتِيَارُ غَيْرِهِ.

فصل: "في وجوب معرفة الأمة لمن تولى أمرها"

فصل: "في وجوب معرفة الأمَّة لمن تولَّى أمرها" فَإِذَا اسْتَقَرَّتِ الْخِلَافَةُ لِمَنْ تَقَلَّدَهَا، إمَّا بِعَهْدٍ أَوْ اخْتِيَارٍ، لَزِمَ كَافَّةَ الْأُمَّةِ أَنْ يَعْرِفُوا إفْضَاءَ الْخِلَافَةِ إلَى مُسْتَحِقِّهَا بِصِفَاتِهِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَعْرِفُوهُ بِعَيْنِهِ وَاسْمِهِ، إلَّا أَهْلُ الِاخْتِيَارِ الَّذِينَ تَقُومُ بِهِمُ الْحُجَّةُ وَبِبَيْعَتِهِمْ تَنْعَقِدُ الْخِلَافَةُ. وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ جَرِيرٍ: وَاجِبٌ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ مَعْرِفَةُ الْإِمَامِ بِعَيْنِهِ وَاسْمِهِ، كَمَا عَلَيْهِمْ مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَمَعْرِفَةُ رَسُولِهِ. وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ النَّاسِ أَنَّ مَعْرِفَةَ الْإِمَامِ تَلْزَمُ الْكَافَّةَ عَلَى الْجُمْلَةِ دُونَ التَّفْصِيلِ، وَلَيْسَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَعْرِفَهُ بِعَيْنِهِ وَاسْمِهِ إلَّا عِنْدَ النَّوَازِلِ الَّتِي تُحْوِجُ إلَيْهِ، كَمَا أَنَّ مَعْرِفَةَ الْقُضَاةِ الَّذِينَ تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْأَحْكَامُ، وَالْفُقَهَاءِ الَّذِينَ يُفْتُونَ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، تَلْزَمُ الْعَامَّةَ عَلَى الْجُمْلَةِ دُونَ التَّفْصِيلِ، إلَّا عِنْدَ النَّوَازِلِ الْمُحْوِجَةِ إلَيْهِمْ، وَلَوْ لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْأُمَّةِ أَنْ يَعْرِفَ الْإِمَامَ بِعَيْنِهِ وَاسْمِهِ لَلَزِمَتْ الْهِجْرَةُ إلَيْهِ، وَلَمَا جَازَ تَخَلُّفُ الْأَبَاعِدِ، وَلَأَفْضَى ذَلِكَ إلَى خُلُوِّ الْأَوْطَانِ، وَلَصَارَ مِنَ الْعُرْفِ خَارِجًا، وَبِالْفَسَادِ عَائِدًا، وَإِذَا لَزِمَتْ مَعْرِفَتُهُ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، فَعَلَى كَافَّةِ الْأُمَّةِ تَفْوِيضُ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ افْتِيَاتٍ عَلَيْهِ وَلَا مُعَارَضَةٍ لَهُ؛ لِيَقُومَ بِمَا وُكِّلَ إلَيْهِ مِنْ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ وَتَدْبِيرِ الْأَعْمَالِ، وَيُسَمَّى خَلِيفَةً لِأَنَّهُ خَلَفَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أُمَّتِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، وَعَلَى الْإِطْلَاقِ فَيُقَالُ: الْخَلِيفَةُ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يَا خَلِيفَةَ اللَّهِ؟ فَجَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ؛ لِقِيَامِهِ بِحُقُوقِهِ فِي خَلْقِهِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الأنعام: 165] . وَامْتَنَعَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ، وَنَسَبُوا قَائِلَهُ إلَى الْفُجُورِ وَقَالُوا: يُسْتَخْلَفُ مَنْ يَغِيبُ أَوْ يَمُوتُ، وَاَللَّهُ لَا يَغِيبُ وَلَا يَمُوتُ، وَقَدْ قِيلَ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا خَلِيفَةَ اللَّهِ، فَقَالَ: لَسْتُ بِخَلِيفَةِ اللَّهِ، وَلَكِنِّي خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

_ 1 الافتيات: السبق إلى الشيء دون ائتمار من يُؤْتمر، تقول: افتات عليه بأمر كذا، أي: فاته به، وفلان لا يفتات عليه، أي: لا يعمل شيء دون أمره، وتفاوت الشيئان: تباعد ما بينهما. "مختار الصحاح: ص215".

مهام الخليفة ومسئولياته

"مهام الخليفة ومسئولياته": وَاَلَّذِي يَلْزَمُهُ مِنَ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ عَشَرَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: حِفْظُ الدِّينِ عَلَى أُصُولِهِ الْمُسْتَقِرَّةِ، وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ، فَإِنْ نَجَمَ مُبْتَدِعٌ أَوْ زَاغَ ذُو شُبْهَةٍ عَنْهُ، أَوْضَحَ لَهُ الْحُجَّةَ، وَبَيَّنَ لَهُ الصَّوَابَ، وَأَخَذَهُ بِمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ؛ لِيَكُونَ الدِّينُ مَحْرُوسًا مِنْ خَلَلٍ، وَالْأُمَّةُ مَمْنُوعَةً مِنْ زَلَلٍ. الثَّانِي: تَنْفِيذُ الْأَحْكَامِ بَيْنَ الْمُتَشَاجِرِينَ، وَقَطْعُ الْخِصَامِ بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ حَتَّى تَعُمَّ النَّصَفَةُ، فَلَا يَتَعَدَّى ظَالِمٌ، وَلَا يَضْعُفُ مَظْلُومٌ. الثَّالِثُ: حِمَايَةُ الْبَيْضَةِ وَالذَّبُّ عَنِ الْحَرِيمِ؛ لِيَتَصَرَّفَ النَّاسُ فِي الْمَعَايِشِ، وَيَنْتَشِرُوا فِي الْأَسْفَارِ آمِنِينَ مِنْ تَغْرِيرٍ بِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ. وَالرَّابِعُ: إقَامَةُ الْحُدُودِ؛ لِتُصَانَ مَحَارِمُ اللَّهِ تَعَالَى عَن الِانْتِهَاكِ، وَتُحْفَظَ حُقُوقُ عِبَادِهِ مِنْ إتْلَافٍ وَاسْتِهْلَاكٍ. وَالْخَامِسُ: تَحْصِينُ الثُّغُورِ بِالْعُدَّةِ الْمَانِعَةِ وَالْقُوَّةِ الدَّافِعَةِ حَتَّى لَا تَظْفَرَ الْأَعْدَاءُ بِغِرَّةٍ يَنْتَهِكُونَ فِيهَا مُحَرَّمًا، أَوْ يَسْفِكُونَ فِيهَا لِمُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ دَمًا. وَالسَّادِسُ: جِهَادُ مَنْ عَانَدَ الْإِسْلَامَ بَعْدَ الدَّعْوَةِ حَتَّى يُسْلِمَ أَوْ يَدْخُلَ فِي الذِّمَّةِ؛ لِيُقَامَ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي إظْهَارِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ. وَالسَّابِعُ: جِبَايَةُ الْفَيْءِ وَالصَّدَقَاتِ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ نَصًّا وَاجْتِهَادًا مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا عَسْفٍ. وَالثَّامِنُ: تَقْدِيرُ الْعَطَايَا وَمَا يَسْتَحِقُّ فِي بَيْتِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا تَقْتِيرٍ، وَدَفْعُهُ فِي وَقْتٍ لَا تَقْدِيمَ فِيهِ وَلَا تَأْخِيرَ. التَّاسِعُ: اسْتِكْفَاءُ الْأُمَنَاءِ وَتَقْلِيدُ النُّصَحَاءِ فِيمَا يُفَوَّضُ إلَيْهِمْ مِنَ الْأَعْمَالِ وَيَكِلُهُ إلَيْهِمْ مِنَ الْأَمْوَالِ؛ لِتَكُونَ الْأَعْمَالُ بِالْكَفَاءَةِ مَضْبُوطَةً، وَالْأَمْوَالُ بِالْأُمَنَاءِ مَحْفُوظَةً. الْعَاشِرُ: أَنْ يُبَاشِرَ بِنَفْسِهِ مُشَارَفَةَ الْأُمُورِ، وَتَصَفُّحَ الْأَحْوَالِ؛ لِيَنْهَضَ بِسِيَاسَةِ الْأُمَّةِ وَحِرَاسَةِ الْمِلَّةِ، وَلَا يُعَوِّلُ عَلَى التَّفْوِيضِ تَشَاغُلًا بِلَذَّةٍ أَوْ عِبَادَةٍ، فَقَدْ يَخُونُ الْأَمِينُ وَيَغُشُّ

النَّاصِحُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا دَاوُد إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتْبَعْ الْهَوَى فَيُضِلّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] . فَلَمْ يَقْتَصِرْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى التَّفْوِيضِ دُونَ الْمُبَاشَرَةِ وَلَا عَذَرَهُ فِي الِاتِّبَاعِ حَتَّى وَصَفَهُ بِالضَّلَالِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ بِحُكْمِ الدِّينِ وَمَنْصِبِ الْخِلَافَةِ، فَهُوَ مِنْ حُقُوقِ السِّيَاسَةِ لِكُلِّ مُسْتَرْعٍ، قَالَ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ". وَلَقَدْ أَصَابَ الشَّاعِرُ1 فِيمَا وَصَفَ بِهِ الزَّعِيمَ الْمُدَبِّرَ حَيْثُ يَقُولُ "مِنْ الْبَسِيطِ": وَقَلِّدُوا أَمْرَكُمْ لِلَّهِ دَرُّكُمْ ... رَحْبَ الذِّرَاعِ بِأَمْرِ الْحَرْبِ مُضْطَلِعَا لَا مُتْرَفًا إنْ رَخَاءُ الْعَيْشِ ... سَاعَدَهُ وَلَا إذَا عَضَّ مَكْرُوهٌ بِهِ خَشَعَا مَا زَالَ يَحْلُبُ دَرَّ الدَّهْرِ أَشْطُرَهُ ... يَكُونُ مُتَّبِعًا يَوْمًا وَمُتَّبَعَا حَتَّى اسْتَمَرَّ عَلَى شَزْرٍ مَرِيرَتُهُ ... مُسْتَحْكَمِ الرَّأْيِ لَا فَخْمًا وَلَا ضَرَعَا وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزْدَادَ2 لِلْمَأْمُونِ -وَكَانَ وَزِيرَهُ- "مِنْ الْبَسِيط": مَنْ كَانَ حَارِسَ دُنْيَا إنَّهُ قَمِنٌ ... أَنْ لَا يَنَامَ وَكُلُّ النَّاسِ نُوَامُ وَكَيْفَ تَرْقُدُ عَيْنَا مَنْ تَضَيَّفَهُ ... هَمَّانِ مِنْ أَمْرِهِ حَلٌّ وَإِبْرَامُ

_ 1 هو لقيط بن يعمر بن خارجة الإيادي؛ شاعر جاهلي فحل، من أهل الحيرة، كان يحسن الفارسية، واتَّصل بكسرى سابور "ذي الأكتاف"، فكان من كُتَّابه والمطَّلِعين على أسرار دولته، ومن مقدّمي مترجميه، وهو صاحب القصيدة التي مطلعها: "يا دار عمرة من محتلها الجرعا"، وهي من غرر الشعر، بعث بها إلى قومه بني إياد، ينذرهم بأنَّ كسرى وجَّه جيشًا لغزوهم، وسقطت القصيدة في يد من أوصلها إلى كسرى، فسخط عليه وقطع لسانه ثم قتله. 2 هو القاضي محمد بن يزداد بن سويد الكاتب المروزي الوزير، وزر للمأمون، كان حَسَن البلاغة كثير الأدب مشهورًا بقول الشعر، له في المأمون مرثية معروفة، وكان سليمان بن وهب يكتب بين يديه، وكان به خاصًّا، ثم اتَّصل به أن سليمان سعى عليه فأطرحه، وتوفِّي سنة ثلاثين ومائتين بسرِّ من رأى.

فصل: "واجبات الأمة نحو الخليفة"

فصل: "واجبات الأمة نحو الخليفة" وَإِذَا قَامَ الْإِمَامُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حُقُوقِ الْأُمَّةِ، فَقَدْ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ، وَوَجَبَ لَهُ عَلَيْهِمْ حَقَّانِ: الطَّاعَةُ1 وَالنُّصْرَةُ2 مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ. وَاَلَّذِي يَتَغَيَّرُ بِهِ حَالُهُ فَيَخْرُجُ بِهِ عَنِ الْإِمَامَةِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: جَرْحٌ فِي عَدَالَتِهِ. وَالثَّانِي: نَقْصٌ فِي بَدَنِهِ، فَأَمَّا الْجَرْحُ فِي عَدَالَتِهِ وَهُوَ الْفِسْقُ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا تَابَعَ فِيهِ الشَّهْوَةَ. وَالثَّانِي: مَا تَعَلَّقَ فِيهِ بِشُبْهَةٍ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهُمَا فَمُتَعَلِّقٌ بِأَفْعَالِ الْجَوَارِحِ، وَهُوَ ارْتِكَابُهُ لِلْمَحْظُورَاتِ، وَإِقْدَامُهُ عَلَى الْمُنْكَرَاتِ تَحْكِيمًا لِلشَّهْوَةِ وَانْقِيَادًا لِلْهَوَى، فَهَذَا فِسْقٌ يَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِ الْإِمَامَةِ وَمِنِ اسْتِدَامَتِهَا، فَإِذَا طَرَأَ عَلَى مَنِ انْعَقَدَتْ إمَامَتُهُ خَرَجَ مِنْهَا، فَلَوْ عَادَ إلَى الْعَدَالَةِ لَمْ يَعُدْ إلَى الْإِمَامَةِ إلَّا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: يَعُودُ إلَى الْإِمَامَةِ بِعَوْدِهِ إلَى الْعَدَالَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ لَهُ عَقْدٌ وَلَا بَيْعَةٌ؛ لِعُمُومِ وِلَايَتِهِ وَلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ فِي اسْتِئْنَافِ بَيْعَتِهِ. وَأَمَّا الثَّانِي مِنْهُمَا: فَمُتَعَلِّقٌ بِالِاعْتِقَادِ الْمُتَأَوِّلِ بِشُبْهَةٍ تَعْتَرِضُ، فَيَتَأَوَّلُ لَهَا خِلَافَ الْحَقِّ،

_ 1 قلت: إلّا أنَّ هذه الطاعة ليست مطلقة، بل هي مقيَّدة بموافقتها للشرع، والنصوص الواردة في ذلك كثيرة، منها: ما رواه ابن عمر -رضي الله عنهما، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "السمع والطاعة حقٌّ ما لم يؤمر بالمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة"، وفي رواية: "على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحبَّ وكره إلّا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة"، وعن يحيى بن حصين قال: سمعت جدتي تحدِّث أنَّها سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب في حجة الوداع وهو يقول: "ولو استُعْمِلَ عليكم عبد يقودكم بكتاب الله، فاسمعوا له وأطيعوا"، إلى آخر هذه النصوص الصحيحة. 2 قلت: ومن باب نصرة الخليفة أو الحاكم النصح له، وذلك واجب على كل مسلم، فعن تميم الداري أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الدين النصيحة" قلنا: لمن؟ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم".

فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا. فَذَهَبَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ إلَى أَنَّهَا تَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِ الْإِمَامَةِ وَمِنِ اسْتِدَامَتِهَا وَيَخْرُجُ بِحُدُوثِهِ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى حُكْمُ الْكُفْرِ بِتَأْوِيلٍ وَغَيْرِ تَأْوِيلٍ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حَالُ الْفِسْقِ بِتَأْوِيلٍ وَغَيْرِ تَأْوِيلٍ. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْبَصْرَةِ: إنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِ الْإِمَامَةِ وَلَا يُخْرَجُ بِهِ مِنْهَا، كَمَا لَا يَمْنَعُ مِنْ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ وَجَوَازِ الشَّهَادَةِ. وَأَمَّا مَا طَرَأَ عَلَى بَدَنِهِ مِنْ نَقْصٍ فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: نَقْصُ الْحَوَاسِّ، وَالثَّانِي: نَقْصُ الْأَعْضَاءِ، وَالثَّالِثُ: نَقْصُ التَّصَرُّفِ. فَأَمَّا نَقْصُ الْحَوَاسِّ فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَمْنَعُ مِنَ الْإِمَامَةِ، وَقِسْمٌ لَا يَمْنَعُ مِنْهَا، وَقِسْمٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْمَانِعُ مِنْهَا فَشَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: زَوَالُ الْعَقْلِ، وَالثَّانِي: ذَهَابُ الْبَصَرِ، فَأَمَّا زَوَالُ الْعَقْلِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ عَارِضًا مَرْجُوَّ الزَّوَالِ كَالْإِغْمَاءِ، فَهَذَا لَا يَمْنَعُ مِنَ انْعِقَادِ الْإِمَامَةِ، وَلَا يُخْرِجُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ مَرَضٌ قَلِيلُ اللّبْسِ، سَرِيعُ الزَّوَالِ، وَقَدْ أُغْمِيَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مَرَضِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ لَازِمًا لَا يُرْجَى زَوَالُهُ؛ كَالْجُنُونِ وَالْخَبَلِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُطْبِقًا دَائِمًا لَا يَتَخَلَّلُهُ إفَاقَةٌ، فَهَذَا يَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ الْإِمَامَةِ وَاسْتِدَامَتِهَا، فَإِذَا طَرَأَ هَذَا بَطَلَتْ بِهِ الْإِمَامَةُ بَعْدَ تَحَقُّقِهِ وَالْقَطْعِ بِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَخَلَّلَهُ إفَاقَةٌ يَعُودُ بِهَا إلَى حَالِ السَّلَامَةِ فَيُنْظَرُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ زَمَانُ الْخَبَلِ أَكْثَرَ مِنْ زَمَانِ الْإِفَاقَةِ فَهُوَ كَالْمُسْتَدِيمِ يَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ الْإِمَامَةِ وَاسْتِدَامَتِهَا، وَيُخْرِجُ بِحُدُوثِهِ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ زَمَانُ الْإِفَاقَةِ أَكْثَرَ مِنْ زَمَانِ الْخَبَلِ مَنَعَ مِنْ عَقْدِ الْإِمَامَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي مَنْعِهِ مِنَ اسْتِدَامَتِهَا، فَقِيلَ: يَمْنَعُ مِنَ اسْتِدَامَتِهَا كَمَا يَمْنَعُ مِنَ ابْتِدَائِهَا، فَإِذَا طَرَأَ بَطَلَتْ بِهِ الْإِمَامَةُ؛ لِأَنَّ فِي اسْتِدَامَتِهِ إخْلَالًا بِالنَّظَرِ الْمُسْتَحَقِّ فِيهِ، وَقِيلَ: لَا يَمْنَعُ مِنَ اسْتِدَامَةِ الْإِمَامَةِ، وَإِنْ مَنَعَ مِنْ عَقْدِهَا فِي الِابْتِدَاءِ؛ لِأَنَّهُ يُرَاعِي فِي ابْتِدَاءِ عَقْدِهَا سَلَامَةً كَامِلَةً

وَفِي الْخُرُوجِ مِنْهَا نَقْصٌ كَامِلٌ. وَأَمَّا ذَهَابُ الْبَصَرِ فَيَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ الْإِمَامَةِ وَاسْتِدَامَتِهَا، فَإِذَا طَرَأَ بَطَلَتْ بِهِ الْإِمَامَةُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَبْطَلَ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ، وَمَنَعَ مِنْ جَوَازِ الشَّهَادَةِ، فَأَوْلَى أَنْ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْإِمَامَةِ، وَأَمَّا عَشَاءُ الْعَيْنِ وَهُوَ أَنْ لَا يُبْصِرَ عِنْدَ دُخُولِ اللَّيْلِ، فَلَا يَمْنَعُ مِنَ الْإِمَامَةِ فِي عَقْدٍ وَلَا اسْتِدَامَةٍ؛ لِأَنَّهُ مَرَضٌ فِي زَمَانِ الدَّعَةِ يُرْجَى زَوَالُهُ. وَأَمَّا ضَعْفُ الْبَصَرِ، فَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ بِهِ الْأَشْخَاصَ إذَا رَآهَا لَمْ يُمْنَعْ مِنَ الْإِمَامَةِ، وَإِنْ كَانَ يُدْرِكُ الْأَشْخَاصَ وَلَا يَعْرِفُهَا مُنِعَ مِنَ الْإِمَامَةِ عَقْدًا وَاسْتِدَامَةً. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الْحَوَاسِّ الَّتِي لَا يُؤَثِّرُ فَقْدُهَا فِي الْإِمَامَةِ فَشَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: الْخَشْمُ فِي الْأَنْفِ الَّذِي لَا يُدْرِكُ بِهِ شَمَّ الرَّوَائِحِ. وَالثَّانِي: فَقْدُ الذَّوْقِ الَّذِي يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الطُّعُومِ، فَلَا يُؤَثِّرُ عَلَى هَذَا فِي عَقْدِ الْإِمَامَةِ؛ لِأَنَّهُمَا يُؤَثِّرَانِ فِي اللَّذَّةِ وَلَا يُؤَثِّرَانِ فِي الرَّأْيِ وَالْعَمَلِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مِنَ الْحَوَاسِّ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا فَشَيْئَانِ: الصَّمَمُ وَالْخَرَسُ فَيَمْنَعَانِ مِنِ ابْتِدَاءِ عَقْدِ الْإِمَامَةِ؛ لِأَنَّ كَمَالَ الْأَوْصَافِ بِوُجُودِهِمَا مَفْقُودٌ، وَاخْتُلِفَ فِي الْخُرُوجِ بِهِمَا مِنَ الْإِمَامَةِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَخْرُجُ بِهِمَا مِنْهَا كَمَا يَخْرُجُ بِذَهَابِ الْبَصَرِ لِتَأْثِيرِهِمَا فِي التَّدْبِيرِ وَالْعَمَلِ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَخْرُجُ بِهِمَا مِنَ الْإِمَامَةِ لِقِيَامِ الْإِشَارَةِ مَقَامَهُمَا، فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا إلَّا بِنَقْصٍ كَامِلٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: إنْ كَانَ يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ لَمْ يَخْرُجْ بِهِمَا مِنَ الْإِمَامَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُهَا خَرَجَ مِنَ الْإِمَامَةِ بِهِمَا؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ مَفْهُومَةٌ وَالْإِشَارَةُ مَوْهُومَةٌ، وَالْأَوَّلُ مِنَ الْمَذَاهِبِ أَصَحُّ. وَأَمَّا تَمْتَمَةُ اللِّسَانِ وَثِقَلُ السَّمْعِ مِنْ إدْرَاكِ الصَّوْتِ إذَا كَانَ عَالِيًا فَلَا يَخْرُجُ بِهِمَا مِنَ الْإِمَامَةِ إذَا حَدَثَا، وَاخْتُلِفَ فِي ابْتِدَاءِ عَقْدِهَا مَعَهُمَا، فَقِيلَ بِمَنْعِ ذَلِكَ مِنِ ابْتِدَاءِ عَقْدِهَا؛ لِأَنَّهُمَا نَقْصٌ يَخْرُجُ بِهِمَا عَنْ حَالِ الْكَمَالِ، وَقِيلَ: لَا يَمْنَعُ؛ لِأَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمْ تَمْنَعْهُ عُقْدَةُ لِسَانِهِ عَنِ النُّبُوَّةِ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنَ الْإِمَامَةِ.

فَصْلٌ: وَأَمَّا فَقْدُ الْأَعْضَاءِ فَيَنْقَسِمُ إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْإِمَامَةِ فِي عَقْدٍ وَلَا اسْتِدَامَةٍ، وَهُوَ مَا لَا يُؤَثِّرُ فَقْدُهُ فِي رَأْيٍ وَلَا عَمَلٍ وَلَا نُهُوضٍ، وَلَا يَشِينُ فِي الْمَنْظَرِ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَطْعِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ، فَلَا يَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ الْإِمَامَةِ وَلَا مِنِ اسْتِدَامَتِهَا بَعْدَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ فَقْدَ هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ يُؤَثِّرُ فِي التَّنَاسُلِ دُونَ الرَّأْيِ وَالْحِنْكَةِ، فَيَجْرِي مَجْرَى الْعُنَّةِ، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِذَلِكَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 39] . وَفِي الْحَصُورِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهُ الْعِنِّينُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى إتْيَانِ النِّسَاءِ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: إنَّهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَكَرٌ يَغْشَى بِهِ النِّسَاءَ، أَوْ كَانَ كَالنَّوَاةِ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنَ الْإِمَامَةِ، وَكَذَلِكَ قَطْعُ الْأُذُنَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يُؤَثِّرَانِ فِي رَأْيٍ وَلَا عَمَلٍ، وَلَهُمَا شَيْنٌ خَفِيٌّ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَتِرَ فَلَا يَظْهَرَ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ الْإِمَامَةِ وَمِنَ اسْتِدَامَتِهَا، وَهُوَ مَا يَمْنَعُ مِنَ الْعَمَلِ كَذَهَابِ الْيَدَيْنِ أَوْ مِنَ النُّهُوضِ، كَذَهَابِ الرِّجْلَيْنِ، فَلَا تَصِحُّ مَعَهُ الْإِمَامَةُ فِي عَقْدٍ وَلَا اسْتِدَامَةٍ؛ لِعَجْزِهِ عَمَّا يَلْزَمُهُ مِنْ حُقُوقِ الْأُمَّةِ فِي عِلْمٍ أَوْ نَهْضَةٍ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ الْإِمَامَةِ، وَاخْتُلِفَ فِي مَنْعِهِ مِنَ اسْتِدَامَتِهَا، وَهُوَ مَا ذَهَبَ بِهِ بَعْضُ الْعَمَلِ أَوْ فَقَدَ بِهِ بَعْضَ النُّهُوضِ، كَذَهَابِ إحْدَى الْيَدَيْنِ أَوْ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ، فَلَا يَصِحُّ مَعَهُ عَقْدُ الْإِمَامَةِ لِعَجْزِهِ عَنْ كَمَالِ التَّصَرُّفِ، فَإِنْ طَرَأَ بَعْدَ عَقْدِ الْإِمَامَةِ فَفِي خُرُوجِهِ مِنْهَا مَذْهَبَانِ لِلْفُقَهَاءِ: أَحَدُهُمَا: يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الْإِمَامَةِ؛ لِأَنَّهُ عَجْزٌ يَمْنَعُ مِنَ ابْتِدَائِهَا فَمَنَعَ مِنَ اسْتِدَامَتِهَا. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الْإِمَامَةِ وَإِنْ مَنَعَ مِنْ عَقْدِهَا، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي عَقْدِهَا كَمَالُ السَّلَامَةِ، وَفِي الْخُرُوجِ مِنْهَا كَمَالُ النَّقْصِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا لَا يَمْنَعُ مِنَ اسْتِدَامَةِ الْإِمَامَةِ، وَاخْتُلِفَ فِي مَنْعِهِ مِنَ ابْتِدَاءِ عَقْدِهَا وَهُوَ

مَا شَانَ وَقَبَّحَ وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي عَمَلٍ وَلَا فِي نَهْضَةٍ، كَجَدْعِ الْأَنْفِ وَسَمْلِ إحْدَى الْعَيْنَيْنِ، فَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الْإِمَامَةِ بَعْدَ عَقْدِهَا؛ لِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ حُقُوقِهَا. وَفِي مَنْعِهِ مِنَ ابْتِدَاءِ عَقْدِهَا مَذْهَبَانِ لِلْفُقَهَاءِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ عَقْدِهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهَا؛ لِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ فِي حُقُوقِهَا. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: إنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ الْإِمَامَةِ، وَتَكُونُ السَّلَامَةُ مِنْهُ شَرْطًا مُعْتَبَرًا فِي عَقْدِهَا؛ لِيَسْلَمَ وُلَاةُ الْمِلَّةِ مِنْ شَيْنٍ يُعَابُ وَنَقْصٍ يُزْدَرَى، فَتَقِلُّ بِهِ الْهَيْبَةُ، وَفِي قِلَّتِهَا نُفُورٌ عَنِ الطَّاعَةِ، وَمَا أَدَّى إلَى هَذَا فَهُوَ نَقْصٌ فِي حُقُوقِ الْأُمَّةِ.

فصل: "في نقصان حرية التصرف"

فصل: "في نقصان حرية التصرف" وَأَمَّا نَقْصُ التَّصَرُّفِ فَضَرْبَانِ: حَجْرٌ وَقَهْرٌ. فَأَمَّا الْحَجْرُ: فَهُوَ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ مِنْ أَعْوَانِهِ مَنْ يَسْتَبِدُّ بِتَنْفِيذِ الْأُمُورِ مِنْ غَيْرِ تَظَاهُرٍ بِمَعْصِيَةٍ، وَلَا مُجَاهَرَةٍ بِمُشَاقَّةٍ، فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ إمَامَتِهِ، وَلَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ وِلَايَتِهِ، وَلَكِنْ يُنْظَرُ فِي أَفْعَالِ مَنِ اسْتَوْلَى عَلَى أُمُورِهِ، فَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً عَلَى أَحْكَامِ الدِّينِ وَمُقْتَضَى الْعَدْلِ جَازَ إقْرَارُهُ عَلَيْهَا تَنْفِيذًا لَهَا وَإِمْضَاءً لِأَحْكَامِهَا؛ لِئَلَّا يَقِفَ مِنَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ مَا يَعُودُ بِفَسَادٍ عَلَى الْأُمَّةِ. وَإِنْ كَانَتْ أَفْعَالُهُ خَارِجَةً عَنْ حُكْمِ الدِّينِ وَمُقْتَضَى الْعَدْلِ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ عَلَيْهَا، وَلَزِمَهُ أَنْ يَسْتَنْصِرَ مَنْ يَقْبِضَ يَدَهُ وَيُزِيلَ تَغَلُّبَهُ. وَأَمَّا الْقَهْر: ُ فَهُوَ أَنْ يَصِيرَ مَأْسُورًا فِي يَدِ عَدُوٍّ قَاهِرٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْهُ، فَيَمْنَعُ ذَلِكَ عَنْ عَقْدِ الْإِمَامَةِ لَهُ؛ لِعَجْزِهِ عَنِ النَّظَرِ فِي أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَدُوُّ مُشْرِكًا أَوْ مُسْلِمًا بَاغِيًا، وَلِلْأُمَّةِ اخْتِيَارُ مَنْ عَدَاهُ مِنْ ذَوِي الْقُدْرَةِ، وَإِنْ أُسِرَ بَعْدَ أَنْ عُقِدَتْ لَهُ الْإِمَامَةُ، فَعَلَى كَافَّةِ الْأُمَّةِ اسْتِنْقَاذُهُ لِمَا أَوْجَبَتْهُ الْإِمَامَةُ مِنْ نُصْرَتِهِ، وَهُوَ عَلَى إمَامَتِهِ مَا كَانَ مَرْجُوَّ الْخَلَاصِ مَأْمُولَ الْفِكَاكِ، إمَّا بِقِتَالٍ أَوْ فِدَاءٍ، فَإِنْ وَقَعَ الْإِيَاسُ مِنْهُ لَمْ يَخْلُ حَالُ مَنْ أَسَرَهُ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُشْرِكِينَ أَوْ بُغَاةَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ فِي أَسْرِ الْمُشْرِكِينَ خَرَجَ مِنَ الْإِمَامَةِ لِلْيَأْسِ مِنْ خَلَاصِهِ، وَاسْتَأْنَفَ أَهْلُ الِاخْتِيَارِ بَيْعَةَ غَيْرِهِ عَلَى الْإِمَامَةِ. فَإِنْ عَهِدَ بِالْإِمَامَةِ فِي حَالِ أَسْرِهِ نُظِرَ فِي عَهْدِهِ؛ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْإِيَاسِ مِنْ خَلَاصِهِ كَانَ عَهْدُهُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ عَهِدَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْإِمَامَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ عَهْدٌ، وَإِنْ عَهِدَ قَبْلَ الْإِيَاسِ مِنْ خَلَاصِهِ وَقْتَ هُوَ فِيهِ مَرْجُوَّ الْخَلَاصِ صَحَّ عَهْدُهُ لِبَقَاءِ إمَامَتِهِ، وَاسْتَقَرَّتْ إمَامَةُ وَلِيِّ عَهْدِهِ بِالْإِيَاسِ مِنْ خَلَاصِهِ لِزَوَالِ إمَامَتِهِ، فَلَوْ خَلَصَ مِنْ أَسْرِهِ بَعْدَ عَهْدِهِ نُظِرَ فِي خَلَاصِهِ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْإِيَاسِ مِنْهُ لَمْ يَعُدْ إلَى إمَامَتِهِ؛ لِخُرُوجِهِ مِنْهَا بِالْإِيَاسِ، وَاسْتَقَرَّتْ فِي وَلِيِّ عَهْدِهِ، وَإِنْ خَلَصَ قَبْلَ الْإِيَاسِ فَهُوَ عَلَى إمَامَتِهِ، وَيَكُونُ الْعَهْدُ فِي وَلِيِّ الْعَهْدِ ثَابِتًا وَإِنْ لَمْ يَصِرْ إمَامًا. وَإِنْ كَانَ مَأْسُورًا مَعَ بُغَاةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ مَرْجُوَّ الْخَلَاصِ فَهُوَ عَلَى إمَامَتِهِ، وَإِنْ لَمْ

يُرْجَ خَلَاصُهُ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْبُغَاةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونُوا نَصَّبُوا لِأَنْفُسِهِمْ إمَامًا أَوْ لَمْ يُنَصِّبُوا، فَإِنْ كَانُوا فَوْضَى لَا إمَامَ لَهُمْ فَالْإِمَامُ الْمَأْسُورُ فِي أَيْدِيهِمْ عَلَى إمَامَتِهِ؛ لِأَنَّ بَيْعَتَهُ لَهُمْ لَازِمَةٌ وَطَاعَتَهُ عَلَيْهِمْ وَاجِبَةٌ، فَصَارَ مَعَهُمْ كَمَصِيرِهِ مَعَ أَهْلِ الْعَدْلِ إذَا صَارَتْ تَحْتَ الْحَجْرِ، وَعَلَى أَهْلِ الِاخْتِيَارِ أَنْ يَسْتَنِيبُوا عَنْهُ نَاظِرًا يَخْلُفُهُ إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِاسْتِنَابَةِ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهَا كَانَ أَحَقَّ بِاخْتِيَارِ مَنْ يَسْتَنِيبُهُ مِنْهُمْ، فَإِنْ خَلَعَ الْمَأْسُورُ نَفْسَهُ أَوْ مَاتَ لَمْ يَصِرْ الْمُسْتَنَابُ إمَامًا؛ لِأَنَّهَا نِيَابَةٌ عَنْ مَوْجُودٍ فَزَالَتْ بِفَقْدِهِ. وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْبَغْيِ قَدْ نَصَّبُوا لِأَنْفُسِهِمْ إمَامًا دَخَلُوا فِي بَيْعَتِهِ وَانْقَادُوا لِطَاعَتِهِ، فَالْإِمَامُ الْمَأْسُورُ فِي أَيْدِيهِمْ خَارِجٌ مِنَ الْإِمَامَةِ بِالْإِيَاسِ مِنْ خَلَاصِهِ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ انْحَازُوا بِدَارٍ تَفَرَّدَ حُكْمُهَا عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَخَرَجُوا بِهَا عَنِ الطَّاعَةِ، فَلَمْ يَبْقَ لِأَهْلِ الْعَدْلِ بِهِمْ نُصْرَةٌ، وَلِلْمَأْسُورِ مَعَهُمْ قُدْرَةٌ، وَعَلَى أَهْلِ الِاخْتِيَارِ فِي دَارِ الْعَدْلِ أَنْ يَعْقِدُوا الْإِمَامَةَ لِمَنْ ارْتَضَوْا لَهَا، فَإِنْ خَلَصَ الْمَأْسُورُ لَمْ يَعُدْ إلَى الْإِمَامَةِ لِخُرُوجِهِ مِنْهَا.

فصل: "نواب الخليفة وولاته"

فَصْلٌ: "نواب الخليفة وولاته" وَإِذَا تَمَهَّدَ مَا وَصَفْنَاهُ مِنْ أَحْكَامِ الْإِمَامَةِ وَعُمُومِ نَظَرِهَا فِي مَصَالِحِ الْمِلَّةِ وَتَدْبِيرِ الْأُمَّةِ، فَإِذَا اسْتَقَرَّ عَقْدُهَا لِلْإِمَامِ انْقَسَمَ مَا صَدَرَ عَنْهُ مِنْ وِلَايَاتِ خُلَفَائِهِ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: َالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مَنْ تَكُونُ وِلَايَتُهُ عَامَّةً فِي الْأَعْمَالِ الْعَامَّةِ وَهُمْ الْوُزَرَاءُ؛ لِأَنَّهُمْ يُسْتَنَابُونَ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَنْ تَكُونُ وِلَايَتُهُ عَامَّةً فِي أَعْمَالٍ خَاصَّةٍ، وَهُمْ أُمَرَاءُ الْأَقَالِيمِ وَالْبُلْدَانِ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ فِيمَا خُصُّوا بِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَنْ تَكُونُ وِلَايَتُهُ خَاصَّةً فِي الْأَعْمَالِ الْعَامَّةِ، وَهُمْ كَقَاضِي الْقُضَاةِ وَنَقِيبِ الْجُيُوشِ وَحَامِي الثُّغُورِ وَمُسْتَوْفِي الْخَرَاجِ وَجَابِي الصَّدَقَاتِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَقْصُورٌ عَلَى نَظَرٍ خَاصٍّ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَنْ تَكُونُ وِلَايَتُهُ خَاصَّةً فِي الْأَعْمَالِ الْخَاصَّةِ، وَهُمْ كَقَاضِي بَلَدٍ أَوْ إقْلِيمٍ أَوْ مُسْتَوْفِي خَرَاجِهِ أَوْ جَابِي صَدَقَاتِهِ أَوْ حَامِي ثَغْرِهِ أَوْ نَقِيبِ جُنْدٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَاصُّ النَّظَرِ مَخْصُوصُ الْعَمَلِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْوُلَاةِ شُرُوطٌ تَنْعَقِدُ بِهَا وِلَايَتُهُ، وَيَصِحُّ مَعَهَا نَظَرُهُ، وَنَحْنُ نَذْكُرُهَا فِي أَبْوَابِهَا وَمَوَاضِعِهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ.

الباب الثاني: في تقليد الوزارة

الباب الثاني: في تقليد الوزارة مدخل ... الباب الثاني: في تقليد الوزارة وَالْوَزَارَةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: وَزَارَةُ تَفْوِيضٍ1 وَوَزَارَةُ تَنْفِيذٍ. فَأَمَّا وَزَارَةُ التَّفْوِيضِ فَهُوَ أَنْ يَسْتَوْزِرَ الْإِمَامُ مَنْ يُفَوِّضُ إلَيْهِ تَدْبِيرَ الْأُمُورِ بِرَأْيِهِ، وَإِمْضَاءَهَا عَلَى اجْتِهَادِهِ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ جَوَازُ هَذِهِ الْوَزَارَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّهِ مُوسَى -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه: 29-32] . فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فِي النُّبُوَّةِ كَانَ فِي الْإِمَامَةِ أَجْوَزُ، وَلِأَنَّ مَا وُكِّلَ إلَى الْإِمَامِ مِنْ تَدْبِيرِ الْأُمَّةِ لَا يَقْدِرُ عَلَى مُبَاشَرَةِ جَمِيعِهِ إلَّا بِاسْتِنَابَةٍ، وَنِيَابَةُ الْوَزِيرِ الْمُشَارِكِ لَهُ فِي التَّدْبِيرِ أَصَحُّ فِي تَنْفِيذِ الْأُمُورِ مِنْ تَفَرُّدِهِ بِهَا؛ لِيَسْتَظْهِرَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَبِهَا يَكُونُ أَبْعَدَ مِنَ الزَّلَلِ وَأَمْنَعَ مِنَ الْخَلَلِ. وَيُعْتَبَرُ فِي تَقْلِيدِ هَذِهِ الْوَزَارَةِ شُرُوطُ الْإِمَامَةِ إلَّا النَّسَبَ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ مُمْضِي الْآرَاءِ وَمُنَفِّذُ الِاجْتِهَادِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ عَلَى صِفَاتِ الْمُجْتَهِدِينَ. وَيَحْتَاجُ فِيهَا إلَى شَرْطٍ زَائِدٍ عَلَى شُرُوطِ الْإِمَامَةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِفَايَةِ فِيمَا وُكِّلَ إلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْحَرْبِ وَالْخَرَاجِ خِبْرَةً بِهِمَا وَمَعْرِفَةً بِتَفْصِيلِهِمَا، فَإِنَّهُ مُبَاشِرٌ لَهُمَا تَارَةً وَمُسْتَنِيبٌ فِيهِمَا أُخْرَى، فَلَا يَصِلُ إلَى اسْتِنَابَةِ الْكُفَاةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ، كَمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمُبَاشَرَةِ إذَا قَصَّرَ عَنْهُمْ، وَعَلَى هَذَا الشَّرْطِ مَدَارُ الْوَزَارَةِ وَبِهِ تَنْتَظِمُ السِّيَاسَةُ.

_ 1 قلت: وزير التفويض هو الوزير الذي يعيِّنه الخليفة ليتحمَّل معه مسئولية الحكم والسلطان، فيفوّض إليه تدبير الأمور برأيه، وإمضاءها حَسَب اجتهاده وفق أحكام الشرع، وإيجاد المعاون من المباحات، فيجوز للخليفة أن يعيّن معاونًا له يعاونه ويساعده في مسئولياته وأعماله، فقد أخرج الحاكم والترمذي عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "وزيراي من السَّمَاء جبريل وميكائيل، ومن الأرض أبو بكر وعمر"، وكلمة الوزير كما في الحديث يراد بها المعين والمساعد الذي هو المعني اللغوي، كما استعمل القرآن الكريم كلمة "وزير" بهذا المعني اللغوي، قال تعالى: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي} ، أي معينًا ومساعدًا. كما أنَّ كلمة وزير في الحديث مطلقة تشمل، أي: معونة وأية مساعدة في أيِّ أمر من الأمور، ومنها إعانة الخليفة في مسئولية الخلافة وأعمالها.

حُكِيَ أَنَّ الْمَأْمُونَ -رَحِمَهُ اللَّهُ- كَتَبَ فِي اخْتِيَارِ وَزِيرٍ: إنِّي الْتَمَسْتُ لِأُمُورِي رَجُلًا جَامِعًا لِخِصَالِ الْخَيْر، ِ ذَا عِفَّةٍ فِي خَلَائِقِهِ وَاسْتِقَامَةٍ فِي طَرَائِقِهِ، قَدْ هَذَّبَتْهُ الْآدَابُ وَأَحْكَمَتْهُ التَّجَارِبُ، إنِ اؤتمن عَلَى الْأَسْرَارِ قَامَ بِهَا، وَإِنْ قُلِّدَ مُهِمَّاتِ الْأُمُورِ نَهَضَ فِيهَا، يُسْكِتُهُ الْحِلْمُ وَيُنْطِقُهُ الْعِلْمُ، وَتَكْفِيهِ اللَّحْظَةُ وَتُغْنِيهِ اللَّمْحَةُ، لَهُ صَوْلَةُ الْأُمَرَاءِ وَأَنَاةُ الْحُكَمَاءِ وَتَوَاضُعُ الْعُلَمَاءِ وَفَهْمُ الْفُقَهَاءِ، إنْ أُحْسِنَ إلَيْهِ شَكَرَ، وَإِنْ اُبْتُلِيَ بِالْإِسَاءَةِ صَبَرَ، لَا يَبِيعُ نَصِيبَ يَوْمِهِ بِحِرْمَانِ غَدِهِ، يَسْتَرِقُّ قُلُوبَ الرِّجَالِ بِخِلَابَةِ لِسَانِهِ وَحُسْنِ بَيَانِهِ، وَقَدْ جَمَعَ بَعْضَ الشُّعَرَاءِ1 هَذِهِ الْأَوْصَافَ فَأَوْجَزَهَا، وَوَصَفَ بَعْضَ وُزَرَاءِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ بِهَا فَقَالَ "من الوافر": بَدِيهَتُهُ وَفِكْرَتُهُ سَوَاءٌ ... إذَا اشْتَبَهَتْ عَلَى النَّاسِ الْأُمُورُ وَأَحْزَمُ مَا يَكُونُ الدَّهْرَ يَوْمًا إذَا ... أَعْيَا الْمُشَاوِرُ وَالْمُشِيرُ وَصَدْرٌ فِيهِ لِلْهَمِّ اتِّسَاعٌ ... إذَا ضَاقَتْ مِنَ الْهَمِّ الصُّدُورُ فَهَذِهِ الْأَوْصَافُ إذَا كَمُلَتْ فِي الزَّعِيمِ الْمُدَبِّرِ -وَقَلَّ مَا تَكْمُلُ- فَالصَّلَاحُ بِنَظَرِهِ عَامٌّ، وَمَا يُنَاطُ بِرَأْيِهِ وَتَدْبِيرِهِ تَامٌّ؛ وَإِنْ اخْتَلَّتْ فَالصَّلَاحُ بِحَسَبِهَا يَخْتَلُّ، وَالتَّدْبِيرُ عَلَى قَدْرِهَا يَعْتَلُّ، وَلَئِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْ الشُّرُوطِ الدِّينِيَّةِ الْمَحْضَةِ فَهُوَ مِنْ شُرُوطِ السِّيَاسَةِ الْمُمَازِجَةِ لِشُرُوطِ الدِّينِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ مَصَالِحِ الْأُمَّةِ وَاسْتِقَامَةِ الْمِلَّةِ. فَإِذَا كَمُلَتْ شُرُوطُ هَذِهِ الْوَزَارَةِ فِيمَنْ هُوَ أَهْلٌ لَهَا فَصِحَّةُ التَّقْلِيدِ فِيهَا مُعْتَبَرَةٌ بِلَفْظِ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَوْزِرِ؛ لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ تَفْتَقِرُ إلَى عَقْدٍ، وَالْعُقُودُ لَا تَصِحُّ إلَّا بِالْقَوْلِ الصَّرِيحِ، فَإِنْ وَقَعَ لَهُ بِالنَّظَرِ وَأَذِنَ لَهُ لَمْ يَتِمَّ التَّقْلِيدُ، حُكْمًا، وَإِنْ أَمْضَاهُ الْوُلَاةُ عُرْفًا حَتَّى يَعْقِدَ لَهُ الْوَزَارَةَ بِلَفْظٍ يَشْتَمِلُ عَلَى شَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عُمُومُ النَّظَرِ. وَالثَّانِي: النِّيَابَةُ.

_ 1 هو أشجع بن عمرو السلمي من وَلَد الشريد بن مطرود، رُبِّي ونشأ بالبصرة، ثم خرج إلى الرقة والرشيد بها، فمدح البرامكة وانقطع إلى جعفر خاصَّة وأصفاه مدحه، ووصله الرشيد وأعجبه وأثرت حاله في أيامه وتقدَّم عنده.

فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى عُمُومِ النَّظَرِ دُونَ النِّيَابَةِ فَكَانَ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ أَخَصَّ؛ فَلَمْ تَنْعَقِدْ بِهِ الْوَزَارَةُ، فَإِنْ اقْتَصَرَ بِهِ عَلَى النِّيَابَةِ فَقَدْ أَبْهَمَ مَا اسْتَنَابَهُ فِيهِ مِنْ عُمُومٍ وَخُصُوصٍ أَوْ تَنْفِيذٍ وَتَفْوِيضٍ فَلَمْ تَنْعَقِدْ بِهِ الْوَزَارَةُ، وَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا انْعَقَدَتْ وَتَمَّتْ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا يَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ بِأَحْكَامِ الْعُقُودِ أَخَصُّ أَنْ يَقُولَ: قَدْ قَلَّدْتُكَ مَا إلَيَّ نِيَابَةً عَنِّي، فَتَنْعَقِدُ بِهِ الْوَزَارَةُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَمَعَ لَهُ بَيْنَ عُمُومِ النَّظَرِ وَالِاسْتِنَابَةِ فِي النَّظَرِ، فَإِنْ قَالَ لَهُ: نُبْ عَنِّي فِيمَا إلَيَّ، احْتَمَلَ أَنْ تَنْعَقِدَ بِهِ الْوَزَارَةُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَمَعَ لَهُ فِي هَذَا اللَّفْظِ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ: عُمُومِ النَّظَرِ وَالِاسْتِنَابَةِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا تَنْعَقِدَ بِهِ الْوَزَارَةُ؛ لِأَنَّهُ إذْنٌ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَتَقَدَّمَهُ عَقْدٌ، وَالْإِذْنُ فِي أَحْكَامِ الْعُقُودِ لَا تَصِحُّ بِهِ الْعُقُودُ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ: قَدْ اسْتَنَبْتُكَ فِيمَا إلَيَّ، انْعَقَدَتْ بِهِ الْوَزَارَةُ؛ لِأَنَّهُ عَدَلَ عَنْ مُجَرَّدِ الْإِذْنِ إلَى أَلْفَاظِ الْعُقُودِ. وَلَوْ قَالَ: اُنْظُرْ فِيمَا إلَيَّ, لَمْ تَنْعَقِدْ بِهِ الْوَزَارَةُ؛ لِاحْتِمَالِهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي تَصَفُّحِهِ أَوْ فِي تَنْفِيذِهِ أَوْ فِي الْقِيَامِ بِهِ، وَالْعَقْدُ لَا يَنْبَرِمُ بِلَفْظٍ مُحْتَمَلٍ حَتَّى يَصِلَهُ بِمَا يَنْفِي عَنْهُ الِاحْتِمَالَ، وَلَيْسَ يُرَاعَى فِيمَا يُبَاشِرُهُ الْخُلَفَاءُ وَمُلُوكُ الْأُمَمِ مِنْ الْعُقُودِ الْعَامَّةِ مَا يُرَاعَى فِي الْخَاصَّةِ مِنَ الشُّرُوطِ الْمُؤَكِّدَةِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ مِنْ عَادَتِهِمْ الِاكْتِفَاءُ بِيَسِيرِ الْقَوْلِ عَنْ كَثِيرِهِ، فَصَارَ ذَلِكَ فِيهِمْ عُرْفًا مَخْصُوصًا، وَرُبَّمَا اسْتَثْقَلُوا الْكَلَامَ فَاقْتَصَرُوا عَلَى الْإِشَارَةِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَيْسَ يَتَعَلَّقُ بِهَا فِي الشَّرْعِ حُكْمٌ لِنَاطِقٍ سَلِيمٍ، فَكَذَلِكَ خَرَجَتْ بِالشَّرْعِ مِنْ عُرْفِهِمْ. وَالثَّانِي: إنَّهُمْ لِقِلَّةِ مَا يُبَاشِرُونَهُ مِنَ الْعُقُودِ تُجْعَلُ شَوَاهِدُ الْحَالِ فِي تَأَهُّبِهِمْ لَهَا مُوجِبًا لِحَمْلِ لَفْظِهِمْ الْمُجْمَلِ عَلَى الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ دُونَ الِاحْتِمَالِ الْمُجَرَّدِ، فَهَذَا وَجْهٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ بعُرْفِ الْمَنْصِبِ أَشْبَهُ أَنْ يَقُولَ: قَدْ اسْتَوْزَرْتُكَ تَعْوِيلًا عَلَى نِيَابَتِكَ، فَتَنْعَقِدُ بِهِ هَذِهِ الْوَزَارَةُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ عُمُومِ النَّظَرِ فِيمَا إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: اسْتَوْزَرْتُكَ؛ لِأَنَّ نَظَرَ الْوَزَارَةِ عَامٌّ، وَبَيَّنَ النِّيَابَةِ بِقَوْلِهِ: تَعْوِيلًا عَلَى نِيَابَتِكَ، فَخَرَجَتْ عَنْ وَزَارَةِ التَّنْفِيذِ إلَى وَزَارَةِ التَّفْوِيضِ. وَلَوْ قَالَ: قَدْ فَوَّضْتُ إلَيْكَ وَزَارَتِي، احْتَمَلَ أَنْ تَنْعَقِدَ بِهِ هَذِهِ الْوَزَارَةُ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ التَّفْوِيضِ

فِيهَا يُخْرِجُهَا عَنْ وَزَارَةِ التَّنْفِيذِ إلَى وَزَارَةِ التَّفْوِيضِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَنْعَقِدَ؛ لِأَنَّ التَّفْوِيضَ مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْوَزَارَةِ، فَافْتَقَرَ إلَى عَقْدٍ يَتَقَدَّمُهُ، وَالْأَوَّلُ مِنَ الِاحْتِمَالَيْنِ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: قَدْ فَوَّضْنَا إلَيْكَ الْوَزَارَةَ صَحَّ؛ لِأَنَّ وُلَاةَ الْأُمُورِ يُكَنُّونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَيُعَظِّمُونَ عَنْ إضَافَةِ الشَّيْءِ إلَيْهِمْ فَيُرْسِلُونَهُ، فَيَقُومُ قَوْلُهُ: قَدْ فَوَّضْنَا إلَيْكَ، مَقَامَ قَوْلِهِ: فَوَّضْتُ إلَيْكَ، وَقَوْلُهُ: الْوَزَارَةُ مَقَامَ قَوْلِهِ: وَزَارَتِي، وَهَذَا أَفْخَمُ قَوْلٍ عُقِدَتْ بِهِ وَزَارَةُ التَّفْوِيضِ وَأَوْجَزُهُ، وَلَوْ كَنَّى غَيْرُ الْمُلُوكِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِالْجَمْعِ وَتَرَكَ الْإِضَافَةَ لَمَا تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمُ التَّفَرُّدِ وَالْإِضَافَةِ؛ لِخُرُوجِهِ عَنِ الْعُرْفِ الْمَعْهُودِ، فَأَمَّا إذَا قَالَ: قَدْ قَلَّدْتُكَ وَزَارَتِي أَوْ قَدْ قَلَّدْنَاكَ الْوَزَارَةَ، لَمْ يَصِرْ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنْ وُزَرَاءِ التَّفْوِيضِ حَتَّى يُبَيِّنَهُ بِمَا يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّفْوِيضَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّهِ مُوسَى -صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه: 29-32] . فَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى مُجَرَّدِ الْوَزَارَةِ حَتَّى قَرَنَهَا بِشَدِّ أَزْرِهِ وَإِشْرَاكِهِ فِي أَمْرِهِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْوَزَارَةِ مُخْتَلَفٌ فِي اشْتِقَاقِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوِزْرِ وَهُوَ الثِّقَلُ؛ لِأَنَّهُ يَحْمِلُ عَنِ الْمَلِكِ أَثْقَالَهُ. الثَّانِي: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَزَرِ وَهُوَ الْمَلْجَأُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {كَلَّا لَا وَزَرَ} [القيامة: 11] . أَيْ: لَا مَلْجَأَ، فَسُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَلِكَ يُلْجَأُ إلَى رَأْيِهِ وَمَعُونَتِهِ. وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَزْرِ وَهُوَ الظَّهْرُ؛ لِأَنَّ الْمَلِكَ يَقْوَى بِوَزِيرِهِ، كَقُوَّةِ الْبَدَنِ بِالظَّهْرِ، وَلِأَيِّ هَذِهِ الْمَعَانِي كَانَ مُشْتَقًّا فَلَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا مَا يُوجِبُ الِاسْتِبْدَادَ بِالْأُمُورِ.

فَصْلٌ: "في الفروق بين سلطات الوزير والإمام" وَإِذَا تَقَرَّرَ مَا تَنْعَقِدُ بِهِ وَزَارَةُ التَّفْوِيضِ فَالنَّظَرُ فِيهَا -وَإِنْ كَانَ عَلَى الْعُمُومِ- مُعْتَبَرٌ بِشَرْطَيْنِ، يَقَعُ الْفَرْقُ بِهِمَا بَيْنَ الْإِمَامَةِ وَالْوَزَارَةِ: أَحَدُهُمَا: ما يخْتَصُّ بِالْوَزِيرِ، وَهُوَ مُطَالَعَةُ الْإِمَامِ لِمَا أَمْضَاهُ مِنْ تَدْبِيرٍ، وَأَنْفَذَهُ مِنْ وِلَايَةٍ وَتَقْلِيدٍ، لِئَلَّا يَصِيرَ بِالِاسْتِبْدَادِ كَالْإِمَامِ. وَالثَّانِي: مُخْتَصٌّ بِالْإِمَامِ، وَهُوَ أَنْ يَتَصَفَّحَ أَفْعَالَ الْوَزِيرِ وَتَدْبِيرَهُ الْأُمُورَ؛ لِيُقِرَّ مِنْهَا مَا وَافَقَ الصَّوَابَ، وَيَسْتَدْرِكَ مَا خَالَفَهُ؛ لِأَنَّ تَدْبِيرَ الْأُمَّةِ إلَيْهِ مَوْكُولٌ، وَعَلَى اجْتِهَادِهِ مَحْمُولٌ. وَيَجُوزُ لِهَذَا الْوَزِيرِ أَنْ يَحْكُمَ بِنَفْسِهِ، وَأَنْ يُقَلِّدَ الْحُكَّامَ، كَمَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْإِمَامِ؛ لِأَنَّ شُرُوطَ الْحُكْمِ فِيهِ مُعْتَبَرَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْمَظَالِمِ وَيَسْتَنِيبَ فِيهَا؛ لِأَنَّ شُرُوطَ الْمَظَالِمِ فِيهِ مُعْتَبَرَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى الْجِهَادَ بِنَفْسِهِ، وَأَنْ يُقَلِّدَ مَنْ يَتَوَلَّاهُ؛ لِأَنَّ شُرُوطَ الْحَرْبِ فِيهِ مُعْتَبَرَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُبَاشِرَ تَنْفِيذَ الْأُمُورِ الَّتِي دَبَّرَهَا، وَأَنْ يَسْتَنِيبَ فِي تَنْفِيذِهَا؛ لِأَنَّ شُرُوطَ الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ فِيهِ مُعْتَبَرَةٌ. وَكُلُّ مَا صَحَّ مِنَ الْإِمَامِ صَحَّ مِنَ الْوَزِيرِ إلَّا ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: وِلَايَةُ الْعَهْدِ، فَإِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْهَدَ إلَى مَنْ يَرَى، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْوَزِيرِ. الثَّانِي: إنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَعْفِيَ الْأُمَّةَ مِنَ الْإِمَامَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْوَزِيرِ. وَالثَّالِثُ: إنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْزِلَ مَنْ قَلَّدَهُ الْوَزِيرُ، وَلَيْسَ لِلْوَزِيرِ أَنْ يَعْزِلَ مَنْ قَلَّدَهُ الْإِمَامُ. وَمَا سِوَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَحُكْمُ التَّفْوِيضِ إلَيْهِ يَقْتَضِي جَوَازَ فِعْلِهِ وَصِحَّةِ نُفُوذِهِ مِنْهُ، فَإِنْ عَارَضَهُ الْإِمَامُ فِي رَدِّ مَا أَمْضَاهُ، فَإِنْ كَانَ فِي حُكْمٍ نَفَذَ عَلَى وَجْهٍ، أَوْ فِي مَالٍ وُضِعَ فِي حَقِّهِ لَمْ يَجُزْ نَقْضُ مَا نَفَذَ بِاجْتِهَادِهِ مِنْ حُكْمٍ، وَلَا اسْتِرْجَاعُ مَا فَرَّقَ بِرَأْيِهِ مِنْ مَالٍ، فَإِنْ كَانَ فِي تَقْلِيدِ وَالٍ أَوْ تَجْهِيزِ جَيْشٍ وَتَدْبِيرِ حَرْبٍ، جَازَ لِلْإِمَامِ مُعَارَضَتُهُ بِعَزْلِ الْمُوَلَّى وَالْعُدُولِ بِالْجَيْشِ إلَى حَيْثُ يَرَى، وَتَدْبِيرُ الْحَرْبِ بِمَا هُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَدْرِكَ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِ نَفْسِهِ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَسْتَدْرِكَهُ مِنْ أَفْعَالِ وَزِيرِهِ.

فَلَوْ قَلَّدَ الْإِمَامُ وَالِيًا عَلَى عَمَلٍ، وَقَلَّدَ الْوَزِيرُ غَيْرَهُ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ، نُظِرَ فِي أَسْبَقِهِمَا بِالتَّقْلِيدِ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ أَسْبَقَ تَقْلِيدًا فَتَقْلِيدُهُ أَثْبَتُ، وَلَا وِلَايَةَ لِمَنْ قَلَّدَهُ الْوَزِيرُ، وَإِنْ كَانَ تَقْلِيدُ الْوَزِيرِ أَسْبَقَ، فَإِنْ عَلِمَ الْإِمَامُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَقْلِيدِ الْوَزِيرِ كَانَ فِي تَقْلِيدِهِ الْإِمَامَ لِغَيْرِهِ عَزْلُ الْأَوَّلِ، وَاسْتِئْنَافُ تَقْلِيدِ الثَّانِي، فَصَحَّ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْإِمَامُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَقْلِيدِ الْوَزِيرِ، فَتَقْلِيدُ الْوَزِيرِ أَثْبَتُ، وَتَصِحُّ وِلَايَةُ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي؛ لِأَنَّ تَقْلِيدَ الثَّانِي مَعَ الْجَهْلِ بِتَقْلِيدِ الْأَوَّلِ لَا يَكُونُ عَزْلًا لَوْ عَلِمَ بِتَقْلِيدِهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَنْعَزِلُ الْأَوَّلُ مَعَ عِلْمِ الْإِمَامِ بِحَالِهِ إذَا قَلَّدَ غَيْرَهُ حَتَّى يَعْزِلَهُ قَوْلًا، فَيَصِيرُ بِالْقَوْلِ مَعْزُولًا لَا بِتَقْلِيدِ غَيْرِهِ، فَعَلَى هَذَا إنْ كَانَ النَّظَرُ مِمَّا يَصِحُّ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ صَحَّ تَقْلِيدُهُمَا، فَكَانَا مُشْتَرِكَيْنِ فِي النَّظَرِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَصِحُّ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ كَانَ تَقْلِيدُهُمَا مَوْقُوفًا عَلَى عَزْلِ أَحَدِهِمَا وَإِقْرَارِ الْآخَرِ؛ فَإِنْ تَوَلَّى ذَلِكَ الْإِمَامُ جَازَ أَنْ يَعْزِلَ أَيَّهُمَا شَاءَ وَيُقِرَّ الْآخَرَ، وَإِنْ تَوَلَّاهُ الْوَزِيرُ جَازَ أَنْ يَعْزِلَ مَنِ اخْتَصَّ بِتَقْلِيدِهِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْزِلَ مَنْ قَلَّدَهُ الْإِمَامُ.

فصل: "في الفرق بين وزارة التفويض ووزارة التنفيذ"

فَصْلٌ: "في الفرق بين وزارة التفويض ووزارة التنفيذ" 1 وَأَمَّا وَزَارَةُ التَّنْفِيذِ فَحُكْمُهَا أَضْعَفُ وَشُرُوطُهَا أَقَلُّ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ فِيهَا مَقْصُورٌ عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ وَتَدْبِيرِهِ، وَهَذَا الْوَزِيرُ وَسَطٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّعَايَا وَالْوُلَاةِ يُؤَدِّي عَنْهُ مَا أَمَرَ، وَيُنَفِّذُ عَنْهُ مَا ذَكَرَ، وَيُمْضِي مَا حَكَمَ، وَيُخْبِرُ بِتَقْلِيدِ الْوُلَاةِ وَتَجْهِيزِ الْجُيُوشِ، وَيَعْرِضُ عَلَيْهِ مَا وَرَدَ مِنْ مُهِمٍّ وَتَجَدَّدَ مِنْ حَدَثٍ مُلِمٍّ؛ لِيَعْمَلَ فِيهِ مَا يُؤْمَرُ بِهِ، فَهُوَ مُعِينٌ فِي تَنْفِيذِ الْأُمُورِ، وَلَيْسَ بِوَالٍ عَلَيْهَا وَلَا مُتَقَلِّدًا لَهَا، فَإِنْ شُورِكَ فِي الرَّأْيِ كَانَ بِاسْمِ الْوَزَارَةِ أَخَصَّ، وَإِنْ لَمْ يُشَارَكْ فِيهِ كَانَ بِاسْمِ الْوَاسِطَةِ وَالسِّفَارَةِ أَشْبَهَ، وَلَيْسَ تَفْتَقِرُ هَذِهِ الْوَزَارَةُ إلَى تَقْلِيدٍ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى فِيهَا مُجَرَّدُ الْإِذْنِ، وَلَا تُعْتَبَرُ فِي الْمُؤَهَّلِ لَهَا الْحُرِّيَّةُ وَلَا الْعِلْمُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِوِلَايَةٍ وَلَا تَقْلِيدٍ، فَتُعْتَبَرُ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْعِلْمُ، وَإِنَّمَا هُوَ مَقْصُورُ النَّظَرِ عَلَى أَمْرَيْنِ:

_ 1 قال أبو يعلى الفراء: ويجوز للخليفة أن يقلِّد وزيرين، وزير تفويض ووزير تنفيذ، فوزير التفويض مطلق التصرّف، ووزير التنفيذ مقصور على تنفيذ ما صدَرَت به أوامر الخليفة، ولا يجوز لوزير التنفيذ أن يولِّي معزولًا ولا يعزل مولَّى، ويجوز لوزير التفويض أن يولِّي معزولًا ويعزل مولَّاه، ولا يجوز له أن يعزل من ولَّاه الخليفة. وليس لوزير التفويض أن يوقِّع عن نفسه ولا عن الخليفة إلا بإذنه، ويجوز لوزير التفويض أن يوقِّع عن نفسه إلى عماله وعمال الخليفة، ويلزمهم قبول توقيعاته، ولا يجوز أن يوقِّع عن الخليفة إلّا بأمره في عموم وخصوص، وإذا عزل الخليفة وزير التنفيذ لم ينعزل به أحد من الولاة. وإذ عزل وزير التفويض انعزل به عمَّال التنفيذ، ولم ينعزل به عمال التفويض؛ لأن عمالة التنفيذ نيابة، وعمالة التفويض ولاية. ويجوز لوزير التفويض أن يستخلف نائبًا عنه، ولا يجوز لوزير التنفيذ أن يستخلف من ينوب عنه؛ لأنَّ الاستخلاف تقليد، فصحَّ من وزير التفويض ولم يصح من وزير التنفيذ، وإذا نهى الخليفة وزير التفويض عن الاستخلاف لم يكن له أن يستخلف؛ لأنَّ كل واحد من الوزيرين متصرِّف عن أمر الخليفة ونهيه، وإن اقترن حكمهما مع إطلاق التقليد. وإذا فوّض الخليفة تدبير الأقاليم إلى ولاتها وكّل النظر فيها إلى المستولي عليها، فالذي عليه أهل زماننا جواز ذلك، وكان حكم وزيره معه كحكم وزير الخليفة مع الخليفة في اعتبار الوزارتين.

أَحَدُهُمَا: أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى الْخَلِيفَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ، فَيُرَاعِي فِيهِ سَبْعَةَ أَوْصَافٍ1: أَحَدُهَا: الْأَمَانَةُ حَتَّى لَا يَخُونَ فِيمَا قَدْ اُؤْتُمِنَ عَلَيْهِ، وَلَا يَغُشَّ فِيمَا قَدْ اُسْتُنْصِحَ فِيهِ. وَالثَّانِي: صِدْقُ اللَّهْجَةِ حَتَّى يُوثَقَ بِخَبَرِهِ فِيمَا يُؤَدِّيهِ، وَيُعْمَلَ عَلَى قَوْلِهِ فِيمَا يُنْهِيهِ. وَالثَّالِثُ: قِلَّةُ الطَّمَعِ حَتَّى لَا يَرْتَشِيَ فِيمَا يَلِي، وَلَا يَنْخَدِعَ فَيَتَسَاهَلَ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَسْلَمَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ مِنْ عَدَاوَةٍ وَشَحْنَاءَ، فَإِنَّ الْعَدَاوَةَ تَصُدُّ عَنِ التَّنَاصُفِ وَتَمْنَعُ مِنَ التَّعَاطُفِ. وَالْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ ذُكُورًا لِمَا يُؤَدِّيهِ إلَى الْخَلِيفَةِ وَعَنْهُ؛ لِأَنَّهُ شَاهِدٌ لَهُ وَعَلَيْهِ. وَالسَّادِسُ: الذَّكَاءُ وَالْفِطْنَةُ؛ حَتَّى لَا تُدَلَّسَ عَلَيْهِ الْأُمُورُ فَتَشْتَبِهَ، وَلَا تُمَوَّهَ عَلَيْهِ فَتَلْتَبِسَ، فَلَا يَصِحُّ مَعَ اشْتِبَاهِهَا عَزْمٌ، وَلَا يَصْلُحُ مَعَ الْتِبَاسِهَا حَزْمٌ، وَقَدْ أَفْصَحَ بِهَذَا الْوَصْفِ وَزِيرُ الْمَأْمُونِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزْدَادَ2؛ حَيْثُ يَقُولُ "مِنْ الطَّوِيلِ": إصَابَةُ مَعْنَى الْمَرْءِ رُوحُ كَلَامِهِ ... فَإِنْ أَخْطَأَ الْمَعْنَى فَذَاكَ مَوَاتُ إذَا غَابَ قَلْبُ الْمَرْءِ عَنْ حِفْظِ لَفْظِهِ ... فَيَقْظَتُهُ لِلْعَالَمِينَ سُبَاتُ وَالسَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، فَيُخْرِجُهُ الْهَوَى مِنَ الْحَقِّ إلَى الْبَاطِلِ، وَيَتَدَلَّسُ عَلَيْهِ الْمُحِقُّ مِنَ الْمُبْطِلِ، فَإِنَّ الْهَوَى خَادِعُ الْأَلْبَابِ، وَصَارِفٌ لَهُ عَنِ الصَّوَابِ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ". قَالَ الشَّاعِرُ3 "مِنَ السَّرِيعِ": إنَّا إذَا قَلَّتْ دَوَاعِي الْهَوَى ... وَأَنْصَتَ السَّامِعُ لِلْقَائِلِ

_ 1 قلت: ذكرها أبو يعلى الفراء. 2 هو محمد بن يزداد بن سويد الكاتب المروزي الوزير، وزر للمأمون، كان حَسَن البلاغة، كثير الأدب، مشهورًا بقول الشعر، له في المأمون مرثية معروفة، وكان سليمان بن وهب يكتب بين يديه، وكان به خاصًّا، ثم اتَّصَل به أن سليمان سعى عليه فأبعده. 3 هو الربيع بن أبي الحقيق اليهودي.

وَاصْطَرَعَ الْقَوْمُ بِأَلْبَابِهِمْ ... نَقْضِي بِحُكْمٍ عَادِلٍ فَاصِلِ لَا نَجْعَلُ الْبَاطِلَ حَقًّا وَلَا ... نَلْفِظُ دُونَ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ نَخَافُ أَنْ تُسَفَّهَ أَحْلَامُنَا ... فَنَحْمِلُ الدَّهْرَ مَعَ الْحَامِلِ فَإِنْ كَانَ هَذَا الْوَزِيرُ مُشَارِكًا فِي الرَّأْيِ احْتَاجَ إلَى وَصْفٍ ثَامِنٍ وَهُوَ الْحِنْكَةُ وَالتَّجْرِبَةُ الَّتِي تُؤَدِّيهِ إلَى صِحَّةِ الرَّأْيِ وَصَوَابِ التَّدْبِيرِ، فَإِنَّ فِي التَّجَارِبِ خِبْرَةً بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ، وَإِنْ لَمْ يُشَارَكْ فِي الرَّأْيِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى هَذَا الْوَصْفِ، وَإِنْ كَانَ يَنْتَهِي إلَيْهِ مَعَ كَثْرَةِ الْمُمَارَسَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَقُومَ بِذَلِكَ امْرَأَةٌ وَإِنْ كَانَ خَبَرُهَا مَقْبُولًا؛ لِمَا تَضَمَّنَهُ مَعْنَى الْوِلَايَاتِ الْمَصْرُوفَةِ عَنِ النِّسَاءِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا أَفْلَحَ قَوْمٌ أَسْنَدُوا أَمْرَهُمْ إلَى امْرَأَةٍ" 1. وَلِأَنَّ فِيهَا مِنْ طَلَبِ الرَّأْيِ وَثَبَاتِ الْعَزْمِ مَا تَضْعُفُ عَنْهُ النِّسَاءُ، وَمِنَ الظُّهُورِ فِي مُبَاشَرَةِ الْأُمُورِ مَا هُوَ عَلَيْهِنَّ مَحْظُورٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَزِيرُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ وَزِيرُ التَّفْوِيضِ مِنْهُمْ، وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْوَزَارَتَيْنِ بِحَسَبِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي النَّظَرَيْنِ، وَذَاكَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إِنَّهُ يَجُوزُ لِوَزِيرِ التَّفْوِيضِ مُبَاشَرَةُ الْحُكْمِ وَالنَّظَرُ فِي الْمَظَالِمِ؛ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِوَزِيرِ التَّنْفِيذِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ يَجُوزُ لِوَزِيرِ التَّفْوِيضِ أَنْ يَسْتَبِدَّ بِتَقْلِيدِ الْوُلَاةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِوَزِيرِ التَّنْفِيذِ. وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ يَجُوزُ لِوَزِيرِ التَّفْوِيضِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِتَسْيِيرِ الْجُيُوشِ وَتَدْبِيرِ الْحُرُوبِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِوَزِيرِ التَّنْفِيذِ. وَالرَّابِعُ: إِنَّهُ يَجُوزُ لِوَزِيرِ التَّفْوِيضِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ بِقَبْضِ مَا يَسْتَحِقُّ لَهُ، وَبِدَفْعِ مَا يَجِبُ فِيهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِوَزِيرِ التَّنْفِيذِ، وَلَيْسَ فِيمَا عَدَا هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ مَا يَمْنَعُ أَهْلَ الذِّمَّةِ مِنْهَا، إلَّا أَنْ يَسْتَطِيلُوا فَيَكُونُوا مَمْنُوعِينَ مِنَ الِاسْتِطَالَة. وَلِهَذِهِ الْفُرُوقِ الْأَرْبَعَةِ بَيْنَ النَّظِيرَيْنِ افْتَرَقَ فِي أَرْبَعَةٍ مِنْ شُرُوطِ الْوَزَارَتَيْنِ:

_ 1 صحيح: رواه البخاري في كتاب الفِتَن "7099"، والترمذي في كتاب الفتن "2262"، والنسائي في كتاب آداب القضاة "5388"، وأحمد "27535".

أَحَدُهَا: أَنَّ الْحُرِّيَّةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي وَزَارَةِ التَّفْوِيضِ، وَغَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي وَزَارَةِ التَّنْفِيذِ. الثاني: أنَّ الإسلام مُعْتَبَرٌ فِي وَزَارَةِ التَّفْوِيضِ، وَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي وَزَارَةِ التَّنْفِيذِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْعِلْمَ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مُعْتَبَرٌ فِي وَزَارَةِ التَّفْوِيضِ، وَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي وَزَارَةِ التَّنْفِيذِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْمَعْرِفَةَ بِأَمْرَيْ الْحَرْبِ وَالْخَرَاجِ مُعْتَبَرَةٌ فِي وَزَارَةِ التَّفْوِيضِ، وَغَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي وَزَارَةِ التَّنْفِيذِ، فَافْتَرَقَا فِي شُرُوطِ التَّقْلِيدِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ، كَمَا افْتَرَقَا فِي حُقُوقِ النَّظَرِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ، وَاسْتَوَيَا فِيمَا عَدَاهَا مِنْ حُقُوقٍ وَشُرُوطٍ.

فصل: وَيَجُوزُ لِلْخَلِيفَةِ أَنْ يُقَلِّدَ وَزِيرَيْ تَنْفِيذٍ عَلَى اجْتِمَاعٍ وَانْفِرَادٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَ وَزِيرَيْ تَفْوِيضٍ عَلَى الِاجْتِمَاعِ؛ لِعُمُومِ وِلَايَتِهِمَا، كَمَا لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ إمَامَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا رُبَّمَا تَعَارَضَا فِي الْعَقْدِ وَالْحَلِّ وَالتَّقْلِيدِ وَالْعَزْلِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] . فَإِنْ قَلَّدَ وَزِيرَيْ تَفْوِيضٍ لَمْ يَخْلُ حَالُ تَقْلِيدِهِ لَهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُفَوِّضَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُمُومَ النَّظَرِ، فَلَا يَصِحُّ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ دَلِيلٍ وَتَعْلِيلٍ، وَيَنْظُرُ فِي تَقْلِيدِهِمَا، فَإِنْ كَانَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بَطَلَ تَقْلِيدُهُمَا مَعًا، وَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ صَحَّ تَقْلِيدُ السَّابِقِ وَبَطَلَ تَقْلِيدُ الْمَسْبُوقِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ فَسَادِ التَّقْلِيدِ وَالْعَزْلِ أَنَّ فَسَادَ التَّقْلِيدِ يَمْنَعُ مِنْ نُفُوذِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ نَظَرِهِ، وَالْعَزْلُ لَا يَمْنَعُ مِنْ نُفُوذِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ نَظَرِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُشْرِكَ بَيْنَهُمَا فِي النَّظَرِ عَلَى اجْتِمَاعِهِمَا فِيهِ، وَلَا يَجْعَلَ إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ، فَهَذَا يَصِحُّ، وَتَكُونُ الْوَزَارَةُ بَيْنَهُمَا لَا فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَهُمَا تَنْفِيذُ مَا اتَّفَقَ رَأْيُهُمَا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُمَا تَنْفِيذُ مَا اخْتَلَفَا فِيهِ، وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى رَأْيِ الْخَلِيفَةِ وَخَارِجًا عَنْ نَظَرِ هَذَيْنِ الْوَزِيرَيْنِ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْوَزَارَةُ قَاصِرَةً عَنْ وَزَارَةِ التَّفْوِيضِ الْمُطْلَقَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اجْتِمَاعُهُمَا عَلَى تَنْفِيذِ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: زَوَالُ نَظَرِهِمَا عَمَّا اخْتَلَفَا فِيهِ. فَإِنْ اتَّفَقَا بَعْدَ الِاخْتِلَافِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ عَنْ رَأْيٍ اجْتَمَعَا عَلَى صَوَابِهِ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمَا فِيهِ دَخَلَ فِي نَظَرِهِمَا وَصَحَّ تَنْفِيذُهُ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاخْتِلَافِ لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ مُتَابَعَةِ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ مَعَ بَقَائِهِمَا عَلَى الرَّأْيِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ فَهُوَ عَلَى خُرُوجِهِ مِنْ نَظَرِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنَ الْوَزِيرِ تَنْفِيذُ مَا لَا يَرَاهُ صَوَابًا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يُشْرِكَ بَيْنَهُمَا فِي النَّظَر، ِ وَيُفْرِدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا لَيْسَ فِيهِ لِلْآخَرِ نَظَرٌ، وَهَذَا يَكُونُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَخُصَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَمَلٍ يَكُونُ فِيهِ عَامَّ النَّظَرِ خَاصَّ الْعَمَلِ، مِثْلَ أَنْ يَرُدَّ إلَى أَحَدِهِمَا وَزَارَةَ بِلَادِ الْمَشْرِقِ وَإِلَى الْآخَرِ وَزَارَةَ بِلَادِ الْمَغْرِبِ،

وَإِمَّا أَنْ يَخُصَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنَظَرٍ يَكُونُ فِيهِ عَامَّ الْعَمَلِ خَاصَّ النَّظَرِ، مِثْلَ أَنْ يَسْتَوْزِرَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْحَرْبِ وَالْآخَرَ عَلَى الْخَرَاجِ، فَيَصِحُّ التَّقْلِيدُ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ، غَيْرَ إنَّهُمَا لَا يَكُونَانِ وَزِيرَيْ تَفْوِيضٍ، وَيَكُونَانِ وَالِيَيْنِ عَلَى عَمَلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ؛ لِأَنَّ وَزَارَةَ التَّفْوِيضِ مَا عَمَّتْ وَنَفَذَ أَمْرُ الْوَزِيرَيْنِ بِهَا فِي كُلِّ عَمَلٍ وَكُلِّ نَظَرٍ؛ وَيَكُونُ تَقْلِيدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُورًا عَلَى مَا خُصَّ بِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مُعَارَضَةُ الْآخَرِ فِي نَظَرِهِ وَعَمَلِهِ، وَيَجُوزُ لِلْخَلِيفَةِ أَنْ يُقَلِّدَ وَزِيرَيْنِ: وَزِيرَ تَفْوِيضٍ وَوَزِيرَ تَنْفِيذٍ، فَيَكُونُ وَزِيرُ التَّفْوِيضِ مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ، وَوَزِيرُ التَّنْفِيذِ مَقْصُورًا عَلَى تَنْفِيذِ مَا وَرَدَتْ بِهِ أَوَامِرُ الْخَلِيفَةِ. وَلَا يَجُوزُ لِوَزِيرِ التَّنْفِيذِ أَنْ يُوَلِّيَ مَعْزُولًا وَلَا أَنْ يَعْزِلَ مُوَلًّى، وَيَجُوزُ لِوَزِيرِ التَّفْوِيضِ أَنْ يُوَلِّيَ الْمَعْزُولَ وَيَعْزِلَ مَنْ وَلَّاهُ، وَلَا يَعْزِلُ مَنْ وَلَّاهُ الْخَلِيفَةُ، وَلَيْسَ لِوَزِيرِ التَّنْفِيذِ أَنْ يُوَقِّعَ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا عَنْ الْخَلِيفَةِ إلَّا بِأَمْرِهِ، وَيَجُوزُ لِوَزِيرِ التَّفْوِيضِ أَنْ يُوَقِّعَ عَنْ نَفْسِهِ إلَى عُمَّالِهِ وَعُمَّالِ الْخَلِيفَةِ، وَيَلْزَمُهُمْ قَبُولُ تَوْقِيعَاتِهِ؛ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوَقِّعَ عَنِ الْخَلِيفَةِ إلَّا بِأَمْرِهِ فِي عُمُومٍ أَوْ خُصُوصٍ، وَإِذَا عَزَلَ الْخَلِيفَةُ وَزِيرَ التَّنْفِيذِ لَمْ يَنْعَزِلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْوُلَاةِ. وَإِذَا عَزَلَ وَزِيرَ التَّفْوِيضِ انْعَزَلَ بِهِ عُمَّالُ التَّنْفِيذِ، وَلَمْ يَنْعَزِلْ بِهِ عُمَّالُ التَّفْوِيضِ؛ لِأَنَّ عُمَّالَ التَّنْفِيذِ نُيَّابٌ وَعُمَّالَ التَّفْوِيضِ وُلَاةٌ، وَيَجُوزُ لِوَزِيرِ التَّفْوِيضِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ نَائِبًا عَنْهُ، وَلَا يَجُوزُ لِوَزِيرِ التَّنْفِيذِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِخْلَافَ تَقْلِيدٌ فَصَحَّ مِنْ وَزِيرِ التَّفْوِيضِ، وَلَمْ يَصِحَّ مِنْ وَزِيرِ التَّنْفِيذِ، وَإِذَا نَهَى الْخَلِيفَةُ وَزِيرَ التَّفْوِيضِ عَنْ الِاسْتِخْلَافِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ، وَإِذَا أَذِنَ لِوَزِيرِ التَّنْفِيذِ فِي الِاسْتِخْلَافِ جَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَزِيرَيْنِ يَتَصَرَّفُ عَنْ أَمْرِ الْخَلِيفَةِ وَنَهْيِهِ، وَإِنْ افْتَرَقَ حُكْمُهُمَا مَعَ إطْلَاقِ التَّقْلِيدِ. وَإِذَا فَوَّضَ الْخَلِيفَةُ تَدْبِيرَ الْأَقَالِيمِ إلَى وُلَاتِهَا وَوَكَّلَ النَّظَرَ فِيهَا إلَى الْمُسْتَوْلِينَ عَلَيْهَا -كَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ زَمَانِنَا- جَازَ لِمَالِكِ كُلِّ إقْلِيمٍ أَنْ يَسْتَوْزِرَ، وَكَانَ حُكْمُ وَزِيرِهِ مَعَهُ كَحُكْمِ وَزِيرِ الْخَلِيفَةِ مَعَ الْخَلِيفَةِ فِي اعْتِبَارِ الْوَزَارَتَيْنِ وَأَحْكَامِ النَّظَرَيْنِ.

الباب الثالث: في تقليد الإمارة على البلاد

الباب الثالث: في تقليد الإمارة على البلاد وَإِذَا قَلَّدَ الْخَلِيفَةُ أَمِيرًا عَلَى إقْلِيمٍ أَوْ بَلَدٍ كَانَتْ إمَارَتُهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ: فَأَمَّا الْعَامَّةُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: إمَارَةُ اسْتِكْفَاءٍ بِعَقْدٍ عَنْ اخْتِيَار. ٍ وَإِمَارَةُ اسْتِيلَاءٍ بِعَقْدٍ عَنْ اضْطِرَارٍ. فَإِمَارَةُ الِاسْتِكْفَاءِ الَّتِي تَنْعَقِدُ عَنْ اخْتِيَارِهِ فَتَشْتَمِلُ عَلَى عَمَلٍ مَحْدُودٍ وَنَظَرٍ مَعْهُودٍ، وَالتَّقْلِيدُ فِيهَا أَنْ يُفَوِّضَ إلَيْهِ الْخَلِيفَةُ إمَارَةَ بَلَدٍ أَوْ إقْلِيمٍ وِلَايَةً عَلَى جَمِيعِ أَهْلِهِ وَنَظَرًا فِي الْمَعْهُودِ مِنْ سَائِرِ أَعْمَالِهِ، فَيَصِيرُ عَامَّ النَّظَرِ فِيمَا كَانَ مَحْدُودًا مِنْ عَمَلٍ وَمَعْهُودًا مِنْ نَظَر، ٍ فَيَشْتَمِلُ نَظَرُهُ فِيهِ عَلَى سَبْعَةِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: النَّظَرُ فِي تَدْبِيرِ الْجُيُوشِ وَتَرْتِيبِهِمْ فِي النَّوَاحِي وَتَقْدِيرِ أَرْزَاقِهِمْ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةُ قَدَّرَهَا فَيَذَرُهَا عَلَيْهِمْ. وَالثَّانِي: النَّظَرُ فِي الْأَحْكَامِ وَتَقْلِيدِ الْقُضَاةِ وَالْحُكَّامِ. وَالثَّالِثُ: جِبَايَةُ الْخَرَاجِ وَقَبْضُ الصَّدَقَاتِ وَتَقْلِيدُ الْعُمَّالِ فِيهِمَا وَتَفْرِيقُ مَا اُسْتُحِقَّ مِنْهَا. وَالرَّابِعُ: حِمَايَةُ الدِّينِ وَالذَّبّ1ُ عَنْ الْحَرِيمِ وَمُرَاعَاةُ الدِّينِ مِنْ تَغْيِيرٍ أَوْ تَبْدِيلٍ. وَالْخَامِسُ: إقَامَةُ الْحُدُودِ فِي حَقِّ اللَّهِ وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. وَالسَّادِسُ: الْإِمَامَةُ فِي الْجُمَعِ وَالْجَمَاعَاتِ حَتَّى يَؤُمَّ بِهَا أَوْ يَسْتَخْلِفَ عَلَيْهَا. وَالسَّابِعُ: تَسْيِيرُ الْحَجِيجِ مَنْ عَمِلَهُ وَمَنْ سَلَكَهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ حَتَّى يَتَوَجَّهُوا مُعَانِينَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْإِقْلِيمُ ثَغْرًا مُتَاخِمًا لِلْعَدُوِّ وَاقْتَرَنَ بِهَا. الثَّامِنُ: وَهُوَ جِهَادُ مَنْ يَلِيهِ مِنْ الْأَعْدَاءِ وَقَسْمُ غَنَائِمِهِمْ فِي الْمُقَاتِلَةِ وَأَخْذُ خُمُسِهَا لِأَهْلِ الْخُمُسِ وَتُعْتَبَرُ فِي هَذِهِ الْإِمَارَةِ الشروط المعتبرة في وزارة التفويض؛ لأن الفرق بينهما خصوص الولاية في الإمارة وَعُمُومِهَا فِي الْوَزَارَةِ وَلَيْسَ بَيْنَ عُمُومِ الْوِلَايَةِ وَخُصُوصِهَا فَرْقٌ

_ 1 الذب: المنع والدفع. [مختار الصحاح: ص 92] .

فِي الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهَا ثُمَّ يَنْظُرُ فِي عَقْدِ هَذِهِ الْإِمَارَةِ، فَإِنْ كَانَ الْخَلِيفَةُ قَدْ تَوَلَّاهُ كَانَ لِوَزِيرِ التَّفْوِيضِ عَلَيْهِ حَقُّ الْمُرَاعَاةِ وَالتَّصَفُّحِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَزْلُهُ وَلَا نَقْلُهُ مِنْ إقْلِيمٍ إلَى غَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ الْوَزِيرُ قَدْ تَفَرَّدَ بِتَقْلِيدِهِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَلِّدَهُ عَنْ إذْنِ الْخَلِيفَةِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ عَزْلُهُ وَلَا نَقْلُهُ عَنْ عَمَلِهِ إلَى غَيْرِهِ إلَّا عَنْ إذْنِ الْخَلِيفَةِ وَأَمْرِهِ، وَلَوْ عُزِلَ الْوَزِيرُ لَمْ يَنْعَزِلْ هَذَا الْأَمِيرُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُقَلِّدَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَهُوَ نَائِبٌ عَنْهُ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعَزْلِهِ وَالِاسْتِبْدَالِ بِهِ بِحَسَبِ مَا يُؤَدِّيهِ الِاجْتِهَادُ إلَيْهِ مِنْ النَّظَرِ فِي الْأَوْلَى وَالْأَصَحِّ. وَلَوْ أَطْلَقَ الْوَزِيرُ تَقْلِيدَ هَذَا الْأَمِيرِ فَلَمْ يُصَرِّحْ فِيهِ بِأَنَّهُ عَنْ الْخَلِيفَةِ وَلَا عَنْ نَفْسِهِ كَانَ التَّقْلِيدُ عَنْ نَفْسِهِ؛ وَلَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعَزْلِهِ، وَمَتَى انْعَزَلَ الْوَزِيرُ انْعَزَلَ هَذَا الْأَمِيرُ، إلَّا أَنْ يُقَرَّ الْخَلِيفَةُ عَلَى إمَارَتِهِ، فَيَكُونَ ذَلِكَ تَجْدِيدَ وِلَايَةٍ وَاسْتِئْنَافَ تَقْلِيدٍ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي لَفْظِ الْعَقْدِ إلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ أَنْ يَقُولَ: قَدْ قَلَّدْتُكَ نَاحِيَةَ كَذَا إمَارَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَنَظَرًا عَلَى جَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا عَلَى تَفْصِيلٍ لَا يَدْخُلُهُ إجْمَالٌ وَلَا يَتَنَاوَلُهُ احْتِمَالٌ، فَإِذَا قَلَّدَ الْخَلِيفَةُ هَذِهِ الْإِمَارَةَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا عَزْلٌ لِلْوَزِيرِ عَنْ تَصَفُّحِهَا وَمُرَاعَاتِهَا، وَإِذَا قَلَّدَ الْوَزَارَةَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا عَزْلٌ لِهَذَا الْأَمِيرِ عَنْ إمَارَتِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ عُمُومُ التَّقْلِيدِ وَخُصُوصُهُ فِي الْوِلَايَاتِ السُّلْطَانِيَّةِ كَانَ عُمُومُ التَّقْلِيدِ مَحْمُولًا فِي الْعُرْفِ عَلَى مُرَاعَاةِ الْأَخَصِّ وَتَصَفُّحِهِ، وَكَانَ خُصُوصُ التَّقْلِيدِ مَحْمُولًا عَلَى مُبَاشَرَةِ الْعَمَلِ وَتَنْفِيذِهِ. وَيَجُوزُ لِهَذَا الْأَمِيرِ أَنْ يَسْتَوْزِرَ لِنَفْسِهِ وَزِيرَ تَنْفِيذٍ بِأَمْرِ الْخَلِيفَةِ وَبِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْزِرَ وَزِيرَ تَفْوِيضٍ إلَّا عَنْ إذْنِ الْخَلِيفَةِ وَأَمْرِه؛ ِ لِأَنَّ وَزِيرَ التَّنْفِيذِ مُعَيَّنٌ وَوَزِيرَ التَّفْوِيضِ مُسْتَبِدٌّ. وَإِذَا أَرَادَ هَذَا الْأَمِيرُ أَنْ يَزِيدَ فِي أَرْزَاقِ1 جَيْشِهِ لِغَيْرِ سَبَبٍ لَمْ يَجُزْ لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِهْلَاكِ مَالٍ فِي غَيْرِ حَقٍّ، وَإِنْ زَادَهُمْ لِحُدُوثِ سَبَبٍ يَقْتَضِيهِ نُظِرَ فِي السَّبَبِ. فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُرْجَى زَوَالُهُ لَا تَسْتَقِرُّ بِهِ الزِّيَادَةُ عَلَى التَّأْبِيدِ كَالزِّيَادَةِ لِغَلَاءِ سِعْرٍ، أَوْ حُدُوثِ حَدَثٍ، أَوْ نَفَقَةٍ فِي حَرْبٍ جَازَ لِلْأَمِيرِ أَنْ يَدْفَعَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَلَا يَلْزَمُهُ اسْتِثْمَارُ

_ 1 يعني الرواتب.

الْخَلِيفَةَ؛ لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقٍ السِّيَاسَةِ الْمَوْكُولَةِ إلَى اجْتِهَادِهِ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُ الزِّيَادَةِ مِمَّا يَقْتَضِي اسْتِقْرَارَهَا عَلَى التَّأْبِيدِ -كَالزِّيَادَةِ لِحَرْبٍ- أَبْلَوْا فِيهَا وَقَامُوا بِالنَّصْرِ حَتَّى انْجَلَتْ أَوْقَفَهَا عَلَى اسْتِثْمَارِ الْخَلِيفَةِ فِيهَا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ التَّفَرُّدُ بِإِمْضَائِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَرْزُقَ1 مَنْ بَلَغَ مِنْ أَوْلَادِ الْجَيْشِ وَيَفْرِضَ لَهُمْ الْعَطَاءَ بِغَيْرِ أَمْرٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْرِضَ لِجَيْشٍ مُبْتَدَإٍ إلَّا بِأَمْرٍ. وَإِذَا فَضَلَ مِنْ مَالِ الْخَرَاجِ فَاضِلٌ عَنْ أَرْزَاقِ جَيْشِهِ حَمَلَهُ إلَى الْخَلِيفَةِ لِيَضَعَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ الْعَامِّ الْمُعَدِّ لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَإِذَا فَضَلَ مِنْ مَالِ الصَّدَقَاتِ فَاضِلٌ عَنْ أَهْلِ عَمَلِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ حَمْلُهُ إلَى الْخَلِيفَةِ، وَصَرْفُهُ فِي أَقْرَبِ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ مِنْ عَمَلِهِ، وَإِذَا نَقَصَ مَالُ الْخَرَاجِ عَنْ أَرْزَاقِ جَيْشِهِ طَالَبَ الْخَلِيفَةَ بِتَمَامِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَلَوْ نَقَصَ مَالُ الصَّدَقَاتِ عَنْ أَهْلِ عَمَلِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُطَالَبَةُ الْخَلِيفَةِ بِتَمَامِهِ؛ لِأَنَّ أَرْزَاقَ الْجَيْشِ مُقَدَّرَةٌ بِالْكِفَايَةِ، وَحُقُوقُ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ مُعْتَبَرَةٌ بِالْوُجُودِ. إذَا كَانَ تَقْلِيدُ الْأَمِيرِ مِنْ قِبَلِ الْخَلِيفَةِ لَمْ يَنْعَزِلْ بِمَوْتِ الْخَلِيفَةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْوَزِيرِ انْعَزَلَ بِمَوْتِ الْوَزِيرِ؛ لِأَنَّ تَقْلِيدَ الْخَلِيفَةِ نِيَابَةٌ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَتَقْلِيدَ الْوَزِيرِ نِيَابَةٌ عَنْ نَفْسِهِ، وَيَنْعَزِلُ الْوَزِيرُ بِمَوْتِ الْخَلِيفَةِ وَإِنْ لَمْ يَنْعَزِلْ بِهِ الْأَمِيرُ؛ لِأَنَّ الْوَزَارَةَ نِيَابَةٌ عَنْ الْخَلِيفَةِ وَالْإِمَارَةَ نِيَابَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَهَذَا حُكْمُ أَحَدِ قِسْمَيْ الْإِمَارَةِ الْعَامَّةِ وَهِيَ إمَارَةُ الِاسْتِكْفَاءِ الْمَعْقُودَةِ عَنْ اخْتِيَارٍ. وَنَحْنُ نُقَدِّمُ أَمَامَ الْقِسْمِ الْأَخِيرِ مِنْهَا حُكْمَ الْإِمَارَةِ الْخَاصَّةِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي عَقْدِ الِاخْتِيَارِ، ثُمَّ نَذْكُرُ الْقِسْمَ الثَّانِي: فِي إمَارَةِ الِاسْتِيلَاءِ الْمَعْقُودَةِ عَنْ اضْطِرَارٍ لِنَبْنِيَ حُكْمَ الِاضْطِرَارِ عَلَى حُكْمِ الِاخْتِيَارِ فَيُعْلَمُ فَرْقُ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ شُرُوطٍ وَحُقُوقٍ. فَأَمَّا الْإِمَارَةُ الْخَاصَّةُ، فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْأَمِيرُ مَقْصُورَ الْإِمَارَةِ عَلَى تَدْبِيرِ الْجَيْشِ وَسِيَاسَةِ الرَّعِيَّةِ وَحِمَايَةِ الْبَيْضَةِ وَالذَّبِّ عَنْ الْحَرِيمِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلْقَضَاءِ وَالْأَحْكَامِ وَلِجِبَايَةِ الْخَرَاجِ وَالصَّدَقَاتِ. فَأَمَّا إقَامَةُ الْحُدُودِ فَمَا افْتَقَرَ مِنْهَا إلَى اخْتِيَارٍ لِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِيهِ وَافْتَقَرَ إلَى إقَامَةِ بَيِّنَةٍ لِتَنَاكُرِ الْمُتَنَازِعِينَ فِيهِ فَلَيْسَ لَهُ التَّعَرُّضُ لِإِقَامَتِهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْأَحْكَامِ الْخَارِجَةِ عَنْ خُصُوصِ

_ 1 يعني: يفرض لهم رواتب.

إمارته، وَإِنْ لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى اخْتِيَارٍ وَلَا بَيِّنَةٍ أَوْ افْتَقَرَ إلَيْهِمَا فَنَفَذَ فِيهِ اجْتِهَادُ الْحَاكِمِ أَوْ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عِنْدَهُ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَوْ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. فَإِنْ كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كَحَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ فِي نَفْسٍ أَوْ طَرَفٍ كَانَ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا بِحَالِ الطَّالِبِ، فَإِنْ عَدَلَ عَنْهُ إلَى الْحَاكِمِ كَانَ الْحَاكِمُ أَحَقَّ بِاسْتِيفَائِهِ لِدُخُولِهِ فِي جُمْلَةِ الْحُقُوقِ الَّتِي نَدَبَ الْحَاكِمُ إلَى اسْتِيفَائِهَا، وَإِنْ عَدَلَ الطَّالِبُ بِاسْتِيفَاءِ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ إلَى هَذَا الْأَمِيرِ كَانَ الْأَمِيرُ أَحَقَّ بِاسْتِيفَائِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ وَإِنَّمَا هُوَ مَعُونَةٌ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ وَصَاحِبُ الْمَعُونَةِ هُوَ الْأَمِيرُ دُونَ الْحَاكِمِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْحَدُّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ -تَعَالَى- الْمَحْضَةُ كَحَدِّ الزِّنَا -جَلْدًا أَوْ رَجْمًا- فَالْأَمِيرُ أَحَقُّ بِاسْتِيفَائِهِ مِنْ الْحَاكِمِ لِدُخُولِهِ فِي قَوَانِينِ السِّيَاسَةِ وَمُوجِبَاتِ الْحِمَايَةِ وَالذَّبِّ عَنْ الْمِلَّةِ، وَلِأَنَّ تَتَبُّعَ الْمَصَالِحِ مَوْكُولٌ إلَى الْأُمَرَاءِ الْمَنْدُوبِينَ إلَى الْبَحْثِ عَنْهَا دُونَ الْحُكَّامِ الْمُرْصَدِينَ لِفَصْلِ التَّنَازُعِ بَيْنَ الْخُصُومِ، فَدَخَلَ فِي حُقُوقِ الْإِمَارَةِ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا إلَّا بِنَصٍّ، وَخَرَجَ مِنْ حُقُوقِ الْقَضَاءِ فَلَمْ يَدْخُلْ فِيهَا إلَّا بِنَصٍّ. وَأَمَّا نَظَرُهُ فِي الْمَظَالِمِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا نَفَذَتْ فِيهِ الْأَحْكَامُ وَأَمْضَاهُ الْقُضَاةُ وَالْحُكَّامُ؛ جَازَ لَهُ النَّظَرُ فِي اسْتِيفَائِهِ مَعُونَةً لِلْمُحِقِّ عَلَى الْمُبْطِلِ، وَانْتِزَاعًا لِلْمُحِقِّ مِنْ الْمُعْتَرِفِ الْمُمَاطِلِ، لِأَنَّهُ مَوْكُولٌ إلَى الْمَنْعِ مِنْ التَّظَالُمِ وَالتَّغَالُبِ، وَمَنْدُوبٌ إلَى الْأَخْذِ بِالتَّعَاطُفِ وَالتَّنَاصُفِ، فَإِنْ كَانَتْ الْمَظَالِمُ مِمَّا تُسْتَأْنَفُ فِيهَا الْأَحْكَامُ وَيُبْتَدَأُ فِيهَا الْقَضَاءُ مُنِعَ مِنْهُ هَذَا الْأَمِيرُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَمْ يَتَضَمَّنْهَا عَقْدُ إمَارَتِهِ وَرَدَّهُمْ إلَى حَاكِمِ بَلَدِهِ؛ فَإِنْ نَفَذَ حُكْمُهُ لِأَحَدِهِمْ بِحَقٍّ قَامَ بِاسْتِيفَائِهِ إنْ ضَعُفَ عَنْهُ الْحَاكِمُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَلَدِهِ حَاكِمٌ عَدَلَ بِهَا إلَى أَقْرَبِ الْحُكَّامِ مِنْ بَلَدِهِ إنْ لَمْ يَلْحَقْهُمَا فِي الْمَصِيرِ إلَيْهِ مَشَقَّةٌ، فَإِنْ لَحِقَتْ لَمْ يَكْفُلْهُمَا ذَلِكَ وَاسْتَأْمَرَ الْخَلِيفَةُ فِيمَا تَنَازَعَا، وَنَفَذَ حُكْمُهُ فِيهِ. وَأَمَّا تَسْيِيرُ الْحَجِيجِ مِنْ عَمَلِهِ، فَدَاخِلٌ فِي أَحْكَامِ إمَارَتِهِ،؛لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعُونَاتِ الَّتِي نَدَبَ لَهَا. فَأَمَّا إمَامَةُ الصَّلَوَاتِ فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ، فَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْقُضَاةَ بِهَا أَخَصُّ وَهُوَ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَشْبَهُ، وَقِيلَ إنَّ الْأُمَرَاءَ بِهَا أَحَقُّ وَهُوَ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ أَشْبَهُ، فَإِنْ تَاخَمَتْ وِلَايَةُ هَذَا الْأَمِيرِ ثَغْرًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ جِهَادَ أَهْلِهِ إلَّا بِإِذْنِ الْخَلِيفَةِ، وَكَانَ عَلَيْهِ حَرْبُهُمْ وَدَفْعُهُمْ

إنْ هَجَمُوا عَلَيْهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِأَنَّ دَفْعَهُمْ مِنْ حُقُوقِ الْحِمَايَةِ وَمُقْتَضَى الذَّبِّ عَنْ الْحَرِيمِ. وَيُعْتَبَرُ فِي وِلَايَةِ هَذِهِ الْإِمَارَةِ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي وَزَارَةِ التَّنْفِيذِ وَزِيَادَةُ شَرْطَيْنِ عَلَيْهَا هُمَا: الْإِسْلَامُ وَالْحُرِّيَّةُ، لِمَا تَضَمَّنَتْهَا مِنْ الْوِلَايَةِ عَلَى أُمُورٍ دِينِيَّةٍ لَا تَصِحُّ مَعَ الْكُفْرِ وَالرِّقِّ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهَا الْعِلْمُ وَالْفِقْهُ، وَإِنْ كَانَ فَزِيَادَةُ فَضْلٍ، فَصَارَتْ شُرُوطُ الْإِمَارَةِ الْعَامَّةِ مُعْتَبَرَةً بِشُرُوطِ وَزَارَةِ التَّفْوِيضِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي عُمُومِ النَّظَرِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي خُصُوصِ الْعَمَلِ. وَشُرُوطُ الْإِمَارَةِ الْخَاصَّةِ تَقْصُرُ عَنْ شُرُوطِ الْإِمَارَةِ الْعَامَّةِ بِشَرْطٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْعِلْمُ؛ لِأَنَّ لِمَنْ عَمَّتْ إمَارَتُهُ أَنْ يَحْكُمَ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِمَنْ خَصَّتْ إمَارَتُهُ: وَلَيْسَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمِيرِينَ مُطَالَعَةُ الْخَلِيفَةِ بِمَا أَمْضَاهُ فِي عَمَلِهِ عَلَى مُقْتَضَى إمَارَتِهِ إذَا كَانَ مَعْهُودًا، إلَّا عَلَى وَجْهِ الِاخْتِيَارِ تَظَاهُرًا بِالطَّاعَةِ، فَإِنْ حَدَثَ حَادِثٌ غَيْرُ مَعْهُودٍ أَوْقَفَاهُ عَلَى مُطَالَعَةِ الْإِمَامِ وَعَمِلَا فِيهِ بِأَمْرِهِ، فَإِنْ خَافَا مِنْ اتِّسَاعِ الْخَرْقِ إنْ أَوْقَفَاهُ، قَامَا بِمَا يَدْفَعُ هُجُومَهُ حَتَّى يَرِدَ عَلَيْهِمَا إذْنُ الْخَلِيفَةِ فِيمَا يَعْمَلَانِ بِهِ، لِأَنَّ رَأْيَ الْخَلِيفَةِ لِإِشْرَافِهِ عَلَى عُمُومِ الْأُمُورِ أَمْضَى فِي الْحَوَادِثِ النَّازِلَةِ. وَأَمَّا إمَارَةُ الِاسْتِيلَاءِ الَّتِي تُعْقَدُ عَنْ اضْطِرَار، ٍ فَهِيَ أَنْ يَسْتَوْلِيَ الْأَمِيرُ بِالْقُوَّةِ عَلَى بِلَادٍ يُقَلِّدُهُ الْخَلِيفَةُ إمَارَتَهَا، وَيُفَوِّضُ إلَيْهِ تَدْبِيرَهَا وَسِيَاسَتَهَا، فَيَكُونُ الْأَمِيرُ بِاسْتِيلَائِهِ مُسْتَبِدًّا بِالسِّيَاسَةِ وَالتَّدْبِيرِ، وَالْخَلِيفَةُ بِإِذْنِهِ مُنَفِّذًا لِأَحْكَامِ الدِّينِ؛ لِيَخْرُجَ مِنْ الْفَسَادِ إلَى الصِّحَّةِ وَمِنْ الْحَظْرِ إلَى الْإِبَاحَةِ، وَهَذَا وَإِنْ خَرَجَ عَنْ عُرْفِ التَّقْلِيدِ الْمُطْلَقِ فِي شُرُوطِهِ وَأَحْكَامِهِ فَفِيهِ مِنْ حِفْظِ الْقَوَانِينِ الشَّرْعِيَّةِ وَحِرَاسَةِ الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُتْرَكَ مُخْتَلًّا مَخْذُولًا وَلَا فَاسِدًا مَعْلُولًا، فَجَازَ فِيهِ مَعَ الِاسْتِيلَاءِ وَالِاضْطِرَارِ مَا امْتَنَعَ فِي تَقْلِيدِ الِاسْتِكْفَاءِ وَالِاخْتِيَار؛ ِ لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَ شُرُوطِ الْمُكْنَةِ وَالْعَجْزِ. وَاَلَّذِي يَتَحَفَّظُ بِتَقْلِيدِ الْمُسْتَوْلِي مِنْ قَوَانِينِ الشَّرْعِ سَبْعَةُ أَشْيَاءَ، فَيَشْتَرِكُ فِي الْتِزَامِهَا الْخَلِيفَةُ الْوَلِيُّ وَالْأَمِيرُ الْمُسْتَوْلِي، وَوُجُوبُهَا فِي جِهَةِ الْمُتَوَلِّي أَغْلَظُ: أَحَدُهَا: حِفْظُ مَنْصِبِ الْإِمَامَةِ فِي خِلَافَةِ النُّبُوَّةِ وَتَدْبِيرِ أُمُورِ الْمِلَّةِ، لِيَكُونَ مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ مِنْ إقَامَتِهَا مَحْفُوظًا، وَمَا تَفَرَّعَ عَنْهَا مِنْ الْحُقُوقِ مَحْرُوسًا.

وَالثَّانِي: ظُهُورُ الطَّاعَةِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي يَزُولُ مَعَهَا حُكْمُ الْعِنَادِ فِيهِ وَيَنْتَفِي بِهَا إثْمُ الْمُبَايَنَةِ1 لَهُ. وَالثَّالِثُ: اجْتِمَاعُ الْكَلِمَةِ عَلَى الْأُلْفَةِ وَالتَّنَاصُرِ؛ لِيَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ. وَالرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ عُقُودُ الْوِلَايَاتِ الدِّينِيَّةِ جَائِزَةً وَالْأَحْكَامُ وَالْأَقْضِيَةُ فِيهَا نَافِذَةً لَا تَبْطُلُ بِفَسَادِ عُقُودِهَا، وَلَا تَسْقُطُ بِخَلَلِ عُهُودِهَا. وَالْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ اسْتِيفَاءُ الْأَمْوَالِ الشَّرْعِيَّةِ بِحَقٍّ تَبْرَأُ بِهِ ذِمَّةُ مُؤَدِّيهَا وَيَسْتَبِيحُهُ آخِذُهَا. وَالسَّادِسُ: أَنْ تَكُونَ الْحُدُودُ مُسْتَوْفَاةً بِحَقٍّ وَقَائِمَةً عَلَى مُسْتَحَقٍّ؛ فَإِنَّ جَنْبَ الْمُؤْمِنِ حَمِيٌّ إلَّا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُدُودِهِ. وَالسَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْأَمِيرُ فِي حِفْظِ الدِّينِ وَرِعًا عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ يَأْمُرُ بِحَقِّهِ إنْ أُطِيعَ، وَيَدْعُو إلَى طَاعَتِهِ إنْ عُصِيَ، فَهَذِهِ سَبْعُ قَوَاعِدَ فِي قَوَانِينِ الشَّرْعِ يُحْفَظُ بِهَا حُقُوقُ الْإِمَامَةِ وَأَحْكَامُ الْأُمَّةِ فَلِأَجْلِهَا وَجَبَ تَقْلِيدُ الْمُسْتَوْلِي؛ فَإِنْ كَمُلَتْ فِيهِ شُرُوطُ الِاخْتِيَارِ كَانَ تَقْلِيدُهُ حَيًّا اسْتِدْعَاءً لِطَاعَتِهِ وَدَفْعًا لِمُشَاقَّتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ، وَصَارَ بِالْإِذْنِ لَهُ نَافِذَ التَّصَرُّفِ فِي حُقُوقِ الْمِلَّةِ وَأَحْكَامِ الْأُمَّةِ، وَجَرَى عَلَى مَنْ اسْتَوْزَرَهُ وَاسْتَنَابَهُ لِأَحْكَامِ مَنْ اسْتَوْزَرَهُ الْخَلِيفَةُ وَاسْتَنَابَهُ، وَجَازَ أَنْ يَسْتَوْزِرَ وَزِيرَ تَفْوِيضٍ وَوَزِيرَ تَنْفِيذٍ، فَإِنْ لَمْ يَكْمُلْ فِي الْمُتَوَلِّي شُرُوطُ الِاخْتِيَارِ جَازَ لِلْخَلِيفَةِ إظْهَارُ تَقْلِيدِهِ؛ اسْتِدْعَاءً لِطَاعَتِهِ وَحَسْمًا لِمُخَالَفَتِهِ وَمُعَانَدَتِهِ، أَوْ كَانَ نُفُوذُ تَصَرُّفِهِ فِي الْأَحْكَامِ وَالْحُقُوقِ مَوْقُوفًا عَلَى أَنْ يَسْتَنِيبَ لَهُ الْخَلِيفَةُ فِيهَا لِمَنْ قَدْ تَكَامَلَتْ فِيهِ شُرُوطُهَا؛ لِيَكُونَ كَمَالُ الشُّرُوطِ فِيمَنْ أُضِيفَ إلَى نِيَابَتِهِ جَبْرًا لِمَا أَعْوَزَ مِنْ شُرُوطِهَا فِي نَفْسِهِ، فَيَصِيرُ التَّقْلِيدُ لِلْمُسْتَوْلِي وَالتَّنْفِيذُ مِنْ الْمُسْتَنَابِ. وَجَازَ مِثْلُ هَذَا وَإِنْ شَذَّ عَنْ الْأُصُولِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الضَّرُورَةَ تُسْقِطُ مَا أَعْوَزَ مِنْ شُرُوطِ الْمُكْنَةِ. الثَّانِي: أَنَّ مَا خِيفَ انْتِشَارُهُ مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ تُخَفَّفُ شُرُوطُهُ عَنْ شُرُوطِ الْمَصَالِحِ الْخَاصَّةِ، فَإِذَا صَحَّتْ إمَارَةُ الِاسْتِيلَاءِ كَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ إمَارَةِ الِاسْتِكْفَاءِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:

_ 1 المباينة: المفارقة. وتباين القوم: تهاجروا. [اللسان: 13/ 63] .

أَحَدُهَا: أَنَّ إمَارَةَ الِاسْتِيلَاءِ مُتَعَيِّنَةٌ فِي الْمُتَوَلِّي وَإِمَارَةَ الِاسْتِكْفَاءِ مَقْصُورَةٌ عَلَى اخْتِيَارِ الْمُسْتَكْفِي. وَالثَّانِي: أَنَّ إمَارَةَ الِاسْتِيلَاءِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْبِلَادِ الَّتِي غَلَبَ عَلَيْهَا الْمُتَوَلِّي، وَإِمَارَةَ الِاسْتِكْفَاءِ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْبِلَادِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا عَهْدُ الْمُتَكَفِّي. وَالثَّالِثُ: أَنَّ إمَارَةَ الِاسْتِيلَاءِ تَشْتَمِلُ عَلَى مَعْهُودِ النَّظَرِ وَنَادِرِهِ، وَإِمَارَةُ الِاسْتِكْفَاءِ مَقْصُورَةٌ عَلَى مَعْهُودِ النَّظَرِ دُونَ نَادِرِهِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ وَزَارَةَ التَّفْوِيضِ تَصِحُّ فِي إمَارَةِ الِاسْتِيلَاءِ وَلَا تَصِحُّ فِي إمَارَةِ الِاسْتِكْفَاءِ؛ لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُسْتَوْلِي وَوَزِيرِهِ فِي النَّظَر؛ لِأَنَّ نَظَرَ الْوَزِيرِ مَقْصُورٌ عَلَى الْمَعْهُودِ، وَلِلْمُسْتَوْلِي أَنْ يَنْظُرَ فِي النَّادِرِ وَالْمَعْهُودِ، وَإِمَارَةُ الِاسْتِكْفَاءِ مَقْصُورَةٌ عَلَى النَّظَرِ الْمَعْهُودِ فَلَمْ تَصِحَّ مَعَهَا وَزَارَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى مِثْلِهَا مِنْ النَّظَرِ الْمَعْهُودِ لِاشْتِبَاهِ حَالِ الْوَزِيرِ بِالْمُسْتَوْزِرِ.

الباب الرابع: في تقليد الإمارة على الجهاد

الباب الرابع: في تقليد الإمارة على الجهاد وَالْإِمَارَةُ عَلَى الْجِهَادِ مُخْتَصَرَةٌ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ. وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مَقْصُورَةً عَلَى سِيَاسَةِ الْجَيْشِ وَتَدْبِيرِ الْحَرْبِ؛ فَيُعْتَبَرُ فِيهَا شُرُوطُ الْإِمَارَةِ الْخَاصَّةِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُفَوَّضَ إلَى الْأَمِيرِ فِيهَا جَمِيعُ أَحْكَامِهَا مِنْ قَسْمِ الْغَنَائِمِ وَعَقْدِ الصُّلْحِ، فَيُعْتَبَرُ فِيهَا شُرُوطُ الْإِمَارَةِ الْعَامَّةِ، وَهِيَ أَكْبَرُ الْوِلَايَاتِ الْخَاصَّةِ أَحْكَامًا وَأَوْفَرُهَا فُصُولًا وَأَقْسَامًا، وَحُكْمُهَا إذَا خُصَّتْ دَاخِلٌ فِي حُكْمِهَا إذَا عَمَّتْ، فَاقْتَصَرْنَا عَلَيْهِ إيجَازًا. وَاَلَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ إذَا عَمَّتْ سِتَّةُ أَقْسَامٍ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فِي تَسْيِيرِ الْجَيْشِ، وَعَلَيْهِ فِي السَّيْرِ بِهِمْ سَبْعَةُ حُقُوقٍ: أَحَدُهَا: الرِّفْقُ بِهِمْ فِي السَّيْرِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَضْعَفُهُمْ وَتُحْفَظُ بِهِ قُوَّةُ أَقْوَاهُمْ، وَلَا يَجِدَّ السَّيْرَ فَيَهْلَكْ الضَّعِيفُ وَيَسْتَفْرِغْ جَلَدَ الْقَوِيِّ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذَا الدِّينُ مَتِينٌ فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ، فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى وَشَرُّ السَّيْرِ الْحَقْحَقَةُ1" 2. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "الْمُضْعَفُ أَمِيرُ الرُّفْقَةِ"3. يُرِيدُ أَنَّ مَنْ ضَعُفَتْ دَابَّتُهُ كَانَ عَلَى الْقَوْمِ أَنْ يَسِيرُوا بِسَيْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَتَفَقَّدَ خَيْلَهُمْ الَّتِي يُجَاهِدُونَ عَلَيْهَا وَظُهُورَهُمْ الَّتِي يَمْتَطُونَهَا، فَلَا يُدْخِلُ فِي خَيْلِ الْجِهَادِ ضَخْمًا كَبِيرًا، وَلَا ضَرْعًا صَغِيرًا، وَلَا حَطَمًا كَسِيرًا، وَلَا أَعْجَفَ زَارِحًا هَزِيلًا؛

_ 1 الحقحقة: هو أشد السير وقيل: هو أن يجتهد في السير ويلح فيه حتى تعطب راحلته أو تقف عند ذلك. 2 ضعيف: ضعفه الشيخ الألباني في ضعيف "2022". 3 ذكره صاحب عون المعبود، فقال: وقال السيوطي: وجاء في بعض طرق الحديث: "المضعف أمير الرفقة"، أي: يسيرون سير الضعيف لا يتقدمونه فيتخلف عنهم ويبقى بمضيعة. انتهى.

لِأَنَّهَا لَا تَقِي وَرُبَّمَا كَانَ ضَعْفُهَا وَهْنًا، وَيَتَفَقَّدُ ظُهُورَ الِامْتِطَاءِ وَالرُّكُوبِ، فَيُخْرِجُ مِنْهَا مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى السَّيْرِ وَيَمْنَعُ مَنْ حَمَلَ زِيَادَةً عَلَى طَاقَتِهَا، قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ارْتَبِطُوا الْخَيْلَ، فَإِنَّ ظُهُورَهَا لَكُمْ عِزٌّ، وَبُطُونَهَا لَكُمْ كَنْزٌ"1. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُرَاعِيَ مَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ وَهُمْ صِنْفَانِ: مُسْتَرْزِقَةٌ وَمُتَطَوِّعَةٌ، فَأَمَّا الْمُسْتَرْزِقَةُ فَهُمْ أَصْحَابُ الدِّيوَانِ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ وَالْجِهَادِ، يُفْرَضُ لَهُمْ الْعَطَاءُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مِنْ الْفَيْءِ بِحَسَبِ الْغِنَى وَالْحَاجَةِ. وَأَمَّا الْمُتَطَوِّعَةُ فَهُمْ الْخَارِجُونَ عَنْ الدِّيوَانِ مِنْ الْبَوَادِي وَالْأَعْرَابِ وَسُكَّانِ الْقُرَى وَالْأَمْصَارِ الَّذِينَ خَرَجُوا فِي النَّفِيرِ الَّذِي نَدَبَ اللَّهُ -تَعَالَى- إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41] . وَفِي قَوْله -تَعَالَى: {خِفَافًا وَثِقَالًا} . أَرْبَعَةُ تَأْوِيلَاتٍ2: أَحَدُهَا: شُبَّانًا وَشُيُوخًا. قَالَهُ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ. وَالثَّانِي: أَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ. وَالثَّالِثُ: رُكْبَانًا وَمُشَاةً قَالَهُ أَبُو عُمَرَ. وَالرَّابِعُ: ذَا عِيَالٍ وَغَيْرِ ذِي عِيَالٍ قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَهَؤُلَاءِ يُعْطَوْنَ مِنْ الصَّدَقَاتِ دُونَ الْفَيْءِ مِنْ سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَذْكُورِ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَوْا مِنْ الْفَيْءِ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي الصَّدَقَاتِ وَلَا يُعْطَى أَهْلُ الْفَيْءِ الْمُسْتَرْزِقَةُ مِنْ الدِّيوَانِ مِنْ مَالِ الصَّدَقَاتِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي الْفَيْءِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ مَالٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُشَارِكَ غَيْرُهُ فِيهِ، وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ صَرْفَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَالَيْنِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، وَقَدْ مَيَّزَ اللَّهُ تَعَالَى

_ 1 لم أقف عليه. 2 انظر: تفسير ابن جرير "10/ 138".

بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فَلَمْ يَجُزْ الْجَمْعُ بَيْنَ مَا فَرَّقَ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يُعَرِّفَ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ الْعُرَفَاءَ1، وَيَنْقُلَ عَلَيْهِمَا النُّقَبَاءَ؛ لِيَعْرِفَ مِنْ عُرَفَائِهِمْ وَنُقَبَائِهِمْ أَحْوَالَهُمْ وَيَقْرَبُونَ عَلَيْهِ إذَا دَعَاهُمْ، فَقَدْ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَلِكَ فِي مَغَازِيهِ وَقَالَ اللَّهُ -تَعَالَى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13] .. وَفِيهَا ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ لِلشُّعُوبِ النَّسَبَ الْأَقْرَبَ. وَالْقَبَائِلِ النَّسَبَ الْأَبْعَدَ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ الشُّعُوبَ عَرَبُ قَحْطَانَ، وَالْقَبَائِلَ عَرَبُ عَدْنَانَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الشُّعُوبَ بُطُونُ الْعَجَمِ، وَالْقَبَائِلَ بُطُونُ الْعَرَبِ. وَالْخَامِسُ: أَنْ يَجْعَلَ لِكُلِّ طَائِفَةٍ شِعَارًا يَتَدَاعَوْنَ بِهِ لِيَصِيرُوا مُتَمَيِّزِينَ وَبِالِاجْتِمَاعِ مُتَظَافِرِينَ. رَوَى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَعَلَ شِعَارَ الْمُهَاجِرِينَ: يَا بَنِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَشِعَارَ الْخَزْرَجِ: يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ، وَشِعَارَ الْأَوْسِ: يَا بَنِي عُبَيْدِ اللَّهِ، وَسَمَّى خَيْلَهُ خَيْلَ اللَّهِ. وَالسَّادِسُ: أَنْ يَتَصَفَّحَ الْجَيْشَ وَمَنْ فِيهِ؛ لِيُخْرِجَ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ فِيهِ تَخْذِيلٌ لِلْمُجَاهِدِينَ وَإِرْجَافٌ لِلْمُسْلِمِينَ، أَوْ عَيْنًا عَلَيْهِمْ لِلْمُشْرِكِينَ. فَقَدْ رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيِّ ابْنَ سَلُولَ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ لِتَخْذِيلِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ -تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [البقرة: 193] . أَيْ لَا يَفْتِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. وَالسَّابِعُ: أَنْ لَا يُمَالِئَ مَنْ نَاسَبَهُ أَوْ وَافَقَ رَأْيَهُ وَمَذْهَبَهُ عَلَى مَنْ بَايَنَهُ فِي نَسَبٍ أَوْ خَالَفَهُ فِي رَأْيٍ وَمَذْهَبٍ، فَيُظْهِرُ مِنْ أَحْوَالِ الْمُبَايَنَةِ مَا تُفَرَّقُ بِهِ الْكَلِمَةُ الْجَامِعَةُ -تَشَاغُلًا بِالتَّقَاطُعِ وَالِاخْتِلَافِ، وَقَدْ أَغْضَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ الْمُنَافِقِينَ وَهُمْ أَضْدَادٌ فِي الدِّينِ، وَأَجْرَى عَلَيْهِمْ حُكْمَ الظَّاهِرِ حَتَّى قَوِيَتْ بِهِمْ الشَّوْكَةُ وَكَثُرَ بِهِمْ الْعَدَدُ وَتَكَامَلَتْ بِهِمْ الْقُوَّةُ، وَوَكِلَهُمْ فِيمَا أَضْمَرَتْهُ قُلُوبُهُمْ مِنْ النِّفَاقِ إلَى عَلَّامِ الْغُيُوبِ الْمُؤَاخِذِ بِضَمَائِر الْقُلُوبِ. قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى:

_ 1 قال ابن الأثير: العرفاء؛ جمع عريف وهو القيم بأمور القبيلة أو الجماعة من الناس يلي أمورهم ويتعرف الأمير منه أحوالهم، فعيل بمعنى فاعل، والعرافة عمله. [اللسان: 9/ 239] .

{وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] . وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالرِّيحِ الدَّوْلَةُ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ. وَالثَّانِي: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْقُوَّةُ، فَضَرَبَ الرِّيحَ بِهَا مَثَلًا لِقُوَّتِهَا1. فَصْلٌ: وَالْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْإِمَارَةِ فِي تَدْبِيرِ الْحَرْبِ، وَالْمُشْرِكُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ صِنْفَانِ: صِنْفٌ مِنْهُمْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ فَامْتَنَعُوا مِنْهَا وَتَابُوا عَلَيْهَا، فَأَمِيرُ الْجَيْشِ مُخَيَّرٌ فِي قِتَالِهِمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ يَفْعَلُ مِنْهُمَا مَا عَلِمَ أَنَّهُ الْأَصْلَحُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَنْكَأُ لِلْمُشْرِكِينَ؛ مِنْ بَيَاتِهِمْ لَيْلًا وَنَهَارًا بِالْقِتَالِ وَالتَّحْرِيقِ، وَأَنْ يُنْذِرَهُمْ بِالْحَرْبِ وَيُصَافَّهُمْ بِالْقِتَالِ. وَالصِّنْفُ الثَّانِي: لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ، وَقَلَّ أَنْ يَكُونُوا الْيَوْمَ؛ لِمَا قَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ مِنْ دَعْوَةِ رَسُولِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَوْمٌ مِنْ وَرَاءِ مَنْ يُقَابِلُنَا مِنَ التُّرْكِ وَالرُّومِ فِي مَبَادِئِ الْمَشْرِقِ وَأَقَاصِيّ الْمَغْرِبِ لَا نَعْرِفُهُمْ، فَيَحْرُمُ عَلَيْنَا الْإِقْدَامُ عَلَى قِتَالِهِمْ غِرَّةً وَبَيَاتًا بِالْقَتْلِ وَالتَّحْرِيقِ، وَأَنْ نَبْدَأَهُمْ بِالْقَتْلِ قَبْلَ إظْهَارِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ لَهُمْ، وَإِعْلَامِهِمْ مِنْ مُعْجِزَاتِ النُّبُوَّةِ وَإِظْهَارِ الْحُجَّةِ بِمَا يَقُودُهُمْ إلَى الْإِجَابَةِ، فَإِنْ قَامُوا عَلَى الْكُفْرِ بَعْدَ ظُهُورِهَا لَهُمْ حَارَبَهُمْ، وَصَارُوا فِيهِ كَمَنْ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اُدْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] . يَعْنِي: اُدْعُ إلَى دَيْنِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ، وَفِيهَا تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: بِالنُّبُوَّةِ. وَالثَّانِي: بِالْقُرْآنِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَفِي الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْقُرْآنُ فِي لِينٍ مِنَ الْقَوْلِ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ.

_ 1 انظر: تفسير ابن جرير "10/ 16".

وَالثَّانِي: مَا فِيهِ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. {وَجَادِلْهُمْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . أَيْ: يُبَيِّنُ لَهُمُ الْحَقَّ وَيُوَضِّحُ لَهُمُ الْحُجَّةَ، فَإِنْ بَدَأَ بِقِتَالِهِمْ قَبْلَ دُعَائِهِمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَإِنْذَارِهِمْ بِالْحُجَّةِ وَقَتْلِهِمْ غُرَّةً وَبَيَاتًا ضَمِنَ دِيَاتِ نُفُوسِهِمْ، وَكَانَتْ عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ كَدِيَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَقِيلَ: بَلْ كَدِيَاتِ الْكُفَّارِ عَلَى اخْتِلَافِهَا اخْتِلَافِ مُعْتَقِدِهِمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا دِيَةَ عَلَى قَتْلِهِمْ وَنُفُوسُهُمْ هَدَرٌ، وَإِذَا تَقَاتَلَتْ الصُّفُوفُ فِي الْحَرْبِ جَازَ لِمَنْ قَاتَلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ بِمَا يَشْتَهِرُ بِهِ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، وَيَتَمَيَّزُ بِهِ مِنْ جَمِيعِ الْجَيْشِ، بِأَنْ يَرْكَبَ الْأَبْلَقَ1 وَإِنْ كَانَتْ خُيُولُ النَّاسِ دُهْمًا وَشُقْرًا، وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنَ الْإِعْلَامِ رُكُوبَ الْأَبْلَقِ، وَلَيْسَ لِمَنْعِهِ مِنْ ذَلِكَ وَجْهٌ، رَوَى عَبْدُ بْنُ عَوْنِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: "تَسَوَّمُوا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ قَدْ تَسَوَّمَتْ"2. وَيَجُوزُ أَنْ يُجِيبَ إلَى الْبِرَازِ إذَا دُعِيَ إلَيْهِ. فَقَدْ دَعَا أُبَيّ بْنُ خَلَفٍ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلَى الْبِرَازِ يَوْمَ أُحُدٍ فَبَرَزَ إلَيْهِ فَقَتَلَهُ، وَأَوَّلُ حَرْبٍ شَهِدَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ بَدْرٍ، بَرَزَ فِيهَا مِنْ شُرَفَاءِ قُرَيْشٍ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَابْنُهُ الْوَلِيدُ وَأَخُوهُ شَيْبَةُ وَدَعَوْا إلَى الْبِرَازِ، فَبَرَزَ إلَيْهِمْ مِنَ الْأَنْصَارِ عَوْفٌ وَمَسْعُودٌ ابْنَا عَفْرَاءَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَقَالُوا: لِيَبْرُزَ أَكْفَاؤُنَا إلَيْنَا فَمَا نَعْرِفُكُمْ، فَبَرَزَ إلَيْهِمْ ثَلَاثَةٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، بَرَزَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إلَى الْوَلِيدِ فَقَتَلَهُ، وَبَرَزَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إلَى عُتْبَةَ فَقَتَلَهُ، وَبَرَزَ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ إلَى شَيْبَةَ فَاخْتَلَفَا بِضَرْبَتَيْنِ أَثْبَتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، وَمَاتَ شَيْبَةُ لِوَقْتِهِ وَاحْتُمِلَ عُبَيْدَةُ حَيًّا قَدْ قُدَّتْ رِجْلُهُ فَمَاتَ بِالصَّفْرَاءِ، فَقَالَ فِيهِ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ3 "مِنْ الْمُتَقَارِبِ":

_ 1 البلق: سواد وبياض، وكذلك البلقة -بالضم. 2 ضعيف: رواه ابن أبي شيبة في مصنَّفه "32722"، وفي إسناده عمير بن إسحاق. 3 هو الصحابي الجليل كعب بن مالك بن عمرو بن القين بن كعب بن سواد بن غنم -ينتهي إلى الخزرج- الأنصاري السلمي، أبو عبد الله، وقيل: أبو عبد الرحمن، أمه ليلى بنت زيد بن ثعلبة من بني سلمة. شهد العقبة واختُلِفَ في شهوده بدرًا، آخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين طلحة بن عبيد الله حين آخى بين المهاجرين والأنصار، وكان أحد شعراء النبي -صلى الله عليه وسلم- الذين كانوا يردُّون الأذى عنه. وعرف به، وأسلم وشهد أحدًا والمشاهد كلها حاشا تبوك، فإنه تخلَّف عنها، وهو أحد الثلاثة الذين خلفوا.

أَيَا عَيْنُ جُودِي وَلَا تَبْخَلِي ... بِدَمْعِكَ وَكْفًا وَلَا تَنْزُرِي عَلَى سَيِّدٍ هَدَّنَا هُلْكُهُ ... كَرِيمِ الْمَشَاهِدِ وَالْعُنْصُرِيّ عُبَيْدَةُ أَمْسَى وَلَا نَرْتَجِيـ ... ـهِ لِعُرْفٍ غَدَا وَلَا مُنْكَرِ وَقَدْ كَانَ يَحْمِي عُدَاةَ الْقِتَا ... لِ حَامِيَةُ الْجَيْشِ بِالْمُبْتِرِ ثُمَّ نَذَرَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ لِوَحْشِيٍّ نَذْرًا إنْ قَتَلَ حَمْزَةَ بِأَبِيهَا يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمَّا قَتَلَهُ بَقَرَتْ بَطْنَهُ وَلَاكَتْ كَبِدَهُ -رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ- وَأَنْشَأَتْ تَقُولُ مِنَ السَّرِيعِ: نَحْنُ جَزَيْنَاكُمْ بِيَوْمِ بَدْرِ ... وَالْحَرْبُ بَعْدَ الْحَرْبِ ذَاتُ سُعْرِ مَا كَانَ عَنْ عُتْبَةَ لِي مِنْ صَبْرِ ... وَلَا أَخِي وَعَمِّهِ وَبَكْرِ شَفَيْتُ نَفْسِي وَقَضَيْتُ نَذْرِي ... شَفَيْتَ وَحْشِيُّ غَلِيلَ صَدْرِي فَشُكْرُ وَحْشِيٍّ عَلَيَّ عُمْرِي ... حَتَّى تُضَمَّ أَعْظُمِي فِي قَبْرِي َهَذَا أَقَرَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَقْرَبَ أَهْلِهِ إلَيْهِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مِنْ مُبَارَزَةِ يَوْمِ بَدْرٍ مَعَ ضَنِّهِ بِهِمْ وَإِشْفَاقِهِ عَلَيْهِمْ، وَبَارَزَ أُبَيًّا بِنَفْسِهِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَأَذِنَ لِعَلِيٍّ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي حَرْبِ الْخَنْدَقِ وَالْخَطْبُ أَصْعُبُ، وَإِشْفَاقُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى عَلِيٍّ أَكْثَرُ، بَارَزَ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ وُدٍّ1 لَمَّا دَعَا إلَى الْبِرَازِ أَوَّلَ يَوْمٍ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، ثُمَّ دَعَا إلَى الْبِرَازِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، ثُمَّ دَعَا إلَى الْبِرَازِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَقَالَ حِينَ رَأَى الْإِحْجَامَ عَنْهُ وَالْحَذَرَ مِنْهُ: يَا مُحَمَّدُ، أَلَسْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ قَتْلَاكُمْ فِي الْجَنَّةِ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، وَقَتْلَانَا فِي النَّارِ يُعَذَّبُون؟ فَمَا يُبَالِي أَحَدُكُمْ لِيُقْدُمَ عَلَى كَرَامَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوْ يُقَدِّمَ عَدُوًّا إلَى النَّارِ وَأَنْشَأَ يَقُولُ "مِنَ الْكَامِلِ": وَلَقَدْ دَنَوْتُ إلَى النِّدَاءِ ... لِجَمْعِهِمْ هَلْ مِنْ مُبَارِز

_ 1 عمرو بن عبد ود، كان يقال له: ذو الثدي؛ وكان فارس قريش، وهو أوّل من جزع الخندق؛ وقال الشاعر: عمرو بن عبد كان أول فارس ... جزع المذاد وكان فارس يليل المذاد: موضع الخندق وفيه حفر، ويليل: قريب من بدر، وادٍ يدفع على بدر، وبارز عمرو بن عبد على بن أبي طالب يوم الخندق فقتله عليّ.

وَوَقَفْتُ إذْ جَبُنَ الْمُشَجَّعُ ... مَوْقِفَ الْقِرْنِ الْمُنَاجِزْ إنِّي كَذَلِكَ لَمْ أَزَلْ ... مُتَسَرِّعًا نَحْوَ الْهَزَاهِزْ إنَّ الشَّجَاعَةَ فِي الْفَتَى ... وَالْجُودَ مِنْ خَيْرِ الْغَرَائِزْ فَقَامَ عَلِيٌّ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَاسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْمُبَارَزَةِ، فَأَذِنَ لَهُ وَقَالَ: "اُخْرُجْ يَا عَلِيٌّ فِي حِفْظِ اللَّهِ وَعِيَاذِهِ"، فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ مِنَ "الْكَامِلِ": أَبْشِرْ أَتَاكَ يُجِيبُ صَوْ ... تَكَ فِي الْهَزَاهِزِ غَيْرُ عَاجِزْ ذُو نِيَّةٍ وَبَصِيرَةٍ ... يَرْجُو الْغَدَاةَ نَجَاةَ فَائِزْ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أُقِـ ... يمَ عَلَيْكَ نَائِحَةَ الْجَنَائِزْ مِنْ طَعْنَةٍ نَجْلَاءَ يَبْ ... هَرُ ذِكْرُهَا عِنْدَ الْهَزَائِزْ وَتَجَاوَلَا وَثَارَتْ عَجَاجَةٌ1 أَخْفَتْهُمَا عَنِ الْأَبْصَارِ، ثُمَّ انْجَلَتْ عَنْهُمَا وَعَلِيٌّ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَمْسَحُ سَيْفَهُ بِثَوْبِ عَمْرٍو وَهُوَ قَتِيلٌ؛ حَكَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي مَغَازِيهِ، فَدَلَّ هَذَانِ الْخَبَرَانِ عَلَى جَوَازِ الْبِرَازِ مَعَ التَّغْرِيرِ بِالنَّفْسِ، فَأَمَّا إذَا أَرَادَ الْمُقَاتِلُ أَنْ يَدْعُوَ إلَى الْبِرَازِ مُبْتَدِئًا فَقَدْ مَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، لِأَنَّ الدُّعَاءَ إلَى الْبِرَازِ وَالِابْتِدَاءَ بِالتَّطَاوُلِ بَغْيٌ، وَجَوَّزَهُ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّهُ إظْهَارُ قُوَّةٍ فِي دِينِ اللَّهِ -تَعَالَى وَنُصْرَةِ رَسُولِهِ، فَقَدْ نَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلَى مِثْلِهِ وَحَثَّ عَلَيْهِ وَتَخَيَّرَ لَهُ، مَعَ اسْتِظْهَارِهِ بِنَفْسِهِ مَنْ أَقْدَمَ عَلَيْهِ وَبَدَأَ بِهِ. حَكَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ظَاهَرَ يَوْمَ أُحُدٍ بَيْنَ دِرْعَيْنِ وَأَخَذَ سَيْفًا فَهَزَّهُ وَقَالَ: "مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السَّيْفَ بِحَقِّهِ"؟ فَقَامَ إلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَقَالَ: أَنَا آخُذُهُ بِحَقِّهِ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ هَزَّهُ الثَّانِيَةَ وَقَالَ: "مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السَّيْفَ بِحَقِّهِ"؟ فَقَامَ إلَيْهِ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَقَالَ: أَنَا آخُذُهُ بِحَقِّهِ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَوَجَدَا فِي أَنْفُسِهِمَا، ثُمَّ عَرَضَهُ الثَّالِثَةَ وَقَالَ: "مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السَّيْفَ بِحَقِّهِ"؟ فَقَامَ إلَيْهِ أَبُو دُجَانَةَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ فَقَالَ: وَمَا حَقُّهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أَنْ تَضْرِبَ فِي الْعَدُوِّ حَتَّى يَنْحَنِيَ"، فَأَخَذَهُ مِنْهُ وَأَعْلَمَ بِعِصَابَةٍ حَمْرَاءَ

_ 1 أعجَّت الريح، وعَجَّت: اشتدَّ هبوبها وساقت العجاج، والعجاج: مثير العجاج. والتعجيج: إثارة الغبار. [اللسان: 2/ 320] .

كَانَ إذَا أَعْلَمَ بِهَا عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ سَيُقَاتِلُ وَيُبْلِي، وَمَشَى إلَى الْحَرْبِ وَهُوَ يَقُولُ مِنَ السَّرِيع: أَنَا الَّذِي أَخَذْتُهُ فِي رَقِّهِ ... إذْ قَالَ مَنْ يَأْخُذُهُ بِحَقِّهِ قَبِلْتُهُ بِعَدْلِهِ وَصِدْقِهِ ... لِلْقَادِرِ الرَّحْمَنِ بَيْنَ خَلْقِهِ الْمُدْرَكِ الْفَائِضِ فَضْلُ رِزْقِهِ ... مَنْ كَانَ فِي مَغْرِبِهِ وَشَرْقِهِ ثُمَّ جَعَلَ يَتَبَخْتَرُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّهَا لَمِشْيَةٌ يَبْغُضُهَا اللَّهُ إلَّا فِي هَذَا الْمَوْطِنِ"، وَدَخَلَ فِي الْحَرْبِ مُبْتَدِئًا بِالْقِتَالِ، فَأَبْلَى وَأَنْكَى وَهُوَ يَقُولُ مِنَ السَّرِيعِ: أَنَا الَّذِي عَاهَدَنِي خَلِيلِي ... وَنَحْنُ بِالسَّفْحِ مِنَ النَّخِيلِ أَلَّا أَقُومَ الدَّهْرَ فِي الْكُبُولِ ... أَخَذْتُ سَيْفَ اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَإِذَا جَازَتِ الْمُبَارَزَةُ بِمَا اسْتَشْهَدْنَا مِنْ حَالِ الْمُبْتَدِئِ بِهَا وَأُجِيبَ إلَيْهَا، كَانَ لِتَمْكِينِ الْمُبَارَزَةِ شَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَا نَجْدَةٍ وَشَجَاعَةٍ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَنْ يَعْجَزَ عَنْ مُقَاوَمَةِ عَدُوِّهِ، فَإِنْ كَانَ بِخِلَافِهِ مُنِعَ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ زَعِيمًا لِلْجَيْشِ يُؤَثِّرُ فَقْدُهُ فِيهِمْ، فَإِنَّ فَقْدَ الزَّعِيمِ الْمُدَبِّرِ مُفْضٍ إلَى الْهَزِيمَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَقْدَمَ عَلَى الْبِرَازِ ثِقَةً بِنَصْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَإِنْجَازِ وَعْدِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ، وَيَجُوزُ لِأَمِيرِ الْجَيْشِ إذَا حُضَّ عَلَى الْجِهَادِ أَنْ يُحَرِّضَ لِلشَّهَادَةِ مِنَ الرَّاغِبِينَ فِيهَا مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ مِثْلَهُ فِي الْمَعْرَكَةِ يُؤْثِرُ أَحَدَ أَمْرَيْنِ؛ إمَّا تَحْرِيضُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْقِتَالِ حَمِيَّةً لَهُ، وَإِمَّا تَخْذِيلُ الْمُشْرِكِينَ بِجَرَاءَةٍ عَلَيْهِمْ فِي نُصْرَةِ اللَّهِ. حَكَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَرَجَ مِنَ الْعَرِيشِ يَوْمَ بَدْرٍ فَحَرَّضَ النَّاسَ عَلَى الْجِهَادِ وَقَالَ: "لِكُلِّ امْرِئٍ مَا أَصَابَ"؟ وَقَالَ: "وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يُقَاتِلُهُمُ الْيَوْمَ رَجُلٌ، فَيُقْتَلُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ، إلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ" فَقَالَ عُمَيْرُ بْنُ حُمَامٍ مِنْ بَنِي مَسْلَمَةَ وَفِي يَدِهِ تَمَرَاتٌ يَأْكُلُهُنَّ: بَخٍ بَخٍ، مَا بَقِيَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْجَنَّةِ إلَّا أَنْ يَقْتُلَنِي هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ، ثُمَّ قَذَفَ بِالتَّمَرَاتِ مِنْ يَدِهِ وَأَخَذَ سَيْفَهُ فَقَاتَلَ الْقَوْمَ حَتَّى قُتِلَ -رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ يَقُولُ مِنْ

السَّرِيعِ: رَكْضًا إلَى اللَّهِ بِغَيْرِ زَادِ ... إلَّا التُّقَى وَعَمَلِ الْمَعَادِ وَالصَّبْرِ فِي اللَّهِ عَلَى الْجِهَادِ ... وَكُلُّ زَادٍ عُرْضَةُ النَّفَادِ غَيْرَ التُّقَى وَالْبِرِّ وَالرَّشَادِ وَيَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْ مُقَاتِلَةِ الْمُشْرِكِينَ مُحَارِبًا وَغَيْرَ مُحَارِبٍ، وَاخْتُلِفَ فِي قَتْلِ شُيُوخِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ مِنْ سُكَّانِ الصَّوَامِعِ وَالْأَدْيِرَةِ، فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِيهِمْ: إنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ حَتَّى يُقَاتِلُوا؛ لِأَنَّهُمْ مُوَادِعُونَ كَالذَّرَارِيِّ. وَالثَّانِي: يُقْتَلُونَ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلُوا؛ لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا أَشَارُوا بِرَأْيٍ هُوَ أَنْكَى لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الْقِتَالِ، وَقَدْ قُتِلَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ1 فِي حَرْبِ هَوَازِنَ وَهُوَ يَوْمُ حُنَيْنٍ، وَقَدْ جَاوَزَ مِائَةَ سَنَةٍ مِنْ عُمْرِهِ وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَرَاهُ فَلَمْ يُنْكِرْ قَتْلَهُ، وَكَانَ يَقُولُ حَيْثُ قُتِلَ "مِنَ الطَّوِيلِ": أَمَرْتُهُمْ أَمْرِي بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى ... يَسْتَبْيِنُوا الرُّشْدَ إلَّا ضُحَى الْغَدِ فَلَمَّا عَصَوْنِي كُنْتُ مِنْهُمْ وَقَدْ أَرَى ... غَوَايَتَهُمْ وَأَنَّنِي غَيْرُ مُهْتَدِ وَلَا يَجُوزُ قَتْلُ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ فِي حَرْبٍ وَلَا فِي غَيْرِهَا مَا لَمْ يُقَاتِلُوا؛ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ قَتْلِهِمْ. وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ قَتْلِ الْعُسَفَاءِ وَالْوُصَفَاءِ2. وَالْعُسَفَاءُ: الْمُسْتَخْدَمُونَ. وَالْوُصَفَاءُ: الْمَمَالِيكُ، فَإِنْ قَاتَلَ النِّسَاءُ وَالْوِلْدَانُ قُوتِلُوا وَقُتِلُوا مُقْبِلِينَ وَلَا يُقْتَلُوا مُدْبِرِينَ. وَإِذَا تَتَرَّسُوا فِي الْحَرْبِ بِنِسَائِهِمْ وَأَطْفَالِهِمْ عِنْدَ قَتْلِهِمْ يَتَوَقَّى قَتْلُ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ، فَإِنْ لَمْ يُوصَلْ إلَى قَتْلِهِمْ إلَّا بِقَتْلِ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ جَازَ.

