الأحاديث المشكلة الواردة في تفسير القرآن الكريم
أحمد القصير
ـ[الأحاديْثُ المُشْكِلَةُ الواردةُ في تفسير القرآنِ الكريم (عَرْضٌ وَدِراسَةٌ)]ـ المؤلف: د. أحمد بن عبد العزيز بن مُقْرِن القُصَيِّر الناشر: دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1430 هـ عدد الأجزاء: 1 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] (وقد أهداه مؤلفه - جزاه الله خيرا - للمكتبة الشاملة)
أصل هذا الكتاب
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أصل هذا الكتاب اطروحة علمية تقدم بها المؤلف لنيل درجة الدكتوراه في التفسير وعلوم القرآن من جامعة أم القرى بمكة المكرمة، في كلية الدعوة وأصول الدين، قسم الكتاب والسنة. وقد نوقشت من قبل اللجنة العلمية المكونة من أصحاب الفضيلة: الدكتور: سليمان الصادق البيرة، الأستاذ المشارك في قسم الكتاب والسنة، في جامعة أم القرى، مشرفاً. والدكتور: نايف بن قبلان العتيبي، الأستاذ في قسم الكتاب والسنة، في جامعة أم القرى، عضواً. والدكتور: عادل بن علي الشدي، الأستاذ المشارك في كلية التربية، في جامعة الملك سعود، عضواً. وأجيزت بتقدير ممتاز، مع مرتبة الشرف الأولى والتوصية بالطبع والتبادل مع الجامعات. وتمت المناقشة مساء يوم الأربعاء الموافق: 20/ 5/1428هـ.
المقدمة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونتوبُ إليه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا، ومن سيئاتِ أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، وصفوتُه من خلقه، بلّغ الرسالةَ، وأدّى الأمانةَ، ونصح الأمّةَ، وجاهدَ في الله حقَّ جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: فإنَّ المولى سبحانه أنزل كتابه (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) [آل عمران: 7]، وَوَكَلَ سبحانه بيان كتابه لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، فجاءت السُّنةُ شارحةً للقرآن ومبيِّنةً له، تُفَسِّرُ مُبهَمه، وتُفَصِّلُ مُجْمَلَه، وتُقَيّد مُطْلَقه، وهي محكمةٌ في ذلك كله، إلا أنه رُبما وقع فيها ما يدخل في حكم المتشابه، فربما رُويَ عنه - صلى الله عليه وسلم - حديثاً يُوهِمُ معارضة آية قرآنية، وربما رُويَ عنه تفسير آيةٍ ما، وفي هذا التفسير ما يُوهِمُ معنىً مشكلاً. ولما كانت نصوص الوحيين فيها محكم ومتشابه فقد نَفِذَ من تلك النصوص المتشابهة أعداءُ الإسلام؛ ليثيروا الشبهاتِ حولَ القرآنِ الكريمِ والسنةِ النبويةِ المطهرة، تارةً بالطعن فيهما، وتارةً بالتشكيك وإثارةِ الشبهِ حولهما، يريدون بذلك تضليلَ الأمة، وصدِّها عن دينها القويم، كما أخبر سبحانه عنهم بقوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ) [آل عمران: 7]. إلا أنَّ الله رَدَّ كيدَهم في نحورهم؛ فهيأ لكتابه وسنةَ نبيه - صلى الله عليه وسلم - رجالاً
أفذاذاً من علماء المسلمين، ينفون عنهما انتحال المبطلين وتحريف الغالين، فكشفوا زيفَ تلك الشبه والأكاذيب، وأزاحوا الستار عن خطرها وكيدها، ثم نظروا بعد ذلك في الصحيحِ من سُنَّةِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيما يقع فيها من وهْمٍ وغَفْلةٍ، من رواةٍ ثقاتٍ عدول، فأبانوا عِللَها، وقَيَّدوا مُهْمَلَها، وأقاموا مُحرّفَها، وعانَوا سقيمها، وصححوا مُصحّفها (¬1)، وبيَّنوا أنَّ نصوص الوحيين حقٌّ وصدقٌ، لا تتعارض ولا تتناقض، وقد ألّفوا في ذلك تصانيف عِدَّة، اتخذها من جاء بعدهم قُدْوَة، فجزاهم الله عنا وعن سعيهم الحميدِ خير الجزاء، وجعلنا وإياهم عند لقائه من السعداء. إلا أنَّ الأحاديثَ المُشْكِلَة - التي تتعلق بالتفسير - لا تزال تحتاجُ إلى مزيدٍ من الدراسةِ والتحقيق؛ إذ إنَّ علماءَنا - رحمهم الله - لم يفردوها بالدراسةِ على حِدة، وإنما كانت مبثوثةً في ثنايا كُتُبِهم؛ وقد يجد من يقفُ على بعضٍ من هذه الأحاديثِ صعوبةً في تحريرها، وجمعِ شتاتِ أقوالِ العلماء فيها، فتبقى الشبهةُ عالقةً في ذهنه دون جواب، ومن هذا المنطلقِ أحببتُ إفراد هذا الموضوعِ بالتصنيف، وعرضَ مسائِله بالدراسة والتحقيق، على منهجِ سلفِنا الصالحِ - رضوانُ الله عليهم - مُدعِّماً ذلك بأقوالهم وآرائِهم. ويمكنُ إجمالُ أهميةِ الموضوعِ، وسببِ اختيارهِ في النقاط الآتية: 1 - أنه قد أُلّفَ في مشكلِ القرآنِ (¬2)، ومشكلِ الحديثِ (¬3)، على حين لم يُفردْ بالتصنيفِ الأحاديثُ التي تردُ في التفسير، وتُعدُّ: مشكلةً في ذاتها، أو يُوهِمُ ظاهرُها التعارضُ مع القرآنِ الكريم (¬4)، أو يُوهِمُ ظاهرُها التعارضُ فيما بينها. ¬
2 - الرَّدُ على مطاعنِ أعداءِ الإسلام، والتصدي لكل ما يُثار حول القرآن الكريم والسنة النبوية. 3 - إبرازُ عظمةِ الوحيين، وخلوِهِما من التناقض. 4 - بيانُ عنايةِ علماءِ الأمةِ بهذا الموضوع.
خطة البحث
خطة البحث يتكونُ البحثُ من مقدمةٍ، وقسمين، وخاتمة. المقدمة: وفيها بيانُ أهميةِ الموضوع، وسببِ اختياره، وخطةِ البحث، والمنهجِ المتبعِ فيه. القسم الأول: دراسةٌ نظريةٌ في الأحاديثِ المُشْكِلَةِ الواردةِ في تفسير القرآن الكريم، وفيه فصول: الفصلُ الأول: تعريفُ المشكل، وبيانُ الفرقِ بينه وبين التعارضِ والمختلف، وفيه مباحث: الأول: تعريفُ المشكل في اللغة والاصطلاح. الثاني: تعريف التعارض في اللغة والاصطلاح. الثالث: تعريف المختلف في اللغة والاصطلاح. الرابع: الفرق بين المشكل والتعارض والمختلف. الفصل الثاني: أسباب التعارض، وشروطه، ومسالك العلماء في دفعه، وفيه مباحث: الأول: أسباب وقوع التعارض بين النصوص الشرعية. الثاني: شروط التعارض بين النصوص الشرعية. الثالث: مسالك العلماء في دفع التعارض بين النصوص الشرعية. الفصل الثالث: المراد بالأحاديث المشكلة الواردة في تفسير القرآن الكريم، وبيان الفرق بينها وبين مشكل القرآن، ومشكل الحديث، وفيه مباحث: الأول: المراد بالأحاديث المشكلة الواردة في تفسير القرآن الكريم. الثاني: الفرق بين الأحاديث المشكلة الواردة في تفسير القرآن الكريم، ومشكل القرآن.
الثالث: الفرق بين الأحاديث المشكلة الواردة في تفسير القرآن الكريم، ومشكل الحديث. الفصل الرابع: عناية العلماء بالأحاديث المشكلة الواردة في تفسير القرآن الكريم، وفيه أربعة مباحث: الأول: أحاديث التفسير المشكلة في كتب «التفسير وعلوم القرآن». الثاني: أحاديث التفسير المشكلة في كتب «مشكل الحديث». الثالث: أحاديث التفسير المشكلة في كتب «الحديث وشروحه». الرابع: أحاديث التفسير المشكلة في كتبٍ أخرى متفرقة. القسم الثاني: دراسة تطبيقية للأحاديث المُشْكِلَة الواردة في تفسير القرآن الكريم، وفيه فصول: الفصل الأول: الأحاديث التي يُوهِمُ ظاهرها التعارض مع القرآن الكريم. الفصل الثاني: الأحاديث التي ترد في تفسير آيةٍ ما، ويُوهِمُ ظاهرها التعارض فيما بينها. الفصل الثالث: الأحاديث التي ترد في تفسير آيةٍ ما، ويُوهِمُ ظاهرها معنىً مشكلاً.
منهج البحث
منهج البحث اصطنعت منهجاً في البحث يقوم على الخطوات الآتية: 1 - جمعُ الأحاديثِ المشكلة - الواردة في تفسير القرآن الكريم - من كتب: الحديث، والتفسير، ومشكل الحديث، وشروح الحديث، وغيرها من مظان مشكل الحديث. 2 - اقتصرتُ على دراسةِ الأحاديث المشكلة الواردة في الكتب التسعة، وهي: صحيحا البخاري ومسلم، وسننُ أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابنُ ماجة، والدارمي، وموطأ مالك، ومسندُ الإمام أحمد. (¬1) 3 - قمتُ بدراسة جميع الأحاديث المشكلة الواردة في تفسير جميع سور القرآن. 4 - جعلتُ البحث في مسائل، وقسَّمتُ المسائل على ثلاثة فصول، ورتبتها في كل فصل حسب ترتيب سور وآيات القرآن الكريم. 5 - في كل مسألة أذكر المباحث الآتية: الأول: ذكرُ الآيةِ، أو الآيات الواردة في المسألة، وإذا كان في المسألة أكثرُ من آية فإني أذكر بعضها وأحيل في الحاشية على المتبقي منها. الثاني: ذكرُ الأحاديث المشكلة الواردة في تفسير الآية أو الآيات، وقد جعلتُ للأحاديث رقماً متسلسلاً في البحث كله، وعددها [76] حديثاً، وجعلتُ لكل حديثٍ رقمين: الأول ويعني التسلسل العام للأحاديث في البحث كله، ¬
والثاني ويعني تسلسل الأحاديث ذات المعنى المختلف؛ فإذا كان الحديث - في المسألة الواحدة - شاهداً للذي قبله، وفي معناه، وليس فيه معنىً زائداً؛ جعلتُ رقمه الثاني خالياً من الترقيم هكذا: ( .. )؛ للدلالة على أنه بمعنى الذي قبله، وإذا كان يحمل معنى زائداً جعلتُ له رقماً خاصاً، وهكذا. وقد بلغ مجموع الأحاديث التي تمت دراستها بجميع الروايات [89] حديثاً، وبلغ مجموع الأحاديث ذات المعنى المختلف [76] حديثاً. الثالث: بيان وجه الإشكال في الأحاديث. الرابع: ذكر مسالك العلماء في توجيه الإشكال، مع بيان أدلتهم إن وجدت. الخامس: بيان القول الراجح في كل مسألة، مع ذكر حجة الترجيح. 6 - اقتصرتُ على دراسة الصحيح، أو المختلف في تصحيحه، من الأحاديث المشكلة في التفسير، دون المتفق على تضعيفه، إلا أنْ يرد في المسألة الواحدة أكثر من حديث فإني أذكرها جميعاً وإن كان بعضها متفقاً على ضعفه، بشرط أنْ لا تخرج عن الكتب التسعة. 7 - ضابط الأحاديث المشكلة في هذا البحث: ما نص عالم أو أكثر على وجود الإشكال أو نفيه (¬1)، مع مراعاة اصطلاح المحدِّثين دون الأصوليين في ضابط المشكل. (¬2) 8 - لم أدخل في هذا البحث أحاديث الصفات، والتي يعدها البعض من المشكل. (¬3) 9 - خرّجتُ الأحاديث الواردة في ثنايا البحث من الكتب المعتمدة في ذلك، فإن كانت في الصحيحين أو في أحدهما اكتفيت بهما لصحتهما، وإذا لم تكن فيهما فإني أخرجها من مظانها في كتب الحديث الأخرى، وأذكر كلام أهل العلم فيها؛ فإن لم أجد اجتهدتُ رأيي في الحكم على الحديث حسب الصناعة الحديثية. ¬
شكر وتقدير
وقد توسعت في تخريج الأحاديث المشكلة - الواردة في كل مسألة - فبينت طرقها ومخارجها وما فيها من علل إن وجدت، وذلك لما في التوسع من فائدة لمعرفة منشأ الإشكال، والذي غالباً ما يكون بسبب وهم أو اضطراب من بعض الرواة، وأما إذا كان الحديث ليس هو في صلب المسألة؛ فإني اختصر في تخريجه وبيان حكمه، إلا أن يكون معلولاً وهو محل استدلال فإني ربما توسعت في تخريجه لبيان علله. 10 - خرّجتُ الآثار من الكتب المعتمدة في ذلك قدر جهدي واستطاعتي. 11 - تركتُ الآثار المروية عن الصحابة والتابعين دون حكم على أسانيدها؛ إلا ما كان له أثر على الخلاف في المسألة، أو كان له حكم الرفع؛ فإني أبين حكمه حسب ما ورد في الفقرة التاسعة. 12 - وثّقتُ القراءات من مصادرها الأصلية. 13 - بيَّنْتُ معاني الكلمات الغريبة التي تحتاج إلى بيان عند أول ورودها، وذلك بالرجوع إلى مصادرها المختصة. 14 - خرّجتُ الأبيات الشعرية من دواوين قائليها إن وجدت، وإلا فمن المعاجم التي تذكر الأبيات، مع عزو البيت لقائله. 15 - ترجمتُ للأعلام غير المشهورين الذين يردون في البحث. 16 - عند إيراد إسنادِ حديثٍ ما فإني لا أترجم لرجال إسناده؛ إلا إذا تطلب الأمر ذلك؛ لفائدة تتعلق بالراوي أو السند. 17 - أشرتُ إلى مواضع الآيات، بذكر أسماء السور وأرقام الآيات. 18 - عرّفتُ بالأماكن المبهمة - التي تُذكر في البحث - عند أول ورودها، وذلك بالرجوع إلى المعاجم المختصة. الخاتمة: وذكرتُ فيها أهم النتائج التي توصلت إليها من خلال البحث. شكر وتقدير وفي ختام هذه المقدمة أرى لزاماً علي أن أُزجي الشكر والثناء لكل من أعانني على إتمام هذا البحث، فبعد شكر الله تعالى الذي له الحمد أولاً وآخراً أتوجه بالشكر الجزيل لوالدي الكريمين، فقد كان فضلهما علي عظيماً، وهما اللذان غرسا في نفسي حب الخير والعلم وأهله، وقد كان لتشجيعهما ووقوفهما معي الأثر البالغ في مواصلة مسيرتي العلمية، فلا أملك في هذا المقام إلا أن أرفع أكف الضراعة إلى الله تعالى بأن يرحمهما كما ربياني
صغيراً، وأن يرزقني برهما والقيام بحقهما على الوجه الذي يُرضيه عني. كما أتقدم بالشكر لفضيلة شيخي وأستاذي سعادة الدكتور سليمان الصادق البيرة، حفظه الله ورعاه، الذي تفضل بقبول الإشراف على هذه الرسالة، وقد أعطاني من وقته - مع كثرة أعماله وأشغاله - الشيء الكثير، وكان لآرائه وتوجيهاته الأثر الكبير في تقويم هذا البحث، وإخراجه بهذه الحلة، فجزاه الله عني خير الجزاء، وأجزل له المثوبة والعطاء. كما أتوجه بالشكر لجامعة أم القرى ممثلة في كلية الدعوة وأصول الدين، قسم الكتاب والسنة، التي منحتني الفرصة لمواصلة تعليمي العالي، والتزود من معين العلم الشرعي، وأخص بالشكر سعادة عميد الكلية الدكتور عبد الله بن محمد الرميان، حفظه الله ورعاه، فقد كان معروفه علي وارفاً، وله وقفات، ستبقى خالدةً لا تُنسى. وبعد: فقد بذلت قصارى جهدي في إخراج هذا البحث على أحسن ما يكون، متحرياً فيه الدقة والأمانة العلمية، فما كان من صواب فمن الله وحده، وله الشكر على ذلك، وما كان من خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله من ذلك. وفي الختام: أسأل الله العلي القدير أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفعني به دنياً وأخرى، وأن يكلل جميع أعمالي بالتوفيق والنجاح، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. 20/ 5/1428 هـ *****
القسم الأول دراسة نظرية في الأحاديث المشكلة الواردة في تفسير القرآن الكريم
القسم الأول دراسة نظرية في الأحاديث المُشْكِلَة الواردة في تفسير القرآن الكريم
الفصل الأول تعريف المشكل، وبيان الفرق بينه وبين التعارض والمختلف
الفصل الأول تعريف المشكل، وبيان الفرق بينه وبين التعارض والمختلف وفيه مباحث:
المبحث الأول: تعريف المشكل في اللغة والاصطلاح
الفصل الأول: تعريف المشكل، وبيان الفرق بينه وبين التعارض والاختلاف. المبحث الأول: تعريف المُشْكِل في اللغة والاصطلاح: المطلب الأول: تعريف المُشْكِل في اللغة: المُشْكِل: اسم فاعل، مِنْ أشْكَلَ يُشْكِلُ إشْكالاً؛ فهو مُشْكِلٌ. واسم الفاعل من غير الثُلاثي يأتي على زِنَةِ مُضارِعه، بإبدال حرف المضارعة ميماً مضمومة، وكسر ما قبل الآخر. (¬1) والمعنى اللغوي للمُشْكِل يدور حول: الاختلاط، والالتباس، والاشتباه، والمماثلة. (¬2) تقول: أشكل عليَّ الأمر، أي: اختلط بغيره. (¬3) ويُقال: حرف مُشْكِلٌ، أي: مُشْتَبِهٌ مُلتبسٌ، وأمورٌ أشكال، أي: ملتبسة، وبينهم أشكلة، أي: لبس. (¬4) والشَّكْلُ: الشَّبَهُ والمِثْلُ، والجمع أشْكَالٌ، وشُكُولٌ، يُقال: هذا أشْكَلُ بكذا، أي: أشْبَه. (¬5) ¬
المطلب الثاني: تعريف المشكل في الاصطلاح
قال ابن فارس (¬1): «الشين والكاف واللام، مُعظمُ بابِهِ المُماثَلة، تقول: هذا شَِكْل هذا، أي: مِثْلُه، ومن ذلك يُقال: أمرٌ مُشْكِل، كما يُقال: أمرٌ مُشْتبِه». اهـ (¬2) المطلب الثاني: تعريف المُشْكِل في الاصطلاح: تباينت آراء العلماء في تعريف المُشْكِل، فتعريفه عند الأصوليين يختلف عن تعريفه عند المُحَدِّثين والمفسرين، وسأذكر أولاً تعريفه عند أهل كلِّ فن، ثم أُبَيّن أوجه الفرق بين هذه التعريفات، ثم بعد هذا سأذكر تعريفاً جامعاً مانعاً يضبط معناه في اصطلاح المحدثين؛ لأن ما يعنينا في هذا البحث هو معناه في اصطلاح المحدثين دون الأصوليين، ثم أُتْبِع ذلك كله بتعريفٍ عامٍ للمشكل، يشمل معناه في اصطلاح الأصوليين، والمحدثين، والمفسرين. أولاً: تعريف المُشْكِل في اصطلاح الأصوليين: أكثر من تناول تعريف المُشْكِل في اصطلاح الأصوليين هم علماء الحنفية، وقد عرَّفه السرخسي (¬3)، بقوله: «هو اسم لما يشتبه المراد منه، بدخوله في أشكاله على وجهٍ لا يُعرف المُراد إلا بدليل يتميز به من بين سائر الأشكال». اهـ (¬4) وقد أوضح السرخسي مراده بهذا التعريف عند بيانه للفرق بين المُشْكِل والمجمل، فقال: «والمُشْكِل قريب من المجمل، ولهذا خفي على بعضهم فقالوا: المُشْكِل والمجمل سواء، ولكن بينهما فرق، فالتمييز بين الإشكال ـ ليوقف على المراد ـ قد يكون بدليل آخر، وقد يكون بالمبالغة في التأمل حتى يظهر به الراجح، فيتبين به المراد، فهو من هذا الوجه قريب من الخفي، ولكنه فوقه، فهناك الحاجة إلى التأمل في الصيغة وفي أشكالها، وحكمه ¬
اعتقاد الحقيقة فيما هو المراد، ثم الإقبال على الطلب والتأمل فيه إلى أنْ يتبين المراد فيعمل به. وأما المجمل فهو ضد المُفَسَّر، مأخوذ من الجملة، وهو لفظ لا يُفهم المراد منه إلا باستفسار من المُجْمِلِ، وبيان من جهته يُعرف به المراد. وبهذا يتبين أنَّ المجمل فوق المُشْكِل؛ فإنَّ المراد في المُشْكِل قائم، والحاجة إلى تمييزه من أشكاله، والمراد في المجمل غير قائم، ولكن فيه توهم معرفة المراد بالبيان والتفسير». اهـ (¬1) وعرَّفه الشاشي (¬2) فقال: «هو ما ازداد خفاءً على الخفي، كأنه بعدما خفي على السامع حقيقة دخل في أشكاله وأمثاله، حتى لا يُنال المراد إلا بالطلب ثم بالتأمل، حتى يتميز عن أمثاله». اهـ (¬3) وعرَّفه أبو زيد الدَّبُوسي (¬4)، فقال: «هو الذي أشكل على السامع طريق الوصول إلى المعنى الذي وضعه له واضع اللغة، أو أراده المستعير». اهـ (¬5) وعرَّفه الجُرْجَاني (¬6)، فقال: «المُشْكِل: هو ما لا يُنال المراد منه إلا بتأملٍ بعد الطلب، وهو الداخل في أشكاله، أي: في أمثاله وأشباهه، مأخوذ من قولهم: أشكل، أي: صار ذا شَكْلٍ، كما يُقال: أحرم، إذا دخل في الحرم، وصار ذا حُرْمَةٍ». اهـ (¬7) وجمع بين هذه التعريفات الأستاذ عبد الوهاب خلاف؛ فقال: «المراد بالمُشْكِل في اصطلاح الأصوليين: اللفظ الذي لا يدل بصيغته على المراد منه، بل لا بُدَّ من قرينة خارجية تُبيّن ما يُراد منه». اهـ (¬8) ويلاحظ من مجموع هذه التعريفات أنَّ معنى المُشْكِل عند الأصوليين: ¬
ثانيا: تعريف المشكل في اصطلاح المحدثين
هو اللفظ الذي استغلق وخفي معناه على السامع، ولم يتبين إلا بعد طلبٍ وتأمل، فقد يظهر معناه من قرينةٍ في النص، أو من دليلٍ آخر منفصلٍ عن النص، أو بتأمل ونظر، وقد لا يظهر. ويقابل المُشْكِل عند الأصوليين: المتشابه، فقد يُعَبِّرُ بعضهم عن المُشْكِل بالمُتَشَابِه، كما إنَّ تعريفهم للمتشابه هو بعينه تعريف المُشْكِل، وقد عرَّفه أبو الوليد الباجي فقال: «المتشابه: هو المُشْكِل الذي يُحتاج في فهم المراد به إلى تفكرٍ وتأمل». اهـ (¬1) وعرَّفه الشاطبي فقال: «ومعنى المتشابه: ما أشكل معناه، ولم يتبين مغزاه». اهـ (¬2) وقد أشار إلى هذا التداخل بين اللفظين شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: «ولهذا كان السلف - رضي الله عنهم - يُسَمُّون ما أشكل على بعض الناس حتى فُهِمَ منه غير المراد: مُتشابهاً». اهـ (¬3) وهذا المصطلح للمُشكل استعمله بعض المفسرين والمحدثين، فقد يُطلقون الإشكال ويريدون به الخفاء وعدم وضوح المعنى، وقد ألَّفَ مكي بن أبي طالب كتاباً في غريب القرآن سمَّاه: «تفسير المُشْكِل من غريب القرآن»، حيث سمَّى الغريبَ مُشْكِلاً. (¬4) وألَّف ابن الجوزي كتاباً سمَّاه: «كشف المُشْكِل من حديث الصحيحين»، ومراده: شرح الألفاظ التي يراها غريبة، أو بحاجة إلى توضيح وبيان. (¬5) ثانياً: تعريف المُشْكِل في اصطلاح المحدثين: لم يتطرق الأوائل ـ ممن ألف في مشكل الحديث ـ لتعريفِ المُشْكِلِ ¬
بمعناه في اصطلاح المحدثين ـ إلا ما ذكره أبو جعفر الطحاوي في كتابه «مشكل الآثار»، حيث أشار في مقدمة كتابه لمعنى المُشْكِل فقال: «وإني نظرت في الآثار المروية عنه صلى الله عليه وسلم، بالأسانيد المقبولة، التي نقلها ذوو التثبت فيها والأمانة عليها، وحسن الأداء لها، فوجدت فيها أشياء مما يسقط معرفتها، والعلم بما فيها عن أكثر الناس، فمال قلبي إلى تأملها، وتبيان ما قدرت عليه من مشكلها، ومن استخراج الأحكام التي فيها، ومن نفي الإحالات عنها». اهـ (¬1) وهذا الذي ذكره الطحاوي يُعد وصفاً لمعنى المشكل، لا تعريفاً له، وقد استفاد منه من جاء بعده من المتأخرين، حيث نقله الدكتور أسامة خياط، واستخلص منه تعريفاً لمشكل الحديث بأنه: «أحاديثُ مرويةٌ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بأسانيد مقبولة، يُوهِمُ ظاهرها معاني مستحيلة، أو مُعارضة لقواعد شرعية ثابتة». (¬2) وأفاد من هذين التعريفين الدكتور فهد بن سعد الجهني، فإنه نقل كلام الطحاوي ثم قال: «فمن الممكن استخلاص تعريفٍ للمشكل من خلال نص الطحاوي هذا بأنه: الحديث المروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسند مقبول، وفي ظاهره تعارض يقتضي معنى مستحيلاً، عقلاً أو شرعاً؛ يحتاج في دفعه إلى نظر وتأمل». (¬3) وقد أشار إلى أنه أفاد من تعريف الدكتور أسامة. (¬4) وذكر الأستاذ عبد الله المنصور في كتابه «مشكل القرآن» تعريفاً مقارباً لما ذُكِرَ، مع إضافة بعض الضوابط التي استخلصها من خلال استقرائه لبعض المؤلفات في مشكل الحديث، وقد خلص إلى أنَّ المراد بمشكل الحديث: ¬
ثالثا: تعريف المشكل عند علماء التفسير وعلوم القرآن
«الآثار المروية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بالأسانيد المقبولة، وجاء ما يُناقضها في الظاهر من آية أو حديث أو غير ذلك، مما هو ظاهر ومعتبر، أو فيها ألفاظ أو معانٍ لا تُعلم عند كثير من الناس». (¬1) ويلاحظ من مجموع هذه التعريفات أنها لم تأتِ بتعريف جامعٍ مانعٍ لمشكل الحديث، وإنما ذكرت بعض أنواعه. كما يُلاحظ أنَّ معنى المُشْكِل عند عامة المحدثين مغاير تماماً لمعناه عند الأصوليين؛ إلا أنَّ بعضهم ربما أطلق الإشكال وأراد به معناه عند الأصوليين. وهذه التعريفات التي ذكرناها سابقاً نستطيع أنْ نستخلص منها تعريفاً جامعاً مانعاً شاملاً لكل أنواع مشكل الحديث، مع إضافة بعض الضوابط التي لم تُذكر في تلك التعريفات. وعليه فإن مشكل الحديث: هو الحديث المروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسند مقبول، ويُوهِمُ ظاهره مُعارضةَ آيةٍ قرآنية، أو حديثٍ آخر مثله، أو يُوهِمُ ظاهره مُعارضةَ مُعْتَبَرٍ مِنْ: إجماعٍ، أو قياسٍ، أو قاعدةٍ شرعيةٍ كليةٍ ثابتة، أو أصلٍ لغوي، أو حقيقةٍ علميةٍ، أو حِسٍ، أو معقولٍ. ثالثاً: تعريف المُشْكِل عند علماء التفسير وعلوم القرآن: معرفة المُشْكِل عند علماء التفسير وعلوم القرآن يتطلب النظر في نوعين من المؤلفات: الأول: الكتب المؤلفة في تفسير القرآن الكريم، والثاني: الكتب المؤلفة في علوم القرآن. ففي الكتب المؤلفة في التفسير نجد أنَّ هناك نوعين من التأليف: الأول: كتبٌ مفردة في مشكل القرآن، وموهم التعارض بين آياته. والثاني: كتبٌ عامة، جل اهتمامها هو التفسير؛ إلا أنَّ مؤلفيها ربما تطرقوا لحلِّ بعض مشكلات القرآن. فمن الأول: كتاب «تأويل مشكل القرآن»، لابن قتيبة، وكتاب «حل ¬
مشكلات القرآن»، لابن فورك، وكتاب «درة التنزيل وغرة التأويل»، للخطيب الإسكافي، وكتاب «دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب»، للشنقيطي. (¬1) ومن أشهر الذين اعتنوا بحل بعض مشكلات القرآن في مؤلفاتهم التفسيرية: القاضي ابن عطية، في كتابه «المحرر الوجيز»، وأبو عبد الله القرطبي في كتابه «الجامع لأحكام القرآن»، والخازن في كتابه «لباب التأويل في معاني التنزيل»، والآلوسي في كتابه «روح المعاني». وفي تلك الكتب لم نجد أحداً منهم تطرق لتعريف المُشْكِل، إلا أنَّ مقتضى صنيعهم يدلُّ على أنَّ مصطلح المُشْكِل عندهم عامٌ يشمل كل إشكال يطرأ على الآية، سواء كان في اللفظ أم في المعنى، أو كان لتوهم تعارض، أو توهم إشكال في اللغة، أو غير ذلك. (¬2) وأما كتب علوم القرآن فقد أفرد بعض مؤلفيها أبواباً خاصة لمشكل القرآن، تناولوا فيها تعريف المُشْكِل، وموهم التناقض بين آي القرآن، ومن أبرز من اعتنى بذلك: الزركشي، في كتابه «البرهان في علوم القرآن»، والسيوطي في كتابه «الإتقان في علوم القرآن»، وابن عقيلة المكي (¬3)، في كتابه «الزيادة والإحسان في علوم القرآن». قال الزركشي في النوع الخامس والثلاثين: «معرفة موهم المُخْتلف»، ثم عرَّف هذا النوع فقال: «وهو ما يُوهِمُ التعارض بين آياته». (¬4) ويلاحظ اقتصار الزركشي على نوع واحد من أنواع مشكل القرآن، وهو ما يُوهِمُ التعارض بين آياته، وقد ذكر نوعاً آخر في فصل مستقل، وهو موهم التعارض بين القرآن والسنة (¬5)، وفي النوع السادس والثلاثين جعل خفاء اللفظ من المُشْكِل وأدخله في نوع المتشابه والذي يَعُدُّه من المُشْكِل. (¬6) ¬
وأما السيوطي في الإتقان فقد أفاد من الزركشي وزاد عليه، حيث قال: «النوع الثامن والأربعون: في معرفة مُشكله، وموهم الاختلاف والتناقض». (¬1) وظاهر صنيعه أنَّ المُشْكِل مغايرٌ لموهم الاختلاف والتناقض، لكن هذا الظاهر غير مراد منه قطعاً، بل مراده أنَّ موهم الاختلاف والتناقض هو المُشْكِل بعينه، يدل على ذلك ما سطَّره في كتابه «معترك الأقران»؛ فإنه قال: «الوجه السابع من وجوه إعجازه: ورود مشكله حتى يُوهِمَ التعارض بين الآيات». (¬2) وأما ابن عقيلة فقد فرَّق بين المُشْكِل وموهم التناقض؛ فالمُشْكِل عنده هو ما خفي معناه من الآيات، وموهم التناقض هو ما جاء من آيات يُعارض بعضها بعضاً. قال ابن عقيلة في تعريف المُشْكِل: «هو ما أشكل معناه على السامع، ولم يصل إلى إدراكه إلا بدليلٍ آخر». (¬3) وقال ـ بعد أنْ أورد كلام السيوطي في الإتقان ـ: «قلت: تقدم تعريف المُشْكِل، وأنه هو الذي أشكل معناه فلم يتبين حتى بُيّن، وليس هذا النوع من ذلك، بل هذا النوع آيات يُعارض بعضها بعضاً، وكلام الله تعالى مُنزَّهٌ عن ذلك». اهـ (¬4) ومن مجموع ما سبق يتبين أنَّ علماء التفسير وعلوم القرآن يطلقون المُشْكِل ويعنون به: الآيات التي يُوهِمُ ظاهرها التعارض فيما بينها، أو الآيات التي يُوهِمُ ظاهرها معارضة حديث نبوي، أو الآيات التي في معناها خفاء وغموض، لا يدرك إلا بدليل آخر. وربما أطلقوا المُشْكِل على الآيات أو القراءات التي خالفت قاعدة لغوية، من نحوٍ أو تصريف أو إعراب. والتعريف الجامع المانع ـ في نظري ـ أنْ يُقال: مشكل القرآن: هو ¬
رابعا: التعريف العام للمشكل
الآيات القرآنية التي يُوهِمُ ظاهرها معارضة نصٍ آخر؛ من آيةٍ قرآنية، أو حديث نبوي ثابت، أو يُوهِمُ ظاهرها معارضة مُعْتَبَرٍ مِنْ: إجماعٍ، أو قياسٍ، أو قاعدةٍ شرعيةٍ كليةٍ ثابتة، أو أصلٍ لغوي، أو حقيقةٍ علميةٍ، أو حِسٍ، أو معقولٍ. رابعاً: التعريف العام للمُشْكِل: مما سبق يمكن استخلاص تعريفٍ عامٍ للمشكل، يشمل معناه في جميع الاصطلاحات، فيقال: هو: كلُّ نصٍ شرعي؛ استغلق وخفي معناه، أو أوهم مُعارضة نصٍ شرعي آخر؛ من آيةٍ قرآنية، أو سنةٍ ثابتة، أو أوهم مُعارضة مُعْتَبَرٍ مِنْ: إجماعٍ، أو قياسٍ، أو قاعدةٍ شرعيةٍ كليةٍ ثابتة، أو أصلٍ لغوي، أو حقيقةٍ علميةٍ، أو حِسٍ، أو معقولٍ. (¬1) ويمكن اختصار هذا التعريف فيكون باللفظ الآتي: هو: كلُّ نصٍ شرعي؛ استغلق وخفي معناه، أو أوهم مُعارضة نصٍ شرعي آخر، أو أوهم معاني مستحيلة؛ شرعاً أو عقلاً، أو شرعاً وعقلاً. وبهذا التعريف نكون قد استوعبنا معناه في جميع الاصطلاحات، فيكون شاملاً لكل ما تقدم من تعريفات للمشكل؛ في اصطلاح الأصوليين، والمحدثين، وعلماء التفسير وعلوم القرآن. **** ¬
المبحث الثاني: تعريف التعارض في اللغة والاصطلاح
المبحث الثاني: تعريف التعارض في اللغة والاصطلاح: المطلب الأول: تعريف التعارض في اللغة: التعارض لغة: مصدر للفعل تَعَارَضَ، يقال: تعارض تعارُضاً، فهو متعارض، وهو يدل على المشاركة بين اثنين فأكثر. وأصله راجع لمادة «عَرَضَ»، وهذه المادة تدور حول المعاني الآتية: الأول: المنع: يُقال: عَرَضَ الشيء يَعْرِضُ واعترض، إذا انتصب ومنع وصار عارضاً؛ كالخشبة المنتصبة في النهر والطريق ونحوها تمنع السالكين سلوكها. والعَرَض: هو ما يعْرِضُ للإنسان من أمر يحبِسُه، من مرضٍ أو لُصوص أو نحو ذلك. الثاني: الظهور: يُقال: عرض عليه الشيء، إذا أظهره وأبداه، ومنه قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ} (? ? ? ? ? ? ? ?) [البقرة: 31]. الثالث: المُعارَضَة: يُقال: عارض الشيء بالشيء مُعارضة، أي قابله، وعارضتُ كتابي بكتابه، أي قابلته، وفي الحديث: «إنَّ جبريل عليه السلام كان يُعارضه القرآن في كل سنة مرة، وإنه عارضه العام مرتين» (¬1)، أي كان يُدارسه جميع ما نزل من القرآن، من المعارضة أي المقابلة. (¬2) الرابع: المساواة والمِثْل: يُقال: عارض فلانٌ فلاناً إذا فعل مثل فعله، ¬
المطلب الثاني: تعريف التعارض في الاصطلاح
وأتى إليه مثل الذي أتى به. (¬1) والمنع هو المقصود في معنى التعارض الذي يقع بين النصوص الشرعية، بمعنى أنَّ أحد الدليلين يمنع مدلول الآخر، ويَعْتَرِضُ له. المطلب الثاني: تعريف التعارض في الاصطلاح: أكثر من تناول تعريف التعارض في الاصطلاح هم الأصوليون، ولم نجد في كتابات المتقدمين ممن ألف في مشكل الحديث تعريفاً للتعارض بعينه، وإنْ كانوا يعبرون عنه في بعض كتاباتهم، فقد ذكر الحاكم في النوع التاسع والعشرين من معرفة علوم الحديث أنَّ من هذا النوع: معرفة سُننٍ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُعارضها مثلها. (¬2) وأفرد الخطيب البغدادي في كتابه «الكفاية» باباً للتعارض قال فيه: «باب القول في تعارض الأخبار، وما يصح التعارض فيه وما لا يصح». (¬3) واستعمل هذا اللفظ جمع من المحدثين، كابن حبان، (¬4)، والطبري (¬5)، والطحاوي (¬6)، وغيرهم. وقد كانوا يستعملون لفظاً مرادفاً للتعارض، وهو مختلف الحديث، وظاهر صنيعهم أنْ لا فرق بين المصطلحين، وقد عرَّفوا المختلف بتعريفات عدة، هي في جملتها راجعة لمعنى التعارض، وستأتي في المبحث الثالث إنْ شاء الله تعالى. ¬
بقي أنْ نُشير إلى تعريفات الأصوليين للتعارض في الاصطلاح، ونُحيل في تعريفه عند المحدثين للمبحث الثالث بعد هذا. وقد عرَّف الأصوليون التَّعارض بصيغٍ عدَّةٍ هي في جملتها راجعة لمعنى واحد، ومن هذه التعريفات: تعريف ابن الهُمام (¬1) من الحنفية بأنه: «اقتضاء كل من دليلين عدم مقتضى الآخر». (¬2) وعرَّفه الزركشي من الشافعية بأنه: «تقابل الدليلين على سبيل الممانعة». (¬3) ونحوه تعريف الإسنوي (¬4) من الشافعية حيث قال: «التعارض بين الشيئين: هو تقابلهما على وجه يمنع كل منهما مُقتضى صاحبه». (¬5) وعرَّفه الفتوحي (¬6) من الحنابلة بأنه: «تقابل دليلين - ولو عامَّين - على سبيل الممانعة». (¬7) ¬
المبحث الثالث: تعريف المختلف في اللغة والاصطلاح
المبحث الثالث: تعريف المختلف في اللغة والاصطلاح: المطلب الأول: تعريف المختلف في اللغة: المُخْتلِف ـ بكسر اللام ـ اسم فاعل للفعل: اختلَفَ، والمصدر: اختلاف، يقال: اختلف اختلافاً، فهو مختلِف. والمُختلَف ـ بفتح اللام ـ اسم مفعول، والاختلاف ضد الاتفاق، يُقال: تَخَالَفَ الأمْرانِ واختلفا؛ إذا لم يَتَّفِقَا، وكَلُّ ما لم يَتَسَاوَ فقد تَخَالَفَ واخْتَلَفَ. وتَخَالَفَ القوم واخْتَلَفُوا؛ إذا ذهب كلّ واحد إلى خِلافِ ما ذهب إليه الآخر. (¬1) المطلب الثاني: تعريف مختلف الحديث في الاصطلاح: لمختلف الحديث تعريفات عدة ذَكَرَهَا من كَتَبَ في مصطلح الحديث، هي في جُملتها راجعة لمعنى واحد، ومن أشهرها تعريف النووي، حيث قال: «هو أنْ يأتي حديثان متضادَّان في المعنى ظاهراً، فيُوفَّقُ بينهما، أو يُرجَّح أحدهما». (¬2) ¬
وعرفه الحافظ ابن حجر بأنه: «الحديث الذي عارضه ظاهراً مثله». (¬1) وعرَّفه بعض المتأخرين بأنه: «تقابل حديثين نبويين على وجه يمنع كل منهما مقتضى الآخر، تقابلاً ظاهراً». (¬2) وهذا التعريف الأخير يصلح تعريفاً للتعارض لا المختلف، لأن التعارض فيه تناقض بخلاف المختلف. وعُرِّف التعارض بأنه: «تناقض ظاهري، واقع بين مدلولي حديثين أو أكثر، وخفي وجه الجمع بينهما». (¬3) وهذا التعريف الأخير هو الأقرب في معنى التعارض، والله تعالى أعلم. ¬
المبحث الرابع: الفرق بين المشكل والتعارض والمختلف
المبحث الرابع: الفرق بين المشكل والتعارض والمختلف: المطلب الأول: الفرق بين مشكل الحديث ومختلف الحديث: مشكل الحديث أعم من مختلف الحديث، فمشكل الحديث يتناول كل إشكال يطرأ على الحديث، على النحو الذي ذكرته في تعريف مشكل الحديث. (¬1) وأما مختلف الحديث فهو خاص بالأحاديث التي يُوهِمُ ظاهرها الاختلاف فيما بينها وحسب. وعليه فإن مختلف الحديث أخص من مشكل الحديث، فكل مختلف مشكل، وليس كل مشكل مختلفاً، إذ بينهما عموم وخصوص مطلق. (¬2) المطلب الثاني: الفرق بين التعارض والمختلف: ظاهر صنيع المتقدمين أنْ لا فرق بين موهم التعارض والمختلف، وقد أسلفت أنَّ بعضهم يُعبر بالتعارض تارة والبعض الآخر يُعبر بالمختلف تارة أخرى. ¬
المطلب الثالث: الفرق بين مشكل الحديث وموهم التعارض
ولم أجد في كتابات المتأخرين تفريقاً بينهما أيضاً، ويظهر لي أنَّ ثمة فرق في المعنى بين المصطلحين؛ إذ المُختلف يقع على أفراد ذُكِرَتْ في نصٍ ما، وجاء في نصٍ آخر ما يُخالف في الوصف بعض تلك الأفراد، كأن يأتي في حديث وصف شيء ما بعدة أوصاف، ويأتي في حديث آخر ما يُخالفه في ذكر بعض هذه الأوصاف، أو يأتي في حديث ذكر عدد معين، ويأتي في حديث آخر اختلاف في العدد، وهكذا. وأما التعارض فإنه تقابل نصين شرعيين، بحيث يمنع مدلول أحدهما مدلول الآخر؛ كأن يأتي نص بإثبات شيء ما، ويأتي في نص آخر نفيٌ له، أو يأتي نص بتحريم أمر ما، ويأتي في نص آخر الأمر به، فالأول تناقض في الخبر، والآخر تناقض في الحكم. (¬1) إلا أنَّ هذا التفريق هو في المعنى وحسب، ولا يلزم منه تخطئة من لم يُفرق بينهما، أو التثريب على من لم يتقيد بهذا التفريق؛ إذ لا مُشاحة في الاصطلاح؛ لأن العبرة في المصطلحات هو ما تعارف عليه أهل كل مصطلح وتناقلوه فيما بينهم، بغض النظر عن الاختلاف في معاني المصطلحات من ناحية اللغة. المطلب الثالث: الفرق بين مشكل الحديث وموهم التعارض: أما في اصطلاح المحدثين فالفرق هو ما تقدم في الفرق بين مختلف الحديث ومشكل الحديث؛ إذ لا فرق عندهم بين المختلف وموهم التعارض، وأما على التفريق الذي ذكرته بين المختلف وموهم التعارض، فيكون موهم التعارض أخص من المشكل، على المعنى الذي ذكرته سابقاً. **** ¬
الفصل الثاني: أسباب التعارض، وشروطه، ومسالك العلماء في دفعه
الفصل الثاني: أسباب التعارض، وشروطه، ومسالك العلماء في دفعه، وفيه مباحث:
المبحث الأول: أسباب وقوع التعارض بين النصوص الشرعية
المبحث الأول: أسباب وقوع التعارض بين النصوص الشرعية: مما يجدر التنبيه له أنَّ التعارض الحقيقي بين النصوص الشرعية لا يكاد يوجد ألبتة؛ لأن الشريعة لا تعارض فيها أبداً، ولذلك لا تجد دليلين أجمع المسلمون على تعارضهما، بحيث وجب عليهم التوقف، لكن لما كان أفراد المجتهدين غير معصومين من الخطأ أمكن التعارض بين الأدلة عندهم (¬1)، وهذا التعارض هو في الظاهر وحسب، وليس له حقيقة أبداً، وهو نسبي يختلف باختلاف نظر المجتهدين وفهمهم، وقد ذكر العلماء عدة أسباب توهِم وقوع التعارض بين النصوص الشرعية، نذكر جملة منها على سبيل الإيجاز: الأول: أنَّ نصوص الشريعة ترد تارة بصيغة العموم، ومرة بصيغة الخصوص، وتارة يرد النص عاماً ويُراد به الخصوص، ومرة خاصاً ويُراد به العموم، فيُظَنُّ أنَّ بينهما تعارضاً واختلافاً، وليس الأمر كذلك؛ إذ اللفظ العام يمكن تخصيصه بالخاص فينتفي التعارض، والعام المراد به الخصوص يمكن معرفة خصوصه بقرينة في النص ذاته، أو بدليل آخر منفصل عنه، وكذا الخاص المراد به العموم. (¬2) السبب الثاني: أنْ يكون لفظ أحد النصين مُطلقاً والآخر مُقيداً؛ فيُظن أنَّ بينهما تعارضاً واختلافاً، لكن عند حمل المطلق على المقيد ينتفي الاختلاف ويزول التعارض. (¬3) السبب الثالث: أنْ يقع وهمٌ وغلطٌ من أحد الرواة، فيروي حديثاً مشكلاً مرفوعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الوهم قد يكون في المتن، فيأتي الراوي بلفظٍ لم يقله ¬
النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يكون في الإسناد؛ فيقع وهم من أحد الرواة فيروي حديثاً مرفوعاً للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو في الحقيقة ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا السبب يكاد يكون الأكثر في وقوع الإشكال في الأحاديث النبوية؛ وفي هذا البحث جملةٌ من الأحاديث المشكلة التي تَبَيَّنَ بعد التحقيق أنَّ الإشكال الوارد فيها إنما كان بسبب وقوع الغلط من الرواة في نقلها. (¬1) السبب الرابع: أنْ يكون الإشكال أو التعارض الوارد في نظر المجتهد صادراً عن عدم فهمه واستيعابه للنص الشرعي، وقد وقع شيء من ذلك لصحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته - صلى الله عليه وسلم -، فعن أُمِّ مُبَشِّرٍ أَنَّهَا سَمِعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ، عِنْدَ حَفْصَةَ: «لَا يَدْخُلُ النَّارَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَحَدٌ، الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَهَا». قَالَتْ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَانْتَهَرَهَا، فَقَالَتْ حَفْصَةُ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71]، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)} [مريم: 72]». (¬2) ولما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ»، استشكل بعض الصحابة وجه كون المقتول في النار؛ فأبان لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - سبب كونه في النار فقال: «إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ». (¬3) السبب الخامس: أنْ يرد النصان على حالين مختلفين، ويفيدان حكمين متضادين، فيُظن أنَّ بينهما تعارضاً، وليس الأمر كذلك؛ لأن اختلاف الحكم إنما هو لاختلاف السبب الذي من أجله ورد النص، ولأن الحكم يختلف باختلاف الحال والزمان، ومن هذا النوع ما ورد أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ادخار لحوم الأضاحي (¬4)، وورد عنه أنه رخص فيه (¬5)، فظاهر هذين الحديثين ¬
التعارض، لكن عند معرفة السبب يزول هذا التعارض، فنهيه - صلى الله عليه وسلم - إنما كان لحاجة الناس آنذاك، نظراً لما تعرَّض له الناس من مجاعة شديدة أوجبت منه - صلى الله عليه وسلم - تعاطف الناس فيما بينهم سداً لهذه المجاعة، ولما زالت هذه العلة أباح الادخار، وقد جاء التصريح بذكر هذه العلة في أحاديث أُخر؛ فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُؤْكَلَ لُحُومُ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ؟ قَالَتْ: مَا فَعَلَهُ إِلَّا فِي عَامٍ جَاعَ النَّاسُ فِيهِ، فَأَرَادَ أَنْ يُطْعِمَ الْغَنِيُّ الْفَقِيرَ». (¬1) (¬2) السبب السادس: احتمال الحقيقة والمجاز في أحد النصين المتعارضين، إذ قد يرد نصان يحملان معنيين إذا حُملا معاً على الحقيقة أوهما التعارض، لكن عند معرفة أنَّ أحدهما أُريد به المجاز والآخر أُريد به الحقيقة فإنَّ التعارض يزول عنهما وينتفي. (¬3) السبب السابع: أنْ يكون أحد النصين ناسخاً للآخر، ويخفى على بعض المجتهدين معرفة الناسخ منهما، فيظن أنَّ بينهما تعارضاً، وليس الأمر كذلك. (¬4) ¬
المبحث الثاني: شروط التعارض بين النصوص الشرعية
المبحث الثاني: شروط التعارض بين النصوص الشرعية: ذكر العلماء عدة شروط يجب توفرها حتى يُحْكَمَ بالتعارض بين النصوص الشرعية، وهذه الشروط هي (¬1): الأول: اتحاد المحل: ومعنى هذا الشرط: أنْ يكون النصان المتعارضان واردين في محل واحد؛ لأنه إذا اختلف المحل جاز أنْ يجتمع النصان، فلا يكون هناك تعارض. ومثال ذلك: نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن استقبال القبلة بغائط أو بول (¬2)، وقد رُويَ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قضى حاجته وهو مستقبل القبلة (¬3)، فهذان النصان وردا على محل واحد، وكل منهما يفيد حكماً يُعارض الآخر، وقد جمع بعض العلماء بينهما بأنَّ النهي محمول على ما إذا كان الاستقبال في العراء؛ فإنه يُكره استقبال القبلة والحالة هذه، وأما إذا كان في البنيان فلا يمتنع؛ لأن ¬
فعله - صلى الله عليه وسلم - كان في البنيان، كما دل عليه الحديث (¬1)، وبهذا يزول التعارض بين الحديثين لاختلاف المحل بينهما، لا كما يُتوهم أنهما وردا على محل واحد. الشرط الثاني: اتحاد الوقت: ومعنى هذا الشرط: أنْ يكون النصان المتعارضان واردين في زمنٍ واحد، فلا يكون أحدهما وارداً في زمن، والآخر في زمن آخر؛ لأنهما إذا وردا في زمنين مختلفين دخلا في باب الناسخ والمنسوخ، إذا كانا من الأحكام، وعليه فلا يكون بينهما تعارض. الشرط الثالث: وجود الاختلاف والتضاد بين النصين: كأن يدل أحدهما على الإثبات والآخر على النفي، أو يدل أحدهما على الحِل والآخر على الحرمة. (¬2) الشرط الرابع: أنْ يكون النصان قطعيين في الثبوت والدلالة: ومعنى كونهما قطعيين في الثبوت: أنْ يُرويا عن طريق التواتر، كالقرآن الكريم، والحديث المتواتر، أو يُرويا عن طريق الآحاد، ولكن بسند متصل صحيح؛ فلا يصح اعتبار التعارض بين حديث صحيح وآخر ضعيف، لأن الآخر غير معتبر؛ لضعفه وعدم ثبوته. ومعنى كونهما قطعيين في الدلالة: أنْ تكون دلالتهما على المعنى صريحة، فلا يُحكم بالتعارض بين دلالة منطوق نص ومفهوم نص آخر؛ لأن دلالة المنطوق قطعية، بخلاف دلالة المفهوم. (¬3) ¬
المبحث الثالث: مسالك العلماء في دفع التعارض بين النصوص الشرعية
المبحث الثالث: مسالك العلماء في دفع التعارض بين النصوص الشرعية: إذا وقع تعارضٌ ظاهري بين نصين شرعيين فإن للعلماء في دفعه ثلاثة مسالك، يجب اتباعها حسب الترتيب الآتي (¬1): أولاً: الجمع: فأول ما يجب على المجتهد أنْ يُحاول الجمع بين النصين المتعارضين بقدر الإمكان، ولا يجوز له إعمال أحد النصين وترك الآخر؛ إلا إذا تعذر الجمع، أو ثبت أنَّ أحدهما ناسخ والآخر منسوخ، أو ثبت أنَّ في أحدهما علة توجب رده وعدم قبوله. قال الشافعي: «لا يُنسب الحديثان إلى الاختلاف ما كان لهما وجهٌ يمضيان معاً». اهـ (¬2) وقال: «وكلما احتمل حديثان أنْ يُستعملا معاً استعملا معاً، ولم يُعَطِّلْ واحدٌ منهما الآخر». اهـ (¬3) وقال الخطابي: «وسبيل الحديثين إذا اختلفا في الظاهر وأمكن التوفيق بينهما وترتيب أحدهما على الآخر أنْ لا يُحملا على المنافاة ولا يُضرب بعضها ببعض، لكن يُستعمل كل واحدٍ منهما في موضعه، وبهذا جرت قضية العلماء». اهـ (¬4) ¬
ثانياً: النسخ: إذا تعذَّر الجمع بين النصيين المتعارضين، أو ثبت أنَّ أحدهما ناسخ للآخر؛ فإنه يُصار حينئذٍ إلى النسخ. قال الشافعي: «فإذا لم يحتمل الحديثان إلا الاختلاف، كما اختلفت القبلة نحو بيت المقدس والبيت الحرام، كان أحدهما ناسخاً والآخر منسوخاً، ولا يستدل على الناسخ والمنسوخ إلا بخبرٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو بقولٍ، أو بوقتٍ، يدل على أنَّ أحدهما بعد الآخر، فيُعلم أنَّ الآخر هو الناسخ، أو بقولِ من سمع الحديث ... ». اهـ (¬1) ثالثاً: الترجيح: إذا تعذر الجمع بين النصين، ولم يَقُم دليل على النسخ؛ فإنه يُصار حينئذ إلى الترجيح، فيُعمل بأحد الدليلين ويترك الآخر. قال الشافعي: «لا يخلو أحد الحديثين أنْ يكون أشبه بمعنى كتاب الله، أو أشبه بمعنى سنن النبي - صلى الله عليه وسلم -، مما سوى الحديثين المختلفين، أو أشبه بالقياس، فأي الأحاديث المختلفة كان هذا فهو أولاهما عندنا أنْ يصار إليه». اهـ (¬2) **** ¬
الفصل الثالث: المراد بالأحاديث المشكلة الواردة في تفسير القرآن الكريم، وبيان الفرق بينها وبين مشكل القرآن، ومشكل الحديث
الفصل الثالث: المراد بالأحاديث المشكلة الواردة في تفسير القرآن الكريم، وبيان الفرق بينها وبين مشكل القرآن، ومشكل الحديث، وفيه مباحث:
المبحث الأول: المراد بالأحاديث المشكلة الواردة في تفسير القرآن الكريم
المبحث الأول: المراد بالأحاديث المشكلة الواردة في تفسير القرآن الكريم (¬1): يُطلق هذا المصطلح ويراد به ثلاثة أنواع من مشكل الحديث: 1 - الأحاديث التي يُوهِمُ ظاهرها مُعارضة آيةٍ قرآنية. 2 - الأحاديث التي ترد في تفسير آيةٍ ما، ويُوهِمُ ظاهرها معارضة حديث آخر وارد في تفسير الآية نفسها. 3 - الأحاديث التي ترد في تفسير آيةٍ ما، ويُوهِمُ ظاهرها معارضة مُعْتَبَرٍ مِنْ: إجماعٍ، أو قياسٍ، أو قاعدةٍ شرعيةٍ كليةٍ ثابتةٍ، أو أصلٍ لغوي، أو حقيقةٍ علمية، أو حِسٍ، أو معقولٍ. ¬
المبحث الثاني: الفرق بين الأحاديث المشكلة الواردة في تفسير القرآن الكريم، ومشكل القرآن
المبحث الثاني: الفرق بين الأحاديث المشكلة الواردة في تفسير القرآن الكريم، ومشكل القرآن: ثمة فرق بين الأحاديث المشكلة في التفسير، ومشكل القرآن، وثمة تداخل بين الاثنين، فمن أوجه التداخل: 1 - أنَّ الأحاديث التي يُوهِمُ ظاهرها التعارض مع القرآن تدخل في مشكل القرآن ومشكل الحديث، فكل آية أوهمت معارضة صحيح السُّنة فهي مشكلة، وكل حديث أوهم معارضة القرآن فهو مشكل، وكلاهما يُوهِمُ معارضة الآخر. 2 - أنَّ الإشكال قد يَرِدُ على الآية والحديث الوارد في تفسيرها معاً، بمعنى أنَّ الآية قد يُوهِمُ ظاهرها معنى مشكلاً، ويأتي حديثٌ يؤكد هذا المعنى المشكل في الآية (¬1)، فيكون هذا المعنى المشكل صادراً من الآية والحديث معاً، وبهذا يكون الإشكال قد تجاذبه طرفان هما: الآية والحديث، ويكون داخلاً في مصطلح مشكل القرآن ومشكل الحديث. ومن أوجه الاختلاف بينهما: 1 - أنَّ الإشكال قد يكون متعلقاً بالحديث الوارد في تفسير الآية دون الآية ذاتها، فيكون داخلاً في مشكل الحديث دون مشكل القرآن. 2 - أن مصطلح «مشكل القرآن» خاص بالقرآن وآياته، وما يطرأ عليهما من إشكال، بخلاف الأحاديث المشكلة في التفسير فإن الإشكال ربما طرأ على الحديث ذاته لإيهامه معنىً مشكلاً على النحو الذي ذكرته في تعريف المشكل. (¬2) ¬
المبحث الثالث: الفرق بين الأحاديث المشكلة الواردة في تفسير القرآن الكريم، ومشكل الحديث
المبحث الثالث: الفرق بين الأحاديث المشكلة الواردة في تفسير القرآن الكريم، ومشكل الحديث: تُعد الأحاديث المشكلة في التفسير نوعاً من أنواع مشكل الحديث؛ ولو رجعنا إلى التعريف العام لمشكل الحديث لوجدناه مشتملاً على عدة أنواع من مشكل الحديث، ومن تلك الأنواع أحاديث التفسير المشكلة، ومن أظهر ما تتميز به الأحاديث المشكلة في التفسير عن سائر أنواع مشكل الحديث: 1 - أنَّ ظاهرها يُوهِمُ معارضة آية قرآنية. 2 - أنها ترد في تفسير آيات القرآن الكريم، ولا تخرج عنها. وخلاصة الفرق بينهما: أن مشكل الحديث عام والأحاديث المشكلة في التفسير جزء منه. ****
الفصل الرابع: عناية العلماء بالأحاديث المشكلة الواردة في تفسير القرآن الكريم
الفصل الرابع: عناية العلماء بالأحاديث المشكلة الواردة في تفسير القرآن الكريم:
سبق وأنْ أشرت في مقدمة هذا البحث أنَّ الأحاديث المشكلة الواردة في تفسير القرآن الكريم لم تُفرد بالتصنيف على حدة، وقد تطرق جمع من العلماء لتحقيقها ودفع الإشكال عنها في كتبٍ متفرقة، وفنون مختلفة، وتميز هذا البحث بجمع هذه الأحاديث، وجمع أقوال العلماء فيها، مع زيادة تحقيق ودراسة، وقد عمِلْتُ على إحصاء تلك الأحاديث في أمهات تلك الكتب، وصنفتها حسب الفنون الآتية: كُتُب التفسير وعلوم القرآن، وكُتُب مشكل الحديث، وكُتُب الحديث وشروحه، وكُتُبٍ أخرى متفرقة، وجعلت هذه الأقسام الأربعة في مباحث، وجعلت في كل مبحث جدولاً يُبين عدد الأحاديث المشكلة الواردة في كل كتاب:
المبحث الأول: أحاديث التفسير المشكلة في كتب «التفسير وعلوم القرآن»
المبحث الأول: أحاديث التفسير المشكلة في كتب «التفسير وعلوم القرآن»: عنوان الكتاب ومؤلفه ... عدد أحاديث التفسير المشكلة في الكتاب روح المعاني، للآلوسي ... 33 تفسير القرطبي ... 26 تفسير الحافظ ابن كثير ... 23 المحرر الوجيز، لابن عطية ... 22 مفاتيح الغيب، للرازي ... 19 فتح القدير، للشوكاني ... 16 أضواء البيان، للشنقيطي ... 16 محاسن التأويل، للقاسمي ... 14 زاد المسير، لابن الجوزي ... 12 تفسير البحر المحيط، لأبي حيان ... 12 التحرير والتنوير، للطاهر ابن عاشور ... 12 الكشاف، للزمخشري ... 10 أحكام القرآن، لابن العربي ... 10 التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي ... 9 النحاس في: الناسخ والمنسوخ في أربعة مواضع، وإعراب القرآن في ثلاثة مواضع، ومعاني القرآن في موضعين ... 9 تفاسير ابن عثيمين ... 7 تفسير أبي السعود ... 7 أحكام القرآن للجصاص ... 7
تفسير الطبري ... 6 تفسير البيضاوي ... 6 تفسير البغوي ... 6 السيوطي في: معترك الأقران في خمسة مواضع، والإتقان في موضع واحد ... 6 الوسيط في تفسير القرآن المجيد، للواحدي ... 5 اللباب في علوم الكتاب، لابن عادل الحنبلي ... 4 لباب التأويل في معاني التنزيل، للخازن ... 4 تفسير الثعالبي ... 4 تيسير الكريم الرحمن، للسعدي ... 3 الكشف والبيان، للثعلبي ... 2 حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي ... 2 تفسير النسفي ... 2 تفسير السمعاني ... 2 البرهان في علوم القرآن، للزركشي ... 2 الانتصار للقرآن، للباقلاني ... 2
المبحث الثاني: أحاديث التفسير المشكلة في كتب «مشكل الحديث»
المبحث الثاني: أحاديث التفسير المشكلة في كتب «مشكل الحديث»: عنوان الكتاب ومؤلفه ... عدد أحاديث التفسير المشكلة في الكتاب مشكل الآثار، للطحاوي ... 15 تأويل مختلف الحديث، لابن قتيبة ... 8 اختلاف الحديث، للشافعي ... 2
المبحث الثالث: أحاديث التفسير المشكلة في كتب «الحديث وشروحه»
المبحث الثالث: أحاديث التفسير المشكلة في كتب «الحديث وشروحه»: عنوان الكتاب ومؤلفه ... عدد أحاديث التفسير المشكلة في الكتاب فتح الباري، لابن حجر ... 36 القاضي عياض في: إكمال المعلم في أربعة وعشرين موضعاً، والشفا في سبعة مواضع ... 31 شرح صحيح مسلم، للنووي ... 29 المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي ... 28 عمدة القاري، للعيني ... 28 ابن القيم في: زاد المعاد في ستة مواضع، وحاشيته على مختصر سنن أبي داود في أربعة مواضع، وفي أخرى متفرقة ثماني عشرة موضعاً ... 28 فيض القدير، للمناوي ... 21 شيخ الإسلام ابن تيمية في: مجموع الفتاوى في أربعة عشر موضعاً، ومنهاج السنة في موضعين، وتفسير آيات أشكلت في موضع واحد، وبغية المرتاد في موضع واحد، والفرقان في موضع واحد، والجواب الصحيح في موضع واحد، وجامع الرسائل في موضع واحد ... 21 ابن حزم في: المحلى في ثمانية مواضع، والإحكام في ثلاثة مواضع، والفصل في تسعة مواضع ... 20 مرقاة المفاتيح، للملا علي القاري ... 16 كشف المشكل من حديث الصحيحين، لابن الجوزي ... 12 السيوطي في عدة كتب ... 12
ابن رجب في: جامع العلوم والحكم في ثلاثة مواضع، والمحجة في موضع واحد، وفتح الباري في خمسة مواضع، وأهوال القبور في موضعين، والتخويف من النار في موضع واحد ... 12 الألباني في عدة كتب ... 11 التمهيد، لابن عبد البر ... 10 تحفة الأحوذي، للمباركفوري ... 10 البيهقي في عدة كتب ... 10 أعلام الحديث، للخطابي ... 9 عون المعبود، للآبادي ... 8 شرح الطيبي على مشكاة المصابيح ... 8 طرح التثريب، للعراقي ... 7 شرح الزرقاني على موطأ مالك ... 7 شرح السنة، للبغوي ... 7 شرح سنن ابن ماجه، للسندي ... 6 معالم السنن، للخطابي ... 6 شرح البخاري، لابن بطال ... 6 المنتقى شرح الموطأ، لأبي الوليد ... 5 الروض الأنف، للسهيلي ... 5 الآداب الشرعية، لابن مفلح ... 5 نيل الأوطار، للشوكاني ... 5 صحيح ابن حبان ... 4 إكمال إكمال المعلم، للأبي ... 4 ابن الوزير اليماني في: العواصم والقواصم في موضعين، وإيثار الحق في موضعين ... 4
المنهاج، للحليمي ... 3 المعلم بفوائد مسلم، للمازري ... 3 سبل السلام، للصنعاني ... 3 شرح النسائي للسندي ... 3 الزواجر عن اقتراف الكبائر، للهيتمي ... 2 التاريخ الكبير، للبخاري ... 2 الأنوار الكاشفة، للمعلمي ... 2 الأم، للشافعي ... 2 تهذيب الآثار، للطحاوي ... 2
المبحث الرابع: أحاديث التفسير المشكلة في كتب أخرى متفرقة
المبحث الرابع: أحاديث التفسير المشكلة في كتبٍ أخرى متفرقة: عنوان الكتاب ومؤلفه ... عدد أحاديث التفسير المشكلة في الكتاب ابن عثيمين في: مجموع الفتاوى في ثلاثة مواضع، والشرح الممتع في ثلاثة مواضع، والقول المفيد في موضعين، وشرح الواسطية في موضع واحد ... 9 التذكرة في أحوال الموتى والآخرة، للقرطبي ... 6 البداية والنهاية، لابن كثير ... 5 شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز الحنفي ... 4 لوامع الأنوار البهية، للسفاريني ... 3 فتاوى ابن باز ... 3 المغني، لابن قدامة ... 2 ****
القسم الثاني دراسة تطبيقية للأحاديث المشكلة الواردة في تفسير القرآن الكريم
القسم الثاني دراسة تطبيقية للأحاديث المشكلة الواردة في تفسير القرآن الكريم
الفصل الأول الأحاديث التي يوهم ظاهرها التعارض مع القرآن الكريم
الفصل الأول الأحاديث التي يوهم ظاهرها التعارض مع القرآن الكريم
المسألة [1]: في حكم المفاضلة بين الأنبياء عليهم السلام
المسألة [1]: في حكم المفاضلة بين الأنبياء عليهم السلام. المبحث الأول: ذكر الآيات الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) [البقرة: 253]. وقال تعالى: (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) [الإسراء: 55]. وقال تعالى: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)) [القلم: 48]. المبحث الثاني: ذكر الأحاديث التي يُوهِمُ ظاهرها التعارض مع الآيات: (1) ـ (1): عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لاَ تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ". (¬1) (2) ـ ( .. ): وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لاَ تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ". (¬2) (3) ـ (2): وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لاَ ¬
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآيات والأحاديث
يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ إِنِّي خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى". (¬1) المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآيات والأحاديث: ظاهر الآيات الكريمة جواز التفضيل بين الأنبياء والرسل عليهم السلام، وأما الأحاديث ففيها النهي عن ذلك، وهذا يُوهِم خلاف الآيات. (¬2) المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآيات والأحاديث (¬3): أجمع العلماء على أنَّ الأنبياء بعضهم أفضل من بعض، وأجمعوا على تفضيل الرسل منهم على الأنبياء؛ لتميزهم بالرسالة التي هي أفضل من النبوة، وأجمعوا على تفضيل أولي العزم منهم على بقيتهم، وعلى تفضيل نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - على الجميع. (¬4) وأما أحاديث النهي عن التفضيل بين الأنبياء فإنَّ للعلماء في دفع التعارض بينها وبين الآيات مسلكين: الأول: مسلك الجمع: وإليه صار الجمهور من العلماء، لكن اختلفوا في الجمع على مذاهب: الأول: أنَّ النهي - في الأحاديث - محمولٌ على ما إذا كان التفضيل ¬
يؤدي إلى توهم النقص في المفضول، أو الغَضِّ منه، أو كان على وجه الإزراء به، وليس المراد النهي عن اعتقاد التفاضل بينهم في الدرجات؛ لأن الله تعالى قد أخبر أنه فاضل بينهم. وهذا مذهب: الخطابي، والبغوي، والحليمي (¬1)، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن أبي العز الحنفي (¬2)، وحافظ حكمي. (¬3) قال المازري - فيما نقله عن بعض شيوخه-: "وقد خرج الحديث على سبب، وهو لطم الأنصاري وجه اليهودي، فقد يكون عليه الصلاة والسلام خاف أنْ يُفهم من هذه الفِعْلَة انتقاصُ حق موسى عليه السلام؛ فنهى عن التفضيل المؤدي إلى نقص الحقوق". اهـ (¬4) وقال البغوي: "وليس معنى النهي عن التخيير أنْ يعتقد التسوية بينهم في درجاتهم؛ فإنَّ الله عز وجل قد أخبرنا أنه فضل بعضهم على بعض، فقال الله سبحانه وتعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) بل معناه ترك التخيير على وجه الإزراء ببعضهم، والإخلال بالواجب من حقوقهم؛ فإنه يكون سبباً لفساد الاعتقاد في بعضهم، وذلك كفر". اهـ (¬5) المذهب الثاني: أنَّ النهي محمول على ما إذا كان التفضيل يؤدي إلى المجادلة والمخاصمة والتشاجر والتنازع. حكى هذا المذهب: النووي، والحافظ ابن كثير، والحافظ ابن حجر. (¬6) ويؤيد هذا المذهب: سبب ورود الحديث؛ فعن أبي هريرة، وأبي ¬
سعيد، رضي الله عنهما، قالا - واللفظ لأبي هريرة -: "بَيْنَمَا يَهُودِيٌّ يَعْرِضُ سِلْعَتَهُ أُعْطِيَ بِهَا شَيْئًا كَرِهَهُ فَقَالَ: لَا وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ. فَسَمِعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَامَ فَلَطَمَ وَجْهَهُ وَقَالَ: تَقُولُ وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ، وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ أَظْهُرِنَا. فَذَهَبَ إِلَيْهِ فَقَالَ: أَبَا الْقَاسِمِ إِنَّ لِي ذِمَّةً وَعَهْدًا فَمَا بَالُ فُلَانٍ لَطَمَ وَجْهِي. فَقَالَ: لِمَ لَطَمْتَ وَجْهَهُ؟ فَذَكَرَهُ. فَغَضِبَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى رُئِيَ فِي وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ: لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَيَصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ بُعِثَ، فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِالْعَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَحُوسِبَ بِصَعْقَتِهِ يَوْمَ الطُّورِ، أَمْ بُعِثَ قَبْلِي، وَلَا أَقُولُ إِنَّ أَحَدًا أَفْضَلُ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى". (¬1) قالوا: فالنهي إنما ورد إثر هذه الخصومة؛ فهو محمولٌ على مثل هذه الحالة. المذهب الثالث: أنَّ النهي محمولٌ على ما إذا كان التفضيل بمجرد الرأي والهوى، لا بمقتضى الدليل. وهذا مذهب: الطحاوي، وابن كثير، والمناوي، والسندي، وابن عثيمين، وهو الظاهر من كلام الشوكاني. (¬2) قال الطحاوي: "وَكَانَ هَذَا عَنَدْنَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - عَلَى التَّفْضِيلِ بَيْنَهُمْ وَعَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَهُمْ بِآرَائِنَا وَبِمَا لَمْ يُوقِفْنَا عَلَيْهِ وَلَمْ يُبَيِّنْهُ لَنَا، فَأَمَّا مَا بَيَّنَهُ لَنَا وَأَعْلَمَنَا فَقَدْ أَطْلَقَهُ لَنَا وَعَادَ مَا نَهَى عَنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ إلَى مَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُبَيِّنْهُ لَنَا، وَلَمْ يُطْلِقْ لَنَا الْقَوْلَ فِيهِ بِمَا قَدْ تَوَلَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَمَنَعَنَا مِنْهُ، وَاَللَّهَ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ". اهـ (¬3) وقال الحافظ ابن كثير: "قوله تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ¬
مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) [البقرة: 253] لا ينافي ما ثبت في الصحيحين أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لاَ تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ"؛ فإنَّ المراد من ذلك هو التفضيل بمجرد التَّشهّي والعصبية، لا بمقتضى الدليل، فإذا دلَّ الدليل على شيء وجب اتباعه". اهـ (¬1) المذهب الرابع: أنَّ نهيه - صلى الله عليه وسلم - إنما هو على سبيل التواضع منه؛ لأنه يعلم أنه أفضل الأنبياء، يدل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنَا سَيِّد وَلَد آدَم وَلَا فَخْرَ". (¬2) وهذا قول: ابن قتيبة، واختاره وجهاً آخر في الجمع: ابن كثير، والسيوطي. (¬3) المذهب الخامس: أنَّ المنع من التفضيل إنما هو من جهة النبوة التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها، وإنما التفضيل في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والألطاف والمعجزات المتباينات، وأما النبوة في نفسها فلا ¬
تتفاضل، وإنما تتفاضل بأمور أُخر زائدة عليها؛ ولذلك منهم رسل وأولو عزم، ومنهم من اتُخِذَ خليلاً، ومنهم من كلم اللهُ، ورفع بعضهم درجات. وهذا مذهب: أبي عبد الله القرطبي (¬1). (¬2) المذهب السادس: أنَّ المراد بالنهي: المنع من تعيين المفضول؛ فلا يُفَضَّل أحدٌ من الرسل على آخر بعينه؛ لأنَّ في ذلك تنقيصٌ للمفضول وغضٌّ منه، وأما تفضيل بعضهم على بعض في الجملة فلا مانع منه. وهذا مذهب: ابن عطية، وابن جزي، وأبي حيان، وابن عاشور. (¬3) المذهب السابع: أنَّ الآيات فيها إخبار من الله تعالى بأنه فضَّل بعض أنبيائه على بعض، وأما السنة ففيها النهي لعباده أنْ يُفَضَّلوا بين أنبيائه، فيكون النّهي خاصاً بآحاد الناس، فليس لأحد أنْ يُفضِّل بين الأنبياء، وأما الله تعالى فله أنْ يُفاضل بين خلقه كما يشاء سبحانه. وهذا المذهب: ذكره ابن كثير (¬4)، ويحتمل وجهاً آخر عند الشوكاني. قال الشوكاني: "وعندي أنه لا تعارُض بين القرآن والسنة؛ فإنَّ القرآن دلَّ على أنَّ الله فضَّل بعض أنبيائه على بعض، وذلك لا يستلزم أنه يجوز لنا أنَّ نُفَضِّل بعضهم على بعض، فإنَّ المزايا التي هي مناط التفضيل معلومة عند الله، لا تخفى عليه مِنَّا خافية، وليست بمعلومة عند البشر، فقد يجهل أتباع نبي من الأنبياء بعض مزاياه وخصوصياته فضلاً عن مزايا غيره، والتفضيل لا يجوز إلا بعد العلم بجميع الأسباب التي يكون بها هذا فاضلاً وهذا مفضولاً، لا قبل العلم ببعضها أو بأكثرها أو بأقلها؛ فإنَّ ذلك تفضيل بالجهل، وإقدام على أمر لا يعلمه الفاعل له، وهو ممنوع منه، فلو فرضنا أنه لم يَرِدْ إلا القرآن في الإخبار لنا بأن الله فضل بعض أنبيائه على بعض لم يكن فيه دليل على أنه يجوز للبشر أنْ يفضلوا بين الأنبياء، فكيف وقد وردت السنة ¬
المبحث الخامس: الترجيح
الصحيحة بالنهي عن ذلك، وإذا عرفتَ هذا علمتَ أنه لا تعارض بين القرآن والسنة بوجه من الوجوه، فالقرآن فيه الإخبار من الله بأنه فضل بعض أنبيائه على بعض، والسنة فيها النهي لعباده أنْ يفضلوا بين أنبيائه". اهـ (¬1) المسلك الثاني: مسلك الترجيح: حيث ذهب بعض العلماء إلى أنَّ النهي الوارد في الأحاديث كان قبل نزول الآيات، وقبل أنْ يعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سيد ولد آدم، فلما نزل القرآن نسخ المنع من التفضيل. وهذا المسلك قال به ابن حزم، والمازري، والسيوطي، (¬2) وذكره عدد من العلماء. (¬3) المبحث الخامس: الترجيح: الذي يَظْهُرُ صَوَابُه ـ والله تعالى أعلم ـ هو مسلك الجمع بين الآيات والأحاديث، وأحسن ما يُجمع به: أنْ يُحمل النهي الوارد في الأحاديث على ما إذا كان التفضيل بمجرد الرأي والهوى؛ فإنَّ ذلك هو المحذور؛ فلا يَحِلُّ لنا تفضيل نبيٍّ على غيره إلا بدليل. كما أنه يتأكد المنع إذا كان التفضيل يؤدي إلى المخاصمة والمشاجرة، كما دلَّ على ذلك حديث أبي هريرة وأبي سعيد المتقدمين (¬4)، فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك حينما وقعت الخصومة. ¬
كما يتأكد أيضاً إذا كان التفضيل يؤدي إلى توهم النقص في المفضول أو الغض منه، أو كان على وجه الإزراء به، فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ إِنِّي خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى". (¬1) قال الحافظ ابن حجر: "وخَصَّ يونس بالذكر لما يُخشى على من سمع قصته أنْ يقع في نفسه تنقيصٌ له، فبالغ في ذكر فضله لسَدِّ هذه الذريعة". اهـ (¬2) وأما إذا كان التفضيل بمقتضى الدليل، ومن غير أنْ يترتب عليه محذور شرعي؛ فإنه لا مانع منه، والله تعالى أعلم. وأما القول: بأنَّ المراد بالأحاديث النهي عن تعيين المفضول؛ فيَرُدُّهُ قوله تعالى: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)) [القلم: 48]، ففي هذه الآية تعيين للمفضول. قال ابن قتيبة: "أراد أنَّ يونس لم يكن له صبر كصبر غيره من الأنبياء، وفي هذه الآية ما دلَّك على أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل منه؛ لأن الله تعالى يقول له: لا تكن مثله". اهـ (¬3) وأما القول: بأنَّ النهي كان قبل أنْ يعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سيد ولد آدم، وقبل نزول الآيات؛ فيحتاج إلى معرفة التاريخ حتى نعلم المتقدم من المتأخر، ومن ثم تصح دعوى النسخ، علماً بأنَّ دعوى النسخ يَرُدُّهُا أنَّ بعض الآيات التي ورد فيها التفضيل مكية، وهي قوله تعالى: (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) [الإسراء: 55] حيث وردت في سورة الإسراء وهي مكية. (¬4) وقوله تعالى: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)) [القلم: 48]، حيث وردت في سورة القلم وهي مكية. (¬5) وحديثا أبي هريرة، وأبي سعيد، الواردان في النهي عن التفضيل، قالهما ¬
النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة؛ بدليل أنَّ سبب القصة هو لطم أحد الأنصار ليهودي كان يعرض سلعته، وفيها أنَّ اليهودي قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا القاسم إنَّ لي ذمة وعهداً، فهذا يدل على أنَّ ورود هذه الأحاديث كان في المدينة؛ لأن اليهود وإعطاء الذمة لهم لم يكن بمكة وإنما كان بالمدينة، وعليه فالأحاديث متأخرة عن نزول الآيات؛ فلا تصح حينئذ دعوى النسخ، والله تعالى أعلم. ****
المسألة [2]: في تأخير الأجل بالبر والصلة
المسألة [2]: في تأخير الأجل بالبر والصلة. المبحث الأول: ذكر الآيات الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا) [آل عمران: 145]. وقال تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)) [الأعراف: 34]. (¬1) المبحث الثاني: ذكر الأحاديث التي يُوهِمُ ظاهرها التعارض مع الآيات: (4) ـ (3): عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ (¬2) لَهُ فِي أَثَرِهِ (¬3) فَلْيَصِلْ رَحِمَه". (¬4) ¬
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآيات والأحاديث
(5) ـ (4): وعن سلمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا الْبِرُّ". (¬1) المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآيات والأحاديث: ظاهرُ الآيات الكريمة أنَّ لكل نفسٍ أجلاً محدوداً، لا يتقدم ولا يتأخر، وأنَّ عُمُرَ كل إنسان له أمد لا يتعداه، وأما الأحاديث ففيها أنَّ البر والصلة يزيدان في الأعمار، وهذا يُوهِمُ خلاف الآيات. (¬2) المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآيات والأحاديث: لم يتجاوز العلماء في هذه المسألة مسلك الجمع بين الآيات والأحاديث، وقد اختلفوا في هذه المسألة وفي الجمع بين الآيات والأحاديث على مذهبين: الأول: مذهب تجويز الزيادة في الأعمار، وحمل الأحاديث الواردة في المسألة على الحقيقة. ¬
وهذا مذهب الجمهور، واختاره جمع من العلماء المحققين، كابن حزم، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والحافظ ابن حجر، والشوكاني، وغيرهم. وقد اختلف أصحاب هذا المذهب في الجواب عن الآيات، والجمع بينها وبين الأحاديث على أقوال: الأول: أنَّ الزيادة الواردة في الأحاديث هي بالنسبة لعلم المَلَك الموكل بالعمر، وأما ما ورد في الآيات فهو بالنسبة لعلم الله تعالى، فيكون معنى الأحاديث: أنَّ التأخير يكون في أثره المكتوب في صحف الملائكة، وأما أثره المعلوم عند الله تعالى؛ فلا تقديم فيه ولا تأخير. وهذا قول: البيهقي (¬1)، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والحافظ ابن حجر، والسفاريني (¬2) (¬3)، وعبد الرحمن السعدي (¬4). وذكره النووي، وابن الجوزي، وأبو العباس القرطبي (¬5)، وأبو عبد الله القرطبي، والمناوي (¬6). (¬7) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والجواب المحقق: أنَّ الله يكتب للعبد أجلاً في صحف الملائكة، فإذا وصل رحمه زاد في ذلك المكتوب، وإنْ عمل ما يوجب النقص نقص من ذلك المكتوب ... ، والله سبحانه عالم بما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون; فهو يعلم ما كتبه له، وما يزيده إياه بعد ذلك، والملائكة لا علم لهم إلا ما علمهم الله، والله يعلم الأشياء قبل كونها وبعد كونها; فلهذا قال العلماء: إنَّ المحو والإثبات في صحف الملائكة، وأما علم الله سبحانه فلا يختلف ولا يبدو له ما لم يكن عالماً به، فلا محو فيه ولا إثبات". اهـ (¬8) ¬
وقال الحافظ ابن حجر: والحق أنَّ الذي سبق في علم الله لا يتغير ولا يتبدل، وأنَّ الذي يجوز عليه التغيير والتبديل ما يبدو للناس من عمل العامل، ولا يبعد أنْ يتعلق ذلك بما في علم الحفظة والموكلين بالآدمي، فيقع فيه المحو والإثبات، كالزيادة في العمر والنقص، وأما ما في علم الله فلا محو فيه ولا إثبات، والعلم عند الله. اهـ (¬1) والمراد بالمكتوب في صحف الملائكة يفسره حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه -، عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "وَكَّلَ اللَّهُ بِالرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ نُطْفَةٌ، أَيْ رَبِّ عَلَقَةٌ، أَيْ رَبِّ مُضْغَةٌ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهَا قَالَ: أَيْ رَبِّ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى، أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ، فَمَا الرِّزْقُ؟ فَمَا الْأَجَلُ؟ فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ". (¬2) وحديث حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ - رضي الله عنه -، أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "يَدْخُلُ الْمَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ ـ بَعْدَ مَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ بِأَرْبَعِينَ أَوْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً ـ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، أَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، فَيُكْتَبَانِ؟ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى، فَيُكْتَبَانِ؟ وَيُكْتَبُ عَمَلُهُ وَأَثَرُهُ وَأَجَلُهُ وَرِزْقُهُ، ثُمَّ تُطْوَى الصُّحُفُ، فَلَا يُزَادُ فِيهَا وَلَا يُنْقَصُ". (¬3) وفي رواية: "فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ يَخْرُجُ الْمَلَكُ بِالصَّحِيفَةِ فِي يَدِهِ، فَلَا يَزِيدُ عَلَى مَا أُمِرَ وَلَا يَنْقُصُ". (¬4) وعلى هذا فإنَّ زيادة العمر ونقصانه إنما هي بالنسبة لعلم الملك الموكل بالآجال، وأما ما سبق في علم الله تعالى وقضاه في الأزل فلا زيادة فيه ولا نقصان، وعليه تحمل الآيات الواردة بأنَّ الأجل لا يتقدم ولا يتأخر. (¬5) ¬
القول الثاني: أنَّ معنى الأحاديث: أنَّ الله تعالى جعل صلة الرحم سبباً لطول العمر، كسائر الأعمال التي أمر الله بها شرعاً، ورتب عليها جزاء قدرياً، فمن عَلِمَ أنه يصل رحمه جعل أجله إلى كذا، ومن عَلِمَ أنه يقطع رحمه جعل أجله ينتهي إلى كذا، والكل قد فُرِغَ منه في الأزل، وجف به القلم. وهذا قول: الطحاوي، والقاضي عياض، وابن حزم، والزمخشري، وابن عطية، والقرافي، وابن أبي العز الحنفي، والمناوي، وشمس الحق آبادي، والشوكاني، والآلوسي، وابن عثيمين. (¬1) وذكره: ابن فورك، وابن الجوزي. (¬2) قال ابن حزم: "وأما قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من سره أنْ يُنسأ في أجله فليصل رحمه" فصحيح موافق للقرآن، ولما توجبه المشاهدة، وإنما معناه: أنَّ الله عز وجل لم يزل يعلم أنَّ زيداً سيصل رحمه، وأنَّ ذلك سببٌ إلى أنْ يبلغ من العمر كذا وكذا، وهكذا كل أجل في الدنيا؛ لأن مَنْ عَلِمَ الله تعالى أنه سيُعمَّر كذا وكذا من الدهر؛ فإنَّ الله تعالى قد عَلِمَ وقدَّر أنه سيتغذى بالطعام والشراب، ويتنفس بالهواء ويسلم من الآفات القاتلة تلك المدة التي لا بد من استيفائها، والمسبب والسبب كل ذلك قد سبق في علم الله عز وجل كما هو لا يُبَدَّل، قال تعالى: (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)) [ق: 29] ولو كان على غير هذا لوجب البداء (¬3) ضرورة، ولكان غير عليم بما ¬
يكون، متشككاً فيه أيكون أم لا يكون؟ أو جاهلاً به جملة، وهذه صفة المخلوقين لا صفة الخالق، وهذا كفر ممن قال به". اهـ (¬1) وقال القرافي: "الحق أنَّ الله تعالى قدَّر له ستين سنة مرتبة على الأسباب العادية، من الغذاء والتنفس في الهواء، ورتب له عشرين سنة أخرى مرتبة على هذه الأسباب وصلة الرحم، وإذا جعلها الله تعالى سبباً أمكن أن يُقال: إنها تزيد في العمر حقيقة، كما نقول الإيمان يُدخل الجنة، والكفر يُدخل النار، بالوضع الشرعي لا بالاقتضاء العقلي، ومتى علم المكلف أنَّ الله تعالى نصب صلة الرحم سبباً لزيادة النساء في العمر بادر إلى ذلك كما يُبادر لاستعمال الغذاء وتناول الدواء والإيمان رغبة في الجنان، ويَفِرُّ من الكفر رهبة من النيران، وبقي الحديث على ظاهره من غير تأويل يُخِلُّ بالحديث". اهـ (¬2) القول الثالث: أنَّ معنى الحديث: أنَّ الله تعالى يكتب أجل عبده عنده مائة سنة، ويجعل بُنْيَتَهُ وتركيبه وهيئته لتعمير ثمانين سنة؛ فإذا وصل رحمه زاد الله تعالى في ذلك التركيب وفي تلك البنية، ووصل ذلك النقص فعاش عشرين أخرى حتى يبلغ المائة، وهي الأجل الذي لا مستأخر عنه ولا متقدم. ذكر هذا القول: ابن قتيبة، وابن فورك، وابن الجوزي. (¬3) القول الرابع: أنَّ معنى الحديث: أنَّ من وصل رحمه زاد الله في عمره في الدنيا من أجله في البرزخ، ومن قطع رحمه نقّص الله من عمره في الدنيا، وزاده في أجل البرزخ. روي هذا القول عن ابن عباس - رضي الله عنه -. ¬
قال أبو عبد الله القرطبي: "قيل لابن عباس لما روى الحديث الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من أحب أن يمد الله في عمره وأجله ويبسط له في رزقه فليتق الله وليصل رحمه" كيف يزاد في العمر والأجل؟ فقال: قال الله عز وجل: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) [الأنعام: 2] فالأجل الأول: أجل العبد من حين ولادته إلى حين موته، والأجل الثاني، يعني المسمى عنده: من حين وفاته إلى يوم يلقاه في البرزخ، لا يعلمه إلا الله؛ فإذا اتقى العبد ربه ووصل رحمه زاده الله في أجل عمره الأول من أجل البرزخ ما شاء، وإذا عصى وقطع رحمه نقصه الله من أجل عمره في الدنيا ما شاء فيزيده في أجل البرزخ، فإذا تحتم الأجل في علمه السابق امتنع الزيادة والنقصان؛ لقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) [الأنعام: 2]. قال القرطبي: فتوافق الخبر والآية، وهذه زيادة في نفس العمر وذات الأجل على ظاهر اللفظ، في اختيار حبر الأمة، والله أعلم". اهـ (¬1) ونقل الحافظ ابن حجر نحو هذا القول عن الحكيم الترمذي (¬2)، حيث قال: "المراد بذلك قلة البقاء في البرزخ". (¬3) أدلة هذا المذهب: لأصحاب هذا المذهب عدة أدلة تؤيد ما ذهبوا إليه من أنَّ الزيادة الواردة في الأحاديث حقيقية وليست معنوية، وأنَّ إثبات الزيادة لا ينافي الآيات التي فيها أنَّ الأجل لا يتقدم ولا يتأخر، ومن هذه الأدلة: الأول: قوله تعالى: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) [الرعد: 39]. ووجه الدلالة: أنَّ المحو والإثبات - المذكورين في الآية - هما بالنسبة لما في علم المَلَك، وأما الذي في أم الكتاب - وهو الذي في علم الله تعالى - فلا محو فيه ألبتة، وهو الذي يقال له القضاء المبرم، ويقال للأول ¬
القضاء المعلق. (¬1) والأحاديث الواردة في أنَّ صلة الرحم تزيد في العمر محمولة على المعنى الأول؛ فإنَّ الله يمحو ما يشاء فيه ويثبت، والآيات التي تفيد أنَّ الأجل لا يتقدم ولا يتأخر محمولة على المعنى الثاني، فلا محو فيه ولا إثبات. قالوا: ومما يؤكد هذا المعنى قوله في الآية التي قبلها: (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ) ثم قال: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ) أي من ذلك الكتاب (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) أي أصله وهو اللوح المحفوظ فلا محو فيه ولا إثبات. (¬2) قال الشوكاني: "المحو والإثبات في الآية عامان يتناولان العمر والرزق، أو السعادة والشقاوة ... ، ولم يأت القائلون بمنع زيادة العمر ونقصانه بما يخصص هذا العموم". اهـ (¬3) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: المحو والإثبات في صحف الملائكة، وأما علم الله سبحانه فلا يختلف ولا يبدو له ما لم يكن عالماً به، فلا محو فيه ولا إثبات. ¬
قال: ونظير هذا ما في الترمذي وغيره، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنَّ آدم لما طلب من الله أن يُريه صورة الأنبياء من ذريته، فأراه إياهم، فرأى فيهم رجلاً له بصيص (¬1) فقال: من هذا يا رب؟ فقال: ابنك داود. قال: فكم عمره؟ قال: أربعون سنة. قال: وكم عمري؟ قال: ألف سنة. قال: فقد وهبت له من عمري ستين سنة. فكتب عليه كتاب وشهدت عليه الملائكة، فلما حضرته الوفاة قال: قد بقي من عمري ستون سنة. قالوا: وهبتها لابنك داود. فأنكر ذلك، فأخرجوا الكتاب. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فنسي آدم فنسيت ذريته، وجحد آدم فجحدت ذريته" (¬2)، وروي: "أنه كمل لآدم عمره ولداود عمره" (¬3). فهذا داود كان عمره المكتوب أربعين سنة ثم جعله ستين (¬4)، وهذا معنى ما روي عن عمر أنه قال: "اللهم إن كنت كتبتني شقياً فامحني واكتبني سعيداً؛ فإنك تمحو ما تشاء وتثبت (¬5). اهـ (¬6) ¬
الدليل الثاني: قوله تعالى: (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ) [فاطر: 11]، فالزيادة والنقصان المشار إليهما في الآية المراد بهما ما يُكتب في صحف الملائكة، ومعنى الآية: أنه لا يطول عمر إنسان ولا يُنقص منه إلا وهو في كتاب، أي صحف الملائكة. (¬1) الدليل الثالث: قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) [الأنعام: 2]، فالمراد بالأجل الأول هو ما في صحف الملائكة، وما عند مَلَك الموت وأعوانه، وأما الأجل الثاني فالمراد به ما ذُكِرَ في قوله تعالى: (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) وقوله: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف: 34]. (¬2) الدليل الرابع: ما رُوي عن عدد من الصحابة أنهم كانوا يقولون في أدعيتهم: اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة؛ فأثبتني فيهم، وإن كنت كتبتني في أهل الشقاوة فامحني وأثبتني في أهل السعادة. رُوي ذلك عن عمر بن الخطاب (¬3)، وابن مسعود (¬4) - رضي الله عنهم -، فدل على أنَّ مذهب الصحابة جواز المحو والإثبات في الشقاء والسعادة، فكذلك زيادة العمر ونقصانه. (¬5) الإيرادات والاعتراضات على هذا المذهب وأدلته: ذكر أصحاب المذهب الثاني - القائلون بمنع الزيادة - بعض الإيرادات والاعتراضات على هذا المذهب وأدلته، منها: الأول: إذا كان المحتوم واقعاً فما الذي يفيده زيادة المكتوب ونقصانه؟ وأجيب: بأن الأصل أن تُجرى المعاملات على الظاهر، وأما الخفي الباطن الذي لا يعلمه إلا الله فلا يعلق عليه حكم، فيجوز أن يكون المكتوب ¬
يزيد وينقص، ويُمحى ويُثبت ليبَّلغَ ذلك على لسان الشرع إلى الآدمي، فبذلك يُعلم فضيلة البر وسوء العقوق، ويجوز أن يكون هذا مما يتعلق بالملائكة؛ فتؤمر بالإثبات والمحو، والعلم المحتوم لا يطلعون عليه، ومن هذا الباب إرسال الرسل إلى من علم الله أنهم لا يؤمنون. (¬1) الاعتراض الثاني: أنَّ قوله تعالى: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) [الرعد: 39] معناه: يمحو ما يشاء من الشرائع، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، والسياق أدل على هذا الوجه، وهو قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) [الرعد: 38] فأخبر تعالى أنَّ الرسول لا يأتي بالآيات من قبل نفسه، بل من عند الله تعالى، ثم قال: (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)) [الرعد: 38، 39] أي أنَّ الشرائع لها أجل وغاية تنتهي إليها ثم تُنسخ بالشريعة الأخرى، فينسخ الله ما يشاء من الشرائع عند انقضاء الأجل، ويثبت ما يشاء. (¬2) وأجيب: بأن هذا تخصيص لعموم الآية من غير مخصص، وأيضاً فإن الشرائع والفرائض هي مثل العمر؛ فإذا جاز فيها المحو والإثبات جاز في العمر المحو والإثبات. (¬3) الاعتراض الثالث: أنَّ قوله تعالى: (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ) [فاطر: 11]، الضمير في قوله: (مِنْ عُمُرِهِ) هو بمنزلة قولهم عندي درهم ونصفه، أي ونصف درهم آخر، فيكون معنى الآية: وما يعمر من معمر، ولا ينقص من عمر آخر إلا في كتاب. (¬4) وأجيب: بأن الأصل اتساق الضمائر، وعودها لمذكور واحد، فالضمير ¬
في قوله: (مِنْ عُمُرِهِ) عائد على قوله: (مِنْ مُعَمَّرٍ)، وهذا ظاهر النظم الكريم، وأما التأويل الذي ذكرتم ففيه إرجاع الضمير لشيء ليس له ذكر في الآية، وهذا خلاف الأصل، وخلاف الظاهر. (¬1) الاعتراض الرابع: أنَّ قوله تعالى: (ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) [الأنعام: 2]، المراد بالأجل الأول أجل الحياة إلى الموت، والأجل الثاني أجل الموت إلى البعث، وقيل: الأجل الأول: أجل الدنيا، والثاني: الآخرة. (¬2) وأجيب: بأن الآية محتملة لهذه الأقوال، وغيرها، والآية إذا كانت محتملة لعدة معانٍ لا تضاد بينها؛ فإنها تُحمل على الجميع، ولا يصح تخصيصها بمعنى دون غيره. (¬3) المذهب الثاني: منع الزيادة في الأعمار. وهذا مذهب عدد من العلماء، ونسبه بعضهم للجمهور. (¬4) ¬
وأجاب أصحاب هذا المذهب عن الأحاديث بأنها محمولة على المجاز، لا الحقيقة، إلا أنهم اختلفوا في معنى "الزيادة" الواردة فيها على أقوال: الأول: أنَّ الزيادة كناية عن البركة في العمر؛ بسبب توفيق صاحبه إلى الطاعة، وعمارة وقته بما ينفعه في الآخرة، وصيانته عن تضييعه في غير ذلك، فينال في قصير العمر ما يناله غيره في طويله. (¬1) وهذا قول: أبي حاتم السجستاني (¬2) (¬3)، وابن حبان (¬4)، وابن التين (¬5). واختاره: النووي (¬6)، والطيبي (¬7) (¬8). القول الثاني: أنَّ الزيادة كناية عما يبقى بعد موته من الثناء الجميل، والذكر الحسن، والأجر المتكرر، حتى كأنه لم يمت. حكى هذا القول القاضي عياض (¬9)، وهو مذهب أبي العباس القرطبي. (¬10) القول الثالث: أنَّ معنى الزيادة في العمر: نفي الآفات عمن وصل رحمه، والزيادة في فهمه وعقله وبصيرته. ¬
وهذا قول ابن فورك. (¬1) القول الرابع: أنَّ المراد بالزيادة التوسعة في الرزق، والصحة في البدن، إذ إنَّ الغنى يُسمى حياةً، والفقر يُسمى موتاً. ذكره ابن قتيبة. (¬2) القول الخامس: أنَّ المراد بالزيادة ما يكون للواصل من ذرية صالحة يدعون له بعد موته. ذكره الحافظ ابن حجر (¬3)، وهو اختيار: الشيخ حافظ حكمي (¬4). وقد ورد في هذا المعنى حديث مرفوع، لكنه لا يصح، فعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: ذكرنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزيادة في العمر فقال: "إن الله لا يؤخر نفساً إذا جاء أجلها، وإنما الزيادة في العمر أنْ يَرزقَ اللهُ العبدَ ذريةً صالحةً يدعون له؛ فيلحقه دعاؤهم في قبره". (¬5) القول السادس: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قصد بالحديث الحث على صلة الرحم بطريق المبالغة، ومعناه لو كان شيء يبسط الرزق والأجل لكان صلة الرحم. ¬
ذكره المناوي. (¬1) أدلة هذا المذهب: استدل القائلون بمنع الزيادة في الأعمار بأدلة منها: الأول: ما ورد في الكتاب والسنة من أنَّ الآجال مقدرة، وأنها لا تزيد ولا تنقص. أما الكتاب؛ فقوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا (34)) [آل عمران: 145]، وقوله تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف: 34]، وقوله تعالى: (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)) [المنافقون: 11]، وقوله تعالى: (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [نوح: 4]. قالوا: ففي هذه الآيات التصريح بأن الآجال مقدرة، وأنها لا تزيد ولا تنقص. وأما السنة؛ فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ: اللَّهُمَّ مَتِّعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ، وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّكِ سَأَلْتِ اللَّهَ لِآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ، وَآثَارٍ مَوْطُوءَةٍ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لَا يُعَجِّلُ شَيْئًا مِنْهَا قَبْلَ حِلِّهِ، وَلَا يُؤَخِّرُ مِنْهَا شَيْئًا بَعْدَ حِلِّهِ، وَلَوْ سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ وَعَذَابٍ فِي الْقَبْرِ لَكَانَ خَيْرًا لَكِ". (¬2) وعنه قال: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: "إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ". (¬3) قالوا: فهذه أخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد جاءت مجيء الكتاب بأن لكل ¬
نفس أجلاً، لا يتقدم ولا يتأخر. (¬1) الدليل الثاني: أنَّ الله تعالى أخبر أنه قسم الأرزاق بين عباده فقال: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ) [الزخرف: 32]، وقال في الأجل: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)) [الأعراف: 34]، ولم يُخبر أنَّ غيرَ الأجلِ والرزقِ بمنزلة الرزق والأجل، وقد أخبر أنه يزيد من يشاء في فضله، ولم يُخبر أنه يزيد من يشاء في رزقه، ويؤخر من يشاء في عمره. (¬2) الدليل الثالث: أنَّ معنى الأثر في اللغة هو ما يتبع الشيء؛ فإذا أُخرَ حَسُنَ أن يُحملَ على الذكر الحسن، ومن هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَه"؛ فإنه محمول على الذكر الحسن، ومنه قول الخليل عليه السلام: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)) [الشعراء: 84]، وقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) [يس: 12]. وقال أبو تمام (¬3): توفيت الآمال بعد محمد ... وأصبح في شغل عن السفر السفر (¬4) الدليل الرابع: قالوا: ومما يدل على أنَّ المراد بالزيادة الذكر الجميل: أنَّ أكثر الأحاديث التي فيها الزيادة وردت في الصدقة وصلة الرحم، وهما مما يترتب عليهما ثناء الناس، في الحياة وبعد الممات. (¬5) الإيرادات والاعتراضات على هذا المذهب وأدلته: وقد أجاب أصحاب المذهب الأول - القائلون بجواز الزيادة - على هذه الأدلة وعارضوا بعض التأويلات التي ذكروها فقالوا: ¬
1 - إنَّ ما ذكر من أنَّ المراد بالزيادة البركة في العمر، يُجاب عنه: بأن البركة أيضاً من جملة المقدرات، فإذا كان القدر مانعاً من الزيادة فليمنع من البركة في العمر والرزق كما منع من الزيادة فيهما، بل هذا القول يلزم منه مفسدتان: الأولى: إيهام أنَّ البركة خرجت عن القدر، وهذا رديء جداً. الثانية: أنه يقلل من الرغبة في صلة الرحم؛ فإذا قلنا لزيد: إنْ وصلت رحمك زادك الله تعالى في عمرك عشرين سنة، فإنه يجد من الوقع لذلك ما لا يجده عند قولنا: إنه لا يزيدك الله تعالى بذلك يوماً واحداً؛ بل يبارك لك في عمرك فقط، فيختل المعنى الذي قصده رسول - صلى الله عليه وسلم - من المبالغة في الحث على صلة الرحم، والترغيب فيها. (¬1) 2 - وأما الآيات التي فيها أنَّ الأجل إذا جاء لا يتقدم ولا يتأخر؛ فإنها مختصة بالأجل إذا حضر، فإنه لا يتقدم ولا يتأخر عند حضوره. يؤيد هذا: أنَّ أغلب الآيات جاءت مقيدة بالمجيء، قال تعالى: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ) وقال: (إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا)، فإذا حضر الأجل فإنه لا يتقدم ولا يتأخر، وأما قبل ذلك فيجوز أن يؤخره الله بالدعاء وصلة الرحم، ونحو ذلك. (¬2) وقد روى الزهري عن سعيد بن المسيب قال: لما طُعِنَ عمرُ بن الخطاب قال كعب: لو أنَّ عمر دعا الله لأُخِّرَ في أجله، فقال الناس: سبحان الله. أليس قد قال الله: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) فقال كعب: أو ليس قد قال الله: (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ) [فاطر: 11] قال الزهري: فنرى أنَّ ذلك يؤخر ما لم يحضر الأجل، فإذا حضر لم يؤخر، وليس أحد إلا وله أجل مكتوب. (¬3) ¬
المبحث الخامس: الترجيح
المبحث الخامس: الترجيح: عند النظر في مذاهب العلماء في المسألة يظهر أنَّ الجميع متفق على أنَّ الأعمار والآجال التي قدرها الله وقضاها في الأزل لا مجال للزيادة فيها والنقصان، وهذا ما دلت عليه نصوص الكتاب، وإنما تباينت أقوالهم في توجيه الأحاديث التي يُوهِمُ ظاهرها خلاف ذلك، وقد ذكرتُ أنَّ منهم من حمل هذه الأحاديث على الحقيقة، وهم الجمهور، ومنهم من حملها على المجاز، والحق وجوب حملها على الحقيقة، والمختار من التأويلات التي ذكرها الجمهور: 1 - أنَّ الزيادة هي باعتبار ما في صحف الملائكة، وأما ما في علم الله تعالى فلا تقديم فيه ولا تأخير. 2 - وأنَّ الزيادة إنما هي باعتبار فعل العبد وكسبه، ففعله من جُملة الأسباب التي أمر الله بها شرعاً، ورتب عليها جزاء قدرياً، وقد علم سبحانه من يصل رحمه ممن يقطعها، ورتب على ذلك أجلاً لا يتقدم ولا يتأخر. وهذان القولان هما اللذان تجتمع بهما النصوص، ويندفع بهما التعارض، إن شاء الله تعالى. يدل على هذا الاختيار: 1 - أنَّ الأصل حمل نصوص الوحيين على الحقيقة، ولا يجوز العدول عن الحقيقة إلى المجاز إلا بدليل. (¬1) 2 - أنَّ الله تعالى أرسل الرسل، وشرع الشرائع، ورتب على ذلك جزاء، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، وقد علم سبحانه وقدر في الأزل ما الخلق صائرون إليه؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ ¬
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ" (¬1). ومن جملة ذلك صلة الرحم فهي من أمره وشرعه سبحانه، وقد رتب عليها جزاءً، وهو مما علمه سبحانه وقدره في الأزل. 3 - ما ورد في الكتاب والسنة من الأمر بالدعاء، كقوله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)) [غافر: 60]، وقوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)) [البقرة: 186]. ومن السنة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ" (¬2)، وتعوذه - صلى الله عليه وسلم - من سوء القضاء، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْ سُوءِ الْقَضَاءِ، وَمِنْ دَرَكِ الشَّقَاءِ، وَمِنْ شَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ، وَمِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ" (¬3)، فلو كان الدعاء لا يفيد شيئاً؛ لكان أمره تعالى بالدعاء لغواً لا فائدة فيه، وكذا تكون استعاذة النبي - صلى الله عليه وسلم - لغواً لا فائدة فيها. (¬4) 4 - قوله تعالى - حكاية عن نوح عليه السلام -: (قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)) [نوح: 2 - 4] حيث دعا نوحٌ قومَه إلى عبادة الله وطاعته، ووعدهم من الله تعالى بمغفرة الذنوب، وتأخير الأجل إنْ هم أطاعوه، وفي عطف الوعد بتأخير الأجل على الوعد بمغفرة الذنوب دليلٌ على أنَّ التأخير يُعدُّ حقيقة كمغفرة الذنوب؛ إذ لو كان العمر لا يزيد حقيقة بفعل الطاعة لما عطفه على مغفرة الذنوب؛ لأن المغفرة حقيقية، ¬
فكذلك فليكن التأخير في الأجل. ثم قال نوح: (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) حيث نبَّه على أنَّ ما علمه الله تعالى وكتبه في الأزل فإنه لا يتغير ولا يتبدل، وما كان لنوح عليه السلام أنْ يعد قومه بتأخير آجالهم إنْ هم أطاعوهم، ثم يناقض نفسه بأن أجل الله إذا جاء لا يؤخر. 5 - أنَّ زيادة العمر ونقصانه هي مثل ما سبق من السعادة والشقاوة، مع تكليف العمل والطاعة، والنهي عن المعصية، وقد سبق في أم الكتاب ما سبق من سعادة وشقاوة؛ ولذلك لما قال الصحابة - رضي الله عنهم -: فلم العمل؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له". (¬1) (¬2) ¬
المسألة [3]: في حد الإماء إذا أتين بفاحشة
المسألة [3]: في حَدِّ الإماء إذا أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ. المبحث الأول: ذكر الآية الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النساء: 25]. المبحث الثاني: ذكر الحديث الذي يُوهِمُ ظاهره التعارض مع الآية: (6) ـ (5): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنْ الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصِنْ فقَالَ: "إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَبِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ (¬1) ". (¬2) ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآية والحديث
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآية والحديث: ظاهر الآية الكريمة أنْ لا حدَّ على الأَمَة إذا زَنَت ولم تُحصن؛ وهذا الظاهر دلَّ عليه مفهومُ الشَّرْط (¬1) في قوله: (فَإِذَا أُحْصِنَّ)؛ فإنَّ مفهومه أنْ لا ¬
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية والحديث
حد عليها إذا كانت غير محصنة، وأمَّا منطوق الحديث فَيُوهِمُ مُعَارَضَة هذا المفهوم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عن الأمة إذا زنت ولم تُحصِن؛ فأجاب: بأنَّ عليها الحد. (¬1) المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية والحديث: أجمع العلماء على إعْمَالِ منطوق الآية؛ فإذا زَنَت الأَمَة المسلمة بعد زواجها فعليها نِصْفُ ما على الحرَّةِ المسلمة البِكْرِ من العذاب، وهو خمسون جلدة. حكى الإجماع: ابن حزم، وابن عبد البر، وابن رشد الحفيد (¬2). (¬3) ولم يأتِ في ذلك خلاف إلا ما نُقِلَ عن أبي ثور (¬4) من إيجاب الرجم على الأَمَة إذا كانت محصنة; لعموم الأخبار فيه، ولأنَّه حَدٌّ لا يَتَبَعَّض، فوجب تكميله، كالقطع في السرقة. (¬5) ¬
وقد أنكر العلماء عليه رأيه هذا، لمخالفته الإجماع. (¬1) إلا أنَّ ابن المنذر نَقَلَ عنه أنه قال: "إنْ كان إجماع فالإجماع أولى". اهـ (¬2) وقد ثَبَتَ الإجماع، فصار أبو ثور موافقاً له. واختلف العلماء في دفع التعارض بين مفهوم الآية، ومنطوق الحديث على مذاهب: الأول: مذهب إعمال منطوق الآية والحديث، وإلغاء مفهومهما: فإذا زَنَت الأَمَة المسلمة فعليها نصف ما على الحرَّة المسلمة البكر من العذاب، وهو خمسون جلدة، ويستوي في ذلك المُزَوّجة وغير المُزَوّجة. وهذا مذهب الجمهور من العلماء، على اختلاف بينهم في التغريب هل يجري على الأَمَةِ أم لا. (¬3) وأجاب أصحاب هذا المذهب عن مفهوم الآية: بأنَّ قيد الإحصان في الآية إنما سِيقَ لرفع إيهام أنَّ على المحصنة الرجم، وعليه فلا دلالة لمفهوم الآية. وممن قال بهذا الجواب: الطحاوي، والبيهقي، وأبو بكر الجصاص، والبغوي، والقاضي أبو يعلى (¬4)، وابن قدامة، والنووي، وأبو حيان، وابن القيم، والآلوسي، والشنقيطي. (¬5) ¬
قال أبو بكر الجصاص: "فإنْ قيل: فما فائدة شرط الله الإحصان في قوله: (فَإِذَا أُحْصِنَّ) وهي محدودة في حال الإحصان وعدمه؟ قيل له: لما كانت الحرَّة لا يجب عليها الرجم إلا أنْ تكون مسلمة متزوجة أخبر الله تعالى أنهن وإنْ أُحْصِنَّ بالإسلام وبالتزويج فليس عليهنَّ أكثر من نصف حدِّ الحرَّة، ولولا ذلك لكان يجوز أنْ يتوهم افتراق حالها في حكم وجود الإحصان وعدمه، فإذا كانت محصنة يكون عليها الرجم، وإذا كانت غير محصنة فنصف الحَدّ، فأزال الله تعالى تَوَهُّمَ من يَظنُّ ذلك، وأخبر أنَّه ليس عليها إلا نصف الحَدّ في جميع الأحوال، فهذه فائدة شرط الإحصان عند ذكر حدِّها". اهـ (¬1) وقال الشنقيطي: "والحكمة في التعبير بخصوص المحصنة دفع تَوَهُّم أنها تُرجم كالحرة ... ، والظاهر أنَّ السَّائل ما سَأَلَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إلا لأنَّه أشكل عليه مفهوم هذه الآية، فالحديث نصٌ في محل النزاع، ولو كان جلدُ غيرِ المحصنة أكثر أو أقل من جلد المحصنة لَبَيَّنَه صلى الله عليه وسلم". اهـ (¬2) إلا أنَّ الحافظ ابن كثير لم يرتضِ هذا الجواب؛ حيث يرى أنَّ تنصيف الحَدّ إنما استفدناه من الآية لا من سِواها، فكيف يُفهم منها التنصيف فيما عداها. (¬3) واختلف أصحاب هذا المذهب في الجواب عن مفهوم الحديث على أقوال: الأول: أنَّ نفيَ الإحصان في الحديث إنما هو من قول السَّائل، ولم يُصَرِّح النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بأخذه قيداً في الجلد، فيحْتَمل أنْ يكون النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أعرض عنه وأفتى بالجلد مطلقاً. وهذا رأي أبي العباس القرطبي. (¬4) وأيَّدَ رأيَه هذا بأنَّ بَقيَّة الأحاديث - الواردة في جلد الأَمَة إذا زَنَت - ¬
ليس فيها ذِكْرٌ لذلك القيد من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) واعتذر عن تخصيص الإحصان في الآية بالذِّكر بأنَّه أغلب حال الإماء، أو الأهم في مقاصد الناس. (¬2) القول الثاني: أنَّ قوله في الحديث: "وَلَمْ تُحْصِنْ" ليس بقيد، وإنما هو حِكَايَة حالٍ في السؤال، ولذا أجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا"، غير مُقَيَّدٍ بالإحصان، للتنبيه على أنْ لا أثر له، وأنَّ مُوجِبَه في الأَمَة مُطلق الزنى. ذكر هذا الجواب الخطابي (¬3)، وأشار إليه الزَّرقاني في شرحه للحديث. (¬4) الثاني: مذهب إعمال مفهوم الآية، وإلغاء منطوق الحديث: ويرى أصحاب هذا المذهب أنْ لا حَدَّ على الأَمَة إذا زَنَت وهي غير محصنة. رُوي هذا المذهب عن: ابن عباس (¬5)، وأبي الدرداء (¬6)، وسعيد بن جبير (¬7)، ومجاهد (¬8)، وطاووس (¬9)، وأبي عبيد القاسم بن سلام (¬10). ويدل على مذهبهم هذا: حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬
"لَيْسَ عَلَى أَمَةٍ حَدٌّ حتَّى تُحْصَنَ بِزَوْجٍ؛ فَإِذَا أُحْصِنَتْ بِزَوْجٍ فَعَلَيْهَا نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَنَاتِ". (¬1) ولم يُجِبْ هؤلاء عن منطوق الحديث؛ إلا ما نُقِلَ عن الطَّحاوي (¬2) من أنَّ قوله في الحديث: "وَلَمْ تُحْصِنْ" زيادةٌ لا تثبت، وأنَّها مما تفرد به الإمام مالك، أحدُ رواة الحديث. (¬3) ولم أقف على قول الطحاوي هذا في كتابه "مشكل الآثار"، وكذا "شرح معاني الآثار"، والذي وقفتُ عليه من رأيِهِ موافقة الجمهور في وجوب الحدِّ ¬
على الأَمَة إنْ كانت غير محصنة؛ أخذاً بمنطوق الحديث. (¬1) الثالث: مذهب إعمال مفهوم الآية ومنطوق الحديث معاً: واختلف أصحاب هذا المذهب في معنى هاتين الدلالتين للآية والحديث، وفي الحكم المترتب عليهما على أقوال: الأول: أنَّ مفهوم الآية المراد به نفي الحَدّ، فإذا زَنَت الأَمَة وهي غير محصنة فلا حدَّ عليها، وإنما تُضرب تأديباً؛ كما دل عليه منطوق الحديث. ويرى هؤلاء أنْ لا تعارُض بين مفهوم الآية ومنطوق الحديث؛ لأنَّ مفهوم الآية يُفيد أنْ لا حدَّ على الأَمَة إنْ كانت غير محصنة، وأمَّا منطوق الحديث ففيه جلدها تأديباً وليس حداً. والفرق بين الحدِّ والتأديب: أنَّ الأول واجب بخلاف الثاني. حَكَى هذا القول الإمام ابن القيم، ومال إليه وقوَّاه (¬2)، وجعله الحافظ ابن كثير مذهب ابنِ عباس - رضي الله عنه - ومن تَبِعَه، القائلين بأنْ لا حدَّ على أمَةٍ إنْ كانت غير محصنة. (¬3) وحُجَّةُ هؤلاء (¬4): أنَّ الحديث لم يُؤَقَّتْ فيه الجلدُ بعددٍ مُعَيَّن كما وُقِّتَ في الآية، التي فيها أنَّ على الأَمَة نِصْفُ ما على المحصنة من العذاب؛ وهذا يدل على أنَّ الجلد في الحديث إنما هو من باب التأديب، ولا يُراد به الحدَّ؛ إذ لو أراد الحدَّ لَنَصَّ على عددٍ مُعَيَّن كما في الآية. وبأنَّ الحديث لم يُذْكَر فيه الحدُّ، وإنما ذُكِرَ فيه الجلدُ. واعتُرِضَ على هذه الأدلة: بأنَّ الحديث قد روي بألفاظٍ أخرى، وفيها التَّنْصِيصُ على ذِكْرِ العدد، وذِكْرِ الحدِّ. (¬5) ¬
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ فقال: جاريتي زَنَت فتبيَّن زناها. قال: "اجلدها خمسين". ثمَّ أتاه فقال: عادت فتبيَّن زناها. قال: "اجلدها خمسين". ثمَّ أتاه فقال: عادت فتبيَّن زناها. قال: "بِعْهَا ولو بحبل من شَعَر". (¬1) وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ الثَّالِثَةَ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ". (¬2) وأجيب: "بأنَّ لفظة الحدِّ في قوله: "فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ" مُقْحَمَةٌ من بعض الرواة؛ بدليل أنَّ هذا من حديث صحابيين وذلك من رواية أبي هريرة فقط، وما كان عن اثنين فهو أولى بالتقديم من رواية واحد، وأيضاً فقد رواه النسائي بإسناد على شرط مسلم من حديث عبَّادِ بنِ تميمٍ، عن عمِّهِ - وكان قد شهد بدراً - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا زَنَت الأمة فاجلدوها، ثم إنْ زَنَت فاجلدوها، ثم إنْ زَنَت فاجلدوها، ثم إنْ زَنَت فبيعوها ولو بضَفير" (¬3)، وبأنَّه لا يَبْعُدُ أنَّ بعض الرُّواة أطلق لفظ الحَدّ في الحديث على الجلد؛ لأنه لما كان الجلد اعتقد أنه حدّ، أو أنَّه أطلق لفظة الحَدّ على التأديب كما أُطلق الحَدُّ على ضَرْبِ من زنى من المرضى بِعِثْكَالِ (¬4) نخل فيه مِائَةُ شِمْرَاخٍ (¬5) (¬6)، وعلى ¬
جلد من زنى بأَمَةِ امرأته إذا أذِنَتْ له فيها مِائَةُ (¬1)، وإنما ذلك تعزيرٌ وتأديب". (¬2) القول الثاني: أنَّ دلالةَ مفهومِ الآية ومنطوقِ الحديثِ المقصود بهما التفريق بين حالتي الأَمَة في إقامة الحَدّ لا في قَدْرِهِ؛ فإذا كانت محصنة فلا يُقيم الحَدَّ عليها إلا الإمام، ولا يجوز لسيدها إقامته والحالة هذه، وأما قبل الإحصان فسيدها بالخيار بين إقامته هو بنفسه أو رفعه للإمام، والحَدُّ في كلا الحالتين على النصف من حَدِّ الحُرَّة. رُويَ هذا القول عن ابن عمر رضي الله عنهما. (¬3) وهو قولٌ في مذهب أحمد. (¬4) ونقله ابن القيم، وجعله من أقرب الأقوال في الجواب عن مفهوم الآية. (¬5) إلا أنَّ الحافظ ابن كثير تعقب هذا القول فقال: "وهذا بعيد؛ لأنه ليس في الآية ما يدل عليه، ولولا هذه لم نَدْرِ ما حكم الإماء في التنصيف، ولوجب دخولهن في عموم الآية في تكميل الحَدّ مائة أو رجمهن، كما ثبت ¬
في الدليل عليه، وقد تقدَّم عن عليٍّ - رضي الله عنه - أنَّه قال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَقِيمُوا عَلَى أَرِقَّائِكُمْ الْحَدَّ، مَنْ أَحْصَنَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُحْصِنْ" (¬1)، وعموم الأحاديث ليس فيها تفصيل بين المزوجة وغيرها". اهـ (¬2) القول الثالث: أنَّ الأَمَة المحصنة تُحَدُّ نصف حدِّ الحُرَّة أخذاً بمنطوق الآية، وأمَّا قبل الإحصان فمنطوق الحديث وعمومات الكتاب والسنة شاملة لها في جلدها مائة؛ كقوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) [النور: 2]، وكحديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ". (¬3)، وغير ذلك من الأحاديث. وهذا المذهب هو المشهور عن داود بن علي الظاهري. (¬4) ولم يرتضِ أيضاً الحافظ ابن كثير هذا المذهب، وتعقبه فقال: "وهو في غاية الضَّعْفِ؛ لأنَّ الله تعالى إذا كان أمر بجلد المحصنة من الإماء بنصف ما على الحرة من العذاب - وهو خمسون جلدة - فكيف يكون حكمها قبل الإحصان أشدّ منه بعد الإحصان؟ وقاعدة الشريعة في ذلك عكس ما قال، وهذا الشارع عليه السلام سَأَلَه أصحابه عن الأَمَة إذا زَنَت ولم تحصن فقال: "اجلدوها" ولم يقل مائة، فلو كان حكمها كما زعم داود لوجب بيان ذلك لهم؛ لأنهم إنما سألوا عن ذلك لعدم بيان حكم جلد المائة بعد الإحصان في الإماء، وإلا فما الفائدة في قولهم ولم تحصن، لعدم الفرق بينهما لو لم تكن الآية نزلت، لكن لمَّا علموا أحد الحكمين سألوا عن الآخر فَبَيَّنَه لهم". اهـ (¬5) قلت: مذهب داود هذا هو الأقرب لظاهر النصوص، وهو من أحسن المذاهب في الجمع بين الآية والحديث، إلا أنَّه يُعَكِّرُ عليه ما نَوَّه إليه الحافظ ¬
ابن كثير من مخالفته لقواعد الشريعة، لكن يمكن أنْ يُقال: إنَّ الله تعالى راعى حق السَّيد فغلَّظَ العقوبة على الأَمَة حال كونها بكراً؛ لأنَّ في زناها إيذاء لسّيدها، واعتداء على حقِّه بالتمتع بها، بخلاف ما بَعْدَ زواجها فإنَّ الحقَّ لِزَوْجِهَا والذي غالباً ما يكون في رَبقَة الرِّقِّ مثلها، والشريعة الإسلامية تراعي حق الحرِّ أكثر من مراعاتها لحق الرَّقِيقِ. إلا أني لا أرتضي هذا المذهب، على الرغم من وجاهته؛ لأنَّ ما ذكرتُه من تعليلٍ لم يأتِ به نصٌ حتى يُصار إليه؛ ولأنَّ الأحاديث الواردة في جلد الأَمَة جاءت مطلقة، فلم تَنُص على ذكر مائة جلدة، فيجب حملها على المقيد وهو ما جاء في الآية الكريمة، وسترى مزيدَ بيانٍ لرأيي في هذه المسألة في مبحث الترجيح، إن شاء الله تعالى. القول الرابع: أنَّ الإحصان في الآية المراد به الإسلام؛ فيكون منطوق الآية ومفهومها دالاً على إيجاب الحَدّ على الأَمَة بَعْدَ إسلامها لا قبله، وأما الإحصان في الحديث فالمراد به التزويج. وهذا رأي: الشافعي (¬1)، وابن العربي (¬2)، واختيار الحافظ ابن حجر (¬3). ولم يُبَيِّن هؤلاء الحكم المترتب على دلالتي المنطوق والمفهوم للحديث. ويرد على قولهم: 1 - أنْ لا دليل على التفريق بين الآية والحديث في معنى الإحصان. 2 - ويلزم من مفهوم الحديث على قولهم هذا أنْ لا حَدَّ على الأَمَة إذا كانت مُزوجة؛ لإعمالهم منطوق الآية في المسلمة عموماً؛ فيكون منطوق الحديث مُخَصِّصَاً لهذا العموم، وهذا القول لا يرتضونه ولا يقولون به، فدل على ضعف رأيهم. ¬
المبحث الخامس: الترجيح
المبحث الخامس: الترجيح: الذي يَظْهُرُ صَوَابُه - والله تعالى أعلم - هو إعمال منطوق الآية والحديث دون مفهومهما؛ فإذا زنت الأَمَة المسلمة فإنَّ عليها نصف ما على الحرة المسلمة البِكْرِ من العذاب، وهو خمسون جلدة، ويستوي في ذلك المُزَوّجة وغير المُزَوّجة. ولفظ الحديث مطلق، والآية جاء الحكم فيها مقيداً بالنصف؛ فيُحمل المطلق على المقيد. وأمَّا مفهوم المخالفة في الآية الكريمة فالأصح عدم اعتباره، والمانع من اعتباره أمور: 1 - أنَّ دلالة المفهوم إنما يصح اعتبارها إذا لم يُعارضها منطوق نصٍ آخر، وقد عارض مفهومَ الآية منطوقُ حديث أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما، فَدَلَّ على أنَّ مفهوم الآية غير معتبر. (¬1) 2 - أنَّ دلالة المنطوق قطعية الدلالة، بخلاف دلالة المفهوم فإنها ظنية الدلالة، والقطعي أولى بالتقديم من الظني. (¬2) 3 - أنَّ دلالة المفهوم مختلف في حُجِّيّتها، بخلاف دلالة المنطوق؛ فإنها معتبرة باتفاق. 4 - أنَّ دلالة المفهوم قد تكون غير مُرادة (¬3)، وقد تَصْدُقُ في بعض ¬
الصور دون بعض، بخلاف دلالة المنطوق فإنها دالة على كل صورها، دلالة مطابقة، وتضمن، والتزام. (¬1) 5 - أنَّ النص قد ثبت في إلغاء مفهوم الآية؛ والنص هو حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، "والظاهر أنَّ السَّائل ما سَأَلَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إلا لأنَّه أشكل عليه مفهوم هذه الآية، فالحديث نصٌ في محل النزاع، ولو كان جلدُ غيرِ المحصنة أكثر أو أقل من جلد المحصنة لَبَيَّنَه - صلى الله عليه وسلم - ". (¬2) فإن قيل: فما فائدة شرط الإحصان في الآية إذا كان ذلك غير معتبر؟ ¬
فالجواب: أنَّ شرط الإحصان في الآية الكريمة إنما سِيقَ لتأكيد الحكم في حق الأَمَة المحصنة، وهو لا يعني نفي الحكم في غير المحصنة، وأسلوب الشرط يأتي لهذا المعنى كثيراً؛ كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)) [الحجرات: 6]، فهذه الآية تُفيد وجوب التثبت حال كون ناقل الخبر متهماً بالفسق، ولا تعني إلغاء التثبت مطلقاً عند ظهور علامات الصدق في الناقل، بل التثبت مطلوب في كل الأحوال، لكنه يتأكد في حال دون حال، والله تعالى أعلم. ****
