الأحاديث الواردة في البيوع المنهي عنها

سليمان بن صالح الثنيان

المجلد الأول

المجلد الأول مقدمة ... المقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين: أما بعد. فإن الله عز وجل بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور في جميع شؤون الحياة، فليس ديناً محصوراً في المساجد والزوايا، وإنما دين شامل لكل شيء، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 1. فما توفي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولحق بالرفيق الأعلى إلا وأكمل الله به الدين، وأتم به النعمة، وما من خير إلا ودلّ الأمة عليه. وما من شر إلا حذرها منه. ومن هذا معاملات الناس في بيعهم وشرائهم. فقد بيّن الله عز وجل في كتابه، والرسول صلى الله عليه وسلم في سنته أصول جميع ما يحتاج الناس إليه في معاملاتهم وما يباح منها وما يحرم، فما من معاملة في أي زمان ومكان إلا ولله عز وجل فيها حكم؛ عرفه من عرفه وجهله من جهله. ومن ظنّ أن اقتصاد الناس في هذا الزمان يحتاج إلى قانون وتشريع غير تشريع الله عز وجل، فقد ضلّ ضلالاً مبيناً. ومن زعم أن التشريع الإسلامي في الاقتصاد لا يصلح للتطبيق في البنوك والمصارف والأسواق الحديثة،

الباب الثالث: الأحاديث الواردة في النهي عن بيوع الغرر، وفيه فصول: الفصل الأول: ما ورد في النهي عن بيع الغرر. الفصل الثاني: ما ورد في النهي عن بيع حبل الحبلة، والمضامين والملاقيح. الفصل الثالث: ما ورد في النهي عن بيع الملامسة والمنابذة. الفصل الرابع: ما ورد في النهي عن بيع الحصاة. الفصل الخامس: ما ورد في النهي عن بيع اللبن في الضرع، والصوف على الظهر، والسمن في اللبن. الفصل السادس: ما ورد في النهي عن الثنيا في البيع إلا أن تعلم. الفصل السابع: ما ورد في النهي عن بيع المعاومة والسنين. الفصل الثامن: ما ورد في النهي عن البيع بضربة الغائص، وبيع العبد الآبق. الفصل التاسع: ما ورد في النهي عن بيع عسب الفحل. الفصل العاشر: ما ورد في النهي عن بيع السمك في الماء. الفصل الحادي عشر: ما ورد في النهي عن بيع ما لم يتبين صلاحه. الباب الرابع: الأحاديث الواردة في النهي عن الشروط في البيع، وفيه فصول: الفصل الأول: ما ورد في النهي عن الشروط في البيع، وعن بيع وسلف. الفصل الثاني: ما ورد في النهي عن بيع العربان. الفصل الثالث: ما ورد في النهي عن بيعتين في بيعة.

الباب الخامس: الأحاديث الواردة في النهي عن البيوع الربوية، وفيه فصول: الفصل الأول: ما ورد في النهي عن الربا والتحذير منه. الفصل الثاني: ما ورد في الربا في الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح، وما يقاس عليها. الفصل الثالث: ما ورد في النهي عن المزابنة والمحاقلة. الفصل الرابع: ما ورد في النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة. الفصل الخامس: ما ورد في النهي عن بيع اللحم بالحيوان. الفصل السادس: ما ورد في النهي عن بيع العينة. الباب السادس: الأحاديث الواردة في النهي عما يلحق الضرر والغبن بأحد المتبايعين، أو كان النهي لأمر آخر مما هو خارج عقد البيع، وفيه فصول: الفصل الأول: ما ورد في النهي عن النجش. الفصل الثاني: ما ورد في النهي عن بيع الرجل على بيع أخيه، وسوم الرجل على سوم أخيه. الفصل الثالث: ما ورد في النهي عن الغش في البيع. الفصل الرابع: ما ورد في النهي عن اليمين الكاذبة في البيع. الفصل الخامس: ما ورد في النهي عن التصرية. الفصل السادس: ما ورد في النهي عن بيع الحاضر للباد، وعن تلقي الركبان. الفصل السابع: ما ورد في النهي عن بيع المضطر. الفصل الثامن: ما ورد في النهي عن تفريق الأقارب في البيع. الفصل التاسع: ما ورد في النهي عن البيع في المسجد

وهذا الباب هو آخر أبواب الرسالة في موضوع الأحاديث الواردة في البيوع المنهي عنها، وقد اجتهدت في حصر هذا الموضوع تحت ستة أبواب، والكمال لله، فإن فاتني شيء فأرجو ممن يطلع على هذه الرسالة أن ينبهني عليه، وجزاه الله خيراً. أذكر بعد هذه الأبواب خاتمة أذكر فيها أهم النتائج التي توصلت إليها في هذا البحث. ثم يلي ذلك الفهارس المساعدة. ثانياً: منهجي في جمع وترتيب الأحاديث. قمت بجمع الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقط، ولم أدخل في الرسالة الآثار الموقوفة والمقطوعة، وربما ذكرت أثراً موقوفاً جاء مرفوعاً عند بعض الرواة لأنبه على أنه موقوف وليس مرفوعاً. وأما الكتب التي اعتمدتها في جمع أحاديث الرسالة، فقد التزمت بذكر جميع ما جاء في الكتب الستة، وأما غيرها من دواوين الحديث فإني قد بذلت الجهد في الوقوف عليها من مظانها، وجعلت المتن الواحد إذا كان وارداً عن صحابيين حديثين أخرّج كلاً منهما على حدة، وأضع له رقماً خاصاً في الرسالة. وجعلت لكل حديثٍ رقمين، الرقم الأول هو الرقم العام للحديث في الرسالة، والرقم الثاني بين القوسين هو الرقم الخاص في الفصل الوارد فيه. وفائدة الترقيم الأول معرفة عدد الأحاديث الواردة في الرسالة، وفائدة الترقيم الثاني معرفة عدد الأحاديث الواردة في الفصل. وقد وجدت بعض الأحاديث تشتمل على أكثر من بيع منهي عنه، فذكرت

فقد أعظم على الله الفِرْيَة؛ لأنه قد نسب الله عز وجل إلى الجهل بما يؤول إليه حال الناس - والعياذ بالله -. وهذا الدين لا يقوم بنشره إلا العلماء وطلبة العلم الذين يبينون للناس أحكام دينهم، وينصحون لهم في توجيههم ودعوتهم، ومن ذلك بيان أحكام المعاملات بين الناس في البيع والشراء، وقد ذمّ الله عز وجل الربانيين والأحبار من أهل الكتاب الذين لم ينهوا قومهم عن أكل المال الحرام من الربا والسحت. قال تعالى: {وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} 1 ومن المعلوم أن معرفة أحكام البيوع من فروض الكفايات على المسلمين. فأما من كان يشتغل بالبيع والشراء، فيتعين عليه أن يعلم ما يحتاج إليه في معاملاته حتى لا يقع في الحرام وهو لا يشعر. وإن المتأمل في أسواق المسلمين اليوم ومعاملاتهم يرى كثرة ما يقع فيه الناس من المعاملات المحرّمة، وكثير من هؤلاء يقع فيما يقع فيه نتيجة للجهل بأحكام المعاملات. وقد تقدم أن ما من معاملة إلا وللشرع فيها حكم؛ وبيان ذلك أن الأصل في المعاملات الحلّ إلا ما جاء في الشرع تحريمه - كما سيأتي إن شاء الله -، فعلى ذلك لا تخرج أي معاملة عن أن تكون داخلة في البيوع المنهي عنها، أو تكون مما جاء الدليل بإباحتها، أو مسكوت عنها، فهي مما أباح الله تعالى أيضاً؛ لأنه الأصل في البيوع.

ومما تقدم يتبين أن من أراد أن تكون معاملاته مما أباح الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فعليه أن يتجنب ما جاء في الشرع تحريمه منها. وهذا يكون بالرجوع إلى النصوص الواردة في هذا الموضوع. فانطلاقاً من ذلك كله، ونصحاً للمسلمين استعنت بالله تعالى في جمع الأحاديث الواردة في البيوع المنهي عنها والقيام بدراستها دراسة حديثية فقهية، وتقدمت بهذا الموضوع إلى قسم (فقه السنة ومصادرها) في رسالة التخصص الأولى (الماجستير) ، وقد سميتها: (الأَحادِيثُ الوَارِدَةِ في البُيُوعِ المنْهِيِّ عَنْها) جمع وتخريج ودراسة أسأل الله عز وجل أن ينفعني بها وإخواني المسلمين. أولاً: خطة البحث: جعلت البحث في مقدمة، وتوطئة، وستة أبواب، وخاتمة، ثم الفهارس المساعدة. - أما المقدمة: فأذكر فيها أهمية الموضوع، وسبب اختياره، وخطة البحث. - أما التوطئة: فأذكر فيها تعريف البيع لغة واصطلاحاً، وحكمه في الشرع، والأصل فيه.

- أما أبواب الرسالة الستة فهي: الباب الأول: الأحاديث الواردة في الأعيان المنهي عن بيعها، وفيه فصول: الفصل الأول: ما ورد في النهي عن بيع الميتة والخنزير والأصنام. الفصل الثاني: ما ورد في النهي عن بيع الخمر. الفصل الثالث: ما ورد في النهي عن بيع الدم. الفصل الرابع: ما ورد في النهي عن بيع ما حرم أكله وشربه. الفصل الخامس: ما ورد في النهي عن بيع ما يعلم أن المشتري يستعمل المبيع في الحرام. الفصل السادس: ما ورد في النهي عن بيع الكلب والسنور. الفصل السابع: ما ورد في النهي عن بيع الحر. الفصل الثامن: ما ورد في النهي عن بيع أمهات الأولاد. الفصل التاسع: ما ورد في النهي عن بيع المدبر. الفصل العاشر: ما ورد في النهي عن بيع الولاء. الفصل الحادي عشر: ما ورد في النهي عن بيع القينات. الفصل الثاني عشر: ما ورد في النهي عن بيع رباع مكة. الفصل الثالث عشر: ما ورد في النهي عن إضاعة المال. الباب الثاني: الأحاديث الواردة في النهي عن بيع ما ليس مملوكاً للبائع وقت العقد أو لم يقبضه بعد، وفيه فصول: الفصل الأول: ما ورد في النهي عن بيع ما لم يملك أو لم يقبض. الفصل الثاني: ما ورد في النهي عن بيع الماء والكلأ والنار. الفصل الثالث: ما ورد في النهي عن بيع المغانم قبل أن تقسم، أو بيع الصدقات قبل أن تقبض. الفصل الرابع: ما ورد في النهي عن بيع الكالئ بالكالئ.

الحديث في موضع، وأُشير في نهاية أحاديث فصل الموضع الآخر للحديث باختصار، تحت عنوان: (ومما ورد في هذا الفصل أيضاً) ، ثم أذكر الأحاديث التي تقدمت أو ستأتي مما لها تعلق بهذا الفصل. ونظراً لأن هذه الأحاديث ستذكر أو ذكرت في موضع آخر، فإني وضعت الرقم العام لهذه الأحاديث نقطاً إشارة إلى أن هذه أحاديث مكرره، وأشرت في الحاشية إلى رقم الحديث في الرسالة، ولم أعط له رقماً عاماً. ثالثاً: منهجي في تخريج الأحاديث. قمت بتخريج الأحاديث على قواعد المحدثين، وقد راعيت في التخريج أموراً منها: أ - إذا كان الحديث في الصحيحين، فأخرّج الحديث أيضاً من غيرهما، ولا أكتفي بتخريج الحديث من الصحيحين، كما هو معمول به عند بعض الباحثين، وذلك لأسباب: 1 - إن تخريج الحديث من الصحيحين فقط لا يستفاد منه كون الحديث متواتراً أو مشهوراً أو مستفيضاً، فإن هذه الأمور تحصل بجمع طرق وشواهد الحديث من الصحيحين وخارج الصحيحين. وكذلك فإن الالتقاء القريب في الإسناد أولى من الالتقاء البعيد؛ لأن الالتقاء القريب يعني شهرة الحديث في الآفاق، ولا يحصل هذا إن خرجنا الحديث من الصحيحين فقط. 2 - قد توجد فوائد إسنادية ولفظية في غير الصحيحين، فالاقتصار عليهما تفويت لهذه الفوائد.

3 - وقد رأيت بعض المخرجين القدامى الذين هم قدوة لنا في هذا الباب لم يقتصروا في تخريج الحديث على الصحيحين إن كان في غيرهما؛ ومنهم الحافظ ابن حجر في كثيرٍ من كتبه، كالتلخيص الحبير، ومن المعاصرين الشيخ ناصر الدين الألباني في كتبه؛ كإرواء الغليل وغيره، على أن هناك من المخرجين من اكتفى بالعزو إلى الصحيحين إن كان فيهما أو في أحدهما، ومنهم الحافظ ابن كثير في كتابه تحفة الطالب (انظر: ص100 منه) ، والعراقي في كتابه: طرح التثريب شرح التقريب (انظر: ص18 منه) ، وهؤلاء كلهم قدوة لنا، إلا أني اخترت الطريق الأولى لأسباب ذكرتها. ب - إذا كان الحديث في الكتب الستة، فإني لا ألتزم ذكر من رواه غيرهم إذا لم يكن ثمّت فائدة إسنادية أو متنية. جـ - إن كان مدار إسناد الحديث على راوٍ ما ولو إلى الصحابي، فأبيّن هذا بقولي: رواه فلان وفلان وفلان، كلهم من طرقٍ عن فلان. ولا أقوم بالتخريج عن طريق الطرق إلا إذا كان هناك اختلاف في طرق الحديث في الإسناد أو المتن. د - بعد تحديد مدار الحديث يكون النظر فيمن عليه مدار الحديث ومن فوقه، وأغفل من قبلهم؛ لأنه وإن كان الضعف في أحدهم فالآخرون يقوونه كما هو المعروف في المتابعات، هذا إذا لم تكن جميع المتابعات ضعيفة جداً، وإلا فيكون التخريج عن طريق الطرق كما تقدم.

هـ - تقدم في النقطة السابقة أن النظر يكون فيمن عليهم مدار الحديث، فإن كان فيهم من تكلم فيه أئمة الجرح والتعديل بالضعف أو التدليس أو الاختلاط أو نحو ذلك، ذكرت ذلك بالرجوع إلى أقوال الأئمة المتقدمين في ذلك، وأعقبه بذكر حكم الحافظ ابن حجر، وإن رأيت فيه مخالفة لأقوالهم بينت ذلك. وأما الرواة الثقات ولا سيما الأثبات المشهورين، فإني لا أترجم لهم إلا نادراً وأكتفي بالكلام فيمن يحتاج إلى كلام، أو يكون ذكر في الإسناد بكنية أو لقب، فأذكر اسمه كاملاً للتعريف به. و اجتهدت في الوقوف على كلام المتقدمين على الحديث المراد تخريجه، فإن كان موافقاً للحكم الذي توصلت إليه فيكون مقوياً له، وإن كان مخالفاً ناقشته. ز - فيما يتعلق بكلام العلماء في الراوي جرحاً أو تعديلاً، أعتمد في ذلك على تهذيب التهذيب إن كان من رجاله، وإذا كان هناك حاجة للرجوع إلى المصادر المتقدمة التي نقل منها صاحب التهذيب فعلت ذلك، وإلا اكتفيت بالتهذيب. ح - في تخريجي للأحاديث والحكم عليها استفدت من مناهج العلماء المعاصرين في تخريج الأحاديث، وهذا في نظري أولى وأفضل من نقل أقوالهم تصحيحاً وتضعيفاً، فإن هذا يحصل بالرجوع إلى أقوال العلماء المتقدمين ودراسة أقوالهم على ضوء قواعد الجرح والتعديل، وعدم نقلي لأقوال العلماء المعاصرين في الحكم على الحديث لا يعني أني لا أعتبر بأقوالهم ولا أستفيد من علمهم، ولكن الأمر هو ما ذكرت.

رابعاً: منهجي في الدراسة الفقهية. في آخر كل فصلٍ من فصول الدراسة وبعد تخريج الأحاديث الواردة فيه، أذكر الدراسة الفقهية لأحاديث هذا الفصل، وقد راعيت في هذه الدراسة ما يلي: 1 - قمت بكتابة الدراسة الفقهية على طريقة المحدثين، وذلك أني أذكر ما يستفاد من أحاديث الفصل فيما يتعلق بموضوع الباب، ومن قال بذلك، ومن خالفه، فأذكر بعض أدلته مع مناقشتها باختصار. ولم أعتمد على طريقة الفقهاء والتي تهتم بذكر التفريعات الكثيرة للمسألة الواحدة. 2 - أقوم في الدراسة الفقهية بالتعريف بصورة البيع المنهي عنه، وذكر أقوال العلماء في ذلك. 3 - إذا كان هناك خلاف في مسألة من المسائل الواردة في الدراسة الفقهية، فإني أذكر هذا الخلاف باختصار، وأذكر أشهر الأقوال الواردة فيه، مع ذكر الأدلة لكل قول باختصار أيضاً، ثم الترجيح بالدليل. 4 - أشرت أحياناً إلى بعض البيوع المعاصرة والتي تلتحق بالبيوع المنهي عنها. 5 - اعتنيت في الدراسة الفقهية بذكر الحكمة في النهي عن البيع الوارد في الفصل. 6 - حاولت نقل أقوال الفقهاء من أصولهم في كل مذهب، ولم أنقل من الكتب الفرعية إلا الفوائد العلمية.

وفي آخر الرسالة ذكرت خاتمة بينت فيها أهم النتائج التي توصلت إليها في بحثي هذا، ثم أردفت ذلك بالفهارس المساعدة، وقد عملت فهرساً للآيات، وفهرساً للأحاديث، وفهرساً للرواة الذين لهم ترجمة داخل الرسالة، وفهرساً للألفاظ الغريبة المعرف بها داخل الرسالة، ثم فهرساً للمراجع والمصادر، وفي النهاية فهرساً للموضوعات. هذا وفي الختام أسأل الله عز وجل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه، وأن يتقبله مني بقبول حسن، وينفعني به وإخواني المسلمين. وأسأل الله جل وعلا أن يغفر لوالدي الكريمين، ويرحمهما، إنه هو الغفور الرحيم، وأسأله جل وعلى أن يعلي درجتهما، ويجعلهما من أهل الفردوس الأعلى، وأن يحرم وجوهما على النار، وجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين. وأتقدم بالشكر والعرفان لمشرفي وشيخي، فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور / محمد ضياء الرحمن الأعظمي، الذي كان له الفضل بعد الله عز وجل في توجيهي وإفادتي وإرشادي طيلة إشرافه على هذه الرسالة، وكان لمتابعته المتواصلة لي والملاحظات والتوجيهات السديدة في هذه الرسالة ولا سيما في تخريج الأحاديث والمنهجية الصحيحة فيه أعظم الأثر عليّ. فأسأل الله تعالى أن يجزي الشيخ خير الجزاء وأن يوفقه لما وفق له عباده المقربين، إنه سميع مجيب. كما أشكر هذه الجامعة المباركة والتي كان لها الفضل بعد الله تعالى عليّ وعلى إخواني من طلبة العلم في هذه الجامعة في الأخذ بأيدينا إلى طريق العلم الصحيح والسبيل القويم.

وأشكر مشايخي الأفاضل الذين تلقيت عنهم العلم في هذه الجامعة المباركة. كما أشكر كل من قدم لي معروفاً في هذه الرسالة من إعارة كتاب، أو إسداء نصيحة، أو مشورة، أو غير ذلك. والله أسأل أن يجعلنا من أنصار دينه الذابّين عن سنته الداعين إليه إنه سميع مجيب، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

الباب الأول: الأحاديث الواردة في الأعيان المنهي عن بيعها

الباب الأول: الأحاديث الواردة في الأعيان المنهي عن بيعها الفصل الأول: ما ورد في النهي عن بيع الميتة والخنزير والأصنام ... توطئة البيع لغة: مصدر بعتُ. وهو ضد الشراء. وقد يأتي بمعنى الشراء، فيكون من الأضداد1. وفي الشرع: مبادلة المال المتقوم بالمال المتقوم تمليكاً وتملّكاً2. والبيع جائز بالكتاب والسنة والإجماع: - أما الكتاب، فقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْع} 3. - وأما من السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم باع واشترى، وأقرّ المسلمين على بياعاتهم، إلا بيوعاً نهاهم عنها. - وقد أجمع المسلمون على جواز البيع في الجملة4. - والحكمة تقتضيه؛ لأن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه، وصاحبه لا يبذله بغير عوض. ففي شرع البيع وتجويزه شرع طريقٍ إلى وصول كل واحدٍ منهما إلى غرضه ودفع حاجته5. وأما الأصل في البيع فهو الحل، لقول الله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} 6.قال الشافعي - رحمه الله -: " أصل البيوع كلها مباح إذا كانت برضا المتبايعين الجائزي الأمر فيما تبايعا، إلا ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وما كان في معنى ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم محرم بإذنه داخل في المنهي عنه، وما فارق ذلك أبحناه "1.

_ 1 لسان العرب (8/23) ، مادة (بيع) ، المطلع على أبواب المقنع (ص227) . 2 التعريفات (ص48) . 3 سورة البقرة، آية (275) . 4 المغني (4/4) . 5 المرجع السابق. 6 تقدم تخريجها قريباً.

الفصل الأول ما ورد في النهي عن بيع الميتة والخنزير والأصنام 1 - (1) عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بمكة عام الفتح: " إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام". فقيل: يا رسول الله؛ أرأيت شحوم الميتة؛ فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: " لا، هو حرام". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: " قاتل الله اليهود؛ إن الله لما حرم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه". أخرجه البخاري1 واللفظ له، ومسلم2، وأبو داود3، والترمذي4، والنسائي5، وابن ماجه6، وأحمد7، كلهم من طرق عن يزيد بن أبي حبيب المصري عن عطاء بن أبي رباح عنه به. قال الترمذي: حسن صحيح. وجاء في رواية لمسلم وأبي داود وأحمد8: يزيد بن أبي حبيب أن عطاء كتب يذكر أنه سمع جابر بن عبد الله … الحديث.

وهذه الرواية أخرجها أيضًا البخاري تعليقًا1. وجاء في رواية أخرى لأحمد2، وهي رواية ابن ماجه: يزيد بن أبي حبيب قال: قال عطاء بن أبي رباح. فهذه الروايات فيها أن يزيد لم يسمع هذا الحديث من عطاء، والرواية الثانية لأحمد وابن ماجه محتملة. وقد صرح بعدم السماع أبو حاتم الرازي عندما سئل عن هذا الحديث فقال: يزيد بن أبي حبيب عن عطاء هو من حديث محمد بن إسحاق عن عطاء عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أعلم يزيد بن أبي حبيب سمع من عطاء شيئًا3. إلا أن الروايات التي جاء التصريح فيها بأن عطاء قد كتب بهذا الحديث إلى يزيد تنفي الواسطة بينهما، فهو وإن لم يثبت أنه سمع منه هذا الحديث، إلا أنه قد كتب به إليه، والكتابة من طرق التحمل الصحيحة عند جمهور المحدثين، وعليها العمل عندهم بشروطها4، ومن هؤلاء المحدثين الإمام البخاري، وتخريجه لهذا الحديث يدل على ذلك، وقد بوب في صحيحه بابًا في الاحتجاج بالكتابة، فقال: باب ما يذكر في المناولة وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان5. وللحديث طريق أخرى أخرجها أحمد6، والطبراني في الأوسط7 عن ابن لهيعة: ثنا جعفر بن ربيعة عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن

عبد الله قال: " لما كان يوم فتح مكة اهراق رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمر وكسر جراره، ونهى عن بيعه وبيع الأصنام". وفي إسناده ابن لهيعة، وهو عبد الله بن لهيعة بن عقبة الحضرمي المصري. كان يحيى بن سعيد لا يراه شيئًا. وقال ابن مهدي: لا أحمل عنه قليلاً ولا كثيرًا. وقال أيضًا: لا أعتد بشيء سمعته من حديث ابن لهيعة إلا سماع ابن المبارك ونحوه. وقال أحمد: ما حديث ابن لهيعة بحجة، وإني لأكتب كثيرًا مما أكتب أعتبر به، وهو يقوي بعضه ببعض. وقال أيضًا: من كان مثل ابن لهيعة بمصر في كثرة حديثه وضبطه وإتقانه. وأثنى عليه أيضًا ابن وهب، وأحمد بن صالح وغيرهما. وقد بين أحمد بن صالح أن الضعف في حديثه ليس من قبله، وإنما من قبل الرواة عنه. وقال عبد الغني بن سعيد الأزدي: إذا روى العبادلة عن ابن لهيعة فهو صحيح، ابن المبارك، وابن وهب، والمقري. وقال ابن معين: كان ضعيفًا لا يحتج بحديثه؛ كان من شاء يقول له: " حدثنا". وضعفه أيضًا أبو حاتم وأبو زرعة، وقالا: أمره مضطرب، يكتب الحديث على الاعتبار. قال ابن أبي حاتم: قلت لأبي: إذا كان من يروي عن ابن لهيعة مثل ابن المبارك، فابن لهيعة يحتج به؟ قال: لا.

وضعفه أيضًا ابن سعد، وأبو أحمد الحاكم، ووصفه ابن حبان بالتدليس، وذكر أنه هو السبب في وقوع المناكير في حديثه. وقد عزى قوم ضعفه إلى احتراق كتبه، ومن هؤلاء: إسحاق بن عيسى، ويحيى بن بكير، والحاكم وغيرهم. وأنكره ابن أبي مريم وغيره1. وقد خلص فيه الذهبي إلى أنه ضعيف؛ لاختلاطه بعد احتراق كتبه2. وخلص فيه ابن حجر إلى أنه " صدوق خلط بعد احتراق كتبه، ورواية ابن المبارك وابن وهب عنه أعدل من غيرهما"3. والذي يظهر لي مما سبق من أقوال العلماء أنه ضعيف يعتبر به. ورواية العبادلة عنه أقوى من غيرها، ولكنها مع ذلك فيها ضعف. والله أعلم. وقد تفرد عبد الله بن لهيعة بالرواية عن جعفر بن ربيعة لهذا الحديث كما قال الطبراني4، إلا أنه مع ذلك تصلح هذه الطريق للمتابعة. والله أعلم. - قوله: " إن الله ورسوله حرم" أسند الفعل إلى ضمير الواحد، وهو هنا جائز، ووجهه الإشارة إلى أمر النبي صلى الله عليه وسلم ناشئ من أمر الله، قاله ابن حجر - رحمه الله -. قال: وهو نحو قوله: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} ، وقد جاء في بعض طرق الحديث في الصحيح " إن الله حرم"، وفي رواية لابن مردويه " إن الله ورسوله حرما"5.

- قوله: " فإنه يطلى بها السفن" الطلي هو لطخ الشيء بالشيء1. - قوله: " ويستصبح بها الناس" أي يشعلون بها سرجهم2. - قوله: " لا، هو حرام" اختلف في هذا التحريم؛ هل هو للبيع فقط، أم للانتفاع مطلقًا. ورجح الحافظ ابن حجر3 - رحمه الله - أن يكون عائدًا إلى البيع. قال الحافظ: " هكذا فسره العلماء؛ كالشافعي ومن اتبعه"، وقال: " ويؤيد أن التحريم يعود إلى البيع ما جاء في رواية لأحمد لهذا الحديث فيها أن رجلاً قال: يا رسول الله؛ فما ترى في بيع شحوم الميتة؟ ". ويؤيده أيضًا ما أخرجه أبو داود من وجه آخر عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال وهو عند الركن: " قاتل الله اليهود؛ إن الله حرم عليهم الشحوم، فباعوها وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه"4. والمعنى أن الصحابة رضي الله عنه سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن شحوم الميتة، - وقد كان مقررًا عندهم أنه يحرم أكل الميتة وأجزائها - إلا أنهم سألوا عن حكم بيعها أو بعضها، لا ما فيه من المنافع؛ ظنًا منهم أن الميتة إنما يحرم أكلها، وأما بيعها أو أجزاء منها فلا يحرم، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وذكر لهم أن هذا من جنس احتيال

اليهود لما حرم الله عليهم الشحوم أذابوها ثم باعوها، والله سبحانه إذا حرم أكل شيء حرم ثمنه. - قوله: " إن الله لما حرم شحومها" يشير قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ …} الآية1. - قوله: " جملوه" جاء في بعض الروايات " أجملوه". قال ابن الأثير: جملت الشحم وأجملته: إذا أذبته واستخرجت دهنه، وجملت أفصح من أجملت2. قال البغوي: فيه دليل على بطلان كل حيلة يحتال بها للتوصل إلى المحرم، وإنه لا يتغير حكمه بتغيير هيئته وتبديل اسمه3. 2 - (2) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله حرم الخمر وثمنها، وحرم الميتة وثمنها، وحرم الخنزير وثمنه". أخرجه أبو داود4، وهذا لفظه، ومن طريقه الدارقطني5، والبيهقي6. وأخرجه الطبراني في الأوسط7، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية8.

وأخرجه ابن عدي في الكامل1 عند ترجمة معاوية بن صالح. كلهم من طرق عن ابن وهب عن معاوية بن صالح، عن عبد الوهاب بن بخت، عن أبي الزناد، عن الأعرج عنه به. وقال الطبراني: لم يروه عن أبي الزناد إلا عبد الوهاب بن بخت، ولا عن عبد الوهاب إلا معاوية بن صالح. تفرد به ابن وهب. وابن وهب: هو الإمام المشهور الثبت عبد الله بن وهب المصري، وأما معاوية بن صالح فهو ابن حُدَير الحضرمي، وهو مختلف فيه، فوثقه ابن مهدي، وأحمد وأبو زرعة وغيرهم. وتكلم فيه يحيى القطان، وابن معين في رواية، وغيرهما2. وقد احتج به مسلم في صحيح3. وقال الحافظ الذهبي: صدوق إمام4. ورمز له في الميزان بـ (صح) 5، وهو يرمز بهذا الرمز لمن كان العمل على توثيقه6. وقال الحافظ ابن حجر: صدوق له أوهام7. وعند النظر إلى أقوال أئمة الجرح والتعديل نجد أن قول الحافظ الذهبي أقرب من قول الحافظ ابن حجر؛ لكون أكثر الأئمة على توثيقه.

وأما عبد الوهاب بن بُخت فقال فيه الحافظ ابن حجر: ثقة1. فعلى هذا، فهذا الإسناد حسن , وله شواهد؛ كحديث جابر رضي الله عنه المتقدم وغيره تجعل الحديث صحيحًا لغيره. والله أعلم. 3 - (3) عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح وهو بمكة يقول: " إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير"، فقيل: يا رسول الله؛ أرأيت شحوم الميتة؛ فإنه يدهن بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: " لا، هو حرام". ثم قال: " قاتل الله اليهود؛ إن الله لما حرم عليهم الشحوم جملوها، ثم باعوها وأكلوا أثمانها". رواه أحمد2، وهذا لفظه، والبيهقي3. كلاهما من طرق عن أسامة بن زيد الليثي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده به. وزاد البيهقي " والأصنام" عند قوله " إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير". وأسامة بن زيد مختلف فيه؛ فوثقه ابن معين، والعجلي، وابن عدي وغيرهم. وضعفه القطان، وأحمد، والنسائي وغيرهم4. قال الحافظان الذهبي5 وابن حجر6: صدوق يهم.

وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده الخلاف فيه مشهور، وقد رجح الحافظ الذهبي أنه من باب الحديث الحسن1؛ لأن عمرو صدوق2، فيبقى أن في الإسناد أسامة بن زيد، وهو متكلم فيه كما سبق، ولكن للحديث شاهد من حديث جابر بن عبد الله3 - رضي الله عنهما - فيكون به حسنًا لغيره. والله أعلم. 4 - (4) عن عاصم بن ضمرة قال: أتي علي بدابة عليها سرج عليه خز، فقال: "نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ركوب عليها، وعن جلوس عليها، وعن جلود النمور عن ركوب عليها، وعن جلوس عليها، وعن الغنائم أن تباع حتى تخمس، وعن حبالى سبايا العدو أن يوطين، وعن الحمر الأهلية، وعن أكل ذي ناب من السباع، وأكل ذي مخلب من الطير، وعن ثمن الخمر، وعن ثمن الميتة، وعن عسب الفحل، وعن ثمن الكلب". جاء هذا الحديث من ثلاث طرق: الطريق الأولى: أخرجها عبد الرزاق قال: أخبرنا عباد بن كثير البصري عن رجل أحسبه خالد عن حبيب بن أبي ثابت عن عاصم بن ضمرة به باللفظ السابق4. وعباد بن كثير البصري كان من العباد، إلا أنه متروك الحديث كما قاله البخاري، والعجلي، والنسائي وغيرهم5.

وجعله ابن حجر في مرتبة: متروك1. وقوله " أحسبه خالد" لعل الصواب أنه عمرو بن خالد كما سيأتي، فإن عباد بن كثير معروف بالرواية عنه2. وعمرو بن خالد هذا هو القرشي مولاهم الواسطي. قال فيه ابن معين، وأحمد، وأبو داود: كذاب. وقال وكيع، وإسحاق، وأبو زرعة: يضع الحديث3. وأما حبيب بن أبي ثابت فقد قال فيه الحافظ ابن حجر: ثقة فقيه جليل، وكان كثير الإرسال والتدليس4. وأما عاصم بن ضمرة، فوثقه ابن المديني، والعجلي. وقال فيه النسائي: ليس به بأس. وضعفه الجوزجاني، وابن عدي، وابن حبان5. وجعله ابن حجر في مرتبة: صدوق6. فعلى هذا فإن الحديث من هذه الطريق ضعيف جدًا؛ لحال عباد بن كثير. وإن صح احتمال وجود عمرو بن خالد في إسناده فيكون موضوعًا.

الطريق الثانية: أخرجها عبد الرزاق1، والطحاوي2 عن ابن جريج قال: أخبرت عن حبيب بن أبي ثابت، عن عاصم بن ضمرة مثله. والطحاوي أخرجه مختصرًا، وليس فيه محل الشاهد، والإسناد عنده: ابن جريج، عن حبيب بن أبي ثابت به. والإسناد كما هو ظاهر فيه انقطاع بين ابن جريج، وحبيب بن أبي ثابت. وقد قال الإمام أحمد: إذا قال ابن جريج: قال فلان، وقال فلان، وأخبرت جاء بمناكير3. وقال أبو داود: ليس لحبيب عن عاصم شيءٌ يصح4. وقد تقدم، وسيأتي أيضًا أن المعروف برواية هذا الحديث عن حبيب بن أبي ثابت هو عمرو بن خالد الواسطي، وقد تقدم بيان حاله. فعلى هذا فإن هذه الطريق لا يعتبر بها؛ لتدليس ابن جريج. الطريق الثالثة: أخرجها أبو يعلى الموصلي5، وعبد الله بن أحمد في زوائده على المسند6، وابن عدي7، والعقيلي8، والحاكم في

معرفة علوم الحديث1. ومن طرق عن عبد الصمد بن عبد الوارث حدثني أبي، حدثنا الحسن بن ذكوان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عاصم بن ضمرة به. ولفظ أبي يعلى: " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، وعن ثمن الميتة، وعن ثمن الخمر، والحمر الأهلية، وكسب البغي، وعن عسب كل ذي فحل ". وهو عند عبد الله بن أحمد مختصر، فليس فيه النهي عن بيع الخمر. قال ابن عدي: هذا الحديث يرويه الحسن بن ذكوان عن عمرو بن خالد، وعمرو متروك الحديث، ويسقطه الحسن بن ذكوان من الإسناد لضعفه. وقال الحاكم بعد أن روى الحديث: " قال أبو عبد الله محمد بن نصر: وهذا حديث لم يسمعه الحسن بن ذكوان من حبيب بن أبي ثابت، وذلك أن محمد بن يحيى حدثنا قال: ثنا أبو معمر قال: حدثني عبد الوارث، عن الحسن بن ذكوان، عن عمرو بن خالد، عن حبيب بن أبي ثابت. وعمرو هذا منكر الحديث، فدلسه الحسن عنه". وقد جعل الحافظ ابن حجر الحسن بن ذكوان في المرتبة الثالثة من المدلسين2. وقد صرح الأئمة كما سبق أن الساقط هو عمرو بن خالد الواسطي.

قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: ما تقول في الحسن بن ذكوان، فقال: أحاديثه بواطيل؛ يروي عن حبيب بن أبي ثابت، ولم يسمع من حبيب، إنما هذه أحاديث عمرو بن خالد الواسطي1. ونحوه قال ابن معين وأبو داود2. وقد سبق ذكر أقوال أئمة الجرح والتعديل في عمرو بن خالد الواسطي. وقد حكم أبو حاتم - رحمه الله - على هذا الإسناد بالوضع، فقال: روى عمرو بن خالد، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عاصم بن ضمرة، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث موضوعة؛ خمسة أو ستة3. قال الهيثمي عقب إيراده للحديث: رجاله ثقات4. وهذا الحكم منه بناء على ظاهر الإسناد، وقد تقدم أن الإسناد فيه عله، وهي التدليس. فمما سبق يتبين أن هذا الحديث لا يصح عن علي رضي الله عنه، بل هو موضوع. والله أعلم.

5 - (5) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال: " إن الله ورسوله حرم عليكم شرب الخمر وثمنها، وحرم عليكم أكل الميتة وثمنها، وحرم عليكم الخنازير وأكلها وثمنها، وقال: قصوا الشوارب وأعفوا اللحى، ولا تمشوا في الأسواق إلا وعليكم الأزر، إنه ليس منا من عمل سنة غيرنا". أخرجه الطبراني في الأوسط1، والكبير2. من طريق الحسن بن حماد، ثنا أبو يحيى الحماني، عن يوسف بن ميمون، عن عطاء عنه به. قال الطبراني في الأوسط - وقد ذكر حديثًا بعد هذا الحديث بهذا الإسناد - قال: لم يرو هذين الحديثين عن عطاء إلا يوسف بن ميمون، ولا عن يوسف إلا أبو يحيى الحماني، تفرد به الحسن بن حماد الوراق. وقال الهيثمي: فيه يوسف بن ميمون؛ وثقه ابن حبان، وضعفه الأئمة أحمد وغيره3. ويوسف بن ميمون هو الصباغ، قال فيه أحمد: ضعيف ليس بشيء. وقال أبو زرعة: واهي الحديث. وقال البخاري وأبو حاتم: منكر الحديث جدًا. وقال ابن عدي: ما به بأس4.

وقد شذ ابن عدي في توثيقه له. وأما قول الهيثمي: وثقه ابن حبان. وكذلك قول الذهبي: ضعفوه. فلا عبرة بذكر ابن حبان له في الثقات1، فإن قولهما - أي الهيثمي والذهبي - فيه نظر؛ لأن ابن حبان إنما ذكر في الثقات يوسف بن ميمون القرشي2، وأما يوسف بن ميمون الصباغ، فذكره في المجروحين، وقال: فاحش الخطأ كثير الوهم، يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات، فلما فحش ذلك منه في روايته بطل الاحتجاج به3. فهذا قوله فيه، وهو موافق لرأي أكثر الأئمة الذين سبق ذكر أقوالهم. وممن فرق بين يوسف بن ميمون القرشي والصباغ؛ البخاري4 وابن أبي حاتم5. وقد جعل الحافظ يوسف بن ميمون الصباغ في مرتبة " ضعيف"6. فمما سبق يتبين أن هذا الطريق ضعيف جدًا؛ لشدة ضعف يوسف بن ميمون الصباغ. وفي هذا الإسناد علة أخرى، وهي النكارة. وذلك أن يوسف بن ميمون قد خالف يزيد بن أبي حبيب. فقد رواه يزيد عن عطاء، عن جابر بن عبد الله كما سبق في الحديث الأول، وهو المعروف. والله أعلم.

دلالة الأحاديث السابقة: يستفاد مما تقدم من الأحاديث الثابتة تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. أما الخمر فسوف يأتي الكلام فيه في الفصل الآتي - إن شاء الله تعالى -. وأما الميتة: فهي ما مات حتف أنفه، أو قتل على هيئة غير مشروعة؛ إما في الفاعل أو في المفعول، فما ذبح للصنم، أو في حال الإحرام، أو لم يقطع منه الحلقوم ميته، وكذا ذبح ما لا يؤكل لا يفيد الحل، ويستثنى من الميتة للحل ما فيه نص1؛ وهو الجراد والحوت. وهذا التعريف فيما كان مفتقرًا إلى ذكاة، وأما ما ليس كذلك؛ كالصيد فهو حلال ولو لم يذكى. وقد أجمع العلماء على تحريم بيع الميتة2؛ من لحم وشحم وعصب، وأما الجلد فإنه إذا دبغ يباح بيعه؛ لحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بشاة ميتة، فقال: " هلا استمتعتم بإهابها؟ قالوا: إنها ميتة. قال: إنما حرم أكلها"3. وهذا الحديث ليس فيه ذكر الدباغ، إلا أن هناك أدلة أخرى تقيده بالدباغ؛ كحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا دبغ الإهاب فقد طهر" 4.

وقد ذهب الزهري والليث إلى جواز بيع جلد الميتة حتى قبل الدباغ1، ودليل الزهري هو حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - المتقدم: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة بشاة ميتة …" الحديث. فليس فيه اشتراط الدباغ للانتفاع به. إلا أن هذا الحديث الذي استدل به مطلق، يقيده حديث: " إذا دبغ الإهاب فقد طهر". ومذهب مالك في المشهور عنه2، وأحمد في رواية3 المنع من بيع جلود الميتة حتى لو دبغت، لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 4، والجلد من الميتة فهو نجس. ويرى المالكية أن الدباغ لا يطهر جلد الميتة طهارة كاملة، وإنما يبيح الانتفاع به في الأشياء اليابسة فقط5. واستدل أحمد بحديث عبد الله بن عكيم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى جهينة قبل موته بشهر: " ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب"6.

........................................................................................................

وتكلم في حديث: " إذا دبغ الإهاب فقد طهر"، وأعله بعبد الرحمن بن وعله1. أما الاستدلال بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} ، فهي آية عامة، وقد جاءت السنة فخصصت الجلد المدبوغ بجواز الانتفاع به وبيعه2. وأما قولهم: " الدباغ لا يطهر الجلد طهارة كاملة" فمعارض لقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا دبغ الإهاب فقد طهر"، ولا دليل يصرف هذه الطهارة عن الطهارة الكاملة. أما حديث عبد الله بن عكيم، فأجاب عنه بعض العلماء بتضعيفه3، وأولى من هذا الجواب أن يقال: إن الإهاب الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الانتفاع به في حديث عبد الله بن عكيم هو الجلد ما لم يدبغ، فإذا دبغ لا يقال له إهاب، هكذا قال النضر بن شميل، وهو من أئمة اللغة4، فلا معارضة بين حديث ابن عكيم وحديث " إذا دبغ الإهاب فقد طهر"؛ لكون الأول فيما إذا كان الجلد قبل الدباغ، والثاني فيما دبغ5. وأما عبد الرحمن بن وعلة، فقد وثقه ابن معين، والعجلي، والنسائي6، وابن عبد البر7.

وأيضًا فللحديث شواهد من حديث عائشة1، وابن عمر2، وغيرهما - رضي الله عنهم أجمعين -. إذا ترجح أن جلد الميتة يباح بيعه إذا دبغ، فإنه يشترط أيضًا أن يكون الجلد من حيوان مأكول اللحم، فلا يباح بيع جلود السباع ونحوها مما لا يحل أكله، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: " دباغ الأديم ذكاته" 3، فأقيم

الدباغ مقام الذكاة، والذكاة إنما تعمل في الحيوان مأكول اللحم. فكذلك يجب أن يكون الدباغ لا يعمل إلا في مأكول اللحم1. وأيضًا فقد وردت أحاديث تنهى عن الانتفاع بجلود السباع، ومن هذه الأحاديث: 1 - حديث معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تركبوا الخز ولا النمار"2. 2 - حديث خالد بن معدان قال: وفد المقدام بن معدي كرب على معاوية فقال: " أنشدك بالله؛ هل تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبوس جلد السباع والركوب عليها؟ قال: نعم" 3. 3 - وحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تصحب الملائكة رفقة فيها جلد نمر"4.

4 - وحديث أبي المليح بن أسامة بن عمير عن أبيه رضي الله عنهأن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نهى عن جلود السباع"1. 5 - وحديث أبي ريحانة رضي الله عنه: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم عشرة: الوشر، والوشم، والنتف، ومكامعة2 الرجل للرجل ليس بينهما ثوب، ومكامعة المرأة بالمرأة ليس بينهما ثوب، وخطي الحرير على أسفل، وخطي الحرير على العاتقين، والنمر - يعني جلد النمر - والنهبة، والخاتم إلا لذي سلطان"3.

وهذه الأحاديث وإن كان في بعضها مقال، إلا أنها بمجموعها تصلح للاحتجاج بها. وممن قال بجواز بيع جلود الميتة إذا دبغت إذا كانت من حيوان مأكول اللحم في حال الحياة الأوزاعي، وابن المبارك، وإسحاق، وأبو ثور1، وأحمد في رواية اختارها القاضي2، وابن قدامة3، وابن تيمية4، وغيرهم. وقال أبو حنيفة5، والشافعي في الجديد6: يباح بيع جلد الميتة مطلقًا إذا دبغ، إلا الخنزير، واستثنى الشافعي أيضًا الكلب وما تولد عنهما. وهذا القول رواية عن أحمد7. ودليل هذا القول قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا دبغ الإهاب فقد طهر" 8. وأما استثناء الكلب والخنزير فلأنهما نجسان قبل موتهما9. وهذا القول يجب أن يقيد بالأحاديث الواردة في النهي عن جلود السباع التي قد سبق ذكرها. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " دباغ الأديم ذكاته"، وقد سبق بيان وجه الاستشهاد به على أن الدباغ خاص لجلد ما يؤكل لحمه.

هذا فيما يتعلق بجلد الميتة، وكلام العلماء فيه. أما شعر الميتة وصوفها، فجمهور العلماء على أنه طاهر يجوز بيعه1، لأنه لا تحل فيه الحياة الحيوانية، ومنع الشافعي من ذلك2. والراجح هو قول الجمهور، وقد بين ابن القيم ضعف قول الشافعي هنا3. أما عظم الميتة، فمنع بيعه جمهور العلماء4، وأجاز بيعه أبو حنيفة5، وأحمد في رواية6. والراجح هو قول الجمهور؛ لأن عظم الميتة منها، فهو داخل في قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله حرم بيع الخمر والميتة …" الحديث. وليس من دليل قائم يدل على إخراج العظم من هذا الحكم. وقد أخذ بعض العلماء من النهي عن بيع الميتة النهي عن بيع كل نجس. قال الخطابي: فيه دليل على فساد بيع السرقين7، وبيع كل شيء نجس العين8. وقال البغوي: في تحريم الخمر والميتة دليل على تحريم بيع الأعيان النجسة وإن كان منتفعًا بها في أحوال الضرورة9.

ويجب التنبيه هنا إلى أنه وإن حرم بيع الميتة وما يقاس عليها من الأعيان النجسة، فهذا التحريم لا يتعدى إلى الانتفاع بها؛ فالميتة مثلاً وإن حرم بيعها، فإنه يجوز الانتفاع بها بإطعامها للبزاة والصقور ونحوها، وأيضًا الزيت النجس وإن حرم بيعه، فإنه يجوز الانتفاع به في الاستصباح ونحوه. وهكذا السرقين النجس، فإنه وإن حرم بيعه، فإنه يجوز الانتفاع به في عمارة الأرض للزرع والثمر عند جمهور العلماء1، وهكذا. فإن قيل: كيف يباح الانتفاع بالشيء ويحرم بيعه؟ فالجواب: أنه لا يلزم من إباحة الانتفاع إباحة البيع. فالصحابة رضي الله عنه لما سمعوا بالنهي عن بيع الميتة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع شحومها، وذلك لما فيها من المنافع، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع شحومها، ولم ينههم عن الانتفاع بها. قال الشافعي في كلامه على الانتفاع بالزيت النجس: " ويستصبح به، فإن قيل: كيف ينتفع به ولا يبيعه؟ قيل: قد ينتفع المضطر بالميتة ولا يبيعها، وينتفع بالطعام في دار الحرب ولا يبيعه في تلك الحال، قال: وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، وأباح الانتفاع به في بعض الأحوال، فغير مستنكر أن ينتفع الرجل بالزيت ولا يبيعه في هذه الحال"2. وقال ابن القيم: " ينبغي أن يعلم أن باب الانتفاع أوسع من باب البيع، فليس كل ما حرم بيعه حرم الانتفاع به، بلا لا تلازم بينهما، فلا يؤخذ تحريم الانتفاع من تحريم البيع"3. وأما الخنزير فهو مجمع على تحريم بيعه أيضًا4؛ وذلك لنجاسته.

قال ابن القيم: تحريم بيع الخنزير يتناول جملته، وجميع أجزائه الظاهرة والباطنة1. وهل يقاس على الخنزير كل ما لا نفع فيه مباح من الحيوانات؟ قال البغوي في ذلك: تحريم بيع الخنزير دليل على أن ما لا ينتفع به من الحيوانات لا يجوز بيعها، مثل الأسد، والقرد، والدب، والحية، والعقرب، والفأرة، والحدأة، والرخمة، والنسر، وحشرات الأرض ونحوها2. وأما ما لا نفع فيه مطلقًا فسوف يأتي ذكر النهي عن بيعه في فصل النهي عن إضاعة المال - إن شاء الله تعالى -. وأما الأصنام فهي جمع صنم، وهو ما عبد من دون الله، وكان مصورًا على صورة ما. فإن لم يكن مصورًا فهو وثن3. وحرم بيع الأصنام حتى لا تنتشر في المجتمع الإسلامي، فتكون سببًا لوقوع الناس في الشرك بالله، واتخاذها آلهة من دون الله. قال ابن القيم: وأما تحريم بيع الأصنام فيستفاد منه تحريم بيع كل آلة متخذة للشرك على أي وجه كانت، ومن أي نوع كانت؛ صنمًا أو وثنًا، أو صليبًا، وكذلك الكتب المشتملة على الشرك، وعلى عبادة غير الله، فهذه كلها يجب إزالتها وإعدامها. وبيعها ذريعة إلى اقتنائها واتخاذها، فهو أولى بتحريم البيع من كل ما عداها، فإن مفسدة بيعها بحسب مفسدتها في نفسها4.

_ 1 زاد المعاد (5/761) . 2 شرح السنة (8/28) . 3 انظر: لسان العرب (12/349) . 4 زاد المعاد (5/761) .

الفصل الثاني: ما ورد في النهي عن بيع الخمر

الفصل الثاني ما ورد في النهي عن بيع الخمر 6 - (1) عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: " لما أنزلت الآيات من سورة البقرة في الربا، خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فقرأهن على الناس، ثم حرم تجارة الخمر". رواه البخاري1، واللفظ له، ومسلم2، وأبو داود3، والنسائي4، وابن ماجه5، وأبو داود الطيالسي6، وأحمد7، والدارمي8. كلهم من طرق عن أبي الضحى مسلم بن صبيح، عن مسروق عنها به. - وقولها: " لما أنزلت الآيات من سورة البقرة في الربا" المراد بها قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسّ …} الآيات9.

ووقع في مسند أحمد " لما نزلت الآية التي في البقرة في الخمر قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ثم حرم التجارة في الخمر"1. فهذه الرواية فيها أن الآية التي نزلت وحرم عندها التجارة في الخمر هي آية الخمر من سورة البقرة، بينما الرواية السابقة أن الآيات هي الآيات التي كانت في الربا. ورواية أحمد وإن كان ظاهرها أولى من الرواية الأخرى؛ لموافقتها لسياق الحديث، فإن آخره " ثم حرم التجارة في الخمر" إلا أنها مردودة لأمور أربعة: الأول: أن الرواية التي جاء فيها أن الآيات هي آيات الربا أكثر من التي جاء فيها أنها في الخمر. الثاني: روى سعيد بن منصور2 هذا الحديث في سننه بإسناد صحيح بلفظ: " لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا …" الحديث، فقوله: " من آخر سورة البقرة" يدل على أنها آيات تحريم الربا، وليست الآيات في الخمر. الثالث: أن آية البقرة ليس فيها تحريم الخمر، وسورة البقرة قد تقدم نزولها في المدينة، وأما الخمر فتأخر تحريمها، فإنها حرمت في سورة المائدة. وأما قول السيوطي: " إن الرواية التي فيها أن الآية كانت في تحريم الخمر تدل على أنه كان في الآيات المذكورة تحريم ذلك، وكأنه نسخت تلاوته"3.

فقوله هذا ضعيف؛ لأن هذا متفرع على صحة الرواية وسلامتها من المعارضة، والأمر ليس كذلك. الرابع: أن رواية أحمد في سندها زياد بن عبد الله البكائي، وهو متكلم فيه1. قال الحافظ ابن حجر: " صدوق ثبت في المغازي، وفي حديثه عن غير ابن إسحاق لين"2. وقد عارضه غيره في هذه الرواية، فروايته تكون منكرة. وقد تابعه داود بن الزبرقان عن عبد الأعلى، والحجاج عن أبي الضحى به، ولفظه: " لما نزلت سورة البقرة، نزل فيها تحريم الخمر، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك" رواه الخطيب3. إلا أن داود بن الزبرقان قد ضعفه أكثر الأئمة تضعيفًا شديدًا4. ولذا جعله ابن حجر في مرتبة: متروك5. فهذه المتابعة لا تصلح؛ لشدة ضعف داود. إذا تقرر أن الرواية المحفوظة هي قولها: " لما أنزلت الآيات من سورة البقرة في الربا" فربما يشكل على هذا أن آيات الربا من آخر ما نزل من القرآن، وتحريم الخمر تقدم قبل ذلك بمدة، فقد روى البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: " آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم آية الربا"6. والجواب عن هذا

الإشكال ما نقله الإمام النووي عن القاضي عياض وغيره، حيث قالوا: تحريم الخمر هو في سورة المائدة، وهي نزلت قبل آية الربا بمدة طويلة، فإن آية الربا آخر ما نزل أو من آخر ما نزل، فيحتمل أن يكون هذا النهي عن التجارة متأخرًا عن تحريمها1. ويحتمل أنه أخبر بتحريم التجارة حين حرمت الخمر، ثم أخبر به مرة أخرى بعد نزول آية الربا توكيدًا ومبالغة في إشاعته، ولعله حضر المجلس من لم يكن بلغه تحريم التجارة فيها قبل ذلك. والله أعلم2. وقال ابن كثير: " قال بعض من تكلم على هذا الحديث من الأئمة: لما حرم الربا ووسائله، حرم الخمر وما يفضي إليه؛ من تجارة ونحو ذلك"3. 7 - (2) عن عبد الرحمن بن وعلة أنه سأل عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - عما يعصر من العنب، فقال ابن عباس: إن رجلاً أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هل علمت أن الله قد حرمها؟ "، فقال: لا. فسارَّ إنسانًا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بم ساررته؟ "، فقال: أمرته ببيعها. فقال: " إن الذي حرم شربها حرم بيعها". قال: ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها.

رواه مسلم1، وهذا لفظه، ومالك2، ومن طريقه النسائي3، ورواه أحمد4، والدارمي5، والطحاوي6، كلهم من طرق عن ابن وعلة به. ولفظ أحمد في رواية، والدارمي: " سألت ابن عباس عن بيع الخمر …" الحديث. وابن وَعْله اسمه عبد الرحمن بن وعلة السبئي، أصله من مصر، ثم انتقل إلى المدينة وسكنها7، وقد تقدم8 أنه وثقه ابن معين، والعجلي، والنسائي، وابن عبد البر، وغيرهم. - قوله: " إن رجلاً أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم": جاء في رواية لأحمد: " كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صديق من ثقيف أو من دوس"9، وفي رواية له أيضًا " رجل من دوس"10. وقد روى أحمد بسنده عن نافع بن كيسان، عن أبيه " أنه يتجر بالخمر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم …" الحديث11 بمعنى حديث ابن عباس.

ونافع بن كيسان هو الثقفي1، فكذلك أبوه هو كيسان الثقفي، فلعله هو الرجل من ثقيف الذي ورد في حديث ابن عباس. وقد جزم بذلك الزرقاني2. وقال الحافظ ابن حجر: يستفاد من حديث كيسان تسمية المبهم في حديث ابن عباس3. - قوله: " أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر"، قال الزرقاني: ثم احذر أن يخطر ببالك أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب الخمر قبل تحريمها، فلا يلزم من إهداء الراوية كل عام قبل التحريم أن يشرب، بل يهديها، أو يتصدق بها، أو نحو ذلك، وقد صانه الله تعالى من قبل النبوة عما يخالف شرعه، وهو لم يشرب الخمر المحضر من الجنة ليلة المعراج4. - قوله: " راوية خمر": قال أبو عبيد: الراوية هي المزادة، وقال غيره: إنما تقال الراوية للبعير خاصة5. قال النووي: وهذا الحديث يدل لأبي عبيد، فإنه سماها راوية ومزادة، قالوا: سميت راوية لأنها تروي صاحبها ومن معه، والمزادة لأنها يتزود فيها الماء في السفر وغيره، وقيل: لأنه يزاد فيها جلد ليتسع6.

- قوله: " هل علمت أن الله قد حرمها"، جاء في مسند أحمد سبب عدم علمه، ففي رواية عنده: " أن رجلاً خرج والخمر حلال"1، وفي رواية له أيضًا: " هل علمت أن الله قد حرمها بعدك"2، كما أنه قد وقع في مسند أحمد تحديد العام الذي لقي فيه الرجل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قوله: " فلقيه بمكة عام الفتح"3. - قوله: " فسارَّ إنسانًا": في رواية لأحمد: " فأقبل الرجل على غلامه"4، وفي روايةٍ له أيضًا: " فالتفت الرجل إلى قائد البعير"5. وأما المسارة فهي خفض الصوت بالكلام6. 8 - (3) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بالمدينة يقول: " يا أيها الناس؛ إن الله تعالى يعرض بالخمر، ولعل الله سينزل فيها أمرًا، فمن كان عنده منها شيء فليبعه ولينتفع به". قال: فما لبثنا إلا يسيرًا حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى حرم الخمر، فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شيء فلا يشرب ولا يبع". قال: فاستقبل الناس بما كان عندهم منها في طريق المدينة فسفكوها".

أخرجه مسلم1، وهذا لفظه، وأبو يعلى2، والبيهقي3. كلهم عن عبيد الله بن عمر القواريري، عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن سعيد الجريري، عن أبي نضرة به. وسعيد الجريري وإن كان قد اختلط4، إلا أن رواية عبد الأعلى عنه قبل الاختلاط5؛ ولذا خرجها مسلم في صحيحه. - قوله: " إن الله يعرض بالخمر": التعريض خلاف التصريح من القول6. - قوله: " فمن كان عنده منها شيء فليبعه ولينتفع به". قال النووي: في هذا الحديث بذل النصيحة للمسلمين في دينهم ودنياهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نصحهم في تعجيل الانتفاع بها ما دامت حلالاً7. - قوله: " فمن أدركته هذه الآية"، هي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 8. - قوله: " فسفكوها". السفك هو الإراقة والإجراء لكل مائع9. ولعل سفك الصحابة للخمر في الطريق يشكل على من يقول بنجاسة الخمر، وهم الجمهور؛ لأنها لو كانت نجسة لما سفكوها في الطريق مع نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التخلي في الطرقات، ولكن أجاب القرطبي عن هذا بأنه

لم يكن عند الصحابة كنف في بيوتهم، ونقلها إلى خارج المدينة فيه كلفة ومشقة. وقال القرطبي: وأيضًا يمكن التحرز منها؛ فإن طرق المدينة كانت واسعة، ولم تكن من الكثرة بحيث تصير نهرًا يعم الطريق كلها، بل إنما جرت في مواضع يسيرة يمكن التحرز عنها1. قال محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - بعد ذكره لقول القرطبي: وهو ظاهر2. 9 - (4) عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لعن الله الخمر وشاربها وساقيها، وبائعها ومبتاعها، وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه". جاء هذا الحديث عن ابن عمر من طرق. الطريق الأولى: عن عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي، وأبي طعمة عنه: رواه من هذا الطريق أبو داود3 باللفظ السابق، وابن ماجه4، وأبو بكر بن أبي شيبة5، وأحمد6، والبيهقي7، كلهم من طرق عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز به.

ولفظ ابن ماجه وأبي بكر بن أبي شيبة وأحمد: " لعنت الخمر على عشرة أوجه …" الحديث. وعندهم أيضًا وعند البيهقي زيادة: " وآكل ثمنها". أما عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي1، وأبو طعمة2، فكلاهما قال فيه الحافظ ابن حجر: مقبول3. وأبو طعمة قد وثقه ابن عمار الموصلي، وأما تكذيب مكحول له فرده الحافظ بأنه لم يكذبه التكذيب الاصطلاحي4. وأما عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز فقال فيه الذهبي: ثقة5. وقال فيه الحافظ ابن حجر: صدوق يخطئ6. وعند الرجوع إلى أقوال العلماء فيه نجد أن قول الحافظ الذهبي أقرب من قول الحافظ ابن حجر. فعلى هذا يكون هذا الطريق حسنًا لغيره؛ لوجود المتابعة بين عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي وأبي طعمة. وقد رواه البغوي7 بإسناده عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي - وحده - عن ابن عمر.

ورواه أحمد1، والطحاوي2، والبيهقي3 من طرق عن ابن لهيعة، عن أبي طعمة - وحده - عن ابن عمر. قال الهيثمي: " فيه أبو طعمة، وقد وثقه محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي، وضعفه مكحول، وبقية رجاله ثقات"4. وقد تقدم الكلام في أبي طعمة، وأما ابن لهيعة فقد جاءت الرواية عنه من طريق ابن وهب، ورواية ابن وهب عنه سبق أنه قد قوَّاها بعض أئمة الجرح والتعديل5. وقد تابع ابن لهيعة في الرواية عن أبي طعمة عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز. وقد سبق أن عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي وأبا طعمة تابع كل منهما الآخر. الطريق الثانية: عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه: أخرجه أحمد6، والطبراني7، والحاكم8، والبيهقي في شعب الإيمان9، وأبو نعيم الأصبهاني10. كلهم من طرق عن فليح بن سليمان، عن سعيد بن عبد الرحمن بن وائل11 به.

وقال الطبراني: لم يروه عن عبد الله بن عبد الله بن عمر إلا سعيد المدني، تفرد به فليح. وفليح بن سلمان هو الخزاعي، ويقال: الأسلمي، أبو يحيى المدني، ضعفه ابن معين، وأبو حاتم، والنسائي، وابن المديني، وغيرهم. وقال الدارقطني: يختلفون فيه، وليس به بأس. وقال ابن عدي: لا بأس به1. وقد احتج به صاحبا الصحيحين2. قال فيه الحافظ: صدوق كثير الخطأ3. وأما سعيد بن عبد الرحمن، فهو الأنصاري، ذكره البخاري4، وابن أبي حاتم5، ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلاً. وذكره ابن حبان في الثقات6. فعلى هذا يكون هذا الإسناد ضعيفًا؛ للكلام في فليح بن سليمان، وجهالة سعيد بن عبد الرحمن، إلا أن هذا الإسناد عن ابن عمر حسن لغيره؛ للطرق التي ورد فها هذا الحديث عنه.

الطريق الثالثة: ثابت بن يزيد الخولاني عنه: أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار1، والحاكم2، والبيهقي في السنن الكبرى3، وفي شعب الإيمان4. كلهم من طرق عن ابن وهب، عن عبد الرحمن بن شريح، وابن لهيعة، والليث بن سعد عن خالد بن يزيد، عن ثابت بن يزيد الخولاني " أنه كان له عم يبيع الخمر، وكان يتصدق، فنهيته عنها فلم ينته، فقدمت المدينة …" الحديث. وفيه أنه لقي ابن عباس، ثم لقي ابن عمر، فكان من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لعن الله الخمر وعاصرها ومعتصرها، وشاربها وساقيها، وحاملها والمحمولة إليه، وبائعها ومشتريها، وآكل ثمنها"، ثم ذكر خرق النبي صلى الله عليه وسلم لزقاق الخمر. وقد أخرج الطبراني هذا الحديث5، إلا أنه وقع عنده ذكر الحديث كاملاً من حديث ابن عباس فقط، مع أن إسناد الطبراني

يلتقي بإسناد البيهقي وغيره. فالظاهر أن في رواية الطبراني قَلْبًا؛ لأنه جعل قصة ابن عمر وحديثه لابن عباس رضي الله عنه. والله أعلم. وأما رجال الإسناد، فإن ثابت بن يزيد الخولاني قال فيه ابن حزم: مجهول. وتبعه عبد الحق، وذكره ابن حبان في الثقات1. وذكر البخاري أن بعض الرواة رواه عن ثابت بن يزيد، عن ابن عمه، سمع ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم2. قال ابن أبي حاتم: وهو الصحيح3. وأما خالد بن يزيد، فهو الجمحي، ويقال السكسكي، أبو عبد الرحيم المصري، وثقه أبو زرعة، والنسائي، وغيرهما4. ولذا قال في الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: ثقة فقيه5. فعلى هذا، فهذا الإسناد ضعيف؛ لجهالة ثابت بن يزيد، والانقطاع بينه وبين ابن عمر - رضي الله عنهما -، إلا أنه صالح للاعتبار. والله أعلم. الطريق الرابعة: شراحيل بن بكيل عنه: رواه الطحاوي6 عن الربيع بن سليمان الأزدي، عن طلق بن السمح اللخمي، عن أبي شريح، عن خالد بن يزيد، عن شراحيل بن بكيل بنحو حديث ثابت بن يزيد الخولاني عن ابن عمر.

وشراحيل بن بكيل ذكره البخاري1، وابن أبي حاتم2، ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلاً، وذكره ابن حبان في الثقات3. ولم أجد من وثقه غيره. فهو مجهول جهالة حال لا عين؛ لكونه قد روى عنه جماعة من الثقات. وأبو شريح هو عبد الرحمن بن شريح الاسكندراني، من رجال الجماعة. قال فيه ابن حجر: ثقة فاضل، لم يصب ابن سعد في تضعيفه4. وأما طلق بن السمح اللخمي فهو أبو السمح المصري الاسكندراني. قال فيه أبو حاتم: شيخ مصري ليس بمعروف5. وقال فيه الذهبي: مصري فيه ضعف6. ولعل الضعف الذي أشار إليه الذهبي هو جهالة طلق بن السمح. وقال ابن حجر في التقريب: مقبول7. وأما الربيع بن سليمان فهو الجيزي، أبو أحمد الأزدي. قال فيه ابن يونس والخطيب: ثقة8.

وقد ذكر لأبي حاتم هذا الحديث من طريق طلق عن أبي شريح عن شراحيل، فقال: ابن شريح لا أظنه أدرك ابن بكيل1. ولكن الإسناد الذي ساقه الطحاوي ليس فيه هذه العلة؛ لكون عبد الرحمن بن شريح روى الحديث عن خالد بن يزيد، عن ابن بكيل، فلا انقطاع. فتبقى علة هذا الإسناد الجهالة في طلق بن السمح وابن بكيل. إلا أن هذا الإسناد متابع بالطرق الأخرى للحديث، فيرتقي إلى درجة الحسن لغيره. والله أعلم. الطريق الخامسة: سالم بن عبد الله عن أبيه: رواه أبو نعيم في تاريخ أصبهان2، والطبراني في الأوسط3، كلاهما من طريق يعقوب، عن ليث بن أبي سليم، عن سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله لعن الخمر بعينها، وعاصرها ومعتصرها، وبائعها ومشتريها، وحاملها والمحمولة إليه، وساقيها وشاربها، وآكل ثمنها "4. قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن ليث إلا يعقوب.

ويعقوب هو القمي. قال فيه النسائي: ليس به بأس. ووثقه الطبراني. وذكره ابن حبان في الثقات1. وقال الذهبي: صدوق2. وقال ابن حجر: صدوق يهم3. وليث بن أبي سليم ضعفه ابن عيينة، والقطان، وأحمد، وأبو حاتم وغيرهم4. وقال ابن حجر: صدوق اختلط جدًا، ولم يتميز حديثه فترك5. فمما سبق يتبين أن هذه الطريق ضعيفة؛ لضعف ليث بن أبي سليم، إلا أنه بالنظر إلى طرق هذا الحديث يكون بها حسنًا لغيره. والله أعلم. الطريق السادسة: محمد بن أبي حميد عن أبي توبة المصري عنه: رواه أبو داود الطيالسي6، ومن طريقه البيهقي في شعب الإيمان7، ولفظه: " نزلت في الخمر ثلاث آيات …" الحديث. وفيه " إن الله لعن الخمر، ولعن غارسها، ولعن شاربها، ولعن عاصرها، ولعن موكلها، ولعن مديرها، ولعن ساقيها، ولعن حاملها، ولعن آكل ثمنها، ولعن بايعها".

وأبو توبة المصري1، قال ابن عساكر: لم أجد له ذكرًا في شيء من الكتب2. ومع جهالته فإن في حديثه هذا لفظًا منكرًا، وهو قوله: " لعن غارسها" كما قال الحافظ ابن حجر3. وأما محمد بن أبي حميد فهو الأنصاري الزُّرَقي، قال فيه أحمد: أحاديثه مناكير. وقال ابن معين: ضعيف ليس حديثه بشيء. وقال البخاري وأبو حاتم: منكر الحديث. وقال النسائي: ليس بثقة4. فجملة أقوال الأئمة فيه على تضعيفه تضعيفًا شديدًا. إلا أن الحافظ ابن حجر قال فيه في التقريب " ضعيف"5 فقط، وبالنظر إلى أقوال الأئمة فيه يظهر أن فيه ضعفًا شديدًا. وقد سأل ابن أبي حاتم أباه عن هذا الحديث من طريق أبي داود الطيالسي، فقال أبو حاتم: هذا خطأ، إنما هو أبو طعمة، قارئ مصر عن ابن عمر6.

ولعل الخطأ الذي ذكره أبو حاتم منشؤه من محمد بن أبي حميد، فإنه منكر الحديث كما سبق في قول البخاري وأبي حاتم وغيرهما. فمما سبق يتبين أن هذا الطريق ضعيف جدًا بسبب محمد بن أبي حميد، والعلة التي ذكرها أبو حاتم، وأيضًا جهالة أبي توبة المصري. الطريق السابعة: نافع عنه: رواه ابن عدي1، والخطيب2 بإسنادهما عن أبي نصر التمَّار، عن كوثر به بلفظ: " إن الله لعن الخمر، وعاصرها والمعتصرة له، والجالب والمجلوب إليه، والبائع والمشتري، والساقي والشارب، وحرم ثمنها على المسلمين". وكوثر هو ابن حكيم. قال فيه أحمد: أحاديثه بواطيل ليس بشيء. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال النسائي والدارقطني وغيرهما: متروك3. وقد ذكر ابن عدي هذا الحديث في ترجمة كوثر عند سياقه لبعض مناكيره عن نافع، فقال بعد ذلك: وهذه الأحاديث عن كوثر عن نافع عن ابن عمر غير محفوظة. فعلى هذا فإن هذا الطريق ضعيف جدًا لا يصلح للاعتبار. الطريق الثامنة: حبيب بن أبي ثابت به: رواه الحارث بن أبي أسامة، عن يحيى بن هاشم، عن ابن أبي ليلى به بلفظ: " الخمر حرام، وبيعها حرام، وثمنها حرام" 4.

ويحيى بن هاشم هو السمسار. قال فيه أبو حاتم: كان يكذب، وكان لا يصدق، ترك حديثه1، واتهمه يحيى بن معين وصاعقة وغبرهما بالكذب2. فهذا الطريق لا يعتبر به. والخلاصة في حديث ابن عمر أنه حسن بمجموع طرقه، على أن له شواهد تؤيده أيضًا كما سيأتي - إن شاء الله -. 10 - (5) عن أنس رضي الله عنه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة: عاصرها ومعتصرها، وشاربها، وحاملها والمحمولة إليه، وساقيها وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري لها والمشتراة له". رواه الترمذي3، وهذا لفظه، وابن ماجه4، والطبراني في الأوسط5. كلهم من طرق عن أبي عاصم عن شبيب بن بشر به، قال الترمذي: هذا حديث غريب. وشبيب بن بشر وثقه ابن معين، وقال أبو حاتم: لين الحديث، حديثه حديث الشيوخ. وقال البخاري: منكر الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يخطئ كثيرًا6. قال الحافظ ابن حجر في التقريب: صدوق يخطئ7.

وعند النظر في أقوال هؤلاء الأئمة نجد أنه في مرتبة الضعيف؛ لكون أكثرهم على ذلك. وأما أبو عاصم، فهو الضحاك بن مخلد، الإمام المشهور. وعلى هذا فإن هذا الحديث بهذا الإسناد ضعيف؛ لضعف شبيب بن بشر، إلا أن للحديث شواهد تؤيده وتجعله حسنًا لغيره؛ كحديث ابن عمر - رضي الله عنهما السابق، وحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - الآتي. وقد ذكر الحافظ ابن حجر هذا الحديث في التلخيص فقال: رواته ثقات1. وقول الحافظ هذا فيه نظر؛ لكون شبيب بن بشر متكلم فيه، ولم يوثقه غير ابن معين، وأما بقية الأئمة فيضعفونه، وقد سبق قول الحافظ فيه، فلا يمكن أن يقال والحالة هذه: رواته ثقات. والله أعلم. 11 - (6) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أتاني جبريل فقال: يا محمد؛ إن الله عز وجل لعن الخمر، وعاصرها ومعتصرها، وشاربها، وحاملها والمحمولة إليه، وبائعها، وساقيها ومستقيها". أخرجه أحمد2 وهذا لفظه، وابن حبان3، والطبراني4، والحاكم5، والبيهقي في شعب الإيمان6 من طريق الحاكم. كلهم من طرق عن

مالك بن خير1 الزبادي2 المصري، عن مالك بن سعد به. وصححه الحاكم. ومالك بن سعد التجيبي قال فيه أبو زرعة: مصري لا بأس به3. وذكره ابن حبان في الثقات4. وأما مالك بن خير الزبادي. فقد ذكره البخاري5، وابن أبي حاتم6 ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلاً، وذكره ابن حبان في الثقات7. وقال ابن القطان: هو ممن لم تثبت عدالته8. وتعقبه الذهبي بقوله: وفي رواة الصحيحين عدد كثير ما علمنا أن أحدًا نص على توثيقهم، والجمهور على أن من كان من المشايخ قد روى عنه جماعة ولم يأت بما ينكر عليه أن حديثه صحيح، ولذا قال الذهبي: محله الصدق9. قال الحافظ ابن حجر: وهذا الذي نسبه.. إلى آخره، لا ينازع10 فيه، بل ليس كذلك، بل هذا شيء نادر؛ لأن غالبهم معروفون بالثقة إلا من خرجا له في الاستشهاد11.

فعلى هذا فإن هذا الحديث بهذا الإسناد ضعيف؛ لجهالة مالك بن الخير. إلا أنه بشواهده كحديث ابن عمر، وأنس يكون حسنًا لغيره. وأما قول المنذري: رواه أحمد بإسناد صحيح1. ففيه نظر؛ لما تقدم من حال مالك بن خير. والله أعلم. 12 - (7) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمر، وشاربها وساقيها، وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه، وبائعها ومبتاعها، وآكل ثمنها". رواه البزار2 وهذا لفظه، والطبراني3، وابن عدي4. كلهم من طرق عن عيسى بن أبي عيسى الحناط، عن الشعبي، عن علقمة به. وقال البزار - وقد ذكر حديثًا قبله بسنده عن عيسى بن أبي عيسى عن الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود - قال البزار: فهذان الحديثان لا نعلم رواهما عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله إلا عيسى بن أبي عيسى. وقال الهيثمي: فيه عيسى بن أبي عيسى الحناط، وهو ضعيف5. وعيسى ابن أبي عيسى الحناط ضعفه يحيى القطان، وأحمد. وقال ابن معين: ليس بشيء، ولا يكتب حديثه. وقال الفلاس، وأبو داود، والنسائي، والدارقطني: متروك الحديث6. لهذا جعله الحافظ ابن حجر في مرتبة: متروك7.

وقد ذكر أبو حاتم أن عيسى هذا قد حدث أيضًا بهذا الحديث عن الشعبي عمن حدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو حاتم: هذا من عيسى1. وهذا الاضطراب الذي ذكره أبو حاتم يعود لشدة ضعف عيسى كما سبق في أقوال الأئمة. فمما سبق يتبين أن هذا الحديث بهذا الإسناد ضعيف جدًا؛ لشدة ضعف عيسى بن أبي عيسى. ومثل هذا لا يرتقي بالشواهد. والله أعلم. 13 - (8) عن عبد الرحمن بن غنم، أن الداري كان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كل عام راوية خمر، فلما كان عام حرمت جاء براوية، فلما نظر إليه نبي الله صلى الله عليه وسلم ضحك، قال: " هل شعرت أنها قد حرمت بعدك؟ "، قال: يا رسول الله؛ أفلا أبيعها فأنتفع بثمنها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لعن الله اليهود؛ انطلقوا إلى ما حرم عليهم من شحوم البقر والغنم فأذابوه فجعلوه ثمنًا له، فباعوا به ما يأكلون، وإن الخمر حرام، وثمنها حرام، وإن الخمر حرام، وثمنها حرام، وإن الخمر حرام، وثمنها حرام". رواه أحمد2 وهذا لفظه، وأبو يعلى الموصلي3، والطبراني في المعجم الكبير4 باختصار. من طرق عن شهر بن حوشب، حدثني عبد الرحمن بن غنم به. والراوي عن شهر بن حوشب هو عبد الحميد بن بهرام، كما في مسند أحمد، وأما أبو يعلى والطبراني، فروياه بإسنادهم عن عبد الحميد بن جعفر، حدثني شهر بن حوشب.

ولم أجد بعد البحث أن عبد الحميد بن جعفر يروي عن شهر بن حوشب، وإنما المعروف بالرواية عن شهر هو عبد الحميد بن بهرام، حتى كان يقال فيه: صاحب شهر بن حوشب1. فالله أعلم. وظاهر إسناد أحمد أنه مرسل؛ لأن عبد الرحمن بن غنم لم يشهد هذا الحديث؛ لأنه تابعي2. ولكن في إسناد الطبراني التصريح بأن عبد الرحمن بن غنم قد حدثه تميم الداري بهذا الحديث، وهو صاحب القصة. وشهر بن حوشب الخلاف فيه مشهور، فقد ضعفه شعبة، وموسى بن هارون. وقال أحمد: ما أحسن حديث. ووثقه. وقال أيضًا: ليس به بأس. وقال البخاري: حسن الحديث , وقوى أمره. وقال ابن معين: ثقة. وقال أيضًا: ثبت. ووثقه أيضًا يعقوب بن شيبة، ويعقوب بن سفيان. وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال أبو حاتم: لا يحتج به. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه شهر وغيره من الحديث فيه من الإنكار ما فيه. وشهر ليس بالقوي في الحديث، وهو ممن لا يحتج بحديثه ولا يتدين به. وقال أيضًا: ضعيف جدًا. وقال ابن القطان: لم أسمع لمضعفه حجة3.

قال الذهبي: الاحتجاج به مترجح1. وقال العلائي: " شهر بن حوشب اختلف في الاحتجاج به، والراجح قبوله"2. وقال ابن حجر: " صدوق كثير الإرسال والأوهام"3. وقوى بعض العلماء حديث شهر بن حوشب إذا كان من طريق عبد الحميد بن بهرام. قال يحيى القطان: من أراد حديث شهر فعليه بعبد الحميد بن بهرام. وقال أحمد: حديثه عن شهر مقارب، كان يحفظها كأنه يقرأ سورة من القرآن. وهي سبعون حديثًا طوالاً. وقال أيضًا: لا بأس بحديث عبد الحميد بن بهرام عن شهر4. فمما سبق يتبين لنا أن هذه الطريق صالحة للاعتبار، ولا سيما وقد جاء حديث شهر بن حوشب من طريق عبد الحميد بن بهرام. وللحديث طريق أخرى أخرجها الطبراني في الأوسط5 بإسناده عن الصباح بن محارب، عن أشعث بن سوار، عن أبي هبيرة يحيى بن عباد قال: سمعت تميمًا الداري قال: أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم زق خمر قد حرمت، فقال بعضهم: لو باعوها فأعطوا ثمنها للمسلمين؟ فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فأهريقت في واد من أودية المدينة، وقال: " لعن الله اليهود؛ حرمت عليهم شحومها فباعوها وأكلوا أثمانها". قال الطبراني: " لم يرو هذا الحديث عن أشعث عن أبي هبيرة إلا الصباح بن محارب".

وقال الهيثمي: " فيه أشعث بن سوار، وهو ثقة وفيه كلام"1. وأشعث بن سوار قال فيه ابن معين: ضعيف. وقال مرة: ثقة. وقال أبو زرعة: لين. وضعفه النسائي والدارقطني وابن سعد وأبو داود وابن حبان. وقال عثمان بن أبي شيبة: صدوق2. وجعله ابن حجر في مرتبة: " ضعيف"3. والصباح بن محارب قال فيه أبو زرعة وأبو حاتم: صدوق. ووثقه العجلي. وقال العقيلي: يخالف في بعض حديثه4. وجعله ابن حجر في مرتبة: " صدوق ربما خالف"5. فالحديث بمجموع طريقيه يكون حسنًا لغيره على أقل الأحوال. والله أعلم. وقد استدل الحافظ ابن حجر برواية تميم الداري لهذا الحديث بأن الخمر إنما حرمت بعد سنة ثمان؛ لأن إسلام تميم الداري كان بعد الفتح6. والله أعلم.

14 - (9) عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه أن رجلاً من ثقيف يكنى أبا تمام أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها قد حرمت يا أبا تمام"، فقال له: يا رسول الله؛ فأستنفق ثمنها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الذي حرم شربها حرم ثمنها". رواه الطبراني في الأوسط1 من طريق زيد بن أبي أنيسة، عن أبي بكر بن حفص، عن عبد الله بن عامر، عن أبيه به. وقال: " لم يرو هذا الحديث عن أبي بكر بن حفص إلا زيد بن أبي أنيسة، ولا يروى عن عامر بن ربيعة إلا بهذا الإسناد ". وقال الهيثمي: " رجاله رجال الصحيح "2. وهو كما قال. وعبد الله بن عامر بن ربيعة، ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ووثقه العجلي وأبو زرعة وغيرهما3. وروى هذا الحديث محمد بن الحسن عن أبي حنيفة، حدثنا محمد بن قيس، أن رجلاً من ثقيف يكنى أبا عامر كان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كل عام راوية خمر … " الحديث4 بنحو حديث الطبراني، وهو مرسل؛ لأن محمد بن قيس من التابعين. وذكر الحافظ ابن حجر أن ابن السكن رواه من طريق زيد بن أبي أنيسة عن أبي بكر بن حفص، عن عبد الله بن عامر، عن رجل من ثقيف يقال له أبو عامر5. ليس فيه عامر بن ربيعة.

ورواية ابن السكن هذه تؤيد ما وقع في رواية محمد بن الحسن أن الرجل يكنى أبا عامر، وقد ذكر ابن حجر أنا أبا موسى المديني قال: إحدى الروايتين تصحيف. قال الحافظ: والراجح أنه أبو عامر1. 15 - (10) عن عبد الواحد البناني قال: كنت مع ابن عمر، فجاءه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن؛ إني أشتري هذه الحيطان تكون فيها الأعناب، فلا نستطيع أن نبيعها كلها عنبًا حتى تعصر. فقال: فعن ثمن الخمر تسألني، سأحدثك حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. كنا جلوسًا مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ رفع رأسه إلى السماء، ثم أكب ونكت في الأرض وقال: "الويل لبني إسرائيل". فقال له عمر: يا نبي الله؛ لقد أفزعنا قولك لبني إسرائيل، فقال: "ليس عليكم من ذلك بأس؛ إنهم لما حرمت عليهم الشحوم فتواطؤه فيبيعونه فيأكلون ثمنه، وكذلك ثمن الخمر عليكم حرام". أخرجه أحمد2، ومسدد3 بإسنادهما عن عبد الوارث بن سعيد، عن عبد العزيز بن صهيب به. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح خلا عبد الواحد، وقد وثقه ابن حبان4. وقال البوصيري: رجاله ثقات5.

وعبد الوارث بن سعيد، وعبد العزيز بن صهيب كلاهما ثقة1. وعبد الواحد البناني ذكره البخاري ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً2. ولم أجد من ذكر عبد الواحد في الثقات غير ابن حبان3، فهو مستور، ويحتاج إلى متابع، إلا أن للحديث شواهد تؤيده؛ كحديث جابر مرفوعًا: "قاتل الله اليهود؛ إن الله لما حرم شحومها، جملوه، ثم باعوه فأكلوا ثمنه". وكذلك حديث ابن عباس مرفوعًا: "إن الذي حرم شربها حرم بيعها". وأحاديث أخرى تقدمت. فالحديث حسن لشواهده. والله أعلم. 16 - (11) عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خمس: عن ثمن الكلب، وثمن الخنزير، وثمن الخمر، وعن مهر البغي، وعن عسب الفحل". رواه الطبراني في الأوسط4 بإسناده عن الوليد بن شجاع، ثنا أبي، حدثني زياد بن خيثمة، عن عبد الله بن عيسى، عن شهر بن حوشب به. قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن عبد الله بن عيسى إلا زياد بن خيثمة. تفرد به ابن شجاع بن الوليد. وقال الهيثمي: إسناد حسن5.

والوليد بن شجاع ثقة، كما قال الحافظ ابن حجر1، وشجاع بن الوليد قال فيه الحافظ ابن حجر: صدوق ورع له أوهام2. وزياد بن خيثمة هو الجعفي الكوفي. قال فيه الحافظ: ثقة3. وأما عبد الله بن عيسى فقد ذكر جماعة بهذا الاسم، ولم أجد من ذكر منهم أنه يروي عن شهر بن حوشب، أو أنه من شيوخ زياد بن خيثمة، والظاهر أنه عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي؛ لأنه في طبقة شيوخ زياد بن خيثمة. وعبد الله بن عيسى هذا وثقه ابن معين، والعجلي، والنسائي وغيرهم. وقال ابن المديني: هو عندي منكر الحديث4. وخلص فيه ابن حجر إلى أنه: ثقة5. وشهر بن حوشب تقدم الكلام فيه6. ومتن الحديث له شواهد تؤيده، فإن المنهيات الخمس الواردة في الحديث قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عنها في أحاديث في الصحيحين وغيرهما سبق بعضها، ويأتي بعضها، فيكون هذا الإسناد بشواهده حسنًا لغيره. والله أعلم.

17 - (12) عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن رجلاً من ثقيف أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية من خمر بعدما حرمت الخمر، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ففتقت، فقال الرجل: لو أمرت بها فتباع! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله إذا حرم شربها حرم بيعها". رواه الطبراني في المعجم الأوسط1 عن المقدام بن داود، عن عبد الله بن يوسف، وعثمان بن صالح عن ابن لهيعة، عن محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ، عن محمد بن المنكدر عنه. وقال: لم يروه عن محمد بن زيد إلا ابن لهيعة. وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط عن المقدام بن داود، وهو ضعيف2. والمقدام بن داود هو الرعيني المصري، من شيوخ الطبراني، قال فيه النسائي: ليس بثقة. وقال ابن يونس وغيره: تكلموا فيه. وضعفه الدارقطني. وقال مسلمة بن قاسم: روايته لا بأس بها3. فالراجح فيه أنه ضعيف، فإن أكثر الأئمة على ذلك، ولا سيما النسائي والدارقطني. ومسلمة بن قاسم الذي قواه متكلم فيه، فقد ضعفه غير واحد4. قال الذهبي: ضعيف5.

وأيضًا فإن في الإسناد ابن لهيعة، وقد تقدم أنه ضعيف؛ لاختلاطه1. وأما محمد بن زيد، ومحمد بن المنكدر فثقتان2. فعلى هذا فإن هذا الإسناد ضعيف؛ لضعف المقدام بن داود، وابن لهيعة، إلا أن للحديث شاهدًا من حديث ابن عباس3، وتميم الداري4 وغيرهما، فيكون بها حسنًا لغيره. والله أعلم. 18 - (13) عن نافع بن كيسان أن أباه أخبره أنه كان يتجر بالخمر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه أقبل من الشام ومعه خمر في الزقاق يريد بها التجارة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله؛ إن جئتك بشراب جيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا كيسان؛ إنها قد حرمت بعدك"، قال: أفأبيعها يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها قد حرمت وحرم ثمنها"، فانطلق كيسان إلى الزقاق فأخذ بأرجلها ثم أهراقها. رواه أحمد5، وابن أبي عاصم6، والروياني7، والطبراني في معجميه الأوسط8 والكبير9، وابن عساكر10. كلهم من طرق عن ابن لهيعة، عن سليمان بن عبد الرحمن بن عيسى، عن نافع بن كيسان به.

وابن لهيعة قد تقدم الكلام فيه1، وسليمان بن عبد الرحمن بن عيسى هو الخراساني الدمشقي، حديثه في المصريين. وثقه ابن معين، وأبو حاتم، والنسائي، والعجلي وغيرهم2. وجعله الحافظ ابن حجر في مرتبة: ثقة3. ونافع بن كيسان هو الثقفي، ذكره ابن حجر في القسم الأول من كتابه الإصابة4. وقال في تعجيل المنفعة: ذكره ابن شاهين وطائفة في الصحابة5. ولكن الحافظ ابن حجر جعل سليمان بن عبد الرحمن؛ الراوي عن نافع بن كيسان في الطبقة السادسة من كتابه تقريب التهذيب، وقد ذكر أنه يذكر في هذه الطبقة من لم يثبت له لقاء أحد من الصحابة. فإما أن يكون ترجح لدى الحافظ أن نافعًا ليس من الصحابة، أو يكون فات عليه رواية سليمان عن نافع. والله أعلم. وممن صرح أنه ليس من الصحابة الهيثمي في مجمع الزوائد، فقال فيه: مستور6. ولكن الذي يترجح أنه من الصحابة؛ لتصريح أكثر الأئمة بذلك. والله أعلم. وأما قول الطبراني في الأوسط: لا يروى عن كيسان إلا بهذا الإسناد، تفرد به ابن لهيعة، فهو متعقب بأنه نفسه - رحمه الله - قد

روى الحديث في معجمه الكبير من غير هذا الطريق، فقد رواه بإسناده عن يحيى بن أبي كثير، حدثني إسماعيل بن أبي خالد الفدكي، أخبرني محمد بن عبد الله الطائفي أن نافع بن كيسان أخبره أن أباه حمل خمرًا إلى المدينة …" الحديث1. ورواه بهذا الإسناد أيضًا ابن عساكر2. ويحيى بن أبي كثير من الثقات، إلا أنه يدلس3، وقد صرح بالتحديث في هذا الطريق، فانتفت هذه العلة، وإسماعيل بن أبي خالد الفدكي قال فيه ابن حجر: صدوق4. ولم أجد من وثق إسماعيل هذا إلا ابن حبان5. ومحمد بن عبد الله الطائفي، لعله محمد بن عبد الله بن عياض الطائفي. ذكره ابن حبان في الثقات6. وقال ابن حجر: مقبول7. وللحديث شواهد تؤيده، كحديث ابن عباس8، وتميم الداري9 وغيرهما. فالحديث بطريقيه وشواهده حسن لغيره. والله أعلم.

19 - (14) عن الحسن أن مولى لعثمان بن أبي العاص سأله أن يعطيه مالاً يتجر فيه والربح بينهما، فأعطاه عشرين ألف درهم، فاشترى به خمرًا، ثم قدم به الأبلة، فخرج إليه عثمان، فلم يدع منها دنًا ولا غيره إلا كسره، قال عثمان: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الخمر وشاربها، ومشتريها وبائعها، وعاصرها وحاملها ". رواه الطبراني في المعجم الكبير1، والأوسط2 وهذا لفظه، بإسناده عن عبد الله بن عيسى الخزاز، عن يونس بن عبيد، عن الحسن به. قال الطبراني في الأوسط: تفرد به عقبة بن مكرم. وقال الهيثمي: فيه عبد الله بن عيسى الخزاز، وهو ضعيف3. وعبد الله بن عيسى متكلم فيه. قال أبو زرعة: منكر الحديث. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال الساجي: عنده مناكير. وقال ابن عدي: يروي عن يونس وداود مالا يوافقه عليه الثقات، وهو مضطرب الحديث، وليس ممن يحتج به، وأحاديثه إفرادات كلها، ويختلف فيه لاختلافه في رواياته4. وجعله ابن حجر في مرتبة: ضعيف5. إلا أن عبد الله بن عيسى قد توبع في هذا الحديث، فقد تابعه سالم بن نوح كما عند البزار6، وسالم مختلف فيه؛ فوثقه أحمد، وأبو زرعة، والساجي وغيرهم. وضعفه ابن معين في رواية عنه، والنسائي وغيرهما7.

وجعله ابن حجر في مرتبة: صدوق له أوهام1. وباقي رجال الإسناد ثقات. والأُبُلَّة: هي بلدة على شاطئ دجلة البصرة العظمى، في زاوية الخليج الذي يدخل إلى البصرة2. وللحديث طريق أخرى أخرجها البزار3، والطبراني في المعجم الكبير4، بإسنادهما عن سالم بن نوح قال: أخبرني الجريري عن أبي العلاء يزيد بن عبد الله بن الشخير، عن عثمان بن أبي العاص به. ولفظ البزار: " أن مولى لعثمان بن أبي العاص اشترى خمرًا، فقال له عثمان: اردده، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخمر وحرم ثمنها، ولفظ الطبراني: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاربها وبائعها - يعني الخمر". والجريري هو سعيد بن إياس، وهو ثقة، إلا أنه اختلط5، وسالم بن نوح لم أقف على تمييز روايته، هل هي قبل الاختلاط أم بعده؟ ولكن الظاهر أنه روى عنه بعد الاختلاط؛ لأنه من صغار الرواة عنه، وقد قال أبو داود: كل من أدرك أيوب، فسماعه من الجريري جيد6، وسالم يبعد أنه أدرك أيوب السختياني؛ فإن الأخير توفي سنة إحدى وثلاثين ومائة7، وسالم توفي سنة مائتين8. فعلى ذلك فإن الحديث بطريقيه حسن لغيره. والله أعلم.

20 - (15) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً كان يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم كل عام راوية من خمر، فأهداها إليه عامًا وقد حرمت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنها قد حرمت"، فقال الرجل: أفلا أبيعها؟ فقال: "إن الذي حرم شربها حرم بيعها"، قال: أفلا أكارم بها اليهود؟ قال: "أن الذي حرمها حرم أن يكارم بها اليهود". قال: فكيف أصنع بها؟ قال: شنها في البطحاء". رواه الحميدي1، وابن أبي عمر2، كلاهما عن سفيان بن عيينة، ثنا سالم أبي النضر، عن رجل به. والحديث بهذا الإسناد ضعيف؛ لأن فيه رجلاً مبهمًا. إلا أن الحديث إلى قوله: "إن الذي حرم شربها حرم بيعها" له شواهد؛ كحديث ابن عباس3، وتميم الداري4 وغيرهما، فيكون بها حسنًا لغيره. - وقوله: "أكارم بها اليهود": قال ابن الأثير: "المكارمة أن تهدي الإنسان شيئًا ليكافئك عليه. وهو مفاعلة من الكرم"5. - وقوله: "شنها في البطحاء": أي صبها في البطحاء6.

21 - (16) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله؛ إن عندي مالاً ليتيم، فاشتريت به خمرًا؛ فتأذن لي أن أبيعها فأرد على اليتيم ماله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الثروب، فباعوها وأكلوا أثمانها "، ولم يأذن له النبي صلى الله عليه وسلم في بيع الخمر. رواه عبد الرزاق1، عن معمر، عن قتادة، وثابت، وأبان، كلهم عنه به، ومن طريق عبد الرزاق رواه أبو يعلى2، وابن حبان3. وهذا الإسناد فيه علة، وهي أن معمرًا وإن كان ثقة، إلا أنه تكلم في حديثه عن قتادة وثابت، فقال ابن معين: معمر عن ثابت ضعيف. وقال: حديث معمر عن ثابت وعاصم بن أبي النجود وهشام بن عروة وهذا الضرب مضطرب، كثير الأوهام4. وقال الدارقطني في العلل: " معمر سيء الحفظ لحديث قتادة والأعمش "5. وأما أبان، فهو ابن أبي عياش، قال فيه ابن سعد، وأحمد، والفلاس، والنسائي، والدارقطني: متروك الحديث. واتهمه شعبة وأحمد بالكذب6. ولذا جعله الحافظ ابن حجر في مرتبة: " متروك "7.

وعلى هذا فإن هذا الحديث بهذا الإسناد ضعيف. ومما يبين ضعفه أن المحفوظ في حديث أنس ليس فيه ذكر البيع، وإنما طلب أبو طلحة تخليل الخمر، فلم يأذن له النبي صلى الله عليه وسلم. فقد روى مسلم1، وأبو داود2، والترمذي3 من طرق عن أنس بن مالك قال: " إن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمرًا، قال: أهرقها. قال: أفلا أجعلها خلاً؟ قال: "لا". هذا لفظ أبي داود. ولفظ مسلم والترمذي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر تتخذ خلاً؟ فقال: لا". - وقوله: "حرمت عليهم الثروب": هو الشحم الرقيق الذي يغطي الكرش والأمعاء4. 22 - (17) عن بكر بن عبد الله المزني قال: لما حرمت الخمر أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله؛ أنبيعها فننتفع بأثمانها؟ قال: "أهريقوها". أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة5، عن عباد بن العوام، عن حصين بن عبد الرحمن السلمي عنه به. وهذا إسناد رجاله ثقات6، إلا أنه مرسل.

وحصين بن عبد الرحمن وإن كان قد اختلط إلا أن رواية عباد عنه قبل الاختلاط1. ولكن يشهد لمعناه حديث أبي سعيد الخدري2، وحديث عبد الرحمن بن وعلة عن ابن عباس3 وغيرهما من الأحاديث، فيكون بها حسنًا لغيره. والله أعلم. 23 - (18) عن محمد بن علي بن الحسين، أن رجلاً أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مزادة من خمر، فأمر ببيعها، فما ولى قال: "إن الذي حرم شربها حرم بيعها" فأمر بوكائها ففتحها. رواه مسدد4 قال: ثنا يحيى عن جعفر بن محمد به. ويحيى هو القطان. والإسناد قال فيه البوصيري: معضل5. وهذا الحكم فيه نظر؛ لأن محمد بن علي بن الحسين قد لقي بعض الصحابة؛ كابن عباس، وجابر بن عبد الله وغيرهما، فهو من التابعين6، فلا يقال - والحالة هذه - إن حديثه معضل، على أنه يمكن أن يكون

محمد بن علي بن الحسين أخذ هذا الحديث من هذا الرجل صاحب القصة. والله أعلم. والحديث مع إرساله، فإن له شاهدًا من حديث ابن عباس، وتميم الداري، فيكون حسنًا لغيره. والله أعلم. 24 - (19) عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من باع الخمر فليشقص الخنازير". رواه أبو داود السجستاني1، وأبو داود الطيالسي2، والحميدي3، والدارمي4، وابن أبي شيبة5، وأحمد6، والبيهقي7، وهذا لفظهم. كلهم من طرق عن طعمة بن عمرو الجعفي، عن عمر بن بيان التغلبي، عن عروة بن المغيرة بن شعبة عن أبيه. وطعمة بن عمرو الجعفي وثقه ابن معين، وابن نمير وغيرهما، وقال أبو حاتم: صالح الحديث لا بأس به8. وجعله ابن حجر في مرتبة: "صدوق"9.