_ 1 هو دريد بن الصمَّة، أبو قرة الهوازني الجشمي، واسم الصمَّة معاوية، وفد على الحارث بن أبي شمر، ويُعَدُّ من شعراء العرب وشجعانها وذوي أسنانها، عاش نحوًا من مائة سنة حتى سقط حاجباه على عينيه. وخرجت به هوازن يوم حنين تتيمَّن برأيه فقتل كافرًا. 2 منقطع: رواه ابن أبي شيبة في مصنَّفه "33114"، وأحمد "14994"، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد "5/ 315"، وقال: رواه أحمد وفيه رجل لم يسم.

وَلَوْ تَتَرَّسُوا بِأُسَارَى الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُوصَلْ إلَى قَتْلِهِمْ إلَّا بِقَتْلِ الْأُسَارَى لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُمْ، فَإِنْ أَفْضَى الْكَفُّ عَنْهُمْ إلَى الْإِحَاطَةِ بِالْمُسْلِمِينَ تَوَصَّلُوا إلَى الْخَلَاصِ مِنْهُمْ كَيْفَ أَمْكَنَهُمْ، وَتَحَرَّزُوا أَنْ يَعْمِدُوا إلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ فِي أَيْدِيهِمْ، فَإِنْ قُتِلَ ضَمِنَهُ قَاتِلُهُ بِالدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ إنْ عَرَفَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ. وَضَمِنَ الْكَفَّارَةَ وَحْدَهَا إنْ لَمْ يَعْرِفْهُ، وَيَجُوزُ عَقْرُ خَيْلِهِمْ مِنْ تَحْتِهِمْ إذَا قَاتَلُوا عَلَيْهَا. وَمَنَعَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ عَقْرِهَا، وَقَدْ عَقَرَ حَنْظَلَةُ بْنُ الرَّاهِبِ1 فَرَسَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ يَوْمَ أُحُدٍ، وَاسْتَعْلَى عَلَيْهِ لِيَقْتُلَهُ فَرَآهُ ابْنُ شَعُوبٍ فَبَرَزَ إلَى حَنْظَلَةَ وَهُوَ يَقُولُ مِنَ السَّرِيعِ: لَأَحْمِيَنَّ صَاحِبِي وَنَفْسِي ... بِطَعْنَةٍ مِثْلِ شُعَاعِ الشَّمْسِ ثُمَّ طَعَنَ حَنْظَلَةَ فَقَتَلَهُ، وَاسْتَنْقَذَ أَبَا سُفْيَانَ مِنْهُ، فَخَلَصَ أَبُو سُفْيَانَ وَهُوَ يَقُولُ مِنَ الطَّوِيلِ: وَمَا زَالَ مُهْرِي مَزْجَرَ الْكَلْبِ مِنْهُمْ ... لَدُنْ غُدْوَةٍ حَتَّى دَنَتْ لِغُرُوبِ أُقَاتِلُهُمْ طُرًّا وَأَدْعُو لِغَالِبٍ ... وَأَدْفَعُهُمْ عَنِّي بِرُكْنٍ صَلِيبِ وَلَوْ شِئْتُ نَجَّانِي حِصَانٌ طِمِرَّةٌ ... وَلَمْ أَحْمِلِ النَّعْمَاءَ لِابْنِ شَعُوبِ فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ شَعُوبٍ، فَقَالَ مُجِيبًا لَهُ حِينَ لَمْ يَشْكُرْهُ مِنَ الطَّوِيلِ: لَوْلَا دِفَاعِي يَا ابْنَ حَرْبٍ وَمَشْهَدِي ... لَأُلْفِيتَ يَوْمَ النَّعْفِ غَيْرَ مُجِيبِ وَلَوْلَا مَكَرُّ الْمُهْرِ بِالنَّعْفِ قَرْقَرَتْ ... ضِبَاعٌ عَلَى أَوْصَالِهِ وَكَلِيبِ فَأَمَّا إذَا أَرَادَ الْمُسْلِمُ أَنْ يَعْقِرَ فَرَسَ نَفْسِهِ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- اقْتَحَمَ يَوْمَ مُؤْتَةَ بِفَرَسٍ لَهُ شَقْرَاءَ حَتَّى الْتَحَمَ الْقِتَالُ، ثُمَّ نَزَلَ عَنْهَا وَعَقَرَهَا، وَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَكَانَ أَوَّلَ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَقَرَ فَرَسَهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَعْقِرَ فَرَسَهُ؛ لِأَنَّهُ قُوَّةٌ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِعْدَادِهَا فِي جِهَادِ عَدُوِّهِ؛ حَيْثُ يَقُولُ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] . وَجَعْفَرٌ إنَّمَا عَقَرَ فَرَسَهُ بَعْدَ أَنْ أُحِيطَ بِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَقْرُهُ لَهَا لِئَلَّا يَتَقَوَّى بِهَا الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَصَارَ عَقْرُهَا مُبَاحًا كَعُقْرِ خَيْلِهِمْ وَإِلَّا فَجَعْفَرٌ أَحْفَظُ لِدِينِهِ مِنْ

_ 1 هو غسيل الملائكة حنظلة بن أبي عامر الراهب الأنصاري الأوسي، واسم أبي عامر: عمرو بن صيفي، وكان عامر يعرف بالراهب في الجاهلية، قتل حنظلة شهيدًا يوم أحد، قتله أبو سفيان بن حرب، وقال: حنظلة بحنظلة، يعني: به حنظلة ابنه الذي قتل ببدر، وقيل: بل قتله شداد بن الأوس الليثي. وقال مصعب الزبيري: بارز أبو سفيان حنظلة فصرعه حنظلة، فأتاه ابن شعوب وقد علاه، فأعانه حتى قتل حنظلة.

أَنْ يَفْعَلَ مَا يَمْنَعُ مِنْهُ الشَّرْعُ، وَلَمَّا عَادَ جَيْشُهُ تَلَقَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَحْثُونَ عَلَى الْجَيْشِ التُّرَابَ وَيَقُولُونَ: يَا فُرَّارُ، لِمَ فَرَرْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "لَيْسَ بِفِرَارٍ، وَلَكِنَّهُ الْكِرَارُ إنْ شَاءَ اللَّهُ". فَصْلٌ: وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْإِمَارَةِ مَا يَلْزَمُ مِنْ أَمِيرِ الْجَيْشِ فِي سِيَاسَتِهِمْ، وَاَلَّذِي يَلْزَمُهُ فِيهِمْ عَشْرَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: حِرَاسَتُهُمْ مِنْ غِرَّةٍ يَظْفَرُ بِهَا الْعَدُوُّ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ أَنْ يَتَتَبَّعَ الْمَكَامِنَ وَيُحَوِّطَ سَوَادَهُمْ بِحَرَسٍ يَأْمَنُونَ بِهِ عَلَى نُفُوسِهِمْ وَرِجَالِهِمْ؛ لِيَسْكُنُوا فِي وَقْتِ الدَّعَةِ، وَيَأْمَنُوا مَا وَرَاءَهُمْ فِي وَقْتِ الْمُحَارَبَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَتَخَيَّرَ لَهُمْ مَوْضِعَ نُزُولِهِمْ لِمُحَارَبَةِ عَدُوِّهِمْ، وَذَلِكَ أَنْ يَكُونُوا أَوْطَأَ الْأَرْضِ مَكَانًا وَأَكْثَرَ مَرْعًى وَمَاءً وَأَحْرَسَهَا أَكْنَافًا وَأَطْرَافًا؛ لِيَكُونَ أَعْوَنَ لَهُمْ عَلَى الْمُنَازَلَةِ، وَأَقْوَى لَهُمْ عَلَى الْمُرَابَطَةِ. وَالثَّالِثُ: إعْدَادُ مَا يَحْتَاجُ الْجَيْشُ إلَيْهِ مِنْ زَادٍ وَعلُوفَةٍ تُفَرَّقُ عَلَيْهِمْ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ؛ حَتَّى تَسْكُنَ نُفُوسُهُمْ إلَى مَادَّةٍ يَسْتَغْنُونَ عَنْ طَلَبِهَا؛ لِيَكُونُوا عَلَى الْحَرْبِ أَوْفَرَ، وَعَلَى مُنَازَلَةِ الْعَدُوِّ أَقْدَرَ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَعْرِفَ أَخْبَارَ عَدُوِّهِ حَتَّى يَقِفَ عَلَيْهَا، وَيَتَصَفَّحَ أَحْوَالَهُ حَتَّى يُخْبِرَهَا، فَيَسْلَمَ مِنْ مَكْرِهِ، وَيَلْتَمِسَ الْغِرَّةَ فِي الْهُجُومِ عَلَيْهِ. وَالْخَامِسُ: تَرْتِيبُ الْجَيْشِ فِي مَصَافِّ الْحَرْبِ، وَالتَّعْوِيلُ فِي كُلِّ جِهَةٍ عَلَى مَنْ يَرَاهُ كُفُؤًا لَهَا، وَيَتَفَقَّدُ الصُّفُوفَ مِنَ الْخَلَلِ فِيهَا، وَيُرَاعِي كُلَّ جِهَةٍ يَمِيلُ الْعَدُوُّ عَلَيْهَا بِمَدَدٍ يَكُونُ عَوْنًا لَهَا. وَالسَّادِسُ: أَنْ يُقَوِّيَ نُفُوسَهُمْ بِمَا يُشْعِرُهُمْ مِنَ الظَّفَرِ، وَيُخَيِّلَ إلَيْهِمْ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ؛ لِيَقِلَّ الْعَدُوُّ فِي أَعْيُنِهِمْ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ أَجْرَأَ وَبِالْجُرْأَةِ يَتَسَهَّلُ الظَّفَرُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إذْ يُرِيكَهُمْ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} [الأنفال: 43] . وَالسَّابِعُ: أَنْ يَعِدَ أَهْلَ الصَّبْرِ وَالْبَلَاءِ مِنْهُمْ بِثَوَابِ اللَّهِ وَلَوْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْآخِرَةِ، وَبِالْجَزَاءِ وَالنَّفَلِ مِنَ الْغَنِيمَةِ إنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا} [آل عمران: 145] ، وَثَوَابُ الدُّنْيَا الْغَنِيمَةُ وَثَوَابُ

الْآخِرَةِ الْجَنَّةُ، فَجَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَرْغِيبِهِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ؛ لِيَكُونَ أَرْغَبَ الْفَرِيقَيْنِ. وَالثَّامِنُ: أَنْ يُشَاوِرَ ذَوِي الرَّأْيِ فِيمَا أَعْضَلَ، وَيَرْجِعَ إلَى أَهْلِ الْحَزْمِ فِيمَا أَشْكَلَ؛ لِيَأْمَنَ الْخَطَأَ وَيَسْلَمَ مِنَ الزَّلَلِ، فَيَكُونَ مِنَ الظَّفَرِ أَقْرَبَ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159] . وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي أَمْرِهِ لِنَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْمُشَاوَرَةِ مَعَ مَا أَمَدَّهُ بِهِ مِنَ التَّوْفِيقِ، وَأَعَانَهُ مِنَ التَّأْيِيدِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَمَرَهُ بِمُشَاوَرَتِهِمْ فِي الْحَرْبِ؛ لِيَسْتَقِرَّ لَهُ الرَّأْيُ الصَّحِيحُ فِيهِ فَيَعْمَلَ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَقَالَ: "مَا تَشَاوَرَ قَوْمٌ إلَّا هُدُوا لِأَرْشَدِ أُمُورِهِمْ" 1. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَهُ بِمُشَاوَرَتِهِمْ تَأْلِيفًا لَهُمْ وَتَطْيِيبًا لِنُفُوسِهِمْ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ أَمَرَهُ بِمُشَاوَرَتِهِمْ لِمَا عَلِمَ فِيهَا مِنَ الْفَضْلِ وَعَادَ بِهَا مِنَ النَّفْعِ، وَهَذَا قَوْلُ الضَّحَّاكِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ أَمَرَهُ بِمُشَاوَرَتِهِمْ لِيَسْتَنَّ بِهِ الْمُسْلِمُونَ وَيَتْبَعَهُ فِيهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَإِنْ كَانَ عَنْ مَشُورَتِهِمْ غَنِيًّا، وَهَذَا قَوْلُ سُفْيَانَ. وَالتَّاسِعُ: أَنْ يَأْخُذَ جَيْشَهُ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حُقُوقِهِ، وَأَمَرَ بِهِ مِنْ حُدُودِهِ، حَتَّى لَا يَكُونَ بَيْنَهُمْ تَجَوُّزٌ فِي دِينٍ وَلَا تَحَيُّفٌ فِي حَقٍّ، فَإِنَّ مَنْ جَاهَدَ عَنِ الدِّينِ كَانَ أَحَقَّ النَّاسِ بِالْتِزَامِ أَحْكَامِهِ وَالْفَصْلِ بَيْنَ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ. وَقَدْ رَوَى حَارِثُ بْنُ نَبْهَانَ عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "انْهَوْا جُيُوشَكُمْ عَنِ الْفَسَادِ، فَإِنَّهُ مَا فَسَدَ جَيْشٌ قَطُّ إلَّا قَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وَانْهَوْا جُيُوشَكُمْ عَنِ الْغُلُولِ، فَإِنَّهُ مَا غَلَّ جَيْشٌ قَطُّ إلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الرَّجْلَةَ، وَانْهَوْا جُيُوشَكُمْ عَنِ الزِّنَا، فَإِنَّهُ مَا زَنَى جَيْشٌ قَطُّ إلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَوْتَانِ". وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: أَيُّهَا النَّاسُ، اعْمَلُوا صَالِحًا قَبْلَ الْغَزْوَةِ، فَإِنَّمَا تُقَاتِلُونَ بِأَعْمَالِكُمْ. وَالْعَاشِرُ: أَنْ لَا يُمَكِّنَ أَحَدًا مِنْ جَيْشِهِ أَنْ يَتَشَاغَلَ بِتِجَارَةٍ أَوْ زِرَاعَةٍ؛ لِصَرْفِهِ الِاهْتِمَامَ بِهَا عَنْ مُصَابَرَةِ الْعَدُوِّ وَصِدْقِ الْجِهَادِ، رُوِيَ عَنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "بُعِثْتُ مَرْغَمَةً وَمَرْحَمَةً

_ 1 قال الشيخ الألباني في صحيح الكلم الطيب "116": واهٍ جدًّا.

وَلَمْ أُبْعَثْ تَاجِرًا وَلَا زَارِعًا، وَإِنَّ شَرَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ التُّجَّارُ وَالزُّرَّاعُ إلَّا مَنْ شَحَّ عَلَى دِينِهِ"1، وَغَزَا نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: "لَا يَغْزُوَنَّ مَعِي رَجُلٌ بَنَى بِنَاءً لَمْ يُكْمِلْهُ، وَلَا رَجُلٌ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَلَا رَجُلٌ زَرَعَ زَرْعًا لَمْ يَحْصُدْهُ"2. فَصْلٌ: وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْإِمَارَةِ مَا يَلْزَمُ الْمُجَاهِدِينَ مَعَهُ مِنْ حُقُوقِ الْجِهَادِ وَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَلْزَمُهُمْ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. وَالثَّانِي: مَا يَلْزَمُهُمْ فِي حَقِّ الْأَمِيرِ، فَأَمَّا اللَّازِمُ لَهُمْ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَأَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: مُصَابَرَةُ الْعَدُوِّ عِنْدَ الْتِقَاءِ الْجَمْعَيْنِ، بِأَنْ لَا يَنْهَزِمَ عَنْهُ مِنْ مِثْلَيْهِ فَمَا دُونَهُ، وَقَدْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى فَرَضَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُقَاتِلَ عَشَرَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ، إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65] . ثُمَّ خَفَّفَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلّ-َ عَنْهُمْ عِنْدَ قُوَّةِ الْإِسْلَامِ وَكَثْرَةِ أَهْلِهِ، فَأَوْجَبَ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ لَاقَى الْعَدُوَّ أَنْ يُقَاتِلَ رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ، فَقَالَ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاَللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66] . وَحَرَّمَ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَنْهَزِمَ مِنْ مِثْلَيْهِ إلَّا لِإِحْدَى حَالَتَيْنِ: إمَّا أَنْ يَتَحَرَّفَ لِقِتَالٍ فَيُوَلِّي لِاسْتِرَاحَةٍ أَوْ لِمَكِيدَةٍ وَيَعُودُ إلَى قِتَالِهِمْ، وَإِمَّا أَنْ يَتَحَيَّزَ إلَى فِئَةٍ أُخْرَى يَجْتَمِعُ مَعَهَا عَلَى قِتَالِهِمْ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال: 16] . وَسَوَاءٌ قَرُبَتِ الْفِئَةُ الَّتِي يَتَحَيَّزُ إلَيْهَا أَوْ بَعُدَتْ، فَقَدْ قَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لِأَهْلِ الْقَادِسِيَّةِ حِينَ انْهَزَمُوا إلَيْهِ: أَنَا فِئَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ، وَيَجُوزُ إذَا زَادُوا عَلَى مِثْلَيْهِ وَلَمْ يَجِدْ إلَى

_ 1 ضعيف: أورده الشيخ الغزالي في سلسلة الأحاديث الضعيفة "1571"، وفي ضعيف الجامع "2340". 2 رواه سعيد بن منصور في سننه "2867".

الْمُصَابَرَةِ سَبِيلًا أَنْ يُوَلِّيَ عَنْهُمْ غَيْرَ مُتَحَرِّفٍ لِقِتَالٍ وَلَا مُتَحَيِّزٍ إلَى فِئَةٍ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِيمَنْ عَجَزَ عَنْ مُقَاوَمَةِ مِثْلَيْهِ، وَأَشْرَفَ عَلَى الْقَتْلِ فِي جَوَازِ انْهِزَامِهِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُوَلِّيَ عَنْهُمْ مُنهَزِّمًا وَإِنْ قُتِلَ لِلنَّصِّ فِيهِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَجُوزُ أَنْ يُوَلِّيَ نَاوِيًا أَنْ يَتَحَرَّفَ لِقِتَالٍ، أَوْ يَتَحَيَّزَ إلَى فِئَةٍ لِيَسْلَمَ مِنَ الْقَتْلِ، وَمَا ثَمَّ خِلَافٌ، فَإِنَّهُ وَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْمُصَابَرَةِ فَلَيْسَ يَعْجَزُ عَنْ هَذِهِ النِّيَّةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا اعْتِبَارَ بِهَذَا التَّفْصِيلِ وَالنَّصُّ فِيهِ مَنْسُوخٌ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُقَاتِلَ مَا أَمْكَنَهُ، وَيَنْهَزِمَ إذَا عَجَزَ وَخَافَ الْقَتْلَ، وَالثَّانِي أَنْ يَقْصِدَ بِقِتَالِهِ نُصْرَةَ دَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِبْطَالِ مَا خَالَفَهُ مِنَ الْأَدْيَانِ: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] . فَيَكُونُ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ حَائِزًا لِثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَمُطِيعًا لَهُ فِي أَوَامِرِهِ وَنُصْرَةِ دِينِهِ، وَمُسْتَنْصِرًا بِهِ عَلَى عَدُوِّهِ؛ لِيَسْتَهِلَّ مَا لَقِي؛ فَيَكُونُ أَكْثَرَ ثَبَاتًا وَأَبْلَغَ نِكَايَةً، وَلَا يَقْصِدُ بِجِهَادِهِ اسْتِفَادَةَ الْمَغْنَمِ فَيَصِيرُ مِنَ الْمُكْتَسِبِينَ لَا مِنَ الْمُجَاهِدِينَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا جَمَعَ أَسْرَى بَدْرٍ وَكَانُوا أَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ رَجُلًا بَعْدَ أَنْ قَتَلَ فِي الْمَعْرَكَةِ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ مِثْلَهُمْ شَاوَرَ أَصْحَابَهُ فِيهِمْ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اُقْتُلْ أَعْدَاءَ اللَّهِ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ وَرُءُوسَ الضَّلَالَةِ، فَإِنَّهُمْ كَذَّبُوكَ وَأَخْرَجُوكَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُمْ عَشِيرَتُكَ وَأَهْلُكَ، تَجَاوَزْ عَنْهُمْ يَسْتَنْقِذْهُمْ اللَّهُ بِكَ مِنَ النَّارِ. فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ قَبْلَ الْأَسْرَى بِيَوْمٍ، فَمِنْ قَائِلٍ: الْقَوْلُ مَا قَالَهُ عُمَرُ، وَمِنْ قَائِلٍ: الْقَوْلُ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أَصْحَابِهِ وَقَالَ: "مَا قَوْلُكُمْ فِي هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ؟ إنَّ مَثَلَهُمَا كَمِثْلِ إخْوَةٍ لَهُمَا كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمَا قَالَ نُوحٌ" {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] وَقَالَ مُوسَى: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [يونس: 88] ، وَقَالَ عِيسَى: {إنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36] ، إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَيُشَدِّدُ قُلُوبَ رِجَالٍ فِيهِ حَتَّى تَكُونَ أَشَدَّ مِنَ الْحِجَارَةِ، وَيُلَيِّنُ قُلُوبَ رِجَالٍ حَتَّى تَكُونَ أَلْيَنَ مِنَ اللَّبِنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عَيْلَةٌ فَلَا يَنْقَلِبْ أَحَدٌ مِنْكُمْ إلَّا بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبَةِ عُنُقٍ". وَفَادَاهُ كُلُّ أَسِيرٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَكَانَ فِي الْأَسْرَى الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَسَرَهُ

أَبُو الْيُسْرِ، وكَانَ الْعَبَّاسُ رَجُلًا جَسِيمًا وَأَبُو الْيُسْرِ رَجُلًا مُجْتَمَعًا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأَبِي الْيُسْرِ: "كَيْفَ أَسَرْتَ الْعَبَّاسَ يَا أَبَا الْيُسْرِ"؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ أَعَانَنِي عَلَيْهِ رَجُلٌ مَا رَأَيْتُهُ قَطُّ، هَيْئَتُهُ كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَقَدْ أَعَانَكَ عَلَيْهِ مَلَكٌ كَرِيمٌ" 1. وقَالَ لِلْعَبَّاسِ: "افْدِ نَفْسَكَ وَابْنَيْ أَخِيكَ عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَنَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ وَحَلِيفَكَ عُتْبَةَ بْنَ عُمَرَ"، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي كُنْتُ مُسْلِمًا وَلَكِنَّ الْقَوْمَ اسْتَكْرَهُونِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَعْلَمُ بِإِسْلَامِكَ، فَإِنْ كَانَ مَا قُلْتَ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَجْزِيكَ"، فَفَدَى الْعَبَّاسُ نَفْسَهُ بِمِائَةِ أُوقِيَّةٍ، وَفَدَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ ابْنَيْ أَخِيهِ وَحَلِيفِهِ بِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، وَنَزَلَ فِي الْعَبَّاسِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال: 70] . فَلَمَّا أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِدَاءَ أَسْرَى بَدْرٍ لِفَقْرِ الْمُهَاجِرِينَ وَحَاجَتِهِمْ، عَاتَبَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ عَلَى مَا فَعَلَ فَقَالَ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] يَعْنِي بِهِ الْقَتْلَ {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} يَعْنِي مَالَ الْفِدَاءِ: {وَاَللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [الأنفال: 67] يَعْنِي: الْعَمَلَ بِمَا يُوجِبُ ثَوَابَ الْآخِرَةِ، {وَاَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 67] يَعْنِي: عَزِيزٌ فِيمَا كَانَ مِنْ نَصْرِكُمْ، حَكِيمٌ فِيمَا أَرَادَهُ لَكُمْ، {لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] . يَعْنِي بِهِ: مَالَ الْفِدَاءِ الْمَأْخُوذَ مِنَ الْأَسْرِ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ فِي أَهْلِ بَدْرٍ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ مِنْ فِدَاءِ أَسْرَى بَدْرٍ عَذَابٌ عَظِيمٌ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَالثَّانِي: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ فِي أَنَّهُ تُسْتَحَلُّ الْغَنَائِمُ لَمَسَّكُمْ فِي تَعْجِيلِهَا مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ عَذَابٌ عَظِيمٌ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ -رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ أَنْ لَا يُؤَاخِذَ أَحَدًا بِعَمَلٍ أَتَاهُ عَلَى جَهَالَةٍ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمُوهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: "لَوْ عَذَّبَنَا اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَا عُمَرُ مَا نَجَا غَيْرُكَ" 2.

_ 1 رواه ابن جرير في تفسيره "4/ 78". 2 رواه ابن جرير في تفسيره "10/ 48".

وَالثَّالِثُ: مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُؤَدِّيَ الْأَمَانَةَ فِيمَا حَازَهُ مِنَ الْغَنَائِمِ، وَلَا يَغُلَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ شَيْئًا حَتَّى يُقَسَّمَ بَيْنَ جَمِيعِ الْغَانِمِينَ مِمَّنْ شَهِدَ الْوَاقِعَةَ وَكَانَ عَلَى الْعَدُوِّ يَدًا؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيهَا حَقًّا؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161] . وَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ أَصْحَابَهُ وَيَخُونَهُمْ فِي غَنَائِمِهِمْ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ -رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ1. وَالثَّانِي: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّهُ أَصْحَابُهُ وَيَخُونُوهُ فِي غَنَائِمِهِمْ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ2. وَالثَّالِثُ: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكْتُمَ أَصْحَابَهُ مَا بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ إلَيْهِمْ؛ لِرَهْبَةٍ مِنْهُمْ وَلَا لِرَغْبَةٍ فِيهِمْ، وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ3. وَالرَّابِعُ: مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ لَا يُمَايِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ذَا قُرْبَى، وَلَا يُحَابِي فِي نُصْرَةِ دِينِ اللَّهِ ذَا مَوَدَّةٍ، فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ أَوْجَبُ وَنُصْرَةَ دِينِهِ أَلْزَمُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة: 1] . نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، وَقَدْ كَتَبَ كِتَابًا إلَى أَهْلِ مَكَّةَ حِينَ هَمَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِغَزْوِهِمْ، يُعْلِمُهُمْ فِيهِ حَالَ مَسِيرِهِ إلَيْهِمْ، وَأَنْفَذَهُ مَعَ سَارَةَ مَوْلَاةٍ لِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَيْهَا، فَأَنْفَذَ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ فِي أَثَرِهَا حَتَّى أَخْرَجَاهُ مِنْ قَرْنِ رَأْسِهَا، فَدَعَا حَاطِبًا وَقَالَ: "مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ"؟ فَقَالَ: وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي لَمُؤْمِنٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مَا كَفَرْتُ وَلَا بَدَّلْتُ، وَلَكِنِّي امْرُؤٌ لَيْسَ لِي فِي الْقَوْمِ أَصْلٌ وَلَا عَشِيرَةٌ، وَكَانَ لِي بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ أَهْلُ وَلَدٍ، فَطَالَعْتُهُمْ بِذَلِكَ، وَعَفَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

_ 1 رواه ابن جرير في تفسيره "4/ 154". 2 رواه ابن جرير في تفسيره "4/ 157". 3 رواه ابن جرير في تفسيره "4/ 156".

وَأَمَّا مَا يَلْزَمُهُمْ فِي حَقِّ الْأَمِيرِ عَلَيْهِمْ فَأَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: الْتِزَامُ طَاعَتِهِ وَالدُّخُولُ فِي وِلَايَتِهِ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَيْهِمْ انْعَقَدَتْ وَطَاعَتُهُ بِالْوِلَايَةِ وَجَبَتْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] . وَفِي أُولِي الْأَمْرِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ الْأُمَرَاءُ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ -رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ الْعُلَمَاءُ2، وَهَذَا قَوْلُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ، وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ

_ 1 قلت: اختلف العلماء قديمًا وحديثًا في تعريف أولي الأمر، فنجد الإمام النووي يعرفهم: "بأنَّهم العلماء والرؤساء". بينما يرى الإمام البغدادي أنَّهم "أهل الاجتهاد". ثم نجد من يقول: "إنهم الأشراف والأعيان"، ثم نجد الإمام محمد عبده يقول: "إنهم الأمراء والحكام والعلماء ورؤساء الجند وسائر الرؤساء والزعماء الذين يرجِعُ إليهم الناس في الحاجات والمصالح". ثم يقول الإمام أيضًا: "إن أولي الأمر في زماننا هم كبار العلماء ورؤساء الجند، والقضاة، وكبار التجار والزراع، وأصحاب المصالح العامَّة، ومديرو الجمعيات والشركات، وزعماء الأحزاب، ونابغو الكُتَّاب والأطبَّاء والمحامين الذين تثق بهم الأمة في مصالحها، وترجع إليهم في مشكلاتها". ثم يقول الشيخ محمود شلتوت -رحمه الله: "أولو الأمر هم أهل النظر الذين عرفوا في الأمة بكمال الاختصاص في بحث الشئون وإدراك المصالح والغيرة عليها، وليس منْ شكٍّ في أن شئون الأمة متعددة، ففي الأمة جانب القوة، وفيها جانب القضاء، وفيها جانب المال، وفيها جانب السياسة الخارجية، وفيها غير ذلك من الجوانب، ولكل جانب رجال عرفوا فيه بنضج الآراء وعظم الآثار، وهؤلاء الرجال هم أولو الأمر من الأمة، وهم أهل الإجماع الذين يكون اتفاقهم حجة يجب النزول عليها". ويقول السيد رشيد رضا: "والمراد بأولي الأمر: أهل الرأي والمكانة في الأمة، وهم العلماء بمصالحها وطرق حفظها، والمقبولة آراؤهم عند عامتها". 2 فائدة: يقول الدكتور عبد الكريم الحمداوي: كان الاجتهاد شديد الاضطراب عند محاولته تحديد هوية أولي الأمر الذين أشارت إليهم الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] ، مما ترك ثغرة للحكام وظَّفُوها للاستئثار بأمر الأمة كله، إلَّا أنَّ إعادة النظر في النصوص المتعلقة بالتدبير السياسي دلَّت بما لا يدع مجالًا للريب أنَّ أولي الأمر الدنيوي العام هم المسلمون جميعًا، وهم الأداة البشرية الموكلة بصياغة القوانين والقواعد، واتخاذ القرارات وتنفيذها والمحاسبة عليها. ولئن اعترض معترض بأنَّ قضايا الدنيا متنوعة ومعقدة لا يفهمها إلّا أولو الاختصاص والخبرة من العلماء والفقهاء والأطباء والمهندسين، فإنَّ هذا الإشكال يزول إذا علمنا أنَّ هؤلاء يشاركون في الشورى، ويقومون أثناءها بمهمة الشرح والتوعية وتوضيح الأحكام الدينية والحقائق العلمية، على أن لا يحرم أحد من حقه إبداء الرأي أو الاعتراض أو المساهمة في اتخاذ القرار، أو يوظّف اختلاف المستوى العلمي مبررًا لاحتكار الشورى، والاستئثار بها؛ إذ الجميع في سفينة واحدة يهلكون مهلكًا واحدًا بغرقها. [فقه الأحكام السلطانية] .

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي" 1. وَالثَّانِي: أَنْ يُفَوِّضُوا الْأَمْرَ إلَى رَأْيِهِ، وَيَكِلُوهُ إلَى تَدْبِيرِهِ، حَتَّى لَا تَخْتَلِفَ آرَاؤُهُمْ، فَتَتْلَفَ كَلِمَتُهُمْ وَيَفْتَرِقَ جَمْعُهُمْ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] . فَجَعَلَ تَفْوِيضَ الْأَمْرِ إلَى وَلِيِّهِ سَبَبًا لِحُصُولِ الْعِلْمِ وَسَدَادِ الْأَمْرِ، فَإِنْ ظَهَرَ لَهُمْ صَوَابٌ خَفِيَ عَلَيْهِ بَيَّنُوهُ لَهُ وَأَشَارُوا بِهِ عَلَيْهِ؛ وَلِذَلِكَ نُدِبَ إلَى الْمُشَاوَرَةِ لِيَرْجِعَ بِهَا إلَى الصَّوَابِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُسَارِعُوا إلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَالْوُقُوفِ عَنْهُ نَهْيِهِ وَزَجْرِهِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ لَوَازِمِ طَاعَتِهِ. فَإِنْ تَوَقَّفُوا عَمَّا أَمَرَهُمْ بِهِ وَأَقْدَمُوا عَلَى مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ فَلَهُ تَأْدِيبُهُمْ عَلَى الْمُخَالَفَةِ بِحَسَبِ أَحْوَالِهِمْ وَلَا يُغْلِظُ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] ، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: {خَيْرُ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ} 2. وَالرَّابِعُ: أَنْ لَا يُنَازِعُوهُ فِي الْغَنَائِمِ إذَا قَسَّمَهَا، وَيَرْضَوْا مِنْهُ بِتَعْدِيلِ الْقِسْمَةِ عَلَيْهِمْ، فَقَدْ سَوَّى اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا بَيْنَ الشَّرِيفِ وَالْمَشْرُوفِ، وَمَاثَلَ بَيْنَ الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ. وَرَوَى عَمْرو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: إنَّ النَّاسَ اتَّبَعُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَامَ حُنَيْنٍ يَقُولُونَ: اقْسِمْ عَلَيْنَا فَيْئَنَا، حَتَّى أَلْجَأَهُ إلَى شَجَرَةٍ فَاخْتُطِفَ عَنْهُ رِدَاؤُهُ، فَقَالَ: "رُدُّوا عَلَيَّ رِدَائِي أَيُّهَا النَّاسُ، وَاَللَّهِ لَوْ كَانَ لَكُمْ عَدَدُ شَجَرِ تِهَامَةَ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ عَلَيْكُمْ، وَمَا أَلْفَيْتُمُونِي بَخِيلًا وَلَا جَبَانًا وَلَا كَذُوبًا"، ثُمَّ أَخَذَ وَبَرَةً مِنْ سَغَامِ بَعِيرِهِ فَرَفَعَهَا وَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، وَاَللَّهِ مَالِي مِنْ فَيْئِكُمْ وَلَا هَذِهِ الْوَبَرَةِ إلَّا الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ، فَأَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمِخْيَطَ، فَإِنَّ الْغُلُولَ يَكُونُ عَلَى أَهْلِهِ عَارًا وَنَارًا وَشَنَارًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ

_ 1 صحيح: رواه البخاري في كتاب الأحكام "7137"، ومسلم في كتاب الإمارة "1835". 2 صحيح: رواه أحمد "15506"، وصحَّحه الشيخ الألباني في صحيح الجامع "3309".

الْأَنْصَارِ بِكُبَّةٍ مِنْ خُيُوطِ شَعْرٍ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخَذْتُ هَذِهِ الْكُبَّةَ أَعْمَلُ بِهَا بَرْذعَةَ بَعِيرٍ لِي قَدْ بَرَدَ. فَقَالَ: "أَمَّا نَصِيبِي مِنْهَا فَلَكَ"، فَقَالَ: "أَمَّا إذَا بَلَغْتَ هَذَا فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهَا" ثُمَّ طَرَحَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ 1. فَصْلٌ: وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْإِمَارَةِ: مُصَابَرَةُ الْأَمِيرِ قِتَالَ الْعَدُوِّ مَا صَابَرَ وَإِنْ تَطَاوَلَتْ بِهِ الْمُدَّةُ، وَلَا يُوَلِّي عَنْهُ وَفِيهِ قُوَّةٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] . وَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: اصْبِرُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَصَابِرُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ، وَرَابِطُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ2. وَالثَّانِي: اصْبِرُوا عَلَى دِينِكُمْ، وَصَابِرُوا الْوَعْدَ الَّذِي وَعَدَكُمْ، وَرَابِطُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ، وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ3. وَالثَّالِثُ: اصْبِرُوا عَلَى الْجِهَادِ، وَصَابِرُوا الْعَدُوَّ، وَرَابِطُوا بِمُلَازَمَةِ الثَّغْرِ، وَهَذَا قَوْلُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ4. وَإِذَا كَانَتْ مُصَابَرَةُ الْقِتَالِ مِنْ حُقُوقِ الْجِهَادِ فَهِيَ لَازِمَةٌ حَتَّى يُظْفَرَ بِخَصْلَةٍ مِنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ: إحْدَاهُنَّ: أَنْ يُسْلِمُوا فَيَصِيرَ لَهُمْ بِالْإِسْلَامِ مَا لَنَا وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْنَا، وَيُقَرُّوا عَلَى مَا مَلَكُوا مِنْ بِلَادٍ وَأَمْوَالٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ،

_ 1 حسن: رواه أبو داود في كتاب الجهاد "2694"، والنسائي في كتاب قسم الفيء "4139"، ومالك في كتاب الجهاد "994"، وحسنه الشيخ الألباني. 2 رواه ابن جرير في تفسيره "4/ 221". 3 انظر التخريج السابق. 4 انظر التخريج السابق.

فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا" 1. وَتَصِيرُ بِلَادُهُمْ إذَا أَسْلَمُوا دَارَ الْإِسْلَامِ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ الْإِسْلَامِ، وَلَوْ أَسْلَمَ فِي مَعْرَكَةِ الْحَرْبِ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ -قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ- أَحْرَزُوا بِإِسْلَامِهِمْ مَا مَلَكُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ أَرْضٍ وَمَالٍ، فَإِنْ ظَهَرَ الْأَمِيرُ عَلَى دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَغْنَمْ أَمْوَالَ مَنْ أَسْلَمَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَغْنَمُ مَا لَا يُنْقَلُ مِنْ أَرْضٍ وَدَارٍ، وَلَا يَغْنَمُ مَا يُنْقَلُ مِنْ مَالٍ وَمَتَاعٍ وَهُوَ خِلَافُ السُّنَّةِ. وَقَدْ أَسْلَمَ فِي حِصَارِ بَنِي قُرَيْظَةَ ثَعْلَبَةُ وَأُسَيْدٌ ابْنَا شُعْبَةَ الْيَهُودِيَّانِ، فَأَحْرَزَ إسْلَامُهُمَا أَمْوَالَهُمَا، وَيَكُونُ إسْلَامُهُمْ إسْلَامًا لِصِغَارِ أَوْلَادِهِمْ وَلِكُلِّ حَمْلٍ كَانَ لَهُمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا أَسْلَمَ كَافِرٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ إسْلَامًا لِصِغَارِ وَلَدِهِ، وَلَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَ إسْلَامًا لِصِغَارِ وَلَدِهِ، وَلَا يَكُونُ إسْلَامًا لِلْحَمْلِ، وَتَكُونُ زَوْجَتُهُ وَالْحَمْلُ فَيْئًا، وَلَوْ دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ فَاشْتَرَى فِيهَا أَرْضًا وَمَتَاعًا، لَمْ يُمْلَكْ عَلَيْهِ إذَا ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا، وَكَانَ مُشْتَرِيهَا أَحَقَّ بِهَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَكُونُ مَا مَلَكَهُ مِنْ أَرْضٍ فَيْئًا. وَالْخَصْلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُظْفِرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِمْ مَعَ مَقَامِهِمْ عَلَى شِرْكِهِمْ، فَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ، وَتُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ، وَيُقْتَلُ مَنْ لَمْ يَحْصُلْ فِي الْأَسْرِ مِنْهُمْ. وَيَكُونُ فِي الْأَسْرَى مُخَيَّرًا فِي اسْتِعْمَالِ الْأَصْلَحِ مِنْ أَرْبَعَةِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقْتُلَهُمْ صَبْرًا بِضَرْبِ الْعُنُقِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَسْتَرِقَّهُمْ وَيُجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ الرِّقِّ مِنْ بَيْعٍ أَوْ عِتْقٍ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُفَادِيَ بِهِمْ عَلَى مَالٍ أَوْ أَسْرَى. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِمْ وَيَعْفُوَ عَنْهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4] . وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ضَرْبُ رِقَابِهِمْ صَبْرًا بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قِتَالُهُمْ بِالسِّلَاحِ وَالتَّدْبِيرِ حَتَّى يُفْضِيَ إلَى ضَرْبِ رِقَابِهِمْ فِي الْمَعْرَكَةِ، ثُمَّ قَالَ: {حَتَّى إذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمد: 4] ، يَعْنِي بِالْإِثْخَانِ: الطَّعْنَ، وَبِشَدِّ الْوَثَاقِ:

_ 1 صحيح: رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير "2946"، ومسلم في كتاب الإيمان "21".

الْأَسْرَ. {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] . وَفِي الْمَنِّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْعَفْوُ وَالْإِطْلَاقُ كَمَا مَنَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ بَعْدَ أَسْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْعِتْقُ بَعْدَ الرِّقِّ، وَهَذَا قَوْلُ مُقَاتِلٍ، وَأَمَّا الْفِدَاءُ فَفِيهِ هَهُنَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْمُفَادَاةُ عَلَى مَالٍ يُؤْخَذُ أَوْ أَسِيرٍ يُطْلَقُ، كَمَا فَادَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَسْرَى بَدْرٍ عَلَى مَالٍ، وَفَادَى فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ رَجُلٌ بِرَجُلَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْبَيْعُ، وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] . وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ 1: أَحَدُهُمَا: أَوْزَارُ الْكُفْرِ بِالْإِسْلَامِ. وَالثَّانِي: أَثْقَالُ الْحَرْبِ وَهُوَ السِّلَاحُ، وَفِي الْمَقْصُودِ بِهَذَا السِّلَاحِ الْمَوْضُوعِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا سِلَاحُ الْمُسْلِمِينَ بِالنَّصْرِ. وَالثَّانِي: سِلَاحُ الْمُشْرِكِينَ بِالْهَزِيمَةِ، وَلِهَذِهِ الْأَحْكَامِ الْأَرْبَعَةِ شَرْحٌ يُذْكَرُ مَعَ قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ بَعْدُ، وَالْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَبْذُلُوا مَالًا عَلَى الْمَسْأَلَةِ وَالْمُوَادَعَةِ؛ فَيَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُمْ وَيُوَادِعَهُمْ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبْذُلُوهُ لِوَقْتِهِمْ وَلَا يَجْعَلُوهُ خَرَاجًا مُسْتَمِرًّا، فَهَذَا الْمَالُ غَنِيمَةٌ؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِإِيجَافِ خَيْلٍ وَرِكَابٍ، فَيُقَسَّمُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَيَكُونُ ذَلِكَ أَمَانًا لَهُمْ فِي الِانْكِفَافِ بِهِ عَنْ قِتَالِهِمْ فِي هَذَا الْجِهَادِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ جِهَادِهِمْ فِيمَا بَعْدُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَبْذُلُوهُ فِي كُلِّ عَامٍ، فَيَكُونُ هَذَا خَرَاجًا مُسْتَمِرًّا، وَيَكُونُ الْأَمَانُ بِهِ مُسْتَقِرًّا، وَالْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ فِي الْعَامِ الْأَوَّلِ غَنِيمَةٌ تُقَسَّمُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَمَا يُؤْخَذُ فِي الْأَعْوَامِ الْمُسْتَقْبَلَةِ يُقَسَّمُ فِي أَهْلِ الْفَيْءِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَاوِدَ جِهَادَهُمْ مَا كَانُوا مُقِيمِينَ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ لِاسْتِقْرَارِ الْمُوَادَعَةِ عَلَيْهِ. وَإِذَا دَخَلَ أَحَدُهُمْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ لَهُ بِعَقْدِ الْمُوَادَعَةِ الْأَمَانُ

_ 1 انظر: تفسير ابن جرير "26/ 43".

عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَإِنْ مَنَعُوا الْمَالَ زَالَتِ الْمُوَادَعَةُ وَارْتَفَعَ الْأَمَانُ وَلَزِمَ جِهَادُهُمْ كَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَكُونُ مَنْعُهُمْ مِنْ مَالِ الْجِزْيَةِ وَالصُّلْحِ نَقْضًا لِأَمَانِهِمْ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِمْ، فَلَا يُنْتَقَضُ الْعَهْدُ، وَجَازَ حَرْبُهُمْ بَعْدَهَا؛ لِأَنَّ الْعَهْدَ مَا كَانَ عَنْ عَقْدٍ. وَالْخَصْلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَسْأَلُوا الْأَمَانَ وَالْمُهَادَنَةَ، فَيَجُوزُ إذَا تَعَذَّرَ الظَّفَرُ بِهِمْ وَأَخْذُ الْمَالِ مِنْهُمْ أَنْ يُهَادِنَهُمْ عَلَى الْمُسَالَمَةِ فِي مُدَّةٍ مُقَدَّرَةٍ يَعْقِدُ الْهُدْنَةَ عَلَيْهَا إذَا كَانَ الْإِمَامُ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي الْهُدْنَةِ أَوْ فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَيْهِ. قَدْ هَادَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَشْرَ سِنِينَ. وَيَقْتَصِرُ فِي مُدَّةِ الْهُدْنَةِ عَلَى أَقَلِّ مَا يُمْكِنُ وَلَا يُجَاوِزُ أَكْثَرُهَا عَشْرَ سِنِينَ، فَإِنْ هَادَنَهُمْ أَكْثَرَ مِنْهَا بَطَلَتْ الْمُهَادَنَةُ فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا، وَلَهُمْ الْأَمَانُ فِيهَا إلَى انْقِضَاءِ مُدَّتِهَا، وَلَا يُجَاهِدُونَ فِيهَا مَا أَقَامُوا عَلَى الْعَهْدِ، فَإِنْ نَقَضُوهُ صَارَ حَرْبًا يُجَاهِدُونَ مِنْ غَيْرِ إنْذَارِ، قَدْ نَقَضَتْ قُرَيْشٌ صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ فَسَارَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَامَ الْفَتْحِ مُحَارِبًا حَتَّى فَتَحَ مَكَّةَ صُلْحًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَعَنْوَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ وَلَا يَجُوزُ إذَا نَقَضُوا عَهْدَهُمْ أَنْ يُقْتَلَ مَا فِي أَيْدِينَا مِنْ رَهَائِنِهِمْ، قَدْ نَقَضَ الرُّومُ عَهْدَهُمْ زَمَنَ مُعَاوِيَةَ وَفِي يَدِهِ رَهَائِنُ فَامْتَنَعَ الْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا مِنْ قَتْلِهِمْ وَخَلَّوْا سَبِيلَهُمْ وَقَالُوا: وَفَاءٌ بِغَدْرٍ خَيْرٌ مِنْ غَدْرٍ بِغَدْرٍ. وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَدِّ الْأَمَانَةَ لِمَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ" 1. فَإِذَا لَمْ يَجُزْ قَتْلُ الرَّهَائِنِ لَمْ يَجُزْ إطْلَاقُهُمْ مَا لَمْ يُحَارِبْهُمْ، فَإِذَا حَارَبَهُمْ وَجَبَ إطْلَاقُ رَهَائِنِهِمْ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِيهِمْ، فَإِنْ كَانُوا رِجَالًا وَجَبَ إبْلَاغُهُمْ مَأْمَنَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا ذَرَارِيَّ نِسَاءً وَأَطْفَالًا وَجَبَ إيصَالُهُمْ إلَى أَهَالِيِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ لَا يَنْفَرِدُونَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ لَهُمْ فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ رَدَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ رِجَالِهِمْ، فَإِذَا أَسْلَمَ أَحَدٌ مِنْهُمْ رُدَّ إلَيْهِمْ إنْ كَانُوا مَأْمُونِينَ عَلَى دَمِهِ، وَلَمْ يُرَدَّ إلَيْهِمْ أَنْ يُؤْمَنُوا عَلَيْهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ رَدُّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ نِسَائِهِمْ؛ لِأَنَّهُنَّ ذَوَاتُ فُرُوجٍ مُحَرَّمَةٍ، فَإِنْ اُشْتُرِطَ رَدُّهُنَّ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَدُّوا، وَدَفَعَ إلَى أَزْوَاجِهِنَّ مُهُورَهُنَّ إذَا طُلِّقْنَ. وَإِذَا لَمْ تَدْعُ إلَى عَقْدِ الْمُهَادَنَةِ ضَرُورَةٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُهَادِنَهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُوَادِعَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَمَا دُونَ

_ 1 صحيح: رواه أبو داود في كتاب البيوع "3535"، والترمذي في كتاب البيوع "1264"، والدارمي في كتاب "البيوع" "2597"، وصحَّحه الشيخ الألباني.

وَلَا يَزِيدُ عَلَيْهَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2] . وَأَمَّا الْأَمَانُ الْخَاصُّ فَيَصِحُّ أَنْ يَبْذُلَهُ كُلُّ مُسْلِمٍ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ حُرٍّ وَعَبْدٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ" 1، يَعْنِي: عَبِيدَهُمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ أَمَانُ الْعَبْدِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقِتَالِ. فَصْلٌ: وَالْقِسْمُ السَّادِسُ مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْإِمَارَةِ: السِّيرَةُ فِي نِزَالِ الْعَدُوِّ وَقِتَالِهِ، وَيَجُوزُ لِأَمِيرِ الْجَيْشِ فِي حِصَارِ الْعَدُوِّ أَنْ يَنْصِبَ عَلَيْهِمْ الْعَرَّادَاتِ وَالْمَنْجَنِيقَات، قَدْ نَصَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ مَنْجَنِيقًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَهْدِمَ عَلَيْهِمْ مَنَازِلَهُمْ، وَيَضَعَ عَلَيْهِمْ الْبَيَاتَ وَالتَّحْرِيقَ، وَإِذَا رَأَى فِي قَطْعِ نَخْلِهِمْ وَشَجَرِهِمْ صَلَاحًا يَسْتَضْعِفُهُمْ بِهِ؛ لِيَظْفَرَ بِهِمْ عَنْوَةً أَوْ يَدْخُلُوا فِي السِّلْمِ صُلْحًا فَعَلَ، وَلَا يَفْعَلُ إنْ لَمْ يَرَ فِيهِ صَلَاحًا. قَدْ قَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كُرُومَ أَهْلِ الطَّائِفِ، فَكَانَ سَبَبًا فِي إسْلَامِهِمْ، وَأَمَرَ فِي حَرْبِ بَنِي النَّضِيرِ بِقَطْعِ نَوْعٍ مِنَ النَّخْلِ يُقَالُ لَهُ الْأَصْفَرُ، يُرَى نَوَاهُ مِنْ وَرَاءِ اللِّحَاءِ، وَكَانَتِ اللِّحَاءُ مِنْهَا أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنَ الْوَضِيعِ، فَقَطَعَ بِهِمْ وَحَزِنُوا لَهُ وَقَالُوا: إنَّمَا قَطَعْتُ نَخْلَةً وَأَحْرَقْتُ نَخْلَةً، وَلَمَّا قَطَعَ نَخْلَةً قَالَ سِمَاكٌ الْيَهُودِيُّ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمُتَقَارِبِ: أَلَسْنَا وَرِثْنَا الْكِتَابَ الْحَكِيـ ... ـم عَلَى عَهْدِ مُوسَى فَلَمْ نُصْرَفْ وَأَنْتُمْ رِعَاءٌ لِشَاءٍ عِجَافٍ ... بِسَهْلِ تِهَامَةَ وَالْأَحْنَفِ يَرَوْنَ الرِّعَايَةَ مَجْدًا لَكُمْ ... كَذَا كُلُّ دَهْرٍ بِكُمْ مُجْحِفِ فَيَا أَيُّهَا الشَّاهِدُونَ انْتَهُوا ... عَنِ الظُّلْمِ وَالْمَنْطِقِ الْمُوكَفِ لَعَلَّ اللَّيَالِيَ وَصَرْفَ الدُّهُورِ ... تُدِيلُ مِنَ الْعَادِلِ الْمُنْصِفِ بِقَتْلِ النَّضِيرِ وَإِجْلَائِهَا ... وَعَقْرِ النَّخِيلِ وَلَمْ تُخْطَفْ فَأَجَابَهُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ مِنَ الْوَافِرِ:

_ 1 صحيح: رواه البخاري في كتاب الجزية "3180"، وأبو داود في كتاب المناسك "2034"، والترمذي "2127"، والنسائي في كتاب القسامة "4734"، وأحمد "784".

هُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ فَضَيَّعُوهُ ... فَهُمْ عُمْيٌ عَنِ التَّوْرَاةِ بُورُ كَفَرْتُمْ بِالْقُرَانِ وَقَدْ أَتَاكُمْ ... بِتَصْدِيقِ الَّذِي قَالَ النَّذِيرُ فَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ ... حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ فَلَمَّا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَلِكَ بِهِمْ جَلَّ فِي صُدُورِ الْمُسْلِمِينَ وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ لَنَا فِيمَا قَطَعْنَا مِنْ أَجْرٍ؟ وَهَلْ عَلَيْنَا فِيمَا تَرَكْنَاهُ مِنْ وِزْرٍ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5] ، وَفِي "لِينَةٍ" أَرْبَعَةُ أَقَاوِيلَ1: أَحَدُهَا: أَنَّهَا النَّخْلَةُ مِنْ أَيِّ الْأَصْنَافِ كَانَتْ؟ وَهَذَا قَوْلُ مُقَاتِلٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا كِرَامُ النَّخْلِ، وَهَذَا قَوْلُ سُفْيَانَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ الْفَسِيلَةُ؛ لِأَنَّهَا أَلْيَنُ مِنَ النَّخْلَةِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا جَمِيعُ الْأَشْجَارِ لِلِينِهَا بِالْحَيَاةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُغَوِّرَ عَلَيْهِمُ الْمِيَاهَ وَيَقْطَعَهَا عَنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ نِسَاءٌ وَأَطْفَالٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ ضَعْفِهِمْ وَالظَّفَرِ بِهِمْ عَنْوَةً وَصُلْحًا، وَإِذَا اسْتَسْقَى مِنْهُمْ عَطْشَانُ كَانَ الْأَمِيرُ مُخَيَّرًا بَيْنَ سَقْيِهِ أَوْ مَنْعِهِ كَمَا كَانَ مُخَيَّرًا فِيهِ بَيْنَ قَتْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ، وَمَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ وَارَاهُ عَنِ الْأَبْصَارِ وَلَمْ يُلْزَمْ تَكْفِينَهُ، قَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَتْلَى بَدْرٍ فَأُلْقُوا فِي الْقَلِيبِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحَرِّقَ بِالنَّارِ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا. رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "لَا تُعَذِّبُوا عِبَادَ اللَّهِ بِعَذَابِ اللَّهِ" 2. وَقَدْ أَحْرَقَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُ وَالْخَبَرُ لَمْ يَبْلُغْهُ، وَمَنْ قُتِلَ مِنْ شُهَدَاءِ الْمُسْلِمِينَ زُمِّلَ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا وَدُفِنَ بِهَا، وَلَمْ يُغَسَّلْ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ: "زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ فَإِنَّهُمْ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

_ 1 انظر: تفسير ابن جرير "28/ 32". 2 صحيح: رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير "3017"، والترمذي في كتاب الحدود "1458"، والنسائي في كتاب تحريم الدم "4060"، وأحمد "1904".

وَأَوْدَاجُهُمْ تَشْخَبُ دَمًا، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ" 1. وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ تَكْرِيمًا لَهُمْ إجْرَاءً لِحُكْمِ الْحَيَاةِ فِي ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] . وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فِي الْجَنَّةِ بَعْدَ الْبَعْثِ، وَلَيْسُوا فِي الدُّنْيَا بِأَحْيَاءٍ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ: إنَّهُمْ بَعْدَ الْقَتْلِ أَحْيَاءٌ؛ لِاسْتِعْمَال ظَاهِرِ النَّصِّ فَرْقًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يُوصَفُ بِالْحَيَاةِ، وَلَا يُمْنَعُ الْجُيُوشُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ أَكْلِ طَعَامِهِمْ وَعُلُوفَةِ دَوَابِّهِمْ غَيْرَ مُحْتَسِبٍ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَتَعَدَّوْا الْقُوتَ وَالْعَلُوفَةَ إلَى مَا سِوَاهُمَا مِنْ مَلْبُوسٍ وَمَرْكُوبٍ، فَإِنْ دَعَتْهُمْ الضَّرُورَةُ إلَى ذَلِكَ كَانَ مَا لَبِسُوهُ أَوْ رَكِبُوهُ أَوْ اسْتَعْمَلُوهُ مُسْتَرْجَعًا مِنْهُمْ فِي الْمَغْنَمِ إنْ كَانَ بَاقِيًا وَمُحْتَسَبًا عَلَيْهِمْ مِنْ سَهْمِهِمْ إنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا؛ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَطَأَ جَارِيَةً مِنَ السَّبْيِ إلَّا بَعْدَ أَنْ يُعْطَاهَا بِسَهْمِهِ، فَيَطَأَهَا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ، فَإِنْ وَطِئَهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ عُزِّرَ وَلَا يُحَدُّ؛ لِأَنَّ لَهُ فِيهَا سَهْمًا وَوَجَبَ عَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا، وَيُضَافُ إلَى الْغَنِيمَةِ، فَإِنْ أَحْبَلَهَا لَحِقَ بِهِ وَلَدُهَا وَصَارَتْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ إنْ مَلَكَهَا، وَإِنْ وَطِئَ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي السَّبْيِ حُدَّ؛ لِأَنَّ وَطْأَهَا زِنًا، وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِ وَلَدُهَا إنْ عَلِقَتْ. فَإِذَا عُقِدَتْ هَذِهِ الْإِمَارَةُ عَلَى غَزْوَةٍ وَاحِدَةٍ، لَمْ يَكُنْ لِأَمِيرِهَا أَنْ يَغْزُوَ غَيْرَهَا سَوَاءٌ غَنِمَ فِيهَا أَوْ لَمْ يَغْنَمْ، وَإِذَا عُقِدَتْ عُمُومًا عَامًا بَعْدَ عَامٍ لَزِمَهُ مُعَاوَدَةُ الْغَزْوِ فِي كُلِّ وَقْتٍ يَقْدِرُ عَلَى غَزْو، ٍ فِيهِ وَلَا يَفْتُرُ عَنْهُ مَعَ ارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ إلَّا قَدْرَ الِاسْتِرَاحَةِ وَأَقَلُّ مَا يَجْزِيهِ أَنْ لَا يُعَطِّلَ عَامًا مِنْ جِهَادٍ وَلِهَذَا الْأَمِيرِ إذَا فُوِّضَتْ إلَيْهِ الْإِمَارَةُ عَلَى الْمُجَاهِدِينَ أَنْ يَنْظُرَ فِي أَحْكَامِهِمْ، وَيُقِيمَ الْحُدُودَ عَلَيْهِمْ، وَسَوَاءٌ مَنِ ارْتَزَقَ مِنْهُمْ أَوْ تَطَوَّعَ، وَلَا يَنْظُرُ فِي أَحْكَامِ غَيْرِهِمْ مَا كَانَ سَائِرًا إلَى ثَغْرِهِ، فَإِذَا اسْتَقَرَّ فِي الثَّغْرِ الَّذِي تَقَلَّدَهُ جَازَ أَنْ يَنْظُرَ فِي أَحْكَامِ جَمِيعِ أَهْلِهِ مِنْ مُقَاتِلَتِهِ وَرَعِيَّتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ إمَارَةً خَاصَّةً أُجْرِيَ عَلَيْهَا حُكْمُ الْخُصُوصِ.

_ 1 صحيح: رواه النسائي في كتاب الجنائز "2002"، وأحمد "23146"، وصححه الشيخ الألباني.

الباب الخامس: في الولاية على المصالح

الباب الخامس: في الولاية على المصالح الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: في الولاية على الحروب فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَمَا عَدَا جِهَادَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قِتَالٍ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِتَالُ أَهْلِ الرِّدَّةِ، وَقِتَالُ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَقِتَالُ الْمُحَارِبِينَ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ: فَهُوَ أَنْ يَرْتَدَّ قَوْمٌ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِمْ، سَوَاءٌ وُلِدُوا عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ أَوْ أَسْلَمُوا عَنْ كُفْرٍ، فَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ فِي حُكْمِ الرِّدَّةِ سَوَاءٌ، فَإِذَا ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ إلَى أَيِّ دِينٍ انْتَقَلُوا إلَيْهِ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يُقَرَّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ؛ كَالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة، أَوْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَرَّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ؛ كَالزَّنْدَقَةِ وَالْوَثَنِيَّةِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَرَّ مَنِ ارْتَدَّ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْحَقِّ يُوجِبُ الْتِزَامَ أَحْكَامِهِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ" 1. فَإِذَا كَانُوا مِمَّنْ وَجَبَ قَتْلُهُمْ بِمَا ارْتَدُّوا عَنْهُ مِنْ دِينِ الْحَقِّ إلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَدْيَانِ، لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ شُذَّاذًا وَأَفْرَادًا لَمْ يَتَحَيَّزُوا بِدَارٍ يَتَمَيَّزُونَ بِهَا عَنِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى قِتَالِهِمْ لِدُخُولِهِمْ تَحْتَ الْقُدْرَةِ، وَيُكْشَفُ عَنْ سَبَبِ رِدَّتِهِمْ، فَإِنْ ذَكَرُوا شُبْهَةً فِي الدِّينِ أُوضِحَتْ لَهُمْ بِالْحِجَجِ وَالْأَدِلَّةِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ، وَأُخِذُوا بِالتَّوْبَةِ مِمَّا دَخَلُوا فِيهِ مِنَ الْبَاطِلِ، فَإِنْ تَابُوا قُبِلَتْ تَوْبَتُهُمْ مِنْ كُلِّ رِدَّةٍ، وَعَادُوا إلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ كَمَا كَانُوا. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا أَقْبَلُ تَوْبَةَ مَنِ ارْتَدَّ إلَى مَا يُسْتَرُ بِهِ مِنَ الزَّنْدَقَةِ إلَّا أَنْ يَبْتَدِئَهَا مِنْ نَفْسِهِ، وَأَقْبَلُ تَوْبَةَ غَيْرِهِ مِنَ الْمُرْتَدِّينَ، وَعَلَيْهِمْ بَعْدَ التَّوْبَةِ قَضَاءُ مَا تَرَكُوهُ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فِي

_ 1 صحيح: رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير "3017"، وأبو داود في كتاب الحدود "4351"، والترمذي في كتاب الحدود "1458"، والنسائي في كتاب تحريم الدم "4059"، وابن ماجه في كتاب الحدود "2535"، وأحمد "2960".

زَمَانِ الرِّدَّةِ؛ لِاعْتِرَافِهِمْ بِوُجُوبِهِ قَبْلَ الرِّدَّةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِمْ كَمَنْ أَسْلَمَ عَنْ كُفْرٍ، وَمَنْ كَانَ مِنَ الْمُرْتَدِّينَ قَدْ حَجَّ فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَ الرِّدَّةِ لَمْ يَبْطُلْ حَجُّهُ بِهَا وَلَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاؤُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: قَدْ بَطَلَ بِالرِّدَّةِ وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ بَعْدَ التَّوْبَةِ، وَمَنْ أَقَامَ عَلَى رِدَّتِهِ وَلَمْ يَتُبْ وَجَبَ قَتْلُهُ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا أَقْتُلُ الْمَرْأَةَ بِالرِّدَّةِ، وَقَدْ قَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالرِّدَّةِ امْرَأَةً كَانَتْ تُكْنَّى أُمَّ رُومَانَ، وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُ الْمُرْتَدِّ عَلَى رِدَّتِهِ بِجِزْيَةٍ وَلَا عَهْدٍ، وَلَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ، وَلَا تُنْكَحُ مِنْهُ امْرَأَةٌ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَتْلِهِمْ: هَلْ يُعَجَّلُ فِي الْحَالِ أَوْ يُؤَجَّلُونَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَعْجِيلُ قَتْلِهِمْ فِي الْحَالِ لِئَلَّا يُؤَخَّرَ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- حَقٌّ. وَالثَّانِي: يُنْظَرُونَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَعَلَّهُمْ يَسْتَدْرِكُونَهُ بِالتَّوْبَةِ، وَقَدْ أَنْذَرَ عَلِيٌّ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- الْمُسْتَوْرِدِ الْعِجْلِيِّ بِالتَّوْبَةِ ثَلَاثَةً ثُمَّ قَتَلَهُ بَعْدَهَا، وَقُتِلَ صَبْرًا بِالسَّيْفِ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ1 مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: يُضْرَبُ بِالْخَشَبِ حَتَّى يَمُوتَ؛ لِأَنَّهُ أَبْطَأُ قَتْلًا مِنَ السَّيْفِ الْمُوحِي، وَرُبَّمَا اسْتَدْرَكَ بِهِ التَّوْبَةَ، وَإِذَا قُتِلَ لَمْ يُغَسَّلْ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ، وَوُرِيَ مَقْبُورًا وَلَا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِخُرُوجِهِ بِالرِّدَّةِ عَنْهُمْ، وَلَا فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ لِمَا تَقَدَّمَ لَهُ مِنْ حُرْمَةِ الْإِسْلَامِ الْمُبَايِنَةِ لَهُمْ، وَيَكُونُ مَالُهُ فَيْئًا فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ مَصْرُوفًا فِي أَهْلِ الْفَيْءِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرِثُهُ عَنْهُ وَارِثٌ مِنْ مُسْلِمٍ وَلَا كَافِرٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُورَثُ عَنْهُ مَا اكْتَسَبَهُ قَبْلَ الرِّدَّةِ، وَيَكُونُ مَا اكْتَسَبَهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ فَيْئًا.

_ 1 هو أحمد بن عمر بن سريج، القاضي أبو العباس البغدادي، إمام أصحاب الشافعي، شرح "المهذب" ولخَّصه، وصنَّف التصانيف، وردَّ على مخالفي النصوص، سمع الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، وعلي بن أشكاب، وأبا داود السجستاني، وعباس بن محمد الدوري، وروى عنه أبو القاسم الطبراني وأبو أحمد الغطريفي، وتفقَّه على عدة أئمة، ووقع حديثه بعلوٍّ في جزء الغطريفي لأصحاب ابن طبرزد. قال أبو إسحاق: كان يقال له: الباز الأشهب، ولي القضاء بشيراز، وكان يفضل على جميع أصحاب الشافعي، حتى على المزني، وفهرست كتبه يشتمل على أربعمائه مصنَّف، وكان أبو حامد الإسفراييني يقول: نحن نجري مع أبي العباس في ظواهر الفقه دون دقائقه.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ1: يُورَثُ عَنْهُ مَا اكْتَسَبَ قَبْلَ الرِّدَّةِ وَبَعْدَهَا، فَإِذَا لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارِ الْحَرْبِ كَانَ مَالُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، فَإِنْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ أُعِيدَ عَلَيْهِ، وَإِنْ هَلَكَ عَلَى الرِّدَّةِ صَارَ فَيْئًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَحْكُمُ بِمَوْتِهِ إذَا صَارَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَأُقَسِّمُ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، فَإِنْ عَادَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ اسْتَرْجَعْتُ مَا بَقِيَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ مَالِهِ، وَلَمْ أُغَرِّمْهُمْ مَا اسْتَهْلَكُوهُ، فَهَذَا حُكْمُ الْمُرْتَدِّينَ إذَا لَمْ يَنْحَازُوا إلَى دَارٍ وَكَانُوا شُذَّاذًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَنْحَازُوا إلَى دَارٍ يَنْفَرِدُونَ بِهَا عَنِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَصِيرُوا فِيهَا مُمْتَنِعِينَ، فَيَجِبُ قِتَالُهُمْ عَلَى الرِّدَّةِ بَعْدَ مُنَاظَرَتِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَإِيضَاحِ دَلَائِلِهِ، وَيَجْرِي عَلَى قِتَالِهِمْ بَعْدَ الْإِنْذَارِ وَالْإِعْذَارِ حُكْمُ قِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي قِتَالِهِمْ غُرَّةً وَبَيَانًا، وَمُصَافَّتِهِمْ فِي الْحَرْبِ جِهَارًا، وَقِتَالِهِمْ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ. وَمَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ جَازَ قَتْلُهُ صَبْرًا إنْ لَمْ يَتُبْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَرَقَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ، وَإِذَا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ لَمْ تُسْبَ ذَرَارِيُّهُمْ، وَسَوَاءٌ مِنْ وُلِدَ مِنْهُمْ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ بَعْدَ الرِّدَّةِ، وَقِيلَ: إنَّ مَنْ وُلِدَ مِنْهُمْ بَعْدَ الرِّدَّةِ جَازَ سَبْيُهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ سَبْيُ مَنِ ارْتَدَّ مِنْ نِسَائِهِمْ إذَا لَحِقْنَ بِدَارِ الْحَرْبِ؛ وَإِذَا غُنِمَتْ أَمْوَالُهُمْ لَمْ تُقَسَّمْ فِي الْغَانِمِينَ، وَكَانَ مَالُ مَنْ قُتِلَ مِنْهَا فَيْئًا وَمَالُ الْأَحْيَاءِ مَوْقُوفًا، إنْ أَسْلَمُوا رُدَّ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ هَلَكُوا عَلَى رِدَّتِهِمْ صَارَ فَيْئًا، وَمَا أَشْكَلَ أَرْبَابُهُ مِنَ الْأَمْوَالِ الْمَغْنُومَةِ صَارَ فَيْئًا إذَا وَقَعَ الْإِيَاسُ مِنْ مَعْرِفَتِهِمْ، وَمَا اسْتَهْلَكَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ فِي نَائِرَةِ الْحَرْبِ لَمْ يُضْمَنْ

_ 1 هو القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن خنيس بن سعد بن حبتة الأنصاري، وسعد ابن حبتة أحد الصحابة -رضي الله عنهم، وهو مشهور في الأنصار بأمِّه، وهي حبتة بنت مالك، كان القاضي أبو يوسف من أهل الكوفة، وهو صاحب أبي حنيفة -رضي الله عنه، كان فقيهًا عالمًا حافظًا، سمع أبا إسحاق الشيباني، وسليمان التيمي، ويحيى بن سعيد الأنصاري، والأعمش، وهشام بن عروة، وعطاء بن السائب، ومحمد بن إسحاق بن يسار، وتلك الطبقة، وجالس محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ثم جالس أبا حنيفة النعمان بن ثابت، وكان الغالب عليه مذهب أبي حنيفة، وخالفه في مواضع كثيرة، روى عنه محمد بن الحسن الشيباني الحنفي، وبشر بن الوليد الكندي، وعلي بن الجعد وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين في آخرين، وكان قد سكن بغداد وتولَّى القضاء بها لثلاثة من الخلفاء: المهدي وابنه الهادي ثم هارون الرشيد، وكان الرشيد يكرمه ويجلُّه، وكان عنده حظيًا، وهو أوّل من دعي بقاضي القضاة.

إذَا أَسْلَمُوا، وَمَا اسْتَهْلَكُوا مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي غَيْرِ نَائِرَةِ الْحَرْبِ مَضْمُونٌ عَلَيْهِمْ. وَاخْتُلِفَ فِي ضَمَانِ مَا اسْتَهْلَكُوهُ فِي نَائِرَةِ الْحَرْبِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُونَهُ؛ لِأَنَّ مَعْصِيَتَهُمْ بِالرِّدَّةِ لَا تُسْقِطُ عَنْهُمْ غُرْمَ الْأَمْوَالِ الْمَضْمُونَةِ. وَالثَّانِي: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ فِيمَا اسْتَهْلَكُوهُ مِنْ دَمٍ وَمَالٍ. قَدْ أَصَابَ أَهْلُ الرِّدَّةِ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- نُفُوسًا وَأَمْوَالًا عُرِفَ مُسْتَهْلِكُوهَا، فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَدُونَ قَتْلَانَا وَلَا نَدِي قَتْلَاهُمْ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَدُونَ قَتْلَانَا وَلَا نَدِي قَتْلَاهُمْ، فَجَرَتْ بِذَلِكَ سِيرَتُهُ وَسِيرَةُ مَنْ بَعْدَهُ. وَقَدْ أَسْلَمَ طُلَيْحَةُ1 بَعْدَ أَنْ سُبِيَ وَكَانَ قَدْ قَتَلَ وَسَبَى، فَأَقَرَّهُ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بَعْدَ إسْلَامِهِ، وَلَمْ يَأْخُذْهُ بِدَمٍ وَلَا مَالٍ؛ وَوَفَدَ أَبُو شَجَرَةَ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَهُوَ يُقَسِّمُ الصَّدَقَاتِ، فَقَالَ: أَعْطِنِي فَإِنِّي ذُو حَاجَةٍ، فَقَالَ مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَبُو شَجَرَةَ، فَقَالَ: أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ، أَلَسْتَ تَقُولُ "مِنَ الطَّوِيلِ": وَرَوَّيْتُ رُمْحِي مِنْ كَتِيبَةِ خَالِدٍ ... وَإِنِّي لَأَرْجُو بَعْدَهَا أَنْ أُعَمَّرَا ثُمَّ جَعَلَ يَعْلُوهُ بِالدِّرَّةِ فِي رَأْسِهِ حَتَّى وَلَّى رَاجِعًا إلَى قَوْمِهِ وَهُوَ يَقُولُ "مِنَ الْبَسِيطِ": ضَنَّ عَلَيْنَا أَبُو حَفْصٍ بِنَائِلِهِ ... وَكُلُّ مُخْتَبِطٍ يَوْمًا لَهُ وَرَقُ مَا زَالَ يَضْرِبُنِي حَتَّى حَدَثْتُ لَهُ ... وَحَالَ مِنْ دُونِ بَعْضِ الْبُغْيَةِ الشَّفَقُ لَمَّا رَهِبْتُ أَبَا حَفْصٍ وَشُرْطَتَهُ ... وَالشَّيْخُ يُقْرَعُ أَحْيَانًا فَيَنْمَحِقُ فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بِسِوَى التَّعْزِيرِ لِاسْتِطَالَتِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ؛ وَلِدَارِ الرِّدَّةِ حُكْمٌ تُفَارِقُ بِهِ دَارَ الْإِسْلَامِ وَدَارَ الْحَرْبِ. فَأَمَّا مَا تُفَارِقُ بِهِ دَارَ الْإِسْلَامِ فَمِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:

_ 1 هو طليحة بن خويلد الأسدي الفقعسي، كان مِمَّن شهد مع الأحزاب الخندق، ثم قَدِمَ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سنة تسع، ثم ارتدَّ وادَّعى النبوة في عهد أبي بكر في أرض نجد، وكانت له وقائع مع المسلمين، ثم خذله الله فهرب حتى لحق بدمشق ونزل على آل جفنة، ثم أسلم وحسن إسلامه، وقدم مكة حاجًّا معتمرًا، وخرج إلى الشام مجاهدًا، وشهد اليرموك وبعض حروب الفرس، قال ابن سعد: في الطبقة الرابعة، كان يعد بألف فارس لشدَّته وشجاعته وبصره في الحرب، انتهى. ولم يغمس عليه في دينه شيء، واستشهد بنهاوند سنة إحدى وعشرين مع النعمان بن مقرن وعمرو بن معدي كرب.

أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُهَادَنُوا عَلَى الْمُوَادَعَةِ فِي دِيَارِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُهَادَنَ أَهْلُ الْحَرْبِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَالَحُوا عَلَى مَالٍ يُقَرُّونَ بِهِ عَلَى رِدَّتِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُصَالَحَ أَهْلُ الْحَرْبِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ وَلَا سَبْيُ نِسَائِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَرَقَّ أَهْلُ الْحَرْبِ وَتُسْبَى نِسَاؤُهُمْ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْغَانِمُونَ أَمْوَالَهُمْ، وَيَمْلِكُونَ مَا غَنِمُوهُ مِنْ مَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَدْ صَارَتْ دِيَارُهُمْ بِالرِّدَّةِ دَارَ حَرْبٍ، وَيُسْبَوْنَ وَيُغْنَمُونَ، وَتَكُونُ أَرْضُهُمْ فَيْئًا وَهُمْ عِنْدَهُ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنَ الْعَرَبِ. وَأَمَّا مَا تُفَارِقُ بِهِ دَارَ الْإِسْلَامِ فَمِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وُجُوبُ قِتَالِهِمْ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ كَالْمُشْرِكِينَ. وَالثَّانِي: إبَاحَةُ إمَائِهِمْ أَسْرَى وَمُمْتَنِعِينَ. وَالثَّالِثُ: تَصِيرُ أَمْوَالُهُمْ فَيْئًا لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَالرَّابِعُ: بُطْلَانُ مُنَاكَحَتِهِمْ بِمُضِيِّ الْعِدَّةِ وَإِنْ اتَّفَقُوا عَلَى الرِّدَّةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَبْطُلُ مُنَاكَحَتُهُمْ بِارْتِدَادِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، وَلَا تَبْطُلُ بِارْتِدَادِهِمَا مَعًا، وَمَنِ ادُّعِيَتْ عَلَيْهِ الرِّدَّةُ فَأَنْكَرَهَا كَانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا بِغَيْرِ يَمِينِهِ، وَلَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِالرِّدَّةِ لَمْ يَصِرْ مُسْلِمًا بِالْإِنْكَارِ حَتَّى يَتَلَفَّظَ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَإِذَا امْتَنَعَ قَوْمٌ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ إلَى الْإِمَامِ الْعَادِلِ جُحُودًا لَهَا كَانُوا بِالْجُحُودِ مُرْتَدِّينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ أَهْلِ الرِّدَّةِ، وَلَوْ امْتَنَعُوا مِنْ أَدَائِهَا مَعَ الِاعْتِرَافِ بِوُجُوبِهَا كَانُوا مِنْ بُغَاةِ الْمُسْلِمِينَ، يُقَاتَلُونَ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يُقَاتَلُونَ. وَقَدْ قَاتَلَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مَانِعِي الزَّكَاةِ، مَعَ تَمَسُّكِهِمْ بِالْإِسْلَامِ حَتَّى قَالُوا: وَاَللَّهِ مَا كَفَرْنَا بَعْدَ إيمَانِنَا وَلَكِنْ شَحِحْنَا عَلَى أَمْوَالِنَا، فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَلَامَ تُقَاتِلُهُمْ وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَه إلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا". قَالَ أَبُو

_ 1 صحيح: رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير "2946"، ومسلم في كتاب الإيمان "21".

بَكْرٍ: هَذَا مِنْ حَقِّهَا، أَرَأَيْتَ لَوْ سَأَلُوا تَرْكَ الصَّلَاةِ؟ أَرَأَيْتَ لَوْ سَأَلُوا تَرْكَ الصِّيَامِ؟ أَرَأَيْتَ لَوْ سَأَلُوا تَرْكَ الْحَجِّ؟ فَإِذًا لَا تَبْقَى عُرْوَةٌ مِنْ عُرَى الْإِسْلَامِ إلَّا انْحَلَّتْ؛ وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا وَعِقَالًا مِمَّا أَعْطَوْهُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَشَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ أَبَانَ عَنْ إسْلَامِهِمْ قَوْلُ زَعِيمِهِمْ حَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ فِي شِعْرِهِ "مِنَ الطَّوِيلِ": أَلَا فَاصْحَبِينَا قَبْلَ نَائِرَةِ الْفَجْرِ ... لَعَلَّ الْمَنَايَا قَرِيبٌ وَلَا نَدْرِي أَطَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ كَانَ بَيْنَنَا ... فَيَا عَجَبًا مَا بَالُ مُلْكِ أَبِي بَكْرِ فَإِنَّ الَّذِي سَأَلُوكُمْ فَمَنَعْتُمُو ... لَكَالتَّمْرِ أَوْ أَحْلَى إلَيْهِمْ مِنَ التَّمْرِ سَنَمْنَعُكُمْ مَا كَانَ فِينَا بَقِيَّةٌ ... كِرَامٌ عَلَى الْعَزَّاءِ فِي سَاعَةِ الْعُسْرِ

الفصل الثاني: في قتال أهل البغي

الفصل الثاني: في قتال أهل البغي وَإِذَا بَغَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَخَالَفُوا رَأْيَ الْجَمَاعَةِ وَانْفَرَدُوا بِمَذْهَبٍ ابْتَدَعُوهُ، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجُوا بِهِ عَنِ الْمَظَاهرةِ بِطَاعَةِ الْإِمَامِ، وَلَا تَحَيَّزُوا بِدَارٍ اعْتَزَلُوا فِيهَا، وَكَانُوا أَفْرَادًا مُتَفَرِّقِينَ تَنَالُهُمُ الْقُدْرَةُ وَتَمْتَدُّ إلَيْهِمُ الْيَدُ تُرِكُوا وَلَمْ يُحَارَبُوا، وَأُجْرِيَتْ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْعَدْلِ فِيمَا يَجِبُ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ مِنَ الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ، وَقَدْ عَرَضَ قَوْمٌ مِنَ الْخَوَارِجِ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ- لِمُخَالَفَةِ رَأْيِهِ. وَقَالَ أَحَدُهُمْ وَهُوَ يَخْطُبُ عَلَى مِنْبَرِهِ: لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ، لَكُمْ عَلَيْنَا ثَلَاثٌ: لَا نَمْنَعُكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ تَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَ اللَّهِ، وَلَا نَبْدَؤُكُمْ بِقِتَالٍ، وَلَا نَمْنَعُكُمْ الْفَيْءَ مَا دَامَتْ أَيْدِيكُمْ مَعَنَا، فَإِنْ تَظَاهَرُوا بِاعْتِقَادِهِمْ وَهُمْ عَلَى اخْتِلَاطِهِمْ بِأَهْلِ الْعَدْلِ، أَوْضَحَ لَهُمْ الْإِمَامُ فَسَادَ مَا اعْتَقَدُوا، وَبُطْلَانَ مَا ابْتَدَعُوا؛ لِيَرْجِعُوا عَنْهُ إلَى اعْتِقَادِ الْحَقِّ وَمُوَافَقَةِ الْجَمَاعَةِ، وَجَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعَزِّرَ مِنْهُمْ مَنْ تَظَاهَرَ بِالْفَسَادِ أَدَبًا وَزَجْرًا، وَلَمْ يَتَجَاوَزْهُ إلَى قَتْلٍ وَلَا حَدٍّ. رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٍ بَعْدَ إيمَانٍ، أَوْ زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ، أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ"1. فَإِذَا اعْتَزَلَتْ هَذِهِ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ أَهْلَ الْعَدْلِ، وَتَحَيَّزَتْ بِدَارٍ تَمَيَّزَتْ فِيهَا عَنْ مُخَالَطَةِ الْجَمَاعَةِ، فَإِنْ لَمْ تَمْتَنِعْ عَنْ حَقٍّ وَلَمْ تَخْرُجْ عَنْ طَاعَةٍ، لَمْ يُحَارَبُوا مَا أَقَامُوا عَلَى الطَّاعَةِ وَتَأْدِيَةِ الْحُقُوقِ. قَدْ اعْتَزَلَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْخَوَارِجِ عَلِيًّا -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِالنَّهْرَوَانِ، فَوَلَّى عَلَيْهِمْ عَامِلًا أَقَامُوا عَلَى طَاعَتِهِ زَمَانًا وَهُوَ لَهُمْ مُوَادِعٌ إلَى أَنْ قَتَلُوهُ، فَأَنْفَذَ إلَيْهِمْ أَنْ سَلِّمُوا إلَيَّ قَاتِلَهُ فَأَبَوْا وَقَالُوا: كُلُّنَا قَتَلَهُ، قَالَ: فَاسْتَسْلِمُوا إلَيَّ أَقْتَصُّ مِنْكُمْ، وَسَارَ إلَيْهِمْ فَقَتَلَ أَكْثَرَهُمْ. وَإِنْ امْتَنَعَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ الْبَاغِيَةُ مِنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ وَمَنَعُوا مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْحُقُوقِ، وَتَفَرَّدُوا بِاجْتِبَاءِ الْأَمْوَالِ

_ 1 صحيح: رواه أبو داود في كتاب الحدود "4363"، والنسائي في كتاب تحريم الدم "4071"، وصححه الشيخ الألباني.

وَتَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ، فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَلَمْ يُنَصِّبُوا لِأَنْفُسِهِمْ إمَامًا وَلَا قَدَّمُوا عَلَيْهِمْ زَعِيمًا، كَانَ مَا اجْتَبُوهُ مِنَ الْأَمْوَالِ غَصْبًا لَا تَبْرَأُ مِنْهُ ذِمَّةٌ، وَمَا نَفَّذُوهُ مِنَ الْأَحْكَامِ مَرْدُودًا لَا يَثْبُتُ بِهِ حَقٌّ. وَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَقَدْ نَصَّبُوا لِأَنْفُسِهِمْ إمَامًا اجْتَبَوْا بِقَوْلِهِ الْأَمْوَالَ وَنَفَّذُوا بِأَمْرِهِ الْأَحْكَامَ، لَمْ يَتَعَرَّضْ لِأَحْكَامِهِمْ بِالرَّدِّ، وَلَا لِمَا اجْتَبَوْهُ بِالْمُطَالَبَةِ، وَحُورِبُوا فِي الْحَالَيْنِ عَلَى سَوَاءٍ؛ لِيَنْزِعُوا عَنِ الْمُبَايَنَةِ وَيَفِيئُوا إلَى الطَّاعَةِ، قَالَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] . وَفِي قَوْلِهِ: {فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بَغَتْ بِالتَّعَدِّي فِي الْقِتَالِ. وَالثَّانِي: بَغَتْ بِالْعُدُولِ عَنِ الصُّلْحِ. وَقَوْلُهُ: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} يَعْنِي: بِالسَّيْفِ رَدْعًا عَنِ الْبَغْيِ وَزَجْرًا عَنِ الْمُخَالَفَةِ. وَفِي قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ} وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: حَتَّى تَرْجِعَ إلَى الصُّلْحِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَالثَّانِي: إلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فِيمَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ. {فَإِنْ فَاءَتْ} أَيْ: رَجَعَتْ عَنِ الْبَغْيِ، {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بِالْحَقِّ. وَالثَّانِي: بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا قَلَّدَ الْإِمَامُ أَمِيرًا عَلَى قِتَالِ الْمُمْتَنِعِينَ مِنَ الْبُغَاةِ قَدَّمَ قَبْلَ الْقِتَالِ إنْذَارَهُمْ وَإِعْذَارَهُمْ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ إذَا أَصَرُّوا عَلَى الْبَغْيِ كِفَاحًا، وَلَا يَهْجُمُ عَلَيْهِمْ غِرَّةً وَبَيَاتًا. وَيُخَالِفُ قِتَالُهُمْ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُرْتَدِّينَ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقْصِدَ بِالْقِتَالِ رَدْعَهُمْ وَلَا يَعْتَمِدُ بِهِ قَتْلَهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعْتَمِدَ قَتْلَ الْمُشْرِكِينَ

والمرتدين. وَالثَّانِي: أَنْ يُقَاتِلَهُمْ مُقْبِلِينَ، وَيَكُفَّ عَنْهُمْ مُدْبِرِينَ، وَيَجُوزُ قِتَالُ أَهْلِ الرِّدَّةِ فِي الْحَرْبِ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ. وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يُجْهِزَ عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَإِنْ جَازَ الْإِجْهَازُ عَلَى جَرْحَى الْمُشْرِكِينَ وَالْمُرْتَدِّينَ. أَمَرَ عَلِيٌّ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُنَادِيَهُ أَنْ يُنَادِيَ يَوْمَ الْجَمَلِ: أَلَا لَا يُتْبَعُ مُدْبِرٌ وَلَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ. وَالرَّابِعُ: أَنْ لَا يَقْتُلَ أَسْرَاهُمْ وَإِنْ قَتَلَ أَسْرَى الْمُشْرِكِينَ وَالْمُرْتَدِّينَ، وَيَعْتَبِرَ أَحْوَالَ مَنْ فِي الْأَسْرِ مِنْهُمْ، فَمَنْ أَمِنَتْ رَجْعَتُهُ إلَى الْقِتَالِ أُطْلِقَ، وَمَنْ لَمْ تُؤْمَنْ مِنْهُ الرَّجْعَةُ حُبِسَ إلَى انْجِلَاءِ الْحَرْبِ ثُمَّ يُطْلَقُ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْبَسَ بَعْدَهَا. أَطْلَقَ الْحَجَّاجُ أَسِيرًا مِنْ أَصْحَابِ قَطَرِيِّ بْنِ الْفُجَاءَةِ1 لِمَعْرِفَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ لَهُ قَطَرِيُّ: عُدْ إلَى قِتَالِ عَدُوِّ اللَّهِ الْحَجَّاجِ، فَقَالَ: هَيْهَاتَ غَلَّ يَدًا مُطْلِقُهَا، وَاسْتَرَقَّ رَقَبَةً مُعْتِقُهَا، وَأَنْشَأَ يَقُولُ "مِنَ الْكَامِلِ": أَأُقَاتِلُ الْحَجَّاجَ عَنْ سُلْطَانِهِ ... بِيَدٍ تُقِرُّ بِأَنَّهَا مَوْلَاتُهُ إنِّي إذًا لَأَخُو الدَّنَاءَةِ وَاَلَّذِي ... شَهِدَتْ بِأَقْبَحِ فِعْلِهِ غَدَرَاتُهُ مَاذَا أَقُولُ إذَا بَرَزْتُ إزَاءَهُ ... فِي الصَّفِّ وَاحْتَجَّتْ لَهُ فَعَلَاتُهُ أَأَقُولُ جَارَ عَلَيَّ لَا إنِّي إذًا ل ... َأَحَقُّ مَنْ جَارَتْ عَلَيْهِ وُلَاتُهُ وَتَحَدَّثَ الْأَقْوَامُ أَنَّ صَنَائِعًا ... غُرِسَتْ لَدَيَّ فَحَنْظَلَتْ نَخَلَاتُهُ وَالْخَامِسُ: أَنْ لَا يَغْنَمَ أَمْوَالَهُمْ، وَلَا يَسْبِيَ ذَرَارِيَّهُمْ. رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "مَنَعَتْ دَارُ الْإِسْلَامِ مَا فِيهَا، وَأَبَاحَتْ دَارُ الشِّرْكِ مَا فِيهَا". وَالسَّادِسُ: أَنْ لَا يُسْتَعَانَ لِقِتَالِهِمْ بِمُشْرِكٍ مُعَاهَدٍ وَلَا ذِمِّيٍّ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يُسْتَعَانَ بِهِمْ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَالرِّدَّةِ. وَالسَّابِعُ: أَنْ لَا يُهَادِنَهُمْ إلَى مُدَّةٍ، وَلَا يُوَادِعَهُمْ عَلَى مَالٍ، فَإِنْ هَادَنَهُمْ إلَى مُدَّةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ، فَإِنْ

_ 1 هو قطري بن الفجاءة، واسم أبيه جعونة التميمي المازني، أبو نعامة، رأس الخوارج في زمانه، كان أحد الشجعان، خرج في خلافة ابن الزبير، وبقي يقاتل المسلمين ويستظهر عليهم بضع عشرة سنة، وتغلب على نواحي فارس ولم يقدر عليه، بل عثرت به فرسه واندقت عنقه بطبرستان سنة تسع وتسعين للهجرة، وحمل رأسه إلى الحجاج، وكان من الخطباء البلغاء الشعراء، وشعره في الحماسة.

ضَعُفَ عَنْ قِتَالِهِمْ انْتَظَرَ بِهِمُ الْقُوَّةَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ وَادَعَهُمْ عَلَى مَالٍ بَطَلَتِ الْمُوَادَعَةُ وَنُظِرَ فِي الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ فَيْئِهِمْ أَوْ مِنْ صَدَقَاتِهِمْ لَمْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِمْ، وَصَرَفَ الصَّدَقَاتِ فِي أَهْلِهَا، وَالْفَيْءَ فِي مُسْتَحَقِّيهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ خَالِصِ أَمْوَالِهِمْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَهُ عَلَيْهِمْ، وَوَجَبَ رَدُّهُ إلَيْهِمْ. الثَّامِنُ: أَنْ يَنْصِبَ عَلَيْهِمْ الْعَرَّادَاتِ، وَلَا يُحْرِقُ عَلَيْهِمْ الْمَسَاكِنَ، وَلَا يَقْطَعُ عَلَيْهِمْ النَّخِيلَ وَالْأَشْجَارَ؛ لِأَنَّهَا دَارُ إسْلَامٍ تَمْنَعُ مَا فِيهَا وَإِنْ بَغَى أَهْلُهَا، فَإِنْ أَحَاطُوا بِأَهْلِ الْعَدْلِ وَخَافُوا مِنْهُمُ الِاصْطِلَامَ جَازَ أَنْ يَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ مَا اسْتَطَاعُوا مِنِ اعْتِمَادِ قَتْلِهِمْ وَنَصْبِ الْعَرَّادَاتِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ إذَا أُرِيدَتْ نَفْسُهُ جَازَ لَهُ الدَّفْعُ عَنْهَا بِقَتْلِ مَنْ أَرَادَهَا إذَا كَانَ لَا يَنْدَفِعُ بِغَيْرِ الْقَتْلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِدَوَابِّهِمْ وَلَا سِلَاحِهِمْ، وَلَا يُسْتَعَانَ بِهِ فِي قِتَالِهِمْ، وَيَرْفَعُ الْيَدَ عَنْهُ فِي وَقْتِ الْقِتَالِ وَبَعْدَهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعَانَ عَلَى قِتَالِهِمْ بِدَوَابِّهِمْ وَسِلَاحِهِمْ مَا كَانَتِ الْحَرْبُ قَائِمَةً، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ" 1. فَإِذَا انْجَلَتْ الْحَرْبُ وَمَعَ أَهْلِ الْعَدْلِ لَهُمْ أَمْوَالٌ رُدَّتْ عَلَيْهِمْ، وَمَا تَلِفَ مِنْهَا فِي غَيْرِ قِتَالٍ، فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى مُتْلِفِهِ، وَمَا أَتْلَفُوهُ فِي نَائِرَةِ الْحَرْبِ مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ فَهُوَ هَدَرٌ، وَمَا أَتْلَفُوهُ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ فِي غَيْرِ نَائِرَةِ الْحَرْبِ مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِمْ، وَمَا أَتْلَفُوهُ فِي نَائِرَةِ الْحَرْبِ فَفِي وُجُودِ ضَمَانِهِ عَلَيْهِمْ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ هَدَرًا لَا يُضْمَنُ. وَالثَّانِي: يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تُبْطِلُ حَقًّا وَلَا تُسْقِطُ غُرْمًا، فَتُضْمَنُ النُّفُوسُ بِالْقَوَدِ فِي الْعَمْدِ وَالدِّيَةِ فِي الْخَطَإِ. وَيُغَسَّلُ قَتْلَى أَهْلِ الْبَغْيِ وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ، وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةً لَهُمْ، وَلَيْسَ عَلَى مَيِّتٍ فِي الدُّنْيَا عُقُوبَةٌ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فُرِضَ عَلَى أُمَّتِي غُسْلُ مَوْتَاهَا وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ" 2. وَأَمَّا قَتْلَى أَهْلِ الْعَدْلِ فِي مَعْرَكَةِ الْحَرْبِ فِي غُسْلِهِمْ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ فَقَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُغَسَّلُونَ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ تَكْرِيمًا وَتَشْرِيفًا كَالشُّهَدَاءِ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ.

_ 1 صحيح: رواه أحمد "20172"، وصحَّحه الشيخ الألباني في صحيح الجامع "7662". 2 لم أقف عليه.

وَالثَّانِي: يُغَسَّلُونَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ وَإِنْ قُتِلُوا بَغْيًا، وَقَدْ صَلَّى الْمُسْلِمُونَ عَلَى عُمَرَ وَعُثْمَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَصُلِّيَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى عَلِيٍّ -عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِنْ قُتِلُوا ظُلْمًا وَبَغْيًا، وَلَا يَرِثُ بَاغٍ قَتَلَ عَادِلًا، وَلَا عَادِلٌ قَتَلَ بَاغِيًا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ" 1. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أُورِثُ الْعَادِلَ مِنَ الْبَاغِي؛ لِأَنَّهُ مُحِقٌّ، وَلَا أُورِثُ الْبَاغِيَ مِنَ الْعَادِلِ؛ لِأَنَّهُ مُبْطِلٌ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: أُورِثُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَأَوِّلٌ فِي قَتْلِهِ، وَإِذَا مَرَّ تُجَّارُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِعَشَّارِ أَهْلِ الْبَغْيِ فَعَشَّرَ أَمْوَالَهُمْ ثُمَّ قُدِرَ عَلَيْهِمْ عُشِّرُوا، وَلَمْ يُجْزِهِمُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ بِخِلَافِ الْمَأْخُوذِ مِنَ الزَّكَاةِ، لِأَنَّهُمْ مَرُّوا بِهِمْ مُخْتَارِينَ، وَالزَّكَاةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْمُقِيمِينَ الْمُكْرَهِينَ، وَإِذَا أَتَى أَهْلُ الْبَغْيِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ حُدُودًا، فَفِي إقَامَتِهَا عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْقُدْرَةِ وَجْهَانِ

_ 1 صحيح: رواه الترمذي في كتاب الفرائض "2109"، وابن ماجه في كتاب الديات "2645"، وصحَّحه الشيخ الألباني.

الفصل الثالث: في قتال من امتنع من المحاربين وقطاع الطريق

الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي قِتَالِ مَنِ امْتَنَعَ مِنَ الْمُحَارِبِينَ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَإِذَا اجْتَمَعَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْفَسَادِ عَلَى شَهْرِ السِّلَاحِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ وَقَتْلِ النُّفُوسِ، وَمَنْعِ السَّابِلَةِ، فَهُمْ الْمُحَارِبُونَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] . فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْإِمَامَ وَمَنِ اسْتَنَابَهُ عَلَى قِتَالِهِمْ مِنَ الْوُلَاةِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُقَتِّلَ وَلَا يُصَلِّبَ، وَبَيْنَ أَنْ يُقَتِّلَ وَيُصَلِّبَ، وَبَيْنَ أَنْ يُقَطِّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَبَيْنَ أَنْ يَنْفِيَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ، وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ1 وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ2 وَإِبْرَاهِيمِ النَّخَعِيِّ3. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ ذَا رَأْيٍ وَتَدْبِيرٍ قَتَلَهُ وَلَمْ يَعْفُ عَنْهُ، وَمَنْ كَانَ ذَا بَطْشٍ وَقُوَّةٍ قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ مِنْ خِلَافٍ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ ذَا رَأْيٍ وَلَا بَطْشٍ عَزَّرَهُ وَحَبَسَهُ، هَذَا قَوْلُ

_ 1 هو سعيد بن المسيب بن حزن القرشي المخزومي المدني، عالم أهل المدينة بلا مدافعة، وُلِدَ في خلافة عمر لأربع مضين منها، وتوفِّي سنة أربع وتسعين للهجرة، وقيل: ولد لسنتين من خلافة عمر، رأى عمر، وسمع عثمان وعليًّا وزيد بن ثابت وسعد بن أبي وقاص وعائشة وأبا موسى وأبا هريرة وجبير بن مطعم وعبد الله بن زيد المازني وأم سلمة وطائفة من الصحابة. 2 هو أبو محمد عطاء بن أبي رباح أسلم -وقيل: سالم- بن صفوان، مولى بني فهر أو جمح المكي، وقيل: إنه مولى أبي ميسرة الفهري، من مولدي الجند؛ كان من أجلَّاء الفقهاء وتابعي مكة وزهَّادها، سمع جابر بن عبد الله الأنصاري وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وخلقًا كثيرًا من الصحابة -رضوان الله عليهم، وروى عنه عمرو بن دينار والزهري وقتادة ومالك بن دينار والأعمش والأوزاعي وخلق كثير -رحمهم الله تعالى، وإليه وإلى مجاهد انتهت فتوى مكة في زمانهما. قال قتادة: أعلم الناس بالمناسك عطاء. 3 هو إبراهيم بن يزيد بن قيس، أبو عمران النخعي الكوفي، فقيه العراق، روى عن علقمة ومسروق وخاله الأسود بن يزيد والربيع بن خثيم وشريح القاضي، وصلة بن زفر وعبيدة السلماني، وسويد بن غفلة، وعابس بن ربيعة، وهمام بن الحارث، ودخل على عائشة وهو صبيّ، وتوفِّي سنة ست وتسعين للهجرة، وقيل: سنة خمس وله تسع وأربعون سنة على الصحيح.

مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ فَجَعَلَهَا مُرَتَّبَةً بِاخْتِلَافِ صِفَاتِهِمْ لَا بِاخْتِلَافِ أَفْعَالِهِمْ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا مُرَتَّبَةٌ بِاخْتِلَافِ أَفْعَالِهِمْ لَا بِاخْتِلَافِ صِفَاتِهِمْ، فَمَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ قُتِلَ وَصُلِبَ، وَمَنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ قُتِلَ وَلَمْ يُصْلَبْ، وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ، وَمَنْ كَثُرَ وَهَيَّبَ وَلَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ عُزِّرَ وَلَمْ يُقْتَلْ وَلَمْ يُقَطَّعْ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ فَالْإِمَامُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ قَتْلِهِمْ ثُمَّ صَلْبِهِمْ، وَبَيْنَ قَطْعِ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ قَتْلِهِمْ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ مَهِيبًا مُكْثِرًا فَحُكْمُهُ كَحُكْمِهِمْ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} ، فَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ إبْعَادُهُمْ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ إلَى بِلَادِ الشِّرْكِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالزُّهْرِيِّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إخْرَاجُهُمْ مِنْ مَدِينَةٍ إلَى أُخْرَى، وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رَحِمَهُ اللَّهُ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ الْحَبْسُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ. وَالرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ يُطْلَبُوا لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ فَيَبْعُدُوا، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] فَفِيهِ لِأَهْلِ التَّأْوِيلِ سِتَّةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَارِدٌ فِي الْمُحَارِبِينَ الْمُفْسِدِينَ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ إذَا تَابُوا مِنْ شِرْكِهِمْ بِالْإِسْلَامِ. وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَلَا تُسْقِطُ التَّوْبَةُ عَنْهُمْ حَدًّا وَلَا حَقًّا، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ1 -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.

_ 1 هو قتادة بن دعامة، أبو الخطاب السدوسي البصري المفسّر، أحد الأئمة الأعلام، روى عن عبد الله بن سرجس وابن مالك وابن الطفيل وأبي الصائغ وأبي الوقت المراغي وأبي الشعثاء وزرارة بن أوفى والشعبي وعبد الله بن شقيق ومطرف بن الشخير وسعيد بن المسيب وأبي العالية وصفوان بن محرز ومعاذة العدوية وأبي عثمان النهدي والحسن وخلق. وكان أحد من يضرب به المثل لحفظه، قال: ما قلت لمحدّث قط: أعد عليّ وما سمعت أذناي قط شيئًا إلّا وعاه قلبي. قال أحمد بن حنبل: قتادة أعلم بالتفسير وباختلاف العلماء؛ ثم وصفه بالفقه والحفظ، وأطنب في ذكره، وقال: قلَّمَا نجد من يتقدمه، قرأت عليه مرة صحيفة جابر فحفظها.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَارِدٌ فِي الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمُحَارِبِينَ إذَا تَابُوا بِأَمَانِ الْإِمَامِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا التَّائِبُ بِغَيْرِ أَمَانٍ فَلَا تُؤَثِّرُ تَوْبَتُهُ فِي سُقُوطِ حَدٍّ وَلَا حَقٍّ، وَهَذَا قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، وَالشَّعْبِيِّ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ وَارِدٌ فِيمَنْ تَابَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ لُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ عَادَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ وَهُوَ قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ وَارِدٌ فِيمَنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي مَنَعَةٍ وَتَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ سَقَطَتْ عُقُوبَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَنَعَةٍ لَمْ تَسْقُطْ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَرَبِيعَةَ وَالْحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْهُمْ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ تَوْبَتَهُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَنَعَةٍ تَضَعُ عَنْهُ جَمِيعَ حُدُودِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَلَا تُسْقِطُ عَنْهُ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَالسَّادِسُ: أَنَّ تَوْبَتَهُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ تَضَعُ عَنْهُ جَمِيعَ الْحُدُودِ وَالْحُقُوقِ إلَّا الدِّمَاءَ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فَهَذَا حُكْمُ الْآيَةِ وَاخْتِلَافُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِيهَا، ثُمَّ نَقُولُ فِي الْمُحَارِبِينَ: إنَّهُمْ إذَا كَانُوا عَلَى امْتِنَاعِهِمْ مُقِيمِينَ قُوتِلُوا كَقِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ فِي عَامَّةِ أَحْوَالِهِمْ وَيُخَالِفُهُ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إنَّهُمْ يَجُوزُ قِتَالُهُمْ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ؛ لِاسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ مِنْهُمْ، وَلَا يَجُوزُ اتِّبَاعُ مَنْ وَلَّى مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْمِدَ فِي الْحَرْبِ إلَى قَتْلِ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمِدَ إلَى قَتْلِ أَهْلِ الْبَغْيِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ يُؤَاخَذُونَ بِمَا اسْتَهْلَكُوهُ مِنْ دَمٍ وَمَالٍ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا بِخِلَافِ أَهْلِ الْبَغْيِ.

وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ يَجُوزُ حَبْسُ مَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ لِاسْتِبْرَاءِ حَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ حَبْسُ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ مَا اجْتَبَوْهُ مِنْ خَرَاجٍ وَأَخَذُوهُ مِنْ صَدَقَاتٍ فَهُوَ كَالْمَأْخُوذِ غَصْبًا نَهْبًا لَا يُسْقِطُ عَنْ أَهْلِ الْخَرَاجِ وَالصَّدَقَاتِ حَقًّا، فَيَكُونُ غُرْمُهُ عَلَيْهِمْ مُسْتَحَقًّا، وَإِذَا كَانَ الْمَوْلَى عَلَى قِتَالِهِمْ مَقْصُورَ الْوِلَايَةِ عَلَى مُحَارَبَتِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ الْقُدْرَةِ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِمْ حَدًّا، وَلَا أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْهُمْ حَقًّا، وَيَلْزَمُهُ حَمْلُهُمْ إلَى الْإِمَامِ لِيَأْمُرَ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ، وَاسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ وِلَايَتُهُ عَامَّةً عَلَى قِتَالِهِمْ وَاسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ وَالْحُقُوقِ مِنْهُمْ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْعَدَالَةِ لِيَنْفُذَ حُكْمُهُ فِيمَا يُقِيمُهُ مِنْ حَدٍّ وَيَسْتَوْفِيهِ مِنْ حَقٍّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَشَفَ عَنْ أَحْوَالِهِمْ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا بِإِقْرَارِهِمْ طَوْعًا مِنْ غَيْرِ ضَرْبٍ وَلَا إكْرَاهٍ. وَإِمَّا بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، فَإِذَا عَلِمَ مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مَا فَعَلَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ جَرَائِمِهِ نَظَرَ، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ قَدْ قَتَلَ، وَأَخَذَ الْمَالَ قَتَلَهُ وَصَلَبَهُ بَعْدَ الْقَتْلِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُصْلَبُ حَيًّا ثُمَّ يَطْعَنُهُ بِالرُّمْحِ حَتَّى يَمُوتَ وَهَذَا الْقَتْلُ مَحْتُومٌ وَلَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ، وَإِنْ عَفَا عَنْهُ وَلِيُّ الدَّمِ كَانَ عَفْوُهُ لَغْوًا، وَيُصْلَبُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَتَجَاوَزُهَا، ثُمَّ يَحُطُّهُ بَعْدَهَا، وَمَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ قَتَلَهُ وَلَمْ يَصْلُبْهُ، وَغَسَّلَهُ وَصَلَّى عَلَيْهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُصَلِّي عَلَيْهِ غَيْرُ مَنْ حَكَمَ بِقَتْلِهِ، وَمَنْ أَخَذَ مِنْهُمُ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ مِنْ خِلَافٍ، فَكَانَ قَطْعُ يَدِهِ الْيُمْنَى لِسَرِقَتِهِ، وَقَطْعُ رِجْلِهِ الْيُسْرَى لِمُجَاهَرَتِهِ، وَمَنْ جَرَحَ مِنْهُمْ وَلَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ اقْتَصَّ مِنْهُمُ الْجَارِحَ إنْ كَانَ فِي مِثْلِهَا قِصَاصٌ، وَفِي إحْتَامِ الْقِصَاصِ فِي الْجُرُوحِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَحْتُومٌ وَلَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ كَالْقَتْلِ. وَالثَّانِي هُوَ إلَى خِيَارِ مُسْتَحِقِّهِ تَجِبُ بِمُطَالَبَتِهِ وَيَسْقُطُ بِعَفْوِهِ، وَإِنْ كَانَ الْجَرْحُ مِمَّا لَا قِصَاصَ فِيهِ وَجَبَتْ دِيَةُ الْمَجْرُوحِ إنْ طَلَبَ بِهَا، وَتَسْقُطُ إنْ عَفَا عَنْهَا، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُهِيبًا أَوْ مُكْثِرًا لَمْ يُبَاشِرْ قَتْلًا وَلَا جَرْحًا، وَلَا أَخْذَ مَالٍ عُزِّرَ أَدَبًا وَزَجْرًا وَجَازَ حَبْسُهُ، لِأَنَّ الْحَبْسَ أَحَدُ التَّعْزِيرَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ بِهِ ذَلِكَ؛ لَا قَطْعٌ وَلَا قَتْلٌ.

وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ ذَلِكَ فِيهِ إلْحَاقًا بِحُكْمِ الْمُبَاشِرِينَ مَعَهُ، فَإِنْ تَابُوا عَنْ جَرَائِمِهِمْ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ سَقَطَتْ عَنْهُ الْمَآثِمُ دُونَ الْمَظَالِمِ، وَأُخِذُوا بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحُدُودِ وَالْحُقُوقِ، فَإِنْ تَابُوا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ سَقَطَتْ عَنْهُمْ مَعَ الْمَآثِمِ حُدُودُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَلَمْ تَسْقُطْ عَنْهُمْ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ قَدْ قَتَلَ فَالْخِيَارُ إلَى الْوَلِيِّ فِي الْقِصَاصِ مِنْهُ أَوْ الْعَفْوِ عَنْهُ، وَيَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ إحْتَامُ قَتْلِهِ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ قَدْ أَخَذَ الْمَالَ سَقَطَ عَنْهُ الْقَطْعُ وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْغُرْمُ إلَّا بِالْعَفْوِ، وَيَجْرِي عَلَى الْمُحَارِبِينَ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ فِي الْأَمْصَارِ حُكْمُ قُطَّاعِهِ فِي الصَّحَارِي وَالْأَسْفَارِ، وَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا بِالْجَرَاءَةِ فِي الْأَمْصَارِ أَغْلَظُ جُرْمًا لَمْ يَكُونُوا أَخَفَّ حُكْمًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَخْتَصُّونَ بِهَذَا الْحُكْمِ فِي الصَّحَارِي؛ حَيْثُ لَا يُدْرَكُ الْغَوْثُ، فَأَمَّا فِي الْأَمْصَارِ أَوْ خَارِجِهَا بِحَيْثُ يُدْرَكُ الْغَوْثُ، فَلَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ الْجُرْأَةِ فِي الْأَمْصَارِ، وَإِذَا ادَّعَوْا التَّوْبَةَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ لَمْ تَقْتَرِنْ بِالدَّعْوَى أَمَارَاتٌ تَدُلُّ عَلَى التَّوْبَةِ لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُمْ لَهَا لِمَا فِي سُقُوطِهَا مِنْ حَدٍّ قَدْ وَجَبَ. وَإِنْ اُقْتُرِنَ بِدَعْوَاهُمْ أَمَارَاتٌ تَدُلُّ عَلَى التَّوْبَةِ فَفِي قَبُولِهَا مِنْهُمْ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ: أَحَدُهُمَا: تُقْبَلُ لِيَكُونَ ذَلِكَ شُبْهَةً تَسْقُطُ بِهَا الْحُدُودُ. وَالثَّانِي: لَا تُقْبَلُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ تَشْهَدُ لَهُمْ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهَا حُدُودٌ قَدْ وَجَبَتْ، وَالشُّبْهَةُ مَا اُقْتُرِنَتْ بِالْفِعْلِ لَا مَا تَأَخَّرَتْ عَنْهُ.

الباب السادس: في ولاية القضاء

الباب السادس: في ولاية القضاء مدخل ... الباب السادس: في ولاية القضاء 1 وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلَّدَ الْقَضَاءُ إلَّا مَنْ تَكَامَلَتْ فِيهِ شُرُوطُهُ الَّتِي يَصِحُّ مَعَهَا تَقْلِيدُهُ، وَيَنْفُذُ بِهَا حُكْمُهُ، وَهِيَ سَبْعَةٌ: فَالشَّرْطُ الْأَوَّلُ مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ رَجُلًا، وَهَذَا الشَّرْطُ يَجْمَعُ صِفَتَيْنِ: الْبُلُوغَ وَالذُّكُورِيَّةَ، فَأَمَّا الْبُلُوغُ فَإِنَّ غَيْرَ الْبَالِغِ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ قَلَمٌ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ عَلَى نَفْسِهِ حُكْمٌ، وَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ عَلَى غَيْرِهِ حُكْمٌ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلِنَقْصِ النِّسَاءِ عَنْ رُتَبِ الْوِلَايَاتِ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِقَوْلِهِنَّ أَحْكَامٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ أَنْ تَقْضِيَ الْمَرْأَةُ فِيمَا تَصِحُّ فِيهَا شَهَادَتُهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَقْضِيَ فِيمَا لَا تَصِحُّ فِيهِ شَهَادَتُهَا. وَشَذَّ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فَجَوَّزَ قَضَاءَهَا فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِقَوْلٍ يَرُدُّهُ الْإِجْمَاعُ مَعَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 34] . يَعْنِي: فِي الْعَقْلِ وَالرَّأْيِ، فَلَمْ يُجِزْ أَنْ يَقُمْنَ عَلَى الرِّجَالِ2.

_ 1 القضاء لغة: عبارة عن اللزوم، حقيقته الإخبار عن حكم شرعي على سبيل الإلزام، من أجل فصل الخصومات وقطع المنازعات. ولقد كانت ولاية القضاء في التاريخ الإسلامي يندرج تحتها كل ما يتعلّق بالمنازعات حول الأنكحة والمواريث والأموال والعقود والفسوخ، ودعاوى التهم والعدوان، وكشف المظالم وحقوق الأيتام، والجنايات على الأنفس والأعراض والجراحات والحدود والحسبة والخرص وجباية الصدقات وصرفها، وعموم أحكام السياسات التي يرجع إسناد القضاء فيها إلى المصلحة والعرف وأحوال السلم والحرب والمهادنة؛ وهو لذلك مصدر غني من مصادر التشريع الشوري، إلَّا أن القضاء في العصر الحديث عرف نظمًا وزعت الاختصاصات، ونوعت أساليب الممارسة، فعرف القضاء الواقف والقضاء الجالس، وتعددت مراتب التقاضي، وتميَّز القضاء الشرعي عن القضاء الوضعي، وفي كل الأحوال تناولت أحكام القضاء -قديمًا وحديثًا- قضايا سكت عنها الشرع، وبث فيها الاجتهاد البشري. [انظر: فقه الأحكام السلطانية: ص 310] . 2 المرأة هل يصح أن تلي القضاء؟ قال مالك والشافعي وأحمد: لا يصح، وقال أبو حنيفة: يصح أن=

وَالشَّرْطُ الثَّانِي: وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَى اعْتِبَارِهِ، وَلَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالْعَقْلِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ مِنْ عِلْمِهِ بِالْمُدْرَكَاتِ الضَّرُورِيَّةِ، حَتَّى يَكُونَ صَحِيحَ التَّمْيِيزِ، جَيِّدَ الْفَطِنَةِ، بَعِيدًا عَنِ السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ، يَتَوَصَّلُ بِذَكَائِهِ إلَى إيضَاحِ مَا أَشْكَلَ وَفَصَلَ مَا أَعْضَلَ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: الْحُرِّيَّةُ؛ لِأَنَّ نَقْصَ الْعَبْدِ عَنْ وِلَايَةِ نَفْسِهِ يَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِ وِلَايَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّ الرِّقَّ لَمَّا مَنَعَ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ مِنْ نُفُوذِ الْحُكْمِ وَانْعِقَادِ الْوِلَايَةِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَنْ لَمْ تَكْمُلْ حُرِّيَّتُهُ مِنَ الْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ، وَمَنْ رُقَّ بَعْضُهُ، وَلَا يَمْنَعُهُ الرِّقُّ أَنْ يُفْتِيَ، كَمَا لَا يَمْنَعهُ الرِّقُّ أَنْ يَرْوِيَ بِعَدَمِ الْوِلَايَةِ فِي الْفَتْوَى وَالرِّوَايَةِ. وَيَجُوزُ لَهُ إذَا عَتَقَ أَنْ يَقْضِيَ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ وَلَاءٌ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي وِلَايَةِ الْحُكْمِ. وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: الْإِسْلَامُ لِكَوْنِهِ شَرْطًا فِي جَوَازِ الشَّهَادَةِ مَعَ قَوْلِ اللَّهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلَّدَ الْكَافِرُ الْقَضَاءَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَا عَلَى الْكُفَّارِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ الْقَضَاءَ بَيْنَ أَهْلِ دِينِهِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ عُرْفُ الْوُلَاةِ بِتَقْلِيدِهِ جَارِيًا فَهُوَ تَقْلِيدُ زَعَامَةٍ وَرِئَاسَةٍ، وَلَيْسَ بِتَقْلِيدِ حُكْمٍ وَقَضَاءٍ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُمْ حُكْمُهُ لِالْتِزَامِهِمْ لَهُ لَا لُزُومِهِ لَهُمْ، وَلَا يَقْبَلُ الْإِمَامُ قَوْلَهُ فِيمَا حَكَمَ بِهِ بَيْنَهُمْ. وَإِذَا امْتَنَعُوا مِنْ تَحَاكُمِهِمْ إلَيْهِ لَمْ يُجْبَرُوا عَلَيْهِ، وَكَانَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ أَنْفَذَ.

_ = تكون قاضية في كل شيء تقبل فيه شهادة النساء، وعنده أنَّ شهاة النساء تقبل في كل شيء إلّا في الحدود والجِرَاح، فهي عنده تقضي في كل شيء إلّا في الحدود والجراح. وقال ابن جرير الطبري: يصح أن تكون قاضية في كل شيء. [جوهر العقود: 2/ 290] . وروى ابن أبي مريم عن أبي القاسم جواز ولاية المرأة. قال ابن عرفة: قال ابن زرقون: أظنه فيما تجوز فيه شهادتها. قال ابن عبد السلام: لا حاجة لهذا التأويل لاحتمال أن يكون ابن القاسم قال كقول الحسن والطبري بإجازة ولايتها القضاء مطلقًا. قلت: الأظهر قول ابن زرقون؛ لأن ابن عبد السلام قال في الرد على من شذَّ مِنَ المتكلمين وقال: الفسق لا ينافي القضاء ما نصه: وهذا ضعيف جدًّا؛ لأن العدالة شرط في قبول الشهادة والقضاء أعظم حرمة منها. قلت: فجعل ما هو منافٍ الشهادة منافٍ للقضاء، وأن النكاح والطلاق والعتق والحدود لا تقبل فيها شهادتها، فكذلك لا يصح فيها قضاؤها، انتهى. [مواهب الجليل: 6/ 88] .

وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ: الْعَدَالَةُ، وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ فِي كُلِّ وِلَايَةٍ، وَالْعَدَالَةُ أَنْ يَكُونَ صَادِقَ اللَّهْجَةِ ظَاهِرَ الْأَمَانَةِ، عَفِيفًا عَنِ الْمَحَارِمِ، مُتَوَقِّيًا الْمَآثِمَ، بَعِيدًا مِنَ الرَّيْبِ، مَأْمُونًا فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ، مُسْتَعْمِلًا لِمُرُوءَةِ مِثْلِهِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، فَإِذَا تَكَامَلَتْ فِيهِ فَهِيَ الْعَدَالَةُ الَّتِي تَجُوزُ بِهَا شَهَادَتُهُ، وَتَصِحُّ مَعَهَا وِلَايَتُهُ، وَإِنْ انْخَرَمَ مِنْهَا وَصْفٌ مُنِعَ مِنَ الشَّهَادَةِ وَالْوِلَايَةِ، فَلَمْ يُسْمَعْ لَهُ قَوْلٌ وَلَمْ يَنْفُذْ لَهُ حُكْمٌ. وَالشَّرْطُ السَّادِسُ: السَّلَامَةُ فِي السَّمْعِ وَالْبَصَر؛ ِ لِيَصِحَّ بِهِمَا إثْبَاتُ الْحُقُوقِ، وَيُفَرِّقَ بَيْنَ الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ، وَيُمَيِّزَ الْمُقِرِّ مِنَ الْمُنْكِرِ؛ لِيَتَمَيَّزَ لَهُ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَيَعْرِفَ الْمُحِقَّ مِنَ الْمُبْطِلِ، فَإِنْ كَانَ ضَرِيرًا كَانَتْ وِلَايَتُهُ بَاطِلَةً، وَجَوَّزَهَا مَالِكٌ كَمَا جَوَّزَ شَهَادَتَهُ، وَإِنْ كَانَ أَصَمَّ فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي الْأَمَانَةِ؛ فَأَمَّا سَلَامَةُ الْأَعْضَاءِ فَغَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِيهِ وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فِي الْإِمَامَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَ وَإِنْ كَانَ مُقْعَدًا ذَا زَمَانَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ السَّلَامَةُ مِنَ الْآفَاتِ أَهْيَبَ لِذَوِي الْوِلَايَةِ. وَالشَّرْطُ السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَعِلْمُهُ بِهَا يَشْتَمِلُ عَلَى عِلْمِ أُصُولِهَا وَالِارْتِيَاضِ بِفُرُوعِهَا. وَأُصُولُ الْأَحْكَامِ فِي الشَّرْعِ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا: عِلْمُهُ بِكِتَابِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَصِحُّ بِهِ مَعْرِفَةُ مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا، وَمُحْكَمًا وَمُتَشَابِهًا، وَعُمُومًا وَخُصُوصًا، وَمُجْمَلًا وَمُفَسَّرًا. وَالثَّانِي: عِلْمُهُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الثَّابِتَةِ مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَطُرُقِ مَجِيئِهَا فِي التَّوَاتُرِ وَالْآحَادِ وَالصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ، وَمَا كَانَ عَنْ سَبَبٍ أَوْ إطْلَاقٍ. وَالثَّالِثُ: عِلْمُهُ بِتَأْوِيلِ السَّلَفِ فِيمَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ؛ لِيَتْبَعَ الْإِجْمَاعَ وَيَجْتَهِدَ بِرَأْيِهِ فِي الِاخْتِلَافِ. وَالرَّابِعُ: عِلْمُهُ بِالْقِيَاسِ1 الْمُوجِبِ لِرَدِّ الْفُرُوعِ الْمَسْكُوتِ عَنْهَا إلَى الْأُصُولِ الْمَنْطُوقِ

_ 1 واعلم أنَّ القياس حمل فرع على أصل في بعض أحكامه، بمعنى يجمع بينهما، وقال بعض أصحابنا القياس هو: الأمارة على الحكم، وقال بعض الناس: هو فعل القائس، وقال بعضهم: القياس هو =

بِهَا وَالْمُجْمَعِ عَلَيْهَا، حَتَّى يَجِدَ طَرِيقًا إلَى الْعِلْمِ بِأَحْكَامِ النَّوَازِلِ، وَتَمْيِيزِ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ، فَإِذَا أَحَاطَ عِلْمُهُ بِهَذِهِ الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ فِي أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ صَارَ بِهَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي الدِّينِ، وَجَازَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ وَيَقْضِيَ، وَجَازَ لَهُ أَن يَسْتَفْتِيَ وَيَسْتَقْضِيَ، وَإِنْ أَخَلَّ بِهَا أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهَا خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُفْتِيَ وَلَا أَنْ يَقْضِيَ. فَإِنْ قُلِّدَ الْقَضَاءَ فَحَكَمَ بِالصَّوَابِ أَوْ الْخَطَإِ كَانَ تَقْلِيدُهُ بَاطِلًا وَحُكْمُهُ وَإِنْ وَافَقَ الْحَقَّ وَالصَّوَابَ مَرْدُودًا، وَتَوَجَّهَ الْحَرَجُ فِيمَا قُضِيَ بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ قَلَّدَهُ الْحُكْمَ وَالْقَضَاءَ. وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ تَقْلِيدَ الْقَضَاءِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ لِيَسْتَفْتِيَ فِي أَحْكَامِهِ وَقَضَايَاهُ، وَاَلَّذِي

_ = اجتهاد، والصحيح هو الأول؛ لأنه يطَّرِدُ وينعكس، ألا ترى أنه يوجد بوجوده القياس، وبعدمه يُعْدَم القياس، فدلَّ على صحته، فأمَّا الأمارة فلا تطَّرِد، ألا ترى أنَّ زوال الشمس أمارة على دخول الوقت وليس بقياس؟ وفعل القائس أيضًا لا معنى له؛ لأنه لو كان ذلك صحيحًا لوجب أن يكون كل فعل يفعله القائس من المشي والقعود قياسًا، وهذا لا يقوله أحد، فبطل تحديده بذلك، وأمَّا الاجتهاد فهو أعمّ من القياس؛ لأنَّ الاجتهاد بذل المجهود في طلب الحكم، وذلك يدخل فيه حمل المطلق على المقيد، وترتيب العام على الوجوه التي يطلب منها الحكم، وشيء من ذلك ليس بقياس، فلا معنى لتحديد القياس به. والقياس حجّة في إثبات الأحكام العقلية وطريق من طرقها، وذلك مثل حدوث العالم وإثبات الصانع وغير ذلك، ومن الناس من أنكر ذلك، والدليل على فساد قوله: إن إثبات هذه الأحكلم لا يخلو إمَّا أن يكون بالضرورة أو بالاستدلال، والقياس لا يجوز أن يكون بالضرورة؛ لأنه لو كان كذلك لم يختلف العقلاء فيها، فثبت أن إثباتها بالقياس والاستدلال بالشاهد على الغائب، وكذلك هو حجة في الشرعيات، وطريق لمعرفة الأحكام، ودليل من أدلتها من جهة الشرع، وقال أبو بكر الدقاق: هو طريق من طرقها يجب العمل به من جهة العقل والشرع، وذهب النظام والشيعة وبعض المعتزلة البغداديين إلى أنه ليس بطريق للأحكام الشرعية، ولا يجوز ورود التعبد به من جهة العقل. وقال داود وأهل الظاهر: يجوز أن يرد التعبّد به من جهة العقل، إلَّا أن الشرع ورد بحظره والمنع منه، والدليل على أنَّه لا يجب العمل به من جهة العقل أنَّ تعليق تحريم التفاضل على الكيل أو الطعم في العقل ليس بأولى من تعليق التحليل عليهما، ولهذا يجوز أن يرد الشرع بكل واحد من الحكمين بدلًا عن الآخر، وإذا استوى الأمر أنَّ في التجويز يبطل أن يكون العقل موجبًا لذلك، وأمَّا الدليل على جواز ورود التعبّد به من جهة العقل هو أنه إذا جاز أن يحكم في الشيء بحكمٍ لعلة منصوص عليها جاز أن يحكم فيه منصوص عليها، وينصب عليها دليلًا يتوصّل به إليها، ألا ترى أنَّه لمَّا جاز أن يؤمر من عاين القبلة بالتوجُّه إليها جاز أيضًا أن يؤمر من غاب عنها أن يتوصَّل بالدليل إليها، وأما الدليل على ورود الشرع به ووجوب العمل به فإجماع الصحابة. [اللمع في أصول الفقه: ص 96] .

عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ وِلَايَتَهُ بَاطِلَةٌ وَأَحْكَامَهُ مَرْدُودَةٌ؛ وَلِأَنَّ التَّقْلِيدَ فِي فُرُوعِ الشَّرْعِ ضَرُورَةٌ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ إلَّا فِي مُلْتَزِمِ الْحَقِّ دُونَ مُلْزِمِهِ. قَدْ اخْتَبَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُعَاذًا حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ وَالِيًا وَقَالَ: "بِمَ تَحْكُمُ؟ " قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: "فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ " قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ. قَالَ: "فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ " قَالَ: أَجْتَهِدُ بِرَأْيِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَهُ"1. فَأَمَّا وِلَايَةُ مَنْ لَا يَقُولُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ2 فَغَيْرُ جَائِزَةٍ؛ لِأَنَّهُ تَارِكٌ لِأَصْلٍ قَدْ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، وَأَكْثَرُ أَحْكَامِ الشَّرْعِ عَنْهُ مَأْخُوذَةٌ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يَقُولُ بِحُجَّةِ الْإِجْمَاعِ الَّذِي لَا تَجُوزُ وِلَايَتُهُ لِرَدِّ مَا وَرَدَ النَّصُّ بِهِ. وَأَمَّا نُفَاةُ الْقِيَاسِ فَضَرْبَانِ: ضَرْبٌ مِنْهُمْ نَفَوْهُ وَاتَّبَعُوا ظَاهِرَ النَّصِّ، وَأَخَذُوا بِأَقَاوِيلِ سَلَفِهِمْ فِيمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ، وَطَرَحُوا الِاجْتِهَادَ وَعَدَلُوا عَنِ الْفِكْرِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمُ الْقَضَاءَ لِقُصُورِهِمْ عَنْ طَرَفِ الْأَحْكَامِ. وَضَرْبٌ مِنْهُمْ نَفَوْا الْقِيَاسَ وَاجْتَهَدُوا فِي الْأَحْكَامِ تَعَلُّقًا بِفَحْوَى الْكَلَامِ وَمَفْهُومِ الْخِطَابِ كَأَهْلِ الظَّاهِرِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي جَوَازِ تَقْلِيدِهِمُ الْقَضَاءَ عَلَى

_ 1 ضعيف: رواه أبو داود في كتاب الأقضية "3592"، والترمذي في كتاب الأحكام "1327"، والدارمي في المقدمة "168"، وأحمد "21502"، وقال الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة "881": منكر. 2 خبر الواحد لغةً: ما يرويه شخص واحد، واصطلاحًا: ما لم يجمع شروط التواتر، والخبر: لفظ مجرَّد عن العوامل اللفظية مسند إلى ما تقدمه لفظًا نحو: زيد قائم، أو تقديرًا نحو: أقائم زيد. خبر كان وأخواتها هو المسند بعد دخول هذه الحروف. [التعاريف: ص 306] . قال الفيروزآبادي: يقبل خبر الواحد وإن كان مخالفًا للقياس ويقدم عليه، وقال أصحاب مالك: إذا كان مخالفًا للقياس لم يقدّم. وقال أصحاب أبي حنيفة: إن كان مخالفًا لقياس الأصول لم يقبل. [التبصرة: ص 317] .

وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِلْمَعْنَى الْمَذْكُورِ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِأَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَهُ وَاضِحَ الْمَعَانِي وَإِنْ عَدَلُوا عَنْ خَفِيِّ الْقِيَاسِ، فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنَ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي وِلَايَةِ الْقَضَاءِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوَلَّى إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِاجْتِمَاعِهَا فِيهِ؛ إمَّا بِتَقَدُّمِ مَعْرِفَةٍ، وَإِمَّا بِاخْتِبَارٍ وَمَسْأَلَةٍ. قَدْ قَلَّدَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلِيًّا -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَضَاءَ الْيَمَنِ، وَلَمْ يَخْتَبِرْهُ لِعِلْمِهِ بِهِ، وَلَكِنَّهُ وَصَّاهُ تَنْبِيهًا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ فَقَالَ: "إذَا حَضَرَ خَصْمَانِ بَيْنَ يَدَيْكَ فَلَا تَقْضِ لِأَحَدِهِمَا حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ الْآخَرِ" 1. فَقَالَ عَلِيٌّ -عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَمَا أَشْكَلَتْ عَلَيَّ قَضِيَّةٌ بَعْدَهَا، وَبَعَثَ مُعَاذًا إلَى نَاحِيَةٍ مِنَ الْيَمَنِ وَاخْتَبَرَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَصْلٌ: وَيَجُوزُ لِمَنْ اعْتَقَدَ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنْ يُقَلِّدَ الْقَضَاءَ مَنِ اعْتَقَدَ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَجْتَهِدَ بِرَأْيِهِ فِي قَضَائِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُقَلِّدَ فِي النَّوَازِلِ وَالْأَحْكَامِ مَنِ اعْتَزَى إلَى مَذْهَبِهِ، فَإِذَا كَانَ شَافِعِيًّا لَمْ يَلْزَمْهُ الْمَصِيرُ فِي أَحْكَامِهِ إلَى أَقَاوِيلِ الشَّافِعِيِّ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ اجْتِهَادُهُ إلَيْهَا، فَإِنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى الْأَخْذِ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَمِلَ عَلَيْهِ وَأَخَذَ بِهِ، وَقَدْ مَنَعَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مَنِ اعْتَزَى إلَى مَذْهَبٍ أَنْ يَحْكُمَ بِغَيْرِهِ، فَمُنِعَ الشَّافِعِيُّ أَنْ يَحْكُمَ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُنِعَ الْحَنَفِيُّ أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إذَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ لِمَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ مِنَ التُّهْمَةِ وَالْمُمَايَلَةِ فِي الْقَضَايَا وَالْأَحْكَامِ، وَإِذَا حَكَمَ بِمَذْهَبٍ لَا يَتَعَدَّاهُ كَانَ أَنْفَى لِلتُّهْمَةِ وَأَرْضَى لِلْخُصُومِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَتْ السِّيَاسَةُ تَقْتَضِيهِ فَأَحْكَامُ الشَّرْعِ لَا تُوجِبُهُ؛ لِأَنَّ التَّقْلِيدَ فِيهَا مَحْظُورٌ، وَالِاجْتِهَادَ فِيهَا مُسْتَحَقٌّ، وَإِذَا نَفَذَ قَضَاؤُهُ بِحُكْمٍ وَتَجَدَّدَ مِثْلُهُ مِنْ بَعْدُ أَعَادَ الِاجْتِهَادَ فِيهِ، وَقَضَى بِمَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ وَإِنْ خَالَفَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حُكْمِهِ، فَإِنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَضَى فِي الْمُشْرِكَةِ بِالتَّشْرِيكِ فِي عَامٍ، وَتَرَكَ التَّشْرِيكَ فِي غَيْرِهِ، فَقِيلَ لَهُ: مَا هَكَذَا حَكَمْتَ فِي

_ 1 حسن: رواه أبو داود في كتاب الأقضية "3582"، والترمذي في كتاب الأحكام "3582"، وأحمد "692"، وحسنه الشيخ الألباني.

الْعَامِ الْمَاضِي، فَقَالَ: تِلْكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا، وَهَذِهِ عَلَى مَا نَقْضِي. فَلَوْ شَرَطَ الْمُوَلِّي وَهُوَ حَنَفِيٌّ أَوْ شَافِعِيٌّ عَلَى مَنْ وَلَّاهُ الْقَضَاءَ أَنْ لَا يَحْكُمَ إلَّا بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَبِي حَنِيفَةَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ عُمُومًا فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، فَهَذَا شَرْطٌ بَاطِلٌ، سَوَاءٌ كَانَ مُوَافِقًا لِمَذْهَبِ الْمُوَلِّي أَوْ مُخَالِفًا لَهُ، وَأَمَّا صِحَّةُ الْوِلَايَةِ فَإِنْ لَمْ يَجْعَلْهُ شَرْطًا فِيهَا، وَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْأَمْرِ أَوْ مَخْرَجَ النَّهْيِ، وَقَالَ: قَدْ قَلَّدْتُكَ الْقَضَاءَ فَاحْكُمْ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- عَلَى وَجْهِ الْأَمْرِ، أَوْ لَا تَحْكُمُ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ -عَلَى وَجْهِ النَّهْيِ، كَانَتْ الْوِلَايَةُ صَحِيحَةً وَالشَّرْطُ فَاسِدًا، سَوَاءٌ تَضَمَّنَ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ، سَوَاءٌ وَافَقَ شَرْطَهُ أَوْ خَالَفَهُ، وَيَكُونُ اشْتِرَاطُ الْمُوَلِّي لِذَلِكَ قَدْحًا فِيهِ إنْ عَلِمَ أَنَّهُ اشْتَرَطَ مَا لَا يَجُوزُ، وَلَا يَكُونُ قَدْحًا إنْ جَهِلَ، لَكِنْ لَا يَصِحُّ مَعَ الْجَهْلِ بِهِ أَنْ يَكُونَ مُوَلِّيًا وَلَا وَالِيًا، فَإِنْ أَخْرَجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ الشَّرْطِ فِي عَقْدِ الْوِلَايَةِ فَقَالَ: قَدْ قَلَّدْتُكَ الْقَضَاءَ عَلَى أَنْ لَا تَحْكُمَ فِيهِ إلَّا بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، أَوْ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، كَانَتْ الْوِلَايَةُ بَاطِلَةً؛ لِأَنَّهُ عَقَدَهَا عَلَى شَرْطٍ فَاسِدٍ. وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ: تَصِحُّ الْوِلَايَةُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ خَاصًّا فِي حُكْمٍ بِعَيْنِهِ؛ فَلَا يَخْلُو الشَّرْطُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا، فَإِنْ كَانَ أَمْرًا فَقَالَ لَهُ: أَقِدْ مِنْ الْعَبْدِ بِالْحُرِّ، وَمِنْ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ، وَاقْتَصَّ فِي الْقَتْلِ بِغَيْرِ الْحَدِيدِ، كَانَ أَمْرُهُ بِهَذَا الشَّرْطِ فَاسِدًا، ثُمَّ إنْ جَعَلَهُ شَرْطًا فِي عَقْدِ الْوِلَايَةِ فَسَدَتْ، وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْهُ شَرْطًا فِيهَا صَحَّتْ، وَحَكَمَ فِي ذَلِكَ بِمَا يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ نَهْيًا فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنْ يَنْهَاهُ عَنِ الْحُكْمِ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ وَالْحُرِّ بِالْعَبْدِ، وَلَا يَقْضِي فِيهِ بِوُجُوبِ قَوَدٍ وَلَا بِإِسْقَاطِهِ فَهَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ اقْتَصَرَ بِوِلَايَتِهِ عَلَى مَا عَدَاهُ فَصَارَ ذَلِكَ خَارِجًا عَنْ نَظَرِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَنْهَاهُ عَنِ الْحُكْمِ وَيَنْهَاهُ عَنِ الْقَضَاءِ فِي الْقِصَاصِ. فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا النَّهْيِ هَلْ يُوجِبُ صَرْفَهُ عَنِ النَّظَرِ فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنْ يَكُونَ صَرْفًا عَنِ الْحُكْمِ فِيهِ، وَخَارِجًا عَنْ وِلَايَتِهِ، فَلَا يَحْكُمُ فِيهِ بِإِثْبَاتِ قَوَدٍ وَلَا بِإِسْقَاطِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي الصَّرْفَ عَنْهُ، وَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْأَمْرِ بِهِ وَيُثْبِتُ صِحَّةَ النَّظَرِ إنْ لَمْ يَجْعَلْهُ شَرْطًا فِي التَّقْلِيدِ، وَيَحْكُمُ فِيهِ بِمَا يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ.

فصل: "ما تنعقد به ولاية القضاء"

فَصْلٌ: "ما تنعقد به ولاية القضاء" وَوِلَايَةُ الْقَضَاءِ تَنْعَقِدُ بِمَا تَنْعَقِدُ بِهِ الْوِلَايَاتُ، مَعَ الْحُضُورِ بِاللَّفْظِ مُشَافَهَةً، وَمَعَ الْغَيْبَةِ مُرَاسَلَةً وَمُكَاتَبَةً، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مَعَ الْمُكَاتَبَةِ مِنْ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا مِنْ شَوَاهِدِ الْحَالِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا عِنْدَ الْمَوْلَى وَأَهْلِ عَمَلِهِ. وَالْأَلْفَاظُ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِهَا الْوِلَايَةُ ضَرْبَانِ: صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ: فَالصَّرِيحُ أَرْبَعَةُ أَلْفَاظٍ: قَدْ قَلَّدْتُكَ، وَوَلَّيْتُكَ، وَاسْتَخْلَفْتُكَ، وَاسْتَنَبْتُكَ، فَإِذَا أَتَى بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ انْعَقَدَتْ وِلَايَةُ الْقَضَاءِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْوِلَايَاتِ، وَلَيْسَ يَحْتَاجُ مَعَهَا إلَى قَرِينَةٍ أُخْرَى إلَّا أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لَا شَرْطًا. فَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا سَبْعَةُ أَلْفَاظٍ: قَدْ اعْتَمَدْتُ عَلَيْكَ، وَعَوَّلَتْ عَلَيْكَ، وَرَدَدْتُ إلَيْكَ، وَجَعَلْتُ إلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ إلَيْكَ، وَوَكَّلْتُ إلَيْكَ، وَأَسْنَدْتُ إلَيْكَ، فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الِاحْتِمَالِ تُضْعِفُ فِي الْوِلَايَةِ عَنْ حُكْمِ الصَّرِيحِ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهَا فِي عَقْدِ الْوِلَايَةِ مَا يَنْفِي عَنْهَا الِاحْتِمَالَ، فَتَصِيرُ مَعَ مَا يَقْتَرِنُ بِهَا فِي حُكْمِ الصَّرِيحِ مِثْلَ قَوْلِهِ: فَانْظُرْ فِيمَا وَكَّلَتْهُ إلَيْكَ، وَاحْكُمْ فِيمَا اعْتَمَدْتُ فِيهِ عَلَيْكَ، فَتَصِيرُ الْوِلَايَةُ بِهَذِهِ الْقَرِينَةِ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكِنَايَةِ مُنْعَقِدَةً، ثُمَّ تَمَامُهَا مَوْقُوفٌ عَلَى قَبُولِ الْمُوَلِّي، فَإِنْ كَانَ التَّقْلِيدُ مُشَافَهَةً فَقَبُولُهُ عَلَى الْفَوْرِ لَفْظًا، وَإِنْ كَانَ مُرَاسَلَةً أَوْ مُكَاتَبَةً جَازَ أَنْ يَكُونَ عَلَى التَّرَاخِي، وَيَجُوزُ قَبُولُهُ بِالْقَوْلِ مَعَ التَّرَاخِي. وَاخْتُلِفَ فِي صِحَّةِ الْقَبُولِ بِالشُّرُوعِ فِي النَّظَرِ؛ فَجَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ وَجَعَلَهُ كَالنُّطْقِ، وَأَبَاهُ آخَرُونَ حَتَّى يَكُونَ نُطُقًا؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِي النَّظَرِ فَرْعٌ لِعَقْدِ الْوِلَايَةِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ قَبُولُهَا. وَيَكُونُ تَمَامُ الْوِلَايَةِ مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ لَفْظِ التَّقْلِيدِ مُعْتَبَرًا بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ:

أَحَدُهَا: مَعْرِفَةُ الْمَوْلَى لِلْمَوْلَى بِأَنَّهُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي يَجُوزُ أَنْ يُوَلَّى مَعَهَا، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي تَجُوزُ مَعَهَا تِلْكَ الْوِلَايَةُ لَمْ يَصِحَّ تَقْلِيدُهُ، فَلَوْ عَرَفَهَا بَعْدَ التَّقْلِيدَ اسْتَأْنَفَهَا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَوِّلَ عَلَى مَا تَقَدَّمَهَا. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: مَعْرِفَةُ الْمُوَلَّى بِمَا عَلَيْهِ الْمُوَلِّي مِنْ اسْتِحْقَاقِ تِلْكَ الْوِلَايَةِ بِصِفَاتِهِ الَّتِي يَصِيرُ بِهَا مُسْتَحِقًّا لَهَا، وَأَنَّهُ قَدْ تَقَلَّدَهَا وَصَارَ مُسْتَحِقًّا لِلْإِنَابَةِ فِيهَا، إلَّا أَنَّ هَذَا شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ فِي قَبُولِ الْمُوَلَّى وَجَوَازِ نَظَرِهِ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي عَقْدِ تَقْلِيدِهِ وَوِلَايَتِهِ، بِخِلَافِ الشَّرْطِ الْمُتَقَدِّمِ وَلَيْسَ يُرَاعَى فِي هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ الْمُشَاهَدَةُ بِالنَّظَرِ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى انْتِشَارُهَا بِتَتَابُعِ الْخَبَرِ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: ذِكْرُ مَا تَضْمَنَّهُ التَّقْلِيدُ مِنْ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ أَوْ إمَارَةِ الْبِلَادِ أَوْ جِبَايَةِ الْخَرَاجِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ شُرُوطٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي كُلِّ تَقْلِيدٍ فَافْتَقَرَتْ إلَى تَسْمِيَةِ مَا تَضَمَّنَتْ؛ لِيُعْلَمَ عَلَى أَيِّ نَظَرٍ عُقِدَتْ فَإِنْ جُهِلَ فَسَدَتْ. وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: ذِكْرُ تَقْلِيدِ الْبَلَدِ الَّذِي عُقِدَتْ الْوِلَايَةُ عَلَيْهِ؛ لِيُعْرَفَ بِهِ الْعَمَلُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ فِيهِ، وَلَا تَصِحُّ الْوِلَايَةُ مَعَ الْجَهْلِ بِهِ، فَإِذَا انْعَقَدَتْ تَمَّ تَقْلِيدُ الْوِلَايَةِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الشُّرُوطِ، وَاحْتَاجَ فِي لُزُومِ النَّظَرِ إلَى شَرْطٍ زَائِدٍ عَلَى شُرُوطِ الْعَقْدِ، وَهُوَ إشَاعَةُ تَقْلِيدِ الْمُوَلَّى فِي أَهْلِ عَمَلِهِ؛ لِيَذْعَنُوا بِطَاعَتِهِ وَيَنْقَادُوا إلَى حُكْمِهِ، وَهُوَ شَرْطٌ فِي لُزُومِ الطَّاعَةِ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي نُفُوذِ الْحُكْمِ، فَإِذَا صَحَّتْ عَقْدًا وَلُزُومًا بِمَا وَصَفْنَا صَحَّ فِيهَا نَظَرُ الْمُوَلِّي وَالْمُوَلَّى كَالْوَكَالَةِ؛ لِأَنَّهُمَا مَعًا اسْتِنَابَةٌ وَلَمْ يَلْزَمْ الْمَقَامُ عَلَيْهَا مِنْ جِهَةِ الْمُوَلَّى، وَلَا مِنْ جِهَةِ الْمُوَلِّي، وَكَانَ لِلْمُوَلِّي عَزْلُهُ عَنْهَا مَتَى شَاءَ، وَلِلْمُوَلَّى عَزْلُ نَفْسِهِ عَنْهَا إذَا شَاءَ، غَيْرَ أَنَّ الْأَوْلَى بِالْمُوَلِّي أَنْ يَعْزِلَهُ إلَّا بِعُذْرٍ، وَأَنْ لَا يَعْتَزِلَ الْمُوَلَّى إلَّا مِنْ عُذْرٍ لِمَا فِي هَذِهِ الْوِلَايَةِ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا عَزَلَ أَوْ اعْتَزَلَ وَجَبَ إظْهَارُ الْعَزْلِ كَمَا وَجَبَ إظْهَارُ التَّقْلِيدِ، حَتَّى لَا يَقْدَمُ عَلَى إنْفَاذِ حُكْمٍ وَلَا يَغْتَرُّ بِالتَّرَافُعِ إلَيْهِ خَصْمٌ، فَإِنْ حَكَمَ بَعْدَ عَزْلِهِ وَقَدْ عَرَفَ عَزْلَهُ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ، وَإِنْ حَكَمَ غَيْرَ عَالِمٍ بِعَزْلِهِ كَانَ فِي نُفُوذِ حُكْمِهِ وَجْهَانِ كَاخْتِلَافِهِمَا فِي عُقُودِ الْوَكِيلِ.