المسألة [4]: هل ينشئ الله تعالى للنار خلقا فيعذبهم فيها؟
المسألة [4]: هل يُنْشِئُ الله تعالى للنار خلقاً فيعذبهم فيها؟ المبحث الأول: ذكر الآيات الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) [النساء: 40]. وقال تعالى: (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 49]. وقال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) [الإسراء: 15]. المبحث الثاني: ذكر الحديث الذي يُوهِمُ ظاهره التعارض مع الآيات: (7) ـ (6): عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اخْتَصَمَتْ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ إِلَى رَبّهِمَا فَقَالَتْ الْجَنَّةُ: يَا رَبِّ مَا لَهَا لاَ يَدْخُلُهَا إلاَّ ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ (¬1)؟ وَقَالَتْ النَّارُ: يَعْنِي أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي. وَقَالَ لِلنَّارِ: أَنْتِ عَذَابِي أُصِيبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا. قَالَ: فَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، وَإِنَّهُ يُنْشِئُ لِلنَّارِ مَنْ يَشَاءُ، فَيُلْقَوْنَ فِيهَا فَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ثَلاَثاً، حَتَّى يَضَعَ فِيهَا قَدَمَهُ، فَتَمْتَلِئُ وَيُرَدُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَتَقُولُ: قَطْ قَطْ قَطْ (¬2) ". (¬3) ¬
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآيات والحديث
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآيات والحديث: ظاهر الآياتُ الكريمةِ نفي الظلمِ عن اللهِ تعالى، وأنَّه سبحانه لا يُعذِّبُ أحداً من خلقه إلا بعد الإعذار إليه، وقيام الحجة عليه، وهذا الذي دلَّت عليه الآيات هو محل إجماع بين العلماء، من تنزيهه سبحانه عن الظلم، أو أَنْ يُعَذِّبَ أحداً بغير ذَنْبٍ ولا حُجَّة. وأما الحديث الوارد في المسألة فقد جاء فيه ما يُوهِمُ مُعَارَضَة هذا الأصل الذي دلَّت عليه الآيات، وهو قوله: "وَإِنَّهُ يُنْشِئُ لِلنَّارِ مَنْ يَشَاءُ"، وهذا اللفظ يُوهِمُ أنَّ الله تعالى يُعذِّب في النار من لا ذنب له، وهو خِلاف الآيات. (¬1) المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآيات والحديث: للعلماء في دفع التعارض بين الآيات والحديث مسلكان: الأول: مسلك تضعيف الحديث بهذا اللفظ، والجزم بوقوع الغلط فيه: حيث ذهب جماعةٌ من الأئمة إلى أنَّ الحديث لا يصح بهذا اللفظ، وأنَّه مما وقع فيه الغلط من بعض الرواة، حيث انقلب عليه الحديث، فجعل الإنشاء للنار، والصواب أنَّ الإنشاء للجنة، بدليل ما أخرجاه في الصحيحين - واللفظ للبخاري - من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تَحَاجَّتِ ¬
الجَنَّةُ والنَّارُ" فذكر الحديث إلى أَنْ قال: "فَأَمَّا النَّارُ فَلاَ تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ رِجْلَهُ فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ. فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ وَيُزْوَى (¬1) بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَلاَ يَظْلِمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنْشِئُ لَهَا خَلْقًا". (¬2) نقل الحافظ ابن حجر هذا المذهب: عن أبي الحسن القابسي (¬3)، وشيخه البلقيني (¬4). (¬5) وممن جزم بوقوع الغلط في الحديث: شيخ الإسلام ابن تيمية (¬6)، وابن القيم (¬7)، والحافظ ابن كثير (¬8)، وابن الوزير اليماني (¬9). (¬10) قال أبو الحسن القابسي: "المعروف في هذا الموضع أنَّ الله ينشئ للجنة خلقاً؛ وأما النار فيضع فيها قدمه، ولا أعلم في شيء من الأحاديث أنه ينشئ للنار إلا هذا". اهـ (¬11) وقال ابن القيم: "وأما اللفظ الذي وقع في صحيح البخاري في حديث أبي هريرة: "وَإِنَّهُ يُنْشِئُ لِلنَّارِ مَنْ يَشَاءُ، فَيُلْقَوْنَ فِيهَا فَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ"، فغلط من بعض الرواة، انقلب عليه لفظه، والروايات الصحيحة ونص القرآن يَرُدُّهُ، فإن الله سبحانه أخبر أنه يملأ جهنم من إبليس وأتباعه، وأنه لا يُعذِّب إلا من قامت عليه حجته، وكذَّب رسله، قال تعالى: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ ¬
خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) [الملك: 8]، ولا يظلم الله أحداً من خلقه". اهـ (¬1) وقال الحافظ ابن كثير: "طعن جماعة من العلماء في اللفظة التي جاءت معجمة في صحيح البخاري ... "، ثم ذكر الحديث وقال: "فهذا إنما جاء في الجنة؛ لأنها دار فضل، وأما النار فإنها دار عدل، لا يدخلها أحد إلا بعد الإعذار إليه، وقيام الحجة عليه، وقد تكلم جماعة من الحفاظ في هذه اللفظة وقالوا: لعله انقلب على الراوي ... ". اهـ (¬2) الثاني: مسلك قبول الحديث، والجمع بينه وبين الآيات: وقد اختلف أصحاب هذا المسلك في الجمع على مذهبين: الأول: مذهب قبول الرواية مع توجيهها وصرفها عن ظاهرها: وهذا رأي الحافظ ابن حجر، حيث قال: "ويمكن التزام أَنْ يكونوا من ذوي الأرواح، ولكن لا يُعَذَّبون؛ كما في الخزنة، ويحتمل أَنْ يُراد بالإنشاء ابتداء إدخال الكفار النار، وعبر عن ابتداء الإدخال بالإنشاء، فهو إنشاء الإدخال، لا الإنشاء بمعنى ابتداء الخلق؛ بدليل قوله: "فَيُلْقَوْنَ فِيهَا فَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ"، وأعادها ثلاث مرات ثم قال: "حتى يضع فيها قدمه فحينئذ تمتلئ"، فالذي يملؤها حتى تقول حسبي هو القَدَم، كما هو صريح الخبر ... ". اهـ (¬3) الثاني: مذهب قبول الرواية مطلقاً: وهذا رأي المُهَلَّب (¬4)، حيث يرى أنَّ هذه الرواية حجة لأهل السنة في قولهم: إنَّ لله أَنْ يُعَذِّبَ من لم يُكَلِّفْه لعبادته في الدنيا؛ لأن كل شيء ملكه، فلو عذبهم لكان غير ظالم لهم. (¬5) وتُعُقِّبَ: بأنَّ أهل السنة إنما تمسكوا في ذلك بقوله تعالى: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)) [الأنبياء: 23]، وبقوله: (وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) [إبراهيم: 27]، وغير ذلك، وهو عندهم من جهة الجواز، وأما الوقوع ¬
ففيه نظر. (¬1) وممن ذهب إلى قبول الرواية مطلقاً: القاضي عياض، والكرماني. قال القاضي عياض في تعليقه على الرواية: "قال بعض المتعقبين: هذا وهم، والمعروف في الإنشاء إنما هو للجنة. قال القاضي: لا يُنكر هذا، وأحد التأويلات التي قَدَّمْنَا (¬2) في القَدَم - أنهم قوم تَقَدَّمَ في علم الله أنه يخلقهم لها - مطابق للإنشاء، وموافق لمعناه ... ، ولا فرق بين الإنشاء للجنة أو النار، لكن ذِكْرُ القَدَمِ بعد ذِكْرِ الإنشاء هنا يُرجِّح أَنْ يكون تأويل القَدَمِ بخلافه، بمعنى القهر والسطوة، أو قدم جبار وكافر من أهلها كانت النار تنتظر إدخاله إياها بإعلام الله لها، أو الملائكة الموكلين بما أمرهم ... ". اهـ (¬3) ¬
المبحث الخامس: الترجيح
وقال الكرماني في تعليقه على الرواية: "قيل: هذا وهم من الراوي؛ إذ تعذيب غير العاصي لا يليق بكرم الله تعالى، بخلاف الإنعام على غير المطيع. قال: ولا محذور في تعذيب الله من لا ذنب له؛ إذ القاعدة القائلة بالحُسْنِ والقُبح العقليين باطلة، فلو عذَّبه لكان عدلاً، والإنشاء للجنة لا ينافي الإنشاء للنار، والله يفعل ما يشاء، فلا حاجة إلى الحمل على الوهم". اهـ (¬1) المبحث الخامس: الترجيح: الذي يظهر صوابه - والله تعالى أعلم - هو القول بضعف الحديث بهذا اللفظ، والجزم بوقوع الغلط فيه. ويدل على وقوع الغلط فيه وجوه: الأول: أنَّ الحديث رواه ثلاثة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد رُويَ عنهم من طُرقٍ متعددة على الوجه الصحيح، وليس في هذه الطرق ذِكرٌ لهذا اللفظ المشكل، مع اتحاد لفظ الحديث في أغلب هذه الأحاديث والطرق، وفيما يلي تفصيل هذه الطرق وبيان ألفاظها: الأول: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: وقد رُويَ عنه من ثلاثة طرق: الأول: طريق الأعرج (عبد الرحمن بن هرمز)، عن أبي هريرة، به. وقد روي عن الأعرج من طريقين: 1 - طريق صالح بن كيسان (¬2)، عن الأعرج، عن أبي هريرة، به. وهذه الطريق هي التي وقع فيها اللفظ المشكل، وقد تقدم ذكر لفظها في أول المسألة. 2 - طريق أبي الزناد (عبد الله بن ذكوان)، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تَحَاجَّتْ النَّارُ وَالْجَنَّةُ فَقَالَتْ النَّارُ: أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ ¬
وَالْمُتَجَبِّرِينَ. وَقَالَتْ الْجَنَّةُ: فَمَا لِي لاَ يَدْخُلُنِي إلاَّ ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ وَعَجَزُهُمْ؟ فَقَالَ اللَّهُ لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي. وَقَالَ لِلنَّارِ: أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمْ مِلْؤُهَا. فَأَمَّا النَّارُ فَلاَ تَمْتَلِئُ، فَيَضَعُ قَدَمَهُ عَلَيْهَا فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ. فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ". (¬1) الثاني: طريق محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "احْتَجَّتْ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَقَالَتْ الْجَنَّةُ: يَا رَبِّ مَا لِي لاَ يَدْخُلُنِي إلاَّ فُقَرَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ؟ وَقَالَتْ النَّارُ: مَا لِي لاَ يَدْخُلُنِي إلاَّ الْجَبَّارُونَ وَالْمُتَكَبِّرُونَ؟ فَقَالَ لِلنَّارِ: أَنْتِ عَذَابِي أُصِيبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ. وَقَالَ لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أُصِيبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا. فَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ يُنْشِئُ لَهَا مَا يَشَاءُ، وَأَمَّا النَّارُ فَيُلْقَوْنَ فِيهَا وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ حَتَّى يَضَعَ قَدَمَهُ فِيهَا، فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ وَتَقُولُ: قَطْ قَطْ قَطْ". (¬2) الثالث: طريق همام بن منبه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تَحَاجَّتْ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَتْ النَّارُ: أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ. وَقَالَتْ الْجَنَّةُ: مَا لِي لاَ يَدْخُلُنِي إلاَّ ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ؟ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي، أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي. وَقَالَ لِلنَّارِ: إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي، أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِلْؤُهَا. فَأَمَّا النَّارُ فَلاَ تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ رِجْلَهُ فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ. فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَلاَ يَظْلِمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنْشِئُ لَهَا خَلْقاً". (¬3) ¬
الثاني: حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "افْتَخَرَتْ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَقَالَتْ النَّارُ: أَيْ رَبِّ يَدْخُلُنِي الْجَبَابِرَةُ وَالْمُلُوكُ وَالْعُظَمَاءُ وَالأَشْرَافُ. وَقَالَتْ الْجَنَّةُ: أَيْ رَبِّ يَدْخُلُنِي الْفُقَرَاءُ وَالضُّعَفَاءُ وَالْمَسَاكِينُ. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلنَّارِ: أَنْتِ عَذَابِي أُصِيبُ بِكِ مِنْ أَشَاءُ. وَقَالَ لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا. فَأَمَّا النَّارُ فَيُلْقَى فِيهَا أَهْلُهَا وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ. حَتَّى يَأْتِيَهَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَيَضَعُ قَدَمَهُ عَلَيْهَا فَتُزْوَى وَتَقُولُ: قَدْنِي قَدْنِي (¬1). وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَتَبْقَى مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَبْقَى ثُمَّ يُنْشِئُ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا بِمَا يَشَاءُ". (¬2) الثالث: حديث أنس - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لاَ يَزَالُ يُلْقَى فِي النَّارِ وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، حَتَّى يَضَعَ فِيهَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَدَمَه، ُ فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ ثُمَّ تَقُولُ: قَدْ قَدْ (¬3) بِعِزَّتِكَ وَكَرَمِك. َ وَلاَ تَزَالُ الْجَنَّةُ تَفْضُلُ حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا فَيُسْكِنَهُمْ فَضْلَ الْجَنَّةِ". (¬4) ويتلخص من مجموع هذه الطرق أنَّ حديث صالح بن كيسان، عن الأعرج، حديثٌ مُنْقَلِبٌ لم يُتابع عليه، فأمَّا أبو هريرة فقد تخلَّص من الوهم برواية الثقات للحديث عنه على الصواب، وكذلك الأعرج فقد رواه عنه أبو الزِّناد بغير ذكره لتلك الزيادة المنكرة. (¬5) الوجه الثاني - من أدلة وقوع الغلط في الحديث -: أنَّ راوي هذا الحديث المقلوب جعل تنزيه الله تعالى من الظلم عند ذكره الجنة، فأوهم بذلك أنَّ من أدخله الله تعالى الجنة بغير عمل كان ظلماً، وهذا من أفحش ¬
الخطأ؛ فإنَّ الحور العين والأطفال في الجنة بغير عمل، وهذا هو الموضع الذي لا يُسمَّى ظلماً عند أحد من المسلمين، ولا من العقلاء أجمعين، ولا أشار إلى ذلك شيء من القرآن، ولا من السنة، ولا من اللغة، ولا من العُرْفِ، وإنَّما ذُكِرَ هذا في النار إشارة إلى أنَّ التعذيب بغير ذنب هو شأن الظالمين من الخلق، والله تعالى حرَّم الظلم على نفسه، وجعله بين خلقه محرَّماً. الوجه الثالث: أنَّ الراوي قصَّرَ في سياقه للمتن فقال: وقالت النار. ولم يذكر ما قالت، ولا سكت من قوله قالت. قال ابن بطال (¬1): "وهو كذلك في جميع النسخ". (¬2) وذكر هذا الراوي قول الله تعالى للجنة: أنت رحمتي. ولم يُتَمِّم قوله لها: أرحم بك من أشاء من عبادي. والنقص في الحفظ والركاكة في الرواية بيّنٌ على حديثه. الوجه الرابع: تجنّب المحدثين لإخراج هذه الرواية، مثل مسلم والنسائي، مع روايتهما للحديث، ومثل أحمد بن حنبل في مسنده، مع توسعه فيه، وكذلك ابن الجوزي في جمعه أحاديث البخاري ومسلم ومسند أحمد، وكذلك ابن الأثير في جامع الأصول، وهو يعتمد الجمع بين الصحيحين للحميدي، والحميدي (¬3) إنما يترك ما ليس على شرط البخاري مما ذكره في صحيحه. الوجه الخامس: أنَّه قد ثبت بالنصوص والإجماع أنَّ سنة الله تعالى أنه لا يُعذِّبُ أحداً بغير ذنب ولا حجة، كما قال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) [الإسراء: 15]، وقال: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء: 165]، وفي الحديث: "لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْزَلَ الْكِتَابَ، وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ" (¬4)، ومن جحد أنَّ هذه سنة الله فقد جحد الضرورة، وإذا تقرر أنها سنة الله تعالى فقد قال تعالى: ¬
(فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) [فاطر: 43]، وقال تعالى: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) [الزمر: 55]، وأحسن ما أنزل الله إلينا هو الثناء عليه، وتسبيحه، وتنزيه أفعاله وأقواله، من جميع صفات النقص، فكيف يُعدل عن هذا كله - مع موافقة الرواية الصحيحة له - إلى رواية ساقطة مغلوطة مقلوبة، زلَّ بها لسان بعض الرواة. (¬1) **** ¬
المسألة [5]: في الحدود هل هي كفارة لأهلها أم لا؟
المسألة [5]: في الحدود هل هي كفارة لأهلها أم لا؟ المبحث الأول: ذكر الآية الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)) [المائدة: 33]. المبحث الثاني: ذكر الحديث الذي يُوهِمُ ظاهره التعارض مع الآية: (8) ـ (7): عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -، أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال - وحوله عصابة من أصحابه -: "بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ، وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ (¬1)، وَلاَ تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ؛ فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ، فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِك". (¬2) ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآية والحديث
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآية والحديث: ظاهر الآية الكريمة أنَّ إقامة الحد على المحاربين لا تُسْقِطُ عنهم العقوبة في الآخرة؛ وذلك لقوله: (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، وأما الحديث ففيه أنَّ من أُقيم عليه الحد فهو كفارة له، ويلزم منه سقوط العقوبة في الآخرة،
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية والحديث
وهذا يُوهِمُ خِلاف الآية. (¬1) المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية والحديث: بداية لا بد من تحرير المسألة، في بيان هل الحدود كفارات لأهلها أم لا؟ وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال: الأول: أنَّ إقامة الحد بمجرده يُعد كفارة للذنب، ولو لم يتب المحدود. وهذا مذهب الجمهور من العلماء (¬2). وهو المروي عن: علي بن أبي طالب (¬3)، والحسن بن علي بن أبي طالب (¬4)، ومجاهد (¬5)، وزيد بن أسلم (¬6). وهو قول: الشافعي (¬7)، وأحمد (¬8)، وسفيان الثوري (¬9). واختيار: النووي (¬10)، والملا علي القاري (¬11) (¬12)، والشوكاني (¬13). ¬
واستدلوا على مذهبهم هذا: 1 - بحديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -، وقد وردت الكفارة فيه مطلقة، ولم يشترط النبي - صلى الله عليه وسلم - التوبة. 2 - وبقول ماعز للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إني أصبت حداً فطهرني، وكذلك قالت له الغامدية (¬1)، ولم يُنكر عليهما النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، فدل على أنَّ الحد طهارة لصاحبه، ولو لم يتب. (¬2) القول الثاني: أنَّ إقامة الحد بمجرده لا يُعد كفارة، بل لا بد معه من التوبة. وهذا مذهب الحنفية (¬3). وروي عن صفوان بن سليم (¬4) (¬5). وهو رأي: البيهقي (¬6)، وابن العربي (¬7)، وأبو عبد الله ابن تيمية (¬8) (¬9)، وابن مفلح (¬10) (¬11)، وابن حجر الهيتمي (¬12) (¬13). ونُسِبَ لابن حزم (¬14)، ¬
والبغوي (¬1). وذكر الحافظ ابن حجر أنه مذهب المعتزلة (¬2) (¬3). واستدلوا على مذهبهم هذا: 1 - بقوله تعالى - في قُطّاع الطريق -: (ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [المائدة: 33]، فأخبر أنَّ جزاء فعلهم عقوبة دنيوية، وعقوبة أخروية، إلا من تاب فإنها حينئذ تسقط عنه العقوبة الأخروية. 2 - وبالإجماع على أنَّ التوبة لا تُسقط الحد في الدنيا، قالوا: ويجب أنْ يحمل حديث عبادة - رضي الله عنه - على ما إذا تاب في العقوبة; لأنه هو الظاهر; لأن الظاهر أنَّ ضربه أو رجمه يكون معه توبة منه لذوقه مسبب فعله، فيقيد به جمعاً بين الأدلة. (¬4) 3 - واستدلوا باستثناء من تاب في قوله تعالى في آية الحرابة: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)) [المائدة: 34]، حيث اشترط التوبة لرفع العقوبة عنهم. (¬5) واعترض: بأن عقوبة الدنيا والآخرة لا يلزم اجتماعها، فقد دل الدليل على أنَّ عقوبة الدنيا تسقط عقوبة الآخرة. وأما استثناء الذين تابوا فإنما استثناهم من عقوبة الدنيا خاصة، ولهذا خصهم بما قبل القدرة، وعقوبة ¬
الآخرة تندفع بالتوبة قبل القدرة وبعدها. (¬1) 4 - واستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - للسارق حين قطعه: "تب إلى الله" (¬2)، حيث أمره بالتوبة فدل على اشتراطها. (¬3) القول الثالث: التفصيل في المسألة: فما كان من حقوق الله تعالى فإنه يطهر منها بإقامة الحد عليه، وحق المخلوق يبقى، فارتكاب جريمة السرقة مثلاً، يطهر منه بالحد، والمؤاخذة بالمال تبقى. وهذا اختيار: الشنقيطي (¬4)، ونقله الآلوسي عن النووي (¬5). ويَرِدُ عليه: أنَّ في حديث عبادة - رضي الله عنه - ما هو من حق الله تعالى، وحق المخلوقين؛ كالسرقة، ونحوها، ولم يفرق بينهما النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويرد عليه أيضاً: أنَّ فيه تخصيصاً لعموم حديث عبادة - رضي الله عنه -، من غير دليل. (¬6) القول الرابع: التوقف: حيث ذهب آخرون إلى التوقف في ذلك، فلا يُحكم بأن الحدود كفارة، ولا بعدمه؛ وذلك لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أدري الحدود كفارات لأهلها، أم لا". (¬7) ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
واحتجوا بأن حديث أبي هريرة متأخر على حديث عبادة، بدليل تأخر إسلام أبي هريرة عن بيعة العقبة، وهؤلاء جازمون بأن حديث عبادة وقع ليلة العقبة، قبل الهجرة. (¬1) مسألة: وقد اختلف العلماء في الجواب عن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: 1 - فذهبت طائفة إلى تصحيح الحديث، واختلف هؤلاء في الجمع بينه وبين حديث عبادة: فذهب بعضهم: إلى أنَّ حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ورد أولاً قبل أنْ يُعلمِ الله نبيه، ثم أعلمه بعد ذلك أنَّ الحدود كفارة. وقد ذهب هؤلاء إلى أنَّ حديث عبادة - رضي الله عنه - كان بمكة ليلة العقبة لما بايع الأنصارُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - البيعة الأولى قبل الهجرة. وأجابوا عن تأخر إسلام أبي هريرة - رضي الله عنه - بأنه لم يسمع هذا الحديث من النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة؛ وإنما سمعه من صحابي آخر. (¬2) وهذا رأي: ابن حزم (¬3)، وابن بطال (¬4)، والقاضي عياض (¬5). واعتُرِضَ: بأن أبا هريرة - رضي الله عنه - قد صرح بسماعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبأن الحدود لم تكن نزلت قبل ذلك. (¬6) وذهب آخرون إلى أنَّ حديث عبادة - رضي الله عنه - متأخر على حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. ويرى هؤلاء أنَّ المبايعة التي في حديث عبادة - رضي الله عنه - إنما وقعت بعد فتح مكة، بعد نزول آية الممتحنة (¬7). ¬
وهذا رأي: ابن التين (¬1)، والحافظ ابن رجب (¬2)، والحافظ ابن حجر (¬3)، وشمس الحق العظيم آبادي (¬4). وقد ذكر الحافظ ابن حجر عدة أدلة تؤيد هذا المذهب، وهي قوية. (¬5) 2 - وذهب آخرون إلى تضعيف حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وتقديم حديث عبادة - رضي الله عنه - عليه. وهذا رأي: البخاري (¬6)، والدارقطني (¬7)، وابن عبد البر (¬8)، والمناوي (¬9). وقد تقدم ذكر سبب تضعيفهم للحديث عند تخريجه. مذاهب العلماء تجاه التعارض بين الآية، وحديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -: وبعد أنَّ ذكرنا أقوال العلماء في الحدود هل هي كفارة لأهلها أم لا، نأتي الآن إلى ذكر مسالك العلماء في دفع التعارض بين آية الحرابة، وحديث عبادة - رضي الله عنه -: لم يتجاوز العلماء في هذه المسألة مسلك الجمع بين الآية والحديث، وقد تباينت آراؤهم فيها على مذاهب: الأول: أنَّ الوعيد في الآية - وهو قوله: (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) - خاصٌ بالمشركين؛ كما دل عليه سبب نزول الآية (¬10)، وحديث عبادة خاص ¬
بالمسلمين، فإذا عوقب المسلم بجنايته في الدنيا كانت عقوبته كفارة له. وهذا مذهب: الواحدي (¬1)، والقاضي عياض (¬2)، والحافظ ابن كثير، والحافظ ابن حجر، والعيني (¬3)، والسندي (¬4). قال الحافظ ابن كثير: "قوله تعالى: (ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) أي: هذا الذي ذكرته - من قتلهم ومن صلبهم وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ونفيهم - خزي لهم بين الناس في هذه الحياة الدنيا، مع ما ادخر الله لهم من العذاب العظيم يوم القيامة، وهذا يؤيد قول من قال: إنها نزلت في المشركين، فأما أهل الإسلام ففي صحيح مسلم عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: ... ". اهـ ثم ذكر حديث عبادة. (¬5) وقال الحافظ ابن حجر: "أشكل قوله في آية المحاربين: (ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) مع حديث عبادة الدال على أنَّ من أقيم عليه الحد في الدنيا كان له كفارة؛ فإنَّ ظاهر الآية أنَّ المُحَارِب يُجمع له الأمران. والجواب: أنَّ حديث عبادة مخصوص بالمسلمين، بدليل: أنَّ فيه ذكر الشرك، مع ما انضم إليه من المعاصي، فلما حصل الإجماع على أنَّ الكافر إذا قُتِلَ على شركه فمات مشركاً أنَّ ذلك القتل لا يكون كفارة له، قام إجماع أهل السنة على أنَّ من أقيم عليه الحد من أهل المعاصي كان ذلك كفارة لإثم معصيته، والذي يضبط ذلك قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) [النساء: 48]، والله أعلم". اهـ (¬6) ¬
الإيرادات والاعتراضات على هذا المذهب: 1 - اعتُرِضَ على هذا المذهب: بأن الكفار إذا تابوا فإن الحد يسقط عنهم، سواء كانت توبتهم قبل القدرة عليهم، أو بعدها، وذلك لقوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) [الأنفال: 38]، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء؛ وأما آية الحرابة فإنها اشترطت أنْ تكون التوبة قبل القدرة عليهم، فدل على أنها في المسلمين لا في الكفار. 2 - واعتُرِضَ أيضاً: بأنها لو كانت خاصة بالكفار المرتدين لكان حكمهم القتل مطلقاً، لا ما ذكر في الآية من التفصيل؛ إذ في الآية النفي لمن لم يتب قبل القدرة، والمرتد لا يُنفى، وفيها قطع اليد والرجل، والمرتد لا تُقطع له يد ولا رجل، فثبت أنها لا يراد بها المشركون، ولا المرتدون. (¬1) 3 - واعتُرِضَ أيضاً: بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والآية وإن قيل إنها نزلت في المشركين؛ إلا أنَّ حكمها عام، ولا يصح تخصيصها بالمشركين. وأجيب: بأن جميع ما ذُكِرَ في الآية من أحكام فهو عام في المسلمين وغيرهم، إلا أنَّ الوعيد في آخر الآية خاص بالمشركين دون المسلمين، ولا مانع من تخصيص أحكام العام ببعض أفراده، إذا دلَّ الدليل على ذلك، وقد قام الدليل وهو سبب نزول الآية. المذهب الثاني: أنَّ حديث عبادة - رضي الله عنه - عام، والآية مخصصة لعمومه، فكل من أقيم عليه الحد فهو كفارة له، عدا الحرابة فإن إثمها باق عليه، وإنْ أقيم عليه حدها، ولا يسقطها عنه إلا التوبة إلى الله تعالى. وهذا مذهب: الطحاوي (¬2)، والجصاص، وابن حزم، وابن عطية (¬3)، وابن الفرس (¬4) (¬5)، وأبي عبد الله القرطبي (¬6)، وابن جزي (¬7)، وابن عاشور ¬
(¬1)، والقاسمي (¬2). قال الجصاص: "قوله تعالى: (ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) يدل على أنَّ إقامة الحد عليه لا تكون كفارة لذنوبه؛ لإخبار الله تعالى بوعيده في الآخرة بعد إقامة الحد عليهم". اهـ (¬3) وقال ابن حزم: "كل من أصاب ذنباً فيه حد فأقيم عليه ما يجب في ذلك فقد سقط عنه ما أصاب من ذلك - تاب أو لم يتب - حاشا المحاربة، فإن إثمها باقٍ عليه، وإن أقيم عليه حدها، ولا يسقطها عنه إلا التوبة لله تعالى فقط. برهان ذلك: ما رويناه عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: .... ، ثم ذكر الحديث وقال: وأما تخصيصنا المحاربة من جميع الحدود، فلقول الله تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33))، فنص الله تعالى نصاً لا يحتمل تأويلاً، على أنهم مع إقامة هذا الحد عليهم، أنه لهم خزي في الدنيا، ولهم مع ذلك في الآخرة عذاب عظيم، فوجب استعمال النصوص كلها كما جاءت، وأن لا يُترك شيء منها لشيء آخر، وليس بعضها أولى بالطاعة من بعض، وكلها حق من عند الله تعالى، ولا يجوز النسخ في شيء من ذلك: أما حديث عبادة: فإنه فضيلة لنا أنْ تكفر عنا الذنوب بالحد، والفضائل لا تنسخ؛ لأنها ليست أوامر، ولا نواهي، وإنما النسخ في الأوامر والنواهي، سواء وردت بلفظ الأمر والنهي أو بلفظ الخبر، ومعناه الأمر والنهي. وأما الخبر المحقق فلا يدخل النسخ فيه، ولو دخل لكان كذباً، وهذا لا يجوز أنْ يُظن بشيء من أخبار الله تعالى، ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. وأما الآية في المحاربة: فإن وجوب العذاب في الآخرة مع الخزي في ¬
الدنيا بإقامة الحد عليهم: خبر مجرد من الله تعالى، لا مدخل فيه للأمر والنهي، فَأُمِنَ دخول النسخ في شيء من ذلك، والحمد لله رب العالمين". اهـ (¬1) ويرد على هذا القول: بأن قتل العمد ورد فيه وعيد في الآخرة، كما ورد في آية الحرابة، فقال تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)) [النساء: 93]، مع أنَّ حديث عبادة - رضي الله عنه - نص على أنَّ حد القصاص مكفر لإثم القتل، فهل يقال: إنَّ وعيد القاتل مخصوص فيه، وأن الحد لا يكفره؟! ويلزم من هذا القول أنَّ إقامة الحد على المحاربين غير مكفرٍ لهم، بل لا بد من التوبة مع الحد، وعليه فما الفائدة حينئذ من إقامة الحد، خصوصاً وقد ورد النص صريحاً بأن الحد مكفر للذنب، وهو نص عام في جميع الحدود. المذهب الثالث: وهو مذهب القائلين باشتراط التوبة لتكفير الحد للذنوب، وهؤلاء لا تعارض عندهم بين الآية والحديث؛ لأن الوعيد في الآية إنما هو في حق من لم يتب. وهذا المذهب هو اختيار: ابن جرير الطبري (¬2)، وابن مفلح، وابن الهمام (¬3). قال ابن مفلح: "وأما آية المحاربة فإنما فيها له عذاب في الآخرة .... ، ونحن نقول بها، لكن على إصراره وعدم توبته، لا على ذنب حُدَّ عليه". اهـ (¬4) واعتُرِضَ: بأن حديث عبادة - رضي الله عنه - ورد مطلقاً ولم يُقيّد بالتوبة، وورد أيضاً بصيغة العموم على كل من أقيم عليه الحد. المذهب الرابع: أنَّ الخزي الوارد في الآية إنما هو لمن عوقب في ¬
المبحث الخامس: الترجيح
الدنيا، وأما العذاب في الآخرة فهو لمن سَلِمَ في الدنيا ولم يُقَمْ عليه الحد. ذكره ابن عطية احتمالاً آخر في الجمع (¬1)، وتبعه أبو عبد الله القرطبي، وابن جزي، وأبو حيان، وابن عاشور. (¬2) واعتُرِضَ: بأنه لو كان هذا المعنى هو المراد في الآية، لاستعمل حرف "أو" الذي يفيد التنويع، فيكون معنى الآية: (لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا أو عَذَابٌ عَظِيمٌ فِي الآخِرَةِ). المذهب الخامس: أنَّ حديث عبادة - رضي الله عنه - محمول على حقوق الله تعالى؛ فإن الحد يكفرها، وأما حقوق العباد فلا يكفرها مجرد الحد، بل لا بد معه من التوبة، وإلا فالعذاب في الآخرة. ذكر هذا المذهب: الآلوسي، ونسبه للنووي. (¬3) واعتُرِضَ: بأن في حديث عبادة - رضي الله عنه - ما هو من حق الله تعالى، وحقوق المخلوقين؛ كالسرقة، ونحوها، ولم يفرق بينهما النبي - صلى الله عليه وسلم -. المبحث الخامس: الترجيح: الذي يَظْهُرُ صَوَابُه ـ والله تعالى أعلم ـ أنَّ آية الحرابة عامة في المسلمين وغيرهم، إلا أنَّ وعيد الآخرة المذكور فيها خاص فيمن نزلت فيهم الآية: فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: "أَنَّ نَفَرًا - مِنْ عُكْلٍ، وَعُرَيْنَةَ (¬4) - تَكَلَّمُوا ¬
بِالْإِسْلاَمِ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ أَهْلُ ضَرْعٍ، وَلَمْ يَكُونُوا أَهْلَ رِيفٍ، وَشَكَوْا حُمَّى الْمَدِينَةِ؛ فَأَمَرَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِذَوْدٍ (¬1)، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ الْمَدِينَةِ؛ فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَانْطَلَقُوا، فَكَانُوا فِي نَاحِيَةِ الْحَرَّةِ، فَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ، وَقَتَلُوا رَاعِيَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَسَاقُوا الذَّوْدَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي آثَارِهِمْ، فَأُتِيَ بِهِمْ، فَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ (¬2)، وَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَتُرِكُوا بِنَاحِيَةِ الْحَرَّةِ، يَقْضَمُونَ حِجَارَتَهَا حَتَّى مَاتُوا". قَالَ قَتَادَةُ: فَبَلَغَنَا أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ). (¬3) وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -: "أَنَّ نَاسًا أَغَارُوا عَلَى إِبِلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَاسْتَاقُوهَا وَارْتَدُّوا عَنْ الْإِسْلاَمِ، وَقَتَلُوا رَاعِيَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُؤْمِنًا؛ فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ، فَأُخِذُوا، فَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، قَالَ: وَنَزَلَتْ فِيهِمْ آيَةُ الْمُحَارَبَةِ". (¬4) ففي هذين الحديثين أنَّ هؤلاء العرنيين سرقوا، وقتلوا، وكفروا بعد إسلامهم، وحاربوا الله ورسوله، فكان جزاؤهم أنَّ لهم خزياً في الدنيا - وهو ما نُفِّذَ فيهم من التقطيع والتقتيل - ولهم في الآخرة عذاب عظيم؛ بسبب أنهم قُتِلوا وهم مرتدين. وأما أهل الحرابة من المسلمين فإنهم غير داخلين في هذا الوعيد، أعني قوله تعالى: (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، وذلك لحديث عبادة - رضي الله عنه -، في أنَّ من أقيم عليه الحد من المسلمين فهو كفارة له. ¬
وحديث عبادة وسبب النزول مخصص لعموم الآية في وعيد الآخرة فقط، وأما باقي الآية فهي على عمومها. قال الحافظ ابن كثير: "والصحيح أنَّ هذه الآية عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات". (¬1) يعني في إقامة الحد عليهم. ويؤيد هذا الاختيار: 1 - أنَّ حديث عبادة - رضي الله عنه - ورد ابتداء من غير سبب؛ وأما الآية فإنها نزلت على سبب خاص، وعموم النص الوارد ابتداء من غير سبب، أقوى وأولى بالتقديم من عموم النص الوارد على سبب خاص. (¬2) 2 - أنَّ تخصيص أحد الدليلين بالآخر، أولى من تخصيصهما معاً. 3 - أنَّ قصر بعض أفراد العام على سببه، أولى من قصر جميع أفراده على سبب النزول؛ إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. 4 - ومما يؤكد أنَّ الوعيد في الآية لغير المسلمين: ورود لفظ "الخزي" فيها، وهذا اللفظ الأغلب وروده في القرآن الكريم في حق الكفار. (¬3) ¬
فإن قيل: إنَّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فلم قصرتم الآية على سببها؟ فالجواب: أننا لم نقصر الآية كلها على سببها، وإنما قصرنا وعيد الآخرة فقط، على أنه لا مانع من قصر اللفظ العام على سببه، لدليل يوجب ذلك؛ كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)) [النور: 23]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "هذه الآية في أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، في قول كثير من أهل العلم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)) قال: نزلت في عائشة خاصة. (¬1) وعنه قال: هذه في عائشة وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يجعل لمن فعل ذلك توبة، وجعل لمن رمى امرأة من المؤمنات من غير أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - التوبة، ثم قرأ: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)) [النور: 4]، ولم يجعل لمن قذف امرأة من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - توبة، ثم تلا هذه الآية: (لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النور: 23] (¬2). فقد بيّن ابن عباس أنَّ هذه الآية إنما نزلت فيمن يقذف عائشة وأمهات المؤمنين خاصة. ¬
وقد وافق ابنَ عباس جماعةٌ؛ فعن سعيد بن جبير أنه سُئِلَ: الزنا أشد أو قذف المحصنة؟ فقال: لا; بل الزنا. فقيل له: فإن الله تعالى يقول: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) فقال: إنما كان هذا في عائشة خاصة. (¬1) وعن أبي الجوزاء في هذه الآية: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) قال: هذه الآية لأمهات المؤمنين خاصة. (¬2) وعن الضحاك في هذه الآية قال: هن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3) ". اهـ (¬4) ومن هذا المثال يتضح أنَّ قصر اللفظ العام على سببه لا مانع منه؛ إذا وُجِدَ الدليل الذي يوجب ذلك؛ فالوعيد في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)) لا يمكن إجراؤه على عمومه في كل من قذف مؤمنة؛ لأن الله تعالى قد جعل للقذف عقوبة مقدرة شرعاً في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)) [النور: 4]؛ ولأن اللعن في الدنيا والآخرة لا يستقيم فيمن أقيم عليه الحد؛ إذ الحد كفارة له، فوجب أنْ يكون الوعيد في الآية مقصوراً على من نزلت الآية بسببه، وهم قذفة عائشة رضي الله عنها، وكذا آية الحرابة؛ فإنه لا مانع من قصر الوعيد فيها على من نزلت الآية بسببه، وهم العرنيون الذين قُتِلُوا مرتدين. هذا ما تبين لي في هذه المسألة، وأما بقية الأقوال فلا تخلو من نظر، وقد ذكرت الإيرادات عليها عند ذكرها، والله تعالى أعلم. ¬
المسألة [6]: في عصمة الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - من الناس
المسألة [6]: في عصمة الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - من الناس. المبحث الأول: ذكر الآية الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)) [المائدة: 67]. المبحث الثاني: ذكر الأحاديث التي يُوهِمُ ظاهرها التعارض مع الآية: وردت أحاديث تفيد بظاهرها أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أصابه بعضُ الأذى من قومه، ومن هذه الأحاديث: أنه شُجَّ يوم أحد، وسُحِرَ، وسَمّته امرأةٌ يهودية. (9) ـ (8): فعن أنس - رضي الله عنه -: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ (¬1) يَوْمَ أُحُدٍ، وَشُجَّ (¬2) فِي رَأْسِهِ، فَجَعَلَ يَسْلُتُ الدَّمَ عَنْهُ وَيَقُولُ: كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ، وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) [آل عمران: 128] ". (¬3) ¬
(10) ـ (9): وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ يُقَالُ لَهُ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ، حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ". (¬1) (11) ـ (10): وعنها قالت: "كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: "يَا عَائِشَةُ مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ؛ فَهَذَا أَوَانُ (¬2) وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي (¬3) مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ". (¬4) ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآية والأحاديث
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآية والأحاديث: ظاهرُ الآية الكريمة عمومُ عصمةِ الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - من الناس، وأما الأحاديث ففيها أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أُصيب ببعض الأذى من قومه، وهذا يُوهِمُ خلاف الآية، التي وعدت بالعصمة مُطلقاً. (¬1) ¬
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية والأحاديث
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية والأحاديث: اختلفت أجوبة العلماء في هذه المسألة؛ بسبب تعدد الوقائع الواردة فيها، وسأذكر أجوبتهم حسب كل واقعة: أولاً: أجوبة العلماء عن خبر شجه، وكسر رباعيته - صلى الله عليه وسلم - في غزوة أحد: للعلماء في الجواب عن هذه الحادثة ثلاثة مذاهب: الأول: أنَّ ما وقع للنبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة أحد محمول على أحد أمرين: 1 - إما أنَّ ذلك كان قبل نزول قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)؛ لأن سورة المائدة من أواخر ما نزل من القرآن. 2 - أو أنَّ المراد بالآية عصمته - صلى الله عليه وسلم - من القتل والهلاك. وهذا مذهب الجمهور من المفسرين، والمحدثين. (¬1) المذهب الثاني: أنَّ الآية مخصوصة، والمراد عصمته - صلى الله عليه وسلم - من القتل والهلاك، فقط. وهذا مذهب: الشافعي، والزمخشري، وابن مفلح، وابن حجر الهيتمي، والسيوطي، وابن عاشور، وابن باز. (¬2) والفرق بين هذا المذهب والذي قبله، أن القائلين بالمذهب الأول ¬
أجابوا بكلا الوجهين، بخلاف أصحاب المذهب الثاني فقد اقتصروا على الوجه الثاني فقط. ويرد على هذين المذهبين: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سمّته امرأةٌ يهودية، حتى قال: "يَا عَائِشَةُ مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ؛ فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ". (¬1) فهذه الحادثة وقعت في غزوة خيبر سنة سبع من الهجرة (¬2)، وهي بعد نزول الآية. (¬3) ¬
ثانيا: أجوبة العلماء عن خبر سحره - صلى الله عليه وسلم -
وفي هذا الحديث أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - مات بسبب ذلك السم، ويلزم منه أنه لم يُعصم من القتل. (¬1) وأجاب بعضهم: بأنَّ الله تعالى ضمن لنبيه - صلى الله عليه وسلم - العصمة من القتل حال التبليغ فقط. (¬2) المذهب الثالث: أنَّ المراد بالعصمة: الحفظ من صدور الذنب، والمعنى: بلغ والله تعالى يعصمك من بين الناس أن يقع منك ذنب. ذكر هذا المذهب: البغوي، والآلوسي. (¬3) ويَرُدُّه: أنَّ سياق الآية إنما هو في الحديث عن عصمته - صلى الله عليه وسلم - من أذى الناس، لا من الذنوب؛ لأنَّ الله تعالى أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالتبليغ، والذي يناسب هذا الأمر الوعد بالعصمة من أذى الناس، لا العصمة من الذنوب، إذ لا تلازم بينهما. ثانياً: أجوبة العلماء عن خبر سحره - صلى الله عليه وسلم -: للعلماء في الجواب عن هذه الحادثة ثلاثة مذاهب: الأول: أنَّ ما تعرض له النبي - صلى الله عليه وسلم - من سحر، هو مرض من الأمراض، وعارض من العلل، وهذه تجوز على الأنبياء كغيرهم من البشر، وهي مما لا يُنكر ولا يَقدحُ في النبوة، ولا يُخِلُّ بالرسالة أو الوحي، والله سبحانه إنما عصم نبيه - صلى الله عليه وسلم - مما يحول بينه وبين الرسالة وتبليغها، وعصمه من القتل، دون العوارض التي تعرض للبدن. وهذا مذهب: الخطابي (¬4)، والمازري (¬5)، وابن القيم، والعيني (¬6)، والسندي (¬7)، ¬
وابن باز (¬1). (¬2) وحكاه القاضي عياض، حيث قال: "وأما ما ورد أنه كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولا يفعله، فليس في هذا ما يُدْخِلُ عليه داخلةً في شيء من تبليغه أو شريعته، أو يقدح في صدقه، لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا، وإنما هذا فيما يجوز طروُّه عليه في أمر دنياه، التي لم يُبعث بسببها ولا فُضِّل من أجلها، وهو فيها للآفات كسائر البشر، فغير بعيد أنْ يُخيَّل إليه من أمورها ما لا حقيقة له، ثم ينجلي عنه كما كان .... ، ولم يأتِ في خبرٍ أنه نُقِلَ عنه في ذلك قولٌ بخلاف ما كان أخبر أنه فعله ولم يفعله، وإنما كانت خواطر وتخيلات". اهـ (¬3) وقال ابن القيم: "السحر الذي أصابه - صلى الله عليه وسلم - كان مرضاً من الأمراض عارضاً شفاه الله منه، ولا نقص في ذلك ولا عيب بوجه ما؛ فإنَّ المرض يجوز على الأنبياء، وكذلك الإغماء؛ فقد أُغْمِيَ عليه - صلى الله عليه وسلم - في مرضه (¬4)، ووقع حين انفكت قدمه، وجُحِشَ (¬5) شِقُّهُ (¬6)، وهذا من البلاء الذي يزيده الله به رفعة في درجاته، ونيل كرامته، وأشد الناس بلاءً الأنبياء، فابتلوا من أممهم بما ابتلوا به، من القتل والضرب والشتم والحبس، فليس بِبدعٍ أن يُبتلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من بعض أعدائه بنوعٍ من السحر، كما ابتُلي بالذي رماه فشجه، وابتُلي بالذي ألقى على ظهره السلا (¬7) وهو ساجد (¬8)، وغير ذلك، فلا نقص عليهم ولا عار ¬
في ذلك؛ بل هذا من كمالهم وعلو درجاتهم عند الله". اهـ (¬1) المذهب الثاني: أنَّ السحر إنما تسلط على ظاهر النبي - صلى الله عليه وسلم - وجوارحه، لا على قلبه واعتقاده وعقله، ومعنى الآية: عصمة القلب والإيمان، دون عصمة الجسد عما يَرِدُ عليه من الحوادث الدنيوية. وهذا مذهب القاضي عياض (¬2)، وابن حجر الهيتمي (¬3)، وأبي شهبة (¬4). المذهب الثالث: أنَّ ما روي ـ من أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سُحِرَ ـ باطلٌ لا يصح، بل هو من وضع الملحدين. وهذا مذهب المعتزلة (¬5). وتأثر بمذهبهم هذا: من الأوائل: أبو بكر الجصاص، ومن المُعاصرين: محمد عبده، ومحمد رشيد رضا، والقاسمي. (¬6) قال الجصاص: "زعموا أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سُحِرَ، وأنَّ السحر عَمِلَ فيه ... ، ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين، تلعباً بالحشو الطُغام (¬7)، واستجراراً لهم إلى القول بإبطال معجزات الأنبياء عليهم السلام، والقدح فيها، وأنه لا فرق بين معجزات الأنبياء وفعل السحرة، وأنَّ جميعه من نوع واحد، والعجب ممن يجمع بين تصديق الأنبياء عليهم السلام وإثبات معجزاتهم وبين التصديق بمثل هذا من فعل السحرة، مع قوله تعالى: (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) [طه: 69]، فَصَدَّقَ هؤلاء مَنْ كذَّبَهُ الله وأخبر ببطلان دعواه وانتحاله. ¬
وجائزٌ أن تكون المرأةُ اليهودية بجهلها فعلتْ ذلك ظناً منها بأن ذلك يعمل في الأجساد، وقصدتْ به النبي - صلى الله عليه وسلم - ; فأطلعَ اللهُ نبيه على موضع سرها، وأظهر جهلها فيما ارتكبتْ وظنتْ؛ ليكون ذلك من دلائل نبوته، لا أنَّ ذلك ضَرَّهُ وخلَّطَ عليه أمره، ولم يقل كلُ الرواةِ إنه اختلط عليه أمره، وإنما هذا اللفظ زِيدَ في الحديث، ولا أصل له". اهـ (¬1) ومجمل حجة هؤلاء أنَّ القول بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُحِر يلزم منه: 1 - إبطال معجزات الأنبياء عليهم السلام والقدح فيها. 2 - ويلزم منه الخلط بين معجزات الأنبياء وفعل السحرة. 3 - ويلزم منه أن يكون تصديقاً لقول الكفار: (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا) [الفرقان: 8]، وقال قوم صالح له: (إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) [الشعراء: 153]، وكذا قال قوم شعيب له. 4 - قالوا: والأنبياء لا يجوز عليهم أن يُسحروا؛ لأن ذلك ينافي حماية الله لهم وعصمتهم. (¬2) وأجابوا عن حديث عائشة رضي الله عنها ـ والذي فيه أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سُحِر ـ بأنه مما تفرد به هشام بن عروة (¬3)، عن أبيه، عن عائشة. وأنه غَلَطَ فيه، واشتبه عليه الأمر. (¬4) واعتُرِضَ: 1 - بأنَّ قوله تعالى: (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا)، وقوله: (إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) المراد به: من سُحر حتى جُنَّ وصار كالمجنون الذي زال عقله؛ إذ المسحور الذي لا يُتبع هو من فسد عقله بحيث لا يَدْري ما يقول، فهو كالمجنون، ولهذا قالوا فيه: (مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) [الدخان: 14]، وأما من أصيب في بدنه بمرض من الأمراض التي يُصاب بها الناس؛ فإنه لا يمنع ذلك من ¬
اتباعه، وأعداء الرسل لم يقذفوهم بأمراض الأبدان، وإنما قذفوهم بما يُحَذِّرون به سفهاءهم من أتباعهم، وهو أنهم قد سُحِروا حتى صاروا لا يعلمون ما يقولون بمنزلة المجانين، ولهذا قال تعالى: (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)) [الإسراء: 48]. 2 - وأما قولهم: إنَّ سحر الأنبياء يُنافي حماية الله تعالى لهم؛ فإنه سبحانه كما يحميهم ويصونهم ويحفظهم ويتولاهم؛ فإنه يبتليهم بما شاء من أذى الكفار لهم؛ ليستوجبوا كمال كرامته، وليتسلى بهم من بعدهم من أممهم وخلفائهم إذا أوذوا من الناس، فإنهم إذا رأوا ما جرى على الرسل والأنبياء صبروا ورضوا وتأسوا بهم. (¬1) 3 - وأما قولهم: بأن حديث عائشة هو مما تفرد به هشام بن عروة؛ فجوابه: أنَّ ما قاله هؤلاء مردود عند أهل العلم؛ فإن هشاماً من أوثق الناس وأعلمهم، ولم يقدح فيه أحد من الأئمة بما يوجب رد حديثه، وقد اتفق أصحاب الصحيحين على تصحيح هذا الحديث، ولم يتكلم فيه أحد من أهل الحديث بكلمة واحدة، والقصة مشهورة عند أهل التفسير، والسنن والحديث، والتاريخ والفقهاء، وهؤلاء أعلم بأحوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأيامه من غيرهم. والحديث لم يتفرد به هشام؛ فقد رواه الأعمش، عن يزيد بن حيان، عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: "سَحَرَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ، فَاشْتَكَى لِذَلِكَ أَيَّامًا؛ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ: إِنَّ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ سَحَرَكَ، عَقَدَ لَكَ عُقَدًا فِي بِئْرِ كَذَا وَكَذَا؛ فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَخْرَجُوهَا، فَجِيءَ بِهَا فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِذَلِكَ الْيَهُودِيِّ، وَلَا رَآهُ فِي وَجْهِهِ قَطُّ". (¬2) (¬3) ¬
ثالثا: أجوبة العلماء عن قصة السم الذي وضع له - صلى الله عليه وسلم -
ثالثاً: أجوبة العلماء عن قصة السُّمِّ الذي وُضِعَ له - صلى الله عليه وسلم -: للعلماء في الجواب عن هذه الحادثة ثلاثة مذاهب: الأول: أنَّ ما حصل له - صلى الله عليه وسلم - من وضع السم لا يُعارض الآية؛ لأن المراد عصمته من القتل حال تبليغه للوحي، والمعنى: بلغ، وأنت حال تبليغك معصوم، ولهذا لم يعتدِ عليه - صلى الله عليه وسلم - أحدٌ أبداً حال تبليغه. وهذا مذهب: الشيخ محمد بن صالح العثيمين. (¬1) وبنحوه قال ابن عطية (¬2)، وذكره الآلوسي في تفسيره (¬3). المذهب الثاني: أنَّ المراد عصمته من القتل على وجه القهر والغلبة والتسليط، وأنَّ هذا لم يقع. ذكره: ابن مفلح. (¬4) المذهب الثالث: أنَّ ما رُويَ من وجود الألم وانقطاع أبهره - صلى الله عليه وسلم -: مرسل أو منقطع، وهذه الرواية لا تقاوم الرواية المتفق على صحتها، التي لم يذكر فيها أنَّ السم أثر فيه - صلى الله عليه وسلم -. ذكره: ابن مفلح. (¬5) المبحث الخامس: الترجيح: الذي يَظْهُرُ صَوَابُه ـ والله تعالى أعلم ـ أنَّ الله تعالى ضمن لنبيه - صلى الله عليه وسلم - العصمة من القتل فقط، دون العوارض التي تعرض للبدن، فتكون الآية من العام الذي أريد به الخصوص، وما تعرَّض له النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأذى في أحد، ومن السحر والسم، لا يُنافي العصمة؛ لأن شيئاً من ذلك لم يكن له أثر على ¬
حياته - صلى الله عليه وسلم -، بل هذا مما أراد الله تعالى به إعلاء منزلة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ أشد الناس بلاء هم الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل (¬1)، وأخبر بأن الله إذا أحب عبداً أصاب منه (¬2)، ونبينا - صلى الله عليه وسلم - هو حبيب الرحمن وخليله، وهذه المحبة والخلة تستدعي أن يُبتلى كما أخبر، وإذ الأمر كذلك فإنَّ ما أصيب به - صلى الله عليه وسلم - هو مما أراد الله تعالى به إكرامه وتكميل مراتب الفضل له. ومما يدل على أنَّ المراد بـ"العصمة" في الآية العصمة من القتل فقط: 1 - قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للمرأة التي وضعت له السم: "مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَيَّ" (¬3)، فهذا يدل على أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - فهم من الآية أنَّ الله قد عصمه من القتل فقط. 2 - ويدل عليه أيضاً أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - تعرض لمحاولات قتل كثيرة، فعصمه الله تعالى كما وعده، ولم يستطع أحد أن يناله بشيء. (¬4) ¬
الإيرادات والاعتراضات على هذا الاختيار: الإيراد الأول: أنَّ لفظ الآية عام في عصمته - صلى الله عليه وسلم - من كل شيء، وتخصيصها بالقتل فقط تحكم بلا دليل. والجواب: أنَّ القول بعمومها فيه مصادمة للوقائع التي جرت للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ومحال أن يَعِدَ الله نبيه بالعصمة مطلقاً ثم يقع خِلاف ذلك، فدل على أنَّ الله تعالى لم يُرِدْ العصمة مطلقاً، وإنما أراد القتل فقط. الإيراد الثاني: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأن السم الذي وضع له بخيبر لم يزل مؤثراً فيه حتى أدى به إلى الوفاة؛ فيكون مات قتيلاً بسببه. والجواب: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمت في الحال من ذلك السم الذي وضع له، بل عاش بعد ذلك ثلاث سنين حتى كان وجعه الذي توفي فيه، فلو كان السُّمُّ قد أثر فيه لمات في الحال، كما مات الصحابي بشر بن البراء - رضي الله عنه - الذي أكل معه - والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمت إلا بعد أن أكمل الله تعالى دينه، وشاء سبحانه أن يُظْهِر أثر السم قُرْبَ وفاته لِمَا أراد مِنْ إكرامه بالشهادة، وتكميل مراتب الفضل كلها له - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) ¬
المسألة [7]: في تعذيب الميت ببكاء الحي
المسألة [7]: في تعذيب الميت ببكاء الحي. المبحث الأول: ذكر الآية الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الأنعام: 164]. (¬1) المبحث الثاني: ذكر الحديث الذي يُوهِمُ ظاهره التعارض مع الآية: (12) ـ (11): قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ". (¬2) ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآية والحديث
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآية والحديث: ظاهر الآية الكريمة أَنَّ الله تعالى لا يُعذِّبُ أحداً بوزر غيره، وأما الحديث الشريف ففيه أنَّ الميت يُعذب ببكاء أهله عليه، وهذا يُوهِمُ مُعارضة الآية؛ لأن بكاء أهله عليه ليس من فعله. (¬1) قال الشنقيطي: يَرِدُ على هذه الآية الكريمة سؤال: وهو ما ثبت في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما، من أَنَّ الميت يُعذب ببكاء أهله عليه، فيقال: ما وجه تعذيبه ببكاء غيره؟ إذ مؤاخذته ببكاء غيره قد يظن من لا يعلم أنها من أخذ الإنسان بذنب غيره. اهـ (¬2) المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية والحديث: أجمع العلماء على أَنَّ المراد بالبكاء في الحديث هو الذي يكون بصوتٍ وندبٍ ونياحة، وأما مجرد دمع العين فلا يدخل في الحديث، وقد حكى الإجماع النووي رحمه الله. (¬3) ومستند الإجماع قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلَا بِحُزْنِ ¬
الْقَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا - وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ - أَوْ يَرْحَمُ، وَإِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ". (¬1) ولا إشكال في مؤاخذة الحي بالندب والنياحة؛ لأنَّ ذلك أمر منهي عنه (¬2)، وإنما الإشكال في مؤاخذة الميت بذلك. (¬3) وقد اختلف العلماء في دفع التعارض بين الآية والحديث على مسلكين: الأول: مسلك الجمع بين الآية والحديث: وعلى هذا المسلك عامة العلماء، من محدثين، ومفسرين، وفقهاء؛ إلا أنهم اختلفوا في الجمع على مذاهب: الأول: حمل الأحاديث الواردة في المسألة على ظاهرها، وتأويل الآية. ويرى أصحاب هذا المسلك أَنَّ الميتَ يُعذَّبُ بمجرد بكاء أهله عليه، وإن لم يكن له تسبب في ذلك. وهذا مذهب: عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، رضي الله عنهما. (¬4) أما مذهب عمر - رضي الله عنه -، فيدل عليه قصته مع صهيب، فعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: صَدَرْتُ مَعَ عُمَرَ - رضي الله عنه - مِنْ مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ (¬5) إِذَا هُوَ بِرَكْبٍ تَحْتَ ¬
ظِلِّ سَمُرَةٍ فَقَالَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ مَنْ هَؤُلَاءِ الرَّكْبُ؟ قَالَ: فَنَظَرْتُ فَإِذَا صُهَيْبٌ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ادْعُهُ لِي، فَرَجَعْتُ إِلَى صُهَيْبٍ فَقُلْتُ: ارْتَحِلْ فَالْحَقْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ دَخَلَ صُهَيْبٌ يَبْكِي يَقُولُ: وَا أَخَاهُ، وَا صَاحِبَاهُ، فَقَالَ عُمَرُ - رضي الله عنه -: يَا صُهَيْبُ أَتَبْكِي عَلَيَّ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ". (¬1) قال الحافظ ابن حجر: "ويُحتمل أن يكون عمر - رضي الله عنه - كان يرى أَنَّ المؤاخذة تقع على الميت إذا كان قادراً على النهي ولم يقع منه؛ فلذلك بادر إلى نهي صهيب، وكذلك نهى حفصة، كما رواه مسلم (¬2) من طريق نافع عن ابن عمر عنه". اهـ (¬3) وأما مذهب عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - فيدل عليه: أنه شهد جنازة رافع بن خديج وقام النساء يبكين على رافع فأجلسهن مراراً ثم قال لهن: "ويحكن إنَّ رافع بن خديج شيخ كبير لا طاقة له بالعذاب، وإنَّ الميت يعذب ببكاء أهله عليه". (¬4) ¬
واختار هذا المذهب: الأُبِّيّ (¬1)، والشوكاني، وابن باز، رحمهم الله. (¬2) واستدلوا له: 1 - بأنَّ لله تعالى أن يتصرف في خلقه كما يشاء، ولا يُسأل عما يفعل سبحانه. (¬3) 2 - أَنَّ الله تعالى أخبر بأنه قد يُعذب في الدنيا من لا ذنب له، بسبب ذنب غيره، كما في قوله تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال: 25]، يريد أنها تعم فتُصيب الظالم وغيره، وقال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)) [الروم: 41]، وقالت زينب بنت جحش رضي الله عنها: يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون؟ فقال: "نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ" (¬4)، وقد أغرق الله تعالى أمة نوح عليه السلام كلها، وفيهم الأطفال والبهائم، وذلك بذنوب البالغين، وأهلك قوم عاد بالريح العقيم، وثمود بالصاعقة، وقوم لوط بالحجارة، ومسخ أصحاب السبت قردة وخنازير، وعذب بعذابهم الأطفال، وإذ الأمر كذلك فإن حال البرزخ تُلْحَقُ بحال الدنيا، فيجوز التعذيب فيها بسبب ذنب الغير، كما ¬
في الدنيا. (¬1) وأجاب أصحاب هذا المذهب عن الآية: بأنها عامة، والحديث مُخصص لعمومها، والسنة تُخصص عموم القرآن على الصحيح. (¬2) قال الشوكاني: "وأنت خبير بأنَّ الآية عامة; لأن الوِزْرَ المذكور فيها واقع في سياق النفي، والأحاديث المذكورة مشتملة على وِزْرٍ خاص، وتخصيص العمومات القرآنية بالأحاديث الأحادية هو المذهب المشهور الذي عليه الجمهور (¬3)، فلا وجه لما وقع من رد الأحاديث بهذا العموم، ولا ملجأ إلى تجشم المضايق لطلب التأويلات المستبعدة باعتبار الآية .... ، والأحاديث التي ذُكِرَ فيها تعذيبٌ مختصٌ بالبرزخ، أو بالتألم، أو بالاستعبار - كما في حديث قيلة (¬4) (¬5) - لا تدل على اختصاص التعذيب المطلق في الأحاديث بنوع منها; لأن التنصيص على ثبوت الحكم لشيء بدون مشعر بالاختصاص به لا ينافي ثبوته لغيره، فلا إشكال من هذه الحيثية، وإنما الإشكال في التعذيب بلا ذنب، وهو مخالف لعدل الله وحكمته، على فرض عدم حصول سبب من الأسباب التي يحسن عندها في مقتضى الحكمة، كالوصية من الميت بالنوح، وإهمال نهيهم عنه، والرضا به، وهذا يئول إلى مسألة التحسين والتقبيح والخلاف فيها بين طوائف المتكلمين معروف (¬6)، ¬
ونقول: ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أَنَّ الميت يعذب ببكاء أهله عليه" فسمعنا وأطعنا، ولا نزيد على هذا". اهـ (¬1) وكذا قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز لما سُئِلَ عن الجمع بين الآية والأحاديث، فأجاب: "ليس هناك تعارض بين الأحاديث والآية .... ، فقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عمر، ومن حديث المغيرة وغيرهما في الصحيحين، وليس في البخاري وحده، أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الميت يعذب بما يناح عليه"، وفي رواية للبخاري: "ببكاء أهله عليه" .... ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قصد بهذا منع الناس من النياحة على موتاهم، وأن يتحلوا بالصبر ويكفوا عن النوح .... ، فالميت يعذب بالنياحة عليه من أهله، والله أعلم بكيفية العذاب الذي يحصل له بهذه النياحة، وهذا مستثنى من قوله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الأنعام: 164]؛ فإنَّ القرآن والسنة لا يتعارضان، بل يصدق أحدهما الآخر، ويفسر أحدهما الآخر؛ فالآية عامة والحديث خاص، والسنة تفسر القرآن وتبين معناه؛ فيكون تعذيب الميت بنياحة أهله عليه مستثنى من الآية الكريمة، ولا تعارض بينها وبين الأحاديث". اهـ (¬2) ولابن قتيبة رأيان في المسألة: الأول: موافقة عائشة رضي الله عنها، كما سيأتي. والثاني: أَنَّ الآية خاصة في أحكام الدنيا. قال ابن قتيبة: "وأما قولهم كيف يُعذَّب الميتُ ببكاء الحي، والله تعالى يقول: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)؟ فإنا أيضاً نظن أَنَّ التعذيب للكافر ببكاء أهله عليه، وكذلك قال ابن عباس (¬3) إنه مرَّ بقبر يهودي فقال: إنه يعذب وإن أهله ليبكون عليه؛ فإن كان كذلك فهذا مالا يُوحِش؛ لأن الكافر يُعذب على كل ¬
حال، وإن كان أراد المسلم المقصر؛ فإن قول الله عز وجل: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) إنما هو في أحكام الدنيا، وكان أهل الجاهلية يطلبون بثأر القتيل فيقتل أحدهم أخاه أو أباه أو ذا رحم به، فإذا لم يقدر على أحد من عصبته ولا ذوي الرحم به قتل رجلاً من عشيرته، فأنزل الله تبارك وتعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (¬1)، وأخبرنا أيضاً أنه مما أنزل على إبراهيم عليه السلام (¬2)، ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل رأى معه ابنه: "لَا تَجْنِي عَلَيْهِ وَلَا يَجْنِي عَلَيْكَ" (¬3) ". اهـ (¬4) وذهب الكرماني إلى أَنَّ الآية خاصة في أحكام الآخرة؛ إذ المراد بها الإخبار عن حال الآخرة، وأما الحديث ففيه الإخبار عن حال البرزخ، وحال البرزخ تلحق بأحوال الدنيا، والتي يجوز فيها التعذيب بذنب الغير، وعليه فلا يكون هناك تعارض بين الآية والحديث. (¬5) وأجاب أصحاب هذا المذهب عن حديث عائشة رضي الله عنها، والذي فيه تخصيص ذلك بالكافر: فقال الشوكاني: "وأما ما روته عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ذلك في الكافر أو في يهودية معينة" فهو غير مناف لرواية غيرها من الصحابة; لأن روايتهم مشتملة على زيادة، والتنصيص على بعض أفراد العام لا يوجب نفي الحكم عن بقية الأفراد، لما تقرر في الأصول من عدم صحة التخصيص ¬
بموافق العام". اهـ (¬1) وقال سماحة الشيخ ابن باز: "وأما قول عائشة رضي الله عنها فهذا من اجتهادها وحرصها على الخير، وما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - مقدم على قولها وقول غيرها لقول الله سبحانه: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) [الشورى: 10] وقوله عز وجل: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) [النساء: 59] والآيات في هذا المعنى كثيرة، والله الموفق". اهـ (¬2) المذهب الثاني: حمل الآية على ظاهرها وتأويل الأحاديث. وهذا مذهب الجمهور من العلماء حيث ذهبوا إلى تأويل الأحاديث الواردة في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه، لما فيها من مخالفة لعمومات القرآن، وإثباتها لتعذيب من لا ذنب له، لكن اختلفوا في التأويل على أقوال: الأول: أَنَّ الباء في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ببكاء أهله" هي للحال، والمعنى: أَنَّ مبدأ عذاب الميت يقع عند بكاء أهله عليه، وذلك أَنَّ شدة بكائهم غالباً إنما تقع عند دفنه، وهو في تلك الحالة يُسْأل، ويبتدئ به عذاب القبر، فكأن معنى الحديث: أَنَّ الميت يعذب حال بكاء أهله عليه، ولا يلزم من ذلك أن يكون بكاؤهم سبباً لتعذيبه. (¬3) حكى هذا القول: الخطابي، والمازري، وابن الجوزي. (¬4) الإيرادات والاعتراضات على هذا القول: قال الحافظ ابن حجر: "ولا يخفى ما في هذا القول من التكلف، ولعل قائله إنما أخذه من قول عائشة رضي الله عنها: إنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّهُ لَيُعَذَّبُ بِخَطِيئَتِهِ وَذَنْبِهِ، وَإِنَّ أَهْلَهُ لَيَبْكُونَ عَلَيْهِ الْآنَ" (¬5)، وعلى هذا يكون خاصاً ببعض ¬
الموتى". اهـ (¬1) وضعفه الطيبي بناء على رواية: "ببكاء الحي": ورواية: "يعذب في قبره بما نيح عليه"، حيث يرى أَنَّ هاتين الروايتين تردان القول بأن الباء للحال. (¬2) وقال ابن القيم: "وهذا المسلك باطل قطعاً؛ فإنه ليس كل ميت يعذب، ولأن هذا اللفظ لا يدل إلا على السببية كما فهمه أعظم الناس فهماً؛ ولهذا ردته عائشة لما فهمت منه السببية؛ ولأن اللفظ الآخر الصحيح الذي رواه المغيرة (¬3) يُبطل هذا التأويل؛ ولأن الإخبار بمقارنة عذاب الميت المستحق للعذاب لبكاء أهله لا فائدة فيه". اهـ (¬4) القول الثاني: أَنَّ اللام في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الْمَيِّتَ" هي لمعهود معين، وهي يهودية مَرَّ بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال الحديث، والراوي سمع بعض الحديث، ولم يسمع بعضه الآخر. وهذا هو الظاهر من رواية عمرة (¬5)، وعروة (¬6)، عن عائشة رضي الله عنها. ¬
وهو اختيار: القاضي أبي بكر الباقلاني (¬1) (¬2)، والخطابي - في أحد قوليه (¬3). واحتجوا له: بأن حديث عمر بن الخطاب، وابنه، مجمل، وحديث عائشة مُفَسَّر، والمفسر مقدم على المجمل. (¬4) القول الثالث: أَنَّ التعذيب المذكور في الحديث مختص بالكافر؛ فإن الله يزيده عذاباً ببكاء أهله عليه، وأما المؤمن فلا يعذب بذنب غيره أبداً. قال الحافظ ابن حجر: "وهو بين من رواية ابن عباس عن عائشة". (¬5) قلت: رواية ابن عباس أخرجها البخاري (¬6)، ومسلم (¬7)، من طريق عبد الله بن عبيدالله بن أبي مُلَيْكَةَ قال: "تُوُفِّيَتْ ابْنَةٌ لِعُثْمَانَ - رضي الله عنه - بِمَكَّةَ وَجِئْنَا لِنَشْهَدَهَا وَحَضَرَهَا ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهم -، وَإِنِّي لَجَالِسٌ بَيْنَهُمَا، أَوْ قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى أَحَدِهِمَا، ثُمَّ جَاءَ الْآخَرُ فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِي، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ: أَلَا تَنْهَى عَنْ الْبُكَاءِ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ". فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قَدْ كَانَ عُمَرُ - رضي الله عنه - يَقُولُ بَعْضَ ذَلِكَ، ثُمَّ حَدَّثَ قَالَ: صَدَرْتُ مَعَ عُمَرَ - رضي الله عنه - مِنْ مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ إِذَا هُوَ بِرَكْبٍ تَحْتَ ظِلِّ سَمُرَةٍ فَقَالَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ مَنْ هَؤُلَاءِ الرَّكْبُ؟ قَالَ: فَنَظَرْتُ فَإِذَا صُهَيْبٌ، فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: ادْعُهُ لِي، فَرَجَعْتُ إِلَى صُهَيْبٍ ¬
فَقُلْتُ: ارْتَحِلْ فَالْحَقْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ دَخَلَ صُهَيْبٌ يَبْكِي يَقُولُ: وَا أَخَاهُ وَا صَاحِبَاهُ، فَقَالَ عُمَرُ - رضي الله عنه -: يَا صُهَيْبُ أَتَبْكِي عَلَيَّ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ"، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ - رضي الله عنه - ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ: رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ، وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللَّهَ لَيُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ"، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ"، وَقَالَتْ: حَسْبُكُمْ الْقُرْآنُ (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى). قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عِنْدَ ذَلِكَ: وَاللَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى. قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: وَاللَّهِ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا شَيْئًا". (¬1) وقد ذهب الإمام الشافعي إلى تصويب عائشة رضي الله عنها فيما ذهبت إليه، حيث قال: "وما روت عائشة عن رسول الله أشبه أن يكون محفوظاً عنه - صلى الله عليه وسلم -، بدلالة الكتاب ثم السنة. فإن قيل: فأين دلالة الكتاب؟ قيل: في قوله عز وجل: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)، و (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)) [النجم: 39]، وقوله: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)) [الزلزلة: 7 - 8]، وقوله: (لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى) [طه: 15]. قال الشافعي: وعمرة أحفظ عن عائشة من ابن أبي مليكة، وحديثها أشبه الحديثين أن يكون محفوظاً؛ فإن كان الحديث على غير ما روى ابن أبي مليكة من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها" فهو ¬
واضح لا يحتاج إلى تفسير؛ لأنها تعذب بالكفر، وهؤلاء يبكون ولا يدرون ما هي فيه، وإن كان الحديث كما رواه ابن أبي مليكة فهو صحيح؛ لأن على الكافر عذاباً أعلى، فإن عذب بدونه فزيد في عذابه فيما استوجب وما نيل من كافر من عذاب أدنى من أعلى منه، وما زيد عليه من العذاب فباستيجابه لا بذنب غيره في بكائه عليه. فإن قيل: يزيده عذاباً ببكاء أهله عليه؟ قيل: يزيده بما استوجب بعمله ويكون بكاؤهم سبباً، لا أنه يُعذب ببكائهم. فإن قيل: أين دلالة السنة؟ قيل: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل: "ابنك هذا؟ قال: نعم. قال: "أَمَا إِنَّكَ لَا تَجْنِي عَلَيْهِ وَلَا يَجْنِي عَلَيْكَ" (¬1)، فأعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما أعلم الله من أَنَّ جناية كل امرئ عليه كما عمله له لا لغيره ولا عليه". اهـ (¬2) وذكر ابن عبد البر أَنَّ ما ذهب إليه الشافعي هو تحصيل مذهب الإمام مالك؛ لأن مالكاً ذكر حديث عائشة في موطئه (¬3)، ولم يذكر خلافه عن أحد. (¬4) الإيرادات والاعتراضات على مذهب عائشة رضي الله عنها: إن المتأمل في الروايات الواردة عن عائشة رضي الله عنها يلحظ فيها شيئاً من الاختلاف، فهي مرة تؤول الحديث بأنه حكاية حال عن امرأة يهودية تُعذب في قبرها، ومرة تذكر بأنه يهودي وليست يهودية، ومرة أخرى تؤول الحديث بأن الكافر يزيده الله عذاباً ببكاء أهله عليه، وهي في كل ذلك ترفع هذه التأويلات للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد تكلم العلماء على مذهب عائشة وما أوردته من تأويلات: فقال الحافظ ابن حجر: "وهذه التأويلات عن عائشة متخالفة، وفيه ¬
إشعار بأنها لم تَرُد الحديثَ بحديثٍ آخر؛ بل بما استشعرته من معارضة القرآن". اهـ (¬1) وقال الداوودي (¬2): "رواية ابن عباس عن عائشة أثبتت ما نفته عمرة وعروة عنها، إلا أنها خصته بالكافر؛ لأنها أثبتت أَنَّ الميت يزداد عذاباً ببكاء أهله، فأي فرق بين أن يزداد بفعل غيره أو يعذب ابتداء". اهـ (¬3) وقال ابن الجوزي: "وهذا الجواب لا أعتمد عليه لثلاثة أوجه: أحدها: أَنَّ ما روته عائشة حديث وهذا حديث، ولا تناقض بينهما، بل لكل واحد منهما حكمه. والثاني: أنها أنكرت برأيها وقالت بظنها، وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا صح لا يلتفت معه إلى رأي. والثالث: أَنَّ ما ذكرته لم يُحْفَظْ إلا عنها، وذلك الحديث محفوظ عن عمر، وابن عمر، والمغيرة، وهم أولى بالضبط منها". اهـ (¬4) وقال أبو العباس القرطبي - بعد أن أورد إنكار عائشة رضي الله عنها -: "وهذا فيه نظر؛ أما إنكارها ونسبة الخطأ لراويه فبعيد، وغير بيّن ولا واضح، وبيانه من وجهين: أحدهما: أَنَّ الرواة لهذا المعنى كثير؛ عمر، وابن عمر، والمغيرة بن شعبة، وقيلة بنت مخرمة، وهم جازمون بالرواية، فلا وجه لتخطئتهم، وإذا أُقْدِمَ على ردِّ خبر جماعة مثل هؤلاء - مع إمكان حمله على محمل الصحيح - فلأن يُرَدَّ خبر راوٍ واحد أولى، فرد خبرها أولى، على أَنَّ الصحيح: ألا يرد واحد من تلك الأخبار، وينظر في معانيها كما نبينه. وثانيهما: أنه لا معارضة بين ما روتْ هي، ولا ما رَوَوْا هم؛ إذ كل واحد منهم أخبر عما سمع وشاهد، وهما واقعتان مختلفتان. وأما استدلالها على رد ذلك بقوله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) ¬
[الأنعام: 164] فلا حجة فيه، ولا معارضة بين هذه الآية والحديث، على ما نبديه من معنى الحديث إن شاء الله". اهـ (¬1) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد أنكر طوائف من السلف الأحاديث الواردة في ذلك، وغلَّطوا الرواة لها، واعتقدوا أَنَّ ذلك من باب تعذيب الإنسان بذنب غيره، وهذه طريقة عائشة، والشافعي، وغيرهما .... ، والأحاديث الصحيحة الصريحة التي يرويها مثل عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وأبي موسى الأشعري وغيرهم لا تُرد بمثل هذا، وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها لها مثل هذا نظائر، ترد الحديث بنوع من التأويل والاجتهاد لاعتقادها بطلان معناه، ولا يكون الأمر كذلك. ومن تدبر هذا الباب وجد هذا الحديث الصحيح الصريح الذي يرويه الثقة لا يرده أحد بمثل هذا إلا كان مخطئاً، وعائشة رضي الله عنها روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لفظين - وهي الصادقة فيما نقلته - فروت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: "إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه"، وهذا موافق لحديث عمر؛ فإنه إذا جاز أن يزيده عذاباً ببكاء أهله، جاز أن يعذب غيره ابتداء ببكاء أهله. اهـ (¬2) وقال ابن القيم: "وإنكار عائشة لذلك بعد رواية الثقات لا يعول عليه؛ فإنهم قد يحضرون ما لا تحضره، ويشهدون ما تغيب عنه، واحتمال السهو والغلط بعيد، خصوصاً في حق خمسة من أكابر الصحابة، وقوله في اليهود لا يمنع أن يكون قد قال ما رواه عنه هؤلاء الخمسة في أوقات أخر، ثم هي محجوجة بروايتها عنه أنه قال: "إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه"؛ فإذا لم يمنع زيادة الكافر عذاباً بفعل غيره - مع كونه مخالفاً لظاهر الآية - لم يمنع ذلك في حق المسلم؛ لأن الله سبحانه كما لا يظلم عبده المسلم لا يظلم الكافر، والله أعلم". اهـ (¬3) وقال الأُبِّيّ: "تواترت الأحاديث بإثبات عذاب القبر، والتعذيب فيه ¬
ببكاء الحي صورة من صور التعذيب، وصحت فيه هذه الأحاديث فأمرَّها عمر وغيره على ظاهرها، ورآها مخصصة لعموم: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)، والسنة تخصص عموم القرآن على الصحيح. وأما عائشة فجزمت بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقل ذلك، وأنه إنما قال: "الكافر يزيده الله عذابا ببكاء أهله عليه"، وقالت في الطريق الآخر: إنه مُرَّ على النبي - صلى الله عليه وسلم - بجنازة يهودي وهم يبكون عليه فقال: "هم يبكون عليه وإنه ليعذب". وأما استشهادها بالآية؛ فلا يخفى عليك ما فيه من الإشكال؛ أما أولاً: فإنها شهادة على النفي، وهي وإن كانت مقبولة من مثل عائشة، لكن عارضتها رواية عمر، وابنه، وناهيك مع صحة حديث المغيرة الآتي: "من نيح عليه عذب". وأما ثانياً: فإن ما ذكرَتْ في الطريق الأول هو أيضاً معارض للآية التي احتجت بها، وغاية ما يقال: إن التخصيص عليه أقل، أعني تخصيص عمومها بالكافر، وما ذكرت في الطريق الثاني غير مناف لحديث عمر". اهـ (¬1) وقال ابن عادل: "وعائشة رضي الله عنها لم تخبر أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نفى ذلك، وإنما تأولت على ظاهر القرآن، ومن أثبت وسمع حجة على من نفى وأنكر .... ، والحديث الذي روته حديث آخر لا يجوز أن يُرَدَّ به خبر الصادق؛ لأن القوم قد يشهدون كثيراً مما لا تشهد، مع أَنَّ روايتها تحقق ذلك الحديث؛ فإن الله تعالى إذا جاز أن يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله، جاز أن يعذب الميت ابتداء ببكاء أهله. ثم في حديث ابن رواحة (¬2) ما ينص على أَنَّ ذلك في المسلم؛ فإن ابن رواحة كان مسلماً، ولم يوص بذلك". اهـ (¬3) ¬
وقال المُلا علي بن سلطان القاري: "ولا يخفى أَنَّ هذا الاعتراض وارد لو لم يُسْمَع الحديث إلا في هذا المورد، وقد ثبت بألفاظ مختلفة وبروايات متعددة - عنه وعن غيره - غير مقيدة بل مطلقة، فدخل هذا الخصوص تحت هذا العموم، فلا منافاة ولا معارضة، فيكون اعتراضها بحسب اجتهادها". اهـ (¬1) ويتلخص من أقوال العلماء في الرد على عائشة رضي الله عنها: 1 - أَنَّ ما أوردته من تأويلات، إنما هو من اجتهادها، وليس هو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الظاهر من كلام الحافظ ابن حجر، والداوودي، وابن الجوزي. 2 - أَنَّ ما اعترضت به عائشة بقولها: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ" هو أيضاً معارضٌ للآية، على مذهبها. 3 - أنه لا تعارض بين ما روت عائشة، وما روى عمر، وابنه؛ لأن كل واحد منهم أخبر بما سمع وشاهد، وهما واقعتان مختلفتان. 4 - أنه على فرض التعارض فإن حديث عمر بن الخطاب، وابنه، أولى بالتقديم من حديث عائشة؛ لأن الرواة له أكثر. القول الرابع: أَنَّ الحديث محمول على ما إذا كان النوح من سنة الميت وسنة أهله، ولم ينه أهله عنه في حياته؛ فإنه يعذب من أجل ذلك، وأما إذا لم يكن من سنته فإنه لا يعذب. وحاصل هذا المذهب أَنَّ الإنسان لا يعذب بفعل غيره إلا إذا كان له فيه تسبب. وهذا مذهب البخاري، وقد ترجم له في صحيحه بقوله: "باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه"، إذا كان النوح من سنته؛ لقول الله تعالى: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) [التحريم: 6]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ" (¬2)، فإذا لم يكن من سنته فهو كما قالت ¬
عائشة رضي الله عنها: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)، وهو كقوله: (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ) [فاطر: 18]، وما يرخص من البكاء في غير نوح، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ" (¬1) ". اهـ (¬2) وهو اختيار: أبي البركات ابن تيمية (¬3). (¬4) القول الخامس: أَنَّ الحديث محمول على من أوصى أهله بذلك، فإنه يعذب بسبب وصيته، لا بسبب النياحة، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ". (¬5) قالوا: وكان ذلك مشهوراً من مذاهب العرب وعاداتهم، حيث كانوا يوصون بالندب والنياحة، وهو موجود في أشعارهم: كما قال لبيد (¬6) يخاطب ابنتيه: (¬7) فقوما فقولا بالذي قد علمتما ... ولا تخمشا وجهاً ولا تحلقا الشعر وقولا هو المرءُ الذي لا صديق له ... أضاع، ولا خان الأمير ولا غدر إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبكِ حولاً كاملاً فقد اعتذر وكما قال طرفة بن العبد (¬8): (¬9) إذا متُّ فانعيني بما أنا أهله ... وشقي عليَّ الجيب يا ابنة معبدِ وهذا قول: المزني (¬10) (¬11)، وإبراهيم الحربي (¬12) (¬13). ¬
وحكى أبو الليث السمرقندي: أنه قول عامة أهل العلم. (¬1) ونقله النووي عن الجمهور. (¬2) وهو اختيار: الطحاوي، والخطابي في قول، والبغوي، وأبي عبد الله القرطبي، والنووي، والذهبي، والشاطبي، والمُلا علي بن سلطان القاري، والسندي، والآلوسي، والألباني. (¬3) واستدلوا له: 1 - بحديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ عَلَيْهِ، إِذَا قَالَتْ النَّائِحَةُ: وَاعَضُدَاهُ، وَانَاصِرَاهُ، وَاكَاسِبَاهُ، جُبِذَ الْمَيِّتُ وَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ عَضُدُهَا، أَنْتَ نَاصِرُهَا، أَنْتَ كَاسِبُهَا". (¬4) قال المُلا علي بن سلطان القاري: "وهذا صريح أنه إنما يُعذّب إذا كان أوصى، أو كان بفعلهم يرضى". اهـ (¬5) 2 - واستدلوا برواية: "إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ" (¬6)؛ إذ المراد بالبعض ما يكون عن وصية. (¬7) الإيرادات والاعتراضات على هذا القول: أُعتُرِضَ على هذا القول: 1 - بأن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ"، لفظ عام، ¬
وتخصيصه بمن أوصى تحكم بلا دليل. (¬1) 2 - وبأن الوصية بالنياحة حرام يستحق الموصي بها التعذيب، نيح عليه أم لا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما علق التعذيب على النياحة، لا على الوصية. (¬2) 3 - وبأن الصحابة الذين رووا الحديث لو فهموا منه أَنَّ ذلك خاص بمن أوصى، لما عجبوا منه، ولما أنكره من أنكره كعائشة رضي الله عنها؛ لأنهم يعرفون بأن من أمر بمنكر فإنه يستحق العقوبة عليه. (¬3) 4 - وبأنه لو كان خاصاً بمن أوصى لما قيد ذلك بالنوح دون غيره من المنكرات. (¬4) القول السادس: أَنَّ الحديث محمول على ما إذا أهمل الميت نهي أهله عن النوح عليه قبل موته، مع أنه يعلم أنهم سينوحون عليه؛ لأن إهماله لهم تفريط منه، ومخالفة لقوله تعالى: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) [التحريم: 6]، فتعذيبه إذاً بسبب تفريطه وتركه ما أمر الله به. قال ابن المرابط (¬5): "إذا علم المرء بما جاء في النهي عن النوح، وعرف أَنَّ أهله من شأنهم أن يفعلوا ذلك ولم يُعْلِمْهُم بتحريمه ولا زجرهم عن تعاطيه؛ فإذا عُذِّبَ على ذلك عُذِّبَ بفعل نفسه لا بفعل غيره". اهـ (¬6) وهو مذهب: داود بن علي (¬7)، واختيار الشنقيطي (¬8). القول السابع: أَنَّ معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يعذب ببكاء أهله"، أي بنظير ما ¬
يبكيه أهله به، وذلك أَنَّ الأفعال التي يعددون بها عليه غالباً تكون من الأمور المنهية، فهم يمدحونه بها، وهو يعذب بصنيعه ذلك، وهو عين ما يمدحونه به. وهذا مذهب الإسماعيلي، وابن حزم. قال الإسماعيلي (¬1): "كثر كلام العلماء في هذه المسألة، وقال كلٌ مجتهداً على حسب ما قُدِّرَ له، ومن أحسن ما حضرني وجهٌ لم أرهم ذكروه، وهو أنهم كانوا في الجاهلية يغيرون ويسبون ويقتلون، وكان أحدهم إذا مات بَكَتْهُ باكيته بتلك الأفعال المحرمة، فمعنى الخبر: أَنَّ الميت يُعذب بذلك الذي يبكي عليه أهله به؛ لأن الميت يُندب بأحسن أفعاله، وكانت محاسن أفعالهم ما ذُكِر، وهي زيادة ذنب من ذنوبه يستحق العذاب عليها". اهـ (¬2) وقال ابن حزم: "هذا الخبر بتمامه (¬3) يُبين معنى ما وهل فيه كثير من الناس من قوله عليه السلام: "إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه"، ولاح بهذا أَنَّ هذا البكاء الذي يعذب به الميت ليس هو الذي لا يعذب به من دمع العين، وحزن القلب، فصح أنه البكاء باللسان، إذ يُعذبونه برياسته التي جار فيها فعُذِّب عليها، وشجاعته التي يُعذب عليها، إذ صرفها في غير طاعة الله تعالى، وبجوده الذي أخذ ما جاد به من غير حله، ووضعه في غير حقه فأهله يبكونه بهذه المفاخر، وهو يعذب بها بعينها، وهو ظاهر الحديث لمن لم يتكلف في ظاهر الخبر ما ليس فيه، وبالله تعالى التوفيق". اهـ (¬4) ¬
ويؤيد هذا القول: رواية: "إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ" (¬1)؛ إذ ليس كل ما يعددونه من خصاله يكون مذموماً، فقد يكون من خصاله الكرم، وإعتاق الرقاب، وكشف الكرب، ونحوها. (¬2) ويؤيده أيضاً: حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال: "أُغْمِيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ فَجَعَلَتْ أُخْتُهُ عَمْرَةُ تَبْكِي: وَا جَبَلَاهْ، وَا كَذَا وَا كَذَا، تُعَدِّدُ عَلَيْهِ، فَقَالَ حِينَ أَفَاقَ: مَا قُلْتِ شَيْئًا إِلَّا قِيلَ لِي: آنْتَ كَذَلِكَ". (¬3) (¬4) القول الثامن: أَنَّ معنى "التعذيب" في الحديث توبيخ الملائكة للميت بما يندبه أهله به. كما في حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -، أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ عَلَيْهِ، إِذَا قَالَتْ النَّائِحَةُ: وَاعَضُدَاهُ، وَانَاصِرَاهُ، وَاكَاسِبَاهُ، جُبِذَ الْمَيِّتُ وَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ عَضُدُهَا، أَنْتَ نَاصِرُهَا، أَنْتَ كَاسِبُهَا". (¬5) وفي لفظ: "مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ بَاكِيهِ فَيَقُولُ: وَا جَبَلَاهْ، وَا سَيِّدَاهْ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ؛ إِلَّا وُكِّلَ بِهِ مَلَكَانِ يَلْهَزَانِهِ: أَهَكَذَا كُنْتَ". (¬6) وعن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال: "أُغْمِيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ فَجَعَلَتْ أُخْتُهُ عَمْرَةُ تَبْكِي: وَا جَبَلَاهْ، وَا كَذَا وَا كَذَا، تُعَدِّدُ عَلَيْهِ، فَقَالَ حِينَ أَفَاقَ: مَا قُلْتِ شَيْئًا إِلَّا قِيلَ لِي: آنْتَ كَذَلِكَ". (¬7) ذكر هذا القول: الحافظ ابن حجر، والمناوي. (¬8) القول التاسع: أَنَّ معنى التعذيب في الحديث: تألم الميت بما يقع من أهله من النياحة عليه، وليس المراد أَنَّ الله تعالى يعاقبه بتلك النياحة. ¬
وهذا اختيار ابن جرير الطبري. (¬1). ورجحه: ابن المرابط (¬2)، والقاضي عياض (¬3)، وأبو العباس القرطبي (¬4)، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والعراقي (¬5)، وابن عثيمين (¬6). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما قول السائل: هل يؤذيه البكاء عليه؟ فهذه مسألة فيها نزاع بين السلف والخلف والعلماء، والصواب: أنه يتأذى بالبكاء عليه كما نطقت به الأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه"، وفي لفظ: "من ينح عليه يعذب بما نيح عليه". ثم قال: "والمقصود هاهنا أَنَّ الله لا يعذب أحداً في الآخرة إلا بذنبه وأنه (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى). قال: وأما تعذيب الميت: فهو لم يقل: إن الميت يعاقب ببكاء أهله عليه، بل قال: "يعذب" والعذاب أعم من العقاب؛ فإن العذاب هو الألم، وليس كل من تألم بسبب كان ذلك عقاباً له على ذلك السبب ... ، والإنسان يعذب بالأمور المكروهة التي يشعر بها مثل الأصوات الهائلة والأرواح الخبيثة والصور القبيحة، فهو يتعذب بسماع هذا وشم هذا ورؤية هذا، ولم يكن ذلك عملاً له عوقب عليه، فكيف ينكر أن يعذب الميت بالنياحة وإن لم تكن النياحة عملاً له يعاقب عليه؟ ثم النياحة سبب العذاب؛ وقد يندفع حكم السبب بما يعارضه، فقد يكون في الميت من قوة الكرامة ما يدفع عنه من العذاب، كما يكون في بعض الناس من القوة ما يدفع ضرر الأصوات الهائلة والأرواح والصور ¬
القبيحة". اهـ (¬1) وقال ابن القيم: "ليس في هذه الأحاديث بحمد الله إشكال، ولا مخالفة لظاهر القرآن، ولا لقاعدة من قواعد الشرع، ولا تتضمن عقوبة الإنسان بذنب غيره؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: إن الميت يعاقب ببكاء أهله عليه ونوحهم، وإنما قال: يعذب بذلك، ولا ريب أَنَّ ذلك يؤلمه ويعذبه، والعذاب هو الألم الذي يحصل له، وهو أعم من العقاب، والأعم لا يستلزم الأخص .... ، وهذا العذاب يحصل للمؤمن والكافر، حتى إنَّ الميت ليتألم بمن يعاقب في قبره في جواره (¬2)، ويتأذى بذلك كما يتأذى الإنسان في الدنيا بما يشاهده من عقوبة جاره؛ فإذا بكى أهل الميت عليه البكاء المحرم - وهو البكاء الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه، والبكاء على الميت عندهم اسم لذلك، وهو معروف في نظمهم ونثرهم - تألم الميت بذلك في قبره، فهذا التألم هو عذابه بالبكاء عليه، وبالله التوفيق". اهـ (¬3) أدلة هذا القول: ذكر أصحاب هذا القول عدة أدلة تؤيد ما ذهبوا إليه، ومن هذه الأدلة: 1 - حديث قيْلَةَ بنت مَخْرَمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيغلب أحدكم أن يُصاحب صويحبه في الدنيا معروفاً، وإذا مات استرجع، فوالذي نفس محمد بيده إن أحدكم ليبكي فيستعبر (¬4) إليه صويحبه، فيا عباد الله، لا تعذبوا موتاكم". (¬5) ¬
ومعنى الحديث أَنَّ الميت يستعبر ويبكي لبكاء أهله، فيتأذى بذلك. قال ابن المرابط: "حديث قيلة نص في المسألة فلا يُعدل عنه". اهـ (¬1) وقال القاضي عياض: "هو أولى ما يقال فيه؛ لتفسير النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث ما أبهمه في غيره". اهـ (¬2) 2 - وعن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال: "أُغْمِيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ فَجَعَلَتْ أُخْتُهُ عَمْرَةُ تَبْكِي: وَا جَبَلَاهْ، وَا كَذَا وَا كَذَا، تُعَدِّدُ عَلَيْهِ، فَقَالَ حِينَ أَفَاقَ: مَا قُلْتِ شَيْئًا إِلَّا قِيلَ لِي: آنْتَ كَذَلِكَ". (¬3) (¬4) 3 - وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ عَلَيْهِ، إِذَا قَالَتْ النَّائِحَةُ: وَاعَضُدَاهُ، وَانَاصِرَاهُ، وَاكَاسِبَاهُ، جُبِذَ الْمَيِّتُ وَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ عَضُدُهَا، أَنْتَ نَاصِرُهَا، أَنْتَ كَاسِبُهَا". (¬5) "ومعنى الحديث أَنَّ الميت إذا كان كافراً أو عاصياً عُذِّب، وكان النوح سبباً في تعذيبه بذنوبه، وإن كان صالحاً أُخْبِرَ بما تقول النائحة فيزيده ذلك ألماً؛ لأنه يرجو الاستغفار، فإذا بلغه ما يكرهه كان غمُّه عذاباً، لعلمه أَنَّ الله تعالى يكره ذلك". (¬6) 4 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ، يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَوْمَهُ؛ فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلْ ¬
إِلَى أَهْلِهِ". (¬1) فسمى النبي - صلى الله عليه وسلم - السفر عذاباً، وليس هو عقاباً على ذنب، والعذاب أعم من العقاب، لأن العذاب هو الألم، وليس كل من تألم بسبب كان ذلك عقاباً له على ذلك السبب. (¬2) 5 - واستدلوا أيضا: بأن الميت يسمع بكاء الحي، ويسمع قرع نعال مشيعيه إذا انصرفوا من دفنه، وتُعرض عليه أعمال أقاربه الأحياء، فإذا رأى ما يسؤهم تألم له، وهذا ونحوه مما يتعذب به الميت ويتألم. (¬3) الإيرادات والاعتراضات على هذا القول: الإيراد الأول: يرد على هذا القول حديث: "مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (¬4)؛ إذ في الحديث أَنَّ العذاب يكون يوم القيامة، فهل يقال إنه يتأذى يوم القيامة ببكاء أهله عليه في الدنيا؟ قال الألباني: "كنت أميل إلى هذا المذهب برهة من الزمن، ثم بدالي أنه ضعيف؛ لمخالفته للحديث الذي قيد العذاب بأنه "يوم القيامة"، ومن الواضح أَنَّ هذا لا يمكن تأويله بما ذكروا، ولذلك فالراجح عندنا مذهب الجمهور (¬5)، ولا منافاة بين هذا القيد والقيد الآخر في قوله: "في قبره" (¬6)، بل يضم أحدهما إلى الآخر، وينتج أنه يعذب في قبره، ويوم القيامة، وهذا بَيّنٌ إن شاء الله تعالى". اهـ (¬7) ¬
الإيراد الثاني: أَنَّ حديث قيلة ليس نصاً في المسألة؛ لاحتمال أن يكون المراد بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فيستعبر إليه صويحبه" هو صاحبه الحي، والمعنى: إنَّ أحدكم إذا بكى استعبر له صاحبه الذي هو معه فبكى مثله فأجهش الجميع بكاء؛ فيعذب الميت حينئذ ببكاء الجماعة عليه. (¬1) الإيراد الثالث: أنَّ القول بأنَّ الميت يسمع بكاء الحي، وأنه تُعرض عليه أعمال أقاربه الأحياء، فإذا رأى ما يسؤهم تألم له؛ قولٌ لا دليل عليه، والثابت هو سماع الميت لقرع نعال مشيعيه فقط، وذلك بعد الدفن مباشرة، وهو غير مستمر. القول العاشر: هو الجمع بين هذه الوجوه المذكورة في توجيه الأحاديث، وتنزيل كل وجه منها على حسب حالة الشخص. وهذا اختيار الحافظ ابن حجر، حيث قال: "ويحتمل أن يُجمع بين هذه التوجيهات، فيُنزل على اختلاف الأشخاص، بأن يقال مثلاً: من كانت طريقته النوح فمشى أهله على طريقته، أو بالغ فأوصاهم بذلك عُذِّب بصنعه، ومن كان ظالماً فنُدِبَ بأفعاله الجائرة عُذِّبَ بما نُدِبَ به، ومن كان يعرف من أهله النياحة فأهمل نهيهم عنها فإن كان راضياً بذلك التحق بالأول، وإن كان غيرَ راضٍ عُذِّبَ بالتوبيخ كيف أهمل النهي، ومن سلم من ذلك كله واحتاط فنهى أهله عن المعصية ثم خالفوه وفعلوا ذلك كان تعذيبه تألمه بما يراه منهم من مخالفة أمره وإقدامهم على معصية ربهم، والله تعالى أعلم بالصواب". (¬2) القول الحادي عشر: أَنَّ البكاء جُعل سبباً للعذاب لا مؤثراً في استحقاقه، كما تكون أسباب الآلام في الدّنيا أموراً غير مؤثرة في الاستحقاق. وهذا رأي ابن الوزير اليماني. (¬3) ويرى أن الحكمة في جعل البكاء سبباً للعذاب، لما في ذلك من الزّجر العظيم عن البكاء، وتسمية الآلام عذاباً كثير في اللّغة شائع، وقد دلَّ السمع ¬
على استحقاق كلّ أحد لشيء من العذاب، فمن الجائز أن يكون عذاباً مستحقاً بذنبٍ غير البكاء. (¬1) القول الثاني عشر: أَنَّ المراد بالميت في الحديث: هو المشرف على الموت، وتعذيبه أنه إذا احُتُضِرَ والناس حوله يصرخون ويتفجعون يزيد كربه، وتشتد عليه سكرات الموت؛ فيصير معذباً بذلك. ذكر هذا القول: المناوي، والآلوسي (¬2). ويرد على هذا القول: ما ورد من تقييد ذلك بالقبر، وبيوم القيامة. المسلك الثاني: رد الأحاديث الواردة في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه ومعارضتها بقوله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى): قال الحافظ ابن حجر: "وممن روي عنه الإنكار مطلقاً: أبو هريرة - رضي الله عنه - كما رواه أبو يعلى (¬3) من طريق بكر بن عبد الله المزني قال: قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: "والله لئن انطلق رجل محارباً في سبيل الله، ثم قُتِل في قطر من أقطار الأرض شهيداً فعمدت امرأته سفهاً وجهلاً فبكت عليه ليعذبن هذا الشهيد ببكاء هذه السفيهة عليه". قال الحافظ ابن حجر: "وإلى هذا جنح جماعة من الشافعية، منهم أبو حامد (¬4) وغيره". اهـ (¬5) قلت: أثر أبي هريرة - رضي الله عنه - لا يصح، كما بينت ذلك في التخريج. ¬
المبحث الخامس: الترجيح
وأما مذهب أبي حامد فلم أقف عليه، وقد ذكر الحافظ ابن حجر الهيتمي قولاً آخر له، حيث قال: "والأصح كما قاله الشيخ أبو حامد أَنَّ ما ذُكِرَ محمول على الكافر وغيره من أصحاب الذنوب". اهـ (¬1) المبحث الخامس: الترجيح: الذي يَظْهُرُ صَوَابُه ـ والله تعالى أعلم ـ هو حمل الأحاديث الواردة في المسألة على ظاهرها، من أَنَّ الميت يُعذَّب بمجرد النوح عليه، وإن لم يكن له تسبب في ذلك. والحديث إنما ورد لزجر أهل الميت من النياحة على ميتهم؛ لأنهم إذا علموا أنه يعذب بذلك فسيكفون عن النياحة عليه خوفاً من تعذيبه. وقد كانت ظاهرة النوح منتشرة عند العرب في الجاهلية، وهي من عاداتهم القبيحة التي أبطلها الإسلام وحذر منها، وقد تكاثرت النصوص الشرعية التي عُنيت بعلاج هذه الظاهرة السيئة، وفي بعضها وعيد شديد، ومن تلك النصوص الإعلام بأن هذه الفعلة تؤدي إلى تعذيب الميت، فيجب تركها والابتعاد عنها. وليس في هذا الاختيار ما يعارض قوله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الأنعام: 164]، وليس فيه مصادمة لقواعد الشريعة، والتي فيها أَنَّ أحداً لا يعذب بوزر غيره، وبيان ذلك من وجوه: الأول: أَنَّ الآيات التي فيها أَنَّ أحداً لا يعذب بوزر غيره، هي من العمومات، وتُعد الأحاديث الواردة في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه مخصصة لهذا العموم، وليس هناك ما يمنع من القول بالتخصيص، بل القول بتخصيص الآيات أولى من القول بتخصيص الأحاديث؛ لأن الأول ورد فيه نصان الأول عام والآخر خاص، فيحمل العام على الخاص، وأما القول بتخصيص الأحاديث ¬
فليس هناك دليل على هذه الدعوى إلا مجرد دفع التعارض بينها وبين الآية. الوجه الثاني: أَنَّ القواعد الشرعية التي أصَّلها العلماء ينبغي أن تحاكم إلى النصوص الشرعية، لا أن تحاكم النصوص إليها، ومسألة تعذيب الميت ببكاء أهله عليه تُعد من النصوص المحكمة، وهي عامة مطلقة فيجب حملها على عمومها وإطلاقها دون تخصيصها بشخص ما، أو تقييدها بحالة ما، وليس فيها ما يُصادم القواعد الشرعية؛ لأن لله سبحانه أن يفعل بعباده ما شاء، فهو سبحانه يرحم من يشاء ويعذب من يشاء، وإذا جاز أن يُعذِّب في الدنيا من لا ذنب له بسب ذنب غيره؛ فجوازه في عالم البرزخ ويوم القيامة من باب أولى، حيث لم يأت ما يمنع من ذلك، أو يوجب الفرق بينهما. كما أَنَّ القاعدة الشرعية - التي فيها أَنَّ أحداً لا يؤخذ بجرم غيره - إنما هي فيما لم يرد به نص، وأما ما ورد فيه نص شرعي فيجب أن يحمل على ظاهرة في حدود ما ورد فيه، دون أن يُتجاوز به إلى غيره. ومما ينبغي أَنَّ يُعلم: أَنَّ نصوص الوعيد ترد لمقاصد شرعية، ومن هذه المقاصد الزجر عن ارتكاب المحرمات ومقارفة القبائح، ومسألة إنفاذ الوعيد من عدمه راجعة إلى مشيئة الله تعالى، فهو سبحانه إن شاء أنفذه، وإن شاء عفى وتجاوز. وعند التأمل في نصوص الوعيد يلاحظ أَنَّ من أعظم المقاصد لإيرادها هو الزجر عن فعل المحظورات الشرعية؛ فينبغي أن يُنظر في هذا الجانب أكثر منه في جانب إنفاذ الوعيد، وهكذا مسألة تعذيب الميت ببكاء أهله عليه؛ فإن الغرض من ذكر هذا الوعيد هو زجر أهل الميت وتهويل شأن النياحة. هذا ما ظهر لي في هذه المسألة، وأما بقية المذاهب والأقوال في المسألة فالجواب عنها على النحو الآتي: أولاً: مذهب عائشة رضي الله عنها: تقدم أَنَّ لعائشة رأيين في المسألة، فهي مرّة تؤول الحديث بأنه حكاية حال عن امرأة يهودية تعذب وأهلها يبكون عليها، ومرة أخرى تؤول الحديث بأن الله تعالى يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه، وقد رفعتْ - رضي الله عنها - هذه
الأحاديث للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي صادقة في ذلك، وحاشاها أَنَّ تدعي ذلك نصرة لرأيها، وليس فيما رفعته للنبي - صلى الله عليه وسلم - أي إشكال بحمد الله: أما قولها إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا"، فهذه قصة أخرى لا علاقة لها بحديث عمر بن الخطاب، وابنه، رضي الله عنهما، ولا تعارض بينهما، بل ما ذكرته هو حقيقة كل من مات على الكفر؛ فإنه يُعذب في قبره سواء بكى عليه أهله أم لا، بل إن تعذيب الكافر في قبره يُعد من الأمور المسلمة التي تضافرت النصوص على إثباتها. وأما قولها إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ"، فهذا الحديث على مذهبها يكون معارضاً للآية؛ لأن فيه زيادة في عذاب الكافر بسبب ذنب غيره، والحق أَنَّ هذا الحديث موافق لحديث عمر، وابنه، رضي الله عنهما، وليس هو مخالفاً له؛ لأن حديثهما عام يشمل كل ميت، وأما حديثها ففيه ذكر بعض أفراد هذا العام، والتنصيص على بعض أفراد العام لا يقتضي التخصيص، كما تقدم. (¬1) ثانياً: مذهب الجمع بين الآية والأحاديث: ذكر أصحاب هذا المذهب عدة تأويلات للجمع بين الآية والأحاديث، وهي في جملتها لا تخلو من تكلف، غير أَنَّ من أقواها القول الرابع، والخامس، والتاسع، وقد ذكرت الإيرادات والاعتراضات التي أوردت على كل قول، ومما يمكن إضافته هنا من إيرادات: أولاً: مذهب الإسماعيلي وابن حزم: هذا المذهب يَرِدُ عليه: 1 - أنه خلاف الظاهر والمتبادر من الحديث. 2 - أَنَّ هذا القول فيه تخصيص لعموم الحديث؛ إذ يلزم منه أنه لا يعذب إلا من كانت له أعمال يستحق عليها العقوبة، والحديث كما تقدم لفظه عام ولا يصح تخصيصه إلا بدليل. ¬
3 - وأما رواية: "إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ". (¬1) فهي بيان لنوع البكاء، والمعنى: أَنَّ بعض البكاء يعذب به الميت، وهو ما كان فيه ندب ونياحة. ثانياً: القول بأن معنى الحديث توبيخ الملائكة للميت: هذا القول يُعد بمعنى القول بتعذيب الميت مطلقاً؛ لأن توبيخ الملائكة للميت هو من جملة تعذيبه، وما ذكره أصحاب هذا القول من أحاديث تؤيد ما ذهبوا إليه هي في الحقيقة موافقة لحديث عمر، وابنه، رضي الله عنهما، وهي بمثابة البيان لبعض العذاب الذي يتعرض له الميت. ثالثاً: القول بأن التعذيب بمعنى التأذي، يَرِدُ عليه: 1 - أنه لو كان مراد الحديث تأذي الميت ببكاء أهله عليه لصار لفظ الحديث "يتعذَّب"، ولا يخفى ما بين اللفظين من فرق. 2 - أَنَّ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يُعذب" هو فعل لما لم يُسم فاعله، وهو يستدعي أَنَّ التعذيب يقع عليه من طرف آخر، ولو كان من أهله لقال: يعذبه بكاء أهله عليه. 3 - أَنَّ لفظ "العذاب" الغالب استعماله في القرآن والسنة بمعنى العقاب، وإذ الأمر كذلك فإن تفسير النصوص على الأعم الغالب هو الأولى. (¬2) وأما استدلالهم بحديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -؛ فلا يستقيم لهم؛ بل هو حجة لمن قال بحمل الحديث على ظاهره، وما ذُكِرَ فيه هو بيانٌ لبعض التعذيب الذي يتعرض له الميت بسبب بكاء أهله عليه، هذا على التسليم بثبوت الحديث، وقد تقدم أَنَّ الحديث لا يثبت من طريق أبي موسى - رضي الله عنه -. وأما قصة عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه -، فليست بحجة؛ إذ ليس فيها شيء مرفوع للنبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬
وعلى فرض التسليم بحجيتها فإنه لا يصح الاستدلال بها، لأن حالته هذه ليست حالة احتضار؛ بدليل أنه لم يمت فيها وإنما قتل شهيداً في معركة مؤتة (¬1)، فكيف يعاين الملائكة بمجرد الإغماء؟ والله تعالى أعلم. **** ¬
المسألة [8]: في تحميل اليهود والنصارى ذنوب المسلمين يوم القيامة
المسألة [8]: في تحميل اليهود والنصارى ذنوب المسلمين يوم القيامة. المبحث الأول: ذكر الآية الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الأنعام: 164]. المبحث الثاني: ذكر الحديث الذي يُوهِمُ ظاهره التعارض مع الآية: (13) ـ (12): عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ أَبِيه - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دَفَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى كُلِّ مُسْلِمٍ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا فَيَقُولُ: هَذَا فِكَاكُكَ مِنْ النَّارِ". (14) ـ (13): وفي رواية له: "لَا يَمُوتُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ إِلَّا أَدْخَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ النَّارَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا". (15) ـ (14): وفي رواية ثالثة: "يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَاسٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، بِذُنُوبٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ، فَيَغْفِرُهَا اللَّهُ لَهُمْ وَيَضَعُهَا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى". (¬1) ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآية والحديث
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآية والحديث: لم يستشكل أحد من العلماء الحديث بروايتيه الأولى والثانية، وإنما استشكلوا الحديث بروايته الثالثة، التي أفادت معنىً زائداً في الحديث، وهو مضاعفة العذاب على اليهود والنصارى بسبب تحميلهم ذنوب المسلمين، وهذا المعنى يُوهِم معارضة الآية الكريمة، التي فيها أَنَّ أحداً لا يُعذَّب بوِزْرِ غيره. (¬1) ¬
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية والحديث
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية والحديث: للعلماء في دفع التعارض بين الآية والحديث مسلكان: الأول: مسلك الجمع بينهما: وعلى هذا المسلك الأكثر من العلماء، حيث ذهبوا إلى إعمال الآية على ظاهرها، وأنَّ الله تعالى لا يُعذب أحداً من خلقه، ولا يزيد عليه في العذاب بسبب ذنب غيره، وأمَّا الحديث فأوَّلوه على غير ظاهره، وذكروا أوجهاً في معناه: الأول: أَنَّ الله تعالى يُسقِطُ مؤاخذة المسلمين بذنوبهم حتى كأنهم لم يذنبوا، ويُضاعف على اليهود والنصارى العذاب بسبب ذنوبهم، حتى يكون عذابهم بقَدْرِ جُرْمِهم، وجُرْمِ مذنبي المسلمين لو أُخِذوا بذلك، وله تعالى أنْ يُضاعف العذاب لمن يشاء، ويخففه عمن يشاء. (¬1) ذكر هذا الجواب: القاضي عياض، وابن الجوزي، وأبو العباس القرطبي، وأبو عبد الله القرطبي، والقنوجي. (¬2) الوجه الثاني في معنى الحديث: أَنَّ الله تعالى يغفر ذنوب المسلمين، ويُسقطها عنهم، ويضع على اليهود والنصارى مثلها؛ بكفرهم وذنوبهم، فيُدخلهم النار بأعمالهم، لا بذنوب المسلمين، وقوله في الحديث: "ويضعها" ¬
مجاز، والمراد يضع عليهم مثلها بذنوبهم، لكن لما أسقط سبحانه وتعالى عن المسلمين سيئاتهم، وأبقى على الكفار سيئاتهم، صاروا في معنى من حمل إثم الفريقين، لكونهم حملوا الإثم الباقي، وهو إثمهم. (¬1) ذكر هذا الجواب: ابن الجوزي، وابن مفلح، والنووي. (¬2) الوجه الثالث في معنى الحديث: أنْ يكون المراد آثاماً كان للكفار سببٌ فيها، بأنْ سَنّوها، فتُسْقَطُ عن المسلمين بعفو الله تعالى، ويُوضع على الكفار مثلها، لكونهم سَنّوها، ومن سَنَّ سُنَّة سيئة كان عليه مثل وزْرِ كل من عمل بها. (¬3) ذكر هذا الجواب: ابن مفلح، والنووي. (¬4) الثاني: مسلك الترجيح: حيث ذهب بعض العلماء إلى تضعيف الحديث بروايته الثالثة، كالإمام البخاري، والبيهقي، والحافظ ابن حجر. أما البخاري فأعله بسبب الاختلاف فيه على أبي بُردة، ولأنه مُعارِضٌ لحديث الشفاعة، والذي فيه: "أَنَّ قوماً يُعذبون ثم يخرجون من النار" (¬5). قال: ورواة حديث الشفاعة أكثر وأبين وأشهر. (¬6) وأما البيهقي فقد تقدم ذكر سبب إعلاله للحديث عند تخريجه في أول المسألة، وملخص رأيه: - أَنَّ الحديث بلفظه الثالث هو مما تفرد به شداد أبو طلحة الراسبي، ¬
المبحث الخامس: الترجيح
فلم يروه على الصواب، وخالفه غيره - وهم الأكثر - فرووه على الصواب، ولم يذكروا فيه هذا اللفظ المشكل. - أَنَّ الحديث مخالفٌ لقوله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الأنعام: 164] (¬1). وأما الحافظ ابن حجر فضعف الحديث تبعاً للإمام البخاري والبيهقي، وذكر وجهاً آخر في تضعيفه: وهو مخالفته للأحاديث الواردة في القصاص يوم القيامة، ومنها: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، أَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ". (¬2) (¬3) المبحث الخامس: الترجيح: الذي يَظْهُرُ صَوَابُه - والله تعالى أعلم - هو ضعف الحديث بلفظه الثالث؛ ومما يقوي ضعفه: أنَّ الحديث رواه عن أبي بُردة بن أبي موسى، عن أبيه، أربعة عشر راوياً، وقد اتفق هؤلاء الرواة على لفظ واحد، وهو اللفظ الأول، ورواه اثنان آخران بلفظٍ مقاربٍ في المعنى للفظ الأول، وتفرَّد شداد أبو طلحة الراسبي باللفظ الثالث، وهو اللفظ المشكل، فلم يُتابعه عليه أحد (¬4)، وشداد قد تكلم أهل العلم في روايته (¬5)، فلا يُقبل منه ما تَفرَّدَ به، ناهيك عن مخالفة ما رواه ¬
للأصول المُحكمة - من الكتاب والسنة وإجماع العلماء - القاطعة بأنَّ الله تعالى لا يُعذب أحداً من خلقه بوزر غيره، والله تعالى أعلم.