وأما عمر بن بيان التغلبي فقد وقع عند الدارمي، وأحمد، والبيهقي: عمرو بن بيان، ولكن قال الدارمي: إنما هو عمر بن بيان. وقد سأل عبد الله بن أحمد أباه عن هذا الحديث فقال له: من عمر بن بيان؟ فقال أحمد: لا أعرفه1. وقال أبو حاتم في عمر بن بيان: معروف2. وذكره ابن حبان في الثقات3. وقال ابن حجر: مقبول4. وعروة بن المغيرة بن شعبة قال فيه الحافظ ابن حجر: ثقة5. ولم يتابع عمر بن بيان على هذا الحديث، فيبقى حديثه في مرتبة الضعيف؛ لعدم وجود التوثيق المعتبر له. - وقوله: "فليشقص الخنازير"، قال الخطابي: معناه فليستحل أكلها. والتشقيص يكون من وجهين: أحدهما: أن يذبحها بالمشقص، وهو نصل عريض. والوجه الآخر: أنه يجعلها أشقاصًا وأعضاء بعد ذبحها، كما تعضى أجزاء الشاة إذا أرادوا إصلاحها للأكل. ومعنى الكلام إنما هو توكيد التحريم والتغليظ فيه، يقول: من استحل بيع الخمر، فليستحل أكل الخنازير؛

فإنهما في الحرمة والإثم سواء، أي: إذا كنت لا تستحل أكل لحم الخنزير فلا تستحل ثمن الخمر1. قال ابن الأثير: وهذا لفظ أمر معناه النهي، تقديره: من باع الخمر فليكن للخنازير قصابًا2. 25 - (20) عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: كان رجل يحمل الخمر من خيبر إلى المدينة فيبيعها من المسلمين، فحمل منها بمال، فقدم به المدينة، فلقيه رجل من المسلمين، فقال: يا فلان؛ إن الخمر قد حرمت. فوضعها حيث انتهى على تل وسجى عليها بالأكسية، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله؛ بلغني أن الخمر قد حرمت. قال: "أجل"، قال: إلى أن أردها على من ابتعتها منه، قال: "لا يصلح ردها". قال: إلى أن أهديها لمن يكافئني منها، قال: "لا". قال: إن فيها مالاً ليتامى في حجري، قال: "إذا أتانا مال البحرين فأتنا نعوض أيتامك من مالهم"، ثم نادى بالمدينة، قال: فقال الرجل: يا رسول الله؛ الأوعية ننتفع بها؟ قال: "فحُلُّوا أوكيتها "، فانصبت حتى استقرت في بطن الوادي. أخرجه أبو يعلى3 وهذا لفظه، والطبراني في الأوسط4. كلاهما من طريق جعفر بن حميد الكوفي، حدثنا يعقوب القمي عن عيسى بن جارية به.

قال الهيثمي: وفي إسناد الجميع يعقوب القمي، وعيسى بن جارية، وفيهما كلام، وقد وثقا1. أما يعقوب القمي فقد تقدم2. وأما عيسى بن جارية فقال فيه ابن معين: عنده مناكير. وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال أبو داود: منكر الحديث. وقال ابن عدي: أحاديثه غير محفوظة3. وقال النسائي: منكر الحديث. وجاء عنه: متروك4. وقال الحافظ ابن حجر: فيه لين5. وأما جعفر بن حميد، فهو من شيوخ أبي يعلى، أخرج له مسلم في صحيحه في موضع واحد ووثقه مطين، وذكره ابن حبان في الثقات6. وقال الحافظان الذهبي7 وابن حجر8: ثقة. فعلى هذا؛ فإن الإسناد ضعيف؛ لضعف عيسى بن جارية. والله أعلم.

26 - (21) عن أم سليم - رضي الله عنها - قالت: لما نزل تحريم الخمر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم هاتفًا يهتف: "ألا إن الخمر قد حرمت، فلا تبيعوها ولا تبتاعوها، ومن كان عنده منها شيء فليهرقه". رواه الطبراني في الأوسط1 من طريق الوليد بن محمد الموقري، عن الزهري، عن أنس، عن أبي طلحة، عنها به. وقال: لم يروه عن الزهري إلا الوليد. وقال الهيثمي: فيه الوليد بن محمد الموقري، وهو ضعيف2. والوليد بن محمد عامة أئمة الجرح والتعديل يضعفونه، ولا سيما في الزهري، فإنه كما قال ابن حبان: يروي عن الزهري أشياء موضوعة لم يروها الزهري قط3. وقال الحافظ ابن حجر: متروك4. وعلى هذا؛ فإن الحديث بهذا الإسناد ضعيف جدًا، فلا يعتبر به. 27 - (22) عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل حرم عليكم عبادة الأوثان، وشرب الخمر، والطعن في الأنساب، ألا وإن الخمر لعن شاربها وعاصرها، وساقيها وبائعها، وآكل ثمنها". فقام إليه أعرابي فقال: يا رسول الله؛ إن كنت رجلاً كانت هذه تجارتي، فاعتقبت في الخمر مالاً، فهل

ينفعني ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أنفقته في حج أو جهاد أو صدقة لم يعدل عند الله جناح بعوضة، إن الله لا يقبل إلا الطيب". فأنزل الله تصديقًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} 1، فالخبيث الحرام. أخرجه الواحدي2، والأصبهاني في الترغيب والترهيب3، بإسنادهما عن أبي عبد الله الحاكم، أخبرني محمد بن القاسم المؤدب ببغداد، ثنا محمد بن يوسف بن يعقوب الرازي، ثنا إدريس بن علي الرازي، ثنا يحيى بن الضريس، ثنا سفيان، عن محمد بن سوقة، عن محمد بن المنكدر به. ومحمد بن يوسف بن يعقوب الرازي، قال فيه الدارقطني: يضع الحديث والقراءات والنسخ، وضع نحوًا من ستين نسخة قراءات ليس لشيء منها أصل، ووضع الأحاديث المسندة ما لا يضبط4. وساق الدارقطني حديثًا بإسناده عن محمد بن يوسف بن يعقوب الرازي، ثنا إدريس بن علي الرازي، ثنا يحيى بن الضريس. ثم قال الدارقطني: المتهم بوضعه محمد بن يوسف5. وإدريس بن علي لم أجد له ترجمة في شيء من كتب الجرح والتعديل، ولعله من وضع محمد بن يوسف الرازي. فعلى هذا، فإن هذا الحديث بهذا الإسناد موضوع. والله أعلم.

ومما ورد في هذا الفصل أيضًا: (23) حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - وقد تقدم1. (24) حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقد تقدم2. (25) حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -، وقد تقدم3. (26) حديث علي رضي الله عنه، وقد تقدم4. (27) حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، وقد تقدم5. (28) حديث ابن عباس - رضي الله عنهما، وسوف يأتي6 - إن شاء الله -.

دلالة الأحاديث السابقة: يستفاد مما تقدم من الأحاديث الثابتة أن بيع الخمر محرم، بل هو من كبائر الذنوب؛ لثبوت اللعن في حق بائع الخمر. وقد أجمع أهل العلم على تحريم بيع الخمر1. والخمر: هي كل ما خامر العقل، كما قال عمر رضي الله عنه2، أي خالطه وغطاه3، من كل مسكر؛ مشروب أو مأكول. سواء أكان من العنب أم من غيره؛ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام"4، فكل ما كان مسكرًا فهو خمر يحرم شربه وبيعه والتجارة فيه، فيدخل في هذا النبيذ المسكر، والحشيشة5، والكحول، وسائر المسكرات القديمة والحديثة6. وإذا خللت الخمر فلا يحل بيعها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الخمر تتخذ خلاً. قال: لا7. قال النووي: هذا دليل الشافعي والجمهور أنه لا يجوز تخليل الخمر، ولا تطهر بالتخليل8. وأما إذا تخللت بنفسها، فقال النووي: أجمعوا أنها إذا انقلبت بنفسها خلاً طهرت9.

وإنما فرق الشارع بين حكم الخمر إذا تخللت بنفسها وإذا تخللت بفعل آدمي؛ لأن الشارع نهى عن اقتناء الخمر، وأمر بإراقتها، فإذا قصد التخليل كان قد فعل محرمًا، والعين إذا كانت محرمة لم تصر محللة بالفعل المنهي عنه؛ لأن المعصية لا تكون سببًا للنعمة والرحمة، فكان من العدل ردع المحتال على المحرم لتحليله بمعاملته بنقيض قصده؛ كمن قتل مورثه، فإنه لا يرثه، بخلاف ما لو مات حتف أنفه1. ونهي عن بيع الخمر؛ قطعًا لها، ومنعًا من انتشارها بين المسلمين؛ لما فيها من الأضرار الكثيرة التي ذكر الله بعضها في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} 2. والقيام ببيع الخمر من التعاون على الإثم والعدوان، وقد نهى الله عنه في قوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} 3. فيجب على المسلمين الاحتساب في منع بيعها في المجتمع المسلم؛ لأنه وسيلة إلى إفساده، وأما أهل الذمة فإنهم لا يمنعون من بيعها بشرط أن يكون ذلك سرًا، ولا يبيعوها لمسلم4. وقد أخذ جمهور العلماء أيضًا من نهي الشارع عن بيع الخمر النهي عن بيع كل نجس؛ لكون الخمر نجسة. وقد سبق الكلام في بيع النجاسات عند الحديث عن حكم بيع الميتة5.

_ 1 انظر: موقف الإسلام من الخمر (ص158-159) . 2 الآيات (90-91) من سورة المائدة. 3 الآية (2) من سورة المائدة. 4 انظر في هذا: الفتاوى لابن تيمية (28/665،667) ، أحكام أهل الذمة (2/727) . 5 ص 48.

الفصل الثالث: ما ورد في النهي عن بيع الدم

الفصل الثالث: ما ورد في النهي عن بيع الدم 28 - (1) عن أبي جُحيفة رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب وثمن الدم، ونهى عن الواشمة والموشومة، وآكل الربا وموكله ولعن المصورين". رواه البخاري1 واللفظ له، وأبو داود2 - مختصراً -، والطيالسي3، وابن أبي شيبة4، وأحمد5، وأبو يعلى6، والطبراني في الكبير7، كلهم من طرقٍ عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه به. وفي لفظٍ لهم - سوى أبي داود - عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه "أنه اشترى حجّاماً فأمر بمحاجمه فكسرت. فسألته عن ذلك فقال ... " الحديث، وفي استدلال أبي جحيفة بهذا الحديث الذي فيه النهي عن ثمن الدم على النهي عن كسب الحجام ما يبين أن أبا جحيفة لم يكن عنده نصٌّ صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن كسب الحجام. فمن روى الحديث

عن أبي جحيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كسب الحجام، فقد أخطأ في لفظه. والله أعلم. وزاد البخاري، وابن أبي شيبة، وأحمد، وأبو يعلى، والطبراني: "وكسب البغي"، وعند الطيالسي: "وعن كسب المومسة"، وهما بمعنى واحد. وزاد الطيالسي بإسنادٍ صحيح: "وعن عسب الفحل". وجاء الحديث من وجهٍ آخر. فقد روى الطبراني في المعجم الكبير1 بإسناده عن يحيى بن عباد بن دينار الحرشي ثنا يحيى بن قيس الكندي عن عبد الملك بن عمير عن أبي جحيفة عن البراء بن عازب - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وكسب الحجام، وحلوان الكاهن، وعسب الفحل". ويحيى بن عباد بن دينار الحرشي لم أجد له ترجمة فيما لدي من المصادر. وقد وجدت الهيثمي قد قال أيضاً: "لم أجد من ترجمه"2. ويحيى بن قيس الكندي، ذكره البخاري3، وابن أبي حاتم4، ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً. وذكره ابن حبان في الثقات5. فعلى هذا فإن هذا الإسناد ضعيف. وكذلك لم يقع ذكر البراء بن عازب في شيء من طرق هذا الحديث غير هذه الطريق، فيكون ذكر البراء بن عازب رضي الله عنه في الإسناد منكراً، والله أعلم.

دلالة الأحاديث السابقة: يستفاد من هذا الحديث عن أبي جحيفة رضي الله عنه النهي عن بيع الدم. وقد اختلف في المراد به كما قال الحافظ ابن حجر: "فقيل: أُجرة الحجامة، وقيل: هو على ظاهره، والمراد تحريم بيع الدم كما حرم بيع الميتة والخنزير، وهو حرامٌ إجماعاً، أعني بيع الدم وأخذ ثمنه"1. وممن نقل الإجماع أيضاً على النهي عن ثمن الدم ابن المنذر2، وابن عبد البر3. وقد كان أهل الجاهلية يجمدون الدم ثم يأكلونه فجاء الإسلام وحرم أكل الدم أولاً بقوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ ... } الآية4، ثم نهى عن بيع الدم لنجاسته. والدم الذي نهي عن بيعه في حديث أبي جحيفة رضي الله عنه وإن كان قد اختلف في المراد به كما سبق، إلا أن الدم الذي يخرج من جسم الحيوان محرّمٌ أيضاً من وجهٍ آخر، وهو أن الشارع إذا حرَّم على قومٍ أكل شيءٍ حرّم عليهم ثمنه، كما سيأتي في الفصل التالي - إن شاء الله تعالى -. وأيضاً فإن ركن البيع في بيع الدم منعدم، وهو مبادلة المال بالمال، فإن الدم لا يعد مالاً عند أحد5. وأما إذا احتاج مريض إلى دم فإنه وإن جاز نقل الدم له6، فإنه لا يجوز بيعه عليه لعموم النهي عن بيع الدم، ولما فيه من مخالفةٍ لمكارم الأخلاق.

فإن لم يجد المريض إلا من يبذل له الدم بعوض فيباح له أن يشتري الدم من صاحبه والإثم على البائع1. فإن قيل: كيف يجوز نقل الدم ولا يجوز بيعه؟ فالجواب أن يقال بأنّ النهي عن بيع الشيء لا يستلزم النهي عن الانتفاع به كما سبق عند الكلام على ثمن الميتة. وكذلك العكس، فإنه لا يلزم من إباحة الانتفاع بالشيء إباحة ثمنه كما سيأتي عند الكلام على ثمن الكلب. ويستثنى من النهي عن بيع الدم ما استثني من تحريم أكله وهو الكبد والطِّحال. فقد روى ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أُحلِّت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالجراد والحوت، وأما الدمان فالطحال والكبد". رواه أحمد2، وابن ماجه3، والدارقطني4. إلا أن الراجح في هذا الحديث الوقف. وممن رجح الوقف أبو زرعة، وأبو حاتم، والدارقطني، وغيرهم5. إلا أن هذا الموقوف في حكم المرفوع كما قال ابن عبد الهادي6 وابن حجر7، "لأن قول الصحابي: "أُحل لنا" و "حُرِّم علينا كذا" مثل قوله: "أُمرنا بكذا، ونهينا عن كذا"8.

_ 1 انظر: أحكام الجراحة الطبية والآثار المترتبة عليها (ص583) . وبهذا أجابت اللجنة الدائمة للإفتاء. انظر: مجلة البحوث الإسلامية (العدد السابع: ص112، فتوى رقم: 96، بتاريخ: 25/4/1392هـ) . 2 المسند (2/97) . 3 سنن ابن ماجه [كتاب الصيد (2/1073) ، كتاب الأطعمة (2/1101-1102) ] . 4 سنن الدارقطني (4/271-272) . 5 التلخيص الحبير (1/26) . 6 نصب الراية (4/202) . 7 التلخيص الحبير (1/26) . 8 المرجع السابق.

الفصل الرابع: ما ورد في النهي عن ما حرم أكله وشربه

الفصل الرابع: ما ورد في النهي عن ما حرم أكله وشربه ... الفصل الرابع: ما ورد في النهي عن بيع ما حرم أكله وشربه 29 - (1) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: بلغ عمر أن فلاناً باع خمراً، فقال: قاتل الله فلاناً، ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها". رواه البخاري1 وهذا لفظه، ومسلم2، والنسائي3، والحميدي4، وابن أبي شيبة5، والدارمي6، والبزار7، وأبو يعلى8. كلهم من طرقٍ عنه به. وفي رواية مسلم وغيره: توضيح المبهم الواقع في لفظ البخاري في الذي باع الخمر بأنه سمرة ابن جندب رضي الله عنه. ومعنى قوله "جملوه" أي أذابوه - وقد تقدم تفسيرها -9. وأما سبب بيع سمرة بن جندب رضي الله عنه للخمر فاختلف في ذلك على أقوال.

فقيل: إنه أخذها من أهل الكتاب عن قيمة الجزية فباعها منهم معتقداً جواز ذلك، وكان ينبغي له أن يوليهم بيعها فلا يدخل في محظور وإن أخذ أثمانها منهم بعد ذلك لأنه لم يتعاط محرماً. الثاني: ما قاله الخطابي وهو أن يكون باع سمرة العصير ممن يتخذه خمراً. الثالث: أن يكون خلل الخمر وباعها، وكان سمرة يعتقد جواز ذلك - ولكن هذا ضعيف لأن في الحديث أنه باع خمراً، والخمر إذا خللت لا تعود إلى ما كانت عليه. ورجح ابن الجوزي والقرطبي القول الأول، وبين الحافظ ابن حجر أنه على هذا القول يحتمل أن يكون بعض من ولاهم عمر رضي الله عنه استعمل سمرة على قبض الجزية، وذلك لأن سمرة لم يكن والياً لعمر رضي الله عنه. وأما ما ذكره ابن الجوزي من أن عمر رضي الله عنه استعمل سمرة على البصرة فوهم. قاله ابن حجر1. ولعله مما يؤيد هذا القول ما رواه الحميدي2، والبيهقي3 بإسنادٍ فيه راوٍ لم يسم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر يقول بيده هكذا - يعني يحركها يميناً وشمالاً - عويمل لنا بالعراق، عويمل لنا بالعراق خلط في فيء المسلمين أثمان الخمر والخنازير، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها". وعند عبد الرزاق4 نحو هذا بلفظ: "رأيت عمر يقلِّب كفيه ويقول: قاتل الله سمرة عويمل لنا بالعراق ... " الحديث.

30 - (2) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قاتل الله يهوداً، حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها". رواه البخاري1 وهذا لفظه، ومسلم2، وأحمد3. كلهم من طرقٍ عن الزهري عن سعيد بن المسيب عنه به. وفسّر البخاري "قاتل" بمعنى لعن. وقد جاء بلفظ اللعن في أحاديث أخرى في هذا الفصل. 31 - (3) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً عند الركن، قال: فرفع بصره إلى السماء فضحك فقال: "لعن الله اليهود - ثلاثاً -، إن الله حرم عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه". رواه أبو داود4، وأحمد5، وأبو يعلى6، وابن حبان7، والطبراني في الكبير8، والدارقطني9، والبيهقي10، وابن عبد البر11. كلهم من طرقٍ عن خالد الحذاء عن بركة أبي الوليد به.

وهذا إسناد صحيح، فإن بركة أبا الوليد وثقه أبو زرعة وذكره ابن حبان في الثقات1. وجعله ابن حجر في مرتبة: ثقة2. وفي رواية لأحمد3 وقع في الإسناد: هشيم عن خالد الحذاء عن بركة بن العريان المجاشعي به. وقد ذكر لأبي حاتم رواية هشيم هذه فقال: "هذا خطأ، إنما هو بركة أبي الوليد، وهم فيه هشيم"4. ونحوه ما نقل ابن عبد البر عن أحمد بن زهير أنه قال: سمعت أبي - وهو زهير بن حرب - يقول: وأبو العريان الذي يحدث عنه خالد اسمه أنيس5. والجواب عن هذا أن مسلماً ذكر أن بركة المجاشعي يكنى أبا العريان6. وكذلك نقل ابن خلفون أن بركة أبا الوليد يقال له أبو العريان7. ويؤيد هذا أن الطبراني وابن عبد البر روياه بإسنادهما عن هشيم عن خالد الحذاء عن بركة أبي الوليد عن ابن عباس به. فدلّ على أن هشيماً لم يخطئ وإنما نسبه مرةً وكنّاه أخرى. والله أعلم.

32 - (4) عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم نعوده وهو مريض، فوجدناه نائماً قد غطَّى وجهه ببردٍ عدني، فكشف عن وجهه ثم قال: "لعن الله اليهود يحرمون شحوم الغنم ويأكلون أثمانها". رواه ابن أبي شيبة1 وهذا لفظه، والحارث بن أبي أسامة2، ومن طريقه أبو نعيم الأصبهاني في معرفة الصحابة3، ويعقوب بن شيبة4، والبزار5، والحاكم6، والضياء المقدسي7. كلهم من طرقٍ عن الأعمش عن جامع بن شداد عن كلثوم الخزاعي عنه به. وقال البزار: "هذا الحديث لا نعلمه يروى عن أسامة إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد". وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه". وكلثوم الخزاعي هو ابن علقمة بن ناجية الخزاعي المصطلقي. ذكره بعضهم في الصحابة، ولكن قال أبو نعيم: لا تصح له صحبة8. وقال ابن عبد البر:

"أحاديثه مرسلة، لا تصح له صحبة"1. ولذا ذكره ابن حبان في ثقات التابعين2. وجعله ابن حجر في مرتبة: ثقة. والذي يظهر لي أنه على الاصطلاح الذي وضعه ابن حجر في تقريب التهذيب ينبغي أن يقول فيه: "مقبول" فإنه ليس بصحابي ولم يوثقه غير ابن حبان. إلا أن للحديث شواهد تؤيده، وهي ما سبق ذكره من أحاديث هذا الفصل، كحديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -3، فيكون بها حسناً لغيره. والله أعلم. 33 - (5) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثمن الحريسة4 حرام، وأكلها حرام". رواه أحمد5 عن يحيى بن يزيد النوفلي، عن أبيه، عن جبير بن أبي صالح، - وكان يقال له ابن نفيلة - عنه به. ويحيى بن يزيد هو ابن عبد الملك النوفلي. قال فيه أحمد: لا بأس به. ولم يكن عنده إلا حديث أبيه، ولو كان عنده غير حديث أبيه لتبيّن أمره.

وقال أبو حاتم: منكر الحديث، لا أدري منه أو من أبيه، لا ترى حديثه حديثاً مستقيماً. وقال أبو زرعة: لا بأس به، إنما الشأن في أبيه1 - ثم نقل عن أحمد كلامه المتقدم -. ويعنون بذلك أن يحيى بن يزيد لم يرو عن غير أبيه، وأبوه متكلم فيه - كما سيأتي - فلا يعلمون النكارة أهي من قبله أو من قبل أبيه. وضعفه أيضاً ابن عدي2. وأما يزيد بن عبد الملك النوفلي فقد قال فيه ابن سعد: كان جلداً صارماً ثقة، وقال مرّة: عنده مناكير. وقال ابن معين: ليس حديثه بذاك. وقال أيضاً: ما كان به بأس. وقال أحمد: ضعيف الحديث. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، منكر الحديث جداً. وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث. وقال مرّة: واهي الحديث. وقال البخاري: أحاديثه شِبْه لا شيء. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال أيضاً: ليس بثقة3. وأما ابن حجر فجعله في مرتبة الضعيف4. والذي يظهر لي أنه ضعيف جداً لما سبق من أقوال الأئمة فيه. وأما جبير بن أبي صالح فقال فيه ابن حجر: إنما هو بشير - بوزن عظيم - وذكر ابن حجر اختلاف نسخ المسند في ذلك. وهو على كل قولٍ مجهول5. فعلى هذا فإن الحديث ضعيف جداً لا يعتبر به. والله أعلم.

وللحديث طريق أخرى، فقد أخرجه إسحاق بن راهويه1، والحاكم2 من طريق مصعب بن محمد عن شرحبيل بن سعد مولى الأنصار عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اشترى سرقة وهو يعلم أنها سرقة فقد شرك في عارها وإثمها". قال الحاكم: صحيح ولم يخرجاه. ورواه ابن أبي شيبة3 بإسناده عن مصعب بن محمد عن رجلٍ من أهل المدينة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم ... " الحديث بمثله. وتعقب الذهبي تصحيح الحاكم بأن في إسناده مسلم بن خالد الزنجي وشرحبيل وهما ضعيفان4. أما مسلم بن خالد الزنجي فقد قال فيه ابن سعد: كان كثير الغلط في حديثه. وقال ابن المديني: ليس بشيء. وقال ابن معين: ثقة. وقال البخاري: منكر الحديث يكتب حديثه ولا يحتج به، يعرف وينكر. وقال ابن عدي: حسن الحديث وأرجو أنه لا بأس به5. وخلص فيه ابن حجر إلى أنه "فقيه صدوق كثير الأوهام"6. وشرحبيل بن سعد قال فيه مالك: ليس بثقة. وقال ابن معين: ليس بشيء، يضعّف. وقال أبو زرعة: ليِّن. وقال النسائي: ضعيف. وقال

الدارقطني: ضعيف يعتبر به1. وجعله الحافظ ابن حجر في درجة: "صدوق اختلط بآخرة"2. ويظهر لي أن أولى ما يقال فيه ما قاله الدارقطني. والله أعلم. فعلى هذا فإن هذه الطريق ضعيفة، وهي صالحة للاعتبار. وللحديث أيضاً طريق أخرى، فقد أخرج ابن عدي3 بإسناده عن ابن لهيعة حدثنا إسحاق بن أبي فروة عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اشترى سرقة وهو يعلمها فقد شرك في عارها وإثمها". إلا أن في الإسناد إسحاق بن عبد الله بن أبي وفرة، قال فيه أحمد: لا تحل عندي الرواية عنه. وقال البخاري: تركوه. وقال عمرو بن علي وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي والدارقطني وغيرهم: متروك4. ولذا قال ابن حجر: متروك5. فعلى هذا، فلا يعتبر بهذه الطريق. فعلى هذا، فإن الحديث ضعيف وأحسن طرقه طريق مصعب بن محمد عن شرحبيل به. والله أعلم.

34 - (6) عن عبد الله بن أبي بكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قاتل الله اليهود، نُهوا عن أكل الشحم فباعوه فأكلوا ثمنه". رواه مالك1 عن عبد الله بن أبي بكر به مرسلاً. وعبد الله بن أبي بكر هو عبد الله بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني القاضي. ثقة من الخامسة2. ويشهد لهذا المرسل الأحاديث الأخرى في هذا الفصل، فيكون بها حسناً لغيره. والله أعلم. 35 - (7) عن تميم الدَّاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يحل ثمن شيءٍ لا يحل أكله وشربه". رواه الدارقطني3 بإسناده عن شبابة بن سوّار عن أبي مالك النخعي عن المهاجر أبي الحسن عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عنه به. ورجاله ثقات ما عدا أبا مالك النخعي الواسطي. قيل اسمه عبد الملك بن الحسين، وقيل عبادة بن الحسين. وقد تكلم فيه الأئمة. فقال فيه ابن معين: ليس بشيء. وقال أبو زرعة وأبو حاتم: ضعيف الحديث. وقال عمرو بن علي: ضعيف منكر الحديث. وقال أبو داود: ضعيف. وقال النسائي: ليس بثقة، ولا يكتب حديثه. وقال مرة: متروك الحديث4.

وخلص فيه الحافظ ابن حجر إلى أنه: "متروك"1. فعلى هذا فإن إسناد هذا الحديث ضعيف جداً لا يعتبر به. والله أعلم. ومما ورد في هذا الفصل أيضاً: (8) حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، وقد تقدم2. (9) حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -، وقد تقدم3. (10) حديث عبد الرحمن بن غنم عن تميم الداري رضي الله عنه، وقد تقدم4. (11) حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -، وقد تقدم5.

دلالة الأحاديث السابقة: يستفاد مما تقدم من الأحاديث الثابتة أن ما حرم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أكله وشربه فثمنه حرام، وفي حكم الأكل والشرب ما حرم تحريماً مطلقاً كالصلبان والصور المحرمة وغيرها؛ لأن في بيعه تعاونًا على الإثم والعدوان، وقد نهى الله عنه. وفي بيعه أيضاً محادّة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم في تحريمهما له، فإن في بيعه إعانة على مخالفة هذا التحريم. وقد تقدم أن الله لعن اليهود بسبب بيعهم لشحوم الميتة بعد أن نهوا عن أكلها، فمن باع ما حرم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من مأكول أو مشروب أو غيره فقد عرَّض نفسه للعنة الله - والعياذ بالله - وإن لم يتناول هذا المحرم. ويدخل في النهي عن بيع ما حرم أكله وشربه ما لو كان المشتري ليس مسلماً. فإن في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن عمر رضي الله عنه أنكر على من باع الخمر لأهل الذمة فقال: "قاتل الله فلاناً ... " الحديث. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله إذا حرّم على قومٍ أكل شيءٍ حرم عليهم ثمنه" حمل الطبري هذا الحديث على ما حرم مما هو نجس1. وجعله ابن عبد البر وارداً فيما حرم أكله ولم يبح الانتفاع به2. والأولى أن يقال هذا الحديث عام فلا يخرج منه إلا ما خصّه الدليل كما قال الشوكاني3، كالإنسان يحرم أكله ويباح بيعه إذا كان عبداً،

وكذا الحمار الأهلي يحرم أكله ويباح بيعه، ونحو ذلك مما خص من العموم. والله أعلم. ولا يدخل في النهي الوارد عن بيع ما حرم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ما إذا كان التحريم ليس عامًا لجميع الناس، كما في الذهب والحرير، يجوز للرجال بيعهما مع أنه يحرم عليهم لبسهما. فقد روى البخاري1 واللفظ له، ومسلم2 وغيرهما عن ابن عمر- رضي الله عنهما -: أن عمر رضي الله عنه رأى حلة سيراء تباع، فقال: يا رسول الله؛ لو ابتعتها لتلبسها للوفد إذا أتوك والجمعة، قال: "إنما يلبس هذه من لا خلاق له". وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعد ذلك إلى عمر رضي الله عنه حلة سيراء حريرًا كساها إياه، فقال عمر رضي الله عنه: كسوتنيها وقد سمعتك تقول فيها ما قلت. فقال: "إنما بعثت بها إليك لتبيعها أو تكسوها".

_ 1 صحيح البخاري - مع الفتح – [كتاب اللباس (10/رقم 5841) ] . 2 صحيح مسلم [كتاب اللباس والزينة (3/1640) ] .

الفصل الخامس: ما ورد في النهي عن بيع ما يعلم أن المشتري يستعمل المبيع في الحرام

الفصل الخامس: ما ورد في النهي عن بيع ما يعلم أن المشتري يستعمل المبيع في الحرام 36 - (1) عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع السلاح في الفتنة". رواه أحمد بن منيع1، والبزار2، والعقيلي3، والطبراني في الكبير4، وابن عدي5، والبيهقي6. كلهم من طرقٍ عن بحر بن كنيز السقاء عن عبيد الله بن القبطية عن أبي رجاء العطاردي عنه به. وبحر بن كَنِيز هو أبو الفضل السَّقاء قال فيه ابن معين: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: ضعيف. وقال أبو داود والنسائي والدارقطني: متروك7. وقال ابن عدي: كل رواياته مضطربة ويخالف الناس في أسانيدها ومتونها والضعف على حديثه بيِّن. وقال أيضاً: هو إلى الضعف أقرب منه إلى غيره8. وجعله ابن حجر في مرتبة الضعيف9.

والذي يظهر لي أنه ضعيف جداً لما تقدم من قول أكثر الأئمة فيه. والله أعلم. وللحديث إسناد آخر، فقد رواه ابن عدي1 - ومن طريقه البيهقي2 - وعلقه العقيلي3 - ووصله البيهقي4 - والخطيب البغدادي5 بإسنادهم عن محمد بن مصعب عن أبي الأشهب عن أبي رجاء عنه به. وأبو الأشهب هو جعفر بن حيان السعدي العطاردي البصري. ثقة6. وأما محمد بن مصعب، فهو ابن صدقة القُرقُسائي. قال فيه ابن معين: ليس بشيء. وقال أيضاً: لم يكن من أصحاب الحديث، كان مغفلاً. وقال أيضاً: ليس يدري ما يحدث. وقال أحمد: لا بأس به. وقال أبو زرعة: صدوق في الحديث، ولكنه حدث بأحاديث منكرة، فسأله ابن أبي حاتم: فليس هذا مما يضعفه؟ قال: نظن أنه غلط فيه. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث. وقال النسائي: ضعيف. وقال ابن حبان: ساء حفظه فكان يقلب الأخبار ويرفع المراسيل، لا يجوز الاحتجاج به7.

وخلص الحافظ ابن حجر إلى أنه صدوق كثير الغلط1. ومما يدل على غلطه أنه قد اضطرب في هذا الحديث، فرواه مرة مرفوعاً كما سبق، وأخرى موقوفاً على عمران بن حصين رضي الله عنه، وذلك فيما رواه العقيلي2، وابن عدي3، والبيهقي4 بأسانيدهم عن يحيى بن معين عن محمد بن مصعب بإسناده موقوفاً. وتابع محمد بن مصعب على الوقف سلم بن زرير كما قال العقيلي. وقد رواه أيضاً موقوفاً البخاري تعليقاً مجزوماً به عن عمران5 رضي الله عنه، ولذا رجح البيهقي وقفه فقال: رفعه وهم والموقوف أصح6. وكذلك قال الحافظ ابن حجر: الصواب وقفه7. وجعل ابن معين8 والعقيلي الحديث من قول أبي رجاء، فيكون مقطوعاً. ولكن الذي يظهر أنه موقوف على عمران بن حصين رضي الله عنه كما قال البيهقي وابن حجر لمتابعة سلم بن زرير لمحمد بن مصعب. والله أعلم.

وقد كره عمران بن حصين رضي الله عنه بيع السلاح في الفتنة؛ لأن في بيعه إذ ذاك إعانة لمن اشتراه. قال ابن بطال: إنما كره بيع السلاح في الفتنة؛ لأنه من باب التعاون على الإثم1. والله أعلم. 37 – (2) عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حبس العنب أيام القطاف حتى يبيعه من يهودي أو نصراني، أو ممن يعلم أنه يتخذه خمرًا فقد أقدم على النار على بصيرة". رواه ابن حبان في المجروحين2 وهذا لفظه - ومن طريقه ابن الجوزي في العلل المتناهية3 - والطبراني في الأوسط4، والسهمي5، والبيهقي في شعب الإيمان6. كلهم من طرق عن عبد الكريم بن أبي عبد الكريم، عن الحسن بن مسلم، عن الحسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه به. قال ابن حبان: "وهذا حديث لا أصل له عن حسين بن واقد وما رواه ثقة، والحسن بن مسلم هذا راويه يجب أن يعدل به عن سنن العدول إلى المجروحين برواية هذا الخبر المنكر".

وقال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن بريدة إلا بهذا الإسناد، تفرد به أحمد بن منصور المروزي". وقد رواه ابن حبان من غير طريق أحمد بن منصور المروزي، فيستدرك على الطبراني. وتكلم في الحديث من أجل عبد الكريم بن أبي عبد الكريم، والحسن بن مسلم المروزي التاجر. فقد ذكر ابن أبي حاتم هذا الحديث لأبيه فقال: "هذا حديث كذب باطل. قلت: تعرف عبد الكريم هذا؟ قال: لا. قلت: فتعرف الحسن بن مسلم؟ قال: لا، ولكن تدل روايتهم على الكذب"1. ولما ترجم الذهبي للحسن بن مسلم قال فيه: "أتى بخبر موضوع في الخمر - ثم ذكر هذا الحديث -"2. ونقل هذا الحافظ ابن حجر في لسان الميزان ولم يتعقبه بشيء3. ولما ترجم لعبد الكريم بن أبي عبد الكريم نقل فيه قول ابن حبان: "عبد الكريم بن عبد الكريم البجلي عن عبد الله بن عمرو، وعنه جبارة بن المغلس مستقيم الحديث". قال الحافظ بعده: "فالظاهر أنه هو الذي تكلم فيه أبو حاتم، ولعل ما أنكره أبو حاتم من جهة صاحبه جبارة، ويؤيده أن أبا حاتم قال قبل ذلك: لا أعرفه". انتهى كلام الحافظ4.

ولعل ترجيح الحافظ لقول ابن حبان هو الذي حمله على تحسين الحديث في كتابه بلوغ المرام1. فيكون رجح أن يكون عبد الكريم مستقيم الحديث. وفات عليه أن في إسناده الحسن بن مسلم المروزي، وهو متهم بالكذب كما سبق من قول أبي حاتم. فالأولى أن يحكم على الحديث بالوضع. والله أعلم.

دلالة الأحاديث السابقة: الأحاديث الواردة في هذا الفصل، وإن لم يصح منها حديث، إلا أن مقاصد الشريعة جاءت بما دلت عليه من النهي عن بيع ما يعلم أن المشتري يستعمل المبيع في الحرام؛ لأن هذا البيع يتضمن الإعانة على الإثم والعدوان. وقد سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن عاصر الخمر1، وهو إنما يعصر عنبًا يصير عصيرًِا، والعصير حلال، يمكن أن يتخذ خلاً أو دبسًا وغير ذلك2، ولكنه إنما لعن من عصر العنب ليتخذ هو أو غيره الخمر منه. ويدخل في ذلك ما إذا باع العصير على من يعمل الخمر منه. "وفي معنى هذا كل بيعٍ أو إجارة أو معاوضة تعين على معصية الله، كبيع السلاح للكفّار والبغاة وقطّاع الطريق، وبيع الرقيق لمن يفسق به أو يؤاجره لذلك، أو إجارة داره أو حانوته أو خانه لمن يقيم فيها سوق المعصية، ونحو ذلك مما هو إعانة على ما يبغضه الله ويسخطه"3. ومن هذا أيضاً ينهى عن بيع عقارٍ أو آلة أو غيرها لمن يقيم فيها أو يستعملها في الحرام. ويعد هذا من باب سدِّ الذرائع. وهذا كله فيما إذا كان المبيع مباحاً في الأصل. وأما إذا كان محرّماً فهو داخل أيضاً في الفصل السابق وهو النهي عن بيع ما جاء في الشريعة تحريمه. فإذا ثبت تحريم بيع ما يعلم أن المشتري يستعمل المبيع في الحرام، "فإنما يحرم البيع ويبطل إذا علم البائع قصد المشتري ذلك إما بقوله، وإما بقرائن

محتفة به تدل على ذلك، فأما إذا كان الأمر محتملاً مثل أن يشتريها من لا يعلم حاله أو من يعمل الخل والخمر معاً ولم يلفظ بما يدل على إرادة الخمر فالبيع جائز"1. والله أعلم.

_ 1 المغني (4/307) .

الفصل السادس: ما ورد في النهي عن بيع الكلب والسنور

الفصل السادس: ما ورد في النهي عن بيع الكلب والسنور 38 - (1) عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن". رواه البخاري1، ومسلم2، وأبو داود3، والترمذي4، والنسائي5، وابن ماجه6، ومالك7، والحميدي8، وابن أبي شيبة9، وأحمد10، والدارمي11، والطحاوي12. كلهم من طرقٍ عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عنه به. قال الترمذي: حسن صحيح. وفي لفظ للطحاوي: "ثلاث هن سحت ... " أي حرام. قال مالك: يعني بمهر البغي ما تعطاه المرأة على الزنا، وحلوان الكاهن رشوته وما يعطى على ما يتكهَّن.

39 - (2) عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب والسِّنور". جاء هذا الحديث عن جابر رضي الله عنه من طرق: الطريق الأولى: الأعمش عن أبي سفيان عنه به: رواه أبو داود1، والترمذي2، وابن الجارود3، والطحاوي4، والدارقطني5، والحاكم6، والبيهقي7. كلهم من هذا الطريق بهذا اللفظ المذكور. قال الترمذي: "هذا حديث في إسناده اضطراب، ولا يصح في ثمن السِّنَّور، وقد روي هذا الحديث عن الأعمش عن بعض أصحابه عن جابر، واضطربوا على الأعمش في رواية هذا الحديث، وقد كره قومٌ من أهل العلم ثمن الهر، ورخص فيه بعضهم، وهو قول أحمد وإسحاق، وروى ابن فضيل عن الأعمش عن أبي حازم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير هذا الوجه". انتهى. وقد أُعلَّ هذا الطريق بعلتين: الأولى: ما أشار إليها الترمذي، وهي الاضطراب. فقد رواه وكيع عن الأعمش قال: أُرى أن أبا سفيان ذكره عن جابر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم

عن ثمن الهر". رواه ابن أبي شيبة1، وأبو يعلى2. ورواه حفص بن غياث عن الأعمش قال: حدثني أبو سفيان عن جابر، أثبته مره، ومرة شكَّ في أبي سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه نهى عن ثمن الكلب والسِّنَّور". رواه الطحاوي3. قال البيهقي: "فالأعمش كان يشك في وصل الحديث فصارت رواية أبي سفيان بذلك ضعيفة"4. الثانية: قال ابن عيينة: حديث أبي سفيان عن جابر إنما هي صحيفة. وكذا قال شعبة. وقال شعبة أيضاً وابن المديني: أبو سفيان لم يسمع من جابر إلا أربعة أحاديث5. وليس منها هذا الحديث. وقد أجاب الحافظ ابن حجر عن تخريج البخاري لحديث أبي سفيان عن جابر - رضي الله عنهما -6 وأنه إنما أخرجه مقرونًا. قال الحافظ: "وقد احتج به الباقون7 ومنهم الإمام مسلم، فقد أخرج له عدة أحاديث"8. فعلى هذا فهذه الطريق ضعيفة لاضطرابها وانقطاعها. وقد ضعف ابن عبد البر رواية الأعمش هذه9.

الطريق الثانية: معقل عن أبي الزبير عنه به: رواه مسلم1، والبيهقي2 من هذا الطريق. ولفظه: عن أبي الزبير قال: سألت جابراً رضي الله عنه عن ثمن الكلب والسِّنَّور قال: "زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك". الطريق الثالثة: ابن لهيعة عن أبي الزبير عنه به: رواه ابن ماجه3، وأحمد4، والطحاوي5، كلهم من هذا الطريق. ولفظ ابن ماجه: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن السِّنَّور". وابن لهيعة تقدم الكلام فيه6 وأنه ضعيف، إلا أنه قد توبع بما سبق. الطريق الرابعة: حماد بن سلمة عن أبي الزبير عنه به: رواه النسائي7، والطحاوي8، والدارقطني9، والبيهقي10، كلهم من هذا الطريق. ولفظهم: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب والسِّنَّور إلا كلب صيدٍ". قال النسائي عن هذا الحديث: "ليس هو بصحيح"، وقال: "هذا منكر".

ووجه النكارة في هذا المتن هو استثناء كلب الصيد من عموم الكلاب، وفي هذا مخالفة للروايات الأخرى. وفيه علة أخرى وهي أنه قد اختلف على حماد بن سلمة في رفع هذا الحديث ووقفه. فرواه وكيع عن حماد عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه: " أنه كره ثمن الكلب إلا كلب صيدٍ" 1. ورواه عبد الواحد بن غياث - وهو صدوق2 - عن حماد عن أبي الزبير عن جابر قال: "نهى عن ثمن الكلب والسنور إلا كلب صيد"3. ورواه عبيد الله بن موسى عن حماد عن أبي الزبير عن جابر لا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم ... " فذكر الحديث بمثله4. ورواه الهيثم بن جميل5 وسويد بن عمرو6 عن حماد مرفوعاً. وقد رجح الدارقطني الوقف7. الطريق الخامسة: عمر بن زيد الصنعاني عن أبي الزبير عنه به: رواه عبد الرزاق8 من هذا الطريق، ومن طريقه رواهأبو داود9، والترمذي10، وابن ماجه11، وأحمد12،

والدارقطني1، والحاكم2، كلهم من هذا الطريق. ولفظه: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الهر وأكل ثمنه". قال الترمذي: "حديث غريب". وعمر بن زيد الصنعاني، قال فيه البخاري بعد ذكره لحديثه هذا: "فيه نظر". وقال ابن حبان: يتفرد بالمناكير عن المشاهير حتى خرج عن حد الاحتجاج به3. وقد تعقب الذهبي الحاكم في ذكره لهذا الحديث في المستدرك فقال عقبه: "عمر واهٍ" يعني عمر بن زيد. وحكم الذهبي هذا وما اختاره فيه أولى من المرتبة التي جعله فيها الحافظ ابن حجر، وهي: "ضعيف"4؛ لأن قول البخاري في الراوي: "فيه نظر" تضعيف شديد، كما ذكر ذلك الذهبي5 وابن كثير6 وغيرهما. فعلى هذا، فلا يعتبر بهذه الطريق. والله أعلم. الطريق السادسة: الحسن بن أبي جعفر عن أبي الزبير عنه به: رواه أحمد7، وأبو يعلى8، والدارقطني9، كلهم من هذا الطريق. ولفظهم: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب إلا الكلب المعلم"، زاد الدارقطني: "والهر" بعد قوله "ثمن الكلب".

والحسن بن أبي جعفر هو الجُفري، ذكره ابن مهدي فيمن يترك حديثه1. وقال الترمذي: ضعفه يحيى بن سعيد وغيره. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: ضعيف. وقال مرةً: متروك. وقال ابن عدي: صدوق2. وجعله ابن حجر في مرتبة "ضعيف الحديث"3. والذي يترجح لي مما تقدم من أقوال الأئمة أنه ضعيف جداً في الحديث. والله أعلم. الطريق السابعة: خير بن نعيم عن أبي الزبير عنه به: رواه الطبراني4، والدارقطني5، من هذا الطريق. ولفظه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن السِّنَّور". وهو الهرَّ. وفي إسنادهما وهب الله بن راشد أبو زرعة الحجري. فلم يكن النسائي يرضاه. وقال أبو حاتم: محله الصدق. وقال ابن حبان: يخطئ. وغمزه سعيد بن أبي مريم6. فمما تقدم يتبين أنه ضعيف. والله أعلم. وقد تفرد به وهب الله من هذا الطريق كما قال الطبراني. وخير بن نعيم قد اختلف عليه. فروي عنه عن أبي الزبير كما تقدم.

ورواه أحمد من طريق ابن لهيعة عن خير بن نعيم عن عطاء بن أبي رباح عن جابر ابن عبد الله رضي الله عنه به1. وابن لهيعة تقدم أنه ضعيف2. ومن ثمَّ حكم الحافظ ابن حجر على حديث خير بن نعيم عن عطاء بأنه معلول3 بسبب الاضطراب الواقع في إسناده. الطريق الثامنة: شرحبيل بن سعد الخَطمي عنه به: رواه أحمد4 عن أبي أويس عن شرحبيل به. ولفظه: "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ثمن الكلب. وقال: طعمة جاهلية". وشرحبيل بن سعد تقدم الكلام فيه5، وأنه ضعيف يعتبر به. وأبو أويس هو عبد الله بن عبد الله الأصبحي المدني. قال أحمد: ليس به بأس. وقال ابن معين: ليس بقوي. وقال مرةً: ضعيف. وقال ابن المديني: كان عند أصحابنا ضعيفاً. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال أبو داود: صالح الحديث. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به وليس بالقوي6. وجعله ابن حجر في مرتبة "صدوق يهم"7. فعلى هذا فإن إسناد هذه الطريق ضعيف، إلا أن المتابعات المذكورة تؤيد معناها وهو النهي عن ثمن الكلب. والله أعلم.

الطريق التاسعة: محمد بن زياد الألهاني عنه به: رواه الطبراني في الأوسط1 من هذا الطريق. ولفظه: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الهر وأكل ثمنها". وفي إسناده محمد بن المتوكل بن أبي السَّري. وثقه ابن معين. وقال أبو حاتم: لين الحديث. وقال ابن عدي: كثير الغلط2. وخلص فيه الحافظ ابن حجر إلى أنه: "صدوق عارف له أوهام كثيرة"3. وقد تفرد به من هذا الوجه كما قال الطبراني. وفي إسناده أيضاً بقية بن الوليد وهو يدلس تدليس التسوية4، ولم يقع التصريح بالسماع فيما بين محمد بن زياد وجابر رضي الله عنه. فمما سبق يتبين أن هذا الطريق ضعيف. إلا أنه صالح في باب المتابعات. والله أعلم. هذه هي الطرق التي وقفت عليها في هذا الحديث عن جابر رضي الله عنه. وقد تبين أنه صحيح ثابت في النهي عن ثمن الكلب والسِّنَّور. وأما استثناء كلب الصيد من عموم النهي فما ورد من الروايات به فهو منكر. ولذا قال البيهقي: "الأحاديث الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن ثمن الكلب خالية عن هذا الاستثناء، وإنما الاستثناء في الأحاديث الصحاح في النهي

عن الاقتناء، ولعله شبِّه على من ذكر في حديث النهي عن ثمنه من هؤلاء الرواة الذين هم دون الصحابة والتابعين"1. والله أعلم. 40 - (3) عن رافع بن خديج رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثمن الكلب خبيث، ومهر البغي خبيث، وكسب الحجام خبيث". رواه مسلم2 واللفظ له، وأبو داود3، والترمذي4، والنسائي5، وأحمد6، والحاكم7. كلهم من طرق عن السائب بن يزيد عنه به. قال الترمذي: حسن صحيح. وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه". وفي قوله نظر؛ لأن الحديث قد أخرجه مسلم كما سبق. والسائب بن يزيد صحابي صغير له أحاديث قليلة، وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة8.

وقد روى بعض الرواة هذا الحديث عن السائب بن يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما عند أبي يعلى1، والنسائي في الكبرى2، وابن أبي حاتم3، والطبراني4. قال ابن أبي حاتم: "الناس يروون هذا الحديث عن السائب بن يزيد، عن رافع بن خديج". ونقل ابن أبي حاتم عن أبيه أنه قال: "عبد الرحمن بن محمد هو ابن القاري، وإبراهيم هو أخوه فيما أظن، والناس يروون هذا الحديث عن السائب بن يزيد عن رافع بن خديج". ومحمد بن إسحاق مدلس، وقد عنعن، إلا أنه قد توبع، فرواه النسائي في الكبرى من طريق حاتم بن إسماعيل عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه5. ورواته ثقات ما عدا حاتم بن إسماعيل فقد تكلم فيه. فقال أحمد: هو أحب إليّ من الدراوردي، وزعموا أن حاتماً كان فيه غفلة، إلا أن كتابه صالح. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال مرةً: ليس بالقوي. وقال ابن سعد: كان ثقة مأموناً كثير الحديث6. وجعله ابن حجر في مرتبة "صدوق يهم"7. فهذا الإسناد يؤيد ما تقدم من رواية ابن إسحاق ويدفع عنها الغلط.

فعلى هذا فإن الحديث حديث رافع بن خديج رضي الله عنه إلا أن السائب رضي الله عنه كان يسنده إليه أحياناً - وهو الغالب - وأحياناً يرسله. ومراسيل الصحابة حجة. والله أعلم. 41 - (4) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل ثمن الكلب، ولا حلوان الكاهن، ولا مهر البغي". رواه أبو داود1، والنسائي2 واللفظ لهما، وأبو يعلى3، والطحاوي4 مختصراً، والبيهقي5، كلهم من طرق عن أبي هريرة رضي الله عنه به، وهو حديث صحيح. ورواه النسائي6 أيضاً، وابن ماجه7، وأحمد8، بلفظ: "نهى عن ثمن الكلب وعسب الفحل". ورواه الدارمي9، ونحوه الطبراني10 مختصراً بلفظ: "نهى عن عسب الفحل".

ورواه إسحاق بن راهويه1، وابن أبي شيبة2، وأحمد3، والدرامي4، بنحوه وزادوا: "وكسب الحجام". وقد ورد في هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه في بعض طرقه استثناء كلب الصيد من النهي عن ثمن الكلب. وهذه الطرق هي: الطريق الأولى: الوليد بن عبيد الله بن أبي رباح عن عمه5 عطاء بن أبي رباح عنه به. رواه الدارقطني6 بإسناده عن عبيد بن محمد الصنعاني، عن محمد بن عمر بن أبي مسلم، عن محمد بن مصعب الصنعاني7 عن نافع بن عمر به، ولفظه: "ثلاث كلهن سحت: كسب الحجّام، ومهر البغي، وثمن الكلب إلا الكلب الضاري". وهو الكلب المعوّد على الصيد8. قال الدارقطني: الوليد بن عبيد الله ضعيف.

وضعفه أيضاً البيهقي1، ونقل ابن أبي حاتم عن ابن معين أنه قال فيه: ثقة2. وأما عبيد بن محمد الصنعاني ومحمد بن عمر بن أبي مسلم ومحمد بن مصعب الصنعاني فقال عنهم ابن القطان: مجهولون3. وكذا حكم بجهالة محمد بن مصعب الصنعاني الذهبي4 وابن حجر5. واعترض الذهبي على ابن القطان في تجهيله لعبيد بن محمد الصنعاني فقال: معروف6. وترجم له في كتابه سير أعلام النبلاء7، ونقل فيه قول الخليلي فيه: هو عالم حافظ له مصنّفات.

وقد حكم الذهبي على إسناد الدارقطني بقوله: "الإسناد مظلم"1، وأيضاً في هذه الطريق علة أخرى، وهي أنه قد روى الحديث عن عطاء كلٌّ من ابن جريج2، وعمرو بن دينار3 موقوفاً على أبي هريرة رضي الله عنه. وقال أحمد فيهما: إنهما أثبت الناس في عطاء4. وخالفهما ابن أبي ليلى5، والحجاج بن أرطاة6، ورباح بن أبي معروف7، والوليد بن عبيد الله8، والمثنى بن الصباح9، ومؤمل10، فكلهم رووا الحديث عن عطاء مرفوعاً. وكلّ تكلم فيه وبعضهم أشد ضعفاً من بعض. والذي يظهر ترجيح رواية الوقف؛ لأن من رواها أحفظ وأضبط، وليس في رواية الوقف استثناء كلب الصيد. وممن رجّح الوقف البخاري11.

فمما سبق يتبين أن قول ابن التركماني عن هذه الطريق بأنها جيدة1 بعيد عن التحقيق العلمي. والله أعلم. الطريق الثانية: المثنى بن الصَّبَّاح عن عطاء عنه به: رواه الدارقطني أيضاً بإسناده عن محمد بن سلمة به2. ولفظه: "كسب الحجام سحت، ومهر الزانية سحت، وثمن الكلب إلا كلباً ضارياً سحت". قال الدارقطني: المثنى ضعيف. وقال فيه يحيى بن سعيد: لم نتركه - أي المثنى - من أجل عمرو بن شعيب، ولكن كان منه اختلاط في عطاء. وقال ابن سعد وابن معين: ضعيف. وزاد ابن معين: يكتب حديثه ولا يترك. وقال مرةً: ثقة. وقال أحمد: لا يساوي حديثه شيئاً، مضطرب الحديث. وقال أبو حاتم وأبو زرعة: لين الحديث. وقال أبو حاتم أيضاً: يروي عن عطاء ما لم يرو عنه أحد، وهو ضعيف الحديث. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال مرة: متروك الحديث3. وجعله ابن حجر في مرتبة: ضعيف اختلط بآخرة، وكان عابداً4. وقد سبق أن المحفوظ في حديث عطاء الوقف على أبي هريرة رضي الله عنه. فعلى هذا فإن هذه الطريق ضعيفة أيضاً. والله أعلم.

الطريقة الثالثة: قيس بن سعد المكي عن عطاء عنه به. رواه البيهقي بإسناده عن مؤمل بن إسماعيل عن حماد بن سلمة به1. ولفظه: "نُهي عن مهر البغي، وعسب الفحل، وعن ثمن السنور، وعن الكلب إلا كلب صيدٍ". ومؤمَّل بن إسماعيل كان صاحب سنة، إلا أنه تكلم في حديثه. فقال ابن سعد: ثقة كثير الغلط. وقال ابن معين: ثقة. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أبو حاتم: كثير الخطأ. وقال يعقوب بن سفيان: حديثه لا يشبه حديث أصحابه، وقد يجب على أهل العلم أن يقفوا عن حديثه، فإنه يروي المناكير عن ثقات شيوخه وهذا أشد، فلو كانت هذه المناكير عن الضعفاء لكنا نجد له عذراً. وقال الدارقطني: ثقة كثير الخطأ2. وأما الحافظ ابن حجر فجعله في مرتبة صدوق سيء الحفظ3. والذي يظهر لي حسب ما تقدم من أقوال أئمة الجرح والتعديل أنه ضعيف يعتبر به. والله أعلم. ومما يدل على خطئه في هذا الحديث أن حماد بن سلمة إنما يروي هذا الحديث بهذا اللفظ عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - وقد تقدم ذكر حديثه4. وأيضاً فقد خالفه يحيى بن حماد الشيباني مولاهم، وهو ثقة5. فرواه عن حماد بن سلمة عن قيس عن عطاء عن أبي

هريرة رضي الله عنه قال: "نهى عن كسب الحجام، ومهر البغي، وثمن الكلب". رواه البزار1. فهذه الروايات عن عطاء عن أبي هريرة رضي الله عنه التي فيها الاستثناء ترجّح أنها لا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم. والمحفوظ في حديث عطاء الوقف على أبي هريرة رضي الله عنه ليس فيه الاستثناء لكلب الصيد، وذلك لأن أبا هريرة رضي الله عنه صح عنه النهي عن ثمنها مطلقاً بدون استثناء كما عند ابن أبي شيبة2، والنسائي في الكبرى3. وما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه مما فيه الاستثناء فضعيف4. 42 - (5) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، وإن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه تراباً". رواه أبو داود5 وهذا لفظه، والنسائي6 مختصراً، والطيالسي7، وابن أبي شيبة8، وأحمد9، والطحاوي10 - مختصراً -، والطبراني11، والبيهقي12. كلهم من طرقٍ عنه به.

وزاد الطيالسي وأحمد والطبراني والدارقطني والبيهقي: "ونهى عن مهر البغي وثمن الخمر". وفي لفظٍ للطبراني1: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشاة الجلالة، وعن ثمن الكلب، وعسب الفحل، وكسب الحجام". قال ابن حجر عن إسناد أبي داود: "إسناده صحيح"2. وهو كما قال. وجاء في بعض روايات الحديث استثناء كلب الصيد من عموم النهي عن ثمن الكلاب، وذلك فيما رواه ابن عدي بإسناده عن أبي حنيفة عن الهيثم الصراف عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: "أرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمن كلب الصيد"3. وفي إسناده أحمد بن عبد الله الكندي اللجلاج، قال فيه ابن عدي: "حدث بأحاديث مناكير لأبي حنيفة". وذكر له ابن عدي أحاديث رواها عن أبي حنيفة منها هذا الحديث، ثم قال: "وهذه الأحاديث لأبي حنيفة لم يحدث بها إلا أحمد بن عبد الله هذا، وهي بواطيل". وقال عبد الحق الإشبيلي عن هذا الحديث: "باطل"4. ورواه الحاكم بإسناده عن يوسف بن خالد السَّمتي عن الضحاك بن عثمان عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثمن الكلب خبيث، وهو أخبث منه" 5. قال الحاكم: "هذا حديث رواته كلهم ثقات، فإن سلم من يوسف بن خالد السَّمتي فإنه

صحيح على شرط البخاري، وقد خرجته لشدة الحاجة إليه، وقد استعمل مثله الشيخان في غير موضع يطول بشرحه الكتاب". ولعل الحاكم يعني أنه لم يجد في باب نجاسة الكلب غير هذا الحديث. والله أعلم. ويوسف بن خالد السَّمتي كذبه ابن معين، وعمرو بن علي، وأبو داود وغيرهم. وقال البخاري: سكتوا عنه. وقال أبو حاتم: ذاهب الحديث1. فعلى هذا فهذه الرواية لا يعتبر بها. والله أعلم. 43 - (6) عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وأجر الكاهن، وكسب الحجام". رواه الحاكم2، ومن طريقه البيهقي3 بإسناده عن حصين عن مجاهد عنه به. وحصين هو ابن عبد الرحمن السُّلمي، ثقة إلا أنه تغير حفظه في الآخر4، إلا أن الراوي عنه في هذا الحديث هو هشيم بن بشير الواسطي، وهو ممن سمع منه قبل تغيره5.

وقد تكلم في سماع مجاهد من عبد الله بن عمرو، فقيل: لم يسمع منه. إلا أن البخاري أخرج في صحيحه حديثين من طريق مجاهد عن عبد الله بن عمرو1، مما يدل على أنه يرى سماعه منه. فعلى هذا فإن هذا الإسناد صحيح متصل. والله أعلم. 44 - (7) عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى عن ثمن الكلب وإن كان ضارياً". رواه الطحاوي2 بإسناده عن ابن لهيعة عن عبيد الله بن أبي جعفر أن صفوان بن سليم أخبره عن نافعٍ عنه به. وابن لهيعة تقدم الكلام فيه3، وأنه ضعيف، وأنه مدلِّس أيضاً ولم يصرّح بالسماع. وقد سئل أبو حاتم عن هذا الحديث فقال: "حديث منكر"4. وضعف إسناده الحافظ ابن حجر5. فعلى هذا فإن هذا الإسناد ضعيف. وفي المتن نكارة وهي زيادة "وإن كان ضارياً"، فإنها لم ترد في الروايات الصحيحة الواردة في النهي عن ثمن الكلب. وقد تقدم معنى قوله: "وإن كان ضارياً"، أي كلباً معوّداً للصيد6.

وجاء هذا الحديث من وجه آخر، إلا أنه ضعيف جداً، وذلك فيما رواه الطبراني في الأوسط1 بإسناده عن ضرار بن صُرد عن المطلب بن زياد عن ابن أبي ليلى عن نافعٍ عنه به بلفظ "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي". وضرار - بكسر أوله2 - ابن صُرَد - بضم المهملة وفتح الراء3 - رماه يحيى ابن معين بالكذب. وقال البخاري والنسائي: متروك الحديث. وقال النسائي مرةً: ليس بثقة. وقال أبو حاتم: صدوق صاحب قرآن وفرائض، يكتب حديثه ولا يحتج به. وضعفه الدارقطني4. ويظهر لي مما تقدم من أقول الأئمة أنه ضعيف جدًا، وقد اختار هذا أيضًا الهيثمي، حيث قال عن هذا الحديث: "فيه ضرار بن صرد أبو نعيم، وهو ضعيف جدًا"5. وتساهل فيه الحافظ ابن حجر كثيرًا؛ حيث خلص فيه إلى أنه "صدوق له أوهام وخطأ"6. وابن أبي ليلى هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال فيه شعبة: ما رأيت أحدًا أسوأ حفظًا من ابن أبي ليلى. وقال أيضًا: أفادني ابن أبي ليلى أحاديث، فإذا هي مقلوبة. وضعفه يحيى بن سعيد. وقال ابن المديني:

كان سيء الحفظ واهي الحديث. وقال ابن معين: ليس بذاك. وقال أحمد: كان سيء الحفظ مضطرب الحديث. وقال أبو حاتم: "محلّه الصدق، كان سيء الحفظ يكتب حديثه ولا يحتج به" 1. وخلص فيه الحافظ ابن حجر إلى أنه: "صدوق سيء الحفظ جداً"2. فمما تقدم يتبين أن إسناد هذا الحديث ضعيف عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. وأما متن الحديث وهو النهي عن ثمن الكلب من دون قوله: "وإن كان ضارياً" ففيه أحاديث صحيحة تشهد له سبق ذكرها، فيكون بها حسناً لغيره. والله أعلم. 45 - (8) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "نهى عن ثمن الكلب، وأجر البغي، وكسب الحجام، والضبّ والضبع". رواه ابن عدي3 بإسناده عن نصر بن علي الجهضمي، عن أبي أحمد الزبيري، عن عبد الجبار بن العباس، عن عريب بن مرثد، عن عبد الرحمن اليامي4، عن الحارث الأعور، عنه به. وذكر الدارقطني أن عمرو بن علي الفلاس قد تابع نصر بن علي في رفع هذا الحديث. وأنه خالفهما زيد بن أخزم، فرواه عن أبي أحمد الزبيري به موقوفاً على عليّ رضي الله عنه. وذكر أن أبا نعيم الفضل بن دُكين قد

رواه عن عبد الجبار بن العباس به موقوفاً. فهذا يؤيد رواية زيد بن أخزم. قال الدارقطني: فكأنه قول علي رضي الله عنه1. وتابع أبا نعيم وكيع بن الجراح، فقد رواه عن عبد الجبار بن العباس به موقوفاً أيضاً. رواه ابن أبي شيبة2، وابن جرير3 مختصراً. وتابعهما يحيى بن زكريا بن أبي زائدة. رواه ابن جرير4 مختصراً. فمما سبق يتبين أن الحديث اختلف فيه على عبد الجبار بن العباس فرواه أبو نعيم، ووكيع، وابن أبي زائدة موقوفاً. ورواه عنه أبو أحمد الزبيري واختلف عليه، فرواه نصر بن علي، وعمرو بن علي عنه مرفوعاً، ورواه زيد بن أخزم عنه موقوفاً. والذي يترجح هو الوقف لأنه رواية الأكثر والأحفظ، وللاختلاف على من رواه مرفوعاً. والله أعلم. فإذا ترجح الوقف فإن إسناده ضعيف أيضاً، فإن عريب بن مرثد - وهو المشرقي -، وعبد الرحمن اليامي، وهو ابن زبيد بن الحارث كلاهما لم يوثقهما غير ابن حبان5. وأيضاً ففي إسناده الحارث الأعور، وقد كذّبه الشعبي وابن المديني وغيرهما. ووثقه ابن معين. قال الدارمي: ليس يتابع ابن معين على هذا. وقال أبو حاتم وأبو زرعة: لا يحتج بحديثه. وقال النسائي: ليس بالقوي. وفي رواية: ليس به بأس. وضعفه الدارقطني. وقد بيّن أحمد بن

صالح المصري أن من كذبه إنما كذّبه لرأيه؛ لأنه كان غالياً في التشيّع، ولم يكذبه في الحديث1. ولذا خلص فيه الحافظ ابن حجر بقوله: "في حديثه ضعف"2. فمما سبق يتبين أن الحديث المحفوظ فيه الوقف مع ضعفه. والله أعلم. 46 - (9) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثمن الكلاب كلها سحت". رواه ابن عدي3 بإسناده عن يحيى بن يزيد بن عبد الملك النوفلي عن أبيه عن عبد الله بن الفضل عنه به. قال ابن عدي: "هذا بهذا الإسناد غير محفوظ". وقد تفرد بهذا الإسناد يزيد بن عبد الملك النوفلي كما قال ابن عدي، وقد تقدم الكلام في يزيد بن عبد الملك وأنه ضعيف جداً4. وفي متنه نكارة أيضاً، وهو قوله "كلها"، فإن هذا لم يرد في الأحاديث الأخرى التي وردت في النهي عن ثمن الكلب. فمما سبق يتبين أن الحديث ضعيف جداً لحال يزيد بن عبد الملك النوفلي. والله أعلم.

ومما ورد في هذا الفصل أيضاً: (10) حديث علي رضي الله عنه، وقد تقدم1. (11) حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -، وقد تقدم2. (12) حديث أبي جحيفة رضي الله عنه، وقد تقدم3. (13) حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وسوف يأتي4.

دلالة الأحاديث السابقة: يستفاد مما تقدم من الأحاديث الثابتة النهي عن بيع الكلب سواءً أكان مما أُذن بالانتفاع به أم لا، لعموم النهي الوارد عن ثمنها في الأحاديث السابقة. وهو مذهب مالك في المشهور عنه1، والشافعي2، وأحمد3. وجميع ما ورد في استثناء كلب الصيد فإنه ضعيف كما تقدم بيان ذلك مفصّلاً عند تخريج هذه الأحاديث. وذهب بعض أهل العلم إلى إباحة بيع الكلب إذا كان مأذوناً في اتخاذه ككلب الصيد ونحوه. وهو مذهب أبي حنيفة4. وقالوا إن النهي عن ثمنها كان حين الأمر بقتلها، فلما نسخ الأمر بقتلها نسخ النهي عن ثمنها. وجعلوا حكمه حكم الحمار الأهلي الذي نهي عن أكله وأُبيح بيعه5. والذي يترجح هو ما تقدم من النهي عن ثمن الكلاب ولو كانت مما ينتفع بها لعموم الأحاديث الواردة في النهي عن ثمنها وأنه خبيث. وأما دعوى نسخ هذه الأحاديث بأحاديث الإذن بالانتفاع بالكلاب فهي دعوى لا دليل عليها؛ لأن النسخ لابد أن يثبت بنص، وليس نسخ الأمر بقتل الكلاب دليلاً على نسخ النهي عن ثمنها؛ لعدم التلازم بينهما. ويدل على هذا: أن أحاديث تحريم بيعها وأكل ثمنها مطلقة عامة كلها، وأحاديث النهي عن اقتنائها منها المطلق ومنها المقيَّد الذي فيه الاستثناء

لبعض الكلاب. فلو كان النهي عن بيعها مقيداً مخصوصاً لجاءت به الآثار كذلك. فلما جاءت عامة مطلقة عُلم أنّ عمومها وإطلاقها مراد، فلا يجوز إبطاله1. وكذلك أحاديث النهي عن ثمنها متأخرة، فقد تقدم أن النهي عن بيعها جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه وقد أسلم في السنة السابعة. ولا يصح عن صحابي خلاف أحاديث النهي العامة2. وكذلك يستفاد مما تقدم النهي عن ثمن السِّنَّور وهو الهر. وبه أفتى جابر بن عبد الله وأبو هريرة، وهو قول طاووس ومجاهد وجابر بن زيد3، ورواية عن أحمد4 اختارها أبو بكر عبد العزيز5، وصححها ابن رجب6. وقال ابن المنذر: "إن ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن بيعه فبيعه باطل وإلا فجائز"7. وقد صح الحديث كما تقدم. وقال البيهقي: "متابعة ظاهر السنة أولى، ولو سمع الشافعي - رحمه الله - الخبر الوارد فيه - أي في النهي عن ثمن السِّنَّور - لقال به - إن شاء الله -"8. وذهب الجمهور إلى إباحة بيع السِّنَّور9، وحملوا النهي على السِّنَّور المتوحش، أو غير المملوك، أو أن النهي عن ثمنها كان حين الحكم

بنجاستها، ثم لما حكم بطهارة سؤرها حل ثمنها، أو أن يحمل النهي على الكراهة. وغير ذلك من المحامل1. قال الزركشي: وكلها محامل ودعوى لا دليل عليها2. وقال ابن القيم: لا يخفى ما في هذه المحامل من الوهن3.

_ 1 انظر: المجموع (9/274) ، شرح الزركشي (3/678) ، زاد المعاد (5/773) . 2 شرح الزركشي (3/678) . 3 زاد المعاد (5/773-774) .

الفصل السابع: ما ورد في النهي عن بيع الحر

الفصل السابع: ما ورد في النهي عن بيع الحر 47 - (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره". هذا الحديث من الأحاديث القدسية، وقد رواه البخاري1 وهذا لفظه، وابن ماجه2، وأحمد3، والطحاوي4، وأبو يعلى5، والطبراني في الصغير6. إلا أن ابن ماجه والطحاوي والطبراني لم يجعلوه حديثاً قدسياً. رووه كلهم من طرقٍ عن يحيى بن سليم عن إسماعيل بن أمية، عن سعيد ابن أبي سعيد المقبري، عنه به. ورواه ابن الجارود7، وابن حبان8، والبيهقي9، وزادوا بعد قوله "أنا خصمهم يوم القيامة": "ومن كنت خصمه خصمته"، ولفظ ابن حبان: "ومن كنت خصمه أخصمه".

وقد رواه البيهقي1، وابن الجارود تعليقاً من طريق النفيلي عن يحيى بن سليم عن إسماعيل بن أمية عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه به. فزاد النفيلي في الإسناد: "أبو سعيد المقبري"، وقد خالفه غيره فلم يذكروه2. قال ابن حجر: المحفوظ قول الجماعة3. والله أعلم. قال ابن الجوزي: الحر عبد الله، فمن جنى عليه فخصمه سيده4.

دلالة الحديث السابق: يستفاد مما تقدم النهي عن بيع الحر. وقد حكى ابن المنذر1، والنووي2 الإجماع على ذلك، سواء أكان الحر لم يسبق بعبودية، أو كان عبدًا ثم أعتقه سيده ثم كتم ذلك أو جحده، أو أن يستخدمه كرهًا بعد العتق3. وأما ما رواه الطحاوي4 والحاكم5 كلاهما من طريق زيد بن أسلم قال: لقيت رجلاً بالإسكندرية يقال له سُرَّق6. فقلت: ما هذا الاسم؟ فقال: سمانيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قدمت المدينة فأخبرتهم أنه يقدم لي مال فبايعوني، فاستهلكت أموالهم فأتوا بي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أنت سُرَّق". فباعني بأربعة أبعرة …" الحديث7. ففيه أن النبي صلى الله عليه وسلم باعه في دينٍ كان

عليه. فالجواب عنه ما أجاب به الطحاوي فقال: "كان ذلك في أول الإسلام يبتاع مَنْ عليه دين فيما عليه من الدين إذا لم يكن له مالٌ يقضيه عن نفسه حتى نسخ الله عز وجل ذلك فقال: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} 1 "2. قال المهلب: وإنما كان بيع الحر إثمه شديدًا؛ لأن المسلمين أكفاء في الحرية، فمن باع حرًا فقد منعه التصرف فيما أباح الله له، وألزمه الذل الذي أنقذه الله منه3.

_ 1 سورة البقرة، آية (280) . 2 شرح معاني الآثار (4/157) ، وانظر المحلى (9/18) . 3 فتح الباري (4/488) .

الفصل الثامن: ما ورد في النهي عن بيع أمهات الأولاد

الفصل الثامن: ما ورد في النهي عن بيع أمهات الأولاد 48 - (1) عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن بيع أمهات الأولاد، لا يبعن، ولا يوهبن، ولا يورثن، يستمتع بها سيدها مادام حيًا، فإذا مات فهي حرة". رواه ابن عدي1، والدارقطني2 بإسنادهما عن عبد الله بن مطيع، عن عبد الله بن جعفر، عن عبد الله بن دينار عنه به. قال ابن عدي - بعد أن ذكر أحاديث لعبد الله بن جعفر منها هذا الحديث - قال: "وهذه الأحاديث التي أمليتها لعبد الله بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - كلها غير محفوظات، لا يحدث بها عن ابن دينار غير عبد الله بن جعفر". وكلام ابن عدي السابق ذكره في ترجمة عبد الله بن جعفر بن نجيح المديني - والد الإمام علي بن المديني - مما يدل على أن ابن عدي يرى أن عبد الله بن جعفر في الإسناد هو هذا، ووقع في سند الدارقطني نسبة عبد الله بن جعفر بأنه المخرمي، والصواب هو ما تقدم بأنه ابن نجيح المديني، ويدل لذلك أن المعروف بالرواية عن عبد الله بن دينار إنما هو ابن نجيح المديني وليس المخرمي3. والله أعلم.

وعبد الله بن جعفر بن نجيح المديني ضعيف. ضعفه ابنه علي بن المديني، وقال فيه ابن معين: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: منكر الحديث جدًا؛ يحدث عن الثقات بالمناكير، يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال مرة: ليس بثقة. وقال ابن عدي: عامة حديثه لا يتابعه أحد عليه، وهو مع ضعفه يكتب حديثه. وقال الدارقطني: كثير المناكير1. وقال ابن حجر: ضعيف، يقال: تغير حفظه بآخرة2. وأما عبد الله بن مطيع فهو ابن راشد البكري النيسابوري، ثقة3. فمما سبق يتبين لنا أن هذه الطريق ضعيفة؛ لضعف عبد الله بن جعفر المديني، إلا أنه لم ينفرد به، بل تابعه عبد العزيز بن مسلم، وذلك فيما رواه الدارقطني أيضًا بإسناده عن يونس بن محمد، عن عبد العزيز بن مسلم، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم به بنحوه4. ويونس بن محمد هو أبو محمد البغدادي، ثقة ثبت5. وعبد العزيز بن مسلم هو القسملي مولاهم المروزي ثم البصري، وثقه ابن نمير وابن معين وأبو حاتم والعجلي، وقال النسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال مرة: ربما وهم فأفحش6.

وقال ابن حجر: ثقة عابد ربما وهم1. وقد اختلف عليه في هذا الحديث، فقد رواه يونس بن محمد البغدادي عنه - كما سبق - مرفوعًا، ورواه يحيى بن إسحاق السيلحيني عنه عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر عن عمر نحوه موقوفًا2. ويحيى بن إسحاق وإن كان أقل ضبطًا من يونس بن محمد؛ لأنه صدوق3، ويونس ثقة، إلا أن المحفوظ هو حديث يحيى بن إسحاق، ويبين ذلك أن هذا الحديث رواه عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - نافع وعبد الله بن دينار، فأما رواية نافع فقد رواه عنه مالك4، وعبيد الله بن عمر5، وأيوب6، وعبد الله بن عمر7، وغيرهم، كلهم رووه عنه موقوفًا، وأما عبد الله بن دينار فرواه عنه الثوري8، وهو من المقدمين فيه9، وفليح بن سليمان10، وسليمان بن بلال11، كلهم رووه موقوفًا.

فتبين بذلك أن رواية يحيى بن إسحاق عن عبد العزيز بن مسلم موافقة لرواية الجماعة عن عبد الله بن دينار، وأما رواية يونس بن محمد البغدادي عن عبد العزيز بن مسلم والتي فيها رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهي رواية شاذة. ولعل الخطأ فيها من عبد العزيز بن مسلم؛ لأنه ذكر عنه الوهم كما سبق. والله أعلم. وأما قول ابن القطان: "عندي أن الذي أسنده خير ممن وقفه"1. فهذا القول منه يصح بالنظر إلى أن يونس بن محمد أوثق من يحيى بن إسحاق. ولكن قد سبق أن رواية يحيى بن إسحاق قد اعتضدت بالطرق الأخرى التي رواها الثقات عن عبد الله بن دينار، والتي فيها وقف الحديث على عمر رضي الله عنه، فبذلك تترجح رواية يحيى بن إسحاق بمتابعاتها، فتكون هي المحفوظة. والله أعلم. ولذا قال البيهقي: "هكذا رواه الجماعة عن عبد الله بن دينار - يعني موقوفًا - وغلط فيه بعض الرواة عن عبد الله بن دينار، فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو وهم لا يحل ذكره"2. وممن حكم أيضًا بأن الموقوف هو المحفوظ الدارقطني3، وعبد الحق4. فمما سبق يتبين أن المحفوظ في هذا الحديث هو الوقف على عمر رضي الله عنه، وأما رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشاذ. وقد ذكر سعيد بن منصور في سننه5 طرقًا أخرى موقوفة على عمر رضي الله عنه. والله أعلم.

دلالة الحديث السابق: أم الولد هي التي ولدت من سيدها في ملكه1، وهي تعتق بموته. ويدل هذا الحديث عن ابن عمر - رضي الله عنهما - على المنع من بيعها، ولكن تقدم أن الحديث لا يصح مرفوعًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من قول عمر رضي الله عنه. إلا أن جمهور العلماء قالوا بما يدل عليه الحديث، وهو النهي عن بيع أمهات الأولاد2. وقد حكى بعضهم الإجماع عليه3. إلا أن هذا الإجماع لا يصح، فقد خالف علي4، وابن عباس5، وابن الزبير6 رضي الله عنهم، فكانوا يقولون بجواز بيع أمهات الأولاد. وهذا القول حكي رواية عن أحمد، اختارها ابن عقيل7، وابن تيمية8 وغيرهما. واستدل بعض أصحاب هذا القول بحديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أنه قال: "بعنا أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فلما كان عمر رضي الله عنه نهانا فانتهينا". رواه أبو داود9، والنسائي في الكبرى10، وابن ماجه11. وهو حديث صحيح.

وقول الصحابي: "كنا نفعل كذا" الجمهور على أنه إن أضافه إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم فهو مرفوع؛ لأن ظاهر ذلك مشعر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك وقررهم عليه؛ لتوفر دواعيهم على سؤالهم عن أمور دينهم1. وبهذا يعلم الجواب عن قول البيهقي2 وغيره بأن ليس في حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بذلك فأقرهم عليه.

_ 1 تدريب الراوي (1/185) . 2 السنن الكبرى (10/348) .

الفصل التاسع: ما ورد في النهي عن بيع المدبر

الفصل التاسع: ما ورد في النهي عن بيع المدبر 49 - (1) عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المدبر لا يباع، ولا يوهب، وهو حر من الثلث". رواه الدارقطني1 من طريق عبيدة بن حسان، عن أيوب، عن نافع عنه به. وقال: "لم يسنده غير عبيدة بن حسان، وهو ضعيف، وإنما هو عن ابن عمر - رضي الله عنهما - موقوف من قوله". ثم روى بإسناده عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه كره بيع المدبر. وقال: "هذا هو الصحيح موقوف". وعبيده2 بن حسان الذي تفرد برواية الرفع عن أيوب قال فيه أبو حاتم: منكر الحديث. وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الثقات3. فعلى هذا فإن رواية الرفع منكرة. وقد جاء الحديث من وجه آخر مختصرًا. فقد رواه ابن ماجه4، والعقيلي5، وابن عدي6، والدارقطني7، كلهم من طرق عن علي بن

ظبيان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع عنه به بلفظ: "المدبر من الثلث". وقد ذكر ابن ماجه عقب إخراجه للحديث أن عثمان بن أبي شيبة- شيخه في هذا الحديث - أنه قال عن هذا الحديث: "هذا خطأ". وقال العقيلي: "لا يعرف إلا به" - أي بعلي بن ظبيان -. وقال الدارقطني في العلل: "غير ابن ظبيان يرويه موقوفًا"1. وعلي بن ظبيان2 هذا قال فيه ابن معين وأبو داود: ليس بشيء. وقال ابن معين في رواية: كذاب خبيث ليس بثقة. وقال أبو حاتم والنسائي: متروك الحديث. وقال ابن المديني: حدثنا بثلاثة أحاديث مناكير - وذكر منها هذا الحديث -. وذكر ابن محرز هذا الحديث من مناكيره. وذكر الشافعي عن علي بن ظبيان هذا أنه قال: كنت أرفعه - يعني هذا الحديث - فقال لي أصحابي: لا ترفعه3. وقد تساهل فيه الحافظ ابن حجر فجعله في مرتبة ضعيف4. والذي يظهر لي من أقوال الأئمة فيه أنه ضعيف جدًا. والله أعلم. وقد ذكر هذا الحديث لأبي زرعة من هذا الطريق، فقال: هذا حديث باطل. وامتنع من قراءته5.

وذكر ابن أبي حاتم أنه قد رواه خالد بن إلياس عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - موقوفًا1. وقد رجح الدارقطني الموقوف أيضًا2. فمما سبق يتبين أن الحديث منكر من طريقيه. والمعروف فيه أنه عن ابن عمر - رضي الله عنهما - موقوفًا عليه. والله أعلم.

دلالة الحديث السابق: التدبير: هو تعليق عتق العبد بالموت، وسمي العتق بعد الموت تدبيرًا؛ لأنه إعتاق في دبر الحياة1. والحديث الذي سبق ذكره في هذا الفصل في النهي عن بيع المدبر حديث ضعيف كما تقدم. وأخذ المالكية بما يدل عليه الحديث، فقالوا بالنهي عن بيع المدبر2، ولأن بيعه مخالف للعتق. وقد وافقهم الحنفية3 على قولهم إذا كان التدبير معلقًا بالموت، وأما إذا كان مقيدًا، مثل قوله: إذا قدمت من سفري فأنت حر، فيجوز بيعه عندهم. وقال الشافعي4، وأحمد5 في رواية: يجوز بيع المدبر مطلقًا؛ سواء أكان محتاجًا إلى ثمنه أم لا، وهو قول عائشة - رضي الله عنها -، ومجاهد، وطاوس، وعمر بن عبد العزيز6. وقال الحسن، وعطاء7، وأحمد8 في رواية: يجوز بيعه إذا احتاج إلى ثمنه. واستدل الشافعي وأحمد على جواز بيع المدبر مطلقًا بحديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: "أعتق رجل منا عبدا له عن دبر، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم به فباعه". متفق عليه9 واللفظ للبخاري.

إلا أن في لفظ البخاري: "أن رجلاً أعتق غلامًا له عن دبر فاحتاج …"1 الحديث. ورواه النسائي بلفظ: "أعتق رجل من الأنصار غلامًا له عن دبر، وكان محتاجًا، وكان عليه دين، فباعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بثمانمائة درهم، فأعطاه فقال: "اقض دينك وأنفق على عيالك"2. فهاتان الروايتان ونحوهما تؤيدان مذهب من علق الجواز بالحاجة إلى ثمنه. وهو أولى الأقوال؛ لأن فيه جمعًا بين الأدلة. والله أعلم.

_ 1 صحيح البخاري - مع الفتح -[كتاب البيوع (4/2141) ] . 2 سنن النسائي [كتاب آداب القضاة (8/246) ] .

الفصل العاشر: ما ورد في النهي عن بيع الولاء

الفصل العاشر: ما ورد في النهي عن بيع الولاء 50 - (1) عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع الولاء وهبته". رواه البخاري1، ومسلم2، وأبو داود3، والترمذي4، والنسائي5، وابن ماجه6، ومالك7، والطيالسي8، وأحمد9، والدارمي10. كلهم من طرق عن عبد الله بن دينار عنه به بهذا اللفظ. وقال مسلم: "الناس كلهم عيال على عبد الله بن دينار في هذا الحديث". يعني أنه لم يصح إلا من طريقه. وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر".

وقال أيضًا: "عبد الله بن دينار قد تفرد بهذا الحديث عن ابن عمر"1. ومن المعلوم أن تفرد الثقة لا يضر، والترمذي لا يقصد في حكمه على الحديث بالتفرد تضعيفًا للحديث، وإنما يريد أن لا يصلح هذا الحديث إلا من طريق عبد الله بن دينار، وإلا فقد جاء هذا الحديث من غير طريقه، ومن ذلك: ما رواه ابن ماجه2، والبيهقي3 بإسنادهما عن يحيى بن سليم، عن عبيد الله بن عمر، عن عبد الله بن عمر به. قال الترمذي: "هو وهم، وهم فيه يحيى بن سليم، وروى عبد الوهاب الثقفي وعبد الله بن نمير وغير واحد عن عبيد الله بن عمر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أصح من حديث يحيى بن سليم"4. وقال نحوه البخاري5، وأبو زرعة6. وقال البيهقي: "هذا وهم من يحيى بن سليم أو من دونه في الإسناد والمتن جميعًا"7. ويحيى بن سليم تكلم في حديثه عن عبيد الله بن عمر. فقال النسائي: "منكر الحديث عن عبيد الله بن عمر"، وقال الساجي: "أخطأ في أحاديث رواها عن عبيد الله بن عمر"8.

ورواه أيضًا الحاكم بإسناده عن محمد بن مسلم الطائفي، عن إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا بلفظ: "الولاء لحمة من النسب، لا تباع ولا توهب"1. ومحمد بن مسلم الطائفي قال فيه ابن معين: لا بأس به، وابن عيينة أوثق منه، وكان إذا حدث من حفظه يخطئ، وإذا حدث من كتابه فليس به بأس. وقال مرة: ثقة. وقال أحمد: ما أضعف حديثه. وقال أبو داود: ليس به بأس. وقال مرة: ثقة. وقال يعقوب بن سفيان: ثقة لا بأس به2. وقد جعله ابن حجر في مرتبة: صدوق يخطئ من حفظه3. إلا أنه قد وهم في هذا الحديث؛ فإن نافعًا إنما أخذه من عبد الله بن دينار عن ابن عمر. قاله أبو حاتم4. وقال أيضًا: الناس يروون عن نافع عن ابن عمر موقوف "الولاء لحمة …" وهذا هو الصحيح5. فيرى أبو حاتم أن نافعًا سمع من ابن عمر أنه قال: "الولاء لحمة من النسب"، وأما قوله: "نهى عن بيع الولاء، وعن هبته" فإنما سمعه من عبد الله بن دينار عنه به. والله أعلم.

ورواه أيضًا ابن عدي بإسناده عن غسان بن عبيد، ثنا أشعث بن سعيد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر به، ولفظه: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء، وعن هبته"1. قال ابن عدي: قال فيه - يعني غسان بن عبيد - عمرو بن دينار وإنما هو عبد الله بن دينار. ورواه الطبراني في الأوسط عن أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة، حدثني أبي، عن أبيه، عن سفيان الثوري، عن عمرو بن دينار أنه سمع ابن عمر يقول: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وهبته"2. قال الطبراني: "لم يروه عن سفيان، عن عمرو بن دينار إلا يحيى بن حمزة، تفرد به ولده عنه، ورواه الناس عن سفيان، عن عبد الله بن دينار". وقال ابن حجر: هو وهم، والمحفوظ من حديث الثوري عن عبد الله بن دينار3. فمما تقدم يتبين أن هذا الحديث لا يصح إلا من طريق عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم به. وما جاء من غير هذه الطريق فغير محفوظ، فصح قول مسلم والترمذي وغيرهما أن عبد الله بن دينار قد تفرد بهذا الحديث. والله أعلم

51 - (2) عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الولاء لُحمة كلحمة النسب، لا يباع ولا يوهب". رواه الطبراني في الكبير1، وابن عدي2، وابن جرير الطبري3، وهذا لفظهم. كلهم من طرق عن عبيد بن القاسم، عن إسماعيل بن أبي خالد عنه به. وعبيد بن القاسم هو الأسدي التيمي الكوفي. قال فيه ابن معين: ليس بثقة. وقال مرة: كذاب. وقال أبو زرعة: واهي الحديث، حدث أحاديث منكرة، لا ينبغي أن يحدث عنه. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث ذاهب الحديث. وقال صالح بن محمد: كذاب. وقال البخاري: ليس بشيء4. قال ابن حجر: متروك؛ كذبه ابن معين، واتهمه أبو داود بالوضع5. فعلى هذا، فهذه الطرق ضعيفة جدًا لا يعتبر بها. وقد تصحف اسم عبيد بن القاسم في الإسناد الذي ساقه ابن التركماني لابن جرير الطبري إلى "عبثر بن القاسم" - وهو ثقة - فحكم ابن التركماني على هذا الإسناد بقوله: "رجاله ثقات"6.

ولعل ذلك أيضًا وقع للحافظ ابن حجر، فإنه قال عن إسناد هذا الحديث: "ظاهر إسناده الصحة"1. والصواب ما تقدم، وهو أنه عبيد بن القاسم، وقد ساق ابن عدي هذا الحديث في ترجمته، وكذلك قاله أبو نعيم الأصبهاني2. وللحديث إسناد آخر، فقد رواه أبو نعيم الأصبهاني في معرفة الصحابة3، وتاريخ أصبهان4 - ومن طريقه أخرجه الخطيب البغدادي5 - بإسناده عن يحيى بن هاشم السمسار، عن إسماعيل بن أبي خالد به مختصرًا. ويحيى بن هاشم السمسار تقدم الكلام فيه6، وأنه ضعيف جدًا، وقد كذب. فهذه المتابعة لا يعتبر بها أيضًا، فيبقى الحديث ضعيفًا جدًا. والله أعلم. 52 - (3) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الولاء لحمة كلحمة النسب، لا يباع ولا يوهب". رواه ابن عدي7 بإسناده عن يحيى بن أبي أنيسة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عنه به.

قال ابن عدي: هذا ليس بمحفوظ عن الزهري. وقال البيهقي: "ليس للزهري فيه أصل، ويحيى بن أبي أنيسة ضعيف بمرة، وإنما روي هذا اللفظ مرسلاً كما قدمنا ذكره"1. ويحيى بن أبي أنيسة قال فيه أحمد والنسائي والدارقطني وغيرهم: متروك الحديث. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال عمرو بن علي الفلاس: صدوق، كان يهم في الحديث. وقد اجتمع أصحاب الحديث على تركه إلا من لا يعلم. وقال يعقوب بن سفيان: لا يكتب حديثه إلا للمعرفة. وقال فيه أخوه زيد بن أنيسة: أخي يحيى يكذب2. وتساهل فيه الحافظ ابن حجر فقال فيه: ضعيف3. وأولى منه قول الذهبي: تالف4. فعلى هذا فلا يصح هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه. 53 - (4) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الولاء بمنزلة النسب، لا يباع ولا يوهب، أقره حيث جعله الله". رواه البيهقي5، وهذا لفظه، بإسناده عن عباس بن الوليد النرسي، عن سفيان بن عيينة، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن علي به.

وعباس بن الوليد النرسي وثقه ابن معين والدارقطني، وكان ابن المديني يتكلم فيه، وقال أبو حاتم: شيخ يكتب حديثه. وذكره ابن حبان في الثقات1. وجعله الحافظ ابن حجر في مرتبة الثقة2. والذي يظهر لي أنه في مرتبة صدوق. والله أعلم. إلا أنه خولف في هذا الحديث؛ فقد رواه الشافعي3، وعبد الرزاق4، كلاهما عن سفيان بن عيينة به موقوفًا. ورواه كذلك معمر عن ابن أبي نجيح به موقوفًا5. فهذه الروايات أقوى من رواية عباس بن الوليد. فعلى ذلك، فإن المحفوظ في هذا الحديث هو الوقف على علي رضي الله عنه، وأما رواية الرفع فهي شاذة. فإذا ترجح أن المحفوظ فيه هو الوقف، فإنه منقطع؛ لأن مجاهدًا لم يسمع من علي رضي الله عنه. قاله ابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم6 وغيرهم. والله أعلم.

دلالة الأحاديث السابقة: يستفاد مما تقدم النهي عن بيع الولاء وهبته. والولاء معناه: أنه إذا أعتق عبد اأو أمة صار له عصبة في جميع أحكام التعصيب عند عدم العصبة من النسب، كالميراث، وولاية النكاح، والعقل، وغير ذلك1. وقد قال جمهور العلماء بالنهي عن بيع الولاء2؛ لأن حكم الولاء حكم النسب، فكما لا ينتقل النسب لا ينتقل الولاء. وكانوا في الجاهلية ينقلون الولاء بالبيع وغيره، فنهى الشرع عن ذلك3. وحكي عن عثمان وميمونة - رضي الله عنهما - وغيرهما جواز بيع الولاء4. قال ابن بطال: لعلهم لم يبلغهم الحديث5.

_ 1 المطلع (ص311-312) . 2 انظر: بدائع الصنائع (4/173) ، الكافي - لابن عبد البر - (2/975) ، الحاوي (18/81) ، المغني (7/243) . 3 فتح الباري (12/45) . 4 المرجع السابق. 5 المرجع السابق.

الفصل الحادي عشر: ما ورد في النهي عن بيع القينات

الفصل الحادي عشر: ما ورد في النهي عن بيع القينات 54 - (1) عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن، ولا تعلموهن، ولا خير في تجارة فيهن، وثمنهن حرام، في مثل هذا أنزلت هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ …} 1" إلى آخر الآية. رواه الترمذي2 وهذا لفظه، وابن ماجه3، والطيالسي4، والحميدي5، وأحمد6، وابن جرير7، والعقيلي8، والطبراني في الكبير9، والبيهقي10. كلهم من طرق عن علي بن يزيد الألهاني، عن القاسم أبي عبد الرحمن مولى يزيد بن معاوية عنه به. وأسقط من إسناد الحميدي وابن ماجه ذكر علي بن يزيد، وأسقط من إسناد ابن ماجه أيضًا القاسم أبو عبد الرحمن، وذلك أن ابن ماجه

رواه بإسناده عن عبيد الله الأفريقي، عن أبي أمامة رضي الله عنه، وعبيد الله بن زحر الأفريقي بينه وبين أبي أمامة بون شاسع، وهو إنما رواه عن علي بن يزيد الألهاني عن القاسم، عن أبي أمامة رضي الله عنه كما في غير رواية ابن ماجه. وهذا الإسناد ضعيف جدًا؛ لحال علي بن يزيد. قال الترمذي: "حديث أبي أمامة إنما نعرفه مثل هذا من هذا الوجه، وقد تكلم بعض أهل العلم في علي بن يزيد وضعفه وهو شامي". وقال الترمذي في الموضع الآخر: "هذا حديث غريب، إنما يروى من حديث القاسم عن أبي أمامة، والقاسم ثقة، وعلي بن يزيد يضعف في الحديث، قال: سمعت محمدًا - يعني البخاري - يقول: القاسم ثقة، وعلي بن يزيد يضعف". انتهى. وقال الترمذي أيضًا: "سألت محمد عن إسناد هذا الحديث، فقال: عبيد الله بن زحر ثقة، وعلي بن يزيد ذاهب الحديث، والقاسم أبو عبد الرحمن مولى ثقة"1. وعبيد الله بن زحر ورد في إسناد الترمذي وأحمد وغيرهما. وقال العقيلي: "لا يعرف إلا به"، أي بعلي بن يزيد. وعلي بن يزيد تقدم قول البخاري فيه، وقال عنه أبو حاتم: ضعيف الحديث، أحاديثه منكرة. وقال أبو زرعة: ليس بالقوي. وقال يعقوب بن شيبة: واهي الحديث كثير المنكرات. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال أيضًا: متروك الحديث. وقال الدارقطني: متروك2. وقال ابن حجر: ضعيف3.

ويظهر لي حسب ما تقدم من أقوال أئمة الجرح والتعديل أنه ضعيف جدًا. والله أعلم. وأما القاسم أبو عبد الرحمن فقد تكلم فيه أحمد، ولكن وثقه ابن معين، ويعقوب بن سفيان، ويعقوب بن شيبة، والبخاري، والترمذي وغيرهم1. قال ابن حجر: صدوق يغرب كثيرًا2. وقد تكلم بعضهم في أحاديث علي بن يزيد عن القاسم أبي عبد الرحمن عن أبي أمامة رضي الله عنه. فقد قال ابن معين: "علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة ضعاف كلها"3. وقال أبو حاتم: "ليست بالقوية، وهي ضعاف"4. وقال ابن حبان: "إذا روى عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد أتى بالطامات، وإذا اجتمع في إسناد خبر عبيد الله بن زحر وعلي بن يزيد والقاسم أبو عبد الرحمن لا يكون متن ذلك الخبر إلا ما عملت أيديهم، فلا يحل الاحتجاج بهذه الصحيفة، بل التنكب عن رواية عبيد الله بن زحر على الأحوال أولى"5 انتهى. وفي كلام ابن حبان مجازفة؛ لأن فيه اتهامهم بالوضع، ولم يسبق إلا ذلك، كيف وقد وثق بعضهم.