فصل: "ولاية القاضي بين العموم والخصوص"

فَصْلٌ: "ولاية القاضي بين العموم والخصوص" وَلَا تَخْلُو وِلَايَةُ الْقَاضِي مِنْ عُمُومٍ أَوْ خُصُوصٍ، فَإِنْ كَانَتْ وِلَايَتُهُ عَامَّةً مُطْلَقَةَ التَّصَرُّفِ فِي جَمِيعِ مَا تَضَمَّنَتْهُ فَنَظَرُهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى عَشَرَةِ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: فَصْلٌ فِي الْمُنَازَعَاتِ، وَقَطْعُ التَّشَاجُرِ وَالْخُصُومَاتِ، إمَّا صُلْحًا عَنْ تَرَاضٍ، وَيُرَاعَى فِيهِ الْجَوَازُ، أَوْ إجْبَارًا بِحُكْمٍ بَاتٍّ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْوُجُوبُ. وَالثَّانِي: اسْتِيفَاءُ الْحُقُوقِ مِمَّنْ مَطَلَ بِهَا، وَإِيصَالُهَا إلَى مُسْتَحَقِّيهَا بَعْدَ ثُبُوتِ اسْتِحْقَاقِهَا مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إقْرَارٌ، أَوْ بَيِّنَةٌ، وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِ حُكْمِهِ فِيهَا بِعِلْمِهِ؛ فَجَوَّزَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَصَحُّ قَوْلَيْهِ، وَمَنَعَ مِنْهُ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يُحْكَمَ بِعِلْمِهِ فِيمَا عَلِمَهُ فِي وِلَايَتِهِ وَلَا يَحْكُمُ بِمَا عَلِمَهُ قَبْلَهَا1.

_ 1 وقد اختلف في ذلك -قديمًا وحديثًا، وفي مذهب الإمام أحمد ثلاث روايات، إحداها: وهي الرواية المشهورة عنه المنصورة عند أصحابه: إنَّه لا يحكم بعلمه لأجل التهمة. والثانية: يجوز له ذلك مطلقًا في الحدود وغيرها. والثالثة: يجوز إلّا في الحدود، ولا خلاف عنه أنَّه يبني على علمه في عدالة الشهود وجرحهم، ولا يجب عليه أن يسأل غيره عمَّا علمه من ذلك. ولأصحاب الشافعي طريقان: أحدهما: يقضي بعلمه قطعًا، والثاني: إنَّ المسألة على قولين أظهرهما أكثر الصحابة يقضي به. قالوا: لأنه يقضي بشاهدين، وذلك يفيد ظنًّا، فالعلم أولى بالجواز، وأجابوا عمَّا احتج به المانعون من ذلك من التهمة أنَّ القاضي لو قال: ثبت عندي وصحَّ كذا وكذا، ألزم قبوله بلا خلاف، ولم يبحث عمَّا ثبت به وصحَّ، والتهمة قائمة. ووجه هذا أنَّه لما ملك الإنشاء ملك الإخبار، ثم بنوا على القولين ما علمه في زمن ولايته ومكانها وما علمه في غيرها. قالوا: فإن قلنا: لا يقضي بعلمه، فذلك إذا كان مستنده مجرد العلم، أمَّا إذا شهد رجلان يعرف عدالتهما فله أن يقضي ويغنيه علمه بهما عن تزكيتهما، وفيه وجه ضعيف لا يغنيه ذلك عن تزكيتهما للتهمة. قالوا: ولو أقرَّ بالمدَّعَى به في مجلس قضائه قضى وذلك قضاء بالإقرار لا يعلمه، وإن أقر عنده سرًّا فعلى القولين، وقيل: يقضي قطعًا، ولو شهد عنده واحد فهل يغنيه علمه عن الشاهد الآخر على قول =

وَالثَّالِثُ: ثُبُوتُ الْوِلَايَةِ عَلَى مَنْ كَانَ مَمْنُوعَ التَّصَرُّفِ بِجُنُونٍ أَوْ صِغَرٍ، وَالْحَجْرُ عَلَى مَنْ يَرَى الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ حِفْظًا لِلْأَمْوَالِ عَلَى مُسْتَحَقِّيهَا، وَتَصْحِيحًا لِأَحْكَامِ الْعُقُودِ فِيهَا. وَالرَّابِعُ: النَّظَرُ فِي الْأَوْقَاتِ بِحِفْظِ أُصُولِهَا وَتَنْمِيَةِ فُرُوعِهَا، وَالْقَبْضِ عَلَيْهَا وَصَرْفِهَا فِي سَبِيلِهَا، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا مُسْتَحِقٌّ لِلنَّظَرِ فِيهَا رَاعَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَوَلَّاهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ لِلْخَاصِّ

_ = المنع فيه وجهان، وهذا تحصيل مذهب الشافعي وأصحابه، وأمَّا مذهب مالك فإنه لا يقضي بعلمه في المدّعى به بحال سواء علمه قبل التولية أو بعدها في مجلس قضائه أو غيره، قبل الشروع في المحاكمة، أو بعد الشروع فهو أشد أذنًا في ذلك. وقال عبد الملك وسحنون: يحكم بعلمه فيما علمه بعد الشروع في المحاكمة، قالوا: فإن حكم بعلمه حيث قلنا: لا يحكم، فقال أبو الحسن اللخمى: لا ينقض عند بعض أصحابنا، وعندي أنه ينقض. قالوا: ولا خلاف في أنَّ ما رآه القاضي أو سمعه في مجلس قضائه أنه لا يحكم به، وأنه ينقض إن حكم به وينقضه هو وغيره، وإنما فيما يتقارر به الخصمان في مجلسه، فإن حكم به ينقضه هو، ولا ينقضه غيره. قال اللخمي: وقد اختلف إذا أقرَّ بعد أن جلسا للخصومة ثم أنكر، فقال مالك وابن القاسم: لا يحكم بعلمه، وقال عبد الملك وسحنون: يحكم أنّ الخصمين إذا جلسا للمحاكمة فقد رضيا أن يحكم بينهما بما يقولانه، ولذلك قصداه هذا تحصيل مذهب مالك. وأمَّا مذهب أبي حنيفة فقالوا: إذا علم الحاكم بشيء من حقوق العباد في زمن ولايته ومحلها جاز له أن يقضي به؛ لأنَّ علمه كشهادة الشاهدين؛ بل أولى؛ لأنَّ اليقين حاصل بما علمه بالمعاينة أو السماع، والحاصل بالشهادة غلبة الظن، وأما ما علمه قبل ولايته أو محل ولايته فلا يقضي به، ثم أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد: يقضي به كما في حال ولايته ومحلها. قال المنتصرون لقول أبي حنيفة: هو في مصره وغير ولايته شاهد لا حاكم، وشهادة الفرد لا تقبل، وصار كما إذا علم بالبينة العادلة، ثم ولي القضاء فإنه لا يعمل بها. قالوا: وأمَّا في الحدود فلا يقضي بعلمه فيها؛ لأنه خصم فيها؛ ولأنه حق لله تعالى وهو نائبه، إلّا حدّ القذف فإنه يعمل بعلمه لما فيه من حق العبد، وإلّا في المسكر إذا وجد سكرانًا، أو من به أمارات السكر فإنه يعذر، هذا تحصيل مذهب أبي حنيفة. أما أهل الظاهر: فقال أبو محمد بن حزم: وفرض على الحاكم أن يحكم بعلمه في الدماء والأموال والقصاص والفروج والحدود، سواء أعلم ذلك قبل ولايته أو بعد ولايته. قال: وأقوى ما حكم بعلمه ثم بالإقرار ثم بالبينة. [الطرق الحكمية: ص285-287] .

فِيهَا إنْ عَمَّتْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُفْضِيَ إلَى الْعُمُومِ وَإِنْ خُصَّتْ. وَالْخَامِسُ: تَنْفِيذُ الْوَصَايَا عَلَى شُرُوطِ الْمُوصِي فِيمَا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ وَلَمْ يَحْظُرْهُ، وَإِنْ كَانَتْ لِمُعَيِّنِينَ كَانَ تَنْفِيذُهَا بِالْإِقْبَاضِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي مَوْصُوفِينَ كَانَ تَنْفِيذُهَا أَنْ يَتَعَيَّنَ مُسْتَحِقُّوهَا بِالِاجْتِهَادِ وَيَمْلِكُوا بِالْإِقْبَاضِ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا وَصِيٌّ رَاعَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَوَلَّاهُ. وَالسَّادِسُ: تَزْوِيجُ الْأَيَامَى بِالْأَكْفَاءِ إذَا عَدِمْنَ الْأَوْلِيَاءَ وَدُعِينَ إلَى النِّكَاحِ، وَلَا يَجْعَلُهُ أَبُو حَنِيفَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مِنْ حُقُوقِ وِلَايَتِهِ؛ لِتَجْوِيزِهِ تُفْرَدُ الْأَيِّمُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ. وَالسَّابِعُ: إقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى مُسْتَحَقِّيهَا، فَإِنْ كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى تَفَرَّدَ بِاسْتِيفَائِهِ مِنْ غَيْرِ طَالِبٍ إذَا ثَبَتَ بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى طَلَبِ مُسْتَحِقِّهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَسْتَوْفِيهَا مَعًا إلَّا بِخَصْمٍ مَطَالِبِ. وَالثَّامِنُ: النَّظَرُ فِي مَصَالِحِ عَمَلِهِ مِنَ الْكَفِّ عَنِ التَّعَدِّي فِي الطُّرُقَاتِ وَالْأَفْنِيَةِ، وَإِخْرَاجِ مَا لَا يَسْتَحِقُّ مِنَ الْأَجْنِحَةِ وَالْأَبْنِيَةِ، وَلَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالنَّظَرِ فِيهَا وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْهُ خَصْمٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ فِيهَا إلَّا بِحُضُورِ خَصْمٍ مُسْتَعْدٍ، وَهِيَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي يَسْتَوِي فِيهَا الْمُسْتَعْدِي وَغَيْرُ الْمُسْتَعْدِي، فَكَانَ تَفَرُّدُ الْوِلَايَةِ بِهَا أَخَصَّ. وَالتَّاسِعُ: تَصَفُّحُ شُهُودِهِ وَأُمَنَائِهِ، وَاخْتِيَارُ النَّائِبِينَ عَنْهُ مِنْ خُلَفَائِهِ فِي إقْرَارِهِمْ، وَالتَّعْوِيلِ عَلَيْهِمْ، مَعَ ظُهُورِ السَّلَامَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ وَصَرْفِهِمْ، وَالِاسْتِبْدَالِ بِهِمْ مَعَ ظُهُورِ الْجُرْحِ وَالْخِيَانَةِ. وَمَنْ ضَعُفَ مِنْهُمْ عَمَّا يُعَانِيهِ كَانَ مُوَلِّيهِ بِالْخِيَارِ مِنْ أَصْلَحِ الْأَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهِ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ وَأَكْفَى، وَإِمَّا أَنْ يَضُمَّ إلَيْهِ مَنْ يَكُونُ اجْتِمَاعُهُ عَلَيْهِ أَنْفَذَ وَأَمْضَى. وَالْعَاشِرُ: التَّسْوِيَةُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ وَالْعَدْلُ فِي الْقَضَاءِ بَيْنَ الْمَشْرُوفِ وَالشَّرِيفِ، وَلَا يَتَّبِعْ هَوَاهُ فِي تَقْصِيرِ الْمُحِقِّ أَوْ مُمَايَلَةِ مُبْطِلٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا دَاوُد إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26] . وَقَدْ اسْتَوْفَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي عَهْدِهِ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ شُرُوطَ الْقَضَاءِ، وَبَيَّنَ أَحْكَامَ التَّقْلِيدِ، فَقَالَ فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْقَضَاءَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ،

فَافْهَمْ إذَا أُدْلِيَ إلَيْكَ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ تَكَلُّمٌ بِحَقٍّ لَا نَفَاذَ لَهُ، وَآسِ بَيْنَ النَّاسِ فِي وَجْهِكَ وَعَدْلِكَ وَمَجْلِسِكَ، حَتَّى لَا يَطْمَعَ شَرِيفٌ فِي حَيْفِكَ، وَلَا يَيْأَسَ ضَعِيفٌ مِنْ عَدْلِكَ. الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، وَالصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا؛ وَلَا يَمْنَعُكَ قَضَاءٌ قَضَيْتَهُ أَمْسِ فَرَاجَعْتَ الْيَوْمَ فِيهِ عَقْلَكَ، وَهُدِيتَ فِيهِ لِرُشْدِكَ، أَنْ تَرْجِعَ إلَى الْحَقِّ، فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ، وَمُرَاجَعَةُ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ، الْفَهْمَ الْفَهْمَ فِيمَا تَلَجْلَجَ فِي صَدْرِكَ مِمَّا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا سُنَّةِ نَبِيِّهِ، ثُمَّ اعْرِفِ الْأَمْثَالَ وَالْأَشْبَاهَ، وَقِسْ الْأُمُورَ بِنَظَائِرِهَا، وَاجْعَلْ لِمَنِ ادَّعَى حَقًّا غَائِبًا أَوْ بَيِّنَةً أَمَدًا يَنْتَهِي إلَيْهِ، فَمَنْ أَحْضَرَ بَيِّنَةً أَخَذْتَ لَهُ بِحَقِّهِ، وَإِلَّا اسْتَحْلَلْتَ الْقَضِيَّةَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَنْفَى لِلشَّكِّ وَأَجْلَى لِلْعَمَى، وَالْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، إلَّا مَجْلُودًا فِي حَدٍّ، أَوْ مُجَرَّبًا عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ، أَوْ ظِنِّينًا فِي وَلَاءٍ أَوْ نَسَبٍ، فَإِنَّ اللَّهَ عَفَا عَنِ الْأَيْمَانِ وَدَرَأَ بِالْبَيِّنَاتِ. وَإِيَّاكَ وَالْقَلَقَ وَالضَّجَرَ وَالتَّأَفُّفَ بِالْخُصُومِ، فَإِنَّ الْحَقَّ فِي مَوَاطِنِ الْحَقِّ يُعَظِّمُ اللَّهُ بِهِ الْأَجْرَ وَيُحْسِنُ بِهِ الذِّكْرَ، وَالسَّلَامُ. فَإِنْ قِيلَ: فَفِي هَذَا الْعَهْدِ خَلَلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: خُلُوُّهُ مِنْ لَفْظِ التَّقْلِيدِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْوِلَايَةُ. وَالثَّانِي: اعْتِبَارُهُ فِي الشُّهُودِ عَدَالَةَ الظَّاهِرِ وَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ عَدَالَةُ الْبَاطِنِ بَعْدَ الْكَشْفِ وَالْمَسْأَلَةِ. قِيلَ: أَمَّا خُلُوُّهُ عَنْ لَفْظِ التَّقْلِيدِ فَفِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّقْلِيدَ تَقَدَّمَهُ لَفْظًا وَجُعِلَ الْعَهْدُ مَقْصُورًا عَلَى الْوِصَايَةِ وَالْأَحْكَامِ. وَالثَّانِي: أَنَّ أَلْفَاظَ الْعَهْدِ تَتَضَمَّنُ مَعَانِيَ التَّقْلِيدِ مِثْلَ قَوْلِهِ: "فَافْهَمْ إذَا أُدْلِيَ إلَيْكَ"، وَكَقَوْلِهِ: "فَمَنْ أَحْضَرَ بَيِّنَةً أَخَذْتَ لَهُ بِحَقِّهِ وَإِلَّا اسْتَحْلَلْتَ الْقَضِيَّةَ عَلَيْهِ"، فَصَارَ فَحْوَى هَذِهِ الْأَوَامِرِ مَعَ شَوَاهِدِ الْحَالِ مُغْنِيًا عَنْ لَفْظِ التَّقْلِيدِ. وَأَمَّا اعْتِبَارُهُ فِي الشُّهُودِ عَدَالَةَ الظَّاهِرِ فَفِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَرَى ذَلِكَ فَذَكَرَهُ إخْبَارًا عَنِ اعْتِقَادِهِ فِيهِ لَا أَمْرًا بِهِ. وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ بَعْدَ الْكَشْفِ وَالْمَسْأَلَةِ عُدُولٌ مَا لَمْ يَظْهَرْ جُرْحٌ إلَّا مَجْلُودًا فِي حَدٍّ، وَلَيْسَ لِهَذَا الْقَاضِي وَإِنْ عَمَّتْ وِلَايَتُهُ جِبَايَةُ الْخَرَاجِ؛ لِأَنَّ مَصْرِفَهُ مَوْقُوفٌ عَلَى رَأْيِ غَيْرِهِ مِنْ وُلَاةِ الْجُيُوشِ، فَأَمَّا أَمْوَالُ الصَّدَقَاتِ فَإِنِ اُخْتُصَّتْ بِنَاظِرٍ خَرَجَتْ عَنْ عُمُومِ وِلَايَتِهِ، وَإِنْ لَمْ

يُنْدَبْ لَهَا نَاظِرٌ فَقَدْ قِيلَ: تَدْخُلُ فِي عُمُومِ وِلَايَتِهِ فَيَقْبِضُهَا مِنْ أَهْلِهَا وَيَصْرِفُهَا فِي مُسْتَحَقِّيهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَنْ سَمَّاهُ لَهَا، وَقِيلَ: لَا تَدْخُلُ فِي وِلَايَتِهِ، وَيَكُونُ مَمْنُوعًا مِنَ التَّعَرُّضِ لَهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ الَّتِي تُحْمَلُ عَلَى اجْتِهَادِ الْأَئِمَّةِ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي إمَامَةِ الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ، فَأَمَّا إنْ كَانَتْ وِلَايَتُهُ خَاصَّةً فَهِيَ مُنْعَقِدَةٌ عَلَى خُصُوصِهَا، وَمَقْصُورَةُ النَّظَرِ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ، كَمَنْ قُلِّدَ الْقَضَاءَ فِي بَعْضِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْأَحْكَامِ، أَوْ فِي الْحُكْمِ بِإِقْرَارٍ دُونَ الْبَيِّنَةِ، أَوْ فِي الدُّيُونِ دُونَ الْمَنَاكِحِ، أَوْ فِي مُقَدَّرٍ بِنِصَابٍ، فَيَصِحُّ هَذَا التَّقْلِيدُ وَلَا يَصِحُّ لِلْمُوَلِّي أَنْ يَتَعَدَّاهُ؛ لِأَنَّهَا اسْتِنَابَةٌ فَصَحَّتْ عُمُومًا وخُصُوصًا كَالْوَكَالَةِ. فصل: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي عَامَّ النَّظَرِ خَاصَّ الْعَمَلِ، فَيُقَلَّدُ النَّظَرَ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ فِي أَحَدِ جَانِبَيْ الْبَلَدِ أَوْ فِي مَحَلَّةٍ مِنْهُ، فَيَنْفُذُ جَمِيعُ أَحْكَامِهِ فِي الْجَانِبِ الَّذِي قَلَّدَهُ، وَالْمَحَلَّةِ الَّتِي عُيِّنَتْ لَهُ، وَيَنْظُرُ فِيهِ بَيْنَ سَاكِنِيهِ وَبَيْنَ الطَّارِئِينَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الطَّارِئَ إلَيْهِ كَالسَّاكِنِ فِيهِ، إلَّا أَنْ يَقْتَصِرَ بِهِ عَلَى النَّظَرِ بَيْنَ سَاكِنِيهِ دُونَ الْغَرِيبِينَ وَالطَّارِئِينَ إلَيْهِ فَلَا يَتَعَدَّاهُمْ. وَلَوْ قُلِّدَ جَمِيعَ الْبَلَدِ لِيَحْكُمَ فِي أَحَدِ جَانِبَيْهِ أَوْ فِي مَحَلَّةٍ مِنْهُ أَوْ فِي دَارٍ مِنْ دُورِهِ جَازَ لَهُ الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعِ جُلُوسِهِ مَعَ عُمُومِ وِلَايَتِهِ، فَإِنْ أُخْرِجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ الشَّرْطِ فِي عَقْدِ الْوِلَايَةِ أَبْطَلَهَا، وَكَانَ مَرْدُودَ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَغَيْرِهِ، وَلَوْ قُلِّدَ الْحُكْمَ فِيمَنْ وَرَدَ إلَيْهِ فِي دَارِهِ أَوْ فِي مَسْجِدِهِ صَحَّ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ فِي غَيْرِ دَارِهِ، وَلَا فِي غَيْرِ مَسْجِدِهِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ وِلَايَتَهُ مَقْصُورَةً عَلَى مَنْ وَرَدَ إلَى دَارِهِ أَوْ مَسْجِدِهِ، وَهُمْ لَا يَتَعَيَّنُونَ إلَّا بِالْوُرُودِ إلَيْهِمَا، فَلِذَلِكَ صَارَ حُكْمُهُ فِيهِمَا شَرْطًا. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ: لَمْ تَزَلِ الْأُمَرَاءُ عِنْدَنَا بِالْبَصْرَةِ بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ يَسْتَقْضُونَ قَاضِيًا عَلَى الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ يُسَمُّونَهُ قَاضِيَ الْمَسْجِدِ، يَحْكُمُ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَعِشْرِينَ دِينَارًا فَمَا دُونَهَا، وَيَفْرِضُ النَّفَقَاتِ وَلَا يَتَعَدَّى مَوْضِعَهُ وَلَا مَا قُدِّرَ لَهُ.

فَصْلٌ: وَإِذَا قُلِّدَ قَاضِيَانِ عَلَى بَلَدٍ لَمْ يَخْلُ حَالُ تَقْلِيدِهِمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَرِدَ إلَى أَحَدِهِمَا مَوْضِعًا مِنْهُ، وَإِلَى الْآخَرِ غَيْرُهُ فَيَصِحُّ، وَيَقْتَصِرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى النَّظَرِ فِي مَوْضِعِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَرِدَ إلَى أَحَدِهِمَا نَوْعٌ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَإِلَى الْآخَرِ غَيْرُهُ؛ كَرَدِّ الْمُدَايَنَاتِ إلَى أَحَدِهِمَا وَالْمَنَاكِحِ إلَى الْآخَرِ، فَيَجُوزُ ذَلِكَ، وَيَقْتَصِرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى النَّظَرِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ الْخَاصِّ فِي الْبَلَدِ كُلِّهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَرِدَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمِيعُ الْأَحْكَامِ فِي جَمِيعِ الْبَلَدِ، فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِهِ، فَمَنَعَتْ مِنْهُ طَائِفَةٌ لِمَا يُفْضِي إلَيْهِ أَمْرُهُمَا مِنَ التَّشَاجُرِ فِي تَجَاذُبِ الْخُصُومِ إلَيْهِمَا، وَتَبْطُلُ وِلَايَتُهُمَا إنِ اجْتَمَعَتْ، وَتَصِحُّ وِلَايَةُ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا إنِ افْتَرَقَتْ، وَأَجَازَتْهُ طَائِفَةٌ أُخْرَى وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ؛ لِأَنَّهَا اسْتِنَابَةٌ كَالْوَكَالَةِ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ عِنْدَ تَجَاذُبِ الْخُصُومِ قَوْلَ الطَّالِبِ دُونَ الْمَطْلُوبِ، فَإِنْ تَسَاوَيَا اُعْتُبِرَ أَقْرَبُ الْحَاكِمَيْنِ إلَيْهِمَا، فَإِنْ اسْتَوَيَا فَقَدْ قِيلَ: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، وَقِيلَ: يُمْنَعَانِ مِنَ التَّحَاكُمِ حَتَّى يَتَّفِقَا عَلَى أَحَدِهِمَا.

فصل: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وِلَايَةُ الْقَاضِي مَقْصُورَةً عَلَى حُكُومَةٍ مُعَيَّنَةٍ بَيْنَ خَصْمَيْنِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفُذَ النَّظَرُ بَيْنَهُمَا إلَى غَيْرِهِمَا مِنَ الْخُصُومِ، وَتَكُونُ وِلَايَتُهُ عَلَى النَّظَرِ بَيْنَهُمَا بَاقِيَةً مَا كَانَ التَّشَاجُرُ بَيْنَهُمَا بَاقِيًا، فَإِذَا بَتَّ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا زَالَتْ وِلَايَتُهُ، وَإِنْ تَجَدَّدَتْ بَيْنَهُمَا مُشَاجَرَةٌ أُخْرَى لَمْ يَنْظُرْ بَيْنَهُمَا إلَّا بِإِذْنٍ مُسْتَجَدٍّ، فَلَوْ لَمْ يُعَيِّنْ الْخُصُومَ وَجَعَلَ النَّظَرَ مَقْصُورًا عَلَى الْأَيَّامِ، وَقَالَ: قَلَّدْتُكَ النَّظَرَ بَيْنَ الْخُصُومِ فِي يَوْمِ السَّبْتِ وَحْدَهُ، جَازَ نَظَرُهُ فِيهِ بَيْنَ الْخُصُومِ فِي جَمِيعِ الدَّعَاوَى، وَتَزُولُ وِلَايَتُهُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْهُ، وَلَوْ قَالَ: قَلَّدْتُكَ النَّظَرَ فِي كُلِّ يَوْمِ سَبْتٍ جَازَ أَيْضًا، وَكَانَ مَقْصُورَ النَّظَرِ فِيهِ. فَإِذَا خَرَجَ يَوْمُ السَّبْتِ لَمْ تَزُلْ وِلَايَتُهُ لِبَقَائِهَا عَلَى أَمْثَالِهِ مِنَ الْأَيَّامِ، وَإِنْ كَانَ مَمْنُوعًا مِنَ النَّظَرِ فِيمَا عَدَاهُ، وَلَوْ قَالَ وَلَمْ يُسَمِّ أَحَدًا: مَنْ نَظَرَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ بَيْنَ الْخُصُومِ فَهُوَ خَلِيفَتِي، لَمْ يَجُزْ لِلْجَهْلِ بِالْمُوَلَّى؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، فَلَوْ قَالَ: مَنْ نَظَرَ فِيهِ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَهُوَ خَلِيفَتِي، لَمْ يَجُزْ أَيْضًا لِلْجَهْلِ بِهِ، وَلِأَنَّهُ يُصَيِّرُ تَمْيِيزَ الْمُجْتَهِدِ مَوْكُولًا إلَى رَأْيِ غَيْرِهِ مِنَ الْخُصُومِ. وَلَوْ قَالَ: مَنْ نَظَرَ فِيهِ مِنْ مُدَرِّسِي أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَوْ مُفْتِيِّي أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ لَمْ يَجُزْ، وَكَذَلِكَ لَوْ سَمَّى عَدَدًا فَقَالَ: مَنْ نَظَرَ فِيهِ مِنْ فُلَانٍ أَوْ فُلَانٍ فَهُوَ خَلِيفَتِي لَمْ يَجُزْ، سَوَاءٌ قَلَّ الْعَدَدُ أَوْ كَثُرَ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَّى مِنْهُمْ مَجْهُولٌ، لَكِنْ إذَا قَالَ: قَدْ رَدَدْتُ النَّظَرَ فِيهِ إلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ وَفُلَانٍ، جَازَ سَوَاءٌ قَلَّ الْعَدَدُ أَوْ كَثُرَ؛ لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ مُوَلَّى فَإِذَا نَظَرَ فِيهِ أَحَدُهُمْ تَعَيَّنَ وَزَالَ نَظَرُ الْبَاقِينَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْهُمْ عَلَى النَّظَرِ، وَإِنَّمَا أَفْرَدَ بِهِ أَحَدَهُمْ، فَإِنْ جَمَعَهُمْ عَلَى النَّظَرِ فِيهِ لَمْ يَجُزْ إنْ كَثُرَ عَدَدُهُمْ، وَفِي جَوَازِهِمْ إنْ قَلَّ وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ قَاضِيَيْنِ.

فَصْلٌ: فَأَمَّا طَلَبُ الْقَضَاءِ وَخُطْبَةُ الْوُلَاةِ عَلَيْهِ: فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ كَانَ تَعَرُّضُهُ لِطَلَبِهِ مَحْظُورًا، وَصَارَ بِالطَّلَبِ مَجْرُوحًا، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي يَجُوزُ مَعَهَا نَظَرُهُ فَلَهُ فِي طَلَبِهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْقَضَاءُ فِي غَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ، إمَّا لِنَقْصِ عِلْمِهِ، وَإِمَّا لِظُهُورِ جَوْرِهِ فَيَخْطُبُ الْقَضَاءَ دَفْعًا لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ؛ لِيَكُونَ فِيمَنْ هُوَ بِالْقَضَاءِ أَحَقُّ، فَهَذَا سَائِغٌ لِمَا تَضْمَنَّهُ مِنْ دَفْعِ مُنْكَرٍ، ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ قَصْدِهِ إزَالَةَ غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ كَانَ مَأْجُورًا، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُ اخْتِصَاصَهُ بِالنَّظَرِ فِيهِ كَانَ مُبَاحًا. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْقَضَاءُ فِي مُسْتَحِقِّهِ وَمَنْ هُوَ أَهْلُهُ وَيُرِيدُ أَنْ يَعْزِلَهُ عَنْهُ، إمَّا لِعَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا، وَإِمَّا لِيَجُرَّ بِالْقَضَاءِ إلَى نَفْسِهِ نَفْعًا؛ فَهَذَا الطَّلَبُ مَحْظُورٌ، وَهُوَ بِهَذَا الطَّلَبِ مَجْرُوحٌ. وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْقَضَاءِ نَاظِرٌ وَهُوَ خَالٍ مِنْ وَالٍ عَلَيْهِ؛ فَيُرَاعِي فِي طَلَبِهِ؛ فَإِنْ كَانَ لِحَاجَتِهِ إلَى رِزْقِ الْقَضَاءِ الْمُسْتَحَقِّ فِي بَيْتِ الْمَالِ كَانَ طَلَبُهُ مُبَاحًا، وَإِنْ كَانَ لِرَغْبَةٍ فِي إقَامَةِ الْحَقِّ وَخَوْفِهِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ كَانَ طَلَبُهُ مُسْتَحَبًّا، فَإِنْ قَصَدَ بِطَلَبِهِ الْمُبَاهَاةَ وَالْمَنْزِلَةَ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي كَرَاهِيَةِ ذَلِكَ، مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى جَوَازِهِ، فَكَرِهَتْهُ طَائِفَةٌ؛ لِأَنَّ طَلَبَ الْمُبَاهَاةِ وَالْمَنْزِلَةِ فِي الدُّنْيَا مَكْرُوهٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] . وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى إلَى أَنَّ طَلَبَهُ لِذَلِكَ غَيْرُ مَكْرُوهٍ؛ لِأَنَّ طَلَبَ الْمَنْزِلَةِ مِمَّا أُبِيحَ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ، وَقَدْ رَغِبَ نَبِيُّ اللَّهِ يُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إلَى فِرْعَوْنَ1 فِي الْوِلَايَةِ وَالْخِلَافَةِ فَقَالَ: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] .

_ 1 قلت: في سورة يوسف لم يستخدم القرآن الكريم كلمة فرعون أبدًا، وإنما استخدم كلمة الملك كثيرًا، وأغلب المؤرِّخين على أن يوسف كان في عهد الهكسوس وليس في عهد الفراعنة.

فَطَلَبُ الْوِلَايَةِ وَوَصْفُ نَفْسِهِ بِمَا يَسْتَحِقُّهَا بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: {إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: حَفِيظٌ لِمَا اسْتَوْدَعْتَنِي عَلِيمٌ بِمَا وَلَّيْتَنِي، وَهَذَا قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَفِيظٌ لِلْحِسَابِ عَلِيمٌ بِالْأَلْسُنِ، وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ بْنِ سُفْيَانَ، وَخَرَجَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ حَدِّ التَّزْكِيَةِ لِنَفْسِهِ وَالْمَدْحِ لَهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ لِسَبَبٍ دَعَا إلَيْهِ، وَاخْتُلِفَ لِأَجْلِ ذَلِكَ فِي جَوَازِ الْوِلَايَةِ مِنْ قِبَلِ الظَّالِمِ، فَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى جَوَازِهَا إذَا عَمِلَ بِالْحَقِّ فِيمَا يَتَوَلَّاهُ؛ لِأَنَّ يُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- تَوَلَّى مِنْ قِبَلِ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ بِعَدْلِهِ دَافِعًا لِجَوْرِهِ. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى إلَى حَظْرِهَا وَالْمَنْعِ مِنَ التَّعَرُّضِ لَهَا لِمَا فِيهَا مِنْ تَوَلِّي الظَّالِمِينَ وَالْمَعُونَةِ لَهُمْ وَتَزْكِيَتِهِمْ بِالتَّقْلِيدِ أَوْ أَمْرِهِمْ. وَأَجَابُوا عَنْ وِلَايَةِ يُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ قِبَلِ فِرْعَوْنَ بِجَوَابَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّ فِرْعَوْنَ يُوسُفَ كَانَ صَالِحًا، وَإِنَّمَا الطَّاغِي فِرْعَوْن مُوسَى. وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَظَرَ فِي أَمْلَاكِهِ دُونَ أَعْمَالِهِ. فَأَمَّا بَذْلُ الْمَالِ عَلَى طَلَبِ الْقَضَاءِ فَمِنَ الْمَحْظُورَاتِ؛ لِأَنَّهَا رِشْوَةٌ مُحَرَّمَةٌ يَصِيرُ الْبَاذِلُ لَهَا وَالْقَابِلُ لَهَا مَجْرُوحَيْنِ. رَوَى ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَعَنَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ1. وَالرَّاشِي: بَاذِلُ الرِّشْوَةِ، وَالْمُرْتَشِي: قَابِلُهَا، وَالرَّايِشُ: الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَهُمَا.

_ 1 صحيح دون قوله: والرائش.

فصل: "في أمور تتعلق بالقضاء"

فصل: "في أمور تتعلق بالقضاء" وَلَيْسَ لِمَنْ تَقَلَّدَ الْقَضَاءَ أَنْ يَقْبَلَ هَدِيَّةً مِنْ خَصْمٍ وَلَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ عَمَلِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَصْمٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَعْدِيهِ فِيمَا يَلِيهِ1. رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "هَدَايَا الْأُمَرَاءِ غُلُولٌ"2. فَإِنْ قَبِلَهَا وَعَجَّلَ الْمُكَافَأَةَ عَلَيْهَا مَلَكَهَا، وَإِنْ لَمْ يُعَجِّلِ الْمُكَافَأَةَ عَلَيْهَا كَانَ بَيْتُ الْمَالِ أَحَقَّ بِهَا إنْ تَعَذَّرَ رَدُّهَا عَلَى الْمُهْدِي؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِهَا مِنْهُ، وَلَيْسَ لِلْقَاضِي تَأْخِيرُ الْخُصُومِ إذَا تَنَازَعُوا إلَيْهِ إلَّا مِنْ عُذْرٍ. وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُحْجَبَ إلَّا فِي أَوْقَاتِ الِاسْتِرَاحَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ لِأَحَدٍ مِنْ وَالِدَيْهِ وَلَا مِنْ أَوْلَادِهِ لِأَجْلِ التُّهْمَةِ وَيَحْكُمُ عَلَيْهِمْ لِارْتِفَاعِهَا، وَكَذَلِكَ لَا يَشْهَدُ لَهُمْ

_ 1 قال كعب الأحبار: قرأت فيما أنزل الله على أنبيائه: الهدية تفقأ عين الحكم بخلاف مفت فلا يحرم قبول الهدية. وتقدَّم في الباب قبله مفصلًا وهي -أي: الهدية- الدفع إليه ابتداء طلب، وظاهره أنه يحرم على القاضي قبوله الهدية، ولو كان القضي لعموم الخبر، إلا ممن كان يهدي إليه قبل ولايته إن لم يكن له -أي: المهدي- حكومة؛ لأن التهمة منتفية؛ لأن المنع إنما يكون من أجل الاستمالة، أو من أجل الحكومة، وكلاهما منتف. أو كانت الهدية من ذوي رحم محرم منه، أي من الحاكم؛ لأنه لا يصح أن يحكم له، هذا واضح في عمودي نسبه دون من عداهم من أقاربه، مع أنه يحتمل أن يهدي لئلَّا يحكم عليه. قال القاضي في الجامع الصغير: لا ينبغي أن يقبل هدية إلّا من صديق كان يلاطفه، أو ذي رحم محرم منه بعد أن لا يكون له خصم، وردها -أي: رد القاضي الهدية؛ حيث جاز له أخذها أولى؛ لأنه لا يأمن أن يكون لحكومة منتظرة، واستعارته -أي القاضي- من غيره كالهدية؛ لأنَّ المنافع كالأعيان، ومثله لو ختن القاضي ولده ونحوه فأهدي له، ولو قلنا: إنها للولد؛ لأن ذلك وسيلة إلى الرشوة. [كشف القناع: 6/ 317] . 2 رواه البيهقي في السنن الكبرى "10/ 138"، وأبو عوانة في مسنده "7073"، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد "4/ 200"، وقال: رواه البزار من رواية إسماعيل بن عياش عن الحجازيين وهي كمال. قال الحافظ ابن حجر: حديث "هدايا الأمراء غلول" البيهقي وابن عدي من حديث أبي حميد، وإسناده ضعيف، والطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة وإسناده أشد ضعفًا، وفيه عن جابر أخرجه سنيد بن داود في تفسيره عن عبدة بن سليمان عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جابر وإسماعيل ضعيف. [تلخيص الحبير:4/ 190] .

وَيَشْهَدُ عَلَيْهِمْ، وَيَشْهَدُ لِعَدُوِّهِ وَلَا يَشْهَدُ عَلَيْهِ. وَيَحْكُمُ لِعَدُوِّهِ وَلَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ أَسْبَابَ الْحُكْمِ ظَاهِرَةٌ وَأَسْبَابَ الشَّهَادَةِ خَافِيَةٌ، فَانْتَفَتْ التُّهْمَةُ عَنْهُ فِي الْحُكْمِ، وَتَوَجَّهَتْ إلَيْهِ فِي الشَّهَادَةِ، وَإِذَا مَاتَ الْقَاضِي انْعَزَلَ خُلَفَاؤُهُ، وَلَوْ مَاتَ الْإِمَامُ لَمْ تَنْعَزِلْ قُضَاتُهُ. وَلَوْ اتَّفَقَ أَهْلُ بَلَدٍ قَدْ خَلَا مِنْ قَاضٍ عَلَى أَنْ يُقَلِّدُوا عَلَيْهِمْ قَاضِيًا، فَإِنْ كَانَ إمَامُ الْوَقْتِ مَوْجُودًا بَطَلَ التَّقْلِيدُ، وَإِنْ كَانَ مَفْقُودًا صَحَّ التَّقْلِيدُ، وَنَفَذَتْ أَحْكَامُهُ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ تَجَدَّدَ بَعْدَ نَظَرِهِ إمَامٌ لَمْ يَسْتَدِمْ النَّظَرَ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَمْ يَنْقُضْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حُكْمِهِ.

الباب السابع: في ولاية المظالم

الباب السابع: في ولاية المظالم وَنَظَرُ الْمَظَالِمِ هُوَ قَوْدُ الْمُتَظَالِمَيْنِ إلَى التَّنَاصُفِ بِالرَّهْبَةِ، وَزَجْرُ الْمُتَنَازِعَيْنِ عَنِ التَّجَاحُدِ بِالْهَيْبَةِ، فَكَانَ مِنْ شُرُوطِ النَّاظِرِ فِيهَا أَنْ يَكُونَ جَلِيلَ الْقَدْرِ، نَافِذَ الْأَمْرِ، عَظِيمَ الْهَيْبَةِ، ظَاهِرَ الْعِفَّةِ، قَلِيلَ الطَّمَعِ، كَثِيرَ الْوَرَعِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي نَظَرِهِ إلَى سَطْوَةِ الْحُمَاةِ وَثَبْتِ الْقُضَاةِ، فَيَحْتَاجُ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ صِفَاتِ الْفَرِيقَيْنِ، وَأَنْ يَكُونَ بِجَلَالَةِ الْقَدْرِ نَافِذَ الْأَمْرِ فِي الْجِهَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَمْلِكُ الْأُمُورَ الْعَامَّةَ -كَالْوُزَرَاءِ وَالْأُمَرَاءِ- لَمْ يَحْتَجِ النَّظَرُ فِيهَا إلَى تَقْلِيدٍ، وَكَانَ لَهُ بِعُمُومِ وِلَايَتِهِ النَّظَرُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَمْ يُفَوَّضْ إلَيْهِ عُمُومُ النَّظَرِ احْتَاجَ إلَى تَقْلِيدٍ، وَتَوْلِيَةٍ إذَا اجْتَمَعَتْ فِيهِ الشُّرُوطُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ فِيمَنْ يَجُوزُ أَنْ يُخْتَارَ لِوِلَايَةِ الْعَهْدِ، أَوْ لِوِزَارَةِ التَّفْوِيضِ، أَوْ لِإِمَارَةِ الْأَقَالِيمِ إذَا كَانَ نَظَرُهُ فِي الْمَظَالِمِ عَامًّا، فَإِنْ اقْتَصَرَ بِهِ عَلَى تَنْفِيذِ مَا عَجَزَ الْقُضَاةُ عَنْ تَنْفِيذِهِ، وَإِمْضَاءِ مَا قَصُرَتْ يَدُهُمْ عَنْ إمْضَائِهِ، جَازَ أَنْ يَكُونَ دُونَ هَذِهِ الرُّتْبَةِ فِي الْقَدْرِ وَالْخَطَرِ بَعْدَ أَنْ لَا تَأْخُذَهُ فِي الْحَقِّ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَلَا يَسْتَشِفُّهُ الطَّمَعُ إلَى رِشْوَةٍ. فَقَدْ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَظَالِمَ فِي الشُّرْبِ الَّذِي تَنَازَعَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَحَضَرَهُ بِنَفْسِهِ، فَقَالَ لِلزُّبَيْرِ: "اسْقِ أَنْتَ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ الْأَنْصَارِيُّ"، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: إنَّهُ لَابْنُ عَمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَغَضِبَ مِنْ قَوْلِهِ وَقَالَ: "يَا زُبَيْرُ أَجْرِهِ عَلَى بَطْنِهِ حَتَّى يَبْلُغَ الْمَاءُ إلَى الْكَعْبَيْنِ" 1. وَإِنَّمَا قَالَ: أَجْرِهِ عَلَى بَطْنِهِ أَدَبًا لَهُ لِجُرْأَتِهِ عَلَيْهِ، وَاخْتُلِفَ لِمَ أَمَرَهُ بِإِجْرَاءِ الْمَاءِ إلَى الْكَعْبَيْنِ، هَلْ كَانَ حَقًّا بَيَّنَهُ لَهُمَا حُكْمًا، أَوْ كَانَ مُبَاحًا، فَأَمَرَهُ بِهِ زَجْرًا عَلَى جَوَابَيْنِ، وَلَمْ يُنْتَدَب لِلْمَظَالِمِ مِنَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ أَحَدٌ؛ لِأَنَّهُمْ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مَعَ ظُهُورِ الدِّينِ عَلَيْهِمْ بَيْنَ مَنْ يَقُودُهُ التَّنَاصُفُ إلَى الْحَقِّ، أَوْ يَزْجُرُهُ الْوَعْظُ عَنِ الظُّلْمِ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْمُنَازَعَاتُ تَجْرِي بَيْنَهُمْ فِي أُمُورٍ مُشْتَبِهَةٍ يُوَضِّحُهَا حُكْمُ الْقَضَاءِ، فَإِنْ تَجَوَّرَ مِنْ جُفَاةِ أَعْرَابِهِمْ مُتَجَوِّرٌ ثَنَاهُ الْوَعْظُ أَنْ يُدْبِرَ،

_ 1 رواه البخاري في كتاب المساقاة "2360"، ومسلم في كتاب الفضائل "2357".

وَقَادَهُ الْعُنْفُ أَنْ يُحْسِنَ، فَاقْتَصَرَ خُلَفَاءُ السَّلَفِ عَلَى فَصْلِ التَّشَاجُرِ بَيْنَهُمْ بِالْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ تَعْيِينًا لِلْحَقِّ فِي جِهَتِهِ؛ لِانْقِيَادِهِمْ إلَى الْتِزَامِهِ، وَاحْتَاجَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- حِينَ تَأَخَّرَتْ إمَامَتُهُ وَاخْتَلَطَ النَّاسُ فِيهَا، وَتَجَوَّزوا إلَى فَصْلِ صَرَامَةٍ فِي السِّيَاسَةِ، وَزِيَادَةِ تَيَقُّظٍ فِي الْوُصُولِ إلَى غَوَامِضِ الْأَحْكَامِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَلَكَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ وَاسْتَقَلَّ بِهَا، وَلَمْ يَخْرُجْ فِيهَا إلَى نَظَرِ الْمَظَالِمِ الْمَحْضِ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ. وَقَالَ فِي الْمِنْبَرِيَّةِ1: صَارَ ثَمَنُهَا تِسْعًا، وَقَضَى فِي الْقَارِصَةِ وَالْقَامِصَةِ وَالْوَاقِصَةِ بِالدِّيَةِ أَثْلَاثًا2. وَقَضَى فِي وَلَدٍ تَنَازَعَتْهُ امْرَأَتَانِ بِمَا أَدَّى إلَى فَصْلِ الْقَضَاءِ، ثُمَّ انْتَشَرَ الْأَمْرُ بَعْدَهُ حَتَّى تَجَاهَرَ النَّاسُ بِالظُّلْمِ وَالتَّغَالُبِ، وَلَمْ يَكْفِهِمْ زَوَاجِرُ الْعِظَةِ عَنِ التَّمَانُعِ وَالتَّجَاذُبِ، فَاحْتَاجُوا فِي رَدْعِ الْمُتَغَلِّبِينَ وَإِنْصَافِ الْمَغْلُوبِينَ إلَى نَظَرِ الْمَظَالِمِ الَّذِي يَمْتَزِجُ بِهِ قُوَّةُ السَّلْطَنَةِ بِنِصْفِ الْقَضَاءِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ أَفْرَدَ لِلظُّلَامَاتِ يَوْمًا يَتَصَفَّحُ فِيهِ قَصَصَ الْمُتَظَلِّمِينَ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ لِلنَّظَرِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، فَكَانَ إذَا وَقَفَ مِنْهَا عَلَى مُشْكِلٍ، أَوْ احْتَاجَ فِيهَا إلَى حُكْمٍ مُنَفَّذٍ رَدَّهُ إلَى قَاضِيهِ أَبِي إدْرِيسَ الْأَوْدِيِّ، فَنَفَّذَ فِيهِ أَحْكَامَهُ لِرَهْبَةِ التَّجَارِبِ مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فِي عِلْمِهِ بِالْحَالِ، وَوُقُوفِهِ عَلَى السَّبَبِ، فَكَانَ أَبُو إدْرِيسَ هُوَ الْمُبَاشِرُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ هُوَ الْآمِرُ. ثُمَّ زَادَ مِنْ جَوْرِ الْوُلَاةِ وَظُلْمِ الْعُتَاةِ مَا لَمْ يَكْفِهِمْ عَنْهُ إلَّا أَقْوَى الْأَيْدِي وَأَنْفَذُ الْأَوَامِرِ، فَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- أَوَّلَ مَنْ نَدَبَ نَفْسَهُ لِلنَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ، فَرَدَّهَا وَرَاعَى السُّنَنَ الْعَادِلَةَ وَأَعَادَهَا، وَرَدَّ مَظَالِمَ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى أَهْلِهَا، حَتَّى قِيلَ لَهُ -وَقَدْ شَدَّدَ عَلَيْهِمْ فِيهَا وَأَغْلَظَ: إنَّا نَخَافُ عَلَيْكَ مِنْ رَدِّهَا الْعَوَاقِبَ، فَقَالَ: كُلُّ يَوْمٍ أَتَّقِيهِ وَأَخَافُهُ دُونَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا وُقِيتُهُ. ثُمَّ جَلَسَ لَهَا مِنْ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ جَمَاعَةٌ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ جَلَسَ لَهَا الْمَهْدِيُّ، ثُمَّ الْهَادِي،

_ 1 يعني: المسألة المنبرية، وتسمَّى المنبرية، وذلك أنَّ علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- سُئِلَ عن ميراث الزوجة من هذه المسألة وهو يخطب على المنبر، فقال: عاد ثمنها تسعًا، ومضى في خطبته. 2 رواه البيهقي في السنن الكبرى "8/ 112"، وقال: قال ابن أبي زائدة: وتفسيره أن ثلاث جوار كنَّ يلعبن، فركبت إحداهن صاحبتها فقرصت الثالثة المركوبة فقمصت، فسقطت الراكبة فوقصت عنقها، فجعل علي -رضي الله عنه- على القارصة ثلث الدية، وعلى القامصة الثلث، وأسقط الثلث، يقول: لأنه حصة الراكبة؛ لأنها أعانت على نفسها. وانظر: تأويل مختلف الحديث [ص 161] .

ثُمَّ الرَّشِيدُ، ثُمَّ الْمَأْمُونُ، فَآخِرُ مَنْ جَلَسَ لَهَا الْمُهْتَدِي حَتَّى عَادَتِ الْأَمْلَاكُ إلَى مُسْتَحِقِّيهَا. وَقَدْ كَانَ مُلُوكُ الْفُرْسِ يَرَوْنَ ذَلِكَ مِنْ قَوَاعِدِ الْمُلْكِ وَقَوَانِينِ الْعَدْلِ الَّذِي لَا يَعُمُّ الصَّلَاحُ إلَّا بِمُرَاعَاتِهِ، وَلَا يَتِمُّ التَّنَاصُفُ إلَّا بِمُبَاشَرَتِهِ. وَكَانَتْ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ حِينَ كَثُرَ فِيهِمُ الزُّعَمَاءُ، وَانْتَشَرَتْ فِيهِمُ الرِّيَاسَةُ، وَشَاهَدُوا مِنَ التَّغَالُبِ وَالتَّجَاذُبِ مَا لَمْ يَكْفِهِمْ عَنْهُ سُلْطَانٌ قَاهِرٌ، عَقَدُوا حِلْفًا عَلَى رَدِّ الْمَظَالِمِ وَإِنْصَافِ الْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ، وَكَانَ سَبَبُهُ مَا حَكَاهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَمَنِ مِنْ بَنِي زُبَيْدٍ قَدِمَ مَكَّةَ مُعْتَمِرًا بِبِضَاعَةٍ، فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ، وَقِيلَ: إنَّهُ الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ، فَلَوَى الرَّجُلُ بِحَقِّهِ، فَسَأَلَهُ مَالَهُ أَوْ مَتَاعَهُ فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ، فَقَامَ عَلَى الْحَجَرِ وَأَنْشَدَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ "مِنْ الْبَسِيطِ": يال قُصَيٍّ لِمَظْلُومٍ بِضَاعَتُهُ ... بِبَطْنِ مَكَّةَ نَائِيَ الدَّارِ وَالنَّفَرِ وَأَشْعَثٍ مُحْرِمٍ لَمْ تُقْضَ حُرْمَتُهُ ... بَيْنَ الْمَقَامِ وَبَيْنَ الْحِجْرِ وَالْحَجَرِ أَقَائِمٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ بِذِمَّتِهِمْ ... أَوْ ذَاهِبٌ فِي ضَلَالٍ مَالُ مُعْتَمِرِ ثُمَّ قَيْسُ بْنُ شَيْبَةَ السُّلَمِيُّ بَاعَ مَتَاعًا عَلَى أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ فَلَوَاهُ وَذَهَبَ بِحَقِّهِ، فَاسْتَجَارَ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي جُمَحٍ فَلَمْ يُجِرْهُ، فَقَالَ قَيْسٌ مِنَ الرَّجَزِ: يال قُصَيٍّ كَيْفَ هَذَا فِي الْحَرَمْ ... وَحُرْمَةِ الْبَيْتِ وَأَحْلَافِ الْكَرَمْ أُظْلَمُ لَا يُمْنَعُ عَنِّي مَنْ ظَلَمْ فَأَجَابَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ1 "مِنْ الْبَسِيطِ": إنْ كَانَ جَارُكَ لَمْ تَنْفَعْكَ ذِمَّتُهُ ... وَقَدْ شَرِبْتَ بِكَأْسِ الذُّلِّ أَنْفَاسَا فَأْتِ الْبُيُوتَ وَكُنْ مِنْ أَهْلِهَا صَدَدًا ... لَا تَلْقَ تَأْدِيبَهُمْ فُحْشًا وَلَا بَاسَا

_ 1 هو العباس بن مرداس بن أبي عامر بن جارية بن عبد بن عباس، أبو الفضل السلمي، وقيل: أبو الهيثم، أسلم قبل فتح مكة بيسير، وكان أبوه مرداس شريكًا ومصافيًا لحرب بن أمية، وقتلهما جميعًا الجن، وخبرهما مشهور عند الأخباريين، وكان العباس بن مرداس ممن حرَّم الخمر على نفسه في الجاهلية وأبو بكر أيضًا وعثمان بن عفان وعثمان بن مظعون وعبد الرحمن بن عوف وقيس بن عاصم، وحرَّمها قبل هؤلاء عبد المطلب بن هاشم وعبد الله بن جدعان وشيبة بن ربيعة وورقة بن نوفل، وغيرهم.

وَمَنْ يَكُنْ بِفِنَاءِ الْبَيْتِ مُعْتَصِمًا ... يَلْقَ ابْنَ حَرْبٍ وَيَلْقَ الْمَرْءَ عَبَّاسَا قَوْمِي قُرَيْشٌ بِأَخْلَاقٍ مُكَمَّلَةٍ ... بِالْمَجْدِ وَالْحَزْمِ مَا عَاشَا وَمَا سَاسَا سَاقُ الْحَجِيجِ وَهَذَا نَاشِرٌ فَلِجٌ ... وَالْمَجْدُ يُورَثُ أَخْمَاسًا وَأَسْدَاسَا فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَرَدَّا عَلَيْهِ مَالَهُ، وَاجْتَمَعَتْ بُطُونُ قُرَيْشٍ فَتَحَالَفُوا فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ عَلَى رَدِّ الْمَظَالِمِ بِمَكَّةَ، وَأَنْ لَا يَظْلِمَ أَحَدٌ إلَّا مَنَعُوهُ وَأَخَذُوا لِلْمَظْلُومِ حَقَّهُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَئِذٍ مَعَهُمْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَعَقَدُوا حِلْفَ الْفُضُولِ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاكِرًا لِلْحَالِ: "لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفَ الْفُضُولِ مَا لَوْ دُعِيتُ إلَيْهِ لَأَجَبْتُ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ". وَإِنِّي بِقِصَّتِهِ وَمَا يَزِيدُهُ الْإِسْلَامُ إلَّا شِدَّةً، فَقَالَ بَعْضُ قُرَيْشٍ فِي هَذَا الْحِلْفِ "مِنَ الْبَسِيطِ": تَيْمُ بْنُ ُرَّةَ إنْ سَأَلْتَ وَهَاشِمًا ... وَزُهْرَةُ الْخَيْرِ فِي دَارِ ابْنِ جُدْعَانِ مُتَحَالِفِينَ عَلَى النَّدَى مَا غَرَّدَتْ ... وَرْقَاءُ فِي فَنَنٍ مِنْ جِذْعِ كِتْمَانِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِعْلًا جَاهِلِيًّا دَعَتْهُمْ إلَيْهِ السِّيَاسَةُ، فَقَدْ صَارَ بِحُضُورِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهُ، وَمَا قَالَهُ فِي تَأْكِيدِ أَمْرِهِ حُكْمًا شَرْعِيًّا وَفِعْلًا نَبَوِيًّا.

فصل: فَإِذَا نَظَرَ فِي الْمَظَالِمِ مَنِ اُنْتُدِبَ لَهَا، جُعِلَ لِنَظَرِهِ يَوْمًا مَعْرُوفًا يَقْصِدُهُ فِيهِ الْمُتَظَلِّمُونَ، وَيُرَاجِعُهُ فِيهِ الْمُتَنَازِعُونَ؛ لِيَكُونَ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَيَّامِ لِمَا هُوَ مَوْكُولٌ إلَيْهِ مِنَ السِّيَاسَةِ وَالتَّدْبِيرِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ عُمَّالِ الْمَظَالِمِ الْمُنْفَرِدِينَ لَهَا، فَيَكُونُ مَنْدُوبًا لِلنَّظَرِ فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ، وَلْيَكُنْ سَهْلَ الْحِجَابِ نَزِهَ الْأَصْحَابِ، وَيُسْتَكْمَلُ مَجْلِسُ نَظَرِهِ بِحُضُورِ خَمْسَةِ أَصْنَافٍ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُمْ وَلَا يَنْتَظِمُ نَظَرُهُ إلَّا بِهِمْ: أَحَدُهُمْ: الْحُمَاةُ وَالْأَعْوَانُ لِجَذْبِ الْقَوِيِّ وَتَقْوِيمِ الْجَرِيءِ. وَالصِّنْفُ الثَّانِي: الْقُضَاةُ وَالْحُكَّامُ؛ لِاسْتِعْلَامِ مَا يَثْبُتُ عِنْدَهُمْ مِنَ الْحُقُوقِ، وَمَعْرِفَةِ مَا يَجْرِي فِي مَجَالِسِهِمْ بَيْنَ الْخُصُومِ. وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ: الْفُقَهَاءُ؛ لِيَرْجِعَ إلَيْهِمْ فِيمَا أَشْكَلَ، وَيَسْأَلَهُمْ عَمَّا اشْتَبَهَ وَأَعْضَلَ. وَالصِّنْفُ الرَّابِعُ: الْكُتَّابُ؛ لِيُثْبِتُوا مَا جَرَى بَيْنَ الْخُصُومِ، وَمَا تَوَجَّبَ لَهُمْ أَوْ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحُقُوقِ. وَالصِّنْفُ الْخَامِسُ: الشُّهُودُ لِيُشْهِدَهُمْ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ مِنْ حَقٍّ وَأَمْضَاهُ مِنْ حُكْمٍ، فَإِذَا اسْتَكْمَلَ مَجْلِسَ الْمَظَالِمِ بِمَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الْأَصْنَافِ الْخَمْسَةِ شَرَعَ حِينَئِذٍ فِي نَظَرِهَا. وَاَلَّذِي يَخْتَصُّ بِنَظَرِ الْمَظَالِمِ يَشْتَمِلُ عَلَى عَشَرَةِ أَقْسَامٍ: فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: النَّظَرُ فِي تَعَدِّي الْوُلَاةِ عَلَى الرَّعِيَّةِ، وَأَخْذِهِمْ بِالْعَسْفِ فِي السِّيرَةِ، فَهَذَا مِنْ لَوَازِمِ النَّظَرِ فِي الْمَظَالِمِ الَّذِي لَا يَقِفُ عَلَى ظُلَامَةِ مُتَظَلِّمٍ؛ فَيَكُونُ لِسِيرَةِ الْوُلَاةِ مُتَصَفِّحًا عَنْ أَحْوَالِهِمْ، مُسْتَكْشِفًا لِيُقَوِّيَهُمْ إنْ أَنْصَفُوا، وَيَكُفَّهُمْ إنْ عَسَفُوا، وَيَسْتَبْدِلَ بِهِمْ إنْ لَمْ يُنْصِفُوا. حُكِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ خَطَبَ عَلَى النَّاسِ فِي أَوَّلِ خِلَافَتِهِ، وَكَانَتْ مِنْ أَوَّلِ خُطْبَةٍ فَقَالَ لَهُمْ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ غَيْرَهَا، وَلَا يُرَحِّبُ إلَّا أَهْلَهَا، وَقَدْ كَانَ قَوْمٌ مِنَ الْوُلَاةِ مَنَعُوا الْحَقَّ حَتَّى اشْتَرَى مِنْهُمْ شِرَاءً، وَبَذَلُوا الْبَاطِلَ حَتَّى افْتَدَى مِنْهُمْ فِدَاءً، وَاَللَّهِ لَوْلَا سُنَّةٌ مِنَ الْحَقِّ أُمِيتَتْ فَأَحْيَيْتُهَا، وَسُنَّةٌ مِنَ الْبَاطِلِ أُحْيِيَتْ فَأَمَتُّهَا، مَا بَالَيْتُ أَنْ أَعِيشَ وَقْتًا وَاحِدًا.

أَصْلِحُوا آخِرَتَكُمْ تَصْلُحْ لَكُمْ دُنْيَاكُمْ، إنَّ امْرَأً لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آدَمَ إلَّا الْمَوْتُ لَمُعْرِقٌ لَهُ فِي الْمَوْتِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: جَوْرُ الْعُمَّالِ فِيمَا يَجِبُونَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَيَرْجِعُ فِيهِ إلَى الْقَوَانِينِ الْعَاذِلَةِ فِي دَوَاوِينِ الْأَئِمَّةِ، فَيَحْمِلُ النَّاسَ عَلَيْهَا وَيَأْخُذُ الْعُمَّالَ بِهَا، وَيَنْظُرُ فِيمَا اسْتَزَادُوهُ، فَإِنْ رَفَعُوهُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ أَمَرَ بِرَدِّهِ، وَإِنْ أَخَذُوهُ لِأَنْفُسِهِمُ اسْتَرْجَعَهُ لِأَرْبَابِهِ. "فَقَدْ حُكِيَ" عَنْ الْمُهْتَدِي -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ جَلَسَ يَوْمًا لِلْمَظَالِمِ، فَرُفِعَتْ إلَيْهِ قَصَصٌ فِي الْكُسُورِ فَسَأَلَ عَنْهَا، فَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ وَهْبٍ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَسَّطَ الْخَرَاجَ عَلَى أَهْلِ السَّوَادِ، وَمَا فُتِحَ مِنْ نَوَاحِي الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَرَقًا وَعَيْنًا، وَكَانَتْ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ مَضْرُوبَةً عَلَى وَزْنِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَكَانَ أَهْلُ الْبُلْدَانِ يُؤَدُّونَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الْمَالِ عَدَدًا، وَلَا يَنْظُرُونَ فِي فَضْلِ بَعْضِ الْأَوْزَانِ عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ فَسَدَ النَّاسُ، فَصَارَ أَرْبَابُ الْخَرَاجِ يُؤَدُّونَ الطَّبَرِيَّةَ الَّتِي هِيَ أَرْبَعَةُ دَوَانِقَ، وَتَمَسَّكُوا بِالْوَافِي الَّذِي وَزْنُهُ وَزْنُ الْمِثْقَالِ، فَلَمَّا وَلِيَ زِيَادٌ الْعِرَاقَ طَالَبَ بِأَدَاءِ الْوَافِي، وَأَلْزَمَهُمْ الْكُسُورَ، وَجَارَ فِيهِ عُمَّالُ بَنِي أُمَيَّةَ، إلَى أَنْ وَلِيَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، فَنَظَرَ بَيْنَ الْوَزْنَيْنِ، وَقَدَّرَ وَزْنَ الدَّرَاهِمِ عَلَى نِصْفِ وَخُمُسِ الْمِثْقَالِ، وَتَرَكَ الْمِثْقَالَ عَلَى حَالِهِ، ثُمَّ إنَّ الْحَجَّاجَ مِنْ بَعْدِهِ أَعَادَ الْمُطَالَبَةَ بِالْكُسُورِ حَتَّى أَسْقَطَهَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَعَادَهَا مِنْ بَعْدِهِ إلَى أَيَّامِ الْمَنْصُورِ إلَى أَنْ خَرِبَ السَّوَادُ، فَأَزَالَ الْمَنْصُورُ الْخَرَاجَ عَنِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَرِقًا، وَصَيَّرَهُ مُقَاسَمَةً، وَهُمَا أَكْثَرُ غَلَّاتِ السَّوَادِ، وَأَبْقَى الْيَسِيرَ مِنَ الْحُبُوبِ وَالنَّخْلِ وَالشَّجَرِ عَلَى رَسْمِ الْخَرَاجِ، وَهُوَ كَمَا يُلْزَمُونَ الْآنَ الْكُسُورَ وَالْمُؤَنَ، فَقَالَ الْمُهْتَدِي: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ أُلْزِمَ النَّاسَ ظُلْمًا تَقَدَّمَ الْعَمَلُ بِهِ أَوْ تَأَخَّرَ، أَسْقِطُوهُ عَنِ النَّاسِ، فَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ مَخْلَدٍ1: إنْ أَسْقَطَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا ذَهَبَ مِنْ أَمْوَالِ السُّلْطَانِ فِي السَّنَةِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ الْمُهْتَدِي: عَلَيَّ أَنْ أُقَرِّرَ حَقًّا وَأُزِيلَ ظُلْمًا، وَإِنْ أَجْحَفَ بَيْتُ الْمَالِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: كُتَّابُ الدَّوَاوِينِ؛ لِأَنَّهُمْ أُمَنَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ثُبُوتِ أَمْوَالِهِمْ فِيمَا

_ 1 هو الحسن بن مخلد بن الجراح، أبو محمد الكاتب، وكان الحسن عظيم الجسم، مهيب المنظر، قوي الحجة، شديد العارضة، لا يقدم في وقته أحد عليه، ولا يقاس به، وكان يقال: "ما لا يعلمه الحسن بن مخلد من الخراج فليس في الدنيا"، وكان جوادًا ممدحًا، ومدحه البحتري، وغيره.

يَسْتَوْفُونَهُ لَهُ وَيُوفُونَهُ مِنْهُ أَعَادَهُ؛ فَيَتَصَفَّحُ أَحْوَالَ مَا وُكِلَ إلَيْهِمْ، فَإِنْ عَدَلُوا بِحَقِّ مَنْ دَخَلَ أَوْ خَرَجَ إلَى زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ إلَى قَوَانِينِهِ، وَقَابَلَ عَلَى تَجَاوُزِهِ. حُكِيَ أَنَّ الْمَنْصُورَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بَلَغَهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ كُتَّابِ دَوَاوِينِهِ زَوَّرُوا فِيهِ وَغَيَّرُوا، فَأَمَرَ بِإِحْضَارِهِمْ وَتَقَدَّمَ تَأْدِيبُهُمْ، فَقَالَ: حَدَثَ مِنْهُمْ وَهُوَ يَضْرِبُ، "مِنْ الْوَافِر": أَطَالَ اللَّهُ عُمُرَكَ فِي صَلَاحٍ ... وَعِزٍّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَا بِعَفْوِكَ نَسْتَجِيرُ فَإِنْ تُجِزْنَا ... فَإِنَّكَ عِصْمَةٌ لِلْعَالَمِينَا وَنَحْنُ الْكَاتِبُونَ وَقَدْ أَسَأْنَا ... فَهَبْنَا لِلْكِرَامِ الْكَاتِبِينَا فَأَمَرَ بِتَخْلِيَتِهِمْ، وَوَصَلَ الْفَتَى وَأَحْسَنَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَتْ مِنْهُ الْأَمَانَةُ وَبَانَتْ فِيهِ النَّجَابَةُ؛ وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ لَا يَحْتَاجُ وَالِي الْمَظَالِمِ تَصَفُّحَهَا إلَى مُتَظَلِّمٍ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: تَظَلُّمُ الْمُسْتَرْزِقَةِ مِنْ نَقْصِ أَرْزَاقِهِمْ أَوْ تَأَخُّرِهَا عَنْهُمْ، وَإِجْحَافِ النَّظَرِ بِهِمْ، فَيَرْجِعُ إلَى دِيوَانِهِ فِي فَرْضِ الْعَطَاءِ الْعَادِلِ فَيُجْرِيهِمْ عَلَيْهِ، وَيَنْظُرُ فِيمَا نَقَصُوهُ أَوْ مَنَعُوهُ مِنْ قَبْلُ، فَإِنْ أَخَذَهُ وُلَاةُ أُمُورِهِمْ اسْتَرْجَعَهُ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذُوهُ قَضَاهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. كَتَبَ بَعْضُ وُلَاةِ الْأَجْنَادِ إلَى الْمَأْمُونِ أَنَّ الْجُنْدَ شَعَّبُوا وَنَهَبُوا، فَكَتَبَ إلَيْهِ: لَوْ عَدَلْتَ لَمْ يُشَعِّبُوا، وَلَوْ وَفَّيْتَ لَمْ يَنْهَبُوا، وَعَزَلَهُ عَنْهُمْ وَأَدَرَّ عَلَيْهِمْ أَرْزَاقَهُمْ. وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: رَدُّ الْغُصُوبِ، وَهِيَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: غُصُوبٌ سُلْطَانِيَّةٌ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا وُلَاةُ الْجَوْرِ؛ كَالْأَمْلَاكِ الْمَقْبُوضَةِ عَنْ أَرْبَابِهَا، إمَّا لِرَغْبَةٍ فِيهَا، وَإِمَّا لِتَعَدٍّ عَلَى أَهْلِهَا، فَهَذَا إنْ عَلِمَ بِهِ وَالِي الْمَظَالِمِ عِنْدَ تَصَفُّحِ الْأُمُورِ أَمَرَ بِرَدِّهِ قَبْلَ التَّظَلُّمِ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى تَظَلُّمِ أَرْبَابِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ عِنْدَ تَظَلُّمِهِمْ إلَى دِيوَانِ السَّلْطَنَةِ، فَإِذَا وَجَدَ فِيهِ ذِكْرَ قَبْضِهَا عَلَى مَالِكِهَا عَمِلَ عَلَيْهِ وَأَمَرَ بِرَدِّهَا إلَيْهِ، وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِهِ، وَكَانَ مَا وَجَدَهُ فِي الدِّيوَانِ كَافِيًا. كَمَا حُكِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ إلَى الصَّلَاةِ، فَصَادَفَهُ رَجُلٌ وَرَدَ مِنَ الْيَمَنِ مُتَظَلِّمًا فَقَالَ -مِنَ الْبَسِيطِ: تَدْعُونَ حَيْرَانَ مَظْلُومًا بِبَابِكُمْ ... فَقَدْ أَتَاكَ بَعِيدُ الدَّارِ مَظْلُومُ

فَقَالَ: مَا ظُلَامَتُكَ؟ فَقَالَ: غَصَبَنِي الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ ضَيْعَتِي، فَقَالَ: يَا مُرَاجِمُ ائْتِنِي بِدَفْتَرِ الصَّوَافِي، فَوَجَدَ فِيهِ: أَصْفَى عَبْدُ اللَّهِ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ ضَيْعَةَ فُلَانٍ، فَقَالَ: أَخْرِجْهَا مِنَ الدَّفْتَرِ، وَلْيَكْتُبْ بِرَدِّ ضَيْعَتِهِ إلَيْهِ، وَيُطْلِقْ لَهُ ضِعْفَ نَفَقَتِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مِنَ الْغُصُوبِ مَا تَغَلَّبَ عَلَيْهَا ذَوُو الْأَيْدِي الْقَوِيَّةِ، وَتَصَرَّفُوا فِيهِ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، فَهَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى تَظَلُّمِ أَرْبَابِهِ، وَلَا يُنْتَزَعُ مِنْ يَدِ غَاصِبِهِ إلَّا بِأَحَدِ أَرْبَعَةِ أُمُورٍ، إمَّا بِاعْتِرَافِ الْغَاصِبِ وَإِقْرَارِهِ، إمَّا بِعِلْمِ وَالِي الْمَظَالِمِ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ لِعِلْمِهِ، وَإِمَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَى الْغَاصِبِ بِغَصْبِهِ، أَوْ تَشْهَدُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِمِلْكِهِ، وَإِمَّا بِتَظَاهُرِ الْأَخْبَارِ الَّذِي يَنْفِي عَنْهَا التَّوَاطُؤَ، وَلَا يَخْتَلِجُ فِيهَا الشُّكُوكُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلشُّهُودِ أَنْ يَشْهَدُوا فِي الْأَمْلَاكِ بِتَظَاهُرِ الْأَخْبَارِ، كَانَ حُكْمُ وُلَاةِ الْمَظَالِمِ بِذَلِكَ أَحَقَّ. وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: مُشَارَفَةُ الْوُقُوفِ وَهِيَ ضَرْبَانِ: عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ، فَأَمَّا الْعَامَّةُ فَيَبْدَأُ بِتَصَفُّحِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُتَظَلِّمٌ لِيُجْرِيَهَا عَلَى سَبِيلِهَا، وَيُمْضِيَهَا عَلَى شُرُوطِ وَاقِفِهَا إذَا عَرَفَهَا مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إمَّا مِنْ دَوَاوِينِ الْحُكَّامِ الْمَنْدُوبِينَ لِحِرَاسَةِ الْأَحْكَامِ، وَإِمَّا مِنْ دَوَاوِينِ السَّلْطَنَةِ عَلَى مَا جَرَى فِيهَا مِنْ مُعَامَلَةٍ أَوْ ثَبَتَ لَهَا مِنْ ذِكْرٍ وَتَسْمِيَةٍ، وَإِمَّا مِنْ كُتُبٍ فِيهَا قَدِيمَةٍ تَقَعُ فِي النَّفْسِ صِحَّتُهَا وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ الشُّهُودُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَتَعَيَّنُ الْخَصْمُ فِيهَا، فَكَانَ الْحُكْمُ أَوْسَعَ مِنْهُ فِي الْوُقُوفِ الْخَاصَّةِ. وَأَمَّا الْوُقُوفُ الْخَاصَّةُ فَإِنَّ نَظَرَهُ فِيهَا مَوْقُوفٌ عَلَى تَظَلُّمِ أَهْلِهَا عِنْدَ التَّنَازُعِ فِيهَا؛ لِوَقْفِهَا عَلَى خُصُومٍ مُتَعَيِّنِينَ، فَيَعْمَلُ عِنْدَ التَّشَاجُرِ فِيهَا عَلَى مَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُقُوقُ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى دِيوَانِ السَّلْطَنَةِ، وَلَا إلَى مَا يَثْبُتُ مِنْ ذِكْرِهَا فِي الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ إذَا لَمْ يَشْهَدْ بِهَا شُهُودٌ مُعَدَّلُونَ. وَالْقِسْمُ السَّابِعُ: تَنْفِيذُ مَا وَقَفَ الْقُضَاةُ مِنْ أَحْكَامِهَا لِضَعْفِهِمْ عَنْ إنْفَاذِهَا، وَعَجْزِهِمْ عَنِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ؛ لِتَعَزُّزِهِ وَقُوَّةِ يَدِهِ، أَوْ لِعُلُوِّ قَدْرِهِ وَعِظَمِ خَطَرِهِ، فَيَكُونُ نَاظِرُ الْمَظَالِمِ أَقْوَى يَدًا وَأَنْفَذَ أَمْرًا، فَيُنَفِّذُ الْحُكْمَ عَلَى مَنْ تَوَجَّهَ إلَيْهِ بِانْتِزَاعِ مَا فِي يَدِهِ، أَوْ بِإِلْزَامِهِ الْخُرُوجَ مِمَّا فِي ذِمَّتِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّامِنُ: النَّظَرُ فِيمَا عَجَزَ عَنْهُ النَّاظِرُونَ مِنَ الْحِسْبَةِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، كَالْمُجَاهَرَةِ بِمُنْكَرٍ ضَعُفَ عَنْ دَفْعِهِ، وَالتَّعَدِّي فِي طَرِيقٍ عَجَزَ عَنْ مَنْعِهِ، وَالتَّحَيُّفِ فِي حَقٍّ لَمْ

يَقْدِرْ عَلَى رَدِّهِ، فَيَأْخُذُهُمْ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِهِ، وَيَأْمُرُ بِحَمْلِهِمْ عَلَى مُوجَبِهِ. وَالْقِسْمُ التَّاسِعُ: مُرَاعَاةُ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ؛ كَالْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ مِنْ تَقْصِيرٍ فِيهَا وَإِخْلَالٍ بِشُرُوطِهَا، فَإِنَّ حُقُوقَ اللَّهِ أَوْلَى أَنْ تُسْتَوْفَى، وَفُرُوضَهُ أَحَقُّ أَنْ تُؤَدَّى. وَالْقِسْمُ الْعَاشِرُ: النَّظَرُ بَيْنَ الْمُتَشَاجِرِينَ وَالْحُكْمُ بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ، فَلَا يَخْرُجُ فِي النَّظَرِ بَيْنَهُمْ عَنْ مُوجَبِ الْحَقِّ وَمُقْتَضَاهُ، وَلَا يَسُوغُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إلَّا بِمَا يَحْكُمُ بِهِ الْحُكَّامُ وَالْقُضَاةُ، وَرُبَّمَا اشْتَبَهَ حُكْمُ الْمَظَالِمِ عَلَى النَّاظِرِينَ فِيهَا، فَيَجُورُونَ فِي أَحْكَامِهَا، وَيَخْرُجُونَ إلَى الْحَدِّ الَّذِي لَا يَسُوغُ فِيهَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ نَظَرِ الْمَظَالِمِ وَنَظَرِ الْقُضَاةِ مِنْ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ لِنَاظِرِ الْمَظَالِمِ مِنْ فَضْلِ الْهَيْبَةِ وَقُوَّةِ الْيَدِ مَا لَيْسَ لِلْقُضَاةِ فِي كَفِّ الْخُصُومِ عَنِ التَّجَاحُدِ، وَمَنْعِ الظَّلَمَةِ مِنَ التَّغَالُبِ وَالتَّجَاذُبِ. وَالثَّانِي: أَنَّ نَظَرَ الْمَظَالِمِ يَخْرُجُ مِنْ ضِيقِ الْوُجُوبِ إلَى سِعَةِ الْجَوَازِ، فَيَكُونُ النَّاظِرُ فِيهِ أَفْسَحَ مَجَالًا وَأَوْسَعَ مَقَالًا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَسْتَعْمِلُ مِنْ فَضْلِ الْإِرْهَابِ وَكَشْفِ الْأَسْبَابِ بِالْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ وَشَوَاهِدِ الْأَحْوَالِ اللَّائِحَةِ مَا يُضَيِّقُ عَلَى الْحُكَّامِ، فَيَصِلُ بِهِ إلَى ظُهُورِ الْحَقِّ وَمَعْرِفَةِ الْمُبْطِلِ مِنَ الْمُحِقِّ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يُقَابِلَ مَنْ ظَهَرَ ظُلْمُهُ بِالتَّأْدِيبِ، وَيَأْخُذَ مَنْ بَانَ عِدْوَانُهُ بِالتَّقْوِيمِ وَالتَّهْذِيبِ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ لَهُ مِنَ التَّأَنِّي فِي تَرْدَادِ الْخُصُومِ عِنْدَ اشْتِبَاهِ أُمُورِهِمْ وَاسْتِبْهَامِ حُقُوقِهِمْ؛ لِيُمْعِنَ فِي الْكَشْفِ عَنْ أَسْبَابِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ مَا لَيْسَ لِلْحُكَّامِ إذَا سَأَلَهُمْ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ فَصْلَ الْحُكْمِ، فَلَا يَسُوغُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ الْحَاكِمُ وَيَسُوغُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ وَالِي الْمَظَالِمِ. وَالسَّادِسُ: أَنَّ لَهُ رَدَّ الْخُصُومِ إذَا أَعَضَلُوا وَسَاطَةَ الْأُمَنَاءِ؛ لِيَفْصِلُوا التَّنَازُعَ بَيْنَهُمْ صُلْحًا عَنْ تَرَاضٍ، وَلَيْسَ لِلْقَاضِي ذَلِكَ إلَّا عَنْ رِضَا الْخَصْمَيْنِ بِالرَّدِّ. وَالسَّابِعُ: أَنْ يُفْسِحَ فِي مُلَازَمَةِ الْخَصْمَيْنِ إذَا وَضَحَتْ أَمَارَاتُ التَّجَاحُدِ، وَيَأْذَنَ فِي إلْزَامِ الْكَفَالَةِ فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ التَّكَفُّلُ؛ لِيَنْقَادَ الْخُصُومُ إلَى التَّنَاصُفِ، وَيَعْدِلُوا عَنِ التَّجَاحُدِ وَالتَّكَاذُبِ.

وَالثَّامِنُ: أَنَّهُ يَسْمَعُ مِنْ شَهَادَاتِ الْمَسْتُورِينَ مَا يَخْرُجُ عَنْ عُرْفِ الْقُضَاةِ فِي شَهَادَةِ الْمُعَدَّلِينَ. وَالتَّاسِعُ: أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ إحْلَافُ الشُّهُودِ عِنْدَ ارْتِيَابِهِ بِهِمْ إذَا بَدَّلُوا أَيْمَانَهُمْ طَوْعًا، وَيَسْتَكْثِرُ مِنْ عَدَدِهِمْ لِيَزُولَ عَنْهُ الشَّكُّ وَيَنْفِيَ عَنْهُ الِارْتِيَابَ؛ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْحَاكِمِ. وَالْعَاشِرُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ بِاسْتِدْعَاءِ الشُّهُودِ، وَيَسْأَلَهُمْ عَمَّا عِنْدَهُمْ فِي تَنَازُعِ الْخُصُومِ، وَعَادَةُ الْقُضَاةِ تَكْلِيفُ الْمُدَّعِي إحْضَارَ بَيِّنَةٍ وَلَا يَسْمَعُونَهَا إلَّا بَعْدَ مَسْأَلَتِهِ؛ فَهَذِهِ عَشَرَةُ أَوْجُهٍ يَقَعُ بِهَا الْفَرْقُ بَيْنَ نَظَرِ الْمَظَالِمِ وَنَظَرِ الْقَضَاءِ فِي التَّشَاجُرِ وَالتَّنَازُعِ وَهُمَا فِيمَا عَدَاهُمَا مُتَسَاوِيَانِ، وَسَنُوَضِّحُ مِنْ تَفْصِيلِهِمَا مَا نُبَيِّنُ بِهِ إطْلَاقَ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ هَذِهِ الْفُرُوقِ -إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الدَّعْوَى عِنْدَ التَّرَافُعِ فِيهَا إلَى وَالِي الْمَظَالِمِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: إمَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا مَا يُقَوِّيهَا، أَوْ يَقْتَرِنَ بِهَا مَا يُضْعِفُهَا، أَوْ تَخْلُوَ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، فَإِنْ اُقْتُرِنَ بِهَا مَا يُقَوِّيهَا فَلِمَا اُقْتُرِنَ بِهَا مِنَ الْقُوَّةِ سِتَّةُ أَحْوَالٍ، تَخْتَلِفُ بِهَا قُوَّةُ الدَّعْوَى عَلَى التَّدْرِيجِ. فَأَوَّلُ أَحْوَالِهَا: أَنْ يَظْهَرَ مَعَهَا كِتَابٌ فِيهِ شُهُودٌ مُعَدَّلُونَ حُضُورٌ، وَاَلَّذِي يَخْتَصُّ نَظَرَ الْمَظَالِمِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الدَّعْوَى شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: يَبْتَدِئُ النَّاظِرُ فِيهَا بِاسْتِدْعَاءِ الشُّهُودِ لِلشَّهَادَةِ. وَالثَّانِي: الْإِنْكَارُ عَلَى الْجَاحِدِ بِحَسَبِ حَالِهِ وَشَوَاهِدِ أَحْوَالِهِ، فَإِذَا أُحْضِرَ الشُّهُودُ، فَإِنْ كَانَ النَّاظِرُ فِي الْمَظَالِمِ مِمَّنْ يُجَلُّ قَدْرُهُ؛ كَالْخَلِيفَةِ أَوْ وَزِيرِ التَّفْوِيضِ أَوْ أَمِيرِ إقْلِيمٍ، رَاعَى مِنْ أَحْوَالِ الْمُتَنَازِعِينَ مَا تَقْتَضِيهِ السِّيَاسَةُ مِنْ مُبَاشَرَةِ النَّاظِرِ بَيْنَهُمَا إنْ جَلَّ قَدْرُهُمَا، أَوْ رَدَّ ذَلِكَ إلَى قَاضِيهِ بِمَشْهَدٍ مِنْهُ إنْ كَانَا مُتَوَسِّطَيْنِ، أَوْ عَلَى بُعْدٍ مِنْهُ إنْ كَانَا خَامِلَيْنِ. حُكِيَ أَنَّ الْمَأْمُونَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كَانَ يَجْلِسُ لِلْمَظَالِمِ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ، فَنَهَضَ ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ مَجْلِسٍ نَظَرَهُ، فَلَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ فِي ثِيَابٍ رَثَّةٍ فَقَالَتْ "مِنَ الْبَسِيطِ": يَا خَيْرَ مُنْتَصِفٍ يُهْدَى لَهُ الرَّشَدُ ... وَيَا إمَامًا بِهِ قَدْ أَشْرَقَ الْبَلَدُ

تَشْكُو إلَيْكَ عَمِيدَ الْمُلْكِ أَرَمَلَةٌ ... عَدَا عَلَيْهَا فَمَا تَقْوَى بِهِ أَسَدُ فَابْتَزَّ مِنْهَا ضِيَاعًا بَعْدَ مَنْعَتِهَا ... لَمَّا تَفَرَّقَ عَنْهَا الْأَهْلُ وَالْوَلَدُ فَأَطْرَقَ الْمَأْمُونُ يَسِيرًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ "مِنَ الْبَسِيطِ": مِنْ دُونِ مَا قُلْتِ عِيلَ الصَّبْرُ وَالْجَلَدُ ... وَأَقْرَحَ الْقَلْبَ هَذَا الْحُزْنُ وَالْكَمَدُ هَذَا أَوَانُ صَلَاةِ الظُّهْرِ فَانْصَرِفِي ... وَأَحْضِرِي الْخَصْمَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَعِدُ الْمَجْلِسُ السَّبْتُ إنْ يُقْضَ الْجُلُوسُ لَنَا ... أُنْصِفْكِ مِنْهُ وَإِلَّا الْمَجْلِسُ الْأَحَدُ فَانْصَرَفَتْ وَحَضَرَتْ يَوْمَ الْأَحَدِ فِي أَوَّلِ النَّاسِ، فَقَالَ لَهَا الْمَأْمُونُ: مَنْ خَصْمُكِ؟ فَقَالَتْ: الْقَائِمُ عَلَى رَأْسِكَ الْعَبَّاسُ بْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ الْمَأْمُونُ لِقَاضِيهِ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ1، وَقِيلَ: لِوَزِيرِهِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ: أَجْلِسْهَا مَعَهُ وَانْظُرْ بَيْنَهُمَا، فَأَجْلَسَهَا مَعَهُ وَنَظَرَ بَيْنَهُمَا بِحَضْرَةِ الْمَأْمُونِ، وَجَعَلَ كَلَامُهَا يَعْلُو، فَزَجَرَهَا بَعْضُ حُجَّابِهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: دَعْهَا، فَإِنَّ الْحَقَّ أَنْطَقَهَا، وَالْبَاطِلَ أَخْرَسَهُ، وَأَمَرَ بِرَدِّ ضِيَاعِهَا عَلَيْهَا، فَفَعَلَ الْمَأْمُونُ فِي النَّظَرِ بَيْنَهُمَا حَيْثُ كَانَ بِمَشْهَدِهِ، وَلَمْ يُبَاشِرْهُ بِنَفْسِهِ لِمَا اقْتَضَتْهُ السِّيَاسَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حُكْمَهُ رُبَّمَا تَوَجَّهَ لِوَلَدِهِ، وَرُبَّمَا كَانَ عَلَيْهِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ لِوَلَدِهِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَصْمَ امْرَأَةٌ يَجِلُّ الْمَأْمُونُ عَنْ مُحَاوَرَتِهَا، وَابْنُهُ مِنْ جَلَالَةِ الْقَدْرِ بِالْمَكَانِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ غَيْرُهُ عَلَى إلْزَامِهِ الْحَقَّ، فَرَدَّ النَّظَرَ بِمَشْهَدٍ مِنْهُ إلَى مَنْ كَفَاهُ مُحَاوَرَةَ الْمَرْأَةِ فِي اسْتِيفَاءِ الدَّعْوَى وَاسْتِيضَاحِ الْحُجَّةِ، وَبَاشَرَ الْمَأْمُونُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- تَنْفِيذَ الْحُكْمِ وَإِلْزَامَ الْحَقِّ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ فِي قُوَّةِ الدَّعْوَى أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا كِتَابٌ فِيهِ مِنَ الشُّهُودِ الْمُعَدَّلِينَ مَنْ

_ 1 هو أبو محمد يحيى بن أكثم بن محمد بن قطن بن سمعان بن مشنج، التميمي الأسيدي المروزي، من ولد أكثم بن صيفي التميمي حكيم العرب، وعالمًا بالفقه بصيرًا بالأحكام، ذكره الدارقطني في أصحاب الشافعي -رضي الله عنه. وقال الخطيب في "تاريخ بغداد": كان يحيى بن أكثم سليمًا من البدعة، ينتحل مذهب أهل السنة، سمع عبد الله بن المبارك وسفيان بن عيينة وغيرهما.

هُوَ غَائِبٌ، فَاَلَّذِي يَخْتَصُّ بِنَظَرِ الْمَظَالِمِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الدَّعْوَى أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: إرْهَابُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَرُبَّمَا تُعَجِّلُ مِنْ إقْرَارِهِ بِقُوَّةِ الْهَيْبَةِ مَا يُغْنِي عَنْ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ. وَالثَّانِي: التَّقَدُّمُ بِإِحْضَارِ الشُّهُودِ إذَا عَرَفَ مَكَانَهُمْ وَلَمْ يُدْخِلِ الضَّرَرَ الشَّاقَّ عَلَيْهِمْ. وَالثَّالِثُ: الْأَمْرُ بِمُلَازَمَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ثَلَاثًا، وَيُجْهِدُ رَأْيَهُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا بِحَسَبِ الْحَالِ مِنْ قُوَّةِ الْإِمَارَةِ وَدَلَائِلِ الصِّحَّةِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَنْظُرَ فِي الدَّعْوَى، فَإِنْ كَانَتْ مَالًا فِي الذِّمَّةِ كَلَّفَهُ إقَامَةَ كَفِيلٍ، وَإِنْ كَانَتْ عَيْنًا قَائِمًا كَالْعَقَارِ حَجَرَ عَلَيْهَا فِيهَا حَجْرًا لَا يُرْفَعُ بِهِ حُكْمُ يَدِهِ، وَرَدَّ اسْتِغْلَالَهَا إلَى أَمِينٍ يَحْفَظُهُ عَلَى مُسْتَحِقِّهِ مِنْهُمَا. فَإِنْ تَطَاوَلَتِ الْمُدَّةُ وَوَقَعَ الْإِيَاسُ مِنْ حُضُورِ الشُّهُودِ، جَازَ لِوَالِي الْمَظَالِمِ أَنْ يَسْأَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ دُخُولِ يَدِهِ مَعَ تَجْدِيدِ إرْهَابِهِ، فَإِنَّ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَرَى فِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ سُؤَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ سَبَبِ دُخُولِ يَدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَرَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَلِلنَّاظِرِ فِي الْمَظَالِمِ اسْتِعْمَالُ الْجَائِزِ، وَلَا يَلْزَمُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْوَاجِبِ، فَإِنْ أَجَابَ بِمَا يَقْطَعُ التَّنَازُعَ أَمْضَاهُ وَإِلَّا فَصَلَ بَيْنَهُمَا بِمُقْتَضَى الشَّرْعِ. وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قُوَّةِ الدَّعْوَى: أَنْ يَكُونَ فِي الْكِتَابِ الْمُقْتَرِنِ بِهَا شُهُودٌ حُضُورٌ، لَكِنَّهُمْ غَيْرُ مُعَدَّلِينَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَاَلَّذِي يَخْتَصُّ بِنَظَرِ الْمَظَالِمِ أَنْ يَتَقَدَّمَ النَّاظِرُ فِيهَا بِإِحْضَارِهِمْ وَسَبْرِ أَحْوَالِهِمْ فَإِنَّهُ يَجِدُهُمْ عَلَى أَحْوَالٍ ثَلَاثَةٍ: إمَّا أَنْ يَكُونُوا مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ وَأَهْلِ الصِّيَانَاتِ فَالثِّقَةُ بِشَهَادَاتِهِمْ أَقْوَى، وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا أَرْذَالًا فَلَا يَقْوَى عَلَيْهِمْ، لَكِنْ يُقَوَّى بِهِمْ إرْهَابُ الْخَصْمِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا أَوْسَاطًا فَيَجُوزُ لَهُ بَعْدَ الْكَشْفِ عَنْ أَحْوَالِهِمْ أَنْ يَسْتَظْهِرَ بِإِحْلَافِهِمْ إنْ رَأَى قَبْلَ الشَّهَادَةِ أَوْ بَعْدَهَا. ثُمَّ هُوَ فِي سَمَاعِ شَهَادَةِ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: إمَّا أَنْ يَسْمَعَهَا بِنَفْسِهِ فَيَحْكُمُ بِهَا. وَإِمَّا أَنْ يَرُدَّ إلَى الْقَاضِي سَمَاعَهَا لِيُؤَدِّيَهَا الْقَاضِي إلَيْهِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ بِهَا مَوْقُوفًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ إلَّا بِشَهَادَةِ مَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ عَدَالَتُهُ. وَإِمَّا أَنْ يَرُدَّ سَمَاعَهَا إلَى الشُّهُودِ الْمُعَدَّلِينَ، فَإِنْ رَدَّ إلَيْهِمْ نَقْلَ شَهَادَتِهِمْ إلَيْهِ لَمْ يُلْزِمْهُمْ

اسْتِكْشَافَ أَحْوَالِهِمْ، وَإِنْ رَدَّ الشَّهَادَةَ عِنْدَهُ بِمَا يَصِحُّ مِنْ شَهَادَتِهِمْ لَزِمَهُمْ الْكَشْفُ عَمَّا يَقْتَضِي قَبُولَ شَهَادَتِهِمْ؛ لِيَشْهَدُوا بِهَا بَعْدَ الْعِلْمِ لِصِحَّتِهَا؛ لِيَكُونَ تَنْفِيذُ الْحُكْمِ بِحَسَبِهَا. وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: فِي قُوَّةِ الدَّعْوَى: أَنْ يَكُونَ فِي الْكِتَابِ الْمُقْتَرِنِ بِهَا شَهَادَةُ شُهُودٍ مَوْتَى مُعَدَّلِينَ، وَالْكِتَابُ مَوْثُوقٌ بِصِحَّتِهِ، فَاَلَّذِي يَخْتَصُّ بِنَظَرِ الْمَظَالِمِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: إرْهَابُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَا يَضْطَرُّهُ إلَى الصِّدْقِ وَالِاعْتِرَافِ بِالْحَقِّ. وَالثَّانِي: سُؤَالُهُ عَنْ دُخُولِ يَدِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مِنْ جَوَابِهِ مَا يَتَّضِحُ بِهِ الْحَقُّ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكْشِفَ عَنِ الْحَالِ مِنْ جِيرَانِ الْمِلْكِ وَمِنْ جِيرَانِ الْمُتَنَازِعِينَ فِيهِ؛ لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إلَى وُضُوحِ الْحَقِّ وَمَعْرِفَةِ الْمُحِقِّ، فَإِنْ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ رَدَّهَا إلَى وَسَاطَةِ مُحْتَشَمٍ مُطَاعٍ، لَهُ بِهِمَا مَعْرِفَةً وَبِمَا تَنَازَعَاهُ خِبْرَةً؛ لِيَضْطَرَّهُمَا بِكَثْرَةِ التَّرْدَادِ وَطُولِ الْمَدَى إلَى التَّصَادُقِ وَالتَّصَالُحِ، فَإِنْ أَفْضَى الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا إلَى أَحَدِهِمَا، وَإِلَّا بَتَّ الْحُكْمَ عَلَى مَا يُوجِبُهُ حُكْمُ الْقَضَاءِ. وَالْحَالَةُ الْخَامِسَةُ: فِي قُوَّةِ الدَّعْوَى: أَنْ يَكُونَ مَعَ الْمُدَّعِي خَطُّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ الدَّعْوَى، فَنَظَرُ الْمَظَالِمِ فِيهِ يَقْتَضِي سُؤَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنِ الْخَطِّ؛ وَأَنْ يُقَالَ لَهُ أَهَذَا خَطُّكَ، فَإِنْ اعْتَرَفَ بِهِ يُسْأَلُ بَعْدَ اعْتِرَافِهِ عَنْ صِحَّةِ مَا تَضَمَّنَهُ، فَإِنْ اعْتَرَفَ بِصِحَّتِهِ صَارَ مُقِرًّا وَأُلْزِمَ حُكْمَ إقْرَارِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِصِحَّتِهِ، فَمِنْ وُلَاةِ الْمَظَالِمِ مَنْ حَكَمَ عَلَيْهِ بِخَطِّهِ إذَا اعْتَرَفَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِصِحَّتِهِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ شَوَاهِدِ الْحُقُوقِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ مُحَقِّقُوهُمْ، وَمَا يَرَاهُ جَمِيعُ الْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ مِنْهُمْ أَنْ يَحْكُمَ بِمُجَرَّدِ الْخَطِّ حَتَّى يَعْتَرِفَ بِصِحَّةِ مَا فِيهِ؛ لِأَنَّ نَظَرَ الْمَظَالِمِ لَا يُبِيحُ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا حَظَرَهُ الشَّرْعُ، وَنَظَرُ الْمَظَالِمِ فِيهِ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مَا يَذْكُرُهُ مِنْ خَطِّهِ، فَإِنْ قَالَ: كَتَبْتُهُ لِيُقْرِضَنِي وَمَا أَقْرَضَنِي، أَوْ لِيَدْفَعَ إلَيَّ ثَمَنَ مَا بِعْتُهُ وَمَا دَفَعَ، فَهَذَا مِمَّا يَفْعَلُهُ النَّاسُ أَحْيَانًا، وَنَظَرُ الْمَظَالِمِ فِي مِثْلِهِ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِيهِ مِنَ الْإِرْهَابِ بِحَسَبِ مَا يَشْهَدُ بِهِ الْحَالُ وَتَقْوَى بِهِ الْأَمَارَةُ، ثُمَّ يُرَدُّ إلَى الْوَسَاطَةِ، فَإِنْ أَفْضَتْ إلَى الصُّلْحِ وَإِلَّا بَتَّ الْقَاضِي الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا بِالتَّحَالُفِ، وَإِنْ أَنْكَرَ الْخَطَّ، فَمِنْ وُلَاةِ الْمَظَالِمِ مَنْ يَخْتَبِرُ الْخَطَّ بِخُطُوطِهِ الَّتِي كَتَبَهَا، وَيُكَلِّفُهُ مِنْ كَثْرَةِ الْكِتَابَةِ مَا يَمْنَعُ مِنَ التَّصَنُّعِ فِيهَا، ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَ الْخَطَّيْنِ، فَإِذَا تَشَابَهَا حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ اعْتِرَافَهُ الْخَطَّ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ بِهِ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِلْحُكْمِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لِإِرْهَابِهِ،

وَتَكُونُ الشُّبْهَةُ مَعَ إنْكَارِهِ لِلْخَطِّ أَضْعَفَ مِنْهَا مَعَ اعْتِرَافِهِ بِهِ، وَتُرْفَعُ الشُّبْهَةُ إنْ كَانَ الْخَطُّ مُنَافِيًا لِخَطِّهِ، وَيَعُودُ الْإِرْهَابُ عَلَى الْمُدَّعِي، ثُمَّ يُرَدَّانِ إلَى الْوَسَاطَةِ، فَإِنْ أَفْضَتِ الْحَالُ إلَى الصُّلْحِ وَإِلَّا بَتَّ الْقَاضِي الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا بِالْأَيْمَانِ. وَالْحَالَةُ السَّادِسَةُ: فِي قُوَّةِ الدَّعْوَى: إظْهَارُ الْحِسَابِ بِمَا تَضَمَّنَتِ الدَّعْوَى، وَهَذَا يَكُونُ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَلَا يَخْلُو حَالُ الْحِسَابِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ حِسَابَ الْمُدَّعِي أَوْ حِسَابَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ حِسَابَ الْمُدَّعِي فَالشُّبْهَةُ فِيهِ أَضْعَفُ، وَنَظَرُ الْمَظَالِمِ يَرْجِعُ فِي مِثْلِهِ إلَى مُرَاعَاةِ نَظْمِ الْحِسَابِ، فَإِنْ كَانَ مُخْتَلًّا يُحْتَمَلُ فِيهِ الْإِدْغَالُ كَانَ مُطْرَحًا، وَهُوَ بِضَعْفِ الدَّعْوَى أَشْبَهُ مِنْهُ بِقُوَّتِهَا، وَإِنْ كَانَ نَظْمُهُ مُتَّسِقًا وَنَقْلُهُ صَحِيحًا فَالثِّقَةُ بِهِ أَقْوَى، فَيَقْتَضِي مِنَ الْإِرْهَابِ بِحَسَبِ شَوَاهِدِهِ، ثُمَّ يُرَدَّانِ إلَى الْوَسَاطَةِ، ثُمَّ إلَى الْحُكْمِ الْبَاتِّ. وَإِنْ كَانَ الْحِسَابُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَانَتْ الدَّعْوَى بِهِ أَقْوَى، وَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَنْسُوبًا إلَى خَطِّهِ أَوْ خَطِّ كَاتِبِهِ، فَإِنْ كَانَ مَنْسُوبًا إلَى خَطِّهِ فَلِنَاظِرِ الْمَظَالِمِ فِيهِ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَهَذَا خَطُّكَ، فَإِنِ اعْتَرَفَ بِهِ قِيلَ: أَتَعْلَمُ مَا هُوَ، فَإِنْ أَقَرَّ بِمَعْرِفَتِهِ قِيلَ: أَتَعْلَمُ صِحَّتَهُ؟ فَإِنْ أَقَرَّ بِصِحَّتِهِ صَارَ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ مُقِرًّا بِمَضْمُونِ الْحِسَابِ، فَيُؤْخَذُ بِمَا فِيهِ، فَإِنْ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ خَطُّهُ وَأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ مَا فِيهِ، وَلَمْ يَعْتَرِفْ بِصِحَّتِهِ، فَمَنْ حَكَمَ بِالْخَطِّ مِنْ وُلَاةِ الْمَظَالِمِ حَكَمَ عَلَيْهِ بِمُوجَبِ حِسَابِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِصِحَّتِهِ، وَجَعَلَ الثِّقَةَ بِهَذَا أَقْوَى مِنَ الثِّقَةِ بِالْخَطِّ الْمُرْسَلِ؛ لِأَنَّ الْحِسَابَ لَا يَثْبُتُ فِيهِ قَبْضُ مَا لَمْ يُقْبَضْ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْحِسَابِ الَّذِي لَمْ يَعْتَرِفْ بِصِحَّةِ مَا فِيهِ، وَلَكِنْ يَقْتَضِي مِنْ فَضْلِ الْإِرْهَابِ بِهِ أَكْثَرَ مِمَّا اقْتَضَاهُ الْخَطُّ الْمُرْسَلُ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي الْعُرْفِ، ثُمَّ يُرَدَّانِ بَعْدَهُ إلَى الْوَسَاطَةِ، ثُمَّ إلَى بَتِّ الْقَضَاءِ. وَإِنْ كَانَ الْخَطُّ مَنْسُوبًا إلَى كَاتِبِهِ سُئِلَ عَنْهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَبْلَ سُؤَالِ كَاتِبِهِ، فَإِنِ اعْتَرَفَ بِمَا فِيهِ أُخِذَ، بِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ يُسْأَلْ عَنْهُ كَاتِبُهُ، فَإِنْ أَنْكَرَهُ ضَعُفَتْ الشُّبْهَةُ بِإِنْكَارِهِ وَأُرْهِبَ إنْ كَانَ مُتَّهَمًا، وَلَمْ يُرْهَبْ إنْ كَانَ مَأْمُونًا، فَإِنْ اعْتَرَفَ بِهِ وَبِصِحَّتِهِ صَارَ شَاهِدًا بِهِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيَحْكُمُ عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِ إنْ كَانَ عَدْلًا، وَيَقْضِي بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ إمَّا مَذْهَبًا وَإِمَّا سِيَاسَةً تَقْتَضِيهَا شَوَاهِدُ الْحَالِ، فَإِنَّ لِشَوَاهِدِ الْحَالِ فِي الْمَظَالِمِ تَأْثِيرًا فِي اخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ، وَلِكُلِّ حَالٍ مِنْهَا فِي الْإِرْهَابِ حَدٌّ لَا يَتَجَاوَزُهُ تَمْيِيزًا بَيْنَ الْأَحْوَالِ بِمُقْتَضَى شَوَاهِدِهَا1.

_ 1 قال ابن قدامة من الحنابلة: وإن كان للمدعي شاهد واحد عدل في المال أو ما يقصد به المال حلف =

فَصْلٌ: وَأَمَّا إنِ اقْتَرَنَ بِالدَّعْوَى مَا يُضْعِفُهَا، فَلِمَا اقْتَرَنَ بِهَا مِنَ الضَّعْفِ سِتَّةُ أَحْوَالٍ تُنَافِي أَحْوَالَ الْقُوَّةِ، فَيَنْتَقِلُ الْإِرْهَابُ بِهَا مِنْ جَنْبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَى جَنْبَةِ الْمُدَّعِي. فَالْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يُقَابِلَ الدَّعْوَى بِكِتَابٍ شُهُودُهُ حُضُورٌ مُعَدَّلُونَ يَشْهَدُونَ بِمَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الدَّعْوَى، وَذَلِكَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَشْهَدُوا عَلَيْهِ بِبَيْعِ مَا ادَّعَاهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَشْهَدُوا عَلَى إقْرَارِهِ بِأَنْ لَا حَقَّ لَهُ فِيمَا ادَّعَاهُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَشْهَدُوا عَلَى إقْرَارِ أَبِيهِ الَّذِي ذَكَرَ انْتِقَالَ الْمِلْكِ عَنْهُ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيمَا ادَّعَاهُ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَشْهَدُوا لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مَالِكٌ لِمَا ادَّعَاهُ عَلَيْهِ، فَبَطَلَ دَعْوَاهُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَيَقْتَضِي نَظَرُ تَأْدِيبِهِ بِحَسَبِ حَالِهِ. فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالِابْتِيَاعِ كَانَتْ عَلَى سَبِيلِ رَهَبٍ وَإِلْجَاءٍ، وَهَذَا قَدْ يَفْعَلُهُ النَّاسُ أَحْيَانًا، فَيُنْظَرُ فِي كِتَابِ الِابْتِيَاعِ، فَإِنْ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ رَهَبٍ وَلَا إلْجَاءٍ ضَعُفَتْ شُبْهَةُ هَذِهِ الدَّعْوَى، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ فِيهِ قَوِيَتْ شُبْهَةُ الدَّعْوَى، وَكَانَ الْإِرْهَابُ فِي الْجِهَتَيْنِ بِمُقْتَضَى شَوَاهِدِ الْحَالَيْنِ، وَرَجَعَ إلَى الْكَشْفِ بِالْمُجَاوِرِينَ وَالْخُلَطَاءِ، فَإِنْ بَانَ مَا يُوجِبُ الْعُدُولَ عَنْ

_ = المدعي مع شهادته وحكم له به؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى بشاهد ويمين. رواه مسلم. فإن أبي أن يحلف وقال: أريد يمين المدَّعَى عليه حلَّفنَاه، فإن نكل المدَّعَى عليه قضي عليه، ومن قال: ترد اليمين، فهل ترد ههنا، يحتمل وجهين: أحدهما: لا ترد؛ لأنها كانت في جنبته وقد أسقطها بنكوله عنها، وكانت في جنبة غيره فلم تعد إليه كالمدَّعَى عليه إذا نكل عن اليمين فردت على المدَّعِي فنكل عنها. والثاني: ترد عليه؛ لأن اليمين الأولى؛ ولأنَّ سبب الأولى قوة جنبة المدعي بالشاهد، وسبب الثانية نكول المدَّعَى عليه، فبسقوط إحداهما لا يوجب سقوط الأخرى، فإن سكت المدَّعَى عليه فلم ينكر ولم يقر حبسه الحاكم حتى يجيب، ولم يجعله بذلك ناكلًا. ذكره القاضي في المجرّد، وذكر أبو الخطاب أنَّ الحاكم يقول له: إن أجبت وإلّا جعلتك ناكلًا وحكمت عليك، ويكرّر ذلك ثلاثًا، فإن أجاب وإلّا حكم عليه؛ لأنه ناكل عمَّا يلزمه جوابه، فأشبه الناكل عن اليمين. [الكافي في فقه أحمد بن حنبل: 4/ 465] .

ظَاهِرِ الْكِتَابِ عَمِلَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَبْنِ كَانَ إمْضَاءُ الْحُكْمِ بِمَا شَهِدَ بِهِ شُهُودُ الِابْتِيَاعِ أَحَقَّ، فَإِنْ سَأَلَ إحْلَافَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَنَّ ابْتِيَاعَهُ كَانَ حَقًّا، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى سَبِيلِ الرَّهَبِ وَالْإِلْجَاءِ، فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ إحْلَافِهِ لِاخْتِلَافِ مَا ادَّعَاهُ؛ فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إلَى جَوَازِ إحْلَافِهِ؛ لِاحْتِمَالِ مَا ادَّعَاهُ وَإِمْكَانِهِ، وَامْتَنَعَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مِنْ إحْلَافِهِ؛ لِأَنَّ مُتَقَدِّمَ إقْرَارِهِ مُكَذِّبٌ لِمُتَأَخِّرِ دَعْوَاهُ. وَلِوَالِي الْمَظَالِمِ أَنْ يَعْمَلَ مِنَ الْقَوَانِينِ بِمَا تَقْتَضِيهِ شَوَاهِدُ الْحَالَيْنِ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، فَأَظْهَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كِتَابَ بَرَاءَةٍ مِنْهُ، فَذَكَرَ الْمُدَّعِي أَنَّهُ أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ، وَلَمْ يَقْبِضْ كَانَ إحْلَافُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ شُهُودُ الْكِتَابِ الْمُقَابِلِ لِلدَّعْوَى عُدُولًا غَائِبِينَ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَضَمَّنَ إنْكَارُهُ اعْتِرَافًا بِالسَّبَبِ كَقَوْلِهِ: لَا حَقَّ لَهُ فِي هَذِهِ الضَّيْعَةِ؛ لِأَنَّنِي ابْتَعْتُهَا مِنْهُ وَدَفَعْتُ ثَمَنَهَا إلَيْهِ، وَهَذَا كِتَابُ عَهْدِي بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ، فَيَصِيرُ الْمُدَّعِي مُدَّعِيًا بِكِتَابٍ قَدْ غَابَ شُهُودُهُ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى، وَلَهُ زِيَادَةُ يَدٍ وَتَصَرُّفٍ، فَتَكُونُ الْأَمَارَةُ أَقْوَى، وَشَاهِدُ الْحَالِ أَظْهَرَ، فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ بِهَا الْمِلْكُ فَيُرْهِبُهُمَا بِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ شَوَاهِدُ أَحْوَالِهِمَا، وَيَأْمُرُ بِإِحْضَارِ الشُّهُودِ إنْ أَمْكَنَ، وَيَضْرِبُ لِحُضُورِهِمْ أَجَلًا يَرُدُّهُمَا فِيهِ إلَى الْوَسَاطَةِ، فَإِنْ أَفْضَتْ إلَى صُلْحٍ عَنْ تَرَاضٍ اسْتَقَرَّ بِهِ الْحُكْمُ، وَعَدَلَ عَنِ اسْتِمَاعِ الشَّهَادَةِ إذَا حَضَرَتْ، وَإِنْ لَمْ يَنْبَرِمْ مَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا أَمْعَنَ فِي الْكَشْفِ عَنْ جِيرَانِهِمَا وَجِيرَانِ الْمِلْكِ، وَكَانَ لِوَالِي الْمَظَالِمِ رَأْيُهُ فِي زَمَانِ الْكَشْفِ فِي خَصْلَةٍ مِنْ ثَلَاثٍ: مِنْهَا مَا يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ بِحَسَبِ الْأَمَارَاتِ وَشَوَاهِدِ الْأَحْوَالِ. إمَّا أَنْ يَرَى انْتِزَاعَ الضَّيْعَةِ مِنْ يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَتَسْلِيمَهَا إلَى الْمُدَّعِي، إلَى أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِالْبَيْعِ، وَإِمَّا أَنْ يُسَلِّمَهَا إلَى أَمِينٍ تَكُونُ فِي يَدِهِ، وَيَحْفَظُ اسْتِغْلَالَهَا عَلَى مُسْتَحَقِّهِ، وَإِمَّا أَنْ يُقِرَّهَا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيَحْجُرَ عَلَيْهِ فِيهَا، وَيُنَصِّبَ أَمِينًا يَحْفَظُ اسْتِغْلَالَهَا، وَيَكُونُ حَالُهُمَا عَلَى مَا يَرَاهُ وَالِي الْمَظَالِمِ فِي خَصْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ مَا كَانَ رَاجِيًا أَحَدَ أَمْرَيْنِ: مِنْ ظُهُورِ الْحَقِّ بِالْكَشْفِ، أَوْ حُضُورِ الشُّهُودِ لِلْأَدَاءِ، فَإِنْ وَقَعَ الْإِيَاسُ مِنْهُمْ بَتَّ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا، فَلَوْ سَأَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إحْلَافَ الْمُدَّعِي أَحَلَفَهُ لَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ بَتًّا لِلْحُكْمِ بَيْنَهُمَا.

وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَتَضَمَّنَ إنْكَارُهُ اعْتِرَافًا بِالسَّبَبِ، وَيَقُولُ: هَذِهِ الضَّيْعَةُ لِي لَا حَقَّ لِهَذَا الْمُدَّعِي فِيهَا، وَتَكُونُ شَهَادَةُ الْكِتَابِ عَلَى الْمُدَّعِي عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا عَلَى إقْرَارِهِ بِأَنْ لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا، وَإِمَّا عَلَى إقْرَارِهِ بِأَنَّهَا مِلْكُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَالضَّيْعَةُ مُقَرَّةٌ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ انْتِزَاعُهَا مِنْهُ، فَأَمَّا الْحَجْرُ عَلَيْهِ فِيهَا وَحِفْظُ اسْتِغْلَالِهَا مُدَّةَ الْكَشْفِ وَالْوَسَاطَةِ فَمُعْتَبَرٌ بِشَوَاهِدِ أَحْوَالِهِمَا، وَاجْتِهَادِ وَالِي الْمَظَالِمِ فِيمَا يَرَاهُ بَيْنَهُمَا إلَى أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا. وَأَمَّا الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ شُهُودَ الْكِتَابِ الْمُقَابِلِ لِهَذِهِ الدَّعْوَى حُضُورٌ غَيْرُ مُعَدَّلِينَ فَيُرَاعِي وَالِي الْمَظَالِمِ فِيهِمْ مَا قَدَّمْنَا فِي جَنْبَةِ الْمُدَّعِي مِنْ أَحْوَالِهِمْ الثَّلَاثِ، وَيُرَاعَى حَالُ إنْكَارِهِ هَلْ يَتَضَمَّنُ اعْتِرَافًا بِالسَّبَبِ أَمْ لَا، فَيَعْمَلُ وَالِي الْمَظَالِمِ فِي ذَلِكَ بِمَا قَدَّمْنَاهُ تَعْوِيلًا عَلَى اجْتِهَادِهِ بِرَأْيِهِ فِي شَوَاهِدِ الْأَحْوَالِ. وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ شُهُودُ الْكِتَابِ مَوْتَى مُعَدَّلِينَ، فَلَيْسَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ إلَّا فِي الْإِرْهَابِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي يَقْتَضِي فَضْلَ الْكَشْفِ، ثُمَّ فِي بَتِّ الْحُكْمِ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْإِنْكَارُ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِالسَّبَبِ أَمْ لَا. وَالْحَالَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يُقَابِلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِخَطِّ الْمُدَّعِي بِمَا يُوجِبُ إكْذَابَهُ فِي الدَّعْوَى، فَيَعْمَلُ بِمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْخَطِّ، وَيَكُونُ الْإِرْهَابُ مُعْتَبَرًا بِشَاهِدِ الْحَالِ. وَالْحَالَةُ السَّادِسَةُ: أَنْ يَظْهَرَ فِي الدَّعْوَى حِسَابٌ يَقْتَضِي بُطْلَانَ الدَّعْوَى، فَيَعْمَلُ بِمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْحِسَابِ، وَيَكُونُ الْكَشْفُ وَالْإِرْهَابُ وَالْمُطَاوَلَةُ مُعْتَبَرًا بِشَوَاهِدِ الْأَحْوَالِ، ثُمَّ يَبُتُّ الْحُكْمَ بَعْدَ الْإِيَاسِ قَطْعًا لِلنِّزَاعِ.

فصل: فَأَمَّا إنْ تَجَرَّدَتِ الدَّعْوَى عَنْ أَسْبَابِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، فَلَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا مَا يُقَوِّيهَا وَلَا مَا يُضْعِفُهَا، فَنَظَرُ الْمَظَالِمِ يَقْتَضِي مُرَاعَاةَ حَالِ الْمُتَنَازِعَيْنِ فِي غَلَبَةِ الظَّنِّ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ غَلَبَةُ الظَّنِّ فِي جَنْبَةِ الْمُدَّعِي. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ فِي جَنْبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَتَعَدَّلَا فِيهِ، وَاَلَّذِي يُؤْثِرُهُ غَلَبَةُ الظَّنِّ فِي إحْدَى الْجِهَتَيْنِ هُوَ إرْهَابُهُمَا، وَتَغْلِيبُ الْكَشْفِ مِنْ جِهَتِهِمَا، وَلَيْسَ لِفَصْلِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا تَأْثِيرٌ يُعْتَبَرُ فِيهِ الظُّنُونُ الْغَالِبَةُ، فَإِنْ كَانَتْ غَلَبَةُ الظَّنِّ فِي جَنْبَةِ الْمُدَّعِي، وَكَانَتْ الرِّيبَةُ مُتَوَجِّهَةً إلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَقَدْ يَكُونُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي مَعَ خُلُوِّهِ مِنْ حُجَّةٍ يَظْهَرُ بِهَا مَضْعُوفَ الْيَدِ مُسْتَلَانَ الْجَنْبَةِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ ذَا بَأْسٍ وَقُدْرَةٍ، فَإِذَا ادَّعَى عَلَيْهِ غَصْبَ دَارٍ أَوْ ضَيْعَةٍ غَلَبَ فِي الظَّنِّ أَنَّ مِثْلَهُ مَعَ لِينِهِ وَاسْتِضْعَافِهِ لَا يَتَجَوَّزُ فِي دَعْوَاهُ عَلَى مَنْ كَانَ ذَا بَأْسٍ وَذَا سَطْوَةٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي مَشْهُورًا بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَشْهُورًا بِالْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ، فَيَغْلِبُ فِي الظَّنِّ صِدْقُ الْمُدَّعِي فِي دَعْوَاهُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ تَتَسَاوَى أَحْوَالُهُمَا، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ عُرِفَ لِلْمُدَّعِي يَدٌ مُتَقَدِّمَةٌ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لِدُخُولِ يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ سَبَبٌ حَادِثٌ، فَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ نَظَرُ الْمَظَالِمِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: إرْهَابُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِتَوَجُّهِ الرِّيبَةِ. وَالثَّانِي: سُؤَالُهُ عَنْ سَبَبِ دُخُولِ يَدِهِ وَحُدُوثِ مِلْكِهِ، فَإِنَّ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَرَى ذَلِكَ مَذْهَبًا فِي الْقَضَاءِ مَعَ الِارْتِيَابِ، فَكَانَ نَظَرُ الْمَظَالِمِ بِذَلِكَ أَوْلَى، وَرُبَّمَا أَلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ عُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ عَنْ مُسَاوَاةِ خَصْمِهِ فِي الْمُحَاكَمَةِ، فَيَنْزِلُ عَمَّا فِي يَدِهِ لِخَصْمِهِ عَفْوًا، كَاَلَّذِي حُكِيَ عَنْ مُوسَى الْهَادِي أنه جَلَسَ يَوْمًا لِلْمَظَالِمِ وَعُمَارَةُ بْنُ حَمْزَةَ قَائِمٌ عَلَى

رَأْسِهِ وَلَهُ مَنْزِلٌ، فَحَضَرَ رَجُلٌ فِي جُمْلَةِ الْمُتَظَلِّمِينَ يَدَّعِي أَنَّ عُمَارَةَ غَصَبَ ضَيْعَةً لَهُ، فَأَمَرَهُ الْهَادِي بِالْجُلُوسِ مَعَهُ لِلْمُحَاكِمَةِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنْ كَانَتْ الضَّيْعَةُ لَهُ فَمَا أُعَارِضُهُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ لِي فَقَدْ وَهَبْتُهَا لَهُ، وَمَا أَبِيعُ مَوْضِعِي مِنْ مَجْلِسِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَرُبَّمَا تَلَطَّفَ وَالِي الْمَظَالِمِ فِي إيصَالِ الْمُتَظَلِّمِ إلَى حَقِّهِ بِمَا يَحْفَظُ مَعَهُ حِشْمَةَ الْمَطْلُوبِ، أَوْ مُوَاضَعَةَ الْمَطْلُوبِ عَلَى مَا يَحْفَظُ بِهِ حِشْمَةَ نَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوبًا إلَى تَخَيُّفٍ وَمَنْعٍ مِنْ حَقٍّ، كَاَلَّذِي حَكَاهُ عَوْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنَّ أَهْلَ نَهْرِ الْمَرْغَابِ بِالْبَصْرَةِ خَاصَمُوا فِيهِ الْمَهْدِيُّ إلَى قَاضِيهِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ1، فَلَمْ يُسَلِّمْهُ إلَيْهِمْ وَلَا الْهَادِي بَعْدَهُ، ثُمَّ قَامَ الرَّشِيدُ فَتَظَلَّمُوا إلَيْهِ، وَجَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى نَاظِرٌ فِي الْمَظَالِمِ فَلَمْ يَرُدَّهُ إلَيْهِمْ، فَاشْتَرَاهُ جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى مِنَ الرَّشِيدِ بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَوَهَبَهُ لَهُمْ، وَقَالَ: إنَّمَا فَعَلْتُ هَذَا لِتَعْلَمُوا أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَحِقَهُ لَجَاجٌ فِيهِ، وَأَنَّ عَبْدَهُ اشْتَرَاهُ فَوَهَبَهُ لَكُمْ، فَقَالَ فِيهِ أَشْجَعُ السُّلَمِيُّ2 "مِنَ الْكَامِلِ": رَدَّ السِّبَاحَ بِذِي يَدَيْهِ وَأَهْلُهَا ... فِيهَا بِمَنْزِلَةِ السِّمَاكِ الْأَعْزَلِ قَدْ أَيْقَنُوا بِذَهَابِهَا وَهَلَاكِهِمْ ... وَالدَّهْرُ يَرْعَاهَا بِيَوْمٍ أَعْضَلِ فَافْتَكَّهَا لَهُمْ وَهُمْ مِنْ دَهْرِهِمْ ... بَيْنَ الْجِرَانِ وَبَيْنَ حَدِّ الْكَلْكَلِ مَا كَانَ يُرْجَى غَيْرُهُ لِفَكَاكِهَا ... إنَّ الْكَرِيمَ لِكُلِّ أَمْرٍ مُعْضِلِ فَاحْتَمَلَ مَا فَعَلَهُ جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ ابْتَدَأَهُ مِنْ نَفْسِهِ، تَنْزِيهًا لِلرَّشِيدِ عَنِ التَّظَلُّمِ فِيهِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الرَّشِيدُ وَاضَعَهُ عَلَى هَذَا؛ لِئَلَّا يُنْسَبَ أَبُوهُ وَأَخُوهُ إلَى جَوْرٍ فِي حَقٍّ وَهُوَ الْأَشْبَهُ، وَلِأَيِّهِمَا كَانَ فَقَدْ عَادَ بِهِ الْحَقُّ إلَى أَهْلِهِ مَعَ حِفْظِ الْحِشْمَةِ وَحَسْمِ الْبِذْلَةِ، أَمَّا إنْ كَانَ غَلَبَةُ الظَّنِّ فِي جَنْبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي مَشْهُورًا بِالظُّلْمِ وَالْخِيَانَةِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَشْهُورًا بِالنَّصَفَةِ وَالْأَمَانَةِ.

_ 1 هو عبيد الله بن الحسن بن الحصين بن مالك بن الخشخاش بن الحارث بن مجفر بن كعب بن العنبر بن عمرو بن تميم العنبري. قاضي البصرة وخطيبها، وُلِدَ سنة مائة، ولي قضاء البصرة بعد سوار، وروى له مسلم، وتوفِّي سنة ثمان وستين ومائة. 2 هو أشجع بن عمرو السلمي، من ولد الشريد بن مطرود، ربي ونشأ بالبصرة، ثم خرج إلى الرقة والرشيد بها، فمدح البرامكة وانقطع إلى جعفر خاصة وأصفاء مدحه، ووصله الرشيد وأعجبه.

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي دَنِيئًا مُبْتَذَلًا وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ نَزِهًا مَنْصُوبًا، فَيَطْلُبُ إحْلَافَهُ قَصْدًا لِبِذْلَتِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ لِدُخُولِ يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ سَبَبٌ مَعْرُوفٌ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لِدَعْوَى الْمُدَّعِي سَبَبٌ، فَيَكُونُ غَلَبَةُ الظَّنِّ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِي جَنْبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالرِّيبَةُ مُتَوَجِّهَةٌ إلَى الْمُدَّعِي، فَمَذْهَبُ مَالِكٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ: إنْ كَانَتْ دَعْوَاهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ بِعَيْنٍ قَائِمَةٍ لَمْ يَسْمَعْهَا إلَّا بَعْدَ ذِكْرِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي مَالِ الذِّمَّةِ لَمْ يَسْمَعْهَا إلَّا بَعْدَ أَنْ يُقِيمَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُعَامَلَةٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- لَا يَرَيَانِ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الْقُضَاةِ. فَأَمَّا نَظَرُ الْمَظَالِمِ الْمَوْضُوعُ عَلَى الْأَصْلَحِ، فَعَلَى الْجَائِزِ دُونَ الْوَاجِبِ، فَيَسُوغُ فِيهِ مِثْلُ هَذَا عِنْدَ ظُهُورِ الرِّيبَةِ وَقَصْدِ الْعِنَادِ، وَيُبَالِغُ فِي الْكَشْفِ بِالْأَسْبَابِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى ظُهُورِ الْحَقّ، ِ وَيَصُونُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَا اتَّسَعَ فِي الْحُكْمِ، فَإِنْ وَقَعَ الْأَمْرُ عَلَى التَّحَالُفِ، وَهُوَ غَايَةُ الْحُكْمِ الْبَاتِّ الَّذِي لَا يَجُوزُ دَفْعُ طَالِبٍ عَنْهُ فِي نَظَرِ الْقَضَاءِ، وَلَا فِي نَظَرِ الْمَظَالِمِ إذَا لَمْ يَكْفِهِ عَنْهُ الْإِرْهَابُ وَلَا الْوَعْظُ، فَإِنْ فَرَّقَ دَعَاوِيَهُ وَأَرَادَ أَنْ يَحْلِفَ فِي كُلِّ مَجْلِسٍ مِنْهَا عَلَى بَعْضِهَا قَصْدًا لِإِعَانَتِهِ وَبِذْلَتِهِ، فَاَلَّذِي يُوجِبُهُ حُكْمُ الْقَضَاءِ أَنْ لَا يُمْتَنَعَ مِنْ تَبْعِيضِ الدَّعَاوَى وَتَفْرِيقِ الْأَيْمَانِ، وَاَلَّذِي يُنْتِجُهُ نَظَرُ الْمَظَالِمِ أَنْ يُؤْمَرَ الْمُدَّعِي بِجَمْعِ دَعَاوِيهِ عِنْدَ ظُهُورِ الْإِعْنَاتِ مِنْهُ، وَإِحْلَافِ الْخَصْمِ عَلَى جَمِيعِهَا يَمِينًا وَاحِدَةً. فَأَمَّا إنْ اعْتَدَلَتْ حَالُ الْمُتَنَازِعَيْنِ وَتَقَابَلَتْ بَيِّنَةُ الْمُتَشَاجِرَيْنِ وَلَمْ يَتَرَجَّحْ حُجَّةُ، أَحَدِهِمَا: بِأَمَارَةٍ أَوْ مَظِنَّةٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُسَاوِيَ بَيْنَهُمَا فِي الْعِظَةِ، وَهَذَا مِمَّا يَتَّفِقُ عَلَيْهِ الْقُضَاةُ وَوُلَاةُ الْمَظَالِمِ، ثُمَّ يَخْتَصُّ وُلَاةُ الْمَظَالِمِ بَعْدَ الْعِظَةِ بِالْإِرْهَابِ لَهُمَا مَعًا لِتَسَاوِيهِمَا، ثُمَّ بِالْكَشْفِ عَنْ أَصْلِ الدَّعْوَى وَانْتِقَالِ الْمِلْكِ، فَإِنْ ظَهَرَ بِالْكَشْفِ مَا يَعْرِفُ بِهِ الْمُحَقِّقُ مِنْهُمَا عَمِلَ عَلَيْهِ؛ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ بِالْكَشْفِ مَا يَنْفَصِلُ بِهِ تَنَازُعُهُمَا رَدَّهُمَا إلَى وَسَاطَةِ وُجُوهِ الْجِيرَانِ وَأَكَابِرِ الْعَشَائِرِ، فَإِنْ نَجَزَ بِهَا مَا بَيْنَهُمَا، وَإِلَّا كَانَ فَصْلُ الْقَضَاءِ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ خَاتِمَةُ أَمْرِهِمَا بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ لِبَتِّ الْحُكْمِ وَالِاسْتِنَابَةِ فِيهِ. وَرُبَّمَا تَرَافَعَ إلَى وُلَاةِ الْمَظَالِمِ فِي غَوَامِضِ الْأَحْكَامِ وَمُشْكِلَاتِ الْخِصَامِ مَا يُرْشِدُهُ إلَى

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي دَنِيئًا مُبْتَذَلًا وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ نَزِهًا مَنْصُوبًا، فَيَطْلُبُ إحْلَافَهُ قَصْدًا لِبِذْلَتِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ لِدُخُولِ يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ سَبَبٌ مَعْرُوفٌ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لِدَعْوَى الْمُدَّعِي سَبَبٌ، فَيَكُونُ غَلَبَةُ الظَّنِّ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِي جَنْبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالرِّيبَةُ مُتَوَجِّهَةٌ إلَى الْمُدَّعِي، فَمَذْهَبُ مَالِكٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ: إنْ كَانَتْ دَعْوَاهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ بِعَيْنٍ قَائِمَةٍ لَمْ يَسْمَعْهَا إلَّا بَعْدَ ذِكْرِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي مَالِ الذِّمَّةِ لَمْ يَسْمَعْهَا إلَّا بَعْدَ أَنْ يُقِيمَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُعَامَلَةٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- لَا يَرَيَانِ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الْقُضَاةِ. فَأَمَّا نَظَرُ الْمَظَالِمِ الْمَوْضُوعُ عَلَى الْأَصْلَحِ، فَعَلَى الْجَائِزِ دُونَ الْوَاجِبِ، فَيَسُوغُ فِيهِ مِثْلُ هَذَا عِنْدَ ظُهُورِ الرِّيبَةِ وَقَصْدِ الْعِنَادِ، وَيُبَالِغُ فِي الْكَشْفِ بِالْأَسْبَابِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى ظُهُورِ الْحَقّ، ِ وَيَصُونُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَا اتَّسَعَ فِي الْحُكْمِ، فَإِنْ وَقَعَ الْأَمْرُ عَلَى التَّحَالُفِ، وَهُوَ غَايَةُ الْحُكْمِ الْبَاتِّ الَّذِي لَا يَجُوزُ دَفْعُ طَالِبٍ عَنْهُ فِي نَظَرِ الْقَضَاءِ، وَلَا فِي نَظَرِ الْمَظَالِمِ إذَا لَمْ يَكْفِهِ عَنْهُ الْإِرْهَابُ وَلَا الْوَعْظُ، فَإِنْ فَرَّقَ دَعَاوِيَهُ وَأَرَادَ أَنْ يَحْلِفَ فِي كُلِّ مَجْلِسٍ مِنْهَا عَلَى بَعْضِهَا قَصْدًا لِإِعَانَتِهِ وَبِذْلَتِهِ، فَاَلَّذِي يُوجِبُهُ حُكْمُ الْقَضَاءِ أَنْ لَا يُمْتَنَعَ مِنْ تَبْعِيضِ الدَّعَاوَى وَتَفْرِيقِ الْأَيْمَانِ، وَاَلَّذِي يُنْتِجُهُ نَظَرُ الْمَظَالِمِ أَنْ يُؤْمَرَ الْمُدَّعِي بِجَمْعِ دَعَاوِيهِ عِنْدَ ظُهُورِ الْإِعْنَاتِ مِنْهُ، وَإِحْلَافِ الْخَصْمِ عَلَى جَمِيعِهَا يَمِينًا وَاحِدَةً. فَأَمَّا إنْ اعْتَدَلَتْ حَالُ الْمُتَنَازِعَيْنِ وَتَقَابَلَتْ بَيِّنَةُ الْمُتَشَاجِرَيْنِ وَلَمْ يَتَرَجَّحْ حُجَّةُ، أَحَدِهِمَا: بِأَمَارَةٍ أَوْ مَظِنَّةٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُسَاوِيَ بَيْنَهُمَا فِي الْعِظَةِ، وَهَذَا مِمَّا يَتَّفِقُ عَلَيْهِ الْقُضَاةُ وَوُلَاةُ الْمَظَالِمِ، ثُمَّ يَخْتَصُّ وُلَاةُ الْمَظَالِمِ بَعْدَ الْعِظَةِ بِالْإِرْهَابِ لَهُمَا مَعًا لِتَسَاوِيهِمَا، ثُمَّ بِالْكَشْفِ عَنْ أَصْلِ الدَّعْوَى وَانْتِقَالِ الْمِلْكِ، فَإِنْ ظَهَرَ بِالْكَشْفِ مَا يَعْرِفُ بِهِ الْمُحَقِّقُ مِنْهُمَا عَمِلَ عَلَيْهِ؛ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ بِالْكَشْفِ مَا يَنْفَصِلُ بِهِ تَنَازُعُهُمَا رَدَّهُمَا إلَى وَسَاطَةِ وُجُوهِ الْجِيرَانِ وَأَكَابِرِ الْعَشَائِرِ، فَإِنْ نَجَزَ بِهَا مَا بَيْنَهُمَا، وَإِلَّا كَانَ فَصْلُ الْقَضَاءِ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ خَاتِمَةُ أَمْرِهِمَا بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ لِبَتِّ الْحُكْمِ وَالِاسْتِنَابَةِ فِيهِ. وَرُبَّمَا تَرَافَعَ إلَى وُلَاةِ الْمَظَالِمِ فِي غَوَامِضِ الْأَحْكَامِ وَمُشْكِلَاتِ الْخِصَامِ مَا يُرْشِدُهُ إلَى

تَعْبُدُ فِيهِنَّ رَبَّكَ، وَلَهَا يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، فَقَالَ عُمَرُ لِكَعْبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَاَللَّهِ مَا أَدْرِي مِنْ أَيِّ أَمْرَيْكَ أَعْجَبُ، أَمِنْ فَهْمِكَ أَمْرَهُمَا؟ أَمْ مِنْ حُكْمِكَ بَيْنَهُمَا؟ اذْهَبْ فَقَدْ وَلَّيْتُكَ الْقَضَاءَ بِالْبَصْرَةِ، وَهَذَا الْقَضَاءُ مِنْ كَعْبٍ وَالْإِمْضَاءُ مِنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كَانَ حُكْمًا بِالْجَائِزِ دُونَ الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْسِمَ لِلزَّوْجَةِ الْوَاحِدَةِ وَلَا يُجِيبُهَا إلَى الْفِرَاشِ إذْ أَصَابَهَا دَفْعَةً وَاحِدَةً، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ لِوَالِي الْمَظَالِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِالْجَائِزِ دُونَ الْوَاجِبِ. فَصْلٌ: فِي تَوْقِيعَاتِ النَّاظِرِ فِي الْمَظَالِمِ وَإِذَا وَقَّعَ النَّاظِرُ فِي الْمَظَالِمِ فِي قَصَصِ الْمُتَظَلِّمِينَ إلَيْهِ بِالنَّظَرِ بَيْنَهُمْ، لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُوَقَّعِ إلَيْهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ وَالِيًا عَلَى مَا وُقِّعَ بِهِ إلَيْهِ، أَوْ غَيْرَ وَالٍ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ وَالِيًا عَلَيْهِ كَتَوْقِيعِهِ إلَى الْقَاضِي بِالنَّظَرِ بَيْنَهُمَا. فَلَا يَخْلُو حَالُ مَا تَضَمَّنَهُ التَّوْقِيعُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ إذْنًا بِالْحُكْمِ، أَوْ إذْنًا بِالْكَشْفِ وَالْوَسَاطَةِ، فَإِنْ كَانَ إذْنًا بِالْحُكْمِ جَازَ لَهُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا بِأَصْلِ الْوِلَايَةِ، وَيَكُونُ التَّوْقِيعُ تَأْكِيدًا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ قُصُورُ مَعَانِيهِ، وَإِنْ كَانَ إذْنًا بِالْكَشْفِ لِلصُّورَةِ أَوْ التَّوَسُّطِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، فَإِنْ كَانَ فِي التَّوْقِيعِ بِذَلِكَ نَهْيُهُ عَنِ الْحُكْمِ فِيهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا، وَكَانَ هَذَا النَّهْيُ عَزْلًا لَهُ عَنِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ عَلَى عُمُومِ وِلَايَتِهِ فِيمَا عَدَاهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ تَكُونَ الْوِلَايَةُ نَوْعَيْنِ عَامَّةً وَخَاصَّةً، جَازَ أَنْ يَكُونَ الْعَزْلُ نَوْعَيْنِ عَامًّا وَخَاصًّا، وَإِنْ لَمْ يَنْهَهُ فِي التَّوْقِيعِ عَنِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا حِينَ أَمَرَهُ بِالْكَشْفِ، فَقَدْ قِيلَ: يَكُونُ نَذْرُهُ عَلَى عُمُومِهِ فِي جَوَازِ حُكْمِهِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ بِبَعْضِ مَا إلَيْهِ لَا يَكُونُ مَنْعًا مِنْ خَيْرِهِ، وَقِيلَ: بَلْ يَكُونُ مَنْعًا مِنْ غَيْرِهِ، وَقِيلَ: بَلْ يَكُونُ مَمْنُوعًا مِنَ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا مَقْصُورًا عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ التَّوْقِيعُ مِنَ الْكَشْفِ وَالْوَسَاطَةِ؛ لِأَنَّ فَحَوَى التَّوْقِيعِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ ثُمَّ يُنْظَرُ؛ فَإِنْ كَانَ التَّوْقِيعُ بِالْوَسَاطَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ إنْهَاءُ الْحَالِ إلَيْهِ بَعْدَ الْوَسَاطَةِ، وَإِنْ كَانَ بِكَشْفِ الصُّورَةِ لَزِمَهُ إنْهَاءُ حَالِهِمَا إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِخْبَارٌ مِنْهُ، فَلَزِمَهُ إجَابَتُهُ عَنْهُ، فَهَذَا حُكْمُ تَوْقِيعِهِ إلَى مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ. وَأَمَّا الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: وَهُوَ أَنْ يُوَقِّعَ إلَى مَنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ؛ كَتَوْقِيعِهِ إلَى فَقِيهٍ أَوْ شَاهِدٍ، فَلَا يَخْلُو

حَالُ تَوْقِيعِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بِكَشْفِ الصُّورَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِالْوَسَاطَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ بِالْحُكْمِ، فَإِنْ كَانَ التَّوْقِيعُ بِكَشْفِ الصُّورَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَكْشِفَهَا وَيُنْهِيَ مِنْهَا مَا يَصِحُّ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ لِيَجُوزَ لِلْمُوَقِّعِ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ، فَإِنْ أَنْهَى مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ كَانَ خَبَرًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ الْمُوَقِّعُ، وَلَكِنْ يَجْعَلُهُ فِي نَظَرِ الْمَظَالِمِ مِنَ الْأَمَارَاتِ الَّتِي يَغْلِبُ بِهَا حَالُ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فِي الْإِرْهَابِ وَفَضْلِ الْكَشْفِ، فَإِنْ كَانَ التَّوْقِيعُ بِالْوَسَاطَةِ تَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَقِفْ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ التَّوْقِيعُ مِنْ تَخْصِيصِ الْوَسَاطَةِ؛ لِأَنَّ الْوَسَاطَةَ لَا تَفْتَقِرُ إلَى تَقْلِيدٍ وَلَا وِلَايَةٍ، وَإِنَّمَا يُفِيدُ التَّوْقِيعُ بِالْوَسَاطَةِ تَعْيِينَ الْوَسِيطِ بِاخْتِيَارِ الْمُوَقِّعِ، وَقَوَدِ الْخَصْمَيْنِ إلَيْهِ اخْتِيَارًا، فَإِنْ أَفْضَتْ الْوَسَاطَةُ إلَى صُلْحِ الْخَصْمَيْنِ لَمْ يَلْزَمْهُ إنْهَاؤُهَا، وَكَانَ شَاهِدًا فِيهَا مَتَى اُسْتُدْعِيَ لِلشَّهَادَةِ أَدَّاهَا، وَإِنْ لَمْ تُفْضِ الْوَسَاطَةُ إلَى صُلْحِهِمَا كَانَ شَاهِدًا عَلَيْهِمَا فِيمَا اعْتَرَفَا بِهِ عِنْدَهُ، يُؤَدِّيهِ إلَى النَّاظِرِ فِي الْمَظَالِمِ إنْ عَادَ الْخَصْمَانِ إلَى التَّظَلُّمِ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ إنْ لَمْ يَعُودَا، وَإِنْ كَانَ التَّوْقِيعُ بِالْحُكْمِ بَيْنَهُمَا، فَهَذِهِ وِلَايَةٌ يُرَاعَى فِيهَا مَعَانِي التَّوْقِيعِ؛ لِيَكُونَ نَظَرُهُ مَحْمُولًا عَلَى مُوجَبِهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِلتَّوْقِيعِ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُحَالَ بِهِ عَلَى إجَابَةِ الْخَصْمِ إلَى مُلْتَمِسِهِ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ حِينَئِذٍ مَا سَأَلَ الْخَصْمُ فِي ظُلَامَتِهِ، وَيَصِيرُ النَّظَرُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ، فَإِنْ سَأَلَ الْوَسَاطَةَ أَوْ الْكَشْفَ لِلصُّورَةِ كَانَ التَّوْقِيعُ مُوجِبًا لَهُ، وَكَانَ النَّظَرُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ، وَسَوَاءٌ خَرَجَ التَّوْقِيعُ مَخْرَجَ الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ: أَجِبْهُ إلَى مُلْتَمَسِهِ، أَوْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْحِكَايَةِ كَقَوْلِهِ: رَأْيُكَ فِي إجَابَتِهِ إلَى مُلْتَمَسِهِ، كَانَ مُوَقَّعًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي وِلَايَةً يَلْزَمُ حُكْمُهَا، فَكَانَ أَمْرُهَا أَخَفَّ، فَإِنْ سَأَلَ الْمُتَظَلِّمُ فِي قِصَّتِهِ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْخَصْمُ مُسَمًّى، وَالْخُصُومَةُ مَذْكُورَةً؛ لِتَصِحَّ الْوِلَايَةُ عَلَيْهَا، فَإِنْ لَمْ يُسَمَّ الْخَصْمُ وَلَمْ تُذْكَرْ الْخُصُومَةُ لَمْ تَصِحَّ الْوِلَايَةُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ وِلَايَةً عَامَّةً، فَيُحْمَلُ عَلَى عُمُومِهَا، وَلَا خَاصَّةً لِلْجَهْلِ بِهَا، وَإِنْ سَمَّى رَافِعُ الْقِصَّةِ خَصْمَهُ وَذَكَرَ خُصُومَتَهُ نُظِرَ فِي التَّوْقِيعِ بِإِجَابَتِهِ إلَى مُلْتَمَسِهِ، فَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْأَمْرِ فَوَقَّعَ وَأَجَابَ إلَى مُلْتَمَسِهِ وَعَمِلَ بِمَا الْتَمَسَهُ صَحَّتْ وِلَايَتُهُ فِي

الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا، فَهَذَا التَّوْقِيعُ، وَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْحِكَايَةِ لِلْحَالِ فَوَقَّعَ رَأْيَكَ فِي إجَابَتِهِ إلَى مُلْتَمَسِهِ، فَهَذَا التَّوْقِيعُ خَارِجٌ فِي الْأَعْمَالِ السُّلْطَانِيَّةِ مَخْرَجَ الْأَمْرِ، وَالْعُرْفُ بِاسْتِعْمَالِهِ فِيهَا مُعْتَادٌ، فَأَمَّا فِي الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ فَقَدْ جَوَّزَتْهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ اعْتِبَارًا فِي الْعُرْفِ فِيهِ، وَصَحَّتْ بِهِ الْوِلَايَةُ، وَمَنَعَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْ جَوَازِهِ وَانْعِقَادِ الْوِلَايَةِ بِهِ، حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهِ أَمْرٌ تَنْعَقِدُ وِلَايَتُهُ بِهِ اعْتِبَارًا بِمَعَانِي الْأَلْفَاظِ، فَلَوْ كَانَ رَافِعُ الْقِصَّةِ سَأَلَ التَّوْقِيعَ بِالْحُكْمِ بَيْنَهُمَا فَوَقَّعَ بِإِجَابَتِهِ إلَى مُلْتَمَسِهِ مَنْ يَعْتَبِرُ الْعُرْفَ الْمُعْتَادَ صَحَّتْ الْوِلَايَةُ بِهَذَا التَّوْقِيعِ، وَإِنْ وَقَّعَ مَنْ يَعْتَبِرُ مَعَانِيَ الْأَلْفَاظِ لَمْ تَصِحَّ بِهِ الْوِلَايَةُ؛ لِأَنَّهُ سَأَلَ التَّوْقِيعَ بِالْحُكْمِ وَلَمْ يَسْأَلْ الْحُكْمَ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: فِي التَّوْقِيعَاتِ أَنْ يُحَالَ فِيهِ عَلَى إجَابَةِ الْخَصْمِ إلَى مَا سَأَلَ وَيُسْتَأْنَفَ فِيهِ الْأَمْرُ بِمَا تَضَمَّنَهُ، فَيَصِيرُ مَا تَضَمَّنَهُ التَّوْقِيعُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي الْوِلَايَةِ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: حَالُ كَمَالٍ. وَحَالُ جَوَازٍ. وَحَالٌ يَخْلُو مِنَ الْأَمْرَيْنِ. فَأَمَّا الْحَالَةُ الَّتِي يَكُونُ التَّوْقِيعُ فِيهَا كَمَالًا فِي صِحَّةِ الْوِلَايَةِ فَهُوَ أَنْ يَتَضَمَّنَ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْأَمْرُ بِالنَّظَرِ. وَالثَّانِي: الْأَمْرُ بِالْحُكْمِ، فَيَذْكُرُ فِيهِ: اُنْظُرْ بَيْنَ رَافِعِ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَبَيْنَ خَصْمِهِ، وَاحْكُمْ بَيْنَهُمَا بِالْحَقِّ وَمُوجَبِ الشَّرْعِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْحَقِّ الَّذِي يُوَجِّهُهُ حُكْمُ الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ ذَلِكَ فِي التَّوْقِيعَاتِ وَصْفًا لَا شَرْطًا، فَإِنْ كَانَ هَذَا التَّوْقِيعُ جَامِعًا لِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ مِنَ النَّظَرِ وَالْحُكْمِ، فَهُوَ التَّوْقِيعُ الْكَامِلُ وَيَصِحُّ بِهِ التَّقْلِيدُ وَالْوِلَايَةُ. وَأَمَّا الْحَالَةُ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا التَّوْقِيعُ جَائِزًا مَعَ قُصُورِهِ عَنْ حَالِ الْكَمَالِ، فَهُوَ أَنْ يَتَضَمَّنَ الْأَمْرَ بِالْحُكْمِ دُونَ النَّظَرِ فَيَذْكُرُ فِي تَوْقِيعِهِ: اُحْكُمْ بَيْنَ رَافِعِ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَبَيْنَ خَصْمِهِ، أَوْ يَقُولُ: اقْضِ بَيْنَهُمَا، فَتَصِحُّ الْوِلَايَةُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ وَالْقَضَاءَ بَيْنَهُمَا لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ النَّظَرِ، فَصَارَ الْأَمْرُ بِهِ مُتَضَمِّنًا لِلنَّظَرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْهُ.