المسألة [9]: في إيجاب الدية في قتل الخطأ وشبه العمد على عاقلة الجاني.
المسألة [9]: في إيجاب الدية في قتل الخطأ وشبه العمد على عاقلة (¬1) الجاني. المبحث الأول: ذكر الآية الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الأنعام: 164]. المبحث الثاني: ذكر الأحاديث التي يُوهِمُ ظاهرها التعارض مع الآية: (16) ـ (15): عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "اقْتَتَلَتْ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَقَضَى أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ (¬2) عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ، وَقَضَى أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ عَلَى ¬
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآية والأحاديث
عَاقِلَتِهَا". (¬1) (17) ـ ( .. ): وَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "ضَرَبَتْ امْرَأَةٌ ضَرَّتَهَا بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ (¬2) وَهِيَ حُبْلَى فَقَتَلَتْهَا، قَالَ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَةَ الْمَقْتُولَةِ عَلَى عَصَبَةِ الْقَاتِلَةِ، وَغُرَّةً لِمَا فِي بَطْنِهَا، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ عَصَبَةِ الْقَاتِلَةِ: أَنَغْرَمُ دِيَةَ مَنْ لَا أَكَلَ وَلَا شَرِبَ وَلَا اسْتَهَلَّ، فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ (¬3). فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الْأَعْرَابِ. قَالَ: وَجَعَلَ عَلَيْهِمْ الدِّيَةَ". (¬4) المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآية والأحاديث: ظاهر الأحاديث إيجاب الدّية في قتل الخطأ وشبه العمد على عاقلة الجاني، وهذا الظاهر يُوهِمُ مُعارضة الآية، التي فيها أَنَّ أحداً لا يؤخذ بذنب غيره، وبحسب دلالة الآية فإنَّ الأولى وجوب الدّية على الجاني نفسه لا على العاقلة؛ لأنه هو المتسبب في القتل والمباشر له. (¬5) ¬
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية والأحاديث
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية والأحاديث: أجمع العلماء على وجوب الدّية في قتل الخطأ وشبه العمد على عاقلة الجاني. حكى الإجماع: ابن بطال، وأبو عبد الله القرطبي، والحافظ ابن حجر. (¬1) وأما الآية فإنَّ للعلماء في دفع التعارض بينها وبين الأحاديث مذهبين: الأول: التخصيص. ويرى أصحاب هذا المذهب أَنَّ الآية على عمومها في أَنَّ أحداً لا يُؤخذُ بذنب غيره، إلا أَنَّ هذا العموم قد خُصَّ منه تحمل العاقلة دية قتل الخطأ وشبه العمد، وذلك لثبوت الحديث فيه. وعلى هذا المذهب جماعة من أهل العلم، منهم: الشافعي، وابن حزم، وابن عبد البر، وابن رشد، والحافظ ابن حجر، والزرقاني، والمباركفوري، والصنعاني، والشوكاني. (¬2) قال الحافظ ابن حجر: "تَحَمُّل العاقلة الدّية ثابتٌ بالسنّة، وأجمع أهل العلم على ذلك، وهو مُخالِفٌ لظاهر قوله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)، لكنه خُصُّ من عمومها ذلك؛ لما فيه من المصلحة؛ لأنَّ القاتل ¬
لو أُخِذَ بالدية لأوشك أنْ تأتيَ على جميع ماله؛ لأن تتابع الخطأ منه لا يُؤمن، ولو تُرك بغير تغريم لأهدر دم المقتول. قال: ويحتمل أنْ يكون السر فيه أنه لو أُفْرِدَ بالتغريم حتى يفتقر لآل الأمر إلى الإهدار بعد الافتقار، فجُعِلَ على عاقلته لأنَّ احتمال فقر الواحد أكثر من احتمال فقر الجماعة؛ ولأنه إذا تكرر ذلك منه كان تحذيره من العود إلى مثل ذلك من جماعة أدعى إلى القبول من تحذيره نفسه، والعلم عند الله تعالى". اهـ (¬1) المذهب الثاني: أَنَّ تغريم العاقلة هو من باب المواساة للجاني والتخفيف عنه. ويرى أصحاب هذا المذهب أَنَّ الجاني لم يرتكب ذنباً حتى تتحمله العاقلة، وإنما ارتكب خطأً لم يَقْصُدْ إليه، ومن باب التخفيف عليه جُعِلت الدّية مشتركة بينه وبين عاقلته حتى لا تُجْحِفَ في ماله. وهذا المذهب قال به جماعة من أهل العلم، منهم: الجصاص، والخطابي، والسرخسي، والكاساني (¬2)، والرازي، والطاهر ابن عاشور، والآلوسي، والشنقيطي. (¬3) قال الجصاص: "تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم في إيجاب دية الخطأ على العاقلة، واتفق السلف وفقهاء الأمصار عليه. فإنْ قيل: قال الله تعالى: (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الأنعام: 164]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا يُؤْخَذُ الرَّجُلُ بِجَرِيرَةِ أَبِيهِ وَلَا بِجَرِيرَةِ أَخِيهِ" (¬4)، وقال لأبي رِمْثَةَ (¬5) وابنه: "إِنَّكَ لَا تَجْنِي عَلَيْهِ وَلَا يَجْنِي ¬
المبحث الخامس: الترجيح
عَلَيْكَ" (¬1)، والعقول أيضاً تمنع أخذ الإنسان بذنب غيره. قيل له: أما قوله تعالى: (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الأنعام: 164]، فلا دلالة فيه على نفي وجوب الدية على العاقلة؛ لأنَّ الآية إنما نَفَتْ أنْ يُؤخذ الإنسان بذنب غيره، وليس في إيجاب الدية على العاقلة أخذهم بذنب الجاني، إنما الدية عندنا على القاتل، وأُمِرَ هؤلاء القوم بالدخول معه في تَحَمُّلِها على وجه المواساة له، من غير أنْ يلزمهم ذنب جنايته، وقد أوجب الله في أموال الأغنياء حقوقاً للفقراء من غير إلزامهم ذنباً لم يُذنبوه، بل على وجه المواساة، وأمر بصلة الأرحام بكل وجه أمكن ذلك، وأمر ببرِّ الوالدين، وهذه كلها أمور مندوب إليها للمواساة وإصلاح ذات البين، فكذلك أُمِرَتْ العاقلة بتحمّل الدية عن قاتل الخطأ على جهة المواساة من غير إجحاف بهم وبه". اهـ. المبحث الخامس: الترجيح: الذي يَظْهُرُ صَوَابُه ـ والله تعالى أعلم ـ أَنَّ تغريم العاقلة هو من باب المواساة للجاني والتخفيف عنه، وليس في تغريمهم ما يُعارض الآية؛ لأنَّ الآية إنما نَفَتْ أنْ يُؤخذ الإنسان بذنب غيره، والجاني لم يرتكب ذنباً حتى تتحمله العاقلة، وإنما وقع منه خطأ أوجب دفع الدية لأهل المقتول، حفظاً للدماء وصيانة لها من الهدر، ولما كانت الدية تُجحف في مال الجاني أوجب الله تعالى على العاقلة تحملها من باب المواساة والتخفيف عنه، والله تعالى أعلم. **** ¬
المسألة [10]: في ولد الزنا، وهل عليه من وزر أبويه شيء؟
المسألة [10]: في ولد الزنا، وهل عليه من وزر أبويه شيء؟ المبحث الأول: ذكر الآية الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الأنعام: 164]. المبحث الثاني: ذكر الأحاديث التي يُوهِمُ ظاهرها التعارض مع الآية: (18) ـ (16): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَلَدُ الزِّنَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ". (¬1) ¬
(19) ـ (17): وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضي الله عنه -، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَاقٌّ، وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ، وَلَا مَنَّانٌ، وَلَا وَلَدُ زِنْيَةٍ". (¬1) ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
(20) ـ (18): وَعَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ سَعْدٍ - مَوْلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ وَلَدِ الزِّنَا فقَالَ: "لَا خَيْرَ فِيهِ، نَعْلَانِ أُجَاهِدُ بِهِمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ وَلَدَ زِنًا". (¬1) ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآية والأحاديث
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآية والأحاديث: ظاهر الأحاديث أَنَّ ولد الزنا ملومٌ بفعل أبويه، وأنه بسبب زناهما صار هو شر الثلاثة، وأنه لا يدخل الجنة، وأنه لا خير فيه، وهذا الظاهر يُوهِمُ مُعارضة الآية، التي فيها أنَّ أحداً لا يَحْمِل من إثم غيره شيئاً، إلا أنْ يكون له فيه تسبب، وولد الزنا لا ذنب له في زنا أبويه، ولم يتسبب في زناهما، فكيف جاز أن يُلام ويُعاقب على فعلٍ ليس له فيه تسبب؟ (¬1) المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية والأحاديث: أولاً: مسالك العلماء في حديث: "وَلَدُ الزِّنَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ": للعلماء في دفع التعارض بينه وبين الآية مسلكان: الأول: مسلك قبول الحديث، وتأويله على معنىً لا يُعارض الآية. وعلى هذا المسلك الجمهور من العلماء، وقد اختلفوا في تأويل الحديث على مذاهب: الأول: أَنَّ هذا الشر ـ الذي يلحق ولد الزنا ـ إنما هو في حال إذا عمل الولد بعمل أبويه. ¬
وهذا التأويل رُويَ من قول سفيان الثوري عند روايته للحديث (¬1)، وهو اختيار المناوي، والألباني. (¬2) وأيَّد الألباني هذا التأويل بما رُويَ عن عائشة، وابن عباس، رضي الله عنهما، أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ولد الزنا شر الثلاثة، إذا عمل بعمل أبويه". (¬3) قال: "وهذا التفسير، وإنْ لم يثبت رفعه، فالأخذ به لا مناص منه؛ كي لا يتعارض الحديث مع النصوص القاطعة في الكتاب والسنة أَنَّ الإنسان لا يُؤاخذ بجرم غيره". اهـ (¬4) المذهب الثاني: أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قصد بكلامه هذا إنساناً بعينه، كان يؤذي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان مع أذيته له ولد زنا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هو شر الثلاثة"، باعتبار أذاه. وهذا التأويل جاء مرفوعاً من حديث عائشة رضي الله عنها، فعن عروة قال: بلغ عائشة رضي الله عنها أَنَّ أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولد الزنا شر الثلاثة"، ¬
فقالت: يرحم الله أبا هريرة، أساء سمعاً، فأساء إجابة، لم يكن الحديث على هذا، إنما كان رجل يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إنه مع ما به ولد زنا"، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو شر الثلاثة". (¬1) ¬
واختار هذا التأويل: أبو جعفر الطحاوي، وأبو محمد ابن حزم. (¬1) ولأبي جعفر تأويل آخر في معنى الحديث حيث قال: "يحتمل أنْ يكون المراد بالحديث هو من تحقق بالزنا حتى صار غالباً عليه، فيكون بذلك شراً ممن سواه، ممن ليس كذلك". اهـ (¬2) وهذا التأويل ذكره أيضاً في الجواب على حديث: "لن يدخل الجنة ولد زنية"، وسيأتي. المذهب الثالث: أَنَّ شر الأبوين عارض، وولد الزنا نطفته خبيثة، فشره في أصله، وشر الأبوين من فعلهما. وهذا التأويل قال به ابن القيم؛ فإنه ذكر حديث: "لا يدخل الجنة ولد زنا"، ثم حكى قول ابن الجوزي: إنه مُعارض لآية: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [فاطر: 18] ثم قال ابن القيم: "وليس هو مُعارض لها ـ إنْ صح ـ فإنه ¬
لم يُحرم الجنة بفعل والديه، بل لأن النطفة الخبيثة لا يتخلق منها طيب في الغالب، ولا يدخل الجنة إلا نفس طيبة، فإنْ كانت في هذا الجنس طيبة دخلت الجنة، وكان الحديث من العام المخصوص. قال: وقد ورد في ذمه أنه شر الثلاثة، وهو حديث حسن، ومعناه صحيح بهذا الاعتبار، فإنَّ شر الأبوين عارض، وهذا نطفة خبيثة، فشرُّه في أصله، وشرُّ الأبوين من فعلهما". اهـ (¬1) ويرد على هذا القول: أَنَّ النطفة إنما خَبُثَتْ بفعل الأبوين، والولد المُتَخَلِّقِ منها لا ذنب له في خُبثها، فكيف يكون خبيثاً وهو لم يقصد الخبث، ولم يتسبب فيه؟ وعليه فالإشكال باقٍ ولم يتمَّ دفعه. المذهب الرابع: أَنَّ معنى الحديث أَنَّ ولد الزنا شر الثلاثة نسباً. وهذا تأويل السرخسي حيث قال: "تأويل الحديث: (شر الثلاثة نسباً) فإنه لا نسب له، أو أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك في ولد زنا بعينه نشأ مرتداً، فكان أخبث من أبويه. قال: وذلك لأن لأولاد الزنا من الحرمة ما لسائر بني آدم، ولا ذنب لهم، وإنما الذنب لآبائهم، كما ذُكِرَ عن عائشة - رضي الله عنها - أنها كانت تتأول في أولاد الزنا: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (¬2) [الأنعام: 164] ". اهـ (¬3) المذهب الخامس: أَنَّ ولد الزنا إنما يُذم لأنه مظنة أنْ يعمل عملاً خبيثاً. وهذا تأويل شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث قال: "ولد الزنا إنْ آمن وعمل صالحاً دخل الجنة، وإلا جوزي بعمله كما يُجازى غيره، والجزاء على الأعمال لا على النسب، وإنما يُذَمُّ ولد الزنا لأنه مَظِنَّة أنْ يعمل عملاً خبيثاً، كما يقع كثيراً، كما تُحمد الأنساب الفاضلة لأنها مَظِنَّة عمل الخير، فأما إذا ظهر العمل فالجزاء عليه، وأكرم الخلق عند الله أتقاهم". اهـ (¬4) ¬
المسلك الثاني: مسلك تضعيف الحديث وعدم قبوله. وهذا المسلك حكاه ابنُ عبد البر عن الإمام مالك. (¬1) وإليه ذهب أبو بكر الجصاص في كتابه "أحكام القرآن" (¬2)؛ فإنه حكم على الحديث بالضعف، لشذوذه، ومخالفته للأصول، لكنه في كتابه "الفصول في الأصول" (¬3) ذهب إلى قبول الحديث مع تأويله، على نحوِ ما جاء في المذهب الثاني، حيث قال: "وأما حديث أبي هريرة ـ في ولد الزنا أنه شر الثلاثة ـ فإنما معناه عندنا أنه أشار به إلى أشخاص بأعيانهم، فحكم فيهم بهذا الحكم؛ لعلمه عليه السلام بأحوالهم التي يستحقون بها ذلك". اهـ وممن ذهب إلى تضعيف الحديث: ابن الجوزي؛ فإنه أورده في العلل المتناهية (¬4)، وقال: لا يصح. وقد جاء عن عائشة، وابن عباس، وابن عمر، ما يدل على معارضتهما للحديث: فعن عائشة رضي الله عنها، أنها كانت إذا قيل لها في ولد الزنا: هو شر الثلاثة، عابت ذلك وقالت: ما عليه من وزر أبويه، قال الله: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) ". (¬5). وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال في ولد الزنا: "لو كان شر الثلاثة لم يُتَأنَّ بأمه أن تُرجم حتى تضعه". (¬6) وعن ميمون بن مهران، أنه شهد ابن عمر صلى على ولد زنا فقيل له: إن أبا هريرة لم يُصلِّ عليه، وقال: هو شر الثلاثة. فقال ابن عمر: "هو ¬
خير الثلاثة". (¬1) ورُويَ نحو ذلك عن عكرمة (¬2)، والشعبي (¬3). ثانياً: مسالك العلماء في حديث: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَدُ زِنْيَةٍ": للعلماء في دفع التعارض بينه وبين الآية مسلكان: الأول: مسلك قبول الحديث، وتأويله على معنىً لا يُعارض الآية. وقد اختلف أصحاب هذا المسلك في تأويل الحديث على مذاهب: الأول: أَنَّ المراد بالحديث هو من تحقق بالزنا حتى صار غالباً عليه. وهذا التأويل قال به أبو جعفر الطحاوي، وهو اختيار الألباني. (¬4) قال الطحاوي ـ بعد أن ساق الحديث ـ: "هذا الحديث أُريد به من تحقق بالزنا حتى صار غالباً عليه، فاستحق بذلك أنْ يكون منسوباً إليه، فيُقال: هو ابن له، كما يُنسب المتحققون بالدنيا إليها، فيُقال لهم: بنو الدنيا، لعملهم لها، وتحققهم بها، وتركهم ما سواها، وكما قد قيل للمتحقق بالحذر: ابن أحذار، وللمتحقق بالكلام: ابن الأقوال، وكما قيل للمسافر: ابن سبيل، وكما قيل للمقطوعين عن أموالهم، لبعد المسافة بينهم وبينها: أبناء السبيل، كما قال تعالى في أصناف أهل الزكاة: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ) [التوبة: 60]، حتى ذكر فيهم ابن السبيل ... ، ومثل ذلك ابن زنية، قيل لمن قد تحقق بالزنا حتى صار بتحققه به منسوباً إليه، وصار الزنا غالباً عليه، أنه لا يدخل الجنة بهذه المكان التي فيه، ولم يُرِدْ به من كان ليس من ذوي الزنا الذي هو مولود ¬
من الزنا". اهـ (¬1) المذهب الثاني: أَنَّ الحديث محمول على الغالب؛ فإن ولد الزنا في الغالب لخباثة نطفته يكون خبيثاً لا خير فيه، فلا يعمل عملاً يدخل به الجنة. وهذا التأويل قال به ابن حبان، وهو اختيار الآلوسي. (¬2) قال ابن حبان: "معنى نفي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عن ولد الزنية دخول الجنة ـ وولد الزنية ليس عليهم من أوزار آبائهم وأمهاتهم شيء ـ أَنَّ ولد الزنية على الأغلب يكون أجسر على ارتكاب المزجورات، أراد - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ ولد الزنية لا يدخل الجنة، جنة يدخلها غير ذي الزنية، ممن لم تكثر جسارته على ارتكاب المزجورات". اهـ (¬3) المذهب الثالث: أَنَّ المراد بالحديث: أَنَّ ولد الزنا لا يدخل الجنة إذا عمل بعمل أبويه. وهذا التأويل قال به البيهقي (¬4)، والحافظ ابن حجر، فيما نقله عنه السخاوي. (¬5) المذهب الرابع: أَنَّ المراد بالحديث: أنه لا يدخل الجنة مع السابقين الأولين. وهذا التأويل قال به المناوي، قال: "وذلك لأنه يتعثر عليه اكتساب الفضائل الحسنة، ويتيسر له رذائل الأخلاق". اهـ (¬6) المذهب الخامس: أَنَّ المراد بالحديث: أنه لا يدخل الجنة بعمل أصليه، بخلاف ولد الرشد؛ فإنه إذا مات طفلاً وأبواه مؤمنان أُلحق بهما، وبلغ درجتهما بصلاحهما، على ما قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ ¬
أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) [الطور: 21]، وولد الزنا لا يدخل بعمل أصليه، أما الزاني فنسبه منقطع، وأما الزانية فشؤم زناها ـ وإن صلحت ـ يمنع من وصول بركة صلاحها إليه. وهذا التأويل قال به الطالقاني (¬1). (¬2) المذهب السادس: أَنَّ الحديث فيه تغليظ وتشديد على ولد الزنية، تعريضاً بالزاني؛ لئلا يورطه في السفاح، فيكون سبباً لشقاوة نسمة بريئة. وهذا التأويل قال به الطيبي، قال: "ومما يؤذن أنه تغليظ وتشديد: سلوك ولد الزنية في قرن العاق والمنان ومدمن الخمر، ولا ارتياب أنهم ليسوا من زمرة من لا يدخل الجنة أبداً". اهـ (¬3) المسلك الثاني: مسلك تضعيف الحديث. حيث ذهب جمعٌ من العلماء إلى أَنَّ الحديث لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فوصفه بالاضطراب الدارقطني (¬4)، وضعفه الحافظ ابن حجر (¬5)، وحكم عليه بالوضع: ابن الجوزي، والسيوطي، وابن عرَّاق (¬6)، وابن طاهر (¬7)، والعجلوني (¬8)، والشوكاني. (¬9) ثالثاً: مسالك العلماء في حديث: "نَعْلَانِ أُجَاهِدُ بِهِمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ وَلَدَ زِنًا". هذا الحديث لم يصححه أحد من العلماء حسب ما وقفت عليه، وقد تأوله الطحاوي بعد روايته له، بأنه محمول على من تحقق بالزنا حتى صار ¬
المبحث الخامس: الترجيح
غالباً عليه. (¬1) وتأوله السندي: بأنَّ المراد أَنَّ أجر إعتاقه قليل، وذلك لأن الغالب عليه الشر عادة، فالإحسان إليه قليل الأجر، كالإحسان إلى غير أهله. (¬2) المبحث الخامس: الترجيح: التحقيق أنه لا يصح في المسألة إلا حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وَلَدُ الزِّنَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ"، وأما بَقيَّة الأحاديث فلا يصح منها شيء، وقد بينت في أول المسألة ما فيها من علل. والذي يظهر لي في معنى حديث أبي هريرة: أَنَّ ولد الزنا هو شر الثلاثة شؤماً بالزنا، وأنَّ معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "شر الثلاثة" أي: أشد الثلاثة تضرراً بالزنا، وذلك لأن الأبوين إذا تابا وسترا على أنفسهما فقد اندفعت عنهما مَعَرَّةُ الزنا، فلا يَعْلَم أحدٌ بحالهما، وأما الابن فلا يزال شؤم الزنا يلاحقه طيلة حياته، فهو معروف بين الناس بأنه ولد زنا، ولا يستطيع بحال أنْ يتخلص من ذلك، ومن هذا الباب أصبح شر الثلاثة، أي شر الثلاثة شؤماً بالزنا، وهذا المعنى لا يلزم منه أنْ يكون ابن الزنا ملوماً بزنا أبويه، أو أنه يُعاقب على ذلك، بل هو بريء كل البراءة من إثم أبويه، وإذا كان صالحاً لم يلحقه من شؤم الزنا إلا وصفه به، ولا يلحقه من إثم أبويه شيء. وقد جاء في السنة إطلاق الشر على الضرر، وإنْ لم يكن الموصوف به آثماً أو مُلاماً عليه، فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَارٍ، وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ: (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1)) [المرسلات: 1] فَنَحْنُ نَأْخُذُهَا مِنْ فِيهِ رَطْبَةً، إِذْ خَرَجَتْ عَلَيْنَا حَيَّةٌ فَقَالَ: اقْتُلُوهَا، فَابْتَدَرْنَاهَا لِنَقْتُلَهَا، فَسَبَقَتْنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَقَاهَا اللَّهُ شَرَّكُمْ، كَمَا وَقَاكُمْ شَرَّهَا". (¬3) ¬
ففي هذا الحديث تسمية النبي - صلى الله عليه وسلم - مبادرة الصحابة لقتل الحية شراً، وليس في وصفه - صلى الله عليه وسلم - لفعلهم بالشر ما يدل على كراهته له أو تحريمه، وإنما سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - شراً باعتبار الضرر الذي يلحق الحية؛ لا باعتبار أنَّ الفعل شر، أو أنَّ فاعله آثم، والله تعالى أعلم. ****
المسألة [11]: في رؤية الإنس للجن
المسألة [11]: في رؤية الإنس للجن. المبحث الأول: ذكر الآية الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)) [الأعراف: 27]. المبحث الثاني: ذكر الحديث الذي يوهم ظاهره التعارض مع الآية: (21) ـ (19): عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ عِفْرِيتًا مِنْ الْجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ؛ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلَاةَ؛ فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تُصْبِحُوا وَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) [ص: 35] ". (¬1) المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآية والحديث: ظاهر الآية الكريمة نفي رؤية الإنس للجن، وأما الحديث ففيه إثبات الرؤية، وهذا يُوهِمُ خلاف الآية. ¬
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية والحديث
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية والحديث: اختلف العلماء في إمكان رؤية الإنس للجن على مذهبين: الأول: إمكان رؤية الإنس للجن. وهذا مذهب أهل السنة (¬1)، إلا أنهم اختلفوا في تأويل الآية، والجمع بينها وبين الحديث، على أقوال: الأول: أنَّ الآية محمولة على الأعم الأغلب، وليس المراد نفي رؤيتهم مطلقاً؛ حيث إنَّ الغالب هو عدم رؤيتهم من قِبَلِ الإنس، ولكن لا مانع من رؤيتهم في بعض الأحيان، كما وقع للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا رأي: الخطابي، والبغوي، والقاضي عياض، وأبي العباس القرطبي، والنووي، وابن رجب، والآلوسي. (¬2) القول الثاني: أنَّ المراد في الآية نفي رؤيتنا لهم في الحال التي يروننا فيها، وليس في الآية ما يُفيد نفي رؤيتنا لهم مطلقاً؛ إذ المستفاد منها أنَّ رؤيتهم إيانا مُقيدة من هذه الحيثية، فلا نراهم في وقت رؤيتهم لنا فقط، ويجوز رؤيتنا لهم في غير ذلك الوقت. (¬3) وهذا رأي: شيخ الإسلام ابن تيمية (¬4)، والكرماني (¬5)، وابن حجر الهيتمي (¬6)، والشوكاني. ¬
قال الشوكاني: "وقد استدل جماعة من أهل العلم بهذه الآية على أنَّ رؤية الشياطين غير ممكنة، وليس في الآية ما يدل على ذلك، وغاية ما فيها: أنه يرانا من حيث لا نراه، وليس فيها أنا لا نراه أبداً؛ فإنَّ انتفاء الرؤية منا له في وقت رؤيته لنا لا يستلزم انتفاءها مطلقاً". اهـ (¬1) واعترض: بأنَّ في حديث أبي هريرة رؤية الاثنين، بعضهم لبعض، في آنٍ واحد، وليس فيه ما ذُكِرَ من التفصيل. القول الثالث: أنَّ رؤيتهم على طبيعتهم وصورهم الأصلية التي خُلِقوا عليها ممتنعة؛ لظاهر الآية، لكن إذا تشكلوا في غير صورهم أمكن رؤيتهم، وعليه تُحمل الأحاديث والآثار الواردة في المسألة. ذكر هذا القول: القاضي عياض (¬2). وهو اختيار: الحافظ ابن حجر (¬3)، والعيني (¬4). واعترض عليه النووي قائلاً: "هذه دعوى مجردة؛ فإن لم يصح لها مستند؛ فهي مردودة". (¬5) القول الرابع: أنَّ رؤيتهم على صورهم التي خُلِقوا عليها هو مما اختص به الأنبياء - عليهم السلام - وهو من معجزاتهم، وعليه تحمل الآية، وأما سائر الناس فلا يمكنهم رؤيتهم إلا إذا تشكلوا في غير صورهم التي خُلقوا عليها. وهذا رأي: ابن بطال، والنحاس (¬6)، وابن عاشور (¬7). قال ابن بطال: "رؤيته - صلى الله عليه وسلم - للعفريت هو مما خُص به، كما خُص برؤية الملائكة، وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنَّ جبريل - عليه السلام - له ستمائة جناح (¬8)، ورأى النبي - صلى الله عليه وسلم - الشيطان في هذه الليلة، وأقدره الله عليه لتجسُّمِه؛ لأن الأجسام ممكن القدرة ¬
عليها، ولكنه ألقى في روعه ما وُهِبَ سليمان - عليه السلام - فلم يُنفِذ ما قوي عليه من حبسه رغبة عما أراد سليمان الانفراد به، وحرصاً على إجابة الله تعالى دعوته، وأما غير النبي من الناس فلا يمكن منه، ولا يرى أحدٌ الشيطانَ على صورته غيره - صلى الله عليه وسلم -؛ لقوله تعالى: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ)، لكنه يراه سائر الناس إذا تشكل في غير شكله، كما تشكل الذي طعنه الأنصاري حين وجده في بيته على صورة حية فقتله فمات الرجل به، فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك بقوله: "إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ شَيْئًا فَآذِنُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَاقْتُلُوهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ" (¬1) ". اهـ (¬2) القول الخامس: أنَّ رؤية الجن ممتنعة مطلقاً إلا لنبي، أو في زمن نبي. وهذا رأي: ابن حزم، حيث قال عن الجن: "وهم يروننا ولا نراهم، قال الله تعالى: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ) .... ، وإذ أخبرنا الله عز وجل أننا لا نراهم، فمن ادعى أنه يراهم أو رآهم فهو كاذب، إلا أن يكون من الأنبياء - عليهم السلام - فذلك معجزة لهم، كما نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه تفلت عليه الشيطان ليقطع عليه صلاته قال: فأخذته فذكرت دعوة أخي سليمان، ولولا ذلك لأصبح موثقاً يراه أهل المدينة، وكذلك في رواية عن أبي هريرة - رضي الله عنه - للذي رأى (¬3)؛ أنها هي معجزة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا سبيل إلى وجود خبر يصح برؤية حتى بعد موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هي منقطعات، أو عمن لا خير فيه". اهـ (¬4) ونُقِلَ عن الإمام الشافعي أنه قال: "من زعم من أهل العدالة أنه يرى الجن أبطلت شهادته؛ لأن الله عز وجل يقول: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ)، إلا أن يكون نبياً". (¬5) القول السادس: أنَّ الآية خارجة مخرج التمثيل لدقيق مكر الشيطان وخفي حيله، وليس المقصود منها نفي الرؤية حقيقة. ¬
ذكره الآلوسي في تفسيره احتمالاً آخر في الجمع (¬1)، ولا يخفى بعده، بل هو من التفسير الإشاري المخالف لظاهر القرآن الكريم. أدلة هذا المذهب: استدل القائلون بإمكان الرؤية - وهم أهل السنة - بأدلة منها: الدليل الأول: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الوارد في المسألة. الدليل الثاني: قصة أبي هريرة - رضي الله عنه - مع الشيطان، وقد رآه أبو هريرة في صورة مسكين على هيئة إنسان (¬2)، وهذا يدل على أنَّ الشياطين والجن يتشكلون في غير صورهم. الدليل الثالث: أنَّ الله تعالى نص في كتابه على عمل الجن لسليمان - عليه السلام - ومخاطبتهم له، في قوله تعالى: (قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)) [النمل: 39]، ومثل هذا لا يُنكر مع تصريح القرآن بذلك، وثبوت الأحاديث الصحيحة. (¬3) المذهب الثاني: نفي إمكان رؤية الجن مطلقاً، لا لنبي، ولا لغيره. وهذا مذهب المعتزلة (¬4)، وبعض الأشاعرة (¬5). ¬
المبحث الخامس: الترجيح
وبه قال الزمخشري، والفخر الرازي. قال الزمخشري - بعد أن أورد الآية -: "وفيه دليل بَيّنٌ أنَّ الجن لا يُرون، ولا يظهرون للإنس، وأنَّ إظهارهم أنفسهم ليس في استطاعتهم، وأنَّ زَعْمَ من يَدَّعي رؤيتهم زورٌ ومخرقة". اهـ (¬1) وقال الفخر الرازي: "قوله تعالى: (مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ) يدل على أنَّ الإنس لا يرون الجن؛ لأن قوله: (مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ) يتناول أوقات الاستقبال من غير تخصيص، قال بعض العلماء: ولو قَدِرَ الجن على تغيير صور أنفسهم بأي صورة شاؤا وأرادوا لوجب أن ترتفع الثقة عن معرفة الناس، فلعل هذا الذي أشاهده وأحكم عليه بأنه ولدي أو زوجتي جِنِّيٌّ صوّر نفسه بصورة ولدي أو زوجتي، وعلى هذا التقدير يرتفع الوثوق عن معرفة الأشخاص". اهـ (¬2) المبحث الخامس: الترجيح: الذي يَظْهُرُ صَوَابُه - والله تعالى أعلم - هو إمكان رؤية الإنس للجن، وأنَّ الآية محمولة على نفي رؤيتهم على الهيئة التي خُلِقوا عليها، لكن إذا تشكَّلوا في صورٍ أخرى من إنسان أو حيوان أمكن رؤيتهم، وعليه فتكون الآية مقيدة بمنع رؤيتهم في حال دون حال، وتلك الحال هي هيئتهم التي خُلقوا عليها. يدل على هذا الاختيار: 1 - ما ذُكِرَ في المسألة من الأحاديث، والتي فيها رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم. 2 - وما ورد من رؤية بعض الصحابة لهم على صورة إنسان، أو حيوان، وهذا يدل على أنهم لا يُرون على هيئتهم التي خلقوا عليها، لكن إذا تشكلوا في صور أخرى أمكن رؤيتهم. ¬
3 - أنه لم يُنقل أنَّ أحداً رآهم على هيئتهم التي خلقوا عليها، لا في حديث، ولا في أثر، على حين تعددت الوقائع برؤيتهم في صورٍ أخرى، فدل على صحة ما قلناه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما رؤية كثير من الناس للجن - حال الصرع وغير الصرع - فهذا أكثر وأشهر من أن يذكر .... ، وقد اتفق أئمة الإسلام على وجود الجن، وقد رآهم غير واحد من الناس، وخاطبوهم ... ". اهـ (¬1) **** ¬
المسألة [12]: في مستقر أرواح الكفار
المسألة [12]: في مستقر أرواح الكفار. المبحث الأول: ذكر الآية الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)) [الأعراف: 40]. المبحث الثاني: ذكر الحديث الذي يُوهِمُ ظاهره التعارض مع الآية: (22) ـ (20): عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان أبو ذَرٍّ - رضي الله عنه - يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ - صلى الله عليه وسلم - قال: ... ، فذكر حديث الإسراء بطوله، ثم ذكر قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فَلَمَّا جِئْتُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ: افْتَحْ. قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ. قَالَ: هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، مَعِي مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم -. فَقَالَ: أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَلَمَّا فَتَحَ عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا؛ فَإِذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ، عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ (¬1)، وَعَلَى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ؛ إِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَسَارِهِ بَكَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَالِابْنِ الصَّالِحِ. قُلْتُ لِجِبْرِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَال: هَذَا آدَمُ، وَهَذِهِ الْأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ نَسَمُ (¬2) بَنِيه؛ ِ فَأَهْلُ ¬
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآية والحديث
الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَالْأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى ... ". (¬1) المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآية والحديث: ظاهر الآية الكريمة أنَّ أرواح الكفار لا تُفَتَّح لها أبواب السماء (¬2)، وأما الحديث الشريف ففيه أنَّ أرواح الكفار على يسار آدم عليه السلام، وهذا يُوهِمُ كونها في السماء الدنيا، وهو خلاف الآية. (¬3) وقد جاء في السنة ما يؤكد معنى الآية، فعن البراء بن عازب - رضي الله عنه -، أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنْ الْآخِرَةِ، نَزَلَ إِلَيْهِ مِنْ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ، مَعَهُمْ الْمُسُوحُ (¬4)، فَيَجْلِسُونَ ¬
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية والحديث
مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ؛ فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ، اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَغَضَبٍ. قَالَ: فَتُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ؛ فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ (¬1) مِنْ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ، فَيَأْخُذُهَا؛ فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَإٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ الْخَبِيثُ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ فَلَا يُفْتَحُ لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ، فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى، فَتُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحًا، ثُمَّ قَرَأَ: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) [الحج: 31] ". (¬2) المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية والحديث: لم يتجاوز العلماء في هذه المسألة مسلك الجمع بين الآية والحديث، وقد اختلفوا في الجمع على مذهبين: الأول: أنَّ آدم - عليه السلام- كان ينظر إلى نسم بنيه عن يمينه وشماله، ونسم بنيه مستقرة في مستقرها، فنسم المؤمنين في الجنة، في عليين، ونسم الكافرين في سجين، في الأرض السُفلى، وليس معنى الحديث أنها عند آدم في السماء الدنيا. ¬
وهذا مذهب: القاضي عياض، وابن رجب، وابن القيم، والحافظ ابن حجر، والعيني، والمناوي، والآلوسي. (¬1) واستدلوا له (¬2): 1 - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى الجنة والنار في صلاة الكسوف (¬3)، وهو في الأرض، وليست الجنة في الأرض. 2 - ورآهما ليلة الإسراء في السماء (¬4)، وليست النار في السماء (¬5). ¬
3 - وبأن حديث الإسراء قد روي بلفظ آخر، وفيه ما يؤيد هذا القول، ويزيل الإشكال عن الحديث؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ... فذكر حديث الإسراء بطوله، وفيه: "ثم صعد به إلى السماء؛ فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد - صلى الله عليه وسلم -. قالوا: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قالوا: حياه الله من أخ وخليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء، فدخل فإذا بشيخ جالس تام الخلق لم ينقص من خلقه شيء كما ينقص من خلق البشر، عن يمينه باب يخرج منه ريح طيبة، وعن شماله باب تخرج منه ريح خبيثة، إذا نظر إلى الباب الذي عن يمينه ضحك، وإذا نظر إلى الباب الذي عن يساره بكى وحزن، فقال: يا جبريل، من هذا الشيخ؟ وما هذان البابان؟ قال: هذا أبوك آدم، وهذا الباب الذي عن يمينه باب الجنة، إذا رأى من يدخله من ذريته ضحك واستبشر، وإذا نظر إلى الباب الذي عن شماله باب جهنم من يدخله من ذريته بكى وحزن". (¬1) ¬
المذهب الثاني: أنَّ الأرواح التي رآها النبي - صلى الله عليه وسلم - عن يمين آدم وشماله إنما هي أرواح بنيه التي لم تُخلق أجسادهم بعدُ. (¬1) ¬
المبحث الخامس: الترجيح
ذكره الحافظ ابن حجر وجهاً آخر في الجمع. (¬1) ثم رجع عنه واستقرَّ رأيه على القول الأول. (¬2) المبحث الخامس: الترجيح: الذي يَظْهُرُ صَوَابُه ـ والله تعالى أعلم ـ هو القول الأول، وأنَّ معنى الحديث: أنَّ آدم - عليه السلام- كان ينظر إلى نسم بنيه وهم في منازلهم من الجنة أو النار، وهذا القول لا يلزم منه أن تكون النار في السماء، إذ من الممكن رؤيتها وهي في الأرض، كما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - نهر النيل والفرات ليلة أسري به (¬3)، وهو في السماء، وقد ذكر أصحاب هذا القول رؤيته - صلى الله عليه وسلم - للنار وهو في السماء، ورؤيته للجنة وهو في الأرض، وهذا كله يدل على أن رؤية الشيء في مكان ما لا يستلزم أن يكون ذلك المكان ظرفاً للمرئي، ومن ذلك رؤية آدم - عليه السلام- لنسم بنيه وهو في السماء لا يلزم منه أن تكون السماء ظرفاً لما رآه، والله تعالى أعلم. **** ¬
المسألة [13]: في الموجب لدخول الجنة
المسألة [13]: في المُوجِبِ لدخول الجنة. المبحث الأول: ذكر الآيات الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)) [الأعراف: 43]. وقال تعالى: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)) [النحل: 32]. (¬1) المبحث الثاني: ذكر الحديث الذي يُوهِمُ ظاهره التعارض مع الآيات: (23) ـ (21): عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا؛ فَإِنَّهُ لَا يُدْخِلُ أَحَدًا الْجَنَّةَ عَمَلُهُ". قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ". (¬2) (24) ـ ( .. ): وفي رواية عند أحمد: "لَا يَدْخُلُ أَحَدُكُمْ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ". (¬3) ¬
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآيات والحديث
(25) ـ ( .. ): وفي رواية لمسلم: "لَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلِهِ". (¬1) المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآيات والحديث: ظاهر الآيات الكريمة أنَّ مجرد العمل الصالح هو الذي يُدْخِلُ الجنة؛ وأمَّا الحديث فظاهره أنَّ العمل لا يُدْخِلُ الجنة، وهذا يُوهِمُ خلاف الآيات. (¬2) المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآيات والحديث: اتفق علماء أهلِ السُّنة على أنَّه لا يستحق أحدٌ الثواب ودخول الجنة بمجرد العمل، بل لا بُدَّ من رحمة الله تعالى وفضله، كما دلَّ عليه حديث المسألة. ¬
وخالف المعتزلة فأوجبوا على الله تعالى ثواب الأعمال، وقالوا: إنَّ دخول الجنة إنما هو بسبب الأعمال لا بالتَّفَضُّل (¬1)، وقد أنكر عليهم أهل السنة قولهم هذا وبينوا خطأه وعواره. ومذهب أهل السنة أنَّ الله تعالى لا يجب عليه شيء، بل العالم ملكه، والدنيا والآخرة في سلطانه، يفعل فيهما ما يشاء، فلو عذَّب المطيعين والصالحين أجمعين، وأدخلهم النار كان عدلاً منه، ولو أكرمهم ونعَّمَهم وأدخلهم الجنة فهو فضل منه، ولو نعَّم الكافرين وأدخلهم الجنة كان له ذلك، ولكنه أخبر سبحانه وخبره صدق أنه لا يفعل هذا، بل يغفر للمؤمنين ويُدخلهم الجنة برحمته، ويُعذب الكافرين ويُدخلهم النار عدلاً منه سبحانه. (¬2) وأمَّا الآيات التي يُوهم ظاهرها أنَّ الأعمال الصالحة هي التي تُدْخِلُ الجنة؛ فقد اختلف العلماء في الجواب عنها، وفي الجمع بينها وبين الحديث على مذاهب: الأول: أنَّ العمل بنفسه لا يستحقُّ به أحدٌ الجنة لولا أنَّ الله عز وجل جعله - بفضله ورحمته - سبباً لذلك، والعمل نفسه من فضل الله ورحمته على عبده، فالجنة وأسبابها كلٌّ من فضل الله ورحمته. (¬3) وهذا مذهب: ابن حزم، والبيهقي، وابن العربي، والقاضي عياض، والفخر الرازي، وأبي العباس القرطبي، والنووي، والخازن، وابن رجب، وابن الوزير اليماني، وأبي زرعة العراقي، والشوكاني. (¬4) ¬
قال البيهقي - بعد روايته للحديث -: "وهذا لأنَّه إنَّما أمْكَنَهُ العمل بالطاعة بتوفيق الله إياه لذلك، وإنما ترك المعصية بعصمة الله إياه عنها، والتوفيق والعصمة بإرادة الله وتوفيقه وعصمته، وهي رحمته، فالنجاة في الحقيقة واقعة برحمة الله وفضله، ولا بُدَّ من العمل لامتثال الأمر". اهـ (¬1) وقال النووي: "وأمَّا قوله تعالى: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل: 32] (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)) [الزخرف: 72] ونحوهما من الآيات الدالة على أنَّ الأعمال يَدْخُل بها الجنة فلا يُعارض هذا الحديث؛ بل معنى الآيات أنَّ دخول الجنة بسبب الأعمال، ثم التوفيق للأعمال والهداية للإخلاص فيها وقبولها برحمة الله تعالى وفضله، فيصِحُّ أنَّه لم يَدْخُل بمجرد العمل، وهو مُراد الحديث، ويصِحُّ أنَّه دخل بالأعمال، أي بسببها، وهي من الرحمة". اهـ (¬2) المذهب الثاني: أنَّ الباء التي نفت الدخول هي باء المُعَاوَضَة التي يكون فيها أحد العوضين مقابلاً للآخر، والباء التي أثبتت الدخول هي باء السببية التي تقتضي سببية ما دخلت عليه لغيره. وهذا مذهب: شيخ الإسلام ابن تيمية، والحافظ ابن كثير، وابن أبي العز الحنفي، وابن القيم، وابن عاشور. (¬3) قال شيخ الإسلام ابن تيمية - وقد سُئِلَ عن قوله تعالى: (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) هل يَدْخُل أحدٌ الجنة بعمله، أم ينقضه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَا يَدْخُلُ أَحَدُكُمْ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ"؟ فأجاب: "لا مناقضة بين ما جاء به القرآن وما جاءت به السنة، إذ المُثبت ¬
في القرآن ليس هو المنفي في السنة، والتناقض إنما يكون إذا كان المُثبت هو المنفي، وذلك أنَّ الله تعالى قال: (تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وقال: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)) [الحاقة: 24] وقال: (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة: 19] وقال: (وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)) [الواقعة: 22 - 24]، فَبَيَّن بهذه النصوص أنَّ العمل سبب للثواب، والباء للسبب؛ كما في مثل قوله تعالى: (فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) [الأعراف: 57] وقوله: (وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) [البقرة: 164] ونحو ذلك مما يُبَيّن به الأسباب، ولا ريب أنَّ العمل الصالح سبب لدخول الجنة، والله قدَّر لعبده المؤمن وجوب الجنة بما يُيسره له من العمل الصالح، كما قدَّر دخول النار لمن يدخلها بعمله السيء .... ، وإذا عُرِفَ أنَّ الباء هنا للسبب فمعلوم أنَّ السبب لا يستقل بالحكم، فمُجرد نزول المطر ليس موجباً للنبات، بل لا بُدَّ من أنْ يخلق اللهُ أموراً أخرى، ويدفع عنه الآفات المانعة، فيُرَبّيه بالتراب والشمس والريح، ويدفع عنه ما يُفسده، فالنبات محتاج مع هذا السبب إلى فضلٍ من الله أكبر منه. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَا يَدْخُلُ أَحَدُكُمْ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ"؛ فإنَّه ذكره في سياق أمره لهم بالاقتصاد قال: "سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا؛ فَإِنَّهُ لَا يُدْخِلُ أَحَدًا الْجَنَّةَ عَمَلُهُ"، وقال: "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ (¬1) وَالرَّوْحَةِ (¬2) وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ (¬3) " (¬4)، فنفى بهذا ¬
الحديث ما قد تتوهمه النفوس من أنَّ الجزاء من الله عز وجل على سبيل المعاوضة والمقابلة، كالمعاوضات التي تكون بين الناس في الدنيا؛ فإنَّ الأجير يعمل لمن استأجره، فيُعطيه أجره بقدر عمله، على طريق المعاوضة، إنْ زاد زاد أجرته، وإنْ نقص نقص أجرته، وله عليه أجرة يستحقها كما يستحق البائع الثمن، فنفى - صلى الله عليه وسلم - أنْ يكون جزاءُ الله وثوابه على سبيل المعاوضة والمقابلة والمعادلة، والباء هنا كالباء الداخلة في المعاوضات، كما يقال: استأجرت هذا بكذا، وأخذت أجرتي بعملي، وكثير من الناس قد يتوهم ما يشبه هذا، وهذا غلط من وجوه: أحدها: أنَّ الله تعالى ليس محتاجاً إلى عمل العباد كما يحتاج المخلوق إلى عمل من يستأجره. الثاني: أنَّ الله هو الذي مَنَّ على العامل بأنْ خَلَقَهُ أولاً، وأحياه ورزقه، ثم بأنْ أرسل إليه الرسل، وأنزل إليه الكتب، ثم بأنْ يسر له العمل، وحبَّبَ إليه الإيمان وزينه في قلبه، وكرَّه إليه الكفر والفسوق والعصيان، والمخلوق إذا عمل لغيره لم يكن المستعمل هو الخالق لعمل أجيره، فكيف يُتصور أنْ يكون للعبد على الله عِوض، وهو خلقه وأحدثه وأنعم على العبد به، وهل تكون إحدى نعمتيه عوضاً عن نعمته الأخرى وهو ينعم بكلتيهما. الثالث: أنَّ عمل العبد لو بلغ ما بلغ ليس هو مما يكون ثواب الله مقابلاً له ومعادلاً حتى يكون عوضاً؛ بل أقل أجزاء الثواب يستوجب أضعاف ذلك العمل. الرابع: أنَّ العبد قد يُنَعَّم ويُمَتَّع في الدنيا بما أنعم الله به عليه مما يستحق بإزائه أضعاف ذلك العمل إذا طلبت المعادلة والمقابلة. الخامس: أنَّ العباد لا بُدَّ لهم من سيئات، ولا بُدَّ في حياتهم من تقصير، فلولا عفو الله لهم عن السيئات وتقبله أحسن ما عملوا لما استحقوا ثواباً؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ". قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)) [الانشقاق: 7 - 8]؟ قَالَ: "ذَاكَ الْعَرْضُ يُعْرَضُونَ، وَمَنْ نُوقِشَ
الْحِسَابَ هَلَكَ". (¬1) ولهذا قال في الحديث - لما قيل له: "وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ". فتَبَيَّن بهذا الحديث أنَّه لا بُدَّ من عفو الله وتجاوزه عن العبد، وإلا فلو ناقشه على عمله لما استحق به الجزاء، قال الله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ) [الأحقاف: 16]، وقال تعالى: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)) إلى قوله: (لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)) [الزمر: 33 - 35] .... ". اهـ (¬2) المذهب الثالث: أنَّ الباء في الآية للمعاوضة والمقابلة وليست للسببية. وبهذا جزم الشيخ جمال الدين ابن هشام (¬3) في "المغني" فقال: "المعنى الثامن للباء: المقابلة، وهي الداخلة على الأعواض، كاشتريته بألف درهم، وقولهم هذا بذاك. ومنه قوله تعالى: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل: 32]، وإنما لم نُقدِّرها باء السببية - كما قالت المعتزلة (¬4)، وكما قال الجميع في: "لَا يَدْخُلُ أَحَدُكُمْ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ"- لأنَّ المعطي بعوض قد يُعطي مجاناً، وأمَّا المُسَبَّبَ فلا يوجد بدون السبب، وقد تَبَيَّن أنه لا تَعارض بين الحديث والآية لاختلاف محلي البائين، جمعاً بين الأدلة". اهـ (¬5) المذهب الرابع: أنَّ الباء في الآية ليست للسببية؛ بل للإلصاق أو المصاحبة، والمعنى: أورثتموها ملابسة أو مصاحبة لأعمالكم. وهذا مذهب الكرماني، واختيار العيني. (¬6) وجَوَّزا أنْ تكون الباء في الآية للمقابلة كما هو مذهب ابن هشام. ¬
قال العيني: "فإنْ قلت: كيف الجمع بين هذه الآية وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَا يَدْخُلُ أَحَدُكُمْ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ"؟ قلت: الباء في قوله: (بِمَا كُنْتُمْ) ليست للسببية، بل للملابسة. أي أورثتموها ملابسة لأعمالكم، أي لثواب أعمالكم. أو للمقابلة؛ نحو: أعطيت الشاة بالدرهم". اهـ (¬1) المذهب الخامس: أنَّ مجرد دخول الجنة لا يكون إلا برحمة الله وفضله، وعليه يُحمل الحديث، وأما اقتسام منازل الجنة ودرجاتها فإنَّ ذلك يتفاوت بتفاوت الأعمال، وعليه تُحمل الآية. وهذا مذهب ابن بطال، وأبي عبد الله القرطبي. (¬2) قال ابن بطال: "فإن قال قائل: فإنَّ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لن يدخل أحدكم عمله الجنة" يُعارض قوله تعالى: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)) [الزخرف: 72]. قيل: ليس كما توهمت، ومعنى الحديث غير معنى الآية، أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث أنه لا يستحق أحد دخول الجنة بعمله، وإنما يدخلها العباد برحمة الله، وأخبر الله تعالى في الآية أنَّ الجنة تُنال المنازل فيها بالأعمال، ومعلوم أنَّ درجات العباد فيها متباينة على قدر تباين أعمالهم، فمعنى الآية في ارتفاع الدرجات وانخفاضها والنعيم فيها، ومعنى الحديث في الدخول في الجنة والخلود فيها، فلا تعارض بين شيء من ذلك". اهـ ثم أورد على جوابه هذا قوله تعالى: (سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)) [النحل: 32] حيث أخبر سبحانه أن دخول الجنة بالأعمال أيضاً. وأجاب: "بأن قوله: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل: 32] كلامٌ مُجْمَلٌ يُبيّنه الحديث، وتقديره: ادخلوا منازل الجنة وبيوتها بما كنتم تعملون، فالآية مُفتقرة إلى بيان الحديث. قال: وللجمع بين الحديث وبين الآيات وجه آخر: هو أنْ يكون الحديث مُفِسراً للآيات، ويكون تقديرها: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الزخرف: 72]، و (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19)) [الطور: 19]، و (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل: 32] مع رحمة الله لكم وتفضله عليكم؛ لأنَّ فضله ¬
تعالى ورحمته لعباده في اقتسام المنازل في الجنة، كما هو في دخول الجنة لا ينفك منه، حين ألهمهم إلى ما نالوا به ذلك، ولا يخلو شيء من مجازاة الله عباده من رحمته وتفضله، ألا ترى أنه تعالى جازى على الحسنة عشرًا، وجازى على السيئة واحدة، وأنه ابتدأ عباده بنعم لا تُحصى، لم يتقدم لهم فيها سبب ولا فعل، منها أنْ خلقهم بشرًا سوياً، ومنها نعمة الإسلام ونعمة العافية ونعمة تضمنه تعالى لأرزاق عباده، وأنه كتب على نفسه الرحمة، وأنَّ رحمته سبقت غضبه، إلى ما لا يُهتَدى إلى معرفته من ظاهر النعم وباطنها". اهـ (¬1) المذهب السادس: أنَّ الباء في الآية للسببية العادية، أي المجاز، وفي الحديث للسببية الحقيقية. وهذا مذهب: ابن عطية، وأبي حيان، والملا علي القاري، والآلوسي، والقاسمي. (¬2) قال ابن عطية: "وقوله: (بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي بما كان في أعمالكم من تكسبكم، وهذا على التجوز، علَّق دخولهم الجنة بأعمالهم من حيث جعل الأعمال أمارة لإدخال العبد الجنة، ويعترض في هذا المعنى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَا يَدْخُلُ أَحَدُكُمْ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ"، وهذه الآية تُردُّ بالتأويل إلى معنى الحديث". اهـ (¬3) المذهب السابع: أنَّ الآية في العمل المقبول، والحديث في العمل المجرد من القبول. وهذا مذهب الحافظ ابن حجر، والشنقيطي (¬4). ¬
المبحث الخامس: الترجيح
قال ابن حجر: "ويظهر لي في الجمع بين الآية والحديث: أنْ يُحمل الحديث على أنَّ العمل من حيث هو عمل لا يستفيد به العامل دخول الجنة ما لم يكن مقبولاً، وإذا كان كذلك فأمر القبول إلى الله تعالى، وإنما يحصل برحمة الله لمن يقبل منه، وعلى هذا فمعنى قوله: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي تعملونه من العمل المقبول، ولا يضر بعد هذا أنْ تكون "الباء" للمصاحبة، أو للإلصاق، أو المقابلة، ولا يلزم من ذلك أن تكون سببية". اهـ (¬1) المبحث الخامس: الترجيح: الذي يَظْهُرُ صَوَابُه - والله تعالى أعلم - أنَّ الله تعالى جعل الأعمال الصالحة سبباً لدخول الجنة، وهي في الحقيقة راجعة إلى توفيق الله تعالى وفضله؛ إذ ليس في مقدور العبد الإتيان بها لولا توفيق الله تعالى وتيسيره. "والله تعالى قدَّر لعبده المؤمن دخول الجنة بما ييسره له من العمل الصالح، كما قدَّر دخول النار لمن يدخلها بعمله السيئ، كما في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ، وَمَقْعَدُهُ مِنْ الْجَنَّةِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟ قَالَ: اعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ". (¬2) وقال: "إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلًا، خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، وَخَلَقَ لِلنَّارِ أَهْلًا، خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ". (¬3) ". (¬4) ¬
كما أنَّ الأعمال الصالحة لا تُفيد العبد شيئاً ما لم تكن مقبولة، فالشأن كل الشأن في القبول لا في العمل. والذي يزيل الإشكال ويدفع التعارض بين الآيات والحديث هو حمل "الباء" في الآيات على السببية، وفي الحديث على المعاوضة، فالآيات أثبتت الأسباب، والحديث نفى وجوب الثواب، والله سبحانه أعلم بالصواب. ****
المسألة [14]: في مدة خلق السماوات والأرض
المسألة [14]: في مدة خلق السماوات والأرض. المبحث الأول: ذكر الآيات الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) [الأعراف: 54]. (¬1) وقال تعالى: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)) [فصلت: 9 - 12]. المبحث الثاني: ذكر الحديث الذي يُوهِمُ ظاهره التعارض مع الآيات: (26) ـ (22): عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِي فَقَالَ: "خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ التُّرْبَةَ (¬2) يَوْمَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَالَ يَوْمَ الْأَحَدِ، ¬
وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَام - بَعْدَ الْعَصْرِ، مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فِي آخِرِ الْخَلْقِ، فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ، فِيمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ". (¬1) ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآيات والحديث
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآيات والحديث: ظاهرُ الحديثِ الشريفِ أنَّ خلق الأرض وما فيها استغرق سبعة أيام، وهذا يُوهِمُ خلاف الآيات، والتي فيها أَنَّ الله عز وجل خلق السماوات والأرض
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآيات والحديث
وما بينهما في ستة أيام، وفيه أيضاً مخالفةٌ لآية فُصِّلَتْ؛ إذ الحديث ظاهره أنَّ خلق الأرض استغرق الأيام الستة كلها، وأما الآية فظاهرها أَنَّ مدة خلق الأرض استغرق أربعة أيام، ثم خُلقِتْ السماء بعد ذلك في يومين. (¬1) المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآيات والحديث: للعلماء في دفع التعارض بين الآيات والحديث مسلكان: الأول: مسلك تضعيف رفع الحديث، وترجيح وقفه على أبي هريرة - رضي الله عنه -. ويرى أصحاب هذا المسلك: أَنَّ أبا هريرة - رضي الله عنه - إنما أخذه عن كعب الأحبار، وأن رفعه خطأ من بعض رواة الحديث؛ وأنَّ أصله من الإسرائيليات المُتَلَقَّفة عن مَسْلَمَة أهل الكتاب. وهذا رأي الأكثر من المفسرين والمحدثين. وممن قال به: البخاري (¬2)، وعلي بن المديني (¬3)، وابن جرير الطبري (¬4)، والبيهقي (¬5)، وأبو العباس القرطبي (¬6)، وأبو عبد الله القرطبي (¬7)، ¬
وشيخ الإسلام ابن تيمية (¬1)، وابن القيم (¬2)، والحافظ ابن كثير (¬3)، والزركشي (¬4)، والمناوي (¬5)، والآلوسي (¬6)، وأبو شهبة (¬7). وقد ذكرتُ في التخريج تعليل البخاري، وابن المديني، لإسناد الحديث، وسأذكر هاهنا ما أورده أصحاب هذا المسلك من علل في متنه: العلة الأولى: أنه جعل أيام التخليق في سبعة أيام، وهذا خلاف ما جاء به القرآن، حيث ذكر الله تعالى أَنَّ خلق السماوات والأرض وما بينهما كان في ستة أيام، أربعة منها للأرض، ويومان للسماء. العلة الثانية: أنه لم يذكر في الحديث خلق السماء، وجعل خلق الأرض مستوعباً للأيام الستة. العلة الثالثة: أنه مخالف للأحاديث والآثار، والتي فيها أَنَّ الله تعالى ابتدأ الخلق يوم الأحد، لا السبت (¬8). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد حكى ابن جرير الطبري الإجماع على أَنَّ الله ابتدأ الخلق يوم الأحد، فقال: "اليوم الذي ابتدأ الله فيه خلق السماوات والأرض: يوم الأحد؛ لإجماع السلف من أهل العلم على ذلك .... ، وذلك أَنَّ الله تعالى أخبر عباده في غير موضع من محكم تنزيله أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ... ، ولا خلاف بين جميع أهل العلم أَنَّ اليومين اللذين ذكرهما الله تبارك وتعالى في قوله: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ) [فصلت: 12] داخلان في الأيام الستة اللاتي ذكرهن قبل ذلك، فمعلوم إذ كان الله عز وجل إنما خلق السماوات والأرضين وما فيهن في ستة أيام، وكانت الأخبار مع ذلك متظاهرة عن رسول الله بأن آخر ما خلق الله من خلقه آدم، وأن خلقه إياه كان في يوم الجمعة، أَنَّ يوم الجمعة الذي فرغ فيه من خلق خلقه داخل في الأيام الستة التي أخبر الله تعالى ذكره أنه خلق خلقه فيهن؛ لأن ذلك لو لم يكن داخلاً في الأيام الستة كان إنما خلق خلقه في سبعة أيام لا في ستة، وذلك خلاف ما جاء به التنزيل". اهـ (¬1) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - مبيناً علل الحديث -: "هذا الحديث طعن فيه من هو أعلم من مسلم، مثل يحيى بن معين، ومثل البخاري، وغيرهما، وذكر البخاري أَنَّ هذا من كلام كعب الأحبار، وطائفةٌ اعتبرت صحته مثل أبي بكر ابن الأنباري (¬2)، وأبي الفرج ابن الجوزي، وغيرهما، والبيهقي وغيره وافقوا الذين ضعفوه، وهذا هو الصواب; لأنه قد ثبت بالتواتر أَنَّ الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وثبت أَنَّ آخر الخلق كان يوم الجمعة؛ فيلزم أن يكون أول الخلق يوم الأحد، وهكذا هو عند أهل الكتاب، ¬
وعلى ذلك تدل أسماء الأيام، وهذا هو المنقول الثابت في أحاديث وآثار أخر; ولو كان أول الخلق يوم السبت، وآخره يوم الجمعة؛ لكان قد خلق في الأيام السبعة، وهو خلاف ما أخبر به القرآن .... ، والبخاري أحذق وأخبر بهذا الفن من مسلم; ولهذا لا يتفقان على حديث إلا يكون صحيحاً لا ريب فيه، قد اتفق أهل العلم على صحته، ثم ينفرد مسلم فيه بألفاظ يُعْرِضُ عنها البخاري، ويقول بعض أهل الحديث إنها ضعيفة، ثم قد يكون الصواب مع من ضعفها". اهـ (¬1) وقال ابن القيم: "هذا الحديث وقع غلط في رفعه؛ وإنما هو من قول كعب الأحبار، كذلك قال إمام أهل الحديث، محمد بن إسماعيل البخاري، في تاريخه الكبير، وقاله غيره من علماء المسلمين أيضاً، وهو كما قالوا؛ لأن الله أخبر أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وهذا الحديث يتضمن أَنَّ مدة التخليق سبعة أيام، والله أعلم". اهـ (¬2) المسلك الثاني: مسلك قبول الحديث، ونفي التعارض بينه وبين الآيات. وهذا رأي: أبي بكر ابن الأنباري (¬3)، وابن الجوزي (¬4)، وأبي حيان (¬5)، والمعلِّمي (¬6) (¬7)، والألباني (¬8)، وأبي إسحاق الحويني (¬9) (¬10). ولأصحاب هذا المسلك عدة أجوبة في دفع العلل الواردة في الحديث، وقد ذكرت أجوبتهم فيما يتعلق بعلل إسناده، وسأذكر هاهنا ما أوردوه من أجوبة عن العلل الواردة في متنه: ¬
أولاً: أجوبتهم عن العلة الأولى، وهي: أنه جعل أيام التخليق في سبعة أيام، وهذا خلاف ما جاء به القرآن، حيث ذكر الله تعالى أَنَّ خلق السماوات والأرض وما بينهما كان في ستة أيام، أربعة منها للأرض، ويومان للسماء. قال المعلِّمي: "يجاب عنها: بأنه ليس في هذا الحديث أنه خلق في اليوم السابع غير آدم، وليس في القرآن ما يدل على أَنَّ خلق آدم كان في الأيام الستة، بل هذا معلوم البطلان، وفي آيات خلق آدم أوائل البقرة، وبعض الآثار، ما يؤخذ منه أنه قد كان في الأرض عمار قبل آدم، عاشوا فيها دهراً، فهذا يساعد القول بأن خلق آدم متأخر بمدة عن خلق السماوات والأرض". اهـ (¬1) واختار هذا الجواب أبو إسحاق الحويني، واستدل له بحديث عطاء، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيده فقال: "يا أبا هريرة، إن الله خلق السماوات والأرضين وما بينهما في ستة أيام، ثم استوى على العرش يوم السابع، وخلق التربة يوم السبت، والجبال يوم الأحد، والشجر يوم الاثنين، والتقن (¬2) يوم الثلاثاء، والنور يوم الأربعاء، والدواب يوم الخميس، وآدم يوم الجمعة، في آخر ساعة من النهار، بعد العصر، وخلق أديم الأرض أحمرها وأسودها وطيبها وخبيثها، من أجل ذلك جعل الله عز وجل من آدم الطيب والخبيث". (¬3) قال أبو إسحاق: "فقد صرَّح في هذا الحديث أَنَّ الله عز وجل خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وهو موافق لآيات التنزيل، ثم قال: وخلق آدم يوم الجمعة، وهو اليوم السابع، ولم يذكر في القرآن، ولا في السنة أَنَّ خلق آدم كان من جملة الأيام الستة، ولا دليل على أَنَّ يوم الجمعة المذكور كان عقب يوم الخميس الذي قبله، حتى يُعد هذا يوماً سابعاً مع ¬
سابقه، ويدل على هذا أَنَّ خلق آدم تأخر عن خلق الملائكة والجن والسماوات، كما هو واضح من آيات خلق آدم في سورة البقرة وغيرها، ومما يستدل به على هذا: ما أخرجه الحاكم (¬1)، وصححه، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لقد أخرج الله آدم من الجنة قبل أن يدخلها أحد، قال الله تعالى: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) [البقرة: 30]، وقد كان فيها قبل أن يُخلق بألفي عام الجن بنو الجان ... ". اهـ (¬2) وللألباني جواب آخر، حيث يرى: "أَنَّ الحديث ليس بمخالف للقرآن بوجه من الوجوه، خلافاً لما توهمه بعضهم؛ فإن الحديث يفصِّل كيفية الخلق على وجه الأرض، وأن ذلك كان في سبعة أيام، ونصُّ القرآن على أَنَّ خلق السماوات والأرض كان في ستة أيام، والأرض في يومين، لا يعارض ذلك، لاحتمال أَنَّ هذه الأيام الستة غير الأيام السبعة، المذكورة في الحديث، وأنه - أعني الحديث - تحدث عن مرحلة من مراحل تطور الخلق على وجه الأرض، حتى صارت صالحة للسكنى، ويؤيده أَنَّ القرآن يذكر أَنَّ بعض الأيام عند الله تعالى كألف سنة، وبعضها مقداره خمسون ألف سنة، فما المانع أن تكون الأيام الستة من هذا القبيل؟ والأيام السبعة من أيامنا هذه، كما هو صريح الحديث، وحينئذ فلا تعارض بينه وبين القرآن". اهـ (¬3) قال الألباني: "وكان هذا الجمع قبل أن أقف على حديث الأخضر بن عجلان؛ فإذا هو صريح فيما كنت ذهبت إليه من الجمع". اهـ (¬4) قلت: حديث الأخضر بن عجلان هو حديث عطاء المتقدم، وفيه زيادة تؤيد ما ذهب إليه الألباني من أَنَّ الأيام السبعة المذكورة في الحديث، هي غير الستة المذكورة في الآيات، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "أخذ بيدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا أبا هريرة، إن الله خلق السماوات والأرضين وما بينهما في ستة ¬
أيام، ثم استوى على العرش يوم السابع، وخلق التربة يوم السبت، والجبال يوم الأحد .... " ثم ذكر بقية الحديث. لكن هذا الحديث لا يصح، وقد تقدم بيان ما فيه من علل. ثانياً: أجوبتهم عن العلة الثانية، وهي: أنه لم يذكر في الحديث خلق السماء، وجعل خلق الأرض مستوعباً للأيام الستة. قال المعلِّمي: "يجاب عنها: بأن الحديث، وإن لم ينص على خلق السماء، فقد أشار إليه بذكره في اليوم الخامس (النور)، وفي السادس (الدواب)، وحياة الدواب محتاجة إلى الحرارة، والنور والحرارة مصدرهما الأجرام السماوية، والذي فيه أَنَّ خلق الأرض نفسها كان في أربعة أيام، كما في القرآن، والقرآن إذ ذكر خلق الأرض في أربعة أيام، لم يذكر ما يدل على أَنَّ من جملة ذلك خلق النور والدواب، وإذ ذكر خلق السماء في يومين، لم يذكر ما يدل على أنه في أثناء ذلك لم يحدث في الأرض شيئاً، والمعقول أنها بعد تمام خلقها أخذت في التطور بما أودعه الله تعالى فيها، والله سبحانه لا يشغله شأن عن شأن". اهـ (¬1) ثالثاً: أجوبتهم عن العلة الثالثة، وهي: أنَّ الحديث مخالف للأحاديث والآثار، والتي فيها أَنَّ الله تعالى ابتدأ الخلق يوم الأحد، لا السبت. قال المعلِّمي: "وأما الآثار القائلة أَنَّ ابتداء الخلق يوم الأحد فما كان منها مرفوعاً فهو أضعف من هذا الحديث بكثير (¬2)، وأما غير المرفوع فعامته من قول عبد الله بن سلام (¬3)، وكعب (¬4)، ووهب، ومن يأخذ عن الاسرائيليات". اهـ (¬5) وأما دعوى الإجماع من ابن جرير على أَنَّ ابتداء الخلق كان في يوم الأحد، فقد عارضه أبو إسحاق الحويني بأن أبا بكر ابن الأنباري (¬6) قد ادعى ¬
المبحث الخامس: الترجيح
الإجماع على أَنَّ بدأ الخلق كان في يوم السبت. (¬1) ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية لم يرتضِ دعوى الإجماع من أبي بكر ابن الأنباري، وعدَّ ذلك من الغلط. (¬2) ولأبي حيان الأندلسي مذهب غريب في الجمع بين الآيات والحديث، حيث يرى أَنَّ قوله تعالى: (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) [الأعراف: 54] هو ظرف لخلق الأرض وحدها، دون خلق السماوات والأرض معاً؛ فيكون قوله: (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) متعلق بخلق الأرض، بتربتها وجبالها وشجرها ومكروهها ونورها ودوابها، وآدم عليه السلام، قال: وهذا يطابق الحديث الثابت في الصحيح. (¬3) قلت: وهذا الجمع في غاية الضعف، ويكفي في رده أنه مخالف لآيةِ فُصِّلَتْ؛ فإنها صريحة بأن مدة خلق الأرض استغرق أربعة أيام، ثم يومين للسماء. المبحث الخامس: الترجيح: الذي يظهر صوابه - والله تعالى أعلم - أَنَّ حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - لا يصح رفعه للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن أبا هريرة إنما أخذه عن أهل الكتاب، لا من النبي - صلى الله عليه وسلم -، والذي يتقوى لدي أَنَّ الخطأ وقع من أيوب بن خالد، أحد رواة الحديث؛ فإنه لم يوثقه أحد سوى ابن حبان، وابن حبان معروف بتساهله في توثيق الرواة، كما نص على ذلك الأئمة، وحسبك ما نقله الأزدي عن أهل العلم بالحديث من تضعيفهم لأيوب بن خالد، وقوله: إن يحيى بن سعيد القطان ونظراءه كانوا لا يكتبون حديثه. وهذه الشهادة من الأزدي كافية في رد رواية أيوب، وعدم الاعتماد عليها، كيف وقد تفرد برواية هذا الحديث، ورفعه للنبي - صلى الله عليه وسلم -، مع ما في متنه من غرابة، ومعارضة لآيات القرآن الكريم. ¬
هذا وقد أسلفتُ ما ذكره النقاد من علل هذا الحديث، التي توجب رده وعدم قبوله، وسأزيد عليها هاهنا عللاً ظهرت لي، ولم أرَ أحداً أشار إليها، وهذه العلل مع ما سبق، تبين بجلاء أَنَّ هذا الحديث لا يصح رفعه للنبي - صلى الله عليه وسلم -: العلة الأولى: قوله في الحديث: "وَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَالَ يَوْمَ الْأَحَدِ"، أي أَنَّ الجبال خُلقت في اليوم الثاني، وهذا مخالف لآية فُصِّلَتْ، والتي نصَّت على أنَّ الجبال خُلِقَتْ في اليوم الثالث أو الرابع، حيث قال تعالى: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)) [فصلت: 9 - 10]. فقوله: (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ) إلى آخر الآية يدل على أن خلق الجبال كان في اليومين الأخيرين من الأيام الأربعة. العلة الثانية: قوله في الحديث: "وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ"، أي أَنَّ الدواب خُلقت في اليوم السادس، وهذا فيه مخالفة لآية فُصِّلَتْ؛ فإن الظاهر المتبادر من الآية أَنَّ الدواب خُلقت وقت تخليق الأرض في الأيام الأربعة الأولى، لا في اليوم السادس، ومما يقوي هذا الظاهر قوله تعالى في سورة البقرة: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)) [البقرة: 29]، وهذا الآية صريحة بأن الله تعالى لم يخلق السماوات إلا بعد أن أتم خلق الأرض وما فيها، ومن ذلك الدواب؛ لقوله: (جَمِيعًا)، وقد تقدم أَنَّ خلق الأرض كان في أربعة أيام، فكيف يكون خلق الدواب في اليوم السادس؟! وأما ما ذكره أصحاب المذهب الثاني من تأويلات للجمع بين الآيات والحديث؛ فإنها لا تخلو من ضعف، وبعضها يَرِدُ عليه إشكالات لا يمكن التخلص منها إلا بتكلف، وهاك تفصيل ذلك: أولاً: قول الألباني: "إن الأيام الستة المذكورة في الآيات، هي غير الأيام السبعة المذكورة في الحديث". يرد على قوله هذا: أنَّ الحديث نص على أَنَّ الجبال خُلقت يوم الأحد، وقد جاء في آية فُصِّلَتْ أَنَّ الجبال خُلقت في مراحل تخليق الأرض الأولى،
وهذا يعني أَنَّ الأيام المذكورة في الحديث هي نفسها المذكورة في الآيات، لا كما قال الألباني، رحمه الله. ويرد عليه أيضاً: أَنَّ الله تعالى قال: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29))؛ فقوله: (جَمِيعًا) عموم يشمل جميع الأشياء التي خلقها سبحانه في الأرض، وهذه الآية صريحة بأن الأرض وما فيها خُلق قبل تخليق السماوات، وهو يبطل القول بأن ما ذكر في الحديث كان بعد تخليق السماوات والأرض. ثانياً: قول المعلِّمي: "إن الحديث، وإن لم ينص على خلق السماء، فقد أشار إليه بذكره في اليوم الخامس (النور)، وفي السادس (الدواب)، وحياة الدواب محتاجة إلى الحرارة، والنور والحرارة مصدرهما الأجرام السماوية ... ". يرد على قوله: أَنَّ الحديث نص على أَنَّ الشجر خُلِقَ قبل النور، والذي هو في رأي المعلِّمي بمعنى الشمس، ومعلوم أَنَّ الشجر محتاج للنور كاحتياج الدواب، فكيف يكون الشجر خُلق قبل الشمس؟! ****
المسألة [15]: فيمن أساء في الإسلام هل يؤاخذ بما عمل في الجاهلية؟
المسألة [15]: فيمن أساء في الإسلام هل يُؤاخذ بما عمل في الجاهلية؟ المبحث الأول: ذكر الآية الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)) [الأنفال: 38]. المبحث الثاني: ذكر الحديث الذي يُوهِمُ ظاهره التعارض مع الآية: (27) ـ (23): عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ: "مَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ". (¬1) (28) ـ ( .. ): وفي رواية: "وَمَنْ أَسَاءَ أُخِذَ بِعَمَلِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ". (¬2) المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآية والحديث: ظاهِرُ الآيةِ الكريمةِ أنَّ الكافرَ إذا أَسْلَمَ غُفِرَ له بالإسلام كل ما كان منه في الجاهِلِيِّة، من كُفْرٍ، وذَنْبٍ، وغيرِه؛ لأنَّ لفظ الآية جاء مُطْلَقاً، فلم تُفَرِّق ¬
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية والحديث
بين الذنوب التي تاب منها والتي لم يَتُبْ منها؛ وأمَّا الحديث فظاهره أنَّ الذنوب التي كان الكافر يَعمَلها في الجاهلية ولم يَتُبْ منها في الإسلام فإنَّه يُؤَاخَذُ بها، وهذا يُوهِمُ خِلافَ الآية. (¬1) المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية والحديث: أجمع العلماء على أنَّ الكافر إذا أسلم غُفِرَ له بالإسلام الكفر الذي تاب منه (¬2)، واختلفوا في الذنوب التي فعلها في حال كفره ولم يَتُبْ منها في الإسلام، هل تُغْفَرُ له أم لا؟ وخلافهم هذا راجع إلى الخلاف في معنى الآية والحديث، والجمع بينهما، وقد اختلفوا في ذلك على مذهبين: الأول: أن الكافر إذا أسلم غُفِرَ له بالإسلام كل ما كان منه في الجاهلية، من كفر، وذنب، وإنْ أصَرَّ على بعض الذنوب في الإسلام. وهذا مذهب الجمهور من المحدثين، كما سيأتي ذِكرُ بعضٍ منهم. واستدلوا على مذهبهم هذا: بالكتاب، والسنة، والإجماع، والمعقول. أمَّا الكتاب؛ فقد استدلوا بالآية الكريمة الواردة في المسألة، حيث جاءت مطلقة؛ فلم تُفَرِّق بين الذنوب التي تاب منها والتي لم يَتُبْ (¬3). ¬
وأمَّا السنة: 1 - فعن عَمْرَو بْنِ الْعَاصِ - رضي الله عنه - قال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ. فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي، قَالَ: "مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟ " قَالَ: قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ. قَالَ: "تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟ " قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي. قَالَ: "أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ". (¬1) (¬2) 2 - وعن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ كُلَّ حَسَنَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا (¬3)، وَمُحِيَتْ عَنْهُ كُلُّ سَيِّئَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا". (¬4) (¬5) وأمَّا الإجماع؛ فقد نقل الخطابي، وابن بطال الإجماع على أنَّ الإسلام يهدم ما كان قبله. (¬6) وأما المعقول؛ فقالوا: إنَّه لا يصح أنْ يُراد بالإساءة - في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - ارتكاب سيئة أو معصية؛ لأنه يلزم عليه ألا يهدم الإسلام ما قبله من الآثام، إلا لمن عُصِمَ من جميع السيئات إلى الموت، وهذا باطلٌ قطعاً. (¬7) وقد اختلف أصحاب هذا المذهب في الجواب عن الحديث على أقوال: ¬
الأول: أنَّ الإساءة في الحديث المرادُ بها الكفر؛ فمن ارتَدَّ بعد إسلامه، ومات على ذلك، فإنَّه يُعاقب على جميع ما كان منه قبل الإسلام وبعده. وهذا جواب البخاري، كما أشار إليه الحافظ ابن حجر، وأيده. (¬1). ونقله ابن بطال عن المُهَلَّبِ، وأيَّدَهُ ونَصَرَه. (¬2). وبه قال الطحاوي (¬3)، والمُحِبُّ الطبري (¬4)، والداوودي. (¬5). وهو اختيار: المازري، وابن الجوزي. (¬6) قال الطحاوي: "قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَامِ" هو على معنى: "من أسلم في الإسلام"، ومن ذلك قوله تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا) [النمل: 89]، فكانت الحسنة المُرَادَة في ذلك هي الإسلام، فكان من جاء بالإسلام مَجْبُوبَاً (¬7) عنه ما كان منه في الجاهلية، وموافقاً لما في حديث عمرو - رضي الله عنه -: "أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ" (¬8)، ومن لَزِمَ الكفرَ في الإسلام كان قد جاء بالسيئة في الإسلام، ومنه قوله تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا) [الأنعام: 160]، فكانت عقوبة تلك السيئة عليه مضافة إلى عقوبات ما قبلها من سيئاته التي كانت في الجاهلية". اهـ (¬9). القول الثاني: أنَّ الإساءة في الحديث المُرادُ بها النفاق، فإذا أسلم الكافر ولم يَصْدُقْ في إسلامه، بأنْ يكون مُنْقَاداً في الظاهر، غير معتقدٍ للإسلام بقلبه؛ فإنَّه يُؤاخذ بما كان منه في الجاهلية. ¬
وهذا جواب أبي العباس القرطبي (¬1)، والنووي (¬2). وهو اختيار: أبي عبد الله القرطبي، والكرماني، والأُبِّي، والعيني، والملا علي القاري، والمناوي. (¬3) قال النووي: "وأمَّا معنى الحديث فالصحيح فيه ما قاله جماعة من المحققين: أنَّ المراد بالإحسان هنا الدخول في الإسلام بالظاهر والباطن جميعاً، وأنْ يكون مسلماً حقيقياً، فهذا يُغفر له ما سلف في الكفر بنص القرآن العزيز، والحديث الصحيح "يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ" (¬4)، وبإجماع المسلمين، والمرادُ بالإساءة عدم الدخول في الإسلام بقلبه، بل يكون مُنقاداً في الظاهر، مُظهِراً للشهادتين، غير مُعتقدٍ للإسلام بقلبه، فهذا منافقٌ باقٍ على كفره بإجماع المسلمين، فيُؤاخذ بما عمل في الجاهلية قبل إظهار صورة الإسلام، وبما عمل بعد إظهارها؛ لأنَّه مستمرٌّ على كفره". اهـ (¬5) القول الثالث: أنَّ الحديث محمولٌ على التَّبْكِيت بما كان منه في الكفر. وهذا جواب الخطابي، وابن الجوزي حيث جعله وجهاً آخر في الجواب عن الحديث. (¬6) قال الخطابي: "ووجه هذا الحديث: أنَّ الكافر إذا أسلم لم يُؤاخذ بما مضى، فإنْ أساء في الإسلام غاية الإساءة، ورَكِبَ أشدَّ المعاصي، وهو مستمرٌّ على الإسلام؛ فإنَّه إنما يُؤاخذ بما جَنَاهُ من المعصية في الإسلام، ويُبَكَّت بما كان منه في الكفر، كأن يُقال له: ألست فعلت كذا وأنت كافر؟ فهلا منعك إسلامُك عن معاودة مثله". اهـ (¬7) ¬
المذهب الثاني: أنه لا يستحق أنْ يُغفر له بالإسلام إلا ما تاب منه. فإذا أسلم الكافر فإنَّما يُغفر له ما تاب منه بعد إسلامه؛ وأمَّا الذنوب التي فعلها في الجاهلية وأصَرَّ عليها في الإسلام فإنَّه يُؤاخذ بها، فإنَّه إذا أصَرَّ عليها في الإسلام لم يكن تائباً منها؛ فلا يُكَفَّرُ عنه إلا ما تاب منه. وهذا مذهب طوائف من المتكلمين، من المعتزلة وغيرهم. (¬1) ونقل الميموني (¬2) في "مسائله" عن الإمام أحمد أنه قال: "بلغني عن أبي حنيفة أنه كان يقول: لا يُؤَاخَذ بما كان في الجاهلية. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في غير حديث: إنه يُؤاخذ". اهـ (¬3) وإليه ذهب الحليمي (¬4)، وابن حزم (¬5)، وابن مفلح (¬6)، وشيخ الإسلام ابن تيمية (¬7)، وابن أبي العز الحنفي (¬8)، والحافظ ابن رجب (¬9). قال ابن حزم: "ومن عمل في كُفْرِهِ عملاً سيئاً ثم أسلم؛ فإنْ تمادى على تلك الإساءة حُوسِبَ وجُوزي في الآخرة بما عمل من ذلك في شِرْكِهِ وإسلامه، وإنْ تاب عن ذلك سَقَطَ عنه ما عمل في شِرْكِهِ". اهـ (¬10) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - وقد سُئِلَ عن اليهودي أو النصراني إذا أسلم، هل يبقى عليه ذنب بعد الإسلام؟ فأجاب: "إذا أسلم باطناً وظاهراً غُفِرَ له الكفر الذي تاب منه بالإسلام بلا نزاع، وأمَّا الذنوب التي لم يتب منها مثل: أنْ يكون مصراً على ذنب أو ظلم أو فاحشة ولم يتب منها بالإسلام، ¬
فقد قال بعض الناس: إنَّه يُغفر له بالإسلام، والصحيح أنَّه إنما يُغفر له ما تاب منه، كما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قيل: "أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ: "مَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ" (¬1)، وحُسْنُ الإسلام أنْ يلتزم فِعْل ما أمَرَ الله به، وترك ما نُهي عنه، وهذا معنى التوبة العامة، فمن أسلم هذا الإسلام غُفِرَتْ ذنوبه كلها، وهكذا كان إسلام السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان; ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح لعمرو بن العاص: "أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ" (¬2)؛ فإنَّ اللام لتعريف العهد، والإسلام المعهود بينهم كان الإسلام الحسن. وقوله: "وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ"، أي: إذا أَصَرَّ على ما كان يعمله من الذنوب فإنه يُؤاخذ بالأول والآخر، وهذا مُوجِبُ النصوص والعدل؛ فإنَّ من تاب من ذنبٍ غُفِرَ له ذلك الذنب، ولم يَجِبْ أنْ يُغْفَرَ له غيره". اهـ (¬3) وأجاب أصحاب هذا المذهب عن الآية: بأنَّ المعنى: يُغفر لهم ما قد سلف مما انتهوا عنه، وليس في الآية ما يدل على أنهم بمجرد انتهائهم عن الكفر يُغفر لهم سائر ذنوبهم، وإنْ لم يتوبوا من بعضها. ذكر هذا الجواب: ابن حزم (¬4)، وشيخ الإسلام ابن تيمية. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) [الأنفال: 38] يَدُلُّ على أنَّ المُنْتَهي عن شيء يُغفر له ما قد سلف منه، ولا يدُلُّ على أنَّ المنتهي عن شيء يُغفر له ما سلف من غيره". اهـ (¬5) ¬
المبحث الخامس: الترجيح
وأما حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه - والذي فيه أنَّ الإسلام يجب ما قبله؛ فأجابوا عنه بما حاصله: "أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك لما أسْلَمَ عمرو بن العاص - رضي الله عنه -، وطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُغفر له ما تقدم من ذنبه فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلِهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ" (¬1)، ومعلوم أنَّ التوبة إنما تُوجِبُ مغفرة ما تاب منه، ولا تُوجِبُ التوبةُ غُفران جميعِ الذنوب". (¬2) وبأنَّ الُمراد أنه يهدِمُ ما كان قبله مما ينافيه الإسلام من كفر وشرك ولواحق ذلك، مما يكون الإسلام توبة منه وإقلاعاً عنه. (¬3) المبحث الخامس: الترجيح: الذي يَظْهُرُ صَوَابُه - والله تعالى أعلم - أنَّ الكافر إذا أسلم فإنما يُغفر له ما تاب منه بعد إسلامه؛ وأمَّا الذنوب التي فعلها في الجاهلية وأصَرَّ عليها في الإسلام فإنَّه يُؤاخذ بها. والآية والحديث يدلان على هذا المعنى ولا يختلفان فيه؛ لأنَّ الآية جاءت مُطلقة فلم تُفَرِّقْ بين الذنوب التي تاب منها والتي لم يتب منها، وأمَّا الحديث ففيه تقييد لهذا الإطلاق، فيُحمل المطلق على المقيد، فيكون معنى الآية: إنْ ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف مما تابوا منه، وانتهوا عنه. وأمَّا مَا ذَهَبَ إليه أصحاب المذهب الأول من تأويلات لحديث ابن مسعود؛ فكلها لا تخلو من ضعف؛ وذلك لأسباب منها: 1 - أنَّ الكافر إذا ارتَدَّ عن الإسلام، أو كان منافقاً لم يبق معه إسلامٌ ¬
حتى يُسِيءَ فيه، فكيف يقال إن الإساءة هي بمعنى الكفر، أو النفاق؟ (¬1). 2 - أنَّ لفظ الإساءة في الحديث جاء في مقابل الإحسان، والإحسان لا يكون إلا في حال الإسلام، فدل بموجب المقابلة أنَّ الإساءة المقصود بها ما يكون في حال الإسلام، ولا يصح حملها على الردة أو النفاق. 3 - أنَّ الإساءة لو كان المراد بها الكفر أو النفاق لورد الحديث بلفظ: "من أخلص، أو صَدَقَ، أو ثَبَتَ في إسلامه". وأما حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه - فهو بمعنى الآية، والمعنى أنَّ الإسلام يهدم ما كان قبله مما تاب منه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أطلق ولم يُفَصِّل، وما كان مُطلقاً فإنه يُحمل على المقيد، وهو ما جاء في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -. ولأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك لما اشترط عمرو - رضي الله عنه - أن يُغفر له؛ فأَبَانَ له النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الإسلام يهدم ما كان قبله بلفظ الإطلاق، ولم يُفَصِّل - صلى الله عليه وسلم - في ذلك؛ لعلمه بصدق توبته من الكفر وتباعته؛ إذ ذلك هو المعهود في كل من أسلم حينئذ. وأما دعوى الإجماع؛ فَيَرِدُ عليها أمران: 1 - أنَّ الإجماع محكيٌّ فيمن أسلم عموماً؛ فإنَّه يُغفر له بالإسلام الكفر الذي تاب منه، ولم ينعقد الإجماع على مغفرة ما أصَرَّ عليه من الذنوب التي كان يفعلها في الجاهلية، وعبارة الخطابي وابن بطال في نقل الإجماع ليست صريحة في تأييد المذهب الأول، وقد حرر النزاع في هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: "من له ذنوب فتاب من بعضها دون بعض فإنَّ التوبة إنما تقتضي مغفرة ما تاب منه، أمَّا ما لم يَتُبْ منه فهو باقٍ فيه على حكم من لم يَتُبْ، لا على حكم من تاب، وما علمتُ في هذا نزاعاً إلا في الكافر إذا أسلم، فإنَّ إسلامه يتضمن التوبة من الكفر؛ فيغفر له بالإسلام الكفر الذي تاب منه، وهل تغفر له الذنوب التي فعلها في حال الكفر ولم يتب منها في الإسلام؟ هذا فيه قولان معروفان". اهـ (¬2) ثم ذكر هذين القولين على ما فَصَّلتُه في أول المسألة. ¬
2 - أنَّ دعوى الإجماع يدفعها ما نُقِلَ عن الإمام أحمد: أنَّ الذنوب التي فعلها الكافر في الجاهلية وأصَرَّ عليها في الإسلام فإنَّه يُؤاخذ بها (¬1)، والله تعالى أعلم. **** ¬
المسألة [16]: في الوقت الذي يتبرأ فيه إبراهيم الخليل عليه السلام من أبيه آزر
المسألة [16]: في الوقت الذي يتبرأ فيه إبراهيم الخليل عليه السلام من أبيه آزر. المبحث الأول: ذكر الآية الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)) [التوبة: 114]. المبحث الثاني: ذكر الحديث الذي يُوهِمُ ظاهره التعارض مع الآية: (29) ـ (24): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ لَا تَعْصِنِي؟ فَيَقُولُ أَبُوهُ: فَالْيَوْمَ لَا أَعْصِيكَ. فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَدِ (¬1)؟ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ. ثُمَّ يُقَالُ: يَا إِبْرَاهِيمُ، مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ؟ فَيَنْظُرُ؛ فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ (¬2) مُلْتَطِّخٍ، فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ ¬
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآية والحديث
فَيُلْقَى فِي النَّارِ". (¬1) المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآية والحديث: ظاهر الآية الكريمة انقطاع رجاء إبراهيم الخليل عليه السلام من إيمان أبيه، وجزمه بأنه لا يُغفر له، ولذلك تبرأ منه وترك الاستغفار له، وهذا التبرؤ ظاهر الآية أنه كائنٌ من إبراهيم في الدنيا، وأما الحديث فظاهره أنه عليه الصلاة والسلام يطلب الاستغفار لأبيه يوم القيامة، ولا ييأس من نجاته إلا بعد المسخ، فإذا مُسِخَ يئس منه وتبرأ، وهذا المعنى يُوهِمُ مُعارضة الآية. (¬2) المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية والحديث: للعلماء في دفع التعارض بين الآية والحديث مسلكان: الأول: مسلك الجمع بينهما: وقد اختلف أصحاب هذا المسلك في الجمع على مذاهب: الأول: أَنَّ إبراهيم الخليل عليه السلام تبرأ من أبيه لما مات مشركاً، فترك الاستغفار له، لكن لما رآه يوم القيامة أدركته الرأفة والرِّقَّة فسأل فيه، فلما رآه مُسخ يئس منه حينئذ فتبرأ منه تبرؤاً أبدياً. وهذا رأي الحافظ ابن حجر. (¬3) المذهب الثاني: أَنَّ إبراهيم لم يتيقن موت أبيه على الكفر، بجواز أنْ ¬
يكون آمن في نفسه ولم يَطَّلِعَ إبراهيم على ذلك، ويكون تبرؤه منه حينئذ بعد الحال التي وقعت في هذا الحديث. ذكر هذا المذهب الحافظ ابن حجر. (¬1) المذهب الثالث: أَنَّ الحديث ليس فيه دلالة على وقوع الاستغفار من إبراهيم لأبيه وطلب الشفاعة له، وقوله عليه السلام: "يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ" أراد به عليه الصلاة والسلام محض الاستفسار عن حقيقة الحال، فإنه اختلج في صدره الشريف أَنَّ هذه الحال الواقعة على أبيه خزي له، وأنَّ خزي الأب خزي الابن، فيؤدي ذلك إلى خلف الوعد المشار إليه بقوله: "يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ". ذكر هذا المذهب الآلوسيُّ وتعقبه بأنَّ الحديث ظاهرٌ في الشفاعة، وهي استغفار، وأيّدَ ذلك بما رواه الحاكم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يلقى رجل أباه يوم القيامة فيقول: يا أبتِ، أي ابن كنت لك؟ فيقول: خير ابن. فيقول: هل أنت مطيعي اليوم؟ فيقول: نعم. فيقول: خذ بأُزرتي، فيأخذ بأزرته ثم ينطلق حتى يأتي الله تعالى وهو يفصل بين الخلق، فيقول: يا عبدي أدخل من أي أبواب الجنة شئت. فيقول: أي رب وأبي معي، فإنك وعدتني أنْ لا تخزيني، قال: فيمسخ أباه ضبعاً فيهوي في النار فيأخذ بأنفه فيقول سبحانه: يا عبدي هذا أبوك، فيقول: لا وعزتك". (¬2) قال الآلوسي: يُفهم من ذلك أَنَّ الرجل في حديث الحاكم هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وطلبه المغفرة لأبيه فيه وإدخاله الجنة أظهر منهما في حديث البخاري. (¬3) المذهب الرابع: أَنَّ تبيُّن إبراهيم وتبرؤه من أبيه يكون يوم القيامة، ذلك أَنَّ إبراهيم يستغفر لأبيه يوم القيامة ويطلب له الجنة ظناً منه أنه وفَّى بوعده الذي كان منه في الدنيا، حيث وعده بالإيمان؛ فإذا مُسِخَ أبوه ذيخاً علم أنه لم يفِ بذلك الوعد، فحينئذ يتبرأ منه. ¬
المبحث الخامس: الترجيح
ذكر هذا المذهب الآلوسيُّ ومال إليه، إلا أنه أورد عليه أَنَّ ظاهر الآية والمأثور عن السلف في معناها (¬1) لا يُساعد عليه. (¬2) المذهب الخامس: أَنَّ مُراد إبراهيم عليه الصلاة والسلام من تلك المحاورة التي تصدر منه في ذلك الموقف إظهار العُذر فيه لأبيه وغيره على أتم وجه، لا طلب المغفرة حقيقة. وهذا المذهب هو الذي ارتضاه الآلوسي بعد حكايته للمذاهب السابقة. (¬3) المسلك الثاني: مسلك الترجيح: حيث ذهب الإسماعيلي إلى تضعيف الحديث، فقال بعد أنْ أخرجه: "هذا خبرٌ في صحته نظر؛ من جهة أَنَّ إبراهيم عَلِمَ أَنَّ الله لا يُخلف الميعاد، فكيف يجعل ما صار لأبيه خزياً؟ مع علمه بذلك". اهـ (¬4) المبحث الخامس: الترجيح: الذي يَظْهُرُ صَوَابُه ـ والله تعالى أعلم ـ أَنَّ تبرؤ إبراهيم من أبيه كائنٌ يوم القيامة، ذلك أَنَّ إبراهيم يطلب لأبيه الشفاعة يوم القيامة ظناً منه أَنَّ ذلك نافعه، فإذا قال الله له: إني حرمت الجنة على الكافرين، ومُسِخَ أبوه ذيخاً علم أَنَّ ذلك غير نافعه، وأنه عدو لله، فيتبرأ منه في الحال. وهذا الاختيار ليس فيه ما يُخالف الظاهر من سياق الآية؛ إذ ليس في ¬
الآية ما يدل على أَنَّ هذا التبرؤ كائن في الدنيا، والآية وإنْ رُويَ في تفسيرها عن ابن عباس أَنَّ ذلك كائن في الدنيا إلا أَنَّ الدليل قد دل على خلافه، وسأذكر من الأدلة ما يؤيد كون ذلك في الآخرة: لقد حكى القرآن الكريم في غير ما موضع قصة إبراهيم الخليل عليه السلام، وبيَّنَ تعالى في عدة مواضع أَنَّ إبراهيم دعا لأبيه واستغفر له، وهذا الاستغفار وقع بعد مفارقته لأبيه واعتزاله له، وهو بعد تلك المفارقة لا يدري ما حال أبيه، وهذا واضح من سياق الآيات الواردة في سورة مريم؛ حيث قال تعالى ـ بعد حكايته للمحاورة التي جرت بينهما ـ: (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)) [مريم: 47 - 49]. فقوله: (? ? ?) وَعْدٌ من إبراهيم بالاستغفار لأبيه، وقد وفَّى بذلك الوعد حينما هاجر إلى مكة، فإنه دعا لأبيه هناك، وهذا الدعاء والاستغفار وقع منه بعد أنْ وهبه الله تعالى إسماعيل وإسحاق، والذي كان بعد اعتزاله لأبيه، حيث قال سبحانه: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)) [إبراهيم: 35 - 41]، وهذه الآيات واضحة الدلالة في تأخر استغفار إبراهيم لأبيه، وأنه كان بعد اعتزاله له. وظاهر سياق الآيات في سورة إبراهيم أَنَّ دعاء إبراهيم لأبيه كان في آخر حياة إبراهيم، لقوله في الآيات: (الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ
إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ)، ثم إنه بعد هذا الثناء دعا لأبيه فقال: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ)، فدلَّ على أَنَّ دعاءه لأبيه وقع في آخر حياته عليه السلام. وفي قوله تعالى في سورة الممتحنة: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)) [الممتحنة: 4]، دلالة واضحة على أَنَّ استغفار إبراهيم كان بعد وفاة أبيه، لأنه لو كان في حياته لم يُمْنَعْ منه؛ لأنه يجوز الاستغفار ـ بمعنى طلب الإيمان ـ لأحياء المشركين. ولم يأتِ في شيء من تلك الآيات التي تحكي لنا قصة إبراهيم أَنَّ الله تعالى نهاه عن الاستغفار لأبيه، ولم يأتِ في تلك الآيات أيضاً أَنَّ إبراهيم رجع لأبيه بعد اعتزاله له، بل الظاهر أنه لم يلقَ أباه بعد تلك المحاورة. وبهذا يتبين أَنَّ إبراهيم الخليل عليه السلام لم يتبرأ من أبيه في حياته، بل لم يزل مستغفراً له في حياته وبعد مماته، ولن ينكشف له أنه عدو لله إلا في الآخرة حينما يلقاه فيطلب له الشفاعة فيُعْلِمُه الله تعالى بأنَّ الجنة حرام على الكافرين، ويمسخ أباه ذيخاً؛ فيعلم حينئذ أنه عدو لله ويتبرأ منه، والله تعالى أعلم. ****
المسألة [17]: في حكم تمني الموت والدعاء به
المسألة [17]: في حكم تَمَنِّي الموت والدُّعاء به. المبحث الأول: ذكر الآيات الواردة في المسألة: قال الله تعالى - حكاية عن يوسف عليه السلام -: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)) [يوسف: 101]. وقال تعالى - عن مريم عليها السلام -: (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)) [مريم: 23]. المبحث الثاني: ذكر الأحاديث التي يُوهِمُ ظاهرها التعارض مع الآيات: (30) ـ (25): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَا يَتَمَنَّى (¬1) أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ؛ إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ يَزْدَادُ، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ (¬2) ". (¬3) (31) ـ ( .. ): وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَا يَتَمَنَّى ¬
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآيات والأحاديث
أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ، وَلَا يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ، إِنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمْرُهُ إِلَّا خَيْرًا". (¬1) (32) ـ ( .. ): وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ؛ فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي". (¬2) المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآيات والأحاديث: ظاهر الآيتين الكريمتين جواز تَمَنِّيَ الموت والدعاء به (¬3)؛ وأمَّا الأحاديث ففيها النهي عن ذلك، وهذا يُوهِمُ التعارض بين الآيات والأحاديث. (¬4) المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآيات والأحاديث: أجمع العلماء على كَرَاهَةِ تَمَنِّيَ الموت والدعاء به؛ عند وجود ضرر دنيوي، من مرضٍ أو فاقةٍ أو محنةٍ، أو نحو ذلك من مشاقِّ الدُّنيا؛ لما في ذلك من الجزع وعدم الرضا بالقضاء. (¬5) ¬
وأمَّا إذا خاف ضرراً في دِيْنِه، أو فِتْنَةً فيه؛ فلا كَرَاهَة في تَمَنِّيَ الموت والحالة هذه، في مذهب جمهور العلماء. (¬1) وذهب أبو العباس القرطبي إلى المنع مطلقاً، أخذاً بإطلاق حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) وحجة الجمهور: 1 - أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أطلق - في حديث أبي هريرة - النهي عن تَمَنِّيَ الموت، وقيَّده في حديث أنس، بأن يكون تمنيه له لضُرٍّ نزل به؛ فيُحمل المُطلق على المُقيد. (¬3) 2 - أَنَّ مُطلق حديث أنس يشمل الضُّرَّ الدنيوي والأخروي، لكن المراد إنما هو الضُّر الدنيوي فقط، بدليل رواية: "لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ فِي الدُّنْيَا" (¬4)، ¬
حيث قَيَّدَ الضُّرَّ كونه في الدنيا. (¬1). 3 - أَنَّه قد رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يَدُلُّ على جواز الدعاء بالموت عند خوف الفتن: ففي الحديث القدسي أَنَّ الله تعالى قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: "يَا مُحَمَّدُ إِذَا صَلَّيْتَ فَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَإِذَا أَرَدْتَ بِعِبَادِكَ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ". (¬2) (¬3). وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ عَلَى الْقَبْرِ فَيَتَمَرَّغُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَكَانَ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ، وَلَيْسَ بِهِ الدِّينُ إِلَّا الْبَلَاءُ". (¬4) فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَلَيْسَ بِهِ الدِّينُ" يقتضي إباحة ذلك أنْ لو كان عن الدِّين. (¬5) وأمَّا الآيات التي يُوهِمُ ظاهرها التعارض مع الأحاديث؛ فإنَّ للعلماء في دفع التعارض بينها وبين الأحاديث مسلكين: الأول: مسلك الجمع بينها: وهذا مسلك الجمهور من المفسرين والمحدثين (¬6)، حيث ذهبوا إلى ¬
توجيه الآيات ودفع التعارض بينها وبين الأحاديث، وقالوا في توجيه الآيات: إنَّ يوسف عليه السلام إنما دعا ربَّه أنْ يتوفاه مسلماً عند حضور أجله، ولم يَسْأل الموت مُنَجَّزاً، وهذا الذي فَعَلَه يوسف عليه السلام لا محذور فيه، ولا يُعارض الأحاديث التي فيها النهي عن تَمَنِّيَ الموت والدعاء به؛ فإنَّ كلَّ أحدٍ يسأل ربَّه أنْ يتوفاه على الإسلام. (¬1) قالوا: ولو سلَّمنا بأَنَّ يوسف عليه السلام دعا بالموت منجزاً؛ فإنَّ هذا لا يُعارض الأحاديث؛ لأنَّ فِعْلَه هذا ليس من شرعنا، وإنما من شرع من قبلنا، وشرع من قبلنا إنما يُؤخذ به إذا لم يَرِدْ في شرعنا ما يُخالفه. (¬2) وأمَّا مريم عليها السلام فإنما تمنَّت الموت لوجهين: أحدهما: أَنَّها خافت أنْ يُظنَّ بها السوء في دينها وتُعَيَّر، فيَفْتِنها ذلك. (¬3) الثاني: لئلا يقع قومٌ بسببها في البُهتان والزُّور، والنِّسبة إلى الزِّنا، وذلك مُهلِكٌ لهم. (¬4) ¬
المبحث الخامس: الترجيح
قالوا: وهذان الوجهان لا مانع من تَمَنِّيَ الموت بسببهما؛ لأنَّهما من الفتنة في الدِّين، وقد تقدم أَنَّ تَمَنِّيَ الموت والحالة هذه لا مانع منه، ولا يُخالف أحاديث النهي. الثاني: مسلك الترجيح بين الآيات والأحاديث: ولأصحاب هذا المسلك مذهبان: الأول: أَنَّ النهي في الأحاديث منسوخٌ بالآيات، وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حضرته الوفاة: "اللَّهُمَّ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى" (¬1). حكى هذا القول ابن بطال ولم يَنْسُبه لأحد. (¬2) وتعقبه: بأَنَّ الأمر ليس كذلك؛ لأنَّ هؤلاء إنما سألوا ما قارب الموت، ولا مانع من ذلك. (¬3) كما أن أحاديث النهي قد جاء فيها ما يفيد جواز الدعاء عند حضور الأجل، وذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَلَا يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ" (¬4)، فظاهر هذه الرواية جواز الدعاء عند حضور الأجل. (¬5) المذهب الثاني: أَنَّ الآيات منسوخة بالأحاديث. نقل هذا المذهب النحاس ورَدَّه. (¬6) المبحث الخامس: الترجيح: عند حكاية أقوال المفسرين - في تفسير آيتي يوسف ومريم عليهما السلام - يظهر أنَّ الجميع متفقٌ على أنَّ معنى الآيتين لا يُخالف أحاديث النهي عن تمني ¬
الموت؛ ذلك أنَّ يوسفَ عليه السلام سأل ربَّه الوفاة على الإسلام، وهذا لا محذور فيه، ومريم عليها السلام خافت الفتنة في دينها فتمنت الموت، وهذا أيضاً لا محذور فيه، وكلا المعنيين المنقولين في تفسير الآيتين لا يُعارض أحاديث النهي عن تمني الموت. وما نقلته عن الجمهور في تفسير الآيتين يكاد يكون محل اتفاق بين المفسرين، لولا ما نُقِلَ عن ابن عباس - رضي الله عنه - (¬1)، وقتادة (¬2) أنهما قالا في تفسير آية يوسف: "ما تمنى نبيٌّ قط الموتَ قبل يوسف". والحق أنَّ يوسف - عليه السلام - لم يَتَمَنَّ، ولم يسأل الموت منجزاً، وسياق الآية واضح في هذا المعنى؛ وإنما سأل ربه الوفاة على الإسلام، واللحوق بالصالحين، وهذا لا محذور فيه، ولا يخالف أحاديث النهي. وأمَّا دعوى النسخ - إنْ للآيات وإنْ للأحاديث - فضعيفةٌ جداً؛ لأنَّ النسخ إنما يُصار إليه عند تعذر الجمع، أو عند وجود دليل على النسخ، وكلا الأمرين معدومان، فدلَّ على بطلان دعوى النسخ، والله تعالى أعلم. **** ¬
المسألة [18]: في مصير أهل الفترة، ومن في حكمهم.