وقد تابع علي بن يزيد يحيى بن الحارث، وذلك فيما رواه ابن عدي1 بإسناده عن مسلمة بن علي، حدثني يحيى بن الحارث، عن القاسم، عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن، ولا جلوس إليهن، ولا استماع إليهن، ولا التجارة فيهن …" الحديث. وفي إسناده مسلمة بن عُلَيّ (مصغرًا) 2 الخشني، قال فيه ابن معين ودحيم: ليس بشيء. وقال البخاري وأبو زرعة: منكر الحديث. وقال يعقوب بن سفيان: لا ينبغي لأهل العلم أن يشغلوا أنفسهم بحديثه. وقال النسائي والدارقطني: متروك الحديث. ونحو ذلك قال ابن حبان3. وجعله ابن حجر في مرتبة "متروك"4. وقد تابع مسلمة بن علي متابعة قاصرة الوليد بن الوليد. وذلك فيما رواه الطبراني في الكبير5 بإسناده عن الوليد بن الوليد عن ابن ثوبان، عن يحيى بن الحارث به بنحوه. والوليد بن الوليد هو ابن زيد القيسي الدمشقي، قال فيه أبو حاتم: صدوق.

وقال الدارقطني وغيره: متروك. وقال ابن حبان: روى عن ابن ثوبان نسخة أكثرها مقلوبة. وقال الحاكم: روى عن عبد الرحمن بن ثوبان أحاديث موضوعة. ونحو ذلك قال أبو نعيم1. فعلى هذا فإن هذه المتابعة لا يعتبر بها. فمما تقدم يتبين أن هذا الحديث لا يصح عن أبي أمامة رضي الله عنه، بل هو ضعيف جدًا. والله أعلم. 55 - (2) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثمن القينة سحت، وغناؤها حرام، والنظر إليها حرام، وثمنها مثل ثمن الكلب، وثمن الكلب سحت، ومن نبت لحمه على السحت فالنار أولى به". رواه الطبراني في الكبير2 وهذا لفظه، وابن عدي3 بإسنادهما عن يزيد بن عبد الملك النوفلي، عن يزيد بن خصيفة، عن السائب بن يزيد عنه به. وفي هذا الإسناد يزيد بن عبد الملك، وقد تقدم أنه ضعيف جدًا4. فعلى هذا فإن هذا الحديث بهذا الإسناد ضعيف جدًا؛ لحال يزيد بن عبد الملك. والله أعلم.

56 - (3) عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم القينة؛ بيعها، وثمنها، وتعليمها، والاستماع إليها". رواه الطبراني في الأوسط1 بإسناده عن جعفر بن سليمان، عن سعيد بن أبي رزين، عن أخيه، عن ليث بن أبي سليم، عن عبد الرحمن بن سابط، عنها به. وفي إسناده سعيد بن أبي رزين وأخوه، وهما مجهولان. قال عنهما ابن حزم: لا يدرى من هو ولا من أخوه2. وقال الذهبي في سعيد: لا يعرف3. وليث بن أبي سليم قد تقدم4 أنه صدوق اختلط فلم يتميز حديثه فترك. ومما يدل على أنه اختلط في هذا الحديث أنه رواه مرة هكذا، ورواه مرة عن عبيد الله بن زحر عن القاسم عن عائشة - رضي الله عنها - أو عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم به5. والقاسم الشامي إنما يروي الحديث عن أبي أمامة رضي الله عنه، كما تقدم عند حديث أبي أمامة رضي الله عنه. ولذا قال البيهقي عن حديث عائشة: "ليس بمحفوظ، وروي عن ليث راجعًا إلى

الإسناد الأول. خلط فيه ليث"1. ويعني بقوله: "الإسناد الأول" حديث أبي أمامة رضي الله عنه. فعلى هذا فإن هذا الحديث لا يثبت عن عائشة - رضي الله عنها -. والله أعلم. 57 - (4) عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المغنيات وشرائهن وأكل ثمنهن وكسبهن". رواه تمام الرازي في فوائده2 بإسناده عن أبي عمرو ناشب بن عمرو الشيباني، عن مقاتل بن حيان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عنه به. وفي إسناده ناشب بن عمرو، وهو ضعيف جدًا. قال فيه البخاري: منكر الحديث. وقال الدارقطني: ضعيف3. ومن المعلوم أن البخاري إذا قال في راو ما "منكر الحديث" فيعني بذلك أنه لا تحل الرواية عنه4. فعلى هذا فإن هذا الحديث ضعيف جدًا. والله أعلم.

58 - (5) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المغنيات، والنواحات، وعن شرائهن وبيعهن وتجارة فيهن، وقال: "كسبهن حرام". رواه أبو يعلى1، ومن طريقه ابن عدي2 بإسناده عن علي بن يزيد الصدائي، عن الحارث بن نبهان، عن أبي إسحاق، عن الحارث الأعور عنه به. قال ابن عدي: "لا أعلم روى هذا الحديث عن أبي إسحاق بهذا الإسناد غير الحارث، ولا عن الحارث غير علي بن يزيد الصدائي". وقال الهيثمي: "فيه ابن نبهان، وهو متروك"3. والحارث بن نبهان هو الجرمي أبو محمد البصري. قال عنه ابن المديني: كان ضعيفًا ضعيفًا. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال أحمد: رجل صالح، لم يكن يعرف الحديث ولا يحفظ، منكر الحديث. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث، وفي حديثه وهن. وقال أبو حاتم والنسائي: متروك الحديث. وقال النسائي مرة: ليس بثقة4. وجعله ابن حجر في مرتبة: متروك5. فعلى هذا فإن هذا الحديث عن علي رضي الله عنه ضعيف جدًا؛ لحال ابن نبهان. والله أعلم.

دلالة الأحاديث السابقة: القينات: جمع قينة، وهي الجارية المغنية1. والأحاديث الواردة في هذا الفصل في النهي عن ثمنها كلها ضعيفة، بل شديدة الضعف. ولذلك قال بعض العلماء إن بيعها جائز؛ لأنها عين طاهرة، منتفع بها، فجاز بيعها2. ومن العلماء من قال بجواز بيعها ما لم يقصد المشتري أن تكون مغنية له. فإن قصد الغناء بطل البيع3. وهو داخل في الفصل الذي سبق ذكره في النهي عما يعلم أن المشتري يستعمل المبيع في الحرام. وأجاز بعض الفقهاء أن تباع في غير البلد الذي عرفت فيه بالغناء، واشترط بعضهم على البائع أن يبين للمشتري كونها مغنية؛ لأنه عيب فيها، فإن لم يبين، فللمشتري أن يردها بعيب غنائها4. وكلام العلماء في حكم بيعها هو ما إذا كانت تغني غناء محرمًا، وهو الذي تصحبه آلة؛ كعود وطبل، أو يكون بأشعار ماجنة. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف". رواه البخاري تعليقًا مجزومًا به5، ووصله ابن حبان6، والطبراني في الكبير7 , وهو حديث صحيح8.

فمن هذا الحديث وغيره يتبين أن شراء الأمة للغناء محرم. وبيعها على من يستعملها للغناء إعانة على الإثم والعدوان، وقد نهينا عنه. ويدخل في النهي عن بيع القينات النهي عن بيع كل وسيلة من وسائل الغناء؛ كالأشرطة المسموعة ونحوها التي تحوي الغناء المحرم، فإنه لا يجوز بيعها1، ولا تأجير المحلات لمن يبيعها2. والله أعلم.

_ 1 انظر في هذا: فتوى الشيخ ابن عثيمين (فتاوى إسلامية ص397) . 2 انظر في هذا: فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء (فتاوى إسلامية ص396) .

الفصل الثاني عشر: ما ورد في النهي عن بيع رباع مكة

الفصل الثاني عشر: ما ورد في النهي عن بيع رباع مكة 59 - (1) عن علقمة بن نضلة قال: "كانت رباع مكة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان أبي بكر وعمر تسمى السوائب، من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن". رواه ابن أبي شيبة1 وهذا لفظه، ومن طريقه ابن ماجه2، وابن زنجويه3، والأزرقي4، والطحاوي5، وابن أبي حاتم6، والفاكهي7، والطبراني8، والدارقطني9، والبيهقي10. كلهم من طرق عن عمر بن سعيد بن أبي حسين، عن عثمان بن أبي سليمان عنه به. وزاد الأزرقي والطحاوي والفاكهي والدارقطني بعد قوله "وعمر": "وعثمان". وزاد معاوية بن هشام في الإسناد نافع بن جبير بن مطعم. فقد رواه الدارقطني11 بإسناده عن معاوية بن هشام، عن سفيان الثوري، عن

عمر بن سعيد، عن عثمان بن أبي سليمان، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن علقمة بن نضلة به. ومعاوية بن هشام متكلم فيه، ولا سيما في حديثه عن الثوري. فقد قال فيه يحيى بن معين لما سئل عن حديث معاوية بن هشام - قال: "صالح وليس بذاك"1. وقال ابن عدي: قد أغرب عن الثوري بأشياء2. وقد خالفه في هذا الحديث الأحوص بن جوَّاب، فرواه عن الثوري عن عمر بن سعيد، عن عثمان بن أبي سليمان، عن علقمة بن نضلة به. رواه البيهقي3. والأحوص بن جواب صدوق يهم4، إلا أن روايته عن سفيان الثوري عن عمر بن سعيد هي الموافقة للروايات الأخرى عن عمر بن سعيد، وفي رواية يحيى بن سليم عن عمر بن سعيد التصريح بسماع عثمان بن أبي سليمان من علقمة بن نضلة5. فبذلك تكون رواية معاوية بن هشام من باب المزيد في متصل الأسانيد. والله أعلم. وعلقمة بن نضلة ذكره ابن حبان في الثقات ضمن أتباع التابعين. وقال ابن منده: "ذكر في الصحابة وهو من التابعين". وممن ذكره في الصحابة ابن البرقي والعسكري وأبو نعيم وغيرهم6.

وقال المزي: وقد ظن بعضهم أن له صحبة، وليس ذلك بشيء1. وقال ابن حجر: تابعي صغير، أخطأ من عده في الصحابة2. فمما سبق يتبين أن الراجح في علقمة بن نضلة أن ليس له صحبة، وبذلك يعلم أن قول ابن التركماني3 والبوصيري4 عن هذا الإسناد: "على شرط مسلم" لا يصح، لأنه مرسل. وأما عمر بن سعيد، وعثمان بن أبي سليمان فثقتان5. وقال الحافظ ابن حجر: "في إسناده انقطاع وإرسال"6. وفي قول الحافظ أن في إسناده انقطاعًا نظر، بل هو متصل إلى علقمة. وقد سبق أن عثمان بن أبي سليمان قد صرح بالسماع من علقمة بن نضلة، وأن من زاد نافع بن جبير بينهما فقد وهم. فمما سبق يتبين أن الحديث رجاله ثقات، إلا أنه مرسل. والله أعلم. والرباع: جمع ربع، وهو المنزل ودار الإقامة7. والسوائب: جمع سائبة. مأخوذ من سيب الشيء إذا تركه8. وأوله البيهقي بقوله: "فيه إخبار عن عادتهم الكريمة في إسكانهم ما استغنوا عنه من بيوتهم"9.

60 - (2) عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مكة حرام، وحرام بيع رباعها، وحرام أجر بيوتها". رواه الدارقطني1، والحاكم2 واللفظ لهما. كلاهما بإسنادهما عن أبي حنيفة عن عبيد الله بن أبي زياد عن أبي نجيح عنه به. ورواه الدارقطني أيضًا بإسناده عن أبي حنيفة به، إلا أنه قال: "عن عبيد الله بن أبي يزيد". ولفظه: "إن الله حرم مكة، فحرام بيع رباعها وأكل ثمنها"، وقال: "من أكل من أجر بيوت من مكة شيئًا فإنما يأكل نارًا". قال الدارقطني: "كذا رواه أبو حنيفة مرفوعًا، ووهم أيضًا في قوله: عبيد الله بن أبي يزيد، وإنما هو ابن أبي زياد القداح، والصحيح موقوف". وذكر ابن القطان احتمالاً آخر في أن الوهم في تسمية عبيد الله بن أبي زياد ليس من قبل أبي حنيفة، وإنما هو من الراوي عنه، وهو محمد بن الحسن، بدليل أن غير محمد بن الحسن رواه عن أبي حنيفة على الصواب3. والله أعلم. وقد رواه عيسى بن يونس، ومحمد بن ربيعة وغيرهما عن عبيد الله بن أبي زياد موقوفًا.

أما رواية عيسى بن يونس التي فيها وقف الحديث على عبد الله بن عمرو فقد رواها ابن أبي شيبة1، وابن زنجويه2، والدارقطني3، والبيهقي4. وأما رواية محمد بن ربيعة، فقد رواها الدارقطني5 أيضًا. وتابعهما على الوقف أيضًا وكيع بن الجراح فيما رواه أبو عبيد6 عنه عن عبيد الله بن أبي زياد به موقوفًا بلفظ: "من أكل من أجور بيوت مكة فإنما يأكل في بطنه نار جهنم". وتابعهم على الوقف أيضًا مسلم بن خالد الزنجي، رواه عنه الأزرقي7. لكن قد تابع أبا حنيفة على رواية الرفع أيمن بن نابل8 عن عبيد الله بن أبي زياد به مرفوعًا بلفظ: "من أكل كرا بيوت مكة أكل نارًا". رواه الدارقطني9. وفي إسناده محمد بن المتوكل المعروف بابن السري العسقلاني، تقدم الكلام فيه10، وأنه صدوق له أوهام كثيرة.

وقد خالفه في هذا الحديث حسين بن حسن السلمي، وهو صدوق1، فرواه عن المعتمر بن سليمان عن أيمن بن نابل به موقوفًا. رواه الفاكهي2. ورواه عبد الرزاق3 بإسناد آخر موقوفًا أيضًا على عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -. فالراجح في هذا الطريق الوقف على عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -. والله أعلم. وللحديث طريق أخرى، فقد رواه الفاكهي4، والعقيلي5، والدارقطني6، والحاكم7، والبيهقي8، وابن الجوزي9، كلهم من طرق عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن أبيه، عن عبد الله بن باباه، عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - به مرفوعًا، ولفظ الدارقطني ومن بعده: "مكة مناخ لا تباع رباعها ولا تؤاجر بيوتها". وقال العقيلي: "لا يتابع عليه - يعني إسماعيل بن إبراهيم". وقال الدارقطني: "إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر ضعيف لم يروه غيره".

وأما الحاكم فتساهل في تصحيحه فقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ولذا تعقبه الذهبي بأن إسماعيل قد ضعفوه. وقال البيهقي: "إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر ضعيف، وأبوه غير قوي. واختلف عليه، فروي عنه هكذا، وروي عنه عن أبيه، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا ببعض معناه". ويشير البيهقي في قوله: "واختلف عليه …" إلى ما رواه الطحاوي1، وابن عدي2 بإسنادهما عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر قال: سمعت أبي يذكر عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل بيع بيوت مكة ولا إجارتها" هذا لفظ الطحاوي. وإسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر تقدم تضعيف الدارقطني والبيهقي له. وضعفه أيضًا ابن معين، وأبو داود، والنسائي. وقال البخاري: في حديثه نظر. وقال أبو حاتم: ليس بقوي يكتب حديثه. وقال ابن حبان: فاحش الخطأ3. وجعله ابن حجر في مرتبة: ضعيف4. وفي هذه الطريق علة أخرى، وهي أن شريك بن عبد الله القاضي رواه عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد قال: "بيوت مكة لا تحل إجارتها ولا بيع رباعها". رواه ابن أبي شيبة5، والطحاوي6، فجعله

من قول مجاهد ولم يرفعه. وشريك أوثق من إسماعيل بن إبراهيم1، وتابعه على ذلك متابعة قاصرة شعبة عن الأعمش، عن مجاهد قوله. رواه الفاكهي2. ورواه غير شعبة عن العمش عن مجاهد، عن النبي صلى الله عليه وسلم. رواه أبو عبيد3، وابن أبي شيبة4، وابن زنجويه5، والأزرقي6، والفاكهي7، وابن الجوزي8، كلهم من طرق عن الأعمش عن مجاهد به مرسلاً. فمما تقدم يتبين أن هذا الحديث لا يصح مرفوعًا عن النبي صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.

دلالة الأحاديث السابقة: تدل هذه الأحاديث على النهي عن بيع رباع مكة، إلا أن هذه الأحاديث ضعيفة كما سبق. وقد اختلف العلماء في بيع رباع مكة، فقال أبو حنيفة: لا بأس ببيع بيوت مكة، ويكره بيع أراضيها. وفي رواية عن أبي حنيفة: لا يكره، وهو قول صاحبيه1. وهو أيضًا مذهب الشافعي2، ومالك في رواية3 وأحمد في رواية اختارها ابن قدامة4. والمشهور عند المالكية المنع من بيع رباعها5. وعندهم رواية أخرى بالكراهة، ولا سيما في أيام الموسم؛ لكثرة الناس واحتياجهم إلى الوقف. وعند الحنابلة رواية أخرى بالمنع من بيع رباعها6، وعندهم رواية أخرى بجواز البيع دون الإجارة، وهذه الرواية اختارها ابن تيمية7، وابن القيم8. وقد ذكر النووي أن سبب الخلاف بين العلماء في حكم بيعها مَبْنِيٌّ على أن مكة فتحت عنوة أم صلحًا9؟ فمن رأى أنها فتحت صلحًا أجاز بيعها، وإلا منع. ورد ابن القيم ما ذكره النووي10.

وبالنظر إلى الأدلة يتبين أن الأحاديث الواردة في النهي عن البيع ضعيفة كما سبق، وأن دلائل الكتاب والسنة وعمل الخلفاء الراشدين تدل على الجواز. فمن الكتاب قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} 1، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} 2، فأضاف الدور إليهم، وهذه إضافة تمليك. وقال النبي صلى الله عليه وسلم وقد قيل له: أين تنزل غدًا بدارك بمكة؟ فقال: "وهل ترك عقيل من رباع أو دور" 3، ولم يقل إنه لا دار لي، بل أقرهم على الإضافة، وأخبر أن عقيلاً استولى عليها، ولم ينزعها من يده. وأما إضافة دورهم إليهم في الأحاديث، فأكثر من أن تذكر؛ كدار أم هانئ، ودار خديجة، وغير ذلك4. وأما من عمل الخلفاء الراشدين والصحابة، فقد باع صفوان بن أمية دارًا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه بأربعة آلاف درهم، فاتخذها سجنًا5.

والقول بجواز بيع رباع مكة لا يدخل فيه الحرم ومشاعره؛ كالصفا والمروة، والمسعى، ومنى، وعرفة، ومزدلفة، فهي لا يختص بها أحد دون أحد، بل هي مشتركة بين المسلمين؛ إذ هي محل نسكهم ومتعبد هم1. والله أعلم.

_ 1 زاد المعاد (3/435) .

الفصل الثالث عشر: ما ورد في النهي عن إضاعة المال

الفصل الثالث عشر: ما ورد في النهي عن إضاعة المال1 61 - (1) عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال". رواه البخاري2 واللفظ له، ومسلم3، وأحمد4، والدارمي5، كلهم من طرق عن وراد كاتب المغيرة عنه به. وقوله: "ومنع وهات" قال النووي في بيان معناها: "أن يمنع الرجل ما توجه عليه من الحقوق ويطلب ما يستحقه"6. وقال أيضًا: "في قوله صلى الله عليه وسلم: "حرم ثلاثًا، وكره ثلاثًا"، دليل على أن الكراهة في هذه الثلاثة للتنزيه لا للتحريم"7. وقد سبق النووي إلى هذا الاستدلال الإمام ابن خزيمة8. والله أعلم.

62 - (2) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يرضى لكم ثلاثًا، ويكره لكم ثلاثًا، فيرضى لكم أن تعبد وه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال". رواه مسلم1 واللفظ له، ومالك2، وأحمد3، كلهم من طرق عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه عنه به.

دلالة الأحاديث السابقة يستفاد مما تقدم النهي عن إضاعة المال. وإضاعة المال تشمل أمورًا كثيرة؛ كالإسراف في المباحات1، من ذلك في العصر الحاضر الإسراف في نفقات الزواج والحفلات، ومن إضاعة المال إنفاقه في الوجوه المذمومة شرعًا2، كشراء أدوات الأغاني، واللهو، وما يصد عن ذكر الله. وقد ذكر العلماء أن من إضاعة المال بيع ما لا نفع فيه مطلقًا3، كالحشرات التي لا ينتفع بها، والسباع التي لا تستعمل للصيد، ونحو ذلك مما لا نفع فيه4. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: بذل المال فيما لا ينفع في الدين ولا في الدنيا منهي عنه5. وذلك لأن الحكمة في جواز البيع الانتفاع بالمبيع6، ولأن أخذ المال على ما لا نفع فيه من أكل المال بالباطل7، وقد نهينا عنه.

_ 1 انظر: فتح الباري (10/422) . 2 المرجع السابق. 3 انظر: شرح السنة (8/28) . 4 انظر: المجموع (9/286) ، المحلى (9/23) . 5 الفتاوى (32/223) . 6 شرح الزركشي (3/678) . 7 الشرح الكبير (4/15) ، المحلى (9/23) .

الباب الثاني: الأحاديث الواردة عن بيع ما ليس مملوكآ للبائع وقت العقد أو لم يقبضه بعد

الباب الثاني: الأحاديث الواردة عن بيع ما ليس مملوكآ للبائع وقت العقد أو لم يقبضه بعد الفصل الأول: ما ورد في النهي عن بيع ما لم يملك، وبيع ما لم يقبض ... .الفصل الأول: ما ورد في النهي عن بيع ما لم يملك أو لم يقبض وربح ما لم يضمن 63 - (1) عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه". رواه البخاري1، ومسلم2، وأبو داود3، والنسائي4، وابن ماجه5، ومالك6، وأحمد7، والدارمي8، كلهم من طرق عنه به. وفي لفظ بعضهم: "حتى يقبضه". وفي لفظ للبخاري9 ومسلم وأبي داود والنسائي وأحمد10: "لقد رأيت الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتاعون جزافاً - يعني الطعام - يضربون أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤوه إلى رحالهم". وفي لفظ للبخاري11 ومسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه ومالك وأحمد12: "كانوا يبتاعون الطعام في أعلى السوق فيبيعونه في مكانه،

فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم". ولفظ مسلم: "فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكانٍ سواه قبل أن نبيعه". وفي لفظ لأبي داود والنسائي: "نهى أن يبيع أحدٌ طعاماً اشتراه بكيلٍ حتى يستوفيه". وقد أخطأ عبد الله بن عمر العمري في هذا الحديث، فرواه عن نافع عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه به. رواه البزار1، وأبو يعلى2. قال البزار: "لا نعلم أحداً قال: عن ابن عمر عن عمر إلا عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر عن عمر ولم يتابع عليه". وقد خالف عبد الله بن عمر العمري مالكٌ، وأخوه عبيد الله، وعمرُ بن محمد وغيرهم. فعلى هذا فإن المحفوظ في هذا الحديث هو أنه من مسند ابن عمر لا من مسند عمر - رضي الله عنهما -. والله أعلم. 64 - (2) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "أمَّا الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فهو الطعام أن يباع حتى يقبض"، قال ابن عباس: "ولا أحسب كلَّ شيء إلا مثله". رواه البخاري3، واللفظ له، ومسلم4، وأبو داود5، والترمذي6، والنسائي7، وابن ماجه8، كلهم من طرقٍ عن طاووس عنه به.

وفي لفظ بعضهم1: "من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه". وفي لفظ للنسائي: "من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يكتاله". وقد زاد البخاري ومسلم وأبو داود في روايتهم: "قال طاووس: قلت لابن عباس: لم؟ فقال: "ألا تراهم يتبايعون بالذهب والطعام مرجأ". 65 - (3) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يؤكل منه، وحتى يوزن. فقال رجلٌ: وأيُّ شيء يوزن؟ قال رجلٌ إلى جنبه: حتى يحرز". رواه البخاري2 واللفظ له، ومسلم3، وأحمد4، والطبراني في الكبير5، كلهم من طرقٍ عن شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي البختري سعيد بن فيروز عنه به. وقوله "حتى يحرز" قال النووي: قوله "حتى يحرز" هو تقديم الزاي على الراء، أي يخرص. ووقع في بعض الأصول بتقديم الراء وهو تصحيف، وإن كان يمكن تأويله لو صح6. وقال الحافظ ابن حجر: "حتى يحرز" بتقديم الراء على الزاي، أي يحفظ ويصان. وفي رواية الكشميهني بتقديم الزاي على الراء أي يوزن

أو يخرص. وفائدة ذلك معرفة كمية حقوق الفقراء قبل أن يتصرف فيها المالك، وصوَّب عياض الأول - أي يحرز - ولكن الثاني أليق بذكر الوزن"1 انتهى. 66 - (4) عن سليمان بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال لمروان: أحللت بيع الربا. فقال مروان: ما فعلت؟ فقال أبو هريرة رضي الله عنه: أحللت بيع الصِّكاك، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يستوفى " قال: فخطب مروان الناس فنهى عن بيعها. قال سليمان: فنظرت إلى حرسٍ يأخذونها من أيدي الناس. رواه مسلم2 وهذا لفظه، وابن أبي شيبة3، وأحمد4، والطحاوي5، كلهم من طرقٍ عن بكير بن عبد الله الأشج عنه به. ولفظ ابن أبي شيبة: "حتى يكتاله". والصكاك: جمع صك، وهو الكتاب، وذلك أن الأمراء كانوا يكتبون للناس بأرزاقهم وأعطياتهم كتبًا، فيبيعون ما فيها قبل أن يقبضوها تعجلاً، ويعطون المشتري الصك ليمضي ويقبضه، فنهوا عن ذلك؛ لأنه بيع ما لم يقبض6. ورواه مالك7 بلاغاً، وفيه: "دخل زيد بن ثابت ورجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على مروان بن الحكم ... " الحديث بنحوه.

قال الزرقاني في هذا المبهم: "هو أبو هريرة رضي الله عنه كما في مسلم"1. ورواه البزار2، والطحاوي3، والبيهقي4، كلهم من طرقٍ عن مسلم بن أبي مسلم الجرمي عن مخلد بن الحسين عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه، ولفظه: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان5، فيكون لصاحبه الزيادة وعليه النقصان". قال البزار: "لا نعلمه عن أبي هريرة رضي الله عنه إلا من هذا الوجه، تفرد به مخلد عن هشام". وقال الهيثمي: "فيه مسلم بن أبي مسلم الخرمي، ولم أجد من ترجمه، وبقية رجاله رجال الصحيح". ومسلم بن أبي مسلم الجرمي ذكره ابن حبان في الثقات6، ولكن قال فيه: "ربما أخطأ". ووثقه الخطيب7. وقد حسن الحافظ ابن حجر هذا الإسناد8. وسوف يأتي نحو هذا اللفظ من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -. والله أعلم.

67 - (5) عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا ابتعت طعاماً فلا تبعه حتى تستوفيه". رواه مسلم1، وأحمد2، والطحاوي3، وابن حبان4، والبيهقي5، كلهم من طرقٍ عن أبي الزبير عنه به. وعند مسلم والبيهقي تصريح أبي الزبير بالسماع من جابر رضي الله عنه. ورواه ابن ماجه6، والدارقطني7، والبيهقي8 من طريق ابن أبي ليلى عن أبي الزبير عنه رضي الله عنه، ولفظه: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان: صاع البائع، وصاع المشتري". ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى صدوق سيء الحفظ جداً كما تقدم9، إلا أن هذا الحديث حسن بشواهده10. والله أعلم.

68 - (6) عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحلُّ سلفٌ وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك". رواه أبو داود1، والترمذي2، والنسائي3، وابن ماجه4 - مختصراً - وأحمد5، والدارمي6، والحاكم7. كلهم من طرقٍ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده به. قال الترمذي: "حسن صحيح". وقال الحاكم: "حديث صحيح على شرط جملة من أئمة المسلمين". وفي لفظٍ لأحمد: "نهى عن بيعتين في بيعة"، بدل قوله: "ولا شرطان في بيع". وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده تقدم8 أن الأقرب في الحكم عليه أنه من باب الحسن. فعلى هذا فإن إسناد هذا الحديث حسن. والله أعلم. وروى الطبراني في الأوسط9، والحاكم في علوم الحديث10، وابن حزم في المحلّى11، عن عبد الوارث بن سعيد قال: قدمت مكة فوجدت

بها أبا حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة - فذكر قصةً - جاء فيها أن أبا حنيفة حدّث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع وشرط". وفي إسنادهم جميعاً عبد الله بن أيوب بن زاذان الضرير، وهو متروك كما قال الدارقطني1. وكذلك شيخه محمد بن سليمان الذهلي، لم أجد له ترجمة. وقد تابع عبد الله بن أيوب بن زاذان، عبد الله بن فيروز الديلمي، كما عند الخطابي في معالم السنن2. وعبد الله بن فيروز الديلمي والراوي عنه وهو محمد بن هاشم بن هشام، لم أجد لهما ترجمة. وإضافة إلى ما تقدم من ضعف الإسناد، فإن في المتن نكارة، وذلك أن جميع طرق الحديث عن عمرو بن شعيب جاء فيها: "نهى عن شرطين في بيع". ولذا حكم ابن القيم على لفظ "نهى عن بيع وشرط"" بأنه لا يعلم له إسناد يصح، مع مخالفته للسنة الصحيحة والقياس، ولانعقاد الإجماع على خلافه3. وقد سبق ابن القيم في إنكار لفظ: "نهى عن بيع وشرط" شيخ الإسلام ابن تيمية4. وروى هذا الحديث ابن أبي شيبة5، والبيهقي6 من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وفيه: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد إلى

أهل مكة فقال: تدري إلى أين بعثتك؟ بعثتك إلى أهل الله. ثم قال: "انههم عن أربع ... "، ثم ذكر الحديث بنحوه. وهذا لفظ ابن أبي شيبة. ورواه ابن عدي1، والطبراني في الأوسط2، والبيهقي3، كلهم من طرقٍ عن يحيى بن بكير ثنا يحيى بن صالح الأيلي عن إسماعيل بن أمية عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعتاب بن أسيد: إني قد بعثتك على أهل الله، أهل مكة ... " الحديث. قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن إسماعيل بن أمية إلا يحيى بن صالح، تفرد به يحيى بن بكير". وقال الهيثمي: "فيه يحيى بن صالح الأيلي، قال الذهبي: روى عنه يحيى بن بكير مناكير. قلت: ولم أجد لغير الذهبي فيه كلاماً، وبقية رجاله رجال الصحيح"4. ونسبة الهيثمي هذا الكلام للذهبي وهم؛ وذلك لأن الذهبي إنما نقل هذا الكلام من العقيلي وليس صادراً عنه5. وتمام كلام العقيلي: "يحيى بن صالح الأيلي عن إسماعيل بن أمية عن عطاء أحاديث مناكير أخشى أن تكون منقلبة، هو بعمر بن قيس أشبه"6. وعمر بن قيس هو المكي، المعروف بسندل، متروك7.

وقد ذكر ابن عدي هذا الحديث في ترجمة يحيى بن صالح وقال: "قد روي عن يحيى بن بكير عن يحيى بن صالح الأيلي غير ما ذكرت، وكلها غير محفوظة". وقال فيه البيهقي: "غير قوي"1. ولذلك قال فيه ابن حجر: "منكر الحديث"2. وممن حكم على هذا الإسناد بالنكارة البيهقي3. فعلى ذلك فإن المحفوظ في هذا الحديث أنه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وأما ما رواه النسائي في الكبرى4، وابن حبان5 بإسنادهما عن ابن جريج أخبرني عطاء عن عبد الله بن عمرو قال: يا رسول الله، إنا نسمع منك أحاديثًا فتأذن لنا أن نكتبها؟ قال: " نعم". فكان أول ما كتب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة: "لا يجوز شرطان في بيع واحد، ولا بيع وسلف جميعاً، ولا بيع ما لم يضمن، ومن كان مكاتباً على مائة درهم فقضاها إلا عشرة دراهم فهو عبد، أو على مائة وقية فقضاها إلاّ وقيتين فهو عبد". فقد اختلف في عطاء هذا هل هو الخراساني أم ابن أبي رباح؟

فذهب ابن حزم1 وتبعه عبد الحق2 إلى أن عطاء هو الخراساني. واختار هذا الزيلعي3. وذهب ابن عساكر4، والمزي5، وابن كثير6، وابن حجر7 إلى أنه ابن أبي رباح.

والذي يترجح لي أنه عطاء الخراساني، وذلك لأنه جاء منسوباً بذلك في بعض الروايات كما عند عبد الرزاق1، وكذلك الخطيب البغدادي2 مختصراً. فإذا ترجّح أن عطاء هو الخراساني فإنه لم يسمع هذا الحديث من عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - وإنما أخذه من عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، هكذا رواه الحاكم3 والخطيب البغدادي4 مختصراً. ويؤيد هذا أن الشافعي قال عن حديث النسائي وابن حبان: "لم أعلم أحداً روى هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا عمرو ابن شعيب"5. ولعلّ هذا هو سبب حكم النسائي على حديث عطاء عن عبد الله بن عمرو هذا بقوله: "هذا حديث منكر، وهو عندي خطأ"6. والله أعلم. فعلى هذا فيكون رجع هذا الإسناد إلى حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وقد تقدم القول فيه. والله أعلم. 69 - (7) عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "ابتعت زيتاً في السوق، فلمّا استوجبته لنفسي لقيني رجلٌ فأعطاني به ربحاً حسناً، فأردت أن أضرب على يده، فأخذ رجلٌ من خلفي بذراعي،

فالتفتُّ فإذا زيد بن ثابت، فقال: لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم". رواه أبو داود1، وأحمد2، وابن حبان3، والطبراني4، والدارقطني5، والحاكم6، كلهم من طرقٍ عن محمد بن إسحاق عن أبي الزناد عن عبيد بن حنين عنه به. وعند أحمد وابن حبان تصريح ابن إسحاق بالسماع من أبي الزناد. وقد تابع ابن إسحاق جرير بن حازم فيما رواه الطبراني7، والدارقطني8. وتابعه أيضاً إسحاق بن حازم فيما رواه الدارقطني9، إلا أن في إسناده الواقدي، وهو محمد بن عمر، تركه أحمد وابن المبارك. وكذبه أحمد في رواية، والشافعي، وإسحاق، والنسائي، وابن المديني، وغيرهم10. وأما أبو الزناد، فهو عبد الله بن ذكوان القرشي، وهو ثقة11. وعبيد بن حنين، فهو أبو عبد الله المدني، وهو ثقة12 أيضاً.

فمما سبق يتبين أن الحديث صحيح من حديث ابن إسحاق وجرير بن حازم. والله أعلم. 70 - (8) عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: يا رسول الله؛ يأتيني الرجل فيريد مني البيع ليس عندي، أفأبتاعه له من السوق؟ قال: "لا تبع ما ليس عندك". جاء هذا الحديث عن حكيم بن حزام رضي الله عنه من ثلاث طرق: الطريق الأولى: يوسف بن ماهك عنه به: اختلف فيه فرواه أبو داود1 باللفظ المذكور، والترمذي2، والنسائي3، وابن ماجه4، وأحمد5، كلهم من هذا الطريق. قال الترمذي: "حديث حسن". ورواه الطيالسي6، وعبد الرزاق7، وأحمد8، وابن الجارود9، والطحاوي10، كلهم من طرقٍ عن يوسف بن

ماهك عن عبد الله بن عصمة عن حكيم بن حزام رضي الله عنه به. فذكروا واسطة بين يوسف بن ماهك وحكيم بن حزام رضي الله عنه. وجميع من روى هذا الحديث عن يوسف بن ماهك لم يذكروا تصريح يوسف بن ماهك بالسماع من حكيم بن حزام رضي الله عنه ما عدا رواية همام بن يحيى العَوْذي عن يحيى بن أبي كثير عن يعلى بن حكيم عن يوسف بن ماهك أن حكيم بن حزام حدثه به. رواها قاسم بن أصبغ في كتابه1. واعتمد ابن حزم على رواية همام فأثبت اتصاله بين يوسف وحكيم بن حزام، فلذلك صحح الحديث من هذه الطريق2. إلا أن رواية همام قد أُعلت بمخالفة غيره له ممن لم يذكر سماع يوسف من حكيم. فقال عبد الحق الإشبيلي: "هكذا ذكر- يعني هماماً - سماع يوسف بن ماهك من حكيم بن حزام، وهشام الدستوائي يرويه عن يحيى ويدخل بين يوسف وحكيم عبد الله بن عصمة، وكذلك هو بينهما في غير حديثٍ"3. وتابع هشاماً على روايته شيبان النحوي4، وأبان العطار5 وغيرهما. والذي يظهر لي أن الخلل ليس من همام بن يحيى وإنما من نسخة كتاب قاسم بن أصبغ، فيكون سقط من كتابه ذكر

عبد الله بن عصمة بين يوسف بن ماهك وحكيم بن حزام رضي الله عنه. وقد روى ابن حبان1، والدارقطني2 هذا الحديث من طريق همام بن يحيى عن يحيى بن أبي كثير به، وذكرا عبد الله بن عصمة بين يوسف وحكيم. قال ابن القطان: "هكذا رواه قاسم بن أصبغ، وأنا أخاف أن يكون سقط من الإسناد ابن عصمة، ورواية الدارقطني تبين ذلك"3. وممن رجّح ذكر الواسطة بين يوسف بن ماهك وحكيم بن حزام رضي الله عنه ابن عبد الهادي4. فإذا ترجّح أن يوسف بن ماهك لم يسمعه من حكيم بن حزام رضي الله عنه وأنه سمعه من عبد الله بن عصمة، فقد تابعه في الرواية عن عبد الله بن عصمة عطاء بن أبي رباح، وذلك فيما رواه النسائي5، والشافعي6، وأحمد7، والطحاوي8، كلهم من طرقٍ عن عطاء به. فعلى ذلك فإن مدار هذه الطريق على عبد الله بن عصمة، وهو الجشمي، ذكره البخاري9، وابن أبي حاتم10 ولم يذكرا

فيه جرحاً ولا تعديلاً، وذكره مسلم في تابعي أهل مكة1. وذكره ابن حبان في الثقات2. وأما قول ابن حزم فيه: متروك3. وكذا قول عبد الحق: ضعيف جداً4. فأجاب عن قولهما ابن عبد الهادي فقال: "كلاهما مخطئ في ذلك، وقد اشتبه عليهما عبد الله بن عصمة هذا بالنصيبي أو غيره ممن يسمى عبد الله بن عصمة"5. وكذلك تعقب ابن القطان عبد الحق فقال: "بل هو مجهول الحال"6. وأما الذهبي فقد اضطرب فيه، فقال في الميزان: "لا يعرف"7، وقال في الكاشف: "ثقة"8، وأصاب ابن حجر فجعله في مرتبة: "مقبول"9. فمما سبق يتبين أن هذه الطريق ضعيفة لجهالة عبد الله بن عصمة، ولكنه يصلح للمتابعة، وقد توبع كما سيأتي.

الطريق الثانية: عطاء بن أبي رباح عن صفوان بن موهب عن عبد الله بن محمد بن صيفي عنه به. رواه النسائي1، والشافعي2، وأحمد3، والطحاوي4، والطبراني5 كلهم من هذا الطريق. وصفوان بن موهب، وعبد الله بن محمد بن صيفي لم يوثقهما غير ابن حبان6، ولذا قال الحافظ ابن حجر في كلٍّ منهما: "مقبول"7. والحكم على هذه الطريق كالحكم على الطريق السابقة. الطريق الثالثة: عطاء بن أبي رباح عن حزام بن حكيم عن أبيه به. رواه النسائي8، وابن أبي شيبة9، والطحاوي10، وابن حبان11، والطبراني12 كلهم من هذا الطريق.

ولفظ النسائي: عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: ابتعت طعاماً من طعام الصدقة، فربحت فيه قبل أن أقبضه. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له فقال: "لا تبعه حتى تقبضه ". وحزام بن حكيم بن حزام لم يوثقه غير ابن حبان أيضاً1. ولذا قال فيه الحافظ ابن حجر: "مقبول"2. هذه هي الطرق التي وقفت عليها في حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه. وأما ما رواه الطبراني3 من طرقٍ عن محمد بن سيرين عن حكيم بن حزام رضي الله عنه به فقد أعله بالانقطاع بين محمد بن سيرين وحكيم، البخاري4 والترمذي5. قال الترمذي: "هذا حديث مرسلٌ، إنما رواه ابن سيرين عن أيوب السختياني عن يوسف بن ماهك عن حكيم بن حزام". فيكون بذلك قد عاد حديث محمد بن سيرين إلى حديث يوسف بن ماهك، وقد سبق ذكره. والحديث بمجموع طرقه وشواهده حديث حسن. والله أعلم. قال ابن المنذر: "بيع ما ليس عندك يحتمل معنيين: أحدهما: أن يقول: أبيعك عبد اً أو داراً معينة وهي غائبة، فيشبه بيع الغرر، لاحتمال أن تتلف أو لا يرضاها.

ثانيهما: أن يقول: هذه الدار بكذا على أن اشتريها لك من صاحبها أو على أن يسلمها لك صاحبها"1. قال ابن حجر: قصة حكيم موافقة للاحتمال الثاني2. وقد روى الحديث العقيلي3 والطبراني4، كلاهما من طريق العلاء بن خالد الواسطي عن منصور بن زاذان عن محمد بن سيرين عن حكيم رضي الله عنه به، بلفظ: "نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أربع خصال في البيع: عن سلف وبيع، وشرطين في بيع، وبيع ما ليس عندك، وربح ما لم يضمن". قال الهيثمي: "فيه العلاء بن خالد الواسطي، وثقه ابن حبان وضعفه موسى بن إسماعيل" 5. والعلاء بن خالد الواسطي رماه موسى بن إسماعيل بالكذب6، وهو الذي روى عنه هذا الحديث، وكذلك رماه بالكذب يحيى القطان وابن معين7. وأما قول الهيثمي: "وثقه ابن حبان". فالجواب عنه أن ابن حبان قد اضطرب في العلاء بن خالد الواسطي، فذكره في الثقات8 كما قال الهيثمي، وذكره أيضاً في المجروحين فقال فيه: "كان يُعْرف بأربعة أحاديث، ثم زاد الأمر وجعل يحدث بكلّ شيء سئل، فلا يحل ذكره في الكتب إلا على سبيل القدح فيه"9.

فعلى هذا فإن الحديث بهذا اللفظ لا يثبت عن حكيم بن حزام رضي الله عنه لحال العلاء بن خالد الواسطي. وأما متن الحديث فهو ثابت من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - كما تقدم ذكر حديثه. 71 - (9) عن عتَّاب بن أسيد رضي الله عنه قال: "لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة نهاه عن شفِّ ما لم يضمن". رواه ابن ماجه1 واللفظ له، وأبو يعلى2. وإسنادهما واحد وهو عثمان بن أبي شيبة عن ابن فضيل عن ليث بن أبي سليم عن عطاء بن أبي رباح عنه به. إلا أن لفظ أبي يعلى أتم من لفظ ابن ماجه، ولفظه: "نهاه عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع، وعن بيع ما ليس عندك، وشفِّ ما لم يضمن". قال البوصيري: "هذا إسناد ضعيف، وليث هو ابن أبي سليم ضعفه الجمهور، وعطاء هو ابن أبي رباح لم يدرك عتاباً" 3. وذكر البوصيري بعض الشواهد له. وقد تقدم الكلام في ليث بن أبي سليم وأنه ضعيف4. وأشار البوصيري إلى علة أخرى في هذا الإسناد، وهي الانقطاع بين عطاء وعتاب بن أسيد رضي الله عنه. وحكم على رواية عطاء بن أبي رباح عن عتاب ابن أسيد بالانقطاع المزي أيضاً5.

وللحديث طريق أخرى، فرواه الطبراني في الكبير1 بإسناده عن موسى بن عبيدة عن أخيه عبد الله بن عبيدة عن عتاب بن أسيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له حين أمره على مكة: "هل أنت مبلغ عني قومك ما آمرك به؟ قل لهم: لا يجمع أحدٌ بيعاً ولا سلماً، ولا يبع أحدٌ بيع غرر، ولا يبع أحدٌ ما ليس عنده". وموسى بن عبيدة هو ابن نُشيط الرَّبذي المدني. قال فيه ابن معين: ليس بالكذوب ولكنه روى عن عبد الله بن دينار أحاديث مناكير. وقال مرّةً: ليس بشيء. وقال أحمد: لا تحل الرواية عنه. وقال يعقوب بن شيبة: صدوق ضعيف الحديث جداً2. فمما تقدم يتبين أن موسى بن عبيدة الربذي ضعيف جداً، ولا سيما في عبد الله بن دينار، فلا يعتبر به. وهذا الحكم أولى من قول ابن حجر فيه في تقريب التهذيب: "ضعيف، ولا سيما في عبد الله بن دينار"3. وأصاب في الفتح فقال: "ضعيف جداً"4. فمما تقدم يتبين أن إسناد هذا الحديث إلى عتاب بن أسيد رضي الله عنه ضعيف. إلا أنه قد سبق عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعتّاب هذا الحديث. فهو من مسند عبد الله بن عمرو لا عتاباً رضي الله عنهم.

72 - (10) عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى رب النخل أن يدين في ثمر نخله حتى يؤكل من ثمرتها مخافة أن يدين بدينٍ كثير فتفسد الثمرة فلا يوفَّى عنه، وكان ينهى رب الزرع أن يدين في زرعه حتى يبلغ الحصد، وكان ينهى رب الذهب إذا باعها بطعامٍ في الثمر أن يبيع الطعام حتى يكال الطعام فيقبضه مخافة الربا". رواه الطبراني في الكبير1 بإسناده عن مروان بن جعفر السمري، عن محمد بن إبراهيم بن خبيب بن سليمان بن سمرة، عن جعفر بن سعد بن سمرة عن خبيب بن سليمان بن سمرة عن أبيه عنه به. ومروان بن جعفر قال فيه أبو حاتم: صدوق صالح الحديث2. وأما محمد بن إبراهيم بن خبيب، فقال ابن حبان: لا يعتبر بما انفرد به من الإسناد3. وقد تابعه يوسف بن خالد السمتي كما عند البزار4، إلا أن يوسف بن خالد متروك كما تقدم5. فعلى هذا فلا تصلح هذه المتابعة لشدة ضعف يوسف بن خالد السَّمتي.

وأما جعفر بن سعد بن سمرة، وخبيب بن سليمان بن سمرة، وأبوه، فقال ابن القطان: "ما من هؤلاء يعرف حاله، وقد جهد المحدِّثون فيهم جهدهم، وهو إسناد يروى به جملة أحاديث قد ذكر البزار منها نحو المائة"1. وقال ابن حزم في جعفر بن سعد وخبيب بن سليمان: مجهولان2. وقال عبد الحق الإشبيلي في جعفر بن سعد: ليس ممن يعتمد عليه، وقال ابن عبد البر: ليس بالقوي3. وقال الذهبي في خبيب بن سليمان: لا يُعرف4. وقال: مجهول الحال5. وقال في سليمان بن سمرة: ليس بالمشهور6. وخلص الحافظ الذهبي في الحكم على هذا الإسناد بقوله: "بكلِّ حالٍ هذا إسناد مظلم لا ينهض بحكم"7. فمما سبق يتبين أن هذا الإسناد ضعيف. والله أعلم.

73 - (11) عن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم عتَّاب بن أسيد على مكة فقال: "إني قد أمرتك على أهل الله عز وجل بتقوى الله عز وجل، ولا يأكل أحدٌ منهم من ربح ما لم يضمن، وانههم عن سلفٍ وبيعٍ، وعن صفقتين في البيع الواحد، وأن يبيع أحدهم ما ليس عنده". رواه البيهقي1 بإسناده عن محمد بن إسحاق عن عطاء عن صفوان بن يعلى عن أبيه به. ومحمد بن إسحاق مدلِّس ولم يصرِّح بالسماع في هذا الحديث. وعطاء هو ابن أبي رباح. وصفوان بن يعلى بن أمية التميمي ثقة2. فمما سبق يتبين أن علة هذا الإسناد هي تدليس ابن إسحاق. وقد تقدم3 أن هذا الحديث إنما يحفظ من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. والله أعلم.

دلالة الأحاديث السابقة: يستفاد من هذه الأحاديث النهي عن بيع ما ليس عند البائع وقت العقد، لقوله صلى الله عليه وسلم لحكيم رضي الله عنه: "لا تبع ما ليس عندك". وقد أجمع العلماء على النهي عن بيع ما لم يملك1. وذلك أن الذي يبيع ما ليس عنده قد ربح ما لم يضمن، وهو منهي عنه كما سبق في حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - وغيره، فالشارع أباح الربح للتاجر بشرط أن تكون السلعة في ضمانه قبل بيعها؛ ليكون الربح مقابل ضمانه، والخراج بالضمان، فإذا باع التاجر سلعة لا يضمنها، وذلك بأن لا تكون في ملكه، فذلك لا يجوز؛ سواء أكانت هذه السلعة معينة أم في الذمة، وهو المراد بنهي النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا تبع ما ليس عندك"2. وألحق جمهور العلماء بهذا النهي أن يبيع في الذمة ما يملكه وهو السلم الحال، وقالوا: إذا كان عنده فإنه لا يبيعه إلا معينًا، وليس له أن يبيعه في الذمة. وذهب الشافعي إلى جواز السلم الحال، وقال: "إذا جاز السلم المؤجل جاز السلم الحال من باب أولى"3، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية4. أما السلم المؤجل فقد اتفق الفقهاء على جوازه، وهو أن يسلم عوضًا حاضرًا في عوض موصوف في الذمة إلى أجل5.

وقد ذهب بعض العلماء إلى أن السلم المؤجل مستثنى من النهي عن بيع ما ليس عند البائع؛ للنصوص الواردة في إباحته، وذهب الشافعي إلى أن السلم بيع لما في الذمة، وبيع ما ليس عندك بيع لما في الأعيان1، فافترقا. ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية ما قدمناه أولاً في المراد في النهي عن بيع ما ليس عندك، وهو أن يبيع في الذمة ما ليس هو مملوكًا له، أو يملكه لكن لا يقدر على تسليمه؛ فالعندية ليست عندية الحس والمشاهدة، وإنما هي عندية الحكم والتمكين2. وبيع ما ليس عندك من قسم القمار والميسر؛ لأنه قصد أن يربح على هذا لما باعه ما ليس عنده، والمشتري لا يعلم أنه يبيعه ثم يشتري من غيره. وأكثر الناس لو علموا لم يشتروا منه، بل يذهبون هم فيشترون من حيث اشترى هو، وإن قدر أن منهم من يعلم ويشتري؛ كما لو كانت عنده؛ لكونه يشتريها من مكان بعيد، أو يشتري جملة ونحو ذلك مما قد يتعسر على المشتري منه، وإنما يفعل ذلك إذا ظن أن هذا الربح هو الربح لو كانت عنده. وليست المخاطرة الموجودة في بيع ما ليس عندك مخاطرة تجارة، وإنما مخاطرة ميسر وقمار، وذلك يتضمن أكل أموال الناس بالباطل، وهي كمخاطرة بالبيع قبل القدرة على التسليم؛ كبيع الثمار قبل بدو صلاحها، أو بيع حبل الحبلة، أو بيع العبد الآبق، وغير ذلك … فإذا اشترى التاجر السلعة، وصارت عنده ملكًا، وقبضها فحينئذ دخل في خطر التجارة الذي لا بد منه، وباع بيع التجارة كما أحلها الله تعالى3.

فإذا تبين مما تقدم معنى النهي عن بيع ما ليس عند البائع، فإن الشارع تأكيدًا لهذا الجانب نهى عن بيع السلع حتى تقبض وتضمن. وهذا القبض واجب في كل مبيع، سواءً أكان مطعوماً أم غير مطعومٍ، وسواءً أكان منقولاً أم عقاراً، وسواء أبيع مقدّراً أم جزافاً، وقبض كل شيءٍ بحسبه، فإن كان غير منقول وهو العقار كالبناء ونحوه الشجر، فبالتخلية بين المشتري وبينه وتمكينه من التصرف فيه بتسليمه المفتاح ونحوه. وإن كان منقولاً وبيع جزافاً فقبضه يتم بنقله من حوزة البائع إلى غيره. وإن كان المبيع منقولاً وبيع مقدراً بكيلٍ أو وزنٍ أو عدٍ أو نحو ذلك، فلا يكفي النقل، بل لابد أيضاً من توفيته، وذلك بكيل ما بيع بالكيل، ووزن ما بيع بالوزن، وعد ما بيع بالعد وهكذا. وهذا هو الذي دلّ عليه مجموع الأحاديث السابقة. وبهذا القول قال الشافعي1. وأما مالك فخص النهي عن بيع ما لم يقبض بالطعام فقط2. وأبو حنيفة استثنى العقار من اشتراط القبض فيه، لأن الحنفية يرون أن الحكمة في النهي عن بيع ما لم يقبضه هو احتمال هلاك المبيع. قالوا: وهذا الهلاك لا يتوهم حصوله في العقار3. والقبض عند الحنفية فيما يشترط فيه القبض يتم ولو بالتخلية4.

وأما الحنابلة فعندهم روايات في هذه المسألة أشهرها أن النهي عن بيع ما لم يقبض هو فيما إذا كان المبيع مكيلاً أو موزوناً وبيع بهما، فيشترط فيه الكيل أو الوزن مع النقل1. وقد تقدم أن الذي تدل له السنة هو القول بعموم النهي عن بيع ما لم يقبض. وكذلك بيع ما لم يقبض فيه ربح ما لم يضمن2، وقد نُهي عنه كما جاء في بعض أحاديث هذا الفصل3. ومعنى ربح ما لم يضمن، هو أن يبيع سلعة قد اشتراها ولم يكن قبضها، فهي من ضمان البائع الأول ليس من ضمان المشتري، فهذا لا يجوز بيعه حتى يقبضه فيكون من ضمانه. قاله الخطابي4. قال ابن العربي: "وأما ربح ما لم يضمن فإنما لم يجز؛ لأن بيعه لا يجوز؛ لأن ما لم يضمن إما أنه لا يملك فيكون من بيع ما ليس عندك، وإما لأنه غير مقدورٍ على تسليمه، فيكون من باب الغرر والمخاطرة"5. وهناك صورة ثالثة يكون فيها الربح لما لم يضمن وهو بيع ما لم يقبض وإن كان مملوكاً. وقد تقدمت هذه الصورة في كلام الخطابي. والنهي عن ربح ما لم يضمن من محاسن الشريعة، فإنه لم يتم عليه استيلاء ولم تنقطع علق البائع عنه فهو يطمع في الفسخ والامتناع من الإقباض إذا رأى المشتري قد ربح فيه، وإن أقبضه إياه فإنما يقبضه على

إغماضٍ وتأسفٍ على فوت الربح، فنفسه متعلقة به لم ينقطع طمعها منه. وهذا معلوم بالمشاهدة، فمن كمال الشريعة ومحاسنها النهي عن الربح فيه حتى يستقر عليه ويكون من ضمانه فييأس البائع من الفسخ وتنقطع علقه عنه1. ويستثنى من النهي عن ربح ما لم يضمن بيع الثمار بعد بدو صلاحها وهي على رؤوس الشجر، ذلك أنه يجوز بيعها وهي كذلك على الصحيح، وإذا أصابتها جائحة من ريحٍ وغيره فإنها من ضمان البائع، وإنما جوز هذا البيع للحاجة إليه، فإن الثمار قد لا يمكن بيعها إلا كذلك، فلو منعناه من بيعها أضررنا به، ولو جعلناها من ضمانه إذا تلفت بجائحة أضررنا به أيضاً، فجاز البيع؛ لأنها في حكم المقبوض بالتخلية، وصارت من ضمان البائع بالجائحة؛ لأنها ليست في حكم المقبوض من جميع الوجوه2. والله أعلم. والناظر في أسواق المسلمين اليوم يرى كثيرًا من المعاملات التي يبيع فيها بعض الناس ما ليس عنده، فإذا علم التاجر حاجة شخص إلى سلعة ما؛ كسيارة أو أثاث أو غيرهما، والحال أن هذا الشخص لا يستطيع شراء هذه السلعة بالنقد، فيقول له التاجر: أنا أشتري لك هذه السيارة وأبيعها لك مؤجلة بكذا، فيربح ما لم يضمن، فلا يجوز له أن يبيعها حتى يقبضها القبض الشرعي الذي سبق ذكره، ثم بعد ذلك للمشتري الخيار في الشراء. ومن هذه الصور أيضًا ما يفعله بعض التجار في بعض الأسواق؛ كأسواق الماشية أو السيارات أو غيرهما؛ فيشتري سيارة في السوق، ثم يعرضها للبيع وهي في مكانها، وقد يشتريها آخر، ويعرضها للبيع مرة أخرى،

وهكذا، فقد تباع أكثر من مرة وهي ما زالت في مكانها من غير أن يتحقق لأحدهم قبض فيها. وبسبب انتشار مثل هذه الصور في أسواق المسلمين وقع الضرر بمن يحتاج هذه السلع؛ لأنه يزيد في ثمنها من يريد الربح فيها فقط، والشارع أباح له الربح بشرط تحقق قبضه فيها، وضمانه لها، وكثير من هؤلاء التجار الذين يريدون الربح فقط لو علم أنه لا يربح فيها حتى يقبضها ويضمنها فإنه يكف عن الشراء، وبهذا تتوفر السلع في الأسواق لمن يحتاجها بثمن أقل.

الفصل الثاني: ما ورد في النهي عن بيع فضل الماء والكلأ والنار

الفصل الثاني: ما ورد في النهي عن بيع فضل الماء والكلأ والنار 74 - (2) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يباع فضل الماء ليباع به الكلأ". رواه البخاري1، ومسلم2 واللفظ له، وأبو داود3، والترمذي4، وابن ماجه5، ومالك6، وأحمد7، كلهم من طرقٍ عنه به. ولفظ البخاري وغيره: "لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ". وفسَّر سفيان بن عيينة الحديث بقوله: "يكون حول بئرك الكلأ فتمنعهم فضل مائك فلا يعودون أن يرعوا"8. ورواه ابن ماجه9 أيضاً، وابن الجارود10، كلاهما من طريق سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: "ثلاث لا يمنعن: الماء والكلأ والنار".

قال البوصيري: "هذا إسناد صحيح ورجاله ثقات"1. وقال الحافظ ابن حجر: "إسناده صحيح"2. ورواه أحمد3، ونحوه ابن حبان4 بلفظ: "لا تبيعوا فضل الماء، ولا تمنعوا الكلأ فيهزل المال ويجوع العيال". قال الهيثمي: "رجاله ثقات"5. وفي قوله نظر، وذلك أن الراوي عن أبي هريرة رضي الله عنه وهو أبو سعيد6 مولى غفار، لم يوثقه غير ابن حبان7. إلا أنه يعتضد بما روى ابن ماجه والذي فيه النهي عن منع الماء والكلأ، فيكون به حسناً لغيره. والله أعلم. ونحوه لفظ أحمد أيضاً: "لا يمنع فضل ماءٍ بعد أن يستغنى عنه، ولا فضل مرعى"8. وفي إسناده عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي، وثقه علي بن المديني، وابن معين، وأحمد، وابن نمير، ويعقوب بن شيبة9 وغيرهم. إلا أنه اختلط، والراوي عنه في هذا الإسناد هو يزيد بن هارون، وهو ممن سمع منه بعد الاختلاط10.

وأيضاً في إسناده عمران بن عمير، قال فيه الحسيني: فيه جهالة. وقال أبو زرعة العراقي: لا أعرفه1. فعلى هذا فإن هذا الإسناد ضعيف، إلا أنه يعتضد بما سبق فيكون حسناً لغيره. والله أعلم. 75 - (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذابٌ أليم: رجل كان له فضل ماءٍ بالطريق فمنعه من ابن السبيل، ورجلٌ بايع إمامه لا يبايعه إلا لدنيا فإن أعطاه منها رضي وإن لم يعطه منها سخط، ورجلٌ أقام سلعته بعد العصر فقال: والله الذي لا إله غيره لقد أُعطيت بها كذا وكذا، فصدَّقه رجل. ثم قرأ هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} 2". رواه البخاري3 واللفظ له، ومسلم4، وأبو داود5، والترمذي6 - مختصراً -، والنسائي7، وابن ماجه8، وأحمد9، كلهم من طرقٍ عن الأعمش عن أبي صالح عنه به.

وفي لفظٍ للبخاري ولفظ البقية زيادة: "لا يكلمهم الله". وفي روايةٍ للبخاري: "ورجلٌ منع فضل ماءٍ فيقول الله يوم القيامة: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك". 76 - (3) عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع فضل الماء". رواه مسلم1 وهذا لفظه، والنسائي2، وابن ماجه3، وابن أبي شيبة4، وأحمد5، وابن حبان6، والحاكم7، كلهم من طرقٍ عنه به. وقال الحاكم: "حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". هكذا قال، وقد سبق أن مسلماً أخرجه في صحيحه. وفي لفظٍ لمسلم والنسائي: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ضراب الجمل، وعن بيع الماء والأرض لتحرث، فعن ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم". ولفظ ابن حبان: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع فضل الماء ليمنع به الكلأ".

77 - (4) عن إياس بن عبد رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع فضل الماء". رواه أبو داود1 وهذا لفظه، والترمذي2، والنسائي3، وابن ماجه4، وأحمد5، والدارمي6، والطبراني7، كلهم من طرقٍ عن عمرو بن دينار عن أبي المنهال عبد الرحمن بن مطعم عنه به. وعند النسائي وابن ماجه وغيرهما أن إياس بن عبد حدّث بهذا الحديث عندما رأى أُناساً يبيعون الماء. وعند أحمد: أنهم كانوا يبيعون ماء الفرات فنهاهم. وأبو المنهال عبد الرحمن بن مطعم البناني ثقة8. فمما تقدم يتبين أن هذا الحديث صحيح، وهذا الحديث من الأحاديث التي ألزم الدارقطني الشيخين تخريجها9.

78 - (5) عن رجلٍ من المهاجرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه قال: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً أسمعه يقول: "المسلمون شركاء في ثلاث: في الكلأ والماء والنار". رواه أبو داود1، وابن أبي شيبة2، وأحمد3، والبخاري في التاريخ الكبير4 - وساق إسناده ولم يسق تمام لفظه -، وأبو حاتم5، وابن عدي6، والبيهقي7، كلهم من طرقٍ عن حريز بن عثمان عن أبي خداش حِبَّان بن يزيد الشرعبي عنه به. وعند أبي داود بيان أن هذا الصحابي الراوي لهذا الحديث من قَرَن. ولا يضر الجهل باسمه. ورواه أبو نعيم8 بإسناده عن أبي إسحاق الفزاري عن رجلٍ من أهل الشام عن أبي عثمان عن أبي خداش به بنحوه - وفيه قصة - وليس فيه ذكر الرجل من المهاجرين. قال أبو حاتم: "هذا الرجل من أهل الشام هو عندي بقية، وأبو عثمان هو عندي حريز ابن عثمان، وأبو خداش لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم إنما حكى عن رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم"9.

قال أبو نعيم: "وهو الصواب"1. وقال ابن حجر: "هو كما قال"2. وحَرِيز - بفتح الحاء وكسر الراء - بن عثمان، ثقة ثبت رمي بالنصب3. وأما أبو خداش حِبَّان بن يزيد الشرعبي الحمصي، فقد ذكره البخاري4 ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً. ونقل الآجري عن أبي داود أنه قال: "شيوخ حريز كلهم ثقات"5. وذكره ابن حبان في الثقات6. ونقل عبد الحق الإشبيلي عن بعضهم أنه قال فيه: "مجهول" 7. ولعل قول أبي داود السابق هو الذي جعل الحافظ ابن حجر يجعله في مرتبة الثقة8 ويحكم على هذا الإسناد بأن رجاله ثقات9. والذي يظهر لي أن الصواب فيه أن يقال ما قاله الذهبي: "شيخ"10؛ وذلك لأن قول أبي داود توثيق عام لا يكفي في رفع الجهالة عن الراوي. والحافظ ابن حجر نفسه لم يأخذ بقول أبي داود مطلقاً، فإنه قال في سلمان بن

سمير وعبد الرحمن بن ميسرة الحضرمي ويزيد بن صالح - ويقال: صليح - الرحبي، قال في كلٍّ منهم: "مقبول"1 مع رواية حريز بن عثمان عنهم. فكذلك ينبغي له أن يقول في أبي خداش الشرعبي "مقبول". والله أعلم. فمما تقدم يتبين أن هذا الإسناد ضعيف. إلا أن له شاهداً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه باللفظ الذي رواه ابن ماجه2، فيكون به حسناً لغيره. والله أعلم. 79 - (6) عن قيلة - رضي الله عنها - أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المسلم أخو المسلم، يسعهما الماء والشجر، ويتعاونان على الفتَّان". رواه أبو داود3 - وفي قصة -، والترمذي4، وأبو داود الطيالسي5 - كلاهما مختصراً -، وأبو عبيد6 وهذا لفظه، ومن طريقه ابن زنجويه7، والبخاري في الأدب المفرد8، والطبراني9 - وذكر الحديث بطوله -،

وأبو نعيم1، كلهم من طرقٍ عن عبد الله بن حسَّان عن جدتيه صفية ودُحيبة ابنتا عليبة وكانتا ربيبتي قيلة عنها به. قال الترمذي: "حديث قيلة لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن حسَّان". وعبد الله بن حسّان لم يوثق. ولذا قال فيه الحافظ ابن حجر: "مقبول"2. وأما الذهبي فقال فيه: "ثقة"3، ولعل توثيقه له على قاعدته التي مرَّ ذكرها4 وهي قوله: "الجمهور على أن من كان من المشايخ قد روى عنه جماعة ولم يأت بما ينكر عليه أن حديثه صحيح". وتقدم جواب الحافظ ابن حجر على قوله هذا. وصفية ودُحيبة لم يوثقهما غير ابن حبان5 أيضاً. وقد ذكرهما الذهبي في النساء المجهولات6. وقال الحافظ ابن حجر في كلٍ منهما: "مقبولة"7. فمما تقدم يتبين أن إسناد هذا الحديث ضعيف. إلا أن له شواهد تؤيده مما سبق ذكره في أحاديث هذا الفصل، فيكون بها حسناً لغيره. والله أعلم. وقوله: "يتعاونان على الفتَّان" قال ابن الأثير: "يُروى بضم الفاء وفتحها. فالضم جمع فاتن: أي يعاون أحدهما الآخر على الذين يضلّون الناس عن الحق ويفتنونهم، وبالفتح: هو الشيطان؛ لأنه يفتن الناس عن الدِّين"8.

80 - (7) عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من منع فضل مائه وفضل كلئه، منعه الله فضله يوم القيامة". جاء حديث عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما - في النهي عن بيع الماء من وجوه: الطريق الأولى: ليث بن أبي سليم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده به: رواه أحمد1 باللفظ المذكور. وليث بن أبي سليم قد تقدم الكلام فيه2 وأنه ضعيف. وعمرو بن شعيب قد تقدم3 أن الراجح في حديثه عن أبيه عن جده أنه في مرتبة الحسن. الطريق الثانية: الأعمش عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده به: رواه العقيلي4، والطبراني5 كلاهما من طريق محمد بن الحسن القردوسي حدثنا جرير بن حازم عن الأعمش به، ولفظ الطبراني: "أيُّما رجلٍ أتاه ابن عمه فسأله من فضله فمنعه، منعه الله فضله يوم القيامة، ومن منع ماءً ليمنع به فضل الكلأ منعه الله فضله يوم القيامة". قال الطبراني في الأوسط: "لم يرو هذا الحديث عن الأعمش إلا جرير، تفرد به محمد بن الحسن". وزاد الطبراني في الصغير

قوله: "تفرد به عبيد الله بن جرير، ولا روى الأعمش عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إلا هذا، ولا كتبناه إلا عن أحمد بن عبيد الله". ومحمد بن الحسن القردوسي قال فيه العقيلي: "حديثه غير محفوظ، وليس بمشهور بالنقل". وبعد أن ذكر حديثه هذا قال: "لا يتابع على إسناد حديثه1، وهذا يروى بإسنادٍ أصلح من هذا". الطريق الثالثة: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده به: رواه أبو يوسف2 ولفظه: "كتب غلام لعبد الله بن عمرو إلى عبد الله بن عمرو3: أما بعد، فقد أعطيت بفضل مائي ثلاثين ألفاً بعدما أرويت زرعي ونخلي وأصلي، فإن رأيت أن أبيعه وأشتري به رقيقاً أستعين بهم في عملك فعلتُ. فكتب إليه: قد جاءني كتابك وفهمت ما كتبت به إليَّ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من منع فضل ماءٍ ليمنع به فضل كلأ منعه الله فضله يوم القيامة". فإذا جاءك كتابي هذا فاسق نخلك وزرعك وأصلك، وما فضل فاسق جيرانك الأقرب فالأقرب، والسلام".

ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى تقدم الكلام فيه وأنه "صدوق سيء الحفظ جداً"1. الطريق الرابعة: أبو الزبير عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده به موقوفاً: رواه يحيى بن آدم2 - ومن طريقه ابن أبي شيبة3 - عن زهير بن معاوية به ولفظه: "أن غلاماً لهم باع لهم فضل ماءٍ لهم من عينٍ بعشرين ألفاً، فقال عبد الله بن عمرو: لا تبعه، فإنه لا يحل بيعه". وأبو الزبير هو محمد بن مسلم بن تدرس المكِّي، ثقة إلا أنه يدلِّس4 ولم يصرِّح بالسماع في هذا الحديث. الطريق الخامسة: سليمان بن موسى عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - مرفوعاً: رواه أحمد5، وابن زنجويه6 كلاهما من طريق محمد بن راشد به. ولفظه: "أن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - كتب إلى عاملٍ له على أرضٍ له: أن لا تمنع فضل مائك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ منعه الله يوم القيامة فضله".

ومحمد بن راشد الخزاعي الدمشقي وثقه ابن المديني، وابن معين، وأحمد، والنسائي. وقال أبو حاتم ويعقوب بن شيبة: صدوق. وقال النسائي في رواية: ليس بالقوي. وقال الدارقطني: يعتبر به1. والذي يترجح لي فيه أن أقل أحواله أن يكون صدوقاً. وجعله ابن حجر في مرتبة: صدوق يهم2. وأما سليمان بن موسى فقال ابن سعد، ودحيم، وابن معين، والدارقطني: ثقة. وقال ابن المديني: كان خولط قبل موته بيسير. وقال أبو حاتم: محلُّه الصدق وفي حديثه بعض الاضطراب. وقال النسائي: ليس بالقوي في الحديث. وقال ابن عدي: ثبت صدوق3. وجعله ابن حجر في مرتبة: "صدوق فقيه في حديثه بعض لين، وخولط قبل موته بيسير"4. وسليمان بن موسى لم يدرك أحداً من الصحابة كما قال البخاري5. فعلى هذا فإن هذا الإسناد منقطع.

الطريق السادسة: عمرو بن دينار عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - موقوفاً: رواه النسائي1، وابن سعد2، وابن زنجويه3، كلهم من طرقٍ عن داود بن عبد الرحمن العطار به. ولفظه عند النسائي: "باع قيِّم الوهط فضل ماء الوهط فكرهه عبد الله بن عمرو"، ولفظ ابن سعد وابن زنجويه: "فردَّه عبد الله بن عمرو". وداود بن عبد الرحمن العطَّار ثقة لم يثبت أن ابن معين تكلم فيه. قاله الحافظ ابن حجر4. وعمرو بن دينار المكي قد سمع من عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -. قاله الحاكم5. والوَهْط: مالٌ كان لعمرو بن العاص بالطائف، وهو كَرْم كان على ألف ألف خشبة. وقيل: قرية بالطائف على ثلاثة أميال من وَج كانت لعمرو بن العاص - رضي الله عنهما -6. وقد ذكر الذهبي أن هذا الوهط كان موجوداً في عصره، وهو بستان كبير يتوارثه آل عمرو بن شعيب7.

الطريق السابعة: أبو بكر بن عيّاش عن شعيب بن شعيب عن عمرو بن شعيب عن سالم مولى عبد الله بن عمرو عن عبد الله بن عمرو به مرفوعاً: رواه يحيى بن آدم1، ومن طريقه البيهقي2 من هذا الطريق، ولفظه عن سالم مولى عبد الله بن عمرو قال: "أَعْطوني بفضل الماء من أرضه بالوهط ثلاثين ألفاً، قال: فكتبت إلى عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - فكتب إليَّ: لا تبعه، ولكن أقِمْ قِلْدَك ثم اسق الأدنى فالأدنى، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع فضل الماء". وأبو بكر بن عيَّاش كان يحيى القطان وابن المديني يسيئان الرأي فيه، وضعفه ابن نمير. وقال أحمد: صدوق. وقال أيضاً: ثقة وربما غلط. وقال ابن سعد: كان ثقة صدوقاً عارفاً بالحديث والعلم إلا أنه كثير الغلط. وقال يعقوب بن شيبة: في حديثه اضطراب. وقال ابن عدي: لا بأس به3. وخلص فيه الحافظ ابن حجر إلى أنه ثقة عابد إلا أنه لما كبر ساء حفظه، وكتابه صحيح4. وأمّا شعيب بن شعيب، وسالم مولى عبد الله بن عمرو فلم يوثقهما غير ابن حبان5، فهما مجهولان.

ومعنى قوله "أقم قِلْدَك" أي إذا سقيت أرضك يوم نوبتها فأعط من يليك1. هذه هي الطرق التي وقفت عليها في هذا الحديث عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -، فتبيّن أنه قد صحّ موقوفاً عليه، وأمّا الرفع فبمجموع طرقه يكون بها حسناً لغيره. وكذلك يشهد للحديث المرفوع حديث أبي هريرة رضي الله عنه في بعض ألفاظه عند البخاري2، وقد سبق بيان ذلك. والله أعلم. 81 - (8) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من منع فضل ماءٍ منعه الله فضله يوم القيامة". رواه أبو يعلى3 بإسناده عن أبي عبد الرحيم الصائغ عن قهرمان لسعدٍ عنه به. وفي إسناده مبهم وهو قهرمان سعد. وأبو عبد الرحيم الصائغ ذكره ابن عبد البر في كتابه "الاستغناء في معرفة المشهور من حملة العلم بالكنى"4، إلا أنه ذكر أن كنيته "أبو عبد الرحمن" وأشار إلى حديثه هذا. ولم أجد فيه كلاماً لأهل العلم بالجرح والتعديل. والله أعلم. فعلى هذا فإن إسناد هذا الحديث ضعيف. إلا أن له شاهداً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وغيره، فيكون بها حسناً لغيره. والله أعلم.

82 - (9) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: إن من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ... " الحديث، وفيه: "وقضى بين أهل المدينة أنه لا يمنع فضل ماءٍ ليمنع فضل الكلأ". رواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند1 وهذا لفظه، والشاشي2، وروى ابن ماجه3، وابن عدي4، والحاكم5، والبيهقي6 جملاً من هذا الحديث ليس فيها محل الشاهد. رواه كلهم من طرقٍ عن فضيل بن سليمان عن موسى بن عقبة عن إسحاق بن يحيى بن الوليد بن عبادة بن الصامت عنه به. قال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه". وقال في موضع آخر: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه". وفي قوله نظر؛ وذلك لأن إسحاق بن يحيى بن الوليد لم يخرج له البخاري ومسلم شيئاً، بل لم يخرج له إلا ابن ماجه من أصحاب الكتب الستة. وذكره ابن حبان في الثقات7. وقال ابن عدي: "ولإسحاق بن يحيى هذا عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث، يروي عنه موسى بن عقبة، ويروي عن موسى فضيل بن سليمان وغيره، وعامتها في قضايا رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وقال: "وعامتها غير محفوظة "8. وجعله ابن حجر في مرتبة مجهول الحال9.

وفي الإسناد علة أخرى وهي الانقطاع بين إسحاق بن يحيى وعبادة بن الصامت رضي الله عنه، فقد قال البخاري في إسحاق: "لم يلق عبادة"1، وكذلك قال الترمذي2. وتبعهما المزي3 والذهبي4 فحكما بالانقطاع بينهما. فعلى هذا فإن إسناد هذا الحديث ضعيف، إلا أن له شواهد صحيحة تؤيده سبق ذكرها، فيكون بها حسناً لغيره. والله أعلم. 83 - (10) عن بُهيسة قالت: استأذن أبي النبي صلى الله عليه وسلم فدخل بينه وبين قميصه فجعل يقبل ويلتزم. ثم قال: يا نبيَّ الله، ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: "الماء". قال: يا نبي الله، ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: "الملح". قال: يا نبيّ الله، ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: "أن تفعل الخير خيرٌ لك". رواه أبو داود5، وأحمد6، والدارمي7، والدولابي8، والطبراني في الكبير9، والبيهقي10 - من طريق أبي داود - كلهم من طرقٍ عن كهمس بن الحسن عن سيَّار بن منظور الفزاري عن أبيه عنها به. وزاد أحمد والطبراني: "وانتهى قوله إلى الماء والملح، قالت: فكان ذلك الرجل لا يمنع شيئاً من الماء وإن قلَّ".

وروى أحمد هذا الحديث أيضاً عن وكيع عن كهمس عن منظور1 بن سيار عن أبيه عنها به2. وقد خالف وكيع غيره من الرواة فقلب اسم شيخ شيخه. قال البخاري: وهو وهم3. وقال المزي: "وهو معدود في أوهامه" 4 - يعني وكيعاً -. وكهمس بن الحسن هو التميمي البصري، ثقة5. وسيَّار بن منظور الفزاري وثقه العجلي6، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال عبد الحق الإشبيلي: مجهول7. ولذا قال فيه الحافظ ابن حجر: "مقبول" 8. وأبوه منظور بن سيار ذكره ابن حبان في الثقات9. وحكم بجهالته عبد الحق10 وابن القطان11 والذهبي12. ولذا قال فيه ابن حجر:"مقبول"13.

وبُهَيْسة - بمضمومة وفتح هاء وبسين مهملة1 - الفزارية. ذكرها ابن حبان في الصحابة2. وقال أبو نعيم: أدركت النبي صلى الله عليه وسلم3. وقال عبد الحق: مجهولة4. وتابعه ابن القطان على ذلك5. وقد ذكرها الذهبي في فصل النساء المجهولات6. وصحح الحافظ ابن حجر أن حديثها هذا غير دال على صحبتها؛ لأن المعتمد في حديثها هذا أنها روته عن أبيها7. ولذا خلص في الحكم عليها بقوله: "لا تعرف، ويقال: لها صحبة"8. وأبوها سماه ابن عبد البر عميراً9. وقال ابن حجر فيما ذكره ابن عبد البر: "لم أره لغيره"10. والذي يظهر لي أنه لا تثبت صحبته بهذا الحديث الواحد لضعف إسناده. والله أعلم. فمما سبق تبين أن إسناد هذا الحديث ضعيف. وأعلّ ابن عبد البر المتن أيضاً بقوله: "زيادة الملح في هذا الحديث غير محفوظة"11.

وهذا الإسناد وإن كان ضعيفاً، فإن للنهي عن منع الماء أحاديث أخر - سبق ذكرها - يتقوى بها هذا الحديث، فيكون بها حسناً لغيره. وأما ذكر الملح في هذا الحديث فمنكر لعدم وروده في الأحاديث الأخرى. والله أعلم. 84 - (11) عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يمنع فضل الماء ولا يمنع نقع البئر". جاء هذا الحديث عن عائشة - رضي الله عنها - من طرقٍ موصولاً ومرسلاً: الطريق الأولى: حارثة بن محمد عن عمرة عنها به موصولاً: رواه ابن ماجه1 باللفظ المذكور، وإسحاق بن راهويه2، والبيهقي3، كلهم من هذا الطريق. وحارثة بن محمد هو حارثة بن أبي الرجال الأنصاري النجاري المدني. قال فيه ابن معين والنسائي: ليس بثقة - زاد النسائي: ولا يكتب حديثه -. وقال النسائي أيضاً: "متروك الحديث". وقال أحمد وأبو داود: "ليس بشيء". وقال أبو زرعة: "واهي الحديث ضعيف". وقال البخاري وأبو حاتم: "منكر الحديث". - زاد أبو حاتم: "ضعيف الحديث" -. وذكره يعقوب بن سفيان في باب من يرغب عن الرواية عنهم4.

وخلص فيه الحافظ ابن حجر إلى أنه ضعيف1. والذي يتبين لي من أقوال أئمة الجرح والتعديل فيه أنه ضعيف جداً لا يكتب حديثه. الطريق الثانية: أبو الرجال محمد بن عبد الرحمن2 عن عمرة موصولاً ومرسلاً: رواه موصولاً عن أبي الرجال كلٌّ من: أ - محمد بن إسحاق. رواه عنه ابن أبي شيبة3، وأحمد4، وأبو عبيد5، وابن عبد البر6. ومحمد بن إسحاق جعله الحافظ ابن حجر في مرتبة صدوق يدلّس7. وقد صرّح بالسماع في هذا الحديث كما في مسند أحمد. ب - عبد الرحمن بن أبي الرجال. رواه عنه ابن عدي8، والحاكم9 وعنه البيهقي10. وقد جعل الحافظ ابن حجر عبد الرحمن هذا في مرتبة صدوق ربما أخطأ11.

جـ - خارجة بن عبد الله بن سليمان. رواه أحمد1، وابن عدي2، وابن عبد البر3. وقد جعله الحافظ ابن حجر في مرتبة صدوق له أوهام4. د - أبو أويس عبد الله بن عبد الله بن أويس. رواه عنه أحمد5، وابن زنجويه6. وقد تقدم أن الحافظ جعله في مرتبة صدوق يهم7. هـ - صالح بن كيسان. رواه عنه يحيى بن آدم8. وصالح بن كيسان ثقة ثبت9 إلا أن الراوي عنه في هذا الحديث هو إبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي مولاهم، وقد كذّبه القطان، وابن المديني. واتهمه البزار. وقال أحمد وابن المبارك والنسائي وغيرهم: متروك. وشذَّ الشافعي فوثقه. والصواب مع الجماعة10.

وله إسناد آخر عند الطبراني في الأوسط1 من طريق سعيد بن أبي أيوب عن صالح بن كيسان به، ولفظه "لا يمنع نقع بئرٍ"، إلا أن فيه شيخ الطبراني أحمد بن رشدين، وقد كذبه بعضهم2. وأما من رواه مرسلاً عن أبي الرجال فهما: أ - سفيان الثوري. رواه عبد الرزاق3، وابن زنجويه4، والبيهقي5. ب - مالك بن أنس. وذلك في الموطأ6. والذي يترجح لي من هذا الاختلاف هو الإرسال؛ لاتفاق إمامين حافظين عليه، وهما أحفظ من كل من خالفهما. وممّن رجح الإرسال البيهقي، وقال إنه المحفوظ7. فعلى هذا فإن إسناد هذا الحديث ضعيف؛ لإرساله، إلا أن النهي عن منع فضل الماء سبق له شواهد تؤيده، فيكون بها حسنًا، والله أعلم. ومعنى قوله "ولا يمنع نقع البئر" أي فضل مائها8.

85 - (12) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار، وثمنه حرام". رواه ابن ماجه1، وابن عدي2، كلاهما من طريق عبد الله بن خراش بن حوشب عن العوام بن حوشب عن مجاهد عنه به. وعبد الله بن خراش بن حوشب قال فيه أبو زرعة: ليس بشيء، ضعيف. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أبو حاتم: منكر الحديث، ذاهب الحديث، ضعيف الحديث. وقال النسائي: ليس بثقة. واتهمه محمد بن عمّار الموصلي بالكذب3. والذي يظهر لي مما تقدم من أقوال الأئمة أنه ضعيف جداً، وقد جعله الحافظ ابن حجر في التلخيص في مرتبة المتروك4. وتساهل في التقريب فقال فيه: ضعيف5. وأمّا العوام بن حوشب فثقة ثبت فاضل6. فمما سبق يتبين أن إسناد هذا الحديث ضعيف جداً، وضعفه أيضاً البوصيري7، وذكر أن حديث بهيسة عن أبيها يشهد له. ولكن إسناد هذا الحديث - كما سبق - ضعيف جداً، فلا يعتضد بالشواهد. والله أعلم.

86 - (13) عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: يا رسول الله، ما الشيء الذي لا يحلُّ منعه؟ قال: "الماءُ والملح والنار". قالت: قلت: يا رسول الله، هذا الماءُ قد عرفناه فما بال الملح والنار؟ قال: "يا حُمَيراء؛ من أعطى ناراً فكأنما تصدَّق بجميع ما أنضجت تلك النار، ومن أعطى مِلْحاً فكأنما تصدّق بجميع ما طيَّب ذلك الملح، ومن سقى مسلماً شربةً من ماءٍ حيث يوجد الماء فكأنما أعتق رقبةً، ومن سقى مسلماً شربةً من ماءٍ حيث لا يوجد الماء فكأنما أحياها". رواه ابن ماجه1 وهذا لفظه، والطبراني في الأوسط2، كلاهما من طريق علي بن غراب عن زهير بن مرزوق عن علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب عنها به. قال الطبراني: "لم يُسند زهير بن مرزوق غير هذا، تفرَّد به عليُّ بن غراب". وعلي بن غراب قال فيه ابن معين: ثقة. وقال مرَّةً: صدوق. وقال أحمد وأبو زرعة: صدوق. وقال أبو حاتم والنسائي: لا بأس به. وقال أبو داود: ضعيف، ترك الناس حديثه. وقال ابن حبان: حدث بالأشياء الموضوعة فبطل الاحتجاج به. وقال الدارقطني: يعتبر به3.

والذي يترجّح لي من هذه الأقوال هو ما اختاره الحافظ ابن حجر فيه حيث قال: "صدوق، وكان يدلِّس ويتشيع، وأفرط ابن حبان في تضعيفه"1. وقد صرَّح علي بن غراب بالسماع في إسناد الطبراني. وأما زهير بن مرزوق فسُئل عنه ابن معين فقال: "لا أعرفه". قال ابن عدي: "إنما لم يعرفه ابن معين لأن له حديثاً واحداً معضلاً2" - ويعني ابن عدي هذا الحديث له عن عائشة - رضي الله عنها -. وقال البخاري: "منكر الحديث، مجهول"3. وقال فيه الذهبي: "واهٍ"4. بينما جعله ابن حجر في مرتبة "مجهول"5. ولعل مأخذ الذهبي في الحكم عليه بأنه "واهٍ" أنه لم يرو إلا هذا الحديث الواحد ولم يتابع عليه إلا بمن هو ضعيف جداً، أو كذاب - كما سيأتي في الطرق الآتية -، وأيضاً فإن البخاري قد قال: "كل من قلت فيه منكر الحديث فلا تحل الرواية عنه" 6. وأما علي بن زيد بن جُدعان فقال فيه ابن عيينة: "كتبت عن علي بن زيد كتاباً كثيراً فتركته زهداً فيه". وقال حماد بن زيد: "كان يقلب الأحاديث". وكان يحيى بن سعيد يتقي حديثه. وقال ابن سعد: فيه ضعف، ولا يحتج به. وقال ابن معين وأحمد: ليس بشيء. وقالا أيضاً والنسائي: ضعيف. وقال أبو زرعة وأبو حاتم: "ليس بقوي". وقال الترمذي: "صدوق إلا أنه ربما رفع الشيء الذي يوقفه غيره". وليَّنه يعقوب بن شيبة والدارقطني7.

وخلص فيه الحافظ ابن حجر إلى أنه في مرتبة "ضعيف"1. وممن ضعف الحديث البوصيري2، وابن حجر3. والذي يظهر لي أنه ضعيف جداً لحال زهير بن مرزوق. وقد توبع زهير بن مرزوق في بعضه وليس فيه محل الشاهد وهو ما جاء في ذكر النهي عن منع الماء والملح والنار. فقد رواه ابن عدي4 بإسناده عن الحسن بن أبي جعفر عن علي بن زيد بن جُدعان به، ولفظه: "من سقى ماءً حيث يوجد الماء فكأنما أعتق نسمة، ومن سقى ماءً حيث لا يُقْدر على الماء فكأنما أحيا نفساً". وفيه الحسن بن أبي جعفر، وقد تقدم الكلام فيه5 وأنه ضعيف جداً. فعلى هذا فإن هذه المتابعة لا تصلح للاعتبار. وللحديث إسناد آخر أيضاً، وذلك فيما رواه ابن عدي6 بإسناده عن أحمد بن محمد بن علي بن الحسن بن شقيق عن الحسين بن عيسى عن عبد الله بن نمير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة - رضي الله عنها - بنحو اللفظ السابق. وأحمد بن محمد بن علي قال فيه ابن عدي: "يضع الحديث"، ومن ثَمَّ حكم على هذا الإسناد بقوله: "وهذا الحديث كذب موضوعٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم". فعلى هذا فإن هذا الإسناد لا يعتبر به أيضاً.

والذي يظهر لي أن هذا الحديث ضعيف جداً من جميع طرقه والله أعلم. وقد حكم ابن الجوزي على الحديث بالوضع من هذين الطريقين1، وتعقبه السيوطي2 بطريق ابن ماجه السابق إلا أنه ضعيف جداً كما سبق. وقد تكلم بعض العلماء في الأحاديث التي جاء فيها قول النبي صلى الله عليه وسلم في عائشة - رضي الله عنها - "حميراء". ومن ذلك قول المزي فيما نقله ابن كثير عنه: "كل حديث فيه ذكر الحميراء باطل إلا حديث في الصوم في سنن النسائي"3. وزاد الزركشي4 حديثاً آخر أيضاً. وأما ابن القيم فقال: "كل حديثٍ فيه "يا حميراء" أو ذكر "الحميراء" فهو كذب مختلق"5. ويجب أن يستنثى من هذا الإطلاق الحديثان اللذان مرّ ذكرهما في كلام المزي وما زاده الزركشي. والله أعلم. 87 - (14) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خصلتان لا يحلُّ منعهما: الماء والنار". رواه البزار6، والطبراني في الصغير7، كلاهما من طريق عبدة بن عبد الله الصفَّار حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا الحسن بن أبي جعفر عن بُدَيل بن ميسرة العقيلي عنه به.

قال البزار: "لا نعلمه عن أنس إلا من هذا الطريق، ولا نعلم أسند بديل عن أنس إلا هذا وآخر". وقال الطبراني: "لم يروه عن بديل بن ميسرة إلا الحسن، تفرد به عبد الصمد". وعبدة بن عبد الله الصفَّار1، وعبد الصمد بن عبد الوارث2، وبُدَيل بن ميسرة3، ثقات. وأما الحسن بن أبي جعفر فقد تقدم الكلام فيه4 وأنه ضعيف جداً. وقد سئل أبو حاتم عن هذا الحديث فقال: "هذا حديث منكر بهذا الإسناد"5. فمما سبق يتبين أن إسناد هذا الحديث ضعيف جداً. والله أعلم. 88 - (15) عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا عباد الله فضل الماء والكلأ ولا ناراً، فإن الله جعلها متاعاً للمقوين وقوةً للمستضعفين". رواه الطبراني في الكبير6 من طريق بشر بن عون عن بكَّار بن تميم عن مكحول عنه به.

وبشر بن عون وبكّار بن تميم قال فيهما أبو حاتم: مجهولان1. وحكم ابن حبان2 وابن طاهر3 على الأحاديث المروية بهذا الإسناد بالوضع. وللحديث إسنادٌ آخر ولكنه مرسل. فقد رواه أبو يوسف4 عن العلاء بن كثير عن مكحول قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... " الحديث مثله. والعلاء بن كثير هذا هو الليثي أبو سعيد الدمشقي، قال فيه أحمد: ليس بشيء. وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث واهي الحديث يحدث عن مكحول عن واثلة بمناكير. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث منكر الحديث. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: متروك. وقال ابن عدي: للعلاء بن كثير عن مكحول عن الصحابة نسخ كلها غير محفوظة وهو منكر الحديث5. وجعله ابن حجر في مرتبة: "متروك"6. فعلى هذا فإن هذا الإسناد ضعيف جداً. والله أعلم. 89 - (16) عن عبد الله بن سَرْجس رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فدخلت بين قميصه وجلده، فقبَّلت منه موضع الخاتم. فقلت: ما الذي لا يحل منعه؟ قال: "الملح". قال: قلت: ثم ماذا؟ قال: "الماء والنار".

رواه الطبراني في الأوسط1 من طريق يحيى بن سعيد العطَّار الحمصي عن المثنَّى بن بكر عن عاصم الأحول عنه به. ويحيى بن سعيد العطار ضعَّفه ابن معين وقال: ليس بشيء. وقال الجوزجاني والعقيلي: منكر الحديث. وقال أبو داود: جائز الحديث. وقال ابن عدي: بيِّن الضعف. وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات، لا يجوز الاحتجاج به2. وخلص فيه الحافظ ابن حجر إلى أنه في مرتبة "ضعيف" 3. وأما المثنَّى بن بكر فقال فيه الدارقطني: متروك4. وأما عاصم بن سليمان الأحول فوثقه الثوري وابن مهدي وابن معين وابن المديني وأحمد وغيرهم، وتكلم فيه القطان5. والراجح فيه ما قال الجماعة. وأما كلام القطان فيه فقال ابن حجر: كأنه بسبب دخوله في الولاية6. فمما تقدم يتبين أن إسناد هذا الحديث ضعيف جداً. وكذلك فإن في لفظ الحديث نكارة، وذلك أنه قد رواه مسلم7 وغيره من طرقٍ عن عاصم الأحول عن عبد الله بن سرجس "أنه نظر إلى خاتم النبوة بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم"، ولم يذكر فيه سؤاله عما لا يحل منعه. والله أعلم.

90 - (17) عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقطع طريق، ولا يمنع فضل ماءٍ، ولا ابنُ السبيل عارية الدَّلو والرّشا والحوض إن لم يكن أدَّاه بعينه1، ويخلَّى بينه وبين الرّكية يسقي، ولا يمنع المحفر إذا نزل الحافر خمسةً وعشرين ذراعاً عطناً للماشية". رواه الطبراني في الكبير2 بإسناده عن مروان بن جعفر السمري عن محمد بن إبراهيم بن خبيب بن سليمان بن سمرة عن جعفر بن سعد بن سمرة عن خبيب بن سليمان بن سمرة عن أبيه عنه به. وقد تقدم الكلام في هؤلاء3، والخلاصة التي ذكرها الذهبي في الأحاديث المروية بهذا الإسناد حيث قال: "بكل حالٍ هذا إسناد مظلم لا ينهض بحكم". وللحديث إسناد آخر، فقد رواه ابن زنجويه4 بإسناده عن مسلمة بن علي عن عبد الرحمن بن يزيد عن مكحول عنه به بنحوه. ومسلمة بن علي قد تقدم الكلام فيه5 وأنه متروك. فمما تقدم يتبين أن إسناد هذا الحديث ضعيف جداً عن سمرة بن جندب رضي الله عنه والله أعلم.

والرشاء: الحبل1، والركية: البئر2 وأما المحفر فلم أقف على معناه، ولكن يظهر أنه مما يحتاجه الحافر عند حفره، وعند أهل نجد المحفر: وعاء يستعمل في حمل التراب وغيره، وقد يكون هو المقصود في الحديث، والله أعلم.

دلالة الأحاديث السابقة: يستفاد مما تقدم النهي عن بيع فضل الماء والكلأ والنار. أما الماء فالمراد به ماء العيون والآبار ونحوها مما لا يد لأحدٍ عليه والناس فيه سواء، وأما إذا صيِّر هذا الماء في آنية وأوعية فليس داخلاً في النهي عن بيعه، لما تكلف فيه مستقيه وحامله1. ومثل هذا اليوم المياه الصحية التي تعبأ في قوارير أو نحوها فهي ليست داخلة في النهي. قال الخطابي: "وأما الماء إذا جمعه صاحبه في صهريج أو بركة أو خزنه في جب أو قراه في حوض ونحوه فله أن يمنعه، وهو شيءٌ قد حازه على سبيل الاختصاص لا يشركه فيه غيره، والحديث إنما جاء في منع الفضل دون الأصل، ومعناه ما فضل عن حاجته وحاجة عياله وماشيته وزرعه"2. والمراد بمنع الماء الذي ورد النهي عنه عدم بذله لمن يحتاج إليه بغير عوض، فإن أبى بذله بغير عوض فهو مانعٌ له. والبئر إن كان لها مالك أو كانت في أرضٍ مملوكة فالمالك أولى به من غيره، وما فضل عن حاجته فلا يجوز له منعه3. وقد سبق أن من منع فضل مائه من ابن السبيل فإن الله لا يكلمه يوم القيامة ولا ينظر إليه ولا يزكيه وله عذابٌ أليم. وأما الكلأ فهو النبات الذي أخرجه الله للأنعام مما لم ينصب فيه أحدٌ بحرثٍ ولا غرس ولا سقي، فهو لمن سبق إليه، ليس لأحدٍ أن يحتظر منه شيئاً دون غيره، ولكن ترعاه أنعامهم ومواشيهم ودوابُّهم معاً4.

وأما إذا أخذ الكلأ من منابته وجمع ففي هذه الحالة يملكه من أخذه وله بيعه1. وقد روى البخاري في صحيحه عن الزبير بن العوام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لأن يأخذ أحدكم أحبلاً فيأخذ حزمةً من حطب فيبيع فيكف الله بها وجهه خيرٌ من أن يسأل الناس أُعطي أم مُنع" 2، وقد بوّب البخاري على هذا الحديث بقوله: "باب: يبيع الحطب والكلأ". وإذا كان الكلأ في أرضٍ مملوكةٍ لمالكٍ بعينه فهو مالٌ له ليس لأحدٍ أن يشركه فيه إلا بإذنه3. ويستثنى من النهي عن منع الكلأ الحِمى، وهو ما يحميه الإمام للخيل الغازية في سبيل الله ولنعم الصدقة4، فللإمام أن يمنع غيرها من أن ترعى فيه. وأما النار التي نهي عن منعها فقد فسّرها بعض العلماء بأنها الحجارة التي توري النار. يقول: لا يمنع أحدٌ أن يأخذ منها حجراً يقتدح به النار، فأما التي يوقدها الإنسان فله أن يمنع غيره من أخذها، وقال بعضهم: ليس له أن يمنع من يريد أن يأخذ منها جذوةً من الحطب الذي قد احترق فصار جمراً، وليس له أن يمنع من أراد أن يستصبح منها مصباحاً أو أدنى منها ضغثاً يشتعل بها؛ لأن ذلك لا ينقص من عينها شيئاً5. والله أعلم.

_ 1 انظر: الشرح الكبير - على متن المقنع - (4/25) . 2 صحيح البخاري - مع الفتح -[كتاب الشرب والمساقاة (5/ رقم 2373) ] . 3 معالم السنن (3/751) . 4 انظر: الأموال - لأبي عبيد - (ص274-275) . 5 انظر: معالم السنن (3/751) .

الفصل الثالث: ما ورد في النهي عن بيع المغانم حتى تقسم وعن بيع الصدقات بل أن تقبض

الفصل الثالث: ما ورد في النهي عن بيع المغانم حتى تقسم وعن بيع الصدقات بل أن تقبض 91 - (1) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المغانم حتى تقسم، وعن الحُبالى أن يوطأن حتى يضعن ما في بطونهن، وعن لحم كلِّ ذي ناب من السباع". رواه النسائي1 وهذا لفظه، وابن أبي شيبة2، وأحمد3 - مختصراً -، وأبو يعلى4، والطبراني في الكبير5، والدارقطني6، والحاكم7، والبيهقي8، كلهم من طرقٍ عن مجاهد عنه به. وقال الحاكم: "حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة" ورواه من طريق أخرى مختصراً وصححه. وزاد أبو يعلى والدارقطني بعد قوله: "وعن الحبالى أن يوطأن حتى يضعن ما في بطونهن" زادا "قال: لا تسق زرع غيرك، وعن لحوم الحمر الأهلية".