وَأَمَّا الْحَالَةُ الَّتِي يَكُونُ التَّوْقِيعُ فِيهَا خَالِيًا مِنْ كَمَالٍ وَجَوَازٍ، فَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ فِي التَّوْقِيعِ: اُنْظُرْ بَيْنَهُمَا، فَلَا تَنْعَقِدُ بِهَذَا التَّوْقِيعِ وِلَايَةٌ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ بَيْنَهُمَا قَدْ يَحْتَمِلُ الْوَسَاطَةَ الْجَائِزَةَ وَيَحْتَمِلُ الْحُكْمَ اللَّازِمَ وَهُمَا فِي الِاحْتِمَالِ سَوَاءٌ، فَلَمْ تَنْعَقِدْ بِهِ مَعَ الِاحْتِمَالِ فِي الْوِلَايَةِ، وَإِنْ ذَكَرَ فِيهِ: اُنْظُرْ بَيْنَهُمَا بِالْحَقِّ، فَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْوِلَايَةَ بِهِ مُنْعَقِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ مَا لَزِمَ، وَقِيلَ: لَا تَنْعَقِدُ بِهِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ وَالْوَسَاطَةَ حَقٌّ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

الباب الثامن: في ولاية النقابة على ذوي الأنساب

الباب الثامن: في ولاية النقابة على ذوي الأنساب ... الفصل الثامن: في ولاية النقابة على ذوي الأنساب وَهَذِهِ النِّقَابَةُ1 مَوْضُوعَةٌ عَلَى صِيَانَةِ ذَوِي الْأَنْسَابِ الشَّرِيفَةِ عَنْ وِلَايَةِ مَنْ لَا يُكَافِئُهُمْ فِي النَّسَبِ، وَلَا يُسَاوِيهِمْ فِي الشَّرَفِ؛ لِيَكُونَ عَلَيْهِمْ أَحْبَى وَأَمْرُهُ فِيهِمْ أَمْضَى. رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "اعْرَفُوا أَنْسَابَكُمْ تَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ، فَإِنَّهُ لَا قُرْبَ بِالرَّحِمِ إذَا قُطِعَتْ وَإِنْ كَانَتْ قَرِيبَةً، وَلَا بُعْدَ بِهَا إذَا وُصِلَتْ وَإِنْ كَانَتْ بَعِيدَةً" 2. وَوِلَايَةُ هَذِهِ النِّقَابَةِ تَصِحُّ مِنْ إحْدَى ثَلَاثِ جِهَاتٍ: إمَّا مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَوْلِي عَلَى كُلِّ الْأُمُورِ. وَإِمَّا مِمَّنْ فَوَّضَ الْخَلِيفَةُ إلَيْهِ تَدْبِيرَ الْأُمُورِ؛ كَوَزِيرِ التَّفْوِيضِ وَأَمِيرِ الْإِقْلِيمِ. وَإِمَّا مِنْ نَقِيبٍ عَامِّ الْوِلَايَةِ اسْتَخْلَفَ نَقِيبًا خَاصَّ الْوِلَايَةِ، فَإِذَا أَرَادَ الْمَوْلَى أَنْ يُوَلِّيَ عَلَى الطَّالِبِيِّينَ نَقِيبًا أَوْ عَلَى الْعَبَّاسِيِّينَ نَقِيبًا يُخَيِّرُ مِنْهُمْ أَجَلَّهُمْ بَيْتًا وَأَكْثَرَهُمْ فَضْلًا وَأَجْزَلَهُمْ رَأْيًا فَيُوَلَّى عَلَيْهِمْ؛ لِتَجْتَمِعَ فِيهِ شُرُوطُ الرِّيَاسَةِ وَالسِّيَاسَةِ، فَيُسْرِعُوا إلَى طَاعَتِهِ بِرِيَاسَتِهِ، وَتَسْتَقِيمُ أُمُورُهُمْ بِسِيَاسَتِهِ. وَالنِّقَابَةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: خَاصَّةٌ وَعَامَّةٌ، فَأَمَّا الْخَاصَّةُ فَهُوَ أَنْ يَقْتَصِرَ بِنَظَرِهِ عَلَى مُجَرَّدِ النِّقَابَةِ مِنْ غَيْرِ تَجَاوُزٍ لَهَا إلَى حُكْمٍ وَإِقَامَةِ حَدٍّ، فَلَا يَكُونُ الْعِلْمُ مُعْتَبَرًا فِي شُرُوطِهَا.

_ 1 النقابة -بالكسر، الاسم، وبالفتح المصدر، مثل الولاية والولاية، وفي حديث عبادة بن الصامت -وكان من النقباء؛ جمع نقيب، وهو كالعريف على القوم، المقدَّم عليهم، الذي يتعرف أخبارهم، وينقب عن أحوالهم، أي: يفتش، وكان النبي قد جعل ليلة العقبة كل واحد من الجماعة الذين بايعوه بها نقيبًا على قومه وجماعته؛ ليأخذوا عليهم الإسلام ويعرفوهم شرائطه، وكانوا اثني عشر نقيبًا كلهم من الأنصار، وكان عبادة بن الصامت منهم. وقيل: النقيب: الرئيس الأكبر. وقولهم: في فلان مناقب جميلة، أي: أخلاق، وهو حسن النقيبة، أي: جميل الخليقة، وإنما قيل: للنقيب نقيب؛ لأنه يعلم دخيلة أمر القوم، ويعرف مناقبهم، وهو الطريق إلى معرفة أمورهم. [اللسان: 1/ 770] . 2 صحيح: رواه الحاكم في المستدرك "301"، وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجه أحد منهما، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع "1051".

وَيَلْزَمُهُ فِي النِّقَابَةِ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ حُقُوقِ النَّظَرِ اثْنَا عَشَرَ حَقًّا: أَحَدُهَا: حِفْظُ أَنْسَابِهِمْ مَنْ دَاخِلٍ فِيهَا وَلَيْسَ مِنْهَا، أَوْ خَارِجٍ عَنْهَا وَهُوَ مِنْهَا، فَيَلْزَمُهُ حِفْظُ الْخَارِجِ مِنْهَا كَمَا يَلْزَمُهُ حِفْظُ الدَّاخِلِ فِيهَا؛ لِيَكُونَ النَّسَبُ مَحْفُوظًا عَلَى صِحَّتِهِ مَعْزُوًّا إلَى جِهَتِهِ. وَالثَّانِي: تَمْيِيزُ بُطُونِهِمْ وَمَعْرِفَةُ أَنْسَابِهِمْ، حَتَّى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ بِسَنَوَاتٍ، وَلَا يَتَدَاخَلَ نَسَبٌ فِي نَسَبٍ، وَيُثْبِتُهُمْ فِي دِيوَانِهِ عَلَى تَمْيِيزِ أَنْسَابِهِمْ. وَالثَّالِثُ: مَعْرِفَةُ مَنْ وُلِدَ مِنْهُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى فَيُثْبِتُهُ، وَمَعْرِفَةُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فَيَذْكُرُهُ حَتَّى لَا يَضِيعَ نَسَبُ الْمَوْلُودِ إنْ لَمْ يُثْبِتْهُ، وَلَا يَدَّعِي نَسَبَ الْمَيِّتِ غَيْرُهُ إنْ لَمْ يَذْكُرْهُ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَأْخُذَهُمْ مِنَ الْآدَابِ بِمَا يُضَاهِي شَرَفَ أَنْسَابِهِمْ وَكَرَمَ مُحْتَدِّهِمْ؛ لِتَكُونَ حِشْمَتُهُمْ فِي النُّفُوسِ مَوْفُورَةً، وَحُرْمَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهِمْ مَحْفُوظَةً. وَالْخَامِسُ: أَنْ يُنَزِّهَهُمْ عَنِ الْمَكَاسِبِ الدَّنِيئَةِ، وَيَمْنَعَهُمْ مِنَ الْمَطَالِبِ الْخَبِيثَةِ، حَتَّى لَا يُسْتَقَلَّ مِنْهُمْ مُبْتَذَلٌ، وَلَا يُسْتَضَامَ مِنْهُمْ مُتَذَلِّلٌ. وَالسَّادِسُ: أَنْ يَكُفَّهُمْ عَنِ ارْتِكَابِ الْمَآثِمِ، وَيَمْنَعَهُمْ مِنِ انْتِهَاكِ الْمَحَارِمِ؛ لِيَكُونُوا عَلَى الدِّينِ الَّذِي نَصَرُوهُ أَغْيَرَ، وَلِلْمُنْكَرِ الَّذِي أَزَالُوهُ أَنْكَرَ، حَتَّى لَا يَنْطَلِقَ بِدَمِهِمْ لِسَانٌ، وَلَا يَشْنَأَهُمْ إنْسَانٌ. وَالسَّابِعُ: أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنَ التَّسَلُّطِ عَلَى الْعَامَّةِ لِشَرَفِهِمْ، وَالتَّشَطُّطِ عَلَيْهِمْ لِنَسَبِهِمْ، فَيَدْعُوهُمْ ذَلِكَ إلَى الْمَقْتِ وَالْبُغْضِ، وَيَبْعَثُهُمْ عَلَى الْمُنَاكَرَةِ وَالْبُعْدِ، وَيَنْدُبُهُمْ إلَى اسْتِعْطَافِ الْقُلُوبِ وَتَأْلِيفِ النُّفُوسِ؛ لِيَكُونَ الْمَيْلُ إلَيْهِمْ أَوْفَى وَالْقُلُوبُ لَهُمْ أَصْفَى. وَالثَّامِنُ: أَنْ يَكُونَ عَوْنًا لَهُمْ فِي اسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ حَتَّى لَا يَضْعُفُوا عَنْهَا، وَعَوْنًا عَلَيْهِمْ فِي أَخْذِ الْحُقُوقِ مِنْهُمْ حَتَّى لَا يُمْنَعُوا مِنْهَا؛ لِيَصِيرُوا بِالْمَعُونَةِ فَهُمْ مُنْتَصَفِينَ، وَبِالْمَعُونَةِ عَلَيْهِمْ مُنْصِفِينَ، فَإِنَّ عَدْلَ السِّيرَةِ فِيهِ إنْصَافُهُمْ وَانْتِصَافُهُمْ. وَالتَّاسِعُ: أَنْ يَنُوبَ عَنْهُمْ فِي الْمُطَالَبَةِ بِحُقُوقِهِمُ الْعَامَّةِ فِي سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى فِي الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ الَّذِي لَا يَخْتَصُّ بِهِ أَحَدُهُمْ، حَتَّى يُقَسَّمَ بَيْنَهُمْ بِحَسَبِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ.

وَالْعَاشِرُ: أَنْ يَمْنَعَ أَيَامَاهُمْ أَنْ يَتَزَوَّجْنَ إلَّا مِنَ الْأَكْفَاءِ لِشَرَفِهِنَّ عَلَى سَائِرِ النِّسَاءِ؛ صِيَانَةً لِأَنْسَابِهِنَّ، وَتَعْظِيمًا لِحُرْمَتِهِنَّ أَنْ يُزَوِّجَهُنَّ غَيْرَ الْوُلَاةِ أَوْ يُنْكِحَهُنَّ غَيْرَ الْكُفَاةِ. وَالْحَادِيَ عَشَرَ: أَنْ يُقوِّمَ ذَوِي الْهَفَوَاتِ مِنْهُمْ فِيمَا سِوَى الْحُدُودِ بِمَا لَا يَبْلُغُ بِهِ حَدًّا، وَلَا يَنْهَرُ بِهِ دَمًا، وَيُقِيلُ ذُو الْهَيْئَةِ مِنْهُمْ عَثْرَتَهُ، وَيَغْفِرُ بَعْدَ الْوَعْظِ زَلَّتَهُ. وَالثَّانِيَ عَشَرَ: مُرَاعَاةُ وُقُوفِهِمْ بِحِفْظِ أُصُولِهَا وَتَنْمِيَةِ فُرُوعِهَا، وَإِذَا لَمْ يُرَدَّ إلَيْهِ جِبَايَتُهَا رَاعَى الْجُبَاةَ لَهَا فِيمَا أَخَذُوهُ، وَرَاعَى قِسْمَتَهَا إذَا قَسَّمُوهُ، وَمَيَّزَ الْمُسْتَحِقِّينَ لَهَا إذَا خُصَّتْ، وَرَاعَى أَوْصَافَهُمْ فِيهَا إذَا شُرِطَتْ، حَتَّى لَا يَخْرُجَ مِنْهُمْ مُسْتَحِقٌّ وَلَا يَدْخُلَ فِيهَا غَيْرُ مُحِقٍّ. فَصْلٌ: وَأَمَّا النِّقَابَةُ الْعَامَّةُ فَعُمُومُهَا أَنْ يُرَدَّ إلَيْهِ فِي النِّقَابَةِ عَلَيْهِمْ مَعَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ حُقُوقِ النَّظَرِ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا تَنَازَعُوا فِيهِ. وَالثَّانِي: الْوِلَايَةُ عَلَى أَيْتَامِهِمْ فِيمَا مَلَكُوهُ. وَالثَّالِثُ: إقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ فِيمَا ارْتَكَبُوهُ. وَالرَّابِعُ: تَزْوِيجُ الْأَيَامَى اللَّاتِي لَا يَتَعَيَّنُ أَوْلِيَاؤُهُنَّ أَوْ قَدْ تَعَيَّنُوا فَعَضَلُوهُنَّ. وَالْخَامِسُ: إيقَاعُ الْحَجْرِ عَلَى مَنْ عَتَهَ مِنْهُمْ أَوْ سَفِهَ، وَفَكُّهُ إذَا أَفَاقَ وَرَشَدَ، فَيَصِيرُ بِهَذِهِ الْخَمْسَةِ عَامَّةَ النِّقَابَةِ، فَيُعْتَبَرُ حِينَئِذٍ فِي صِحَّةِ نِقَابَتِهِ وَعَقْدِ وِلَايَتِهِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ؛ لِيَصِحَّ حُكْمُهُ وَيَنْفُذَ قَضَاؤُهُ، فَإِذَا انْعَقَدَتْ وِلَايَتُهُ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَتَضَمَّنَ صَرْفَ الْقَاضِي عَنِ النَّظَرِ فِي أَحْكَامِهِ أَوْ لَا يَتَضَمَّنُ، فَإِنْ كَانَتْ وِلَايَتُهُ مُطْلَقَةَ الْعُمُومِ لَا تَتَضَمَّنُ صَرْفَ الْقَاضِي عَنِ النَّظَرِ فِي أَحْكَامِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ تَقْلِيدُ النَّقِيبِ لِلنَّظَرِ فِي أَحْكَامِهِمْ مُوجِبًا لِصَرْفِ الْقَاضِي عَنْهَا، جَازَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّقِيبِ وَالْقَاضِي النَّظَرُ فِي أَحْكَامِهِمْ، أَمَّا النَّقِيبُ فَخُصُوصُ وِلَايَتِهِ الَّتِي أُوجِبَ دُخُولُهُمْ فِيهَا، وَأَمَّا الْقَاضِي فَعُمُومُ وِلَايَتِهِ الَّتِي أُوجِبَ دُخُولُهُمْ فِيهَا، فَأَيُّهُمَا حَكَمَ فِي تَنَازُعِهِمْ وَتَشَاجُرِهِمْ، وَفِي تَزْوِيجِ أَيَامَاهُمْ نَفَذَ

حُكْمُهُ، وَجَرَى أَمْرُهُمَا فِي الْحُكْمِ عَلَى أَهْلِ هَذَا النَّسَبِ مَجْرَى قَاضِيَيْنِ فِي بَلَدٍ، فَأَيُّهُمَا حَكَمَ نَفَذَ حُكْمُهُ بَيْنَ مُتَنَازِعَيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ إذَا كَانَ بِحُكْمِهِ فِي الِاجْتِهَادِ مَسَاغٌ أَنْ يَنْقُضَهُ، وَإِنْ اخْتَلَفَ مُتَنَازِعَانِ مِنْهُمْ، فَدَعَا أَحَدُهُمَا إلَى حُكْمِ النَّقِيبِ، وَدَعَا الْآخَرُ إلَى حُكْمِ الْقَاضِي، فَقَدْ قِيلَ: إنَّ الدَّاعِيَ إلَى نَظَرِ النَّقِيبِ أَوْلَى لِخُصُوصِ وِلَايَتِهِ، وَقِيلَ: بَلْ هُمَا سَوَاءٌ، فَيَكُونَانِ كَالْمُتَنَازِعِينَ فِي التَّحَاكُمِ إلَى قَاضِيَيْنِ فِي بَلَدٍ، فَيُغَلَّبُ قَوْلُ الطَّالِبِ عَلَى الْمَطْلُوبِ؛ فَإِنْ تَسَاوَيَا كَانَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، وَيُعْمَلُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَرَعَ مِنْهُمَا. وَالثَّانِي: يُقْطَعُ التَّنَازُعُ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَتَّفِقَا عَلَى أَحَدِهِمَا، فَإِنْ كَانَ فِي وِلَايَةِ النَّقِيبِ صَرْفُ الْقَاضِي عَنِ النَّظَرِ بَيْنَ أَهْلِ هَذَا النَّسَبِ، لَمْ يَجُزْ لِلْقَاضِي أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلنَّظَرِ فِي أَحْكَامِهِمْ، سَوَاءٌ اسْتَعْدَى إلَيْهِ مِنْهُمْ مُسْتَعْدٍ أَوْ لَمْ يَسْتَعْدِ، وَخَالَفَ ذَلِكَ حَالَ الْقَاضِيَيْنِ فِي جَانِبَيْ بَلَدٍ إذَا اسْتَعْدَى إلَيْهِ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ مُسْتَعْدٍ يَلْزَمُهُ أَنْ يُعَدِّيَهُ عَلَى خَصْمِهِ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ أَنَّ وِلَايَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَاضِيَيْنِ مَحْصُورَةٌ بِمَكَانِهِ، فَاسْتَوَى حُكْمُ الطَّارِئِ إلَيْهِ وَالْقَاطِنِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُمَا يَصِيرَانِ مِنْ أَهْلِهِ. وَوِلَايَةُ النِّقَابَةِ مَحْصُورَةٌ بِالنَّسَبِ الَّذِي لَا يَخْتَلِفُ حَالُهُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ؛ فَلَوْ تَرَاضَى الْمُتَنَازِعَانِ مِنْ أَهْلِ هَذَا النَّسَبِ بِحُكْمِ الْقَاضِي، لَمْ يَكُنْ لَهُ النَّظَرُ بَيْنَهُمَا، وَلَا أَنْ يَحْكُمَ لَهُمَا أَوْ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ بِالصَّرْفِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَكَانَ النَّقِيبُ أَحَقَّ بِالنَّظَرِ بَيْنَهُمَا إذَا كَانَ التَّنَازُعُ بَيْنَهُمْ لَا يَتَعَدَّاهُمْ إلَى غَيْرِهِمْ، فَإِنْ تَعَدَّاهُمْ فَتَنَازَعَ طَالِبِيٌّ وَعَبَّاسِيٌّ، فَدَعَا الطَّالِبِيُّ إلَى حُكْمِ نَقِيبِهِ، وَدَعَا الْعَبَّاسِيُّ إلَى حُكْمِ نَقِيبِهِ، لَمْ تَجِبْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْإِجَابَةُ إلَى حُكْمِ غَيْرِ نَقِيبِهِ لِخُرُوجِهِ عَنْ وِلَايَتِهِ، فَإِذَا أَقَامَا عَلَى تَمَانُعِهِمَا مِنَ الْإِجَابَةِ إلَى نَقِيبِ أَحَدِهِمَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَرْجِعَانِ إلَى حُكْمِ السُّلْطَانِ الَّذِي هُوَ عَامُّ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِمَا، إذَا كَانَ الْقَاضِي مَصْرُوفًا عَنِ النَّظَرِ بَيْنَهُمَا؛ لِيَكُونَ السُّلْطَانُ هُوَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا، إمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَنْ يَسْتَنِيبُهُ عَلَى الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَشْبَهُ أَنْ يَجْتَمِعَ النَّقِيبَانِ وَيُحْضِرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، وَيَشْتَرِكَانِ فِي سَمَاعِ الدَّعْوَى، وَيَنْفَرِدُ بِالْحُكْمِ بَيْنَهُمَا نَقِيبُ الْمَطْلُوبِ دُونَ الطَّالِبِ؛ لِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَى أَنْ

يَسْتَوْفِيَ مِنْ أَهْلِهِ حُقُوقَ مُسْتَحِقِّيهَا، فَإِنْ تَعَلَّقَ ثُبُوتُ الْحَقِّ بِبَيِّنَةٍ تُسْمَعُ عَلَى أَحَدِهِمَا، أَوْ يَمِينٍ يَحْلِفُ بِهَا أَحَدُهُمَا، سَمِعَ الْبَيِّنَةَ نَقِيبُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ دُونَ نَقِيبِ الْمَشْهُودِ لَهُ، وَأَحْلَفَ نَقِيبَ الْحَالِفِ دُونَ نَقِيبِ الْمُسْتَحْلِفِ؛ لِيَصِيرَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا هُوَ نَقِيبَ الْمَطْلُوبِ دُونَ الطَّالِبِ، وَإِنْ تَمَانَعَ النَّقِيبَانِ أَنْ يَجْتَمِعَا، لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهِمَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مَأْثَمٌ، وَتَوَجَّهَ عَلَيْهِمَا الْمَأْثَمُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي، وَكَانَ أَغْلَظَ النَّقِيبَيْنِ مَأْثَمًا نَقِيبُ الْمَطْلُوبِ مِنْهُمَا؛ لِاخْتِصَاصِهِ بِتَنْفِيذِ الْحُكْمِ. فَلَوْ تَرَاضَى الطَّالِبِيُّ وَالْعَبَّاسِيُّ بِالتَّحَاكُمِ إلَى أَحَدِ النَّقِيبَيْنِ، فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا نَقِيبُ أَحَدِهِمَا نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا نَقِيبَ الْمَطْلُوبِ صَحَّ حُكْمُهُ وَأَخَذَ بِهِ خَصْمُهُ، وَإِنْ حَكَمَ بَيْنَهُمَا نَقِيبُ الطَّالِبِ، فَفِي نُفُوذِ حُكْمِهِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: يَنْفُذُ حُكْمُهُ فِي أَحَدِهِمَا وَيُرَدُّ فِي الْآخَرِ، وَلَوْ أَحْضَرَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً عِنْدَ الْقَاضِي لِيَسْمَعَهَا عَلَى خَصْمِهِ، وَيَكْتُبَ بِهَا إلَى نَقِيبِهِ وَهُوَ مُنْصَرِفٌ عَنِ النَّظَرِ بَيْنَهُمَا، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْمَعَ بَيِّنَةً، وَإِنْ كَانَ يَرَى الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ لَا يَنْفُذُ عَلَى مَنْ تَقُومُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ لَوْ حَضَرَ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَنْفُذَ حُكْمُهُ عَلَيْهِ مَعَ الْغَيْبَةِ. وَلَوْ أَرَادَ الْقَاضِي الَّذِي يَرَى الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ سَمَاعَ بَيِّنَةٍ عَلَى رَجُلٍ مِنْ غَيْرِ عَمَلِهِ؛ لِيَكْتُبَ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنْهَا إلَى قَاضِي بَلَدِهِ جَازَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: إنْ كَانَ فِي غَيْرِ عَمَلِهِ لَوْ حَضَرَ عِنْدَهُ نَفَذَ حُكْمُهُ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ جَازَ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، وَأَهْلُ هَذَيْنِ النَّسَبَيْنِ إنْ حَضَرَ أَحَدُهُمْ عِنْدَهُ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُ هَذَيْنِ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي لِصَاحِبِهِ بِحَقٍّ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي شَاهِدًا بِهِ عَلَيْهِ عِنْدَ نَقِيبِهِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْبَرَ بِهِ حُكْمًا؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ لَا يَنْفُذُ عَلَيْهِ، وَهَكَذَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ عِنْدَ غَيْرِ النَّقِيبَيْنِ كَانَ شَاهِدًا فِيهِ عِنْدَ نَقِيبِهِ، جَازَ وَكَانَ حَاكِمًا عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِهِ عِنْدَ نَقِيبِ خَصْمِهِ فَفِيهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ، يَكُونُ فِي أَحَدِهِمَا شَاهِدًا، وَيَكُونُ فِي الْوَجْهِ الْآخَرِ حَاكِمًا فِيهِ؛ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ نَقِيبِ الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ، وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي وِلَايَاتِ زُعَمَاءِ الْعَشَائِرِ وَوُلَاةِ الْقَبَائِلِ الْمُنْفَرِدِينَ بِالْوِلَايَاتِ عَلَى عَشَائِرِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ.

الباب التاسع: في الولايات على إمامة الصلوات

الباب التاسع: في الولايات على إمامة الصلوات وَالْإِمَامَةُ عَلَى الصَّلَوَاتِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: الْإِمَامَةُ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وَالثَّانِي: الْإِمَامَةُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ. وَالثَّالِثُ: الْإِمَامَةُ فِي صَلَوَاتِ النَّدْبِ. فَأَمَّا الْإِمَامَةُ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَنَصْبُ الْإِمَامِ فِيهَا مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْمَسَاجِدِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الصَّلَوَاتُ، وَهِيَ ضَرْبَانِ: مَسَاجِدُ سُلْطَانِيَّةٌ وَمَسَاجِدُ عَامّيَّةٌ. فَأَمَّا الْمَسَاجِدُ السُّلْطَانِيَّةُ فَهِيَ الْمَسَاجِدُ وَالْجَوَامِعُ وَالْمَشَاهِدُ، وَمَا عَظُمَ وَكَثُرَ أَهْلُهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ الَّتِي يَقُومُ السُّلْطَانُ بِمُرَاعَاتِهَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْتَدَبَ لِلْإِمَامَةِ فِيهَا إلَّا مَنْ نَدَبَهُ السُّلْطَانُ لَهَا وَقَلَّدَهُ الْإِمَامَةَ فِيهَا؛ لِئَلَّا يَفْتَئِتَ الرَّعِيَّةُ عَلَيْهِ فِيمَا هُوَ مَوْكُولٌ إلَيْهِ، فَإِذَا قَلَّدَ السُّلْطَانُ فِيهَا إمَامًا كَانَ أَحَقَّ بِالْإِمَامَةِ فِيهَا مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ وَأَعْلَمَ. وَهَذِهِ الْوِلَايَةُ طَرِيقُهَا طَرِيقُ الْأَوْلَى لَا طَرِيقُ اللُّزُومِ وَالْوُجُوبِ، بِخِلَافِ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ وَالنِّقَابَةِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهُ لَوْ تَرَاضَى النَّاسُ بِإِمَامٍ وَصَلَّى بِهِمْ أَجْزَأَهُمْ وَصَحَّتْ جَمَاعَتُهُمْ. وَالثَّانِي: إنَّ الْجَمَاعَةَ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ مِنَ السُّنَنِ الْمُخْتَارَةِ وَالْفَضَائِلِ الْمُسْتَحْسَنَةِ، وَلَيْسَتْ مِنَ الْفُرُوضِ الْوَاجِبَةِ فِي قَوْلِ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، إلَّا دَاوُد، فَإِنَّهُ تَفَرَّدَ بِإِيجَابِهَا إلَّا مِنْ عُذْرٍ، وَإِذَا كَانَتْ مِنَ النَّدْبِ الْمُؤَكَّدِ، وَنَدَبَ السُّلْطَانُ لِهَذِهِ الْمَسَاجِدِ إمَامًا، لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ فِيهَا مَعَ حُضُورِهِ؛ فَإِنْ غَابَ وَاسْتَنَابَ كَانَ مَنِ اسْتَنَابَهُ فِيهَا أَحَقَّ بِالْإِمَامَةِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَنِبْ فِي غَيْبَتِهِ اُسْتُؤْذِنَ الْإِمَامُ فِيمَنْ تَقَدَّمَ فِيهَا إنْ أَمْكَنَ. وَإِنْ تَعَذَّرَ اسْتِئْذَانُهُ تَرَاضَى أَهْلُ الْبَلَدِ فِيمَنْ يَؤُمُّهُمْ لِئَلَّا تَتَعَطَّلَ جَمَاعَتُهُمْ، فَإِذَا حَضَرَتْ

صَلَاةٌ أُخْرَى وَالْإِمَامُ عَلَى غَيْبَتِهِ، فَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْمُرْتَضَى لِلصَّلَاةِ الْأُولَى يَتَقَدَّمُ فِي الثَّانِيَةِ وَمَا بَعْدَهَا، إلَى أَنْ يَحْضُرَ الْإِمَامُ الْمُوَلَّى، وَقِيلَ: بَلْ يُخْتَارُ لِلصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ ثَانٍ يُرْتَضَى لَهَا غَيْرَ الْأَوَّلِ؛ لِئَلَّا يَصِيرَ هَذَا الِاخْتِيَارُ تَقَلُّدًا سُلْطَانِيًّا، وَاَلَّذِي أَرَاهُ أَوْلَى مِنْ إطْلَاقِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: أَنْ يُرَاعَى حَالُ الْجَمَاعَةِ فِي الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ، فَإِنْ حَضَرَ لَهَا مَنْ حَضَرَ فِي الْأُولَى كَانَ الْمُرْتَضَى فِي الْجَمَاعَةِ الْأُولَى أَحَقَّ بِالْإِمَامَةِ فِي الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ، وَإِنْ حَضَرَهَا غَيْرُهُمْ كَانَ الْأَوَّلُ كَأَحَدِهِمْ، وَاسْتَأْنَفُوا اخْتِيَارَ إمَامٍ يَتَقَدَّمُهُمْ، فَإِذَا صَلَّى إمَامُ هَذَا الْمَسْجِدِ بِجَمَاعَةٍ، وَحَضَرَ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ تِلْكَ الْجَمَاعَةَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا فِيهِ جَمَاعَةً، وَصَلَّوْا فِيهِ فُرَادَى، لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ الْمُبَايَنَةِ وَالتُّهْمَةِ بِالْمُشَاقَّةِ وَالْمُخَالَفَةِ. وَإِذَا قَلَّدَ السُّلْطَانُ لِهَذَا الْمَسْجِدِ إمَامَيْنِ، فَإِنْ خَصَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِبَعْضِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ جَازَ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُورًا عَلَى مَا خُصَّ بِهِ؛ كَتَقْلِيدِ أَحَدِهِمَا صَلَاةَ النَّهَارِ، وَتَقْلِيدِ الْآخَرِ صَلَاةَ اللَّيْلِ، فَلَا يَتَجَاوَزُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا رَدَّهُ إلَيْهِ، وَإِنْ قَلَّدَ الْإِمَامَةَ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِبَعْضِ الصَّلَوَاتِ لَكِنْ رَدَّ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَوْمًا غَيْرَ يَوْمِ صَاحِبِهِ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي يَوْمِهِ أَحَقَّ بِالْإِمَامَةِ فِيهِ مِنْ صَاحِبِهِ، فَإِنْ أَطْلَقَ تَقْلِيدَهُمَا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ كَانَا فِي الْإِمَامَةِ سَوَاءً، وَأَيُّهُمَا سَبَقَ إلَيْهَا كَانَ أَحَقَّ بِهَا، وَلَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَؤُمَّ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ بِقَوْمٍ آخَرِينَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَامَ فِي الْمَسَاجِدِ السُّلْطَانِيَّةِ جَمَاعَتَانِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ. وَاخْتُلِفَ فِي السَّبْقِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّقَدُّمُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: سَبْقُهُ بِالْحُضُورِ فِي الْمَسْجِدِ. وَالثَّانِي: سَبْقُهُ بِالْإِمَامَةِ فِيهِ، فَإِنْ حَضَرَ الْإِمَامَانِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَسْبِقْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى تَقْدِيمِ أَحَدِهِمَا كَانَ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ، وَإِنْ تَنَازَعَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يُقْرِعُ بَيْنَهُمَا وَيَتَقَدَّمُ مَنْ قَرَعَ مِنْهُمَا. وَالثَّانِي: يَرْجِعُ إلَى اخْتِيَارِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ لِأَحَدِهِمَا. وَيَدْخُلُ فِي وِلَايَةِ هَذَا الْإِمَامِ تَقْلِيدُ الْمُؤَذِّنِينَ مَا لَمْ يُصَرَّحْ لَهُ بِالصَّرْفِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ مِنْ سُنَنِ الصَّلَوَاتِ الَّتِي وَلِيَ الْقِيَامَ بِهَا

فَصَارَ دَاخِلًا فِي الْوِلَايَةِ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمُؤَذِّنِينَ بِمَا يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ فِي الْوَقْتِ وَالْأَذَانِ. فَإِنْ كَانَ شَافِعِيًّا يَرَى تَعْجِيلَ الصَّلَوَاتِ فِي أَوَّلِ الْأَوْقَاتِ، وَتَرْجِيعَ الْأَذَانِ وَإِفْرَادَ الْإِقَامَةِ أَخَذَ الْمُؤَذِّنِينَ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ رَأْيُهُمْ بِخِلَافِهِ، وَإِنْ كَانَ حَنَفِيًّا يَرَى تَأْخِيرَ الصَّلَوَاتِ إلَى آخِرِ الْأَوْقَاتِ إلَّا الْمَغْرِبَ، وَيَرَى تَرْكَ التَّرْجِيعِ فِي الْأَذَانِ وَتَثْنِيَةِ الْإِقَامَةِ أَخَذَهُمْ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ رَأْيُهُمْ بِخِلَافِهِ. ثُمَّ يَعْمَلُ الْإِمَامُ عَلَى رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي أَحْكَامِ صَلَاتِهِ، فَإِنْ كَانَ شَافِعِيًّا يَرَى الْجَهْرَ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْقُنُوتَ فِي الصُّبْحِ، لَمْ يَكُنْ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَلَا لِلْمَأْمُومِينَ أَنْ يُنْكِرُوهُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ حَنَفِيًّا يَرَى تَرْكَ الْقُنُوتِ فِي الصُّبْحِ وَتَرْكَ الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ عُمِلَ عَلَى رَأْيِهِ وَلَمْ يُعَارَضْ فِيهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالْأَذَانِ أَنَّهُ يُؤَدِّي الصَّلَاةَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَارَضَ فِي اجْتِهَادِهِ، وَالْمُؤَذِّنُ يُؤَذِّنُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَجَازَ أَنْ يُعَارَضَ فِي اجْتِهَادِهِ، فَإِنْ أَحَبَّ الْمُؤَذِّنُ أَنَّهُ يُؤَذِّنُ لِنَفْسِهِ عَلَى اجْتِهَادِهِ أَذَّنَ بَعْدَ الْأَذَانِ الْعَامِّ أَذَانًا خَاصًّا لِنَفْسِهِ عَلَى رَأْيِهِ يُسِرُّ بِهِ وَلَا يَجْهَرُ. فَصْلٌ: "في إمامة الصلاة" وَالصِّفَاتُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي تَقْلِيدِ هَذَا الْإِمَامِ خَمْسٌ: أَنْ يَكُونَ رَجُلًا عَادِلًا قَارِئًا فَقِيهًا سَلِيمَ اللَّفْظِ مِنْ نَقْصٍ أَوْ لَثَغٍ، فَإِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ عَبْدًا أَوْ فَاسِقًا صَحَّتْ إمَامَتُهُ وَلَمْ تَنْعَقِدْ وِلَايَتُهُ؛ لِأَنَّ الصِّغَرَ وَالرِّقَّ وَالْفِسْقَ يَمْنَعُ مِنَ الْوِلَايَةِ وَلَا يَمْنَعُ مِنَ الْإِمَامَةِ. قَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَمْرَو بْنَ مَسْلَمَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بِقَوْمِهِ وَكَانَ صَغِيرًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَقْرَأَهُمْ، وَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَلْفَ مَوْلًى لَهُ، وَقَالَ: "صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ بَارٍّ وَفَاجِرٍ"1.

_ 1 ضعيف: رواه البيهقي في السنن الكبرى "4/ 19" "6623"، والدارقطني في سننه "2/ 57". وقال ابن حجر: قال الدارقطني: مكحول لم يسمع من أبي هريرة ورجاله ثقات، وهو عند أبي داود من هذا الوجه بلفظ: "الجهاد واجب مع كل أمير برًّا كان أو فاجرًا، والصلاة واجبة خلف كل مسلم برًّا كان أو فاجرًا، وإن عمل الكبائر"، وله طريق أخرى عند الدارقطني موصولًا، إلَّا أن فيها عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة، وهو ضعيف، ولفظه: "سيليكم بعدي البر والفاجر فاسمعوا وأطيعوا وصلوا =

وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْإِمَامُ امْرَأَةً وَلَا خُنْثَى وَلَا أَخْرَسَ وَلَا أَلْثَغَ، وَإِنْ أَمَّتْ امْرَأَةٌ أَوْ خُنْثَى فَسَدَتْ صَلَاةُ مَنِ ائْتَمَّ بِهِمَا مِنَ الرِّجَالِ وَالْخَنَاثَى، وَإِنْ أَمَّ أَلْثَغُ أَوْ أَخْرَسُ يُبَدِّلُ الْحُرُوفَ بِأَغْيَارِهَا بَطَلَتْ صَلَاةُ مَنِ ائْتَمَّ بِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى مِثْلِ خَرَسِهِ أَوْ لَثَغِهِ1. وَأَقَلُّ مَا عَلَى هَذَا الْإِمَامِ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَالْفِقْهِ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِأُمِّ الْقُرْآنِ، عَالِمًا بِأَحْكَامِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الْمُسْتَحَقُّ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ حَافِظًا لِجَمِيعِ الْقُرْآنِ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ كَانَ أَوْلَى. وَإِذَا اجْتَمَعَ فَقِيهٌ لَيْسَ بِقَارِئٍ، وَقَارِئٌ لَيْسَ بِفَقِيهٍ، فَالْفَقِيهُ أَوْلَى مِنَ الْقَارِئِ إذَا كَانَ يَفْهَمُ الْفَاتِحَةَ؛ لِأَنَّ مَا يَلْزَمُ مِنَ الْقُرْآنِ مَحْصُورٌ، وَمَا يَنُوبُهُ مِنَ الْحَوَادِثِ فِي الصَّلَاةِ غَيْرُ مَحْصُورٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ هَذَا الْإِمَامُ وَمَأْذُونُهُ رِزْقًا عَلَى الْإِمَامَةِ وَالْأَذَانِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ، وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ ذَلِكَ2.

_ = وراءهم"، وفي الباب عن واثلة بن الأسقع رفعه: "لا تكفروا أهل قبلتكم وإن عملوا الكبائر، وصلوا مع كل إمام، وجاهدوا مع كل أمير، وصلوا على كل ميت من أهل القبلة". أخرجه ابن ماجه بإسناد واهٍ، وعن ابن عمر رفعه: "وصلوا على من قال: لا إله الله، وصلوا وراء من قال: لا إله إلا الله" أخرجه الدارقطني وأبو نعيم في الحلية، وإسناده ضعيف، وأخرجه الدارقطني من طريق أخرى واهية. وأخرجه أيضًا عن ابن مسعود رفعه قال: "ثلاث من السنة: الصلاة خلف كل إمام لك صلاته وعليه إثمه" أخرجه الدارقطني وإسناده ساقط، وأخرجه من حديث عليّ رفعه: "من أصل الدين الصلاة خلف كل برّ وفاجر" وإسناده واهٍ، قال الدارقطني: ليس في هذه الأحاديث شيء يثبت، وعن أبي الدرداء رفعه: "لا تكفروا أحدًا من أهل القبلة، وصلوا خلف كل إمام، وجاهدوا مع كل أمير" وإسناده ضعيف، وضعَّفه الشيخ الألباني في تخريج أحاديث العقيدة الطحاوية. 1 قال الشافعي: ولو كانت بالرجل تمتمة لا تبين معها القراءة إذا بلغ منها ما لا يطيق أكثر منه، وأكره أن يكون إمامًا، وإن أمَّ أجزأ إذا أيقن أنه قد قرأ ما تجزئه به صلاته، وكذلك الفأفاء أكره أن يؤم، فإن أمَّ أجزأه، وأحب أن لا يكون الإمام آرت ولا ألثغ، وإن صلى لنفسه أجزأه صلاته، وإن لحن في أمِّ القرآن لحَّانًا؛ لأن اللحان قد يحيل معاني القرآن، فإن لم يلحن لحنًا يحيل معنى القرآن أجزأته صلاته، وغن لحن في أم القرآن لحانًا يحيل معن شيء منها لم أر صلاته مجزاة عنه، ولا عمن خلفه، وإن لحن في غيرها كرهتع ولم أر عليه إعادة؛ لأنه لو ترك أم القرآن وأتى بأمّ القرآن رجوت أن تجزئه صلاته، وإذا أجزأته أجزأت من خلفه -إن شاء الله تعالى، وإنَّ لحنه في أمِّ القرآن وغيرها لا يحيل المعنى أجزأت صلاته، وأكره أن يكون إمامًا بحال [الأم: 1/ 110] . 2 قال ابن قدامة من الحنابلة: ولا يجوز أخذ الأجرة على الأذان في ظاهر المذهب، وكرهه القاسم بن عبد الرحمن والأوزاعي وأصحاب الرأي وابن المنذر؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعثمان بن أبي العاص: "واتخذ =

وَأَمَّا الْمَسَاجِدُ الْعَامَّةُ الَّتِي يَبْنِيهَا أَهْلُ الشَّوَارِعِ وَالْقَبَائِلِ فِي شَوَارِعِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، فَلَا اعْتِرَاضَ لِلسُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ فِي أَئِمَّةِ مَسَاجِدِهِمْ، وَتَكُونُ الْإِمَامَةُ فِيهَا لِمَنْ اتَّفَقُوا عَلَى الرِّضَا بِإِمَامَتِهِ، وَلَيْسَ لَهُمْ بَعْدَ الرِّضَا بِهِ أَنْ يَصْرِفُوهُ عَنِ الْإِمَامَةِ، إلَّا أَنْ يَتَغَيَّرَ حَالُهُ، وَلَيْسَ لَهُمْ بَعْدَ رِضَاهُمْ بِهِ أَنْ يَسْتَخْلِفُوا مَكَانَهُ نَائِبًا عَنْهُ، وَيَكُونُ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ حَقٌّ بِالِاخْتِيَارِ. وَإِذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ فِي اخْتِيَارِ إمَامٍ عُمِلَ عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ، فَإِنْ تَكَافَأَ الْمُخْتَلِفُونَ اخْتَارَ السُّلْطَانُ لَهُمْ؛ قَطْعًا لِتَشَاجُرِهِمْ مَنْ هُوَ أَدْيَنُ وَأَسَنُّ وَأَقْرَأُ وَأَفْقَهُ، وَهَلْ يَكُونُ اخْتِيَارُهُ مَقْصُورًا عَلَى الْعَدَدِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، أَوْ يَكُونُ عَامًّا فِي جَمِيعِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهُ يَكُونُ مَقْصُورًا عَلَى ذَلِكَ الْعَدَدِ الْمُخْتَلِفِ فِي اخْتِيَارِهِ أَحَدُهُمْ، وَلَا يَتَعَدَّاهُمْ إلَى غَيْرِهِمْ؛ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى تَرْكِ مَنْ عَدَاهُمْ. وَالثَّانِي: إنَّهُ يَخْتَارُ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ مَنْ يَرَاهُ لِإِمَامَتِهِ مُسْتَحِقًّا؛ لِأَنَّ السُّلْطَانَ لَا يُضَيَّقُ عَلَيْهِ الِاخْتِيَارُ. وَإِذَا بَنَى رَجُلٌ مَسْجِدًا لَمْ يَسْتَحِقَّ الْإِمَامَةَ فِيهِ، كَانَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ جِيرَانِ الْمَسْجِدِ سَوَاءً فِي إمَامَتِهِ وَأَذَانِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّهُ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ وَالْأَذَانِ فِيهِ. وَإِذَا حَضَرَتْ جَمَاعَةٌ مَنْزِلَ رَجُلٍ لِلصَّلَاةِ فِيهِ كَانَ مَالِكُ الْمَنْزِلِ أَحَقَّهُمْ بِالْإِمَامَةِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُمْ فِي الْفَضْلِ، فَإِنْ حَضَرَهُ السُّلْطَانُ كَانَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَحَقَّ مِنَ الْمَالِكِ لِعُمُومِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِ، وَالْمَالِكُ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي أَحَقُّ لِاخْتِصَاصِهِ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ.

_ = مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا". رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي، وقال: حديث حسن. ولأنه قربة لفاعله لا يصح إلّا من مسلم، فلم يستأجره عليه كالإمامة، وحكي عن أحمد رواية أخرى أنَّه يجوز أخذ الأجرة عليه، ورخص فيه مالك وبعض الشافعية؛ لأنه عمل معلوم يجوز أخذ الرزق عليه، فجاز أخذ الأجرة عليه كسائر الأعمال، ولا نعلم فيه خلافًا في جواز أخذ الرزق عليه، وهذا قول الأوزاعي والشافعي؛ لأنَّ المسلمين حاجة إليه، وقد لا يوجد متطوع به وإذا لم يدفع الرزق فيه يعطل، ويرزقه الإمام من الفيء؛ لأنه المعد للمصالح، فهو كأرزاق القضاة والغزاة، وإن وجد متطوع به لم يرزق غيره؛ لعدم الحاجة. [المغني: 1/ 249] .

فَصْلٌ: وَأَمَّا الْإِمَامَةُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ تَقْلِيدِهَا، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ إلَى أَنَّهَا مِنَ الْوِلَايَاتِ الْوَاجِبَاتِ، وَأَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ لَا تَصِحُّ إلَّا بِحُضُورِ السُّلْطَانِ، أَوْ مَنْ يَسْتَنِيبُهُ فِيهَا، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَفُقَهَاءُ الْحِجَازِ إلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ فِيهَا نَدْبٌ، وَأَنَّ حُضُورَ السُّلْطَانِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِيهَا. فَإِنْ أَقَامَهَا الْمُصَلُّونَ عَلَى شَرَائِطِهَا انْعَقَدَتْ وَصَحَّتْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ فِيهَا عَبْدًا وَإِنْ لَمْ تَنْعَقِدْ وِلَايَتُهُ. وَفِي جَوَازِ إمَامَةِ الصَّبِيِّ قَوْلَانِ، وَلَا يَجُوزُ إقَامَتُهَا إلَّا فِي وَطَنٍ مُجْتَمِعِ الْمَنَازِلِ يَسْكُنُهُ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ، لَا يَظْعَنُونَ عَنْهُ شِتَاءً وَلَا صَيْفًا، إلَّا ظَعْنَ حَاجَةٍ سَوَاءٌ كَانَ مِصْرًا أَوْ قَرْيَةً. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَخْتَصُّ الْجُمُعَةُ بِالْأَمْصَارِ، وَلَا يَجُوزُ إقَامَتُهَا فِي الْقُرَى، وَاعْتُبِرَ الْمِصْرُ بِأَنْ يَكُونَ فِيهِ سُلْطَانٌ يُقِيمُ الْحُدُودَ. وَقَاضٍ يُنَفِّذُ الْأَحْكَامَ، وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الْجُمُعَةِ عَلَى مَنْ كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ؛ فَأَسْقَطَهَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْهُمْ، وَأَوْجَبَهَا الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِمْ إذَا سَمِعُوا نِدَاءَهَا مِنْهُ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْعَدَدِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- إلَى أَنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِأَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجُمُعَةِ، لَيْسَ فِيهِمْ امْرَأَةٌ وَلَا عَبْدٌ وَلَا مُسَافِرٌ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي إمَامِهِمْ، هَلْ يَكُونُ زَائِدًا عَلَى الْعَدَدِ أَوْ وَاحِدًا مِنْهُمْ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهَا لَا تَصِحُّ إلَّا بِأَرْبَعِينَ سِوَى الْإِمَامِ، وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا أَرْبَعِينَ مَعَ الْإِمَامِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ1 وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ2: تَنْعَقِدُ بِاثْنَيْ عَشَرَ سِوَى الْإِمَامِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

_ 1 هو أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة الزهري، أحد الفقهاء والمحدثين، والأعلام التابعين بالمدينة، رأى عشرة من الصحابة -رضوان الله عليهم، وروى عنه جماعة من الأئمة، منهم: مالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، وسفيان الثوري. 2 هو أبو عبد الله محمد بن فرقد الشيباني بالولاء، الفقيه الحنفي، أصله من قرية على باب دمشق في وسط الغوطة اسمها حرستا، وقدم أبوه من الشام إلى العراق، وأقام بواسط، فولد له بها محمد المذكور، ونشأ بالكوفة، وطلب الحديث، ولقي جماعة من أعلام الأئمة، وحضر مجلس أبي حنيفة سنتين، ثم تفقه على أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، وصنَّف الكتب الكثيرة النادرة، منها الجامع الكبير والجامع الصغير وغيرهما، =

وَالْمُزَنِيُّ: تَنْعَقِدُ بِأَرْبَعَةٍ أَحَدُهُمْ الْإِمَامُ، وَقَالَ اللَّيْثُ1 وَأَبُو يُوسُفَ: تَنْعَقِدُ بِثَلَاثَةٍ أَحَدُهُمْ الْإِمَامُ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ2: تَنْعَقِدُ بِاثْنَيْنِ كَسَائِرِ الْجَمَاعَاتِ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا اعْتِبَارَ بِالْعَدَدِ فِي انْعِقَادِهَا، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ أَنْ يَكُونُوا عَدَدًا تُبْنَى لَهُ الْأَوْطَانُ غَالِبًا. وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُقَامَ الْجُمُعَةُ فِي السَّفَرِ وَلَا خَارِجَ الْمِصْرِ إلَّا أَنْ يَتَّصِلَ بِنَاؤُهُ. وَإِذَا كَانَ الْمِصْرُ جَامِعًا لِقُرًى قَدِ اتَّصَلَ بِنَاؤُهَا حَتَّى اتَّسَعَ بِكَثْرَةٍ كَبَغْدَادَ، جَازَ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي مَوَاضِعِهِ الْقَدِيمَةِ، وَلَا يَمْنَعُ اتِّصَالُ الْبُنْيَانِ مِنْ إقَامَتِهَا فِي مَوَاضِعِهَا. وَإِنْ كَانَ الْمِصْرُ وَاحِدًا فِي مَوْضُوعِ الْأَصْلِ وَجَامِعُهُ يَسَعُ جَمِيعَ أَهْلِهِ كَمَكَّةَ، لَمْ يَجُزْ أَنْ تُقَامَ الْجُمُعَةُ فِيهِ إلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ الْمِصْرُ وَاحِدًا مُتَّصِلَ الْأَبْنِيَةِ لَا يَسَعُ جَامِعُهُ جَمِيعَ أَهْلِهِ لِكَثْرَتِهِمْ كَالْبَصْرَةِ، فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْهُ لِلضَّرُورَةِ بِكَثْرَةِ أَهْلِهِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى جَوَازِهَا، وَأَبَاهُ آخَرُونَ وَقَالُوا: إنْ ضَاقَ بِهِمْ اتَّسَعَتْ لَهُمْ الطُّرُقَاتُ، فَلَمْ يُضْطَرُّوا إلَى تَفْرِيقِ الْجُمُعَةِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهُ.

_ = وله في مصنفاته المسائل المشكلة خصوصًا المتعلقة بالعربية. ونشر علم أبي حنيفة، وكان من أفصح الناس، وكان إذا تكلَّم خُيِّلَ لسامعه أنَّ القرآن نزل بلغته، ولما دخل الإمام الشافعي -رضي الله عنه- بغداد كان بها، وجرى بينهما مجالس ومسائل بحضرة هارون الرشيد، وقال الشافعى: ما رأيت أحدًا يسأل عن مسألة فيها نظر إلّا تبينت الكراهة في وجهه، إلّا محمد بن الحسن، وقال أيضًا: حملت من علم محمد بن الحسن وقر بعير. 1 هو الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي، مولاهم الأصبهاني المصري الأصل، أحد الأعلام، شيخ إقليم مصر، ولد سنة أربع وتسعين، وتوفِّي سنة خمس وأربعين ومائة، كان كبير مصر ورئيسها ومحتشمها وأميز من بها في عصره؛ بحيث إن النائب والقاضي تحت أمره ومشورته، وكان الشافعى يتأسَّف على فوات لقيه، وكان يحسن القرآن والنحو، ويحفظ الشعر والحديث، حسن المذاكرة. وقال أحمد ابن أخي وهب: سمعت الشافعي يقول: الليث أفقه من مالك إلّا أنَّ أصحابه لم يقوموا به؛ ومثله عن ابن بكير. 2 هو إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي الفقيه البغدادي صاحب الإمام الشافعي -رضي الله عنه، وناقل الأقوال القديمة عنه، وكان أحد الفقهاء الأعلام، والثقات المأمونين في الدين، له الكتب المصنَّفة في الأحكام، جمع فيها بين الحديث والفقه، وكان أول اشتغاله بمذهب أهل الرأي حتى قدِمَ الشافعي العراق، فاختلف إليه واتبعه، ورفض مذهبه الأول، ولم يزل على ذلك إلى أن توفِّي لثلاث بقين من صفر سنة ست وأربعين ومائتين ببغداد. قال أحمد بن حنبل: هو عندي في مسلاخ سفيان الثوري، أعرفه بالسنة منذ خمسين سنة.

وَإِنْ أُقِيمَتِ الْجُمُعَةُ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي مِصْرٍ قَدْ مُنِعَ أَهْلُهُ مِنْ تَفْرِيقِ الْجُمُعَةِ، فِيهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ الْجُمُعَةَ لِأَسْبَقِهِمَا بِإِقَامَتِهَا، وَعَلَى الْمَسْبُوقِ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ ظُهْرًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّ الْجُمُعَةَ لِلْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ الَّذِي يَحْضُرُهُ السُّلْطَانُ سَابِقًا كَانَ أَوْ مَسْبُوقًا، وَعَلَى مَنْ صَلَّوْا فِي الْأَصْغَرِ إعَادَةُ صَلَاتِهِمْ ظُهْرًا، وَلَيْسَ لِمَنْ قُلِّدَ إمَامَةَ الْجُمُعَةِ أَنْ يَؤُمَّ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ قُلِّدَ إمَامَةَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، هَلْ يَسْتَحِقُّ الْإِمَامَةَ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، فَمَنَعَهُ مِنْهَا مَنْ جَعَلَ الْجُمُعَةَ فَرْدًا مُبْتَدَأً، وَجَوَّزَهَا لَهُ مَنْ جَعَلَهَا ظُهْرًا مَقْصُورًا. وَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ فِي الْجُمُعَةِ يَرَى أَنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ رَجُلًا، وَكَانَ الْمَأْمُومُونَ وَهُمْ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِينَ رَجُلًا يَرَوْنَ انْعِقَادَ الْجُمُعَةِ بِهِمْ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَؤُمَّهُمْ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ، وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ يَرَى أَنَّهَا تَنْعَقِدُ بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ رَجُلًا، وَالْمَأْمُومُونَ لَا يَرَوْنَهُ وَهُمْ أَقَلُّ، لَمْ يَلْزَمْ الْإِمَامَ وَلَا الْمَأْمُومِينَ إقَامَتُهَا؛ لِأَنَّ الْمَأْمُومِينَ لَا يَرَوْنَهُ، وَالْإِمَامَ لَمْ يَجِدْ مَعَهُ مَنْ يُصَلِّيهَا. وَإِذَا أَمَرَ السُّلْطَانُ الْإِمَامَ فِي الْجُمُعَةِ أَنْ لَا يُصَلِّيَ بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَهَا بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ، وَإِنْ كَانَ يَرَاهُ مَذْهَبًا؛ لِأَنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى الْأَرْبَعِينَ، وَمَصْرُوفٌ عَمَّا دُونَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَيْهِمْ مَنْ يُصَلِّيهَا لِصَرْفِ وِلَايَتِهِ عَنْهَا، وَإِذَا أَمَرَهُ السُّلْطَانُ أَنْ يُصَلِّيَ بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ، وَهُوَ لَا يَرَاهُ، فَفِي وِلَايَتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا إنَّهَا بَاطِلَةٌ لِتَعَذُّرِهَا مِنْ جِهَتِهِ. وَالثَّانِي: إنَّهَا صَحِيحَةٌ، وَيَسْتَخْلِفُ عَلَيْهَا مَنْ يَرَاهُ مِنْهُمْ.

فَصْلٌ: وَأَمَّا الْإِمَامَةُ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَسْنُونَةِ مِثْلِ الْجُمُعَةِ فَخَمْسٌ: صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ، وَالْخُسُوفَيْنِ، وَالِاسْتِسْقَاءِ، وَتَقْلِيدُ الْإِمَامَةِ فِيمَا نُدِبَ لِجَوَازِهَا جَمَاعَةً وَفُرَادَى، وَاخْتُلِفَ فِي حُكْمِهَا، فَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّهَا مِنَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ. وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمْ إلَى أَنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، وَلَيْسَ لِمَنْ قُلِّدَ إمَامَةَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ أَوْ إمَامَةَ الْجُمُعَةِ حَقٌّ فِي إقَامَتِهَا، إلَّا أَنْ يُقَلَّدَ جَمِيعَ الصَّلَوَاتِ فَتَدْخُلُ فِي غَيْرِهَا. فَأَمَّا صَلَاةُ الْعِيدِ: فَوَقْتُهَا مَا بَيْنَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَزَوَالِهَا، وَيُخْتَارُ تَعْجِيلُ الْأَضْحَى وَتَأْخِيرُ الْفِطْرِ، وَيُكَبِّرُ النَّاسُ فِي لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ مِنْ بَعْدِ غُرُوبِ الشَّمْسِ إلَى حِينِ أَخْذِهِمْ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ، وَيَخْتَصُّ عِيدُ الْأَضْحَى بِالتَّكْبِيرِ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ؛ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إلَى بَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَيُصَلِّي الْعِيدَيْنِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ وَالْجُمُعَةَ بَعْدَهَا اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ فِيهِمَا. وَيَخْتَصُّ صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ بِالتَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَدَدِهَا؛ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- إلَى أَنَّهُ يَزِيدُ فِي الْأُولَى سَبْعًا سِوَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا سِوَى تَكْبِيرَةِ الْقِيَامِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا. وَقَالَ مَالِكٌ: يَزِيدُ فِي الْأُولَى سِتًّا وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا سِوَى تَكْبِيرَةِ الْقِيَامِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَيُكَبِّرُ فِي الْأُولَى ثَلَاثًا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ أَرْبَعًا سِوَى تَكْبِيرَةِ الْقِيَامِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، وَيَعْمَلُ الْإِمَامُ فِي هَذِهِ التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ عَلَى رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ، وَلَيْسَ لِمَنْ وَلَّاهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِرَأْيِ نَفْسِهِ، بخِلَافِ الْعَدَدِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِذِكْرِ الْعَدَدِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ خَاصَّ الْوِلَايَةِ، وَلَا يَصِيرُ بِذِكْرِ التَّكْبِيرِ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ خَاصَّ الْوِلَايَةِ فَافْتَرَقَا. فَأَمَّا صَلَاةُ الْخُسُوفَيْنِ1: فَيُصَلِّيهِمَا مَنْ نَدَبَهُ السُّلْطَانُ لَهُمَا أَوْ مَنْ عَمَّتْ وِلَايَتُهُ فَاشْتَمَلَتْ عَلَيْهِمَا، وَهِيَ رَكْعَتَانِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَانِ وَقِيَامَانِ، يُطِيلُ الْقِرَاءَةَ فِيهِمَا، فَيَقْرَأُ فِي الْقِيَامِ الْأَوَّلِ مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى سِرًّا بَعْدَ الْفَاتِحَةِ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوْ بِقَدْرِهَا مِنْ غَيْرِهَا، وَيَرْكَعُ مُسَبِّحًا بِقَدْرِ مِائَةِ آيَةٍ، ثُمَّ يَرْفَعُ مُنْتَصِبًا وَيَقْرَأُ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ بِسُورَةِ آلِ عِمْرَانَ أَوْ بِقَدْرِهَا، وَيَرْكَعُ مُسَبِّحًا بِقَدْرِ

_ 1 يعني: صلاة الخسوف وصلاة الكسوف.

ثَمَانِينَ آيَةً يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، ثُمَّ يَصْنَعُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ كَذَلِكَ، يَقْرَأُ فِي قِيَامِهَا وَيُسَبِّحُ فِي رُكُوعِهَا بِثُلُثَيْ مَا قَرَأَ أَوْ سَبَّحَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، ثُمَّ يَخْطُبُ بَعْدَهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَيُصَلِّي لِخُسُوفِ الْقَمَرِ كَصَلَاةِ كُسُوفِ الشَّمْسِ جَهْرًا؛ لِأَنَّهَا مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُصَلِّي لِخُسُوفِ الْقَمَرِ كَصَلَاةِ كُسُوفِ الشَّمْسِ1. فَأَمَّا صَلَاةُ الِاسْتِسْقَاءِ: فَمَذْهُوبٌ إلَيْهَا عِنْدَ انْقِطَاعِ الْمَطَرِ وَخَوْفِ الْجَدْبِ يَتَقَدَّمُ مَنْ قُلِّدَهَا بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ قَبْلَهَا، وَالْكَفِّ فِيهَا عَنِ التَّظَالُمِ وَالتَّخَاصُمِ، وَيُصْلِحُ فِيهَا بَيْنَ الْمُتَشَاجِرَيْنِ وَالْمُتَخَاصَمِينَ وَالْمُتَهَاجِرَيْنِ، وَهِيَ كَصَلَاةِ الْعِيدِ فِي وَقْتِهَا. وَإِذَا قُلِّدَ صَلَاةَ الْعِيدِ فِي عَامٍ جَازَ مَعَ إطْلَاقِ وِلَايَتِهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي كُلِّ عَامٍ مَا لَمْ يُصْرَفْ. وَإِذَا قُلِّدَ صَلَاةَ الْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ فِي عَامٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعَ إطْلَاقِ وِلَايَتِهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي غَيْرِهِ، إلَّا أَنْ يُقَلَّدَ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ رَاتِبَةٌ وَصَلَاةَ الْخُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ عَارِضَةٌ، وَإِذَا مُطِرُوا وَهُمْ فِي صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ أَتَمُّوهَا، وَخَطَبَ بَعْدَهَا شُكْرًا، وَلَوْ مُطِرُوا قَبْلَ الدُّخُولِ فِيهَا لَمْ يُصَلُّوا، وَشَكَرُوا اللَّهَ تَعَالَى بِغَيْرِ خُطْبَةٍ، وَكَذَلِكَ فِي الْخُسُوفِ إذَا انْجَلَى، وَلَوْ اقْتَصَرَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ

_ 1 قال ابن قدامة في المغني: الكسوف والخسوف شيء واحد، وكلاهما قد وردت به الأخبار، وجاء القرآن بلفظ الخسوف. مسألة: قال أبو القاسم: وإذا خسفت الشمس أو القمر فزع الناس إلى الصلاة، إن أحبوا جماعة وإن أحبوا فرادى، وصلاة الكسوف ثابتة، ولا نعلم بين أهل العلم في مشروعيتها لكسوف الشمس خلافًا، وأكثر أهل العلم على أنَّها مشروعة لخسوف القمر، فعله ابن عباس، وبه قال عطاء والحسن والنخعي والشافعي وإسحاق. وقال مالك: ليس لكسوف القمر سُنَّة. وحكى ابن عبد البر عنه وعن أبي حنيفة أنهما قالا: يصلي الناس لخسوف القمر وحدانًا ركعتين ركعتين، ولا يصلون جماعة؛ لأن في خروجهم إليها مشقة. ولنا أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فصلوا" متفق عليه، فأمر بالصلاة لهما أمرًا واحدًا، وعن ابن عباس أنَّه صلى بأهل البصرة في خسوف القمر ركعتين، وقال: إنما صليت لأنِّي رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي. ولأنه أحد الكسوفين فأشبه كسوف الشمس، ويسنّ فعلها جماعة وفرادى، وبهذا قال مالك والشافعي. وحكي عن الثوري أنه قال: إن صلاها الإمام صلوها معه وإلا فلا تصلوا. [المغني: 2/ 142] .

عَلَى الدُّعَاءِ أَجْزَأَ. وَرَوَى أَبُو مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ أَتَيْنَاكَ وَمَا لَنَا بَعِيرٌ يَئِطُّ، وَلَا صَبِيٌّ يَصْطَبِحُ، ثُمَّ أَنْشَدَهُ من "الطويل": أَتَيْنَاكَ وَالْعَذْرَاءُ يَدْمَى لَبَانُهَا ... وَقَدْ شُغِلَتْ أُمُّ الصَّبِيِّ عَنِ الطِّفْلِ وَأَلْقَى بِكَفَّيْهِ الصَّبِيُّ اسْتِكَانَةً ... مِنَ الْجُوعِ ضَعْفًا لَا يُمِرُّ وَلَا يُحْلِي وَلَا شَيْءَ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ عِنْدَنَا ... سِوَى الْحَنْظَلِ الْعَامِّيِّ وَالْعِلْهِزِ الْغِسْلِ وَلَيْسَ لَنَا إلَّا إلَيْكَ فِرَارُنَا ... وَأَيْنَ فِرَارُ النَّاسِ إلَّا إلَى الرُّسُلِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: "اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا غَدَقًا مُغِيثًا سَحًّا طَبَقًا غَيْرَ رَائِثٍ، يَنْبُتُ بِهِ الزَّرْعُ، وَيُمْلَى بِهِ الضَّرْعُ، وَتَحْيَا بِهِ الْأَرْضُ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ". فَمَا اسْتَتَمَّ الدُّعَاءَ حَتَّى أَلْقَتِ السَّمَاءُ بِأَرْوَاقِهَا، فَجَاءَ أَهْلُ الْبِطَانَةِ يَصِيحُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْغَرَقُ، فَقَالَ: "حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا". فَانْجَابَتْ السَّحَابُ عَنِ الْمَدِينَةِ كَالْإِبِلِ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، ثُمَّ قَالَ: "لِلَّهِ دَرُّ أَبِي طَالِبٍ، لَوْ كَانَ حَيًّا لَقَرَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الَّذِي يَنْشُدُ شِعْرَهُ". فَقَامَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: كَأَنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَدْتَ قَوْلَهُ مِنْ "الطَّوِيلِ": وَأَبْيَضُ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ... ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ يَلُوذُ بِهِ الْهُلَّاكُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ ... فَهُمْ عِنْدَهُ فِي نِعْمَةٍ وَفَوَاضِلِ كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللَّهِ نَبْزِي مُحَمَّدًا ... وَلَمَّا نُقَاتِلْ دُونَهُ وَنُنَاضِلْ وَنُسْلِمُهُ حَتَّى نُصَرَّعَ حَوْلَهُ ... وَنَذْهَلَ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالْحَلَائِلِ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ كِنَانَةَ فَأَنْشَدَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مِنَ الْمُتَقَارَبِ": لَكَ الْحَمْدُ وَالْحَمْدُ مِمَّنْ شَكَرْ ... سُقِينَا بِوَجْهِ النَّبِيِّ الْمَطَرْ دَعَا اللَّهَ خَالِقَهُ دَعْوَةً ... وَأَشْخَصَ مَعَهَا إلَيْهِ الْبَصَرْ فَلَمْ يَكُ إلَّا كَإِلْقَاءِ الرِّدَاءِ ... وَأَسْرَعَ حَتَّى رَأَيْنَا الْمَطَرْ دِفَاقَ الْعَزَالِي جَمَّ الْبُعَا ... قِ أَغَاثَ بِهِ اللَّهُ عَلِيًّا مُضَرْ وَكَانَ كَمَا قَالَهُ عَمُّهُ ... أَبُو طَالِبٍ أَبْيَضَ ذَا غُرَرْ

بِهِ اللَّهُ أَرْسَلَ صَوْبَ الْغَمَا ... مِ وَهَذَا الْعِيَانُ وَذَاكَ الْخَبَرْ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنْ يَكُنْ شَاعِرٌ يُحْسِنُ فَقَدْ أَحْسَنْتَ" 1. وَلِبْسُ السَّوَادِ مُخْتَصٌّ بِالْأَئِمَّةِ فِي الصَّلَوَاتِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا دَعْوَةُ السُّلْطَانِ اتِّبَاعًا لِشِعَارِهِ الْآنَ. وَتُكْرَهُ مُخَالَفَتُهُ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَرِدْ بِهِ شَرْعٌ تَحَرُّزًا مِنْ مُبَايَنَتِهِ، وَإِذَا تَغَلَّبَ مَنْ مُنِعَ الْجَمَاعَةَ كَانَ عُذْرًا فِي تَرْكِ الْمُجَاهَرَةِ بِهَا، وَإِذَا أَقَامَهَا الْمُتَغَلِّبُ مَعَ سُوءِ مُعْتَقَدِهِ اُتُّبِعَ فِيهَا، وَلَا يُتَّبَعُ عَلَى بِدْعَةٍ يُحْدِثُهَا.

_ 1 قلت: وأصل الحديث في الصحيحين والسنن.

الباب العاشر: الولاية على الحج

الباب العاشر: الولاية على الحج هَذِهِ الْوِلَايَةُ عَلَى الْحَجِّ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ عَلَى تَسْيِيرِ الْحَجِيجِ. وَالثَّانِي: عَلَى إقَامَةِ الْحَجِّ، فَأَمَّا تَسْيِيرُ الْحَجِيجِ فَهُوَ وِلَايَةُ سِيَاسَةٍ وَزَعَامَةٍ وَتَدْبِيرٍ. وَالشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْمُوَلَّى أَنْ يَكُونَ مُطَاعًا ذَا رَأْيٍ وَشَجَاعَةٍ وَهَيْبَةٍ وَهِدَايَةٍ. وَاَلَّذِي عَلَيْهِ فِي حُقُوقِ هَذِهِ الْوِلَايَةِ عَشَرَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: جَمْعُ النَّاسِ فِي مَسِيرِهِمْ وَنُزُولِهِمْ حَتَّى لَا يَتَفَرَّقُوا، فَيَخَافُ النَّوَى وَالتَّغْرِيرَ. وَالثَّانِي: تَرْتِيبُهُمْ فِي الْمَسِيرِ وَالنُّزُولِ بِإِعْطَاءِ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ مُقَادًا، حَتَّى يَعْرِفَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ مُقَادَهُ إذَا سَارَ، وَيَأْلَفَ مَكَانَهُ إذَا نَزَلَ، فَلَا يَتَنَازَعُونَ فِيهِ وَلَا يَضِلُّونَ عَنْهُ. وَالثَّالِثُ: يَرْفُقُ بِهِمْ فِي السَّيْرِ حَتَّى لَا يَعْجِزَ عَنْهُ ضَعِيفُهُمْ وَلَا يَضِلَّ عَنْهُ مُنْقَطِعُهُمْ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "الضَّعِيفُ أَمِيرُ الرُّفْقَةِ" 1، يُرِيدُ أَنَّ مَنْ ضَعُفَتْ دَوَابُّهُ كَانَ عَلَى الْقَوْمِ أَنْ يَسِيرُوا بِسَيْرِهِ. الرَّابِعُ: أَنْ يَسْلُكَ بِهِمْ أَوْضَحَ الطُّرُقِ وَأَخْصَبَهَا، وَيَتَجَنَّبَ أَجَدْبَهَا وَأَوْعَرَهَا. وَالْخَامِسُ: أَنْ يَرْتَادَ لَهُمْ الْمِيَاهَ إذَا انْقَطَعَتْ، وَالْمَرَاعِيَ إذَا قَلَّتْ. وَالسَّادِسُ: أَنْ يَحْرُسَهُمْ إذَا نَزَلُوا، وَيَحُوطَهُمْ إذَا رَحَلُوا، حَتَّى لَا يَتَخَطَّفَهُمْ دَاعِرٌ، وَلَا يَطْمَعَ فِيهِمْ مُتَلَصِّصٌ. وَالسَّابِعُ: أَنْ يَمْنَعَ عَنْهُمْ مَنْ يَصُدُّهُمْ عَنِ الْمَسِيرِ، وَيَدْفَعَ عَنْهُمْ مَنْ يَحْصُرُهُمْ عَنِ الْحَجِّ بِقِتَالٍ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، أَوْ بِبَذْلِ مَالٍ إنْ أَجَابَ الْحَجِيجُ إلَيْهِ، وَلَا يَسَعُهُ أَنْ يُجْبِرَ أَحَدًا عَلَى بَذْلِ الْخَفَارَةِ إنِ امْتَنَعَ مِنْهَا، حَتَّى يَكُونَ بَاذِلًا لَهَا عَفْوًا، وَمُجِيبًا إلَيْهَا طَوْعًا، فَإِنْ بَذَلَ الْمَالَ عَلَى التَّمْكِينِ مِنَ الْحَجِّ لَا يَجِبُ. وَالثَّامِنُ: أَنْ يُصْلِحَ بَيْنَ الْمُتَشَاجِرِينَ، وَيُتَوَسَّطَ بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ، وَلَا يَتَعَرَّضَ لِلْحُكْمِ

_ 1 سبق تخريجه.

بَيْنَهُمْ إجْبَارًا، إلَّا أَنْ يُفَوَّضَ الْحُكْمُ إلَيْهِ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِهِ، فَيَجُوزُ لَهُ حِينَئِذٍ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ، فَإِنْ دَخَلُوا بَلَدًا فِيهِ حَاكِمٌ جَازَ لَهُ وَلِحَاكِمِ الْبَلَدِ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، فَأَيُّهُمَا حَكَمَ نَفَذَ حُكْمُهُ، وَلَوْ كَانَ التَّنَازُعُ بَيْنَ الْحَجِيجِ وَأَهْلِ الْبَلَدِ لَمْ يَحْكُمْ بَيْنَهُمْ إلَّا حَاكِمُ الْبَلَدِ. وَالتَّاسِعُ: أَنْ يُقَوِّمَ زَائِغَهُمْ وَيُؤَدِّبَ خَائِنَهُمْ، وَلَا يَتَجَاوَز التَّعْزِيرَ إلَى الْحَدِّ، إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فِيهِ، فَيَسْتَوْفِيَهُ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ. فَإِنْ دَخَلَ بَلَدًا فِيهِ مَنْ يَتَوَلَّى إقَامَةَ الْحُدُودِ عَلَى أَهْلِهِ نَظَرَ، فَإِنْ كَانَ مَا أَتَاهُ الْمَحْدُودُ قَبْلَ دُخُولِ الْبَلَدِ؛ فَوَالِي الْحَجِيجِ أَوْلَى بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ مِنْ وَالِي الْبَلَدِ، وَإِنْ كَانَ مَا أَتَاهُ الْمَحْدُودُ فِي الْبَلَدِ فَوَالِي الْبَلَدِ أَوْلَى بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ مِنْ وَالِي الْحَجِيجِ. وَالْعَاشِرُ: أَنْ يُرَاعِيَ اتِّسَاعَ الْوَقْتِ حَتَّى يُؤْمَنَ الْفَوَاتَ، وَلَا يُلْجِئَهُمْ ضِيقُهُ إلَى الْحَثِّ فِي السَّيْرِ، فَإِذَا وَصَلَ إلَى الْمِيقَاتِ أَمْهَلَهُمْ لِلْإِحْرَامِ وَإِقَامَةِ سُنَنِهِ، فَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ مُتَّسِعًا عَدَلَ بِهِمْ إلَى مَكَّةَ؛ لِيَخْرُجُوا مَعَ أَهْلِهَا إلَى الْمَوَاقِفِ، وَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ ضَيِّقًا عَدَلَ بِهِمْ عَنْ مَكَّةَ إلَى عَرَفَةَ؛ خَوْفًا مِنْ فَوَاتِهَا فَيَفُوتَ الْحَجُّ بِهَا، فَإِنَّ زَمَانَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ مَا بَيْنَ زَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، فَمَنْ أَدْرَكَ الْوُقُوفَ بِهَا فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا الزَّمَانِ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ، وَإِنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِهَا حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، وَعَلَيْهِ إتْمَامُ مَا بَقِيَ مِنْ أَرْكَانِهِ وَجُبْرَانِهِ بِدَمٍ وَقَضَاؤُهُ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ إنْ أَمْكَنَهُ، وَفِيمَا بَعْدَهُ إنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ، وَلَا يَصِيرُ حَجُّهُ عُمْرَةً بِالْفَوَاتِ وَلَا يَتَحَلَّلُ بَعْدَ الْفَوَاتِ إلَّا بِإِحْلَالِ الْحَجِّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ: يَتَحَلَّلُ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَصِيرُ إحْرَامُهُ بِالْفَوَاتِ عُمْرَةً، وَإِذَا أَوْصَلَ الْحَجِيجَ إلَى مَكَّةَ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَوْدِ مِنْهُمْ، فَقَدْ زَالَتْ عَنْهُ وِلَايَةُ الْوَالِي عَلَى الْحَجِيجِ، فَلَمْ تَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ يَدٌ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ عَلَى الْعَوْدِ فَهُوَ تَحْتَ وِلَايَتِهِ، وَمُلْتَزِمٌ أَحْكَامَ طَاعَتِهِ، فَإِذَا قَضَى النَّاسُ حَجَّهُمْ أَمْهَلَهُمْ الْأَيَّامَ الَّتِي جَرَتْ بِهَا الْعَادَةُ فِي إنْجَازِ عَلَائِقِهِمْ، وَلَا يُرْهِقُهُمْ فِي الْخُرُوجِ فَيَضُرَّ بِهِمْ، فَإِذَا عَادَ بِهِمْ سَارَ بِهِمْ طَرِيقَ الْمَدِينَةِ لِزِيَارَةِ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِيَجْمَعَ لَهُمْ بَيْنَ حَجِّ بَيْتِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ، وَزِيَارَةِ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رِعَايَةً لِحُرْمَتِهِ، وَقِيَامًا بِحُقُوقِ طَاعَتِهِ، وَلَئِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ فُرُوضِ الْحَجِّ، فَهُوَ مَنْ نُدِبَ الشَّرْعِ الْمُسْتَحَبَّةِ، وَعَادَاتِ الْحَجِيجِ الْمُسْتَحْسَنَةِ.

رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي"1. وَحَكَى الْعُتْبِيُّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَاهُ أَعْرَابِيٌّ فَأَقْبَلَ وَسَلَّمَ فَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي وَجَدْتُ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] . وَقَدْ جِئْتُكَ تَائِبًا مِنْ ذَنْبِي، مُسْتَشْفِعًا بِكَ إلَى رَبِّي، ثُمَّ بَكَى وَأَنْشَأَ يَقُولُ "مِنَ الْبَسِيطِ": #يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ بِالْقَاعِ أَعْظُمُهُ فَطَابَ مِنْ طِيبِهِنَّ الْقَاعُ وَالْأَكَمُ نَفْسِي الْفِدَاءُ لِقَبْرٍ أَنْتَ سَاكِنُهُ فِيهِ الْعَفَافُ وَفِيهِ الْجُودُ وَالْكَرَمُ# ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَانْصَرَفَ، قَالَ الْعُتْبِيُّ: فَأَغْفَيْتُ إغْفَاءَةً فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لِي: يَا عُتْبِيُّ الْحَقِ الْأَعْرَابِيَّ وَأَخْبِرْهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ غَفَرَ لَهُ. ثُمَّ يَكُونُ فِي عَوْدِهِ بِهِمْ مُلْتَزِمًا فِيهِمْ مِنَ الْحُقُوقِ مَا الْتَزَمَهُ فِي صَدْرِهِمْ، حَتَّى يَصِلَ بِهِمْ إلَى الْبَلَدِ الَّذِي سَارَ بِهِمْ مِنْهُ، فَتَنْقَطِعُ وِلَايَتُهُ عَنْهُمْ بِالْعَوْدِ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ الْوِلَايَةُ عَلَى إقَامَةِ الْحَجِّ فَهُوَ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْإِمَامِ فِي إقَامَةِ الصَّلَوَاتِ، فَمِنْ شُرُوطِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِ مَعَ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي أَئِمَّةِ الصَّلَوَاتِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَنَاسِكِ الْحَجِّ وَأَحْكَامِهِ، عَارِفًا بِمَوَاقِيتِهِ وَأَيَّامِهِ، وَتَكُونُ مُدَّةُ وِلَايَتِهِ مُقَدَّرَةً بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ أَوَّلُهَا مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَآخِرُهَا يَوْمُ الْحَلَّاقِ، وَهُوَ النَّفْرُ الثَّانِي فِي الْيَوْمِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَهُوَ فِيمَا قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا أَحَدُ الرَّعَايَا وَلَيْسَ مِنَ الْوُلَاةِ، وَإِذَا كَانَ مُطْلَقَ الْوِلَايَةِ عَلَى إقَامَةِ الْحَجِّ فَلَهُ إقَامَتُهُ فِي كُلِّ عَامٍ مَا لَمْ يُصْرَفْ عَنْهُ، وَإِنْ عُقِدَتْ لَهُ خَاصَّةً عَلَى عَامٍ وَاحِدٍ لَمْ يَتَعَدَّ إلَى غَيْرِهِ إلَّا عَنْ وِلَايَةٍ. وَاَلَّذِي يَخْتَصُّ بِوِلَايَتِهِ وَيَكُونُ نَظَرُهُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ خَمْسَةُ أَحْكَامٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا، وَسَادِسٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ:

_ 1 موضوع: رواه البيهقي في السنن الكبرى "5/ 245"، والدارقطني في سننه "2/ 278". قال الحافظ ابن حجر: ورواه ابن خزيمة في صحيحه من طريقه، وقال: إن صحَّ الخبر فإنَّ في القلب من إسناده، ثم رجَّح أنه من رواية عبد الله بن عمر العمري المكبر الضعيف لا المصغر الثقة، وصرَّح بأن الثقة لا يروي هذا الخبر المنكر، وقال: إنه لا يصح حديث موسى ولا يتابع عليه، ولا يصح في هذا الباب شيء، وفي قوله: لا يتابع عليه نظر فقد..، وقال الشيخ الألباني في ضعيف الجامع "5607": موضوع.

أَحَدُهَا: إشْعَارُ النَّاسِ بِوَقْتِ إحْرَامِهِمْ، وَالْخُرُوجُ إلَى مَشَاعِرِهِمْ؛ لِيَكُونُوا لَهُ مُتَّبِعِينَ، وَبِأَفْعَالِهِ مُقْتَدِينَ. وَالثَّانِي: تَرْتِيبُهُمْ لِلْمَنَاسِكِ عَلَى مَا اسْتَقَرَّ الشَّرْعُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَتْبُوعٌ فِيهَا فَلَا يُقَدِّمُ مُؤَخَّرًا وَلَا يُؤَخِّرُ مُقَدَّمًا، سَوَاءٌ كَانَ التَّرْتِيبُ مُسْتَحَقًّا أَوْ مُسْتَحَبًّا. وَالثَّالِثُ: تَقْدِيرُ الْمَوَاقِفِ بِمَقَامِهِ فِيهَا وَمَسِيرِهِ عَنْهَا، كَمَا تُقَدَّرُ صَلَاةُ الْمَأْمُومِينَ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ. وَالرَّابِعُ: اتِّبَاعُهُ فِي الْأَرْكَانِ الْمَشْرُوعَةِ فِيهَا، وَالتَّأْمِينُ عَلَى أَدْعِيَتِهِ بِهَا؛ لِيَتَّبِعُوهُ فِي الْقَوْلِ كَمَا اتَّبَعُوهُ فِي الْعَمَلِ، وَلِيَكُونَ اجْتِمَاعُ أَدْعِيَتِهِمْ أَفْتَحَ لِأَبْوَابِ الْإِجَابَةِ. وَالْخَامِسُ: إمَامَتُهُمْ فِي الصَّلَوَاتِ فِي الْأَيَّامِ الَّتِي شُرِعَتْ خُطَبُ الْحَجِّ وَجَمْعُ الْحَجِيجِ عَلَيْهَا، وَهُنَّ أَرْبَعٌ: فَالْأُولَى مِنْهُنَّ وَهِيَ أَوَّلُ شُرُوعِهِ فِي مَسْنُونَاتِهِ وَمَنْدُوبَاتِهِ بَعْدَ تَقَدُّمِ إحْرَامِهِ، وَإِنْ كَانَ لَوْ أَخَّرَ إحْرَامَهُ أَجْزَأَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ صَلَاةَ الظُّهْرِ بِمَكَّةَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ، وَيَخْطُبَ بَعْدَهَا، وَهِيَ الْأُولَى مِنْ خُطَبِ الْحَجِّ الْأَرْبَعِ مُفْتَتِحًا لَهَا بِالتَّلْبِيَةِ إنْ كَانَ مُحْرِمًا، وَالتَّكْبِيرِ إنْ كَانَ مُحِلًّا، وَيُعَلِّمُ النَّاسَ أَنَّ مَسِيرَهُمْ فِي غَدٍ إلَى مِنًى؛ لِيَخْرُجُوا إلَيْهَا فِيهِ وَهُوَ الثَّامِنُ مِنَ الْعَشْرِ، فَيَنْزِلُ بِخَيْفِ مِنًى بِبَنِي كِنَانَةَ؛ حَيْثُ نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْهُ، وَيَبِيتُ بِهَا وَيَسِيرُ بِهِمْ مِنْ غَدِهِ وَهُوَ التَّاسِعُ مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى عَرَفَةَ عَلَى طَرِيقِ ضَبٍّ، وَيَعُودُ عَلَى طَرِيقِ الْمَأْزِمَيْنِ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلْيَكُنْ عَائِدًا مِنْ غَيْرِ الطَّرِيقِ الَّذِي صَدَرَ مِنْهُ؛ فَإِذَا أَشْرَفَ عَلَى عَرَفَةَ نَزَلَ بِبَطْنِ عَرَفَةَ وَأَقَامَ بِهِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، ثُمَّ سَارَ مِنْهُ إلَى مَسْجِدِ إبْرَاهِيمَ -صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ- بِوَادِي عَرَفَةَ، يَخْطُبُ بِهِمْ الْخُطْبَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ خُطَبِ الْحَجِّ قَبْلَ الصَّلَاةِ كَالْجُمُعَةِ، فَإِنَّ جَمِيعَ الْخُطَبِ مَشْرُوعَةٌ بَعْدَ الصَّلَاةِ إلَّا خُطْبَتَيْنِ: خُطْبَةُ الْجُمُعَةِ وَخُطْبَةُ عَرَفَةَ، فَإِذَا خَطَبَهَا ذَكَّرَ النَّاسَ فِيهَا مَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَمَنَاسِكِهِ، وَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مِنْ مَحْظُورَاتِهِ، ثُمَّ يُصَلِّي بِهِمْ بَعْدَ الْخُطْبَةِ صَلَاةَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ جَامِعًا بَيْنَهُمَا فِي وَقْتِ الظُّهْرِ، وَيَقْصُرُهُمَا الْمُسَافِرُونَ وَيُتِمُّهَا الْمُقِيمُونَ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي جَمْعِهِ وَقَصْرِهِ، ثُمَّ يَسِيرُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهُمَا إلَى عَرَفَةَ وَهُوَ الْمَوْقِفُ الْمَفْرُوضُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْحَجُّ عَرَفَةَ، فَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ أَدْرَكَ الْحَجَّ،

وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ" 1. وَحَدُّ عَرَفَةَ مَا جَاوَزَ وَادِي عَرَفَةَ الَّذِي فِيهِ الْمَسْجِدُ، وَلَيْسَ الْمَسْجِدُ وَلَا وَادِي عَرَفَةَ مِنْ عَرَفَةَ إلَى الْجِبَالِ الْمُقَابِلَةِ عَلَى عَرَفَةَ كُلِّهَا، فَيَقِفُ مِنْهَا عِنْدَ الْجِبَالِ الثَّلَاثَةِ: النَّبْعَةُ وَالنُّبَيْعَةُ وَالتَّائِبُ، فَقَدْ وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى ضِرْسٍ مِنَ التَّائِبِ، وَجَعَلَ رَاحِلَتَهُ إلَى الْمِحْرَابِ، فَهَذَا أَحَبُّ الْمَوَاقِفِ أَنْ يَقِفَ الْإِمَامُ فِيهِ، وَأَيْنَمَا وَقَفَ مِنْ عَرَفَةَ وَالنَّاسُ أَجْزَأَهُمْ، وَوُقُوفُهُ عَلَى رَاحِلَتِهِ لِيَقْتَدِيَ بِهِ النَّاسُ أَوْلَى، ثُمَّ يَسِيرُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إلَى مُزْدَلِفَةَ مُؤَخِّرًا صَلَاةَ الْمَغْرِبِ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَيَؤُمُّ النَّاسَ فِيهِمَا، وَيَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ وَحَدُّهَا مِنْ حَيْثُ يَفِيضُ مِنْ مَأْزِمَيْ عَرَفَةَ، وَلَيْسَ الْمَأْزِمَانِ مِنْهَا إلَى أَنْ يَأْتِيَ إلَى قَرْنِ مُحَسِّرٍ، وَلَيْسَ الْقَرْنُ مِنْهَا، وَيَلْتَقِطُ النَّاسُ مِنْهَا حَصَى الْجِمَارِ بِقَدْرِ الْأَنَامِلِ مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ، وَيَسِيرُ مِنْهَا بَعْدَ الْفَجْرِ، وَلَوْ سَارَ قَبْلَهُ وَبَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ أَجْزَأَ، وَلَيْسَ الْمَبِيتُ بِهَا رُكْنًا، وَيَجْبُرُهُ دَمٌ إنْ تَرَكَهُ، وَجَعَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ مِنَ الْأَرْكَانِ الْوَاجِبَةِ، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إلَى الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، فَيَقِفُ مِنْهُ بِقُزَحَ دَاعِيًا، وَلَيْسَ الْوُقُوفُ بِهِ فَرْضًا، ثُمَّ يَسِيرُ إلَى مِنًى فَيَبْدَأُ بِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ تِسْعَ حَصَيَاتٍ ثُمَّ يَنْحَر. وَمَنْ سَاقَ مَعَهُ هَدْيًا مِنَ الْحَجِيجِ ثُمَّ يَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ يَفْعَلُ مِنْهُمَا مَا شَاءَ، وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ، ثُمَّ يَتَوَجَّهُ إلَى مَكَّةَ فَيَطُوفُ بِهَا طَوَافَ الْإِفَاضَةِ وَهُوَ الْفَرْضُ، وَيَسْعَى بَعْدَ طَوَافِهِ إنْ لَمْ يَسْعَ قَبْلَ عَرَفَةَ، وَيُجْزِئُهُ سَعْيُهُ قَبْلَ عَرَفَةَ، وَلَا يُجْزِئُهُ طَوَافُهُ قَبْلَهَا، ثُمَّ يَعُودُ إلَى مِنًى فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ الظُّهْرَ، وَيَخْطُبُ بَعْدَهَا وَهِيَ الْخُطْبَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ خُطَبِ الْحَجِّ الْأَرْبَعِ، وَيَذْكُرُ لِلنَّاسِ مَا بَقِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَنَاسِكِهِمْ، وَحُكْمِ إحْلَالِهِمْ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، وَمَا يَسْتَبِيحُونَهُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ بِكُلِّ وَاحِدٍ

_ 1 رواه مالك في موطئه، كتاب الحج "886". قال الحافظ ابن حجر: حديث: "الحج عرفة، فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج"؛ رواه أحمد وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم وقال: صحيح الإسناد، والدارقطني والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن يعمر قال: شهدت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو واقف بعرفات، وأتاه ناس من أهل ند فقالوا: يا رسول الله كيف الحج، فقال: "الحج عرفة، من جاء قبل صلاة الفجر من ليلة جمع فقد تمَّ حجه" لفظ أحمد، وفي رواية لأبي داود: "من أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج"، وألفاظ الباقين نحوه، وفي رواية للدارقطني والبيهقي: "الحج عرفة الحج عرفة". [تلخيص الحبير: 2/ 255] .

مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ، إنْ كَانَ فَقِيهًا قَالَ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلسُّؤَالِ، وَيَبِيتُ بِمِنًى لَيْلَتَهُ وَيَرْمِي مِنْ غَدِهِ -وَهُوَ يَوْمُ النَّفْرِ يَوْمُ الْحَادِيَ عَشَرَ بَعْدَ الزَّوَالِ- الْجِمَارَ الثَّلَاثَ بِإِحْدَى وَعِشْرِينَ حَصَاةٍ، كُلُّ جَمْرَةٍ سَبْعُ حَصَيَاتٍ، وَيَبِيتُ بِهَا لَيْلَتَهُ الثَّانِيَةَ، وَيَرْمِي مِنْ غَدِهَا -وَهُوَ يَوْمُ النَّفْرِ- الْجِمَارَ الثَّلَاثَ، ثُمَّ يَخْطُبُ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ الْخُطْبَةَ الرَّابِعَةَ، وَهِيَ آخِرُ الْخُطَبِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الْحَجِّ، وَيُعْلِمُ النَّاسَ أَنَّ لَهُمْ فِي الْحَجِّ نَفْرَتَيْنِ خَيَّرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمَا بِقَوْلِهِ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ لِمَنْ اتَّقَى} [البقرة: 203] . وَيُعْلِمُهُمْ أَنَّ مَنْ نَفَرَ مِنْ مِنَى قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِهِ هَذَا سَقَطَ عَنْهُ الْمَبِيتُ بِهَا، وَالرَّمْيُ لِلْجِمَارِ مِنْ غَدِهِ، وَمَنْ أَقَامَ بِهَا حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ لَزِمَهُ الْمَبِيتُ بِهَا وَالرَّمْيُ فِي غَدِهِ، وَلَيْسَ لِهَذَا الْإِمَامِ بِحُكْمِ وِلَايَتِهِ أَنْ يَنْفِرَ فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ وَيُقِيمَ لِيَبِيتَ بِهَا، وَيَنْفِرُ فِي النَّفْرِ الثَّانِي مِنْ غَدِهِ فِي يَوْمِ الْحَلَّاقِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّالِثَ عَشَرَ بَعْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّهُ مَتْبُوعٌ، فَلَمْ يَنْفِرْ إلَّا بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الْمَنَاسِكِ، فَإِذَا اسْتَقَرَّ حُكْمُ النَّفْرِ الثَّانِي انْقَضَتْ وِلَايَتُهُ، وَقَدْ أَدَّى مَا لَزِمَهُ، فَهَذِهِ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِوِلَايَتِهِ. وَأَمَّا السَّادِسُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: إنْ فَعَلَ أَحَدُ الْحَجِيجِ مَا يَقْتَضِي تَعْزِيرًا أَوْ يُوجِبُ فِعْلُهُ حَدًّا، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَجِّ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَعْزِيرُهُ وَلَا حَدُّهُ؛ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْحَجِّ فَلَهُ تَعْزِيرُهُ -زَجْرًا وَتَأْدِيبًا، وَفِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَحُدُّهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْكَامِ الْحَجِّ، وَفِي الْآخَرِ لَا يَحُدُّهُ لِخُرُوجِهِ عَنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ الْحَجِيجِ فِيمَا تَنَازَعُوهُ مِنْ غَيْرِ أَحْكَامِ الْحَجِّ، وَفِي حُكْمِهِ بَيْنَهُمَا فِيمَا تَنَازَعُوهُ مِنْ أَحْكَامِ الْحَجِّ؛ كَالزَّوْجَيْنِ إذَا تَنَازَعَا فِي إيجَابِ كَفَّارَةٍ لِلْوَطْءِ وَمُؤْنَةِ الْقَضَاءِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا. وَالثَّانِي: لَا يَحْكُمُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَأْتِيَ أَحَدُ الْحَجِيجِ مَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ، فَلَهُ أَنْ يُجْبِرَهُ بِوُجُوبِهَا، وَيَأْمُرَهُ بِإِخْرَاجِهَا، وَهَلْ يَسْتَحِقُّ إلْزَامُهُ لَهَا، وَيَصِيرُ خَصْمًا لَهُ فِي الْمُطَالَبَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ كَمَا فِي إقَامَةِ الْحُدُودِ،

وَيَجُوزُ لِوَالِي الْحَجِّ أَنْ يُفْتِيَ مَنِ اسْتَفْتَاهُ إذَا كَانَ فَقِيهًا، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِمْ مَا يَسُوغُ فِعْلُهُ إلَّا فِيمَا يَخَافُ أَنْ يَجْعَلَهُ الْجَاهِلُ قُدْوَةً، فَقَدْ أَنْكَرَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ لُبْسَ الْمُضَرَّجِ فِي الْحَجِّ، وَقَالَ: أَخَافُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِكَ الْجَاهِلُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ فِي الْمَنَاسِكِ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَلَوْ أَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ وَهُوَ حَالٌّ غَيْرُ مُحْرِمٍ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ وَصَحَّ الْحَجُّ مَعَهُ، وَهُوَ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ الَّتِي لَا يَصِحُّ أَنْ يَؤُمَّهُمْ فِيهَا وَهُوَ غَيْرُ مُصَلٍّ لَهَا، وَلَوْ قَصَدَ النَّاسُ فِي الْحَجِّ التَّقَدُّمَ عَلَى إمَامِهِمْ فِيهِ وَالتَّأْخِيرَ عَنْهُ جَازَ، وَإِنْ كَانَتْ مُخَالَفَةُ الْمَتْبُوعِ مَكْرُوهَةً، وَلَوْ قَصَدُوا مُخَالَفَتَهُ فِي الصَّلَاةِ فَسَدَتْ عَلَيْهِمْ صَلَاتُهُمْ؛ لِارْتِبَاطِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ، وَانْفِصَالِ حَجِّ النَّاسِ عَنْ حَجِّ الْإِمَامِ.

الباب الحادي عشر: ولاية الصدقات

الباب الحادي عشر: ولاية الصدقات مدخل ... الباب الحادى عشر: ولاية الصدقات الصَّدَقَةُ زَكَاةٌ، وَالزَّكَاةُ صَدَقَةٌ، يَفْتَرِقُ الِاسْمُ وَيَتَّفِقُ الْمُسَمَّى، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي مَالِهِ حَقٌّ سِوَاهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ"1.

_ 1 ضعيف: ضعَّفه الشيخ الألباني في ضعيف الجامع "4909". الزكاة هي الحق الواجب في المال، متى قامت بحاجة الفقراء، وسدت خلة الموازين وكَفَت البائسين، وأطعمتهم من جوع وآمنتهم من خوف، وقامت بكفاية الجهاد والمجاهدين في سبيل الله. فإذا لم تكف الزكاة، ولم تف بحاجة المحتاجين وجب في المال حق آخر سوى الزكاة، ويتحدَّد هذا الحق ويتقيّد بالكفاية. قال تعالي: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] . قال الإمام القرطبيّ مستدلًّا بأن المراد بـ: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} حقوق أخرى غير الزكاة بدليل ذكر الزكاة، وبها كمال البر، وقيل: المراد: الزكاة المفروضة، والأول أصح لما أخرجه الدارقطني عن فاطمة بنت قيس قالت: سألت أو سُئِلَ النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الزكاة فقال: "إن في المال لحقًّا سوى الزكاة" ثم تلا هذه الآية التي في البقرة: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} الآية". قلت: والحديث -وإن كان فيه مقال فقد دلَّ على صحته معنى ما في الآية نفسها من قوله تعالى: {وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} ، فذكر الزكاة مع الصلاة، وذلك دليل على أن المراد بقوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} ليس الزكاة المفروضة، فإن ذلك يكون تكرارًا، والله أعلم. "واتفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة فإنَّه يجب صرف المال إليها، وقال مالك -رحمه الله: يجب على الناس فداء أسراهم، وإن استغرق ذلك أموالهم، وهذا إجماع أيضًا، وهو يقوي ما اخترناه والموفق الإله". ويقول الإمام محمد عبده مبينًا الحكمة من فرض هذه الحقوق الأخرى غير الزكاة عند قوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} : "وهذا الإيتاء غير إيتاء الزكاة الآتي، وهو ركن من أركان البر وواجب =

وَالزَّكَاةُ تَجِبُ فِي الْأَمْوَالِ الْمُرْصَدَةِ لِلنَّمَاءِ، إمَّا بِأَنْفُسِهَا أَوْ بِالْعَمَلِ فِيهَا؛ طُهْرَةً لِأَهْلِهَا وَمَعُونَةً لِأَهْلِ السَّهْمَانِ. وَالْأَمْوَالُ الْمُزَكَّاةُ ضَرْبَانِ: ظَاهِرَةٌ وَبَاطِنَةٌ، فَالظَّاهِرَةُ: مَا لَا يُمْكِنُ إخْفَاؤُهُ؛ كَالزَّرْعِ وَالثِّمَارِ وَالْمَوَاشِي، وَالْبَاطِنَةُ: مَا أَمْكَنَ إخْفَاؤُهُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ، وَلَيْسَ لِوَالِي الصَّدَقَاتِ نَظَرٌ فِي زَكَاةِ الْمَالِ الْبَاطِنِ، وَأَرْبَابُهُ أَحَقُّ بِإِخْرَاجِ زَكَاتِهِ مِنْهُ، إلَّا أَنْ يَبْذُلَهَا أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ طَوْعًا فَيَقْبَلُهَا مِنْهُمْ، وَيَكُونُ فِي تَفْرِيقِهَا عَوْنًا لَهُمْ؛ وَنَظَرُهُ مُخْتَصٌّ بِزَكَاةِ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ يُؤْمَرُ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ بِدَفْعِهَا إلَيْهِ. وَفِي هَذَا الْأَمْرِ إذَا كَانَ عَادِلًا فِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِيجَابِ، وَلَيْسَ لَهُمْ التَّفَرُّدُ بِإِخْرَاجِهَا وَلَا تُجْزِئُهُمْ إنْ أَخْرَجُوهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ إظْهَارًا لِلطَّاعَةِ، وَإِنْ تَفَرَّدُوا بِإِخْرَاجِهَا أَجْزَأَتْهُمْ، وَلَهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا أَنْ يُقَاتِلَهُمْ عَلَيْهَا إذَا امْتَنَعُوا مِنْ دَفْعِهَا، كَمَا قَاتَلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مَانِعِي الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَصِيرُونَ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ طَاعَةِ وُلَاةِ الْأَمْرِ إذَا عَدَلُوا بُغَاةً، وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مِنْ قِتَالِهِمْ إذَا أَجَابُوا إلَى إخْرَاجِهَا بِأَنْفُسِهِمْ. وَالشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي هَذِهِ الْوِلَايَةِ أَنْ يَكُونَ حُرًّا مُسْلِمًا عَادِلًا عَالِمًا بِأَحْكَامِ الزَّكَاةِ إنْ كَانَ مِنْ عُمَّالِ التَّفْوِيضِ، وَإِنْ كَانَ مُنَفِّذًا قَدْ عَيَّنَهُ الْإِمَامُ عَلَى قَدْرٍ يَأْخُذُهُ جَازَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَقَلَّدَهَا مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّدَقَاتُ مِنْ ذِي الْقُرْبَى، وَلَكِنْ يَكُونُ رِزْقُهُ عَنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ. وَلَهُ إذَا قُلِّدَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُقَلَّدَ أَخْذَهَا وَقَسْمَهَا، فَلَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ عَلَى مَا سَنَشْرَحُ.

_ = كالزكاة، وذلك حيث تعرض الحاجة إلى البذل في غير وقت أداء الزكاة، بأن يرى الواحد مضطرًا بعد أداء الزكاة أو قبل تمام الحول، وهو لا يشترط فيه نصاب معين، بل هو حسب الاستطاعة، فإذا كان لا يملك إلا رغيفًا، ورأى مضطرًا إليه في حال استغنائه عنه بأن لم يكن محتاجًا إليه لنفسه، أو لمن تجب عليه نفقته، وجب عليه بذله، وليس المضطر وحده هو الذي له الحق في ذلك، بل أمر الله تعالى المؤمن أن يعطى من غير الزكاة". [يراجع في ذلك فقه الزكاة لشيخنا الدكتور يوسف القرضاوي -حفظه الله تعالي] .

وَالثَّانِي: أَنْ يُقَلَّدَ أَخْذَهَا، وَيُنْهَى عَنْ قِسْمَتِهَا، فَنَظَرُهُ مَقْصُورٌ عَنِ الْأَخْذِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ الْقَسْمِ، وَالْمُقَلَّدُ بِهِمَا بِتَأْخِيرِ قَسْمِهَا مَأْثُومٌ إلَّا أَنْ يَجْعَلَ تَقْلِيدَهَا لِمَنْ يَنْفَرِدُ بِتَعْجِيلِ قَسْمِهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُطْلَقَ تَقْلِيدُهُ عَلَيْهَا، فَلَا يُؤْمَرُ بِقَسْمِهَا، وَلَا يُنْهَى عَنْهُ، فَيَكُونُ بِإِطْلَاقِهِ مَحْمُولًا عَلَى عُمُومِهِ فِي الْأَمْرَيْنِ مِنْ أَخْذِهَا وَقَسْمِهَا، فَصَارَتِ الصَّدَقَاتُ مُشْتَمِلَةً عَلَى الْأَخْذِ وَالْقَسْمِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمٌ، وَسَنَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى الِاخْتِصَارِ. "زكاة المواشي": وَنَبْدَأُ بِأَحْكَامِ أَخْذِهَا فَنَقُولُ: إنَّ الْأَمْوَالَ الْمُزَكَّاةَ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا: الْمَوَاشِي وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، وَسُمِّيَتْ مَاشِيَةً لِرَعْيِهَا وَهِيَ مَاشِيَةٌ. فَأَمَّا الْإِبِلُ: فَأَوَّلُ نِصَابِهَا خَمْسٌ، وَفِيهَا إلَى تِسْعٍ شَاةٌ جَذَعَةٌ1 مِنَ الضَّأْنِ أَوْ ثَنِيَّةٌ2 مِنَ الْمَعْزِ، وَالْجَذَعُ مِنَ الْغَنَمِ مَا لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَالثَّنِيُّ مِنْهَا مَا اسْتَكْمَلَ سَنَةً، فَإِذَا بَلَغَتِ الْإِبِلُ عَشْرًا فَفِيهَا إلَى أَرْبَعَ عَشْرَةَ شَاتَانِ، وَفِي خَمْسَ عَشْرَةَ إلَى تِسْعَ عَشْرَةَ ثَلَاثُ شِيَاهٍ، وَفِي الْعِشْرِينَ إلَى أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ عَدَلَ فِي فَرْضِهَا عَنِ الْغَنَمِ، وَكَانَ فِيهَا إلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ، وَهِيَ الَّتِي اسْتَكْمَلَتِ السَّنَةَ، فَإِنْ عُدِمَتْ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا إلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ، وَهِيَ مَا اسْتَكْمَلَتْ سَنَتَيْنِ؛ فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا إلَى سِتِّينَ حِقَّةٌ 3، وَهِيَ مَا اسْتَكْمَلَتْ ثَلَاثَ سِنِينَ، وَاسْتَحَقَّتْ

_ 1 الجذعة من ولد المعز: التي قاربت الحمل. [المطلع: ص182] . 2 الثني من الإبل: الذي يلقي ثنيته، وذلك في السادسة، ومنَ الغنم الداخل في السنة الثالثة، تيسًا كان أو كبشًا. [اللسان: 14/ 123] . 3 إذا وضعت الناقة ولدًا في أول النتاج فولدها ربع والأنثى ربعة، وإن كان في آخره فهو هبع والأنثى هبعة، فإذا فصل عن أمه فهو فصيل، فإذا استكمل الحول ودخل في الثانية فهو ابن مخاض، والأنثى بنت مخاض، وواحدة المخاض خلفة جنس اسمها، وإنما سمي بذلك لأنَّ أمه قد ضربها الفحل فحملت ولحقت بالمخاض من الإبل وهي الحوامل، فلا يزال ابن مخاض السنة الثانية كلها، فإذا استكمل سنتين ودخل في الثالثة فهو ابن لبون، والأنثى بنت لبون، فإذا مضت الثالثة ودخل في الرابعة فهو حق والأنثى حقة، سميت بذلك؛ لأنها استحقت أن تركب، ويحمل عليها، فإذا دخلت في الخامسة فالذكر ثني والأنثى ثنية، وهما أدنى ما يجزئ في الأضاحي من الإبل والبقر والمعز، فإذا دخل في السابعة فالذكر رباع والأنثى رباعية، فإذا دخل في الثامنة فالذكر السدس وسديس لفظ الذكر والأنثى فيه سواء، فإذا دخل في التاسعة فهو بازل، والأنثى بازل بغير هاء، فإذا دخل في العاشرة فهو مخلف، ثم ليس له اسم، لكن يقال: مخلف عام ومخلف عامين وبازل عامين؛ لطلوع بازله وهو نابه، ثم لا اسم له بعد ذلك. [المطلع: 1/ 124] .

الرُّكُوبَ وَطُرُوقَ الْفَحْلِ، فَإِذَا بَلَغَتْ إحْدَى وَسِتِّينَ فَفِيهَا إلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ جَذَعَةٌ، وَهِيَ مَا اسْتَكْمَلَتْ أَرْبَعَ سِنِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَسَبْعِينَ فَفِيهَا إلَى تِسْعِينَ بِنْتَا لَبُونٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ إحْدَى وَتِسْعِينَ فَفِيهَا إلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ حِقَّتَانِ، وَهَذَا مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ وَانْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ ذَلِكَ؛ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُسْتَأْنَفُ بِهَا الْفَرْضُ الْمُبْتَدَأُ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا اعْتِبَارَ بِالزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ مِائَةً وَثَلَاثِينَ فَيَكُونَ بِهَا حِقَّةٌ وَابْنَتَا لَبُونٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا زَادَتْ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةً كَانَ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، فَيَكُونُ فِي مِائَةٍ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَفِي مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ حِقَّةٌ وَبِنْتَا لَبُونٍ، وَفِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ ثَلَاثُ حِقَاقٍ، وَفِي مِائَةٍ وَسِتِّينَ أَرْبَعُ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَفِي مِائَةٍ وَسَبْعِينَ حِقَّةٌ وَثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَفِي مِائَةٍ وَثَمَانِينَ حِقَّتَانِ وَبِنْتَا لَبُونٍ، وَفِي مِائَةٍ وَتِسْعِينَ ثَلَاثُ حِقَاقٍ وَبِنْتُ لَبُونٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا أَحَدُ فَرْضَيْنِ إمَّا أَرْبَعُ حِقَاقٍ أَوْ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهَا إلَّا أَحَدُ الْفَرْضَيْنِ أُخِذَ، وَإِنْ وُجِدَا مَعًا أَخَذَ الْعَامِلُ أَفْضَلَهُمَا، وَقِيلَ: يَأْخُذُ الْحِقَاقَ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ مَنْفَعَةً وَأَقَلُّ مُؤْنَةً، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسُ فِيمَا زَادَ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ؛ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ. وَأَمَّا الْبَقَرُ: فَأَوَّلُ نِصَابِهَا ثَلَاثُونَ، وَفِيهَا تَبِيعٌ ذَكَرٌ، وَهُوَ مَا اسْتَكْمَلَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَقَدَرَ عَلَى اتِّبَاعِ أُمِّهِ، فَإِنْ أَعْطَى تَبِيعَةً أُنْثَى قُبِلَتْ مِنْهُ، فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ فَفِيهَا مُسِنَّةٌ أُنْثَى، وَهِيَ الَّتِي قَدِ اسْتَكْمَلَتْ سَنَةً، فَإِنْ أَعْطَى مُسِنًّا ذَكَرًا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ إنْ كَانَ فِي بَقَرِهِ أُنْثَى، وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا ذُكُورًا فَقَدْ قِيلَ: يُقْبَلُ الْمُسِنُّ الذَّكَرُ وَقِيلَ: لَا يُقْبَلُ. وَاخْتُلِفَ فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ مِنَ الْبَقَرِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي إحْدَى رِوَايَاتِهِ: يُؤْخَذُ مِنْ خَمْسِينَ بَقَرَةٍ مُسِنَّةٌ وَرُبُعٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا شَيْءَ فِيهَا بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ حَتَّى تَبْلُغَ سِتِّينَ، فَيَجِبُ فِيهَا تَبِيعَانِ، ثُمَّ فِيمَا بَعْدَ السِّتِّينَ فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ؛ وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ، فَيَكُونُ فِي سَبْعِينَ مُسِنَّةٌ وَتَبِيعٌ، وَفِي ثَمَانِينَ مُسِنَّتَانِ، وَفِي تِسْعِينَ ثَلَاثَةُ أَتْبِعَةٍ، وَفِي مِائَةٍ تَبِيعَانِ وَمُسِنَّةٌ وَفِي مِائَةٍ وَعَشَرَةٍ مُسِنَّتَانِ، وَفِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ أَحَدُ فَرْضَيْنِ كَالْمِائَتَيْنِ مِنَ الْإِبِلِ، إمَّا أَرْبَعَةُ أَتْبِعَةٍ أَوْ ثَلَاثُ مُسِنَّاتٍ، وَقِيلَ: يَأْخُذُ الْعَامِلُ مِنْهُمَا مَا وَجَدَ،

فَإِنْ وَجَدَهُمَا أَخَذَ أَفْضَلَهُمَا وَقِيلَ: يَأْخُذُ الْمُسِنَّاتِ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسُ فِيمَا زَادَ فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ. وَأَمَّا الْغَنَمُ: فَأَوَّلُ نِصَابِهَا أَرْبَعُونَ، وَفِيهَا إلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ شَاةٌ جَذَعَةٌ أَوْ ثَنِيَّةٌ مِنَ الْمَعْزِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا صِغَارًا دُونَ الْجِذَاعِ وَالثَّنَايَا، فَيُؤْخَذُ مِنْهَا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ صَغِيرَةٌ دُونَ الْجَذَعِ وَالثَّنِيَّةِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُؤْخَذُ إلَّا جَذَعَةٌ أَوْ ثَنِيَّةٌ، فَإِذَا صَارَتْ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ فَفِيهَا شَاتَانِ إلَى مِائَتَيْ شَاةٍ، فَإِذَا صَارَتْ مِائَتَيْ شَاةٍ وَشَاةٍ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ، إلَى أَنْ تَبْلُغَ أَرْبَعَمِائَةِ شَاةٍ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ، ثُمَّ فِي كُلِّ مِائَةٍ اسْتَكْمَلَهَا مِنْ بَعْدِ الْأَرْبَعِمِائَةِ شَاةٌ، وَيُضَمُّ الضَّأْنُ إلَى الْمَعْزِ، وَالْجَوَامِيسُ إلَى الْبَقَرِ، وَالْبَخَاتِيُّ إلَى الْعِرَابِ؛ لِأَنَّهُمَا نَوْعَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَلَا يُضَمُّ الْإِبِلُ إلَى الْبَقَرِ، وَلَا الْبَقَرُ إلَى الْغَنَمِ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَيُجْمَعُ مَالُ الْإِنْسَانِ فِي الزَّكَاةِ وَإِنْ تَفَرَّقَتْ أَمْوَالُهُ، وَالْخُلَطَاءُ يُزَكُّونَ زَكَاةَ الْوَاحِدِ إذَا اجْتَمَعَتْ فِيهَا شَرَائِطُ الْخُلْطَةِ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَأْثِيرَ لِلْخُلْطَةِ حَتَّى يَمْلِكَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ نِصَابًا، فَيُزَكُّونَ زَكَاةَ الْخُلْطَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا اعْتِبَارَ بِالْخُلْطَةِ، وَيُزَكِّي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَالَهُ عَلَى انْفِرَادِهِ1. وَزَكَاةُ الْمَوَاشِي تَجِبُ بِشَرْطَيْنِ2: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ سَائِمَةً تَرْعَى الْكَلَأَ فَتَقِلُّ مُؤْنَتُهَا وَيَتَوَفَّرُ دَرُّهَا وَنَسْلُهَا، فَإِنْ كَانَتْ

_ 1 قال ابن مفلح المقدسي من الحنابلة: الخلطة مؤثرة في الزكاة، ولو لم يبلغ مال كل خليط، ولا أثر خلطة لمن ليس من أهل الزكاة، ولا في دون نصاب، ولا خلطة لغاصب بمغصوب، فإذا خلط نفسان فأكثر من أهل الزكاة ماشية لهم جميع الحول، فأكثر خلطة أعيان بأن يملكا مالًا مشاعًا بإرث أو بشراء أو غيره، أو خلطة أوصاف بأن يتميز مال كل واحد عن الآخر، فلو استأجر لرعي غنمه بشاة منها فحال ولم يفردها، فهما خليطان، وإن أفردها فنقص النصاب فلا زكاة، لكن يعتبر في خلطة الأوصاف أن لا يتميز في المرعى والمسرح والمبيت وهو المراح والمحلب وهو الموضع الذي تحلب فيه، وقيل: وآنيته والفجل. ذكره الخرقي والمحرّر، وقدم في المستوعب إسقاط المحلب وزاد الراعي وفسر المسرح بموضع رعيها وشربها، وأن أحمد نصَّ على ما ذكروه وفسر في منتهي الغاية، والمسرح بموضع الرعي، مع أنه جمع بينهما في المحرر متابعة للخرقي. [الفروع: 2/ 293] : 2 قلت: بل هناك شرطان آخران هما: أن تبلغ النصاب. ألا تكون عاملة.

عَامِلَةً أَوْ مَعْلُوفَةً لَمْ تَجِبْ فِيهَا زَكَاةٌ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَوْجَبَهَا مَالِكٌ كَالسَّائِمَةِ1، وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَحُولَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ الَّذِي يُسْتَكْمَلُ فِيهِ النَّسْلُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ" 2. وَالسِّخَالُ3 تُزَكَّى بِحَوْلِ أُمَّهَاتِهَا إذَا وُلِدَتْ قَبْلَ الْحَوْلِ وَكَانَتْ الْأُمَّهَاتُ نِصَابًا، فَإِنْ نَقَصَتِ الْأُمَّهَاتُ عَنِ النِّصَابِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تُزَكَّى بِحَوْلِ الْأُمَّهَاتِ إذَا بَلَغَتَا نِصَابًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا يُسْتَأْنَفُ بِهَا الْحَوْلُ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ النِّصَابِ. وَلَا زَكَاةَ فِي الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وَأَوْجَبَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي إنَاثِ الْخَيْلِ السَّائِمَةِ دِينَارًا عَنْ كُلِّ فَرَسٍ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ" 4.

_ 1 قال ابن تيمية: ومن شرطها أن تكون سائمة كما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي -صلى الله عليه وسلم: قال: "ليس في العوامل صدقة" رواه أبو داود، وروى عن علي ومعاذ وجابر أنهم قالوا: لا صدقة في البقر العوامل، ومالك والليث يقولان: فيها الصدقة. [كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه: 25/ 38] . قال فضيلة الشيخ القرضاوي: هذا ما ذهب إليه الجمهور، وخالفهم في ذلك ربيعة ومالك والليث، فأوجبوا الزكاة في المعلوفة من الإبل والبقر والغنم، كما أوجبوا في السائمة سواء بسواء عملًا بالأحاديث المطلقة التي لم يذكر فيها السوم. [فقه الزكاة:1/ 170] . 2 صحيح: رواه ابن ماجه في كتاب الزكاة "1792"، وقال ابن حجر في التلخيص: حديث: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" رواه أبو داود وأحمد والبيهقي من رواية الحارث وعاصم بن ضمرة عن علي، والدارقطني من حديث أنس، وفيه حسان بن سياه وهو ضعيف، وقد تفرَّد به عن ثابت وابن ماجه والدارقطني والبيهقي والعقيلي في الضعفاء من حديث عائشة، وفيه حارثة بن أبي الرجال وهو ضعيف، ورواه الدارقطني والبيهقي من حديث ابن عمر، وفيه إسماعيل بن عياش، وحديثه في أهل الشام ضعيف، وقد رواه ابن نمير ومعتمر وغيرهما عن شيخة فيه، وهو عبيد الله بن عمر الراوي له عن نافع، فوقفه بكذا الدارقطني في العلل الموقوف، وله طريق أخرى، وصحَّحه الشيخ الألباني. 3 السخلة: ولد الشاة من المعز والضأن ذكرًا كان أو أنثى، والجمع: سخل وسخال وسخلة وسخلان. [اللسان: 11/ 332] . 4 رواه أبو داود في كتاب الزكاة "1574"، والترمذي في كتاب الزكاة "620"، والنسائي في كتاب الزكاة "2477"، وابن ماجه في كتاب الزكاة "1790"، وأحمد "713".

وَإِذَا كَانَ وَالِي الصَّدَقَاتِ مِنْ عُمَّالِ التَّفْوِيضِ أَخَذَهَا فِيمَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ عَلَى رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ، لَا عَلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، وَلَا عَلَى اجْتِهَادِ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، وَلَمْ يَجُزْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنُصَّ لَهُ عَلَى قَدْرِ مَا يَأْخُذُهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ عُمَّالِ التَّنْفِيذِ عَمِلَ فِيمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ دُونَ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، وَلَمْ يَجُزْ لِهَذَا الْعَامِلِ أَنْ يَجْتَهِدَ، وَلَزِمَ الْإِمَامَ أَنْ يَنُصَّ لَهُ عَلَى الْقَدْرِ الْمَأْخُوذِ، وَيَكُونَ رَسُولًا فِي الْقَبْضِ مُنَفِّذًا لِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ، فَعَلَى هَذَا إنْ كَانَ هَذَا الْعَامِلُ عَبْدًا أَوْ ذِمِّيًّا جَازَ، فَإِنْ كَانَ فِي زَكَاةٍ عَامَّةٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ فِيهَا وِلَايَةً لَا يَصِحُّ ثُبُوتُهَا مَعَ الْكُفْرِ وَالرِّقِّ، وَإِنْ كَانَ فِي زَكَاةٍ خَاصَّةٍ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ فِي مَالٍ قَدْ عَرَفَ مَبْلَغَ أَصْلِهِ وَقَدْرَ زَكَاتِهِ جَازَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَأْمُورُ بِقَبْضِهِ عَبْدًا أَوْ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّهُ تَجَرَّدَ مِنْ حُكْمِ الْوِلَايَةِ وَتَخَصَّصَ بِأَحْكَامِ الرِّسَالَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي مَالٍ لَمْ يَعْرِفْ مَبْلَغَهُ وَلَا قَدْرَ زَكَاتِهِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ بِقَبْضِهِ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّهُ اُؤْتُمِنَ عَلَى مَالٍ لَا يُعْمَلُ فِيهِ عَلَى خَبَرِهِ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْعَبْدِ مَقْبُولٌ. وَإِذَا تَأَخَّرَ عَامِلُ الصَّدَقَاتِ عَنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ بَعْدَ وُجُوبِ زَكَاتِهِمْ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ وُرُودِ عَمَلِهِ وَتَشَاغُلِهِ بِغَيْرِهِمْ انْتَظَرُوهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهَا إلَّا مِنْ طَائِفَةٍ بَعْدَ طَائِفَةٍ، وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْ جَمِيعِهِمْ وَتَجَاوَزَ الْعُرْفَ فِي وَقْتِ زَكَاتِهِمْ أَخْرَجُوهَا بِأَنْفُسِهِمْ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِدَفْعِهَا إلَيْهِ مَشْرُوطٌ بِالْمُكْنَةِ، وَسَاقِطٌ مَعَ عَدَمِ الْإِمْكَانِ، وَجَازَ لِمَنْ يَتَوَلَّى إخْرَاجَهَا مِنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا عَلَى اجْتِهَادِهِ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ اسْتَفْتَى مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَأْخُذُ بِقَوْلِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ غَيْرَهُ، وَإِنْ اسْتَفْتَى فَقِيهَيْنِ فَأَفْتَاهُ أَحَدُهُمَا بِإِيجَابِهَا، وَأَفْتَاهُ الْآخَرُ بِإِسْقَاطِهَا، أَوْ أَفْتَاهُ أَحَدُهُمَا بِقَدْر، ٍ وَأَفْتَاهُ الْآخَرُ بِأَكْثَرَ مِنْهُ، فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِيمَا يَعْمَلُ بِهِ مِنْهُمَا، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ يَأْخُذُ بِأَغْلَظِ الْقَوْلَيْنِ حُكْمًا، وَقَالَ آخَرُونَ: يَكُونُ مُخَيَّرًا فِي الْأَخْذِ بِقَوْلِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا. فَلَوْ حَضَرَ الْعَامِلُ بَعْدَ أَنْ عَمِلَ رَبُّ الْمَالِ عَلَى اجْتِهَادِ نَفْسِهِ أَوْ اجْتِهَادِ مَنِ اسْتَفْتَاهُ، وَكَانَ اجْتِهَادُ الْعَامِلِ مُؤَدِّيًا إلَى إيجَابِ مَا أَسْقَطَهُ، أَوْ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا أَخْرَجَهُ، كَانَ اجْتِهَادُ الْعَامِلِ أَمْضَى إنْ كَانَ وَقْتُ الْإِمْكَانِ بَاقِيًا، وَاجْتِهَادُ رَبِّ الْمَالِ أَنْفَذَ إنْ كَانَ وَقْتُ الْإِمْكَانِ فَائِتًا، وَلَوْ أَخَذَ الْعَامِلُ الزَّكَاةَ بِاجْتِهَادِهِ، وَعَمِلَ فِي وُجُوبِهَا، وَأَسْقَطَهَا عَلَى رَأْيِهِ، وَأَدَّى اجْتِهَادُ رَبِّ الْمَالِ إلَى إيجَابِ مَا أَسْقَطَهُ، أَوْ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا أَخَذَهُ، لَزِمَ رَبُّ الْمَالِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى

إخْرَاجُ مَا أَسْقَطَهُ مِنْ أَصْلٍ أَوْ تَرَكَهُ مِنْ زِيَادَةٍ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ لِأَهْلِ السَّهْمَانِ. "زكاة الثمار": وَالْمَالُ الثَّانِي مِنْ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ: ثِمَارُ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ، فَأَوْجَبَ أَبُو حَنِيفَةَ الزَّكَاةَ فِي جَمِيعِهَا، وَأَوْجَبَهَا الشَّافِعِيُّ فِي ثِمَارِ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ خَاصَّةً، وَلَمْ يُوجِبْ فِي غَيْرِهِمَا مِنْ جَمِيعِ الْفَوَاكِهِ وَالثِّمَارِ زَكَاةً، وَزَكَاتُهَا تَجِبُ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بُدُوُّ صَلَاحِهَا وَاسْتِطَابَةُ أَكْلِهَا، وَلَيْسَ عَلَى مَنْ قَطَعَهَا قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ زَكَاةٌ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ فِرَارًا مِنَ الزَّكَاةِ، وَلَا يُكْرَهُ إنْ فَعَلَهُ لِحَاجَةٍ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، فَلَا زَكَاةَ فِيهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ إنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا، وَالصَّاعُ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ بِالْعِرَاقِيِّ، وَأَوْجَبَهَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ1. وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ خَرْصِ الثِّمَارِ عَلَى أَهْلِهَا؛ وَجَوَّزَهُ الشَّافِعِيُّ تَقْدِيرًا لِلزَّكَاةِ وَاسْتِظْهَارًا

_ 1 قال ابن قدامة من الحنابلة: قال مالك والشافعي: لا زكاة في ثمر إلَّا التمر والزبيب، ولا في حبٍّ إلّا مال كان قوتًا في حالة الاختيار لذلك، إلّا في الزيتون على اختلافٍ، وحكي عن أحمد إلّا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب، وهذا قول ابن عمر وموسى بن طلحة والحسن وابن سيرين والشعبي والحسن بن صالح وابن أبي ليلى وابن المبارك وأبي عبيد، والسلت: نوع من الشعير، ووافقهم إبراهيم وزاد الذرة، ووافقهم ابن عباس وزاد الزيتون؛ لأن ما عدا هذا لا نصَّ فيه ولا إجماع، ولا هو في معنى المنصوص عليه ولا المجمع عليه، فيبقى على الأصل. وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو أنه قال: إنما سنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الزكاة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب. وقال أبو حنيفة: تجب الزكاة في كل ما يقصد بزراعته نماء الأرض إلّا الحطب والقصب والحشيش؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء العشر" وهذا عام؛ ولأن هذا يقصد بزراعته نماء الأرض فأشبه الحب. ووجه قول الخرقي: إنَّ عموم قوله -صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء العشر" وقوله -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ: "خذ الحب من الحب" يقتضي وجوب الزكاة في جميع ما تناوله خرج منه ما لا يكال وما ليس بحب، بمفهوم قوله -صلى الله عليه وسلم: "ليس في حبٍّ ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق" رواه مسلم والنسائي، فدل هذا الحديث على انتفاء الزكاة مما لا توسيق فيه وهو مكيال، ففيما هو مكيل يبقى على العموم، والدليل على انتفاء الزكاة مما سوى ذلك ما ذكرنا من اعتبار التوسيق. [المغني: 2/ 294] .

لِأَهْلِ السَّهْمَانِ؛ فَقَدْ وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى خَرْصِ الثِّمَارِ عُمَّالًا وَقَالَ لَهُمْ: "خَفِّفُوا الْخَرْصَ فَإِنَّ فِي الْمَالِ الْوَصِيَّةَ وَالْعَرِيَّةَ وَالْوَاطِئَةَ وَالنَّائِبَةَ". فَالْوَصِيَّةُ مَا يُوصِي بِهَا أَرْبَابُهَا بَعْدَ الْوَفَاةِ، وَالْعَرِيَّةُ: مَا يُعْرَى لِلصِّلَاتِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَالْوَاطِئَةُ مَا تَأْكُلُهُ السَّابِلَةُ مِنْهُمْ، وَسَمُّوهَا وَاطِئَةً لِوَطْئِهِمْ الْأَرْضَ، وَالنَّائِبَةُ: مَا يَنُوبُ الثِّمَارَ مِنَ الْجَوَائِحِ. فَأَمَّا ثِمَارُ الْبَصْرَةِ فَيُخْرَصُ كُرُومُهَا وَهُمْ فِي خَرْصِهَا كَغَيْرِهِمْ، وَلَا يُخْرَصُ عَلَيْهِمْ نَخْلُهَا لِكَثْرَتِهِ وَلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ فِي خَرْصِهِ، فَإِنَّهُمْ يُبِيحُونَ فِي التَّعَاوُنِ أَكْلَ الْمَارَّةِ مِنْهَا، وَإِنَّمَا مَا قَدَّرَ لَهُمْ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ مِنْ ثَنَايَاهَا فِي يَوْمَيِ الْجُمُعَةِ وَالثُّلَاثَاءِ يُصْرَفُ مُعْظَمُهُ فِي أَهْلِ الصَّدَقَاتِ، وَجُعِلَ لَهُمْ فِي عِوَضِ الثَّنَايَا كِبَارُ الثِّمَارِ، وَحَمْلُهَا إلَى كُرْسِيِّ الْبَصْرَةِ لِيُسْتَوْفَى أَعْشَارُهَا مِنْهُمْ هُنَاكَ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ هَذَا غَيْرَهُمْ، فَصَارُوا بِذَلِكَ مُخَالِفِينَ لِمَنْ سِوَاهُمْ. وَلَا يَجُوزُ خَرْصُ الْكَرْمِ وَالنَّخْلِ إلَّا بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، فَيُخْرَصَانِ بُسْرًا وَعِنَبًا، وَيُنْظَرُ مَا يَرْجِعَانِ إلَيْهِ تَمْرًا وَزَبِيبًا، ثُمَّ يُخَيَّرُ أَرْبَابُهَا إذَا كَانُوا أُمَنَاءَ بَيْنَ ضَمَانِهَا بِمَبْلَغِ خَرْصِهَا لِيَتَصَرَّفُوا فِيهَا وَيَضْمَنُوا قَدْرَ زَكَاتِهَا؛ وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ فِي أَيْدِيهِمْ أَمَانَةٌ يُمْنَعُونَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهَا حَتَّى تَتَنَاهَى، فَتُؤْخَذُ زَكَاتُهَا إذَا بَلَغَتْ. وَقُدِّرَ لِلزَّكَاةِ الْعُشْرُ إنْ سُقِيَتْ عَذْبًا أَوْ سَيْحًا، وَنِصْفُ الْعُشْرِ إنْ سُقِيَتْ غَرْبًا أَوْ نَضْحًا؛ فَإِنْ سُقِيَتْ بِهِمَا فَقَدْ قِيلَ: يُعْتَبَرُ أَعْلَاهُمَا، وَقِيلَ: يُؤْخَذُ بِقِسْطِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الْمَالِ وَالْعَامِلُ فِيمَا سُقِيَتْ بِهِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ رَبِّهَا، وَأَحْلَفَهُ الْعَامِلُ اسْتِظْهَارًا، فَإِنْ نَكَلَ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا مَا اعْتَرَفَ بِهِ، وَيَضُمُّ أَنْوَاعَ النَّخْلِ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، وَكَذَلِكَ أَنْوَاعُ الْكَرْمِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَلَا يُضَمُّ النَّخْلُ إلَى الْكَرْمِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْجِنْسِ. وَإِذَا كَانَتْ ثِمَارُ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ تَصِيرُ تَمْرًا وَزَبِيبًا لَمْ تُؤْخَذْ زَكَاتُهُمَا إلَّا بَعْدَ تَنَاهِي جَفَافُهُمَا تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يُؤْخَذُ إلَّا رُطَبًا أَوْ عِنَبًا أُخِذَ عُشْرُ ثَمَنِهِمَا إذَا بِيعَا، فَإِنِ احْتَاجَ أَهْلُ السَّهْمَانِ إلَى حَقِّهِمْ مِنْهُمَا رُطَبًا أَوْ عِنَبًا جَازَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إذَا قِيلَ: إنَّ الْقِسْمَةَ تَمْيِيزُ نَصِيبٍ، وَلَمْ يَجُزْ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي إذَا قِيلَ: إنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ، وَإِذَا هَلَكَتْ الثِّمَارُ بَعْدَ خَرْصِهَا بِجَائِحَةٍ مِنْ أَرْضٍ أَوْ سَمَاءٍ قَبْلَ إمْكَانِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ مِنْهَا سَقَطَتْ، وَإِنْ هَلَكَتْ بَعْدَ إمْكَانِ أَدَائِهَا أُخِذَتْ.

فصل: في زكاة الزروع

فَصْلٌ: "في زكاة الزروع" وَالْمَالُ الثَّالِثُ: الزُّرُوعُ: أَوْجَبَ أَبُو حَنِيفَةَ الزَّكَاةَ فِي جَمِيعِهَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَجِبُ إلَّا فِيمَا زَرَعَهُ الْآدَمِيُّونَ قُوتًا مُدَّخَرًا، وَلَا تَجِبُ عِنْدَهُ فِي الْبُقُولِ وَالْخُضَرِ، وَلَا تَجِبُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِيهِمَا، وَلَا فِيمَا لَا يُؤْكَلُ مِنَ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ، وَلَا فِيمَا يَزْرَعُهُ الْآدَمِيُّونَ مِنْ نَبَاتِ الْأَوْدِيَةِ وَالْجِبَالِ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ عِنْدَهُ مِنْ عَشَرَةِ أَنْوَاعٍ: الْبُرُّ، وَالشَّعِيرُ، وَالْأَرُزُّ، وَالذُّرَةُ، وَالْبَاقِلَّاءُ، وَاللُّوبْيَاءُ، وَالْحِمَّصُ، وَالْعَدَسُ، وَالدُّخْنُ، وَالْجُلُبَّانُ. فَأَمَّا الْعَلَسُ: فَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْبُرِّ يُضَمُّ إلَيْهِ، وَعَلَيْهِ قِشْرَتَانِ، لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ بِقِشْرَتِهِ إلَّا إذَا بَلَغَ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ، وَكَذَلِكَ الْأَرُزُّ فِي قِشْرَتِهِ، وَأَمَّا السُّلْتُ فَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الشَّعِيرِ يُضَمُّ إلَيْهِ، وَالْجَاوَرْسُ: نَوْعٌ مِنَ الدُّخْنِ يُضَمُّ إلَيْهِ، وَمَا عَدَاهُمَا أَجْنَاسٌ لَا يُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى غَيْرِهِ، وَضَمَّ مَالِكٌ الشَّعِيرَ إلَى الْحِنْطَةِ، وَضَمَّ مَا سِوَاهُمَا مِنَ الْقُطْنِيَّاتِ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ. وَزَكَاةُ الزَّرْعِ تَجِبُ فِيهِ بَعْدَ قُوَّتِهِ وَاشْتِدَادِهِ، وَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُ إلَّا بَعْدَ دِيَاسِهِ وَتَصْفِيَتِهِ إذَا بَلَغَ النِّصْفَ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، وَلَا زَكَاةَ فِيمَا دُونَهَا، وَأَوْجَبَهَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ إِذَا جَزَّ الْمَالِكُ زَرْعَهُ بَقْلًا أَوْ قَصِيلًا لَمْ تَجِبْ زَكَاتُهُ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ فِرَارًا مِنَ الزَّكَاةِ؛ وَلَا يُكْرَهُ إنْ كَانَ لِحَاجَةٍ1.

_ 1 قال عبد السلام بن تيمية من الحنابلة: كل نبات مكيل مدخر كالحبوب واللوز والفستق والتمر والزبيب والبذور والصعتر والأشنان ونحوها، إذا بلغ صافيًا يابسًا خمسة أوسق ففيه العشر مصفَّى يابسًا إذا سقي بالغيوث والسيوح، وإن سقي بكلفة كالدواليب والنواضح فنصف العشر، وما زاد فبحسابه، فإن سقي نصفه سيحًا ونصفه نضحًا وجب ثلاثة أرباع عشره، وإن كان أحدهما أكثر فالحكم له نصّ عليه. وقال ابن حامد: يجب بالقسط وإن جهل المقدار وجب العشر على المنصوص، وعلى قول ابن حامد يجعل منه نضحًا المتيقن والباقي سيحًا، ويؤخذ بالقسط ونصاب الأرز والغلس وهو نوع حنطة يدخر في قشره إذا صفِّيَا كغيرهما، وفي قشريهما عشرة أوسق، والوسق ستون صاعًا، والصاع خمسة أرطال وثلث بالعراقي، ويزكّى الزيتون إذا بلغ خمسة أوسق كيلًا نص عليه، ويخرج منه وإن صفَّاه فأخرج عشر زيته فهو أفضل، وعنه لا زكاة فيه، ولا زكاة مكيل مدخر كالجوز والتين والخضر ونحوها إلا القطن والزعفران، فإنهما على روايتين وفي العصفر والورس وجهان، فإن قلنا: يجب، فنصابهما ما قيمته كقيمة نصاب من أدنى نبات يزكّى، وقال القاضي: العصفر تبع للقرطم ولا يزكى حتى يبلغ، وتضم الحبوب بعضها إلى بعض في تكميل النصاب، وعنه: لا يضم جنس إلى غيره، ومنه تضم الحنطة إلى الشعير والقطنيات بعضها إلى بعض، وتضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض كزرعه، ومن كان في ثمره جيد ورديء ووسط أخذ من كل نوع حصته، إلا أن يعسر التمييز فيؤخذ الوسط. [المحرر في الفقه: 1/ 221] .

وَإِذَا مَلَكَ الذِّمِّيُّ أَرْضَ عُشْرٍ فَزَرَعَهَا، فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهَا، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ لَا عُشْرَ فِيهَا عَلَيْهِ وَلَا خَرَاجَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُوضَعُ عَلَيْهَا الْخَرَاجُ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهَا بِإِسْلَامِهِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُؤْخَذُ مِنْهَا ضِعْفُ الصَّدَقَةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنَ الْمُسْلِمِ، فَإِذَا أَسْلَمَ سَقَطَ عَنْهَا مُضَاعَفَةُ الصَّدَقَةِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: يُؤْخَذُ مِنْهَا صَدَقَةُ الْمُسْلِمِ وَلَا تُضَاعَفَ1. وَإِذَا زَرَعَ الْمُسْلِمُ أَرْضَ خَرَاجٍ أُخِذَ مِنْهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ عُشْرُ الزَّرْعِ مَعَ خَرَاجِ الْأَرْضِ، وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مَعَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَاقْتَصَرَ عَلَى أَخْذِ الْخَرَاجِ وَحْدَهُ، وَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضَ خَرَاجٍ عَلَى مُؤَجِّرِهَا وَالْعُشْرُ عَلَى مُسْتَأْجِرِهَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عُشْرُ الزَّرْعِ عَلَى الْمُؤَجِّرِ وَكَذَلِكَ الْمُعْمِرِ؛ فَهَذِهِ الْأَمْوَالُ الثَّلَاثَةُ كُلُّهَا أَمْوَالٌ ظَاهِرَةٌ.

_ 1 قال ابن قدامة المقدسي من الحنابلة: وما وقفه الإمام فهو مخير بين إقرار أهله فيه بالخراج وبين إجلائهم وجلب غيرهم؛ لأن الأرض قد ملكت عليهم، فأمَّا ما جلي عنها أهلها خوفًا من المسلمين فتصير وقفًا بنفس الظهور عليها؛ لأنها ليست غنيمة فتقسم، وعنه لا تصير وقفًا حتى يقفها الإمام؛ لأن الوقف لا يثبت بنفسه، وحكمها حكم العنوة إذا وقفت، وكذلك الحكم فيما صالحونا عليه، على أن الأرض للمسلمين، وتقر في أيديهم بالخروج، فأما إن صالحناهم على أن الأرض لهم ولنا عليها الخراج فهذه ملك لأربابها متى أسلموا سقط عنهم؛ لأنه بمنزلة الجزية فيسقط بالإسلام كالجزية، ولهم بيعها والتصرف فيها، وإن انتقلت إلى مسلم لم يؤخذ خراجها لما ذكرناه. [الكافي في فقه ابن حنبل: 4/ 329] .

فَصْلٌ: "زكاة الذهب والفضة" وَأَمَّا الْمَالُ الرَّابِعُ فَهُوَ: الْفِضَّةُ وَالذَّهَبُ، وَهُمَا مِنَ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ، وَزَكَاتُهُمَا رُبُعُ الْعُشْرِ، لِقَوْلِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "فِي الْوَرِقِ رُبُعُ الْعُشْر" 1. وَنِصَابُ الْفِضَّةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ بِوَزْنِ الْإِسْلَامِ الَّذِي وَزْنُ كُلِّ دِرْهَمٍ مِنْهُ سِتَّةُ دَوَانِقَ، وَكُلُّ عَشَرَةٍ مِنْهَا سَبْعَةُ مَثَاقِيلَ، وَفِيهَا إذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ هُوَ رُبُعُ عُشْرِهَا، وَلَا زَكَاةَ فِيهَا إذَا نَقَصَتْ عَنْ مِائَتَيْنِ، وَفِيمَا زَادَ عَلَيْهَا بِحِسَابِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا زَكَاةَ فِيمَا زَادَ عَلَى مِائَتَيْنِ حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، فَيَجِبُ فِيهَا دِرْهَمٌ سَادِسٌ، وَالْوَرِقُ الْمَطْبُوعَةُ وَالنِّقَارِ سَوَاءٌ. وَأَمَّا الذَّهَبُ فَنِصَابُهُ عِشْرُونَ مِثْقَالًا بِمَثَاقِيلِ الْإِسْلَامِ يَجِبُ فِيهِ رُبُعُ عُشْرِهِ وَهُوَ نِصْفُ مِثْقَالٍ، وَفِيمَا زَادَ بِحِسَابِهِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ خَالِصُهُ وَمَطْبُوعُهُ، وَلَا تُضَمُّ الْفِضَّةُ إلَى الذَّهَبِ، وَيُعْتَبَرُ نِصَابُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ، وَضَمَّ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ الْأَقَلَّ إلَى الْأَكْثَرِ وَقَوَّمَاهُ بِقِيمَةِ الْأَكْثَرِ، وَإِذَا اتَّجَرَ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ تَجِبُ زَكَاتُهُمَا، وَرِبْحُهُمَا تَبَعٌ لَهُمَا إذَا حَالَ الْحَوْلُ؛ لِأَنَّ زَكَاةَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ تَجِبُ بِحَوْلِ الْحَوْلِ عَلَيْهِمَا، وَأَسْقَطَ دَاوُد زَكَاةَ مَالِ التِّجَارَةِ، وَشَذَّ بِهَذَا الْقَوْلِ عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَإِذَا اتَّخَذَ مِنَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ حُلِيًّا مُبَاحًا سَقَطَ زَكَاتُهُ فِي أصَحِّ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَوَجَبَتْ فِي أَضْعَفِهِمَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ اتَّخَذَ مِنْهُمَا مَا حَظِرَ مِنَ الْحُلِيِّ وَالْأَوَانِي وَجَبَتْ زَكَاتُهُ فِي قَوْلِ الْجَمْعِ2.

_ 1 لم أقف عليه. 2 قلت: واختلف العلماء في وجوب الزكاة في الحلي، فروي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وابن عباس أنَّهم أوجبوا فيه الزكاة، وهو قول ابن المسيب وسعيد بن جبير وعطاء وابن سيرين وجابر بن زيد ومجاهد والزهري، وإليه ذهب الثوري وأصحاب الرأي، وروي عن ابن عمر وجابر بن عبد الله وعائشة وعن القاسم بن محمد والشعبي أنهم لم يروا فيه زكاة، وإليه ذهب مالك ابن أنس وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وهو أظهر قولي الشافعي. ذهب أبو حنيفة وابن حزم إلى أنه يجب في الحليّ من الذهب والفضة زكاة إذا بلغت نصاب النقدين: الذهب والفضة: =

.................................................................................................