المسألة [18]: في مصير أهل الفَتْرَةِ (¬1)، ومن في حكمهم. المبحث الأول: ذكر الآيات الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) [الإسراء: 15]. (¬2) ¬
المبحث الثاني: ذكر الأحاديث التي يوهم ظاهرها التعارض مع الآيات
المبحث الثاني: ذكر الأحاديث التي يُوهِمُ ظاهرها التعارض مع الآيات: (33) ـ (26): عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه -: "أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: فِي النَّارِ. فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ فَقَالَ: إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ". (¬1) ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
(34) ـ (27): وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: "زَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْرَ أُمِّهِ؛ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ، فَقَالَ: اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأُذِنَ لِي، فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ". (¬1) ¬
(35) ـ (28): وَعَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ - رضي الله عنه - قَالَ: "كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَ بِنَا وَنَحْنُ مَعَهُ قَرِيبٌ مِنْ أَلْفِ رَاكِبٍ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ، فَقَامَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَفَدَاهُ بِالْأَبِ وَالْأُمِّ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَكَ؟ قَالَ: إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِي الِاسْتِغْفَارِ لِأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، فَدَمَعَتْ عَيْنَايَ رَحْمَةً لَهَا مِنْ النَّارِ". (¬1) ¬
(36) ـ (29): وَعَنْ أَبِي رَزِينٍ - رضي الله عنه - قَالَ: "قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيْنَ أُمِّي؟ قَالَ: أُمُّكَ فِي النَّارِ. قَالَ قُلْتُ: فَأَيْنَ مَنْ مَضَى مِنْ أَهْلِكَ؟ قَالَ: أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ أُمُّكَ مَعَ أُمِّي". (¬1) (37) ـ (30): وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: "جَاءَ ابْنَا مُلَيْكَةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَا: إِنَّ أُمَّنَا كَانَتْ تُكْرِمُ الزَّوْجَ، وَتَعْطِفُ عَلَى الْوَلَدِ، قَالَ: وَذَكَرَ الضَّيْفَ، غَيْرَ أَنَّهَا كَانَتْ وَأَدَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ: أُمُّكُمَا فِي النَّارِ. فَأَدْبَرَا وَالشَّرُّ يُرَى ¬
فِي وُجُوهِهِمَا، فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُدَّا، فَرَجَعَا وَالسُّرُورُ يُرَى فِي وُجُوهِهِمَا، رَجِيَا أَنْ يَكُونَ قَدْ حَدَثَ شَيْءٌ، فَقَالَ: أُمِّي مَعَ أُمِّكُمَا ... ". (¬1) (38) ـ (31): وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ ـ يَعْنِي الْأَمْعَاءَ ـ فِي النَّارِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ (¬2) ". (¬3) (39) ـ (32): وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: ابْنُ جُدْعَانَ (¬4)، كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ؟ قَالَ: لَا يَنْفَعُهُ، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ". (¬5) (40) ـ (33): وَعَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: "انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... "، ثم ذكر أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب بعد صلاته للكسوف فقال: ¬
"مَا مِنْ شَيْءٍ تُوعَدُونَهُ إِلَّا قَدْ رَأَيْتُهُ فِي صَلَاتِي هَذِهِ، لَقَدْ جِيءَ بِالنَّارِ ـ وَذَلِكُمْ حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَنِي مِنْ لَفْحِهَا ـ وَحَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا صَاحِبَ الْمِحْجَنِ (¬1) يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، كَانَ يَسْرِقُ الْحَاجَّ بِمِحْجَنِهِ؛ فَإِنْ فُطِنَ لَهُ قَالَ: إِنَّمَا تَعَلَّقَ بِمِحْجَنِي، وَإِنْ غُفِلَ عَنْهُ ذَهَبَ بِهِ". (¬2) (41) ـ (34): وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رضي الله عنه -، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّهُ رَأَى فَاطِمَةَ ابْنَتَهُ فَقَالَ لَهَا: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتِ؟ قَالَت: ْ أَقْبَلْتُ مِنْ وَرَاءِ جَنَازَةِ هَذَا الرَّجُلِ. قَالَ: فَهَلْ بَلَغْتِ مَعَهُمْ الْكُدَى (¬3)؟ قَالَتْ: لَا، وَكَيْفَ أَبْلُغُهَا وَقَدْ سَمِعْتُ مِنْكَ مَا سَمِعْتُ؟ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ بَلَغْتِ مَعَهُمْ الْكُدَى مَا رَأَيْتِ الْجَنَّةَ حَتَّى يَرَاهَا جَدُّ أَبِيكِ". (¬4) ¬
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآيات والأحاديث
(42) ـ (35): وَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: "دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَائِطًا مِنْ حِيطَانِ بَنِي النَّجَّارِ فَسَمِعَ صَوْتًا مِنْ قَبْرٍ فَسَأَلَ عَنْهُ مَتَى دُفِنَ هَذَا؟ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دُفِنَ هَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ وَقَالَ: لَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُسْمِعَكُمْ عَذَابَ الْقَبْرِ". (¬1) المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآيات والأحاديث: ظاهر الآيات الكريمة أَنَّ الله جل وعلا لا يُعذِّبُ أحداً من خلقه، لا في الدنيا ولا في الآخرة، حتى يبعث إليه رسولاً يُنذِرُه ويُحَذِّرُه، فيعصي ذلك الرسولَ ويتمادى في الكفر حتى يوافي الله على ذلك (¬2)، وهذا الظاهر يَشمل أهل الجاهلية الذين كانوا قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّ الآيات قد صرحت بأنهم لم يُنذروا (¬3)، ولم ¬
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآيات والأحاديث
يُبعث فيهم رسول (¬1)، وأما الأحاديث فظاهرها تَعذيب من مات قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهم أهل الفترة، وهذا يُوهِمُ مُعارضة الآيات. (¬2) المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآيات والأحاديث: للعلماء في دفع التعارض بين الآيات والأحاديث ثلاثة مسالك: الأول: مسلك إعمال الآيات دون الأحاديث. ويرى أصحاب هذا المسلك أَنَّ أهل الفترة ناجون مُطلقاً، وأنه لا عذاب عليهم في الآخرة. وعلى هذا المسلك عامةُ الأشاعرة من أهل الكلام والأصول، والشافعيةِ من الفقهاء، كما حكاه السيوطي، وغيره. (¬3) وبه قال: أبو حامدٍ الغزالي، وأبو العباس القرطبي، وأبو عبد الله القرطبي، وتاج الدين السُّبكي (¬4)، ومحمد بن خليفة الأُبيّ، وشرف الدين المناوي (¬5). (¬6) ¬
وقال به من المعاصرين: عبد الرحمن الجُزيري (¬1)، ومحمد الغزالي (¬2)، ويوسف القرضاوي. (¬3) أدلة هذا المسلك: من أقوى ما استدل به أصحاب هذا المسلك قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) [الإسراء: 15]. وهذه الآية صريحة بأنَّ الله تعالى لا يُعذِّبُ أحداً من خلقه، لا في الدنيا ولا في الآخرة، حتى يبعث إليه رسولاً ينذره ويحذره، فيعصي ذلك الرسولَ ويتمادى في كفره حتى يموت. وقد حكى السيوطي إطباق أئمة السنة على الاستدلال بالآية في أنه لا تعذيب قبل البعثة. (¬4) وهذا المعنى الوارد في الآية قد أوضحه الله جل وعلا في آيات كثيرة، كقوله تعالى: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)) [النساء: 165]، فصَرَّح في هذه الآية الكريمة بأنْ لا بُدّ أنْ يقطع حُجة كلِّ أحدٍ بإرسال الرسل، مُبشرين من أطاعهم بالجنة، ومُنذرين من عصاهم النار، وهذه الحجة ـ التي أوضح هنا قطعها بإرسال الرسل مبشرين ومنذرين ـ بيَّنها في آخر سورة طه بقوله: (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134)) [طه: 134]، وأشار لها في سورة القصص بقوله: (وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)) [القصص: 47]، وقوله جل وعلا: (ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)) [الأنعام: 131]، وقوله: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ ¬
بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)) [المائدة: 19]، وكقوله: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ) [الأنعام: 155 - 157]، إلى غير ذلك من الآيات. ويُوضِحُ ما دلت عليه هذه الآيات المذكورة وأمثالها في القرآن العظيم ـ من أَنَّ الله جل وعلا لا يُعذب أحداً إلا بعد الإنذار والإعذار على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام ـ تصريحه جل وعلا في آيات كثيرة بأنه لم يُدخِل أحداً النار إلا بعد الإعذار والإنذار على ألسنة الرسل، فمن ذلك قوله جل وعلا: (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9)) [الملك: 8 - 9]، فقوله: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ) يَعُمُّ جميع الأفواج المُلْقين في النار، ومن ذلك قوله جل وعلا: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71)) [الزمر: 71]، فقوله: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا)، عامٌ في جميع الكفار، وهو ظاهرٌ في أَنَّ جميع أهل النار قد أنذرتهم الرسل في دار الدنيا فعصوا أمر ربهم كما هو واضح، ونظيره أيضاً قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)) [غافر: 49 - 50]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أَنَّ جميع أهل النار أنذرتهم الرسل في دار الدنيا. وهذه الآيات المذكورة وأمثالها في القرآن تدل على عذر أهل الفترة، وأنه لا عذاب عليهم في الآخرة، وإنْ كانوا ماتوا على الشرك؛ لأنهم لم يأتهم رسلٌ ينذرونهم في الدنيا فتقوم عليهم الحجة. (¬1) ومن الأدلة التي استدل بها أصحاب هذا المسلك في عذر أهل الفترة: ¬
حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ". (¬1) قال أبو العباس القرطبي: "فيه دليلٌ على أَنَّ من لم تبلغه دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أمره لا عقاب عليه ولا مؤاخذه، وهذا كما قال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) [الإسراء: 15]، ومن لم تبلغه دعوة الرسول ولا معجزته فكأنه لم يُبعث إليه رسول". اهـ (¬2) وسيأتي ذكر أجوبة أصحاب هذا المسلك عن الأحاديث الواردة في المسألة - التي تُفيد بظاهرها تعذيب أهل الفترة - وذلك عند ذكر أجوبة أصحاب المسلك الثالث، إن شاء الله تعالى. المسلك الثاني: مسلك إعمال الأحاديث دون الآيات. ويرى أصحاب هذا المسلك أَنَّ أهل الفترة في النار، وأنهم يُعذبون بسبب شركهم. وعلى هذا المسلك الإمام أبو حنيفة. (¬3) وحكى القرافي في شرح تنقيح الفصول الإجماع عليه فقال: "انعقد الإجماع على أَنَّ موتى الجاهلية في النار، يُعذبون على كفرهم". اهـ (¬4) وحكاه الآلوسي عن أبي منصور الماتريدي (¬5)، ومُتَّبِعيه. (¬6) وبه قال: النووي، وابن عطية، والحليمي، والفخر الرازي، والخازن، ومحمد بن إسماعيل الصنعاني، والآلوسي، وابن عاشور (¬7). ¬
قال الحليمي: "إنَّ العاقل المُميّز إذا سمع آيةَ دعوةٍ كانت إلى الله تعالى فترك الاستدلال بعقله على صحتها وهو من أهل الاستدلال والنظر كان بذلك مُعرضاً عن الدعوة فيكفر، ويبعد أنْ يوجد شخص لم يبلغه خبرُ أحدٍ من الرسل، على كثرتهم، وتطاول أزمان دعوتهم، ووفور عدد الذين آمنوا بهم واتبعوهم، والذين كفروا بهم وخالفوهم، فإنَّ الخبر قد يبلغ على لسان المخالف كما يبلغ على لسان الموافق ... ، فلا تغتر بقول كثير من الناس بنجاة أهل الفترة مع إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنَّ آباءهم الذين مضوا في الجاهلية في النار". اهـ (¬1) أدلة هذا المسلك (¬2): استدل أصحاب هذا المسلك بظواهر آيات من كتاب الله، كقوله تعالى: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)) [النساء: 18]، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)) [البقرة: 161]، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)) [آل عمران: 91]، وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) [النساء: 48]، وقوله: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) [الحج: 31]، وقوله: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ) [المائدة: 72]. ¬
وظاهر جميع هذه الآيات العموم؛ لأنها لم تُخصص كافراً دون كافر، بل ظاهرها شمول جميع الكفار. واستدلوا: بالأحاديث الواردة في أبوي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد تقدمت في أول المسألة. واستدلوا: بأنَّ معرفة الله واجبة عقلاً، فلا عُذر بالفترة؛ لأنَّ الحجة قد قامت عليهم بما معهم من أدلة العقل الموصلة إلى معرفة الله وتوحيده. (¬1) وأجاب أصحاب هذا المسلك عن الآيات الواردة في المسألة من أربعة أوجه (¬2): الأول: أَنَّ التعذيب المنفي في قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) وأمثالها من الآيات، إنما هو التعذيب الدنيوي، أي أَنَّ الله لا يُهلك أمة بعذاب في الدنيا إلا بعد الإعذار والإنذار إليهم، وهذا لا يُنافي التعذيب في الآخرة. وهذا الجواب حكاه الآلوسي عن أبي منصور الماتريدي. (¬3) وأما تفسير الآية فقد حكاه مذهباً للجمهور: أبو عبد الله القرطبي، وتبعه أبو حيان، والشوكاني. (¬4) الوجه الثاني: أَنَّ محل العذر بالفترة ـ المنصوص في قوله: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ) وأمثالها ـ إنما هو في غير الواضح، وأما الواضح الذي لا يخفى على من عنده عقل، كعبادة الأوثان، فلا يُعذر فيه أحد؛ لأنَّ الكفار يُقِرُّون بأنَّ الله هو ربهم، الخالق الرازق النافع الضار، ويتحققون كل التحقق أَنَّ الأوثان لا تَقدر على جلب نفع، ولا على دفع ضر. ¬
الوجه الثالث: أَنَّ مشركي العرب قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - عندهم بَقيّة إنذارٍ مما جاءت به الرسل الذين أُرسلوا قبل نبينا - صلى الله عليه وسلم -، كإبراهيم وغيره، وأنَّ الحجة قائمة عليهم بذلك. وهذا جواب: ابن عطية، والحليمي، والنووي، ومحمد بن إسماعيل الصنعاني. (¬1) قال ابن عطية: "صاحب الفترة ليس ككافر قريش قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأنَّ كفار قريش وغيرهم ـ ممن علم وسمع عن نبوةٍ ورسالةٍ في أقطار الأرض ـ ليس بصاحب فترة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال: "أبي وأبوك في النار" (¬2)، ورأى عمرو بن لحي في النار (¬3)، إلى غير هذا مما يطول ذكره، وأما صاحب الفترة فيفترض أنه آدمي لم يَطرأ عليه أَنَّ الله تعالى بعث رسولاً، ولا دعا إلى دين، وهذا قليل الوجود، اللهم إلا أن يُشذَّ في أطراف الأرض، والمواضع المنقطعة عن العمران". اهـ (¬4) وقال النووي: "قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ"، فيه أَنَّ من مات على الكفر فهو في النار، ولا تنفعه قرابة المقربين، وفيه أَنَّ من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار، وليس هذا مؤاخذةٌ قبل بلوغ الدعوة؛ فإنَّ هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء، صلوات الله تعالى وسلامه عليهم". اهـ (¬5) الوجه الرابع: ما جاء من الأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الدالة على أَنَّ بعض أهل الفترة في النار، وقد تقدمت. وأجاب القائلون بعذرهم بالفترة عن هذه الأوجه الأربعة (¬6): فأجابوا عن الوجه الأول ـ وهو كون التعذيب في قوله: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ ¬
حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) إنما هو التعذيب الدنيوي دون الأخروي - من وجهين: الأول: أنه خلاف ظاهر القرآن؛ لأنَّ ظاهر القرآن انتفاء التعذيب مُطلقاً، فهو أعم من كونه في الدنيا، وصرف القرآن عن ظاهره ممنوع، إلا بدليل يجب الرجوع إليه. الوجه الثاني: أَنَّ القرآن دل في آيات كثيرة على شمول التعذيب المنفي في الآية للتعذيب في الآخرة، كقوله: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9)) [الملك: 8 - 9]، وهو دليلٌ على أَنَّ جميع أفواج أهل النار ما عُذِّبوا في الآخرة إلا بعد إنذار الرسل. وأجابوا عن الوجه الثاني ـ وهو أَنَّ محل العذر بالفترة في غير الواضح الذي لا يخفى على أحد ـ بالجوابين المذكورين آنفاً نفسيهما؛ لأن الفرق بين الواضح وغيره مخالفٌ لظاهر القرآن، فلا بُد له من دليل يجب الرجوع إليه، ولأنَّ الله نَصَّ على أَنَّ أهل النار ما عُذِّبوا بها حتى كذَّبوا الرسل في دار الدنيا، بعد إنذارهم من ذلك الكفر الواضح. وأجابوا عن الوجه الثالث ـ وهو قيام الحجة عليهم بإنذار الرسل الذين أُرسلوا قبله - صلى الله عليه وسلم - ـ بأنه قول باطلٌ بلا شك؛ لكثرة الآيات القرآنية المصرحة ببطلانه، لأنَّ مقتضاه أنهم أُنذِرُوا على ألسنة بعض الرسل، والقرآن ينفي هذا نفياً باتاً في آيات كثيرة، كقوله: (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)) [يس: 6]، وكقوله: (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [القصص: 46]، وكقوله: (وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44)) [سبأ: 44]، وكقوله: (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) [السجدة: 3]، إلى غير ذلك من الآيات. وأما قول النووي: "من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار، وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة؛ فإنَّ هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره"، فإنَّ قوله هذا فيه تناقض؛ لأنَّ من بلغتهم الدعوة فليسوا بأهل فترة، وقد أشار إلى ما في كلام النووي من
التناقض الأُبيّ عند شرحه للحديث. (¬1) وأجابوا عن الوجه الرابع: بأنَّ تلك الأحاديث الواردة في المسألة أخبار آحاد يقدم عليها القاطع وهي الآيات الواردة في المسألة. وأجاب القائلون بالعذر بالفترة أيضاً عن الآيات التي استدل بها مخالفوهم ـ كقوله: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)) [النساء: 18]، إلى آخر ما تقدم من الآيات ـ بأنَّ محل ذلك فيما إذا أُرسلت إليهم الرسل فكذبوهم، بدليل قوله: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا). وأجاب القائلون بتعذيب عبدة الأوثان من أهل الفترة عن قول مخالفيهم ـ إنَّ القاطع الذي هو قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، يجب تقديمه على أخبار الآحاد الدالة على تعذيب بعض أهل الفترة، كحديثي مسلم في صحيحه المتقدمين ـ أجابوا: بأنَّ الآية عامة والحديثين كلاهما خاص في شخص مُعين، والمعروف في الأصول أنه لا يتعارض عام وخاص؛ لأنَّ الخاص يقضي على العام، كما هو مذهب الجمهور، فما أخرجه دليل خاص خرج من العموم، وما لم يخرجه دليلٌ خاص بقي داخلاً في العموم. وأجاب المانعون: بأنَّ هذا التخصيص يُبطل حِكْمَةَ العام؛ لأنَّ الله جل وعلا تَمَدَّحَ بكمال الإنصاف، وأنه لا يُعذِّبُ حتى يقطع حجة المُعَذَّب بإنذار الرسل في دار الدنيا، وأشار لأنَّ ذلك الإنصاف الكامل والإعذار الذي هو قطع العذر علة لعدم التعذيب، فلو عَذَّبَ إنساناً واحداً من غير إنذار لاختلت تلك الحكمة التي تَمَدَّحَ الله بها، ولثبتت لذلك الإنسان الحُجة التي أرسل الله الرسل لقطعها، كما بَيَّنَه بقوله: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء: 165]، وقوله: (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134)) [طه: 134]. ¬
المسلك الثالث: مسلك الجمع بين الآيات والأحاديث. ويرى أصحاب هذا المسلك أَنَّ أهل الفترة معذورون بالفترة في الدنيا، كما هو صريح الآيات، إلا أَنَّ الله يمتحنهم يوم القيامة بنارٍ يأمرهم باقتحامها، فمن اقتحمها دخل الجنة، وهو الذي كان يُصَدِّق الرسل لو جاءته في الدنيا، ومن امتنع دخل النار وعُذِّبَ فيها، وهو الذي كان يُكَذِّب الرسل لو جاءته في الدنيا؛ لأن الله يعلم ما كانوا عاملين لو جاءتهم الرسل. (¬1) وقد اختار هذا المسلك جمع من المحققين، كابن حزم، والبيهقي، وعبد الحق الإشبيلي (¬2)، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والحافظ ابن كثير، والحافظ ابن حجر، ومحمد الأمين الشنقيطي. (¬3) وهو اختيار الشيخين الجليلين ابن باز، وابن عثيمين. (¬4) وظاهر تقرير السيوطي لهذه المسألة يوحي باختياره لهذا المسلك. (¬5) قال ابن حزم: "وأما المجانين، ومن مات في الفترة ولم تبلغه دعوة نبي، ومن أدركه الإسلام وقد هَرَم، أو أصَمّ لا يسمع؛ فقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه تُبعث لهم يوم القيامة نارٌ موقدة، ويؤمرون بدخولها، فمن دخلها كانت عليه برداً ودخل الجنة ... ، ونحن نؤمن بهذا ونُقِرُّ به، ولا علم لنا إلا ما علمنا الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم". اهـ (¬6) ¬
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "من لم تبلغه الدعوة في الدنيا امتُحِنَ في الآخرة ... ، ولا يُعذب الله بالنار أحداً إلا بعد أنْ يبعث إليه رسولاً، فمن لم تبلغه دعوة رسول إليه، كالصغير والمجنون والميت في الفترة المحضة، فهذا يُمتحن في الآخرة، كما جاءت بذلك الآثار". اهـ (¬1) أدلة هذا المسلك: للقائلين بهذا المسلك حجتان: الأولى: ما ورد من أحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بامتحان أهل الفترة في الآخرة، وهي مروية عن ستةٍ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: الأول: عن الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ - رضي الله عنه -، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَرْبَعَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، (يعني يُدْلُون على الله بحُجَّة) (¬2)، رَجُلٌ أَصَمُّ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا، وَرَجُلٌ أَحْمَقُ، وَرَجُلٌ هَرَمٌ (¬3)، وَرَجُلٌ مَاتَ فِي فَتْرَةٍ؛ فَأَمَّا الْأَصَمُّ فَيَقُولُ: رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَسْمَعُ شَيْئًا، وَأَمَّا الْأَحْمَقُ فَيَقُولُ: رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَالصِّبْيَانُ يَحْذِفُونِي بِالْبَعْرِ (¬4)، وَأَمَّا الْهَرَمُ فَيَقُولُ: رَبِّي لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَعْقِلُ شَيْئًا، وَأَمَّا الَّذِي مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ فَيَقُولُ: رَبِّ مَا أَتَانِي لَكَ رَسُولٌ. فَيَأْخُذُ مَوَاثِيقَهُمْ لَيُطِيعُنَّهُ، فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنْ ادْخُلُوا النَّارَ. قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ دَخَلُوهَا لَكَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا" (¬5). ¬
الثاني: عن مُعاذ بن جَبل - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يُؤتى يوم القيامة بالممسوخ (¬1) ¬
عقلاً، وبالهالك في الفترة، وبالهالك صغيراً، فيقول الممسوخ عقلاً: يا رب لو آتيتني عقلاً ما كان من آتيته عقلاً بأسعد بعقله مني. ويقول الهالك في الفترة: يا رب لو أتاني منك عهد ما كان من أتاه منك عهد بأسعد بعهده مني. ويقول الهالك صغيراً: لو آتيتني عمراً ما كان من آتيته عمراً بأسعد بعمره مني. فيقول الرب تبارك وتعالى: إني آمركم بأمر فتطيعوني؟ فيقولون: نعم، وعزتك. فيقول: اذهبوا فادخلوا النار. ولو دخلوها ما ضرتهم، قال: فتخرج عليهم قوابص (¬1) يظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء، فيرجعون سراعاً قال: يقولون: خرجنا يا رب وعزتك نريد دخولها، فخرجت علينا قوابص ظننا أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء، فيأمرهم الثانية، فيرجعون كذلك يقولون مثل قولهم، فيقول الله تبارك وتعالى: قبل أن تُخلقوا علمت ما أنتم عاملون، وعلى علمي خلقتكم، وإلى علمي تصيرون، فتأخذهم النار". (¬2) ¬
الثالث: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يؤتى بأربعة يوم القيامة: بالمولود، وبالمعْتُوه (¬1)، وبمن مات في الفترة، والشيخ الفاني، كلهم يتكلم بحجته، فيقول الرب تبارك وتعالى لعنق من النار: ابرُزْ. فيقول لهم: إني كنت أبعث إلى عبادي رسلاً من أنفسهم، وإني رسول نفسي إليكم، ادخلوا هذه. فيقول من كُتِبَ عليه الشقاء: يا رب، أين ندخلها ومنها كنا نَفِرُّ؟ قال: ومن كُتِبَتْ عليه السعادة يمضي فيقتحم فيها مُسرعاً، قال: فيقول تبارك وتعالى: أنتم لرسلي أشد تكذيباً ومعصية، فيدخل هؤلاء الجنة، وهؤلاء النار". (¬2) ¬
الرابع: عن أبي سعيد الخُدريّ - رضي الله عنه -، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَحْتَجُّ عَلى اللهِ يَوْمَ القيامَةِ ثَلاثَةٌ: الهَالِكُ فِي الفَتْرَةِ، والمَغْلُوبُ على عَقْلِه، والصَّبيُّ الصَّغيرُ، فَيَقُولُ المَغْلُوبُ عَلى عَقْلِهِ: لَمْ تَجْعَلْ لي عَقْلا أنْتَفِع بِهِ، وَيَقُولُ الهَالِكُ فِي الفتْرَةِ: لَمْ يأْتِني رَسُولٌ وَلا نَبيٌّ، ولَوْ أتانِي لَكَ رَسُولٌ أوْ نَبيّ لكُنْتُ أطْوَعَ خَلْقِكَ لَكَ وقرأ: (لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا) [طه: 134] ويَقُولُ الصَّبِيُّ الصَّغِيرُ: كَنْتُ صَغِيرًا لا أعْقِلُ. قال: فَتُرْفَعُ لَهُمْ نارٌ وَيُقالُ لَهُمْ: رِدُوها قال: فَيرِدُها مَنْ كَانَ فِي علْمِ اللهِ أنَّه سَعيدٌ، وَيَتَلَكَّأُ عَنْها مَنْ كانَ فِي عِلْمِ اللهِ أنَّهُ شَقِيّ، فَيَقُولُ: إيَّايَ عَصَيْتُمْ، فَكَيْفَ بِرُسُلي لَوْ أتَتْكُمْ؟ ". (¬1) الخامس: عن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنه سمع رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ¬
يقول: "إذا كان يوم القيامة جاء أهل الجاهلية يحملون أوثانهم على ظهورهم، فيسألهم ربهم ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: ربنا لم تُرسِلْ إلينا رسولاً، ولم يأتنا لك أمر، ولو أرسلت إلينا رسولاً لكنا أطوع عبادك لك. فيقول لهم ربهم: أرأيتم إنْ أمرتكم بأمر تطيعونني؟ فيقولون: نعم. فيُؤمرون أن يَعْمَدوا إلى جهنم فيدخلوها، فينطلقون، حتى إذا رأوها فإذا لها تغيظ وزفير، فيرجعون إلى ربهم فيقولون: يا ربنا فَرَقْنا (¬1) منها. فيقول ربهم تبارك وتعالى: تزعمون أنكم إنْ أمرتكم بأمر أطعتموني، فيأخذ مواثيقهم فيقول: اعمدوا إليها فادخلوها. فينطلقون، حتى إذا رأوها فَرَقوا ورجعوا إلى ربهم، فقالوا: ربنا فَرَقْنا منها. فيقول: ألم تعطوني مواثيقكم لتطيعوني؟ اعمدوا إليها فادخلوها. فينطلقون، حتى إذا رأوها فزعوا ورجعوا، فقالوا: فَرَقْنا يا رب، ولا نستطيع أن ندخلها. فيقول: ادخلوها داخرين. قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: لو دخلوها أول مرة كانت عليهم برداً وسلاماً". (¬2) ¬
السادس: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أربعة كلهم يُدلي على الله يوم القيامة بحجة وعذر: رجل مات في الفترة، ورجل أدركه الإسلام هَرَماً، ورجل أصم أبكم، ورجل مَعْتُوه، فيبعث الله إليهم مَلَكاً رسولاً فيقول: اتبعوه، فيأتيهم الرسول فيؤجج لهم ناراً ثم يقول: اقتحموها، فمن اقتحمها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن لا حَقَّتْ عليه كلمة العذاب". (¬1) قال ابن القيم ـ بعد أنْ أورد هذه الأحاديث ـ: "فهذه الأحاديث يَشُدُّ بعضها بعضاً، وتشهد لها أصول الشرع وقواعده، والقول بمضمونها هو مذهب السلف والسنة، نقله عنهم الأشعري ـ رحمه الله ـ في المقالات (¬2) وغيرها". اهـ (¬3) الحجة الثانية: أَنَّ الجمع بين الأدلة واجب متى ما أمكن بلا خلاف؛ لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، ولا وجه للجمع بين الأدلة إلا هذا القول، بالعذر والامتحان، فمن دخل النار فهو الذي لم يمتثل ما أُمِرَ به عند ذلك الامتحان، وتتفق بذلك جميع الأدلة. (¬4) الإيرادات والاعتراضات على هذه الأدلة: أُورِد على هذه الأحاديث ـ أعني أحاديث الامتحان ـ بأنها ضعيفة، وبأنها مُخالِفةٌ لكتاب الله عز وجل، ولقواعد الشريعة، لأنَّ الآخرة ليست دارَ ¬
تكليف، وإنما هي دار جزاء، ودار التكليف هي دار الدنيا، فلو كانت الآخرة دار تكليف لكان ثَمَّ دار جزاء غيرها. أورد هذا الاعتراض: ابن عبد البر، وابن عطية، وأبو عبد الله القرطبي، والآلوسي. (¬1) قال ابن عبد البر ـ وقد ذكر بعض هذه الأحاديث ـ: "وهذه الأحاديث كلها ليست بالقوية، ولا تقوم بها حُجة، وأهل العلم يُنكرون أحاديث هذا الباب؛ لأنَّ الآخرة دار جزاء، وليست دارَ عمل ولا ابتلاء، وكيف يُكَلَّفون دخول النار وليس ذلك في وُسِع المخلوقين، والله لا يُكَلِّف نفساً إلا وسعها، ولا يخلو من مات في الفترة من أن يكون مات كافراً أو غير كافر، فإنْ مات كافراً جاحداً فإنَّ الله حرَّم الجنة على الكافرين، فكيف يُمتحنون؟ وإنْ كان معذوراً بأنه لم يَأته نذير ولا رسول فكيف يُؤمر أنْ يقتحم النار وهي أشدُّ العذاب؟ ". اهـ (¬2) وأجيب عن هذه الاعتراضات من وجوه (¬3): الأول: "أَنَّ أحاديث هذا الباب قد تضافرت وكثُرَتْ بحيث يشدُّ بعضُها بعضاً، وقد صحَّح الحفاظ بعضها، كما صحَّح البيهقي وعبد الحق وغيرهما حديثَ الأسود بن سريع. وحديثُ أبي هريرة إسناده صحيح متصل، ورواية معمر له، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة، موقوفاً، لا تضره؛ فإنا إنْ سلكنا طريق الفقهاء والأصوليين ـ في الأخذ بالزيادة من الثقة ـ فظاهر، وإنْ سلكنا طريق الترجيح ـ وهي طريقة المحدثين ـ فليس من رَفَعَه بدون من وَقَفَه في الحفظ والإتقان. الوجه الثاني: أَنَّ غاية ما يُقَدَّرُ فيه أنه موقوف على الصحابي، ومثل هذا ¬
لا يُقْدِمُ عليه الصحابي بالرأي والاجتهاد، بل يُجْزَم بأنَّ ذلك توقيفٌ لا عن رأي. الوجه الثالث: أَنَّ هذه الأحاديث يَشُدُّ بعضها بعضاً؛ فإنها قد تعددت طرقها، واختلفت مخارجها، فيبعد كل البعد أنْ تكون باطلة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يتكلم بها، وقد رواها أئمة الإسلام ودونوها ولم يطعنوا فيها. الوجه الرابع: أنها هي الموافقة للقرآن وقواعد الشرع، فهي تفصيل لما أخبر به القرآن أنه لا يُعَذَّبُ أحدٌ إلا بعد قيام الحجة عليه، وهؤلاء لم تقم عليهم حجة الله في الدنيا، فلا بد أنْ يقيم حجته عليهم، وأحق المواطن أنْ تُقام فيه الحجة يوم يقوم الأشهاد، وتُسمع الدعاوى، وتُقام البينات، ويختصم الناس بين يدي الرب، وينطق كل أحد بحجته ومعذرته، فلا تنفع الظالمين معذرتهم وتنفع غيرهم. الوجه الخامس: أَنَّ القول بموجبها هو قول أهل السنة والحديث، كما حكاه الأشعري عنهم في المقالات، وحكى اتفاقهم عليه. (¬1) الوجه السادس: وهو قول ابن عبد البر: "وأهل العلم يُنكرون أحاديث هذا الباب" جوابه: أنه وإنْ أنكرها بعضهم فقد قَبِلَها الأكثرون، والذين قبلوها أكثر من الذين أنكروها، وأعلم بالسنة والحديث، وقد حكى فيه الأشعري اتفاق أهل السنة والحديث، وقد بينا أنه مقتضى قواعد الشرع. الوجه السابع: أنه قد نص جماعة من الأئمة على وقوع الامتحان في الدار الآخرة، وقالوا لا ينقطع التكليف إلا بدخول دار القرار، ذكره البيهقي عن غير واحد من السلف. الوجه الثامن: ما ثبت في الصحيحين (¬2)، من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد، رضي الله عنهما، في الرجل الذي هو آخر أهل الجنة دخولاً إليها، أَنَّ الله تعالى يأخذ عهوده ومواثيقه ألا يسأله غير الذي يعطيه، وأنه يُخالفه ويسأله غيره، ¬
فيقول الله له: "ما أغدرك"، وهذا الغدر منه لمخالفته العهد الذي عاهد ربه عليه، وهذه معصية منه. الوجه التاسع: قد ثبت أنه سبحانه يأمرهم في القيامة بالسجود، ويحول بين المخالفين وبينه، وهذا تكليف بما ليس في الوسع قطعاً، فكيف يُنْكَرُ التكليف بدخول النار اختياراً؟ الوجه العاشر: أنه قد ثبت امتحانهم في القبور، وسؤالهم وتكليفهم الجواب، وهذا تكليف بعد الموت بِرَدِّ الجواب. الوجه الحادي عشر: أَنَّ أَمْرَهُم بدخول النار ليس عقوبة لهم، وكيف يُعاقبهم على غير ذنب؟ وإنما هو امتحان واختبار لهم، هل يطيعونه أو يعصونه؟ فلو أطاعوه ودخلوها لم تضرهم، وكانت عليهم برداً وسلاماً، فلما عصوه وامتنعوا من دخولها استوجبوا عقوبة مخالفة أمره، والملوك قد تمتحن من يُظهر طاعتهم، هل هو منطوٍ عليها بباطنه؟ فيأمرونه بأمر شاق عليه في الظاهر، هل يُوطِّن نفسه عليه أم لا؟ فإنْ أقدم عليه ووطن نفسه على فعله أَعْفَوه منه، وإنْ امتنع وعصى ألزموه به، أو عاقبوه بما هو أشد منه. وقد أمر الله سبحانه الخليل بذبح ولده، ولم يكن مراده سوى توطين نفسه على الامتثال والتسليم، وتقديم محبة الله على محبة الولد، فلما فعل ذلك رفع عنه الأمر بالذبح. وقد ثبت أَنَّ الدجال يأتي معه بمثال الجنة والنار (¬1)، وهي نار في رأي العين، ولكنها لا تُحْرِق، فمن دخلها لم تضره، فلو أَنَّ هؤلاء يوطنون أنفسهم على دخول النار ـ التي أمروا بدخولها طاعة لله ومحبة له، وإيثاراً لمرضاته، وتقرباً إليه بتحمل ما يؤلمهم ـ لكان هذا الإقدام والقصد منهم لمرضاته ومحبته ¬
يقلب تلك النار برداً وسلاماً، كما قلب قصد الخليل التقرب إلى ربه وإيثار محبته ومرضاته وبذل نفسه وإيثاره إياه على نفسه تلك النار بأمر الله برداً وسلاماً، فليس أمره سبحانه إياهم بدخول النار عقوبة ولا تكليفاً بالممتنع، وإنما هو امتحان واختبار لهم هل يوطنون أنفسهم على طاعته أم ينطوون على معصيته ومخالفته، وقد علم سبحانه ما يقع منهم، ولكنه لا يُجازيهم على مجرد علمه فيهم ما لم يحصل معلومه الذي يترتب عليهم به الحجة، فلا أحسن من هذا يفعله بهم، وهو محض العدل والحكمة. الوجه الثاني عشر: أَنَّ هذا مطابق لتكليفه عباده في الدنيا؛ فإنه سبحانه لم يستفد بتكليفهم منفعة تعود إليه، ولا هو محتاج إليهم، وإنما امتحنهم وابتلاهم ليتبين من يؤثر رضاه ومحبته ويشكره، ممن يكفر به ويؤثر سخطه، قد علم منهم من يفعل هذا وهذا، ولكنه بالابتلاء ظهر معلومه الذي يترتب عليه الثواب والعقاب، وتقوم عليهم به الحجة. وكثير من الأوامر التي أمرهم بها في الدنيا نظير الأمر بدخول النار؛ فإنَّ الأمر بإلقاء نفوسهم بين سيوف أعدائهم ورماحهم، وتعريضهم لأسرهم لهم، وتعذيبهم واسترقاقهم، لعله أعظم من الأمر بدخول النار، وقد كَلَّفَ الله بني إسرائيل قتل أنفسهم وأولادهم وأرواحهم وإخوانهم لما عبدوا العجل، لما لهم في ذلك من المصلحة، وهذا قريب من التكليف بدخول النار، وكَلَّفَ على لسان رسوله المؤمنين إذا رأوا نار الدجال أن يقعوا فيها، لما لهم في ذلك من المصلحة، وليست في الحقيقة ناراً، وإنْ كانت في رأي العين ناراً، وكذلك النار التي أمروا بدخولها في الآخرة إنما هي برد وسلام على من دخلها، فلو لم يأت بذلك أثر لكان هذا هو مقتضى حكمته وعدله، وموجب أسمائه وصفاته. الوجه الثالث عشر: قول ابن عبد البر: "وليس ذلك في وسع المخلوقين" جوابه من وجهين: أحدهما: أنه في وسعهم، وإنْ كان يشق عليهم، وهؤلاء عباد النار يتهافتون فيها ويلقون أنفسهم فيها طاعة للشيطان، ولم يقولوا ليس في وسعنا، مع تألمهم بها غاية الألم، فعباد الرحمن إذا أمرهم أرحم الراحمين بطاعته
باقتحامهم النار كيف لا يكون في وسعهم، وهو إنما يأمرهم بذلك لمصلحتهم ومنفعتهم؟ الثاني: أنهم لو وطنوا أنفسهم على اتباع طاعته ومرضاته لكانت عين نعيمهم، ولم تضرهم شيئاً. الوجه الرابع عشر: أَنَّ أمرهم باقتحام النار، المفضية بهم إلى النجاة منها، بمنزلة الكي الذي يحسم الداء، وبمنزلة تناول الداء الكريه الذي يعقب العافية، وليس من باب العقوبة في شيء، فإنَّ الله سبحانه اقتضت حكمته وحمده، وغناه ورحمته، ألا يعذب من لا ذنب له، بل يتعالى ويتقدس عن ذلك، كما يتعالى عما يناقض صفات كماله، فالأمر باقتحام النار للخلاص منها هو عين الحكمة والرحمة والمصلحة، حتى لو أنهم بادروا إليها طوعاً واختياراً ورضى، حيث علموا أَنَّ مرضاته في ذلك قبل أن يأمرهم به لكان ذلك عين صلاحهم، وسبب نجاتهم، فلم يفعلوا ذلك ولم يمتثلوا أمره، وقد تيقنوا وعلموا أَنَّ فيه رضاه وصلاحهم، بل هان عليهم أمره وعزت عليهم أنفسهم أن يبذلوا له منها هذا القدر الذي أمرهم به، رحمة وإحساناً، لا عقوبة. الوجه الخامس عشر: أَنَّ أمرهم باقتحام النار كأمر المؤمنين بركوب الصراط، الذي هو أدق من الشعرة، وأحد من السيف، ولا ريب أَنَّ ركوبه من أشق الأمور وأصعبها، حتى إنَّ الرسل لتشفق منه، وكل منهم يسأل الله السلامة، فركوب هذا الجسر الذي هو في غاية المشقة كاقتحام النار، وكلاهما طريق إلى النجاة. الوجه السادس عشر: قول ابن عبد البر: "ولا يخلو من مات في الفترة من أن يكون كافراً أو غير كافر، فإنْ كان كافراً فإنَّ الله حرم الجنة على الكافرين، وإنْ كان معذوراً بأنه لم يأته رسول فكيف يُؤمر باقتحام النار؟ " جوابه من وجوه: أحدها: أنْ يقال هؤلاء لا يحكم لهم بكفر ولا إيمان؛ فإنَّ الكفر هو جحود ما جاء به الرسول، فشرط تحققه بلوغ الرسالة، والإيمان هو تصديق الرسول فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، وهذا أيضاً مشروط ببلوغ الرسالة، ولا
يلزم من انتفاء أحدهما وجود الآخر إلا بعد قيام سببه، فلما لم يكن هؤلاء في الدنيا كفاراً ولا مؤمنين، كان لهم في الآخرة حكم آخر غير حكم الفريقين. الوجه الثاني: سلمنا أنهم كفار، لكن انتفاء العذاب عنهم لانتفاء شرطه، وهو قيام الحجة عليهم، فإنَّ الله تعالى لا يعذب إلا من قامت عليه حجته. الوجه الثالث: قوله: "وإنْ كان معذوراً فكيف يؤمر أن يقتحم النار، وهي أشد العذاب؟ "، فالذي قال هذا يُوهِمُ أَنَّ هذا الأمر عقوبة لهم، وهذا غلط، وإنما هو تكليف واختبار، فإن بادروا إلى الامتثال لم تضرهم النار شيئاً". انتهى كلام ابن القيم. أجوبة أصحاب المسلك الأول والثالث - وهم القائلون بنجاة أهل الفترة، والقائلون بامتحانهم في الآخرة - عن الأحاديث الواردة في المسألة، والتي تُفيد بظاهرها تعذيب أهل الفترة: اختلف أصحاب هذين المسلكين في الجواب عن الأحاديث الواردة في المسألة، وخاصة الأحاديث الواردة في أبوي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسأذكر أولاً أجوبتهم عن الأحاديث بعامة، ثم أذكر مذاهب العلماء في مصير والدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، يلي ذلك أجوبة أصحاب هذين المسلكين عن الأحاديث الواردة في تعذيب أبوي النبي - صلى الله عليه وسلم -: أولاً: أجوبتهم عن أحاديث تعذيب أهل الفترة بعامة: أما القائلون بامتحانهم في الآخرة فلا إشكال عندهم في تلك الأحاديث؛ لأنها محمولة على أَنَّ هؤلاء ممن لا يجيب يوم القيامة؛ فلا منافاة بينها وبين الآيات. (¬1) وأجاب بعضهم باحتمال أنْ يكون هؤلاء ـ الذين أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنهم من أهل النار، ومنهم أبوي النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ بلغتهم دعوة نبي من الأنبياء، قبل بعثة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فلم يؤمنوا بها، وإنما رضوا بدين قريش، من الشرك وعبادة ¬
الأوثان، فخرجوا بفعلهم هذا أن يكونوا من أهل الفترة، واستحقوا العذاب في الآخرة؛ لقيام الحجة عليهم. (¬1) وأما القائلون بنجاتهم مطلقاً فذكروا ثلاثة أجوبة: الأول: أنها أخبار آحاد فلا تعارض القاطع، وهي نصوص القرآن الكريم. الثاني: قَصْرُ التعذيب على هؤلاء، والله أعلم بالسبب. الثالث: قَصْرُ التعذيب المذكور في هذه الأحاديث على من بَدَّلَ وغَيَّرَ من أهل الفترة بما لا يُعذر به من الضلال، كعبادة الأوثان، وتغيير الشرائع، وشرع الأحكام. وقد ذكر محمد بن خليفة الأُبيّ أَنَّ أهل الفترة ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: الأول: من أدرك التوحيد ببصيرته، وهؤلاء على نوعين: الأول: من لم يدخل في شريعة؛ كقس بن ساعدة (¬2)، وزيد بن عمرو بن ¬
نفيل (¬1)، وورقة بن نوفل (¬2). الثاني: من دخل في شريعة حق قائمة، كتُبَّعٍ وقومه. القسم الثاني: من بَدَّلَ وغَيَّرَ وأشرك ولم يُوحِّد، وشرع لنفسه فحلل وحرم، وهم الأكثر، كعمرو بن لحي، فإنه أول من سن للعرب عبادة الأصنام، وشرع الأحكام؛ فبَحَّر البَحِيرة (¬3)، ¬
وسَيَّبَ السَّائبة (¬1)، ووَصَل الوَصِيلة (¬2)، وحَمى الحامي (¬3). القسم الثالث: من لم يُشرك ولم يُوحِّد، ولا دخل في شريعة نبي، ولا ابتكر لنفسه شريعة، ولا اخترع ديناً، بل بقي عمره على حال غفلة عن هذا كله، وفي الجاهلية من هذا القسم كثير. قال الأُبيّ: فإذا انقسم أهل الفترة إلى الثلاثة الأقسام؛ فيُحمل من صح تعذيبه على أهل القسم الثاني؛ بكفرهم بما يعذبون به من الخبائث، والله سبحانه قد سمى جميع هذا القسم كفاراً ومشركين، وأما القسم الأول، كزيد بن عمرو بن نفيل، وورقة؛ فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل منهما: "إنه يُبعث أمة وحده" (¬4)، فحكمهم حكم الدين الذي دخلوا فيه مالم يلحق أحداً منهم الإسلامُ الناسخ لكل دين. وأما القسم الثالث: فهم أهل الفترة حقيقة، وهم غير معذبين، لقطع القرآن بنجاتهم. (¬5) ثانياً: مذاهب العلماء في مصير والديّ النبي - صلى الله عليه وسلم -: اختلف العلماء في مصير والديّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على ثلاثة مذاهب: ¬
الأول: أنهما في النار. وهذا مذهب أبي حنيفة، والبيهقي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والحافظ ابن كثير، والألباني، وغيرهم. (¬1) وقد بسط الكلام في عدم نجاة الوالدين: إبراهيمُ بن محمد الحلبي (¬2)، في رسالة بعنوان: "رسالة في حق أبوي الرسول صلى الله عليه وسلم"، والملاّ علي بن سلطان القاري في رسالة بعنوان: "أدلة معتقد أبي حنيفة الأعظم في أبوي الرسول عليه الصلاة والسلام". ومن أظهر ما استدل به أصحاب هذا المذهب: حديث أنس - رضي الله عنه -، والذي فيه إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنَّ أباه في النار، وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، والذي فيه أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نُهيَ عن الاستغفار لأمه، وكلاهما عند مسلم، وكذا إخباره - صلى الله عليه وسلم - بأنَّ أمه في النار، وقد تقدمت جميعها في أول المسألة. وادعى الإجماع على عدم نجاتهما الملا علي بن سلطان القاري فقال: "وأما الإجماع؛ فقد اتفق السلف والخلف ـ من الصحابة والتابعين، والأئمة الأربعة وسائر المجتهدين ـ على ذلك، من غير إظهار خلافٍ لما هُنالك، والخلاف من اللاحق لا يقدح في الإجماع السابق، سواء يكون من جنس المخالف أو صنف الموافق". اهـ (¬3) ويرى هؤلاء أَنَّ إخباره - صلى الله عليه وسلم - عن أبويه بأنهما من أهل النار، لا يُنافي الأحاديث الواردة بامتحان أهل الفترة، لأنَّ أهل الفترة منهم من يُجيب يوم القيامة، ومنهم من لا يُجيب، فيكون هؤلاء من جملة من لا يُجيب، فلا مُنافاة. (¬4) ¬
المذهب الثاني: التوقف فيهما، فلا يُحكم لهما بجنة ولا نار. قال تاج الدين الفاكهاني (¬1): "الله أعلم بحال أبويه". (¬2) وقال السخاوي ـ بعد أنْ أورد حديث إحياء والديّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ: "والذي أراه الكَفَّ عن التعرض لهذا إثباتاً ونفياً". (¬3) وحكى هذا المذهب شمس الحق العظيم آبادي ومال إليه واستحسنه. (¬4) وإليه نحا الدكتور يوسف القرضاوي؛ فإنه أورد حديث "إن أبي وأباك في النار" وقال: أتوقف في الحديث حتى يظهر لي شيء يشفي الصدر. (¬5) المذهب الثالث: أنهما في الجنة. ولأصحاب هذا المذهب في سبب نجاتهما ثلاثة مسالك: الأول: أنهما لم تبلغهما الدعوة، ولا عذاب على من لم تبلغه الدعوة. أشار لهذا المسلك: السيوطي، والسندي. (¬6) واختاره من المعاصرين: محمد الغزالي (¬7). المسلك الثاني: أنهما كانا على التوحيد، ملة إبراهيم، عليه السلام. وهذا المسلك قال به الطاهر ابن عاشور، ومحمد الجزيري. (¬8) قال الطاهر ابن عاشور عند تفسيره لقوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)) [البقرة: 124] قال: "ولعل ممن تحقق فيه رجاء إبراهيم عمود نسب النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كانوا يكتمون دينهم تُقْيَةً من قومهم". اهـ (¬9) ¬
المسلك الثالث: أَنَّ الله تعالى أحياهما لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في آخر حياته؛ فآمنا به واتبعاه. وهذا المسلك مال إليه طائفة من حفاظ المحدثين وغيرهم، منهم ابن شاهين (¬1)، والخطيب البغدادي (¬2)، والسُهيلي (¬3) (¬4)، وأبو عبد الله القرطبي (¬5)، والمحب الطبري (¬6)، وناصر الدين بن المُنَيِّر (¬7)، والأُبيّ (¬8)، وابن حجر الهيتمي (¬9)، والعجلوني (¬10)، وغيرهم (¬11). وانتصر له السيوطي فألف فيه عدة مؤلفات من أشهرها: كتابه "مسالك الحنفا في والديّ المصطفى" (¬12)، وقد أطال في تقرير نجاة الأبوين، وحشد العديد من الأدلة التي تؤيد ما ذهب إليه، حتى قال: "وإذا كان قد صح في أبي طالب أنه أهون أهل النار عذاباً؛ لقرابته منه - صلى الله عليه وسلم - وبِرِّهِ به، مع إداركه ¬
الدعوة، وامتناعه من الإجابة، وطول عمره، فما ظنك بأبويه، اللذين هما أشد منه قُرباً، وآكد حُباً، وابسط عُذراً، وأقصر عُمراً، فمعاذ الله أنْ يُظنَّ بهما أنهما في طبقة الجحيم، وأنْ يُشدَّد عليهما العذاب العظيم، هذا لا يفهمه من له أدنى ذوق سليم". اهـ (¬1) ومن أظهر ما استدل به أصحاب هذا المسلك: ما رُويَ عن عائشة رضي الله عنها: "أَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزل إلى الحجون (¬2) كئيباً حزيناً، فأقام به ما شاء ربه عز وجل، ثم رجع مسروراً، فقالت: يا رسول الله، نزلت إلى الحجون كئيباً حزيناً فأقمت به ما شاء الله، ثم رجعت مسروراً، قال: سألت ربي عز وجل فأحيا لي أمي فآمنت بي، ثم رَدَّها". (¬3) ¬
وأورد السُهيلي في الروض الأنف (¬1) بسند قال: إنَّ فيه مجهولين، عن عائشة رضي الله عنها: "أَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل ربه أنْ يحيي أبويه، فأحياهما له، فآمنا به، ثم أماتهما". قال السهيلي بعد إيراده للحديث: "الله قادر على كل شيء، وليس تعجز رحمته وقدرته عن شيء، ونبيه - صلى الله عليه وسلم - أهل أنْ يُختصَّ بما شاء من فضله، ويُنْعِمَ عليه بما شاء من كرامته". اهـ (¬2) وقال العلامة ناصر الدين بن المُنَيِّر المالكي في كتاب "المقتفى في شرف المصطفى": "قد وقع لنبينا - صلى الله عليه وسلم - إحياء الموتى، نظير ما وقع لعيسى ابن مريم ... ، وجاء في حديثٍ أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما منع من الاستغفار للكفار دعا الله أنْ يحيي له أبويه فأحياهما له فآمنا به وصدقا وماتا مؤمنين". اهـ (¬3) وقال أبو عبد الله القرطبي: "فضائل النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تزل تتوالى وتتابع إلى حين مماته، فيكون هذا مما فضله الله به وأكرمه، وليس إحياؤهما وإيمانهما به يمتنع عقلاً ولا شرعاً، فقد ورد في القرآن إحياء قتيل بني إسرائيل، وإخباره بقاتله، وكان عيسى عليه السلام يحيي الموتى، وكذلك نبينا عليه الصلاة والسلام أحيا الله على يديه جماعة من الموتى ... ، وإذا ثبت هذا فما يمتنع من إيمانهما بعد إحيائهما زيادة كرامة في فضيلته". اهـ (¬4) ¬
وقال ابن سيد الناس ـ بعد أن ذكر قصة الإحياء، والأحاديث الواردة في التعذيب ـ: "وذكر بعض أهل العلم في الجمع بين هذه الروايات ما حاصله أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزل راقياً في المقامات السَّنيِّة، صاعداً في الدرجات العليّة، إلى أنْ قبض الله روحه الطاهرة إليه، وأزلفه بما خصه به لديه من الكرامة حين القدوم عليه، فمن الجائز أنْ تكون هذه درجة حصلت له صلى الله عليه وسلم بعد أنْ لم تكن، وأنْ يكون الإحياء والإيمان متأخراً عن تلك الأحاديث فلا تَعارُض". اهـ (¬1) وأجاب أصحاب هذا المسلك عن أحاديث تعذيب أبوي النبي - صلى الله عليه وسلم - بثلاثة أجوبة: الأول: أنها منسوخة بحديث إحياء والديه - صلى الله عليه وسلم -. قال أبو عبد الله القرطبي: "لا تعارض بين حديث الإحياء، وحديث النهي عن الاستغفار؛ فإنَّ إحياءهما متأخر عن الاستغفار لهما، بدليل حديث عائشة أَنَّ ذلك كان في حجة الوداع، ولذلك جعله ابن شاهين ناسخاً لما ذُكِرَ من الأخبار". اهـ (¬2) الثاني: أَنَّ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أبي وأباك في النار" المراد عمه أبو طالب؛ لأن اسم الأب يطلق على العم، وقد كان أبو طالب رَبَّى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فاستحق إطلاق اسم الأب من تلك الجهة. ذكره السيوطي. (¬3) وذهب الجزيري إلى أَنَّ المراد عمه أبو لهب، حيث قال: "وحديث مسلم هذا يمكن تأويله، وهو أَنَّ المراد بأبي النبي صلى الله وعليه وسلم أبو لهب؛ فإنَّ الله تعالى قد أخبر أنه في النار قطعاً، والأب يُطلق في اللغة على العم". اهـ (¬4) الثالث: أنها ضعيفة. قال السيوطي: "فإنْ قلتَ: فما تصنع بالأحاديث الدالة على كفرهما ¬
وأنهما في النار، وهي: حديث أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليت شعري، ما فعل أبواي؟ فنزلت: (وَلَا تُسْأَلُ (¬1) عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) " (¬2) [البقرة: 119]، وحديث أنه استغفر لأُمِّه فضرب جبريل في صدره وقال: لا تستغفر لمن مات مشركاً (¬3)، وحديث أنه نزل فيها: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) (¬4) [التوبة: ¬
113]، وحديث أنه قال لابني مُليكة: "أمكما في النار. فشق عليهما، فدعاهما فقال: إنَّ أُمّي مع أمكما". (¬1) قلت: الجواب أَنَّ غالب ما يروى من ذلك ضعيف، ولم يصح في أم النبي - صلى الله عليه وسلم - سوى حديث أنه استأذن في الاستغفار لها فلم يُؤذن له، ولم يصح أيضاً في أبيه إلا حديث مسلم خاصة، وسيأتي الجواب عنهما. ¬
قال: وأما الأحاديث التي ذُكِرَت؛ فحديث: "ليت شعري ما فعل أبواي؛ فنزلت الآية" لم يُخرَّج في شيء من الكتب المعتمدة، وإنما ذُكِرَ في بعض التفاسير بسند منقطع لا يحُتج به، ولا يُعَوُّل عليه. وأما حديث أنَّ جبريل ضرب في صدره وقال: لا تستغفر لمن مات مشركاً؛ فإنَّ البزار أخرجه بسند فيه من لا يُعرف. وأما نزول الآية في ذلك فضعيف أيضاً، والثابت في الصحيحين أنها نزلت في أبي طالب (¬1). وأما حديث: "أمي مع أمكما"، فأخرجه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح. وشأن المستدرك في تساهله في التصحيح معروف، وقد تقرر في علوم الحديث أنه لا يُقبل تَفَرُّدُه بالتصحيح، ثم إنَّ الذهبي في مختصر المستدرك ـ لما أورد هذا الحديث ونقل قول الحاكم صحيح ـ قال عقبه: "قلت: لا والله، فعثمان بن عمير ضعفه الدارقطني". فبيَّن الذهبي ضعف الحديث، وحلف عليه يميناً شرعياً. قال السيوطي: فإنْ قلتَ: بقيت عقدة واحدة، وهي ما رواه مسلم عن أنس أَنَّ رجلاً قال: "يا رسول الله، أين أبي؟ قال: في النار. فلما قفى دعاه فقال: إنَّ أبي وأباك في النار" (¬2)، وحديث مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أنه - صلى الله عليه وسلم - استأذن في الاستغفار لأمه فلم يُؤذن له" (¬3)، فاحلل هذه العقدة. قلت: على الرأس والعين: ¬
والجواب: أَنَّ هذه اللفظة وهي قوله: "إنَّ أبي وأباك في النار"، لم يتفق على ذكرها الرواة، وإنما ذكرها حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، وهي الطريق التي رواه مسلم منها، وقد خالفه معمر، عن ثابت (¬1)، فلم يذكر: "إنَّ أبي وأباك في النار"، ولكن قال له: "إذا مررت بقبر كافر فبشره بالنار" (¬2). وهذا اللفظ لا دلالة فيه على والده صلى الله عليه وسلم بأمر ألبتة، وهو أثبت من حيث الرواية؛ فإنَّ معمراً أثبت من حماد، فإنَّ حماداً تُكُلِّمَ في حفظه، ووقع في أحاديثه مناكير، ذكروا أَنَّ ربيبه دَسَّها في كتبه، وكان حماد لا يحفظ، فحدَّث بها فوهِم فيها، ومن ثَمَّ لم يخرج له البخاري شيئاً، ولا خَرَّج له مسلم في الأصول إلا من روايته عن ثابت، قال الحاكم في "المدخل": "ما خَرَّج مسلم لحماد في الأصول إلا من حديثه عن ثابت، وقد خَرَّج له في الشواهد عن طائفة". (¬3) قال السيوطي: وأما معمر فلم يُتَكَلَّم في حفظه، ولا استُنْكِرَ شيءٌ من حديثه، واتفق على التخريج له الشيخان، فكان لفظه أثبت، ثم وجدنا الحديث ورد من حديث سعد بن أبي وقاص، بمثل لفظ رواية معمر، عن ثابت، عن أنس؛ فأخرج البزار، والطبراني، والبيهقي، من طريق إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن عامر بن سعد، عن أبيه: "أَنَّ أعرابياً قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أين أبي؟ قال: في النار. قال: فأين أبوك؟ قال: حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار". (¬4) وهذا إسناد على شرط الشيخين، فتعين الاعتماد على هذا اللفظ وتقديمه على غيره. وأخرج ابن ماجة، من طريق إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا رسول الله، إنَّ أبي كان يصل الرحم، وكان؛ فأين هو؟ قال: في النار. قال: فكأنه وجد من ذلك فقال: يا رسول الله، فأين أبوك؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: حيث مررت بقبر مشرك فبشره بالنار. قال: فأسلم الأعرابي بَعْدُ وقال: لقد كلفني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعباً، ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار" (¬5). ¬
قال السيوطي: فهذه الزيادة أوضحت بلا شك أَنَّ هذا اللفظ العام هو الذي صدر منه - صلى الله عليه وسلم -، ورآه الأعرابي بعد إسلامه أمراً مقتضياً للامتثال، فلم يَسَعه إلا امتثاله، ولو كان الجواب باللفظ الأول لم يكن فيه أمر بشيء ألبتة، فُعُلِمَ أَنَّ هذا اللفظ الأول من تصرف الراوي، رواه بالمعنى على حسب فهمه". اهـ (¬1) أجوبة القائلين بتعذيب أبوي النبي - صلى الله عليه وسلم - على أدلة القائلين بنجاتهما: أولاً: أجوبتهم عن حديث الإحياء: أجاب القائلون بتعذيب أبوي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حديث الإحياء بأنه حديث باطل وموضوع. وممن قال ببطلانه: الدارقطني، والحافظ ابن دحية الكلبي (¬2)، وابن الجوزي، وابن عساكر، والذهبي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن سَيِّدِ الناس (¬3) (¬4)، والحافظ ابن كثير، والحافظ ابن حجر، والجوزقاني، ومحمد شمس الحق العظيم آبادي، والألباني، وغيرهم. (¬5) قال ابن الجوزي ـ بعد روايته للحديث ـ: "هذا حديث موضوع بلا شك، والذي وضعه قليل الفهم، عديم العلم، إذ لو كان له علم لعلم أَنَّ من مات كافراً لا ينفعه أنْ يؤمن بعد الرجعة، لا بل لو آمن عند المعاينة لم ينتفع، ويكفي في رد هذا الحديث قوله تعالى: (فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ) [البقرة: ¬
217]، وقوله في الصحيح: "استأذنت ربي أنْ أستغفر لأمي فلم يأذن لي". اهـ (¬1) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ وقد سُئِل: هل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أَنَّ الله تبارك وتعالى أحيا له أبويه حتى أسلما على يديه ثم ماتا بعد ذلك؟ فأجاب: - "لم يصح ذلك عن أحد من أهل الحديث; بل أهل المعرفة متفقون على أَنَّ ذلك كذب مختلق، وإنْ كان قد رَوَى في ذلك أبو بكر - يعني الخطيب - في كتابه (السابق واللاحق) وذكره أبو القاسم السهيلي في (شرح السيرة) بإسناد فيه مجاهيل، وذكره أبو عبد الله القرطبي في (التذكرة)، وأمثال هذه المواضع لا نزاع بين أهل المعرفة أنه من أظهر الموضوعات كذباً كما نص عليه أهل العلم، وليس ذلك في الكتب المعتمدة في الحديث; لا في الصحيح ولا في السنن ولا في المسانيد، ونحو ذلك من كتب الحديث المعروفة، ولا ذكره أهل كتب المغازي والتفسير، وإنْ كانوا قد يروون الضعيف مع الصحيح؛ لأن ظهور كذب ذلك لا يخفى على متدين، فإنَّ مثل هذا لو وقع لكان مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله؛ فإنه من أعظم الأمور خرقاً للعادة من وجهين: من جهة إحياء الموتى، ومن جهة الإيمان بعد الموت. فكان نقل مثل هذا أولى من نقل غيره، فلما لم يروه أحد من الثقات عُلِمَ أنه كذب". اهـ (¬2) وقال الألباني: "كثيراً ما تجمح المحبة ببعض الناس، فيتخطى الحجة ويحاربها، ومن وفق علم أَنَّ ذلك مناف للمحبة الشرعية، وممن جمحت به المحبة السيوطي ـ عفا الله عنه ـ فإنه مال إلى تصحيح حديث الإحياء الباطل عند كبار العلماء، وحاول في كتابه (اللآلىء) التوفيق بينه وبين حديث الاستئذان وما في معناه بأنه منسوخ، وهو يعلم من علم الأصول أَنَّ النسخ لا يقع في الأخبار وإنما في الأحكام! وذلك أنه لا يُعقل أنْ يُخبر الصادق المصدوق عن شخص أنه في النار ثم ينسخ ذلك بقوله: إنه في الجنة! كما هو ظاهر معروف لدى العلماء". اهـ (¬3). ¬
ثانياً: أجوبتهم عن دعوى ضعف حديث مسلم: "إنَّ أبي وأباك في النار": ما ادعاه السيوطي ـ من ضعف حديث: "إنَّ أبي وأباك في النار"، وتفرد حماد بن سلمة بلفظه ـ أجاب عنه بعض المتأخرين كالألباني وتلميذه أبي إسحاق الحويني، وقد أطال الأخير في الرد على السيوطي، وسأنقل مناقشته كاملة نظراً لأهميتها وتناولها لجميع ما أورده السيوطي: قال أبو إسحاق الحويني: "الجوابُ عما ادعاه السيوطي من وجوهٍ: الأول: أَنَّ السيوطي ضعَّف حديث مسلمٍ، وبنى تضعيفه على مقدمةٍ، وهي: أَنَّ معمر بن راشد خالف حماد بن سلمة في لفظه، ومعمر بن راشد أوثق من حماد بن سلمة، وهذه المقارنةُ حيدةٌ مكشوفة، فإنَّ الأمر لا يخفى على أحدٍ من المشتغلين بالحديث، ومنهم السيوطي نفسه، فإنَّ أهل العلم بالحديث قالوا: أثبت الناس في ثابت البناني هو حمادُ بن سلمة، ومهما خالفه من أحدٍ فالقولُ قولُ حمادٍ. قال أبو حاتم الرازي: "حماد بن سلمة أثبت الناس في ثابتٍ وفي علي بن زيد" (¬1)، وقال أحمد بن حنبل: "حماد بن سلمة أثبت في ثابتٍ من معمر" (¬2)، وقال يحيى بن معينٍ: "من خالف حماد بن سلمة فالقول قول حمادٍ. قيل: فسليمانُ بن المغيرة عن ثابت؟ قال: سليمانُ ثبتٌ، وحماد أعلم الناس بثابت" (¬3)، وقال ابنُ معينٍ مرة: "أثبت الناس في ثابت: حماد بن سلمة" (¬4)، وقال العقيلي: "أصح الناس حديثًا عن ثابت: حماد بن سلمة". (¬5) قال الحويني: وقد أكثر مسلمٌ من التخريج لحماد بن سلمة عن ثابت في الأصول، أما معمر بن راشد فإنه وإن كان ثقةً في نفسه إلاَّ أَنَّ أهل العلم بالحديث كانوا يضعفون روايته عن ثابت البناني، ولم يخرج له مسلمٌ شيئًا في ¬
صحيحه عن ثابت إلا حديثًا واحدًا في المتابعات، ومقرونًا بعاصم الأحول، وهذا يدلك على مدى ضعف رواية معمر عن ثابت، ولذلك قال ابنُ معين: "معمر عن ثابت: ضعيفٌ" (¬1)، وقال مرَّةً: "وحديث معمر عن ثابت، وعاصم بن أبي النجود، وهشام بن عروة وهذا الضرب مضطربٌ كثيرُ الأوهام" (¬2)، وقال العقيلي: "أنكرُ الناس حديثًا عن ثابت: معمر بن راشد" (¬3). قال الحويني: وبعد هذا البيان فما هي قيمة المفاضلة التي عقدها السيوطي بين الرجلين، فالصوابُ: رواية حماد بن سلمة، ورواية معمر بن راشد منكرة. الوجه الثاني: قولُ السيوطي: إنَّ ربيب حماد بن سلمة دسَّ في كتبه أحاديث مناكير وانطلى أمرها على حمادٍ لسوء حفظه. وهذه تهمة فاجرةٌ، كما قال الشيخ المعلمي رحمه اللَّه (¬4)، ومستند كل من تكلَّم بهذه التهمة ما ذكره الذهبي في (ميزان الاعتدال) (¬5) من طريق الدولابي قال: حدثنا محمد بن شجاع بن الثلجي، حدثني إبراهيم بن عبد الرحمن بن مهدي، قال: كان حماد بن سلمة لا يُعرف بهذه الأحاديث - يعني أحاديث الصفات - حتى خرج مرة إلى عبادان، فجاء وهو يرويها، فلا أحسب إلا شيطانًا خرج إليه من البحر فألقاها إليه. قال ابن الثلجي: فسمعتُ عباد بن صهيب يقول: إنَّ حمادًا كان لا يحفظ، وكانوا يقولون: إنها دُسَّت في كتبه. وقد قيل: إنَّ ابن أبي العوجاء كان ربيبه فكان يدس في كتبه، وعلَّق الذهبي على هذه الحكاية بقوله: "ابن الثلجي ليس بمصدق على حمادٍ وأمثاله، وقد اتُهم، نسأل اللَّه السلامة". اهـ ¬
قال الحويني: وابن الثلجي هذا كان جهميًا عدوًا للسنة، وقد اتهمه ابنُ عدي بوضع الأحاديث وينسبها لأهل الحديث يثلبهم بذلك (¬1)، فالحكاية كلُّها كذب، فكيف يُثلب حماد بن سلمة بمثل هذا. الوجه الثالث: قولُهُ: "ولم يخرج له البخاري شيئًا". وقد تقرر عند أهل العلم أَنَّ ترك البخاري التخريج لراوٍ لا يعني أنه ضعيفٌ، وقد عاب ابنُ حبان على البخاري أنه ترك حماد بن سلمة وخرَّج لمن هو أدنى منه حفظًا وفضلاً، فقال: "ولم ينصف من جانب حديث حماد بن سلمة، واحتج بأبي بكر بن عياش، وبابن أخي الزهري، وبعبد الرحمن بن عبد اللَّه بن دينار، فإن كان تركُه إياه لما كان يخطئُ، فغيرُهُ من أقرانه مثل الثوري وشعبة وذويهما كانوا يخطئون، فإن زعم أَنَّ خطأه قد كثر من تغير حفظه، فقد كان ذلك في أبي بكر بن عياش موجودًا، وأنَّى يبلغُ أبو بكر حماد بن سلمة في إتقانه، أم في جمعه؟ أم في عمله؟ أم في ضبطه". اهـ (¬2) الوجه الرابع: في ذكر الشاهد الذي احتج به السيوطي لتقوية لفظ معمر بن راشد، فهذا الحديث أخرجه البزار، وابن السني، والطبراني، والبيهقي، وأبو نعيم، والضياء المقدسي، من طريق زيد بن أخزم، ثنا يزيد بن هارون، ثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن عامر بن سعد، عن أبيه: "أَنَّ أعرابيًّا قال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أين أبي؟ قال: في النار. قال: فأين أبوك؟ قال: حيثما مررت بقبر كافرٍ فبشره بالنار". (¬3) قال السيوطي: "وهذا إسنادٌ على شرط الشيخين". قال الحويني: وليس كما قال لما يأتي. وذكر ابنُ كثير هذا الحديث في (البداية والنهاية) (¬4) وقال: "غريبٌ". وقد خولف زيد بن أخزم في إسناده؛ فخالفه محمد بن إسماعيل بن البختري الواسطيُّ، فرواه عن يزيد بن هارون، عن إبراهيم بن سعد، عن سالم، عن ¬
أبيه. فذكره. (¬1) قال الحويني: ولا شك في تقديم رواية زيد بن أخزم لأمرين: الأول: أنه أثبت من محمد بن إسماعيل بن البختري. الثاني: أنه توبع عليه، كما في رواية البزار، والذي تابعه هو محمد بن عثمان بن مخلد، وقد سُئل عنه أبو حاتم فقال: "شيخ" (¬2)، وقال ابنُ أبي حاتم: "صدوق" (¬3)، ووثقه ابنُ حبان (¬4)، وقد ذكر البزار أَنَّ يزيد بن هارون تفرّد به، وليس كما قال، فقد تابعه محمد بن أبي نعيم الواسطي، قال: ثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن عامر بن سعد، عن أبيه. أخرجه الطبراني في الكبير قال: حدثنا عليُّ بن عبد العزيز، نا محمد بن أبي نعيم. وهذه متابعةٌ جيدة، وابن أبي نعيم وثقه أبو حاتم وابن حبان، وكذا صدَّقه أحمد بن سنان القطان. وكذبه ابنُ معينٍ وأبعد في ذلك. وقد أعلَّ أبو حاتم هذا الحديث بقوله: "كذا رواه يزيد وابن أبي نعيم، ولا أعلمُ أحدًا يجاوز به الزهري غيرهما، إنما يروونه عن الزهري، قال: جاء أعرابيٌّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ... ، والمرسل أشبه". ذكره ولده في (العلل) (¬5). قال الحويني: وقولُ أبي حاتم متعقَّبٌ أيضًا بأنه قد رواه اثنان آخران متصلاً وهما: الوليد بن عطاء بن الأغر، عن إبراهيم بن سعد، به. ذكره الدارقطنيُّ في (العلل) (¬6). والوليد صدوق. والثاني: الفضل بن دكين، عن إبراهيم بن سعد. أخرجه البيهقيُّ في (الدلائل) (¬7)، وسنده صحيحٌ. وقد رجح الضياء المقدسي الرواية المتصلة (¬8)، على حين رجح أبو حاتم الرواية المرسلة، وقول أبي حاتم هو الصواب، وهذه الرواية المرسلة أخرجها عبدالرزاق في (المصنف) (¬9)، عن معمر بن ¬
راشد، عن الزهري قال: جاء أعرابي ... ، وساق الحديث. فهكذا اختلف إبراهيمُ بن سعد ومعمر بن راشد، ولا شك عندنا في تقديم رواية معمر المرسلة؛ لأن معمرًا ثبتٌ في الزهري، وأما إبراهيم بن سعد فقد قال صالح بن محمد الحافظ: "سماعه من الزهري ليس بذاك؛ لأنه كان صغيرًا حين سمع من الزهري" (¬1)، وقال ابن معين، وسئل: إبراهيم بن سعد أحب إليك في الزهري أو ليث بن سعد؟ قال: "كلاهما ثقتان" (¬2). فإذا تدبرت قول يعقوب بن شيبة في الليث: "ثقة وهو دونهم في الزهري - يعني: دون مالك ومعمر وابن عيينة - وفي حديثه عن الزهري بعض الاضطراب" (¬3)، علمت أَنَّ قول ابن معين لا يفيد أنه ثبت في الزهري مثل معمر. قال الحويني: فالذي يتحرر من هذا البحث أَنَّ الرواية المرسلة هي المحفوظة، وهي التي رجحها أبو حاتم الرازي والدارقطني، فلا معنى للقول أنه على شرط الشيخين بعد ثبوت هذه المخالفة. قال الحويني: وأما حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، في صحيح مسلم (¬4)، والذي فيه: "أَنَّ اللَّه نهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن الاستغفار لأمه"، فلم يتعرض له السيوطي إلا بجوابٍ مجملٍ، وهذا الحديث صريح في عدم إيمانها؛ لأن اللَّه عز وجل قال: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)) [التوبة: 113]، وقد نزلت هذه الآية في أبي طالبٍ. (¬5) وبهذا الجواب ـ على اختصاره ـ يتبين أَنَّ الحديثين صحيحان لا مطعن فيهما، والحمد للَّه رب العالمين". اهـ (¬6) ¬
المبحث الخامس: الترجيح
المبحث الخامس: الترجيح: الذي يَظْهُرُ صَوَابُه ـ والله تعالى أعلم ـ هو مسلك الجمع بين الآيات والأحاديث، فيُحكم لأهل الفترة في الدنيا بالعذر عند الله تعالى يوم القيامة، إلا أنه من باب العدل فإنَّ الله يمتحنهم في دار الجزاء بنار يأمرهم باقتحامها؛ فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن أبى عُذِّب فيها، وهذا الامتحان هو لقيام الحُجة عليهم، وليظهر معلوم الله فيهم، وهم في ذاك الامتحان على فريقين: منهم من يُجيب، ومنهم من لا يُجيب، وما ورد من أحاديث في تعذيب أهل الفترة محمول على الذين لا يُجيبون، وهذا المسلك هو الذي تجتمع به الأدلة، ويزول به التعارض بين الآيات والأحاديث، إنْ شاء الله تعالى. يدل على هذا الاختيار: 1 - أنَّ إعمال الأدلة جميعاً أولى من إعمال بعضها وترك الآخر، وعند النظر في المسالك الواردة في المسألة نجد أنَّ هذا المسلك هو الذي تنطبق عليه القاعدة، دون بقية المسالك؛ إذ المسلك الأول فيه إعمال للآيات دون الأحاديث، والثالث فيه إعمال لبعض الأحاديث دون الآيات. 2 - أنَّ القول بنجاتهم أو تعذيبهم مطلقاً فيه إهدار للأحاديث الواردة بامتحانهم يوم القيامة، وقد تقدم أنَّ هذه الأحاديث ـ أعني أحاديث الامتحان ـ قد رُويت عن ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهي بمجموعها تدل على أنَّ للحديث أصلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم. 3 - أنَّ سنة الله في خلقه قد مضت بأنه لا يُعذب أحداً حتى تقوم عليه الحجة، والقول بتعذيبهم مطلقاً مخالف لهذه السنة. 4 - أنَّ الآيات الواردة في أهل الفترة ليس فيها ما يدل على أنهم ناجون أو هالكون مطلقاً، بل غاية ما فيها الإخبار بأنَّ هؤلاء لم يُنذروا ولم يُبعث فيهم رسول، وبقي مصيرهم في الآخرة مجهولاً حتى بَيَّنَتْه السنة النبوية وأخبرت بأنهم يمتحنون يوم القيامة.
5 - أنَّ الأحاديث الواردة في تعذيب أهل الفترة إنما وردت بخصوص أشخاص بعينهم، ولم يأتِ فيها ما يُفيد تعذيب أهل الفترة مطلقاً، على حين جاءت الآيات الواردة بعذرهم بصيغة العموم والإطلاق، ولم تنص على نجاة شخص بعينه، فتبقى الآيات على عمومها ويخصُّ منها أولئك الذين أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتعذيبهم، لسبب ما أوجب عذابهم، وأما الباقون من أهل الفترة فيبقى مصيرهم مجهولاً حتى يظهر معلوم الله فيهم عندما يمتحنون يوم القيامة. وأما أحاديث تعذيب أبويه - صلى الله عليه وسلم - فالحق أنه لم يثبت في تعذيبهما حديثٌ سالمٌ من المعارضة، إنْ في الدلالة، وإنْ في الثبوت؛ فيجب التوقف فيهما، وعدم القطع لهما بجنة أو نار. أما حديث أبيه - صلى الله عليه وسلم - فقد علمتَ ما فيه من اختلاف الرواة في لفظه، وهذا الاختلاف موجب للتوقف فيه وعدم القطع بمضمونه. وأما أحاديث أمه - صلى الله عليه وسلم - فلم يأت منها حديث صحيح صريح بأنها من أهل النار، والثابت هو النهي عن الاستغفار لها، وهذا النهي لا يلزم منه أنْ تكون من أهل النار. فإن قلت: فما معنى نهي الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - عن الاستغفار لها؟ فجوابه: أنَّ الله تعالى لم يأذن لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بالاستغفار لأمه لأنها ماتت في الفترة، ومصير أهل الفترة مجهول، فلا يُدْرَى ما يصيرون إليه، وقد شاء سبحانه أنْ يكون مصير أمه - صلى الله عليه وسلم - مخفياً عنه لِحِكَمٍ يريدها سبحانه، وقد يكون من هذه الحِكَم أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لو أُذِنَ له بالاستغفار لأُمِّهِ لفُهِمَ منه جواز الاستغفار لأهل الفترة عموماً، ومعلوم أنَّ من أهل الفترة من قضى الله تعالى بأنهم لا يُجيبون، ولا يجوز الاستغفار لمن قضى الله تعالى بأنهم لا يجيبون، لأن حكم هؤلاء هو حكم أهل الكفر والشرك، والذين منع الله من الاستغفار لهم. "كما أن الاستغفار فرع تصوير الذنب، وذلك في أوان التكليف، ولا يُعقل ذلك فيمن لم تبلغه الدعوة، فلا حاجة إلى الاستغفار لهم، فيمكن أنه ما شرع الاستغفار إلا لأهل الدعوة، لا لغيرهم، وإن كانوا ناجين". (¬1) ¬
"ويمكن أنْ يقال: إنَّ أهل الجاهلية يعاملون معاملة الكفرة في الدنيا فلا يُدعى لهم ولا يستغفر لهم؛ لأنهم يعملون أعمال الكفرة فيعاملون معاملتهم، وأمرهم إلى الله في الآخرة". (¬1) فإن قلت: فما معنى بكائه - صلى الله عليه وسلم - عند قبرها؟ فجوابه: أنَّ بكاءه - صلى الله عليه وسلم - عند قبرها لا يلزم منه كونها تُعذَّب، أو أنها ماتت على الكفر؛ والظاهر أنَّ بكاءه إنما هو لعدم علمه - صلى الله عليه وسلم - بمصيرها، ولشفقته عليها، لا لأنها تُعذب. (¬2) فإن قلت: هذا التعليل يُعارضه ما رُويَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما استأذن ربه في الاستغفار لأمه نزل قوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)) [التوبة: 113] (¬3)، وهذا الحديث يُفيد بأن العلة من النهي عن الاستغفار كونها ماتت على الشرك. والجواب: أن هذا السبب المذكور في نزول الآية لا يصح، والثابت أن هذه الآية نزلت في أبي طالب، وقد تقدم. (¬4) فإن قلت: فما جوابك عن الإجماع الذي حكاه القُرافي في تعذيب أهل الفترة عموماً، وما حكاه المُلاَّ علي القاري من تعذيب الأبوين خصوصاً؟ والجواب: أنَّ دعوى الإجماع على تعذيب أهل الفترة عموماً مُعارض بما ورد في القرآن الكريم من عُذرهم بالفترة، وهي نصوص قطعية لا تحتمل التأويل، ومُعارض بما جاء في السنة النبوية من أنَّ أهل الفترة يُمتحنون يوم القيامة، ودعوى الإجماع لا بُدَّ وأن يكون لها مستند من كتاب أو سنة (¬5)، ¬
وأنْ لا تخالف شيئاً من النصوص، وغالباً ما يُحكى الإجماع ولا تجد له أصلاً، أو يكون أصله مختلف في حجيته، وتحقق ثبوت الإجماع عزيزٌ قَلَّ أنْ يثبت. وأما دعوى المُلا علي بن سلطان القاري ـ الإجماع على أنَّ الأبوين ماتا على الكفر ـ فهي دعوى عارية عن الصحة، فكيف يُحْكَى الإجماع في زمن متأخر جداً، فوفاته كانت سنة (1014 هـ)، ولا أعلم أحداً ادعى الإجماع قبله، على أنَّ دعوى الإجماع تحتاج إلى تحقيق كما قلتُ سابقاً، فليس كل ما يُحكى فيه الإجماع يجب التسليم له. والمتأمل في كتابات الملا علي القاري حول حكم الأبوين يجد عنده تناقضاً وتردداً في مصيرهما، فهو في كتابه "أدلة معتقد أبي حنيفة" يذكر لنا أنهما ماتا على الكفر، ومصيرهما إلى النار، على حين نراه في كتابه "شرح الشفا، للقاضي عياض" يقول: "وأما إسلام أبويه ففيه أقوال: والأصح إسلامهما، على ما اتفق عليه الأجلة من الأئمة، كما بينه السيوطي في رسائله الثلاث المؤلفة". اهـ (¬1) وقال في الكتاب نفسه: "وأما ما ذكروه من إحيائه عليه الصلاة والسلام أبويه فالأصح أنه وقع، على ما عليه الجمهور الثقات، كما قال السيوطي في رسائله الثلاث المؤلفة". اهـ (¬2) وفي كتابه "مرقاة المفاتيح" يذكر لنا أنَّ مذهب الجمهور على أنَّ والديه - صلى الله عليه وسلم - ماتا على الكفر. (¬3) وهذا التناقض من القاري يوجب التوقف في دعواه الإجماع، إذ لو كان ثَمَّةَ إجماع لما تردد في مصيرهما. وعلى التسليم بثبوت الإجماع فهو محمول على أنَّ حكمهما في الدنيا حكم من مات على الشرك، من عدم جواز الاستغفار لهما ونحو ذلك، ولا ¬
يجوز حمله على القطع بأنهما من أهل النار، لما علمت من أنَّ هذا القطع لم يثبت به دليل صحيح صريح حتى يُصار إليه. فإن قلت: فهذا ورقة بن نوفل مات في الفترة وقد أثنى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلو كان أهل الفترة يجب التوقف فيهم لما أثنى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ والجواب: أنَّ أهل الفترة كما ذكر محمد بن خليفة الأُبيّ على أقسام: قسم عندهم بَقيَّةُ إنذار من الأمم السابقة، كمن سافر أو سمع شيئاً عن الأديان السابقة، وهؤلاء قد بلغتهم الدعوة وقامت عليهم الحجة، وليسوا بأهل فترة؛ لأنَّ أهل الفترة هم الغافلون، كما سيأتي. وأصحاب هذا القسم منهم من التزم بالدين الذي سمع به فتحققت له النجاة، كورقة بن نوفل، ومنهم من رفض أو غَيَّرَ وبَدَّلَ فاستحق الهلاك؛ كابن جدعان، وعمرو بن لحي. وأما القسم الثاني من أهل الفترة: فهم الغافلون، الذين لم يسمعوا بشيء من تلك الأديان، ولم يُبْعَث فيهم رسولٌ يُنذرهم ويُحذرهم، وهؤلاء معذورون بجهلهم وغفلتهم، وقد نص تعالى على عذرهم بسبب غفلتهم حيث قال: (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)) [يس: 6]، وأَبَاَن في آية أخرى أنَّ الغفلة موجبة لرفع العذاب في الدنيا فقال: (ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)) [الأنعام: 131]، فإذا كان تعالى لا يهلكهم في الدنيا إلا بعد الإنذار والإعذار، فمن باب أولى أن لا يعذبهم في الآخرة إلا بعد إنذارهم، والله تعالى أعلم. ****
المسألة [19]: هل يورث الأنبياء عليهم السلام؟
المسألة [19]: هل يُورَثُ الأنبياء عليهم السلام؟ المبحث الأول: ذكر الآيات الواردة في المسألة: قال الله تعالى - فيما يحكيه عن زكريا عليه السلام -: (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)) [مريم: 5 - 6]. وقال تعالى: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)) [النمل: 16]. المبحث الثاني: ذكر الأحاديث التي يُوهِمُ ظاهره التعارض مع الآيات: (43) ـ (36): عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَام أَرْسَلَتْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ - رضي الله عنه - تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا مِنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فِيمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم -، تَطْلُبُ صَدَقَةَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الَّتِي بِالْمَدِينَةِ وَفَدَكٍ (¬1)، وَمَا بَقِيَ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ (¬2)، فَقَالَ ¬
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآيات والأحاديث
أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ، إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ - يَعْنِي مَالَ اللَّهِ - لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَزِيدُوا عَلَى الْمَأْكَلِ .... ". (¬1) (44) ـ (37): وَعَنْ عُمَرَ بنِ الخطاب، وأبي هريرة رضي الله عنهما، أَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ". (¬2) المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآيات والأحاديث: ظاهر الحديثين الشريفين أَنَّ الأنبياء عليهم السلام لا يُورَثُون، وأما الآيات الكريمة ففيها إثبات الإرث لهم، وهذا يُوهِمُ التعارض بين الآيات والأحاديث. (¬3) ¬
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآيات والأحاديث
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآيات والأحاديث: اتفق أهل السُّنَّة على أَنَّ نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - لا يُورَث (¬1)، أخذاً بأحاديث المسألة (¬2)، وشذَّت الشيعة (¬3)، فقالوا: بل يُورَث. وأنكروا أحاديث المسألة، وطعنوا على أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - في روايته لها. (¬4) واختلف أهل السنة في بَقِيَّةِ الأنبياء - عليهم السلام - هل يُورَثون أم لا؟ على ثلاثة مذاهب: ¬
الأول: أنهم لا يُورَثون مطلقاً، كنبينا عليه وعليهم السلام. وهذا مذهب جمهور العلماء من السلف والخلف. (¬1) وحكاه أبو الوليد الباجي (¬2) (¬3)، وابن القيم (¬4)، والسيوطي (¬5) إجماعاً. واحتج الجمهور على منع وراثة الأنبياء: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لاَ نُورَثُ" حيث جمع الضمير باعتبار مشاركة بقية الأنبياء له في ذلك. قالوا: ويدل على العموم حديث: "إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لاَ نُورَثُ" (¬6)، وحديث: "إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، ¬
إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ" (¬1) (¬2). وأجابوا عن الآيات التي فيها نسبة الوراثة للأنبياء: بأن المراد إرث النبوة والعلم، لا إرث المال. (¬3) قالوا: وهذا المعنى هو المروي عن السلف في تفسير الآيات؛ كمجاهد (¬4)، وقتادة (¬5)، والحسن البصري في أصح الروايات عنه (¬6)، ¬
والسدي (¬1). قالوا: ومن الأدلة على أَنَّ المراد بالآيات إرث النبوة والعلم، لا إرث المال: الأول: أنَّه لم يُذْكَرْ أَنَّ زكريا عليه السلام كان ذا مال، بل كان نجَّاراً (¬2) يأكل من كسب يديه، ومثل هذا لا يجمع مالاً، فكيف يُورَث منه، لا سيما والأنبياء عليهم السلام من أزهد الناس في الدنيا. (¬3) الدليل الثاني: أَنَّ إرث المال هو من الأمور العادية المشتركة بين الناس، كالأكل والشرب ودفن الميت، ومثل هذا لا يُقَصُّ على الأنبياء؛ إذ لا فائدة فيه، وإنما يُقَصُّ ما فيه عبرة وفائدة تستفاد، وإلا فقول القائل: مات فلان وورث ابنه ماله، مثل قوله: ودفنوه، ومثل قوله: أكلوا وشربوا وناموا ونحو ذلك مما لا يحسن أَنْ يُجْعَلَ من قصص القرآن. (¬4) الدليل الثالث: أَنَّ داود عليه السلام كان له أولاد كثير سوى سليمان، فلو كان الموروث هو المال لم يكن سليمانُ مختصاً به دون بقية أخوته. (¬5) الدليل الرابع: أنَّه لا يجوز أَنْ يتأسف نبي الله على مصير ماله بعد موته، إذا وصل إلى وارثه المستحق له شرعاً. (¬6) ¬
الدليل الخامس: أنَّه قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لاَ نُورَثُ"، وهذا اللفظ عامٌ في جميع الأنبياء ولا يَحْتَمِلُ التخصيص، ولا يجوز تفسير الآيات بمعنى يخالف هذا الحديث. الدليل السادس: أنه ليس في كون سليمان ورث مال داود صفة مدحٍ، لا لداود، ولا لسليمان؛ فإنَّ اليهودي والنصراني يَرِثُ أباه مالَه، والآية إنما سيقت في بيان مدح سليمان وما خصَّه الله به من النعمة. (¬1) الدليل السابع: أَنَّ آل يعقوب قد انقرضوا من زمان فكيف يرث زكريا مالهم، وأيضاً فإن زكريا عليه السلام لا يرث من آل يعقوب شيئاً من أموالهم، وإنما يرث ذلك أولادهم. (¬2) الدليل الثامن: أَنَّ الوراثة تَرِدُ في الكتاب والسنة بمعنى وراثة العلم والدين؛ كقوله تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) [فاطر: 32]، وقوله: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) [الشورى: 14]، وقوله: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ) [الأعراف: 169]، إلى غير ذلك من الآيات، فلا مانع من حملها في الآيات على هذا المعنى سيما وقد وجدت قرائن تدل على هذا المعنى. (¬3) الإيرادات والاعتراضات على مذهب الجمهور: الاعتراض الأول: أَنَّ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ نُورَثُ" خاص به - صلى الله عليه وسلم -؛ بدليل أَنَّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال - بعد روايته للحديث -: "يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَفْسَهُ" (¬4)، وقد صَدَّقَ عمرَ جماعةٌ من الصحابة على هذا المعنى حين حدَّثَ به بمحضر منهم، وهذا يدل على أَنَّ الحديث يُرَادُ به الخصوص، فلا مانع إذن ¬
من تفسير الآيات بإرث المال، لأنَّ هذا المعنى لا يُعارض الحديث على القول بخصوصه. (¬1) وأجيب على هذا الاعتراض من أربعة أوجه: الأول: أَنَّ ظاهر صيغة الجمع في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ نُورَثُ" شمول جميع الأنبياء؛ فلا يجوز العدول عن هذا الظاهر إلا بدليل من كتاب أو سنة، وقول عمر - رضي الله عنه - لا يصح أَنْ يُخَصَّصَ به نصٌ من السنة؛ لأنَّ النصوص لا يصح تخصيصها بأقوال الصحابة على التحقيق، كما هو مقرر في الأصول. الوجه الثاني: أَنَّ قول عمر: "يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَفْسَهُ" لا يُنافي شمول الحكم لغيره من الأنبياء، لاحتمال أَنْ يكون قصده يريد أنه هو - صلى الله عليه وسلم - يعني نفسه؛ فإنَّه لا يُورَث، ولم يقل عمر: إنَّ اللفظ لم يشمل غيره، وكونه يعني نفسه لا ينافي أَنَّ غيره من الأنبياء لا يُورث أيضاً. الوجه الثالث: أنه قد جاء في روايات أخرى التصريح في عموم عدم الإرث المالي في جميع الأنبياء، كرواية: "إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لاَ نُورَثُ"، ورواية: "إنَّ الأنبياء لا يورثون" (¬2)، وهذه الروايات يشد بعضها بعضاً، وقد تقرر في الأصول أَنَّ البيان يصح بكل ما يُزيل الإشكال، ولو بقرينة أو غيرها، وعليه فهذه الروايات التي ذكرنا تبين أَنَّ المقصود من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ نُورَثُ" أنه يعني نفسه كما قال عمر، وجميع الأنبياء كما دلت عليه الروايات المذكورة. (¬3) الاعتراض الثاني: أَنَّ سليمان عليه السلام قد كان نبياً في وقت أبيه فكيف يرث منه النبوة؟ وأجيب: بأن الشرائع كانت إلى داود عليه السلام وكان سليمان مُعيناً له فيها، وكذا كانت سبيل الأنبياء صلوات الله عليهم إذا اجتمعوا أَنْ تكون الشريعة إلى ¬
واحد منهم. (¬1) الاعتراض الثالث: أَنَّ النبوة لا تورث، ولو كانت تورث لقال قائل: الناس كلهم ينسبون إلى نوح عليه السلام، وهو نبي مرسل. (¬2) المذهب الثاني: أَنَّ الحديث خاص بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - دون بقية الأنبياء عليهم السلام. وهذا مذهب: عمر بن الخطاب (¬3)، وعائشة رضي الله عنهما (¬4). ونُسِبَ: للحسن البصري (¬5)، وإبراهيم بن إسماعيل بن عُلَيَّة (¬6) (¬7). وهو رأي النحاس، والحافظ ابن حجر (¬8)، والطاهر ابن عاشور (¬9). ولابن حجر، وابن عاشور، رأيان آخران موافقان للجمهور، بأن الحديث عام في جميع الأنبياء. (¬10) قال أبو جعفر النحاس: "فأمَّا معنى (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) [مريم: 6] فللعلماء فيه ثلاثة أجوبة: قيل: هي وراثة نبوة، وقيل: هي وراثة حكمة، وقيل: هي وراثة مال .... ؛ فأما وراثة المال فلا يمتنع، وإنْ كان قوم قد ¬
أنكروه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ"، وهذا لا حجة فيه، لأن الواحد يُخبِرُ عن نفسه بإخبار الجميع، وقد يُؤَوَّلُ هذا بمعنى: لا نورث الذي تركناه صدقةً؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُخَلِّف شيئاً يُورث عنه .... ، فإنْ قيل: ففي بعض الروايات: "إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ"؛ ففيه التأويلان جميعاً: أَنْ يكون "ما" بمعنى "الذي"، والآخر لا يورث من كانت هذه حاله". اهـ (¬1) وهناك عدد من المفسرين فسروا الآيات بإرث المال لا النبوة، لكن لم يجيبوا عن الحديث، ومن هؤلاء: ابن عباس (¬2)، وأبو صالح (¬3) (¬4)، وعكرمة (¬5)، والضحاك (¬6)، والحسن البصري (¬7)، وسفيان الثوري (¬8)، وابن جرير (¬9). حيث قالوا في تفسير قوله تعالى: (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) قالوا: يرث من زكريا المال، ومن آل يعقوب النبوة. وعن الحسن في قوله تعالى: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ) قال: ورث المال والملك، لا النبوة والعلم. (¬10) إلا أَنَّ الرواية عن ابن عباس لا تصح، وكذا الرواية عن عكرمة والضحاك والحسن البصري. ويدل لمذهب القائلين بالتخصيص: حديث: "رَحِمَ اللَّه أَخِي زَكَرِيَّا مَا ¬
المبحث الخامس: الترجيح
كَانَ عَلَيْهِ مِنْ ورَاثَةِ مَالِهِ حِينَ قَالَ: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) ". (¬1) فهذا يدل على أَنَّ الأنبياء يُورَثون المال. (¬2) وتُعُقِّبَ: بأنَّ الحديث لا يصح. المذهب الثالث: أَنَّ الحديث محمولٌ على أَنَّ ذلك هو الغالب من فعل الأنبياء وسِيرَتِهم، ولا ينفي أَنْ يكون هناك من يُورَث، كزكريا عليه السلام. وهذا مذهب القاضي ابن عطية، حيث قال - في تفسير قوله تعالى: (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) -: "والأكثر من المفسرين على أنَّه أراد وراثة المال (¬3)، ويَحتَمِلُ قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لاَ نُورَثُ" أَنْ لا يريد به العموم، بل على أنه غالب أمرهم فتأمله، والأظهر الأليق بزكريا عليه السلام أَنْ يريد وراثة العلم والدين، فتكون الوراثة مستعارة ... ". اهـ (¬4) وقال: "ويَحتَمِلُ قوله عليه السلام: "إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لاَ نُورَثُ" أَنْ يُريد به أَنَّ ذلك من فعل الأنبياء وسيرتهم، وإنْ كان فيهم من وُرِثَ ماله كزكريا على أشهر الأقوال فيه، وهذا كما تقول: إنا معشر المسلمين إنما شغلنا العبادة، فالمراد أَنَّ ذلك فيه فعل الأكثر". اهـ (¬5) المبحث الخامس: الترجيح: الذي يَظْهُرُ صَوَابُه - والله تعالى أعلم - هو مذهب الجمهور: بأنَّ الأنبياء جميعاً لا يُورَثون، وقد دلَّ على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لاَ نُورَثُ"، ¬
وهو نصٌ صحيحٌ صريحٌ، وَرَدَ بصيغة العموم في جميع الأنبياء، ومثلُ هذا لا يحتمل التخصيص. وأَحْسَنُ ما يُجْمَعُ به بين الآيات والأحاديث: أن تُحْمَل الوراثة في الآيات على معنى وراثة العلم، دون المال، أو النبوة. أمَّا المال فقد تقدَّم بيانُ المانع من حمل الآيات على هذا المعنى. وأمَّا النبوة فإنَّ الأنبياء لا يتوارثونها؛ وإنَّما هي اصطفاء من الله تعالى، كما قال سبحانه: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)) [الحج: 75]؛ فلم يَبْقَ إلا وراثة العلم، وهي التي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتوارثها، في قوله: "إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ" (¬1)، والله تعالى أعلم. **** ¬
المسألة [20]: في سماع الأموات لكلام الأحياء
المسألة [20]: في سماع الأموات لكلام الأحياء. المبحث الأول: ذكر الآيات الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)) [النمل: 80]. وقال تعالى: (فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52)) [الروم: 52]. وقال تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)) [فاطر: 22]. المبحث الثاني: ذكر الحديث الذي يُوهِمُ ظاهره التعارض مع الآيات: (45) ـ (38): عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ (¬1) ثَلَاثًا، ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَامَ عَلَيْهِمْ فَنَادَاهُمْ فَقَالَ: يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، أَلَيْسَ قَدْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ ¬
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآيات والحديث
رَبُّكُمْ حَقًّا، فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا. فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَسْمَعُوا، وَأَنَّى يُجِيبُوا وَقَدْ جَيَّفُوا (¬1)؟ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا. ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَسُحِبُوا فَأُلْقُوا فِي قَلِيبِ بَدْرٍ". (¬2) المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآيات والحديث: ظاهرُ الآياتِ الكريمةِ أنَّ الموتى لا يسمعون كلامَ الأحياء، وأمَّا الحديث ففيهِ إِثباتُ السماعِ لهم، وهذا يوهِمُ خِلاف الآيات. (¬3) ¬
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآيات والحديث
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآيات والحديث: لم يتجاوز العلماء في هذه المسألة مسلك الجمع بين الآيات والحديث، وقد اختلفوا في الجمع على أربعة مذاهب: الأول: مذهب إثبات السماع مطلقاً للأموات، وتأويل الآيات التي فيها نفي السماع. وهذا مذهب الجمهور من العلماء (¬1)، حيث ذهبوا إلى إجراء الأحاديث التي فيها إثبات السماع على ظاهرها وعمومها، وقالوا: إنَّ الميت بعد موته يسمع كلام الأحياء ويشعر بهم. وهو اختيار جمع من المحققين، كابن حزم، والقاضي عياض، والنووي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والحافظ ابن كثير. (¬2) واختلف أصحاب هذا المذهب في الجواب عن الآيات - التي فيها نفي السماع - على أقوال: الأول: أنَّ الموتى في الآيات المراد بهم الأحياء من الكفار، والمعنى: إنك لا تُسْمِع الكفار الذين أمات الله قلوبهم إسماع هدىً وانتفاع، "وشُبِّهُوا بالموتى وهم أحياء صحاح الحواس؛ لأنهم إذا سمعوا ما يُتلى عليهم من آيات الله، فكانوا أقماع القول، لا تعيه آذانهم، وكان سماعهم كلا سماع، كانت حالهم - لانتفاء جدوى السماع - كحال الموتى الذين فقدوا مصحح السماع". (¬3) ¬
وهذا القول فيه حمل للآيات على المجاز، وذلك بتشبيه الكفار الأحياء بالموتى. وقد قال بهذا القول: ابن قتيبة، والخطابي، والبغوي، والزمخشري، والسهيلي، وأبو العباس القرطبي، والسمعاني، والمُلا علي بن سلطان القاري، والسيوطي، والشنقيطي، وابن عثيمين. (¬1) قال السهيلي: "جعل الكفار أمواتاً وصُمَّاً على جهة التشبيه بالأموات وبالصم؛ فالله هو الذي يُسْمِعُهُم على الحقيقة إذا شاء، لا نبيه - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد، فإذاً لا تعلق بالآية من وجهين: أحدهما: أنَّها إنما نزلت في دعاء الكفار إلى الإيمان. الثاني: أنه إنما نفى عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - أنْ يكون هو المسمع لهم، وصدق الله فإنه لا يسمعهم إذا شاء إلا هو، ويفعل ما شاء، وهو على كل شيء قدير". اهـ (¬2) وقال الشنقيطي: "اعلم أنَّ التحقيق الذي دلت عليه القرائن القرآنية واستقراء القرآن أنَّ معنى قوله: (إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى)، أي لا تسمع الكفار - الذين أمات الله قلوبهم، وكتب عليهم الشقاء في سابق علمه - إسماع هدىً وانتفاع؛ لأن الله كتب عليهم الشقاء، فختم على قلوبهم وعلى سمعهم، وجعل على قلوبهم الأكنة، وفي آذانهم الوقر، وعلى أبصارهم الغشاوة، فلا يسمعون الحق سماع اهتداء وانتفاع". اهـ (¬3) ¬
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها (¬1): الأول: أنَّ الله تعالى بعد أنْ نفى السماع عنهم قال: (وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)) [النمل: 81]، فمقابلته جلَّ وعلا الإسماع المنفي في الآية عن الموتى بالإسماع المثبت فيها - لمن يؤمن بآياته - دليلٌ واضح على أنَّ المراد بالموت في الآية موت الكفر والشقاء، لا موت مفارقة الروح للبدن، ولو كان المراد بالموت في قوله: (إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) مفارقة الروح للبدن لما قابل ذلك بقوله: (وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ)، بل لقابله بما يناسبه، كأن يُقال: إنْ تسمع إلاّ من لم يمت. الدليل الثاني: أنَّ استقراء القرآن الكريم يدل على أنَّ الغالب استعمال الموتى بمعنى الكفار، كقوله تعالى: (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)) [الأنعام: 36]، وقد أجمع (¬2) من يعتد به من أهل العلم أنَّ المراد بالموتى في الآية هم الكفار. وكقوله تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)) [الأنعام: 122]، فقوله: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا)، أي: كافراً؛ فأحييناه، أي: بالإيمان والهدى، وهذا لا نزاع فيه بين المفسرين، وفيه إطلاق الموت وإرادة الكفر. وكقوله: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ) [فاطر: 22]، أي: لا يستوي المؤمنون والكافرون. الدليل الثالث: أنَّ قوله تعالى: (إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى)، وما في معناها من الآيات، كلها تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه يحزنه عدم إيمانهم، كما بينه تعالى في آيات كثيرة، كقوله تعالى: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) [الأنعام: 33]، ¬
وقوله تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97)) [الحجر: 97]، وقوله: (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) [النحل: 127]، وقوله: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)) [الشعراء: 3] إلى غير ذلك من الآيات، ولما كان يحزنه كفرهم وعدم إيمانهم أنزل الله آيات كثيرة تسلية له - صلى الله عليه وسلم -، بَيَّنَ له فيها أنه لا قدرة له على هدي من أضله الله، ومن الآيات النازلة تسلية له - صلى الله عليه وسلم -، قوله هنا: (إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى)، أي لا تُسمع من أضله الله إسماع هدى وقبول، ولو كان معنى الآية وما شابهها: إنك لا تسمع الموتى، أي: الذين فارقت أرواحهم أبدانهم لما كان في ذلك تسلية له - صلى الله عليه وسلم -. واعتُرِضَ: بأنَّ ما ذُكِرَ من معنى آيتي النمل والروم مُسَلَّمٌ فيه، لكن ذلك لا يمنع الاستدلال بهما على نفي سماع الموتى مطلقاً؛ لأنَّ الموتى لما كانوا لا يسمعون حقيقة، وكان ذلك معروفاً عند المخاطبين شبه الله تعالى بهم الكفار الأحياء في عدم السماع، فدل هذا التشبيه على أنَّ المشبه بهم - وهم الموتى في قبورهم - لا يسمعون، كما يدل مثلاً تشبيه زيد في الشجاعة بالأسد على أنَّ الأسد شجاع، بل هو في ذلك أقوى من زيد، ولذلك شُبِّهَ به، وإن كان الكلام لم يُسقْ للتحدث عن شجاعة الأسد نفسه، وإنما عن زيد، وكذلك آيتا النمل والروم، وإن كانتا تحدثتا عن الكفار الأحياء وشُبّهوا بموتى القبور، فذلك لا ينفي أنَّ موتى القبور لا يسمعون، بل إنَّ كل عربي سليم السليقة، لا يفهم من تشبيه موتى الأحياء بهؤلاء إلا أنَّ هؤلاء أقوى في عدم السماع منهم، وإذ الأمر كذلك فموتى القبور لا يسمعون. (¬1) واعتُرِضَ أيضاً: بأنَّ الله تعالى قال في آية أخرى: (وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) [فاطر: 22] وهذه الآية صريحة في نفي سماع الأموات، ولا يتأتى حملها على المعنى الذي ذُكِرَ. وأجيب: بأنَّ هذه الآية هي كآيتي النمل والروم المتقدمتين، لأنَّ المراد بقوله: (مَنْ فِي الْقُبُورِ) الموتى، فلا فرق بين قوله: (إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) وبين قوله: (وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ)؛ لأنَّ المراد بالموتى ومن في القبور ¬
واحد، كقوله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) [الحج: 7]، أي يبعث جميع الموتى، من قُبر منهم ومن لم يُقْبَر، وقد دلت قرائن قرآنية على أنَّ معنى آية فاطر هذه كمعنى آية الروم، منها قوله تعالى قبلها: (إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ) [فاطر: 18]؛ لأنَّ معناها لا ينفع إنذارك إلا من هداه الله ووفقه، فصار ممن يخشى ربه بالغيب ويقيم الصلاة، وما أنت بمسمع من في القبور، أي الموتى، أي الكفار الذين سبق لهم الشقاء، ومنها قوله تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19)) [فاطر: 19]، أي المؤمن والكافر، وقوله تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ) [فاطر: 22] أي المؤمنون والكفار، ومنها قوله تعالى بعدها: (إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)) [فاطر: 23] أي ليس الإضلال والهدى بيدك، ما أنت إلا نذير وقد بلغت. (¬1) القول الثاني: أنَّ الموتى في الآيات المراد بهم الذين ماتوا حقيقة، لكن المراد بالسماع المنفي هو خصوص السماع المعتاد الذي ينتفع به صاحبه، وأنَّ هذا مثلٌ ضربه الله للكفار؛ إذ الكفار يسمعون الحق، ولكن لا ينتفعون به. قالوا: وقد يُنفى الشيء لانتفاء فائدته وثمرته، كما في قوله تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)) [الأعراف: 179]. (¬2) وهذا رأي: شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم (¬3)، وابن رجب (¬4)، والأبي (¬5)، وذكره ابن جرير الطبري احتمالاً آخر في معنى الآية. قال الطبري: "معنى الآية: إنك لا تسمع الموتى إسماعاً ينتفعون به؛ لأنهم قد انقطعت عنهم الأعمال، وخرجوا من دار الأعمال إلى دار الجزاء، فلا ينفعهم دعاؤك إياهم إلى الإيمان بالله والعمل بطاعته، فكذلك هؤلاء الذين ¬
كتب ربك عليهم أنهم لا يؤمنون لا يُسْمِعُهم دعاؤك إلى الحق إسماعاً ينتفعون به؛ لأن الله تعالى ذكره قد ختم عليهم أنْ لا يؤمنوا، كما ختم على أهل القبور من أهل الكفر أنهم لا ينفعهم بعد خروجهم من دار الدنيا إلى مساكنهم من القبور إيمان ولا عمل؛ لأن الآخرة ليست بدار امتحان، وإنما هي دار مجازاة، وكذلك تأويل قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) [فاطر: 22] ". اهـ (¬1) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "قوله: (إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) إنما أراد به السماع المعتاد الذي ينفع صاحبه؛ فإنَّ هذا مثل ضُرب للكفار، والكفار تسمع الصوت، لكن لا تسمع سماع قبولٍ بفقهٍ واتباع، كما قال تعالى: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)) [البقرة: 171]، فهكذا الموتى الذين ضُرب لهم المثل لا يجب أنْ يُنفى عنهم جميع السماع المعتاد، أنواعَ السماع، كما لم يُنْفَ ذلك عن الكفار; بل قد انتفى عنهم السماع المعتاد الذي ينتفعون به، وأما سماعٌ آخر فلا يُنفى عنهم". اهـ (¬2) وهذا القول: دلت عليه آيات من كتاب الله، جاء فيها التصريح بالبكم والصَّمَم والعمى مُسنداً إلى قوم يتكلمون ويسمعون ويبصرون، والمراد بصممهم: صممهم عن سماع ما ينفعهم دون غيره، فهم يسمعون غيره، وكذلك في البصر والكلام، وذلك كقوله تعالى في المنافقين: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)) [البقرة: 18] فقد قال فيهم: (صم بكم) مع شدة فصاحتهم، وحلاوة ألسنتهم، كما صرح به في قوله تعالى فيهم: (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) [المنافقون: 4] أي لفصاحتهم، وقوله تعالى: (فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ) [الأحزاب: 19]، فهؤلاء الذين إنْ يقولوا تسمع لقولهم، وإذا ذهب الخوف سلقوا المسلمين بألسِنةٍ حِداد، هم الذين قال الله فيهم: صم بكم عمي، وما ذلك إلا أنَّ صممهم وبكمهم وعماهم بالنسبة إلى شيء خاص، وهو ما يُنتفع به من الحق، فهذا وحده هو الذي صَمُّوا عنه فلم ¬
يسمعوه، وبكموا عنه فلم ينطقوا به، وعموا عنه فلم يروه، مع أنهم يسمعون غيره ويبصرونه وينطقون به، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)) [الأحقاف: 26]. (¬1) واعتُرِضَ على هذا القول: بأنَّ فيه قلباً للتشبيه المذكور في الآيات، حيث جُعل المشبه به مشبهاً؛ لأنَّ القيد المذكور في هذا القول يصدق على موتى الأحياء من الكفار، فإنهم يسمعون حقيقة، ولكن لا ينتفعون من سماعهم، كما هو مشاهد، فكيف يجوز جعل المشبه بهم - من موتى القبور - مثلهم في أنهم يسمعون ولكنهم لا ينتفعون من سماعهم، مع أنَّ المشاهد أنهم لا يسمعون مطلقاً، ولذلك حسن التشبيه المذكور في الآيات، فبطل القيد الذي ذكره أصحاب هذا القول. (¬2) واعتُرِضَ أيضاً: بأنَّ الله تعالى نفى السماع عن الموتى، وعن الصم، فهل يُقال: إنَّ الصم يسمعون، لكن لا يسمعون سماع قبول وانتفاع؟ القول الثالث: أنَّ معنى الآيات: إنك لا تُسمع الموتى بطاقتك وقدرتك، ولكن الله تعالى هو الذي يسمعهم إذا شاء؛ إذ هو القادر على ذلك دون من سواه. وهذا رأي: ابن التين (¬3)، والإسماعيلي (¬4)، وذكره ابن جرير الطبري احتمالاً آخر في معنى الآية (¬5). واستدلوا على ذلك بأدلة منها: الأول: أنَّ الله تعالى بعد أنَّ نفى السماع قال: (وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ) [النمل: 81]، فبين أنَّ الهداية من الكفر إلى الإيمان بيده دون من ¬
سواه، فنفيه سبحانه عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - أنْ يكون قادراً أنْ يُسمع الموتى إلا بمشيئته، هو كنفيه أنْ يكون قادراً على هداية الكفار إلا بمشيئته. الدليل الثاني: أنَّ الله تعالى أثبت لنفسه القدرة على إسماع من شاء من خلقة بقوله: (إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ)، ثم نفى عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - القدرة على ما أثبته وأوجبه لنفسه من ذلك، فقال له: (وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) ولكن الله هو الذي يسمعهم دونك وبيده الإفهام والإرشاد والتوفيق، وإنما أنت نذير فبلغ ما أرسلت به. (¬1) أدلة القائلين بإثبات السماع مطلقاً للأموات: استدل القائلون بإثبات السماع مطلقاً للأموات بأدلة منها: الأول: مناجاة النبي - صلى الله عليه وسلم - لقتلى بدر من المشركين (¬2)، وهذا الحديث الصحيح أقسم فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الأحياء الحاضرين ليسوا بأسمع لما يقوله - صلى الله عليه وسلم - من أولئك الموتى بعد ثلاث، وهو نص صحيح صريح في سماع الموتى، ولم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه تخصيصاً. (¬3) واعتُرِضَ: بأنَّ عائشة رضي الله عنها روت الحديث بلفظ: "إِنَّهُمْ الْآنَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ"، وهذا يدل على أنَّ الرواية التي فيها التصريح بالسماع غير محفوظة. وأجيب: بأنَّ تأول عائشة رضي الله عنها بعض آيات القرآن، لا تُرد به روايات الصحابة العدول الصحيحة الصريحة عنه - صلى الله عليه وسلم -، ويتأكد ذلك بثلاثة أمور: الأول: أنَّ رواية العدل لا تُرد بالتأويل. الثاني: أنَّ عائشة رضي الله عنها لما أنكرت رواية ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنهم ليسمعون الآن ما أقول"، قالت: إنَّ الذي قاله - صلى الله عليه وسلم -: "إنهم ليعلمون الآن أنَّ الذي كنت أقول لهم هو الحق"، فأنكرت السماع ونَفَتْهُ عنهم، وأثبتت لهم العلم، ومعلومٌ أنَّ من ثبت له العلم صح منه السماع. الثالث: هو ما جاء عنها مما يقتضي رجوعها عن تأويلها إلى الروايات ¬
الصحيحة، قال الحافظ ابن حجر: "ومن الغريب أنَّ في المغازي لابن إسحاق، رواية يونس بن بكير، بإسناد جيد عن عائشة، مثل حديث أبي طلحة، وفيه: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم"، وأخرجه أحمد (¬1) بإسناد حسن؛ فإن كان محفوظاً فكأنها رجعت عن الإنكار، لما ثبت عندها من رواية هؤلاء الصحابة، لكونها لم تشهد القصة". اهـ (¬2) وقال الإسماعيلي: "كان عند عائشة من الفهم والذكاء وكثرة الرواية والغوص على غوامض العلم ما لا مزيد عليه، لكن لا سبيل إلى رَدِّ رواية الثقة إلا بنصٍ مثله، يدل على نسخه أو تخصيصه أو استحالته". اهـ (¬3) الدليل الثاني: عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ .... " (¬4)، وهذا الحديث فيه تصريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنَّ الميت في قبره يسمع قرع نعال من دفنوه إذا رجعوا، وهو نص صحيح صريح في سماع الموتى، وظاهره العموم في كل ¬
من دُفِنَ، ولم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه تخصيصاً. (¬1) واعتُرِضَ: بأنَّ ما ورد في هذا الحديث مخصوص بأول الدفن، عند سؤال الملكين، وهو غير دائم، فلا يفيد عموم سماع الأموات في كل الأحوال والأوقات. (¬2) وأيضاً: فإنَّ الروح تُعاد للبدن عند المساءلة - كما ثبت بذلك الحديث (¬3) - لذا فإنَّ سماع الميت قرع النعال، إنما هو بسبب اتصال الروح بالبدن، وهذا الاتصال غير دائم، بل هو مخصوص بوقت السؤال (¬4)، وعليه فلا يصح الاستدلال بهذا الحديث، على عموم سماع الأموات في كل وقت وحين. الدليل الثالث: عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَتَى الْمَقْبُرَةَ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ". (¬5)، وهذا الحديث فيه مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل القبور بقوله: "السلام عليكم"، وقوله: "وإنا إنْ شاء الله بكم لاحقون"، وهذا يدل دلالة واضحة على أنهم يسمعون ¬
سلامه؛ لأنهم لو كانوا لا يسمعون سلامه وكلامه لكان خطابه لهم من جنس خطاب المعدوم، ولا شك في أنَّ ذلك ليس من شأن العقلاء، فمن البعيد جداً صدوره من النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) واعتُرِضَ: بأنَّ الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يخاطبون النبي - صلى الله عليه وسلم - في تشهد الصلاة بقولهم: "السلام عليك أيها النبي ... " (¬2) وهم خلفه، وقريباً منه، وبعيداً عنه، في مسجده، وفي غير مسجده، وكذا جمهور المسلمين اليوم، وقبل اليوم، الذين يخاطبونه بذلك، أفيقال: إنه يسمعهم، أو أنه من المحال السلام عليه، وهو لا يشعر بهم ولا يعلم؟ (¬3) واعتُرِضَ أيضاً: بأنَّ السلام على القبور إنما هو عبادة، والقصد منه تذكير النفس بحالة الموت، وبحالة الموتى في حياتهم، وليس القصد من السلام مخاطبتهم، أو أنهم يسمعون ويجيبون. (¬4) الدليل الرابع: ما جرى عليه عمل الناس - قديماً وإلى الآن - من تلقين الميت في قبره، ولولا أنه يسمع ذلك وينتفع به لم يكن فيه فائدة، ولكان عبثاً. قالوا: وهذا الذي جرى عليه عمل الناس قد جاء ما يعضده في حديث ضعيف؛ فعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مات أحد من إخوانكم فسويتم التراب على قبره، فليقم أحدكم على رأس قبره ثم ليقل: يا ¬
فلان بن فلانة، فإنه يسمعه ولا يجيب، ثم يقول: يا فلان بن فلانة، فإنه يستوي قاعداً، ثم يقول: يا فلان بن فلانة، فإنه يقول: أرشدنا رحمك الله، ولكن لا تشعرون، فليقل: أذكر ما خرجت عليه من الدنيا، شهادة أنْ لا إله إلا الله، وأنَّ محمداً عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وبالقرآن إماماً، فإنَّ منكراً ونكيراً، يأخذ كل واحد منهما بيد صاحبه ويقول: انطلق بنا، ما نقعد عند من قد لُقِّنَ حُجَّته، فيكون اللهُ حجيجَه دونهما، فقال رجل: يا رسول الله، فإن لم يعرف أمه؟ قال: فينسبه إلى حواء، يا فلان بن حواء". (¬1) قالوا: فهذا الحديث وإن لم يثبت إلا أنَّ اتصال العمل به في سائر الأمصار والأعصار، من غير إنكار، كافٍ في العمل به، ولولا أنَّ المخاطب يسمع لكان ذلك بمنزلة الخطاب للتراب والخشب والحجر والمعدوم، وهذا وإن استحسنه واحد، فالعلماء قاطبة على استقباحه واستهجانه، قالوا: وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: "اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ، وَسَلُوا لَهُ بِالتَّثْبِيتِ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ" (¬2)، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يُسأل حينئذ، وإذا كان يُسأل فإنه يسمع التلقين. (¬3) واعتُرِضَ: بأنَّ حديث تلقين الميت لا يصح، بل هو حديث متفق على ضعفه، وعمل الناس إذا لم يعضده دليل صحيح فلا حجة فيه. (¬4) الدليل الخامس: أنَّ عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال - في وصيته عند موته -: "فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَشُنُّوا (¬5) عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ ¬
جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا، حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي" (¬1)، وهذا يدل على أنَّ الميت ترد عليه روحه ويسمع حِسَّ من هو على قبره وكلامه، وهذا الحديث إنما قاله عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن مثله لا يدرك إلا من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) الدليل السادس: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من رجل يمر على قبر رجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام". (¬3) ¬
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين انصرف من أحدٍ مَرَّ على مصعب بن عمير وهو مقتول على طريقه فوقف عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعا له، ثم قرأ هذه الآية: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)) [الأحزاب: 23] ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أشهد أنَّ هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فأتوهم وزوروهم، والذي نفسي بيده لا يُسَلِّمُ عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا رَدُّوا عليه". (¬1) ¬
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من أحد مَرَّ بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فَسَلَّمَ عليه إلا عرفه وَرَدَّ عليه السلام". (¬1) ¬
وعن عائشة رضي الله عنها: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس به، وَرَدَّ عليه، حتى يقوم". (¬1) وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "قال أبو رزين: يا رسول الله، إنَّ طريقي على الموتى، فهل من كلام أتكلم به إذا مررت عليهم؟ قال: قل: السلام ¬
عليكم أهل القبور من المسلمين والمؤمنين، أنتم لنا سلف، ونحن لكم تبع، وإنا إنْ شاء الله بكم لاحقون. قال أبو رزين: يا رسول الله، يسمعون؟ قال: يسمعون، ولكن لا يستطيعون أنْ يجيبوا. قال: يا رزين، ألا ترضى أنْ يرد عليك بعددهم من الملائكة". (¬1) قالوا: فهذه الأحاديث يعضد بعضها بعضاً، وهي تدل صراحة على أنَّ الميت يشعر بزيارة الحي، ويسمع كلامه، ويرد عليه السلام. (¬2) واعتُرِضَ: بأنَّ هذه الأحاديث كلها ضعيفة، ولا يصح منها شيء. (¬3) الدليل السابع: عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي، حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ". (¬4) واعتُرِضَ: بأنَّ الحديث ليس صريحاً في سماعه - صلى الله عليه وسلم - سلام من سلم عليه عند قبره. (¬5) ¬
الدليل الثامن: كثرة المرائي التي تقتضي سماع الموتى ومعرفتهم لمن يزورهم، وهذه المرائي وإن لم تصلح بمجردها لإثبات مثل ذلك، فهي على كثرتها وأنها لا يحصيها إلا الله قد تواطأت على هذا المعنى، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ" (¬1) يعني ليلة القدر، فإذا تواطأت رؤيا المؤمنين على شيء كان كتواطىء روايتهم له. (¬2) واعتُرِضَ: بأنَّ المرائي لا يصح أنْ يُعتمد عليها في باب الاعتقاد والأمور المغيبة، إذ لا سبيل لمعرفة الأمور المغيبة إلا بدليل شرعي من الكتاب أو السنة. المذهب الثاني: مذهب نفي سماع الأموات مطلقاً، وتأويل الأحاديث التي فيها إثبات السماع. حيث ذهب جمع من العلماء إلى إجراء الآيات التي فيها نفي السماع على ظاهرها وعمومها، وقالوا: إنَّ الميت لا يسمع شيئاً من كلام الأحياء، ولا يشعر بهم. واختلف أصحاب هذا المذهب في الجواب عن الأحاديث التي فيها إثبات السماع على أقوال: الأول: أنَّ ما وقع للنبي - صلى الله عليه وسلم - من إسماع قتلى بدر - هو معجزة من معجزاته - صلى الله عليه وسلم -، فقد أحياهم الله له حتى سمعوا كلامه، وهذا خاص به دون غيره من الناس. وهذا رأي: قتادة، والبيهقي (¬3)، والمازري (¬4)، وابن عطية، وابن الجوزي (¬5)، وابن قدامة (¬6)، وابن الهمام (¬7)، والقاضي أبي يعلى (¬8)، والألباني. ¬
وذكره ابن عبد البر احتمالاً في توجيه الحديث. (¬1) قال قتادة: "أحياهم الله حتى أسمعهم قوله، توبيخاً وتصغيراً وَنَقِيمَةً وحسرة وندماً". اهـ (¬2) وقال ابن عطية: "فيشبه أنَّ قصة بدر هي خرق عادة لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، في أنْ رد الله إليهم إدراكاً سمعوا به مقاله، ولولا إخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسماعهم لحملنا نداءه إياهم على معنى التوبيخ لمن بقي من الكفرة، وعلى معنى شفاء صدور المؤمنين منهم". اهـ (¬3) وقال الألباني: "والتحقيق أنَّ الأدلة من الكتاب والسنة على أنَّ الموتى لا يسمعون، وهذا هو الأصل، فإذا ثبت أنهم يسمعون في بعض الأحوال، كما في حديث خفق النعال، أو أنَّ بعضهم سمع في وقت ما، كما في حديث القليب، فلا ينبغي أنْ يُجعل ذلك أصلاً، فيقال إنَّ الموتى يسمعون؛ فإنها قضايا جزئية، لا تُشَكِّل قاعدة كلية يُعارض بها الأصل المذكور، بل الحق أنه يجب أنْ تُستثنى منه، على قاعدة استثناء الأقل من الأكثر، أو الخاص من العام". اهـ (¬4) أدلة هذا القول: استدل أصحاب هذا القول على ما ذهبوا إليه بأدلة منها: الأول: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ"، ولم يقل: "لما يُقال"، فدل على أنَّ سماعهم هذا، هو من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - دون غيره من الناس. (¬5) الدليل الثاني: أنَّ الحديث رُوي بلفظ: "وَاللَّهِ إِنَّهُمْ الْآنَ لَيَسْمَعُونَ كَلَامِي" (¬6)، حيث قَيَّدَ النبي - صلى الله عليه وسلم - سماعهم له باللحظة التي ناجاهم فيها، ¬
ومفهومه أنهم لا يسمعون في غير هذا الوقت، وفيه تنبيه على أنَّ الأصل في الموتى أنهم لا يسمعون، ولكن أهل القليب في ذلك الوقت قد سمعوا نداء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبإسماع الله تعالى إياهم، خرقاً للعادة، ومعجزة للنبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) الدليل الثالث: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرَّ عمر وغيره من الصحابة - رضي الله عنهم - على ما كان مستقراً في نفوسهم واعتقادهم أنَّ الموتى لا يسمعون، يدل على ذلك رواية: " .... فَسَمِعَ عُمَرُ صَوْتَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُنَادِيهِمْ بَعْدَ ثَلَاثٍ؟ وَهَلْ يَسْمَعُونَ؟ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُجِيبُوا" (¬2)، وقد صرح عمر - رضي الله عنه - أنَّ الآية المذكورة هي العمدة في تلك المبادرة، وأنهم فهموا من عمومها دخول أهل القليب فيه، ولذلك أشكل عليهم الأمر، فصارحوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك ليزيل إشكالهم، فبين لهم حقيقة الأمر، وبهذا يتضح أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر الصحابة - وفي مقدمتهم عمر - على فهمهم للآية على ذلك الوجه العام الشامل لموتى القليب وغيرهم؛ لأنه لم يُنكِرْه عليهم، ولا قال لهم: أخطأتم، فالآية لا تنفي مطلق سماع الموتى، ولا أنه - صلى الله عليه وسلم - أقرهم على ذلك، ولكنه بين لهم ما كان خافياً عليهم من شأن القليب، وأنهم سمعوا كلامه حقاً، وأنَّ ذلك أمر خاص مستثنى من الآية، معجزة له - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) واعتُرِضَ: بأنَّ سماع الموتى قد ثبت في غير هذه القصة، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ .... " (¬4)، فقد أثبت في هذا الحديث سماع الميت لقرع النعال، فدل على عدم اختصاص ذلك بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬
وأجيب: بأنَّ ما ورد في هذا الحديث مخصوص بأول الدفن عند سؤال الملكين وهو غير دائم، فلا يفيد عموم السماع في كل الأحوال والأوقات. (¬1) القول الثاني: أنَّ معنى الحديث إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنَّ المشركين من قتلى بدر لما عاينوا العذاب بعد موتهم علموا أنَّ ما كان يدعوهم إليه هو الحق، وأنَّ هذا هو مراده - صلى الله عليه وسلم -، ولم يُرِدْ أنهم يسمعون كلامه وقت مخاطبته لهم. وهذا مذهب عائشة رضي الله عنها، حيث ذهبت إلى تخطئة ابن عمر في روايته للحديث، وأنه لم يحفظه بلفظه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعن هشام بن عروة، عن أبيه قال: "ذُكِرَ عِنْدَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَفَعَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ" فَقَالَتْ: وَهَلَ (¬2)؛ إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّهُ لَيُعَذَّبُ بِخَطِيئَتِهِ وَذَنْبِهِ، وَإِنَّ أَهْلَهُ لَيَبْكُونَ عَلَيْهِ الْآنَ". قَالَتْ: وَذَاكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَامَ عَلَى الْقَلِيبِ، وَفِيهِ قَتْلَى بَدْرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ؛ فَقَالَ لَهُمْ مَا قَالَ: "إِنَّهُمْ لَيَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ"، إِنَّمَا قَالَ: "إِنَّهُمْ الْآنَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ"، ثُمَّ قَرَأَتْ: (إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) و (وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) ". (¬3) ¬
القول الثالث: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك على جهة الموعظة للأحياء، لا لإفهام الموتى. ذكره ابن الهمام وجهاً آخر في الجواب عن الحديث. (¬1) القول الرابع: أنَّ وقوف النبي - صلى الله عليه وسلم - على قتلى بدر ونداءه إياهم كان في الوقت الذي تُردُّ فيه الروح للبدن عند المساءلة في القبر. وهذا رأي ابن عبد البر، حيث ذكره احتمالاً آخر في توجيه الحديث. (¬2) أدلة القائلين بنفي سماع الأموات مطلقاً: استدل القائلون بنفي سماع الأموات لكلام الأحياء بأدلة، منها: الأول: أنَّ في سياق آيتي النمل والروم ما يدل على أنَّ الموتى لا يسمعون، وبيان ذلك: أنَّ الله تعالى قال في تمام الآيتين: (وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) حيث شبه سبحانه موتى الأحياء من الكفار بالصم، والصم لا يسمعون مطلقاً، بلا خلاف، وهذا يدل على أنَّ المشبه بهم، وهم الصم والموتى، لهم حكم واحد، وهو عدم السماع، وفي التفسير المأثور ما يدل على هذا، فعن قتادة قال - في تفسير الآية-: "هذا مثل ضربه الله للكافر، فكما لا يسمع الميت الدعاء، كذلك لا يسمع الكافر، (وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ) يقول: لو أنَّ أصم ولّى مدبراً ثم ناديته، لم يسمع، كذلك الكافر لا يسمع، ولا ينتفع بما سمع" (¬3). (¬4) الدليل الثاني: أنَّ عائشة، وعمر، وغيرهما من الصحابة - رضي الله عنهم -، فهموا الآيات على ظاهرها من نفي سماع الموتى مطلقاً، وفهمهم حجة، وهو دليل على أنَّ الآيات صريحة في نفي سماع الأموات، ومما يؤيد صحة فهمهم أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرَّهم على ذلك، ولم يُنقل عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه خطأهم على فهمهم هذا. (¬5) ¬
الدليل الثالث: قوله تعالى: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)) [فاطر: 13 - 14]، وهذه الآية صريحة في نفي السماع عن أولئك الذين كان المشركون يدعونهم من دون الله تعالى، وهم موتى الأولياء والصالحين، فدل على أنَّ الموتى لا يسمعون مطلقاً. (¬1) واعتُرِضَ: بأنَّ هذا التفسير مخالف لما عليه الأكثر من المفسرين؛ لأنهم قالوا: إنَّ المراد بالذين لا يسمعون في الآية: الأصنام؛ لأنها جمادات لا تضر ولا تنفع، وإذا كان المنفي في الآية سماع الجمادات، انتفى الاستدلال بها على نفي سماع الأموات. وأجيب: بأنَّ الآية قد اختُلِفَ في تفسيرها على القولين المذكورين، والأصح أنَّ المراد بالذين لا يسمعون هم الموتى من الأولياء والصالحين، يدل على ذلك: 1 - قوله تعالى في تمام الآية السابقة: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) [فاطر: 14] والأصنام لا تُبعث؛ لأنها جمادات غير مكلفة كما هو معلوم، بخلاف العابدين والمعبودين، فإنهم جميعاً محشورون، كما قال تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)) [الفرقان: 17 - 18]. 2 - وقوله تعالى: (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)) [نوح: 23]، ففي التفسير المأثور عن ابن عباس - رضي الله عنه -: "أنَّ هؤلاء الخمسة أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أنْ انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً، وسموها ¬
بأسمائهم، ففعلوا فلم تُعْبَدْ، حتى إذا هلك أولئك وَتَنَسَّخَ العلم عُبِدَتْ" (¬1) (¬2). الدليل الرابع: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الْأَرْضِ يُبَلِّغُونِي مِنْ أُمَّتِي السَّلَامَ" (¬3)، ووجه الدلالة من الحديث أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يسمع سلام المُسَلِّمِين عليه، إذ لو كان يسمعه بنفسه، لما كان بحاجة إلى من يبلغه إليه، وإذ الأمر كذلك فبالأولى أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يسمع غير السلام من الكلام، وإذا كان كذلك فلأن لا يسمع السلام غيرُه من الموتى أولى وأحرى. (¬4) القول الرابع: أنَّ الأصل عدم سماع الأموات؛ لعموم وظاهر الآيات، لكن يستثنى من ذلك ما صح به الدليل ولا يُتجاوزُ به إلى غيره، ومما ورد به الدليل: مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - قتلى بدر، وسماع الميت خفق نعال المشيعين له إذا انصرفوا. وهذا رأي: الشوكاني، والآلوسي (¬5)، وذكره أبو العباس القرطبي احتمالاً آخر في الجمع، واختاره أبو عبد الله القرطبي (¬6). قال أبو العباس القرطبي: "لو سلمنا أنَّ الموتى في الآية على حقيقتهم؛ فلا تعارض بينها وبين أنَّ بعض الموتى يسمعون في وقتٍ ما، أو في حالٍ ما، فإنَّ تخصيص العموم ممكن وصحيح إذا وجد المخصص، وقد وجد هنا بدليل هذا الحديث (¬7) ". اهـ (¬8) وقال الشوكاني: "وظاهر نفي إسماع الموتى العموم، فلا يُخَصُّ منه إلا ¬
المبحث الخامس: الترجيح
ما ورد بدليل، كما ثبت في الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - خاطب القتلى في قليب بدر، وكذلك ما ورد من أنَّ الميت يسمع خفق نعال المشيعين له إذا انصرفوا". اهـ (¬1) المبحث الخامس: الترجيح: الذي يظهر صوابه - والله تعالى أعلم - أنَّ الموتى لا يسمعون شيئاً من كلام الأحياء، ولا يشعرون بهم، وأنَّ ذلك عام في كل الأحوال والأوقات، كما دلت عليه الآيات، ويستثنى من ذلك ما ثبت به الحديث الصحيح من أنَّ الميت يسمع قرع نعال مشيعيه إذا انصرفوا من دفنه (¬2)، وسبب سماعه في هذه الحال، وفي هذا الوقت: أنَّ الروح تعاد للبدن للمساءلة في القبر (¬3)، فيكون ¬
للروح تعلق بالبدن يحصل به السماع، إلا أنَّ هذا التعلق غير دائم ولا مستمر، وإنما هو في وقت المساءلة فقط. يدل على هذا الاختيار: الأول: ما تقدم من الآيات في سورة النمل، والروم، وفاطر، وهي صريحة في نفي سماع الأموات، وقد تقدم بيان دلالتها على هذا المعنى. الدليل الثاني: قوله تعالى: (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)) [الأنعام: 36]، حيث شبه سبحانه الكفار الأحياء بالموتى في عدم السماع، فدل على أنَّ المشبه بهم - وهم الموتى - لا يسمعون أيضاً.