وزاد الحاكم: "وعن قتل الولدان"، وفي لفظ له في روايةٍ: "وعن بيع الخمس حتى يقسم". وعند أبي يعلى والطبراني والدارقطني أن هذا النهي كان يوم خيبر. وأما النهي عن وطء الحبالى حتى يضعن، فسيأتي عند الحديث الآتي أن المحفوظ أن النهي كان يوم حنين. ومجاهد بن جبر أبو الحجاج المخزومي مولاهم، ثقة إمام في التفسير وفي العلم1. فإسناد هذا الحديث صحيح. والله أعلم. وروى الطبراني هذا الحديث في معجمه الأوسط2 من طريق عصمة بن المتوكل عن أبي معاوية الضرير عن الأعمش عن القاسم بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - به بنحوه، إلا أنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ... ". وعصمة بن المتوكل قال فيه أحمد: "لا أعرفه". وقال فيه العقيلي: "قليل الضبط للحديث، يهم وهماً"3. والأعمش إنما يروي النهي عن بيع المغانم حتى تقسم عن مجاهد عن ابن عباس كما سبق4. فعلى هذا فإن إسناد الطبراني هذا منكر. والله أعلم.

92 - (2) عن رويفع بن ثابت رضي الله عنه قال: أما إني لا أقول لكم إلا ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم حنين، قال: "لا يحل لامريء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها، ولا يحل لامرئٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنماً حتى يقسم". رواه أبو داود1 واللفظ له، وأحمد2، وسعيد بن منصور3، والدارمي4 - مختصراً -، وابن سعد5، وابن حبان6، والطبراني في الكبير7، والبيهقي8، كلهم من طرقٍ عن ابن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي مرزوق عن حنش الصنعاني عنه به. وعند أبي داود وأحمد تصريح ابن إسحاق بالسماع لهذا الحديث من يزيد بن أبي حبيب. وأما أبو مرزوق فهو ربيعة بن سليم التجيبي، لم يوثقه غير ابن حبان9. ولذا قال فيه الحافظ ابن حجر: مقبول10.

فعلى هذا فإن هذا الإسناد ضعيف لحال أبي مرزوق التجيبي، إلا أن للحديث شواهد تؤيده قد سبق ذكر بعضها، فيكون بها حسناً لغيره. وقد وقع عند الدارمي وابن سعد وابن حبان والطبراني - في رواية عنده - أن هذا النهي إنما كان يوم خيبر. وقد ذكر ابن سعد هذا الحديث عند ذكره لغزوة خيبر. وقد رجَّح البيهقي1 الرواية التي فيها أن النهي كان يوم حنين، وقد قال ابن الأثير أيضاً: "النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن وطء الحبالى يوم حنين وهو بعد الفتح، وخيبر قبل الفتح، ولم تسب النساء فيها وإنما سبين يوم حنين. والله أعلم"2. ويبين ذلك أن يوم خيبر صالح فيه النبي صلى الله عليه وسلم اليهود ولم يسب نساءهم. فعلى هذا فإن الرواية التي فيها أن هذا النهي كان يوم خيبر منكرة. والله أعلم. 93 - (3) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغنائم حتى تقسم، وعن بيع النخل حتى تحرز من كل عارض، وأن يصلي الرجل بغير حزام". رواه أبو داود3 واللفظ له، وأحمد4، والبيهقي5 مختصراً، كلهم من طرقٍ عن شعبة عن يزيد بن خُمير عن مولى لقريش عنه به.

وزاد أحمد بعد قوله "نهى عن بيع المغانم حتى تقسم" زاد "ويعلم ما هي". ويزيد بن خُمير هو الرَّحبي، صدوق1. وفي إسناده مبهم فيكون الإسناد ضعيفاً، إلا أن الجملتين الأوليين لهما شواهد تؤيدهما ترفعهما إلى درجة الحسن لغيره. وهذه الشواهد هي الأحاديث الواردة في النهي عن بيع المغانم حتى تقسم، وهي أحاديث هذا الفصل، والأحاديث الواردة في النهي عن بيع ما لم يتبين صلاحه، وسوف تأتي - إن شاء الله -. والله أعلم. ومعنى قوله: "وأن يصلي الرجل بغير حزام"، أي من غير أن يشد ثوبه عليه؛ لأنهم كانوا قلما يلبسون السراويل2. 94 - (4) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع، وعمَّا في ضروعها إلا بكيل، وعن شراء العبد وهو آبق، وعن شراء المغانم حتى تقسم، وعن شراء الصدقات حتى تقبض، وعن ضربة الغائص". رواه ابن ماجه3 واللفظ له، والترمذي4 - مختصراً -، وابن أبي شيبة5، وأحمد6، والدارقطني7، والبيهقي8، وابن حزم9، كلهم من

طرقٍ عن جهضم بن عبد الله اليمامي عن محمد بن إبراهيم الباهلي عن محمد بن زيد العبدي عن شهر بن حوشب عنه به. قال الترمذي: "هذا حديث غريب". ورواه عبد الرزاق1 عن يحيى بن العلاء عن جهضم2 عن محمد بن زيد3 عن شهر به بنحوه. ويحيى بن العلاء البجلي كذبه وكيع وأحمد، وتركه النسائي والدارقطني وغيرهما4. وجهضم بن عبد الله اليمامي، قال فيه ابن معين: ثقة إلا أن حديثه منكر - قال ابن أبي حاتم: يعني ما روى عن المجهولين -. وقال أحمد: كان رجلاً صالحاً لم يكن به بأس. وقال أبو حاتم: هو أحبّ إليّ من ملازم وهو ثقة إلا أن حديثه أحياناً عن مجهول5. وشذّ ابن حزم عنهم فقال فيه: "مجهول"6. وخلص الحافظ ابن حجر فيه إلى أنه صدوق يكثر عن المجاهيل7.

ويؤيد ما ذكره ابن معين وأبو حاتم فيه من روايته عن المجاهيل ما جاء في هذا الإسناد، فإن محمد بن إبراهيم شيخه مجهول كما قال أبو حاتم1 وابن حزم2. وأما محمد بن زيد العبدي، فقال فيه المزي3 وتبعه ابن حجر4: "يحتمل أن يكون ابن أبي القموص". وابن أبي القموص هو محمد بن زيد بن علي الكندي، قاضي مرو5 في خراسان6. قال فيه أبو حاتم: "لا بأس به صالح الحديث"7. ومما يستأنس به على أن محمد بن زيد هذا هو ابن أبي القموص أن شيخه في هذا الحديث وهو شهر بن حوشب قيل فيه كندي8 أيضاً. وكذلك فإن الراوي عنه وهو جهضم بن عبد الله اليمامي أصله خراساني9 أيضاً. والله أعلم. والخلاصة هي ما قاله الحافظ ابن حجر حيث قال فيه: "لعله ابن أبي القموص، وإلا فمجهول"10.

وأما شهر بن حوشب فتقدم الكلام فيه1، وأن الراجح فيه أن حديثه من باب الحسن، وجازف ابن حزم فيه فقال بعد أن ذكر حديثه هذا قال: "شهر متروك"2. فمما تقدم يتبين أن إسناد هذا الحديث ضعيف لجهالة محمد بن إبراهيم، وللاحتمال في محمد بن زيد العبدي. وممن ضعف إسناد هذا الحديث البيهقي3 وعبد الحق4 وابن حجر5. إلا أن محل الشاهد منه وهو النهي عن بيع المغانم حتى تقسم له شواهد تؤيده مما سبق من أحاديث هذا الفصل، فيكون بها حسناً لغيره. وكذلك فإن بيع الصدقات وشراءها قبل القبض منهي عنه كما في الأحاديث الأخرى التي سبق ذكرها في فصل: النهي عن بيع ما لم يقبض، وأما بقية المنهيات الواردة في الحديث فهي وإن لم يصح الحديث الوارد فيها فهي داخلة في النهي عن بيع الغرر، وسوف يأتي - إن شاء الله - ذكر الأحاديث الواردة فيه. والله أعلم. 95 - (5) عن عمران بن حيَّان عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم خيبر فأحل لهم ثلاثة أشياء كان نهاهم عنها، وحرم عليهم ثلاثة أشياء كان الناس يستحلونها، فأحل لهم لحوم الأضاحي

وزيارة القبور والأوعية، ونهاهم أن يباع سهم من مغنم حتى يقسم، ونهاهم عن النساء - يعني أن يوطأن - حتى يضعن، ونهاهم أن تباع ثمرةٌ حتى يبدو صلاحها". رواه ابن أبي عاصم1 واللفظ له، والطبراني في الكبير2، وأبو نعيم الأصبهاني3، كلهم من طرقٍ عن مروان بن معاوية عن حميد بن علي الرقاشي عن عمران بن حيان به. ومروان بن معاوية هو ابن الحارث الفزاري، ثقة حافظ4. وحميد بن علي الرقاشي، قيل: هو حميد بن علي العقيلي، ومال إلى ذلك ابن حجر5، وقيل: هما اثنان، وصنيع ابن حبان6 والحسيني7 يدل على أنهما اثنان عندهما، وذلك أنهما ترجما لكلِّ واحدٍ منهما ترجمة مستقلة. والذي يترجح لي أنهما واحد؛ لأنه لم ينسب حميد بن علي بالرقاشي، إلا مروان بن معاوية الفزاري وهو كان معروفاً بالتدليس في أسماء شيوخه8. وإلى هذا أشار المعلمي ورجح أنهما واحد9.

فإذا ترجح أنهما واحد، فقد قال الدارقطني في حميد بن علي العقيلي: لا يستقيم حديثه ولا يحتج به. وقال أبو زرعة: لا بأس به. وذكره ابن حبان في الثقات - كما سبق -1. وأما عمران بن حيَّان، فلم يوثقه غير ابن حبان2. وأبوه حيان بن نملة أبو عمران الأنصاري، قال فيه أبو نعيم الأصبهاني: "ذكره البخاري في الصحابة، يعرف بالرقاشي، وفي صحبته اختلاف"3. وقال ابن منده: "ذكره البخاري، وفي صحبته نظر"4. وذكره ابن عبد البر في الصحابة5. ولعلَّ سبب التردد في صحبته أو عدمها هو أنه لم يرو عنه غير ابنه عمران وهو مجهول. فمما سبق يتبين أن إسناد هذا الحديث ضعيف. وأيضاً فإن في المتن نكارة، وذلك أن لحوم الأضاحي لم يحل ادخارها إلا في عام حجة الوداع، وكان عام تسع من الهجرة محرماً6. وعلى ذلك فإن ما جاء في هذا الحديث من أنها أحلت يوم خيبر منكر. والله أعلم.

96 - (6) عن أبي أمامة رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر أن تباع السهام حتى تقسم". رواه الدارمي1، وابن أبي شيبة2، ومن طريقه الطبراني في معجمه الكبير3 ومسند الشاميين4، كلهم من طريق حماد بن أسامة عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن مكحول والقاسم عنه به. وأبو أسامة هو حماد بن أسامة وهو ثقة إلا أنه أخطأ في تسمية شيخه في هذا الإسناد، وذلك أن الذي سمع منه أبو أسامة إنما هو عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، وليس عبد الرحمن بن يزيد بن جابر. قال الحافظ ابن حجر في سبب هذا الخطأ: "عبد الرحمن بن يزيد بن جابر من ثقات الشاميين، قدم الكوفة فكتب عنه أهلها ولم يسمع منه أبو أسامة، ثم قدم بعد ذلك الكوفة عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، وهو من ضعفاء الشاميين، فسمع منه أبو أسامة وسأله عن اسمه فقال: عبد الرحمن بن يزيد، فظن أبو أسامة أنه ابن جابر، فصار يحدّث عنه

وينسبه من قبل نفسه، فيقول: عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، فوقعت المناكير في رواية أبي أسامة عن ابن جابر وهما ثقتان، فلم يفطن لذلك إلا أهل النقد، فميزوا ذلك ونصّوا عليه كالبخاري وأبي حاتم وغير واحد"1. انتهى. وممن صرّح من الأئمة بأن أبا أسامة انقلب عليه اسم شيخه محمد بن عبد الله بن نمير، وأبو داود، ويعقوب بن سفيان2، والنسائي3 وغيرهم. فإذا تبيّن أن عبد الرحمن بن يزيد هو ابن تميم، فإن عبد الرحمن هذا قد تكلم فيه. فقال ابن معين: ضعيف في الزهري وغيره. وقال البخاري: عنده مناكير. وقال أيضاً: منكر الحديث. وقال أبو زرعة وأبو حاتم: ضعيف الحديث. وقال أبو داود والنسائي والدارقطني: متروك. وقال النسائي أيضاً: ليس بثقة. وقال الساجي: ضعيف يحدث عن مكحول مناكير4. والذي يترجح لي مما تقدم من أقوال الأئمة فيه أنه في مرتبة الضعيف جداً. والله أعلم. وفي الإسناد علة أخرى وهي الانقطاع بين عبد الرحمن بن يزيد بن تميم ومكحول5.

وقد مشى الهيثمي على ظاهر الإسناد فقال فيه: "رجاله رجال الصحيح"1. وقوله هذا نتيجة لعدم تنبهه لخطأ أبي أسامة في تسمية شيخه. فمما سبق يتبين أن إسناد هذا الحديث ضعيف جداً، وأما النهي عن بيع المغانم حتى تقسم فهو ثابت كما في أحاديث هذا الفصل. والله أعلم.

دلالة الأحاديث السابقة: يستفاد مما تقدم النهي عن بيع المغانم حتى تقسم. وإنما نهى عن بيع المغانم حتى تقسم؛ لأنه بيع ما لم يملك وقد نهي عنه، هذا على رأي من يرى أن ملك الغنيمة يتوقف على القسمة، وأما على رأي من يرى أن الملك يتم قبل القسمة فعنده أن المقتضي للنهي الجهل بعين المبيع إذا كان في المغنم أجناسٌ مختلفة1. والمغانم قبل أن تقسم هي حقٌّ مشاع لجميع الغانمين، فلا يحل لأحدٍ أن يبيع شيئاً منها قبل أن تقسم، ويقاس عليها كل شيء فيه حقٌّ مشاعٌ بين المسلمين كالأرض الموات وغيرها. ويستفاد أيضاً مما تقدم النهي عن بيع الصدقات حتى تقبض. وقد سبق أن الحديث الوارد في هذا النهي ضعيف، إلا أن بيع الصدقات قبل أن تقبض داخلٌ في بيع ما لم يقبض وقد نُهي عنه، وقد تقدم الكلام في بيع ما لم يقبض في الفصل الأول من هذا الباب. والله أعلم.

_ 1 انظر: مرقاة المفاتيح (4/280)

الفصل الرابع: ما ورد في النهي عن بيع الكالئ بالكالئ

الفصل الرابع: ما ورد في النهي عن بيع الكالئ بالكالئ 97 - (1) عن ابن عمر - رضي الله عنهما - "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ". رواه ابن عدي1، والبيهقي2، كلاهما من طريق الدراوردي عن موسى بن عبيدة الرَّبَذي عن نافع عنه به. وموسى بن عبيدة الرَّبَذي تقدم الكلام فيه3 وأنه ضعيف جداً. ولم يتابع في هذا الحديث عن نافع كما قال أحمد4 والبزار5 والدارقطني6 وابن عدي7 والبيهقي8. وروى الحديث الدارقطني9، والحاكم10 من هذا الطريق، إلا أنه جاء في إسنادهما موسى بن عقبة - وهو ثقة11 - بدلاً من موسى بن

عبيدة، ولذلك حكم الحاكم على الإسناد بقوله: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ولم يتعقبه الذهبي بشيء بل ظاهر كلامه أنه تابعه على ذلك. وقد بيّن البيهقي الخطأ الواقع في سند الدارقطني والحاكم، فقال: "شيخنا أبو عبد الله - يعني الحاكم - قال في روايته عن موسى بن عقبة وهو خطأ، والعجب من أبي الحسن الدارقطني شيخ عصره روى هذا الحديث في كتاب السنن عن أبي الحسن علي بن محمد المصري هذا فقال: "عن موسى بن عقبة"، وشيخنا أبو الحسين رواه لنا عن أبي الحسن المصري في الجزء الثالث من سنن المصري، فقال: "عن موسى" غير منسوب"1. انتهى. وقد دفع الحافظ ابن حجر الوهم عن الدارقطني فقال: "وقد جزم الدارقطني في العلل بأن موسى بن عبيدة تفرد به، فهذا يدل على أن الوهم في قوله "موسى بن عقبة" من غيره"2. وبسبب ضعف موسى بن عبيدة، فقد اضطرب في هذا الحديث. فرواه مرَّة عن نافع كما سبق، ورواه أخرى عن عبد الله بن دينار. فقد رواه ابن أبي شيبة3، والبزار4، والعقيلي5، والطحاوي6، والبيهقي7،

والبغوي1، كلهم من طرقٍ عن موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر - رضي الله عنهما - "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ". ولفظ البزار: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشغار، وعن بيع المجر2، وعن بيع الغرر، وعن بيع كالئ بكالئ دين بدين وعن بيع آجل بعاجل"3. والآجل بالعاجل أن يكون لك على الرجل ألف درهم، فيقول رجل: أُعجل لك خمسمائة ودع البقية، والشغار أن ينكح المرأة بالمرأة ليس بينهما صداق. ورواه الدارقطني4 والحاكم5 من هذا الطريق أيضاً إلا أنه وقع في إسنادهما أيضاً: "موسى بن عقبة" بدلاً من "موسى بن عبيدة"، وقد تقدم بيان خطأ هذا. وقد تابع موسى بن عبيدة في حديثه هذا عن عبد الله بن دينار إبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي كما عند عبد الرزاق6 بنحو لفظ البزار السابق. وإبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي مولاهم، تقدم أنه متروك7.

فمما سبق يتبين أن هذا الحديث لا يصح عن ابن عمر - رضي الله عنهما - بل هو ضعيف جداً. وقد قال الشافعي في هذا الحديث: "أهل الحديث يوهنون هذا الحديث"1. وروى الحديث الطبراني في المعجم الكبير2 بإسناده عن محمد بن يعلى بن زنبور عن موسى بن عبيدة عن عيسى بن سهل بن رافع بن خديج عن أبيه عن جده، قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة والمنابذة، ونهى أن يقول الرجل للرجل: ابتع هذا بنقدٍ واشتره بنسيئة حتى يبتاعه ويحرزه، وعن كالئٍ بكالئٍ، ودين3 بدين". ومحمد بن يعلى بن زنبور تفرد من بين الرواة عن موسى بن عبيدة بهذا الإسناد، وقد قال فيه البخاري: يتكلم فيه وهو ذاهب الحديث. وقال أبو حاتم: متروك الحديث. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به فيما خالف الثقات4. وجعله الحافظ الذهبي في مرتبة "متروك"5. وهو أولى من قول الحافظ ابن حجر فيه "ضعيف"6. وسوف يأتي ذكر حديث رافع بن خديج رضي الله عنه7 في النهي عن المزابنة،

وليس فيه هذه الزيادة، فعلى هذا فإن هذا الإسناد منكر، والمحفوظ عن موسى بن عبيدة أنه عن عبد الله بن دينار ونافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. وقد استظهر الحافظ ابن حجر أن يكون الخطأ في هذا الإسناد من محمد بن يعلى بن زنبور1. وأياً كان، فإن الحديث ضعيف جداً من جميع طرقه؛ لأن مدارها على موسى ابن عبيدة الربذي وهو ضعيف جداً كما تقدم، وليس للحديث شواهد تؤيده، ولذا قال أحمد: "ليس في هذا2 حديث يصح، لكن إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع دين بدين"3.

دلالة الحديث السابق: بيع الكالئ بالكالئ هو بيع النسيئة بالنسيئة، أو يقال: هو بيع الدين المؤخر بالدين المؤخر، وقد تقدم أن الحديث الوارد في النهي عنه ضعيف جداً، إلا أن العلماء أجمعوا على القول بالحكم الذي يدل عليه. وقد حكى هذا الإجماع الإمام أحمد كما تقدم1، وابن المنذر2. ولكن وقع الخلاف بين العلماء في صورة بيع الكالئ بالكالئ المنهي عنه، واتفقوا على أنه لا يجوز بيع نسيئة بنسيئة، بأن يقول: بعني ثوبًا في ذمتي بصفة كذا إلى شهر كذا بدينار مؤجل إلى وقت كذا3، فهو بيع سلم في الأصل، إلا أن الثمن لم يسلم في وقت العقد بل كان نسيئة4. وذكر بعض العلماء من صوره: أن يسلم الرجل إلى الرجل مائة درهم إلى سنةٍ في مقدارٍ من الطعام. فإذا انقضت السنة وحلَّ الطعام عليه قال الذي عليه الطعام للدافع: ليس عندي طعام، ولكن بعني هذا القدر من الطعام بمائتي درهم إلى شهر5. ويرى المالكية أن هذا ليس من باب بيع الدين بالدين، وإنما هو من باب فسخ الدين بالدين وهو ربا الجاهلية، وجعلوا أقل ما يتصور في بيع الدين بالدين أن يكون بين ثلاثة، كمن له دين على شخص فيبيعه من ثالث بدين. ويتصور عندهم أيضاً في أربعة كمن له دين على إنسان ولثالث دين

على رابع، فيبيع كل ما يملك من الدين بمال صاحبه من الدين. وعندهم نوع ثالث فيما يتعلق بالمعاملات الجارية في الدين وهي ابتداء الدين بالدين، وهو تأخير مال السلم إن كان من أحد النقدين عن العقد. وعندهم أن فسخ الدين بالدين أعظم هذه الأنواع الثلاثة حرمة، ثم بيع الدين بالدين، ثم ابتداء الدين بالدين1. وذكر بعض الفقهاء صورًا أخرى لبيع الكالئ بالكالئ. وقد اعترض على كثير من هذه الصور2، ومن ذلك ما ذكره بعض الفقهاء من إطلاق المنع على كل عقد تضمن بيع دين بدين، ولو كان الدينان حالين، أو أحدهما حالاً، وجعلوا ذلك من بيع الكالئ بالكالئ. وقد تقدم أن بيع الكالئ بالكالئ إنما هو بيع النسيئة بالنسيئة. فالدين الحال لا يسمى نسيئة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن بيع الدين بالدين ليس فيه نص عام ولا إجماع، وإنما ورد النهي عن بيع الكالئ بالكالئ، والكالئ هو المؤخر الذي لم يقبض بالمؤخر الذي لم يقبض"3. والحكمة في النهي عن بيع الدين بالدين أن مطلوب الشرع صلاح ذات البين وحسم مادة الفساد والفتن، وإذا اشتملت المعاملة على شغل الذمتين توجهت المطالبة من الجهتين، فكان ذلك سبباً لكثرة الخصومات والعداوات فمنع الشرع ما يفضي لذلك4. والله أعلم.

_ 1 انظر: شرح الخرشي على مختصر خليل (5/76-77) ، شرح الزرقاني على مختصر خليل (3/82) . 2 انظر: دراسات في أصول المداينات في الفقه الإسلامي (ص 263-268) . 3 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (20/512) . 4 الفروق (3/290) ، وانظر: مجمع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (29/472) .

الباب الثالث: الأحاديث الواردة في النهي عن بيوع الغرر

الباب الثالث: الأحاديث الواردة في النهي عن بيوع الغرر الفصل الأول: ما ورد في النهي عن بيوع الغرر ... الفصل الأول: ما ورد في النهي عن بيع الغرر 98 - (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر". رواه مسلم1، وأبو داود2، والترمذي3، والنسائي4، وابن ماجه5، وأحمد6، كلهم من طرقٍ عن أبي الزناد عن الأعرج عنه به7. ورواه ابن عبد البر8 بإسناده عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن عبيد الله بن عمر عن أبي الزناد عن نافعٍ عن أبي هريرة رضي الله عنه به. فإن كان محفوظاً عن الدراوردي فقد أخطأ فيه، فإن غيره يرويه عن عبيد الله بن عمر عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه به كما تقدم.

والدراوردي قد تكلم في حديثه عن عبيد الله بن عمر فقد قال فيه النسائي: "حديثه عن عبيد الله بن عمر منكر"1. وجاء الحديث أيضاً من وجهٍ آخر، فقد رواه الطبراني في الأوسط2 بإسناده عن أبي قرّة موسى بن طارق عن زمعة بن صالح عن يعقوب بن عطاء بن أبي رباح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر". وذكر الطبراني أن أبا قرة تفرد بهذا الإسناد. وزمعة بن صالح ويعقوب بن عطاء ضعيفان3. وقال ابن عدي أيضاً في يعقوب: "عنده غرائب وخاصة إذا روى عنه أبو إسماعيل المؤدب وزمعة بن صالح، وعن زمعة أبو قرة"4. ورواه الطبراني أيضاً5 بإسنادٍ آخر عن عطاء، وذلك من طريق ضرار بن صرد عن المطلب بن زياد عن ابن أبي ليلى عن عطاء به، ولفظه: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر". وضرار بن صرد تقدم الكلام فيه6، وأنه ضعيف جدًا، فعلى هذا فإن هذا الإسناد لا يصلح للاعتبار، فيبقى أن هذا الحديث عن أبي هريرة إنما هو محفوظ من رواية الأعرج عنه به. والله أعلم.

99 - (2) عن سهل بن سعد رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر". رواه الطبراني في الكبير1 والأوسط2، والدارقطني في الأفراد3، وابن عبد البر4، كلهم من طرقٍ عن عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عنه به. وعبد العزيز بن أبي حازم قال فيه ابن معين: ثقة صدوق ليس به بأس. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال النسائي: ثقة. وقال مرة: ليس به بأس. ووثقه العجلي وابن نمير وابن حبان5. وجعله ابن حجر في مرتبة "صدوق"6. وقد روى مالك عن أبي حازم عن سعيد بن المسيب "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر"7. وقد أعل ابن عبد البر رواية عبد العزيز بن أبي حازم برواية مالك، فقال عن رواية عبد العزيز: "هذا خطأ، ولم يرو هذا الحديث أبو حازم عن سهل، وإنما رواه عن سعيد ابن المسيب كما قال مالك، وليس ابن أبي حازم في الحديث ممن يحتج به فيما خالف غيره، وهو عندهم لين الحديث ليس بحافظ، والحديث محفوظ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ومعلوم أن سعيد بن المسيب من كبار رواة أبي هريرة"8.

وقد سبق ابن عبد البر في تخطئة عبد العزيز بن أبي حازم الدارقطني حيث قال عن رواية مالك المرسلة: "أصح"1، ثم قال: "لكن قد رواه عبد العزيز عن أبيه بالسندين فدلَّ على أنه حفظه"2. وقد أجاب ابن حجر عن كلام ابن عبد البر في عبد العزيز بن أبي حازم، حيث قال: "احتج به الشيخان"3. فمما سبق يتبين أن هذا الحديث حسن لذاته. ولكنه يرتقي بشواهده إلى الصحيح لغيره. ولذا حكم عليه الحافظ ابن حجر بقوله: "هذا حديث حسن صحيح"4، والله أعلم. 100 - (3) عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلامسوا، ولا تناجشوا، ولا تبايعوا الغرر، ولا يبيعنَّ حاضر لبادٍ، ومن اشترى محفَّلةً فليحلبها ثلاثة أيام فإن ردّها فليردّها بصاعٍ من تمر". جاء هذا الحديث عن أنس رضي الله عنه من طريقين: الطريق الأولى: إسماعيل بن مسلم المكي عن الحسن عنه به: رواه أبو يعلى5 باللفظ المذكور، ورواه مختصراً الحارث بن أبي أسامة6، والبزار7، وابن عدي8، والبيهقي9، كلهم من هذا الطريق.

وإسماعيل بن مسلم المكي تركه يحيى وابن مهدي وابن المبارك. وقال ابن عيينة: كان يخطئ، أسأله عن الحديث فما كان يدري شيئاً. وقال أحمد: منكر الحديث. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال ابن المديني: لا يكتب حديثه. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، ليس بمتروك، يكتب حديثه. وقال النسائي: متروك1. وجعله ابن حجر في مرتبة "ضعيف الحديث"2، والذي يظهر لي أنه ضعيف جداً. الطريق الثانية: يونس عن الحسن عنه به: رواه ابن عدي3 بإسناده عن أبي عمارة به. ولفظه: "لا تناجشوا، ولا تلامسوا، ولا تبايعوا الغرر، ولا يبيع حاضر لبادٍ". وأبو عمارة المذكور هو يعقوب بن إسحاق الرازي - قاله ابن عدي - وقد قال فيه أبو حاتم: "ما أرى بحديثه بأساً، وهو أحبُّ إليَّ من علي بن عبد الله بن راشد مولى قراد"4. وقد قال أبو حاتم في علي بن عبد الله بن راشد: "كان صدوقاً"5.

وقال ابن عدي في يعقوب بن إسحاق: "روى عن يونس بن عبيد وعن غيره ما لا يتابع عليه"1. والمقدَّم هو قول أبي حاتم لأنه من بلده، فهو أعلم به. فعلى هذا فيكون الحديث بهذا الطريق حسناً لذاته، وبشواهده يرتقي إلى الصحيح لغيره. والله أعلم. 101 - (4) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر". رواه ابن ماجه2، وأحمد3، والطبراني في الكبير4، كلهم من طريق الأسود بن عامر عن أيوب بن عتبة عن يحيى بن أبي كثير عن عطاء بن أبي رباح عنه به. وأما أيوب بن عتبة فتكلم فيه ولا سيما في حديثه عن يحيى بن أبي كثير. فقال فيه ابن معين: ليس بشيء. وضعفه ابن المديني ومسلم والنسائي. وقال أحمد: ثقة إلا أنه لا يقيم حديث يحيى بن أبي كثير. وقال أيضاً: مضطرب الحديث عن يحيى وفي غير يحيى. وقال أبو داود: منكر الحديث. وقال البخاري: ضعيف جداً، لا أحدث عنه، وكان لا يعرف صحيح حديثه من سقيمه. وقال الدارقطني: يترك. وقال مرة: شيخ يعتبر به5.

وخلص فيه الحافظ ابن حجر إلى أنه في مرتبة "ضعيف"1. وفي الإسناد أيضاً عنعنة يحيى بن أبي كثير وهو مدلّس ولم يصرّح بالسماع، إلا أن الحافظ ابن حجر ذكره في الثانية ممن يحتمل تدليسه2. وقد جاء الحديث من وجهٍ آخر، إلا أنه أضعف من السابق، فقد روى الطبراني في الكبير بإسناده عن يونس بن بكير عن النضر أبي عمر عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر"3. والنضر أبو عمر هو ابن عبد الرحمن الخزاز. قال فيه ابن معين: ليس بشيء. وقال أيضاً: لا يحل لأحدٍ أن يروي عنه. وقال أحمد: ضعيف الحديث، ليس بشيء. وقال أبو حاتم: ضعيف ذاهب الحديث. وقال أبو داود: لا يروى عنه، أحاديثه بواطيل. وقال النسائي: متروك الحديث4. وجعله ابن حجر في مرتبة: "متروك"5. فمما سبق يتبين أن هذا الحديث ضعيف عن ابن عباس - رضي الله عنهما - بوجهٍ من الوجوه إلا أنه يتقوّى بشواهده التي سبق ذكرها، فيكون حسنًا. والله أعلم.

102 - (5) عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر". رواه الطبراني في الأوسط1 بإسناده عن عاصم بن عبد العزيز الأشجعي عن الحارث بن عبد الرحمن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده به. قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن الحارث إلا عاصم، تفرد به أبو موسى". وعاصم بن عبد العزيز الأشجعي وثقه ابن معين، وقال فيه البخاري: فيه نظر. وقال النسائي: ليس بالقوي2. وقال ابن حبان: كان ممن يخطئ كثيراً فبطل الاحتجاج به إذا انفرد3. وخلص فيه الحافظ ابن حجر إلى أنه "صدوق يهم" 4. ويظهر لي أنه في مرتبة "ضعيف". والله أعلم. والحارث بن عبد الرحمن هو ابن أبي ذباب الدوسي المدني. قال فيه أبو زرعة: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي5. وجعله ابن حجر في مرتبة "صدوق يهم"6. فمما سبق يتبين أن إسناد الحديث ضعيف، إلا أن الأحاديث الثابتة في هذا الفصل تشهد له كحديث أبي هريرة رضي الله عنه وغيره، فيكون بها حسناً لغيره، والله أعلم.

103 - (6) عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر". رواه ابن حبان1، والبيهقي2 بإسنادهما عن المعتمر بن سليمان عن أبيه عن نافع عنه به. وهذا الإسناد فيه علة، وهي الانقطاع بين سليمان بن طرخان التيمي والد المعتمر بن سليمان وبين نافع، فقد قال أبو غسّان النَّهدي في سليمان التيمي: "لم يسمع من نافع" 3. قال الحافظ ابن حجر: "هذا إسناد ظاهره الصحة"، ثم قال: "ورجاله رجال الصحيح، لكنه معلول، وقد جرى ابن حبان على ظاهره، فأخرجه في صحيحه من طريق محمد بن عبد الأعلى عن معتمر، وكذا أخرجه الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة ممّا ليس في الصحيحين، وعلته أن بين سليمان التيمي وبين نافع فيه رجلاً لم يسم"4. ثم ساق الحافظ ابن حجر الحديث بإسناده إلى معتمر بن سليمان التيمي عن أبيه عن رجلٍ عن نافع عن ابن عمر فذكره ... ". ثم قال الحافظ: "وللحديث طريق أخرى أخرجه البيهقي5 من رواية سفيان الثوري عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن نافع، وفي ابن أبي ليلى مقال، ولعله المبهم المذكور".

وهذا الاحتمال يظهر أنه احتمال بعيد، فإن سليمان التيمي غير معروف بالرواية عن ابن أبي ليلى، ولذلك لم يذكره المزي في تلاميذه. والذي يظهر أنه إسناد آخر إلا أنه ضعيف لضعف ابن أبي ليلى. وقد سبق الكلام فيه وأنه ضعيف1. إلا أن ابن أبي ليلى قد توبع فيما رواه أحمد2 بإسناده عن محمد بن إسحاق حدثني نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر ... " الحديث. وهذا إسناد حسن لتصريح ابن إسحاق بالسماع من شيخه نافع. فمما سبق يتبين أن الحديث صحيح لغيره. وقول الحافظ ابن حجر فيه "إسناده حسن صحيح"3 أولى من قوله في تعليل الحديث - لما سبق - وإن كان كلام الحافظ في تعليل الحديث متأخراً عن تصحيحه. وذلك أن كتابه "موافقة الخُبْر الخبَر" متأخر عن كتابه "التلخيص الحبير"4. والله أعلم. ومما ورد في هذا الفصل أيضاً: (7) حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وسوف يأتي5.

دلالة الأحاديث السابقة: يستفاد مما تقدم النهي عن بيع الغرر. والغرر هو الخطر1. وهو ما طوى عنك علمه وخفي عليك باطنه وسرُّه2. والنهي عن بيع الغرر أصل عظيم من أصول كتاب البيوع، ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة3. فكل بيع كان المقصود منه مجهولاً غير معلومٍ، ومعجوزاً عنه غير مقدورٍ عليه فهو غرر. وإنما نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذه البيوع تحصيناً للأموال أن تضيع وقطعاً للخصومة والنزاع أن يقعا بين الناس فيها4. والمراد بالغرر المنهي عنه ما كان غرراً ظاهراً يمكن الاحتراز عنه، فأما ما تدعو إليه الحاجة، ولا يمكن الاحتراز عنه كأساس الدار وشراء الحامل مع احتمال الحمل واحد أو أكثر، وذكر أو أنثى، وكامل الأعضاء أو ناقصها، وكشراء الشاة في ضرعها لبن ونحو ذلك، فهذا يصح بيعه بالإجماع. ونقل العلماء الإجماع أيضاً في أشياء غررها حقير، منها: أن الأُمَّة أجمعت على صحة بيع الجبة المحشوة وإن لم يُر حشوها، ولو باع حشوها منفرداً5 لم يصح.

وأجمعوا على جواز إجارة الدار وغيرها شهراً مع أنه قد يكون ثلاثين يوماً وقد يكون تسعةً وعشرين. وأجمعوا على جواز دخول الحمام بأُجرةٍ، وعلى جواز الشرب من ماء السِّقاء بعوضٍ مع اختلاف أحوال الناس في استعمال الماء أو مكثهم في الحمام. وقد يختلف العلماء في بعض مسائل الغرر ويكون اختلافهم مبنياً على اختلافهم في هذا الغرر هل هو يسير لا يؤثر أم أنه يؤثر1. ومن أمثلة ذلك: بيع المغيبات في الأرض كالجزر والبصل والفجل وما أشبه ذلك. فقد اختلف العلماء في حكم بيعها بناءً على الغرر الموجود فيها، هل هو غرر حقير أم لا2؟ وقد رجح ابن القيم القول بجواز بيعها3، وهو مذهب المالكية4.

_ 1 المجموع (9/246-247) . 2 شرح صحيح مسلم (10/157) . 3 زاد المعاد (5/820-821) . 4 المعونة (2/1009) .

الفصل الثاني: ما ورد في النهي عن بيع حبل الحبلة والمضامين والملاقيح

الفصل الثاني: ما ورد في النهي عن بيع حبل الحبلة والمضامين والملاقيح 104 - (1) عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حَبَل الحَبَلَة، وكان بيعاً يتبايعه أهل الجاهلية، كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة، ثم تنتج التي في بطنها". رواه البخاري1، ومسلم2، وأبو داود3، والترمذي4، والنسائي5، وابن ماجه6، ومالك7، وأحمد8، كلهم من طرقٍ عنه به. وقوله: "كان بيعاً يتبايعه أهل الجاهلية ... " قال الإسماعيلي والخطيب إنه مدرج من كلام نافع. وقال ابن عبد البر: إنه من تفسير ابن عمر - رضي الله عنهما - وهذا الذي استظهره الحافظ ابن حجر9. والله أعلم.

105 - (2) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن حَبَل الحَبَلة". رواه أحمد1 وهذا لفظه، والنسائي2، كلاهما من طريق أيوب عن سعيد بن جبير عنه به. ولفظ النسائي وأحمد في رواية: "السلف في حبل الحبلة رباً". وإسناد هذا الحديث صحيح. والله أعلم. ورواه البزار3، والطبراني في الكبير4 من طريق إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الملاقيح والمضامين وحَبَل الحبلة". والملاقيح ما في بطون الإناث، والمضامين ما في أصلاب الفحول، وهو عسب الفحل. هذا هو المشهور عند العلماء وأهل اللغة5، وقيل العكس، وبه فسره مالك6. قال البزار: "لا نعلمه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - إلا بهذا الإسناد". وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأنصاري وثقه أحمد. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أبو حاتم

: شيخ ليس بالقوي. وقال الدارقطني: متروك الحديث1. وخلص فيه الحافظ ابن حجر إلى أنه "ضعيف"2. فعلى هذا فإن هذا الإسناد ضعيف، إلا أن له شواهد تؤيده، فيكون الحديث بهذه الشواهد حسناً لغيره. والله أعلم. 106 - (3) عن ابن عمر - رضي الله عنهما - "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المَجْر". رواه البيهقي3 بإسناده عن موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عنه به. وموسى بين عبيدة، هو الرَّبذي، تقدم أنه ضعيفٌ جداً4. وروى البيهقي بإسناده عن يحيى بن معين قال: "فأنكر على موسى هذا، وكان من أسباب تضعيفه". ومما يدل على ضعف موسى بن عبيدة الربذي أنه قد تقدم5 أنه روى هذا الحديث عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، وسبق أنه لم يتابع على هذا. والمَجْر قد تقدم أنه ما في بطون الأنعام.

107 - (4) عن أبي هريرة رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الملاقيح والمضامين". رواه البزار1، ومحمد بن نصر2 بإسنادهما عن سعيد بن سفيان عن صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عنه به. وزاد محمد بن نصر: "وحبل الحبلة". قال البزار: "لا نعلم أحداً رواه هكذا إلا صالح، ولم يكن بالحافظ". وسعيد بن سفيان هو الجحدري، قال فيه أبو حاتم: محله الصدق. وقال ابن حبان: كان ممن يخطئ، حمل عليه علي بن المديني3. وجعله ابن حجر في مرتبة "صدوق يخطئ"4. وأما صالح بن أبي الأخضر فهو اليمامي، ضعفه يحيى القطان، وابن معين، والبخاري، وأبو زرعة، والنسائي وغيرهم. وقال ابن حبان: يروي عن الزهري أشياء مقلوبة، روى عنه العراقيون، اختلط عليه ما سمع من الزهري بما وجد عنده مكتوباً، فلم يكن يميز هذا من ذاك، ومن اختلط عليه ما سمع بما لم يسمع فالأحرى ألا يحتج به في الأخبار5. وخلص فيه الحافظ ابن حجر إلى أنه "ضعيف يعتبر به"6.

وقد تابع صالح بن أبي الأخضر عمر بن قيس المكي المعروف بسندل كما ذكر الدارقطني1. وقد تقدم2 أن عمر بن قيس هذا متروك. فلا يعتبر بروايته. وخالفهما مالك فرواه مرسلاً كما في الموطأ3. وذكر الدارقطني أنه قد تابع مالكاً الزبيدي والأوزاعي ومعمر4. إلا أن معمراً قال: عن الزهري عن ابن المسيب: "نُهي عن بيع الملاقيح"5. وقد رجح الدارقطني أن الحديث لا يصح مرفوعاً، وإنما هو من قول سعيد بن المسيب. فمما سبق يتبين أن الحديث لا يصح مرفوعاً من هذه الطريق، وإنما هو قول ابن المسيب. والله أعلم. 108 - (5) عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المضامين والملاقيح وحبل الحبلة". رواه ابن عدي6 بإسناده عن عيسى بن أبي عيسى الحنَّاط عن عمرو بن شعيب عن أبيه عنه به.

وعيسى بن أبي عيسى الحنَّاط تقدم1 أن متروك. فعلى هذا فإن الحديث بهذا الإسناد ضعيف جداً. والله أعلم. ومما ورد في هذا الفصل أيضاً: (6) حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقد تقدم2.

دلالة الأحاديث السابقة: يستفاد مما تقدم النهي عن بيع حبل الحَبَلة. وحَبَل بفتح الحاء والباء جمع حابل. وهو النتاج، وحبل الحبلة هو نتاج النتاج كما جاء مفسَّراً في بعض الأحاديث. وهو من بيوع أهل الجاهلية التي كانوا يتبايعونها1. وقد اختلف العلماء في المراد بالنهي عن حبل الحبلة على معنيين: فقيل: المراد بالنهي هو بيع حبل الحبلة وهو نتاج النتاج؛ لأنه غررٌ وبيع ما لم يخلق بعد. وقيل: إن النهي أن يجعل الأجل لبيعٍ ما نتاج النتاج، وهو أجلٌ مجهول2. وبه فسر ابن عمر - رضي الله عنهما - الحديث كما تقدم عند ذكر حديثه. وعلى كلا المعنيين ففي هذا البيع غرر وجهالة، فنهوا عنها وأرشدوا إلى الصواب من حكم الإسلام فيها. وأما ما في بطون الأنعام وهو الملاقيح أو المَجْر كما في بعض الروايات، فلم يثبت فيه حديث، إلا أنه داخلٌ في بيع الغرر، فإنه قد يكون حملاً وقد يكون ريحاً. ولأنه إن كان حملاً فهو مجهول القدر مجهول الصفة، وذلك كله غرر من غير حاجة، فلم يجز3. والنهي عن بيع الحمل إنما هو فيما إذا بيع مفرداً عن أمه، وأما إذا بيع الحمل تبعاً لأمه فهو جائزٌ بالإجماع4.

_ 1 معالم السنن (3/675) . وانظر: شرح صحيح مسلم (10/157) . 2 شرح صحيح مسلم (10/157-158) . وانظر: النهاية (1/334) . 3 المهذب - للشيرازي - (1/271) . 4 انظر: المجموع (9/315) .

الفصل الثالث: ما ورد في النهي عن بيع الملامسة والمنابذة

الفصل الثالث: ما ورد في النهي عن بيع الملامسة والمنابذة 109 - (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين ولبستين وصلاتين، نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس، وعن اشتمال الصماء، وعن الاحتباء في ثوبٍ واحد يفضي بفرجه إلى السماء، وعن المنابذة والملامسة". رواه البخاري1 واللفظ له، ومسلم2، وأبو داود3 - مختصراً -، والترمذي4، والنسائي5، وابن ماجه6، ومالك7، وأحمد8، كلهم من طرقٍ عنه به.

110 - (2) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبستين وعن بيعتين، نهى عن الملامسة والمنابذة في البيع، والملامسة لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو النهار ولا يقلِّبه إلا بذاك، والمنابذة أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه، وينبذ الآخر ثوبه، ويكون ذلك بيعهما عن غير نظرٍ ولا تراضٍ، واللبستان اشتمال الصَّماء، والصَّمَّاء أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه فيبدو أحد شقيه ليس عليه ثوب. واللبسة الأخرى احتباؤه بثوبه وهو جالس ليس على فرجه منه شيء". رواه البخاري1 واللفظ له، ومسلم2، وأبو داود3، والنسائي4، وابن ماجه5، وأحمد6، كلهم من طرقٍ عنه به. وعند أبي داود ونحوه النسائي: "المنابذة أن يقول: إذا نبذت إليك هذا الثوب فقد وجب البيع، والملامسة أن يمسَّه بيده ولا ينشره ولا يقلبه، فإذا مسّه وجب البيع". وقد رجّح الحافظ ابن حجر أن يكون تفسير المنابذة والملامسة من أبي سعيد رضي الله عنه7.

وأما ما جاء في رواية ابن ماجه من أن التفسير صادر من سفيان بن عيينة، فقد قال فيه الحافظ ابن حجر: "هو خطأ من قائله"1. وروى الإمام أحمد بإسناده عن إبراهيم النخعي، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره، وعن النجش واللمس وإلقاء الحجر2، وهذا إسناد منقطع؛ فإن إبراهيم النخعي لم يسمع من أبي سعيد3، وقد رجح أبو زرعة4 فيه الوقف، وهو كذلك عند النسائي5، إلا أن موضع الشاهد من الحديث قد سبق أنه جاء مرفوعًا عن أبي سعيد الخدري، أما النهي عن النجش وإلقاء الحجر - وهو بيع الحصاة - فسيأتي أن له شواهد صحيحة. 111 - (3) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمخاضرة والملامسة والمنابذة والمزابنة". رواه البخاري6، والطحاوي7، كلاهما من طريق عمر بن يونس عن أبيه عن إسحاق بن أبي طلحة عنه به. زاد الطحاوي: قال عمر - هو ابن يونس - فسَّر لي أبي المخاضرة قال: "لا ينبغي أن يشترى شيءٌ من ثمر النخل حتى يونع، يحمر أو يصفر".

112 - (4) عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبستين، ونهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين، عن المنابذة والملامسة"، وهي بيوعٌ كانوا يتبايعون بها في الجاهلية. رواه النسائي1 واللفظ له، وأبو داود2 - مختصراً - والعقيلي3، كلهم من طرقٍ عن جعفر بن برقان عن الزهري عن سالم عن أبيه به. وفي هذا الإسناد علتان هما: العلة الأولى: جعفر بن بُرقان، قد تكلم في حديثه ولا سيما في الزهري. قال أحمد: "إذا حدث عن غير الزهري فلا بأس به، وفي حديثه عن الزهري يخطئ". وقال أيضاً: "هو في حديث الزهري يضطرب ويختلف فيه". وقال ابن معين: "يضعف في روايته عن الزهري"، وقال أيضاً: "ليس بذاك في الزهري". وقال ابن نمير: "ثقة، أحاديثه عن الزهري مضطربة". وقال النسائي وابن عدي نحو ذلك4. وخلص فيه الحافظ ابن حجر إلى أنه "صدوق يهم في حديث الزهري"5.

وحكم العقيلي على هذا الحديث بقوله: "لا يتابع عليه من حديث الزهري، وأما الكلام فيروى من غير طريق الزهري كله بأسانيد صالحة". العلة الثانية: الانقطاع بين جعفر بن برقان والزهري. وهذا الانقطاع مصرَّح به في إسناد النسائي وأحد إسنادي أبي داود، فإن إسناده عندهما: أن جعفر بن برقان قال: بلغني عن الزهري. ولذا قال أبو داود: "هذا الحديث لم يسمعه جعفر من الزهري، وهو منكر". فمما سبق يتبين أن هذا الحديث عن ابن عمر - رضي الله عنهما - ضعيف منكر. والله أعلم. والحديث محفوظ عن غير ابن عمر - رضي الله عنهما -. ومما ورد في هذا الفصل أيضاً: (5) حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وقد تقدم1. (6) حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وسوف يأتي2. (7) حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، وسوف يأتي3.

دلالة الأحاديث السابقة: يستفاد مما تقدم النهي عن بيع الملامسة والمنابذة. وكان هذا البيع من بيوع أهل الجاهلية، فنهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم1. وقد فسّر مالك الملامسة والمنابذة فقال في الملامسة: هي أن يلمس الرجل الثوب ولا ينشره ولا يتبيّن ما فيه، أو أن يبتاعه ليلاً وهو لا يعلم ما فيه. وقال في تفسير المنابذة: هي أن ينبذ الرجل إلى الرجل ثوبه، وينبذ إليه الآخر ثوبه من غير تأمُّل منهما، يقول كل واحدٍ منهما لصاحبه: هذا بهذا2. وفسِّرت الملامسة أيضاً بأن يجعل البائع والمشتري نفس اللمس بيعاً، فيقول: إذا لمسته فهو مبيعٌ لك بكذا. وفسِّرت أيضاً بأن يبيعه شيئاً على أنه متى يمسه انقطع خيار المجلس3. وفسِّرت المنابذة أيضاً بأن يقول بعتك كذا فإذا نبذته إليك انقطع الخيار ولزم البيع، وقيل: أن يجعلا نفس النبذ بيعاً، وقيل: المراد بالمنابذة هو بيع الحصاة4، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. وكل هذه البيوع باطلة لأجل الغرر والجهالة الحاصلة فيها. والله أعلم.

_ 1 شرح السنة (8/130) . 2 الموطأ (2/515) . 3 شرح صحيح مسلم (10/155) . 4 المرجع السابق.

الفصل الرابع: ما ورد في النهي عن بيع الحصاة

الفصل الرابع: ما ورد في النهي عن بيع الحصاة (1) حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقد تقدم1. (2) حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقد تقدم2.

دلالة الحديث السابق: يستفاد من هذا الحديث النهي عن بيع الحصاة. وقد فسر هذا البيع على وجهين: أحدهما: أن يرمي بحصاةٍ ويجعل رميها إفادةً للعقد، فإذا سقطت وجب البيع، ثم لا يكون للمشتري فيه الخيار. والوجه الآخر: أن يعترض الرجل القطيع من الغنم فيرمي فيها بحصاة، فأية شاةٍ منها أصابتها الحصاة فقد استحقها بالبيع، أو بعتك من هذه الأرض من هنا إلى ما انتهت إليه هذه الحصاة. وهذا من جملة الغرر المنهي عنه1. وقد زاد النووي وجهاً ثالثاً في تفسير بيع الحصاة، وهو أن يجعل البائع والمشتري نفس الرمي بالحصاة بيعاً، فيقول: إذا رميت هذا الثوب بالحصاة فهو مبيعٌ منك بكذا2.

_ 1 معالم السنن (3/672) . وانظر: شرح صحيح مسلم (10/156) . 2 شرح صحيح مسلم (10/156) .

الفصل الخامس: ما ورد في بيع اللبن في الضرع والصوف على الظهر والسمن في اللبن

الفصل الخامس: ما ورد في بيع اللبن في الضرع والصوف على الظهر والسمن في اللبن ... الفصل الخامس: ما ورد في النهي عن بيع اللبن في الضرع والصوف على الظهر والسمن في اللبن 113 - (1) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع ثمرةٌ حتى تطعم، ولا صوف على ظهر، ولا لبن في ضرع". رواه الطبراني في الأوسط1 والكبير2 واللفظ له، وابن عدي3، والدارقطني4، والبيهقي5، كلهم من طرقٍ عن عمر بن فروخ عن حبيب بن الزبير عن عكرمة عنه به. وزاد ابن عدي والدارقطني والبيهقي: "أو سمن في لبن". قال الطبراني في الأوسط: "لم يرو هذا الحديث عن حبيب بن الزبير إلا عمر بن فروخ، ولا يروى هذا اللفظ: "ولا صوف على ظهر، ولا لبن في ضرع" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد". وقال البيهقي: "تفرد برفعه عمر بن فروخ وليس بالقوي، وقد أرسله عنه وكيع، ورواه غيره موقوفاً".

وعمر بن فروخ هو العبدي أبو حفص البصري القتَّاب، وثقه ابن معين وأبو حاتم ورضيه أبو داود وقال: "مشهور". وقال ابن عدي: "لم ينقل فيه جرح"1. وخلص فيه الحافظ ابن حجر إلى أنه: "صدوق ربما وهم"2. ومما يدل على وهمه ما سيأتي من بيان مخالفته لغيره في رفع هذا الحديث. وقد اضطرب فيه، فكان يسنده - كما سبق - ويرسله أحياناً كما رواه أبو بكر بن أبي شيبة3، وأبو داود في المراسيل4، كلاهما من طريق عمر بن فروخ عن حبيب بن الزبير عن عكرمة مرسلاً. ولم يذكر في إسناد أبي داود حبيب بن الزبير، وهو مذكور في إسناد ابن أبي شيبة. وقد تفرد عمر بن فروخ برفع هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم وخالفه غيره. فقد رواه عبد الرزاق5، وابن أبي شيبة6، وأبو داود في المراسيل7، والدارقطني8، ومن طريقه البيهقي9، كلهم من طرقٍ عن أبي إسحاق السبيعي عن عكرمة عن ابن عباس موقوفاً بنحوه.

ورواه البيهقي1 بإسناده عن موسى بن عبيدة عن سليمان بن يسار عن ابن عباس - رضي الله عنهما - موقوفاً. وموسى بن عبيدة قد تقدم الكلام فيه وأنه ضعيف جداً2. فمما سبق يتبين أن المحفوظ في هذا الحديث هو الوقف على ابن عباس - رضي الله عنهما - ورفعه شاذ. والله أعلم. ومما ورد في هذا الفصل أيضاً: (2) حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقد تقدم3.

دلالة الحديث السابق: بيع اللبن في الضرع وإن لم يصح الحديث الوارد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه داخلٌ في بيع الغرر المنهي عنه؛ وذلك لأنه مجهول القدر، لأنه قد يرى امتلاء الضرع من السمن، فيظن أنه من اللبن، ولأنه مجهول الصفة، لأنه قد يكون اللبن صافياً وقد يكون كدراً، وذلك غرر من غير حاجةٍ، فلم يجز1. وأجمع المسلمون على جواز بيع حيوان في ضرعه لبن، وإن كان اللبن مجهولاً، لأنه تابعٌ للحيوان، ودليله من السنة حديث المصرّاة2. ومثل بيع اللبن في الضرع بيع السمن في اللبن، فلا يجوز للغرر الكائن فيه. وأما بيع الصوف على الظهر فقد اختلف العلماء في حكمه، فقال بعضهم بالنهي عن بيع الصوف على الظهر3. وعللوا قولهم هذا بأنه قد يموت الحيوان قبل الجز فينجس شعره، وذلك غرر من غير حاجةٍ، فلم يجز، ولأنه لا يمكن تسليمه إلا باستئصاله من أصله، ولا يمكن ذلك إلا بإيلام الحيوان وهذا لا يجوز4. وقد تقدم أن النهي الوارد في النهي عن بيع الصوف على الظهر ضعيف. وقد ذهب أحمد في روايةٍ5 إلى جواز بيعه إذا جُزَّ بعد عقد البيع مباشرةً. قال المرداوي عن هذا القول: "فيه قوّة"6، ورجحه ابن القيم

ووجهه أنه معلوم يمكن تسليمه، فجاز بيعه كما يجوز بيع الرطبة، وما يقدر من اختلاط المبيع الموجود بالحادث في ملك البائع يزول بجزِّه في الحال، والحادث يسيرٌ جداً لا يمكن ضبطه1. ثم قال ابن القيم: "هذا ولو قيل بعدم اشتراط جزه في الحال ويكون كالرطبة التي تؤخذ شيئاً فشيئاً، وإن كانت تطول في زمن أخذها كان له وجه صحيح، وغايته بيع معدوم لم يخلق تبعاً للموجود، فهو كأجزاء الثمار التي لم تخلق، فإنها تتبع الموجود منها، فإذا جعلا للصوف وقتاً معيناً يؤخذ فيه كان بمنزلة أخذ الثمرة وقت كمالها2. والله أعلم.

_ 1 زاد المعاد (5/834) . 2 المرجع السابق.

الفصل السادس: ما ورد في النهي عن الثنيا في البيع إلا أن تعلم

الفصل السادس: ما ورد في النهي عن الثنيا في البيع إلا أن تعلم (1) حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -، وسوف يأتي1.

دلالة الحديث السابق: يستفاد من هذا الحديث النهي عن بيع الثنيا إلا أن تعلم. والمراد بالثنيا في البيع هو كأن يبيع ثمر حائطه ويستثنى منه جزءاً غير معلوم1. والثنيا المبطلة للبيع هي أن يستثني قدراً مجهولاً من المبيع. فإن استثنى شيئاً معلوماً جاز لقوله في بعض روايات الحديث: "إلا أن تعلم"، وذلك كأن يقول: بعتك هذه الأشجار إلا هذه الشجرة، أو هذه الشجرة إلى ربعها، ونحو ذلك من الثنيا المعلومة، وهذا يجوز باتفاق العلماء. وكذلك الحال في بيع الصبرة إذا علم قدرها جاز استثناء شيء معلوم منها2. والله أعلم.

_ 1 عند المالكية إطلاق الثنيا في البيع أيضاً على البيع المعاد، وهو أن يقول البائع للمشتري: متى أتيتك بالثمن عاد المبيع لي. وهو عندهم باطل إلا أن يكون تطوعاً من المشتري. - انظر: شرح الزرقاني على مختصر خليل (3/87) . 2 شرح السنة (8/85) ، شرح صحيح مسلم (10/195) .

الفصل السابع: ما ورد في النهي عن بيع المعاومة والسنين

الفصل السابع: ما ورد في النهي عن بيع المعاومة والسنين 114 - (1) عن سمرة بن جندب رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السنين". رواه الطبراني1، والبخاري في التاريخ الكبير2 - تعليقاً - من طريق كهمس ابن المنهال ثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عنه به. وكهمس بن المنهال هو السدوسي أبو عثمان البصري، ذكره البخاري في كتابه الضعفاء. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، محله الصدق، ويحول من كتاب الضعفاء. وضعفه الساجي3. وجعله ابن حجر في مرتبة "صدوق"4. وسيأتي5 الخلاف في سماع الحسن من سمرة، وأن الراجح في هذا أنه لا يقبل من حديثه عنه إلا ما صرَّح فيه بالسماع لتدليسه. فمما سبق يتبين أن إسناد هذا الحديث ضعيف، لتدليس الحسن. إلا أن له شاهداً من حديث جابر رضي الله عنه الآتي6 وغيره، فيكون بها حسناً لغيره. والله أعلم.

ومما ورد في هذا الفصل أيضاً: (2) حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -، وسيأتي1. (3) حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، وسيأتي2.

دلالة الحديث السابق: يستفاد من هذا الحديث النهي عن بيع المعاومة وهو بيع السنين. وهو أن يبيع ثمرة الشجرة عامين أو ثلاثة أو أكثر1. وهو باطلٌ بالإجماع2؛ لأنه بيع معدومٍ ومجهولٍ غير مقدورٍ على تسليمه وغير مملوكٍ للعاقد3. وهو باطلٌ في بيوع الأعيان، أما في بيوع الصفات فهو جائز، وهو أن يسلم في شيء إلى أجل معلومٍ، وذلك الشيء منقطعٌ في الحال، وسيوجد عند المحل غالباً4.

_ 1 معالم السنن (3/670) ، شرح صحيح مسلم (10/193) . 2 الإجماع - لابن المنذر - (ص115) . 3 شرح صحيح مسلم (10/193) . 4 معالم السنن (3/670) .

الفصل الثامن: ما ورد في النهي عن البيع بضربة الغائص وبيع العبد الآبق

الفصل الثامن: ما ورد في النهي عن البيع بضربة الغائص وبيع العبد الآبق (1) حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقد تقدم1.

دلالة الحديث السابق: البيع بضربة الغائص وإن لم يصح الحديث الوارد في النهي عنه إلا أنه داخلٌ في بيوع الغرر المنهي عنها. والمراد بالبيع بضربة الغائص هو أن يقول الغائص في البحر للتاجر: أغوص غوصةً فما أخرجته فهو لك بكذا1. فهذا فيه غرر وجهالة وكذا بيع ما لم يملك. وأما بيع العبد الآبق، فقد منع منه جمهور العلماء2. والحديث الوارد في النهي عنه وإن كان ضعيفاً، إلا أنه داخل في بيوع الغرر المنهي عنها؛ لأنه غير مقدور على تسليمه. ومثل العبد العبد الآبق، الجمل الشارد ونحوه3. وأجاز بعض أهل العلم بيع العبد الآبق4، ومنهم ابن حزم5، وعلل ذلك بأنه معلوم الصفة والقدر. وفي هذا نظر؛ لأن من شروط صحة البيع القدرة على تسليم المبيع، فبيع العبد الآبق من أكل المال بالباطل؛ لأنه لا يعلم هل يتمكن المشتري من المبيع أم لا، وفي بيع العبد الآبق أيضاً إيقاع للخصومة والمنازعة بين البائع والمشتري إذا لم يتمكن المشتري من هذا العبد.

_ 1 النهاية في غريب الحديث (3/79) . 2 المغني (4/293) . 3 المرجع السابق. 4 المرجع السابق. 5 المحلى (8/388-389) .

الفصل التاسع: ما ورد في النهي عن بيع عسب الفحل

الفصل التاسع: ما ورد في النهي عن بيع عسب الفحل 115 - (1) عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عَسْب الفحل". رواه البخاري1، وأبو داود2، والترمذي3، والنسائي4، وأحمد5، كلهم من طرقٍ عن علي بن الحكم عن نافع عنه به. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. ولفظ أحمد: "نهى عن ثمن عسب الفحل". وذكر الحاكم هذا الحديث بهذا الإسناد في المستدرك6، وقال عقبه: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". وقد وهَّمَ الزيلعيُّ7 وابنُ حجر8 الحاكمَ في استدراكه لهذا الحديث لإخراج البخاري له.

116 - (2) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل". رواه النسائي1 واللفظ له، وابن أبي شيبة2، والدارقطني3، ومن طريقه البيهقي4، كلهم من طريق هشام أبي كليب عن ابن أبي نعم البجلي عنه به. ولفظ ابن أبي شيبة والدارقطني: "نُهي عن عسب الفحل"، وزاد الدارقطني: "وعن قفيز الطحان". وهشام أبو كليب هو ابن عائذ الأسدي. وثقه ابن معين، وأحمد، وأبو داود. وقال أبو حاتم: شيخ5. وجعله ابن حجر في مرتبة "صدوق"6. أما الحافظ الذهبي فترجم لهشام أبي كليب وذكر له هذا الحديث وقال عقبه: "هذا منكر، ورجله7 لا يعرف"8. وتبعه الحافظ ابن حجر فإنه ذكر هذه الترجمة في لسان الميزان9 مع كونه من رجال التهذيب ولم يتعقب الذهبي بشيء، وإنما ذكر أن ابن حبان ذكره في الثقات. وهذا الصنيع من الحافظين الذهبي وابن حجر سببه كونهما لم يتنبها إلى أن هشام أبا كليب هو ابن عائذ الأسدي وهو رجلٌ معروف، وثّقه ابن معين وأحمد وغيرهما.

وأما ابن أبي نُعم فهو عبد الرحمن بن أبي نُعم البجلي أبو الحكم الكوفي وسيأتي1 أنه صدوق. وقد وهم البوصيري2 فقال إنه الأفريقي. وليس كذلك، فإن الأفريقي اسمه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم3. فمما تقدم يتبين أن إسناد هذا الحديث حسن. وهو صحيح بشواهده. وقد ذكر الحافظ ابن حجر أن ابن السكن وابن القطان صححاه4. وقوله: "وعن قفيز الطحان": "هو أن يستأجر رجلاً ليطحن له حنطةً معلومةً بقفيز من دقيقها. والقفيز: مكيالٌ يتواضع الناس عليه"5. وقيل: "هو أن يقول: اطحن بكذا وكذا وزيادة قفيزٍ من نفس الدقيق"6. وقد أبطل شيخ الإسلام ابن تيمية هذه الجملة، وذكر أنها ليست من قول النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه7. والله أعلم.

117 - (3) عن أنس بن مالك رضي الله عنه "أنّ رجلاً من كِلاب سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل فنهاه. فقال: يا رسول الله، إنّا نُطْرِق الفحل فنكرم، فرخص له في الكرامة". رواه الترمذي1 واللفظ له، والنسائي2، والبيهقي3، كلهم من طرقٍ عن إبراهيم بن حميد الرؤاسي حدثنا هشام بن عروة عن محمد بن إبراهيم التيمي عنه به. قال الترمذي: "حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم بن حميد عن هشام بن عروة". وبالنظر إلى إسناد الحديث يتبين أنه صحيح لا حسن، وكذلك فإن النهي عن عسب الفحل قد جاء عن أنس رضي الله عنه من أوجهٍ أخرى كما سيأتي ولم يتفرد به إبراهيم بن حميد الرؤاسي خلاف ما قال الترمذي. ومعنى قوله: "فنكرم": "أي يعطينا صاحب الأنثى شيئاً بطريق الهدية والكرامة لا على سبيل المعاوضة"4. وقد جاء هذا الحديث من وجهٍ آخر، فقد رواه أحمد5، وأبو يعلى6، وابن أبي حاتم7، كلهم من طرق عن ابن لهيعة ثنا يزيد بن أبي حبيب

وعقيل بن خالد عن ابن شهاب عن أنس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أن يبيع الرجل فحلة فرسه". وقد تقدم الكلام في ابن لهيعة1 وأنه ضعيف. وأعله أبو حاتم أيضاً بالوقف، فقال: "إنما يروى من كلام أنس، ويزيد لم يسمع من الزهري، إنما كتب إليه"2. وقد سبق الكلام فيما يتعلق بالمكاتبة وأنها حجة3، وقد خرج البخاري وغيره أحاديث مما حمل عن طريق المكاتبة. ولعلّ تعليل أبي حاتم له بالوقف إنما يعني من هذه الطريق. وجاء الحديث من وجهٍ آخر أيضاً، فقد رواه البيهقي4 بإسناده عن سعيد بن سالم القدَّاح عن شبيب بن عبد الله البجلي عن أنسٍ رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن عسب الفحل". وسعيد بن سالم القدَّاح وثقه ابن معين. وقال أبو حاتم: محلُّه الصدق. وقال أبو داود: صدوق. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن حبان: يهم في الأخبار حتى يجيء بها مقلوبة5. وجعله ابن حجر في مرتبة "صدوق يهم"6.

وشبيب بن عبد الله، ويقال: ابن بشر البجلي الكوفي، تقدم1 أنه صدوق يخطئ. فمما سبق يتبين أن الحديث جاء من أكثر من وجه، وأصحها طريق إبراهيم بن حميد الرؤاسي. والضعف في بعض الطرق يتقوى بغيره، فيكون الحديث حسنًا. والله أعلم. ومما ورد في هذا الفصل أيضاً: (4) حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -، وقد تقدم2. (5) حديث أبي جحيفة رضي الله عنه، وقد تقدم3. (6) حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقد تقدم4. (7) حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، وقد تقدم5. (8) حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - في بعض ألفاظه، وقد تقدم6. (9) حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقد تقدم7. (7) حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -، وقد تقدم8.

دلالة الأحاديث السابقة: يستفاد مما تقدم النهي عن عسب الفحل. والعَسْب: هو طرق الفحل أي ضرابه، وقيل: العسب ماء الفحل، وقيل: الكراء الذي يؤخذ على ضَرْب الفحل1. والذي يهمنا هنا في هذه الدراسة هو ما يتعلق ببيع ضراب الفحل أو مائه، وإنما نهي عن بيع عسب الفحل لأنه بيع معدومٍ غير معلومٍ ولا مقدور التسليم2. وكذلك "فإن النهي عن بيع عسب الفحل من محاسن الشريعة وكمالها، فإن مقابلة ماء الفحل بالأثمان وجعله محلاً لعقود المعاوضات مما هو مستقبح ومستهجن عند العقلاء"3.

_ 1 انظر: لسان العرب (1/597) ، مادة (عسب) . 2 بدائع الصنائع (5/139) ، الخرشي على مختصر خليل (5/71) ، مغني المحتاج (5/30) ، المغني (4/300) . 3 زاد المعاد (5/795) .

الفصل العاشر: ما ورد في النهي عن بيع السمك في الماء

الفصل العاشر: ما ورد في النهي عن بيع السمك في الماء 118 - (1) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر". جاء هذا الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً وموقوفاً. فرواه أحمد1 - ومن طريقه رواه كلٌ من الطبراني2 والبيهقي3 والخطيب البغدادي4 - عن محمد بن السَّماك عن يزيد بن أبي زياد عن المسيب بن رافع عنه به مرفوعاً. ومحمد بن السماك واعظ مشهور. قال فيه ابن نمير: حديثه ليس بشيء. بينما قال في روايةٍ أخرى: كان صدوقاً. وذكره ابن حبان في الثقات وقال فيه: مستقيم الحديث5. وقد خالف محمد بن السماك غيره في رفع هذا الحديث، فقد قال أحمد بعد روايته لهذا الحديث: "وحدثناه هشيم فلم يرفعه"6.

وقد تابع هشيماً على وقفه زائدة بن قدامة كما عند الطبراني1، ومحمد بن فضيل عند ابن أبي شيبة2. وذكر البيهقي أنه قد تابعهم سفيان الثوري3. والراجح في هذا الاختلاف هو الوقف، وأما الرفع فشاذ؛ لأن مَنْ وقفه أكثر وأحفظ ممن رفعه. وممن رجّح الوقف الدارقطني4، والبيهقي5، والخطيب6. فإذا تبين أن المحفوظ في هذا الحديث هو الوقف. فإن فيه علتين هما: أولاً: يزيد بن أبي زياد، وهو الهاشمي الكوفي تكلم فيه. فقال فيه ابن معين وأبو حاتم والنسائي: ليس بالقوي. وقال ابن معين أيضاً: ليس بحجة، ضعيف الحديث. وقال أحمد: ليس حديثه بذاك. وقال البخاري: صدوق ولكنه يغلط، وقال: تغيَّر بآخرة. وقال أبو زرعة: ليِّن، يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال الدارقطني: لا يخرج عنه في الصحيح، ضعيف يخطيء كثيراً ويتلقن إذا لقِّن7. وخلص فيه الحافظ ابن حجر إلى أنه في مرتبة "ضعيف، كبر فتغيَّر وصار يتلقَّن"8.

ثانياً: الانقطاع بين المسيب بن رافع وابن مسعود رضي الله عنه. وممّن نفى سماعه منه أحمد بن حنبل1، وأبو حاتم2، وأبو زرعة3. وقال ابن معين: لم يسمع المسيب بن رافع عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا البراء بن عازب رضي الله عنه4. فمما سبق يتبين أن هذا الحديث المحفوظ فيه الوقف. وهذا الموقوف ضعيف. والله أعلم.

دلالة الحديث السابق: بيع السمك في الماء سبق أن الحديث الوارد في النهي عنه ضعيف، إلا أن بيع السمك في الماء من بيع الغرر1، لكونه غير مقدورٍ على تسليمه، ومحلّ ذلك إذا كان الماء كثيراً كمياه الأنهار أو يكون في بركةٍ كبيرة يتعسر إمساكه وصيده منها، فإن أمكن أخذه بلا تعب كبركةٍ صغيرةٍ جاز بيعه بلا خلاف2. ويجوز بيع السمك في الماء بثلاثة شروط: الأول: أن يكون مملوكاً لبائعه. الثاني: أن يكون الماء رقيقاً لا يمنع مشاهدته ومعرفته. الثالث: أن يمكن اصطياده وإمساكه، وذلك في أن يكون في بركة صغيرةٍ ونحوها. فإن اجتمعت هذه الشروط جاز بيعه لأنه مملوك معلوم مقدورٌ على تسليمه3. وجعل بعض الفقهاء للمشتري خيار الرؤية فيما إذا اشترى سمكاً مملوكاً في الماء الذي يمكن معه التسليم، وإنما جعلوا له خيار الرؤية؛ لأن السمك يتفاوت في الماء وخارجه4. ويقاس على السمك في الماء الطير في الهواء، والجمل الشارد، والمال الضال، ونحو ذلك5. والله أعلم.

_ 1 المجموع (9/273) . 2 المرجع السابق. 3 انظر: المغني (4/294) . 4 انظر: تبيين الحقائق (4/45) . 5 انظر: المجموع (9/274) .

الفصل الحادى عشر: ما ورد في النهي عن بيع ما لم يتبين صلاحه

الفصل الحادي عشر: ما ورد في النهي عن بيع ما لم يتبين صلاحه 119 - (1) عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة، والمحاقلة، وعن المزابنة، وعن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه، وألا تباع إلا بالدينار والدرهم إلا العرايا". رواه البخاري1 واللفظ له، ومسلم2، وأبو داود3، والترمذي4، والنسائي5، وابن ماجه6، وأحمد7، كلهم من طرقٍ عنه به. وفي لفظ للبخاري ومسلم: "وعن بيع الثمرة حتى تشقح"، فقيل لسعيد بن ميناء - الراوي عن جابر - رضي الله عنهما -: ما تشقح؟ قال: تحمار وتصفار ويؤكل منها. وفي لفظ لمسلم: "وأن تشتري النخيل حتى تشقه" وهي بمعنى تشقح. وفي لفظ للبخاري: "نهى عن بيع الثمر حتى يطيب"، ولنسائي وأحمد: "حتى يطعم".

وزاد مسلم في لفظٍ له، وأبو داود، والترمذي، وأحمد: "والمعاومة"، وعند بعضهم أيضاً: "وعن بيع السنين". وهما بمعنى. وزاد مسلم، وأبو داود، والترمذي، وأحمد: "الثُّنيا". وزاد أبو داود والترمذي بإسنادٍ صحيح: "إلا أن تعلم". وقد تقدم الكلام عن هذه الجملة في فصل: ما ورد في النهي عن الثنيا إلا أن تعلم. ورواه أحمد1 بلفظ: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباع ما في رؤوس النخل بتمرٍ مكيل ". وورد عند مسلم أن هذا اللفظ إنما هو من تفسير جابر رضي الله عنه للمزابنة. والمخابرة الواردة في هذا الحديث هي المزارعة على بعض ما يخرج من الأرض2. 120 - (2) عن أنس بن مالك رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، وعن النخل حتى يزهو. قيل: وما يزهو؟ قال: يحمار أو يصفار". رواه البخاري3 وهذا لفظه، ومسلم4، والنسائي5، ومالك6، وأحمد7، كلهم من طرقٍ عن حميد الطويل عنه به. وزاد مالك، ومن طريقه البخاري ومسلم والنسائي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه".

وقد تعقب الدارقطني الشيخين في إخراج هذه الرواية فقال: "وقد خالف مالكاً جماعةٌ منهم إسماعيل بن جعفر، وابن المبارك، وهشيم، ويزيد بن هارون وغيرهم قالوا فيه: "قال أنس: أرأيت إن منع الله الثمرة ... ". وأخرجا أيضاً حديث إسماعيل بن جعفر عن حميد وقد فصل كلام أنس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم"1 انتهى. وقد سبق الدارقطني إلى توهيم مالك في رفع هذه الجملة أبو حاتم وأبو زرعة، فقد سألهما ابن أبي حاتم عن رواية مالك المرفوعة فقالا: "هذا خطأ، إنما هو كلام أنس"2. قال أبو زرعة: "كذا يرويه الدراوردي ومالك بن أنس مرفوعًا، والناس يروونه موقوفًا من كلام أنس". وقد بيّن الحافظ ابن حجر أن المحفوظ في حديث الدراوردي هو الوقف كرواية غيره3. وكذلك قال الحاكم بأن مالكاً تفرد برفع هذه الجملة4. وقد روى الخطيب5 بإسناده عن معتمر بن سليمان، وبشر بن المفضل عن حميد فقال فيه: "قال: أفرأيت"، فلا أدري أنس قال: "بم تستحل" أو حدث به عن النبي صلى الله عليه وسلم". وممَّن صرَّح أيضاً بأن هذه الجملة مدرجة من كلام أنس الإمام ابن خزيمة6. وتوقف البيهقي7 في الترجيح بين هذه الروايات.

وقال الحافظ ابن حجر عن هذا الاختلاف: "الأمر في مثل هذا قريب"1. وقال: "ليس في جميع ما تقدم ما يمنع أن يكون التفسير مرفوعاً؛ لأن مع الذي رفعه زيادة على ما عند الذي وقفه، وليس في رواية الذي وقفه ما ينفي قول من رفعه، وقد روى مسلم من طريق أبي الزبير عن جابر ما يقوّي رواية الرفع في حديث أنس" 2. وكلام الحافظ ابن حجر السابق صريحٌ في أنه يصحح رواية الرفع. وكلامه هذا هو المتأخر. وأما قوله: "قد بينت في المدرج أن هذه الجملة موقوفة من قول أنس، وأن رفعها وهم"، فهو واردٌ في كتابه "التلخيص الحبير" 3 وهو متقدم على فتح الباري في التأليف. فالأول انتهى من تأليفه - كما سبق - سنة عشرين وثمانمائة، وأما الفتح فانتهى منه سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة كما صرّح بذلك في آخره. وللحديث طريق آخر، فقد رواه أبو داود4، والترمذي5، وابن ماجه6، وأحمد7، وأبو يعلى8، وابن حبان9، والحاكم10، والبيهقي11،كلهم من طرقٍ عن حماد بن سلمة عن حميد الطويل به، ولفظه: "نهى عن

بيع العنب حتى يسود وعن بيع الحبِّ حتى يشتد"، وعندهم عدا أبي داود والترمذي زيادة: "وعن بيع الثمر حتى يزهو". قال الترمذي: "هذا حديث حسنٌ غريب، لا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث حماد بن سلمة". وقال البيهقي: "ذكر الحب حتى يشتد، والعنب حتى يسود في هذا الحديث مما تفرد به حماد بن سلمة عن حميد من بين أصحاب حميد". والذي يتبين لي أن تفرد حماد بن سلمة عن حميد الطويل محتمل، فإن حميد الطويل خال حماد بن سلمة1، وقال فيه أحمد بن حنبل: "حماد بن سلمة أعلم الناس بحديث حميد وأصح حديثاً" 2، وقال فيه أيضاً: "هو أثبت الناس في حميد الطويل، سمع منه قديماً يخالف الناس في حديثه"3. وقد توبع حماد بن سلمة في بعضه إلا أن هذه المتابعة لا تصلح للاعتبار، فقد روى عبد الرزاق4، وعنه أحمد5 عن الثوري عن شيخٍ لهم عن أنسٍ رضي الله عنه قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يزهو، وعن بيع الحبِّ حتى يفرك، وعن بيع الثمار حتى تطعم". وفي إسناده مبهم، وقد وقع بيانه عند البيهقي6 بأنه أبان بن أبي عياش. وأبان تقدم الكلام فيه، وأنه متروك7. وهذه المتابعة وإن لم تكن صالحة للاعتبار فإن - كما سبق - حماد بن سلمة حديثه عن حميد حجة ولو تفرد عنه لملازمته إياه.

وفي لفظٍ للبيهقي1 من طريق حماد بن سلمة زيادة: "وعن بيع الحب حتى يفرك". قال البيهقي: قوله "حتى يفرك" إن كان بخفض الراء على إضافة الإفراك إلى الحب وافق رواية من قال: "حتى يشتد"، وإن كان بفتح الراء ورفع الياء على إضافة الفرك إلى من لم يسم فاعله خالف رواية من قال فيه: "حتى يشتد"، واقتضى تنقيته عن السنبل حتى يجوز بيعه، ولم أرَ أحداً من محدثي زماننا ضبط ذلك، والأشبه أن يكون يفرك بخفض الراء لموافقة معنى من قال فيه "حتى يشتد". والله أعلم. 121 - (3) عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: كان الناس يتبايعون الثمار قبل أن يبدو صلاحها، فإذا جدَّ الناس وحضر تقاضيهم قال المبتاع: قد أصاب الثمر الدُّمان وأصابه قُشام وأصابه مُراضٌ - عاهات يحتجُّون بها - فلما كثرت خصومتهم عند النبي صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كالمشورة يشير بها: "فإما لا فلا تتبايعوا الثمرة حتى يبدو صلاحها" لكثرة خصومتهم واختلافهم. رواه أبو داود2 وهذا لفظه، والبخاري - تعليقاً مجزوماً به3 - والطحاوي4، والدارقطني5، والبيهقي6، كلهم من طرقٍ عن عروة بن الزبير عن سهل بن أبي حثمة عنه به.

ورواه أحمد1 من طريق خارجة بن زيد عن زيد بن ثابت رضي الله عنه به بنحوه. ورواه أحمد2 أيضاً، والطحاوي3 - كلاهما مختصراً - من طريق الزهري به، ولفظه: "لا تبيعوا الثمرة حتى يبدو صلاحها". والطرق السابقة تبين أن الحديث صحيح. والله أعلم. ومعنى قوله: "جدَّ الناس" الجداد بالفتح والكسر: صرام النخل، وهو قطع ثمرتها4. وقوله: "حضر تقاضيهم" يقال: تقاضيت ديني وبديني واستقضيته طلبت قضاه5. وقوله: "الدمان": هو بالفتح، وقيل بالضم وهو أشبه، لأن ما كان من الأدواء والعاهات فهو بالضم، أما الميم فهي مخففة، وهو فساد الثمر وعفنه قبل إدراكه حتى يسودَّ، من الدِّمن وهو السرقين6. وقوله: "قشام" في رواية الطحاوي: "القشام شيء يصيبه حتى لا يرطب". قال ابن الأثير: هو بالضم أن ينتقص7 ثمر النخل قبل أن يصير بلحاً"8. وقوله: "وأصابها مُراض" هو بالضم: داءٌ يقع في الثمرة فتهلك9.

122 - (4) عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبيعوا ثماركم حتى يبدو صلاحها وتنجو من العاهة". رواه أحمد1، وابن عدي2، كلاهما من طريق أبي الرجال عن عمرة عنها به. وهذا إسنادٌ صحيح. والله أعلم. 123 - (5) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه". رواه الطبراني3 واللفظ له، وأحمد4، وذكر مع ابن عباس - جابر وابن عمر رضي الله عنهم. كلهم من طرق عن عمرو بن دينار عنه به. وللطبراني أيضًا5: عن عمرو بن دينار عن طاووس عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. وإسناده صحيح. وقد جاء حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - هذا من وجه آخر، فقد روى البزار6 بإسناده عن الحجاج بن أرطاة، عن عطاء عنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى عن بيع النحل سنتين أو ثلاثة، أو يشترى ما في رءوس النخل بكيل، أو تباع الثمرة حتى يبدو صلاحها".

قال البزار: "لا نعلم يروى بإسنادٍ أحسن من هذا". ولعله يعني في النهي عن بيع السنين. - والله أعلم -. قال الهيثمي: إسناده حسن، وفيه الحجاج بن أرطاة وهو ثقة لكنه مدلس1. وفي قول الهيثمي عن الحجاج بن أرطاة "ثقة" نظر. فقد قال فيه ابن معين: صدوق ليس بالقوي. وقال أحمد: في حديثه زيادة على حديث الناس. وقال أبو حاتم وأبو زرعة: صدوق. وقال النسائي: ليس بالقوي. وضعفه ابن سعد. وقال الدارقطني: لا يحتج به2. وجعله ابن حجر في مرتبة: "صدوق كثير الخطأ"3. وأشد ما نقم عليه التدليس عن الضعفاء4. وهو هنا لم يصرِّح بالسماع. فعلى هذا فإن هذا الإسناد ضعيف، إلا أنه يتقوى بالطريق السابق، وبشواهده، فيكون حسنًا، والله أعلم. 124 - (6) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحها". قيل: وما صلاحها؟ قال: "تذهب عاهتها ويخلص صلاحها". رواه البزار5 بإسناده عن ابن أبي ليلى عن عطية العوفي عنه به. وابن أبي ليلى تقدم الكلام فيه6، وأنه صدوق سيء الحفظ جداً.

وأما عطية العوفي، فقد ضعفه أحمد وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي وابن حبان. ووثقه ابن سعد. وقال ابن معين: صالح1. وجعله الحافظ في مرتبة: "صدوق يخطئ كثيراً" 2. وجاء الحديث من وجهٍ آخر، فقد رواه الطبراني في الأوسط3 بإسناده عن يحيى بن أبي أنيسة عن جابر الجعفي عن نافع عنه به، ولفظه: "لا تبايعوا الثمر حتى يبدو صلاحه، ولا تبايعوا الذهب إلا مثلاً بمثل". وفي إسناده يحيى بن أبي أنيسة، وقد تقدم أنه متروك4. فيبقى الحديث على ضعفه. فمما سبق يتبين أن هذا الحديث ضعيف، إلا أنَّ له شواهد تقدمت، فيكون بها حسناً لغيره. والله أعلم. 125 - (7) عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الثمرة حتى يبدو صلاحها". رواه ابن أبي شيبة5، ومن طريقه الطبراني في الكبير6 من طريق أبي أسامة عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن مكحول والقاسم عنه به.

وقد تقدم الكلام على هذا الإسناد1، وأن أبا أسامة أخطأ في اسم شيخه، وأنه ليس عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وإنما هو عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، وهو ضعيف جداً. فمما سبق يتبين أن هذا الإسناد ضعيف جداً، وأما متن الحديث فثابتٌ من غير هذا الإسناد كما تقدم. والله أعلم. 126 - (8) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الشجر حتى يبدو صلاحه". رواه الدارقطني2 بإسناده عن ضرار بن صرد عن موسى بن عثمان عن الحكم بن عتيبة عن عبد الله مولى سعد عنه به. وموسى بن عثمان هو الحضرمي. قال فيه أبو حاتم: متروك. وقال ابن عدي: حديثه ليس بالمحفوظ3. وكذلك ضرار بن صُرَد، تقدم الكلام4 فيه وأنه ضعيف جداً. فعلى هذا، فإن هذا الإسناد ضعيف جداً. والله أعلم.

ومما ورد في هذا الفصل أيضاً: (9) حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقد تقدم1. (10) حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وقد تقدم2. (11) حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، وقد تقدم3. (12) حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وسيأتي4. (13) حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -، وسوف يأتي5. (14) حديث أبي هريرة - رضي الله عنهما -، وسوف يأتي6. (15) حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وسوف يأتي7.

دلالة الأحاديث السابقة: يستفاد مما تقدم النهي عن بيع ما لم يبد صلاحه سواءً أكان ثمراً أم حبوباً أم زرعاً؛ لأنها لا يؤمن من هلاكها بورود العاهة عليها لصغرها وضعفها، وإذا تلفت لا يبقى للمشتري بمقابلة ما دفع من الثمن شيء1. وبهذا قال مالك2، والشافعي3، وأحمد4. وبهذا قال أبو حنيفة أيضاً فيما إذا شرط المشتري على البائع التبقية والترك إلى صلاح الثمرة ونحوها5. وأما إذا أطلق في العقد ولم يشترط الترك فقال أبو حنيفة يجوز إذا كان المبيع يصلح أن يكون علفاً للدواب، ويؤمر المشتري بالقطع حالاً6. وخالفه الجمهور فمنعوا هذه الصورة؛ لأن إطلاق العقد يقتضي التبقية والترك، لأن العرف في القبض يجري مجرى الشرط، والعرف في الثمار أن تؤخذ وقت الجذاذ، فصار المطلق كالمشروط تركه7، وعلى هذا القول عموم الأحاديث التي تقدم ذكرها. وهناك حالة اتفق العلماء على جواز بيع ما لم يبد صلاحه فيها، وذلك فيما إذا شرط البائع على المشتري القطع حالاً، فيكون علفاً

للدواب ونحو ذلك؛ لأن العلة التي من أجلها نهي عن بيع ما لم يبد صلاحه منتفية هنا1. والمراد ببدو الصلاح يختلف باختلاف المبيع، فبدو الصلاح في التمر هو باللون كما تقدم في حديث أنس رضي الله عنه: "حتى يحمار أو يصفار"، وفي العنب الأسود حتى يسود، وكذلك فهذه العلامة هي في كل ما يتغير لونه عند صلاحه، فصلاحه يكون بتغير لونه. وإن كان العنب أبيض، فصلاحه بتموهه وهو أن يبدو فيه الماء الحلو ويلين ويصفر لونه. وإن كان مما لا يتلون كالتفاح ونحوه فبأن يحلو ويطيب، وإن كان بطيخاً ونحوه فبأن يبدو فيه النضح. وإن كان مما لا يتغير لونه ويؤكل طيباً صغاراً وكباراً كالقثاء والخيار ونحوه، فصلاحه بلوغه أن يؤكل عادة2. وليعلم أن بدو الصلاح في بعض ثمرة النخلة أو الشجرة صلاح لجميعها. قال ابن قدامة في هذا: لا أعلم فيه اختلافاً3. وإذا بدا الصلاح في بعض ثمر الحائط جاز بيع الكل مطلقاً إذا اتفق الجنس، فأما إذا اختلف الجنس فلا بد من مراعاة بدو الصلاح في كل جنس منها4. والله أعلم.

_ 1 انظر: شرح السنة (8/96) . 2 المغني (4/224) بتصرف. 3 المغني (4/222) . 4 شرح السنة (8/96) .

الباب الرابع: الأحاديث الواردة في النهي عن الشروط في البيع

الباب الرابع: الأحاديث الواردة في النهي عن الشروط في البيع الفصل الأول: ما ورد في النهي عن الشروط في البيع، وعن بيع وسلف ... الفصل الأول: ما ورد في النهي عن الشروط في البيع وعن بيع وسلف 127 - (1) عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: جاءت بريرة، فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواقٍ، في كل عامٍ أوقيَّة فأعينيني. فقلت: إن أحبَّ أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤكِ لي فعلتُ. فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم، فأبوا ذلك عليها. فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ، فقالت: إني قد عرضت ذلك عليهم فأَبوا إلاّ أن يكون الولاءُ لهم. فسمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنّما الولاء لمن أعتق". ففعلت عائشة، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أمَّا بعد، ما بال رجالٍ يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، ما كان من شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحقُّ، وشرط الله أوثق، وإنَّما الولاء لمن أعتق". رواه البخاري1 واللفظ له، ومسلم2، وأبو داود3، والترمذي4،

والنسائي1، وابن ماجه2، ومالك3، وأحمد4، كلهم من طرقٍ عنها به. وقوله صلى الله عليه وسلم: "خذيها واشترطي لهم الولاء"، تكلم في ثبوت هذه الجملة الشافعي5، وابن عبد البر6، وغيرهما7. وقالوا: إنه قد تفرد بها هشام بن عروة عن أبيه ولم يتابع عليها. وفي هذا التعليل نظر، فإنه قد قيل: إن عبد الرحمن بن نمر تابع هشاماً على هذا، فرواه عن الزهري عن عروة عنها8. وعبد الرحمن بن نمر - بفتح النون وكسر الميم9 - اليحصبي، ضعفه ابن معين في الزهري. وقال أبو حاتم: ليس بقوي. وقال ابن عدي: هو من جملة من يكتب حديثه في الضعفاء. ووثقه الذهلي وغيره. وقال أبو داود: ليس به بأس10. وجعله ابن حجر في مرتبة: "ثقة"11. والذي يظهر أنه صدوق. والله أعلم.

وعلى فرض أن هشام بن عروة تفرد بالجملة السابقة، فهشام ثقة حافظ1، ولم يخالف في هذه الجملة حتى ينكر عليه ما روى. والله أعلم. وإنما أذن النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة - رضي الله عنها - أن تشترط لهم الولاء مع فساده تنبيهاً على أن ذلك لا ينفعهم، فوجوده وعدمه سواء. ويقوي هذا ما جاء في بعض الروايات: "اشتريها ودعيهم يشترطون ما شاؤا"، وقيل: الأمر في قوله: "واشترطي لهم الولاء" للتهديد لهم كيف يشترطون ما لا يباح لهم، كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} 2، وقيل: إن قوله: "اشترطي لهم الولاء" بمعنى "اشترطي عليهم"، كقوله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} 3. وقيل: غير ذلك4. ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية المعنى الأول5. والله أعلم. ومما ورد في هذا الفصل أيضاً: (2) حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -، وقد تقدم6. (3) حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه في بعض ألفاظه، وقد تقدم7. (4) حديث عتاب بن أسيد رضي الله عنه، وقد تقدم8. (5) حديث يعلى بن أمية رضي الله عنه، وقد تقدم9.

دلالة الأحاديث السابقة: يستفاد مما تقدم، النهي عن الشروط الفاسدة في البيع، وكذلك يستفاد من حديث عبد الله بن عمرو النهي عن بيع وسلف، وعن شرطين في بيع. فأما النهي عن بيعٍ وسلف فهو أن يجمع في عقدٍ واحدٍ بين بيع وقرض، مثل أن يقول البائع للمشتري: أبيعك هذا العبد بخمسين ديناراً على أن تسلفني ألف درهم أو العكس. وإنما نهي عنه لأنه إنما يقرضه على أن يحابيه في الثمن فيدخل الثمن في حد الجهالة1. وأيضاً فإنه إنما أقرضه مائةً إلى سنة ثم باعه ما يساوي خمسين بمائة، فقد جعل هذا البيع ذريعة إلى الزيادة في القرض الذي موجبه رد المثل، ولولا هذا البيع لما أقرضه، ولولا عقد القرض لما اشترى ذلك2. وكل قرض جرّ نفعاً - أي مشروطاً - فهو ربا3. والمقصود بالنهي عن بيعٍ وسلف هو ما إذا كان أحدهما مشروطاً على الآخر4. والله أعلم.

وأما النهي عن شرطين في بيع، فالذي يظهر في معناه هو ما ذكره ابن القيم1 من أن المراد بهذا النهي هو النهي عن بيعتين في بيعة - والذي سوف يأتي بيانه إن شاء الله تعالى -. ويشهد لهذا أن بعض روايات حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - جاء بدل قوله: "ولا شرطان في بيع"، قوله: "نهى عن بيعتين في بيعة"، والله أعلم. وقد أخذ أحمد في المشهور من مذهبه بظاهر هذا الحديث، فأجاز الشرط الواحد ونهى عن الشرطين، فقال مثلاً: إذا اشترى منه طعاماً وشرط حمله صح البيع، وإن شرط مع الحمل الطحن فسد البيع2. وعند أحمد رواية أخرى اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية أنه يصح أن يجمع شرطين فأكثر في البيع3. وبهذا قال مالك4، وابن سيرين، وابن شبرمة، وحماد بن أبي سليمان5 وغيرهم. وهذا القول هو الذي تشهد له الأدلة من اعتبار الشروط في البيع وغيره إذا كانت لا تنافي الشرع، وليس هناك من الأدلة ما يصح في النهي عنه، وقد تقدم أن رواية "نهى عن بيع وشرط" لا تصح، وأن رواية "نهى عن شرطين في بيع" المراد بها النهي عن بيعتين في بيعة. والله أعلم.

وعند أبي حنيفة1، والشافعي2 أن الشرط لا يصح في البيع، فلو اشترى زرعاً مثلاً وشرط الحصاد فيبطل البيع، وقد تقدم أنه لا دليل صريح صحيح على هذا القول. والله أعلم. وليعلم أن ما سبق من الكلام في الشروط عند الفقهاء هو ما إذا كان الشرط ليس من مقتضى العقد ولا من مصلحته وليس منافياً لمقتضى العقد، وإنما يكون فيه مصلحة لأحد المتعاقدين. فأما إذا كان الشرط من مقتضى العقد، كأن يشترط الحلول وسلامة المبيع من العيوب ونحو ذلك، أو يشترط ما فيه مصلحة للعقد، كأن يشترط البائع رهناً، أو المشتري أجلاً ونحو ذلك، فمثل هذه الشروط يجوز اشتراطها باتفاق الفقهاء. وقد اتفق العلماء على أن الشرط إذا كان منافياً لمقتضى العقد، كأن يشترط البائع على المشتري ألا يبيع المبيع أو لا يهبه أو لا يعتقه، أو كان في الشرط غرر، كاشتراط الحمل في الحيوان، فهذا لا يجوز3، أو يشترط الولاء على العبد إذا باعه فأُعتق، كما في حديث عائشة - رضي الله عنها -. وأما البيع فقد اختلفوا في جوازه وعدمه. والله أعلم.

_ 1 بدائع الصنائع (5/169) . 2 المجموع (9/368) . 3 انظر فيما سبق: بدائع الصنائع (5/168-172) ، شرح الخرشي (5/80-81) ، المجموع (9/358-364) ، المغني (4/309) .

الفصل الثاني: ما ورد في النهي عن بيع العربان

الفصل الثاني: ما ورد في النهي عن بيع العربان 128 - (1) عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - أنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع العُربان". رواه مالك1 عن الثقة عنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده به. ومن طريق مالك رواه أبو داود2، وابن ماجه3، وأحمد4، وابن عدي5، والبيهقي6، والبغوي7. وفي إسناد مالك مبهم. وقد اختلفت الروايات في تعيينه على الأوجه التالية: أولاً: أنه عبد الله بن لهيعة: فقد رواه البيهقي8، وابن عبد البر9 بإسنادهما عن ابن وهب عن مالك عن ابن لهيعة عن عمرو به.

قال ابن عبد البر: "المعروف فيه: ابن وهب عن ابن لهيعة". وقال في موضع آخر: "هو في موطأ ابن وهب عن ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب". قال: "وقد قيل إن مالكاً أخذه عن ابن وهب عن ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب ". والذي يظهر لي أن هذا القول الأخير الذي حكاه ابن عبد البر ضعيف، وذلك أن ابن وهب هو ممن روى عن مالك هذا الحديث، فلا يمكن أن يكون هو الذي حدث مالكاً به. وأما كون ابن وهب قد رواه عن ابن لهيعة، فالجواب عنه أن ابن وهب سمع الحديث من مالك عن ابن لهيعة، وسمعه من ابن لهيعة بدون واسطة. والله أعلم. وقد تابع مالكاً وابن وهب في الرواية عن ابن لهيعة، قتيبة بن سعيد فيما رواه ابن عدي1، ومن طريقه البيهقي2. وابن لهيعة قد تقدم الكلام فيه3 وأنه ضعيف. وفي هذا الإسناد علة أخرى، وهي الانقطاع بين ابن لهيعة وعمرو بن شعيب. فقد قال أبو حاتم: "لم يسمع ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب شيئاً"4. وقال أبو داود: "إنما سمع ابن لهيعة من عمرو بن شعيب ثلاثة أشياء أو أربعة"5.