_ = قال الترمذي: "رأى بعض أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- والتابعين في الحليّ زكاة، ما كان منه ذهب وفضة، وبه يقول سفيان الثوري، وعبد الله بن المبارك". وقد رأى شيخنا الدكتور القرضاوي -حفظه الله- أنه لا زكاة في الحلي، وقد أورد أدلة كثيرة في هذا، وفنَّد آراء المخالفين، ونكتفي هنا بإيراد تلخيصه لما ذهب إليه: يقول أستاذنا الدكتور القرضاوي: نستطيع تلخيص أحكام هذا المبحث -حسبما رجَّحناه- فيما يلي: أ- من ملك مصوغًا من الذهب أو الفضة نظر في أمره، فإن كان للاقتناء والاكتناز -ذخيرة للزمن- وجبت فيه الزكاة؛ لأنه مرصد للنماء، فهو كغير المصوغ من السبائك والنقود المضروبة. ب- وإن كان معدًّا للانتفاع والاستعمال الشخصي، نظرنا في نوع هذا الاستعمال، فإن كان محرَّمًا كأواني الذهب والفضة والتحف والتماثيل، وما يتخذه الرجل لنفسه من سوار أو طوق أو خاتم ذهب، أو نحو ذلك، وجبت فيه الزكاة؛ لأنه عدل به عن أصله بفعل غير مباح، فسقط حكم فعله، وبقي على حكم الأصل. جـ- ومن الاستعمال المحرّم ما كان فيه سرف ظاهر من حليّ النساء، ويعرف ذلك بمجاوزة المعتاد لمثل هذه المرأة في مثل بيئتها وعصرها وثروة أمتها. د- وإن كان الحلي معدًّا لاستعمالٍ مباح كحلي النساء -في غير سرف- وما أعد لهن، وخاتم الفضة للرجال، لم تجب فيه الزكاة؛ لأنه مال غير نام؛ لأنه من حاجات الإنسان وزينته كثيابه، وأثاثه ومتاعه، وقد أعدّ لاستعمال مباح، فلم تجب فيه الزكاة، كالعوامل من الإبل والبقر. ولهذا اختار الشيخ أبو زهرة أن يكون هناك حَدٌّ أعلى للقدر من التحلّي الذي يعفى من زكاة الذهب والفضة، وهو النصاب الشرعي، يعفى من الزكاة في الحلي ما تكون قيمته عشرين مثقالًا من الذهب "85جرامًا" إذا كانت هذه الحليّ للنساء، ولا يعفى شيء مطلقًا من حلية الرجال منَ الذهب؛ لأنَّ تحلي الرجال بالذهب ممنوع، ولا يشجع الممنوع بالإعفاء من الزكاة؛ ولأنه إذا أوجبت فيه الزكاة كان فيه مدعاة إلى التخلص منه ببيعه. كما لا يعفى شيء من أواني الذهب، والتحف والتماثيل. وما وجب فيه الزكاة من الحلي أو الآنية، أو التحف، يزكَّى زكاة النقدين، حتى ولو لم يكن من الذهب أو الفضة، ما دامت له قيمة يمكن أن يدخر ويباع بها، وذلك مثل عقود الماس والدر والياقوت والبلاتين، فيخرج ربع العشر، منه على حدة، أو مع بقية مال المزكى بشرط أن يكون نصابًا، أو يكمل بمال عنده قدر النصاب، وهو 85 جرامًا من الذهب. وتعتبر القيمة لا الوزن هنا؛ لأن للصنعة أثرها في زيادة القيمة.

فَصْلٌ: "زكاة المعادن" وَأَمَّا الْمَعَادِنُ فَهِيَ مِنَ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْهَا، فَأَوْجَبَهَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي كُلِّ مَا يَنْطَبِعُ مِنْ فِضَّةٍ وَذَهَبٍ وَصُفْرٍ وَنُحَاسٍ، وَأَسْقَطَهَا عَمَّا لَا يَنْطَبِعُ مِنْ مَائِعٍ وَحَجَرٍ؛ وَأَوْجَبَهَا أَبُو يُوسُفَ فِيمَا يُسْتَعْمَلُ مِنْهَا حُلِيًّا كَالْجَوَاهِرِ، وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ فِي مَعَادِنِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ خَاصَّةً إذَا بَلَغَ الْمَأْخُوذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ السَّبْكِ وَالتَّصْفِيَةِ نِصَابًا، فَفِي قَدْرِ الْمَأْخُوذِ مِنْ زَكَاتِهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: رُبُعُ الْعُشْرِ كَالْمُقْتَنَى مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الْخُمْسُ كَالرِّكَازِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: يُعْتَبَرُ حَالُهُ، فَإِنْ كَثُرَتْ مُؤْنَتُهُ فَفِيهِ رُبُعُ الْعُشْرِ، وَإِنْ قَلَّتْ مُؤْنَتُهُ فَفِيهِ الْخُمُسُ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْلُ؛ لِأَنَّهَا فَائِدَةٌ تُزَكَّى لِوَقْتِهَا1. أَمَّا الرِّكَازُ: فَهُوَ كُلُّ مَالٍ وُجِدَ مَدْفُونًا مِنْ ضَرْبِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي مَوَاتٍ أَوْ طَرِيقٍ سَابِلٍ، يَكُونُ لِوَاجِدِهِ، وَعَلَيْهِ خُمُسُهُ يُصْرَفُ فِي مَصْرِفِ الزَّكَاةِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ" 2 وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَاجِدُ الرِّكَازِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إظْهَارِهِ وَبَيْنَ إخْفَائِهِ، وَالْإِمَامُ إذَا ظَهَرَ لَهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَخْذِ الْخُمُسِ أَوْ تَرْكِهِ، وَمَا وُجِدَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ فَهُوَ فِي الظَّاهِرِ لِمَالِكِ الْأَرْضِ لَا حَقَّ فِيهِ لِوَاجِدِهِ، وَلَا شَيْءَ فِيهِ عَلَى مَالِكِهِ، إلَّا مَا يَجِبُ مِنْ زَكَاةٍ إنْ يَكُنْ قَدْ أَدَّاهَا عَنْهُ، وَمَا وُجِدَ

_ 1 قال ابن الجوزي: الواجب في المعدن ربع العشر، وقال أبو حنيفة: الخمس، وعن الشافعي كالمذهبين، وعنه أنَّه إن أصاب المال مجتمعًا ففيه الخمس، وإن كان متفرقًا فربع العشر. وعن مالك كقولنا، وعنه كقول الآخر للشافعي، لنا ما روى مالك عن ربيعة واحد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقطع بلال بن الحارث المعادن القبلية، وأخذ منه زكاتها، والزكاة لا تكون خمسًا بحال، فإن قيل: قوله واحد يقتضي الإرسال، قلنا: ربيعة قد لقي الصحابة والجهل بالصحابي لا يضر، ولا يقال: هذا مرسل، ثم قد رواه الدراوردي عن ربيعة عن الحارث بن بلال عن بلال أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ منه زكاة المعادن القبلية. قال ربيعة: وهذه المعادن يؤخذ منها الزكاة إلى هذا الوقت، ورواه ثور عن عكرمة عن ابن عباس مثل حديث بلال. [التحقيق في أحاديث الخلاف: 2/ 48] . 2 صحيح: رواه البخاري في كتاب "1499"، ومسلم في كتاب الحدود "1710".

مِنْ ضَرْبِ الْإِسْلَامِ مَدْفُونًا أَوْ غَيْرَ مَدْفُونٍ، فَهُوَ لُقَطَةٌ يَجِبُ تَعْرِيفُهَا حَوْلًا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلَّا فَلِلْوَاجِدِ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا مَضْمُونَةً فِي ذِمَّتِهِ لِمَالِكِهَا إذَا ظَهَرَ. فَصْلٌ: وَعَلَى عَامِلِ الصَّدَقَةِ أَنْ يَدْعُوَ لِأَهْلِهَا عِنْدَ الدَّفْعِ تَرْغِيبًا لَهُمْ فِي الْمُسَارَعَةِ، وَتَمْيِيزًا لَهُمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْجِزْيَةِ، وَامْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] . وَمَعْنَى قَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} أَيْ: تُطَهِّرُ ذُنُوبَهُمْ وَتُزَكِّي أَعْمَالَهُمْ، وَفِي قَوْله تَعَالَى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَالثَّانِي: اُدْعُ لَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَفِي قَوْله تَعَالَى: {إنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} أَرْبَعُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: قُرْبَةٌ لَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: رَحْمَةٌ لَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ طَلْحَةَ. وَالثَّالِثُ: تَثْبِيتٌ لَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ قُتَيْبَةَ. وَالرَّابِعُ: أَمْنٌ لَهُمْ، وَهُوَ مِنَ الِاسْتِحْبَابِ إنْ لَمْ يَسْأَلْ، وَفِي اسْتِحْقَاقِهِ إذَا سُئِلَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مُسْتَحَبٌّ، وَالثَّانِي: مُسْتَحَقٌّ. وَإِذَا كَتَمَ الرَّجُلُ زَكَاةَ مَالِهِ وَأَخْفَاهَا عَنِ الْعَامِلِ مَعَ عَدْلِهِ، أَخَذَهَا الْعَامِلُ مِنْهُ إذَا ظَهَرَ عَلَيْهَا، وَنَظَرَ فِي سَبَبِ إخْفَائِهَا، فَإِنْ كَانَ لِيَتَوَلَّى إخْرَاجَهَا بِنَفْسِهِ لَمْ يُعَزِّرْهُ، وَإِنْ أَخْفَاهَا لِيَغُلَّهَا وَيَمْنَعَ حَقَّ اللَّهِ عَزَّرَهُ وَلَمْ يُغَرِّمْهُ زِيَادَةٌ عَلَيْهَا، وَقَالَ مَالِكٌ: يَأْخُذُ مِنْهُ شَطْرَ مَالِهِ؛ لِقَوْلِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "مَنْ غَلَّ صَدَقَةً فَأَنَا آخُذُهَا وَشَطْرَ مَالِهِ عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ اللَّهِ، لَيْسَ لِآلِ مُحَمَّدٍ فِيهَا نَصِيبٌ" 1. وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ" 2. مَا يَصْرِفُ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ ظَاهِرِهِ مِنَ الْإِيجَابِ إلَى الزَّجْرِ وَالْإِرْهَابِ، كَمَا قَالَ: "مَنْ قَتَلَ

_ 1 حسن: رواه أبو داود في كتاب الزكاة "1575"، والنسائي في كتاب الزكاة "2449"، والدارمي في كتاب الزكاة "1677"، وأحمد "19534"، وحسَّنه الشيخ الألباني. 2 سبق تخريجه.

عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ" وَإِنْ كَانَ لَا يُقْتَلُ بِعَبْدِهِ، وَإِذَا كَانَ الْعَامِلُ جَائِرًا فِي الصَّدَقَةِ عَادِلًا فِي قِسْمَتِهَا، جَازَ كَتْمُهَا وَأَجْزَأَ دَفْعُهَا إلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ عَادِلًا فِي أَخْذِهَا جَائِرًا فِي قِسْمَتِهَا وَجَبَ كِتْمَانُهَا مِنْهُ وَلَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إلَيْهِ؛ فَإِنْ أَخَذَهَا طَوْعًا أَوْ جَبْرًا لَمْ يُجْزِهِمْ عَنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَمْوَالِهِمْ، وَلَزِمَهُمْ إخْرَاجُهَا بِأَنْفُسِهِمْ إلَى مُسْتَحِقِّيهَا مِنْ أَهْلِ السَّهْمَانِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يُجْزِئُهُمْ وَلَا يَلْزَمُهُمْ إعَادَتُهَا. وَإِذَا أَقَرَّ عَامِلُ الصَّدَقَاتِ بِقَبْضِهَا مِنْ أَهْلِهَا قُبِلَ قَوْلُهُ وَقْتَ وِلَايَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ عُمَّالِ التَّفْوِيضِ أَوْ مِنْ عُمَّالِ التَّنْفِيذِ، وَفِي قَبُولِ قَوْلِهِ بَعْدَ عَزْلِهِ وَجْهَانِ تَخْرِيجًا مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي دَفْعِ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ إلَيْهِ، هَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ أَوْ مُسْتَحَقٌّ؟ فَإِنْ قِيلَ: مُسْتَحَبٌّ قَبْلَ قَوْلِهِ بَعْدَ الْعَزْلِ، وَإِنْ قِيلَ: مُسْتَحَقٌّ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا بِقَبْضِهَا وَإِنْ كَانَ عَدْلًا، وَإِذَا ادَّعَى رَبُّ الْمَالِ إخْرَاجَهَا، فَإِنْ كَانَ مَعَ تَأْخِيرِ الْعَامِلِ عَنْهُ بَعْدَ إمْكَانِ أَدَائِهَا قُبِلَ قَوْلُهُ، وَأَحْلَفَهُ الْعَامِلُ إنْ اتَّهَمَهُ. وَفِي اسْتِحْقَاقِ هَذِهِ الْيَمِينِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مُسْتَحِقُّهُ إنْ نَكَلَ عَنْهَا أُخِذَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: اسْتِظْهَارًا إنْ نَكَلَ عَنْهَا لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ، وَإِنْ ادَّعَى ذَلِكَ مَعَ حُضُورِ الْعَامِلِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي الدَّفْعِ إنْ قِيلَ: إنَّ دَفْعَهَا إلَى الْعَامِلِ مُسْتَحَقٌّ، وَقُبِلَ قَوْلُهُ إنْ قِيلَ: إنَّهُ مُسْتَحَبٌّ.

فصل: مصارف الزكاة

فَصْلٌ: "مصارف الزكاة" وَأَمَّا قَسْمُ الصَّدَقَاتِ فِي مُسْتَحِقِّيهَا؛ فَهِيَ لِمَنْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ بِقَوْلِهِ: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60] . بَعْدَ أَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْسِمُهَا عَلَى رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ، حَتَّى لَزِمَهُ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ وَقَالَ: اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: "ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، إذَا لَمْ أَعْدِلْ فَمَنْ يَعْدِلُ". ثُمَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِ آيَةُ الصَّدَقَاتِ بَعْدُ، فَعِنْدَهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ فِي قِسْمَةِ الْأَمْوَالِ بِمَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلَا بِنَبِيٍّ مُرْسَلٍ حَتَّى تَوَلَّى قِسْمَتَهَا بِنَفْسِهِ"1. فَوَاجِبٌ أَنْ تُقْسَمَ صَدَقَاتُ الْمَوَاشِي، وَأَعْشَارُ الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ، وَزَكَاةُ الْأَمْوَالِ وَالْمَعَادِنِ، وَخُمُسُ الرِّكَاز؛ ِ لِأَنَّ جَمِيعَهَا زَكَاةٌ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ لِلْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ إذَا وُجِدُوا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخِلَّ بِصِنْفٍ مِنْهُمْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَهَا إلَى أَحَدِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ مَعَ وُجُودِهِمْ، وَلَا يَجِبُ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى جَمِيعِهِمْ، وَفِي تَسْوِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَهُمْ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ مَا يَمْنَعُ مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَى بَعْضِهِمْ، فَوَاجِبٌ عَلَى عَامِلِ الصَّدَقَاتِ بَعْدَ تَكَامُلِهَا وَوُجُودِ جَمِيعِ مِنْ سُمِّيَ لَهَا أَنْ يَقْسِمَهَا عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ بِالتَّسْوِيَةِ، فَيَدْفَعُ سَهْمًا مِنْهَا إلَى الْفُقَرَاءِ، وَالْفَقِيرُ هُوَ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ، ثُمَّ يَدْفَعُ السَّهْمَ الثَّانِيَ إلَى الْمَسَاكِينِ، وَالْمِسْكِينُ هُوَ الَّذِي لَهُ مَا لَا يَكْفِيهِ، فَكَانَ الْفَقِيرُ أَسْوَأَ حَالًا مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْمِسْكِينُ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ، وَهُوَ الَّذِي قَدْ أَسْكَنَهُ الْعَدَمُ، فَيَدْفَعُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا اتَّسَعَتِ الزَّكَاةُ مَا يَخْرُجُ بِهِ مِنِ اسْمِ الْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ إلَى أَدْنَى مَرَاتِبِ الْغِنَى، وَذَلِكَ مُعْتَبَرٌ بِحَسَبِ حَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مِنْ يَصِيرُ بِالدِّينَارِ الْوَاحِدِ غَنِيًّا إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَسْوَاقِ يَرْبَحُ فِيهِ قَدْرَ كِفَايَتِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْتَغْنِي إلَّا بِمِائَةِ دِينَارٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ ذَا جَلَدٍ يَكْتَسِبُ بِصِنَاعَتِهِ قَدْرَ كِفَايَتِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُ دِرْهَمًا، وَقَدَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَكْثَرَ مَا يُعْطَاهُ الْفَقِيرُ

_ 1 لم أقف عليه.

وَالْمِسْكِينُ بِمَا دُونَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مِنَ الْوَرِقِ، وَمَا دُونَ عِشْرِينَ دِينَارًا مِنَ الذَّهَبِ؛ لِئَلَّا تَجِبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِيمَا أَخَذَ مِنَ الزَّكَاةِ. ثُمَّ السَّهْمُ الثَّالِثُ سَهْمُ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَهُمْ صِنْفَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُقِيمُونَ بِأَخْذِهَا وَجِبَايَتِهَا. وَالثَّانِي: الْمُقِيمُونَ بِقِسْمَتِهَا وَتَفْرِيقِهَا مِنْ أَمِينٍ وَمُبَاشِرٍ مَتْبُوعٍ وَتَابِعٍ. جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى أُجُورَهُمْ فِي مَالِ الزَّكَاةِ لِئَلَّا يُؤْخَذَ مِنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ سِوَاهَا، فَيُدْفَعُ إلَيْهِمْ مِنْ سَهْمِهِمْ قَدْرَ أُجُورِ أَمْثَالِهِمْ؛ فَإِنْ كَانَ سَهْمُهُمْ مِنْهَا أَكْثَرَ رُدَّ الْفَضْلُ عَلَى بَاقِي السِّهَامِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ تُمِّمَتْ أُجُورُهُمْ مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَمِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ فِي الْوَجْهِ الْآخَرِ. وَالسَّهْمُ الرَّابِعُ: الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ، وَهُمْ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ يَتَأَلَّفُهُمْ لِمَعُونَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَصِنْفٌ يَتَأَلَّفُهُمْ لِلْكَفِّ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَصِنْفٌ يَتَأَلَّفُهُمْ لِرَغْبَتِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ، وَصِنْفٌ لِتَرْغِيبِ قَوْمِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ، فَمَنْ كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ مُسْلِمًا جَازَ أَنْ يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ مِنَ الزَّكَاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُشْرِكًا عَدَلَ بِهِ عَنْ مَالِ الزَّكَاةِ إلَى سَهْمِ الْمَصَالِحِ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنَائِمِ. وَالسَّهْمُ الْخَامِسُ: سَهْمُ الرِّقَابِ، وَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ مَصْرُوفٌ فِي الْمُكَاتَبِينَ يُدْفَعُ إلَيْهِمْ قَدْرَ مَا يُعْتَقُونَ بِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ يُصْرَفُ فِي شِرَاءِ عَبِيدٍ يُعْتَقُونَ. وَالسَّهْمُ السَّادِسُ: لِلْغَارِمِينَ، وَهُمْ صِنْفَانِ: صِنْفٌ مِنْهُمْ اسْتَدَانُوا فِي مَصَالِحِ أَنْفُسِهِمْ، فَيُدْفَعُ إلَيْهِمْ مَعَ الْفَقْرِ دُونَ الْغِنَى مَا يَقْضُونَ بِهِ دُيُونَهُمْ، وَصِنْفٌ مِنْهُمْ اسْتَدَانُوا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، فَيُدْفَعُ إلَيْهِمْ مَعَ الْفَقْرِ وَالْغِنَى قَدْرَ دُيُونِهِمْ مِنْ غَيْرِ فَضْلٍ. وَالسَّهْمُ السَّابِعُ: سَهْمُ سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُمْ الْغُزَاةُ يُدْفَعُ إلَيْهِمْ مِنْ سَهْمِهِمْ قَدْرُ حَاجَتِهِمْ فِي جِهَادِهِمْ، فَإِنْ كَانُوا يُرَابِطُونَ فِي الثَّغْرِ دُفِعَ إلَيْهِمْ نَفَقَةُ ذَهَابِهِمْ، وَمَا أَمْكَنَ مِنْ نَفَقَاتِ مَقَامِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا يَعُودُونَ إذَا جَاهَدُوا أُعْطُوا نَفَقَةَ ذَهَابِهِمْ وَعَوْدِهِمْ. وَالسَّهْمُ الثَّامِنُ: سَهْمُ ابْنِ السَّبِيلِ، وَهُمْ الْمُسَافِرُونَ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نَفَقَةَ سَفَرِهِمْ، يُدْفَعُ إلَيْهِمْ مِنْ سَهْمِهِمْ إذَا لَمْ يَكُنْ سَفَرَ مَعْصِيَةٍ قَدْرُ كِفَايَتِهِمْ فِي سَفَرِهِمْ، وَسَوَاءٌ مَنْ كَانَ

مِنْهُمْ مُبْتَدِئًا بِالسَّفَرِ أَوْ مُجْتَازًا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَدْفَعُهُ إلَى الْمُجْتَازِ دُونَ الْمُبْتَدِئِ بِالسَّفَرِ. وَإِذَا قُسِمَتِ الزَّكَاةُ فِي الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ بَعْدَهَا مِنْ خَمْسَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ وَفْقَ كِفَايَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ وَلَا زِيَادَةٍ، فَقَدْ خَرَجُوا بِمَا أَخَذُوهُ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ، وَحَرُمَ عَلَيْهِمْ التَّعَرُّضُ لَهَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُقَصِّرَةً عَنْ كِفَايَتِهِمْ، فَلَا يُخْرَجُونَ مِنْ أَهْلِهَا، وَيُحَالُونَ بِبَاقِي كِفَايَتِهِمْ عَلَى غَيْرِهَا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ كَافِيَةً لِبَعْضِهِمْ مُقَصِّرَةً عَنِ الْبَاقِينَ، فَيَخْرُجُ الْمُكْتَفُونَ عَنْ أَهْلِهَا، وَيَكُونُ الْمُقَصِّرُونَ عَلَى حَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ تَفْضُلَ عَنْ كِفَايَةِ جَمِيعِهِمْ فَيَخْرُجُونَ مِنْ أَهْلِهَا بِالْكِفَايَةِ، وَيُرَدُّ الْفَاضِلُ مِنْ سِهَامِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ أَقْرَبِ الْبِلَادِ إلَيْهِ. وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ تَفْضُلَ عَنْ كِفَايَاتِ بَعْضِهِمْ وَتَعْجِزُ عَنْ كِفَايَاتِ الْبَاقِينَ، فَيُرَدُّ مَا فَضَلَ عَنِ الْمُكْتَفِينَ عَلَى مَنْ عَجَزَ مِنَ الْمُقَصِّرِينَ حَتَّى يَكْتَفِيَ الْفَرِيقَانِ. وَإِذَا عُدِمَ بَعْضُ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ قُسِمَتِ الزَّكَاةُ عَلَى مَنْ يُوجَدُ مِنْهُمْ وَلَوْ كَانَ صِنْفًا وَاحِدًا؛ وَلَا يُنْقَلُ سَهْمُ مَنْ عُدِمَ مِنْهُمْ فِي جِيرَانِ الْمَالِ إلَّا سَهْمَ سَبِيلِ اللَّهِ فِي الْغُزَاةِ، فَإِنَّهُ يُنْقَلُ إلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْكُنُونَ الثُّغُورَ فِي الْأَغْلَبِ؛ وَتُفَرَّقُ زَكَاةُ كُلِّ نَاحِيَةٍ فِي أَهْلِهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُنْقَلَ زَكَاةُ بَلَدٍ إلَى غَيْرِهِ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ أَهْلِ السَّهْمَانِ فِيهِ؛ فَإِنْ نَقَلَهَا عَنْهُ مَعَ وُجُودِهِمْ فِيهِ لَمْ يُجْزِئْهُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَأَجْزَأَهُ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى كَافِرٍ، وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ دَفْعَ زَكَاةِ الْفِطْرِ خَاصَّةً إلَى الذِّمِّيِّ دُونَ الْمُعَاهَدِ، وَلَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى ذَوِي الْقُرْبَى مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ تَنْزِيهًا لَهُمْ عَنْ أَوْسَاخِ الذُّنُوبِ، وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ دَفْعَهَا إلَيْهِمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُدْفَعَ إلَى عَبْدٍ وَلَا مُدَبَّرٍ، وَلَا أُمِّ وَلَدٍ، وَلَا مَنْ رُقَّ بَعْضُهُ؛ وَلَا يَدْفَعُهَا الرَّجُلُ إلَى زَوْجَتِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَدْفَعَ الْمَرْأَةُ زَكَاتَهَا إلَى زَوْجِهَا، وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ ذَلِكَ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ أَحَدٌ زَكَاتَهُ إلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ مِنْ وَالِدٍ أَوْ وَلَدٍ لِغِنَاهُمْ بِهِ، إلَّا مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ إذَا كَانُوا مِنْهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ أَقَارِبِهِ، وَصَرْفُهَا فِيهِمْ

أَفْضَلُ مِنَ الْأَجَانِبِ، وَفِي جِيرَانِ الْمَالِ أَفْضَلُ مِنَ الْأَبَاعِدِ، وَإِذَا أَحْضَرَ رَبُّ الْمَالِ أَقَارِبَهُ إلَى الْعَامِلِ لِيَخُصَّهُمْ بِزَكَاةِ مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ تَخْتَلِطْ زَكَاتُهُ بِزَكَاةِ غَيْرِهِ خَصَّهُمْ بِهَا، فَإِنْ اخْتَلَطَتْ كَانُوا فِي الْمُخْتَلَطِ أُسْوَةَ بغَيْرِهِمْ، لَكِنْ لَا يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا؛ لِأَنَّ فِيهَا مَا هُمْ بِهِ أَحَقُّ وَأَخَصُّ. وَإِذَا اسْتَرَابَ رَبُّ الْمَالِ بِالْعَامِلِ فِي مَصْرِفِ زَكَاتِهِ، وَسَأَلَهُ أَنْ يُشْرِفَ عَلَى قِسْمَتِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ إجَابَتُهُ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَرِئَ مِنْهَا بِدَفْعِهَا إلَيْهِ، وَلَوْ سَأَلَ الْعَامِلُ رَبَّ الْمَالِ أَنْ يَحْضُرَ قِسْمَتَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْحُضُورُ لِبَرَاءَتِهِ مِنْهَا بِالدَّفْعِ، وَإِذَا هَلَكَتِ الزَّكَاةُ فِي يَدِ الْعَامِلِ قَبْلَ قِسْمَتِهَا أَجْزَأَتْ رَبَّ الْمَالِ، وَلَمْ يَضْمَنْهَا الْعَامِلُ إلَّا بِالْعُدْوَانِ، وَإِذَا تَلِفَتِ الزَّكَاةُ فِي يَدِ رَبِّ الْمَالِ قَبْلَ وُصُولِهَا إلَى الْعَامِلِ لَمْ تُجْزِهِ وَأَعَادَهَا، وَلَوْ تَلِفَ مَالُهُ قَبْلَ إخْرَاجِ زَكَاتِهِ سَقَطَتْ عَنْهُ، إنْ كَانَ تَلَفُهُ قَبْلَ إمْكَانِ أَدَائِهَا، وَلَا تَسْقُطُ إنْ كَانَ تَلَفُهُ بَعْدَ إمْكَانِ أَدَائِهَا، وَإِذَا ادَّعَى رَبُّ الْمَالِ تَلَفَ مَالِهِ قَبْلَ ضَمَانِ زَكَاتِهِ كَانَ قَوْلًا مَقْبُولًا؛ وَإِنْ اتَّهَمَهُ الْعَامِلُ أَحَلَفَهُ اسْتِظْهَارًا، وَلَا يَجُوزُ لِلْعَامِلِ أَنْ يَأْخُذَ رِشْوَةَ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَلَا يَقْبَلَ هَدَايَاهُمْ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ" 1. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرِّشْوَةِ وَالْهَدِيَّةِ: أَنَّ الرِّشْوَةَ مَا أُخِذَتْ طَلَبًا، وَالْهَدِيَّةَ مَا بُذِلَتْ عَفْوًا، فَإِذَا ظَهَرَتْ عَلَى الْعَامِلِ خِيَانَةٌ، كَانَ الْإِمَامُ هُوَ النَّاظِرُ فِي حَالِهِ، الْمُسْتَدْرِكُ لِخِيَانَتِهِ، دُونَ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ لِأَهْلِ السَّهْمَانِ فِي خُصُومَتِهِ، إلَّا أَنْ يَتَظَلَّمُوا إلَى الْإِمَامِ تَظَلُّمَ الْحَاجَاتِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْعَامِلِ لِلتُّهْمَةِ اللَّاحِقَةِ بِهِمْ، فَأَمَّا شَهَادَةُ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ عَلَيْهِ؛ فَإِنْ كَانَتْ فِي أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْهُمْ لَمْ تُسْمَعْ شَهَادَتُهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ فِي وَضْعِهِ لَهَا غَيْرَ حَقِّهَا سُمِعَتْ. وَإِذَا ادَّعَى أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ دَفْعَ الزَّكَاةِ إلَى الْعَامِلِ وَأَنْكَرَهَا، أَحَلَفَ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ عَلَى مَا ادَّعُوهُ وَبَرِئُوا، وَأُحْلفَ الْعَامِلَ عَلَى مَا أَنْكَرَهُ وَبَرِئَ، فَإِنْ شَهِدَ بَعْضُ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ لِبَعْضٍ بِالدَّفْعِ إلَى الْعَامِلِ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ التَّنَاكُرِ وَالتَّخَاصُمِ لَمْ تُسْمَعْ شَهَادَتُهُمْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُمَا سُمِعَتْ، وَحُكِمَ عَلَى الْعَامِلِ بِالْغُرْمِ، فَإِنْ ادَّعَى بَعْدَ الشَّهَادَةِ أَنَّهُ قَسَمَهَا فِي أَهْلِ السَّهْمَانِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَكْذَبَ هَذِهِ الدَّعْوَى بِإِنْكَارِهِ، فَإِنْ شَهِدَ لَهُ أَهْلُ السَّهْمَانِ بِأَخْذِهَا مِنْهُ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَكْذَبَهُمْ بِإِنْكَارِ الْأَخْذِ، وَإِذَا أَقَرَّ الْعَامِلُ بِقَبْضِ الزَّكَاةِ وَادَّعَى قِسْمَتَهَا فِي

_ 1 حسن: سبق تخريجه.

أَهْلِ السَّهْمَانِ فَأَنْكَرُوهُ، كَانَ قَوْلُهُ فِي قِسْمَتِهَا مَقْبُولًا؛ لِأَنَّهُ مُؤَمَّنٌ فِيهَا؛ وَقَوْلُهُمْ فِي إنْكَارٍ مَقْبُولٌ فِي بَقَاءِ فَقْرِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ، وَمَنِ ادَّعَى مِنْ أَهْلِ السَّهْمَانِ فَقْرًا قُبِلَ مِنْهُ، وَمَنِ ادَّعَى غُرْمًا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَلَا بِبَيِّنَةٍ؟ وَإِذَا أَقَرَّ رَبُّ الْمَالِ عِنْدَ الْعَامِلِ بِقَدْرِ زَكَاتِهِ وَلَمْ يُخْبِرْهُ بِمَبْلَغِ مَالِهِ، جَازَ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُ عَلَى قَوْلِهِ، وَلَمْ يَأْخُذْهُ بِإِحْضَارِ مَالِهِ جَبْرًا، وَإِذَا أَخْطَأَ الْعَامِلُ فِي قَسْمِ الزَّكَاةِ وَوَضَعَهَا فِي غَيْرِ مُسْتَحِقٍّ لَمْ يَضْمَنْ فِيمَنْ يُخْفَى حاله مِنَ الْأَغْنِيَاءِ، وَفِي ضَمَانِهِ لَهَا فِيمَنْ لَا يُخْفَى حاله مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْكُفَّارِ وَالْعَبِيدِ قَوْلَانِ، وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ هُوَ الْخَاطِئَ فِي قِسْمَتِهَا ضَمِنَهَا فِيمَنْ لَا يَخْفَى حَالُهُ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْعَبِيدِ. وَفِي ضَمَانِهَا فِيمَنْ يَخْفَى حَالُهُ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ قَوْلَانِ: وَيَكُونُ حُكْمُ الْعَامِلِ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ أَوْسَعَ؛ لِأَنَّ شُغْلَهُ أَكْثَرُ فَكَانَ فِي الْخَطَإِ أَعْذَرَ.

الباب الثاني عشر: في قسم الفيء والغنيمة

الباب الثاني عشر: "في قسم الفيء والغنيمة" وَأَمْوَالُ الْفَيْءِ1 وَالْغَنَائِمِ2 مَا وَصَلَتْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَوْ كَانُوا سَبَبَ وُصُولِهَا. وَيَخْتَلِفُ الْمَالَانِ فِي حُكْمِهِمَا، وَهُمَا مُخَالِفَانِ لِأَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إنَّ الصَّدَقَاتِ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَطْهِيرًا لَهُمْ، وَالْفَيْءَ وَالْغَنِيمَةَ مَأْخُوذَانِ مِنَ الْكُفَّارِ انْتِقَامًا مِنْهُمْ. وَالثَّانِي: إنَّ مَصْرِفَ الصَّدَقَاتِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، لَيْسَ لِلْأَئِمَّةِ اجْتِهَادٌ فِيهِ، وَفِي أَمْوَالِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ مَا يَقِفُ مَصْرِفُهُ عَلَى اجْتِهَادِ الْأَئِمَّةِ. وَالثَّالِثُ: إنَّ أَمْوَالَ الصَّدَقَاتِ يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ أَرْبَابُهَا بِقِسْمَتِهَا فِي أَهْلِهَا، وَلَا يَجُوزُ لِأَهْلِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ أَنْ يَنْفَرِدُوا بِوَضْعِهِ فِي مُسْتَحِقِّهِ حَتَّى يَتَوَلَّاهُ أَهْلُ الِاجْتِهَادِ مِنَ الْوُلَاةِ. وَالرَّابِعُ: اخْتِلَافُ الْمَصْرِفَيْنِ عَلَى مَا سَنُوَضِّحُ. أَمَّا الْفَيْءُ وَالْغَنِيمَةُ فَهُمَا مُتَّفِقَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَمُخْتَلِفَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ: فَأَمَّا وَجْهَا اتِّفَاقِهِمَا فَأَحَدُهُمَا: إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَالَيْنِ وَاصِلٌ بِالْكُفْرِ. وَالثَّانِي: إنَّ مَصْرِفَ خُمُسِهِمَا وَاحِدٌ. وَأَمَّا وَجْهَا افْتِرَاقِهِمَا فَأَحَدُهُمَا: إنَّ مَالَ الْفَيْءِ مَأْخُوذٌ عَفْوًا، وَمَالَ الْغَنِيمَةِ مَأْخُوذٌ قَهْرًا. وَالثَّانِي: إنَّ مَصْرِفَ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ مُخَالِفٌ الْغَنِيمَةَ لِمَصْرِفِ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ مَا سَنُوَضِّحُ -إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَسَنَبْدَأُ بِمَالِ الْفَيْءِ فَنَقُولُ: إنَّ كُلَّ مَالٍ وَصَلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَفْوًا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، وَلَا بِإِيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، فَهُوَ كَمَالِ الْهُدْنَةِ وَالْجِزْيَةِ وَأَعْشَارِ مَتَاجِرِهِمْ، أَوْ كَانَ وَاصِلًا بِسَبَبٍ

_ 1 الفيء: ما أورده الله تعالى على أهل دينه من أموال من خالفهم في الدين بلا قتال، إما بالجلاء أو بالمصالحة على جزية أو غيرها، والغنيمة أخص منه، والنفل أخص منها. [التعريفات: ص 217] . 2 الغنيمة: اسم لما يؤخذ من أموال الكفرة بقوة الغزاة وقهر الكفرة على وجه يكون فيه إعلاء كلمة الله تعالى، وحكمه أنَّ يخمَّس، وسائره للغانمين خاصة. [التعريفات: ص 209] .

مِنْ جِهَتِهِمْ كَمَالِ الْخَرَاجِ، فَفِيهِ إذَا أُخِذَ مِنْهُمْ أَدَاءَ الْخُمُسِ لِأَهْلِ الْخُمُسِ مَقْسُومًا عَلَى خَمْسَةٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا خُمُسَ فِي الْفَيْءِ1، وَنَصُّ الْكِتَابِ فِي خُمُسِ الْفَيْءِ يَمْنَعُ مِنْ مُخَالَفَتِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7] . فَيُقْسَمُ الْخُمُسُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ مُتَسَاوِيَةٍ: سَهْمٌ مِنْهَا كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَيَاتِهِ، يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَزْوَاجِهِ، وَيَصْرِفُهُ فِي مَصَالِحِهِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ فَذَهَبَ مَنْ يَقُولُ بِمِيرَاثِ الْأَنْبِيَاءِ إلَى أَنَّهُ مَوْرُوثٌ عَنْهُ مَصْرُوفٌ إلَى وَرَثَتِهِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْر2ٍ: يَكُونُ مِلْكًا لِلْإِمَامِ بَعْدَهُ؛ لِقِيَامِهِ بِأُمُورِ الْأُمَّةِ مَقَامَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: قَدْ سَقَطَ بِمَوْتِهِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- إلَى أَنَّهُ يَكُونُ مَصْرُوفًا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ؛ كَأَرْزَاقِ الْجَيْشِ وَإِعْدَادِ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، وَبِنَاءِ الْحُصُونِ وَالْقَنَاطِرِ، وَأَرْزَاقِ الْقَضَاءِ وَالْأَئِمَّةِ، وَمَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى مِنْ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ3.

_ 1 قال ابن تيمية -رحمه الله تعالى: ومن الفيء ما ضربه عمر -رضي الله عنه- على الأرض التي فتحها عنوة ولم يقسمها -كأرض مصر وأرض العراق- إلّا شيئًا يسيرًا منها، وبرِّ الشام وغير ذلك، فهذا الفيء لا خمس فيه عند جماهير الأئمة؛ كأبي حنيفة ومالك وأحمد، وإنما يرى تخميسه الشافعي وبعض أصحاب أحمد، وذكر ذلك رواية عنه. قال ابن المنذر: لا يحفظ عن أحد قبل الشافعي أن في الفيء خمسًا كخمس الغنيمة. [كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه: 28/ 564] . 2 هو إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان أبو ثور الكلبي الفقيه البغدادي صاحب الشافعي، ناقل الأقوال القديمة عنه، كان أحد الأعلام الثقات، المأمون له في المذهب والكتب المصنَّفة في الأحكام، جمع فيها بين الحديث والفقه، وكان مبدأ اشتغاله بمذهب أهل الرأي حتى قدم الشافعي -رضي الله عنه- إلى العراق، فاختلف إليه واتبعه ورفض مذهبه الأول، وتوفِّي سنة أربعين ومائتين ببغداد. 3 قال ابن تيمية: وهذا الفيء لم يكن ملكًا للنبي في حياته عند أكثر العلماء، وقال الشافعي وبعض أصحاب أحمد: كان ملكًا له، وهذا الفيء لم يكن ملكًا للنبي في حياته عند أكثر العلماء. وقال الشافعي وبعض أصحاب أحمد: كان ملكًا له. وأما مصرفه بعد موته فقد اتفق العلماء على أن يصرف منه أرزاق الجند المقاتلين الذين يقاتلون الكفار، فإن تقويتهم تذلّ الكفار فيؤخذ منهم الفيء، وتنازعوا هل يصرف في سائر مصالح المسلمين أن تختص به المقاتلة على قولين للشافعي، ووجهين في مذهب الإمام أحمد، لكن المشهور في مذهبه وهو مذهب أبي حنيفة ومالك أنه لا يختص به المقاتلة، بل يصرف في المصالح كلها، وعلى القولين يعطى من =

وَالسَّهْمُ الثَّانِي: سَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى: زَعَمَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَدْ سَقَطَ حَقُّهُمْ مِنْهُ الْيَوْمَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ حَقَّهُمْ فِيهِ ثَابِتٌ، وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ابْنَا عَبْدِ مَنَافٍ خَاصَّةً لَا حَقَّ فِيهِ لِمَنْ سِوَاهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ كُلِّهَا، يُسَوَّى فِيهِ بَيْنَ صِغَارِهِمْ وَكِبَارِهِمْ، وَأَغْنِيَائِهِمْ وَفُقَرَائِهِمْ، وَيُفَضَّلُ فِيهِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ؛ لِأَنَّهُمْ أَعْطَوْهُ بِاسْمِ الْقَرَابَةِ، وَلَا حَقَّ فِيهِ لِمَوَالِيهِمْ وَلَا لِأَوْلَادِ بَنَاتِهِمْ، وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ بَعْدَ حُصُولِ الْمَالِ وَقَبْلَ قَسْمِهِ كَانَ سَهْمُهُ مِنْهُ مُسْتَحَقًّا لِوَرَثَتِهِ1. وَالسَّهْمُ الثَّالِثُ: لِلْيَتَامَى مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ، وَالْيُتْمُ: مَوْتُ الْأَبِ مَعَ الصِّغَرِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ حُكْمُ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ؛ فَإِذَا بَلَغَا زَالَ اسْمُ الْيُتْمِ عَنْهُمَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُتْمَ بَعْدَ حُلُمٍ" 2. وَالسَّهْمُ الرَّابِعُ: لِلْمَسَاكِينِ، وَهُمْ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يَكْفِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ؛ لِأَنَّ مَسَاكِينَ الْفَيْءِ يَتَمَيَّزُونَ عَنْ مَسَاكِينِ الصَّدَقَاتِ لِاخْتِلَافِ مَصْرِفِهِمَا.

_ = فيه منفعة عامة الفيء، فإن الشافعي قال: ينبغي للإمام أن يخص من في البلدان من المقاتلة وهو من بلغ، ويحصي الذرية وهي من دون ذلك والنساء، إلى أن قال: ثم يعطي المقاتلة في كل عام عطاءهم، ويعطي الذرية والنساء ما يكفيهم لسنتهم. قال: والعطاء من الفيء لا يكون إلا لبالغ يطيق القتال. قال: ولم يختلف أحد ممن لقيه في أنَّه ليس للمماليك في العطاء حق ولا للأعراب الذين هم أهل الصدقة. قال: فإن فضل من الفيء شيء وضعه الإمام في أهل الحصون، والازدياد في الكراع والسلاح، وكل ما قوي به المسلمون. [كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه: 28/ 565] . 1 قال ابن قدامة المقدسي من الحنابلة: وسهم ذوي القربي لبني هاشم وبني المطلب ابني عبد مناف؛ لما روى جبير بن مطعم قال: لما كان يوم خيبر وضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سهم ذوي القربى في بني هاشم وبني المطلب، جئت أنا وعثمان فقلنا: يا رسول الله، إن إخواننا من بني هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله به منهم، أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا، وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة؟ فقال: "إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد" ثم شبك بين أصابعه. رواه أبو داود، ويجب تعميمهم به حيث كانوا لعموم قوله تعالى: {وَلِذِي الْقُرْبَى} ؛ ولأنه النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطى منه العباس وهو غنيّ، وأعطى صفية عمته، ويقسم للذكر والأنثى كذلك؛ ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطى منه أشبه الميراث، ويحتمل أن يسوّى بينهما كالمستحق بالوصية للقرابة. [الكافي في فقه ابن حنبل: 4/ 317] . 2 صحيح: رواه أبو داود في كتاب الوصايا "2873"، وصححه الشيخ الألباني.

وَالسَّهْمُ الْخَامِسُ: لِبَنِي السَّبِيلِ، وَهُمُ الْمُسَافِرُونَ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ، وَسَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنِ ابْتَدَأَ بِالسَّفَرِ أَوْ كَانَ مُجْتَازًا، فَهَذَا حُكْمُ الْخُمُسِ فِي قَسْمِهِ، وَأَمَّا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهُ لِلْجَيْشِ خَاصَّةً لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ؛ لِيَكُونَ مُعَدًّا لِأَرْزَاقِهِمْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّهُ مَصْرُوفٌ فِي الْمَصَالِحِ الَّتِي مِنْهَا أَرْزَاقُ الْجَيْشِ، وَمَا لَا غِنَى لِلْمُسْلِمِينَ عَنْهُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصْرَفَ الْفَيْءُ فِي أَهْلِ الصَّدَقَاتِ، وَلَا تُصْرَفُ الصَّدَقَاتُ فِي أَهْلِ الْفَيْءِ، وَيُصْرَفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَالَيْنِ فِي أَهْلِهِ، وَأَهْلِ الصَّدَقَةِ مَنْ لَا هِجْرَةَ لَهُ، وَلَيْسَ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا مِنْ حُمَاةِ الْبَيْضَةِ، وَأَهْلُ الْفَيْءِ هُمْ ذَوُو الْهِجْرَةِ الذَّابُّونَ عَنَ الْبَيْضَةِ، وَالْمَانِعُونَ عَنِ الْحَرِيمِ، وَالْمُجَاهِدُونَ لِلْعَدُوِّ، وَكَانَ اسْمُ الْهِجْرَةِ لَا يَنْطَلِقُ إلَّا عَلَى مَنْ هَاجَرَ مِنْ وَطَنِهِ إلَى الْمَدِينَةِ لِطَلَبِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ أَسْلَمَتْ وَهَاجَرَتْ بِأَسْرِهَا تُدْعَى الْبَرَرَةُ، وَكُلُّ قَبِيلَةٍ هَاجَرَ بَعْضُهَا تُدْعَى الْخِيرَةُ، فَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ بَرَرَةٌ وَخِيرَةٌ، ثُمَّ سَقَطَ حُكْمُ الْهِجْرَةِ بَعْدَ الْفَتْحِ وَصَارَ الْمُسْلِمُونَ مُهَاجِرِينَ وَأَعْرَابًا، فَكَانَ أَهْلُ الصَّدَقَةِ يُسَمَّوْنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَعْرَابًا، وَيُسَمَّى أَهْلُ الْفَيْءِ مُهَاجِرِينَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَشْعَارِهِمْ كَمَا قَالَ فِيهِ بَعْضُهُمْ1 "مِنَ السَّرِيعِ": قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بِعَصْلَبِيِّ ... أَرْوَعَ خَرَّاجٍ مِنَ الدَّوِيِّ مُهَاجِرٍ لَيْسَ بِأَعْرَابِيِّ وَلِاخْتِلَافِ الْفَرِيقَيْنِ فِي حُكْمِ الْمَالَيْنِ مَا تَمَيَّز، َ وَسَوَّى أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَهُمَا، وَجَوَّزَ صَرْفَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَالَيْنِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ. وَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَصِلَ قَوْمًا لِتَعُودَ صِلَاتُهُمْ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ -كَالرُّسُلِ وَالْمُؤَلَّفَةِ- جَازَ أَنْ يَصِلَهُمْ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ؛ فَقَدْ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمُؤَلَّفَةَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَأَعْطَى عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ الْفَزَارِيَّ مِائَةَ بَعِيرٍ، وَالْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ التَّمِيمِيَّ مِائَةَ بَعِيرٍ، وَالْعَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيَّ خَمْسِينَ بَعِيرًا، فَتَسَخَّطَهَا وَعَتَبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ "مِنَ الْمُتَقَارِبِ":

_ 1 قلت: هو الحجاج بن يوسف الثقفي.

كَانَتْ نِهَابًا تَلَافَيْتُهَا ... بِكَرِّي عَلَى الْمُهْرِ فِي الْأَجْرَعِ وَإِيقَاظِي الْقَوْمَ أَنْ يَرْقُدُوا ... إذَا هَجَعَ الْقَوْمُ لَمْ أَهْجَعْ فَأَصْبَحَ نَهْبِي وَنَهْبُ الْعَبِيـ ... ـدِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ وَقَدْ كُنْتُ فِي الْحَرْبِ ذَا قُدْرَةٍ ... فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعْ وَإِلَّا أُقَاتِلْ أُعْطِيتُهَا ... عَدِيدَ قَوَائِمِهَا الْأَرْبَعِ فَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ ... يَفُوقَانِ مِرْدَاسًا فِي مَجْمَعِ وَلَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا ... وَمَنْ تَضَعْ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: "اذْهَبْ فَاقْطَعْ عَنِّي لِسَانَهُ". فَلَمَّا ذَهَبَ بِهِ قَالَ: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْطَعَ لِسَانِي؟ قَالَ: لَا. وَلَكِنْ أُعْطِيكَ حَتَّى تَرْضَى، فَأَعْطَاهُ فَكَانَ ذَلِكَ قَطْعَ لِسَانِهِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ صِلَةُ الْإِمَامِ لَا تَعُودُ بِمَصْلَحَةٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ الْمَقْصُودُ بِهَا نَفْعَ الْمُعْطِي خَاصَّةً، كَانَتْ صِلَاتُهُمْ مِنْ مَالِهِ. رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَقَالَ "مِنَ السَّرِيعِ": يَا عُمَرَ الْخَيْرِ جُزِيتَ الْجَنَّهْ ... اُكْسُ بُنَيَّاتِي وَأُمَّهُنَّهْ وَكُنْ لَنَا مِنَ الزَّمَانِ جُنَّهْ ... أُقْسِمُ بِاَللَّهِ لَتَفْعَلَنَّهْ فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إنْ لَمْ أَفْعَلْ يَكُونُ مَاذَا؟ فَقَالَ: إذًا أَبَا حَفْصٍ لَأَذْهَبَنَّهْ فَقَالَ: وَإِذَا ذَهَبْتَ يَكُونُ مَاذَا؟ فَقَالَ: يَكُونُ عَنْ حَالِي لَتُسْأَلَنَّهْ ... يَوْمَ تَكُونُ الْأَعْطِيَاتُ هَنَّهْ وَمَوْقِفُ الْمَسْئُولِ بَيْنَهُنَّهْ ... إمَّا إلَى نَارٍ وَإِمَّا جَنَّهْ قَالَ: فَبَكَى عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- حَتَّى خَضَبَتْ لِحْيَتُهُ وَقَالَ: يَا غُلَامُ، أَعْطِهِ قَمِيصِي هَذَا لِذَلِكَ الْيَوْمِ لَا لِشِعْرِهِ، أَنَا وَاَللَّهِ لَا أَمْلِكُ غَيْرَهُ، فَجَعَلَ مَا وَصَلَ بِهِ مِنْ مَالِهِ لَا مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ صِلَتَهُ لَا تَعُودُ بِنَفْعٍ عَلَى غَيْرِهِ، فَخَرَجَتْ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَمِثْلُ هَذَا

الْأَعْرَابِيِّ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ، غَيْرَ أَنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا، إمَّا لِأَجْلِ شِعْرِهِ الَّذِي اسْتَزَلَّهُ فِيهِ، وَإِمَّا لِأَنَّ الصَّدَقَةَ مَصْرُوفَةٌ فِي جِيرَانِهَا، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ، وَكَانَ مِمَّا نَقَمَهُ النَّاسُ عَلَى عُثْمَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنْ جَعَلَ كُلَّ الصِّلَاتِ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ وَلَمْ يَرَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. وَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَ ذُكُورَ أَوْلَادِهِ مَالَ الْفَيْءِ1؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِهِ، فَإِنْ كَانُوا صِغَارًا كَانُوا فِي إعْطَاءِ الذَّرَارِيِّ مِنْ ذَوِي السَّابِقَةِ وَالتَّقَدُّمِ، وَإِنْ كَانُوا كِبَارًا فَفِي إعْطَاءِ الْمُقَاتِلَةِ مِنْ أَمْثَالِهِمْ. حَكَى ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- لَمَّا بَلَغَ أَتَى أَبَاهُ عُمَرُ بْن الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَسَأَلَهُ أَنْ يَفْرِضَ لَهُ، فَفَرَضَ لَهُ فَيْءَ أَلْفَيْنِ، ثُمَّ جَاءَ غُلَامٌ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ قَدْ بَلَغَ، فَسَأَلَهُ أَنْ يَفْرِضَ لَهُ، فَفَرَضَ لَهُ فَيْءَ ثَلَاثَةِ آلَافٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَرَضْتَ لِي فَيْءَ أَلْفَيْنِ وَفَرَضْتَ لِهَذَا فَيْءَ ثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَلَمْ يَشْهَدْ أَبُو هَذَا مَا قَدْ شَهِدْتُ، قَالَ: أَجَلْ، لَكِنِّي رَأَيْتُ أَبَا أُمِّكَ يُقَاتِلُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَرَأَيْتُ أَبَا أُمِّ هَذَا يُقَاتِلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِلْأُمِّ أَكْثَرُ مِنَ الْأَلْفِ. وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَ أَوْلَادَهُ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ ذُرِّيَّتِهِ الدَّاخِلِينَ فِي عَطَائِهِ، وَأَمَّا عَبِيدُهُ وَعَبِيدُ غَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُقَاتِلَةً فَنَفَقَاتُهُمْ فِي مَالِهِ وَمَالِ سَادَاتِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا مُقَاتِلَةً فَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَفْرِضُ لَهُمْ فِي الْعَطَاءِ، وَلَمْ يَفْرِضْ لَهُمْ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- يَأْخُذُ فِيهِمْ بِقَوْلِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَلَا يَفْرِضُ لَهُمْ فِي الْعَطَاءِ، وَلَكِنْ تُزَادُ سَادَاتُهُمْ فِي الْعَطَاءِ لِأَجْلِهِمْ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْعَطَاءِ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالِ الذُّرِّيَّةِ؛ فَإِنْ عَتَقُوا جَازَ أَنْ يَفْرِضَ لَهُمْ فِي الْعَطَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَفْرِضَ لِنُقَبَاءِ أَهْلِ الْفَيْءِ فِي عَطَايَاهُمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْرِضَ لِعُمَّالِهِمْ؛ لِأَنَّ النُّقَبَاءَ مِنْهُمْ وَالْعُمَّالَ يَأْخُذُونَ أَجْرًا عَلَى عَمَلِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَامِلُ الْفَيْءِ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَامِلُ الصَّدَقَاتِ مِنْهُمَا إذَا أَرَادَ سَهْمَهُ مِنْهَا إلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ؛ لِأَنَّ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ تَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَاتُ وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الْفَيْءُ، وَلَا يَجُوزُ لِعَامِلِ الْفَيْءِ أَنْ يَقْسِمَ مَا جَبَاهُ إلَّا بِإِذْنِ. وَيَجُوزُ لِعَامِلِ الصَّدَقَاتِ أَنْ يَقْسِمَ مَا جَبَاهُ بِغَيْرِ إذْنٍ مَا لَمْ يُنْهَ عَنْهُ، لِمَا

_ 1 قلت: أما أن يعطوا من مال الفيء كغيرهم فنعم، أمَّا أن يعطوا مال الفيء كما قال المصنّف فلا، بل إنَّ الحكام مطالبون بالابتعاد عن كل ما فيه شبهة ومحاباة.

قَدَّمْنَاهُ مِنْ صَرْفِ مَالِ الْفَيْءِ عَنِ اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، وَمَصْرِفِ الصَّدَقَةِ نَصٌّ بِالْكِتَابِ. وَصِفَةُ عَامِلِ الْفَيْءِ مَعَ وُجُودِ أَمَانَتِهِ وَشَهَامَتِهِ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ وِلَايَتِهِ فِيهِ: هِيَ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَوَلَّى تَقْدِيرَ أَمْوَالِ الْفَيْءِ، وَتَقْدِيرَ وَضْعِهَا فِي الْجِهَاتِ الْمُسْتَحَقَّةِ مِنْهَا؛ كَوَضْعِ الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ، فَمِنْ شُرُوطِ وِلَايَةِ هَذَا الْعَامِلِ أَنْ يَكُونَ حُرًّا مُسْلِمًا مُجْتَهِدًا فِي أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ مُضْطَلِعًا بِالْحِسَابِ وَالْمِسَاحَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَامَّ الْوِلَايَةِ عَلَى جِبَايَةِ مَا اسْتَقَرَّ مِنْ أَمْوَالِ الْفَيْءِ كُلِّهَا، فَالْمُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ وِلَايَتِهِ شُرُوطُ الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالِاضْطِلَاعِ بِالْحِسَابِ وَالْمِسَاحَةِ، وَلَا يُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا مُجْتَهِدًا؛ لِأَنَّهُ يَتَوَلَّى قَبْضَ مَا اسْتَقَرَّ بِوَضْعِ غَيْرِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ خَاصَّ الْوِلَايَةِ عَلَى نَوْعٍ مِنْ أَمْوَالِ الْفَيْءِ خَاصٍّ فَيُعْتَبَرُ مَا وَلِيَهُ مِنْهَا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَغْنِ فِيهِ عَنِ اسْتِنَابَةٍ اُعْتُبِرَ فِيهِ الْإِسْلَامُ وَالْحُرِّيَّةُ، مَعَ اضْطِلَاعِهِ بِشُرُوطِ مَا وَلِيَ مِنْ مِسَاحَةٍ أَوْ حِسَابٍ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ ذِمِّيًّا وَلَا عَبْدًا؛ لِأَنَّ فِيهَا وِلَايَةً، وَإِنْ اسْتَغْنَى عَنِ الِاسْتِنَابَةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا؛ لِأَنَّهُ كَالرَّسُولِ الْمَأْمُورِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ ذِمِّيًّا فَيَنْظُرُ فِيمَا رَدَّ إلَيْهِ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ، فَإِنْ كَانَتْ مُعَامَلَتُهُ فِيهِ مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَالْجِزْيَةِ وَأَخْذِ الْعُشْرِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ؛ جَازَ أَنْ يَكُونَ ذِمِّيًّا، وَإِنْ كَانَتْ مُعَامَلَتُهُ فِيهِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ كَالْخَرَاجِ الْمَوْضُوعِ عَلَى رِقَابِ الْأَرْضِينَ إذَا صَارَتْ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ فَفِي جَوَازِ كَوْنِهِ ذِمِّيًّا وَجْهَانِ. وَإِذَا بَطَلَتْ وِلَايَةُ الْعَامِلِ فَقَبَضَ مَالَ الْفَيْءِ مَعَ فَسَادِ وِلَايَتِهِ بَرِئَ الدَّافِعُ مِمَّا عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَنْهَهُ عَنْ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْقَابِضَ مِنْهُ مَأْذُونٌ لَهُ، وَإِنْ فَسَدَتْ وِلَايَتُهُ وَجَرَى فِي الْقَبْضِ مَجْرَى الرَّسُولِ، وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ صِحَّةِ وِلَايَتِهِ وَفَسَادِهَا، أَنَّ لَهُ الْإِجْبَارَ عَلَى الدَّفْعِ مَعَ صِحَّةِ الْوِلَايَةِ، وَلَهُ الْإِجْبَارُ مَعَ فَسَادِهَا، فَإِنْ نُهِيَ عَنِ الْقَبْضِ مَعَ فَسَادِ وِلَايَتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْقَبْضُ وَلَا الْإِجْبَارُ، وَلَمْ يَبْرَأْ الدَّافِعُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ إذَا عَلِمَ بِنَهْيِهِ، وَفِي بَرَاءَتِهِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالنَّهْيِ وَجْهَانِ كَالْوَكِيلِ.

فصل: أحكام الغنيمة

فصل: "أحكام الغنيمة" فَأَمَّا الْغَنِيمَةُ فَهِيَ أَكْثَرُ أَقْسَامًا وَأَحْكَامًا؛ لِأَنَّهَا أَصْلٌ تَفَرَّعَ عَنْهُ الْفَيْءُ، فَكَانَ حُكْمُهَا أَعَمَّ. وَتَشْتَمِلُ عَلَى أَقْسَامٍ: أَسْرَى، وَسَبْيٌ، وَأَرْضِينَ، وَأَمْوَالٌ. فَأَمَّا الْأَسْرَى: فَهُمْ الْمُقَاتِلُونَ مِنَ الْكُفَّارِ إذَا ظَفَرَ الْمُسْلِمُونَ بِأَسْرِهِمْ أَحْيَاءًَ، فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِمْ؛ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- إلَى أَنَّ الْإِمَامَ أَوْ مَنِ اسْتَنَابَهُ الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ فِي أَمْرِ الْجِهَادِ مُخَيَّرٌ فِيهِمْ، إذَا أَقَامُوا عَلَى كُفْرِهِمْ فِي الْأَصْلَحِ مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: إمَّا الْقَتْلُ، وَإِمَّا الِاسْتِرْقَاقُ، وَإِمَّا الْفِدَاءُ بِمَالٍ أَوْ أَسْرَى، وَإِمَّا الْمَنُّ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ فِدَاءٍ1. فَإِنْ أَسْلَمُوا سَقَطَ الْقَتْلُ عَنْهُمْ، وَكَانَ عَلَى خِيَارِهِ فِي أَحَدِ الثَّلَاثَةِ3، وَقَالَ مَالِكٌ: يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: الْقَتْلُ أَوْ الِاسْتِرْقَاقُ أَوْ الْمُفَادَاةُ بِالرِّجَالِ دُونَ الْمَالِ، وَلَيْسَ لَهُ الْمَنُّ،

_ قال أبو الحسن المالكي: ويتخيّر الإمام فيهم بين ثلاثة أوجه: الاسترقاق والعتق والفداء، ويجتنب قتل الرهبان، وقتل الأحبار، ويشترط في عدم قتل الأوالين على المشهور أن ينقطِعَا عن أهل ملتهمًا حبسًا في دير أو صومعة، ومعنى: فلا يخالطاهم في رأي ولا يعيناهم في تدبير ومشورة، ويكونان حرين لا يسترقان، ويترك لهما ما يقوم بهما. [كفاية الطالب: 2/ 9] . وقال الرجراجي: إذا غنم من العدو ذوي القوة من الرجال فالإمام مخيَّر فيهم في خمسة أشياء: القتل او الجزية أو الفداء أو المنِّ أو الاسترقاق، وأمَّا النساء فإن كففن أذاهم عن المسلمين ولزمن من قعر بيوتهن فلا خوف في تحريم قتلهن، وإن شرعن في مدح القتال وذم الفرار، فإن قاتلن وباشرن السلاح فلا خلاف في جواز قتلهنّ، في حين القتل في المسايفة لوجود المعنى المبيح لقتلهن، وكذلك أيضًا يباح قتلهن بعد الأسر إذا قتلن، فإن رمين بالحجارة ولم يظهرن النكاية ولا قتلن أحدًا فلا يقتلن بعد الأسر اتفاقًا. [مواهب الجليل: 3/ 351] . 2 يقول الفيروزابادي الشيرازي من الشافعية: وإن أسر حرّ فللإمام أن يختار فيه ما يرى المصلحة من القتل والاسترقاق والمن والمفاداة بمال أو بمن أسر من المسلمين، فإن استرقَّه وكان له زوجة انفسخ نكاحها، وإن أسلم في الأسر سقط قتله، وبقي الخيار في الباقي في أحد القولين، ويرقّ في القول الآخر، وإن غرر بنفسه في أسره فقتله الإمام أو من عليه ففي سلبه قولان: أحدهما أنه لمن أسره، والثاني أنه ليس له، وإن استرقه أو فاداه بمال فهل يستحق من أسره رقبته، أو المال المفادى به فيه قولان، وإن حاصر قلعة فنزل أهلها على حكم حاكم جاز، ويجب أن يكون الحاكم حرًّا مسلمًا ثقة من أهل الاجتهاد ولا يحكم الحاكم إلّا بما فيه الحظ للمسلمين منَ القتل والاسترقاق والمنّ والفداء. [التنبيه: ص 234] .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ الْقَتْلُ أَوْ الِاسْتِرْقَاقُ، وَلَيْسَ لَهُ الْمَنُّ وَلَا الْمُفَادَاةُ بِالْمَالِ؛ وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ، قَالَ تَعَالَى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] ، وَمَنَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أَبِي عَزَّةَ الْجُمَحِيِّ1 يَوْمَ بَدْرٍ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَلَّا يَعُودَ لِقِتَالِهِ فَعَادَ لِقِتَالِهِ يَوْمَ أُحُدٍ، فَأُسِرَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَتْلِهِ، فَقَالَ: اُمْنُنْ عَلَيَّ فَقَالَ: "لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ" 2. وَلَمَّا قَتَلَ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ بِالصَّفْرَاءِ بَعْدَ انْكِفَائِهِ مِنْ بَدْرٍ لَمَّا اسْتَوْقَفَتْهُ ابْنَتُهُ قُتَيْلَةُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَأَنْشَدَتْهُ قَوْلَهَا "مِنَ الْكَامِلِ": يَا رَاكِبًا إنَّ الْأُثَيْلَ مَظِنَّةٌ ... عَنْ صُبْحِ خَامِسَةٍ وَأَنْتَ مُوَفَّقُ أَبْلِغْ بِهِ مَيْتًا فَإِنَّ تَحِيَّةً ... مَا إنْ تَزَالُ بِهَا الرَّكَائِبُ تَخْفُقُ مِنِّي إلَيْهِ وَعَبْرَةٌ مَسْفُوحَةٌ ... جَاءَتْ لِمَائِحِهَا وَأُخْرَى تُخْنَقُ أَمُحَمَّدٌ يَا خَيْرَ ضِنْءِ كَرِيمَةٍ ... فِي قَوْمِهَا وَالْفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرِقُ النَّضْرُ أَقْرَبُ مَنْ قَتَلْتَ قَرَابَةً ... وَأَحَقُّهُمْ إنْ كَانَ عِتْقٌ يُعْتَقُ مَا كَانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَنْتَ وَرُبَّمَا ... مَنَّ الْفَتَى وَهُوَ الْمَغِيظُ الْمُحْنَقُ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ سَمِعْتُ شِعْرَهَا مَا قَتَلْتُه" 3، وَلَوْ لَمْ يَجُزِ الْمَنُّ لَمَا قَالَ هَذَا؛ لِأَنَّ أَقْوَالَهُ أَحْكَامٌ مَشْرُوعَةٌ. وَأَمَّا الْفِدَاءُ: فَقَدْ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِدَاءَ أَسْرَى بَدْرٍ وَفَادَى بَعْدَهُمْ رَجُلًا بِرَجُلَيْنِ، فَإِذَا ثَبَتَ خِيَارُهُ فِيمَنْ لَمْ يُسْلِمْ بَيْنَ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ، تَصَفَّحَ أَحْوَالَهُمْ وَاجْتَهَدَ بِرَأْيِهِ فِيهِمْ. فَمَنْ عَلِمَ مِنْهُ قُوَّةَ بَأْسٍ وَشِدَّةَ نِكَايَةٍ وَيَئِسَ مِنْ إسْلَامِهِ، وَعَلِمَ مَا فِي قَتْلِهِ مِنْ وَهَنِ قَوْمِهِ قَتَلَهُ صَبْرًا مِنْ غَيْرِ مُثْلَةٍ. وَمَنْ رَآهُ مِنْهُمْ ذَا جَلَدٍ وَقُوَّةٍ عَلَى الْعَمَلِ، وَكَانَ مَأْمُونَ الْخِيَانَةِ وَالْخَبَاثَةِ اسْتَرَقَّهُ؛ لِيَكُونَ عَوْنًا لِلْمُسْلِمِينَ. وَمَنْ رَآهُ مِنْهُمْ مَرْجُوَّ الْإِسْلَامِ أَوْ مُطَاعًا فِي قَوْمِهِ، وَرَجَا بِالْمَنِّ عَلَيْهِ إمَّا إسْلَامَهُ أَوْ تَأْلِيفَ

_ 1 أبو عزة الجمحي، شاعر، واسمه عمرو بن عبد الله. 2 صحيح: رواه البخاري في كتاب الأدب "6133"، ومسلم في كتاب الرقائق "2998". 3 والخبر ذكره ابن خلكان في وفيَّات الأعيان، وابن طيفور في بلاغات النساء.

قَوْمِهِ مَنَّ عَلَيْهِ وَأَطْلَقَهُ. وَمَنْ وَجَدَ مِنْهُمْ ذَا مَالٍ وَجَدَّةٍ وَكَانَ بِالْمُسْلِمِينَ خُلَّةٌ وَحَاجَةٌ، فَأَدَّاهُ عَلَى مَالٍ وَجَعَلَهُ عُدَّةً لِلْإِسْلَامِ وَقُوَّةً لِلْمُسْلِمِينَ. وَإِنْ كَانَ فِي أَسْرَى عَشِيرَتِهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ رِجَالٍ أَوْ نِسَاءٍ فَأَدَّاهُ عَلَى إطْلَاقِهِمْ، فَيَكُونُ خِيَارُهُ فِي الْأَرْبَعَةِ عَلَى وَجْهِ الْأَحْوَطِ الْأَصْلَحِ، وَيَكُونُ الْمَالُ الْمَأْخُوذُ فِي الْفِدَاءِ غَنِيمَةً تُضَافُ إلَى الْغَنَائِمِ، وَلَا يُخَصُّ بِهَا مَنْ أُسِرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَفَعَ فِدَاءَ الْأَسْرَى مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ إلَى مَنْ أَسَرَهُمْ قَبْلَ نُزُولِ قَسْمِ الْغَنِيمَةِ فِي الْغَانِمِينَ: وَمَنْ أَبَاحَ الْإِمَامُ دَمَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِعِظَمِ نِكَايَتِهِ وَشِدَّةِ أَذِيَّتِهِ، ثُمَّ أُسِرَ جَازَ لَهُ الْمَنُّ عَلَيْهِ وَالْعَفْوُ عَنْهُ. قَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَتْلِ سِتَّةٍ عَامَ الْفَتْحِ وَلَوْ تَعَلَّقُوا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، كَانَ يَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَقُولُ لَهُ: "اُكْتُبْ غَفُورٌ رَحِيمٌ" فَيَكْتُبُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، ثُمَّ ارْتَدَّ فَلَحِقَ بِقُرَيْشٍ، وَقَالَ: إنِّي أَصْرِفُ مُحَمَّدًا حَيْثُ شِئْتُ، فَنَزَلَ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [الأنعام: 93] . وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ، كَانَتْ لَهُ قَيْنَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِسَبِّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْحُوَيْرِثُ بْنُ نُفَيْلٍ، كَانَ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِقْيَسُ بْنُ حُبَابَةَ، كَانَ بَعْضُ الْأَنْصَارِ قَتَلَ أَخًا لَهُ خَطَأً فَأَخَذَ دِيَتَهُ ثُمَّ اغْتَالَ الْقَاتِلَ فَقَتَلَهُ، وَعَادَ إلَى مَكَّةَ مُرْتَدًّا وَأَنْشَأَ يَقُولُ "مِنَ الطَّوِيلِ": شَفَى النَّفْسَ أَنْ قَدْ بَاتَ بِالْقَاعِ مُسْنَدًا ... يُضَرِّجُ ثَوْبَيْهِ دِمَاءُ الْأَخَادِعِ وَكَانَتْ هُمُومُ النَّفْسِ مِنْ قَبْلِ قَتْلِهِ ... تُلِمُّ فَتُحْفِي عَنْ وِطَاءِ الْمَضَاجِعِ ثَأَرْتُ بِهِ قَهْرًا وَحَمَّلْتُ عَقْلَهُ ... سَرَاةَ بَنِي النَّجَّارِ أَرْبَابَ فَارِعِ وَأَدْرَكْتُ ثَأْرِي وَاضْطَجَعْتُ مُوَسَّدًا ... وَكُنْتُ عَنْ الْإِسْلَامِ أَوَّلَ رَاجِعِ وَسَارَةُ مَوْلَاةٌ لِبَعْضِ بَنِي الْمُطَّلِبِ، كَانَتْ تَسُبُّ وَتُؤْذِي، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، كَانَ يُكْثِرُ التَّأْلِيبَ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طَلَبًا لِثَأْرِ أَبِيهِ. فَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، فَإِنَّ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- اسْتَأْمَنَ لَهُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ أَعَادَ الِاسْتِئْمَانَ ثَانِيَةً، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ: "مَا كَانَ فِيكُمْ مَنْ يَقْتُلُهُ حِينَ أَعْرَضْتُ عَنْهُ"،

قَالُوا: هَلَّا أَوْمَأْتَ إلَيْنَا بِعَيْنِكَ؟ قَالَ: "مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ"، وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ1 فَقَتَلَهُ سَعْدُ بْنُ حُرَيْثٍ الْمَخْزُومِيُّ، وَأَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ2، وَأَمَّا مِقْيَسُ بْنُ صَبَابَةَ3 فَقَتَلَهُ نُمَيْلَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، وَأَمَّا الْحُوَيْرِثُ بْنُ نُفَيْلٍ فَقَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ صَبْرًا بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: "لَا يُقْتَلُ قُرَيْشِيٌّ بَعْدَ هَذَا إلَّا بِقَوَدٍ". وَأَمَّا قَيْنَتَا ابْنِ خَطَلٍ فَقُتِلَتْ إحْدَاهُمَا وَهَرَبَتْ الْأُخْرَى حَتَّى اُسْتُؤْمِنَ لَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَمَّنَهَا، وَأَمَّا سَارَةُ فَتَغَيَّبَتْ حَتَّى اُسْتُؤْمِنَ لَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَمَّنَهَا، ثُمَّ تَغَيَّبَتْ مِنْ بَعْدُ حَتَّى أَوْطَأَهَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَرَسًا لَهُ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بِالْأَبْطَحِ فَقَتَلَهَا، وَأَمَّا عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ فَإِنَّهُ سَارَ إلَى نَاحِيَةِ الْبَحْرِ وَقَالَ: لَا أَسْكُنُ مَعَ رَجُلٍ قَتَلَ أَبَا الْحَكَمِ -يَعْنِي: أَبَاهُ، فَلَمَّا رَكِبَ الْبَحْرَ قَالَ لَهُ صَاحِبُ السَّفِينَةِ: أَخْلِصْ قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: لَا يَصْلُحُ فِي الْبَحْرِ إلَّا الْإِخْلَاصُ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَئِنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ فِي الْبَحْرِ إلَّا الْإِخْلَاصُ فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ فِي الْبَرِّ غَيْرُهُ فَرَجَعَ، وَكَانَتْ زَوْجَتُهُ بِنْتُ الْحَارِثِ قَدْ أَسْلَمَتْ وَهِيَ أُمُّ حَلِيمٍ، فَأَخَذَتْ لَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمَانًا، وَقِيلَ: بَلْ خَرَجَتْ إلَيْهِ بِأَمَانِهِ إلَى الْبَحْرِ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَرْحَبًا بِالرَّاكِبِ الْمُهَاجِرِ"4 فَأَسْلَمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَسْأَلُنِي الْيَوْمَ شَيْئًا إلَّا أَعْطَيْتُكَ".

_ 1 هو عبد الله بن عبد مناف بن أسعد بن جابر بن كبير بن تيم بن غالب، وهو الذي يقال له: ابن خطل، الذي أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقتله يوم فتح مكة؛ وكانت له قينتان تغنيان بهجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ فقتل. [انظر: نسب قريش] . 2 هو نضلة بن عبيد بن الحارث، أبو برزة الأسلمي، غلبت عليه كنيته، واختلف في اسمه، فقيل: نضلة بن عبد الله بن الحارث، وقيل: عبد الله بن نضلة، وقيل: سلمة بن عبيد، والصحيح الأول، أسلم قديمًا، وشهد فتح مكة، ثم تحوَّل إلى البصرة، ثم غزا خراسان ومات بها أيام يزيد بن معاوية، أو في آخر خلافة معاوية. 3 مقيس بن صبابة الكناني، أمه صبابة بنت مقيس بن قيس بن عدي بن سهم بن عمرو بن هصيص، وأبوه حزن بن سيار بن عبد الله بن عبيد بن كلب بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وعداده في قريش في بني سهم، وكان مع أخواله بني سهم، ورأى منهم بعض ما يكره، فخرج عنهم، هذا قول أبي سعيد السكري. وقال هشام بن الكلبي: هو مقيس بن صبابة بن حزن بن يسار، أسلم ثم ارتدَّ فأهدر النبي -صلى الله عليه وسلم- دمه، فقتله نميلة بن عبد الله بن رجل من قومه. [انظر: معجم الشعراء للمرزباني] . 4 ضعيف: رواه الترمذي في كتاب الاستئذان والآداب "2735"، وضعَّفه الشيخ الألباني.

فَقَالَ: إنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تَسْأَلَ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لِي كُلَّ نَفَقَةٍ أَنْفَقْتُهَا لِأَصُدَّ بِهَا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَكُلَّ مَوْقِفٍ وَقَفْتُهُ لِأَصُدَّ بِهِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ مَا سَأَلَ". فَقَالَ: وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا أَدَعُ دِرْهَمًا أَنْفَقْتُهُ فِي الشِّرْكِ إلَّا أَنْفَقْتُ مَكَانَهُ فِي الْإِسْلَامِ دِرْهَمَيْنِ، وَلَا مَوْقِفًا وَقَفْتُهُ فِي الشِّرْكِ إلَّا وَقَفْتُ مَكَانَهُ فِي الْإِسْلَامِ مَوْقِفَيْنِ، فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. هَذَا الْخَبَرُ يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي سِيرَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَحْكَامٌ، فَلِذَلِكَ اسْتَوْفَيْنَاهُ.

فصل: في النهي عن قتل الرهبان

فصل: "في النهي عن قتل الرهبان" وَأَمَّا قَتْلُ مَنْ أَضْعَفَهُ الْهَرَمُ، أَوْ أَعْجَزَتْهُ الزَّمَانَةُ، أَوْ كَانَ مِمَّنْ تَخَلَّى مِنَ الرُّهْبَانِ وَأَصْحَابِ الصَّوَامِعِ، فَإِنْ كَانُوا يَمُدُّونَ الْمُقَاتِلَةَ بِرَأْيِهِمْ وَيُحَرِّضُونَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، جَازَ قَتْلُهُمْ عِنْدَ الظَّفَرِ بِهِمْ، وَكَانُوا فِي حُكْمِ الْمُقَاتِلَةِ بَعْدَ الْأَسْرِ، وَإِنْ لَمْ يُخَالِطُوهُمْ فِي رَأْيٍ وَلَا تَحْرِيضٍ، فَفِي إبَاحَةِ قَتْلِهِمْ قَوْلَانِ. فصل: وَأَمَّا السَّبْيُ فَهُمْ النِّسَاءُ وَالْأَطْفَالُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَلُوا إذَا كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ؛ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ، وَيَكُونُ سَبْيًا مُسْتَرَقًّا يُقْسَمُونَ مَعَ الْغَنَائِمِ، وَإِنْ كَانَ النِّسَاءُ مِنْ قَوْمٍ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ -كَالدَّهْرِيَّةِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ- وَامْتَنَعْنَ مِنَ الْإِسْلَامِ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُقْتَلْنَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُسْتَرْقَقْنَ، لَا يُفَرَّقُ فِيمَنْ اُسْتُرْقِقْنَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تُوَلَّهُ وَالِدَةٌ عَنْ وَلَدِهَا". فَإِنْ فَادَى بِالسَّبْيِ عَلَى مَالٍ جَازَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْفِدَاءَ بَيْعٌ، وَيَكُونُ مَالُ فَدَائِهِمْ مَغْنُومًا مَكَانَهُمْ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِطَابَةُ نُفُوسِ الْغَانِمِينَ عَنْهُمْ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ. وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُفَادِيَ بِهِمْ عَنْ أَسْرَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَيْدِي قَوْمِهِمْ عَوَّضَ الْغَانِمِينَ عَنْهُمْ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ، وَإِنْ أَرَادَ الْمَنَّ عَلَيْهِمْ لَمْ يَجُزْ إلَّا بِاسْتِطَابَةِ نُفُوسِ الْغَانِمِينَ عَنْهُمْ إمَّا بِالْعَفْوِ عَنْ حُقُوقِهِمْ مِنْهُمْ، وَإِمَّا بِمَالٍ يُعَوِّضُهُمْ عَنْهُمْ.

فَإِنْ كَانَ الْمَنُّ عَلَيْهِمْ لِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ جَازَ أَنْ يُعَوِّضَهُمْ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ، وَإِنْ كَانَ لِأَمْرٍ يَخُصُّهُ عَاوَضَ عَنْهُمْ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَمَنِ امْتَنَعَ مِنَ الْغَانِمِينَ عَنْ تَرْكِ حَقِّهِ لَمْ يُسْتَنْزَلْ عَنْهُ إجْبَارًا حَتَّى يَرْضَى، وَخَالَفَ ذَلِكَ حُكْمُ الْأَسْرَى الَّذِي لَا يَلْزَمُهُ اسْتِطَابَةُ نُفُوسِ الْغَانِمِينَ فِي الْمَنِّ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ قَتْلَ الرِّجَالِ مُبَاحٌ، وَقَتْلَ السَّبْيِ مَحْظُورٌ، فَصَارَ السَّبْيُ مَالًا مَغْنُومًا لَا يَسْتَنْزِلُونَ عَنْهُ إلَّا بِاسْتِطَابَةِ النُّفُوسِ. قَدْ اسْتَعْطَفَتْ هَوَازِنُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ سَبَاهُمْ بِحُنَيْنٍ، وَأَتَاهُ وُفُودُهُمْ وَقَدْ فَرَّقَ الْأَمْوَالَ وَقَسَمَ السَّبْيَ، فَذَكَّرُوهُ حُرْمَةَ رَضَاعِهِ فِيهِمْ مِنْ لَبَنِ حَلِيمَةَ، وَكَانَتْ مِنْ هَوَازِنَ. حَكَى ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ هَوَازِنَ لَمَّا سُبِيَتْ وَغُنِمَتْ أَمْوَالُهُمْ بِحُنَيْنٍ، قَدِمَتْ وُفُودُهُمْ مُسْلِمِينَ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَنَا أَصْلٌ وَعَشِيرَةٌ، وَقَدْ أَصَابَنَا مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَا يَخْفَى عَلَيْكَ، فَامْنُنْ عَلَيْنَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ، ثُمَّ قَامَ مِنْهُمْ أَبُو صُرَدَ زُهَيْرُ بْنُ صُرَدَ1 فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّمَا فِي الْحَظَائِرِ عَمَّاتُكَ وَخَالَاتُكَ وَحَوَاضِنُكَ اللَّائِي كُنَّ يَكْفُلْنَكَ، وَلَوْ أَنَّا مُلِّكْنَا لِلْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ2 أَوْ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِر، ِ ثُمَّ نَزَلْنَا بِمِثْلِ الْمَنْزِلِ الَّذِي نَزَلْنَا رَجَوْنَا عَطْفَهُ وَجَائِزَتَهُ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْكَفِيلِينَ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ "مِنَ الْبَسِيطِ": اُمْنُنْ عَلَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ فِي كَرَمٍ ... فَإِنَّكَ الْمَرْءُ نَرْجُوهُ وَنَدَّخِرُ اُمْنُنْ عَلَى بَيْضَةٍ قَدْ عَاقَهَا قَدَرٌ ... مُمَزَّقٌ شَمْلُهَا فِي دَهْرِهَا غَبَرُ اُمْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا ... إذْ فُوكَ يَمْلَؤُهُ مِنْ مَحْضِهَا الدُّرَرُ الْآنَ إذْ كُنْتَ طِفْلًا كُنْتَ تَرْضَعُهَا ... وَإِذْ تُرَبِّيكَ مَا تَأْتِي وَمَا تَذَرُ لَا تَجْعَلَنَّا كَمَنْ شَالَتْ نَعَامَتُهُ ... وَاسْتَبْقِ مِنَّا فَإِنَّا مَعْشَرٌ زُهُرُ إذْ لَمْ تُدَارِكُنَا نَعْمَاءُ تَنْشُرُهَا ... يَا أَرْجَحَ النَّاسِ حِلْمًا حِينَ يُخْتَبَرُ

_ 1 هو زهير بن صرد الجشمي السعدي، أبو صرد، من بني سعد بن بكر، كان رئيس قومه. 2 الحارث بن أبي شمر: وهو الحارث الأعرج، وأمه مارية ذات القرطين، وهي مارية بنت ظالم بن وهب ابن الحارث بن معاوية الكندي؛ وأختها هند الهنود امرأة حجر بن المرار الكندي، وإلى الحارث الأعرج زحف المنذر الأكبر فانهزم جيشه، وقتل هو.. ثم الحارث الأصغر بن الحارث الأعرج بن الحارث.. وهو ولد الحارث الأعرج، ثم عمرو بن الحارث، وكان يقال له: أبو شمر الأصغر.

إنَّا لَنَشْكُركَ النُّعْمَى وَإِنْ كَثُرَتْ ... وَعِنْدَنَا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ نَدَّخِرُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ أَحَبُّ إلَيْكُمْ أَمْ أَمْوَالُكُمْ "؟. فَقَالُوا: خَيَّرَتْنَا بَيْنَ أَمْوَالِنَا وَأَحْسَابِنَا، بَلْ تَرُدُّ عَلَيْنَا أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، فَهُمْ أَحَبُّ إلَيْنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ". وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَتْ الْأَنْصَارُ: مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ، وَقَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ: أَمَّا أَنَا وَبَنُو تَمِيمٍ فَلَا، وَقَالَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ: أَمَّا أَنَا وَبَنُو فَزَارَةَ فَلَا؛ وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ: أَمَّا أَنَا وَبَنُو سُلَيْمٍ فَلَا، فَقَالَتْ بَنُو سُلَيْمٍ: مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ لِبَنِي سُلَيْمٍ: قَدْ وَهَنْتُمُونِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَّا مَنْ تَمَسَّكَ مِنْكُمْ بِحَقِّهِ مِنْ هَذَا السَّبْيِ فَلَهُ بِكُلِّ إنْسَانٍ سِتُّ قَلَائِصَ، فَرُدُّوا إلَى النَّاسِ أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ" 1. فَرَدُّوا، وَكَانَ عُيَيْنَةُ قَدْ أَخَذَ عَجُوزًا مِنْ عَجَائِزِ هَوَازِنَ وَقَالَ: إنِّي لَا أَرَى لَهَا فِي الْحَيِّ نَسَبًا، فَعَسَى أَنْ يُعَظِّمَ فِدَاؤُهَا، فَامْتَنَعَ مِنْ رَدِّهَا بِسِتِّ قَلَائِصَ، فَقَالَ أَبُو صُرَدَ: خَلِّهَا عَنْكَ، فَوَاَللَّهِ مَا فُوهَا بِبَارِدٍ، وَلَا ثَدْيُهَا بِنَاهِدٍ، وَلَا بَطْنُهَا بِوَالِدٍ، وَلَا زَوْجُهَا بِوَاحِدٍ، وَلَا دَرُّهَا بِمَاغِدٍ، فَرَدَّهَا بِسِتِّ قَلَائِصَ، ثُمَّ إنَّ عُيَيْنَةَ لَقِيَ الْأَقْرَعَ فَشَكَا إلَيْهِ فَقَالَ: إنَّكَ مَا أَخَذْتَهَا بَيْضَاءَ غَرِيرَةً وَلَا نَصْفَاءَ وَثِيرَةً، وَكَانَ فِي السَّبْيِ الشَّيْمَاءُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى أُخْتُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَعَنَّفَ بِهَا إلَى أَنْ أَتَتْهُ وَهِيَ تَقُولُ: أَنَا أُخْتُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَلَمَّا انْتَهَتْ إلَيْهِ قَالَتْ لَهُ: أَنَا أُخْتُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَمَا عَلَامَةُ ذَلِكَ"؟ فَقَالَتْ: عَضَّةٌ عَضَضْتَنِيهَا وَأَنَا مُتَوَرِّكَتُكَ، فَعَرَفَ الْعَلَامَةَ وَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ وَأَجْلَسَهَا عَلَيْهِ، وَخَيَّرَهَا بَيْنَ الْمُقَامِ عِنْدَهُ مُكَرَّمَةً أَوْ الرُّجُوعِ إلَى قَوْمِهَا مُمَتَّعَةً، فَاخْتَارَتْ أَنْ يُمَتِّعَهَا وَيَرُدَّهَا إلَى قَوْمِهَا، فَفَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ قَبْلَ وُرُودِ الْوَفْدِ وَرَدِّ السَّبْيِ؛ فَأَعْطَاهَا غُلَامًا لَهُ يُقَالُ لَهُ: محكل، وَجَارِيَةً فَزَوَّجَتْ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ، فَفِيهِمْ مَنْ نَسْلِهِمَا بَقِيَّةٌ.

_ 1 حسن: رواه أبو داود في كتاب الجهاد "2694"، والنسائي في كتاب الهبة "3688"، وأحمد "6997"، وحسنه الشيخ الألباني.

وَفِي هَذَا الْخَبَرِ مَعَ الْأَحْكَامِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْهُ سِيرَةٌ يَجِبُ أَنْ يَتَّبِعَهَا الْوُلَاةُ فَلِذَلِكَ اسْتَوْفَيْنَاهُ. وَإِذَا كَانَ فِي السَّبَايَا ذَوَاتُ أَزْوَاجٍ بَطَلَ نِكَاحُهُنَّ بِالسَّبْيِ، سَوَاءٌ سُبِيَ أَزْوَاجُهُنَّ مَعَهُنَّ أَمْ لَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ سُبِينَ مَعَ أَزْوَاجِهِنَّ فَهُنَّ عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ مِنْهُنَّ ذَاتُ زَوْجٍ قَبْلَ حُصُولِهَا فِي السَّبْيِ فَهِيَ حُرَّةٌ، وَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَإِذَا قَسَمَ السَّبَايَا فِي الْغَانِمِينَ حَرُمَ وَطْؤُهُنَّ حَتَّى يُسْتَبْرَأْنَ بِحَيْضَةٍ إنْ كُنَّ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ، أَوْ بِوَضْعِ الْحَمْلِ إنْ كُنَّ حَوَامِلَ. رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَّ بِسَبْيِ هَوَازِنَ فَقَالَ: "أَلَا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ" 1. وَمَا غَلَبَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَزُوهُ لَمْ يَمْلِكُوهُ، وَكَانَ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ أَرْبَابِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنْ غَنِمَهُ الْمُسْلِمُونَ رُدَّ عَلَى مَالِكِهِ مِنْهُمْ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: قَدْ مَلَكَهُ الْمُشْرِكُونَ إذَا غَلَبُوا عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ أَمَةً وَدَخَلَ سَيِّدُهَا الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ حَرُمَ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا، وَلَوْ كَانَتْ أَرْضًا أَسْلَمَ عَنْهَا الْمُتَغَلِّبُ عَلَيْهَا كَانَ أَحَقَّ بِهَا، وَإِذَا غَنِمَهُ الْمُسْلِمُونَ كَانُوا أَحَقَّ بِهِ مِنْ مَالِكِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ أَدْرَكَهُ مَالِكُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ كَانَ أَحَقَّ بِهِ، وَإِنْ أَدْرَكَهُ بَعْدَهَا كَانَ مَالِكُهُ أَحَقَّ بِثَمَنِهِ، وَغَانِمُهُ أَحَقَّ بِعَيْنِهِ، وَيَجُوزُ شِرَاءُ أَوْلَادِ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْهُمْ كَمَا يَجُوزُ سَبْيُهُمْ، وَيَجُوزُ شِرَاءُ أَوْلَادِ أَهْلِ الْعَهْدِ مِنْهُمْ وَلَا يَجُوزُ سَبْيُهُمْ. وَيَجْرِي عَلَى مَا غَنِمَهُ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ حُكْمُ الْغَنِيمَةِ فِي أَخْذِ خُمُسِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ: لَا يُؤْخَذُ خُمُسُهُ حَتَّى يَكُونُوا سَرِيَّةً، وَاخْتَلَفُوا فِي السَّرِيَّةِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: السَّرِيَّةُ أَنْ يَكُونُوا عَدَدًا مُمْتَنِعًا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: السَّرِيَّةُ تِسْعَةٌ فَصَاعِدًا؛ لِأَنَّ سَرِيَّةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ كَانَتْ تِسْعَةً، وَهَذَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ إلَى خَالِدِ بْنِ سُفْيَانَ الْهُذَلِيِّ سَرِيَّةً وَحْدَهُ فَقَتَلَهُ، وَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ وَآخَرَ مَعَهُ سَرِيَّةً. وَإِذَا أَسْلَمَ الْأَبَوَانِ كَانَ إسْلَامًا لِصِغَارِ أَوْلَادِهِمَا مِنْ ذُكُورٍ وَإِنَاثٍ، وَلَا يَكُونُ إسْلَامًا لِلْبَالِغَيْنِ مِنْهُمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَالِغُ مَجْنُونًا، وَقَالَ مَالِكٌ: يَكُونُ إسْلَامُ الْأَبِ إسْلَامًا لَهُمْ، وَلَا

_ 1 صحيح: رواه أبو داود في كتاب النكاح "2157"، والدارمي في كتاب الطلاق "2295"، وصحَّحه الشيخ الألباني.

يَكُونُ إسْلَامُ الْأَطْفَالِ بِأَنْفُسِهِمْ إسْلَامًا وَلَا رِدَّتُهُمْ رِدَّةً، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إسْلَامُ الطِّفْلِ إسْلَامٌ وَرِدَّتُهُ رِدَّةٌ إذَا كَانَ يَعْقِلُ وَيُمَيِّزُ، لَكِنْ لَا يُقْتَلُ حَتَّى يَبْلُغَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَكُونُ إسْلَامُ الطِّفْلِ إسْلَامًا وَلَا تَكُونُ رِدَّتُهُ رِدَّةً، وَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ مَعْنٍ عَنْهُ: إنْ عَرَفَ نَفْسَهُ صَحَّ إسْلَامُهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهَا لَمْ يَصِحَّ. فصل: وَأَمَّا الْأَرْضُونَ إذَا اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ فَتُقْسَمُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا مُلِكَتْ عَنْوَةً وَقَهْرًا حَتَّى فَارَقُوهَا بِقَتْلٍ أَوْ أَسْرٍ أَوْ جَلَاءٍ؛ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهَا بَعْدَ اسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- إلَى أَنَّهَا تَكُونُ غَنِيمَةً كَالْأَمْوَالِ تُقْسَمُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، إلَّا أَنْ يَطِيبُوا نَفْسًا بِتَرْكِهَا، فَتُوقَفُ عَلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ مَالِكٌ: تَصِيرُ وَقْفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ حِينَ غُنِمَتْ، وَلَا يَجُوزُ قَسْمُهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْإِمَامُ فِيهَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ قِسْمَتِهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ، فَتَكُونُ أَرْضًا عُشْرِيَّةً، أَوْ يُعِيدُهَا إلَى أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ بِخَرَاجٍ يَضْرِبُهُ عَلَيْهَا فَتَكُونُ أَرْضَ خَرَاجٍ، وَيَكُونُ الْمُشْرِكُونَ بِهَا أَهْلَ ذِمَّةٍ، أَوْ يَقِفُهَا عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَصِيرُ هَذِهِ الْأَرْضُ دَارَ إسْلَامٍ، سَوَاءٌ سَكَنَهَا الْمُسْلِمُونَ أَوْ أُعِيدَ إلَيْهَا الْمُشْرِكُونَ لِمِلْكِ الْمُسْلِمِينَ لَهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَنْزِلَ عَنْهَا لِلْمُشْرِكِينَ لِئَلَّا تَصِيرَ دَارَ حَرْبٍ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي مِنْهَا: مَا مُلِكَ مِنْهُمْ عَفْوًا لِانْجِلَائِهِمْ عَنْهَا خَوْفًا، فَتَصِيرُ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا وَقْفًا، وَقِيلَ: بَلْ تَصِيرُ وَقْفًا حَتَّى يَقِفَهَا الْإِمَامُ لَفْظًا، وَيَضْرِبَ عَلَيْهَا خَرَاجًا يَكُونُ أُجْرَةً لِرِقَابِهَا تُؤْخَذُ مِمَّنْ عُومِلَ عَلَيْهَا مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ، وَيَجْمَعُ فِيهَا بَيْنَ خَرَاجِهَا وَأَعْشَارِ زُرُوعِهَا وَثِمَارِهَا، إلَّا أَنْ تَكُونَ الثِّمَارُ مِنْ نَخْلٍ كَانَتْ فِيهَا وَقْتَ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا، فَتَكُونُ تِلْكَ النَّخْلُ وَقْفًا مَعَهَا لَا يَجِبُ فِي ثَمَرِهَا عُشْرٌ، وَيَكُونُ الْإِمَامُ فِيهَا مُخَيَّرًا بَيْنَ وَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَيْهَا أَوْ الْمُسَاقَاةِ عَلَى ثَمَرَتِهَا، وَيَكُونُ مَا اُسْتُؤْلِفَ غَرْسُهُ مِنَ النَّخْلِ مَعْشُورًا وَأَرْضُهُ خَرَاجًا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجْتَمِعُ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ، وَيَسْقُطُ الْعُشْرُ بِالْخَرَاجِ، وَتَصِيرُ هَذِهِ الْأَرْضُ دَارَ إسْلَامٍ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ هَذِهِ الْأَرْضِ وَلَا رَهْنِهَا، وَيَجُوزُ بَيْعُ مَا اُسْتُحْدِثَ فِيهَا مِنْ نَخْلٍ أَوْ شَجَرٍ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا صُلْحًا عَلَى أَنْ تُقَرَّ فِي أَيْدِيهِمْ بِخَرَاجٍ يُؤَدُّونَهُ عَنْهَا، فَهَذَا

عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى أَنَّ مِلْكَ الْأَرْضِ لَنَا، فَتَصِيرُ بِهَذَا الصُّلْحِ وَقْفًا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ؛ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا رَهْنُهَا، وَيَكُونُ الْخَرَاجُ أُجْرَةً لَا يَسْقُطُ عَنْهُمْ بِإِسْلَامِهِمْ، فَيُؤْخَذُ خَرَاجُهَا إذَا انْتَقَلَتْ إلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ صَارُوا بِهَذَا الصُّلْحِ أَهْلَ عَهْدٍ، فَإِنْ بَذَلُوا الْجِزْيَةَ عَلَى رِقَابِهِمْ جَازَ إقْرَارُهُمْ فِيهَا عَلَى التَّأْبِيدِ، وَإِنْ مَنَعُوا الْجِزْيَةَ لَمْ يُجْبَرُوا عَلَيْهَا، وَلَمْ يَرَوْا فِيهَا إلَّا الْمُدَّةَ الَّتِي يُقَرُّ فِيهَا أَهْلُ الْعَهْدِ وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَلَا يُجَاوِزُونَ السَّنَةَ، وَفِي إقْرَارِهِمْ فِيهَا مَا بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَالسِّتَّةِ وَجْهَانِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُصَالِحُوا عَلَى أَنَّ الْأَرْضِينَ لَهُمْ، وَيُضْرَبُ عَلَيْهَا خَرَاجٌ يُؤَدُّونَهُ عَنْهَا، وَهَذَا الْخَرَاجُ فِي حُكْمِ الْجِزْيَةِ مَتَى أَسْلَمُوا سَقَطَ عَنْهُمْ، وَلَا تَصِيرُ أَرْضُهُمْ دَارَ إسْلَامٍ وَتَكُونُ دَارَ عَهْدٍ، وَلَهُمْ بَيْعُهَا وَرَهْنُهَا، وَإِذَا انْتَقَلَتْ إلَى مُسْلِمٍ لَمْ يُؤْخَذْ خَرَاجُهَا، وَيُقَرُّونَ فِيهَا مَا أَقَامُوا عَلَى الصُّلْحِ، وَلَا تُؤْخَذُ جِزْيَةُ رِقَابِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ فِي غَيْرِ دَارِالإِسْلَامِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: قَدْ صَارَتْ دَارُهُمْ بِالصُّلْحِ دَارَ إسْلَامٍ، وَصَارُوا بِهِ أَهْلَ ذِمَّةٍ تُؤْخَذُ جِزْيَةُ رِقَابِهِمْ، فَإِنْ نَقَضُوا الصُّلْحَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِ مَعَهُمْ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِمْ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- إلَى أَنَّهَا إنْ مُلِّكَتْ أَرْضُهُمْ عَلَيْهِمْ فَهِيَ عَلَى حُكْمِهَا، وَإِنْ لَمْ تُمَلَّكْ صَارَتِ الدَّارُ حَرْبًا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ فِي دَارِهِمْ مُسْلِمٌ أَوْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ بَلَدٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَهِيَ دَارُ إسْلَامٍ يَجْرِي عَلَى أَهْلِهَا حُكْمُ الْبُغَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ مُسْلِمٌ وَلَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ بَلَدٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَهِيَ دَارُ حَرْبٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: قَدْ صَارَتْ دَارَ حَرْبٍ فِي الْأَمْرَيْنِ كِلَيْهِمَا.

فَصْلٌ: وَأَمَّا الْأَمْوَالُ الْمَنْقُولَةُ فَهِيَ الْغَنَائِمُ الْمَأْلُوفَةُ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْسِمُهَا عَلَى رَأْيِهِ، وَلَمَّا تَنَازَعَ فِيهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ يَوْمَ بَدْرٍ جَعَلَهَا اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مِلْكًا لِرَسُولِهِ يَضَعُهَا حَيْثُ شَاءَ، وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ قَالَ: سَأَلْتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ عَنِ الْأَنْفَالِ -يَعْنِي: عَنْ قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1] . فَقَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ: فِينَا أَصْحَابُ بَدْرٍ أُنْزِلَتْ حِينَ اخْتَلَفْنَا فِي النَّفْلِ فَسَاءَتْ فِيهِ أَخْلَاقُنَا، فَانْتَزَعَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ أَيْدِينَا، فَجَعَلَهُ إلَى رَسُولِهِ فَقَسَّمَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى سَوَاءٍ، وَاصْطَفَى مِنْ غَنِيمَةِ بَدْرٍ سَيْفَهُ ذَا الْفِقَارِ وَكَانَ سَيْفَ مُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ، وَأَخَذَ مِنْهَا سَهْمَهُ وَلَمْ يُخَمِّسْهَا إلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بَعْدَ بَدْرٍ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] . فَتَوَلَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ قِسْمَةَ الْغَنَائِمِ كَمَا تَوَلَّى قِسْمَةَ الصَّدَقَاتِ، فَكَانَ أَوَّلُ غَنِيمَةٍ خَمَّسَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ بَدْرٍ غَنِيمَةَ بَنِي قَيْنُقَاعِ. وَإِذَا جُمِعَتِ الْغَنَائِمُ لَمْ تُقْسَمْ مَعَ قِيَامِ الْحَرْبِ حَتَّى تَنْجَلِيَ؛ لِيُعْلَمَ بِانْجِلَائِهَا تَحَقُّقُ الظَّفَرِ وَاسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ، وَلِئَلَّا يَتَشَاغَلَ الْمُقَاتِلَةُ بِهَا فَيُهْزَمُوا، فَإِذَا انْجَلَتِ الْحَرْبُ كَانَ تَعْجِيلُ قِسْمَتِهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَجَوَازُ تَأْخِيرِهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَبِحَسَبِ مَا يَرَاهُ أَمِيرُ الْجَيْشِ مِنِ الصَّلَاحِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْسِمَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى تَصِيرَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَيَقْسِمُهَا حِينَئِذٍ، فَإِذَا أَرَادَ قِسْمَتَهَا بَدَأَ بِأَسْلَابِ الْقَتْلَى، فَأَعْطَى كُلَّ قَاتِلٍ سَلَبَ قَتِيلِهِ، سَوَاءٌ شَرَطَ الْإِمَامُ لَهُ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَشْرِطْهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: إنْ شَرَطَ لَهُمْ ذَلِكَ اسْتَحَقُّوهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ لَهُمْ كَانَ غَنِيمَةً فَيَشْتَرِكُونَ فِيهَا، وَقَدْ نَادَى مُنَادِيَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ حِيَازَةِ الْغَنَائِمِ: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ" 1. وَالشَّرْطُ مَا تَقَدَّمَ الْغَنِيمَةَ لَا مَا تَأَخَّرَ عَنْهَا، وَقَدْ أَعْطَى أَبُو قَتَادَةَ أَسْلَابَ قَتَلَاهُ وَكَانُوا

_ 1 صحيح: رواه البخاري في كتاب فرض الخمس "3142"، ومسلم في كتاب الجهاد والسير "1751".

عِشْرِينَ قَتِيلًا، وَالسَّلَبُ مَا كَانَ عَلَى الْمَقْتُولِ مِنْ لِبَاسٍ يَقِيهِ، وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ سِلَاحٍ يُقَاتِلُ بِهِ، وَمَا كَانَ تَحْتَهُ مِنْ فَرَسٍ يُقَاتِلُ عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ مَا فِي الْمُعَسْكَرِ مِنْ أَمْوَالِهِ سَلَبًا، وَهَلْ يَكُونُ مَا فِي وَسَطِهِ مِنْ مَالٍ، وَمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ حَقِيبَةٍ سَلَبًا؟ فِيهِ قَوْلَانِ، وَلَا يُخَمَّسُ السَّلَبُ وَقَالَ مَالِكٌ: يُؤْخَذُ خُمُسُهُ لِأَهْلِ الْخُمُسِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ إعْطَاءِ السَّلَبِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيمَا يَصْنَعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَالصَّحِيحُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ يَبْدَأُ بَعْدَ السَّلَبِ بِإِخْرَاجِ الْخُمُسِ مِنْ جَمِيعِ الْغَنِيمَةِ، فَيَقْسِمُهُ بَيْنَ أَهْلِ الْخُمُسِ عَلَى خَمْسَةٍ كَمَا قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} الْآيَةَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ: يُقْسَمُ الْخُمُسُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ: لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يُقْسَمُ الْخُمُسُ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لِلَّهِ تَعَالَى يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْكَعْبَةِ. وَأَهْلُ الْخُمُسِ فِي الْغَنِيمَةِ هُمْ أَهْلُ الْخُمُسِ فِي الْفَيْءِ، فَيَكُونُ سَهْمٌ مِنَ الْخُمُسِ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُصْرَفُ بَعْدَهُ لِلْمَصَالِحِ. وَالسَّهْمُ الثَّانِي: لِذَوِي الْقُرْبَى مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ. وَالسَّهْمُ الثَّالِثُ: لِلْيَتَامَى. وَالسَّهْمُ الرَّابِعُ: لِلْمَسَاكِينِ. وَالسَّهْمُ الْخَامِسُ: لِبَنِي السَّبِيلِ. ثُمَّ يَرْضَخُ بَعْدَ الْخُمُسِ لِأَهْلِ الرَّضْخِ؛ وَهُمْ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي مُقَدَّمُونَ عَلَى الْخُمُسِ، وَأَهْلُ الرَّضْخِ مَنْ لَا سَهْمَ لَهُ مِنْ حَاضِرِي الْوَقْعَةِ مِنَ الْعَبِيدِ وَالنِّسَاءِ وَالصَّبِيَّانِ وَالزَّمْنَى، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ يَرْضَخُ لَهُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِحَسَبِ عَنَائِهِمْ، وَلَا يَبْلُغُ بِرَضِيخِ أَحَدٍ مِنْهُمْ سَهْمَ فَارِسٍ وَلَا رَاجِلٍ، فَلَوْ زَالَ نَقْصُ أَهْلِ الرَّضْخِ بَعْدَ حُضُورِ الْوَقْعَةِ بِعِتْقِ الْعَبْدِ وَبُلُوغِ الصَّبِيِّ وَإِسْلَامِ الْكَافِرِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ أَسْهَمَ لَهُمْ وَلَمْ يَرْضَخْ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ انْقِضَائِهَا رَضَخَ لَهُمْ وَلَمْ يُسْهِمْ. ثُمَّ تُقْسَمُ الْغَنِيمَةُ بَعْدَ إخْرَاجِ الْخُمُسِ وَالرَّضْخِ مِنْهَا بَيْنَ مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ، وَهُمْ الرِّجَالُ الْأَحْرَارُ الْمُسْلِمُونَ الْأَصِحَّاءُ، يَشْتَرِكُ فِيهَا مَنْ قَاتَلَ وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ عَوْنٌ لِلْقَاتِلِ وَرِدْءٌ لَهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا} [آل عمران: 167] عَلَى تَأْوِيلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: إنَّهُ تَكْثِيرُ السَّوَادِ، وَهَذَا قَوْلُ السُّدِّيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ. وَالثَّانِي: إنَّهُ الْمُرَابَطَةُ عَلَى الْخَيْلِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَوْنٍ، وَتُقْسَمُ الْغَنِيمَةُ بَيْنَهُمْ قِسْمَةَ الِاسْتِحْقَاقِ، لَا يَرْجِعُ فِيهَا إلَى خِيَارِ الْقَاسِمِ وَوَالِي الْجِهَادِ. وَقَالَ مَالِكٌ: مَالُ الْغَنِيمَةِ مَوْقُوفٌ عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ، إنْ شَاءَ قَسَمَهُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ تَسْوِيَةً وَتَفْضِيلًا، وَإِنْ شَاءَ أَشْرَكَ مَعَهُمْ غَيْرَهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَشْهَدْ الْوَقْعَةَ، وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ" 1 مَا يَدْفَعُ هَذَا الْمَذْهَبَ، وَإِذَا اخْتَصَّ بِهَا مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ وَجَبَ أَنْ يَفْضُلَ الْفَارِسُ عَلَى الرَّاجِلِ لِفَضْلِ عَنَائِهِ، وَاخْتُلِفَ فِي قَدْرِ تَفْضِيلِهِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْطَى الْفَارِسُ سَهْمَيْنِ وَالرَّاجِلُ سَهْمًا وَاحِدًا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُعْطَى الْفَارِسُ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ وَالرَّاجِلُ سَهْمًا وَاحِدًا، وَلَا يُعْطَى سَهْمُ الْفَارِسِ إلَّا لِأَصْحَابِ الْخَيْلِ خَاصَّةً، وَيُعْطَى رُكَّابُ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْجِمَالِ وَالْفِيَلَةِ سِهَامَ الرَّجَّالَةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ عِتَاقِ الْخَيْلِ وَهُجَّانِهَا، وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ:لَا يُسْهَمُ إلَّا لِلْعِتَاقِ السَّوَابِق، ِ وَإِذَا شَهِدَ الْوَقْعَةَ بِفَرَسٍ أَسْهَمَ لَهُ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ عَلَيْهِ، وَإِذَا خَلَّفَهُ فِي الْعَسْكَرِ لَمْ يُسْهَمْ لَهُ، وَإِذَا حَضَرَ الْوَقْعَةَ بِأَفْرَاسٍ لَمْ يُسْهِمْ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُسْهِمُ لِفَرَسَيْنِ وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: يُسْهِمُ لِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَلَا سَهْمَ لِمَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَمَنْ مَاتَ فَرَسُهُ بَعْدَ حُضُورِ الْوَقْعَةِ أَسْهَمَ لَهُ، وَلَوْ مَاتَ قَبْلَهَا لَمْ يُسْهِمْ لَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ هُوَ الْمَيِّتَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ مَاتَ هُوَ

_ 1 صحيح موقوفًا: رواه ابن أبي شيبة في مصنَّفه "33225"، وعبد الرزاق في مصنفه "9689"، وابن أبي الجعد في مسنده "588"، والطبراني في الكبير "8203"، موقوفًا على قول عمر بن الخطاب، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد "5/ 340"، وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. وقال الحافظ ابن حجر: حديث: "الغنيمة لمن شهد الوقعة"، والمشهور وقفه على عمر، أما المرفوع فلم أجده، وأما الموقوف فأخرجه ابن أبي شيبة والطبراني من حديث طارق بن شهاب أنَّ أهل البصرة غزوا نهاوند، فأمدهم أهل الكوفة القصة، وفيها فكتب عمر: إن الغنيمة لمن شهد الواقعة، وأخرجه البيهقي وقال: هذا هو الصحيح من قول عمر، وأخرجه ابن عدي من قول علي، ويعارضه حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث أبانًا على سرية من المدينة قِبَل نجد، فقَدِمَ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخيبر بعد ما افتتحها إلى أن قال: فلم يقسم لهم، وهو في البخاري وأبي داود، وثبت في الصحيحين عن أبي موسى أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قَسَم لجعفر والأشعريين، قال: ولم يسهم لغيرنا. [الدراية في تخريج أحاديث الهداية: 2/ 120] .

وَفَرَسُهُ بَعْدَ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ أَسْهَمَ لَهُ، وَإِذَا جَاءَهُمْ مَدَدٌ قَبْلَ انْجِلَاءِ الْحَرْبِ شَارَكُوهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ، وَإِنْ جَاءُوا بَعْدَ انْجِلَائِهَا لَمْ يُشَارِكُوهُمْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ قَبْلَ انْجِلَائِهَا شَارَكُوهُمْ، وَيُسَوَّى فِي قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ بَيْنَ مُرْتَزِقَةِ الْجَيْشِ وَبَيْنَ الْمُتَطَوِّعَةِ إذَا شَهِدَ جَمِيعُهُمْ الْوَقْعَةَ. وَإِذَا غَزَا قَوْمٌ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ كَانَ مَا غَنِمُوهُ مَخْمُوسًا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُخَمِّسُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا يَمْلِكُ مَا غَنِمُوهُ. وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ، أَوْ كَانَ مَأْسُورًا مَعَهُمْ، فَأَطْلَقُوهُ وَأَمَّنُوهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَغْتَالَهُمْ فِي نَفْسٍ وَلَا مَالٍ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَمِّنَهُمْ، وَقَالَ دَاوُد: يَجُوزُ أَنْ يَغْتَالَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ إلَّا أَنْ يَسْتَأْمِنُوهُ، فَيَلْزَمُهُ الْمُوَادَعَةُ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الِاغْتِيَالُ. وَإِذَا كَانَ فِي الْمُقَاتِلَةِ مَنْ ظَهَرَ عَنَاؤُهُ وَأَثَّرَ بَلَاؤُهُ لِشَجَاعَتِهِ وَإِقْدَامِهِ أَخَذَ سَهْمَهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ أُسْوَةَ غَيْرِهِ، وَزِيدَ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ بِحَسَبِ عَنَائِهِ، فَإِنَّ لِذِي السَّابِقَةِ وَالْإِقْدَامِ حَقًّا لَا يُضَاعُ؛ قَدْ عَقَدَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوَّلَ رَايَةٍ عَقَدَهَا فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ عَمِّهِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لِعُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَتَوَجَّهَ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ إلَى أَدْنَى مَاءٍ بِالْحِجَازِ، وَكَانَ أَمِيرُ الْمُشْرِكِينَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ فَرَمَى سَعْدٌ وَنَكَى؛ كَانَ أَوَّلَ مَنْ رَمَى سَهْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ "مِنَ الْوَافِرِ": أَلَا هَلْ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي ... حَمَيْتُ صَحَابَتِي بِصُدُورِ نَبْلِي أَذُودُ بِهَا أَوَائِلَهُمْ ذِيَادًا ... بِكُلِّ حَزُونَةٍ وَبِكُلِّ سَهْلِ فَمَا يُعْتَدُّ رَامٍ فِي عَدُوٍّ ... بِسَهْمٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَبْلِي وَذَلِكَ أَنَّ دِينَكَ دِينُ صِدْقٍ ... وَذُو حَقٍّ أَتَيْتَ بِهِ وَعَدْلِ فَلَمَّا قَدِمَ اعْتَذَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَا سَبَقَ إلَيْهِ وَتَقَدَّمَ فِيهِ.

الباب الثالث عشر: في وضع الجزية والخراج

الباب الثالث عشر: "في وضع الجزية والخراج" وَالْجِزْيَةُ1 وَالْخَرَاجُ حَقَّانِ أَوْصَلَ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِمَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ: يَجْتَمِعَانِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، ثُمَّ تَتَفَرَّعُ أَحْكَامُهُمَا. فَأَمَّا الْأَوْجُهُ الَّتِي يَجْتَمِعَانِ فِيهَا فَأَحَدُهَا: إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَأْخُوذٌ عَنْ مُشْرِكٍ صَغَارًا لَهُ وَذِمَّةً2، وَالثَّانِي: إنَّهُمَا مَا لَا فَيْءٍ؛ يُصْرَفَانِ فِي أَهْلِ الْفَيْءِ. وَالثَّالِثُ: إنَّهُمَا يَجِبَانِ بِحُلُولِ الْحَوْلِ وَلَا يُسْتَحَقَّانِ قَبْلَهُ. وَأَمَّا الْأَوْجُهُ الَّتِي يَفْتَرِقَانِ فِيهَا: فَأَحَدُهَا: إنَّ الْجِزْيَةَ نَصٌّ، وَإنَّ الْخَرَاجَ اجْتِهَادٌ. وَالثَّانِي: إنَّ أَقَلَّ الْجِزْيَةِ مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ وَأَكْثَرَهَا مُقَدَّرٌ بِالِاجْتِهَادِ، وَالْخَرَاجُ أَقَلُّهُ وَأَكْثَرُهُ مُقَدَّرٌ بِالِاجْتِهَادِ. وَالثَّالِثُ: إنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مَعَ بَقَاءِ الْكُفْرِ، وَتُقَسَّطُ بِحُدُوثِ الْإِسْلَامِ؛ وَالْخَرَاجُ يُؤْخَذُ مَعَ الْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ، فَأَمَّا الْجِزْيَةُ فَهِيَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الرُّءُوسِ وَاسْمُهَا مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَزَاءِ، إمَّا جَزَاءً عَلَى كُفْرِهِمْ؛ لِأَخْذِهَا مِنْهُمْ صَغَارًا، وَإِمَّا جَزَاءً عَلَى أَمَانِنَا لَهُمْ؛ لِأَخْذِهَا مِنْهُمْ رِفْقًا. وَالْأَصْلُ فِيهَا قَوْله تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . أَمَّا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ {الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ} فَأَهْلُ الْكِتَابِ وَإِنْ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّ اللَّهَ

_ 1 الجزية: ما يؤخذ من أهل الذمّة، والجمع جزى؛ كلحية ولحى، قال ابن الدفع: الجزية: الخراج المجعول عليهم، سميت جزية لأنها قضاء لما عليهم؛ أخذًا من قولهم: جزى يجزي إذا قضى. [المطلع: ص 140] . 2 قال النووي: الذمة والعهد والأمان بمعنى الجزية مأخوذ من المجازاة والجزاء؛ لأنها جزاء لكفنا عنهم. [تحرير ألفاظ التنبيه: ص 318] .

سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ فَيُحْتَمَلُ نَفْيُ هَذَا الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَأْوِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُؤْمِنُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْقُرْآنُ. وَالثَّانِي: لَا يُؤْمِنُونَ بِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّ تَصْدِيقَ الرُّسُلِ إيمَانٌ بِالْمُرْسِلِ. وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} يَحْتَمِلُ تَأْوِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَخَافُونَ وَعِيدَ الْيَوْمِ الْآخِرِ، وَإِنْ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَالثَّانِي: لَا يُصَدَّقُونَ بِمَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ. وَقَوْلُهُ: {وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} يَحْتَمِلُ تَأْوِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِنَسْخِهِ مِنْ شَرَائِعِهِمْ. وَالثَّانِي: مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُمْ وَحَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ. وَقَوْلُهُ: {وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنِ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ، وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ. وَالثَّانِي: الدُّخُولُ فِي الْإِسْلَامِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَوْلُهُ: {مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ دِينِ أَبْنَاءِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ. وَالثَّانِي: مِنَ الَّذِينَ بَيْنَهُمُ الْكِتَابُ؛ لِأَنَّهُمْ فِي اتِّبَاعِهِ كَأَبْنَائِهِ. وقَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: حَتَّى يَدْفَعُوا الْجِزْيَةَ. وَالثَّانِي: حَتَّى يَضْمَنُوهَا؛ لِأَنَّ بِضَمَانِهَا يَجِبُ الْكَفُّ عَنْهُمْ. وَفِي الْجِزْيَةِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهَا مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُجْمَلَةِ الَّتِي لَا نَعْرِفُ مِنْهَا مَا أُرِيدَ بِهَا إلَّا أَنْ يَرِدَ بَيَانٌ. وَالثَّانِي: إنَّهَا مِنَ الْأَسْمَاءِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَجِبُ إجْرَاؤُهَا عَلَى عُمُومِهَا، إلَّا مَا قَدْ خَصَّهُ الدَّلِيلُ. وَفِي قَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {عَنْ يَدٍ} تَأْوِيلَانِ:

أَحَدُهُمَا: عَنْ غِنًى وَقُدْرَةٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّ لَنَا فِي أَخْذِهَا مِنْهُمْ يَدًا وَقُدْرَةً عَلَيْهِمْ. وَفِي قَوْلِهِ: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَذِلَّاءَ مُسْتَكِينِيون. وَالثَّانِي: أَنْ تُجْرَى عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ، فَيَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَضَعَ الْجِزْيَةَ عَلَى رِقَابِ مَنْ دَخَلَ فِي الذِّمَّةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِيُقَرُّوا بِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَيَلْتَزِمُ لَهُمْ بِبَذْلِهَا حَقَّانِ: أَحَدُهُمَا الْكَفُّ عَنْهُمْ. وَالثَّانِي: الْحِمَايَةُ لَهُمْ لِيَكُونُوا بِالْكَفِّ آمَنِينَ وَبِالْحِمَايَةِ مَحْرُوسِينَ، رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ قَالَ: "احْفَظُونِي فِي ذِمَّتِي"1. وَالْعَرَبُ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ كَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا آخُذُهَا مِنَ الْعَرَبِ لِئَلَّا يَجْرِي عَلَيْهِمْ صَغَارٌ، وَلَا تُؤْخَذُ مِنْ مُرْتَدٍّ وَلَا دَهْرِيٍّ وَلَا عَابِدِ وَثَنٍ، وَأَخَذَهَا أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ إذَا كَانُوا عَجَمًا، وَلَمْ يَأْخُذْهَا مِنْهُمْ إذَا كَانُوا عَرَبًا، وَأَهْلُ الْكِتَابِ هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَكِتَابُهُمُ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، وَيَجْرِي الْمَجُوسُ مَجْرَاهُمْ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ، وَإِنْ حَرُمَ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحُ نِسَائِهِمْ، وَتُؤْخَذُ مِنَ الصَّابِئِينَ وَالسَّامِرَةِ إذَا وَافَقُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي أَصْلِ مُعْتَقِدِهِمْ، وَمَنْ دَخَلَ فِي الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة قَبْلَ تَبْدِيلِهِمَا أُقِرَّ عَلَى مَا دَانَ بِهِ مِنْهُمَا، وَلَا يُقَرُّ إنْ دَخَلَ بَعْدَ تَبْدِيلِهِمَا، وَمَنْ جُهِلَتْ حَالَتُهُ أُخِذَتْ جِزْيَتُهُ وَلَمْ تُؤْكَلْ ذَبِيحَتُهُ. وَمَنِ انْتَقَلَ مِنْ يَهُودِيَّةٍ إلَى نَصْرَانِيَّةٍ لَمْ يُقَرَّ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ وَأُخِذَ بِالْإِسْلَامِ، فَإِنْ عَادَ إلَى دِينِهِ الَّذِي انْتَقَلَ عَنْهُ فَفِي إقْرَارِهِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ، وَيَهُودُ خَيْبَرَ وَغَيْرُهُمْ فِي الْجِزْيَةِ سَوَاءٌ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ. وَلَا تَجِبُ الْجِزْيَةُ إلَّا عَلَى الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ الْعُقَلَاءِ، وَلَا تَجِبُ عَلَى امْرَأَةٍ وَلَا صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ وَلَا عَبْدٍ؛ لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ وَذَرَارِيَّ، وَلَوْ تَفَرَّدَتْ مِنْهُمْ امْرَأَةٌ عَلَى أَنْ تَكُونَ تَبَعًا لِزَوْجٍ أَوْ نَصِيبٍ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهَا جِزْيَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِرِجَالِ قَوْمِهَا وَإِنْ كَانُوا أَجَانِبَ مِنْهَا، وَلَوْ تَفَرَّدَتْ امْرَأَةٌ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ فَبَذَلَتْ الْجِزْيَةَ لِلْمَقَامِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَلْزَمْهَا مَا بَذَلَتْهُ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهَا كَالْهِبَةِ

_ 1 لم أقف عليه بهذا اللفظ.

لَا تُؤْخَذُ مِنْهَا إنِ امْتَنَعَتْ وَلَزِمَتْ ذِمَّتُهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَبَعًا لِقَوْمِهَا1. وَلَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ خُنْثَى مُشْكِلٍ، فَإِنْ زَالَ إشْكَالُهُ وَبَانَ أَنَّهُ رَجُلٌ أُخِذَ بِهَا فِي مُسْتَقْبَلِ أَمْرِهِ وَمَاضِيهِ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَدْرِ الْجِزْيَةِ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى تَصْنِيفِهِمْ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: أَغْنِيَاءُ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَأَوْسَاطُ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَفُقَرَاءُ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا؛ فَجَعَلَهَا مُقَدَّرَةَ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ، وَمَنَعَ مِنِ اجْتِهَادِ الْوُلَاةِ فِيهَا، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُقَدَّرُ أَقَلُّهَا وَلَا أَكْثَرُهَا، وَهِيَ مَوْكُولَةٌ لِاجْتِهَادِ الْوُلَاةِ فِي الطَّرَفَيْنِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهَا مُقَدَّرَةُ الْأَقَلِّ بِدِينَارٍ لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَقَلَّ مِنْهُ، وَعِنْدَهُ غَيْرُ مُقَدَّرَةِ الْأَكْثَرِ يَرْجِعُ فِيهِ إلَى اجْتِهَادِ الْوُلَاةِ، وَيَجْتَهِدُ رَأْيَهُ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ أَوْ التَّفْضِيلِ بِحَسَبِ أَحْوَالِهِمْ، فَإِذَا اجْتَهَدَ رَأْيَهُ فِي عَقْدِ الْجِزْيَةِ مَعَهَا عَلَى مُرَاضَاةِ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ صَارَتْ لَازِمَةً لِجَمِيعِهِمْ، وَلِأَعْقَابِهِمْ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، وَلَا يَجُوزُ لِوَالٍ بَعْدَهُ أَنْ يُغَيِّرَهُ إلَى نُقْصَانٍ مِنْهُ أَوْ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ2. فَإِنْ صُولِحُوا عَلَى مُضَاعَفَةِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ ضُوعِفَتْ كَمَا ضَاعَفَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مَعَ تَنُوخِ وَبَهْرَاءَ وَبَنِي تَغْلِب بِالشَّامِ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنَ النِّسَاءِ وَالصَّبِيَّانِ؛ لِأَنَّهَا جِزْيَةٌ تُصْرَفُ فِي أَهْلِ الْفَيْءِ، فَخَالَفَتِ الزَّكَاةَ الْمَأْخُوذَةَ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ

_ 1 ومتى بذلوا الواجب عليهم لزم قبوله؛ لقوله -عليه السلام- لمعاذ: "ادعهم"، وحرم قتالهم، ومن أسلم بعد الحول سقطت عنه الجزية. [المبدع: 3/ 412] . 2 وقال ابن مفلح من الحنابلة: وتقسم الجزية بينهم، أي: بين أهل الكتاب ومن في معناهم، فيجعل على الغني ثمانية وأربعون درهمًا وهي أربعة دنانير، وعلى المتوسط أربعة وعشرون وهي ديناران، وعلى الفقير اثنا عشر وهي دينار؛ لفعل عمر ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر وكان كالإجماع، ويجاب عن قوله -عليه السلام- لمعاذ: "خذ من كل حالم دينارًا" بأنّ الفقر كان في أهل اليمن أغلب، ولذلك قيل لمجاهد: ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينار، قال: جعل ذلك من أجل اليسار، وبأنَّ الجزية يرجع فيها إلى اجتهاد الإمام وليس التقدير واجبًا؛ لأنها وجبت صغارًا وعقوبة، واختلفت باختلافهم ليست عوضًا عن سكنى الدار، وإلّا لوجبت على النساء ومن في معناهن. [المبدع: 3/ 411] .

الْجِزْيَةِ أُخِذَتَا مَعًا، وَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا وَحْدَهَا كَانَتْ جِزْيَةً إذَا لَمْ تَنْقُصْ فِي السَّنَةِ عَنْ دِينَارٍ. وَإِذَا صُولِحُوا عَلَى ضِيَافَةِ مَنْ مَرَّ بِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قُدِّرَتْ عَلَيْهِمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَأُخِذُوا بِهَا لَا يُزَادُونَ عَلَيْهَا، كَمَا صَالَحَ عُمَرُ نَصَارَى الشَّامِ عَلَى ضِيَافَةِ مَنْ مَرَّ بِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِمَّا يَأْكُلُونَ، وَلَا يُكَلِّفُهُمْ ذَبْحَ شَاةٍ وَلَا دَجَاجَةٍ، وَتَبْيِيتِ دَوَابِّهِمْ مِنْ غَيْرِ شَعِيرٍ، وَجَعَلَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ السَّوَادِ دُونَ الْمُدُنِ، فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِمْ الضِّيَافَةَ وَمُضَاعَفَةَ الصَّدَقَةِ، فَلَا صَدَقَةَ عَلَيْهِمْ فِي زَرْعٍ وَلَا ثَمَرَةٍ، وَلَا يَلْزَمُهُمْ إضَافَةُ سَائِلٍ وَلَا سَابِلٍ. وَيَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ فِي عَقْدِ الْجِزْيَةِ شَرْطَانِ: مُسْتَحَقٌّ وَمُسْتَحَبٌّ، أَمَّا الْمُسْتَحَقُّ فَسِتَّةُ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَذْكُرُوا كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى بِطَعْنٍ فِيهِ وَلَا تَحْرِيفٍ لَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَذْكُرُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِتَكْذِيبٍ لَهُ وَلَا ازْدِرَاءٍ. وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يَذْكُرُوا دِينَ الْإِسْلَامِ بِذَمٍّ لَهُ وَلَا قَدْحٍ فِيهِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ لَا يُصِيبُوا مُسْلِمَةً بِزِنًا وَلَا بِاسْمِ نِكَاحٍ. وَالْخَامِسُ: أَنْ لَا يَفْتِنُوا مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ، وَلَا يَتَعَرَّضُوا لِمَالِهِ وَلَا دِينِهِ. وَالسَّادِسُ: أَنْ لَا يُعِينُوا أَهْلَ الْحَرْبِ وَلَا يَوَدُّوا أَغْنِيَاءَهُمْ. فَهَذِهِ السِّتَّةُ حُقُوقٌ مُلْتَزَمَةٌ فَتَلْزَمُهُمْ بِغَيْرِ شَرْطٍ، وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ إشْعَارًا لَهُمْ وَتَأْكِيدًا؛ لِتَغْلِيظِ الْعَهْدِ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُ ارْتِكَابُهَا بَعْدَ الشَّرْطِ نَقْضًا لِعَهْدِهِمْ. وَأَمَّا الْمُسْتَحَبُّ فَسِتَّةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: تَغْيِيرُ هَيْئَاتِهِمْ بِلُبْسِ الْغِيَارِ وَشَدِّ الزُّنَّارِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَعْلُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَبْنِيَةِ وَيَكُونُوا إنْ لَمْ يَنْقُصُوا مُسَاوِينَ لَهُمْ. وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يُسْمِعُوهُمْ أَصْوَاتَ نَوَاقِيسِهِمْ وَلَا تِلَاوَةَ كُتُبِهِمْ، وَلَا قَوْلِهِمْ فِي عُزَيْرٍ وَالْمَسِيحِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ لَا يُجَاهِرُوهُمْ بِشُرْبِ خُمُورِهِمْ، وَلَا بِإِظْهَارِ صُلْبَانِهِمْ وَخَنَازِيرِهِمْ. وَالْخَامِسُ: أَنْ يُخْفُوا دَفْنَ مَوْتَاهُمْ، وَلَا يُجَاهِرُوا بِنَدْبٍ عَلَيْهِمْ وَلَا نِيَاحَةٍ. وَالسَّادِسُ: أَنْ يُمْنَعُوا مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ عِنَاقًا وَهِجَانًا، وَلَا يُمْنَعُوا مِنْ رُكُوبِ الْبِغَالِ

وَالْحَمِيرِ، وَهَذِهِ السِّتَّةُ الْمُسْتَحَبَّةُ لَا تَلْزَمُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ حَتَّى تُشْتَرَطَ، فَتَصِيرَ بِالشَّرْطِ مُلْتَزَمَةً، وَلَا يَكُونُ ارْتِكَابُهَا بَعْدَ الشَّرْطِ نَقْضًا لِعَهْدِهِمْ، وَلَكِنْ يُؤْخَذُونَ بِهَا إجْبَارًا وَيُؤَدَّبُونَ عَلَيْهَا زَجْرًا، وَلَا يُؤَدَّبُونَ إنْ لَمْ يُشْتَرَطْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَيُثْبِتُ الْإِمَامُ مَا اسْتَقَرَّ مِنْ عَقْدِ الصُّلْحِ مَعَهُمْ فِي دَوَاوِينَ الْأَمْصَارِ لِيُؤْخَذُوا بِهِ إذَا تَرَكُوهُ؛ فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ صُلْحًا رُبَّمَا خَالَفَ مَا سِوَاهُ، وَلَا تَجِبُ الْجِزْيَةُ عَلَيْهِمْ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً بَعْدَ انْقِضَائِهَا بِشُهُورٍ هِلَالِيَّةٍ، وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فِيهَا أُخِذَ مِنْ تَرِكَتِهِ بِقَدْرِ مَا مَضَى مِنْهَا، وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ كَانَ مَا لَزِمَ مِنْ جِزْيَتِهِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ يُؤْخَذُ بِهَا، وَأَسْقَطَهَا أَبُو حَنِيفَةَ بِإِسْلَامِهِ وَمَوْتِهِ، وَمَنْ بَلَغَ مِنْ صِغَارِهِمْ أَوْ أَفَاقَ مِنْ مَجَانِينِهِمْ اُسْتُقْبِلَ بِهِ حَوْلٌ، ثُمَّ أُخِذَ بِالْجِزْيَةِ، وَيُؤْخَذُ الْفَقِيرُ بِهَا إذَا أَيْسَرَ، وَيُنْظَرُ بِهَا إذَا أَعْسَرَ، وَلَا تَسْقُطُ عَنْ شَيْخٍ وَلَا زَمِنٍ، وَقِيلَ: تَسْقُطُ عَنْهُمَا وَعَنِ الْفَقِيرِ، وَإِذَا تَشَاجَرُوا فِي دِينِهِمْ، وَاخْتَلَفُوا فِي مُعْتَقَدِهِمْ لَمْ يُعَارِضُوا فِيهِ وَلَمْ يَكْشِفُوا عَنْهُ، وَإِذَا تَنَازَعُوا فِي حَقٍّ وَتَرَافَعُوا فِيهِ إلَى حَاكِمِهِمْ لَمْ يُمْنَعُوا مِنْهُ، فَإِنْ تَرَافَعُوا فِيهِ إلَى حَاكِمِنَا حَكَمَ بَيْنَهُمْ بِمَا يُوجِبُهُ دِينُ الْإِسْلَامِ، وَتُقَامُ عَلَيْهِمْ الْحُدُودُ إذَا أَتَوْهَا، وَمَنْ نَقَضَ مِنْهُمْ عَهْدَهُ بُلِّغَ مَأْمَنَهُ، ثُمَّ كَانَ حَرْبِيًّا، وَلِأَهْلِ الْعَهْدِ إذَا دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ الْأَمَانُ عَلَى نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَلَهُمْ أَنْ يُقِيمُوا فِيهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ، وَلَا يُقِيمُونَ سَنَةً إلَّا بِجِزْيَةٍ، وَفِيمَا بَيْنَ الزَّمَنَيْنِ خِلَافٌ، وَيَلْزَمُ الْكَفُّ عَنْهُمْ كَأَهْلِ الذِّمَّةِ، وَلَا يَلْزَمُ الدَّفْعُ عَنْهُمْ بِخِلَافِ أَهْلِ الذِّمَّةِ. وَإِذَا أَمَّنَ بَالِغٌ عَاقِلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَرْبِيًّا لَزِمَ أَمَانُهُ كَافَّةَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَرْأَةُ فِي بَذْلِ الْأَمَانِ كَالرَّجُلِ، وَالْعَبْدُ فِيهِ كَالْحُرِّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَلَا يَصِحُّ أَمَانُ الْعَبْدِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقِتَالِ، وَلَا يَصِحُّ أَمَانُ الصَّبِيِّ وَلَا الْمَجْنُونِ، وَمَنْ أَمَّنَاهُ فَهُوَ حَرْبٌ إلَّا إنْ جَهِلَ حُكْمَ أَمَانِهِمْ، فَيُبَلَّغُ مَأْمَنَهُ وَيَكُونُ حَرْبِيًّا. وَإِذَا تَظَاهَرَ أَهْلُ الْعَهْدِ وَالذِّمَّةِ بِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا حَرْبًا لِوَقْتِهِمْ، فَيُقْتَلُ مُقَاتِلُهُمْ، وَيُعْتَبَرُ حَالُ مَا عَدَا الْمُقَاتِلَةَ بِالرِّضَى وَالْإِنْكَارِ، وَإِذَا امْتَنَعَ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ كَانَ نَقْضًا لِعَهْدِهِمْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَيَنْقُضُ بِهِ عَهْدَهُمْ إلَّا أَنْ يَلْحَقُوا بِدَارِ الْحَرْبِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ جَبْرًا كَالدُّيُونِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْدِثُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بَيْعَةً وَلَا كَنِيسَةً، فَإِنْ أَحْدَثُوهَا هُدِمَتْ عَلَيْهِمْ، وَيَجُوزُ

أَنْ يَبْنُوا مَا اسْتُهْدِمَ مِنْ بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ الْعَتِيقَةِ، وَإِذَا نَقَضَ أَهْلُ الذِّمَّةِ عَهْدَهُمْ لَمْ يُسْتَبَحْ بِذَلِكَ قَتْلُهُمْ، وَلَا غُنْمُ أَمْوَالِهِمْ، وَلَا سَبْيُ ذَرَارِيِّهِمْ مَا لَمْ يُقَاتِلُوا، وَوَجَبَ إخْرَاجُهُمْ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ آمِنِينَ حَتَّى يَلْحَقُوا مَأْمَنَهُمْ مِنْ أَدْنَى بِلَادِ الشِّرْكِ، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجُوا طَوْعًا أُخْرِجُوا كَرْهًا. فصل: "أحكام الخراج" وَأَمَّا الْخَرَاجُ1 فَهُوَ مَا وُضِعَ عَلَى رِقَابِ الْأَرْضِ مِنْ حُقُوقٍ تُؤَدَّى عَنْهَا، وَفِيهِ مِنْ نَصِّ الْكِتَابِ بَيِّنَةٌ خَالَفَتْ نَصَّ الْجِزْيَةِ، فَلِذَلِكَ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى اجْتِهَادِ الْأَئِمَّةِ، قَالَ اللَّهُ تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} [المؤمنون: 72] . وَفِي قَوْلِهِ: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا} وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَجْرًا، وَالثَّانِي: نَفْعًا. وَفِي قَوْلِهِ: {فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: فَرِزْقُ رَبِّكَ فِي الدُّنْيَا خَيْرٌ مِنْهُ، وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ. وَالثَّانِي: فَأَجْرُ رَبِّكَ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ مِنْهُ، وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ أَيْضًا، وَقَوْلُهُ: فَأَجْرُ رَبِّكَ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ مِنْهُ؛ هَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ أَيْضًا، قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخَرْجِ وَالْخَرَاجِ أَنَّ الْخَرْجَ مِنَ الرِّقَابِ، وَالْخَرَاجَ مِنَ الْأَرْضِ، وَالْخَرَاجُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ اسْمٌ لِلْكِرَاءِ وَالْغَلَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ" 2، وَأَرْضُ الْخَرَاجِ تَتَمَيَّزُ عَنْ أَرْضِ الْعُشْرِ فِي الْمِلْكِ وَالْحُكْمِ. وَالْأَرْضُونَ كُلُّهَا تَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا اسْتَأْنَفَ الْمُسْلِمُونَ إحْيَاءَهُ، فَهُوَ أَرْضُ عُشْرٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوضَعَ عَلَيْهَا خَرَاجٌ؛

_ 1 الخراج: ما يخرج من غلة الأرض، ثم سمي ما يأخذه السلطان خراجًا، فيقال: أدى فلان خراج أرضه، وأدى أهل الذمة خراج رءوسهم، يعني: الجزية. [أنيس الفقهاء: ص 185] . 2 حسن: رواه أبو داود في كتاب البيوع "3508"، والترمذي في كتاب البيوع "1285"، والنسائي في كتاب البيوع "4490"، وابن ماجه في كتاب التجارات "2242"، وحسنه الشيخ الألباني.

وَالْكَلَامُ فِيهَا يُذْكَرُ فِي إحْيَاءِ الْمَوَاتِ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا أَسْلَمَ عَلَيْهِ أَرْبَابُهُ فَهُمْ أَحَقُّ بِهِ، فَتَكُونُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- أَرْضَ عُشْرٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوضَعَ عَلَيْهَا خَرَاجٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَجْعَلَهَا خَرَاجًا أَوْ عُشْرًا، فَإِنْ جَعَلَهَا خَرَاجًا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُنْقَلَ إلَى الْعُشْرِ، وَإِنْ جَعَلَهَا عُشْرًا جَازَ أَنْ تُنْقَلَ إلَى الْخَرَاجِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا مُلِكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَنْوَةً وَقَهْرًا، فَيَكُونُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- غَنِيمَةً تُقْسَمُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَتَكُونُ أَرْضَ عُشْرٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوضَعَ عَلَيْهَا خَرَاجٌ، وَجَعَلَهَا مَالِكٌ وَقْفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِخَرَاجٍ يُوضَعُ عَلَيْهَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَكُونُ الْإِمَامُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا صُولِحَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَرْضِهِمْ، فَهِيَ الْأَرْضُ الْمُخْتَصَّةُ بِوَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَيْهَا، وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا خَلَا عَنْهَا أَهْلُهَا فَحَصَلَتْ لِلْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ قِتَالٍ، فَتَصِيرُ وَقْفًا عَلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُضْرَبُ عَلَيْهَا الْخَرَاجُ، وَيَكُونُ أُجْرَةً تُقَرُّ عَلَى الْأَبَدِ، وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرْ بِمُدَّةٍ لِمَا فِيهَا مِنْ عُمُومِ الْمَصْلَحَةِ، وَلَا يَتَغَيَّرُ بِإِسْلَامٍ وَلَا ذِمَّةٍ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ رِقَابِهَا اعْتِبَارًا لِحُكْمِ الْوُقُوفِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا أَقَامَ فِيهِ أَهْلُهُ وَصُولِحُوا عَلَى إقْرَارِهِ فِي أَيْدِيهِمْ بِخَرَاجٍ يُضْرَبُ عَلَيْهِمْ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْزِلُوا عَنْ مِلْكِهَا لَنَا عِنْدَ صُلْحِنَا، فَتَصِيرُ هَذِهِ الْأَرْضُ وَقْفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَاَلَّذِي انْجَلَى عَنْهُ أَهْلُهُ، وَيَكُونُ الْخَرَاجُ الْمَضْرُوبُ عَلَيْهِمْ أُجْرَةً لَا تَسْقُطُ بِإِسْلَامِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ بَيْعُ رِقَابِهَا، وَيَكُونُونَ أَحَقَّ بِهَا مَا أَقَامُوا عَلَى صُلْحِهِمْ، وَلَا تُنْتَزَعُ مِنْ أَيْدِيهِمْ، سَوَاءٌ أَقَامُوا عَلَى شِرْكِهِمْ أَمْ أَسْلَمُوا، كَمَا لَا تُنْتَزَعُ الْأَرْضُ الْمُسْتَأْجَرَةُ مِنْ يَدِ مُسْتَأْجِرِهَا، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُمْ بِهَذَا الْخَرَاجِ جِزْيَةُ رِقَابِهِمْ إنْ صَارُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ مُسْتَوْطِنِينَ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَقِلُوا إلَى الذِّمَّةِ، وَأَقَامُوا عَلَى حُكْمِ الْعَهْدِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَرُّوا فِيهَا سَنَةً، وَجَازَ إقْرَارُهُمْ فِيهَا دُونَهَا بِغَيْرِ جِزْيَةٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَبِقُوهَا عَلَى أَمْلَاكِهِمْ، وَلَا يَنْزِلُوا عَنْ رِقَابِهَا، وَيُصَالِحُوا عَنْهَا

بِخَرَاجٍ يُوضَعُ عَلَيْهَا، فَهَذَا الْخَرَاجُ جِزْيَةٌ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ مَا أَقَامُوا عَلَى شِرْكِهِمْ، وَتَسْقُطُ عَنْهُمْ بِإِسْلَامِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُؤْخَذَ مِنْهُمْ جِزْيَةُ رِقَابِهِمْ، وَيَجُوزُ لَهُمْ بَيْعُ هَذِهِ الْأَرْضِ عَلَى مَنْ شَاءُوا مِنْهُمْ أَوْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَإِنْ تَبَايَعُوهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ كَانَتْ عَلَى حُكْمِهَا فِي الْخَرَاجِ، وَإِنْ بِيعَتْ عَلَى مُسْلِمٍ سَقَطَ عَنْهُ خَرَاجُهَا، وَإِنْ بِيعَتْ عَلَى ذِمِّيٍّ احْتَمَلَ أَنْ لَا يَسْقُطَ عَنْهُ خَرَاجُهَا لِبَقَاءِ كُفْرِهِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ خَرَاجُهَا بِخُرُوجِهِ بِالذِّمَّةِ عَنْ عَقْدِهِ مَنْ صُولِحَ عَلَيْهَا، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي هَذَا الْخَرَاجِ الْمَوْضُوعِ عَلَيْهَا، فَإِنْ وُضِعَ عَلَى مَسَائِحِ الْجُرْبَانِ بِأَنْ يُؤْخَذَ مِنْ كُلِّ جَرِيبٍ قَدْرٌ مِنْ وَرِقٍ أَوْ حَبٍّ، فَإِنْ سَقَطَ عَنْ بَعْضِهَا بِإِسْلَامِ أَهْلِهِ كَانَ مَا بَقِيَ عَلَى حُكْمِهِ، وَلَا يُضَمُّ إلَيْهِ خَرَاجُ مَا سَقَطَ بِالْإِسْلَامِ. وَإِنْ كَانَ الْخَرَاجُ الْمَوْضُوعُ عَلَيْهَا صُلْحًا عَلَى مَالٍ مُقَدَّرٍ لَمْ يَسْقُطْ عَلَى مِسَاحَةِ الْجُرْبَانِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَحُطُّ عَنْهُمْ مِنْ مَالِ الصُّلْحِ مَا سَقَطَ مِنْهُ بِإِسْلَامِ أَهْلِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَكُونُ مَالُ الصُّلْحِ بَاقِيًا بِكَمَالِهِ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْ هَذَا الْمُسْلِمِ مَا خَصَّهُ بِإِسْلَامِهِ، فَأَمَّا قَدْرُ الْخَرَاجِ الْمَضْرُوبِ فَيُعْتَبَرُ بِمَا تَحْتَمِلُهُ الْأَرْضُ، فَإِنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- حِينَ وَضَعَ الْخَرَاجَ عَلَى سَوَادِ الْعِرَاقِ ضَرَبَ فِي بَعْضِ نَوَاحِيهِ عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ1 قَفِيزًا وَدِرْهَمًا، وَجَرَى فِي ذَلِكَ عَلَى مَا اسْتَوْفَقَهُ مِنْ رَأْيِ كِسْرَى بْنِ قُبَاءَ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ مَسَّحَ السَّوَادَ وَوَضَعَ الْخَرَاجَ وَحَدَّدَ الْحُدُودَ وَوَضَعَ الدَّوَاوِينَ وَرَاعَى مَا تَحْتَمِلُهُ الْأَرْضُ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ بِمَالِكٍ، وَلَا إجْحَافٍ بِزَارِعٍ، وَأَخَذَ مِنْ كُلِّ جَرِيبٍ قَفِيزًا وَدِرْهَمًا، وَكَانَ الْقَفِيزُ وَزْنُهُ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ، وَثَمَنُهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ بِوَزْنِ الْمِثْقَالِ، وَلِانْتِشَارِ ذَلِكَ بِمَا ظَهَرَ فِي جَاهِلِيَّةِ الْعَرَبِ قَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سَلْمَى "مِنَ الطَّوِيلِ": فَتُغْلِلْ لَكُمْ مَا لَا تُغِلُّ لِأَهْلِهَا ... قُرًى بِالْعِرَاقِ مِنْ قَفِيزٍ وَدِرْهَمِ وَضَرَبَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَلَى نَاحِيَةٍ أُخْرَى غَيْرَهَا غَيْرَ هَذَا الْقَدْرِ، فَاسْتَعْمَلَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ2 عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُ بِالْمِسَاحَةِ، وَوَضْعِ مَا تَحْتَمِلُهُ الْأَرْضُ مِنْ خَرَاجِهَا، فَمَسَحَ وَوَضَعَ عَلَى

_ 1 الجريب من الأرض مقدار معلوم الذراع والمساحة، وهو عشرة أقفزة، كل قفيز منها عشرة أعشراء، فالعشير جزء من مائة جزء من الجريب. [اللسان: 1/ 260] . 2 هو عثمان بن حنيف بن وهب بن العكيم بن ثعلبة بن الحارث بن مجدعة الأنصاري، من بني عمرو بن مالك بن عوف بن الأوس، أخو سهل؛ استشار عمر بن الخطاب الصحابة في رجل يوجهه إلى العراق، فأجمعوا جميعًا على عثمان هذا، وقالوا: لن تبعثه إلى أهم من ذلك! فإن له بصرًا وعقلًا ومعرفة وتجربة، فأسرع عمر إليه فولَّاه مساحة أرض العراق، فضرب عثمان على كل جريب من الأرض يناله الماء عامرًا وغامرًا وقفيزًا، فبلغت جباية سواد الكوفة قبل أن يموت عمر بعام مائة ألف ونيفًا. ونال عثمان بن حنيف في نزول عسكر طلحة، والزبير ما زاد فضله، ثم سكن الكوفة وبقي إلى زمان معاوية.