قال ابن جرير في تفسير الآية: والموتى - أي الكفار - يبعثهم الله مع الموتى، فجعلهم تعالى ذكره في عداد الموتى الذين لا يسمعون صوتاً، ولا يعقلون دعاء، ولا يفقهون قولاً. اهـ (¬1) الدليل الثالث: قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)) [النحل: 20 - 21]، حيث أخبر سبحانه بأنَّ هؤلاء الذين يدعونهم من دون الله أموات في قبورهم، ولا يشعرون متى يُبعثون، والشعور هو الإدراك بالحواس (¬2)، وإذا كان هؤلاء الأموات لا يشعرون متى يُبعثون، ثبت نفي الشعور عنهم، وهذا يستلزم عدم إدراكهم مطلقاً، ويلزم من عدم إدراكهم أنَّ السماع مُنتفٍ في حقهم؛ لأنه من جملة ما يُشعر به. الدليل الرابع: أنَّ هذا القول فيه إعمال للآيات والأحاديث معاً، بخلاف القول بإثبات السماع للأموات؛ فإنَّ القائلين به أوَّلوا الآيات ونفوا دلالتها على نفي السماع، وقد تقدم بيان أنَّ ما ذهبوا إليه ضعيف، وأنَّ الآيات صريحة في نفي السماع. وأما الأحاديث التي تدل بظاهرها على أنَّ الموتى يسمعون، فهي على نوعين: الأول: أحاديث صحيحة، وهذه على أقسام: القسم الأول: أحاديث خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - دون غيره من الناس، وهي: حديث القليب، وحديث السلام عليه - صلى الله عليه وسلم -، فالأول محمول على أنه من معجزاته - صلى الله عليه وسلم -، والثاني على أنه من خصائصه، على أنه لا مانع من حمل حديث القليب على أنَّ دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إياهم وافق وقت عودة الروح للبدن، وذلك عند المساءلة؛ فإنَّ الروح تعاد للبدن حينئذ. القسم الثاني: حديث سماع الميت لقرع النعال، وهذا الحديث ليس فيه ما يدل على عموم السماع في كل الأحوال والأوقات، وقد تقدم بيان ذلك. ¬
القسم الثالث: حديث السلام على الموتى، وهذا الحديث ليس فيه ما يدل على السماع، وقد تقدم أنَّ السلام على الموتى لا يسلتزم سماعهم. القسم الرابع: حديث عمرو بن العاص، وهو حديث موقوف، وليس فيه شيء مرفوع للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والقول بأنَّ له حكمَ الرفع غير مُسَلَّم. النوع الثاني: أحاديث ضعيفة لا يصح الاستدلال بها، وهي حديث تلقين الميت، وحديث أبي هريرة، وابن عباس، وعائشة، وقد تقدم بيان ما فيها من علل، والله تعالى أعلم. ****
المسألة [21]: في إضافة تحريم مكة إلى الله تعالى، وإلى إبراهيم الخليل، عليه السلام
المسألة [21]: في إضافة تحريم مكة إلى الله تعالى، وإلى إبراهيم الخليل، عليه السلام. المبحث الأول: ذكر الآية الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91)) [النمل: 91]. المبحث الثاني: ذكر الحديث الذي يُوهِمُ ظاهره التعارض مع الآية: (46) ـ (39): عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لَهَا، وَحَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وَدَعَوْتُ لَهَا فِي مُدِّهَا وَصَاعِهَا مِثْلَ مَا دَعَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام لِمَكَّةَ". (¬1) ¬
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآية والحديث
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآية والحديث: ظاهِرُ الآية الكريمة أَنَّ الله تعالى هو الذي حرَّم مكة، وأما الحديث فظاهره أَنَّ إبراهيم عليه السلام هو الذي حرَّمها، وهذا يُوهِمُ التعارض بين الآية والحديث. (¬1) المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية والحديث: للعلماء في دفع التعارض بين الآية والحديث مسلكان: الأول: مسلك الجمع بينهما: وعلى هذا المسلك عامة العلماء من مفسرين ومحدثين، وقد اختلفوا في الجمع على مذاهب: الأول: أَنَّ إضافة التحريم إلى الله تعالى من حيث كان بقضائه وسابق علمه، وإضافته إلى إبراهيم من حيث كان ظهور ذلك بدعائه ورغبته وتبليغه لأمته. (¬2) وهذا مذهب: ابن جرير الطبري، والقاضي عياض، وابن عطية، وأبي العباس القرطبي، وابن جزي الكلبي، وأبي حيان، والحافظ ابن كثير، والعيني، والسيوطي، والزرقاني، والصنعاني، والشوكاني، والآلوسي. (¬3) ¬
قال ابن جزي: "نُسِبَ تحريمها إلى الله؛ لأنه بسبب قضائه وأمره، ونَسَبَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى إبراهيمَ عليه السلام؛ لأنَّ إبراهيم هو الذي أعْلَمَ الناسَ بتحريمها؛ فليس بين الحديث والآية تعارض، وقد جاء في حديث آخر: أَنَّ مكة حرمها الله يوم خلق السماوات والأرض (¬1) ". اهـ (¬2) وقال الآلوسي: "لا تعارض بين ما في الآية من نسبة تحريمها إليه عز وجل، وما في قوله عليه الصلاة والسلام: "إن إبراهيم عليه السلام حرم مكة، وأنا حرمت المدينة"، من نسبة تحريمها إلى إبراهيم عليه السلام؛ لأنَّ ما هنا باعتبار أنه هو المُحرِّمُ في الحقيقة، وما في الحديث باعتبار أَنَّ إبراهيم عليه السلام مُظْهِرٌ لحكمه عز شأنه". اهـ (¬3) المذهب الثاني: أَنَّ إبراهيم عليه السلام سأل ربه تحريم مكة فأجابه الله إلى ذلك، فإضافة التحريم إلى الله تعالى باعتبار أنه كان بإذنه، وإضافته إلى إبراهيم باعتبار أنه كان بسؤاله وطلبه. وهذا مذهب: أبي الوليد الباجي، والقاضي عياض في وجه آخر له في الجمع. (¬4) والفرق بين هذا القول والذي قبله: أَنَّ هذا القول فيه أَنَّ مكة لم تُحرَّم إلا بعد أن سأل إبراهيم ربه في تحريمها، وأما القول الأول ففيه أَنَّ حُرْمَة مكة لم تزل مُنذ أنْ خلق الله السماوات والأرض. ¬
المذهب الثالث: أَنَّ إبراهيم اجتهد في تحريم مكة؛ فأُضيف إليه التحريم؛ لأنه كان باجتهاده، وأُضيف إلى الله تعالى؛ لأنه أقَرَّ إبراهيمَ على اجتهاده. ذكر هذا الجواب: أبو الوليد الباجي، والقاضي عياض. (¬1) المسلك الثاني: مسلك الترجيح: حيث ذهب الإمام ابن عبد البر إلى تضعيف الحديث الوارد في المسألة؛ لأنه من رواية عمرو بن أبي عمرو (¬2)، عن أنس. قال: "وعمرو بن أبي عمرو ليس بذاك القوي عند بعضهم". قال: "وفي حديث مالك وغيره، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم إنَّ إبراهيم دعاك لمكة" (¬3)، قال: وهذا أولى من رواية من روى: "إنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ"، وقد ثبت بالآثار الصحاح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أَنَّ الله حرَّمها ولم يُحَرِّمْها الناس" (¬4)، و "أنها بلد حرام، حرَّمه الله يوم خلق السماوات والأرض" (¬5)، وهذا مشهور صحيح عند أهل الأثر، وجماعة أهل السير، فلا وجه لِما خالفه من الرواية، على أنها ليست بالقوية، ولو صحت لكان معناها: أَنَّ إبراهيم أعْلَمَ بتحريم مكة، وعُلِمَ أنها حرام بإخباره؛ فكأنه حرَّمها؛ إذ لم يُعْرَف تحريمها أولاً في زمانه إلا على لسانه". اهـ (¬6) ¬
المبحث الخامس: الترجيح
ويَرِدُ على مذهب ابن عبد البر: أَنَّ الحديث رواه عدد من الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يتفرد به عمرو بن أبي عمرو، الذي يرويه عن أنس، وأحاديثهم مروية في الصحيحين (¬1)، فلا وجه لتضعيف حديث أنس، وإنْ كان من رواية عمرو بن أبي عمرو. المبحث الخامس: الترجيح: الذي يَظْهُرُ صَوَابُه - والله تعالى أعلم - أَنَّ إبراهيم عليه السلام دعا ربه وسأل تحريم مكة؛ فأجاب الله تعالى دعاءه، وحرَّمها على لسان إبراهيم، وكان الله قد حرَّمها قبل ذلك، يوم أنْ خلق السماوات والأرض؛ إلا أنه لم يُظْهِر تحريمها للناس إلا حينما دعاه إبراهيم، ومعلوم أَنَّ تبليغ التحريم لعموم الناس لا يكون إلا بوحي من الله تعالى لنبي من أنبيائه، وإنما نُسب التحريم إلى الله في الآية؛ لأنه هو المُحَرِّمُ في الحقيقة، ونُسِبَ في الحديث لإبراهيم؛ لأنه هو المبلغ لهذا التحريم، فليس بين الآية والحديث تعارض على هذا المعنى أبداً. ومما يؤكد هذا المعنى: أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللهم إنَّ إبراهيم دعاك لمكة"، وهذا يدل على أَنَّ تحريمها إنما كان بعد دعاء إبراهيم، عليه السلام، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولم يحرمها الناس"، إنما عني به أَنَّ تحريمها لم يكن بتواطؤٍ من الناس، وإنما كان بوحي من الله تعالى لإبراهيم، وهو في كلامه - صلى الله عليه وسلم - هذا يُقَرِّرُ أَنَّ هذه الحرمة لمكة - والتي تُقِرُّ بها قريش - لم يكن لقريش أي فضلٍ فيها، وإنما كانت بوحي من الله تعالى لإبراهيم عليه السلام، ولم يُرِدْ النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "ولم يحرمها الناس" عموم الناس، وإنما أراد عموم الناس من غير الأنبياء، بدليل أنه أضاف التحريم إلى إبراهيم في حديث آخر، فدل على أَنَّ قوله: "ولم يحرمها الناس" عامٌ أُريد به الخصوص، والله تعالى أعلم. (¬2) **** ¬
المسألة [22]: في خراب ذي السويقتين للكعبة
المسألة [22]: في خراب ذي السويقتين للكعبة. المبحث الأول: ذكر الآيات الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)) [القصص: 57]. وقال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)) [العنكبوت: 67]. (¬1) المبحث الثاني: ذكر الحديث الذي يُوهِمُ ظاهره التعارض مع الآيات: (47) ـ (40): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ (¬2) مِنْ الْحَبَشَةِ". (¬3) ¬
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآيات والحديث
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآيات والحديث: ظاهرُ الآيات الكريمة أَنَّ الله تعالى جعل بيته وحرمه آمناً من تسلط الأعداء عليه، وهذا الأمن ظاهره استغراق الأزمنة كلها؛ فلا يستطيع أحدٌ الاعتداء عليه على مرِّ العصور والدهور، وأما الحديث الشريف ففيه تخريب ذي السويقتين للبيت، وهذا يُوهِمُ مُعارضة الآيات. (¬1) المبحث الرابع: المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآيات والحديث: لم يتجاوز العلماء في هذه المسألة مسلك الجمع بين الآيات والحديث، وقد اختلفوا في الجمع على مذاهب: الأول: أَنَّ الله تعالى جعل الحرم آمناً باعتبار غالب الأوقات، ووَعْدُه تعالى بالأمن لا يلزم منه أنْ يكون دائماً في كل الأوقات، بل إذا حصلت له حُرْمَةٌ وأمنٌ في وقت ما صدق عليه هذا اللفظ، وصحَّ المعنى، ولا يُعارضه ارتفاع ذلك المعنى في وقت آخر. وهذا مذهب أبي العباس القرطبي، والعيني، والملا علي القاري. (¬2) المذهب الثاني: أَنَّ المراد بالآيات جعله آمناً إلى قُرْبِ قيام الساعة ¬
وخراب الدنيا؛ حيث لا يبقى في الأرض أحدٌ يقول الله الله، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ اللَّهُ اللَّهُ" (¬1)، فإذا كان قُرب قيام الساعة سُلِّطَ ذو السويقتين على الكعبة، والذي يكون بخرابه لها خراب العالم، وهذا الوقت الذي يكون فيه خراب العالم ليس في الآية ما يدل على استمرار الأمن فيه. وهذا مذهب القاضي عياض، والنووي، والخازن، والحافظ ابن حجر، والمناوي، والسفاريني. (¬2) ويؤيد هذا المذهب ما رُويَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ البيت بعد هدم ذي السويقتين له لا يَعْمُرُ بَعْدَهُ أَبَدًا. (¬3) المذهب الثالث: أَنَّ وعده تعالى بأمن بيته مُقَيَّدٌ بعدم استحلال أهله له، فإذا وقع الاستحلال ارتفع هذا الوعد، فيكون عندئذ خراب ذي السويقتين له. وهذا القيد جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "َلَنْ يَسْتَحِلَّ الْبَيْتَ إِلَّا أَهْلُهُ، فَإِذَا اسْتَحَلُّوهُ فَلَا يُسْأَلُ عَنْ هَلَكَةِ الْعَرَبِ، ثُمَّ تَأْتِي الْحَبَشَةُ فَيُخَرِّبُونَهُ خَرَابًا لَا يَعْمُرُ بَعْدَهُ أَبَدًا". (¬4) أشار لهذا المذهب الحافظ ابن حجر، وجعله وجهاً في الجمع بين الآيات والحديث، وهو اختيار محمد بن عبد الرسول البرزنجي. (¬5) ¬
المبحث الخامس: الترجيح
المذهب الرابع: أَنَّ عموم الآيات مُخصوص بقصة ذي السويقتين، فلا تعارض بين النصين. وهذا مذهب ابن بطال، وأشار إليه القاضي عياض، والنووي. (¬1) المذهب الخامس: أَنَّ المراد بالآيات أمن أهل البيت لا أمن ذات البيت، وعليه فلا تعارض بين الآيات والحديث؛ لأنَّ الحديث إنما فيه خراب البيت لا هلاك أهله. أشار لهذا المذهب الخازن في تفسيره (¬2)، ولا يخفى أَنَّ هذا القيد لم يأتِ به دليل حتى يُصار إليه. المبحث الخامس: الترجيح: الذي يَظْهُرُ صَوَابُه ـ والله تعالى أعلم ـ أَنَّ المراد بالآيات جَعْلُ الحرم آمناً إلى قُرْبِ قيام الساعة وخراب الدنيا، ذلك أنَّ خراب البيت كائن لا محالة عند خراب العالم بأجمعه، إلا أنَّ الله تعالى جعل خرابه على يد ذي السويقتين لحكمة أرادها سبحانه، وهو وقت خرابه لا حاجة للأمن فيه، إذ ليس هناك عامر للبيت من المؤمنين حتى يكون هناك حاجة للأمن، وعليه فإنَّ الأمن الموعود في الآيات إنما هو في حال عمارة البيت بأهله من المؤمنين، فإذا اندرس المؤمنون في آخر الزمان ـ كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك ـ أصبح البيت مهجوراً لا عامر له، وحينئذٍ يقع خراب ذي السويقتين له، والذي يكون مؤذناً بنهاية هذا العالم، والله تعالى أعلم. **** ¬
المسألة [23]: هل كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده الشريفة شيئا أم لا؟
المسألة [23]: هل كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده الشريفة شيئاً أم لا؟ المبحث الأول: ذكر الآيات الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)) [العنكبوت: 48]. وقال تعالى: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ) [الأعراف: 158]. المبحث الثاني: ذكر الحديث الذي يُوهِمُ ظاهِرُه التعارض مع الآيات: (48) ـ (41): عَنْ الْبَرَاءِ بنِ عَازِبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: "لَمَّا اعْتَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَدَعُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ حَتَّى قَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يُقِيمَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَتَبُوا الْكِتَابَ كَتَبُوا: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. قَالُوا: لَا نُقِرُّ لَكَ بِهَذَا، لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا مَنَعْنَاكَ شَيْئًا، وَلَكِنْ أَنْتَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. فَقَالَ: أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه -: امْحُ رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ عَلِيٌّ: لَا وَاللَّهِ، لَا أَمْحُوكَ أَبَدًا. فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْكِتَابَ - وَلَيْسَ يُحْسِنُ يَكْتُبُ - فَكَتَبَ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ .... ". (¬1) ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآيات والحديث
(49) ـ ( .. ): وفي رواية لمسلم: "فَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَمْحَاهَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا وَاللَّهِ لَا أَمْحَاهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرِنِي مَكَانَهَا. فَأَرَاهُ مَكَانَهَا؛ فَمَحَاهَا وَكَتَبَ: ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ .... ". (¬1) المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآيات والحديث: ظاهرُ رواية مسلم أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - محا اسمه الشريف "رسول الله" وكتب مكانه بيده الشريفة "ابن عبد الله"، ورواية البخاري جاءت بأصرح من هذا، وفيها: "فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْكِتَابَ - وَلَيْسَ يُحْسِنُ يَكْتُبُ - فَكَتَبَ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ". وهذا المعنى المتبادر من هاتين الروايتين يُوهِم خِلاف الآيات، والتي ظاهرها أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يحسن القراءة ولا الكتابة. (¬2) ¬
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآيات والحديث
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآيات والحديث: لم يتجاوز العلماء في هذا المسألة مسلك الجمع بين الآيات والحديث، وقد اختلفوا في الجمع على مذهبين: الأول: مذهب إجراء الحديث على ظاهره، وتأويل الآيات. وهذا مذهب جماعة من المحدثين منهم: عمر بن شبة (¬1) (¬2)، وأبي ذر الهروي (¬3) (¬4)، وأبي الفتح النيسابوري (¬5) (¬6)، والقاضي أبي جعفر السمناني الأصولي (¬7) (¬8)، والقاضي أبي الوليد الباجي (¬9). وهو اختيار: ابن العربي، وابن الجوزي، وأبي العباس القرطبي، والطيبي، والذهبي، والآلوسي، والزرقاني. (¬10) حيث ذهب هؤلاء إلى أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب بيده حقيقة، وأنَّ الله تعالى ¬
أجرى ذلك على يده؛ إما بأنْ كتب ذلك وهو غيرُ عالمٍ بما يَكْتُب، أو أنَّ الله تعالى عَلَّمَه ذلك حينئذٍ حتى كتب، ورأوا أنَّ ذلك غير قادحٍ في كونه أميَّاً، ولا مُعارضٌ لقوله تعالى: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ)، ولا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ" (¬1)، بل رأوه زيادة في معجزاته، واستظهاراً على صدقه وصحة رسالته، وذلك أنه كتب من غير تعلم للكتابة، ولا تعاطٍ لأسبابها، وإنما أجرى الله تعالى على يده وقلمه حركات كانت عنها خطوط مفهومها "ابن عبد الله" لمن قرأها، فكان ذلك خارقاً للعادة، كما أنه عليه السلام عَلِمَ عِلْمَ الأولين والآخرين من غير تَعَلُّمٍ ولا اكتساب، فكان ذلك أبلغ في معجزاته، وأعظم في فضائله، ولا يزول عنه اسم الأمي بذلك، ولذلك قال الراوي عنه في هذه الحالة: "وَلَيْسَ يُحْسِنُ يَكْتُبُ" فبقي عليه اسم الأمي مع كونه قال كَتَب. قال أبو العباس القرطبي: "وقد أنكر هذا كثير من متفقهة الأندلس وغيرهم، وشددوا النكير فيه، ونسبوا قائله إلى الكفر، وذلك دليل على عدم العلوم النظرية، وعدم التوقف في تكفير المسلمين، ولم يتفطنوا أنَّ تكفير المسلم كقتله، على ما جاء عنه عليه السلام في الصحيح (¬2)، لا سيما رَمْي من شهد له أهل عصره بالعلم والفضل والإمامة، على أنَّ المسألة ليست قطعية، بل مستندها ظواهرُ أخبارِ أحادٍ صحيحة، غير أنَّ العقل لا يحيلها، وليس في الشريعة قاطع يحيل وقوعها". اهـ (¬3). ومراد أبي العباس القرطبي هو ما جرى لأبي الوليد الباجي، فإنه لما ¬
تكلم في حديث الكتابة يوم الحديبية (¬1) وقال بظاهره، طعن عليه جماعة من علماء عصره، ورموه بالزندقة، لاعتقادهم أنَّ هذا القول فيه قدح بمعجزة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فألفَّ الباجي رسالته المسماة بـ"تحقيق المذهب"، وبيَّن فيها أنَّ هذا القول لا يقدح بالمعجزة. (¬2) وقد ساق قصةَ الباجي هذه القاضي عياض، فقال: "ولما تكلم أبو الوليد في حديث الكتابة يوم الحديبية الذي في البخاري قال بظاهر لفظه فأنكر عليه الفقيه أبو بكر بن الصائغ (¬3) وكفَّرَه بإجازة الكَتْبِ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النبي الأميّ، وأنَّه تكذيبٌ بالقرآن، فتكلم في ذلك من لم يفهم الكلام، حتى أطلقوا عليه الفتنة، وقبَّحوا عند العامة ما أتى به، وتكلم به خطباؤهم في الجُمَع، وقال شاعرهم: بَرِئْتُ ممن شَرَى دُنْياً بآخرَة ... وقال إنَّ رسولَ اللهِ قد كَتَبَا فصنف أبو الوليد رسالةً بيَّن فيها أنَّ ذلك غير قادحٍ في المعُجزة". اهـ (¬4) وأجاب أصحاب هذا المذهب عن الآيات: بأنَّ نفي الكتابة في الآية المقصود به الحال التي قبل النبوة؛ لأنه قيد النفي بما قبل ورود القرآن فقال: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ)، وأما بعد النبوة فليس في الآية ما يدل على امتناعه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - صار يعلم الكتابة بعد أن كان لا يعلمها، وعدم معرفته كان بسبب المعجزة، فلما نزل القرآن، واشتهر الإسلام، وكثر المسلمون، وظهرت المعجزة، وأُمِنَ الارتياب في ذلك، عرف حينئذ الكتابة. ¬
وأمَّا كونه أمّياً فليس في معرفته للكتابة ما يقدح في أمّيته؛ إذ ليست المعجزة مجرد كونه أمياً؛ فإن المعجزة حاصلة بكونه - صلى الله عليه وسلم - كان أولاً كذلك ثم جاء بالقرآن وبعلوم لا يعلمها الأميون. ذكر هذا الجواب: أبو الوليد الباجي، وابن العربي، وابن الجوزي، وأبو العباس القرطبي. (¬1) وأجاب الذهبي: "بأنَّ ما كلّ من عرف أنْ يكتب اسمه فقط يخرج عن كونه أمياً؛ لأنه لا يسمى كاتباً، وجماعة من الملوك قد أدمنوا في كتابة العلامة وهم أميون، والحكم للغلبة لا للصورة النادرة، فقد قال عليه السلام: "إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ" (¬2) أي أكثرهم كذلك لندور الكتابة في الصحابة، وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)) [الجمعة: 2] ". اهـ (¬3) واعتُرِضَ على هذه الأجوبة: بأنَّ كتابته - صلى الله عليه وسلم - تكون آية إذا لم تكن مناقضةً لآية أخرى، وهي كونه أمياً لا يكتب، وبكونه أمياً في أمة أمية قامت الحجة وأفحم الجاحد وانحسمت الشبهة، فكيف يُطْلِق الله يدَه لتكون آية؟ وإنما الآية أنْ لا يكتب، والمعجزات يستحيل أنْ يدفع بعضها بعضاً. (¬4) أدلة هذا المذهب: استدل القائلون بإثبات الكتابة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأدلة منها (¬5): ¬
1 - رواية البخاري: "وَلَيْسَ يُحْسِنُ يَكْتُبُ فَكَتَبَ"، وهي صريحة في أنه - صلى الله عليه وسلم - كتب بنفسه، ويعضدها ويقويها رواية مسلم أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - محا "رسول الله"، وكتب "ابن عبد الله". 2 - حديث عبد الله بن عتبة (¬1) قال: "مَا مَاتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى كَتَبَ وَقَرَأ". (¬2) 3 - حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ مَكْتُوبًا: الصَّدَقَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَالْقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ". (¬3) ووجه الدلالة: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ المكتوب على باب الجنة، والقدرة على القراءة يدل على معرفة الكتابة. واعتُرِضَ على هذا الدليل: باحتمال إقدار الله له على ذلك بغير تَقْدُمَةِ معرفة الكتابة، وهو أبلغ في المعجزة، وباحتمال أنْ يكون حُذِفَ من الحديث شيء، والتقدير: فسألت عن المكتوب فقيل لي: هو كذا. (¬4) 4 - حديث سهل بن الحنظلية (¬5): "أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أمر معاوية أنْ يكتب للأقرع بن حابس (¬6)، وعيينة بن حصن (¬7)، قال عيينة: أتراني أذهب إلى قومي بصحيفة كصحيفة الْمُتَلَمِّسِ (¬8)؟! فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحيفة فنظر فيها فقال: ¬
قد كُتِبَ لك بالذي أمرتُ لك به". (¬1) ووجه الدلالة: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نظر في المكتوب وعرفه؛ فدل على معرفته بالقراءة، والكتابة فرع عنها. واعترض أصحاب المذهب الثاني على هذه الأدلة بأنها ضعيفة كلها، عدا رواية البخاري، وسيأتي الجواب عنها. (¬2) الثاني: مذهب إعمال الآيات على ظاهرها، وتأويل الحديث. وهذا مذهب الجمهور من العلماء (¬3)، منهم: ابن حبان، والبيهقي، وابن التين، والنووي، والبغوي، والسهيلي، وابن عطية، وأبو عبد الله القرطبي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن كثير، وابن حجر، والعيني، والسيوطي، ¬
والملا علي القاري، والألباني، وابن عثيمين. (¬1) ويرى أصحاب هذا المذهب أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكتب، ولم يكن يُحْسِنُ الكتابة، كما هو صريح الآيات، وأنه لم يزل كذلك مدة حياته - صلى الله عليه وسلم -. وأجابوا عن حديث البراء - رضي الله عنه -، والذي يُوهِمُ ظاهره أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب بيده: بأنَّ القصة رُويت من طرق أخرى، وفيها أن الكاتب كان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وقع ذلك في رواية أخرى للبخاري - من حديث البراء - بلفظ: "لَمَّا صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ كَتَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بَيْنَهُمْ كِتَابًا فَكَتَبَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ" (¬2)، فتُحمل الرواية الأولى، وهي قوله: "فكتب"، أي فأمر الكاتب، ويَدُلُّ عليه حديث أنس بن مالك، والمسور بن مخرمة، في القصة نفسها؛ ففيهما: "فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي، اكْتُبْ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ" (¬3). قالوا: وقد ورد في كثير من الأحاديث إطلاق لفظ "كتب" بمعنى أمر، منها: حديثُ ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى قيصر (¬4)، وحديثُ كتابته - صلى الله عليه وسلم - إلى النجاشي، وحديثُ كتابته إلى كسرى (¬5)، وحديثُ عبد الله بن ¬
المبحث الخامس: الترجيح
عكيم - رضي الله عنه -: "كتب إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (¬1)، وغيرها، وهذه الأحاديث كلها محمولة على أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر الكاتب أنْ يكتب. قالوا: ومما يقوي أنَّ الكاتب في قصة الحديبية هو عليٌ - رضي الله عنه -: قوله في بعض طرق حديث البراء - لما امتنع علي أنْ يمحوَ لفظ "محمد رسول الله" - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أَرِنِي مَكَانَهَا. فَأَرَاهُ مَكَانَهَا، فَمَحَاهَا"؛ فإنَّ ظاهره أنه لو كان يعرف الكتابة لما احتاج إلى قوله: "أرني"، فكأنه أراه الموضع الذي أبى أنْ يمحوه، فمحاه هو - صلى الله عليه وسلم - بيده، ثم ناوله لعلي فكتب بأمره: "ابن عبد الله"، بدل: "رسول الله". (¬2) المبحث الخامس: الترجيح: الذي يَظْهُرُ صَوَابُه - والله تعالى أعلم - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يَخُط بيمينه خَطَّاً مقروءاً مدة حياته كلها، كما هو صريح الآيات. وأمَّا الروايات التي جاءت في قصة الحديبية؛ فقد وقع فيها اضطراب من قبل الرواة، حيث رويت بخمسة ألفاظ: الأول: "أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب: (محمد بن عبد الله)، وهو لا يُحسن الكتابة". وهذه الرواية جاءت من طريقٍ واحدة، عن أبي إسحاق، عن البراء. ¬
الثاني: "أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - محا: (رسول الله)، وكتب: (ابن عبد الله) ". وهذه الرواية جاءت من طريقٍ واحدة، عن أبي إسحاق، عن البراء. وليس فيها تصريح بأنَّ الذي كتب هو النبي - صلى الله عليه وسلم -. الثالث: "أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - محا: (رسول الله) بيده الشريفة". ولم تذكر هذه الرواية أنه كتب: (ابن عبد الله)، وهذه الرواية جاءت من طريقين، عن أبي إسحاق، عن البراء. الرابع: "أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر علياً - رضي الله عنه - أنْ يكتب: (محمد بن عبد الله) ". وهذه الرواية جاءت من حديث أنس بن مالك، والمسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم، رضي الله عنهم، ورُويت من طريق إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق، عن البراء، إلا أنها شاذة ومنكرة من هذا الطريق. والأصح من هذه الروايات: الرواية التي اقتصرت على ذكر المحو دون الكتابة؛ لأنها جاءت من طريقين عن أبي إسحاق، عن البراء، دون اضطراب. وأثبتُ منها الرواية التي فيها أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر علياً - رضي الله عنه - أنْ يكتب: "محمد بن عبد الله"؛ لأنها جاءت عن صحابيين، ولم يقع فيها اضطراب كحديث البراء. وعليه فإنَّ الصواب في قصة الحديبية أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر علياً أنْ يمحوَ لفظة: "رسول الله"، ويكتب مكانها: "ابن عبد الله"، فَأَبَى عليٌ - رضي الله عنه - ذلك؛ إجلالاً لاسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُمحى، فأمره رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُريَهُ مكانها؛ فأراه مكانها؛ فمحاها النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده الشريفة، ثم إنَّ علياً كتب بعد ذلك: "ابن عبد الله"، نزولاً عند رغبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، لمَّا رآه محا: "رسول الله". هذا هو الأصح في الجمع بين روايات الحديث؛ لأنا إذا قلنا بأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي كتب: "ابن عبد الله"؛ صارت روايات القصة متعارضة ومتناقضة، لكن القول بأنَّ الكاتب هو علي - رضي الله عنه - يدفع هذا التناقض؛ لأنا حملنا الرواية المطلقة على المقيدة، فانتفى التعارض بينها، واندفع الإشكال المُوهِم معارضة الآيات، والله تعالى أعلم. ****
المسألة [24]: في حكم تسمية المدينة النبوية بيثرب
المسألة [24]: في حكم تسمية المدينة النبوية بيثرب. المبحث الأول: ذكر الآية الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)) [الأحزاب: 13] المبحث الثاني: ذكر الأحاديث التي يُوهِمُ ظاهرها التعارض مع الآية: (49) ـ (42): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى، يَقُولُونَ: يَثْرِبُ، وَهِيَ الْمَدِينَةُ، تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ (¬1) خَبَثَ الْحَدِيدِ". (¬2) (50) ـ (43): وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَمَّى الْمَدِينَةَ يَثْرِبَ فَلْيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، هِيَ طَابَةُ، هِيَ طَابَةُ". (¬3) ¬
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآية والأحاديث
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآية والأحاديث: ظاهرُ حديثِ أبي هريرة - رضي الله عنه - كراهَةُ تسميةِ المدينةِ بيثرب، ويؤكد هذا الظاهر حديث البراء، والذي فيه النهي الصريح عن ذلك، إلا أنه حديث ضعيف باتفاق، وأما الآية الكريمة فظاهرها يَدُلُّ على جواز تسمية المدينة بيثرب، وهذا يُوهِمُ التعارض بين الآية والحديث. (¬1) ¬
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية والأحاديث
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية والأحاديث: اتفق العلماء على كراهةِ تسميةِ المدينة بيثرب، عملاً بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الوارد في المسألة، وأما الآية الكريمة - التي يُوهِمُ ظاهرها مُعارضة الحديث - فلهم في الجواب عنها مذهبان: الأول: أنَّ ما وقع في الآية هو عبارة عن حكاية قول المنافقين، فهو سبحانه يحكي مقولتهم: (يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا) وليس في الآية ما يفيد جواز تسميتها بهذا الاسم. وهذا التأويل قال به جمع من العلماء، منهم: ابن بطال، وأبو الوليد الباجي، والقاضي عياض، والسهيلي، وأبو العباس القرطبي، والنووي، وابن القيم، والحافظ ابن حجر، والعيني، والسيوطي، والزرقاني. (¬1) قال القاضي أبو الوليد الباجي: "قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا)، هذا ـ والله أعلم ـ إخبارٌ عن المنافقين; لأن قبل هذه الآية: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)) ثم قال سبحانه وتعالى: (وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا)، وهذا ـ والله أعلم ـ قول المنافقين، يدل على ذلك: أنه قال بعد ذلك: (فَارْجِعُوا)، وهذا إنما هو قول من كان يريد رَدَّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن نُصْرَته والمُقام معه، فهؤلاء إنما كانوا يسمونها يثرب، على حسب ما كانت تُسمى عليه قبل الإسلام، فأما بعد الإسلام فإنَّ اسمها طيبة وطابة". اهـ (¬2) ¬
المذهب الثاني: أنَّ القرآن سماها يثرب باعتبار ما كان معروفاً في الجاهلية، ونَهْيُ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بعد ذلك. وهذا تأويل الحافظ ابن عبد البر، حيث قال: "في هذا الحديث دليلٌ على كراهية تسمية المدينة بيثرب، على ما كانت تُسمى في الجاهلية، وأما القرآن فنزل بذكر يثرب على ما كانوا يعرفون في جاهليتهم، ولعل تسمية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها بطيبة كان بعد ذلك". اهـ (¬1) فائدة: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الوارد في المسألة ـ والذي يَدُلُّ بظاهره على كراهة تسمية المدينة بيثرب ـ جاء في الصحيح ما يَدُلُّ على خلافه، فعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهَلِي إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ، فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ". (¬2) وللعلماء في الجواب عن هذا الحديث ثلاثة مذاهب: الأول: أنَّ هذا كان قبل النهي. وهذا جواب: القاضي عياض، والحافظ ابن حجر، والزرقاني. (¬3) الثاني: أنَّ هذا لبيان أنَّ النَّهْيَ للتنزيه لا للتحريم. وهذا جواب العيني. (¬4) الثالث: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سمَّاها يثرب باعتبار من لا يعرفها إلا بهذا الاسم، ولهذا جمع بينه وبين اسمه الشرعي فقال: المدينة يثرب. وهذا المذهب حكاه النووي في شرح مسلم. (¬5) ¬
المبحث الخامس: الترجيح
المبحث الخامس: الترجيح: الذي يَظْهُرُ صَوَابُه ـ والله تعالى أعلم ـ أنَّ ما وقع في الآية هو عبارة عن حكاية قول المنافقين، وحكاية القرآن لبعض المقولات، وسكوته عنها، لا يلزم منه إقرارٌ لتلك المقولات، ذلك أنَّ سكوت القرآن عن المقولات لا يخلو من حالتين: الأولى: أنْ يكل الله تعالى البيان لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، فيبين للناس حكم تلك المقولة. الثانية: أنْ لا يكون هناك بيان من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعدم البيان يدل على الإقرار من الله تعالى. وفي مسألتنا هذه جاء البيان من النبي - صلى الله عليه وسلم - بكراهة تسمية المدينة بيثرب، فَدَلَّ على أنَّ مقولة المنافقين تلك لا يصح استعمالها، والله تعالى أعلم.
المسألة [25]: في حكم الجمع بين اسم الله تعالى، واسم غيره في ضمير واحد
المسألة [25]: في حكم الجمع بين اسم الله تعالى، واسم غيره في ضمير واحد. المبحث الأول: ذكر الآية الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)) [الأحزاب: 56]. المبحث الثاني: ذكر الحديث الذي يُوهِمُ ظاهره التعارض مع الآية: (51) ـ (44): عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ - رضي الله عنه -: "أَنَّ رَجُلًا خَطَبَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ، قُلْ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ غَوِيَ". (¬1) ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآية والحديث
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآية والحديث: ظاهر قوله تعالى: (يُصَلُّونَ) جواز الجمع بين اسم الله تعالى، واسم غيره من المخلوقين في ضمير واحد، وكلمة واحدة، وأما الحديث الشريف فيُوهِم خلاف الآية؛ لأَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر على الخطيب قوله: "ومن يعصهما"، وأمَرَه بأنْ يقول: "ومن يعص الله ورسوله"، وهذا الإنكار منه - صلى الله عليه وسلم - يُفهم منه تحريم الجمع بين اسم الله تعالى، واسم غيره من المخلوقين في ضمير واحد،
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية والحديث
وكلمة واحدة. (¬1) المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية والحديث: للعلماء في دفع التعارض بين الآية والحديث مسلكان: الأول: مسلك الجمع بينهما: وعلى هذا المسلك عامةُ العلماء، من مفسرين ومحدثين وفقهاء، إلا أَنَّهم اختلفوا في الجمع على مذاهب: الأول: أَنَّ مثل هذا التركيب جائزٌ في كلام الله تعالى، وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأما سائر الناس فلا يجوز لهم أنْ يجمعوا بين اسم الله تعالى، واسم رسوله - صلى الله عليه وسلم - في ضمير واحد، وكلمة واحدة. وهذا مذهب الجمهور من العلماء، وممن قال به: الشافعي، والخطابي، والبغوي، والقاضي عياض، والفخر الرازي، وابن الأثير، وأبو العباس القرطبي، وأبو عبد الله القرطبي، والحافظ زين الدين العراقي (¬2)، وابن عبدالسلام، والحافظ ابن حجر، والسيوطي، والسندي، والشوكاني، والآلوسي، والألباني. (¬3) ¬
وأيَّدوا مذهبهم: بالآية الكريمة، وبأحاديث رُويت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله، وفيها استعماله - صلى الله عليه وسلم - لمثل هذا التركيب، ومن هذه الأحاديث: 1 - حديث أنس - رضي الله عنه -، أَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ". (¬1) 2 - وحديث أنس - رضي الله عنه - قال: "لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ جَاءَ جَاءٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُكِلَتْ الْحُمُرُ. ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُفْنِيَتْ الْحُمُرُ. فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا طَلْحَةَ فَنَادَى: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ ... ". (¬2) 3 - وحديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا تَشَهَّدَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، مِنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ، مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ، وَلَا يَضُرُّ اللَّهَ شَيْئًا". (¬3) والشاهد من هذه الأحاديث: قوله: "مِمَّا سِوَاهُمَا"، وقوله: "يَنْهَيَانِكُمْ"، وقوله: "وَمَنْ يَعْصِهِمَا"، حيث جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين اسم الله تعالى، واسمه - صلى الله عليه وسلم -، في ضمير واحد، وكلمة واحدة، فدلَّ على جواز ذلك، إذا كان من ¬
قوله - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) وقد أشار بعض أصحاب هذا المذهب للعلة التي أوجبت نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن مثل هذا الأسلوب، فقالوا: إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أنكر عليه قوله: "وَمَنْ يَعْصِهِمَا"، لتشريكه في الضمير المقتضي للتسوية، وأمره بالعطف تعظيماً لله تعالى، بتقديم اسمه، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر: "لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ، وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ". (¬2) ذكر هذا الوجه: الشافعي، والخطابي، والبغوي، والقاضي عياض، والفخر الرازي، وابن الأثير، وأبو العباس القرطبي، وأبو عبد الله القرطبي، والحافظ زين الدين العراقي، وابن عبد السلام، والحافظ ابن حجر، والسيوطي، والسندي. (¬3) قال الشيخ عز الدين ابن عبد السلام: "من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يجوز له الجمع في الضمير بينه وبين ربه تعالى، وذلك ممتنعٌ على غيره، وإنما يمتنع من غيره دونه؛ لأَنَّ غيره إذا جمع أوهم إطلاق التسوية، بخلافه هو - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّ منصبه لا يتطرق إليه إيهام ذلك". اهـ (¬4) المذهب الثاني: وهو ما ذكره النووي: أَنَّ سبب النهي هو أَنَّ الخُطَبَ ¬
شأنها البسط والإيضاح، واجتناب الإشارات والرموز، ولهذا ثبت في الصحيح أَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً ليفهم (¬1). ثم أشار النووي إلى ضعف مذهب الجمهور المُتقدم فقال: وأما قول الأولين فيضْعُف بأشياء، منها: أَنَّ مثل هذا الضمير قد تكرر في الأحاديث الصحيحة من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا" (¬2)، وغيره من الأحاديث، وإنما ثنَّى الضمير ها هنا؛ لأَنَّه ليس خطبة وعظ، وإنما هو تعليم حِكَم، فكُلَّما قَلَّ لفظه كان أقرب إلى حفظه، بخلاف خطبة الوعظ، فإنه ليس المراد حفظه، وإنما يراد الاتعاظ بها، ومما يؤيد هذا ما ثبت في سنن أبي داود، بإسناد صحيح، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة الحاجة، الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أَنْ لا إله إلا الله، وأشهد أَنَّ محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً". (¬3) والله أعلم". اهـ (¬4) وقد وافق النوويَ على رأيه هذا: الشوكانيُ، وأبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي. (¬5) وعلى مذهب النووي ومن تبعه فإنه لا إشكال في الآية؛ لأَنَّها ليست في سياق الخطبة والوعظ، إذ الممتنع على رأيهم هو استعمال مثل هذا الأسلوب في خطب الوعظ فقط. وقد اعترض السندي على رأي النووي فقال: "إنه ضعيف جداً؛ إذ لو ¬
كان ذلك سبباً للإنكار، لكان في محل حصل فيه بالضمير نوع اشتباه، وأما في محل لا اشتباه فيه فليس كذلك، وإلا لكان ذِكْرُ الضمير في الخطبة مُنكراً منهياً عنه، مع أَنَّه ليس كذلك، بل الإظهار في بعض المواضع في الخطب يكون مُنكراً فتأمل". اهـ (¬1) المذهب الثالث: أَنَّ ما جاء في الآية - من جمع اللهِ تعالى الملائكةَ مع نفسه في ضمير واحد - جائزٌ للبشر فعله، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: "بئس الخطيب أنت" لهذا المعنى، وإنما قاله لأَنَّ الخطيب وقف على: "ومن يعصهما"، فجمع بين حالي من أطاع الله ورسوله ومن عصى، والأولى أنْ يقف على: "رشد"، ثم يقول: "ومن يعصهما فقد غوى". (¬2) وهذا مذهب أبي جعفر الطحاوي، وابن الجزري، وابن عطية. (¬3) قال الطحاوي: "المعنى عندنا - والله أعلم - أَنَّ ذلك يرجع إلى معنى التقديم والتأخير، فيكون: من يطع الله ورسوله ومن يعصهما فقد رشد، وذلك كفر، وإنما كان ينبغي له أنْ يقول: ومن يعصهما فقد غوى، أو يقف عند قوله: فقد رشد، ثم يبتدئ بقوله: ومن يعصهما فقد غوى، وإلا عاد وجهه إلى التقديم والتأخير الذي ذكرنا". اهـ (¬4) وقد اعترض أبو العباس القرطبي على هذا المذهب فقال: "وهذا التأويل لم تساعده الرواية، فإنَّ الرواية الصحيحة أنه أتى باللفظين في مساق واحد، وأَنَّ آخر كلامه إنما هو: "فقد غوى"، ثم إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - رد عليه وعلمه صواب ما أخل به، فقال: "قل: ومن يعص الله ورسوله فقد غوى"، فظهر أَنَّ ذَمَّه له إنما كان على الجمع بين الاسمين في الضمير". اهـ (¬5) ¬
وقد أجاب ابن عطية على هذا الاعتراض، فقال: "يحتمل أنْ يكون لما خَطَّأَه في وقفه وقال له: "بئس الخطيب أنت" أصلح له بعد ذلك جميع كلامه؛ لأَنَّ فصل ضمير اسم الله تعالى من ضمير غيره أولى لا محالة، فقال له: "بئس الخطيب أنت" لموضع خطئه في الوقف، وحَمَلَه على الأولى في فصل الضميرين، وإنْ كان جمعهما جائزاً". اهـ (¬1) قلت: لكن ما اعترض به القرطبي الصواب عدم ثبوته في الحديث، وسيأتي مزيد بيانٍ لذلك في مبحث الترجيح. المذهب الرابع: وهو مذهب أبي بكر الجصاص، حيث قال: "قد ذكر الله تعالى في كتابه اسْمَهُ وذكر نبيَّه - صلى الله عليه وسلم -، فأفرد نفسه بالذِّكر ولم يجمع الاسمين تحت كناية واحدة، نحو قوله تعالى: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة: 62]، ولم يقل: "ترضوهما"؛ لأَنَّ اسم الله واسم غيره لا يجتمعان في كناية، وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه خطب بين يديه رجل فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قم، فبئس خطيب القوم أنت"، لقوله: "ومن يعصهما". فإن قيل: فقد قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) فجمع اسمه واسم ملائكته في الضمير؟ قيل له: إنما أنكرنا جمعهما في كناية يكون اسماً لهما، نحو الهاء التي هي كناية عن الاسم، فأما الفعل الذي ليس باسم ولا كناية عنه وإنما فيه الضمير فلا يمتنع ذلك فيه". اهـ (¬2) المذهب الخامس: أَنَّ ما جاء في الحديث من النهي يجب إعماله على إطلاقه، فلا يجوز الجمع بين اسم الله تعالى واسم نبيه في ضمير واحد. وهذا مذهب أبي جعفر النحاس، وأجاب عن الآية: بأَنَّ فيها حذفاً تقديره: "إنَّ الله يصلي، وملائكته يصلون"، فيكون الضمير في قوله: "يصلون"، مختص بالملائكة فقط، ولم يُجِبْ عن بقية الأحاديث الواردة في المسألة، التي جاء فيها استعمال مثل هذا التركيب. (¬3) ¬
المبحث الخامس: الترجيح
المسلك الثاني: مسلك الترجيح: ويرى أصحاب هذا المسلك أَنَّ قوله في الحديث: "قُلْ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ غَوِيَ"، لم يُثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله، وإنما هي زيادة مدرجة من بعض الرواة. وهذا رأي أبي بكر ابن العربي، وأشار إليه الحافظ ابن رجب. (¬1) ولم يُبَيّن ابن العربي العلة التي أوجبت إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - على الخطيب. المبحث الخامس: الترجيح: الذي يَظْهُرُ صَوَابُه - والله تعالى أعلم - هو ما ذهب إليه أبو جعفر الطحاوي، ومن تبعه: أَنَّ ما جاء في الآية - من جمع اللهِ تعالى الملائكةَ مع نفسه في ضمير واحد - جائز للبشر فعله، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: "بئس الخطيب أنت" لهذا المعنى، وإنما قاله لأَنَّ الخطيب وقف على: "ومن يعصهما" وسكت سكتة، فأوهم إدخال العاصي في الرشد. وأما الحديث فأصح رواياته الرواية التي وقف فيها الخطيب على قوله: "ومن يعصهما"، وليس في هذه الرواية أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في آخر الحديث: "قُلْ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ غَوِيَ"، ونصُّ هذه الرواية كاملة: "أَنَّ خَطِيبًا خَطَبَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا. فَقَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُمْ، أَوْ اذْهَبْ، بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ". وهذه الرواية هي الأصح، لأمور: الأول: أَنَّها جاءت من طريق يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، ولم يختلف النقاد في تقديم يحيى القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، على وكيعٍ، في سفيان. ¬
قال البخاري: "أعلم الناس بالثوري يحيى بن سعيد، لأَنَّه عرف صحيح حديثه من تدليسه". اهـ (¬1) وقال صالح بن الإمام أحمد: قلت لأبي: "أيما أثبت عندك، عبد الرحمن بن مهدي، أو وكيع؟ قال: عبد الرحمن أقل سقطاً من وكيع في سفيان، قد خالفه وكيع في ستين حديثاً من حديث سفيان، وكان عبد الرحمن يجيء بها على ألفاظها، وكان لعبد الرحمن توقٍ حسن". اهـ (¬2) وقال أبو حاتم الرازي: "عبد الرحمن بن مهدي أثبت من يحيى بن سعيد، وأتقن من وكيع، وكان عرض حديثه على سفيان الثوري". اهـ (¬3) وقال: "سئل أحمد عن يحيى، وعبد الرحمن، ووكيع؟ فقال: كان عبد الرحمن أكثرهم حديثاً". اهـ (¬4) الثاني: أَنَّ زيادة "قُلْ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ غَوِيَ"، لم تأتِ إلا من طريق وكيع، عن سفيان، ومن طريق إبراهيم بن طهمان، عن عبد العزيز بن رفيع، وخالفهما بقية الرواة وهم الأكثر فلم يذكروا هذه الزيادة. الثالث: أَنَّ زيادة "فقد غوى" بعد قول الخطيب: "ومن يعصهما" وإنْ كانت رُويت من طرق أخرى إلا أَنَّ رواية يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي أولى؛ لأَنَّهما أحفظ عن سفيان، ولأَنَّ سفيان أحفظ من بقية الرواة عن عبد العزيز بن رفيع، والله تعالى أعلم. ¬
المسألة [26]: في نظم النبي - صلى الله عليه وسلم - للشعر
المسألة [26]: في نظم النبي - صلى الله عليه وسلم - للشِعْر. المبحث الأول: ذكر الآية الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)) [يس: 69]. المبحث الثاني: ذكر الأحاديث التي يُوهِمُ ظاهرها التعارض مع الآية: (52) ـ (45): عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلاً قَالَ لَهُ: "يَا أَبَا عُمَارَةَ، وَلَّيْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ (¬1)؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ، مَا وَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ وَلَّى سَرَعَانُ النَّاسِ؛ فَلَقِيَهُمْ هَوَازِنُ (¬2) بِالنَّبْلِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذٌ بِلِجَامِهَا، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أَنَا النَّبِيُّ لا كَذِبْ ... أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ". (¬3) ¬
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآية والأحاديث
(53) ـ (46): وعَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ جُنْدَبًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: "بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي إِذْ أَصَابَهُ حَجَرٌ فَعَثَرَ فَدَمِيَتْ إِصْبَعُهُ؛ فَقَالَ: هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ ... وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ". (¬1) المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآية والأحاديث: ظاهرُ الآيةِ الكريمة أنَّ الشِّعْرَ مُمتَنِعٌ تَعَلُّمه ونَظْمه على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأمَّا الحديثين فقد جاء فيهما ما يُوهِمُ مُعارَضَة هذا الظاهر؛ إذ فيهما أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنشد ذينك البيتين من تلقاء نفسه، وهذا يُوهِمُ قُدْرَةَ النبي - صلى الله عليه وسلم - على النَّظْمِ، وهو خِلافُ الآية. (¬2) المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية والأحاديث: اتفق العلماء على أنَّ الشِّعْرَ ممتنعٌ (¬3) نَظْمه على النبي - صلى الله عليه وسلم -، أخذاً بظاهر الآية الكريمة (¬4)، واختلفوا في حكم تمثل النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيء من الشِّعْر وإنشاده، ¬
حاكياً عن غيره، والصحيح جوازه، وعليه الجمهور من العلماء. (¬1) وأمَّا أحاديث الباب - التي يُوهِمُ ظاهرها أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال شيئاً من الشِّعْر من تلقاء نفسه - فقد اختلفوا في الجواب عنها على مذاهب: الأول: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك النظم اتفاقاً ولم يقصد به قرض الشِّعْر؛ والكلام قد يخرج موزوناً على وزن الشِّعْر من غير معرفةٍ أو قصدٍ من قائله. وقد حكى ابن القطاع اللغوي (¬2)، وأقَرَّهُ النووي، الإجماع على أنَّ شرط تسمية الكلام شِعْراً أنْ يَقْصُدَ له قائله. (¬3) ويرى أصحاب هذا المذهب أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقصد نظماً ووزناً فيكون شِعْراً، إذ قد يأتي في الكلام والقرآن ما يتَّزِن بوزن الشِّعْر وليس بشِعْر، كقوله تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران: 92]، وقوله: (وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ) [سبأ: 13]، وقوله: (نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) [الصف: 13]، وكثيراً ما يقع للعوام في كلامهم: المُقَفَّى الموزون، وليس بشِعْر، ولا يُسمى قائله شاعراً؛ لأنه لم يَقْصُده، ولا شَعُرَ به، والشِّعْرُ إنما سُمِّيَ بذلك؛ لأنَّ قائله يَشْعُرُ به، ويَقْصُده نظماً، ووزناً، ورَويّاً، وقافيةً، ومعنى. (¬4) وعلى هذا المذهب جماهير العلماء، من مفسرين ومحدثين، وممن قال به: أبو عبيدة معمر بن المثنى (¬5)، وابن قتيبة، وأبو الليث السمرقندي، والزمخشري، والمازري، والقاضي عياض، وابن عطية، والفخر الرازي، وأبو عبد الله القرطبي، والبيضاوي، وابن جزي، والطيبي، وأبو حيان، والذهبي، والحافظ ابن كثير، والزركشي، والحافظ ابن حجر، والسيوطي، وأبو السعود، والملا علي القاري، والمناوي، والشوكاني، والآلوسي، ¬
وابن عثيمين. (¬1) المذهب الثاني: أنَّ تَمَثُّلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ببيتٍ واحدٍ من الشِّعْر لا يلزم منه أنْ يكون عالماً بالشِّعْر، ولا شاعراً؛ لأنَّ إصابة القافيتين من الرَّجَز (¬2) وغيره لا يوجب أن يكون قائلها عالماً بالشِّعْر، ولا يُسمى شاعراً باتفاق العقلاء. والذي نفى الله عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - هو العلم بالشِّعْر؛ بأصنافه، وأعاريضه، وقوافيه، والاتصاف بقوله، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن موصوفاً بشيء من ذلك باتفاق. (¬3) وهذا جواب: الزجاج، والطحاوي، والنحاس، والجصاص، وأبي العباس القرطبي. (¬4) المذهب الثالث: أنَّ الذي قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - هو من الرَّجَز، والرَّجَز لا يُعَدُّ شِعْراً، والذي نفاه الله تعالى عن نبيه إنَّما هو الشِّعْر لا الرَّجَز. ¬
وهذا مذهب: الخليل (¬1)، والأخفش الأوسط (¬2)، وابن التين. وهو اختيار: البيهقي (¬3)، والسهيلي (¬4)، والعيني. (¬5) أما الخليل فيرى أنَّ ما جاء من السَّجَع (¬6) على جزأين فإنَّه لا يكون شِعْراً. (¬7) وأما الأخفش فيرى أنَّ الرَّجَز لا يكون شِعْراً؛ لوقوعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، والله تعالى يقول: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ). (¬8) وقال ابن التين: "لا يُطلق على الرَّجَز شِعْراً؛ إنَّما هو كلام مُرَجَّزٌ مُسَجَّع؛ بدليل أنَّه يُقال لصانعه: راجز، ولا يُقال: شاعر، ويُقال: أَنْشَدَ رجزاً، ولا يُقال: أَنْشَدَ شِعْراً". اهـ (¬9) وقد اختلف العروضيون وأهل الأدب في الرَّجَز هل هو من الشِّعْر أم لا؟ مع اتفاق أكثرهم على أنَّ الرَّجَز لا يكون شِعْراً. (¬10) قال أبو العباس القرطبي: "والصحيح في الرَّجَز أنَّه من الشِّعْر، وإنَّما أخرجه من الشِّعْر من أشكل عليه إنشاد النبي - صلى الله عليه وسلم - إياه فقال: لو كان شِعْراً لما عَلِمَه النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنَّ الله تعالى يقول: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ) قال: وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ من أنشد القليل من الشِّعْر، أو قَالَهُ، أو تَمَثَّلَ به على الندور، لم يستحق به اسم الشاعر، ولا يقال فيه إنَّه تعلم الشِّعْر، ولا يُنسب إليه، ولو كان ذلك للزم أن يُقال عن الناس كلهم شعراء، ويعلمون الشِّعْر؛ لأنَّهم لا يَخْلُونَ أنْ يعرفوا كلاماً موزوناً مرتبطاً على أعاريض الشِّعْر". اهـ (¬11) ¬
المذهب الرابع: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال هذين البيتين مُتَمَثِّلاً، وهما من نظم غيره وليسا من نظمه. وهذا جواب ابن الجوزي، حيث يرى أنَّ كل ما نُقِلَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشِّعْر فهو لغيره، وإنَّما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمثل به، وأما قول الشِّعْر من قِبَلِ نفسه - صلى الله عليه وسلم - فإنَّه ممتنع عليه، ولا يتأتى منه. وأجاب عن قوله - صلى الله عليه وسلم -: أَنَا النَّبِيُّ لا كَذِبْ ... أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ باحتمال أنْ يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - سمعه بلفظ: أَنْتَ النَّبِيُّ لا كَذِبْ ... أَنْتَ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ فغيره وأضافه لنفسه. (¬1) وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ ... وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ فقد جزم الطبري، وابن التين: بأنَّ هذا الرَّجَز من شِعْر عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه -. (¬2) قال الحافظ ابن حجر: "ويؤيد قولهما أنَّ ابن أبي الدنيا في "محاسبة النفس" (¬3) أورد هذين الشطرين لعبد الله بن رواحة، فذكر أنَّ جعفر بن أبي طالب لما قُتِلَ في غزوة مؤتة - بعد أن قُتِلَ زيدُ بن حارثة - أخذ اللواء عبدُ الله بن رواحة فقاتل فأُصِيبَ إصبعه فارتجز وجعل يقول هذين القسمين، وزاد: يَا نَفْس إِنْ لَا تُقْتَلِي تَمُوتِي ... هَذِي حِيَاض الْمَوْت قَدْ صَلِيت ¬
وَمَا تَمَنَّيْت فَقَدْ لَقِيتِ ... إِنْ تَفْعَلِي فِعْلهمَا هُدِيت قال: وذكر الواقدي (¬1): أنَّ الوليد بن الوليد بن المغيرة (¬2) كان رافق أبا بصير (¬3) في صلح الحديبية على ساحل البحر، ثم إنَّ الوليد رجع إلى المدينة، فعثر بالحرة، فانقطعت إصبعه، فقال هذين القسمين". اهـ (¬4) المذهب الخامس: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا كذبٌ" بتنوين الباء مرفوعة، وبخفض الباء من عبد المطلب على الإضافة، وهذا ليس على وزن الشِّعْر. وقوله: هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ ... وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ إنما يكون شِعْراً موزوناً إذا كسرت التاء من "دميت" و "لقيت"، فإنْ سُكِّنَتْ لم يكن شِعْراً بحال؛ لأنَّ هاتين الكلمتين على هذه الصفة تكون فعول، ولا مدخل لفعول في بحر السريع (¬5)، ولعل النبي - صلى الله عليه وسلم - قالها ساكنة التاء أو متحركة التاء من غير إشباع. وهذا جواب: ابن العربي، والكرماني. (¬6) وتعقبهما الحافظ ابن حجر فقال: "وقولهما هذا مردود؛ فإنه يصير من ضرب آخر من الشِّعْر، وهو من ضروب البحر الملقب بالكامل (¬7)، وفي الثاني ¬
المبحث الخامس: الترجيح
زِحَافٌ جائز (¬1) ". اهـ (¬2) المبحث الخامس: الترجيح: الذي يَظْهُرُ صَوَابُه - والله تعالى أعلم - أنَّ ما رُويَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من إنشاده لبعض الشِّعْر إنما قاله اتفاقاً، ولم يقصد به نظم الشِّعْر. وتَمَثُّل النبي - صلى الله عليه وسلم - ببيتٍ واحدٍ من الشِّعْر لا يلزم منه أنْ يكون عالماً بالشِّعْر، لأنَّ الذي نفى الله عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - هو العلم بالشِّعْر، بأصنافه، وأعاريضه، وقوافيه، والاتصاف بقوله، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن موصوفاً بشيء من ذلك باتفاق، فخرج أنْ يكون شاعراً أو عالماً بالشعر. (¬3) وقد كانت سَجيَّتُه - صلى الله عليه وسلم - تأبى صِناعةَ الشِّعْر طبعاً وشرعاً، فعن أبي نَوْفَلِ بْنِ أَبِي عَقْرَبٍ قَالَ: "سَأَلْتُ عَائِشَةَ: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُتَسَامَعُ عِنْدَهُ الشِّعْرُ؟ قَالَتْ: كَانَ أَبْغَضَ الْحَدِيثِ إِلَيْهِ" (¬4). وعن ابن عمر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا" (¬5). وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يحفظ بيتاً على وزن منتظم، وإنْ أنشده زَحَفَهُ أو لم يُتِمَّه، ¬
وهذا مما يؤكد أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يُحْسِنُ صناعة الشعر، ولا تقتضيه جِبلَّتُه، والله تعالى أعلم. (¬1) **** ¬
المسألة [27]: في أشد الناس عذابا يوم القيامة.
المسألة [27]: في أشد الناس عذاباً يوم القيامة. المبحث الأول: ذكر الآية الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)) [غافر: 46]. المبحث الثاني: ذكر الأحاديث التي يُوهِمُ ظاهرها التعارض مع الآية: (54) ـ (47): عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ". (¬1) (55) ـ ( .. ): وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُصَوِّرُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ". (¬2) (56) ـ (48): وعَنْ هِشَام بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، وَخَالِد بْنِ الْوَلِيدِ - رضي الله عنهما - أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا". (¬3) ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
(57) ـ (49): وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه -، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ قَتَلَهُ نَبِيٌّ أَوْ قَتَلَ نَبِيًّا، وَإِمَامُ ضَلَالَةٍ، وَمُمَثِّلٌ مِنْ الْمُمَثِّلِينَ". (¬1) ¬
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآية والأحاديث
(58) ـ (50): وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِي - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَإِنَّ أَبْغَضَ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَشَدَّهُ عَذَابًا: إِمَامٌ جَائِرٌ". (¬1) المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآية والأحاديث: ظاهرُ الآية الكريمة أَنَّ آل فرعون هم أشد الناس عذاباً يوم القيامة، وأنه لا يُعَذَّبُ أحدٌ مثل عذابهم؛ لأنَّ صيغة "أفْعَل" في قوله: "أشد" تفيد الاختصاص وعدم المشاركة (¬2)، وأما الأحاديث فظاهرها أَنَّ ثَمَّةَ آخرين ¬
المبحث الرابع: المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية والأحاديث
يشاركون آل فرعون في العذاب الأشد، وأنَّ آل فرعون غير مختصين بهذا العذاب، وهذا يُوهِمُ التعارض بين الآية والأحاديث. (¬1) المبحث الرابع: المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية والأحاديث: لم يتجاوز العلماء في هذه المسألة مسلك الجمع بين الآية والأحاديث، ولهم في الجمع مذاهب: الأول: أَنَّ الأشدِّية في الآية والأحاديث إنما هي باعتبار جنس المُعَذَّبين، لا باعتبار جنس العذاب، ففرعون أشد الناس عذاباً باعتبار المُدَّعين للإلهية، والمصورون أشد الناس عذاباً بالنسبة إلى غيرهم ممن لا يُصَوِّر، أو يُصَوِّرُ ولكن لغير العبادة، وهكذا. وهذا مذهب: أبي العباس القرطبي، وأبي المحاسن الحنفي، والمناوي، وابن عثيمين. (¬2) قال أبو العباس القرطبي: "قوله: "أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ" يقتضي أنْ لا يكون في النار أحدٌ يزيد عذابه على عذاب المصورين، وهذا يُعارضه قوله تعالى: (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أشد الناس عذاباً يوم القيامة إمام ضلالة"، وأشباه ذلك، ووجه التوفيق: أَنَّ الناس الذين أُضيف إليهم أشد لا يُراد بهم كلُّ نوعِ الناس، بل بعضهم المشاركون في ذلك المعنى المُتَوعّد عليه بالعذاب؛ ففرعون أشد المدعين للإلهية عذاباً، ومن يُقتدى به في ضلالة كفر أشد ممن يُقتدى به في ¬
ضلالة بدعة، والمصورون الذين يصورون الأصنام للعبادة - كما كانت الجاهلية تفعل، وكما يفعل النصارى - أشد عذاباً ممن يصورها لا للعبادة، وهكذا يعتبر هذا الباب". اهـ (¬1) وقال أبو المحاسن الحنفي: "الصواب أنْ لا تعارض بين الأحاديث والآية، بل بعضها مخصصٌ للبعض؛ لأن التعارض إنما يكون في النصوص التي لا يمكن الجمع بينها، ولو جاءت هذه الأحاديث في نسق واحد لما تناقض الكلام، ويكون معنى الآية والأحاديث: أشد الناس عذاباً من الكفار: آل فرعون، أو من قتل نبياً أو قتله نبي، وأشد الناس عذاباً من المسلمين إمام ضلالة، أو مُشَبِّهٌ بخلق الله ... ". اهـ (¬2) وقال ابن عثيمين: "الأشدية نسبية، يعني أَنَّ المصورين أشد الناس عذاباً بالنسبة للعصاة الذين لم تبلغ معصيتهم الكفر، لا بالنسبة لجميع الناس". اهـ (¬3) المذهب الثاني: أَنَّ الأشدية في الآية إنما هي باعتبار جنس العذاب، والمعنى: أَنَّ آل فرعون هم أشد الناس عذاباً بالنسبة لنوع العذاب الذي هم فيه. وهذا مذهب الإمام أحمد. (¬4) المذهب الثالث: أَنَّ الآية ليس فيها ما يقتضي اختصاص آل فرعون بأشد العذاب، بل هم في العذاب الأشد، وغيرهم - ممن يستحق مثل هذا العذاب - مشارك لهم في العذاب الأشد. ذكر هذا الجواب الحافظ ابن حجر. (¬5) ¬
المبحث الخامس: الترجيح
المبحث الخامس: الترجيح: التحقيق في هذه المسألة أَنَّ لفظ: "أشد الناس عذاباً"، لا يَثْبُتُ إلا في حديثي عائشة وابن مسعود، الواردين في المصورين، وأما بقية الأحاديث فلا يثبت فيها هذا اللفظ: أما حديث خالد بن الوليد، وهشام بن حكيم، فقد اضطرب الرواة في لفظه، وأصح رواياته ما جاء بلفظ: "إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا"، وليس في هذا اللفظ ما يُوهِمُ مُعارضة الآية. وأما حديث ابن مسعود الآخر فقد اختُلِفَ في وقفه ورفعه، وهذا الاختلاف يدل على عدم ضبط الرواة له، وهو موجب للتوقف في قبوله بهذا اللفظ. وأما حديث أبي سعيد الخدري، فضعيف. وقد بينت بالتفصيل ما في هذه الأحاديث من علل في أثناء تخريجي لها في أول المسألة. والذي يظهر لي أنْ لا تعارض بين كون آل فرعون في أشد العذاب، وكون المصورين أشد الناس عذاباً يوم القيامة؛ ذلك أَنَّ الأحاديث ذكرت بعض أوصاف المستحقين للعذاب الأشد، وهم المصورون، والآية ذكرت أشخاصاً بعينهم، وهم آل فرعون، والعلة الموجبة لعذاب هؤلاء وهؤلاء هي مضاهاة الله، وهي التي استحقوا بها العذاب الأشد. وقد أشارت بعض روايات أحاديث التصوير لهذه العلة؛ فعن عائشة رضي الله عنها أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ (¬1)
بِخَلْقِ اللَّهِ". (¬1)، وجاء في حديثٍ آخر التنصيص على هذه العلة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً، أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً أَوْ شَعِيرَةً". (¬2)، وهذه العلة - أعني المضاهاة - موجودة في كل من نازع الله في شيء من خصائصه؛ كمنازعته تعالى في ربوبيته، أو ألوهيته، أو في شيء من صفاته أو أفعاله، والعذاب الأشد عام لكل من وُجِدَ فيه شيء من هذه المنازعة، وفرعونُ داخلٌ في هذا الوعيد قطعاً، لادعائه الألوهية، والتي هي من أعظم خصائص الله تعالى، فهو مضاهٍ لله تعالى في هذه الدعوى، وكذا قوم فرعون فإنهم لما أطاعوه، واتخذوه إلهاً من دون الله، استحقوا العذاب الأشد. وثمة أمرٌ آخر استحقوا به هذا الوعيد، وهو ما اشتهروا به من نحت التماثيل، وادعائهم القدرة على مضاهاة الله في صنعها؛ فإن هذا موجب لكونهم في العذاب الأشد، كما جاء في أحاديث التصوير. ومما يؤكد أَنَّ العلة في الأحاديث هي المضاهاة: أَنَّ الوعيد الوارد في أحاديث التصوير يمتنع حمله على ظاهره في عموم المسلمين (¬3)؛ لأن من فعل التصوير من المسلمين - مع علمه بتحريمه - إنما يكون فاعل كبيرة فقط، فكيف يكون عذابه أشد من عذاب الكفار والمنافقين، ومعه أصل التوحيد؟ فدل على أَنَّ هذا الوعيد الأشد إنما هو في حق من ادعى القدرة على مضاهاة الله في خلقه، فإنه يكفر بذلك، ويكون مستحقاً للعذاب الأشد، وقد أشار إلى ذلك ¬
الإمام الطبري، فقال: "المراد بالحديث من يُصَوِّرُ ما يعبد من دون الله وهو عارف بذلك، قاصداً له؛ فإنه يكفر بذلك، فلا يبعد أنْ يدخل مدخل آل فرعون، وأما من لا يقصد ذلك فإنه يكون عاصياً بتصويره فقط". اهـ (¬1) *** ¬
المسألة [28]: في إخباره - صلى الله عليه وسلم - بعدم جدوى تأبير النخل
المسألة [28]: فِي إخباره - صلى الله عليه وسلم - بعدم جدوى تَأْبِيرِ النَّخْلِ. المبحث الأول: ذكر الآية الواردة في المسألة: قال الله تعالى في وصف نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)) [النجم: 3 - 4]. المبحث الثاني: ذكر الحديث الذي يُوهِمُ ظاهره التعارض مع الآية: (59) ـ (51): عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ - رضي الله عنه - قَالَ: "مَرَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْمٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ فَقَالَ: مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالُوا: يُلَقِّحُونَهُ، يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِي الْأُنْثَى فَيَلْقَحُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئًا. قَالَ: فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ: إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ، فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ اللَّهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ؛ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ". (¬1) (60) ـ ( .. ): وَعَنْ عَائِشَةَ وَأَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ فَقَالَ: لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ. قَالَ: فَخَرَجَ شِيصًا (¬2)، فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ: مَا ¬
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآية والحديث
لِنَخْلِكُمْ؟ قَالُوا: قُلْتَ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ". (¬1) المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآية والحديث: ظاهِرُ الآيةِ الكريمةِ أَنَّ كل ما يقوله النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو وحي من الله تعالى، وأما الحديث فيُوهِمُ خلاف هذا الظاهر؛ إذ فيه أَنَّ ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - في قضية تأبير النخل إنما كان عن اجتهاد منه - صلى الله عليه وسلم -، بدليل تراجعه عن رأيه هذا لما تبين له خِلافُه. (¬2) المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية والحديث: أجمع المسلمون قاطبة على أَنَّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولاسيما خاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم - معصومون من الخطأ فيما يبلغونه عن الله عز وجل من أحكام، كما قال عز وجل: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4))، فنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - معصوم في كل ما يبلغه عن الله تعالى من الشرائع، قولاً، وعملاً، وتقريراً. (¬3) واتفق العلماء على جواز الاجتهاد للنبي - صلى الله عليه وسلم - في أمور الدنيا. (¬4) واختلفوا في جواز الاجتهاد له في أمور الدين على مذهبين: الأول: الجواز، وعلى هذا المذهب عامة أهل الأصول، وهو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وعامة أهل الحديث. المذهب الثاني: المنع، وهو مذهب الأشعرية، وأكثر المعتزلة، ¬
والمتكلمين. (¬1) وأما حديث الباب - الذي يُوهِمُ ظاهره التعارض مع الآية - فإنَّ للعلماء في دفع التعارض بينه وبين الآية مسلكاً واحداً، وهو مسلك الجمع بينهما، والذي عليه جماهير أهل العلم من مفسرين ومحدثين - ولم أقف على قولٍ بخلافه -: أَنَّ معنى قوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)) أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق بشيء من أجل الهوى، ولا يتكلم بالهوى، وقوله تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)) يعني أَنَّ كل ما ينطق به من أمور الدين فهو وحي من الله؛ فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - معصومٌ عن الخطأ في كل ما يُبَلِّغُه عن الله تعالى من أمور الدين، كالأحكام الشرعية، وإخباره عن أمور الغيب والأمم الماضية، وأما قضية التأبير الواردة في حديث الباب فهي من أمور الدنيا التي لا تعلق لها بالدين، ورأيه - صلى الله عليه وسلم - في أمور الدنيا كغيره من الناس، فلا يمتنع وقوع الخطأ منه، ولا يَقْدحُ ذلك في معجزته - صلى الله عليه وسلم -، ولا يقلل من شأنه. وممن قال بهذا الجواب: الطحاوي، وابن حزم، والقاضي عياض، وابن الجوزي، وأبو العباس القرطبي، والنووي، والبيضاوي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والمناوي، والآلوسي، والشنقيطي، وابن باز، وابن عثيمين. (¬2) قال ابن الجوزي: اعلم أَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتكلم بأشياء على سبيل الظن ¬
والقياس، والظن والقياس دليل معمول عليه، ولا يُنْسَبُ إلى الخطأ من عمل على دليل، وقوله في حديث التأبير: "مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئًا"، وقوله: "إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ"، يدل على أنه قاله بالظن، ولذلك اعتذر عنه. اهـ (¬1) وقال الشنقيطي: "التحقيق في هذه المسألة أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ربما فعل بعض المسائل من غير وحي في خصوصه؛ كإذنه للمتخلفين عن غزوة تبوك، قبل أنْ يَتَبيّنَ صادقهم من كاذبهم (¬2)، وكأسْرِه لأسارى بدر (¬3)، وكأمره بترك تأبير النخل، وكقوله: "لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ" (¬4)، إلى غير ذلك، وأن ¬
المبحث الخامس: الترجيح
معنى قوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)) لا إشكال فيه؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق بشيء من أجل الهوى، ولا يتكلم بالهوى، وقوله تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)) يعني أَنَّ كل ما يبلغه عن الله فهو وحي من الله، لا بهوى ولا بكذب ولا افتراء، والعلم عند الله تعالى". اهـ (¬1) المبحث الخامس: الترجيح: ما ذكره الجمهور في هذه المسألة هو المتعين جمعاً بين الآية والحديث، وحسب اطلاعي فإني لم أقف على قولٍ بخلافه؛ فكان له حكم الاتفاق. وأمَّا أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله فتحرير القول فيها أنها على قسمين: الأول: ما كان في أمر الشريعة والتبليغ عن الله تعالى، وهذا له حالتان: 1 - أنْ يكون بوحي من الله تعالى، وهذا لا مجال للخطأ فيه، وهو الذي يسميه العلماء الخبر المعصوم، وعليه تُحمل الآية الواردة في المسألة. 2 - أنْ يكون باجتهاد منه - صلى الله عليه وسلم -، وهذا لا يخلو إمَّا أنْ يُقرَّ عليه، أو يُنَبَّه إلى الصواب، وهو في كلا الحالتين في حكم الوحي؛ أما الحالة الأولى فلإقرار الله له، وأما الثانية فلتصويب الله إياه. القسم الثاني: ما كان من أمور الدنيا، وهذا حكمه أنْ لا تعلق له بالرسالة والتبليغ، بل النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه كسائر الناس، في جواز الخطأ والصواب عليه، وعليه يحمل ما جاء في قضية تأبير النخل، وغيرها من الحوادث التي وقعت باجتهاد منه - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) ومما يؤكد هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث التأبير: "إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا فَلَا ¬
تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ اللَّهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ؛ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ". (¬1) وفي رواية: "أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ". (¬2) وفي رواية أخرى: "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيٍ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ". (¬3) فهذا نصٌ جَلِيٌّ منه - صلى الله عليه وسلم - في جواز الخطأ عليه في أمور الدنيا، وأنَّ ما قاله في قضية التأبير إنما كان باجتهادٍ محضٍ منه - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن بوحي من الله تعالى، وهو نَصُّ قولنا، وبالله تعالى التوفيق. ¬
المسألة [29]: في انتفاع الأموات بسعي الأحياء
المسألة [29]: في انتفاع الأموات بسعي الأحياء. المبحث الأول: ذكر الآية الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)) [النجم: 39]. المبحث الثاني: ذكر الأحاديث التي يُوهِمُ ظاهرها التعارض مع الآية: (61) ـ (52): عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ (¬1) نَفْسُهَا، وَأُرَاهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ قَالَ: "نَعَمْ، تَصَدَّقْ عَنْهَا". (¬2) ¬
(62) ـ (53): وعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ". (¬1) ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(63) ـ (54): وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ (¬1) جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: "نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ، أَكُنْتِ قَاضِيَةً؟ اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ". (¬2) ¬
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآية والأحاديث
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الآية والأحاديث: ظاهر الآية الكريمة أنَّ الميت ليس له من ثواب الأعمال إلا ما سعى إليه بنفسه في حياته، وأَنَّه لو أَهْدَى إليه أحدٌ من الأحياء ثواب عمله لم ينتفع به، وأما الأحاديث فظاهرها يدل على انتفاع الميت بالصدقة، والصوم، والحج، وأنَّ ثواب هذه الأعمال يصل إلى الميت، إذا أُهْدِيَتْ إليه من الأحياء، وهذا يُوهِمُ الاختلاف والتناقض بين الآية والأحاديث. (¬1) المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية والأحاديث: للعلماء في دفع التعارض بين الآية والأحاديث مسلكان: الأول: مسلك الجمع بين الآية والأحاديث: وقد اختلف أصحاب هذا المسلك في الجمع على مذاهب: الأول: مذهب إعمال حديث الصدقة، وتأويل الآية. وهذا محل إجماع بين علماء أهل السنة، حيث أجمعوا على وصول ثواب الصدقة إلى الميت مطلقاً، سواء كانت من ولده أو من غيره، حكى الإجماع: ابن عبد البر، والنووي، وغيرهم. (¬2) ¬
الثاني: مذهب إعمال حديث الصوم، وتأويل الآية. وهذا مذهب الإمام أحمد (¬1)، وعلَّق الشافعي في القديم القول به على صحة الحديث، فقال: "قد رُوي في الصوم عن الميت شيء؛ فإنْ كان ثابتاً صِيمَ عنه، كما يُحَجُّ عنه". اهـ (¬2) وهو قول: الربيع بن أنس، وطاووس، والحسن البصري، والزهري، وقتادة، وأبي ثور، والليث، وإسحاق، وأبي عبيد. (¬3) واختاره: ابن خزيمة، والنحاس، وابن حبان، وابن حزم، والبيهقي، وابن عبد البر، وابن عطية، وابن الجوزي، والفخر الرازي، وابن قدامة، وأبو العباس القرطبي، وعز الدين بن عبد السلام، وأبو عبد الله القرطبي، والنووي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والشوكاني، والآلوسي، والسعدي، والشنقيطي، وابن عثيمين. (¬4) ¬
حيث ذهب هؤلاء إلى وصول ثواب الصوم إلى الميت، على اختلاف بينهم في نوع الصوم، فبعضهم أطلق فيه، فجعله شاملاً لصوم النذر، وقضاء رمضان، والكفارات الواجبة، وغيرها، والبعض الآخر قيَّدَه بالنذر، فلا يُصام عن الميت إلا ما نذره في حياته، ولم يَفِ به. الثالث: مذهب إعمال حديث الحج، وتأويل الآية. وهذا مذهب: مالك في رواية (¬1)، وأبي حنيفة (¬2)، والشافعي (¬3)، وأحمد (¬4). ورُوي عن عكرمة، والربيع. (¬5) واختاره: ابن خزيمة، والنحاس، وابن حبان، والخطابي، ومكي بن أبي طالب - إلا أَنَّه اشترط أنْ يوصي الميت - وابن حزم، وابن عبد البر، وابن العربي، والقاضي عياض، وابن عطية، والفخر الرازي، وابن قدامة، وأبو العباس القرطبي، وعز الدين بن عبد السلام، وأبو عبد الله القرطبي، ¬
والنووي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والشوكاني، والآلوسي، والسعدي، والشنقيطي، وابن عثيمين. (¬1) ومذهب هؤلاء جميعاً جواز الحج عن الميت، وأَنَّ ثواب الحج يصل إليه، وينتفع به. أجوبة القائلين بإعمال الأحاديث عن الآية الكريمة: اختلف القائلون بإعمال أحاديث الصدقة والصوم والحج، في الجواب عن قوله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39))، فذكروا أجوبة، منها: الأول: تخصيص الآية بالأحاديث، فالآية دلَّت بعمومها على أَنَّ أحداً لا ينتفع بسعي غيره، إلا أَنَّ هذا العموم مخصوصٌ بالأحاديث الدالة على انتفاع الميت بالصدقة، والصوم، والحج. ذكر هذا الجواب: ابن خزيمة، وابن حزم، والقاضي عياض، وابن قدامة، وعز الدين بن عبد السلام، والنووي، والحافظ ابن حجر، والعيني، والشوكاني. (¬2) ¬
الجواب الثاني: أَنَّ الآية إنما دلَّت على نفي ملك الإنسان لغير سعيه، ولم تَدُل على نفي انتفاعه بسعي غيره؛ لأَنَّه لم يقل: "وأنْ لن ينتفع الإنسان إلا بما سعى"، وإنما قال: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)) [النجم: 39]، وبين الأمرين فرقٌ ظاهر؛ لأَنَّ سعي الغير ملكٌ لساعيه، إنْ شاء بذله لغيره فانتفع به ذلك الغير، وإنْ شاء أبقاه لنفسه. (¬1) ذكر هذا الجواب: النحاس، وابن عطية، والفخر الرازي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والآلوسي، وعبد الرحمن السعدي، والشنقيطي، وابن عثيمين. (¬2) الجواب الثالث: أَنَّ حكم الآية مُختصٌ بقوم إبراهيم وموسى، وأما هذه الأمة فلهم ما سعوا وما سُعِيَ لهم، كما دلَّت عليه أحاديث الباب. قاله عكرمة. (¬3) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا ضعيف؛ لأَنَّ الله تعالى إنما ذكر هذا ليختبر به هذه الأمة، ولِيَعْلَمُوا أَنَّ هذا حكمٌ شاملٌ، ولو كان هذا مخصوصاً بقوم إبراهيم وموسى لم تقم به حجةٌ على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وجميع ¬
المسلمين يحتجُّون بما في هذا، فمن أين لهم أَنَّ تلك الأمم لم تكن تنفعهم الصدقة عنهم بعد الموت .... ، وما زال الدعاء والشفاعة نافِعَين لجميع الأمم، فإبراهيم وموسى والأنبياء قد دعوا للصالحين من قومهم، وهو نافع لهم، وليس من سعيهم، والملائكة يستغفرون لمن في الأرض من المؤمنين، ممن مضى ومن بقي". اهـ (¬1) الجواب الرابع: أَنَّ المراد بالإنسان في الآية: الكافر، وأما المؤمن فله ما سعى وما سُعيَ له، كما دلت عليه أحاديث الباب. قاله الربيع بن أنس. (¬2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا أيضاً ضعيف جداً؛ فإنَّ الذي في صحف إبراهيم وموسى لا يختصُّ به الكافر، وقوله بعده: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)) [النجم: 39] الآيات، يتناول المؤمن قطعاً، وهو ضمير الإنسان. بل لو قيل: إنه يتناول المؤمن دون الكافر لكان أرجح من العكس، مع أَنَّ حكم العدل لا فرق فيه بين مؤمن وكافر، وما استحقه المؤمن بخصوصه؛ فهو بإيمانه ومن سعيه". اهـ (¬3) الجواب الخامس: أَنَّ الآية منسوخةٌ بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) [الطور: 21]. رُوي ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - من طريق علي بن أبي طلحة - في قوله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)) - قال ابن عباس: "فأنزل الله بعد هذا: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) [الطور: 21]، قال: فأدخل الله تعالى الأبناء بصلاح الآباء الجنة". (¬4) ¬
واعتُرِضَ: بأَنَّ لفظ الآيتين لفظ خبر، والأخبار لا يدخلها النسخ. (¬1) إلا أَنَّ شيخ الإسلام ابن تيمية لا يرى أَنَّ هذا المروي عن ابن عباس يدخل في النسخ، حيث قال: "اللفظ المنقول عن ابن عباس: رواه علي بن أبي طلحة الوالبي، عنه - وقد قيل: إنه لم يسمعه منه، بل من أصحاب ابن عباس - قال: "فأدخل الله الأبناء بصلاح الآباء الجنة"، ولم يذكر نسخاً، ولو ذكره فمراد الصحابة بالنسخ: هو المذكور في قوله: (فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ) [الحج: 52]، وهو فَهْمُ معنى الآية على غير الصواب والمراد بها. فقد بيَّن ابن عباس أَنَّه لم يُرِدْ بهذه الآية أَنَّ الإنسان لا ينتفع بعمل غيره، فإنَّ الأبناء انتفعوا بعمل آبائهم، فهذا نسخٌ لما فُهِمَ منها، لا لما دلَّت عليه، وهذا القول المنقول عن ابن عباس أحسن ما قيل فيها، وقد ضعَّفه من لم يفهمه. قال: وقد نقل البغوي هذا عن ابن عباس، وقال: "هذا منسوخ الحكم في هذه الشريعة" (¬2)، ولم يقل ابن عباس هذا، وما أكثر ما يُحَرَّف على ابن عباس ويُغْلَطُ عليه". اهـ (¬3) الجواب السادس: أَنَّ قوله: (مَا سَعَى)، بمعنى: ما نوى. قاله أبو بكر الوراق (¬4). (¬5) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "هذا ليس قولاً في محل الاشتباه، وإنما هو تفسير للفظ السعي، والسعي هو: العمل ونيَّة الخير، يُثاب عليها وإنْ لم يعملها، وأما إذا هَمَّ بالشر فلا يُعاقب عليه إلا أنْ يعمله، والإنسان قد ينتفع ¬
بما لم ينوِ، كانتفاعه بالصدقة عنه بعد موته، والحج، وغير ذلك". اهـ (¬1) الجواب السابع: أَنَّ المراد بالآية أَنَّ الكافر ليس له من الخير إلاّ ما عمله، فيثاب عليه في دار الدنيا، حتى لا يبقى له في الآخرة خير. ذكره الثعلبي. (¬2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا لا يدل عليه قوله: (لِلْإِنْسَانِ)، فليس في هذا اللفظ تخصيص الكافر، ولا تخصيص الجزاء بالدنيا". (¬3) الجواب الثامن: أَنَّ اللام في الآية بمعنى "على"، والتقدير: ليس على الإنسان إلا ما سعى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا القول من أرذل الأقوال؛ فإنه قلبٌ لمعنى الآية". اهـ (¬4) الجواب التاسع: أَنَّه ليس له إلا سعيه، غير أَنَّ الأسباب مختلفة، فتارة يكون سعيه في تحصيل قرابة، وولد يترحم عليه، وصديق يدعو له، وتارة يسعى في خدمة أهل الدين والعبادة، فيكسب محبة أهل الدين؛ فيكون ذلك سبباً حصل بسعيه. حكاه والذي قبله أبو الحسن ابن الزاغوني (¬5). (¬6) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا القول أمثل من غيره، وقد استحسنه ورجحه جدِّي أبو البركات، وهو أيضاً ضعيف؛ فإنه قد ينتفع بعمل غيره من لم يُحَصِّلْ سبباً، كأولاد المؤمنين". اهـ (¬7) الجواب العاشر: أَنَّه ليس للإنسان إلا ما سعى من طريق العدل، وأما من باب الفضل فجائز أنْ يزيده الله عز وجل ما يشاء. ¬
قاله الحسين بن الفضل (¬1). (¬2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهو أمثل من غيره من الأقوال، ومعناه صحيح، لكنه لم يُفَسِّر الآية؛ فإنَّ قوله: (لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ) نفي عام، فليس له إلا ذلك، وهذا هو العدل، ثم إنَّ الله قد ينفعه ويرحمه بغير سعيه، من جهة فضله". اهـ (¬3) الجواب الحادي عشر: وهو جواب أبي الوفاء بن عقيل (¬4)، قال: "الجواب الجيد عندي أنْ يُقال: الإنسان - بسعيه وحسن عشرته - اكتسب الأصدقاء، وأولد الأولاد، ونكح الأزواج، وأسدى الخير، وتودد إلى الناس؛ فترحموا عليه، وأهدوا له العبادات، وكان ذلك أثر سعيه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ". (¬5) ". اهـ (¬6) الجواب الثاني عشر: وهو جواب أبي عبد الله القرطبي، قال: "ويُحتمل أنْ يكون قوله: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)) [النجم: 39] خاص في السيئة، بدليل ما في صحيح مسلم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِحَسَنَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبْتُهَا لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كَتَبْتُهَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ، إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَإِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ أَكْتُبْهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ عَمِلَهَا كَتَبْتُهَا سَيِّئَةً وَاحِدَةً". (¬7) ". اهـ (¬8) الرابع: مذهب إعمال الآية، وتخصيص الأحاديث. وهذا مذهب الشوكاني، وتبعه الألباني، حيث ذهبا إلى تخصيص الأحاديث بالآية. ¬
أما الشوكاني فاقتصر على تخصيص حديث الصدقة دون بقية الأحاديث، وأما الألباني فيرى تخصيص جميع الأحاديث. قال الشوكاني - بعد أنْ أورد الأحاديث الدالة على وصول ثواب الصدقة إلى الميت - قال: "وأحاديث الباب تدل على أَنَّ الصدقة من الولد تلحق الوالدين بعد موتهما، بدون وصية منهما، ويصل إليهما ثوابها، فيُخصص بهذه الأحاديث عموم قوله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)) [النجم: 39]، ولكن ليس في أحاديث الباب إلا لحوق الصدقة من الولد، وقد ثبت أَنَّ ولد الإنسان من سعيه، فلا حاجة إلى دعوى التخصيص، وأما من غير الولد فالظاهر من العمومات القرآنية أَنَّه لا يصل ثوابه إلى الميت، فيوقف عليها حتى يأتي دليل يقتضي تخصيصها". اهـ (¬1) وقال الألباني - بعد أنْ ساق كلام الشوكاني -: "وهذا هو الحق الذي تقتضيه القواعد العلمية، أَنَّ الآية على عمومها، وأَنَّ ثواب الصدقة وغيرها يصل من الولد إلى الوالد؛ لأَنَّه من سعيه، بخلاف غير الولد". اهـ (¬2) لكن يَرِدُ على قولهما ما حُكي من الإجماع على وصول ثواب الصدقة إلى الميت مطلقاً، سواء كانت من ولده أو من غيره. (¬3) وقد ناقش الألباني حكاية الإجماع، ورجح عدم صحته، حيث قال: "نقل النووي وغيره الإجماع على أَنَّ الصدقة تقع عن الميت، ويصله ثوابها، هكذا قالوا: (الميت)، فأطلقوه ولم يقيدوه بالوالد، فإنْ صح هذا الإجماع كان مُخصصاً للعمومات التي أشار إليها الشوكاني فيما يتعلق بالصدقة (¬4)، ¬
ويظل ما عداها داخلاً في العموم، كالصيام (¬1)، وقراءة القرآن، ونحوهما من العبادات، ولكنني في شك كبير من صحة الإجماع المذكور، وذلك لأمرين: الأول: أَنَّ الإجماع بالمعنى الأصولي لا يمكن تحققه في غير المسائل التي عُلِمَت من الدين بالضرورة، كما حقق ذلك العلماء الفحول ... ، وقد أشار إلى ذلك الإمام أحمد، في كلمته المشهورة في الرد على من ادعى الإجماع .... الثاني: أنني سَبَرْتُ كثيراً من المسائل التي نقلوا الإجماع فيها، فوجدت الخلاف فيها معروفاً! بل رأيت مذهب الجمهور على خلاف دعوى الإجماع فيها، ولو شئت أنْ أورد الأمثلة على ذلك لطال الكلام، وخرجنا به عما نحن بصدده". اهـ (¬2) الخامس: مذهب إعمال الآية، وتخصيص حديث الحج. وهذا مذهب الإمام مالك في رواية، حيث حُكيَ عنه أَنَّه قال: لا يحج أحدٌ عن أحدٍ مطلقاً، سواء أوصى الميت أو لم يوصِ. وأجاب عن حديث الحج، بأَنَّه مخصوص بالجهنية التي سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. (¬3) المسلك الثاني: مسلك الترجيح بين الآية والأحاديث: وقد اختلف أصحاب هذا المسلك في الترجيح على مذاهب: الأول: مذهب إعمال الآية، ورد حديث الصوم. وهذا مذهب الإمام مالك (¬4)، ¬
وأبي حنيفة (¬1)، والشافعي في الجديد (¬2). وحكاه القاضي عياض، والنووي: مذهب الجمهور (¬3). ونقله ابن المنذر عن: ابن عمر (¬4)، وابن عباس، وعائشة (¬5)، ورواية عن الحسن البصري، والزهري. (¬6) واختار هذا المذهب: الطحاوي، والخطابي، وابن العربي، والقاضي عياض، والشاطبي، والعيني. (¬7) ومذهب هؤلاء: أَنَّه لا يصوم أحد عن أحد، لا في نذرٍ ولا في غيره، ومن مات وعليه صيام فإنه يُطعم عنه فقط. أما المالكية فأعلوا حديث الصوم بدعوى الاضطراب في إسناده، وأَنَّه خلاف عمل أهل المدينة. (¬8) ¬
قال أبو العباس القرطبي: "إنما لم يقل مالك بحديث ابن عباس؛ لأمور: أحدها: أَنَّه لم يَجِدْ عليه عمل أهل المدينة. الثاني: أَنَّه حديثٌ اختُلِفَ واضطُرِبَ في إسناده. الثالث: أَنَّه رواه البزار وقال في آخره: "لمن شاء" (¬1). وهذا يرفع الوجوب الذي قالوا به. الرابع: أَنَّه مُعارضٌ بقوله تعالى: (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الأنعام: 164]، ولقوله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)) [النجم: 39]. الخامس: أَنَّه مٌعارَضٌ بما خرَّجه النسائي، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أَنَّه قال: "لا يُصلي أحد عن أحدٍ، ولا يصوم أحدٌ عن أحدٍ، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مداً من حنطة" (¬2). السادس: أَنَّه مُعارِضٌ للقياس الجلي، وهو أَنَّه عبادة بدنية لا مدخل للمال فيها، فلا تُفعل عمن وجب عليه، كالصلاة، ولا يُنقضُ هذا بالحج؛ لأَنَّ للمال فيه مدخلاً". اهـ (¬3) وأما الحنفية فأعلوا الحديث بما رُوي عن عائشة أَنَّها سُئلت عن امرأة ماتت وعليها صوم، فقالت: "يطعم عنها" (¬4)، وعن عائشة قالت: "لا تصوموا ¬
عن موتاكم، وأطعموا عنهم" (¬1)، وبما رُوي عن ابن عباس قال - في رجل مات وعليه صوم رمضان - قال: "يُطعم عنه ثلاثون مسكيناً" (¬2)، وروى النسائي ¬
عن ابن عباس قال: "لا يصوم أحد عن أحد" (¬1). قالوا: فلما أفتى ابن عباس، وعائشة بخلاف ما روياه، دل ذلك على أَنَّ العمل على خلاف ما روياه. (¬2) وتُعقِّبَ: "بأن الآثار المذكورة عن عائشة، وعن ابن عباس، فيها مقال، وليس فيها ما يمنع الصيام، إلا الأثر الذي عن عائشة، وهو ضعيف جداً، والمعتبر عند أهل الأصول أَنَّ ما رواه الراوي مقدم على ما رآه، لاحتمال أنْ يُخالف ذلك لاجتهادٍ مستنده فيه لم يتحقق، ولا يلزم من ذلك ضعف الحديث عنده، وإذا تُحقق من صحة الحديث، لم يُترك المحقق للمظنون". (¬3) وأجيب: "بأَنَّ الاحتمال المذكور باطل؛ لأَنَّه لا يليق بجلالة قدر الصحابي أنْ يُخالف ما رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأجل اجتهاده فيه، وحاشا الصحابي أنْ يجتهد عند النص بخلافه؛ لأَنَّه مصادمة للنص، وهذا لا يقال في حق الصحابي، وإنما فتواه بخلاف ما رواه إنما يكون لظهور نسخ عنده". (¬4) وأما الشافعي - في الجديد - فأعل حديث ابن عباس بأَنَّ ذِكْرَ الصيام فيه غير محفوظ، حيث قال: "فإنْ قيل: أفرُوي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَنَّه أمر أحداً أنْ يصوم عن أحد؟ قيل: نعم، روى ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أَنَّه يصوم عنه وليه (¬5). فإنْ قيل: فلم لا تأخذ به؟ قيل: لأَنَّ الزهري حدَّث عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نذراً ولم يسمه. مع حفظ الزهري، وطول مجالسة عبيد الله لابن عباس، فلما جاء غيره عن ابن عباس، بغير ما في حديث عبيد الله، أشبه أنْ لا يكون محفوظاً". اهـ (¬6) ¬
قال البيهقي: "يعني به الحديث الذي أخبرناه أبو عبد الله الحافظ، وأبو زكريا ابن أبي إسحاق، وغيرهما، قالوا: ثنا أبو العباس، أنبأ الربيع، أنبأ الشافعي، أنبأ مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس: "أَنَّ سعد بن عبادة استفتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنَّ أمي ماتت وعليها نذر. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اقضه عنها" (¬1). قال البيهقي: "وهذا حديث ثابت، قد أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح، من حديث مالك، وغيره، عن الزهري؛ إلا أَنَّ في رواية سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "أَنَّ امرأة سألت". وكذلك رواه الحكم بن عتيبة، وسلمة بن كهيل، عن مجاهد، عن ابن عباس. وفي رواية عن مجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، عن ابن عباس. ورواه عكرمة، عن ابن عباس. ثم رواه بريدة بن حصيب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فالأشبه أنْ تكون القصة - التي وقع السؤال فيها عن الصوم نصاً - غير قصة سعد بن عبادة التي وقع السؤال فيها عن النذر مطلقاً، كيف وقد رُوي عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بإسناد صحيح، النص في جواز الصوم عن الميت". (¬2) قال البيهقي: "وقد رأيتُ بعض أصحابنا يُضَعِّفُ حديث ابن عباس، بما رُوي عن يزيد بن زريع، عن حجاج الأحول، عن أيوب بن موسى، عن عطاء، عن ابن عباس، أَنَّه قال: "لا يصوم أحد عن أحد، ويطعم عنه" (¬3)، وبما روينا عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن ابن عباس: في الإطعام عمن مات وعليه صيام شهر رمضان، وصيام شهر نذر (¬4). وفي رواية ميمون بن مهران، عن ابن عباس، ورواية أبي حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أَنَّه قال - في صيام شهر رمضان -: يُطعم عنه، وفي النذر يقضي عنه وليه. (¬5) ¬
قال البيهقي: ورواية ميمون، وسعيد توافق الرواية عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، في النذر؛ إلا أَنَّ الروايتين الأوليين تخالفانها. قال: ورأيتُ بعضهم ضَعَّفَ حديث عائشة بما رُوي عن عمارة بن عمير، عن امرأة، عن عائشة - في امرأة ماتت وعليها الصوم - قالت: "يُطعم عنها" (¬1). ورُوي من وجه آخر عن عائشة أَنَّها قالت: "لا تصوموا عن موتاكم، وأطعموا عنهم". (¬2) وليس فيما ذكروا ما يوجب للحديث ضعفاً؛ فمن يُجَوِّز الصيام عن الميت يجوز الإطعام عنه، وفيما رُوي عنهما في النهي عن الصوم عن الميت نظر، والأحاديث المرفوعة أصح إسناداً، وأشهر رجالاً، وقد أودعها صاحبا الصحيح كتابيهما، ولو وقف الشافعي - رحمه الله - على جميع طرقها وتظاهرها لم يخالفها - إنْ شاء الله تعالى - وبالله التوفيق". اهـ (¬3) وقد نقل النوويُ كلام البيهقي بطوله ثم قال: "الصواب الجزم بجواز صوم الولي عن الميت، سواء صوم رمضان، والنذر، وغيره من الصوم الواجب; للأحاديث الصحيحة السابقة، ولا مُعارض لها، ويتعين أنْ يكون هذا مذهب الشافعي; لأَنَّه قال: إذا صَحَّ الحديث فهو مذهبي، واتركوا قولي المخالف له. وقد صَحَّت في المسألة أحاديث كما سبق. والشافعي إنما وقف على حديث ابن عباس من بعض طرقه، كما سبق، ولو وقف على جميع طرقه وعلى حديث بريدة، وحديث عائشة، لم يُخالف ذلك، كما قال البيهقي، فيما قدمناه عنه في آخر كلامه، فكل هذه الأحاديث صحيحة صريحة، فيتعين العمل بها، لعدم المعارض لها". اهـ (¬4) وللإمام ابن القيم كلام طويل في مناقشة القائلين برد الحديث، والإجابة عن اعتراضاتهم، حيث قال في كتابه "الروح" (¬5): "وأما رَدُّ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو قوله: "من مات وعليه صيام صام ¬
عنه وليه" - بتلك الوجوه التي ذكرتموها، فنحن ننتصر لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونبين موافقته للصحيح من تلك الوجوه .... فأما قول الإمام مالك: "لا يصوم أحد عن أحد، وهو أمر مُجمعٌ عليه عندنا، لا خلاف فيه" (¬1)، فمالك - رحمه الله - لم يحك إجماع الأمة من شرق الأرض وغربها، وإنما حكى قول أهل المدينة، فيما بلغه، ولم يبلغه خلافٌ بينهم، وعدم اطلاعه على الخلاف في ذلك لا يكون مسقطاً لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل لو أجمع عليه أهل المدينة كلهم لكان الأخذ بحديث المعصوم أولى من الأخذ بقول أهل المدينة، الذين لم تُضمن لنا العصمة في قولهم دون الأمة، ولم يجعل اللهُ ورسولُه أقوالهم حجة يجب الرد عند التنازع إليها، بل قال الله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) [النساء: 59]. وأما قولهم: إنَّ ابن عباس - رضي الله عنهما - هو راوي حديث الصوم عن الميت، وقد قال: "لا يصوم أحد عن أحد" (¬2)، فغاية هذا أنْ يكون الصحابي قد أفتى بخلاف ما رواه، وهذا لا يقدح في روايته، فإن روايته معصومة، وفتواه غير معصومة، ويجوز أنْ يكون نسي الحديث، أو تأوَّله، أو اعتقد له معارضاً راجحاً في ظنِّه، أو لغير ذلك من الأسباب، على أَنَّ فتوى ابن عباس غير مُعارضة للحديث؛ فإنه أفتى في رمضان أَنَّه لا يصوم أحد عن أحد، وأفتى في النذر أَنَّه يصام عنه (¬3)، وليس هذا بمخالف لروايته، بل حَمَلَ الحديث على النذر. ثم إنَّ حديث: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه"، هو ثابت من رواية عائشة رضي الله عنها، فهب أَنَّ ابن عباس خالفه، فكان ماذا؟ فخلاف ابن عباس لا يقدح في رواية أم المؤمنين، بل رَدُّ قول ابن عباس برواية عائشة، أولى من رد روايتها بقوله. وأيضاً فإنَّ ابن عباس قد اختُلِفَ عنه في ذلك، وعنه روايتان، فليس إسقاط الحديث للرواية المخالفة له عنه أولى من إسقاطها بالرواية الأخرى بالحديث. ¬