وممن كان يرى أن ابن لهيعة لم يسمع من عمرو بن شعيب ابنُ وهب1. وعبد الله بن لهيعة مدلِّس2، فلا يقبل من حديثه إلا ما صرّح فيه بالسماع3. ثانياً: أنه عبد الله بن عامر الأسلمي: فقد رواه ابن ماجه4، والبيهقي5 كلاهما من طريق حبيب بن أبي حبيب عن عبد الله بن عامر الأسلمي به. وعند البيهقي وقع ذكر مالك بين حبيب وعبد الله بن عامر. وكذلك فقد ذكر الدارقطني أن حبيب بن أبي حبيب يرويه عن مالك عن عبد الله بن عامر الأسلمي6. وأيّاً كان فإن حبيب بن أبي حبيب وهو المصري كاتب مالك متكلّم فيه. فقال فيه أحمد: ليس بثقة. وقال أيضاً: كان يكذب. وقال أبو حاتم: متروك الحديث. وقال: أحاديثه كلها موضوعة. وقال أيضاً:

عامة حديثه موضوع المتن مقلوب الإسناد ولا يحتشم حبيب في وضع الحديث على الثقات، وأمره بيِّن في الكذب. وقال أبو داود: كان من أكذب الناس. وقال: كان يضع الحديث. وقال النسائي: متروك، أحاديثه كلها موضوعة عن مالك وغيره1. فمما تقدم يتبين أن هذه الطريق لا عبرة بها. والله أعلم. ثالثاً: أنه عمرو بن الحارث: فقد ذكر الحافظ ابن حجر أن الدارقطني في غرائب مالك، والخطيب البغدادي رويا الحديث بإسنادهما عن الهيثم بن اليمان عن مالك عن عمرو بن الحارث عن عمرو ابن شعيب به2. ونقل عن الدارقطني قوله: "تفرد به الهيثم بن اليمان عن مالك عن عمرو بن الحارث، وقد رواه حبيب عن مالك عن عبد الله بن عامر الأسلمي، وقيل: عن ابن لهيعة، وهو في الموطأ عن مالك أنه بلغه عن عمرو بن شعيب"3. والهيثم بن اليمان قال فيه أبو حاتم: صالح صدوق. وضعفه الأزدي4. هذه هي الأوجه التي وقفت عليها في المبهم الواقع في إسناد مالك. وأقواها هو الوجه الأول، وهو أنه ابن لهيعة، ولذا قال ابن عدي: "يقال إن مالكاً سمع هذا الحديث من ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب، ولم يسمّه لضعفه، والحديث عن ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب مشهور"5.

فمما سبق يتبين أن الحديث في الموطأ ضعيف؛ لأن فيه راوياً مبهماً، وأصح ما جاء في هذا المبهم بين مالك وعمرو بن شعيب أنه ابن لهيعة وهو ضعيف، ولم يسمعه من عمرو بن شعيب. والله أعلم. وقد جاء هذا الحديث من غير طريق مالك، فقد رواه البيهقي1، وابن عبد البر2 كلاهما من طريق إسحاق بن موسى الأنصاري أبي موسى عن عاصم بن عبد العزيز عن الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب عن عمرو بن شعيب به. وعاصم بن عبد العزيز، والحارث بن أبي ذباب تقدم الكلام فيهما3. وأن عاصماً ضعيف، والحارث صدوق يهم. وكذلك فإن في إسناد البيهقي محمد بن محمد بن سليمان الباغندي الواسطي، كذبه إبراهيم الأصبهاني. وقال ابن عدي: له أشياء أُنكرت عليه من الأحاديث، وكان مدلِّساً يدلِّس على ألوان، وأرجو أنه لا يتعمد الكذب4. وقال الدارقطني: "مختلط مدلس يكتب عن بعض أصحابه ثم يسقط بينه وبين شيخه ثلاثة، وهو كثير الخطأ". ووثقه الخطيب وغيره. وقال ابن طاهر: كان لا يكذب، ولكن يحمله الشره على أن يقول حدثنا. وقال الإسماعيلي: لا أتهمه، ولكنه خبيث التدليس ومصحّف أيضاً5.

وقد تابعه محمد بن موسى الأثط كما عند ابن عبد البر، ولم أجد لمحمد بن موسى هذا ترجمة. والله أعلم. والمشهور في هذا الباب حديث مالك، وقد سبق أن فيه راوٍ مبهمًا، وأصح ما قيل فيه أنه ابن لهيعة، وهو ضعيف ولم يسمع هذا الحديث من عمرو بن شعيب. والله أعلم.

دلالة الأحاديث السابقة: بيع العربان، ويقال: عُرْبون، وعَرَبون1، وهو ما فسره به مالك حيث قال: "وذلك فيما نرى - والله أعلم - أن يشتري العبد أو الوليدة أو يتكارى الدابة، ثم يقول للذي اشترى منه أو تكارى منه: أُعطيك ديناراً أو درهماً أو أكثر من ذلك أو أقل على أنِّي إن أخذت السلعة أو ركبت ما تكاريت منك فالذي أعطيك هو من ثمن السلعة أو من كراء الدابة، وإن تركت ابتياع السلعة أو كراء الدابة فما أعطيتك لك"2. وقد قال بالنهي عن بيع العربان أبو حنيفة3، والشافعي4، ومالك5 وغيرهم، ورجحه ابن قدامة من الحنابلة6. وذلك لما في هذا البيع من بيع القمار والغرر والمخاطرة، وأكل المال بغير عوضٍ ولا هبة، وذلك باطل7. والممنوع عندهم هو أن يأخذ صاحب السلعة ما جعله المشتري عرباناً لها إذا ترك الشراء لها، وأما إذا أراد شراءها فحسب هذا العربان من ثمن السلعة، فهذا لا خلاف بينهم في جوازه8.

وأما أحمد فلا يرى بأساً في بيع العربان1؛ لضعف الحديث الوارد في النهي عنه كما تقدم بيانه. واستدل بقصة عمر رضي الله عنه، والتي رواها عبد الرزاق وابن أبي شيبة وغيرهما عن عمرو بن دينار عن عبد الرحمن بن فروخ مولى عمر "أن نافع بن عبد الحارث اشترى داراً للسجن من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم، فإن رضي عمر فالبيع له، وإن عمر لم يرض فأربعمائة لصفوان". وقد سبق تخريج هذا الحديث2. وقد قال بهذا القول أيضاً في إجازة بيع العربان مجاهد وابن سيرين وغيرهما3. ومما يؤيد هذا القول أن البائع قد يتضرر بحبس السلعة إذا لم يشترها المشتري، فالثمن الذي قدمه المشتري عرباناً يكون عوضاً عن الضرر الذي لحق البائع من الحبس. والله أعلم. ومن أسباب الخلاف في هذه المسألة بين الجمهور وأحمد، أن أحمد يجيز البيع بشرطٍ واحدٍ، والجمهور يمنعون منه كما سبق في الفصل السابق. والله أعلم.

_ 1 المغني (4/313) . 2 سبق تخريج الحديث (ص202 ---- تقريبًا) . 3 مصنف ابن أبي شيبة (5/392) .

الفصل الثالث: ما ورد في النهي عن بيعتين في بيعة

الفصل الثالث: ما ورد في النهي عن بيعتين في بيعة 129 - (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة". رواه الترمذي1، والنسائي2، وأحمد3، وابن الجارود4، وابن حبان5، والبيهقي6، كلهم من طرقٍ عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عنه به. قال الترمذي: "حديث حسنٌ غريبٌ". ومحمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، قال فيه ابن معين: ما زال الناس يتقون حديثه. قيل له: وما علة ذلك؟ قال: كان يحدث مرّةً عن أبي سلمة بالشيء من روايته ثم يحدث به مرةً أخرى عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه. وقال مرّة: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، يكتب حديثه وهو شيخ. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال مرّةً: ثقة. وقال يعقوب بن

شيبة: هو وسط، وإلى الضعف ما هو. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به1. وجعله ابن حجر في مرتبة: "صدوق له أوهام"2. فعلى هذا فإن هذا الإسناد حسن، وله شواهد تؤيده من حديث ابن عمرو وابن عمر رضي الله عنهما وغيرهما مما ذكر في هذا الفصل. فيكون الحديث بها صحيحاً لغيره. والله أعلم. وروى الحديث أبو داود3، وابن حبان4، والحاكم5، والبيهقي6، كلهم من طرقٍ عن يحيى بن زكريا عن محمد بن عمرو بالإسناد السابق، إلا أنه بلفظ: "من باع بيعتين في بيعةٍ فله أوكسهما أو الربا". ومعنى أوكسهما: أنقصهما7. وقد خالف يحيى بن زكريا غيره في متن هذا الحديث، فإنه رواه عبدة بن سليمان، ويحيى بن سعيد القطان، ويزيد بن هارون، وعبد الوهاب بن عطاء8. وذكر البيهقي9 أنه تابعهم أيضاً إسماعيل بن جعفر، والدراوردي، ومعاذ بن معاذ. فهؤلاء كلهم خالفوا يحيى بن زكريا في

متن الحديث. ولذلك حكم المنذري1 والخطابي2 على روايتهم بأنها هي المشهور. والله أعلم. والذي يظهر لي أن ما رواه يحيى بن زكريا زيادة من ثقة لا تعارض غيرها، فينبغي قبولها، والله أعلم. 130 - (2) عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مطل الغنيّ ظلم، وإذا أُحلت على مليءٍ فاتبعه، ولا تبع بيعتين في بيعة". رواه الترمذي3، وابن ماجه4 - مختصراً -، وأحمد5، وابن الجارود6، والطحاوي7 - مختصراً -، والبيهقي8، وابن عبد البر9، كلهم من طرقٍ عن هشيم عن يونس بن عبيد عن نافع عنه به. قال الترمذي: "حسن صحيح". وعند أحمد ومن بعده تصريح هشيم بالسماع من يونس لهذا الحديث.

وأُعل هذا الحديث بالانقطاع بين يونس بن عبيد ونافع. قال البوصيري: "هذا إسناد رجاله ثقات غير أنه منقطع"1، ثم ذكر قول أحمد وابن معين وأبي حاتم في إثبات الانقطاع بينهما، وسوف يأتي ذكر أقوالهم. وقد أثبت هذا الانقطاع جمعٌ من العلماء، منهم: يحيى بن معين2، وأحمد بن حنبل3، وأبو حاتم4، وأبو داود5. وقد سأل الترمذي البخاري عن هذا الحديث فقال: "ما أرى يونس بن عبيد سمع من نافع، وروى يونس بن عبيد عن ابن نافع عن أبيه حديثاً"6. وأما أبو زرعة فقال: "أتوهم أن في حديثه شيئاً يدل على أنه سمع منه"7. فهؤلاء الأئمة منهم من صرّح بالانقطاع بين يونس ونافع، ومنهم من لم يجزم أو توقف. وجاء في روايةٍ للطحاوي8 تصريح يونس بن عبيد بالسماع من نافع حيث قال: "أخبرنا نافع"، وبهذه الرواية احتج الطحاوي على سماع

يونس من نافع، وحمل قول ابن معين في الحكم بالانقطاع بينهما على أنه خاصٌّ في جزءٍ من الحديث، وهو قوله: "مطل الغني ظلم"، وأما باقي الحديث فسماع. وقد ذكر الطحاوي عن شيخه إبراهيم بن أبي داود وهو ثقة1، أنه قال: قال لي يحيى بن معين في حديث يونس بن عبيد عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - "مطل الغني ظلم" قال يحيى: قد سمعته من هشيم، ولم يسمعه يونس من نافع. قال لنا ابن أبي داود: قلت ليحيى: لم يسمع يونس من نافع شيئاً؟ قال: بلى. ولكن هذا الحديث خاصة لم يسمعه يونس من نافع"2. وهذه الرواية عن ابن معين التي ساقها الطحاوي غايتها أن تكون قولاً لابن معين يثبت فيه سماع يونس من نافع، ولكن يبقى أن أحمد وأبا حاتم والبخاري وأبا داود كلهم نفوا سماعه منه، وهؤلاء من جهابذة أهل الفن. فقولهم مقدَّم على قول ابن معين وحده، كيف وابن معين قد اختلفت الرواية عنه في ذلك. فمما سبق يتبين أن هذا الإسناد ضعيف لانقطاعه، إلا أن النهي عن بيع بيعتين في بيعة ثابت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه السابق3، فيكون حسناً لغيره. والله أعلم.

131 - (3) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة واحدة". ورد هذا الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً وموقوفاً -: الطريق الأولى: شريك عن سماك بن حرب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عنه به مرفوعاً: رواه أحمد1، والبزار2، والشاشي3، وابن عبد البر4، كلهم من هذا الطريق. وعند أحمد: قال سماك: "الرجل يبيع فيقول: هو بنَساءٍ بكذا وكذا، وهو بنقدٍ بكذا وكذا". أما سماك بن حرب، فقال فيه ابن معين: ثقة. وقال أحمد: مضطرب الحديث. وتكلم الثوري والعجلي ويعقوب بن شيبة وغيرهم في حديثه عن عكرمة خاصة. وقال أبو حاتم: صدوق ثقة، وهو كما قال أحمد. وقال النسائي: ليس به بأس وفي حديثه شيء5. وجعله ابن حجر في مرتبة: "صدوق"، وقال: "روايته عن عكرمة خاصة مضطربة وقد تغير بآخرة فكان ربما تلقّن"6.

وأما شريك النخعي القاضي، فقد وثقه ابن معين وابن سعد. وقالا: كان يغلط. وقال أبو زرعة: كان كثير الخطأ صاحب حديث، وهو يغلط أحياناً. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال صالح جزرة: صدوق، ولما ولي القضاء اضطرب حفظه1. وقد جعله ابن حجر في مرتبة: "صدوق يخطئ كثيراً، وقد تغير حفظه منذ ولي قضاء الكوفة"2. وكل من روى عنه هذا الحديث لم يذكر أنه سمع منه قبل الاختلاط. وقد تابعه سعيد بن سماك بن حرب كما عند الطبراني في الأوسط3 بلفظ: "لا تحل صفقتان في صفقة". إلا أن سعيداً هذا قال فيه أبو حاتم: "متروك الحديث"4. فعلى هذا فإن هذا الإسناد ضعيف، وسوف يأتي أنه منكر أيضاً، لأن المعروف في هذا الحديث أنه موقوف. الطريق الثانية: شعبة عن سماك بن حرب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عنه به موقوفاً: رواه أحمد5، والشاشي6، وابن حبان7، كلهم من هذا الطريق.

ولفظه عند أحمد: "لا تصلح سفقتان1 في سفقة"، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه". الطريق الثالثة: سفيان الثوري عن سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عنه به موقوفاً. رواه ابن أبي شيبة2، والبزار3، وابن خزيمة4، وابن حبان5، والعقيلي6، والطبراني في الكبير7، كلهم من هذا الطريق. ولفظ البزار: أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "لا يصلح صفقتان في صفقة". قال: "وأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسباغ الوضوء". ورواه عبد الرزاق8 عن سفيان الثوري وإسرائيل عن سماكٍ به موقوفاً أيضاً، ولفظه: "الصفقتان في الصفقة رباً". وتابع عبد الرزاق عن إسرائيل وكيع بن الجراح كما عند محمد بن نصر المروزي9.

الطريق الرابعة: أبو الأحوص عن سماك عن أبي عبيدة أو عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه موقوفاً: رواه ابن أبي شيبة1، ومحمد بن نصر2 من هذا الطريق. وقد تقدم أن سماكاً إنما يروي هذا الحديث عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود. وأبو الأحوص هو سلام بن سليم الحنفي مولاهم، ثقة متقن3. فهؤلاء أربعة من الثقات قد خالفوا شريكاً، وهم: شعبة، وسفيان الثوري، وإسرائيل، وأبو الأحوص، كلهم رووه عن سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه موقوفاً. وهؤلاء يقدمون على شريك لأنهم أحفظ وأضبط. وكذلك فقد نص يعقوب بن شيبة على أن رواية سفيان، وشعبة عن سماك كانت قبل اختلاطه4. فعلى هذا فإن المعروف في هذا الحديث هو الوقف، وأما الرفع فمنكر. وهذا الموقوف إسناده ضعيف؛ لأن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه إلا أحاديث يسيرة كما سيأتي إن شاء الله5. والله أعلم.

132 - (4) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صومين، وعن صلاتين، وعن لباسين، وعن مطعمين، وعن نكاحين، وعن بيعتين. فأما اليومان: فيوم الفطر ويوم الأضحى، وأما الصلاتان: فصلاة بعد الغداة حتى تطلع الشمس، وصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وأما اللباسان: فأن يحتبي في ثوبٍ واحدٍ ولا يكون بين عورته وبين السماء شيء فتدعى تلك الصماء، وأما المطعمان: فأن يأكل بشماله ويمينه صحيحة، ويأكل متكئاً، وأما البيعتان فيقول الرجل: تبيع لي وأبيع لك، وأما النكاحان فنكاح البغي، ونكاح على الخالة، والعمة". رواه الطبراني في الكبير1، عن الحسين بن إسحاق التستري عن أبي المعافى محمد بن وهب الحرَّاني عن محمد بن سلمة عن أبي عبد الرحيم عن زيد بن أبي أنيسة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عنه به. قال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح"2. ومحمد بن سلمة هو الحراني، وهو ثقة3. وأبو عبد الرحيم هو خالد بن أبي يزيد الأموي مولاهم، وهو ثقة4. وزيد بن أبي أُنيسة ثقة له أفراد5. وأبو إسحاق هو السبيعي، ثقة إلا أنه مدلِّس6، ولم يصرح بالسماع في هذا الإسناد.

فمما سبق يتبين أن هذا الإسناد ضعيف لتدليس أبي إسحاق السبيعي. وكذلك فإن شيخ الطبراني في هذا الحديث وهو الحسين بن إسحاق التستري لم أقف على من وثقه، وقد خالفه النسائي، فقد روى في سننه الكبرى هذا الحديث1 عن محمد بن وهب الحراني عن محمد بن سلمة عن أبي عبد الرحيم حدثني عبد الوهاب المكي عن أبي إسحاق به، وفيه النهي عن اللبستين فقط. فعلى هذا فإن النسائي قد خالف الحسين بن إسحاق التستري في إسناده ومتنه. أما المخالفة في الإسناد، فإن في إسناد النسائي عبد الوهاب المكي بدلاً من زيد بن أبي أنيسة. وهذا الخلاف لا يضر؛ لكون زيد بن أبي أنيسة وعبد الوهاب بن بخت المكي كلاهما ثقة، إلا أنه مما يؤخذ على الحسين بن إسحاق لمخالفته للنسائي، وهو إمام حافظ. وأما المخالفة في المتن فإن في المتن الذي ساقه الحسين بن إسحاق زيادة على ما ذكر النسائي. ويبقى أن في الإسناد عنعنة أبي إسحاق أيضاً. والله أعلم. ومما ورد في هذا الفصل أيضاً: (5) حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - في بعض ألفاظه، وقد تقدم2.

دلالة الأحاديث السابقة: يستفاد مما تقدم النهي عن بيعتين في بيعة. والذي يترجح في تفسيره أن يقول أحد المتبايعين للآخر: خذ هذه السلعة بعشرة نقداً وآخذها منك بعشرين نسيئة، وهي مسألة العينة بعينها - والتي سوف يأتي الكلام فيها في فصلٍ مستقل إن شاء الله -، فإن هذا هو المعنى المطابق للحديث، فإنه إذا كان مقصوده الدراهم العاجلة بالآجلة فهو لا يستحق إلا رأس ماله وهو أوكس الثمنين، فإن أخذه أخذ أوكسهما، وإن أخذ الثمن الأكثر فقد أخذ الربا، فلا محيد له عن أوكس الثمنين أو الربا. ولا يحتمل الحديث غير هذا المعنى، وهذا هو بعينه الشرطان في البيع1. وأما تفسير سماك للبيعتين في بيعة - والذي سبق ذكره عند حديث ابن مسعود رضي الله عنه وهو: "أن يبيع الرجل فيقول: هو بنَساءٍ كذا وكذا، وهو بنقدٍ بكذا وكذا"، أي ويتفرقا من غير تعيين أحد الثمنين، فقد ضعّف ابن القيم هذا التفسير وقال: "لا يدخل الربا في هذه الصورة، ولا صفقتين هنا وإنما هي صفقة واحدة بأحد الثمنين"2. ومن العلماء من فسَّر البيعتين في بيعة بأن يقول الرجل مثلاً: بعتك هذا العبد بعشرين ديناراً على أن تبيعني جاريتك بعشرة دنانير3. ويتطرَّق إلى هذا التعريف الاعتراض السابق بأن الربا لا يدخل في هذه الصورة، والرسول صلى الله عليه وسلم قال - كما سبق -: "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا".

وهناك تفسيرات أخرى للبيعتين في بيعة ذكرها ابن عبد البر1 وغيره. إلا أنها لا تخلو من اعتراض. والمشهور في تفسيره ما تقدم، والتفسير الأول هو الراجح. ولا يعني أن الصور الأخرى التي ذكرت في تفسير الحديث أنها جائزة، بل قد تكون محرمة نتيجة لجهالة الثمن أو الغرر أو غير ذلك، ولكن الكلام هنا هو معرفة المراد بالبيعتين في بيعة التي نُهي عنها. والله أعلم.

المجلد الثاني

المجلد الثاني الباب الخامس: الأحاديث الواردة في النهي عن البيوع الربوية الفصل الأول: ما ورد في النهي عن الربا والتحذير منه ... الفصل الأول: ما ورد في النهي عن الربا والتحذير منه1 133 - (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات" قالوا: يا رسول الله، وما هنَّ؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الرِّبا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات". رواه البخاري2، ومسلم3، وأبو داود4، والنسائي5، كلهم من طرقٍ عن سليمان بن بلال عن ثور بن يزيد عن أبي الغيث عنه به. وأبو الغيث اسمه سالم مولى ابن مطيع كما قال أبو داود عقب إخراجه للحديث.

ورواه البزار1، وابن أبي حاتم2 كلاهما من طريق أبي عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه به. إلا أنه ذكر الانقلاب في الأعراب بعد هجرته بدلاً من السحر. وعمر بن أبي سلمة ضعفه شعبة، وابن معين. وقال ابن معين في رواية: ليس به بأس. وقال ابن المديني: ليس بذاك. وقال أحمد: هو صالح ثقة إن شاء الله. وقال البخاري: "صدوق إلا أنه يخالف في بعض حديثه"3. وجعله الحافظ ابن حجر في مرتبة: "صدوق يخطئ"4. فهو على هذا صالح للمتابعة. وقد جاء نحو هذا الحديث عن غير واحدٍ من الصحابة5. والله أعلم. وقوله: (الموبقات) هي الذنوب المهلكات6. 134 - (2) عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرضٍ مقدَّسةٍ، فانطلقنا حتى أتينا على نهرٍ من دمٍ فيه رجلٌ قائمٌ وعلى وسط النهر رجلٌ بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا أراد الرجل أن يخرج رمى الرجل بحجرٍ في فيه فردَّه حيث كان، فجعل

لما جاء ليخرج رمى في فيه بحجرٍ فيرجع كما كان. فقلت: ما هذا؟ قال: الذي رأيته في النهر آكل الربا". رواه البخاري بهذا اللفظ1. وهو قطعة من حديثٍ طويل رواه البخاري في مواضع من صحيحه2. وقد رواه بطوله أيضاً النسائي في الكبرى3، وأحمد4، ورواه مختصراً - وليس فيه محل الشاهد - مسلم5، والترمذي6، كلهم من طرقٍ عن أبي رجاء العطاردي عنه به. قال ابن هبيرة: إنما عوقب آكل الربا بسباحته في النهر الأحمر وإلقامه الحجارة، لأن أصل الربا يجري في الذهب، والذهب أحمر، وأما إلقام الملك له الحجر فإنه إشارة إلى أنه لا يغني عنه شيئاً، وكذلك الربا فإن صاحبه يتخيل أن ماله يزداد والله من ورائه يمحقه7. والله أعلم. 135 - (3) عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله. قال - أي مغيرة -: قلت: وكاتبه وشاهديه؟ قال - أي إبراهيم النخعي -: إنما نحدِّث ما سمعنا".

رواه مسلم1 واللفظ له، وأبو داود2، والترمذي3، والنسائي4، وابن ماجه5، وأحمد6، كلهم من طرقٍ عنه به. وزاد أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه: "وكاتبه". وزادوا أيضاً - عدا النسائي -: "وشاهديه". وهذه الزيادة جاءت من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، وقد اختلف في سماعه منه. فنفى ابن معين في رواية سماعه منه، وأثبته في رواية، وكذلك أثبته أبو حاتم والثوري وغيرهما. وتوسَّط ابن المديني، فأثبت سماعه منه في حديثين فقط - ليس منهما هذا الحديث -7، وقد ذكره الحافظ ابن حجر في المرتبة الثالثة من المدلِّسين8 الذين يشترط تصريحهم بالسماع. فعلى هذا فلا يقبل من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه إلا ما صرح فيه بالسماع. وقد تتبع الحافظ ذلك فذكر أنها أربعة أحاديث فقط أحدها موقوف9. وقد توبع عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود وذلك فيما رواه النسائي10، وابن أبي شيبة11، وأحمد12، كلهم من طرقٍ عن الحارث الأعور عن

ابن مسعود رضي الله عنه به. والحارث الأعور تقدم الكلام فيه1، وأن في حديثه ضعفًا. فعلى هذا فهو صالح للمتابعة. فتكون هذه الزيادة من هذين الطريقين وكذلك بشاهدها وهو حديث جابر رضي الله عنه تكون حسنة. وروى هذا الحديث ابن خزيمة2، والحاكم3 كلاهما من طريق يحيى بن عيسى الرملي عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه به. ويحيى بن عيسى الرملي ضعفه ابن معين. وقال أحمد: ما أقرب حديثه. وقال النسائي: ليس بالقوي4. وقد خالفه سفيان الثوري كما عند أحمد5، ووكيع عند ابن أبي شيبة6، وشعبة عند أحمد7 والنسائي8، فإنهم كلهم رووه عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن الحارث الأعور عن ابن مسعود رضي الله عنه. وهو المحفوظ من حديث الأعمش لاتفاق هؤلاء الأئمة عليه. وسوف يأتي مزيد من الحديث عن طريق الحارث الأعور هذه عند الكلام على حديث علي رضي الله عنه9 والله أعلم.

136 - (4) عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه. وقال: هم سواء". رواه مسلم1 واللفظ له، وأحمد2، وأبو يعلى3، كلهم من طرقٍ عن هشيم عن أبي الزبير عنه به. ورواه البزار4، والترمذي5 - مختصراً - من طريق مجالد بن سعيد عن عامر الشعبي عن جابر بن عبد الله وعن الحارث عن علي - رضي الله عنهم – به. ولفظ البزار: عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه لعن عشرة: آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه والواشمة والموشومة ومانع الصدقة والمحل والمحلل له". وقد أعل الترمذي هذا الإسناد بمجالد بن سعيد. ومجالد قد تكلم فيه. فقد ضعفه القطان، وابن سعد، وابن معين. وقال أحمد: ليس بشيء، يرفع حديثاً كثيراً لا يرفعه الناس، وقد احتمله الناس. وقال أبو حاتم: ليس بقوي في الحديث. وقال النسائي: ليس بالقوي6. وجعله ابن حجر في هذه المرتبة أيضاً، وزاد: "وقد تغيَّر في آخر عمره"7.

وسوف يأتي في حديث عليّ رضي الله عنه1 أن المحفوظ في حديث الشعبي هو أنه عن الحارث الأعور عن علي رضي الله عنه والله أعلم. 137 - (5) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا وموكله وكاتبه ومانع الصدقة، وكان ينهى عن النوح". رواه النسائي2 واللفظ له، وعبد الرزاق3، وأحمد4، والبزار5. ورواه أبو داود6 وابن ماجه7 - مختصراً - وليس فيه محل الشاهد - كلهم من طرقٍ عن الشعبي عن الحارث الأعور عنه به. وقد رواه عن الشعبي جماعة فذكروه عن الحارث عن علي رضي الله عنه8. وقد سبق عند ذكر حديث ابن مسعود رضي الله عنه في هذا الفصل أن الأعمش رواه عن عبد الله بن مُرَّة عن الحارث عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً بنحوه. ولعل هذا الاضطراب ناتج من الحارث الأعور فإنه ضعيف كما تقدم. ولعل المحفوظ من حديثه هو أنه عن ابن مسعود رضي الله عنه لمتابعة غيره له في الرواية عن ابن مسعود رضي الله عنه، وأما حديثه عن علي رضي الله عنه فلم يتابع عليه. والله أعلم.

138 - (6) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الربا ثلاثة وسبعون باباً". رواه ابن ماجه1 واللفظ له، والبزار2 كلاهما من طريق عمرو بن علي الفلاَّس عن ابن أبي عدي عن شعبة عن زُبيد عن إبراهيم عن مسروق عنه به. وزاد البزار: "والشرك مثل ذلك". وظاهر هذا الإسناد الصحة، فإن رواته كلهم ثقات، ولذا صححه البوصيري3. إلا أنه قد اختلف على زبيد، فرواه عبد الرزاق4، وعبد الرحمن بن مهدي5 كلاهما عن الثوري عن زبيد به موقوفاً من قول ابن مسعود رضي الله عنه بنحو لفظ البزار. ورواه النضر بن شميل عن شعبة عن زبيدٍ به موقوفاً أيضاً6. ورواه أيضاً عبد الرزاق7، وابن أبي شيبة8، كلاهما من طريق الأعمش عن عمارة عن عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله. ولفظ عبد الرزاق: "الربا بضعة وسبعون باباً، أهونها كمن أتى أُمَّه في الإسلام". ولفظ ابن أبي شيبة نحو لفظ البزار. وهذا الإسناد صحيح أيضاً.

ورواه عبد الرزاق1 أيضاً عن معمر عن عطاء الخراساني عن رجلٍ عن ابن مسعود قوله بنحوه. وفي إسناده مبهم. فعلى هذا فإن المحفوظ في هذا الحديث الوقف. وأما رواية ابن أبي عدي عن شعبة والتي فيها الرفع فشاذة. وقد روى هذا الحديث الحاكم2 بإسناده عن محمد بن غالب تمتام عن عمرو بن علي الفلاس به بلفظ ابن ماجه، وزاد: "أيسرها مثل أن ينكح الرجل أُمَّه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم". وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه". وقد رواه البيهقي من طريق الحاكم ثم قال: "هذا إسناد صحيح والمتن منكر بهذا الإسناد، ولا أعلمه إلا وهماً، وكأنه دخل لبعض رواته إسنادٌ في إسناد"3. وإسناد ومتن الحاكم فيه ملاحظتان: الأولى: وهي ما سبق من أن المحفوظ عن ابن مسعود رضي الله عنه في هذا الحديث الوقف. الثانية: وهي التي أشار إليها البيهقي وهي نكارة المتن. فقد خالف محمد بن غالب ابن ماجه والبزار في زيادته التي زادها وهو ليس ممن يحتمل تفرده إذا خالف.

فإن محمد بن غالب هذا وثقه الدارقطني وقال: وهم في أحاديث. وقال ابن المنادي: كتب عنه الناس ثم رغب أكثرهم عنه لخصالٍ شنيعةٍ في الحديث وغيره. ووثقه ابن حبان1. والاحتمال الذي ذكره البيهقي وهو أن يكون دخل لبعض رواته إسنادٌ في إسناد يشهد له ما ذكره الدارقطني في شأن محمد بن غالب، فإنه ذكر له نحو ما وقع له في هذا الحديث من إدخال إسناد حديثٍ في متن حديثٍ آخر2. ويشهد لهذا أيضاً أن البيهقي3 روى بإسناده عن محمد بن غالب تمتام حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي، وهو بالمتن الذي ساقه الحاكم. فهذا يؤيد أن محمد بن غالب دخل عليه متن حديث أبي هريرة رضي الله عنه في إسناد حديثه عن ابن مسعود رضي الله عنه. فمما سبق يتبين أن هذا المتن الذي ساقه الحاكم منكرٌ مرفوعاً. وقد سبق أن متنه ثابت عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفاً كما عند عبد الرزاق وغيره، والله أعلم. وقد جاء لحديث ابن مسعود رضي الله عنه شواهد منها: أولاً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: رواه ابن ماجه4، والبيهقي في الشعب5، كلاهما من طريق أبي معشر عن سعيد المقبري عنه به. ولفظ ابن ماجه: "الربا سبعون حوباً، أيسرها أن ينكح الرجل أُمّه".

وأبو معشر هو نجيح بن عبد الرحمن السِّندي المدني، ضعفه يحيى بن سعيد، وابن سعد، وأبو داود، والنسائي. وقال أحمد: حديثه عندي مضطرب لا يقيم الإسناد، ولكن أكتب حديثه أعتبر به. وقال ابن معين: كان أُمِّيّاً ليس بشيء. وقال أبو حاتم: صالح لين الحديث محله الصدق. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال ابن المديني: كان ضعيفاً ضعيفاً، وكان يحدث عن محمد بن قيس، وعن محمد بن كعب بأحاديث صالحة، وكان يحدث عن نافع، وعن المقبري بأحاديث منكرة1. وخلص فيه الحافظ ابن حجر إلى أنه "ضعيف، سنَّ واختلط"2. وحديثه هذا عن المقبري لم يتابعه عليه أحدٌ ممن يعتبر به، وهو شاهد لقول ابن المديني السابق فيه. فعلى هذا فإن هذا الإسناد ضعيف. وممن ضعفه البوصيري3. وقد توبع أبو معشر متابعة قاصرةً، إلا أن هذه المتابعة ضعيفة جداً، فقد رواه ابن أبي شيبة4 بإسناده عن عبد الله بن سعيد المقبري عن جده عنه به. فقال: "عن جده" بدلاً "عن أبيه". وعبد الله بن سعيد المقبري تركه أحمد، والفلاس، والدارقطني. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال النسائي: ليس بثقة5.

وقد جاء الحديث من وجهٍ آخر أيضاً. فقد رواه البخاري في التاريخ الكبير1، والعقيلي2، والبيهقي3 كلهم من طريق عبد الله بن زياد عن عكرمة بن عمار عن يحيى ابن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه به بنحوه مرفوعاً. وعبد الله بن زياد منكر الحديث كما قال البخاري. إلا أنه قد تابعه النضر بن محمد - وهو ثقة4 - كما عند ابن الجارود5 والبغوي6 بإسنادٍ صحيحٍ عنه. وتابعهما أيضاً عفيف بن سالم الموصلي - وهو صدوق7 - كما عند ابن عدي8 والبيهقي9. وخالفهم أحمد بن إسحاق الحضرمي، فقد رواه العقيلي10 بإسناده عنه عن عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه موقوفاً عليه. وأحمد بن إسحاق الحضرمي ثقة11.

ورواه عبد الرزاق1 موقوفاً أيضاً على عبد الله بن سلام رضي الله عنه وذلك من طريق عطاء الخراساني عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: "الربا اثنان وسبعون حوباً، أصغرها حوباً كمن أتى أُمَّه في الإسلام، ودرهم من الربا أشدُّ من بضعٍ وثلاثين زنية"2. وعطاء الخراساني وإن لم يسمع من عبد الله بن سلام رضي الله عنه3 إلا أنه يؤيد أن الحديث من قول عبد الله بن سلام رضي الله عنه من هذا الطريق، وهذا الذي رجحه الإمام البخاري4. ولعلّ الاضطراب الواقع في حديث أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه ناشئ من اضطراب عكرمة بن عمار في حديثه عن يحيى بن أبي كثير، فإنه كان يضطرب في حديثه5. وقد ذكر أبو حاتم أن الأوزاعي روى هذا الحديث عن يحيى بن أبي كثير عن ابن عباسٍ قوله. قال أبو حاتم: هذا أشبه6. ويحيى لم يسمع أحداً من الصحابة7 فهو منقطع. فمما سبق يتبين أن هذا الحديث ضعيف أيضاً. والله أعلم.

ثانياً: حديث البراء بن عازب رضي الله عنه مرفوعاً: رواه الطبراني في الأوسط1 من طريق معاوية بن هشام عن عمر بن راشد عن يحيى بن أبي كثير عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عنه به. ولفظه: "الربا اثنان وسبعون باباً، أدناها مثل إتيان الرجل أُمَّه، وأربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه". قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن يحيى بن أبي كثير إلا عمر بن راشد، ولا رواه عن عمر بن راشد إلا معاوية بن هشام، ولا يروى عن البراء إلا بهذا الإسناد". وقد تابع معاوية بن هشام عبد الرزاق2، إلا أنه رواه عن عمر بن راشد عن يحيى بن أبي كثير عن رجلٍ من الأنصار عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. ورواه محمد بن يوسف الفريابي عن عمر بن راشد عن يحيى بن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن البراء به بمثله مرفوعاً. رواه ابن أبي حاتم3، ثم نقل عن أبيه أنه قال: "هو مرسل، ولم يدرك يحيى ولا إسحاق البراء بن عازب رضي الله عنه". وعلى قول أبي حاتم يكون هذا الإسناد معضلاً. ويظهر لي أن هذا الاضطراب في الإسناد هو من قبل عمر بن راشد، فإنه كان ضعيفاً، ولا سيما في حديثه عن يحيى بن أبي كثير. فقد قال فيه أحمد: حدث عن يحيى ابن أبي كثير بأحاديث مناكير. وقال البخاري: حديثه عن يحيى مضطرب4. فمما سبق يتبين أن هذا الإسناد منكر. والله أعلم.

ثالثاً: حديث أنس رضي الله عنه: رواه ابن الجوزي1 بإسناده عن طلحة بن زيد عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عنه به. ولفظه: "الربا سبعون باباً، أهون بابٍ منه الذي يأتي أمَّه في الإسلام وهو يعرفها، وإن من أربى الربا خرق المرء عرض أخيه، وخرق عرض أخيه أن يقول فيه ما يكره من مساويه، والبهتان أن يقول فيه ما ليس فيه". وطلحة بن زيد هو أبو مسكين القرشي. اتهمه بالوضع ابن المديني، وأحمد، وأبو داود. وقال البخاري والنسائي: منكر الحديث. وقال النسائي أيضاً: "ثنا أبو فروة - محمد بن يزيد - عن أبيه عن طلحة عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير بأحاديث مناكير"2. فعلى هذا فلا يعتبر بهذا الإسناد لشدة ضعفه. والله أعلم. رابعاً: حديث عائشة - رضي الله عنها -: رواه أبو نعيم3 ومن طريقه ابن الجوزي4 من طريق سوار بن مصعب عن ليث وخلف بن حوشب عن مجاهدٍ عنها به. وسوار بن مصعب هو الهمداني أبو عبد الله الكوفي. قال فيه ابن معين: ليس بشيء. وقال أحمد وأبو حاتم: متروك الحديث. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أبو داود: ليس بثقة. وقال النسائي وغيره: متروك5. فعلى هذا فلا يعتبر بهذا الإسناد أيضاً لشدة ضعفه. والله أعلم.

هذه هي الشواهد التي وقفت عليها في هذا الحديث. وتبين لي أن الحديث لا يصح مرفوعاً من جهة الإسناد، وإنما صحّ موقوفاً عن ابن مسعود رضي الله عنه. والله أعلم. وقد أعلّه ابن الجوزي أيضاً من جهة نكارة المتن، فقال: "واعلم أن مما يرد صحة هذه الأحاديث أن المعاصي إنما يعلم مقاديرها بتأثيراتها، والزنا يفسد الأنساب، ويصرف الميراث إلى غير مستحقيه، ويؤثر من القبائح ما لا يؤثر أكل لقمةٍ لا تتعدى ارتكاب نهيٍ. فلا وجه لصحة هذا"1. 139 - (7) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتيت ليلة أسري بي على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيّات تُرى من خارج بطونهم. فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا". رواه ابن ماجه2 واللفظ له، وأحمد3، وأبو القاسم الأصبهاني4، كلهم من طرقٍ عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي الصلت عنه به. وعلي بن زيد بن جدعان تقدم5 أنه ضعيف. وأبو الصلت قال فيه الذهبي: لا يعرف6. وقال ابن حجر: مجهول7.

فعلى هذا فإن هذا الإسناد ضعيف، وأيضاً فإن حديث الإسراء الطويل خرجه البخاري، ومسلم، وغيرهما عن أنس رضي الله عنه وغيره. ولم يذكر فيه ما جاء في هذا الحديث. فمما سبق يتبين أن هذا الحديث ضعيف. وممن ضعفه البوصيري1. والله أعلم. ومما ورد في هذا الفصل أيضاً: (8) حديث أبي جحيفة رضي الله عنه، وقد تقدم2.

_ 1 مصباح الزجاجة (2/197) . 2 تقدم برقم (28) .

الفصل الثاني: ما ورد في الربا في الذهب والفضة والبر والشعير والملح والتمر

الفصل الثاني: ما ورد في الربا في الذهب والفضة والبر والشعير والملح والتمر 140 - (1) عن مالك بن أوسٍ: أنه التمس صرفاً بمائة دينار، فدعاني طلحة بن عبيد الله فتراوضنا، حتى اصطرف منِّي، فأخذ الذهب يقلِّبها في يده، ثم قال: حتى يأتي خازني من الغابة، وعمر يسمع ذلك، فقال: والله لا تفارقه حتى تأخذ منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالورِق1 رباً إلاّ هاء وهاء، والبُرُّ بالبرِّ رباً إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير رباً إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر رباً إلا هاء وهاء". أخرجه مالك2 عن ابن شهاب به وهذا لفظه، ومن طريقه أخرجه البخاري3، وأبو داود4، والشافعي5، وعبد الرزاق6، وأحمد7، وابن حبان8، والبغوي9.

وأخرجه أيضاً البخاري1، ومسلم2، والترمذي3، والنسائي4، وابن ماجه5، والشافعي6، وعبد الرزاق7، والحميدي8، وابن أبي شيبة9، وأحمد10، والدارمي11، والبزار12، وابن الجارود13، وابن حبان14، والبيهقي15، كلهم من طرقٍ عن ابن شهاب الزهري به. وقال الحميدي: قال سفيان: وهذا أصحُّ حديثٍ روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا - يعني في الصرف -. وقال الترمذي: حسن صحيح. قوله: "التمس صرفاً" الصَّرف: هو بيع الذهب بالفضة، والفضة بالذهب. وفي تسميته صرفاً قولان:

أحدهما: لصرفه عن مقتضى البياعات من عدم جواز التفرق قبل القبض والبيع نساءً. والثاني: من صريفهما وهو تصريفهما في الميزان، فإن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة سمي مراطلةً1. قوله: "فتراوضنا" أي تجاذبنا في البيع والشراء، وهو ما يجري بين المتبايعين من الزيادة والنقصان، كأن كل واحدٍ منهما يروض صاحبه من رياضة الدابة، وقيل: هي المواصفة بالسلعة، وهو أن تصفها وتمدحها عنده2. قوله: "فأخذ الذهب يقلبها" قال الحافظ ابن حجر: أي الذهبة، والذهب يذكر ويؤنث، فيقال ذهب وذهبة، أو يحمل على أنه ضمن الذهب معنى العدد المذكور وهو المائة فأنثه لذلك3. قوله: "حتى يأتي خازني" جاء في رواية مسلم "ثم ائتنا إذا جاء خادمنا". قوله: "الغابة" هي موضع قرب المدينة من ناحية الشام فيه أموال لأهل المدينة4. قوله: "إلا هاء وهاء" قال البغوي: أراد يداً بيد، وقال: معناه: هاك وهات، أي: خذ وأعطِ5. وهذا الحديث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء أيضاً من غير طريق مالك بن أوس الحدثاني، وبذلك يعلم أن حديث عمر بن الخطاب لا يمكن

تعليله بأنه لا يعرف عن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الكلام مرفوعاً من غير حديث مالك بن أوس عن عمر عنه. وقد ذكر ابن جرير الطبري أن قوماً ربما ضعفوا الحديث بسبب هذا1، ولكن لم يجب ابن جرير عن هذا التعليل، ونحن نجيب عنه بأمرين: الأول: أن الحديث على احتمال أنه فَرْد، فهو صحيح الإسناد احتج به مالك، وأصحاب الصحيح. الثاني: أن الحديث لم ينفرد به مالك بن أوس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بل تابعه غيره عن عمر رضي الله عنه، ووقفت من ذلك على طريقين أحدهما صحيح، والآخر مُعَل، وهما: الطريق الثانية2: ضمرة بن سعيد المازني عن أبي سعيد الخدري عنه به: رواه الحميدي3 قال ثنا سفيان به. قال سفيان بن عيينة: إني لا أحفظ شيئاً فيه - أي من لفظه - إلا أنه نحو مما يحدث الناس عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في "الذهب بالذهب مثلاً بمثلٍ، والورق بالورق مثلاً بمثل". وهذا إسناد صحيح متصل. وضمرة بن سعيد المازني هو ابن أبي حَنَّة الأنصاري المدني، ثقة4. وقد سمع أبو سعيد الخدري هذا الحديث أيضاً من النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة كما سيأتي بيان حديثه - إن شاء الله -.

الطريق الثالثة: عبد الله بن حنين عن عبد الله بن عمر عن أبيه به: رواه الطحاوي1 بإسناده عن ابن لهيعة عن أبي النضر به. ولفظه: أن رجلاً من أهل العراق قال لعبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: أن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال وهو علينا أمير: "من أُعطى بالدرهم مائة درهم فليأخذها"، فقال عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب، وزناً بوزن، مثلاً بمثل، فمن زاد فهو ربا". وقال ابن عمر: إن كنت في شك فسل أبا سعيد الخدري عن ذلك. فسأله فأخبره أنه سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ". وهذا الإسناد فيه علتان: الأولى: ابن لهيعة، وقد سبق2 أنه ضعيف. الثانية: أن المحفوظ عن عبد الله بن عمر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه النهي عن الصرف - موقوفاً -، وذلك من طرقٍ كثيرة ليس فيها الرفع3. وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - لم يكن بلغه النهي عن الصرف عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان يفتي بإباحته كمذهب ابن عباس حتى حدثه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الصرف إلا مثلاً بمثل، فرجع عبد الله بن عمر

عن قوله، ولو كان بلغه عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك لما ذهب إلى إباحته. وقد روى البيهقي1 بإسنادٍ عن نافع قال: "كان ابن عمر يحدث عن عمر في الصرف، ولم يسمع فيه من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً". وقوله: يحدث عن عمر: أي "موقوفاً" كما تقدّم. وعلى هذا فالمعروف في هذه الطريق الوقف، وأما الرفع فمنكر. والله أعلم. 141 - (2) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفُّوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائباً بناجز". ورد هذا الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه من طرق: الطريق الأولى: نافع عنه به. رواه البخاري2، ومسلم3 واللفظ المذكور لهما، والترمذي4، والنسائي5، ومالك6، والشافعي7، وعبد الرزاق8، وابن أبي

شيبة1، وأحمد2، وأبو يعلى3، وابن الجارود4، وابن حبان5، كلهم من طرقٍ عن نافع به. قال الترمذي: حسن صحيح. ورواه الطحاوي6 بإسناده عن ابن أبي روّاد7 عن نافعٍ عن ابن عمر عن أبي سعيد ... " الحديث بنحوه. فذكر عبد الله بن عمر بين نافع وأبي سعيد. وقد تابع ابنَ أبي روّاد خصيف بن عبد الرحمن كما عند الطبراني8. وخالفهما مالك9، وعبيد الله بن عمر10، وأيوب11، وابن عون12، ويحيى الأنصاري13، وغيرهم14، كلهم يروونه عن نافع عن أبي سعيد به، وهو المعروف.

ورواية ابن أبي روّاد وخصيف منكرة، وقد كان ابن أبي روّاد يحدث عن نافعٍ بالمناكير1. ورواية خصيف من طريق عتاب بن بشير الجزري عنه. وقد قال أحمد في عتاب هذا: أحاديث عتاب عن خصيف منكرة. وقال ابن عدي: روى عن خصيف نسخة فيها أحاديث أنكرتها2. وقد كان نافع مع ابن عمر - رضي الله عنهما - حين حدثه أبو سعيد رضي الله عنه بهذا الحديث، فلعله اشتبه على من رواه عن نافع عن ابن عمر عن أبي سعيد فظنّ أن نافعاً يرويه عن ابن عمر - والله أعلم -. وأمّا سالم بن عبد الله بن عمر فلم يسمع من أبي سعيد هذا الحديث، وإنما سمعه من أبيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم كما رواه البخاري3، وقد تفرّد به. وروى الطحاوي4 هذا الحديث بإسنادٍ صحيح عن نافع قال: مشى عبد الله بن عمر إلى رافع بن خديج في حديث بلغه عنه في شأن الصرف ... " الحديث بنحو حديث نافع عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وهو مقلوب. فإن الحديث عن أبي سعيد الخدري كما في الطرق الأخرى عن نافع وابن عمر، وليس عن رافع بن خديج رضي الله عنه، والله أعلم.

وقوله: "لا تشفوا" أي لا تفضِّلوا، والشف أيضاً من النقصان، فهو من الأضداد1، وقد جاء في روايةٍ لأحمد2: "لا تفضِّلوا". وقوله: "بناجز" أي حاضراً، يقال نجز ينجز نجزاً إذا حصل وحضر، وأنجز وعده إذا أحضره3. الطريق الثانية: أبو سلمة بن عبد الرحمن عنه به: أخرجه البخاري4، ومسلم5، والنسائي6، وابن ماجه7، والطيالسي8، وابن أبي شيبة9، وأحمد10، والطحاوي11، والبيهقي12، كلهم من طرقٍ به. وفي رواية لأحمد13 جاء ذكر محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان مقروناً بأبي سلمة.

ولفظ البخاري: عن أبي سعيد قال: كنا نرزق تمر الجمع - وهو الخِلط من التمر -، وكنّا نبيع صاعين بصاعٍ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا صاعين بصاعٍ، ولا درهمين بدرهم". وتمر الجَمْع: هو كلُّ لونٍ من النخيل لا يعرف اسمه فهو جمع، وقيل: الجَمْع تمر مختلط من أنواعٍ متفرِّقة، وليس مرغوباً فيه، وما يخلط إلا لرداءته1. الطريق الثالثة: يحيى بن أبي كثير عن عقبة بن عبد الغفار عنه به. رواه البخاري2، ومسلم3، والنسائي4، وأحمد5، كلهم من طرقٍ به. ولفظ البخاري: عن أبي سعيد قال: جاء بلالٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمرٍ برني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أين هذا؟ قال بلال: كان عندي تمرٌ رديء، فبعت منه صاعين بصاع لنطعم النبي صلى الله عليه وسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: "أوَّه، أوَّه، عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيعٍ آخر ثم اشتر به". وقوله "أَوَّه" هي كلمة يقولها الرجل عند الشكاية والتوجُّع6. الطريق الرابعة: أبو نضرة عنه به: عن أبي نضرة قال: "سألت ابن عباسٍ عن الصرف، فقال: أَيداً بيدٍ؟ قلت: نعم. قال: فلا بأس به. فأخبرت أبا سعيدٍ،

فقلت: إني سألت ابن عباسٍ عن الصرف، فقال: أيداً بيد؟ قلت: نعم. قال فلا بأس به. قال: أَوَ قال ذلك! إنا سنكتب إليه فلا يفتيكموه. قال: فوالله لقد جاء بعض فتيان رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمرٍ فأنكره، فقال: كأنّ هذا ليس من تمر أرضنا؟ قال: كان في تمر أرضنا - أو في تمرنا - العام بعض الشيء، فأخذت هذا وزدت بعض الزيادة. فقال: أَضعفت، أَربيت، لا تقربنّ هذا، إذا رابك من تمرك شيءٌ فبعه ثم اشتر الذي تريد من التمر". رواه مسلم1 وهذا لفظه، وأحمد2، وأبو يعلى3، والطحاوي4 - مختصراً -. كلهم من طرقٍ به. وفي لفظ لمسلم: "هذا الربا فردوه، ثم بيعوا تمرنا واشتروا لنا من هذه". ورواه مسلم والبيهقي5 عن أبي نضرة قال: "سألت ابن عمر وابن عباس عن الصرف فلم يريا به بأساً ... " الحديث بنحوه. وفي آخره يقول أبو نضرة: فأتيت ابن عمر بعدُ فنهاني، ولم آت ابن عباسٍ، قال: فحدَّثني أبو الصهباء أنه سأل ابن عباس عنه بمكة فكرهه".

الطريق الخامسة: سعيد بن المسيب عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة به. رواه مالك1 عن عبد المجيد بن سهيل عن سعيدٍ به، ومن طريق مالك أخرجه البخاري2، ومسلم3، والنسائي4. ولفظ مالك: عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر، فجاءه بتمرٍ جنيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكلُّ تمر خيبر هكذا"؟ قال: لا، والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً". وزاد البخاري ومسلم: "وكذلك الميزان". والجنيب، نوع جيِّد من أنواع التمر5. ومن غير طريق مالك أخرجه أيضاً البخاري6، ومسلم7، والدارمي8، والدارقطني9، والبيهقي10، كلهم من طرقٍ عن

عبد المجيد بن سهيل به. ولفظهم نحو لفظ مالك، وقد وقع عندهم تسمية الرجل الذي استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على خيبر بأنه أخو بني عدي الأنصاري، وعند الدارقطني: "سواد بن غزية أخو بني عدي الأنصاري". وقيل إن الرجل هو مالك بن صعصعة، وذلك لما رواه الخطيب بإسناده عن مالك بن صعصعة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعثه إلى تمر خيبر يستوفيه، فأتاه مالك بتمرٍ طيب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هذا التمر يا مالك"؟ قال: استطبته لك، الصاع بالصاعين، قال: "لا تعودنَّ لذلك، الصاع بالصاع، والدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم" 1. وفي إسناد الخطيب فليح بن سليمان، وقد تقدم الكلام فيه وأنه: صدوق كثير الخطأ2. قال الحافظ ابن حجر: لعلها قصة أخرى3. وروى الحديث من هذه الطريق أيضاً، النسائي4، وأبو داود الطيالسي5، وأحمد6، وأبو يعلى7، والطحاوي8، وابن حبان9، كلهم من طرقٍ عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن

أبي سعيد الخدري وحده. ولفظ أحمد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتي بتمرٍ ريَّان وكان تمر نبي الله صلى الله عليه وسلم تمراً بعلاً فيه يبس، فقال: أنّى لكم هذا التمر؟ فقالوا هذا تمرٌ ابتعنا صاعاً بصاعين من تمرنا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يصلح ذلك، ولكن بع تمرك ثم ابتع حاجتك". والبَعْل: هو ما شرب من النخيل بعروقه من الأرض من غير سقي سماءٍ ولا غيرها1. ورواه الدارقطني2 أيضاً بإسناده عن محمد بن إسماعيل الجعفري عن عبد الله بن سلمة3 بن أسلم عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن أبي سعيد وأبي هريرة به. ولم يذكر لفظه. وهذا الإسناد لا يعتبر به؛ فإن محمد بن إسماعيل الجعفري قال فيه أبو حاتم: منكر الحديث يتكلمون فيه. وقال أبو نعيم: متروك4. وأما عبد الله بن سلمة بن أسلم فقد ضعفه الدارقطني وغيره، وقال أبو نعيم: متروك5. وأما سلمة بن أسلم فلم أعرفه. والله أعلم. ومما تقدم من الروايات تبين أن جميعها تلتقي في سعيد بن المسيب، وذلك من رواية عبد المجيد بن سهيل وقتادة عنه.

ورواه البخاري تعليقاً1 عن الدراوردي عن عبد المجيد بن سهيل عن أبي صالح عن أبي سعيد وأبي هريرة به. ووصله الدارقطني2 وابن عبد البر3. قال ابن عبد البر: لا نعرفه بهذا الإسناد هكذا إلا من حديث الدراوردي4. والدراوردي هو عبد العزيز بن محمد، وَثَّقه مالك وابن معين، وقال ابن سعد: ثقة كثير الحديث يغلط. وقال أحمد: كان معروفاً بالطلب وإذا حدث من كتابه فهو صحيح، وإذا حدّث من كتب الناس وهم. وكان يقرأ من كتبهم فيخطئ، وربما قلب حديث عبد الله بن عمر يرويها عن عبيد الله بن عمر. وقال أبو زرعة: سيء الحفظ، فربما حدث من حفظه الشيء فيخطئ. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال ابن حبان: كان يخطئ5. وخلص فيه الحافظ ابن حجر إلى أنه صدوق كان يحدث من كتب غيره فيخطئ6. ويظهر لي أنه أخطأ في هذا الحديث، وذلك أن غيره من الرواة ومنهم مالك رووه عن عبد المجيد بن سهيل عن سعيد بن

المسيب، فمخالفة الدراوردي تعتبر شذوذاً لما سبق من حاله، فلعله انقلب عليه سعيد بن المسيب إلى أبي صالح كما ينقلب عليه عبد الله بن عمر إلى عبيد الله بن عمر، وعبد المجيد بن سهيل لم يكن بالواسع في الرواية حتى يقال حدث عن كليهما1. والله أعلم. الطريق السادسة: أبو المتوكل الناجي عنه به: رواه مسلم2، والنسائي3، والطيالسي4، وأحمد5، وعبد بن حميد6، وأبو يعلى7، وابن الجارود8، كلهم من هذه الطريق. ولفظ مسلم: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيدٍ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء". وأبو المتوكل هو علي بن داود، ويقال: ابن دؤاد البصري9.

الطريق السابعة: سهيل بن أبي صالح عن أبيه عنه به: رواه مسلم1، والطيالسي2، وأحمد3، والطحاوي4، كلهم من هذه الطريق. ولفظ مسلم: "لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، إلا وزناً بوزن مثلاً بمثل سواءً بسواءٍ". وقد تابع سهيل بن أبي صالح على هذا الحديث عبد العزيز بن رُفيع. رواه الطبراني5. الطريق الثامنة: عمرو بن دينار عن أبي صالح عنه به6: رواه البخاري7 بإسناده عن ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار به موقوفاً، ولفظه: عن أبي سعيد قال: "الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم" وفيه محاورة أبي سعيد لابن عباس، واحتجاج ابن عباس بحديث أسامة: "لا ربا إلا في النسيئة". ورواه مسلم8 عن محمد بن حاتم بن ميمون ومحمد بن عبَّاد المكي، وابن أبي عمر كلهم عن سفيان عن عمرو بن دينار به

موقوفاً، ورواه ابن ماجه1 عن محمد بن الصبّاح الجَرْجرائي عن سفيان به موقوفاً أيضاً، ورواه أحمد2 عن سفيان به موقوفاً أيضاً. بينما رواه الحميدي3 عن سفيان به مرفوعاً، ولفظه: "الدرهم بالدرهم، والدينار بالدينار، مثلاً بمثل، ليس بينهما فضل"، وذكر محاورة أبي سعيد لابن عباس في ذلك. وتابع الحميدي على رفع الحديث عبد الرزاق4 ومحمد بن مسلم الطائفي5، ورواه أيضاً عبد الرزاق6 عن معمر عن عمرو بن دينار به مرفوعاً. وهناك من الرواة عن عمرو بن دينار من روى الحديث من غير ذكرٍ لأبي سعيد الخدري فيه7، وإنما ذكر قول ابن عباس

عن أسامة مرفوعاً: "لا ربا إلا في النسيئة". وهذا يؤكد أن الحديث وقع فيه اختصار من بعض الرواة، فإنّ أصل الحديث أن أبا صالح السَّمَّان سأل أبا سعيد الخدري عن الصرف، فنهاه عنه وقال: "الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم "، ثم ذكر أبو صالح قول ابن عباس، فقال له أبو سعيد إنه لقيه فاحتج ابن عباس بحديث أسامة: "لا ربا إلا في النسيئة"، فاحتج عليه أبو سعيد بما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، فبعض الرواة ذكر الحديث تاماً، ومنهم من ذكر الجزء الموقوف منه على أبي سعيد وحديث أسامة، ومنهم من اقتصر على حديث أسامة. فعلى هذا لا تعارض بين هذه الروايات ولا اضطراب. والله أعلم. الطريق التاسعة: عن أبي الجوزاء عن ابن عباس عن أبي سعيدٍ به: رواه ابن ماجه1، وأحمد2، والطبراني3، وابن شاهين4، والبيهقي5، وابن عبد البر6. كلهم من طرقٍ عن أبي الجوزاء به. ولفظ ابن ماجه: عن أبي الجوزاء قال: سمعته يأمر بالصرف - يعني ابن عباس - ويحدث ذلك عنه، ثم بلغني أنه رجع عن ذلك، فلقيته بمكة فقلت: إنه بلغني أنك رجعت؟ قال: نعم،

إنما كان ذلك رأياً مني، وهذا أبو سعيد يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنه نهى عن الصرف". وأبو الجوزاء اسمه أوس بن عبد الله الرَّبَعي البصري، وهو ثقة1. وإسناد هذا الحديث صحيح، وفيه التصريح برجوع ابن عباس عن قوله بإباحة ربا الفضل. الطريق العاشرة: عبد الرحمن بن أبي نُعم عن أبي سعيد به: رواه أبو يعلى2، والطبراني في الكبير3، وابن عبد البر4. كلهم من طرقٍ عن مغيرة بن مِقسم به، ولفظ أبي يعلى: "جاء أبو سعيد الخدري إلى رجلٍ فقال له: أقرأت ما لم نقرأ؟ وصحبت ما لم نصحب؟ فقال أبو سعيد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الذهب بالذهب مثلاً بمثل، فما زاد فهو ربا، والفضة بالفضة مثلاً بمثل، فما زاد فهو ربا". قال سمعته بعد يقول: اللهم إني أتوب إليك مما كنت أفتي به الناس في الصرف. وعند الطبراني أن الرجل الذي كلّمه أبو سعيد هو ابن عباس رضي الله عنه. وإسناد هذه الطريق حسن، فإن عبد الرحمن بن أبي نُعم ضعفه ابن معين، ووثقه ابن سعد، والنسائي، وذكره ابن حبان في الثقات5، وجعله ابن حجر في مرتبة: صدوق6.

والمغيرة بن مقسم ثقة، ولكنه يدلس1، ولكن لم يذكر أنه يدلّس إلا عن إبراهيم النخعي2، ومنهم من ينفي ذلك عنه. الطريق الحادية عشرة: مجاهد عنه به: رواه أحمد3، والطبراني4، والخطيب البغدادي5، كلهم من طرقٍ عن خُصيف به، ولفظ أحمد: عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّتين على المنبر يقول: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة وزناً بوزنٍ". وخُصيف هو ابن عبد الرحمن الجزري، ضعَّفه يحيى القطان، وأحمد، والنسائي، وابن خزيمة، ووثقه ابن معين والفسوي6. وجعله ابن حجر في مرتبة: صدوق سيء الحفظ خلط بآخرة7. وفي الإسناد علة أخرى وهي الانقطاع، ذلك أن مجاهداً لم يسمع من أبي سعيد رضي الله عنه8. فعلى هذا فإن هذه الطريق ضعيفة لما سبق من حال خصيف بن عبد الرحمن، وأيضاً لانقطاعه، إلا أنها مع ضعفها فهي صالحة للاعتبار. والله أعلم.

الطريق الثانية عشرة: عطاء بن يسار عنه به: رواه مالك1 مرسلاً ووصله الطحاوي2، ورواه ابن أبي شيبة3، وأبو يعلى4. كلهم من هذا الطريق. وفي رواية أبي يعلى جاء ذكر أبي سلمة بن عبد الرحمن مقروناً بعطاء بن يسار. ولفظ مالك: "التمر بالتمر مثلاً بمثل" فقيل له: إن عاملك على خيبر يأخذ الصاع بالصاعين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادعوه لي" فدُعي له، فقال صلى الله عليه وسلم: "أتأخذ الصاع بالصاعين"؟ فقال: يا رسول الله، لا يبيعوني الجنيب بالجمع صاعاً بصاع، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً". الطريق الثالثة عشرة: عبد الملك بن ميسرة عن أبي صالح عنه به: رواه الطبراني5 بإسناده عن أبي خالد الدَّالاني عن عبد الملك به، ولفظه: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلاً بمثل، فمن زاد أو ازداد فقد أربى" فقيل: يا رسول الله، فإن صاحب تمرك يشتري صاعاً بصاعين، فأرسل إليه فقال:

يا رسول الله، تمري كذا وكذا، فلا يأخذوه إلا أن أزيدهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تفعل". وفي إسناد الطبراني أبو خالد الدَّالاني. قال فيه ابن معين والنسائي: ليس به بأس. وقال أحمد: لا بأس به. وقال أبو حاتم: صدوق ثقة. وقال ابن سعد: منكر الحديث، وقال ابن حبان: كان كثير الخطأ فاحش الوهم1. ولذا جعله ابن حجر في مرتبة: صدوق يخطئ كثيراً2. وهذه الطريق مع ضعفها فهي صالحة للاعتبار. الطريق الرابعة عشرة: عطية العوفي عنه به: رواه محمد بن الحسن3، وعلي بن الجعد4، والطبراني5، كلهم من هذا الطريق، ولفظ محمد بن الحسن نحو لفظ أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيدٍ رضي الله عنه، وقد سبق في الطريق السادسة من هذا الحديث. وعطية العوفي تقدم الكلام فيه6، وأنه صدوق يخطئ كثيراً. وهذه الطريق مع ضعفها فهي صالحة للاعتبار.

الطريق الخامسة عشرة: حيان بن عبيد الله عن أبي مجلز عن أبي سعيد رضي الله عنه: رواه محمد بن نصر المروزي1، وابن عدي2، والحاكم3، والبيهقي4، وابن حزم5. كلهم من هذا الطريق. ولفظ ابن عدي: عن حيّان بن عبيد الله أبو زهير قال: سئل أبو مجلز لاحق بن حميد عن الصرف وأنا أشاهد، فقال: "كان ابن عباس يقول زماناً من عمره لا بأس بما كان منه يداً بيدٍ، وكان يقول: إنما الربا في النسيئة، حتى لقيه أبو سعيد الخدري فقال له: يا ابن عباس، ألا تتقي الله حتى متى تؤكِّل الناس الربا، أما بلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يومٍ وهو عند زوجته أم سلمة: "إني أشتهي تمر عجوةٍ"، وأنها بعثت بصاعين من تمرٍ إلى رجلٍ من الأنصار فأتاها بصاعٍ واحدٍ بدل الصاعين، فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلمّا رآه أعجبه، تناول تمرةً ثم أمسك، فقال: من أين لكم هذا"؟ قالت: بعثنا من تمرنا بصاعين إلى منزل فلان فأتينا بدل الصاعين بهذا الصاع الواحد، فألقى التمر من يده ثم قال: "ردّوه فلا حاجة لي فيه، التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والذهب بالذهب، والفضة بالفضة، عين بعين، مثل بمثلٍ،

فمن زاد فهو رباً" - ثم قال - "كل ما يكال أو يوزن فكذلك أيضاً"، قال: فقال ابن عباس: جزاك الله يا أبا سعيد عني الجنة، فإنك ذكرتني أمراً كنت نسيته، أستغفر الله وأتوب إليه. فكان ينهى عنه بعد ذلك أشد النهي". قال ابن عدي: وهذا الحديث من حديث أبي مجلز عن ابن عباس تفرَّد به حيّان. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة. وتعقّبه الذهبي فقال: حيَّان فيه ضعف وليس بالحجة1. وحيَّان بن عبيد الله قال فيه البخاري: ذكر الصلت منه الاختلاط. وقال أبو حاتم: صدوق. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال البيهقي: تكلموا فيه. وقال ابن حزم: مجهول2. وقال البزار: مشهور ليس به بأس3. وتقدم قول الذهبي فيه: فيه ضعف ليس بالحجة. وأما قول ابن حزم: "مجهول" فقد قال ابن حجر: "لم يصب"4، وذلك لما تقدم من كلام الأئمة فيه، فليس بمجهول.

ومما يؤيد أن حيّان لم يضبط هذا الحديث أنه لم يتابع عليه كما قال ابن عدي، وأيضاً فقد روى نحو هذا الحديث عن عبد الله بن بريدة بن حصيب عن أبيه1، ولم يتابع عليه أيضاً2. ولعلّ هذا من اختلاطه الذي حكاه عنه الصَّلت كما سبق. فعلى هذا فإن هذا الإسناد ضعيف، وأما أصل الحديث فهو محفوظ من طرقٍ أخرى سبق ذكرها. وأعله ابن حزم بالانقطاع بين أبي مجلز ومن فوقه، حيث قال: "لم يسمعه لا من أبي سعيد ولا من ابن عباس"3. ولم يذكر دليلاً على ذلك. وأعله أيضاً بأن ما ذكر فيه من رجوع ابن عباس مخالف لما حكاه عنه سعيد بن جبير في أنه لم يرجع عن قوله في الصرف حتى مات4. والجواب عن هذا أن رجوع ابن عباس رضي الله عنه ثابت عن غير واحدٍ، وقد سبق قول أبي الصهباء أن ابن عباس كان يكره الصرف بعد أن حدثه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه إلا مثلاً بمثل. وسبق أيضاً ذكر خبر أبي الجوزاء عنه - وهو خبر صحيح كما سبق - وفيه التصريح برجوع ابن عباس رضي الله عنه.

وروى أيضاً إسحاق بن راهويه بإسناده عن ابن أبي مليكة أنه قال: "سمعت ابن عباس قبل موته بثلاثٍ يقول: أستغفر الله وأتوب إليه من الصرف"1. ورجاله ثقات ما عدا سالم بن أبي حفصة وهو صدوق2. الطريق السادسة عشرة: بكر بن عبد الله المزني عنه به: رواه الطبراني3 بإسناده عن سالم بن عبد الله أبي غياث العتكي به. وذكر محاورة أبي سعيد لابن عباس رضي الله عنه في الصَّرف، واحتجاج أبي سعيد بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب وزناً بوزن، مثلاً بمثل، تبره وعينه، فمن زاد أو استزاد فقد أربى ... ". وفي آخره ذكر رجوع ابن عباس حيث قال: "إني أستغفر الله وأتوب إليه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الذهب بالذهب وزناً بوزن ... " الحديث. وفي إسناد الطبراني سالم بن عبد الله أبو غياث العتكي البصري، قال عنه أحمد: لا شيء. وقال مرّةً: ضعيف4. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما أخطأ5.

فعلى هذا فإن هذه الطريق ضعيفة، لضعف سالم أبو غياث العتكي، إلا أن الجزء المرفوع من الحديث له من المتابعات والشواهد ما يؤيده، وقد سبقت. والله أعلم. هذه هي الطرق التي وقفت عليها في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، والخلاصة فيه أنه حديث صحيح مشهور عنه، ولا يقدح فيه الضعف في بعض الطرق. والله أعلم. 142 - (3) عن بلال بن رباح رضي الله عنه قال: كان عندي تمرٌ فبعته في السوق بأجود منه بنصف كيله، فقدمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما رأيت اليوم تمراً أجود منه، من أين هذا يا بلال"؟ فحدثته بما صنعت، فقال: "انطلق فردّه على صاحبه وخذ تمرك بعه بحنطة أو شعير ثم اشتر به من هذا التمر"، ففعلت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التمر بالتمر مثلاً بمثل، والحنطة بالحنطة مثلاً بمثل، والشعير بالشعير، مثلاً بمثل، والملح بالملح مثلاً بمثل، والذهب بالذهب مثلاً بمثل، والفضة بالفضة وزناً بوزن، فما كان من فضلٍ فهو ربا"1. جاء هذا الحديث عن بلال رضي الله عنه من طرق:

الطريق الأولى: سعيد بن المسيب عنه به: رواه إسحاق بن راهويه1، والبزار2 باللفظ المذكور، وأبو يعلى3، والشاشي4، والطبراني5. كلهم من طرقٍ عن جرير بن عبد الحميد عن منصور بن المعتمر عن أبي حمزة به. وفي هذا الإسناد أبو حمزة وهو ميمون القصَّاب. قال فيه ابن معين: ليس بشيء. وقال أحمد: متروك الحديث. وقال البخاري: ضعيف ذاهب الحديث. وقال أبو حاتم: ليس بقوي، يكتب حديثه. وقال الدارقطني: ضعيف جداً6. وجعله ابن حجر في مرتبة: ضعيف7. ويظهر لي حسب ما تقدم من أقوال أئمة الجرح والتعديل أن أكثر الأئمة على أن حديثه في مرتبة الضعيف ضعفاً شديداً، فلا يعتبر به. والله أعلم. وسعيد بن المسيب لم يسمع من بلال، فهو منقطع8. ومما يبيّن ضعف أبي حمزة القصَّاب، أنه قد اضطرب في هذا الحديث، فرواه مرَّة عن سعيد بن المسيب عن بلال، ورواه مرَّة

عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب عن بلال1، فذكر عمر بن الخطاب بين سعيد وبلال. قال الدارقطني: أبو حمزة مضطرب الحديث، والاضطراب في الإسناد من قبله2. فعلى هذا فإن هذه الطريق لا يعتبر بها لحال أبي حمزة القصّاب. والله أعلم. والمحفوظ في هذه الطريق هو عن سعيد بن المسيب قال: "كان عند بلال تمر فتغيَّر ... "3 الحديث مرسلاً. الطريق الثانية: مسروق عنه به: رواه الدارمي4، والترمذي في العلل الكبير5، والبزار6، وأبو يعلى7، والطحاوي8، والطبراني9، وابن عبد البر10. ولفظه نحو اللفظ السابق. كلهم من طرقٍ عن إسرائيل عن أبي إسحاق به. وهذا إسناد رجاله ثقات إلا أن أبا إسحاق وهو السبيعي مدلِّس11، ولم يصرِّح بالسماع في شيء من طرق الحديث،

ومسروق هو ابن الأجدع، وقد ذكر ابن المديني الصحابة الذين لقيهم مسروق1، ولم يذكر منهم بلالاً رضي الله عنه فيكون الإسناد منقطعاً بين مسروق وبلال - والله أعلم -. وله علّة أُخرى وهي أن المحفوظ في هذه الطريق الإرسال، فقد قال الترمذي: سألت محمداً - يعني البخاري - عن هذا الحديث، فقال: إنما يُروى هذا عن مسروق عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً2. الطريق الثالثة: أبو دهقانة عن ابن عمر رضي الله عنه عن بلال رضي الله عنه به: رواه الطبراني في الكبير3، وأبو نعيم الأصبهاني4 بإسنادهما عن فضيل به. رواه هكذا عن فضيل الوليدُ بن القاسم الهمداني5، ويزيد بن عبد العزيز بن سياه6. بنحو اللفظ السابق. وخالفهما ابن نمير7، ووكيع8، ويعلى بن عبيد9، فرووه عن فضيل بن غزوان عن أبي دهقانة عن ابن عمر رضي الله عنه قال: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ضيف فقال لبلال ... " الحديث. فجعلوه

من مسند ابن عمر - رضي الله عنهما -، ورواية هؤلاء أرجح لكثرتهم وضبطهم. ويشهد لهذا الترجيح أن ابن عمر لم يكن يرى ربا الفضل حتى حدثه أبو سعيد الخدري بنحوٍ مما وقع لبلال في هذا الحديث، فرجع ابن عمر عن قوله. وقد تقدم ذكر هذا في الطريق الرابعة من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. فعلى هذا فإن المحفوظ في هذه الطريق أنه عن أبي دهقانة عن ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال ... " الحديث. وأبو دهقانة قد ذكره البخاري1، وابن أبي حاتم2، ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً. وقال العجلي: ثقة3. وذكره ابن حبان في الثقات4. ومعلوم من منهجهما - رحمهما الله - التساهل في توثيق المجاهيل5. إلا أن هذه القصة عن بلال صحيحة من طرقٍ أخرى من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وقد سبق ذلك، وابن عمر - رضي الله عنهما - وإن لم يكن شهد هذه القصة فقد سمعها من أبي سعيد رضي الله عنه كما سبق، ومرسل الصحابي حجة. والله أعلم. فمما سبق يتبين أن هذا الحديث لا يصح عن بلال رضي الله عنه من روايته، وأما قصة الحديث فهي ثابتة صحيحة من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه كما سبق ذكرها.

143 - (4) عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين". جاء هذا الحديث من طريقين: الطريق الأولى: عبد الله بن وهب عن مخرمة بن بكير عن أبيه عن سليمان بن يسار عن مالك بن أبي عامرٍ عنه به: أخرجه مسلم1 باللفظ المذكور، والبزار2، والبيهقي3، وابن عبد البر4. كلهم من هذا الطريق. وهو المعروف. قال البزار: لا نعلم يروى عن عثمان إلا من حديث مالك بن أبي عامرٍ به. الطريق الثانية: عاصم بن عبد العزيز الأشجعي عن أبي سهيل بن مالك بن أبي عامرٍ عن أبيه عنه به: أخرجه العقيلي5، وابن عبد البر6 بإسنادهما عن عاصم بن عبد العزيز به. ولفظ العقيلي: "لا تبيعوا الذهب إلا مثلاً بمثل". وعاصم بن عبد العزيز الأشجعي، تقدّم7 أنه ضعيف.

وقد انفرد هنا بالرواية عن أبي سهيل ولم يتابع عليه، ولذا قال العقيلي: ليس له من حديث أبي سهيلٍ أصل1. فهذا الإسناد يعتبر منكراً. والله أعلم. 144 - (5) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما". جاء هذا الحديث من خمسة طرقٍ هي: الطريق الأولى: موسى بن أبي تميم عن سعيد بن يسار عنه به: رواه مالك2، ومن طريقه أخرجه مسلم3، والنسائي4، والشافعي5، وأحمد6، والطحاوي7. وأخرجه مسلم8، وأحمد9، والطحاوي10 بنحو هذا اللفظ من هذا الطريق عن غير مالك.

الطريق الثانية: فضيل بن غزوان عن عبد الرحمن بن أبي نُعم عنه به: أخرجه مسلم1، والنسائي2، وابن ماجه3، وأحمد4. ولفظ مسلم: "الذهب بالذهب وزناً بوزن مثلاً بمثل، والفضة بالفضة وزناً بوزن مثلاً بمثل، فمن زاد أو استزاد فهو رباً". ونحوه لفظ النسائي. وزاد أحمد: "ولا تباع ثمرة حتى يبدو صلاحها". ولفظ ابن ماجه: "الفضة بالفضة، والذهب بالذهب، والشعير بالشعير، والحنطة بالحنطة، مثلاً بمثل". وهذه الزيادات صحيحة الإسناد. الطريق الثالثة: فضيل بن غزوان عن أبي زرعة عنه به: رواه مسلم5، والنسائي6، كلاهما من هذا الطريق، ولفظه عندهم: "التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلاً بمثل يداً بيدٍ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى إلا ما اختلفت ألوانه".

الطريق الرابعة: فضيل بن غزوان عن أبي حازم الأشجعي عنه به: رواه ابن أبي شيبة1، ولفظه: "الحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، يداً بيدٍ، كيلاً بكيلٍ، وزناً بوزنٍ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى إلا ما اختلفت ألوانه". وإسناد هذه الطريق صحيح، فأبو حازم الأشجعي، واسمه سلمان؛ ثقة2. الطريق الخامسة: سهيل بن أبي صالح عن أبيه عنه به: رواه الطبراني في الأوسط3 بإسناده عن سعيد بن منصور عن فليح بن سليمان به. ولفظه: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، لا تستفضلوا بعضها على بعض ". وقال الطبراني عقبه: "لم يرو هذا الحديث عن فليح إلا سعيد". وقد أعلّ أبو حاتم هذه الطريق بأن المحفوظ عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي سعيد الخدري4، وكذلك رواه أيضاً عمرو بن دينار عن أبي صالح عن أبي سعيد. قال أبو حاتم: وهذا الصحيح "عن أبي سعيد"، وقال مرّة: هذا أشبه وأصح5. وقد سبق ذكر هذه الطريق في الكلام على حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ولعلّ الخطأ في هذا الإسناد من فليح بن سليمان، فإنه كثير الخطأ6.

فعلى هذا فإن هذا الإسناد لا يصح عن أبي هريرة، والمحفوظ في هذا الإسناد أنه عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي سعيد. والله أعلم. فمما سبق من الطرق يتبين أن هذا الحديث عن أبي هريرة صحيح، وذلك بأكثر من طريق. والضعف في بعض الطرق لا يقدح في صحته. والله أعلم. ولأبي هريرة رضي الله عنه في هذا الباب حديث آخر سبق ذكره في الطريق الخامسة من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. 145 - (6) عن أبي المنهال قال: سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم رضي الله عنهم عن الصَّرف، فكلُّ واحدٍ منهما يقول: هذا خيرٌ مني، فكلاهما يقول: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق ديناً". رواه البخاري1 وهذا لفظه، ومسلم2، والنسائي3، وعبد الرزاق4، وأحمد5، والطحاوي6، والدارقطني7، والبيهقي8، كلهم من طرقٍ عن أبي المنهال به.

وأبو المنهال، هو عبد الرحمن بن مطعم البُناني البصري، نزيل مكة1. والحديث يدل على النهي عن بيع الذهب بالفضة نسيئة، وقد سبق أن الصرف هو بيع الذهب بالفضة أو العكس، ويدل على هذا رواية عبد الرزاق فإن فيها: "باع رجلٌ ذهباً بورق"، ويدل على هذا أيضاً قوله في آخر الحديث: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق ديناً "، مما يبين أن الواقعة التي سُئل عنها البراء بن عازب وزيد بن أرقم - رضي الله عنهما - هي بيع الذهب بالورق. ولذلك بوّب البخاري على الحديث بقوله: باب بيع الورق بالذهب نسيئة. وبوّب النسائي عليه بقوله: بيع الفضة بالذهب نسيئة. ولكن روى الحميدي هذا الحديث على غير هذا المعنى. فقد روى عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي المنهال قال: "باع شريك لي بالكوفة دراهم بدراهم بينهما فضل، فقلت: ما أرى هذا يصلح، فقال: لقد بعتها في السوق فما عاب ذلك عليّ أحد، فأتيت البراء بن عازب فسألته، قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وتجارتنا هكذا، فقال: "ما كان يداً بيد فلا بأس به، وما كان نسيئةً فلا خير فيه". وأت ابن أرقم فإنه كان أعظم تجارة مني، فأتيته فذكرت ذلك له فقال: صدق البراء "2. قال الحميدي: هذا منسوخ ولا يؤخذ به. والذي حمل الحميدي على الحكم على الحديث بالنسخ هو روايته الحديث بلفظ: "باع شريك بالكوفة دراهم بدراهم بينهما فضل" ثم إن

البراء بن عازب وزيد بن أرقم رويا عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن ذلك ما كان نسيئة دون ما كان يداً بيدٍ. وذلك صريح في إباحة ربا الفضل، ولذلك حكم الحميدي على الحديث بالنسخ. وتابع الحميدي على هذه الرواية سعيد بن عبد الرحمن المخزومي1 وهو ثقة2. إلا أن هذه المتابعة من طريق القاسم بن عبد الله بن مهدي عنه، والقاسم بن عبد الله بن مهدي قال فيه ابن عدي: لا بأس به. وقال: كان بعض شيوخ مصر يضعِّفه، وقال الدارقطني: متّهم بوضع الحديث. وذكر الذهبي له حديثاً فقال عقبه: هذا موضوع باطل3. فعلى هذا فإن متابعة سعيد بن عبد الرحمن المخزومي غير معتبرة لضعف الرواي عنه وهو القاسم بن عبد الله بن مهدي ضعفاً شديداً. قال البيهقي عن رواية الحميدي: عندي أن هذا خطأ، والصحيح ما رواه علي ابن المديني4، ومحمد بن حاتم5، وهو المراد بما أُطلق في رواية ابن جريج6، فيكون الخبر وارداً في بيع الجنسين أحدهما بالآخر، فقال: ما كان منه يداً بيد فلا بأس، وما كان منه نسيئة فلا7.

وتعقَّب ابن التركماني البيهقي بأن رواية علي بن المديني ومحمد بن حاتم، والتي جاء فيها "باع ورقاً بنسيئة" موافقة لرواية الحميدي عن سفيان؛ لأن قوله "بنسيئة" صفة لموصوف محذوف دل عليه قوله أولاً ورقاً، فيكون التقدير: بورق نسيئة1. وفيما قاله ابن التركماني نظر؛ وذلك أن رواية الحميدي: "باع دراهم بدراهم بينهما فضل"، فكيف تكون موافقة لرواية: "باع ورقاً بنسيئة"، على فرض صحة المعنى الذي ذكره ابن التركماني وهو أنه باع ورقاً بورقٍ نسيئة، فرواية الحميدي فيها ربا الفضل، والرواية الأخرى ربا النسيئة. فالصحيح هو ما قاله البيهقي وهو أن رواية الحميدي خطأ لمخالفتها لسائر الروايات التي ليس فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح لهم بيع الورق بالورق ما كان يداً بيدٍ، ولو كان متفاضلاً. بل بعض الروايات صريح في أن الواقعة التي كان الحديث فيها هي في بيع الذهب بالورق ديناً. وقد نسب بعض الفقهاء القول بإباحة ربا الفضل إلى البراء بن عازب وزيد بن أرقم2، ولعل مستندهم في ذلك رواية الحميدي. وقد تبين أن رواية الحميدي شاذة. ولكن قد يقال: إن ابن عباس قد احتج على أبي سعيد الخدري بأنه سمع البراء ابن عازب وزيد بن أرقم يحدثان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما الربا في النسيئة" فهذا يدل على أن حديث البراء بن عازب وزيد بن أرقم

فيه إباحة ربا الفضل، وهي رواية الحميدي، مما يعني ثبوت الحديث عنهما بذلك. وذلك فيما رواه أسلم بن سهل الرزَّاز المعروف ببحشل في تاريخ واسط1، والطبراني في الكبير2 كلاهما من طريق القاسم بن عيسى الطائي ثنا هشيم عن إسماعيل بن سالم الأسدي عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي صالح ... " فذكر محاورة أبي سعيد لابن عباس في الصرف، ثم قول الأخير: سمعت زيد بن أرقم والبراء بن عازب يقولان: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما الربا في النسيئة" هذا لفظ بحشل. فالجواب: أن هذا الحديث منكر، وذلك أن الروايات المستفيضة عن ابن عباس هي أنه كان يحتج بحديث أسامة لا حديث البراء بن عازب وزيد بن أرقم، ولعلّ هذه النكارة من القاسم بن عيسى الطائي، فإنه قد قال فيه أبو داود: تغير عقله. ولم يوثقه غير ابن حبان3. وأيضاً فإن في الإسناد تدليس هشيم وحبيب بن أبي ثابت، وهما في الطبقة الثالثة من المدلسين عند ابن حجر4. فعلى هذا فإن هذا الإسناد ضعيف لا يعتبر لنكارته. والله أعلم وأحكم.

146 - (7) عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بقلادةٍ فيها خَرَزٌ وذهب، وهي من المغانم تباع، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب وزناً بوزن". رواه مسلم1، وأبو داود2، والترمذي3، والنسائي4، وابن أبي شيبة5، وأحمد6، وابن الجارود7، والطحاوي8 - واللفظ لهم - والطبراني9، والدارقطني10، والبيهقي11، كلهم من هذا الطريق. وفي لفظ لمسلم وأبي داود: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر نبايع اليهود الوقية الذهب الدينارين والثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزناً بوزن". وفي لفظ لمسلم: عن فضالة رضي الله عنه قال: اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر دينارًا، فيها ذهب وخرز، ففصلتها، فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارًا، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تباع حتى تفصل".

قال النووي عن هذا اللفظ: "يحتمل أن مراده كانوا يبتاعون الأوقية من ذهبٍ وخرزٍ وغيره بدينارين أو ثلاثة، وإلا فالأوقية وزن أربعين درهماً، ومعلوم أن أحداً لا يبتاع هذا القدر من ذهبٍ خالص بدينارين أو ثلاثة، وهذا سبب مبايعة الصحابة على هذا الوجه ظنوا جوازه لاختلاط الذهب بغيره، فبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حرام حتى يميز ويباع الذهب بوزنه ذهباً"1. انتهى. ويشهد لقول النووي الروايات الأخرى للحديث. والله أعلم. ويشهد له أيضاً ما أخرجه أبو عوانة2، وابن بشكوال3 بإسنادهما عن مخرمة بن بكير عن أبيه سمعت الجلاح سمعت حنشاً السبّائي يقول: أردت أن أبيع من فضالة بن عبيد قلادةً من السُّهمان فيها فصوص ولؤلؤ، وفيها ذهب، وهي ثمن ألف دينار، فقال: إن شئت سمتك، وإن شئت حدثتك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما كان يوم حنين جعل على الغنائم سعد بن أبي وقاص وسعد بن عبادة، فأرادوا أن يبيعوا الدينارين بالثلاثة، والثلاثة بخمسة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثقال بمثقال". هذا لفظ ابن بشكوال. وذكر يوم حنين في الحديث غير محفوظ، وإنما هو يوم خيبر كما في لفظ أبي عوانة والطرق الأخرى، كطريق مسلم التي سبق الإشارة إليه، وقد رواها بإسناده عن الجلاح عن حنشٍ به.

وقد روى نحو هذا المتن الإمام مالك عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم السَّعدين أن يبيعا آنيةً من ذهب أو فضة فباعا كل ثلاثةٍ بأربعةٍ عيناً، أو كل أربعة بثلاثةٍ عيناً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربيتما فرُدَّا "1. والسَّعدان هما سعد بن أبي وقاص، وسعد بن عبادة، كما سبق في رواية ابن بشكوال. وقيل: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، ولكن قال ابن عبد البر: "هذا غلط لا يجوز أن يكون سعد بن معاذ أحد السَّعدين المذكورين في هذا الباب، لأن سعد بن معاذ توفي بعد الخندق بيسيرٍ من سهم أصابه يوم الخندق ولم يدرك خيبر، والقول الأول أولى وأصح"2. يعني أنهما سعد بن أبي وقاص وسعد بن عبادة - رضي الله عنهما - وقد رجّح ابن بشكوال3 ما رجحه ابن عبد البر. والله أعلم. وقد اختلفت الروايات في حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه في تعيين جنس المبيع الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك في ثمنه. وقد أجاب البيهقي عن هذا الاختلاف بقوله: "سياق هذه الأحاديث مع عدالة رواتها تدل على أنها كانت بيوعاً شهدها فضالة رضي الله عنه كلها والنبي صلى الله عليه وسلم ينهى عنها، فأداها كلها، وحنش الصنعاني أداها متفرقاً، والله أعلم"4.

واعترض الحافظ ابن حجر على هذا الجواب فقال: "الجواب المسدد عندي أن هذا الاختلاف لا يوجب ضعفاً، بل المقصود من الاستدلال محفوظ لا اختلاف فيه، وهو النهي عن بيع ما لم يفصل، وأما جنسها وقدر ثمنها فلا يتعلق به في هذه الحالة ما يوجب الحكم بالاضطراب، وحينئذٍ فينبغي الترجيح بين رواتها، وإن كان الجميع ثقات فيحكم بصحة رواية أحفظهم وأضبطهم، ويكون رواية الباقين بالنسبة إليه شاذة، وهذا الجواب هو الذي يجاب به في حديث جابر وقصة جمله ومقدار ثمنه"1. وحديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه رواه عنه حنش الصنعاني وعلي بن رباح2، وقد اختلف على حنش الصنعاني: فرواه عنه خالد بن أبي عمران3، والجلاح أبو كثير4، وعامر بن يحيى5، كلهم رووه عن حنش عن فضالة به. وخالفهم ربيعة بن سليم، ويقال: ابن أبي سليم أو ابن سليمان التُّجيبي أبو مرزوق، فرواه عن حنش الصنعاني عن رويفع بن ثابت رضي الله عنه

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في غزوة خيبر: "بلغني أنكم تتبايعون المثقال بالنصف والثلثين، وأنه لا يصلح إلا المثقال بالمثقال، والوزن بالوزن". رواه الطحاوي1 واللفظ له، والطبراني في الكبير2. ورواه أحمد بإسناده عن عبيد الله بن أبي جعفر المصري قال: حدثني من سمع حنشاً الصنعاني يقول: سمعت رويفع بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يبتاعنَّ ذهباً بذهبٍ إلا وزناً بوزن، ولا ينكح ثيباً من السبي حتى تحيض" 3. والرجل المبهم هنا هو أبو مرزوق التجيبي كما جزم بذلك الحسيني4، وابن حجر5. ويؤيد ذلك أن أحمد روى بإسناده عن أبي مرزوق مولى تجيب عن حنش الصنعاني عن رويفع بن ثابت ... "6 الحديث. وفيه النهي عن نكاح الثيب من السبي حتى تحيض، وليس فيه ذكر النهي عن بيع الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل. وأبو مرزوق هو ربيعة بن سليم، وقد تقدم الكلام فيه7، وأن ابن حجر قال فيه: "مقبول".

وقد سبق أنه قد خالفه غيره في هذا الحديث وهم أكثر منه وأوثق. فرواية ربيعة ابن سليم عن حنش الصنعاني عن رويفع بن ثابت شاذة، والمحفوظ عن حنش الصنعاني في حديث النهي عن بيع الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، أنه عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه، وقد تابع حنش الصنعاني في رواية الجماعة عنه علي بن رباح اللخمي كما تقدم. ومما يؤيد أن الحديث الذي رواه أبو مرزوق التجيبي عن حنش الصنعاني عن رويفع بن ثابت في النهي عن الصرف مقلوب، وأن المحفوظ فيه أنه عن فضالة بن عبيد ما جاء في الحديث من أن النهي كان يوم خيبر، وحديث حنش الصنعاني في النهي عن الصرف يوم خيبر إنما هو عن فضالة بن عبيد، وأما حديثه عن رويفع بن ثابت فإنما كان في غزوة حنين كما تقدم1. فإذا تقرر بما سبق أن الحديث إنما هو محفوظ عن فضالة بين عبيد رضي الله عنه فإنه قد أَعلَّ الطحاوي الحديث بالاضطراب وجعله مانعاً من الاحتجاج به فقال: "قد اضطرب هذا الحديث، فلم يوقف على ما أُريد منه، فليس لأحدٍ أن يحتجَّ بمعنى من المعاني التي روي عليها إلا احتج مخالفه عليه بالمعنى الآخر"2. وهذا التعليل بناءً على اختلاف ألفاظ الحديث باختلاف مخارجه. وهذا التعليل من الطحاوي ضعيف، وقد تكلّف - رحمه الله - ردَّ الاحتجاج بهذا الحديث بتأويلاتٍ بعيدة، كقوله: "يجوز أن يكون رسول الله

صلى الله عليه وسلم فصّل الذهب لأن صلاح المسلمين كان في ذلك، ففعل ما فيه صلاحهم، لا لأن بيع الذهب قبل أن ينزع مع غيره في صفقة واحدةٍ غير جائز"1. وأمّا اختلاف ألفاظ الحديث فليس دليلاً على الاضطراب فيه؛ لأن هذه الألفاظ لا معارضة بينها، بل هي تدل على معنى واحد متفق بينها. وقد سبق كلام الحافظ ابن حجر في رد الاضطراب عن هذا الحديث. والذي يظهر أن الذي نحى بالطحاوي هذا المنحى هو التبرير لمذهب أبي حنيفة لكونه خالف معنى ما يدل عليه الحديث. وقد ذكر ابن أبي شيبة هذا الحديث في كتاب (الرد على أبي حنيفة) 2. فالحديث صحيح لا إشكال فيه. وهو يدل على النهي عن بيع الذهب بالذهب مع أحدهما شيءٌ غير الذهب3. والله أعلم. 147 - (8) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثلٍ، سواء بسواء، يداً بيدٍ، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيدٍ". جاء هذا الحديث من طرق:

الطريق الأولى: خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عنه به: رواه مسلم1 واللفظ له، وأبو داود2 - وساق إسناده ولم يسق تمام لفظه -، والترمذي3، وابن أبي شيبة4، وأحمد5، والدارمي6، والبزار7، والنسائي في الكبرى8، والبيهقي9. كلهم من هذا الطريق. وقال الترمذي حسن صحيح. وزاد الترمذي: "فمن زاد أو ازداد فقد أربى، بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم، يداً بيد، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم يداً بيد، وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم يداً بيد". وذكر الترمذي أن بعضهم روى قوله: "بيعوا الذهب بالفضة …" الحديث؛ من قول أبي قلابة وليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم. وأبو الأشعث الصنعاني اسمه شراحيل بن آده - وقيل: غير ذلك - ثقة شهد فتح دمشق10.

ورواه معتمر بن سليمان عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي أسماء الرحبي عن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم1. قال ابن عبد البر: قول المعتمر عن خالد عن أبي قلابة عن أبي أسماء خطأ، وقد خالفه الثوري وغيره عن خالد2. الطريق الثانية: أيوب عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عنه به: رواه مسلم3، وابن أبي شيبة4، والبيهقي5، وابن عبد البر6، كلهم من هذا الطريق. ولفظ مسلم: عن أيوب عن أبي قلابة قال: كنت بالشام في حلقةٍ فيها مسلم بن يسار فجاء أبو الأشعث، قال: قالوا: أبو الأشعث، أبو الأشعث، فجلس، فقلت له: حدِّث أخانا حديث عبادة بن الصامت. قال: نعم: غزونا غزاةً وعلى الناس معاوية فغنمنا غنائم كثيرة، فكان فيما غنمنا آنيةٌ من فضة، فأمر معاوية رجلاً أن يبيعها في أُعطيات الناس، فتسارع الناس في ذلك. فبلغ عبادة بن الصامت، فقام فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبرّ بالبرّ، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح،

إلا سواءً بسواءٍ عيناً بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى. فردَّ الناس ما أخذوا. فبلغ ذلك معاوية فقام خطيباً، فقال: ألا ما بال رجالٍ يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه. فقام عبادة بن الصامت فأعاد القصة ثم قال: لنحدِّثن بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كره معاوية - أو قال: وإن رغم - ما أُبالي ألاّ أصحبه في جنده ليلةً سوداء. وحمل شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم - رحمهما الله - إنكار عبادة على معاوية - رضي الله عنهما - على مقابلة الصياغة المحرمة - وهي الآنية من الذهب - بالأثمان، وهذا لا يجوز؛ كآلات الملاهي1 انتهى. وبالنظر إلى قصة الحديث التي سبق ذكرها لا يظهر ما قالاه، ومعاوية قد روى النهي عن استعمال آنية الذهب والفضة2، والذي أنكره عليه عبادة هو ربا الفضل. الطريق الثالثة: قتادة عن مسلم بن يسار عن أبي الأشعث الصنعاني عن عبادة رضي الله عنه موقوفاً ومرفوعاً: رواه النسائي3، وابن جرير4، والبيهقي5، وابن عبد البر6، كلهم من طرقٍ عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة به موقوفاً.

ولفظ النسائي: عن أبي الأشعث الصنعاني عن عبادة بن الصامت، وكان بدرياً وكان بايع النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يخاف في الله لومة لائم؛ أن عبادة قام خطيباً فقال: "أيها الناس، إنكم أحدثتم بيوعاً لا أدري ما هي، ألا إن الذهب بالذهب وزناً بوزن، تبرها وعينها، وإن الفضة بالفضة وزناً بوزن تبرها وعينها، ولا بأس ببيع الفضة بالذهب يداً بيد، والفضة أكثرهما، ولا تصلح النسيئة، ألا إن البُرَّ بالبر، والشعير بالشعير مُدْياً بمديٍ، ولا بأس ببيع الشعير بالحنطة يداً بيد، والشعير أكثرهما، ولا يصلح النسيئة، ألا وإن التمر بالتمر مدياً بمديٍ، حتى ذكر الملح مدّاً بمدٍ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى". والتِّبْر: هو الذهب والفضة قبل أن يضربا دنانير ودراهم1. وقوله "مدياً بمديٍ" أي: مكيال بمكيال. والمدي مكيال لأهل الشام2. هكذا روى الحديث سعيد بن أبي عروبة عن قتادة موقوفاً على عبادة، وذكر أبو داود أن هشاماً الدستوائي تابع سعيداً على هذا3. وقتادة لم يسمع من مسلم بن يسار4. ولكن ذكر أحمد أنه كان يقال إن بينهما أبا الخليل5، وهو ثقة6.

ويدل على قوله رواية همام كما سيأتي. وأما همام بن يحيى العوذي فاختلف الرواة عنه. فرواه عنه عبد الصمد بن عبد الوارث مثل رواية هشام وسعيد بن أبي عروبة1، ورواه بشر بن عمر2، وعمرو ابن عاصم3، وهشام بن علي بن رجاء4، وعفان بن مسلم5، كلهم عن همام عن قتادة عن أبي الخليل عن مسلم بن يسار عن أبي الأشعث الصنعاني عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم ... الحديث. ورواه هدبة بن خالد عن همام عن قتادة عن أبي قلابة عن أبي أسماء الرحبي عن أبي الأشعث عن عبادة6. والمحفوظ عن همام رواية بشر بن عمرو ومن معه لكثرتهم. فإذا تقرر أن المحفوظ في رواية همام هو عن قتادة عن أبي الخليل عن مسلم بن يسار عن أبي الأشعث عن عبادة مرفوعاً فقد سبق أنه خالفه هشامٌ وسعيدٌ في الرواية عن قتادة، وذلك أنهما روياه موقوفاً على عبادة، ورفعه همام. وقد رجّح البيهقي7 رواية همام، ورجّح ابن عبد البر8 رواية سعيد وهشام.

وعند الرجوع إلى كلام الأئمة في الرواة عن قتادة نجدهم يقدمون سعيداً وهشاماً على همام إذا انفردا1، فكيف إذا اجتمعا على مخالفة همام. وهذا الطريق وإن كان المحفوظ فيه الوقف، فإنه قد ثبت في الطرق الأخرى أنّ عبادة كان يحدّث به عن النبي صلى الله عليه وسلم. والله أعلم. الطريق الرابعة: محمد بن سيرين عن مسلم بن يسار وعبد الله بن عبيد2 عن عبادة بن الصامت مرفوعاً: رواه النسائي3، وابن ماجه4، والحميدي5، وأحمد6، والبزار7، والشاشي8، والبيهقي9. كلهم من هذا الطريق. وليس في رواية الحميدي والبزار ذكر "عبد الله بن عبيد". ولفظ النسائي: عن عبادة: "نهانا رسول صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالذهب والورق بالورق، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر - قال أحدهما: والملح بالملح ولم يقله الآخر - إلا مثلاً بمثل

يداً بيدٍ، وأمرنا أن نبيع الذهب بالورق، والورق بالذهب، والبر بالشعير، والشعير بالبر يداً بيدٍ كيف شئنا. قال أحدهما: فمن زاد أو ازداد فقد أربى". وأُعلّ هذا الطريق بأن مسلم بن يسار لم يسمعه من عبادة بن الصامت. فقد قال أبو حاتم في مسلم بن يسار: روى عن عبادة بن الصامت مرسلاً1. وقال البيهقي: هذا الحديث لم يسمعه مسلم بن يسار من عبادة بن الصامت، إنما سمعه من أبي الأشعث عن عبادة2. وقد سبق في الطريق السابقة ذكر رواية مسلم بن يسار عن أبي الأشعث. ويفهم من كلام النسائي أن المخالفة واقعة من محمد بن سيرين؛ فإنه ذكر طريق محمد بن سيرين عن مسلم بن يسار عن عبادة، قال عقبه: خالفه قتادة رواه عن مسلم بن يسار عن أبي الأشعث عن عبادة. ولكن قد تابع محمد بن سيرين على روايته بكر بن عبد الله المزني3، وهو ثقة ثبت4، مما يرجح أن الاختلاف واقعٌ من مسلم بن يسار وليس في الرواة عنه، فإنه تارة يرويه عن أبي الأشعث الصنعاني عن عبادة بن الصامت، وتارة يسقط أبا الأشعث، فيرويه عن عبادة بن الصامت.

الطريق الخامسة: إسماعيل بن أبي خالد عن حكيم بن جابر عنه به: رواه النسائي1، وابن أبي شيبة2، وأحمد3، والطحاوي4، والشاشي5، والبيهقي6، وابن عبد البر7. كلهم من هذا الطريق. ولفظ النسائي: عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الذهب الكفة بالكفة". فقال معاوية: إنّ هذا لا يقول شيئاً. قال عبادة: إني والله ما أُبالي ألا أكون بأرضٍ يكون بها معاوية. إني أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك". وزاد ابن عبد البر ذكر الأصناف الستة الباقية في هذا الحديث، وهي الفضة والبر والشعير والتمر والملح. وقد أُعلَّ الحديث بالانقطاع بين حكيم بن جابر وعبادة بن الصامت رضي الله عنه. فقد قال البخاري في ترجمة حكيم: "وقال حكيم: أخبرت عن عبادة - في الصرف -"8. قال الحافظ ابن حجر تعليقاً على قول البخاري هذا: "يعلل بذلك الحديث الذي أخرجه النسائي له عن عبادة بالعنعنة"9، يعني به هذا الحديث.

وممن أعلّ الحديث أيضاً بالانقطاع الذهبي، فقال: "له علة، جاء عن حكيم قال: أُخبرت عن عبادة"1. ولعلّ الذهبي قد تابع في ذلك البخاري - رحمه الله -. ويفهم من كلام المزي أنه لا يرى الانقطاع، وذلك أنه بعد أن ذكر قول البخاري عقبه بأنّ حكيماً قد سمع من عمر بن الخطاب رضي الله عنه2 أي أن سماعه ممكن؛ لأن عبادة قد توفي بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه. الطريق السادسة: قبيصة بن ذؤيب عنه به: رواه ابن ماجه3 - وفيه قصة -، والبزار4، والطبراني في مسند الشاميين5، وتمام الرازي6، وابن عساكر7، وابن عبد البر8. كلهم من طرقٍ عن يحيى بن حمزة عن برد بن سنان عن إسحاق بن قبيصة عنه به. وليس في إسناد البزار ذكر برد بن سنان. ويحيى بن حمزة هو ابن واقد الحضرمي، ثقة9.

وبرد بن سنان هو أبو العلاء الشامي الدمشقي، وثقه ابن معين، ودحيم، والنسائي، وغيرهم. وقال أحمد: صالح الحديث. وضعفه علي بن المديني1. وجعله ابن حجر في مرتبة: صدوق2. وإسحاق بن قبيصة بن ذؤيب الخزاعي الشامي. ذكره ابن حبان في الثقات3. وقال ابن حجر: صدوق4. ولم يذكر الحافظ ابن حجر من وثقه سوى ما ذكره عن ابن حبان. ومعلوم أن توثيق ابن حبان لا يكفي في رفع الجهالة عن الراوي، فيبقى إسحاق بن قبيصة مجهولاً، إلا أنها جهالة حال؛ لأنه روى عنه أكثر من واحد، ويكون على اصطلاح الحافظ في التقريب: "مقبولاً" فيحتاج إلى متابع. وأما قبيصة بن ذؤيب فهو ممّن ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقد ولد عام الفتح. وروى عن جمع من الصحابة منهم عثمان بن عفان رضي الله عنه. ونزل الشام حيث كان عبادة بن الصامت رضي الله عنه5، وقد توفي عبادة بن الصامت رضي الله عنه سنة أربعٍ وثلاثين من الهجرة6. فيكون عُمْرُ قبيصة حين وفاة عبادة أكثر من خمسٍ وعشرين

سنة، وهو ظاهر في إمكان سماعه منه. ولم أقف على من نفى سماع قبيصة من عبادة بن الصامت رضي الله عنه من الأئمة المتقدمين، إلا أن المزي قال في قبيصة: "لم يلق عبادة بن الصامت"1. ولم يذكر دليلاً على ذلك، فيبقى أن الإسناد متصل وليس فيه انقطاع. وأما قول البوصيري: "صورته مرسل؛ لأن قبيصة لم يدرك القصة"2. فالجواب أن يقال: إن قبيصة وإن لم يدرك القصة فقد أدرك عبادة وهو صاحب القصة، فيكون أخذها منه. ومما سبق يتبين أن هذا الإسناد متصل إلا أن فيه إسحاق بن قبيصة لم يوثقه غير ابن حبان. ومع ذلك فإن هذا الطريق يصلح للمتابعات، وقد توبع كما في الطرق الأخرى للحديث. والله أعلم. وقد روي حديث قبيصة بن ذؤيب عن عبادة من طريقٍ آخر. فقد رواه الشاشي3 بإسناده عن بقية بن الوليد عن عمر بن المغيرة عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن جابر بن زيد أبي الشعثاء عنه به. ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا بأس بالقمح بالشعير اثنين بواحد يداً بيدٍ". ولكن في إسناده عمر بن المغيرة، وقد قال فيه البخاري: "منكر الحديث مجهول". وأيضاً فيه تدليس بقية بن الوليد.

وقد سئل أبو حاتم عن هذا الحديث بهذا الإسناد فقال: "هذا حديث منكر، وإنما هو قتادة عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم"1. وقد سبق ذكر حديث أبي الأشعث عن عبادة رضي الله عنه. الطريق السابعة: الحسن البصري عنه به: رواه أحمد بن منيع2، والطبراني3. كلاهما عن أسباط بن محمد عن الشيباني عن رجلٍ من أهل البصرة عنه به، ولفظ ابن منيع: عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس من مجالس الأنصار ليلة الخميس في رمضان، ولم يصم رمضاناً بعده يقول: "الفضة بالفضة مثلاً بمثل يداً بيدٍ، وما زاد فهو ربا، والشعير قفيزاً بقفيزٍ يداً بيدٍ، وما زاد فهو رباً، والتمر قفيزاً بقفيزٍ يداً بيدٍ، وما زاد فهو ربا". والشيباني هو سليمان بن أبي سليمان الشيباني الكوفي، وهو ثقة4. وفي الإسناد رجلٌ لم يسمَّ. وأيضاً فإن في الإسناد انقطاعاً وهو أن الحسن لم يسمع من عبادة بن الصامت رضي الله عنه. قاله البزار5. فعلى هذا فإن هذا الإسناد ضعيف.

الطريق الثامنة: محمد بن سيرين عن عبادة1 وأنس بن مالك: رواه أبو داود الطيالسي2، والبزار3. كلاهما عن الربيع بين صَبيح عن محمد بن سيرين به. ولفظ أبي داود الطيالسي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الورق بالورق، والذهب بالذهب، والتمر بالتمر، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، عيناً بعين، أو قال: وزناً بوزن"، قال: وقال أحدهما ولم يقله الآخر: "ولا بأس بالدينار بالورق اثنين بواحد يداً بيدٍ، ولا بأس بالبر بالشعير اثنين بواحدٍ يداً بيدٍ، ولا بأس بالملح بالشعير اثنين بواحدٍ يداً بيدٍ". قال الطيالسي: "هكذا رواه الربيع". يشير إلى مخالفة الربيع لغيره في هذا الإسناد. ثم ساق بإسناده ما يبين أن محمد بن سيرين لم يسمعه من عبادة وإنما رواه عنه بواسطة كما سيأتي. وقال البزار: لا نعلم رواه عن أنس إلا الربيع، وإنما يعرف عن محمد عن مسلم بن يسار عن عبادة. وقال البوصيري: "إسناده حسن، الربيع بن صبيح مختلف فيه، وباقي رجال الإسناد ثقات"4. والمحفوظ في هذا الحديث أنه عن الربيع بن صبيح عن محمد بن سيرين عن عبادة وأنس به. ولكن رواه أبو بكر بن عياش عن

الربيع بن صبيح عن الحسن عن عبادة وأنس به1. وهو شاذ والمحفوظ الأول. والربيع بن صبيح مختلفٌ فيه. ضعفه ابن سعد، ويعقوب بن شيبة، وابن المديني، وابن معين في رواية، والنسائي وغيرهم. وقال شعبة: لا يعجبني الاحتجاج به إذا انفرد. وقال أحمد: لا بأس به، رجل صالح. وقال ابن معين في رواية: ليس به بأس2. وقال ابن حجر: صدوق سيء الحفظ3. ويظهر لي حسب ما تقدم من أقوال أئمة الجرح والتعديل أنه ضعيف الحديث، ولكن ضعفه ليس شديداً، بل هو صالحٌ للاعتبار ولا يحتج به إذا انفرد. وحديثه هذا عن أنس ليس له متابع، فقد قال البزار: "لا نعلم رواه عن أنسٍ إلا الربيع"، فيكون على هذا ضعيفاً. وأما حديثه عن عبادة فله ما يؤيده من الطرق السابقة، إلا أنه بهذا الإسناد منقطع، لأن محمد بن سيرين لم يسمعه من عبادة4، وإنما سمعه من مسلم بن يسار عن عبادة، كما سبق في الطريق الرابعة لهذا الحديث. هذه هي الطرق التي وقفت عليها في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. وهو حديث صحيح لا شك فيه، والضعف اليسير الحاصل في بعض الطرق ينجبر بالطرق الأخرى للحديث. والله أعلم.

148 - (9) عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفضة بالفضة، والذهب بالذهب، إلا سواءً بسواءٍ، وأمرنا أن نبتاع الذهب بالفضة كيف شئنا، والفضة بالذهب كيف شئنا". رواه البخاري1 واللفظ له، ومسلم2، والنسائي3، وأحمد4، والطحاوي5، وابن حبان6، والبيهقي7. كلهم من طرقٍ عن يحيى بن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه به. وزاد مسلم: "فسأله رجلٌ فقال: يداً بيدٍ؟ فقال: هكذا سمعت". وذكر هذه الزيادة أحمد، وعنده أن الرجل الذي سأل أبا بكرة هو ثابت بن عبيد، وفي رواية له ثابت بن عبد الله. إلا أن النسائي رواه من وجهٍ آخر أيضاً عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الرحمن بن أبي بكرة بمثله، إلا أن يحيى ين أبي كثير مدلِّس8 وقد عنعن، وهو إنما سمع هذا الحديث من يحيى بن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، فإنه هكذا رواه مسلم.

ورواه أيضاً البزار1، وابن عدي2، والحازمي3 من طريق بحر بن كنيز أبي الفضل عن عبد العزيز بن أبي بكرة عن أبيه "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصرف قبل موته بشهرين". قال البزار: "لا نعلمه بهذا اللفظ إلا عن أبي بكرة، وبحر بن كنيز لين الحديث". وقال الحازمي: "هذا الحديث واهي الإسناد، وبحر السقاء لا تقوم به حجة". وقال الهيثمي: "في الصحيح أنه نهى عن الذهب بالذهب من غير ذكر تاريخ" ثم قال عن هذا الإسناد: "فيه بحر بن كنيز السقاء وهو ضعيف" 4. وقد تقدم الكلام في بحر بن كنيز5 وأنه ضعيف جداً. فعلى هذا فإن حديث "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصرف قبل موته بشهرين" ضعيف لضعف بحر بن كنيز. والله أعلم. 149 - (10) عن معمر بن عبد الله رضي الله عنه أنه أرسل غلامه بصاع قمحٍ، فقال: بعه ثم اشتر به شعيراً، فذهب الغلام، فأخذ صاعاً وزيادة بعض صاع، فلما جاء معمراً أخبره بذلك. فقال له معمر: لم فعلت ذلك؟ انطلق فردّه ولا تأخذنّ إلا مثلاً بمثل،

فإني كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الطعام بالطعام مثلاً بمثل". قال: وكان طعامنا يومئذ الشعير. قيل له: فإنه ليس بمثله. قال: إني أخاف أن يضارع". رواه مسلم1 وهذا لفظه، وأحمد2، وابن حبان3، والطبراني في الكبير4، والدارقطني5، والبيهقي6. كلهم من طرقٍ عن أبي النضر عن بسر بن سعيد عنه به، وأبو النضر اسمه سالم بن أبي أمية المدني. وقوله: "إني أخاف أن يضارع"، المضارعة: هي المشابهة والمقاربة7. قال البيهقي: هذا الذي كرهه معمر بن عبد الله خوف الوقوع في الربا احتياطاً من جهته لا روايةً، والرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم عامة تحتمل الأمرين جميعاً، أن يكون أراد الجنس الواحد دون الجنسين، أوهما معاً، فلما جاء عبادة بن الصامت بقطع أحد الاحتمالين نصاً، وجب المصير إليه. وبالله التوفيق8. وقال النووي: "احتج مالك بهذا الحديث في كون الحنطة والشعير صنفاً واحداً لا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلاً، ومذهبنا ومذهب الجمهور أنهما صنفان يجوز التفاضل بينهما ... "، إلى أن قال: "وأما

حديث معمر هذا فلا حجة فيه؛ لأنه لم يصرح بأنهما جنس واحد، وإنما خاف من ذلك فتورع احتياطاً"1. 150 - (11) عن مجاهدٍ قال: "كنت مع عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - فجاءه صائغ، فقال له: يا أبا عبد الرحمن، إني أصوغ الذهب ثم أبيع الشيء من ذلك بأكثر من وزنه، فأستفضل من ذلك قدر عمل يدي، فنهاه عبد الله عن ذلك، فجعل الصائغ يردّد عليه المسألة، وعبد الله ينهاه، حتى انتهى إلى باب المسجد، أو إلى دابةٍ يريد أن يركبها، ثم قال عبد الله بن عمر: "الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما، هذا عهد نبينا إلينا وعهدنا إليكم". جاء هذا الحديث عن ابن عمر - رضي الله عنهما - من طرق: الطريق الأولى: مجاهد عنه به: رواه مالك2 باللفظ المذكور عن حميد بن قيس المكي به، ومن طريق مالك رواه النسائي3، والشافعي4، وعبد الرزاق5، والطحاوي6، والبيهقي7، والبغوي8.

وحميد بن قيس المكي الأعرج أبو صفوان القارئ، وثقه ابن سعد وابن معين وأحمد في رواية والبخاري وأبو داود وغيرهم1. قال الذهبي: ثقة2. قال الشافعي عن لفظ مالك: "هذا عهد نبينا إلينا" - قال -: هذا خطأ3. ويعني الشافعي بذلك أن ابن عمر لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم في الصرف شيئاً، وما جاء في رواية مالك فهو خطأ. ولذلك روى الشافعي عقب قوله هذا عن سفيان بن عيينة عن وردان الرَّومي أنه سأل ابن عمر فقال: إني رجل أصوغ الحلي ثم أبيعه، فأستفضل قدر أجرتي - أو عمل يدي - فقال ابن عمر - رضي الله عنهما - "الذهب بالذهب لا فضل بينهما، هذا عهد صاحبنا إلينا وعهدنا إليكم". قال الشافعي: يعني "صاحبنا": عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قال البيهقي: "هو كما قال - أي الشافعي - فالأخبار دالة على أن ابن عمر لم يسمع في ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً"4. ولكن ذكر البيهقي احتمالاً وهو أن تكون رواية مالك صحيحة من وجه، فقال: "قد يجوز أن يقول هذا عهد نبينا صلى الله عليه وسلم إلينا وهو

يريد إلى أصحابه بعدما ثبت له ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وغيره"1. وقال ابن عبد البر: "قول الشافعي عندي غَلَطٌ على أصله، لأن حديث ابن عيينة في قوله "صاحبنا" مجمل يحتمل أن يكون أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الأظهر، ويحتمل أن يكون أراد عمر، فلما قال مجاهد عن ابن عمر: "هذا عهد نبينا" فسَّر ما أجمل وردان الرومي، وهذا أصل ما يعتمد عليه الشافعي في الآثار، ولكن الناس لا يسلم منهم أحدٌ من الغلط، وإنما دخلت الداخلة على الناس من قبل التقليد؛ لأنهم إذا تكلم العالم عند من لا ينعم النظر بشيءٍ كتبه وجعله ديناً يردّ به ما خالفه دون أن يعرف الوجه فيه فيقع الخلل، وبالله التوفيق"2 انتهى. وحكم ابن عبد البر على قول الشافعي بأنه غلط: إن كان يعني به أن قول ابن عمر "هذا عهد نبينا إلينا" صحيح وأن معناه أن ابن عمر سمع هذا من النبي صلى الله عليه وسلم. فالجواب عنه أن ابن عمر قد ثبت عنه القول بما كان يقول به ابن عباس في الصرف حتى حدثه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم "ينهى عن بيع الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل"، ولو أن ابن عمر سمع فيه من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً لم يعدل عنه كما هو معلوم. وقد سبق الكلام في هذا بأطول مما هنا3.

وإن كان ابن عبد البر يعني بقوله هذا تصحيح رواية: "هذا عهد نبينا إلينا" ولكن بالتوجيه الذي ذكره البيهقي، فَنَعَم. ولعلّ هذا هو مقصود ابن عبد البر - رحمه الله -، وبه وجّه ابن التركماني قول ابن عبد البر1. والله أعلم. فمما سبق يتبين أن هذه الطريق صحيحة، وأما قول ابن عمر "هذا عهد نبينا إلينا" فهو مرسل صحابي؛ لأن ابن عمر لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيئاً، ومرسل الصحابي حجة. قال ابن بشكوال: "الصائغ هو وردان الرومي"2، ثم روى بإسناده عن الشافعي ثنا سفيان بن عيينة عن وردان الرومي به. وقد تقدّم ذكره. ورواه البيهقي3، وابن عبد البر4 أيضاً من طريق الشافعي. وأغرب ابن القيم - رحمه الله - فقال: "لا يعرف عن أحد من الصحابة أنه نهى أن يباع الحلي إلا بغير جنسه، أو بوزنه، والمنقول عنهم إنما هو في الصرف"5 انتهى. وفيما قاله نظر؛ فهذا ابن عمر - رضي الله عنهما - كما سبق في هذا الحديث نهى عن بيع الذهب المصوغ بأكثر من وزنه، وتقدم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه نحو هذا. والله أعلم.

الطريق الثانية: أبو جناب الكلبي عن أبيه عنه به: رواه أحمد1 من هذا الطريق، ولفظه: "لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين، ولا الصاع بالصاعين، فإني أخاف عليكم الرما، والرما هو الربا، فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله، أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس، والنجيبة بالإبل، قال: لا بأس إذا كان يداً بيد". وإسناد أحمد فيه علتان: الأولى: أبو جناب الكلبي، واسمه يحيى بن أبي حية، ضعّفه ابن سعد، والقطان، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، وغيرهم. وتكلم في حديثه أيضاً لتدليسه عن الضعفاء2. قال ابن حجر:: "ضعفوه لكثرة تدليسه"3. وهو هنا لم يصرِّح بالسماع. العلة الثانية: المخالفة في الرفع والوقف، فإن الأسانيد الصحيحة فيها أن ابن عمر كان يقول بمتن هذا الحديث من قوله لا يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه أحمد4، وابن أبي شيبة5، وغيرهما. وابن عمر أخذ هذا أولاً من أبيه6، حتى لقيه أبو سعيد فحدَّثه به عن النبي صلى الله عليه وسلم7.

فعلى هذا فإن المحفوظ في هذا الحديث أنه موقوف على ابن عمر - رضي الله عنهما -، ولكن يمكن أن يجاب عن هذه العلة بأن ابن عمر وإن لم يكن سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد سمعه من أبي سعيد عنه، فيكون مرسل صحابي وهو حجة. والله أعلم. فيبقى أن علة الإسناد هو أبو جناب الكلبي، وقد تقدم أنه ضعيف مدلّس. وأما قوله "يا رسول الله، أرأيت الرجل يبيع الفرس ... " الحديث، فهي بهذا الإسناد ضعيفة، إلا أن معناه جاء عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير هذا الطريق أيضاً كما سيأتي - إن شاء الله - في (فصل: النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة) . والله أعلم. الطريق الثالثة: عبد المؤمن عنه به: رواه أبو يعلى1 بإسناده عن سكين به. ولفظه: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، والتمر بالتمر مثلاً بمثل، كيلاً بكيل، فمن زاد أو استزاد فقد أربى". وعبد المؤمن لم يقع منسوباً في هذه الرواية، ولكن لعله ابن أبي شراعة الجلاَّب، فقد قال البخاري2 وأبو حاتم3: سمع من ابن عمر - رضي الله عنهما -.

وقال البخاري: حديثه في البصريين1، وسكين بصري. وعبد المؤمن بن أبي شراعة قال فيه يحيى القطان: لم يكن به بأس إذا جاءك بشيء تعرفه. وقال يحيى بن معين: ثقة2. وأما سُكين، فهو ابن عبد العزيز العبدي العطّار البصري، وثقه وكيع، وابن معين، والعجلي. وقال أبو حاتم: لا بأس به. وضعفه أبو داود والنسائي3. وخلص فيه ابن حجر إلى أنه: صدوق، يروي عن ضعفاء4. فعلى هذا فإن هذا الإسناد حسن، إلا أنه كما سبق - غير مرّة - أن ابن عمر لم يسمع هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما سمعه من أبي سعيد الخدري عنه، فهو مرسل صحابي، وهو حجة. والله أعلم. الطريق الرابعة: عطية العوفي عنه به: رواه الحارث بن أبي أسامة5 عن يحيى بن هاشم السِّمسار ثنا ابن أبي ليلى به. ولفظه: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة مثلاً بمثل، فمن زاد فقد أربى، وإن استنظرك أن يدخل بيته فلا تدعه". ويحيى بن هاشم السِّمسار تقدم الكلام فيه6، وأنه متروك متّهم.

وأما ابن أبي ليلى، فهو محمد بن عبد الرحمن، تقدم الكلام فيه وأنه صدوق سيئ الحفظ جداً1. وعطية العوفي، تقدم أنه صدوق يخطئ كثيراً2. وقد روى عبد الرزاق3، وابن جرير4، والبيهقي5 وغيرهم هذا المتن من طرقٍ عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب موقوفاً، وهو الصواب والله أعلم. فعلى هذا فإن هذه الطريق عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ضعيفة جداً لا يعتبر بها. والله أعلم. الطريق الخامسة: بشر بن حرب عنه به: رواه الطيالسي6، والطبراني7 بإسنادهما عن حماد بن زيد به. ولفظ الطيالسي: عن بشر بن حرب قال: سألت ابن عمر عن الصرف: الدرهم بالدرهمين فقال: عين الربا، عين الربا، فلا تقربه، هل سمعت8 ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا المثل بالمثل".

وبشر بن حرب مختلفٌ فيه، فضعَّفه ابن سعد، وابن المديني، وابن معين، وأحمد، والعجلي، وغيرهم. وقال أبو داود: ليس بشيء. وقال ابن عدي: لا أعرف في رواياته حديثاً منكراً وهو عندي لا بأس به1. وجعله ابن حجر في مرتبة: صدوق فيه لين2. ويظهر لي من الأقوال السابقة لأئمة الجرح والتعديل أنه ضعيف الحديث يصلح للاعتبار. وقد توبع في الطرق السابقة. والله أعلم. هذه هي الطرق التي وقفت عليها في حديث ابن عمر هذا، وهو حديث صحيح. والضعف في بعض الطرق لا يمنع الاحتجاج به، وإن كان يسيراً فهو ينجبر بغيره. والله أعلم. 151 - (12) عن عطاء بن يسار أن معاوية بن أبي سفيان باع سقايةً من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلاً بمثل، فقال له معاوية: ما أرى بمثل هذا بأساً. فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية؟ أنا أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويخبرني عن رأيه. لا أُساكنك بأرضٍ أنت فيها. ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب فذكر ذلك له، فكتب عمر بن الخطاب إلى معاوية أن لا تبيع ذلك إلا مثلاً بمثل وزناً بوزن".

رواه مالك1 عن زيد بن أسلم به، ومن هذا الطريق أخرجه الشافعي2، وأحمد3، والنسائي4، والبيهقي5. وقد أُعلَّ هذا الحديث بعلتين: 1 - الانقطاع. 2 - أن هذه القصة إنما عرضت لمعاوية مع عبادة بن الصامت لا مع أبي الدرداء. أما العلة الأولى، فقد قال ابن عبد البر: ظاهر هذا الحديث الانقطاع، لأن عطاء لا أحفظ له سماعاً من أبي الدرداء، وما أظنه سمع منه شيئاً؛ لأن أبا الدرداء توفي بالشام في خلافة عثمان لسنتين بقيتا من خلافته، ذكر ذلك أبو زرعة عن أبي مسعر عن سعيد بن عبد العزيز. وقال الواقدي: "توفي أبو الدرداء سنة اثنتين وثلاثين، ومولد عطاء بن يسار إحدى وعشرين، وقيل: سنة عشرين". قال ابن عبد البر: وقد روى عطاء بن يسار عن رجلٍ من أهل مصر عن أبي الدرداء حديث لهم البشرى، وممكن أن يكون سمع عطاء بن يسار من معاوية، لأن معاوية توفي سنة ستين، وقد سمع عطاء بن يسار من أبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر وجماعة من الصحابة هم أقدم

موتاً من معاوية، ولكنه لم يشهد هذه القصة؛ لأنها كانت في زمن عمر، وتوفي عمر سنة ثلاث وعشرين، أو أربع وعشرين من الهجرة"1 انتهى كلامه. وقد سبق البخاريُّ ابنَ عبد البر في الحكم على رواية عطاء بن يسار عن أبي الدرداء بالانقطاع. فقال: مرسل لا يصح2. ولما ذكر الذهبي هذا القول عن البخاري عقبه بحديث في إسناده تصريح عطاء بالتحديث عن أبي الدرداء3. والذهبي صاحب استقراء وإمامة في الرجال، ولكن بالنظر إلى سن عطاء بن يسار المدني عند وفاة أبي الدرداء الذي توفي بالشام فإنه يبعد سماعه منه، ولا سيما أن البخاري قد صرَّح بالانقطاع بينهما. وأما الحديث الذي ذكره الذهبي والذي فيه تصريح عطاء بن يسار بالتحديث عن أبي الدرداء فقد رواه النسائي في الكبرى4 بإسنادٍ صحيح وليس فيه التصريح بالتحديث، فلعلّ من ذكر صيغة التحديث بين عطاء بن يسار وأبي الدرداء أخطأ في ذلك. والله أعلم.

وأما الاحتمال الذي ذكره ابن عبد البر وهو أن يكون عطاء سمع هذا الحديث من معاوية فضعيف؛ لأن سياق الحديث يبعد فيه هذا الاحتمال. وأما العلة الثانية في الحديث فقد قال ابن عبد البر: "لا أعلم هذ القصة روي أنها عرضت لمعاوية مع أبي الدرداء إلا من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، ولم يروَ من وجهٍ آخر فيما علمت، وليست محفوظةً إلا لمعاوية مع عبادة بن الصامت"1. ولكن ابن عبد البر في موضعٍ آخر أشار إلى إمكان ثبوتها عن أبي الدرداء كما أنها مشهورة عن عبادة بن الصامت، فقد قال ابن عبد البر: "وممكن أن يكون له مع أبي الدرداء - أي معاوية - مثل هذه القصة أو نحوها"2. ورجّح الزرقاني هذا الاحتمال حيث قال: "الإسناد الصحيح وإن لم يرد من وجهٍ آخر، فهو من الأفراد الصحيحة، والجمع ممكن، لأنه عرض له ذلك مع عبادة وأبي الدرداء"3. والذي يظهر لي هو ما ذكره ابن عبد البر أولاً وهو أن المحفوظ في هذه القصة أنها عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ورواية عطاء بن يسار عن أبي الدرداء شاذة، وذلك لورود الطرق الكثيرة التي تثبت أن الواقعة إنما كانت بين عبادة بن الصامت

ومعاوية - رضي الله عنهما -، وفي بعض الطرق ذكر فيها قدوم عبادة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه1، وأن عمر أمر معاوية بما حدثه به عبادة بن الصامت رضي الله عنه نظير ما ذكر في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، مما يؤيد أن ذكر أبي الدرداء غير محفوظ. وأما قول الزرقاني: "الإسناد الصحيح ... " الخ. فالجواب عنه بما سبق أنه منقطع بين عطاء وأبي الدرداء رضي الله عنه. والله أعلم. وقوله: "باع سقايةً من ذهب"، السقاية إناء يشرب فيه2. 152 - (13) عن أبي الزبير المكي قال: سمعنا أبا أُسيد3 الساعدي وابن عباس يفتي الدينار بالدينارين، قال: فقال أبو أُسيد الساعدي وأغلظ له، فقال له ابن عباس: ما كنت أظنُّ أنّ أحداً يعرف قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لي مثل هذا يا أبا أُسيد، فقال أبو أُسيد: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، وصاع حنطة بصاع حنطة، وصاع شعير بصاع شعير، وصاع ملح بصاع ملح، لا فضل بين شيء من ذلك"، فقال عبد الله بن عباس: إن هذا شيءٌ إنما كنت أقوله برأي ولم أسمع فيه شيئاً.

رواه الشاشي1 وهذا لفظه، والطبراني2، والحاكم3، وابن عبد البر4. كلهم من طرقٍ عن عتيق بن يعقوب الزبيري حدثني عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن إبراهيم بن طهمان به. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه بهذه السياقة، وعتيق بن يعقوب شيخ قرشي من أهل المدينة. وفي قول الحاكم نظر، ذلك أن عتيق بن يعقوب لم يرو له مسلم شيئاً، بل لم يرو له أصحاب الكتب الستة. وعتيق بن يعقوب وثقه الدارقطني، وذكره ابن حبان في الثقات5. وأما عبد العزيز بن محمد الدراوردي فقد سبق الكلام فيه6، وأنه صدوق يخطئ. وإبراهيم بن طهمان هو أبو سعيد الخراساني، وثّقه جمهور أئمة الجرح والتعديل إلا من شذَّ7. قال ابن حجر: ثقة يغرب8. قال الهيثمي عن هذا الحديث: "إسناده حسن"9. وهو كما قال - رحمه الله - إلا أن له شواهد تؤيده فيكون بها صحيحاً لغيره. والله أعلم.

وروى الطبراني1 الحديث بإسناده عن طاهر بن خالد بن نزار عن أبيه حدثنا إبراهيم بن طهمان عن مطر الورَّاق عن عطاء بن أبي رباح فذكر نحو حديث أبي الزبير المكي، إلا أنه ذكر أبا سعيد الخدري بدل أبا أُسيد الساعدي. قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن مطر الورَّاق إلا إبراهيم بن طهمان". وإسناد الطبراني فيه طاهر بن خالد بن نزار، وثقه الخطيب، وقال الدارقطني: هو وأبوه ثقتان. وقال ابن أبي حاتم: صدوق. وقال ابن عدي: له عن أبيه إفرادات وغرائب2. وخلص فيه الحافظ الذهبي إلى أنه: صدوق وله مناكير3. وأيضاً ففي إسناد الطبراني مطر الورّاق وحديثه عن عطاء ضعيف4. وهو هنا يروي عن عطاء بن أبي رباح. فعلى هذا فإن هذا الإسناد عن أبي سعيد الخدري ضعيف، والمعروف أنه عن أبي أسيد الساعدي رضي الله عنه كما تقدم. والله أعلم.

153 - (14) عن هشام بن عامر رضي الله عنه قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن نبيع الذهب بالورق نسيئة، وأنبأنا - أو قال: وأخبرنا - أن ذلك هو الربا". رواه أحمد1 واللفظ له، وعلي بن الجعد2، وأبو بكر بن أبي شيبة3، وأحمد بن منيع4، وأبو يعلى5، وابن جرير6، والطبراني7، كلهم من طرقٍ عن أيوب عن أبي قلابة عنه به، وعندهم أن هشام بن عامر رضي الله عنه لمّا قدم البصرة وجدهم يتبايعون الذهب في أعطياتهم فحدَّث بهذا الحديث. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح8. والإسناد وإن كان رجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي إلا أن فيه علةً، وهي الانقطاع، وذلك أن أبا قلابة لم يسمع من هشام بن عامر، قاله ابن المديني9. فعلى هذا فإن الإسناد ضعيف لانقطاعه، إلا أن الحديث له شواهد كثيرة تؤيده فيها النهي عن بيع الذهب بالورق نسيئة، فيكون الحديث بهذا الإسناد حسناً لشواهده. والله أعلم.

154 - (15) عن أبي رافعٍ قال: كنت أصوغ لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثنني أنهن لسمعن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، وزناً بوزن، فمن زاد أو استزاد فقد أربى". أخرجه أحمد1، وأبو سعيد بن الأعرابي2، بإسنادهما عن أبي جعفر عن يحيى البكاء به. قال الهيثمي: رواه أحمد، وفيه يحيى البكاء وهو ضعيف3. وأبو جعفر هو الرازي، واسمه عيسى بن أبي عيسى. مختلفٌ فيه. فوثقه ابن سعد، وابن معين في بعض الروايات عنه، وعلي بن المديني في رواية، وأبو حاتم، والحاكم وغيرهم. وضعفه ابن معين، وابن المديني، وأحمد في روايةٍ عنهم، وضعفه أيضاً أبو زرعة، والنسائي، وابن حبان وغيرهم4. وخلص فيه ابن حجر إلى أنه: صدوق سيء الحفظ خصوصاً عن مغيرة5. ويحيى البكاء هو يحيى بن مسلم، ويقال: ابن سليم، ويقال: ابن أبي خليد الأزدي. وثقه ابن سعد فقط، وضعفه أحمد، وابن معين، وأبو داود، وأبو زرعة، والنسائي، وابن حبان، وغيرهم6. وجعله ابن حجر في مرتبة: ضعيف7. وأبو رافع هو نُفيع الصائغ المدني، نزيل البصرة، ثقة ثبت8.

فمما سبق يتبين أن الحديث بهذا الإسناد ضعيف؛ لضعف يحيى البكاء، إلا أنه يرتقي بشواهده فيكون حسنًا لغيره. والله أعلم. 155 - (16) عن شرحبيل بن سعد أن أبا سعيد وأبا هريرة وابن عمر حدثوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الذهب بالذهب مثلاً بمثل، والفضة بالفضة مثلاً بمثل، عيناً بعين، من زاد أو ازداد فقد أربى". رواه مسدّد1، وأحمد2، وأبو يعلى3. كلهم من هذا الطريق. وعندهم أن شرحبيل قال: إن لم أكن سمعته منهم فأدخلني الله النار. وشرحبيل بن سعد تقدم الكلام عليه وأنه ضعيف4. ولكن أحاديث هؤلاء الصحابة ثابتة عنهم قد سبق ذكرها، فيكون الحديث الذي رواه شرحبيل حسناً لغيره، لأنه قد توبع على حديثه. والله أعلم. 156 - (17) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمر الرَّيَّان، فقال: أَنَّى لكم هذا التمر؟ قالوا: كان عندنا تمر بعلاً، فبعناه صاعين بصاعٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رُدُّوه على صاحبه". رواه البزار5 وهذا لفظه، والطبراني في الأوسط6. كلاهما بإسنادهما عن روح بن عبادة حدثنا كثير بن يسار عن ثابت البناني به.

ولفظ الطبراني في آخره قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ردُّوه على صاحبه، فبيعوه بعين، ثم ابتاعوا التمر". قال البزار: لا نعلم رواه عن ثابت إلا كثير. وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن ثابت إلا كثير أبو الفضل، تفرد به رَوْح. قال الهيثمي: إسناده حسن1. وكثير بن يسار لم يوثقه غير ابن حبان. وأثنى عليه سعيد بن عامر خيراً. وذكره البخاري في تاريخه وأشار إلى حديثه هذا عن أنس، ولكن لم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً2. وكذلك ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً3. وقال ابن القطان: حاله غير معروفة4. وتعقبه الحافظ ابن حجر بأن حاله معروفة، ثم ساق عدداً ممن روى عنه، ولكنه لم يذكر أحداً ممن وثقه غير ابن حبان. والذي يظهر لي هو ما قاله ابن القطان؛ لأن الرواية عن الراوي لا ترفع من جهالة حاله، وإنما إذا روى عن الرواي أكثر من واحد فإنها ترفع جهالة عينه فقط. وهذا الحديث عن أنس لا يعلم رواه عنه غير كثير بن يسار عن ثابت البناني عنه كما سبق في قول البزار والطبراني.

وكثير بن يسار ليس في درجة من يُقبل حديثه إذا انفرد. والذي يظهر أن إسناد هذا الحديث ضعيف؛ لأن فيه كثير بن يسار، وهو مجهول كما سبق، إلا أن متن الحديث صحيح ثابت بأحاديث كثيرة مرَّ ذكرها فيما سبق. والله أعلم. 157 - (18) عن أبي الزبير المكِّي قال: سألت جابر بن عبد الله عن الحنطة بالتمر وفضل، يداً بيدٍ، فقال: "قد كنّا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نشتري الصاع الحنطة بستة آصع من تمرٍ يداً بيدٍ، فإن كان نوعاً واحداً، فلا خير فيه إلا مثلاً بمثل". أخرجه أبو يعلى1 بإسناده عن عبد الرحيم بن سليمان عن أشعث بن سوار به. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح2. وفي قوله نظر، فإن أشعث بن سوار ليس من رجال الصحيح، فالبخاري لم يخرج له في الصحيح، إنما خرج له في الأدب المفرد، ومسلم إنما خرج له في المتابعات3. وقد تقدّم أن أشعث بن سوار ضعيف4. وعلى هذا فإن هذا الحديث بهذا الإسناد ضعيف لضعف أشعث بن سوَّار، إلا أنه لا يمنع من الاستشهاد به لكون المعنى الذي يدل عليه صحيح، فقد جاء في أحاديث كثيرة ذكرت في هذا الفصل تدل على إباحة بيع الجنسين المختلفين ولو مع التفاضل إذا كان يداً بيدٍ.

158 - (19) عن أبي رافع قال: سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، مثلاً بمثلٍ، الزائد والمستزيد في النار". جاء هذا الحديث من طريقين: الطريق الأولى: موسى بن أبي عائشة عن حفص بن أبي حفص عن أبي رافعٍ عنه به: أخرجه البزار1 واللفظ له، والترمذي في العلل الكبير2. وفي إسنادهما حفص بن أبي حفص، قال فيه البخاري: فيه نظر3. وقال البزار: روى عنه السُّدِّي وموسى بن أبي عائشة، فقد ارتفعت جهالته4. وقال الدارقطني: مجهول5. وذكره ابن حبان في الثقات6. انتهى. فأما قول البزار في ارتفاع جهالته فالمقصود بها جهالة العين، وأما جهالة الحال فلا، حتى يوثقه معتبر، على أن ابن حبان فرق بين الذي يروى عنه السدي والذي يروي عنه موسى7. وأما قول الهيثمي: "في إسناد البزار حفص بن أبي حفص، قال الذهبي ليس بالقوي"8، فغير صحيح؛ لأن قول الذهبي

الذي نقله عنه الهيثمي إنما هو في حفص ابن أبي حفص التميمي السراج الذي يروي عن الحسن البصري1، وأما هذا الذي في إسناد البزار فقد ترجم له الذهبي ترجمة مستقلة، وذكر فيه قول البخاري السابق2. ووقع للحافظ ابن حجر نحو ما وقع للهيثمي3، وذلك أنه لمَّا ترجح لحفص بن أبي حفص التميمي، وذكر فيه قول الذهبي، ثم ذكر قول ابن حبان، ذكر بعد ذلك قول الدارقطني السابق. ومعلوم أن الدارقطني إنما قال قوله هذا في غير من ترجم له الحافظ ابن حجر. وأما قول الحافظ ابن حجر بعد أن نقل قول الدارقطني: فما أدري أهو التميمي أو غيره4. فالجواب عنه أن الدارقطني إنما قال: مجهول بعد أن ذكر حديث موسى بن أبي عائشة عن حفص بن أبي حفص عن أبي رافع عن أبي بكر رضي الله عنه ... "5 الحديث. ويظهر أن الحافظ ابن حجر ذهب أخيراً إلى أن حفص بن أبي حفص الذي يروي عن أبي رافع ليس هو التميمي، وذلك أنه قال في موضع آخر: "ثم وجدت الخطيب فرق بينهما في المتفق والمفترق ... "6. والله أعلم.

وممن فرّق أيضاً بين حفص بن أبي حفص التميمي، وحفص بن أبي حفص الذي يروي عنه موسى بن أبي عائشة ويروي عن أبي رافع: البخاري1 وابن أبي حاتم2. فمما سبق يترجح أن حفص بن أبي حفص الذي يروي عن أبي رافع ليس هو التميمي وإنما هو غيره. وعلى هذا فإن هذا الإسناد ضعيف لحال حفص بن أبي حفص، وقال أبو حاتم عن هذا الحديث: حديث منكر3. وقال الدارقطني: "الحديث غير ثابتٍ عن أبي رافع"4. الطريق الثانية: محمد بن السائب الكلبي عن أخيه سلمة5 بن السائب عن أبي رافعٍ به: أخرجه عبد الرزاق6، وابن أبي شيبة7، وعبد بن حميد8، وأبو بكر الأموي المروزي9، وأبو يعلى الموصلي10. كلهم من طرقٍ عن محمد بن السائب الكلبي به. ورواه إسحاق بن

راهويه1 بإسناده عن محمد بن السائب عن أخيه سلمة عن أسامة بن زيد عن أبي رافع به. ومحمد بن السائب الكلبي لا يعتبر به. قال البزار: أجمع أهل العلم بالنقل على ترك حديثه2. انتهى. وهو متهم بالكذب ورمي بالرفض3. فمما سبق يتبين أن هذا الحديث لا يصح عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ولكن رواه إسحاق بن راهويه4، والطحاوي5 بإسنادهما عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، قال: كتب أبو بكر الصديق إلى أمراء الأجناد حين قدم الشام: أما بعد، فإنكم قد هبطتم أرض الربا، فلا تتبايعوا الذهب بالذهب إلا وزناً بوزن، ولا الورق بالورق، إلا وزناً بوزن، ولا الطعام بالطعام، إلا كيلاً بكيل". قال أبو قيس: قرأت كتابه. انتهى. هذا لفظ الطحاوي. قال البوصيري: إسناده صحيح6. وهذا موقوف على أبي بكر الصديق، وفي إسناده موسى بن عُلَيّ بن رباح، قال فيه ابن سعد، وابن معين، وأحمد7،

والبخاري1، والعجلي، وأبو حاتم، والنسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. ونقل الساجي أن ابن معين قال فيه: ليس بالقوي2. وهذا النقل عن ابن معين معارض برواياتٍ أخرى عن ابن معين في توثيقه وهي أكثر. وأما قول ابن عبد البر: ما انفرد به فليس بالقوي3، فهو معارض بأقوال الأئمة السابقين، وقولهم مقدم. ولذلك فإن قول ابن حجر في موسى بن علي: "صدوق ربما أخطأ"4، لا يتوافق مع نقله عن أئمة الجرح والتعديل فيه. وحقُّه أن يكون ثقةً. ولذلك فإن قول الذهبي فيه: "ثبت صالح"5 أولى من قول الحافظ ابن حجر. والله أعلم. فعلى هذا فإن هذا الإسناد إسناد صحيح موقوف على أبي بكر الصديق رضي الله عنه. ورواه موقوفاً أيضاً ابن عبد البر. فقد روى بإسناده6 عن أبي صالح قال: كتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى عماله: "ألا يشتروا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا الفضة بالفضة إلا مثلاً

بمثل، ولا الحنطة بالحنطة إلا مثلاً بمثل، ولا الشعير بالشعير إلا مثلاً بمثل، ولا التمر بالتمر إلا مثلاً بمثل". وإسناد ابن عبد البر رجاله ثقات، إلا أن أبا صالح السَّمّان لم يسمع من أبي بكر الصديق. قال أبو زرعة: "أبو صالح ذكوان عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه مرسل"1. ورواه موقوفاً أيضاً مسدد2، فرواه بإسناده عن ابن سيرين "أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر نهوا عن الصرف". وإسناد مسدد رجاله ثقات، إلا أنه مرسل باعتبار روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم3، ومنقطع باعتبار روايته عن أبي بكر الصديق، فإن محمد بن سيرين لم يدرك أبا بكر رضي الله عنه4. إلا أنه يشهد له ما تقدم عن أبي بكر. ومما سبق يتبين أن الحديث المروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يثبت، وإنما الثابت عن أبي بكر الصديق هو الحديث الموقوف عليه، وأما الرفع فقد صح من غير طريق أبي بكر الصديق رضي الله عنه كما جاء في هذا الفصل. والله أعلم.

159 - (20) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما، فمن كانت له حاجة بورق فليصطرفها بذهب، ومن كانت له حاجة بذهب، فليصطرفها بالورق، والصرف هاءَ وهاءَ". رواه ابن ماجه1 واللفظ له، وابن جرير2، والطبراني3، والدارقطني4، والحاكم5، وأبو بكر بن المقريء6. كلهم من طرقٍ عن إبراهيم بن محمد بن العباس أبو إسحاق الشافعي عن أبيه محمد بن العباس الشافعي، ثم اختلفوا عليه. فرواه ابن ماجه والطبراني وأبو بكر بن المقرئ عنه عن أبيه عباس بن عثمان بن شافع عن عمر بن محمد بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده به. ورواه ابن جرير عنه - أي عن محمد بن العباس الشافعي - عن عمر بن محمد بن علي به - بدون ذكر عباس بن عثمان بن شافع -. ورواه الدارقطني والحاكم عنه عن عمر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه به. وعند الحاكم "عمر بن محمد بن زيد" وهو ابن عبد الله بن عمر العدوي. وذكر الحافظ ابن حجر7 أن عمر بن محمد الوارد في إسناد الدارقطني هو عمر بن محمد ابن عمر بن علي بن أبي طالب.

وهذا الاضطراب في الإسناد لعل سببه محمد بن العباس الشافعي، فإنه لم يوثقه غير ابن حبان1، وتسامح فيه الحافظ ابن حجر فقال فيه: "صدوق"2، وكان على اصطلاحه ينبغي أن يكون مقبولاً. وإسناد ابن ماجه فيه عباس بن عثمان بن شافع لا يعرف حاله3. وعمر بن محمد بن علي بن أبي طالب مجهول الحال4. ولذلك حكم عليه البوصيري بالضعف، فقال: "هذا إسناد ضعيف"5. وأما قول الحاكم عنه: حديث غريب صحيح، ففيه نظر؛ لجهالة محمد بن العباس الشافعي، واضطراب إسناده. ومما سبق يتبين أن الحديث ضعيف بهذا الإسناد لجهالة محمد بن العباس الشافعي، وللاضطراب الواقع في إسناده. ومعنى الحديث ثابت في أحاديث أخرى. والله أعلم. إلا أنه قد ثبت موقوفاً عن علي رضي الله عنه أنه نهى عن الصرف، فقد روى مسدَّد6 بإسنادٍ صحيح رواته أئمة ثقات عن سعيد بن المسيب "أن علياً وعثمان نهيا عن الصرف". وروى عبد الرزاق7، والطحاوي8 أيضاً عن علي رضي الله عنه ما يدل على أنه كان ينهى عن الصرف إلا مثلاً بمثل. والله أعلم.

160 - (21) عن سعيد بن المسيب قال: "لا ربا إلا في ذهبٍ أو فضة، أو مما يكال أو يوزن، بما يؤكل أو يشرب". رواه مالك1، والبيهقي2 بإسنادهما عن سعيد بن المسيب. ورواه الدارقطني3 بإسناده عن المبارك بن مجاهد عن مالك عن أبي الزناد عن سعيد بن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال الدارقطني: "هذا مرسل، وهم المبارك على مالك برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من قول سعيد بن المسيب، مرسل". وقال عبد الحق الإشبيلي4 نحو ما قال الدارقطني. قال ابن القطان: "ليست هذه علته، وإنما علته أن المبارك بن مجاهد ضعيف، ومع ضعفه انفرد عن مالك برفعه، والناس رووه عنه موقوفاً"5. ويظهر أن نتيجة قول ابن القطان هي نتيجة قول الدارقطني وعبد الحق، وذلك أن ترجيحهما كون الحديث من قول سعيد بن المسيب، والحكم على رواية المبارك بالوهم يغني عن بيان حال المبارك. وقد سبق أن الحديث في الموطأ من قول سعيد بن المسيب. وأما المبارك بن مجاهد، فهو أبو الأزهر الخراساني المروزي، ضعفه قتيبة، وأبو أحمد الحاكم، وابن حبان، وذكره ابن الجارود، والدولابي، والعقيلي في الضعفاء، وقال أبو حاتم الرازي: ما أرى بحديثه بأساً6.

فمما سبق يتبين أن الصواب في هذا الحديث أنه من قول سعيد بن المسيب، وأما رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فمُنْكَر. 161 - (22) عن عطاء بن أبي رباح قال: جاء بضعة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ابن عباس فقالوا: نحن أقدم سناً منك وأعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منك، أرأيت حين تحل الصرف وقد سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنه ... " فذكر الحديث1 عن أسامة رضي الله عنه. رواه إسحاق بن راهويه2 عن محمد بن بكر أنبا إسماعيل بن عبد الملك بن أبي الصُّفيرا3 به. ومحمد بن بكر هو ابن عثمان البرساني البصري، قال عنه أحمد: صالح الحديث. وقال ابن معين وأبو داود والعجلي: ثقة. وقال أبو حاتم: شيخ محلّه الصدق. وقال النسائي: ليس بالقوي4. وخلص فيه الحافظ ابن حجر إلى أنه: صدوق قد يخطئ5. وأما إسماعيل بن عبد الملك بن أبي الصفيرا، فقد قال عنه ابن مهدي: اضرب على حديثه. وقال ابن معين: ليس به بأس، وقال مرّة: ليس بالقوي. وكذا قال النسائي. وقال أحمد: منكر الحديث، وذكر له أحمد حديثاً منكراً عن عطاء بن أبي رباح. وقال البخاري: يكتب حديثه.

وقال أبو حاتم: ليس بقويٍ في الحديث وليس حده الترك. وقال ابن حبان: سيء الحفظ رديء الفهم1. وجعله ابن حجر في مرتبة: صدوق كثير الوهم2. فعلى هذا فإن هذا الإسناد ضعيف لضعف إسماعيل بن عبد الملك بن أبي الصُّفيرا، ولم يتابع على ذكر هؤلاء العدة من الصحابة. قال ابن حجر: "لم يخرجوا هذا السياق عن هذه العدة من الصحابة، وإسماعيل فيه كلام"3 انتهى. وقال البوصيري4 نحو قول الحافظ ابن حجر.

دلالة الأحاديث السابقة: يستفاد مما تقدم النهي عن الربا. والربا لغةً: الزيادة. يقال: ربا الشيء يربو ربواً ورباءً، زاد ونما، وأربيته: نمّيته، وفي التنزيل: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} 1. أما في الشرع، فيختلف باختلاف نوعه. ويمكن تقسيم أنواعه إلى قسمين: 1 - ربا الدَّين: وهو أن يقول صاحب الدين للمدين: إما أن تقضي الدين وإما أن تربي، أي تزيد فيه، فيزيد في الدين ويؤخر الأجل. وهذا هو ربا الجاهلية2. ويدخل فيه ربا القرض3، ويقصد به اشتراط نفعٍ للمقرض؛ لأنه جعل الزيادة - وهو النفع - في مقابل الدَّين. وإذا كان ما حصل به القرض من الأموال الربوية، فيدخل أيضاً في ربا البيع الذي سوف يأتي؛ لأن القرض من باب الإرفاق والإحسان، فإذا اشترط فيه نفع للمقرض أصبح من باب المعاوضات والبيع. 2 - ربا البيع: وهو مختص بالأصناف التي يجري فيها الربا، وهو على قسمين:

أ - ربا نسيئة: وهو أن يُشترط أجل في أحد العوضين1. وهذا يكون في بيع كل ربويين سواءً اتفقا في الجنس أو اختلفا. ب - ربا فضل: وهو بيع ما يجري فيه الربا بمثله مع زيادةٍ في أحدهما. ومن التعريف يعلم أن ربا الفضل لا يكون إلا في بيع الجنسين المتفقين من الأموال الربوية. ويزيد بعض العلماء نوعاً آخر من أنواع الربا وهو ربا اليد، ويعنون به تأخير القبض في أحد العوضين، أي أن يفارق أحدهما مجلس العقد قبل التقابض2. لكن يمكن إرجاع هذا النوع إلى ربا النسيئة، فالمنع من التفرق قبل القبض في الأموال الربوية لئلا يكون سبباً لربا النسيئة، وأيضاً فإن المتعاقدين قد يتعاقدان على الحلول والعادة جارية بصبر أحدهما على الآخر كما يفعل أرباب الحيل، يطلقون العقد وقد تواطئوا على أمرٍ آخر. والربا محرّم بالكتاب والسنة وإجماع الأمة. أما في الكتاب فيقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 3، ويقول سبحانه: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ

أَثِيمٍ} 1، إلى أن يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} 2. وهذا الربا الوارد في هذه الآيات هو ربا الدَّين الذي سبق التعريف به وأنه هو ربا الجاهلية. قال ذلك مجاهد وقتادة وغيرهما3. وقد قال أبو بكر الجصّاص: "والربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادةٍ على مقدار ما استُقرض على ما يتراضون به"4. وقال نحو ذلك ابن عبد البر5. وأما ربا البيع فقد بيّنت السنة تحريمه - كما سيأتي -. وأما الأدلة الواردة من السنة على تحريم الربا، فقد سبق ذكر بعضها في هذا الفصل، وفيها التصريح بتحريمه، وأنه من الموبقات المتوعد صاحبها باللعن والعقوبة في الآخرة. وقد قال الإمام مالك: "إني تصفحت كتاب الله وسنة نبيه فلم أر شيئاً أشرّ من الربا؛ لأن الله أذن فيه بالحرب"6. وللربا مضار كثيرة في عدة نواحي، فمن الناحية الأخلاقية فإن المرابي يكون منطبعاً بتأثير الأثرة والبخل والعبودية للمال والتكالب عليه.

وأما من الناحية الاجتماعية فإن المجتمع الذي يتعامل أفراده فيما بينهم بالأثرة ولا يساعد فيه أحدٌ غيره إلا أن يرجو منه فائدة راجعة على نفسه، ويستغل الغني الفقير في ضائقته وفقره، فهذا مجتمع لا يمكن أن يقوم ويظل قائماً على قواعد محكمة، بل يكون متفككاً مشتتاً. ومن أضراره الاقتصادية الكثيرة، أن أصحاب الأموال لا يتجهون إلى استثمار الأموال في المشاريع النافعة التي يستفيد منها أهل البلد؛ لأنه بالربا الحاصل له من القرض الربوي لا يحتاج إلى هذه الاستثمارات، ولأن هؤلاء يبقون أموالهم في موضعٍ واحدٍ يرجون ارتفاع سعر الربا، وهذا يؤثر في وفرة الأعمال واستهلاك البضائع1. إلى غير ذلك من مضاره الكثيرة التي لا ينكرها إلا مكابرٌ مادّي. وقد أجمع العلماء على تحريم ربا الدَّين2 وربا النسيئة3. وأما ربا الفضل فقد صحّ الحديث في تحريمه عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق تسعةٍ من الصحابة فيما وقفت عليه، وهم: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وفضالة بن عبيد، وعبادة بن الصامت، وأبو بكرة، ومعمر، وأبو أسيد الساعدي - رضي الله عنهم أجمعين -. وصحّ موقوفاً عن أبي بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - وقد سبق ذكر ألفاظهم فيما تقدم من أحاديث هذا الفصل.

وخالف في هذا عبد الله بن عمر وابن عباس رضي الله عنهما فكانا لا يريان بربا الفضل بأساً، إلا أنه قد صح - كما سبق - عن ابن عمر - رضي الله عنهما - رجوعه عن قوله هذا إلى القول بتحريمه. وأما ابن عباس - رضي الله عنهما - فاختلفت الرواية عنه، وقد سبق أن الراجح عنه هو رجوعه عن قوله بإباحة ربا الفضل أيضاً - والله أعلم -. وعلى كلٍ فإنه كما قال ابن عبد البر: رجع ابن عباس – رضي الله عنهما - أو لم يرجع فالسنة كافية عن قول كل أحدٍ، ومن خالفها جهلاً بها ردَّ إليها. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ردُّوا الجهالات إلى السنة1. وذكر بعض العلماء عن البراء بن عازب وزيد بن أرقم - رضي الله عنهما - إباحة ربا الفضل أيضاً، وقد سبق أن هذا النقل لا يصح عنهما2. والله أعلم. وقد جاء في روايةٍ عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يرى إباحة ربا الفضل ثم رجع عن ذلك. رواه البيهقي3. إلا أن هذه الرواية في إسنادها أبو إسحاق السبيعي وهو مدلّس4، ولم يصرّح بالسماع. والله أعلم. وأما حديث أسامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما الربا في النسيئة"5، فظاهره أنه لا بأس بربا الفضل، إلا أن العلماء أجابوا عن حديث أسامة رضي الله عنه هذا بعدة أجوبة منها:

1 - لعل الحديث وارد في جنسين مختلفين لا جنس واحد، وأن أسامة رضي الله عنه لم يدرك أول الحادثة التي ورد فيها الحديث1. 2 - أنه رواية صحابي واحد، وروايات منع ربا الفضل عن جماعةٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ورواية الجماعة أقوى وأثبت وأبعد من الخطأ من رواية الواحد. 3 - أن حديث أسامة مجمل، وحديث غيره مبيَّن. فوجب العمل بالمبين وتنزيل المجمل عليه. 4 - أن حديث أسامة المقصود به حصر الكمال. 5 - أن حديث أسامة فيه نفي تحريم ربا الفضل بالمفهوم، فيقدم عليه أحاديث الجماعة والتي فيها التحريم؛ لأن دلالتها بالمنطوق. 6 - ذهب بعضهم إلى أن حديث أسامة في إباحة ربا الفضل منسوخ بأحاديث التحريم، ولذا ذكره بعض من ألف في ناسخ الحديث ومنسوخه، كالحازمي2 والجعبري3. وغيرها من الأجوبة4. هذا فيما يتعلق في حكم الربا. أما ما يجري فيه الربا فالأحاديث التي سبق ذكرها في هذا الفصل لم تعين إلا ستة أصناف مما يجري فيه الربا وهي: الذهب، والفضة، والبر، والشعير، والتمر، والملح. فهل هناك ما يلحق بهذه المذكورة أم لا؟ فإن كان هناك ما يلحق بها ويقاس عليها فما هي العلة الجامعة بينها؟

ذهب طاوس وقتادة وابن عقيل من الحنابلة1 والظاهرية2 إلى القول بأن الربا مقصور على الأصناف الستة الواردة في الحديث، وخالفهم جمهور العلماء، فقالوا بأن هناك غير هذه الأصناف الستة مما يحرم فيه الربا. واختلفوا في العلة الموجودة في هذه الأصناف الستة والتي من أجلها حرم الربا فيها حتى يقاس عليها غيرها مما فيه نفس العلة. فعند الحنفية أن علة الربا في الأشياء الأربعة المنصوص عليها من غير الذهب والفضة هي الكيل مع الجنس. وفي الذهب والفضة الوزن مع الجنس. فلا تتحقق العلة إلا باجتماع الوصفين، وهما: القدر والجنس3. وهذا القول هو المشهور من مذهب الحنابلة4. وأما عند المالكية فعلّة الربا في الذهب والفضة هي الثمنية، وفي الأصناف الأربعة الأخرى كونها مطعومة مدخرة مقتاتة. ولم يشترط بعضهم الاقتيات5. وأما عند الشافعية فعلّة الربا في الذهب والفضة هي الثمنية أيضاً. وأما الأصناف الأربعة فالقديم من قول الشافعي أن العلة فيها هي كونها مطعوم جنسٍ مكيلاً أو موزوناً. وفي الجديد أن على الربا فيها هي الطعم مطلقاً6. وأما عند الحنابلة فسبق أن المشهور من المذهب هو كقول أبي حنيفة. وفي رواية كمذهب الشافعي في الجديد7. وفي رواية أخرى كمذهب الشافعي في القديم8، وهي اختيار ابن قدامة9.

ويظهر لي والله أعلم أن الأحاديث قد جاء في بعضها ذكر الذهب والفضة، وجاء في بعضها الآخر ذكر الدينار والدرهم، فإذا كان ذهبًا مصوغًا، أو تبرًا، فهو من جنس الذهب، وكذلك الفضة المصوغة حليًا، أو تبرًا، فإنها من جنس الفضة فالعلة فيها كونها ذهبًا أو فضة1، وأما الدينار والدرهم فالعلة فيهما كونهما أثمانًا؛ لأن هذا المعنى هو الذي يجري التعامل فيهما لأجله؛ فعلى هذا فالعلة فيهما متعدية في كل ما تعارف الناس عليه في أنه

ثمن للأشياء؛ كالأوراق النقدية في هذا الزمان. أما الأصناف الأربعة الباقية، فكون العلة فيها الكيل أو الوزن مع كونه مطعوماً هو الأقرب من هذه الأقوال وبه تجتمع الأدلة. واشترط ابن القيم أيضًا أن يكون مقتاتًا؛ كما هو قول المالكية1. وقد قال سعيد بن المسيب: "لا ربا إلا في ذهب أو فضة، أو مما يكال أو يوزن، مما يؤكل أو يشرب"2. والله أعلم. ويستفاد أيضًا من حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه المتقدم النهي عن بيع الذهب بالذهب مع أحدهما، أو معهما شيء غير الذهب؛ سدًا لذريعة الربا، فإن اتخاذ ذلك حيلة على الربا الصريح واقع؛ كبيع مائة درهم في كيس بمائتين؛ جعلاً للمائة في مقابلة الكيس، وقد لا يساوي درهما3. ويقاس عليه بيع كل ربوي بجنسه، معهما أو مع أحدهما من غير جنسهما، وهي المسألة المشهورة عند الفقهاء بمسألة (مد عجوة ودرهم) . وقد ذهب الشافعية4 والحنابلة5 في المشهور عندهم إلى تحريم هذه الصورة، وذهب الحنفية6 إلى الجواز إذا كان الربوي المفرد أكثر من الربوي الذي معه غيره، وهذا القول رواية عن أحمد7.

وذهب مالك1، وأحمد2 في رواية عنه إلى أن الربوي المخلوط إذا كان غير مقصود، وإنما دخل الربوي ضمنًا جاز؛ كبيع شاة ذات لبن، بشاة ذات لبن، أو سيف محلى بالذهب بذهب، وقد حدد مالك ذلك بأن لا يكون الربوي أكثر من ثلث ما معه. وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية هذا القول3.

_ 1 الكافي لابن عبد البر (2/640-641) . 2 الفتاوى (29/458) . 3 الفتاوى (29/461-462) .

الفصل الثالث: ما ورد في النهي عن المزابنة والمحاقلة

الفصل الثالث: ما ورد في النهي عن المزابنة والمحاقلة 162 - (1) عن ابن عمر - رضي الله عنهما - "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة"، والمزابنة بيع الثمر بالتمر كيلاً، وبيع الكرم بالزبيب كيلاً. رواه مالك1 بهذا اللفظ عن نافعٍ عنه به. ومن طريقه أخرجه البخاري2، ومسلم3، والنسائي4، والشافعي5، وأحمد6، والبيهقي7. ورواه من غير طريق مالك البخاري8، ومسلم9، وأبو داود10، والنسائي11، وابن ماجه12، وأحمد13، والطحاوي14، والبيهقي15، كلهم من طرقٍ عن نافعٍ به بنحوه.

وعند أحمد التصريح بأن تفسير المزابنة من نافع مولى ابن عمر. ورجح الحافظ أن التفسير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى فرض أنه من قول ابن عمر فالصحابة أعلم بذلك من غيرهم1. وروى الترمذي الحديث بإسناده عن محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن زيد بن ثابت "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة "2، فزاد في الإسناد زيد بن ثابت بين النبي صلى الله عليه وسلم وابن عمر - رضي الله عنهما -. وقد تفرّد بذلك ابن إسحاق وهو مدلِّس وقد عنعن، وقد بيَّن الترمذي أن رواية مالك وغيره عن نافع أصحّ من رواية ابن إسحاق. وأن المحفوظ في حديث زيد بن ثابت هو الرخصة في العرايا، وليس عنده ذكر النهي عن المحاقلة والمزابنة. وروى الشافعي3، والحميدي4، وعلي بن الجعد5، والطحاوي6 - من طريق الشافعي -، والحاكم7، كلهم من طرقٍ عن سفيان ثنا عمرو بن دينار سمعت إسماعيل الشيباني يقول: بعت ما في رؤوس نخلي بمائة وسق إن زاد فلهم وإن نقص فعليهم، فسألت ابن عمر، فقال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا إلا أنه أرخص في العرايا". وإسناد هذا الحديث صحيح.

وإسماعيل الشيباني هو إسماعيل بن إبراهيم. قال عنه أبو زرعة: ثقة1. ورواه البخاري2، ومسلم3، والنسائي مختصرًا4، والطحاوي5، والدارقطني6، كلهم من طرقٍ عن سالم عن أبيه مرفوعاً، بلفظ: "لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه، ولا تبيعوا الثَّمر بالتمر". وحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - في النهي عن بيع ما لم يبد صلاحه قد رواه أيضًا البخاري7، ومسلم8، وأبو داود9، والنسائي10، وابن ماجه11، كلهم من طرق عنه - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع". وعند مسلم: قيل لابن عمر - رضي الله عنهما -: ما صلاحه؟ قال: تذهب عاهته. وفي لفظ لمسلم وأبي داود، وهو لفظ الترمذي12 عنه - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع النخل حتى يزهو، وعن السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة، نهى البائع والمبتاع.

فمما تقدم يتبين أن حديث ابن عمر- رضي الله عنهما – في النهي عن المزابنة، وعن بيع ما لم يبد صلاحه حديث صحيح، وقد ثبت عنه من طرقٍ. والله أعلم. 163 - (2) عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر بالتمر، ورخَّص في العريِّة أن تباع بخرصها يأكلها أهلها رُطباً". رواه البخاري1 واللفظ له، ومسلم2، وأبو داود3، والنسائي4، والشافعي5، والحميدي6، وابن أبي شيبة7، وأحمد8، والطحاوي9، والطبراني في الكبير10، والبيهقي11، كلهم من طرقٍ عن بُشير بن يسار عنه به.

ورواه البخاري1، ومسلم2، والترمذي3، والنسائي4، وابن أبي شيبة5، وأحمد6، والطبراني7 من هذا الطريق بذكر رافع بن خديج مقروناً بسهل بن أبي حثمة. وسوف يأتي - إن شاء الله - ذكر حديث رافع بن خديج رضي الله عنه. وفي روايةٍ لمسلم والطحاوي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر بالتمر، وقال: ذلك الربا، تلك المزابنة". وفي روايةٍ لمسلم وأحمد والبيهقي أُبهم سهل بن أبي حثمة. ويبينه الطرق الأخرى للحديث. وفي رواية لمسلم والبيهقي جاء "عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل دارهم منهم سهل بن أبي حثمة". 164 - (3) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة والمحاقلة"، والمزابنة اشتراء الثمر في رؤوس النخل، والمحاقلة كراء الأرض.

رواه مالك1 بهذا اللفظ عن داود بن الحصين عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد عنه به. ومن طريق مالك أخرجه البخاري2، ومسلم3، وابن ماجه4، وأحمد5، وأبو يعلى6، والبيهقي7. وللحديث طريق أخرى، فقد رواه النسائي8، والدارمي9، وأحمد10، وأبو يعلى11، كلهم من طرقٍ عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي سعيدٍ به. ومحمد بن عمرو بن علقمة تقدم الكلام فيه12، وأنه صدوق له أوهام. وقد توبع عمرو بن علقمة بالطريق الأولى للحديث متابعة قاصرة فيعتضد بها. والله أعلم.

165 - (4) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة". رواه البخاري1 وهذا لفظه، وأحمد2، والطبراني في الكبير3، والبيهقي4، كلهم من طرقٍ عن أبي معاوية محمد بن خازم عن سليمان بن أبي سليمان أبي إسحاق الشيباني عن عكرمة مولى ابن عباس عنه به. وزاد أحمد والطبراني والبيهقي: وكان عكرمة يكره بيع القصيل. والقصيل هو ما قطع من الزرع وهو أخضر5. 166 - (5) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة". رواه مسلم6، والترمذي7، والنسائي8، وعبد الرزاق9، وأحمد10، والطحاوي11، والطبراني في المعجم الصغير12، كلهم من طرقٍ عن أبي هريرة رضي الله عنه وهذا لفظهم.

وزاد الطبراني: "والملامسة ونهى عن الشغار". ورواه مسلم1، والنسائي2، والطحاوي3، والدارقطني4 بلفظ: "لا تبتاعوا الثمر حتى يبدو صلاحه، ولا تبتاعوا الثمر بالتمر". 167 - (6) عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة، وقال: إنما يزرع ثلاثة: رجلٌ له أرضٌ فهو يزرعها، ورجلٌ منح أرضاً فهو يزرع ما منح، ورجلٌ استكرى أرضاً بذهب أو فضة". رواه أبو داود5 وهذا لفظه، والنسائي6، وابن ماجه7، وابن أبي شيبة8، والطبراني9، كلهم من طرقٍ به. وإسناده صحيح. وللحديث طرق كثيرة وألفاظ مختلفة أعرضت عنها واكتفيت بما سبق؛ لكونها - أي هذه الطرق - ليست في موضوع البيع، وإنما هي من باب

الإجارة والمزارعة، وقد أطال النسائي1 في بيان الاختلاف في طرق وألفاظ هذا الحديث2. وفي روايةٍ للنسائي جاء فيها بيان أن قوله "إنما يزرع ثلاثة ... " الحديث، من قول سعيد بن المسيب. وقد روى هذا الحديث مسلم3، ومالك4، وعبد الرزاق5، كلهم من طرقٍ عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ... " فذكر الحديث. وسعيد بن المسيب قد جاء في الطرق الأخرى للحديث أنه سمع هذا الحديث من رافع بن خديج رضي الله عنه. وأما سبب إخراج مسلم له مع إرساله، فالجواب ما ذكره السيوطي حيث قال: "عذره فيه أنه يورده محتجاً بالمسند منه لا بالمرسل، ولم يقتصر عليه للخلاف في تقطيع الحديث على أن المرسل منه تبين اتصاله من وجهٍ آخر"6. ويعني السيوطي بقوله هذا، أن مسلماً سمع حديثاً مسنداً ومعه هذا المرسل، فذكرهما جميعاً، ومقصوده الحديث المتصل، وأورد المرسل لكونه أراد أداء الحديث كما سمعه، ولم يقتصر على المتصل للخلاف في جواز تقطيع الحديث. والله أعلم.

168 - (7) عن زيدٍ أبي عياش أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن البيضاء بالسّلت، فقال له سعد: أيتهما أفضل؟ قال: البيضاء. فنهاه عن ذلك. وقال سعد: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل عن شراء التمر بالرُّطب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أينقص الرُّطب إذا يبس"؟ قالوا: نعم. فنهى عن ذلك". رواه مالك1 وهذا لفظه عن عبد الله بن يزيد به. ومن طريقه أخرجه أبو داود2، والترمذي3، والنسائي4، وابن ماجه5، والطيالسي6، وعبد الرزاق7، وابن أبي شيبة8، وأحمد9، والبزار10، وأبو يعلى11، والطحاوي12، وابن حبان13، والدارقطني14، والبيهقي15. وقال الترمذي: حسن صحيح.

ورواه النسائي، وعبد الرزاق، والحميدي1، وأحمد2، والطحاوي3، والدارقطني، والبيهقي، كلهم من طرقٍ عن إسماعيل بن أمية عن عبد الله بن يزيد به بنحو لفظ مالك. ورواه ابن الجارود4، والطحاوي5، بإسنادهما عن مالك وأسامة بن زيد عن عبد الله بن يزيدٍ به. فهؤلاء مالك، وإسماعيل بن أمية، وأسامة بن زيد كلهم اتفقوا على متن الحديث المتقدم. ويؤيد ما رووه ما أخرجه الحاكم6 - ومن طريقه البيهقي - بإسناده عن الربيع بن سليمان المرادي عن عبد الله بن وهب عن مخرمة بن بكير عن أبيه عن عمران بن أبي أنس قال سمعت أبا عياش ... " الحديث بنحو لفظ مالك. فهذه متابعة لعبد الله بن يزيد - في رواية الجماعة عنه -. وخالفهم يحيى بن أبي كثير، وذلك فيما رواه أبو داود7، والطحاوي، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي، كلهم من طرقٍ عن يحيى بن أبي كثير أخبرني عبد الله بن يزيد أنَّ أبا عيَّاش أخبره أنه سمع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه

يقول: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الرطب بالتمر نسيئة". فجعل النهي مقتصراً على بيعه نسيئة. وقد توبع يحيى بن أبي كثير في روايته هذه، وذلك فيما رواه الطحاوي1 عن يونس بن يزيد الأيلي عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن بكير بن عبد الله عن عمران بن أبي أنيس أن مولى لبني مخزوم حدثه أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن الرجل يسلف الرجل الرطب بالتمر إلى أجل؟ فقال سعد: "نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا". فهذه متابعة لعبد الله بن يزيد - في رواية يحيى بن أبي كثير عنه -. فاختلف العلماء في الترجيح بين الروايتين، فالطحاوي وابن التركماني2 وغيرهما من الأحناف يرجِّحون رواية يحيى بن أبي كثير ويجعلون النهي عن بيع الرطب بالتمر إذا كان نسيئة، وهذا هو مذهبهم. وخالفهم آخرون فرجحوا رواية مالك ومن معه، فقال الدارقطني - بعد ذكر رواية يحيى بن أبي كثير -، قال: "خالفه مالك وإسماعيل بن أمية والضحاك بن عثمان وأسامة بن زيد، رووه عن عبد الله بن يزيد ولم يقولوا "نسيئة"، واجتماع هؤلاء الأربعة على خلاف ما رواه يحيى يدل على ضبطهم للحديث، وفيهم إمام حافظ وهو مالك بن أنس". وذكر البيهقي ترجيحاً آخر لرواية مالك ومن معه، فقال: "العلة المنقولة في هذا الخبر تدل على خطأ هذه اللفظة"3. ويعني البيهقي بقوله هذا أن

في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أينقص الرطب إذا يبس؟ " ما يدل على أن النهي في حالة بيع الرطب بالتمر حالاً لعدم التماثل بينهما؛ لأنه وإن تساويا في الكيل إلا أن الرطب سوف ييبس فيقل كيله، وأما إذا كان النهي إنما هو مقتصر على بيعهما نسيئة لم يعد لهذا التعليل معنى؛ لأن النسيئة محرمة، حتى بين التمر بالتمر المتماثلين، فلا يخشى من نقص أحدهما. وأما الطحاوي وابن التركماني وغيرهما فسبق أنهم يرجحون رواية يحيى بن أبي كثير، وقد أتى الطحاوي على رواية إسماعيل بن أمية وأسامة بن زيد فضعفهما لما وقع في بعض الأسانيد عنهما من خطأ. وفعل نحو ذلك ابن التركماني وزاد عليه أن ضعف حتى رواية مالك بحجة اختلاف وقع عليه في بعض الأسانيد، وقد خالفه الطحاوي فصحح رواية مالك وعارضها برواية يحيى بن أبي كثير والمتابعة التي جاءت بمعناها، ثم قال عن رواية مالك ومن معه: "فبان بحمد الله ونعمته فساد هذا الحديث في إسناده وفي متنه1 جميعاً"2. ولكن يظهر أن ما ذكراه فيه نظر؛ لأن الخطأ في بعض الأسانيد المروية في حديثٍ ما لا يعني ضعف الحديث كله، وإلا فإن كثيراً من

الأحاديث الصحيحة وقع فيها نحو ذلك، فالضعيف لا يعل الصحيح. ورواية مالك لهذا الحديث جاءت عن أربعة عشر راوياً كلهم رووه عن مالك ولم يختلفوا عليه، وجاءت رواية واحدة تخالف روايتهم من طريق علي بن عبد الله بن المديني عن أبيه عن مالك عن داود بن الحصين عن عبد الله بن يزيد فذكر الحديث1. فعبد الله بن المديني والد علي بن المديني ضعيف2، وقد وجه علي بن المديني رواية والده بأنها كانت قبل أن يلقى مالكٌ عبدَ الله بن يزيد ويأخذ منه الحديث بلا واسطة. فهل هذا يعد اختلافاً على مالك ترد به روايته؟ لا شك أن هذا لا يصح. وأما ابن التركماني فقال: "ومالك قد اختلف عليه في سند الحديث ... ". وهذا بعيد من الصواب والله أعلم. فيترجح - والله أعلم - أن رواية مالك ومن تابعه هي المحفوظة، وأن رواية يحيى بن أبي كثير شاذة. وأما المتابعة التي جاءت بمعنى ما رواه يحيى بن أبي كثير، فتقدم أنه قد عارضها بنفس إسنادها رواية تؤيد رواية مالك ومن معه، ولكن ابن التركماني رجح رواية من تابع يحيى بن أبي كثير، وأخذ يضعف الرواية الأخرى مع أن إسنادها صحيح، وأما رواية مخرمة بن بكير عن أبيه فقد قال ابن حجر: "روايته عن أبيه وجادة من كتابه"3، وروى مسلم أحاديث من هذا الطريق4. والله أعلم.

والرواية التي تؤيد رواية يحيى بن أبي كثير وقد رواها الطحاوي، إسنادها أيضاً صحيح، والمولى من بني مخزوم هو زيد أبو عياش كما في الطرق الأخرى للحديث، ولكن قال عنها البيهقي: "هذا يخالف رواية الجماعة في غير موضع، فإن كان محفوظاً فهو إذا حديث آخر"1. وهذا الحمل الذي ذكره البيهقي متعيِّن؛ لأن في رواية مالك وغيره أنَّ أبا عياش سأل سعداً عن بيع السلت بالبيضاء، فذكر له سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الرطب بالتمر لعدم التماثل بينهما، فكذلك لا يجوز بين السلت بالبيضاء. وأما في رواية الطحاوي فجاء فيها أن أبا عياش سأل سعداً عن الرجل يسلف الرجل الرطب بالتمر إلى أجل. والله أعلم. فإذا ترجّح أن المحفوظ في هذا الحديث هو رواية مالك ومن تابعه عن عبد الله بن يزيد عن زيدٍ أبي عياش عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الرطب بالتمر". ليس فيه نسيئة، فقد أُعلّ هذا الحديث أيضاً بزيدٍ أبي عياش، فقال فيه أبو حنيفة وابن حزم: مجهول2. والجواب عن هذا ما قاله المنذري حيث قال: "كيف يكون مجهولاً وقد روى عنه اثنان ثقتان عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان، وعمران بن أبي أنس، وهما ممن احتج بهما مسلم في صحيحه، وقد عرفه أئمة هذا الشأن، هذا الإمام مالك قد أخرج حديثه في موطئه مع شدة تحريه في الرجال ونقده وتتبعه لأحوالهم، والترمذي قد أخرج حديثه وصححه، وصحح حديثه أيضاً الحاكم أبو عبد الله ... "3 انتهى.

ويضاف إلى ما ذكره المنذري أن الدارقطني قال فيه ثقة، وصحح حديثه ابن خزيمة وابن حبان، وذكره ابن حبان في الثقات1، وقال بعضهم إنه صحابي لكن هذا مردود كما قال الطحاوي2. فمما سبق يتبين أن الحديث صحيح من رواية مالك ومن تابعه. وهو يدل على النهي عن بيع الرطب بالتمر. وأما قوله في الحديث: "سئل عن بيع البيضاء بالسلت"، فالبيضاء نوع من البر أبيض اللون وفيه رخاوة يكون ببلاد مصر3. وأما السُّلت فقال الخطابي: "هو نوع غير البر وهو أدق حباً منه، وقال بعضهم البيضاء هو الرطب من السلت، والأول أعرف إلا أن هذا القول أليق بمعنى الحديث، وعلته تبين موضع التشبيه من الرطب بالتمر، وإذا كان الرطب منهما جنساً واليابس جنساً آخر لم يصح التشبيه"4 انتهى كلامه. وقال ابن عبد البر: "البيضاء هي الشعير"5. ويظهر أنه يرى أن السُّلت نوع غير الشعير، وذكر ابن عبد البر أن سعد بن أبي وقاص كان يرى أن البر والشعير والسُّلت نوع واحد لا يجوز التفاضل بينهما. فلذلك حدث بهذا الحديث الذي فيه النهي عن بيع المتماثلين إلا مثلاً بمثل. وقال ابن الأثير عكس ما قال ابن عبد البر، فقال: "إن البيضاء هي الحنطة، والسلت ضرب من الشعير أبيض لا قشر له"6. والله أعلم.

169 - (8) عن عبد الله بن أبي سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن رطبٍ بتمرٍ، فقال: "أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم. قال: لا يباع رطب بيابسٍ". رواه البيهقي1 بإسناده عن سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد الأنصاري عنه به. وهو مرسل، فإن عبد الله بن أبي سلمة هو الماجشون، تابعي، وهو ثقة2. وإسناده إلى عبد الله بن أبي سلمة صحيح. قال البيهقي: هذا مرسل جيِّد. وهذا المرسل يصلح للاعتبار به في الشواهد. وهو شاهد لما تقدم في النهي عن بيع الرطب بالتمر. والله أعلم. 170 - (9) عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباع الرطب بالتمر الجاف". رواه ابن عدي3، والدارقطني4، ومن طريقه ابن الجوزي5.

وفي إسناده يحيى بن أبي أُنيسة. تقدم الكلام فيه1، وأنه ضعيف جداً. وللحديث طريق أخرى، أخرجها الدارقطني2 أيضاً بإسناده عن موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرطب باليابس". وموسى بن عبيدة، هو الرّبذي، تقدم الكلام فيه وأنه ضعيف جداً3. فمما سبق يتبين أن هذين الإسنادين ضعيفان ضعفاً شديداً، وذلك لأجل يحيى بن أبي أُنيسة، وموسى بن عبيدة الربذي، وبهما أعل ابن الجوزي4 الحديث. والله أعلم. ومما ورد في هذا الفصل أيضاً: (10) حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وقد تقدم5. (11) حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -، وقد تقدم6. (12) حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، وقد تقدم7.

دلالة الأحاديث السابقة: يستفاد مما تقدم من أحاديث هذا الفصل النهي عن المحاقلة والمزابنة. أما المحاقلة فقد اختلف في معناها، ولكن أشهر ما فسرت به معنيان: أحدهما: اكتراء الأرض بالحنطة وهو ما يسمى بالمزارعة. والثاني: أنه بيع الطعام في سنبله بالبر. وقد سبق أن سعيد بن المسيب فسَّر المحاقلة بهذين المعنيين، وفسّرها جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - بالمعنى الثاني، وهو الذي يهمنا هنا؛ لأنه هو الذي يتعلق بموضوع البيع، وأما الأول فهو من باب الإجارة. وقد أجمع العلماء على تحريم بيع الحنطة في سنبلها بحنطةٍ صافيةٍ1. وإنما نهي عنه لعدم تحقق المساواة فيهما وهي شرط في الربويات. وذلك أن الحب إذا بيع بجنسه لا يعلم مقداره بالكيل. والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل2. وأما المزابنة فهي بيع الرطب على رؤوس النخل بالتمر، وأصله من الزبن وهو الدفع، كأنّ كل واحدٍ من المتبايعين يزبن صاحبه عن حقه بما يزداد منه3. ومن المزابنة أيضاً بيع الزبيب بالكرم، وقد ألحق الشافعي وغيره بالتمر والزبيب بيع كل مجهولٍ بمجهولٍ أو معلومٍ من جنسٍ يجري فيه الربا4.

وعند مالك أن المزابنة بيع كل مجهولٍ بمعلومٍ من صنفه كائناً ما كان سواءً أكان مما يجوز فيه التفاضل أم لا؛ لأن ذلك يصير إلى باب المخاطرة والقمار. وأجاز المالكية بيع المجهول بمثله، وبالمعلوم إن كثر أحدهما كثرة بيّنة إذا كان في غير ما يدخله ربا الفضل1، لعدم وجود المخاطرة والقمار هنا. والله أعلم. وتحريم المزابنة مما لا خلاف فيه بين العلماء2، وإنما نهي عنها لأن المساواة بين الرطب والتمر ونحوهما شرط، وما على الشجر لا يحصر بكيل ولا وزن، وإنما يكون تقديره بالخرص وهو حدسٌ وظن لا يؤمن فيه من التفاوت3. وقد جاء في بعض الأحاديث التي جاءت في النهي عن المزابنة الرخصة في العرايا، والعريَّة أن يبيع ثمر نخلاتٍ معلومة بعد بدو الصلاح فيها خرصاً بالتمر الموضوع على وجه الأرض كيلاً. وقد استثناها الشرع لحاجة الناس إليها، كما استثنى السلم بالجواز من بيع ما ليس عنده4. ولا تصح العرايا إلا باعتبار المماثلة، فيخرص النخل، فيقال: ثمرها إذا جف يكون كذا وكذا، فيبيعه بقدره من التمر كيلاً، ويقبض مشتري التمرِ التمرَ، ويخلّي بين مشتري الرطب والنخلة في مجلس العقد يقطعه متى شاء، فإن تفرّقا قبل ذلك كان فاسداً5.

وتجوز العرايا إذا كان الرطب دون خمسة أوسق كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين: "أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا في خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق"1، فيخرص الرطب كم يكون قدره إذا صار تمرًا، فإذا كان دون خمسة أوسق جاز. وقد اشترط بعض الفقهاء شروطاً أخرى لجواز العرايا لا دليل عليها، والله أعلم. والتفسير السابق للعرايا قال به الشافعي2، وأحمد3، وغيرهما من العلماء، وهذا التفسير هو الذي يتوافق مع الأدلة الواردة في الرخصة للعرايا. وأما الإمام مالك فعنده أن المراد بالعرايا أن يهب الرجل لآخر ثمراً على رؤوس الشجر، ثم يبدو للواهب أن يبتاعها من الذي أُعريها، فيحل له أن يشتريها بالدنانير والدراهم، وإن كانت أكثر من خمسة أوسق، ويحل له أيضاً أن يشتريها بالطعام، ولكن لا يجوز فيما هو أكثر من خمسة أوسق4. وعند أبي حنيفة أن العرايا هي أن يهب الرجل ثمر نخله من بستانه لرجل، ثم يشق على المُعري دخول المعرى له في بستانه كل يومٍ لكون أهله في البستان، ولا يرضى من نفسه خلف الوعد والرجوع في الهبة، فيعطيه مكان ذلك تمراً مجذوذاً بالخرص ليدفع الضرر عن نفسه ولا يكون مخلفاً للوعد، وإنما صار جائزاً لأن الموهوب لم يصر ملكاً للموهوب له ما دام

متصلاً بملك الواهب، فما يعطيه من التمر لا يكون عوضاً عنه، بل هبة مبتدأة، وإنما سمي ذلك بيعاً مجازاً1. وقد تمسك الأحناف بحديث: "التمر بالتمر كيل بكيل"، وما على رؤوس النخل تمر فلا يجوز بيعه بالتمر إلا كيلاً بكيلٍ2. وفي هذا نظر، فإن الذي نهى عن المزابنة هو الذي أرخص في العرايا، وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى، والقياس لا يصار إليه مع النص3. فإذا ترجح قول جمهور العلماء في الرخصة في العرايا، وأن الرطب على رؤوس النخل يباع بمثل خرصه من التمر، فقد قاس عليه بعض العلماء جواز بيع كل ربوي بجنسه على سبيل التحري والخرص عند الحاجة لذلك إذا تعذر الكيل أو الوزن4 ويستفاد مما تقدم أيضاً أنه لا يجوز بيع الرطب بالتمر مطلقاً، كما في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وهو قول جمهور العلماء5. ووافقهم الحنفية إذا كان البيع نسيئة، وأما إذا كان حالاً فليس بمنهي عنه عندهم6؛ وذلك أن الرطب والتمر إما أن يكونا جنسين فيجوز بيعهما ولو متفاضلين إذا كانا يداً بيد، وإما أن يكونا جنساً واحداً فيجوز بيعهما بشرط التماثل وأن يكون يداً بيدٍ، وعلى التقديرين فلا يمنع بيع

أحدهما بالآخر1. وفي هذا نظر؛ لأن الرطب والتمر جنس واحد أحدهما أزيد من الآخر بزيادة لا يمكن فصلها وتمييزها؛ لأنه لا يعرف التساوي بينهما إلا بعد الجفاف2. والله أعلم.

_ 1 انظر: المرجع السابق، وأعلام الموقعين (2/352) . 2 أعلام الموقعين (2/352) .

الفصل الرابع: ما ورد في النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة

الفصل الرابع: ما ورد في النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة 171 - (1) عن سمرة بن جندب رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة". رواه أبو داود1، والترمذي2، والنسائي3، وابن ماجه4، وابن أبي شيبة5، وأحمد6، والدارمي7، كلهم من طرقٍ عن قتادة عن الحسن عنه به بهذا اللفظ. قال الترمذي: "حديث سمرة حديث حسن صحيح، وسماع الحسن من سمرة صحيح، هكذا قال علي بن المديني وغيره". وقد اختلف في سماع الحسن البصري من سمرة رضي الله عنه. فقيل: إن أحاديثه عنه محمولة على السماع، وقد سمع منه كثيراً. وهذا ما نقله الترمذي عن علي بن المديني، وكذلك نقله عن البخاري، وصرَّح به الحاكم في المستدرك.

القول الثاني: أنه لم يسمع منه شيئاً. قاله شعبة، ويحيى القطان، وبهز بن أسد، ويحيى بن معين، وابن حبان، والبرديجي. وبعضهم يذكر أن روايته عنه من كتابٍ، كيحيى القطان والبرديجي. القول الثالث: أنه لم يسمع منه إلا حديث العقيقة، وباقي ما يروي عنه من كتاب. قاله النسائي، ومال إليه الدارقطني، والبيهقي، واختاره البزار، وعبد الحق الإشبيلي في أحكامه، وابن عساكر1. والذي يترجح لي أنه سمع منه في الجملة، إلا أن الحسن موصوفٌ بالتدليس، فلا يقبل من حديثه إلا ما صرّح فيه بالسماع. قال الذهبي: قال قائل: إنما أعرض أهل الصحيح عن كثيرٍ مما يقول فيه الحسن "عن فلان"، وإن كان مما قد ثبت لقيه فيه لفلانٍ المعيَّن، لأن الحسن معروف بالتدليس، ويدلِّس عن الضعفاء، فيبقى في النفس من ذلك، فإننا وإن ثبتنا سماعه من سمرة، يجوز أن يكون لم يسمع فيه2 غالب النسخة التي عن سمرة3. والله أعلم. وبهذا يتبين أن هذا الحديث ضعيف؛ لأن الحسن لم يصرِّح بالسماع من سمرة رضي الله عنه في هذا الحديث. والله أعلم.

172 - (2) عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحيوان اثنان بواحدٍ لا يصلح نسيئاً، ولا بأس به يداً بيدٍ". رواه الترمذي1 واللفظ له، وابن ماجه2، وعلي بن الجعد3، وأبو بكر بن أبي شيبة4، وأحمد5، والطحاوي6. كلهم من طرقٍ عن أبي الزبير عنه به. قال الترمذي: حسن صحيح. وأبو الزبير هو محمد بن مسلم بن تدرُس الأسدي، مولاهم المكي، مشهور بالتدليس. وقد ذكره الحافظ ابن حجر في المرتبة الثالثة من مراتب المدلِّسين7. ولم يصرِّح بالسماع في هذا الحديث، فعلى هذا فإن الحديث بهذا الإسناد ضعيف لتدليس أبي الزبير. والله أعلم. 173 - (3) عن ابن عمر - رضي الله عنهما - "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة".

رواه الترمذي في العلل الكبير1، والطحاوي2، والعقيلي3، والطبراني في الكبير4، وأبو الشيخ الأصبهاني5، وأبو نعيم الأصبهاني6، وأبو بكر بن المقرئ7. كلهم من طرقٍ عن محمد بن دينار الطاحي، عن يونس بن عبيد، عن زياد بن جبير به. ومحمد بن دينار الأزدي الطاحي البصري، مختلف فيه. فقال فيه ابن معين: ليس به بأس. وقال مرّةً: ضعيف. وقال أبو زرعة: صدوق. وقال أبو حاتم: لا بأس به. وقال أبو داود: تغيَّر قبل أن يموت. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال مرّةً: ضعيف. وقال العقيلي: في حديثه وهم. وقال الدارقطني: ضعيف. وقال مرّةً: متروك. وقال ابن عدي: حسن الحديث وعامة حديثه يتفرد به8. وجعله ابن حجر في مرتبة: "صدوق سيء الحفظ، ورمي بالقدر، وتغير قبل موته"9. قال أبو داود: ذكرت له - أي لأحمد بن حنبل - حديث ابن عمر في الحيوان، فقال: ليس فيه ابن عمر، هو عن زياد بن جبير موقوف10.

ولعل الإمام أحمد يقصد بقوله هذا أنه مرسل. بدليل قوله "ليس فيه ابن عمر"، وبدليل ما يأتي عن البخاري. فقد قال الترمذي: سألت محمداً- يعني البخاري - عن هذا الحديث. فقال: إنما يرويه زياد بن جبير عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً1. وعلى هذا فإن هذا الإسناد ضعيف لحال محمد بن دينار الطاحي، ولأن المحفوظ فيه الإرسال كما قال أحمد والبخاري. وقد تقدم2 لحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - طريق آخر، وذلك من طريق أبي جناب الكلبي عن أبيه عن ابن عمر - رضي الله عنهما - ... " الحديث، وفيه: "أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس، والنجيبة بالإبل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا بأس إذا كان يداً بيد". رواه أحمد3. وأبو جناب ضعيف مدلِّس. وقد روى الإمام مالك في موطئه عن نافع أن ابن عمر - رضي الله عنهما - "اشترى راحلةً بأربعة أبعرة مضمونةً عليه يوفيها صاحبها بالربذة"4، وهذا إسناد صحيح. وهذا قد يعل به الحديث المرفوع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - في النهي، إلا أن يحمل صنيع ابن عمر - رضي الله عنهما - على اختلاف المنافع كما سيأتي في الدراسة الفقهية. والله أعلم.

174 - (4) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة". جاء هذا الحديث من طريق معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عنه به. وقد اختلف على معمر في وصله وإرساله. أولاً: من رواه عن معمر موصولاً:

ليس بثقة. وقال أيضاً: ليس بشيء. وكان لسفيان ورّاق أفسد حديثه وأدخل فيه ما ليس منه1. فعلى هذا فلا يعتبر بهذه الرواية. والله أعلم. ثانياً: من رواه عن معمر مرسلاً: رواه عن معمر مرسلاً - ممن وقفت عليه - عبد الأعلى بن عبد الأعلى، ذكر ذلك البيهقي2. وعبد الأعلى ثقة3. ثالثاً: من اختلف عليه في وصله وإرساله:

منكر الحديث. وقال ابن حبان: منكر الحديث جداً، يأتي عن الثقات بالموضوعات ولا أحل كتب حديثه إلا على جهة التعجب. وقال الحاكم: روى عن الفضل وابن عيينة أحاديث موضوعة1. ورواه عن سفيان الثوري مرسلاً محمد بن يوسف الفريابي2، وهو ثقة، وقيل: يخطأ في حديث سفيان3. 2 - رواه عبد الرزاق عن معمر مرسلاً، كذلك رواه ابن الجارود4 بإسناده عنه. وصرّح البيهقي5 وابن عبد البر6 بأن رواية عبد الرزاق مرسلة. إلا أن الحديث في مصنف عبد الرزاق7 موصول. هذه هي الروايات التي وقفت عليها في هذا الحديث عن معمر. وذكر البيهقي أن علي بن المبارك الهُنائي قد تابع معمراً في الرواية المرسلة عنه8. وعلي بن المبارك ثقة تكلم في حديثه عن يحيى بن أبي كثير إذا روى عنه أهل الكوفة9.

وقد رجح الأئمة المتقدمون رواية الإرسال على الوصل. فقد قال الترمذي: "سألت محمداً عن هذا الحديث. فقال: قد روى داود بن عبد الرحمن العطار عن معمر هذا وقال: عن ابن عباس. وقال الناس: عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً"1. فظاهر كلام البخاري أن هناك جمعاً من الرواة كلهم يروون هذا الحديث عن معمر مرسلاً. وقال أبو حاتم أيضاً: "الصحيح عن عكرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل"2. ورجح إرساله أيضاً ابن خزيمة3، والبيهقي4. فعلى هذا فإن الراجح في هذا الحديث أنه مرسل. والله أعلم. 175 - (5) عن جابر بن سمرة رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة". رواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند5، ومن طريقه الخطيب البغدادي6، بإسناده عن أبي عمر المقري، عن سماك بن حرب به. وأبو عمر المقري قال فيه الهيثمي: "إن كان هو الدوري فقد وثق والحديث صحيح. وإن كان غيره فلم أعرفه"7.

والصحيح أن أبا عمر المقري هو حفص بن سليمان صاحب عاصم. وقد ذكر الخطيب هذا الحديث في ترجمته وبيّن أنه هو أبو عمر المقري. وحفص بن سليمان هو ابن المغيرة أبو عمر الأسدي البزار. قال فيه أحمد، وابن المديني، ومسلم، وأبو حاتم، والنسائي: متروك الحديث. وقال ابن معين: ليس بثقة. وقال البخاري: تركوه1. ولذا قال ابن حجر فيه: متروك الحديث مع إمامته في القراءة2. فعلى هذا لا يعتبر بهذه الطريق لضعف حفص بن سليمان ضعفاً شديداً. والله أعلم. وقد جاء الحديث من طريق أخرى أضعف منها، وذلك فيما رواه الطبراني في الكبير3، وابن عدي4، بإسنادهما عن إبراهيم بن راشد الأدمي ثنا داود بن مهران ثنا محمد بن الفضل بن عطية عن سماكٍ به. وهذا الإسناد فيه محمد بن الفضل بن عطية، قال فيه أحمد: ليس بشيء، حديثه حديث أهل الكذب، وقال ابن معين: ضعيف. وقال مرّة: ليس بشيء ولا يكتب حديثه. وقال مرّةً: كان كذاباً لم يكن ثقة. وقال عمرو بن علي: متروك الحديث كذاب. وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث. وقال أبو حاتم: ذاهب الحديث تُرك حديثه. وقال مسلم والنسائي والدارقطني: متروك الحديث. وقال النسائي مرّةً: كذاب5.

قال ابن حجر: كذبوه1. وفي الإسناد أيضاً إبراهيم بن راشد الأدمي. قال فيه ابن أبي حاتم: صدوق. وذكره ابن حبان في الثقات، ووثقه الخطيب، واتهمه ابن عدي2. فعلى هذا فإن هذه الطرق لا يقوي بعضها بعضاً. فمما سبق يتبين أن هذا الحديث عن جابر بن سمرة ضعيف جداً، فلا يعتبر به. والله أعلم.

دلالة الأحاديث السابقة: أحاديث هذا الفصل تدل على النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة. وبه قال أبو حنيفة1. إلا أنه قد سبق أن هذه الأحاديث في جميعها مقال. إلا أن الراجح أنها بمجموعها تصلح للاحتجاج، وقد عارضها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أمره أن يجهز جيشاً فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ في قلاص الصدقة، فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة" 2، وقلاص جمع قلوص، وهي الناقة الشابة3.

فهذا الحديث يدل على إباحة بيع الحيوان بالحيوان نسيئة. وإلى هذا ذهب الشافعي1 وأحمد في الصحيح من مذهبه2. وقد حكى البخاري هذا المذهب عن ابن عمر، ورافع بن خديج، وابن المسيب، وابن سيرين3، ورواه مالك4 عن علي رضي الله عنه. ولهذا القول أدلة أخرى غير هذا الحديث، إلا أن هذا الحديث هو أقواها. وأما دعوى النسخ لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما-5، فلا دليل عليها. والله أعلم. وذهب مالك إلى جواز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة بشرط ألا يتحدا في الجنس والمنفعة، فيجوز أن يبتاع البعير بالبعير نسيئة، أما إذا اختلفا في الجنس فيجوز مطلقًا، ويجوز أيضًا إذا اختلفا في المنفعة بيعهما مطلقًا، كما لو باع بعيرًا نجيبًا ببعيرين ليسا كذلك نسيئة، وهذا عند المالكية في الحيوان وغيره، فإنه لا يجوز السلم عندهم في شيئين من جنس واحد إلا متماثلين في العدد والصفة إلا أن تختلف المنفعة، وعندهم أن الشيء في مثله قرض6.

فخلاصة مذهب مالك أنه لا يجتمع التفاضل والنَّسَاء في الجنس الواحد، والجنس عنده ما اتفقت منافعه وأشبه بعضه بعضًا1، وهذا القول رجح شيخ الإسلام ابن تيمية2، وابن القيم3. وهذا القول هو الذي تجتمع به الأدلة. وحديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - يحمل على اختلاف المنافع والأغراض؛ فإن الذي كان يأخذه إنما هو للجهاد، والذي جعله عوضًا هو من إبل الصدقة قد يكون من بني المخاض ومن حواشي الإبل ونحوها4. وهذا أولى ما يحمل عليه الحديث، وهو أولى من حمله على حاجة الجهاد5؛ لأن هذا وإن صلح جوابًا عن هذا الدليل فالأدلة الأخرى لا يتم فيها هذا الجواب. وأما بيع الحيوان بالحيوان متفاضلاً، يدًا بيد فلم يرو فيه نهي، وقد روى مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال: جاء عبد فبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة ولم يشعر أنه عبد، فجاء سيده يريده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "بعنيه" فاشتراه بعبدين أسودين" 6.

_ 1 تهذيب السنن (9/150) . 2 تفسير آيات أشكلت (2/679) . 3 تهذيب السنن (9/150) . 4 تهذيب السنن (9/151) . وانظر الكافي لابن عبد البر (2/660) . 5 انظر زاد المعاد (3/488) . 6 صحيح مسلم، كتاب المساقاة (3/1225) .

الفصل الخامس: ما ورد في النهي عن بيع اللحم بالحيوان

الفصل الخامس: ما ورد في النهي عن بيع اللحم بالحيوان 176 - (1) عن سمرة بن جندب رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الشاة باللحم". رواه الحاكم1 وهذا لفظه، والبيهقي2، كلاهما من طريق إبراهيم بن طهمان عن الحجاج بن الحجاج الباهلي، عن قتادة عن الحسن عنه به. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، رواته عن آخرهم حفاظ ثقات، ولم يخرجاه، وقد احتج البخاري بالحسن عن سمرة. وقال البيهقي: هذا إسناد صحيح، ومن أثبت سماع الحسن البصري عن سمرة بن جندب عدّه موصولاً، ومن لم يثبته فهو مرسل جيِّد. وقد سبق الكلام في سماع الحسن من سمرة3 رضي الله عنه، وأن الراجح فيه ثبوت سماعه منه في الجملة، ولكن يشترط تصريحه بالسماع منه؛ لأن الحسن مدلِّس. وهو في هذا الحديث لم يصرِّح بالسماع، فعلى هذا فإن هذا الإسناد ضعيف. وقد تقدم في الفصل السابق أن قتادة يروي هذا الحديث عن الحسن، عن سمرة رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة". وقد روى هذا الحديث عن قتادة جماعة؛ منهم شعبة، وسعيد بن أبي عروبة، وحماد بن سلمة، فهل الحديثان محفوظان عن قتادة؟ الله أعلم.

177 - (2) عن القاسم بن أبي بزة قال: قدمت المدينة فوجدت جزوراً قد جزرت، فجزئت أربعة أجزاء كل جزءٍ منها بعناقٍ، فأردت أن أبتاع منها جزءاً، فقال لي رجل من أهل المدينة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى أن يُباع حيٌّ بميِّتٍ" قال: فسألت عن ذلك الرجل، فأُخبرت عنه خيراً". رواه الشافعي1 - ومن طريقه البيهقي2 - بإسناده عن مسلم بن خالد الزِّنجي عن ابن جريج به. ومسلم بن خالد الزِّنحي تقدم الكلام فيه وأنه صدوق كثير الأوهام3. وابن جريج إمام مشهور إلا أنه يدلِّس4، ولم يصرِّح بالسماع في هذا الحديث. وفيه أيضاً راو مبهم، وهو الذي حدث القاسم بن أبي بزة، وهو ليس بصحابي؛ لأن القاسم لم يلق أحداً من الصحابة5. ولذا ذكره الحافظ ابن حجر في الطبقة الخامسة6. فهو على ذلك مرسل أيضاً. فعلى هذا فإن الحديث ضعيف لضعف مسلم الزِّنجي، وتدليس ابن جريج، والإبهام في أحد رواته، والإرسال. والله أعلم.

178 - (3) عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع الحيوان باللحم". رواه مالك1، وعبد الرزاق2، وأبو داود في المراسيل3، والدارقطني4، والحاكم5، والبيهقي6. كلهم من طرقٍ عن سعيد بن المسيب به مرسلاً. ولفظ أبي داود: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحي بالميت". ورواه مسدد7 بإسناده عن يحيى عن مالك عن زيد بن أسلم به مرسلاً، ولفظه "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحيوان بالحيوان". والمحفوظ في متنه عن مالك ما تقدم، وأما لفظ مسدد فخطأ. قال ابن عبد البر: لا أعلم هذا الحديث يتصل من وجهٍ ثابت من الوجوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأحسن أسانيده مرسل سعيد بن المسيب هذا، ولا خلاف عن مالك في إرساله8. ثم ذكر ابن عبد البر بإسناده عن يزيد بن مروان عن مالك عن ابن شهاب عن سهل بن سعد الساعدي قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع اللحم بالحيوان ". "قال ابن عبد البر: وهذا حديث إسناده موضوع لا يصح عن مالك ولا أصل له من حديثه".

والحديث الذي ذكره ابن عبد البر عن سهل بن سعد رضي الله عنه أخرجه أيضاً الدارقطني1، وأبو نعيم في الحلية2. قال الدارقطني: "تفرد به يزيد بن مروان عن مالك بهذا الإسناد ولم يتابع عليه، وصوابه في الموطأ عن ابن المسيب مرسلاً". وقال أبو نعيم: "غريب من حديث مالك عن الزهري عن سهل، تفرد به يزيد بن عمرو عن يزيد". وقال البيهقي في رواية يزيد بن مروان: "غلط فيه"3. ويزيد بن مروان قال فيه ابن معين: كذاب. قال الدارمي: قد أدركته وهو ضعيف قريب مما قال يحيى. وقال الدارقطني: ضعيف جداً. وقال ابن عدي: ليس بذاك المعروف4. فعلى هذا فإن رواية يزيد بن مروان منكرة. والمحفوظ عن سعيد بن المسيب الإرسال. والله أعلم. 179 - (4) عن ابن عمر - رضي الله عنهما - "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللحم بالحيوان". رواه البزار5 بإسناده عن ثابت بن زهير عن نافعٍ عنه به. وقال: "لا نعلم رواه عن نافع إلا ثابت وهو بصري".

وثابت بن زهير قال فيه البخاري: منكر الحديث. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث لا يشتغل به. وذكره ابن المديني في المتروكين من أصحاب نافع. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال الدارقطني وغيره: منكر الحديث1. فعلى هذا فإن هذا الإسناد لا يعتبر به لشدة ضعف ثابت بن زهير. والله أعلم.

دلالة الأحاديث السابقة: أحاديث هذا الفصل تدل على النهي عن بيع اللحم بالحيوان مطلقاً سواءً أكان من جنسٍ واحد أم لا. وبهذا قال مالك1، والشافعي2، وأحمد3. والشافعي من أكثر القائلين بالنهي؛ سواء أكان اللحم والحيوان من جنس واحد أم لا4، ويروى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه القول بالنهي عن بيع اللحم بالحيوان، ولا يصح5. وقال أبو حنيفة: بيع اللحم بالحيوان جائز بكل حال6. ووافقه محمد بن الحسن إذا كان اللحم أكثر من الحيوان7. وإنما أجاز أبو حنيفة بيع اللحم بالحيوان بناءً على قوله في علة الربا أنها الكيل أو الوزن، والحيوان ليس بمكيل ولا موزون8. وقد تقدم أن الأحاديث الواردة في النهي عن بيع اللحم بالحيوان، وإن كان في أسانيدها ضعف، إلا أنها تصلح بمجموعها للاحتجاج، ما عدا الحديث الأخير فهو ضعيف جدًا.

وقد علل الإمام مالك وغيره النهي عن بيع اللحم بالحيوان بالغرر والقمار؛ لأنه لا يدري هل في الحيوان مثل اللحم الذي أعطى أو أقل أو أكثر1. وقد تقدم أن الإمام مال يرى أن ذلك من المزابنة2. وقد ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية3 وابن القيم4 إلى أن المراد بالنهي الوارد عن بيع اللحم بالحيوان هو ما إذا كان الحيوان مقصودًا للحم؛ كشاة يقصد لحمها، فتباع بلحم، فيكون قد باع لحمًا بلحم أكثر منه من جنس واحد، واللحم قوت موزون، فيدخله ربا الفضل.

_ 1 أعلام الموقعين (2/150) . 2 انظر: الدراسة الفقهية لفصل: ما ورد في النهي عن المزابنة. 3 تفسير آيات أشكلت (2/634-635) ، والإنصاف (5/23) . 4أعلام الموقعين (2/150) .

الفصل السادس: ما ورد في النهي عن بيع العينة

الفصل السادس: ما ورد في النهي عن بيع العينة 180 - (1) عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلّط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم". جاء هذا الحديث عن ابن عمر - رضي الله عنهما - من طرقٍ: الطريق الأولى: نافع عنه به: رواه أبو داود1 باللفظ المذكور، والدولابي2، وابن عدي3 - ومن طريقه البيهقي4 - وأبو نعيم الأصبهاني5، كلهم من طرقٍ عن حيوة بن شريح عن إسحاق أبي عبد الرحمن، أن عطاء الخراساني حدثه أن نافعاً حدثه به. وحيوة بن شريح هو التجيبي أبو زرعة المصري، ثقة ثبت6.

وأما إسحاق أبو عبد الرحمن، فهو إسحاق بن أسيد أبو عبد الرحمن الأنصاري. قال فيه أبو حاتم: شيخ ليس بالمشهور ولا يشتغل به. وقال ابن عدي: مجهول. وقال ابن حبان في الثقات: يخطئ. وقال أبو أحمد الحاكم: مجهول1. ولذا قال ابن حجر: "فيه ضعف"2. وعطاء الخراساني، هو عطاء بن أبي مسلم. قال فيه ابن سعد: كان ثقة، روى عنه مالك. وقال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: ثقة صدوق. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال الدارقطني: ثقة في نفسه. وقال ابن حبان: كان رديء الحفظ يخطئ ولا يعلم فبطل الاحتجاج به3. ونقل الترمذي عن البخاري أنه قال: ما أعرف لمالكٍ رجلاً يروي عنه يستحق أن يترك حديثه غير عطاء الخراساني. - قال الترمذي -: قلت: ما شأنه؟ قال: عامة أحاديثه مقلوبة. قال الترمذي: وعطاء الخراساني رجل ثقة روى عنه مثل مالك ومعمر ولم نسمع أن أحداً من المتقدمين تكلم فيه بشيء". ووثق عطاء الخراساني أيضاً الأوزاعي، وأحمد، ويعقوب بن شيبة، والطبراني. وأما الحكاية عن سعيد بن المسيب أنه كذبه فلا تثبت4.

قال الذهبي: "صدوق مشهور"1. وهذا أولى من قول ابن حجر: "صدوق يهم كثيراً"2. فالراجح - والله أعلم - أنه لا ينزل عن رتبة الصدوق. وقد رجّح ابن رجب أن يكون ثقة3. والله أعلم. فمما سبق يتبين أن هذه الطريق ضعيفة لحال إسحاق بن أسيد الأنصاري، إلا أنها تصلح للاعتبار. وقد توبع إسحاق بن أسيد متابعة قاصرة، وذلك فيما رواه العسكري في تصحيفات المحدثين4 بإسناده عن فضالة بن حصين5 عن أيوب عن نافعٍ عن ابن عمر - رضي الله عنهما - مرفوعاً ولفظه "لقد أتى علينا زمان وما يرى أحدنا أنه أحق بالدينار والدرهم من أخيه المسلم. ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا تبايعتم بالعينة ... " الحديث. - ولم يسق تمام متنه -. إلا أن هذه المتابعة لا تصلح للاعتبار، وذلك أن فضالة بن حصين وهو الضبي قال فيه البخاري وأبو حاتم: مضطرب الحديث. وقال ابن حبان: يروي عن محمد بن عمرو ما لا يتابع عليه، وعن غيره ما ليس من حديثهم. وقال أبو نعيم: روى المناكير، لا شيء. وقد ذكر له الحافظ ابن حجر حديثاً اتهم بوضعه6. فعلى هذا فإن هذه المتابعة ضعيفة جداً. والله أعلم.

الطريق الثانية: عطاء بن أبي رباح عنه به: رواه أحمد1، وأبو أمية الطرسوسي2، وأبو يعلى3، والطبراني في الكبير4، والبيهقي في شعب الإيمان5، وأبو نعيم الأصبهاني6. كلهم من هذا الطريق. ولفظ أحمد: "إذا ضنّ الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعين، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاءً فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم". ومعنى قوله "إذا ضن الناس" أي: بخل7. قال ابن القطان عن هذا الإسناد: حديث صحيح رجاله ثقات8. وقال ابن حجر: رجاله ثقات9. وقال في موضع آخر: "عندي أن إسناد الحديث الذي صححه ابن القطان10 معلول، لأنه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحاً؛ لأن الأعمش مدلِّس ولم يذكر سماعه من عطاء.

وعطاء يحتمل أن يكون هو الخراساني فيكون فيه تدليس تسوية بإسقاط نافع بين عطاء وابن عمر فرجع الحديث إلى الإسناد الأول وهو المشهور"1. يعني أنه عن عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر - وقد سبق ذكره في الطريق السابقة -. ولكن الجواب عما ذكره الحافظ ابن حجر أن في رواية أحمد والطبراني التصريح بأن عطاء هو ابن أبي رباح. وأما تدليس الأعمش فقد ذكره الحافظ في المرتبة الثانية من مراتب المدلِّسين2 الذين يحتمل تدليسهم. ولم يُذكر عن الأعمش تدليس التسوية. والله أعلم. فمما سبق يتبين أن هذه الطريق صحيحة، كما قال ابن القطان وابن حجر في أحد قوليه. والله أعلم. وقد روى ابن عدي3 بإسناده عن بشير بن زياد عن ابن جريج عن عطاء عن جابر رضي الله عنه هذا الحديث بنحو حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -، وبشير بن زياد قال فيه ابن عدي: "في حديثه بعض النكرة"، وذكر هذا الحديث عنه. وموضع النكارة منه أن الحديث إنما هو عن ابن عمر - رضي الله عنهما - وقد جعله من حديث جابر ولم يتابع على ذلك. فرجع الحديث إلى ابن عمر - رضي الله عنهما -. وأما رواية بشير بن زياد فلا تصح. والله أعلم.

الطريق الثالثة: عن شهر بن حوشب عنه به: رواه أحمد1، والخطيب البغدادي2. كلاهما من طريق أبي جناب3 يحيى بن أبي حية عن شهرٍ به. وقد تقدم الكلام في أبي جناب4 وأنه ضعيف مدلِّس. ولم يصرح بالسماع في هذا الحديث. وقد تقدم الكلام في شهر بن حوشب5، وأنه صدوق. فمما تقدم يتبين أن هذه الطريق ضعيفة لحال أبي جناب الكلبي، ولكنها مع ذلك صالحة للاعتبار. فالحديث عن ابن عمر - رضي الله عنهما - يترجح أنه حديث صحيح. والله أعلم.

دلالة الأحاديث السابقة: يستفاد مما تقدم النهي عن بيع العينة. والعينة أن يبيع رجل من رجلٍ سلعةً بثمنٍ معلومٍ إلى أجل مسمى، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها به. وسميت العينة بذلك لاستعانة البائع بالمشتري على تحصيل مقصده من دفع قليلٍ ليأخذ عنه كثيراً، أو لحصول العين وهو النقد لبائعها1، أو لأنه يعود إلى البائع عين ماله2. وبهذا القول - وهو النهي عن بيع العينة - قال أبو حنيفة3، ومالك4، وأحمد5. وأما الشافعي فقال: من باع سلعةً من السلع إلى أجلٍ من الآجال وقبضها المشتري فلا بأس أن يبيعها الذي اشتراها بأقل من الثمن أو أكثر، ودين أو نقد؛ لأنها بيعة غير البيعة الأولى6. إلا أنه تقدم أنه قد صحّ النهي عن بيع العينة، وإضافةً إلى ذلك فالعينة ذريعة إلى الربا7، وقرض دراهم بأكثر منها8، لأن غرض المتبايعين بالعينة

ومقصودهما الأول مائة بمائة وعشرين، وإدخال تلك السلعة في الوسط تلبيس وعبث، حتى لو كانت تلك السلعة تساوي أضعاف ذلك الثمن أو تساوي أقل جزءٍ من أجزائه لم يبالوا جعلها مورداً للعقد؛ لأنهم لا غرض لهم فيها1. لذا جاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قوله: "اتقوا هذه العينة، لا تبيعوا دراهم بدراهم بينهما حريرة ". وروي عن ابن عباس وأنس رضي الله عنهما أنهما سُئلا عن بيع العينة فقالا: "إن الله لا يخدع، هذا مما حرم الله ورسوله"2. وأما ما ذكره الشافعي من كون البيعة الثانية غير البيعة الأولى، فهذا في الظاهر، وإلا فهي في الحقيقة - كما تقدم - أنها بيعة واحدة، وإنما يجعلها المتعاقدان في عقدين من باب الاحتيال على المحرم، والاحتيال على المحرم لا يحله3.

_ 1 تهذيب السنن (9/243) . 2 المرجع السابق (9/242) . 3 المرجع السابق.

الباب السادس: الأحاديث الواردة في النهي عما يلحق الضرر والغبن بأحد المتبايعين أو كان النهي لأمر آخر مما هو خارج عقد البيع

الباب السادس: الأحاديث الواردة في النهي عما يلحق الضرر والغبن بأحد المتبايعين أو كان النهي لأمر آخر مما هو خارج عقد البيع الفصل الأول: ما ورد في النهي عن النجش ... الفصل الأول: ما ورد في النهي عن النجش 181 - (1) عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النجش". رواه مالك1، ومن طريقه البخاري2، ومسلم3، والنسائي4، وابن ماجه5، وأحمد6، عن نافع عنه به. وسوف يأتي ذكر النهي عن بيع النجش من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أيضاً في فصل: النهي عن تلقي الركبان - إن شاء الله تعالى -. 182 - (2) عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: "أقام رجلٌ سلعته فحلف بالله لقد أُعطي بها ما لم يعطها، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً ... } الآية7. قال ابن أبي أوفى: الناجش آكل رباً خائن".

رواه البخاري1 واللفظ له، وابن أبي شيبة2 - مختصراً -، وابن أبي حاتم3، والحاكم4. كلهم من طرقٍ عن العوام بن حوشب عن إبراهيم بن عبد الرحمن أبو إسماعيل السكسكي عنه به. قال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه". وقد سبق أن البخاري قد رواه. ورواه البزار5، ومن طريقه الطبراني في الكبير6 من طريق إبراهيم بن يوسف الكوفي الصيرفي، حدثنا حفص بن غياث عن العوام بن حوشب به مرفوعاً، بلفظ: "الناجش آكل الربا ملعون"، وسقط من إسناد الطبراني ذكر إبراهيم الصيرفي، وهو موجود في إسناد البزار في المسند، ولم يعزُ الهيثمي هذا الحديث إلى البزار، وهو على شرطه7. قال البزار: "هذا الحديث قد رواه غير واحدٍ عن ابن أبي أوفى موقوفاً، ولا نعلم أحداً أسنده عن حفص إلا إبراهيم بن يوسف". وإبراهيم بن يوسف الصيرفي قال فيه النسائي: ليس بالقوي. وذكره ابن حبان في الثقات8. وجعله ابن حجر في مرتبة: "صدوق فيه لين"9.

وقد خالف إبراهيم بن يوسف غيره في هذا الحديث - كما أشار البزار -، وذلك أن المحفوظ عن العوام بن حوشب هذا الحديث موقوف. فعلى هذا فإن رواية إبراهيم بن يوسف شاذة. والله أعلم. 183 - (3) عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلب والجنب، ونهى عن النجش واللمس في البيع، ونهى أن يبتاع الرجل على بيع أخيه، أو يخطب على خطبة أخيه". رواه إبراهيم بن طهمان في مشيخته1، ومن طريقه الطبراني في الكبير2، من طريق مطر الورّاق عن رجاء بن حيوة عنه به. ومطر الورّاق ضعفه يحيى بن سعيد، وأحمد، وابن معين في عطاء خاصة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال ابن سعد: كان فيه ضعف في الحديث. وقال البزار: ليس به بأس. وقال أبو داود: ليس هو عندي بحجة ولا يقطع به في حديثٍ إذا اختلف3. وخلص فيه الحافظ ابن حجر إلى أنه "صدوق كثير الخطأ، وحديثه عن عطاء ضعيف"4. وفي الإسناد علة أخرى وهي الانقطاع بين رجاء بن حيوة وعمران بن حصين رضي الله عنه، ومما يدل على ذلك أن عمران بن حصين رضي الله عنه توفي سنة اثنتين

وخمسين1، بينما توفي رجاء بن حيوة سنة اثنتي عشرة ومائة2. فبين وفاتيهما ستون سنة. وقد قال يحيى بن معين في رجاء بن حيوة: "أدرك رجاء بن حيوة معاوية"3. والظاهر من هذه العبارة أنه قد أدرك آخر خلافة معاوية رضي الله عنه وقد توفي معاوية رضي الله عنه سنة ستين من الهجرة4. ويضاف إلى هذا أن عمران ابن حصين رضي الله عنه كان في البصرة، وكان رجاء بن حيوة في الشام. وقد حدث رجاء بن حيوة عن بعض الصحابة ولم يسمع منهم5. فمما سبق يتبين أن إسناد هذا الحديث ضعيف. وأما متن الحديث فمعروف عن عمران بن حصين رضي الله عنه من طرقٍ وليس فيها ذكر النهي عن النجش واللمس في البيع، فإن هذا مما تفرد به مطرق الوراق عن رجاء بن حيوة. والله أعلم. 184 - (4) عن عصمة بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حمى في الإسلام ولا مناجشة". رواه الطبراني في الكبير6 من طريق أحمد بن رشدين المصري عن خالد بن عبد السلام الصدفي عن الفضل بن المختار عن عبد الله بن موهب عنه به.

وأحمد بن رشدين المصري شيخ الطبراني كذبه أحمد بن صالح المصري. وقال ابن عدي: كذبوه، وأُنكرت عليه أشياء1. والفضل بن المختار هو أبو سهل البصري. قال أبو حاتم: أحاديثه منكرة يحدث بالأباطيل. وقال ابن عدي: أحاديثه منكرة، عامتها لا يتابع عليها2. فمما سبق يتبين أن هذا الإسناد ضعيفٌ جداً، وقد يكون موضوعاً. والله أعلم. ومما ورد في هذا الفصل أيضاً: (5) حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وقد تقدم3. (6) حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقد تقدم4. (7) حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وسوف يأتي5. (8) حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، وسوف يأتي6. (9) حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، وسوف يأتي7.

دلالة الأحاديث السابقة: يستفاد مما تقدم النهي عن النجش في البيع. والنجش بنون وجيم مفتوحتين، وحكي سكون الجيم1. وهو أن يمدح السلعة لينفقها ويروجها، أو يزيد في ثمنها وهو لا يريد شراءها ليقع غيره فيها2. والنجش حرام بالإجماع3. ويقع بمواطأة البائع مع الناجش، فيشتركان في الإثم، ويقع ذلك بغير علم البائع فيختص ذلك بالناجش، وقد يختص بالبائع كمن يخبر بأنه اشترى سلعةً بأكثر مما اشتراها به ليغر غيره بذلك4. وإنما نهي عن النجش؛ لأنّ فيه تغريراً للراغب في السلعة وتركاً لنصيحته التي هو مأمور بها5.

_ 1 انظر: المُغْرِب (ص443) ، وشرح صحيح مسلم (10/159) . 2 النهاية في غريب الحديث (5/21) . 3 شرح صحيح مسلم (10/159) . 4 فتح الباري (4/416) . 5 معالم السنن (3/718) .

الفصل الثاني: ما ورد في النهي عن بيع الرجل على بيع أخيه وأن يستام الرجل على سوم أخيه

الفصل الثاني: ما ورد في النهي عن بيع الرجل على بيع أخيه وأن يستام الرجل على سوم أخيه ... الفصل الثاني: ورد في النهي عن بيع الرجل على بيع أخيه وأن يستام الرجل على سوم أخيه 185 - (1) عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيع بعضكم على بيع بعض، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب". رواه البخاري1 واللفظ له، ومسلم2، وأبو داود3، والترمذي4، والنسائي5، وابن ماجه6، ومالك7، وأحمد8، والدارمي9، كلهم من طرقٍ عن نافعٍ عنه به. إلا أن في لفظ أبي داود وأحمد: "لا يبع على بيع أخيه إلا بإذنه"، وفي لفظ للنسائي: "لا يبيع الرجل على بيع أخيه حتى يبتاع أو يذر".

ورواه أحمد من وجهٍ آخر عن حسن بن موسى الأشيب عن ابن لهيعة ثنا عبيد الله بن أبي جعفر عن زيد بن أسلم قال: سمعت رجلاً سأل عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - عن بيع المزايدة، فقال ابن عمر - رضي الله عنهما -: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع أحدكم على بيع أخيه إلا الغنائم والمواريث"1. وقد تقدم الكلام2 في ابن لهيعة وأنه ضعيف. إلا أنه قد تابعه عمر بن مالك كما عند ابن الجارود3، والدارقطني4. وعمر بن مالك هذا جعله ابن حجر في مرتبة "لا بأس به"5، وتابعهما أيضاً أسامة بن زيد الليثي كما عند الدارقطني6، إلا أن في إسناده الواقدي وهو متروك، وقد كذبه بعضهم7. فمما تقدم يتبين أن هذا الطريق حسن. ورواه الدارقطني من طريق كامل بن طلحة أبي يحيى عن ابن لهيعة به بلفظ: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المزايدة، ولا يبع أحدكم على بيع أخيه إلا الغنائم والمواريث"8. وكامل بن طلحة قال فيه ابن معين: ليس بشيء. وقال أحمد: مقارب الحديث. ووثقه في رواية. ووثقه الدارقطني أيضاً9.

وخلص فيه الحافظ ابن حجر إلى أنه "لا بأس به"1. وكامل بن طلحة لم يتابع على قوله: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المزايدة". وقد خالفه حسن بن موسى الأشيب كما سبق عند أحمد، فقد ذكر أن ابن عمر - رضي الله عنهما - سئل عن بيع المزايدة فقال ... " الحديث، وليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزايدة. وحسن بن موسى الأشيب ثقة2، فيقدم على كامل بن طلحة. وتكون رواية حسن بن موسى هي المحفوظة. والله أعلم. 186 - (2) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن أخو المؤمن، فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر". رواه مسلم3 واللفظ له، وأحمد4، والدارمي5، كلهم من طرقٍ عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن شماسة المهري عنه به. وعند مسلم أن عقبة بن عامر رضي الله عنه حدث بهذا الحديث وهو يخطب على المنبر. وعند أحمد أن ذلك كان في مصر.

187 - (3) عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزيد الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبته". رواه أبو داود الطيالسي1 واللفظ له، ومن طريقه أحمد2، عن عمران بن داور عن قتادة عن الحسن عنه به. ولفظ أحمد: "نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه، أو يبتاع على بيعه". وعمران بن داور - بالراء المهملة في آخره - هو أبو العوام القطان البصري، قال فيه ابن معين: ليس بالقوي. وقال مرّةً: ليس بشيء. وقال البخاري: صدوق يهم. وقال أبو داود والنسائي: ضعيف. وقال الدارقطني: كان كثير المخالفة والوهم3. وجعله ابن حجر في مرتبة "صدوق يهم" 4. وفي الإسناد عنعنة الحسن عن سمرة، وقد تقدم الكلام في سماعه منه5. فمما سبق يتبين أن هذا الإسناد ضعيف، إلا أنه يرتقي بشواهده إلى الحسن. والله أعلم.

188 - (4) عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل أن تنكح المرأة بطلاق أخرى، ولا يحل لرجلٍ أن يبيع على صاحبه حتى يذره، ولا يحل لثلاثة نفرٍ يكونون بأرضٍ فلاةٍ إلا أَّمروا عليهم أحدهم، ولا يحل لثلاثة نفرٍ يكونون بأرضٍ فلاةٍ يتناجى اثنان دون صاحبهما". رواه أحمد1، والطبراني في الكبير2، كلاهما من طريق ابن لهيعة، ثنا عبد الله ابن هبيرة عن أبي سالم الجيشاني عنه به. وابن لهيعة قد تقدم الكلام فيه وأنه ضعيف3. وباقي رجال الإسناد ثقات. وأبو سالم الجيشاني هو سفيان بن هانئ، ذكره ابن حبان والعجلي في الثقات. وقد روى له مسلم. وقيل: له صحبة4. فمما تقدم يتبين أن الشاهد من الحديث وهو بيع الرجل على بيع أخيه ضعيف بهذا الإسناد، إلا أن له شواهد صحيحة يكون بها حسناً. والله أعلم. 189 - (5) عن سفيان بن وهب رضي الله عنه قال: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن المزايدة". رواه البزار5 بإسناده عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن المغيرة بن زياد عنه به. قال البزار: "لا نعلم روى سفيان غير هذا".

وفي الإسناد ابن لهيعة وقد تقدم الكلام فيه1، وأنه ضعيف. والمغيرة بن زياد لم أعرفه، وليس هو بالموصلي. فإن الموصلي متأخر عن هذه الطبقة، وقد توفي سنة اثنتين وخمسين ومائة2، بينما توفي سفيان بن وهب سنة اثنتين وثمانين3، فيبعد سماعه منه، ولا سيما أن سفيان بن وهب كان في مصر والمغيرة بن زياد كان في الموصل. وكذلك فإن يزيد بن أبي حبيب قد توفي قبل الموصلي، فقد توفي سنة ثمانٍ وعشرين ومائة4 من الهجرة. فمما سبق يتبين أن الحديث ضعيف بهذا الإسناد. وأما قول البزار: "لا نعلم روى سفيان غير هذا"، فقد ذكر ابن حجر له ثلاثة أحاديث أخرى5، وذكر ابن أبي عاصم حديثاً آخر له أيضاً6. والله أعلم. 190 - (6) عن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يبتاعنَّ أحدكم على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه". رواه أبو يعلى7 بإسناده عن بشر بن الحسين الأصبهاني عن الزبير بن عدي عنه به.

وبشر بن الحسين الأصبهاني قال فيه البخاري: فيه نظر. وقال أبو حاتم: يكذب على الزبير. وقال أيضاً في حديثه عن الزبير عن أنس: هي أحاديث موضوعة، ليس للزبير عن أنس إلا أربعة أحاديث. وكذبه أبو داود. وقال الدارقطني: يروي عن الزبير بواطيل، والزبير ثقة، والنسخة موضوعة1. فمما تقدم يتبين أن الحديث بهذا الإسناد موضوع. والله أعلم. ومما ورد في هذا الفصل أيضاً: (7) حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، وقد تقدم2. (8) حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وسوف يأتي3. (9) حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، وسوف يأتي4.

دلالة الأحاديث السابقة: يستفاد مما تقدم النهي عن بيع الرجل على بيع أخيه. وهو أن يستحسن المشتري السلعة ويهواها، ويركن إلى البائع ويميل إليه ويتذاكران الثمن، ولم يبق إلا العقد والرضي الذي يتم به البيع، فإذا كان البائع والمشتري على مثل هذه الحال، لم يجز لأحدٍ أن يعترضه فيعرض على أحدهما ما به يفسد به ما هما عليه من التبايع1. كأن يقول للمشتري: افسخ بيعك لأبيعك بأنقص، أو يقول للبائع: افسخ لأشتري منك بأزيد2. والنهي عن بيع الرجل على بيع أخيه مجمعٌ عليه بين العلماء3. وقد خصّ بعض الفقهاء النهي بعد استقرار الثمن4. وهذا لا دليل عليه، بل عموم الأحاديث الواردة في هذا الفصل تفيد النهي عنه ولو كان قبل استقرار الثمن، حتى يتركا البيع أو يأذنا له في الدخول معهما في التبايع. وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه "المؤمن أخو المؤمن، فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه" إشارة إلى أن بيع الرجل على بيع أخيه مخالفٌ لمقتضى الأخوة الإيمانية؛ لأن فيه إضرارًا بأخيه المؤمن وهو سببٌ للبغضاء والعداوة بينهما. والله أعلم. ولا يدخل في النهي عن بيع الرجل على بيع أخيه نصح أحد المتبايعين إن وقع له غبنٌ فاحشٌ في الثمن5؛ لأن هذا من النصيحة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم

في الحديث: "الدين النصيحة". قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم" 1. وأما بيع من يزيد ويسمى بيع المزايدة، ويسمى اليوم المزاد العلني، أو بيع الحراج2، فليس داخلاً في النهي عن سوم الرجل على سوم أخيه وبيعه على بيعه. وقد استدل بعضهم على جوازه بما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه وذكر حديثاً طويلاً جاء فيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم باع حلساً3 وقدحاً فيمن يزيد4. والحديث وإن لم يثبت، إلا أن إجماع المسلمين يبيعون في أسواقهم بالمزايدة5. وقد بوّب البخاري في صحيحه باباً في بيع المزايدة6، وذكر فيه حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: أن رجلاً أعتق غلاماً له عن دبر، فاحتاج، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من يشتريه مني"؟ فاشتراه نعيم بن عبد الله بكذا وكذا، فدفعه إليه7.

فقوله: "من يشتريه مني"؟ فيه عرضٌ له للزيادة ليستقضي فيه للمفلس الذي باعه له1. ومما يدل على إباحة المزايدة أيضاً أنه قد تقدم في الفصل السابق النهي عن النجش وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها، فلو لم يكن بيع المزايدة جائزاً أصلاً لما كان للنهي عن النجش معنى، والله أعلم. وأما قول ابن عمر - رضي الله عنهما - لمن سأله عن بيع المزايدة: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع أحدكم على بيع أخيه إلا الغنائم والمواريث". فظاهره أن ابن عمر - رضي الله عنهما - كان يرى أن بيع المزايدة من بيع الرجل على بيع أخيه إلا بيع الغنائم والمواريث. وقد أخذ بمذهب ابن عمر - رضي الله عنهما - بعض أهل العلم كما قال الترمذي2. وممن قال به الأوزاعي وإسحاق3 وغيرهما. وقد أجاب جمهور العلماء عن هذا القول بأنه لا معنى لاختصاص الجواز بالغنيمة والميراث، فإن الباب واحد والمعنى مشترك4. والله أعلم.

_ 1 فتح الباري (4/416) . 2 جامع الترمذي (3/522) . 3 فتح الباري (4/415-416) . 4 المرجع السابق (4/415) .

الفصل الثالث: ما ورد في النهي عن الغش في البيع

الفصل الثالث: ما ورد في النهي عن الغش في البيع ... الفصل الثالث: ورد في النهي عن الغش في البيع 191 - (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ على صبرة طعامٍ، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللاً، فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام"؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله. قال: "أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غش فليس منّي". رواه مسلم1 واللفظ له، وأبو داود2، والترمذي3، وابن ماجه4، وأحمد5. كلهم من طرقٍ عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عنه به. قال الترمذي: "حسنٌ صحيحٌ". وفي لفظ أبي داود: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ برجل يبيع طعاماً فسأله: كيف تبيع، فأخبره. فأوحي إليه: أدخل يدك فيه فأدخل يده فإذا هو مبلول ... " الحديث. وجاء الحديث من وجهٍ آخر، فقد رواه مسلم6، وأحمد7 من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عنه مرفوعاً. ولفظه: "من حمل علينا السلاح فليس منا، ومن غشنا فليس منا".

وقوله: "من غشَّ فليس مني"، قال الطحاوي - بعد أن ذكر جملة من الأحاديث التي فيها أن من فعل كذا فليس منا، ومنها هذا الحديث - قال: "فكانت هذه الأشياء التي نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كانت منه أو كانت فيه عنه أشياء مذمومة، فكان الله عز وجل قد اختار له صلى الله عليه وسلم الأمور المحمودة، ونفى عنه الأمور المذمومة، فكان من عمل الأمور المحمودة منه، ومن عمل الأمور المذمومة ليس منه، كما حكى الله عز وجل عن نبيه إبراهيم من قوله في ذريته {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1، وكما قال عز وجل مخبراً لعباده قصة داود صلى الله عليه وسلم {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّية} 2 في أمثالٍ لهذا موجودة في الكتاب معناه المعنى الذي ذكرنا، فدلّ أن كل عاملٍ عملاً على شريعة نبيه الذي عليه اتباعه فإنه منه، وأنّ كل عاملٍ عملاً تمنعه منه شريعة نبيه الذي عليه أتباعه ليس منه لخروجه عن ما دعاه إليه وعن ما هو عليه إلى ضدِّ ذلك"3 انتهى. وقال الخطابي: "معناه: ليس على سيرتنا ومذهبنا. يريد أن من غشَّ أخاه وترك مناصحته، فإنه قد ترك اتباعي والتمسك بسنتي. وقد ذهب بعضهم إلى أنه أراد بذلك نفيه عن دين الإسلام، وليس هذا التأويل بصحيح، وإنما وجهه ما ذكرت لك، وهذا كما يقول الرجل لصاحبه: (أنا منك وإليك) ، يريد

بذلك المتابعة والموافقة، ويشهد لذلك قوله تعالى: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} " 1 انتهى. وقال النووي: "تأويل الحديث، قيل: محمول على المستحل بغير تأويل، فيكفر ويخرج من الملة، وقيل: معناه ليس على سيرتنا الكاملة وهدينا. وكان سفيان بن عيينة - رحمه الله - يكره قول من يفسره بليس على هدينا، ويقول: بئس هذا القول. يعني بل يمسك عن تأويله ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر"2 انتهى. وقول سفيان الذي أشار إليه النووي رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح عن يحيى بن سعيد القطان، قال: كان سفيان يكره هذا التفسير "ليس منا": ليس مثلنا3. وقد رواه الترمذي4 معلقاً بإسناد أبي داود، إلا أنه ذكر أن سفيان هو الثوري، وليس ابن عيينة. وقد ورد مثل هذا الإنكار عن ابن مهدي، وأحمد بن حنبل. وقال ابن مهدي: "لو أنّ رجلاً عمل بكل حسنةٍ أكان يكون مثل النبي صلى الله عليه وسلم". وقد ذكر أحمد أن تفسير "ليس منا" بليس مثلنا أنه من كلام المرجئة، الذين يرون أن المعاصي لا تنقص من الإيمان. وليس مراد أحمد الحكم بالكفر على من غش، فإنه سئل

عن هذا الحديث ونحوه فقال: "على التأكيد والتشديد، ولا أكفر أحداً إلا بترك الصلاة"1. وقد ورد حديث: "من غشنا فليس منا" عن عدة من الصحابة رضي الله عنهم، إليك تفصيلها: 192 - (2) عن أبي بردة بن نيار رضي الله عنه قال: انطلقت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بقيع المصلَّى، فأدخل يده في طعامٍ ثم أخرجها فإذا هو مغشوش أو مختلف. فقال: "ليس منا من غشنا". اختلف في هذا الحديث، فرواه أحمد2 باللفظ المذكور، وابن أبي شيبة3، والبزار4، والطبراني في الكبير5، والبخاري - تعليقاً - في التاريخ الكبير6، كلهم من طرقٍ عن شريك عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن جميع بن عمير عنه به. وعند أحمد أن جميع بن عمير رواه عن خاله أبي بردة بن نيار. وعند البزار أن جميع بن عمير رواه عن عمه يعني أبا بردة. وتابع قيس بن الربيع شريكاً كما ذكر الطبراني7 والدارقطني8، إلا أنه قال: عن سعيد بن عمير عن عمه أبي بردة9.

وخالفهما عمار بن زريق وذلك فيما رواه الحاكم1 بإسناده عن الأحوص بن جواب عنه عن عبد الله بن عيسى عن عمير بن سعيد عن عمه به. قال الحاكم: "هذا حديث صحيح، وعم عمير بن سعيد هو الحارث بن سويد النخعي"، ووافقه الذهبي. وفي هذا نظر؛ فإن المحفوظ في حديث عبد الله بن عيسى أنه يرويه عن جميع بن عمير أو سعيد بن عمير عن أبي بردة بن نيار. وقد ذكر البخاري2 ترجمة لعمير بن سعيد عن عمه أبي بردة بن نيار. وخطّأ أبو حاتم البخاري وقال: "إنما هو سعيد بن عمير"3. وقد بيّن الحافظ المزي4، وابن حجر5 أن أبا بردة بن نيار عم لسعيد بن عمير، وذلك أن سعيد بن عمير اسمه سعيد بن عمير بن نيار، وقيل: ابن عقبة بن نيار، فيكون أبو بردة بن نيار عمٌّ له أو عمٌّ لأبيه، وهو على كلا الحالتين عمٌّ له. وهذا هو الذي يترجح لي، أي أن عبد الله بن عيسى إنما يروي الحديث عن سعيد بن عمير عن أبي بردة ابن نيار. وشريك لم يتابع في قوله جميع بن عمير عن خاله أبي بردة. وقد خطّأ البيهقي شريكاً في إسنادٍ فيه عن شريك عن وائل بن داود عن جميع ابن عمير عن خاله أبي بردة ... " الحديث. قال البيهقي: "هكذا

رواه شريك بن عبد الله، وغلط فيه في موضعين، أحدهما: في قوله جميع بن عمير، وإنما هو سعيد بن عمير ... "1 الخ. وتقدم الكلام2 في شريك القاضي وأنه صدوق يخطئ كثيراً. وقد توقف الحافظ ابن حجر في هذا الاختلاف بعد أن ذكر أن أبا بردة عم لسعيد بن عمير بخلاف جميع، فقال: "فما أدري أهو واحد اختلف في اسمه أو هما اثنان"3. ورواه الطبراني في الأوسط4، بإسناده عن يحيى بن عقبة بن أبي العيزار عن عبد الله بن عيسى عن مجمع عن أبي بردة عن أبي موسى به. قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن عبد الله بن عيسى عن مجمع عن أبي بردة عن أبي موسى إلا يحيى بن عقبة". ويحيى بن عقبة بن أبي العيزار قال فيه أبو حاتم: يفتعل الحديث. وقال ابن معين وأبو داود: ليس بشيء. وقال ابن معين أيضاً: كذاب خبيث، عدو الله كان يسخر به. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي وغيره: ليس بثقة5. فمما سبق يتبين أن هذا الطريق ضعيف جداً، وقد يكون موضوعاً. وقد ظن هذا الراوي أن أبا بردة في الإسناد هو ابن أبي موسى الأشعري، وأنه يرويه عن أبيه فجعل يقول: عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه والله أعلم.

فمما سبق من هذا الاختلاف على عبد الله بن عيسى يترجح أنه يرويه عن سعيد ابن عمير عن عمه أبي بردة بن نيار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وسعيد بن عميرٍ هذا هو ابن نيار، وقيل: ابن عقبة بن نيار الأنصاري الحارثي، قال فيه ابن معين: لا أعرفه1. وقال فيه الفسوي: لا بأس به2. وذكره ابن حبان في الثقات3. وجعله ابن حجر في مرتبة: "مقبول"4. والذي يظهر لي أنه في مرتبة "صدوق". فمما سبق يتبين أن هذا الإسناد حسن. وهو بشواهده يرتقي إلى الصحيح لغيره، والله أعلم. 193 - (3) عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من غشنا فليس منا، ومن رمانا بالليل فليس منا". رواه الطبراني في الكبير5 عن علي بن عبد العزيز، ثنا سعيد بن منصور عن الدراوردي عن ثور بن زيد عن عكرمة عنه به. ورواه القضاعي6 من طريق شيخ الطبراني، إلا أنه لم يذكر قوله "من غشنا فليس منا"، وكذلك الطحاوي7 من طريق الدراوردي، ولم يذكر هذه الجملة أيضاً. فالظاهر أنهما اختصرا الحديث. والله أعلم. قال الهيثمي عن إسناد الطبراني: "رجاله رجال الصحيح"8.

وقد تقدم الكلام1 في الدراوردي، وأنه صدوق يخطيء، وبقية رجاله ثقات. فعلى هذا فيكون هذا الإسناد حسناً، وبالنظر إلى شواهده يكون صحيحاً لغيره. والله أعلم. 194 - (4) عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بطعامٍ وقد حسَّنه صاحبه، فأدخل يده فيه، فإذا طعامٌ رديء، فقال: "بع هذا على حدة، وهذا على حدة، من غشنا فليس منّا". رواه أحمد2 واللفظ له، والبزار3، والطبراني في الأوسط4، كلهم من طرق عن أبي معشر عن نافعٍ عنه به. قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن نافع إلا أبو معشر". وأبو معشر، هو نجيح السِّندي المدني، تقدم5 أنه ضعيف، ولا سيما في المقبري ونافع. فعلى هذا فإن هذا الإسناد ضعيف. والله أعلم. إلا أن الحديث قد جاء من وجهٍ آخر، فقد رواه الدارمي6، وابن عدي7، والبخاري في التاريخ الكبير8 - تعليقاً -، كلهم من طرقٍ عن

أبي عقيل يحيى بن المتوكل أخبرني القاسم بن عبيد الله عن سالم عنه به بنحوه. وفيه "لا غشّ بين المسلمين، من غشنا فليس منا". ويحيى بن المتوكل ضعفه ابن معين، وقال: ليس حديثه بشيء. وقال أيضاً: منكر الحديث، وجاء عنه أنه قال: ليس به بأس. وقال أحمد: واهي الحديث1. وضعفه ابن المديني وأبو حاتم والنسائي2. وجعله ابن حجر في مرتبة "ضعيف"3. فعلى هذا فهو صالح للاعتبار، وقد توبع كما سبق. فمما سبق يتبين أن الحديث بهذا الإسناد حسنٌ لغيره. وكذلك يشهد له ما ورد من الأحاديث في النهي عن الغش، وقد سبق ذكرها. والله أعلم. 195 - (5) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من غشنا فليس منّا، والمكر والخداع في النار". رواه ابن حبان4، والطبراني في الكبير5 والصغير6، وأبو نعيم في الحلية7، كلهم من طريق الفضل بن الحباب الجمحي، ثنا عثمان بن الهيثم، ثنا أبي عن عاصم عن زر عنه به.

قال أبو نعيم: "غريب من حديث عاصم، تفرد بن عثمان، ولم نكتبه إلا من حديث الفضل بن حباب". وفي إسناده عاصم بن بهدلة وهو ابن أبي النجود. قال فيه ابن معين: لا بأس به. وقال يعقوب بن سفيان: في حديثه اضطراب وهو ثقة. وقال أبو حاتم: محله الصدق، صالح الحديث. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال الدارقطني: في حفظه شيء1. وجعله الحافظ ابن حجر في مرتبة "صدوق له أوهام، حجة في القراءة"2. وعثمان بن الهيثم هو ابن جهم العبدي أبو عمرو البصري المؤذن، قال فيه أبو حاتم: كان صدوقاً غير أنه بأخرة كان يتلق ما يلقن. وقال الساجي: ذكر عند أحمد بن حنبل فأومى إلى أنه ليس بثبت. وقال الدارقطني: صدوق كثير الخطأ3. وجعله ابن حجر في مرتبة "ثقة، تغير فصار يتلقَّن"4. والذي يظهر لي أنه صدوق تغيّر. ولم يذكر من روى عنه في حال تغيره. إلا أن أبا حاتم ذكر أنه تغير بأخرة. والرواي عن عثمان بن الهيثم في هذا الحديث وهو الفضل بن الحباب الجمحي البصري، إنما روى عنه بأخرة. وبيان ذلك أن عثمان بن الهيثم توفي سنة عشرين ومائتين5، بينما ولد الفضل بن الحباب سنة ستٍ ومائتين6،

فيكون عمره حين وفاة عثمان بن الهيثم أربع عشرة سنة. وقد صرّح الذهبي بأنه سمع في سنة عشرين ومائتين1، وهي السنة التي توفي فيها عثمان بن الهيثم. فمما تقدم يترجّح أنه سمع منه بعد تغيّره. وقد ذكر الذهبي أن الفضل بن الحباب أبو خليفة الجمحي آخر من حدّث عن عثمان بن الهيثم2. وأما أبوه وهو الهيثم بن جهم العبدي البصري، فقال فيه أبو حاتم: "لم أرَ في حديثه مكروها"3. ولم أقف على توثيق معتمدٍ فيه بعد البحث في كلام أئمة الجرح والتعديل. وكلام أبي حاتم هذا لا يكفي في توثيقه. فمما سبق يتبين أن إسناد هذا الحديث ضعيف، إلا أنه يرتقي بشواهده إلى الحسن. والله أعلم. وأما الجملة الثانية من الحديث وهي قوله: "والمكر والخديعة في النار"، فلها شواهد من حديث قيس بن سعد بن عبادة وأنس وأبي هريرة - رضي الله عنهم أجمعين -. أما حديث قيس بن سعد - رضي الله عنهما -: فرواه ابن عدي4 بإسناده عن جراح بن مليح عن أبي رافع عنه به. ولفظه: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " المكر والخديعة في النار" لكنت من أمكر الناس.

والجراح بن مليح البهراني الحمصي، قال فيه ابن معين: شامي ليس به بأس. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن عدي: لا بأس به وبرواياته1. وجعله ابن حجر في مرتبة: "صدوق"2. وأما أبو رافع، فلم أقف على تمييزه، وقد قيل: إنه نفيع بن رافع الصائغ، وهو ثقة ثبت3. والذي يظهر أن ابن حجر اعتمد هذا، فإنه قد حكم على هذا الإسناد بأنه لا بأس به4. والله أعلم. وأما حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: فرواه ابن عدي5 أيضاً، والحاكم6، كلاهما من طريق سنان بن سعد الكندي عنه به. ولفظه: "المكر والخديعة والخيانة في النار". وسنان بن سعد الكندي، ويقال: سعد بن سنان. قال فيه أحمد: لم أكتب أحاديث سنان بن سعد؛ لأنهم اضطربوا فيها، فقال بعضهم: سعد بن سنان، وبعضهم سنان بن سعد. وقال أيضاً: يشبه حديثه حديث الحسن لا يشبه حديث أنس. [وقال أيضاً: روى خمسة عشر حديثاً منكرة كلها ما أعرف منها واحداً] . وقد ساق هذه الأحاديث ابن عدي في الكامل في ترجمته. وقال ابن معين: ثقة. وقال ابن سعد والنسائي: منكر الحديث. وقال ابن حبان: حدث عنه المصريون وأرجو أن يكون الصحيح سنان بن سعد، وقد اعتبرت

حديثه فرأيت ما روي عن سنان بن سعد يشبه أحاديث الثقات، وما روى عن سعد بن سنان وسعيد بن سنان فيه المناكير، كأنهما اثنان1. وخلص فيه الحافظ الذهبي إلى أنه ليس بحجة2، وهو أولى من قول الحافظ ابن حجر: صدوق له أفراد3. ويشهد لقول أحمد في كون حديثه يشبه أن يكون عن الحسن أن الحسن جاء عنه هذا المتن سواء مرسلاً، وذلك فيما رواه أبو داود في مراسيله4 عن يونس عن الحسن به مرسلاً. والله أعلم. وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه: فرواه إسحاق بن راهويه5، وأبو نعيم في أخبار أصبهان6، كلاهما من طريق عطاء الخراساني عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المكر والخديعة في النار"، وزاد أبو نعيم: "الخيانة". وعطاء الخراساني لم يسمع من أبي هريرة رضي الله عنه7، فالإسناد منقطع. وقد جاء هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه من وجه آخر. فقد رواه البزار8، وابن عدي9، كلاهما من طريق عبيد الله بن أبي حميد الهذلي عن أبي المليح بن أسامة عنه به بلفظ: "المكر والخديعة في النار".

وعبيد الله بن أبي حميد الهذلي ضعفه ابن معين ودحيم وأبو داود وغيرهم. وقال أحمد: ترك الناس حديثه. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أيضاً: يروي عن أبي المليح عجائب. وقال أيضاً: ضعيف، ذاهب الحديث، لا أروي عنه شيئاً. وقال الحاكم وأبو نعيم: يروي عن أبي المليح وعطاء مناكير1. ولذا جعله الحافظ ابن حجر في مرتبة: "متروك الحديث"2. فهذا الإسناد ضعيف جداً. وقد ضعّفه الحافظ ابن حجر، فقال فيه: "ضعيف"3. والأولى الحكم عليه بالضعف الشديد، وأما الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه فيبقى ضعيفًا. والله أعلم. هذه هي الطرق التي وقفت عليها في هذا المتن، وهو بمجموعها يرتقي إلى درجة الحسن. والله أعلم. 196 - (6) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السُّوق فرأى طعامًا مصبَّراً، فأدخل يده فيه، فأخرج طعاماً رطباً قد أصابته السماء. فقال لأصحابه: "ما حملك على هذا"؟ قال: والذي بعثك بالحق إنه لطعامٌ واحد. قال: "أفلا عزلت الرطب على حدة، واليابس على حدة فيبتاعون ما يعرفون، من غشنا فليس منا". رواه الطبراني في الأوسط4 بإسناده عن إسماعيل بن أبي أويس حدثني سليمان بن بلال عن إسماعيل بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة عنه به.

قال الطبراني: "لا يروى هذا الحديث عن أنس بن مالك إلا بهذا الإسناد، تفرد به إسماعيل بن أبي أويس". وقال الهيثمي عن إسناد هذا الحديث: "رجاله ثقات"1. وفي قوله نظر؛ وذلك أن إسماعيل بن عبد الله بن أبي أويس قال فيه أحمد: لا بأس به. وقال ابن معين: صدوق ضعيف العقل ليس بذاك. وقال فيه وفي أبيه: يسرقان الحديث. وقال أيضاً: مخلط يكذب ليس بشيء. وقال أبو حاتم: محله الصدق وكان مغفلاً. وقال النسائي: ضعيف. وقال مرّة: غير ثقة2. وجعله ابن حجر في مرتبة "صدوق أخطأ في أحاديث من حفظه"3. والذي يظهر لي أنه ضعيف. وقد أجاب الحافظ ابن حجر عن سبب تخريج البخاري لحديثه في صحيحه4. وأما إسماعيل بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة فوثقه أبو داود. وقال أبو حاتم: شيخ5. وجعله الحافظ في مرتبة "مقبول"6. والذي يظهر لي أن أقل أحواله أن يكون صدوقاً. وفي الإسناد علة خفية وهي الانقطاع، فإن إسماعيل بن إبراهيم لم يرو عن أحدٍ من الصحابة. ولذا جعله الحافظ ابن حجر في الطبقة السادسة في كتابه التقريب7. وقد توفي إسماعيل هذا سنة تسع وستين ومائة8. ومن

المعلوم أن أنسًا رضي الله عنه توفي سنة اثنتين وتسعين، وقيل: سنة ثلاثٍ وتسعين1. فبين وفاتيهما أكثر من ستٍ وسبعين سنة. وقد كان أنس رضي الله عنه في البصرة، وإسماعيل هذا مدني. فكل هذا يؤكد عدم سماعه من أنس رضي الله عنه. فمما سبق يتبين أن إسناد هذا الحديث ضعيف، إلا أن له شواهد تؤيده قد سبق ذكرها؛ فيكون بهذا حسناً. والله أعلم. 197 - (7) عن قيس بن أبي غَرَزة2 رضي الله عنه قال: مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بصاحب طعامٍ يبيع طعامه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا صاحب الطعام، أسفل الطعام مثل أعلاه؟ فقال: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من غش المسلمين فليس منهم". رواه أبو يعلى3 واللفظ له، وابن أبي عاصم4، والطبراني في الكبير5، كلهم من طرق عن عثمان بن أبي شيبة عن معاوية بن ميسرة بن شريح عن الحكم بن عتيبة عنه به. قال ابن أبي عاصم: "لا أحسب أحداً من أهل الأرض حدث به إلا عثمان". ومعاوية بن ميسرة بن شريح الكندي، قال فيه أبو حاتم: شيخ6. وذكره ابن حبان في الثقات7.

والحكم بن عتيبة مدلِّس1، ولم يصرّح بالسماع في هذا الحديث. وقال ابن عبد البر في قيس بن أبي غرزة: "روى عنه الحكم ولا أدري سمع منه أم لا"2. وقال ابن حجر: "روايته عنه مرسلة بلا شك"3. فعلى هذا فإن هذا الإسناد ضعيف لحال معاوية بن ميسرة، ولانقطاعه، إلا أن له شواهد تؤيده تقدم ذكرها، فيكون بها حسناً. والله أعلم. 198 - (8) عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بطعامٍ فأدخل يده فيه فقال: "من غشنا فليس منَّا". رواه الطبراني في الأوسط4 بإسناده عن سوار بن مصعب عن مطرف بن طريف عن أبي الجهم عنه به. قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن مطرف إلا سوَّار بن مصعب، ولا يروى عن البراء إلا بهذا الإسناد". وسوار بن مصعب، هو الهمداني، تقدم5 أنه ضعيفٌ جداً. فعلى هذا فإن هذا الإسناد ضعيف جداً. والله أعلم. وقد ذكر البخاري في التاريخ الكبير6 إسناداً آخر لهذا الحديث، وذلك من طريق محمد بن عيسى الوابشي سمع شريكاً عن سعيد بن ميمون عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من غشنا فليس منا".

ومحمد بن عيسى الوابشي، وسعيد بن ميمون كلاهما ذكرهما البخاري1 وابن أبي حاتم2 ولم يذكرا فيهما جرحاً ولا تعديلاً. وشريك النخعي قد تقدم الكلام فيه3 وأنه صدوق كثير الخطأ. فعلى هذا فإن هذا الإسناد ضعيف، ويشهد له الأحاديث الصحيحة في هذا الفصل، فيكون بها حسناً. والله أعلم. 199 - (9) عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من غشنا فليس منا". رواه الطبراني في الأوسط4 بإسناده عن قيس بن الربيع عن فضيل بن جرير عن مسلم بن مخراق عنه به. وقيس بن الربيع هو الأسدي أبو محمد الكوفي، كان شعبة يثني عليه، ووكيع يضعفه. وقال عفان: ثقة. وقال أحمد: روى أحاديث منكرة. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال أيضاً: ضعيف لا يكتب حديثه. وقال أيضاً: ضعيف الحديث لا يساوي شيئاً. وضعفه علي بن المديني جداً. وقال ابن نمير: كان له ابن هو آفته، نظر أصحاب الحديث في كتبه فأنكروا حديثه وظنوا أن ابنه قد غيرها. وقال الطيالسي: إنما أُتي قيس من قِبَلِ ابنه، كان ابنه يأخذ حديث الناس فيدخلها في خرج كتاب قيس ولا يعرف الشيخ ذلك. وقال

أبو زرعة: لين. وقال النسائي: متروك. وقال مرة: ليس بثقة1. وخلص فيه الحافظ ابن حجر إلى أنه "صدوق تغير لما كبر، وأدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه فحدث به"2. والذي يظهر لي أنه ضعيف. والله أعلم. إلا أنه قد توبع، فقد رواه البخاري في التاريخ الكبير3 تعليقاً من طريق عبيد الله بن موسى عن أبي عمران الطحان - وهو فضيل بن جرير - به. وفضيل بن جرير قال فيه أبو حاتم: شيخ4. وذكره ابن حبان في الثقات5. ومسلم بن مخراق ذكره البخاري6 وابن أبي حاتم7 ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً. وذكره ابن حبان في الثقات8. ولذا جعله ابن حجر في مرتبة "مقبول"9. فمما سبق يتبين أن هذا الإسناد ضعيف، إلا أنه يرتقي بشواهده التي سبق ذكرها إلى الحسن. والله أعلم.

200 - (10) عن أبي الحمراء رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بجنبات رجلٍ عنده طعامٌ في وعاء، فأدخل يده فيه، فقال: "لعلك غششت، من غشّ فليس منَّا". رواه ابن ماجه1 واللفظ له، والترمذي في العلل الكبير2، وابن عدي3، والدولابي4، وأبو أحمد الحاكم5. كلهم من طرق عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي داود عنه به. وأبو داود هذا هو نفيع بن الحارث الأعمى، كذبه قتادة. وقال ابن معين: يضع، ليس بشيء. وقال أبو حاتم: منكر الحديث، ضعيف الحديث. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال أيضاً: ليس بثقة ولا يكتب حديثه. وقال الدولابي والدارقطني: متروك6. وجعله ابن حجر في مرتبة: "متروك"7. وقد سأل الترمذي البخاري عن هذا الحديث فقال: "لا يصح لأبي الحمراء عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث"8. وقد تساهل البوصيري في الحكم على هذا الحديث فقال فيه: "ضعيف"9. وحقّه أن يقال فيه ضعيف جداً. والله أعلم.

201 - (11) عن ضميرة بن أبي ضميرة - مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس منّا من لم يرحم صغيرنا، ولم يعرف حقَّ كبيرنا، وليس منّا من غشنا، ولا يكون المؤمن مؤمناً حتى يحب للمؤمنين ما يحبُّ لنفسه". رواه الطبراني في الكبير1 بإسناده عن حسين بن عبد الله بن ضميرة عن أبيه عن جده ضميرة به. وحسين بن عبد الله بن ضميرة كذَّبه مالك وأبو حاتم وابن الجارود، وتركه علي وأحمد والدارقطني. وقال أحمد أيضاً: لا يساوي شيئاً. وقال ابن معين: ليس بثقة ولا مأمون. وقال أبو زرعة وأبو داود: ليس بشيء. وزاد أبو زرعة: يضرب على حديثه2. فمما سبق يتبين أن هذا الإسناد ضعيف جداً، وقد يكون موضوعاً. وأما متن الحديث، فإن النهي عن الغش ثابت من أوجهٍ أخرى صحيحة كما سبق. وأما قوله "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ... " الحديث، فقد ورد عن عبد الله ابن عمرو، وابن عباس، وأنس - رضي الله عنهم - وغيرهم3. وهو حديث حسن بمجموع طرقه وشواهده. والله أعلم.

202 - (12) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المسلم أخو المسلم، ولا يحلُّ لمسلم باع من أخيه بيعاً فيه عيب إلا بيّنه له". رواه ابن ماجه1 واللفظ له، وأحمد2، والروياني3، والطبراني في الأوسط4 والكبير5، والحاكم6، ومن طريقه البيهقي7. كلهم من طرق عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن شماسة عنه به. ووقع عند الطبراني في الأوسط بدل عبد الرحمن بن شماسة: "أبو الخير"، وهو مخالف لرواية غيره، و "أبو الخير" ليست كنية لعبد الرحمن بن شماسة. قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن يزيد بن أبي حبيب إلا ابن لهيعة، ولا يروى عن عقبة إلا بهذا الإسناد". وفيما قاله الطبراني نظر؛ لأن يحيى بن أيوب قد رواه أيضاً عن يزيد بن أبي حبيب كما رواه الطبراني نفسه، وهو أيضاً عند ابن ماجه والروياني والحاكم. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه". وقال الحافظ ابن حجر فيه: "حديث حسن؛ لمتابعة يحيى بن أيوب لابن لهيعة عليه، وباقي رجاله ثقات"8.

وقد روى البخاري تعليقاً قوله: "لا يحل لمسلم ... " الحديث، إلا أنه جعله من قول عقبة بن عامر رضي الله عنه1. ولذا قال الحافظ ابن حجر: "كأن القطعة التي علقها البخاري عنده أنها من قول عقبة، وأنها مدرجة في الحديث، لأنني وجدتها في جميع الروايات عنه هكذا موقوفة، والله أعلم"2. ولم أقف على من رواه مسنداً إلى عقبة بن عامر رضي الله عنه موقوفاً عليه. وقد سبق أنه رواه مرفوعاً ابن لهيعة ويحيى بن أيوب. فيكون الحديث المرفوع حسناً كما قال الحافظ ابن حجر - فيما سبق -، والله أعلم. 203 - (13) عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من باع عيباً لم يبينه لم يزل في مقت الله، ولم تزل الملائكة تلعنه". رواه ابن ماجه3 بإسناده عن بقية بن الوليد عن معاوية بن يحيى عن مكحول وسليمان بن موسى عنه به. وبقية بن الوليد قال فيه ابن المبارك: كان صدوقاً، ولكنه كان يكتب عمَّن أقبل وأدبر. وقال أبو زرعة: بقية عجب إذا روى عن الثقات فهو ثقة. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال النسائي: إذا قال: حدثنا وأخبرنا، فهو ثقة، وإذا قال: عن فلان فلا يؤخذ عنه؛ لأنه لا يدري عمّن أخذه. ووصفه بالتدليس ابن حبان أيضاً4. ولذا قال الحافظ ابن حجر:

"صدوق كثير التدليس عن الضعفاء"1. وذكره في المرتبة الرابعة من مراتب المدلسين2. ولم يصرِّح في الحديث بالسماع. ومعاوية بن يحيى هو الصدفي أبو روح الدمشقي، قال فيه ابن معين: هالك، ليس بشيء. وقال أبو زرعة: ليس بقوي، أحاديثه كأنها منكرة ما حدث بالري، والذي حدث بالشام أحسن حالاً. وقال أبو حاتم: ضعيف في حديثه إنكار. وضعفه أبو داود والنسائي. وقال النسائي أيضاً: ليس بثقة. وقال أيضاً: ليس بشيء3. وخلص فيه الحافظ ابن حجر إلى أنه "ضعيف وما حدث بالشام أحسن مما حدث بالري"4. فمما سبق يتبين أن هذا الإسناد ضعيف. وقد ضعفه البوصيري، فقال: "هذا إسناد ضعيف، لتدليس بقية بن الوليد وضعف شيخه"5. وجاء الحديث من وجهٍ آخر، فقد رواه أحمد6، والحاكم7، والبيهقي8، كلهم من طرقٍ عن يزيد بن أبي مالك، ثنا أبو سباعٍ، قال: اشتريت ناقةً

من دار واثلة ابن الأسقع، فلما خرجت بها أدركنا واثلة وهو يجر رداءه، فقال: يا عبد الله، اشتريت؟ قلت: نعم. قال: هل بيَّن لك ما فيها؟ قلت: وما فيها؟ إنها لسمينة ظاهرة الصحة. قال: فقال: أردت بها سفراً أم أردت بها لحماً؟ قلت: بل أردت عليها الحج. قال: فإن بخفها نقباً. قال: فقال صاحبها: أصلحك الله، أيْ هذا تفسد عليّ. قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحلّ لأحدٍ أن يبيع شيئاً ألا يبين ما فيه، ولا يحل لمن يعلم ذلك ألا يبينه". قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". وفي قوله نظر؛ فإن أبا سباع مجهول كما قال الذهبي1. وقد نقل الحسيني عن أبي حاتم أنه قال فيه: مجهول2. ولم أقف على كلام أبي حاتم في الجرح والتعديل، ثم وقفت على كلام الحافظ ابن حجر في تعجيل المنفعة3، وقد بيّن فيه أن الحسيني وهم في نقله هذا عن أبي حاتم، وبيّن الحافظ أن سبب وهمه أن الذهبي ذكر في مقدمة ميزان الاعتدال4 أنه إذا أطلق لفظة "مجهول" فمراده أن أبا حاتم قالها. فلما وقف الحسيني على قول الذهبي في أبي سباع أنه مجهول نسبها الحسيني إلى أبي حاتم اعتماداً على ما ذكره الذهبي في مقدمة الميزان. ولعلّ الذهبي ذكر هذا ويعني به في الغالب، أو أنه غفل عما ذكره في المقدمة، فقال فيه "مجهول" من غير أن يعني أن أبا حاتم جهّله. والله أعلم.

فمما سبق يتبين أن هذا الإسناد ضعيف أيضاً، إلا أن الحديث يتقوى بطريقيه، وكذلك بشواهده، فيكون بها حسناً. وأما الوعيد الوارد في هذا الحديث فهو ضعيف لعدم وجود ما يعضده. والله أعلم.

دلالة الأحاديث السابقة: يستفاد مما تقدم النهي عن الغش، وأنه ليس من أخلاق المؤمنين وسيرتهم، فغش المسلمين مخالف للنصيحة لهم التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "الدين النصيحة، فقيل له: لمن يا رسول الله؟ فقال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"1. وفي الصحيحين2 عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: " بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم". ولذا ذكر الإمام الدارمي هذا الحديث في كتاب البيوع من سننه3، ثم ذكر بعده حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - المتقدم في النهي عن الغش. وللغش مفاسد كثيرة في الأموال ونزع البركات، ومن أسباب تسليط الكفار على المسلمين4. وضابط الغش المحرم أن يعلم ذو السلعة من نحو بائعٍ أو مشترٍ فيها شيئاً لو اطلع عليه مريد أخذها ما أخذها بذلك المقابل5. وإذا وقع البيع على شيء مغشوش، فللمشتري الخيار إذا وقف عليه6 كما سيأتي في حديث المصرّاة، فإنها من الغش وقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم لمشتريها الخيار. والله أعلم.

_ 1 تقدم تخريجه في الدراسة الفقهية للفصل السابق. 2 صحيح البخاري - مع الفتح -[كتاب الإيمان (1/ رقم 57) ] ، صحيح مسلم [كتاب الإيمان (1/75) ] . 3 سنن الدرامي (2/322) . 4 انظر في هذا: الزواجر عن اقتراف الكبائر (1/239-243) . 5 المرجع السابق (1/238) . 6 شرح السنة (8/167) .

الفصل الرابع: ما ورد في النهي عن اليمين الكاذبة في البيع

الفصل الرابع: ما ورد في النهي عن اليمين الكاذبة في البيع ... الفصل الرابع: ورد في النهي عن اليمين الكاذبة في البيع 204 - (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحلف منفقةٌ للسلعة ممحقة للبركة". رواه البخاري1، ومسلم2، وأبو داود3، والنسائي4. كلهم من طرقٍ عنه به. وهذا لفظ البخاري وأبي داود. وفي لفظ مسلم: "ممحقة للربح". وفي لفظ النسائي: "ممحقة للكسب". ورواه عبد الرزاق5، وأحمد6، والبيهقي7، بلفظ: "اليمين الكاذبة منفقة للسلعة ... " الحديث. وقوله: "مَنْفَقَةٌ"، قال ابن الأثير: "أي هي مظنةٌ لنفاقها وموضعٌ له"8. وسوف يأتي عند حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النَّفَاق ضد الكساد. وقوله: "ممحقة"، قال ابن الأثير: "المحق: النقص والمحو والإبطال. وقد محقه يمحقه. وممحقة: مَفْعَلةٌ منه، أي مظنَّةٌ له ومحراةٌ به"9.

205 - (2) عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم"، قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرار. قال أبو ذر رضي الله عنه خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال: "المسبل، والمنَّان، والمُنَفِّق سلعته بالحلف الكاذب". رواه مسلم1 واللفظ له، وأبو داود2، والترمذي3، والنسائي4، وابن ماجه5، وأحمد6، والدارمي7. كلهم من طرقٍ عن حَرَشة بن الحُرّ عنه به. وفي لفظٍ لمسلم وأبي داود وأحمد: "والمنفق سلعته بالحلف الفاجر". وقوله: "المُنَفِّق"، قال ابن الأثير في بيان معناه: "المنفِّق: بالتشديد من النَّفاق، وهو ضد الكساد"8.

206 - (3) عن أبي قتادة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إيَّاكم وكثرة الحلف في البيع، فإنه يُنَفِّق ثم يمحق". رواه مسلم1، والنسائي2، وابن ماجه3، وأحمد4. كلهم من طرقٍ عن معبد5 بن كعب بن مالك عنه به. وقوله: "ينفِّق" قد سبق في حديث أبي ذر رضي الله عنه بيان معناها. 207 - (4) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أربعةٌ يُبغضهم الله عز وجل: البيّاع الحلاّف، والفقير المختال، والشيخ الزاني، والإمام الجائر". رواه النسائي6، والبيهقي في شعب الإيمان7، كلاهما عن حماد عن عبيد الله ابن عمر عن سعيد المقبري عنه به. وهذا إسنادٌ صحيح. وحماد وقع عند النسائي في الكبرى8 أنه ابن زيد. وعند البيهقي أنه ابن سلمة، ولا يقدح هذا في صحة الحديث؛ لأن كليهما ثقة. والله أعلم.

208 - (5) عن مطرِّف بن عبد الله بن الشخير قال: كان الحديث يبلغني عن أبي ذر رضي الله عنه وكنت أشتهي لقاءه فلقيته فقلت: يا أبا ذر، إنه كان يبلغني عنك الحديث فكنت أشتهي لقاءك. فقال: لله أبوك. فقد لقيت فهات. قلت: بلغني أنك تحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثكم أن الله عز وجل يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة. قال ما أخالني أن أكذب على خليلي. قلت: فمن الثلاثة الذين يحبهم الله؟ قال: رجل لقي العدو فقاتل، وإنكم لتجدون ذلك في الكتاب عندكم {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً} 1. قلت: ومن؟ قال: رجل له جار سوءٍ فهو يؤذيه ويصبر على أذاه، فيكفيه الله بحياة أو موت. قال: ومن؟ قال: رجلٌ كان مع قوم في سفر فنزلوا فعرسوا قد شق عليهم الكرى والنعاس ووضعوا رؤوسهم فناموا، وقام فتوضأ وصلى رهبةً لله ورغبةً إليه. قلت: فمن الثلاثة الذين يبغضهم الله؟ قال: البخيل المنان، والمختال الفخور، وإنكم لتجدون في كتاب الله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍِ} 2. قال: فمن الثالث؟ قال: التاجر الحلاَّف أو البائع الحلاَّف ". رواه أبو داود الطيالسي3 واللفظ له، وأحمد4، والطبراني5. كلهم من طرقٍ عن الأسود بن شبيان عن أبي العلاء يزيد بن عبد الله بن الشخير عنه به.

وزاد أحمد والطبراني: "قلت يا أبا ذر: ما المال؟ قال: فرقٌ لنا وذود. قال: يا أبا ذر، ليس عن هذا أسألك، إنما أسألك عن صامت المال؟ قال: ما أصبح لا أمسى، وما أمسى لا أصبح. قلت: مالك ولإخوانك من قريش؟ قال: والله لا أستفتيهم عن دين ولا أسألهم دنيا حتى ألقى الله ورسوله. قالها ثلاث مرات". هذا لفظ الطبراني. وقد روى أحمد1 وابن جرير2 نحو هذا الحديث من طريق الجريري عن يزيد بن عبد الله بن الشخِّير عن ابن الأحمس عن أبي ذر رضي الله عنه به بنحوه. وقد ترجم البخاري3، وابن أبي حاتم4 لابن الأحمس، فلم يذكرا فيه إلا أنه يروي عن أبي ذر، وروى عنه يزيد بن عبد الله بن الشخير. وذكر البخاري أنه روى عنه الجريري، ويعني بذلك "عن الجريري عن يزيد عن ابن الأحمس". وكذلك ترجم لابن الأحمس كلٌّ من الحسيني5، وابن حجر6، فلم يذكرا فيه إلا ما ذكره البخاري وابن أبي حاتم. ويظهر لي أن ابن الأحمس هذا لا وجود له. وإنما هو مُصَحَّف من الأحنف بن قيس. فتصحّف الأحنف إلى الأحمس. والله أعلم.

والدليل على هذا التصحيف أن مسلماً قد روى عن زهير بن حرب عن إسماعيل ابن إبراهيم بن عُليَّة عن الجريري عن أبي العلاء يزيد بن عبد الله بن الشخِّير عن الأحنف ابن قيس، قال: "قدمت المدينة ... " الحديث1، فذكر قصةً لأبي ذر رضي الله عنه مع ملأٍ من قريش في شأن زكاة الذهب والفضة، وفي آخرها: "قلت - أي الأحنف -: مالك ولإخوتك من قريش لا تعتريهم ولا تصيب منهم؟ قال: لا وربك لا أسألهم عن دنيا ولا أستفتيهم عن دين حتى ألحق بالله ورسوله". وروى نحو هذه القصة البخاري2 من طريق عبد الأعلى وعبد الوارث كلاهما عن الجريري به. وتابع يزيد بن عبد الله في روايته عن الأحنف خليدٌ العَصْري كما عند مسلم3. فإذا ترجّح أن يزيد بن عبد الله بن الشخير روى هذا الحديث عن الأحنف بن قيس، وقد سبق أنه روى نحوه عن أخيه مطرِّف. فهل ليزيد بن عبد الله بن الشخير شيخان في هذا الحديث؟ هذا هو الذي رجحه الحافظ ابن حجر حيث قال: "لا مانع أن يكون ليزيد فيه شيخان"4. والذي يظهر لي أن هذا الاحتمال ضعيف؛ وذلك أنه بالنظر إلى سياق القصتين - من طريق الأحنف ومن طريق مطرف - يتبين أنهما قصة واحدة حصلت لأحدهما مع أبي ذر رضي الله عنه وذلك لتشابه ألفاظهما.

والزيادة التي زادها أحمد والطبراني من طريق مطرف نحوها موجود في حديث الأحنف عند مسلم كما سبق ذكر ذلك. فهذا يرجح أن ذكر مطرف في الرواية عن أبي ذر غير محفوظ، وأن المحفوظ في هذا الحديث أنه عن الأحنف عن أبي ذر رضي الله عنه1، لوجود المتابع لرواية يزيد عن الأحنف وهو خليد العصري. وهذا الاختلاف لا يقدح في صحة الحديث لكون كل من مطرف والأحنف ثقة. والله أعلم. 209 - (6) عن عبد الرحمن بن شبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن التجار هم الفجار". قال رجلٌ: يا نبيَّ الله، ألم يحل الله البيع؟ قال: "إنهم يقولون فيكذبون، ويحلفون ويأثمون". مدار هذا الحديث على يحيى بن أبي كثير وقد اختلف عليه. فرواه هشام الدستوائي عنه عن أبي راشد الحُبْراني عن عبد الرحمن بن شبل رضي الله عنه به. رواه أحمد2 والحاكم3 كلاهما مطوّلاً. وقد روى معاذ بن هشام الدستوائي هذا الحديث عن أبيه، وفيه تصريح يحيى بن أبي كثير بالسماع من أبي راشد لهذا الحديث4. ومعاذ بن هشام قال فيه ابن معين: صدوق وليس بحجة، وقال: ليس بذاك القوي، وقال ابن عدي: ربما يغلط في الشيء بعد الشيء، وأرجو أنه صدوق5، وجعله ابن حجر في مرتبة: "صدوق ربما وهم"6.

وقد خالفه إسماعيل بن إبراهيم بن عُليَّة، وهو ثقة حافظ1، فرواه عن هشام الدستوائي كما عند أحمد2، ولم يذكر تصريح يحيى بالسماع من أبي راشد. وسوف يأتي أن يحيى بن أبي كثير لم يسمع من أبي راشد، بل بينهما أكثر من واسطة. ورواه أبان العطار عن يحيى بن أبي كثير عن زيد عن أبي سلام عن أبي راشد عنه به. رواه أحمد3 باللفظ المذكور، والحاكم4، إلا أنه وقع في إسناده: يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن أبي راشد به. وقد تابع أبان العطار بالإسناد الذي ساقه أحمد معمر فيما رواه أحمد5 مطوّلاً، وكذلك تابعه همام بن يحيى ببعضه كما عند أحمد6 أيضاً، وتابعهم أيضاً علي بن المبارك الهنائي كما عند الطحاوي7 مختصراً. فهذه الروايات تبين أن المحفوظ في هذا الإسناد هو عن يحيى بن أبي كثير عن زيد ابن سلام عن جده أبي سلام عن أبي راشد الحُبراني عن عبد الرحمن بن شبل به. ورجال هذا الإسناد ثقات إلا أنه قد أُعلَّ بالانقطاع بين يحيى بن أبي كثير وزيد ابن سلام. وقد اختلف الأئمة في سماعه منه.

فأثبت سماعه منه أبو حاتم، وساق بإسناد صحيح عن يحيى بن أبي كثير أنه سمع منه. وقال أحمد: ما أشبهه. وأما ابن معين فنفى لقاءهما. وقال معاوية بن سلام: أخذ مني يحيى بن أبي كثير كتب أخي زيد بن سلام. وقال حسين المعلم: أخرج إلينا يحيى بن أبي كثير صحيفة لأبي سلام، فقلنا له: سمعت من أبي سلام؟ قال: لا. قلت: من رجلٍ سمعه من أبي سلام؟ قال: لا. فهذا يبين أنه لم يسمع من زيد بن سلام. وقد قال يحيى بن أبي كثير أيضاً: كل شيء عن أبي سلام فإنما هو كتاب1. والذي يترجح لي مما سبق أن يحيى بن أبي كثير سمع من زيد بن سلام؛ لأنه أثبت ذلك لنفسه، وهو أعلم به من غيره، إلا أن روايته عن زيد لم تكن مما سمعه، وإنما هي من كتاب كما ذكر ذلك عن نفسه أيضاً، إلا أن هذا الكتاب لم يقع له من زيد بن سلام مباشرةً، وإنما من أخيه معاوية. وهذه تدعى في مصطلح الحديث وجادة، وهي من باب المنقطع، وفيها شَوْب اتصال2. فمما سبق يتبين أن هذا الحديث ضعيف. والله أعلم. 210 - (7) عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: أشيمطٌ زانٍ، وعائلٌ مستكبر، ورجلٌ جعل الله بضاعة لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه".

رواه الطبراني في الكبير1 والأوسط2 والصغير3، والبيهقي4، كلاهما من طريق سعيد بن عمرو الأشعثي عن حفص بن غياث عن عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي عنه به. ولفظه في الأوسط والصغير: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذابٌ أليم ... " الحديث. قال الطبراني في الأوسط: "لم يرو هذا الحديث عن عاصمٍ إلا حفص. تفرد به سعيد بن عمرو، ولا يروى عن سلمان إلا بهذا الإسناد". ورجال الإسناد كلهم ثقات، فالحديث صحيح. والله أعلم. وقوله: "أُشيمط": تصغير أشمط. والشَّمَط: بياض شعر الرأس يخالط سواده5. وقوله: "عائل": العائل هو الفقير6. 211 - (8) عن عصمة بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم غداً: شيخٌ زان، ورجل اتخذ الأيمان بضاعةً يحلف في كل حقٍّ وباطل، وفقيرٌ مختال مزهو".

رواه الطبراني في الكبير1 عن أحمد بن رشدين المصري عن خالد بن عبد السلام الصدفي عن الفضل بن المختار عن عبد الله بن موهب عنه به. وقد تقدم الكلام في هذا الإسناد2، وأنه ضعيف جداً، وقد يكون موضوعاً. أما متن الحديث فقد تقدم في هذا الفصل ما يغني عنه. والله أعلم. ومما ورد في هذا الفصل أيضاً: (9) حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقد تقدم3.

دلالة الأحاديث السابقة: يستفاد مما تقدم النهي عن اليمين الكاذبة في البيع، وأنها وإن كانت في الظاهر سبباً لرواج السلعة فهي في الحقيقة تؤدي إلى نقص ومحو الكسب والربح. وهي من كبائر الذنوب كما يدل عليه حديث أبي ذر رضي الله عنه الأول، والله عز وجل يبغض التاجر أو البائع الحلاّف كما في حديث أبي ذر رضي الله عنه الثاني. كما أنه يكره تنزيها الحلف في البيع وإن كان صادقاً في حلفه1، وذلك إذا كان حلفه من غير حاجة2. والله أعلم.

_ 1 فتح الباري (4/370) . 2 شرح صحيح مسلم (11/44) .

الفصل الخامس: ما ورد في النهي عن التصرية

الفصل الخامس: ما ورد في النهي عن التصرية ... الفصل الخامس: ورد في النهي عن التصرية 212 - (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصرُّوا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعدُ فإنه بخير النظرين بعد أن يحتلبها: إن شاء أمسك، وإن شاء ردَّها وصاع تمرٍ". رواه البخاري1 واللفظ له، ومسلم2، وأبو داود3، والترمذي4، والنسائي5، وابن ماجه6، ومالك7، وأحمد8، كلهم من طرقٍ عنه به. وفي لفظ لهم - عدا الترمذي وابن ماجه - زيادة: "لا تلقوا الركبان، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا، ولا يبع حاضرٌ لبادٍ". وفي لفظ للبخاري ومسلم وغيرهما بدل قوله: "ولا يبع بعضكم على بيع بعض" جاء: "وأن يستام الرجل على سوم أخيه". وقد روى الترمذي هذه الجمل مفرَّقة في مواضع.

وعند مسلم وأبي داود والترمذي وأحمد1 من طريق محمد بن سيرين عنه به مرفوعاً: "من اشترى شاةً مصرَّاةً فهو بالخيار ثلاثة أيام". ورواه مسلم وأحمد2 أيضاً من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه به بنحوه بذكر ثلاثة أيام. وقوله في الحديث: "وصاع تمرٍ" جاء في بعض الروايات: "صاع من طعامٍ لا سمراء". وقد بيّن الحافظ ابن حجر3 أن الطعام في هذه الروايات ينبغي تفسيره بالتمر لموافقة الروايات الأخرى التي جاء فيها ذكر التمر، ولذا قال البخاري عن هذا الاختلاف: "التمر أكثر"4، يعني أكثر الروايات عليه. والله أعلم. 213 - (2) عن رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتلقَّى جلب، ولا يبع حاضرٌ لبادٍ، ومن اشترى مصرَّاة أو ناقةً - قال شعبة: إنما قال: ناقة، مرة واحدة - فهو فيها بآخر النظرين إذا هو حلب، إن ردَّها ردَّ معها صاعاً من طعامٍ" أو قال: "صاعاً من تمر". رواه أحمد5 واللفظ له، وابن أبي شيبة6، والبيهقي7. كلهم من طرقٍ عن الحكم سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى عنه به.

وهذا إسناد صحيح كما قال الحافظ ابن حجر1. ولا تضرّ الجهالة بالصحابي؛ لأن الصحابة كلهم عدول. قال البيهقي في قوله: "أو صاعاً من تمرٍ": "يحتمل أن يكون شكاً من بعض الرواة، فقال: صاعاً من هذا أو من ذلك، لا أنه من وجه التخيير ليكون موافقاً للأحاديث الثابتة في هذا الباب". وذكر الحافظ ابن حجر الاحتمالين2 - وهما أن تكون "أو" للشك أو للتخيير - ولم يرجّح بينهما مع أن لفظ أحمد صريح في أن "أو" شك من الراوي؛ لأن عنده: أو قال: "صاعاً من تمرٍ". وهذه الصيغة صريحة في الشك. والله أعلم. 214 - (3) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تستقبلوا السُّوق، ولا تحفِّلوا، ولا ينفِّق بعضكم لبعض". رواه الترمذي3 واللفظ له، وابن أبي شيبة4، ومن طريقه أحمد5، والطحاوي6، والبيهقي7. كلهم من طرق عن أبي الأحوص عن سماك عن عكرمة عنه به.

وقد تكلم في حديث سماك بن حرب عن عكرمة. وقد سئل ابن المديني عن رواية سماك عن عكرمة فقال: "مضطربة"، وقال يعقوب بن شيبة: "روايته - أي سماك - عن عكرمة خاصة مضطربة"، وقال العجلي في سماك: "جائز الحديث إلا أنه كان في حديث عكرمة ربما وصل الشيء"1. فمما سبق يتبين أن هذا الإسناد ضعيف، إلا أنه يرتقي بشواهده التي تقدم ذكرها فيكون حسنًا. والله أعلم. والمحفّلات: التي جمع لبنها في ضرعها. ومعنى قوله: "ولا ينفِّق بعضكم لبعض" أي لا يقصد أن ينفِّق سلعته على جهة النجش، فإنه بزيادته فيها يرغِّب السامع، فيكون قوله سبباً لابتياعها ومنفقاً لها2. 215 - (4) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: أشهد على الصادق المصدوق أبي القاسم صلى الله عليه وسلم أنه حدثنا قال: "بيع المحفَّلات خِلابة، ولا تحل الخِلابة لمسلم". رواه ابن ماجه3، وابن أبي شيبة4، والبيهقي5، وابن عبد البر6. كلهم من طرقٍ عن جابر الجعفي عن أبي الضحى عن مسروقٍ عنه به.

وجابر الجعفي أثنى عليه سفيان، وقال شعبة: صدوق في الحديث. ووثقه وكيع. وكذبه ابن معين وغيره. وقال ابن معين أيضاً: لا يكتب حديثه ولا كرامة. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال أيضاً: ليس بثقةٍ ولا يكتب حديثه. واتهمه غير واحد بالقول بالرجعة وغيرها من عقائد الرافضة1. وخلص فيه الحافظ ابن حجر إلى إنه ضعيف رافضي2. إلا أن الحديث قد جاء من وجه آخر. فقد رواه الدارقطني في العلل3 من طريق محمد بن جعفر الوركاني حدثنا أبو شهاب عن الأعمش عن خيثمة عنه به، ولفظه: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المحفلات من الغنم، وقال: خلابة بين المسلمين". والخلابة: الخداع4. وأبو شهاب هو عبد ربه بن نافع قال فيه يحيى بن سعيد: ليس بالحافظ. ووثقه ابن معين وابن سعد وغيرهما. وقال أحمد: ما بحديثه بأس. وقال النسائي: ليس بالقوي5. ولذا جعله ابن حجر في مرتبة: "صدوق يهم"6. وقد خالفه الثوري كما عند عبد الرزاق7، وكذلك أبو معاوية الضرير عند ابن أبي شيبة8، ويعلى بن عبيد عند البيهقي9، فوقفوا الحديث على ابن مسعود رضي الله عنه.

وفي إسناد ابن أبي شيبة والبيهقي زيادة في الإسناد وهي ذكر الأسود بين خيثمة وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وقد رواه موقوفًا عن ابن مسعود رضي الله عنه أيضًا أبو عثمان النهدي، كما عند البخاري1. فمما سبق يتبين أن الحديث جاء مرفوعاً وموقوفاً. والذي يترجح لي من هذا الاختلاف هو الوقف؛ لكونه رواية الأحفظ والأكثر. وممن رجح الوقف الدارقطني2. والله أعلم. 216 - (5) عن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا جَلَب ولا جَنَب ولا اعتراض، ولا يبيع حاضرٌ لبادٍ، ولا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو إذا حلبها بخير النظرين: إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمرٍ". رواه الدارقطني3 واللفظ له، والبزار4، وابن عدي5، والطبراني في الكبير6 - كلهم مختصراً - من طرقٍ عن كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه به. وكثير بن عبد الله المزني كذبه الشافعي وأبو داود. وقال فيه ابن معين: ليس بشيء. وقال أحمد: منكر الحديث، ليس بشيء. وقال

أبو زرعة: واهي الحديث، ليس بالقوي. وقال النسائي والدارقطني: متروك الحديث. وقال النسائي أيضاً: ليس بثقة1. فمما تقدم يتبين أن كثير بن عبد الله المزني ضعيف جداً. وأما ما اختاره الحافظ ابن حجر من أنه "ضعيف، أفرط من نسبه إلى الكذب"2، ففيه تساهل؛ لما سبق من أقوال الأئمة فيه. وأصاب الحافظ الذهبي فجعله في مرتبة "واهٍ"3، وفي موضع آخر: "متروك"4. فمما سبق يتبين أن إسناد هذا الحديث ضعيف جداً. وأما النهي عن التصرية فهو ثابت عن غير واحدٍ من الصحابة كما تقدم ذكر أحاديثهم. والله أعلم. ومما ورد في هذا الفصل أيضاً: (6) حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، وسيأتي5.

دلالة الأحاديث السابقة: يستفاد مما تقدم النهي عن التصرية. والتصرية فسرها أبو عبيد وغيره بجمع اللبن وحبسه في الضرع. وفسّرها الشافعي بأنها صرُّ - أي ربط - أخلافها ولا تحلب أياماً حتى يجتمع اللبن في ضرعها، فإذا حلبها المشتري استغزرها. قال الخطابي: قول أبي عبيد حسن، وقول الشافعي صحيح1. وإنما نهي عن التصرية لأنها غشٌّ وخداعٌ2. وقد دلت الأحاديث السابقة على أن المشتري للمصرّاة مخيّرٌ بين إمساكها وبين ردِّها وردّ صاعٍ من تمرٍ معها مكان ما حلب من اللبن أول مرّة. وإلى هذا ذهب مالك3، والشافعي4، وأحمد5. وذهب أبو حنيفة إلى أنه ليس له ردّ المصراة بالعيب، ولكنه يرجع بنقصان العيب6. واعترض الحنفية على ما ورد من الأحاديث في التخيير بين إمساك المصرّاة وبين ردّها ورد صاع من تمر بما يأتي: أولاً: الطعن في صحة هذا الحديث؛ لأنه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه ولا يقبل من حديثه ما خالف القياس الجلي7.

قال ابن حجر: وهو كلام آذى قائله به نفسه، وفي حكايته غنى عن تكلف الرد عليه، وقد ترك أبو حنيفة القياس الجلي لرواية أبي هريرة وأمثاله. ونقل ابن حجر عن ابن السمعاني قوله: "والتعرض إلى جانب الصحابة علامة على خذلان فاعله، بل هو بدعة وضلالة، وقد اختص أبو هريرة رضي الله عنه بمزيد الحفظ لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له"1. وقال الحافظ ابن حجر: "ثم مع ذلك لم ينفرد أبو هريرة رضي الله عنه برواية هذا الأصل، فقد أخرجه أبو داود من حديث ابن عمر2،

وأخرجه الطبراني من وجهٍ آخر عنه1، وأبو يعلى من حديث أنس2، وأخرجه البيهقي في الخلافيات من حديث عمرو بن عوف المزني3، وأخرجه أحمد من رواية رجلٍ من الصحابة لم يسمّ4"5. وكذلك فقد أفتى ابن مسعود رضي الله عنه بمثل ما روى أبو هريرة رضي الله عنه كما عند البخاري عنه رضي الله عنه، قال: "من اشترى شاةً محفّلة فردّها فليردّ معها صاعاً من تمر"6. وأما قول بعض الحنفية باحتمال أن يكون ابن مسعود رضي الله عنه سمع الحديث من أبي هريرة رضي الله عنه وأفتى به7، فالجواب أن هذا الاحتمال ظن لا دليل عليه. ولو سُلِّم أنه أفتى بما سمعه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه،

فإنه رضي الله عنه وهو الذي لا يجادل أحد في فقهه - لو كان يرى فيما حدث به أبو هريرة رضي الله عنه مخالفة للقياس واستبعاد أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قاله ما قبله. ثانياً: دعوى الاضطراب في الحديث، لذكر التمر فيه تارة، والقمح أخرى، واللبن أخرى، واعتباره بالصاع، وبالمثل أو المثلين تارة، وبالإناء أخرى1. والجواب: أن الطرق الصحيحة لا اختلاف فيها، والضعيف لا يعل به الصحيح2. ثالثاً: قالوا إن ضمان المتلفات يتقدر بالمثل بالكتاب والسنة، وفيما لا مثل له بالقيمة، وإيجاب التمر مكان اللبن مخالف لما ثبت بالكتاب والسنة، وكذلك فإن فيه تسوية بين قليل اللبن وكثيره فيما يجب مكانه، وهذا مخالف للأصول؛ لأن الأصل أنه إذا قل المتلف قلّ الضمان، وإذا كثر المتلف كثر الضمان، وهنا الواجب صاع من التمر قلّ اللبن أو كثر3. والجواب عن هذا أن يقال: حديث المصرّاة أصل مستثنى من تلك القواعد، لمعنى يخصه، وبيانه أن اللبن الحادث بعد العقد ملك للمشتري، فيختلط باللبن الموجود حال العقد، وقد يتعذر الوقوف على قدره، فاقتضت حكمة الشرع أن جعل ذلك مقدراً لا يزيد ولا ينقص دفعاً للمنازعة، وإنما خص ذلك بالطعام لأنه قوت كاللبن، وجعل تمراً لأنه غالب قوتهم ولا يحتاج في تقوته إلى كلفة4.

وأما تضمينه بغير جنسه ففي غاية العدل، فإنه لا يمكن تضمينه بمثله البتة، فإن اللبن في الضرع محفوظ غير معرضٍ للفساد، فإذا حلب صار عرضةً لحمضه وفساده، فلو ضمن اللبن الذي كان في الضرع بلبنٍ محلوبٍ في الإناء، كان ظلماً تتنزه الشريعة عنه. وأيضاً فإن اللبن الحادث بعد العقد اختلط باللبن الموجود وقت العقد، فلم يعرف مقداره حتى يوجب نظيره على المشتري، وقد يكون أقل منه أو أكثر، فيفضي إلى الربا، لأن أقل الأقسام أن تجهل المساواة1. رابعاً: دعوى مخالفته لحديث "الخراج بالضمان"2، فالجواب أن يقال:

إن صاع التمر ليس عوضاً عن اللبن الحادث، وإنما هو عوض عن اللبن الموجود وقت العقد في الضرع1. خامساً: قالوا إن حديث المصراّة منسوخ2. وناسخه إما حديث النهي عن بيع الدين بالدين، أو حديث "الخراج بالضمان"، وقيل غير ذلك. والجواب: أن النسخ لا يثبت بالاحتمال، ولا دلالة على النسخ3. هذا أشهر ما اعترض به الحنفية على حديث المصرّاة، وتبيّن الجواب عنها. وبالجملة فإن حديث المصرّاة أصلٌ بذاته لا يعارض بغيره، بل هو مشتمل على العدل مع المشتري والبائع. والله أعلم.

وظاهر الأحاديث السابقة أن هذا الحجم ثابت في مصراة الإبل والغنم، ويلحق بهما البقر؛ لأنها في معنى الإبل والغنم، بل البقر أولى؛ لأنها أغزر لبنًا وأكثر نفعًا1، وإنما اقتصر عليهما لغلبتهما عندهم2. ويلحق بها أيضًا كل محفلة3؛ للجامع بينها وهو تغرير المشتري4، وقيل: لا يلحق ببهيمة الأنعام غيرها5 وقيل: يلحق بها جميع الحيوانات المأكولة6. وكذلك فإن حديث أبي هريرة رضي الله عنه يدل على أن المشتري له الخيار مدة ثلاثة أيام، وذهب بعض العلماء إلى أن للمشتري الرد قبل الثلاثة وبعدها؛ لأنه تدليس، فملك الرد إذا بينه كسائر التدليس7. قال ابن قدامة: العمل بالخبر أولى8.

_ 1 المغني (4/236) . 2 فتح الباري (4/423) . 3 انظر: صحيح البخاري [كتاب البيوع، ترجمة الباب رقم 64) ] . 4 الفتح (4/423) . 5 المغني (4/236-237) . 6 المجموع (11/271) . 7 المغني (4/236) . 8 المرجع السابق.

الفصل السادس: ما ورد في النهي عن بيع الحاضر للباد وعن تلقي الركبان

الفصل السادس: ما ورد في النهي عن بيع الحاضر للباد وعن تلقي الركبان ... الفصل السادس: ورد في النهي عن بيع الحاضر للباد عن تلقي الركبان 217 - (1) عن طاوس عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلقوا الركبان، ولا يبع حاضرٌ لبادٍ". قال: فقلت لابن عباس - رضي الله عنهما -: ما قوله: لا يبيع حاضرٌ لبادٍ؟ قال: لا يكون له سمساراً. رواه البخاري1، ومسلم2، وأبو داود3، والنسائي4، وابن ماجه5، وأحمد6. كلهم من طرقٍ عن معمر عن عبد الله بن طاووس عن أبيه به. والسمسار هو الذي يدخل بين البائع والمشتري متوسطًا لإمضاء البيع7.

218 - (2) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "نهينا أن يبيع حاضرٌ لبادٍ". رواه البخاري1، ومسلم2 واللفظ لهما، وأبو داود3، والنسائي4، كلهم من طرقٍ عنه به. وعند أبي داود والنسائي عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ... " الحديث. قال ابن حجر: "عرف بهذه الرواية أن الناهي المبهم في الرواية الأولى هو النبي صلى الله عليه وسلم". وزاد مسلم وأبو داود والنسائي: "وإن كان أخاه أو أباه". وروى أبو داود بإسنادٍ حسن عن محمد بن سيرين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان يقال: "لا يبيع حاضرٌ لبادٍ". وهي كلمة جامعة: لا يبيع له شيئاً ولا يبتاع له شيئاً5. ورواه أبو عوانة، وفيه أن ابن سيرين قال: لقيت أنس بن مالك رضي الله عنه فقلت: "لا يبيع حاضرٌ لبادٍ" أنهيتم أن تبيعوا أو تبتاعوا لهم؟ قال: نهينا أن نبيع لهم، أو نبتاع لهم. قال محمد: وصدق، إنها كلمة جامعة"6.

219 - (3) عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضرٌ لبادٍ". رواه البخاري1 واللفظ له، والنسائي2، وأحمد3، والطبراني في الكبير4، والبيهقي5، كلهم من طرقٍ عنه به. وزاد النسائي بإسنادٍ صحيح، والطبراني ذكر النهي عن النجش. وعندهما وعند أحمد زيادة ذكر النهي عن تلقي البيوع. وزاد أحمد أيضاً بإسناد صحيح: "ولا يبع بعضٌ على بيع بعض". وزاد الطبراني من طريق ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "ولا تصرُّوا الإبل والغنم لبيعٍ، فمن اشترى شاةً مصرّاة فإنه بأحد النظرين، إن ردّها ردّها بصاعٍ من تمر". وقد تقدم الكلام على هذا الإسناد في فصل النهي عن التصرية6. 220 - (4) عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يبع حاضرٌ لبادٍ، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض".

رواه مسلم1 واللفظ له، وأبو داود2، والترمذي3، والنسائي4، وابن ماجه5، وأحمد6، كلهم من طرقٍ عن أبي الزبير عنه به. 221 - (5) عن سالم المكي أن أعرابياً حدَّثه أنه قدم بحلوبةٍ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فنزل على طلحة بين عبيد الله رضي الله عنه فقال له طلحة: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع حاضرٌ لبادٍ، ولكن اذهب إلى السوق فانظر من يبايعك وشاورني حتى آمرك وأنهاك". اختلف في هذا الحديث. فرواه أبو داود7 باللفظ المذكور، والبزار8، وأبو يعلى9، والبيهقي10. كلهم من طرقٍ عن حماد بن سلمة عن ابن إسحاق عن سالم المكي أن أعرابياً حدثه عن طلحة رضي الله عنه به. وعند البزار: "عن رجلٍ عن طلحة". وانفرد مؤمل بن إسماعيل من بين الرواة عن حماد بن سلمة فرواه عنه عن ابن إسحاق عن سالم المكي عن أبيه عن طلحة رضي الله عنه به كما عند البزار11.

ومؤمل بن إسماعيل ضعيف كما سبق1، والمحفوظ عن حماد بن سلمة ما تقدم كما قال البزار. وروى هذا الحديث أحمد2 بإسناده عن إبراهيم بن سعد الزُّهري، وأبو يعلى3، والشاشي4 من طريق يزيد بن زريع كلاهما - إبراهيم بن سعد ويزيد بن زريع - عن محمد بن إسحاق عن سالم بن أبي أمية أبي الضر عن شيخٍ من بني تميم عن طلحة رضي الله عنه به. وعند أحمد تصريح ابن إسحاق بالسماع. ولفظ أحمد جاء فيه أن الشيخ من بني تميم قال: "قدمت المدينة مع أبي وأنا غلامٌ شابٌ بإبلٍ لنا نبيعها، وكان أبي صديقاً لطلحة بن عبيد الله التيمي رضي الله عنه فنزلنا عليه، فقال له أبي: اخرج معي فبع لي إبلي هذه. قال: فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى أن يبيع حاضرٌ لبادٍ، ولكن سأخرج معك فأجلس وتعرض إبلك، فإذا رضيت من رجلٍ وفاءً وصدقاً ممن ساومك أمرتك ببيعه. قال: فخرجنا إلى السوق فوقفنا ظهرنا وجلس طلحة قريباً فساومنا الرجال حتى إذا أعطانا رجلٌ ما نرضى قال له أبي: أبايعه؟ قال: نعم، رضيت لكم وفاءه فبايعوه، فبايعناه ... ". وجاء في هذه القصة أن الشيخ من بني تميم وأباه التقيا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا فهما صحابيان لا تضر الجهالة بهما. وقد خالف حماد بن سلمة إبراهيم بن سعد ويزيد بن زريع في قوله: "سالم المكي"؛ وذلك أن إبراهيم بن سعد ويزيد روياه عن ابن إسحاق عن سالم

أبي النضر، وهو مدني وليس مكياً. فيكون المحفوظ في هذا الإسناد أنه عن سالم أبي النضر لأنه رواية الأكثر. وأما الإمامان المزي وابن حجر فإنهما ترجما لسالم المكي ترجمة مستقلة1، وذكرا له هذا الحديث، وقال فيه الحافظ ابن حجر: هو الخياط أو ابن شوال، وإلا فمجهول2. وفي صنيعهما - أي المزي وابن حجر - نظر؛ لما سبق أن سالماً هذا هو أبو النضر كما في الروايات الأخرى. وهو ثقة ثبت3. وأما قول حماد بن سلمة فيه "المكي"، فهو خطأ. ويؤيد أن سالماً هذا هو أبو النضر ما ذكره الدارقطني حيث قال عن هذا الحديث: "يرويه سالم أبو النضر واختلف عنه" 4، وقال أيضاً: "رواه عمرو بن الحارث وابن لهيعة عن سالم أبي النضر عن رجلٍ من بني تميم عن أبيه عن طلحة رضي الله عنه"5، وذكر المزي هذه الرواية أيضاً6. وهذه متابعة لابن إسحاق في رواية إبراهيم ابن سعد ويزيد بن زريع. وقد قال الدارقطني عن هذا الإسناد الأخير الذي فيه: "عن رجلٍ من بني تميم عن أبيه": "هو الصواب"7، أي: بذكر "أبيه" بين الرجل من بني تميم وطلحة. وقد تقدم في لفظ أحمد ما يبين أن الرجل من بني تميم

كان مع أبيه حين حدثه طلحة رضي الله عنه بهذا الحديث. وأيّاً كان فإن كليهما صحابي كما سبق، ومراسيل الصحابة حجة. فمما سبق من هذه الطرق يتبين أن المحفوظ في هذا الإسناد هو عن سالم أبي النضر عن شيخٍ من بني تميم عن طلحة رضي الله عنه. ويرى الدارقطني أنه: عن شيخٍ من بني تميم عن أبيه عن طلحة. وهذا الإسناد صحيح لما تقدم أن هذا الشيخ من بني تميم وأبو هـ صحابيان، فلا يضر الجهل بهما. وقد جاء هذا الحديث عن طلحة رضي الله عنه من وجهٍ آخر. فقد رواه ابن عدي1 بإسناده عن سليمان بن أيوب الطَّلحي حدثني أبي عن جدي عن موسى بن طلحة عن أبيه طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه به. وقد قال ابن عدي عن هذا الإسناد: "روى هذه النسخة جماعة، وعامة هذه الأحاديث أفراد". وقول ابن عدي هذا لا يتفق مع هذا الحديث لكونه مروياً من غير هذا الإسناد كما سبق. وقد خالف يعقوب بن شيبة ابنَ عدي، فصحّح الأحاديث المروية بهذا الإسناد - أي من طريق سليمان بن أيوب - حيث قال عن هذا الإسناد: "هو سبعة عشر حديثاً رواها عن أبيه عن جده عن موسى بن طلحة عن أبيه. وهذه الأحاديث عندي صحاح، أخبرني بها أحمد بن منصور عن سليمان بن أيوب"2. فمما سبق يتبين أن هذا الحديث صحيح. والله أعلم

222 - (6) عن حكيم بن أبي يزيد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دعوا الناس يصب بعضهم من بعض، فإذا استنصح أحدكم أخاه فلينصحه". رواه أحمد1، والطيالسي2، والترمذي في العلل الكبير3، والطبراني في الكبير4. كلهم من طرقٍ عن عطاء بن السائب به. وزاد الطبراني في روايةٍ: "لا يبيع حاضرٌ لبادٍ". وقد اختلف في إسناد هذا الحديث اختلافاً كثيراً5. فاختلف في حكيم هذا هل هو ابن يزيد، أم ابن أبي يزيد. وقد رجّح الطبراني أنه ابن أبي يزيد، وقال: هو الصواب6. وقال الحافظ ابن حجر: الأكثر قالوا ابن أبي يزيد7. واختلف فيه اختلافاً آخر. فقال بعض الرواة عن عطاء عن حكيم بن أبي يزيد عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أبو عوانة وغيره عن عطاء عن حكيم عن أبيه عمَّن سمع النبي صلى الله عليه وسلم قوله8.

وقد سأل الترمذي البخاري عن هذا الاختلاف فقال: الصحيح عن حكيم بن أبي يزيد عن أبيه1. وكذا رجّح ابن عبد البر ما رجحه البخاري، ووهم رواية أبي عوانة2. والاختلاف السابق الظاهر أنه صادرٌ من عطاء بن السائب، فإنه كان قد اختلط3. وحكيم بن أبي يزيد ذكره البخاري4، وابن أبي حاتم5 ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً، وذكره ابن حبان في الثقات6. ولم يوثقه غيره فيبقى على جهالته. فمما سبق يتبين أن هذا الإسناد ضعيف، إلا أنه يشهد له ما تقدم من الأحاديث الواردة في النهي عن بيع الحاضر للباد فيكون حسنًا. والله أعلم. ومما ورد في هذا الفصل أيضاً: (7) حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وقد تقدم7. (8) حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، وقد تقدم8.

(9) حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقد تقدم1. (10) حديث رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه، وقد تقدم2. (11) حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، وقد تقدم3. (12) حديث عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه، وقد تقدم4.

دلالة الأحاديث السابقة: يستفاد مما تقدم النهي عن بيع الحاضر للباد. وبهذا قال جمهور العلماء1. والبادي هو من يدخل البلدة من غير أهلها سواءً أكان بدوياً أم من قريةٍ أو بلدةٍ أخرى2. وإنما نهي أن يبيع حاضرٌ لباد؛ لأنه إذا ترك البادي يبيع سلعته اشتراها الناس برخصٍ ويوسع عليهم السعر، فإذا تولّى الحاضر بيعها وامتنع من بيعها إلا بسعر البلد ضاق على أهل البلد. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى حيث قال: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" 3. وكذلك أيضاً فإن أهل البوادي إذا قدموا بسلعهم يبيعونها بسوق يومهم للمؤنة عليهم في حبسها واحتباسها عليها، ولا يعرف من قلة سلعته وحاجة الناس إليها ما يعلم الحاضر، فيصيب الناس من بيوعهم رزقاً. وإذا توكّل لهم أهل القرية المقيمون تربصوا بها، لأنه لا مؤنة عليهم في المقام بها، فلم يصب الناس ما يكون في بيع أهل البادية4. وقد قيّد بعض الفقهاء النهي بأن تكون سلعة البادي مما يحتاج الناس إليه5. والأولى حمل النهي على العموم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض"، وكذلك بقية الأحاديث الواردة في النهي.

وكذلك قيد بعض الفقهاء النهي بأن يكون البادي جاهلاً بالسعر1. وهذا أيضاً مخالفٌ لعموم الأحاديث الواردة في النهي عن بيع الحاضر للباد، وأيضاً فإن الحكمة في النهي عن بيع الحاضر للباد ليس لكون البادي جاهلاً بالسعر، وإلا لنهي عن إخبار البادي بسعر السوق لحصول المفسدة الكائنة في البيع له. وقد تقدم بيان الحكمة في النهي. وكذلك قيّد بعض الفقهاء النهي بقيود أخرى، إلا أنه لا دليل عليها. والأولى الأخذ بعموم النهي عن بيع الحاضر للباد. والله أعلم. ويستفاد مما تقدم أيضاً النهي عن تلقي الركبان والجَلَب. وهو أيضاً قول جمهور العلماء2. ونهي عن تلقي الركبان لما فيه من تغرير البائع، فإنه لا يعرف السعر فيشتري منه المشتري بأقل من قيمته، ولذلك أثبت له النبي صلى الله عليه وسلم الخيار إذا دخل السوق3. قال المازري: "فإن قيل: المنع من بيع الحاضر للبادي سبب الرفق بأهل البلد، واحتمل فيه غبن البادي، والمنع من التلقي أن لا يغبن البادي، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار". فالجواب أن الشرع ينظر في مثل هذه المسائل إلى مصلحة الناس، والمصلحة تقتضي أن ينظر للجماعة على الواحد، لا للواحد على الواحد. فلما كان البادي إذا باع بنفسه انتفع جميع أهل السوق واشتروا رخيصاً فانتفع به جميع سكان البلد، نظر الشارع

لأهل البلد على البادي، ولما كان في التلقي إنما ينتفع المتلقي خاصةً وهو واحد في قبالة واحد، لم يكن في إباحة التلقي مصلحة، لا سيما وينضاف إلى ذلك علة ثانية وهي لحوق الضرر بأهل السوق في انفراد المتلقي عنهم بالرخص وقطع المواد عنهم وهم أكثر من المتلقي، فنظر الشرع لهم عليه، فلا تناقض بين المسألتين بل هما متفقتان في الحكمة والمصلحة. والله أعلم"1.

_ 1 شرح صحيح مسلم (11/163) .

الفصل السابع: ما ورد في النهي عن بيع المضطر

الفصل السابع: ما ورد في النهي عن بيع المضطر ... الفصل السابع: ورد في النهي عن بيع المضطر 223 - (1) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سيأتي على الناس زمان عضوض يعضُّ الموسر على ما في يديه، ولم يؤمر بذلك، قال الله تعالى {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} 1، ويبايع المضطرُّون، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر، وبيع الغرر، وبيع الثمرة قبل أن تدرك. رواه أبو داود2 وهذا لفظه، وأحمد3، وابن أبي حاتم4، والخرائطي5 - كلاهما مختصراً -، والبيهقي6، والبغوي7. كلهم من طرقٍ عن هشيم عن صالح أبي عامر عن شيخٍ من بني تميم عنه به. وزاد أحمد بعد ذكر الآية: "وينهد الأشرار ويستذل الأخيار". وصالح أبو عامر قال فيه البيهقي: "هو صالح بن رستم الخزاز البصري". وتعقبه ابن التركماني بقوله: "المذكور في هذا السند هو صالح بن عامر، كذا سماه أبو داود في سننه، وكذا ذكره الذهبي في الميزان، وصالح بن

عامر مجهول، وهو غير أبي عامر صالح بن رستم الخزاز، ذاك - أي ابن رستم - رجل معروف أخرج له مسلم ووثقه جماعة، ولينه بعضهم، والمزي في التهذيب قد فرَّق بينهما"1 انتهى. وكلام ابن التركماني فيه نظر، وذلك لما يأتي: 1 - احتجاجه برواية أبي داود والتي جاء فيها "صالح بن عامر"، مع أن أبا داود قد أشار إلى خطأ شيخه، حيث قال عقب ذكره لصالح بن عامر: "كذا قال محمد" يعني شيخه محمد بن عيسى. 2 – قوله "إن صالح بن عامر ذكره الذهبي في الميزان"، متعقَّب بأن الذهبي قال فيه "نكرة، بل لا وجود له"2، ثم بيّن أن الصحيح فيه "صالح عن عامر"، وهذا الذي صححه الذهبي لعله أخذه من شيخه المزي كما سيأتي إن شاء الله ذكر قوله. 3 – قوله "إن المزي قد فرَّق بينهما" متعقّب بأن المزي لم يثبت أن هناك راوياً اسمه صالح بن عامر، إنما ذكر أنه "صالح عن عامر"، قال المزي: "الصواب - إن شاء الله - عن صالح عن عامر، وهو صالح بن صالح بن حيّ أو صالح بن رستم أبو عامر الخزّاز، وعامر هو الشعبي. والله أعلم"3. وقد تعقّب الحافظ ابن حجر المزيَّ فقال: "بل الصواب: ثنا هشيم، ثنا صالح أبو عامر - وهو الخزاز -، ثنا شيخ من بني تميم. ويؤيد هذا أن

أحمد بن حنبل قال في مسنده: ثنا هشيم، ثنا أبو عامر، ثنا شيخ من بني تميم1. وقال سعيد بن منصور في السنن: ثنا هشيم، ثنا صالح بن رستم عن شيخ من بني تميم2، فليس في الإسناد والحالة هذه إلا إبدال (أبو) بـ (ابن) حسب، ولا مدخل للشعبي فيه بوجهٍ من الوجوه"3 انتهى. وقال الحافظ أيضاً: "الصواب: هشيم عن صالح أبي عامر، وهو صالح بن رستم الخزاز" 4. فمما تقدم يتبين رجحان قول البيهقي أن صالح الوارد في الإسناد هو صالح بن رستم أبو عامر. وصالح بن رستم هذا هو المزني مولاهم الخزاز البصري، وثقه الطيالسي وأبو داود والبزار. وقال ابن معين: ضعيف. وقال أيضاً: لا شيء. وقال أحمد: صالح الحديث. وقال أبو حاتم: شيخ يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال الدارقطني: ليس بالقوي. وقال ابن عدي: لا بأس به5. وجعله ابن حجر في مرتبة "صدوق كثير الخطأ"6. وفي إسناده أيضاً رجل مبهم وهو الشيخ من بني تميم.

فعلى هذا فإن هذا الإسناد ضعيف. وله إسناد آخر، فقد رواه أبو بكر بن مردويه بإسناده عن يونس بن بكير، حدثنا عبيد الله بن الوليد الوصافي1 عن عبد الله بن عبيد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليأتينَّ على الناس زمانٌ عضوض يعض المؤمن على ما في يديه وينسى الفضل، وقد قال الله تعالى {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} ، شرارٌ يبايعون كل مضطر، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر، وعن بيع الغرر، فإن كان عندك خيرٌ فعد به على أخيك ولا تزده هلاكاً إلى هلاكه، فإن المسلم أخو المسلم لا يحزنه ولا يحرمه"2. وعبيد الله بن الوليد الوصَّافي - بفتح الواو وتشديد المهملة - قال فيه أحمد: ليس بمحكم الحديث، يكتب حديثه للمعرفة. وقال ابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم: ضعيف الحديث. وقال ابن معين أيضاً: ليس بشيء. وقال الفلاس والنسائي: متروك الحديث. وقال النسائي أيضاً: ليس بثقة ولا يكتب حديثه. وقال العقيلي: في حديثه مناكير لا يتابع على كثير من حديثه. وقال ابن عدي: ضعيف جداً، يتبيّن ضعفه على حديثه3. وجعله ابن حجر في مرتبة "ضعيف"4. والذي يظهر لي أنه ضعيف جداً. والله أعلم.

ومما يدل على ضعفه أنه قد اضطرب في هذا الحديث، فرواه مرَّةً كما سبق، ورواه مرَّةً عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه نهى عن بيع الغرر وعن بيع المضطر". رواه ابن عدي1. فمما سبق يتبين أن هذه الطريق ضعيفة ضعفاً شديداً، فيبقى الحديث على ضعفه. والله أعلم.

دلالة الحديث السابق: تقدم أن ما ورد في النهي عن بيع المضطر ضعيف، ولذا أجاز الظاهرية بيع المضطر1. إلا أن عامة أهل العلم كرهوا بيع المضطر إلى الطعام أو الشراب أو نحوهما بأكثر من سعر المثل2. فإن باعه بأكثر أثم؛ فإن هذا منافٍ للمروءة ويكون صاحبها متصفاً بالجشع والأثرة واستغلال ضرورة أخيه. وقيل في تفسير المضطر أن يكرهه ظالم على بيع ماله أو يبيع ماله لدينٍ يركبه أو مؤنة ترهقه ونحو ذلك3. والذي يظهر أن هذا ليس من بيع المضطر، وإنما هو من باب الإكراه، وهذا له حكم آخر. والله أعلم.

_ 1 المحلّى (9/22) . 2 انظر: المجموع (9/38-39) ، الفروع (4/5) ، إعلاء السنن (14/205) . 3 إعلاء السنن (14/205) ، بدائع الفوائد (2/375-376) .

الفصل الثامن: ما ورد في النهي عن التفريق بين الأقارب في البيع

الفصل الثامن: ما ورد في النهي عن التفريق بين الأقارب في البيع ... الفصل الثامن: ورد في النهي عن التفريق بين الأقارب في البيع 224 - (1) عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من فرَّق بين الوالدة وولدها، فرَّق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة". رواه الترمذي1، وأحمد2، والدارقطني3، والحاكم4، والبيهقي5، كلهم من طرقٍ عن حيي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي عنه به. وفي سياق أحمد عنه قصة فيها سبب تحديث أبي أيوب رضي الله عنه بهذا الحديث. قال الترمذي: "حسنٌ غريب". وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". وفيما قاله الحاكم نظر؛ لأن حيي بن عبد الله المعافري ليس من رجال مسلم. وقد قال فيه أحمد: أحاديثه مناكير. وقال البخاري: فيه نظر. وقال ابن معين: ليس به بأس. وقال النسائي: ليس بالقوي6. وجعله ابن حجر في مرتبة "صدوق يهم"7.

إلا أنه لم ينفرد به. فقد تابعه عبد الرحمن بن جنادة كما عند الدارمي1. إلا أن عبد الرحمن بن جنادة لم أقف له على ذكر في كتب الجرح والتعديل. وقد جاء الحديث من وجهٍ آخر. فقد رواه البيهقي2 بإسناده عن بقية بن الوليد ثنا خالد بن حميد عن العلاء بن كثير عنه به بنحوه. وفي هذا الإسناد علتان: الأولى: أن بقية يدلس تدليس التسوية، فيشترط ذكر السماع في كل من فوقه من رجال الإسناد، ولم يقع التصريح بالسماع بين خالد بن حميد والعلاء بن كثير. الثانية: أن العلاء بن كثير الإسكندراني لم يسمع من أبي أيوب رضي الله عنه كما قال ابن عبد الهادي3 وابن حجر4. فمما سبق يتبين أن هذه الأسانيد وإن كان في بعضها مقال، إلا أنها بمجموعها وشواهد الحديث ترتقي إلى درجة الحسن. والله أعلم. 225 - (2) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه فرَّق بين جاريةً وولدها، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وردّ البيع. جاء هذا الحديث من طرقٍ عن الحكم بن عتيبة، واختلف عليه على ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: عن الحكم بن عتيبة عن ميمون بن أبي شبيب عنه به. رواه أبو داود1 باللفظ المذكور، والترمذي2، وابن ماجه3، والطيالسي4، وأحمد5، والدارقطني6، والحاكم7، والبيهقي8. كلهم من هذا الطريق. وفي لفظ الترمذي وغيره: أن علياً رضي الله عنه فرَّق بين غلامين أخوين. وهو المحفوظ في حديث علي رضي الله عنه كما سيأتي. قال الترمذي: "حديث حسنٌ غريب". وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين". وفيما قاله نظر؛ وذلك أن ميمون لم يخرج له البخاري في صحيحه شيئاً، ومسلم إنما خرّج له في المقدمة كما قال المزي9. وميمون هذا قال فيه ابن معين: ضعيف. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات10. وجعله ابن حجر في مرتبة "صدوق كثير الإرسال"11. ويظهر لي أن درجته دون ذلك. والله أعلم.

وفي هذا الإسناد علة أخرى، وهي الانقطاع بين ميمون بن أبي شبيب وعلي رضي الله عنه، حيث قال أبو داود بعد روايته للحديث: "ميمون لم يدرك علياً رضي الله عنه، قتل بالجماجم، والجماجم سنة ثلاثٍ وثمانين". وقال عمرو بن علي الفلاس: "ولم أخبر أن أحداً يزعم أنه سمع من الصحابة"1. فمما سبق يتبين أن هذه الطريق ضعيفة لانقطاعها. الوجه الثاني: الحكم بن عتيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عنه به. وجاء هذا الوجه من طرق: الطريق الأول: عن سعيد بن أبي عروبة به: رواه أحمد2، والبزار3، والبيهقي4. كلهم من طرقٍ به. ولفظه: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبيع غلامين أخوين، فبعتهما ففرقت بينهما، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أدركهما فأرجعهما ولا تبعهما إلا جميعاً". وهذا الإسناد رجاله ثقات إلا أنه منقطع بين سعيد بن أبي عروبة والحكم كما ذكر البزار. وممن صرّح بعدم سماعه منه أيضاً أحمد وأبو حاتم والنسائي وغيرهم5.

وقد رواه أحمد1، وإسحاق بن راهويه2، والبيهقي3. كلهم من طرقٍ عن سعيد بن أبي عروبة عن صاحبٍ له عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى به. فهذا يؤيد أنه لم يسمع منه. الطريق الثانية: عن شعبة به: رواه الدارقطني4، والحاكم5، والبيهقي6. كلهم من طرقٍ عن عبد الوهاب بن عطاء الخفاف عن شعبة به بنحو اللفظ السابق. قال الحاكم: "هذا حديث غريب صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه". وظاهر الإسناد هو كما قال الحاكم أنه صحيح على شرط الشيخين إلا أن فيه علّة خفية. وبيان ذلك أن هذا الحديث لم يروه عن شعبة غير عبد الوهاب بن عطاء الخفاف، وقد اختلف عليه. فرواه إسماعيل بن أبي الحارث7، ومحمد بن الوليد الفحَّام8،

ومحمد بن الجهم السِّمَّري1، ويحيى بن أبي طالب2. كلهم عن عبد الوهاب بن عطاء عن شعبة به. وإسماعيل ومحمد بن الوليد كلاهما صدوق3. ومحمد بن الجهم السِّمَّري قال فيه ابن حجر: ما علمت فيه جرحاً4. وأما يحيى بن أبي طالب فوثقه الدارقطني وغيره. وخطَّ أبو داود على حديثه5. وقد خالف هؤلاء الأربعة أربعة أيضاً، وهم أحمد بن حنبل6، ومحمد بن سوّاء7، وعبد الأعلى8، والحسن بن محمد الزعفراني9. كلهم عن عبد الوهاب بن عطاء عن سعيد بن أبي عروبة به. وهؤلاء الأربعة لا شك أنهم أوثق ممن خالفهم. ولذا رجح الدارقطني رواية أحمد بن حنبل ومن معه، فقال: "هو المحفوظ"10، وقال مثل هذا عبد الحق11. وقال البيهقي أيضاً: "هذا أشبه - يعني رواية أحمد -، وسائر أصحاب شعبة لم يذكروه عن شعبة، وسائر أصحاب سعيد

قد ذكروه عن سعيدٍ هكذا"1. وقال أيضاً: "قيل عن شعبة عن الحكم وهو وهم"2. فمما سبق يتبين أن هذا الحديث لا يحفظ من طريق شعبة، وأنه عن سعيد بن أبي عروبة، وليس شعبة، فعاد هذا الطريق إلى الطريق السابقة. وأما قول ابن القطان: "رواية شعبة لا عيب فيها، وهي أولى ما اعتمد في هذا الباب"3 ففيه نظر لما تقدم. الطريق الثالثة: عن زيد بن أبي أنيسة به: رواه ابن الجارود4 بإسناده عن سليمان بن عبيد الله الأنصاري عن عبيد الله بن عمرو عن زيدٍ به بنحو اللفظ السابق. وسليمان بن عبيد الله الأنصاري قال فيه ابن معين: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: صدوق، ما رأيت إلا خيراً. وقال النسائي: ليس بالقوي5. وجعله ابن حجر في مرتبة: "صدوق ليس بالقوي"6. وقد سأل ابن أبي حاتم أباه عن هذا الإسناد، فقال: "إنما هو الحكم عن ميمون بن أبي شبيب عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم"7.

الطريق الرابعة: عن محمد بن عبيد الله العرزمي به: رواه البزار1، والطبراني في الأوسط2، كلاهما من هذا الطريق. ومحمد بن عبيد الله العرزمي تركه ابن المبارك والقطان. وقال أحمد: ترك الناس حديثه. وقال ابن معين: ليس بشيء ولا يكتب حديثه. وقال النسائي: ليس بثقة ولا يكتب حديثه. وقال الفلاس وغيره: متروك الحديث3. ولذا جعله ابن حجر في مرتبة "متروك"4. فعلى هذا، فلا يعتبر بهذه الطريق. فهذه هي الطرق التي وقفت عليها في هذا الوجه. وأصحها طريق سعيد بن أبي عروبة عن الحكم. وهو منقطع كما تقدم. الوجه الثالث: الحكم بن عتيبة عنه به. رواه سعيد بن منصور5، وابن أبي شيبة6. كلاهما من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن الحكم به. وهذا الإسناد إضافة إلى كونه منقطعًا بين الحكم وعلي رضي الله عنه فهو منكر، وذلك أن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قد تفرد بهذا الوجه

وهو ضعيف كما تقدم1. وقد خالفه غيره من الرواة عن الحكم بن عتيبة كما تقدم في الوجهين السابقين. فظهر مما سبق أن الحكم بن عتيبة قد اختلف عليه: فمن الرواة من يرويه عنه عن ميمون بن أبي شبيب عن علي رضي الله عنه، ومن الرواة من يرويه عنه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي رضي الله عنه. وقد تقدم أن أبا حاتم يرجِّح الوجه الأول، بينما يرى الدارقطني أنه "لا يمتنع أن يكون الحكم سمع منهما جميعاً، فرواه مرةً عن هذا، ومرةً عن هذا"2. ويظهر لي قوة ما قاله الدارقطني لقوة الاحتمال الذي ذكره. فعلى هذا فإن الحديث بمجموع طرقه يكون حسناً. والله أعلم. 226 - (3) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أُتي بالسبي أعطى أهل البيت جميعاً كراهية أن يفرِّق بينهم". رواه ابن ماجه3 واللفظ له، والطيالسي4، وأحمد5، والبزار6، والشاشي7، والطبراني في الكبير8، والدارقطني9، والبيهقي10. كلهم

من طرقٍ عن جابر الجعفي عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عنه به. ولفظ الطيالسي والبزار والبيهقي: "وكره أن يُفرِّق بينهم". قال البزار: "لا نعلم روى هذا الحديث عن القاسم إلا جابر، ورواه غير واحدٍ عن جابر". وجابر الجعفي تقدم الكلام فيه1، وأنه ضعيف. وأيضًا فهو منقطع؛ لأن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه إلا أحاديث يسيرة، لم يذكر منها هذا الحديث2. وقد جاء الحديث من وجه آخر. فقد رواه الطيالسي3، ومن طريقه البيهقي4 بإسناده عن شيبان عن جابر الجعفي عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عنه به. ولم يروه بهذا الإسناد عن جابر الجعفي غير شيبان. وغيره يرويه عنه عن القاسم كما تقدم وهو المحفوظ. ويظهر لي أن الخطأ ليس من قِبَل شيبان؛ لأنه قد روى هذا الحديث عن جابر عن القاسم به كما عند الطيالسي5 وغيره. فيكون الخطأ من جابر الجعفي. وهذا من أدلة ضعفه وعدم ضبطه. والله أعلم. فمما سبق يتبين أن هذا الإسناد ضعيف. والله أعلم. 227 - (4) عن أبي موسى رضي الله عنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فرَّق بين الوالدة وولدها، وبين الأخ وبين أخيه".

رواه ابن ماجه1 واللفظ له، وابن أبي شيبة2، وأبو يعلى3 - من طريقه -، والبزار4، والدارقطني5، والبيهقي6. كلهم من طرقٍ عن عبيد الله بن موسى عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع عن طليق بن عمران عن أبي بردة عنه به. قال البزار: "هذا الحديث لا نعلمه يروى عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد، وقد رواه غير إبراهيم بن إسماعيل عن طليق بن عمران بن حصين مرسلاً". وقد تكلّم في إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع الأنصاري. فقال فيه ابن معين: ضعيف، ليس بشيء. وقال البخاري وأبو حاتم: كثير الوهم. وقال أبو داود: ضعيف متروك الحديث. وقال النسائي: ضعيف7. وجعله ابن حجر في مرتبة "ضعيف"8. وقد روى هذا الحديث الدارقطني9، والحاكم10 - ومن طريقه - البيهقي11. كلاهما من طرقٍ عن أبي بكر بن عيَّاش عن سليمان التيمي عن طليق عن عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم به بنحوه.

_ 1 سنن ابن ماجه [كتاب التجارات (2/756) ] . 2 المصنف (5/337) . 3 مسند أبي يعلى (13/226) . 4 مسند البزار (8/132) . 5 سنن الدارقطني (3/67) . 6 السنن الكبرى (9/128) . 7 تهذيب التهذيب (1/105-106) . 8 تقريب التهذيب: رقم الترجمة (148) . 9 سنن الدارقطني (3/67) . 10 المستدرك (2/55) . 11 السنن الكبرى (9/128) .

228 - (5) عن سُليم العُذَري رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عمَّن فرَّق بين السَّبي بين الوالد والولد، قال: "من فرَّق بينهم فرق الله تعالى بينه وبين الأحبّة يوم القيامة". رواه الدارقطني1 بإسناده عن الواقدي عن يحيى بن ميمون عن أبي سعيد البلوي عن حريث بن سليم العذري عنه به. والواقدي متروك، وكذبه بعضهم2. فمما سبق يتبين أن هذا الإسناد ضعيفٌ جداً. والله أعلم. 229 - (6) عن ضميرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بأمّ ضميرة وهي تبكي، فقال: ما يبكيك؟ أجائعةٌ أنت؟ أعاريةٌ أنت؟ قالت: يا رسول الله، فُرِّق بيني وبين ابني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يُفرَّق بين الوالدة وولدها"، ثم أرسل إلى الذي عنده فردَّها على الذي اشتراها منه، ثم ابتاعها منه". رواه البزار3 واللفظ له - وعنده تتمة للقصة -، والبيهقي4. كلاهما من طريق ابن أبي ذئب عن حسين بن عبد الله بن ضميرة عن أبيه عن جده ضميرة به5.

قال البزار: "لا نعلمه إلا بهذا الإسناد". وحسين بن عبد الله بن ضميرة تقدم1 أنه متروك متّهم. فمما سبق يتبين أن الحديث بهذا الإسناد ضعيف جداً، وقد يكون موضوعاً. ومما يشهد لضعف حسين هذا أنه قد روى الحديث أيضاً عن أبيه عن جده عن علي رضي الله عنه بنحوه، رواه ابن عدي2. فجعل الحديث من مسند علي رضي الله عنه. وحديث علي رضي الله عنه محفوظ من غير هذه الطريق كما تقدم ذكر حديثه3. والله أعلم. 230 - (7) عن معقل بن يسار - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فرَّق فليس منّا". رواه الطبراني في الكبير4 بإسناده عن أسد بن موسى عن نصر بن طريف عن سليمان التيمي حدثني طليق عن أبيه عنه به. قال أسد: يفرق بين الولد وأمه وبين الأخوة. ونصر بن طريف قال فيه يحيى بن معين: من المعروفين بوضع الحديث. ونسبه الفلاس إلى الكذب. وقال أحمد: لا يكتب حديثه. وقال البخاري: سكتوا عنه. وقال أبو حاتم والنسائي وغيرهما: متروك5. فمما سبق يتبين أن هذا الإسناد ضعيفٌ جداً وقد يكون موضوعاً، والله أعلم.

231 - (8) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفرَّق بين الأم وولدها. فقيل: يا رسول الله، إلى متى؟ قال: حتى يبلغ الغلام وتحيض الجارية". رواه الدارقطني1، والحاكم2. كلاهما من طريق عبد الله بن عمرو بن حسَّان عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي عن مكحول عن نافع بن مكحول بن الربيع عن أبيه عنه به. قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". وفي حكم الحاكم على هذا الإسناد بالصحة وهمٌ فاحش، ولذا تعقبه الذهبي فقال: "موضوع، وابن حسان كذاب"3. وعبد الله بن عمرو بن حسان هو الواقعي كما قال الدارقطني بعد تخريجه لهذا الحديث، وذكر الدارقطني أنه لم يروه عن سعيد التنوخي غيره. وعبد الله بن عمرو هذا قال فيه ابن المديني: كان يضع الحديث. وكذبه الدارقطني. وقال أبو زرعة: ليس بشيء، كان لا يصدق45. فمما سبق يتبين أن هذا الإسناد موضوع كما قال الذهبي. والله أعلم.

دلالة الأحاديث السابقة: يستفاد مما تقدم النهي عن التفريق بين الأم وولدها، وأن من فعل ذلك فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة، وهذا محل إجماع بين أهل العلم إذا كان الولد صغيراً1. إلا أنهم اختلفوا في الحد بين الصغر الذي لا يجوز معه التفريق وبين الكبر الذي يجوز فيه ذلك. فعند مالك حد الصغر ما قبل الإثغار، وهو إنبات الأسنان، وفي رواية: إلى البلوغ2. وبهذا قال أبو حنيفة3، وأحمد في رواية4. وعند الشافعي أن حد الصغر إذا لم يبلغ سبع سنين أو ثمان5. وذهب أحمد في رواية إلا أنه لا يجوز التفريق بين الأم وولدها ولو كبر6؛ وذلك لعموم الخبر، ولأن الوالدة تتضرر بمفارقة ولدها الكبير، ولهذا حرم عليه الجهاد بدون إذنها7. وحجة الجمهور في إباحة التفريق بين الأم وولدها الكبير حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه8 في بعث النبي صلى الله عليه وسلم سريةً قِبَلَ نجد بقيادة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وفيه أنه كان في السبي امرأةٌ معها ابنةٌ لها من أحسن العرب،

وأن أبا بكر رضي الله عنه نفل هذه البنت لسلمة بن الأكوع رضي الله عنه فاستوهبها منه النبي صلى الله عليه وسلم فوهبها له، فبعث بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة وفي أيديهم أسرى ففاداهم بها1. وأما حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه والذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: إلى متى ينهى عن التفريق بيني الأم وولدها فقال: "حتى يبلغ الغلام وتحيض الجارية"، فقد تقدم أنه موضوع. ويستفاد مما تقدم أيضاً النهي عن التفريق بين الأخ وأخيه سواءً أكانوا ذكوراً أم إناثاً. وبهذا قال أبو حنفية2، وأحمد3، وألحقا بهما في النهي عن التفريق كل ذي رحمٍ محرم. إلا أن أحاديث هذا الفصل في النهي عن التفريق في البيع لم يثبت منها إلا ما ورد في النهي عن التفريق بين الأم وولدها، وبين الأخ وأخيه. ولا شك أنه إذا كان ينهى عن التفريق بين الأخ وأخيه، فمن باب أولى بين الأب وولده، فهو يتضرر بمفارقة ابنه والعكس، أكثر من ضرر مفارقة الأخ لأخيه. والله أعلم. وما سبق في النهي عن التفريق يكون بالبيع والهبة ونحوهما. وأما العتق فلا خلاف بين أهل العلم أنه ليس داخلاً في النهي4. والله أعلم.

_ 1 صحيح مسلم [كتاب الجهاد والسير (3/1375-1376) ] ، سنن أبي داود [كتاب الجهاد (3/146-147) ] ، سنن ابن ماجه [كتاب الجهاد (2/949) ] . 2 بدائع الصنائع (5/228) . 3 المغني (4/333) ، الإنصاف (4/137) . 4 انظر: الإنصاف (4/138) .

الفصل التاسع: ما ورد في النهي عن البيع في المسجد

الفصل التاسع: ما ورد في النهي عن البيع في المسجد ... الفصل التاسع: ورد في النهي عن البيع في المسجد 232 - (1) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشراء والبيع في المسجد، وأن تنشد فيه ضالةً، وأن ينشد فيه شعرٌ، ونهى عن التحلق قبل الصلاة يوم الجمعة". رواه أبو داود1 واللفظ له، والترمذي2، والنسائي3، وابن ماجه4، وابن أبي شيبة5، وأحمد6، وابن خزيمة7، والبيهقي8. كلهم من طرقٍ عن محمد بن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عنه به. وقد تابع محمد بن عجلان أسامة بن زيد الليثي كما عند أحمد9، ولفظه: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيع والاشتراء في المسجد". قال الترمذي بعد روايته لهذا الحديث: "حديث حسن". وهو كما قال. فقد تقدم10 أن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده الراجح فيه أنه من قبيل الحديث الحسن.

إلا أن إسناد هذا الحديث يرتقي إلى الصحيح بالنظر إلى شاهده الذي سيأتي بعد هذا الحديث، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والله أعلم. 233 - (2) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالةً فقولوا: لا ردّ الله عليك". رواه الترمذي1، والدارمي2، والنسائي في الكبرى3، وابن الجارود4، وابن خزيمة5، ومن طريقه ابن حبان6، والطبراني في الأوسط7، والحاكم8، والبيهقي9. كلهم من طرقٍ عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، أخبرنا يزيد بن خصيفة عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عنه به. قال الترمذي: "حديث حسن غريب". وقال الحاكم: "حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرّجاه". ورجال الإسناد كلهم ثقات ما عدا الدراوردي فقد تقدم10 أنه صدوق.

إلا أنه قد اختلف عليه، فرواه عارم1، وابن المديني2، والحسن بن أبي زيد الكوفي3، والنفيلي4، وعبد الله الحجبي5، ومحمد بن أبي بكر6، كلهم عنه موصولاً. ورواه سعيد بن منصور، وعبد الأعلى بن حماد عنه مرسلاً كما قال الدارقطني7. وغير الدراوردي يروي هذا الحديث عن يزيد بن خصيفة مرسلاً، منهم: سفيان الثوري8، ومحمد بن جعفر بن أبي كثير9. قال الطبراني في الأوسط: "لم يرو هذا الحديث عن يزيد بن خصيفة متصل الإسناد إلا الدراوردي". وقد رجح الدارقطني في هذا الحديث الإرسال وقال: هو الصواب10. فمما تقدم يتبين أن الراجح في هذا الحديث الإرسال. إلا أنه يشهد له الحديث السابق. والله أعلم. وروى هذا الحديث الطبراني في الكبير11، ومن طريقه أبي نعيم في معرفة الصحابة12، من طريق محمد بن حمير عن عباد بن كثير عن يزيد بن

خصيفة عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبيه عن جده به بنحوه. وزاد في أوله: "من رأيتموه ينشد شعراً في المسجد فقولوا: فضَّ الله فاك ثلاث مراتٍ". وقد خالف عباد بن كثير غيره من الرواة عن يزيد بن خصيفة. وعباد بن كثيرٍ هذا الظاهر أنه الرملي الفلسطيني؛ لأن الراوي عنه شامي، وكذلك فإن كلام الحافظ يدل على هذا، فإنه لما ذكر هذا الحديث قال: "عباد فيه ضعف"1، ولو كان يرى أنه عباد بن كثير البصري لقال فيه "متروك" كما هو معلوم من ترجمته. وعباد بن كثير الرملي الفلسطيني، وثقه ابن معين. وقال البخاري: فيه نظر. وقال أبو حاتم: ظننت أنه أحسن حالاً من عباد بن كثير البصري، فإذا هو قريب منه، ضعيف الحديث. وقال النسائي: ليس بثقة. واتهمه الحاكم بالوضع2. وجعله ابن حجر في مرتبة "ضعيف"3. فعلى هذا فإن رواية عباد بن كثير هذه منكرة. لمخالفته غيره من الرواة عن يزيد ابن خصيفة. والله أعلم. 234 - (3) عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خصالٌ لا تنبغي في المسجد: لا يتخذ طريقاً، ولا يشهر فيه سلاح، ولا ينبض فيه قوس، ولا ينشر فيه نبل، ولا يمر فيه بلحم نيءٍ، ولا يضرب فيه حدٌّ، ولا يقتص فيه من أحدٍ، ولا يتخذ سوقاً".

رواه ابن ماجه1 واللفظ له، وابن حبان2، وابن عدي3، ومن طريقه ابن الجوزي4. كلهم من طريق زيد بن جبيرة الأنصاري عن داود بن حصين عن نافعٍ عنه به. وزيد بن جبيرة - بفتح الجيم وكسر الموحدة5- الأنصاري. قال فيه ابن معين: لا شيء. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أيضاً: متروك الحديث. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، منكر الحديث جداً، متروك الحديث، لا يكتب حديثه. وقال النسائي: ليس بثقة6. وجعله ابن حجر في مرتبة "متروك"7. فمما سبق يتبين أن إسناد هذا الحديث ضعيف جداً. والله أعلم. 235 - (4) عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جنِّبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشراركم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم". رواه ابن ماجه8 من طريق الحارث بن نبهان عن عتبة بن يقظان عن أبي سعيد عن مكحول عنه به.

والحارث بن نبهان هو الجرمي، وقد تقدم1 أنه متروك. وأبو سعيد المذكور في هذا الإسناد هو محمد بن سعيد المصلوب كما قال البوصيري2. ومحمد بن سعيد هذا قال فيه أحمد: قتله أبو جعفر في الزندقة، حديثه حديث موضوع. وقال أيضاً: عمداً كان يضع الحديث. وقال ابن معين: منكر الحديث. وليس كما قالوا أنه صلب في الزندقة. وقال البخاري: ترك حديثه. وكذبه ابن نمير والنسائي3. فعلى هذا فإن إسناد هذا الحديث موضوع. والله أعلم. وقد جاء الحديث من وجهٍ آخر أيضاً عن مكحول، إلا أنه ضعيف جداً. فقد رواه العقيلي4 - ومن طريقه ابن الجوزي5 - والطبراني في الكبير6، وابن عدي7، والبيهقي8، كلهم من طرقٍ عن أبي نعيم النخعي عن العلاء بن كثير عن مكحول عن أبي الدرداء وأبي أمامة وواثلة رضي الله عنهم به بنحوه، وليس عندهم محل الشاهد وهو النهي عن البيع في المسجد. والعلاء بن كثير تقدم أنه متروك9. فمما تقدم يتبين أن إسناد هذا الحديث ضعيف جداً. والله أعلم.

236 - (5) عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جنبوا مساجدكم مجانينكم، وصبيانكم، ورفع أصواتكم، وسل سيوفكم، وبيعكم وشراءكم، وإقامة حدودكم، وخصومتكم، وجمّروها يوم جُمَعكم، واجعلوا مطاهركم على أبوابها". رواه عبد الرزاق1 واللفظ له، والطبراني في الكبير2، كلاهما من طريق محمد ابن مسلم الطائفي عن عبد ربّه بن عبد الله الشامي عن مكحول عنه به. وذكر الطبراني بين عبد ربه بن عبد الله ومكحول يحيى بن العلاء. ورواه الطبراني في مسند الشاميين3 بهذا الإسناد إلا أنه جعل يحيى بن العلاء بين مكحول ومعاذ. وعبد ربه بن عبد الله الشامي بحثت عنه في كتب الجرح والتعديل، فلم أقف له فيها على ذكرٍ. ثم تبيّن أنه هو محمد بن سعيد المصلوب الذي تقدم ذكره في الحديث السابق. وأن الرواة عنه كانوا يغيرون اسمه ستراً له وتدليساً لضعفه4. فقد قال العقيلي: يغيرون اسمه إذا حدثوا عنه - ثم ذكر بعض الأسماء التي كان يسمى بها -، قال: وربما قالوا: عبد الله وعبد الرحمن وعبد الكريم، وغير ذلك على معنى التعبيد لله، وينسبونه إلى جده، ويكنون الجد، حتى يتسع الأمر جداً في هذا، وبلغني عن بعض أصحاب الحديث أنه قال: يقلب اسمه على نحو مائة اسم، وما أبعد أن يكون كما قال. وقال عبد الغني بن سعيد المصري نحو ذلك.

وقال أبو طالب بن سوادة: قلب أهل الشام اسمه على مائة وكذا وكذا أسماء قد جمعتها في كتاب1. فعلى هذا فيكون عبد ربه بن عبد الله الشامي من الأسماء التي قلب إليها اسم محمد بن سعيد المصلوب. ومما يؤيد هذا أن هذا المتن تقدم نحوه عنه من طريق مكحول، كما في الحديث السابق. فمما تقدم يتبين أن هذا الحديث موضوع بهذا الإسناد. والله أعلم.

دلالة الأحاديث السابقة: يستفاد مما تقدم النهي عن البيع والشراء في المسجد؛ لأن المساجد لم تبن لهذا. وقد حكى الترمذي في جامعه قولين لأهل العلم في كراهة البيع في المسجد1. وممن قال بالكراهة الشافعي2، وأحمد3. وللشافعي قول ضعيف أنه لا يكره البيع والشراء فيه4. والكراهة عند الحنابلة كراهة تحريم5. فإن باع فالبيع صحيح؛ لأن البيع تم بأركانه وشروطه، وكراهة ذلك عندهم لا توجب الفساد كالغش في البيع والتدليس والتصرية6.

_ 1 جامع الترمذي (3/611) . 2 المجموع (2/179) ، (6/460) . 3 المغني (4/337) . 4 المجموع (2/179) ، (6/460) . 5 فتح الباري - لابن رجب - (3/347) . 6 المغني (4/337) .

الخاتمة اللهم لك الحمد على ما يسرت وأعنت كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك وكريم امتنانك، ما كان من نعمة بي أو بأحدٍ من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر، لا إله إلا أنت، اللهم كما يسرت هذا العمل فتقبله مني أحسن القبول وأتمه يا كريم، وانفعني به وإخواني المسلمين. - وقد اشتمل البحث على ستين بيعاً تقريباً من البيوع التي ورد النهي عنها، وكان عدد الأحاديث الواردة في هذا الموضوع حسب ما وقفت عليه (236 حديثاً) ، الثابت منها (142 حديثاً) ، منها (61 حديثاً) في الصحيحين أو أحدهما، و (29 حديثاً) صحيحاً في غيرهما، و (52 حديثاً) حسناً. وغير الثابت (94 حديثاً) ، منها (50 حديثاً) ضعيفاً، و (44 حديثاً) ضعيفاً جداً. - ومن النتائج التي وقفت عليها في البحث، هي الفائدة التي أشرت إليها في منهج تخريج الأحاديث، وهي عدم اقتصاري في تخريج الحديث على الصحيحين إن كان الحديث فيهما، بل أخرج من غيرهما متلمساً الفوائد اللفظية والإسنادية منها. فكم من حديثٍ يرويه البخاري ومسلم أو أحدهما ويكون عند غيرهما زيادات في المتن، أو فائدة في الإسناد، كمتابعة أو غيرها، ففي الاقتصار على الصحيحين تفويت لهذه الفوائد.

وقد كنت في تخريجي للأحاديث أمتثل قول الإمام الحافظ عبد الرحمن بن مهدي - رحمه الله -: "الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه"1. وقد رأيت هذا جلياً في بعض أحاديث الرسالة. فكم من حديث ظاهره الصحة، ولكن عند جمع طرقه يتبين خطأ بعض رواته فيه. - ومن النتائج أيضاً أني لم أقف على بيع من البيوع المنهي عنها إلا وهو داخل في العلل التي ذكرها الفقهاء في تحريم البيع، وعلى هذه العلل قسمت أبواب الرسالة. وفي الختام أسأل الله عز وجل أن يحسن خاتمتنا في الأمور كلها، وأن يجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، إنه سميع مجيب. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك

مصادر ومراجع

مصادر ومراجع ... فهرس المصادر والمراجع أولاً: المخطوطات: - إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من الكتب العشرة للحافظ ابن حجر العسقلاني مخطوط في الجامعة الإسلامية، برقم (400) - تفسير ابن أبي حاتم أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن إدريس الرازي مخطوط مصور في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، برقم (1480) - ذم الملاهي لأبي بكر بن أبي الدنيا مخطوط مصور بالجامعة الإسلامية بالميكروفيلم، في مجموع رقم (4574) - سنن الدارقطني للإمام علي بن عمر الدارقطني مصور بالجامعة الإسلامية بالميكروفيلم، برقم (8798) - السنن الكبرى للإمام أبي عبد الرحمن النسائي مخطوط في الجامعة الإسلامية، برقم (2169) - المجالس للحافظ صلاح الدين العلائي مصور بالجامعة الإسلامية، برقم (2510)

- مسند الإمام أحمد بن حنبل مخطوط بمكتبة الحرم المكي الشريف، برقم (115) - مسند البزار مخطوط في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، برقم (1907) ، ورقم (804) - مصنف ابن أبي شيبة مصور في الجامعة الإسلامية بالميكروفيلم، برقم (3166) ، الجزء: 6 - معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني مخطوط مصور في الجامعة الإسلامية، برقم (2758، 2759) - موارد الظمآن في زوائد ابن حبان لأبي بكر الهيثمي مخطوط بالمكتبة المحمودية بالمدينة النبوية، برقم (611)

ثانيًا: الكتب المطبوعة: - الآثار لمحمد بن الحسن الشيباني الناشر: إدارة القرآن والعلوم الإسلامية بباكستان، الطبعة الأولى، 1407هـ - الآحاد والمثاني للحافظ أبي بكر أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني المعروف بابن أبي عاصم تحقيق: د. باسم فيصل الجوابرة دار الراية، الرياض، الطبعة الأولى 1411هـ - إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة للحافظ أبي العباس البوصيري جزء محقق في رسالة دكتوراه بالجامعة الإسلامية، د. إبراهيم بن محمد عمير مدخلي، عام 1407هـ مكتوبة بالآلة الكتابة - الإجماع لأبي بكر بن محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري تحقيق: صغير أحمد بن محمد حنيف دار طيبة، الرياض، الطبعة الأولى، 1402هـ - الأحاديث المختارة لضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي تحقيق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش مكتبة النهضة الحديثة، مكة المكرمة، الطبعة الأولى

- الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة لبدر الدين الزركشي تحقيق: سعيد الأفغاني المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1390هـ - الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان لعلاء الدين علي بن بلبان الفارسي تحقيق: شعيب الأرناؤوط مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1408هـ - أحكام الأطعمة في الشريعة الإسلامية د. عبد الله بن محمد الطريقي الطبعة الأولى، 1404هـ - أحكام أهل الذمة للأمام ابن قيم الجوزية تحقيق: د. صبحي الصالح دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثانية، 1983م - أحكام الجراحة الطبية والآثار المترتبة عليها د. محمد بن محمد المختار الشنقيطي مكتبة الصحابة، جدة، الطبعة الثانية، 1415هـ - أحكام القرآن لأبي بكر بن أحمد الرازي الجصاص دار الكتاب العربي، بيروت

- الأحكام الوسطى من حديث النبي ( للحافظ أبي محمد عبد الحق الإشبيلي تحقيق: حمدي السلفي، صبحي السامرائي مكتبة الرشد، الرياض، طبع عام 1416هـ - أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار لأبي الوليد محمد بن عبد الله الأزرقي تحقيق: رشيد الصالح ملحس دار الأندلس، بيروت، الطبعة الثالثة، 1389هـ - أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه لأبي عبد الله محمد بن إسحاق الفاكهي تحقيق: عبد الملك بن دهيش مكتبة النهضة الحديثة، مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1407هـ - الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية لعلاء الدين أبي الحسن علي بن محمد البعلي تحقيق: محمد حامد الفقي مطبعة السنة المحمدية، طبع عام 1369هـ - الأدب المفرد لمحمد بن إسماعيل البخاري دار الكتب العلمية - الأسامي والكنى لأبي أحمد محمد بن محمد بن أحمد بن إسحاق الحاكم الكبير تحقيق: د. يوسف الدخيل مكتبة الغرباء، المدينة النبوية، الطبعة الأولى، 1414هـ

- أسباب النزول للواحدي تحقيق: السيد أحمد صقر دار الكتاب الجديد، الطبعة الأولى، 1389هـ - الاستذكار للحافظ أبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري تحقيق: عبد المعطي قلعجي دار قتيبة، دار الوعي، الطبعة الأولى، 1414هـ - الاستغناء في معرفة المشهور من حملة العلم بالكنى ابن عبد البر النمري تحقيق د. عبد الله مرحول السوالمة دار ابن تيمية، الرياض، الطبعة الأولى، 1405هـ - الاستيعاب في أسماء الأصحاب لابن عبد البر النمري القرطبي مطبوع بحاشية الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني دار الفكر - أسد الغابة في معرفة الصحابة لأبي الحسن علي بن محمد الجزري المعروف بابن الأثير دار الفكر، بيروت - الأسماء المبهمة في الأنباء المحكمة لأبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي تحقيق: د. عز الدين علي السيد مطبعة المدني، القاهرة مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1405هـ

- الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني دار الفكر - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن لمحمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي عالم الكتب، بيروت - أطراف مسند الإمام أحمد للحافظ ابن حجر العسقلاني تحقيق: د. زهير الناصر دار ابن كثير، دار الكلم الطيب، الطبعة الأولى، 1414هـ - الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار للحافظ أبي بكر محمد بن موسى الحازمي مطبعة الأندلس، حمص، الطبعة الأولى، 1386هـ - إعلاء السنن لظفر أحمد العثماني التهانوي تحقيق وتعليق: محمد تقي عثماني إدارة القرآن والعلوم الإسلامية، كراتشي - أعلام الموقعين عن رب العالمين لابن قيم الجوزية تحقيق: عبد الرحمن الوكيل مكتبة ابن تيمية، القاهرة

- إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن قيم الجوزية تحقيق: محمد سيد كيلاني مطبعة الحلبي، مصر 1381هـ - إكمال إكمال المعلم، بشرح صحيح مسلم لأبي عبد الله محمد بن خلفة الرشتاني الأبي المالكي دار الكتب العلمية، بيروت - الإكمال في ذكر من له رواية في مسند أحمد سوى من ذكر في تهذيب الكمال للحافظ أبي المحاسن محمد بن علي الحسيني تحقيق: عبد الله سرور بن فتح محمد دار اللواء، الرياض، الطبعة الأولى، 1412هـ - الإلزامات والتتبع للحافظ أبي الحسن علي بن عمر الدارقطني تحقيق: مقبل بن هادي الوادعي مطبعة المدني، مصر توزيع: دار الخلفاء للكتاب الإسلامي، الكويت، الطبعة الثانية - الأم للإمام محمد بن إدريس الشافعي تعليق: محمود مطرجي دار الكتب العلمي، بيروت، الطبعة الأولى، 1413هـ

- أمال المحاملي أبي عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي رواية: ابن يحيى البيع تحقيق: د. إبراهيم القيسي المكتبة الإسلامية، عمان، دار ابن القيم، الدمام، الطبعة الأولى، 1412هـ - الأموال لحميد بن زنجويه تحقيق: د. شاكر ذيب فياض من منشورات مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الرياض، الطبعة الأولى، 1406هـ - الأموال للإمام أبي عبيد القاسم بن سلام تحقيق: محمد خليل هراس الطبعة الثالثة، 1410هـ - الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل لعلاء الدين أبي الحسن علي بن سليمان المرداوي تحقيق: محمد حامد الفقي دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثانية، 1400هـ - الإيثار بمعرفة رواة الآثار لابن حجر العسقلاني تحقيق: سيد كسروي حسن دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1413هـ

- البحر الزخار – المعروف بمسند البزار - للإمام الحافظ أبي بكر البزار تحقيق: محفوظ الرحمن زين الله مؤسسة علوم القرآن، مكتبة العلوم والحكم، الطبعة الأولى - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع لعلاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني الحنفي دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1402هـ - بدائع الفوائد للإمام ابن قيم الجوزية تحقيق: بشير محمد عيون دار البيان، دمشق الناشر: مكتبة المؤيد، الرياض، الطبعة الأولى، 1415هـ - بداية المجتهد ونهاية المقتصد للقاضي أبي الوليد بن رشد القرطبي المالكي راجعه: عبد الحليم محمد عبد الحليم دار الكتب الإسلامية، مصر، الطبعة الثانية، 1403هـ - بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث للإمام نور الدين الهيثمي الشافعي تحقيق: د. حسين بن أحمد الباكري مركز خدمة السنة النبوية بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، الطبعة الأولى، 1413هـ

- بلوغ المرام من أدلة الأحكام للحافظ ابن حجر العسقلاني بتصحيح وتعليق: محمد حامد الفقي مؤسسة الكتب الثقافية، الطبعة الأولى، 1407هـ - البناية في شرح الهداية لمحمود بن أحمد العيني دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية، 1411هـ - بيان خطأ الإمام البخاري في تاريخه لأبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي تحقيق: عبد الرحمن بن يحيى المعلمي دار المعارف العثمانية - البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل في مسائل المستخرجة لأبي الوليد بن رشد تحقيق: د. محمد حجي دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1408هـ - بيع المزاد د. عبد الله المطلق دار المسلم، الرياض الطبعة الأولى، 1414هـ - التاريخ ليحيى بن معين، رواية عباس الدوري عنه تحقيق: د. أحمد محمد نور سيف من منشورات جامعة الملك عبد العزيز - جامعة أم القرى حاليًا - بمكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1399هـ

- تاريخ أسماء الضعفاء والكذابين للحافظ أبي حفص عمر بن شاهين تحقيق: د. عبد الرحيم قشقري الطبعة الأولى، 1409هـ - تاريخ أصبهان للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني تحقيق: سيد كسروي حسن دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1410هـ - تاريخ بغداد للخطيب البغدادي دار الكتب العلمية، بيروت - تاريخ جرجان لأبي القاسم حمزة بن يوسف السهمي دائرة المعارف العثمانية، الطبعة الرابعة، 1407هـ - تاريخ دمشق لابن عساكر تحقيق: مجموعة من الباحثين مجمع اللغة العربية بدمشق - التاريخ الصغير للإمام محمد بن إسماعيل البخاري إدارة ترجمان السنة، باكستان، الطبعة الرابعة، 1402هـ - تاريخ علماء الأندلس للحافظ أبي الوليد عبد الله بن محمد بن الفرضي الدار المصرية للتأليف والترجمة، عام 1966م

- التاريخ الكبير للإمام محمد بن إسماعيل البخاري تحقيق: عبد الرحمن بن يحيى المعلمي دائرة المعارف العثمانية بالهند - تاريخ المدينة للحافظ عمر بن شبة النميري تحقيق: فهيم محمد شلتوت - تاريخ مولد العلماء ووفياتهم لأبي سليمان ابن زير الربعي الدمشقي تحقيق: د. عبد الله بن أحمد الحمد دار العاصمة، الرياض، الطبعة الأولى، 1410هـ - تاريخ واسط للحافظ أسلم بن سهل الواسطي المعروف ببحشل تحقيق: كوركيس عواد عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى، 1406هـ - تبصير المنتبه بتحرير المشتبه للحافظ ابن حجر العسقلاني تحقيق: علي محمد البجاوي دار الأندلس، جدة - تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق لفخر الدين عثمان بن علي الزيلعي الحنفي المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق، الطبعة الأولى، 1313هـ

- تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف للحافظ جمال الدين أبي الحجاج المزي تحقيق: عبد الصمد شرف الدين الدار القيمة، الهند، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1403هـ - التحقيق في أحاديث الخلاف لأبي الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي تحقيق: مسعد السعدني دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1415هـ - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي للحافظ جلال الدين السيوطي تحقيق: عبد الوهاب بن عبد اللطيف المكتبة العلمية بالمدينة النبوية، الطبعة الأولى، 1379 - الترغيب والترهيب للحافظ زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري تحقيق: محيي الدين مستو، سمير العطار، يوسف بديوي دار ابن كثير، دار الكلم الطيب، مؤسسة علوم القرآن الطبعة الأولى، 1414هـ - الترغيب والترهيب للحافظ قوام السنة أبي القاسم إسماعيل بن محمد الأصبهاني راجعه: محمود إبراهيم زايد مؤسسة الخدمات الطباعية، بيروت

- تعجيل المنفعة بزائد رجال الأئمة الأربعة لابن حجر العسقلاني دار الكتاب العربي، بيروت - التعريفات لعلي بن محمد الجرجاني دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1403هـ - تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس للحافظ ابن حجر العسقلاني تحقيق: د. عبد الغفار البنداري، الأستاذ: محمد أحمد عبد العزيز دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1405هـ - تغليق التعليق على صحيح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني تحقيق: سعيد عبد الرحمن القزقي المكتب الإسلامي، دار عمار، الطبعة الأولى، 1405هـ - تفسير آيات أشكلت على كثير من العلماء شيخ الإسلام ابن تيمية تحقيق: عبد العزيز الخليفة مكتبة الرشد، الطبعة الأولى، 1417هـ - تفسير القرآن العظيم للإمام إسماعيل بن كثير القرشي دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى، 1407هـ

- تقريب التهذيب للحافظ ابن حجر العسقلاني تحقيق: محمد عوامة دار البشائر الإسلامية، بيروت، الطبعة الثانية، 1408هـ - تقييد العلم للخطيب البغدادي تحقيق: يوسف العش دار إحياء السنة النبوية، الطبعة الثالثة، 1988م - التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير للحافظ ابن حجر العسقلاني تصحيح وتعليق: السيد عبد الله هاشم اليماني توزيع: دار أحد - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد للحافظ أبي عمر ابن عبد البر النمري القرطبي مطبعة فضالة، المغرب توزيع: مكتبة الأوس، المدينة النبوية - التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل لعبد الرحمن بن يحيى المعلمي تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني المطبعة العربية، باكستان، 1401هـ - تهذيب الآثار – مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه - لمحمد بن جرير الطبري تحقيق: ناصر بن سعد الرشيد مطابع الصفا، مكة المكرمة

- تهذيب الآثار – مسند علي بن أبي طالب رضي الله عنه - لمحمد بن جرير الطبري تحقيق: محمود شاكر مطبعة المدني، القاهرة - تهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر العسقلاني مجلس دائرة المعارف النظامية بالهند، 1327هـ الناشر: دار الكتاب الإسلامي، القاهرة - تهذيب السنن لابن قيم الجوزية مطبوع في حاشية عون المعبود - للعظيم آبادي - دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1410هـ - تهذيب الفروق مطبوع بحاشية الفروق للقرافي [انظر: الفروق للقرافي] - تهذيب الكمال في أسماء الرجال للحافظ أبي الحجاج المزي تحقيق: د. بشار عواد معروف مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1413هـ - الثقات للحافظ أبي حاتم ابن حبان البستي مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بالهند، الطبعة الأولى، 1393هـ

- شرح معاني الآثار للإمام أبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي تحقيق: محمد زهري النجار دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 1407هـ - شعب الإيمان للإمام البيهقي تحقيق: محمد السعيد بن بسيوني زغلول دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1410هـ - الصحاح لإسماعيل بن حماد الجوهري تحقيق أحمد عبد الغفور عطار دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثانية، 1399هـ - صحيح البخاري - مع الفتح - [انظر فتح الباري لابن حجر العسقلاني] - صحيح ابن خزيمة أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة تحقيق: د. مصطفى الأعظمي المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1412هـ - صحيح مسلم للإمام مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري تحقيق وترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي دار الحديث، القاهرة، الطبعة الأولى، 1412هـ

- جامع المسانيد والسنن الهادي لأقوم سنن للحافظ عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي تحقيق: عبد المعطي قلعجي دار الفكر، بيروت، طبع عام 1415هـ - الجرح والتعديل للحافظ ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد بن إدريس الحنظلي الرازي مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بالهند، الطبعة الأولى - الجمع بين رجال الصحيحين للحافظ أبي الفضل محمد بن طاهر، المعروف بابن القيسراني دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 1405هـ - الجوهر النقي لابن التركماني مطبوع بحاشية السنن الكبرى للإمام البيهقي دار المعرفة، بيروت، 1413هـ - حاشية الجمل على شرح المنهج سليمان الجمل المكتبة التجارية الكبرى، مصر - حاشية الدسوقي على الشرح الكبير لشمس الدين محمد عرفة الدسوقي دار إحياء الكتب العربية - حاشية السندي على سنن النسائي [انظر سنن النسائي]

- الحاوي الكبير في فقه الإمام الشافعي لأبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي الشافعي تحقيق: علي بن معوض، عادل أحمد عبد الموجود دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1414هـ - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء للحافظ أبي نعيم الأصبهاني دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1387هـ - الخراج للقاضي أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم دار المعرفة، بيروت، 1399هـ - الخراج ليحيى بن آدم القرشي تصحيح: أحمد شاكر مطبوع مع كتاب الخراج لأبي يوسف، وكتاب الاستخراج لأحكام الخراج لابن رجب الحنبلي دار المعرفة، بيروت - الخرشي على مختصر خليل لأبي عبد الله محمد بن عبد الله بن علي الخرشي المالكي دار الفكر - دراسات في أصول المداينات في الفقه الإسلامي د. نزيه حماد دار الفاروق، الطائف، الطبعة الأولى، 1411هـ

- الدعاء للحافظ أبي القاسم الطبراني تحقيق: محمد سعيد البخاري دار البشائر الإسلامية، بيروت، الطبعة الأولى، 1407هـ - ديوان الضعفاء والمتروكين وخلق من المجهولين وثقات فيهم لين للحافظ شمس الدين بن عثمان الذهبي تحقيق: حماد بن محمد الأنصاري مطبعة النهضة الحديثة، مكة المكرمة، 1387هـ - الربا لأبي الأعلى المودودي الدار السعودية، الطبعة الثانية، 1407هـ - رد الذهبي على ابن القطان مطبوع في مقدمة الأحكام الوسطى لعبد الحق الإشبيلي [انظر: الأحكام الوسطى لعبد الحق الإشبيلي] - رسوخ الأحبار في منسوخ الأخبار لأبي إسحاق برهان الدين إبراهيم بن عمر الجعبري تحقيق: د. حسن محمد مقبولي الأهدل مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، الطبعة الأولى، 1409هـ - الرسالة للإمام محمد بن إدريس الشافعي تحقيق: أحمد شاكر دار الكتب العلمية، بيروت

- روضة الطالبين للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي المكتب الإسلامي - زاد المعاد في هدي خير العباد للإمام ابن قيم الجوزية تحقيق: شعيب الأرناؤوط، عبد القادر الأرناؤوط مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثالثة عشرة، 1406هـ - الزواجر عن اقتراف الكبائر لأبي العباس أحمد بن محمد علي بن حجر الهيتمي المكي مطبعة مصطفى الحلبي، مصر، الطبعة الثانية 1390هـ - سبل السلام شرح بلوغ المرام محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني تحقيق: فواز زمرلي، إبراهيم الجمل دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة السادسة، 1412هـ - سنن الدارقطني علي بن عمر أبي الحسن الدارقطني تحقيق: عبد الله هاشم يماني دار المحاسن، القاهرة، 1386هـ - سنن الدارمي عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي تحقيق وتخريج: فوزي زمرلي، خالد السبع العلمي دار الريان، القاهرة، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1407هـ

- سنن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني تحقيق: عزت عبيد الدعاس دار الحديث، بيروت، الطبعة الأولى، 1388هـ - السنن الصغير للحافظ أبي بكر البيهقي تحقيق: عبد السلام عبد الشافي، أحمد قباني دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1412هـ - سنن سعيد بن منصور سعيد بن منصور تحقيق: د. سعد بن عبد الله الحميد دار الصميعي، الطبعة الأولى، 1414هـ - السنن الكبرى للإمام أبي عبد الرحمن النسائي تحقيق: د. عبد الغفار البنداري، سيد كسروي حسن دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1411هـ - السنن الكبرى للإمام أبي بكر البيهقي دار المعرفة، بيروت، 1413هـ - السنن المأثورة للإمام محمد بن إدريس الشافعي تحقيق: عبد المعطي قلعجي دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى، 1406هـ

- سنن ابن ماجه لأبي عبد الله محمد بن يزيد ابن ماجه القزويني تحقيق وترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي دار إحياء الكتب العربية - سنن النسائي لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي المكتبة العلمية، بيروت - السنن للحافظ سعيد بن منصور الخراساني تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي الدار السلفية، الهند، الطبعة الأولى، 1403هـ - السنة لمحمد بن نصر المروزي تخريج وتعليق: سالم بن أحمد السلفي مؤسسة الكتب الثقافية، الطبعة الأولى، 1408هـ - السنة لأبي بكر أحمد بن محمد هارون الخلال تحقيق: د. عطية الزهراني دار الراية، الرياض، الطبعة الأولى، 1410هـ - سؤالات أبي داود لأحمد بن حنبل في جرح الرواة وتعديلهم أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني تحقيق: د. زياد محمد منصور مكتبة العلوم والحكم، المدينة النبوية، الطبعة الأولى، 1414هـ

- سؤالات أبي عبيد الآجري لأبي داود السجستاني في الجرح والتعديل [الجزء الثالث] تحقيق: محمد علي قاسم العمري من منشورات المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، الطبعة الأولى، 1403هـ - سؤالات أبي عبيد الآجري لأبي داود (ج 4-5) - رسالة ماجستير - 1411هـ تحقيق: عبد العزيز أحمد آل عبد القادر - سؤالات البرقاني للدارقطني - رواية الكرجي عنه – تحقيق: د. عبد الرحيم القشقري الطبعة الأولى، 1404هـ - السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية لشيخ الإسلام ابن تيمية دار الجيل، دار الآفاق، بيروت، الطبعة الثانية، 1408هـ - سير أعلام النبلاء للحافظ أبي عبد الله الذهبي تحقيق: جماعة من المحققين بإشراف شعيب الأرناؤوط مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الرابعة، 1406هـ - شرح الزرقاني على مختصر خليل لعبد الباقي الزرقاني دار الفكر - شرح الزرقاني لموطأ مالك بن أنس تحقيق: إبراهيم عطوة عوض مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة الأولى، 1382هـ

- شرح الزركشي على مختصر الخرقي لشمس الدين محمد بن عبد الله الزركشي الحنبلي تحقيق: الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين دار أولي النهى، بيروت، الطبعة الثانية، 1414هـ - شرح السنة للإمام الحسين بن مسعود البغوي تحقيق: شعيب الأرناؤوط المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1403هـ - شرح علل الترمذي لابن رجب الحنبلي تحقيق: د. همام بن عبد الرحيم سعيد مكتبة المنار، الأردن، الطبعة الأولى، 1407هـ - شرح فتح القدير للإمام كمال الدين ابن الهمام الحنفي دار الفكر، الطبعة الثانية، 1397هـ - الشرح الكبير لشمس الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أبي عمر المقدسي طبع بحاشية المغني لابن قدامة [انظر: المغني لابن قدامة المقدسي] - شرح مشكل الآثار للإمام أبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي تحقيق: شعيب الأرناؤوط مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1415هـ

- شرح معاني الآثار للإمام أبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي تحقيق: محمد زهري النجار دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 1407هـ - شعب الإيمان للإمام البيهقي تحقيق: محمد السعيد بن بسيوني زغلول دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1410هـ - الصحاح لإسماعيل بن حماد الجوهري تحقيق أحمد عبد الغفور عطار دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثانية، 1399هـ - صحيح البخاري - مع الفتح - [انظر فتح الباري لابن حجر العسقلاني] - صحيح ابن خزيمة أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة تحقيق: د. مصطفى الأعظمي المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1412هـ - صحيح مسلم للإمام مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري تحقيق وترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي دار الحديث، القاهرة، الطبعة الأولى، 1412هـ

- الطبقات الكبرى لابن سعد دار صادر، بيروت - طبقات المحدثين بأصبهان والواردين عليها لأبي الشيخ عبد الله بن محمد بن جعفر الأصبهاني تحقيق: عبد الغفور البلوشي مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1412هـ - الطبقات للإمام مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري تعليق: مشهور بن حسن بن سلمان دار الهجرة، الرياض، الطبعة الأولى، 1411هـ - الطرق الحكمية في السياسة الشرعية للإمام ابن قيم الجوزية تحقيق: محمد حامد الفقي مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، 1372هـ - علل الحديث للإمام ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد بن إدريس الرازي دار المعرفة، بيروت، 1405هـ - العلل الكبير للإمام أبي عيسى الترمذي ترتيب: أبو طالب القاضي، تحقيق: حمزة ديب مصطفى مكتبة الأقصى، عمان، الطبعة الأولى، 1406هـ

- العلل المتناهية في الأحاديث الواهية لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي تحقيق: إرشاد الحق الأثري المكتبة العلمية، باكستان إدارة العلوم الأثرية، باكستان، الطبعة الأولى، 1399هـ - العلل الواردة في الأحاديث النبوية للإمام أبي الحسن علي بن عمر الدارقطني تحقيق وتخريج: محفوظ الرحمن السلفي دار طيبة، الرياض - العلل ومعرفة الرجال رواية عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل عن أبيه المكتبة الإسلامية، تركيا - عمدة القاري شرح صحيح البخاري لبدر الدين محمود بن أحمد العيني دار الفكر، بيروت - غريب الحديث للإمام أبي عبيد القاسم بن سلام تحقيق: د. حسين محمد محمد شرف من منشورات مجمع اللغة العربية بالقاهرة - غوامض الأسماء المبهمة الواقعة في متون الأحاديث المسندة لأبي القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال تحقيق: عز الدين علي السيد، محمد كمال الدين عز الدين عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى، 1407هـ

- فتاوى إسلامية جمع وترتيب: محمد بن عبد العزيز المسند دار الوطن - الفتاوى الكبرى شيخ الإسلام ابن تيمية دار المعرفة، بيروت، 1397هـ - فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ زين الدين أبي الفرج ابن رجب الحنبلي تحقيق: جماعة من المحققين دار الحرمين، القاهرة مكتبة الغرباء، المدينة النبوية، الطبعة الأولى، 1416هـ - فتح الباري بشرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني تحقيق: محب الدين الخطيب، ترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي المكتبة السلفية، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1407هـ - الفروع لشمس الدين محمد بن مفلح الحنبلي راجعه: عبد الستار أحمد فراج عالم الكتب، الطبعة الرابعة، 1405هـ - الفروق لشهاب الدين أبي العباس الصناجي المعروف بالقرافي دار المعرفة، بيروت

- الفصل للوصل المدرج في النقل للحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي تحقيق: د. محمد بن مطر الزهراني رسالة دكتوراه في الجامعة الإسلامية عام 1405هـ - الفوائد للحافظ أبي القاسم تمام بن محمد الرازي تحقيق: حمدي السلفي مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى، 1413هـ - القواعد في الفقه الإسلامي لأبي الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي راجعه وعلق عليه: طه عبد الرؤوف سعد دار أم القرى، القاهرة، الطبعة الثانية، 1408هـ - قوانين الأحكام الشرعية ومسائل الفروع الفقهية لمحمد بن أحمد بن جزي المالكي تحقيق: طه سعد، مصطفى الهواري شركة الطباعة الفنية المتحدة، القاهرة، الطبعة الأولى - القبس في شرح موطأ مالك بن أنس لأبي بكر بن العربي المالكي تحقيق: د. محمد عبد الله ولد كريم دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1992م - القول المسدد في الذب عن المسند للإمام أحمد للحافظ ابن حجر العسقلاني مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الرابعة، 1402هـ

- الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة للحافظ أبي عبد الله الذهبي دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1403هـ - الكامل في ضعفاء الرجال للحافظ أبي أحمد ابن عدي الجرجاني تحقيق: يحيى مختار غزاوي دار الفكر، بيروت، الطبعة الثالثة، 1409هـ - كشاف القناع عن متن الإقناع لمنصور بن يونس البهوتي تعليق: هلال مصيلحي مصطفى هلال مكتبة النصر الحديثة - كشف الأستار عن زوائد البزار للحافظ نور الدين الهيثمي تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1399هـ - الكنى والأسماء للإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري تحقيق: د. عبد الرحيم القشقري من منشورات المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، الطبعة الأولى، 1404هـ - الكنى والأسماء للحافظ أبي بشر الدولابي مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية في الهند، الطبعة الأولى، 1322هـ

- الكواكب النيرات في معرفة من اختلط من الرواة الثقات لأبي البركات محمد بن أحمد المعروف بابن الكيال تحقيق: عبد القيوم بن عبد رب النبي دار المأمون للتراث، الطبعة الأولى، 1401هـ - اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية، 1395هـ - لسان العرب لأبي الفضل جمال الدين ابن منظور الإفريقي دار صادر، الطبعة الأولى، 1412هـ - لسان الميزان للحافظ ابن حجر العسقلاني مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية بالهند دار الفكر، الطبعة الأولى، 1329هـ - المبدع في شرح المقنع لأبي إسحاق برهان الدين إبراهيم بن محمد بن مفلح الحنبلي المكتب الإسلامي، 1394هـ - المبسوط لشمس الدين السرخسي دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثالثة، 1398هـ - المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين للحافظ أبي حاتم ابن حبان البستي تحقيق: محمود إبراهيم زايد دار المعرفة، بيروت

- مجلة البحوث الإسلامية تصدر عن الإدارة العامة للإفتاء والدعوة والإرشاد العدد السابع، 1403هـ - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للحافظ نور الدين الهيثمي مكتبة المعارف، بيروت، 1406هـ - المجموع شرح مهذب الشيرازي للإمام أبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي تحقيق: محمد نجيب المطيعي توزيع: المكتبة العالمية بالفجالة - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية جمع: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العصامي النجدي دار التقوى - المحلى لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم تحقيق: أحمد شاكر دار الفكر - مختار الصحاح لمحمد بن أبي بكر الرازي دار المعارف، القاهرة - مختصر الطحاوي أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي تحقيق: أبي الوفاء الأفغاني لجنة إحياء المعارف النعمانية، الهند

- المراسيل للحافظ ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد بن إدريس الحنظلي الرازي تعليق: أحمد عصام الكاتب دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1403هـ - المراسيل لأبي داود السجستاني تحقيق: شعيب الأرناؤوط مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1408هـ - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح لعلي بن سلطان القاري أصح المطابع، الهند - مساوئ الأخلاق ومذمومها لأبي بكر محمد جعفر الخرائطي تحقيق: مصطفى بن أبو النصر الشلبي مكتبة السوادي، جدة، الطبعة الأولى، 1412هـ - المستدرك على الصحيحين للإمام أبي عبد الله الحاكم النيسابوري دار المعرفة، بيروت - مسند أبي يعلى الموصلي الحافظ أحمد بن علي بن المثنى الموصلي تحقيق: حسين سليم أسد دار الثقافة العربية، الطبعة الثانية، 1412هـ

- مسند أبي عوانة يعقوب بن إسحاق الإسفرائيني، المعروف بأبي عوانة رسالة دكتوراه تقدم بها الشيخ عبد الكريم الغضية عام 1416هـ، في الجامعة الإسلامية - مسند الإمام أحمد بن حنبل دار صادر، بيروت، عن الطبعة الميمنية - المسند للإمام أحمد بن حنبل تحقيق: أحمد شاكر دار المعارف، مصر، الطبعة الثانية، 1391هـ - مسند إسحاق بن راهويه إسحاق بن إبراهيم المعروف بابن راهويه الحنظلي تحقيق: د. عبد الغفور البلوشي مكتبة الإيمان، المدينة النبوية - مسند الحميدي أبي بكر عبد الله بن الزبير الحميدي تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1409هـ - مسند الشافعي الإمام محمد بن إدريس الشافعي دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1400هـ

- مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه للحافظ يعقوب بن شيبة تحقيق: كمال يوسف الحوت مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، الطبعة الأولى، 1405هـ - مسند الهيثم بن كليب الشاشي تحقيق: محفوظ الرحمن زين الله مكتبة العلوم والحكم، المدينة النبوية، الطبعة الأولى، 1410هـ - مشيخة ابن طهمان إبراهيم بن طهمان تحقيق: د. محمد طاهر مالك من مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، 1403هـ - مصباح الزجاجة في زائد ابن ماجه للحافظ أحمد بن أبي بكر البوصيري تحقيق: موسى محمد علي، عزت علي عطية مطبعة حسان، القاهرة، دار الكتب الحديثة، مصر - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير لأحمد بن محمد بن علي الفيومي المقرئ مكتبة لبنان، بيروت، 1987م - المصنف للإمام عبد الرزاق بن همام الصنعاني تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي طبع المجلس العلمي. المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1403هـ

- مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه للحافظ يعقوب بن شيبة تحقيق: كمال يوسف الحوت مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، الطبعة الأولى، 1405هـ - مسند الهيثم بن كليب الشاشي تحقيق: محفوظ الرحمن زين الله مكتبة العلوم والحكم، المدينة النبوية، الطبعة الأولى، 1410هـ - مشيخة ابن طهمان إبراهيم بن طهمان تحقيق: د. محمد طاهر مالك من مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، 1403هـ - مصباح الزجاجة في زائد ابن ماجه للحافظ أحمد بن أبي بكر البوصيري تحقيق: موسى محمد علي، عزت علي عطية مطبعة حسان، القاهرة، دار الكتب الحديثة، مصر - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير لأحمد بن محمد بن علي الفيومي المقرئ مكتبة لبنان، بيروت، 1987م - المصنف للإمام عبد الرزاق بن همام الصنعاني تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي طبع المجلس العلمي. المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1403هـ

- المصنف في الأحاديث والآثار للحافظ أبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة ضبط وتعليق: الأستاذ سعيد اللحام دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى، 1409هـ - المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية للحافظ ابن حجر العسقلاني تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي دار المعرفة، بيروت، 1414هـ - المطلع على أبواب المقنع لشمس الدين محمد بن أبي الفتح البعلي الحنبلي المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1385هـ - معالم التنزيل للإمام البغوي تحقيق: محمد النمر، عثمان ضميرية، سليمان الحرش دار طيبة بالرياض، الطبعة الأولى، 1409هـ - معالم السنن للإمام الخطابي مطبوع في حاشية سنن أبي داود السجستاني [انظر: سنن أبي داود السجستاني] - المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر لبدر الدين الزركشي تحقيق: حمدي السلفي دار الأرقم، الطبعة الأولى، 1404هـ

- المعجم لأبي سعيد أحمد بن محمد بن زياد بن الأعرابي تحقيق: د. أحمد بن ميرين سياد البلوشي مكتبة الكوثر، الرياض، الطبعة الأولى، 1412هـ - معجم أبي بكر بن المقرئ تحقيق: د. محمد بن صالح الفلاح رسالة دكتوراه في الجامعة الإسلامية، عام 1404هـ - المعجم الأوسط للحافظ أبي القاسم الطبراني تحقيق: طارق بن عوض الله بن محمد، عبد المحسن الحسيني دار الحرمين، الطبعة الأولى، 1415هـ - معجم البلدان لشهاب الدين ياقوت بن عبد الله الحموي دار صادر، بيروت، 1397هـ - المعجم الصغير للحافظ أبي القاسم الطبراني تصحيح: عبد الرحمن محمد عثمان مطبعة المعرفة. المكتبة السلفية، المدينة النبوية، 1388هـ - المعجم الكبير للحافظ أبي القاسم الطبراني تحقيق: حمدي السلفي مطبعة الزهراء الحديثة، الموصل، الطبعة الثانية

- معجم مقاييس اللغة لأحمد بن فارس بن زكريا تحقيق: عبد السلام هارون مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، الطبعة الثانية، 1389هـ - معرفة الثقات من رجال العلم والحديث ومن الضعفاء وذكر مذاهبهم وأخبارهم للحافظ أبي الحسن أحمد بن عبد الله بن صالح العجلي تحقيق: عبد العلمي عبد العظيم البستوي مكتبة الدار، المدينة النبوية، الطبعة الأولى، 1405هـ - المعرفة والتاريخ لأبي يوسف يعقوب بن سفيان الفسوي تحقيق: د. أكرم ضياء العمري مطبعة الإرشاد، بغداد، 1394هـ - معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصفهاني تحقيق: محمد راضي بن حجاج عثمان مكتبة الدار، مكتبة الحرمين، الطبعة الأولى، 1408هـ - معرفة علوم الحديث للحافظ أبي عبد الله الحاكم النيسابوري تصحيح: د. معظم حسين المكتبة العلمية بالمدينة النبوية، الطبعة الثانية، 1397هـ - المعلم بفوائد مسلم لأبي عبد الله محمد بن علي بن عمر المازري تحقيق: محمد الشاذلي النيفر الدار السلفية، تونس، الطبعة الثانية، 1988م

- المعونة على مذهب علام المدينة مالك بن أنس للقاضي عبد الوهاب البغدادي تحقيق: حميش عبد الحق المكتبة التجارية (مصطفى أحمد الباز) - المغرب في ترتيب المعرب لأبي الفتح نصر بن عبد السيد المطرزي دار الكتاب العربي، بيروت - المغني للإمام موفق الدين أبي محمد ابن قدامة المقدسي دار الفكر، بيروت، 1414هـ - المغني في ضبط أسماء الرجال ومعرفة كنى الرواة وألقابهم وأنسابهم لمحمد طاهر بن علي الهندي دار الكتاب العربي، بيروت، 1402هـ - المغني في الضعفاء للحافظ الذهبي تحقيق: نور الدين عتر مطابع الدوحة الحديثة، قطر - مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج لمحمد الخطيب الشربيني دار الفكر، 1398هـ - المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد مطبعة السعادة، مصر

- المقصد العلي في زوائد أبي يعلى الموصلي للحافظ نور الدين الهيثمي تحقيق: سيد كسروي حسن دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1413هـ - المنار المنيف في الصحيح والضعيف للإمام ابن قيم الجوزية تحقيق: أحمد عبد الشافي دار الكتب العلمية، بيروت، 1408هـ - المنتخب للحافظ عبد بن حميد تحقيق: مصطفى بن العدوي شلباية مطابع البلاغ، القاهرة. مكتبة ابن حجر، مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1408هـ - المنتقى للحاقظ أبي محمد عبد الله بن الجارود مطبوع مع تخريجه غوث المكدود لأبي إسحاق الحويني دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى، 1408هـ - المنتقى شرح موطأ الإمام مالك للقاضي أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي مطبعة السعادة، مصر. دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الرابعة، 1404هـ - منتهى الإرادات في جمع المقنع مع التنقيح وزيادات لتقي الدين محمد بن أحمد الفتوحي الحنبلي المعروف بابن النجار مكتبة دار العروبة، القاهرة

- منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام ابن تيمية تحقيق: د. محمد رشاد سالم دار أحد - المهذب في فقه الإمام الشافعي لأبي إسحاق الشيرازي دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية، 1379هـ - المؤتلف والمختلف في أسماء نقلة الحديث للحافظ عبد الغني بن سعيد الأزدي تصحيح: محمد محيي الدين الجعفري طبعة حجرية بالهند، 1327هـ. مكتبة الدار، المدينة النبوية - موافقة الخبر الخبر في تخريج أحاديث المختصر للحافظ ابن حجر العسقلاني تحقيق: حمدي السلفي، صبحي السامرائي مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الثانية، 1414هـ - الموطأ للإمام مالك بن أنس تصحيح وترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي دار الحديث، القاهرة، الطبعة الثانية، 1413هـ - الموضوعات لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي تحقيق: عبد الرحمن محمد عثمان المكتبة السلفية، المدينة النبوية، الطبعة الأولى، 1386هـ

- موقف الإسلام من الخمر د. صالح بن عبد العزيز آل منصور دار النصر، مصر، الطبعة الثالثة، 1405هـ - ميزان الاعتدال في نقد الرجال للحافظ أبي عبد الله الذهبي تحقيق: علي محمد البجاوي، فتحية البجاوي دار الفكر العربي - ناسخ الحديث ومنسوخه للحافظ أبي حفص ابن شاهين تحقيق: سمير بن أمين الزهيري مكتبة المنار، الأردن، الطبعة الأولى، 1408هـ - نزهة الألباب في الألقاب لابن حجر العسقلاني تحقيق: عبد العزيز بن محمد السديري مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى، 1409هـ - نصب الراية لأحاديث الهداية للإمام الزيلعي دار الحديث، القاهرة - النكت على كتاب ابن الصلاح للحافظ ابن حجر العسقلاني تحقيق: د. ربيع بن هادي عمير من منشورات المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، الطبعة الأولى، 1404هـ

- النهاية في غريب الحديث والأثر للحافظ مجد الدين أبي السعادات ابن الأثير الجزري تحقيق: طاهر أحمد الزاوي، محمود محمد الطناحي المكتبة العلمية، بيروت - نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج لشمس الدين محمد بن أبي العباس الرملي المصري المكتبة الإسلامية - نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار لمحمد بن علي الشوكاني مكتبة مصطفى الحلبي - هدي الساري – مقدمة فتح الباري – [انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري] - الوقوف على الموقوف للحافظ أبي حفص عمر بن بدر الموصلي تحقيق: أم عبد الله بنت محروس العسلي دار العاصمة، الرياض، الطبعة الأولى، 1407هـ

§1/1