كُلِّ جَرِيبٍ مِنَ الْكَرْمِ وَالشَّجَرِ الْمُلْتَفِّ عَشْرَ دَرَاهِمَ، وَمِنَ النَّخْلِ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ، وَمِنْ قَصَبِ السُّكَّرِ سِتَّةَ دَرَاهِمَ، وَمِنَ الرَّطْبَةِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَمِنَ الْبُرِّ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، وَمِنَ الشَّعِيرِ دِرْهَمَيْنِ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأَمْضَاهُ وَعَمِلَ فِي نَوَاحِي الشَّامِ عَلَى غَيْرِ هَذَا، فَعُلِمَ أَنَّهُ رَاعَى فِي كُلِّ أَرْضٍ مَا تَحْتَمِلُهُ. وَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ وَاضِعُ الْخَرَاجِ بَعْدَهُ يُرَاعِي فِي كُلِّ أَرْضٍ مَا تَحْتَمِلُهُ، فَإِنَّهَا تَخْتَلِفُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، يُؤَثِّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي زِيَادَةِ الْخَرَاجِ وَنُقْصَانِهِ: أَحَدُهَا: مَا يَخْتَصُّ بِالْأَرْضِ مِنْ جَوْدَةٍ يَزْكُو بِهَا زَرْعُهَا، أَوْ رَدَاءَةٍ يَقِلُّ بِهَا رِيعُهَا. وَالثَّانِي: مَا يَخْتَصُّ بِالزَّرْعِ مِنِ اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ مِنَ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ، فَمِنْهَا: مَا يَكْثُرُ ثَمَنُهُ، وَمِنْهَا: مَا يَقِلُّ ثَمَنُهُ، فَيَكُونُ الْخَرَاجُ بِحَسَبِهِ. وَالثَّالِثُ: ُ مَا يَخْتَصُّ بِالسَّقْيِ وَالشُّرْبِ؛ لِأَنَّ مَا الْتَزَمَ الْمُؤْنَةَ فِي سَقْيِهِ بِالنَّوَاضِحِ وَالدَّوَالِي لَا يَحْتَمِلُ مِنَ الْخَرَاجِ مَا يَحْتَمِلُهُ سَقْيُ السُّيُوحِ وَالْأَمْطَارِ. وَشُرْبُ الزَّرْعِ وَالْأَشْجَارِ يَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا سَقَاهُ الْآدَمِيُّونَ بِغَيْرِ آلَةٍ كَالسُّيُوحِ1 مِنَ الْعُيُونِ وَالْأَنْهَارِ يُسَاقُ إلَيْهَا، فَيَسِيحُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَيُمْنَعُ مِنْهَا عِنْدَ الِاسْتِغْنَاءِ، وَهَذَا أَوْفَرُ الْمِيَاهِ مَنْفَعَةً وَأَقَلُّهَا كُلْفَةً. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا سَقَاهُ الْآدَمِيُّونَ بِآلَةٍ مِنْ نَوَاضِحَ2 وَدَوَالِيبَ أَوْ دَوَالِيَ، وَهَذَا أَكْثَرُ الْمِيَاهِ وَأَشَقُّهَا عَمَلًا.

_ 1 السيح: الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض، وفي التهذيب: الماء الظاهر على وجه الأرض، وجمعه سيوح. [اللسان: 2/ 492] . 2 النضح: سقي الزرع وغيره بالسانية، ونضح زرعه: سقاه بالدلو، والناضح: البعير أو الثور أو الحمار الذي يستقى عليه الماء، والأنثي: ناضحة وسانية. [اللسان: 2/ 619] .

وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ بِمَطَرٍ أَوْ ثَلْجٍ أَوْ طَلٍّ وَيُسَمَّى الْعِذْيُ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا سَقَتْهُ الْأَرْضُ بِنَدَوَاتِهَا، وَمَا اسْتَكَنَّ مِنَ الْمَاءِ فِي قَرَارِهَا، فَيَشْرَبُ زَرْعُهَا وَشَجَرُهَا بِعُرُوقِهِ، وَيُسَمَّى الْبَعْلُ، فَأَمَّا الْغِيلُ وَهُوَ مَا شَرِبَ بِالْقَنَاةِ، فَإِنْ سَاحَ فَهُوَ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يَسِحْ فَهُوَ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي، وَأَمَّا الْكَظَائِمُ فَهُوَ مَا شَرِبَ مِنَ الْآبَارِ؛ فَإِنْ نُضِحَ مِنْهَا بِالْغُرُوبِ فَهُوَ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي، وَإِنْ اُسْتُخْرِجَ مِنَ الْقَنَاةِ فَهُوَ غِيلٌ يُلْحَقُ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَإِذَا اسْتَقَرَّ مَا ذَكَرْنَاهُ فَلَا بُدَّ لِوَاضِعِ الْخَرَاجِ مِنِ اعْتِبَارِ مَا وَصَفْنَاهُ مِنَ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ، مِنِ اخْتِلَافِ الْأَرْضِينَ وَاخْتِلَافِ الزُّرُوعِ وَاخْتِلَافِ السَّقْيِ؛ لِيَعْلَمَ قَدْرَ مَا تَحْمِلُهُ الْأَرْضُ مِنْ خَرَاجِهَا، فَيَقْصِدُ الْعَدْلَ فِيهَا فِيمَا بَيْنَ أَهْلِهَا وَبَيْنَ أَهْلِ الْفَيْءِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ تُجْحِفُ بِأَهْلِ الْخَرَاجِ، وَلَا نُقْصَانٍ يَضُرُّ بِأَهْلِ الْفَيْءِ نَظَرًا لِلْفَرِيقَيْنِ؛ وَمِنَ النَّاسِ مَنِ اعْتَبَرَ شَرْطًا رَابِعًا وَهُوَ قُرْبُهَا مِنَ الْبُلْدَانِ وَالْأَسْوَاقِ وَبُعْدُهَا؛ لِزِيَادَةِ أَثْمَانِهَا وَنُقْصَانِهَا، وَهَذَا إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيمَا يَكُونُ خَرَاجُهُ وَرِقًا، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيمَا يَكُونُ خَرَاجُهُ حَبًّا، وَتِلْكَ الشُّرُوطُ الثَّلَاثَةُ تُعْتَبَرُ فِي الْحَبِّ وَالْوَرِقِ؛ وَإِذَا كَانَ الْخَرَاجُ مُعْتَبَرًا بِمَا وَصَفْنَا، فَكَذَلِكَ مَا اخْتَلَفَ قَدْرُهُ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ خَرَاجُ كُلِّ نَاحِيَةٍ مُخَالِفًا لِخَرَاجِ غَيْرِهَا، وَلَا يَسْتَقْصِي فِي وَضْعِ الْخَرَاجِ غَايَةَ مَا يَحْتَمِلُهُ، وَلْيَجْعَلْ فِيهِ لِأَرْبَابِ الْأَرْضِ بَقِيَّةً يُجْبِرُونَ بِهَا النَّوَائِبَ وَالْحَوَائِجَ. حُكِيَ أَنَّ الْحَجَّاجَ كَتَبَ إلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يَسْتَأْذِنُهُ فِي أَخْذِ الْفَضْلِ مِنْ أَمْوَالِ السَّوَادِ فَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَتَبَ إلَيْهِ: لَا تَكُنْ عَلَى دِرْهَمِكَ الْمَأْخُوذِ أَحْرَصَ مِنْكَ عَلَى دِرْهَمِكَ الْمَتْرُوكِ، وَأَبْقِ لَهُمْ لُحُومًا يَعْقِدُونَ بِهَا شُحُومًا. فَإِذَا تَقَرَّرَ الْخَرَاجُ بِمَا احْتَمَلَتْهُ الْأَرْضُ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا رَاعَى فِيهَا أَصْلَحَ الْأُمُورِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَضَعَهُ عَلَى مَسَائِحِ الْأَرْضِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَضَعَهُ عَلَى مَسَائِحِ الزَّرْعِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَجْعَلَهَا مُقَاسَمَةً، فَإِنْ وَضَعَهُ عَلَى مَسَائِحِ الْأَرْضِ كَانَ مُعْتَبَرًا بِالسَّنَةِ الْهِلَالِيَّةِ، وَإِنْ وَضَعَهُ عَلَى مَسَائِحِ الزَّرْعِ كَانَ مُعْتَبَرًا بِالسَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ، وَإِنْ جَعَلَهُ مُقَاسَمَةً كَانَ مُعْتَبَرًا بِكَمَالِ الزَّرْعِ وَتَصْفِيَتِهِ، فَإِذَا اسْتَقَرَّ عَلَى أَخْذِهَا مُقَدَّرًا بِالشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِ صَارَ ذَلِكَ مُؤَبَّدًا،

لَا يَجُوزُ أَنْ يُزَادَ فِيهِ وَلَا يُنْقَصَ مِنْهُ مَا كَانَتِ الْأَرْضُونَ عَلَى أَحْوَالِهَا فِي سَقْيِهَا وَمَصَالِحِهَا. فَإِنْ تَغَيَّرَ سَقْيُهَا وَمَصَالِحُهَا إلَى الزِّيَادَةِ أَوْ النُّقْصَانِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حُدُوثُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِمْ، كَزِيَادَةٍ حَدَثَتْ بِشَقِّ أَنْهَارٍ أَوْ اسْتِنْبَاطِ مِيَاهٍ، أَوْ نُقْصَانٍ حَدَثَ لِتَقْصِيرٍ فِي عِمَارَتِهِ، أَوْ عُدُولٍ عَنْ حُقُوقٍ وَمَصْلَحَةٍ، فَيَكُونُ الْخَرَاجُ عَلَيْهِمْ بِحَالِهِ، لَا يُزَادُ عَلَيْهِمْ فِيهِ لِزِيَادَةِ عِمَارَتِهِمْ فِيهِ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ لِنُقْصَانِهَا، وَيُؤْخَذُونَ بِالْعِمَارَةِ لِئَلَّا يَسْتَدِيمَ خَرَابُهُ فَيَتَعَطَّلَ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حُدُوثُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ جِهَتِهِمْ، فَيَكُونُ النُّقْصَانُ لِشَقٍّ انْشَقَّ أَوْ نَهْرٍ تَعَطَّلَ؛ فَإِنْ كَانَ سَدُّهُ وَعَمَلُهُ مُمْكِنًا وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَعْمَلَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ، وَالْخَرَاجُ سَاقِطٌ عَنْهُمْ مَا لَمْ يَعْمَلْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَمَلُهُ فَخَرَاجُ تِلْكَ الْأَرْضِ سَاقِطٌ عَنْ أَهْلِهَا إذَا عُدِمَ الِانْتِفَاعُ بِهَا، فَإِنْ أَمْكَنَ الِانْتِفَاعُ بِهَا فِي غَيْرِ الزِّرَاعَةِ كَمَصَائِدَ أَوْ مَرَاعٍ جَازَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ وَضْعَ خَرَاجٍ عَلَيْهَا بِحَسَبِ مَا يَحْتَمِلُهُ الصَّيْدُ وَالْمَرْعَى، وَلَيْسَتْ كَالْأَرْضِ الْمَوَاتِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُوضَعَ عَلَى مَصَائِدِهَا وَمَرَاعِيهَا خَرَاجٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ مَمْلُوكَةٌ وَأَرْضُ الْمَوَاتِ مُبَاحَةٌ. أَمَّا الزِّيَادَةُ الَّتِي أَحْدَثَهَا اللَّهُ تعالى فَكَأَنْهَارٍ حَفَرَهَا السَّيْلُ وَصَارَتِ الْأَرْضُ بِهَا سَائِحَةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ تُسْقَى بِآلَةٍ، فَإِنْ كَانَ هَذَا عَارِضًا لَا يُوثَقُ بِدَوَامِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَادَ فِي الْخَرَاجِ، وَإِنْ وُثِقَ بِدَوَامِهِ رَاعَى الْإِمَامُ فِيهِ الْمَصْلَحَةَ لِأَرْبَابِ الضِّيَاعِ وَأَهْلِ الْفَيْءِ، وَعَمِلَ فِي الزِّيَادَةِ أَوْ الْمُتَارَكَةِ بِمَا يَكُونُ عَدْلًا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ. وَخَرَاجُ الْأَرْضِ إذَا أَمْكَنَ زَرْعُهَا مَأْخُوذٌ مِنْهَا وَإِنْ لَمْ تُزْرَعْ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا خَرَاجَ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ تَرَكَهَا مُخْتَارًا أَوْ مَعْذُورًا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُؤْخَذُ مِنْهَا إنْ كَانَ مُخْتَارًا وَيَسْقُطُ عَنْهَا إنْ كَانَ مَعْذُورًا، وَإِذَا كَانَ خَرَاجُ مَا أَخَلَّ بِزَرْعِهِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزُّرُوعِ أُخِذَ مِنْهُ فِيمَا أَخَلَّ بِزَرْعِهِ عَنْ أَقَلِّ مَا يُزْرَعُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى زَرْعِهِ لَمْ يُعَارَضْ فِيهِ. وَإِذَا كَانَتْ أَرْضُ الْخَرَاجِ لَا يُمْكِنُ زَرْعُهَا فِي كُلِّ عَامٍ حَتَّى تُرَاحَ فِي عَامٍ وَتُزْرَعَ فِي عَامٍ آخَرَ، رُوعِيَ حَالُهَا فِي ابْتِدَاءِ وَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَيْهَا، وَاعْتَبَرَ أَصْلَحَ أُمُورٍ لِأَرْبَابِ الضِّيَاعِ وَأَهْلِ الْفَيْءِ فِي خَصْلَةٍ مِنْ ثَلَاثٍ: إمَّا أَنْ يَجْعَلَ خَرَاجَهَا عَلَى الشَّطْرِ مِنْ خَرَاجِ مَا يُزْرَعُ فِي كُلِّ عَامٍ، فَيُؤْخَذُ

مِنَ الْمَزْرُوعِ وَالْمَتْرُوكِ، وَإِمَّا أَنْ يَمْسَحَ كُلَّ جَرِيبَيْنِ مِنْهَا بِجَرِيبٍ؛ لِيَكُونَ أَحَدُهُمَا لِلْمَزْرُوعِ وَالْآخَرُ لِلْمَتْرُوكِ، وَإِمَّا أَنْ يَضَعَهُ بِكَمَالِهِ عَلَى مِسَاحَةِ الْمَزْرُوعِ وَالْمَتْرُوكِ، وَيَسْتَوْفِي مِنْ أَرْبَابِهِ الشَّطْرَ مِنْ زِرَاءِ أَرْضِهِمْ. وَإِذَا كَانَ خَرَاجُ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ مُخْتَلِفًا بِاخْتِلَافِ الْأَنْوَاعِ، فَزُرِعَ أَوْ غُرِسَ مَا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ اُعْتُبِرَ خَرَاجُهُ بِأَقْرَبِ الْمَنْصُوصَاتِ بِهِ شَبَهًا وَنَفْعًا. وَإِذَا زُرِعَتْ أَرْضُ الْخَرَاجِ مَا يُوجِبُ الْعُشْرَ لَمْ يَسْقُطْ عُشْرُ الزَّرْعِ بِخَرَاجِ الْأَرْضِ، وَجُمِعَ فِيهَا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَأَقْتَصِرُ عَلَى أَخْذِ الْخَرَاجِ وَإِسْقَاطِ الْعُشْرِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُنْقَلَ أَرْضُ الْخَرَاجِ إلَى الْعُشْرِ، وَلَا أَرْضُ الْعُشْرِ إلَى الْخَرَاجِ، وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ. وَإِذَا سُقِيَ بِمَاءِ الْخَرَاجِ أَرْضُ عُشْرٍ كَانَ الْمَأْخُوذُ مِنْهَا عُشْرًا، وَإِذَا سُقِيَ بِمَاءِ الْعُشْرِ أَرْضُ خَرَاجٍ كَانَ الْمَأْخُوذُ مِنْهَا خَرَاجًا، اعْتِبَارًا بِالْأَرْضِ دُونَ الْمَاءِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْتَبَرُ حُكْمُ الْمَاءِ، فَيُؤْخَذُ بِمَاءِ الْخَرَاجِ مِنْ أَرْضِ الْعُشْرِ الْخَرَاجُ، وَيُؤْخَذُ بِمَاءِ الْعُشْرِ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ الْعُشْرُ اعْتِبَارًا بِالْمَاءِ دُونَ الْأَرْضِ، وَاعْتِبَارُ الْأَرْضِ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ مَأْخُوذٌ عَنِ الْأَرْضِ، وَالْعُشْرُ مَأْخُوذٌ عَنِ الزَّرْعِ، وَلَيْسَ عَلَى الْمَاءِ خَرَاجٌ وَلَا عُشْرٌ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ مَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ صَاحِبَ الْخَرَاجِ أَنْ يَسْقِيَ بِمَاءِ الْعُشْرِ، وَمَنَعَ صَاحِبَ الْعُشْرِ أَنْ يَسْقِيَ بِمَاءِ الْخَرَاجِ، وَلَمْ يَمْنَعْ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- وَاحِدًا مِنْهُمَا أَنْ يَسْقِيَ بِأَيِّ الْمَاءَيْنِ شَاءَ1. وَإِنْ بُنِيَ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ أَبْنِيَةٌ مِنْ دُورٍ أَوْ حَوَانِيتَ؛ كَانَ خَرَاجُ الْأَرْضِ مُسْتَحَقًّا؛ لِأَنَّ

_ 1 وإذا كانت أرض من أرض الخراج فإنَّ أبا حنيفة -رحمه الله- كان يقول: ليس فيها عشر، لا يجتمع عشر وخراج وبه يأخذ، وكان ابن أبي ليلى يقول: عليه فيها العشر مع الخراج. قال الشافعي -رحمه الله تعالى: وإذا زرع الرجل أرضًا من أرض الخراج فعليه في زرعها العشر، كما يكون عليه في رزع أرض لرجل تكاراها منه، وهي لذلك الرجل، أو هي صدقة موقوفة. قال: وإذا كانت الأرض من أرض العشر فإنَّ أبا حنيفة -رحمه الله تعالى- كان يقول: في كل قليل وكثير أخرجت من الحنطة والشعير والزبيب والتمر والذرة وغير ذلك من أصناف الغلة العشر ونصف العشر، والقليل والكثير في ذلك سواء، وإن كانت حزمة من بقل. [الأم: 7/ 143] .

لِرَبِّ الْأَرْضِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا كَيْفَ شَاءَ، وَأَسْقَطَهُ أَبُو حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ تُزْرَعَ أَوْ تُغْرَسَ، وَاَلَّذِي أَرَاهُ أَنَّ مَا لَا يُسْتَغْنَى عَنْ بُنْيَانِهِ مِنْ مَقَامِهِ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ لِزِرَاعَتِهَا عَفْوٌ يَسْقُطُ عَنْهُ خَرَاجُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ إلَّا بِمَسْكَنٍ يَسْتَوْطِنُهُ، وَمَا جَاوَزَ قَدْرَ الْحَاجَةِ مَأْخُوذٌ بِخَرَاجِهِ، وَإِذَا أُوجِرَتْ أَرْضُ الْخَرَاجِ أَوْ أُعِيرَتْ فَخَرَاجُهَا عَلَى الْمَالِكِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُسْتَعِيرِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: خَرَاجُهَا فِي الْإِجَارَةِ عَلَى الْمَالِكِ، وَفِي الْعَارِيَّةِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ. وَإِذَا اخْتَلَفَ الْعَامِلُ وَرَبُّ الْأَرْضِ فِي حُكْمِهَا، فَادَّعَى الْعَامِلُ أَنَّهَا أَرْضُ خَرَاجٍ، وَادَّعَى رَبُّهَا أَنَّهَا أَرْضُ عُشْرٍ، وَقَوْلُهُمَا مُمَكَّنٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ دُونَ الْعَامِلِ، فَإِنِ اتَّهَمَ أَحْلَفَ اسْتِظْهَارًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِي مِثْلِ هَذَا الِاخْتِلَافِ عَلَى شَوَاهِدِ الدَّوَاوِينِ السُّلْطَانِيَّةِ إذَا عَلِمَ صِحَّتَهَا وَوُثِقَ بِكِتَابِهَا، وَقَلَّمَا يُشْكِلُ ذَلِكَ إلَّا فِي الْحُدُودِ. وَإِذَا ادَّعَى رَبُّ الْأَرْضِ دَفْعَ الْخَرَاجِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ قَوْلُهُ، وَلَوْ ادَّعَى دَفْعَ الْعُشْرِ قُبِلَ قَوْلُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِي دَفْعِ الْخَرَاجِ عَلَى الدَّوَاوِينِ السُّلْطَانِيَّةِ إذَا عَرَفَ صِحَّتَهَا اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ الْمُعْتَادِ فِيهَا، وَمَنْ أَعْسَرَ بِخَرَاجِهِ أُنْظِرَ بِهِ إلَى إيسَارِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجِبُ بِإِيسَارِهِ وَيَسْقُطُ بِالْإِعْسَارِ، وَإِذَا مَطَلَ بِالْخَرَاجِ مَعَ إيسَارِهِ حُبِسَ بِهِ، إلَّا أَنْ يُوجَدَ لَهُ مَالٌ فَيُبَاعُ عَلَيْهِ فِي خَرَاجِهِ كَالْمَدْيُونِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَهُ غَيْرُ أَرْضِ الْخَرَاجِ فَإِنْ كَانَ السُّلْطَانُ يَرَى جَوَازَ بَيْعِهَا بَاعَ مِنْهَا عَلَيْهِ بِقَدْرِ خَرَاجِهَا؛ وَإِنْ كَانَ لَا يَرَى ذَلِكَ أَجْرَاهَا عَلَيْهِ وَاسْتَوْفَى الْخَرَاجَ مِنْ مُسْتَأْجِرِهَا، فَإِنْ زَادَتْ الْأُجْرَةُ كَانَ عَلَيْهِ زِيَادَتُهَا، وَإِنْ نَقَصَتْ كَانَ عَلَيْهِ نُقْصَانُهَا، وَإِذَا عَجَزَ رَبُّ الْأَرْضِ عَنْ عِمَارَتِهَا قِيلَ لَهُ: إمَّا أَنْ تُؤَجِّرَهَا أَوْ تَرْفَعَ يَدَكَ عَنْهَا؛ لِتُدْفَعَ إلَى مَنْ يَقُومُ بِعِمَارَتِهَا وَلَمْ يُتْرَكْ عَلَى خَرَابِهَا، وَإِنْ دَفَعَ خَرَاجَهَا لِئَلَّا تَصِيرَ بِالْخَرَابِ مَوَاتًا. وَعَامِلُ الْخَرَاجِ يُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ وِلَايَتِهِ: الْحُرِّيَّةُ وَالْأَمَانَةُ وَالْكِفَايَةُ، ثُمَّ يَخْتَلِفُ حَالُهُ بِاخْتِلَافِ وِلَايَتِهِ، فَإِنْ تَوَلَّى وَضْعَ الْخَرَاجِ اُعْتُبِرَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَإِنْ وَلِيَ جِبَايَةَ الْخَرَاجِ صَحَّتْ وِلَايَتُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا مُجْتَهِدًا، وَرِزْقُ عَامِلِ الْخَرَاجِ فِي مَالِ الْخَرَاجِ، كَمَا أَنَّ رِزْقَ عَامِلِ الصَّدَقَةِ فِي مَالِ الصَّدَقَةِ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ، وَكَذَلِكَ أُجُورُ الْمُسَّاحِ. وَأَمَّا أُجْرَةُ الْقَسَّامِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- إلَى أُجُورِ قُسَّامِ

الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ مَعًا فِي حَقِّ الَّذِي اسْتَوْفَاهُ السُّلْطَانُ مِنْهُمَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أُجُورُ مَنْ يَقْسِمُ غَلَّةَ الْعُشْرِ وَغَلَّةَ الْخَرَاجِ وَسَطٌ مِنْ أَصْلِ الْكَيْلِ، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: أُجُورُ الْخَرَاجِ عَلَى السُّلْطَانِ، وَأُجُورُ الْعُشْرِ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَقَالَ مَالِكٌ: أُجُورُ الْعُشْرِ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ، وَأُجُورُ الْخَرَاجِ عَلَى الْوَسَطِ. فصل: وَالْخَرَاجُ حَقٌّ مَعْلُومٌ عَلَى مِسَاحَةٍ مَعْلُومَةٍ، فَاعْتُبِرَ فِي الْعِلْمِ بِهَا ثَلَاثَةُ مَقَادِيرَ تَنْفِي الْجَهَالَةَ عَنْهَا: أَحَدُهَا: مِقْدَارُ الْجَرِيبِ بِالذِّرَاعِ الْمَسْمُوحِ بِهِ. وَالثَّانِي: مِقْدَارُ الدِّرْهَمِ الْمَأْخُوذِ بِهِ. وَالثَّالِثُ: ُ مِقْدَارُ الْكَيْلِ الْمُسْتَوْفَى بِهِ. فَأَمَّا الْجَرِيبُ فَهُوَ عَشْرُ قَصَبَاتٍ فِي عَشْرِ قَصَبَاتٍ، وَالْقَفِيزُ عَشْرُ قَصَبَاتٍ فِي قَصَبَةٍ، وَالْعَشِيرُ قَصَبَةٌ فِي قَصَبَةٍ، وَالْقَصَبَةُ سِتَّةُ أَذْرُعٍ، فَيَكُونُ الْجَرِيبُ ثَلَاثَةَ آلَافٍ وَسِتِّمِائَةِ ذِرَاعٍ مُكَسَّرَةٍ، وَالْقَفِيزُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ ذِرَاعًا مُكَسَّرَةٌ وَهُوَ عُشْرُ الْجَرِيبِ، وَالْعَشِيرُ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ ذِرَاعًا وَهُوَ عُشْرُ الْقَفِيزِ، وَأَمَّا الذِّرَاعُ فَالْأَذْرُعُ سَبْعٌ أَقْصَرُهَا الْقَاضِيَةُ، ثُمَّ الْيُوسُفِيَّةُ ثُمَّ السَّوْدَاءُ، ثُمَّ الْهَاشِمِيَّةُ الصُّغْرَى وَهِيَ الْبِلَالِيَّةُ، ثُمَّ الْهَاشِمِيَّةُ الْكُبْرَى وَهِيَ الزِّيَادِيَّةُ، ثُمَّ الْعُمَرِيَّةُ، ثُمَّ الْمِيزَانِيَّةُ. فَأَمَّا الْقَاضِيَةُ: وَتُسَمَّى ذِرَاعُ الدُّورِ، فَهِيَ أَقَلُّ مِنْ ذِرَاعِ السَّوْدَاءِ بِأُصْبُعٍ وَثُلُثَيْ أُصْبُعٍ، وَأَوَّلُ مَنْ وَضَعَهَا ابْنُ أَبِي لَيْلَى الْقَاضِي، وَبِهَا يَتَعَامَلُ أَهْلُ كَلْوَاذَى. وَأَمَّا الْيُوسُفِيَّةُ: وَهِيَ الَّتِي تَذْرُعُ بِهَا الْقُضَاةُ الدُّورَ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ، فَهِيَ أَقَلُّ مِنَ الذِّرَاعِ السَّوْدَاءِ بِثُلُثَيْ أُصْبُعٍ، وَأَوَّلُ مَنْ وَضَعَهَا أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي. وَأَمَّا الذِّرَاعُ السَّوْدَاءُ: فَهِيَ أَطْوَلُ مِنْ ذِرَاعِ الدُّورِ بِأُصْبُعٍ وَثُلُثَيْ أُصْبُعٍ، وَأَوَّلُ مَنْ وَضَعَهَا الرَّشِيدُ -رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى، قَدَّرَهَا بِذِرَاعِ خَادِمٍ أَسْوَدَ كَانَ عَلَى رَأْسِهِ، وَهِيَ الَّتِي يَتَعَامَلُ بِهَا النَّاسُ فِي ذِرَاعِ الْبَزِّ وَالتِّجَارَةِ وَالْأَبْنِيَةِ وَقِيَاسِ نِيلِ مِصْرَ.

وَأَمَّا الذِّرَاعُ الْهَاشِمِيَّةُ الصُّغْرَى وَهِيَ الْبِلَالِيَّةُ، فَهِيَ أَطْوَلُ مِنَ الذِّرَاعِ السَّوْدَاءِ بِأُصْبُعَيْنِ وَثُلُثَيْ أُصْبُعٍ، وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهَا بِلَالُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ، وَذَكَرَ أَنَّهَا ذِرَاعُ جَدِّهِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهِيَ أَنْقَصُ مِنَ الزِّيَادِيَّةِ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ عُشْرٍ، وَبِهَا يَتَعَامَلُ النَّاسُ بِالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ. وَأَمَّا الْهَاشِمِيَّةُ الْكُبْرَى وَهِيَ ذِرَاعُ الْمِلْكِ، وَأَوَّلُ مَنْ نَقَلَهَا إلَى الْهَاشِمِيَّةِ الْمَنْصُورُ -رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى، فَهِيَ أَطْوَلُ مِنَ الذِّرَاعِ السَّوْدَاءِ بِخَمْسِ أَصَابِعَ وَثُلُثَيْ أُصْبُعٍ، فَتَكُونُ ذِرَاعًا وَثُمُنًا وَعُشْرًا بِالسَّوْدَاءِ، وَيَنْقُصُ عَنْهَا الْهَاشِمِيَّةُ الصُّغْرَى بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ عُشْرٍ، وَسُمِّيَتْ زِيَادِيَّةٌ؛ لِأَنَّ زِيَادًا مَسَحَ بِهَا أَرْضَ السَّوَادِ، وَهِيَ الَّتِي يَذْرُعُ بِهَا أَهْلُ الْأَهْوَازِ. وَأَمَّا الذِّرَاعُ الْعُمَرِيَّةُ فَهِيَ ذِرَاعُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، الَّتِي مَسَحَ بِهَا أَرْضَ السَّوَادِ، وَقَالَ مُوسَى بْنُ طَلْحَةَ: رَأَيْتُ ذِرَاعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- الَّتِي مَسَحَ بِهَا أَرْضَ السَّوَادِ، وَهِيَ ذِرَاعٌ وَقَبْضَةٌ وَإِبْهَامٌ قَائِمَةٌ، قَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ: إنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَمَدَ إلَى أَطْوَلِهَا ذِرَاعًا وَأَوْسَطِهَا، فَجَمَعَ مِنْهَا ثَلَاثَةً وَأَخَذَ الثُّلُثَ مِنْهَا، وَزَادَ عَلَيْهِ قَبْضَةً وَإِبْهَامًا قَائِمَةً، ثُمَّ خَتَمَ فِي طَرَفَيْهِ بِالرَّصَاصِ، وَبَعَثَ بِذَلِكَ إلَى حُذَيْفَةَ وَعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ حَتَّى مَسَحَا بِهَا السَّوَادَ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ مَسَحَ بِهَا بَعْدَهُ عُمَرُ بْنُ هُبَيْرَةَ1. أَمَّا الذِّرَاعُ الْمِيزَانِيَّةُ فَتَكُونُ بِالذِّرَاعِ السَّوْدَاءِ ذِرَاعَيْنِ وَثُلُثَيْ ذِرَاعٍ وَثُلُثَيْ أُصْبُعٍ، وَأَوَّلُ مَنْ وَضَعَهَا الْمَأْمُونُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهِيَ الَّتِي يَتَعَامَلُ النَّاسُ فِيهَا فِي ذَرْعِ الْبَرَائِدِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْأَسْوَاقِ وَكِرَاءِ الْأَنْهَارِ وَالْحَفَائِرِ. وَأَمَّا الدِّرْهَمُ: فَيَحْتَاجُ فِيهِ إلَى مَعْرِفَةِ وَزْنِهِ وَنَقْدِهِ، فَأَمَّا وَزْنُهُ فَقَدْ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ وَزْنَ الدِّرْهَمِ سِتَّةُ دَوَانِيقَ، وَوَزْنَ كُلِّ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ سَبْعَةُ مَثَاقِيلَ، وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ اسْتِقْرَارِهِ عَلَى هَذَا الْوَزْنِ، فَذَكَرَ قَوْمٌ أَنَّ الدَّرَاهِمَ كَانَتْ فِي أَيَّامِ الْفُرْسِ مَضْرُوبَةٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْزَانٍ؛ مِنْهَا دِرْهَمٌ عَلَى وَزْنِ الْمِثْقَالِ عِشْرُونَ قِيرَاطًا، وَدِرْهَمٌ وَزْنُهُ اثْنَا عَشَرَ قِيرَاطًا، وَدِرْهَمٌ

_ 1 هو عمر بن هبيرة بن معاوية بن سكين، الأمير أبو المثنَّى الفزاري الشامي، أمير العراقين ووالد أميرها يزيد، كان ينوب ليزيد بن عبد الملك فعزله هشام، وجمعت له العراق، ثم عزل بخالد القسري فقيده وألبسه عباءة وسجنه، فتحيل غلمانه ونقبوا سربًا أخرجوه منه، فهرب واستجار بالأمير مسلمة.

وَزْنُهُ عَشَرَةُ قَرَارِيطَ، فَلَمَّا اُحْتِيجَ فِي الْإِسْلَامِ إلَى تَقْدِيرِهِ فِي الزَّكَاةِ أُخِذَ الْوَسَطُ مِنْ جَمِيعِ الْأَوْزَانِ الثَّلَاثَةِ، وَهُوَ اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ قِيرَاطًا، فَكَانَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قِيرَاطًا مِنْ قَرَارِيطِ الْمِثْقَالِ، فَلَمَّا ضُرِبَتِ الدَّرَاهِمُ الْإِسْلَامِيَّةُ عَلَى الْوَسَطِ مِنْ هَذِهِ الْأَوْزَانِ الثَّلَاثَةِ قِيلَ فِي عَشَرَتِهَا: وَزْنُ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ، وَإِنَّهَا كَذَلِكَ، وَذَكَرَ آخَرُونَ أَنَّ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لَمَّا رَأَى اخْتِلَافَ الدَّرَاهِمِ، وَأَنَّ مِنْهَا الْبَغْلَيَّ وَهُوَ ثَمَانِيَةُ دَوَانِقَ، وَمِنْهَا الطَّبَرِيَّ وَهُوَ أَرْبَعَةُ دَوَانِقَ، وَمِنْهَا الْمَغْرِبِيَّ وَهُوَ ثَلَاثَةُ دَوَانِقَ، وَمِنْهَا الْيَمَنِيَّ وَهُوَ دَانَقٌ، قَالَ: اُنْظُرُوا الْأَغْلَبَ مِمَّا يَتَعَامَلُ بِهِ النَّاسُ مِنْ أَعْلَاهَا وَأَدْنَاهَا، فَكَانَ الدِّرْهَمُ الْبَغْلِيُّ، وَالدِّرْهَمُ الطَّبَرِيُّ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا، فَكَانَا اثْنَيْ عَشَرَ دَانَقًا، فَأَخَذَ نِصْفَهَا فَكَانَ سِتَّةَ دَوَانِقَ، فَجَعَلَ الدِّرْهَمَ الْإِسْلَامِيَّ فِي سِتَّةِ دَوَانِيقَ، وَمَتَى زِدْتَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةَ أَسْبَاعِهِ كَانَ مِثْقَالًا، وَمَتَى نَقَصْتَ مِنَ الْمِثْقَالِ ثَلَاثَةَ أَعْشَارِهِ كَانَ دِرْهَمًا، فَكُلُّ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ سَبْعَةُ مَثَاقِيلَ، وَكُلُّ عَشَرَةِ مَثَاقِيلَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَسُبْعَانِ، فَأَمَّا النَّقْصُ فَمِنْ خَالِصِ الْفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِمَغْشُوشِهِ مَدْخَلٌ فِي حُكْمِهِ، وَقَدْ كَانَ الْفُرْسُ عِنْدَ فَسَادِ أُمُورِهِمْ فَسَدَتْ نَقُودُهُمْ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَنَقُودُهُمْ مِنَ الْعَيْنِ وَالْوَرِقِ غَيْرُ خَالِصَةٍ، إلَّا أَنَّهَا كَانَتْ تَقُومُ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَقَامَ الْخَالِصَةِ، وَكَانَ غِشُّهَا عَفْوًا لِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ بَيْنَهُمْ، إلَى أَنْ ضُرِبَتْ الدَّرَاهِمُ الْإِسْلَامِيَّةُ فَتَمَيَّزَ الْمَغْشُوشُ مِنَ الْخَالِصِ. وَاخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ مَنْ ضَرَبَهَا فِي الْإِسْلَامِ، فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: إنَّ أَوَّلَ مَنْ ضَرَبَ الدَّرَاهِمَ الْمَنْقُوشَةَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَكَانَتْ الدَّنَانِيرُ تَرِدُ رُومِيَّةً وَالدَّرَاهِمُ تَرِدُ كِسْرَوِيَّةً وَحِمْيَرِيَّةً قَلِيلَةً، قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: فَأَمَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ الْحَجَّاجَ أَنْ يَضْرِبَ الدَّرَاهِمَ بِالْعِرَاقِ، فَضَرَبَهَا سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ، وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: بَلْ ضَرَبَهَا الْحَجَّاجُ فِي آخِرِ سَنَةِ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ، ثُمَّ أَمَرَ بِضَرْبِهَا فِي النَّوَاحِي سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ، وَقِيلَ: إنَّ الْحَجَّاجَ خَلَّصَهَا تَخْلِيصًا لَمْ يَسْتَقْصِهِ وَكَتَبَ عَلَيْهَا {اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ} [الأخلاص: 1، 2] . وَسُمِّيَتْ مَكْرُوهَةً، وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ، فَقَالَ قَوْمٌ: لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ كَرِهُوهَا لِمَا عَلَيْهَا مِنْ الْقُرْآنِ، وَقَدْ يَحْمِلُهَا الْجُنُبُ وَالْمُحْدِثُ، وَقَالَ الْآخَرُونَ: لِأَنَّ الْأَعَاجِمَ كَرِهُوا نُقْصَانَهَا فَسُمِّيَتْ مَكْرُوهَةً، ثُمَّ وَلِيَ بَعْدَ الْحَجَّاجِ عُمَرُ بْنُ هُبَيْرَةَ فِي أَيَّامِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ

فَضَرَبَهَا أَجْوَدَ مِمَّا كَانَتْ، ثُمَّ وَلِيَ بَعْدَهُ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ1 فَشَدَّدَ فِي تَجْوِيدِهَا، وَضَرَبَ بَعْدَهُ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ فَأَفْرَطَ فِي التَّشْدِيدِ فِيهَا وَالتَّجْوِيدِ، فَكَانَتِ الْهُبَيْرِيَّةُ وَالْخَالِدِيَّةُ وَالْيُوسُفِيَّةُ أَجْوَدَ نَقْدِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَكَانَ الْمَنْصُورُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لَا يَأْخُذُ فِي الْخَرَاجِ مِنْ نَقْدِهِمْ غَيْرَهَا. وَحَكَى يَحْيَى بْنُ النُّعْمَانِ الْغِفَارِيُّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ ضَرَبَ الدَّرَاهِمَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ أَمْرِ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ سَنَةَ سَبْعِينَ عَلَى ضَرْبِ الْأَكَاسِرَةِ، وَعَلَيْهَا بَرَكَةٌ فِي جَانِبٍ، وَاَللَّهُ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ، ثُمَّ غَيَّرَهَا الْحَجَّاجُ بَعْدَ سَنَةٍ، وَكَتَبَ عَلَيْهَا بِسْمِ اللَّهِ فِي جَانِبٍ، وَالْحَجَّاجُ فِي جَانِبٍ، وَإِذَا خَلَصَ الْعَيْنُ وَالْوَرِقُ مِنْ غِشٍّ كَانَ هُوَ الْمُعْتَبَر فِي النُّقُودِ الْمُسْتَحَقَّةِ وَالْمَطْبُوعِ مِنْهَا بِالسِّكَّةِ السُّلْطَانِيَّةِ الْمَوْثُوقِ بِسَلَامَةِ طَبْعِهِ، الْمَأْمُونِ مِنْ تَبْدِيلِهِ وَتَلْبِيسِهِ، هُوَ الْمُسْتَحَقُّ دُونَ نِقَارِ الْفِضَّةِ وَسَبَائِكِ الذَّهَبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوثَقُ بِهِمَا إلَّا بِالسَّكِّ وَالتَّصْفِيَةِ وَالْمَطْبُوعُ مَوْثُوقٌ بِهِ، وَلِذَلِكَ كَانَ هُوَ الثَّابِتَ فِي الذِّمَمِ فِيمَا يُطْلَقُ مِنْ أَثْمَانِ الْمَبِيعَاتِ وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، وَلَوْ كَانَتِ الْمَطْبُوعَاتُ مُخْتَلِفَةَ الْقِيمَةِ مَعَ اتِّفَاقِهَا فِي الْجَوْدَةِ، فَطَالَبَ عَامِلُ الْخَرَاجِ بِأَعْلَاهَا قِيمَةً نَظَرَ: فَإِنْ كَانَ مِنْ ضَرْبِ سُلْطَانِ الْوَقْتِ أُجِيبَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِي الْعُدُولِ عَنْ ضَرْبِهِ مُبَايَنَةً لَهُ فِي الطَّاعَةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ ضَرْبِ غَيْرِهِ نَظَرَ: فَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَأْخُوذَ فِي خَرَاجِ مَنْ تَقَدَّمَهُ أُجِيبَ إلَيْهِ اسْتِصْحَابًا لِمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْخُوذًا فِيمَا تَقَدَّمَ كَانَتْ الْمُطَالَبَةُ بِهِ غَبْنًا وَحَيْفًا. وَأَمَّا مَكْسُورُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَلَا يَلْزَمُ أَخْذُهُ لِالْتِبَاسِهِ وَجَوَازِ اخْتِلَاطِهِ، وَلِذَلِكَ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا عَنِ الْمَضْرُوبِ الصَّحِيحِ، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَرَاهِيَةِ كَسْرِهَا، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَكْثَرُ

_ 1 هو خالد بن عبد الله بن يزيد بن أسد، أبو الهيثم البجليّ القسري، أمير مكة للوليد وسليمان، وأمير العراقين لهشام، وهو من أهل دمشق، وهو الذي قتل جعد بن درهم، وكان جوادًا سخيًّا ممدحًا فصيحًا، إلَّا أنه كان رجل سوء، كان يقع في علي ويذمّ بئر زمزم، وكان نحوًا من الحجَّاج، وبقي على ولاية العراق بضع عشرة سنة، ثم عزله هشام وولى يوسف بن عمر الثقفي. 2 مصعب بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي أمير العراقيين، أبو عيسى وأبو عبد الله، لا رواية له، كان فارسًا شجاعًا جميلًا وسيمًا، حارب المختار وقتله، سار لحربه عبد الملك بن مروان، قُتِلَ مصعب يوم نصف جمادى الأولى سنة اثنتين وسبعين وله أربعون سنة، وكان مصعب قد سار ليأخذ الشام فقصده عبد الملك فوقع بينهما ملحمة كبرى بدير الجاثليق.

فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ إلَى أَنَّهُ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَيُنْكَرُ عَلَى فَاعِلِهِ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ نَهَى عَنْ كَسْرِ الْمُسْلِمِينَ سِكَّةَ الْجَارِيَةِ بَيْنَهُمْ. وَالسِّكَّةُ هِيَ الْحَدِيدَةُ الَّتِي يُطْبَعُ عَلَيْهَا الدَّرَاهِمُ؛ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ الدَّرَاهِمُ الْمَضْرُوبَةُ سِكَّةً، وَقَدْ كَانَ يُنْكِرُ ذَلِكَ وُلَاةُ بَنِي أُمَيَّةَ حَتَّى أَسْرَفُوا فِيهِ، فَحُكِيَ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ أَخَذَ رَجُلًا قَطَعَ دِرْهَمًا مِنْ دَرَاهِمِ فَارِسٍ فَقَطَعَ يَدَهُ، وَهَذَا عُدْوَانٌ مَحْضٌ، وَلَيْسَ لَهُ فِي التَّأْوِيلِ مَسَاغٌ. وَحَكَى الْوَاقِدِيُّ أَنَّ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ1 كَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ فَعَاقَبَ مَنْ قَطَعَ الدَّرَاهِمَ وَضَرَبَهُ ثَلَاثِينَ سَوْطًا وَطَافَ بِهِ، قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَهَذَا عِنْدَنَا فِيمَنْ قَطَعَهَا وَدَسَّ فِيهَا الْمُفَرَّغَةَ وَالزُّيُوفَ، فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ فَمَا فَعَلَهُ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ لَيْسَ بِعُدْوَانٍ؛ لِأَنَّهُ مَا خَرَجَ بِهِ عَنْ حَدِّ التَّعْزِيرِ وَالتَّعْزِيرُ عَلَى التَّدْلِيسِ مُسْتَحَقٌّ، وَأَمَّا فِعْلُ مَرْوَانَ فَظُلْمٌ وَعُدْوَانٌ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَفُقَهَاءُ الْعِرَاقِ إلَى أَنَّ كَسْرَهَا غَيْرُ مَكْرُوهٍ، وَقَدْ حَكَى صَالِحُ بْنُ حَفْصٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تعالى: {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود: 87] . قَالَ: كَسْرُ الدَّرَاهِمِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّهُ قَالَ: إنْ كَسَرَهَا لِحَاجَةٍ لَمْ يُكْرَهْ لَهُ؛ وَإِنْ كَسَرَهَا لِغَيْرِ حَاجَةٍ كُرِهَ لَهُ؛ لِأَنَّ إدْخَالَ النَّقْصِ عَلَى الْمَالِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ سَفَهٌ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: إنْ كَانَ عَلَيْهَا اسْمُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- كُرِهَ كَسْرُهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا اسْمُهُ لَمْ يُكْرَهْ. وَأَمَّا الْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ فِي النَّهْيِ عَنْ كَسْرِ السِّكَّةِ، فَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ قَاضِي الْبَصْرَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ كَسْرِهَا؛ لِتُعَادَ تِبْرًا فَتَكُونُ عَلَى حَالِهَا مُرْصَدَةً لِلنَّفَقَةِ، وَحَمَلَهُ آخَرُونَ عَلَى النَّهْيِ عَنْ كَسْرِهَا؛ لِيَتَّخِذَ مِنْهَا أَوَانِيَ وَزُخْرُفَ، وَحَمَلَهُ آخَرُونَ عَلَى النَّهْيِ عَنْ أَخْذِ أَطْرَافِهَا قَرْضًا بِالْمَقَارِيضِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ يَتَعَامَلُونَ بِهَا عَدَدًا، فَصَارَ أَخْذُ أَطْرَافِهَا بَخْسًا وَتَطْفِيفًا. وَأَمَّا الْكَيْلُ فَإِنْ كَانَ مُقَاسَمَةً فَبِأَيِّ قَفِيزٍ كِيلَ تَعَدَّلَتْ فِيهِ الْقِسْمَةُ، وَإِنْ كَانَ خَرَاجًا مُقَدَّرًا

_ 1 أبان بن عثمان بن عفان؛ سمع أباه وزيد بن ثابت، وكانت ولايته على المدينة سبع سنين، روى له مسلم والأربعة، قال الأموي المدني: توفِّي سنة خمس ومائة، وقيل: مات قبل عبد الملك في عشر التسعين للهجرة.

فَقَدْ حَكَى الْقَاسِمُ أَنَّ الْقَفِيزَ الَّذِي وَضَعَهُ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ عَلَى أَرْضِ السَّوَادِ فَأَمْضَاهُ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كَانَ مَكِيلًا لَهُمْ يُعْرَفُ بِالشَّابِرْقَانِ، قَالَ يَحْيَى بْنُ آدَمَ: وَهُوَ الْمَخْتُومُ الْحَجَّاجِي، وَقِيلَ: وَزْنُهُ ثَلَاثُونَ رِطْلًا، فَإِنْ اُسْتُؤْنِفَ وَضْعُ الْخَرَاجِ كَيْلًا مُقَدَّرًا عَلَى نَاحِيَةٍ مُبْتَدَأَةٍ رُوعِيَ فِيهِ مِنَ الْمَكَايِيلِ مَا اسْتَقَرَّ مَعَ أَهْلِهَا مِنْ مَشْهُورِ الْقُفْزَانِ بِتِلْكَ النَّاحِيَةِ.

الباب الرابع عشر: فيما تختلف أحكامه من البلاد

الْبَابُ الرَّابِعَ عَشَرَ: فِيمَا تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهُ مِنَ الْبِلَادِ بِلَادُ الْإِسْلَامِ تَنْقَسِمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: حَرَمٌ، وَحِجَازٍ، وَمَا عَدَاهُمَا. أَمَّا الْحَرَمُ فَمَكَّةُ وَمَا طَافَ بِهَا مِنْ نُصُبِ حَرَمِهَا، وَقَدْ ذَكَرَهَا اللَّهُ تعالى بِاسْمَيْنِ فِي كِتَابِهِ: مَكَّةَ وَبَكَّةَ، فَذَكَرَ مَكَّةَ فِي قَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 24] . وَمَكَّةُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: تَمَكَّكْتُ الْمُخَّ مِنَ الْعَظْمِ تَمَكُّكًا: إذَا اسْتَخْرَجْتَهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهَا تَمُكَّ الْفَاجِرُ عَنْهَا وَتُخْرِجُهُ مِنْهَا، عَلَى مَا حَكَاهُ الْأَصْمَعِيُّ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ الرَّاجِزِ فِي تَلْبِيَتِهِ: يَا مَكَّةُ الْفَاجِرَ مُكِّي مَكَّا ... وَلَا تَمُكِّي مُذْحِجًا وَعَكَّا وَذَكَرَ بَكَّةَ فِي قَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ: {إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةِ مُبَارَكًا} [آل عمران: 96] . قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: وَسُمِّيَتْ بَكَّةُ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَبُكُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِيهَا، أَيْ: يَدْفَعُ، وَأَنْشَدَ "مِنَ الرَّجَزِ": إذَا الشِّرِّيبُ أَخَذَتْهُ أَكَّهْ ... فَخَلِّهِ حَتَّى يُبَكَّ بَكَّهْ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ، فَقَالَ قَوْمٌ: هُمَا لُغَتَانِ وَالْمُسَمَّى بِهِمَا وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُبْدِلُ الْمِيمَ بِالْبَاءِ فَتَقُولُ: ضَرْبَةُ لَازِمٍ وَضَرْبَةُ لَازِبٍ؛ لِقُرْبِ الْمَخْرَجَيْنِ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُمَا اسْمَانِ وَالْمُسَمَّى بِهِمَا شَيْئَانِ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَسْمَاءِ مَوْضُوعٌ لِاخْتِلَافِ الْمُسَمَّى، وَمَنْ قَالَ: بِهَذَا اخْتَلَفَ فِي الْمُسَمَّى بِهِمَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ مَكَّةَ اسْمُ الْبَلَدِ كُلِّهِ، وَبَكَّةُ اسْمُ الْبَيْتِ، وَهَذَا قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَيَحْيَى بْنِ أَبِي أَيُّوبَ. وَالثَّانِي: إنَّ مَكَّةَ الْحَرَمُ كُلُّهُ وَبَكَّةُ الْمَسْجِدُ، وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَحَكَى مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ قَالَ: كَانَتْ مَكَّةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تُسَمَّى صَلَاحًا لِأَمْنِهَا، وَأَنْشَدَ قَوْلَ

أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ لِابْنِ الْحَضْرَمِيِّ "مِنَ الْوَافِرِ": أَبَا مَطَرٍ هَلُمَّ إلَى صَلَاحِ ... فَيَكْفِيَكَ النَّدَامَى مِنْ قُرَيْشِ وَتَنْزِلُ بَلْدَةً عَزَّتْ قَدِيمًا ... وَتَأْمَنُ أَنْ يَزُورَكَ رَبُّ جَيْشِ وَحَكَى مُجَاهِدٌ أَنَّ أُمَّ زَحْمٍ وَالْبَاسَّةَ، فَأَمَّا أُمُّ زَحْمٍ؛ فَلِأَنَّ النَّاسَ يَتَزَاحَمُونَ بِهَا وَيَتَنَازَعُونَ، وَأَمَّا الْبَاسَّةُ فَلِأَنَّهَا تَبُسُّ مِنَ الْحَدِّ فِيهَا، أَيْ: تُحَطِّمُهُ وَتُهْلِكُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {وَبُسَّتْ الْجِبَالُ بَسًّا} [الواقعة: 5] . وَيُرْوَى النَّاسَّةُ بِالنُّونِ، وَمَعْنَاهُ: إنَّهَا تَنِسُّ مِنَ الْحَدِّ فِيهَا، أَيْ: تَطْرُدُهُ وَتَنْفِيهِ، وَأَصْلُ مَكَّةَ وَحُرْمَتُهَا مَا عَظَّمَهُ اللَّهُ سبحانَهُ مِنْ حُرْمَةِ بَيْتِهِ، حَتَّى جَعَلَهَا لِأَجْلِ الْبَيْتِ الَّذِي أَمَرَ بِرَفْعِ قَوَاعِدِهِ، وَجَعَلَهُ قِبْلَةَ عِبَادِهِ، أُمُّ الْقُرَى كَمَا قَالَ اللَّهُ سبحانَهُ: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشوري: 7] . وَحَكَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- أَنَّ سَبَبَ وَضْعِ الْبَيْتِ وَالطَّوَافِ بِهِ، أَنَّ اللَّهَ تعالى قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: {إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] . فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ فَعَاذُوا بِالْعَرْشِ، فَطَافُوا حَوْلَهُ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ يَسْتَرْضُونَ رَبَّهُمْ فَرَضِيَ عَنْهُمْ. وَقَالَ لَهُمْ: ابْنُوا لِي فِي الْأَرْضِ بَيْتًا يَعُوذُ بِهِ مَنْ سَخِطْتُ عَلَيْهِ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَيَطُوفُ حَوْلَهُ كَمَا فَعَلْتُمْ بِعَرْشِي فَأَرْضَى عَنْهُمْ، فَبَنَوْا لَهُ هَذَا الْبَيْتَ، فَكَانَ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ، قَالَ اللَّهُ تعالى: {إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةِ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96] . فَلَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لِلْعِبَادَةِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هَلْ كَانَ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِغَيْرِهَا، فَقَالَ الْحَسَنُ وَطَائِفَةٌ: قَدْ كَانَ قَبْلَهُ بُيُوتٌ كَثِيرَةٌ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ بَيْتٌ. وَفِي قَوْلِهِ -تَبَارَكَ وَتعالى: {مُبَارَكًا} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ بَرَكَتَهُ بِمَا يَسْتَحِقُّ مِنْ ثَوَابِ الْقَصْدِ إلَيْهِ. وَالثَّانِي: إنَّهُ أَمْنٌ لِمَنْ دَخَلَهُ حَتَّى الْوَحْشِ، فَيَجْتَمِعُ فِيهِ الظَّبْيُ وَالذِّئْبُ. {وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} تَحْتَمِلُ تَأْوِيلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: هُدًى لَهُمْ إلَى تَوْحِيدِهِ. وَالثَّانِي: إلَى عِبَادَتِهِ فِي الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ. {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] ، وَكَانَتْ الْآيَةُ فِي مَقَامِ إبْرَاهِيمَ تَأْثِيرَ قَدَمَيْهِ فِيهِ، وَهُوَ حَجَرٌ صَلْدٌ، وَالْآيَةُ فِي غَيْرِ الْمَقَامِ: أَمْنُ الْخَائِفِ وَهَيْبَةُ الْبَيْتِ عِنْدَ مُشَاهَدَتِهِ، وَامْتِنَاعُ الطَّيْرِ مِنْ الْعُلُوِّ عَلَيْهِ، وَتَعْجِيلُ الْعُقُوبَةِ لِمَنْ عَتَا فِيهِ؛ وَمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ أَصْحَابِ الْفِيلِ، وَمَا عَطَفَ عَلَيْهِ قُلُوبَ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَعْظِيمِهِ، وَأَنَّ مَنْ دَخَلَهُ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ وَهُمْ غَيْرُ أَهْلِ كِتَابٍ وَلَا مُتَّبِعِي شَرْعٍ يَلْتَزِمُونَ أَحْكَامَهُ، حَتَّى إنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَرَى فِيهِ قَاتِلَ أَخِيهِ وَأَبِيهِ فَلَا يَطْلُبُهُ بِثَأْرِهِ فِيهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ آيَاتُ اللَّهِ تعالى أَلْقَاهَا عَلَى قُلُوبِ عِبَادِهِ. وَأَمَّا أَمْنُهُ فِي الْإِسْلَامِ فَفِي قَوْلِهِ -سبحانه وتعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: آمِنًا مِنَ النَّارِ، وَهَذَا قَوْلُ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ. وَالثَّانِي: آمِنًا مِنَ الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تعالى أَوْجَبَ الْإِحْرَامَ عَلَى دَاخِلِهِ، وَحَظَرَ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَهُ مُحِلًّا. وَقَالَ أَيْضًا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ حَلَالًا: "أُحِلَّتْ لِي سَاعَةٌ مِنْ نَهَارٍ وَلَمْ تَحُلَّ لِأَحَدٍ مِنْ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي" 1، ثُمَّ قَالَ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] . فَجَعَلَ حَجَّهُ فَرْضًا بَعْدَ أَنْ صَارَ فِي الصَّلَاةِ قِبْلَةً؛ لِأَنَّ اسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ فِي الصَّلَاةِ فُرِضَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَالْحَجُّ فُرِضَ فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ، وَإِذْ قَدْ تَعَلَّقَ بِمَكَّةَ لِلْكَعْبَةِ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ عِبَادَتَانِ، وَبَايَنَتْ بِحُرْمَتِهَا سَائِرَ الْبُلْدَانِ، وَجَبَ أَنْ نَصِفَهَا ثُمَّ نَذْكُرَ حُكْمَ حَرَمِهَا، فَأَمَّا بِنَاؤُهَا فَأَوَّلُ مَنْ تَوَلَّاهُ بَعْدَ الطُّوفَانِ إبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَإِنَّهُ سبحانه قَالَ: {وَإِذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127] . فَدَلَّ مَا سَأَلَاهُ مِنَ الْقَبُولِ عَلَى أَنَّهُمَا كَانَا بِبِنَائِهَا مَأْمُورَيْنِ، وَسُمِّيَتْ كَعْبَةً لِعُلُوِّهَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: كَعَبَتْ الْمَرْأَةُ إذَا عَلَا ثَدْيُهَا، وَمِنْهُ: سُمِّيَ الْكَعْبُ كَعْبًا لِعُلُوِّهِ، وَكَانَتْ الْكَعْبَةُ بَعْدَ

_ 1 صحيح: رواه البخاري في كتاب الجنائز "1349"، ومسلم في كتاب الحج "1353".

إبْرَاهِيمَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ جُرْهُمَ وَالْعَمَالِقَةِ إلَى أَنِ انْقَرَضُوا، حَتَّى قَالَ فِيهِمْ عَامِرُ بْنُ الْحَارِثِ "مِنَ الطَّوِيلِ": كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْحَجُونِ إلَى الصَّفَا ... أَنِيسٌ وَلَمْ يَسْمُرْ بِمَكَّةَ سَامِرُ بَلَى نَحْنُ كُنَّا أَهْلَهَا فَأَبَادَنَا ... صُرُوفُ اللَّيَالِي وَالْجُدُودُ الْعَوَاثِرُ وَخَلَفَهُمْ فِيهَا قُرَيْشٌ بَعْدَ اسْتِيلَائِهِمْ عَلَى الْحَرَمِ لِكَثْرَتِهِمْ بَعْدَ الْقِلَّةِ، وَعِزَّتِهِمْ بَعْدَ الذِّلَّةِ، تَأْسِيسًا لِمَا يُظْهِرُهُ اللَّهُ تعالى فِيهِمْ مِنَ النُّبُوَّةِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ جَدَّدَ بِنَاءَ الْكَعْبَةِ مِنْ قُرَيْشٍ بَعْدَ إبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ، وَسَقَفَهَا بِخَشَبِ الدَّوْمِ وَجَرِيدِ النَّخْلِ، قَالَ الْأَعْشَى "مِنَ الطَّوِيلِ": حَلَفْتُ بِثَوْبَيْ رَاهِبِ الشَّامِ وَاَلَّتِي ... بَنَاهَا قُصَيٌّ جَدُّهُ وَابْنُ جُرْهُمَ لَئِنْ شَبَّ نِيرَانُ الْعَدَاوَةِ بَيْنَنَا ... لَيَرْتَحِلَنْ مِنِّي عَلَى ظَهْرِ شَيْهَمِ ثُمَّ بَنَتْهَا قُرَيْشٌ بَعْدَهُ وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابْنُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَشَهِدَ بِنَاءَهَا، وَكَانَ بَابُهَا فِي الْأَرْضِ، فَقَالَ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ الْمُغِيرَةِ: يَا قَوْمِ ارْفَعُوا بَابَ الْكَعْبَةِ حَتَّى لَا تُدْخَلَ إلَّا بِسُلَّمٍ، فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُهَا حِينَئِذٍ إلَّا مَنْ أَرَدْتُمْ، فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ مِمَّنْ تَكْرَهُونَ رَمَيْتُمْ بِهِ فَيَسْقُطَ، فَكَانَ نَكَالًا لِمَنْ رَآهُ، فَفَعَلَتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ. وَسَبَبُ بِنَائِهَا أَنَّ الْكَعْبَةَ اسْتُهْدِمَتْ وَكَانَتْ فَوْقَ الْقَامَةِ فَأَرَادُوا تَعْلِيَتَهَا، وَكَانَ الْبَحْرُ قَدْ أَلْقَى سَفِينَةً لِرَجُلٍ مِنْ تُجَّارِ الرُّومِ إلَى جُدَّةَ فَأَخَذُوا خَشَبَهَا، وَكَانَ فِي الْكَعْبَةِ حَيَّةٌ يَخَافُهَا النَّاسُ فَخَرَجَتْ فَوْقَ جِدَارِ الْكَعْبَةِ، فَنَزَلَ طَائِرٌ فَاخْتَطَفَهَا، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: إنَّا لَنَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ سبحانه قَدْ رَضِيَ مَا أَرَدْنَا، فَهَدَمُوهَا وَبَنَوْهَا بِخَشَبِ السَّفِينَةِ، وَكَانَتْ عَلَى بِنَائِهَا إلَى أَنْ حُوصِرَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِالْمَسْجِدِ مِنَ الْحُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ وَعَسْكَرِ الشَّامِ حِينَ حَارَبُوهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ فِي زَمَنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ نَارًا فِي لِيفَةٍ عَلَى رَأْسِ رُمْحٍ وَكَانَتْ الرِّيحُ عَاصِفَةً، فَطَارَتْ شَرَارَةٌ فَتَعَلَّقَتْ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَأَحْرَقَتْهَا، فَتَصَدَّعَتْ حِيطَانُهَا وَاسْوَدَّتْ، وَتَنَاثَرَتْ أَحْجَارُهَا، فَلَمَّا مَاتَ يَزِيدُ وَانْصَرَفَ الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ شَاوَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي هَدْمِهَا وَبِنَائِهَا، فَأَشَارَ بِهِ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَأَتَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَقَالَ: لَا تَهْدِمْ بَيْتَ اللَّهِ تعالى، فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَمَا تَرَى الْحَمَامَ يَقَعُ عَلَى حِيطَانِ الْبَيْتِ فَتَتَنَاثَرُ حِجَارَتُهُ

وَيَظَلُّ أَحَدُكُمْ يَبْنِي بَيْتَهُ وَلَا يَبْنِي بَيْتَ اللَّهِ، أَلَا إنِّي هَادِمُهُ بِالْغَدَاةِ، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَوْ كَانَتْ لَنَا سِعَةٌ لَبَنَيْتُهُ عَلَى أُسِّ إبْرَاهِيمَ، وَلَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ شَرْقِيًّا وَغَرْبِيًّا" 1. وَسَأَلَ الْأَسْوَدُ هَلْ سَمِعْتَ مِنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- فِي ذَلِكَ شَيْئًا؟ فَقَالَ: نَعَمْ، أَخْبَرَتْنِي أَنَّ النَّبِيَّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قَالَ لَهَا: "إنَّ النَّفَقَةَ قَصُرَتْ بِقَوْمِكَ فَاقْتَصَرُوا، وَلَوْلَا حَدَثَانُ عَهْدِهِمْ بِالْكُفْرِ لَهَدَمْتُهُ وَأَعَدْتُ فِيهِ مَا تَرَكُوا" 2. فَاسْتَقَرَّ رَأْيُ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَلَى هَدْمِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَرْسَلَ إلَى عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ فَقِيلَ: هُوَ نَائِمٌ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ وَأَيْقَظَهُ، وَقَالَ لَهُ: أَمَا بَلَغَكَ أَنَّ النَّبِيَّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قَالَ: "إنَّ الْأَرْضَ لَتَضِجُّ إلَى اللَّهِ تعالى مِنْ نَوْمَةِ الْعُلَمَاءِ فِي الضُّحَى" 3. فَهَدَمَهَا، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنْ كُنْت هَادِمَهَا فَلَا تَدَعْ النَّاسَ بِلَا قِبْلَةٍ، فَلَمَّا هُدِّمَتْ قَالَ النَّاسُ: كَيْفَ نُصَلِّي بِغَيْرِ قِبْلَةٍ؟ فَقَالَ جَابِرٌ وَزَيْدٌ: صَلُّوا إلَى مَوْضِعِهَا فَهُوَ الْقِبْلَةُ، وَأَمَرَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِمَوْضِعِهَا فَسُتِرَ وَوُضِعَ الْحَجَرُ فِي تَابُوتٍ فِي خِرْقَةِ حَرِيرٍ، قَالَ عِكْرِمَةُ: رَأَيْتُهُ فَإِذَا هُوَ ذِرَاعٌ أَوْ يَزِيدُ، وَكَانَ جَوْفُهُ أَبْيَضَ مِثْلَ الْفِضَّةِ، وَجَعَلَ حُلِيَّ الْكَعْبَةِ عِنْدَ الْحَجَبَةِ فِي خِزَانَةِ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا أَرَادَ بِنَاءَهَا حَفَرَ مِنْ قِبَلِ الْحَطِيمِ حَتَّى اسْتَخْرَجَ أُسَّ إبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَجَمَعَ النَّاسَ، ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا أُسَّ إبْرَاهِيمَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَبَنَاهَا عَلَى أُسِّ إبْرَاهِيمَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَدْخَلَ فِيهَا الْحَجَرَ سِتَّةَ أَذْرُعٍ، وَتَرَكَ مِنْهُ أَرْبَعًا. وَقِيلَ: أَدْخَلَ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ وَتَرَكَ ثَلَاثًا، وَجَعَلَ لَهَا بَابَيْنِ مَلْصُوقَيْنِ بِالْأَرْضِ شَرْقِيًّا وَغَرْبِيًّا، يَدْخُلُ مِنْ وَاحِدٍ وَيَخْرُجُ مِنَ الْآخَرِ، وَجَعَلَ عَلَى بَابِهِمَا صَفَائِحَ الذَّهَبِ، وَجَعَلَ مَفَاتِيحَهَا مِنْ ذَهَبٍ، وَكَانَ مِمَّنْ حَضَرَ بِنَاءَهَا مِنْ رِجَالِ قُرَيْشٍ أَبُو الْجَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ الْعَدَوِيُّ، فَقَالَ: عَمِلْتُ فِي بِنَاءِ الْكَعْبَةِ مَرَّتَيْنِ، وَاحِدَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِقُوَّةِ غُلَامٍ نَفَّاعٍ، وَأُخْرَى فِي الْإِسْلَامِ بِقُوَّةِ كَبِيرٍ فَانٍ. وَذَكَرَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَجَدَ فِي الْحَجَرِ صَفَائِحَ حِجَارَةٍ خُضْرٍ قَدْ أَطْبَقَ بِهَا عَلَى قَبْرٍ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ: هَذَا قَبْرُ نَبِيِّ اللَّهِ إسْمَاعِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَكُفَّ عَنْ تَحْرِيكِ تِلْكَ الْحِجَارَةِ، ثُمَّ بَقِيَتْ الْكَعْبَةُ فِي أَيَّامِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَلَى حَالِهَا إلَى أَنْ حَارَبَهُ الْحَجَّاجُ

_ 1 صحيح: رواه البخاري في كتاب الحج " 1586"، ومسلم في كتاب الحج "1333". 2 انظر: التخريج السابق. 3 ذكره أبو المحاسن يوسف بن موسى الحنفي في معتصر المختصر "1/ 10".

وَحَصَرَهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَنَصَبَ عَلَيْهِ الْمَنْجَانِيقَاتِ إلَى أَنْ ظَفِرَ بِهِ، وَقَدْ تَصَدَّعَ بِنَاءُ الْكَعْبَةِ بِأَحْجَارِ الْمَنْجَنِيقِ فَهَدَمَهَا الْحَجَّاجُ، وَبَنَاهَا بِأَمْرِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَأَخْرَجَ الْحَجَرَ مِنْهَا، وَأَعَادَهَا إلَى بِنَاءِ قُرَيْشٍ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ الْيَوْمَ، فَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ يَقُولُ: وَدِدْت أَنِّي كُنْتُ حَمَلْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ مِنْ أَمْرِ الْكَعْبَةِ وَبِنَائِهَا مَا تَحَمَّلَهُ. وَأَمَّا كِسْوَةُ الْكَعْبَةِ: فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ أَوَّلَ مَنْ كَسَا الْبَيْتَ سَعْدُ الْيَمَانِيُّ"1، ثُمَّ كَسَاهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الثِّيَابَ الْيَمَانِيَّةَ، ثُمَّ كَسَاهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهمَا- الْقَبَاطِيَّ، ثُمَّ كَسَاهَا يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدِّيبَاجَ الْخُسْرَوَانِيَّ. وَحَكَى مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ كَسَا الْكَعْبَةَ الدِّيبَاجَ خَالِدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ، أَصَابَ لَطِيمَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَفِيهَا نَمَطُ دِيبَاجٍ فَنَاطَهُ بِالْكَعْبَةِ، ثُمَّ كَسَاهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ وَالْحَجَّاجُ الدِّيبَاجَ، ثُمَّ كَسَاهَا بَنُو أُمَيَّةَ فِي بَعْضِ أَيَّامِهِمْ الْحُلَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَى أَهْلِ نَجْرَانَ فِي حَرْبِهِمْ، وَفَوْقَهَا الدِّيبَاجُ، ثُمَّ جَدَّدَ الْمُتَوَكِّلُ رُخَامَ الْكَعْبَةِ وَأَزَرَهَا بِفِضَّةٍ، وَأَلْبَسَ سَائِرَ حِيطَانِهَا وَسَقْفِهَا بِذَهَبٍ، ثُمَّ كَسَا أَسَاطِينَهَا الدِّيبَاجَ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ كِسْوَتُهَا فِي الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ بِأَسْرِهَا. وَأَمَّا الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ فَقَدْ كَانَ فِنَاءً حَوْلَ الْكَعْبَةِ لِلطَّائِفِينَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- جِدَارٌ يُحِيطُ بِهِ، فَلَمَّا اُسْتُخْلِفَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَثُرَ النَّاسُ وَسَّعَ الْمَسْجِدَ، وَاشْتَرَى دُورًا هَدَمَهَا وَزَادَهَا فِيهِ، وَهَدَمَ عَلَى قَوْمٍ مِنْ جِيرَانِ الْمَسْجِدِ أَبَوْا أَنْ يَبِيعُوا، وَوَضَعَ لَهُمْ الْأَثْمَانَ حَتَّى أَخَذُوهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَاِتَّخَذَ لِلْمَسْجِدِ جِدَارًا قَصِيرًا دُونَ الْقَامَةِ، وَكَانَتِ الْمَصَابِيحُ تُوضَعُ عَلَيْهِ. وَكَانَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَوَّلَ مَنِ اتَّخَذَ جِدَارًا لِلْمَسْجِدِ، فَلَمَّا اسْتَخْلَفَ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- ابْتَاعَ مَنَازِلَ فَوَسَّعَ بِهَا الْمَسْجِدَ، وَأَخَذَ مَنَازِلَ أَقْوَامٍ وَوَضَعَ لَهُمْ أَثْمَانَهَا فَضَجُّوا مِنْهُ عِنْدَ الْبَيْتِ، فَقَالَ: إنَّمَا جَرَّأَكُمْ عَلَيَّ حِلْمِي عَنْكُمْ، فَقَدْ فَعَلَ بِكُمْ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- هَذَا فَأَقْرَرْتُمْ وَرَضِيتُمْ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ إلَى الْحَبْسِ حَتَّى كَلَّمَهُ فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَالِدِ بْنِ أَسَدٍ فَخَلَّى سَبِيلَهُمْ، وَبَنَى لِلْمَسْجِدِ الْأَرْوِقَةَ حِينَ وَسَّعَهُ؛ فَكَانَ عُثْمَانُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَوَّلَ مَنِ اتَّخَذَ لِلْمَسْجِدِ الْأَرْوِقَة، ثُمَّ إنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ وَسَّعَ الْمَسْجِدَ وَحَمَلَ إلَيْهِ أَعْمِدَةَ الْحِجَارَةِ وَالرُّخَامِ، ثُمَّ إنَّ الْمَنْصُورَ -رَحِمَهُ اللَّهُ- زَادَ فِي الْمَسْجِدِ وَبَنَاهُ، وَزَادَ فِيهِ الْمَهْدِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- بَعْدَهُ، وَعَلَيْهِ اسْتَقَرَّ بِنَاؤُهُ إلَى وَقْتِنَا هَذَا.

_ 1 لم أقف عليه.

وَأَمَّا مَكَّةُ فَلَمْ تَكُنْ ذَاتَ مَنَازِلَ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ بَعْدَ جُرْهُمَ وَالْعَمَالِقَةِ يَنْتَجِعُونَ جِبَالَهَا وَأَوْدِيَتَهَا، وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْ حَرَمِهَا انْتِسَابًا إلَى الْكَعْبَةِ لِاسْتِيلَائِهِمْ عَلَيْهَا، وَتَخَصُّصًا بِالْحَرَمِ لِحُلُولِهِمْ فِيهِ، وَيَرَوْنَ أَنَّهُ سَيَكُونُ لَهُمْ بِذَلِكَ شَأْنٌ، وَكَلَّمَا كَثُرَ فِيهِمُ الْعَدَدُ وَنَشَأَتْ فِيهِمُ الرِّيَاسَةُ قَوِيَ أَمَلُهُمْ، وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ سَيَتَقَدَّمُونَ عَلَى الْعَرَبِ، وَكَانَ فُضَلَاؤُهُمْ وَذَوُو الرَّأْيِ وَالتَّجْرِبَةِ مِنْهُمْ يَتَخَيَّلُونَ أَنَّ ذَلِكَ لِرِيَاسَةٍ فِي الدِّينِ وَتَأْسِيسٍ لِنُبُوَّةٍ سَتَكُونُ؛ لِأَنَّهُمْ تَمَسَّكُوا مِنْ أُمُورِ الْكَعْبَةِ بِمَا هُوَ بِالدِّينِ أَخَصُّ، فَأَوَّلُ مَنْ شَعَرَ بِذَلِكَ مِنْهُمْ وَأَلْهَمَهُ كَعْبُ بْنُ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَجْتَمِعُ إلَيْهِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ، وَكَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ يُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ عُرُوبَةً، فَسَمَّاهُ كَعْبٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَكَانَ يَخْطُبُ فِيهِ عَلَى قُرَيْشٍ فَيَقُولُ عَلَى مَا حَكَاهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: وَأَمَّا بَعْدُ، فَاسْمَعُوا وَتَعَلَّمُوا وَافْهَمُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّيْلَ سَاجٍ، وَالنَّهَارَ صَاحٍ، وَالْأَرْضَ مِهَادٌ، وَالْجِبَالَ أَوْتَادٌ، وَالسَّمَاءَ بِنَاءٌ، وَالنُّجُومَ أَعْلَامٌ، وَالْأَوَّلِينَ كَالْآخَرِينَ، وَالذَّكَرَ وَالْأُنْثَى زَوْجٌ إلَى أَنْ يَأْتِيَ مَا يَهِيجُ، فَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ، وَاحْفَظُوا أَصْهَارَكُمْ، وَثَمِّرُوا أَمْوَالَكُمْ، فَهَلْ رَأَيْتُمْ مِنْ هَالِكٍ رَجَعَ أَوْ مَيِّتٍ انْتَشَرَ، وَالدَّارُ أَمَامَكُمْ، وَالظَّنُّ غَيْرُ مَا تَقُولُونَ، حَرَمُكُمْ زَيِّنُوهُ وَعَظِّمُوهُ، وَتَمَسَّكُوا بِهِ، فَسَيَأْتِي لَهُ نَبَأٌ عَظِيمٌ، وَسَيَخْرُجُ مِنْهُ نَبِيٌّ كَرِيمٌ، ثُمَّ يَقُولُ "مِنَ الطَّوِيلِ": نَهَارٌ وَلَيْلٌ كُلَّ يَوْمٍ بِحَادِثٍ ... سَوَاءٌ عَلَيْنَا لَيْلُهَا وَنَهَارُهَا يَئُوبَانِ بِالْأَحْدَاثِ فِينَا تَأَوُّبًا ... وَبِالنِّعَمِ الضَّافِي عَلَيْنَا سُتُورُهَا صُرُوفٌ وَأَنْبَاءٌ تُقَلِّبُ أَهْلَهَا ... لَهَا عُقَدٌ مَا يَسْتَحِيلُ مَرِيرُهَا عَلَى غَفْلَةٍ يَأْتِي النَّبِيُّ مُحَمَّدٌ ... فَيُخْبِرُ أَخْبَارًا صَدُوقًا خَبِيرُهَا ثُمَّ يَقُولُ: أَمَا وَاَللَّهِ لَئِنْ كُنْتُ فِيهَا ذَا سَمْعٍ وَبَصَرٍ وَيَدٍ وَرِجْلٍ لَتَنَصَّبْتُ فِيهَا تَنَصُّبَ الْجَمَلِ، وَلَأَرْقَلْتُ فِيهَا إرْقَالَ الْفَحْلِ، ثُمَّ يَقُولُ "مِنَ الْبَسِيطِ": يَا لَيْتَنِي شَاهِدٌ فَحْوَاءَ دَعْوَتِهِ ... حِينَ الْعَشِيرَةُ تَبْغِي الْحَقَّ خِذْلَانًا وَهَذَا مِنْ فِطَنِ الْإِلْهَامَاتِ الَّتِي تَخَيَّلَتْهَا الْعُقُولُ فَصَدَقَتْ، وَتَصَوَّرَتْهَا النُّفُوسُ فَتَحَقَّقَتْ، ثُمَّ انْتَقَلَتْ الرِّيَاسَةُ بَعْدَهُ إلَى قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ، فَبَنَى بِمَكَّةَ دَارَ النَّدْوَةَ لِيَحْكُمَ فِيهَا بَيْنَ قُرَيْشٍ، ثُمَّ صَارَتِ الدَّارُ لِتَشَاوُرِهِمْ وَعَقْدِ الْأَلْوِيَةِ فِي حُرُوبِهِمْ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: فَكَانَتْ أَوَّلَ دَارٍ بُنِيَتْ بِمَكَّةَ، ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ فَبَنَوْا مِنَ الدُّورِ مَا اسْتَوْطَنُوهُ؛ وَكَلَّمَا قَرُبُوا مِنْ عَصْرِ الْإِسْلَامِ ازْدَادُوا قُوَّةً وَكَثْرَةَ

عَدَدٍ حَتَّى دَانَتْ لَهُمْ الْعَرَبُ، فَصَدَقَتْ الْمَخِيلَةُ الْأُولَى فِي الرِّيَاسَةِ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ سبحانه نَبِيَّهُ رَسُولًا، فَصَدَقَتْ الْمَخِيلَةُ الثَّانِيَةُ فِي حُدُوثِ النُّبُوَّةِ فِيهِمْ، فَآمَنَ بِهِ مَنْ هُدِيَ وَجَحَدَ مَنْ عَانَدَ، وَهَاجَرَ عَنْهُمْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ اشْتَدَّ بِهِ الْأَذَى حَتَّى عَادَ ظَافِرًا بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ مِنْ هِجْرَتِهِ عَنْهُمْ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي دُخُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ، هَلْ دَخَلَهَا عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا، مَعَ إجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَغْنَمْ مِنْهَا مَالًا، وَلَمْ يَسْبِ فِيهَا ذُرِّيَّةً، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ إلَى أَنَّهُ دَخَلَهَا عَنْوَةً فَعَفَا عَنِ الْغَنَائِمِ، وَمَنَّ عَلَى السَّبْيِ، وَإِنَّ لِلْإِمَامِ إذَا فَتَحَ بَلَدًا عَنْوَةً أَنْ يَعْفُوَ عَنْ غَنَائِمِهِ، وَيَمُنَّ عَلَى سَبْيِهِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ دَخَلَهَا صُلْحًا عَقَدَهُ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ، كَانَ الشَّرْطُ فِيهِ أَنَّ: "مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ كَانَ آمِنًا، وَمَنْ تَعَلَّقَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ"1. إلَّا سِتَّةَ أَنْفُسٍ اسْتَثْنَى قَتَلَهُمْ وَلَوْ تَعَلَّقُوا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَقَدْ مَضَى ذِكْرُهُمْ، وَلِأَجْلِ عَقْدِ الصُّلْحِ لَمْ يَغْنَمْ وَلَمْ يَسْبِ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ إذَا فَتَحَ بَلَدًا عَنْوَةً أَنْ يَعْفُوَ عَنْ غَنَائِمِهِ، وَلَا يَمُنَّ عَلَى سَبْيِهِ لِمَا فِيهِمَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تعالى وَحُقُوقِ الْغَانِمِينَ، فَصَارَتْ مَكَّةُ وَحَرَمُهَا حِينَ لَمْ تُغْنَمْ أَرْضَ عُشْرٍ إنْ زُرِعَتْ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُوضَعَ عَلَيْهَا خَرَاجٌ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَيْعِ دُورِ مَكَّةَ وَإِجَارَتِهَا، فَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ بَيْعِهَا وَأَجَازَ إجَارَتَهَا فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْحَجِّ، وَمَنَعَ مِنْهُمَا فِي أَيَّامِ الْحَجِّ لِرِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَكَّةُ حَرَامٌ لَا يَحِلُّ بَيْعُ رِبَاعِهَا وَلَا أُجُورُ بُيُوتِهَا" 2.

_ 1 لم أقف عليه بهذا اللفظ. 2 رواه ابن أبي شيبة في مصنفه "14679". قال الحافظ ابن حجر: رواه الدارقطني والحاكم من حديث أبي حنيفة عن عبيد الله بن أبي يزيد عن أبي نجيح عن عبد الله بن عمر رفعه: إن الله تعالى حرم مكة، فحرام بيع رباعها وأكل ثمنها، وقال: من أكل من أجر بيوت مكة شيئًا فإنما يأكل نارًا، وفي رواية الدارقطني: مكة حرام وحرام بيع رباعها وحرام أجر بيوتها. قال الدارقطني: وَهِمَ أبو حنيفة في قوله ابن يزيد، وإنما هو ابن أبي زياد، وهو القداح وفي رفعه، وإنما هو موقوف، ثم أخرجه من طريق عيسى بن يونس عن عبيد الله بن أبي زياد كذلك. انتهى، وقد رواه القاسم بن الحكم عن أبي حنيفة فقال عن عبيد الله بن أبي زياد، فالوهم فيه من محمد بن الحسن راوية أولًا =

وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- إلَى جَوَازِ بَيْعِهَا وَإِجَارَتِهَا؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَقَرَّهُمْ عَلَيْهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ بَعْدَمَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَهُ، وَلَمْ يَغْنَمْهَا وَلَمْ يُعَارِضْهُمْ فِيهَا، وَقَدْ كَانُوا يَتَبَايَعُونَهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَكَذَلِكَ بَعْدَهُ، هَذِهِ دَارُ النَّدْوَةِ، وَهِيَ أَوَّلُ دَارٍ بُنِيَتْ بِمَكَّةَ صَارَتْ بَعْدَ قُصَيٍّ لِعَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ، وَابْتَاعَهَا مُعَاوِيَةُ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ، وَجَعَلَهَا دَارَ الْإِمَارَةِ، وَكَانَتْ مِنْ أَشْهَرِ دَارٍ اُبْتِيعَتْ ذِكْرًا وَأَنْشَرَهَا فِي النَّاسِ خَبَرًا، فَمَا أَنْكَرَ بَيْعَهَا أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَابْتَاعَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- مَا زَادَاهُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ دُورِ مَكَّةَ، وَتَمَلَّكَ أَهْلَهَا أَثْمَانَهَا، وَلَا حَرَّمَ ذَلِكَ لِمَا بَذَلَاهُ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ جَرَى بِهِ الْعَمَلُ إلَى وَقْتِنَا هَذَا، فَكَانَ إجْمَاعًا مَتْبُوعًا. وَتُحْمَلُ رِوَايَةُ مُجَاهِدٍ -مَعَ إرْسَالِهَا- عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ بَيْعُ رِبَاعِهَا عَلَى أَهْلِهَا، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا لَمْ تُغْنَمْ، فَتُمْلَكَ عَلَيْهِمْ فَلِذَلِكَ لَمْ تُبَعْ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْإِجَارَةِ. فصل: أَمَّا الْحَرَمُ فَهُوَ مَا أَطَافَ بِمَكَّةَ مِنْ جَوَانِبِهَا، وَحَدُّهُ مِنْ طَرِيقِ الْمَدِينَةِ دُونَ التَّنْعِيمِ عِنْدَ بُيُوتِ بَنِي نِفَارٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، وَمِنْ طَرِيقِ الْعِرَاقِ عَلَى ثَنِيَّةِ جَبَلٍ بِالْمُنْقَطِعِ عَلَى سَبْعَةِ أَمْيَالٍ، وَمِنْ طَرِيقِ الْجِعْرَانَةِ بِشُعَبِ آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ عَلَى تِسْعَةِ أَمْيَالٍ، وَمِنْ طَرِيقِ الطَّائِفِ عَلَى عَرَفَةَ مِنْ بَطْنِ نَمِرَةَ عَلَى سَبْعَةِ أَمْيَالٍ، وَمِنْ طَرِيقِ جُدَّةَ مُنْقَطِعُ الْعَشَائِرِ عَلَى عَشَرَةِ أَمْيَالٍ، فَهَذَا

_ = عن أبي حنيفة، وكذلك أخرجه الدارقطني لكنَّه في كتاب الآثار قال: عن أبي حنيفة عن عبيد الله بن أبي زياد على الصواب، وقد رفعه أيمن ابن أم نابل عن عبيد الله بن أبي زياد أيضًا، فلم ينفرد أبو حنيفة برفعه، أخرجه الدارقطني أيضًا في أواخر الحج، وله طريق أخرى أخرجها الدارقطني والحاكم من رواية إسماعيل بن مهاجر عن أبيه عن عبد الله بن باباه عن عبد الله بن عمر رفعه: مكة مناخ لا تباع رباعها ولا تؤاجر بيوتها. قال البخاري: منكر الحديث، وفي ترجمته أخرجه ابن عدي والعقيلي في الضعفاء. وفي الباب من مرسل مجاهد: مكة حرام حرمها الله تعالى، لا يحل بيع رباعها ولا إجارة بيوتها. أخرجه ابن أبي شيبة، وعن معمر عن ليث عن مجاهد وعطاء وطاوس قالوا: كانوا يكرهون بيع شيء من رباع مكة. وروى عبد الرزاق عن ابن جريج: كان عطاء ينهى في الحرم ويقول: إن عمر كان ينهى أن تبوَّب دور مكة لئلَّا ينزل الحاج في عرصاتها، فكان أول من بوَّب داره سهيل بن عمرو فلامه عمر فقال: إني رجل تاجر، فأردت أن أتخذ بابًا يحبس ظهري، قال: فلا إذًا. ومن طريق مجاهد أن عمر قال: يا أهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبوابًا لينزل البادي حيث شاء، وعن معمر أخبرني بعض أهل مكة: لقد استخلف معاوية وما لدار مكة باب. [الدراية في تخريج أحاديث الهداية: 2/ 236] .

حَدُّ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَرَمًا لِمَا اخْتَصَّ بِهِ مِنَ التَّحْرِيمِ، وَبَايَنَ بِحُكْمِهِ سَائِرَ الْبِلَادِ. قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} [البقرة: 126] . يَعْنِي: مَكَّةَ وَحَرَمَهَا، {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 126] ؛ لِأَنَّهُ كَانَ وَادِيًا غَيْرَ ذِي زَرْعٍ، فَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ لِأَهْلِهِ الْأَمْنَ وَالْخِصْبَ؛ لِيَكُونُوا بِهِمَا فِي رَغَدٍ مِنْ الْعَيْشِ، فَأَجَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى مَا سَأَلَ، فَجَعَلَهُ حَرَمًا آمِنًا يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِ، وَجَبَا إلَيْهِ ثَمَرَاتِ كُلِّ بَلَدٍ حَتَّى جَمَعَهَا فِيهِ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا، هَلْ صَارَتْ حَرَمًا آمِنًا بِسُؤَالِ إبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوْ كَانَتْ قَبْلَهُ كَذَلِكَ، عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّهَا لَمْ تَزَلْ حَرَمًا آمِنًا بِسُؤَالِ إبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنَ الْجَبَابِرَةِ وَالْمُسَلَّطِينَ وَمِنَ الْخُسُوفِ وَالزَّلَازِلِ، وَإِنَّمَا سَأَلَ إبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- رَبَّهُ سبحانه أَنْ يَجْعَلَهُ حَرَمًا آمِنًا مِنَ الْجَدْبِ وَالْقَحْطِ، وَأَنْ يَرْزُقَ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ؛ لِرِوَايَةِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيَّ يَقُولُ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ قَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّ اللَّهَ سبحانه حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهِيَ حَرَامٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا أَوْ يَعْضُدَ بِهَا شَجَرًا، وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَلَمْ تَحِلَّ لِي إلَّا هَذِهِ السَّاعَةَ غَضَبًا عَلَى أَهْلِهَا، أَلَا وَهِيَ قَدْ رَجَعَتْ عَلَى حَالِهَا بِالْأَمْسِ، أَلَا لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَمَنْ قَالَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَدْ قَتَلَ بِهَا أَحَدًا فَقُولُوا: إنَّ اللَّهَ تعالى قَدْ أَحَلَّهَا لِرَسُولِهِ وَلَمْ يُحِلَّهَا لَكَ" 1. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ مَكَّةَ كَانَتْ حَلَالًا قَبْلَ دَعْوَةِ إبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَسَائِرِ الْبِلَادِ، وَإنَّهَا صَارَتْ بِدَعْوَتِهِ حَرَمًا آمِنًا حِينَ حَرَّمَهَا، كَمَا صَارَتِ الْمَدِينَةُ بِتَحْرِيمِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَرَامًا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ حَلَالًا؛ لِرِوَايَةِ الْأَشْعَثِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن إبراهيم كان عبد الله وخليله وإني عبد الله ورسوله، وإن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها عضاها وصيدها، لا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يقطع منها شجرة إلا لعلف بعير، ولا ينفر صيدها". وَاَلَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ الْحَرَمُ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي تُبَايِنُ بِهَا سَائِرَ الْبِلَادِ خَمْسَةُ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: إنَّ الْحَرَمَ لَا يَدْخُلُهُ مُحِلٌّ قَدِمَ إلَيْهِ حَتَّى يُحْرِمَ لِدُخُولِهِ، إمَّا بِحَجٍّ أَوْ بِعُمْرَةٍ يَتَحَلَّلُ بِهَا مِنْ إحْرَامِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَهَا الْمُحِلُّ إذَا لَمْ يُرِدْ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً، وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ حَلَالًا: "أُحِلَّتْ لِي سَاعَةٌ مِنْ نَهَارٍ لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ بَعْدِي" 2، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْإِحْرَامِ عَلَى دَاخِلِهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَكْثُرُ

_ 1 رواه البخاري في كتاب العلم "104"، ومسلم في كتاب الحج "1354". 2 سبق تخريجه.

الدُّخُولُ إلَيْهَا لِمَنَافِعِ أَهْلِهَا؛ كَالْحَطَّابِينَ وَالسَّقَّايِينَ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ مِنْهَا غُدْوَةً وَيَعُودُونَ إلَيْهَا عَشِيَّةً، فَيَجُوزُ لَهُمْ دُخُولُهَا مُحَلِّينَ لِدُخُولِ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ فِي الْإِحْرَامِ كُلَّمَا دَخَلُوا، فَإِنَّ عُلَمَاءَ مَكَّةَ أَقَرُّوهُمْ عَلَى دُخُولِهَا مُحَلِّينَ، فَخَالَفُوا حُكْمَ مَنْ عَدَاهُمْ، فَإِنْ دَخَلَ الْقَادِمُ إلَيْهَا حَلَالًا فَقَدْ أَثِمَ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا دَمَ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ مُتَعَذَّرٌ، فَإِنَّهُ إذَا خَرَجَ لِلْقَضَاءِ كَانَ إحْرَامُهُ الَّذِي يَسْتَأْنِفُهُ مُخْتَصًّا بِدُخُولِهِ الثَّانِي، فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ قَضَاءً عَنْ دُخُولِهِ الْأَوَّلِ، فَتَعَذَّرَ الْقَضَاءُ وَأَعْوَزَ فَسَقَطَ، فَأَمَّا الدَّمُ فَلَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ الدَّمَ يَلْزَمُ جُبْرَانَ النُّسُكِ، وَلَا يَلْزَمُ جُبْرَانًا لِأَصْلِ النُّسُكِ. وَالْحُكْمُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُحَارَبَ أَهْلُهَا؛ لِتَحْرِيمِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قِتَالَهُمْ، فَإِنْ بَغَوْا عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ فَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إلَى تَحْرِيمِ قِتَالِهِمْ مَعَ بَغْيِهِمْ، وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَرْجِعُوا عَنْ بَغْيِهِمْ، وَيَدْخُلُوا فِي أَحْكَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ عَلَى بَغْيِهِمْ إذَا لَمْ يُمْكِنْ رَدُّهُمْ عَنِ الْبَغْيِ إلَّا بِقِتَالٍ؛ لِأَنَّ قِتَالَ أَهْلِ الْبَغْيِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تعالى الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ تُضَاعَ؛ وَلَأَنْ تَكُونَ مَحْفُوظَةً فِي حَرَمِهِ أَوْلَى مِنْ أَنْ تَكُونَ مُضَاعَةً فِيهِ. فَأَمَّا إقَامَةُ الْحُدُودِ فِي الْحَرَمِ: فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- إلَى أَنَّهَا تُقَامُ فِيهِ عَلَى مَنْ أَتَاهَا، وَلَا يَمْنَعُ الْحَرَمُ مِنْ إقَامَتِهَا، سَوَاءٌ أَتَاهَا فِي الْحَرَمِ أَوْ فِي الْحِلِّ ثُمَّ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ أَتَاهَا فِي الْحَرَمِ أُقِيمَتْ فِيهِ، وَإِنْ أَتَاهَا فِي الْحِلِّ ثُمَّ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ فِيهِ، وَأُلْجِئَ إلَى الْخُرُوجِ مَعَهُ، فَإِذَا خَرَجَ أُقِيمَتْ عَلَيْهِ. وَالْحُكْمُ الثَّالِثُ: تَحْرِيمُ صَيْدِهِ عَلَى الْمُحْرِمِينَ وَالْمُحِلِّينَ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ وَمَنْ طَرَأَ إلَيْهِ، فَإِنْ أَصَابَ فِي صَيْدِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ إرْسَالُهُ، فَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ ضَمِنَهُ بِالْجَزَاءِ كَالْمُحْرِمِ، وَهَكَذَا لَوْ رَمَى مِنَ الْحَرَمِ صَيْدًا فِي الْحِلِّ ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ قَاتِلٌ فِي الْحَرَمِ. وَهَكَذَا لَوْ رَمَى مِنَ الْحِلِّ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ مَقْتُولٌ فِي الْحَرَمِ. وَلَا صَيْدَ فِي الْحِلِّ ثُمَّ أُدْخِلَ الْحَرَمَ كَانَ حَلَالًا لَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ، وَحَرَامًا عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا يَحْرُمُ قَتْلُ مَا كَانَ مُؤْذِيًا مِنَ السِّبَاعِ وَحَشَرَاتِ الْأَرْضِ. وَالْحُكْمُ الرَّابِعُ: يَحْرُمُ قَطْعُ شَجَرِهِ الَّذِي أَنْبَتَهُ اللَّهُ تعالى، وَلَا يَحْرُمُ قَطْعُ مَا غَرَسَهُ الْآدَمِيُّونَ، كَمَا لَا يَحْرُمُ فِيهِ ذَبْحُ الْأَنِيسِ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَلَا يَحْرُمُ رَعْيُ خَلَاهُ، وَيَضْمَنُ مَا قَطَعَهُ

مِنْ مَحْظُورِ شَجَرِهِ، فَيَضْمَنُ الشَّجَرَةَ الْكَبِيرَةَ بِبَقَرَةٍ، وَالشَّجَرَةَ الصَّغِيرَةَ بِشَاةٍ، وَالْغُصْنَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسْقِطُهُ مِنْ ضَمَانِ أَصْلِهِ، وَلَا يَكُونُ مَا اسْتَخْلَفَ بَعْدَ قَطْعِ الْأَصْلِ مُسْقِطًا لِضَمَانِ الْأَصْلِ. الْحُكْمُ الْخَامِسُ: أَنْ لَيْسَ لِجَمِيعِ مَنْ خَالَفَ دِينَ الْإِسْلَامِ مِنْ ذِمِّيٍّ أَوْ مُعَاهَدٍ أَنْ يَدْخُلَ الْحَرَمَ لَا مُقِيمًا فِيهِ وَلَا مَارًّا بِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ. وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ دُخُولَهُمْ إلَيْهِ إذَا لَمْ يَسْتَوْطِنُوهُ، وَفِي قَوْله تعالى: {إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] . نَصٌّ يَمْنَعُ مَا عَدَاهُ، فَإِنْ دَخَلَهُ مُشْرِكٌ عُزِّرَ إنْ دَخَلَهُ بِغَيْرِ إذْنٍ، وَلَمْ يَسْتَبِحْ قَتْلَهُ، وَإِنْ دَخَلَهُ بِإِذْنٍ لَمْ يُعَزَّرْ، وَأُنْكِرَ عَلَى الْآذِنِ لَهُ، وَعُزِّرَ إنِ اقْتَضَتْ حَالُهُ التَّعْزِيرَ، وَأُخْرِجَ مِنْهُ الْمُشْرِكُ آمِنًا، وَإِذَا أَرَادَ مُشْرِكٌ دُخُولَ الْحَرَمِ لِيُسْلِمَ فِيهِ مُنِعَ مِنْهُ حَتَّى يُسْلِمَ قَبْلَ دُخُولِهِ، وَإِذَا مَاتَ مُشْرِكٌ فِي الْحَرَمِ حَرُمَ دَفْنُهُ فِيهِ وَدُفِنَ فِي الْحِلِّ، فَإِنْ دُفِنَ فِي الْحَرَمِ نُقِلَ إلَى الْحِلِّ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ بَلِيَ فَيُتْرَكُ فِيهِ كَمَا تُرِكَتْ أَمْوَاتُ الْجَاهِلِيَّةِ. وَأَمَّا سَائِرُ الْمَسَاجِدِ فَيَجُوزُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُمْ فِي دُخُولِهَا مَا لَمْ يُقْصَدْ بِالدُّخُولِ اسْتِبْذَالُهَا بِأَكْلٍ أَوْ نَوْمٍ فَيُمْنَعُوا. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُمْ فِي دُخُولِهَا بِحَالٍ.

فَصْلٌ: وَأَمَّا الْحِجَازُ فَقَدْ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: سُمِّيَ حِجَازًا لِأَنَّهُ حَجَزَ بَيْنَ نَجْدٍ وَتِهَامَةَ، وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: سُمِّيَ حِجَازًا لِمَا احْتَجَزَ بِهِ مِنَ الْجِبَالِ. وَمَا سِوَى الْحَرَمِ مِنْهُ مَخْصُوصٌ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ بِأَرْبَعَةِ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَسْتَوْطِنَهُ مُشْرِكٌ مِنْ ذِمِّيٍّ وَلَا مُعَاهَدٍ، وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَدْ رَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ- عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: "كَانَ آخِرُ مَا عَهِدَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ قَالَ: "لَا يَجْتَمِعُ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ" 1. وَأَجْلَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَهْلَ الذِّمَّةِ عَنِ الْحِجَازِ، وَضَرَبَ لِمَنْ قَدِمَ مِنْهُمْ تَاجِرًا أَوْ صَانِعًا مَقَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَيَخْرُجُونَ بَعْدَ انْقِضَائِهَا، فَجَرَى بِهِ الْعَمَلُ وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْحُكْمُ، فَمَنَعَ أَهْلَ الذِّمَّةِ مِنِ اسْتِيطَانِ الْحِجَازِ، وَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ دُخُولِهِ، وَلَا يُقِيمُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ فِي مَوْضِعٍ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَإِذَا انْقَضَتْ صُرِفَ عَنْ مَوْضِعِهِ، وَجَازَ أَنْ يُقِيمَ فِي غَيْرِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ يُصْرَفَ إلَى غَيْرِهِ. فَإِنْ أَقَامَ بِمَوْضِعٍ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عُزِّرَ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا.

_ 1 صحيح: رواه أحمد "25820"، وقال الزيلعي: رواه إسحاق بن راهويه في مسنده، أخبرنا النضر بن شميل، ثنا صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في مرضه الذي توفِّي فيه: "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب" وفيه قصة. ورواه عبد الرزاق في مصنَّفه في كتاب أهل الكتاب: أخبرنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمع بأرض العرب -أوقال- بأرض الحجاز دينان" ورواه في الزكاة، وزاد فيه، فقال عمر لليهود: من كان منكم عنده عهد من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فليأت به، وإلَّا فإني مجليكم، قال: فأجلاهم عمر، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك في مرض موته. انتهى. ورواه ابن هشام في السيرة عن ابن إسحاق، حدثني صالح بن كيسان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة قالت: كان آخر ما عهد به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن لا يترك بجزيرة العرب دينان. انتهى. قال الدارقطني في علله: وهذا حديث صحيح, انتهى. ورواه مالك في الموطأ: قال أبو مصعب: أخبرنا مالك عن ابن شهاب، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب" قال مالك: قال ابن شهاب: ففحص عن ذلك عمر بن الخطاب حتى أتاه اليقين أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب" فأجلى زفر خيبر وأجلى زفر نجران وفدك. [نصب الراية: 3/ 454] .

وَالْحُكْمُ الثَّانِي: أَنْ لَا تُدْفَنَ أَمْوَاتُهُمْ وَيُنْقَلُوا إنْ دُفِنُوا فِيهِ إلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ دَفْنَهُمْ مُسْتَدَامٌ فَصَارَ كَالِاسْتِيطَانِ، إلَّا أَنْ يَبْعُدَ مَسَافَةُ إخْرَاجِهِمْ مِنْهُ وَيَتَغَيَّرُوا إنْ أُخْرِجُوا، فَيَجُوزُ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ أَنْ يُدْفَنُوا فِيهِ. وَالْحُكْمُ الثَّالِثُ: إنَّ لِمَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْحِجَازِ حَرَمًا مَحْظُورًا، مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا يُمْنَعُ مِنْ تَنْفِيرِ صَيْدِهِ وَعَضُدِ شَجَرِهِ كَحَرَمِ مَكَّةَ، وَأَبَاحَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَجَعَلَ الْمَدِينَةَ كَغَيْرِهَا، وَفِيمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَرَمَ الْمَدِينَةِ مَحْظُورٌ، فَإِنْ قَتَلَ صَيْدَهُ وَعَضَدَ شَجَرَهُ فَقَدْ قِيلَ: إنَّ جَزَاءَهُ سَلْبُ ثِيَابِهِ، وَقِيلَ: تَعْزِيرُهُ. وَالْحُكْمُ الرَّابِعُ: إنَّ أَرْضَ الْحِجَازِ تَنْقَسِمُ لِاخْتِصَاصِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِفَتْحِهَا قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: صَدَقَاتُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّتِي أَخَذَهَا بِحَقَّيْهِ، فَإِنَّ أَحَدَ حَقَّيْهِ خُمُسُ الْخُمُسِ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنَائِمِ. وَالْحَقُّ الثَّانِي: أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ الَّذِي أَفَاءَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِمَّا لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، فَمَا صَارَ إلَيْهِ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْحَقَّيْنِ، فَقَدْ رَضَخَ مِنْهُ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ، وَتَرَكَ بَاقِيَهُ لِنَفَقَتِهِ وَصِلَاتِهِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى مَاتَ عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حُكْمِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَجَعَلَهُ قَوْمٌ مَوْرُوثًا عَنْهُ وَمَقْسُومًا عَلَى الْمَوَارِيثِ مِلْكًا، وَجَعَلَهُ آخَرُونَ لِلْإِمَامِ الْقَائِمِ مَقَامَهُ فِي حِمَايَةِ الْبَيْضَةِ وَجِهَادِ الْعَدُوِّ. وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهَا صَدَقَاتٌ مُحَرَّمَةُ الرِّقَابِ، مَخْصُوصَةُ الْمَنَافِعِ مَصْرُوفَةٌ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَمَا سِوَى صَدَقَاتِهِ أَرْضُ عُشْرٍ لَا خَرَاجَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا مَا بَيْنَ مَغْنُومٍ مُلِكَ عَلَى أَهْلِهِ، أَوْ مَتْرُوكٍ لِمَنْ أَسْلَمَ عَلَيْهِ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مَعْشُورٌ لَا خَرَاجَ عَلَيْهِ. فَأَمَّا صَدَقَاتُ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فَهِيَ مَحْصُورَةٌ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ عَنْهَا فَتَعَيَّنَتْ، وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ: إحْدَاهَا: وَهِيَ أَوَّلُ أَرْضٍ مَلَكَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصِيَّةُ مُخَيْرِيقٍ الْيَهُودِيِّ مِنْ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ، حَكَى الْوَاقِدِيُّ أَنَّ مُخَيْرِيقًا الْيَهُودِيَّ كَانَ حَبْرًا مِنْ عُلَمَاءِ بَنِي النَّضِيرِ، آمَنَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ أُحُدٍ، وَكَانَتْ لَهُ سَبْعَةُ حَوَائِطَ وَهِيَ: الْمَبِيتُ وَالصَّافِيَةُ وَالدَّلَّالُ وَجَسَّنِي وَبُرْقَةَ وَالْأَعْرَافُ وَالْمُسَرَّبَةُ، فَوَصَّى بِهَا لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ أَسْلَمَ، وَقَاتَلَ مَعَهُ بِأُحُدٍ حَتَّى قُتِلَ -رَحِمَهُ اللَّهُ.

وَالصَّدَقَةُ الثَّانِيَةُ: أَرْضُهُ مِنْ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ بِالْمَدِينَةِ، وَهِيَ أَوَّلُ أَرْضٍ أَفَاءَهَا اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، فَأَجْلَاهُمْ عَنْهَا وَكَفَّ عَنْ دِمَائِهِمْ، وَجَعَلَ لَهُمْ مَا حَمَلَتْهُ الْإِبِلُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ إلَّا الْحَلَقَةَ، وَهِيَ السِّلَاحُ، فَخَرَجُوا بِمَا اسْتَقَلَّتْ إبِلُهُمْ إلَى خَيْبَرَ وَالشَّامِ، وَخَلَصَتْ أَرْضُهُمْ كُلُّهَا لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلَّا مَا كَانَ لِيَمِينِ بْنِ عُمَيْرٍ وَأَبِي سَعْدِ بْنِ وَهْبٍ، فَإِنَّهُمَا أَسْلَمَا قَبْلَ الظَّفَرِ، فَأَحْرَزَ لَهُمَا إسْلَامُهُمَا جَمِيعَ أَمْوَالِهِمَا، ثُمَّ قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا سِوَى الْأَرْضَيْنِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ دُونَ الْأَنْصَارِ، إلَّا سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ، وَأَبَا دُجَانَةَ -سِمَاكَ بْنَ خَرَشَةَ- فَإِنَّهُمَا ذَكَرَا فَقْرًا فَأَعْطَاهُمَا، وَحَبَسَ الْأَرْضَيْنِ عَلَى نَفْسِهِ، فَكَانَتْ مِنْ صَدَقَاتِهِ يَضَعُهَا حَيْثُ يَشَاءُ، وَيُنْفِقُ مِنْهَا عَلَى أَزْوَاجِهِ، ثُمَّ سَلَّمَهَا عُمَرُ إلَى الْعَبَّاسِ وَعَلِيٍّ -رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا؛ لِيَقُومَا بِمَصْرِفِهَا. وَالصَّدَقَةُ الثَّالِثَةُ والرابعَةُ وَالْخَامِسَةُ: ثَلَاثَةُ حُصُونٍ مِنْ خَيْبَرَ، وَكَانَتْ ثَمَانِيَةَ حُصُونٍ: نَاعِمَ وَالْقُمُوصَ وَشَقَّ وَالنَّطَاةَ وَالْكَتِيبَةَ وَالْوَطْبَحَ وَالسَّلَالِمَ وَحِصْنَ الصَّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ، وَكَانَ أَوَّلَ حِصْنٍ فَتَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْهَا نَاعِمٌ، وَعَنْهُ قُتِلَ مَحْمُودُ بْنُ مَسْلَمَةَ أَخُو مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، وَالثَّانِي الْقُمُوصُ، وَهُوَ حِصْنُ ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ، وَمِنْ سَبْيِهِ اصْطَفَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، وَكَانَتْ عِنْدَ كِنَانَةَ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحَقِيقِ، فَأَعْتَقَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَزَوَّجَهَا، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا، ثُمَّ حِصْنَ الصَّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ، وَكَانَ أَعْظَمَ حُصُونِ خَيْبَرَ وَأَكْثَرَهَا مَالًا وَطَعَامًا وَحَيَوَانًا، ثُمَّ شَقَّ وَالنَّطَاةَ وَالْكَتِيبَةَ، فَهَذِهِ الْحُصُونُ السِّتَّةُ فُتِحَتْ عَنْوَةً، ثُمَّ افْتَتَحَ الْوَطْبَحَ وَالسَّلَالِمَ، وَهِيَ آخِرُ فُتُوحِ خَيْبَرَ صُلْحًا بَعْدَ أَنْ حَاصَرَهُمْ بِضْعَ عَشْرَ لَيْلَةَ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ وَيَحْقِنَ لَهُمْ دِمَاءَهُمْ فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَمَلَكَ مِنْ هَذِهِ الْحُصُونِ الثَّمَانِيَةِ ثَلَاثَةَ حُصُونٍ: الْكَتِيبَةَ وَالْوَطْبَحَ وَالسَّلَالِمَ. أَمَّا الْكَتِيبَةُ فَأَخَذَهَا بِخُمُسِ الْغَنِيمَةِ، وَأَمَّا الْوَطْبَحُ وَالسَّلَالِمُ فَهُمَا مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فَتَحَهَا صُلْحًا، فَصَارَتْ هَذِهِ الْحُصُونُ الثَّلَاثَةُ بِالْفَيْءِ وَالْخُمُسِ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَصَدَّقَ بِهَا وَكَانَتْ مِنْ صَدَقَاتِهِ، وَقَسَّمَ الْخَمْسَةَ الْبَاقِيَةَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَفِي جُمْلَتِهَا وَادِي خَيْبَرَ وَوَادِي السَّرِيرِ وَوَادِي حَاضِرٍ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَكَانَتْ عِدَّةُ مَنْ قُسِمَتْ عَلَيْهِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَهُمْ أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ مَنْ شَهِدَ مِنْهُمْ خَيْبَرَ وَمَنْ غَابَ عَنْهَا، وَلَمْ يَغِبْ عَنْهَا إلَّا جَابِرُ

ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَسَمَ لَهُ كَسَهْمِ مَنْ حَضَرَهَا، وَكَانَ فِيهِمْ مِائَتَا فَارِسٍ أَعْطَاهُمْ سِتَّمِائَةِ سَهْمٍ، وَأَلْفٌ وَمِائَتَا سَهْمٍ لِأَلْفٍ وَمِائَتَيْ رَجُلٍ، فَكَانَتْ سِهَامُ جَمِيعِهِمْ أَلْفًا وَثَمَانِمِائَةِ سَهْمٍ، أَعْطَى لِكُلِّ مِائَةٍ سَهْمًا، فَلِذَلِكَ صَارَتْ خَيْبَرُ مَقْسُومَةً عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا. وَالصَّدَقَةُ السَّادِسَةُ: النِّصْفُ مِنْ فَدَكَ، فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا فَتَحَ خَيْبَرَ جَاءَهُ أَهْلُ فَدَكَ فَصَالَحُوهُ بِسِفَارَةِ مُحَيِّصَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَلَى أَنَّ لَهُ نِصْفَ أَرْضِهِمْ وَنَخْلِهِمْ يُعَامِلُهُمْ عَلَيْهِ، وَلَهُمْ النِّصْفُ الْآخَرُ، فَصَارَ النِّصْفُ مِنْهَا مِنْ صَدَقَاتِهِ، مُعَامَلَةً مَعَ أَهْلِهَا بِالنِّصْفِ مِنْ ثَمَرَتِهَا، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ خَالِصًا لَهُمْ، إلَى أَنْ أَجَلَاهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِيمَنْ أَجْلَاهُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَنِ الْحِجَازِ، فَقَوَّمَ فَدَكَ وَدَفَعَ إلَيْهِمْ نِصْفَ الْقِيمَةِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ سِتِّينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَكَانَ الَّذِي قَوَّمَهَا مَالِكُ ابْنُ التَّيْهَانِ وَسَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، فَصَارَ نِصْفُهَا مِنْ صَدَقَاتِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنِصْفُهَا الْآخَرُ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَصْرِفُ النِّصْفَيْنِ الْآنَ سَوَاءٌ. وَالصَّدَقَةُ السَّابِعَةُ: الثُّلُثُ مِنْ أَرْضِ وَادِي الْقُرَى؛ لِأَنَّ ثُلُثَهَا كَانَ لِبَنِي عُذْرَةَ وَثُلُثَيْهَا لِلْيَهُودِ، فَصَالَحَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عَلَى نِصْفِهِ، فَصَارَتْ أَثْلَاثًا؛ ثُلُثُهَا لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هُوَ مِنْ صَدَقَاتِهِ، وَثُلُثُهَا لِلْيَهُودِ، وَثُلُثُهَا لِبَنِي عُذْرَةَ إلَى أَنْ أَجَلَاهُمْ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْهَا، وَقَوَّمَ فِيهَا فَبَلَغَتْ قِيمَتُهُ تِسْعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ فَدَفَعَهَا إلَيْهِمْ، وَقَالَ لِبَنِي عُذْرَةَ: إنْ شِئْتُمْ أَدَّيْتُمْ نِصْفَ مَا أَعْطَيْتُ وَنُعْطِيكُمْ النِّصْفَ، فَأَعْطَوْهُ وَهُوَ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَصَارَ نِصْفُ الْوَادِي لِبَنِي عُذْرَةَ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ الثُّلُثُ مِنْهُ فِي صَدَقَاتِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالسُّدُسُ مِنْهُ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَصْرِفُ جَمِيعِ النِّصْفِ سَوَاءٌ. وَالصَّدَقَةُ الثَّامِنَةُ: مَوْضِعُ سُوقٍ بِالْمَدِينَةِ يُقَالُ لَهُ: مَهْرُوذٌ، اسْتَقْطَعَهَا مَرْوَانُ مِنْ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَنَقَمَ النَّاسُ بِهَا عَلَيْهِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ إقْطَاعَ تَضْمِينٍ لَا تَمْلِيكٍ؛ لِيَكُونَ لَهُ فِي الْجَوَازِ وَجْهٌ، فَهَذِهِ ثَمَانِ صَدَقَاتٍ حَكَاهَا أَهْلُ السِّيَرِ وَنَقَلَهَا وُجُوهُ رُوَاةِ الْمَغَازِي، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا. فَأَمَّا مَا سِوَى هَذِهِ الصَّدَقَاتِ الثَّمَانِيَةِ مِنْ أَمْوَالِهِ، فَقَدْ حَكَى الْوَاقِدِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَرِثَ مِنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ أُمَّ أَيْمَنَ الْحَبَشِيَّةَ وَاسْمُهَا بَرَكَةُ، وَخَمْسَةَ أَجْمَالٍ وَقِطْعَةً مِنْ غَنَمٍ، وَقِيلَ: وَمَوْلَاهُ شُقْرَانَ وَابْنَهُ صَالِحًا وَقَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَوَرِثَ مِنْ أُمِّهِ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ الزُّهْرِيَّةَ دَارَهَا

الَّتِي وُلِدَ فِيهَا فِي شِعْبِ بَنِي عَلِيٍّ، وَوَرِثَ مِنْ زَوْجَتِهِ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- دَارَهَا بِمَكَّةَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ خَلْفَ سُوقِ الْعَطَّارِينَ وَأَمْوَالًا، وَكَانَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ اشْتَرَى لِخَدِيجَةَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ مِنْ سُوقِ عُكَاظٍ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَاسْتَوْهَبَهُ مِنْهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَعْتَقَهُ وَزَوَّجَهُ أُمَّ أَيْمَنَ، فَوَلَدَتْ أُمُّ أَيْمَنُ أُسَامَةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ، فَأَمَّا الدَّارَانِ فَإِنَّ عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بَاعَهُمَا بَعْدَ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ قِيلَ لَهُ: فِي أَيِّ دَارَيْكَ تَنْزِلُ؟ فَقَالَ: هَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رَبْعٍ، فَلَمْ يَرْجِعْ فِيمَا بَاعَهُ عَقِيلٌ؛ لِأَنَّهُ تَغَلَّبَ عَلَيْهِ وَمَكَّةُ دَارُ حَرْبٍ يَوْمَئِذٍ، فَأَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَ الْمُسْتَهْلَكِ، فَخَرَجَتْ هَاتَانِ الدَّارَانِ مِنْ صَدَقَاتِهِ. وَأَمَّا دُورُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فَقَدْ كَانَ أَعْطَى كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ الدَّارَ الَّتِي يَسْكُنُهَا، وَوَصَّى بِذَلِكَ لَهُنَّ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عَطِيَّةَ تَمْلِيكٍ فَهِيَ خَارِجَةٌ مِنْ صَدَقَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ عَطِيَّةَ سُكْنَى وَإِرْفَاقٍ فَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ صَدَقَاتِهِ، وَقَدْ دَخَلَتْ الْيَوْمَ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَا أَحْسَبُ مِنْهَا مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْهُ. وَأَمَّا رَحْلُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَآلَتُهُ، فَقَدْ رَوَى هِشَامٌ الْكَلْبِيُّ عَنْ عَوَانَةَ بْنِ الْحَكَمِ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- دَفَعَ إلَى عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- آلَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَدَابَّتَهُ وَحِذَاءَهُ، وَقَالَ: مَا سِوَى ذَلِكَ صَدَقَةٌ، وَرَوَى الْأَسْوَدُ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، فَإِنْ كَانَتْ دِرْعُهُ الْمَعْرُوفَةُ بِالْبَتْرَاءِ، فَقَدْ حُكِيَ أَنَّهَا كَانَتْ عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ -رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا- يَوْمَ قُتِلَ، فَأَخَذَهَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ، فَلَمَّا قَتَلَ الْمُخْتَارُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ، صَارَتْ الدِّرْعُ إلَى عَبَّادِ بْنِ الْحُصَيْنِ الْحَنْظَلِيِّ، ثُمَّ إنَّ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَيْدٍ -وَكَانَ أَمِيرَ الْبَصْرَةِ- سَأَلَ عَبَّادًا عَنْهَا فَجَحَدَهُ إيَّاهَا، فَضَرَبَهُ مِائَةَ سَوْطٍ، فَكَتَبَ إلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ: مِثْلُ عَبَّادٍ لَا يُضْرَبُ، إنَّمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقْتَلَ أَوْ يُعْفَى عَنْهُ؛ ثُمَّ لَا يُعْرَفُ لِلدِّرْعِ خَبَرٌ بَعْدَ ذَلِكَ. أَمَّا الْبُرْدَةُ: فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا، فَحَكَى أَبَانُ بْنُ ثَعْلَبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ وَهَبَهَا لِكَعْبِ بْنِ زُهَيْر، ٍ وَاشْتَرَاهَا مِنْهُ مُعَاوِيَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهِيَ الَّتِي يَلْبَسُهَا الْخُلَفَاءُ، وَحَكَى ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ أَنَّ هَذِهِ الْبُرْدَةَ أَعْطَاهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَهْلَ آيِلَةَ أَمَانًا لَهُمْ، فَأَخَذَهَا مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، وَكَانَ عَامِلًا عَلَيْهِمْ مِنْ قِبَلِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَبَعَثَ بِهَا إلَيْهِ، وَكَانَتْ فِي خَزَائِنِهِ حَتَّى أُخِذَتْ بَعْدَ قَتْلِهِ، وَقِيلَ: اشْتَرَاهَا أَبُو الْعَبَّاسِ السَّفَّاحُ بِثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ.

وَأَمَّا الْقَضِيبُ: فَهُوَ مِنْ تَرِكَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّتِي هِيَ صَدَقَةٌ، وَقَدْ صَارَ مَعَ الْبُرْدَةِ مِنْ شِعَارِ الْخِلَافَةِ. أَمَّا الْخَاتَمُ فَلَبِسَهُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، حَتَّى سَقَطَ مِنْ يَدِهِ فِي بِئْرٍ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَهَذَا شَرْحُ مَا قُبِضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ صَدَقَتِهِ وَتَرِكَتِهِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا مَا عَدَا الْحَرَمَ وَالْحِجَازَ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ فَقَدْ ذَكَرْنَا انْقِسَامَهَا أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ: أَسْلَمَ عَلَيْهِ أَهْلُهُ فَيَكُونُ أَرْضَ عُشْرٍ. وَقِسْمٌ: أَحْيَاهُ الْمُسْلِمُونَ فَيَكُونُ بِمَا أَحْيَوْهُ مَعْشُورًا. وَقِسْمٌ: أَحْرَزَهُ الْغَانِمُونَ عَنْوَةً فَيَكُونُ مُعَشَّرًا. وَقِسْمٌ: صُولِحَ أَهْلُهُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ فَيْئًا يُوضَعُ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ. وَهَذَا الْقِسْمُ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا صُولِحُوا عَلَى زَوَالِ مُلْكِهِمْ عَنْهُ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَيَكُونُ الْخَرَاجُ أُجْرَةً لَا تَسْقُطُ بِإِسْلَامِ أَهْلِهِ، فَتُؤْخَذُ مِنَ الْمُسْلِمِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ. وَالثَّانِي: مَا صُولِحُوا عَلَى بَقَاءِ مُلْكِهِمْ عَلَيْهِ، فَيَجُوزُ بَيْعُهُ، وَيَكُونُ الْخَرَاجُ جِزْيَةً تَسْقُطُ بِإِسْلَامِهِمْ، وَيُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا يُؤْخَذُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَإِذْ قَدْ انْقَسَمَتْ الْبِلَادُ عَلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ، فَسَنَشْرَحُ حُكْمَ أَرْضِ السَّوَادِ، فَإِنَّهَا أَصْلُ حُكْمِ الْفُقَهَاءِ فِيهَا بِمَا يُعْتَبَرُ بِهِ نَظَائِرُهَا، وَهَذَا السَّوَادُ يُشَار بِهِ إلَى سَوَادِ كِسْرَى الَّذِي فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ سُمِّيَ سَوَادًا؛ لِسَوَادِهِ بِالزَّرْعِ وَالْأَشْجَارِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ تَاخَمَ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ الَّتِي لَا زَرْعَ فِيهَا وَلَا شَجَرَ كَانُوا إذَا خَرَجُوا مِنْ أَرْضِهِمْ إلَيْهِ ظَهَرَتْ خُضْرَةُ الزَّرْعِ وَالْأَشْجَارِ. وَهُمْ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْخُضْرَةِ وَالسَّوَادِ فِي الْأَسَامِي، كَمَا قَالَ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ وَكَانَ أَسْوَدَ اللَّوْنِ "مِنَ الرَّمْلِ": وَأَنَا الْأَخْضَرُ مَنْ يَعْرِفُنِي ... أَخْضَرُ الْجِلْدَةِ مِنْ نَسْلِ الْعَرَبِ

فَسَمُّوا خُضْرَةَ الْعِرَاقِ سَوَادًا، وَسُمِّيَ عِرَاقًا؛ لِاسْتِوَاءِ أَرْضِهِ حِينَ خَلَتْ مِنْ جِبَالٍ تَعْلُو وَأَوْدِيَةٍ تَنْخَفِضُ، وَالْعِرَاقُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ الِاسْتِوَاءُ، قَالَ الشَّاعِرُ "مِنَ السَّرِيعِ": سُقْتُمْ إلَى الْحَقِّ لَهُمْ وَسَاقُوا ... سِيَاقَ مَنْ لَيْسَ لَهُ عِرَاقُ أَيْ: لَيْسَ لَهُ اسْتِوَاءٌ؛ وَحَدُّ السَّوَادِ طُولًا مِنْ حَدِيثَةِ الْمَوْصِلِ إلَى عَبَّادَانِ، وَعَرْضُهُ مِنْ عُذَيْب الْقَادِسِيَّةِ إلَى حُلْوَانَ، يَكُونُ طُولُهُ مِائَةً وَسِتِّينَ فَرْسَخًا، وَعَرْضُهُ ثَمَانِينَ فَرْسَخًا، فَأَمَّا الْعِرَاقُ فَهُوَ فِي الْعَرْضِ مُسْتَوْعِبٌ لِأَرْضِ السَّوَادِ عُرْفًا، وَيَقْصُرُ عَنْ طُولِهِ فِي الْعُرْفِ؛ لِأَنَّ أَوَّلَهُ مِنْ شَرْقِيِّ دِجْلَةَ الْعَلْثُ، وَفِي غَرْبَيْهَا حَرْبِيٌّ، ثُمَّ يَمْتَدُّ إلَى آخِرِ أَعْمَالِ الْبَصْرَةِ مِنْ جَزِيرَةِ عَبَّادَانِ، فَيَكُونُ طُولُهُ مِائَةً وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ فَرْسَخًا يَقْصُرُ عَنِ السَّوَادِ بِخَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ فَرْسَخًا، وَعَرْضُهُ مَعَ تَبَعِهِ فِي الْعُرْفِ ثَمَانُونَ فَرْسَخًا كَالسَّوَادِ. قَالَ قُدَامَةُ بْنُ جَعْفَرٍ: يَكُونُ ذَاكَ مُكَسَّرًا عَشَرَةَ آلَافِ فَرْسَخٍ، وَطُولُ الْفَرْسَخِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفِ ذِرَاعٍ بِالذِّرَاعِ الْمُرْسَلَةِ، وَيَكُونُ بِذِرَاعِ الْمِسَاحَةِ، وَهِيَ الذِّرَاعُ الْهَاشِمِيَّةُ تِسْعَةَ آلَافِ ذِرَاعٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ إذَا ضُرِبَ فِي مِثْلِهِ هُوَ تَكْسِيرُ فَرْسَخٍ فِي فَرْسَخِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ أَلْفَ جَرِيبٍ وَخَمْسِمِائَةِ جَرِيبٍ، فَإِذَا ضُرِبَ ذَلِكَ فِي عَدَدِ الْفَرَاسِخِ، وَهِيَ عَشَرَةُ آلَافِ فَرْسَخٍ بَلَغَ مِائَتَيْ أَلْفِ أَلْفٍ وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفِ جَرِيبٍ، يَسْقُطُ مِنْهَا بِالتَّخْمِينِ مَوَاضِعُ التِّلَالِ، وَالْآكَامِ، وَالسِّبَاخِ، وَالْآجَامِ، وَمَدَاسٌ الطُّرُقِ وَالْمَحَاجِّ وَمَجَارِي الْأَنْهَارِ، وَعِرَاضِ الْمُدُنِ وَالْقُرَى، وَمَوَاضِعِ الْأَرْجَاءِ وَالْبَرِيدَاتِ، وَالْقَنَاطِرِ والشاذروانات، وَالْبَنَادِرِ، وَمَطَارِحِ الْقَصَبِ، وَأَتَاتِينِ الْآجُرِّ، وَغَيْرُ ذَلِكَ الثُّلُثُ، وَهُوَ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ أَلْفَ أَلْفِ جَرِيبٍ، يَصِيرُ الْبَاقِي مِنْ مِسَاحَةِ الْعِرَاقِ مِائَةَ أَلْفِ أَلْفٍ وَخَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفِ جَرِيبٍ يُرَاحُ مِنْهَا النِّصْفُ، وَيَكُونُ النِّصْفُ مَزْرُوعًا مَعَ مَا فِي الْجَمِيعِ مِنَ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ وَالْأَشْجَارِ، فَإِذَا أُضِيفَ إلَى مَا ذَكَرَهُ قُدَامَةُ فِي مِسَاحَةِ الْعِرَاقِ مَا زَادَ عَلَيْهَا بَقِيَّةَ السَّوَادِ، وَهُوَ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ فَرْسَخًا، كَانَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى تِلْكَ الْمِسَاحَةِ قَدْرَ رُبْعِهَا، فَيَصِيرُ ذَلِكَ مِسَاحَةَ جَمِيعِ مَا يَصْلُحُ لِلزَّرْعِ وَالْغَرْسِ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ، وَفِي الْمُتَعَذَّرِ أَنْ يَسْتَوْعِبَ زَرْعَ جَمِيعِهِ، وَقَدْ يَتَعَطَّلُ مِنْهُ بِالْعَوَارِضِ وَالْحَوَادِثِ مَا لَا يَنْحَصِرُ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ بَلَغَتْ مِسَاحَةُ السَّوَادِ فِي أَيَّامِ كَسْرَى قَبَاءَ مِائَةِ أَلْفِ أَلْفٍ وَخَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفِ جَرِيبٍ، فَكَانَ مَبْلَغُ ارْتِفَاعِهِ مِائَتَيْ أَلْفِ أَلْفٍ وَسَبْعَةٍ وَسَبْعِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ

بِوَزْنِ سَبْعَةٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ دِرْهَمًا وَقَفِيزًا ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ بِوَزْنِ الْمِثْقَالِ، وَأَنَّ مِسَاحَةَ مَا كَانَ يُزْرَعُ مِنْهُ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مِنِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ أَلْفِ جَرِيبٍ إلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ أَلْفِ جَرِيبٍ. وَإِذْ قَدْ اسْتَقَرَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حُدُودِ السَّوَادِ وَمِسَاحَةِ مَزَارِعِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي فَتْحِهِ وَفِي حُكْمِهِ. فَذَهَبَ أَهْلُ الْعِرَاقِ إلَى أَنَّهُ فُتِحَ عَنْوَةً، لَكِنْ لَمْ يُقَسِّمْهُ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَأَقَرَّهُ عَلَى سُكَّانِهِ، وَضَرَبَ الْخَرَاجَ عَلَى أَرْضِهِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي السَّوَادِ أَنَّهُ فُتِحَ عَنْوَةً، وَاقْتَسَمَهُ الْغَانِمُونَ مِلْكًا، ثُمَّ اسْتَنْزَلَهُمْ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَنَزَلُوا إلَّا طَائِفَةً اسْتَطَابَ نُفُوسَهُمْ بِمَالٍ عَاوَضَهُمْ بِهِ عَنْ حُقُوقِهِمْ مِنْهُ، فَلَمَّا خَلَصَ لِلْمُسْلِمِينَ ضَرَبَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَلَيْهِ خَرَاجًا. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي حُكْمِهِ؛ فَذَهَبَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ إلَى أَنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَقَفَهُ عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَقَرَّهُ فِي أَيْدِي أَرْبَابِهِ بِخَرَاجٍ ضَرَبَهُ عَلَى رِقَابِ الْأَرْضَيْنِ يَكُونُ أُجْرَةً لَهَا تُؤَدَّى فِي كُلِّ عَامٍ. وَإِنْ لَمْ تَتَقَدَّرْ مُدَّتُهَا لِعُمُومِ الْمَصْلَحَةِ فِيهَا، وَصَارَتْ بِوَقْفِهِ لَهَا فِي حُكْمِ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ خَيْبَرَ وَالْعَوَالِي وَأَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ، وَيَكُونُ الْمَأْخُوذُ مِنْ خَرَاجِهَا مَصْرُوفًا فِي الْمَصَالِحِ، وَلَا يَكُونُ فَيْئًا مَخْمُوسًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ خُمِّسَ، وَلَا يَكُونُ مَقْصُورًا عَلَى الْجَيْشِ؛ لِأَنَّهُ وَقْفٌ عَلَى عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَصَارَ مَصْرِفُهُ فِي عُمُومِ مَصَالِحِهِمُ الَّتِي مِنْهَا أَرْزَاقُ الْجَيْشِ وَتَحْصِينُ الثُّغُورِ وَبِنَاءُ الْجَوَامِعِ وَالْقَنَاطِرِ، وَكِرَاءُ الْأَنْهَارِ، وَأَرْزَاقُ مَنْ تَعُمُّ بِهِمْ الْمَصْلَحَةُ مِنَ الْقُضَاةِ وَالشُّهُودِ وَالْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ وَالْأَئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ، فَهَذَا يَمْنَعُ مِنْ بَيْعِ رِقَابِهَا، وَتَكُونُ الْمُعَارَضَةُ عَلَيْهَا بِالِانْتِفَاعِ، وَالِانْتِقَالِ لِأَيْدٍ، وَجَوَازُ التَّصَرُّفِ لَا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ، إلَّا عَلَى مَا أُحْدِثَ فِيهَا مِنْ غَرْسٍ وَبِنَاءٍ، وَقِيلَ: إنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَقَفَ السَّوَادَ بِرَأْيِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: إنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- حِينَ اسْتَنْزَلَ الْغَانِمِينَ عَنِ السَّوَادِ بَاعَهُ عَلَى الْأَكَرَةِ وَالدَّهَاقِينَ بِالْمَالِ الَّذِي وَضَعَهُ عَلَيْهَا خَرَاجًا يُؤَدُّونَهُ فِي كُلِّ عَامٍ، فَكَانَ الْخَرَاجُ ثَمَنًا، وَجَازَ مِثْلُهُ فِي عُمُومِ الْمَصَالِحِ، كَمَا قُبِلَ بِجَوَازِ مِثْلِهِ فِي الْإِجَازَةِ، وَأَنَّ بَيْعَ أَرْضِ السَّوَادِ يَجُوزُ، وَيَكُونُ الْبَيْعُ مُوجِبًا لِلتَّمْلِيكِ.

وأَمَّا قَدْرُ الْخَرَاجِ الْمَضْرُوبِ عَلَيْهَا، فَقَدْ حَكَى عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ أَنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- حِينَ اسْتَخْلَصَ السَّوَادَ بَعَثَ حُذَيْفَةَ عَلَى مَا وَرَاءِ دِجْلَةَ، وَبَعَثَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ عَلَى مَا دُونَ دِجْلَةَ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَمَسَحَ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ السَّوَادَ فَوَجَدَهُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ أَلْفَ أَلْفِ جَرِيبٍ، فَوَضَعَ عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ دِرْهَمًا وَقَفِيزًا، قَالَ الْقَاسِمُ: بَلَغَنِي أَنَّ الْقَفِيزَ مِكْيَالٌ لَهُمْ يُدْعَى الشَّابِرْقَانَ، قَالَ يَحْيَى بْنُ آدَمَ: هُوَ الْمَحْتُومُ الْحَجَّاجِيُّ. وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَبِي مُخْلِدٍ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ جَعَلَ عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ مِنَ الْكَرْمِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى كُلِّ جَرِيبٍ مِنَ النَّخْلِ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى كُلِّ جَرِيبٍ مِنْ قَصَبِ السُّكَّرِ سِتَّةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى كُلِّ جَرِيبٍ مِنَ الرَّطْبَةِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى كُلِّ جَرِيبٍ مِنَ الْبُرِّ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى كُلِّ جَرِيبٍ مِنَ الشَّعِيرِ دِرْهَمَيْنِ، فَكَانَ خَرَاجُ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مُخَالِفًا لِخَرَاجِهِمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَهَذَا لِاخْتِلَافِ النَّوَاحِي بِحَسَبِ مَا تَحْتَمِلُ، وَكَانَتْ ذِرَاعُ حُذَيْفَةَ وَعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ ذِرَاعَ الْيَدِ وَقَبْضَةً وَإِبْهَامًا مَمْدُودًا، وَكَانَ السَّوَادُ فِي أَوَّلِ أَيَّامِ الْفُرْسِ جَارِيًا عَلَى الْمُقَاسَمَةِ، إلَى أَنْ مَسَحَهُ وَوَضَعَ الْخَرَاجَ عَلَيْهِ قَبَاءُ بْنُ فَيْرُوزَ، فَارْتَفَعَ لَهُ بِالْمِسَاحَةِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ بِوَزْنِ الْمِثْقَالِ. وَكَانَ السَّبَبُ فِي مِسَاحَتِهِ -وَإِنْ كَانَ مِنْ قَبْلُ جَارِيًا عَلَى الْمُقَاسَمَةِ- مَا حُكِيَ أَنَّهُ خَرَجَ يَوْمًا يَتَصَيَّدُ فَأَفْضَى إلَى شَجَرٍ مُلْتَفٍّ، فَدَخَلَ فِيهِ الصَّيْدُ، فَصَعِدَ إلَى رَابِيَةٍ يُشْرِفُ مِنْهَا عَلَى الشَّجَرِ لِيَرَى مَا فِيهِ مِنَ الصَّيْدِ، فَرَأَى امْرَأَةً تَحْفِرُ فِي بُسْتَانٍ فِيهِ نَخْلٌ وَرُمَّانٌ مُثْمِرٌ، وَمَعَهَا صَبِيٌّ يُرِيدُ أَنْ يَتَنَاوَلَ شَيْئًا مِنَ الرُّمَّانِ، وَهِيَ تَمْنَعُهُ، فَعَجِبَ مِنْهَا، وَأَنْفَذَ إلَيْهَا رَسُولًا يَسْأَلُهَا عَنْ سَبَبِ مَنْعِ وَلَدِهَا مِنَ الرُّمَّانِ؟ فَقَالَتْ: إنَّ لِلْمِلْكِ حَقًّا لَمْ يَأْتِ الْقَاسِمُ لِقَبْضِهِ، وَنَخَافُ أَنْ يَنَالَ مِنْهُ شَيْئًا إلَّا بَعْدَ أَخْذِ حَقِّهِ، فَرَقَّ الْمَلِكُ لِقَوْلِهَا وَأَدْرَكَتْهُ رَأْفَةٌ بِرَعِيَّتِهِ، فَتَقَدَّمَ إلَى وُزَرَائِهِ بِالْمِسَاحَةِ الَّتِي يُقَارِبُ قِسْطُهَا مَا يَحْصُلُ بِالْمُقَاسَمَةِ؛ لِتَمْتَدَّ يَدُ كُلِّ إنْسَانٍ إلَى مَا يَمْلِكُهُ فِي وَقْتِ حَاجَتِهِ إلَيْهِ، فَكَانَ الْفُرْسُ عَلَى هَذَا فِي بَقِيَّةِ أَيَّامِهِمْ، وَجَاءَ الْإِسْلَامُ فَأَقَرَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى الْمِسَاحَةِ وَالْخَرَاجِ، فَبَلَغَ ارْتِفَاعُهُ فِي أَيَّامِهِ مِائَةَ أَلْفِ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَجَبَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ مِائَةَ أَلْفِ أَلْفٍ وَخَمْسَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ بِغَشْمِهِ وَظُلْمِهِ، وَجَبَاهُ الْحَجَّاجُ مِائَةَ أَلْفِ أَلْفٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفٍ بِغَشْمِهِ وَخرابهِ، وَجَبَاهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- مِائَةَ أَلْفِ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفٍ بِعَدْلِهِ وَعِمَارَتِهِ، وَكَانَ ابْنُ هُبَيْرَةَ يَجْبِيهِ مِائَةَ أَلْفِ أَلْفٍ،

سِوَى طَعَامِ الْجُنْدِ وَأَرْزَاقِ الْمُقَاتِلَةِ. وَكَانَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ يُحَصِّلُ مِنْهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْ سِتِّينَ أَلْفَ أَلْفٍ إلَى سَبْعِينَ أَلْفَ أَلْفٍ، وَيَحْتَسِبُ بِعَطَاءِ مَنْ قَبْلَهُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفٍ، وَفِي نَفَقَةِ الْبَرِيدِ أَرْبَعَةَ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَفِي الطَّوَارِقِ أَلْفَ أَلْفٍ، وَيَبْقَى فِي بُيُوتِ الْأَحْدَاثِ وَالْعَوَاتِقِ عَشَرَةُ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ: ارْتِفَاعُ هَذَا الْإِقْلِيمِ فِي الْحَقَّيْنِ أَلْفَ أَلْفِ أَلْفٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَمَا نَقَصَ مِنْ مَالِ الرَّعِيَّةِ زَادَ فِي مَالِ السُّلْطَانِ؛ وَمَا نَقَصَ مِنْ مَالِ السُّلْطَانِ زَادَ فِي مَالِ الرَّعِيَّةِ، وَلَمْ يَزَلْ السَّوَادُ عَلَى الْمِسَاحَةِ وَالْخَرَاجِ إلَى أَنْ عَدَلَ بِهِمْ الْمَنْصُورُ -رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ عَنِ الْخَرَاجِ إلَى الْمُقَاسَمَةِ؛ لِأَنَّ السِّعْرَ نَقَصَ فَلَمْ تَفِ الْغَلَّاتُ بِخَرَاجِهَا، وَخَرِبَ السَّوَادُ فَجَعَلَهُ مُقَاسَمَةً. وَأَشَارَ أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ عَلِيُّ الْمَهْدِيِّ أَنْ يَجْعَلَ أَرْضَ الْخَرَاجِ مُقَاسَمَةً بِالنِّصْفِ إنْ سَقَى سَيْحًا، وَفِي الدَّوَالِي عَلَى الثُّلُثِ، وَفِي الدَّوَالِيبِ عَلَى الرُّبْعِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ سِوَاهُ، وَأَنْ يَعْمَلَ فِي النَّخْلِ وَالْكَرْمِ وَالشَّجَرِ مِسَاحَةَ خَرَاجٍ تُقَدَّرُ بِحَسَبِ قُرْبِهِ مِنَ الْأَسْوَاقِ وَالْفَرْضِ، وَيَكُونُ الْبَيْنُ مِثْلَ الْمُقَاسَمَةِ، فَإِذَا بَلَغَ حَاصِلُ الْغَلَّةِ مَا يَفِي بِخَرَاجَيْنِ أَخَذَ عَنْهَا خَرَاجًا كَامِلًا، وَإِذَا نَقَصَ تَرَكَ، فَهَذَا مَا جَرَى فِي أَرْضِ السَّوَادِ. وَاَلَّذِي يُوجِبُهُ الْحُكْمُ أَنَّ خَرَاجَهَا هُوَ الْمَضْرُوبُ عَلَيْهَا أَوَّلًا، وَتَغْيِيرُهُ إلَى الْمُقَاسَمَةِ إذَا كَانَ لِسَبَبٍ حَادِثٍ اقْتَضَاهُ اجْتِهَادُ الْأَئِمَّةِ، فَيَكُونُ أَمْضَى مَعَ بَقَاءِ سَبَبِهِ، وَإِلَّا أُعِيدَ إلَى حَالِهِ الْأَوَّلِ عِنْدَ زَوَالِ سَبَبِهِ؛ إذْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْقُضَ اجْتِهَادَ مَنْ تَقَدَّمَهُ. فَأَمَّا تَضْمِينُ الْعُمَّالِ لِأَمْوَالِ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ فَبَاطِلٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي الشَّرْعِ حُكْمٌ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ مُؤْتَمَنٌ يَسْتَوْفِي مَا وَجَبَ، وَيُؤَدِّي مَا حَصَلَ، فَهُوَ كَالْوَكِيلِ الَّذِي إذَا أَدَّى الْأَمَانَةَ لَمْ يَضْمَنْ نُقْصَانًا، وَلَمْ يُكْمِلْ زِيَادَةً، وَضَمَانُ الْأَمْوَالِ بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ يَقْتَضِي الِاقْتِصَارَ عَلَيْهِ فِي تَمَلُّكِ مَا زَادَ وَغُرْمِ مَا نَقَصَ، وَهَذَا مُنَافٍ لِوَضْعِ الْعِمَالَةِ وَحُكْمِ الْأَمَانَةِ فَبَطَلَ. وَحُكِيَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ الْعَبَّاسِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَتَقَبَّلُ مِنْهُ الْأُبُلَّةَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَضَرَبَهُ مِائَةَ سَوْطٍ وَصَلَبَهُ حَيًّا تَعْزِيرًا وَأَدَبًا.