وأما قولهم: إنه حديث اختلف في إسناده، فكلام مجازفٌ فيه، ولا يُقبل من قائله، فالحديث صحيح ثابت متفق على صحته، رواه صاحبا الصحيحين، ولم يُختلف في إسناده. وقولهم: إنه مُعارض بنص القرآن، وهو قوله: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)) [النجم: 39] إساءة أدب في اللفظ، وخطأ عظيم في المعنى، وقد أعاذ الله رسوله أنْ تُعارض سُنَّته نصوص القرآن، بل تعاضدها وتؤيدها. وقولهم: إنه مُعارض بما رواه النسائي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أَنَّه قال: "لا يُصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يُطعم عنه كل يوم مداً من حنطة" (¬1)، فخطأ قبيح؛ فإنَّ النسائي رواه هكذا: أخبرنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا حجاج الأحول، حدثنا أيوب بن موسى، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "لا يُصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يُطعم عنه مكان كل يوم مداً من حنطة"، هكذا رواه قول ابن عباس، لا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكيف يُعارض قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقول ابن عباس، ثم يُقدَّم عليه، مع ثبوت الخلاف عن ابن عباس رضي الله عنهما، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقل هذا الكلام قط، وكيف يقوله وقد ثبت عنه في الصحيحين أَنَّه قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه" (¬2)، وكيف يقوله وقد قال في حديث بريدة - رضي الله عنه - الذي رواه مسلم في صحيحه (¬3) -: "أَنَّ امرأة قالت له: إنَّ أمي ماتت وعليها صوم شهر؟ قال: صومي عن أمك". وأما قولهم: إنه مُعارض بحديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: "من مات وعليه صوم رمضان، يُطعم عنه" (¬4)، فمن هذا النمط، فإنه حديث باطل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬
قال البيهقي: "حديث محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من مات وعليه صوم رمضان، يطعم عنه"، لا يصح، ومحمد بن عبد الرحمن كثير الوهم، وإنما رواه أصحاب نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - من قوله". (¬1) قال ابن القيم: وأما قولهم: إنه مُعارض بالقياس الجلي على الصلاة والإسلام والتوبة؛ فإنَّ أحداً لا يفعلها عن أحد، فلعمر الله إنه لقياس جلي البطلان والفساد، لرد سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة الصريحة له، وشهادتها ببطلانه، وقد أوضحنا الفرق بين قبول الإسلام عن الكافر بعد موته، وبين انتفاع المسلم بما يُهديه إليه أخوه المسلم من ثواب صيامٍ أو صدقةٍ أو صلاة، ولعمر الله إنَّ الفرق بينهما أوضح من أنْ يخفى، وهل في القياس أفسد من قياس انتفاع المسلم بعد موته بما يُهديه إليه أخوه المسلم من ثواب عمله؛ على قبول الإسلام عن الكافر بعد موته، أو قبول التوبة عن المجرم بعد موته. قال: وأما كلام الشافعي - رحمه الله - في تغليط راوي حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - ¬
أَنَّ نذر أم سعد كان صوماً، فقد أجاب عنه أنصر الناس له، وهو البيهقي، ونحن نذكر كلامه بلفظه .... ". ثم نقل ابن القيم كلام البيهقي بطوله - وقد تقدم (¬1) - وقال: "وقد روى أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إنَّ أمي ماتت وعليها صيام شهر، أفأقضيه عنها؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو كان عليها دين، أكنتَ قاضيه عنها"؟ قال: نعم. قال: "فدين الله أحق أنْ يُقضى". (¬2) ورواه أبو خيثمة، حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا زائدة، عن الأعمش، فذكره. (¬3) ورواه النسائي عن قتيبة بن سعيد، حدثنا عبثر، عن الأعمش، فذكره. (¬4) قال ابن القيم: فهذا غير حديث أم سعد، إسناداً ومتناً؛ فإنَّ قصة أم سعد، رواها مالك، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -أَنَّ سعد بن عبادة استفتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنَّ أمي ماتت وعليها نذر؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اقضه عنها" (¬5)، وهكذا أخرجاه في الصحيحين، فهب أَنَّ هذا هو المحفوظ في هذا الحديث، أَنَّه نذر مطلق لم يُسمَّ، فهل يكون هذا في حديث الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير؟ على أَنَّ ترك استفصال النبي - صلى الله عليه وسلم - لسعد في النذر - هل كان صلاة أو صدقة أو صياماً، مع أَنَّ الناذر قد ينذر هذا وهذا - يدل على أَنَّه لا فرق بين قضاء نذر الصيام والصلاة، وإلا لقال له: ما هو النذر؟ فإنَّ النذر إذا انقسم إلى قسمين: ¬
المبحث الخامس: الترجيح
نذرٌ يقبل القضاء عن الميت، ونذر لا يقبله، لم يكن بُدُّ من الاستفصال". اهـ كلام ابن القيم. الثاني: مذهب إعمال الآية، ورد جميع الأحاديث. وهذا مذهب المعتزلة، حيث ذهبوا إلى أَنَّه لا يصل إلى الميت شيء ألبتة، لا دعاء، ولا صدقة، ولا صوم، ولا حج، ولا غيره، أخذاً بظاهر الآية الكريمة. وأجابوا عن الأحاديث: بأَنَّها أخبار آحاد، وهي عندهم مردودة إذا عارضت المتواتر القطعي، ومُعارض هذه الأحاديث عندهم: هو قوله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)). (¬1) المبحث الخامس: الترجيح: الذي يَظْهُرُ صَوَابُه - والله تعالى أعلم - هو وصول ثواب الصدقة والصوم والحج إلى الميت مطلقاً، سواء كان ذلك من ولد الميت أو من غيره. وأما الآية فأحسن الأجوبة عنها: "أَنَّها إنما دلَّت على نفي ملك الإنسان لغير سعيه، ولم تدل على نفي انتفاعه بسعي غيره؛ لأَنَّه لم يقل: "وأنْ لن ينتفع الإنسان إلا بما سعى"، وإنما قال: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)) [النجم: 39]، وبين الأمرين فرق ظاهر؛ لأَنَّ سعي الغير ملك لساعيه، إنْ شاء بذله لغيره فانتفع به ذلك الغير، وإنْ شاء أبقاه لنفسه". (¬2) وما قيل من أَنَّ ثواب هذه الثلاث لا يصل إلا من الولد إلى والده؛ فغير مُسَلَّمٍ، وذلك لأمور: "الأول: أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُعَلِّل جواز حجِ الولد عن والده بكونه ولده، ولا أومَأَ إلى ذلك؛ بل في الحديث ما يُبطل التعليل به؛ لأَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - شبهه ¬
بقضاء الدَّين الجائز، من الولد وغيره؛ فجعل ذلك هو العلة، وهو كونه قضاء شيء واجب عن الميت. الثاني: أَنَّه قد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على جواز الحج عن الغير، حتى من غير الولد: فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ. قَالَ: مَنْ شُبْرُمَةُ؟ قَالَ: أَخٌ لِي، أَوْ قَرِيبٌ لِي. قَالَ: حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟ قَال: َ لَا. قَالَ: حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ". (¬1) الثالث: أَنَّه قد ثبت في حديث عائشة: "أَنَّ من مات وعليه صيام صام عنه وليه"، والولي هو الوارث، سواء كان ولداً، أم غير ولد؛ وإذا جاز ذلك في الصيام، مع كونه عبادة محضة، فجوازه بالحج المشوب بالمال أولى وأحرى". (¬2) الرابع: أَنَّ كون السؤال جاء مقيداً في صدقةِ أو صومِ أو حجِ الولدِ عن والده؛ فإنَّ ذلك لا يعني تقييد الحكم به؛ لأَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقيده بالولد، ولأَنَّا لا نَعْلم لو أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله أخٌ عن أخيه، هل يجيبه بالجواز، أم لا؟ وأما حديث ابن عباس، في الصوم، وما ادعي عليه من الاضطراب؛ فالذي يظهر لي أَنَّ أحسن ما يُجمع به بين رواياته: أَنَّ السؤال وقع عن صوم نذر مطلق؛ وذلك لأَنَّ جميع الروايات - التي جاءت من طريق سعيد بن جبير - قد نصَّت على ذكر الصوم، ولما جاء - في طريق عبيد الله بن عبد الله - التنصيص على النذر دون تسميته، وجب تفسيره برواية سعيد بن جبير، التي نصت على أَنَّه في الصيام، ويؤكد هذا أَنَّ حديث بريدة وقع فيه السؤال عن صوم شهر، وجاء في حديث عائشة التنصيص على أَنَّ من مات وعليه صيام ¬
صام عنه وليه، ولما أفتى ابن عباس بأَنَّ من مات وعليه صوم نذر صام عنه وليُّه، دلَّ على أَنَّ السؤال الذي وقع في حديثه إنما كان عن صوم نذر؛ إذ يبعد أنْ يُفتي راوي الحديث بخلاف ما رواه. وأما مذهب عائشة: فالتحقيق أنها فَهِمَتْ من الحديث الذي روته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه مخصوصٌ بصوم النذر؛ بدليل أنها كانت تُفتي بالإطعام عمن مات وعليه صوم رمضان، والروايات وإنْ لم تَنُص على أنها كانت تُفتي بصوم النذر، إلا أنَّ حملها على هذا المعنى هو المُتعين، جمعاً بين ما رَوَته ورَأَته، إذ يبعد أنْ تُخالف ما رَوَته لمجرد رأيٍ رَأَته، والله تعالى أعلم. (¬1) **** ¬
الفصل الثاني الأحاديث التي ترد في تفسير آية ما، ويوهم ظاهرها التعارض فيما بينها
الفصل الثاني الأحاديث التي ترد في تفسير آية ما، ويوهم ظاهرها التعارض فيما بينها
المسألة [1]: في أخذ الغنيمة، وهل ينقص من أجر المجاهد
المسألة [1]: في أخذ الغنيمة، وهل يُنقص من أجر المجاهد. المبحث الأول: ذكر الآية الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)) [النساء: 74]. المبحث الثاني: ذكر الأحاديث الواردة في تفسير الآية، التي يوهم ظاهرها التعارض فيما بينها: (64) ـ (55): عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ، لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ، وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ، بِأَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ، مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ». (¬1) ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الأحاديث
(65) ـ (56): وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا مِنْ غَازِيَةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُصِيبُونَ الْغَنِيمَةَ إِلَّا تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أَجْرِهِمْ مِنْ الْآخِرَةِ، وَيَبْقَى لَهُمْ الثُّلُثُ، وَإِنْ لَمْ يُصِيبُوا غَنِيمَةً تَمَّ لَهُمْ أَجْرُهُمْ». (¬1) المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الأحاديث: في الآيةِ الكريمةِ وعْدٌ من اللهِ تعالى لمن قاتلَ في سبيلِهِ بأنَّ له أجراً عظيماً، إلا أنَّه سبحانه لم يُفَصِّل ويُبَيِّن هذا الأجرَ العظيم، وقد جاء في الحديثين المتقدِّمين بيانٌ وتفصيل لهذا الأجر؛ إلا أنَّ الحديثين ظاهرهما يُوهِمُ التعارض في بيان وتفصيل هذا الأجر: ففي الأول: أنَّ له الأجرَ إذا لم يَغْنَم، أو الغنيمة ولا أجر، وفي الثاني: ¬
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع الإشكال الوارد في الحديثين
أنَّ له الأجَرَ تامَّاً إذا لم يَغْنَم، أو ثُلُث الأجرِ إنْ غَنِم. (¬1) كما أنَّ في الحديث الأول إشكالاً آخر، حيث يُوهِمُ ظاهره مُعَارَضَة الآية الكريمة؛ إذ في الآية التَّسْويَة بين من قُتِلَ شهيداً أو انقلب غانماً، وأمَّا الحديث فغاير بينهما، حيث جعل الأجر في محل، والغنيمة في محل آخر. (¬2) المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع الإشكال الوارد في الحديثين: أولاً: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الحديثين: اختلف العلماء في هذه المسألة، وفي دفع التعارض بين الحديثين على مذهبين: الأول: مذهبُ إثباتِ نقصِ أجرِ المجاهدِ إنْ غَنِمَ، عملاً بحديثِ عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وهذا مذهب الجمهور من المحدثين، وممن قال به: ابن بَطَّال، وابن دقيق العيد، والنووي، والطِّيبي، وأبو زرعة العراقي (¬3)، والكرمَاني، وابن حجر، والعيني، والسيوطي، والمناوي، والآلوسي. (¬4) ¬
ويرى هؤلاء أنْ لا تعارض بين حديث أبي هريرة وحديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهم -؛ إذ الأول مُطلَق والثاني مُقَيَّد، فيُحْمَل المُطلَق على المُقَيَّد. قالوا: ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة: «مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ»: «أي مع أجرٍ خالصٍ إنْ لم يغنم شيئاً، أو مع غنيمةٍ خالصةٍ معها أجر، وكأنَّه سَكَتَ عن الأجر الثاني الذي مع الغنيمة لنقصه بالنسبة إلى الأجر الذي بلا غنيمة، والحاملُ على هذا التأويل أنَّ ظاهر الحديث أنَّه إذا غَنِمَ لا يحصل له أجر، وليس ذلك مراداً؛ بل المراد أو غنيمة معها أجرٌ أنقَص من أجر من لم يغنم؛ لأنَّ القواعد تقتضي أنَّه عند عدم الغنيمة أفضل منه وأتم أجراً عند وجودها، فالحديث صريح في نفي الحرمان، وليس صريحاً في نفي الجمع». (¬1) وأما حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - فمعناه: «أنَّ الغزاة إذا سَلِمُوا أو غَنِمُوا يكون أجرهم أقلَّ من أجر من لم يَسْلَم، أو سَلِمَ ولم يَغْنَم، وأنَّ الغنيمة هي في مُقابَلَةِ جُزءٍ مِنْ أجرِ غزوهم، فإذا حَصَلت لهم فقد تعجَّلوا ثُلُثَي أجرهم المترتِّب على الغزو، وتكون هذه الغنيمة من جملة الأجر». (¬2) قالوا: ولا تعارض بين الحديثين؛ فإن الذي في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - رجوعه بما نال من أجر أو غنيمة، ولم يقل إنَّ الغنيمة تُنقص الأجر، ولا قال أجره كأجر من لم يغنم، فهو مُطْلَقٌ وحديث عبد الله بن عمرو مُقَيَّد؛ فوجب حمله عليه. (¬3) المذهب الثاني: إثبات الأجر كاملاً للمجاهد، سواء غنم أم لم يغنم، عملاً بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وأخذاً بظاهر الآية. وهذا مذهب: ابن عبد البر، وأبي الوليد الباجي، والقاضي عياض، وأبي العباس القرطبي، وأبي عبد الله القرطبي. (¬4) ¬
قال ابن عبد البر: «وفي هذا الحديث - يريد حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - دليل على أنَّ الغنيمة لا تُنقِصُ من أجر المجاهد شيئاً، وأنَّ المجاهدَ وافِرُ الأجر، غَنِمَ أو لم يَغنَم، ويَعضُدُ هذا ويشهد له: ما اجتمع على نَقْلِهِ أهلُ السِّير والعلم بالأثر أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ضَرَبَ لعثمان، وطلحة، وسعيد بن زيد، بأسْهُمِهِم يومَ بدر، وهم غيرُ حاضِرِي القتال، فقال كلُّ واحدٍ منهم: وأجري يا رسول الله؟ قال: «وأجرك». (¬1) وأجمعوا أنَّ تحليل الغنائم لهذه الأمَّة من فضائلها، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِقَوْمٍ سُودِ الرُّؤوسِ قَبْلَكُمْ». (¬2) وقال - صلى الله عليه وسلم -: «فُضِّلتُ بِخِصَالٍ ... » وذكر منها: «وَأُحِلَّتْ لِيَ الغَنَائِمُ». (¬3) ولو كانت تُحبِطُ الأجر أو تُنقِصُه ما كانت فضيلة له». اهـ (¬4) وقد اختلف أصحاب هذا المذهب في الجواب عن حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، على أقوال: الأول: أنَّ الحديث محمول على من خرج بنية الجهاد وطلب المغنم، فيكونُ نقصُ أجرهِ بسبب نيَّتِهِ لا بسبب أخذه من الغنيمة. وهذا جواب القاضي عياض، واختيار أبي عبد الله القرطبي. (¬5) قال القاضي عياض: «وأصح ما يُجمَعُ فيه بين الحديثين أنَّ الأول قال فيه: «لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ، وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ»، فهذا الذي ضَمِنَ له الجنة، أو يُرَدُّ إلى بيته مع ما نال من أجر أو غنيمة، وهذا الحديث الآخر لم يشترط فيه هذا الشرط، فيُحتمل أنَّه فيمن خرج بنية الجهاد وطلب المغنم، ¬
فهذا شَرَّكَ بما يجوز له التشريك فيه، وانقسمت نِيَّتُه بين الوجهين فنقص أجره، والأول أخلص فَكَمُلَ أجره». اهـ (¬1) وتَعقَّبَه الحافظ ابن حجر فقال: «وفيه نظر؛ لأنَّ صَدْرَ الحديثِ مُصَرِّحٌ بأنَّ الْمُقْسِم رَاجِعٌ إِلَى مَنْ أَخْلَصَ؛ لقوله في أوله: لَا يُخْرِجهُ إِلَّا إِيمَان بِي وَتَصْدِيق بِرُسُلِي». اهـ (¬2) قلت: ليس في حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - ذكر هذا القيد، وهو قوله: «لَا يُخْرِجهُ إِلَّا إِيمَان بِي، وَتَصْدِيق بِرُسُلِي»، وإنما جاء هذا القيد في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وعليه فلا يُسَلَّم الاعتراض من ابن حجر. القول الثاني: أنَّ المراد بنقص أجر من غنم: أنَّ الذي لا يغنم يزداد أجره لحزنه على ما فاته من الغنيمة، كما يؤجر من أُصيب بماله، فكان الأجر لِمَا نَقَص عن المضاعفة بسبب الغنيمة عند ذلك كالنقص من أصل الأجر. وهذا جواب ابن عبد البر، وأبي العباس القرطبي. (¬3) قال ابن عبد البر في الجواب عن الحديث: يريد - والله أعلم - أنْ يكون الأجرُ مضاعفاً لها بما نالها من الخوف، وعلى ما فاتها من الغنيمة، كما يُؤجر من أُصيب بماله مضاعفاً، فيؤجر على ما يَتَكلّفُه من الجهاد أجر المجاهد، وعلى ما فاته من الغنيمة أجراً آخر، كما يُؤجر على ما يَذهَبُ من مالِهِ ونحوِ ذلك. اهـ (¬4) وللقاضي عياض جواب آخر قريب من هذا، قال: «وأوجه من هذا عندي في استعمال الحديثين على وجهيهما أيضاً: أنَّ نقص أجر الغانم بما فتح الله عز وجل عليه من الدنيا، وحساب ذلك بتمتعه عليه في الدنيا، وذهاب شَظَف عيشه في غزوه، وبُعْدِه، إذا قُوبِلَ بمن أخفق ولم يُصِبْ منها شيئاً، وبقي على شَظَف عيشه، والصبر على غزوه في حاله، وجَدَ أجر هذا أبداً في ¬
ذلك وافياً مطرداً، بخلاف الأول، ومثله في الحديث الآخر: «فَمِنَّا مَنْ مَاتَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا (¬1)» (¬2) فكان هذا إذا لم يهدب ثمرة الدنيا والاتساع فيما فتح عليه من مغانمها، وبقي على حالته الأولى، كان أجره في الصبر والتقلل على ما كان عليه، فلما خالف لم يكن له الأجر، فكأنه نقص بما كان له في التقدير، وكذلك هذا». اهـ (¬3) وتَعقَّبَ الحافظ ابن حجر هذا الجواب فقال: «ولا يخفى مُبايَنَةُ هذا التأويل لسياق حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه -». اهـ (¬4) القول الثالث: أنَّ حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما لا يَثْبُتْ؛ لأنَّه من رواية أبي هانئ حميد بن هانئ (¬5)، وليس بمشهور. وهذا رأي أبي الوليد الباجي، قال: «ولا يَصِحُّ حَمْلُ الحديث على عمومه؛ لأنَّا لا نعلم غازياً أعظم أجراً من أهل بدر، على ما أصابوا من الغنيمة. وقد رُوي عن رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ - وكان ممن شهد بدراً - قال: «جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: مَا تَعُدُّونَ أَهْلَ بَدْرٍ فِيكُمْ؟ قَالَ: مِنْ أَفْضَلِ الْمُسْلِمِينَ. أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا. قَالَ: وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ». (¬6) وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعمر بن الخطاب: «وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدْ ¬
ثانيا: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية وحديث أبي هريرة
اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ». (¬1)». اهـ (¬2) وتُعُقِّبَ هذا القول: بأنَّ أبا هانئ ثقة مشهور، روى عنه الليث بن سعد (¬3)، وحيوة (¬4)، وابن وهب (¬5)، وخلائق من الأئمة، ويكفي في توثيقه احتجاج مسلم به في صحيحه. (¬6) القول الرابع: أنَّ نُقصان الأجر إنما هو لمن أخذ الغنيمة على غير وجهها. وهذا جواب أبي الوليد الباجي، ذكره على التسليم بثبوت الحديث. (¬7) وذكر هذا الجواب مع تضعيفه ورده: القاضي عياض، والنووي، والحافظ ابن حجر. (¬8) قال النووي: «وهذا غلط فاحش؛ إذ لو كانت على خلاف وجهها لم يكن ثلث الأجر». اهـ (¬9) ثانياً: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية وحديث أبي هريرة: الجواب عن هذا التعارض مبني على الخلاف في المسألة السابقة - أعني مسألة دفع التعارض بين الحديثين -: فأصحاب المذهب الأول يرون أنْ لا تعارض بين الآية والحديث؛ لأنَّ معنى الحديث عندهم إمَّا أنْ يغنم فيبقى له ثُلُثُ الأجر، أو تفوته الغنيمة فينال الأجر تامَّاً، وهو مأجور في كلتا الحالتين، وهذا المعنى لا يُعارض الآية. ¬
المبحث الخامس: الترجيح
وأما أصحاب المذهب الثاني فأجابوا عن الحديث: بأنَّ «أو» في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ» هي بمعنى «الواو»، قالوا: ولا يجوز حملها على معنى «أو»؛ لأن ذلك يوهم معنىً فاسداً يُعَارِضُ الآية، وهذا المعنى هو أنْ يكون له الغنيمة وحدها بلا أجر، أو الأجر ولا غنيمة. (¬1) قال ابن عبد البر: «قوله: «مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ» يريد - والله أعلم - من أجر وغنيمة، كما قال الله عز وجل: (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) [الإنسان: 24]، يريد ولا كفوراً، وكما قال جل ثناؤه: (مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ) [النساء: 3]، أي مثنى أو ثلاث أو رباع، فقد تكون «أو» بمعنى الواو، وتكون الواو بمعنى «أو»، وقد روي منصوصاً «مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ» بواو الجمع لا بأو .... ». اهـ (¬2) ثم ذكر حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - بلفظ: «مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ». (¬3) وقال أبو الوليد الباجي: «قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ» يريد - والله أعلم - مع الذي ينال منهما؛ فإنْ أصاب غنيمة فله أجر وغنيمة، وإنْ لم يُصب الغنيمة فله الأجر على كل حال، فتكون «أو» بمعنى «الواو»؛ كقول جرير (¬4): نَالَ الخِلاَفَةَ أَوْ كَانَتْ عَلَى قَدَرٍ ... كَمَا أَتَى رَبّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ ... ». اهـ (¬5) (¬6) المبحث الخامس: الترجيح: الذي يَظْهُرُ صَوَابُه - والله تعالى أعلم - هو ما ذهب إليه الجمهور من المحدثين، بأنَّ المجاهد يَنْقُصُ أجرهُ إذا أخذ شيئاً من الغنيمة، كما هو صريح ¬
حديث عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما، وكما تقدم فإنَّ هذا الحديث لا يُعارِضُ حديث أبي هريرة رضي الله عنه، بل هو موافق ومفسِّرٌ له؛ لأنَّ معنى حديث أبي هريرة: أنَّ للمجاهد الأجرَ تامّاً إنْ لم يغنم، أو الأجرَ والغنيمةَ معاً إنْ غَنِم، فالأجر حاصلٌ على كلِّ حال، غَنِمَ أو لم يَغنَم، لكنَّه مع الغنيمة أنقص، وهو مُقَدَّرٌ في الشِقِّ الثاني مع الغنيمة، وإنْ لم يُصَرِّح بذكره، وكما ترى فإنَّ هذا المعنى لا يُعارِضُ حديث عبد الله بن عمرو، ولا يُعارِضُ الآية أيضاً. وأمَّا ما ذَكَرَهُ أصحاب المذهب الثاني من أجوبةٍ عن حديث عبد الله بن عمرو؛ فكلها لا تخلوا من ضعف، وقد تقدَّم بيانُ ذلك. وأمَّا قولهم: إنّه لا يُعْلَمُ غازياً أعظمَ من أهل بدر، وقد أصابوا من الغنيمة، ولو كان أخذها يُنقص من الأجر ما كانت فضيلة لهم؛ فجوابه: أنَّه ليس في غنيمة بدر نصٌ أنهم لو لم يغنموا لكان أجرهم على قدر أجرهم وقد غنموا فقط، وكونهم مغفوراً لهم، مرضياً عنهم، ومن أهل الجنة؛ لا يلزم أنْ لا يكون وراء هذا مرتبة أخرى هي أفضل منه، مع أنَّه شديد الفضل عظيم القدر. (¬1) وأمَّا قولهم: إنَّ «أو» - في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ» - هي بمعنى «الواو»؛ فيَرِدُ عليه إشكال؛ لأنَّه يقتضي من حيث المعنى أنْ يكون الضمانُ وقع بمجموع الأمرين لكلِّ من رجع، وقد لا يتفق ذلك؛ فإنَّ كثيراً من الغُزاة يرجع بغير غنيمة، فما فَرَّ منه الذي ادَّعى أنَّ «أو» بمعنى «الواو» وقع في نظيره؛ لأنَّ رواية «أو» ظاهرها يُوهِمُ أنَّ من رجع بغنيمة رجع بغير أجر، على حين يلزم من القول بأنَّها بمعنى «الواو» أنَّ كلَّ غازٍ يُجْمَعُ له بين الأجر والغنيمة معاً، وهذا المعنى لا يَصِحُّ كما تقدَّم، مع ما فيه من المُخالفة لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، والذي فيه أنَّ الذي يَغْنَمُ يرجع بأجر لكنَّه أنقص من أجر من لم يغنم. (¬2) ¬
وأمَّا استدلالهم برواية: «مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ»، بـ «الواو»؛ فالأصح أنَّ هذه الرواية لا تَثْبُتُ، وقد تقدَّم بيانُ ذلك في أوَّلِ المسألة، عند تخريج الحديث، والله تعالى أعلم. ****
المسألة [2]: في المراد بالمسجد الذي أسس على التقوى
المسألة [2]: في المراد بالمسجد الذي أسس على التقوى. المبحث الأول: ذكر الآية الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)) [التوبة: 108]. المبحث الثاني: ذكر الأحاديث الواردة في تفسير الآية، التي يُوهِم ظاهرها التعارض فيما بينها: (66) ـ (57): عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: مَرَّ بي عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري فقلت له: كيف سمعت أباك يذكر في المسجد الذي أسس على التقوى؟ فقال: قال أبي: «دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَيْتِ بَعْضِ نِسَائِهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ الْمَسْجِدَيْنِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى؟ قَالَ: فَأَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصْبَاءَ (¬1)، فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ ثُمَّ قَالَ: هُوَ مَسْجِدُكُمْ هَذَا، لِمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ». قَالَ: فَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ أَبَاكَ هَكَذَا يَذْكُرُهُ. (¬2) (67) ـ (58): وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ قُبَاءَ: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) [التوبة: ¬
108] قَالَ: كَانُوا يَسْتَنْجُونَ (¬1) بِالْمَاءِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ». (¬2) ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الحديثين
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الحديثين: ظاهر حديث أبي سعيد الخدري أنَّ المراد بالمسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الذي هو في جوف المدينة، وأما سبب نزول الآية فظاهره أنَّ المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد قباء، وهذا يُوهِمُ الاختلاف والتناقض بين الحديثين. (¬1) ¬
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الحديثين
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الحديثين: للعلماء في دفع التعارض بين الحديثين مسلكان: الأول: مسلك الجمع بينهما: حيث ذهب جمع من العلماء إلى نفي التعارض بين الحديثين؛ وجمعوا بينهما بأنَّ كلاً من المسجدين قد أسس على التقوى، إلا أنَّ المسجد النبوي أحق بهذا الوصف من مسجد قباء، لحديث أبي سعيد، وأما مراد الآية فهو مسجد قباء دون المسجد النبوي، كما دل عليه سبب نزول الآية. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: قوله تعالى: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) [التوبة: 108] مسجده - صلى الله عليه وسلم - هو الأحق بهذا الوصف، وقد ثبت في الصحيح أنه سُئِلَ عن المسجد المؤسس على التقوى فقال: «هو مسجدي هذا» يريد أنه أكمل في هذا الوصف من مسجد قباء، ومسجد قباء أيضاً أسس على التقوى، وبسببه نزلت الآية، ولهذا قال فيه: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) [التوبة: 108] فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أنْ لا يظن ظان أنَّ ذاك هو الذي أسس على التقوى دون مسجده، فذكر أنَّ مسجده أحق بأن يكون هو المؤسس على التقوى فقوله: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى) [التوبة: 108] يتناول مسجده ومسجد قباء، ويتناول كل مسجد أسس على التقوى. اهـ (¬1) وقال الحافظ ابن كثير: «المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم هو مسجد قباء، لما دل عليه السياق، والأحاديث الواردة في الثناء على تطهير أهله مشيرة إليه، وما ثبت في صحيح مسلم من أنه مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا ينافي ما تقدم؛ لأنه إذا كان مسجد قباء أسس على التقوى من أول يوم، ¬
فمسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أولى بذلك وأحرى، وأثبت في الفضل منه وأقوى». اهـ (¬1) وقال: لما سُئِلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المسجد الذي أسس على التقوى أشار إلى مسجده، والآية نزلت في مسجد قباء، ولا تنافي؛ فإن ذكر الشيء لا ينفي ذكر ما عداه إذا اشتركا في تلك الصفة، والله أعلم. اهـ (¬2) وقال الحافظ ابن حجر: «والحق أنَّ كلاً منهما أسس على التقوى». اهـ (¬3) وقال الطاهر بن عاشور: «ووجه الجمع عندي أنْ يكون المراد بقوله تعالى: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) [التوبة: 108] المسجد الذي هذه صفته، لا مسجداً واحداً معيناً، فيكون هذا الوصف كلياً انحصر في فردين: المسجد النبوي، ومسجد قباء، فأيهما صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الوقت الذي دعوه فيه للصلاة في مسجد الضرار كان ذلك أحق وأجدر، فيحصل النجاء من حظ الشيطان في الامتناع من الصلاة في مسجدهم، ومن مطاعنهم أيضاً، ويحصل الجمع بين الحديثين الصحيحين، وقد كان قيام الرسول في المسجد النبوي هو دأبه». اهـ (¬4) وقد اختار هذا الجمع: ابن عبد البر (¬5)، والداوودي (¬6)، والسهيلي (¬7)، وابن القيم (¬8)، والسمهودي (¬9) (¬10)، والقاسمي (¬11)، والألباني (¬12). ¬
وللنحاس، وأبي العباس القرطبي، رأي آخر في الجمع: حيث ذهبا إلى أنَّ أول الآية وهو قوله تعالى: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) يعود على مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، لحديث أبي سعيد، وأما آخر الآية، وهو قوله: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) فهو في مسجد قباء، كما يدل عليه سبب النزول. غير أنَّ النحاس لم يجزم بذلك حيث جوَّز أنْ تكون الآية كلها في المسجد النبوي. قال النحاس: «الهاء في قوله: (أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) يعود على مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، والهاء في قوله: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) يعود على مسجد قباء، ويجوز أنْ تكون تعود على مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -». اهـ (¬1) وقال أبو العباس القرطبي: «ويلزم من تعيين النبي - صلى الله عليه وسلم - مسجده أنْ يكون هو المراد بقوله تعالى: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) [التوبة: 108]، وأنْ يكون الضمير في قوله: (فِيهِ رِجَالٌ) عائد على المسجد الذي أسس على التقوى؛ لأنه لم يتقدمه ظاهر غيره يعود عليه، وليس الأمر كذلك، بدليل ما رواه أبو داود من طريق صحيحة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ قُبَاءَ: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) قَالَ: كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ». (¬2) فعلى هذا يكون الضمير في: (فِيهِ رِجَالٌ) غير عائد على المسجد المذكور قبله، بل على مسجد قباء، الذي دلت عليه الحال والمشاهدة عندهم، وأما عندنا فلولا هذا الحديث لحملناه على الأول. وعلى هذا يتعين على القارئ أنْ يقف على «فيه» من قوله: (أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) ويبتدئ: (فِيهِ رِجَالٌ) ليحصل به التنبيه على ما ذكرناه، والله تعالى أعلم». اهـ (¬3) ¬
واعتُرِضَ على هذا القول: بأن فيه تفكيكاً للضمائر، والأصل أنْ تكون الضمائر متناسقة وعائدة على مذكور واحد. (¬1) أدلة هذا المذهب: استدل القائلون بأن مراد الآية هو مسجد قباء بأدلة، منها: الأول: أنَّ قوله تعالى: (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) يقتضي أنه مسجد قباء؛ لأن تأسيسه كان في أول يوم حلَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بدار الهجرة، وأما مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يُنْشَأ إلا بعد ذلك. (¬2) الدليل الثاني: أنَّ قوله في بقية الآية: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) يؤكد كون المراد مسجد قباء، وقد صح في سبب نزول الآية أنها نزلت في أهل قباء؛ فتعين حمل الآية جميعها على أنها واردة في مسجد قباء. وأجابوا عن حديث أبي سعيد والذي فيه تعيين مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: وأما حديث أبي سعيد: فليس هو في معرض بيان وتعيين ما في الآية؛ بل هو في بيان الأحق بهذا الوصف، يدل عليه قوله في رواية أخرى هي من تمام الحديث: «وفي ذلك خير كثير». (¬3) يريد مسجد قباء. قالوا: والسر في إجابته - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك إنما هو لدفع ما توهمه السائل من ¬
اختصاص ذلك بمسجد قباء دون المسجد النبوي، والتنويه بمزية هذا على ذاك. (¬1) الإيرادات والاعتراضات على هذا المذهب وأدلته: الإيراد الأول: إذا كان كل واحد من المسجدين قد أسس على التقوى، فما المزية التي أوجبت تعيينه - صلى الله عليه وسلم - مسجد المدينة دون مسجد قباء؟ وأجيب: بأن بناء مسجد قباء لم يكن بأمر جزم من الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، بل نُدب إليه، أو كان رأياً رآه، بخلاف مسجد المدينة؛ فإنه أُمر بذلك، وجُزم عليه، فأشبه امتثال الواجب، فكان بذلك الاسم أحق. (¬2) ويحتمل أنْ تكون المزية لما اتفق من طول إقامته - صلى الله عليه وسلم - بمسجد المدينة، بخلاف مسجد قباء فما أقام به إلا أياماً قلائل. (¬3) الاعتراض الثاني: أنَّ قوله تعالى: (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) لا يفيد أنه مسجد قباء؛ لأن المعنى: أنه أسس على التقوى من أول مبتدأ تأسيسه، أي أنه لم يشرع فيه، ولا وضع حجر على حجر منه، إلا على اعتقاد التقوى. (¬4) قال الآلوسي: «ومعنى تأسيسه على التقوى من أول يوم: أنَّ تأسيسه على ذلك كان مبتدأ من أول يوم من أيام وجوده، لا حادثاً بعده، ولا يمكن أنْ يراد من أول الأيام مطلقاً». اهـ (¬5) الاعتراض الثالث: أنَّ القول بأن كلاً منهما قد أسس على التقوى يوحي بنوع استدراك على حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه حينما سُئل أي المسجدين أسس على التقوى؟ أجاب: بأنه مسجده، ولم يقل كلا المسجدين قد أسسا على التقوى، بل أشار إلى أنَّ مسجد قباء فيه خير كثير، فكيف يقال بعد ذلك أنَّ كلاً منهما قد أسسا على التقوى؟! ¬
المسلك الثاني: الترجيح بين الأحاديث: حيث ذهب آخرون إلى تضعيف الأحاديث الواردة في سبب نزول الآية، التي فيها أنَّ المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد قباء، وأنَّ الآية لا يصح فيها إلا حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. قال ابن العربي: فإن قيل: إن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «نزلت هذه الآية في أهل قباء: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) قال: كانوا يستنجون بالماء فنزلت هذه الآية فيهم». يدل على أنَّ ضمير المتطهرين هو ضمير مسجد قباء. قلنا: هذا حديث لم يصح، والصحيح هو حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: «تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فقال رجل: هو مسجد قباء. وقال آخر: هو مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هو مسجدي هذا. اهـ (¬1) وقال الشوكاني: ولا يخفاك أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قد عيَّن هذا المسجد الذي أسس على التقوى، وجزم بأنه مسجده - صلى الله عليه وسلم -، كما قدمنا من الأحاديث الصحيحة، فلا يقاوم ذلك قول فرد من الصحابة ولا جماعة منهم ولا غيرهم، ولا يصح لإيراده في مقابلة ما قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا فائدة في إيراد ما ورد في فضل الصلاة في مسجد قباء؛ فإن ذلك لا يستلزم كونه المسجد الذي أسس على التقوى، على أنَّ ما ورد في فضائل مسجده - صلى الله عليه وسلم - أكثر مما ورد في فضل مسجد قباء بلا شك ولا شبهة تعم. اهـ (¬2) وقال الآلوسي بعد أنْ ذكر المذهب الأول: «ولا يخفى بُعْد هذا الجمع، فإن ظاهر الحديث الذي أخرجه الجماعة عن أبي سعيد الخدري بمراحل عنه، ولهذا اختار بعض المحققين القول الثاني .... ، وأما ما رواه ¬
الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: «من أنَّ قوله جل وعلا: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) نزلت في أهل قباء وكانوا يستنجون بالماء». فهو لا يعارض نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأما ما رواه ابن ماجه عن أبي أيوب وجابر وأنس من أنَّ هذه الآية لما نزلت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا معشر الأنصار إن الله تعالى قد أثنى عليكم خيراً في الطهور فما طهوركم هذا؟ قالوا: نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة. قال: فهل مع ذلك غيره؟ قالوا: لا، غير أنَّ أحدنا إذا خرج إلى الغائط أحب أنْ يستنجي بالماء. قال - صلى الله عليه وسلم -: هو ذاك فعليكموه». فلا يدل على اختصاص أهل قباء، ولا ينافي الحمل على أهل مسجده صلى الله عليه وسلم». قال: «والجمع فيما أرى بين الأخبار والأقوال متعذر، وليس عندي أحسن من التنقير عن حال تلك الروايات صحة وضعفاً، فمتى ظهر قوة إحداهما على الأخرى عُوِّلَ على الأقوى، وظاهر كلام البعض يُشعر بأن الأقوى رواية ما يدل على أنَّ المراد مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم -». اهـ (¬1) وممن ذهب إلى ترجيح حديث أبي سعيد: الطحاوي (¬2)، والقاضي عياض (¬3)، والنووي (¬4)، وابن عطية (¬5)، وأبو عبد الله القرطبي (¬6)، والحافظ العراقي (¬7)، والعيني (¬8)، والسندي (¬9)، والمُلا علي القاري (¬10). أدلة هذا المذهب: استدل القائلون بأن مراد الآية هو مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - دون مسجد قباء بأدلة منها: ¬
المبحث الخامس: الترجيح
الأول: حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -، وهو نص صحيح صريح في المسألة. الدليل الثاني: أنَّ المسجد النبوي أحق بالوصف بالتأسيس على التقوى من أول يوم، من مسجد قباء، لما ورد من أحاديث كثيرة في فضله. (¬1) الدليل الثالث: أنَّ التعبير بالقيام عن الصلاة في قوله: (أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) يستدعي المداومة، ويعضده توكيد النهي بقوله: (أَبَدًا) [التوبة: 108]، ومداومة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم توجد إلا في مسجده الشريف - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) الدليل الرابع: أنَّ القول بأنه مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صح عن جمع لا يحصون من الصحابة ومن بعدهم، وهذا يؤكد أنَّ المراد به مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - دون مسجد قباء. (¬3) وأجاب أصحاب هذا المذهب عن سبب نزول الآية: بأن بعض طرق الحديث فيها ضعف، وبعضها ليس فيه تعيين مسجد قباء، وبعضها لا تصريح فيه بأن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد قباء، وإذ الأمر كذلك فإن هذه الأحاديث الواردة في سبب نزول الآية لا تقاوم الأحاديث الصحيحة الصريحة بأن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬4) المبحث الخامس: الترجيح: الذي يظهر صوابه - والله تعالى أعلم - أنَّ المراد بالمسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، دون مسجد قباء، وهذا ما دل عليه حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - الصحيح الصريح، وأما ما ورد في سبب نزول الآية؛ فإنه عند التحقيق لا يظهر أنه يخالف حديث أبي سعيد؛ ذلك أنَّ سبب النزول ¬
لم يصح فيه أنَّ الآية نزلت في مسجد قباء، بل الصحيح أنها نزلت في رجال من الأنصار، وقد قمت بتقصي طرق سبب نزول الآية ووجدت أنها كلها لا تخلوا من ضعف، غير أنَّ الطرق التي فيها التصريح بذكر مسجد قباء ضعيفة جداً، وقد استشكل جمع من العلماء هذه المسألة بسبب ذلك، لذا فإن القول المختار في سبب نزول الآية أنها نزلت في رجال من الأنصار كانوا في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليسوا في مسجد قباء، والله تعالى أعلم. أدلة هذا الاختيار: 1 - أنَّ الحديث الذي ورد فيه التصريح بأنه مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - هو أقوى في الثبوت من أحاديث سبب نزول الآية، التي فيها أنها نزلت في مسجد قباء، حيث روي حديث مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - في صحيح مسلم، وأما أحاديث سبب نزول الآية؛ فإن جميعها رويت من طرق لا تخلو من ضعف. 2 - أنَّ الأحاديث الواردة في سبب نزول الآية، التي فيها التصريح بذكر مسجد قباء، رويت عن ستة من الصحابة - كما تقدم في تخريج سبب النزول - إلا أنَّ هذه الأحاديث لا يصح الاحتجاج بها؛ لأن أسانيدها لا تخلو من راوٍ كذاب، أو ضعيف جداً. 3 - أنَّ النص الصريح الصحيح المرفوع للنبي - صلى الله عليه وسلم - مقدم على سبب النزول، وذلك عند التعارض. (¬1) 4 - أنَّ قوله تعالى: (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) ليس المراد به: من أول أيام قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - لدار الهجرة، بل المراد من أول أيام تأسيس المسجد، والمعنى أنه أسس أول ما أسس على التقوى، لا على الضرار والكفر، يدل على هذا المعنى أنَّ هذه الآية وردت في مقابل الآية التي قبلها، وهي قوله تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)) [التوبة: 107] فمسجد الضرار أسس أول ما أسس على الضرار والكفر والتفريق بين المؤمنين، لذلك أمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بإحراقه ¬
وهدمه (¬1)؛ لأن بناءه لم يكن على أساس من التقوى والرضوان، وأما المسجد النبوي فأسس أول ما أسس على تقوى من الله ورضوان، ويؤيد هذا المعنى أيضاً قوله في الآية التي بعدها: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [التوبة: 109] فهذه الآية صريحة بأن المراد من أول أيام تأسيس المسجد، وأنه أسس أول ما أسس على التقوى. 5 - ومما يؤكد أنَّ المراد مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله في الآية: (أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) حيث أمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالقيام فيه، ومعلوم أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُدِم القيام بمسجد قباء، وإنما كان يزوره ويصلي فيه في الأسبوع مرة واحدة (¬2)، والذي كان يداوم على الصلاة فيه هو مسجده الذي في جوف المدينة، وما كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنْ يخالف أمر ربه تبارك وتعالى فيترك مسجد قباء، وقد أُمِرَ بالقيام فيه، وإنما أمر بالقيام في مسجده - صلى الله عليه وسلم -، والذي هو مراد الآية. الإيرادات والاعتراضات على هذا الاختيار: الإيراد الأول: أنه قد صح عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنَّ المراد بالآية مسجد قباء (¬3)، وهذا يدل على أنَّ لسبب النزول أصلاً صحيحاً. ¬
والجواب: أنه قد صح أيضاً عن ابن عمر (¬1)، وزيد بن ثابت (¬2)، أنَّ المراد بالآية مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس قول بعض الصحابة بحجة على بعض إلا إذا اتفقوا، وليس في الآية اتفاق، فلم يبق إلا اعتبار الحديث. الإيراد الثاني: أنه روي عن ستة من الصحابة أنَّ الآية نزلت في أهل قباء، وهي وإن كانت ضعيفة إلا إنه يشد بعضها بعضاً؛ لأن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك على أنَّ للقصة أصلاً. (¬3) والجواب: أنَّ القول بتقوية الحديث بكثرة طرقه ليس على إطلاقه، وقد نبّه على ذلك غير واحد من علماء الحديث المحققين، منهم الحافظ أبو عمرو بن الصلاح (¬4)، حيث قال: «لعل الباحث الفهم يقول: إنا نجد أحاديث محكوماً بضعفها، مع كونها قد رويت بأسانيد كثيرة من وجوه عديدة .... ، فهلا جعلتم ذلك وأمثاله من نوع الحسن؛ لأن بعض ذلك عضد بعضاً، كما قلتم في نوع الحسن على ما سبق آنفاً؟ وجواب ذلك: أنه ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه، بل ذلك يتفاوت، فمنه ما يزيله ذلك بأن يكون ضعفه ناشئاً من ضعف حفظ راويه، ولم يختل فيه ضبطه له .... ، ومن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك لقوة الضعف، وتقاعد هذا الجابر عن جبره ومقاومته، وذلك كالضعيف الذي ينشأ من كون الراوي متهماً بالكذب، أو كون الحديث شاذاً، وهذه جملة تفاصيلها تدرك بالمباشرة والبحث، فاعلم ذلك فإنه من النفائس العزيزة». اهـ (¬5) الإيراد الثالث: أنَّ الأحاديث التي فيها أنَّ الآية نزلت في رجال من ¬
الأنصار هي أيضاً ضعيفة، فكيف اعتمدتموها وطرحتم بقية الأحاديث التي فيها ذكر مسجد قباء؟ والجواب: أنَّ هذه الأحاديث أقوى إسناداً من بقية الأحاديث التي فيها ذكر مسجد قباء، وقد صححها بعض العلماء كما تقدم في تخريج الحديث، ورواتها مختلف في توثيقهم، ولكن لما رويت من عدة طرق صح اعتبارها. الإيراد الرابع: أنَّ القول بأن الآية نزلت في رجال من الأنصار -كانوا إذا خرجوا من الغائط يغسلون أثر الغائط فنزلت فيهم هذه الآية - يلزم منه أنها نزلت في أهل قباء؛ لأنهم هم الذين كانوا يفعلون ذلك. والجواب: أنَّ الأنصار كانوا في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي مسجد قباء، ومسجده - صلى الله عليه وسلم - كان معموراً بالمهاجرين والأنصار، ومن سواهم من الصحابة، وليس هناك ما يدل على أنَّ أولئك الرجال كانوا في مسجد قباء خاصة، إلا ما ورد في سبب نزول الآية، وقد تقدم أنَّ ذلك لا يصح، والله تعالى أعلم. (¬1) **** ¬
المسألة [3]: في تفسير قوله تعالى: (ثم دنا فتدلى)
المسألة [3]: في تفسير قوله تعالى: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى) [النجم: 8] المبحث الأول: ذكر الآيات الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)) [النجم: 5 - 10]. المبحث الثاني: ذكر الأحاديث الواردة في تفسير الآية، التي يُوهِم ظاهرها التعارض فيما بينها: (68) ـ (59): عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - رضي الله عنه - يَقُولُ - لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ .... - فَذَكَرَ حديثَ الإسراء بطوله، وفيه: « ... ثُمَّ عَلَا بِهِ (¬1) فَوْقَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، حَتَّى جَاءَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، وَدَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ فَتَدَلَّى، حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى اللَّهُ فِيمَا أَوْحَى إِلَيْهِ: خَمْسِينَ صَلَاةً عَلَى أُمَّتِكَ، كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ... ». (¬2) ¬
(69) ـ (60): وَعَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: «كُنْتُ مُتَّكِئًا عِنْدَ عَائِشَةَ فَقَالَتْ: يَا أَبَا عَائِشَةَ، ثَلَاثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ. قُلْتُ: مَا هُنَّ؟ قَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ. قَالَ: وَكُنْتُ مُتَّكِئًا فَجَلَسْتُ فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْظِرِينِي وَلَا تَعْجَلِينِي، أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)) [التكوير: 23] (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)) [النجم: 13]؟ فَقَالَتْ: أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ، لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ، رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنْ السَّمَاءِ، سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ». (¬1) (70) ـ ( .. ): وفي رواية: قَالَ مَسْرُوق: «قُلْتُ لِعَائِشَةَ: فَأَيْنَ قَوْله: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10))؟ قَالَتْ: إِنَّمَا ذَاكَ جِبْرِيلُ عليه السلام، كَانَ يَأْتِيهِ فِي صُورَةِ الرِّجَالِ، وَإِنَّهُ أَتَاهُ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ فِي صُورَتِهِ الَّتِي هِيَ صُورَتُهُ، فَسَدَّ أُفُقَ السَّمَاءِ». (¬2) (71) ـ (61): وَعَنْ أبي إِسْحَاقٍ الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ زِرَّ بْنَ حُبَيْشٍ، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)) قَالَ: «أَخْبَرَنِي ابْنُ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه -، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّ مِائَةِ جَنَاحٍ». (¬3) ¬
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الأحاديث
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الأحاديث: ظاهرُ حديثِ أنس - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أُسريَ به، دنا منه الجبار رب العزة فتدلى، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، وهذا الدنو يُفْهَمُ منه أنه هو المراد من قوله تعالى: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)). وأمَّا حديثُ عائشةَ وابنِ مسعود - رضي الله عنهما - فظاهرهما يُوهِم مُعارضة حديث أنس؛ لأنهما نسبا الدنو والتدلي في الآية لجبريل عليه السلام، وهما وإنْ لم يُصَرِّحَا برَفْعِ ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ إلا أنَّ تفسيرهما هذا في حكم المرفوع؛ لأنَّ مثله لا يُقال بالرأي. (¬1) المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الأحاديث: اختلف العلماء في تفسير الآية، وفي دفع التعارض بين الأحاديث على مذاهب: ¬
الأول: أنَّ الدنو والتدلي في الآية المراد به دنو جبريل عليه السلام، من محمد - صلى الله عليه وسلم -. وهذا التفسير هو الثابت عن عائشة، وابن مسعود، رضي الله عنهما، وقد تقدم. وروي عن الحسن البصري (¬1)، وقتادة (¬2)، والربيع بن أنس (¬3). وهو مذهب الجمهور من المفسرين والمحدثين (¬4)، وممن قال به: ابن جرير الطبري، وأبو الليث السمرقندي، والخطابي، والبيهقي، والواحدي، والسمعاني، والقاضي عياض، وابن عطية، والفخر الرازي، وأبو عبد الله القرطبي، والبيضاوي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والحافظ ابن كثير، وابن أبي العز الحنفي، وابن جماعة، والشوكاني، والآلوسي، والقاسمي، والشنقيطي. (¬5) وقد ذكر الإمام ابن القيم عدة أدلة تؤيد هذا المذهب: «الأول: أنَّ الله تعالى قال: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)) [النجم: 5]، وهذا جبريل الذي وصفه الله بالقوة في سورة التكوير فقال: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)) [التكوير: 19 - 20]. ¬
الثاني: أنه تعالى قال: (ذُو مِرَّةٍ) أي حسن الخلق، وهو الكريم المذكور في سورة التكوير. الثالث: أنه قال: (فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7)) وهو ناحية السماء العليا، وهذا استواء جبريل بالأفق الأعلى، وأما استواء الرب جل جلاله فعلى عرشه. الرابع: أنه قال: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14))، والمرئي عند السدرة هو جبريل قطعاً، وبهذا فسره النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية فقال: «جبريل، لم أرَهُ في صورته التي خُلِقَ عليها إلا مرتين». (¬1) الخامس: أنَّ مُفَسِّرَ الضمير في قوله: (وَلَقَدْ رَآهُ) وفي قوله: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8))، وفي قوله: (فَاسْتَوَى)، وفي قوله: (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7)) واحد، فلا يجوز أنْ يُخالف بين المُفَسِّر والمُفَسَّر من غير دليل. السادس: أنه سبحانه ذكر في هذه السورة الرسولين الكريمين، الملكي والبشري، ونزَّه البشري عن الضلال والغواية، ونزَّه الملكي عن أنْ يكون شيطاناً قبيحاً ضعيفاً؛ بل هو قوي كريم حسن الخلق، وهذا نظير الوصف المذكور في سورة التكوير سواء. السابع: أنَّه أخبر هناك أنه رآه بالأفق المبين، وهاهنا أخبر أنه رآه بالأفق الأعلى، وهو واحدٌ وُصِفَ بصِفَتين، فهو مُبين، وهو أعلى؛ فإنَّ الشيء كلما علا: بَانَ وظَهَر. الثامن: أنَّه قال: (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6)) والمرة الخلق الحسن المحكم، فأخبر عن حُسْنِ خُلُقِ الذي عَلَّمَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم ساق الخبر كله عنه نسقاً واحداً. التاسع: أنَّه لو كان خبراً عن الرب تعالى لكان القرآن قد دَلَّ على أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه سبحانه مرتين، مرَّة بالأفق، ومرَّة عند السدرة، ومعلوم أنَّ الأمر لو كان كذلك لم يَقُلْ النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر وقد سأله هل رأيت ربك؟ ¬
فقال: «نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ» (¬1)، فكيف يُخبر القرآن أنه رآه مرتين ثم يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنى أراه؟ وهذا أبلغ من قوله: لم أره؛ لأنه مع النفي يقتضي الإخبار عن عدم الرؤية فقط، وهذا يَتضمن النفي وطرفاً من الإنكار على السائل، كما إذا قال لرجل: هل كان كيت وكيت؟ فيقول: كيف يكون ذلك؟ العاشر: أنَّه لم يَتَقدَّم للرب جل جلاله ذِكرٌ يعود الضمير عليه في قوله: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8))، والذي يعود الضمير عليه لا يَصْلُحُ له، وإنما هو لعبده. الحادي عشر: أنَّه كيف يعود الضمير إلى ما لم يُذكر، ويُترك عُودُه إلى المذكور مع كونه أولى به. الثاني عشر: أنَّه قد تقدم ذِكُرُ «صاحبكم»، وأعاد عليه الضمائر التي تليق به، ثم ذكر بعده شديد القوى، ذا المرة، وأعاد عليه الضمائر التي تليق به، والخبر كله عن هذين المُفَسَّرين، وهما الرسول الملكي، والرسول البشري. الثالث عشر: أنَّه سبحانه أخبر أنَّ هذا الذي دنا فتدلى كان بالأفق الأعلى، وهو أفق السماء، بل هو تحتها قد دنا من رسول رب العالمين، ودنو الرب تعالى وتدليه على ما في حديث شريك كان من فوق العرش، لا إلى الأرض. الرابع عشر: أنهم لم يُمارُوه صلوات الله وسلامه عليه على رؤية ربه، ولا أخبرهم بها لتقع مماراتهم له عليها، وإنما ماروه على رؤية ما أخبرهم من الآيات التي أراه الله إياها، ولو أخبرهم الرب تعالى لكانت مماراتهم له عليها أعظم من مماراتهم على رؤية المخلوقات. الخامس عشر: أنَّه سبحانه قرَّر صحة ما رآه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّ مماراتهم له على ذلك باطلة بقوله: (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)) [النجم: 18]، فلو كان المرئي هو الرب سبحانه وتعالى، والمماراة على ذلك منهم، لكان تقرير تلك الرؤية أولى، والمقام إليها أحوج». (¬2) ¬
وقد اختلف أصحاب هذا المذهب في الجواب عن حديث أنس - رضي الله عنه -، والذي يُوهِمُ ظاهره أنَّ الذي دنا فتدلى في الآية هو الجبار رب العزة، وقد ذكروا أجوبة منها: الأول: أنَّ قوله في حديث أنس: «وَدَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ فَتَدَلَّى»، زيادة شاذة؛ لم تُرْوَ عن أنس - رضي الله عنه - إلا من طريق شريك بن عبد الله بن أبي نمر (¬1)، وهي مما تَفَرَّدَ به في روايته لحديث الإسراء. (¬2) وهذا جواب: الخطابي (¬3)، وابن حزم (¬4)، والبيهقي (¬5)، وعبد الحق ¬
الإشبيلي (¬1)، وابن جماعة (¬2)، وابن رجب (¬3). قال الخطابي: «إنَّ الذي وقع في هذه الرواية - من نسبة التدلي للجبار عز وجل - مُخَالِفٌ لعامة السلف، والعلماء، وأهل التفسير، من تقدم منهم ومن تأخر ... ، قال: وقد رُوي هذا الحديث عن أنس من غير طريق شريك فلم يُذكر فيه هذه الألفاظ الشنيعة، وذلك مما يقوي الظن أنها صادرة من جهة شريك». اهـ (¬4) وقال ابن حزم: «لم نجد للبخاري ومسلم في كتابيهما شيئاً لا يحتمل مخرجاً إلا حديثين». ثم ذكر حديث أنس فقال: «وفيه ألفاظٌ مُعْجَمة، والآفة من شريك، من ذلك قوله: «قبل أن يُوحى إليه» (¬5)، وأنه حينئذ فرض عليه الصلاة، قال: وهذا لا خلاف بين أحد من أهل العلم إنما كان قبل الهجرة بسنة، وبعد أن أوحي إليه بنحو اثنتي عشرة سنة، ثم قوله: «إن الجبار دنا فتدلى، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى»، وعائشة رضي الله عنها تقول: إن الذي دنا فتدلى جبريل». اهـ (¬6) وقال البيهقي: «ليس في رواية ثابت عن أنس لفظ الدنو والتدلي، ولا لفظ المكان، وروى حديث المعراج: ابن شهاب الزهري، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، عن أبي ذر، وقتادة، عن مالك بن صعصعة، ليس في حديث واحد منهما شيء من ذلك». (¬7) قال: «وفي حديث شريك زيادة تفرد بها على مذهب من زعم أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى الله عز وجل، وقول عائشة وابن مسعود وأبي هريرة في حملهم هذه الآيات على رؤيته - صلى الله عليه وسلم - جبريل أصح». اهـ (¬8) ¬
وقال عبد الحق الإشبيلي - في الجمع بين الصحيحين -: «زاد فيه - يعني شريكاً - زيادة مجهولة، وأتى فيه بألفاظ غير معروفة، وقد روى الإسراء جماعة من الحفاظ فلم يأتِ أحدٌ منهم بما أتى به شريك، وشريكٌ ليس بالحافظ عند أهل الحديث». اهـ (¬1) وقال ابن جماعة (¬2): «وأما حديث شريك بن أبي نمر الطويل؛ فقد خَلَّطَ فيه، وزاد زيادات لم يروها غيره ممن هو أحفظ منه، وليس في رواية ثابت، ولا قتادة عن أنس لفظ الدنو، ولا التدلي، ولا المكان، ولا في رواية الزهري، عن أنس وأبي ذر، وذَكَرَ شريكٌ في حديثه ما يدل على أنه لم يحفظ الحديث على ما ينبغي؛ فإنه خلَّط في مقامات الأنبياء، وقال في آخر حديثه: «فاستيقظ وهو في المسجد الحرام»، والمعراج إنما كان رؤية عين». اهـ (¬3) وقد سبق إلى التنبيه على ما في رواية شريك من المخالفة مسلم في صحيحه فإنه قال - بعد أنْ ساق سند الحديث وبعض المتن -: «وَقَدَّمَ فِيهِ شَيْئًا وَأَخَّرَ، وَزَادَ وَنَقَصَ». اهـ (¬4) إلا أنَّ الحافظ أبا الفضل ابن طاهر (¬5) لم يرتضِ دعوى تَفَرُّدِ شريكٍ بهذه الزيادة، حيث قال: «تعليل الحديث بتفرد شريك، ودعوى ابن حزم أنَّ الآفة منه، شيء لم يُسبق إليه؛ فإنَّ شريكاً قَبِلَهُ أئمة الجرح والتعديل، ووثقوه، ورووا عنه، وأدخلوا حديثه في تصانيفهم، واحتجوا به، وروى عبد الله بن أحمد الدورقي، وعثمان الدارمي، وعباس الدوري، عن يحيى بن معين أنه قال: لا بأس به. وقال ابن عدي: مشهور من أهل المدينة، حدث عنه مالك وغيره من الثقات، وحديثه إذا روى عنه ثقة لا بأس به؛ إلا أن يروي عنه ضعيف (¬6). قال ابن طاهر: وحديثه هذا رواه عنه ثقة، وهو سليمان بن بلال. قال: ¬
وعلى تقدير تسليم تفرده برواية «قبل أن يوحى إليه»؛ فإنَّ ذلك لا يقتضي طرح حديثه، فوهم الثقة في موضع من الحديث لا يُسقط جميع الحديث، ولا سيما إذا كان الوهم لا يستلزم ارتكاب محذور، ولو تُرِك حديث من وَهِمَ في تاريخ، لتُرِكَ حديثُ جماعة من أئمة المسلمين». اهـ (¬1) وكذا الحافظ ابن حجر، فإنه يميل إلى تقوية شريك، ويدفع دعوى تفرده بهذه الزيادة؛ فإنه قال بعد أن أورد إنكار الأئمة المتقدمين: «وفي دعوى التفرد نظر؛ فقد وافقه كثير بن خنيس - بمعجمة ونون، مصغر - عن أنس، كما أخرجه سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في «كتاب المغازي» من طريقه». اهـ (¬2) ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال: «والأولى التزام ورود المواضع التي خالف فيها غيره، والجواب عنها؛ إما بدفع تفرده، وإما بتأويله على وفاق الجماعة». اهـ (¬1) الجواب الثاني: أنَّ الحديث موقوف على أنس - رضي الله عنه -. ذكر هذا الجواب: الخطابي (¬2)، والبيهقي (¬3)، وابن جماعة (¬4). قال الخطابي مشيراً إلى رفع الحديث من أصله: «ثم إنَّ القصة بطولها إنما هي حكاية يحكيها أنس من تلقاء نفسه، لم يَعْزُهَا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا نقلها عنه، ولا أضافها إلى قوله، فحاصل الأمر في النقل أنها من جهة الراوي، إما من أنس، وإما من شريك؛ فإنه كثير التفرد بمناكير الألفاظ التي لا يُتابعه عليها سائر الرواة». اهـ (¬5) وقال ابن جماعة: «ثم الحكاية كلها موقوفة على أنس من تلقاء نفسه، لم يرفعها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا رواها عنه، ولا عزاها إلى قوله، وقد روت عائشة، وابن مسعود، وأبو هريرة مرفوعاً (¬6): أنَّ المراد بالآية المذكورة جبريل، وهم أحفظ وأكثر، فكيف يُترك لحديث شريك، وفيه ما فيه». اهـ (¬7) ¬
إلا أنَّ الحافظ ابن حجر لم يرتضِ دعوى وقف الحديث على أنس - رضي الله عنه -، حيث قال - في رده على الخطابي -: «وما نفاه - من أنَّ أنساً لم يُسند هذه القصة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تأثير له؛ فأدنى أمره فيها أنْ يكون مرسل صحابي، فإما أنْ يكون تلقاها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو عن صحابي تلقاها عنه، ومثل ما اشتملت عليه لا يُقال بالرأي، فيكون لها حكم الرفع، ولو كان لِمَا ذَكَرَهُ تأثير لم يُحمل حديث أحد روى مثل ذلك على الرفع أصلاً، وهو خلاف عمل المحدثين قاطبة، فالتعليل بذلك مردود». اهـ (¬1) الجواب الثالث: أنَّ الدنو والتدلي المذكورين في الآية هما غير الدنو والتدلي المذكورين في حديث أنس - رضي الله عنه -، فإنَّ الذي في الآية هو دنو جبريل عليه السلام وتدليه، كما قالت عائشة وابن مسعود، رضي الله عنهما، وأما الدنو والتدلي اللذين في حديث أنس فذلك صريح في أنَّه دنو الرب تبارك وتعالى وتدليه، ولا تَعَرّضَ في سورة النجم لذلك؛ بل فيها أنه رآه نزلة أخرى، عند سدرة المنتهى، وهذا هو جبريل، رآه محمد - صلى الله عليه وسلم - على صورته مرتين: مرة في الأرض، ومرة عند سدرة المنتهى. (¬2) ذكر هذا الجواب: ابن القيم (¬3)، والحافظ ابن كثير (¬4)، وابن أبي العز الحنفي (¬5)، والقاسمي (¬6). والظاهر من كلام هؤلاء الأئمة قبول رواية شريك، إلا أنَّ الحافظ ابن كثير يميل إلى تفرد شريك بن عبد الله بهذه الرواية، حيث ذكر أنَّ شريكاً قد اضطرب في رواية هذا الحديث، وساء حفظه ولم يضبطه. (¬7) وثمة أجوبة أخرى عن حديث شريك؛ غير أنَّ هذه الأجوبة صادرة عن ¬
استشكال ظاهر الحديث، والذي فيه نسبة الدنو والتدلي إلى الله تعالى، ومن هذه الأجوبة: 1 - أنَّ الدنو والتدلي في الحديث المراد بهما قرب الكرامة، لا قرب المكان. ذكر هذا الجواب: ابن فورك، والقاضي عياض، والعيني. (¬1) قال القاضي عياض: «اعلم أنَّ ما وقع من إضافة الدنو والقرب هنا من الله، أو إلى الله، فليس بدنو مكان، ولا قرب مدى، وإنما هو دنو النبي - صلى الله عليه وسلم - من ربه وقربه منه إبانة عظيم منزلته، وتشريف رتبته، وإشراق أنوار معرفته، ومشاهدة أسرار غيبه وقدرته، ومن الله تعالى له مبرة وتأنيس، وبسط وإكرام». اهـ (¬2) 2 - أنَّ ما جاء في حديث شريك هي رؤيا رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نومه، ولا إشكال فيما يراه - صلى الله عليه وسلم - في منامه. ذكر هذا الجواب: الخطابي (¬3)، والسهيلي. (¬4) قال الخطابي: «ليس في هذا الكتاب - يعني صحيح البخاري - حديثٌ أشنعَ ظاهراً، ولا أشنع مذاقاً من هذا الفصل؛ فإنه يقتضي تحديد المسافة بين أحد المذكورين وبين الآخر، وتمييز مكان كل واحد منهما، هذا إلى ما في التدلي من التشبيه والتمثيل له بالشيء الذي تعلق من فوق إلى أسفل، فمن لم يبلغه من هذا الحديث إلا هذا القدر مقطوعاً عن غيره، ولم يعتبره بأول القصة وآخرها اشتبه عليه وجهه ومعناه، وكان قصاراه: إما رَدُّ الحديث من أصله، أو الوقوع في التشبيه، وهما خطتان مرغوب عنهما، وأما من اعتبر أول الحديث بآخره فإنه يزول عنه الإشكال؛ فإنه مصرح فيهما بأنه كان رؤيا؛ لقوله في ¬
أوله: «وهو نائم» وفي آخره: «استيقظ»، وبعض الرؤيا مثلٌ يُضرب ليُتأول على الوجه الذي يجب أنْ يُصرف إليه معنى التعبير في مثله، وبعض الرؤيا لا يحتاج إلى ذلك، بل يأتي كالمشاهدة». اهـ (¬1) المذهب الثاني: أنَّ الدنو والتدلي في الآية المراد بهما دنو الله تعالى من نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقد رُوي عن ابن عباس، وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما، ما يدل على هذا المعنى: فعن أبي سلمة، عن ابن عباس، رضي الله عنهما - في قوله تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14)) [النجم: 13 - 14]- قال: «دنا ربه منه فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى. قال: قد رآه النبي - صلى الله عليه وسلم -». (¬2) وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، قال: «لما أسري بالنبي - صلى الله عليه وسلم - اقترب منه ربه، فكان قاب قوسين أو أدنى». (¬3) وروى ابن خزيمة، عن عباد بن منصور قال: «سألت الحسن، فقلت: ثم دنا فتدلى، من ذا يا أبا سعيد؟ قال: ربي». (¬4) ونسب ابن الجوزي هذا القول لمقاتل. (¬5) وقد مال إلى هذا التفسير الإمام ابن خزيمة؛ فإنه قال: «فأما قوله جل وعلا: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)) ففي خبر شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن أنس بن مالك، بيان ووضوح أنَّ معنى قوله: (دنا فتدلى) إنما دنا الجبار رب العزة، لا جبريل». اهـ (¬6) ثم أورد حديث أنس من طريق شريك بن عبد الله، وأتبعه بتفسير الحسن ¬
البصري للآية، ثم قال: «وفي خبر كثير بن حبيش، عن أنس: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال مثل هذه اللفظة التي في خبر شريك بن عبد الله». اهـ (¬1) ثم روى بإسناده حديث كثير بن حبيش، عن أنس - رضي الله عنه -، ولفظه: «فدنا إلى ربه فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى». (¬2) وكما ترى فإنَّ لفظ كثير بن حبيش مُغاير للفظ شريك؛ إذ في لفظ «شريك» نسبة الدنو إلى الله تعالى، وأما لفظ «كثير بن حبيش» ففيه: أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - هو الذي دنا إلى ربه عز وجل. لكن روى الحديث ابنُ جرير في تفسيره، عن كثير بن حبيش، بلفظ موافق لرواية شريك، ولفظ الحديث كاملاً: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لما عُرِجَ بي مضى جبريل حتى جاء الجنة، قال: فدخلتُ فأُعطيت الكوثر، ثم مضى حتى جاء السدرة المنتهى، فدنا ربُّك فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى». (¬3) وممن ذهب إلى نسبة الدنو إلى الله تعالى: القاضي أبو يعلى، في كتابه «إبطال التأويلات لأخبار الصفات»؛ فإنه أورد الآية ثم قال: «فعُلِمَ أنَّ المتدلي هو الذي يُوحي، وهو الله تعالى». اهـ (¬4) المذهب الثالث: أنَّ الدنو والتدلي في الآية المراد بهما دنو جبريل عليه السلام من الله تعالى. رُوي هذا القول عن مجاهد (¬5)، وبه قال ابن حبان (¬6). المذهب الرابع: أنَّ المراد بالآية دنو الله تعالى من جبريل عليه السلام. رُوي هذا القول عن مجاهد (¬7). ¬
المبحث الخامس: الترجيح
المذهب الخامس: أنَّ المراد بالآية دنو محمد - صلى الله عليه وسلم - من ربه تعالى. جاء هذا التفسير عن ابن عباس، رضي الله عنهما، في تفسير قوله تعالى: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)) [النجم: 8] قال: «هو محمد - صلى الله عليه وسلم - دنا فتدلى إلى ربه عز وجل». (¬1) ورُوي هذا التفسير عن الضحاك (¬2)، ومحمد بن كعب (¬3). المبحث الخامس: الترجيح: الذي يَظْهُرُ صَوَابُه - والله تعالى أعلم - هو ما ذهب إليه عامة المفسرين من تفسير الآية بدنو جبريل عليه السلام من نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّ ما رُوي في حديث أنس - رضي الله عنه - من نسبة الدنو والتدلي إلى الله تعالى - هو مما تفرد به شريك، وهو لا يعدو أنْ يكون وهماً منه، أو رأياً تأوله في تفسير الآية، ولم يسمعه من أنس - رضي الله عنه -. يدل على هذا الاختيار: 1 - أنَّ هذا التفسير هو الثابت عن عائشة، وابن مسعود، رضي الله عنهما (¬4)، ولا يُعرف لهما مخالف من الصحابة (¬5)؛ إلا ما روي عن ابن عباس، رضي الله عنهما، وسيأتي الجواب عنه. 2 - أنه قد ثبت عن عائشة (¬6)، وابن مسعود (¬7)، رضي الله عنهما، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - فَسَّرَ قوله تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14))، بأنَّ المراد رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل عليه السلام. ومرجع الضمير في قوله: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)) وقوله: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ) واحد، فلا يجوز أنْ يُخَالَفَ بينهما إلا بدليل. ¬
3 - إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - على أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرَ ربه ليلة الإسراء (¬1)، وفي إجماعهم هذا دليلٌ على أنَّ الآية لا يَصِحُّ تفسيرها بدنو الله تعالى من نبيه - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ لو كان الله تعالى قد دنا منه لرآه - صلى الله عليه وسلم -، ولأخبر بذلك، كيف وقد نفى ذلك بنفسه - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّه حينما سأله أبو ذر: هل رأيتَ ربَّك؟ قال: «نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ» (¬2). 4 - ومما يؤكد وقوع الغلط في رواية شريك: أنَّ الحديث رواه جمع غفير من الصحابة رضي الله عنهم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، ولم يذكروا هذا اللفظ، ورواه جمع غفير من التابعين عن أنس - رضي الله عنه - (¬4)، ولم يذكروا هذا اللفظ أيضاً. وأمَّا المروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في تفسير الآية؛ فجوابه: أنَّ الروايات عنه على نوعين: النوع الأول: صريح غير صحيح، وهو ما ورد عنه من تفسير الآية بدنو محمد - صلى الله عليه وسلم - من ربه تعالى (¬5)، وهذه الرواية لا تصح عنه. ¬
النوع الثاني: صحيح غير صريح، وهو ما ورد عنه من تفسير الآية بدنو الله تعالى من نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وهذا التفسير رُوي عنه من طريق واحدة، وهي طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن ابن عباس، رضي الله عنهما. لكن الرواة - عن محمد بن عمرو - وقع بينهم اختلاف في لفظه: فرواه ابن جرير الطبري (¬1)، واللالكائي (¬2)، من طريق سعيد بن يحيى الأموي، عن أبيه، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن ابن عباس، رضي الله عنهما - في قوله تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14)) - قال: «دنا ربه منه فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى». قال: «قد رآه النبي - صلى الله عليه وسلم -». ورواه الترمذي (¬3)، والبيهقي (¬4)، من الطريق نفسه، عن ابن عباس، رضي الله عنهما - في قول الله تبارك وتعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14)) - قال: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)) [النجم: 8 - 10]، قال ابن عباس: «قد رآه النبي - صلى الله عليه وسلم -». ورواه ابن أبي شيبة (¬5)، وابن أبي عاصم (¬6)، وابن خزيمة (¬7)، والآجري (¬8)، والطبراني (¬9)، والدارقطني (¬10)، جميعهم من طريق عبدة بن ¬
سليمان، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن ابن عباس، رضي الله عنهما: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)) قال: «رأى ربه عز وجل». ورواه ابن خزيمة (¬1)، وابن حبان (¬2)، والدارقطني (¬3)، جميعهم من طريق يزيد بن هارون، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن ابن عباس قال: «قد رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه». ولم يذكر الآية. وهذه الروايات قد اتفقت على أنَّ ابن عباس كان يُثْبِتُ رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه تعالى، واختلفت في تنزيل الآيات على هذا المعنى، والذي يظهر لي - والله تعالى أعلم - أنَّ ابن عباس، رضي الله عنهما، كان يستدل بمجموع هذه الآيات على إثبات الرؤية، دون تفسير منه لآية الدنو، وهذا هو الثابت عنه - رضي الله عنه -، فإنَّه كان يذهب إلى أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه ليلة الإسراء (¬4)، دون تفصيل منه في ذلك (¬5)، لكن بعض الرواةِ تَصَرَّفَ في النقل، فأوهم أنَّ ابن عباس فَسَّر قوله ¬
تعالى: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)) بدنو الله تعالى من نبيه - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) يؤكد ذلك: أنَّ ثمة طرقاً أخرى عن ابن عباس، رُويتْ عنه ولم يأتِ في شيء منها ذِكْرُ آية الدنو، أو تفسيرها، ومن هذه الطرق: 1 - عن عكرمة، عن ابن عباس - في قوله تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)) - قال ابن عباس: «إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه». (¬2) 2 - وعن أبي العالية، عن ابن عباس - في قوله تعالى: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)) [النجم: 11] (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)) - قال ابن عباس: «رآه بفؤاده مرتين». (¬3) 3 - وعن عطاء، عن ابن عباس - في قوله تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)) قال: «إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه بقلبه». (¬4) 4 - وعن يوسف بن مهران، عن ابن عباس - في قوله: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (18)) - قال: «رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه عز وجل بفؤاده». (¬5) وكما ترى فإنَّ هذه الروايات صريحة بأنَّ ابن عباس كان يستدل بالآيات على إثبات الرؤية وحسب، وليس فيها أنه فسر قوله تعالى: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)) بدنو الله تعالى من نبيه صلى الله عليه وسلم. وهذا الذي فهمه ابن عباس من الآيات - في إثبات رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه تعالى - قد خالفته فيه عائشة، وابن مسعود، رضي الله عنهما؛ فعن عائشة، أنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قوله تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)) فقال: «إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ، لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ، رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنْ ¬
السَّمَاءِ، سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ» (¬1)، وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - في قوله تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)) - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «رَأَيْتُ جِبْرِيلَ، عَلِيهِ السَّلام، وَلَهُ سِتُّ مِائَةِ جَنَاحٍ» (¬2)، وتفسير عائشة، وابن مسعود، أولى من تفسير ابن عباس؛ فإنهما قد صرحا برفع ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، بخلاف ابن عباس، فإنه لم يُسندْ شيئاً من ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمرفوع أولى من الموقوف، والله تعالى أعلم. (¬3) ¬
المسألة [4]: في مكان سدرة المنتهى
المسألة [4]: في مكان سدرة المنتهى. المبحث الأول: ذكر الآية الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14)) [النجم: 13 - 14]. المبحث الثاني: ذكر الأحاديث الواردة في تفسير الآية، التي يُوهِم ظاهرها التعارض فيما بينها: (72) ـ (62): عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه -، أنَّ مَالِكَ بْنَ صَعْصَعَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْنَا أَنَا عِنْدَ الْبَيْتِ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ .... »، ثم ذكر حديث الإسراء بطوله، وفيه: «فَأَتَيْنَا السَّمَاءَ السَّابِعَةَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قِيلَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: مَنْ مَعَكَ؟ قِيلَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ مَرْحَبًا بِهِ، وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَأَتَيْتُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَرْحَبًا بِكَ مِنْ ابْنٍ وَنَبِيٍّ. فَرُفِعَ لِي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، فَسَأَلْتُ جِبْرِيلَ فَقَالَ: هَذَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، يُصَلِّي فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، إِذَا خَرَجُوا لَمْ يَعُودُوا إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ، وَرُفِعَتْ لِي سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى .... ». (¬1) ¬
المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الأحاديث
(73) ـ ( .. ): وَعَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « .... ثُمَّ عَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى السِّدْرَةِ الْمُنْتَهَى .... ». (¬1) (74) ـ (63): وَعَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ - لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: « .... ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، كُلُّ سَمَاءٍ فِيهَا أَنْبِيَاءُ قَدْ سَمَّاهُمْ فَأَوْعَيْتُ مِنْهُمْ: إِدْرِيسَ فِي الثَّانِيَةِ، وَهَارُونَ فِي الرَّابِعَةِ، وَآخَرَ فِي الْخَامِسَةِ، لَمْ أَحْفَظْ اسْمَهُ، وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّادِسَةِ، وَمُوسَى فِي السَّابِعَةِ، بِتَفْضِيلِ كَلَامِ اللَّهِ. فَقَالَ مُوسَى: رَبِّ لَمْ أَظُنَّ أَنْ يُرْفَعَ عَلَيَّ أَحَدٌ. ثُمَّ عَلَا بِهِ فَوْقَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ حَتَّى جَاءَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى .... ». (¬2) (75) ـ (64): وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتُهِيَ بِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ .... ». (¬3) المبحث الثالث: بيان وجه التعارض بين الأحاديث: ظاهر الأحاديث المتقدمة أنَّ لسدرة المنتهى ثلاثة أمكنة: الأول: أنها «في السماء السابعة»، وهو ما دلَّ عليه حديث مالك بن صعصعة، وأنس بن مالك، من طريق ثابت البناني، عنه. ¬
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الأحاديث
الثاني: أنها «فوق السماء السابعة»، وهو ما دلَّ عليه حديث أنس بن مالك، من طريق شريك بن عبد الله، عنه. الثالث: أنها «في السماء السادسة»، وهو ما دلَّ عليه حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. وهذه الأحاديثُ الثلاثة يُوهِمُ ظاهرها التعارض فيما بينها في تعيين مكان سدرة المنتهى. (¬1) المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع التعارض بين الأحاديث: للعلماء في دفع التعارض بين الأحاديث مسلكان: الأول: مسلك الجمع بين الأحاديث: ولأصحاب هذا المسلك مذهبٌ واحدٌ في الجمع بين هذه الأحاديث، وجملة مذهبهم: أنَّ أصل سدرة المنتهى في السماء السادسة، وأغصانها وفروعها في السماء السابعة. وعلى هذا المذهب: النووي، والحافظ ابن كثير، والحافظ ابن حجر، والعيني، والمناوي، والألباني. (¬2) قال النووي: «ويمكن أنْ يُجْمَعَ بينها، فيكون أصلها في السادسة، ومعظمها في السابعة، فقد عُلِمَ أنها في نِهايةٍ من العِظَمِ». اهـ (¬3) ¬
وقال الحافظ ابن حجر: «ولا يُعارض قوله إنها في السادسة ما دلَّت عليه بقية الأخبار أنه وصل إليها بعد أنْ دخل السماء السابعة؛ لأنه يُحمل على أنَّ أصلها في السماء السادسة، وأغصانها وفروعها في السابعة، وليس في السادسة منها إلا أصل ساقها». اهـ (¬1) الثاني: مسلك الترجيح بين الأحاديث: ويرى أصحاب هذا المسلك أنَّ لسدرة المنتهى مكاناً واحداً لا غير، وهذا المكان هو ما جاء مرفوعاً في حديث أنس من أنها في السماء السابعة، وأما ما جاء في حديث عبد الله بن مسعود من أنها في السادسة فموقوف عليه، والمرفوع أولى من الموقوف. وهذا مذهب: ابن العربي، والقاضي عياض، وأبي العباس القرطبي، والحافظ ابن رجب، والملا علي القاري. (¬2) قال أبو العباس القرطبي: «في حديث أنس ما يقتضي أنَّ السدرة في السماء السابعة أو فوقها؛ لقوله: «ثم ذهب بي إلى السدرة» بعد أنْ استفتح السماء السابعة فَفُتِحَ له فدخل، وفي حديث عبد الله أنها في السماء السادسة، وهذا تعارضٌ لا شك فيه، وما في حديث أنس أصح، وهو قول الأكثر، وهو الذي يقتضيه وصفها بأنها التي يَنْتَهي إليها علمُ كلِّ مَلَكٍ مُقَرَّب ... ، وأيضاً فإنَّ حديث أنس مرفوع، وحديث عبد الله موقوف عليه من قوله، والمسند المرفوع أولى». اهـ (¬3) وقال الحافظ ابن رجب: «وقول ابن مسعود: «إنَّ سدرة المنتهى في السماء السادسة» يُعارضه حديث أنس المرفوع من طُرُقِهِ كُلِّها؛ فإنَّه يدل على أنها في ¬
المبحث الخامس: الترجيح
السماء السابعة، أو فوق السماء السابعة، والمرفوع أولى من الموقوف». اهـ (¬1) المبحث الخامس: الترجيح: الذي يَظْهُرُ صَوَابُه - والله تعالى أعلم - هو مسلك الجمع بين الأحاديث، إذ يُحمل حديث عبد الله بن مسعود: على أنَّ أصل السدرة في السماء السادسة، ويُحمل حديث مالك بن صعصعة، وأنس: على أنَّ فروعها وأغصانها في السماء السابعة. يدل على هذا الاختيار: 1 - أنه قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يؤيد هذا الجمع؛ فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - في قوله تعالى: (عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14)) - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «رُفِعَتْ لِي سِدْرَةٌ مُنْتَهَاهَا فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ». (¬2) (¬3) فقوله: «مُنْتَهَاهَا فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ» يُفْهَمُ منه أنَّ أصلها ليس في السابعة، ولما جاء في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أنها في السادسة، علمنا أنَّ مراد الأحاديث أنَّ أصلها في السادسة ومنتهاها في السابعة. 2 - أنَّ الترجيح لا يُصار إليه إلا إذا تعذر الجمع، أو تَبَيَّنَ بجلاء ضعف الروايةِ المرجوحة، أو وقوع الخطأ فيها، وهذا كله مفقود في مسألتنا هذه؛ إذ الجمع ممكن، والروايات كلها صحيحة. ¬
وأما رواية شريك - والتي فيها أنَّ السدرة فوق السماء السابعة - فالأظهر أنها وَهْمٌ منه رحمه الله، وقد عُدَّتْ عليه أوهامٌ في روايته لحديث الإسراء، وهذه منها. (¬1) وأما قول أصحاب المسلك الثاني: إنَّ حديث ابن مسعود موقوف عليه؛ فغير مُسَلَّمٍ لهم، بل هو في حكم المرفوع؛ لأنَّ مثله لا يُقال بالرأي، ولأنَّ بعض ألفاظه قد رويت في حديث أنس المرفوع، فصار له حكم الرفع مثله، والله تعالى أعلم. **** ¬
الفصل الثالث الأحاديث التي ترد في تفسير آية ما، ويوهم ظاهرها معنى مشكلا
الفصل الثالث الأحاديث التي ترد في تفسير آية ما، ويوهم ظاهرها معنىً مشكلاً
المسألة [1]: في قصة هاروت وماروت
المسألة [1]: في قصة هاروت وماروت. المبحث الأول: ذكر الآية الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (102)) [البقرة: 102]. المبحث الثاني: ذكر الحديث المشكل الوارد في تفسير الآية: (76) ـ (65): عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضي الله عنه -: أَنَّهُ سَمِعَ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَهْبَطَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْأَرْضِ قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ: أَيْ رَبِّ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ؟ قَالَ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ. قَالُوا: رَبَّنَا نَحْنُ أَطْوَعُ لَكَ مِنْ بَنِي آدَمَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ: هَلُمُّوا مَلَكَيْنِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، حَتَّى يُهْبَطَ بِهِمَا إِلَى الْأَرْضِ، فَنَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلَانِ؟ قَالُوا: رَبَّنَا هَارُوتُ وَمَارُوتُ. فَأُهْبِطَا إِلَى الْأَرْضِ، وَمُثِّلَتْ لَهُمَا الزُّهَرَةُ، امْرَأَةً مِنْ أَحْسَنِ الْبَشَرِ، فَجَاءَتْهُمَا فَسَأَلَاهَا نَفْسَهَا، فَقَالَتْ: لَا وَاللَّهِ حَتَّى تَكَلَّمَا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنْ الْإِشْرَاكِ. فَقَالَا: وَاللَّهِ لَا نُشْرِكُ بِاللَّهِ أَبَدًا. فَذَهَبَتْ
عَنْهُمَا، ثُمَّ رَجَعَتْ بِصَبِيٍّ تَحْمِلُهُ، فَسَأَلَاهَا نَفْسَهَا، فَقَالَتْ: لَا وَاللَّهِ، حَتَّى تَقْتُلَا هَذَا الصَّبِيَّ. فَقَالَا: وَاللَّهِ لَا نَقْتُلُهُ أَبَدًا. فَذَهَبَتْ، ثُمَّ رَجَعَتْ بِقَدَحِ خَمْرٍ تَحْمِلُهُ، فَسَأَلَاهَا نَفْسَهَا، قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ حَتَّى تَشْرَبَا هَذَا الْخَمْرَ. فَشَرِبَا فَسَكِرَا فَوَقَعَا عَلَيْهَا وَقَتَلَا الصَّبِيَّ، فَلَمَّا أَفَاقَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ: وَاللَّهِ مَا تَرَكْتُمَا شَيْئًا مِمَّا أَبَيْتُمَاهُ عَلَيَّ إِلَّا قَدْ فَعَلْتُمَا حِينَ سَكِرْتُمَا، فَخُيِّرَا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا» (¬1).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
المبحث الثالث: بيان وجه الإشكال في الحديث
المبحث الثالث: بيان وجه الإشكال في الحديث: ظاهر الحديث الوارد في تفسير الآية أَنَّ الله تعالى أنزل إلى الأرض ملَكين، وهما «هاروت» و «ماروت»، وأنهما عصيا الله تعالى، فشربا الخمر، وحكما بالزور، وقتلا النفس المحرمة، وزنيا، وهذا الظاهر مشكل، لما فيه من القدح بعصمة الملائكة (¬1) - عليهم السلام - والتي قررها القرآن الكريم في غير ما آية؛ كقوله تعالى: (وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)) [الأنبياء: 19 - 20]، وقوله تعالى: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6]. (¬2) ¬
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع الإشكال الوارد في الحديث
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع الإشكال الوارد في الحديث: للعلماء في دفع الإشكال الوارد في الحديث مسلكان: الأول: مسلك تضعيف الحديث: ويرى أصحاب هذا المسلك أَنَّ الحديث المروي في قصة هاروت وماروت هو من الإسرائيليات المُتَلَقَّفة عن مَسْلَمَة أهل الكتاب، وأنَّ رفعه للنبي - صلى الله عليه وسلم - خطأ من قِبَلِ بعض الرواة، إذ الصواب وقفه على كعب الأحبار، وهو مما أخذه من كتب بني إسرائيل. وعلى هذا المسلك عامة العلماء، من مفسرين ومحدثين، وممن قال به: ابن أبي حاتم، وابن حزم، والبيهقي، وابن العربي، والقاضي عياض، والقاضي ابن عطية، وابن الجوزي، والفخر الرازي، والخازن، وأبو عبد الله القرطبي، والبيضاوي، وأبو حيان، والحافظ ابن كثير، وابن رجب، وأبو السعود، والثعالبي، والآلوسي، والقاسمي، وابن عاشور، والألباني. (¬1) قال القاضي عياض: «اعلم ـ أكرمك الله ـ أَنَّ هذه الأخبار لم يُروَ منها شيء - لا سقيمٌ ولا صحيحٌ - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس هو شيئاً يؤخذ ¬
بقياس، والذي منه في القرآن اختلف المفسرون في معناه، وأنكر ما قال بعضهم فيه كثيرٌ من السلف، وهذه الأخبار من كتب اليهود وافترائهم، كما نَصَّ الله أول الآيات، من افترائهم بذلك على سليمان، وتكفيرهم إياه». اهـ (¬1) وقال أبو عبد الله القرطبي - بعد أنْ أورد القصة من طريق ابن عمر-: «هذا كله ضعيف، وبعيد عن ابن عمر وغيره، لا يصح منه شيء؛ فإنه قول تدفعه الأصول في الملائكة، الذين هم أُمناء الله على وحيه، وسفراؤه إلى رسله». اهـ (¬2) وقال الحافظ ابن كثير: «وقد رُويَ في قصة هاروت وماروت، عن جماعة من التابعين، كمجاهد، والسدي، والحسن البصري، وقتادة، وأبي العالية، والزهري، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان، وغيرهم، وقصها خلق من المفسرين، من المتقدمين والمتأخرين، وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل؛ إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم، الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن، على ما أراده الله تعالى، والله أعلم بحقيقة الحال». اهـ (¬3) واستدل أصحاب هذا المسلك على بطلان القصة بأدلة، منها: 1 - قول الله تعالى: (مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ) [الحجر: 8]، حيث قطع الله عز وجل أَنَّ الملائكة لا تنزل إلا بالحق، وليس شرب الخمر، ولا الزنا، ولا قتل النفس المحرمة من الحق، بل كل ذلك من الباطل. (¬4) 2 - قوله تعالى: (وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ (9)) [الأنعام: 8 - 9]، حيث أبطل الله عز وجل أنه يمكن ظهور ملَكٍ إلى الناس إلا إلى الأنبياء. (¬5) ¬
3 - قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)) [الفرقان: 21 - 22]، حيث قَرَن عز وجل نزول الملائكة في الدنيا برؤيته عز وجل فيها، فدلَّ على أَنَّ نزولهم في الدنيا إلى غير الأنبياء ممتنع ألبتة، ولا يجوز، وأنَّ من قال ذلك فقد قال حجراً محجوراً. (¬1) 4 - قوله تعالى: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6]، وقوله تعالى: (بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27)) [الأنبياء: 26 - 27]، وهذا صريح في براءتهم عن المعاصي، وكونهم متوقفين في كل الأمور، إلا بمقتضى الأمر والوحي. (¬2) 5 - أنه تعالى حكى عنهم أنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ومن كان كذلك امتنع صدور المعصية منه. (¬3) المسلك الثاني: مسلك قبول الحديث وتصحيحه: حيث ذهب بعض العلماء إلى تصحيح الحديث وقبوله، إلا أنهم لم يجيبوا عن الإشكال الوارد فيه، ومن هؤلاء: ابن حبان، وأبو بكر الهيثمي، والحافظ ابن حجر، والسيوطي، وابن حجر الهيتمي، والمناوي. (¬4) ¬
المبحث الخامس: الترجيح
قال الحافظ ابن حجر: «وقصة هاروت وماروت جاءت بسند حسن، من حديث ابن عمر، في مسند أحمد، وأطنب الطبري في إيراد طرقها، بحيث يقضي بمجموعها على أَنَّ للقصة أصلاً، خلافاً لمن زعم بطلانها». اهـ (¬1) وقال: «له طرقٌ كثيرة، جمعتها في جزء يكاد الواقف عليه يقطع بوقوع هذه القصة، لكثرة طرقه الواردة فيها، وقوة مخارج أكثرها». اهـ (¬2) وقال السيوطي في اللآلئ المصنوعة: «وقد وقفت على الجزء الذي جمعه فوجدته أورد فيه بضعة عشر طريقاً، أكثرها موقوفاً، وأكثرها من تفسير ابن جرير، وقد جمعت أنا طرقها في التفسير المسند وفي التفسير المأثور فجاءت نيفاً وعشرين طريقاً، ما بين مرفوع وموقوف». اهـ (¬3) المبحث الخامس: الترجيح: الذي يَظْهُرُ صَوَابُه - والله تعالى أعلم - أَنَّ الحديث لا يصح رفعه للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّ رفعه خطأ من بعض الرواة، والأصح أنه مما أخذه الصحابة عن مسلمة أهل الكتاب، ككعب الأحبار، وغيره، ومما يؤكد ذلك: 1 - أنه قد ورد في بعض طرقِ حديثِ ابنِ عمر وقفُ القصة على كعب الأحبار، وهذا مما يؤكد وقوع الوهم من بعض الرواة في رفعها للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّ مدار الحديث راجع إلى نقل كعب الأحبار عن كتب بني إسرائيل. 2 - أَنَّ الطرق التي جاء الحديث فيها مرفوعاً كلها ضعيفة، ولا يصح منها شيء. 3 - أَنَّ الحديث رواه عدد من الصحابة غير ابن عمر ولم يصرح أحد منهم برفعه للنبي صلى الله عليه وسلم. ¬
4 - أَنَّ في القصة من الغرابة ما يؤكد كونها من قصص بني إسرائيل، وبيان ذلك من وجوه: الأول: أنَّ الملكين خُيّرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، وذلك فاسد؛ لأن الله تعالى لا يُخيّر من أشرك به، ولأنهما إنْ كانت قد صحت توبتهما فلا عقوبة عليهما. الوجه الثاني: أنه جاء في بعض طرق الحديث أَنَّ المرأة لما فجرت صعدت إلى السماء وصارت كوكباً، فكيف يعقل أنها تصعد إلى السماء وتصير كوكباً لمجرد أنها فجرت. فبان بهذه الوجوه ضعف الحديث وبطلانه، وأنه لا يصح رفعه للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والله تعالى أعلم. (¬1) **** ¬
المسألة [2]: في نسبة الشك لإبراهيم الخليل عليه السلام
المسألة [2]: في نسبة الشك لإبراهيم الخليل عليه السلام. المبحث الأول: ذكر الآية الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)) [البقرة: 260]. المبحث الثاني: ذكر الحديث المشكل الوارد في تفسير الآية: (77) ـ (66): عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ (¬1) مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذ قَالَ: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوْ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)». (¬2) ¬
المبحث الثالث: بيان وجه الإشكال في الحديث
المبحث الثالث: بيان وجه الإشكال في الحديث: ظاهر الحديث الشريف إثبات الشك (¬1) لإبراهيم الخليل عليه السلام، في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، وهذا الظاهر مشكل؛ لأن الشك كفر، والأنبياء معصومون منه بالإجماع. (¬2) المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع الإشكال الوارد في الحديث: للعلماء في دفع الإشكال الوارد في الحديث مسلكان: الأول: مسلك تأويل الحديث، ونفي الشك مطلقاً عن إبراهيم الخليل عليه السلام. وعلى هذا المسلك الجمهور من العلماء، وقد اختلفوا في تأويل الحديث على مذاهب: ¬
الأول: أنَّ معنى الحديث: أنَّ الشك يستحيل في حق إبراهيم عليه السلام؛ فإنَّ الشك في إحياء الموتى لو كان متطرقاً إلى الأنبياء لكنت أنا أحق به من إبراهيم، وقد علمتم أني لم أشك فاعلموا أنَّ إبراهيم لم يشك، وإنما خص إبراهيم لكون الآية قد يسبق منها إلى بعض الأذهان الفاسدة احتمال الشك، وإنما رجح إبراهيم على نفسه تواضعاً وأدباً، أو قبل أنْ يعلم أنه خير ولد آدم. (¬1) وهذا التأويل قال به جمع من العلماء، منهم: ابن قتيبة، وأبو سليمان الخطابي، والطحاوي، وابن حزم، وأبو المظفر السمعاني، والقاضي عياض، وابن عطية، وابن الجوزي، وأبو عبد الله القرطبي، والنووي، والخازن، والثعالبي، وابن حجر، والكرماني، والسيوطي، والسندي، والآلوسي، وابن عثيمين. (¬2) المذهب الثاني: أنَّ الحديث كان رداً على قوم أثبتوا الشك لإبراهيم؛ فقد رُوي أنه لما نزل قوله تعالى: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى) قال بعض الناس: شكَّ إبراهيم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا القول رداً عليهم، وتواضعاً منه، وتقديراً لإبراهيم عليه السلام. وهذا التأويل ذكره ابن قتيبة، والقاضي عياض، والنووي، والبغوي، ¬
وابن الجوزي، وابن الأثير، والحافظ ابن حجر. (¬1) وهو في معناه راجع إلى التأويل السابق؛ إلا أنَّ فيه ذكراً لسبب الحديث، لكن لم يَرِدْ في شيء من روايات الحديث التصريح بهذا السبب. المذهب الثالث: أنَّ المراد بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «نحن» أمته الذين يجوز عليهم الشك، وإنما عبر بـ «نحن» تأنيساً لهم بإيهام دخوله معهم. وهذا التأويل ذكره القاضي عياض، والعيني، والحافظ ابن حجر. (¬2) المذهب الرابع: أنَّ لفظة «أحق» الواردة في الحديث جاءت لنفي المعنى، أي لا شك عندنا جميعاً، ومن هذا الباب قوله تعالى: (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) [الدخان: 37]، أي لا خير في الفريقين. وهذا التأويل قال به الآلوسي. (¬3) المذهب الخامس: أنَّ الحديث خرج مخرج العادة في الخطاب؛ فإنَّ من أراد المدافعة عن إنسان قال للمتكلم فيه: ما كنت قائلاً لفلان، أو فاعلاً معه من مكروه فقله لي، وافعله معي، ومقصوده لا تقل ذلك فيه. وهذا التأويل ذكره النووي، ونسبه لصاحب التحرير (¬4). (¬5) ¬
المذهب السادس: أنَّ إبراهيم عليه السلام أراد أنْ يترقى من درجة علم اليقين بالخبر، إلى درجة عين اليقين بالمشاهدة، فسأل ربه أنْ يريه كيف يُحيي الموتى ليحصل له ذلك، وقد عبَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا المعنى بقوله: «نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ»، وهو لم يشك ولا إبراهيم، حاشاهما من ذلك، وإنما عبَّر عن هذا المعنى بهذه العبارة. وهذا التأويل قال به أبو العباس القرطبي، وأبو عبد الله القرطبي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم. (¬1) المذهب السابع: أنَّ الشك وقع لأمة إبراهيم عليه السلام، حيث سأل إبراهيمُ ربَه أنْ يريه وأمَّتَه كيفية إحياء الموتى ليطمئنَّ قلبه بظهور حجته عليهم، وبإزالة الشك عنهم. وهذا التأويل رُويَ عن الضحاك، وابن إسحاق (¬2)، وعكرمة. (¬3) المذهب الثامن: أنَّ الشك وقع لإبراهيم عليه السلام في كونه خليلاً. وهذا التأويل رُويَ عن السدي، وسعيد بن جبير. فعن السدي قال: «لما اتخذ اللهُ إبراهيمَ خليلاً استأذنه ملك الموت أن يُبَشِّرَه فإذن له ... ، فقام إبراهيمُ يدعو ربَه: رب أرني كيف تحيي الموتى حتى أعلمَ أني خليلك». (¬4) وعن سعيد بن جبير، في قوله تعالى: (وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) قال: «بالخُلَّة». (¬5) المذهب التاسع: أنَّ إبراهيم وقع له الشك في كونه مُجاب الدعوة. ¬
وهذا التأويل رُويَ عن ابن عباس، في قوله تعالى: (وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) قال: «أعلم أنك تجيبني إذا دعوتك، وتعطيني إذا سألتك». (¬1) وقال ابن حبان: «قوله - صلى الله عليه وسلم -: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» لم يُرِدْ به إحياء الموتى، إنما أراد به في استجابة الدعاء له، وذلك أنَّ إبراهيم عليه السلام قال: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى) ولم يتيقن أنه يستجاب له فيه، يريد في دعائه وسؤاله ربه عما سأل، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» به في الدعاء؛ لأنا إذا دعونا ربما يُستجاب لنا وربما لا يُستجاب، ومحصول هذا الكلام أنه لفظةُ إخبارٍ مرادُها التعليم للمخاطب». اهـ (¬2) وبنحو هذا التأويل قال: إسماعيل بن يحيى المُزَني (¬3)، وابن أبي حاتم (¬4)، وأبو بكر الباقلاني (¬5)، وابن الأنباري (¬6)، والعيني (¬7). المذهب العاشر: أنَّ إبراهيم وقع له الشك في كيفية الإحياء، لا في أصل الإحياء. وهذا التأويل قال به العيني (¬8). المذهب الحادي عشر: أنَّ الشك وقع لإبراهيم قبل النبوة. ذكره الحافظ ابن حجر. (¬9) ¬
المسلك الثاني: مسلك إعمال الحديث على ظاهره، وإثبات الشك حقيقة لإبراهيم الخليل عليه السلام. فعن ابن عباس، رضي الله عنهما ـ في قوله تعالى: (وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [البقرة: 260]ـ: قال: «ما في القرآن آية أرجى عندي منها». (¬1) وقال: «هذا لما يَعْرضُ في الصدور، ويُوسوِسُ به الشيطان، فرضي الله تعالى من إبراهيم قوله: بلى». (¬2) وسُئل عطاء بن أبي رباح عن معنى الآية فقال: «دخل قلبَ إبراهيمَ بعضُ ما يدخل قلوب الناس». (¬3) واختار هذا المسلك ابن جرير الطبري، فقال: «وأولى الأقوال بتأويل الآية، ما صح به الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) وأن تكون ¬
المبحث الخامس: الترجيح
مَسْألتُه ربَّه ما سأله أنْ يُريه من إحياء الموتى لعارض من الشيطان عرض في قلبه، كالذي ذكرنا عن ابن زيد: من أنَّ إبراهيم لما رأى الحوت الذي بعضه في البر وبعضه في البحر، قد تعاوره دواب البر ودواب البحر وطير الهواء، ألقى الشيطان في نفسه فقال: متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء؟ فسأل إبراهيم حينئذ ربه أنْ يريه كيف يحيي الموتى؛ ليعاين ذلك عياناً، فلا يقدر بعد ذلك الشيطان أنْ يُلقي في قلبه مثل الذي ألقى فيه عند رؤيته ما رأى من ذلك، فقال له ربه: أولم تؤمن؟ يقول: أولم تصدق يا إبراهيم بأني على ذلك قادر؟ قال: بلى يا رب، لكن سألتك أنْ تُريني ذلك ليطمئن قلبي، فلا يقدر الشيطان أنْ يُلقي في قلبي مثل الذي فعل عند رؤيتي هذا الحوت». اهـ (¬1) المبحث الخامس: الترجيح: الذي يَظْهُرُ صَوَابُه ـ والله تعالى أعلم ـ هو ما ذهب إليه الجمهور من تأويل الحديث، ونفي الشك مطلقاً عن إبراهيم الخليل عليه السلام، والمختار من أقوال الجمهور - هو القول الأول - أنَّ معنى الحديث: أنَّ الشك لو كان متطرقاً إلى إبراهيم لكنت أنا أحق به منه، ولكن لم أشك ولم يشك إبراهيم، وإنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك تواضعاً منه، وتأدباً مع إبراهيم الخليل عليه السلام. يؤيد هذا الاختيار: 1 - أنَّ الشك كفر، وهو غير جائز في حق الأنبياء عليهم السلام، لعصمتهم منه إجماعاً. (¬2) 2 - أنه لو وقع من إبراهيم عليه السلام شك لكان قوله: «بلى» خلافَ الواقع؛ ¬
إذ كيف يقول «بلى» وهو في الباطن على خلاف ذلك، والأنبياء عليهم السلام لا يقولون إلا الصدق. (¬1) 3 - أنه لو كان قوله: «بلى» خلافَ الواقع لما أقرَّه الله تعالى على ذلك؛ فدلَّ على أنَّ إبراهيم لم يشك قط، إذ لو كان منه شك لأنكر الله عليه قوله: «بلى». (¬2) 4 - أنَّ الله تعالى قد أخبر عنه في أول القصة أنه قال للنمرود (¬3): (رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) [البقرة: 258] فلو كان عنده شك لما ادعى ذلك وهو غير مؤمن به. (¬4) 5 - ومما يدل على أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك تواضعاً وأدباً، ولم يُرِدْ به إثبات الشك حقيقة، قوله في آخر الحديث: «وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ يُوسُفُ لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ»، ومعلوم أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أُعطي من التثبت في الأمور، والصبر على المكاره الحظَّ الأوفر، والنصيب الأكبر، لكنه قال ذلك تواضعاً لله، وتأدباً مع أخيه نبي الله صلى الله عليه وسلم. (¬5) قال ابن عطية: «وإذا تأملت سؤاله عليه السلام وسائر ألفاظ الآية لم تُعطِ شكاً؛ وذلك أنَّ الاستفهام بكيف إنما هو سؤالٌ عن حالة شيءٍ موجودٍ متقرر الوجود عند السائل والمسؤول، نحو قولك: كيف عِلمُ زيد؟ وكيف نسْجُ الثوب؟ ونحو هذا، ومتى قلت: كيف ثوبك؟ وكيف زيد؟ فإنما السؤال عن حالة من أحواله، وقد تكون كيف خبراً عن شيء شأنه أنْ يُستفهم عنه بكيف، نحو قولك: كيف شئت فكن، ونحو قول البخاري: كيف كان بدء الوحي، ¬
وكيف في هذه الآية إنما هي استفهام عن هيئة الإحياء، والإحياء متقرر، ولكن لما وجدنا بعض المنكرين لوجود شيء قد يعبرون عن إنكاره بالاستفهام عن حاله لذلك الشيء يعلم أنها لا تصح فيلزم من ذلك أنَّ الشيء في نفسه لا يصح؛ مثال ذلك: أنْ يقول مُدَّعٍ: أنا أرفع هذا الجبل، فيقول المُكذِّب له: أرني كيف ترفعه، فهذه طريقة مجاز في العبارة، ومعناه تسليم جدلي، كأنه يقول: افرض أنك ترفعه، فأرني كيف ترفعه؟ فلما كانت عبارة الخليل عليه السلام بهذا الاشتراك المجازي خلص الله له ذلك وحمله على أنْ بَيَّنَ له الحقيقة فقال له: أولم تؤمن؟ قال: بلى، فكمُل الأمر، وتخلَّص من كل شك، ثم علل عليه السلام سؤاله بالطمأنينة». اهـ (¬1) وأما ما روي عن ابن عباس، وعطاء، واختاره ابن جرير من إثبات الشك لإبراهيم، وجَعْلُ سببه وسوسة الشيطان؛ فليس في الآية ولا في الحديث ما يدل عليه. قال ابن عطية: «وما ترجم به الطبري عندي مردود، وما أدخل تحت الترجمة مُتأول: فأما قول ابن عباس: «هي أرجى آية» فمن حيث فيها الإدلال على الله تعالى وسؤال الإحياء في الدنيا، وليست مظنة ذلك، ويجوز أنْ يقول: هي أرجى آية؛ لقوله: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) أي إنَّ الإيمان كافٍ لا يحتاج معه إلى تنقير وبحث. وأما قول عطاء: «دخل قلبَ إبراهيمَ بعضُ ما يدخل قلوب الناس»، فمعناه من حيث المعاينة، وذلك أنَّ النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أُخْبرَتْ به، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ليس الخبر كالمعاينة» (¬2)». اهـ (¬3) ¬
وقال أبو العباس القرطبي معلقاً على أثر ابن عباس: ما نُقل عن ابن عباس فإنه قول فاسد، لا يصح نقله ولا معناه، وليس في الآية ما يدلُّ على أنَّ إبراهيم شك. اهـ (¬1) قلت: أثر ابن عباس صحيح، وهو قوله: «هذا لما يعرض في الصدور، ويوسوس به الشيطان، فرضي الله تعالى من إبراهيم قوله: بلى»، لكن لم يوافقه على هذا القول أحد إلا ما روي عن عطاء، واختاره ابن جرير، ولعل ابن جرير إنما اختار هذا القول مستأنساً بهذه الرواية عن ابن عباس، لكن هذا القول من ابن عباس لا يعدو أن يكون اجتهاداً منه، وقد تبين بالأدلة أنه لا يصح حمل الآية والحديث على هذا المعنى، والله تعالى أعلم. **** ¬
المسألة [3]: في بيان الزمن الذي لا ينفع فيه الإيمان
المسألة [3]: في بيان الزمن الذي لا ينفع فيه الإيمان. المبحث الأول: ذكر الآية الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلْ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ (158)) [الأنعام: 158]. المبحث الثاني: ذكر الحديث المشكل الوارد في تفسير الآية: (78) ـ (67): عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثَلاثٌ إِذَا خَرَجْنَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدَّجَّالُ، وَدَابَّةُ الْأَرْضِ». (¬1) ¬
المبحث الثالث: بيان وجه الإشكال في الحديث
المبحث الثالث: بيان وجه الإشكال في الحديث: استشكل جمع من العلماء حديث أبي هريرة؛ لأمرين: الأول: أنَّ ظاهره أنَّ الإيمان لا ينفع بعد خروج الدجال، ووجه
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع الإشكال الوارد في الحديث
الإشكال: أنَّ وقت خروج الدجال يكون قبل زمن عيسى عليه السلام (¬1)، وعليه فإنه لا ينفع الكفار إيمانهم، ولا الفساق توبتهم، عند نزول عيسى عليه السلام؛ لأن باب التوبة قد أُغلق في زمن الدجال، وقد جاء النص صريحاً (¬2) بأنَّ الإيمان ينفع في زمن عيسى عليه السلام، وإلا لما صار الدين واحداً، ولا كان في نزوله كبير فائدة. (¬3) الثاني: أنَّ النصوص متظافرةٌ على تفسير الآية بطلوع الشمس من مغربها، دون ذكر الدجال، أو الدابة. (¬4) المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع الإشكال الوارد في الحديث: مذهب عامة المفسرين أنَّ المراد بـ «البعض» في الآية، هو: طلوع الشمس من مغربها. (¬5) ¬
ورُوي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: «التوبة معروضة على ابن آدم إن قَبلَهَا مالم تخرج إحدى ثلاث: مالم تطلع الشمس من مغربها، أو الدابة، أو فتح يأجوج ومأجوج». (¬1) وهذا الأثر عن ابن مسعود - رضي الله عنه - لا يصح، وقد رُويَ عنه من عدة طرق أنه فسر الآية بطلوع الشمس من مغربها دون ذكر الدابة، أو يأجوج ومأجوج. (¬2) وأما حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - والذي فيه ذكر الثلاث؛ فقد قال بعض أهل العلم إنَّ التوبة تنقطع بخروج إحدى هذه الثلاث. قال ابن هبيرة (¬3): «حكم هاتين الآيتين (يعني الدابة، والدجال) في أنَّ نفساً لا ينفعها إيمانها، الحكم في طلوع الشمس من مغربها». اهـ (¬4) وقال المناوي: «كلٌ من الثلاثة مستبد في أنَّ الإيمان لا ينفع بعد مشاهدتها؛ فأيها تقدمت ترتب عليها عدم النفع». اهـ (¬5) لكن مذهب عامة أهل العلم أنَّ التوبة لا تنقطع إلا بطلوع الشمس من مغربها، وأما حديث أبي هريرة فلهم في الجواب عنه مسلكان: الأول: مسلك قبول الحديث، مع توجيهه: وهذا مذهب الجمهور من العلماء، حيث ذهبوا إلى توجيه الحديث، ¬
ودفع التعارض بينه وبين بقية الأحاديث، والتي اقتصرت على تفسير الآية بطلوع الشمس من مغربها، ولهم في التوجيه مذاهب: الأول: أنَّ عدم قبول التوبة مترتبٌ على مجموع الثلاث - الدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها - فإذا اجتمعت الثلاث انقطعت التوبة، وطلوع الشمس هو آخرها، وهو الذي يتحقق به عدم القبول. قال ابن مفلح - بعد أنْ أورد حديث «ثلاث إذا خرجن» -: «فهذا المراد به أنَّ طلوع الشمس آخر الثلاثة خروجاً؛ فلا تعارض بينه وبين ما سبق». اهـ (¬1) يريد الأحاديث التي اقتصرت على تفسير الآية بطلوع الشمس من مغربها. واختار هذا الجمع: المُلا علي بن سلطان القاري (¬2)، والمباركفوري (¬3)، غير أنهما لم يذكرا أنَّ طلوع الشمس من مغربها هو آخر الثلاث. وذكر الشيخ حمود التويجري حديث أبي هريرة من رواية الإمام أحمد، والتي فيها لفظ «الدخان» بدل «الدجال» وبين أنَّ التوبة لا تزال مقبولة حتى تجتمع الثلاث، والتي آخرها طلوع الشمس من مغربها. (¬4) المذهب الثاني: إنْ كان البعض المذكور في الآية عدة آيات؛ فطلوع الشمس هو آخرها المتحقق به عدم القبول، وإنْ كان إحدى آيات؛ فهو محمول على طلوع الشمس من مغربها؛ لأنه أعظم الثلاث. ذكره القاسمي في تفسيره (¬5)، وهو بمعنى التوجيه الأول. المذهب الثالث: أنَّ خروج الثلاث يكون متتابعاً، بحيث يكون الزمن الذي بينها يسير جداً؛ فتكون النسبة التي بينها مجازية، فكأنها خرجت في وقت واحد. ¬
ذكره الحافظ ابن حجر، وتعقبه بقوله: «وهذا بعيد؛ لأن مدة لبث الدجال إلى أنْ يقتله عيسى، ثم لبث عيسى وخروج يأجوج ومأجوج، كل ذلك سابق على طلوع الشمس من المغرب». اهـ (¬1) قلت: بل جاء النص صريحاً بأن مدة لبث الدجال إلى أنْ يقتله ابن مريم عليه السلام، أطول من ذلك؛ فعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِي أُمَّتِي فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ، لَا أَدْرِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا، أَوْ أَرْبَعِينَ شَهْرًا، أَوْ أَرْبَعِينَ عَامًا، فَيَبْعَثُ اللَّهُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ كَأَنَّهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَيَطْلُبُهُ فَيُهْلِكُهُ، ثُمَّ يَمْكُثُ النَّاسُ سَبْعَ سِنِينَ، لَيْسَ بَيْنَ اثْنَيْنِ عَدَاوَةٌ .... ». (¬2) وعن النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ - رضي الله عنه - قال: «ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الدَّجَّالَ ..... فقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَمَا لُبْثُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ». (¬3) قال النووي: «قوله - صلى الله عليه وسلم -: (يَوْم كَسَنَةٍ، وَيَوْم كَشَهْرٍ، وَيَوْم كَجُمْعَةٍ، وَسَائِر أَيَّامه كَأَيَّامِكُمْ) قال العلماء: هذا الحديث على ظاهره، وهذه الأيام الثلاثة طويلة على هذا القدر المذكور في الحديث؛ يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (وَسَائِر أَيَّامِه كَأَيَّامِكُمْ)». اهـ (¬4) وأما عيسى ابن مريم عليه السلام فقد جاء أنَّ مدة لبثه أربعون سنة؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر عيسى فقال: « .... وَيُهْلِكُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ، فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يُتَوَفَّى فَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ» (5). ¬
فهذه النصوص وغيرها ترد القول بأن خروج الثلاث يكون متتابعاً، وأنَّ الزمن الذي بينها يسير، وحسبك مدة بقاء عيسى عليه السلام؛ فإنَّ مكثه أربعين سنة ليس بالزمن اليسير. المذهب الرابع: ما قاله البيهقي: «إنْ كان في علم الله أنَّ طلوع الشمس سابقٌ احتمل أن يكون المراد نفى النفع عن أنفس القرن الذين شاهدوا ذلك، فإذا انقرضوا وتطاول الزمان وعاد بعضهم إلى الكفر عاد تكليف الإيمان بالغيب، وكذا في قصة الدجال لا ينفع إيمانُ من آمن بعيسى عند مشاهدة الدجال، وينفعه بعد انقراضه». اهـ (¬1) قلت: يتخرج من كلام البيهقي أنَّ التوبة تنقطع عند طلوع الشمس من مغربها، ثم تعود بعد تطاول الزمان؛ فإذا خرج الدجال انقطعت، ثم تعود بعد ذلك لتنفع وقت عيسى عليه السلام. وقريباً منه قول أبي عبد الله القرطبي: «توبة كل من شاهد ذلك (يعني طلوع الشمس من مغربها) أو كان كالمشاهد له مردودة ما عاش؛ لأن علمه بالله تعالى وبنبيه - صلى الله عليه وسلم - وبوعده قد صار ضرورة؛ فإن امتدت أيام الدنيا إلى أن ينسى الناس من هذا الأمر العظيم ما كان، ولا يتحدثون عنه إلا قليلاً، فيصير الخبر عنه خاصاً وينقطع التواتر عنه؛ فمن أسلم في ذلك الوقت أو تاب قُبلَ منه». اهـ (¬2) وأيّد ذلك: 1 - بما رُوي: «أنَّ الشمس والقمر يُكسيان بعد ذلك الضوء والنور، ثم يطلعان على الناس ويغربان كما كانا قبل ذلك». (¬3) 2 - وبما رُوي عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - أنه قال: «يبقى الناس بعد ¬
طلوع الشمس من مغربها مائة وعشرين سنة، حتى يغرسوا النخل». (¬1) 3 - وبما رُوي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: «لا يقبل الله من كافر عملاً ولا توبة إذا أسلم حين يراها إلا من كان صغيراً يومئذ؛ فإنه لو أسلم بعد ذلك قُبِل ذلك منه، ومتى كان مؤمناً مذنباً فتاب من الذنب قُبِلت منه». (¬2) 4 - وبما رُوي عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - أنه قال: «إنما لم يُقبل وقت الطلوع حتى تكون صيحة فيهلك كثير من الناس، فمن أسلم أو تاب في ذلك الوقت وهلك لم يُقبل منه، ومن تاب بعد ذلك قُبِلت منه». (¬3) ونقل الحافظ أبو زرعة العراقي عن شيخه البلقيني أنه قال: «إذا تراخى الحال بعد ذلك، وبَعُدَ العهد بهذه الآية، وتناساه أكثر الناس قُبِلت التوبة والإيمان بعد ذلك؛ لزوال الآية التي تضطر الناس إلى الإيمان». اهـ (¬4) ونقله عن البلقيني: الإمام الآلوسي، ومال إليه وأيَّده. (¬5) واعتُرِضَ على هذا المذهب: بأن لا دليل عليه، وبأن الأخبار الصحيحة ترده؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ». (¬6) فمفهوم هذا الحديث أنَّ من تاب بعد ذلك لم تُقبل منه. (¬7) ¬
المبحث الخامس: الترجيح
وقد ساق الحافظ ابن حجر عدة آثار تدل على أنَّ الشمس إذا طلعت من مغربها أُغلق باب التوبة ولم يفتح بعد، ثم قال: «فهذه آثار يشد بعضها بعضاً، متفقة على أنَّ الشمس إذا طلعت من المغرب أُغلق باب التوبة ولم يفتح بعد، وأنَّ ذلك لا يختص بيوم الطلوع، بل يمتد إلى يوم القيامة». اهـ (¬1) المسلك الثاني: مسلك تضعيف الحديث: فقد ذهب أبو العباس القرطبي إلى أنَّ ذكر الدجال في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وهمٌ من بعض الرواة، وأنَّ التكليف لا يرتفع إلا بطلوع الشمس من مغربها، كما دلت عليه بقية الأحاديث. (¬2) المبحث الخامس: الترجيح: الذي يَظْهُرُ صَوَابُه ـ والله تعالى أعلم ـ هو مسلك قبول الحديث، مع توجيهه، ودفع التعارض بينه وبين بقية الأحاديث التي اقتصرت على تفسير الآية بطلوع الشمس من مغربها، فيكون معنى حديث أبي هريرة: أنَّ عدم قبول التوبة مترتب على مجموع الثلاث - الدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها - فإذا اجتمعت الثلاث انقطعت التوبة، ويكون طلوع الشمس هو آخرها، وهو الذي يتحقق به عدم القبول. ويمكن تلخيص المسألة وحصرها في خمسة أمور: 1 - أنَّ المراد بـ «البعض» في الآية هو طلوع الشمس من مغربها فقط، دون غيرها. 2 - أنَّ التوبة لا تنقطع إلا بطلوع الشمس من مغربها. 3 - أنَّ طلوع الشمس من مغربها هو آخر الآيات الثلاث المذكورة في حديث أبي هريرة. ¬
4 - أنَّ زمن عيسى - عليه السلام - يعقب الدجال. 5 - أنَّ زمن عيسى - عليه السلام - فيه خير كثير، دنيوي وأخروي، والتوبة والإيمان مقبولان فيه. وسأذكر من الأدلة ما يؤيد كل أمر، مع ذكر الإيرادات والاعتراضات، والجواب عنها. أولاً: الأدلة على أنَّ المراد بـ «البعض» في الآية هو طلوع الشمس من مغربها فقط، دون غيرها: بعد النظر في الأحاديث الواردة في تفسير الآية وجدتُ أنها متفقة على تفسير «البعض» بطلوع الشمس من مغربها، ولم يأتِ ما يُخالف ذلك إلا ما يظهر من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، ولكن عند التأمل فإنه لا يظهر بينه وبين بقية الأحاديث تعارض، لإمكان حمله على بقية الأحاديث التي اقتصرت على تفسير الآية بطلوع الشمس من مغربها، وإنَّ في اتفاق الأحاديث على تفسير «البعض» بالطلوع فقط، لدلالة واضحة على أنه هو المراد. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: «وقد تكاثرت الأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ المراد بـ «بعض آيات الله» طلوع الشمس من مغربها». اهـ (¬1) وقال الآلوسي: «رُويَ هذا التعيين عنه - صلى الله عليه وسلم - في غير ما خبر صحيح». اهـ (¬2) ولنورد بعضاً من هذه الأخبار الصحيحة: 1 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا؛ فَإِذَا رَآهَا النَّاسُ آمَنَ مَنْ عَلَيْهَا، فَذَاكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ». (¬3) ¬
2 - وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ في قول الله عز وجل ـ: (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ) [الأنعام: 158] قَالَ: «طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا». (¬1) 3 - وعن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه -، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوماً: «أَتَدْرُونَ أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ الشَّمْسُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: إِنَّ هَذِهِ تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَخِرُّ سَاجِدَةً، فَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُقَالَ لَهَا ارْتَفِعِي، ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلِعِهَا، ثُمَّ تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَخِرُّ سَاجِدَةً، وَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُقَالَ لَهَا ارْتَفِعِي ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلِعِهَا، ثُمَّ تَجْرِي لَا يَسْتَنْكِرُ النَّاسَ مِنْهَا شَيْئًا، حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا ذَاكَ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَيُقَالُ لَهَا: ارْتَفِعِي أَصْبِحِي طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِكِ، فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَتَدْرُونَ مَتَى ذَاكُمْ؟ ذَاكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا». (¬2) ¬
4 - وعن صفوان بن عسال المرادي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ مِنْ قِبَلِ مَغْرِبِ الشَّمْسِ بَابًا مَفْتُوحًا عَرْضُهُ سَبْعُونَ سَنَةً، فَلَا يَزَالُ ذَلِكَ الْبَابُ مَفْتُوحًا لِلتَّوْبَةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ نَحْوِهِ؛ فَإِذَا طَلَعَتْ مِنْ نَحْوِهِ لَمْ يَنْفَعْ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا». (¬1) 5 - ومما يؤكد أنَّ المراد بـ «البعض» هو طلوع الشمس فقط، اتفاق الصحابة على تفسير الآية بذلك، رُويَ هذا التفسير عن: ابن عباس، وعبد الله بن عمرو، وابن مسعود، وصفوان بن عسال (¬2)، ولا يعرف لهم مخالف؛ إلا ما رُوي عن ابن مسعود - في إحدى الروايات عنه - بأنه فسرها بإحدى ثلاث: الطلوع، أو الدابة، أو يأجوج ومأجوج، وقد تقدم أنَّ ذلك لا يصح عنه. (¬3) فهذه الأحاديث مع اتفاق الصحابة - رضي الله عنهم - تؤكد القول بأن المراد بالبعض هو طلوع الشمس من مغربها دون غيرها، ولو كانت الثلاث المذكورة في حديث أبي هريرة هي المرادة بتفسير الآية، أو بعض المراد لذُكِرَت في بقية الأحاديث، وفي هذا دلالة واضحة على أنَّ أحد الثلاث غير مستبد بانقطاع التوبة بوجوده، بل لا بد من اجتماعها معاً، والله تعالى أعلم. فإن قيل: هذا التأويل فيه إهمال لبقية الثلاث المذكورة في الحديث؛ لأنكم قصرتم تفسير الآية على واحدة من هذه الثلاث، ولم تعملوا البقية، ¬
والحديث صريح بأن المراد بالبعض هو الثلاث، لا واحدة منها. والجواب على هذا الإيراد سيأتي تبعاً عند ذكر فائدة مجيء الثلاث في الحديث، وسيأتي أنَّ قصر تفسير الآية على واحدة من الثلاث لا يعني إهمال البقية، وإنما ذكرت لفائدة أخرى كما سيأتي تقريره. ثانياً: الأدلة على أنَّ التوبة لا تنقطع إلا بطلوع الشمس من مغربها: 1 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ». (¬1) 2 - وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا». (¬2) 3 - وعن معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا». (¬3) فهذه الأحاديث متفقة على أنَّ التوبة لا تنقطع إلا بطلوع الشمس من مغربها، والقول بأن زمن الدجال لا ينفع فيه الإيمان ولا التوبة فيه مخالفة صريحة لهذه الأحاديث؛ لأن وقته قبل طلوع الشمس من مغربها. ثالثاً: الأدلة على أنَّ طلوع الشمس من مغربها هو آخر الآيات الثلاث المذكورة في حديث أبي هريرة. هناك عدة أدلة تؤيد القول بأن طلوع الشمس من مغربها هو آخر الثلاث المذكورة في الحديث، ومن هذه الأدلة: ¬
1 - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ». (¬1) ومفهوم هذا الحديث أنَّ من تاب بعد أن تطلع الشمس من مغربها لم تقبل منه توبته، والأصل بقاء الحديث على إطلاقه، ولا يصح تقييد ذلك بوقت الطلوع، وإذا كانت التوبة بعد طلوع الشمس من مغربها مردودة امتنع أن يكون وقت الدجال بعد طلوعها؛ لأن عيسى عليه السلام بعد الدجال، وزمنه فيه خير كثير، والإيمان والتوبة مقبولان فيه، فلم يبق إلا أن يكون طلوعها بعد الدجال. 2 - وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ، حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُمَا» (¬2)، وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَيُحَجَّنَّ الْبَيْتُ وَلَيُعْتَمَرَنَّ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ». (¬3) وقد ثبت أنَّ خروج يأجوج ومأجوج يكون بعد عيسى عليه السلام (¬4)، فهذان الحديثان يدلان على أنَّ باب التوبة لم يغلق بعد في زمن عيسى، إذ لو كان قد أغلق لما كان للحج فائدة، وقد سبق أنَّ وقت الدجال قبل زمن عيسى عليه السلام، وفي ذلك دلالة واضحة على أنَّ طلوع الشمس يعقب الدجال. ¬
3 - ومما يؤكد أنَّ طلوع الشمس هو آخر الثلاث، أنَّ الأحاديث متظافرة على أنَّ التوبة لا تنقطع إلا بطلوع الشمس من مغربها، ولو كانت هي الأولى في الخروج لما كان لذكر بقية الثلاث فائدة؛ لأن انقطاع التوبة قد وقع بطلوع الشمس قبل ذلك. قال الشيخ حمود التويجري - بعد أن أورد حديث (ثلاث إذا خرجن) -: «وظاهر هذا الحديث يدل على أنَّ التوبة لا تزال مقبولة حتى تخرج الثلاث كلها، وقد تواترت الأحاديث الدالة على أنَّ التوبة لا تزال مقبولة ما لم تطلع الشمس من مغربها، فيستفاد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مع الأحاديث الواردة في قبول التوبة ما لم تطلع الشمس من مغربها أنَّ خروج الدابة والدخان (¬1) متقدم على طلوع الشمس من مغربها، والله أعلم». اهـ (¬2) وأما الدابة فالأظهر أنَّ خروجها متقدم على طلوع الشمس من مغربها، لكن الزمن الذي بينهن يسير جداً، وليس في هذا القول مخالفة لحديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه -، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ أَوَّلَ الْآيَاتِ خُرُوجًا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ عَلَى النَّاسِ ضُحًى». (¬3)؛ لأن الحديث إنما ذكر الأولية للشمس والدابة معاً، لا للشمس وحدها؛ بدليل قوله في الحديث: «وَأَيُّهُمَا مَا كَانَتْ قَبْلَ صَاحِبَتِهَا فَالْأُخْرَى عَلَى إِثْرِهَا قَرِيبًا». (¬4)، ولو كان مراده - صلى الله عليه وسلم - في الأولية الشمس دون الدابة لما قال ذلك، ومما يؤكد هذا المعنى أنَّ عبد الله بن عمرو راوي الحديث لم يفهم من الحديث أنَّ طلوع الشمس متقدم على الدابة، حيث وقع منه تردد في الأولية بقوله: «وَأَظُنُّ أُولَاهَا خُرُوجًا طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا» (¬5) وترجيحه لأولية الشمس مبنيٌ على ¬
اطلاعه على كتب أهل الكتاب، لا أنه سمع ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم -، يدل على ذلك أنَّ الراوي عن ابن عمرو قال: «ثُمَّ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ - وَكَانَ يَقْرَأُ الْكُتُبَ -: وَأَظُنُّ أُولَاهَا خُرُوجًا طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا» (¬1)، قال الحافظ ابن كثير: «وقد ظن عبد الله بن عمرو أنَّ طلوع الشمس متقدم على الدابة، وذلك محتمل ومناسب». اهـ (¬2) قلت: لكن الذي يظهر تقدم الدابة على الطلوع، وأما الأحاديث الواردة بتقدم طلوع الشمس على الدابة، فإنها ضعيفة، والله تعالى أعلم. (¬3) ¬
الإيرادات والاعتراضات على القول بأن زمن الدجال متقدم على طلوع الشمس من مغربها: الإيراد الأول: فإن قيل: فما جوابكم عن حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إِنَّ أَوَّلَ الْآيَاتِ خُرُوجًا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ عَلَى النَّاسِ ضُحًى، وَأَيُّهُمَا مَا كَانَتْ قَبْلَ صَاحِبَتِهَا فَالْأُخْرَى عَلَى إِثْرِهَا قَرِيبًا». (¬1) فهذا الحديث صريح بأن طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة يُعد من أول الآيات، ويلزم منه أنَّ خروج الدجال متأخر عنهما. والجواب: أنَّ الروايات مختلفة في تعيين أول الآيات: 1 - ففي رواية: «أنَّ أولها طلوع الشمس من مغربها». (¬2) 2 - وفي رواية: «أنَّ أولها نار تحشر الناس إلى محشرهم». (¬3) 3 - وقيل: أولها خروج الدجال. (¬4) وللعلماء في الجمع بين هذه الأحاديث أقوال: 1 - قال الحافظ ابن حجر: «الذي يترجح من مجموع الأخبار أنَّ خروج الدجال أول الآيات العظام المؤذنة بتغير الأحوال العامة في معظم الأرض، وينتهي ذلك بموت عيسى ابن مريم عليه السلام، وأنَّ طلوع الشمس من المغرب هو أول الآيات العظام المؤذنة بتغير أحوال العالم العلوي، وينتهي ذلك بقيام الساعة، ولعل خروج الدابة يقع في ذلك اليوم الذي تطلع فيه الشمس من المغرب .... ¬
قال: وأول الآيات المؤذنة بقيام الساعة النار التي تحشر الناس». اهـ (¬1) واختار هذا الجمع البرزنجي (¬2)، حيث نقله عن الحافظ ابن حجر واستحسنه. (¬3) 2 - ويرى الحافظ ابن كثير: أنَّ طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة يعد من أول الآيات السماوية التي ليست بمألوفة، وأما خروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام، وكذلك خروج يأجوج ومأجوج فكلها أمور مألوفة، وهي من أول الآيات الأرضية. قال الحافظ ابن كثير - بعد أن أورد حديث عبد الله بن عمرو -: «أي أول الآيات التي ليست مألوفة، وإن كان الدجال ونزول عيسى عليه السلام من السماء قبل ذلك، وكذلك خروج يأجوج ومأجوج، فكل ذلك أمور مألوفة؛ لأن أمر مشاهدته ومشاهدة أمثاله مألوف؛ فأما خروج الدابة على شكل غريب غير مألوف ومخاطبتها الناس ووسمها إياهم بالإيمان أو الكفر؛ فأمر خارج عن مجاري العادات، وذلك أول الآيات الأرضية، كما أنَّ طلوع الشمس من مغربها على خلاف عادتها المألوفة أول الآيات السماوية». اهـ (¬4) واختار هذا الجمع ابن أبي العز الحنفي. (¬5) 3 - ويرى الطيبي أنَّ الآيات عبارة عن أمارات على الساعة، إما على قربها، وإما على حصولها؛ فمن الأول: الدجال، ونزول عيسى عليه السلام، ويأجوج ومأجوج، والخسف، ومن الثاني: الدخان، وطلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، والنار التي تحشر الناس. (¬6) واختار هذا الجمع المناوي. (¬7) ¬
4 - ويرى أبو العباس القرطبي أنَّ الأولية في حديث عبد الله بن عمرو المراد بها: أول الآيات الكائنة في زمان ارتفاع التوبة والطبع على كل قلب بما فيه، وعلل ذلك: بأن ما قبل طلوع الشمس من مغربها التوبة فيه مقبولة، وإيمان الكافر فيه يصح. (¬1) وأما حديث أنس أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ نَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنْ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ». (¬2) فقد جاء في حديث آخر أنها آخر الآيات؛ فعن حذيفة بن أسيد الغفاري - رضي الله عنه - قال: «اطَّلَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْنَا وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ فَقَالَ: مَا تَذَاكَرُونَ؟ قَالُوا: نَذْكُرُ السَّاعَةَ. قَالَ: إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْنَ قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ، فَذَكَرَ: الدُّخَانَ، وَالدَّجَّالَ، وَالدَّابَّةَ، وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَنُزُولَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَيَأَجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَثَلَاثَةَ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنْ الْيَمَنِ تَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ» (¬3). قال الحافظ ابن حجر: «ويجمع بينهما بأن آخريتها باعتبار ما ذُكِرَ معها من الآيات، وأوليتها باعتبار أنها أول الآيات التي لا شيء بعدها من أمور الدنيا أصلاً، بل يقع بانتهائها النفخ في الصور، بخلاف ما ذكر معها فإنه يبقى بعد كل آية منها أشياء من أمور الدنيا». اهـ (¬4) قلت: ويؤيد هذا الجمع أنَّ حديث أنس روي بلفظ: «وَأَمَّا أَوَّلُ شَيْءٍ يَحْشُرُ النَّاسَ فَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ فَتَحْشُرُهُمْ إِلَى الْمَغْرِبِ». (¬5) حيث لم ينص على أنها أول الآيات، بل فيه أنها أول من يحشر الناس. (¬6) ¬
ويحتمل أنَّ النار المذكورة في حديث أنس نار أخرى غير المذكورة في حديث حذيفة، فالأولى تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، والثانية تخرج من اليمن فتسوق الناس إلى المحشر الذي هو أرض الشام، فتكون الأولى أول الآيات، والثانية آخر الآيات. يقوي هذا الاحتمال اختلاف مكان وصفة خروج كل من النارين؛ فالأولى تخرج من المشرق وتسوق الناس إلى المغرب، والثانية تخرج من اليمن وتسوق الناس إلى محشرهم. (¬1) وبهذا يتبين أنَّ الحديث الوارد في أنَّ أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة، لا ينافي القول بأن أولها خروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام، لما علمت من اختلاف الروايات في أول الآيات، ولما ذُكِرَ من أنَّ الأولية في الحديث ليست على إطلاقها، وعليه فلا يصح الاعتراض، والله تعالى أعلم. (¬2) الإيراد الثاني: أنَّ في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - تقديم طلوع الشمس من مغربها على الدجال، فكيف يقال إن طلوعها آخر الثلاث؟ والجواب: أنَّ هذا الترتيب غير مُتفقٍ عليه بين رواة الحديث، وتفصيل ذلك: أنَّ الحديث رواه فضيل بن غزوان، وقد رُويَ عن فضيل من أربعة طرق، وفي كل طريق اختلاف في ترتيب الآيات: الأول: طريق وكيع بن الجراح: وقد اتفق الرواة عنه على الترتيب الآتي: طلوع الشمس، والدجال، والدابة. الثاني: طريق يعلى بن عبيد: وقد اختلف الرواة عنه في الترتيب: فرواه عبد بن حميد، وإسحاق بن راهويه، والصغاني، بلفظ: الدجال، والدابة، وطلوع الشمس. ورواه عنه محمد بن عبد الوهاب، بلفظ: طلوع الشمس، والدجال، والدابة. ¬
الثالث: طريق محمد بن فضيل: وقد اختلف الرواة عنه في الترتيب: فرواه محمد بن العلاء، وعبد الله بن عامر بلفظ: طلوع الشمس، والدجال، والدابة. ورواه أبو هشام الرفاعي بلفظ: الدابة، والدجال، وطلوع الشمس. الرابع: طريق إسحاق بن يوسف: ولم يخرجه من هذا الطريق إلا مسلم في صحيحه، ولم يذكر لفظ الحديث، وإنما ذكر هذا الطريق متابعة. (¬1) والخلاصة: أنَّ هذه الروايات الواردة في ترتيب الحديث لا يمكن الجزم بأن أحدها هو الذي قاله النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وإذ الأمر كذلك فلا يصح الجزم بأن طلوع الشمس من مغربها هو أول الثلاث. وعلى التسليم بأن الحديث قد جاء هكذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بتقديم الطلوع على الثلاث؛ فإنه لا يدل على تقدم الطلوع؛ لأن تقديمها في الذكر لا يقتضي تقدمها في الوقوع (¬2)، كما أنَّ العطف لا يفيد الترتيب (¬3)، ولاحتمال أن يكون ¬
قدم الطلوع؛ لأن مدار عدم قبول التوبة متوقف عليه. (¬1) ومما يؤكد أنَّ الترتيب غير مراد في الحديث: ذكر الدجال بين طلوع الشمس وخروج الدابة، وقد جاء في حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - أنَّ طلوع الشمس وخروج الدابة قريبان من بعضهما، ونص الحديث: «وَأَيُّهُمَا مَا كَانَتْ قَبْلَ صَاحِبَتِهَا فَالْأُخْرَى عَلَى إِثْرِهَا قَرِيبًا». (¬2)، وقد تقدم أنَّ مدة مكث الدجال إلى أن يقتله ابن مريم تُعد طويلة، وهذا دليل واضح بأن طلوع الشمس ليس بأول الثلاث، والله تعالى أعلم. الإيراد الثالث: إذا كانت التوبة لا تنقطع إلا بطلوع الشمس من مغربها، فما فائدة ذكر الدجال والدابة في الحديث؟ والجواب: أنَّ ذكرهما هو بمثابة التحذير والإعلام بقرب طلوع الشمس من مغربها، فكأن خروجهما إرهاصٌ وإيذانٌ بقرب طلوع الشمس من مغربها، يدل على ذلك: حديث أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن ربكم أنذركم ثلاثاً .... ، فذكر الدخان، والدابة، والدجال». (¬3) ¬
وهذا الحديث واضح الدلالة في المقصود؛ لأن فيه التصريح بأن الدجال والدابة إنما هي نذرٌ لما بين يديها من طلوع الشمس من مغربها، والذي يعني رفع التوبة، وعدم قبول الإيمان، فيكون خروجهما تحذيراً للناس وتنبيهاً لهم بأن عليهم التوبة قبل أن يأت يوم لا تنفع فيه، وذلك اليوم هو طلوع الشمس من مغربها. وإنما لم يذكر في حديث أبي مالك طلوع الشمس من مغربها؛ لأن طلوعها لا يقع فيه إنذار، وهذا مما يؤكد أنَّ الدجال والدابة إنما هي نذر، والله تعالى أعلم. ويلاحظ في حديث أبي هريرة تعليق الشرط على ثلاثة أشياء، مع أنَّ الجواب حاصل بأحدها، وهو طلوع الشمس من مغربها، ولهذا نظائر في الكتاب والسنة: فمن الكتاب: قوله تعالى: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)) [الانفطار: 1 - 5] فانظر كيف علق الشرط على أربعة أشياء، وهي: انفطار السماء، وانتثار الكواكب، وتفجير البحار، وبعثرة القبور، مع أنَّ الجواب - وهو علم النفس بما قدمت وأخرت - لا يكون إلا بعد بعثرة القبور. ونظير هذا المثال من السنة قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ (¬1)،
وَمَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ (¬1)؛ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ». (¬2) فانظر كيف علق وجوب الغسل على شيئين، مع أنه لا يجب إلا بواحد منهما، وهو التقاء الختانين. رابعاً: الأدلة على أنَّ زمن عيسى - عليه السلام - يعقب الدجال: تواترت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بخروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام (¬3)، وأغلب هذه الأحاديث فيها التصريح بقتل عيسى ابن مريم للدجال، وفي هذا دلالة واضحة بأن زمن عيسى يعقب الدجال، وفيما يأتي ذكر بعض الأحاديث الدالة على قتل عيسى عليه السلام للدجال: 1 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالْأَعْمَاقِ، أَوْ بِدَابِقٍ (¬4)، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنْ الْمَدِينَةِ مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ، فَإِذَا تَصَافُّوا قَالَتْ الرُّومُ: خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الَّذِينَ سَبَوْا مِنَّا نُقَاتِلْهُمْ. فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: لَا وَاللَّهِ، لَا نُخَلِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا، فَيُقَاتِلُونَهُمْ، فَيَنْهَزِمُ ثُلُثٌ لَا يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَبَدًا، وَيُقْتَلُ ثُلُثُهُمْ أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللَّهِ، وَيَفْتَتِحُ الثُّلُثُ لَا يُفْتَنُونَ أَبَدًا، فَيَفْتَتِحُونَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ (¬5)، فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ ¬
الْغَنَائِمَ قَدْ عَلَّقُوا سُيُوفَهُمْ بِالزَّيْتُونِ إِذْ صَاحَ فِيهِمْ الشَّيْطَانُ: إِنَّ الْمَسِيحَ قَدْ خَلَفَكُمْ فِي أَهْلِيكُمْ. فَيَخْرُجُونَ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَإِذَا جَاءُوا الشَّأْمَ خَرَجَ، فَبَيْنَمَا هُمْ يُعِدُّونَ لِلْقِتَالِ يُسَوُّونَ الصُّفُوفَ إِذْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ - صلى الله عليه وسلم - فَأَمَّهُمْ، فَإِذَا رَآهُ عَدُوُّ اللَّهِ ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ، فَلَوْ تَرَكَهُ لَانْذَابَ حَتَّى يَهْلِكَ، وَلَكِنْ يَقْتُلُهُ اللَّهُ بِيَدِهِ فَيُرِيهِمْ دَمَهُ فِي حَرْبَتِهِ». (¬1) 2 - وعن النواس بن سمعان - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر الدجال فقال: « .... فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ، إِذْ بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ (¬2) بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ (¬3) وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ، إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَطَرَ، وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ (¬4) كَاللُّؤْلُؤِ، فَلَا يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلَّا مَاتَ، وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ، فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ فَيَقْتُلُهُ .... ». (¬5) ¬
خامساً: الأدلة على أنَّ زمن عيسى - عليه السلام - فيه خير كثير، دنيوي وأخروي، والتوبة والإيمان مقبولان فيه: هناك عدة أدلة تدل على أنَّ زمن عيسى عليه السلام التوبة والإيمان مقبولان فيه، سواء كانت التوبة والإيمان قبل نزوله، أم بعد ذلك. وفيما يلي ذكر بعض هذه الأدلة: الدليل الأول: قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)) [النساء: 159]. حيث أخبر سبحانه في هذه الآية الكريمة أنَّ جميع أهل الكتاب يؤمنون بعيسى عليه السلام بعد نزوله، ولا يتخلف أحد منهم عن التصديق والإيمان به (¬1)، فدل على قبول الإيمان في زمنه. الإيرادات والاعتراضات على هذا الدليل: الإيراد الأول: أنَّ الاستدلال بهذه الآية غير مستقيم؛ لأن هناك خلافاً بين المفسرين في مرجع الضمير في قوله: (قَبْلَ مَوْتِهِ) [النساء: 159] فبعضهم يقول: إن الضمير راجع إلى الكتابي، والمعنى أنَّ الكتابي يؤمن عند الموت والمعاينة، بأن عيسى عليه السلام عبد الله ورسوله. (¬2) وقال آخرون: معنى الآية: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - قبل موت الكتابي. (¬3) والجواب: أنَّ الصواب رجوع الضمير إلى عيسى عليه السلام، لا إلى الكتابي، وهذا هو مذهب الجمهور من المفسرين، روي عن أبي هريرة (¬4)، وابن ¬
عباس (¬1)، وبه قال أبو مالك (¬2)، والحسن البصري (¬3)، وقتادة (¬4)، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم (¬5). وهو اختيار: ابن جرير، وابن كثير، والشوكاني، والشنقيطي. (¬6) ومما يرجح هذا الاختيار: 1 - أنَّ الضمائر في الآيات التي قبلها كلها راجعة إلى عيسى عليه السلام، قال تعالى: (وَقولهمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)) [النساء: 157 - 158]. فقوله: (وَمَا قَتَلُوهُ) (وَمَا صَلَبُوهُ) (وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) (اخْتَلَفُوا فِيهِ) (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) (وَمَا قَتَلُوهُ) (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ) كل هذه الضمائر راجعة إلى عيسى عليه السلام، ولما عطف عليها قوله: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) وجب أن يكون الضمير عائداً إلى عيسى عليه السلام، حتى تنسجم الضمائر. (¬7) 2 - ومما يقوي عود الضمير إلى عيسى عليه السلام، أنَّ الأصل في الضمير عوده على مفسر مذكور، وليس في الآية ذكر للكتابي، وإنما المذكور عيسى عليه السلام. (¬8) ¬
«فأما من فسر الآية بأن المعنى أنَّ كل كتابي لا يموت حتى يؤمن بعيسى أو بمحمد عليهما الصلاة والسلام؛ فهذا هو الواقع، وذلك أنَّ كل أحد عند احتضاره ينجلي له ما كان جاهلاً به فيؤمن به، ولكن لا يكون ذلك إيماناً نافعاً له إذا كان قد شاهد الملك؛ كما قال تعالى: (وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآن) [النساء: 18]، وقال تعالى: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِين (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَاَ) [غافر: 84 - 85]، ومن تأمل هذا القول وأمعن النظر فيه اتضح له أنه هو الواقع، لكن لا يلزم منه أن يكون هو المراد من الآية، والله تعالى أعلم». (¬1) الإيراد الثاني: على التسليم بأن الضمير عائد على عيسى عليه السلام؛ فإن هذا الإيمان إيمان اضطراري، بمعنى أنَّ أهل الكتاب يتحققون أنَّ عيسى عبد الله ورسوله، ومثل هذا لا ينفع صاحبه، كحالة الغرغرة فإن الإيمان لا ينفع عندها. (¬2) والجواب: أنَّ الآية لم تُفصل في هذا الإيمان، من حيث القبول والرد، فبقيت على إطلاقها بأن الإيمان نافع في زمن عيسى عليه السلام، ولا يصح تقييدها إلا بدليل. الدليل الثاني: على أنَّ من أحدث إيماناً أو توبة في زمن عيسى عليه السلام قُبِلَ منه، حديث أبي هريرة، وفيه أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر عيسى ابن مريم فقال: « ... وَإِنَّهُ نَازِلٌ ... فَيَدُقُّ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ». (¬3) ¬
والشاهد من الحديث قوله: «وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ»، وهذا نص صريح بأن عيسى عليه السلام يدعو إلى الإسلام، ويلزم من دعوته أنَّ الإيمان مقبول ممن آمن به واتبعه، وإلا فكيف يدعوهم إلى الإسلام وهو يعلم أنَّ إسلامهم غير نافع لهم. فإن قيل: إن اللفظ الذي استدللتم به غير متفق عليه بين رواة الحديث، حيث روي بلفظ: «فَيُقَاتِلُ النَّاسَ عَلَى الْإِسْلَامِ»، وبلفظ: «وَيُعَطِّلُ الْمِلَلَ، حَتَّى يُهْلِكَ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا غَيْرَ الْإِسْلَامِ». (¬1) وهذه الروايات ليس فيها أنه يدعو للإسلام، وعليه فلا يستقيم الاستدلال. ¬
فالجواب: أنَّ لفظ: «فَيُقَاتِلُ النَّاسَ عَلَى الْإِسْلَامِ» هو بمعنى لفظ «وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ» ولا فرق؛ لأن قتاله الناس على الإسلام إنما هو من أجل أن يسلموا، فمن أسلم كف عنه، ومن أبى قاتله، يدل على هذا المعنى حديث: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ .... » (¬1) ومعلوم أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبعث للقتال وحسب، وإنما بعث لدعوة الناس للإيمان، والقتال إنما هو لمن أعرض وأبى. وكذا الرواية الثانية هي بمعنى هذه الرواية، والله تعالى أعلم. الدليل الثالث: ما ورد من أحاديث أنَّ المسلمين يقاتلون العدو في زمن الدجال، وزمن عيسى عليه السلام (¬2)، وقد جاء ما يفيد بأن التوبة لا تنقطع ما دام المسلمون يقاتلون العدو؛ فعن عبد الله بن وَقْدَانَ السَّعْدِيِّ (¬3) أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ الْكُفَّارُ» (¬4)، والهجرة لا تنقطع حتى تنقطع التوبة؛ ¬
لحديث: «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا». (¬1) وفي هذا كله دلالة واضحة على أنَّ التوبة لا تزال مقبولة في زمن الدجال، وعيسى عليه السلام، إلى أن تطلع الشمس من مغربها. الدليل الرابع: قوله - صلى الله عليه وسلم - عن عيسى عليه السلام: «ويُهْلِكُ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا إِلَّا الْإِسْلَامَ». (¬2) فهذا الحديث يدل على دخول الناس كافة في دين الله في زمن عيسى عليه السلام، ولا يقال بأن عيسى يقتل جميع من لم يكن مؤمناً؛ لأن هذا لم يرد به دليل، ويبعد أن يقتل أعداداً هائلة من البشر؛ لأن نزوله إنما هو لهداية الناس، لا لإزهاق أرواحهم، فدل على أنَّ وقته يكون لدعوة الناس للإيمان، وبالتالي فزمنه زمن إيمان وقبول، والله تعالى أعلم. **** ¬
المسألة [4]: هل وقع الشرك من آدم وحواء عليهما السلام؟
المسألة [4]: هل وقع الشرك من آدم وحواء عليهما السلام؟ المبحث الأول: ذكر الآيات الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)) [الأعراف: 189 - 190]. المبحث الثاني: ذكر الحديث المشكل الوارد في تفسير الآيتين: (79) ـ (68): عن سَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَمَّا حَمَلَتْ حَوَّاءُ، طَافَ بِهَا إِبْلِيسُ، وَكَانَ لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ، فَقَالَ: سَمِّيهِ عَبْدَ الْحَارِثِ (¬1)؛ فَإِنَّهُ يَعِيشُ؛ فَسَمَّوْهُ عَبْدَ الْحَارِثِ، فَعَاشَ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ وَحْيِ الشَّيْطَانِ وَأَمْرِهِ». (¬2) ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
المبحث الثالث: بيان وجه الإشكال في الحديث
المبحث الثالث: بيان وجه الإشكال في الحديث: ظاهر الحديث الشريف وقوع الشرك من آدم وحواء عليهما السلام، حيث جعلا لله شركاء في ذلك الولد الذي وُلِدَ لهما؛ إذ عَبَّدَاهُ لغير الله، وهو الذي تفرد سبحانه بإيجاده، وهذا مشكل؛ لأن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الشرك قبل النبوة وبعدها إجماعاً. (¬1) المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع الإشكال الوارد في الحديث: اتفق المفسرون على تنزيه مقام آدم - عليه السلام - من الشرك، وأنَّ ذلك لم يقع منه، ولا من الأنبياء قط، وقد عدّوا هذه الآيات - والحديث الوارد في تفسيرها - من مشكلات التفسير، ولهم في دفع الإشكال الوارد فيهما مسلكان: ¬
الأول: مسلك قبول الحديث، وإجراء الآيتين على ظاهرها في قصة آدم وحواء: وهذا رأي الجمهور من المفسرين (¬1)، حيث ذهبوا إلى أنَّ الآيات معنيٌ بها آدم وحواء - عليهما السلام - حيث سميا ابنهما عبد الحارث. رُوي ذلك عن: أبي بن كعب (¬2)، وسمرة بن جندب (¬3)، وابن عباس (¬4)، ¬
وعكرمة (¬1)، ومجاهد (¬2)، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم (¬3)، وبكر بن عبد الله المزني (¬4). وهو اختيار جمع من المفسرين كما سيأتي ذكرهم. واختلف هؤلاء في معنى الشرك المضاف إلى آدم وحواء - عليهما السلام - على أقوال: الأول: أنه كان شركاً في التسمية، ولم يكن شركاً في العبادة. وهذا هو المروي عن: قتادة (¬5)، وسعيد بن جبير (¬6)، والسدي (¬7). واختيار: ابن جرير الطبري (¬8)، وأبي المظفر السمعاني (¬9)، والبغوي، وابن عطية (¬10)، وابن الجوزي (¬11)، والسيوطي (¬12)، والآلوسي (¬13)، ومحمد بن عبد الوهاب (¬14)، وعبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (¬15). قال البغوي: «جعلا له شريكاً إذ سمياه عبد الحارث، ولمن يكن هذا ¬
إشراكاً في العبادة، ولا أنَّ الحارث ربهما؛ فإن آدم كان نبياً معصوماً من الشرك، ولكن قصد إلى أنَّ الحارث كان سبب نجاة الولد وسلامة أُمِّهِ، وقد يطلق اسم العبد على من يُراد به أنه معبود هذا، كالرجل إذا نزل به ضيف يُسمي نفسه عبد الضيف، على وجه الخضوع، لا على وجه أنَّ الضيف ربَّه، ويقول للغير أنا عبدك، وقال يوسف - عليه السلام - لعزيز مصر: (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ) [يوسف: 23] ولم يُرِدْ به أنه معبوده، كذلك هذا». اهـ (¬1) القول الثاني: أنه كان شركاً في الطاعة، ولم يكن شركاً في العبادة. وهذا هو المروي عن: ابن عباس رضي الله عنهما (¬2)، وقتادة (¬3). القول الثالث: أنَّ الإشراك وقع من حواء لا من آدم عليه السلام، ولم يشرك آدم قط، وأما قوله: (جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا) [الأعراف: 190] بصيغة التثنية فلا ينافي ذلك؛ لأنه قد يسند فعل الواحد إلى الاثنين، بل إلى جماعة، وهو شائع في كلام العرب. وهذا قول القنوجي. (¬4) (¬5) واعتُرِضَ: بأن الله تعالى قال: (جَعَلاَ) حيث نسب الجعل إليهما، والأصل حمل اللفظ على ظاهره، وبأن آدم عليه السلام قد أقرَّ حواء على ذلك، وبأن في حديث سمرة - رضي الله عنه - التصريح بأنهما سمياه بذلك معاً. (¬6) أدلة هذا المذهب: استدل القائلون بأن الآيات معنيٌّ بها آدم وحواء - عليهما السلام - بأدلة منها: الدليل الأول: حديث سمرة - رضي الله عنه -، حيث أورده أصحاب هذا المذهب وجعلوه عمدة في تفسير الآيات، وقد صرح بعضهم بصحته، والبعض الآخر أورده وسكت عنه، وهو مشعر باعتماده له. ¬
الدليل الثاني: أنَّ هذا المذهب هو المروي عن سمرة، وأبي بن كعب، وابن عباس - رضي الله عنهم -، ومثل هذا لا يقال بالرأي، فدل على أنَّ للقصة أصلاً؛ فيكون لها حكم الرفع. (¬1) الدليل الثالث: إجماع الحجة من أهل التأويل على أنَّ الآيات معنيٌ بها آدم وحواء، حكى الإجماع ابن جرير الطبري في تفسيره. (¬2) الإيرادات والاعتراضات على هذا المذهب: اعتُرِضَ على هذا المذهب بقوله تعالى في آخر الآيتين: (فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الأعراف: 190] بصيغة الجمع، فلو كان المراد آدم وحواء - عليهما السلام - لقال: يشركان، بصيغة التثنية، وفي هذا دلالة واضحة بأن الآيات معني بها الذرية لا آدم وحواء. وقد أجاب بعض أصحاب هذا المذهب عن هذا الاعتراض: بأن آخر الآيات معنيٌّ بها مشركو العرب من عبدة الأوثان، وأنَّ الخبر عن آدم وحواء قد انقضى عند قوله: (جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا). وهذا رأي ابن جرير الطبري (¬3)، والسيوطي (¬4)، وهو المروي عن السدي (¬5)، وأبي مالك (¬6). الثاني: مسلك تضعيف الحديث، وتأويل الآية في غير آدم وحواء: حيث ذهب آخرون إلى تضعيف حديث سمرة - رضي الله عنه -، وأنَّ الشرك - المذكور في الآيتين - معني به غير آدم وحواء عليهما السلام. واختلف هؤلاء بالمعنيِّ به على أقوال: ¬
القول الأول: أنَّ الشرك نُسب إلى آدم وحواء، والمعنيّ به أولادهما، كاليهود والنصارى، والمشركين. وآدم وحواء بريئان من الشرك، والآيات فيها انتقال من ذكر النوع إلى الجنس؛ فإن أول الكلام في آدم وحواء، ثم انتقل الكلام إلى الجنس من أولادهما. وقد اشتهر هذا القول عن الحسن البصري رحمه الله. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما - في إحدى الروايات عنه (¬1). قال الحسن في تفسير الآية: «كان هذا في بعض أهل الملل ولم يكن بآدم». (¬2) وعنه قال: «عُنيَ بهذا ذرية آدم، من أشرك منهم بعده». (¬3) وعنه قال: «هم اليهود والنصارى، رزقهم الله أولاداً، فهوَّدوا ونصَّروا». (¬4) واختار هذا القول جمع من المفسرين، والمحققين، منهم: الزمخشري، وأبو عبد الله القرطبي (¬5)، والنسفي (¬6)، وابن جزي (¬7)، وابن القيم (¬8)، وابن كثير، والثعالبي (¬9)، وأبو السعود (¬10)، والمباركفوري (¬11)، والسعدي (¬12)، والشنقيطي (¬13). قال الزمخشري - في قوله تعالى: (جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء) -: «أي جعل أولادهما له شركاء، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وكذلك فيما آتاهما، أي آتى أولادهما .... ، وآدم وحواء بريئان من الشرك، ومعنى ¬
إشراكهم فيما آتاهم الله: تسميتهم أولادهم بعبد العزى، وعبد مناة، وعبد شمس، وما أشبه ذلك، مكان عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد الرحيم». اهـ (¬1) وقال الحافظ ابن كثير: «وأما نحن فعلى مذهب الحسن البصري - رحمه الله - في هذا، وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء، وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته ... ، فذِكْرُ آدم وحواء أولاً كالتوطئة لما بعدهما من الوالدين (¬2)، وهو كالاستطراد من ذكر الشخص إلى الجنس؛ كما في قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13)) [المؤمنون: 12 - 13]، وقال تعالى: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ) [الملك: 5]، ومعلوم أنَّ المصابيح - وهي النجوم التي زُيِّنت بها السماء - ليست هي التي يُرمى بها، وإنما هذا استطراد من شخص المصابيح إلى جنسها، ولهذا نظائر في القرآن، والله أعلم». اهـ (¬3) واعتُرِضَ على هذا القول: بأن فيه تشتيتاً للضمائر، والأصل اتساق الضمائر وعودها لمذكور واحد. (¬4) القول الثاني: أنَّ الآيات معنيٌّ بها المشركون من بني آدم عموماً، وليس فيها تعرض لآدم وحواء بوجه من الوجوه. وهذا اختيار: النحاس (¬5)، والقفال (¬6)، وابن حزم (¬7)، وابن العربي (¬8)، والرازي (¬9)، وناصر الدين ابن المنيِّر (¬10) (¬11)، والقاسمي (¬12)، وابن عثيمين (¬13). ¬
قال القفال: «ذكر الله تعالى هذه القصة على تمثيل ضرب المثل، وبيان أنَّ هذه الحالة صورة حالة هؤلاء المشركين في جهلهم، وقولهم بالشرك، وتقرير هذا الكلام، كأنه تعالى يقول: هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة، وجعل من جنسها زوجها، إنساناً يساويه في الإنسانية، فلما تغشى الزوج زوجته، وظهر الحمل؛ دعا الزوج والزوجة ربهما لئن آتيتنا ولداً صالحاً سوياً لنكونن من الشاكرين لآلائك ونعمائك؛ فلما آتاهما الله ولداً صالحاً سوياً جعل الزوج والزوجة لله شركاء فيما آتاهما؛ لأنهم تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائع، كما هو قول الطبائعيين، وتارة إلى الكواكب كما هو قول المنجمين، وتارة إلى الأصنام والأوثان كما هو قول عبدة الأصنام، ثم قال تعالى: (فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزه الله عن ذلك الشرك». اهـ (¬1) واعتُرِضَ على هذا القول: 1 - بأن قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا) لا يصح حمله على غير آدم وحواء - عليهما السلام. 2 - وبقوله: (دَّعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا) فإن كل مولود يولد بين الجنسين لا يكون منهما عند مقاربة وضعه هذا الدعاء. (¬2) القول الثالث: أنَّ المشركين كانوا يقولون: إن آدم عليه السلام كان يعبد الأصنام ويرجع في طلب الخير ودفع الشر إليها، فذكر تعالى قصة آدم وحواء عليهما السلام وحكى عنهما أنهما قالا: (لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي ذكرا أنه تعالى لو آتاهما ولداً سوياً صالحاً لاشتغلوا بشكر تلك النعمة، ثم قال: (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء) فقوله: (جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء) ورد بمعنى الاستفهام على سبيل الإنكار والتبعيد والتقرير، والمعنى: أجعلا له شركاء فيما آتاهما؟ ثم قال: (فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين الذين يقولون بالشرك وينسبونه إلى آدم عليه السلام. ¬
ذكر هذا التأويل: الفخر الرازي في تفسيره. (¬1) ويرده: أنَّ الآية وردت بصيغة الخبر، وحملها على معنى الاستفهام يفتقر إلى دليل، وليس ثمة دليل. القول الرابع: أنَّ الخطاب لقريشٍ الذين كانوا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم آل قصي، والمراد من قوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ واحدة) قصي، وجعل من جنسها زوجها، عربية قرشية ليسكن إليها، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السوي جعلا له شركاء فيما آتاهما، حيث سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف، وعبد العزى، وعبد قصي، وعبد اللات، وجعل الضمير في (يُشْرِكُونَ) لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك. ذكر هذا التأويل: الزمخشري واستحسنه (¬2)، واختاره البيضاوي (¬3)، وأشار إليه الفخر الرازي في تفسيره. (¬4) الإيرادات والاعتراضات على هذا القول: قال ابن جزي: «وهذا القول بعيد لوجهين: أحدهما: أنَّ الخطاب على هذا خاص بذرية قصي من قريش، والظاهر أنَّ الخطاب عام لبني آدم. والآخر: أنَّ قوله: (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا)، فإن هذا يصح في حواء؛ لأنها خُلِقتْ من ضلع آدم، ولا يصح في زوجة قصي». اهـ (¬5) القول الخامس: أنَّ الضمير في قوله: (جَعَلاَ) راجع إلى الولد الصالح، والمعنى جعل ذلك الولد الصالح - الذي رزقهما الله إياه - جعل لله شركاء، وإنما قال: (جَعَلاَ)؛ لأن حواء كانت تلد في كل بطنٍ ذكراً وأنثى. ذكر هذا التأويل: الجصاص (¬6)، وابن الجوزي (¬7). أدلة هذا المذهب: استدل القائلون بأن الآيات معني بها غير آدم وحواء - عليهما السلام - بأدلة منها: ¬
الدليل الأول: قوله تعالى في آخر الآيتين: (فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) وهذا يدل على أنَّ الذين أتوا بهذا الشرك جماعة، ولو كان المراد آدم وحواء - عليهما السلام - لعبَّرَ عنهما بصيغة التثنية. (¬1) الدليل الثاني: أنه تعالى قال بعد هذه الآيات: (أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)) [الأعراف: 191]، وهذا يدل على أنَّ المقصود من هذه الآية الرد على من جعل الأصنام شركاء لله تعالى، وليس المراد بها آدم وحواء - عليهما السلام. (¬2) الدليل الثالث: لو كان المراد إبليس لقال: أيشركون «من» لا يخلق شيئاً، ولم يقل «ما»؛ لأن العاقل إنما يُذكر بصيغة «من» لا بصيغة «ما». (¬3) الدليل الرابع: أنَّ هذا القول فيه تنزيه لمقام آدم - عليه السلام - من الشرك، والقول الذي فيه تنزيه لمقام الأنبياء وإجلال لمقامهم، مقدم في التفسير على القول الذي فيه قدح بعصمتهم، وحط من منزلتهم. (¬4) الدليل الخامس: أنَّ المروي عن سمرة - رضي الله عنه - في تفسير الآيتين لم يثبت بسند صحيح، وعليه فلا يصح حمل الآيات على أمور مغيبة لم يثبت فيها دليل من كتاب أو سنة. (¬5) الدليل السادس: أنه لو كانت هذه القصة في أدم وحواء، لكان حالهما إما أنْ يتوبا من ذلك الشرك أو يموتا عليه، فإن قلنا: ماتا عليه، كان هذا القول فيه فرية عظيمة؛ لأنه لا يجوز موت أحد من الأنبياء على الشرك، وإن ¬
كانا تابا من الشرك، فلا يليق بحكمة الله وعدله ورحمته أنْ يذكر خطأهما ولا يذكر توبتهما منه، فيمتنع غاية الامتناع أنْ يذكر الله الخطيئة من آدم وحواء وقد تابا، ثم لا يذكر توبتهما، والله تعالى إذا ذكر خطيئة بعض أنبيائه ورسله ذكر توبتهم منها، كما في قصة آدم نفسه حين أكل من الشجرة هو وزوجه وتابا من ذلك. (¬1) الدليل السابع: أنه ثبت في حديث الشفاعة أنَّ الناس يأتون إلى آدم يطلبون منه الشفاعة، فيعتذر بأكله من الشجرة (¬2) - التي عصى الله تعالى بالأكل منها في الجنة - فلو كان وقع منه الشرك، لكان اعتذاره منه أقوى وأولى وأحرى. (¬3) الدليل الثامن: أنَّ الله تعالى أسند فعل الذرية إلى آدم وحواء؛ لأنهما أصل لذريتهما، كما في قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) [الأعراف: 11] أي بتصويرنا لأبيكم آدم؛ لأنه أصلهم، بدليل قوله بعده: (ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ) [الأعراف: 11]. (¬4) ¬
المبحث الخامس: الترجيح
الإيرادات والاعتراضات على هذا المذهب وأدلته: 1 - اعترض القاضي ابن عطية على الاستدلال بقوله تعالى: (فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) وأنَّ المراد بها مشركو العرب، اعترض قائلاً: «وهذا تحكم لا يساعده اللفظ، ويتجه أنْ يُقال: تعالى الله عن ذلك اليسير المتوهم من الشرك في عبودية الاسم، ويبقى الكلام في جهة أبوينا آدم وحواء - عليهما السلام - وجاء الضمير في «يشركون» ضميرَ جمعٍ؛ لأن إبليس مدبر معهما تسمية الولد عبد الحارث». اهـ (¬1) 2 - واعتُرِضَ أيضاً: بأن هذا المذهب يرده قوله تعالى: (جَعَلاَ) بصيغة التثنية، فلو كان المراد المشركين من ذرية آدم - عليه السلام - لورد اللفظ بصيغة الجمع. وقد أجاب الفخر الرازي عن هذا الاعتراض فقال: «فإن قيل: فعلى هذا التأويل ما الفائدة في التثنية في قوله: (جَعَلاَ)؟ قلنا: لأن ولده قسمان: ذكر وأنثى؛ فقوله: (جَعَلاَ) المراد منه الذكر والأنثى، مرة عبر عنهما بلفظ التثنية؛ لكونهما صنفين ونوعين، ومرة عبر عنهما بلفظ الجمع، وهو قوله تعالى: (فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)». اهـ (¬2) قلت: الأولى أنْ يقال: التثنية لاعتبار اللفظ، والجمع لاعتبار المعنى، ومنه قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ) [البقرة: 8] ثم قال: (وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ) [البقرة: 8] حيث أفرد أولاً باعتبار اللفظ في قوله: (مَن يَقُولُ)، ثم جمع باعتبار المعنى في قوله: (بِمُؤْمِنِينَ). (¬3) المبحث الخامس: الترجيح: الذي يَظْهُرُ صَوَابُه ـ والله تعالى أعلم ـ أنَّ الآيتين ليست في آدم وحواء - عليهما السلام - وإنما هي خطاب للمشركين من قريش وغيرهم، والمقصود بها ضرب المثل، وأنَّ هذه هي حالة المشركين، فهو سبحانه يذكر أنه خلق كل ¬
واحد منهم من نفس واحدة، وجعل من جنسها زوجها، ولما كان من طبيعة البشر حب الولد ذكر الله تعالى أنَّ هذين الزوجين كانا حريصين على أنْ يرزقا بولد صالح لينتفعا به، وأنهما قد عاهدا الله لأن آتاهما صالحاً ليكونن من الشاكرين، فلما آتاهما صالحاً جعلا لله شركاء فيما آتاهما، حيث نسبا هذه النعمة لغير الله؛ وعبدا أولادهما لغير الله، ثم أخبر سبحانه أنه منزهٌ عما يُشرك به هؤلاء، وغيرهم؛ فقال: (فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الأعراف: 190]. والآيات مراد بها ذكر الجنس لا النوع؛ فقوله تعالى: (خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ) أي من جنس واحدة، وقوله: (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا) أي وجعل من هذا الجنس زوجةً هي على شاكلته، ولم يجعلها من جنس آخر، ولفظ النفس قد يطلق ويراد به الجنس، كما في قوله تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ) [آل عمران: 164] أي من جنسهم. (¬1) أدلة هذا الاختيار: ذكرت فيما سبق ثمانية أدلة تؤيد هذا الاختيار (¬2)، وهي أدلة قوية، ويمكن أنْ يضاف إليها أدلة أخرى، منها: 1 - أنَّ الله تعالى قال في هذه الآيات: (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا)، وقال في سورة النساء: (وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) (¬3) [النساء: 1] وآية النساء معني بها آدم وحواء باتفاق، وعبر بقوله: (وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا)؛ لأن حواء مخلوقة من نَفْسِ آدم، وأما في آية الأعراف فقال: (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا)؛ لأن المراد ذكر الجنس، لا ذكر النوع، وهو آدم، والفرق بين الخلق والجعل: «أنَّ الخلق يكون عن عدمٍ سابق، بحيث لا يتقدمه مادة ولا سبب محسوس، وأما الجعل فيتوقف على موجودٍ مغايرٍ للمجعول، يكون منه المجعول أو عنه ¬
كالمادة والسبب، ولا يرد في القرآن العظيم لفظ جعل في الأكثر مراداً به الخلق إلا حيث يكون قبله ما يكون عنه، أو منه، أو شيئاً فيه محسوساً عنه، فيُكوِّن ذلك المخلوق الثاني، بخلاف (خَلَقَ) فإن العبارة تقع كثيراً به عما لم يتقدم وجوده وجودٌ مغايرٌ يكون عنه هذا الثاني» (¬1)، وقد تأتي (خَلَقَ) في القرآن بمعنى (جَعَلَ)، بخلاف (جَعَلَ)؛ إذ بينهما عموم وخصوص، فكل خلق جعل، وليس كل جعل خلق. إذا علمت هذا فإن التعبير بـ (جعل) في آية الأعراف يؤكد القول بأن الآيات معني بها الجنس من بني آدم؛ لأن هذا هو حال كل فرد منهم؛ فإنهم يتناسلون ويتوالدون من بعضهم البعض، وأما حواء فإنها خُلِقَتْ ابتداء من آدم من غير أمٍّ ولا أبٍ. وقد وردت عدة آيات تدل على أنه إذا ورد لفظ «جعل» فالمراد به الجنس، منها: قوله تعالى: (وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً) [النحل: 72]، وقال تعالى: (خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ) [الزمر: 6]، وقال تعالى: (جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) [الشورى: 11]. 2 - ومما يؤكد أنَّ الآيات معنيٌّ بها المشركون على وجه العموم: أنه لم يُصرح بذكر آدم وحواء - عليهما السلام - في الآيات، والمتأمل في قصص الأنبياء الواردة في القرآن الكريم يلاحظ التصريح بذكر أسمائهم، في الغالب، ومن هؤلاء آدم عليه السلام؛ فإنه إذا ذُكرت قصته يذكر باسمه الصريح غالباً. 3 - ويدل على أنَّ الآيات في المشركين عامة: الاستطراد في الآيات التي بعد هذه الآيات في وصف حال مشركي العرب، وهي صريحة بأنهم هم المرادون بهذا الشرك، لا آدم وحواء - عليهما السلام. قال تعالى: (أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ (192) وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ ¬
أَنتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (194)) [الأعراف: 191 - 194]. 4 - أنه لم يثبت دليل على أنَّ الآيات معني بها آدم وحواء - عليهما السلام - إلا ما روي من حديث سمرة - رضي الله عنه -، وهو ضعيف كما تقدم، وما روي عن ابن عباس في تفسير الآيات يعد من الإسرائيليات المتلقفة عن مسلمة أهل الكتاب، وإنما التبس على كثير من المفسرين الأمر، وظنوا أنها في آدم وحواء، بسبب هذه الروايات، وهذه آفةٌ من آفات الإسرائيليات والتي تُعد من الدخيل السيئ في التفسير. قال الحافظ ابن كثير - بعد أنْ أورد أثر ابن عباس رضي الله عنهما في الآيات -: «وقد تلقى هذا الأثر عن ابن عباس جماعة من أصحابه، كمجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومن الطبقة الثانية: قتادة، والسدي، وغير واحد من السلف، وجماعة من الخلف، ومن المفسرين من المتأخرين جماعات لا يحصون كثرة، وكأنه - والله أعلم - أصله مأخوذ من أهل الكتاب؛ فإن ابن عباس رواه عن أبي بن كعب ... ، وهذه الآثار يظهر عليها - والله أعلم - أنها من آثار أهل الكتاب». اهـ (¬1) الإيرادات والاعتراضات على هذا الاختيار وأدلته: الإيراد الأول: أنَّ ابن جرير الطبري حكى الإجماع على أنَّ الآيتين معني بها آدم وحواء - عليهما السلام - وعليه فلا يجوز القول بأن الآيتين معني بها المشركون؛ لأن في هذا مخالفة للإجماع. والجواب: أنَّ لابن جرير رأياً آخر في معنى الإجماع، فهو يرى أنَّ الإجماع ينعقد بقول الأكثرين، ولا يعتد بمخالفة الواحد والاثنين، ويعده شذوذاً. (¬2) ¬
وأما الجمهور من العلماء فإن الإجماع لا ينعقد عندهم إذا كان في المسألة قولٌ آخرَ، ولو كان القائل به واحداً. (¬1) وبهذا تعرف أنَّ ما يحكيه ابن جرير من الإجماع إنما يعني به قول الجمهور في الغالب، وعليه فلا يصح دعوى الإجماع في تأويل هذه الآيات، والله تعالى أعلم. **** ¬
المسألة [5]: في استغفار النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن أبي بن سلول، وصلاته عليه
المسألة [5]: في استغفار النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن أبي بن سلول، وصلاته عليه. المبحث الأول: ذكر الآية الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)) [التوبة: 80]. المبحث الثاني: ذكر الحديث المشكل الوارد في تفسير الآية: (80) ـ (69): عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ يُكَفِّنُ فِيهِ أَبَاهُ فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْه ِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ بِثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاكَ رَبُّكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ، فَقَالَ: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) [التوبة: 80]، وَسَأَزِيدُهُ عَلَى السَّبْعِينَ. قَالَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ. قَالَ: فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) [التوبة: 84]». (¬1) ¬
المبحث الثالث: بيان وجه الإشكال في الحديث
(81) ـ (70): وعن ابن عباس - رضي الله عنه -، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: «لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ دُعِيَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَثَبْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَتُصَلِّي عَلَى ابْنِ أُبَيٍّ وَقَدْ قَالَ يَوْمَ كَذَا، كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: أُعَدِّدُ عَلَيْهِ قوله، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ: أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ. فَلَمَّا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ قَالَ: إِنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ، لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرْ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا. قَالَ: فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ انْصَرَفَ، فَلَمْ يَمْكُثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتْ الْآيَتَانِ مِنْ بَرَاءَةَ: (وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)) قَالَ: فَعَجِبْتُ بَعْدُ مِنْ جُرْأَتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ». (¬1) المبحث الثالث: بيان وجه الإشكال في الحديث: في هذا الحديث إشكالان: الأول: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - فَهِمَ من الآية أنَّ «أو» للتخيير، وأنَّ الزيادة على السبعين نافعة للمُستَغفَرِ له، وهذا مشكل؛ لأن المتبادر إلى الفهم أنَّ ذكر السبعين في الآية إنما هو للمبالغة في أنَّ الزيادة وعدمها سواء. (¬2) ¬
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع الإشكال الوارد في الحديث
الإشكال الثاني: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - منهيٌ عن الاستغفار للمشركين (¬1)؛ فكيف جاز له أنْ يستغفر للمنافقين ويصلي عليهم، مع علمه بالنهي، والجزم بكفرهم في الآية نفسها؟ (¬2) المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع الإشكال الوارد في الحديث: للعلماء في دفع الإشكال الوارد في الحديث مسلكان: الأول: مسلك قبول الحديث، مع توجيهه. وهذا مذهب الأكثر من المفسرين والمحدثين، ولهم في الجواب عن الإشكالين الواردين في الحديث أقوال: أولاً: الجواب عن فهمه - صلى الله عليه وسلم - التخيير من الآية، وفهمه أنَّ الزيادة على السبعين نافعة للمُسْتَغْفَرِ له: اختلف أصحاب هذا المذهب في الجواب عن ذلك على أقوال: الأول: أنَّ الله تعالى خير نبيه على الحقيقة، فكان مباحاً له - صلى الله عليه وسلم - أنْ يستغفر للمنافقين، حتى نزل النهي عن ذلك. ¬
وهذا رأي: ابن فورك، وابن العربي (¬1)، وابن حزم، وابن عطية (¬2)، والثعالبي (¬3)، والآلوسي (¬4). قال ابن فورك: «لا معنى لتوهين الحديث، لأنه قد صح، وليس بمنكر استغفاره عليه السلام، لأنها لا تستحيل عقلاً، والإجابة ممكنة، ولو خلينا وظاهر الآية لكان الزائد على السبعين يقتضي الغفران; لكنه نزل بعده: (وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا) فدل ذلك على زوال حكم المفهوم; فإنَّ صلاته عليه السلام توجب المغفرة، ولهذا امتنع من الصلاة على المدين (¬5)». اهـ (¬6) وقال ابن حزم: «فإن قال قائل: فما كان مراد الله بالتخيير الذي حمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التخيير، وبذكره تعالى السبعين مرة؟ فالجواب: أنه عز وجل خير نبيه في ذلك على الحقيقة، فكان مباحاً له أنْ يستغفر لهم ما لم يُنْهَ عن ذلك، وأما ذِكْرُ السبعين فليس في الاقتصار عليه إيجاب أنَّ المغفرة تقع لهم بما زاد على السبعين، ولا فيه أيضاً منعٌ من وقوع المغفرة لهم بما زاد على السبعين؛ إلا أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طمع ورجا إنْ زاد على السبعين أنْ يُغفر لهم، ولم يحقق أنَّ المغفرة تكون بالزيادة، فلما أعلمه الله تعالى بما كان في علمه عز وجل، ولم يكن أعلمه قبل ذلك به، عَلِمَه حينئذ نبيّه - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن عَلِمَ قبل نزول المنع من الاستغفار لهم بالبتِّ أنَّ ما زاد على السبعين غير مقبول، فدعا راجٍ لم ييأس من المغفرة، ولا أيقن بها، وهذا بين في لفظ الحديث، وبالله تعالى التوفيق». اهـ (¬7) ¬
القول الثاني: أنَّ الله تعالى لما سوى بين الاستغفار وعدمه، ورتب عليه عدم القبول، ولم يَنْهَ عنه، فهم أنه خير ومرخص فيه، وهذا مراده - صلى الله عليه وسلم -، لا أنه فهم التخيير من «أو» حتى ينافي التسوية بينهما، المرتب عليها عدم المغفرة، وذلك تطييباً لخاطرهم، وأنه لم يألُ جهداً في الرأفة بهم. وهذا رأي الشهاب الخفاجي، والطاهر بن عاشور، وذكره القاسمي. (¬1) قال الشهاب: «والتحقيق أنَّ المراد التسوية في عدم الفائدة، وهي لا تنافي التخيير». اهـ (¬2) القول الثالث: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك رجاء حصول المغفرة، بناء على بقاء حكم الأصل، فإنَّ رجاءها كان ثابتاً قبل نزول الآية، لا لأنه فهمه من التقييد. قاله الزركشي. (¬3) القول الرابع: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك من باب التلطف والرأفة، لا أنه فَهِمَ أنه لو زاد على السبعين يُغفر له. وهذا اختيار: الزمخشري، والقاضي عياض، والعيني (¬4). قال الزمخشري: «فإن قلت: كيف خفي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أفصح العرب، وأخبرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته، والذي يفهم من ذكر هذا العدد كثرة الاستغفار، كيف وقد تلاه بقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ)، فبين الصارف عن المغفرة لهم، حتى قال: «قد رخَّص لي ربي فسأزيد على السبعين» (¬5)؟ قلت: لم يخفَ عليه ذلك، ولكنه خُيّل بما قال إظهاراً لغاية رحمته ورأفته على من بُعث إليه، كقول إبراهيم عليه السلام: (وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ ¬
رَّحِيمٌ) [إبراهيم: 36]، وفي إظهار النبي - صلى الله عليه وسلم - الرأفة والرحمة لطف لأمته، ودعاء لهم إلى ترحم بعضهم على بعض». اهـ (¬1) وقال القاضي عياض: «ظاهر قوله تعالى: (إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) المبالغة في التكثير ومنع الاستغفار، والعرب تضع التسبيع أبداً موضع التضعيف، وإنْ جاوزه، لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع علمه بمقاصد الكلام رجاه، لعل الله يرحمه، إذ الاحتمال فيما بعد السبعين مُحالٌ يُخالف الظاهر». اهـ (¬2) وتُعُقّبَ كلام الزمخشري: «بأن ذكره للتمويه والتخييل بعد ما فهم عليه الصلاة والسلام منه التكثير لا يليق بمقامه الرفيع، وفهم المعنى الحقيقي من لفظ اشتهر مجازه لا ينافي الفصاحة والمعرفة باللسان؛ فإنه لا خطأ فيه ولا بُعْد، إذ هو الأصل ورجحه عنده عليه الصلاة والسلام شغفه بهدايتهم، ورأفته بهم، واستعطاف من عداهم، ولعل هذا أولى من القول بالتمويه بلا تمويه». (¬3) القول الخامس: أنَّ الاستغفار يتنزل منزلة الدعاء، والعبد إذا سأل ربه حاجة؛ فسؤاله إياه يتنزل منزلة الذكر، لكنه من حيث طلب تعجيل حصول المطلوب ليس عبادة، فإذا كان كذلك والمغفرة في نفسها ممكنة، وتعلق العلم بعدم نفعها لا بغير ذلك، فيكون طلبها لا لغرض حصولها بل لتعظيم المدعو، فإذا تعذرت المغفرة عُوّض الداعي عنها ما يليق به من الثواب أو دفع السوء، وقد يحصل بذلك عن المدعو لهم تخفيف كما في قصة أبي طالب. قاله ناصر الدين ابن المُنَيِّر. (¬4) واعتُرِضَ: بأن هذا القول يستلزم مشروعية طلب المغفرة لمن تستحيل المغفرة له شرعاً، وقد ورد إنكار ذلك في قوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ ¬
أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)) [التوبة: 113]. (¬1) ثانياً: الجواب عن صلاته - صلى الله عليه وسلم - واستغفاره لعبد الله بن أُبي: اختلف القائلون بثبوت الحديث في الجواب عن ذلك على أقوال: الأول: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - استغفر له وصلى عليه بناء على الظاهر، حيث إنَّ ظاهره هو أنه من المسلمين، ولم يعلم بباطنه ـ وأنه مات على الكفر والنفاق ـ إلا بعد أنْ نزل النهي عن الصلاة عليه. وهذا رأي: النحاس (¬2)، والخطابي (¬3)، وابن حزم (¬4)، والقاضي عياض (¬5)، وابن عطية، وابن الجوزي (¬6)، والفخر الرازي (¬7)، والثعالبي (¬8)، وابن جزي (¬9)، والحافظ زين الدين عبد الرحيم العراقي (¬10)، والحافظ ابن حجر، والسندي (¬11)، والآلوسي (¬12). قال ابن عطية: «وظاهر صلاته عليه أنَّ كُفْرَه لم يكن يقيناً عنده، ومحال أنْ يُصلي على كافر، ولكنه راعى ظواهره من الإقرار، ووكل سريرته إلى الله عز وجل، وعلى هذا كان سِترُ المنافقين من أجل عدم التعيين بالكفر». اهـ (¬13) وقال الحافظ ابن حجر: «أما جزم عمر بأنه منافق فجرى على ما كان يطلع عليه من أحواله، وإنما لم يأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله، وصلى عليه، إجراءً له ¬
على ظاهرِ حكمِ الإسلام، واستصحاباً لظاهر الحُكم، ولما فيه من إكرامِ ولَدِهِ الذي تحققت صلاحيته، ومصلحة الاستئلاف لقومه، ودفع المفسدة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول الأمر يصبر على أذى المشركين، ويعفو ويصفح، ثم أُمِرَ بقتال المشركين، فاستمر صفحه وعفوه عمّن يُظهر الإسلام، ولو كان باطنه على خلاف ذلك، لمصلحة الاستئلاف، وعدم التنفير عنه، ولذلك قال: «لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ» (¬1)، فلما حصل الفتح، ودخل المشركون في الإسلام، وقل أهل الكفر وذلوا، أُمِرَ بمجاهرة المنافقين، وحملهم على حكمِ مُرِّ الحق، ولا سيما وقد كان ذلك قبل نزول النهي الصريح عن الصلاة على المنافقين، وغير ذلك مما أمر فيه بمجاهرتهم، وبهذا التقرير يندفع الإشكال عما وقع في هذه القصة بحمد الله تعالى». اهـ (¬2) أدلة هذا القول (¬3): الدليل الأول: أنَّ الله تعالى قد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين عن الاستغفار جملة للمشركين، بقوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)) [التوبة: 113] فلو كان ابن أبي وغيره من المذكورين ممن تبين للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم كفار - بلا شك - لما استغفر لهم، ولا صلى عليه. ولا يحل لمسلم أنْ يظن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه خالف ربه في ذلك، فصح يقيناً أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يعلم قط أنَّ عبد الله بن أبي والمذكورين كفار في الباطن. والنهي عن الاستغفار للمشركين نزل بمكة - بلا شك - فصح يقيناً أنه - عليه السلام - لم يوقن أنَّ عبد الله بن أبي مشرك، ولو أيقن أنه مشرك لما صلى عليه أصلاً، ولا استغفر له. الدليل الثاني: أنَّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عدد مقالات عبد الله بن أبي بن سلول، ولو كان عنده كافراً لصرح بذلك، وقصد إليه، ولم يطول بغيره. ¬
الدليل الثالث: شك ابن عباس (¬1)، وجابر (¬2)، وتعجب عمر من معارضة النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته على عبد الله بن أبي، وإقراره بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعرف منه، كل ذلك يدل على أنَّ كفره لم يكن معروفاً ظاهراً. واعتُرِضَ: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرْ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا» (¬3)؛ فالنبي - صلى الله عليه وسلم - فهم من الآية أنَّ الله لا يغفر له، فدل على أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم بأنه مات على الكفر والنفاق. واعتُرِضَ أيضاً: بأن في بقية الآية التصريح بأنهم كفروا بالله ورسوله، فكيف يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يعلم بحاله؟ وأجيب: بأن الذي نزل أولاً وتمسك النبي - صلى الله عليه وسلم - به هو قوله تعالى: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ)، وأما بقية الآية فنزل متراخياً عن أولها. وهذا رأي الحافظ ابن حجر. (¬4) القول الثاني: أنَّ المنهي عنه هو الاستغفار الذي تُرجى إجابته، حتى يكون مقصوده تحصيل المغفرة للمُسْتَغْفَرِ له، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بأبي طالب؛ فإنه إنما استغفر له كما استغفر إبراهيم - عليه السلام - لأبيه، على جهة أنْ يجيبهما الله ¬
تعالى، فيغفر للمدعو له، وهذا النوع هو الذي يتناوله منع الله ونهيه، وأما الاستغفار لأولئك المنافقين الذين خُيِّر فيهم فهو استغفار لساني؛ علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يقع ولا ينفع، وغايته لو وقع تطييب قلوب بعض الأحياء من قرابات المستغفر لهم، فانفصل المنهي عنه من المخير فيه، وارتفع الإشكال. قاله أبو العباس القرطبي. (¬1) واختاره: أبو عبد الله القرطبي. (¬2) ويدل على هذا القول: رواية: «لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرْ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا» (¬3)، وهي صريحة بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد علم بأن استغفاره لن ينفعه بشيء. واعتُرِضَ: بأن هذا القول لا يجوز نسبته للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الله أخبر بأنه لا يغفر للكفار، وإذا كان لا يغفر لهم فطلب المغفرة لهم مستحيل، وطلب المستحيل لا يقع من النبي صلى الله عليه وسلم. (¬4) القول الثالث: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُصلِ على عبد الله بن أبي، ولم يشهد جنازته. وهذا اختيار أبي جعفر الطحاوي. (¬5) قال أبو جعفر: «وقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - ما قد دل على أنه لم يكن صلى عليه؛ فعن جابر - رضي الله عنه - قال: «أَتَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ابْنَ أُبَيٍّ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ حُفْرَتَهُ فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ، فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ» (¬6)، وعنه قال: «لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ جَاءَ ابْنُهُ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّكَ إنْ لَمْ تَشْهَدْهُ لَمْ نَزَلْ نُعَيَّرُ بِهِ. فَأَتَاهُ، وَقَدْ أُدْخِلَ فِي حُفْرَتِهِ ¬
فَقَالَ: أَفَلَا قَبْلَ أَنْ تُدْخِلُوهُ، قَالَ: فَأُخْرِجَ مِنْ حُفْرَتِهِ، فَتَفَلَ عَلَيْهِ مِنْ قَرْنِهِ إلَى قَدَمِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ» (¬1)، قال أبو جعفر: ففي هذا ما قد دل أنه لم يكن صلى عليه، ولا شهده، ولا أتاه قبل ذلك، وهذا هو أشبه بأفعاله كانت فيمن سواه من الناس; أنَّ صلاته على من كان يصلي عليه إنما كانت لِمَا يَفْعَلُ اللَّهُ لِمَنْ صَلَّاهَا عَلَيْهِ. كما في حديث يزيد بن ثابت - رضي الله عنه -، أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا أَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ مَاتَ إلَّا آذَنْتُمُونِي لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ صَلَاتِي عَلَيْهِمْ رَحْمَةٌ» (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَنَّهُ دَخَلَ الْمَقْبَرَةَ فَصَلَّى عَلَى رَجُلٍ بَعْدَ مَا دُفِنَ فَقَالَ: مُلِئَتْ هَذِهِ الْمَقْبَرَةُ نُورًا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُظْلِمَةً عَلَيْهِمْ». (¬3) قال أبو جعفر: وإذا كانت صلاته لمن كان يصلي عليه إنما كانت لمن ذكر في هذين الحديثين، ولم يكن ابن أبي ممن يدخل في ذلك، استحال أنْ يكون صلى عليه». اهـ (¬4) واعتُرِضَ: بأنه قد جاء في حديث ابن عمر، وابن عباس - رضي الله عنهما - التصريح بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى عليه، وحديث جابر ليس فيه تصريح بنفي الصلاة، والرواية الصريحة تفسر ما أُبهم أو سُكِتَ عنه في الروايات الأخرى. الثاني: مسلك رد الحديث وتضعيفه: حيث ذهب بعض العلماء إلى إنكار الحديث ورده؛ بسبب الإشكال المتوهم من ظاهره. ¬
المبحث الخامس: الترجيح
ومن هؤلاء: أبو بكر الباقلاني (¬1)، وإمام الحرمين (¬2) (¬3)، والغزالي (¬4) (¬5)، والداوودي (¬6). المبحث الخامس: الترجيح: الذي يَظْهُرُ صَوَابُه ـ والله تعالى أعلم ـ أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - خُيّر بين الاستغفار وعدمه؛ فاختار الاستغفار، مع علمه بعدم نفعه، ولم يفهم من الآية قط أنَّ الزيادة على السبعين نافعة للمُستَغفَرِ له. يدل على هذا الاختيار: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ، لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرْ لَهُ؛ لَزِدْتُ عَلَيْهَا». (¬7) وهذه الرواية ليس فيها ما يفيد أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - فهم من الآية أنَّ الزيادة على السبعين نافعة له، بل هذا اللفظ صريح بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جازم بأن الزيادة وعدمها سواء، ولكنه افترض أنْ لو كانت الزيادة تنفعه لزاد عليها، ولكنه لم يفعل، لعلمه بأن ذلك غير مفيد، وغير نافع للمستغفر له. وأما الآية فليس فيها نهيٌ عن الاستغفار، بل غاية ما فيها الإخبار بأن الاستغفار وعدمه سواء. واختياره - صلى الله عليه وسلم - الاستغفار لعبد الله بن أُبي - مع علمه بعدم نفعه - إنما كان لمصالحَ أُخر تتعلق بالأحياء؛ كالرأفة بابنه، وتطييب نفوس عشيرته، وغير ذلك. وأما فهمه - صلى الله عليه وسلم - من الآية التخيير؛ فليس فيه إشكال بحمد الله، بل الآية ¬
صريحة في التخيير، وقد جاءت آيات أُخر نظير هذه الآية، يُفهم منها التخيير لا النهي، كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (6)) [البقرة: 6]، وهذه الآية ليس المراد منها نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإنذار، بل المعنى أنَّ إنذاره لهم وعدمه سواء، ومع ذلك فقد أٌمِرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإنذار لأمورٍ أُخر، كقيام الحجة عليهم، وغيرها، ونظير هذه الآية: قوله تعالى: (قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ) [الإسراء: 107]، ومعنى الآية: أنَّ إيمانكم بالقرآن وعدمه سواء؛ لأن إيمانكم لا يزيده كمالاً، وعدم إيمانكم لا يورثه نقصاً (¬1)، وليس مراد الآية نهيهم عن الإيمان، أو أنَّ ذلك غير نافع لهم. وبهذا يتبين أنَّ فهمه - صلى الله عليه وسلم - التخيير بين الاستغفار وعدمه، هو كفهمه لهذه الآيات، والله تعالى أعلم. الإيرادات والاعتراضات على هذا الاختيار: الإيراد الأول: أنه قد جاء في حديث ابن عمر - رضي الله عنه -، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ ... ، وَسَأَزِيدُهُ عَلَى ¬
السَّبْعِينَ» (¬1)، وهذه الرواية تدل على أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - فهم من الآية أنَّ الزيادة على السبعين نافعة للمُسْتَغْفَرِ له، وفيها وَعْدٌ وجزمٌ من النبي - صلى الله عليه وسلم - بالزيادة على السبعين. والجواب: أنَّ الحديث قد رواه ابن عباس، عن عمر بلفظ: «لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرْ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا» (¬2)، وهذه الرواية أرجح؛ لأن الراوي لها عمر، وهو صاحب القصة، ولأن حديث ابن عمر رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، والنسائي، من طريق يحيى بن سعيد، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر (¬3)، ولم يذكروا قوله: «سَأَزِيدُهُ عَلَى السَّبْعِينَ». (¬4) الإيراد الثاني: أنَّ الله تعالى نهى عن الاستغفار للمشركين، في قوله: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113))، وهذه الآية نزلت في أبي طالب قبل الهجرة، فكيف جاز على قولكم أنْ يستغفر النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن أبي، مع علمه - صلى الله عليه وسلم - بكفره، وتقدم النهي عن الاستغفار للمشركين؟ والجواب: أنَّ آية النهي عن الاستغفار للمشركين الصواب تأخر نزولها عن وفاة أبي طالب، والأظهر أنَّ نزولها كان بعد وفاة عبد الله بن أبي، وأما الآية التي نزلت في أبي طالب مباشرة فهي قوله تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)) [القصص: 56]. قال الحافظ ابن حجر: الذي يظهر أنَّ الآية المتعلقة بالاستغفار (¬5) نزلت بعد أبي طالب بمدة، وهي عامة في حقه وفي حق غيره، ويوضح ذلك لفظ: «فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعدَ ذَلِكَ (¬6): (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) [التوبة: 113]، وَأَنْزَلَ فِي أَبِي طَالِبٍ: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) [القصص: 56]» (¬7)، ولأحمد (¬8)، من طريق أبي حازم، عن أبي ¬
هريرة - رضي الله عنه - في قصة أبي طالب - قال: «فأنزل الله: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) [القصص: 56]. (¬1) قال: «وقد ثبت أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى قبر أمِّهِ لما اعتمر فاستأذن ربه أنْ يستغفر لها، فنزلت هذه الآية (¬2)، والأصل عدم تكرر النزول، وقد أخرج الحاكم، وابن أبي حاتم (¬3)، من طريق أيوب بن هانئ، عن مسروق، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: «خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً إلى المقابر فاتبعناه، فجاء حتى جلس إلى قبر منها فناجاه طويلاً، ثم بكى فبكينا لبكائه، فقال: إنَّ القبر الذي جلست عنده قبر أمي، واستأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي؛ فأنزل علي: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ)»، وأخرج أحمد (¬4) من حديث ابن بريدة، عن أبيه نحوه، وفيه: «نزل بنا ونحن معه قريب من ألف راكب»، ولم يذكر نزول الآية، وفي رواية الطبري (¬5) من هذا الوجه: «لما قدم مكة أتى رسم قبر»، ومن طريق فضيل بن مرزوق، عن عطية: «لما قدم مكة وقف على قبر أمه حتى سخنت عليه الشمس، رجاء أنْ يؤذن له فيستغفر لها؛ فنزلت» (¬6)، وللطبراني (¬7) من طريق عبد الله بن كيسان، عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنه - نحو حديث ابن مسعود، وفيه: «لما هبط ¬
من ثنية عسفان (¬1)»، وفيه نزول الآية في ذلك، فهذه طرق يعضد بعضها بعضاً، وفيها دلالة على تأخر نزول الآية عن وفاة أبي طالب، ويؤيده أيضاً أنه قال يوم أحد بعد أنَّ شُجَّ وجهه: «رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون». (¬2) قال: ويحتمل أن يكون نزول الآية تأخر، وإن كان سببها تقدم، ويكون لنزولها سببان: متقدم وهو أمر أبي طالب، ومتأخر وهو أمر آمنة، ويؤيد تأخير النزول استغفاره - صلى الله عليه وسلم - للمنافقين حتى نزل النهي عن ذلك؛ فإن ذلك يقتضي تأخير النزول وإن تقدم السبب، ويشير إلى ذلك أيضاً قوله في الحديث: «وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَبِي طَالِبٍ: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)» (¬3)؛ لأنه يشعر بأن الآية الأولى نزلت في أبي طالب وفي غيره، والثانية نزلت فيه وحده، ويؤيد تعدد السبب ما أخرج أحمد، عن علي - رضي الله عنه - قال: «سَمِعْتُ رَجُلًا يَسْتَغْفِرُ لِأَبَوَيْهِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ فَقُلْتُ: أَيَسْتَغْفِرُ الرَّجُلُ لِأَبَوَيْهِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ؟ فَقَال: َ أَوَلَمْ يَسْتَغْفِرْ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ؟ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ فَنَزَلَتْ: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ)» (¬4)». اهـ (¬5) قلت: ومما يؤكد تأخر نزول قوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) عن قصة أبي طالب: 1 - قوله في الآية: (وَالَّذِينَ آمَنُوا) وهذا يدل على أنَّ الاستغفار وقع ¬
من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن بعض المؤمنين، وقصة أبي طالب لم يكن الاستغفار فيها إلا من قِبَلِ النبي - صلى الله عليه وسلم -. 2 - أنَّ هذه الآية وردت في سورة التوبة، وسورة التوبة مدنية، ومن أواخر ما نزل. 3 - أنَّ الله تعالى لم يُعاتب النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته على عبد الله بن أبي، وإنما أنزل النهي فقط، ولو كان قد سبق النهي عن الاستغفار لمن مات على الكفر؛ لعاتب الله تعالى نبيه على ذلك. الإيراد الثالث: إذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم أنَّ استغفاره وعدمه سواء، فما الفائدة إذاً من الاستغفار؟ والجواب: أنَّ استغفاره - صلى الله عليه وسلم - لم يكن من أجل ذات المسُتغفَرِ له، وإنما كان لمصالح أُخر تتعلق بالأحياء؛ كالرأفة بابنه عبد الله الصحابي الجليل، ولتأليفِ قلوب عشيرته، وترغيبِ من كان منهم غيرَ مسلمٍ في الإسلام. (¬1) يدل على ذلك: حديث جابر - رضي الله عنه - قال: «لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَتَى ابْنُهُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ إِنْ لَمْ تَأْتِهِ لَمْ نَزَلْ نُعَيَّرُ بِهَذَا ... ». (¬2) وعن قتادة قال: «ذُكر لنا أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: وما يغني عنه قميصي من الله، وإني لأرجو أن يُسلم به ألف من قومه». (¬3) قال الخطابي: «وقصده - صلى الله عليه وسلم - يعني في صلاته على عبد الله بن أبي - الشفقة على من تَعَلَّق بطرفٍ من الدين، والتَّألف لابنه عبد الله ولقومه وعشيرته من الخزرج (¬4)، وكان رئيساً عليهم ومُعظماً فيهم، فلو ترك الصلاة عليه قبل ورود النهي عنها لكان سُبَّةً على ابنه وعاراً على قومه، فاستعمل - صلى الله عليه وسلم - أحسن الأمرين وأفضلهما في مبلغ الرأي وحق السياسة في الدعاء إلى الدين والتألف عليه إلى أن نُهي عنه فانتهى - صلى الله عليه وسلم -». اهـ (¬5) ¬
الإيراد الرابع: أنَّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَتُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاكَ اللَّهُ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ» (¬1)، وفي رواية: «أَلَيْسَ قَدْ نَهَاكَ اللَّهُ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ» (¬2)، وهذا يدل على تقدم نزول آية النهي عن الاستغفار للمشركين، ومن في حكمهم. والجواب: أنَّ هاتين الروايتين ذُكِرتا في حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وأما حديث ابن عباس فلفظه: «أَتُصَلِّي عَلَى ابْنِ أُبَيٍّ وَقَدْ قَالَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، كَذَا وَكَذَا، أُعَدِّدُ عَلَيْهِ قوله» (¬3)، وهذه الرواية هي المحفوظة وهي أولى من رواية ابن عمر. قال أبو العباس القرطبي: «الذي يظهر - والله تعالى أعلم - أنَّ البخاري ذكر هذا الحديث من رواية ابن عباس، وساقه سياقة هي أتقن من هذه، وليس فيها هذا اللفظ». ثم ذكر حديث ابن عباس وقال: «وهذا مساق حسن، وترتيب متقن، ليس فيه شيء من الإشكال المتقدم، فهو الأولى». اهـ (¬4) ويحتمل أن يكون عمر - رضي الله عنه - فهم ذلك من قوله تعالى: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً)، يؤيد هذا الاحتمال: ما رواه ابن أبي حاتم (¬5)، عن عمر - رضي الله عنه - قال: «أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي على عبد الله بن أبي؛ فأخذتُ بثوبه فقلت: والله ما أمرك الله بهذا، لقد قال: (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لهم)»، وما رواه ابن مردويه (¬6)، عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال عمر: أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟ قال: أين؟ قال: استغفر لهم، الآية». (¬7) **** ¬
المسألة [6]: في دس جبريل في فم فرعون من حال البحر
المسألة [6]: في دسِّ جبريل في فم فرعون من حال البحر. المبحث الأول: ذكر الآية الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)) [يونس: 90]. المبحث الثاني: ذكر الحديث المشكل الوارد في تفسير الآية: (82) ـ (71): عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمَّا أَغْرَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ قَالَ: (آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ) فَقَالَ جِبْرِيلُ: يَا مُحَمَّدُ، فَلَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا آخُذُ مِنْ حَالِ (¬1) الْبَحْرِ فَأَدُسُّهُ فِي فِيهِ مَخَافَةَ أَنْ تُدْرِكَهُ الرَّحْمَةُ». (¬2) ¬
المبحث الثالث: بيان وجه الإشكال في الحديث
المبحث الثالث: بيان وجه الإشكال في الحديث: أُورِدَ على الحديث عدة إشكالات: الأول: أنه لا يجوز لجبريل عليه السلام أنْ يمنع فرعون من التوبة، بل يجب عليه أنْ يُعينه على التوبة وعلى كل طاعة.