وَقَدْ خَطَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- النَّاسَ فَجَمَعَ فِي خُطْبَتِهِ بَيْنَ صِفَتِهِمْ وَصِفَةِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَحُكْمِ الْمَالِ الَّذِي يَلِيهِ بِمَا هُوَ الصَّوَابُ الْمَسْمُوعُ، وَالْحَقُّ الْمَتْبُوعُ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، اقْرَءُوا الْقُرْآنَ تَعَرَّفُوا بِهِ، اعْمَلُوا بِمَا فِيهِ تَكُونُوا مِنْ أَهْلِهِ، وَلَنْ يَبْلُغَ ذُو حَقٍّ حَقَّهُ أَنْ يُطَاعَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، أَلَا وَإِنَّهُ لَنْ يُبْعِدَ مِنْ رِزْقٍ، وَلَنْ يُقَرِّبَ مِنْ أَجَلٍ أَنْ يَقُولَ الْمَرْءُ حَقًّا، أَلَا وَإِنِّي مَا وَجَدْتُ صَلَاحَ مَا وَلَّانِي اللَّهُ إلَّا بِثَلَاثٍ: أَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَالْأَخْذُ بِالْقُوَّةِ، وَالْحُكْمُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، أَلَا وَإِنِّي مَا وَجَدْتُ صَلَاحَ هَذَا الْمَالِ إلَّا بِثَلَاثٍ: أَنْ يُؤْخَذَ بِحَقٍّ، وَأَنْ يُعْطَى فِي حَقٍّ، وَأَنْ يُمْنَعَ مِنْ بَاطِلٍ، أَلَا وَإِنِّي فِي مَالِكُمْ كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ إنِ اسْتَغْنَيْتُ اسْتَعْفَفْتُ، وَإِنِ افْتَقَرْتُ أَكَلْت بِالْمَعْرُوفِ كَتَرَمُّمِ الْبَهِيمَةِ الْأَعْرَابِيَّةِ.

الباب الخامس عشر: في إحياء الموات واستخراج المياه

الْبَابُ الْخَامِسَ عَشَرَ: فِي إحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَاسْتِخْرَاجِ الْمِيَاهِ مَنْ أَحْيَا مَوَاتًا مَلَكَهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَبِغَيْرِ إذْنِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ إحْيَاؤُهُ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "لَيْسَ لِأَحَدٍ إلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِهِ"1. وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ" 2 دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مِلْكَ الْمَوَاتِ مُعْتَبَرٌ بِالْإِحْيَاءِ دُونَ إذْنِ الْإِمَامِ. وَالْمَوَاتُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ: كُلُّ مَا لَمْ يَكُنْ عَامِرًا وَلَا حَرِيمًا لِعَامِرٍ فَهُوَ مَوَاتٌ، وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِعَامِرٍ3. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْمَوَاتُ مَا بَعُدَ مِنَ الْعَامِرِ، وَلَمْ يَبْلُغْهُ الْمَاءُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْمَوَاتُ كُلُّ أَرْضٍ إذَا وَقَفَ عَلَى أَدْنَاهَا مِنَ الْعَامِرِ مُنَادٍ بِأَعْلَى صَوْتِهِ لَمْ يَسْمَعْ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهَا فِي الْعَامِرِ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ يَخْرُجَانِ عَنِ الْمَعْهُودِ فِي اتِّصَالِ الْعِمَارَاتِ، وَيَسْتَوِي فِي إحْيَاءِ الْمَوَاتِ جِيرَانُهُ وَالْأَبَاعِدُ. وَقَالَ مَالِكٌ: جِيرَانُهُ مِنْ أَهْلِ الْعَامِرِ أَحَقُّ بِإِحْيَائِهِ مِنَ الْأَبَاعِدِ؛ وَصِفَةُ الْإِحْيَاءِ مُعْتَبَرَةٌ بِالْعُرْفِ فِيمَا يُرَادُ لَهُ الْإِحْيَاءُ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَطْلَقَ ذِكْرَهُ إحَالَةً عَلَى الْعُرْفِ الْمَعْهُودِ فِيهِ؛ فَإِنْ أَرَادَ إحْيَاءَ الْمَوَاتِ لِلسُّكْنَى كَانَ إحْيَاؤُهُ بِالْبِنَاءِ وَالتَّسْقِيفِ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ كَمَالِ الْعِمَارَةِ الَّتِي يُمْكِنُ سُكْنَاهَا.

_ 1 ضعيف جدًّا: أورده الهيثمي في مجمع الزوائد "5/ 331"، وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه عمرو بن واقد وهو متروك. قال الزيلعي: رواه الطبراني في معجمه الكبير الأوسط، وهو معلول بعمرو بن واقد، ورواه إسحاق بن راهويه في مسنده، وذكره البيهقي في المعرفة في باب إحياء الموات بهذا الإسناد، ثم قال: وهو منقطع بين مكحول ومن فوقه، وراويه عن مكحول مجهول، وهذا إسناد لا يُحتَجُّ به, انتهى. وهذا السند وارد على الطبراني فإنه قال في معجمه الأوسط: لا يُرْوَى هذا الحديث عن معاذ وحبيب إلّا بهذا الإسناد، انتهى. ولو قال: لا نعلم لكان أسلم له والله أعلم [نصب الراية: 3/ 430] . 2 صحيح: رواه مالك في كتاب الأقضية من موطئه "1456"، وأبو داود في كتاب الخراج والإمارة "3073"، والترمذي في كتاب الأحكام "1378"، وصحَّحَه الشيخ الألباني. 3 انظر: [معنى المحتاج: 2/ 361] .

وَإِنْ أَرَادَ إحْيَاءَهَا لِلزَّرْعِ وَالْغَرْسِ اُعْتُبِرَ فِيهِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: جَمْعُ التُّرَابِ الْمُحِيطِ بِهَا حَتَّى يَصِيرَ حَاجِزًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا. وَالثَّانِي: سَوْقُ الْمَاءِ إلَيْهَا إنْ كَانَتْ يَبِسًا، وَحَبْسُهُ عَنْهَا إنْ كَانَتْ بَطَائِحَ؛ لِأَنَّ إحْيَاءَ الْيَبِسِ بِسَوْقِ الْمَاءِ إلَيْهِ، وَإِحْيَاءَ الْبَطَائِحِ بِحَبْسِ الْمَاءِ عَنْهَا، حَتَّى يُمْكِنَ زَرْعُهَا وَغَرْسُهَا فِي الْحَالَيْنِ. وَالثَّالِثُ: حَرْثُهَا: وَالْحَرْثُ يَجْمَعُ إثَارَةَ الْمُعْتَدِلِ وَكَسْحَ الْمُسْتَعْلِي، وَطَمَّ الْمُنْخَفِضِ، فَإِذَا اُسْتُكْمِلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ الثَّلَاثَةُ كَمُلَ الْإِحْيَاءُ وَمَلَكَ الْمُحْيِي، وَغَلِطَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ: لَا يَمْلِكُهُ حَتَّى يَزْرَعَهُ أَوْ يَغْرِسَهُ، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ السُّكْنَى الَّتِي لَا تُعْتَبَرُ فِي تَمَلُّكِ الْمَسْكُونِ، فَإِنْ زَارَعَ عَلَيْهَا بَعْدَ الْإِحْيَاءِ مَنْ قَامَ بِحَرْثِهَا وَزِرَاعَتِهَا كَانَ الْمُحْيِي مَالِكًا لِلْأَرْضِ، وَالْمُثِيرُ مَالِكًا لِلْعِمَارَةِ، فَإِنْ أَرَادَ مَالِكُ الْأَرْضِ بَيْعَهَا جَازَ، وَإِنْ أَرَادَ مَالِكُ الْعِمَارَةِ بَيْعَهَا فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي جَوَازِهِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ لَهُ إثَارَةٌ جَازَ لَهُ بَيْعُهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إثَارَةٌ لَمْ يَجُزْ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الْعِمَارَةِ عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، وَيَجْعَلُ الْأَكَّارَ شَرِيكًا فِي الْأَرْضِ بِعِمَارَتِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الْعِمَارَةِ بِحَالٍ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهَا أَعْيَانٌ قَائِمَةٌ كَشَجَرٍ أَوْ زَرْعٍ، فَيَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الْأَعْيَانِ دُونَ الْإِثَارَةِ، وَإِذَا تَحَجَّرَ عَلَى مَوَاتٍ كَانَ أَحَقَّ بِإِحْيَائِهِ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ تَغَلَّبَ عَلَيْهِ مَنْ أَحْيَاهُ كَانَ الْمُحْيِي أَحَقَّ بِهِ مِنَ الْمُتَحَجِّرِ، فَإِنْ أَرَادَ الْمُتَحَجِّرُ عَلَى الْأَرْضِ بَيْعَهَا قَبْلَ إحْيَائِهَا لَمْ يَجُزْ -عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَجَوَّزَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ بِالتَّحْجِيرِ عَلَيْهَا أَحَقَّ بِهَا جَازَ لَهُ بَيْعُهَا كَالْأَمْلَاكِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ بَاعَهَا فَتَغَلَّبْ عَلَيْهَا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مَنْ أَحْيَاهَا، فَقَدْ زَعَمَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ ثَمَنَهَا لَا يَسْقُطُ عَنِ الْمُشْتَرِي لِتَلَفِ ذَلِكَ فِي يَدِهِ بَعْدَ قَبْضِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِهِ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ بَيْعِهِ: إنَّ الثَّمَنَ يَسْقُطُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ لَمْ يَسْتَقِرَّ، فَأَمَّا إذَا تَحَجَّرَ وَسَاقَ الْمَاءَ وَلَمْ يَحْرُثْ فَقَدْ مَلَكَ الْمَاءَ، وَمَا جَرَى فِيهِ مِنَ الْمَوَاتِ وَحَرِيمَهُ، وَلَمْ يَمْلِكْ مَا سِوَاهُ وَإِنْ كَانَ بِهِ أَحَقَّ، وَجَازَ لَهُ بَيْعُ مَا جَرَى فِيهِ الْمَاءُ. وَفِي جَوَازِ بَيْعِ مَا سِوَاهُ مِنَ الْمَحْجُورِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ. وَمَا أُحْيِيَ مِنَ الْمَوَاتِ مَعْشُورٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْهِ خَرَاجٌ، سَوَاءٌ سُقِيَ بِمَاءِ الْعُشْرِ أَوْ

بِمَاءِ الْخَرَاجِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: إنْ سَاقَ إلَى مَا أَحْيَاهُ مَاءَ الْعُشْرِ كَانَتْ أَرْضَ عُشْرٍ، وَإِنْ سَاقَ إلَيْهَا مَاءَ الْخَرَاجِ كَانَتْ أَرْضَ خَرَاجٍ1. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إنْ كَانَتْ الْأَرْضُ الْمُحْيَاةُ عَلَى أَنْهَارٍ حَفَرَتْهَا الْأَعَاجِمُ فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى أَنْهَارٍ أَجْرَاهَا اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ؛ كَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ فَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّ مَا أُحْيِيَ مِنْ مَوَاتِ الْبَصْرَةِ وَسِبَاخِهَا أَرْضُ عُشْرٍ. أَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ؛ فَلِأَنَّ دِجْلَةَ الْبَصْرَةَ مِمَّا أَجْرَاهُ اللَّهُ تعالى مِنَ الْأَنْهَارِ، وَمَا عَلَيْهَا مِنَ الْأَنْهَارِ الْمُحْدَثَةِ فَهِيَ مُحْيَاةٌ احْتَفَرَهَا الْمُسْلِمُونَ فِي الْمَوَاتِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ الْعِلَّةَ فِيهِ أَنَّ مَاءَ الْخَرَاجِ يَفِيضُ فِي دِجْلَةِ الْبَصْرَةِ وَفِي جُزُرِهَا، وَأَرْضُ الْبَصْرَةِ تَشْرَبُ مِنْ مَدِّهَا، وَالْمَدُّ مِنَ الْبَحْرِ، وَلَيْسَ مِنْ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمَدَّ يُفِيدُ الْمَاءَ الْعَذْبَ مِنَ الْبَحْرِ، وَلَا يَمْتَزِجُ بِمَائِهِ وَلَا تُشْرَبُ، وَإِنْ كَانَ الْمَدُّ شَرِبَهَا إلَّا مَاءَ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ. وَقَالَ أَصْحَابُهُ -مِنْهُمْ طَلْحَةُ بْنُ آدَمَ: بَلْ الْعِلَّةُ فِيهِ أَنَّ مَاءَ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ يَسْتَقِرُّ فِي الْبَطَائِحِ، فَيَنْقَطِعُ حُكْمُهُ وَيَزُولُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى دِجْلَةِ الْبَصْرَةِ، فَلَا يَكُونُ مِنْ مَاءِ الْخَرَاجِ؛ لِأَنَّ الْبَطَائِحَ لَيْسَتْ مِنْ أَنْهَارِ الْخَرَاجِ، وَهَذَا تَعْلِيلٌ فَاسِدٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْبَطَائِحَ بِالْعِرَاقِ انْبَطَحَتْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَتَغَيَّرَ حُكْمُ الْأَرْضِ حَتَّى صَارَتْ مَوَاتًا، وَلَمْ يُعْتَبَرْ حُكْمُ الْمَاءِ. وَسَبَبُهُ مَا حَكَاهُ صَاحِبُ السِّيَرِ أَنَّ مَاءَ دِجْلَةَ كَانَ مَاضِيًا فِي الدِّجْلَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْغَوْرِ الَّذِي يَنْتَهِي إلَى الْبَصْرَةِ مِنَ الْمَدَائِنِ فِي مَنَافِذَ مُسْتَقِيمَةِ الْمَسَالِكِ مَحْفُوظَةِ الْجَوَانِبِ، وَكَانَ مَوْضِعُ الْبَطَائِحِ الْآنَ أَرْضَ مَزَارِعَ وَقُرًى ذَاتِ مَنَازِلَ، فَلَمَّا كَانَ الْمَلِكُ قَبَاءُ بْنُ فَيْرُوزَ انْفَتَحَ فِي أَسَافِلَ كَسُكَّرِ بَثْقٍ عَظِيمٍ أَغْفَلَ أَمْرَهُ حَتَّى غَلَبَ مَاؤُهُ وَغَرِقَ مِنَ الْعِمَارَاتِ مَا عَلَاهُ، فَلَمَّا وَلِيَ أَنُوشِرْوَانَ

_ 1 قال علاء الدين الكاساني: قال أبو يوسف: إن كانت من حيز أرض العشر فهي عشرية، وإن كانت من حيز أرض الخراج فهي خراجية. وقال محمد: إن أحياها بماء العشر فهي عشرية، وإن أحياها بماء الخراج فهي خراجية، وإن أحياها ذمي فهي خراجية كيف ما كان بالإجماع، وهي من مسائل كتاب العشر والخراج، والله -عز شأنه- أعلم. [بدائع الصنائع: 6/ 195] .

ابْنُهُ أَمَرَ بِذَلِكَ الْمَاءِ فَتَزَحَّمَ بِالْمُسْنَيَاتِ حَتَّى عَادَ بَعْضُ تِلْكَ الْأَرْضِ إلَى عِمَارَتِهَا، وَكَانَتْ عَلَى ذَلِكَ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَهِيَ السَّنَةُ الَّتِي بَعَثَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ السَّهْمِيَّ إلَى كِسْرَى رَسُولًا، وَهُوَ كِسْرَى أَبْرِوِيزُ، فَزَادَتْ دِجْلَةُ وَالْفُرَاتُ زِيَادَةً عَظِيمَةً لَمْ يُرَ مِثْلُهَا، فَانْبَثَقَتْ بُثُوقًا عِظَامًا اجْتَهَدَ أَبْرِوِيزُ فِي سُكْرِهَا حَتَّى صَلَبَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ سَبْعِينَ سُكَارَى، وَبَسَطَ الْأَمْوَالَ عَلَى الْأَنْطَاعِ فَلَمْ يَقْدِرْ لِلْمَاءِ عَلَى حِيلَةٍ، ثُمَّ وَرَدَ الْمُسْلِمُونَ الْعِرَاقَ وَتَشَاغَلَتِ الْفُرْسُ بِالْحُرُوبِ، فَكَانَتِ الْبُثُوقُ تَنْفَجِرُ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا، وَيَعْجَزُ الدَّهَاقِونُ عَنْ سَدِّهَا فَاتَّسَعَتِ الْبَطِيحَةُ وَعَظُمَتْ، فَلَمَّا وُلِّيَ مُعَاوِيَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَلَّى مَوْلَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ دَرَّاجٍ خَرَاجَ الْعِرَاقِ، فَاسْتَخْرَجَ لَهُ مِنْ أَرْضِ الْبَطَائِحِ مَا بَلَغَتْ غَلَّتُهُ خَمْسَةَ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَاسْتَخْرَجَ بَعْدَهُ حَسَّانُ النَّبَطِيُّ لِلْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بَعْدِهِ كَثِيرًا مِنْ أَرْضِ الْبَطَائِحِ، ثُمَّ جَرَى النَّاسُ عَلَى هَذَا إلَى وَقْتِنَا، حَتَّى صَارَتْ جَوَامِدُهَا مِثْلَ بَطَائِحِهَا وَأَكْثَرَ، وَكَانَ هَذَا التَّعْلِيلُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ مَا شَرَحْنَاهُ مِنْ أَحْوَالِ الْبَطَائِحِ عُذْرًا دَعَاهُمْ إلَيْهِ مَا شَاهَدُوا الصَّحَابَةَ عَلَيْهِ مِنْ إجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ مَا أُحْيِيَ مِنْ مَوَاتِ الْبَصْرَةِ أَرْضُ عُشْرٍ، وَمَا ذَاكَ لِعِلَّةٍ غَيْرِ الْإِحْيَاءِ. وَأَمَّا حَرِيمُ مَا أَحْيَاهُ مِنَ الْمَوَاتِ لِسُكْنَى أَوْ زَرْعٍ فَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مُعْتَبَرٌ بِمَا لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ تِلْكَ الْأَرْضُ مِنْ طَرِيقِهَا وَفِنَائِهَا وَمَجَارِي مَائِهَا وَمَغِيضِهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: حَرِيمُ أَرْضِ الزَّرْعِ مَا بَعُدَ مِنْهَا وَلَمْ يَبْلُغْهُ مَاؤُهَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: حَرِيمُهَا مَا انْتَهَى إلَيْهِ صَوْتُ الْمُنَادِي مِنْ حُدُودِهَا، وَلَوْ كَانَ لِهَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ وَجْهٌ لَمَا اتَّصَلَتْ عِمَارَتَانِ، وَلَا تَلَاصَقَتْ دَارَانِ، وَقَدْ مَصَّرَتِ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- الْبَصْرَةَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَجَعَلُوهَا خُطَطًا لِقَبَائِلِ أَهْلِهَا، فَجَعَلُوا عَرْضَ شَارِعِهَا الْأَعْظَمِ، وَهُوَ مِرْبَدُهَا سِتِّينَ ذِرَاعًا، وَجَعَلُوا عَرْضَ مَا سِوَاهُ مِنَ الشَّوَارِعِ عِشْرِينَ ذِرَاعًا، وَجَعَلُوا عَرْضَ كُلِّ زُقَاقٍ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ، وَجَعَلُوا وَسَطَ كُلِّ خُطَّةٍ رَحْبَةً فَسِيحَةً لِمَرَابِطِ خَيْلِهِمْ وَقُبُورِ مَوْتَاهُمْ، وَتَلَاصَقُوا فِي الْمَنَازِلِ، وَلَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ إلَّا عَنْ رَأْيٍ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَنَصٍّ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ. وَقَدْ رَوَى بَشِيرُ بْنُ كَعْبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إذَا تَدَارَأَ الْقَوْمُ فِي طَرِيقٍ فَلْيَجْعَلْ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ" 1.

_ 1 صحيح: رواه البخاري في كتاب المظالم والغصب "2473"، ومسلم في كتاب المساقاة "1613".

فصل: وأما المياه المستخرجة فتنقسم ثلاثة أقسام: مياه أنهار، ومياه آبار، ومياه عيون، فأما الأنهار فتنقسم ثلاثة أقسام: أحدها: أجراه الله تعالى من كبار الأنهار التي لا يحتفرها الآدميون كدجلة والفرات ويسميان الرافدين، فماؤهما يتسع للزرع وللشاربة، وليس يتصور فيه قصور عن كفاية، ولا ضرورة تدعو فيه إلى تنازع أو مشاحنة، فيجوز لمن شاء من الناس أن يأخذ منها لضيعته شربًا، ويجعل من ضيعته إليها مغيضًا، ولا يمنع من أخذ شرب، ولا يعارض في إحداث مغيض. والقسم الثَّاني: ما أجراه الله تعالى من صغار الأنهار، وهو على ضربين: أحدهما: أن يعلو ماؤها وإن لم يحبس، ويكفي جميع أهله من غير تقصير، فيجوز لكل ذي أرض من أهله أن يأخذ منه شرب أرضه في وقت حاجته، ولا يعارض بعضهم بعضًا، فإن أراد قوم أن يستخرجوا منه نهرًا يساق إلى أرض أخرى، أو يجعلوا إليه مغيض نهر آخر نظر، فإن كان ذلك مضرًّا بأهل هذا النهر منع منه، وإن لم يضر بهم لم يمنع. والضرب الثاني: أن يستقل ماء هذا النهر ولا يعلو للشرب إلّا بحبسه، فللأول من أهل النهر أن يبتدئ بحبسه؛ ليسقي أرضه حتى تكتفي منه وترتوي، ثم يحبسه من يليه حتى يكون آخرهم أرضًا آخرهم حبسًا. روى عبادة بن الصامت أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى في شرب النخل من السيل أنَّ للأعلى أن يشرب قبل الأسفل، ثم يرسل الماء إلى الأسفل الذي يليه، كذلك حتى ينقضي الأرضون1.

_ 1 يشير المصنف -رحمه الله تعالى- إلى الحديث الذي رواه البخاري في كتاب المساقاة "2360"، ومسلم في كتاب المساقاة "1613"، وغيرهما: عن عروة عن عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- أنه حدَّثه أن رجلًا من الأنصار خاصم الزبير عند النبي -صلى الله عليه وسلم- في شراج الحرة التي يسقون بها النخل، فقال الأنصاري: سرح الماء يمر، فأبى عليه، فاختصما عند النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للزبير: "اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك" فغضب الأنصاري فقال: إن كان ابن عمتك، فتلوَّن وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: "اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر" فقال الزبير: والله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] .

وأما قدر ما يحبسه من الماء في أرضه، فقد روى محمد بن إسحاق عن أبي مالك بن ثعلبة عن أبيه، أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى في وادي مهزور أن يحبس الماء في الأرض إلى الكعبين، فإذا بلغ إلى الكعبين أرسل إلى الأخرى1. وقال مالك: وقضى في سيل بطحان بمثل ذلك فقدره بالكعبين، وليس هذا القضاء منه على العموم في الأزمان والبلدان؛ لأنه مقدَّر بالحاجة. وقد يختلف من خمسة أوجه باختلاف الأرضين. فمنها: ما يرتوي باليسير، ومنها ما لا يرتوي إلَّا بالكثير. والثاني: باختلاف ما فيها، فإن للزرع من الشرب قدرًا، وللنخل والأشجار قدرًا. والثالث: باختلاف الصيف والشتاء، فإن لكل واحد من الزمانين قدرًا. والرابع: باختلافها في وقت الزرع وقبله، فإن لكل واحد من الوقتين قدرًا. والخامس: باختلاف حال الماء في بقائه وانقطاعه، فإن المنقطع يؤخذ منه ما يدخر، والدائم يؤخذ منه ما يستعمل؛ فلاختلافه من هذه الأوجه الخمسة لم يكن تحديده بما قضاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أحدها، وكان معتبرًا بالعرف المعهود عند الحاجه إليه، فلو سقى رجل أرضه أو فجرها، فسال من مائها إلى أرض جاره فغرقها لم يضمن؛ لأنه تصرَّف في ملكه بمباح، فإن اجتمع في ذلك الماء سمك، كان الثاني أحق بصيده من الأول؛ لأنه من ملكه. والقسم الثالث: من الأنهار ما احتفره الآدميون لما أحيوه من الأرضين، فيكون النهر بينهم ملكًا مشتركًا -كالزقاق المرفوع بين أهله لا يختص أحدهم بملكه، فإن كان هذا النهر بالبصرة يدخله ماء المد، فهو يعمّ جميع أهله لا يتشاحون فيه لاتساع مائه، ولا يحتاجون إلى حبسه لعلوّه بالمد إلى الحدِّ الذي ترتوي منه جميع الأرضين، ثم يقبض بعد الارتواء في الجزر، وإن كانت بغير البصرة من البلاد التي لا مدَّ فيها ولا جزر فالنهر مملوك لمن احتفره من

_ 1 صحيح: رواه أبو داود في كتاب الأقضية "3638"، وابن ماجه في كتاب الأحكام "2481"، وصحَّحه الشيخ الألباني.

أرباب الأرضين لا حق فيه لغيره في شرب منه، ولا مغيض، ولا يجوز لواحد من أهله أن ينفرد بنصب عبارة عليه، ولا برفع مائه، ولا إدارة رحى فيه إلا عن مراضاة جميع أهله؛ لاشتراكهم فيما هو ممنوع من التفرُّد به، كما لا يجوز في الزقاق المرفوع أن يفتح إليه بابًا، ولا أن يخرج عليه جناحًا، ولا يمد عليه ساباطًا إلَّا بمراضاة جميعهم. ثم لا يخلو حال شربهم منه من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يتناوبوا عليه بالأيام إن قلّوا، وبالساعات إن كثروا، ويقترعوا إن تنازعوا في الترتيب، حتى يستقرّ لهم ترتيب الأول ومن يليه، ويختص كل واحد منهم بنوبته لا يشاركه غيره فيها، ثم هو من بعدها على ما ترتبوا. والقسم الثاني: أن يقتسموا في النهر عرضًا بخشبة تأخذ جانبي النهر، ويقسم فيها حفور مقدرة بحقوقهم من الماء، في كل حفرة منها قدر ما استحقه صاحبها من خمس أو عشر، وبأخذه إلى أرضه على الأدوار. والقسم الثالث: أن يحفر كل واحد منهم في وجه أرضه شربًا مقدّرًا لهم باتفاقهم، أو على مساحة أملاكهم؛ ليأخذ من ماء النهر قدر حقه، ويساوي جميع شركائه، وليس له أن يزيد فيه ولا لهم أن ينقصوه، ولا لواحد منهم أن يؤخّر شربًا مقدمًا، كما ليس لواحد من أهل الزقاق المرفوع أن يؤخّر بابًا مقدَّمًا، وليس له أن يقدم شربًا مؤخرًا، وإن جاز أن يقدّم بابًا مؤخرًا؛ لأن في تقديم الباب المؤخر اقتصارًا على بعض الحق، وفي تقديم الشرب المؤخَّر زيادة على الحق، فأما حريم هذا النهر المحفور في الموات فهو عند الشافعي معتبر بعرف الناس في مثله، وكذلك حكم القناة؛ لأن القناة نهر باطن. وقال أبو حنيفة: حريم النهر مَلْقَى طينه. قال أبو يوسف: وحريم القناة ما لم يسح على وجه الأرض وكان جامعًا للماء، ولهذا القول وجه مستحسن1.

_ 1 قال علاء الدين الكاساني: وأمَّا حريم النهر فقد اختلف أبو يوسف ومحمد في تقديره؛ فعند أبي يوسف: قدر نصف بطن النهر من كل جانب النصف من هذا الجانب، والنصف من ذلك الجانب، وعند محمد: قدر جميع بطن النهر من كل جانب قدر جميعه، وأما النهر إذا حفر في أرض الموات فمنهم من ذكر الخلاف فيه بين أبي حنيفة وصاحبيه، والصحيح أن له حريمًا بلا خلاف لما قلنا. [بدائع الصنائع: 6/ 195] .

فصل: وأمَّا الآبار فلحافرها ثاثة أحوال: إحداها: أن يحفرها لسابلة فيكون ماؤها مشتركًا وحافرها فيه كأحدهم، قد وقف عثمان -رضي الله عنه- بئر رومة، فكان يضرب بدلوه مع الناس، ويشترك في مائها إذا اتَّسع شرب الحيوان وسقي الزرع، فإن ضاق ماؤها عنهما كان شرب الحيوان أولى به من الزرع، ويشترك فيها الآدميون والبهائم، فإن ضاق عنهما كان الآدميون بمائها أحق من البهائم. والحالة الثانية: أن يحتفرها لارتفاقه بمائها -كالبادية، إذا انتجعوا أرضًا وحفروا فيها بئرًا لشربهم وشرب مواشيهم، كانوا أحق بمائها ما أقاموا عليها في نجعتهم، وعليهم بذل الفضل من مائها للشاربين دون غيرهم، فإذا ارتحلوا عنها صارت البئر سابلة، فتكون خاصة الابتداء وعامة الانتهاء، فإن عادوا إليها بعد الارتحال عنها كانوا هم وغيرهم سواء فيها، ويكون السابق إليها أحق بها. والحالة الثالثة: أن يحتفرها لنفسه ملكًا، فما لم يبلغ الحفر إلى استنباط مائها لم يستقر ملكه عليها، وإذا استنبط ماءها استقر ملكًا بكمال الإحياء، إلَّا أن يحتاج إلى طي، فيكون طيها من كمال الإحياء واستقرار الملك، ثم يصير مالكًا لها ولحريمها. واختلف الفقهاء في قدر حريمها؛ فذهب الشافعي -رحمه الله- إلى أنَّه معتبر بالعرف المعهود في مثلها. وقال أبو حنيفة: حريم البئر للناضح خمسون ذراعًا. وقال أبو يوسف: حريمها ستون ذراعًا، إلَّا أن يكون رشاؤها أبعد، فيكون لها منتهى رشائها. قال أبو يوسف: وحريم بئر العطن أربعون ذراعًا، وهذه مقادير لا تثبت إلَّا بنص، فإن جاءها نص كان متبعًا، وإلا فهو معلول، وللتقدير بمنتهى الرشاء وجه يصح اعتباره، ويكون داخلًا في العرف المعتبر، فإذا استقر ملكه على البئر وحريمها فهو أحق بمائها1.

_ 1 وقال ابن قدامة المقدسي من الحنابلة: ومن حفر بئرًا في موات ملك حريمها، والمنصوص عن أحمد -رضي الله عنه- أنَّ حريم البئر البدي خمسة وعشرون ذراعًا من كل جانب، ومن سبق إلى بئر عادية فاحتفرها فحريمها خمسون ذراعًا من كل جانب؛ لما روي عن سعيد بن المسيب أنه قال: السنة في حريم =

واختلف أصحاب الشافعي: هل يصير مالكًا له قبل استقائه وحيازته، فذهب بعضهم إلى أنَّه يجري على ملكه في قراره قبل حيازته؛ كما إذا ملك معدنًا ما فيه قبل أخذه، ويجوز بيعه قبل استقائه، ومن اتقاه بغير إذنه استرجع منه، وقال آخرون: لا يملكه إلَّا بعد الحيازة؛ لأنَّ أصله موضوع على الإباحة، وله أن يمنع من التصرف فيها باستقائه، فإن غلبه من استقاء لم يسترجع منه شيئًا، فإذا استقرَّ حكم هذه البئر في اختصاصه بملكها واستحقاقه لمائها فله سقي مواشيه وزرعه ونخيله وأشجاره، فإن لم يفضل عن كفايته فضل لم يلزمه بذلك شيء منه إلّا لمضطر على نفس. وروى الحسن -رحمه الله- أن رجلًا أتى أهل ماء فاستسقاهم، فلم يسقوه حتى مات، فأغرمهم عمر -رضي الله عنه- الدية، وإن فضل منه بعد كفايته فضل لزمه -على مذهب الشافعي- أن يبذل فضل مائه للشاربة من أرباب المواشي والحيوان دون الزرع والأشجار. وقال -من أصحابه أبو عبيدة بن جرثومة: لا يلزمه بذل الفضل منه لحيوان ولا زرع. وقال آخرون منهم: يلزمه بذله للحيوان دون الزرع، وما ذهب إليه الشافعي من وجوب بذله للحيوان دون الزرع هو المشروع. روى أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ منعه الله فضل رحمته يوم القيامة" 1. وبذل هذا الفضل معتبر بأربعة شروط: أحدها: أن يكون في قرار البئر، فإن استقاه لم يلزمه بذله. والثاني: أن يكون متصلًا بكلأ، فإن لم يقرب منَ الكلأ لم يلزمه بذله.

_ = البئر العادي خمسون ذراعًا، والبدي خمسة وعشرون ذراعًا، رواه أبو عبيد في الأموال، وروى الخلَّال والدارقطني عن النبي -صلى الله عليه وسلم- نحوه، وقال القاضي: حريمها ما تحتاج إليه في ترقية الماء منها كقدر مدار الثور إن كان بدولاب، وقد طوّل البئر إن كان بالسواني وحمل التحديد في الحديث، وكلام أحمد -رضي الله عنه- على المجاز، والظاهر خلافه، فإنه قد يحتاج إلى حريمها لغير ترقية الماء لموقف الماشية وعطن الإبل ونحوه، وأمَّا العين المستخرجة فحريمها ما يحتاج إليه صاحبها، ويستضر بتملكه عليه وإن كثر. [الكافي في فقه ابن حنبل: 2/ 438] . 1 صحيح: رواه البخاري في كتاب المساقاة "2353"، ومسلم في كتاب المساقاة "1566".

والثالث: أن لا تجد المواشي غيره، فإن وجدت مباحًا غيره لم يلزمه بذله، وعدلت المواشي إلى الماء المباح، فإن كان غيره من الموجود مملوكًا لزم كل واحد من مالكي الماءين أن يبذل فضل مائه لمن ورد إليه، فإذا اكتفت المواشي بفضل أحد الماءين سقط الفرض عن الآخر. الرابع: أن لا يكون عليه في ورد المواشي إلى مائه ضرر يلحقه في زرع ولا ماشية، فإن لحقه بورودها ضرر منعت، وجاز للرعاة استقاء فضل الماء لها، فإذا كملت هذه الشروط الأربعة لزمه بذل الفضل، وحرم عليه أن يأخذ له ثمنًا، ويجوز مع الإخلال بهذه الشروط أن يأخذ ثمنه إذا باعه مقدرًا بكيل أو وزن، ولا يجوز أن يبيعه جزافًا ولا مقدرًا بريّ ماشية أو زرع، وإذا احتفر بئرًا أو ملكها وحريمها، ثم احتفر آخر بعد حريمها بئرًا، فنضب ماء الأول إليها وغار فيها أقرّ عليها ولم يمنع منها، وكذلك لو حفرها لطهور فتغيّر بها ماء الأول أقرت، وقال مالك: إذا نضب ماء الأول إليها أو تغيَّر بها مُنِع منها وطُمَّت. فصل: وأما العيون فتنقسم ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون مما أنبع الله تعالى ولم يستنبطه الآدميون، فحكمها حكم ما أجراه الله تعالى من الأنهار، ولمن أحيا أرضًا بمائها أن يأخذ منه قدر كفايته، فإن تشاحوا فيه لضيقه روعي ما أحيي بمائها منَ الموات، فإن تقدَّم فيه بعضهم على بعض كان لأسبقهم إحياءً أن يستوفي منها شرب أرضه ثم لمن يليه، فإن قصر الشرب عن بعضهم كان نقصانه في حق الأخير، وإن اشتركوا في الإحياء على سواء ولم يسبق به بعضهم بعضًا تخاصوا فيه إمَّا بقسمة الماء وإمَّا بالمهايأة عليه. والقسم الثاني: أن يستنبطها الآدميون فتكون ملكًا لمن استنبطها، ويملك معها حريمها، وهو على مذهب الشافعي معتبر بالعرف المعهود في مثلها، ومقدر بالحاجة الداعية إليها، وقال أبو حنيفة: حريم العين خمسمائة ذراع، ولمستنبط هذه العين سوق مائها إلى حيث

شاء، وكان ما جرى فيه ماؤها ملكًا له وحريمه1. والقسم الثالث: أن يستنبطها الرجل في ملكه، فيكون أحق بمائها لشرب أرضه؛ فإن كان قدر كفايتها فلا حق عليه فيه إلَّا لشارب مضطَّر، وإن فضل عن كفايته وأراد أن يحيي بفضله أرضًا مواتًا فهو أحق به لشرب ما أحياه، وإن لم يرده لموات أحياه بذله لأرباب المواشي دون الزرع كفضل ماء البئر، فإن اعتاض عليه من أرباب الزرع جاز، وإن اعتاض من أرباب المواشي لم يجز، ويجوز لمن احتفر في البادية بئرًا فملكها أو عينًا استنبطها أن يبيعها، ولا يحرم عليه ثمنها. وقال سعيد بن المسيب وابن أبي ذئب: لا يجوز له بيعها ويحرم ثمنها. وقال عمر بن عبد العزيز وأبو الزناد: إن باعها لرغبة جاز، وإن باعها لخلاء لم يجز، وكان أقرب الناس إلى المالك أحق بها بغير ثمن، فإن رجع الخالي فهو أملك لها.

_ 1 انظر: المبسوط للسرخسي [23/ 162] ، والإنصاف للمرداوي [6/ 371] .

الباب السادس عشر: في الحمى والأرفاق

الباب السادس عشر: في الحمى والأرفاق وحمى الموات هو المنع من إحيائه إملاكًا؛ ليكون مستبقى الإباحة لنبت الكلأ ورعي المواشي. قد حمى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة، وصعد جبلًا بالبقيع. قال أبو عبيد: هو النقيع1بالنون2. وقال: "هذا حماي -وأشار بيده إلى القاع"3. وهو قدر ميل في ستة أميال حماه لخيل المسلمين من الأنصار والمهاجرين، فأمَّا حمى الأئمة من بعده، فإن حموا به جميع الموات أو أكثره لم يجز؛ وإن حموا أقله لخاص من الناس أو لأغنيائهم لم يجز. وإن حموه لكافَّة المسلمين أو للفقراء والمساكين ففي جوازه قولان: أحدهما: لا يجوز ويكون الحمى خاصًّا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ لرواية الصعب بن جثامة أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين حمى البقيع قال: "لا حمى إلّا لله ولرسوله" 4.

_ 1 النقيع بالنون: موضع ينتقع فيه ماء فيكثر فيه الخصب. قال ابن مفلح الحنبلي: وللإمام أن يحمي -بفتح أوله وضمه- أي: يمنع أرضًا من الموات ترعى فيها دواب المسلمين التي يقوم بحفظها كخيل المجاهدين وإبل الصدقة وضوال الناس؛ لما روى عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حمى النقيع لخيل المسلمين. رواه أبو عبيد. [المبدع: 5/ 264] . 3 لم أقف عليه. 4 صحيح: رواه البخاري في كتاب المساقاة "2370"، وأبو داود في كتاب الخراج والإمارة "3083"، وأحمد "27809". قال الشافعي: يحتمل معنى الحديث شيئين؛ أحدهما: ليس لأحد أن يحمي للمسلمين إلَّا ما حماه النبي -صلى الله عليه وسلم، والآخر: معناه: إلَّا على مثل ما حماه النبي -صلى الله عليه وسلم، فعلى الأوَّل ليس لأحد من الولاة بعده أن يحمي، وعلى الثاني يختص الحِمَى بمن قام مقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الخليفة خاصة، وأخذ أصحاب الشافعي من هذا أنَّ له في هذا قولين، والراجح عندهم الثاني، والأول أقرب إلى ظاهر اللفظ، لكن رجَّحوا الأول، والمراد بالحمى منع الرعي في أرض مخصوصة من المباحات، فيجعلها الإمام مخصوصة =

والقول الثاني: أن حمى الأئمة بعده جائز كجوازه له؛ لأنه كان يفعل ذلك لصلاح المسلمين لا لنفسه، فكذلك مَنْ قام مقامه في مصالحهم، قد حمى أبو بكر -رضي الله عنه- بالربذة لأهل الصدقة، واستعمل عليه مولاه أبا سلامة. وحمى عمر -رضي الله عنه- من الشرف مثل ما حماه أبو بكر من الربذة، وولى عليه مولًى له يقال له: هني، وقال: يا هني ضمَّ جناحك عن الناس، واتَّقِ دعوة المظلوم فإنَّ دعوة المظلوم مجابة، وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة، وإياك ونعم ابن عفان وابن عوف، فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع، وإن رب الصريمة ورب الغنيمة يأتيني بعياله فيقول: يا أمير المؤمنين، أفتاركهم أنا لا أبالك، فالكلأ أهون عليَّ من الدينار والدرهم، والذي نفسي بيده، لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرًا1. فأمَّا قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا حمى إلَّا لله ولرسوله"، فمعناه: لا حمى إلَّا على مثل ما

_ = برعي بهائم الصدقة مثلًا، وأصل الحمى عند العرب أنَّ الرئيس منهم كان إذا نزل منزلًا مخصبًا استعوى كلبًا على مكان عالٍ، فإلى حيث انتهى صوته حماه من كل جانب، فلا يرعى فيه غيره، ويرعى هو من غيره فيما سواه، والحمى هو المكان المحمي وهو خلاف المباح، ومعناه: أن يمنع من الإحياء من ذلك الموات؛ ليتوفر فيه الكلأ، فترعاه مواش مخصوصة ويمنع غيرها، والأرجح عند الشافعية أن الحمى يختص بالخليفة، ومنهم من ألحق به ولاة الأقاليم، ومحل الجواز مطلقًا أن لا يضر بكافة المسلمين، واستدلَّ به الطحاوي لمذهبه في اشتراط إذن الإمام في إحياء الموات. [انظر: فتح الباري: 5/ 44] . 1 قال الشافعي في معني قول عمر: إني قد ظلمتهم، إنَّها لبلادهم قاتوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام، إنهم يقولون: إن منعت لأحد من أحد فمن قاتل عليها وأسلم أولى أن تمنع له، وهذا كما قال: لو كانت تمنع لخاصة فلما كان لعامة لم يكن في هذا -إن شاء الله- مظلمة. وقول عمر: لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت على المسلمين بلادهم شبرًا، إني لم أحمها لنفسي ولا لخاصَّتي، وإني حميتها لمال الله أحمل عليه في سبيل الله، وكانت من أكثر ما عنده مما يحتاج إلى الحمى، فنسب الحمى إليها لكثرتها. وقد أدخل الحمى خيل الغزاة في سبيل الله، فلم يكن ما حمي ليحمل عليه أولى بما عنده من الحمى مما تركه أهله، ويحملوه عليها في سبيل الله؛ لأنَّ كلًّا لتعزيز الإسلام، وأدخل فيها إبل الضوالّ؛ لأنها قليل لعوام من أهل البلدان، وأدخل فيها ما فضل من سهمان أهل الصدقة من إبل الصدقة، وهم عوام من المسلمين يحتاجون إلى ما جعل لهم مع إدخاله من ضعف عن النجعة ممن قلَّ ماله، وفي تماسك أموالهم عليهم غنًَى عن أن يدخلوا على أهل الفيء من المسلمين، وكل هذا وجه عام النفع للمسلمين. [الأم: 4/ 48] .

حماه الله ورسوله للفقراء والمساكين ولمصالح كافَّة المسلمين؛ لا على مثل ما كانوا عليه في الجاهلية من تفرُّد العزيز منهم بالحمى لنفسه، كالذي كان يفعله كليب بن وائل؛ فإنه كان يوافي بكلب على نشاز من الأرض، ثم يستعديه ويحمي ما انتهى إليه عواؤه من كل الجهات، ويشارك الناس فيما عداه، حتى كان ذلك سبب قتله، وفيه يقول العباس بن مرداس "من الطويل": كما كان يبغيها كليب بظلمه ... من العز حتى طاح وهو قتيلها على وائل إذ يترك الكلب نابحًا ... وإذ يمنع الأقناء منها حلولها وإذا جرى على الأرض حكم الحمى استبقاء لمواتها سابلًا ومنعًا من إحيائها ملكًا روعي حكم المحمي، فإن كان للكافَّة تساوى فيه جميعهم من غنيّ وفقير ومسلم وذمي في رعي كلئهم بخيلهم وماشيتهم، فإن خص به المسلمون اشترك فيه أغنياؤهم وفقراؤهم، ومنع منهم أهل الذمة؛ وإن خص به الفقراء والمساكين منع منه الأغنياء وأهل الذمة، ولا يجوز أن يخص به الأغنياء دون الفقراء، ولا أهل الذمة دون المسلمين، وإن خص به نعم الصدقة أو خيل المجاهدين لم يشركهم فيه غيرهم، ثم يكون الحمى جاريًا على ما استقرَّ عليه من عموم وخصوص، فلو اتَّسع الحمى المخصوص لعموم الناس جاز أن يشتركوا فيه؛ لارتفاع الضرر عمَّن خص به، ولو ضاق الحمى العام عن جميع الناس لم يجز أن يختص به أغنياؤهم، وفي جواز اختصاص فقرائهم به وجهان، وإذا استقرَّ حكمٌ لحمًى على أرض فأقدم عليها من أحياها ونقض حماها روعي الحمى، فإن كان مما حماه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان الحِمَى ثابتًا والإحياء باطلًا والمتعرّض لإحيائه مردودًا مزجورًا، لا سيما إذا كان سبب الحمى باقيًا؛ لأنه لا يجوز أن يعارض حكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنقض ولا إبطال. وإن كان من حمى الأئمة بعده ففي إقرار إحيائه قولان: أحدهما: لا يقر ويجري عليه الحمى كالذي حماه رسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ لأنه حكم نفذ بحق. والقول الثاني: يقر الإحياء ويكون حكمه أثبت من الحمى؛ لتصريح رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

بقوله: "من أحيا أرضًا مواتًا فهي له" 1، ولا يجوز لأحدٍ من الولاة أن يأخذ من أرباب المواشي عوضًا عن مراعي موات أو حِمَى؛ لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء والنار والكلأ" 2.

_ 1 صحيح: رواه مالك في كتاب الأقضية من موطئه "1456"، وأبو داود في كتاب الخراج والإمارة "3073"، والترمذي في كتاب الأحكام "1378". قال الحافظ ابن حجر: حديث "من أحيا أرضًا ميتة فهي له" البخاري من طريق عروة عن عائشة أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أعمر أرضًا ليست لأحد فهو أحق بها"، قال عروة: وقضى بها عمر في خلافته. وأخرجه أبو يعلى والدارقطني والطيالسي وابن عدي من وجه آخر عن عروة، عن عائشة بلفظ: "من أحيا أرضًا ميتة فهي له"، وعن عبد الله بن عمرو أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق ابن أبي مليكة، عن عروة، عن عبد الملك بن مروان عن أبيه به، ورجال إسناده ثقات، وفي الباب عن جابر أخرجه الترمذي والنسائي من رواية أيوب عن هشام بن عروة، عن وهب بن كيسان عنه بلفظ: "من أحيا أرضًا ميتة فهي له" وخالفه وكيع عن هشام فقال عن ابن أبي رافع عن جابر، أخرجه ابن أبي شيبة وأخرجه ابن حبان من وجه آخر عن جابر، وعن فضالة بن عبيد رفعه: "الأرض أرض الله، والعباد عباد الله، من أحيا أرضًا مواتًا فهي له" أخرجه الطبراني في الأوسط. وعن عمرو بن عوف كالأول أخرجه البزار وابن أبي شيبة والطبراني وابن عدي وعن ابن عباس نحوه، أخرجه الطبراني في الكبير. [الدراية في تخريج أحاديث الهداية: 2/ 244] . والحديث صحَّحه الشيخ الألباني. 2 صحيح: رواه أبو داود في كتاب البيوع "3477"، وأحمد "22573". قال الزيلعي: روي من حديث رجل، ومن حديث ابن عباس، ومن حديث ابن عمر، فحديث الرجل أخرجه أبو داود في سننه في البيوع عن حريز بن عثمان عن أبي خداش بن حبان بن زيد عن رجل من الصحابة قال: غزوت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثًا أسمعه يقول: "المسلمون شركاء في ثلاث: في الكلأ والماء والنار" انتهى. ورواه أحمد في مسنده وابن أبي شيبة في مصنَّفه في الأقضية، وأسند بن عدي في الكامل عن أحمد وابن معين أنَّهما قالا في حريز: ثقة. وذكره عبد الحق في أحكامه من جهة أبي داود قال: لا أعلم رَوَى عن أبي خداش إلّا حريز بن عثمان، وقد قيل فيه: مجهول. انتهى. قال البيهقي في المعرفة: وأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كلهم ثقات، وترك ذكر أسمائهم في الإسناد لا يضرّ إن لم يعارضه ما هو أصحّ منه، انتهى. وأما حديث ابن عباس فأخرجه ابن ماجه في سننه في الأحكام عن عبد الله بن خداش عن العوام بن حوشب عن مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "المسلمون شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار وثمنه حرام" انتهى. =

فصل: وأما الأرفاق فهو أرفاق بمقاعد الأسواق، وأفنية الشوارع، وحريم الأمصار، ومنازل الأسفار، فيقسم ثلاثة أقسام: قسم يختص الارتفاق فيه بالصحارى والفلوات، وقسم يختص الارتفاق فيه بأفنية الأملاك، وقسم يختص بالشوارع والطرق. فأمَّا القسم الأول: وهو ما اختُصَّ بالصحارى والفلوات فكمنازل الأسفار وحلول المياه، وذلك ضربان: أحدهما: أن يكون لاجيتاز السابلة واستراحة المسافرين فيه، فلا نظر للسلطان فيه لبعده عنده، وضرورة السابلة إليه، والذي يختص السلطان له من ذلك إصلاح عورته وحفظ مياهه، والتخلية بين الناس وبين نزوله، ويكون السابق إلى المنزل أحقّ بحلوله فيه من المسبوق حتى يرتحل عنه؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "مِنَى مناخ من سبق إليها" 1. فإن وردوه على سواء وتنازعوا فيه نظر في التعديل بينهم مِمَّا يزيل تنازعهم، وكذلك البادية إذا انتجعوا أرضًا طلبًا للكلأ، وارتفاقًا بالمرعى، وانتقالًا من أرض إلى أخرى، كانوا فيما نزلوه وارتحلوا عنه كالسابلة، لا اعتراض عليهم في تنقلهم ورعيهم. والضرب الثاني: أن يقصدوا بنزول الأرض الإقامة فيها والاستيطان لها، فللسلطان في نزولهم بها نظر يراعَى فيه الأصلح، فإن كان مضرًّا بالسابلة منعوا منها قبل النزول وبعده، وإن لم يضر بالسابلة راعى الأصلح في نزولهم فيها، أو منعهم منها ونقل غيرهم إليها، كما فعل عمر حين مصَّر البصرة والكوفة؛ نقل إلى كلِّ واحد من المصرين مَنْ رأى المصلحة فيه؛

_ = قال عبد الحق في أحكامه: قال البخاري: عبد الله بن خداش عن العوام بن حوشب منكر الحديث، وضعَّفه أيضًا أبو زرعة وقال فيه أبو حاتم: ذاهب الحديث، انتهى كلامه، تركها ابن القطان عليه. انتهى. وأمَّا حديث ابن عمر فرواه الطبراني في معجمه، حدثنا الحسين بن إسحاق التستري، ثنا يحيى الحماني، ثنا قيس بن الربيع، عن زيد بن جبير، عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "المسلمون شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار" انتهى. [نصب الراية: 4/ 294] . والحديث صحَّحه الشيخ الألباني. 1 صحيح: رواه أبو داود في كتاب المناسك "2019"، والترمذي في كتاب الحج "881"، وابن ماجه في كتاب المناسك "3006"، وأحمد "25190".

لئلَّا يجتمع فيه المسافرون، فيكون سببًا لانتشار الفتنة وسفك الدماء، وكما يفعل في إقطاع الموات ما يرى، فإن لم يستأذنوه حتى نزلوه لم يمنعهم منه، كما لا يمنع من أحيا مواتًا بغير إذنه، ودبَّرهم بما يراه صلاحًا لهم، ونهاهم عن إحداث زيادة من بعد إلَّا عن إذنه. روى كثير بن عبد الله بن عن أبيه عن جده قال: قدمنا مع عمر بن الخطاب في عمرته سنة سبع عشرة، فكلمه أهل المياه في الطريق أن يبنوا بيوتًا فيما بين مكة والمدينة لم تكن قبل ذلك، فأذن لهم واشترط عليهم أنَّ ابن السبيل أحقّ بالماء والظلّ. وأما القسم الثاني: وهو ما يختص بأفنية الدور والأملاك، فإن كان مضرًّا بأربابها منع المرتفقون منها، إلَّا أن يأذنوا بدخول الضرر عليهم فيمكنوا، وإن كان غير مضر بهم، ففي إباحة ارتفاقهم به من غير إذنهم قولان: أحدهما: أنَّ لهم الارتفاق بها وإن لم يأذن أربابها؛ لأن الحريم مرفق إذا وصل أهله إلى حقهم منه ساواهم فيما عداه. والقول الثاني: أنه لا يجوز الارتفاق بحريمهم إلَّا عن إذانهم؛ لأنه تبع لأملاكهم، فكانوا به أحق وبالتصرف فيه أخص، فأمَّا حريم الجوامع والمساجد فإن كان الارتفاق به مضرًّا بأهل المساجد والجوامع منعوا منه، ولم يجز للسلطان أن يأذن لهم فيه؛ لأنَّ المصلين به أحق، وإن لمن يكن مضرًّا أجاز ارتفاقهم بحريمها1. وهل يعتبر فيه إذن السلطان لهم على وجهين منَ القولين في حريم الأملاك. وأمَّا القسم الثالث: وهو ما اختص بأفنية الشوارع والطرق فهو موقوف على نظر السلطان، وفي نظره وجهان: أحدهما: أن نظره فيه مقصور على كفهم عن التعدي، ومنعهم من الإضرار، والإصلاح بينهم عند التشاجر، وليس له أن يقيم جالسًا، ولا أن يقدّم مؤخرًا، ويكون السابق إلى

_ 1 قال منصور بن يونس البهوتي -من الحنابلة: قال القاضي: حريم الجوامع والمساجد إن كان الارتفاق بها مضرًّا بأهل الجوامع والمساجد منعوا منه، أي: من الارتفاق بها دفعًا للضرر، ولم يجز للسلطان أن يأذن فيه؛ لأن المصلين بها أحق من غيرهم، وإن لم يكن في الارتفاق بها ضرر جاز الارتفاق بحريمها؛ لأن الحق فيها لعامة المسلمين، ولا يعتبر فيه إذن السلطان ولا نائبه للحرج، ولا يجوز إحداث المسجد في المقبرة. [كشف القناع: 2/ 374] .

المكان أحق به من المسبوق1. والوجه الثاني: أنَّ نظره فيه نظر مجتهد فيما يراه صلاحًا في إجلاس من يجلسه، ومنع من يمنعه، وتقديم من يقدمه، كما يجتهد في أموال بيت المال وإقطاع الموات، ولا يجعل السابق أحق، وليس له على الوجهين أن يأخذ منهم على الجلوس أجرًا. وإذا تركهم على التراضي كان السابق منهما إلى المكان أحق به من المسبوق، فإذا انصرف عنه كان هو وغيره من الغد فيه سواء يراعى فيه السابق إليه، وقال مالك: إذا عرف أحدهم بمكان وصار به مشهورًا، كان أحق به من غيره قطعًا للتنازع وحسمًا للتشاجر، واعتبار هذا وإن كان له في المصلحة وجه يخرجه عن حكم الإباحة إلى حكم الملك. فصل: وأما جلوس العلماء والفقهاء في الجوامع والمساجد والتصدِّي للتدريس والفتيا، فعلى كل واحد منهم زاجر من نفسه، أو لا يتصدَّى لما ليس له بأهل، فيضل به المستهدي ويزِلّ به المسترشد، وقد جاء الأثر بأن أجرؤكم على الفتيا أجروكم على جراثيم جهنم. وللسلطان فيهم من النظر ما يوجبه الاختيار من إقراره أو إنكاره، فإذا أراد من هو لذلك أهل أن يترتَّب في أحد المساجد؛ لتدريس أو فتيا نظر حال المسجد، فإن كان مساجد المحال التي لا يترتب الأئمة فيها من جهة السلطان لم يلزم من ترتب فيه للتدريس والفتيا استئذان السلطان في جلوسه، كما لا يلزم أن يستأذنه من ترتيب للإمامة، وإن كان من الجوامع وكبار المساجد التي ترتب الأئمة فيها بتقليد السلطان، روعي في ذلك عرف البلد وعادته في جلوس أمثاله، فإن كان للسلطان في جلوس مثله نظر، لم يكن له أن يترتب

_ 1 قال أبو إسحاق الشيرازي -من الشافعية: ويجوز الارتفاق بما بين العامر من الشوارع والرحاب الواسعة بالقعود للبيع والشراء؛ لاتفاق أهل الأمصار في جميع الأعصار على إقرار الناس على ذلك دون إنكار؛ ولأنه ارتفاق بمباح، فلم يمنع منه كالاجتياز، فإن سبق إليه كان أحق به؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم: "مِنَى مناخ من سبق"، وله أن يظلل بما لا ضرر به على المارة من بارية وثوب؛ لأنَّ الحاجة تدعو إلى ذلك، وإن أراد أن يبني دكَّة منع منه؛ لأنه يضيق به الطريق ويعثر به الضرير وبالليل البصير فلم يجز. [المهذب: 1/ 426] .

للجلوس فيه إلّا عن إذنه، كما لا يترتب للإمامة فيه إلَّا عن إذنه؛ لئلَّا يفتات عليه في ولايته. وإن لم يكن للسلطان في مثله نظر معهود لم يلزم استئذانه للترتيب فيه، وصار كغيره من المساجد، وإذا ارتسم بموضع من جامع أو مسجد فقد جعله مالك أحق بالموضع إذا عرف به، والذي عليه جمهور الفقهاء أن هذا يستعمل في عرف الاستحسان، وليس بحق مشروع، وإذا قام عنه زال حقّه منه، وكان السابق إليه أحق؛ لقول الله تعالى: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَاد} [الحج: 25] . ويمنع الناس في الجوامع والمساجد من استطراق حَلَقِ الفقهاء والقراء صيانة لحرمتها. وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا حمى إلا في ثلاث: ثلة البئر، وطول الفرس، وحلقة القوم" 1 فأمَّا ثلة البئر فهو منتهى حريمها، وأمَّا طول الفرس فهو ما دار فيه بمقوده إذا كان مربوطًا، وأمَّا حلقة القوم فهو استدارتهم في الجلوس للتشاور والحديث. وإذا تنازع أهل المذاهب المختلفة فيما يسوغ فيه الاجتهاد لم يعترض عليهم فيه، إلَّا أن يحدث بينهم تنافر فيكفوا عنه، وإن حدث منازع ارتكب ما لا يسوغ فيه الاجتهاد كف عنه ومنع منه، فإن أقام عليه وتظاهر باستغواء من يدعو إليه لزم السلطان أن يحسم بزواجر السلطنة ظهور بدعته، ويوضِّح بدلائل الشرع فساد مقالته، فإن لكل بدعة مستمعًا، ولكل مستغو متبعًا، وإذا تظاهر بالصلاح من استبطن ما سواه ترك، وإذا تظاهر بالعلم من عرِّي منه هتك؛ لأنَّ الداعي إلى صلاح ليس فيه مصلح، والداعي إلى علم ليس فيه مضل.

_ 1 رواه البيهقي في السنن الكبرى "11618".

الباب السابع عشر: في أحكام الإقطاع

الباب السابع عشر: في أحكام الإقطاع وإقطاع1 السلطان مختَصّ بما جاز فيه تصرفه، ونفذت فيه أوامره، ولا يصحّ فيما تعيَّن فيه مالكه وتميَّز مستحقه، وهو ضربان: إقطاع تمليك، وإقطاع استغلال. فأمَّا إقطاع التمليك فتنقسم فيه الأرض المقطعة ثلاثة أقسام: موات2 وعامر ومعادن، فأمَّا الموات فعلى ضربين: أحدهما: ما لم يزل مواتًا على قديم الدهر، فلم تجز فيه عمارة، ولا يثبت عليه ملك، فهذا الذي يجوز للسلطان أن يقطعه من يحييه ومن يعمّره، ويكون الإقطاع على مذهب أبي حنيفة شرطًا في جواز الإحياء؛ لأنه يمنع من إحياء الموات إلّا بإذن الإمام، وعلى مذهب الشافعي أنَّ الإقطاع يجعله أحق بإحيائه من غيره، وإن لم يكن شرطًا في جوازه؛ لأنه يجوز إحياء الموات بغير إذن الإمام، وعلى كلا المذهبين يكون المقطَع أحق بإحيائه من غيره3.

_ 1 قال أبو عبد الله البعلي: الإقطاع مصدر أقطعه إذا ملكه، أو أذن له في التصرُّف في الشيء، قال أبو السعادات: والإقطاع يكون تمليكًا وغير تمليك. [المطلع: ص 281] . 2 الموات: كسحاب، والميتة والموتان -بفتح الميم والواو: الأرض الدارسة الخراب، قاله في المغني والشرح، وعرَّفها الأزهري بأنها الأرض التي ليس لها مالك، ولا بها ماء ولا عمارة، ولا ينتفع بها، والموات مشتق من الموت وهو عدم الحياة. [المبدع: 5/ 249] . 3 قال أبو إسحاق الشيرازي: ولا يجوز لأحد أن يحمي مواتًا؛ ليمنع الإحياء ورعي ما فيه من الكلأ؛ لما روى الصعب بن جثامة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا حمى إلَّا لله ولرسوله"، فأمَّا الرسول -عليه الصلاة والسلام- فإنه كان يجوز له أن يحمي لنفسه وللمسلمين، فأمَّا لنفسه فإنَّه ما حمي ولكنَّه حمى للمسلمين، والدليل عليه ما روى ابن عمر -رضي الله عنه- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- حمى النقيع لخيل المسلمين، وأمَّا غيره من الأئمة فلا يجوز أن يحمي لنفسه للخبر، وهل يجوز أن يحمي لخيل المجاهدين ونعم الجزية وإبل الصدقة وماشية من يضعف عن الإبعاد في طلب النجعة، فيه قولان: أحدهما: لا يجوز للخبر. والثاني: يجوز لما روى عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: أتى أعرابي من أهل نجد عمر فقال: يا أمير المؤمنين، بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية، وأسلمنا عليها في الإسلام، فعلام تحميها؟ فأطرق عمر -رضي الله عنه- وجعل ينفخ ويفتل شاربه، وكان إذا كره أمرًا فتل شاربه ونفخ، فلمَّا رأى الأعرابي ما به =

قد أقطع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الزبير بن العوام ركض فرسه من موات النقيع، فأجراه ثم رمى بسوطه رغبة في الزيادة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أعطوه منتهى سوطه"1. والضرب الثاني من الموات ما كان عامرًا فخرب، فصار مواتًا عاطلًا، وذلك ضربان: أحدهما: ما كان جاهليًّا كأرض عاد وثمود، فهي كالموات الذي لم يثبت فيه عمارة، ويجوز إقطاعه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "عادي الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم مني"2. يعني أرض عاد. والضرب الثاني: ما كان إسلاميًّا جرى عليه ملك المسلمين، ثم خرب حتى صار مواتًا عاطلًا، فقد اختلف الفقهاء في حكم إحيائه على ثلاثة أقوال: فذهب الشافعي فيه إلى أنه لا

_ = جعل يردد ذلك، فقال عمر: المال مال الله، والعباد عباد الله، فلولا ما أحمل عليه في سبيل الله ما حميت من الأرض شبرًا في شبر. قال مالك: نبئت أنه كان يحمل في كل عام على أربعين ألفًا من الظهر، وقال مرة: من الخيل، وروى زيد بن أسلم عن أبيه أنَّ عمر -رضي الله عنه- استعمل مولًى له يدعى هنيّ على الحِمَى وقال له: يا هني، اضمم جناحك عن الناس، واتق دعوة المظلوم، فإن دعوة المظلوم مجابة، وأدخل رب الصريمة والغنيمة، وإياك ونعم ابن عوف، وإياك ونعم ابن عفان، فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعا إلى نخل وزرع، وإن ربَّ الصريمة وربَّ الغنيمة إن تهلك ماشيتهما فيأتياني فيقولا: يا أمير المؤمنين. أفتاركهم أنا، لا أبا لك، إنَّ الماء والكلأ أيسر عندي من الذهب والورق، والذي نفسي بيده، لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرًا، فإن حِمَى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرضًا لحاجة، والحاجة باقية لم يجز إحياؤها، وإن زالت الحاجة ففيه وجهان: أحدهما يجوز لأنَّه زال السبب، والثاني: لا يجوز؛ لأن ما حكم به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نصّ، فلا يجوز نقضه بالاجتهاد، وإن حماه إمام غيره وقلنا: إنه يصح حماه، فأحياه رجل ففيه قولان: أحدهما: لا يملكه، كما لا يملك ما حماه رسول الله -صلى الله عليه وسلم. والثاني: يملك؛ لأن حمى الإمام اجتهاد وملك الأرض بالإحياء نص، والنص لا ينقض بالاجتهاد. [المهذب: 1/ 427] . 1 رواه أبو داود في كتاب الخراج "3072"، وأحمد "6422"، والبيهقي في السنن الكبرى "11570"، والطبراني في الكبير "13352"، وضعَّفه الشيخ الألباني. قال ابن الملقن: حديث: "عادي الأرض لله ولرسوله ثم لكم مني" رواه الشافعي من رواية ابن طاوس، كذلك والبيهقي من رواية طاوس، إلّا أنه قال: "ثم لكم من بعد" رواه كذلك موقوفًا على ابن عباس. [خلاصة البدر المنير: 2/ 109] .

يملك بالإحياء سواءٌ عرف أربابه أو لم يعرفوا. وقال مالك: يملك بالإحياء سواء عرف أربابه أو لم يعرفوا1، وقال أبو حنيفة -رحمه الله: إن عرف أربابه لم يملك بالإحياء، وإن لم يعرفوا ملك بالإحياء، وإن لم يجز على مذهبه أن يملك بالإحياء من غير إقطاع، فإن عرف أربابه لم يجز إقطاعه، وكانوا أحق ببيعه وإحيائه، وإن لم يعرفوا جاز إقطاعه، وكان الإقطاع شرطًا في جواز إحيائه، فإذا صار الموات على ما شرحناه إقطاعًا، فمن خصه الإمام به وصار بالإقطاع أحق الناس به لم يستقر ملكه عليه قبل الإحياء، فإن شرع في إحيائه صار بكمال الإحياء مالكًا له، وإن أمسك عن إحيائه كان أحق به يدًا، وإن لم يصر ملكًا ثم روعي إمساكه عن إحيائه، فإن كان لعذر ظاهر لم يعترض عليه فيه، وأقرّ في يده إلى زوال عذره، وإن كان غير معذور، قال أبو حنيفة: لا يعارض فيه قبل مضيّ ثلاث سنين، فإن أحياه فيها، وإلّا بطل حكم إقطاعه بعدها احتجاجًا بأنَّ عمر -رضي الله عنه- جعل أجل الإقطاع ثلاث سنين. وعلى مذهب الشافعي أنَّ تأجيله لا يلزم، وإنَّما المعتبر فيه القدرة على إحيائه، فإذا مضى عليه زمان يقدر على إحيائه فيه قيل له: إما تحييه فيقر في يدك، وإمّا أن ترفع يدك عنه ليعود إلى حاله قبل إقطاعه، وأما تأجيل عمر -رضي الله عنه- فهو قضية في عين يجوز أن يكون لسبب اقتضاه أو لاستحسان رآه.

_ 1 قال أبو الحسن المرداوي -من الحنابلة: فإن كان فيها آثار الملك ولا يعلم لها مالك فعلى روايتين: إن كان الموات لم يجر عليه ملك لأحد، ولم يوجد فيه أثر عمارة ملك بلا إحياء بلا خلاف، ونصَّ عليه مرارًا، وإن علم له مالك بشراء أو عطية، والمالك موجود هو أو أحد من ورثته لم يملك بالإحياء بلا خلاف، بل هو إجماع حكاه ابن عبد البر وغيره، وإن كان قد ملك بالإحياء ثم ترك حتى دثر وعاد مواتًا، فهذا أيضًا لا يملك بالإحياء كذلك إذا كان لمعصوم، وإن علم ملكه معصوم فإن أحياه بدار الحرب واندرس كان كموات أصلي يملكه المسلم بالإحياء، قاله في المحرر، وقال القاضي وابن عقيل وأبو الفرج الشيرازي: لا يملك بالإحياء، ويقتضيه مطلق نصوصه، وإن كان لا يعلم له مالك فهو أربعة أقسام: أحدها: ما أثر الملك جاهلي كالقرى الخربة التي ذهبت أنهارها ودرست آثارها وقد شملها كلام المصنّف، ففي ملكها بالإحياء روايتان وغيره، إحداهما: لا تملك بالإحياء، والرواية الثانية: تملك بالإحياء، وصحَّحه في الحاوي والنظم وأطلقوا، والصحيح التفرقة بين دار الحرب ودار الإسلام. [الإنصاف: 6/ 355] .

فلو تغلَّب على هذا الموات المستقطع متغلِّب فأحياه، فقد اختلف العلماء في حكمه على ثلاثة مذاهب: مذهب الشافعي: إنَّ محييه أحق به من مستقطعه. وقال أبو حنيفة: إن أحياه قبل ثلاث سنين كان ملكًا للمقطع، وإن أحياه بعدها كان ملكًا للمحيي. وقال مالك: إن أحياه عالمًا بالإقطاع كان ملكًا للمقطع، وإن أحياه غير عالم بالإقطاع خيّر المقطَع بين أخذه وإعطاه المحيي نفقة عمارته، وبين تركه للمحيي والرجوع عليه بقيمة الموات قبل إحيائه1.

_ 1 قال ابن قدامة المقدسي -من الحنابلة: وإن تحجَّر مواتًا وهو أن يشرع في إحيائه مثل أن أدار حول الأرض ترابًا وأحجارًا أو حاطها لم يملكها بذلك؛ لأن الملك بالإحياء وليس هذا إحياء، لكن يصير أحق الناس به؛ لأنه روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به" رواه أبو داود. فإن نقله إلى غيره صار الثاني بمنزلته؛ لأن صاحبه أقامه مقامه، وإن مات فوارثه أحق به؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "من ترك حقًّا أو مالًا فهو لورثته"، فإن باعه لم يصح بيعه؛ لأنه لم يملكه، فلم يملك بيعه كحق الشفعة قبل الأخذ به، وكمن سبق إلى معدن أو مباح قبل أخذه. قال أبو الخطاب: ويحتمل جواز بيعه؛ لأنه له، فإن سبق غيره فأحياه ففيه وجهان: أحدهما: إنه يملكه؛ لأن الإحياه يملك به، والحجر لا يملك به، فثبت الملك بما يملك به دون ما لم يملك به، كمن سبق إلى معدن أو مشرعة ماء، فجاء غيره فأزاله وأخذه. والثاني: لا يملكه؛ لأن مفهوم قوله -عليه السلام: "من أحيا أرضًا ميتة ليست لأحد" وقوله في مسلم: "فهي له" إنَّها لا تكون له إذا كان لمسلم فيها حق، وكذلك قوله: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به" وروى سعيد في سننه أن عمر -رضي الله عنه- قال: من كانت له أرض -يعني: من تحجر- أرضًا فعطلها ثلاث سنين، فجاء قوم فعمروها فهم أحق بها. وهذا يدل على أنَّ من عمَّرها قبل ثلاث سنين لا يملكها؛ لأنَّ الثاني أحيا في حق غيره فلم يملكه، كما لو أحيا ما يتعلق به مصالح ملك غيره، ولأنَّ حق المتحجّر أسبق، فكان أولى كحق الشفيع يقدم على شراء المشتري، فإن طالت المدة عليه فينبغي أن يقول له السلطان: إمَّا أن تحييه أو تتركه ليحييه غيرك؛ لأنه ضيق على الناس في حق مشترك بينهم، فلم يمكن من ذلك، كما لو وقف في طريق ضيق أو مشرعة ماء أو معدن لا ينتفع ولا يدع غيره ينتفع، فإن سأل الإمهال لعذر له أمهل الشهر والشهرين ونحو ذلك، فإن أحياه غيره في مدّة ضربت له لينقطع حقه بمضيها، وسواء أذن له السلطان في عمارتها أو لم يأذن له، وإن لم يكن للمتحجّر عذر في ترك العمارة قيل له: إمَّا أن تعمّر وإمَّا أن ترفع يدك، فإن لم يعمرها كان لغيره عمارتها، فإن لم يقل له شيئًا واستمرَّ تعطيلها فقد ذكرنا عن عمر -رضي الله عنه- أنَّ من تحجَّر أرضًا فعطلها ثلاث سنين، فجاء قوم فعمروها فهم أحق بها، ومذهب الشافعي في هذا كله نحو ما ذكرنا. [المغني: 5/ 331] .

فصل: وأما العامر فضربان: أحدهما: ما تعيَّنَ مالكه فلا نظر للسلطان فيه، إلَّا ما يتعلق بتلك الأرض من حقوق بيت المال إذا كانت في دار الإسلام، سواء كانت لمسلمٍ أو ذميّ، فإن كانت في دار الحرب التي لا يثبت للمسلمين عليها بُدّ، فأراد الإمام أن يقطعها ليملكها المقطع عند الظفر بها جاز. وقد سأل تميم الداري رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقطعه عيون البلد الذي كان منه بالشام قبل فتحه ففعل. وسأله أبو ثعلبة الخشني أن يقطعه أرضًا كانت بيد الروم فأعجبه ذلك، وقال: "ألا تسمعون ما يقول؟ " فقال: والذي بعثك بالحق ليفتحنّ عليك. فكتب له بذلك كتابًا. وهكذا لو استوهب من الإمام مال في دار الحرب وهو على ملك أهلها، أو استوهب أحد من سبيها وذراريها ليكون أحق به إذا فتحها، جاز وصحَّت العطية فيه مع الجهالة بها لتعلقها بالأمور العامة. روى الشعبي أنَّ حريم بن أوس بن حارثة الطائي قال للنبي -صلى الله عليه وسلم: إن فتح الله عليك الحيرة فأعطني بنت نفيلة، فلمَّا أراد خالد صلح أهل الحيرة، قال له حريم: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جعل لي بنت نفيلة، فلا تدخلها في صلحك، وشهد له بشير بن سعد ومحمد بن مسلمة، فاستثناها من الصلح ودفعها إلى حريم، فاشتُرِيَت منه بألف درهم، وكانت عجوزًا قد حالت عن عهده فقيل له: ويحك لقد أرخصتها، كان أهلها يدفعون إليك ضعف ما سألت بها، فقال: ما كنت أظن أن عددًا يكون أكثر من ألف1. وإذا صحَّ الإقطاع والتمليك على هذا الوجه نظر حال الفتح، فإن كان صلحًا خلصت الأرض لمقطعها، وكانت خارجة عن حكم الصلح بالإقطاع السابق، وإن كان الفتح عنوة كان المستقطع والمستوهب أحق بما استقطعه واستوهبه من الغانمين، ونُظِرَ في الغانمين،

_ 1 أورده الزيلعي في نصب الراية "3/ 433".

فإن علموا بالإقطاع والهبة قبل الفتح فليس لهم المطالبة بعِوَض ما استقطع ووهب؛ وإن لم يعلموا حتى فتحوا عاوضهم الإمام عنه بما يستطيب به نفوسهم، كما يستطيب نفوسهم عن غير ذلك من الغنائم. وقال أبو حنيفة: لا يلزمه استطابة نفوسهم عنه ولا عن غيره من الغنائم إذا رأى المصلحة في أخذها منهم. والضرب الثاني: من العامر ما لم يتعيّن مالكوه ولم يتميّز مستحقوه، وهو على ثلاثة أقسام: أحدها: ما اصطفاه الإمام لبيت المال من فتوح البلاد، إمَّا بحق الخمس فيأخذه باستحقاق أهله، وإمَّا بأن يصطفيه باستطابة نفوس الغانمين عنه، فقد اصطفى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- من أرض السواد أموال كسرى وأهل بيته، وما هرب عنه أربابه أو هلكوا، فكان مبلغ غلتها تسعة آلاف ألف درهم، كان يصرفها في مصالح المسلمين، ولم يقطع شيئًا منها، ثم إنَّ عثمان -رضي الله عنه- أقطعها؛ لأنه رأى إقطاعها أوفر لغلتها من تعطيلها، وشرط على من أقطعها إياه يأخذ منه حق الفيء، فكان ذلك منه إقطاع إجازة لا إقطاع تمليك، فتوفَّرت غلتها حتى بلغت على ما قيل: خمسين ألف ألف درهم، فكان منها صلاته وعطاياه، ثم تناقلها الخلفاء بعده، فلمَّا كان عام الجماجم سنة اثنتين وثمانين في فتنة ابن الأشعث أحرق الديوان وأخذ كل قوم ما يليهم، فهذا النوع من العامر لا يجوز إقطاع رقبته؛ لأنه قد صار باصطفائه لبيت المال ملكًا لكافة المسلمين، فجرى على رقبته حكم الوقوف المؤبَّدة، وصار استغلاله هو المال الموضوع في حقوقه. والسلطان فيه بالخيار على وجه النظر في الأصلح بين أن يستغلَّه لبيت المال كما فعل عمر -رضي الله عنه، وبين أن يتخيّر له من ذوي المكنة والعمل من يقوم بعمارة رقبته بخراج يوضع عليه مقدَّر بوفور الاستغلال، ونقصه كما فعل عثمان -رضي الله عنه، ويكون الخراج أجرة تصرّف في وجوه المصالح، إلَّا أن يكون مأخوذًا بالخمس فيصرف في أهل الخمس، فإن كان ما وضعه من الخراج مقاسمة على الشطر من الثمار والزروع جاز في النخل، كما ساقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهل خيبر على النصف من ثمار النخل، وجوازها في الزرع معتبر باختلاف

الفقهاء في جواز المخابرة، فمن أجازها أجاز الخراج بها1، ومن منع منها منع من الخراج بها، وقيل: بل يجوز الخراج بها، وإن منع المخابرة لما يتعلّق بها من عموم المصالح التي يتَّسع حكمها عن أحكام العقود الخاصة، ويكون العشر واجبًا في الزرع دون الثمر؛ لأنَّ الزرع ملك لزارعيه، والثمرة ملك لكافَّة المسلمين مصروفة في مصالحهم. والقسم الثاني من العامر: أرض الخراج، فلا يجوز إقطاع رقابهم تمليكًا؛ لأنها تنقسم على ضربين: ضرب يكون رقابهم وقفًا وخراجها أجرة، فتمليك الوقف لا يصح بإقطاع ولا بيع ولا هبة، وضرب يكون رقابها ملكًا وخراجها جزية، فلا يصح إقطاع مملوك تعين مالكوه، فأمَّا إقطاع خراجها فنذكره بعد في إقطاع الاستغلال. والقسم الثالث: ما مات عنه أربابه ولم يستحقه وارثه بفرض ولا تعصيب، فينتقل إلى بيت المال ميراثًا لكافَّة المسلمين مصروفًا في مصالحهم. وقال أبو حنيفة: ميرات من لا وارث له مصروف في الفقراء خاصة صدقة عن الميت، ومصرفه عند الشافعي في وجوه المصالح أعمّ؛ لأنه قد كان من الأملاك الخاصة، وصار بعد الانتقال إلى بيت المال من الأملاك العامة، وقد اختلف أصحاب الشافعي فيما انتقل إلى بيت المال من رقاب الأموال هل يصير وقفًا عليه بنفس الانتقال إليه؟ على وجهين: أحدهما: إنها تصير وقفًا لعموم مصرفها الذي لا يختص، فعلى هذا لا يجوز بيعها ولا إقطاعها. والوجه الثاني: لا تصير وقفًا حتى يقفها الإمام، فعلى هذا يجوز له بيعها إذا رأى بيعها أصلح لبيت المال، ويكون ثمنها مصروفًا في عموم المصالح، وفي ذوي الحاجات من أهل الفيء وأهل الصدقات، وأمَّا إقطاعها على هذا الوجه فقد قيل بجوازه؛ لأنَّه لما جاز بيعها وصرف ثمنها إلى من يراه من ذوي الحاجات وأرباب المصالح جاز إقطاعها له، ويكون تمليك رقبتها كتمليك ثمنها، وقيل: إنَّ إقطاعها لا يجوز وإن جاز بيعها؛ لأنَّ البيع معاوضة وهذا الإقطاع صلة، والأثمان إذا صارت ناضَّة له حكم يخالف في العطايا حكم الأصول

_ 1 في الحديث: الذي رواه البخاري في كتاب الإجارة "2286"، ومسلم في كتاب المساقاة "1551" عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع.

الثابتة فافترقا؛ وإن كان الفرق بينهما ضعيفًا، وهذا الكلام في إقطاع التمليك. فصل: وأما إقطاع الاستغلال فعلى ضربين: عُشْرٌ، وخراج1. فأما العشر فإقطاعه لا يجوز؛ لأنه زكاة لأصناف يعتبر وصف استحقاقها عند دفعها إليهم، وقد يجوز أن لا يكونوا من أهلها وقت استحقاقها؛ لأنها تجب بشروط يجوز أن لا توجد فلا تجب، فإن وجبت وكان مقطعها وقت الدفع مستحقًّا كانت حوالة بعشر قد وجب على ربّه لمن هو من أهله، صح وجاز دفعه إليه، ولا يصير دينًا له مستحقًّا حتى يقبضه؛ لأن الزكاة لا تملك إلَّا بالقبض، فإن منع من العشر لم يكن له خصمًا فيه، وكان عامل العشر بالمطالبة أحق. وأمَّا الخراج فيختلف حكم إقطاعه باختلاف حال مقطعه، وله ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون من أهل الصدقات، فلا يجوز أن يقطع مال الخراج؛ لأن الخراج فيء لا يستحقه أهل الصدقة، كما لا يستحق الصدقة أهل الفيء، وجوَّز أبو حنيفة ذلك؛ لأنَّه يجوز صرف الفيء في أهل الصدقة. والحالة الثانية: أن يكون من أهل المصالح مِمَّن ليس له رزق مفروض، فلا يصح أن يقطعه على الإطلاق، وإن جاز أن يعطاه من مال الخراج؛ لأنَّه من نفل أهل الفيء لا من

_ 1 قال منصور بن يونس البهوتي من الحنابلة: وجعل إقطاع الاستغلال على ضربين عشر وخراج، وللإمام إقطاع موات لمن يحييه؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- أقطع بلال بن الحارث العقيق، وأقطع وائل بن حجر أرضًا، وأقطع أبو بكر وعمر وعثمان وجمع من الصحابة، ولا يملكه -أي: الموات- بالإقطاع؛ لأنَّه لو ملكه ما جاز استرجاعه، بل يصير المقطع كالمتحجّر الشارع في الإحياء؛ لأنه ترجح بالإقطاع على غيره، ويسمَّى تملكًا لما له إليه، ولا ينبغي للإمام أن يقطع إلَّا ما قدر المقطع على إحيائه؛ لأنَّ في إقطاعه أكثر من ذلك تضييقًا على الناس في حق مشترك بينهم مما لا فائدة فيه، فإن أقطع الإمام أحدًا أكثر منه، أيّ: مما يقدر على إحيائه، ثم تبين عجزه عن إحيائه، استرجعه الإمام منه، كما استرجع عمر من بلال بن الحارث ما عجز عن عمارته من العقيق الذي أقطعه أيام الرسول -صلى الله عليه وسلم، وله -أي: للإمام- موات تمليكًا وانتفاعًا للمصلحة لما تقدَّم. [كشف القناع: 4/ 195] .

فرضه، وما يعطى له إنَّما هو من صلات المصالح، فإن جعل له من مال الخراج شيء أجرى عليه حكم الحوالة والتسبب، لا حكم الإقطاع، فيعتبر في جوازه شرطان: أحدهما: أن يكون بمالٍ مقدَّر قد وجد سبب استباحته. والثاني: أن يكون مال الخراج قد حلَّ ووجب؛ ليصحَّ التسبب عليه والحوالة به، فخرج بهذين الشرطين عن حكم الإقطاع. والحالة الثالثة: أن يكون من مرتزفة أهل الفيء وفرضية الديوان، وهم أهل الجيش، وهو أخص الناس بجواز الإقطاع؛ لأنَّ لهم أرزاقًا مقدَّرة تصرف إليهم مصرف الاستحقاق؛ لا تعويض عمَّا أرصدوا نفوسهم من حماية البيضة والذبّ عن الحريم، فإذا صحَّ أن يكونوا من أهل الإقطاع روعي حينئذ مال الخراج، فإن له حالتين: حال يكون جزية، وحال يكون أجرة، فأمَّا ما كان منه جزية فهو مستقرٌّ على التأبيد؛ لأنه مأخوذ مع بقاء الكفر، وزائل مع حدوث الإسلام، فلا يجوز إقطاعه أكثر من سنة؛ لأنه غير موثوق باستحقاقه بعدها، فإن أقطعه سنة بعد حلوله واستحقاقه صح، وإن أقطعه في السنة قبل استحقاقه ففي جوازه وجهان: أحدهما: يجوز إذا قيل: إنَّ حول الجزية مضروب للأداء. والثاني: لا يجوز إذا قيل: إنَّ حول الجزية مضروب للوجوب، وأمَّا ما كان من الخراج أجرة فهو مستقر الوجوب على التأييد، فيصح إقطاعه سنتين، ولا يلزم الاقتصار منه على سنة واحدة، بخلاف الجزية التي لا تستقر. وإذا كان كذلك فلا يخلو حاله أقطاعه من ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يقدِّر سنين معلومة كإقطاعه عشر سنين، فيصحّ إذا روعي فيه شرطان: أحدهما: أن يكون رزق المقطع معلوم القدر عند باذل الإقطاع؛ فإن كان مجهولًا عنده لم يصح. والثاني: أن يكون قدر الخراج معلومًا عند المقطع وعند باذل الإقطاع، فإن كان مجهولًا عندهما أو عند أحدهما لم يصح، وإذا كان كذلك لم يخل حال الخراج من أحد أمرين، إما أن

يكون مقاسمة أو مساحة، فإن كان مقاسمة فمَن جوَّز مِنَ الفقهاء وضع الخراج على المقاسمة جعله منَ المعلوم الذي يجوز إقطاعه، ومن منع من وضع الخراج على المقاسمة جعله من المجهول، وإن كان الخراج مساحة فهو ضربان: أحدهما: أن لا يختلف باختلاف الزروع، فهذا معلوم يصح إقطاعه. والثاني: أن يختلف باختلاف الزروع، فينظر مقطعه، فإن كان في مقابلة أعلى الخراجين صحَّ إقطاعه؛ لأنه راضٍ بنقص إن دخل عليه، وإن كان في مقابلة أقل الخراجين لم يصح إقطاعه؛ لأنَّه قد يوجد فيه زيادة لا يستحقها، ثم يراعى بعد صحة الإقطاع في هذا القسم حال المقطع في مدة الإقطاع، فإنها لا تخلو من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يبقى إلى انقضائها على حال السلامة، فهو على استحقاق الإقطاع إلى انقضاء المدة. والحالة الثانية: أن يموت قبل انقضاء المدة، فيبطل الإقطاع في المدة الباقية بعد موته، ويعود إلى بيت المال، فإن كانت له ذرية دخلوا في إعطاء الذراري لا في أرزاق الجند، فكان ما يعطونه سببًا لا إقطاعًا. والحالة الثالثة: أن يحدث به زمانة فيكون باقي الحياة مفقود الصحة، ففي بقاء إقطاعه بعد زمانته قولان: أحدهما: إنه باقٍ عليه إلى انقضاء مدته إذا قيل: إن رزقه بالزمانة قد سقط، فهذا حكم القسم الأول إذا قدِّر الإقطاع فيه بمدة معلومة. والقسم الثاني من أقسامه: أن يستقطعه مدة حياته ثم لعقبه وورثته بعد موته، فهذا إقطاع باطل؛ لأنه قد خرج بهذا الإقطاع من حقوق بيت المال إلى الأملاك الموروثة، وإذا بطل كان ما اجتباه منه مأذونًا فيه عن عقد فاسد، فيبرأ أهل الخراج بقبضه، وحسب من جملة رزقه، فإن كان أكثر رد الزيادة، وإن كان أقل رجع بالباقي، وأظهر السلطان فساد الإطلاع حتى يمنع من القبض، ويمنع أهل الخراج من الدفع؛ فإن دفعوه بعد إظهار ذلك لم يبرأ منه. والقسم الثالث: أن يستقطعه مدة حياته، ففي صحة الإقطاع قولان: أحدهما: إنه صحيح إذ قيل: إنَّ حدوث زمانته لا يقتضي سقوط رزقه.

والقول الثاني: إنَّه باطل؛ إذ قيل: إنَّ حدوث زمانته يوجب سقوط رزقه، وإذا صحَّ الإقطاع فأراد السلطان استرجاعه من مقطعه جاز ذلك فيما بعد السنة التي هو فيها، ويعود رزقه إلى ديون العطايا، فأمَّا في السنة التي هو فيها فينظر، فإن حلَّ رزقه فيها قبل حلول خراجها لم يسترجع منه في سنته؛ لاستحقاق خراجها في رزقه، وإن حلَّ خراجها قبل حلول رزقه جاز استرجاعه منه؛ لأن تعجيل المؤجّل وإن كان جائزًا ليس بلازم. وأما أرزاق ما عدا الجيش إذا أقطعوا بها مال الخراج فيقسمون ثلاثة أقسام: أحدهما: من يرتزق على عمل غير مستديم -كعمال المصالح، وجباة الخراج، فالإقطاع بأرزاقهم لا يصح، ويكون ما حصل لهم بها من مال الخراج تسببًا وحوالة بعد استحقاق الرزق وحلول الخراج. والقسم الثاني: من يرزق على عمل مستديم، ويجري رزقه مجرى الجعالة، وهم الناظرون في أعماق البرِّ التي يصحّ التطوع بها، إذا ارتزقوا عليها -كالمؤذنين والأئمة، فيكون جعل الخراج لهم في أرزاقهم تسببًا به وحوالة عليه، ولا يكون إقطاعًا. والقسم الثالث: من يرتزق على عمل مستديم، ويجري رزقه مجرى الإجارة، وهو من لا يصح نظره إلّا بولاية وتقليد، مثل: القضاة والحكام وكُتَّاب الدواوين، فيجوز أن يقطعوا بأرزاقهم خراج سنة واحدة، ويحتمل جواز إقطاعهم أكثر من سنة وجهين: أحدهما: يجوز كالجيش. والثاني: لا يجوز؛ لما يتوجَّه إليهم من العزل والاستبدال.

فصل: وأما إقطاع المعادن، وهي البقاع التي أودعها الله تعالى جواهر الأرض، فهي ضربان: ظاهرة وباطنة1. فأمَّا الظاهرة: فهي ما كان جوهرها المستودع فيها بارزًا -كمعادن الكحل، والملح، والقار، والنفط، وهو كالماء الذي لا يجوز إقطاعه، والناس فيه سواء، يأخذه من ورد إليه، روى ثابت بن سعيد عن أبيه عن جده أنَّ الأبيض بن حَمَّال استقطع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ملح مأرب فأقطعه، فقال الأقرع بن حابس التميمي: يا رسول الله، إني وردت هذا الملح في الجاهلية، وهو بأرض ليس فيها غيره من وَرَدَه أخذه، وهو مثل الماء العد بالأرض، فاستقال الأبيض في قطيعة الملح، فقال قد أقلتك على أن تجعله مني صدقة، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام: "هو منك صدقة، وهو مثل الماء العد من وردة أخذه" 2. قال أبو عبيد: الماء العد هو الذي له مواد تمده مثل العيون والآبار. وقال غيره: هو الماء المتجمع المعد، فإن أقطعت هذه المعادن الظاهرة لم يكن لإقطاعها حكم، وكان المقطع وغيره فيها سواء، وجميع من ورد إليها أسوة مشتركون فيها، فإن منعهم المقطِع

_ 1 قال أبو إسحاق الشيرازي -من الشافعية: وأمَّا المعادن فإنَّها إن كانت من المعادن الظاهرة لم يجز إقطاعها؛ لما روى ثابت بن سعيد بن أبيه عن جده أبيض بن حمَّال أنه استقطع النبي -صلى الله عليه وسلم- ملح المأرب فأقطعه إياه، ثم إنَّ الأقرع بن حابس قال: يا رسول الله، إني قد وردت الملح في الجاهلية وهو بأرض ليس بها ملح ومن وَردَه أخذه، وهو مثل الماء العد بأرض، فاستقال أبيض بن حمَّال فقال أبيض: قد أقلتك فيه على أن تجعله مني صدقة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هو منك صدقة وهو مثل الماء العد ومن ورده أخذه". وإن كانت من المعادن الباطنة فإن قلنا: إنَّها تملك بالإحياء جاز إقطاعه؛ لأنه موات يجوز أن يملك بالإحياء، فجاز إقطاعه كموات الأرض، وإن قلنا: لا تملك بالإحياء، فهل يجوز إقطاعه فيه قولان: أحدهما: يجوز إقطاعه؛ لأنه يفتقر الانتفاع به إلى المؤن، فجاز إقطاعه كموات الأرض، والثاني: يجوز؛ لأنه معدن لا يملك بالإحياء، فلم يجز إقطاعه كالمعادن الظاهرة، فإذا قلنا: يجوز إقطاعه لم يجز إلّا ما يقوم به لما ذكرناه في إقطاع الموات. [المهذب: 1/ 427] . 2 حسن: رواه الترمذي في كتاب الأحكام "2380"، وابن ماجه في كتاب الأحكام "2475"، والدارمي في كتاب البيوع "2608"، وحسَّنَه الشيخ الألباني.

منها كان بالمنع متعديًا وكان لما أخذه مالكًا؛ لأنه متعدٍّ بالمنع لا بالأخذ، فكُفَّ عن المنع وصرِفَ عن مداومة العمل؛ لئلَّا يثبته إقطاعًا بالصحة، أو يصير معه كالأملاك المستقر. وأمَّا المعادن الباطنة: فهي ما كان جوهرها مستكنًا فيها لا يوصل إليه إلَّا بالعمل؛ كمعادن الذهب والفضة والصفر والحديد، فهذه وما أشبهها معادن باطنة، سواء احتاج المأخوذ منها إلى سبك وتخليص أو لم يحتج. وفي جواز إقطاعها قولان: أحدهما: لا يجوز كالمعادن الظاهرة، وكل الناس فيها شرع. والقول الثاني: يجوز إقطاعها؛ لرواية كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أقطع بلال بن الحارث المعادن القبلية جلسيها وغوريها، وحيث يصلح الزرع من قدس، ولم يقطعه حق مسلم"1. وفي الجلسي والغوري تأويلان: أحدهما: إنه أعلاها وأسفلها، وهو قول عبد الله بن وهب. والثاني: إن الجلسي بلاد نجد، والغوري بلاد تهامة، وهذا قول أبي عبيدة، ومنه قول الشماخ من الطويل: فمرت على ماء العذيب وعينها ... كوقب الحصى جلسيها قد تغورا فعلى هذا يكون المقطع أحق بها، وله منع الناس منها. وفي حكمه قولان: أحدهما: إنه إقطاع تمليك يصير به المقطع مالكًا لرقبة المعدن كسائر أمواله في حال عمله، وبعد قطعه يجوز له بيعه في حياته، وينتقل إلى ورثته بعد موته. والقول الثاني: إنه إقطاع إرفاق لا يملك به رقبة المعدن، ويملك به الارتفاق بالعمل

_ 1 حسن: رواه مالك في كتاب الزكاة "582"، وأبو داود في كتاب الخراج "3062"، وحسَّنَه الشيخ الألباني.

فيه مدة مقامه عليه، وليس لأحد أن ينازعه فيه ما أقام على العمل، فإذا تركه زال حكم الإقطاع عنه وعاد إلى حال الإباحة؛ فإذا أحيا مواتًا بإقطاع أو غير إقطاع، فظهر فيه بالإحياء معدن ظاهر أو باطن ملكه المحيي على التأبيد، كما يملك ما استنبطه من العيون واحتفره من الآبار.

الباب الثامن عشر: في وضع الديوان وذكر أحكامه

الباب الثامن عشر: في وضع الديوان وذكر أحكامه والديوان1: موضع لحفظ ما يتعلَّق بحقوق السلطنة من الأعمال والأموال، ومن يقوم بها من الجيوش والعمَّال، وفي تسميته ديوانًا وجهان: أحدهما: إنَّ كسرى اطَّلع ذات يوم على كتاب ديوانه فرآهم يحسبون مع أنفسهم، فقال: ديوانه أي: مجانين، فسمِّي موضعهم بهذا الاسم، ثم حذف الهاء عند كثرة الاستعمال تخفيفًا للاسم، فقيل: ديوان. والثاني: إنَّ الديوان بالفارسية اسم الشياطين، فسمِّي الكتاب باسمهم؛ لحذقهم بالأمور وقوتهم على الجلي والخفي، وجمعهم لما شذَّ وتفرَّق، ثم سمِّي مكان جلوسهم باسمهم فقيل: ديوان. وأوّل من وضع الديوان في الإسلام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه. واختلف الناس في سبب وضعه له، فقال قوم: سببه أنَّ أبا هريرة قدِمَ عليه بمال من البحرين، فقال له عمر: ماذا جئت به؟ فقال: خمسمائة ألف درهم، فاستكثره عمر فقال له: أتدري ما تقول؟ قال: نعم، مائة ألفٍ خمس مرات، فقال عمر: أطيب هو؟ فقال: لا أدري، فصعد عمر المنبر، فحمد الله تعالى وأثني عليه، ثم قال: أيها الناس، قد جاءنا مال كثير، فإن شئتم كلنا لكم كيلًا، وإن شئتم عددنا لكم عدًّا، فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، قد رأيت الأعاجم يدونون ديوانًا لهم، فدوّن أنت لنا ديوانًا. وقال آخرون: بل سببه أن عمر بعث بعثًا، وكان عنده الهرمز، فقال لعمر: هذا بعث قد أعطيت أهله الأموال، فإن تخلَّف منهم رجل وآجل بمكانيه، فمن أين يعلم صاحبك به، فأثبت لهم ديوانًا، فسأله عن الديوان حتى فسّره لهم2. وروى عابد بن يحيى عن الحارث بن نفيل أن عمر -رضي الله عنه- استشار المسلمين في

_ 1 الديوان: هو الدفتر الذي يكتب فيه أسماء الجيش وأهل العطاء، وأوّل من دوَّن الدواوين عمر وهو فارسيّ معرَّب. [النهاية: 2/ 150] . 2 انظر: مصنَّف ابن أبي شيبة في مصنِّفه "32864"، والسنن الكبرى للبيهقي "6/ 349".

تدوين الديوان، فقال له عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه: تقسم كل سنة ما اجتمع إليك من المال، ولا تمسك منه شيئًا. وقال عثمان بن عفان -رضي الله عنه: أرى مالًا كثيرًا يتبع الناس، فإن لم يحصوا حتى يعرف من أخذ ممن لم يأخذ خشيت أن ينتشر الأمر، فقال خالد بن الوليد: قد كنت بالشام فرأيت ملوكها قد دوَّنوا ديوانًا، وجنَّدوا جنودًا، فدوَّن ديوانًا وجنِّد جنودًا، فأخذ بقوله، ودعا عقيل بن أبي طالب، ومحرمة بن نوفل، وجبير بن مطعم، وكانوا من شباب قريش وقال: اكتبوا الناس على منازلهم، فبدءوا ببني هاشم فكتبوهم، ثم أتبعوهم أبا بكر وقومه، ثم عمر وقومه، وكتبوا القبائل ووضعوها على الخلافة، ثم رفعوه إلى عمر، فلمَّا نظر فيه قال: لا، ما وددت أنَّه كان هكذا، ولكن ابدءوا بقرابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، الأقرب فالأقرب، حتى تضعوا عمر حيث وضعه الله فشكره العبَّاس -رضوان الله عليه- على ذلك، وقال: وصلتك رحم1. وروى زيد بن أسلم عن أبيه أنَّ بني عديّ جاءوا إلى عمر فقالوا: إنك خليفة رسول الله وخليفة أبي بكر وأبو بكر خليفة رسول الله؛ فلو جعلت نفسك حيث جعلك الله سبحانه، وجعلك هؤلاء القوم الذين كتبوا، فقال: بخ بخ يا بني عدي، أردتم الأكل على ظهري، وأن أهب حسناتي لكم لا، ولكنَّكم حتى تأتيكم الدعوة وأن ينطبق عليكم الدفتر، يعني: ولو تكتبوا آخر الناس، إنَّ لي صاحبين سلكا طريقًا، فإن خالفتهما خولف بي، ولكنَّه والله ما أدركنا الفضل في الدنيا، ولا نرجو الثواب عند الله تعالى على عملنا إلَّا بمحمد -صلى الله عليه وسلم، فهو شرفنا، وقومه أشرف العرب، ثم الأقرب، والله لئن جاءت الأعاجم بعمل، وجئنا بغير عمّ لهم أولى بمحمد -صلى الله عليه وسلم- منا يوم القيامة، فإن من قصُرَ به عمله لم يسرع به نسبه. وروى عامر أن عمر -رضي الله عنه- حين أراد وضع الديوان قال: بمن أبدأ؟ فقال له عبد الرحمن بن عوف: ابدأ بنفسك، فقال عمر: أذكر أني حضرت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يبدأ ببني هاشم وبني عبد المطلب، فبدأ بهم عمر، ثم بمن يليهم من قبائل قريش بطنًا بعد بطن، حتى استوفى جميع قريش، ثم انتهى إلى الأنصار، فقال عمر: ابدءوا برهط سعد بن

_ 1 انظر: الأم للشافعي "4/ 158".

معاذ من الأوس، ثم بالأقرب فالأقرب لسعد. وروى الزهري عن سعيد بن المسيب أنَّه كان ذلك من المحرَّم سنة عشرين، فلمَّا استقرَّ ترتيب الناس في الدواوين على قدر النسب المتَّصل برسول الله -صلى الله عليه وسلم، فضَّل بينهم في العطاء على قدر السابقة في الإسلام، والقربى من رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر -رضي الله عنه- يرى التسوية بينهم في العطاء، ولا يرى التفضيل بالسابقة، كذلك كان رأي علي -رضي الله عنه- في خلافته، وبه يأخذ الشافعي ومالك، وكان رأي عمر -رضي الله عنه- التفضيل بالسابقة في الإسلام، وكذلك رأي عثمان -رضي الله عنه- بعده، وبه أخذ أبو حنيفة وفقهاء العراق. وقد نظر عمر أبا بكر حين سوَّى بين الناس فقال: أتسوي بين مَنْ هاجر الهجرتين وصلَّى إلى القبلتين، وبين من أسلم عام الفتح خوف السيف؟ فقال له أبو بكر: إنما عملوا لله، وإنما أجورهم على الله، وإنما الدنيا دار بلاغ للراكب، فقال له عمر: لا أجعل من قاتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كمن قاتل معه؛ فلمَّا وضع الديوان فضل السابقة، ففرض لكل من شهد بدرًا من المهاجرين الأولين خمسة آلاف درهم في كل سنة: منهم علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهم، وفرض لنفسه معهم خمسة آلاف درهم، وألحق به العباس بن عبد المطلب، والحسن والحسين -رضوان الله عليهم؛ لمكانهم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ وقيل: بل فضل العباس وفرض له سبعة آلاف درهم. وفرض لكل من شهد بدرًا من الأنصار أربعة آلاف درهم، ولم يفضل على أهل بدر أحدًا، إلَّا أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فإنَّه فرض لكل واحدة منهن عشرة آلاف درهم إلَّا عائشة، فإنه فرض لها اثني عشر ألف درهم، وألحق بهن جويرية بنت الحارث، وصفية بنت حيي، وقيل: بل فرض لكلِّ واحدة منهنَّ ستة آلاف درهم، وفرض لكل من هاجر قبل الفتح ثلاثة آلاف درهم، ولمن أسلم بعد الفتح ألف درهم لكل رجل، وفرض لغلمان أحداث من أبناء المهاجرين والأنصار كفرائض مسلمي الفتح، وفرض لعمر بن أبي سلمة المخزومي أربعة آلاف درهم؛ لأنَّ أمه أمّ سلمة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال له محمد بن عبد الله بن جحش:

لِمَ تفضِّل عمر علينا وقد هاجر آباؤنا وشهدوا بدرًا؟ فقال عمر: أفضِّله لمكانه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فليأت الذي يستعتب بأمِّ سلمة أعتبه، وفرض لأسامة بن زيد أربعة آلاف درهم، فقال له عبد الله بن عمر: فرضت لي ثلاثة آلاف درهم، وفرضت لأسامة أربعة آلاف درهم، وقد شهدت ما لم يشهد أسامة؟ فقال عمر: زدته لأنه كان أحبَّ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منك، وكان أبوه أحبَّ إلى رسول الله من أبيك، ثم فرض للناس على منازلهم وقراءتهم القرآن وجهادهم، وفرض لأهل اليمن وقيس بالشام والعراق لكلِّ رجل منهم من ألفين إلى ألف، إلى خمسمائة، إلى ثلاثمائة، ولم ينقص أحدًا منها، وقال: لئن كثر المال لأفرض لكل رجل أربعة آلاف درهم: ألفًا لفرسه، وألفًا لسلاحه، وألفًا لسفره، وألفًا يخلفها في أهله؛ وفرض للمنفوس مائة درهم، فإذا ترعرع بلغ به مائتي درهم، فإذا بلغ زاده، وكان لا يفرض لمولود شيئًا حتى يفطم، إلى أن سمع امرأة ذات ليلة وهي تكره ولدها على الفطام، وهو يبكي، فسألها عنه؟ فقالت: إنَّ عمر لا يفرض للمولود حتى يفطم، فأنا أكرهه على الفطام حتى يفرض له، فقال: يا ويل عمر، كم احتقب من وزر وهو لا يعلم، أمر عمر مناديه فنادى: ألَّا تعجلوا أولادكم بالفطام، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام، ثم كتب إلى أهل العوالي، وكان يجري عليهم القوت، فأمر بجريب من الطعام فطحن، ثم خبز، ثم ثرد، ثم دعا ثلاثين فأكلوا منه غداهم حتى أصدرهم، ثم فعل في العشاء مثل ذلك، فقال: يكفي الرجل جريبان في كل شهر، وكان يرزق الرجل والمرأة والمملوكة جريبين في كل شهر، وكان أذا أراد الرجل أن يدعو على صاحبه قال له: قطع الله عنك جريبك. وكان الديوان موضوعًا على دعوة العرب في ترتيب الناس فيه معتبرًا بالنسب، وتفضيل العطاء معتبرًا بالسابقة في الإسلام، وحسن الأثر في الدين، ثم روعي في التفضيل عند انقراض أهل السوابق بالتقدم في الشجاعة والبلاء في الجهد؛ فهذا حكم ديوان الجيش في ابتداء وضعه على الدعوة القريبة والترتيب الشرعي. وأما ديوان الاستيفاء وجباية الأموال فجرى هذا الأمر فيه بعد ظهور الإسلام بالشام والعراق على ما كان عليه من قبل، فكان ديوان الشام بالرومية؛ لأنه كان من مماليك الروم، وكان ديوان العراق بالفارسية؛ لأنه كان من مماليك الفرس، فلم يزل أمرهما جاريًا على ذلك

إلى زمن عبد الملك بن مروان، فنقل ديوان الشام إلى العربية سنة إحدى وثمانين. وكان سبب نقله إليه ما حكاه المدائني: أنَّ بعض كُتَّاب الروم في ديوانه أراد ماء لدواته فبال فيها بدلًا من الماء فأدَّبه، وأمر سليمان بن سعد أن ينقل الديوان إلى العربية، فسأله أن يعينه بخراج الأردن سنة، ففعل وولَّاه الأردن، وكان خراجه مائة وثمانين ألف دينار، فلم تنقض السنة حتى فرغ من الديوان فنقله، وأتى به إلى عبد الملك بن مروان، فدعا سرجون1 كاتبه فعرضه عليه، فغمه وخرج كئيبًا؛ فلقيه قوم من كتاب الروم فقال لهم: اطلبوا المعيشة من غير هذه الصناعة، وقد قطعها الله عنكم. وأما ديوان الفارسية بالعراق فكان سبب نقله إلى العربية أنَّ كاتب الحجَّاجِ كان يسمَّى زاذان فروخ، كان معه صالح بن عبد الرحمن يكتب بين يديه بالعربية والفارسية، فوصله زاذان فروخ بالحجاج فخفَّ على قلبه، فقال صالح لزاذان فروخ: إن الحجاج قد قرَّبني ولا آمن عليك أن يقدمني عليك، فقال: لا تظن ذلك فهو إليَّ أحوج مني إليه؛ لأنه لا يجد من يكفيه حسابه غيرى، فقال صالح: والله لوشئت أن أحوّل الحساب إلى العربية لفعلت، قال: فحوّل منه ورقة أو سطرًا حتى أرى ففعل، ثم قتل زاذان فروخ في أيام عبد الرحمن بن الأشعث، فاستخلف الحجَّاج صالحًا مكانه، فذكر له ما جرى بينه وبين زاذان فروخ، فأمره أن ينقله، فأجابه إلى ذلك وأجله فيه أجلًا حتى نقله إلى العربية، فلمَّا عرف مردان شاه بن زاذان فروخ ذلك بذل له مائة ألف درهم؛ ليظهر للحجاج العجز عنه فلم يفعل، فقال له: قطع الله أوصالك من الدنيا كما قطعت أصل الفارسية، فكان عبد الحميد بن يحيى كاتب

_ 1 هو سرجون بن منصور الرومي، كاتب لمعاوية ويزيد ابنه ومروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان، إلى أن أمره عبد الملك بأمر فتوانى فيه، ورأى منه عبد الملك بعض التفريط، فقال لسليمان ابن سعد كاتبه على الرسائل: إنَّ سرجون يدل علينا بصناعته، وأظنّ أنه رأى ضرورتنا إليه في حسابه، فما عندك فيه حيلة؟ فقال: بلى، لو شئت لحوَّلت الحساب من الرومية إلى العربية. قال: افعل. قال: أنظرني على ذلك. قال: لك نظرة ما شئت، فحوَّل الديوان، فولَّاه عبد الملك جميع ذلك. وحسَّان النبطي كاتب الحجاج، وسالم مولى هشام بن عبد الملك، وعبد الحميد الأكبر، وعبد الصمد، وجبلة بن عبد الرحمن، وقحذم جد الوليد بن هشام القحذمي، وهو الذي قلب الدواوين من الفارسية إلى العربية. [انظر: العقد الفريد لابن عبد ربه] .

مروان يقول: لله در صالح ما أعظم منَّته على الكتاب1. فصل: والذي يشتمل عليه ديوان السلطنة ينقسم أربعة أقسام: أحدها: ما يختص بالجيش من إثبات وعطاء. والثاني: ما يختص بالأعمال من رسوم وحقوق. والثالث: ما يختص بالعمال من تقليد وعزل. والرابع: ما يختص ببيت المال من دخل وخراج، فهذه أربعة أقسام تقتضيها أحكام الشرع، يتضمَّن تفصيلها ما ربما كان لكتاب الدواوين في إفرادها عادة هم بها أخص. فأما القسم الأول: فيما يختص بالجيش من إثبات وعطاء، فإثباتهم في الديوان معتبر بثلاثة شروط. أحدها: الوصف الذي يجوز إثباتهم. والثاني: السبب الذي يستحق به ترتيبهم. والثالث: الحال التي يقدر به عطاؤهم. فأما شرط جواز إثباتهم في الديوان فيراعى فيه خمسة أوصاف: أحدها: البلوغ، فإنَّ الصبى من جملة الذراري والأتباع، فلم يجز أن يثبت في ديوان الجيش، فكان جاريًا في عطاء الذراري. والثاني: الحرية؛ لأنَّ المملوك تابع لسيده، فكان داخلًا في عطائه، وأسقط أبو حنيفة اعتبار الحرية، وجوَّز إفراد العبد بالعطاء في ديوان المقاتلة، وهو رأي أبي بكر وخالفه فيه عمر، واعتبر الحرية في العطاء، وبه أخذ الشافعي. والثالث: الإسلام ليدفع عن الملّة باعتقاده، ويوثّق بنصحه واجتهاده، فإن أثبت فيهم ذميًّا لم يجز، وإن ارتدَّ منهم مسلم سقط.

_ 1 انظر: نهاية الأرب في فنون الأدب للنويري.

والرابع: السَّلَامة من الآفات المانعة من القتال؛ فلا يجوز أن يكون زمنًا ولا أعمى ولا أقطع، ويجوز أن يكون أخرس أو أصمّ، فأمَّا الأعرج فإن كان فارسًا أثبت، وإن كان راجلًا لم يثبت. والخامس: أن يكون فيه إقدام على الحروب ومعرفة بالقتال، فإن ضعفت منَّته عن الإقدام، أو قلَّت معرفته بالقتال لم يجز إثباته؛ لأنه مرصد لما هو عاجز عنه، فإذا تكاملت فيه هذه الأوصاف الخمسة كان إثباته في ديوان الجيش موقوفًا على الطلب والإيجاب، فيكون منه الطلب إذا تجرَّد عن كل عمل، ويكون لمن ولي الأمر الإجابة إذا دعت الحاجة إليه، فإن كان مشهور الاسم نبيّه القدر لم يحسن إذا أثبت في الديوان أن يحلَّى فيه أو ينعت، فإن كان من المغمورين في الناس حلي ونعت، فذكر سنه وقدُّه ولونه وحلِّي وجهه، ووصف بما يتميّز به عن غيره؛ لئلَّا تتفق الأسماء ويدَّعي وقت العطاء، وضمَّ إلى نقيب عليه أو عريف له؛ ليكون مأخوذًا بدركه. فصل: واما ترتيبهم في الديوان إذا أثبتوا فيه فمعتبر من وجهين: أحدهما عام، والآخر خاص. فأمَّا العام: فهو ترتيب القبائل والأجناس حتى تتميّز كل قبيلة عن غيرها، وكل جنس عمن خالفة، فلا يجمع فيه بين المختلفين، ولا يفرّق به بين المتفقين؛ لتكون دعوة الديوان على نسق واحد معروف بالنسب، يزول به التنازع والتجاذب، وإذا كان هكذا لم يخل حالهم من أن يكونوا عربًا أو عجمًا، فإن كانوا عربًا تجمعهم أنساب، وتفرق بينهم أنساب ترتيب قبائلهم بالقربى من رسول الله -صلى الله عليه وسلم، كما فعل عمر -رضي الله عنه- حين دونهم. فيبدأ بالترتيب في أصل النسب، ثم بما يتفرَّع عنه، فالعرب عدنان وقحطان، فتقدم عدنان على قحطان؛ لأنَّ النبوة فيهم، وعدنان يجمع ربيعة ومضر، فتقدم مضر على ربيعة؛ لأنَّ النبوة فيهم، ومضر يجمع قريشًا وغير قريش، فتقدَّم قريش؛ لأن النبوة فيهم، وقريش يجمع بني هاشم وغيرهم، فتقدَّم بنو هاشم؛ لأنَّ النبوة فيهم، فيكون بنو هاشم قطب الترتيب، ثم بمن يليهم من أقرب الأنساب إليهم يستوعب قريشًا، ثم بمن يليهم في النسب حتى

يستوعب جميع مضر، ثم بمن يليهم في النسب حتى يستوعب جميع عدنان. وقد رتّب أنساب العرب ست مراتب، فجعلت طبقات أنسابهم هي: شعب، ثم قبيلة، ثم عمارة، ثم بطن، ثم فخذ، ثم فصيلة. فالشعب: النسب الأبعد مثل عدنان وقحطان، سمِّي شعبًا لأنَّ القبائل منه تشعَّبت، ثم القبيلة، وهي: ما انقسمت فيها أنساب الشعب مثل ربيعة ومضر، سميت قبيلة لتقابل الأنساب فيها، ثم العمارة، وهي ما انقسمت فيها أنساب القبائل مثل قريش وكنانة. ثم البطن، وهو ما انقصمت فيه أنساب العمارة مثل بني عبد مناف وبني مخزوم. ثم الفخذ وهو ما انقسمت فيه أنساب البطن مثل بني هاشم وبني أمية. ثم الفصيلة وهي ما انقسمت فيها أنساب الفخذ مثل بني أبي طالب وبني العباس، فالفخذ يجمع الفصائل، والبطن يجمع الأفخاذ، والعمارة تجمع البطون، والقبيلة تجمع العمائر، والشعب يجمع القبائل، وإذا تباعدت الأنساب صارت القبائل شعوبًا والعمائر قبائل. وإن كانوا عجمًا لا يجتمعون على نسب، فالذي يجمعهم عند فقد النسب أمران: إما أجناس وإما بلاد، فالمتميزون بالأجناس كالترك والهند، ثم يميز الترك أجناسًا والهند أجناسًا، والمتميزون بالبلاد كالديلم والجبل، ثم يتميز الديلم بلدانًا والجبل بلدانًا، وإذا تميزوا بالأجناس أو البلدان، فإن كانت لهم سابقة في الإسلام ترتبوا عليها في الديوان، وإن لم تكن لهم سابقة ترتبوا بالقرب من ولي الأمر، فإن تساووا فبالسبق إلى طاعته. وأما الترتيب الخاص: فهو ترتيب الواحد بعد الواحد يرتب بالسابقة في الإسلام، فإن تكافئوا في السابقة ترتبوا بالدين، فإن تقاربوا فيه ترتبوا بالسن، فإن تقاربوا فيها ترتبوا بالشجاعة، فإن تقاربوا فيها فولي الأمر بالخيار بين أن يرتبهم بالقرعة، أو يرتبهم عن رأيه واجتهاده.

فصل: وأمَّا تقدير العطاء فمعتبر بالكفاية حتى يستغني بها عن التماس مادة تقطعه عن حماية البيضة. والكفاية معتبرة من ثلاثة أوجه: أحدها: عدد من يعوله من الذراري والمماليك. والثاني: عدد ما يرتبطه من الخيل والظهر. والثالث: الموضع الذي يحله في الغلاء والرخص، فيقدَّر كفايته في نفقته وكسوته لعامه كله، فيكون هذا المقدر في عطائه، ثم تعرض حاله في كل عام، فإن زادت رواتبه الماسَّة زيد، وإن نقصت نقص. واختلف الفقهاء إذا تقدَّر رزقه بالكفاية، هل يجوز أن يزاد عليها؟ فمنع الشافعي من زيادته على كفايته، وإن اتسع المال؛ لأنَّ أموال بيت المال لا توضع إلَّا في الحقوق اللازمة، وجوَّز أبو حنيفة زيادته على الكفاية إذا اتسع المال لها، ويكون وقت العطاء معلومًا يتوقَّعه الجيش عند الاستحقاق، وهو معتبر بالوقت الذي تستوفي فيه حقوق بيت المال، فإن كانت تستوفي في وقت واحد من السنة جعل العطاء في رأس كل سنة، وإن كانت تستوفي في وقتين جعل العطاء في كل سنة مرتين، وإن كانت تستوفي في كل شهر جعل العطاء في رأس كل شهر؛ ليكون المال مصروفًا إليهم عند حصوله، فلا يحبس عنهم إذا اجتمع، ولا يطالبون به إذا تأخَّر، وإذا تأخَّر عنهم العطاء عند استحقاقه وكان حاصلًا في بيت المال كان لهم المطالبة به كالديون المستحقة، وإن أعوز بيت المال لعوارض أبطلت حقوقه أو أخرتها كانت أرزاقهم دينًا على بيت المال، وليس لهم مطالبة وليّ الأمر به، كما ليس لصاحب الدَّيْن مطالبة من أعسر بدينه، وإذا أراد وليّ الأمر إسقاط بعض الجيش لسبب أوجبه، أو لعذر اقتضاه جاز، وإن كان لغير سبب لم يجز؛ لأنهم جيش المسلمين في الذبِّ عنهم. وإذا أراد بعض الجيش إخراج نفسه من الديوان جاز مع الاستغناء عنه، ولم يجز من الحاجة إليه، إلَّا أن يكون معذورًا، وإذا جرّد الجيش لقتال فامتنعوا، وهم أكفاء من حاربهم

سقطت أرزاقهم، وإن ضعفوا عنهم لم تسقط، وإذا نفقت دابَّة أحدهم في حرب عوِّض عنها، وإن نفقت في غير حرب لم يعوض، وإذا استهلك سلاحه فيها عوض عنه إن لم يكن يدخل في تقدير عطائه، ولم يعوض إن دخل فيه. وإذا جُرِّدَ لسفر أعطي نفقة سفره إن لم تدخل في تقدير عطائه ولم يعط إن دخلت فيه. وإذا مات أحدهم أو قتل كان ما يستحق من عطائه موروثًا عنه على فرائض الله تعالى، وهو دين لورثته في بيت المال. واختلف الفقهاء في استبقاء نفقات ذريته من عطائه في ديوان الجيش على قولين: أحدهما: أنه قد سقطت نفقتهم من ديوان الجيش لذهاب مستحقه، ويحالون على مال العشر والصدقة. والقول الثاني: أنه يستبقي من عطائه نفقات ذريته ترغيبًا له في المقام، وبعثًا له على الإقدام. واختلف الفقهاء في سقوط عطائه إذا حدثت به زمانة على قولين: أحدهما: يسقط؛ لأنه في مقابلة عمل قد عدم. والقول الثاني: أنه باقٍ على العطاء ترغيبًا في التجند والارتزاق.

فصل: وأما القسم الثاني بالأعمال من رسوم وحقوق فيشتمل على ستة فصول: أحدهما: تحديد العمل بما يتميز به من غيره، وتفصيل نواحيه التي تختلف أحكامها، فيجعل لكل بلد حدًّا لا يشاركه فيه غيره، ويفصل نواحي كل بلد إذا اختلفت أحكام نواحيه، وإن اختلفت أحكام الضياع في كل ناحية فصلت ضياعة كتفصيل نواحيه، وإن لم تختلف اقتصر على تفصيل النواحي دون الضياع. والفصل الثاني: أن يذكر حال البلد هل فتح عنوة أو صلحًا، وما استقرَّ عليه حكم أرضه من عشر أو خراج، وهل اختلفت أحكامه ونواحيه أو تساوت؟ فإنه لا يخلو من ثلاثة أحوال: إمَّا أن يكون جميعه أرض عشر، أو جميعه أرض خراج، أو يكون بعضه عشرًا وبعضه خراجًا، فإن كان جميعه أرض عشر لم يلزم إثبات مسائحه؛ لأنَّ العشر على الزرع دون المساحة، ويكون ما استؤنِفَ زرعه مرفوعًا إلى ديوان العشر لا مستخرجًا منه، ويلزم تسمية أربابه عند رفعه إلى الديوان؛ لأنَّ وجوب العشر فيه معتبر بأربابه دون رقاب الأرضين. وإذا رفع الزرع بأسماء أربابه ذكر مبلغ كيله، وحال سفيه بسيح أو عمل لاختلاف حكمه ليستوفي على موجبه، وإن كان جميعه أرض خراج لزم إثبات مسائحه؛ لأن الخراج على المساحة، فإن كان هذا الخراج في حكم الأجرة لم يلزم تسمية أرباب الأرضين؛ لأنه لا يختلف بإسلام ولا كفر، وإن كان الخراج في حكم الجزية لزم تسمية أربابه ووصفهم بالإسلام والكفر؛ لاختلاف حكمه باختلاف أهله، وإن كان بعضه عشرًا وبعضه خراجًا فصّل في ديوان العشر ما كان منه عشرًا، وفي ديوان الخراج ما كان منه خراجًا؛ لاختلاف الحكم فيها، وأجري على كل واحد منهما ما يختص بحكمه. والفصل الثالث: أحكام خراجه، وما استقرَّ على مسائحه، هل هو مقاسمة على زرعه أو هو رزق مقدَّر على خراجه؛ فإن كان مقاسمة لزم إذا أخرجت مسائح الأرضين من ديوان الخراج أن يذكر معها مبلغ المقاسمة من ربع أو ثلث أو نصف، ويرفع إلى الديوان مقادير

الكيول؛ لتُسْتوفَى المقاسمة على موجبها، وإن كان الخراج ورقًا لم يخل من أن يكون متساويًا مع اختلاف الزروع أو مختلفًا، فإن كان متساويًا مع اختلاف الزروع أخرجت المسائح من ديوان الخراج ليستوفي خراجها، ولا يلزم أن يرفع إليه إلَّا ما قبض منها، وإن كان الخراج مختلفًا باختلاف الزروع لزم إخراج المسائح من ديوان الخراج، وأن يرفع إليه أجناس الزروع؛ ليستوفي خراج المساحة على ما يوجبه حكم الزرع. والفصل الرابع: ذكر من في كل بلد من أهل الذمة وما استقرَّ عليهم في عقد الجزية، فإن كانت مختلفة باليسار والإعسار سموا في الديوان، مع ذكر عددهم ليختبر حال يسارهم وإعسارهم، وإن لم تختلف في اليسار والإعسار جاز الاقتصار على ذكر عددهم، ووجب مراعاتهم في كل عام؛ ليثبت من بلغ، ويسقط من مات أو أسلم؛ لينحصر بذلك ما يستحق من جزيتهم. والفصل الخامس: إن كان من بلدان المعادن أن يذكر أجناس معادنه، وعدد كل جنس منها ليستوفي حقَّ المعدن منها، وهذا مما لا ينضبط بمساحة، ولا ينحصر بتقدير لاختلافه، وإنما ينضبط بحسب المأخوذ منه إذا أعطى وأنال، ولا يلزم في أحكام المعادن أن يوصف في الديوان أحكام فتوحها، هل هى من أرض عشر أو خراج؛ لأن الديوان فيها موضوع لاستيفاء الحق من نيلها، وحقها لا يختلف باختلاف فتوحها وأحكام أرضها، وإنما يختلف ذلمك في حقوق العاملين فيها والآخذين. وقد تقدم القول في اختلاف الفقهاء في أجناس ما يؤخذ حق المعادن منه، وفي قدر المأخوذ منه، فإن لم يكن قد سبق الأئمة فيها حكم اجتهد والي الوقت برأيه في الجنس الذي يجب فيه، وفي القدر المأخوذ منه، وعمل عليه في الأمرين معًا إذا كان من أهل الاجتهاد، وإن كان من سبق من الأئمة والولاة قد اجتهد برأيه في الجنس الذي يجب فيه وفي القدر المأخوذ منه، وحكم به فيها حكمًا أيده وأمضاه، فاستقرّ حكمه في الأجناس التي يجب فيها حق المعدن، ولم يستقرّ حكمه في القدر المأخوذ من المعدن؛ لأن حكمه في الجنس معتبر بالمعدن الموجود، وحكمه في القدر يعتبر بالمعدن المفقود.

والفصل السادس: إن كان البلد ثغرًا يتاخم دار الحرب، وكانت أموالهم دخلت دار الإسلام معشورة عن صلح استقرَّ معهم، وأثبت في ديوان عقد صلحهم، وقدر المأخوذ منهم من عشر أو خمس، وزيادة عليه أو نقصان منه، فإن كان يختلف باختلاف الأمتعة والأموال فصلت فيه، وكان الديوان موضوعًا لإخراج رسومه ولاستيفاء ما يرفع إليه من مقادير الأمتعة المحمولة إليه. وأما أعشار الأموال المنتقلة في دار الإسلام من بلد إلى بلد فمحرمة لا يبيحها شرع، ولا يسوغها اجتهاد، ولا هي من سياسات العدل، ولا من قضايا النصفة، وقلَّ ما تكون إلَّا في البلاد الجائزة، وقد روي عن النبي -عليه الصلام والسلام- أنه قال: "شر الناس العشارون الحشارون"1. وإذا غيرت الولاة أحكام البلاد ومقادير الحقوق فيها اعتبر ما فعلوه، فإن كان مسوغًا في الاجتهاد لأمر اقتضاه لا يمنع الشرع منه؛ لحدوث سبب يسوغ الشرع الزيادة لأجله، أو النقصان لحدوثه جاز، وصار الثاني هو الحق المستوفى دون الأول. وإذا استُخْرِج حال العمل من الديوان جاز أن يقتصر على إخراج الحال الثانية دون الأولى، والأحوط أن يخرج الحالين؛ لجواز أن يزول السبب الحادث فيعود الحكم الأول؛ وإن كان ما أخذ به الولاة من تغيير الحقوق غير مسوغ في الشرع، ولا له وجه في الاجتهاد، كانت الحقوق على الحكم الأول، وكان الثاني مردودًا، سواء غيّروه إلى زيادة أو نقصان؛ لأنَّ الزيادة ظلم في حقوق الرعية، والنقصان ظلم في حقوق بيت المال، وإذا استخرج حال العمل من الديوان وجب على رافعه من كتاب الدواوين إخراج الحالين إن كان المستدعي لإخراجها من الولاة لا يعلم حالها فيما تقدم، وإن كان عالمًا بها لم يلزمه إخراج الحال الأول إليه؛ لأنه علمه بها قد سبق، وجاز الاقتصار على إخراج الحال الثانية مع وصفها بأنها مستحدثة.

_ 1 لم أقف عليه بهذا اللفظ.

فصل: وأما القسم الثالث فيما اختص بالعمال من تقليد وعزل فيشتمل على ستة فصول: أحدها: ذكر من يصحّ منه تقليد العمال، وهو معتبر بنفوذ الأمر وجواز النظر، فكل من جاز نظره في عمل نفذت فيه أوامره، وصحَّ منه تقليد العمال عليه، وهذا يكون من أحد ثلاثة: إمَّا من السلطان المستولي على كل الأمور، وإما من وزير التفويض، وإما من عامل عام الولاية كعامل إقليم أو مصر عظيم، يقلد في خصوص الأعمال عاملًا، فأمَّا وزير التنفيذ فلا يصح منه تقليد عامل إلَّا بعد المطالعة والاستئمار. والفصل الثاني: من يصح أن يتقلَّد العمالة، وهو من استقلَّ بكفايته ووثق بأمانته، فإن كانت عمالة تفويض إلى اجتهاد روعي فيها الحرية والإسلام؛ وإن كانت عمالة تنفيذ لا اجتهاد للعامل فيها لم يفتقر إلى الحرية والإسلام. والفصل الثالث: ذكر العمل الذي تقلده، وهذا يعتبر فيه ثلاثة شروط: أحدها: تحديد الناحية بما تتميز به عن غيرها. والثاني: تعيين العمل الذي يختص بنظره فيها من جباية أو خراج أو عشر. والثالث: العلم برسوم العمل وحقوقه على تفصيل ينتفي عنه الجهالة، فإذا استكملت هذه الشروط الثلاثة في عمل علم به الولي والمولى صح التقليد ونفذ. والفصل الرابع: زمان النظر، فلا يخلو من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يقدره بمدة محصورة الشهور أو السنين، فيكون تقديرها بهذه المدة مجوزا للنظر فيها، ومانعًا من النظر بعد انقضائها، ولا يكون النظر في المدة المقيدة لازمًا من جهة المولي، وله صرفه ولا استبدال به إذا رأى ذلك صلاحًا، فأمَّا لزومه من جهة العامل المولى فمعتبر بحال جارية عليها؛ فإن كان الجارى معلومًا بما تصحّ به الأجور لزمه العمل في المدة إلى انقضائها؛ لأنَّ العمالة فيها تصير من الإجارات المحضة، ويؤخذ العامل فيها بالعمل إلى انقضائها إجبارًا.

والفرق بينهما في تخيير المولى ولزومها للمولِّي أنها في جنبة المولِّي من العقود العامَّة لنيابته فيها عن الكافَّة، فروعي الأصلح في التخيير، وهي في جنبة المولَّى من العقود الخاصة لعقده، لها في حق نفسه، فيجري عليها حكم اللزوم، وإن لم يتقدر جاريه بما يصح في الأجور لم تلزمه المدة، وجاز له له الخروج من العمل إذا شاء بعد أن ينهي إلى موليه حال تركه حتى لا يخلو عمله من ناظر فيه. والحالة الثانية: أن يقدر بالعمل فيقول المولّي فيه: قلدتك خراج ناحية كذا في هذه السنة، أو قلدتك بلد كذا في هذا العام، فتكون مدة نظره مقدرة بفراغه من عمله، فإذا فرغ منه انعزل عنه، وهو قبل فراغه على ما ذكرنا يجوز أن يعزله المولّي، وعزله لنفسه معتبر بصحة جارية وفساده. والحالة الثالثة: أن يكون التقليد مطلقًا فلا يقدر بمدة ولا عمل، فيقول فيه: قد قلدتك خراج الكوفة، أو أعشار البصرة، أو حماية بغداد، فهذا تقليد صحيح، وإن جهلت مدته؛ لأنَّ المقصود منه الإذن لجواز النظر، وليس المقصود منه اللزوم المعتبر في عقود الإيجارات. وإذا صحَّ التقليد وجاز النظر لم يخل حاله من أحد أمرين: إما أن يكون مستديمًا أو منقطعًا، فإن كان مستديمًا كالنظر في الجباية والقضاء وحقوق المعادن، فيصح نظره فيها عامًا بعد عام ما لم يعزل، وإن كان منقطعًا فهو على ضربين: أحدهما: أن لا يكون معهود العود في كل عام كالوالي على قسم الغنيمة، فيعزل بعد فراغه منها، وليس له النظر في قسمة غيرها من الغنائم. والضرب الثاني: أن يكون عائدًا في كل عام كالخراج الذي إذا استخرج في عام عاد فيما يليه. فقد اختلف الفقهاء هل يكون إطلاق تقليده مقصورًا على نظر عامه أو محمولًا على كل عام ما لم يعزل على وجهين: أحدهما: أنه يكون مقصورًا للنظر على العام الذي هو فيه، فإذا استوفى خراجه، أو أخذ أعشاره انعزل، ولم يكن له أن ينظر في العام الثاني إلَّا بتقليد مستجد اقتصارًا على اليقين.

والوجه الثاني: أنه يحمل على جواز النظر في كل عام ما لم يعزل اعتبارًا بالعرف. والفصل الخامس: في جاري العامل على عمله، ولا يخلو فيه من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يسمي معلومًا. والثاني: أن يسمي مجهولًا. والثالث: أن لا يسمي بمجهول ولا بمعلوم، فإن سمَّى معلومًا استحق المسمَّى إذا وفَّى العمالة حقَّها، فإن قصر فيها روعي تقصيره، فإن كان لترك بعض العمل لم يستحق جاري ما قابله، وإن كان لخيانة منه مع استيفاء العمل استكمل جارية وارتجع ما خان فيه، وإن زاد في العمل روعيت الزيادة، فإن لن تدخل في حكم عمله كان نظره فيها مردودًا لا ينفذ، وإن كانت داخله في حكم نظره لم يخل من أحد أمرين: إما أن يكون قد أخذها بحق أو ظلم، فإن أخذها بحق كان متبرعًا بها لا يستحق لها زيادة على المسمَّى في جاريه، وإن كان ظلمًا وجب ردَّها على من ظلم بها، وكان عدوانًا من العامل يؤخذ بجريرته، واما إن سمَّى جارية مجهولًا استحق جاري مثله فيما عمل، فإن كان جاري العمل مقدرًا في الديوان وعمل به جماعة من العمال صار ذلك القدر هو جاري المثل، وإن لم يعمل به إلَّا واحد لم يصر ذلك مألوفًا في جاري المثل. وأما إن لم يسم جارية بمعلوم ولا بمجهول، فقد اختلف الفقهاء في استحقاقه لجاري مثله على عمله على أربعة مذاهب قالها الشافعي وأصحابه، فمذهب الشافعي فيها أنه لا جاري له على عمله، ويكون متطوعًا به حتى يسمّي جاريًا معلومًا أو مجهولًا؛ لخلو عمله من عوض. وقال المزني: له جاري مثله وإن لم يسمِّه لاستيفاء عمله عن إذنه. وقال أبو العباس بن سريج: إن كان مشهورًا بأخذ الجاري على عمله فله جاري مثله، وإن لم يشهر بأخذ الجاري عليه فلا جاري له. وقال أبو إسحاق المروزي1 من أصحاب الشافعي: إن دعي إلى العمل في الابتداء أو أمر

_ 1 هو إبراهيم بن أحمد أبو إسحاق المروزي الشافعي، إمام عصره في الفتوى والتدريس، أخذ الفقه عن ابن سريج، وشرح مختصر المزني، وله مصنَّفات كثيرة، وأقام ببغداد دهرًا طويلًا يفتي ويدرس، وأنجب من أصحابه جماعة، وإليه ينسب المروزي ببغداد الذي في قطيعة الربيع، ثم ارتحل إلى مصر آخر عمره وأدركه أجله بها، وتوفِّي -رحمه الله تعالى- سنة أربعين وثلاثمائة، ودفن بالقرب من الشافعي -رضي الله عنه.

به فله جاري مثله، فإن ابتدأ بالطلب فأذن له في العمل فلا جاري له، وإذا كان في عمله مال يجتنَى فجاريه مستحق فيه، وإن لم يكن فيه مال فجاريه في بيت المال مستحق من سهم المصالح. والفصل السادس: فيما يصح به التقليد، فإن كان نطقًا يلفظ به المولِّي صحَّ به التقليد كما تصحّ به سائر العقود، وإن كان عن توقيع المولّي بتقليده خطًّا لا لفظًا صحَّ التقليد، وانعقدت به الولايات السلطانية إذا اقترنت به شواهد الحال، وإن لم تصح به العقود الخاصة اعتبارًا بالعرف الجاري فيه، وهذا إذا كان التقليد مقصورًا عليه لا يتعداه إلى استبانة غيره فيه، ولا يصح إذا كان التقليد عامًّا متعديًا؛ فإذا صلح التقليد بالشروط المعتبرة فيه، وكان العمل قبله خاليًا من ناظر تفرَّد هذا المولي بالنظر، واستحقَّ جاريه من أول وقت نظره فيه، وإن كان في العمل ناظر قبل تقليده نظر في العمل، فإن كان مما لا يصح الاشتراك فيه كان تقليده الثاني عزلًا للأول، وإن كان مما يصحّ فيه الاشتراك روعي العرف الجاري فيه، فإن لم يجر العرف بالاشتراك فيه كان عزلًا للأول، وإن جرى العرف بالاشتراك فيه لم يكن تقليد الثاني عزلًا للأول، وكانا عاملين عليه وناظرين فيه، فإن قلّد عليه مشرف كان العامل مباشرًا للعمل، وكان المشرف مستوفيًا له يمنع من زيادة عليه أو نقصان منه أو تفرّد به. وحكم المشرف يخالف حكم صاحب البريد من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه ليس العامل أن ينفرد بالعمل دون المشرف، وله أن ينفرد به دون صاحب البريد. والثاني: أن للمشرف منع العامل مما أفسد فيه، وليس ذلك لصاحب البريد. والثالث: أن المشرف لا يلزمه الاختيار بما فعله العامل من صحيح وفاسد إذا انتهى إليه، ويلزم صاحب البريد الإخبار بما فعله العامل من صحيح وفاسد؛ لأنَّ خبر المشرف استعداء، وخبر صاحب البريد إنهاء.

أحدهما: أنَّ خبر الإنهاء يشتمل على الفاسد والصحيح، وخبر الاستعداء مختص بالفاسد دون الصحيح. والثاني: أنَّ خبر الإنهاء فيما رجع عنه العامل وفيما لم يرجع عنه، وخبر الاستعداء مختَصٌّ بما لم يرجع عنه دون ما رجع عنه، وإذا أنكر العامل استعداء المشرف أو إنهاء صاحب البريد، لم يكن قول واحد منهما مقبولًا عليه حتى يبرهن عنه، فإن اجتمعا على الإنهاء والاستعداء صارا شاهدين عليه، فيقبل قولهما عليه إذا كانا مأمونين، وإذا طولب العامل برفع الحساب فيما تولَّاه لزمه رفعه في عمالة الخراج، ولم يلزمه رفعه في عمالة العشر؛ لأنَّ مصرف الخراج إلى بيت المال، ومصرف العشر إلى أهل الصدقات، وعلى مذهب أبي حنيفة يؤخذ برفع الحساب في المالين؛ لاشتراك مصرفهما عنده، وإذا ادَّعى عامل العشر صرف العشر في مستحقه قبل قوله فيه، ولو ادَّعى عامل الخراج دفع الخراج إلى مستحقه لم يقبل قوله إلا بتصديق أو ببينة. وإذا أراد العامل أن يستخلف على عمله فذلك ضربان: أحدهما: أن يستخلف عليه من ينفرد بالنظر فيه دونه، فهذا غير جائز منه؛ لأنه يجري مجرى الاستبدال، وليس له أن يستبدل غيره بنفسه، وإن جاز له عزل نفسه. والضرب الثاني: أن يستخلف عليه معينًا له فيُرَاعَى مخرج التقليد، فإنه لا يخلو من ثلاثة أحوال: أحدهما: أن يتضمَّن إذنًا بالاستخلاف فيجوز له أن يستخلف، ويكون من استخلفه نائبًا عنه يعزل بعزله إن لم يكن مسمَّى في الإذن، فإن سمَّى له من يستخلفه فقد اختلف الفقهاء فيه إذا استخلفه هل ينعزل بعزله؟ فقال قوم: ينعزل، وقال آخرون: لا ينعزل. والحالة الثانية: أن يتضمَّن التقليد نهيًا عن الاستخلاف، فلا يجوز له أن يستخلف، وعليه أن ينفرد بالنظر فيه إن قدر عليه، فإن عجز عنه كان التقليد فاسدًا، فإن نظر مع فساد التقليد صحَّ في نظره ما اختص بالإذن من أمر ونهي، ولم يصح منه ما اختص بالولاية من عقد وحل.

والحالة الثالثة: أن يكون التقليد مطلقًا لا يتضمّن إذنًا ولا نهيًا، فيعتبر حال العمل، فإن قدر على التفرُّد بالنظر فيه لم يجز أن يستخلف عليه، وإن لم يقدر على التفرد بالنظر فيه جاز له أن يستخلف فيما عجز عنه، ولم يجز أنه يستخلف فيما قدر عليه. فصل: وأما القسم الرابع فيما اختص ببيت المال من دخل وخرج، فهو أن كل مال استحقه المسلمون، ولم يتعيِّن مالكه منهم فهو من حقوق بيت المال، فإذا قبض صار بالقبض مضافًا إلى حقوق بيت المال، سواء أدخل إلى حرزه أو لم يدخل؛ لأنَّ بيت المال عبارة عن الجهة لا عن المكان، وكل حق وجب صرفه في مصالح المسلمين فهو حق على بيت المال، فإذا صرف في جهته صار مضافًا إلى الخراج من بيت المال، سواء خرج من حرزه أو لم يخرج؛ لأنَّ ما صار إلى عمَّال المسلمين أو خرج من أيديهم، فحكم بيت المال جار عليه في دخله إليه وخرجه. وإذا كان كذلك فالأموال التي يستحقها المسلمون تنقسم ثلاثة أقسام: فيء وغنيمة وصدقة. فأما الفيء: فمن حقوق بيت المال؛ لأنَّ مصرفه موقوف على رأي الإمام واجتهاده. وأما الغنيمة: فليست من حقوق بيت المال؛ لأنها مستحقة للغانمين الذين تعينوا بحضور الواقعة لا يختلف مصرفها برأي الإمام، ولا اجتهاد له في منعهم منها، فلم تصر من حقوق بيت المال. وأمَّا خمس الفيء والغنيمة فينقسم ثلاثة أقسام: قسم منه يكون من حقوق بيت المال، وهو سهم النبي -صلى الله عليه وسلم- المصروف في المصالح العامة؛ لوقوف مصرفه على رأي الإمام واجتهاده، وقسم منه لا يكون من حقوق بيت المال لخروجه عن اجتهاد الإمام ورأيه. وقسم منه يكون بيت المال فيه حافظًا له على جهاته وهو سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل، إن وجدوا دفع إليهم، وإن فقدوا أحرز لهم.

وأما الصدقة فضربان: صدقة مال باطن: فلا يكون من حقوق بيت المال؛ لجواز أن ينفرد أربابه بإخراج زكاته في أهلها. والضرب الثاني: صدقة مال ظاهر؛ كأعشار الزروع والثمار وصدقات المواشي، فعند أبي حنيفة أنه من حقوق بيت المال؛ لأنه يجوز صرفه على رأي الإمام واجتهاده، ولم يعينه في أهل السهمين، وعلى مذهب الشافعي لا يكون من حقوق بيت المال؛ لأنه معين الجهات عنده، لا يجوز صرفه على غير جهاته، لكن اختلف قوله هل يكون بين المال محلًّا لإحرازه عند تعذر جهاته؟ فذهب في القديم إلى أن بيت المال إذا تعذَّرت الجهات يكون محلًّا لإحرازه فيه إلى أن توجد؛ لأنه كان يرى وجوب دفعه إلى الإمام، ورجع عنه في مستجد قوله إلى بيت المال لا يكون محلًّا لإحرازه استحقاقًا؛ لأنه لا يرى فيه وجوب دفعه إلى الإمام، وإن جاز أن يدفع إليه فذلك لم يستحق إحرازه في بيت المال، وإن جاز إحرازه فيه. وأما المستحق على بيت المال فضربان: أحدهما: ما كان بيت المال فيه حرزًا فاستحقاقه معتبر بالوجود، فإن كان المال موجودًا فيه كان صرفه في جهاته مستحقًّا وعدمه مسقطًا لاستحقاقه. والضرب الثاني: أن يكون بيت المال له مستحقًّا فهو على ضربين: أحدهما: أن يكون مصرفه مستحقًّا على وجه البدل كأرزاق الجند وأثمان الكراع والسلاح، فاستحقاقه غير معتبر بالوجود، وهو من الحقوق اللازمة مع الوجود والعدم، فإن كان موجودًا عجل دفعه كالديوان مع اليسار؛ وإن كان معدومًا وجب فيه على الإنظار كالديون مع الإعسار. والضرب الثاني: أن يكون مصرفه مستحقًّا على وجه المصلحة والأرفاق دون البدل، فاستحقاقه معتبر بالوجود دون العدم، فإن كان موجودًا في بيت المال وجب فيه وسقط غرضه عن المسلمين، وإن كان معلومًا سقط وجوبه عن بيت المال، وكان إن عمَّ ضرره من فروض الكفاية على كافة المسلمين حتى يقوم به منهم من فيه كفاية كالجهاد، وإن كان مما لا يعم ضرره كوعورة طريق قريب يجد الناس طريقًا غيره بعيدًا، أو انقطاع شرب يجد

الناس غيره شربًا، فإذا سقط وجوبه عن بيت المال بالعدم سقط وجوبه عن الكفاية لوجود البدل، فلو اجتمع على بيت المال حقَّان ضاق عنهما واتسع لأحدهما صرف فيما يصير منهما دينًا فيه، فلو ضاق عن كل واحد منهما جاز لولي الأمر إذا خاف الفساد أن يقترض على بيت المال ما يصرفه في الديون دون الارتفاق، وكان من حدث بعده من الولاة مأخوذًا بقضائه إذا اتسع له بيت المال. وإذا فضلت حقوق بيت المال عن مصرفها فقد اختلف الفقهاء في فاضله، فذهب أبو حنيفة إلى أنه يدخر في بيت المال لما ينوب المسلمين من حادث. وذهب الشافعي إلى أنه يقبض على أموال من يعمّ به صلاح المسلمين ولا يدخر؛ لأن النوائب تعين فرضها عليهم إذا حدثت، فهذه الأقسام الأربعة التي وضعت عليها قواعد الديوان. فصل: وأما كاتب الديوان وهو صاحب ذمامه، فالمعتبر في صحة ولايته شرطان: العدالة والكفاية. فأما العدالة: فلأنه مؤتَمَن على حق بيت المال والرعية، فاقتضى أن يكون في العدالة والأمانة على صفات المؤتمنين. وأما الكفاية: فلأنَّه مباشر لعمل يقتضي أن يكون في القيام مستقبلًا بكفاية المباشرين، فإذا صحَّ تقليده فالذي ندب له ستة أشياء: حفظ القوانين، واستيفاء الحقوق، وإثبات الرفع، ومحاسبات العمال، وإخراج الأحوال، وتصفح الظلامات. فأما الأول منها: وهو حفظ القوانين على الرسوم العادلة من غير زيادة تتحيف بها الرعية، أو نقصان ينثلم به حق بيت المال، فإن قررت في أيامه لبلاد استؤنف فتحها، أو لمواتٍ ابتدئ في إحيائه، أثبتها في ديوان الناحية وديوان بيت المال الجامع للحكم المستقر فيها، وإن تقدمته القوانين المقررة فيها رجع فيها إلى ما أثبته أمناء الكتاب إذا وثق بخطوطهم، وتسلمه من أمنائهم تحت ختمهم، وكانت الخطوط الخارجة على هذه الشروط مقنعة في جواز الأخذ بها، والعمل عليها في الرسوم الديوانية والحقوق السلطانية، وإن لم

تقنع في أحكام القضاء والشهادات اعتبارًا بالعرف المعهود فيها، كما يجوز للمحدث أن يروي ما وجد من سماعه بالخط الذي يثق به، ويجيء على قول أبي حنيفة أنه يجوز لكاتب الديوان أن يعمل على الخط وحده حتى يأخذه سماعًا من لفظ نفسه يحفظه عنه بقلبه، كما يقول في رواية الحديث اعتبارًا بالقضاء والشهادات، وهذا شاق مستبعَد. والفرق بينهما أنَّ القضاء والشهادات من الحقوق الخاصَّة التي يكثر المباشر لها والقُيَّمُ بها، فلم يضق الحفظ لها بالقلب، فلذلك لم يجز أن يعول فيها على مجرد الخط، وأن القوانين الديوانية من الحقوق العامة التي يقل المباشر لها مع كثرتها وانتشارها فضاق حفظها بالقلب، فلذلك جاز التعويل فيها على مجرد الخط، وكذلك رواية الحديث. وأما الثاني: وهو استيفاء الحقوق فهو على ضربين: أحدهما: استيفاؤها ممن وجب عليه من العاملين. والثاني: استفاؤها من القابضين لها من العمال. فأما استيفاؤها من العاملين: فيعمل فيه على إقرار العمال بقبضها، وأما العمل فيها على خطوط العمال بقبضها، فالذي عليه كتاب الدواوين أنه إذا عرف الخط كان حجة لقبض، سواء اعترف العامل بأنه خطة أو أنكره إذا قيس بخطه المعروف. والذي عليه الفقهاء أنَّه لم يعترف العامل بأنه خطه وأنكره لم يلزمه، ولم يكن حجة في القبض ولا يسوغ أن يقاس بخطه في الإلزام إجبارًا، وإنما يقاس بخطه إرهابًا ليعترف به طوعًا، وإن اعترف بالخط وأنكر القبض، فالظاهر من مذهب الشافعي أنه يكون في الحقوق السلطانية خاصة حجة للعاملين وبالدفع، وحجة على العمال بالقبض اعتبارًا بالعرف؛ والظاهر من مذهب أبي حنيفة أنه لا يكون حجة عليهم ولا للعاملين حتى يقرّ به لفظ كالديون الخاصة، وفيما قدمناه من الفرق بينهما مقنع. وأما استيفاؤها من العمال: فإن كانت خراجًا إلى بيت المال لم يحتج فيها إلى توقيع ولي الأمر، وكان اعتراف صاحب بيت المال بقبضها حجة في براءة العمال منها، والكلام في خطِّ إذا تجرَّد عن إقراره على ما قدمناه في خطوط العمال أنه يكون حجة على الظاهر من مذهب

الشافعي- ولا يكون حجة على الظاهر من مذهب أبي حنيفة، وإن كانت خراجًا من حقوق بيت المال، ولم تكن خراجًا إليه لم يمض العمال إلّا بتوقيع ولي الأمر، وكان التوقيع إذا عرفت صحته حجة مقنعة في جواز الدفع. وأمَّا الاحتساب به فيحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون الاحتساب به موقوفًا على اعتراف الموقع له بقبض ما تضمنه؛ لأنَّه التوقيع حجة بالدفع إليه، وليس بحجة في القبض منه. والوجه الثاني: يحتسب به العمل في حقوق بيت المال، فإن أنكر صاحب التوقيع القبض حاكم العامل فيه، وأخذ العامل بإقامة الحجة عليه، فإن عدمها أحلف صاحب التوقيع، وأخذ العامل بالغرم، وهذا الوجه أخص بعرف الديوان. والوجه الأوّل أشبه بتحقيق الفقه، فإن استراب صاحب الديوان بالتوقيع لم يحتسب للعامل به على الوجهين معًا حتى يعرضه على الموقع، فإن اعترف به صحَّ، وكان الاحتساب به على ما تقدَّم، وإن أنكره لم يحتسب به للعامل، ونظر في وجه الخراج، فإن كان في خاص موجود رجع به العامل عليه، وإن كان في جهات لا يمكن الرجوع بها سأل العامل إحلاف الموقع على إنكاره، وإن لم يعرف صحة الخراج لم يكن للموقع إحلاف العامل لا في عرف السلطنة ولا في حكم القضاء، فإن علم بصحة الخراج فهو من عرف السلطنة مدفوع عن إحلاف الموقع، وفي حكم القضاء يجاب عليه. وأما الثالث: فهو إثبات الرفع، فينقسم ثلاثة أقسام: رفع مساحة وعمل، ورفع قبض واستيفاء، ورفع خرج ونفقة، فأمَّا رفع المساحة والعمل، فإن كانت أصولها مقدرة في الديوان اعتبر صحة الرفع بمقابلة الأصل، وأثبت في الديوان إن وافقها، وإن لم يكن لها في الديوان أصول عمل في إثباتها على قول رافعها. وأما رفع القبض والاستيفاء فيعمل في إثباتها على مجرد قول رافعها؛ لأنه يقر به على نفسه لا لها. وأما رفع الخراج والنفقة فرافعها مدع لها فلا تقبل دعواه إلا بالحجج البالغة، فإن احتج

بتوقيعات ولاة الأمور استعرضها، وكان الحكم فيها على ما قدمنا من أحكام التوقيعات. وأما الرابع: وهو محاسبة العمال: فيختلف حكمها باختلاف ما تقلَّدوه، وقد قدمنا القول فيها، فإن كانوا من عمَّال الخراج لزمهم رفع الحساب، ووجب على كاتب الديوان محاسبتهم على صحة ما رفعوه، وإن كانوا من عمَّال العشر لم يلزمهم على مذهب الشافعي رفع الحساب، ولم يجب على كاتب الديوان محاسبتهم عليه؛ لأن العشر عنده صدقة لا يقف مصرفها على اجتهاد الولاة، ولو تفرَّد أهلها أجزأت، ويلزمهم على مذهب أبي حنيفة رفع الحساب، ويجب على كاتب الديوان محاسبتهم عليه؛ لأنَّ مصرف الخراج والعشر عنده مشترك، وإذا حوسب من وجبت عليه محاسبته من العمَّال نظر، فإن لم يقع بين العامل وكاتب الديوان حلف كان كاتب الديوان مصدقًا في بقايا الحساب، فإن استراب به وليّ الأمر كلَّفه إحضاره شواهده، فإن زالت الريبة عنه سقطت اليمين فيه، وإن لم تزل الريبة وأراد ولي الأمر الإحلاف على ذلك أحلف العامل دون كاتب الديوان؛ لأنَّ المطالبة متوجهة على العامل دون الكاتب، وإن اختلفا في الحساب نظر، فإن كان اختلافهما في دخل، فالقول فيه قول العامل؛ لأنه منكر، وإن كان اختلافهما في خراج، فالقول فيه قول الكاتب؛ لأنه منكر، وإن كان اختلافهما في مساحة تمكن إعادتها اعتبرت بعد الاختلاف، وعمل فيها على ما يخرج بصحيح الاعتبار. وأما الخامس: وهو إخراج الأحوال، فهو استشهاد صاحب الديوان على ما ثبت فيه من قوانين وحقوق، فصار كالشهادة واعتبر فيه شرطان: أحدهما: أن لا يخرج من الأموال إلّا ما علم صحته كما لا يشهد إلَّا بما علمه وتحققه. والثاني: أن لا يبتدئ بذلك حتى يُسْتَدعَى منه كما لا يشهد حتى يستشهد، والمستدعَى لإخراج الأحوال من نفذت توقيعاته، كما أنَّ المشهود عنده من نفذت أحكامه، فإذا أخرج حالًا لزم الموقع بإخراجها والأخذ بها والعمل عليها، كما يلزم الحاكم تنفيذ الحكم بما يشهد به الشهود عنده، فإن استراب الموقع بإخراج الحال جاز أن يسأله من أين أخرجه، ويطالبه بإحضار شواهد الديوان بها، وإن لم يجز أن يسأل شاهدًا عن سبب شهادته، فإن أحضرها ووقع في النفس صحتها زالت عنه الريبة، وإن عدمها وذكر أنه أخرجها من حفظه؛ لتقدم

علمه بها صار معلول القول، والموقع مخير بين قبول ذلك منه أو رده عليه، وليس له استخلافه. وأما السادس: وهو تصفّح الظلامات، فهو يختلف بسبب اختلاف التظلم، وليس يخلو من أن يكون المتظلم من الرعية أو من العمال، فإن كان المتظلم من الرعية تظلم من عامل تحيفه في معاملته كان صاحب الديوان فيها حاكمًا بينهما، وجاز له أن يتصفح الظلامة1 ويزيل التحيف2، سواء وقع النظر إليه بذلك أو لم يقع؛ لأنه مندوب لحفظ القوانين واستيفاء الحقوق، فصار بعقد الولاية مستحقًّا لتصفح الظلامة، فإن منع منها امتنع وصار عزلًا عن بعض ما كان إليه، وإن كان المتظلم عاملًا جوزف في حساب، أو غولط في معاملة صار صاحب الديوان فيها خصمًا، وكان المتصفح لها والي الأمر.

_ 1 الظلامة والظليمة والمظلمة بفتح اللام: ما تطلبه عند الظالم وهو اسم ما أخذه منك. [مختار الصحاح: ص 170] . 2 التحيف: من الحيف. [الغريب للخطابي: 3/ 61] .

الباب التاسع عشر: في أحكام الجرائم

الباب التاسع عشر: في أحكام الجرائم مدخل ... الباب التاسع عشر: في أحكام الجرائم الجرائم محظورات شرعية زجر الله تعالى عنها بحدّ أو تعزيز1، ولها عند التهمة حال استبراء تقتضيه السياسة الدينية، ولها عند ثبوتها وصحتها حال استيفاء توجبه الأحكام الشرعية. فأمَّا حالها بعد التهمة وقبل ثبوتها وصحتها فمعتبر بحال النظر فيها، فإن كان حاكمًا رفع إليه رجل قد اتُّهم بسرقة أو زنًا، لم يكن لتهمة بها تأثير عنده؛ ولم يجز أن يحبسه لكشف ولا استبراء، ولا أن يأخذه بأسباب الإقرار إجبارًا، ولم يسمع الدعوى عليه في السرقة إلَّا من خصم مستحق لما قرف، وراعى ما يبدو من إقرار المتهوم أو إنكاره؛ إن اتهم بالزنا لم يسمع الدعوى عليه إلَّا بعد أن يذكر المرأة التى زنى بها، ويصف ما فعله بها مما يكون زنًا موجبًا للحدِّ، فإن أقرَّ حده بموجب إقراره، وإن أنكر وكانت بينة سمعها عليه، وإن لم تكن أحلفه في حقوق الآدميين دون حقوق الله تعالى إذا طلب الخصم اليمين2. وإن كان الناظر الذي رفع إليه هذا المتهوم أميرًا، أو من أولاد الأحداث والمعاون، كان له مع هذا المتهوم من أسباب الكشف والاستبراء ما ليس للقضاة والحكام، وذلك من تسعة أوجه يختلف بها حكم الناظرين: أحدها: أنه لا يجوز للأمير أن يسمع قرف3 المتهوم من أعوان الإمارة من غير تحقيق للدعوى المقررة ويرجع إلى قولهم في الإخبار عن حال المتهوم، وهل هو من أهل الريب؟

_ 1 التعزيز: ضرب دون الحد لمنع الجانى من المعاودة وردعه عن المعصية. [اللسان: 4/ 561] . 2 قلت: وهذا كلام في غاية الجودة والدقة سبق به المصنف -رحمه الله- واضعي القوانين والدساتير بمئات السنين. 3 قرف: الذنب وغيره يقرفه قرفًا واقترفه: اكتسبه. والاقتراف: الاكتساب. اقترف أي اكتسب، واقترف ذنبًا أي: أتاه وفعله. وفي الحديث: رجل قرف على نفسه ذنوبًا أي كسبها. ويقال: قرف الذنب واقترفه إذا عمله. وقارف الذنب وغيره: داناه ولاصقه. [اللسان: 9/ 280] .

وهل هو معروف بمثل ما قرف به أم لا؟ فإن برؤوه من مثل ذلك خفت التهمة، ووضعت وعجل إطلاقه ولم يغلظ عليه، وإن قرفوه بأمثاله وعرفوه بأشباهه غلظت التهمة وقويت واستعمل فيها من حال الكشف ما سنذكره، وليس هذا للقضاة. والثاني: أن للأمير أن يراعي شواهد الحال، وأوصاف المتهوم في قوة التهمة وضعفها، فإن كانت التهمة زنا، وكان المتهوم مطيعًا للنساء ذا فكاهة وخلابة قويت التهمة، وإن كان بضده ضعفت، وإن كانت التهمة بسرقة، وكان المتهوم بها ذا عيارة1، أو في بدنه آثار ضرب، أو كان معه حين أخذ منقب قويت التهمة، وإن كان بضده ضعفت وليس هذا للقضاة أيضًا. والثالث: أنَّ للأمير أن يجعل حبس المتهوم للكشف والاستبراء، واختلف في مدة حبسه لذلك، فذكر عبد الله الزبيري من أصحاب الشافعي أن حبسه للاستبراء، والكشف مقدَّر بشهر واحد لا يتجاوزه. وقال غيره: بل ليس بمقدر، وهو موقوف على رأي الإمام واجتهاده وهذا أشبه2، وليس للقضاة أن يحبسوا أحدًا إلا بحق وجب. والرابع: أن يجوز للأمير مع قوة التهمة أن يضرب المتهوم ضرب التعزيز لا ضرب الحد؛ ليأخذه بالصدق عن حاله فيما قرف به واتهم، فإن أقر وهو مضروب، اعتبرت حالة فيما ضرب عليه، فإن ضرب لم يكن لإقراءه تحت الضرب حكم، وإن ضرب ليصدق عن حالة وأقرَّ تحت الضرب قطع ضربه واستعيد إقراره، فإذا أعاده كان مأخوذًا بالإقرار الثاني دون الأول، فإن اقتصر على الإقرار ولم يستعده لم يضيق عليه أن يعمل بالإقرار الأول، وإن كرهناه. والخامس: أنه يجوز للأمير فيمن تكررت منه الجرائم ولم ينزجز عنها بالحدود ان يستديم حبسه إذا استضرَّ الناس بجرائمه حتى يموت بعد أن يقوم بقوته وكسوته من بيت المال؛ ليدفع ضرره عن الناس، وإن لم يكن ذلك للقضاة.

_ 1 رجل عيَّار أي: كثير التطواف والحركة ذكي، وعيّره كذا من التعبير أي: التوبيخ والعامة تقول: عيره بكذا، والعار: السبة والعيب. [مختار الصحاح: 194] . 2 قلت: بل الأشبه الأول خاصة في عصور يشيع فيها الظلم والاستبداد.

والسادس: أنه يجوز للأمير إحلاف المتهوم استبراء لحاله، وتغليظًا عليه في الكشف عن أمره في التهمة بحقوق الله تعالى وحقوق الآدميين، ولا يضيق عليه أن يجعله بالطلاق والعتاق والصدقة كالإيمان بالله في البيعة السلطانية1، وليس للقضاة إحلاف أحد على غير حق، ولا أن يجاوز الإيمان بالله إلى الطلاق أو العنق. والسابع: أن للأمير أن يأخذ أهل الجرائم بالتوبة إجبارًا، ويظهر من الوعيد عليهم ما يقودهم إليها طوعًا، ولا يضيق عليهم الوعيد بالقتل فيما لا يجب فيه القتل؛ لأنه وعيد إرهاب يخرج عن حد الكذب إلى حيز التعزيز والأدب، ولا يجوز أن يحقق وعيده بالقتل، فيقتل فيما لا يجب فيه القتل. والثامن: أنَّه لا يجوز للأمير أن يسمع شهادات أهل الملل، ومن لا يجوز أن يسمع منه القضاة إذا كثر عددهم. والتاسع: أن للأمير النظر في المواثبات، وإن لم توجد غرمًا ولا حدًّا، فإن لم يكن بواحد منهما أثر سمع قول من سبق بالدعوى، وإن كان بأحدهما أثر فقد ذهب بعضهم إلى أنه يبدأ بسماع دعوى من به الأثر ولا يراعي السبق. والذي عليه أكثر الفقهاء أنَّه يسمع قول أسبقهما بالدعوى، ويكون المبتدئ بالمواثبة2 أعظمهما جرمًا وأغلظهما تأديبًا، ويجوز أن يخالف بينهما في التأديب من وجهين: أحدهما: بحسب اختلافهما في الاقتراف والتعدي. والثاني: بحسب اختلافهما في الهيبة والتصاون، وإذا رأى من الصلاح في ردع السفلة أن يشهّرهم وينادي عليهم بجرائمهم ساغ له ذلك، فهذه أوجه يقع بها الفرق في الجرائم بين نظر الأمراء والقضاة في حال الاستبراء وقبل ثبوت الحد لاختصاص الأمير بالسياسة، واختصاص القضاة بالأحكام.

_ 1 قال المرداوي: لا يحلف بطلاق، ذكره الشيخ تقي الدين -رحمه الله- وفاقًا للأئمة الأربعة -رحمهم الله تعالى، وحكاه ابن عبد البر -رحمه الله- إجماعًا. [الإنصاف: 21/ 124] . 2 المواثبة: المصاولة. [الفائق ص 334] .

فصل: وأما بعد ثبوت جرائمهم، فيستوي في إقامة الحدود عليهم أحوال الأمراء والقضاة، وثبوتها عليهم يكون من وجهين: إقرار وبينة، ولكل واحد منهما حكم يذكر في موضعه. والحدود زواجر وضعها الله تعالى للردع عن ارتكاب ما حظر، وترك ما أمر به لما في الطمع من مغالبة الشهوات الملهية عن وعيد الآخرة بعاجل اللذة، فجعل الله تعالى من زواجر الحدود ما يردع به ذا الجهالة حذرًا من ألم العقوبة، وخيفة من نكال الفضيحة؛ ليكون ما حظر من محارمه ممنوعًا، وما أمر به من فروضه متبوعًا، فتكون المصلحة أعمّ والتكليف أتم، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] : يعني في استنقاذهم من الجهالة، وإرشادهم من الضلالة، وكفِّهم عن المعاصي وبعثهم على الطاعة. وإذا كان كذلك فالزواجر ضربان: حد وتعزيز: فأما الحدود فضربان: أحدهما: ما كان من حقوق الله تعالى. والثاني: ما كان من حقوق الآدميين. فأما المختصة بحقوق الله تعالى فضربان: أحدهما: ما وجب في ترك مفروض. والثاني: ما وجب في ارتكاب محظور، فأما ما وجب في ترك مفروض كتارك الصلاة المفروضة حتى يخرج وقتها يسأل عن تركه لها، فإن قال: لنسيان أمر بها قضاء في وقت ذكرها ولم ينتظر بها مثل وقتها، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، فذلك وقتها لا كفارة لها غير ذلك" 1. وإن تركها لمرض صلاها بحسب طاقته من جلوس أو اضطجاع، قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] .

_ 1 صحيح: رواه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة "597"، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة "684".

وإن تركها جاحدًا لوجوبها كان كافرًا، حكمه حكم المرتدِّ يقتل بالردة إذا لم يتب، وإن تركها استثقالًا لفعلها مع اعترافه بوجوبها، فقد اختلف الفقهاء في حكمه، فذهب أبو حنيفة إلى أنه يضرب في وقت كل صلاة ولا يقتل، قال أحمد بن حنبل وطائفة من أصحاب الحديث: يصير بتركها كافرًا يقتل بالردة. وذهب الشافعي إلى أنه لا يكفر بتركها، ولا يقتل حدًّا، ولا يصير مرتدًّا، ولا يقتل إلَّا بعد الاستتابة، فإن تاب وأجاب إلى فعلها ترك وأمر بها، فإن قال: أصليها في منزلي وكلت إلى أمانته، ولم يجبر على فعلها بمشهد من الناس، وإن امتنع من التوبة، ولم يجب إلى فعل الصلاة قتل بتركها في الحال على أحد القولين، وبعد ثلاثة أيام في القول الثاني، ويقتله بسيف صبرًا. وقال أبو العباس بن سريج1: يقتله ضربًا بالخشب حتى يموت ويعدل عن السيف الموحَّى؛ ليستدرك التوبة بتطاول المدى. واختلف أصحاب الشافعي في وجوب قتله بترك الصلوات الفوائت إذا امتنع من قضائها، فذهب بعضهم إلى أن قتله بها كالموقتات، وذهب آخرون إلى أنه لا يقتل بها لاستقرارها في الذمة بالفوات، ويصلَّى عليه بعد قتله، ويدفن في مقابر المسلمين؛ لأنه منهم ويكون ماله لورثته. فأما تارك الصيام فلا يقتل بإجماع الفقهاء، ويحبس عن الطعام والشراب مدة صيام شهر رمضان، ويؤدب تعزيزًا، فإن أجاب إلى الصيام ترك، ووكل إلى أمانته، فإن شوهد آكلًا عزِّر ولم يقتل. وأما إذا ترك الزكاة فلا يقتل بها، وتؤخذ إجبارًا من ماله، ويعزَّر إن كتمها بغير شبهة، وإن تعذر أخذها لامتناعه حورب عليها، وإن أفضى الحرب إلى قتله حتى تؤخذ منه كما حارب أبو بكر الصديق مانعي الزكاة.

_ 1 هو أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج، الفقيه الشافعي؛ قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في حقه في كتاب الطبقات: كان من عظماء الشافعيين، وأئمة المسلمين، وكان يقال له: الباز الأشهب، ولي القضاء بشيراز، وكان يفضل على جميع أصحاب الإمام الشافعي، حتى على المزني، وإنَّ فهرست كتبه كانت تشتمل على أربعمائة مصنَّف، وقام بنصرة مذهب الشافعي ورد على المخالفين، وفرع على كتب محمد بن الحسن الحنفي.

وأما الحجّ ففرضه عند الشافعي على التراخي ما بين الاستطاعة والموت، فلا يتصور على مذهبه تأخيره عن وقته، وهو عند أبي حنيفة على الفور، فيتصور على مذهبه تأخيره عن وقته، ولكنه لا يقتل به ولا يعزَّر عليه؛ لأنه يفعله بعد الوقت أداء لا قضاء، فإن مات قبل أدائه حج عنه من رأس ماله. وأما الممتنع من حقوق الآدميين من ديون وغيرها فتؤخذ منه جبرًا إن أمكن، ويحبس بها إذا تعذّرت، إلَّا أن يكون بها معسرًا، فينظر إلى ميسرة، فهذا حكم ما وجب بترك المفروضات. واما ما وجب بارتكاب المحظورات فضربان: أحدهما: ما كان من حقوق الله تعالى وهي أربعة: حد الزنا، وحد الخمر، وحد السرقة، وحد المحاربة. والضرب الثاني: من حقوق الآدميين شيئان: حد القذف بالزنا، والقذف في الجنايات، وسنذكر كل واحد منهما مفصَّلًا.

الفصل الأول: في حد الزنا

الفصل الأول: في حد الزنا الزنا هو تغيب البالغ العاقل حشفة ذكره في أحد الفرجين من قُبُلٍ أو دُبُرٍ ممن لا عصمة بينهما ولا شبهة، وجعل أبو حنيفة الزنا مختصًّا بالقُبُل دون الدبر، ويستوي في حد الزنا حكم الزاني والزانية، ولكل واحد منهما حالتان: بكر ومحصن، أما البكر فهو الذي لم يطأ زوجة بنكاح، فيحد إن كان حرًّا مائة سوط تفرق في جميع بدنه، إلَّا الوجه والمقاتل، ليأخذ كل عضو حقه، بسوط لا جديد فيقتل، ولا خلق فلا يؤلم، واختلف الفقهاء في تغريبه مع الجلد، فمنع منه أبو حنيفة اقتصارًا على جلده. وقال مالك: يغرَّب الرجل ولا تغرَّب المرأة، وأوجب الشافعي تغريبها عامًا عن بلدها إلى مسافة أقلها يوم وليلة، ولقوله -صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلًا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" 1. وحد الكافر والمسلم سواء عند الشافعي في الجلد والتغريب. وأما العبد ومن جرى عليه حكم الرق من المدبّر والمكاتب وأم الولد، فحدهم في الزنا خمسون جلدة على النصف من الحر لنقصهم بالرق، واختلف في تغريب من رق منهم فقيل: لا يغرَّب لما في التغريب من الإضرار بسيده، وهو قول مالك، وقيل: يغرَّب عامًا كاملًا كالحر، وظاهر مذهب الشافعي أن يغرَّب نصف عام كالجلد في تنصيفه، وأما المحصن فهو الذي أصاب زوجته بنكاح صحيح، وحده الرجم بالأحجار، أو ما قام مقامها حتى يموت، ولا يلزم توفي مقاتله، بخلاف الجلد؛ لأنَّ المقصود بالرجم القتل، ولا يجلد مع الرجم. وقال داود: يجلد مائة سوط ثم يرجم، والجلد منسوخ في المحصن. وقد رجم النبي -صلى الله عليه وسلم- ماعزًا ولم يجلده. وليس الإسلام شرطًا في الإحصان، فيرجم الكافر كالمسلم، وقال أبو حنيفة: الإسلام شرط في الإحصان، فإذا زنى الكافر جلد ولم يرجم، وقد رجم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يهوديين زنيا

_ 1 صحيح: رواه مسلم في كتاب "1690"، وأبو داود في كتاب الحدود "1690"، والترمذي في كتاب الحدود "1434"، وابن ماجه في كتاب الحدود "2550"، وأحمد "22158".

ولا يرجم إلّا محصنًا، فأمَّا الحرية فهي من شروط الإحصان، فإذا زنى العبد لم يرجم، وإن كان ذا زوجة جلد خمسين، وقالد داود: يرجم كالحر. واللواط وإتيان البهائم زنًا يوجب جلد البكر، ورجم المحصن، وقيل: بل يوجب قتل البكر والمحصن. وقال أبو حنيفة: لا حدَّ فيها، وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "اقتلوا البهيمة ومن أتاها" 1. وإذا زنى البكر بمحصنة أو المحصن بالبكر جُلِدَ البكر منهما ورُجِمَ المحصن، وإذا عاود الزنا بعد الحد حدَّ، وإذا زنى مرارًا قبل الحدِّ حد للجميع حدًّا واحدًا. والزنا يثبت بأحد أمرين: إمَّا بإقرار أو بينة. فأما الإقرار: فإذا أقرَّ البالغ العاقل بالزنا مرة واحدة طوعًا أقيم عليه الحد. وقال أبو حنيفة: لا آخذه حتى يقرَّ أربع مرات، وإذا وجب الحد عليه بإقراره، ثم رجع عنه قبل الجلد سقط عند الحد. وقال أبو حنيفة: لا يسقط الحد برجوعه عنه. وأما البينة: فهو أن يشهد عليه بفعل الزنا أربعة رجال عدول لا امرأة فيهم، يذكرون أنهم شاهدوا دخول ذكره في الفرج كدخول المرود في المكحلة، فإن لم يشاهدوا ذلك على هذه الصفة فليست شهادة، فإذا قاموا بالشهادة على حقها مجتمعين أو متفرقين قبلت شهادتهم. وقال أبو حنيفة ومالك: لا أقبلها إذا تفرقوا في الأداء وأجعلهم قذفة. وإذا شهدوا بالزنا بعد سنة أو أكثر سمعت شهادتهم. وقال أبو حنيفة: لا أسمعها بعد سنة وأجعلهم قذفة، وإذا لم يكمل شهود الزنا أربعة فهم قذفة يُحَدُّون في أحد القولين ولا يحدون في الثاني. وإذا شهدت البينة على إقراره بالزنا جاز الاقتصار على شاهدين في أحد القولين. ولا يجوز في القول الثاني أقلّ من أربعة، وإذا رجم الزاني بالبينة حفرت له بئر عند رجمه ينزل فيها إلى وسطه يمنعه من الهرب، فإن هرب أتبع، ورُجِمَ حتى يموت، وإن رجم بإقراره لم تحفر له، وإن هرب لم يتبع. ويجوز للإمام أو من حكم برجمه من الولاة أن يحضر رجمه، ويجوز أن لا يحضر. وقال أبو حنيفة: لا يجوز إلّا بحضور من حكم برجمه؛ وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "اغد يا أنيس على هذه

_ 1 حسن صحيح: رواه أبو داود في كتاب الحدود "4464"، والترمذي في كتاب الحدود "1455"، وابن ماجه في كتاب الحدود "2564"، وأحمد "2416"، وقال الشيخ الألباني: حسن صحيح.

المرأة فإن اعترفت فارجمها" 1. ويجوز أن لا يحضر الشهود رجمه. وقال أبو حنيفة: يجب حضورهم وأن يكونوا أول من يرجمه؛ ولا تحدّ حامل حتى تضع، ولا بعد الوضع حتى يوجد لولدها مرضع إذا ادَّعى في الزنا شبهة محتملة من نكاح فاسد، أو اشتبهت عليه بزوجته، أو جهل تحريم الزنا وهو حديث الإسلام درئ بها عند الحد. قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "ادرءوا الحدود بالشبهات"2. وقال أبو حنيفة: إذا اشتبهت عليه الأجنبية لزوجته لم يكن ذلك شبهة له وحد من أصابها، وإذا أصاب ذات محرم بعقد نكاح حد، ولا يكون العقد مع تحريمها بالنص شبهة في درء الحد؛ وجعله أبو حنيفة شبهة يسقط بها الحد عنه. وإذا تاب الزاني بعد القدرة عليه لم يسقط عند الحد، ولو تاب قبل القدرة عليه يسقط عند الحد في أظهر القولين، قال الله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 119] . وفي قوله: {بِجَهَالَةٍ} تأويلان: أحدهما: بجهالة سوء. والثاني: لغلبة الشهوة مع العلم بأنَّها سوء وهذا أظهر التأويلين، ولكن من جهل بأنها سوء لم يأثم بها، ولا تحل لأحد أن يشفع في إسقاط حد عن زانٍ ولا غيره، ولا يحل للمشفوع إليه أن يشفع فيه، قال الله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء: 85] . وفي الحسنة والسيئة ثلاث تأويلات: أحدها: أن الشفاعة الحسنة التماس الخير لمن يشفع له، والشفاعة السيئة التماس الشر له، وهذا قول الحسن ومجاهد. والثاني: أنَّ الحسنة الدعاء للمؤمنين والمؤمنات والسيئة الدعاء عليهم. والثالث: وهو محتمل، أنَّ الحسنة تخليصه من الظلم والسيئة دفعه عن الحق. وفي الكفل تأويلان:

_ 1 صحيح: رواه البخاري في كتاب الوكالة "2315"، ومسلم في كتاب الحدود "1698". 2 ضعيف: ضعفه الشيخ الألباني في ضعيف الجامع "258".

أحدهما: الإثم، وهو قول الحسن. والثاني: أنه النصيب، وهو قول السدي1.

_ 1 هو إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي ذؤيب السدي، الإمام أبو محمد السدي الكبير، الحجازي ثم الكوفي، الأعور المفسر راوي قريش، روى عن أنس بن مالك وابن عباس وعبد خير الهمداني ومصعب بن سعد وأبي صالح باذام وأبي عبد الرحمن السلمي ومرة الطيب وخلق، ورأى أبا هريرة والحسن بن علي -رضي الله عنه، وروى له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. قال النسائي: صالح الحديث، وقال القطان: لا بأس به، وقال أحمد: مقارب الحديث. وقال مرة: ثقة، وقال ابن معين: ضعيف، وقال أبو زرعة: لين، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، وقال ابن عدي: هو عندي صدوق. قيل: إنه كان عظيمًا.

الفصل الثاني: في قطع السرقة

الفصل الثاني: في قطع السرقة كل مال محرز بلغت قيمته نصابًا إذا سرقه بالغ عاقل لا شبهة له في المال ولا في حرزه قطعت يده اليمني من مفصل الكوع، فإن سرق ثانية بعد قطعه، إما من ذلك المال بعد إحرازه، أو من غيره، قطعت رجله اليسرى من مفصل الكعب، فإن سرق ثالثة قال أبو حنيفة: لا يقطع فيها، وعند الشافعي تقطع في الثالثة يده اليسرى، وفي الرابعة رجله اليمنى، وإن سرق خامسة عزّر ولم يقتل، وإن سرق مرارًا قبل القطع فليس عليه إلّا قطع واحد. واختلف الفقهاء في قدر النصاب الذي تقطع فيه اليد، فذهب الشافعي إلى أنه مقدَّر بما تبلغ قيمته ربع دينار فصاعدًا من غالب الدنانير الجيدة. وقال أبو حنيفة: هو مقدر بعشرة دراهم أو دينار، ولا يقطع في أقلّ منه. وقدَّره إبراهيم النخعي بأربعين درهمًا أو أربعة دنانير، وقدره ابن أبي ليلى بخمسة دراهم، وقدره مالك بثلاثة دراهم، قال داود: يقطع في الكثير والقليل من غير تقدير. واختلف الفقهاء في المال الذي تقطع فيه اليد، فذهب الشافعي إلى أنه يقطع في كل مال حرم على سارقه. وقال أبو حنيفة: لا يقطع فيما كان أصله مباحًا كالصيد والحطب والحشيش، وعند الشافعي يقطع فيه بعد تملكه، وقال أبو حنيفة: لا يقطع في الطعام الرطب، وعند الشافعي يقطع فيه. وقال أبو حنيفة: لا يقطع سارق المصحف، وعند الشافعي يقطع. وقال أبو حنيفة: لا يقطع إذا سرق من قناديل المسجد أو أستار الكعبة، وعند

الشافعي يقطع. وإذا سرق عبد صغير لا يعقل أو أعجمي لا يفهم قطع عند الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يقطع. ولو سرق صبي صغير لم يقطع، وقال مالك: يقطع. واختلف الفقهاء في الحرز، فشذَّ عنهم داود ولم يعتبره، وقطع كل سارق من حرز [أو من غير حرز، وذهب جمهورهم إلى اعتبار الحرز في وجوب القطع، وأنه لا قطع على من سرق من غير حرز، روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا قطع في حريسة الخيل حتى تولي إلى معاقلها". وهكذا لو استعار فجحد لم يقطع، وقال أحمد بن حنبل: يقطع, واختلف في جعل الحرز شرطًا في صفته، فسوى أبو حنيفة بين الأحراز في كل الأموال، وجعل حرز أقل الأموال حرز أجلها، والأحراز عند الشافعي تختلف باختلاف الأموال اعتبارًا بالعرف فيها. فيخف الحرز فيما قلَّت قيمته من الخشب والحطب، ويغلظ ويشتد فيما كثرت قيمته من الذهب والفضة، فلا يجعل حرز الفضة والذهب، فيقطع سارق الخشب منه، ولا يقطع سارق الذهب والفضه منه، ويقطع نباش القبور إذا سرق أكفان موتاها؛ لأن القبور أحراز لها في العرف، وإن لم تكن أحرازًا لغيرها من الأموال. وقال أبو حنيفة: لا يقطع النباش؛ لأنَّ القبر ليس بحرز لغير الكفن. وإذا شد الرجل متاعه على بهيمة سائرة كما جرت العادة بمثله فسرق سارق من المتاع ما بلغت قيمته ربع دينار قطع؛ لأنه سارق من حرز، ولو سرق البهيمة وما عليها لم يقطع؛ لأنه سرق الحرز والمحروز، ولو سرق إناء من فضة أو ذهب قطع، وإن كان استعماله محظورًا؛ لأنه مال مملوك، سواء كان فيه طعام أو لم يكن. وقال أبو حنيفة: إن كان في الإناء المسروق طعام أو شراب أو ماء مشروب فشربه لم يقطع، ولو أفرغ الإناء من الطعام والشراب ثم سرقه قطع. وإذا اشترك اثنان في نقب الحرز، ثم انفرد أحدهما بأخذ المال قطع المنفرد منهما بالأخذ دون المشارك في النقب، ولو اشترك اثنان فنقب أحدهما ولم يأخذ، وأخذ الآخر ولم ينقب، لم يقطع واحد منهما، وفي مثلها قال الشافعي: اللص الظريف لا يقطع. وإذا دخل الحرز واستهلك المال فيه غرم ولم يقطع، وإذا قطع السارق والمال باقٍ رد على مالكه، فإن عاد السارق بعد قطعه فسرق ثانية بعد إحرازه قطع. وقال أبو حنيفة: لا يقطع في مال مرتين، وإذا استهلك السارق] 1.

_ 1 هذه الجزئية سقط في بعض النسخ.

ما سرقه قطع وأغرم. وقال أبو حنيفة: إن قطع لم يغرم، وإن أغرم لم يقطع. وإذا وهبت له السرقة لم يسقط عنه القطع. وقال أبو حنيفة: يسقط، وإذا عفا رب المال عن القطع لم يسقط. قد عفا صفوان بن أمية عن سارق ردائه فقال -صلى الله عليه وسلم: "لا عفا الله عنِّي إن عفوت" وأمر بقطعه. وحكي أن معاوية أتي بلصوص فقطعهم حتى بقي واحد منهم، فقدم ليقطع فقال من [الطويل] : يميني أمير المؤمنين أعيذها ... بعفوك أن تلقى نكالًا يبينها يدي كانت الحسناء لو تمَّ سترها ... ولا تقدم الحسناء عيبًا يشينها فلا خير في الدنيا وكانت خبيثة ... إذا ما شمال فارقتها يمينها فقال معاوية: كيف أصنع بك وقد قطعت أصحابك؟ فقالت أم السارق: اجعلها من جملة ذنوبك التي تتوب إلى الله منها، فخلَّى سبيله، فكان أوّل حد ترك في الإسلام. ويستوي في قطع السرقة الرجل والمرأة، والحر والعبد، والمسلم والكافر، ولا يقطع صبي، ولا يقطع المغمى عليه إذا سرق في إغمائه، ولا يقطع عبد سرق من مال سيده، ولا والد سرق من مال ولده. وقال داود: يقطعان.

الفصل الثالث: في حد الخمر

الفصل الثالث: في حد الخمر كل ما أسكر كثيره أو قليله من خمر أو نبيذ حرام، حدَّ شاربه سواء سكر منه أو لم يسكر. وقال أبو حنيفة: يحد من شرب الخمر وإن لم يسكر، ولا يحد من شرب النبيذ حتى يسكر. والحدّ: أن يجلد أربعين بالأيدي وأطراف الثياب، ويبكَّت بالقول الممضّ، والكلام الرادع للخبر المأثور فيه. وقيل: بل يُحَدُّ بالسوط اعتبارًا بسائر الحدود، ويجوز أن يتجاوز الأربعين إذا لم يرتدع بها إلى ثمانين جلدة، فإن عمر -رضي الله عنه- حدّ شارب الخمر أربعين إلى أن رأى تهافت الناس فيه فشاور الصحابة فيه، وقال: أرى الناس قد تهافتوا في شرب الخمر فماذا ترون؟ فقال علي -عليه السلام: أرى أن تحدُّه ثمانين؛ لأنه إذا شرب الخمر سكر، وإذا سكر هذي، وإذا هذى افترى، فحدّه ثمانين حدّ الفرية، فجلد فيه عمر بقية أيامه. والأئمة من بعده ثمانين فقال علي -عليه السلام: ما أحد أقيم عليه الحد فيموت فأجد في نفسي منه شيئًا ألحق قتله إلا شارب الخمر، فإنه شيء رأيناه بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فإن حدَّ شارب الخمر أربعين فمات منها كانت نفسه هدرًا، وإن حد ثمانين فمات ضمنت نفسه. وفي قدر ما يضمن منها قولان: أحدهما: جميع ديته لمجاوزته النص في حده. والثاني: نصف ديته؛ نصف حده نص ونصفه مزيد، ومن أكره على شرب الخمر، أو شربها وهو لا يعلم أنَّها حرام فلا حدَّ عليه، وإن شربها لعطش حدَّ؛ لأنها لا تروي، وإن شربها لداء لم يحد؛ لأنه ربما يبرأ بها، وإذا اعتقد إباحة النبيذ حد، وإن كان في عدالته، ولا يحد السكران حتى يقر بشرب الخمر المسكر، أو يشهد عليه شاهدان أنه شرب مختارًا ما لم يعلم أنه مسكر. وقال أبو عبد الله الزبيري: أحدُّه للسكر، وهذا سهو؛ لأنه قد يكره على شرب المسكر. وحكم السكران في جريان الأحكام عليه كالصاحي إذا كان عاصيًا بسكره، فإن خرج عن حكم المعصية لإكراهه على شرب الحمر ما لا يعلم أنه مسكر، لم يجر عليه قلم كالمغمى عليه. واختلف في حد المسكر، فذهب أبو حنيفة إلى حدّ السكر ما زال معه العقل حتى لا يفرق بين الأرض والسماء، ولا يعرف أمه من زوجته، وحده أصحاب الشافعي بأنه ما أفضى بصاحبه إلى أن يتكلم بلسان متكسِّر، ومعنى منتظم ويتصرَّف بحركة مختبط، ومشي متمايل، وإذا جمع بين اضطراب الكلام فهمًا وإفهامًا، وبين اضطراب الحركة مشيًا وقيامًا، صار داخلًا في حدِّ السكر، وما زاد على هذا فهو زيادة في حد السكر.

الفصل الرابع: في حد القذف واللعان

الفصل الرابع: في حد القذف واللعان حد القذف بالزنا ثمانون جلدة، ورد النص بها وانعقد الإجماع عليها، لا يزاد فيها ولا ينقص منها، وهو من حقوق الآدميين يستحق بالطلب ويسقط بالعفو، فإذا اجتمعت في المقذوف بالزنا خمسة شروط، وفي القاذف ثلاثة شروط، وجب الحد فيه. أمَّا الشروط الخمسة في المقذوف فهي: أن يكون بالغًا عاقلًا مسلمًا حرًّا عفيفًا، فإن كان صبيًّا أو مجنونًا أو عبدًا أو كافرًا، أو ساقط العصمة بزنا حد فيه حد على قاذفه ولكن يعزر؛ لأجل الأذى ولبذاءة اللسان. وأمَّا الشروط الثلاثة في القاذف فهي: أن يكون بالغًا عاقلًا حرًّا، فإن كان صغيرًا، أو مجنونًا لم يحدّ ولم يعزَّر، وإن كان عبدًا حُدَّ أربعين، نصف الحد للحر لنصفه بالرق. ويحد الكافر كالمسلم، وتحد المرأة كالرجل، ويفسق القاذف ولا يعمل بشهادته، فإن تاب زال فسقه وقبلت شهادته قبل الحدّ وبعده. وقال أبو حنيفة: تقبل شهادته إن تاب قبل الحد، ولا تقبل شهادته إن تاب بعد الحد، والقذف باللواط، وإتيان البهائم كقذف الزنا في وجوب الحد، ولا يحد القاذف بالكفر والسرقة ويعزَّر؛ لأجل الأذى. والقذف بالزنا ما كان صريحًا فيه كقوله: يا زانٍ، أو قد زنيت، أو رأيتك تزني، فإن قال: يا فاجر أو يا فاسق أو يا لوطيّ كان كناية لاحتماله، فلا يجب به الحد إلا أن يريد به القذف، ولو قال: يا عاهر كانت كناية عند بعض أصحاب الشافعي لاحتماله، وصريحًا عند آخرين

لقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش وللعاهر الحجر" 1. وجعل مالك -رحمه الله- التعريض فيه كالصريح في وجوب الحد، والتعريض1 أن يقول في حال الغضب والملاحاة: أنا ما زنيت فجعله بمثابة قوله: إنك زنيت، ولا حدَّ في التعريض عند الشافعي وأبي حنيفة -رحمها الله- حتى يُقِرّ أنه أراد به القذف؛ فإذا قال: يا ابن الزانيين، كان قاذفًا لأبويه دونه، فيُحَدُّ لهما إن طلبا أو أحدهما إلَّا أن يكونا ميتين، فيكون الحد موروثًا عنهما. وقال أبو حنيفة: حد القذف لا يورث؛ ولو أراد المقذوف أن يصالح عن حد القذف بمال لم يجز. وإذا قذف ابنه لم يحد، وإذا لم يحد القاذف حتى زنَى المقذوف لم يسقط حد القذف. وقال أبو حنيفة: يسقط. وإذا قذف الرجل زوجته بالزنا حدّ لها إلا أن يلاعن منها. واللعان أن يقول في المسجد الجامع على المنبر، أو عنده بمحضر من الحاكم وشهود أقلها أربعة: أشهد بالله أني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتى هذه من الزنا بفلان، وأنَّ هذا الولد من زنا وما هو مني، إن أراد أن ينفي الولد ويكرر ذلك أربعًا، ثم يقول في الخامسة: لعنة الله عليّ إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا بفلان إن كان ذكر الزاني بها، وأنَّ هذا الولد من الزنا، وما هو مني، فإذا قال هذا فقد أكمل لعانه، وسقط حد القذف عنه، ووجب به حد الزنا على زوجته، إلَّا أن تلاعن فتقول: أشهد بالله أن زوجي هذا لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا بفلان، وأن هذا الولد منه، وما هو من زنا تكرر ذلك أربعًا، ثم تقول في الخامسة: وعليَّ غضب الله إن كان زوجي من الصادقين فيما رماني به من الزنا بفلان، فإذا أكملت هذه سقط حد الزنا عنها، وانتفى الولد عن الزوج، ووقعت الفرقة بينهما وحرمت على الأبد. واختلف الفقهاء فيما وقعت به الفرقة، فذهب الشافعي إلى أنَّ الفرقة واقعة بلعان الزوج وحده. وقال مالك: الفرقة بلعانهما معًا، وقال أبو حنيفة: لا تقع الفرقة بلعانهما حتى يفرق بينهما الحاكم؛ وإذا قذفت المرأة زوجها حدَّث، ولم تلاعن، وإذا أكذب الزوج نفسه بعد اللعان لحق به الولد وحُدَّ للقذف، ولم تحلّ له الزوجة عند الشافعي، وأحلها أبو حنيفة.

_ 1 صحيح: رواه البخاري في كتاب البيوع "2053"، ومسلم في كتاب الرضاع "1457". 2 التعريض: ضد التصريح يقال: عرض لفلان وبفلان إذا قال قولًا وهو يعيّنه، ومنه المعاريض في الكلام وهي التورية بالشيء عن الشيء. [مختار الصحاح: ص 178] .

الفصل الخامس: في قود الجنايات وعقلها

الفصل الخامس: في قود الجنايات وعقلها الجنايات على النفوس ثلاث: عمد، وخطأ، وعمد شبه الخطأ. فأمَّا العمد المحض: فهو أن يتعمَّد قتل النفس بما يقطع بحده كالحديد، أو بما يمور في اللحم مور الحديد، أو ما يقتل غالبًا بثقله كالحجارة والخشب، فهو قتل عمد يوجب الحد. وقال أبو حنيفة: العمد الموجب للقود ما قتل بحده من حديد وغيره إذا مار في اللحم مورًا، ولا يكون ما قتل بثقله أو ألمه من الأحجار والخشب عمدًا، ولا يوجب قودًا. وحكم العمد عند الشافعي أن يكون وليّ المقتول حرًّا مع تكافؤ الدمين بين القود والدية. وقال أبو حنيفة: لولي المقتول أن ينفرد بالقود، وليست له الدية إلَّا عن مراضاة القاتل. وولي الدم هو وارث المال من ذكر أو أنثى بفرض أو تعصيب. وقال مالك: أولياؤه ذكور الورثة دون إناثهم، ولا قود لهم إلَّا أن يجتمعوا على استيفائه، فإن عفا أحدهم سقط القود ووجبت الدية. وقال مالك: لا يسقط، وإذا فيهم صغير أو مجنون لم يكن للبالغ والعاقل أن ينفرد بالقود، وتكافؤ الدمين عند الشافعي أن لا يفضل القاتل على المقتول بحرية، ولا إسلام، فإن فضل القاتل عليه بأحدهما، فقتل حر عبدًا، أو مسلم كافرًا، فلا قود عليه. وقال أبو حنيفة: لا اعتبار بهذا التكافؤ، فيقتل الحر بالعبد والمسلم بالكافر، كما يقتل العبد بالحر والكافر بالمسلم، وما تتحاماه النفوس من هذا وتأباه قد منع القائلين به من العمل عليه. حكي أنَّه رفع إلى أبي يوسف القاضي مسلم قتل كافرًا فحكم عليه بالقود، فأتاه رجل برقعة فألقاها إليه، فإذا فيها مكتوب [من السريع] : يا قاتل المسلم بالكافر ... جرت وما العادل كالجائر يا من ببغداد وأطرافها ... من علماء الناس أو شاعر استرجعوا وابكوا على دينكم ... واصطبروا فالأجر للصابر

جار على الدين أبو يوسف ... بقتله المؤمن بالكافر فدخل أبو يوسف على الرشيد وأخبره الخبر، وأقرأه الرقعة، فقال له الرشيد: تدارك هذا الأمر بحيلة لئلَّا تكون فتنة، فخرج أبو يوسف وطالب أصحاب الدم ببينة على صحة الذمَّة وثبوتها، فلم يأتوا بها فأسقط القود؛ والتوصُّل إلى مثل هذا سائغ عند ظهور المصلحة فيه. ويقتل العبد بالعبد، وإن فضلت قيمة القاتل على المقتول. وقال أبو حنيفة: لا قود على القاتل إذا زادت قيمته على قيمة المقتول. وإذا اختلف أديان الكفار قيد بعضهم ببعض، ويقاد الرجل بالمرأة، والمرأة بالرجل، والكبير بالصغير، والعاقل بالمجنون، ولا قود على صبي ولا مجنون، ولا يقاد والد بولده، ويقاد الولد بالوالد، والأخ بالأخ. وأما الخطأ المحض: فهو أن يتسبب إليه في القتل من غير قصد، فلا يقاد القاتل بالمقتول كرجل رمى هدفًا فأمات إنسانًا، أو حفر بئرًا فوقع فيها إنسان، أو أشرع جناحًا فوقع على إنسان، أو ركب دابة فرمحت ووطئت إنسانًا، أو وضع حجرًا فعثر به إنسان، فهذا وما أشبهه إذا حدث عنه الموت قتل خطإ محض يوجب الدية دون القود، وتكون على عاقلة الجاني لا في ماله مؤجلة في ثلاث سنين من حين يموت القتيل. وقال أبو حنيفة: من حين يحكم الحاكم بديته، والعاقلة من عدد الآباء والأبناء من العصبات، فلا يحمله الأب وإن علا، ولا الابن وإن سفل، وجعل أبو حنيفة ومالك الآباء والأبناء من العاقلة، ولا يتحمل القاتل مع العاقلة من الدية. وقال أبو حنيفة ومالك: يكون القاتل كأحد العاقلة، والذي يتحمّله الموسر منهم في كل سنة نصف دينار أو قدره من الإبل، ويتحمَّل الأوسط ربع دينار أو قدره من الإبل، ولا يتحمَّل الفقير شيئًا منها. ومن أيسر بعد فقره تحمل، ومن افتقر بعد يساره لم يتحمل. ودية نفس الحر المسلم إن قدرت ذهبًا ألف دينار من غالب الدنانير الجيدة، وإن قدرت ورقًا اثنا عشر ألف درهم. وقال أبو حنيفة: عشرة آلاف درهم، وإن كانت إبلًا فهي مائة

بعير أخماسًا، منها عشرون ابنة مخاض، وعشرون ابنة لبون، وعشرون ابن لبون وعشرون حقة، وعشرون جذعة، وأصل الدية الإبل، وما عداها بدل، ودية المرأة النصف من دية الرجل في النفس والأطراف. واختلف في دية اليهودي والنصراني، فذهب أبو حنيفة إلى أنها كدية المسلم. قال مالك: نصف دية المسلم1، وعند الشافعي أنها ثلث دية المسلم. وأمَّا المجوسي فديته ثلثا عشر دية المسلم ثمانمائة درهم2، ودية العبد قيمته ما بلغت، وإن زادت على دية الحر أضعافًا عند الشافعي. وقال أبو حنيفة3: لا أبلغ بها دية الحر إذا زادت وأنقص منها عشرة دراهم4. وأما العمد شبه الخطأ: فهو أن يكون عامدًا في الفعل غير قاصد للقتل، كرجل ضرب

_ 1 قال ابن جزري من المالكية: دية العمد إذا عفي عنه ودية الجنين، فأمَّا دية الخطأ فهي مائة من الإبل على أهل الإبل، وألف دينار على أهل الذهب، واثنا عشر ألف درهم على أهل الورق، وهذه دية المسلم الذكر، وأمَّا اليهودي والنصراني والذمي فديته نصف دية المسلم. [القوانين الفقهية: ص 228] . 2 قال الشافعي: وإذا دخل المستأمن بلاد الإسلام فقتله مسلم عمدًا، فلا قود عليه وعليه الكفَّارة في ماله وديته، فإن كان يهوديًّا أو نصرانيًّا فثلث دية المسلم، وإن مجوسيًّا أو وثنيًّا فهو كالمجوسي فثمانمائة درهم في ماله حالة. [الأم: 4/ 289] . 3 قال محمد بن الحسن الشيباني: وإن كان الجاني حرًّا ما لم يبلغ النفس، فإذا بلغت النفس عقلته العاقلة في ثلاث سنين في كل سنة ثلث قيمته، فإن قلت القيمة في ذلك أو الغرماء فهو أنَّه لا يبلغ بها دية الحر، بلغنا ذلك عن عبد الله بن مسعود وإبراهيم النخعي أنهما قالا: لا يبلغ بقيمة العبد دية الحر. وقال أبو حنيفة: ينقص منه عشرة دراهم. [المبسوط: 4/ 592] . 4 قال ابن قدامة من الحنابلة: روي أنَّ عمر جعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف إلَّا أنه رجع عن هذه الرواية، وقال: كنت أذهب إلى أن دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف، فأنا اليوم أذهب إلى نصف دية المسلم، فإن قتله المسلم عمدًا أضعفت الداية على قاتله لإزالة القود؛ لأنَّ عثمان حكم بذلك، ولو قتله الكافر لم تضعف ديته؛ لأنَّ القود واجب، ونساءهم على النصف من دياتهم، كما أنَّ نساء المسلمين على النصف منهم، ودية المجوسي ثمانمائة درهم لما روي عن عمر وعثمان وابن مسعود أنهم قالوا: ديتهم ثمانمائة درهم، والمستأمن كالذمي، وإن كان وثنيًّا فديته دية المجوسي؛ لأنه كافر لا يحل نكاح نسائه، فأمَّا من لم تبلغه الدعوة إن لم يكن له عهد فلا ضمان فيه؛ لأنه كافر لا عهد له، أشبه نساء أهل الحرب. [الكافي في فقه ابن حنبل: 4/ 78] .

رجلًا بخشبة، أو رمى بحجر، يجوز أن يسلم من مثلها أو يتلف، فأفضى إلى قتله، أو كمعلم ضرب صبيًّا بمعهود أو عزَّر السلطان رجلًا على ذنب فتلف، فلا قود عليه في هذا القتل، وفيه الدية على العاقلة مغلظة، وتغليظها في الذهب والورق أن يزاد عليها ثلثها، وفي الإبل أن تكون أثلاثًا منها ثلاثون جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها، وروي أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تحمل العاقلة عبدًا ولا عمدًا ولا صلحًا ولا اعترافًا" 1. ودية الخطإ المحض في الحرم والأشهر الحرم وذي الرحم مغلظة، ودية العمد المحض واحد وجب القود على جميعهم، فعليهم دية واحدة وإن كثروا؛ ولولي الدم أن يعفو عمَّن شاء منهم ويقتل باقيهم، وإن عفا عن جميعهم فعليهم دية واحدة تسقط عليهم على عدد رءوسهم، فإن كان بعضهم ذابحًا وبعضهم جارحًا أو موجئًا، فالقود في النفس على الذابح والموجئ، والجارح مأخوذ بحكم الجراحة دون النفس. وإذا قتل الواحد جماعة قتل بالأول ولزمته في ماله دية الباقين. وقال أبو حنيفة: يقتل

_ 1 قال ابن حجر: قال إمام الحرمين في النهاية: روى الفقهاء فذكر هذا الحديث بلفظ: "لا تحمل العاقلة عبدًا ولا اعترافًا"، قال: وغالب ظني أن الصحيح الذي أورده أئمة الحديث: "لا تحمل العاقلة عمدًا ولا اعترافًا". وقال الرافعي في أواخر الباب: هذا الحديث تكلموا في ثبوته. وقال ابن الصباغ: لم يثبت متصلًا وإنما هو موقوف على ابن عباس. انتهى، وفي جميع هذا نظر، فقد روى الدارقطني والطبراني في مسند الشاميين من حديث عبادة بن الصامت أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تجعلوا على العاقلة من دية المعترف شيئًا"، وإسناده واهٍ، فيه محمد بن سعيد المصلوب وهو كذَّاب، وفيه الحارث بن نبهان وهو منكر الحديث، وروى الدارقطني والبيهقي من حديث عمر مرفوعًا: "العمد والعبد والصلح والاعتراف لا تعقله العاقلة"، وهو منقطع في إسناده عند الملك بن حسين وهو ضعيف. قال البيهقي: والمحفوظ أنَّه عن عامر. [تلخيص الحبير: 4/ 31] . وقال عمر بن الملقن: حديث: "لا تحمل العاقلة عمدًا ولا اعترافًا" رواه الدارقطني من رواية عبادة بلفظ: "لا تجعلوا على العاقلة من دية المعترف شيئًا" وإسناده واه. قلت: والمعروف أنه من قول عمر، كذلك رواه الدارقطني والبيهقي من رواية عامر عنه، "العمد والعبد والصلح والاعتراف لا تعقله العاقلة". قال البيهقي: وهو منقطع. قلت: وضعيف المحفوظ عن عامر الشعبي من قوله: "لا تحمل العاقلة عمدًا ولا عبدًا ولاصلحًا ولا اعترافًا". [خلاصة البدر المنير: 2/ 297] .

جميعهم ولا دية عليه؛ وإذا قتلهم في حالة واحدة أقرع بينهم، وكان القَوْد لمن قرع منهم إلَّا أن يتراضى أولياؤهم على تسليم القود لأحدهم فيقاد له، ويلزم في ماله ديات الباقين، وإذا أمر المطاع رجلًا بالقتل، فالقود على الآمر والمأمور معًا، ولو كان الآمر غير مطاع كان القود على المأمور دون الآمر؛ وإذا أكره على القتل وجب القود على المكرَه، وفي وجوبه على المكروه قولان: وأمَّا القود في الأطراف، فكل طرف قطع من مفصل ففيه القود، فيقاد من اليد باليد، والرجل بالرجل، والأصبع بالأصبع، والأنملة بالأنملة، والسن بمثلها، ولا تقاد يمنى بيسرى، ولا عليا بسفلى، ولا ضرس بسن، ولا ثنية برباعية، ولا يؤخذ بسن من قد ثغر سنّ من لم يثغر؛ ولا تؤخذ يد سليمة بيد شلاء، ولا بلسان أخرس، وتؤخذ اليد الكاتبة والصانعة بيد من ليس بكاتب ولا صانع. وتؤخذ العين بالعين، وتؤخذ النجلاء بالحولاء والعشواء، ولا تؤخذ العين القائمة واليد الشلاء إلّا بمثلها، ويقاد الأنف الذي يشم بالأنف الأخشم، وأذن السميع بأذن الأصم. وقال مالك: لا قَوْدَ عليه، ويقاد من العربي بالعجمي، ومن الشريف بالدنيء، فإن عفي عن القود بهذه الأطراف إلى الدية، ففي اليدين الدية الكاملة، وفي إحداهما نصف الدية؛ وفي كل أصبع عشر الدية وهو عشر من الإبل، وفي كل واحدة من أنامل الأصابع ثلاثة وثلث إلّا أنملة الإبهام ففيها خمس من الإبل، ودية اليدين كالرجلين إلّا في أناملهما، فيكون في كل أنملة منها خمس من الإبل، وفي العينين الدية، وفي إحداهما نصف الدية، ولا فضل لعين الأعور على من ليس بأعور، وأوجب مالك -رحمه الله- في عين الأعور جميع الدية. وفي الجفون الأربعة جميع الدية، وفي كل واحد منها ربع الدية، وفي الأنف الدية، وفي الأذنين الدية، وفي إحداهما نصف الدية، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين ربع الدية، وفي كل سن خمس من الإبل، ولا فضل لسن على ضرس، ولا لثنية على ناجذ، وفي إذهاب السمع الدية، فإن قطع أذنيه فأذهب سمعه فعليه ديتان، وكذلك لو قطع أنفه فأذهب شمه فعليه ديتان، وفي إذهاب الكلام الدية، فإن لسانه فأذهب كلامه، فعليه دية واحدة وفي إذهاب العقل الدية. وفي إذهاب الذكر الدية؛ وذكر الخصي والعنين وغيرهما سواء، وقال أبو

حنيفة: في ذكر العنِّين والخصيّ حكومة، وفي الأنثيين الدية، وفي إحداهما نصف الدية؛ وفي ثديي المرأة ديتها، وفي إحداهما نصف الدية، وفي ثديي الرجل حكومة وقيل: دية. وأما الشجاج، فأولها الخارصة، وهي التي أخذت في الجلد، ولا قود فيها، ولا دية، وفيها حكومة. ثم الدامية، وهي التي أخذت في الجلد وأدمت وفيها حكومة، ثم الدامغة، وهي التي قد خرج دماؤها من قطع الجلد كالدامغة وفيها حكومة. ثم المتلاحمة، وهي التي قطعت وأخذت في اللحم وفيها حكومة. ثم الباضعة وهي التي قطعت اللحم بعد الجلد وفيها حكومة. ثم السمحاق، وهي التي قطعت جميع اللحم بعد الجلد، وأبقت على عظم الرأس غشاوة رقيقة وفيها حكومة، وحكومات هذه الشجاج تزيد على حسب ترتيبها. ثم الموضِّحة، وهي التي قطعت الجلد واللحم والغشاوة وأوضحت عن العظم ففيها القود، فإن عُفِيَ عنها ففيها خمس من الإبل. ثم الهاشمة، وهي التي أوضحت عن اللحم حتى ظهر وهشَّمت عظم الرأس حتى تكسر، وفيها عشر من الإبل؛ فإن أراد القود من الهشم لم يكن له، وإن أراده من الموضحة قيد له منها، وأعطي في زيادة الهشم خمسًا من الإبل، وقال مالك: في الهشم حكومة. ثم المنقلة، وهي التي أوضحت وهشمت حتى شظي العظم وزال عن موضعه، واحتاج إلى نقله وإعادته، وفيها خمس عشرة من الإبل، فإن استقاد من الموضحة أعطي في الهشم والتنقيل عشرًا من الإبل. ثم المأمومة وتسمَّى الدامغة، وهي التي وصلت إلى أم الدماغ وفيها ثلث الدية. وأما جراح الجسد فلا تقدر دية شيء منها إلَّا الجافية، وهي الواصلة إلى الجوف، وفيها ثلث الدية، ولا قَوْد في جراح الجسد إلَّا الموضحة عن عظم ففيها حكومة. وإذا قطعت أطرافه فاندملت وجبت عليه دياتها، وإن كانت أضعاف دية النفس، ولو مات منها قبل اندمال بعضها وجبت عليه دية النفس فيما لم يندمل مع دية الأطراف، وفيما اندمل من لسان الأخرس، ويد الأشلِّ والأصبغ الزائد، والعين القائمة حكومة، والحكومة في جميع ذلك أن يقوم الحاكم المجني عليه لو كان عبدًا لم يجن عليه، ثم يقوّمه لو كان عبدًا بعد الجناية عليه، ويعتبر ما بين القيمتين من ديته، فيكون قدر الحكومة في جنايته. وإذا ضرب بطن امرأة فألقت من الضرب

جنينًا ميتًا، ففيه إذا كان حرًّا غرة عبد أو أمة تحملها العاقلة، ولو كان مملوكًا ففيه عشر قيمة أمه يستوي فيه الذكر والأنثى، فإن استهلَّ الجنين صارخًا ففيه الدية كاملة، ويفرق بين الذكر والأنثى، وعلى كل قاتل نفس ضمن ديتها الكفارة عامدًا كان أو خاطئًا، وأوجبها أبو حنيفة على الخاطئ دون العامد. والكفارة عتق رقبة مؤمنة سليمة من العيوب المضرة بالعمل، فإن أعوزها صام شهرين متتابعين، فإن عجر عنه أطعم ستين مسكينًا في أحد القولين، ولا شيء عليه في القول الآخر، وإذا ادَّعى قوم قتلًا على قوم، ومع الدعوى لوث، واللوث أن يعنوا بالدعوى ما يوقع في النفس صدق المدعي، فيصير القول باللوث قول المدعي، فيحلف خمسين يمينًا، ويحكم له بالدية دون القود، ولو نكل المدعي عن اليمين أو بعضها حلف عليه خمسين يمينًا وبرئ. وإذا وجب القود في نفس أو طرفٍ لم يكن لوليه أن ينفرد باستيفائه إلَّا بإذن السلطان، فإن كان في طرف لم يمكنه السلطان من استيفائه حتى يتولّاه غيره، وأجره الذي يتولاه في مال المقتص منه دون المقتص له. وقال أبو حنيفة: تكون في مال المقتص له دون المقتص منه، فإن كان القصاص في نفس جاز أن يأذن له السلطان في استيفائه بنفسه إذا كان ثابت النفس إلّا استوفاه السلطان له بأوحى سيف وأمضاه، فإن تفرَّد وليّ القود باستيفائه من نفس أو طرف ولم يتعد عزره السلطان لافتياته عليه، وقد صار إلى حقه القود فلا شيء عليه.

الفصل السادس: في التعزير

الفصل السادس: في التعزير والتعزير: تأديب على ذنوب لم تشرع فيها الحدود، ويختلف حكمه باختلاف حاله وحال فاعله، فيوافق الحدود من وجه أنه تأديب استصلاح وزجر، يختلف بحسب اختلاف الذنب، ويخالف الحدود من ثلاثة أوجه: أحدها: إنَّ تأديب ذي الهيبة من أهل الصيانة أخف من تأديب أهل البذاءة والسفاهة؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم" 1. فتدرج في الناس على منازلهم: فإن تساووا في الحدود المقدَّرة فيكون تعزير من جلَّ قدره بالإعراض عنه، وتعزير من دونه بالتعنيف له، وتعزير من دونه بزواجر الكلام وغاية الاستخفاف الذي لا قذف فيه ولا سب، ثم يعدل بمن دون ذلك إلى الحبس الذي يحبسون فيه على حسب ذنبهم وبحسب هفواتهم، فمنهم من يحبس يومًا، ومنهم من يحبس أكثر منه إلى غاية مقدرة. وقال أبو عبد الله الزبيري من أصحاب الشافعي: تقدَّر غايته بشهر للاستبراء والكشف، وبستة أشهر للتأديب والتقويم، ثم يعدل بمن دون ذلك إلى النفي والإبعاد إذا تعدت ذنوبه إلى اجتذاب غيره إليها واستضراره بها2. واختلف في غاية نفيه وإبعاده، فالظاهر من مذهب الشافعي تقدر بما دون الحول ولو بيوم واحد؛ لئلَّا يصير مساويًا لتعزير الحول في الزنا، وظاهر مذهب مالك أنه يجوز أن يزاد فيه على الحول بما يرى من أسباب الزواجر، ثم يعدل بمن دون ذلك إلى الضرب ينزلون فيه على حسب الهفوة في مقدار الضرب، وبحسب الرتبة في الامتهان والصيانة. واختلف في أكثر ما ينتهي إليه الضرب في التعزير، فظاهر مذهب الشافعى أنَّ أكثره في الحر تسعة وثلاثون سوطًا لينقص عن أقلِّ الحدود في الخمر، فلا يبلغ بالحر أربعين، وبالعبد

_ 1 صحيح: رواه أبو داود في كتاب الحدود "4375"، وأحمد "24946"، وصحَّحه الشيخ الألباني. 2 في فتاوى قاضيخان وغيره: إن كان المدعى عليه ذا مروءة وكان أول ما فعل يوعظ استحسانًا فلا يعزر، فإن عاد وتكرر منه روي عن أبي حنيفة أنه يضرب، وهذا يجب أن يكون في حقوق الله تعالى، فإن حقوق العباد لا يتمكن القاضي فيها من إسقاط التعزير. قلت: يمكن أن يكون محله ما قلت من حقوق الله تعالى ولا مناقضة؛ لأنه إذا كان ذا مروءة فقد حصل تعزيره بالجر إلى باب القاضي والدعوى، فلا يكون مسقطًا لحق الله -سبحانه وتعالى- في التعزير. [شرح فتح القدير للسيواسي: 5/ 346] .

عشرين، وقال أبو حنيفة: أكثر التعزير تسعة وثلاثون سوطًا في الحرِّ والعبد، وقال أبو يوسف: أكثره خمسة وسبعون. وقال مالك: لا حدَّ لأكثره، ويجوز أن يتجاوز به أكثر الحدود. وقال أبو عبد الله الزبيري1: تعزيز كل ذنب مستنبط من حده المشروع فيه، وأعلاه خمسة وسبعون يقصر به عن حدِّ القذف بخمسة أسواط، فإن كان الذنب في التعزيز بالزنا روعي منه ما كان، فإن أصابوها بأن نال منها ما دون الفرج ضربوهما أعلى التعزير، وهو خمسة وسبعون سوطًا، وإن وجدوهما في إزار لا حائل بينهما متباشرين غير متعاملين للجماع ضربوهما ستين سوطًا، وإن وجدوهما غير متباشرين ضربوهما أربعين سوطًا، وإن وجدوهما خاليين في بيت عليهما ثيابهما ضربوهما ثلاثين سوطًا، وإن وجدوهما في طريق يكلمها وتكلمه ضربوهما عشرين سوطًا، وإن وجدوه يتبعها ولم يقفوا على ذلك يحققوا، وإن وجدوهما يشير إليها وتشير إليه بغير كلام ضربوهما عشرة أسواط، وهكذا يقول في التعزير بسرقة ما لا يجب فيه القطع، فإذا سرق نصابًا من غير حرز ضرب أعلى التعزير خمسة وسبعين سوطًا، وإذا سرق من حرز أقل من نصاب ضرب ستين سوطًا، واذا سرق أقلّ من نصاب من غير حرز ضرب خمسين سوطًا، فإذا جمع المال في الحرز واسترجع منه قبل إخراجه ضرب أربعين سوطًا، وإذا نقب الحرز ودخل ولم يأخذ ضرب ثلاثين سوطًا، وإذا نقب الحرز ولم يدخل ضرب عشرين سوطًا. وإذا تعرَّض للنقب أو لفتح باب ولم يكمله ضرب عشرة أسواط، وإذا وجد معه منقب أو كان مرصدًا للمال يحقق، ثم على هذه العبارة فيما سوى هذين، وهذا الترتيب وإن كان مستحسنًا في الظاهر فقد تجرَّد الاستحسان فيه عن دليل يتقدر به، وهذا الكلام في أحد

_ 1 هو حمد بن محمد بن أحمد بن العباس بن محمد بن موسى، أبو عبد الله الزبيري، ينتهي إلى الزبير بن العوام، من أهل آمل طبرستان. سمع الكثير ببلده، وسافر إلى خراسان ولقي الأئمة، وجالس الكبار وتفقَّه على ناصر بن الحسين العمري، وولي القضاء بطبرستان وآستراباذ. وكان له تقدم عند السلاطين والوزراء. وكان يطوف مع العسكر ويراسل به إلى الأطراف. وقد جمع في الحديث السنن وفضائل الصحابة، وغير ذلك من التاريخ. وكان متمسكًا بآثار السلف، وله لسان في النظر والوعظ. وقدم بغداد وناظر في حلق الفقهاء، فأبان عن فضل وافر. توفِّي بنيسابور سنة أربع وسبعين وأربعمائه، وحمل إلى آمل طبرستان ودفن بها.

الوجوه التي يختلف فيها الحد والتعزير. والوجه الثاني: إنَّ الحد وإن لم يجز العفو عنه ولا الشفاعة فيه، فيجوز في التعزير العفو عنه، وتسوغ الشفاعة فيه، فإن تفرّد التعزير بحق السلطنة وحكم التقويم، ولم يتعلق به حق لآدمي، جاز لولي الأمر أن يراعي الأصلح في العفو أو التعزير، وجاز أن يشفع فيه من سأل العفو عن الذنب. روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "اشفعوا إليّ ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء" 1. ولو تعلق بالتعزير حق لآدمي -كالتعزير في الشتم والمواثبة- ففيه حق المشتوم والمضروب، وحق السلطنة للتقويم والتهذيب، فلا يجوز لولي الأمر أن يسقط بعفوه حق للمشتوم والمضروب، وعليه أن يستوفي له حقه من تعزيز الشاتم والضارب، فإن عفا المضروب والمشتوم كان ولي الأمر بعد عفوهما على خياره في فعل الأصلح من التعزير تقويمًا، والصفح عنه عفوًا، فإن تعافوا عن الشتم والضرب قبل الترافع إليه سقط التعزيز الآدمي. واختُلِفَ في سقوط حق السلطنة والتقويم على الوجهين: أحدهما: وهو قول أبي عبد الله الزبيري أنه يسقط، وليس لولي الأمر أن يعزر فيه؛ لأنَّ حد القذف أغلظ ويسقط حكمه بالعفو، فكان حكم التعزير بالسلطنة أسقط. والوجه الثاني: هو الأظهر أن لولي الأمر أن يعزّر فيه مع العفو قبل الترافع إليه، كما يجوز أن يعزّر فيه مع العفو بعد الترافع إليه مخالفة للعفو عن حدِّ القذف في الموضعين؛ لأن التقويم من حقوق المصلحة العامة، ولو تشاتم وتواثب والد مع ولد سقط تعزير الوالد في حق الولد، ولم يسقط تعزير الولد في حق الوالد، كما لا يقتل الوالد بولده، ويقتل الولد بوالده، وكان تعزير الأب مختصًّا بحق السلطنة، والتقويم لا حق فيه للولد، ويجوز لولي الأمر أن ينفرد بالعفو عنه، وكان تعزير الولد مشتركًا بين حق الولد وحقوق السلطنة، فلا يجوز لولي الأمر أن ينفرد بالعفو عنه مع مطالبة الوالد به حتى يستوفيه له، وهذا الكلام في الوجه الثاني الذي يختلف فيه الحد والتعزير.

_ 1 صحيح: رواه البخاري في كتاب الزكاة " 1432"، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب "2627".

والوجه الثالث: إنَّ الحد وإن كان ما حدث عنه من التلف هدرًا، فإن التعزير يوجب ضمان ما حدث عنه من التلف. قد أرهب عمر بن الخطاب امرأة فأخمصت بطنها فألقت جنينًا ميتًا، فشاور عليًّا -عليه السلام، وحمل دية جنينها. واختلف في محل دية التعزير فقيل: تكون على عاقلة ولي الأمر، وقيل: تكون في بيت المال، فأمَّا الكفارة ففي ماله إن قيل: إن الدية على عاقلته، وإن قيل: إن الدية في بيت المال ففي محل الكفارة وجهان: أحدهما: في ماله. والثاني: في بيت المال، وهكذا المعلّم إذا ضرب صبيًّا أدبًا معهودًا في العرف، فأفضى إلى تلفه، ضمن ديته على عاقلته والكفارة في ماله. ويجوز للزوج ضرب زوجته إذا نشزت عنه، فإن تلفت من ضربه ضمن ديتها على عاقلته إلَّا إن يتعمّد قتلها فيقاد بها. وأما صفة الضرب في التعزير فيجوز أن يكون بالعصا، وبالسوط الذي كسرت ثمرته كالحد. واختلف في جوازه بسوط لم تكسر ثمرته، فذهب الزبيري إلى جوازه، فإن زاد في الصفة على ضرب الحدود، وأنه يجوز أن يبلغ به إنهار الدم. وذهب جمهور أصحاب الشافعي -رضي الله عنه- إلى حظره بسوط لم تكسر ثمرته؛ لأن الضرب في الحدود أبلغ وأغلظ، وهو كذلك محظور، فكان في التعزير أولى أن يكون محظورًا، ولا يجوز أن يبلغ بتعزير إنهار الدم، وضرب الحد يجب أن يفرق في البدن كله بعد توقي المواضع القاتلة؛ ليأخذ كل عضو نصيبه من الحد، ولا يجوز أن يجتمع في موضع واحد من الجسد. واختلف في ضرب التعزير، فأجراه جمهور أصحاب الشافعي مجرى الضرب في تفريقه وحظر جمعه، وخالفهم الزبيري فجوّز جمعه في موضع واحد من الجسد؛ لأنه لما جاز إسقاطه عن جميع الجسد جاز إسقاطه عن بعضه بخلاف الحد، ويجوز أن يصلب في التعزير حيًّا. قد صلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلًا على جبل يقال له: أبو ناب، ولا يمنع إذا صلب أداء طعام ولا شراب ولا يمنع من الوضوء للصلاة، ويصلي موميًا ويعيد إذا أرسل، ولا يتجاوز

بصلبه ثلاثة أيام، ويجوز في نكال التعزير أن يجرد من ثيابه، إلّا قدر ما يستر عورته، ويشهر في الناس، وينادي عليه بذنبه إذا تكرر منه ولم يتب. ويجوز أن يحلق شعره، ولا يجوز أن تحلق لحيته. واختلف في جواز تسويد وجوههم، فجوَّزه الأكثرون؛ ومنع منه الأقلون1.

_ 1 قال المرداوي: وفي تسويد وجهه وجهان: وأطلقهما في الفروع. قلت: الصواب الجواز. وقد توقف الإمام أحمد -رحمه الله- في تسويد الوجه. وسئل الإمام أحمد -رحمه الله- في رواية مهنا عن تسويد الوجه: قال مهنا: فرأيت كأنه كره تسويد الوجه. قاله في النكت في شهادة الزور، وذكره في الإرشاد والترغيب أنَّ عمر -رضي الله عنه- حلق رأس شاهد الزور. وذكر ابن عقيل عن أصحابنا: لا يركب ولا يحلق رأسه ولا يمثل به، ثم جوزه هو لمن تكرّر منه للردع. قال الإمام أحمد -رحمه الله: ورد فيه عن عمر -رضي الله عنه- يضرب ظهره، ويحلق رأسه، ويسخم وجهه ويطاف به، ويطال حبسه. [الإنصاف: 10/ 248] .

الباب العشرون: في أحكام الحسبة

الباب العشرون: في أحكام الحسبة الحسبة1: هي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا أظهر فعله. وقال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104] . وهذا، وإن صح من كل مسلم، فالفرق فيه بين المتطوع والمحتسب2 من تسعة أوجه: أحدها: إنَّ فرضه متعيّن على المحتسب بحكم الولاية، وفرضه على غيره داخل في فروض الكفاية. والثاني: إنَّ قيام المحتسب به من حقوق تصرفه الذي لا يجوز أن يتشاغل عنه، وقيام المتطوع به من نوافل عمله الذي يجوز أن يتشاغل عنه بغيره. والثالث: إنَّه منصوب للاستعداء إليه فيما يجب إنكاؤه، وليس المتطوع منصوبًا للاستعداء. والرابع: إنَّ على المحتسب إجابة من استعداه، وليس على المتطوع إجابته. والخامس: إنَّ عليه أن يبحث عن المنكرات الظاهرة؛ ليصل إلى إنكارها، ويفحص

_ 1 الحسبة لغة: اسم من الاحتساب كالعدة من الاعتداد، والاحتساب في الأعمال الصالحات وعند المكروهات: هو البدار إلى طلب الأجر، وتحصيله بالتسليم والصبر، أو باستعمال أنواع البر والقيام بها على الوجه المرسوم فيها، طلبًا للثواب المرجوّ منها. وفي حديث عمر: أيها الناس، احتسبوا أعمالكم، فإن من احتسب عمله، كتب له أجر عمله وأجر حسبته. [اللسان: 1/ 315] . ويقول ابن سيده: والاحتساب: طلب الأجر، والاسم الحسبة، واحتسب فلان على فلان: أنكر عليه قبيح عمله. [المحكم والمحيط الأعظم في اللغة: ص 149] . وشرعًا: المنعة عن المنكر لحق الله، صيانة للممنوع عن مقارفة المنكر. [إحياء علوم الدين: 2/ 321] . 2 يقول ابن تيمية: وأمَّا المحتسب، فله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما ليس من اختصاصات الولاة والقضاء وأهل الديوان ونحوهم. [الحسبة في الإسلام: ص 8] .

عَمَّا ترك من المعروف الظاهر؛ ليأمر بإقامته، وليس على غيره من المتطوعة بحث ولا فحص. والسادس: إنَّ له أن يتخذ على إنكاره أعوانًا؛ لأنه عمل هو له منصوب وإليه مندوب؛ ليكون له أقهر وعليه أقدر، وليس للمتطوع أن يندب لذلك أعوانًا. والسابع: إنَّ له أن يعزِّر في المنكرات الظاهرة لا يتجاوز إلى الحدود، وليس للمتطوع أن يعزر على منكر. والثامن: أن له أن يرتزق على حسبته من بيت المال، ولا يجوز للمتطوع أن يرتزق على إنكار منكر. والتاسع: إنَّ له اجتهاد رأيه فيما تعلق بالعرف دون الشرع؛ كالمقاعد في الأسواق وإخراج الأجنحة فيه، فيقر وينكر من ذلك ما أدَّاه اجتهاده إليه، وليس هذا للمتطوع، فيكون الفرق بين والي الحسبة وإن كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وبين غيره من المتطوعين وإن جاز أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من هذه الوجوه التسعة. وإذا كان كذلك فمن شروط والي الحسبة أن يكون حرًّا عدلًا، ذا رأي وصرامة وخشونة في الدين، وعلم بالمنكرات الظاهرة1.

_ 1 قال ابن تيمية موضحًا ما يندرج ويقع تحت اختصاصات المحتسب: وأما ولاية الحسبة فخاصتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيما ليس من خصائص الولاة والقضاة وأهل الديوان ونحوهم، فعلى متولي الحسبة أن يأمر العامة بالصلوات الخمس في مواقيتها، ويعاقب من لم يصل بالضرب والحبس، وأما القتل فإلى غيره. ويتعاهد الأئمة والمؤذنين، فمن فرّط منهم فيما يجب عليه من حقوق الأمة وخرج عن المشروع ألزمه به، واستعان فيما يعجز عنه بوالي الحرب والقاضي، واعتناء ولاة الأمور بإلزام الرعية بإقامة الصلاة أهم من كل شيء، فإنها عماد الدين وأساسه وقاعدته، وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يكتب إلى عماله أن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها كان لما سواها أشد إضاعة. ويأمر والي الحسبة بالجمعة والجماعة، وأداء الأمانة والصدق، والنصح في الأقوال والأعمال، وينهى عن الخيانة وتطفيف المكيال والميزان، والغش في الصناعات والبياعات، ويتفقَّد أحوال المكاييل والموازين، وأحوال الصناع الذين يصنعون الأطعمة والملابس والآلات، فيمنعهم من صناعة المحرم =

واختلف الفقهاء من أصحاب الشافعي، هل يجوز له أن يحمل الناس فيما ينكره من الأمور التي اختلف الفقهاء فيها على رأيه واجتهاده أم لا؟ على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري1: إنَّ له أن يحمل ذلك على رأيه واجتهاده، فعلى هذا يجب على المحتسب أن يكون عالمًا من أهل الاجتهاد في أحكام الدين؛ ليجتهد رأيه فيما اختلف فيه. والوجه الثاني: ليس له أن يحمل الناس على رأيه واجتهاده، ولا يقودهم إلى مذهبه لتسويغ الاجتهاد للكافة، وفيما اختلف فيه، فعلى هذا يجوز أن يكون المحتسب من غير أهل الاجتهاد إذا كان عارفًا بالمنكرات المتفق عليها2.

_ = على الإطلاق -كآلات الملاهي، وثياب الحرير للرجال، ويمنع من اتخاذ أنواع المسكرات، ويمنع صاحب كل صناعة من الغش في صناعته، ويمنع من إفساد نقود الناس وتغييرها، ويمنع من جعل النقود متجرًا، فإنه بذلك يدخل على الناس من الفساد ما لا يعلمه إلّا الله، بل الواجب أن تكون النقود رءوس أموال يتجر بها ولا يتجر فيها، وإذا حرَّم السلطان سكة أو نقدًا منع من الاختلاط بما أذن في المعاملة به. ومعظم ولايته وقاعدتها الإنكار على هؤلاء الزغلية وأرباب الغش في المطاعم والمشارب والملابس وغيرها، فإن هؤلاء يفسدون مصالح الأمة، والضرر بهم عام لا يمكن الاحتراز منه، فعليه ألا يهمل أمرهم، وأن ينكل بهم وأمثالهم، ولا يرفع عنهم عقوبته. [الطرق الحكمية: ص 349، 350] . 1 هو أبو سعيد الحسن بن أحمد بن يزيد بن عيسى بن الفضل الإصطخري، الفقيه الشافعي؛ كان من نظراء أبي العباس بن سريج، وأقران أبي علي بن أبي هريرة، وله مصنَّفات حسنة في الفقه منها كتاب "الأقضية"، وكان قاضي قم، وتولَّى حسبة بغداد، وكان ورعًا متقللًا، واستقضاه المقتدر على سجستان فسار إليها فنظر في مناكحاتهم فوجد معظمها على غير اعتبار الوليّ، فأنكرها وأبطلها عن آخرها. وكانت ولادته في سنة أربع وأربعين ومائتين، وتوفي في جمادى الآخرة يوم الجمعة ثاني عشرة، وقيل: رابع عشرة، وقيل: مات في شعبان سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، رحمه الله تعالى. 2 قال ابن القيم -رحمه الله: من المعلوم أنَّ العمل بعد انقراض عصر الخلفاء الراشدين والصحابة بالمدينة كان بحسب من فيها من المفتين والأمراء والمحتسبين على الأسواق، ولم تكن الرعية تخالف هؤلاء، فإذا أفتى المفتون نفذه الوالي، وعمل به المحتسب، وصار عملًا، فهذا هو الذي لا يلتفت إليه في مخالفة السنن لا عمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه والصحابة، فذاك هو السنة، فلا يخلط أحدهما وصله، فنحن لهذا العمل أشد تحكيمًا، وللعمل الآخر إذا خالف السنة أشد تركًا وبالله التوفيق، وقد كان ربيعة بن أبي عبد الرحمن يفتي وسليمان بن بلال المحتسب ينفذ فتواه، فتعمل الرعية بفتوى هذا وتنفيذ هذا. [إعلام الموقعين: 2/ 393] .

فصل: واعلم أن الحسبة واسطة بين أحكام القضاء وأحكام المظالم، فأمَّا ما بينهما وبين القضاء فهي موافقة لأحكام القضاء من وجهين، ومقصورة عنه من وجهين، وزائدة عليه من وجهين: فأما الوجهان في موافقتها لأحكام القضاء: فاحدهما: جواز الاستعداء إليه وسماعه دعوى المستعدي على المستعدى عليه في حقوق الآدميين، وليس هذا على عموم الدعاوى، وإنما يختص بثلاثة أنواع من الدعوى: أحدها: أن يكون فيما يتعلق ببخس وتطفيف في كيل أو وزن. والثاني: ما يتعلق بغش أو تدليس في مبيع أو ثمن. والثالث: فيما يتعلق بمطل وتأخير لدَيْن مستحق مع المكنة، وإنما جاز نظره في هذه الأنواع الثلاثة من الدعاوى دون ما عداها من سائر الدعاوى؛ لتعلقها بمنكر ظاهر هو منصوب لإزالته، واختصاصها بمعروف بيّن هو مندوب إلى إقامته؛ لأن موضوع الحسبة إلزام الحقوق والمعونة على استيفائها، وليس للناظر فيها أن يتجاوز ذلك إلى الحكم الناجز والفصل البات، فهذا أحد وجهي الموافقة. والوجة الثاني: إنَّ له إلزام المدعى عليه للخروج من الحق الذي عليه، وليس هذا على العموم في كل الحقوق، وإنما هو خاص في الحقوق التي جاز له سماع الدعوى فيها، وإذا وجبت باعتراف وإقرار مع تمكنه وإيساره، فيلزم المقر الموسر الخروج منها ودفعها إلى مستحقها؛ لأن في تأخيره لها منكرًا هو منصوب لإزالته. وأما الوجهان في قصورها عن أحكام القضاء: فاحدهما: قصورها عن سماع عموم الدعاوى الخارجة عن ظواهر المنكرات من الدعاوى في العقود والمعاملات وسائر الحقوق والمطالبات، فلا يجوز أن ينتدب لسماع الدعوى لها، ولا أن يتعرّض للحكم فيها، لا في كثير الحقوق، ولا في قليلها من درهم فما

دونه، إلَّا أن يرد ذلك إليه بنص صريح يزيد على إطلاق الحسبة، فيجوز ويصير بهذه الزيادة جامعًا بين قضاء وحسبة، فيراعَى فيه أن يكون من أهل الاجتهاد، وإن اقتصر به عن مطلق الحسبة، فالقضاة والحكام بالنظر في قليل ذلك وكثيره أحق، فهذا وجه. والوجه الثاني: إنَّها مقصورة على الحقوق المعترف بها، فأمَّا ما يتداخله التجاحد والتناكر فلا يجوز للمحتسب أن يسمع بينة على إثبات الحق، ولا أن يحلف يمينًا على نفي الحق، والقضاة والحكام بسماع البينة وإحلاف الخصوم أحق. وأما الوجهان في زيادتها على أحكام القضاء: فأحدهما: إنه يجوز للناظر فيها أن يتعرَّض لتصفُّح ما يأمر به من المعروف وينهى عنه من المنكر وإن لم يحضره خصم مستعد، وليس للقاضي أن يتعرَّض لذلك إلا بحضور خصم يجوز له سماع الدعوى منه، فإن تعرّض القاضي لذلك خرج عن منصب ولايته، وصار متجوزًا في قاعدة نظره. والثاني: إنَّ للناظر في الحسبة من سلاطة السلطنة واستطالة الحماة فيما تعلق بالمنكرات ما ليس للقضاة؛ لأنَّ الحسبة موضوعة للرهبة، فلا يكون خروج المحتسب إليها بالسلاطة والغلظة تجوزًا فيها ولا خرقًا، والقضاء موضوع للمناصفة، فهو بالأناة والوقار أحق، وخروجه عنهما إلى سلاطة الحسبة تجوز وخرق؛ لأنَّ موضوع كل واحد من المنصبين مختلف، فالتجوز فيه خروج عن حده. وأما ما بين الحسبة والمظالم فبينهما شبه موتلف وفرق مختلف. فأما الشبه الجامع بينهما فمن وجهين: أحدهما: إنَّ موضوعهما مستقر على الرهبة المختصة بسلاطة السلطنة وقوة الصرامة. والثاني: جواز التعرض فيهما لأسباب المصالح والتطلع إلى إنكار العدوان الظاهر. وأما الفرق بينهما فمن وجهين: أحدهما: إنَّ النظر في المظالم موضوع لما عجز عنه القضاة، والنظر في الحسبة موضوع لما رفه عنه القضاة، ولذلك كانت رتبة المظالم أعلى، ورتبة الحسبة أخفض، وجاز لوالي المظالم أن يوقع إلى القضاة والمحتسب، ولم يجز للقاضي أن يوقع إلى والي المظالم، وجاز

له أن يوقع إلى المحتسب، ولم يجز للمحتسب أن يوقع إلى واحد منهما، فهذا الفرق الثاني: إنه يجوز لوالي المظالم أن يحكم، ولا يجوز لوالي الحسبة أن يحكم. فصل: وإذا استقر ما وصفناه من موضع الحسبة، ووضع الفرق بينهما وبين القضاء والمظالم فهي تشتمل على فصلين: أحدهما: أمر بالمعروف. والثاني: نهي عن المنكر1. فأما الأمر بالمعروف فينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: ما يتعلق بحقوق الله تعالى. والثاني: ما يتعلق بحقوق الآدميين. والثالث: ما يكون مشتركًا بينهما. فأما المتعلق بحقوق الله -عز وجل- فضربان: أحدهما: يلزم الأمر به في الجماعة دون الانفراد؛ كترك الجمعة في وطن مسكون، فإن كانوا عددًا قد اتفق على انعقاد الجمعة بهم -كالأربعين فما زاد- فواجب أن يأخذهم بإقامتها، ويأمرهم بفعلها، ويؤدّب على الإخلال بها، وإن كانوا عددًا اختلف في انعقاد الجمعة بهم فله ولهم أربعة أحوال: أحدها: أن يتفق رأيه ورأي القوم على انعقاد الجمعة بذلك العدد، فواجب بهم فله

_ 1 المقصود: إنَّ الحكم بين الناس في النوع الذي لا يتوقف على الدعوى هو المعروف بولاية الحسبة، وقاعدته وأصله هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، ووصف به هذه الأمة وفضلها لأجله على سائر الأمم التي أخرجت للناس، وهذا واجب على كل مسلم قادر، من الوجوب ما ليس على غيرهم، فإن مناط الوجوب هو القدرة، فيجب على القادر ما لا يجب على العاجز، قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم} . [الطرق الحكمية: ص 354] .

يأمرهم بإقامتها، وعليهم أن يسارعوا إلى أمره بها، ويكون في تأديبهم على تركها ألين من تأديبه على ترك ما انعقد الإجماع عليه. والحالة الثانية: أن يتفق رأيه ورأي القوم على أن الجمعة لا تنعقد بهم، فلا يجوز أن يأمرهم بإقامتها وهو بالنهي عنها لو أقيمت أحق. والحالة الثالثة: أن يرى القوم انعقاد الجمعة بهم ولا يراه المحتسب، فلا يجوز له أن يعارضهم فيها ولا يأمر بإقامتها؛ لأنه لا يراه، ولا يجوز أن ينهاهم عنها ويمنعهم مما يرونه فرضًا عليهم. والحالة الرابعة: أن يرى المحتسب انعقاد الجمعة بهم، ولا يراه القوم، فهذا مما في استمرار تركه تعطيل الجمعة مع تطاول الزمان وبعده وكثرة العدد وزيادته، فهل للمحتسب أن يأمرهم بإقامتها اعتبارا بهذا المعنى أم لا؟ على وجهين لأصحاب الشافعي -رضي الله عنه: أحدهما: وهو مقتضى قول أبي سعيد الإصطخري أنه يجوز له أن يأمرهم بإقامتها اعتبارًا المصلحة؛ لئلَّا ينشأ الصغير على تركها، فيظن أنها تسقط مع زيادة العدد كما تسقط بنقصانه، فقد راعى زياد مثل هذا في صلاة الناس في جامعي البصرة والكوفة، فإنهم كانوا إذا صلوا في صحنه فرفعوا من السجود مسحوا جباههم من التراب، فأمر بإلقاء الحصى في صحن المسجد الجامع، وقال: لست آمن أن يطول الزمان فيظنّ الصغير إذا نشأ أن مسح الجبهة من أثر السجود سنة في الصلاة. والوجه الثاني: لا يتعرّض لأمرهم بها؛ لأنه ليس له حمل الناس على اعتقاده، ولا أن يأخذهم في الدين برأيه مع تسويغ الاجتهاد فيه، وأنهم يعتقدون أن نقصان العدد يمنع من إجزاء الجمعة، وأما أمرهم بصلاة العيد فله أن يأمرهم بها، وهل يكون الأمر بها من الحقوق اللازمة أو من الحقوق الجائزة؟ على وجهين من اختلاف أصحاب الشافعي فيها، هل هي مسنونة، أو من فروض الكفاية؟ فإن قيل: إنها مسنونة كان الأمر بها ندبًا، وإن قيل: إنها من فروض الكفاية، كان الأمر بها حتمًا.

فأمَّا صلاة الجماعة في المساجد، وإقامة الأذان فيها للصلوات فمن شعائر الإسلام، وعلامات التعبُّد التى فرَّق بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين دار الإسلام ودار الشرك، فإذا اجتمع أهل بلد أو محلة على تعطيل الجماعة في مساجدهم، وترك الأذان في أوقات صلواتهم، كان المحتسب مندوبًا إلى أمرهم بالأذان والجماعة في الصلوات، وهل ذلك واجب عليه يأثم بتركه، أو محتسب له يثاب على فعله؟ على وجهين من اختلاف أصحاب الشافعي في اتفاق أهل بلد على ترك الأذان والإقامة والجماعة، وهل يلزم السلطان محاربتهم عليه أم لا؟ فأما ترك صلاة الجماعة من آحاد الناس، أو ترك الأذان والإقامة لصلاته، فلا اعتراض للمحتسب عليه إذا لم يجعله عادة وإلفًا؛ لأنها من الندب الذي يسقط بالأعذار، إلَّا أن يقترن به استرابة أو يجعله إلفًا وعادة، ويخاف تعدي ذلك إلى غيره في الاقتداء به، فيراعي حكم بشواهد حاله، كالذي روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لقد هممت أن آمر أصحابي أن يجمعوا خطبًا وآمر بالصلاة فيؤذن لها وتقام، ثم أخالف إلى منزل أقوام لا يحضرون الصلاة فأحرقها عليهم" 1. وأما ما يأمر به آحاد الناس وأفرادهم فكتأخير الصلاة حتى يخرج وقتها، فيذكر بها ويأمر بفعلها، ويراعي جوابه عنها، فإن قال: تركتها لنسيان حثه على فعلها بعد ذكره، ولم يؤدبه؛ وإن قال: تركتها لتوان وهوان أدبه زجرًا، وأخذه بفعلها جبرًا، ولا اعتراض على من أخرها، والوقت باقٍ لاختلاف الفقهاء في فضل التأخير، ولكن لو كانت الجماعات في بلد قد اتفق أهله على تأخير صلواتهم إلى آخره، والمحتسب يرى فضل تعجليها، فهل له أن يأمرهم بالتعجيل على وجهين؛ لأن اعتبار جميع الناس لتأخيرها يفضي بالصغير الناشيء إلى اعتقاد أن هذا الوقت دون ما تقدم، ولو عجلها بعضهم ترك من أخرها منهم ما يراه من التأخير. فأمَّا الأذان والقنوت في الصلوات إذا خالف فيه رأي المحتسب فلا اعتراض له فيه بأمر ولا نهي، وإن كان يرى إذا كان ما يفعل مسوغًا في الاجتهاد لخروجه عن معنى ما قدمناه،

_ 1 صحيح: رواه البخاري في كتاب الأذان "644"، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة "651".

وكذلك الطهارة إذا فعلها على وجه سائغ يخالف فيه رأي المحتسب من إزالة النجاسة بالمائعات، والوضوء بماء تغير بالمذورات الطاهرات، أو اقتصار على مسح أقل الرأس، أو العفو عن قدر الدرهم من النجاسات، فلا اعتراض له في شيء من ذلك بأمر ولا نهي، وكان له في اعتراضه عليهم في الوضوء بنبيذ التمر عند عدم الماء وجهان، لما فيه من الإفضاء إلى استباحته على كل حال، فإنه ربما آل إلى السكر من شربه، ثم على نظائر هذا المثال -تكون أوامره بالمعروف في حقوق الله تعالى. فصل: فأمَّا الأمر بالمعروف في حقوق الآدميين فضربان: عام وخاص1. فأما العام: فكالبلد إذا تعطل شربه، أو استهدم سوره، أو كان يطرقه بنو السبيل من ذوي الحاجات فكفّوا عن معونتهم، فإن كان في بيت المال مال لم يتوجه عليهم فيه ضرر، أمر بإصلاح شربهم وبناء سورهم، وبمعونة بني السبيل في الاجتياز بهم؛ لأنها حقوق تلزم بين المال دونهم، وكذلك لو استهدمت مساجدهم وجوامعهم، فأما إذا أعوز بيت المال كان الأمر ببناء سورهم وإصلاح شربهم وعمارة مساجدهم وجوامعيهم، ومراعاة ببني السبيل فيهم متوجهًا إلى كافة ذوي المكنة، ولا يتعين أحدهم في الأمر به، وإن شرع ذوو المكنة في عملهم، وفي مراعاة بني السبيل، وباشروا القيام به سقط عن المحتسب حق الأمر به، ولم يلزمهم الاستئذان في مراعاة بني السبيل ولا في بناء ما كان مهدومًا، ولكن لو أرادوا هدم ما يعيدون بناءه من المسترمّ والمستهدم لم يكن لهم الإقدام على هدمه فيما عم أهل البلد من سوره وجامعهم إلا باستئذان ولي الأمر دون المحتسب؛ ليأذن لهم في هدمه

_ 1 قال الإمام النووي: الضرب الثاني: ما يتعلق بحق آدمي، وينقسم إلى عام كالبلد إذا تعطل شربه، أو انهدم سوره، أو الإشارة أبناء السبيل المحتاجون وتركوا معونتهم، فإن كان في بيت المال مال لم يؤمر الناس بذلك، وإن لم يكن أمر أهل المكنة برعايتها. وإلى خاص: كمطل المدين الموسر، فالمحتسب يأمره بالخروج عنه إذا استعداده صاحب الدين، وليس له الضرب والحبس. [روضة الطالبين: 10/ 218] .

بعد تضميينه القيام بعمارته، وجاز فيما خص من المساجد في العشائر والقبائل ألا يستأذنوه، وعلى المحتسب أن يأخذهم ببناء ما هدموه، وليس له أن يأخذهم بإتمام ما استأنفوه، فأما إذا كف ذوو المكنة عن بناء ما استهدم وعمارة ما استرم، فإن كان المقام في البلد ممكنًا، وكان الشرب -وإن قلَّ مقنعًا تاركهم وأباه، وإن تعذَّر المقام في البلد لتعطيل شربه واندحاض سوره نظر، فإن كان البلد ثغرًا يضر بدار الإسلام تعطيله لم يجز لولي الأمر أن يفسخ في الانتفال عنه، وكان حكمه حكم النوازل إذا حدثت في قيام كافة ذوي المكنة به، وكان تأثير المحتسب في مثل هذا إعلام السلطان به، وترغيب أهل المكنة في عمله، وإن لم يكن هذا البلد ثغرًا مصرًا بدار الإسلام كان أمره أيسر وحكمه أخف، ولم يكن للمحتسب أن يأخذ أهله جبرًا بعمارته؛ لأن السلطان أحق أن يقوم به، ولو أعوزه المال فيستجده فيقول لهم: المستحب ما استدام عجز السلطان عنه أنتم مخيرون بين الانتقال عنه، أو التزام ما يصرف في مصالحه التي يمكن معها دوام استيطانه عنه، أنتم مخيرون بين الانتقال عنه أو التزام ما يصرف في مصالحه التي يمكن معها دوام استيطانه، فإن أجابوه إلى التزام ذلك كلف جماعتهم ما تسمح به نفوسهم، ولم يجز أن يأخذ كل واحد منهم ما سهل عليه وطاب نفسًا به، ومن أعوزه المال أعان بالعمل حتى إذا اجتمعت كفاية المصلحة، أو يلوح اجتماعها لضمان كل واحد من أهل المكنة قدرًا طاب به نفسًا، شرع حينئذ في عمل المصلحة، وأخذ كل ضامن من الجماعة بالتزام ما ضمنه، وإن كان مثل هذا الضمان لا يلزم في المعاملات الخاصة؛ لأن حكم ما عم من المصالح موسع، فكان حكم الضمان فيه أوسع، وإذا عمت هذه المصلحة لم يكن للمحتسب أن يتقدم بالقيام بها حتى يستأذن السلطان فيها؛ لئلَّا يصير بالتفرُّد مفتاتًا عليه؛ إذ ليست هذه المصلحة من معهود حسبته، فإن قلَّت وشقَّ استئذان السلطان فيها، أو خيف زيادة الضرر لبعد استئذانه جاز شروعه فيها من غير استئذان. وأما الخاص فكالحقوق إذا مطلت، والديوان إذا أخرت، فللمحتسب أن يأمر بالخروج منها مع المكنة إذا استعداده أصحاب الحقوق، وليس له أن يحبس بها؛ لأن الحبس حكم، وله أن يلازم عليها؛ لأنَّ لصاحب الحق أن يلازم، وليس له الأخذ بنفقات الأقارب لافتقار ذلك إلى اجتهاد شرعي فيمن تجب له، ويجب عليه إلا أن يكون الحاكم قد فرضها، فيجوز له

أن يأخذ له بأدائها، وكذلك كفالة من تجب كفالته من الصغار، والاعتراض له فيها حتى يحكم بها الحاكم، فيجوز حينئذ للمحتسب أن يأمر بالقيام لها على الشروط المستحقة فيها. وأما قبول الوصايا والودائع، فليس له أن يأمر فيها أعيان الناس وآحادهم، ويجوز أن يأمر بها على العموم حثًّا على التعاون بالبر والتقوى، ثم على هذا المثال تكون أوامره بالمعروف في حقوق الآدميين. فصل: وأما الأمر بالمعروف فيما كان مشتركًا بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين، فكأخذ الأولياء بنكاح الأيامي أكفاءهن إذا طلبن، وإلزام النساء أحكام العدد إذا فورقن، وله تأديب من خالف في العدة من النساء، وليس له تأديب من امتنع من الأولياء1. ومن نفى ولدًا قد ثبت فراش أمه ولحوق نسبه أخذه بأحكام الآباء جبرًا وعزره عن النفي أدبًا، ويأخذ السادة بحقوق العبيد والإماء، وأن لا يكلفوا من الأعمال ما لا يطيقون، وكذلك أرباب البهائم يأخذهم بعلوفتها إذا قصروا، وأن لا يستعملوها فيما لا تطيق. ومن أخذ لقيطًا وقصر في كفالته، أمره أن يقوم بحقوق التقاطه من التزام كفالته، أو

_ 1 قال النووي: الثالث: الحقوق المشتركة كأمر الأولياء بإنكاح الأكفاء وإلزام النساء أحكام العدد، وأخذ السادة بحقوق الأرقاء، وأصحاب البهائم بتعهدها، وأن لا يستعملوها فيما لا تطيق، وذكر في المنكرات أن من يغير هيئة عبادة كجهره في صلاة سرية وعكسه، وزيادة في الأذان يمنعه وينكر عليه، ومن تصدى للتدريس أو الوعظ وليس هو من أهله، ولا يؤمن اغترار الناس به في تأويل أو تحريف أنكر عليه المحتسب وشهر أمره؛ لئلَّا يغتر به، وإذا رأى رجلًا واقفا مع امرأة في شارع يطرقه الناس لم ينكر عليه، وإن كان في طريق خال، فهو موضع ريبة فينكر ويقول: وإن كانت محرمًا لك فصنها عن مواقف الريب، ولا ينكر في حقوق الآدميين كتعديه في جدار جاره باستعداء صاحب الحق وينكر على من يطيل الصلاة من أئمة المساجد المطروقة، وعلى القضاة إذا حجبوا الخصوم وقصروا في النظر والخصومات والسوقي، الذي يختص بمعاملة النساء تختبر أمانته، فإن ظهرت منه خيانة منع من معاملتهن وهذا باب لا تتناهي صورة. [روضة الطالبين: 10/ 218] .

تسليمه إلى من يلنزمها ويقوم بها، وكذلك واجد الضوال إذا قصر فيها يأخذه بمثل ذلك من القيام بها، ويكون ضامنًا للضالة بالتقصير، ولا يكون به ضامنًا اللقيط. وإذا أسلم الضالة إلى غيره ضمنها؛ ولا يضمن اللقيط بالتسليم إلى غيره، ثم على نظائر هذا المثال يكون أمره بالمعروف في الحقوق المشتركة. فصل: وأما النهي عن المنكرات فينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: ما كان من حقوقه الله تعالى. والثاني: ما كان من حقوق الآدميين. والثالث: ما كان مشتركًا بين الحقين. فأمَّا النهي عنها في حقوق الله تعالى، فعلى ثلاثة أقسام: أحدها: ما تعلق بالعبادات. الثاني: ما تعلق بالمحظورات. والثالث: ما تعلق بالمعاملات. فأما المتعلق بالعبادات: فكالقاصد مخالفة هيئاتها المشروعة، والمتعمد تغيير أوصافها المسنونة مثل: من يقصد الجهر في صلاة الإسرار، والإسرار في صلاة الجهر، أو يزيد في الصلاة، أو في الأذان أذكارًا غير مسنونة، للمحتسب إنكارها، وتأديب المعاند فيها إذا لم يقل بما ارتكبه إمام متبوع، وكذلك إذا أخل بتطهير جسده، أو ثوبه، أو موضع صلاته أنكره عليه إذا تحقق ذلك منه، ولا يؤاخذه بالتهم ولا بالظنون؛ كالذي حكي عن بعض الناظرين في الحسبة أنه سأل رجلًا داخلًا إلى المسجد بنعلين، هل يدخل بهما بيت طهارته، فلمَّا أنكر ذلك أراد إحلافه عليه؛ وهذا جهل من فاعله تعدّى فيه أحكام الحسبة، وغلب فيه سوء الظنة، وهكذا لو ظنَّ برجل أنه يترك الغسل من الجنابلة، أو يترك الصلاة والصيام لم يؤاخذه بالتهم، ولم يعامله بالإنكار، ولكن يجوز له بالتهمة أن يعظ ويحذر من عذاب الله على إسقاط

حقوقه، والإخلال بمفروضاته. فإن راه يأكل في شهر رمضان لم يقدم على تأديبه إلا بعد سؤاله عن سبب أكله إذا التبست أحواله، فربما كان مريضًا أو مسافرًا، ويلزمه السؤال إذا ظهرت منه أمارات الريب، فإن ذكر من الأعذار ما يحتمله حاله كف عن زجره، وأمره بإخفاء أكله؛ لئلَّا يعرض نفسه للتهمة، ولا يلزم إحلافه عند الاسترابة بقوله؛ لأنه موكول إلى أمانته، فإن لم يذكر عذرًا جاهر بالإنكار عليه مجاهرة ردع، وأدَّبه تأديب زجر، وهكذا لو علم عذره في الأكل أنكر عليه المجاهرة بتعريض نفسه للتهمة، ولئلَّا يقتدي به من ذوي الجهالة ممن لا يميز حال عذره من غيره. وأما الممتنع من إخراج الزكاة: فإن كان من الأموال الظاهرة، فعامل الصدقة يأخذها منه جبرًا أخص، وهو بتعزيزه على الغلول إن لم يجد له عذرًا أحق، وإن كان من الأموال الباطنة فيحتمل أن يكون المحتسب أخص بالإنكار عليه من عامل الصدقة؛ لأنه لا اعتراض للعامل في الأموال الباطنة، ويحتمل أن يكون العامل بالإنكار عليه أخص؛ لأنه لو دفعها له أجزأه، ويكون تأديبه معتبرًا بشواهد حاله في الامتناع من إخراج زكاته، فإن ذكر أنه يخرجها سرًّا وكل إلى أمانته فيها. وإن رأى رجلًا يتعرّض لمسألة الناس في طلب الصدقة، وعلم أنه غني إما بمال أو عمل أنكره عليه وأدّبه فيه، وكان المحتسب بإنكاره أخص من عامل الصدقة. قد فعل عمر -رضي الله عنه- مثل ذلك بقوم من أهل الصدقة، ولو رأى عليه آثار الغنى وهو يسأل الناس أعلمه تحريمها على المستغني عنها، ولم ينكره عليه لجواز أن يكون في الباطن فقيرًا، وإذا تعرّض للمسألة ذو جلد وقوة على العمل، زجره وأمره أن يتعرض للاحتراف بعمله، فإن أقام على المسألة عزره حتى يقلع عنها. وإن دعت الحالة عند إلحاح من حرمت عليه المسألة لمال أو عمل إلى أن ينفق علي ذي المال جبرًا من ماله، ويؤجر ذا العمل وينفق عليه من أجرته لم يكن للمحتسب أن يفعل ذلك بنفسه؛ لأن هذا حكم والحكام به أحق، فيرفع أمره إلى الحاكم ليتولى ذلك أو يأذن فيه. وإذا وجد من يتصدّى لعلم الشرع وليس من أهله من فقيه أو واعظ، ولم يأمن اغترار الناس به في سوء تأويل أو تحريف جواب، أنكر عليه التصدي لما ليس هو من أهله، وأظهر

أمره لئلَّا يغتر به. ومن أشكل عليه أمره لم يقدم عليه بالإنكار عليه إلّا بعد الاختبار. قد مرَّ علي ابن أبي طالب -عليه السلام- بالحسن البصري وهو يتكلم على الناس فاختبره، فقال له: ما عماد الدين؟ فقال: الورع، قال: فما آفته؟ قال: الطمع، قال: تكلّم الآن إن شئت، وهكذا لو ابتدع بعض المنتسبين إلى العلم قولًا خرق به الإجماع، وخالف فيه النص، وردّ قوله علماء عصره، أنكره عليه وزجره عنه، فإن أقلع وتاب وإلا فالسلطان بتهذيب الدين أحق، وإذا تعرض بعض المفسرين لكتاب الله تعالى بتأويل عدل فيه عن ظاهر التنزيل إلى باطن بدعة تتكلف له غمض معانيه، أو تفرَّد بعض الرواة بأحاديث مناكير تنفر منها النفوس، أو يفسد بها التأويل كان على المحتسب إنكار ذلك والمنع منه، وهذا إنما يصح منه إنكاره إذا تميز عنده الصحيح من الفاسد، والحق من الباطل، وذلك من أحد وجهين، إما أن يكون بقوته في العلم واجتهاده فيه حتى لا يخفى ذلك عليه، وإما بأن يتفق علماء الوقت على إنكاره وابتداعه فيستعدونه، فيعول في الإنكار على أقاويلهم، وفي المنع منه على اتفاقهم. فصل: وأما ما تعلق بالمحظورات فهو أن يمنع الناس من مواقف الريب ومظان التهمة، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" 1. فيقدم الإنكار ولا يعجل بالتأديب قبل الإنكار. حكي إبراهيم النخعي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- نهى الرجال أن يطوفوا مع النساء، فرأى رجلًا يصلي مع النساء فضربه بالدرة، فقال الرجل: والله إن كنت أحسنت لقد ظلمتني، وإن كنت أسأت فما علمتني، فقال عمر: لا أقتص اليوم، قال: فاعف عني. قال: لا أعفو، فافترقا على ذلك، ثم لقيه من الغد فتغيّر لون عمر، فقال له الرجل: يا أمير المؤمنين، كأنِّي أرى ما كان مني قد أسرع فيك؟ قال: أجل، قال: فأشهد الله أني قد عفوت

_ 1 صحيح: رواه الترمذي في كتاب صفة القيامة، والرقائق "2518"، والنسائي في كتاب الأشربة "5711"، والدارمي في كتاب البيوع "2532"، وأحمد "27819"، وصححه الشيخ الألباني.

عنك. وإذا رأى وقفه رجل مع امرأة في طريق سابل لم تظهر منهما أمارات الريب لم يعترض عليهما بزجر ولا إنكار، فما يجد الناس بدًّا من هذا. وإن كانت الوقفة في طريق خال، فخلو المكان ريبة فينكرها، ولا يعجل بالتأديب عليهما حذارًا من أن تكون ذات محرم، وليقل: إن كانت ذات محرم فصنها عن مواقف الريب، وإن كانت أجنبية فخف الله تعالى من خلوة تؤديك إلى معصية الله تعالى؛ وليكن زجره بحسب الأمارات. حكى أبو الأزهر أنَّ ابن عائشة رأى رجلًا يكلم امرأة في طريقها، فقال له: إن كانت حرمتك إنه لقبيح بك أن تكلمها بين الناس، وإن لم تكن حرمتك فهو أقبح، ثم ولَّى عنه وجلس للناس يحدثهم، فإذا برقعة قد ألقيت في حجره مكتوب فيها "من الكامل": إن التي أبصرتني ... سحرًا أكلمها رسول أدت إليّ رسالة ... كادت لها نفسي تسيل من فاتر الألحاظ بجـ ... ـذب خصره ردف ثقيل متنكبًا قوس الصبا ... يرمي وليس له رسيل فلو أن أذنك بيننا ... حتى تسمع ما تقول لرأيت ما استقبحت من ... أمري هو الحسن الجميل فقرأها ابن عائشة ووجد مكتوبًا على رأسها أبو نواس1، فقال ابن عائشة: ما لي وللتعويض لأبي نواس، وهذا القدر من إنكار ابن عائشة كافٍ لمثله، ولا يكون لمن ندب للإنكار من ولاه الحسبة كافيًا، وليس فيما قال أبو نواس تصريح بفجور؛ لاحتمال أن يكون إشارة إلى ذات محرم، وإن كانت شواهد حاله وفحوى كلامه ينطقان بفجوره وريبته، فيكون من مثل أبي نواس منكرًا، وإن جاز أن يكون من غيره منكرًا. فإذا رأى المحتسب في هذا

_ 1 هو الحسن بن هانئ بن عبد الأول بن الصباح، أبو علي الحكمي المعروف بأبي نواس، كان جده مولى الجراح بن عبد الله الحكمي والي خراسان. ولد أبو نواس بالبصرة، ونشأ بها، ثم خرج إلى الكوفة مع والبة بن الحبابئ، ثم صار إلى بغداد، هكذا قال محمد بن داود بن الجراح في كتاب الورقة. وقال غيره: إنه ولد بالأهواز، ونقل منها وعمر سنتان.

الحال ما ينكره تأنَّى وتفحص وراعى شواهد الحال، ولم يعجل بالإنكار قبل الاستخبار، كالذي رواه ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة قال: بينما عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يطوف بالبيت إذ رأى رجلًا يطوف وعلى عاتقه امرأة مثل المهاة -يعني حسنًا وجمالًا- وهو يقول [من السريع] : قدت لهذي جملًا ذلولًا ... موطأ أتبع السهولا أعدلها بالكف أن تميلا ... أحذر أن تسقط أو تزولا أرجو بذاك نائلًا جزيلا قال له عمر -رضي الله عنه: يا عبد الله، من هذه التي وهبت لها حجك؟ فقال: امرأتي يا أمير المؤمنين، وإنها حمقاء مرغامة، أكول قمامة، لا يبقى لها خامة. فقال له: ما لك لا تطلقها؟ قال: إنها حسناء لا تفرك، وأم صبيان لا تترك. قال: فشأنك بها. قال أبو زيد: المرغام المختلط، فلم يقدم عليه بالإنكار حتى استخبره، فلما انتفت عنه الريبة لان له. وإذا جاهر رجل بإظهار الخمر، فإن كان مسلمًا أراقها عليه وأدابه، وإن كان ذميًّا أدبه على إظهارها. واختلف الفقهاء في إراقتها عليه، فذهب أبو حنيفة إلى أنها لا تراق عليه؛ لأنها عنده من أموالهم المضمونة في حقوقهم، ومذهب الشافعي أنها تراق عليهم؛ لأنها تضمن عنده في حق مسلم ولا كافر. وأما المجاهرة بإظهار النبيذ، فعند أبي حنيفة أنه من الأموال التي يقر المسلمون عليها، فيمتنع من إراقته، ومن التأديب على إظهاره. وعند الشافعي أنه ليس بمال كالخمر، وليس في إراقته غرم، فيعتبر والي الحسبة بشواهد الحال فيه، فينتهي فيه عن المجاهرة، ويزجر عليها إن كان لمعاقرة، ولا يريقه عليه إلا أن يأمره بإراقته حاكم من أهل الاجتهاد؛ لئلَّا يتوجه عليه غرم إن حوكم فيه. وأما السكران إذا تظاهر بسكره وسخف بهجره أدبه على السكر والهجر تعزيزًا لا حدًّا؛

لقة مراقبته وظهور سخفه. وأما المجاهرة بإظهار الملاهي المحرَّمة، فعلى المحتسب أن يفصلها حتى تصير خشبًا؛ لتزول عن حكم الملاهي، ويؤدّب على المجاهرة بها، ولا يكسرها إن كان خشبها يصلح لغير الملاهي. وأما اللعب فليس يقصد بها المعاصي، وإنما يقصد بها إلف البنات لتربية الأولاد. وفيها وجه من وجوه التدبير تقارنه معصية بتصوير ذوات الأزواج ومشابهة الأصنام، فللتمكين منها وجه، وللمنع منها وجه، وبحسب ما تقتضيه شواهد الأحوال يكون إنكاره وإقراره. قد دخل النبي -عليه الصلاة والسلام- على عائشة -رضي الله عنها- وهي تلعب بالبنات فأقرها ولم ينكر عليها. وحكي أن أبا سعيد الإصطخري من أصحاب الشافعي تقلّد حسبة بغداد في أيام المقتدر، فأزال سوق الدادي ومنع منها، وقال: لا يصلح إلّا النبيذ المحرم، وأقر سوق اللعب ولم يمنع منها، وقال: قد كانت عائشة -رضي الله عنها- تلعب بالبنات بمشهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم ينكره عليها؛ وليس ما ذكره من اللعب بالبعيد من الاجتهاد. وأما سوق الدادي فالأغلب من حاله أنّه لا يستعمل إلا في النبيذ، وقد يجوز أن يستعمل نادرًا في الدواء وهو بعيد، فبيعه عند من يرى إباحة النبيذ جائز لا يكره، وعند من يرى تحريمه جائز لجواز استعماله في غيره، ومكروه اعتبارًا بالأغلب من حاله، وليس منع أبي سعيد منه؛ لتحريم بيعه عنده. وإنما من المظاهرة بإفراد سوقه، والمجاهرة ببيعه إلحالقًا له بإباحة ما اتفق الفقهاء على إباحة مقصده؛ ليقع لعوام الناس الفرق بينه وبين غيره من المباحات، وليس يمتنع إنكار المجاهرة ببعض المباحات، كما ينكر المجاهرة بالمباح من مباشرة الأزواج والإماء. وأما ما لم يظهر من المحظورات، فليس للمحتسب أن يتجسس عنها، ولا أن يهتك الأستار حذرًا من الاستتار بها، قال النبي -عليه الصلاة والسلام: "من أتى من هذه القاذورات شيئًا فليستتر بستر الله، فإنه من يبد لنا صفحته نقم حد الله تعالى

عليه" 1. فإن غلب على الظن استسرار قوم بها لأمارات دلت، وآثار ظهرت، فذلك ضربان: أحدهما: أن يكون ذلك في انتهاك حرمة يفوت استدراكها، مثل: أن يخبره من يثق بصدقه أن رجلًا خلا بامرأة ليزني بها، أو برجل ليقتله، فيجوز له في مثل هذه الحالة أن يتجسَّس ويقدم على الكشف والبحث، حذرًا من فوات ما لا يستدرك من انتهاك المحارم، وارتكاب المحظورات، وهكذا لو عرف ذلك من المتطوعة جاز لهم الإقدام على الكشف، والبحث في ذلك، والإنكار، كالذي كان من شأن المغيرة بن شعبة. فقد روي أنه كان تختلف إليه بالبصرة امرأة من بني هلال يقال لها أم جميل بنت محجن ابن الأفقم، وكان لها زوج من ثقيف يقال له: الحجاج بن عبيد، فبلغ ذلك أبا بكر بن مسروح، وسهل بن معبد، ونافع بن الحارث، وزياد بن عبيد، فرصدوه حتى إذا دخلت عليه هجموا عليهما، وكان من أمرهم في الشهادة عليه عند -ماهو مشهور، فلم ينكر عليهم عمر -رضي الله عنه- هجومهم، وإن كان حدهم القذف عند قصور الشهادة. والضرب الثاني: ما خرج عن هذا الحد وقصر عن حد هذه الرتبة، فلا يجوز التجسس عليه ولا كشف الأستار عنه. حكي أن عمر -رضي الله عنه- دخل على قومه يتعاقرون على شراب، ويوقدون في أخصاص، فقال: نهيتكم عن المعاقرة فعاقرتم، ونهيتكم عن الإيقاد في الأخصاص فأوقدتم، فقالوا: يا أمير المؤمنين، قد نهاك الله عن التجسس فتجسست، ونهاك عن الدخول بغير إذن فدخلت، فقال عمر -رضي الله عنه: هاتان بهاتين وانصرف ولم يتعرض لهم. فمن سمع أصواتًا ملأة منكرة من دار تظاهر أهلها بأصواتهم أنكرها خارج الدار، ولم يهجم عليه بالدخول؛ لأن المنكر ظاهر وليس عليه أن يكشف عما سواه من الباطن.

_ 1 صحيح: رواه مالك في الموطأ، كتاب الحدود "1562".

فصل: وأما المعاملات المنكرة كالزنا والبيوع الفاسدة، وما منع الشرع منه مع تراضي المتعاقدين به إذا كان متفقًا على حظره، فعلى والي الحسبة إنكاره والمنع منه، والزجر عليه، وأمره في التأديب مختلف بحسب الأحوال وشدة الحظر. وأما ما اختلف الفقهاء في حظره وإباحته فلا مدخل له في إنكاره، إلّا أن يكون مما ضعف الخلاف فيه، وكان ذريعة إلى محظور متفق عليه كربا النقد، فالخلاف فيه ضعيف، وهو ذريعة إلى ربا النَّسَاء المتفق على تحريمه، فهل يدخل في إنكاره بحكم ولايته أو لا؟ على ما قدمناه من الوجهين. وفي معني المعاملات وإن لم تكن منها عقود المناكح المحرمة ينكرها إن اتفق العلماء على حظرها؛ ولا يتعرض لإنكارها إن اختلف الفقهاء فيها، إلا ان يكون مما ضعف الخلاف فيه، وكان ذريعة إلى محظور متفق عليه كالمتعة، فربما صارت ذريعة إلى استباحة الزنا، ففي إنكاره لها وجهان، وليكن بدل إنكاره لها الترغيب في العقود المتفق عليها. ومما يتعلق بالمعلاملات غش المبيعات وتدليس الأثمان، فينكره ويمنع منه، ويؤدب عليه بحسب الحال فيه، روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ليس منا من غش" 1. فإن كان هذا الغش تدليسًا على المشتري ويخفى عليه فهو أغلظ الغش تحريمًا وأعظمها مأثمًا، فالإنكار عليه أغلظ، والتأديب عليه أشد، وإن كان لا يخفى على المشتري كان أخف مأثمًا وألين إنكارًا، وينظر في مشتريه، فإن اشتراه ليبيعه من غيره توجَّه الإنكار على البائع لغشه، وعلى المشتري بابتياعه؛ لأنه قد يبيعه لمن لا يعلم بغشه، فإن كان يشتريه ليستعمله خرج المشتري من جملة الإنكار، وتفرَّد البائع وحده، وكذلك القول في تدليس الأثمان. ويمنع من تصرية المواشي، وتحفيل ضروعها عند البيع للنهي عنه، فإنه نوع من التدليس.

_ 1 صحيح: رواه أبو داود في كتاب البيوع "3452"، والترمذي في كتاب البيوع "1315"، وابن ماجه في كتاب التجارات "2224"، وأحمد "7250"، وصححه الشيخ الألباني.

ومما هو عمدة نظره المنع من التطفيف والبخس في المكاييل والموازين والصنجات؛ لوعيد الله تعالى عليه عند نهيه عنه، وليكن الأدب عليه أظهر والمعاقبة فيه أكثر، ويجوز له إذا استراب بموازين السوقة ومكاييلهم أن يختبرها ويعايرها، ولو كان له على ما عايره منها طابع معروف بين العامة لا يتعاملون إلا به كان أحوط وأسلم. فإن فعل ذلك وتعامل قوم بغير ما طبع بطابعه توجه الإنكار عليهم إن كان مبخوسًا من وجهين: أحدهما: لمخالفته في العدول عن مطبوعه، وإنكاره من الحقوق السلطانية. والثاني: للبخس والتطفيف في الحق، وإنكاره من الحقوق الشرعية، فإن كان ما تعاملوا به من غير المطبوع سليمًا من بخس ونقص توجَّه الإنكار عليهم بحق السلطنة وحدها لأجل المخالفة؛ وإن زوّر قوم على طابعه كان المزور فيه كالمهرج على طابع الدراهم والدنانير، فإن قرن التزوير بغش كان الإنكار عليه والتأديب مستحقًّا من وجهين: أحدهما: في حق السلطنة من جهة التزوير. والثاني: من جهة الشرع في الغش وهو أغلظ النكرين، وإن سلم التزوير من غش تفرَّد بالإنكار السلطاني منهما فكان أحقهما، وإذا اتسع البلد حتى احتاج أهله فيه إلى كيالين ووزانين ونقادين تخيرهم المحتسب، ومنع أن ينتدب لذلك إلا من ارتضاه من الأمناء الثقات، وكانت أجورهم من بين المال إن اتسع لها، فإن ضاق قدرها لهم حتى لا يجزي بينهم فيها استزادة ولا نقصان، فيكون ذلك ذريعة إلى الممايلة والتحيف في مكيل أو موزون. وقد كان الأمراء يقومون باختيارهم وترتيبهم لذلك، ويثبتونهم بأسمائهم في الدواوين حتى لا يختلط بهم غيرهم ممن لا تؤمن وساطته، فإن ظهر من أحد هؤلاء المختارين للكيل والوزن تحيف في تطفيف أو ممايلة في زيادة أُدِّبَ، أخرج عن جملة المختارين، ومنع أن يتعرض للوساطة بين الناس، وكذلك القول في اختيار الدلالين، يقر منهم الأمناء ويمنع الخونة، وهذا مما يتولاه ولاة الحسبة إن قعد عند الأمراء. وأما اختيار القسام والزراع، فالقضاة أحق باختيارهم من ولاة الحسبة؛ لأنهم قد

يستنابون في أموال الأيتام والغيب. وأما اختيار الحرَّاسين في القبائل والأسواق فإلى الحماة وأصحاب المعاون، وإذا وقع في التطفيف تخاصم جاز أن ينظر المحتسب إن لم يكن مع الخصم فيه تجاحد وتناكر، فإن أفضى إلى تجاحد وتناكر كان القضاة أحق بالنظر فيه من ولاة الحسبة؛ لأنهم بالأحكام أحق، وكان التأديب فيه إلى المحتسب، فإن تولاه الحاكم جاز لاتصاله بحكمهم، ومما ينكره المحتسب في العموم ولا ينكره في الخصوص والآحاد التبايع بما لم يألفه أهل البلد من المكاييل والأوزان التي لا تعرف فيه إن كانت معروفة في غيره، فإن تراضي بها اثنان لم يعترض عليهما الإنكار والمنع، ويمنع أن يرسم بها قوم من العموم؛ لأنه قد يعاملهم فيها من لا يعرفها فيصير مغرورًا. فصل: وأما ما ينكر من حقوق الآدميين المحصنة، فمثل أن يتعدَّى رجل في حد لجاره، أو في حريم لداره، أو في وضع أجذاع على جداره، فلا اعتراض للمحتسب فيه ما لم يستعده الجاز؛ لأنه يخصه، فينصح منه العفو عنه والمطالبة به، فإن خاصمه فيه كان للمحتسب النظر فيه إن لم يكن بينهما تنازع وتناكل، وأخذ المتعدي بإزالة تعديه، وكان له تأيبه عليه بحسب شواهد الحال. فإن تنازعا كان الحاكم بالنظر فيه أحق، ولو أن الجار أقر جاره على تعديه وعفا عن مطالبته بهدم ما تعدى فيه، ثم عاد مطالبًا بعد ذلك كان له ذلك، وأخذ المتعدي بعد العفو عند بهدم ما بناه؛ ولو كان قد ابتدأ البنا ووضع الأجذاع بإذن الجار، ثم رجع في إذنه لم يؤخذ الثاني بهدمه. ولو انتشرت أغصان الشجرة إلى دار جاره كان للجار أن يستعدي المحتسب حتى يعديه على صاحب الشجرة؛ ليأخذه بإزالة ما انتشر من أغصانها في داره ولا تأديب عليه؛ لأنَّ انتشارها ليس من فعله، ولو انتشرت عروق الشجرة تحت الأرض حتى دخلت في قرار أرض الجار لم يؤخذ بقلعها، ولم يمنع الجار من التصرف في قرار أرضه، وإن قطعها نصب الملك تنورًا في داره، فتأذى الجار بدخانه لم يعترض عليه ولم يمنع منه، وكذلك لو نصب في

داره رحى أو وضع فيها حدادين أو قصابين لم يمنع؛ لأن للناس التصرف في أملاكهم بما أحبوا، وما يجد الناس من مثل هذا بدًّا، وإذا تعدَّى مستأجر على أجير في نقصان أجرة أو استزادة عمل كفه عن تعديه، وكان الإنكار عليه معتبرًا بشواهد حاله، ولو قصر الأجير في حق المستأجر فنقصه من العمل، أو استزاده في الأجرة منعه وأنكره عليه إذا تخاصما إليه، فإن اختلفا وتناكرا كان الحاكم بالنظر بينهما أحق. ومما يؤخذ ولادة الحسبة بمراعاته من أهل الصنائع في الأسواق ثلاثة أصناف: منهم من يراعي عمله في الوفور والقصير؛ ومنهم من يراعي في حالة الأمانة والخيانة، ومنهم من يراعي عمله في الجودة والرداءة. فأما من يراعي في عمله في الوفور والتقصير فكالطبيب والمعلمين؛ لأن الطبيب إقدامًا على النفوس يفضي التقصير فيه إلى تلف أو سقم، والمعلمين من الطرائق التي ينشأ الصغار عليها ما يكون نقلهم عنها بعد الكبير عسيرًا، فيقر منهم من توفر عمله وحسنت طريقته، ويمنع من قصر وأساء من التصدي لما يفسد به النفوس وتخبت به الآداب. وأما من يراعي في الأمانة والخيانة فمثل الصاغة والحاكة والقصارين والصباغين؛ لأنهم ربما هربوا بأموال الناس، فيراعي أهل الثقة والأمانة منهم فيقرهم، ويبعد من ظهرت خيانته ويشهر أمره؛ لئلَّا يغتر به من لا يعرفه، وقد قيل: إن الحماة وولاة المعاون أخصّ بالنظر في أحوال هؤلاء من ولاية الحسبة وهو الأشبة؛ لأنَّ الخيانة تابعة للسرقة. وأما من يراعي عمله في الجودة والرداءة فهو مما ينفرد بالنظر فيه ولاة الحسبة، ولهم أن ينكروا عليهم في العموم فساد العمل ورداءته، وإن لم يكن فيه مستعد. وأما في عمل مخصوص اعتاد الصانع فيه الفساد والتدليس. فإذا استعداه الخصم قابل عليه بالإنكار والزجر، فإن تعلق بذلك غرم روعي حال الغرم، فإن افتقر إلى تقرير أو تقويم لمن يمكن للمحتسب أن ينظر فيه؛ لافتقاره إلى اجتهاد حكمي، وكان القاضي بالنظر فيه أحق، وإن لم يفتقر إلى تقدير ولا تقويم، واستحق فيه المثل الذي لا اجتهاد فيه ولا تنازع، فللمحتسب أن ينظر فيه بإلزام الغرم والتأديب على فعله؛ لأنه أخذ بالتناصف وزجر عن التعدي. ولا يجوز أن يسعّر على الناس الأقوات ولا غيرها في رخص ولا غلاء، وأجازه مالك في الأقوات مع الغلاء.

فصل: وأما ما ينكر من الحقوق المشتركة بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين، فكالمنع من الإشراف على منازل الناس، ولا يلزم من علا بناؤه أن يستر سطحه، وإنما يلزم أن لا يشرف على غيره، ويمنع أهل الذمة من تعلية أبنيتهم على أبنية المسلمين، فإن ملكوا أبنية عالية أقروا عليها، ومنعوا من الإشراف منها على المسلمين، وأهل الذمة بما شرط عليهم في ذمتهم من لبس الغيار، والمخالفة في الهيئة، وترك المجاهرة بقولهم في العزيز والمسيح، ويمنع عنهم من تعرض لهم من المسلمين بسبب أو أذى، ويؤدّب عليه من خالف فيه. وإذا كان في أئمة المساجد السابلة والجوامع الجفلة من يطيل الصلاة حتى يعجز عنها الضعفاء، وينقطع بها ذوو الحاجات، أنكر ذلك عليه كما أنكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على معاذ بن جبل حين أطال الصلاة بقومه وقال: "أفتَّان أنت يا معاذ" 1. فإن أقام على الإطالة ولم يمتنع منها لم يجز أن يؤدبه عليها، ولكن يستبدل به من يخففها. وإذا كان في القضاء من يجيب الخصوم إذا قصدوه، ويمتنع من النظر بينهم إذا تحاكموا إليه حتى تقف الأحكام ويستضر الخصوم، فللمحتسب أن يأخذه مع ارتفاع الأعذار بما ندب له من النظر بين المتحاكمين، وفصل القضاء بين المتنازعين، ولا يمنع علوّ رتبته من إنكار ما قصر فيه. قد مر إبراهيم بن بطحاء والي الحسبة بجانبي بغداد بدار أبي عمر بن حماد، وهو يومئذ قاضي القضاة، فرأى الخصوم جلوسًا على بابه ينتظرون جلوسه للنظر بينهم، وقد تعالى النهار وهجرت الشمس، فوقف واستدعى حاجبه وقال: تقول لقاضي القضاة: الخصوم جلوس على الباب وقد بلغتهم الشمس وتأذّوا بالانتظار، فإما جلست لهم أو عرّفتهم عذرك فينصرفوا ويعودوا. وإذا كان في سادة العبيد من يستعملهم فيما لا يطيقون الدوام عليه كان منعهم، والإنكار عليهم موقوفًا على استعداء العبيد على وجه الإنكار والعظة، فإذا استعدوه منع حينئذ وزجر.

_ 1 صحيح: رواه البخاري في كتاب الأذان "705"، ومسلم في كتاب الصلاة "465".

وإذا كان من أرباب المواشي من يستعملها فيما لا يطيق الدوام عليه أنكره المحتسب عليه ومنعه منه، وإن لم يكن فيه مستعد إليه، فإن ادَّعى المالك احتمال البهيمة لما يستعملها فيه جاز للمحتسب أن ينظر فيه؛ لأنه وإن افتقر إلى اجتهاد فهو عرفي يرجع فيه إلى عرف الناس وعاداتهم، وليس باجتهاد شرعي، والمحتسب لا يمنع من اجتهاد العرف. وإن امتنع من اجتهاد الشرع. وإذا استعداه العبد في امتناع سيده من كسوته ونفقته جاز أن يأمره بهما ويأخذه بالتزامهما، ولو استعداه من تقصير سيده فيهما لم يكن له في ذلك نظر، ولا إلزام؛ لأنه في التقدير يحتاج إلى اجتهاد شرعي، ولا يحتاج في التزام الأصل إلى اجتهاد شرعي؛ لأن التقدير منصوص عليه ولزومه غير منصوص عليه. وللمحتسب أن يمنع أرباب السفن من حمل ما لا تسعه ويخاف منه غرقها، وكذلك يمنعهم من المسير عند اشتداد الريح، وإذا حمل فيها الرجال والنساء حجز بينهم بحائل. وإذا اتسعت السفن نصب للنساء مخارج للبراز؛ لئلَّا يتبرجن عند الحاجة. وإذا كان في أسهل الأسواق من يختص بمعاملة النساء راعى المحتسب سيرته وأمانته، فإذا تحققها منه أقره على معاملتهن، وإن ظهرت منه الريبة وبان عليه الفجور منعه من معاملتهن، وأدبه على التعرض لهن؛ وقد قيل: إن الحماة وولاة المعاون أخص بإنكار هذا والمنع منه من ولاة الحسبة؛ لأنه من توابع الزنا. وينظرون إلى الحسبة في مقاعد الأسواق، فيقر منها ما لا ضرر فيه على المارة، ويمنع ما استضر به المارة؛ ولا يقف منعه على الاستعداء إليه، وجعله أبو حنيفة موقوفًا على الاستعداء إليه. وإذا بني قوم في طريق سابل منع منه، وإن اتسع الطريق يأخذهم بهدم ما بنوه ولو كان المبني مسجدًا؛ لأن مرافق للسلوك للأبنية. وإذا وضع الناس الأمتعة وآلات الأبنية في مسالك الشوارع والأسواق ارتفاقًا؛ لينقلوه حالًا بعد حال مكنوا منه، وان لم يستضر به المارة؛ ومنعوا منه إن استضروا به، وهذا القول في إخراج الأجنحة والأسبطة، ومجاري المياه، وآبار الحشوش يقر ما لا يضر ويمنع ما ضر، ويجتهد المحتسب رأيه فيما ضر، وما لم يضر؛ لأنه من الاجتهاد العرفي دون الشرعي.

والفرق بين الاجتهادين أنَّ الاجتهاد الشرعي ما روعي فيه أصل ثبت حكمه بالشرع، والاجتهاد العرفي ما روعي فيه أصل ثبت حكمه بالعرف، ويوضح الفرق بينهما بتمييز ما يسوغ فيه اجتهاد المحتسب مما هو ممنوع الاجتهاد فيه. ولوالي الحسبة أن يمنع من نقل الموتى من قبورهم إذا دفنوا في ملك أو مباح، إلا في أرض مغصوبة، فيكون لمالكها أن يأخذ من دفنه فيها بنقله منها، واختلف في جواز نقلهم من أرض قد لحقها سيل أو ندى، فجوزه الزبيري وأباه غيره. ويمنع من خصاء الآدميين والبهائم، ويؤدب عليه، وإن استحق فيه قودًا أو دية استوفاه لمستحقه ما لم يكن فيه تناكر وتنازع. ويمنع من خضاب الشيب بالسواد، إلا للمجاهدة في سبيل الله، ويؤدب من يصبغ به للنساء، ولا يمتنع من الخضاب بالحناء والكتم، فيمنع من التكسب بالكهانة واللهو، ويؤدب عليه الآخذ والمعطي. وهذا فصل يطول أن يبسط؛ لأن المنكرات لا ينحصر عددها فتستوفى، وفيما ذكرناه من شواهدنا دليل على ما أغفلناه. والحسبة من قواعد الأمور الدينية، وقد كان أئمة الصدر الأول يباشرونها بأنفسهم؛ لعموم صلاحها وجزيل ثوابها؛ ولكن لما أعرض عنها السلطان، وندب لها من هان، وصارت عرضة للتكسب وقبول الرشا لان أمرها وهان على الناس خطرها، وليس إذا وقع الإخلال بقاعدة سقط حكمها، وقد أغفل الفقهاء عن بيان أحكامها ما لم يجز الإخلال به، وإن كان أكثر كتابنا هذا يشتمل على ما قد أغفله الفقهاء أو قصروا فيه، فذكرنا ما أغفلوه، واستوفينا ما قصروا فيه. وأنا أسأل الله توفيقًا لما توخيناه، وعونًا على ما نويناه بمنِّه ومشيئته؛ وهو حسبي ونعم الوكيل. تم بحمد الله وعونه كتاب الأحكام السلطانية والولايات الدينية لقاضي القضاة أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري البغدادي الماوردي. والحمد الله أولًا وآخرًا، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.

فهرس المحتويات

فهرس المحتويات: الصفحة الموضوع 5 مقدمة التحقيق 9 ترجمة المصنف 13 مقدمة المؤلف 15 الباب الأول: في عقد الإمامة 15 هل الخلافة واجبة بالشرع أم بالعقل؟ 17 فصل: [في بيان حكم الخلافة] 19 فصل: [الشروط التي ينبغي توافرها في الخليفة] 21 فصل: [بم تنعقد الإمامة؟] 25 فصل: [في وجوب اختيار الأصلح] 29 فصل: [في البيعة لخليفتين في وقت واحد] 30 فصل: [هل يقرع بين مرشحين للخلافة؟] 30 فصل: [هل تنعقد الخلافة بولاية العهد] 32 فصل: [في عهد الخليفة بالخلافة إلى من يلي بعده] 36 فصل: [في تعدي عهد الخليفة إلى من بعده] 39 فصل: في وجوب معرفة الأمة لمن تولى أمرها] 40 [مهام الخليفة ومسئولياته] 42 فصل: [واجبات الأمة نحو الخليفة] 47 فصل: [في نقصان حرية التصرف] 49 فصل: [نواب الخليفة وولاته] 50 الباب الثاني: في تقليد الوزارة 54 فصل: [في الفرق بين سلطات الوزير والإمام] 56 فصل: في الفرق بين وزارة التفويض ووزارة التنفيذ 62 الباب الثالث: في تقليد الإمارة على البلاد 69 الباب الرابع: في تقليد الإمارة على الجهاد 94 الباب الخامس: في الولاية على المصالح 94 الفصل الأول: في الولاية على الحروب 100 الفصل الثاني: في قتال أهل البغي 105 الفصل الثالث: في قتال من امتنع من المحاربين وقطاع الطريق 110 الباب السادس: في ولاية القضاء 117 فصل: [ما تنعقد به ولاية القضاء] 119 فصل: [ولاية القاضي بين العموم والخصوص] 128 فصل: [في أمور تتعلق بالقضاء]

الصفحة الموضوع 130 الباب السابع: في ولاية المظالم 151 فصل: في توقيعات الناظر في المظالم 155 الباب الثامن: في ولاية النقابة على ذوي الأنساب 160 الباب التاسع: في الولايات على إمامة الصلوات 162 فصل: [في إمامة الصلاة] 172 الباب العاشر: الولاية على الحج 179 الباب الحادي عشر: ولاية الصدقات 181 [زكاة المواشي] 186 [زكاة الثمار] 188 فصل: [في زكاة الزروع] 190 فصل: [زكاة الذهب والفضة] 192 فصل: [زكاة المعادن] 195 فصل: [مصارف الزكاة] 200 الباب الثاني عشر: في قسم الفيء والغنيمة 207 فصل: [أحكام الغنيمة] 211 فصل: [في النهي عن قتل الرهبان] 221 الباب الثالث عشر: في وضع الجزية والخراج 227 فصل: [أحكام الخراج] 241 الباب الرابع عشر: فيما تختلف أحكامه من البلاد 264 الباب الخامس عشر: في إحياء الموات واستخراج المياه 275 الباب السادس عشر: في الحِمَى والأرفاق 283 الباب السابع عشر: في أحكام الإقطاع 297 الباب الثامن عشر: في وضع الديوان وذكر أحكامه 322 الباب التاسع عشر: في أحكام الجرائم 328 الفصل الأول: في حد الزنا. 331 الفصل الثاني: في قطع السرقة. 334 الفصل الثالث: في حد الخمر 335 الفصل الرابع: في حد القذف واللعان 337 الفصل الخامس: في قود الجنايات وعقلها 344 الفصل السادس: في التعزير 349 الباب العشرون: في أحكام الحسبة 375 فهرس المحتويات

§1/1