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع الإشكال الوارد في الحديث
الثاني: أنه لو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر، والرضا بالكفر كفر. الثالث: أنه لا يليق بجلال الله أنْ يأمر جبريل بأنْ يمنعه من الإيمان. الرابع: أَنَّ الإيمان يصح بالقلب كإيمان الأخرس، فحال البحر لا يمنعه. الخامس: أَنَّ التوبة بعد المعاينة غير نافعة لفرعون؛ فحينئذ لا يبقى لهذا الذي نُسِبَ إلى جبريل فائدة. (¬1) المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع الإشكال الوارد في الحديث: للعلماء في دفع الإشكال الوارد في الحديث مسلكان: الأول: مسلك قبول الحديث مع توجيهه. وعلى هذا المسلك جمهور العلماء من مفسرين ومحدثين، وقد ذكروا عِدَّةَ أجوبة في توجيه الحديث: الأول: أَنَّ فرعون كان كافراً كفر عناد؛ فإنه حينما توقف النيل توجه منفرداً وأظهر أنه مُخلص؛ فأُجريَ له النيل، ثم تمادى على طغيانه وكفره، فخشي جبريل أنْ يُعاوِدَ تلك العادة فيُظهر الإخلاص بلسانه؛ فتُدركه رحمة الله، فيُؤخره في الدنيا، فيستمر على غيّهِ وطغيانه، فدسَّ في فَمِهِ الطين ليمنعه من التكلم بما يقتضي ذلك، ولا يلزم من فِعْلِ جبريل جهلٌ ولا رضاً بكفر، وأيضاً فإيمانه في تلك الحالة على تقدير أنه كان صادقاً بقلبه لا يُقبل منه؛ لأنه وقع في حال الاضطرار، ولذلك عقب الآية بقوله تعالى: (آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)) [يونس: 91]، وفيه إشارة إلى قوله تعالى: (فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا) [غافر: 85]. ¬
وهذا جواب الحافظ ابن حجر. (¬1) الجواب الثاني: أَنَّ فعل جبريل يشبه أنْ يكون أنه اعتقد تجويز المغفرة للتائب وإنْ عاين، ولم يكن عنده قَبْلُ إعلام من الله تعالى أَنَّ التوبة بعد المعاينة غير نافعة. وهذا جواب القاضي ابن عطية. (¬2) الجواب الثالث: أَنَّ الله سبحانه وتعالى منع فرعون من الإيمان وحال بينه وبينه عقوبةً له على كفره السابق، ورَدِّه للإيمان لما جاءه، وأما فعل جبريل من دَسِّ الطين في فيه فإنما فعل ذلك بأمر الله لا من تلقاء نفسه. وهذا جواب الخازن. (¬3) الجواب الرابع: أَنَّ المُراد بالرحمة في الحديث الرحمة الدنيوية، أي النجاة التي هي طُلبة المخذول، وليس من ضرورةِ إدراكها صحةُ الإيمان حتى يلزم من كراهته مالا يُتصور في شأن جبريل عليه السلام، من الرضا بالكفر، إذ لا استحالة في ترتب هذه الرحمة على مجرد التفوّه بكلمة الإيمان، وإنْ كان ذلك في حالة البأس واليأس، فيُحمل دسُّه عليه السلام على سد باب الاحتمال البعيد، لكمال الغيظ وشدة الحرد. وهذا جواب أبي السعود. (¬4) وتعقبه الآلوسي فقال: «ولا يخفى أَنَّ حمل الرحمة على الرحمة الدنيوية بعيد، ويكاد يأبى عنه ما أخرجه ابن جرير والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال لي جبريل عليه السلام: لو رأيتني يا محمد وأنا أغط فرعون بإحدى يدي وأدُسُّ من الحال في فيه، مخافة أن تدركه رحمة الله تعالى؛ فيغفر له» (¬5)، فإنه رتب فيه المغفرة على إدراك الرحمة، وهو ظاهر في أنه ليس المراد بها الرحمة الدنيوية؛ لأن المغفرة لا تترب عليها ¬
وإنما يترتب عليها النجاة». اهـ (¬1) الجواب الخامس: أنه فعل ذلك غضباً لله تعالى، لا أنه كره إيمان فرعون. وهذا جواب المناوي. (¬2) المسلك الثاني: مسلك تضعيف الحديث ورده. وممن جنح إلى هذا المسلك: الزمخشري، والفخر الرازي. قال الزمخشري: «والذي يُحْكَى أنه حين قال: (آمَنتُ) أخذ جبريل من حال البحر فدَسَّه في فيه، فللغضب لله على الكافر، في وقتٍ قد علم أَنَّ إيمانه لا ينفعه، وأما ما يُضم إليه من قولهم: «خشية أنْ تدركه رحمة الله»، فمن زيادات الباهتين لله وملائكته، وفيه جهالتان: إحداهما: أَنَّ الإيمان يصح بالقلب، كإيمان الأخرس، فحال البحر لا يمنعه، والأخرى: أَنَّ من كره إيمان الكافر وأحب بقاءه على الكفر فهو كافر؛ لأن الرضا بالكفر كفر». اهـ (¬3) وارتضى هذا القول ابن المنير؛ فإنه عَقَّبَ على كلام الزمخشري قائلاً: «ولقد أنكر منكراً، وغضب لله ولملائكته كما يجب لهم». اهـ (¬4) وقال الفخر الرازي: «السؤال الثالث: هل يصح أَنَّ جبريل أخذ يملأ فمه من الطين لئلا يتوب غضباً عليه؟ والجواب: الأقرب أنه لا يصح؛ لأن في تلك الحالة إما أن يقال: التكليف كان ثابتاً، أو ما كان ثابتاً، فإنْ كان ثابتاً لم يجُز على جبريل عليه السلام أن يمنعه من التوبة، بل يجب عليه أنْ يعينه على التوبة وعلى كل طاعة، وأيضاً فلو منعه بما ذكروه لكانت التوبة ممكنة؛ لأن الأخرس قد يتوب بأنْ يندم بقلبه ويعزم على ترك معاودة القبيح، وحينئذ لا يبقى لما فعله جبريل عليه السلام فائدة، وأيضاً لو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر، والرضا بالكفر كفر، وأيضاً فكيف يليق بالله تعالى أنْ يقول لموسى وهارون عليهما السلام: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)) [طه: 44]، ثم يأمر ¬
جبريل عليه السلام بأنْ يمنعه من الإيمان، ولو قيل: إن جبريل عليه السلام إنما فعل ذلك من عند نفسه لا بأمر الله تعالى فهذا يُبطله قول جبريل: (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) [مريم: 64]، وأما إن قيل: إنَّ التكليف كان زائلاً عن فرعون في ذلك الوقت فحينئذ لا يبقى لهذا الفعل الذي نُسِبَ جبريل إليه فائدة أصلاً». اهـ (¬1) وقد تعقب العلماء هذه الجرأة من الزمخشري والرازي في ردهما للحديث وإنكاره. فقال الحافظ ابن حجر في رده على الزمخشري: «هذا إفراط منه في الجهل بالمنقول والغض من أهله، فإن الحديث صحيح بالزيادة ... ». اهـ (¬2) وقال الخازن في رده على الرازي: «أما قول الإمام: «إنَّ التكليف هل كان ثابتاً في تلك الحالة أم لا؟ فإنَّ كان ثابتاً لم يجز لجبريل أن يمنعه من التوبة»، فجوابه: أَنَّ هذا القول لا يستقيم على أصل المثبتين للقدر، القائلين بخلق الأفعال لله، وأنَّ الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وهذا قول أهل السنة المثبتين للقدر، فإنهم يقولون: إنَّ الله يحول بين الكافر والإيمان، ويَدُلُّ على ذلك قوله تعالى: (وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) [الأنفال: 24]، وقوله تعالى: (وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ) [البقرة: 88]، وقال تعالى: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الأنعام: 110]، فأخبر الله سبحانه وتعالى أنه قلَّبَ أفئدتهم مثل تركهم الإيمان به أول مرة، وهكذا فَعَلَ بفرعون، منعه من الإيمان عند الموت جزاء على تركه الإيمان أولاً، فَدَسُّ الطين في فم فرعون من جنس الطبع والختم على القلب، ومنع الإيمان وصون الكافر عنه، وذلك جزاء على كفره السابق، وهذا قول طائفة من المثبتين للقدر القائلين بخلق الأفعال لله. ومن المنكرين لخلق الأفعال من اعترف أيضاً أَنَّ الله سبحانه وتعالى يفعل هذا عقوبة للعبد على كفره السابق؛ فيحسُن منه أنْ يُضِلَّه ويطبع على قلبه ويمنعه من الإيمان. ¬
فأما قصة جبريل عليه السلام مع فرعون فإنها من هذا الباب، فإنَّ غاية ما يقال فيه: إنَّ الله سبحانه وتعالى منع فرعون من الإيمان وحال بينه وبينه عقوبة له على كفره السابق، ورَدُّهُ للإيمان لما جاءه. وأما فعل جبريل من دَسِّ الطين في فيه فإنما فعل ذلك بأمر الله لا من تلقاء نفسه. وأما قول الإمام: «لم يَجُزْ لجبريل أنْ يمنعه من التوبة بل يجب عليه أن يعينه عليها وعلى كل طاعة»، فالجواب: أَنَّ هذا إذا كان تكليف جبريل كتكليفنا، يجب عليه ما يجب علينا، وأما إذا كان جبريل إنما يفعل ما أمره الله به، والله سبحانه وتعالى هو الذي منع فرعون من الإيمان، وجبريل منفذ لأمر الله، فكيف لا يجوز له منع من منعه الله من التوبة، وكيف يجب عليه إعانة من لم يُعِنْه الله، بل قد حكم عليه وأخبر عنه أنه لا يؤمن حتى يرى العذاب الأليم، حين لا ينفعه الإيمان. وقد يقال: إنَّ جبريل عليه السلام إما أنْ يتصرف بأمر الله فلا يفعل إلا ما أمر الله به، وإما أنْ يفعل ما يشاء من تلقاء نفسه لا بأمر الله، وعلى هذين التقديرين فلا يجب عليه إعانة فرعون على التوبة، ولا يحرم عليه منعه منها؛ لأنه إنما يجب عليه فعل ما أُمِرَ به، ويحرم عليه فعل ما نُهيَ عنه، والله سبحانه وتعالى لم يُخْبِر أنه أمره بإعانة فرعون، ولا حَرَّمَ عليه منعه من التوبة، وليست الملائكة مكلفين كتكليفنا. وقوله: «وإنْ كان التكليف زائلاً عن فرعون في ذلك الوقت فحينئذ لا يبقى هذا الذي نُسب إلى جبريل فائدة»، جوابه: أنْ يُقال: إنَّ للناس في تعليل أفعال الله قولين: أحدهما: أَنَّ أفعاله لا تُعلل، وعلى هذا التقدير فلا يرد هذا السؤال أصلاً، وقد زال الإشكال. والقول الثاني: أَنَّ أفعاله تبارك وتعالى لها غاية بحسب المصالح التي لأجلها فعلها، وكذا أوامره ونواهيه، لها غاية محمودة محبوبة لأجلها أمر بها ونهى عنها، وعلى هذا التقدير قد يقال لما قال فرعون: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، وقد علم جبريل أنه ممن حقت عليه كلمة
العذاب، وأنَّ إيمانه لا ينفعه دَسَّ الطين في فيه لتحقق معاينته للموت، فلا تكون تلك الكلمة نافعة له، وأنه وإنْ كان قالها في وقت لا ينفعه فدسَّ الطين في فيه تحقيقاً لهذا المنع، والفائدة فيه تعجيل ما قد قُضِيَ عليه، وسد الباب عنه سداً محكماً، بحيث لا يبقى للرحمة فيه منفذ، ولا يبقى من عمره زمن يتسع للإيمان، فإنَّ موسى عليه السلام لما دعا ربه بأنَّ فرعون لا يؤمن حتى يرى العذاب الأليم، والإيمان عند رؤية العذاب غير نافع، أجاب الله دعاءه. فلما قال فرعون تلك الكلمة عند معاينة الغرق استعجل جبريل فدس الطين في فيه لييأس من الحياة ولا تنفعه تلك الكلمة، وتحقق إجابة الدعوة التي وعد الله موسى بقوله: (قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا) [يونس: 89]، فيكون سعي جبريل في تكميل ما سبق في حكم الله أنه يفعله، ويكون سعي جبريل في مرضاة الله سبحانه وتعالى، منفذاً لما أمره به وقدره وقضاه على فرعون. وأما قوله: «لو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر والرضا بالكفر كفر»، فجوابه: ما تقدم من أَنَّ الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وجبريل إنما يتصرف بأمر الله، ولا يفعل إلا ما أمره الله به، وإذا كان جبريل قد فعل ما أمره الله به ونفذه فإنما رضي بالأمر لا بالمأمور به، فأيُّ كفر يكون هنا، وأيضاً: فإنَّ الرضا بالكفر إنما يكون كفراً في حقنا؛ لأنا مأمورون بإزالته بحسب الإمكان، فإذا أقررنا الكافر على كفره ورضينا به كان كفراً في حقنا لمخالفتنا ما أمِرْنا به. وأما من ليس مأموراً كأمرنا، ولا مكلفاً كتكليفنا، بل يفعل ما يأمره به ربه؛ فإنه إذا نفَّذَ ما أمره به لم يكن راضياً بالكفر، ولا يكون كفراً في حقه، وعلى هذا التقدير فإنَّ جبريل لما دسَّ الطين في في فرعون كان ساخطاً لكفره، غير راض به، والله سبحانه وتعالى خالق أفعال العباد، خيرها وشرها، وهو غير راضٍ بالكفر، فغاية أمرِ جبريل مع فرعون أنْ يكون منفذاً لقضاء الله وقدره في فرعون من الكفر، وهو ساخط له غير راضٍ به. وقوله: «كيف يليق بجلال الله أنْ يأمر جبريل بأن يمنعه من الإيمان» فجوابه: أَنَّ الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا يسأل عما يفعل. وأما قوله: «وإنْ قيل: إنَّ جبريل إنما فعل ذلك من عند نفسه لا
المبحث الخامس: الترجيح
بأمر الله ... » فجوابه: أنه إنما فعل ذلك بأمر الله، منفذاً لأمر الله، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه». اهـ (¬1) المبحث الخامس: الترجيح: الذي يَظْهُرُ صَوَابُه ـ والله تعالى أعلم ـ أنَّ فعل جبريل عليه السلام هو من باب الغضب لله تعالى، ولم يقصد في فعله هذا منع فرعون من الإيمان، وفعله هذا مأذون له فيه، بدليل إقرار الله له، والله تعالى أعلم. **** ¬
المسألة [7]: في تفسير الآيات التسع التي أعطيت لموسى - عليه السلام
المسألة [7]: في تفسير الآيات التسع التي أعطيت لموسى - عليه السلام. المبحث الأول: ذكر الآية الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)) [الإسراء: 101]. المبحث الثاني: ذكر الحديث المشكل الوارد في تفسير الآية: (83) ـ (72): عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ الْمُرَادِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ يَهُودِيٌّ لِصَاحِبِهِ: اذْهَبْ بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِيِّ. فَقَالَ صَاحِبُهُ: لَا تَقُلْ نَبِيٌّ، إِنَّهُ لَوْ سَمِعَكَ كَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَعْيُنٍ. فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلَاهُ عَنْ تِسْعِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ؛ فَقَالَ لَهُمْ: «لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلَا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ، وَلَا تَسْحَرُوا، وَلَا تَأْكُلُوا الرِّبَا، وَلَا تَقْذِفُوا مُحْصَنَةً، وَلَا تُوَلُّوا الْفِرَارَ يَوْمَ الزَّحْفِ، وَعَلَيْكُمْ خَاصَّةً الْيَهُودَ: أَنْ لَا تَعْتَدُوا فِي السَّبْتِ». قَالَ: فَقَبَّلُوا يَدَهُ وَرِجْلَهُ؛ فَقَالَا: نَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيٌّ. قَالَ: فَمَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَتَّبِعُونِي؟ قَالُوا: إِنَّ دَاوُدَ دَعَا رَبَّهُ أَنْ لَا يَزَالَ فِي ذُرِّيَّتِهِ نَبِيٌّ، وَإِنَّا نَخَافُ إِنْ تَبِعْنَاكَ أَنْ تَقْتُلَنَا الْيَهُودُ». (¬1) ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
المبحث الثالث: بيان وجه الإشكال في الحديث
المبحث الثالث: بيان وجه الإشكال في الحديث: وجه الإشكال: أنَّ الآيات المذكورة في الحديث، إنما هي من الوصايا التي ذُكِرَتْ في التوراة، وليس فيها حجج على فرعون وقومه، بينما الآية صريحة بأن التسع إنما هي لإقامة الحجة والبرهان على فرعون؛ لوصفه تعالى إياها بقوله: (بَيِّنَاتٍ). (¬1) المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع الإشكال الوارد في الحديث: للعلماء في دفع الإشكال الوارد في الحديث مسلكان: الأول: مسلك قبول الحديث: ولأصحاب هذا المسلك مذاهب: الأول: مذهب توجيه الحديث وتأويله: وهذا مذهب الجمهور من المفسرين، حيث ذهبوا إلى أنَّ الآيات التي أُعطيت لموسى - عليه السلام - كانت عبارة عن معجزات ودلالات، وقد اتفقوا على تعداد سبع منها، وهي: العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، واختلفوا في الباقي. (¬2) وأما الحديث فقد اختلفوا في توجيهه على أقوال: الأول: أنَّ ما ذُكِرَ في الحديث هو كلام مستأنف، ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - عقب ¬
الجواب، لكن الراوي لم يذكر الجواب استغناء بما في القرآن، أو لأن الجواب ظاهرٌ جليٌ لا يخفى على السامع. وهذا رأي: الطيبي، وتبعه القاري، والسندي، والمباركفوري. (¬1) القول الثاني: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عدل عن الجواب وأجابه بما أجاب؛ لأن هذا هو الأصلح والأهم للسائل (¬2)، ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يخفى عليه معنى الآية. وهذا رأي: أبي السعود. (¬3) القول الثالث: أنَّ ما ذُكِرَ في الحديث هو من الآيات التي تُعبِّد بها بنو إسرائيل، وهذا لا ينافي ما ذُكِرَ عن الجمهور في تفسير الآية؛ لأن ما ذكروه هو من الآيات التي أوعدوا وخوفوا وأنذروا بها، على أنَّ ما ذكروه له حكم الرفع؛ لأنه من تفسير ابن عباس رضي الله عنهما (¬4)، وهو مما لا مجال للرأي فيه؛ فيكون له حكم الرفع، وبهذا يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال كلا التفسيرين، إلا أنَّ مراده في أحدهما غير مراده بما في الآخر. وهذا رأي: الطحاوي. (¬5) ¬
القول الرابع: أنه لا منافاة بين القرآن والحديث؛ لأن القرآن قد تضمن ذكر الآيات التي أوتيها موسى، والحديث فيه آيات أخر من التكليف، وكلُّ شاهدٍ لنبوة موسى فهو آية، وكل أمر أُمر به، أو نهي نُهي عنه فهو آية، وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ المراد بالآيات المذكورة في هذه الآية هن الآيات التي من جهة الأمر والنهي، لا من جهة الإعجاز والبرهان. وهذا رأي ابن العربي. (¬1) المذهب الثاني: أنَّ المعتمد في تفسير الآية هو الحديث دون غيره، ويرى أصحاب هذا المذهب: أنَّ المراد بالآيات في الآية: هي الأحكام، لا الأدلة، وأطلق عليها آيات؛ لأنها علامات على السعادة لمن امتثلها، والشقاوة لمن تركها. وهذا رأي: الفخر الرازي، والخفاجي، والآلوسي. (¬2) المسلك الثاني: مسلك تضعيف الحديث وعدم قبوله. ويرى أصحاب هذا المسلك أنَّ الآية لا يصح في تفسيرها إلا ما ذُكِرَ في القرآن في مواضع متفرقة من أنَّ الآيات هي: العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وغيرها. وهذا رأي: الزيلعي (¬3)، وابن كثير، وابن القيم (¬4)، وابن حجر (¬5). قال الزيلعي: «والحديث فيه إشكالان: أحدهما: أنهم سألوا عن تسعة، وأجاب في الحديث بعشرة، وهذا لا يرد على رواية: أبي نعيم، والطبراني (¬6)؛ لأنهما لم يذكرا فيه السحر، ولا ¬
على رواية أحمد أيضاً؛ لأنه لم يذكر القذف مرة، وشك في أخرى، فيبقى المعنى في رواية غيرهم، أي خذوا ما سألتموني عنه، وأزيدكم ما يختص بكم، لتعلموا وقوفي على ما يشتمل عليه كتابكم. الإشكال الثاني: أنَّ هذه وصايا في التوراة، ليس فيها حجج على فرعون وقومه، فأي مناسبة بين هذا وبين إقامة البراهين على فرعون، وما جاء هذا إلا من عبد الله بن سلمة؛ فإن في حفظه شيئاً، وتكلموا فيه، وأنَّ له مناكير، ولعل ذينك اليهوديين إنما سألا عن العشر كلمات فاشتبه عليه بالتسع آيات فوهم في ذلك، والله أعلم». اهـ (¬1) وقال ابن كثير - بعد إيراده لحديث صفوان -: «وهو حديث مشكل، وعبد الله بن سلمة في حفظه شيء، وقد تكلموا فيه، ولعله اشتبه عليه التسع الآيات بالعشر الكلمات؛ فإنها وصايا في التوراة لا تعلق لها بقيام الحجة على فرعون، والله أعلم». اهـ (¬2) وقال: «المراد بالتسع الآيات: إنما هي ما تقدم ذكره، من العصا، واليد، والسنين، ونقص من الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، التي فيها حجج وبراهين على فرعون وقومه، وخوارق ودلائل على صدق موسى، ووجود الفاعل المختار الذي أرسله، وليس المراد منها كما ورد في حديث صفوان؛ فإن هذه الوصايا ليس فيها حجج على فرعون وقومه، وأي مناسبة بين هذا وبين إقامة البراهين على فرعون، وما جاء هذا الوهم إلا من قبل عبد الله بن سلمة؛ فإن له بعضَ ما يُنكر، والله أعلم، ولعل ذينك اليهوديين إنما سألا عن العشر الكلمات؛ فاشتبه على الراوي بالتسع الآيات، فحصل وهم في ذلك، والله أعلم». اهـ (¬3) ¬
المبحث الخامس: الترجيح
المبحث الخامس: الترجيح: الذي يَظْهُرُ صَوَابُه ـ والله تعالى أعلم ـ هو القول بضعف الحديث، وأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما سُئِلَ عن العشر الكلمات التي هي وصايا في التوراة، فاشتبهت على الراوي - وهو عبد الله بن سلمة - فظنها التسع الآيات المذكورة في آية الإسراء. يدل على هذا الاختيار: 1 - أنه لم يُعْهَدْ أنَّ اليهود سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء من القرآن، وإنما المعهود سؤالهم عن شيء هو في كتبهم، أو عن أمر من أمور الغيب. 2 - أنَّ اليهود أرادوا بسؤالهم هذا معرفة صدق النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ بسؤاله عن شيء هم يؤمنون به، وهو ما في كتبهم، ويبعد أنْ يسألوا عن شيء من القرآن مع عدم إيمانهم به؛ ليستدلوا به على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم -. 3 - أنَّ الحديث قد جاء في بعض رواياته تعداد عشر كلمات (¬1)، وهذا مما يؤكد أنَّ السؤال إنما كان عن العشر الكلمات، لا التسع آيات. 4 - أنَّ الله تعالى وصف الـ «تسع» بأنها «آيات بينات»، والآية والبينة لا تكون إلا لما فيه حجة وبرهان، ولو كانت وصايا - كما في الحديث - لما حسن وصفها بقوله: «آيات بينات»، والله تعالى أعلم. ¬
المسألة [8]: في نسبة الكذب لإبراهيم الخليل عليه السلام
المسألة [8]: في نسبة الكذب لإبراهيم الخليل عليه السلام. المبحث الأول: ذكر الآيات الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (63)) [الأنبياء: 62 - 63]. وقال تعالى: (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)) [الصافات: 83 - 88]. المبحث الثاني: ذكر الحديث المشكل الوارد في تفسير الآية: (84) ـ (73): عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَام قَطُّ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ: ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللَّهِ: قَوْلُهُ: (إِنِّي سَقِيمٌ)، وَقَوْلُهُ: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا)، وَوَاحِدَةٌ فِي شَأْنِ سَارَةَ؛ فَإِنَّهُ قَدِمَ أَرْضَ جَبَّارٍ، وَمَعَهُ سَارَةُ، وَكَانَتْ أَحْسَنَ النَّاسِ، فَقَالَ لَهَا: إِنَّ هَذَا الْجَبَّارَ إِنْ يَعْلَمْ أَنَّكِ امْرَأَتِي يَغْلِبْنِي عَلَيْكِ، فَإِنْ سَأَلَكِ فَأَخْبِرِيهِ أَنَّكِ أُخْتِي؛ فَإِنَّكِ أُخْتِي فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ مُسْلِمًا غَيْرِي وَغَيْرَكِ. فَلَمَّا دَخَلَ أَرْضَهُ رَآهَا بَعْضُ أَهْلِ الْجَبَّارِ، أَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: لَقَدْ قَدِمَ أَرْضَكَ امْرَأَةٌ، لَا يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَكُونَ إِلَّا لَكَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَأُتِيَ بِهَا، فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى الصَّلَاةِ، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ، لَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا، فَقُبِضَتْ يَدُهُ قَبْضَةً
شَدِيدَةً، فَقَالَ لَهَا: ادْعِي اللَّهَ أَنْ يُطْلِقَ يَدِي، وَلَا أَضُرُّكِ. فَفَعَلَتْ، فَعَادَ، فَقُبِضَتْ أَشَدَّ مِنْ الْقَبْضَةِ الْأُولَى، فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ، فَفَعَلَتْ، فَعَادَ، فَقُبِضَتْ أَشَدَّ مِنْ الْقَبْضَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، فَقَالَ: ادْعِي اللَّهَ أَنْ يُطْلِقَ يَدِي فَلَكِ اللَّهَ أَنْ لَا أَضُرَّكِ. فَفَعَلَتْ، وَأُطْلِقَتْ يَدُهُ، وَدَعَا الَّذِي جَاءَ بِهَا، فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ إِنَّمَا أَتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ، وَلَمْ تَأْتِنِي بِإِنْسَانٍ، فَأَخْرِجْهَا مِنْ أَرْضِي، وَأَعْطِهَا هَاجَرَ. قَالَ: فَأَقْبَلَتْ تَمْشِي، فَلَمَّا رَآهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام انْصَرَفَ فَقَالَ لَهَا: مَهْيَمْ (¬1). قَالَتْ: خَيْرًا، كَفَّ اللَّهُ يَدَ الْفَاجِرِ، وَأَخْدَمَ خَادِمًا. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَتِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ». (¬2) (85) ـ ( .. ): وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يجمع الله المؤمنين يوم القيامة .... »، ثم ذكر حديث الشفاعة بطوله، وفيه: «فيأتون إبراهيم عليه السلام، فيقول: إني لست هناكم، ويذكر كذباته الثلاث، قوله: إني سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وقوله لسارة - حين أتى على الجبار -: أخبري أني أخوك؛ فإني سأخبر أنا أنك أختي، فإنا أخوان في كتاب الله، ليس في الأرض مؤمن ولا مؤمنة غيرنا». (¬3) ¬
المبحث الثالث: بيان وجه الإشكال في الحديث
المبحث الثالث: بيان وجه الإشكال في الحديث: ظاهرُ الحديثِ الشريف أنَّ قول إبراهيم: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا)، وقوله: (إِنِّي سَقِيمٌ) كان كذباً منه، عليه السلام، وهذا مشكل؛ لأن الكذب لا يجوز في حق الأنبياء عليهم السلام، إذ الرسول ينبغي أنْ يكون موثوقاً به؛ ليُعلم صدق ما جاء به عن الله، ولا ثقة مع تجويز الكذب عليه، فكيف مع وجود الكذب منه، ولأن الكذب المحض من جملة الكبائر، والأنبياء - عليهم السلام - معصومون منها بالإجماع. (¬1) ¬
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع الإشكال الوارد في الحديث
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع الإشكال الوارد في الحديث: للعلماء تجاه الإشكال الوارد في الحديث ثلاثة مسالك: الأول: مسلك تأويل الآيات والحديث، ومنع وقوع الكذب المحض من إبراهيم الخليل، عليه السلام. وهذا مذهب الجمهور من العلماء. وممن قال به: ابن قتيبة، والزمخشري، وابن العربي، والقاضي عياض، وابن الجوزي، وأبو العباس القرطبي، وأبو عبد الله القرطبي، والنووي، وابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، وابن حجر، والسيوطي، والآلوسي، وابن عثيمين. (¬1) ويرى أصحاب هذا المسلك: أنَّ ما قاله إبراهيم - عليه السلام - يعد من المعاريض (¬2)، وهي مباحة، وليست من الكذب الذي يُذم صاحبه. ¬
قال الزمخشري: «فإن قلت: كيف جاز له أنْ يكذب؟ قلت: قد جوَّزه بعض الناس في المكيدة في الحرب، والتقية، وإرضاء الزوج، والصلح بين المتخاصمين والمتهاجرين، والصحيح أنَّ الكذب حرام، إلا إذا عَرَّضَ ووَرَّى، والذي قاله إبراهيم - عليه السلام - مِعْرَاضٌ من الكلام». اهـ (¬1) قالوا: والمعاريض لا تُذم، خصوصاً إذا احتيج إليها، فعن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب» (¬2)، وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «ما يسرني أنَّ لي بما أعلم من معاريض القول، مثل أهلي ومالي» (¬3)، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعجوز: «إن الجنة لا يدخلها عجوز» (¬4)، أراد قوله تعالى: (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35)) [الواقعة: 35]، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - حين خرج من الغار، مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذا سأله أحد: من هذا بين يديك؟ يقول: «هادٍ يهديني» (¬5)، وكانت امرأة ابن رواحة - رضي الله عنه -، قد ¬
رأته مع جارية له، فقالت له: وعلى فراشي أيضاً! فجحد، فقالت له: إن كنت صادقاً فاقرأ القرآن، فالجُنُب لا يقرأ القرآن. فقال: شَهِدْتُ بأَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ... وأَنَّ النارَ مَثْوَى الكافِرِينا وأَنَّ العَرْشَ فوْقَ الماءِ طافٍ ... وفوقَ العَرْشِ رَبُّ العالَمِينا وتَحْمِلُه ملائكةٌ شِدادٌ ... ملائكةُ الإِلهِ مُسَوّمِينا فقالت: آمنت بالله، وكذبت بصري. فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبره، فضحك، وأعجبه ما صنع. (¬1) وقد اختلف أصحاب هذا المسلك في وجه إطلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - على تلك الكلمات التي قالها إبراهيم الخليل - عليه السلام - بأنها كذب، على أقوال: الأول: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أطلق عليها الكذب من باب التجوز؛ لأنها في الحقيقة شبيهة بالكذب، لما فيها من إيهام السامع، وإخباره بخلاف ما يعتقده المتكلم، ولم يُرِدْ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها من الكذب الذي هو قصد قول الباطل، والإخبار بضد ما في النفس، من غير غرض شرعي؛ لأن هذا لا يجوز في حق الأنبياء، عليهم السلام. وهذا رأي: ابن قتيبة، والقاضي عياض، وابن عطية، وابن الجوزي، وابن جزي الكلبي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والحافظ ابن كثير، والحافظ ابن حجر، والآلوسي. (¬2) ¬
قال أبو بكر بن الأنباري: «كلام إبراهيم كان صدقاً عند البحث، وإنما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال قولاً يشبه الكذب في الظاهر، وليس بكذب». اهـ (¬1) وقال ابن عقيل: «دلالة العقل تصرف ظاهر هذا اللفظ، وذاك أنَّ العقل قطع بأن الرسول ينبغي أنْ يكون موثوقاً به، ليُعلَمَ صِدْقَ ما جاء به عن الله، ولا ثقة مع تجويز الكذب عليه، فكيف مع وجود الكذب منه، وإنما استُعيرَ ذِكْرُ الكذب؛ لأنه بصورة الكذب، فسماه كذباً مجازاً، ولا يجوز سوى هذا». اهـ (¬2) وقال ابن القيم: «وسُمّيَ قولُ إبراهيم هذا كذباً؛ لأنها تورية، وقد أشكل على الناس تسميتها كذبة، لكون المتكلم إنما أراد باللفظ المعنى الذي قصده، فكيف يكون كذباً؟ والتحقيق في ذلك: أنها كذب بالنسبة إلى إفهام المخاطب، لا بالنسبة إلى غاية المتكلم، فإن الكلام له نسبتان: نسبة إلى المتكلم، ونسبة إلى المخاطب، فلما أراد المُوري أنْ يُفهم المخاطب خلاف ما قصده بلفظه، أطلق الكذب عليه بهذا الاعتبار، وإن كان المتكلم صادقاً باعتبار قصده ومراده». اهـ (¬3) وقال الحافظ ابن حجر: «وأما إطلاقه الكذب على الأمور الثلاثة، فلكونه قال قولاً يعتقده السامع كذباً، لكنه إذا حُقِّقَ لم يكن كذباً؛ لأنه من باب المعاريض المحتملة للأمرين، فليس بكذبٍ محض». اهـ (¬4) القول الثاني: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أطلق عليها كذباً؛ لأن الله تعالى قد أعلمه أنَّ إبراهيم - عليه السلام - يُطلق ذلك على نفسه يوم القيامة. ¬
وهذا رأي أبي العباس القرطبي. (¬1) القول الثالث: أنَّ المراد من الحديث: أنها كذبات في بادئ الأمر، لكنها عند التأمل يظهر المقصود منها، وذلك أنَّ النهي عن الكذب إنما علته خدع المخاطب، وما يتسبب على الخبر المكذوب من جريان الأعمال على اعتبار الواقع بخلافه، وأما إذا كان الخبر يُعْقَب بالصدق لم يكن ذلك من الكذب، بل يكون تعريضاً، أو مزحاً، أو نحوهما. وهذا قول الطاهر بن عاشور، ويرى: أنه لم يكن في لغة قوم إبراهيم التشبيه البليغ، ولا المجاز، ولا التهكم، فكان ذلك عند قومه كذباً، وأن الله تعالى أذن له فعل ذلك، وأعلمه بتأويله؛ كما أذن لأيوب - عليه السلام - أنْ يأخذ ضِغْثاً (¬2) من عصيٍّ؛ فيضرب به ضربة واحدة، لِيَبُرَّ قَسَمَه (¬3)، إذ لم تكن الكفارة مشروعة في دين أيوب - عليه السلام. (¬4) وأما حديث الشفاعة، وقول إبراهيم - عليه السلام -: «إِنِّي كَذَبْتُ ثَلَاثَ كَذِبَاتٍ» (¬5)؛ فقد أجاب عنه الطاهر بن عاشور بأن معناه: «أنه قال كلاماً خلافاً للواقع، بدون إذن الله بوحي، ولكنه ارتكب قولَ خلافِ الواقع؛ لضرورة الاستدلال، بحسب اجتهاده، فخشي أنْ لا يُصادِفَ اجتهاده الصواب من مراد الله، فخشي عتاب الله، فتخلص من ذلك الموقف». اهـ (¬6) ويرى الشيخ ابن عثيمين: أنَّ إبراهيم - عليه السلام - سماها كذبات، تواضعاً منه؛ ¬
لأنها بحسب مراده صدق مطابق للواقع، فهي من باب التورية. (¬1) رأي أصحاب هذا المسلك، في معنى الآيتين، ووجه كونهما من المعاريض: لأصحاب هذا المسلك عدة تأويلات في معنى الآيتين، ووجه كونهما من المعاريض، وفيما يأتي ذِكْرُ أقوالهم في كل آية: أولاً: تأويلهم لقوله تعالى: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) [الأنبياء: 63]: اختلفوا في تأويل الآية على قولين: الأول: أنَّ معنى الآية: بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون، حيث جعل النطق شرطاً للفعل، والمعنى إن كانوا ينطقون فقد فعله، قالوا: ولما علق الفعل على النطق، والنطق غير متحقق، لم يكن قوله هذا كذباً. وهذا رأي: ابن قتيبة (¬2)، والقاضي عياض (¬3)، وأبي عبد الله القرطبي (¬4). واعتُرِضَ: بأن قوله: (إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) [الأنبياء: 63] متعلق بقوله: (فَاسْأَلُوهُمْ) [الأنبياء: 63]، والمعنى: إن كانوا ينطقون، فاسألوهم. القول الثاني: أنه قال ذلك تمهيداً لإقامة الحجة عليهم، على نية أنْ يتضح لهم الحق بآخره، فإنه لما قصد تنبيههم على خطأ عبادتهم للأصنام مهد لذلك بكلامٍ هو جار على الفرض والتقدير، فكأنه قال: لو كان هذا إلهاً لما رضي بالاعتداء على شركائه، فلما حصل الاعتداء عليهم بمحضر كبيرهم، تعين أنَّ يكون هو الفاعل لذلك. وهذا رأي: الزمخشري، وابن العربي، وابن الجوزي، وابن جزي الكلبي، وأبي العباس القرطبي، والرازي، والسيوطي، والآلوسي. (¬5) ¬
ثانياً: تأويلهم لقوله تعالى: (إِنِّي سَقِيمٌ) [الصافات: 89]: يرى الأكثر من أصحاب هذا المسلك أنَّ معنى الآية: إني سأسقم؛ لأن من كُتب عليه الموت فلا بد من أنْ يسقم، ومنه قوله تعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (30)) [الزمر: 30]، أي ستموت، ويموتون. (¬1) الثاني: مسلك إجراء الآيات والحديث على ظاهرها، وأنَّ ما قاله إبراهيم الخليل - عليه السلام - كان كذباً على الحقيقة. ويرى أصحاب هذا المسلك: أنَّ إبراهيم - عليه السلام - فعل ذلك من باب التُقية، ودفعِ أذى الظالمين، والكذبُ إذا كان لمثلِ هذا الغرض، وكان لمصلحةٍ شرعية؛ فإنه لا مانع منه، ولا يكون محرماً. وهذا رأي: ابن جرير الطبري، وابن حزم، والواحدي (¬2)، والمازري (¬3)، والبغوي (¬4)، والسمعاني (¬5). قال ابن جرير الطبري: «وقد زعم بعض من لا يُصَدِّقُ بالآثار، ولا يقبل من الأخبار إلا ما استفاض به النقل، من العوام، أنَّ معنى قوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) إنما هو بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون فاسألوهم، أي إن كانت الآلهة المكسورة تنطق؛ فإن كبيرهم هو الذي كسرهم. وهذا قولٌ خلاف ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ إبراهيم لم يكذب إلا ¬
ثلاث كذبات، كلها في الله، قوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) وقوله: (إِنِّي سَقِيمٌ) وقوله لسارة: هي أختي. وغير مستحيل أنْ يكون الله تعالى ذكره أذن لخليله في ذلك، ليقرع قومه به، ويحتج به عليهم، ويعرفهم موضع خطئهم، وسوء نظرهم لأنفسهم، كما قال مؤذن يوسف لإخوته: (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ) [يوسف: 70] ولم يكونوا سرقوا شيئاً». اهـ (¬1) وقال - بعد أنْ ذكر الأقوال في تفسير قوله تعالى: (إِنِّي سَقِيمٌ) -: «وقال آخرون: إن قوله: (إِنِّي سَقِيمٌ) كلمة فيها مِعْراضٌ، ومعناها: أنَّ كل من كان في عقبة الموت فهو سقيم، وإن لم يكن به حين قالها سقم ظاهر، قال: والخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخلاف هذا القول، وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الحق دون غيره». اهـ (¬2) وقال ابن حزم: «أما الحديث: أنه - عليه السلام - كذب ثلاث كذبات، فليس كلُ كذبٍ يكون معصية، بل منه ما يكون طاعة لله عز وجل، وفرضاً واجباً يعصي من تركه .... ، وقد أجمع أهل الإسلام على أنَّ إنساناً لو سمع مظلوماً قد ظلمه سلطان، وطلبه ليقتله بغير حق، ويأخذ ماله غصباً؛ فاستتر عنده، وسمعه يدعو على من ظلمه، قاصداً بذلك السلطان، فسأل السلطانُ ذلك السامع عما سمعه منه، وعن موضعه؛ فإنه إن كتم ما سمع، وأنكر أنْ يكون سمعه، أو أنه يعرف موضعه أو موضع ماله؛ فإنه محسن مأجور، مطيع لله عز وجل، وأنه إن صدقه فأخبره بما سمعه منه، وبموضعه وموضع ماله؛ كان فاسقاً عاصياً لله عز وجل، فاعل كبيرة، مذموماً تماماً. وقد أُبيح الكذب في إظهار الكفر في التقية، وكل ما روي عن إبراهيم - عليه السلام - في تلك الكذبات فهو داخل في الصفة المحمودة، لا في الكذب الذي نهي عنه». اهـ (¬3) الثالث: مسلك تأويل الآيات، ورد الحديث وإنكاره. وهذا رأي الفخر الرازي، حيث قال: «واعلم أنَّ بعض الحشوية روى ¬
المبحث الخامس: الترجيح
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ما كذب إبراهيم - عليه السلام - إلا ثلاث كذبات. فقلت: الأولى أنْ لا نقبل مثل هذه الأخبار، فقال على طريق الاستنكار: فإن لم نقبله؛ لزمنا تكذيب الرواة. فقلت له: يا مسكين، إن قبلناه؛ لزمنا الحكم بتكذيب إبراهيم - عليه السلام - وإن رددناه لزمنا الحكم بتكذيب الرواة، ولا شك أنَّ صون إبراهيم - عليه السلام - عن الكذب، أولى من صون طائفة من المجاهيل عن الكذب». اهـ (¬1) قلت: وهذا القول من الرازي مردود عليه، فالحديث صحيح لا مطعن فيه، وقد رُوي من عدة طرق، رواتها كلهم ثقات عدول معروفون، ولا سبيل لتكذيبهم، أو رميهم بالجهالة؛ ورحم الله الفخر الرازي؛ فإنه لما أعياه الجواب عن الحديث لجأ إلى رده وإنكاره، ورميِ رواته بالكذب، وليس هذا من شأن العلماء العارفين؛ فإن النصوص لا ترد بمجرد الرأي والهوى، والرازي لا يؤخذ بقوله في تصحيح الأحاديث وتضعيفها؛ لأنه ليس من أهل هذا الشأن، وبضاعته فيه مزجاة، قال عنه الإمام الذهبي: «وقد بدت منه في تواليفه بلايا وعظائم، وسِحْرٌ وانحرافات عن السُّنة، والله يعفو عنه؛ فإنه توفي على طريقة حميدة، والله يتولى السرائر». (¬2) وأما رأي الرازي في معنى الآيتين، فقد مضى بيانه، عند ذكر رأي أصحاب المذهب الأول. المبحث الخامس: الترجيح: الذي يَظْهُرُ صَوَابُه ـ والله تعالى أعلم ـ هو مذهب إجراء الآيات والأحاديث على ظاهرها، وأن ما قاله إبراهيم الخليل - عليه السلام - كان كذباً على الحقيقة. وليس في فعله هذا قدح بعصمته، أو اتهام له بفعل محذور شرعي، ¬
حاشاه - عليه السلام - من ذلك، بل الحق أنَّ ما فعله مأذون له فيه، لما فيه من جلب مصلحة عظيمة، وهي إقامة الحجة على قومه، ودحض باطلهم. والكذب إنما يكون مُحرّماً إذا ترتب عليه مفاسد، وضياعٌ لحقوق الآخرين، وأما إذا كان لغرض شرعي، وفيه مصلحة؛ فإنه لا محذور فيه، وهذا ما قررته الشريعة؛ فإنه قد أُبيح الكذب في ثلاثة مواطن، في الحرب، وفي الإصلاح بين الناس، وفي كذب الزوجين بعضهما على بعض؛ لمصلحة تتعلق بهما (¬1)، وما أُبيح للأمة فهو مباح للأنبياء - عليهم السلام - إلا أنْ يأتي دليل يخصهم بالمنع. «وقد اتفق الفقهاء على أنه لو جاء ظالم يطلب إنساناً مختفياً؛ ليقتله، أو يطلب وديعة لإنسان ليأخذها غصباً، وسأل عن ذلك، وجب على من علم ذلك إخفاؤه، وإنكار العلم به، وهذا كذب جائز، بل واجب؛ لكونه في دفع الظالم». (¬2) وقد نبّه النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنَّ كذبات إبراهيم - عليه السلام - ليست داخلة في مطلق الكذب المذموم، وذلك بقوله: «ثنتين منها في ذات الله»، وإنما خص الثنتين بأنهما في ذات الله تعالى؛ لكون الثالثة تضمنت نفعاً وحظاً لإبراهيم - عليه السلام - مع كونها في ذات الله أيضاً؛ لأنها كانت سبباً في دفعِ كافرٍ ظالمٍ عن مواقعة فاحشة عظيمة، وقد جاء في رواية أخرى ما يدل على ذلك، وهذه الرواية قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْهَا كَذِبَةٌ إِلَّا مَا حَلَّ بِهَا عَنْ دِينِ اللَّهِ» (¬3). (¬4) وبعد هذا التقرير سأذكر بعضاً من الأدلة، التي تؤيد صحة ما ذهبت إليه، من وجوب حمل الآيات والأحاديث على ظاهرها: ¬
الدليل الأول: تسمية النبي - صلى الله عليه وسلم - لها كذبات، ولو كانت من المعاريض لبين ذلك، فقال: لم يكذب إبراهيم، وإنما أراد التعريض. الدليل الثاني: أنَّ إبراهيم - عليه السلام - سماها كذبات، ولو كانت من المعاريض لما أطلق عليها لفظ الكذب. الدليل الثالث: اعتذار إبراهيم من كذباته يوم القيامة، ولو كانت من المعاريض لما خاف منها، واعتذر لها. الدليل الرابع: أنَّ الآيات صريحة بأنه قال كلاماً هو خلاف الواقع، ولا يمكن حملها على التعريض والتورية، وما ذكره أصحاب المذهب الأول في توجيه الآيات وحملها على المعاريض يُعدُّ بعيداً جداً، وفيه تكلف يأباه النظم الكريم، والحق وجوب حملها على ظاهرها، دون تكلف أو تأويل. وهذا القول ليس فيه قدح بعصمة النبي، إبراهيم الخليل - عليه السلام -؛ لأنه لو كان ما فعله مذموماً؛ لأنكر الله عليه فعله هذا، وإنَّ في إقرار الله له؛ لدليلاً على جواز ما فعله. وأما اعتذار إبراهيم - عليه السلام - يوم القيامة؛ فلإشفاقه من هول ذلك الموقف، وقد اعتذر كل الأنبياء - سوى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - عن أمور اعتقدوها ذنوباً، وليست كذلك، وإنما كان اعتذارهم إشفاقاً وخوفاً من هول ذلك الموقف. وأما القول بأن نسبة الكذب إلى الأنبياء يرفع الوثوق بهم، فإن هذا افتراض عقلي لا ينبغي إيراده؛ لأن الله تعالى لا يمكن أنْ يقرَّهم على الكذب، على فرض وجوده، والحق أنَّ الأنبياء لا يستطيعون قَدَرَاً إيقاع الكذب، فيما يتعلق بالبلاغ؛ لأن الله تعالى اصطفاهم واختارهم من سائر البشر، وعصمهم من كل ما يَشِينُ إلى دعوتهم ورسالتهم. قال المازري: «أما الكذب فيما طريقه البلاغ عن الله تعالى؛ فالأنبياء معصومون منه، سواء كثيره وقليله، وأما مالا يتعلق بالبلاغ ويعد من الصغائر، كالكذبة الواحدة في حقير من أمور الدنيا، ففي إمكان وقوعه منهم وعصمتهم منه القولان المشهوران للسلف والخلف». اهـ (¬1) ¬
وقال القاضي عياض: الصحيح أنَّ الكذب فيما يتعلق بالبلاغ لا يُتَصوّر وقوعه منهم، سواء جوزنا الصغائر منهم وعصمتهم منها أم لا، وسواء قلَّ الكذب أم كَثُر؛ لأن مَنْصِبَ النبوة يرتفع عنه، وتجويزه يرفع الوثوق بأقوالهم. اهـ (¬1) **** ¬
المسألة [9]: في الوقت الذي تكون فيه زلزلة الساعة
المسألة [9]: في الوقت الذي تكون فيه زلزلة الساعة. المبحث الأول: ذكر الآية الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)) [سورة الحج: 1 - 2]. المبحث الثاني: ذكر الأحاديث المشكلة الواردة في تفسير الآية: (86) ـ (74): عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا آدَمُ. فيَقُولُ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ. فَيُنَادَى بِصَوْتٍ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ. قَالَ: يَا رَبِّ وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ. فَحِينَئِذٍ تَضَعُ الْحَامِلُ حَمْلَهَا، وَيَشِيبُ الْوَلِيدُ، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ .... ». (¬1) (87) ـ ( .. ): وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ: ¬
المبحث الثالث: بيان وجه الإشكال في الأحاديث
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)) إِلَى قَوْلِهِ: (وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) قَالَ: «أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ وَهُوَ فِي سَفَرٍ، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ ذَلِكَ؟ فَقَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: ذَلِكَ يَوْمَ يَقُولُ اللَّهُ لِآدَمَ ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: تِسْعُ مِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ إِلَى النَّارِ وَوَاحِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ .... ». (¬1) المبحث الثالث: بيان وجه الإشكال في الأحاديث: ظاهر الحديثين الشريفين أنَّ زلزلة الساعة المذكورة في الآية تكون يوم القيامة بعد قيام الناس من قبورهم، وقد اسْتُشْكِلَ بأنَّ ذلك الوقت لا حمل فيه ولا رضاع، فكيف يكون فيه ذهول المرضعة عما أرضعت، ووضع الحامل لحملها؟ (¬2) المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع الإشكال الوارد في الأحاديث: اختلف المفسرون في الوقت الذي تكون فيه الزلزلة المذكورة في الآية على مذهبين: الأول: أنها كائنة في الدنيا على القوم الذين تقوم عليهم الساعة. وهذا المذهب قال به بعض المتقدمين، كعلقمة، والشعبي، وابن جريج، ومقاتل. (¬3) ¬
وهو اختيار القاضي ابن عطية، وحكاه مذهب الجمهور من المفسرين. (¬1) واسْتَدَلَّ له: بأنَّ الرضاع والحمل لا يكون إلا في الدنيا، وأما الآخرة فلا يكون فيها شيء من ذلك. وأجاب عن الأحاديث الواردة في المسألة: باحتمال أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ الآية المتضمنة ابتداء أمر الساعة، ثم قصد في تذكيره وتخويفه إلى فصل من فصول يوم القيامة، وهذا من الفصاحة. (¬2) المذهب الثاني: أنَّ الزلزلة المذكورة في الآية كائنة يوم القيامة بعد قيام الناس من قبورهم. وهذا التفسير هو اختيار ابن جرير الطبري، وابن العربي، وابن الجوزي، وأبي عبد الله القرطبي، والنووي، والحافظ ابن حجر، والشنقيطي. (¬3) وعمدتهم في هذا التفسير الأحاديث الواردة في المسألة، الدالة على أنَّ ذلك كائن يوم القيامة، يوم أنْ يقول الله تعالى لآدم عليه السلام: أخرج بعث النار. ولهم في الجواب عن الإشكال الوارد في الأحاديث مسلكان: الأول: حمل الأوصاف المذكورة في الحديثين على المجاز. ويرى أصحاب هذا المسلك أنَّ ما ذُكِرَ في الأحاديث هو كناية عن شدة الهول والهلع، بحيث إنه لو حضرت حامل حينئذ لوضعت، ولو حضرت مرضعة لذُهِلَتْ عما أرضعت. ¬
وهذا المسلك قال به ابن الجوزي، والنووي. (¬1) المسلك الثاني: حمل الأوصاف المذكورة في الحديثين على الحقيقة. حيث ذهب الحافظ ابن حجر إلى أنَّ ما ذُكِرَ في الأحاديث محمول على الحقيقة؛ لأن كل أحدٍ يُبعث يوم القيامة على ما مات عليه، فالحامل تُبعث حاملاً، والمرضع تُبعث مرضعاً، والطفل يُبعث طفلاً؛ فإذا وقعت زلزلة الساعة، وقيل ذلك لآدم، ورأى الناس آدم، وسمعوا ما قيل له، وقع بهم من الوجل ما يسقط معه الحمل، ويشيب له الطفل، وتذهل به المرضعة. قال: «ويحتمل أنْ يكون ذلك بعد النفخة الأولى، وقبل النفخة الثانية، ويكون خاصاً بالموجودين حينئذ، وتكون الإشارة بقوله: «فذاك» إلى يوم القيامة، وهو صريح في الآية، ولا يمنع من هذا الحمل ما يتخيل من طول المسافة بين قيام الساعة، واستقرار الناس في الموقف، ونداء آدم لتمييز أهل الموقف؛ لأنه قد ثبت أنَّ ذلك يقع متقارباً؛ كما قال الله تعالى: (فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ (14)) [النازعات: 13 - 14]، يعني أرض الموقف، وقال تعالى: (يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ) [المزمل: 17 - 18]، والحاصل أنَّ يوم القيامة يطلق على ما بعد نفخة البعث من أهوال وزلزلة وغير ذلك إلى آخر الاستقرار في الجنة أو النار». اهـ (¬2) ولابن العربي جواب آخر، حيث يرى أنَّ يوم الزلزلة يكون عند النفخة الأولى، وفيه ما يكون فيه من الأهوال العظيمة، ومن جملتها ما يقال لآدم، ولا يلزم من ذلك أن يكون ذلك متصلاً بالنفخة الأولى، بل له محملان: أحدهما: أنْ يكون آخر الكلام منوطاً بأوله، والتقدير: يقال لآدم ذلك في أثناء اليوم الذي يشيب فيه الولدان، وغير ذلك. وثانيهما: أنْ يكون شيب الولدان عند النفخة الأولى حقيقة، والقول ¬
المبحث الخامس: الترجيح
لآدم يكون وصفه بذلك إخباراً عن شدته وإنْ لم يوجد عين ذلك الشيء. (¬1) وذكر الحليمي واستحسنه أبو عبد الله القرطبي أنه يحتمل أنْ يحيي الله حينئذ كل حمل كان قد تم خلقه ونُفخت فيه الروح، فتذهل الأم حينئذ عنه؛ لأنها لا تقدر على إرضاعه، إذ لا غذاء هناك ولا لبن، وأما الحمل الذي لم يُنفخ فيه الروح فإنه إذا سقط لم يحيى، لأن ذلك يوم الإعادة، فمن لم يمت في الدنيا لم يحيى في الآخرة. (¬2) المبحث الخامس: الترجيح: الذي يَظْهُرُ صَوَابُه ـ والله تعالى أعلم ـ أنَّ الزلزلة المذكورة في الآية كائنة يوم القيامة بعد قيام الناس من قبورهم، لثبوت هذا التفسير عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما الإشكال الوارد في الأحاديث فالأقرب هو حمل الأوصاف المذكورة فيها على المجاز، فيكون ذِكْرُ ذهول المرضعة عما أرضعت ووضع الحامل لحملها هو من باب تصوير شدة ذلك اليوم، لا أنَّ ذلك يكون حقيقة. ومما يؤكد قصد المجاز في الأحاديث أنَّ هذه الأوصاف ذُكِرَتْ بعينها في الآية، وذُكِرَ بعدها قوله تعالى: (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى) [الحج: 2] وهذا الوصف الأخير في الآية يُعَدُّ من صريح المجاز، حيث نفى سبحانه أنْ يكونوا سكارى حقيقة (¬3)، فَدَلَّ على أنَّ باقي الأوصاف هي من باب المجاز أيضاً، والله تعالى أعلم. **** ¬
المسألة [10]: في قصة الغرانيق
المسألة [10]: في قصة الغرانيق. المبحث الأول: ذكر الآية الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى (¬1) أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)) [الحج: 52 - 53]. المبحث الثاني: ذكر الحديث المشكل الوارد في تفسير الآية: (88) ـ (75): عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بمكة؛ فقرأ سورة النجم، حتى انتهى إلى قوله تعالى: (أفرأيتم اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)) [النجم: 19 - 20] فجرى على لسانه: (تلك الغرانيق (¬2) العُلى، ¬
الشفاعة منها تُرتجى) قال: فسمع ذلك مشركو مكة، فَسُرُّوا بذلك، فاشتَدَّ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فأنزل الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52))». (¬1) ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المبحث الثالث: بيان وجه الإشكال في الحديث
المبحث الثالث: بيان وجه الإشكال في الحديث: ظاهر الحديث الوارد في سبب نزول الآية أنَّ الشيطان ألقى على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الجملة الباطلة التي تمدح أصنام المشركين، وهي قوله: (تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى)، وهذا مشكل؛ لما فيه من القدح بعصمة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ قد أجمعت الأمة (¬1) على عصمته - صلى الله عليه وسلم - من جريان الكفر على قلبه أو لسانه، لا عمداً ولا سهواً، أو أن يَشْتَبِهَ عليه ما يُلقِيهِ الملَكُ بما يلقي الشيطان، أو أن يكون للشيطان عليه سبيل، أو أن يَتَقَوَّلَ على الله ما لم يَقُلْ، لا عمداً ولا سهواً. (¬2) قال الآلوسي: «يلزم على القول بأنَّ الناطق بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبب إلقاء الشيطان المُلَبّسِ بالملك - أمور منها: تسلط الشيطان عليه - صلى الله عليه وسلم -، وهو - صلى الله عليه وسلم - بالإجماع معصوم من الشيطان، لا سيما في مثل هذا من أمور الوحي والتبليغ والاعتقاد، وقد قال سبحانه: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) [الحجر: 42]، وقال تعالى: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)) [النحل: 99]، إلى غير ذلك. ومنها: زيادته - صلى الله عليه وسلم - في القرآن ما ليس منه، وذلك مما يستحيل عليه - صلى الله عليه وسلم -؛ لمكان العصمة. ومنها: اعتقاد النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ليس بقرآن أنه قرآن، مع كونه بعيد الالتئام، متناقضاً، ممتزج المدح بالذم، وهو خطأ شنيع لا ينبغي أن يُتساهل في نسبته إليه - صلى الله عليه وسلم -. ومنها: أنه إما أن يكون عليه الصلاة والسلام عند نطقه بذلك معتقداً ما اعتقده المشركون، من مدح آلهتهم بتلك الكلمات؛ وهو كفر محال في حقه - صلى الله عليه وسلم -، وإما أن يكون معتقداً معنى آخر، مخالفاً لما اعتقدوه، ومبايناً لظاهر العبارة، ولم يبينه لهم مع فرحهم ¬
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع الإشكال الوارد في الحديث
وادعائهم أنه مدح آلهتهم؛ فيكون مقراً لهم على الباطل، وحاشاه - صلى الله عليه وسلم - أن يُقرَّ على ذلك. ومنها: كونه - صلى الله عليه وسلم - اشتبه عليه ما يلقيه الشيطان بما يلقيه عليه الملك، وهو يقتضي أنه عليه الصلاة والسلام على غير بصيرة فيما يوحى إليه، ويقتضي أيضاً جواز تَصَوّر الشيطان بصورة الملك، ملبساً على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يصح ذلك. ومنها: التقوّل على الله تعالى إما عمداً أو خطأ أو سهواً، وكل ذلك محال في حقه عليه الصلاة والسلام، وقد أجمعت الأمة على ما قال القاضي عياض على عصمته - صلى الله عليه وسلم - فيما كان طريقه البلاغ من الأقوال، عن الإخبار بخلاف الواقع، لا قصداً ولا سهواً. ومنها: الإخلال بالوثوق بالقرآن فلا يُؤمن فيه التبديل والتغيير ولا يندفع». اهـ (¬1) المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع الإشكال الوارد في الحديث: للعلماء في دفع الإشكال الوارد في الحديث أربعة مسالك، نجملها أولاً ثم نتكلم عنها بالتفصيل: الأول: مسلك رد الحديث وإنكاره، مع توجيهه على التسليم بثبوته. الثاني: مسلك رد الحديث وإنكاره مطلقاً. الثالث: مسلك قبول الحديث، مع تأويله وصرفه عن ظاهره. الرابع: مسلك قبول الحديث مطلقاً، وإعماله على ظاهره من دون تأويل. وفيما يلي تفصيل هذه المسالك: الأول: مسلك رد الحديث وإنكاره، مع توجيهه على التسليم بثبوته. وهذا مسلك جمع من المفسرين والمحدثين، وممن ذهب إليه: النحاس، وأبو بكر الباقلاني، وابن العربي، والقاضي عياض، وابن الجوزي، وأبو عبد الله القرطبي، وابن كثير، والتفتازاني، والشوكاني، والطاهر ابن عاشور، والشنقيطي، والألباني. ¬
حيث ذهب هؤلاء إلى تضعيف الحديث الوارد في سبب نزول الآية، والإجابة عنه على التسليم بثبوته. قال القاضي عياض: «اعلم ـ أكرمك الله ـ أنَّ لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين: أحدهما: في توهين أصله، والثاني: على تسليمه؛ أما المأخذ الأول .... »، ثم ذكر هذا المأخذ مبيناً فيه علل الحديث، وقد نقلتُ لك كلامه عند تخريجي للحديث. ثم قال: «فأما من جهة المعنى؛ فقد قامت الحجة، وأجمعت الأمة على عصمته - صلى الله عليه وسلم - ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة، إما من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا، من مدح آلهةٍ غير الله، وهو كفر، أو أن يَتَسَوَّرَ عليه الشيطان، ويشبِّهَ عليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه، ويعتقد النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ من القرآن ما ليس منه، حتى ينبهه جبريل عليه السلام، وذلك كله ممتنع في حقه - صلى الله عليه وسلم -، أو يقول ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - من قِبَلِ نفسه عمداً؛ وذلك كفر، أو سهواً؛ وهو معصوم من هذا كله. وقد قررنا بالبراهين والإجماع عصمته - صلى الله عليه وسلم - من جريان الكفر على قلبه أو لسانه، لا عمداً ولا سهواً، أو أن يشتبه عليه ما يلقيه الملك بما يلقي الشيطان، أو يكون للشيطان عليه سبيل، أو أن يتقوَّلَ على الله، لا عمداً ولا سهواً، ما لم يُنْزلْ عليه، وقد قال الله تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)) [الحاقة: 44 - 46]، وقال تعالى: (وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً (74) إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)) [الإسراء: 73ـ75] .... ». ثم قال: «فلم يبق في الآية إلا أنَّ الله تعالى امتنَّ على رسوله بعصمته وتثبيته مما كاده به الكفار، وراموا من فتنته، ومرادنا من ذلك تنزيهه وعصمته - صلى الله عليه وسلم -، وهو مفهوم الآية». اهـ (¬1) أجوبة أصحاب هذا المسلك عن الحديث على التسليم بثبوته: أصحاب هذا المسلك ينكرون ثبوت القصة مطلقاً؛ إلا أنهم أجابوا ¬
عنها بأجوبة، وذلك على التسليم بصحتها، ومن أجوبتهم: الجواب الأول: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرتل القرآن بمحضر من مشركي قريش، فارتصده الشيطان في سكتة من سكتاته، فنطق بتلك الكلمات محاكياً نغمة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فسمعها من دنا إليه من المشركين، وظنها من قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فأشاعوها وتناقلوها على أنها من قوله - صلى الله عليه وسلم -. وممن قال بهذا الجواب: ابن العربي، والقاضي عياض، وابن الجوزي، وأبو عبد الله القرطبي، وابن كثير، والتفتازاني، والشوكاني، والشنقيطي، والألباني. (¬1) قال ابن العربي: «أخبر الله تعالى أنَّ من سنته في رسله وسيرته في أنبيائه أنهم إذا قالوا عن الله قولاً زاد الشيطان فيه من قِبَلِ نفسه؛ كما يفعل سائر المعاصي .... ، فهذا نص في أنَّ الشيطان زاد في الذي قاله النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله. وذلك أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قرأ تلا قرآناً مقطعاً، وسكت في مقاطع الآي سكوتاً محصلاً، وكذلك كان حديثه مترسلاً متأنياً، فيتبع الشيطان تلك السكتات التي بين قوله: (وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)) [النجم: 20]، وبين قوله تعالى: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى (21)) [النجم: 21] فقال يحاكي صوت النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وإنهن الغرانقة العلى، وإن شفاعتهن لترتجى)». اهـ (¬2) وقال القاضي عياض: «والذي يظهر ويترجح في تأويله ـ على تسليمه ـ أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ـ كما أمره ربه ـ يرتل القرآن ترتيلاً، ويفصِّلُ الآي تفصيلاً في قراءته، كما رواه الثقات عنه، فيمكن ترصُد الشيطان لتلك السكتات، ودسِّه فيها ما اختلقه من تلك الكلمات، محاكياً نغمة النبي - صلى الله عليه وسلم -، بحيث يسمعه ¬
من دنا إليه من الكفار، فظنوها من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأشاعوها، ولم يقدح ذلك عند المسلمين بحفظ السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله، وتحققهم من حال النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذم الأوثان وعيبها على ما عُرِفَ منه». اهـ (¬1) وتعقب هذا الجواب الفخر الرازي فقال: «وهذا ضعيف؛ فإنك إذا جوزت أن يتكلم الشيطان في أثناء كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما يشتبه على كل السامعين كونه كلاماً للرسول - صلى الله عليه وسلم -، بقي هذا الاحتمال في كل ما يتكلم به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فيفضي إلى ارتفاع الوثوق عن كل الشرع». اهـ (¬2) الجواب الثاني: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك ـ في أثناء تلاوته ـ على جهة التقريع والتوبيخ للكفار. وهذا جواب أبي بكر الباقلاني. (¬3) قال القاضي عياض: «وهذا ممكن، مع بيان الفصلِ، وقرينةٍ تدل على المراد، وأنه ليس من المتلوِ، ولا يُعترضُ على هذا بما رُوي أنه كان في الصلاة؛ فقد كان الكلام قبلُ فيها غير ممنوع». اهـ (¬4) الجواب الثالث: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قرأ هذه السورة، وبلغ ذكر اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، خاف الكفارُ أن يأتي بشيء من ذمِّها؛ فسبقوا إلى مدحها بتلك الكلمتين؛ ليُخَلِّطوا في تلاوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويشنِّعوا عليه على عادتهم وقولهم: (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت: 26]، ونُسِبَ هذا الفعل إلى الشيطان لحمله لهم عليه. وهذا جواب الطاهر ابن عاشور. (¬5) وذكره القاضي عياض، والفخر الرازي، ولم ينسباه لأحد. (¬6) إلا أنَّ الفخر الرازي تعقبه فقال: «هذا ضعيف لوجهين: أحدهما: أنه ¬
لو كان كذلك لكان يجب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - إزالة الشبهة، وتصريح الحق، وتبكيت ذلك القائل، وإظهار أنَّ هذه الكلمة منه صدرت. وثانيهما: لو فعل ذلك لكان ذلك أولى بالنقل». اهـ (¬1) الجواب الرابع: أنَّ المراد بالغرانيق العلى: الملائكة (¬2)، وكان الكفار يقولون: الملائكة بنات الله، ويعبدونها، فَسِيقَ ذِكْرُ الكلِّ لِيَرُدَّ عليهم بقوله: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى (21))؛ فلما سمعه المشركون حملوه على الجميع، وقالوا: قد عظَّم آلهتنا، ورضوا بذلك، فنسخ الله تلك الكلمتين وأحكم آياته. وهذا جواب أبي جعفر النحاس. (¬3) وذكره القاضي عياض جواباً آخر، على تسليم القصة. (¬4) وتعقبه القشيري (¬5) فقال: «وهذا غير سديد؛ لقوله: (فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ) أي يبطله، وشفاعة الملائكة غير باطلة». اهـ (¬6) الجواب الخامس: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتكلم بقوله: (تلك الغرانيق العلى)، ولا الشيطان تكلم به، ولا أحد تكلم به، لكنه عليه السلام لما قرأ سورة النجم اشتبه الأمر على الكفار فحسبوا بعض ألفاظه مما رووه من قولهم: (تلك الغرانيق العلى) وذلك على حسب ما جرت العادة به من توهم بعض الكلمات على غير ما يقال. ذكر هذا الجواب الفخر الرازي وتعقبه فقال: «وهو ضعيف لوجوه: أحدها: أنَّ التوهم في مثل ذلك إنما يصح فيما قد جرت العادة بسماعه، فأما غير المسموع فلا يقع ذلك فيه. وثانيها: أنه لو كان كذلك لوقع هذا التوهم لبعض السامعين دون البعض؛ فإن العادة مانعة من اتفاق الجم العظيم في ¬
الساعة الواحدة على خيال واحد فاسد في المحسوسات. وثالثها: لو كان كذلك لم يكن مضافاً إلى الشيطان». اهـ (¬1) الثاني: مسلك رد الحديث وإنكاره مطلقاً. وهذا مسلك الأكثر من المفسرين والمحدثين، وممن ذهب إليه: ابن خزيمة، والجصاص، وابن حزم، والبيهقي، والقاضي ابن عطية، والسهيلي، والفخر الرازي، وأبو العباس القرطبي، وعبد العظيم المنذري، والبيضاوي، والطيبي، وأبو حيان، والعيني، وأبو السعود، والآلوسي، والقاسمي، والمباركفوري، وسيد قطب، والأستاذ محمد عبده، وابن باز. (¬2) قال ابن خزيمة: «هذه القصة من وضع الزنادقة». (¬3) وقال ابن حزم: «وأما الحديث الذي فيه: (وأنهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتها لترتجى) فكذب بحت موضوع؛ لأنه لم يصح قط من طريق النقل، ولا معنى للاشتغال به، إذ وضع الكذب لا يعجز عنه أحد». اهـ (¬4) ¬
وقال البيهقي: «هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل». (¬1) وقال ابن عطية: «وهذا الحديث الذي فيه (هن الغرانقة) وقع في كتب التفسير ونحوها، ولم يدخله البخاري ولا مسلم، ولا ذكره في علمي مصنف مشهور، بل يقتضي مذهب أهل الحديث أنَّ الشيطان ألقى، ولا يعينون هذا السبب ولا غيره، ولا خلاف أنَّ إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة بها وقعت الفتنة». اهـ (¬2) أدلة القائلين بضعف الحديث وبطلانه، وهم أصحاب المسلك الأول والثاني: استدل هؤلاء على بطلان القصة بأدلة منها: الأول: أنَّ في سياق آيات النجم التي تخللها إلقاء الشيطان المزعوم قرينة قرآنية واضحة على بطلان هذا القول؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ بعد موضع الإلقاء المزعوم بقليل قوله تعالى - في اللات والعزى -: (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ) [النجم: 23] وليس من المعقول أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - يسب آلهتهم هذا السب العظيم في سورة النجم متأخراً عن ذكره لها بالخير المزعوم، إلا وغضبوا ولم يسجدوا؛ لأن العبرة بالكلام الأخير. (¬3) الدليل الثاني: أنه قد دلت آيات قرآنية على بطلان هذا القول وهي الآيات الدالة على أنَّ الله لم يجعل للشيطان سلطاناً على النبي - صلى الله عليه وسلم - وإخوانه من الرسل وأتباعهم المخلصين؛ كقوله تعالى: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ (100)) [النحل: 99 - 100]، وقوله تعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)) [الحجر: 42]، وقوله تعالى: (وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ) [سبأ: 21]، وقوله: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) [إبراهيم: 22]، وعلى القول المزعوم أنَّ الشيطان ألقى على ¬
لسانه - صلى الله عليه وسلم - ذلك الكفر البواح، فأي سلطان له أكبر من ذلك. (¬1) الدليل الثالث: قوله تعالى في النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)) [النجم: 3 - 4]، وقوله: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)) [الشعراء: 221 - 222]، وقوله: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)) [الحاقة: 44 - 46]، وقوله - في القرآن العظيم -: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)) [الحجر: 9]، وقوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)) [فصلت: 41 - 42]، فقوله: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ) فعلٌ في سياق النفي، والفعل في ساق النفي من صيغ العموم، وهو في الآية يعم نفي كل باطل يأتي القرآن، وقد أكد هذا العموم بقوله: (مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ)، فلو قدَّرْنا أنَّ الشيطان أدخل في القرآن على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: (تلك الغرانيق العلى) لكان قد أتى القرآنَ أعظمُ باطلٍ بين يديه ومن خلفه؛ فيكون تصريحاً بتكذيب الله جل وعلا في قوله: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ)، وكلُّ خبرٍ ناقضَ القرآنَ العظيم فهو كاذب؛ للقطع بصدق القرآن العظيم، ونقيضُ الصادقِ كاذبٌ ضرورة. (¬2) الدليل الرابع: قوله تعالى: (وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً (74)) [الإسراء: 73 - 74]، وهاتان الآيتان تردان الخبر المروي في سبب نزول الآية؛ لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفتري، وأنه لولا أن ثبته لكاد يركن إليهم؛ فمضمون هذا ومفهومه أنَّ الله تعالى عصمه من أن يفتري، وثبته حتى لم يركن إليهم قليلاً، فكيف كثيراً! وفي هذا الخبر الواهي أنه زاد على الركون والافتراء بمدح آلهتهم وأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: افتريت على الله، وقلت ما لم يقل، وهذا ضد مفهوم الآية، وهو يدل على ضعف ¬
الحديث وبطلانه. (¬1) الدليل الخامس: الإجماع على عصمته - صلى الله عليه وسلم - ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة، إما من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهة غير الله، وهو كفر، أو أن يتسور عليه الشيطان، ويشبه عليه القرآن، حتى يجعل فيه ما ليس منه، ويعتقد النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ من القرآن ما ليس منه حتى ينبهه جبريل عليه السلام، وذلك كله ممتنع في حقه - صلى الله عليه وسلم -، أو يقول ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - من قبل نفسه عمداً، وذلك كفر، أو سهواً، وهو معصوم من هذا كله. (¬2) الدليل السادس: أنَّ الحديث قد رُوي من طرق صحيحة متعددة: «أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ فَسَجَدَ بِهَا، وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ». (¬3) وليس في هذه الطرق ذكر لقصة الغرانيق، ولو كانت ¬
صحيحة لنقلت عبر هذه الأسانيد، وهذا يدل على بطلانها ووضعها. (¬1) الدليل السابع: أنَّ إثبات مثل هذه القصة يرفع الأمان والوثوق بالوحي، ويُجوِّزُ إدخال الشيطان فيه ما ليس منه، وهذا محال وباطل. (¬2) الثالث: مسلك قبول الحديث، مع تأويله وصرفه عن ظاهره. وهذا مذهب: الواحدي، وأبي المظفر السمعاني، والزمخشري، والنسفي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن جزي الكلبي، والحافظ ابن حجر، والملا علي القاري. وممن ذهب إليه من المتأخرين: إبراهيم الكوراني (¬3)، وقد نقل كلامه الآلوسي في تفسيره، وذكر عنه أنه تحصل له بعد كلام طويل: «أنَّ الحديث أخرجه غير واحد من أهل الصحة، وأنه رواه ثقات بسند سليم متصل عن ابن عباس، وبثلاث أسانيد صحيحة عن ثلاث من التابعين من أئمة الآخذين عن الصحابة، وهم سعيد بن جبير، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وأبو العالية، وقد قال السيوطي في (لباب النقول في أسباب النزول) (¬4): قال الحاكم (في علوم الحديث) (¬5): «إذا أخبر الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا فإنه حديث مسند. ومشى عليه ابن الصلاح وغيره. ثم قال: ما جعلناه من قبيل المسند من الصحابي إذا وقع من تابعي فهو مرفوع أيضاً لكنه مرسل، فقد يُقبل إذا صح السند إليه وكان من أئمة التفسير الآخذين عن الصحابة؛ كمجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، أو اعتضد بمرسل ونحو ذلك، فعلى هذا يكون الخبر في القصة مسنداً من الطريق المتصلة بابن عباس، مرسلاً مرفوعاً من الطرق الثلاثة، والزيادة فيه -التي رواها الثقات عن ابن ¬
عباس في غير رواية البخاري (¬1) - ليست مخالفة لما في البخاري عنه؛ فلا تكون شاذة؛ فإطلاق الطعن فيه من حيث النقل ليس في محله». اهـ (¬2) هذا وقد ذكر أصحاب هذا المسلك عدة تأويلات للحديث دفعوا بها ما فيه من إشكال: الأول: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرتل القرآن بمحضر من مشركي قريش، فارتصده الشيطان في سكتة من سكتاته، فنطق بتلك الكلمات محاكياً نغمة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فسمعها من دنا إليه من المشركين، وظنها من قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فأشاعوها وتناقلوها على أنها من قوله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا التأويل ذكره أصحاب المسلك الأول في أجوبتهم عن الحديث على التسليم بثبوته، وقد تقدم. وذكره أيضاً بعض أصحاب هذا المسلك، وهم القائلون بثبوت الحديث، ومن القائلين بهذا التأويل: أبو المظفر السمعاني، والنسفي، وشيخ الإسلام ابن تيمية (¬3)، وابن جزي، والحافظ ابن حجر، والملا علي القاري. (¬4) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «التَّمَنِّي فِي الْآيَةِ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِلْقَاءَ هُوَ فِي سَمْعِ الْمُسْتَمِعِينَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ الرَّسُولُ. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ تَأَوَّلَ الْآيَةَ بِمَنْعِ جَوَازِ الْإِلْقَاءِ فِي كَلَامِهِ. والثَّانِي - وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ السَّلَفِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ -: أَنَّ الْإِلْقَاءَ فِي نَفْسِ التِّلَاوَةِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَسِيَاقُهَا مِنْ غَيْرِ ¬
وَجْهٍ، وكَمَا وَرَدَتْ بِهِ الْآثَارُ الْمُتَعَدِّدَةُ، وَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ، إلَّا إذَا أُقِرَّ عَلَيْهِ، فَأَمَّا إذَا نَسَخَ اللَّهُ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ وَأَحْكَمَ آيَاتِهِ فَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ هُوَ خَطَأً وَغَلَطاً فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ إلَّا إذَا أُقِرَّ عَلَيْهِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مَعْصُومٌ فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَنْ يُقَرَّ عَلَى خَطَأٍ، كَمَا قَالَ: «فَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ اللَّهِ بِشَيْءِ فَخُذُوا بِهِ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ» (¬1)، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا قَامَتْ الْحُجَّةُ بِهِ، فَإِنَّ كَوْنَهُ رَسُولَ اللَّهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ اللَّهِ، وَالصِّدْقُ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ الْكَذِبِ وَنَفْيَ الْخَطَأِ فِيهِ. (فَلَوْ جَازَ عَلَيْهِ الْخَطَأُ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ اللَّهِ وَأُقِرَّ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ كُلمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ اللَّهِ) (¬2). وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا أَنْ يَقَعَ الْإِلْقَاءُ فِي تَبْلِيغِهِ فَرُّوا مِنْ هَذَا وَقَصَدُوا خَيْرًا وَأَحْسَنُوا فِي ذَلِكَ; لَكِنْ يُقَالُ لَهُمْ: أَلْقَى ثُمَّ أَحْكَمَ فَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ. فَإِنَّ هَذَا يُشْبِهُ النَّسْخَ لِمَنْ بَلَغَهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَإِنَّهُ إذًا مُوقِنٌ مُصَدِّقٌ بِرَفْعِ قَوْلٍ سَبَقَ لِسَانُهُ بِهِ لَيْسَ أَعْظَمَ مِنْ إخْبَارِهِ بِرَفْعِهِ». اهـ (¬3) وقال الحافظ ابن حجر بعد أن قرر صحة الحديث: «وإذا تقرر ذلك تعين تأويل ما وقع فيها مما يستنكر، وهو قوله: «ألقى الشيطان على لسانه: (تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى)»؛ فإن ذلك لا يجوز حمله على ظاهره؛ لأنه يستحيل عليه - صلى الله عليه وسلم - أن يزيد في القرآن عمداً ما ليس منه، وكذا سهواً، إذا كان مغايراً لما جاء به من التوحيد، لمكان عصمته، وقد سلك العلماء في ذلك مسالك .... ». ثم ذكر هذه المسالك، وقد نقلها من كتاب الشفا، للقاضي عياض، ثم قال بعد أن أورد التوجيه المذكور: «قال: وهذا أحسن الوجوه، ويؤيده ما تقدم في صدر الكلام عن ابن عباس (¬4): من تفسيره (تمنى) ¬
بـ: (تلا)». اهـ (¬1) التأويل الثاني: أنَّ ذلك جرى على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أصابته سِنَةٌ وهو لا يشعر، فلما علم بذلك أحكم الله آياته. ذكره القاضي عياض، ونسبه لقتادة، ومقاتل. (¬2) وهو الظاهر من كلام الواحدي. (¬3) وتعقب هذا التأويل القاضي عياض فقال: «وهذا لا يصح، إذ لا يجوز على النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله في حالة من أحواله، ولا يخلقه الله على لسانه، ولا يستولي الشيطان عليه في نوم ولا يقظة؛ لعصمته في هذا الباب من جميع العمد والسهو». اهـ (¬4) ¬
وتعقبه أيضاً الفخر الرازي فقال: «وهذا ضعيف لوجوه: أحدها: أنه لو جاز هذا السهو لجاز في سائر المواضع، وحينئذ تزول الثقة عن الشرع. وثانيها: أنَّ الساهي لا يجوز أن يقع منه مثل هذه الألفاظ المطابقة لوزن السورة وطريقتها ومعناها، فإنا نعلم بالضرورة أنَّ واحداً لو أنشد قصيدة لما جاز أن يسهو حتى يتفق منه بيت شعر في وزنها ومعناها وطريقتها. وثالثها: هب أنه تكلم بذلك سهواً، فكيف لم ينتبه لذلك حين قرأها على جبريل عليه السلام، وذلك ظاهر». اهـ (¬1) التأويل الثالث: أنَّ الشيطان ألجأ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن قال ذلك بغير اختيار منه - صلى الله عليه وسلم -. ذكره الحافظ ابن حجر دون نسبة. (¬2) وتعقبه الفخر الرازي فقال: «وهذا فاسد لوجوه: أحدها: أنَّ الشيطان لو قَدِرَ على ذلك في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - لكان اقتداره علينا أكثر، فوجب أن يزيل الشيطان الناس عن الدين، ولجاز في أكثر ما يتكلم به الواحد منا أن يكون ذلك بإجبار الشياطين. وثانيها: أنَّ الشيطان لو قدر على هذا الإجبار لارتفع الأمان عن الوحي لقيام هذا الاحتمال. وثالثها: أنه باطل بدلالة قوله تعالى حاكياً عن الشيطان: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم) [إبراهيم: 22] وقال تعالى: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ (100)) [النحل: 99 - 100] وقال: (إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)) [الحجر: 40] ولا شك أنه عليه السلام كان سيد المخلصين». اهـ (¬3) التأويل الرابع: أنَّ ذلك جرى على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - على سبيل السهو والغلط. جاء ذلك في رواية أبي بكر بن عبد الرحمن. (¬4) ¬
وهو رأي الزمخشري، قال: «ولم يفطن له النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أدركته العصمة فتنبه عليه». اهـ (¬1) وتعقبه القاضي عياض فقال: «وهذا السهو في القراءة إنما يصح فيما ليس طريقه تغيير المعاني، وتبديل الألفاظ، وزيادة ما ليس من القرآن، بل السهو عن إسقاط آية منه أو كلمة، ولكنه لا يُقرُّ على هذا السهو، بل يُنَبَّهُ عليه، ويُذَكَّرُ به للحين». اهـ (¬2) التأويل الخامس: أنَّ ذلك جرى على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - حقيقة لكنه أراد بالغرانيق: الملائكة. وهذا رأي عمر بن رسلان البلقيني (¬3)، حيث قال: «التحقيق أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلم بهذا اللفظ - يعني: (تلك الغرانيق العلى) بطوعه، وأنه آية من القرآن نُسِخَ تلاوتُها، قال: والمشار إليه بتلك الغرانيق: الملائكة، قال: وأتى العيني والحافظ بروايتين صحيحتين مرفوعتين على هذا القول الصحيح». اهـ نقله عنه المباركفوري، وتعقبه فقال: «وكلامه هذا مردود عليه؛ فإنه لم يثبت برواية مرفوعة صحيحة أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلم بهذا اللفظ بطوعه، وأنه آية من القرآن نسخ تلاوتها، وأما قوله: وأتى العيني والحافظ بروايتين صحيحتين مرفوعتين على هذا القول الصحيح. فخطأ فاحش ووهم قبيح؛ فإنه لم يأت العيني ولا الحافظ برواية مرفوعة صحيحة على هذا القول، فضلاً عن روايتين مرفوعتين صحيحتين». اهـ (¬4) التأويل السادس: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نطق بذلك على فهم أنه استفهام إنكاري حُذِفَ منه الهمزة، أو نطق به وقصده حكاية قولهم. قاله إبراهيم الكوراني. (¬5) الرابع: مسلك قبول الحديث مطلقاً، وإعماله على ظاهره من دون تأويل. ¬
المبحث الخامس: الترجيح
وهذا مذهب ابن قتيبة، وابن بطال، ومرعي بن يوسف الكرمي، وعبد الرحمن السعدي. (¬1) قال السعدي: «وهذه الآيات فيها بيان أنَّ للرسول - صلى الله عليه وسلم - أسوةً بإخوانه المرسلين، لما وقع منه عند قراءته - صلى الله عليه وسلم - (وَالنَّجْمِ) فلما بلغ: (أفرأيتم اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)) [النجم: 19 - 20] ألقى الشيطان في قراءته: (تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى)، فحصل بذلك للرسول - صلى الله عليه وسلم - حزن، وللناس فتنة، كما ذكر الله؛ فأنزل الله هذه الآيات». قال: «وقد عصم الله الرسل بما يبلغون عن الله، وحفظ وحيه أن يشتبه أو يختلط بغيره، ولكن هذا إلقاء من الشيطان غير مستقر ولا مستمر، وإنما هو عارض يعرض ثم يزول، وللعوارض أحكام». اهـ (¬2) المبحث الخامس: الترجيح: الحق أنَّ هذه القصة ضعيفة بل باطلة، لأنَّ كل الروايات الواردة فيها مُعَلَّةٌ؛ إما بالإرسال، أو الضعف، أو الجهالة، وليس فيها ما يصلح للاحتجاج به، لا سيّما في مثل هذا الأمر الخطير، الذي يمس مقام نبينا الكريم - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) والحق أنَّ الآية لا يصح في سبب نزولها شيء، وغاية ما في الآية الإخبار من الله تعالى أنَّ الشيطان يُلقي شيئاً ما عند (¬4) تلاوة نبي من الأنبياء، إلا أننا لا نستطيع الجزم بتعيين ذلك الشيء، ولا يَحِلُّ لنا تعيينه بناء على ¬
روايات ضعيفة لا يعتمد عليها؛ فإن ذلك من التفسير المذموم الذي حَذَّرَ منه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) والأقرب في معنى الآية: أنَّ الله تعالى يُذَكِّرُ نبيه بأنه ما أرسل من قبله من رسول ولا نبي إلا وحاله أنه إذا قرأ شيئاً من الآيات - على المعنى الذي أراد الله تعالى - ألقى الشيطان في قلوب أوليائه وأتباعه معنىً غير المعنى الذي أراد الله تعالى، من الشُّبَه والوساوس والمعاني الباطلة، فينسخ الله تلك الشُّبَه التي ألقاها الشيطان، بمعنى أنه يبطلها ويذهبها، ثم يحكم آياته فلا يبقى إلا الحق الذي أراده سبحانه، وهذا الإلقاء إنما هو من الشيطان، وهو على صورة إيحاء، وهو كائن في قلوب الذين كفروا، وليس هو إلقاء من الشيطان، في قراءة نبي من الأنبياء؛ بصوت مسموع، فهو لا يستطيع ذلك. وقد قدَّر الله تعالى إيقاع هذه الإيحاءات من الشيطان، ابتلاءً منه وامتحاناً؛ ليجعل ذلك فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم. (¬2) «والمراد بالنسخ في الآية هو النسخ اللغوي، الذي هو بمعنى الإزالة والإبطال، لا النسخ الشرعي الذي هو: رفع حكم شرعي بخطاب جديد؛ لأن ما ألقاه الشيطان ليس بحكم، حتى يكون رفعه نسخاً شرعياً؛ بل هو باطل أبطله الله وأزاله». (¬3) إذا علمت هذا فإن الآية تدل على أنَّ الله ينسخ شيئاً ألقاه الشيطان، ليس مما يقرؤه الرسول أو النبي، وأن ما يلقيه الشيطان: هي الشكوك والوساوس المانعة من تصديق القرآن وقبوله؛ كإلقائه عليهم أنه سحر أو شعر أو أساطير الأولين، وأنه مفترى على الله وليس منزل من عنده، والدليل على هذا المعنى: أنَّ الله بين أنَّ الحكمة - في الإلقاء المذكور - هي امتحان الخلق؛ لأنه قال: (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ ¬
قُلُوبُهُمْ) [الحج: 53]، ثم قال: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) [الحج: 54]، فقوله: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ) يدل على أنَّ الشيطان يلقي عليهم: أنَّ الذي يقرؤه النبي ليس بحق؛ فيصدقه الأشقياء، ويكون ذلك فتنة لهم، ويكذبه المؤمنون الذين أوتوا العلم، ويعلمون أنه الحق، لا الكذب، كما يزعم لهم الشيطان في إلقائه، فهذا الامتحان لا يناسب شيئاً زاده الشيطان من نفسه في القراءة. (¬1) «هذا هو المعنى المراد من هذه الآية الكريمة، وهي كما ترى ليس فيها إلا أنَّ الشيطان يلقي عند تلاوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يفتتن به الذين في قلوبهم مرض، ولكن أعداء الدين الذين قعدوا له في كل طريق، وترصدوا له كل مرصد، لا يرضيهم إلا أن يدسوا فيه ما ليس منه، ولم يقله رسوله، فذكروا ما لا يليق بمقام النبوة والرسالة وذلك دَيْدَنهم منذ القديم، كما فعلوا في غير ما آية وردت في غيره - صلى الله عليه وسلم - من الأنبياء، كداود، وسليمان، ويوسف عليهم الصلاة والسلام، فرووا في تفسيرها من الإسرائيليات ما لا يجوز نسبته إلى رجل مسلم فضلاً عن نبي مُكَرَّم، كما هو مبين في محله من كتب التفاسير والقصص». (¬2) وهذا المعنى الذي قلناه في تفسير الآية يشهد له آيات من كتاب الله عز وجل؛ كقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ (113)) [الأنعام: 112 - 113]، وقوله تعالى: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ) [الأنعام: 121]. وأما ما ذهب إليه الحافظ ابن حجر من تصحيح الحديث وقبوله، فهو اجتهاد منه رحمه الله، وقد خالفه جمع من العلماء المحققين، كما تقدم، وردَّ عليه آخرون وبيّنوا أنَّ الصواب هو ضعف الحديث وبطلانه، وأجود من ناقش هذه المسألة مع الحافظ ابن حجر هو الألباني في كتابه «نصب المجانيق» (¬3)، وقد ¬
آثرتُ أن أنقل كلامه بطوله؛ لجودته ونفاسته، ولكن بعد نقل كلام الحافظ بتمامه، حتى يلتئم الكلام بعضه مع بعض: قال الحافظ ابن حجر - بعد أن ساق بعضاً من روايات الحديث -: «وكلها سوى طريق سعيد بن جبير إما ضعيف أو منقطع، لكن كثرة الطرق تدل على أنَّ للقصة أصلاً، مع أنَّ لها طريقين آخرين مرسلين، رجالهما على شرط الصحيحين، أحدهما: ما أخرجه الطبري من طريق يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام .... ، فذكره. والثاني: ما أخرجه أيضاً من طريق المعتمر بن سليمان، وحماد بن سلمة، فرقهما عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية. قال: وقد تجرأ أبو بكر بن العربي كعادته فقال: ذكر الطبري في ذلك روايات كثيرة باطلة لا أصل لها. وهو إطلاق مردود عليه، وكذا قول عياض: هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل، مع ضعف نقلته، واضطراب رواياته، وانقطاع إسناده. وكذا قوله: ومن حُمِلَتْ عنه هذه القصة من التابعين والمفسرين لم يسندها أحد منهم، ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم في ذلك ضعيفة واهية. قال: وقد بين البزار أنه لا يُعرف من طريق يجوز ذكره؛ إلا طريق أبي بشر، عن سعيد بن جبير، مع الشك الذي وقع في وصله، وأما الكلبي فلا تجوز الرواية عنه؛ لقوة ضعفه. ثم رده من طريق النظر: بأن ذلك لو وقع لارتد كثير ممن أسلم. قال: ولم ينقل ذلك. انتهى. قال الحافظ ابن حجر: وجميع ذلك لا يتمشى على القواعد؛ فإن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك على أنَّ لها أصلاً، وقد ذكرتُ أنَّ ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح، وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل، وكذا من لا يحتج به؛ لاعتضاد بعضها ببعض ... ». اهـ (¬1) مناقشة الألباني لابن حجر: قال الألباني - بعد أن أورد كلام الحافظ السابق -: «والجواب عن ذلك من وجوه: ¬
أولاً: أنَّ القاعدة التي أشار إليها، وهي تقوية الحديث بكثرة الطرق ليست على إطلاقها، وقد نبّه على ذلك غير واحد من علماء الحديث المحققين، منهم الحافظ أبو عمر بن الصلاح حيث قال رحمه الله في (مقدمة علوم الحديث): «لعل الباحث الفهم يقول: إنا نجد أحاديث محكوماً بضعفها، مع كونها قد رُويَت بأسانيد كثيرة من وجوه عديدة، مثل حديث: «الأذنان من الرأس» (¬1) ونحوه، فهلاّ جعلتم ذلك وأمثاله من نوع الحسن؛ لأن بعض ذلك عضد بعضاً كما قلتم في نوع الحسن على ما سبق آنفاً؟! وجواب ذلك: أنه ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه، بل ذلك يتفاوت، فمنه ما يزيله ذلك بأن يكون ضعفه ناشئاً من ضعف حفظ راويه، ولم يختلّ فيه ضبطه له، وكذلك إذا كان ضَعفه من حيث الإرسال زال بنحو ذلك، كما في المرسل الذي يرسله إمام حافظ، إذ فيه ضعف قليل يزول بروايته من وجه آخر، ومن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك لقوة الضعف، وتقاعد هذا الجابر عن جبره ومقاومته، وذلك كالضعيف الذي ينشأ من كون الراوي متهماً بالكذب، أو كون الحديث شاذاً. وهذه جملة تفاصيلها تُدرَك بالمباشرة والبحث، فاعلم ذلك فإنه من النفائس العزيزة». (¬2) قال الألباني: ولقد صدق رحمه الله تعالى، فإن الغَفْلَةَ عن هذه النفيسة قد أوقعت كثيراً من العلماء، لا سيّما المشتغلين منهم بالفقه في خطأ فاضح، ألا وهو تصحيح كثير من الأحاديث الضعيفة اغتراراً بكَثرة طُرقها، وذهولاً منهم عن كون ضعفها من النوع الذي لا ينجبر الحديث بضعفها، بل لا تزيده إلا وَهناً على وهن، ومن هذا القبيل حديث ابن عباس في هذه القصة، فإن طرقه كلها ضعيفة جداً كما تقدم، فلا يتقوى بها أصلاً. ¬
لكن يبقى النظر في طرق الحديث الأخرى، هل يَتَقَوّى الحديث بها، أم لا؟ فاعلم أنها كلها مرسلة، وهي على إرسالها مُعَلَّةٌ بالضعف والجهالة، سوى الطرق الأربعة الأولى منها (¬1)، فهي التي تستحق النظر؛ لأن الحافظ رحمه الله جعلها عمدته في تصحيحه هذه القصة، وتقويته لها بها، وهذا مما نخالفه فيه، ولا نوافقه عليه، وبيان ذلك يحتاج إلى مقدمة وجيزة مفيدة إن شاء الله تعالى، وهي: الوجه الثاني: وهو يحتوي على تحقيق أمرين أساسيين: الأول: أنَّ الحديث المُرسَل، ولو كان المُرسِل ثقة، لا يُحتج به عند أئمة الحديث، كما بيّنه ابن الصلاح في (علوم الحديث) وجزم هو به فقال: «ثم اعلم أنَّ حكم المُرسَل حكم الحديث الضعيف، إلا أن يصح مخرجه بمجيئه من وجه آخر كما سبق بيانه ... ، وما ذكرناه من سقوط الاحتجاج بالمرسل والحكم بضَعفه، هو المذهب الذي استقرَّ عليه آراء جماهير حفّاظ الحديث، ونقاد الأثر، وقد تداولوه في تصانيفهم». اهـ (¬2) قال الألباني: الأمر الثاني: معرفة سبب عدم احتجاج المحدثين بالمُرسَل من الحديث، فاعلم أنَّ سبب ذلك إنما هو جَهالة الوساطة التي روى عنها المُرسِلُ الحديثَ، وقد بيّن ذلك الخطيب البغدادي في (الكفاية في علم الرواية) حيث قال - بعد أن حكى الخلاف بالعمل بالمرسل-: «والذي نختاره سقوط فرض العمل بالمراسيل، وأن المرسل غير مقبول، والذي يدل على ذلك: أنَّ إرسال الحديث يؤدي إلى الجهل بعين راويه، ويستحيل العلم بعدالته مع الجهل بعينه، وقد بيّنا من قبل أنه لا يجوز قبول الخبر إلا ممن عُرِفَتْ عدالته، فوجب كذلك كونه غير مقبول، وأيضاً فإن العدل لو سُئِلَ عمن أرسل عنه؟ فلم يُعدّله، لم يجب العمل بخبره، إذا لم يكن معروفَ العدالةِ من جهة غيره، وكذلك حاله إذا ابتدأ الإمساك عن ذكره وتعديله، لأنه مع الإمساك عن ¬
ذكره غير مُعدّل له، فوجب أن لا يُقبل الخبر عنه». اهـ (¬1) وقال الحافظ ابن حجر في (شرح نخبة الفكر) - بعد أن ذكر الحديث المرسل في أنواع الحديث المردود: «وإنما ذكر في قسم المردود للجهل بحال المحذوف، لأنه يحتمل أن يكون صحابياً، ويحتمل أن يكون تابعياً، وعلى الثاني يحتمل أن يكون ضعيفاً، ويحتمل أن يكون ثقة، وعلى الثاني يحتمل أن يكون حُمل عن صحابي، ويحتمل أن يكون حمل عن تابعي آخر، وعلى الثاني فيعود الاحتمال السابق ويتعدد، أما بالتجويز العقلي، فإلى مالا نهاية، وأما بالاستقراء، فإلى ستة أو سبعة، وهو أكثر ما وُجِدَ من رواية بعض التابعين عن بعض، فإن عُرِفَ من عادة التابعي أنه لا يرسل إلا عن ثقة، فذهب جمهور المحدثين إلى التوقف، لبقاء الاحتمال، وهو أحد قولي أحمد، وثانيهما: يُقبلُ مطلقاً، وقال الشافعي رضي الله عنه: يُقبل إن اعتضد بمجيئه من وجه آخر يباين الطريق الأولى مسنداً كان أو مرسلاً؛ ليترجّح احتمال كون المحذوف ثقة في نفس الأمر». اهـ (¬2) قال الألباني: فإذا عُرِفَ أنَّ الحديث المُرسَل لا يقبل، وأن السبب هو الجهل بحال المحذوف فيرد عليه أنَّ القول بأنه يقوى بمرسل آخر غير قوي لاحتمال أن يكون كل من أرسله إنما أخذه عن راوٍ واحد، وحينئذ ترد الاحتمالات الذي ذكرها الحافظ، وكأن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قد لاحظ ورود هذا الاحتمال وقوته، فاشترط في المرسل الآخر أن يكون مُرسِله أخذ العلم عن غير رجال التابعي الأول، كما حكاه ابن الصلاح (¬3)، وكأن ذلك لَيغلب على الظن أنَّ المحذوف في أحد المرسَلين هو غيره في المرسَل الآخر. وهذه فائدة دقيقة لم أجدها في غير كلام الشافعي رحمه الله، فاحفظها وراعِها فيما يمر بك من المرسَلات التي يذهب البعض إلى تقويتها لمجرد مجيئها من وجهين مرسَلين، دون أن يراعوا هذا الشرط المهم. ¬
ثم رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية قد نصّ أيضاً على هذا الشرط في كلام له مفيد في أصول التفسير، نقله عنه الحافظ محمد بن عبد الهادي (¬1) في كتاب له مخطوط في الأحاديث الضعيفة والموضوعة، حديث (405/ 221)، فقال ابن تيمية رحمة الله تعالى: «وأما أسباب النزول، فغالبها مرسل، ليس بمسند، لهذا قال الإمام أحمد: «ثلاث علوم لا إسناد لها. وفي لفظ: ليس لها أصل: التفسير، والمغازي، والملاحم». (¬2) يعني أنَّ أحاديثها مرسلة، ليست مسندة. والمراسيل قد تنازع الناس في قَبولها وردها. وأصح الأقوال: أنَّ منها المقبول، ومنها المردود، ومنها الموقوف، فمن عُلم من حاله أنه لا يرسل إلا عن ثقة قُبل مُرسَلُه، ومن عُرف أنه يُرسِل عن الثقة وغير الثقة، كان إرساله رواية عمن لا يُعرف حاله، فهو موقوف. وما كان من المراسيل مخالفاً لما رواه الثقات، كان مردوداً، وإن جاء المرسَل من وجهين، كل من الراويين أخذ العلم عن غير شيوخ الآخر، فهذا يدل على صدقه فإن مثل ذلك لا يُتصور في العادة تماثل الخطأ فيه وتعمد الكذب ... ». اهـ قال الألباني: ومع أنَّ التحقق من وجود هذا الشرط في كل مرسَل من هذا النوع، ليس بالأمر الهيِّن، فإنه لو تحققنا من وجوده، فقد يَردُ إشكال آخر، وهو أنه يحتمل أن يكون كل من الواسطتين أو أكثر ضعيفاً، وعليه يحتمل أن يكون ضعفهم من النوع الأول الذي ينجبر بمثله الحديث على ما سبق نقله عن ابن الصلاح، ويحتمل أن يكون من النوع الآخر الذي لا يقوى الحديث بكثرة طرقه، ومع ورود هذه الاحتمالات يسقط الاستدلال بالحديث المرسل وإن تعددت طرقه. وهذا التحقيق مما لم أجد مَن سبقني إليه، فإن أصبت فمن الله تعالى وله الشكر، وإن أخطأت فمن نفسي، وأستغفر الله من ذنبي. وبالجملة فالمانع من الاستدلال بالحديث المرسل الذي تعدد مرسِلوه أحد الاحتمالين: الأول: أن يكون مصدر المرسلين واحداً. ¬
الثاني: أن يكونوا جمعاً، ولكنهم جميعاً ضعفاء ضعفاً شديداً. وبعد هذه المقدمة نستطيع أن نقول: إننا لو ألقينا النظر على روايات هذه القصة، لألفيناها كلها مرسَلة، حاشا حديث ابن عباس، ولكن طرقه كلها واهية شديدة الضعف لا تنجبر بها تلك المراسيل، فيبقى النظر في هذه المراسيل، وهي كما علمت سبعة، صح إسناد أربعة منها، وهي مرسل سعيد بن جبير، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وأبي العالية، ومرسل قتادة، وهي مراسيل يرد عليها أحد الاحتمالين السابقين، لأنهم من طبقة واحدة: فوفاة سعيد بن جبير سنة (95) وأبي بكر بن عبد الرحمن سنة (94)، وأبي العالية - واسمه رفيع مصغراً - سنة (90) وقتادة سنة بضع عشرة ومائة، والأول كوفي، والثاني مدني، والأخيران بصريان. فجائز أن يكون مصدرهم - الذي أخذوا منه هذه القصة ورووها عنه - واحداً لا غير، وهو مجهول، وجائز أن يكون جمعاً، ولكنهم ضعفاء جميعاً، فمع هذه الاحتمالات لا يمكن أن تطمئن النفس لقَبول حديثهم هذا، لا سيّما في مثل هذا الحدث العظيم الذي يمسّ المقام الكريم، فلا جَرَم تتابع العلماء على إنكارها، بل التنديد ببطلانها، ولا وجه لذلك من جهة الرواية إلا ما ذكرنا .... ». اهـ (¬1) وقال الألباني: «وأما قول الحافظ في (الفتح) بعد أن نقل خلاصة عن الوجوه التي تقدمت عن الإمامين المذكورَيْن في إعلال القصة وتوهينها: «وجميع ذلك لا يتمشى على القواعد، فإن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها، دلّ ذلك على أنَّ لها أصلاً، وقد ذكرت أنَّ ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح، وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل، وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض». اهـ فأقول: إن هذا الجواب ليس بالقوي على إطلاقه لما بيَّنّا فيما تقدم أنَّ تقوية الحديث بكثرة الطرق ليس قاعدة مضطردة، نعم من ذهب إلى الاحتجاج بالمرسل مطلقاً أو عند اعتضاده، ففي الجواب رد قوي عليه، كالقاضي عياض ¬
وغيره ممن يقبل مرسل الثقة، أما نحن فهو غير وارد علينا لما أوردنا من الاحتمالات التي تمنع الاحتجاج بالحديث المرسل، ولو من غير وجه، ولعل هذا مذهب الحافظ ابن كثير حيث قال عند تفسيره للآية السابقة: «قد ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغرانيق، وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة، ظناً منهم أنَّ مشركي قريش قد أسلموا، ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح». اهـ (¬1) فإن ابن كثير يعلم أنَّ بعض هذه المراسيل التي أشار إليها أسانيدها صحيحة إلى مُرْسِلها، فلو كان بعضها يعضد بعضاً عنده وتقوى القصة بذلك، لما ضعفها بحجة أنه لم يرها مسندة من وجه صحيح، وهذا بيِّن لا يخفى. ثم إن من الغريب أنَّ الحافظ ابن حجر مع ذهابه إلى تقوية القصة يرى أنَّ فيها ما يُستنكر وأنه يجب تأويله فيقول - بعد كلامه الذي نقلته آنفاً-: «وإذا تقرر ذلك تعيَّن تأويل ما وقع فيها مما يستنكر وهو قوله: ألقى الشيطان على لسانه: (تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى)؛ فإن ذلك لا يجوز حمله على ظاهره؛ لأنه يستحيل عليه - صلى الله عليه وسلم - أن يزيد في القرآن عمداً ما ليس منه، وكذا سهواً إذا كان مغايراً لما جاء به من التوحيد لمكان عصمته». اهـ (¬2) ثم ذكر الحافظ مسالك العلماء في تأويل ذلك، ثم اعتمد على الوجه الأخير منها (¬3)، وهو الذي نقلناه عن القاضي عياض قُبَيْلَ هذا الفصل، وقلنا إنه رجَّحه، ثم قال الحافظ: «وهذا أحسن الوجوه، ويؤيِّده ما تقدم في صدر الكلام عن ابن عباس من تفسير تمنَّى بـ (تلا)». (¬4) فينتج من ذلك أنَّ الحافظ رحمه الله، قد سلَّم أنَّ الشيطان لم يتكلم على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - بتلك الجملة، وإنما ألقاها الشيطان بلسانه في سكتة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهذا لا يتفق ألبتة مع القول بصحة القصة، أو أنَّ لها أصلاً، فإن كان يريد ¬
بذلك أنَّ لها أصلاً في الجملة، أعني بدون هذه الزيادة، فهذا ليس هو موضع خلاف بينه وبين العلماء الذين ردّ عليهم قولهم ببطلان القصة، وإنما الخلاف في الجملة التي تزعم الروايات أنَّ الشيطان ألقاها على لسانه - صلى الله عليه وسلم -؛ فإذ قد صرح الحافظ بإنكارها وتنزيه النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها فنستطيع أن نقول: إن الحافظ متفق مع ابن كثير وغيره ممن سبقه ولحقه على إنكار القصة على ما وردت في الروايات، حتى التي صحَّحها الحافظ، وأما ما بقي منها مما لا يتنافى مع عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا خلاف في إمكان وقوعها، بل الظاهر أنَّ هذا القدر هو الذي وقع بدليل ظاهر آية الحج حسبما تقدم تفسيرها في أوائل الرسالة. نعم يرد على الحافظ هنا اعتراضان: الأول: تليينه العبارة في إنكار تلك الزيادة، لأنه إنما أنكرها بطريق تأويلها! وحقه أن ينكرها من أصلها، لأن التأويل الذي زعمه ليست تفيده تلك الزيادة أصلاً. الثاني: تشنيعه القول على ابن العربي والقاضي عياض لإنكارهما القصة، ومع أنه يعلم أنهما أنكراها لِمَ فيها من البواطيل التي لا تتفق مع القول بعصمة الرسول الكريم، منها هذه الزيادة التي وافقهما الحافظ على استنكارها، مع فارق شكلي وهو أنهما كانا صريحين في إنكارها من أساسها، بينما الحافظ إنما أنكرها بطريق تأويلها ـ زعم ـ. ومن هنا يتبين لك ضعف ما قاله الحافظ ابن حجر في رده على القاضي في (تخريج الكشاف): «وأما طعنه فيه باختلاف الألفاظ فلا تأثير للروايات الواهية في الرواية القوية، فيعتمد من القصة على الرواية الصحيحة، أي: يُعتمد على الرواية المتابعة، وليس فيها وفيما تابعها اضطراب والاضطراب في غيرها، وأما طعنه من جهة المعنى فله أسوة كثيرة من الأحاديث الصِّحاح التي لا يؤخذ بظاهرها، بل يرد بالتأويل المعتمد إلى ما يليق بقواعد الدين». اهـ (¬1) قال الألباني: إن هذا الرد ضعيف؛ لأن الرواية الصحيحة التي أشار إليها هي رواية ابن جُبير، وفيها كما في غيرها من الروايات المتابعة الأمر ¬
المستنكر باعترافه، بل في بعض الروايات عن سعيد ما هو أنكر من ذلك وهو قوله: ثم جاءه جبريل بعد ذلك فقال: اعرض علي ما جئتك به، فلما بلغ: (تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى) قال له جبريل: لم آتك بهذا، وهذا من الشيطان!! وقد جاء هذا في غير رواية سعيد كما تقدم، ولازمه أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قد انطلى عليه وحي الشيطان واختلط عنده بوحي الرحمن، حتى لم يميِّز بينهما، وبقي على هذه الحالة ما بقي، إلى أن جاءه جبريل في المساء! سبحانك هذا بهتان عظيم، وافتراء جسيم. فاتضح أن ليس هناك رواية معتمدة صحيحة بالمعنى العلمي الصحيح، وأن الرواية التي صححها الحافظ قد أنكر بعضها هو نفسه فأين الاعتماد. وأما قوله: «إن حديث الغرانيق له أسوة بكثير من الأحاديث الصحيحة»، فصحيح لو صح إسناده، وأمكن تأويله، وكلا الأمرين لا نسلِّم به. أما الأول فلما علمت من إرساله من جميع الوجوه حاشا ما اشتد ضعفه من الموصول، وإنها على كثرتها لا تعضده. وأما الأمر الآخر فلأن التأويل الذي ذهب إليه الحافظ رحمه الله هو في الحقيقة ليس تأويلاً، بل هو تعطيل لحقيقة الجملة المستنكرة، وهو أشبه ما يكون بتأويلات بل تعطيلات القرامطة والرافضة للآيات القرآنية والأحاديث المصطفوية. تأييداً لمذاهبهم الهدّامة وآرائهم الباطلة، خلافاً للحافظ رحمه الله فإنه إنما فعل ذلك دفاعاً عن مقام الحضرة النبوية والعصمة المحمدية، فهو مشكور على ذلك ومأجور، وإن كان مخطئاً عندنا في ذلك التأويل مع تصحيح القصة». اهـ (¬1) **** ¬
المسألة [11]: في زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من زينب بنت جحش رضي الله عنها
المسألة [11]: في زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من زينب بنت جحش رضي الله عنها. المبحث الأول: ذكر الآية الواردة في المسألة: قال الله تعالى: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)) [الأحزاب: 37]. المبحث الثاني: ذكر الحديث المشكل الوارد في تفسير الآية: (89) ـ (76): عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «أَتَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْزِلَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - امْرَأَتَهُ زَيْنَبَ، وَكَأَنَّهُ دَخَلَهُ (لَا أَدْرِي مِنْ قَوْلِ حَمَّادٍ، أَوْ فِي الْحَدِيثِ) (¬1)؛ فَجَاءَ زَيْدٌ يَشْكُوهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ. قَالَ: فَنَزَلَتْ: (وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ) إِلَى قَوْلِهِ: (زَوَّجْنَاكَهَا) يَعْنِي زَيْنَبَ». (¬2) ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
المبحث الثالث: بيان وجه الإشكال في الحديث
المبحث الثالث: بيان وجه الإشكال في الحديث: ظاهر هذه الرواية، وما ورد في معناها من الروايات الأخرى، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وقع منه استحسان لزينب بنت جحش رضي الله عنها، وهي في عصمة زيد - رضي الله عنه -، وأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان حريصاً على أن يُطلقها زيد فيتزوجها هو، وهذه الرواية مشكلة؛ لما فيها من القدح بعصمة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والنيل من مقامه الشريف. (¬1) ¬
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع الإشكال الوارد في الحديث
المبحث الرابع: مسالك العلماء في دفع الإشكال الوارد في الحديث: للعلماء في دفع الإشكال الوارد في الحديث مسلكان: الأول: مسلك رد الحديث وإنكاره؛ وذلك لعدم ثبوته، ولما فيه من القدح بعصمة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويرى أصحاب هذا المسلك: أنَّ الصواب في سبب نزول الآية: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد أوحى الله إليه أنَّ زيداً يطلق زينب، وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها له، فلما تشكى زيد للنبي - صلى الله عليه وسلم - خلق زينب، وأنها لا تطيعه، وأعلمه بأنه يريد طلاقها، قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جهة الأدب والوصية: اتق الله، أي في أقوالك، وأمسك عليك زوجك، وهو يعلم أنه سيفارقها، وهذا هو الذي أخفى في نفسه، ولم يُرِدْ أن يأمره بالطلاق، لما علم من أنه سيتزوجها، وخشي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يلحقه قول من الناس في أن تزوج زينب بعد زيد وهو مولاه، وقد أمره بطلاقها؛ فعاتبه الله تعالى على هذا القدر من أن خشي الناس في أمر قد أباحه الله تعالى له. (¬1) وهذا المذهب روي عن: علي بن الحسين (¬2)، والزهري (¬3)، والسدي (¬4). وذكر القرطبيان: أنَّ هذا القول هو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين، والعلماء الراسخين. (¬5) ¬
وممن قال به: أبو بكر الباقلاني، وبكر بن العلاء القشيري، وابن حزم، والبغوي، وابن العربي، والثعلبي، والقاضي عياض، وأبو العباس القرطبي، وأبو عبد الله القرطبي، والقاضي أبو يعلى، وابن كثير، والتفتازاني، وابن القيم، وابن حجر، وابن عادل، والآلوسي، والقاسمي، ورحمة الله بن خليل الرحمن الهندي (¬1)، وابن عاشور، والشنقيطي، وابن عثيمين. (¬2) قال القاضي عياض: «اعلم - أكرمك الله - ولا تسترب في تنزيه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا الظاهر، وأن يأمر زيداً بإمساكها، وهو يحب تطليقه إياها، كما ذُكِرَ عن جماعة من المفسرين، وأصح ما في هذا: ما حكاه أهل التفسير، عن علي بن حسين: أنَّ الله تعالى كان أعلم نبيه أنَّ زينب ستكون من أزواجه، فلما شكاها إليه زيد قال له: أمسك عليك زوجك واتق الله. وأخفى في نفسه ما أعلمه الله به من أنه سيتزوجها مما الله مبديه ومظهره بتمام التزويج وتطليق زيد لها». اهـ (¬3) وقال أبو العباس القرطبي: «وقد اجترأ بعض المفسرين في تفسير هذه الآية، ونسب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لا يليق به ويستحيل عليه، إذ قد عصمه الله منه ونزهه عن مثله، وهذا القول إنما يصدر عن جاهلٍ بعصمته عليه الصلاة والسلام، عن مثل هذا، أو مُسْتَخِفٍّ بحرمته، والذي عليه أهل التحقيق من ¬
المفسرين والعلماء الراسخين: أنَّ ذلك القول الشنيع ليس بصحيح، ولا يليق بذوي المروءات، فأحرى بخير البريات، وأن تلك الآية إنما تفسيرها ما حُكي عن علي بن حسين .... ». اهـ (¬1) أدلة هذا المسلك: استدل أصحاب هذا المسلك بأدلة منها: الأول: أنَّ الله تعالى أخبر أنه مُظهِرٌ ما كان يخفيه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ)، ولم يُظهرْ سبحانه غير تزويجها منه، حيث قال: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا)، فلو كان الذي أضمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محبتها أو إرادة طلاقها؛ لأظهر الله تعالى ذلك؛ لأنه لا يجوز أن يُخبر أنه يُظهرِهُ ثم يكتمه فلا يظهره، فدل على أنه إنما عُوتِبَ على إخفاء ما أعلمه الله إياه: أنها ستكون زوجة له، لا ما ادعاه هؤلاء أنه أحبها، ولو كان هذا هو الذي أخفاه لأظهره الله تعالى كما وعد. (¬2) الدليل الثاني: أنَّ الله تعالى قال بعد هذه الآية: (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ) [الأحزاب: 38]، وهذه الآية تدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن عليه حرج في زواجه من زينب رضي الله عنها، ولو كان على ما روي من أنه أحبها وتمنى طلاق زيدٍ لها، لكان فيه أعظم الحرج؛ لأنه لا يليق به مدَّ عينيه إلى نساء الغير، وقد نُهي عن ذلك في قوله تعالى: (لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)) [الحجر: 88]. (¬3) الدليل الثالث: أن زينب رضي الله عنها هي بنت عمة النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬4)، ولم يزل يراها منذ ولِدَت، وكان معها في كل وقت وموضع، ولم يكن حينئذ حجاب، وهو الذي زوجها لمولاه زيد، فكيف تنشأُ معه، وينشأُ معها، ويلحظها في كل ¬
ساعة، ولا تقع في قلبه إلا بعد أن تزوجها زيد، وقد كانت وهبت نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم - وكرهت غيره، فلم تخطر بباله - صلى الله عليه وسلم -، فكيف يتجدد لها هوىً لم يكن، حاشاه - صلى الله عليه وسلم - من ذلك، وهذا كله يدل على بطلان القصة، وأنها مختلقة موضوعة. (¬1) الدليل الرابع: أنَّ الله تعالى بيّن الحكمة من زواجه - صلى الله عليه وسلم - بزينب، فقال: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا)، وهذا تعليل صريح بأن الحكمة هي قطع تحريم أزواج الأدعياء، وكون الله هو الذي زوجه إياها لهذه الحكمة العظيمة، صريح في أنَّ سبب زواجه إياها ليس هو محبته لها، التي كانت سبباً في طلاق زيد لها، كما زعموا، ويوضحه قوله تعالى: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا)؛ لأنه يدل على أنَّ زيداً قضى وطره منها، ولم تبق له بها حاجة، فطلقها باختياره. (¬2) الثاني: مسلك قبول الحديث واعتماده، وجعله سبباً في نزول الآية. ويرى أصحاب هذا المسلك: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وقع منه استحسان لزينب، وهي في عصمة زيد، وكان حريصاً على أن يطلقها زيد فيتزوجها هو، ثم إن زيداً لما أخبره أنه يريد فراقها، ويشكو منها غلظة قول، وعصيان أمر، وأذىً باللسان، وتعظماً بالشرف، قال له: اتق الله فيما تقول عنها، وأمسك عليك زوجك. وهو يخفي الحرص على طلاق زيدٍ إياها، وهذا هو الذي كان يخفي في نفسه، ولكنه لزم ما يجب من الأمر بالمعروف، قالوا: وخشي النبي - صلى الله عليه وسلم - قالة الناس في ذلك، فعاتبه الله تعالى على جميع هذا. (¬3) وهذا المذهب روي عن: قتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وعكرمة، ومحمد بن يحيى بن حبان، ومقاتل، والشعبي (¬4)، وابن جريج (¬5). ¬
وهو اختيار: ابن جرير الطبري، والزمخشري، والبيضاوي، وأبي السعود، وابن جزي، والعيني، والسيوطي. (¬1) قال ابن جرير الطبري: «ذُكِر أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى زينب بنت جحش فأعجبته، وهي في حبال مولاه، فألقي في نفس زيد كراهتها، لما علم الله مما وقع في نفس نبيه - صلى الله عليه وسلم - ما وقع، فأراد فراقها، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمسك عليك زوجك، وهو - صلى الله عليه وسلم - يحب أن تكون قد بانت منه لينكحها، واتق الله، وخفِ الله في الواجب عليك في زوجتك، (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ) يقول: وتخفي في نفسك محبة فراقه إياها، لتتزوجها إن هو فارقها، والله مبدٍ ما تخفي في نفسك من ذلك، (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ) يقول تعالى ذكره: وتخاف أن يقول الناس: أمر رجلاً بطلاق امرأته ونكحها حين طلقها، والله أحق أن تخشاه من الناس». اهـ (¬2) أدلة هذا المسلك: استدل أصحاب هذا المسلك بأدلة منها: الأول: الروايات الواردة في سبب نزول الآية. واعتُرِضَ: بأن هذه الروايات ضعيفة، وليس فيها شيء يصح. الدليل الثاني: أنه قد روي عن عائشة (¬3)، وأنس (¬4) - رضي الله عنهما - أنهما قالا: «لَوْ كَانَ رَسُولُ - صلى الله عليه وسلم - كَاتِمًا شَيْئًا مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ)». قالوا: وهذا يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - وقع منه استحسان لزينب، وأنه كان يخفي ذلك، حتى أظهره الله تعالى. ¬
واعتُرِضَ: بأن مراد عائشة، وأنس رضي الله عنهما: أنَّ رغبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في تزوج زينب، كان سراً في نفسه لم يُطلِعْ عليه أحداً، إذ لم يؤمر بتبليغه إلى أحد، وعلى ذلك السر انبنى ما صدر منه لزيد في قوله: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ)، ولما طلقها زيد ورام تزوجها، علم أنَّ المنافقين سيرجفون بالسوء، فلما أمره الله بذكر ذلك للأمة، وتبليغ خبره، بَلَّغَهُ ولم يكتمه، مع أنه ليس في كتمه تعطيل شرع، ولا نقص مصلحة، فلو كان كاتماً شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية، التي هي حكاية سِرٍّ في نفسه، وبينه وبين ربه تعالى، ولكنه لما كان وحياً بلغه؛ لأنه مأمور بتبليغ كل ما أنزل إليه. (¬1) ويرى أصحاب هذا المسلك أن ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - من تعلقه بزينب، ليس بمستهجن ولا بمستقبح، لأن طموح قلب الإنسان إلى بعض مشتهياته من امرأة أو غيرها غير موصوف بالقبح في العقل ولا في الشرع؛ لأنه ليس بفعل الإنسان، ولا وجوده باختياره، وتناول المباح بالطريق الشرعي ليس بقبيح أيضاً، وهو خطبة زينب ونكاحها من غير استنزال زيد عنها، ولا طلب إليه وهو أقرب منه من زر قميصه أن يواسيه بمفارقتها، مع قوة العلم بأن نفس زيد لم تكن من التعلق بها في شيء، بل كانت تجفوا عنها ونفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متعلقة بها، ولم يكن مستنكراً عندهم أن ينزل الرجل عن امرأته لصديقه، ولا مستهجناً إذا نزل عنها أن ينكحها الآخر؛ فإن المهاجرين حين دخلوا المدينة استهم الأنصار بكل شيء، حتى إن الرجل منهم إذا كانت له امرأتان نزل عن إحداهما وأنكحها المهاجر. وكم من شيء يتحفظ منه الإنسان ويستحي من إطلاع الناس عليه، وهو في نفسه مباح متسع، وحلال مطلق، لا مقال فيه ولا عيب عند الله، وربما كان الدخول في ذلك المباح سلماً إلى حصول واجبات يعظم أثرها في الدين ويجل ثوابها. (¬2) ¬
المبحث الخامس: الترجيح
المبحث الخامس: الترجيح: الذي يَظْهُرُ صَوَابُه ـ والله تعالى أعلم ـ هو ضعف القصة، وأنَّ الآية لا يصح في سبب نزولها إلا حديث أنس - رضي الله عنه - أنه قال: «جَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ يَشْكُو، فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ، وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» (¬1)، وهذا الحديث ليس فيه شيء مما ذُكِرَ في هذه القصة، فيجب الاقتصار عليه، وطرح ما سواه من الروايات الضعيفة. ومما يدل على ضعف القصة: 1 - أنها لم تُرْوَ بسند متصل صحيح، وكل الروايات الواردة فيها، إما أنها مرسلة، أو أنَّ في أسانيدها ضعفاء أو متروكين. 2 - تناقض روايات هذه القصة واضطرابها، ففي رواية محمد بن يحيى بن حبان: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء يطلب زيداً في بيته، وأن زينب خرجت له فُضلاً متكشفة، وأما رواية ابن زيد ففيها أنَّ زينب لم تخرج إليه، وإنما رفعت الريح الستر فانكشفت وهي في حجرتها حاسرة، فرآها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتأتي رواية أبي بكر بن أبي حثمة فتخالف هاتين الروايتين، وتدعي أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استأذن عليها، فأذنت له ولا خمار عليها، وهذا الاضطراب والتناقض بين الروايات يدل دلالة واضحة على ضعف القصة وبطلانها. 3 - أنَّ هذه الروايات مخالفة للرواية الصحيحة (¬2) الواردة في سبب نزول ¬
الآية، والتي فيها أنَّ زيداً جاء يشكو للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم تذكر هذه الرواية شيئاً عن سبب شكواه، وهي صريحة بأنه جاء يشكو شيئاً ما (¬1)، وأما تلك الروايات ¬
الضعيفة فتدعي أنَّ زيداً عرض طلاقها على النبي - صلى الله عليه وسلم -، نزولاً عند رغبته، لما رأى من تعلقه بها. 4 - أنَّ هذه الروايات فيها قدح بعصمة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونيل من مقامه الشريف، فيجب ردها وعدم قبولها، وتنزيه مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مثل هذه القصص. 5 - أنَّ الآيات النازلة بسبب القصة ليس فيها ما يفيد أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وقع منه استحسان لزينب رضي الله عنها، وقد تقدم وجه دلالتها على هذا المعنى، في أدلة المذهب الأول، والله تعالى أعلم. ****
خاتمة البحث
خاتمة البحث الحمد لله الذي منَّ علي بإتمام هذا البحث، والذي عشتُ معه قرابة خمس سنوات، جامعاً ودارساً لأحاديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، التي وردت في تفسير كتاب الله تعالى وأوهم ظاهرها معنىً مشكلاً، وقد خرجت بحمد الله تعالى بجملة من الفوائد والنتائج رأيت أنْ أُجملها في النقاط الآتية: 1 - يُعد موضوع الأحاديث المشكلة الواردة في تفسير القرآن الكريم من الموضوعات المهمة التي لم تحضَ بعناية كبيرة في مجال الدراسات القرآنية، إذ لم يتطرق له الأوائل ولا الأواخر بتصنيف مستقل، على الرغم من عنايتهم واهتمامهم بمشكل القرآن ومشكل الحديث عامة، ومن خلال استقرائي لكتب مشكل القرآن ومشكل الحديث فقد لاحظت أن المؤلفين في هذا المجال كان جُلُّ اهتمامهم هو التوفيق بين الآيات أو الأحاديث موهمة الاختلاف فيما بينها، أو التي يُوهِمُ ظاهرها معنىً مشكلاً، وأما الأحاديث المشكلة في التفسير بأنواعها الثلاثة (¬1) فلم يتوسعوا في دراستها، بله إفرادها بالتصنيف؛ لذا فإنَّ هذا البحث يُعد نافذة جديدة في مجال الدراسات القرآنية، والذي أسأل الله تعالى بمنه وفضله أنْ ينفع به. 2 - في هذا البحث إضافة جديدة في مجال الدراسات القرآنية المتخصصة في رد الشبهات التي تُثار ضد القرآن الكريم والسنة النبوية، ونحن في هذا العصر بأمس الحاجة للدراسات الأكاديمية المتخصصة التي تُعنى بالتصدي لكل ما يُثار حول ديننا وثقافتنا الإسلامية، خاصة المصدرين الأساسيين وهما الكتاب والسنة. ¬
3 - برَّز عدد من الصحابة في هذا الموضوع، وقد كان لبعضهم عناية كبيرة بأحاديث التفسير المشكلة، ومن أشهر هؤلاء: أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق، رضي الله عنها وعن أبيها، وعن الصحابة أجمعين، وقد كان لها إسهامات مميزة في معالجة النصوص التي يُوهِمُ ظاهرها معنى مشكلاً، خاصة في مجال أحاديث التفسير. 4 - برَّزَ عدد من علماء التفسير والحديث في هذا الموضوع، وظهرت عنايتهم الكبيرة بدفع كل ما يُوهِمُ التعارض بين الكتاب والسنة، ومن أشهر من برَّز من المفسرين: الإمام الآلوسي، وأبو عبد الله القرطبي، صاحب التفسير، والحافظ ابن كثير، والقاضي ابن عطية، ومن المحدثين: الحافظ ابن حجر، والقاضي عياض، والإمام النووي. 5 - تميز هذا البحث بجِدَتِه وأصالته، حيث تناول غالب الأحاديث المشكلة في التفسير، وعمل على عرضها بطريقة علمية مؤصلة، وذلك بتحرير الإشكال فيها، وعرض مسالك ومذاهب العلماء في دفع الإشكال عنها، مع مناقشة تلك المذاهب بذكر الإيرادات والاعتراضات عليها، ومن ثم الترجيح وبيان الرأي الأقوى في دفع الإشكال، مع ذكر الحجة التي تسانده وتعضده. 6 - تميز هذا البحث ببعض الإضافات العلمية، التي لا تكاد توجد محررة في موطنٍ آخر، ومن هذه الإضافات دفع الإشكال الوارد على حديث: «ثَلاثٌ إِذَا خَرَجْنَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ»، وقد أشار الشنقيطي - رحمه الله - إلى أنه لم يقف على تحرير شافٍ للإشكال الوارد في الحديث، بحيث يمكن الرجوع إليه، ولعل في دراستي لهذا الحديث تحريراً وحلاً للإشكال الوارد فيه، والله المستعان. (¬1) 7 - في أثناء دراستي لتعريف المشكل لم أقف على تعريفٍ جامعٍ مانعٍ له، بحيث يمكن الرجوع إليه واعتماده في هذا الباب، وقد عملت - في محاولة متواضعة مني - على إيجاد تعريف جامعٍ له، يشمل معناه في اصطلاح المفسرين والمحدثين والأصوليين. ¬
8 - من خلال استقرائي لكتب مشكل القرآن ومشكل الحديث ظهر لي أن الآيات أو الأحاديث التي يُوهِمُ ظاهرها معارضة أصلٍ لغوي، أو حقيقةٍ علمية ثابتة، أو حسٍ، أو معقول، لم تلقَ عناية كبيرة من العلماء، ولم يفرد من قبل بالتصنيف، لذا فإن هذا الموضوع يُعد من الموضوعات الجديرة بالدراسة والتحقيق، وهو مكمل لما أُلف قديماً وحديثاً حول مشكل القرآن والحديث. 9 - في أثناء الدراسة تبين لي أنَّ من الأسباب التي توهم الإشكال في الأحاديث هو وقوع الخطأ من الرواة في نقل لفظ الحديث، فتجد أحدهم ينقل الحديث بغير لفظه الذي قاله النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فيوهم معنى مشكلاً (¬1)، أو يروي حديثاً مرفوعاً للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي هذا الحديث من الغرابة والإشكال ما يستحيل معه أن يكون من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعند التحقيق يتبين خطأ رفعه، وأنَّ أصل الحديث يعود لرواية إسرائيلية (¬2)، أو غير ذلك. 10 - معرفة سبب النزول، وسبب ورود الحديث، مهمان للغاية في دفع التعارض بين النصوص الشرعية، إذ معرفة السبب تعين على فهم الآية والحديث ومعرفة المراد منهما، وبالتالي يسهل التوفيق بينهما عند التعارض. 11 - أن إنكار المجاز - والقول بوجوب حمل النصوص الشرعية على الحقيقة في كل الأحوال، وإن كان هناك قرينة على إرادة المجاز - رأي ينبغي إعادة النظر فيه؛ إذ القول بهذا الرأي ينشأ عنه تناقض بين النصوص الشرعية لا يمكن التخلص منه إلا بتكلف، والواجب هو التعامل مع النصوص الشرعية حسب الأساليب المتعارف عليها عند العرب، حيث كان القرآن ينزل بلغتهم ويخاطبهم وفق الأساليب التي تعارفوا عليها. (¬3) 12 - قد يتجاذب النصين دلالتان، وفي كلٍ من الدلالتين ما يُوهِمُ معارضة الدلالة الأخرى، فيظن الناظر أن هذا تعارض بين النصوص الشرعية، لكن عند التحقيق يتبين ضعف أحد الدلالتين، مما يؤكد أهمية معرفة دلالات ¬
النصوص الشرعية، وأهمية التفريق بينها. (¬1) 13 - اشتهرت عند عامة المفسرين والفقهاء قاعدة «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب»، وهذه القاعدة في نظري ينبغي تقييدها فيقال بالعموم إلا أن يأتي دليل على التخصيص؛ وقد قرر ذلك بعض الأئمة بأنه لا مانع من قصر اللفظ العام على سببه، لدليل يوجب ذلك. (¬2) 14 - أن النص الشرعي قد يرد على سبب خاص، وقد يرد ابتداء من غير سبب، فإذا تعارضا في العموم فإن عموم النص الوارد ابتداء من غير سبب، أقوى وأولى بالتقديم من عموم النص الوارد على سبب خاص. (¬3) 15 - أنَّ قصر بعض أفراد العام على سببه، أولى من قصر جميع أفراده على سبب النزول؛ إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. (¬4) 16 - أن دعوى الإجماع لا بُدَّ وأن يكون لها مستند من كتاب أو سنة، وأنْ لا تخالف شيئاً من النصوص، وغالباً ما يُحكى الإجماع ولا تجد له أصلاً، أو يكون أصله مختلف في حجيته، وتحقق ثبوت الإجماع عزيزٌ قَلَّ أنْ يثبت. (¬5) 17 - أن الإمام مسلم قد يروي حديثاً مشكلاً في صحيحه، فيظن الناظر لأول وهلة أن الحديث صحيح، لكنه عند التحقيق يتبين أن الإمام مسلم رواه بالمتابعات لا في الأصول، وما رواه بالمتابعات ليس هو في درجة ما رواه في الأصول من حيث القوة، كما نص على ذلك الأئمة، وعليه فينبغي التفريق في العزو بين ما رواه في الأصول وما رواه بالمتابعات، ليتميز الحديث قوة وضعفاً. (¬6) 18 - يُعد موضوع فقه الخلاف ومنهج التعامل مع المخالف من الموضوعات التي لم تحض بعناية كبيرة من قبل العلماء، من حيث الدراسة والتقعيد والتنظير، وهو جدير بالدراسة والتأصيل، وفي أثناء دراستي لبعض ¬
نقاشات الصحابة، وتعقب بعضهم البعض، رأيت دقة فهمهم، وسلامة صدورهم، واحترامهم للرأي الآخر، فهذه عائشة رضي الله عنها حينما ذُكِرَ عندها أن ابن عمر رفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ» قَالَتْ: وَهَلَ؛ إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّهُ لَيُعَذَّبُ بِخَطِيئَتِهِ وَذَنْبِهِ، وَإِنَّ أَهْلَهُ لَيَبْكُونَ عَلَيْهِ الْآنَ». قَالَتْ: وَذَاكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَامَ عَلَى الْقَلِيبِ، وَفِيهِ قَتْلَى بَدْرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ؛ فَقَالَ لَهُمْ مَا قَالَ: «إِنَّهُمْ لَيَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ»، إِنَّمَا قَالَ: «إِنَّهُمْ الْآنَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ»، ثُمَّ قَرَأَتْ: (إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) [النمل: 80] و (وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) [فاطر: 22]». فهذه عائشة قد أنكرت على ابن عمر قوله، على علم ومسمع من الصحابة، ومع علمهم وسماعهم لحديث ابن عمر، ولم نجد أحداً منهم شنَّع على عائشة أو رماها بسوء، مما يؤكد تحلي الصحابة رضوان الله عليهم بالأدب الجم في التعامل مع المخالف، وسلامة صدورهم واحترام بعضهم البعض، وإن مما ابتليت به الأمة في هذه الأزمنة ضيق العطن وعدم قبول رأي الآخر، والتشنيع على المخالف وإن كان له مستند من دليل شرعي، مما أوغر الصدور وزاد في الفرقة، والله المستعان. 19 - من خلال الدراسة لم أقف بحمد الله على نصين متعارضين استحال الجمع بينهما، أو نص مشكل استحال حل إشكاله، وهذا مما يؤكد قطعية النصوص الشرعية، وأنها حق من عند الله تعالى، لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وإن رام الأعداء هدم هذا الدين، والنيل منه، إلا أن الله متم نوره ولو كره الكافرون. 20 - أن معرفة مقاصد الشريعة يعد من الأهمية بمكان، بل هو الفقه الحقيقي، وأما النظر المجرد في النصوص الشرعية دون إلمام بمقاصدها ففيه قصور يوقع الفقيه في حيرة وتناقضات، وربما قاده فهمه الخاطئ إلى انحراف في السلوك أو الاعتقاد. 21 - من خلال الدراسة تبين أهمية معرفة الأدوات والأساليب اللغوية التي كان العرب يتخاطبون بها، وقد نزل القرآن بلغتهم وخاطبهم بالأساليب التي تعارفوا عليها، فيجب على الناظر في تفسير آيات القرآن الكريم أن يكون
ملماً بهذه الأساليب حتى لا يعتقد معنىً غير مراد في النص فينشأ عنده إشكال بسبب فهمه لا بسبب النص. 22 - دخول الإسرائيليات في علم التفسير أثر سلباً على هذا العلم، فكان من نتائجه وقوع الغلط من بعض الرواة والمفسرين، حيث أدخلوا بعض الروايات الإسرائيلية في التفسير ظناً منهم أنها من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد يكون في بعض هذه الروايات من الغرابة والإشكال ما يستحيل معه أن يكون من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا مما يؤكد أهمية دراسة المروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التفسير، دراسة علمية تختص بنقد المتون أكثر منها في نقد الأسانيد؛ إذ الثاني قد أخذ حظه من الدراسة والتحقيق بخلاف الأول. 23 - يُعد جمعُ رواياتِ الحديث وألفاظِه من أهم العوامل المساعدة في الكشف عن علل الحديث، وفي أثناء دراستي لعلل بعض أحاديث التفسير المشكلة تبين لي أنَّ هذا اللون من التحقيق لم يلقَ عناية كبيرة من العلماء رحمهم الله تعالى، وقد تميز هذا البحث بالاستطراد في شرح علل الحديث وبيان مخارجه، ومن ثَمَّ معرفة الخلل ومنشأ الإشكال، والذي غالباً ما يكون بسبب وهْمٍ من أحد الرواة. 24 - بلغ مجموع الأحاديث المشكلة الواردة في تفسير القرآن الكريم - التي تمت دراستها - ستة وسبعين حديثاً، وهذه الأحاديث وقفت عليها بعد طول استقراء في كتب التفسير، والحديث، وغيرها، وقد اقتصرتُ على دراسة ما رُويَ في الكتب التسعة فقط. 25 - بلغ مجموع أحاديث التفسير المشكلة الواردة في الصحيحين - التي تمت دراستها - سبعة وأربعين حديثاً. 26 - وبلغ مجموع الأحاديث التي كان منشأَ الإشكال فيها وَهْمٌ من بعض الرواة أحد عشر حديثاً، عشرة منها جاءت في الصحيحين. 27 - وبلغ مجموع الأحاديث المشكلة - التي ثبت بعد الدراسة والتحقيق أنها ضعيفة - خمسة عشر حديثاً. هذا والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ****