الآداب الشرعية والمنح المرعية

ابن مفلح، شمس الدين

مقدمة الكتاب

[مُقَدِّمَة الْكتاب] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رَبِّ يَسِّرْ وَأَعِنْ يَا كَرِيمُ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ أَقْضَى الْقُضَاةِ، شَمْسُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُفْلِحٍ الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَرَضِيَ عَنْهُ وَأَثَابَهُ الْجَنَّةَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. أَمَّا بَعْدُ. . فَهَذَا كِتَابٌ يَشْتَمِلُ عَلَى جُمْلَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْمِنَحِ الْمَرْعِيَّةِ، يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهِ أَوْ مَعْرِفَةِ كَثِيرٍ مِنْهُ كُلُّ عَالِمٍ أَوْ عَابِدٍ وَكُلُّ مُسْلِمٍ، وَقَدْ صَنَّفَ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا كَأَبِي دَاوُد السِّجِسْتَانِيِّ صَاحِبِ السُّنَنِ، وَأَبِي بَكْرٍ الْخَلَّالِ، وَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبِي حَفْصٍ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي مُوسَى، وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِمْ، وَصَنَّفَ فِي بَعْضِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ - كَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالدُّعَاءِ وَالطِّبِّ وَاللِّبَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ وَأَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَابْنُهُ أَبُو الْحُسَيْنِ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُمْ. (ثَنَاءُ الْمُؤَلِّفِ عَلَى الْكِتَابِ) وَقَدْ اشْتَمَلَ هَذَا الْكِتَابُ بِحَمْدِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ وَحُسْنِ تَوْفِيقِهِ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْمُصَنَّفَاتُ مِنْ الْمَسَائِلِ أَوْ عَلَى أَكْثَرِهَا، وَتَضَمَّنَ مَعَ ذَلِكَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً نَافِعَةً حَسَنَةً غَرِيبَةً مِنْ أَمَاكِنَ مُتَفَرِّقَةٍ، فَمَنْ عَلِمَهُ عَلِمَ قَدْرَهُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ مِنْ الْفَوَائِدِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهَا مَا لَمْ يَعْلَمْ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ لِاشْتِغَالِهِمْ بِغَيْرِهِ، وَعِزَّةِ الْكُتُبِ الْجَامِعَةِ لِهَذَا الْفَنِّ. وَاَللَّهَ أَسْأَلُ حُسْنَ الْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ، وَأَنْ يَنْفَعَ بِهِ مَنْ حَفِظَهُ وَقَرَأَهُ وَكَتَبَهُ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ عَامَّ النَّفْعِ وَالْبَرَكَةِ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

فصل في الخوف والصبر والرضا

[فَصْلٌ فِي الْخَوْفِ وَالصَّبْرِ وَالرِّضَا] يُسَنُّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ خَوْفُ السَّابِقَةِ، وَالْخَاتِمَةِ وَالْمَكْرُبَةِ، وَالْخَدِيعَةِ، وَالْفَضِيحَةِ، وَالصَّبْرُ عَلَى الطَّاعَةِ وَالنِّعَمِ وَالْبَلَاءِ وَالنِّقَمِ فِي بَدَنِهِ وَعِرْضِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَعَنْ كُلِّ مَأْثَمٍ، وَاسْتِدْرَاكُ مَا فَاتَ مِنْ الْهَفَوَاتِ، وَقَصْدُ الْقُرَبِ وَالطَّاعَةِ بِنِيَّتِهِ وَفِعْلِهِ، كَقَوْلِهِ: وَسَائِرِ حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ، وَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا، وَالرَّغْبَةُ فِي الْآخِرَةِ، وَالنَّظَرُ فِي حَالِهِ وَمَالِهِ، وَحَشْرِهِ وَنَشْرِهِ وَسُؤَالِهِ، وَيُسَنُّ رَجَاءُ قَبُولِ الطَّاعَةِ، وَالتَّوْبَةُ مِنْ الْمَعْصِيَةِ وَالْقَنَاعَةُ، وَالِاكْتِفَاءُ بِالْكِفَايَةِ الْمُعْتَادَةِ بِلَا إسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى وَغَيْرِهَا. وَقَالَ فِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ: هَلْ يَجِبُ الرِّضَا بِالْمَرَضِ وَالسَّقَمِ وَالْفَقْرِ، وَالْعَاهَةِ وَعَدَمِ الْعَقْلِ؟ قَالَ الْقَاضِي: لَا يَلْزَمُ، وَقِيل: بَلَى قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبٌ فِيمَا كَانَ مِنْ فِعْلِهِ تَعَالَى كَالْأَمْرَاضِ وَنَحْوِهَا قَالَ: فَأَمَّا مَا نَهَى عَنْهُ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ كَالْكُفْرِ وَالضَّلَالِ فَلَا يَجُوزُ إجْمَاعًا إذْ الرِّضَا بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي كُفْرٌ وَعِصْيَانٌ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ إنَّمَا الْوَاجِبُ الصَّبْرُ وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15] . فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ رَيْبًا عِنْدَ الْمِحَنِ الَّتِي تُقَلْقِلُ الْإِيمَانَ فِي الْقُلُوبِ، وَالرَّيْبُ يَكُونُ فِي عِلْمِ الْقَلْبِ وَعَمَلِهِ بِخِلَافِ الشَّكِّ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْعِلْمِ فَلِهَذَا لَا يُوصَفُ بِالْيَقِينِ إلَّا مَنْ اطْمَأَنَّ قَلْبُهُ عِلْمًا وَعَمَلًا، وَإِلَّا فَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ الْمُصِيبَةَ أَوْ الْخَوْفَ أَوْرَثَهُ جَزَعًا عَظِيمًا لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ يَقِينٍ.

وَذَكَرَ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْبُكَاءُ عَلَى الْمَيِّتِ إذَا تَجَرَّدَ عَنْ فِعْلٍ مُحَرَّمٍ مِنْ نَدْبٍ وَنِيَاحَةٍ وَتَسَخُّطٍ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ الْمَحْتُومِ، وَالْجَزَعُ الَّذِي يُنَاقِضُ الِانْقِيَادَ وَالِاسْتِسْلَامَ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي آخِرِ كَلَامِهِ فِي قَوْله تَعَالَى {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84] . قَالَ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ أَخَاهُ مَاتَ فَجَزَعَ الْحَسَنُ جَزَعًا شَدِيدًا فَعُوتِبَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: مَا سَمِعْت اللَّهَ عَابَ عَلَى يَعْقُوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْحُزْنَ حَيْثُ قَالَ {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84] وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي التُّحْفَةِ الْعِرَاقِيَّةِ أَنَّ الْبُكَاءَ عَلَى الْمَيِّتِ عَلَى وَجْهِ الرَّحْمَةِ مُسْتَحَبٌّ وَذَلِكَ لَا يُنَافِي الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ بِخِلَافِ الْبُكَاءِ عَلَيْهِ لِفَوَاتِ حَظِّهِ مِنْهُ، وَبِهَذَا يُعْرَفُ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا بَكَى عَلَى الْمَيِّتِ وَقَالَ «هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ» وَإِنَّ هَذَا لَيْسَ كَبُكَاءِ مَنْ يَبْكِي لِحَظِّهِ لَا لِرَحْمَةِ الْمَيِّتِ، وَإِنَّ الْفُضَيْلَ لَمَّا مَاتَ ابْنُهُ ضَحِكَ وَقَالَ: رَأَيْتُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ قَضَى فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَرْضَى بِمَا قَضَى اللَّهُ بِهِ حَالُهُ حَالٌ حَسَنٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَهْلِ الْجَزَعِ، فَأَمَّا رَحْمَةُ الْمَيِّتِ وَالرِّضَاءُ بِالْقَضَاءِ وَحَمْدُ اللَّهِ كَحَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَذَا أَكْمَلُ. وَقَالَ فِي الْفُرْقَانِ: وَالصَّبْرُ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ ثُمَّ ذَكَرَ فِي الرِّضَا قَوْلَيْنِ ثُمَّ قَالَ: وَأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ عَلَى الْمُصِيبَةِ لِمَا يَرَى مِنْ إنْعَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِهَا، وَلَا يَلْزَمُ الْعَاصِيَ الرِّضَا بِلَعْنِهِ وَلَا الْمُعَاقَبَ الرِّضَا بِعِقَابِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُؤْمِنُ يَصْبِرُ عَلَى الْبَلَاءِ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى الْعَافِيَةِ إلَّا صِدِّيقٌ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: اُبْتُلِينَا بِالضَّرَّاءِ فَصَبَرْنَا وَابْتُلِينَا بِالسَّرَّاءِ فَلَمْ نَصْبِرْ. وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: الرَّجُلُ كُلُّ الرَّجُلِ مَنْ يَصْبِرُ عَلَى الْعَافِيَةِ وَهَذَا الصَّبْرُ مُتَّصِلٌ بِالشُّكْرِ فَلَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقِيَامِ بِحَقِّ الشُّكْرِ، وَإِنَّمَا كَانَ الصَّبْرُ عَلَى السَّرَّاءِ شَدِيدًا لِأَنَّهُ مَقْرُونٌ بِالْقُدْرَةِ، وَالْجَائِعُ عِنْدَ غَيْبَةِ الطَّعَامِ أَقْدَرُ مِنْهُ عَلَى الصَّبْرِ عِنْدَ حُضُورِ الطَّعَامِ اللَّذِيذِ.

فصل في البهت والغيبة والنميمة والنفاق

[فَصْلٌ فِي الْبُهْتِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالنِّفَاقِ] ِ) وَيَحْرُمُ الْبُهْتُ وَالْغِيبَةُ وَالنَّمِيمَةُ وَكَلَامُ ذِي الْوَجْهَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْت يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا ابْن الْمُصَفَّى حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ وَأَبُو الْمُغِيرَةِ قَالَا ثنا صَفْوَانُ حَدَّثَنِي رَاشِدُ بْنُ سَعْدٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَن بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ أَنَسٍ حَدِيثٌ صَحِيحٌ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ عَنْ بَقِيَّةَ لَيْسَ فِيهِ عَنْ أَنَسٍ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا الِاسْتِطَالَةَ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. وَرَوَى أَحْمَدُ حَدِيثَ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ عَنْ صَفْوَانَ كَمَا سَبَقَ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ الْغِيبَةُ مَرْعَى اللِّئَامِ. وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ: لَا يَذْكُرُ فِي النَّاسِ مَا يَكْرَهُونَهُ إلَّا سِفْلَةٌ لَا دِينَ لَهُ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُسَافِرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ زُهَيْرٍ هُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «إنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ اسْتِطَالَةَ الْمَرْءِ فِي عِرْضِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَمِنْ الْكَبَائِرِ السَّبَّتَانِ بِالسَّبَّةِ» حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَذَكَرَ الْقُرَظِيّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّ الْغِيبَةَ إنَّمَا تَكُونُ فِي الدِّينِ لَا فِي الْخِلْقَةِ وَالْحَسَبِ، وَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا عَكْسَ هَذَا، وَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ

لَكِنْ قَيْدُ الْإِجْمَاعِ فِي الْأَوَّلِ إذَا قَالَهُ عَلَى وَجْهِ الْعَيْبِ، وَأَنَّهُ لَا خِلَافُ أَنَّ الْغِيبَةَ مِنْ الْكَبَائِرِ. وَفِي الْفُصُولِ وَالْمُسْتَوْعِبِ أَنَّ الْغِيبَةَ وَالنَّمِيمَةَ مِنْ الصَّغَائِرِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ قَوْلَ عَائِشَةَ عَنْ صَفِيَّةَ أَنَّهَا قَصِيرَةٌ وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ» . وَعَنْ هَمَّامٍ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَرْفَعُ إلَى عُثْمَانَ حَدِيثَ حُذَيْفَةَ فَقَالَ حُذَيْفَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ يَعْنِي: نَمَّامًا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ الْمُسْنَدُ مِنْهُ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «إنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ذُو الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَلَهُمَا «وَتَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ» وَلِأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ «إنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ» وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ نِفَاقٌ وَخِدَاعٌ وَكَذِبٌ وَتَحَيُّلٌ عَلَى اطِّلَاعِهِ عَلَى أَسْرَارِ الطَّائِفَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي كُلَّ طَائِفَةٍ بِمَا يُرْضِيهَا، وَيُظْهِرُ أَنَّهُ مَعَهَا، وَهِيَ مُدَاهَنَةٌ مُحَرَّمَةٌ ذَكَرَ ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ قَالَ تَعَالَى: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون: 4] . أَيْ: مَقْطُوعَةٌ مُمَالَةٌ إلَى الْحَائِطِ لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا وَلَا هِيَ ثَابِتَةٌ، إنَّمَا كَانُوا يَسْتَنِدُونَ إلَى مَنْ يَنْصُرُهُمْ، وَإِلَى مَنْ يَتَظَاهَرُونَ بِهِ {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون: 4] لِسُوءِ اعْتِقَادِهِمْ {هُمُ الْعَدُوُّ} [المنافقون: 4] لِلتَّمَكُّنِ بَيْنَ الشَّرِّ بِالْمُخَاطَبَةِ وَالْمُدَاخَلَةِ وَعَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ " قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ إنَّا نَدْخُلُ عَلَى أَمِيرِنَا فَنَقُولُ الْقَوْلَ فَإِذَا خَرَجْنَا قُلْنَا غَيْرَهُ قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ النِّفَاقِ " رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَالشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ تَعِيرُ إلَى هَذِهِ مَرَّةً وَإِلَى هَذِهِ مَرَّةً» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَزَادَ «لَا تَدْرِي أَيَّهُمَا تَتْبَعُ» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ» زَادَ مُسْلِمٌ «وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَلَهُمَا أَيْضًا وَلِأَحْمَدَ

وَغَيْرِهِ، «وَالثَّالِثَةُ وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ» . وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إذَا ائْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَلَهُمَا أَيْضًا وَلِأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ «وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ بَدَلُ وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ: مَعْنَاهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ نِفَاقُ الْعَمَلِ وَإِنَّمَا كَانَ نِفَاقُ التَّكْذِيبِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَعَنْ " حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصِيرُ بِهَا مُنَافِقًا وَإِنِّي لَأَسْمَعُهَا مِنْ أَحَدِكُمْ فِي الْمَجْلِسِ عَشْرَ مَرَّاتٍ " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَفِي إسْنَادِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ. وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «خَصْلَتَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مُنَافِقٍ: حُسْنُ سَمْتٍ، وَفِقْهٌ فِي الدِّينِ» . وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا «أَكْثَرُ مُنَافِقِي أُمَّتِي قُرَّاؤُهَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ وَرُوِيَ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ. وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: أَرَادَ بِالنِّفَاقِ هُنَا الرِّيَاءَ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا إظْهَارُ غَيْرِ مَا فِي الْبَاطِنِ. وَعَنْ ابْن عُمَرَ مَرْفُوعًا «إنَّ اللَّهَ قَالَ لَقَدْ خَلَقْت خَلْقًا أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ وَقُلُوبُهُمْ أَمَرُّ مِنْ الصَّبْرِ، فَبِي حَلَفْتُ لَأُتِيحَنَّهُمْ فِتْنَةً تَدَعُ الْحَلِيمَ مِنْهُمْ حَيْرَانَ فَبِي يَغْتَرُّونَ أَمْ عَلَيَّ يَتَجَرَّءُونَ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَلَهُ مَعْنَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِي أَوَّلِهِ «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ رِجَالٌ يَخْتِلُونَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ، يَلْبَسُونَ لِلنَّاسِ جُلُودَ الضَّأْنِ مِنْ اللِّينِ، أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ، وَقُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الذِّئَابِ» يُقَالُ: أَتَاحَ اللَّهُ لِفُلَانٍ كَذَا أَيْ: قَدَّرَهُ لَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ وَتَاحَ لَهُ الشَّيْءَ. وَقَوْلُهُ: يَخْتِلُونَ أَيْ: يَطْلُبُونَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ يُقَالُ: خَتَلَهُ يَخْتِلُهُ إذَا خَدَعَهُ وَرَاوَغَهُ، وَخَتَلَ الذِّئْبُ الصَّيْدَ إذَا اخْتَفَى لَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَالَ مَنْصُورٌ الْفَقِيهُ شِعْرًا: لِي حِيلَةٌ فِيمَنْ يَنِمُّ ... وَلَيْسَ فِي الْكَذَّابِ حِيلَهْ مَنْ كَانَ يَخْلُقُ مَا يَقُولُ ... فَحِيلَتِي فِيهِ قَلِيلَهْ وَقَالَ مُوسَى - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه - يَا رَبِّ إنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ فِي مَا لَيْسَ فِي

فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ يَا مُوسَى لَمْ أَجْعَلْ ذَلِكَ لِنَفْسِي فَكَيْفَ أَجْعَلُهُ لَكَ؟ وَقَالَ عِيسَى - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه -: لَا يَحْزُنْكَ قَوْلُ النَّاسِ فِيكَ، فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا كَانَتْ حَسَنَةً لَمْ تَعْمَلْهَا، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا كَانَتْ سَيِّئَةً عُجِّلَتْ عُقُوبَتُهَا. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ فِي غَيْرِ النَّصِيحَةِ الْوَاجِبَةِ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِسْمَةً فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: وَاَللَّهِ مَا أَرَادَ مُحَمَّدٌ بِهَذَا وَجْهَ اللَّهِ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرْتُهُ فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ وَقَالَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى مُوسَى لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ» . وَفِي الْبُخَارِيِّ «فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ فِي مَلَإٍ فَسَارَرْتُهُ» ، وَفِي مُسْلِمٍ «قَالَ: قُلْتُ لَا جَرَمَ لَا أَرْفَعُ إلَيْهِ حَدِيثًا بَعْدَهَا» ، تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ (مَنْ أَخْبَرَ صَاحِبَهُ بِمَا يُقَالُ فِيهِ) وَلِمُسْلِمٍ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا. وَعِنْدَهُمَا وَعِنْدَ غَيْرِهِمَا فِي أَوَّلِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يُبَلِّغْنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِي شَيْئًا فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إلَيْهِمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ» . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْحَدِيثِ، وَلِلتِّرْمِذِيِّ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: «دَعْنِي عَنْكَ فَقَدْ أُوذِيَ مُوسَى بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ» . وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَصِفُ الرَّجُلَ بِالْعَوَرِ أَوْ الْعَرَجِ لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ شَيْنَهُ إلَّا إرَادَةَ أَنْ يُعْرَفَ؟ قَالَ لَا أَدْرِي هَذَا غِيبَةً. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْكَحَّالُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ " الْغِيبَةُ أَنْ تَقُولَ فِي الرَّجُلِ مَا فِيهِ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: وَإِنْ قَالَ مَا لَيْسَ فِيهِ فَهَذَا بُهْتٌ "، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَحْمَدُ هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ السَّلَفِ وَبِهِ جَاءَ الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ فِي زَادِ الْمُسَافِرِ مَا نَقَلَ عَنْ الْأَثْرَمِ، وَسُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُعْرَفُ بِلَقَبِهِ إذَا لَمْ يُعْرَفْ إلَّا بِهِ فَقَالَ أَحْمَدُ الْأَعْمَشُ إنَّمَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ هَكَذَا فَسَهْلٌ فِي مِثْل هَذَا إذَا كَانَ قَدْ شَهُرَ. قَالَ فِي شَرْحِ خُطْبَةِ مُسْلِمٍ قَالَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرِهِمْ يَجُوزُ ذِكْرُ الرَّاوِي بِلَقَبِهِ وَصِفَتِهِ وَنَسَبِهِ الَّذِي يَكْرَهُهُ إذَا كَانَ الْمُرَادُ تَعْرِيفَهُ لَا تَنَقُّصَهُ لِلْحَاجَةِ كَمَا يَجُوزُ الْجَرْحُ لِلْحَاجَةِ، كَذَا قَالَ وَيَمْتَازُ

الْجَرْحُ بِالْوُجُوبِ فَإِنَّهُ مِنْ النَّصِيحَةِ الْوَاجِبَةِ بِالْإِجْمَاعِ، وَفِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ كَثِيرَةٌ تَأْتِي، وَالْكَلَامُ فِي ذَلِكَ فِي فُصُولِ الْعِلْمِ وَفِي الْغِيبَةِ فِي فُصُولِ الْهِجْرَةِ، وَتُحَرَّمُ الْبِدَعُ الْمُحَرَّمَةُ وَإِفْشَاءُ السِّرِّ زَادَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى الْمُضِرُّ وَالتَّعَدِّي بِالسَّبِّ وَاللَّعْنِ وَالْفُحْشِ وَالْبَذَاءِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: غَرِيبٌ وَالْإِسْنَادُ ثِقَاتٌ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَجُلًا لَعَنَ الرِّيحَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَا تَلْعَنْ الرِّيحَ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ وَإِنَّهُ مَنْ لَعَنَ شَيْئًا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ رَجَعَتْ اللَّعْنَةُ إلَيْهِ» . ، وَلِأَبِي دَاوُد أَيْضًا هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ نِمْرَانَ، وَفِيهِ جَهَالَةٌ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِطَعَّانٍ وَلَا لَعَّانٍ وَلَا فَاحِشٍ وَلَا بَذِيءٍ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا «سِبَابُ الْمُؤْمِنِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ سُوَيْد بْنِ حَاتِمٍ بَيَّاعِ الطَّعَامِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ رَجُلًا يَسُبُّ بُرْغُوثًا فَقَالَ لَا تَسُبَّهُ فَإِنَّهُ قَدْ نَبَّهَ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ.» قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: فِيهِ سُوَيْدٌ يَرْوِي الْمَوْضُوعَاتِ عَنْ الْأَثْبَاتِ وَهُوَ صَاحِبُ حَدِيثِ الْبُرْغُوثِ ثُمَّ رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ بِقَوِيٍّ انْفَرَدَ بِهِ سُوَيْدٌ وَقَالَ ابْن عَدِيٍّ فِي سُوَيْدٍ: هُوَ إلَى الضَّعْفِ أَقْرَبُ وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَا بَأْسَ بِهِ وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: لَيْسَ بِقَوِيٍّ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا فَعَلَى الْبَادِئِ مِنْهُمَا إنْ لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَيَأْتِي فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ فِي لَعْنَةِ الْمُعِينِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ «لَا تَكُونِي فَاحِشَةً فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَحُّشَ» ، وَقَوْلُهُ: «يَا عَائِشَةُ عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ وَإِيَّاكِ وَالْفُحْشَ وَالْعُنْفَ» وَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا بَعْدَ فُصُولِ طَاعَةِ الْأَبِ بِالْقُرْبِ مِنْ ثُلُثِ الْكِتَابِ. عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ

لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ كَذَّابًا» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مَوْقُوفًا. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مَرْفُوعًا. وَلَهُ فِي لَفْظٍ آخَرَ «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إلَى الْجَنَّةِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ، وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «إذَا كَذَبَ الْعَبْدُ تَبَاعَدَ مِنْهُ الْمَلَكُ مِيلًا مِنْ نَتْنِ مَا يَخْرُجُ مِنْ فِيهِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ مُوسَى عَنْ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ هَارُونَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ الرَّحِيمِ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: عَبْدُ الرَّحِيمِ مَتْرُوكٌ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: مَجْهُولٌ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: رَوَى مَنَاكِيرَ عَنْ قَوْمٍ ثِقَاتٍ قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: فِي الثِّقَاتِ يُعْتَدُّ بِحَدِيثِهِ إذَا رَوَى مِنْ كِتَابِهِ.

فصل في المكر والخديعة والسخرية والاستهزاء

[فَصْلٌ فِي الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ وَالسُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ] وَيُحَرَّمُ الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ، وَالسُّخْرِيَةُ وَالِاسْتِهْزَاءُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات: 11] . وَفِي سَبَبِهَا وَتَفْسِيرِهَا كَلَامٌ طَوِيلٌ فِي التَّفْسِيرِ، وَالْمُرَادُ بِأَنْفُسِكُمْ إخْوَانُكُمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَأَنْفُسِكُمْ. وَقَالَ تَعَالَى {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1] ، وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَقَالَ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَلَمَةَ الْكِنْدِيِّ عَنْ فَرْقَدٍ السَّبَخِيِّ عَنْ مُرَّةَ بْنِ شَرَاحِيلَ الْهَمْدَانِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَلْعُونٌ مَنْ ضَارَّ مُؤْمِنًا أَوْ مَكَرَ بِهِ» إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. وَعَنْ لُؤْلُؤَةَ عَنْ أَبِي صِرْمَةَ «مَنْ ضَارَّ ضَارَّ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحٌ إسْنَادٌ جَيِّدٌ مَعَ أَنَّ لُؤْلُؤَةَ تَفَرَّدَ عَنْهَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ. وَيُحَرَّمُ الْكَذِبُ لِغَيْرِ إصْلَاحٍ وَحَرْبٍ وَزَوْجَةٍ، وَيُحَرَّمُ الْمَدْحُ وَالذَّمُّ كَذَا قَالَ فِي الرِّعَايَةِ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَضَابِطُهُ أَنَّ كُلَّ مَقْصُودٍ مَحْمُودٍ لَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ إلَيْهِ إلَّا بِالْكَذِبِ فَهُوَ مُبَاحٌ إنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ مُبَاحًا، وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَهُوَ وَاجِبٌ وَهُوَ مُرَادُ الْأَصْحَابِ وَمُرَادُهُمْ هُنَا لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَضَرُورَةٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْكَذِبُ إذَا كَانَ فِيهِ عِصْمَةُ مُسْلِمٍ مِنْ الْقَتْلِ وَعِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ يَحْرُمُ أَيْضًا لَكِنْ يَسْلُكُ أَدْنَى الْمَفْسَدَتَيْنِ لِدَفْعِ أَعْلَاهُمَا فَقَالَ فِي مُفَارَقَةِ أَرْضِ الْغَصْبِ: إنَّهُ

فِي حَالِ الْمُفَارَقَةِ عَاصٍ وَلَهَذَا الْكَذِبُ مَعْصِيَةٌ ثُمَّ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا ظُلْمًا فَهَرَبَ مِنْهُ فَلَقِيَ رَجُلًا فَقَالَ: رَأَيْتَ فُلَانًا؟ كَانَ لَهُ أَنْ يَقُولَ: لَمْ أَرَهُ فَيَدْفَعُ أَعْلَى الْمَفْسَدَتَيْنِ بِارْتِكَابِ أَدْنَاهُمَا. وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ إنَّهُ حَسَنٌ حَيْثُ جَازَ لَا إثْمَ فِيهِ وَهُوَ قَوْل أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَالْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْقُبْحِ الْعَقْلِيِّ، فَمَنْ نَفَاهُ، وَقَالَ: لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ إمْكَانِهِ، وَمَنْ أَثْبَتَهُ وَقَالَ: الْأَحْكَامُ لِذَاتِ الْفِعْلِ قَبَّحَهُ لِذَاتِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَهْمَا أَمْكَنَ الْمَعَارِيضُ حُرِّمَ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ وَصَرَّحَ بِهِ آخَرُونَ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إذًا وَظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي الْخَطَّابِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ يَجُوزُ وَلَوْ أَمْكَنَ الْمَعَارِيضُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُرَادٌ تَشْبِيهًا بِالْإِنْشَاءِ مِنْ الْمَعْذُورِ كَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الطَّلَاقِ وَلَمْ يَتَأَوَّلْ بِلَا عُذْرٍ وَفِيهِ خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ، وَمِنْ دَلِيلِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَحْضُرُهُ التَّأْوِيلُ فِي تِلْكَ الْحَالِ فَتَفُوتُ الرُّخْصَةُ، فَلَعَلَّ هَذَا فِي مَعْنَاهُ وَلَيْسَ بِالْوَاضِحِ وَيَأْتِي فِي كَلَامِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ فِي التَّوْبَةِ مِنْ حَقِّ الْغَيْرِ مَا يُوَافِقُ التَّرَدُّدَ وَالنَّظَرَ فِي ذَلِكَ، وَجَزَمَ فِي رِيَاضِ الصَّالِحِينَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي. وَلَوْ احْتَاجَ إلَى الْيَمِينِ فِي إنْجَاءِ مَعْصُومٍ مِنْ هَلَكَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِفَ قَالَ فِي الْمُغْنِي: لِأَنَّ إنْجَاءَ الْمَعْصُومِ وَاجِبٌ وَقَدْ تَعَيَّنَ فِي الْيَمِينِ فَيَجِبُ، وَذَكَرَ خَبَرَ سُوَيْد بْنِ حَنْظَلَةَ أَنَّ وَائِلَ بْنَ حُجْرٍ أَخَذَهُ عَدُوٌّ لَهُ فَحَلَفَ أَنَّهُ أَخُوهُ ثُمَّ ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ «صَدَقْتَ الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ» . وَكَلَامُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ السَّابِقُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثِ الْمُسْتَثْنَاةِ فِي الْحَدِيثِ يَخْرُجُ عَلَى الْخِلَافِ وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ هَلْ يُقَاسُ عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْ الْقِيَاسِ إذَا فُهِمَ الْمَعْنَى؟ وَيَأْتِي فِعْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ فِي كِتَابِ الْهَدْيِ أَنَّهُ يَجُوزُ كَذِبُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ إذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ ضَرَرَ ذَلِكَ الْغَيْرِ إذَا كَانَ يَتَوَصَّلُ بِالْكَذِبِ إلَى حَقِّهِ كَمَا كَذَبَ الْحَجَّاجُ بْنُ عِلَاطٍ عَلَى الْمُشْرِكِينَ حَتَّى أَخَذَ مَالَهُ مِنْ مَكَّةَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ لَحِقَتْ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ الْكَذِبِ.

أَمَّا مَا نَالَ مَنْ بِمَكَّةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْأَذَى وَالْحُزْنِ فَمَفْسَدَةٌ يَسِيرَةٌ فِي جَنْبِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي حَصَلَتْ بِالْكَذِبِ وَلَا سِيَّمَا تَكْمِيلَ الْفَرَحِ، وَزِيَادَةَ الْإِيمَانِ الَّذِي حَصَلَ بِالْخَبَرِ الصَّادِقِ بَعْدَ هَذَا الْكَذِبِ وَكَانَ الْكَذِبُ سَبَبًا فِي حُصُولِ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ. قَالَ وَنَظِيرُ هَذَا الْإِمَامُ وَالْحَاكِمُ يُوهِمُ الْخَصْمَ خِلَافَ الْحَقِّ لِيَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إلَى اسْتِعْمَالِ الْحَقِّ كَمَا أَوْهَمَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - إحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ بِشَقِّ الْوَلَدِ نِصْفَيْنِ حَتَّى يَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إلَى مَعْرِفَةِ عَيْنِ أُمِّهِ.

فصل في إباحة المعاريض ومحلها

[فَصْلٌ فِي إبَاحَةِ الْمَعَارِيضِ وَمَحَلِّهَا] ) وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ فِي الْمَعَارِيضِ، وَتُبَاحُ الْمَعَارِيضُ وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيُّ: عِنْدَ الْحَاجَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الرِّعَايَةِ وَغَيْرِهَا وَتُكْرَهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَالْمُرَادُ بِعَدَمِ تَحْرِيمِ الْمَعَارِيضِ لِغَيْرِ الظَّالِمِ. وَقِيلَ: يَحْرُمُ وَقِيلَ: لَهُ التَّعْرِيضُ فِي الْكَلَامِ دُونَ الْيَمِينِ بِلَا حَاجَةٍ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَذَكَرَ فِي بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ أَنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. قَالَ مُثَنَّى لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: كَيْفَ الْحَدِيثُ الَّذِي جَاءَ فِي الْمَعَارِيضِ فِي الْكَلَامِ؟ قَالَ: الْمَعَارِيضُ لَا تَكُونُ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ، وَتَصْلُحُ بَيْنَ النَّاسِ. فَلَعَلَّ ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمَعَارِيضَ فِيمَا اسْتَثْنَى الشَّرْعُ مِنْ الْكَذِبِ وَلَا تَجُوزُ الْمَعَارِيضُ فِي غَيْرِهَا. وَسَأَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ عَنْ الرَّجُلِ يَحْلِفُ فَيَقُولُ: هُوَ اللَّهُ لَا أَزِيدُكَ يُوهِمُ الَّذِي يَشْرِي مِنْهُ قَالَ: هَذَا عِنْدِي يَحْنَثُ إنَّمَا الْمَعَارِيضُ فِي الرَّجُلِ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ فَأَمَّا فِي الشِّرَاءِ، وَالْبَيْعِ لَا تَكُونُ مَعَارِيضَ قُلْتُ: أَوْ يَقُولُ هَذِهِ الدَّرَاهِمُ فِي الْمَسَاكِينِ إنْ زِدْتُكَ قَالَ هُوَ عِنْدِي يَحْنَثُ. وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ إنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يُعَارِضُ فِي كَلَام الرَّجُلِ يَسْأَلُنِي عَنْ الشَّيْءِ أَكْرَهُ أَنْ أُخْبِرَهُ بِهِ؟ قَالَ إذَا لَمْ يَكُنْ يَمِينٌ فَلَا بَأْسَ، فِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةٌ عَنْ الْكَذِبِ. وَهُوَ إذَا احْتَاجَ إلَى الْخِطَابِ، فَأَمَّا الِابْتِدَاءُ بِذَلِكَ فَهُوَ أَشَدُّ. فَهَذَا النَّصُّ قَوْلٌ خَامِسٌ، وَجَزَمَ فِي الْمُغْنِي وَغَيْرِهِ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَقَالَ: ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ لَهُ تَأْوِيلُهُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَلَا نَعْلَمُ فِيهِ

خِلَافًا. وَذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ إجْمَاعًا وَاحْتَجَّ فِي الْمُغْنِي بِأَنَّ مُهَنَّا كَانَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَهُوَ وَالْمَرُّوذِيُّ وَجَمَاعَةٌ فَجَاءَ رَجُلٌ يَطْلُبُ الْمَرُّوذِيَّ وَلَمْ يُرِدْ الْمَرُّوذِيُّ أَنْ يُكَلِّمَهُ فَوَضَعَ مُهَنَّا أُصْبُعَهُ فِي كَفِّهِ وَقَالَ لَيْسَ الْمَرُّوذِيُّ هَهُنَا يُرِيدُ لَيْسَ الْمَرُّوذِيُّ فِي كَفِّهِ فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: جَاءَ مُهَنَّا إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَمَعَهُ أَحَادِيثُ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَعِي هَذِهِ وَأُرِيدُ أَنْ أَخْرُجَ قَالَ مَتَى تُرِيدُ تَخْرُجُ؟ قَالَ السَّاعَةَ أَخْرُجُ، فَحَدَّثَهُ بِهَا وَخَرَجَ، فَلَمَّا كَانَ مَنْ الْغَدِ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ جَاءَ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: أَلَيْسَ قُلْتَ السَّاعَةَ أَخْرُجُ؟ قَالَ: قُلْتُ أَخْرُجُ مِنْ بَغْدَادَ؟ إنَّمَا قُلْتُ لَكَ أَخْرُجُ مِنْ زُقَاقِكَ قَالَ فِي الْمُغْنِي: وَقَدْ ذَكَرَهُ بِنَحْوِ هَذَا الْمَعْنَى فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَانِ النَّصَّانِ لَا يَمِينَ فِيهِمَا. وَاحْتَجَّ فِي الْمُغْنِي بِالْأَخْبَارِ الْمَشْهُورَةِ فِي ذَلِكَ وَبِآثَارٍ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا يَمِينٌ كَقَوْلِهِ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَجُوزٌ» وَلِمَنْ اسْتَحْمَلَهُ «إنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلَدِ النَّاقَةِ» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِرَجُلٍ حُرٍّ «مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ» ، وَغَيْرُ ذَلِكَ قَالَ: وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ التَّأْوِيلِ وَالْمَعَارِيضِ وَقَدْ سَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَقًّا فَقَالَ: «لَا أَقُولُ إلَّا حَقًّا» وَكَانَ يَقُولُ ذَلِكَ فِي الْمِزَاحِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَيْهِ انْتَهَى كَلَامُهُ. يُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ إذَا جَازَ التَّعْرِيضُ فِي الْخَبَرِ بِغَيْرِ يَمِينٍ جَازَ بِالْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ بِالتَّعْرِيضِ كَذِبًا مُنِعَ مِنْهُ مُطْلَقًا وَقَدْ ثَبَتَ جَوَازُهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَإِنْ كَانَ صِدْقًا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ تَأْكِيدِ الصِّدْقِ بِالْيَمِينِ وَغَيْرِهَا وَغَايَةُ مَا فِيهِ إيهَامُ السَّامِعِ وَلَيْسَ بِمَانِعٍ، وَلَا الْمَنْعُ بِغَيْرِ يَمِينٍ وَالْغَرَضُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَيْسَ بِظَالِمٍ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ وَلَا يُقَالُ: لَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ الْإِيهَامِ بِغَيْرِ يَمِينٍ جَوَازُهُ بِهَا لِأَنَّهُ مَعَهَا آكَدُ وَأَبْلَغُ لِأَنَّا نَقُولُ: لَمْ نَقِسْ بَلْ نَقُولُ: إنْ كَانَ الْإِيهَامُ عَلَيْهِ لِلْمَنْعِ فَلْيُطْرَدْ وَقَدْ جَاءَ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَأَيْضًا الْقَوْلُ بِأَنَّ الْإِيهَامَ عَلَيْهِ لِلْمَنْعِ دَعْوَى تَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَلَا يُقَالُ الْأَصْلُ فِي كُلِّ يَمِينٍ عَقَدَهَا الْمُؤَاخَذَةُ بِهَا لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، وَلَا دَلِيلَ لِأَنَّا نَقُولُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ عَقْدَهَا مَعَ التَّأْوِيلِ وَالتَّعْرِيضِ يَشْمَلُهَا الْقُرْآنُ ثُمَّ هِيَ يَمِينٌ صَادِقٌ فِيهَا بِدَلِيلِ صِدْقِهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ، يُؤَيِّدُهُ أَنَّ حَقِيقَةَ

الْكَلَامِ تَخْتَلِفُ بِالْيَمِينِ وَعَدَمِهَا فَمَا كَانَ صِدْقًا بِدُونِهَا كَانَ صِدْقًا مَعَهَا، هَذَا لَا شَكَّ فِيهِ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ، وَعَدَمُ تَغَيُّرِهِ بِالْيَمِينِ فَمُدَّعِي خِلَافَهُ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ. وَقَدْ رُوِيَ «إنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنْ الْكَذِبِ» هَذَا ثَابِتٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ. وَرُوِيَ مَرْفُوعًا وَلَيْسَ هُوَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَلَا الْكُتُبِ السِّتَّةِ وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْمَعَارِيضِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ بَسَّامٍ عَنْ دَاوُد بْنِ الزِّبْرِقَانِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنْ الْكَذِبِ» . وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ أَبِي زَيْدٍ النُّمَيْرِيِّ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ مَحْبُورٍ حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ سَعِيدٍ فَذَكَرَهُ، وَدَاوُد وَالْعَبَّاسُ ضَعِيفَانِ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: مَعَ ضَعْفِهِمَا يُكْتَبُ حَدِيثُهُمَا وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْمُغْنِي هَذَا الْخَبَرَ تَعْلِيقًا بِصِيغَةِ الْجَزْمِ مُحْتَجًّا بِهِ وَلَمْ يَعْزُهُ إلَى كِتَابٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] الْمَعَارِيضُ لَا تُذَمُّ خُصُوصًا إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهَا ثُمَّ ذَكَرَ خَبَرَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَلَمْ يَعْزُهُ قَالَ: وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِمَا أَعْلَمُ مِنْ مَعَارِيضِ الْقَوْلِ مِثْلَ أَهْلِي وَمَالِي. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: لَهُمْ كَلَامٌ يَتَكَلَّمُونَ بِهِ إذَا خَشَوْا مِنْ شَيْءٍ يَدْرَءُونَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: الْكَلَامُ أَوْسَعُ مِنْ أَنْ يَكْذِبَ ظَرِيفٌ وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ كَلَامًا كَثِيرًا فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لَا يَجُوزُ مَعَ الْيَمِينِ وَمِنْ غَيْرِ يَمِينٍ يَجُوزُ، وَعَنْهُ لَا، وَعَنْهُ الْفَرْقُ بَيْنَ الِابْتِدَاءِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ يُقَيِّدُونَ بِهِ الْجَوَازَ الْأَوْلَى بِالْمَصْلَحَةِ لَا مُطْلَقًا، وَعَلَيْهِ تُحْمَلُ الْآثَارُ. وَأَمَّا الْأَصْحَابُ فَتَجُوزُ عِنْدَهُمْ الْمَعَارِيضُ، وَقِيلَ: تُكْرَهُ وَقِيلَ: تَحْرُمُ وَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا مِنْهُمْ صَرَّحَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْيَمِينِ وَغَيْرِهَا. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: التَّدْلِيسُ عَيْبٌ وَقَالَ: أَكْرَهُهُ قَالَ: لَا يُعْجِبُنِي وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ يَتَزَيَّنُ لِلنَّاسِ، فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ وَكَذَا اقْتَصَرَ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى كَرَاهَتِهِ يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا وَقِيلَ: لَهُ كَانَ شُعْبَةُ يَقُولُ: التَّدْلِيسُ كَذِبٌ فَقَالَ لَا قَدْ

دَلَّسَ قَوْمٌ وَنَحْنُ نَرْوِي عَنْهُمْ. وَلَوْ كُرِهَ التَّعْرِيضُ مُطْلَقًا أَوْ حَرُمَ، أَوْ كَانَ كَذِبًا لَعَلَّلَ بِهِ لِاطِّرَادِهِ وَعُمُومِ فَائِدَتِهِ، بَلْ عَلَّلَ بِالتَّزَيُّنِ، وَغَالِبُ صُوَرِ التَّعْرِيضِ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهَا فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ لَا تَزَيُّنَ فِيهَا، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ذَلِكَ كَالْمَوْضِعِ الَّذِي اسْتَعْمَلَهَا الشَّارِعُ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَلِهَذَا اقْتَصَرَ أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ. قَالَ الْقَاضِي: وَلِأَنَّهُ يُفْعَلُ ذَلِكَ كَرَاهَةَ الْوَضْعِ فِي الْحَدِيثِ لِرَاوِيهِ، وَمَنْ كَرِهَ التَّوَاضُعَ فِي الْحَدِيثِ فَقَدْ أَسَاءَ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَحْمَدَ يَتَزَيَّنُ انْتَهَى كَلَامُهُ، فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ أَمْرٌ يَخْتَصُّ بِالرِّوَايَةِ، لَكِنْ لَا يُعَارِضُ هَذَا نَصَّهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْيَمِينِ وَغَيْرِهَا. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: كُلُّ كَرَاهَتِهِ هُنَا لِلتَّحْرِيمِ يَخْرُجُ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي الْمَعَارِيضِ إذَا لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا وَلَا مَظْلُومًا وَالْأَشْبَهُ التَّحْرِيمُ فَإِنَّ التَّدْلِيسَ فِي الرِّوَايَةِ وَالْحَدِيثِ أَعْظَمُ مِنْهُ فِي الْبَيْعِ كَذَا قَالَ. قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ: وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ إلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهُ مَا كَذَبَ بَلْ صَدَقَ إلَّا أَنَّهُ أَوْهَمَ، وَمَنْ أَوْهَمَ فِي خَبَرِهِ لَمْ يُرَدَّ خَبَرُهُ كَمَنْ قِيلَ لَهُ حَجَجْت؟ فَقَالَ: لَا مَرَّةً وَلَا مَرَّتَيْنِ يُوهِمُ أَنَّهُ حَجَّ أَكْثَرُ وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ مَا حَجَّ أَصْلًا، فَلَا يَكُونُ كَذِبًا انْتَهَى كَلَامُهُ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا سَبَقَ. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِي الدِّينِ: لَيْسَ بِصَادِقٍ فِي الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ فَيُقَالُ: قَدْ يَمْنَعُ ذَلِكَ وَعَدَمُ فَهْمِ بَعْضِ النَّاسِ لَيْسَ بِحُجَّةِ فَقَدْ يَفْطِنُ لِلتَّعْرِيضِ بَعْضُ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ وَلِهَذَا لَا يُعَدُّ فِي الْعُرْفِ كَذِبًا؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ لُغَةً وَالْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ وَلِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِاسْتِعْمَالِ الشَّارِعِ وَحَقِيقَتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَنْ الْأَعْمَشِ قَالَ حُدِّثْتُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا «يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِصَالِ كُلِّهَا إلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ» عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ مَا كَانَ خُلُقٌ أَبْغَضَ إلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْكَذِبِ. لَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَكْذِبُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْكَذْبَةَ فَمَا يَزَالُ فِي نَفْسِهِ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ أَحْدَثَ مِنْهَا تَوْبَةً رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ يَا رَسُولَ

اللَّهِ إنَّ لِي ضَرَّةً فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ إنْ تَشَبَّعْتُ مِنْ زَوْجِي غَيْرَ الَّذِي يُعْطِينِي قَالَ الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمْ. وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا «وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ» لَهُ طُرُقٌ إلَى بَهْزٍ وَهُوَ ثَابِتٌ إلَيْهِ وَبَهْزٌ حَدِيثُهُ حَسَنٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَلِأَحْمَدَ حَدِيثُ مَكْحُولٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مَرْفُوعًا «لَا يُؤْمِنُ الْعَبْدُ الْإِيمَانَ كُلَّهُ حَتَّى يَتْرُكَ الْكَذِبَ فِي الْمُزَاحِ وَيَتْرُكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا» الْمِرَاءُ فِي اللُّغَةِ الْجِدَالُ يُقَال: مَارَى يُمَارِي مُمَارَاةً وَمِرَاءً، أَيْ: جَادَلَ. وَتَفْسِيرُ الْمِرَاءِ فِي اللُّغَةِ اسْتِخْرَاجُ غَضَبِ الْمُجَادِلِ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَرَيْتُ الشَّاةَ إذَا اسْتَخْرَجْتُ لَبَنَهَا. وَعَنْ السَّائِبِ بْنِ أَبِي السَّائِبِ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُنْتَ شَرِيكِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَكُنْتَ خَيْرَ شَرِيكٍ لَا تُدَارِينِي، وَلَا تُمَارِينِي» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَلَفْظُهُ: «كُنْتَ شَرِيكِي فَنِعْمَ الشَّرِيكُ» . وَتُدَارِينِي مِنْ الْمُدَارَاةِ بِلَا هَمْزٍ وَرُوِيَ بِالْهَمْزِ وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ. وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ: لَا تُمَارِيَنَّ حَكِيمًا، وَلَا تُجَادِلَنَّ لَجُوجًا، وَلَا تُعَاشِرَنَّ ظَلُومًا، وَلَا تُصَاحِبَنَّ مُتَّهَمًا. وَقَالَ أَيْضًا يَا بُنَيَّ مَنْ قَصَّرَ فِي الْخُصُومَةِ خَصِمَ، وَمَنْ بَالَغَ فِيهَا أَثِمَ، فَقُلْ الْحَقَّ وَلَوْ عَلَى نَفْسِكَ فَلَا تُبَالِ مَنْ غَضِبَ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: كَفَى بِكَ ظَالِمًا أَنْ لَا تَزَالَ مُخَاصِمًا، وَكَفَى بِكَ آثِمًا أَنْ لَا تَزَالَ مُمَارِيًا. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى: مَا مَارَيْتُ أَخِي أَبَدًا؛ لِأَنِّي إنْ مَارَيْتُهُ إمَّا أَنْ أَكْذِبَهُ، وَإِمَّا أَنْ أُغْضِبَهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: الْخُصُومَةُ تَمْحَقُ الدِّينَ وَتُثَبِّتُ الشَّحْنَاءَ فِي صُدُورِ الرِّجَالِ. يُقَالُ: لَا تُمَارِ حَكِيمًا وَلَا سَفِيهًا، فَإِنَّ الْحَكِيمَ يَغْلِبُكَ، وَالسَّفِيهَ يُؤْذِيكَ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: سَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا يَقُولُ: مَنْ لَاحَى الرِّجَالَ وَمَارَاهُمْ قَلَّتْ كَرَامَتُهُ، وَمَنْ أَكْثَرَ مِنْ شَيْءٍ عُرِفَ بِهِ. وَقَالَ بِلَالُ بْنُ سَعْدٍ (الْإِمَامُ الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ أَلْفَ

رَكْعَةٍ وَمَحَلُّهُ بِالشَّامِ كَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ بِالْبَصْرَةِ) قَالَ: إذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ لَجُوجًا مُمَارِيًا فَقَدْ تَمَّتْ خَسَارَتُهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أُسَيْدٍ وَيُقَالُ أَسَدٌ مَرْفُوعًا «كَبُرَتْ خِيَانَةً أَنْ تُحَدِّثَ أَخَاكَ حَدِيثًا هُوَ لَكَ بِهِ مُصَدِّقٌ وَأَنْتَ بِهِ كَاذِبٌ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ وَأَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ بَقِيَّةَ عَنْ ضُبَارَةَ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ وَبَقِيَّةُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ مُدَلِّسٌ وَأَبُو ضُبَارَةَ تَفَرَّدَ عَنْهُ ابْنُهُ تَرْجَمَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُد (بَابٌ فِي الْمَعَارِيضِ) وَلِأَحْمَدَ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ هَارُونَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَثَمَّ الْمُرَادُ بِهَا الْكَذِبُ، أَوْ التَّعْرِيضُ مِنْ ظَالِمٍ أَوْ الْكَرَاهَةُ وَاَللَّه أَعْلَمُ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْخَبَرَ الَّذِي يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَّا أُسْرِيَ بِي كَانَ أَوَّلُ مَا أَمَرَنِي بِهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ قَالَ إيَّاكَ وَعِبَادَةَ الْأَوْثَانِ، وَشُرْبَ الْخُمُورِ وَمُلَاحَاةَ الرِّجَالِ» . وَقَالَ مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ يُوصِي ابْنَهُ كِدَامًا شِعْرًا: إنِّي مَنَحْتُكَ يَا كِدَامُ وَصِيَّتِي ... فَاسْمَعْ لِقَوْلِ أَبٍ عَلَيْكَ شَفِيقِ أَمَّا الْمُزَاحَةُ وَالْمِرَاءُ فَدَعْهُمَا ... خُلُقَانِ لَا أَرْضَاهُمَا لِصَدِيقِ إنِّي بَلَوْتُهُمَا فَلَمْ أَحْمَدْهُمَا ... لِمُجَاوِرٍ جَارٍ وَلَا لِرَفِيقِ وَالْجَهْلُ يُزْرِي بِالْفَتَى وَعُمُومُهُ ... وَعُرُوقُهُ فِي النَّاسِ أَيُّ عُرُوقِ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الرِّيَاشِيُّ: وَإِذَا بُلِيتُ بِجَاهِلٍ مُتَجَاهِلٍ ... يَجِدُ الْمُحَالَ مِنْ الْأُمُورِ صَوَابَا أَوْلَيْتُهُ مِنِّي السُّكُوتَ وَرُبَّمَا ... كَانَ السُّكُوتُ عَنْ الْجَوَابِ جَوَابَا وَيَأْتِي بِالْقُرْبِ مِنْ نِصْفِ الْكِتَابِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا، وَتَحْرِيمِ الْكِبْرِ وَالْفَخْرِ وَالْعُجْبِ. وَقَالَ مَنْصُورٌ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: رُخِّصَ فِي الْكَذِبِ فِي ثَلَاثٍ قَالَ: وَمَا بَأْسٌ عَلَى مَا قِيلَ فِي الْحَدِيثِ. وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَا بَأْسَ أَنْ يَكْذِبَ لَهُمْ لِيَنْجُوَ يَعْنِي الْأَسِيرَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْحَرْبُ خُدْعَةٌ» .

وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: الْكَذِبُ لَا يَصْلُحُ مِنْهُ جَدٌّ وَلَا هَزْلٌ قُلْتُ لَهُ فَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إلَّا أَنْ يَكُونَ يُصَالِحُ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ رَجُلٍ لِامْرَأَتِهِ يُرِيدُ بِذَلِكَ رِضَاهَا» قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، فَأَمَّا ابْتِدَاءُ الْكَذِبِ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَفِي الْحَرْبِ كَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْحَرْبُ خُدْعَةٌ» وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا أَرَادَ غَزْوَةً وَرَّى بِغَيْرِهَا لَمْ يَرَ بِذَلِكَ بَأْسًا فِي الْحَرْبِ» . فَأَمَّا الْكَذِبُ بِعَيْنِهِ فَلَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْكَذِبُ مُجَانِبُ الْإِيمَانِ» كَذَا قَالَ، وَرُوِيَ هَذَا الْخَبَرُ فِي الْمُسْنَدِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مَوْقُوفًا وَقَالَ أَحْمَدُ: وَلَا يَصْلُحُ مِنْ الْكَذِبِ إلَّا فِي كَذَا وَكَذَا وَقَالَ: لَا يَزَالُ يَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا فَهَذَا مَكْرُوهٌ فَقَدْ نَصَّ عَلَى إبَاحَةِ الْكَذِبِ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ لَكِنْ هَلْ هُوَ التَّوْرِيَةُ أَوْ مُطْلَقًا؟ وَرِوَايَةُ حَنْبَلٍ تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ ابْتِدَاءِ الْكَذِبِ، وَرِوَايَةُ ابْنِ مَنْصُورٍ ظَاهِرَةٌ فِي الْإِطْلَاقِ فَصَارَ الْمَسْأَلَتَانِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَالْإِطْلَاقُ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِهَذَا اسْتَثْنَوْهُ مِنْ الْكَذِبِ الْمُحَرَّمِ أَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ وَالْأَصْحَابَ كَمَا اسْتَثْنَاهُ الشَّارِعُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ التَّصْرِيحُ وَأَيْضًا التَّعْرِيضُ يَجُوزُ فِي الْمَشْهُورِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِلَا حَاجَةٍ فَلَا وَجْهَ إذًا لِاسْتِثْنَاءِ هَذِهِ الثَّلَاثَة وَاخْتِصَاصِ التَّعْرِيضِ بِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَنْ أَمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مَرْفُوعًا «لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ قَالَ بَيْنَ النَّاسِ فَيَقُولُ خَيْرًا أَوْ يُنْمِي خَيْرًا» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَزَادَ وَلَمْ أَسْمَعْهُ يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبًا إلَّا فِي ثَلَاثٍ يَعْنِي: الْحَرْبَ، وَالْإِصْلَاحَ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثَ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ وَحَدِيثَ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا، وَهُوَ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ قَوْلِ ابْنِ شِهَابٍ: لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبًا، وَذَكَرَهُ، وَلِأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ قَالَ مَا سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكَذِبِ إلَّا فِي ثَلَاثٍ الْحَدِيثَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَعَنْ شَهْرٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ مَرْفُوعًا «كُلُّ الْكَذِبِ يُكْتَبُ عَلَى ابْنِ آدَمَ إلَّا ثَلَاثَ خِصَالٍ، إلَّا رَجُلٌ كَذَبَ لِامْرَأَتِهِ لِيُرْضِيَهَا، أَوْ رَجُلٌ كَذَبَ

فِي خَدِيعَةِ حَرْبٍ، أَوْ رَجُلٌ كَذَبَ بَيْنَ امْرَأَيْنِ مُسْلِمَيْنِ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَلِلتِّرْمِذِيِّ «لَا يَحِلُّ الْكَذِبُ» . وَفِي رِوَايَةٍ «لَا يَصْلُحُ الْكَذِبُ إلَّا فِي ثَلَاثٍ يُحَدِّثُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ لِيُرْضِيَهَا، وَالْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ، وَالْكَذِبُ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ» وَقَالَ: حَسَنٌ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ شَهْرٍ مُرْسَلًا. وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ مُرْسَلًا «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكْذِبُ لِامْرَأَتِي؟ فَقَالَ لَا خَيْرَ فِي الْكَذِبِ فَقَالَ: فَأَعِدُهَا وَأَقُولُ لَهَا؟ فَقَالَ لَا جُنَاحَ عَلَيْكَ» . وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ «كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ ثُمَّ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَتَبِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. فَقَالَ: إنِّي لَاحَيْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنِّي لَا أَدْخُلُ عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَإِنْ رَأَيْت أَنْ تُؤْوِيَنِي إلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ قَالَ: نَعَمْ قَالَ أَنَسٌ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ الثَّلَاثَ فَلَمْ أَرَهُ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّهُ إذَا تَعَارَّ مِنْ اللَّيْلِ تَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ فَذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى وَكَبَّرَ حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إلَّا خَيْرًا فَكِدْتُ أَحْتَقِرُ عَمَلَهُ قُلْتُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ، وَلَا هِجْرَةٌ وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلَاثَ مَرَّاتٍ فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إلَيْكَ لِأَنْظُرَ عَمَلَكَ لِأَقْتَدِيَ بِهِ فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ؟ قَالَ: مَا هُوَ إلَّا مَا رَأَيْتَ غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا، وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إيَّاهُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ» . وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَالْأَصْحَابِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْكَذِبُ فِي الصُّلْحِ بَيْنَ الْكَافِرِينَ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْأَخْبَارِ وَرِوَايَةُ أَحْمَدَ " بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ " فِي الْخَبَرِ إرْسَالٌ وَشَهْرٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى ثُمَّ ظَاهِرُهُ غَيْرُ مُرَادٍ لِأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْنَ كَافِرٍ وَمُسْلِمٍ لِحَقِّ الْمُسْلِمِ كَالْحُكْمِ بَيْنَهُمَا ثُمَّ هُوَ مَفْهُومُ

اسْمٍ وَفِيهِ خِلَافٌ وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَخْتَصَّ بِالْمُسْلِمِينَ لِظَاهِرِ الْخَبَرِ وَهُوَ أَخَصُّ كَمَا يَخْتَصُّ الْأَخْذُ مِنْ الزَّكَاةِ لِلصُّلْحِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ إطْلَاقِ الْآيَةِ فِيهِ فَهَذَا الْقَوْلُ أَظْهَرُ وَلَعَلَّهُ مُتَعَيَّنٌ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ إنَّمَا جَازَ لِمَصْلَحَةٍ شَرْعِيَّةٍ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالتَّأْلِيفِ بَيْنَهُمْ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ يَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ ثُمَّ يُقَال: لَوْ كَانَ مَصْلَحَةً شَرْعِيَّةً لَجَازَ دَفْعُ الزَّكَاةِ فِي الْغُرْمِ فِيهِ كَالصُّلْحِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَلِأَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ دَرَجَةَ الْإِصْلَاحِ أَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالصَّدَقَةِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَيْسَ بِأَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ الصُّلْحَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ الَّذِي رَغَّبَ فِيهِ وَحَضَّ عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي أَجَازَ الْكَذِبَ لِأَجْلِهِ وَأَنَّهُ لَا تَجِبُ إجَابَةُ دَعَوْتِهِمْ بَلْ تُسْتَحَبُّ أَوْ تَجُوزُ أَوْ تُكْرَهُ مَعَ أَنَّ الشَّارِعَ أَمَرَ بِهَا أَمْرًا عَامًّا وَأَجَابَ دَعْوَةَ يَهُودِيٍّ فَالدَّلِيلُ الَّذِي أَخْرَجَهُمْ مِنْ الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ وَهُوَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِكْرَامِ وَالْمَوَدَّةِ فَهُنَا مِثْلُهُ فَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ قُوَّةِ الدَّلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْكَذِبُ لِلصُّلْحِ بَيْنَهُمْ وَهَلْ يُسْتَحَبُّ أَوْ يُبَاحُ أَوْ يُكْرَهُ؟ يَخْرُجُ فِيهِ خِلَافٌ وَعَلَى هَذَا قَوْلُ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ الْإِجْمَاعِ: اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ الْكَذِبِ إلَّا فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ، وَمُدَارَاةِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، وَإِصْلَاحٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَدَفْعِ مَظْلَمَةٍ مُرَادَةٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ مُسْلِمَيْنِ، أَوْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ لِمَا سَبَقَ، وَقَدْ عُرِفَ بِمَا سَبَقَ أَنَّ هَذَا الْإِجْمَاعَ مَدْخُولٌ. قَالَ أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ؟ قَالُوا بَلَى قَالَ إصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَإِفْسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ» سَالِمٌ هُوَ ابْنُ أَبِي الْجَعْدِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ هَنَّادٍ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ الْحَالِقَةُ الْخَصْلَةُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَحْلِقَ أَيْ تُهْلِكَ، وَتَسْتَأْصِلَ الدِّينَ كَمَا يَسْتَأْصِلُ الْمُوسَى الشَّعْرَ. وَقَالَ صَالِحٌ لِأَبِيهِ: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ» يُحَدِّثُ

الرَّجُلُ بِكُلِّ شَيْءٍ يُرِيدُ قَالَ أَبِي يَرْوِي عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ حَدَّثَ عَنِّي حَدِيثًا يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَذَّابِينَ وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ» فَفَرَّقَ بَيْنَ مَا يُحَدَّثُ عَنْهُ وَبَيْنَ مَا يُحَدَّثُ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ فَقَالَ «حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ فَإِنَّهُ كَانَتْ فِيهِمْ الْأَعَاجِيبُ» فَيَكُونُ الرَّجُلُ يُحَدِّثُ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا بَأْسَ، وَلَا يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا مَا يَرَى أَنَّهُ صِدْقٌ. وَظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إذَا ظَنَّ أَنَّهُ كَذِبٌ كَمَا أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ وَهُوَ ظَاهِرُ الْخَبَرِ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّحَدُّثُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا لَا يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَيُحَدِّثُ بِمَا يَشُكُّ فِيهِ كَذَا جُزِمَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَيَّدَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ يَأْثَمُ إلَّا بِرِوَايَةِ مَا يَعْلَمُ أَوْ يَظُنُّهُ كَذِبًا أَمَّا مَا لَا يَعْلَمُهُ، أَوْ يَظُنُّهُ كَذِبًا فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي رِوَايَتِهِ إذًا فَإِنَّكُمْ لَا تُحَدِّثُونَ عَنْهُمْ بِشَيْءٍ إلَّا وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ أَعْجَبُ مِنْهُ وَإِنْ ظَنَّهُ غَيْرَ كَذِبٍ، أَوْ عَلِمَهُ وَفِي رِسَالَةِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ أَبَاحَهُ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَمَّنْ يُجْهَلُ صِدْقُهُ وَكَذِبُهُ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْهُ عَمَّنْ لَا يُعْرَفُ صِدْقُهُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالْخَبَرُ الْأَوَّلُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ وَضَبْطُ يَرَى فِي الْخَبَرِ الْأَوَّلِ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّهَا وَالْكَذَّابِينَ عَلَى التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ وَالْخَبَرِ الثَّانِي فِي السُّنَنِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ثنا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثٍ حَسَنٍ جَيِّدِ الْإِسْنَادِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا مُعَاذٌ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي حَسَّانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَدِّثُنَا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ حَتَّى نُصْبِحَ مَا نَقُومُ إلَّا إلَى عُظْمِ الصَّلَاةِ» حَدِيثٌ حَسَنٌ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَقَالَ قَبْلَ ذَلِكَ بَابُ رِوَايَةِ حَدِيثِ أَهْلِ الْكِتَابِ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ ثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ثنا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي نَمْلَةَ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ أَبِيهِ «بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ مُرَّ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ هَلْ تَتَكَلَّمُ هَذِهِ الْجِنَازَةُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْيَهُودِيُّ: إنَّهَا تَتَكَلَّمُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ فَإِنْ كَانَ بَاطِلًا لَمْ تُصَدِّقُوهُمْ وَإِنْ كَانَ حَقًّا لَمْ تُكَذِّبُوهُمْ» إسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَابْنُ أَبِي نَمْلَةَ اسْمُهُ نَمْلَةُ رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ وَلِأَحْمَدَ حَدَّثَنَا عَفَّانَ ثنا هِلَالُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَبِي حَسَّانَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَدِّثُنَا عَامَّةَ لَيْلِهِ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ لَا نَقُومُ إلَّا لِعُظْمِ صَلَاةٍ يَعْنِي: الْمَكْتُوبَةَ الْفَرِيضَةَ» أَبُو هِلَالٍ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمٍ الرَّاسِبِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِاَللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا» الْآيَةَ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

فَصْلٌ يَتَعَلَّقُ بِمَا قَبْلَهُ الْكَذِبُ هُوَ: إخْبَارُهُ عَنْ الشَّيْءِ خِلَافَ مَا هُوَ عَلَيْهِ لِهَذَا يَقُولُ أَصْحَابُنَا فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ هِيَ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا كَاذِبًا عَالِمًا بِكَذِبِهِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْأُصُولِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ، وَغَيْرِهِمْ وَلِهَذَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» فَقَيَّدَهُ بِالْعَمْدِ قِيلَ: هُوَ دُعَاءٌ بِلَفْظِ الْأَمْرِ أَيْ: بَوَّأَهُ اللَّهُ ذَلِكَ، وَقِيلَ: هُوَ خَبَرٌ بِلَفْظِ الْأَمْرِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي الصَّحِيحِ أَوْ الصَّحِيحَيْنِ «يَلِجُ النَّارَ» وَعِنْدَ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ شَرْطُ الْكَذِبِ الْعَمْدِيَّةُ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ أَيْضًا يُعْتَبَرُ لِلصِّدْقِ وَالِاعْتِقَادِ وَإِلَّا فَهُوَ كَاذِبٌ وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إنْ طَابَقَ الْحُكْمَ الْخَارِجِيَّ فَصِدْقٌ وَإِلَّا فَكَذِبٌ وَبَحَثَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْأُصُولِ هَذَا فِي الْمَاضِيَ وَالْحَالَ فَإِنْ تَعَلَّقَ بِالْمُسْتَقْبَلِ فَكَذَلِكَ عَلَى رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ الْمَذْكُورَةِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: سَمِعْتُ هَارُونَ الْمُسْتَمْلِيَّ يَقُولُ لِأَبِي: بِمَ تَعْرِفُ الْكَذَّابِينَ؟ قَالَ بِالْمَوَاعِيدِ أَوْ بِخُلْفِ الْمَوَاعِيدِ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُصُولِ بَعْدَ ذِكْرِهِ لِخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَكْذَبُ النَّاسِ الصَّبَّاغُونَ وَالصَّوَّاغُونَ» وَقَالَ: هَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمْ يَعِدُ وَيُخْلِفُ، وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ قَالَ أَحْمَدُ: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ إذَا اسْتَثْنَى بَعْدَهُ فَلَهُ ثُنْيَاهُ لَيْسَ هُوَ فِي الْأَيْمَانِ إنَّمَا تَأْوِيلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا - إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 23 - 24] . فَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الْكَذِبِ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ لَيْسَ فِيهِ كَفَّارَةٌ وَهُوَ أَشَدُّ مِنْ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ تُكَفَّرُ وَالْكَذِبُ لَا يُكَفَّرُ قَالَ الْجُمْهُورُ: إنَّ الْمَعْنَى إذَا نَسِيتَ الِاسْتِثْنَاءَ ثُمَّ ذَكَرْتَ فَقُلْ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كَانَ بَعْدَ سَنَةٍ، مَعَ أَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ قَالُوا: لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ إلَّا مُتَّصِلًا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الصَّوَابُ لَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ وَلَوْ بَعْدَ حِنْثِهِ فِي يَمِينِهِ فَيَقُولُ: إنْ شَاءَ اللَّهُ لِيَخْرُجَ بِذَلِكَ مِمَّا يَلْزَمُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْحَرَجُ فَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَلَا تَسْقُطُ بِحَالٍ إلَّا أَنْ يَسْتَثْنِيَ

مُتَّصِلًا بِكَلَامِهِ. وَمَنْ قَالَ لَهُ ثُنْيَاهُ وَلَوْ بَعْدَ سَنَةٍ أَرَادَ سُقُوطَ الْحَرَجِ الَّذِي يَلْزَمُهُ بِتَرْكِ الِاسْتِثْنَاءِ دُونَ الْكَفَّارَةِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فَائِدَةُ الِاسْتِثْنَاءِ خُرُوجُ الْحَالِفِ مِنْ الْكَذِبِ إذَا لَمْ يَفْعَلْ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ. قَالَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} [الكهف: 69] وَلَمْ يَصْبِرْ فَسَلِمَ مِنْهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ. وَفِي الْمُغْنِي فِي الطَّلَاقِ أَنَّ الْحَالِفَ عَلَى الْمُمْتَنِعِ كَاذِبٌ حَانِثٌ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل: 38] إلَى قَوْلِهِ {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} [النحل: 39] وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا} [الحشر: 11] إلَى قَوْلِهِ {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 107] . قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: نَظِيرُهَا {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ} [الأنعام: 27] الْآيَةَ قَالَهُ رَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا} [العنكبوت: 12] . الْآيَةَ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ «أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ يَا أَبَا سُفْيَانَ الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ الْيَوْمُ تُسْتَحَلُّ الْكَعْبَةُ. فَأَخْبَرَ أَبُو سُفْيَانَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ كَذَبَ سَعْدٌ وَلَكِنْ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللَّهُ فِيهِ الْكَعْبَةَ وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الْكَعْبَةُ» . وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ عَبْدًا لِحَاطِبٍ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْكُو حَاطِبًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَبْتَ لَا يَدْخُلُهَا فَإِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ» قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ حَدِيثِ حَاطِبٍ يُرَدُّ عَلَيْهِ، وَإِنَّ لَفْظَ الْكَذِبِ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ مَاضٍ أَوْ مُسْتَقْبَلٍ، وَهَذَا قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَأَظُنُّهُ احْتَجَّ هُوَ وَغَيْرُهُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «آيَةُ الْمُنَافِق ثَلَاثٌ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إخْلَافِ الْوَعْدِ لَيْسَ

بِكَذِبٍ وَإِلَّا لَاقْتَصَرَ عَلَى اللَّفْظِ الْأَوَّلِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا لَا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ كَذِبًا وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ وَإِنَّمَا ذُكِرَ بِلَفْظٍ خَاصٍّ صَرِيحٍ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَذِبٍ وَإِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي اللَّفْظِ ثُمَّ غَايَتُهُ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ طَرِيقِ الظَّاهِرِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَذِبٌ بِاسْتِعْمَالِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ وَلَا تَعَارُضَ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: لَا يُسْتَعْمَلُ الْكَذِبُ إلَّا فِي إخْبَارٍ عَنْ الْمَاضِي بِخِلَافِ مَا هُوَ بِهِ. وَإِذَا قَدْ تَبَيَّنَ هَذَا فَإِذَا أَخْبَرَ عَنْ وُجُودِ شَيْءٍ يَعْلَمُهُ، أَوْ يَظُنُّهُ جَازَ وَإِنْ عَلِمَ عَدَمَهُ أَوْ ظَنَّهُ لَمْ يَجُزْ وَكَذَلِكَ إنْ شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ الشَّكَّ لَا يَصْلُحُ مُسْتَنَدًا لِلْإِخْبَارِ وَسَوَاءٌ طَابَقَ الْخَارِجَ مَعَ الظَّنِّ أَوْ الشَّكِّ أَوْ لَا. وَقَدْ ذَكَرَ الْأَصْحَابُ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْقَسَامَةِ الْعَمَلُ بِالظَّنِّ وَأَنَّهُ خَبَرٌ مُؤَكَّدٌ بِالْيَمِينِ، وَكَذَا لَغْوُ الْيَمِينِ يَجُوزُ أَنْ يَحْلِفَ بِالظَّنِّ وَكَذَا مَا ظَنَّهُ بِخَطِّ أَبِيهِ مِنْ الدِّينِ يَعْمَلُ بِهِ وَيَحْلِفُ، وَأَنَّهُ تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِالْمُلْكِ لِمَنْ بِيَدِهِ عَيْنٌ يَتَصَرَّفُ فِيهَا تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ فِي الْمَشْهُورِ كَمَا لَوْ شَاهَدَ سَبَبَ الْيَدِ مَعَ بَيْعٍ، أَوْ غَيْرِهِ مَعَ احْتِمَالِ كَوْنِ الْبَائِعِ غَيْرَ مَالِكٍ وَالشَّهَادَةُ آكَدُ مِنْ الْخَبَرِ، وَأَنَّهُ يُخْبِرُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ بِعِلْمٍ، أَوْ ظَنٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَوَاضِعِ وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُخْبِرُ بِعِلْمٍ وَظَنٍّ خَاصَّةً وَهَذَا أَوْضَحُ وَدَلِيلُهُ مَشْهُورٌ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأَنْصَارِ الَّذِينَ قُتِلَ مِنْهُمْ الْقَتِيلُ بِخَيْبَرَ «يَحْلِفُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ قَالُوا أَمْرٌ لَمْ نَشْهَدْهُ فَكَيْفَ نَحْلِفُ؟» الْحَدِيثَ. «وَحَلَفَ جَابِرٌ بِاَللَّهِ إنَّ ابْنَ صَيَّادٍ الدَّجَّالَ فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ: أَتَحْلِفُ بِاَللَّهِ قَالَ: إنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَ بِوُجُودِ شَيْءٍ يَظُنُّهُ فَلَمْ يَكُنْ جَازَ أَنَّهُ كَاذِبٌ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ أَخْبَرَ بِهِ وَهُوَ يَظُنُّ عَدَمَهُ فَكَانَ لَمْ يَحْرُمْ مَعَ أَنَّهُ صَادِقٌ، وَأَنَّ قَوْلَ الْأَصْحَابِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَاللَّفْظُ لِلْمُغْنِي لَا كَفَّارَةَ فِي يَمِينٍ عَلَى مَاضٍ؛ لِأَنَّهَا تَنْقَسِمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مَا هُوَ صَادِقٌ فِيهِ فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ إجْمَاعًا. وَمَا تَعَمَّدَ الْكَذِبَ فِيهِ فَهُوَ يَمِينُ الْغَمُوسِ

وَمَا يَظُنُّهُ حَقًّا فَيَتَبَيَّنُ بِخِلَافِهِ فَلَا كَفَّارَةَ. وَذَكَرَ فِي هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ رِوَايَةً ظَهَرَ أَنَّهُ لَوْ شَكَّ أَوْ حَلَفَ عَلَى خِلَافِ مَا يَظُنُّهُ فَطَابَقَ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ إقْدَامُهُ عَلَى الْيَمِينِ لَكِنْ هَلْ يَدْخُلُ يَمِينُهُ فِي خِلَافِ ظَنِّهِ فِي الْغَمُوسِ؟ ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ لَا يَدْخُلُ وَقَدْ قَالَ فِي الْمُغْنِي فِي مَسْأَلَةِ الشَّهَادَةِ الْمَذْكُورَةِ: الظَّنُّ يُسَمَّى عِلْمًا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] . وَخَرَجَ مِنْ كَلَامِهِمْ إذَا لَمْ يُطَابَقْ مَعَ الشَّكِّ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِصَادِقٍ وَلَمْ يَتَعَمَّدْ الْكَذِبَ فَلَا ظَنَّ لَهُ فَيُقَالُ إنْ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ فِيمَا يَظُنُّهُ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ فَهُنَا أَوْلَى، فَظَاهِرُ تَخْصِيصِ هَذِهِ الصُّورَةِ بِعَدَمِ الْكَفَّارَةِ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ فِي غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الظَّنَّ هُوَ الْمَانِعُ مِنْ الْوُجُوبِ وَإِلَّا لَوَجَبَتْ لِظَاهِرِ الْآيَةِ. وَقَدْ عَلَّلَ فِي الْمُغْنِي عَدَمَ وُجُوبِهَا فِي الظَّنِّ بِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْمُخَالَفَةَ كَالنَّاسِي وَهَذَا لَمْ يَقْصِدْ الْمُخَالَفَةَ مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: لَا كَفَّارَةَ فِي يَمِينٍ عَلَى مَاضٍ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْحَصْرَ، وَوُجُوبَ الْكَفَّارَةِ فِيهَا لَقَالَ إنْ كَانَ صَادِقًا فَلَا كَفَّارَةَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَادِقًا فَإِنْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ أَوْ ظَنَّ شَيْئًا فَبَانَ بِخِلَافِهِ فَلَا كَفَّارَةَ وَإِلَّا وَجَبَتْ إلَّا أَنْ يَدُومَ شَكُّهُ فَلَا كَفَّارَةَ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَقَدْ جَزَمَ فِي الْمُغْنِي وَغَيْرِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي الطَّلَاقِ فَقَالَ: وَإِنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنَّ أَخَاك لَعَاقِلٌ وَكَانَ أَخُوهَا عَاقِلًا لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَاقِلًا حَنِثَ كَمَا لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ إنَّ أَخَاك لَعَاقِلٌ، وَإِنْ شُكَّ فِي عَقْلِهِ لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النِّكَاحِ فَلَا يُزَالُ بِالشَّكِّ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَا أَكَلْتُ هَذَا الرَّغِيفَ لَمْ يَحْنَثْ إنْ كَانَ صَادِقًا وَيَحْنَثُ إنْ كَانَ كَاذِبًا كَمَا لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ مَا أَكَلْتُهُ. وَقَالَ فِي الْمُغْنِي فِيمَا إذَا صَالَحَ أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْمُنْكِرِ أَنَّهُ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْمُدَّعِي فِي جَوَازِ الدَّعْوَى عَلَى الْمُنْكِرِ قَالَ: وَيُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ الدَّعْوَى أَنْ يُعْلَمَ صِدْقُ الْمُدَّعِي فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ لَمْ يَحِلَّ لَهُ دَعْوَى شَيْءٍ لَا يُعْلَمُ بِثُبُوتِهِ فَمُرَادُهُ بِالْعِلْمِ الظَّنُّ لِيَتَّفِقَ كَلَامُهُ أَوْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ عِنْدَهُ قَوْلَانِ ذَكَرَ فِي كُلِّ مَكَان قَوْلًا بِحَسَبِ مَا رَآهُ فِي كَلَامِ الْأَصْحَابِ أَوْ مَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.

وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْوَكِيلَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُهُ وَفَرْعُهُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ دَعْوَى لَا تَجُوزُ لِأَصْلِهِ فَلَا يَدَّعِي إلَّا مَا يَعْلَمُهُ، أَوْ يَظُنُّهُ حَقًّا كَمَا سَبَقَ، وَكَذَا قَالَ الْقَاضِي فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُخَاصِمَ لِغَيْرِهِ فِي إثْبَاتِ حَقٍّ أَوْ نَفْيِهِ وَهُوَ عَالِمٌ بِحَقِيقَةِ أَمْرِهِ، وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ هَذَا وَلَمْ يُخَالِفْهُ فَدَلَّ عَلَى مُوَافَقَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ: لَا تَصِحُّ وَكَالَةُ مَنْ عَلِمَ ظُلْمَ مُوَكِّلِهِ فِي الْخُصُومَةِ فَظَاهِرُهُ يَصِحُّ إذَا لَمْ يَعْلَمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِالْعِلْمِ أَيْضًا الظَّنُّ وَإِلَّا فَبَعِيدٌ جِدًّا الْقَوْلُ بِهِ مَعَ ظَنِّ ظُلْمِهِ. فَإِنْ قِيلَ ظَنُّ التَّحْرِيمِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ بِخِلَافِ الْعِلْمِ بِهِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يُخَاصِمَ فِي بَاطِلٍ فَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا سَبَقَ قِيلَ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ التَّوْكِيلِ وَصِحَّتِهِ إلَّا الْمُخَاصَمَةُ فِيمَا وَكَّلَهُ فِيهِ مِمَّا يَعْلَمُهُ، أَوْ يَظُنُّهُ بَاطِلًا وَإِلَّا فَكَانَ يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ مَعَ الْعِلْمِ وَلَا يُخَاصِمُ فِي بَاطِلٍ فَلَا مَفْسَدَةَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ دَلَّ كَلَامُهُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ شَكَّ فِي ظُلْمِهِ صَحَّتْ وَخَاصَمَ فِيهِ وَعَلَى هَذَا عَمَلُ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَيَدَّعُونَ مَعَ الشَّكِّ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى وَعَدَمِهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُخْبِرٍ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا يُخْبِرُ عَنْ الْمُوَكِّلِ وَيُبَلِّغُ كَلَامَهُ لِكَوْنِهِ لَا يَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ قَدْ تَمَسُّ إلَى ذَلِكَ لِكَثْرَةِ مَشَقَّتِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُدَّعِي لِنَفْسِهِ لِخِبْرَتِهِ بِأَحْوَالِهِ وَقَضَايَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُد بَابٌ فِيمَنْ يُعِينُ عَلَى خُصُومَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ أَمْرَهَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ ثنا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ رَاشِدٍ قَالَ جَلَسْنَا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَخَرَجَ إلَيْنَا فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَدْ حَادَّ اللَّهَ. وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُ لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ، وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ أَسْكَنَهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ» . حَدَّثَنَا

عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يُونُسَ ثنا إبْرَاهِيمُ ثنا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ الْعُمَرِيُّ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ يَزِيدَ عَنْ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَعْنَاهُ قَالَ «وَمَنْ أَعَانَ عَلَى خُصُومَةٍ بِظُلْمٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» انْتَهَى كَلَامُهُ. فَالتَّرْجَمَةُ تُوَافِقُ مَا سَبَقَ مِنْ كَلَامِ الْقَاضِي وَالْخَبَرُ قَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِخِلَافِهِ فَهَلْ يَكُونُ مَذْهَبًا لَهُ؟ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْأَصْحَابِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُخَالِفُهُ. وَالْخَبَرُ إنَّمَا يَدُلُّ لِمَا سَبَقَ فِي كَلَامِ ابْنِ عَقِيلٍ كَمَا تَرَاهُ وَالْإِسْنَادُ الْأَوَّلُ صَحِيحٌ وَالثَّانِي إنَّمَا فِيهِ الْمُثَنَّى بْن يَزِيدَ تَفَرَّدَ عَنْهُ عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَذْكُورُ فَيَكُونُ مَجْهُولًا فِي اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ لَكِنْ يُقَالُ: عَاصِمٌ كَبِيرٌ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحَيْنِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَرْوِي عَمَّنْ يَرْوِي عَنْ آبَائِهِ شَيْئًا إلَّا أَنْ يُعْرَفَ حَالُهُ مَعَ أَنَّهُ مُتَابِعٌ لِلْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ فَهَذِهِ حُجَّةٌ فِي الْمَسْأَلَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَدْغَةُ الْخَبَالِ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْخَاءِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ: صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ اللَّهُمَّ أَجِرْنَا وَالْمُسْلِمِينَ مِنْهَا. أَمَّا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «وَمَنْ أَشَارَ عَلَى أَخِيهِ بِأَمْرٍ يَعْلَمُ أَنَّ الرُّشْدَ فِي غَيْرِهِ فَقَدْ خَانَهُ» فَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو ابْنِ أَبِي نِعْمَةَ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: مَجْهُولٌ يُتْرَكُ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَصِحُّ خَبَرُهُ وَأَمَّا إنْ تَعَلَّقَ الْإِخْبَارُ بِالْمُسْتَقْبَلِ فَإِنْ عَلَّقَهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ فَوَاضِحٌ كَمَا سَبَقَ وَإِلَّا فَالْحُكْمُ عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ فَلَا يُخْبِرُ عَنْ شَيْءٍ سَيُوجَدُ أَوْ لَا إلَّا بِاعْتِقَادٍ جَازِمٍ أَوْ ظَنٍّ رَاجِحٍ ثُمَّ إنْ طَابَقِ فَقَدْ اجْتَمَعَ الْإِخْبَارُ الْجَائِزُ وَالصِّدْقُ، وَإِنْ لَمْ يُطَابِقْ لِغَيْرِ مَانِعٍ شَرْعِيٍّ فَكَذِبٌ مُحَرَّمٌ وَإِلَّا فَكَذِبٌ لَا إثْمَ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَنِدْ الْإِخْبَارُ إلَيْهِ مَا لَمْ يَجُزْ، ثُمَّ إنْ طَابَقَ فَصِدْقٌ، وَإِنْ لَمْ يُطَابَقْ لِغَيْرِ مَانِعٍ شَرْعِيٍّ فَكَذِبٌ مُحَرَّمٌ وَإِلَّا فَكَذِبٌ لَا إثْمَ فِيهِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ أَبِي النُّعْمَانِ عَنْ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا وَعَدَ الرَّجُلُ أَخَاهُ وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَفِيَ فَلَمْ يَفِ وَلَمْ يَجِئْ لِلْمِيعَادِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ» . وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ: أَبُو وَقَّاصٍ مَجْهُولٌ.

وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ لَيْسَ إسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ قَالَ وَلَا يُعْرَفُ أَبُو النُّعْمَانِ وَلَا أَبُو وَقَّاصٍ فَاعْتُبِرَ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ أَنْ يَفِيَ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا فَهُوَ يُعَضَّدُ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَخْبَارِ وَالْمَعْنَى مَعَ أَنَّ فِيهَا كِفَايَةً، وَتَعْلِيقُ الْخَبَرِ فِيهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ مُسْتَحَبٌّ، وَلَا يَجِبُ لِلْأَخْبَارِ الْمَشْهُورَةِ فَيَتْرُكُهُ فِي الْخَبَرِ وَالْقَسَمِ، وَسَبَقَ كَلَامُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي مَسْأَلَةِ الْفِرَارِ مِنْ الزَّكَاةِ لَمَّا قِيلَ: لَهُ إنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ عُوقِبُوا عَلَى تَرْكِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْقَسَمِ فَقَالَ: لَا؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ وَعَلَى أَنَّ الْوَعِيدَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ الْكَذِبِ إنْ أَتَى بِهِ مُتَّصِلًا أَوْ مُنْفَصِلًا وَقَدْ نَسِيَهُ وَإِلَّا فَلَا. هَذَا ظَاهِرُ الْآيَةِ، وَذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ الْجُمْهُورِ فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ السَّابِقِ وَحِكَايَتُهُ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يَسْلَمُ مِنْهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ مُطْلَقًا وَلَعَلَّ مُرَادَهُ كَالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، أَمَّا مَنْ حَلَفَ وَحَنِثَ فَالْكَفَّارَةُ كَالْوَاجِبِ وَهِيَ مَاحِيَةٌ لِحُكْمِ مَا وَقَعَ. وَلِهَذَا قَالَ الْأَصْحَابُ وَغَيْرُهُمْ: الْيَمِينُ عَلَى الْمُبَاحِ الْإِقَامَةُ عَلَيْهَا وَحِلُّهَا مُبَاحٌ وَإِنَّ الْيَمِينَ لَا تُغَيِّرُ الشَّيْءَ عَنْ صِفَتِهِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا إذَا حَنِثَ سِوَى الْكَفَّارَةِ وَأَنَّهَا زَاجِرَةٌ مَاحِيَةٌ وَهَذَا ظَاهِرُ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ السَّابِقِ وَحِكَايَتُهُ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَأْتِي بِالِاسْتِثْنَاءِ لِيَسْلَمَ مِنْ الْكَذِبِ وَأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تُزِيلُهُ وَلَعَلَّ مُرَادَهُ الْخَبَرُ لَا الْقَسَمُ وَسَبَقَ كَلَامُ ابْنِ جَرِيرٍ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي بَابِ الْكَذِبِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ هُوَ النَّمَرِيُّ عَنْ شُعْبَةَ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ هُوَ ابْنُ إشْكَابَ ثنا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ ثنا شُعْبَةُ عَنْ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ ابْنُ حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» وَلَمْ يَذْكُرْ حَفْصٌ أَبَا هُرَيْرَةَ إسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَحَفْصٌ وَابْنُ إشْكَابَ ثَبْتَانِ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا» وَذَكَرَهُ وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا «بِحَسْبِ الْمَرْءِ مِنْ الْكَذِبِ أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» . فَفِي هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَقَعَ فِي الْكَذِبِ الْمُحَرَّمِ فَلَا يَفْعَلُ لِيَجْتَنِبَ الْمُحَرَّمَ فَيَكُونُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَمْدًا قَدْ تَعَمَّدَ كَذِبًا. وَقَالَ فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَعْنَاهُ الزَّجْرُ عَنْ التَّحْدِيثِ بِكُلِّ مَا سَمِعَ

فَإِنَّهُ يَسْمَعُ فِي الْعَادَةِ الصِّدْقَ، وَالْكَذِبَ فَإِذَا حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ فَقَدْ كَذَبَ لِإِخْبَارِهِ بِمَا لَمْ يَكُنْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْكَذِبَ: الْإِخْبَارُ عَنْ الشَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعَمُّدُ لَكِنَّ التَّعَمُّدَ شَرْطٌ لِكَوْنِهِ إثْمًا انْتَهَى كَلَامُهُ. فَلَعَلَّ ظَاهِرُهُ لَا يَحْرُمُ لِعَدَمِ تَعَمُّدِ الْكَذِبِ وَلَمْ يَذْكُرْ رِوَايَةَ أَبِي دَاوُد الْمَذْكُورَةُ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ يَجِيئُونَنِي بِالطَّعَامِ فَإِنْ قُلْتُ لَا آكُلُهُ ثُمَّ أَكَلْت؟ قَالَ هَذَا كَذِبٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْعَلَ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَأْتِيهِ الْأُمِّيُّ الَّذِي لَا يَكْتُبُ فَيَقُولُ اُكْتُبْ كِتَابًا فَيُمْلِي عَلَيْهِ شَيْئًا يَعْلَمُ أَنَّهُ كَذِبٌ لِيَكْتُبَ لَهُ قَالَ: لَا فَلَا يَكْتُبُ بِالْكَذِبِ.

فصل في الزعم وكون زعموا مطية الكذب

[فَصْلٌ فِي الزَّعْمِ وَكَوْنِ زَعَمُوا مَطِيَّةَ الْكَذِبِ] قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ زَعَمُوا مَطِيَّةُ الْكَذِبِ وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: زَعَمَ فُلَانٌ اقْتَصَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَلَى الْكَرَاهَةِ عِنْدَهُ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: بَابٌ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ زَعَمُوا حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ثنا وَكِيعٌ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَوْ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لِابْنِ مَسْعُودٍ: مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي زَعَمُوا؟ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُول «بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ» قَالَ أَبُو دَاوُد وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ حُذَيْفَةُ وَاقْتَصَرَ عَلَى هَذَا. وَقَالَ الْحَافِظُ ضِيَاءُ الدِّينِ فِي أَطْرَافِ الْحَافِظِ ابْنِ عَسَاكِرَ بِخَطِّهِ لَمْ يَسْمَعْ أَبُو قِلَابَةَ مِنْهُمَا وَهُوَ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ضِيَاءُ الدِّينِ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ قَالَ قِيلَ لَهُ: مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي زَعَمُوا؟ وَذَكَرَهُ قَالَ فِي النِّهَايَةِ: مَعْنَاهُ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا أَرَادَ الْمَسِيرَ إلَى بَلَدٍ، وَالظَّعْنَ فِي حَاجَةٍ رَكِبَ، مَطِيَّتَهُ وَسَارَ حَتَّى يَقْضِيَ أَرَبَهُ فَشَبَّهَ مَا يُقَدِّمُهُ أَمَامَ كَلَامِهِ وَيَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى غَرَضِهِ (زَعَمُوا كَذَا وَكَذَا) بِالْمَطِيَّةِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى الْحَاجَةِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ زَعَمُوا فِي حَدِيثٍ لَا سَنَدَ لَهُ وَلَا يَثْبُتُ فِيهِ وَإِنَّمَا يَحْكِي عَنْ الْأَلْسُنِ عَلَى سَبِيلِ الْبَلَاغِ قَدَّمَ مِنْ الْحَدِيثِ مَا كَانَ سَبِيلُهُ وَالزَّعْمُ بِضَمِّ الزَّاي وَالْفَتْحِ قَرِيبٌ مِنْ الظَّنِّ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ الزَّعْمُ يُطْلَقُ عَلَى الْقَوْلِ الْمُحَقَّقِ، وَعَلَى الْكَذِبِ، وَعَلَى الْمَشْكُوكِ فِيهِ، وَيَنْزِلُ كُلُّ مَوْضِعٍ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ وَقَالَ فِي أَوَّلِ خُطْبَةِ مُسْلِمٍ كَثُرَ الزَّعْمُ بِمَعْنَى الْقَوْلِ. وَفِي الْخَبَرِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَعَمَ جِبْرِيلُ، وَفِي خَبَرِ ضَمْضَمِ بْنِ ثَعْلَبَةَ زَعَمَ رَسُولُكَ، وَأَكْثَرَ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ: زَعَمَ الْخَلِيلُ كَذَا فِي أَشْيَاءَ يَرْتَضِيهَا سِيبَوَيْهِ، وَقَالَ فِي بَابِ السُّؤَالِ أَوَائِلَ كِتَابِهِ الْإِيمَانُ وَنَقَلَهُ أَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ فِي شَرْحِ الْفَصِيحِ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي الْعَبَّاسِ ثَعْلَبٍ عَنْ الْعُلَمَاءِ بِاللُّغَةِ مِنْ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ.

فصل في حفظ اللسان وتوقي الكلام

[فَصْلٌ فِي حِفْظِ اللِّسَانِ وَتَوَقِّي الْكَلَامِ] قَالَ الْخَلَّالُ فِي تَوَقِّي اللِّسَانِ وَحِفْظِ الْكَلَامِ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرِ بْنِ مَنْصُورٍ الصَّائِغُ سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَقَدْ شَيَّعْتُهُ وَهُوَ يَخْرُجُ إلَى الْمُتَوَكِّلِ فَلَمَّا رَكِبَ الْجَمَلَ الْتَفَتَ إلَيْنَا فَقَالَ: انْصَرِفُوا مَأْجُورِينَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ كَانُوا يَكْرَهُونَ فُضُولَ الْكَلَامِ، وَكَانُوا يَعُدُّونَ فُضُولَ الْكَلَامِ مَا عَدَا كِتَابَ اللَّهِ أَنْ نَقْرَأَهُ أَوْ أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ أَوْ أَنْ تَنْطِقَ فِي مَعِيشَتِكَ بِمَا لَا بُدَّ لَكَ مِنْهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ ثنا أَبُو دَاوُد ثنا شُعْبَةُ حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ سَمِعْتُ طَارِقَ بْنَ شِهَابٍ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: إنَّ الرَّجُلَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ وَمَعَهُ دِينُهُ فَيَلْقَى الرَّجُلَ إلَيْهِ حَاجَةٌ فَيَقُولُ لَهُ إنَّكَ كَيْتَ إنَّكَ كَيْتَ يُثْنِي عَلَيْهِ وَعَسَى أَنْ لَا يَحْظَى مِنْ حَاجَتِهِ بِشَيْءٍ فَيُسْخِطَ اللَّهَ عَلَيْهِ وَمَا مَعَهُ مِنْ دِينِهِ شَيْءٌ. وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ عَجِبْتُ مِنْ اتِّفَاقِ الْمُلُوكِ الْأَرْبَعَةِ كُلِّهِمْ عَلَى كَلِمَةٍ قَالَ كِسْرَى: إذَا قُلْتُ نَدِمْتُ وَإِذَا لَمْ أَقُلْ لَمْ أَنْدَمْ وَقَالَ قَيْصَرُ أَنَا عَلَى رَدِّ مَا لَمْ أَقُلْ أَقْدَرُ مِنِّي عَلَى رَدِّ مَا قُلْتُ وَقَالَ مَلِكُ الْهِنْدِ عَجِبْتُ لِمَنْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ إنْ هِيَ رُفِعَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ ضَرَّتْهُ، وَإِنْ هِيَ لَمْ تُرْفَعْ لَمْ تَنْفَعْهُ، وَقَالَ مَلِكُ الصِّينِ: إنْ تَكَلَّمْتُ بِكَلِمَةٍ مَلَكَتْنِي وَإِنْ لَمْ أَتَكَلَّمْ بِهَا مَلَكْتُهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَعَنْ ابْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا «مَنْ صَمَتَ نَجَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: " إذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ قَالَتْ الْأَعْضَاءُ كُلُّهَا لِلِّسَانِ اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ فَإِنْ اسْتَقَمْتَ

اسْتَقَمْنَا وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مَرْفُوعًا قَالَ وَهُوَ أَصَحُّ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «إنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَمَعْنَى مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا لَا يَتَأَمَّلُهَا وَيَجْتَهِدُ فِيهَا وَفِيمَا تَقْتَضِيهِ. وَفِي رِيَاضِ الصَّالِحِينَ لَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا أَخَيْرٌ أَمْ لَا؟ وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي أَوَاخِرِ الْكِتَابِ مَعْنَاهُ لَا يَتَدَبَّرُهَا وَيُفَكِّرُ فِي قُبْحِهَا وَمَا يَخَافُ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا. وَلِأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ «إنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ» وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ «إنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ» فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ إنْ صَحَّتْ مَعْنَاهَا لَا يَتَأَمَّلُهَا وَيَجْتَهِدُ فِيهَا وَفِيمَا تَقْتَضِيهِ بَلْ قَالَهَا فِي بَادِئِ الرَّأْيِ وَرَوَاهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ وَفِيهِ «مَا كَانَ يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ» ، وَفِيهِ «يَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ، وَفِيهِ «يَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا سَخَطَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: غَرِيبٌ وَهُوَ فِي الْمُوَطَّأِ وَلِلتِّرْمِذِيِّ أَيْضًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ مُرْسَلًا وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ خُنَيْسٍ الْمَكِّيِّ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ حَسَّانَ الْمَخْزُومِيَّ حَدَّثَتْنِي أَمُّ صَالِحٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ أَمِّ حَبِيبَةَ مَرْفُوعًا. «كُلُّ كَلَامِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لَا لَهُ إلَّا أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ أَوْ ذِكْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ الْيَسَارِ. أُمُّ صَالِحٍ تَفَرَّدَ عَنْهَا سَعِيدٌ وَبَاقِيهِ حَسَنٌ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ خُنَيْسٍ. وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ أَسْلَمَ أَنَّ عُمَرَ دَخَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَهُوَ يَجْبِذُ لِسَانَهُ فَقَالَ عُمَرُ: مَهْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنَّ هَذَا أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَلْخٍ الْبَغْدَادِيُّ صَاحِبِ أَحْمَدَ

بْنِ حَنْبَلٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَفْصٍ ثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَاطِبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْن عُمَرَ مَرْفُوعًا «لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ قَسْوَةٌ لِلْقَلْبِ، وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى الْقَلْبُ الْقَاسِي» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ النَّضْرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ إبْرَاهِيمَ بِمَعْنَاهُ وَقَالَ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ إبْرَاهِيمَ وَإِبْرَاهِيمُ لَمْ أَجِدْ فِيهِ كَلَامًا وَحَدِيثُهُ حَسَنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ الْفَضْلِ الْكُوفِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «كَفَى بِكَ إثْمًا أَنْ لَا تَزَالَ مُخَاصِمًا» أَبُو وَهْبٍ لَا يُعْرَفُ تَفَرَّدَ بِهِ عَنْهُ ابْنُ عَيَّاشٍ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيب لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: إنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَقِيَ خِنْزِيرًا عَلَى الطَّرِيقِ فَقَالَ لَهُ: اُنْفُذْ بِسَلَامٍ، فَقِيلَ لَهُ أَتَقُولُ هَذَا لِلْخِنْزِيرِ؟ فَقَالَ عِيسَى: إنِّي أَكْرَهُ وَأَخَافُ أَنْ أُعَوِّدَ لِسَانِي النُّطْقَ بِالسُّوءِ. وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «إذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي يَقُولُ يَا وَيْلَهُ» الْحَدِيثَ فَهَذَا مِنْ آدَابِ الْكَلَامِ إذَا كَانَ فِي الْحِكَايَةِ عَنْ الْغَيْرِ سُوءٌ وَاقْتَضَى ذَلِكَ رُجُوعُ الضَّمِيرِ إلَى الْمُتَكَلِّمِ لَمْ يَأْتِ الْحَاكِي بِالضَّمِيرِ عَنْ نَفْسِهِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ صُورَةِ إضَافَةِ السُّوءِ إلَيْهَا. وَفِي رِوَايَةٍ يَا وَيْلِي يَجُوزُ بِفَتْحِ اللَّامِ وَبِكَسْرِهَا، وَرَأَيْتُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ يَا وَيْلَتِي وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لَا خَيْرَ فِي فُضُولِ الْكَلَامِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ سَقْطُهُ. وَقَالَ يَعْقُوبُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِبَنِيهِ يَا بَنِيَّ إذَا دَخَلْتُمْ عَلَى السُّلْطَانِ فَأَقِلُّوا الْكَلَامَ. وَقَالُوا أَحْسَنُ الْكَلَامِ مَا كَانَ قَلِيلُهُ يُغْنِيكَ عَنْ كَثِيرِهِ وَمَا ظَهَرَ مَعْنَاهُ فِي لَفْظِهِ، وَقَالُوا الْعَيِيُّ النَّاطِقُ أَعْيَا مِنْ الْعَيِيِّ السَّاكِتِ، أَوْصَى ابْنُ عَبَّاسٍ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ: إيَّاكَ وَالْكَلَامَ فِيمَا لَا يَعْنِيكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَرُبَّ مُتَكَلِّم فِيمَا لَا يَعْنِيهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ قَدْ عَنَتَ، وَلَا تُمَارِ سَفِيهًا وَلَا فَقِيهًا، فَإِنَّ الْفَقِيهَ يَغْلِبُكَ وَالسَّفِيهَ يُؤْذِيكَ، وَاذْكُرْ أَخَاكَ إذَا غَابَ عَنْكَ بِمَا تُحِبُّ

أَنْ تُذْكَرَ بِهِ، وَدَعْ مَا تُحِبُّ أَنْ يَدَعَكَ مِنْهُ، وَاعْمَلْ عَمَلَ رَجُلٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُجَازَى بِالْإِحْسَانِ وَيُكَافَأُ. وَقَالَ بَعْضُ قُضَاةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَقَدْ عَزَلَهُ لِمَ عَزَلْتَنِي؟ فَقَالَ بَلَغَنِي أَنَّ كَلَامَكَ مَعَ الْخَصْمَيْنِ أَكْثَرُ مِنْ كَلَامِ الْخَصْمَيْنِ، وَتَكَلَّمَ رَبِيعَةُ يَوْمًا فَأَكْثَرَ الْكَلَامَ وَأَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ وَإِلَى جَنْبِهِ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ لَهُ: يَا أَعْرَابِيُّ مَا تَعُدُّونَ الْبَلَاغَةَ؟ قَالَ: قِلَّةُ الْكَلَامِ قَالَ: فَمَا تَعُدُّونَ السَّعْيَ فِيكُمْ؟ قَالَ: مَا كُنْتَ فِيهِ مُنْذُ الْيَوْمِ قَالَ بَعْضُهُمْ. عَجِبْتُ لِإِدْلَالِ الْعَيِيِّ بِنَفْسِهِ ... وَصَمْتِ الَّذِي قَدْ كَانَ بِالْقَوْلِ أَعْلَمَا وَفِي الصَّمْتِ سَتْرٌ لِلْعَيِيِّ وَإِنَّمَا ... صَحِيفَةُ لُبِّ الْمَرْءِ أَنْ يَتَكَلَّمَا وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يَعِيبُ كَثْرَةَ الْكَلَامِ وَيَقُولُ لَا يُوجَدُ إلَّا فِي النِّسَاءِ أَوْ الضُّعَفَاءِ، وَذَمَّ أَعْرَابِيٌّ رَجُلًا فَقَالَ هُوَ مِمَّنْ يَنْأَى الْمَجْلِسَ أَعْيَى مَا يَكُونُ عِنْدَ جُلَسَائِهِ، وَأَبْلَغُ مَا يَكُونُ عِنْد نَفْسِهِ وَقَالَ الْمُفَضَّلُ الضَّبِّيُّ لِأَعْرَابِيٍّ مَا الْبَلَاغَةُ؟ فَقَالَ: الْإِيجَازُ فِي غَيْرِ عَجْزٍ، وَالْإِطْنَابُ فِي غَيْرِ خَطَلٍ. وَقَالَ الْأَحْنَفُ الْبَلَاغَةُ الْإِيجَازُ فِي اسْتِحْكَامِ الْحُجَّةِ وَالْوُقُوفُ عِنْدَ مَا يُكْتَفَى بِهِ. وَقَالَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ: لِرَجُلٍ كَثِيرٌ كَلَامُهُ: إنَّ الْبَلَاغَةَ لَيْسَتْ بِكَثْرَةِ الْكَلَامِ، وَلَا بِخِفَّةِ اللِّسَانِ، وَلَا بِكَثْرَةِ الْهَذَيَانِ، وَلَكِنَّهُ إصَابَةُ الْمَعْنَى وَالْقَصْدُ إلَى الْحُجَّةِ، وَسُئِلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ مَا الْبَلَاغَةُ؟ قَالَ: " الْقَصْدُ إلَى عَيْنِ الْحُجَّةِ بِقَلِيلِ اللَّفْظِ "، وَقِيلَ لِبَعْضِ الْيُونَانِيَّةِ مَا الْبَلَاغَةُ؟ قَالَ: " تَصْحِيحُ الْأَقْسَامِ، وَاخْتِيَارُ الْكَلَامِ "، وَقِيلَ لِرَجُلٍ مِنْ الرُّومِ مَا الْبَلَاغَةُ؟ فَقَالَ: " حُسْنُ الِاقْتِصَادِ عِنْدَ الْبَدِيهَةِ، وَإِيضَاحُ الدَّلَالَةِ، وَالْبَصَرُ بِالْحُجَّةِ، وَانْتِهَازُ مَوْضِعِ الْفُرْصَةِ "، وَفِي الْخَبَرِ الْمَأْثُورِ " الْخَيْرُ كُلُّهُ فِي ثَلَاثٍ: السُّكُوتِ، وَالْكَلَامِ، وَالنَّظَرِ، فَطُوبَى لِمَنْ كَانَ سُكُوتُهُ فِكْرَةً، وَكَلَامُهُ حِكْمَةً، وَنَظَرُهُ عِبْرَةً ". وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: لَا خَيْرَ فِي كَثْرَةِ الْكَلَامِ وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. أَعْمَالُهُمْ أَبَدًا يَتَكَلَّمُونَ وَلَا يَصْمُتُونَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَإِنَّ لِسَانَ الْمَرْءِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ... حَصَاةٌ عَلَى عَوْرَاتِهِ لَدَلِيلُ

وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ هَانِئٍ: إنَّمَا الْعَاقِلُ مَنْ ... أَلْجَمَ فَاهُ بِلِجَامِ مُتْ بِدَاءِ الصَّمْتِ خَيْرٌ ... لَكَ مِنْ دَاءِ الْكَلَامِ وَقَالَهُ آخَرُ: يَمُوتُ الْفَتَى مِنْ عَثْرَةٍ بِلِسَانِهِ ... وَلَيْسَ يَمُوتُ الْمَرْءُ مِنْ عَثْرَةِ الرِّجْلِ فَعَثْرَتُهُ مِنْ فِيهِ تَرْمِي بِرَأْسِهِ ... وَعَثْرَتُهُ بِالرِّجْلِ تَبْرَى عَلَى مَهْلِ وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مَا أَنْشَدَهُ بَعْضُهُمْ: سَأَرْفُضُ مَا يُخَافُ عَلَيَّ مِنْهُ ... وَأَتْرُكُ مَا هَوِيتُ لِمَا خَشِيتُ لِسَانُ الْمَرْءِ يُنْبِئُ عَنْ حِجَاهُ ... وَعِيُّ الْمَرْءِ يَسْتُرُهُ السُّكُوتُ. قَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي الْوَعْدِ وَالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى إسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54] . وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَانَى فِي الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ مَا لَمْ يُعَانِهِ غَيْرُهُ وَعَدَ رَجُلًا فَانْتَظَرَهُ حَوْلًا، رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ انْتَظَرَهُ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا، وَقِيلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَدْ رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ انْتَظَرَ رَجُلًا وَعَدَهُ فِي مَوْضِعٍ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى غُرُوبِهَا» . قَالَ الشَّاعِرُ: لِسَانُكَ أَحْلَى مِنْ جَنَى النَّحْلِ وَعْدُهُ ... وَكَفَّاكَ بِالْمَعْرُوفِ أَضْيَقُ مِنْ قُفْلِ وَقَالَ آخَرُ: لِلَّهِ دَرُّكَ مِنْ فَتًى ... لَوْ كُنْتَ تَفْعَلُ مَا تَقُولْ وَقَالَ الْآخَرُ: لَا خَيْرَ فِي كَذِبِ الْجَوَادِ ... وَحَبَّذَا صِدْقُ الْبَخِيلْ وَقَالَ آخَرُ: الْخَيْرُ أَنْفَعُهُ لِلنَّاسِ أَعْجَلُهُ ... وَلَيْسَ يَنْفَعُ خَيْرٌ فِيهِ تَطْوِيلُ

وَقَالَ آخَرُ: كَانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لَهَا مَثَلًا ... وَمَا مَوَاعِيدُهَا إلَّا الْأَبَاطِيلُ وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِيهِ كَانَ عُرْقُوبُ رَجُلًا مِنْ الْعَمَالِيقِ فَآتَاهُ أَخٌ لَهُ يَسْأَلُ شَيْئًا فَقَالَ لَهُ عُرْقُوبٌ إذَا أَطْلَعَ نَخْلِي. فَلَمَّا أَطْلَعَ أَتَاهُ فَقَالَ: إذَا أَبْلَحَ، فَلَمَّا أَبْلَحَ أَتَاهُ فَقَالَ: إذَا أَزْهَى، فَلَمَّا أَزْهَى أَتَاهُ فَقَالَ: إذَا أَرْطَبَ، فَلَمَّا أَرْطَبَ أَتَاهُ فَقَالَ: إذَا أَتْمَرَ، فَلَمَّا أَتْمَرَ جَذَّهُ وَلَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا فَضَرَبَ بِهِ الْعَرَبُ الْمَثَلَ فِي خُلْفِ الْوَعْدِ وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ عُرْقُوبٌ جَبَلًا مُكَلَّلًا بِالسَّحَابِ أَبَدًا وَلَا يُمْطِرُ شَيْئًا قَالَتْ الْحُكَمَاءُ مَنْ خَافَ الْكَذِبَ أَقَلَّ الْمَوَاعِيدَ، وَقَالُوا: أَمْرَانِ لَا يَسْلَمَانِ مِنْ الْكَذِبِ كَثْرَةُ الْمَوَاعِيدِ، وَشِدَّةُ الِاعْتِذَارِ. وَقَالَ آخَرُ: إنَّ الْكَرِيمَ إذَا حَبَاكَ بِمَوْعِدٍ ... أَعْطَاكَهُ سَلِسًا بِغَيْرِ مِطَالِ وَقَالَ آخَرُ: قُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ بِالْحَقِّ وَكُنْ ... صَادِقَ الْوَعْدِ فَمَنْ يُخْلِفْ يُلَمْ وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَوْلَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قُلْتُ «يَا رَسُولَ اللَّهِ بِمَ يُعْرَفُ الْمُؤْمِنُ؟ قَالَ وَقَارُهُ، وَلِينُ كَلَامِهِ، وَصِدْقُ حَدِيثِهِ» وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَنْ كَانَتْ لَهُ عِنْدَ النَّاسِ ثَلَاثٌ وَجَبَتْ لَهُ عَلَيْهِمْ ثَلَاثٌ مَنْ إذَا حَدَّثَهُمْ صَدَقَهُمْ، وَإِذَا ائْتَمَنُوهُ لَمْ يَخُنْهُمْ، وَإِذَا وَعَدَهُمْ وَفَّى لَهُمْ وَجَبَ لَهُ عَلَيْهِمْ أَنْ تُحِبَّهُ قُلُوبُهُمْ، وَتَنْطِقَ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ أَلْسِنَتُهُمْ، وَتَظْهَرَ لَهُ مَعُونَتُهُمْ. وَقَالَ سَعِيدٌ: كُلُّ الْخِصَالِ يُطْبَعُ عَلَيْهَا الْمُؤْمِنُ إلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ قِيلَ لِلُقْمَانَ الْحَكِيمِ أَلَسْتَ عَبْدَ بَنِي فُلَانٍ؟ قَالَ بَلَى قِيلَ فَمَا بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى قَالَ: تَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَصِدْقُ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ، وَتَرْكُ مَا لَا يَعْنِينِي، ثُمَّ قَالَ:

أَلَا رُبَّ مَنْ تَغْتَشُّهُ لَكَ نَاصِحٌ ... وَمُؤْتَمَنٍ بِالْغَيْبِ غَيْرُ أَمِينِ وَقَالَ نَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ: طَافَ ابْنُ عُمَرَ سَبْعًا وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ: مَا أَسْرَعَ مَا طُفْتَ وَصَلَّيْتَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ،. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ أَنْتُمْ أَكْثَرُ مِنَّا طَوَافًا وَصِيَامًا، وَنَحْنُ خَيْرٌ مِنْكُمْ بِصِدْقِ الْحَدِيثِ. وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَإِنْجَازِ الْوَعْدِ. أَنْشَدَ مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ: اُصْدُقْ حَدِيثَكَ إنَّ فِي ... الصِّدْقِ الْخَلَاصَ مِنْ الدَّنَسْ وَدَعْ الْكَذُوبَ لِشَانِهِ ... خَيْرٌ مِنْ الْكَذِبِ الْخَرَسْ وَقَالَ آخَرُ: مَا أَقْبَحَ الْكَذِبَ الْمَذْمُومَ صَاحِبُهُ ... وَأَحْسَنَ الصِّدْقَ عِنْدَ اللَّهِ وَالنَّاسِ وَقَالَ مَنْصُورٌ الْفَقِيهُ: الصِّدْقُ أَوْلَى مَا بِهِ ... دَانَ امْرُؤٌ فَاجْعَلْهُ دِينَا وَدَعْ النِّفَاقَ فَمَا رَأَيْتُ ... مُنَافِقًا إلَّا مَهِينَا وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَا تَسْتَقِيمُ أَمَانَةُ رَجُلٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ لِسَانُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ. وَقَالَ الْفِرْيَابِيُّ كُنْتُ عِنْدَ الْأَوْزَاعِيِّ إذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا أَبَا عَمْرٍو، هَذَا كِتَابُ صَدِيقِكَ وَهُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ فَقَالَ مَتَى قَدِمْتَ؟ قَالَ: أَمْسِ، قَالَ ضَيَّعْت أَمَانَتَك لَا أَكْثَرَ اللَّهُ فِي الْمُسْلِمِينَ أَمْثَالَكَ قَالَ الشَّاعِرُ: إذَا أَنْتَ حَمَّلْتَ الْأَمَانَةَ خَائِنًا ... فَإِنَّكَ قَدْ أَسْنَدْتَهَا شَرَّ مَسْنَدِ وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ مَنْ عُرِفَ بِالصِّدْقِ جَازَ كَذِبُهُ، وَمَنْ عُرِفَ بِالْكَذِبِ لَمْ يَجُزْ صِدْقُهُ، قَالُوا وَالصِّدْقُ عِزٌّ وَالْكَذِبُ خُضُوعٌ. وَقَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ: وَمَنْ دَعَا النَّاسَ إلَى ذَمِّهِ ... ذَمُّوهُ بِالْحَقِّ وَبِالْبَاطِلِ مَقَالَةُ السُّوءِ إلَى أَهْلِهَا ... أَسْرَعُ مِنْ مُنْحَدَرِ السَّائِلِ

وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ احْذَرْ الْكَذِبَ فَإِنَّهُ شَهِيٌّ كَلَحْمِ الْعُصْفُورِ مَنْ أَكَلَ مِنْهُ شَيْئًا لَمْ يَصْبِرْ عَنْهُ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: قِيلَ لِكَذَّابٍ مَا يَحْمِلُكَ عَلَى الْكَذِبِ؟ فَقَالَ أَمَا إنَّكَ لَوْ تَغَرْغَرْتَ مَاءَهُ مَا نَسِيتَ حَلَاوَتَهُ، وَقِيلَ لِكَذَّابٍ هَلْ صَدَقْتَ قَطُّ قَالَ أَكْرَهُ أَنْ أَقُولَ لَا فَأَصْدُقُ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْخَبَرَ الْمَرْوِيَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْحَقُّ ثَقِيلٌ فَمَنْ قَصُرَ عَنْهُ سَحَرَ، وَمَنْ جَاوَزَهُ ظَلَمَ، وَمَنْ انْتَهَى إلَيْهِ فَقَدْ اكْتَفَى» وَيُرْوَى هَذَا لِمُجَاشِعِ بْنِ نَهْشَلٍ. وَعَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْحَقُّ ثَقِيلٌ رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ تَرَكَهُ الْحَقُّ لَيْسَ لَهُ صَدِيقٌ» . لَمَّا اسْتَخْلَفَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ لِمُعَيْقِيبٍ الدَّوْسِيِّ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي اسْتِخْلَافِي عُمَرَ قَالَ: كَرِهَهُ قَوْمٌ، وَرَضِيَهُ قَوْمٌ آخَرُونَ قَالَ فَاَلَّذِينَ كَرِهُوهُ أَكْثَرُ أَمْ الَّذِينَ رَضَوْهُ؟ قَالَ: بَلْ الَّذِينَ كَرِهُوهُ قَالَ: إنَّ الْحَقَّ يَبْدُو كُرْهًا وَلَهُ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132] وَقَالَ: الْحِكْمَةُ تَدْعُو إلَى الْحَقِّ، وَالْجَهْلُ يَدْعُو إلَى السَّفَهِ، كَمَا أَنَّ الْحُجَّةَ تَدْعُو إلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ، وَالتَّشْبِيهُ يَدْعُو إلَى الْمَذْهَبِ الْبَاطِلِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مِنْ جَهْلِكَ بِالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ أَنْ تُرِيدَ إقَامَةَ الْبَاطِلِ بِإِبْطَالِ الْحَقِّ وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: لَا يُعَدُّ الرَّجُلُ عَاقِلًا حَتَّى يَسْتَكْمِلَ ثَلَاثًا: إعْطَاءَ الْحَقِّ مِنْ نَفْسِهِ فِي حَالِ الرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَأَنْ يَرْضَى لِلنَّاسِ مَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ، وَأَنْ لَا يُرَى لَهُ زَلَّةٌ عِنْدَ صَحْوٍ وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ: وَمَنْ ضَاقَ عَنْهُ الْحَقُّ ضَاقَتْ مَذَاهِبُهْ لَمَّا اُحْتُضِرَ أَبُو بَكْرٍ أَرْسَلَ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَ: إنْ وَلَّيْتُكَ عَلَى النَّاسِ فَاتَّقِ اللَّهَ وَالْزَمْ الْحَقَّ فَإِنَّمَا ثَقُلَتْ مَوَازِينُ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمْ الْحَقَّ فِي الدُّنْيَا وَثِقَلِهِ عَلَيْهِمْ، وَحَقٌّ لِمِيزَانٍ إذَا وُضِعَ فِيهِ الْحَقُّ غَدًا أَنْ يَكُونَ ثَقِيلًا، وَإِنَّمَا خَفَّتْ مَوَازِينُ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمْ الْبَاطِلَ فِي الدُّنْيَا وَخِفَّتِهِ عَلَيْهِمْ. وَحُقَّ لِمِيزَانٍ وُضِعَ فِيهِ الْبَاطِلُ أَنْ يَكُونَ

خَفِيفًا، وَاعْلَمْ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى عَمَلًا بِاللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ، وَعَمَلًا بِالنَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ، وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ نَافِلَةً حَتَّى تُؤَدَّى الْفَرِيضَةُ، وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ذَكَرَ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ وَتَجَاوَزَ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ، فَإِذَا ذَكَرْتُهُمْ قُلْتُ إنِّي لَخَائِفٌ أَنْ لَا أَلْحَقَ بِهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ أَهْلَ النَّارِ بِأَسْوَأِ أَعْمَالِهِمْ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ حَسَنَهَا، فَإِذَا ذَكَرْتُهُمْ قُلْتُ إنِّي لَخَائِفٌ أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ذَكَرَ آيَةَ الرَّحْمَةِ مَعَ آيَةِ الْعَذَابِ لِيَكُونَ الْمُؤْمِنُ رَاهِبًا رَاغِبًا، لَا يَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ، وَلَا يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ فَإِنْ أَنْتَ حَفِظْتَ وَصِيَّتِي فَلَا يَكُونَنَّ غَائِبٌ أَحَبَّ إلَيْكَ مِنْ الْمَوْتِ وَلَسْتَ بِمُعْجِزِهِ. كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلَى مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنْ الْزَمْ الْحَقَّ يُنْزِلْكَ الْحَقُّ فِي مَنَازِلِ أَهْلِ الْحَقِّ يَوْمَ لَا يُقْضَى إلَّا بِالْحَقِّ. أَوَّلُ كِتَابٍ كَتَبَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي خِلَافَتِهِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَإِنَّهُمْ مَنَعُوا الْحَقَّ حَتَّى اُشْتُرِيَ، وَبَسَطُوا الْبَاطِلَ حَتَّى اُقْتُنِيَ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَنْ كَانَ عَلَى الْحَقِّ فَهُوَ جَمَاعَةٌ وَلَوْ كَانَ وَحْدَهُ وَقَالَ غَيْرُهُ: الْأَحْمَقُ يَغْضَبُ مِنْ الْحَقِّ وَالْعَاقِلُ يَغْضَبُ مِنْ الْبَاطِلِ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَكَلَّمُوا بِالْحَقِّ تُعْرَفُوا، وَاعْمَلُوا بِهِ تَكُونُوا مِنْ أَهْلِهِ. وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ: وَلِلْحَقِّ بُرْهَانٌ وَلِلْمَوْتِ فِكْرَةٌ ... وَمُعْتَبَرٌ لِلْعَالَمِينَ قَدِيمُ وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا ظَهَرَ الْبَاطِلُ عَلَى الْحَقِّ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ، وَقَالَ إنَّ لُزُومَ الْحَقِّ نَجَاةٌ، وَإِنَّ قَلِيلَ الْبَاطِلِ وَكَثِيرَهُ هَلَكَةٌ وَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ لِسَلْمَانَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَوْصِنِي قَالَ أَخْلِصْ الْحَقَّ يُخْلِصْكَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَأَظُنُّ مِنْ هُنَا قَوْلُ الْقَائِلِ " أَعِزَّ الْحَقَّ يَذِلَّ لَكَ الْبَاطِلُ ".

يُقَالُ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ مِنْ الْحَقِّ إلَّا بِمَا وَافَقَ هَوَاهُ وَلَمْ يَتْرُكْ مِنْ الْبَاطِلِ إلَّا مَا خَفَّ عَلَيْهِ، لَمْ يُؤْجَرْ فِيمَا أَصَابَ وَلَمْ يَفْلِتْ مِنْ إثْمِ الْبَاطِلِ وَقَالَ مَنْصُورٌ الْفَقِيهُ: فَاتَّقِ اللَّهَ إذَا مَا ... شُوِّرَتْ وَانْظُرْ مَا تَقُولُ لَا يَضُرَّنَّكَ إنْ قَالَ ... مِنْ النَّاسِ جَهُولُ إنَّ قَوْلَ الْمَرْءِ فِيمَا ... لَمْ يُسَلْ عَنْهُ فُضُولُ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ قَوْلُ لَبِيدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ » وَقَالَ: أَصْدَقُ قَوْلٍ قَالَتْهُ الْعَرَبُ قَوْلُ الْقَائِلِ: وَمَا حَمَلَتْ مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ رَحْلِهَا ... أَبَرَّ وَأَوْفَى ذِمَّةً مِنْ مُحَمَّدِ أَنْشَدَ ثَعْلَبٌ: وَإِنَّ أَشْعَرَ بَيْتٍ أَنْتَ قَائِلُهُ ... بَيْتٌ يُقَالُ إذَا أَنْشَدْتَهُ صَدَقَا قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: مَا نَاصَحَ اللَّهَ عَبْدٌ مُسْلِمٍ فِي نَفْسِهِ فَأَخَذَ الْحَقَّ لَهَا وَأَعْطَى الْحَقَّ مِنْهَا إلَّا أُعْطِيَ خَصْلَتَيْنِ رِزْقٌ مِنْ اللَّهِ يَقْنَعُ بِهِ. وَرِضًا مِنْ اللَّهِ عَنْهُ.

فصل في السعة في الكلام وألفاظ الناس

[فَصْلٌ فِي السَّعَةِ فِي الْكَلَامِ وَأَلْفَاظِ النَّاسِ] قَالَ الْخَلَّالُ فِي السَّعَةِ فِي الْكَلَامِ وَأَلْفَاظِ النَّاسِ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ بَعَثَ أَبِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي حَاجَةٍ وَقَالَ: كُلُّ شَيْءٍ تَقُولُهُ عَلَى لِسَانِي فَأَنَا قُلْتُهُ وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ إنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ دَقَّتْ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ دَقًّا فِيهِ بَعْضُ الْعُنْفِ فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ ذَا دَقُّ الشُّرَطِ. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: إنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قِيلَ لَهُ حَفْصٌ وَابْنُ أَبِي زَائِدَةَ وَوَكِيعٌ قَالَ وَكِيعٌ أَطْيَبُ هَؤُلَاءِ قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَذَكَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَجَاءٍ وَأَبَا سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ فَقَالَ: وَلَكِنْ أَبُو سَعِيدٍ كَانَ أَيْقَظَهُمَا عَيْنًا. وَقَالَ مُهَنَّا: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ زَكَرِيَّا قَالَ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَلَاوَةٌ وَقَالَ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ حَدِيثٍ فَقَالَ: مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ ذَا شَيْئًا وَقَالَ الْخَلَّالُ: سَأَلْتُ إبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيَّ قُلْت لِمَ تَقُولُ الْعَرَبُ لِلشَّيْخِ يَا غُلَامُ؟ قَالَ لَيْسَ الْعَرَبُ كُلُّهَا تَقُولُهُ، قَيْسٌ تَقُولُهُ؟ قُلْتُ فَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ لِلشَّيْخِ يَا بُنَيَّ؟ قَالَ نَعَمْ يَعْنِي: لَا بَأْسَ بِهِ، ثُمَّ قَالَ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُغِيرَةِ يَا بُنَيَّ وَالْمُغِيرَةُ كَانَ شَيْخًا كَبِيرًا لَعَلَّهُ كَانَ أَكْبَرَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ قَالَ لِأَنَسٍ يَا بُنَيَّ " إنَّمَا قَالَ يَا بُنَيَّ " أَيْ أَنْتَ ابْنٌ.

فصل في حسن الظن بأهل الدين

[فَصْلٌ فِي حُسْنِ الظَّنِّ بِأَهْلِ الدِّينِ] ِ) قَالَ فِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ: حُسْنُ الظَّنِّ بِأَهْلِ الدِّينِ حَسَنٌ، ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ، ظَاهِرُهُ أَيْضًا أَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِأَهْلِ الشَّرِّ لَيْسَ بِحَسَنٍ، فَظَاهِرُهُ لَا يَحْرُمُ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ» أَنَّ اسْتِمْرَاءَ ظَنِّ السُّوءِ وَتَحْقِيقَهُ لَا يَجُوزُ، وَأَوَّلَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْحُكْمِ فِي الشَّرْعِ بِظَنٍّ مُجَرَّدٍ بِلَا دَلِيلٍ وَلَيْسَ بِمُتَّجِهٍ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ سُفْيَانَ: الظَّنُّ الَّذِي يَأْثَمُ بِهِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ لَمْ يَأْثَمْ. وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قَوْلَ سُفْيَانَ هَذَا عَنْ الْمُفَسِّرِينَ، ثُمَّ قَالَ: وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ يَأْثَمُ بِنَفْسِ الظَّنِّ وَلَوْ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ، وَذَكَرَ قَبْلَ ذَلِكَ قَوْلَ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى: إنَّ الظَّنَّ مِنْهُ مَحْظُورٌ وَهُوَ سُوءُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ، وَالْوَاجِبُ حُسْنُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَذَلِكَ سُوءُ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ الَّذِي ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ مَحْظُورٌ، وَظَنٌّ مَأْمُورٌ بِهِ كَشَهَادَةِ الْعَدْلِ، وَتَحَرِّي الْقِبْلَةِ، وَتَقْوِيمِ الْمُتْلَفَاتِ، وَأَرْشِ الْجِنَايَاتِ، وَالظَّنِّ الْمُبَاحِ كَمَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ إنْ شَاءَ عَمِلَ بِظَنِّهِ وَإِنْ شَاءَ بِالْيَقِينِ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «إذَا ظَنَنْتُمْ فَلَا تُحَقِّقُوا» وَهَذَا مِنْ الظَّنِّ الَّذِي يَعْرِضُ فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ فِي أَخِيهِ فِيمَا يُوجِبُ الرِّيبَةَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحَقِّقَهُ الظَّنُّ الْمَنْدُوبُ إلَيْهِ إحْسَانُ الظَّنِّ بِالْأَخِ الْمُسْلِمِ، فَأَمَّا مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ «احْتَرِسُوا مِنْ النَّاسِ بِسُوءِ الظَّنِّ» فَالْمُرَادُ الِاحْتِرَاسُ بِحِفْظِ الْمَالِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: إنْ تَرَكْتُ بَابِي مَفْتُوحًا خَشِيتُ السُّرَّاقَ انْتَهَى كَلَامُ الْقَاضِي. ذَكَرَ الْبَغَوِيّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ سُوءُ الظَّنِّ ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ سُفْيَانَ، وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ مَا ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ ظَنَّ الْقَبِيحِ بِمَنْ ظَاهِرُهُ الْخَيْرُ لَا يَجُوزُ وَإِنَّهُ لَا حَرَجَ بِظَنِّ الْقَبِيحِ بِمَنْ ظَاهِرُهُ قَبِيحٌ. وَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ الْوَزِيرُ الْحَنْبَلِيُّ: لَا يَحِلُّ وَاَللَّهِ أَنْ يُحْسِنَ الظَّنَّ بِمَنْ تَرْفُضُ وَلَا بِمَنْ يُخَالِفُ الشَّرْعَ فِي حَالٍ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ (بَابُ مَا يَكُونُ مِنْ الظَّنِّ) ثُمَّ رُوِيَ عَنْ

عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا أَظُنُّ فُلَانًا وَفُلَانًا يَعْرِفَانِ مِنْ دِينِنَا شَيْئًا» وَفِي لَفْظٍ " دِينِنَا الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ " قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَا رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُنَافِقِينَ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الْخُزَاعِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ. «دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَرَادَ أَنْ يَبْعَثَنِي بِمَالٍ إلَى أَبِي سُفْيَانَ يَقْسِمُهُ فِي قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْفَتْحِ فَقَالَ لِي الْتَمِسْ صَاحِبًا فَجَاءَنِي عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ فَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ الْخُرُوجَ إلَى مَكَّةَ وَتَلْتَمِسُ صَاحِبًا قُلْتُ أَجَلْ قَالَ: فَأَنَا لَكَ صَاحِبٌ قَالَ فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: قَدْ وَجَدْتُ صَاحِبًا فَقَالَ مَنْ؟ قُلْتُ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ فَقَالَ إذَا هَبَطْتَ بِلَادَ قَوْمِهِ فَاحْذَرْهُ فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ الْقَائِلُ أَخُوكَ الْبِكْرِيُّ وَلَا تَأْمَنْهُ قَالَ: فَخَرَجْنَا حَتَّى إذَا كُنَّا بِالْأَبْوَاءِ قَالَ: لِي إنِّي أُرِيدُ حَاجَةً إلَى قَوْمِي بِوَدَّانَ فَتَلَبَّثْ لِي قَلِيلًا قُلْتُ رَاشِدًا، فَلَمَّا وَلَّى ذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَشَدَدْتُ عَلَى بَعِيرِي حَتَّى خَرَجْتُ أُوضِعُهُ، حَتَّى إذَا كُنْتُ بِالْأَصَافِرِ إذَا هُوَ يُعَارِضُنِي فِي رَهْطٍ قَالَ: فَأَوْضَعْتُ فَسَبَقْتُهُ فَلَمَّا رَآنِي قَدْ فُتُّهُ انْصَرَفُوا، وَجَاءَنِي فَقَالَ: كَانَتْ لِي إلَى قَوْمِي حَاجَةٌ قُلْتُ أَجَلْ قَالَ: وَمَضَيْنَا حَتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ فَدَفَعْنَا الْمَالَ إلَى أَبِي سُفْيَانَ.» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَتَفَرَّدَ عَنْهُ عِيسَى بْنُ مَعْمَرٍ مَعَ ضَعْفِ عِيسَى وَرَوَاهُ عَنْ عِيسَى بْنِ إِسْحَاقَ بِصِيغَةِ عَنْ، وَتَرْجَمَ أَبُو دَاوُد عَلَى هَذَا الْخَبَرِ، وَخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ «لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ» . بَابٌ (فِي الْحَذَرِ مِنْ النَّاسِ) وَقَالَ أَيْضًا فِي بَابِ حُسْنِ الظَّنِّ: ثُمَّ رُوِيَ مِنْ رِوَايَةِ شُتَيْرٍ وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «حُسْنُ الظَّنِّ حُسْنُ الْعِبَادَةِ» وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ ثُمَّ رَوَى أَبُو دَاوُد خَبَرَ صَفِيَّةَ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهَا أَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزُورُهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ وَأَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ رَأَيَاهُمَا فَأَسْرَعَا فَقَالَ النَّبِيُّ: «عَلَى رِسْلِكُمَا إنَّهَا

صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ فَقَالَا سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ فَخَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا أَوْ قَالَ شَرًّا» . قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مُسْلِمٍ يَسْمَعُ مِنْ أَخِيهِ كَلِمَةً يَظُنُّ بِهَا سُوءًا وَهُوَ يَجِدُ لَهَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْخَيْرِ مَخْرَجًا. وَقَالَ أَيْضًا: لَا يَنْتَفِعُ بِنَفْسِهِ مَنْ لَا يَنْتَفِعُ بِظَنِّهِ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيُّ: اتَّقُوا ظَنَّ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ، وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَوْلَهُ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ» وَسُئِلَ بَعْضُ الْعَرَبِ عَنْ الْعَقْلِ فَقَالَ: الْإِصَابَةُ بِالظُّنُونِ وَمَعْرِفَةُ مَا لَمْ يَكُنْ بِمَا كَانَ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لِلَّهِ دَرُّ ابْنِ عَبَّاسٍ إنَّهُ لَيَنْظُرُ إلَى الْغَيْبِ مِنْ سِتْرٍ رَقِيقٍ قَالَ الشَّاعِرُ: وَأَبْغِي صَوَابَ الظَّنِّ أَعْلَمُ أَنَّهُ ... إذَا طَاشَ ظَنُّ الْمَرْءِ طَاشَتْ مَعَاذِرُهْ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْجُبْنُ وَالْبُخْلُ وَالْحِرْصُ غَرَائِزُ سُوءٍ يَجْمَعُهَا كُلُّهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَإِنِّي بِهَا فِي كُلِّ حَالٍ لَوَاثِقٌ ... وَلَكِنَّ سُوءَ الظَّنِّ مِنْ شِدَّةِ الْحُبِّ وَقَالَ الْمُتَنَبِّي: إذَا سَاءَ فِعْلُ الْمَرْءِ سَاءَتْ ظُنُونُهُ ... وَصَدَّقَ مَا يَعْتَادُهُ مِنْ تَوَهُّمِ وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: الْعَقْلُ التَّجَارِبُ. وَالْحَزْمُ سُوءُ الظَّنِّ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَوْ كَانَ الرَّجُلُ يُصِيبُ وَلَا يُخْطِئُ وَيُحْمَدُ فِي كُلِّ مَا يَأْتِي دَاخَلَهُ الْعُجْبُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أَفْرَسُ النَّاسِ كُلِّهِمْ فِيمَا عَلِمْتُ ثَلَاثَةٌ: الْعَزِيزُ فِي قَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ حِينَ تَفَرَّسَ فِي يُوسُفَ {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف: 21] وَصَاحِبَةُ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حِينَ قَالَتْ

{يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26] وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ تَفَرَّسَ فِي عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاسْتَخْلَفَهُ. نَظَرَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ يَوْمًا وَهُوَ بِوَاسِطَ فِي الرَّحْبَةِ إلَى آجُرَّةٍ فَقَالَ: تَحْتَ هَذِهِ الْآجُرَّةِ دَابَّةٌ، فَنَزَعُوا الْآجُرَّةَ فَإِذَا تَحْتَهَا حَيَّةٌ مُنْطَوِيَةٌ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ إنِّي رَأَيْتُ مَا بَيْنَ الْآجُرَّتَيْنِ نَدِيًّا مِنْ بَيْنِ الرَّحْبَةِ فَعَلِمْتُ أَنْ تَحْتَهَا شَيْئًا يَتَنَفَّسُ، وَنَظَرَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ يَوْمًا إلَى صَدْعٍ فِي أَرْضٍ فَقَالَ فِي هَذَا الصَّدْعِ دَابَّةٌ، فَنَظَرَ فَإِذَا فِيهِ دَابَّةٌ، فَقَالَ: الْأَرْضُ لَا تَنْصَدِعُ إلَّا عَنْ دَابَّةٍ أَوْ نَبَاتٍ. قَالَ مَعْنُ بْنُ زَائِدَةَ: مَا رَأَيْتُ قَفَا رَجُلٍ قَطُّ إلَّا عَرَفْتُ عَقْلَهُ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ خَصْلَتَانِ إذَا كَانَتَا فِي الْغُلَامِ رُجِيَتْ نَجَابَتُهُ الرَّهْبَةُ، وَالْحَيَاءُ، وَمَرَّ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ ذَاتَ لَيْلَةٍ بِمَاءٍ فَقَالَ أَسْمَعُ صَوْتَ كَلْبٍ غَرِيبٍ قِيلَ: لَهُ كَيْفَ عَرَفْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ: لِخُضُوعِ صَوْتِهِ وَشِدَّةِ صِيَاحِ غَيْرِهِ مِنْ الْكِلَابِ، قَالُوا فَإِذَا كَلْبٌ غَرِيبٌ مَرْبُوطٌ وَالْكِلَابُ تَنْبَحُهُ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ أَنَا لِلْبَدِيهَةِ وَمُعَاوِيَةُ لِلْإِنَاءَةِ، وَالْمُغِيرَةُ لِلْمُعْضِلَاتِ وَزِيَادٌ لِصِغَارِ الْأُمُورِ وَكِبَارِهَا. أَرَادَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ أَنْ يُوَلِّيَ بَكْرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ الْقَضَاءَ فَاسْتَعْفَاهُ فَأَبَى أَنْ يُعْفِيَهُ فَقَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ مَا أَحْسَنَ الْقَضَاءَ قَالَ كَذَبْتَ قَالَ: فَإِنْ كُنْتُ كَاذِبًا فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَوَلِّيَ الْكَذَّابِينَ. وَإِنْ كُنْتُ صَادِقًا فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَوَلِّيَ مَنْ لَا يُحْسِنُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَمِّرْ الْقَعْقَاعَ. وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَمِّرْ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مَا أَرَدْتَ إلَّا خِلَافِي، فَقَالَ مَا أَرَدْتُ خِلَافَكَ. فَتَمَارَيَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ

أَصْوَاتُهُمَا فَنَزَلَتْ فِي ذَلِكَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] حَتَّى انْقَضَتْ فَمَا كَانَ عُمَرُ يَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ هَذِهِ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ» . وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ يَعْنِي الْحَافِي قَالَ: صُحْبَةُ الْأَشْرَارِ. أَوْرَثَتْ سُوءَ الظَّنِّ بِالْأَخْيَارِ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ قَالَ لَا يُعْتَدُّ بِعِبَادَةِ الْمُفْلِسِ فَإِنَّهُ إذَا اسْتَغْنَى رَجَعَ.

فصل في مداراة من يتقى فحشه

[فَصْلٌ فِي مُدَارَاة مِنْ يُتَّقَى فُحْشه] فَصْلٌ (وَيَجِبُ كَفُّ يَدِهِ وَفَمِهِ وَفَرْجِهِ وَبَقِيَّةِ أَعْضَائِهِ عَمَّا يَحْرُمُ، وَيُسَنُّ عَمَّا يُكْرَهُ) قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ هَذَا فِيمَنْ لَمْ يَضْطَرَّهُ إلَى ذَلِكَ وَإِلَّا جَازَ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إنَّا لَنُكَشِّرُ فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ. وَمَتَى قَدَرَ أَنْ لَا يُظْهِرَ مُوَافَقَتَهُمْ لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ فَذَكَرَهُ، كَذَا قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَقَوْلُ أَبِي الدَّرْدَاءِ هَذَا لَيْسَ فِيهِ مُوَافَقَةٌ عَلَى مُحَرَّمٍ وَلَا فِي كَلَامٍ، وَإِنَّمَا فِيهِ طَلَاقَةُ الْوَجْهِ خَاصَّةً لِلْمَصْلَحَةِ وَهُوَ مَعْنَى مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ فَقَالَ ائْذَنُوا لَهُ فَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ أَوْ بِئْسَ رَجُلُ الْعَشِيرَةِ فَلَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الْقَوْلَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الْقَوْلَ قَالَ يَا عَائِشَةُ إنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ وَدَعَهُ النَّاسُ أَوْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ» . قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: فِيهِ مُدَارَاةُ مَنْ يُتَّقَى فُحْشُهُ وَلَمْ يَمْدَحْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَثْنَى عَلَيْهِ فِي وَجْهِهِ وَلَا فِي قَفَاهُ إنَّمَا تَأَلَّفَهُ بِشَيْءٍ مِنْ الدُّنْيَا مَعَ لِينِ الْكَلَامِ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كَلَامَ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي فَضْلِ حُسْنِ الْخُلُقِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ لَمَّا تَخَلَّفَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ كَانَ يَجِيءُ وَيُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِ الْهَدْيِ وَمِنْهَا: أَنَّ التَّبَسُّمَ يَكُونُ عَنْ الْغَضَبِ كَمَا يَكُونُ عَنْ التَّعَجُّبِ وَالسُّرُورِ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُوجِبُ انْبِسَاطَ دَمِ الْقَلْبِ وَثَوَرَانَهُ، وَلِهَذَا تَظْهَرُ حُمْرَةُ الْوَجْهِ لِسُرْعَةِ فَوَرَانِ الدَّمِ فِيهِ فَيَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ السُّرُورِ، وَالْغَضَبِ تَعَجُّبٌ يَتْبَعُهُ ضَحِكٌ أَوْ تَبَسُّمٌ فَلَا يَغْتَرُّ الْمُغْتَرُّ بِضَحِكِ الْقَادِرِ عَلَيْهِ فِي وَجْهِهِ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الْمَعْتَبَةِ كَمَا قِيلَ إذَا رَأَيْتَ نُيُوبَ اللَّيْثِ بَارِزَةً ... فَلَا تَظُنَّنَّ أَنَّ اللَّيْثَ يَبْتَسِمُ

وَقِيلَ لِابْنِ عَقِيلٍ فِي فُنُونِهِ: أَسْمَعُ وَصِيَّةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34] وَأَسْمَعُ النَّاسَ يَعُدُّونَ مَنْ يُظْهِرُ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ مُنَافِقًا، فَكَيْفَ لِي بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّخَلُّصِ مِنْ النِّفَاقِ؟ فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: النِّفَاقُ هُوَ: إظْهَارُ الْجَمِيلِ، وَإِبْطَالُ الْقَبِيحِ، وَإِضْمَارُ الشَّرِّ مَعَ إظْهَارِ الْخَيْرِ لِإِيقَاعِ الشَّرِّ، وَاَلَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ إظْهَارُ الْحَسَنِ فِي مُقَابَلَةِ الْقَبِيحِ لِاسْتِدْعَاءِ الْحَسَنِ. فَخَرَجَ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ النِّفَاقَ إبْطَالُ الشَّرِّ وَإِظْهَارُ الْخَيْرِ لِإِيقَاعِ الشَّرِّ الْمُضْمَرِ ، وَمَنْ أَظْهَرَ الْجَمِيلَ وَالْحَسَنَ فِي مُقَابَلَةِ الْقَبِيحِ لِيَزُولَ الشَّرُّ فَلَيْسَ بِمُنَافِقٍ لَكِنَّهُ يَسْتَصْلِحُ أَلَا تَسْمَعُ إلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34] فَهَذَا اكْتِسَابُ اسْتِمَالَةٍ، وَدَفْعُ عَدَاوَةٍ، وَإِطْفَاءٌ لِنِيرَانِ الْحَقَائِدِ، وَاسْتِنْمَاءُ الْوُدِّ وَإِصْلَاحُ الْعَقَائِدِ، فَهَذَا طِبُّ الْمَوَدَّاتِ وَاكْتِسَابُ الرِّجَالِ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد (بَابٌ فِي الْعَصَبِيَّةِ) ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ إلَى سِمَاكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا قَالَ: «مَنْ نَصَرَ قَوْمَهُ عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ فَهُوَ كَالْبَعِيرِ الَّذِي رَدِيَ فَهُوَ يَنْزِعُ بِذَنَبِهِ» حَدِيثٌ حَسَنٌ وَيُقَالُ: رَدِيَ وَتَرَدَّى لُغَتَانِ كَأَنَّهُ تَفَعَّلَ مِنْ الرَّدَى (الْهَلَاكُ) أَرَادَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْإِثْمِ وَهَلَكَ كَالْبَعِيرِ إذَا تَرَدَّى فِي الْبِئْرِ وَأُرِيدَ أَنْ يَنْزِعَ بِذَنَبِهِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى خَلَاصِهِ. وَعَنْ بِنْتِ وَاثِلَةَ سَمِعَتْ أَبَاهَا يَقُولُ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْعَصَبِيَّةُ قَالَ «أَنْ تُعِينَ قَوْمَكَ عَلَى الظُّلْمِ» حَدِيثٌ حُسْنَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِنَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُحِبَّ الرَّجُلُ قَوْمَهُ قَالَ لَا وَلَكِنْ مِنْ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يَنْصُرَ الرَّجُلُ قَوْمَهُ عَلَى الظُّلْمِ» . وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ مَرْفُوعًا «لَيْسَ مِنَّا

مَنْ دَعَا إلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَصَبِيَّةً، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ: لَمْ يُسْمَعْ مِنْ جُبَيْرٍ. وَعَنْ سُرَاقَةَ قَالَ خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ «خَيْرُكُمْ الْمُدَافِعُ عَنْ عَشِيرَتِهِ مَا لَمْ يَأْثَمْ» إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَفِي هَذَا الْبَابِ رَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ دَاوُد بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عُقْبَةَ عَنْ أَبِي عُقْبَةَ وَكَانَ مَوْلًى مِنْ أَهْلِ فَارِسَ قَالَ «شَهِدْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ أُحُدًا فَضَرَبْتُ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَقُلْتُ: خُذْهَا وَأَنَا الْغُلَامُ الْفَارِسِيُّ، فَالْتَفَتَ إلَيَّ وَقَالَ فَهَلَّا قُلْتَ وَأَنَا الْغُلَامُ الْأَنْصَارِيُّ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَهُوَ مُدَلِّسٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ تَفَرَّدَ عَنْهُ دَاوُد وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: فِي الْحَدِيثِ الْعَصَبِيُّ مَنْ يُعِينُ قَوْمَهُ عَلَى الظُّلْمِ، هُوَ الَّذِي يَغْضَبُ لِعَصَبَتِهِ وَيُحَامِي عَنْهُمْ، وَالْعَصَبَةُ الْأَقَارِبُ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ كَأَنَّهُمْ يَعْصِبُونَهُ وَيَتَعَصَّبُ بِهِمْ أَيْ: يُحِيطُونَ بِهِ وَيَشْتَدُّ بِهِمْ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إلَى عَصَبِيَّةٍ أَوْ قَاتَلَ عَصَبِيَّةً» وَالتَّعَصُّبُ الْمُحَامَاةُ وَالْمُدَافَعَةُ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جُنْدُبٍ «مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَدْعُو عَصَبِيَّةً أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِيَّةً فَقِتْلَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ» . قَالَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ فِي مَسَائِلِهِ عَنْ أَبِيهِ: وَسَأَلْتُهُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «إيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُوُّ» قَالَ أَبِي: لَا تَغْلُو فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الْحُبُّ وَالْبُغْضُ قَالَ أَبُو دَاوُد (بَابٌ فِي الْهَوَى) حَدَّثَنَا حيوة بْنُ شُرَيْحٍ ثنا بَقِيَّةُ عَنْ ابْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيِّ عَنْ بِلَالِ بْنِ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: «حُبُّكَ لِلشَّيْءِ يُعْمِي وَيُصِمُّ» ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْغَسَّانِيُّ الْحِمْصِيُّ عَالِمُ دِينٍ لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَعَبْدُ الْحَمِيدِ وَأَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ مِنْ حَدِيثِهِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَرَاهُ رَفَعَهُ قَالَ: «أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا، وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا عَسَى

أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْمًا مَا» إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا وَالصَّحِيحُ عَنْ عَلِيٍّ مَوْقُوفٌ وَقَالَ النَّمِرُ بْنُ تَوْلَبٍ: وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ بُغْضًا رُوَيْدَا ... إذَا أَنْتَ حَاوَلْتَ أَنْ تَحْكُمَا وَأَحْبِبْ حَبِيبَكَ حُبًّا رُوَيْدَا ... فَلَيْسَ يَعُولُكَ أَنْ تَصْرِمَا قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: إذَا حَاوَلْتَ أَنْ تَكُونَ حَكِيمًا. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوَدُّدُ إلَى النَّاسِ» وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «الِاقْتِصَادُ فِي النَّفَقَةِ نِصْفُ الْمَعِيشَةِ، وَالتَّوَدُّدُ إلَى النَّاسِ نِصْفُ الْعَقْلِ وَحُسْنُ السُّؤَالِ نِصْفُ الْعِلْمِ» . حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي حَدَّثَنَا الْمُسَيِّبُ بْنُ وَاضِحٍ حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مُدَارَاةُ النَّاسِ صَدَقَةٌ» إسْنَادُ الْأَوَّلَيْنِ ضَعِيفٌ وَهَذَا فِيهِ لِينٌ وَيَأْتِي ذَلِكَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُخَالَطَةِ قَبْلَ فُصُولِ اللِّبَاسِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا عَفَوْتُ وَلَمْ أَحْقِدْ عَلَى أَحَدٍ ... أَرَحْتُ نَفْسِي مِنْ هَمِّ الْعَدَاوَاتِ إنِّي أُحَيِّي عَدُوِّي عِنْدَ رُؤْيَتِهِ ... لِأَدْفَعَ الشَّرَّ عَنِّي بِالتَّحِيَّاتِ وَأُظْهِرُ الْبِشْرَ لِلْإِنْسَانِ أَبْغَضُهُ ... كَأَنَّهُ قَدْ حَشَى قَلْبِي مَحَبَّاتِ وَلَسْتُ أَسْلَمُ مِمَّنْ لَسْتُ أَعْرِفُهُ ... فَكَيْفَ أَسْلَمُ مِنْ أَهْلِ الْمَوَدَّاتِ النَّاسُ دَاءٌ وَدَاءُ النَّاسِ قُرْبُهُمْ ... وَفِي الْجَفَاءِ بِهِمْ قَطْعُ الْأُخُوَّاتِ فَجَامِلِ النَّاسَ وَاجْمُلْ مَا اسْتَطَعْتَ وَكُنْ ... أَصَمَّ أَبْكَمَ أَعْمَى ذَا تَقِيَّاتِ الْأَبْيَاتُ الْأَرْبَعَةُ الْأُولَى ذَكَرَهَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لِهِلَالِ بْنِ الْعَلَاءِ وَقَالَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ زَمَنَ هَلَاكِ بَعْضِهِمْ: قَوْمٌ مَضَوْا كَانَتْ الدُّنْيَا بِهِمْ نُزَهًا ... وَالدَّهْرُ كَالْعِيدِ وَالْأَوْقَاتُ أَوْقَاتُ

عَدْلٌ وَأَمْنٌ وَإِحْسَانٌ وَبَذْلُ نَدًى ... وَخَفْضُ عَيْشٍ نُقَضِّيهِ وَأَوْقَاتُ مَاتُوا وَعِشْنَا فَهُمْ عَاشُوا بِمَوْتِهِمْ ... وَنَحْنُ فِي صُوَرِ الْأَحْيَاءِ أَمْوَاتُ لِلَّهِ دَرُّ زَمَانٍ نَحْنُ فِيهِ فَقَدْ ... أُوذِيَ بِنَا وَعَرَتْنَا فِيهِ نَكَبَاتُ جَوْرٌ وَخَوْفٌ وَذُلٌّ مَا لَهُ أَمَدٌ ... وَعِيشَةٌ كُلُّهَا هَمٌّ وَآفَاتُ وَقَدْ بُلِينَا بِقَوْمٍ لَا خَلَاقَ لَهُمْ ... إلَى مُدَارَاتِهِمْ تَدْعُو الضَّرُورَاتُ مَا فِيهِمْ مِنْ كَرِيمٍ يُرْتَجَى لِنَدًى ... كَلًّا وَلَا لَهُمْ ذِكْرٌ إذَا مَاتُوا عَزُّوا وَهُنَّا فَهَا نَحْنُ الْعَبِيدُ وَهُمْ ... مِنْ بَعْدِ مَا مَلَكُوا لِلنَّاسِ سَادَاتُ لَا الدِّينُ يُوجَدُ فِيهِمْ لَا وَلَا لَهُمْ ... مِنْ الْمُرُوءَةِ مَا تَسْمُو بِهِ الذَّاتُ وَالصَّبْرُ قَدْ عَزَّ وَالْآمَالُ تُطْعِمُنَا ... وَالْعُمْرُ يَمْضِي فَتَارَاتٌ وَتَارَاتُ وَالْمَوْتُ أَهْوَنُ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ فَقَدْ ... زَالَتْ مِنْ النَّاسِ وَاَللَّهِ الْمُرُوآت يَا رَبِّ لُطْفَكَ قَدْ مَالَ الزَّمَانُ بِنَا ... مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَأَبْلَتْنَا الْبَلِيَّاتُ وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: مَا دُمْت حَيًّا فَدَارِ النَّاسَ كُلَّهُمْ ... فَإِنَّمَا أَنْتَ فِي دَارِ الْمُدَارَاةِ مَنْ يَدْرِ دَارَى وَمَنْ لَمْ يَدْرِ سَوْفَ يُرَى ... عَمَّا قَلِيلٍ نَدِيمًا لِلنَّدَامَاتِ وَقَالَ زُهَيْرٌ: وَمَنْ لَمْ يُصَانِعْ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ ... يُضَرَّسْ بِأَنْيَابٍ وَيُوطَأْ بِمَنْسِمِ الْمَنْسِمُ لِلرَّجُلِ اسْتِعَارَةٌ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ لِلدَّوَابِّ، فِي الزَّبُورِ: مَنْ كَثُرَ عَدُوُّهُ فَلْيَتَوَقَّعْ الصُّرَعَةَ. حُكِيَ أَنَّ دَاوُد قَالَ لِسُلَيْمَانَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -: لَا تَشْتَرِ عَدَاوَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ بِصَدَاقَةِ أَلْفٍ.

في وجوب التوبة وأحكامها وما يناب منه

[فِي وُجُوبِ التَّوْبَةِ وَأَحْكَامِهَا وَمَا يُنَابُ مِنْهُ] [الْخِلَاف فِي لُزُوم التَّوْبَة] (فَصْلٌ فِي وُجُوبِ التَّوْبَةِ وَأَحْكَامِهَا وَمَا يُنَابُ مِنْهُ) تَلْزَمُ التَّوْبَةُ شَرْعًا لَا عَقْلًا خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، قَالَ بَعْضُهُمْ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ، كُلُّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ قَدْ أَثِمَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، وَقِيلَ: غَيْرُ مَظْنُونٍ. قَالَ فِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ: تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِمَّا يُظَنُّ أَنَّهُ إثْمٌ، وَقِيلَ لَا، وَلَا تَجِبُ بِدُونِ تَحَقُّقِ إثْمٍ، وَالْحَقُّ وُجُوبُ قَوْلِهِ: إنِّي تَائِبٌ إلَى اللَّهِ مِنْ كَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهُ، وَالْقَوْلُ بِعَدَمِ صِحَّةِ تَوْبَتِهِ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي مَذْهَبًا؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ هِيَ النَّدَمُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ وَالنَّدَمُ لَا يُتَصَوَّرُ مَشْرُوطًا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ إذَا حَصَلَ بَطَلَ النَّدَمُ. قَالَ الْقَاضِي: وَإِذَا شَكَّ فِي الْفِعْلِ الَّذِي فَعَلَهُ هَلْ هُوَ قَبِيحٌ أَمْ لَا؟ فَهُوَ مُفَرِّطٌ فِي فِعْلِهِ وَتَجِبُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ مِنْ هَذَا التَّفْرِيطِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي مَعْرِفَةِ قُبْحِ ذَلِكَ الْفِعْلِ أَوْ حُسْنِهِ؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ أُخِذَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُقْدِمَ عَلَى فِعْلِ قَبِيحٍ، وَلَا عَلَى مَا لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ قَبِيحًا، فَإِذَا قَدِمَ عَلَى فِعْلٍ يَشُكُّ أَنَّهُ قَبِيحٌ فَإِنَّهُ مُفَرِّطٌ وَذَلِكَ التَّفْرِيطُ ذَنْبٌ تَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهُ. وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَذْكُورٌ فِي آخِرِ بَابِ الْأَمَانَةِ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: فَمَنْ تَابَ تَوْبَةً عَامَّةً كَانَتْ هَذِهِ التَّوْبَةُ مُقْتَضِيَةً لِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ كُلِّهَا إلَّا أَنْ يُعَارِضَ هَذَا الْعَامَّ مُعَارِضٌ يُوجِبُ التَّخْصِيصَ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الذُّنُوبِ لَوْ اسْتَحْضَرَهُ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ لِقُوَّةِ إرَادَتِهِ إيَّاهُ، أَوْ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ حَسَنٌ، وَتَصِحُّ مِنْ بَعْضِ ذُنُوبِهِ فِي الْأَصَحِّ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ: أَنَّهَا تَصِحُّ مِنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاطِبِيُّ أَنَّهُ خِلَافُ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَصِحُّ إلَّا مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ قَالَ: فِي رَجُلٍ قَالَ: لَوْ ضُرِبْتُ مَا زَنَيْتُ وَلَكِنْ لَا أَتْرُكُ النَّظَرَ فَقَالَ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

مَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ فَسَلَبَهُ الِانْتِفَاعَ بِتَرْكِ الزِّنَا مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى مُقَدِّمَاتِهِ وَهُوَ النَّظَرُ. فَأَمَّا صِحَّةُ التَّوْبَةِ عَنْ بَعْضِ الذُّنُوبِ فَهِيَ أَصْلُ السُّنَّةِ وَإِنَّمَا يَمْنَعُ صِحَّتَهَا الْمُعْتَزِلَةُ وَالْقَائِلُونَ بِالِاحْتِيَاطِ وَأَنَّهُ لَا تَنْفَعُ طَاعَةٌ مَعَ مَعْصِيَةٍ، فَأَمَّا مَنْ صَحَّحَ الطَّاعَةَ مَعَ الْمَعَاصِي صَحَّحَ التَّوْبَةَ مِنْ بَعْضِ الْمَعَاصِي انْتَهَى كَلَامُهُ. وَذَكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الْقَاضِي. ذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْإِرْشَادِ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَلَفْظُهَا قَالَ: أَيُّ تَوْبَةٍ هَذِهِ؟ وَصَرَّحَ أَنَّهَا اخْتِيَارُهُ وَأَنَّهَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي تَعَالِيقِ إبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ لَوْ كَانَ فِي الرَّجُلِ مِائَةُ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ وَكَانَ يَشْرَبُ النَّبِيذَ لَمَحَتْهَا كُلَّهَا، وَهَذَا مِنْ أَغْلَظِ مَا يَكُونُ، وَاحْتَجَّ لِاخْتِيَارِهِ بِمَا لَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: إنَّمَا أَرَادَ يَعْنِي أَحْمَدَ أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ تَوْبَةً عَامَّةً، لَمْ يُرِدْ أَنَّ ذَنْبَ هَذَا كَذَنْبِ الْمُصِرِّ عَلَى الْكَبَائِرِ فَإِنَّ نُصُوصَهُ الْمُتَوَاتِرَةَ تُنَافِي ذَلِكَ، وَحَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى مَا يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا أَوْلَى، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْقَوْلُ الْآخَرُ مُبْتَدَعًا لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ أَيْضًا فِي الْفُنُونِ: قَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ لَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ قَتَلَ لِإِنْسَانٍ وَلَدًا، وَأَحْرَقَ لَهُ بَيْدَرًا ثُمَّ اعْتَذَرَ عَنْ إحْرَاقِ الْبَيْدَرِ دُونَ قَتْلِ الْوَلَدِ لَمْ يُعَدَّ اعْتِذَارًا، وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَذْهَبُ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ إذَا تَرَكَ الصَّلَاةَ تَكَاسُلًا كَفَرَ وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِي مَأْخَذِهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ: اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ هَلْ تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْ الْقَبِيحِ مَعَ الْمُقَامِ عَلَى قَبِيحٍ آخَرَ يَعْلَمُ التَّائِبُ بِقُبْحِهِ أَوْ لَا يَعْلَمُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: (إحْدَاهُمَا) تَصِحُّ، اخْتَارَهَا وَالِدِي وَشَيْخُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ يَصِحُّ التَّقَرُّبُ مِنْ الْمُكَلَّفِ بِفِعْلٍ وَاجِبٍ مَعَ تَرْكِ مِثْلِهِ فِي الْوُجُوبِ كَذَا فِي مَسْأَلَتِنَا

(وَالثَّانِيَةُ) لَا تَصِحُّ اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] : فَوَعَدَ بِغُفْرَانِ الصَّغَائِرِ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، فَإِذَا ارْتَكَبَ الْكَبَائِرَ أُخِذَ بِالْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ، وَاخْتَارَهَا ابْنُ شَاقِلَا وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مَحْبُوبًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة: 222] . وَيَكُونُ فِي حَالِ مَا هُوَ مَحْبُوبٌ يَفْعَلُ مَا هُوَ مَمْقُوتٌ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ عَنْ الْأَغَرِّ بْنِ يَسَارٍ الْمُزَنِيّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنِّي أَتُوبُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ وَقَالَ: " سَبْعِينَ مَرَّةً " وَلِأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «وَاَللَّهِ إنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَأَتُوبُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً» . وَلِأَحْمَدَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ حَدَّثَنَا سَالِمُ بْنُ مِسْكِينٍ وَالْمُبَارَكُ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِأَسِيرٍ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَتُوبُ إلَيْكَ وَلَا أَتُوبُ إلَى مُحَمَّدٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَفَ الْحَقَّ لِأَهْلِهِ،» مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَلَمْ يَسْمَعْ الْحَسَنُ مِنْ الْأَسْوَدِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَأَنَسٍ مَرْفُوعًا «لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَادِيَانِ وَلَنْ يَمْلَأَ فَاهُ إلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَعْذَرَ اللَّهُ إلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً» وَإِنْ جَهِلَهُ تَابَ مُجْمَلًا، وَالْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ تَوْبَةٌ عَامَّةٌ وَإِلَّا فَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّ التَّوْبَةَ

الْمُجْمَلَةَ لَا تُوجِبُ دُخُولَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الذُّنُوبِ فِيهَا وَلَا تَمْنَعُ دُخُولَهُ كَاللَّفْظِ الْمُطْلَقِ بِخِلَافِ الْعَامِّ وَمَا قَالَهُ صَحِيحٌ، وَعَنْهُ لَا تُقْبَلُ مِنْ الدَّاعِيَةِ إلَى بِدْعَتِهِ الْمُضِلَّةِ وَالْقَاتِلِ، ذَكَرَهَا الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ التَّوْبَةُ مِنْ سَائِرِ الذُّنُوبِ مَقْبُولَةٌ خِلَافًا لِإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ الْقَاتِلِ وَلَا الزِّنْدِيقِ ثُمَّ بَحَثَ الْمَسْأَلَةَ وَقَالَ: الزِّنْدِيقُ إذَا ظَهَرَ لَنَا هَلْ يَجِبُ أَنْ نَحْكُمَ بِإِيمَانِهِ الظَّاهِرِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَافِرًا؟ قَالَ وَلِأَنَّ الزَّنْدَقَةَ نَوْعُ كُفْرٍ فَجَازَ أَنْ تُحْبَطَ بِالتَّوْبَةِ كَسَائِرِ الْكُفْرِ مِنْ التَّوَثُّنِ، وَالتَّمَجُّسِ وَالتَّهَوُّدِ، وَالتَّنَصُّرِ وَكَمَنْ تَظَاهَرَ بِالصَّلَاحِ إذَا أَتَى مَعْصِيَةً وَتَابَ مِنْهَا وَقَالَ: وَلَيْسَ الْوَاجِبُ عَلَيْنَا مَعْرِفَةَ الْبَاطِنِ جُمْلَةً وَإِنَّمَا الْمَأْخُوذُ عَلَيْنَا حُكْمُ الظَّاهِرِ فَإِذَا كَانَ لَنَا فِي الظَّاهِرِ حُسْنُ طَرِيقَتِهِ، وَتَوْبَتِهِ وَجَبَ قَبُولُهَا وَلَمْ يَجُزْ رَدُّهَا لِمَا بَيَّنَّا وَإِنَّ جَمِيعَ الْأَحْكَامِ تَتَعَلَّقُ بِهَا، وَلَمْ أَجِدْ لَهُمْ شُبْهَةً أَوْرَدُوهَا إلَّا أَنَّهُمْ حَكَوْا عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَتَلَ زِنْدِيقًا وَلَا أَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّ الْإِمَامَ إذَا رَأَى قَتْلَهُ لِأَنَّهُ سَاعٍ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ سَاغَ لَهُ ذَلِكَ. فَأَمَّا أَنْ تَكُونَ تَوْبَتُهُ لَمْ تُقْبَلْ بِدَلَالَةِ أَنَّ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْهُمْ بَعْدَ الْقُدْرَةِ وَيُحْكَمُ بِصِحَّتِهَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي غَيْرِ إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهُمْ فَلَيْسَ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَسْقُط الْقَتْلُ لَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ. وَلَعَلَّ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنَى بِقَوْلِهِ: لَا تُقْبَلُ فِي غَيْرِ إسْقَاطِ الْقَتْلِ فَيَكُونُ مَا قَبْلَهُ هُوَ مَذْهَبُهُ رِوَايَةً وَاحِدَةً. وَقَالَ أَيْضًا: وَهُوَ مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ لَعَلَّ أَحْمَدَ تَعَلَّقَ بِأَنَّ فِيهِ حَقَّ آدَمِيٍّ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّوْبَةِ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ فَالتَّوْبَةُ تُسْقِطُ مَا يَثْبُتُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَبْقَى ظُلْمُ الْآدَمِيِّ وَمُطَالَبَتُهُ عَلَى حَالِهَا وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّوْبَةِ، وَكَذَلِكَ قَالَ هُوَ، وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِ غَيْرِهِ كَمَنْ قَالَ لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ الْمُبْتَدِعِ. نَحْنُ لَا نَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مُطَالَبًا بِمَظَالِمِ الْآدَمِيِّينَ وَلَكِنْ لَا يَمْنَعُ هَذَا صِحَّةَ التَّوْبَةِ كَالتَّوْبَةِ مِنْ السَّرِقَةِ، وَقَتْلِ النَّفْسِ، وَغَصْبِ الْأَمْوَالِ صَحِيحَةً مَقْبُولَةً، وَالْأَمْوَالُ وَالْحُقُوقُ لِلْآدَمِيِّ لَا تَسْقُطُ وَيَكُونُ هَذَا الْوَعِيدُ رَاجِعًا إلَى ذَلِكَ، وَيَكُونُ نَفْيُ الْقَبُولِ عَائِدًا إلَى الْقَبُولِ الْكَامِلِ، وَمِنْ كَلَامِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَذَكَرَ أَنَّهُ نَقَلَ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِ أَخِيهِ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ سُئِلَ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

عَمَّا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ احْتَجَزَ التَّوْبَةَ عَنْ صَاحِبِ بِدْعَةٍ» . وَحَجْزُ التَّوْبَةِ أَيُّ شَيْءٍ مَعْنَاهُ؟ قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُوَفَّقُ وَلَا يُيَسَّرُ صَاحِبُ بِدْعَةٍ لِتَوْبَةٍ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَّا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ لَيْسَتْ لَهُمْ تَوْبَةٌ» قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: لِأَنَّ اعْتِقَادَهُ لِذَلِكَ يَدْعُوهُ إلَى أَنْ لَا يَنْظُرَ نَظَرًا تَامًّا إلَى دَلِيلِ خِلَافِهِ فَلَا يَعْرِفُ الْحَقَّ، وَلِهَذَا قَالَ السَّلَفُ إنَّ الْبِدْعَةَ أَحَبُّ إلَى إبْلِيسَ مِنْ الْمَعْصِيَةِ. وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ وَغَيْرُهُ: إنَّ الْمُبْتَدِعَ لَا يَرْجِعُ. وَقَالَ أَيْضًا: التَّوْبَةُ مِنْ الِاعْتِقَادِ الَّذِي كَثُرَ مُلَازَمَةُ صَاحِبِهِ لَهُ وَمَعْرِفَتُهُ بِحُجَجِهِ يَحْتَاجُ إلَى مَا يُقَارِبُ ذَلِكَ مِنْ الْمَعْرِفَةِ، وَالْعِلْمِ، وَالْأَدِلَّةِ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اُقْتُلُوا شُيُوخَ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتَبْقُوا شَبَابَهُمْ» قَالَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ: لِأَنَّ الشَّيْخَ قَدْ عَسَا فِي الْكُفْرِ فَإِسْلَامُهُ بَعِيدٌ بِخِلَافِ الشَّابِّ فَإِنَّ قَلْبَهُ لَيِّنٌ فَهُوَ قَرِيبٌ إلَى الْإِسْلَامِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا تَوْبَةَ لِمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا وَقَالَ إنَّ آيَةَ الْفُرْقَانِ: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68] {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93] . وَقَالَ أَيْضًا عَنْ آيَةِ النِّسَاءِ: لَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ وَإِنَّ آيَةَ الْفُرْقَانِ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الشِّرْكِ. رَوَى ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي نَفْيِ قَبُولِ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ يُشْبِهُ وَاَللَّه أَعْلَمُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّ حَقَّ الْمَقْتُولِ لَا يَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ التَّوْبَةِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ مَظْلِمَةِ الْآدَمِيِّينَ وَهَذَا حَقٌّ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَإِنَّ مِنْ تَمَامِ تَوْبَتِهِ تَعْوِيضَ الْمَظْلُومِ فَيُمَكِّنُ أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُولِ وَإِذَا مَكَّنَهُمْ فَقَتَلُوهُ، أَوْ عَفَوْا عَنْهُ، أَوْ صَالَحُوهُ عَلَى الدِّيَةِ فَهَلْ يَسْقُطُ حَقُّ الْمَقْتُولِ فِي الْآخِرَةِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ

أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. وَلَعَلَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ مِمَّنْ يَقُولُ: لَا يَسْقُطُ حَقُّ الْمَقْتُولِ فِي الْآخِرَةِ قَالَ: وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَيَأْخُذُ الْمَقْتُولُ مِنْ حَسَنَاتِ الْقَاتِلِ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فَإِذَا اسْتَكْثَرَ الْقَاتِلُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الظُّلْمِ التَّائِبِينَ مِنْ الْحَسَنَاتِ مَا يُوَفِّي بِهِ غُرَمَاءَهُ، وَيَبْقَى لَهُ فَضْلٌ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَلَيْهِ دُيُونٌ وَاكْتَسَبَ أَمْوَالًا يُوَفِّي بِهَا دُيُونَهُ، وَيَبْقَى لَهُ فَضْلٌ، وَيَأْتِي كَلَامٌ فِي تَوْبَةِ الْمُبْتَدِعِ وَغَيْرِهِ أَيْضًا. وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَالَ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمَّارٍ عَنْ سَالِمٍ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ رَجُلٍ قَتَلَ مُؤْمِنًا، ثُمَّ تَابَ، وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا، ثُمَّ اهْتَدَى قَالَ: وَيْحَكَ وَأَنَّى لَهُ الْهُدَى؟ سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «يَجِيءُ الْمَقْتُولُ مُتَعَلِّقًا بِالْقَاتِلِ يَقُولُ يَا رَبِّ سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي؟» وَاَللَّهِ لَقَدْ أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى نَبِيِّكُمْ وَمَا نَسَخَهَا بَعْدَ إذْ أَنْزَلَهَا قَالَ: وَيْحَكَ وَأَنَّى لَهُ الْهُدَى؟ عَمَّارٌ هُوَ الذَّهَبِيُّ وَسَالِمٌ هُوَ ابْنُ أَبِي الْجَعْدِ إسْنَادٌ جَيِّدٌ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا بِمَعْنَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ وَرَوْحٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مُسْلِمٍ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَذَكَرَهُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَمُسْلِمٌ هُوَ ابْنُ مِخْرَاقٍ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إذَا قِيلَ لَا تَوْبَةَ لَهُ مَعْنَاهُ يُعَذَّبُ عَلَى هَذَا الذَّنْبِ وَلَا بُدَّ، ثُمَّ يَخْرُجُ كَأَهْلِ الْكَبَائِرِ إذَا لَمْ يَتُوبُوا، لَا أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ أَبَدًا وَلَمْ أَجِدْ هَذَا صَرِيحًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا عَنْ أَحْمَدَ، وَحَكَاهُ بَعْضُهُمْ قَوْلًا فِي التَّفْسِيرِ، وَلَا وَجْهَ لَهُ فَإِنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَلَا وَجْهَ عِنْدَهُمْ لِتَخْلِيدِ مُسْلِمٍ فِي النَّارِ.

فصل في عدم صحة توبة المصر وكيفية التوبة من الذنوب

[فَصْلٌ فِي عَدَمِ صِحَّةِ تَوْبَةِ الْمُصِرِّ وَكَيْفِيَّةِ التَّوْبَةِ مِنْ الذُّنُوبِ] وَلَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ أَصَرَّ عَلَى مِثْلِهِ. وَلَا يُقَالُ لِلتَّائِبِ ظَالِمٌ وَلَا مُسْرِفٌ، وَلَا تَصِحُّ مِنْ حَقِّ الْآدَمِيِّ، ذَكَرَهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَالشَّرْحِ وَقَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ. وَقَطَعَ بِهِ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْإِرْشَادِ وَفِي الْفُصُولِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي رِيَاضِ الصَّالِحِينَ عَنْ الْعُلَمَاءِ وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: سَأَلْتُ أَبِي عَنْ رَجُلٍ اخْتَانَ مِنْ رَجُلٍ مَالًا، ثُمَّ أَنْفَقَهُ، وَأَتْلَفَهُ، ثُمَّ إنَّهُ نَدِمَ عَلَى مَا فَعَلَ وَتَابَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يُؤَدِّي فَهَلْ يَكُونُ فِي نَدَمِهِ وَتَوْبَتِهِ مَا يُرْجَى لَهُ بِهِ إنْ مَاتَ عَلَى فَقْرِهِ خَلَاصٌ مِمَّا عَلَيْهِ؟ فَقَالَ أَبِي: لَا بُدَّ لِهَذَا الرَّجُلِ مِنْ أَنْ يُؤَدِّيَ الْحَقَّ وَإِنْ مَاتَ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ فِيمَنْ غَصَبَ أَرْضًا: لَا يَكُونُ تَائِبًا حَتَّى يَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا، إنْ عَلِمَ شَيْئًا بَاقِيًا مِنْ السَّرِقَةِ رَدَّهَا عَلَيْهِ أَيْضًا، وَقَالَ فِيمَنْ أَخَذَ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ: تَوْبَتُهُ أَنْ يَرُدَّ مَا أَخَذَ. فَإِنْ وَرِثَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَكُونُ عَدْلًا حَتَّى يَرُدَّ مَا أَخَذَ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: هَذَا أَهْوَنُ، لَيْسَ هُوَ أَخْرَجَهُ، وَأَعْجَبُ إلَيَّ أَنْ يَرُدَّهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ فِيمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَسَأَلَهُ صَالِحٌ تَوْبَتُهُ أَنْ يُصَلِّيَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَقِيلَ: بَلَى وَاَللَّهُ تَعَالَى يُعَوِّضُ الْمَظْلُومَ قَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ. وَقَالَ فِي الْهِدَايَةِ وَمَظَالِمُ الْعِبَادِ تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْهَا عَلَى الصَّحِيحِ فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَنْ مَاتَ نَادِمًا عَلَيْهَا كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُجَازِي لِلْمَظْلُومِ عَنْهُ كَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ «لَا يَدْخُلُ النَّارَ تَائِبٌ مِنْ ذَنْبِهِ» . وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى فَعَلَى الْمَنْعِ يَرُدُّ مَا أَثِمَ بِهِ وَتَابَ بِسَبَبِهِ، أَوْ بَذَلَهُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ أَوْ يَنْوِي ذَلِكَ إذَا أَمْكَنَهُ وَتَعَذَّرَ رَدُّهُ فِي الْحَالِ وَأَخَّرَ ذَلِكَ بِرِضَاءِ مُسْتَحِقِّهِ، وَأَنْ يَسْتَحِلَّ مِنْ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَنَحْوِهِمَا قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا:

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ عَبَّادِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ الْحَرِيرِيِّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ جَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إيَّاكُمْ وَالْغِيبَةَ فَإِنَّ الْغِيبَةَ أَشَدُّ مِنْ الزِّنَا، فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَزْنِي فَيَتُوبُ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ، وَإِنَّ صَاحِبَ الْغِيبَةِ لَا يُغْفَرُ لَهُ حَتَّى يَغْفِرَ لَهُ صَاحِبُهُ» عَبَّادٌ ضَعِيفٌ وَأَبُو رَجَاءٍ قَالَ الْعُقَيْلِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَهُ «مَوْتُ الْغَرِيبِ شَهَادَةٌ» . وَقِيلَ إنْ عَلِمَ بِهِ الْمَظْلُومُ وَإِلَّا دَعَا لَهُ وَاسْتَغْفَرَ وَلَمْ يَعْلَمْهُ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّهُ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ: إنْ تَابَ مِنْ قَذْفِ إنْسَانٍ أَوْ غِيبَتِهِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِهِ هَلْ يُشْتَرَطُ لِتَوْبَتِهِ إعْلَامُهُ وَالتَّحْلِيلُ مِنْهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ لِمَا رَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «مَنْ اغْتَابَ رَجُلًا ثُمَّ اسْتَغْفَرَ لَهُ مِنْ بَعْدُ غُفِرَ لَهُ غِيبَتُهُ» وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «كَفَّارَةُ مَنْ اغْتَابَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ» وَلِأَنَّ فِي إعْلَامِهِ إدْخَالَ غَمٍّ عَلَيْهِ قَالَ الْقَاضِي: فَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ وَكَذَا قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّ كَفَّارَةَ الِاغْتِيَابِ مَا رَوَى أَنَسٌ وَذَكَرَهُ، وَخَبَرُ أَنَسٍ الْمَذْكُورُ ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ وَفِيهِ عَنْبَسَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَتْرُوكٌ وَذَكَرَ مِثْلَهُ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعِيدٍ وَفِيهِ سَلْمَانُ بْنُ عَمْرٍو كَذَّابٌ، وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَفِيهِ حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الْأَيْلِيُّ مَتْرُوكٌ. وَذَكَرَ أَيْضًا حَدِيثَ أَنَسٍ فِي الْحَدَائِقِ وَقَالَ: إنَّهُ لَا يَذْكُرُ فِيهَا إلَّا الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ: قَالَ حُذَيْفَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كَفَّارَةُ مَنْ اغْتَبْتَهُ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: التَّوْبَةُ مِنْ الْغِيبَةِ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِمَنْ اغْتَبْتَهُ. فَقَالَ سُفْيَانُ: بَلْ تَسْتَغْفِرُ مِمَّا قُلْتَ فِيهِ، فَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: لَا تُؤْذُوهُ مَرَّتَيْنِ. وَمِثْلُ قَوْلِ ابْنِ الْمُبَارَكِ اخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ الصَّلَاحِ الشَّافِعِيُّ فِي فَتَاوِيهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ قَالَ: فَكُلُّ مَظْلِمَةٍ فِي الْعِرْضِ مِنْ اغْتِيَابِ صَادِقٍ وَبَهْتِ كَاذِبٍ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْقَذْفِ إذْ الْقَذْفُ قَدْ يَكُونُ صِدْقًا فَيَكُونُ فِي الْمَغِيبِ غِيبَةً

وَقَدْ يَكُونُ كَذِبًا فَيَكُونُ بَهْتًا، وَاخْتَارَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ لَا يُعْلِمُهُ بَلْ يَدْعُو لَهُ دُعَاءً يَكُونُ إحْسَانًا إلَيْهِ فِي مُقَابَلَةِ مَظْلَمَتِهِ كَمَا رُوِيَ فِي الْأَثَرِ. وَعَنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَتَمْتُهُ أَوْ لَعَنْتُهُ، أَوْ سَبَبْتُهُ أَوْ جَلَدْتُهُ فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ صَلَاةً وَزَكَاةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ إلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَهَذَا صَحِيحُ الْمَعْنَى مِنْ وَجْهٍ كَذَا قَالَ وَهَذَا الْمَعْنَى فِي الْمُسْنَدِ وَالصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمْ وَفِيهِ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ عَلَى رَبِّهِ وَفِيهِ «إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ» . وَقَالَ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَارِمٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ حَدَّثَنَا السُّمَيْطُ عَنْ أَبِي السَّوَّارِ الْعَدَوِيِّ عَنْ خَالِهِ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُنَاسٌ يَتْبَعُونَهُ قَالَ فَاتَّبَعْتُهُ مَعَهُمْ قَالَ فَفَجَأَنِي الْقَوْمُ يَسْعَوْنَ وَأَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَضَرَبَنِي ضَرْبَةً إمَّا بِعَسِيبٍ أَوْ قَضِيبٍ أَوْ سِوَاكٍ أَوْ شَيْءٍ كَانَ فَوَاَللَّهِ مَا أَوْجَعَنِي قَالَ: فَبِتُّ لَيْلَةً قُلْتُ مَا ضَرَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا لِشَيْءٍ عَلِمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي، وَحَدَّثَتْنِي نَفْسِي أَنْ آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَصْبَحْتُ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّكَ دَاعٍ لَا تَكْسِرْ قَرْنَ رَعِيَّتِكَ، فَلَمَّا صَلَّيْنَا الْغَدَاةَ أَوْ قَالَ أَصْبَحْنَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ أُنَاسًا يَتْبَعُونِي وَإِنِّي لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَتْبَعُونِي، اللَّهُمَّ فَمَنْ ضَرَبْتُ أَوْ سَبَبْتُ فَاجْعَلْهَا لَهُ كَفَّارَةً وَأَجْرًا أَوْ قَالَ مَغْفِرَةً وَرَحْمَةً» أَوْ كَمَا قَالَ إسْنَادٌ جَيِّدٌ. وَلَعَلَّ مُرَادَ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ أَجَابَ الْعُلَمَاءُ بِوَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) الْمُرَادُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ وَلَكِنَّهُ فِي الظَّاهِرِ مُسْتَوْجِبٌ لَهُ فَيُظْهِرُ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتِحْقَاقَهُ لِذَلِكَ بِأَمَارَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَيَكُونُ فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ لَيْسَ أَهْلًا لِذَلِكَ وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَأْمُورٌ بِالْحُكْمِ الظَّاهِرِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ. (وَالثَّانِي) أَنَّ مَا وَقَعَ مِنْ سَبِّهِ وَدُعَائِهِ وَنَحْوِهِ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ بَلْ هُوَ مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْعَرَبِ فِي وَصْلِ كَلَامِهِمْ بِلَا نِيَّةٍ كَقَوْلِهِمْ: تَرِبَتْ يَمِينُكَ وَعَقْرَى وَحَلْقَى لَا يَقْصِدُونَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَقِيقَةَ الدُّعَاءِ فَخَافَ أَنْ يُصَادِفَ إجَابَةً

فَسَأَلَ رَبَّهُ سُبْحَانَهُ وَرَغِبَ إلَيْهِ فِي أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ رَحْمَةً وَكَفَّارَةً وَقُرْبَةً وَطَهُورًا وَأَجْرًا، وَإِنَّمَا كَانَ يَقَعُ هَذَا مِنْهُ نَادِرًا وَلَمْ يَكُنْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَلَا لَعَّانًا وَلَا مُنْتَقِمًا لِنَفْسِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّهُمْ قَالُوا اُدْعُ عَلَى دَوْسٍ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَقَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» . وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ إنَّ الْمُرَادَ عِنْدَ فَوْرَةِ الْغَضَبِ لِأَمْرٍ يَخُصُّهُ، أَوْ لِرَدْعٍ يَرْدَعُهُ بِذَلِكَ الْكَلَامِ عَنْ التَّجَرُّؤِ إلَى فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ لَا لَعْنِهِ فِي الْخَمْرِ؛ لِأَنَّهُ تَشْرِيعٌ فِي الزَّجْرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ رَحْمَةً فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ احْتِمَالًا حَسَنًا؛ لِأَنَّ لَعْنَتَهُ عِنْدَ مَنْ لَعَنَهُ غَايَةٌ فِي الْمَنْعِ مِنْ ارْتِكَابِ مَا لَعَنَهُ عَلَيْهِ وَتَوْبَتِهِ فَسَمَّى اللَّعْنَةَ رَحْمَةً حَيْثُ كَانَتْ آيِلَةً إلَى الرَّحْمَةِ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ كَلَامُهُ الْمُتَقَدِّمُ قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ فِي قَوْلِهِ «أَنَّ رَجُلًا اعْتَرَضَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَسْأَلَهُ فَصَاحَ بِهِ النَّاسُ فَقَالَ دَعُوا الرَّجُلَ أَرِبَ مَا لَهُ» قِيلَ أَرِبَ بِوَزْنِ عَلِمَ، وَمَعْنَاهَا الدُّعَاءُ عَلَيْهِ أَيْ: أُصِيبَتْ آرَابُهُ وَسَقَطَتْ وَهِيَ كَلِمَةٌ لَا يُرَادُ بِهَا وُقُوعُ الْأَمْرِ كَمَا يُقَالُ: تَرِبَتْ يَدَاكَ وَقَاتَلَكَ اللَّهُ، وَإِنَّمَا تُذْكَرُ فِي مَعْرِضِ التَّعَجُّبِ وَفِي هَذَا التَّعَجُّبِ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا تَعَجُّبُهُ مِنْ حِرْصِ السَّائِلِ وَمُزَاحَمَتِهِ. وَالثَّانِي أَنَّهُ لَمَّا رَآهُ بِهَذِهِ الْحَالِ مِنْ الْحِرْصِ غَلَبَهُ طَبْعُ الْبَشَرِيَّةِ فَدَعَا عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ «اللَّهُمَّ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ فَمَنْ دَعَوْتُ عَلَيْهِ فَاجْعَلْ دُعَائِي لَهُ رَحْمَةً» وَقِيلَ مَعْنَاهُ احْتَاجَ فَسَأَلَ مِنْ أَرِبَ الرَّجُلُ يَأْرَبُ إذَا احْتَاجَ. ثُمَّ قَالَ " مَا لَهُ "؟ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ بِهِ وَمَا يُرِيدُ؟ (وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ) أَرَبٌ بِوَزْنِ جَمَلٍ أَيْ: حَاجَةٌ لَهُ، وَمَا زَائِدَةٌ لِلتَّقْلِيلِ أَيْ: لَهُ حَاجَةٌ يَسِيرَةٌ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ حَاجَةٌ جَاءَتْ بِهِ، فَحَذَفَ ثُمَّ سَأَلَ فَقَالَ " مَا لَهُ ". (وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ) أَرِبٌ بِوَزْنِ كَتِفٍ، وَالْأَرِبُ الْحَاذِقُ الْكَامِلُ أَيْ: هُوَ أَرِبٌ فَحَذَفَ الْمُبْتَدَأَ ثُمَّ سَأَلَ فَقَالَ " مَا لَهُ " أَيْ: مَا شَأْنُهُ.

وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ إعْلَامِهِ فَإِنَّ فِي إعْلَامِهِ زِيَادَةَ إيذَاءٍ لَهُ فَإِنَّ تَضَرُّرَ الْإِنْسَانِ بِمَا عَلِمَهُ مِنْ شَتْمِهِ أَبْلَغُ مِنْ تَضَرُّرِهِ بِمَا لَا يَعْلَمُ. ثُمَّ قَدْ يَكُونُ سَبَبُ الْعُدْوَانِ عَلَى الظَّالِمِ أَوَّلًا إذْ النُّفُوسُ لَا تَقِفُ غَالِبًا عِنْدَ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ، فَتَبَصَّرْ هَذَا فَفِي إعْلَامِهِ هَذَانِ الْفَسَادَانِ. وَفِيهِ مَفْسَدَةٌ ثَالِثَةٌ وَلَوْ كَانَتْ بِحَقٍّ وَهُوَ زَوَالُ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ كَمَالِ الْأُلْفِ وَالْمَحَبَّةِ، أَوْ تَجَدُّدُ الْقَطِيعَةِ وَالْبِغْضَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالْجَمَاعَةِ وَنَهَى عَنْ الْفُرْقَةِ. وَهَذِهِ الْمَفْسَدَةُ قَدْ تَعْظُمُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ وَلَيْسَ فِي إعْلَامِهِ فَائِدَةٌ إلَّا تَمْكِينُهُ مِنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ كَمَا لَوْ عَلِمَ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُعَاقِبَ إمَّا بِالْمِثْلِ إنْ أَمْكَنَ أَوْ بِالتَّعْزِيرِ أَوْ بِالْحَدِّ وَإِذَا كَانَ فِي الْإِيفَاءِ مِنْ الْجِنْسِ مَفْسَدَةٌ عُدِلَ إلَى غَيْرِ الْجِنْسِ كَمَا فِي الْقَذْفِ. وَفِي الْفِدْيَةِ وَفِي الْجِرَاحِ إذَا خِيفَ الْحَيْفُ، وَهُنَا قَدْ لَا يَكُونُ حَيْفٌ إلَّا فِي غَيْرِ الْجِنْسِ أَمَّا الْعُقُوبَةُ أَوْ الْأَخْذُ مِنْ الْحَسَنَاتِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فِي دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ عِرْضٍ فَلْيَأْتِهِ فَلْيَسْتَحِلَّهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَيْسَ فِيهِ دِرْهَمٌ وَلَا دِينَارٌ إلَّا الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ فَإِنْ كَانَ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ حَسَنَاتِ صَاحِبِهِ فَأُعْطِيَهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ فَأُلْقِيَتْ عَلَى صَاحِبِهِ ثُمَّ يُلْقَى فِي النَّارِ» . وَإِذَا كَانَ فَيُعْطِيهِ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً بَدَلَ الْحَسَنَةِ فَإِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ فَالدُّعَاءُ لَهُ وَالِاسْتِغْفَارُ إحْسَانٌ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ بَدَلَ الذَّمِّ لَهُ وَهَذَا عَامٌّ فِيمَنْ طَعَنَ عَلَى شَخْصٍ أَوْ لَعَنَهُ أَوْ تَكَلَّمَ بِمَا يُؤْذِيهِ أَمْرًا أَوْ خَبَرًا بِطَرِيقِ الْإِفْتَاءِ أَوْ التَّحْضِيضِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ أَعْمَالَ اللِّسَانِ أَعْظَمُ مِنْ أَعْمَالِ الْيَدِ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، حَتَّى لَوْ كَانَ ذَلِكَ بِتَأْوِيلٍ، أَوْ شُبْهَةٍ ثُمَّ بَانَ لَهُ الْخَطَأُ فَإِنَّ كَفَّارَةَ ذَلِكَ أَنْ يُقَابِلَ الْإِسَاءَةَ إلَيْهِ بِالْإِحْسَانِ بِالشَّهَادَةِ لَهُ بِمَا فِيهِ مِنْ الْخَيْرِ وَالشَّفَاعَةِ لَهُ بِالدُّعَاءِ فَيَكُونُ الثَّنَاءُ وَالدُّعَاءُ بَدَلَ الطَّعْنِ وَاللَّعْنِ وَيَدْخُلُ فِي هَذَا أَنْوَاعُ الطَّعْنِ وَاللَّعْنِ الْجَارِي بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ أَوْ غَيْرِ سَائِغٍ كَالتَّكْفِيرِ وَالتَّفْسِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقَعُ بَيْنَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ كَمَا يَقَعُ بَيْنَ أَصْنَافِ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ، وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالنُّهَى مِنْ كَلَامِ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ تَارَةً بِتَأْوِيلٍ مُجَرَّدٍ، وَتَارَةً بِتَأْوِيلٍ مَشُوبٍ بِهَوًى، وَتَارَةً بِهَوًى مَحْضٍ، بَلْ تَخَاصُمُ هَذَا الضَّرْبِ بِالْكَلَامِ وَالْكُتُبِ كَتَخَاصُمِ

غَيْرِهِمْ بِالْأَيْدِي وَالسِّلَاحِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِقِتَالِ أَهْلِ الْعَدْلِ وَالْبَغْيِ، وَالطَّائِفَتَيْنِ الْبَاغِيَتَيْنِ، الْعَادِلَتَيْنِ مِنْ وَجْهٍ وَالْبَاغِيَتَيْنِ مِنْ وَجْهٍ. وَهَذَا بَابٌ نَافِعٌ جِدًّا وَالْحَاجَةُ إلَيْهِ مَاسَّةٌ جِدًّا فَعَلَى هَذَا لَوْ سَأَلَ الْمَقْذُوفُ وَالْمَسْبُوبُ لِقَاذِفِهِ هَلْ فَعَلَ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الِاعْتِرَافُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ إذْ تَوْبَتُهُ صَحَّتْ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّدَمِ وَفِي حَقِّ الْعَبْدِ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِ بِالِاسْتِغْفَارِ وَنَحْوِهِ، وَهَلْ يَجُوزُ الِاعْتِرَافُ، أَوْ يُسْتَحَبُّ، أَوْ يُكْرَهُ، أَوْ يَحْرُمُ؟ الْأَشْبَهُ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ فَقَدْ يَكُونُ الِاعْتِرَافُ أَصْفَى لِلْقُلُوبِ كَمَا يَجْرِي بَيْنَ الْأَوِدَّاءِ مِنْ ذَوِي الْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ، وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ صِدْقِ الْمُتَكَلِّمِ، وَقَدْ تَكُونُ فِيهِ مَفْسَدَةُ الْعُدْوَانِ عَلَى النَّاسِ أَوْ رُكُوبُ كَبِيرَةٍ فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِرَافُ قَالَ: وَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِقْرَارُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَكْذِبَ بِالْجُحُودِ الصَّرِيحِ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ الصَّرِيحَ مُحَرَّمٌ وَالْمُبَاحُ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ هَلْ هُوَ التَّعْرِيضُ أَوْ الصَّرِيحُ؟ فِيهِ خِلَافٌ، فَمَنْ جَوَّزَ الصَّرِيحَ هُنَاكَ فَهَلْ يُجَوِّزُهُ هُنَا؟ فِيهِ نَظَرٌ وَلَكِنْ يُعَرِّضُ فَإِنَّ الْمَعَارِيضَ مَنْدُوحَةٌ عَنْ الْكَذِبِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُرْوَى عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ أَنَّهُ بَلَغَ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَيْءٌ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ بِالْمَعَارِيضِ وَقَالَ: أُرَقِّعُ دِينِي بَعْضَهُ بِبَعْضٍ أَوْ كَمَا قَالَ. وَعَلَى هَذَا فَإِذَا اُسْتُحْلِفَ عَلَى ذَلِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ وَيُعَرِّضَ؛ لِأَنَّهُ مَظْلُومٌ بِالِاسْتِحْلَافِ، فَإِذَا كَانَ قَدْ تَابَ وَصَحَّتْ تَوْبَتُهُ لَمْ يَبْقَ لِذَلِكَ عَلَيْهِ حَقٌّ فَلَا تَجِبُ الْيَمِينُ عَلَيْهِ، لَكِنْ مَعَ عَدَمِ التَّوْبَةِ وَالْإِحْسَانِ إلَى الْمَظْلُومِ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى عَدَاوَتِهِ وَظُلْمِهِ فَإِذَا أَنْكَرَ بِالتَّعْرِيضِ كَانَ كَاذِبًا فَإِذَا حَلَفَ كَانَتْ يَمِينُهُ غَمُوسًا. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَيْضًا: سُئِلْتُ عَنْ نَظِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ رَجُلٌ تَعَرَّضَ لِامْرَأَةِ غَيْرِهِ فَزَنَى بِهَا ثُمَّ تَابَ مِنْ ذَلِكَ وَسَأَلَهُ زَوْجُهَا عَنْ ذَلِكَ فَأَنْكَرَ فَطَلَبَ اسْتِحْلَافَهُ، فَإِنْ حَلَفَ عَلَى نَفْيِ الْفِعْلِ كَانَتْ يَمِينُهُ غَمُوسًا، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ قَوِيَتْ التُّهْمَةُ، وَإِنْ أَقَرَّ جَرَى عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا مِنْ الشَّرِّ أَمْرٌ عَظِيمٌ؟ فَأَفْتَيْتُهُ أَنَّهُ يَضُمُّ إلَى التَّوْبَةِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى الْإِحْسَانَ إلَى الزَّوْجِ بِالدُّعَاءِ

وَالِاسْتِغْفَارِ، وَالصَّدَقَةِ عَنْهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ بِإِزَاءِ إيذَائِهِ لَهُ فِي أَهْلِهِ، فَإِنَّ الزِّنَا بِهَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَحَقُّ زَوْجِهَا مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ فِي عِرْضِهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا يَنْجَبِرُ بِالْمِثْلِ كَالدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ، بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْقَذْفِ الَّذِي جَزَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، فَتَكُونُ تَوْبَةُ هَذَا كَتَوْبَةِ الْقَاذِفِ، وَتَعْرِيضُهُ كَتَعْرِيضِهِ، وَحَلْفُهُ عَلَى التَّعْرِيضِ كَحَلْفِهِ. وَأَمَّا لَوْ ظَلَمَهُ فِي دَمٍ أَوْ مَالٍ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إيفَاءِ الْحَقِّ فَإِنَّ لَهُ بَدَلًا، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ وَبَيْنَ تَوْبَةِ الْقَاذِفِ. وَهَذَا الْبَابُ وَنَحْوُهُ فِيهِ خَلَاصٌ عَظِيمٌ وَتَفْرِيجُ كُرُبَاتٍ لِلنُّفُوسِ مِنْ آثَارِ الْمَعَاصِي وَالْمَظَالِمِ فَإِنَّ الْفَقِيهَ كُلَّ الْفَقِيهِ الَّذِي لَا يُؤْيِسُ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا يُجَرِّئُهُمْ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى. وَجَمِيعُ النُّفُوسِ لَا بُدَّ أَنْ تُذْنِبَ فَتَعْرِيفُ النُّفُوسِ مَا يُخَلِّصُهَا مِنْ الذُّنُوبِ مِنْ التَّوْبَةِ وَالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَاتِ كَالْكَفَّارَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ فَوَائِدِ الشَّرِيعَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: فَإِنْ كَانَتْ الْمَظْلِمَةُ فَسَادَ زَوْجَةِ جَارِهِ أَوْ غَيْرِهِ فِي الْجُمْلَةِ وَهَتْكِ فِرَاشِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: اُحْتُمِلَ أَنْ لَا يَصِحَّ إحْلَالُهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُسْتَبَاحُ بِإِبَاحَتِهِ ابْتِدَاءً فَلَا يَبْرَأُ بِإِحْلَالِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَعِنْدِي أَنَّهُ يَبْرَأُ بِالْإِحْلَالِ بَعْدَ وُقُوعِهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَحِلَّهُ فَإِنَّهُ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ فَيَجُوزُ أَنْ يَبْرَأَ بِالْإِحْلَالِ بَعْدَ وُقُوعِ الْمَظْلِمَةِ وَلَا يَمْلِكُ إبَاحَتَهَا ابْتِدَاءً كَالدَّمِ وَالْقَذْفِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ لَهُ أَنَّهُ يُلَاعِنُ زَوْجَتَهُ وَيَفْسَخُ نِكَاحَهَا لِأَجْلِ التُّهْمَةِ بِهِ وَغَلَبَةِ ذَلِكَ عَلَى ظَنِّهِ وَإِنَّمَا يُتَحَالَفُ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلِأَنَّ الزَّوْجَ يُمْنَعُ مِنْ وَطْئِهَا زَمَنَ الْعِدَّةِ وَفِي مَنْعِهِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْجِمَاعِ خِلَافٌ وَذَلِكَ سَبَبُ فِعْلِ الزَّانِي لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ كَرِهَهَا فَقَدْ ظَلَمَهَا وَظَلَمَ الزَّوْجَ. وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ أَنَّهُ شَهِدَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَمِدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَفِيهِ «أَلَا إنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا، وَإِنَّ لِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ، وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ

تَكْرَهُونَ، أَلَا وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ قِيلَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ قِيلَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ» قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الزِّنَا وَإِفْسَادَهَا عَلَى زَوْجِهَا وَاسْتِمَالَةَ قَلْبِهَا إلَى الزَّانِي وَهُوَ مَعَ امْرَأَةِ الْجَارِ أَشَدُّ قُبْحًا وَجُرْمًا؛ لِأَنَّ الْجَارَ يَتَوَقَّعُ مِنْ جَارِهِ الذَّبَّ عَنْهُ وَعَنْ حَرِيمِهِ وَيَأْمَنُ بَوَائِقَهُ، وَيَطْمَئِنُّ إلَيْهِ وَقَدْ أَمَرَ بِإِكْرَامِهِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِ، فَإِذَا قَابَلَ هَذَا بِالزِّنَا بِامْرَأَتِهِ وَأَفْسَدَهَا عَلَيْهِ مَعَ تُمَكِّنُهُ مِنْهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ غَيْرُهُ كَانَ فِي غَايَةٍ مِنْ الْقُبْحِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِمَا يَأْتِي مِنْ أَنَّ الْحَدَّ كَفَّارَةٌ أَيْ فِي حَقِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَمَّا حَقُّ الْآدَمِيِّ فَالْكَلَامُ فِيهِ كَغَيْرِهِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَلِهَذَا لَوْ اُقْتُصَّ مِنْ الْقَاتِلِ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ مَعَ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُسَامَحَةِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَسْقُطَ حَقُّ الْآدَمِيِّ هُنَا، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يُخْتَصَّ بِعُقُوبَةٍ فِي الدُّنْيَا سِوَى الْحَدِّ الَّذِي هُوَ حَقُّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقِصَاصِ، وَقَذْفِ الْآدَمِيِّ بِالزِّنَا، أَوْ غَيْرِهِ بِشَيْءٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل فيما على التائب من قضاء العبادات ومفارقة قرين السوء ومواضع الذنوب

[فَصْلٌ فِيمَا عَلَى التَّائِبِ مِنْ قَضَاءِ الْعِبَادَاتِ وَمُفَارَقَةِ قَرِينِ السُّوءِ وَمَوَاضِعِ الذُّنُوبِ] ِ) قَالَ فِي الرِّعَايَةِ بَعْدَ كَلَامِهِ السَّابِقِ: وَأَنْ يَفْعَلَ مَا تَرَكَهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَيُبَاعِدَ قُرَنَاءَ السُّوءِ وَأَسْبَابِهِ، وَمَفْهُومُ كَلَامِهِ فِي الشَّرْحِ وَغَيْرِهِ أَنَّ مُجَانَبَةَ خُلَطَاءِ السُّوءِ لَا تُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَقَطَعَ بِهِ ابْنُ عَقِيلٍ وَجَعَلَهُ أَصْلًا لِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فِي أَنَّ التَّفَرُّقَ فِي قَضَاءِ الْحَجِّ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي وَطِئَ فِيهِ لَا يَجِبُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ «فِي الَّذِي قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ وَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ الْعَالِمُ: مَنْ يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَاعْبُدْ اللَّهَ تَعَالَى مَعَهُمْ وَلَا تَرْجِعْ إلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سُوءٍ» . قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْعُلَمَاءُ: فِي هَذَا اسْتِحْبَابُ مُفَارِقَةِ التَّائِبِ الْمَوَاضِعَ الَّتِي أَصَابَ فِيهَا الذُّنُوبَ وَالْإِخْوَانَ الْمُسَاعِدِينَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ وَمُقَاطَعَتِهِمْ مَا دَامُوا عَلَى حَالِهِمْ، وَأَنْ يَسْتَبْدِلَهُمْ بِصُحْبَتِهِ أَهْلَ الْخَيْرِ وَتَتَأَكَّدُ بِذَلِكَ تَوْبَتُهُ فَإِنْ اقْتَصَّ مِنْ الْقَاتِلِ أَوْ عَفَا عَنْهُ فَهَلْ يُطَالِبُهُ الْمَقْتُولُ فِي الْآخِرَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَتَوْبَةُ الْمُرَابِي بِأَخْذِ رَأْسِ مَالِهِ، وَيَرُدُّ رِبْحَهُ إنْ أَخَذَهُ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ حَدِيثِ صَاحِبِ التِّسْعَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أَمَا تُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِكَ وَإِثْمِ صَاحِبِكَ» قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ قَتْلَ الْقِصَاصِ لَا يُكَفِّرُ ذَنْبَ الْقَاتِلِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنْ كَفَّرَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَيَبْقَى حَقُّ الْمَقْتُولِ قَالَ أَبُو دَاوُد فِي بَابِ مَا يُرْجَى فِي الْقَتْلِ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ أَبِي هِشَامٍ حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أُمَّتِي هَذِهِ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ لَيْسَ عَلَيْهَا عَذَابٌ فِي الْآخِرَةِ، عَذَابُهَا فِي الدُّنْيَا الْفِتَنُ وَالزَّلَازِلُ وَالْقَتْلُ» إسْنَادُهُ جَيِّدٌ.

فصل في العفو عمن ظلم وجعله في حل

[فَصْلٌ فِي الْعَفْوِ عَمَّنْ ظَلَمَ وَجَعْلِهِ فِي حِلٍّ] ٍّ) قَالَ صَالِحٌ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي يَوْمًا فَقُلْتُ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى فَضْلٍ الْأَنْمَاطِيِّ فَقَالَ لَهُ: اجْعَلْنِي فِي حِلٍّ إذَا لَمْ أَقُمْ بِنُصْرَتِكَ، فَقَالَ فَضْلٌ: لَا جَعَلْتُ أَحَدًا فِي حِلٍّ، فَتَبَسَّمَ أَبِي وَسَكَتَ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ قَالَ لِي مَرَرْتُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] فَنَظَرْتُ فِي تَفْسِيرِهَا فَإِذَا هُوَ مَا حَدَّثَنِي بِهِ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ حَدَّثَنِي الْمُبَارَكُ حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ الْحَسَنَ يَقُولُ: إذَا جَثَتْ الْأُمَمُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَنُودُوا: لِيَقُمْ مَنْ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَا يَقُومُ إلَّا مَنْ عَفَا فِي الدُّنْيَا قَالَ أَبِي: فَجَعَلْتُ الْمَيِّتَ فِي حِلٍّ مِنْ ضَرْبِهِ إيَّايَ ثُمَّ جَعَلَ يَقُولُ: وَمَا عَلَى رَجُلٍ أَنْ لَا يُعَذِّبَ اللَّهُ تَعَالَى بِسَبَبِهِ أَحَدًا. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: وَهُوَ يُدَاوِي اللَّهُمَّ لَا تُؤَاخِذْهُمْ: فَلَمَّا بَرِئَ ذَكَرَهُ حَنْبَلٌ لَهُ فَقَالَ: نَعَمْ أَحْبَبْتُ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَ قَرَابَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْءٌ، وَقَدْ جَعَلْتُهُ فِي حِلٍّ إلَّا ابْنَ أَبِي دَاوُد وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُ فَإِنِّي لَا أَجْعَلُهُمْ فِي حِلٍّ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْبَرْدَعِيِّ حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ الْبَغْدَادِيُّ قَالَ: قَالَ لِي حَنْبَلٌ فَذَكَرَهُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَبِي: وَجَّهَ إلَيَّ الْوَاثِقُ أَنْ اجْعَلْ الْمُعْتَصِمَ فِي حِلٍّ مِنْ ضَرْبِهِ إيَّاكَ، فَقُلْتُ مَا خَرَجْتُ مِنْ دَارِهِ حَتَّى جَعَلْتُهُ فِي حِلٍّ، وَذَكَرْتُ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَقُومُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا مَنْ عَفَا» فَعَفَوْتُ عَنْهُ. وَذَكَرَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ قَوْلَ الشَّعْبِيِّ، إنْ تَعْفُ عَنْهُ مَرَّةً يَكُنْ لَكَ مِنْ الْأَجْرِ مَرَّتَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ أَنَّهُ جَعَلَهُمْ فِي حِلٍّ وَقَالَ لَوْلَا أَنَّ ابْنَ أَبِي دَاوُد

دَاعِيَةٌ لَأَحْلَلْتُهُ. وَرَوَى عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ أَنَّهُ أَحَلَّ ابْنَ أَبِي دَاوُد وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ إِسْحَاقَ فِيمَا بَعْدُ. وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: أَفْضَلُ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِ الْعَفْوُ. وَرَوَى أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ مُجَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: كُلُّ النَّاسِ مِنِّي فِي حِلٍّ.

فصل في الإبراء المعلق بشرط

[فَصْلٌ فِي الْإِبْرَاءِ الْمُعَلَّقِ بِشَرْطٍ] نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: إنْ مِتَّ " بِفَتْحِ التَّاءِ " فَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ دَيْنِي، إنَّهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ إبْرَاءٌ مُعَلَّقٌ بِشَرْطٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ وَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: إنِّي كُنْتُ شَارِبًا مُسْكِرًا فَتَكَلَّمْتُ فِيكَ بِشَيْءٍ فَاجْعَلْنِي فِي حِلٍّ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَنْتَ فِي حِلٍّ إنْ لَمْ تَعُدْ، فَقُلْتُ لَهُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لِمَ قُلْتَ؟ لَعَلَّهُ يَعُودُ، قَالَ أَلَمْ تَرَ مَا قُلْتُ لَهُ: إنْ لَمْ تَعُدْ فَقَدْ اشْتَرَطْتُ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ مَا أَحْسَنَ الشَّرْطَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلَا يَعُودُ إنْ كَانَ لَهُ دِينٌ. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَقُولُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ، اجْعَلْنِي فِي حِلٍّ قَالَ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ قَالَ كُنْتَ أَذْكُرُكَ أَيْ: أَتَكَلَّمُ فِيكَ فَقَالَ لَهُ: وَلِمَ أَرَدْتَ أَنْ تَذْكُرَنِي؟ فَجَعَلَ يَعْتَرِفُ بِالْخَطَإِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: عَلَى أَنْ لَا تَعُودَ إلَى هَذَا قَالَ لَهُ نَعَمْ قَالَ قُمْ. ثُمَّ الْتَفَتَ إلَيَّ وَهُوَ يَبْتَسِمُ فَقَالَ: لَا أَعْلَمُ أَنِّي شَدَّدْتُ عَلَى أَحَدٍ إلَّا عَلَى رَجُلٍ جَاءَنِي فَدَقَّ عَلَيَّ الْبَابَ وَقَالَ اجْعَلْنِي فِي حِلٍّ فَإِنِّي كُنْتُ أَذْكُرُكَ، فَقُلْتُ: وَلِمَ أَرَدْتَ أَنْ تَذْكُرَنِي أَيْ هَذَا الرَّجُلُ؟ كَأَنَّهُ أَرَادَ مِنْهُمَا التَّوْبَةَ وَأَنْ لَا يَعُودَا رَوَاهُمَا الْخَلَّالُ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ مِنْ الْأَدَبِ. وَرَأَيْتُ بَعْضَ أَصْحَابِنَا يَخْتَارُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَأَنَّ فِيهِمَا رِوَايَتَيْنِ فَقَدْ يُقَالُ: هَذَا وَقَدْ يُقَالُ: بِالتَّفْرِقَةِ؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ لِرِعَايَةِ حُصُولِهَا وَتَأَكُّدِهَا صَحَّ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي الْيُسْرِ الصَّحَابِيِّ الْبَدْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَقَالَ لَهُ، إنْ وَجَدْتَ قَضَاءً فَاقْضِ وَإِلَّا فَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ دَيْنِي.

فصل فيمن استدان وليس عنده وفاء وهو ينويه

[فَصْلٌ فِيمَنْ اسْتَدَانَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ وَفَاءٌ وَهُوَ يَنْوِيهِ] ِ) قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثنا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ ثنا جَعْفَرُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ مَنْصُورٍ قَالَ حَسِبْتُهُ عَنْ سَالِمٍ عَنْ «مَيْمُونَةَ أَنَّهَا اسْتَدَانَتْ دَيْنًا فَقِيلَ لَهَا: تَسْتَدِينِينَ وَلَيْسَ عِنْدَكِ وَفَاءٌ؟ قَالَتْ: إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: مَا مِنْ أَحَدٍ يَسْتَدِينُ دَيْنًا يَعْلَمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ يُرِيدُ أَدَاءَهُ إلَّا أَدَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ» إسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قُدَامَةَ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُذَيْفَةَ قَالَ: كَانَتْ مَيْمُونَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تَدَّانُ وَتُكْثِرُ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ «إلَّا أَدَّاهُ اللَّهُ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا» وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عُبَيْدَةَ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ مَنْصُورٍ فَذَكَرَهُ. وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ عَنْ جَرِيرٍ وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ ذِكْرَ قَضَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الدُّنْيَا دَيْنَ مَنْ نَوَى الْأَدَاءَ فِيهِ إسْنَادُهُ جَيِّدٌ إلَّا أَنَّ زِيَادًا لَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ مَنْصُورٍ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَلَمْ يَرْوِ عَنْ عِمْرَانَ غَيْرُ زِيَادٍ وَلَمْ أَجِدْ فِيهِ كَلَامًا. وَرَوَى النَّسَائِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ «أَنَّ مَيْمُونَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَدَانَتْ فَقِيلَ لَهَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ تَسْتَدِينِينَ وَلَيْسَ عِنْدَكِ وَفَاءٌ؟ فَقَالَتْ: إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: مَنْ أَخَذَ دَيْنًا وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُؤَدِّيَهُ أَعَانَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» إسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَعَنْ أَبِي الْغَيْثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّاهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. كَانَ شَيْخُنَا الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ بْنُ مُسْلِمٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ اُخْتُلِفَ

فِي هَذَا فَقِيلَ: هُوَ دُعَاءٌ، وَقِيلَ: هُوَ خَبَرٌ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَأَيُّمَا كَانَ حَصَلَ الْمَقْصُودُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ مُصَدَّقٌ وَحَقٌّ وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْإِرْشَادِ فِي مَسْأَلَةِ تَكْفِيرِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ: وَدَعْوَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرُ مَرْدُودَةٍ وَزِيَادَةُ لَفْظَةِ " فِي الدُّنْيَا " تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ دُعَاءٌ لَكِنْ فِي صِحَّةِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ نَظَرٌ. قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ فِي تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ: التَّعْلِيمُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِهَؤُلَاءِ السَّلَاطِينِ، وَمِنْ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِرَجُلٍ مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ فِي ضَيْعَةٍ، وَمِنْ أَنْ يَسْتَدِينَ وَيَتَّجِرَ لَعَلَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ فَيَلْقَى اللَّهَ عَنْ رَجُلٍ بِأَمَانَاتِ النَّاسِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: سَأَلْتُ أَبِي عَنْ رَجُلٍ اسْتَدَانَ دَيْنًا عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَهُ فَتَلِفَ الْمَالُ مِنْ يَدِهِ وَأَصَابَهُ بَعْضُ حَوَادِثِ الدُّنْيَا فَصَارَ مُعْدِمًا لَا شَيْءَ لَهُ فَهَلْ يُرْجَى لَهُ بِذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عُذْرٌ وَخَلَاصٌ مِنْ دَيْنِهِ، إنْ مَاتَ عَلَى عَدَمِهِ وَلَمْ يَقْضِ دَيْنَهُ؟ فَقَالَ: إنَّ هَذَا عِنْدِي أَسْهَلُ مِنْ الَّذِي اخْتَانَ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى عَدَمِهِ فَهَذَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يَحْتَمِلُ الْعِقَابَ وَالتَّرْكَ وَاَللَّهُ تَعَالَى يُعَوِّضُ الْمَظْلُومَ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْخَبَرِ «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَوِّضُ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ بَعْضًا» . وَنَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْأَصْحَابُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عَلَى صِحَّةِ ضَمَانِ دَيْنِ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ كَوْنِ سَبَبِهِ مُحَرَّمًا أَوْ لَا، وَبَيْنَ التَّائِبِ وَغَيْرِهِ لِامْتِنَاعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الصَّلَاةِ عَمَّنْ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ وَلَمْ يُخْلِفْ وَفَاءً حَتَّى ضَمِنَهَا أَبُو قَتَادَةَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَامْتَنَعَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دِينَارَانِ حَتَّى ضَمِنَهُمَا أَبُو قَتَادَةَ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضَمِنَهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا وَقَائِعُ، وَالظَّاهِرُ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَصْدُ الْخَيْرِ وَنِيَّةُ الْأَدَاءِ وَأَنَّهُمْ عَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي قَتَادَةَ «الْآنَ بَرَّدْتَ عَلَيْهِ جِلْدَهُ» لَمَّا وَفَّى عَنْهُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالطَّيَالِسِيُّ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَجَمَاعَةٌ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ وَفِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ جَابِرٍ وَحَدِيثُهُ حَسَنٌ، وَعِنْدَنَا يَجْتَمِعُ الْقَطْعُ وَالضَّمَانُ عَلَى

السَّارِقِ وَذَكَرَهُ فِي الْمُغْنِي إجْمَاعًا مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ مَعَ الْحَدِّ كَفَّارَةً لِإِثْمِ ذَلِكَ الذَّنْبِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ، وَمَعَ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ وَالْأَصْحَابَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ التَّائِبِ وَغَيْرِهِ، وَلِهَذَا لَمَّا كَانَتْ التَّوْبَةُ مُؤَثِّرَةً فِي إسْقَاطِ حَدِّ ذَلِكَ ذَكَرُوهَا وَلَمَّا لَمْ تُؤَثِّرْ لَمْ يَذْكُرُوهَا. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْمُجَلَّدِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ الْفُنُونِ فِي حِلِّ الدَّيْنِ بِالْمَوْتِ: وَأَنَا أَقُولُ: الْمُطَالَبَةُ فِي الْآخِرَةِ فَرْعٌ عَلَى مُطَالَبَةِ الدُّنْيَا وَكُلُّ حَقٍّ لَمْ يَثْبُتْ فِي الدُّنْيَا فَلَا ثَبَاتَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَمَنْ خَلَّفَ مَالًا وَوَرَثَةً فَكَأَنَّهُ اسْتَنَابَ فِي الْقَضَاءِ، وَالدَّيْنُ كَانَ مُؤَجَّلًا فَالنَّائِبُ عَنْهُ يَقْضِي مُؤَجَّلًا، وَالذِّمَّةُ عِنْدِي بَاقِيَةٌ، وَلَا أَقُولُ: الْحَقُّ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَعْيَانِ، وَلِهَذَا تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ وَيَصِحُّ ضَمَانُ دَيْنِ الْمَيِّتِ لِبَقَاءِ حُكْمِ الذِّمَّةِ فَلَا وَجْهَ لِمُطَالَبَةِ الْآخِرَةِ، فَقِيلَ: لَهُ الَّذِي امْتَنَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ كَانَ مُعْسِرًا؛ لِأَنَّهُ سَأَلَ " هَلْ خَلَّفَ وَفَاءً؟ " فَقِيلَ: لَا، وَقَدْ أَجَّلَ الشَّرْعُ دَيْنَ الْمُعْسِرِ أَجَلًا حُكْمِيًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] . ثُمَّ أَجَّلَهُ حَالَ الْحَيَاةِ لَمْ يُوجِبْ بَقَاءَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ حَتَّى شَهِدَ الشَّرْعُ بِارْتِهَانِهِ فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: تِلْكَ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِلْمٌ بِأَنْ كَانَ مُمَاطِلًا بِالدَّيْنِ ثُمَّ افْتَقَرَ بَعْدَ الْمَطْلِ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ فَحُمِلَ الْأَمْرُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي عُرِفَ مِنْهُ وَقَضِيَّةُ الْأَعْيَانِ إذَا اُحْتُمِلَتْ وُقِفَتْ فَلَا يُعْدَلُ عَنْ الْأَصْلِ الْمُسْتَقِرِّ لِأَجْلِهَا، وَالْأَصْلُ الْمُسْتَقِرُّ هُوَ أَنَّ كُلَّ حَقٍّ مُوَسَّعٍ لَا يَحْصُلُ بِتَأْخِيرِهِ فِي زَمَانِ السَّعَةِ وَالْمُهْلَةُ نَوْعُ مَأْثَمٍ بِدَلِيلِ مَنْ مَاتَ قَبْلَ خُرُوجِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لَا يَأْثَمُ بِخِلَافِ مَنْ مَاتَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ مَعَ التَّأْخِيرِ وَالْإِمْكَانِ مِنْ الْأَدَاءِ، وَلِلْقَاضِي فِي الْخِلَافِ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ فِيمَنْ لَهُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ فَمَاتَ قَبْلَ الْفِعْلِ: لَمْ يَأْثَمْ وَتَسْقُطْ بِمَوْتِهِ قَالَ: لِأَنَّهَا لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فَلَا فَائِدَةَ فِي بَقَائِهَا فِي الذِّمَّةِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ لَا يَأْثَمَ، وَالْحَقُّ فِي الذِّمَّةِ كَدَيْنِ مُعْسِرٍ لَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ، وَلَا يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ لِدُخُولِ النِّيَابَةِ لِجَوَازِ الْإِبْرَاءِ وَقَضَاءِ الْغَيْرِ عَنْهُ. وَقِيلَ لَهُ: لَوْ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ لَطُولِبَ بِهَا فِي الْآخِرَةِ

وَلَحِقَهُ الْمَأْثَمُ كَمَا لَوْ أَمْكَنَهُ. فَقَالَ: هَذَا لَا يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ فِي الذِّمَّةِ بِدَلِيلِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ وَالْمُعْسِرِ بِالدَّيْنِ. وَقَالَ أَيْضًا فِي الْفُنُونِ: قَالَ شَافِعِيٌّ فِي مَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ لِوَارِثٍ يُفْضِي إلَى سَدِّ بَابِ الْخُرُوجِ عَنْ الدَّيْنِ: وَمُحَالٌ أَنْ يُوجِبَ اللَّهُ تَعَالَى حَقًّا وَلَا يَجْعَلُ لِلْمُكَلَّفِ مِنْهُ مَخْرَجًا، قَالَ حَنْبَلِيٌّ إذَا أَقَرَّ وَرَدَّ الْحَاكِمُ الْحَنْبَلِيُّ أَوْ الْحَنَفِيُّ قَوْلَهُ فَقَدْ بَذَلَ وُسْعَهُ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ إذَا عَجَزَ عَنْ قَضَائِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَرِيمِ، وَمَنْ بَلَغَ جَهْدَهُ فَلَا تَبِعَةَ عَلَيْهِ فِي تَعْوِيقِ الْحُقُوقِ بِدَلِيلِ الْمُعْسِرِ الْعَازِمِ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ مَتَى اسْتَطَاعَ إذَا مَاتَ قَبْلَ الْيَسَارِ فَعَزْمُهُ عَلَى الْقَضَاءِ قَامَ الْعَزْمُ فِي دَفْعِ مَأْثَمِهِ مَقَامَ الْقَضَاءِ فَلَا مَأْثَمَ. وَكَذَلِكَ مَنْ أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ عَبْدَيْنِ فَلَمَّا أَقَامَ الْغَرِيمُ الشَّهَادَةَ بَعْدَ مَوْتِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ رُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا، وَلَا يُقَالُ بِأَنَّهُ مَأْثُومٌ فِي تَعْوِيقِ الْحَقِّ إذَا كَانَ صَاحِبُ الْحَقِّ رَضِيَ بِشَهَادَتِهِمَا وَمَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ شَهَادَتَهُمَا لَا تُقْبَلُ فَكُلُّ عُذْرٍ لَكَ فِي رَدِّ فِي الشَّهَادَةِ، وَكَوْنُ الْحَقِّ لَا طَرِيقَ لَهُ إلَّا ذَلِكَ هُوَ جَوَابُنَا فِي هَذَا الْإِقْرَارِ انْتَهَى كَلَامُهُ. فَظَاهِرُهُ وَلَوْ فَرَّطَ فِي تَأْخِيرِ الْإِقْرَارِ إلَى الْمَرَضِ وَلَعَلَّهُ لَيْسَ بِمُرَادٍ كَمُعْسِرٍ قَدَرَ عَلَى الْوَفَاءِ فِي وَقْتٍ وَطُولِبَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ قَبْلَ الطَّلَبِ فِي أَظْهَرِ الْوَجْهَيْنِ فَأَخَّرَ حَتَّى افْتَقَرَ ثُمَّ نَدِمَ وَتَابَ. وَقَالَ أَبُو يَعْلَى الصَّغِيرُ فِي مَسْأَلَةِ حَلِّ الدَّيْنِ بِالْمَوْتِ: مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَقِيلٍ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْخَبَرَ إنَّ الشَّهَادَةَ تُكَفِّرُ غَيْرَ الدَّيْنِ قَالَ: هَذَا إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ تَهَاوَنَ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ، وَأَمَّا مَنْ اسْتَدَانَ دَيْنًا وَأَنْفَقَهُ فِي غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا تَبْذِيرٍ ثُمَّ لَمْ يُمْكِنْهُ قَضَاؤُهُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْضِيهِ عَنْهُ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْتَهَى كَلَامُهُ. فَإِنْ حُمِلَ كَلَامُ ابْنِ عَقِيلٍ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَحَمْلُهُ عَلَيْهِ مُرَادُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَمْلِهِ قَضِيَّةَ الَّذِي ضَمِنَ عَلَى الْمَطْلِ لَا عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَى الْوَفَاءِ صَارَ فِيمَنْ تَهَاوَنَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ أَوْ بِالْإِقْرَارِ مِنْهُ وَلَمْ يُطْلَبْ ذَلِكَ مِنْهُ وَجْهَانِ. وَقَالَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ فِي مَسْأَلَةِ صَرْفِ الزَّكَاةِ فِي الْحَجِّ:

الْغَارِمُ الَّذِي لَمْ يَقْدِرْ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ غَيْرُ مُطَالَبٍ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ. فَاعْتَبَرَ الْقُدْرَةَ لَا الْمُطَالَبَةَ فَهُوَ مُوَافِقٌ لِكَلَامِ الْآجُرِّيِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَقَالَ حَفِيدُهُ: تُقْبَلُ تَوْبَةُ الْقَاتِلِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَظْلِمَةِ فَيَغْفِرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بِالتَّوْبَةِ الْحَقَّ الَّذِي لَهُ، وَأَمَّا حُقُوقُ الْمَظْلُومِينَ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُوَفِّيهِمْ إيَّاهَا إمَّا مِنْ حَسَنَاتِ الْمَظَالِمِ أَوْ مِنْ عِنْدِهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ حِكَايَةً عَنْ الْعُلَمَاءِ، فَإِنْ كَانَ الذَّنْبُ مِنْ مَظَالِمِ الْعِبَادِ فَلَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْهُ إلَّا بِرَدِّهِ إلَى صَاحِبِهِ، وَالْخُرُوجِ عَنْهُ عَيْنًا كَانَ، أَوْ غَيْرَهُ إنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَيْهِ فَالْعَزْمُ أَنْ يُؤَدِّيَهُ إذَا قَدَرَ فِي أَعْجَلِ وَقْتٍ وَأَسْرَعِهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِهَذَا وَأَنَّهُ لَا عِقَابَ عَلَيْهِ لِلْعُذْرِ وَالْعَجْزِ، وَقَدْ أَفْتَى بِهَذَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَصْحَابِنَا، وَشَرَطَ الْمَالِكِيُّ فِي جَوَابِهِ أَنْ يَكُونَ اسْتَدَانَ لِمَصْلَحَةٍ لَا سَفَهًا. وَحُكِيَ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ قَالَ مَا مَعْنَاهُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُعَاقِبْهُ فِي الدُّنْيَا بَلْ أَمَرَ بِإِنْظَارِهِ إلَى الْمَيْسَرَةِ فَكَذَلِكَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ ابْنِ عَقِيلٍ الْمُتَقَدِّمُ إنْ كَانَ الْمَالُ مُرَادًا مِنْهُ عَلَى الْعَاجِزِ فَيَكُونُ مِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ مَعَ أَنَّ مَنْ نَظَرَ فِيهِ لَا يَتَوَجَّهُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَالِ وَلَا يَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَهُ ذَلِكَ لِيَتَّفِقَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَلَامِهِ، وَلْيَتَّفِقْ كَلَامُهُ وَكَلَامُ غَيْرِهِ. أَمَّا حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَهُوَ مَا فَهِمَهُ صَاحِبُ الرِّعَايَةِ فَفِيهِ نَظَرٌ وَبُعْدٌ ظَاهِرٌ، وَلِهَذَا ذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي كِتَابِ الِانْتِصَارِ أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ التَّوْبَةِ، وَإِخْرَاجِ الْمَظْلِمَةِ مِنْ يَدِهِ وَقَالَ بَعْدَ هَذَا: وَمَظَالِمُ الْعِبَادِ تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْهَا، وَمَنْ مَاتَ نَادِمًا عَلَيْهَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُجَازِي لِلْمَظْلُومِ عَنْهُ كَمَا وَرَدَ الْخَبَرُ «لَا يَدْخُلُ النَّارَ تَائِبٌ مِنْ ذُنُوبِهِ» وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْإِرْشَادِ، وَمِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا رَدُّ الْمَظْلِمَةِ إلَى مَالِكِهَا إنْ كَانَ بَاقِيًا، أَوْ التَّصَدُّقُ بِهَا إنْ كَانَ مَعْدُومًا وَلَيْسَ لَهُ وَرَثَةٌ. وَتَلْخِيصُ مَا سَبَقَ أَنَّ مَنْ أَخَذَ مَالًا بِغَيْرِ سَبَبٍ مُحَرَّمٍ يَقْصِدُ الْأَدَاءَ وَعَجَزَ إلَى أَنْ مَاتَ فَإِنَّهُ يُطَالَبُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَفِي كَوْنِهِ صَرِيحًا، أَوْ

ظَاهِرًا نَظَرٌ، وَلَمْ أَجِدْ مَنْ صَرَّحَ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنْ الْأَصْحَابِ وَسَبَقَ كَلَامُ الْقَاضِي وَالْآجُرِّيِّ وَابْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي يَعْلَى الصَّغِيرِ وَصَاحِبِ الْمُحَرَّرِ: لَا يُطَالَبُ وَلَيْسَ إنْفَاقُهُ فِي إسْرَافٍ وَتَبْذِيرٍ سَبَبًا فِي الْمُطَالَبَةِ بِهِ خِلَافًا لِلْآجُرِّيِّ مَعَ أَنَّهُ مُطَالَبٌ بِإِنْفَاقِهِ فِي وَجْهٍ غَيْرِ مَنْهِيٍّ عَنْهُ. وَأَمَّا مَنْ أَخَذَهُ بِسَبَبٍ مُحَرَّمٍ وَعَجَزَ عَنْ الْوَفَاءِ وَنَدِمَ وَتَابَ فَهَذَا يُطَالَبُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ وَلَمْ أَجِدْ مَنْ ذَكَرَ خِلَافَ هَذَا مِنْ الْأَصْحَابِ إلَّا مَا فَهِمَهُ صَاحِبُ الرِّعَايَةِ مَعَ أَنَّهُ فَهِمَ مَعَ الْقُدْرَةِ أَيْضًا وَهَذَا غَرِيبٌ بَعِيدٌ لَمْ أَجِدْ بِهِ قَائِلًا، وَإِنْ احْتَجَّ أَحَدٌ لِذَلِكَ بِأَنَّ التَّوْبَةَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى أَدَاءِ الْحَقِّ تَابَ إذَا لَمْ يُؤَدِّهِ؛ وَلِأَنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ الْمُسْتَقِرِّ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ غَصَبَ مِنْهُ كَذَا فَأَقَرَّ بِهِ أُلْزِمَ بِأَدَائِهِ وَأَنَّهُ لَوْ أَجَابَ: تُبْتُ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُنِي أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ بِلَا شَكٍّ وَأَنَّهُ لَوْ قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ لَتَعَطَّلَتْ الْأَحْكَامُ وَبَطَلَتْ الْحُقُوقُ. وَلِأَنَّ غَايَتَهُ أَنَّهُ لَا ذَنْبَ لَهُ. وَمَنْ أَخَذَهُ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ لَا يَمْنَعُ مِنْ طَلَبِهِ بِهِ وَإِلْزَامِهِ بِهِ إجْمَاعًا فَهَذَا أَوْلَى لِظُلْمِهِ، وَإِذَا كَانَتْ تَوْبَةُ الْقَاتِلِ لَا تَمْنَعُ الْقَوَدَ إجْمَاعًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فَالْمَالُ أَوْلَى، وَإِنْ اُحْتُجَّ بِهِ فِي حَقِّ الْعَاجِزِ الْمُفَرِّطِ فِي الْأَدَاءِ فَالْمُرَادُ بِهِ غَيْرُ الْمَالِ بِدَلِيلِ مَا سَبَقَ وَمَا يَأْتِي وَلَكِنْ يَدُلُّ لِلْقَوْلِ فِيمَنْ أَخَذَ مَالًا بِغَيْرِ سَبَبٍ مُحَرَّمٍ مَا سَبَقَ مِنْ خَبَرِ مَيْمُونَةَ وَخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُمَا خَاصَّانِ أَخَصُّ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِمَا فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُمَا، وَإِنْ خَالَفَهُمَا ظَاهِرٌ حُمِلَ عَلَى غَيْرِ مَدْلُولِهِمَا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَوْفِيقًا وَجَمْعًا وَمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْمُسْنَدِ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ أَنْبَأَنَا صَدَقَةُ بْنُ مُوسَى عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ عَنْ قَيْسِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ قَاضِي الْمِصْرَيْنِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيَدْعُو بِصَاحِبِ الدَّيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقِيمُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَقُولُ أَيْ عَبْدِي فِيمَ أَذْهَبْتَ مَالَ النَّاسِ؟ فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ قَدْ عَلِمْتَ أَنِّي لَمْ أُفْسِدْهُ إنَّمَا ذَهَبَ فِي غَرَقٍ، أَوْ حَرَقٍ، أَوْ سَرِقَةٍ، أَوْ وَضِيعَةٍ، فَيَدْعُو اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِشَيْءٍ فَيَضَعُهُ فِي مِيزَانِهِ فَتَرْجَحُ حَسَنَاتُهُ» .

حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ ثنا صَدَقَةُ ثنا أَبُو عِمْرَانَ حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ قَاضِي الْمِصْرَيْنِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَدْعُو اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِصَاحِبِ الدَّيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُوقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ فِيمَ أَخَذْتَ هَذَا الدَّيْنَ؟ وَفِيمَ ضَيَّعْتَ حُقُوقَ النَّاسِ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ إنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي أَخَذْتُهُ فَلَمْ آكُلْ وَلَمْ أَشْرَبْ وَلَمْ أَلْبَسْ وَلَكِنْ أَتَى عَلَيَّ هَكَذَا، إمَّا حَرَقٌ، وَإِمَّا سَرَقٌ، وَإِمَّا وَضِيعَةٌ. فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: صَدَقَ عَبْدِي أَنَا أَحَقُّ مَنْ قَضَى عَنْكَ الْيَوْمَ، فَيَدْعُو اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِشَيْءٍ فَيَضَعُهُ فِي كِفَّةِ مِيزَانِهِ فَتَرْجَحُ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ فَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ» وَلَوْ عُوقِبَ وَعُذِّبَ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ لَكُلِّفَ بِالْمُحَالِ لِعَدَمِ تَفْرِيطِهِ وَتَعَدِّيهِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وَلِأَنَّهُ غَيْرُ آثِمٍ لِمَا تَقَدَّمَ وَكُلُّ مَنْ كَانَ غَيْرَ آثِمٍ كَانَ غَيْرَ مُعَذَّبٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَمْ يَصِحَّ فِي الضَّمَانِ غَيْرُ قِصَّةِ أَبِي قَتَادَةَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهَا تَعَدُّدُ الشَّخْصِ وَهِيَ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ مُحْتَمِلَةٍ وَسَبَقَ فِي الْقِصَّةِ قَوْلُهُ لِأَبِي قَتَادَةَ «الْآنَ بَرَّدْتَ عَلَيْهِ جِلْدَهُ» . وَوَجْهُ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ يُعَاقَبُ وَقَدْ يُعَوِّضُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمَظْلُومَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخَبَرِ وَحَدِيثِ الدَّوَاوِينِ «دِيوَانٌ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا وَهُوَ مَظَالِمُ الْعِبَادِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَحَدِيثُ «مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عَرَضِ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ إنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ» وَهَذَا الْعَاجِزُ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ وَلَمْ يُحَلِّلْهُ صَاحِبُ الْحَقِّ. وَحَدِيثُ «الشَّهِيدُ يُكَفَّرُ عَنْهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا الدَّيْنَ» وَمَا وَرَدَ فِي شَهِيدِ الْبَحْرِ مِنْ زِيَادَةٍ وَالدَّيْنِ فَضَعِيفٌ، وَحَدِيثُ غُفْرَانِ ذَنْبِ الْحَاجِّ بِعَرَفَةَ إلَّا التَّبَعَاتِ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ وَمَا وَرَدَ مِنْ غُفْرَانِ التَّبَعَاتِ وَتَعْوِيضِ أَصْحَابِهَا فَضَعِيفٌ، وَحَدِيثُ «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ» . وَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي بَابِ التَّشْدِيدِ فِي الدَّيْنِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد

الْمَهْرِيُّ أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيَّ سَمِعْتُ أَبَا بُرْدَةَ بْنَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ أَعْظَمَ الذُّنُوبِ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَلْقَاهُ بِهَا عَبْدٌ بَعْدَ الْكَبَائِرِ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهَا أَنْ يَمُوتَ رَجُلٌ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَدَعُ لَهُ قَضَاءً» . كَذَا فِي نُسْخَةٍ " إنَّ أَعْظَمَ " وَفِي نُسْخَةٍ " إنَّ مِنْ أَعْظَمِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيُّ تَفَرَّدَ عَنْهُ سَعِيدٌ فَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ لَا يُعْرَفُ لَكِنْ سَعِيدُ مِنْ الثِّقَاتِ الَّذِينَ رَوَى لَهُمْ الْجَمَاعَةُ. وَاَللَّه أَعْلَمُ، وَقَدْ يُقَالُ: وَالْأَخْبَارُ السَّابِقَةُ عَامَّةٌ وَإِخْرَاجُ هَذَا الْفَرْدِ مِنْهَا يَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَلِأَنَّهُ دَيْنٌ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يُسْقِطُهُ بِدَلِيلِ صِحَّةِ ضَمَانِهِ، وَلَوْ تَبَرَّعَ إنْسَانٌ بِقَضَائِهِ جَازَ لِرَبِّ الدَّيْنِ قَبْضُهُ، وَلِأَنَّ مَنْ ضَمِنَ مُفْلِسًا حَيًّا لَا يَبْرَأُ بِمَوْتِهِ وَلَوْ بَرِئَ الْمَضْمُونُ بَرِئَ الضَّامِنُ وَمَا ثَبَتَ الْأَصْلُ دَوَامُهُ وَاسْتِمْرَارُهُ وَلَمْ يَزُلْ إلَّا بِمُزِيلٍ. وَزَوَالُهُ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ وَلَا تَعْوِيضٍ إجْحَافٌ بِصَاحِبِ الْحَقِّ وَإِضْرَارٌ بِهِ فَوَجَبَ اطِّرَاحُهُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَحَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ ابْنَ مَعِينٍ وَأَبَا دَاوُد وَالنَّسَائِيَّ وَغَيْرَهُمْ ضَعَّفُوا صَدَقَةَ بْنَ مُوسَى وَهُوَ الدَّقِيقِيُّ وَقَيْسُ بْنُ زَيْدٍ لَمْ أَجِدْ مَنْ يَرْوِي عَنْهُ غَيْرَ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ. وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ الْأَزْدِيُّ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَقَاضِي الْمِصْرَيْنِ وَهُمَا الْبَصْرَةُ وَالْكُوفَةُ هُوَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي الْإِمَامُ الْمَشْهُورُ، وَإِنْ صَحَّ هَذَا الْخَبَرُ فَإِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ مَنْ أُصِيبَ فِي مَالِهِ فَقَابَلَ ثَوَابُ الْمُصِيبَةِ حَقَّ صَاحِبِ الْمَالِ فَلِهَذَا خَلَصَ مِنْ تَبِعَتِهِ فِي الْآخِرَةِ بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49] . مِنْ أَنَّ الْخَبَرَ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ سُقُوطُ الْمُطَالَبَةِ عَنْ كُلِّ مَدِينٍ وَلِلَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ بِمَا شَاءَ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَلِأَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ مُوسِرٌ مُكَلَّفٌ فَكُلِّفَ بِالْخَلَاصِ مِنْ الْحَقِّ كَمَا لَوْ أَيْسَرَ فِي الدُّنْيَا، وَيَسَارُهُ إمَّا بِحَسَنَاتِهِ، وَإِمَّا بِأَنْ يُحْمَلَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ عَلَيْهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْخَبَرُ الصَّحِيحُ. وَبِهَذَا يُعْرَفُ ضَعْفُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مِنْ تَكْلِيفِ الْمُحَالِ وَهُوَ أَيْضًا لَزِمَهُ بِفِعْلِهِ وَاخْتِيَارِهِ.

فصل في براءة من رد ما غصبه على ورثة المغصوب منه وبقاء إثم الغصب

وَدَعْوَى أَنَّهُ غَيْرُ آثِمٍ إنْ أُرِيدَ بِوَجْهٍ مَا فَمَمْنُوعٌ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ مِنْ بَعْضِ الْجِهَاتِ فَيُسَلَّمُ، وَلَكِنْ لَا يَنْتُجُ الدَّلِيلُ، وَبَسْطُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ يَطُولُ وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، أَمَّا إنْ أَنْفَقَهُ أَوْ أَتْلَفَهُ مُسْلِمٌ غَيْرُ مُكَلَّفٍ وَمَاتَ مُعْسِرًا غَيْرَ مُكَلَّفٍ لَمْ يُمْكِنْ الْقَوْلُ بِأَنَّ صَاحِبَهُ لَا يُجَازَى عَلَيْهِ وَلَا أَنَّهُ يَتَّبِعُ بِهِ غَيْرَ الْمُكَلَّفِ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى تَكْلِيفِهِ وَدُخُولِهِ النَّارَ بِتَحْمِيلِهِ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِ الْمَالِ. وَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ مُسْلِمًا صَغِيرًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ حَرَقِهِ، وَغَرَقِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَائِبِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَرَاءَةِ مَنْ رَدَّ مَا غَصَبَهُ عَلَى وَرَثَةِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَبَقَاءِ إثْمِ الْغَصْبِ] ِ) قَالَ حَرْبٌ: سُئِلَ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَجُلٍ غَصَبَ رَجُلًا شَيْئًا فَمَاتَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ وَلَهُ وَرَثَةٌ وَنَدِمَ الْغَاصِبُ فَرَدَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ عَلَى وَرَثَتِهِ فَذَهَبَ إلَى أَنَّهُ قَدْ بَرِئَ مِنْ إثْمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَلَمْ يَبْرَأْ مِنْ إثْمِ الْغَصْبِ الَّذِي غَصَبَ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ: أَمَّا إثْمُ الْغَصْبِ فَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ وَقَدْ خَرَجَ مِمَّا كَانَ أَخَذَ. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: لَا يَسْقُطُ حَقُّ الْمَظْلُومِ الَّذِي أُخِذَ مَالُهُ وَأُعِيدَ إلَى وَرَثَتِهِ، بَلْ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الظَّالِمَ بِمَا حَرَمَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي حَيَاتِهِ.

فصل كان له على قوم مال أو أودعهم مالا ثم مات فجحد الذين في أيديهم الأموال لمن ثواب ذلك المال

[فَصْلٌ كَانَ لَهُ عَلَى قَوْمٍ مَالٌ أَوْ أَوْدَعَهُمْ مَالًا ثُمَّ مَاتَ فَجَحَدَ الَّذِينَ فِي أَيْدِيهِمْ الْأَمْوَالُ لِمَنْ ثَوَابُ ذَلِكَ الْمَالِ] (فَصْلٌ) قَالَ بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَسُئِلَ عَنْ رَجُلٍ كَانَ لَهُ عَلَى قَوْمٍ مَالٌ أَوْ أَوْدَعَهُمْ مَالًا ثُمَّ مَاتَ فَجَحَدَ الَّذِينَ فِي أَيْدِيهِمْ الْأَمْوَالُ، لِمَنْ ثَوَابُ ذَلِكَ الْمَالِ قَالَ: إنْ كَانَ أَحَدٌ مِمَّنْ عَلَيْهِ أَوْ فِي يَدِهِ الْوَدِيعَةُ كَانَ قَدْ نَوَى فِي حَيَاةِ الْمَيِّتِ أَنْ لَا يُؤَدِّيَهَا إلَيْهِ فَأَجْرُهَا لِلْمَيِّتِ، وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ جَحَدُوا الْوَرَثَةَ فَأَجْرُهَا لِلْوَرَثَةِ فِيمَا نَرَى. [فَصْلٌ فِي وُجُوب اتِّقَاءِ الصَّغَائِرِ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ] كَانَ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَمْشِي فِي الْوَحْلِ وَيَتَوَقَّى فَغَاصَتْ رِجْلُهُ فَخَاضَ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: هَكَذَا الْعَبْدُ لَا يَزَالُ يَتَوَقَّى الذُّنُوبَ فَإِذَا وَاقَعَهَا خَاضَهَا. ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ «يَا عَائِشَةُ إيَّاكِ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّ لَهَا مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ طَالِبًا.» وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا «إيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ» مُخْتَصَرٌ لِأَحْمَدَ وَقَالَ أَنَسٌ إنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنْ الشَّعَرِ كُنَّا نَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْمُوبِقَاتِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ. وَلَهُمَا وَلِمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمْ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا " إنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا " أَيْ بِيَدِهِ فَذَبَّهُ عَنْهُ.

فصل في التصدق بالمظالم

[فَصْلٌ فِي التَّصَدُّقِ بِالْمَظَالِمِ] قَالَ الْخَلَّالُ: بَابُ إذَا تَصَدَّقَ بِالْمَظَالِمِ فَلَا يُحَابِيَنَّ فِيهِ أَحَدًا قَالَ حَرْبٌ: سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ رَجُلٍ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظَالِمُ لِقَوْمٍ فَمَاتُوا وَأَرَادَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَنْهُمْ وَلَهُ إخْوَانٌ مَحَاوِيجُ وَقَدْ كَانَ يَصِلُهُمْ قَبْلَ هَذَا أَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَيْهِمْ؟ فَكَأَنَّهُ اسْتَحَبَّ أَنْ يُعْطِيَ غَيْرَهُمْ قَالَ: لَا يُحَابِي فِيهَا أَحَدًا وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَرَى كَأَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَهُ عَلَى طَرِيقِ الْمُحَابَاةِ، أَنْ يُحَابِيَهُمْ فَلَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُحَابِهِمْ فَقَدْ تَصَدَّقَ، كَأَنَّهُ عِنْدَهُ قَدْ أَجَازَ مَا فَعَلَ. [فَصْلٌ فِيمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مَالٌ حَلَالٌ وَشُبْهَةٌ] فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ مَالٌ حَلَالٌ وَشُبْهَةٌ فَلْيَخُصَّ بِالْحَلَالِ نَفْسَهُ وَلْيُقَدِّمْ قُوتَهُ وَكُسْوَتَهُ عَلَى أُجْرَةِ الْحَجَّامِ وَالزَّيْتِ وَأَشْجَارِ التَّنُّورِ، وَأَصْلُ هَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كَسْبِ الْحَجَّامِ: «أَعْلِفْهُ نَاضِحَكَ» ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَكَذَا قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: الشُّبُهَاتُ يَنْبَغِي صَرْفُهَا فِي الْأَبْعَدِ عَنْ الْمَنْفَعَةِ فَالْأَبْعَدُ كَحَدِيثِ كَسْبِ الْحَجَّامِ، وَالْأَقْرَبُ مَا دَخَلَ فِي الْبَاطِنِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَنَحْوِهِ، ثُمَّ مَا وَلِيَ الظَّاهِرَ مِنْ اللِّبَاسِ، ثُمَّ مَا سَتَرَ مَعَ الِانْفِصَالِ مِنْ الْبِنَاءِ، ثُمَّ مَا عَرَضَ مِنْ الْمَرْكُوبِ وَنَحْوِهِ.

فصل في حقيقة التوبة وشروطها

[فَصْلٌ فِي حَقِيقَةِ التَّوْبَةِ وَشُرُوطِهَا] وَالتَّوْبَةُ هِيَ: النَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ، وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِهَا دَائِمًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا لِأَجْلِ نَفْعِ الدُّنْيَا أَوْ أَذًى، وَأَنْ لَا تَكُونَ عَنْ إكْرَاهٍ أَوْ إلْجَاءٍ، بَلْ اخْتِيَارًا حَالَ التَّكْلِيفِ، وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ: اللَّهُمَّ إنِّي تَائِبٌ إلَيْكَ مِنْ كَذَا، وَكَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا فِي الْمُسْتَوْعِبِ، فَظَاهِرُ هَذَا اعْتِبَارُ التَّوْبَةِ بِالتَّلَفُّظِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا وَلَمْ أَجِدْ مَنْ صَرَّحَ بِاعْتِبَارِهِمَا وَلَا أَعْلَمُ لَهُ وَجْهًا. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَا ابْنَ آدَمَ إنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلَا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً» فَقَوْلُهُ: ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَّقَ الْغُفْرَانَ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ دَلَّ عَلَى اعْتِبَارِهِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ اسْتَغْفَرَ مِنْ ذُنُوبِهِ تَوْبَةً وَإِلَّا فَالِاسْتِغْفَارُ بِلَا تَوْبَةٍ لَا يُوجِبُ الْغُفْرَانَ قَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ: وَهُوَ تَوْبَةُ الْكَذَّابِينَ، وَلِهَذَا قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: (بَابُ سُقُوطِ الذُّنُوبِ بِالِاسْتِغْفَارِ تَوْبَةً) يُرِيدُ مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَيَغْفِرُ لَهُمْ» لَكِنَّ الِاسْتِغْفَارَ بِلَا تَوْبَةٍ فِيهِ أَجْرٌ كَغَيْرِهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110] . وَالْأَوْلَى وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الشَّرْحِ وَقَدَّمَهُ

فِي الرِّعَايَةِ وَذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْإِرْشَادِ وَزَادَ: وَأَنْ يَكُونَ إذَا ذَكَرَهَا انْزَعَجَ قَلْبُهُ، وَتَغَيَّرَتْ صِفَتُهُ وَلَمْ يَرْتَحْ لِذِكْرِهَا وَلَا يُنَمِّقُ فِي الْمَجَالِسِ صِفَتَهَا فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ تَكُنْ تَوْبَةً، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُعْتَذِرَ إلَى الْمَظْلُومِ مِنْ ظُلْمِهِ مَتَى كَانَ ضَاحِكًا مُسْتَبْشِرًا مُطْمَئِنًّا عِنْدَ ذِكْرِهِ الظُّلْمَ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى عَدَمِ النَّدَمِ، وَقِلَّةِ الْفِكْرَةِ بِالْجُرْمِ السَّابِقِ، وَعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِخِدْمَةِ الْمُعْتَذِرِ إلَيْهِ وَيُجْعَلُ كَالْمُسْتَهْزِئِ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ أَمْ لَا، كَذَا قَالَ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ تَمَكُّنَ الْمُنَازَعَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ ذَلِكَ وَقْتَ النَّدَمِ. وَالْغَرَضُ النَّدَمُ الْمُعْتَبَرُ وَقَدْ وُجِدَ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ تَكَرُّرِهِ كُلَّمَا ذَكَرَ الذَّنْبَ؟ وَإِنَّ عَدَمَ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ النَّدَمِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ اعْتِبَارِهِ، وَعَدَمُ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «النَّدَمُ تَوْبَةٌ» أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ وَهِيَ تَجْدِيدُ النَّدَمِ إذَا ذَكَرَهُ قَوْلُ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرِهِ، مَعَ أَنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ: أَنَّ تَوْبَتَهُ السَّابِقَةَ لَا تَبْطُلُ بِمُعَاوَدَةِ الذَّنْبِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي بُطْلَانِهَا بِالْمُعَاوَدَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ النَّدَمَ تَوْبَةٌ مَعَ شَرْطِ الْعَزْمِ أَنْ لَا يَعُودَ، وَرَدِّ الْمَظْلِمَةِ مِنْ يَدِهِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ: النَّدَمُ مَعَ هَذِهِ الشَّرَائِطِ هُوَ التَّوْبَةُ، وَلَيْسَ فِيهَا شَرْطٌ بَلْ هِيَ بِمَجْمُوعِهَا تَوْبَةٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «النَّدَمُ تَوْبَةٌ» وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: أَجْمَعْنَا عَلَى احْتِيَاجِهَا إلَى الْعَزْمِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ وَلَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ التَّوْبَةُ كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ مِنْ شَرْطِهَا الطَّهَارَةُ، وَلَا تَصِحُّ إلَّا بِهَا وَلَيْسَتْ هِيَ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ هِيَ النَّدَمُ وَالْإِقْلَاعُ عَنْ الذَّنْبِ فَمَنْ ادَّعَى الزِّيَادَةَ عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ اللُّغَةُ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَكَلَامُ الْأَصْحَابِ السَّابِقُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَزْمَ رُكْنٌ، وَالْأَمْرُ فِي هَذَا قَرِيبٌ فَإِنَّهُ مُعْتَبَرٌ عِنْدَهُمْ. وَإِنْ كَفَّ حَيَاءً مِنْ النَّاسِ لَمْ تَصِحَّ، وَلَا تُكْتَبُ لَهُ حَسَنَةً، وَخَالَفَ بَعْضُهُمْ، وَهِيَ التَّوْبَةُ النَّصُوحُ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ قَالَ: نَدَمٌ بِالْقَلْبِ

وَاسْتِغْفَارٌ بِاللِّسَانِ، وَتَرْكٌ بِالْجَوَارِحِ، وَإِضْمَارُ أَنْ لَا يَعُودَ. وَقَالَ الْبَغَوِيّ فِي تَفْسِيرِهِ: قَالَ عُمَرُ، وَأُبَيُّ وَمُعَاذٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ أَنْ يَتُوبَ ثُمَّ لَا يَعُودَ إلَى الذَّنْبِ كَمَا لَا يَعُودُ اللَّبَنُ إلَى الضَّرْعِ كَذَا قَالَ وَالْكَلَامُ فِي صِحَّتِهِ عَنْهُمْ، ثُمَّ لَعَلَّ الْمُرَادَ التَّوْبَةُ الْكَامِلَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهَا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هِيَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ بِاللِّسَانِ، وَيَنْدَمَ بِالْقَلْبِ، وَيُمْسِكَ بِالْبَدَنِ، فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ إضْرَارٌ أَنْ لَا يَعُودَ، وَلَمْ أَجِدْ مَنْ صَرَّحَ بِعَدَمِ اعْتِبَارِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ عُمَرَ أَلَا إنَّ التَّوْبَةَ النَّصُوحَ أَنْ يَتُوبَ الْعَبْدُ مِنْ الذَّنْبِ وَهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ أَنْ لَا يَعُودَ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: نُصُوحًا بِضَمِّ النُّونِ وَهُوَ مَصْدَرٌ مِثْلُ الْقُعُودِ يُقَالُ: نَصَحْتُ لَهُ نُصْحًا وَنَصَاحَةً، وَنُصُوحًا وَقِيلَ: أَرَادَ تَوْبَةَ نُصْحٍ لِأَنْفُسِكُمْ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا قِيلَ هُوَ مَصْدَرٌ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ فَاعِلٍ أَيْ: نَاصِحَةً عَلَى الْمَجَازِ. وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا «التَّوْبَةُ مِنْ الذَّنْبِ أَنْ يَتُوبَ مِنْهُ ثُمَّ لَا يَعُودَ فِيهِ» وَلَعَلَّ الْمُرَادَ إنْ صَحَّ الْخَبَرُ ثُمَّ يَنْوِي أَنْ لَا يَعُودَ فِيهِ. وَقَالَ فِي الشَّرْحِ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «النَّدَمُ تَوْبَةٌ» قِيلَ: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ تَجْمَعُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ: النَّدَمُ بِالْقَلْبِ، وَالِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ، وَإِضْمَارُ أَنْ لَا يَعُودَ، وَمُجَانَبَةُ خُلَطَاءِ السُّوءِ، قَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِرِ فَصْلٍ، وَلَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ مَعَ الْإِقَامَةِ عَلَى مِثْلِهِ مِنْ كَلَامِهِ فِي الرِّعَايَةِ، وَذَكَرَ فِي الرِّعَايَةِ فِي مَكَان آخَرَ أَوْ غَيْرِهَا فِيهِ رِوَايَتَيْنِ وَلَعَلَّ مَنْ اعْتَبَرَهُ يَقُولُ: مَعَ عَدَمِ الْمُجَانَبَةِ يَخْتَلُّ الْعَزْمُ، أَوْ يَقُولُ: الْمُخَالَطَةُ ذَرِيعَةٌ، وَوَسِيلَةٌ إلَى مُوَاقَعَةِ الْمَحْظُورِ وَالذَّرَائِعُ مُعْتَبَرَةٌ، وَلِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ تُشْبِهُ التَّفَرُّقَ فِي قَضَاءِ الْحَجِّ الْفَاسِدِ وَلِهَذَا جَعَلَهَا ابْنُ عَقِيلٍ أَصْلًا لِعَدَمِ الْوُجُوبِ فِي قَضَاءِ الْحَجِّ الْفَاسِدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقَاشِيُّ حَدَّثَنَا وُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ وَعَبْدُ الْكَرِيمِ هُوَ الْجَزَرِيُّ بِلَا شَكٍّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي فَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ أَخْبَرَنِي زِيَادُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلِ بْنِ مُقَرِّنٍ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أَنْتَ سَمِعْتَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «النَّدَمُ تَوْبَةٌ» قَالَ: نَعَمْ وَقَالَ مَرَّةً نَعَمْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «النَّدَمُ تَوْبَةٌ» وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ فَذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ، كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ وَزِيَادٌ وَثَّقَهُ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعُجَيْلِيُّ وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ مَالِكٍ الْجَزَرِيِّ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ غَيْرُ زِيَادِ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَرُوبَةَ حَدَّثَنَا الْمُسَيِّبُ بْنُ وَاضِحٍ حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطَ عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ خَيْثَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «النَّدَمُ تَوْبَةٌ» . أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ حَدَّثَنَا مَحْفُوظُ بْنُ أَبِي ثَوْبَةَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ السَّهْمِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ وُهَيْبٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ سَمِعْتُ حُمَيْدًا الطَّوِيلَ يَقُولُ: قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «النَّدَمُ تَوْبَةٌ» قَالَ: نَعَمْ مَحْفُوظٌ ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ وَلَعَلَّ حَدِيثَهُ حَسَنٌ. وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «كَفَّارَةُ الذَّنْبِ النَّدَامَةُ» وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ الْمُفَتَّنَ التَّوَّابَ» . وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ وَاقِدٍ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ مَوْلًى لِأَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ مَرْفُوعًا «مَا أَصَرَّ مَنْ اسْتَغْفَرَ وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَفِي لَفْظٍ «وَلَوْ فَعَلَهُ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً» وَقَالَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَلَيْسَ إسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ كَذَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَمَوْلَى أَبِي بَكْرٍ لَمْ يُسَمَّ وَالْمُتَقَدِّمُونَ حَالُهُمْ حَسَنٌ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَحْكِي

عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ «إذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا عَبْدِي فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ. ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ. ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ» . وَفِي رِوَايَةٍ «قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ» لَمْ يَقُلْ الْبُخَارِيُّ «اعْمَلْ مَا شِئْتَ وَلَا فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ» وَمَعْنَاهُ مَا دُمْتَ تُذْنِبُ ثُمَّ تَتُوبُ غَفَرْتُ لَكَ وَقَالَ فِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ: التَّوْبَةُ نَدَمُ الْعَبْدِ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ مِثْلِهِ كُلَّمَا ذَكَرَهُ، وَتَكْرَارُ فِعْلِ التَّوْبَةِ كُلَّمَا خَطَرَتْ مَعْصِيَتُهُ بِبَالِهِ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عَادَ مُصِرًّا نَاقِضًا لِلتَّوْبَةِ. وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِ ابْنِ عَقِيلٍ السَّابِقِ لَكِنْ أَبُو الْحُسَيْنِ يَقُولُ: يَكُونُ نَاقِضًا لِلتَّوْبَةِ، وَعِنْدَ ابْنِ عَقِيلٍ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ النَّدَمِ فَلَمْ تُوجَدْ عِنْدَهُ تَوْبَةٌ شَرْعِيَّةٌ. وَبُطْلَانُهَا بِالْمُعَاوَدَةِ أَقْرَبُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ ابْنُ مَسْعُودٍ وَقَوْلُ الصَّحَابَةِ وَالْأَظْهَرُ مَذْهَبًا وَدَلِيلًا أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِذَلِكَ لِمَا سَبَقَ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُصُولِ أَنَّ الْمُظَاهِرَ إذَا عَزَمَ عَلَى الْوَطْءِ رَجَعَ عَنْ تَحْرِيمِهَا بِعَزْمِهِ قَالَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَزْمَ عَلَى مُعَاوَدَةِ الذَّنْبِ مَعَ التَّصْمِيمِ عَلَى التَّوْبَةِ نَقْضٌ لِلتَّوْبَةِ. فَجَعَلَهُ نَاقِضًا لِلتَّوْبَةِ بِالْعَزْمِ لَا بِغَيْرِهِ وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِ السَّابِقِ وَكَلَامِ أَبِي الْحُسَيْنِ ثُمَّ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ يُؤَاخَذُ بِالذَّنْبِ السَّابِقِ الَّذِي تَابَ مِنْهُ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ فَضَعِيفٌ. وَإِنْ أَرَادَ انْتِقَاضَ التَّوْبَةِ وَقْتَ الْعَزْمِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ وَأَنْ يُؤَاخَذَ بِالْعَزْمِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ فَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِأَعْمَالِ الْقُلُوبِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهَا فِي الْفَصْلِ بَعْدَهُ أَوْ الَّذِي يَلِيهِ. وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ بَعْدَ كَلَامِهِ الْمَذْكُورِ فِي الْمُظَاهِرِ قَالَ: فَإِنْ وَطِئَ كَانَ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى عَائِدًا؛ لِأَنَّ فِعْلَ الشَّيْءِ آكَدُ مِنْ الْعَزْمِ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْعَزْمِ هَلْ يُؤَاخَذُ بِهِ الْعَازِمُ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ الْأَفْعَالَ يُؤَاخَذُ بِهَا، وَهَذَا مِنْ ابْنِ عَقِيلٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِبْطَالَ عِنْدَهُ بِالْمُعَاوَدَةِ كَقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَذَا قَالَ فِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ

لَا تَصِحُّ تَوْبَةُ مَنْ نَقَضَ تَوْبَتَهُ ثُمَّ عَزَمَ عَلَى مِثْلِ مَا تَابَ مِنْهُ أَوْ فَعَلَهُ، وَالْأَجْوَدُ فِي الْعِبَارَةِ نَقْضُهَا بِعَزْمِهِ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ فِعْلِهِ. وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى: تَصِحُّ تَوْبَةُ مَنْ نَقَضَ تَوْبَتَهُ عَلَى الْأَقْيَسِ. وَيُعْتَبَرُ لِلتَّوْبَةِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ حَقِّ الْآدَمِيِّ فَيَرُدَّ الْمَغْصُوبَ أَوْ بَدَلَهُ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ نَوَى رَدَّهُ مَتَى قَدَرَ عَلَيْهِ وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ، وَيُمَكِّنُ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ قَوَدٍ عَلَيْهِ وَكَذَا مِنْ حَدِّ الْقَذْفِ، وَالْمُرَادُ إنْ قُلْنَا لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَيُؤَدِّي حَقَّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَسَبَ إمْكَانِهِ. وَلَا يُشْتَرَطُ الْإِقْرَارُ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ. وَالْأَوْلَى لَهُ سَتْرُ نَفْسِهِ إنْ لَمْ يَشْتَهِرْ عَنْهُ وَكَذَا إنْ اشْتَهَرَ عِنْدَ الشَّيْخِ وَعِنْدَ الْقَاضِي الْأَوْلَى الْإِقْرَارُ بِهِ لِيُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ. وَلَا يُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ مِنْ الشِّرْكِ إصْلَاحُ الْعَمَلِ وَكَذَا غَيْرُهُ مِنْ الْمَعَاصِي فِي حُصُولِ الْمَغْفِرَةِ وَكَذَا فِي أَحْكَامِ التَّوْبَةِ فِي قَبُولُ الشَّهَادَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَعَنْهُ يُعْتَبَرُ سُنَّةً قَالَ بَعْضُهُمْ: إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَنْبُهُ الشَّهَادَةَ بِالزِّنَا وَلَمْ يَكْمُلْ عَدَدُ الشُّهُودِ فَإِنَّهُ يَكْفِي مُجَرَّدُ التَّوْبَةِ وَقِيلَ: إنْ فَسَقَ بِفِعْلِهِ وَإِلَّا فَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ وَقِيلَ: يُعْتَبَرُ مَدَى مُدَّةٍ يُعْلَمُ مِنْهَا حَالُهُ بِذَلِكَ وَعَلَى الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ النُّورِ: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} [النور: 5] . أَيْ فِي التَّوْبَةِ، فَيَكُونُ الْإِصْلَاحُ مِنْ التَّوْبَةِ، وَالْعَطْفُ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ ذَكَرَهُ فِي الْمُغْنِي. وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَظْهِرُوا التَّوْبَةَ وَإِنَّ غَيْرَهُ قَالَ: لَمْ يَعُودُوا إلَى قَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ. وَقَالَ أَيْضًا: الْإِصْلَاحُ مِنْ التَّوْبَةِ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ. {إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 160] ، وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا} [النساء: 146]

وَفِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: {إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا} [الفرقان: 70] جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَغْفِرَةِ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالنَّدَمِ وَقَوْلُهُ «الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ» وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَامِدٍ فِي كِتَاب الْأُصُولِ: إنَّهُ يَجِيءُ عَلَى مَقَالَةِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا وُجُودُ أَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، وَلِظَاهِرِ الْآيَةِ {إِلا مَنْ تَابَ} [الفرقان: 70] وَقَوْلُهُ: «مَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ» كَذَا قَالَ وَهُوَ غَرِيبٌ. وَمَنْ صَحَّتْ تَوْبَتُهُ فَهَلْ تُغْفَرُ خَطِيئَتُهُ فَقَطْ أَمْ تُغْفَرُ وَيُعْطَى بَدَلَهَا حَسَنَةً ظَاهِرُ الْأَدِلَّةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْأَوَّلُ وَهُوَ حُصُولُ الْمَغْفِرَةِ خَاصَّةً وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ. وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَاسٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِذُنُوبٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ فَيَغْفِرُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ وَيَضَعُهَا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى» وَمَعْنَاهُ يَضَعُ عَلَيْهِمْ بِكُفْرِهِمْ وَذُنُوبِهِمْ فَيُدْخِلُهُمْ النَّارَ بِذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] وَقَوْلُهُ «وَيَضَعُهَا» أَيْ يَضَعُ عَلَيْهِمْ مِثْلَهَا بِذُنُوبِهِمْ، وَقَدْ قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ وَضَعَ عَلَى الْكُفَّارِ مِثْلَهَا لِكَوْنِهِمْ سَنُّوهَا «وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا» . وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي النَّجْوَى قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ «إنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ وَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، حَتَّى إذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ فَيَقُولُ الْأَشْهَادُ: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] »

مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ قِيلَ كَنَفُهُ هُوَ سَتْرُهُ وَعَفْوُهُ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68] الْآيَةَ فَقِيلَ سَبَبُ نُزُولِهَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ قُلْتُ ثُمَّ أَيُّ؟ فَقَالَ أَنْ تَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَهَا: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68] الْآيَةَ» وَقِيلَ: «إنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا ثُمَّ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: إنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إلَيْهِ لَحَسَنٌ لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَاهُ كَفَّارَةً فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إلَى قَوْلِهِ: {غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 70] » رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] . قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: اخْتَلَفُوا فِي هَذَا التَّبْدِيلِ وَفِي زَمَانِ كَوْنِهِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُبَدِّلُ اللَّهُ شِرْكَهُمْ إيمَانًا، وَقَتْلَهُمْ إمْسَاكًا، وَزِنَاهُمْ إحْصَانًا قَالَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إلَى هَذَا الْمَعْنَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ. (وَالثَّانِي) أَنَّ ذَا يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ قَالَهُ سَلْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ يُبَدِّلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ سَيِّئَاتِ الْمُؤْمِنِ إذَا غَفَرَهَا لَهُ حَسَنَاتٍ حَتَّى إنَّ الْعَبْدَ يَتَمَنَّى أَنْ تَكُونَ سَيِّئَاتُهُ أَكْثَرَ مِمَّا هِيَ. وَعَنْ الْحَسَنِ كَالْقَوْلَيْنِ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: وَدَّ قَوْمٌ

يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا اسْتَكْثَرُوا يَعْنِي: الذُّنُوبَ فَقِيلَ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمْ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَيُؤَكِّدُ هَذَا الْقَوْلَ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا رَجُلٌ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ: اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ وَارْفَعُوا عَنْهُ كِبَارَهَا فَيُعْرَضُ عَلَيْهِ صِغَارُ ذُنُوبِهِ فَيُقَالُ: عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ: نَعَمْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَ وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِ ذُنُوبِهِ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ فَيُقَالُ لَهُ: إنَّ لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً فَيَقُولُ: رَبِّ قَدْ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ لَا أَرَاهَا هَهُنَا فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ» . فَهَذَا الْحَدِيثُ فِي رَجُلٍ خَاصٍّ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرٌ لِلتَّوْبَةِ فَيَجُوزُ أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ هَذَا بِفَضْلِ رَحْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا بِسَبَبٍ مِنْهُ بِتَوْبَتِهِ وَلَا غَيْرِهَا كَمَا يُنْشِئُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْجَنَّةِ خَلْقًا بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِهَذَا الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ لِلْقَوْلَيْنِ وَالْأَوَّلُ تُوَافِقُهُ ظَوَاهِرُ عُمُومِ الْأَدِلَّةِ وَلَا ظُهُورَ فِيهَا لِلْقَوْلِ الثَّانِي فَكَيْفَ يُقَالُ تَبْدِيلٌ خَاصٌّ بِلَا دَلِيلٍ خَاصٍّ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلظَّوَاهِرِ؟ وَلَا يُقَالُ كِلَاهُمَا تَبْدِيلٌ فَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي فَقَدْ قَالَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّ التَّبْدِيلَ لَا عُمُومَ فِيهِ، فَإِذَا قِيلَ فِيهِ بِتَبْدِيلٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ تُوَافِقُهُ ظَوَاهِرُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَانَ أَوَّلَ وَعَلَى أَنَّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِمَنْ شَاءَ اللَّهُ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ أَوْ لِمَنْ عَمِلَ صَالِحًا، فَالْقَوْلُ بِالْعُمُومِ لِكُلِّ تَائِبٍ يَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ. وَفِي الْآيَةِ وَظَوَاهِرِ الْأَدِلَّةِ مَا يُخَالِفُهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَالنَّوَاجِذُ هُنَا الْأَنْيَابُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَقِيلَ: الضَّوَاحِكُ وَالضَّاحِكَةُ السِّنُّ بَيْنَ الْأَنْيَابِ وَالْأَضْرَاسِ وَهِيَ أَرْبَعُ ضَوَاحِكَ. وَقِيلَ: الْأَضْرَاسُ كَمَا هُوَ الْأَشْهَرُ فِي إطْلَاقِ النَّوَاجِذِ فِي اللُّغَةِ، وَلِلْإِنْسَانِ أَرْبَعَةُ نَوَاجِذَ فِي أَقْصَى الْأَسْنَانِ بَعْدَ الْأَرْحَاءِ، وَيُقَالُ: ضِرْسُ الْحُلُمِ بِضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِهَا؛ لِأَنَّهُ يَنْبُتُ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَكَمَالِ الْعَقْلِ.

فصل حكم توبة الكافر من المعاصي دون الكفر والعكس

[فَصْلٌ حُكْمُ تَوْبَةِ الْكَافِرِ مِنْ الْمَعَاصِي دُونَ الْكُفْرِ وَالْعَكْسِ] ِ) وَلَا تَصِحُّ تَوْبَةُ كَافِرٍ مِنْ مَعْصِيَةٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ الْوَالِبِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} [إبراهيم: 26] لَا يَقْبَلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَعَ الشِّرْكِ عَمَلًا. وَقِيلَ: تَصِحُّ مِنْ غَيْرِ الْكُفْرِ بِالْقَوْلِ وَالنِّيَّةِ، وَمِنْهُ بِالْإِسْلَامِ، وَيُغْفَرُ لَهُ بِالْإِسْلَامِ الْكُفْرُ الَّذِي تَابَ مِنْهُ، وَهَلْ تُغْفَرُ لَهُ الذُّنُوبُ الَّتِي فَعَلَهَا فِي حَالِ الْكُفْرِ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا فِي الْإِسْلَامِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ (أَحَدُهُمَا) يُغْفَرُ لَهُ الْجَمِيعُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] أَيْ: يَنْتَهُوا عَنْ كُفْرِهِمْ، وَلِأَنَّهُ انْدَرَجَ فِي ضِمْنِ الْمُحَرَّمِ الْأَكْبَرِ فَسَقَطَ بِسُقُوطِهِ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ يَنْدَرِجُ وَيَسْقُطُ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَيْهِ وَعَدَمِ تَوْبَتِهِ مِنْهُ؟ وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَلَمْ أَجِدْهُ صَرِيحًا فِي كَلَامِهِمْ، وَقَدْ سَبَقَ كَلَامُ ابْنِ حَامِدٍ فِي الْفَصْلِ قَبْلَهُ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الْغُفْرَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الْخَبَرَ إلَّا حُجَّةً لِمَنْ اعْتَبَرَ لِصِحَّةِ التَّوْبَةِ أَعْمَالًا صَالِحَةً، وَإِنَّهُ يَجِيءُ عَلَى مَقَالَةِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَشْهَرَ خِلَافُهُ. (وَالثَّانِي) لَا نَقَلَهُ الْبَغَوِيّ عَنْ أَحْمَدَ رَوَاهُ الْخَلَّالُ وَهُوَ ظَاهِرُ مَا اخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ النُّقُولُ وَالنُّصُوصُ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، إنَّهُ إنْ تَابَ مِنْ جَمِيعِ مَعَاصِيهِ غُفِرَ لَهُ، وَإِنْ أَصَرَّ عَلَيْهَا لَمْ يُغْفَرْ لَهُ. وَإِنْ كَانَ ذَاهِلًا عَنْ الْإِصْرَارِ وَالْإِقْلَاعِ إمَّا نَاسِيًا، أَوْ ذَاكِرًا غَيْرَ مُرِيدٍ لِلْفِعْلِ وَلَا لِلتَّرْكِ غُفِرَ لَهُ أَيْضًا وَالْحَدِيثَانِ يَأْتَلِفَانِ عَلَى هَذَا يَعْنِي حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ

وَقَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ يَا عَمْرُو «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ أُنَاسًا قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ: أَمَّا مَنْ أَحْسَنَ مِنْكُمْ فِي الْإِسْلَامِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِهَا، وَمَنْ أَسَاءَ أُخِذَ بِعَمَلِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ» قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: فَالْإِسْلَامُ لِتَضَمُّنِهِ التَّوْبَةَ الْمُطْلَقَةَ يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ الْمُطْلَقَةَ إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ مَا يُنَافِي هَذَا الِاقْتِضَاءَ وَهُوَ الْإِصْرَارُ كَمَا أَنَّهُ يُوجِبُ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ مَا لَمْ يُنَاقِضْهُ كُفْرٌ مُتَّصِلٌ، فَالْإِصْرَارُ فِي الذُّنُوبِ كَالِاعْتِقَادِ فِي التَّصْدِيقِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذِهِ دَعْوَى تَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ بَلْ الْإِسْلَامُ إنَّمَا يَتَضَمَّنُ التَّوْبَةَ مِنْ نَقِيضِهِ وَهُوَ الشِّرْكُ، وَالْكُفْرُ لَا تَوْبَةً مُطْلَقَةً، حَتَّى يُوجِبَ مَغْفِرَةً مُطْلَقَةً وَلَوْ تَضَمَّنَ تَوْبَةً مُطْلَقَةً فَإِنَّمَا يُوجِبُ مَغْفِرَةً مُطْلَقَةً، إذَا لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ الْمُحَرَّمُ، أَمَّا إذَا ذَكَرَهُ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهُ بَلْ تَوَقَّفَ فِيهِ فَلَمْ يَنْدَمْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُقْلِعْ عَنْهُ فَكَيْفَ يَسْقُطُ؟ يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّهُ قَالَ: كَمَا أَنَّهُ يُوجِبُ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ. وَهَذَا يَكْفِي إذَا لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ بَعْضُ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ فَلَوْ ذَكَرَهُ وَتَوَقَّفَ فِيهِ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهُ كَانَ ذَلِكَ مَانِعًا عَنْ عَمَلِ الْمُقْتَضِي عَمَلَهُ، فَلَا أَثَرَ لِلْفَرْقِ بِأَنَّ الْمَانِعَ هُنَا رَفَعَ عَمَلَ الْمُقْتَضِي بِالْكُلِّيَّةِ وَهُنَاكَ لَمْ يَرْفَعْهُ مُطْلَقًا فَلَيْسَ هُوَ نَظِيرُهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَأْثِيرُ التَّوَقُّفِ فِي الْأَمْرِ الْخَاصِّ وَهَذَا حَاصِلٌ، وَهَذَا مُتَوَجِّهٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: فَالْإِسْلَامُ لِتَضَمُّنِهِ التَّوْبَةَ الْمُطْلَقَةَ يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا مَا يُنَافِي هَذَا الِاقْتِضَاءَ وَهُوَ تَوَقُّفُهُ فِي بَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ عِنْدَ ذِكْرِهَا فَلَمْ يَنْدَمْ وَلَمْ يُقْلِعْ، كَمَا أَنَّ الْإِسْلَامَ يُوجِبُ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ مَا لَمْ يُنَاقِضْهُ تَوَقُّفٌ فِي بَعْضِ الْمُكَفِّرَاتِ عِنْدَ ذِكْرِهِ فَلَمْ يَنْدَمْ وَلَمْ يُقْلِعْ، وَيَكُونُ هَذَا دَلِيلًا لِلْقَوْلِ الثَّانِي وَمُوَافِقًا لِقَوْلِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ إنَّهُ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأُصُولُ. هَذَا إنْ ثَبَتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَتَضَمَّنُ تَوْبَةً مُطْلَقَةً وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ، وَلِمَنْ قَالَ بِالْغُفْرَانِ أَنْ يَحْمِلَ خَبَرَ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى النِّفَاقِ فَيُسْلِمُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا، وَإِذَا

أَسْلَمَ الْكَافِرُ وَكَانَ قَدْ فَعَلَ خَيْرًا وَإِحْسَانًا فَهَلْ يُكْتَبُ لَهُ فِي إسْلَامِهِ مَا عَمِلَهُ فِي كُفْرِهِ؟ يَتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ إنْ قُلْنَا: يُخَفَّفُ عَنْ الْكَافِرِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ بِمَا عَمِلَهُ فِي كُفْرِهِ، أَوْ ثَبَتَ خَبَرُ أَبِي سَعِيدٍ الْآتِي كُتِبَ لَهُ ذَلِكَ فِي إسْلَامِهِ وَإِلَّا احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ. وَحَكَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَوْلَيْنِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ حَكِيمٍ وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ أَنَّهُ «سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أُمُورٍ كَانَ يَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَهَلْ لِي فِيهَا مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ لَهُ: أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ» وَإِنْ لَمْ يُكْتَبْ لَهُ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ سَبَبٌ فِي حُصُولِ الْخَيْرِ وَإِسْلَامِهِ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا «إذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ كَتَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ كُلَّ حَسَنَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا، وَمَحَا عَنْهُ كُلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا، وَكَانَ عَمَلُهُ بَعْدُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ. وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرِيبِ حَدِيثِ مَالِكٍ وَرَوَاهُ عَنْهُ مِنْ تِسْعِ طُرُقٍ، وَثَبَتَ فِيهَا كُلِّهَا أَنَّ الْكَافِرَ إذَا حَسُنَ إسْلَامُهُ يُكْتَبُ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ كُلُّ حَسَنَةٍ عَمِلَهَا فِي الشِّرْكِ، وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ وَلَمْ يَصِلْ سَنَدَهُ وَلَيْسَ عِنْدَهُ «كَتَبَ اللَّهُ كُلَّ حَسَنَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا» وَوَصَلَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «إذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إسْلَامَهُ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ» وَقَدْ فُسِّرَ حُسْنُ الْإِسْلَامِ هُنَا بِالْإِسْلَامِ ظَاهِرًا، وَبَاطِنًا لَا يَكُونُ مُنَافِقًا وَلَعَلَّ يُؤَيِّدُ مَنْ قَالَ بِمِثْلِهِ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَدْ يَقُولُ مَنْ قَالَ بِحُسْنِ الْإِسْلَامِ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ التَّوْبَةَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ

فِي الْكُفْرِ أَنْ يَقُولَ: حُسْنُ الْإِسْلَامِ هُنَا أَخَصُّ وَأَيْضًا بِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ لِمُضَاعَفَةِ الْحَسَنَاتِ وَيَقُولُ: هَذَا أَخَصُّ مِنْ الظَّوَاهِرِ فِي الْمُضَاعَفَةِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ فَهُوَ أَوْلَى لَكِنْ لَا أَعْرِفُهُ قِيلَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَلَا يَجُوزُ لَوْمُ التَّائِبِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ قَالَ وَإِذَا أَظْهَرَ التَّوْبَةَ أَظْهِرْ لَهُ الْخَيْرَ.

فصل في ميل الطبع إلى المعصية، والنية، والعزم، والإرادة لها

[فَصْلٌ فِي مَيْلِ الطَّبْعِ إلَى الْمَعْصِيَةِ، وَالنِّيَّةِ، وَالْعَزْمِ، وَالْإِرَادَةِ لَهَا] وَمَا يُعْفَى عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ) قَالَ فِي الرِّعَايَةِ وَمَيْلُ الطَّبْعِ إلَى الْمَعْصِيَةِ بِدُونِ قَصْدِهَا لَيْسَ إثْمًا فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ قَصَدَ الْمَعْصِيَةَ أَثِمَ، وَإِنْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ فِعْلٌ، وَلَا قَوْلٌ. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: حَدِيثُ النَّفْسِ يَتَجَاوَزُ اللَّهُ عَنْهُ إلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ فَهُوَ إذَا صَارَ نِيَّةً وَعَزْمًا وَقَصْدًا وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ لِلْفِعْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ تُوجِبُ وُقُوعَ الْمَقْدُورِ فَإِذَا كَانَ فِي الْقَلْبِ حُبُّ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَابِتًا اسْتَلْزَمَ مُوَالَاةَ أَوْلِيَائِهِ وَمُعَادَاةَ أَعْدَائِهِ {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] . {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 81] . فَهَذَا الِالْتِزَامُ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ. وَمِنْ جِهَةِ ظَنِّ انْتِفَاءِ اللَّازِمِ غَلِطَ غَالِطُونَ كَمَا غَلِطَ آخَرُونَ فِي جَوَازِ وُجُودِ إرَادَةٍ جَازِمَةٍ مَعَ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ بِدُونِ الْفِعْلِ حَتَّى تَنَازَعُوا هَلْ يُعَاقَبُ عَلَى الْإِرَادَةِ بِلَا عَمَلٍ؟ قَالَ: وَقَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ وَبَيَّنَّا أَنَّ الْهِمَّةَ الَّتِي لَمْ يُقْرَنْ بِهَا فِعْلُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْهَامُّ لَيْسَتْ إرَادَةً جَازِمَةً وَأَنَّ الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ لَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ مَعَهَا مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ وَالْعَفْوُ وَقَعَ عَمَّنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ، وَلَمْ يَعْمَلْهَا لَا عَمَّنْ أَرَادَ، وَفَعَلَ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ وَعَجَزَ عَنْ قِيَامِ مُرَادِهِ كَاَلَّذِي أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ فَقَاتَلَهُ حَتَّى قُتِلَ أَحَدُهُمَا فَإِنَّ هَذَا يُعَاقَبُ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ، وَفَعَلَ الْمَقْدُورَ مِنْ الْمُرَادِ. هَذَا كَلَامُهُ. وَفِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ لِابْنِ شِهَابٍ الْعُكْبَرِيِّ الْعَوْدُ الْمُوجِبُ لِلْكَفَّارَةِ فِي الظِّهَارِ هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ. فَإِنْ قِيلَ: الْعَزْمُ هُوَ حَدِيثُ النَّفْسِ وَذَلِكَ مَعْفُوٌّ

عَنْهُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا» قِيلَ: لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ بِحَدِيثِ النَّفْسِ بِانْفِرَادِهِ وَإِنَّمَا يُوجِبُهَا بِالظِّهَارِ بِشَرْطِ الْعَزْمِ عَلَى الْوَطْءِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى الْخِلَافُ فِي الصَّبِيِّ الشَّهِيدِ: نِيَّةُ الْمَعْصِيَةِ وَاعْتِقَادُهَا مَعْفُوٌّ عَنْهُ مَا لَمْ يَفْعَلْهَا، وَجَزَمَ جَمَاعَةٌ فِيمَا إذَا فَكَّرَ الصَّائِمُ فَأَنْزَلَ أَنَّهُ يَأْثَمُ عَلَى النِّيَّةِ وَيُثَابُ عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ مَدَحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِينَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَجَاءَ النَّهْيُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ التَّفَكُّرِ فِي ذَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْأَمْرُ بِالتَّفَكُّرِ فِي الْآيَةِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَقْدُورًا عَلَيْهَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا ذَلِكَ، وَأَمَّا هَلْ يُفْطِرُ بِذَلِكَ إذَا أَنْزَلَ؟ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَوْ أَمْذَى الْأَشْهَرُ أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ عَمَلًا بِالْأَصْلِ وَلَا نَصَّ فِيهِ، وَلَا إجْمَاعَ، وَهُوَ دُونَ الْمُبَاشَرَةِ وَتَكْرَارِ النَّظَرِ عَلَى مَا لَا يَخْفَى فَيَمْتَنِعُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِمَا. زَادَ صَاحِبُ الْمُغْنِي وَالْمُحَرَّرِ وَيُخَالِفُ ذَلِكَ فِي التَّحْرِيمِ إنْ تَعَلَّقَ بِأَجْنَبِيَّةٍ، زَادَ صَاحِبُ الْمُغْنِي أَوْ الْكَرَاهَةُ إنْ كَانَ فِي زَوْجَةٍ، كَذَا قَالَا، وَلَا أَظُنُّ مَنْ قَالَ يُفْطِرُ بِذَلِكَ كَأَبِي حَفْصٍ الْبَرْمَكِيِّ وَابْنِ عَقِيلٍ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ يَسْلَمُ ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ وَجَزَمَ بِهِ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى أَظُنُّهُ أَوَّلَ كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّهُ لَوْ اسْتَحْضَرَ عِنْدَ جِمَاعِ زَوْجَتِهِ صُورَةَ أَجْنَبِيَّةٍ مُحَرَّمَةٍ أَنَّهُ يَأْثَمُ وَيَتَوَجَّهُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ صَاحِبِ الْمُغْنِي وَالْمُحَرَّرِ نِيَّةً مُحَرَّمَةً تَعَلَّقَتْ بِأَجْنَبِيَّةٍ عَارِيَّةً عَنْ فِعْلٍ مَعَ أَنَّ فِيهِ نَظَرًا. وَأَمَّا فِي الْمُغْنِي فَاحْتَجَّ أَوَّلًا عَلَى عَدَمِ الْفِطْرِ بِقَوْلِهِ «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ» فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ لَكِنَّ حَمْلَهُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِالْخَبَرِ الْعَفْوَ فِي عَدَمِ الْفِطْرِ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُوَافَقَةِ، وَالصَّوَابِ وَقَدْ لَا يُشْكِلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: يُخَالِفُهُ فِي التَّحْرِيمِ إنْ تَعَلَّقَ بِأَجْنَبِيَّةٍ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمُحَرَّرِ قَدْ وَافَقَهُ فِي هَذَا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَحْتَجَّ بِهَذَا الْخَبَرِ، وَلَا مَنَعَ التَّأْثِيمَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْفِكْرَةُ الْغَالِبَةُ فَلَا إثْمَ بِهَا وَلَا فِطْرَ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي قَوْله تَعَالَى:

{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] فَإِنْ قِيلَ هَلْ يُؤَاخَذُ الْإِنْسَانُ إنْ أَرَادَ الظُّلْمَ بِمَكَّةَ وَلَمْ يَفْعَلْهُ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إذَا هَمَّ بِذَلِكَ فِي الْمُحَرَّمِ خَاصَّةً عُوقِبَ. هَذَا مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَإِنَّهُ قَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا هَمَّ بِخَطِيئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَعْمَلْهَا، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا هَمَّ بِقَتْلِ مُؤْمِنٍ عِنْدَ الْبَيْتِ وَهُوَ بِعَدَنَ أَبْيَنَ أَذَاقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الدُّنْيَا مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إنَّ الرَّجُلَ يَهُمُّ بِالْخَطِيئَةِ بِمَكَّةَ وَهُوَ بِأَرْضٍ أُخْرَى فَتُكْتَبُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ تُضَاعَفُ السَّيِّئَاتُ بِمَكَّةَ كَمَا تُضَاعَفُ الْحَسَنَاتُ. وَسُئِلَ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَلْ تُكْتَبُ السَّيِّئَةُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ؟ فَقَالَ: لَا إلَّا بِمَكَّةَ لِتَعْظِيمِ الْبَلَدِ، وَأَحْمَدُ عَلَى هَذَا يَرَى فَضِيلَةَ الْمُجَاوَرَة بِهَا. (وَالثَّانِي) أَنَّ مَعْنَى {وَمَنْ يُرِدْ} [الحج: 25] مَنْ يَعْمَلُ وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: هَذَا قَوْلُ سَائِرِ مَنْ حَفِظْنَا عَنْهُ انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ. وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ إذَا نَوَى الْخِيَانَةَ فِي الْوَدِيعَةِ لَا يَضْمَنُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ» وَلِأَنَّهُ لَمْ يَخُنْ فِيهَا بِقَوْلٍ، وَلَا فِعْلٍ كَمَا لَوْ لَمْ يَنْوِ، وَالْمُرَادُ كَمَا لَوْ لَمْ يَنْوِ فِي عَدَمِ الضَّمَانِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الضَّمَانُ، وَفِيهِ وَجْهٌ يَضْمَنُ بِذَلِكَ، وَمِثْلُهُ نِيَّةُ الْمُلْتَقِطِ الْخِيَانَةَ. أَمَّا لَوْ نَوَى حَالَ الِالْتِقَاطِ بِأَنْ الْتَقَطَ قَاصِدًا لِلتَّمْلِيكِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ نِيَّةً مُجَرَّدَةً لِاقْتِرَانِهَا بِالْفِعْلِ. وَذَكَرَ الْأَصْحَابُ أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ بِقَلْبِهِ لَمْ يَقَعْ وَلَوْ أَشَارَ بِإِصْبَعِهِ لِعَدَمِ اللَّفْظِ، وَاحْتَجُّوا بِالْخَبَرِ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ خِلَافًا لِابْنِ سِيرِينَ

، وَالزُّهْرِيِّ، وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي كِتَابِ الْمُعْتَمَدِ وَقَالَهُ غَيْرُهُ: وَلِلْعَبْدِ قُدْرَةٌ عَلَى مَسَاعِي قَلْبِهِ. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ إذَا حَدَّثَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ صَرَفَ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ، وَصَرْفُهُ عَنْ نَفْسِهِ يَدُلُّ عَلَى قُدْرَتِهِ قَالَ: الْقَاضِي وَلِلْقَلْبِ أَفْعَالٌ سِوَى حَدِيثِ النَّفْسِ بِالْفِعْلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] . قَالَ وَقَدْ يُؤَاخَذُ الْإِنْسَانُ بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الْقَلْبِ نَحْوِ إرَادَةِ الْعَزْمِ وَالرِّضَى بِالْفِعْلِ، وَالسُّخْطِ بِهِ، وَالِاخْتِيَارِ لَهُ، وَالنِّيَّةِ عَلَيْهِ، وَمِثْلِ الْحَسَدِ، وَالطَّمَعِ، وَتَعْلِيقِ الْقَلْبِ بِمَا دُونَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالنِّفَاقِ وَالرِّيَاءِ وَالْإِعْجَابِ، وَأَمَّا مَا لَا يُؤَاخَذُ بِهِ فَهُوَ كَالْخَوَاطِرِ وَارِدَةً عَلَيْهِ مِمَّا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَتِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ، وَيَأْتِي قَرِيبًا كَلَامُ الشَّيْخِ، عَبْدِ الْقَادِرِ فِي رُكُونِ الْقَلْبِ إلَى غَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف: 42] . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: عُقُوبَةٌ لَهُ عَلَى تِلْكَ الْكَلِمَةِ فَاسْتَعَانَ بِمَخْلُوقٍ أَيْ بِعَدَدِ السِّنِينَ الَّتِي كَانَ لَبِثَهَا، وَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَمَذْهَبُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ أَنَّ مَنْ عَزَمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِقَلْبِهِ وَوَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَيْهَا أَثِمَ فِي اعْتِقَادِهِ وَعَزْمِهِ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْهَمِّ، وَالْعَزْمِ قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَخَالَفَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَأَخَذُوا بِظَاهِرِ الْأَحَادِيثِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: مَذْهَبُ عَامَّةِ السَّلَفِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ لِلْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِأَعْمَالِ الْقُلُوبِ لَكِنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ هَذَا الْعَزْمَ يُكْتَبُ سَيِّئَةً، وَلَيْسَتْ السَّيِّئَةُ الَّتِي هَمَّ بِهَا لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْمَلْهَا، وَقَطَعَهُ عَنْهَا قَاطِعٌ غَيْرُ

خَوْفِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْإِنَابَةِ لَكِنَّ نَفْسَ الْإِصْرَارِ وَالْعَزْمِ مَعْصِيَةٌ فَكُتِبَتْ مَعْصِيَةً فَإِذَا عَمِلَهَا كُتِبَتْ مَعْصِيَةً ثَانِيَةً، فَإِنْ تَرَكَهَا خَشْيَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كُتِبَتْ حَسَنَةً كَمَا فِي الْحَدِيثِ «إنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّائِي» فَصَارَ تَرْكُهُ لَهَا لِخَوْفِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمُجَاهَدَتُهُ نَفْسَهُ الْأَمَّارَةَ بِالسُّوءِ فِي ذَلِكَ وَعِصْيَانُهُ هَوَاهُ حَسَنَةً، فَأَمَّا الْهَمُّ الَّذِي لَا يُكْتَبُ فَهِيَ الْخَوَاطِرُ الَّتِي لَا تُوَطَّنُ النَّفْسُ عَلَيْهَا وَلَا يَصْحَبُهَا عَقْدٌ وَلَا نِيَّةٌ وَلَا عَزْمٌ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ خِلَافًا فِيمَا إذَا تَرَكَهَا لِغَيْرِ خَوْفِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بَلْ لِخَوْفِ النَّاسِ هَلْ تُكْتَبْ حَسَنَةً؟ قَالَ: لَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى تَرْكِهَا الْحَيَاءُ وَهَذَا ضَعِيفٌ. هَذَا كَلَامُهُ. (وَجَرَّائِي) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَبِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ مَعْنَاهُ مِنْ أَجْلِي. وَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً» وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ عَرَفَ دَلِيلَ الْقَوْلَيْنِ مَنْ يَرَى الْمُؤَاخَذَةَ عَلَى أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَمَنْ يَرَى عَدَمَهَا مِمَّا سَبَقَ مَنْ لَا يَرَى الْمُؤَاخَذَةَ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي الْخَبَرَ» وَبِحَدِيثِ الْهَمِّ بِالسَّيِّئَةِ. وَقَدْ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ الْحَرَمِ: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] . فَخَصَّهُ بِذَلِكَ. وَمَنْ يَرَى الْمُؤَاخَذَةَ فَقَدْ يُجِيبُ عَنْ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ إمَّا بِأَنَّ عَمَلَ الْقَلْبِ عَمَلٌ فَيَدْخُلُ فِي اللَّفْظِ، أَوْ يَقُولُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مَحِلِّ النِّزَاعِ بِعُمُومِهِ فَيُخَصُّ بِأَدِلَّتِنَا. وَعَنْ الْخَبَرِ الثَّانِي بِأَنَّهُ لَا تَصْرِيحَ فِيهِ، وَإِنْ سُلِّمَ بِظُهُورِهِ تُرِكَ بِأَدِلَّتِنَا. وَعَنْ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إمَّا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ {وَمَنْ يُرِدْ} [الحج: 25] أَيْ يَعْمَلُ كَمَا سَبَقَ أَوْ بِأَنَّهُ خَصَّهُ لِلْعَذَابِ الْخَاصِّ وَهُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ لَا أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمُؤَاخَذَةِ الْمُطْلَقَةِ بَلْ خَصَّهُ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْمُؤَاخَذَةِ الْخَاصَّةِ. وَمَنْ يَرَى الْمُؤَاخَذَةَ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]

وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 19] . وَبِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَحْرِيمِ الْحَسَدِ وَنَحْوِهِ مِنْ النِّفَاقِ وَالرِّيَاءِ. وَمَنْ لَا يَرَى الْمُؤَاخَذَةَ قَدْ يُجِيبُ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّا نَقُولُ بِهِ وَهُوَ الظَّنُّ الَّذِي اقْتَرَنَ بِهِ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ، ثُمَّ لَوْ كَانَ خِلَافَ الظَّاهِرِ فَلِمَا فِيهِ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَدِلَّتِنَا، وَعَنْ الثَّانِيَةِ بِأَنَّ الْقَوْلَ مُرَادٌ فِيهَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 19] فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الْحَدُّ وَلَا يَجِبُ إلَّا بِالْقَوْلِ وَأَمَّا الْحَدُّ فَهُوَ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ تَعُمُّ الْبَلْوَى بِوُقُوعِهِ فَاحْتِيجَ إلَى زِيَادَةِ رَدْعٍ وَهُوَ الْمُؤَاخَذَةُ بِمُجَرَّدِهِ. وَذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْحَسَدِ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ إلَى مَنْ عَمِلَ بِمُقْتَضَى التَّسَخُّطِ عَلَى الْقَدَرِ أَوْ يَنْتَصِبُ لِذَمِّ الْمَحْسُودِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكْرَهَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ. وَهَذَا مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ، وَذَكَرَ قَوْلَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: غَمِّهِ فِي صَدْرِكَ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّكَ مَا لَمْ تَعْتَدَّ بِهِ يَدًا وَلِسَانًا، وَعَلَيْهِ أَنْ يَكْرَهَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ قَالَ: وَفِي الْحَدِيثِ «ثَلَاثٌ لَا يَنْجُو مِنْهُنَّ أَحَدٌ الْحَسَدُ وَالظَّنُّ وَالطِّيَرَةُ، وَسَأُحَدِّثُكُمْ بِالْمَخْرَجِ مِنْ ذَلِكَ إذَا حَسَدْتَ فَلَا تَبْغِ، وَإِذَا ظَنَنْتَ فَلَا تُحَقِّقْ، وَإِذَا تَطَيَّرَتْ فَامْضِ» انْتَهَى، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا الْخَبَرَ الْأَخِيرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ وَالْقَوْلِ بِهِ وَذَلِكَ فِي النُّسْخَةِ الْوُسْطَى مِنْ الْآدَابِ بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا. قَالَ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْجِعَابِيِّ قَالَ: لَا تَشْتَغِلْ بِالْحَسَدِ وَاصْبِرْ عَلَيْهِمْ فَقَدْ حَدَّثُونَا عَنْ ابْنِ أَخِي الْأَصْمَعِيِّ عَنْ عَمِّهِ قَالَ: الْحَسَدُ دَاءٌ مُنَصِّفٌ يَعْمَلُ فِي الْحَاسِدِ أَكْثَرَ مِمَّا يَعْمَلُ فِي الْمَحْسُودِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ وَيَتَوَجَّهُ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ الْمَحْسُودَ مَعَ مَا لَهُ مِنْ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ. قَالَ

ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ افْتَقَدْتُ الْأَخْلَاقَ فَإِذَا أَشَدُّهَا وَبَالًا عَلَى صَاحِبِهَا الْحَسَدُ فَإِنَّهُ التَّأَذِّي بِمَا يَتَجَدَّدُ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ فَكُلَّمَا تَلَذَّذَ الْمَحْسُودُ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى تَأَذَّى الْحَاسِدُ وَتَنَغَّصَ فَهُوَ ضِدٌّ لِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى سَاخِطٌ بِمَا قَسَمَهُ مُتَمَنٍّ زَوَالَ مَا مَنَحَهُ خَلْقَهُ، فَمَتَى يَطِيبُ بِهَذَا عَيْشٌ وَنِعَمٌ تَنْثَالُ انْثِيَالًا؟ وَهَذَا الْمُدَبِّرُ لَا يَزَالُ بِأَفْعَالِ اللَّهِ مُتَسَخِّطًا وَمَا زَالَ أَرْحَمَ النَّاسِ لِلنَّظَرِ فِي عَوَاقِبِهِمْ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا النَّزْعُ وَحَشْرَجَةُ الرُّوحِ فَكَيْفَ بِمُقَدِّمَاتِ الْمَوْتِ مِنْ الْبِلَى وَالضَّنَى فَمَنْ شَهِدَ هَذَا فِيهِمْ لَمْ يَحْسُدْهُمْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا النِّفَاقُ فِي الْقَوْلِ أَوْ الْعَمَلِ فَلِتَأْثِيرِهِ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ شَرْعًا وَلِهَذَا الشَّكِّ مَانِعٌ فِي حُصُولِهِ وَوُجُودِهِ وَأَمَّا الرِّيَاءُ فَإِنَّمَا يَكُونُ فِي الْقَوْلِ أَوْ الْعَمَلِ فَأَثَّرَ لِاقْتِرَانِهِ بِأَحَدِهِمَا.

فصل وصية الإمام أحمد ولده بنية الخير

[فَصْلٌ وَصِيَّةُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَلَدَهُ بِنِيَّةِ الْخَيْرِ] وَصِيَّةُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَلَدَهُ بِنِيَّةِ الْخَيْرِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لِأَبِيهِ يَوْمًا أَوْصِنِي يَا أَبَتِ، فَقَالَ " يَا بُنَيَّ انْوِ الْخَيْرَ فَإِنَّكَ لَا تَزَالُ بِخَيْرٍ مَا نَوَيْتَ الْخَيْرَ ". وَهَذِهِ وَصِيَّةٌ عَظِيمَةٌ سَهْلَةٌ عَلَى الْمَسْئُولِ سَهْلَةُ الْفَهْمِ وَالِامْتِثَالِ عَلَى السَّائِلِ، وَفَاعِلُهَا ثَوَابُهُ دَائِمٌ مُسْتَمِرٌّ لِدَوَامِهَا وَاسْتِمْرَارَهَا، وَهِيَ صَادِقَةٌ عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ الْمَطْلُوبَةِ شَرْعًا سَوَاءٌ تَعَلَّقَتْ بِالْخَالِقِ أَوْ بِالْمَخْلُوقِ، وَأَنَّهَا يُثَابُ عَلَيْهَا وَلَمْ أَجِدْ فِي الثَّوَابِ عَلَيْهَا خِلَافًا قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ: مَا هَمَّ بِهِ مِنْ الْقَوْلِ الْحَسَنِ وَالْعَمَلِ الْحَسَنِ فَإِنَّمَا يُكْتَبُ لَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِذَا صَارَ قَوْلًا وَعَمَلًا كُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ إلَى سَبْعِمِائَةٍ، وَذَلِكَ لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ فِي الْهَمِّ. وَيَلْزَمُ مِنْ الْعَمَلِ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ تَرْكُ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ الْمَذْمُومَةِ شَرْعًا، وَأَنَّ مَنْ عَمِلَهَا لَمْ يَبْقَ فِي حِرْزٍ مِنْ اللَّهِ وَعِصْمَتِهِ، وَقَدْ وَقَعَ فِيمَا يُخَافُ عَلَيْهِ فِيهِ مِنْ الشَّرِّ وَالْعَذَابِ، وَدَلَّ هَذَا النَّصُّ عَلَى الْمُعَاقَبَةِ عَلَى أَعْمَالِ الْقُلُوبِ الْمَذْمُومَةِ، وَهَكَذَا قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْآتِي قَبْلَ فُصُولِ تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ: إنْ أَحْبَبْتَ أَنْ يَدُومَ اللَّهُ لَكَ عَلَى مَا تُحِبُّ فَدُمْ لَهُ عَلَى مَا يُحِبُّ. وَأَمَّا إنْ لَمْ يَنْوِ خَيْرًا وَلَا شَرًّا فَهَذَا يَبْعُدُ خُلُوُّ عَاقِلٍ عَنْهُ. ثُمَّ نِيَّةُ الْخَيْرِ مِنْهَا مَا يَجِبُ بِلَا شَكٍّ فَقَدْ فَعَلَ مُحَرَّمًا، فَيَالَهَا مِنْ وَصِيَّةٍ مَا أَشَدَّ وَقْعَهَا وَمَا أَعْظَمَ نَفْعَهَا، فَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ الْعَمَلَ بِهَا. وَالتَّوْفِيقَ لَهَا، وَلِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ آمِينَ. فَمِثْلُ هَذَا تَكُونُ وَصَايَا أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قِيلَ نِيَّةُ الْمَرْءِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ وَأَشْرَفُ مِنْ عَمَلِهِ لِاعْتِبَارِهَا فِيهِ بِخِلَافِ الْعَكْسِ. وَقِيلَ أَيْضًا النِّيَّةُ سَبَقَتْ الْعَمَلَ. وَهَذَا وَاضِحٌ صَحِيحٌ، وَسَيَأْتِي

فِي الدُّعَاءِ قُبَيْلَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُصْحَفِ وَالْقِرَاءَةِ وَالْكَلَامِ فِي أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَهَلْ يَكُونُ أَجْرُ مَنْ نَوَى الْخَيْرَ أَوْ وِزْرُ مَنْ نَوَى الشَّرَّ عَمِلَ شَيْئًا مَعَهَا أَوْ لَا إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْعَمَلِ كَامِلًا؟ ذُكِرَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْفِقْهِ فِي بَابِ صَلَاةِ الْمَرِيضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَفِي حَوَاشِي الْمُنْتَقَى فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ.

فصل هل الحدود كفارة مطلقا أم بشرط التوبة

[فَصْلٌ هَلْ الْحُدُودُ كَفَّارَةٌ مُطْلَقًا أَمْ بِشَرْطِ التَّوْبَةِ] وَمَنْ لَمْ يَنْدَمْ عَلَى مَا حُدَّ بِهِ لَمْ يَكُنْ حَدُّهُ تَوْبَةً. ذَكَرَهُ فِي الرِّعَايَةِ، وَذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ابْنُ عَقِيلٍ قَالُوا هُوَ مُصِرٌّ وَالْحَدُّ عُقُوبَةٌ لَا كَفَّارَةٌ {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] وَاسْتَدَلُّوا بِآيَةِ الْمُحَارَبَةِ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ يَكُونُ الْحَدُّ مُسْقِطًا لِإِثْمِ ذَلِكَ الذَّنْبِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَتُهُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَمَنْ لَقِيَهُ مُصِرًّا غَيْرَ تَائِبٍ مِنْ الذُّنُوبِ الَّتِي قَدْ اسْتَوْجَبَ بِهَا الْعُقُوبَةَ فَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ، وَمَنْ لَقِيَهُ كَافِرًا عَذَّبَهُ وَلَمْ يَغْفِرْ لَهُ» وَنَقَلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ الْحِمْصِيُّ عَنْ أَحْمَدَ نَحْوَ هَذَا إلَّا أَنَّهُ قَالَ «فَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ إذَا تُوُفِّيَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ» وَلَمْ يَذْكُرُوا مَنْ لَقِيَهُ كَافِرًا إلَى آخِرِهِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ لِأَصْحَابِهِ «تُبَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَصَابَ مِنْكُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعُوقِبَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَتُهُ، وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَسَتَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ فَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ» قَالَ فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ وَسَبَقَ قَرِيبًا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي النَّجْوَى وَقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ «سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ» فَهَذَا لِمَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ. وَلِأَحْمَدَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا فِي الدُّنْيَا فَعُوقِبَ بِهِ فَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يُثَنِّيَ عُقُوبَتَهُ عَلَى عَبْدِهِ، وَمَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَفَا اللَّهُ عَنْهُ فَاَللَّهُ تَعَالَى أَكْرَمُ أَنْ يَعُودَ فِي شَيْءٍ عَفَا عَنْهُ» وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: غَرِيبٌ وَلَمْ

فصل في صحة توبة العاجز عما حرم عليه من قول وفعل

أَجِدْ عَنْهُمْ " وَعَفَا اللَّهُ عَنْهُ ". وَأَمَّا آيَةُ الْمُحَارَبَةِ فَإِنَّمَا فِيهَا لَهُ عَذَابٌ فِي الْآخِرَةِ لَكِنْ عَلَى مَاذَا؟ فَلَيْسَ فِيهَا، وَنَحْنُ نَقُول بِهَا لَكِنْ عَلَى إصْرَارِهِ وَعَدَمِ تَوْبَتِهِ لَا عَلَى ذَنْبٍ حُدَّ عَلَيْهِ لِمَا سَبَقَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ الْحُدُودُ كَفَّارَةٌ اسْتِدْلَالًا بِهَذَا الْحَدِيثِ يَعْنِي حَدِيثَ عُبَادَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ وَقَّفَ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا أَدْرِي الْحُدُودَ كَفَّارَةً.» . كَذَا قَالَ وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ إنْ صَحَّ فَمَا سَبَقَ أَصَحُّ مِنْهُ وَفِي هَذَا زِيَادَةُ عِلْمٍ فَيَتَعَيَّنُ الْقَوْلُ بِهَا. [فَصْلٌ فِي صِحَّةِ تَوْبَةِ الْعَاجِزِ عَمَّا حُرِّمَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ] وَتَصِحُّ تَوْبَةُ مَنْ عَجَزَ عَمَّا حُرِّمَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ كَتَوْبَةِ الْأَقْطَعِ عَنْ السَّرِقَةِ وَالزَّمِنِ عَنْ السَّعْيِ إلَى حَرَامٍ وَالْمَجْبُوبِ عَنْ الزِّنَا وَمَقْطُوعِ اللِّسَانِ عَنْ الْقَذْفِ، وَالْمُرَادُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَا تَابَ مِنْهُ كَانَ قَدْ وَقَعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ التَّوْبَةُ مِنْ عَزْمِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لَوْ قَدَرَ عَلَيْهَا. وَلَا تَصِحُّ تَوْبَةُ غَيْرِ عَاصٍ، كَذَا وَجَدْتُهُ فِي كَلَامِ الْأَصْحَابِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ فِي الْغَنِيَّةِ: التَّوْبَةُ فَرْضُ عَيْنٍ فِي حَقِّ كُلِّ شَخْصٍ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا أَحَدٌ مِنْ الْبَشَرِ لِأَنَّهُ إنْ خَلَا عَنْ مَعْصِيَةِ الْجَوَارِحِ فَلَا يَخْلُو عَنْ الْهَمِّ بِالذَّنْبِ بِالْقَلْبِ، وَإِنْ خَلَا فَلَا يَخْلُو عَنْ وَسْوَاسِ الشَّيْطَانِ بِإِيرَادِ الْخَوَاطِرِ الْمُفْتَرِقَةِ الْمُذْهِلَةِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنْ خَلَا فَلَا يَخْلُو عَنْ غَفْلَةٍ وَقُصُورٍ فِي الْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَبِصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَلِكُلِّ حَالٍ طَاعَاتٌ وَذُنُوبٌ وَحُدُودٌ وَشُرُوطٌ، فَحِفْظُهَا طَاعَةٌ، وَتَرْكُهَا مَعْصِيَةٌ، وَالْغَفْلَةُ عَنْهَا ذَنْبٌ.

فَيَحْتَاجُ إلَى تَوْبَةٍ وَهُوَ الرُّجُوعُ عَنْ التَّعْوِيجِ الَّذِي وَجَدَ إلَى سَنَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي شُرِعَ لَهُ فَالْكُلُّ مُفْتَقِرٌ إلَى تَوْبَةٍ وَإِنَّمَا يَتَفَاوَتُونَ فِي الْمَقَادِيرِ، فَتَوْبَةُ الْعَوَامّ مِنْ الذُّنُوبِ، وَتَوْبَةُ الْخَوَاصِّ مِنْ الْغَفْلَةِ، وَتَوْبَةُ خَاصِّ الْخَاصِّ مِنْ رُكُونِ الْقَلْبِ إلَى سِوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا قَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ تَوْبَةُ الْعَوَامّ مِنْ الذُّنُوبِ وَتَوْبَةُ الْخَوَاصِّ مِنْ الْغَفْلَةِ، وَكَمَا قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ النُّورِيُّ التَّوْبَةُ أَنْ يَتُوبَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سِوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَذَكَرَ كَلَامًا كَثِيرًا. وَسَبَقَ قَرِيبًا فِي الْعَزْمِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ أَنَّ تَعْلِيقَ الْقَلْبِ بِغَيْرِ اللَّهِ مُحَرَّمٌ، وَيَأْتِي فِي أَوَّلِ الزُّهْدِ خَبَرٌ يَتَعَلَّقُ بِهَذَا، وَظَاهِرُ كَلَامِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ صِحَّةُ التَّوْبَةِ مِنْ كُلِّ مَا حَصَلَتْ فِيهِ الْمُخَالَفَةُ أَوْ أَدْنَى غَفْلَةٍ وَإِنْ لَمْ يَأْثَمْ وَلَعَلَّ هَذَا الْقَوْلَ أَقْوَى وَهُوَ مَعْنَى مَا اخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَغَيْرُهُ وَلَعَلَّهُ مَعْنَى كَلَامِ مُجَاهِدٍ مَنْ لَمْ يَتُبْ إذَا أَصْبَحَ وَأَمْسَى فَهُوَ مِنْ الظَّالِمِينَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا لَا يُسَمَّى مَعْصِيَةً وَلَا ذَنْبًا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ نَصٌّ فِيمَا يَأْثَمُ بِهِ وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَصٍّ وَأَنَّهُ يَرِدُ لِلتَّأْكِيدِ وَأَنَّ مِنْهُ قَوْلَ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْأَذَانِ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا» وَذَكَرَ غَيْرُهُ قَوْلَ عَمَّارِ مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَّذِي يَشُكُّ فِيهِ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ طَعَامُ الشَّيْخِ مُبَاحٌ لِلْمُرِيدِ وَطَعَامُ الْمُرِيدِ حَرَامٌ فِي حَقِّ الشَّيْخِ لِصَفَاءِ حَالِهِ وَعُلُوِّ رُتْبَتِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّ السَّلَفَ لَمْ يُطْلِقُوا الْحَرَامَ إلَّا عَلَى مَا عُلِمَ تَحْرِيمُهُ قَطْعًا. قَالَ وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ هَلْ يُطْلَقُ الْحَرَامُ عَلَى مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ رِوَايَتَيْنِ وَسَبَقَ فِي أَوَائِلِ فُصُولِ التَّوْبَةِ الْأَخْبَارُ فِي التَّوْبَةِ عُمُومًا وَمَنْ تَرَكَ التَّوْبَةَ الْوَاجِبَةَ مُدَّةً مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا وَالْعِلْمِ بِوُجُوبِهَا لَزِمَتْهُ التَّوْبَةُ مِنْ تَرْكِ التَّوْبَةِ تِلْكَ الْمُدَّةَ.

فصل في التوبة من البدعة المفسقة والمكفرة وما اشترط فيها

[فَصْلٌ فِي التَّوْبَةِ مِنْ الْبِدْعَةِ الْمُفَسِّقَةِ وَالْمُكَفِّرَةِ وَمَا اُشْتُرِطَ فِيهَا] وَمَنْ تَابَ مِنْ بِدْعَةٍ مُفَسِّقَةٍ أَوْ مُكَفِّرَةٍ صَحَّ إنْ اعْتَرَفَ بِهَا وَإِلَّا فَلَا. قَالَ فِي الشَّرْحِ: فَأَمَّا الْبِدْعَةُ فَالتَّوْبَةُ مِنْهَا بِالِاعْتِرَافِ بِهَا وَالرُّجُوعِ عَنْهَا وَاعْتِقَادِ ضِدَّ مَا كَانَ يَعْتَقِدُ مِنْهَا قَالَ فِي الرِّعَايَةِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مَنْ كَفَرَ بِبِدْعَةٍ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ إنْ اعْتَرَفَ بِهَا وَإِلَّا فَلَا، وَقِيلَ إنْ كَانَ دَاعِيَةً لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْخِلَافِ فِي آخِرِ مَسْأَلَةٍ هَلْ تُقْبَلُ تَوْبَةُ الزِّنْدِيقِ. قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ فِي الرَّجُلِ يُشْهَدُ عَلَيْهِ بِالْبِدْعَةِ فَيَجْحَدُ لَيْسَتْ لَهُ تَوْبَةٌ إنَّمَا التَّوْبَةُ لِمَنْ اعْتَرَفَ. فَأَمَّا مَنْ جَحَدَ فَلَا تَوْبَةَ لَهُ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ وَإِذَا تَابَ الْمُبْتَدِعُ يُؤَجَّلُ سَنَةً حَتَّى تَصِحَّ تَوْبَتُهُ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ أَنَّ الْقَوْمَ نَازَلُوهُ فِي صَبِيغٍ بَعْدَ سَنَةٍ فَقَالَ جَالِسُوهُ وَكُونُوا مِنْهُ عَلَى حَذَرٍ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَغَيْرَهَا فَظَاهِرُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ قَبُولُ تَوْبَتِهِ مِنْهَا بَعْد الِاعْتِرَافِ وَالْمُجَانَبَةِ لِمَنْ كَانَ يُقَارِنُهُ وَمُضِيِّ سَنَةٍ، ثُمَّ ذَكَرَ رِوَايَةً ثَانِيَةً أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ وَاخْتَارَهُ ابْنُ شَاقِلَا وَاحْتَجَّ لِاخْتِيَارِهِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَرَوَى أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ احْتَجَبَ التَّوْبَةَ عَنْ كُلِّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ» . وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَهَذَا الْقَوْلُ الْجَامِعُ لِلْمَغْفِرَةِ لِكُلِّ ذَنْبٍ لِلتَّائِبِ مِنْهُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ هُوَ الصَّوَابُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَإِنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ اسْتَثْنَى بَعْضَ الذُّنُوبِ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ إنَّ تَوْبَةَ الدَّاعِيَةِ إلَى الْبِدَعِ لَا تُقْبَلُ بَاطِنًا لِلْحَدِيثِ الْإِسْرَائِيلِيِّ الَّذِي فِيهِ " وَكَيْفَ مَنْ أَضْلَلْتَ؟ "

وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يَتُوبُ عَلَى أَئِمَّةِ الْكُفْرِ الَّذِينَ هُمْ أَعْظَمُ مِنْ أَئِمَّةِ الْبِدَعِ انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْإِرْشَادِ الرَّجُلُ إذَا دَعَا إلَى بِدْعَةٍ ثُمَّ نَدِمَ عَلَى مَا كَانَ وَقَدْ ضَلَّ بِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ وَمَاتُوا فَإِنَّ تَوْبَتَهُ صَحِيحَةٌ إذَا وُجِدَتْ الشَّرَائِطُ وَيَجُوزُ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُ وَيَقْبَلَ تَوْبَتَهُ وَيُسْقِطَ ذَنْبَ مَنْ ضَلَّ بِهِ بِأَنْ يَرْحَمَهُ وَيَرْحَمَهُمْ وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا لِبَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَهُوَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَاقِلَا وَهُوَ مَذْهَبُ الرَّبِيعِ بْنِ نَافِعٍ وَأَنَّهَا لَا تُقْبَلُ ثُمَّ احْتَجَّ بِحَدِيثِ الْإِسْرَائِيلِيِّ وَغَيْرِهِ وَقَالَ لَا نَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مُطَالَبًا بِمَظَالِمِ الْآدَمِيِّينَ وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّوْبَةِ، كَالتَّوْبَةِ مِنْ السَّرِقَةِ وَقَتْلِ النَّفْسِ وَغَصْبِ الْأَمْوَالِ صَحِيحَةٌ مَقْبُولَةٌ، وَالْأَمْوَالُ وَالْحُقُوقُ لِلْآدَمِيِّ لَا تَسْقُطُ، وَيَكُونُ هَذَا الْوَعِيدُ رَاجِعًا إلَى ذَلِكَ، وَيَكُونُ نَفْيُ الْقَبُولُ رَاجِعًا إلَى الْقَبُولِ الْكَامِلِ وَقَالَ هُوَ مَأْزُورٌ بِضَلَالِهِمْ وَهُمْ مَأْزُورُونَ بِأَفْعَالِهِمْ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي أَوَّلِ فُصُولِ التَّوْبَةِ.

فصل في قبول التوبة ما لم ير التائب ملك الموت أو يغرغر

[فَصْلٌ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ مَا لَمْ يَرَ التَّائِبُ مَلَكَ الْمَوْتِ أَوْ يُغَرْغِرْ] وَتُقْبَلُ مَا لَمْ يُعَايِنْ التَّائِبُ الْمَلَكَ وَرَوَى ابْن مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ نَصْرِ بْنِ حَمَّادٍ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ، عَنْ مُوسَى بْنِ كَرَدْمِ وَهُوَ مَجْهُولٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قِيسٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَتَى تَنْقَطِعُ مَعْرِفَةُ الْعَبْدِ مِنْ النَّاسِ قَالَ: إذَا عَايَنَ» وَقِيلَ مَا دَامَ مُكَلَّفًا كَذَا قَالَ فِي الرِّعَايَةِ وَقِيلَ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ؛ لِأَنَّ الرُّوحَ تُفَارِقُ الْقَلْبَ قَبْلَ الْغَرْغَرَةِ فَلَا تَبْقَى لَهُ نِيَّةٌ وَلَا قَصْدٌ صَحِيحٌ. فَإِنْ جُرِحَ جُرْحًا مُوحِيًا صَحَّتْ تَوْبَتُهُ، وَالْمُرَادُ مَعَ ثَبَاتِ عَقْلِهِ لِصِحَّةِ وَصِيَّةِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَاعْتِبَارِ كَلَامِهِمَا. وَذَكَرَ فِي الرِّعَايَةِ قَوْلًا: لَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ مُطْلَقًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِكَلَامِهِ وَلَعَلَّهُ أَرَادَ مَا ذَكَرَهُ فِي التَّرْغِيبِ مَنْ قُطِعَ بِمَوْتِهِ كَقَطْعِ حَشْوَتِهِ وَغَرِيقٌ وَمُعَايِنٌ كَمَيِّتٍ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ وَغَيْرُهُ أَنَّ حُكْمَ مَنْ ذُبِحَ أَوْ أُبِينَتْ حَشْوَتُهُ وَهِيَ أَمْعَاؤُهُ لَا خَرْقُهَا وَقَطْعُهَا فَقَطْ كَمَيِّتٍ. وَقَالَ فِي الْكَافِي تَصِحُّ وَصِيَّةُ مَنْ لَمْ يُعَايِنْ الْمَوْتَ وَإِلَّا لَمْ تَصِحَّ قَالَ لِأَنَّهُ لَا قَوْلَ لَهُ، وَالْوَصِيَّةُ قَوْلٌ وَلَعَلَّهُ أَرَادَ مَلَكَ الْمَوْتِ فَيَكُونُ كَالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ فِي فَتَاوِيهِ إنْ خَرَجَتْ حَشْوَتُهُ وَلَمْ تَبِنْ ثُمَّ مَاتَ وَلَدُهُ وَرِثَهُ وَإِنْ أُبِينَتْ فَالظَّاهِرُ يَرِثُهُ لِأَنَّ الْمَوْتَ زُهُوقُ النَّفْسِ وَخُرُوجُ الرُّوحِ وَلَمْ يُوجَدْ. وَلِأَنَّ الطِّفْلَ يَرِثُ وَيُورَثُ بِمُجَرَّدِ اسْتِهْلَالِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَدُلُّ عَلَى حَيَاةٍ أَثْبَتَ مِنْ حَيَاةِ هَذَا، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا اعْتِبَارُ كَلَامِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ اعْتَبَرَهُ بِالطِّفْلِ الَّذِي اسْتَهَلَّ لَكِنْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي حُكْمِ الْمَيِّتِ مَعَ بَقَاءِ رُوحِهِ مُطْلَقًا وَهُوَ خِلَافُ كَلَامِهِمْ فِي الْجِنَايَاتِ لَكِنَّهُ ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ فِي الْإِرْثِ فِي الْغَرْقَى وَالْهَدْمَى. وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي مِيرَاثِ الْحَمْلِ أَنَّ الْحَيَوَانَ

يَتَحَرَّكُ بَعْدَ ذَبْحِهِ شَدِيدًا وَهُوَ كَمَيِّتٍ وَالْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْجِنَايَاتِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ مَا لَمْ تَبْلُغْ رُوحُهُ حُلْقُومَهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الشَّيْءِ الَّذِي يَتَغَرْغَرُ بِهِ الْمَرِيضُ، وَالْغَرْغَرَةُ أَنْ يُجْعَلَ الْمَشْرُوبُ فِي الْفَمِ وَيُرَدَّدَ إلَى أَصْلِ الْحَلْقِ وَلَا يُبْلَعُ، وَمِنْهُ لَا تُحَدِّثْهُمْ بِمَا يُغَرْغِرُهُمْ أَيْ لَا تُحَدِّثْهُمْ بِمَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى فَهْمِهِ فَيَبْقَى فِي أَنْفُسِهِمْ لَا يَدْخُلُهَا، كَمَا يَبْقَى الْمَاءُ فِي الْحَلْقِ عِنْدَ الْغَرْغَرَةِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ ابْنُ حُزَمٍ: اتَّفَقُوا أَنَّ مَنْ قَرُبَتْ نَفْسُهُ مِنْ الزُّهُوقِ فَمَاتَ لَهُ مَيِّتٌ أَنَّهُ يَرِثُهُ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى النُّطْقِ فَأَسْلَمَ فَإِنَّهُ مُسْلِمٌ يَرِثُهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَهْلِهِ وَأَنَّهُ إنْ شَخَصَ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْتِ إلَّا نَفَسٌ وَاحِدٌ فَمَاتَ مَنْ أَوْصَى لَهُ بِوَصِيَّةٍ فَإِنَّهُ قَدْ اسْتَحَقَّهَا فَمَنْ قَتَلَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ قِيدَ بِهِ، وَلَعَلَّ مُرَادَهُ أَسْلَمَ وَلَمْ تَبْلُغْ الرُّوحُ الْحُلْقُومَ مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ ظَاهِرُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الصَّدَقَةِ «وَلَا تُمْهِلْ حَتَّى إذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ» الْخَبَرُ الْمَشْهُورُ وَقَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي هَذَا الْخَبَرِ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ حِكَايَةً عَنْ الْخَطَّابِيِّ: الْمُرَادُ قَارَبَتْ بُلُوغَ الْحُلْقُومَ إذْ لَوْ بَلَغَتْهُ حَقِيقَةً لَمْ تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ وَلَا صَدَقَتُهُ وَلَا شَيْءٌ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالْخَبَرُ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ الْمُرَادُ قَرِيبَ وَفَاتِهِ حَضَرَتْ دَلَائِلُهَا وَذَلِكَ قَبْلَ الْمُعَايَنَةِ وَالنَّزْعِ وَلَوْ كَانَ فِي حَالِ الْمُعَايَنَةِ وَالنَّزْعِ لَمَا نَفَعَهُ الْإِيمَانُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} [النساء: 18] . وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَبْلَ الْمُعَايَنَةِ مُحَاوَرَتُهُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى الْحَدِيثِ جَعَلَ الْحُضُورَ

هُنَا عَلَى حَقِيقَةِ الِاحْتِضَارِ وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجَا بِقَوْلِهِ ذَلِكَ حِينَئِذٍ أَنْ تَنَالَهُ الرَّحْمَةُ بِبَرَكَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ الْقَاضِي وَلَيْسَ هَذَا صَحِيحًا. وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْبَلُ تَوْبَةَ عَبْدِهِ أَوْ قَالَ يَغْفِرُ لِعَبْدِهِ مَا لَمْ يَقَعْ الْحِجَابُ قِيلَ وَمَا وُقُوعُ الْحِجَابِ؟ قَالَ تَخْرُجُ النَّفْسُ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ نُعَيْمٍ تَفَرَّدَ عَنْهُ مَكْحُولٌ قَالَ بَعْضُهُمْ لَا نَدْرِي مَنْ هُوَ؟ قَالَ الْبُخَارِيُّ وَرَوَى عَنْهُ مَكْحُولٌ فِي الشَّامِيِّينَ. وَلِأَحْمَدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا «إنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ وَعِزَّتِكَ يَا رَبِّ لَا أَبْرَحُ أُغْوِي عِبَادَكَ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ، فَقَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: لَا أَزَالُ أَغْفِرُ مَا اسْتَغْفَرُونِي» . قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء: 17] إنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّوْبَةُ فِي الصِّحَّةِ وَلَا يَصِحُّ هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ وَاسْمُهُ بَاذَامُ وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُمْ مُعَايَنَةُ مَلَكِ الْمَوْتِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَمَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ وَهِيَ رِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْوَالِي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ الْمُرَادُ بِهِ التَّوْبَةُ قَبْلَ الْمَوْتِ. وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} [النساء: 18] أَنَّهُ السَّوْقُ، وَقِيلَ مُعَايَنَةُ الْمَلَائِكَةِ لِقَبْضِ الرُّوحِ. وَيُرْوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَاعَةٍ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَرِدْ أَنَّ السَّاعَةَ ضَابِطٌ إنَّمَا أَرَادَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ نَفْيَ مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ {مِنْ قَرِيبٍ} [النساء: 17] وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ لَعَنَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَمَّا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90] .

قَالَ تَعَالَى: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91] وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ أَنَّ فِرْعَوْنَ جَنَحَ إلَى التَّوْبَةِ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ وَمُعَايَنَةِ الْمَلَائِكَةِ وَأَضَاعَهَا فِي وَقْتِهَا. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 96] {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس: 97] يَعْنِي حِينَ لَا يَنْفَعُهُمْ. {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ} [يونس: 98] . رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ أَيْ لَمْ تَكُنْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ. وَذَكَرَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ لَوْلَا بِمَعْنَى هَلَّا وَأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ. وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّ الْمَعْنَى وَقَوْمُ يُونُسَ وَأَنْكَرَهُ الْفَرَّاءُ، وَقِيلَ الِاسْتِثْنَاءُ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس: 97] . فَيَكُونُ مُتَّصِلًا، وَذَكَرَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ الْقَرْيَةِ وَالْقَوْمُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْقَرْيَةِ، وَقِيلَ مُتَّصِلٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَهْلُ الْقَرْيَةِ، وَقِيلَ هَذَا مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَصَّ بِهِ قَوْمَ يُونُسَ، وَقِيلَ لِأَنَّ الْعَذَابَ لَمْ يُبَاشِرْهُمْ بَلْ دَنَا مِنْهُمْ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ، وَقِيلَ لِصِدْقِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى عَنْ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 85] أَيْ عَايَنُوا الْعَذَابَ. {سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} [غافر: 85] .

فصل قبول التوبة إلى طلوع الشمس من مغربها

[فَصْلٌ قَبُولُ التَّوْبَةِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا] رَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ. وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» . وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ مَرْفُوعًا «بَابٌ مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ مَسِيرَةُ عَرْضِهِ أَرْبَعُونَ أَوْ سَبْعُونَ سَنَةً خَلَقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مَفْتُوحًا لِلتَّوْبَةِ لَا يُغْلَقُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. وَلِمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ، فَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إيمَانِهَا خَيْرًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا « {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام: 158] قَالَ: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ وَلَمْ يَرْفَعْهُ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا حَدٌّ لِقَبُولِ التَّوْبَةِ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «ثَلَاثَةٌ إذَا خَرَجْنَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدَّجَّالُ، وَدَابَّةُ الْأَرْضِ» فَهَذَا الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ آخِرَ الثَّلَاثَةِ خُرُوجًا فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا سَبَقَ. وَقَالَ ابْن هُبَيْرَةَ فِيهِ أَنَّ حُكْمَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي أَنَّ نَفْسًا لَا يَنْفَعُهَا إيمَانُهَا الْحُكْمُ فِي طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا كَذَا قَالَ.

وَأَمَّا مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَخْرُجُ الدَّابَّةُ وَمَعَهَا خَاتَمُ سُلَيْمَانَ وَعَصَا مُوسَى فَتَجْلُو وَجْهَ الْمُؤْمِنِ وَتَخْطِمُ أَنْفَ الْكَافِرِ بِالْخَاتَمِ حَتَّى إنَّ أَهْلَ الْخِوَانِ لَيَجْتَمِعُونَ فَيَقُولُ هَذَا يَا مُؤْمِنُ وَهَذَا يَا كَافِرُ وَيَقُولُ هَذَا يَا كَافِرُ وَيَقُولُ هَذَا يَا مُؤْمِنُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ مَاجَهْ وَعِنْدَهُ «تَجْلُو وَجْهَ الْمُؤْمِنِ بِالْعَصَا» فَهَذَا إنْ صَحَّ وَفِيهِ نَظَرٌ فَلَا تَعَارُضَ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ خُرُوجُهَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَنْفَعُ بِخُرُوجِهَا وَقَدْ لَا يَتَّفِقُ إيمَانُ أَحَدٍ بَعْدَ خُرُوجِ الدَّابَّةِ وَإِنْ كَانَ نَافِعًا وَالزَّمَانُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ طُلُوعِ الشَّمْسِ قَرِيبٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَالْمُرَادُ أَنَّ النَّاسَ لَمَّا آمَنُوا عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا فَقَدْ يَشْتَبِهُ مَنْ تَقَدَّمَ إسْلَامُهُ بِمَنْ تَأَخَّرَ فَخَرَجَتْ الدَّابَّةُ فَمَيَّزَتْ وَبَيَّنَتْ هَذَا مِنْ هَذَا بِأَمْرٍ جَلِيٍّ وَاضِحٍ. وَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ أَيْضًا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْإِيمَانَ يَنْفَعُ إلَى خُرُوجِهَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقَوْلُهُ " وَتَخْطِمُ أَنْفَ الْكَافِرِ " أَيْ تَسِمُهُ بِسِمَةٍ يُعْرَفُ بِهَا، وَالْخِطَامُ سِمَةٌ فِي عُرْضِ الْوَجْهِ إلَى الْخَدِّ، وَالْخُوَانُ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يُؤْكَلُ عَلَيْهِ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّعْدِيِّ مَرْفُوعًا «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ الْعَدُوُّ» رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ ضَمْضَمَ بْنِ زُرْعَةَ عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ يُخَامِرَ عَنْ أَبِي السَّعْدِيِّ، وَفِي آخِرِهِ مَقَالُ مُعَاوِيَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ الْهِجْرَةَ خَصْلَتَانِ إحْدَاهُمَا تَهْجُرُ السَّيِّئَاتِ وَالْأُخْرَى تُهَاجِرُ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا تُقُبِّلَتْ التَّوْبَةُ، وَلَا تَزَالُ التَّوْبَةُ مَقْبُولَةً حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ طَبَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى كُلِّ قَلْبٍ بِمَا فِيهِ وَكُفِيَ النَّاسُ الْعَمَلَ» إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ حِمْصِيٌّ حَدِيثُهُ عَنْ أَهْلِ بَلَدِهِ جَيِّدٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُحَدِّثِينَ، وَضَمْضَمُ حِمْصِيٌّ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْخَبَرِ تَرْكَ مَا كَانَ يَعْمَلُهُ مِنْ الْفَرَائِضِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ الْمَغْرِبِ، فَيَجِبُ الْإِتْيَانُ بِمَا كَانَ يَعْمَلُهُ مِنْ الْفَرَائِضِ قَبْلَ ذَلِكَ وَيَنْفَعُهُ مَا يَأْتِي بِهِ مِنْ الْإِيمَان الَّذِي كَانَ يَأْتِي بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَوْلُهُ " وَكُفِيَ النَّاسُ الْعَمَلَ " أَيْ عَمَلًا لَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَهُ.

وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ حَامِدٍ أَنَّ الْمَذْهَبَ: لَا يَنْقَطِعُ التَّكْلِيفُ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَالْمَشْهُورُ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158] . طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ الْمَغْرِبِ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ وَقَدْ ذَكَرَ أَقْوَالًا ضَعِيفَةً قَالَ الْمُفَسِّرُونَ مِنْهُمْ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَإِنَّمَا لَمْ يَنْفَعْ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ حِينَئِذٍ لِظُهُورِ الْآيَةِ الَّتِي تَضْطَرُّهُمْ إلَى الْإِيمَانِ، ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ الضَّحَّاكِ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَهُ بَعْضُ الْآيَاتِ وَهُوَ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ مَعَ إيمَانِهِ قُبِلَ مِنْهُ كَمَا يُقْبَلُ مِنْهُ قَبْلَ الْآيَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ فَظَاهِرُهُ مُخَالَفَةُ كَلَامِ الضَّحَّاكِ لِمَا سَبَقَ وَلَيْسَ بِمُرَادٍ فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ الَّذِي سَبَبُهُ ظُهُورُ الْآيَةِ لَا يَنْفَعُ لِأَنَّ الْآيَةَ اضْطَرَّتْهُ إلَيْهِ، وَأَمَّا مَا كَانَ يَعْمَلُهُ فَظُهُورُ الْآيَةِ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِيهِ فَيَبْقَى الْحُكْمُ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْآيَةِ. قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: النَّفْسُ الْمُؤْمِنَةُ إنْ لَمْ تَكْسِبْ فِي إيمَانِهَا خَيْرًا حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا لَمْ يَنْفَعْهَا مَا تَكْسِبُهُ. وَطُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا عَلَى ظَاهِرِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا كَمَا تَأَوَّلَهُ مَنْ تَأَوَّلَهُ مِنْ الْبَاطِنِيَّةِ، وَهُوَ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْ الْحُكَمَاءِ وَالْمُنَجِّمِينَ. وَفِيهِ بَيَانُ عَجْزِ نُمْرُودَ فِي مُنَاظَرَتِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

فصل في أن قبول التوبة فضل من الله

[فَصْلٌ فِي أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ] وَقَبُولُ التَّوْبَةِ بِفَضْلٍ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَيَجُوزُ رَدُّهَا قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ: وَأَنَّهُ يَحْسُنُ مِنْهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأَنَّ الْعَقْلَ لَا يَحْكُمُ عَلَى أَفْعَالِهِ وَلَا يُقَبِّحُهَا. قَالَ وَالدَّلَالَةُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ قَبُولِهَا فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ، فَمَتَى قَالَ قَائِلٌ إنَّهُ يَجِبُ ذَلِكَ بِالْوَعْدِ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْعَفْوَ لِأَنَّهُ قَالَ: {وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى: 25] . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَفْوَ تَفَضُّلٌ كَذَلِكَ التَّوْبَةُ قَبُولُهَا تَفَضُّلٌ. وَلِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ يَجِبُ شُكْرُهُ وَيَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ بِكُفْرِهِ، فَلَوْ كَانَ قَبُولُ التَّوْبَةِ وَاجِبًا عَلَيْهِ لَمَا وَجَبَ شُكْرُهُ عَلَى فِعْلِ مَا وَجَبَ كَمَا لَا يَجِبُ شُكْرُ قَاضِي الدَّيْنِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَسْأَلَةُ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ وَأَنَّ الْعَقْلَ يُحَسِّنُ وَيُقَبِّحُ قَالَ بِذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ وَأَبُو الْخَطَّابِ وَقَالَ هُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَعَامَّةِ الْفَلَاسِفَةِ وَقَالَ بِهِ أَيْضًا غَيْرُهُمَا مِنْ الْأَصْحَابِ، وَأَكْثَرُ الْأَصْحَابِ لَمْ يَقُولُوا بِذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيَّةِ. وَالْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةٌ فِي الْأُصُولِ وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ: الْعَقْلُ يُحَسِّنُ وَيُقَبِّحُ فَأَوْجَبُوهُ عَقْلًا، وَذَكَرَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ قَالُوا: لَا يَجِبُ عَقْلًا لَكِنْ كَرَمًا مِنْهُ وَفَضْلًا، وَعَرَفْنَا قَبُولَهَا بِالشَّرْعِ وَالْإِجْمَاعِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَنْ قَالَ مِنْهُمْ: يَجِبُ بِوَعْدِهِ إخْرَاجُ غَيْرِ الْكُفَّارِ مِنْهَا. وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى

{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] أَيْ وَاجِبًا أَوْجَبَهُ هُوَ عَلَى نَفْسِهِ. وَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ ابْنُ عَقِيلٍ فَلَا يَخْفَى وَجْهُ ضَعْفِهِ وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى الْإِجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِ شُكْرِهِ وَحَمْدِهِ وَمَدْحِهِ فِي جَمِيعِ مَا يَفْعَلُ مِنْ الْمَلَاذِّ وَالْمَنَافِعِ. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: كَوْنُ الْمُطِيعِ يَسْتَحِقُّ الْجَزَاءَ هُوَ اسْتِحْقَاقُ إنْعَامٍ وَفَضْلٍ، لَيْسَ هُوَ اسْتِحْقَاقُ مُقَابَلَةٍ كَمَا يَسْتَحِقُّ الْمَخْلُوقُ عَلَى الْمَخْلُوقِ، فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ لَا مَعْنَى لِلِاسْتِحْقَاقِ إلَّا أَنَّهُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ. وَوَعْدُهُ صِدْقٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يُثْبِتُونَ اسْتِحْقَاقًا زَائِدًا عَلَى هَذَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. قَالَ تَعَالَى {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] ، «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذٍ أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ» لَكِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَقُولُونَ هُوَ الَّذِي كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَأَوْجَبَ هَذَا الْحَقَّ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يُوجِبْهُ مَخْلُوقٌ. وَالْمُعْتَزِلَةُ يَدَّعُونَ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْخَلْقِ وَأَنَّ الْعِبَادَ هُمْ الَّذِينَ أَطَاعُوا بِدُونِ أَنْ يَجْعَلَهُمْ مُطِيعِينَ، وَأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الْجَزَاءَ بِدُونِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُوجِبَ، وَغَلِطُوا فِي ذَلِكَ، وَهَذَا الْبَابُ غَلَّطَتْ فِيهِ الْقَدَرِيَّةُ الْجَبْرِيَّةَ أَتْبَاعَ جَهْمٍ وَالْقَدَرِيَّةُ النَّافِيَةُ. وَحَدِيثُ مُعَاذٍ الْمَذْكُورُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ مُعَاذٍ قَالَ: «كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إلَّا مُؤَخِّرَةُ الرَّحْلِ فَقَالَ يَا مُعَاذُ قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ قَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ قَالَ هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ.» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ مُعَاذٍ قَالَ «كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ فَقَالَ يَا مُعَاذُ هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ فَإِنَّ حَقَّ

اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَإِنَّ حَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ؟ قَالَ لَا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا» وَإِنَّمَا أَخْبَرَ مُعَاذٌ بِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ خَوْفًا مِنْ إثْمِ كِتْمَانِ الْعِلْمِ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ «أَنَّهُ كَانَ رَدِيفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الرَّحْلِ فَنَادَاهُ ثَلَاثًا كُلَّ مَرَّةٍ يُجِيبُهُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ قَالَ مَا مِنْ عَبْدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ. قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أُخْبِرُ بِهَا النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُونَ؟ قَالَ إذًا يَتَّكِلُوا وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا» . قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ لَمْ يَكُنْ يَكْتُمُهَا إلَّا عَنْ جَاهِلٍ يَحْمِلُهُ جَهْلُهُ عَلَى سُوءِ الْأَدَبِ بِتَرْكِ الْخِدْمَةِ فِي الطَّاعَةِ، فَأَمَّا الْأَكْيَاسُ الَّذِينَ سَمِعُوا بِمِثْلِ هَذَا ازْدَادُوا فِي الطَّاعَةِ وَرَأَوْا أَنَّ زِيَادَةَ النِّعَمِ تَسْتَدْعِي زِيَادَةَ الطَّاعَةِ فَلَا وَجْهَ لِكِتْمَانِهَا عَنْهُمْ. وَفِيهِ زُهْدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَوَاضُعُهُ وَالْإِرْدَافُ، وَقُرْبُ الرَّدِيفِ، وَأَرَادَ بِنِدَائِهِ ثَلَاثًا اسْتِنْصَاتَهُ وَحُضُورَ قَلْبِهِ، وَفِيهِ جَوَازُ إخْفَاءِ بَعْضِ الْعِلْمِ لِلْمَصْلَحَةِ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ اتِّكَالًا عَلَى الرُّخْصَةِ. قَالَ: وَقَوْلُهُ " مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟ " أَيْ مَا جَزَاؤُهُمْ؟ فَعَبَّرَ عَنْ الْجَزَاءِ بِالْحَقِّ. وَذَكَرَ قَوْلَ بِنْتِ شُعَيْبٍ: {لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص: 25] كَذَا قَالَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَتَوْبَةُ الْكَافِرِ مِنْ كُفْرِهِ، قَبُولُهَا مَقْطُوعٌ بِهِ جَزَمَ بِهِ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ

وَغَيْرِهِ وَسَبَقَ كَلَامُ ابْنِ عَقِيلٍ أَنَّهُ لَا يَجِبُ وَيَجُوزُ رَدُّهَا وَتَوْبَةُ غَيْرِهِ تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ وَلَمْ أَجِدْ الْمَسْأَلَةَ فِي كَلَامِ أَصْحَابِنَا. وَذَكَرَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّ فِيهَا خِلَافًا لِأَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْقَطْعِ وَالظَّنِّ، وَاخْتِيَارُ أَبِي الْمَعَالِي الظَّنُّ وَأَنَّهُ أَصَحُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل في تبديل السيئات حسنات بالتوبة

[فَصْلٌ فِي تَبْدِيلِ السَّيِّئَاتِ حَسَنَاتٍ بِالتَّوْبَةِ] تَبْدِيلُ السَّيِّئَاتِ حَسَنَاتٍ بِالتَّوْبَةِ هَلْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا فَقَطْ بِالطَّاعَاتِ أَمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؟ لِلْمُفَسِّرِينَ قَوْلَانِ، وَالثَّانِي اخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ لِظَاهِرِ آيَةِ الْفُرْقَانِ وَلِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فِي الرَّجُلِ الَّذِي تُعْرَضُ عَلَيْهِ صِغَارُ ذُنُوبِهِ وَتُبَدَّلُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَهَذَا الرَّجُلُ الْمُرَادُ بِخُرُوجِهِ مِنْ النَّارِ الْوُرُودُ الْعَامُّ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: التَّائِبُ عَمَلُهُ أَعْظَمُ مِنْ عَمَلِ غَيْرِهِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلُ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ فَإِنْ كَانَ قَدْ عَمِلَ مَكَانَ سَيِّئَاتِ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ فَهَذَا دَرَجَتُهُ بِحَسَبِ حَسَنَاتِهِ فَقَدْ يَكُونُ أَرْفَعَ مِنْ التَّائِبِ إنْ كَانَتْ حَسَنَاتُهُ أَرْفَعَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ عَمِلَ سَيِّئَاتٍ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا فَهَذَا نَاقِصٌ، وَإِنْ كَانَ مَشْغُولًا بِمَا لَا ثَوَابَ فِيهِ وَلَا عِقَابَ فَهَذَا التَّائِبُ الَّذِي اجْتَهَدَ فِي التَّوْبَةِ، وَالتَّبْدِيلُ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ وَالْمُجَاهَدَةِ مَا لَيْسَ لِذَلِكَ الْبَطَّالِ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ تَقْدِيمَ السَّيِّئَاتِ وَلَوْ كَانَتْ كُفْرًا إذَا تَعْقُبُهَا التَّوْبَةُ الَّتِي يُبَدِّلُ اللَّهُ فِيهَا السَّيِّئَاتِ حَسَنَاتٍ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ السَّيِّئَاتُ نَقْصًا بَلْ كَمَالًا، وَقَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَرِيبًا.

فصل تخليد الكفار في النار بوعيد الله تعالى

[فَصْلٌ تَخْلِيدُ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ بِوَعِيدِ اللَّهِ تَعَالَى] يَجِبُ بِوَعِيدِهِ تَخْلِيدُ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ وَيَجِبُ بِوَعْدِهِ إخْرَاجُ غَيْرِهِمْ مِنْهَا، وَقِيلَ قَدْ لَا يَدْخُلُ النَّارَ بَعْضُ الْعُصَاةِ تَكَرُّمًا مِنْ اللَّهِ بِالشَّفَاعَةِ، وَقِيلَ مَنْ مَاتَ فَاسِقًا مُصِرًّا غَيْرَ تَائِبٍ لَمْ نَقْطَعْ لَهُ بِالنَّارِ وَلَكِنْ نَرْجُو لَهُ وَنَخَافُ عَلَيْهِ ذَنْبَهُ نَصَّ عَلَيْهِ «وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ قَالَ فِي تَارِكِ الصَّلَاةِ فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ» . وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَيِّتٍ عَلَى ذَنْبٍ دُونَ الشِّرْكِ لَا نَقْطَعُ لَهُ بِالْعَذَابِ وَإِنْ كَانَ مُصِرًّا. (وَالثَّانِيَةُ) أَنَّ تَعْلِيقَهُ بِالْمَشِيئَةِ فِيهِ نَفْعٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَهُوَ أَنْ يَكُونُوا عَلَى خَوْفٍ وَطَمَعٍ.

فصل في حبوط المعاصي بالتوبة والكفر بالإسلام

[فَصْلٌ فِي حُبُوطِ الْمَعَاصِي بِالتَّوْبَةِ وَالْكُفْرِ بِالْإِسْلَامِ] وَتُحْبَطُ الْمَعَاصِي بِالتَّوْبَةِ، وَالْكُفْرُ بِالْإِسْلَامِ، وَالطَّاعَةُ بِالرِّدَّةِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْمَوْتِ، لَا تُحْبَطُ طَاعَةٌ بِمَعْصِيَةٍ غَيْرِ الرِّدَّةِ الْمَذْكُورَةِ. وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْمَنَّ وَالْأَذَى يُبْطِلُ الصَّدَقَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ لَا تُحْبَطُ طَاعَةٌ بِمَعْصِيَةٍ إلَّا مَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فَيُوقَفُ الْإِحْبَاطُ عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ، وَلَا نَقِيسُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: الْكَبِيرَةُ الْوَاحِدَةُ لَا تُحْبِطُ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ وَلَكِنْ قَدْ تُحْبِطُ مَا يُقَابِلُهَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَاخْتَارَهُ أَيْضًا فِي مَكَان آخَرَ. قَالَ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ، وَاحْتَجَّ بِإِبْطَالِ الصَّدَقَةِ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى قَالَ فِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِ: وَقَالَتْ عَائِشَةُ لِأُمِّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَخْبِرِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّهُ قَدْ أُبْطِلَ جِهَادُهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا أَنْ يَتُوبَ. ثُمَّ ذَكَرَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] . الْآيَةَ. وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَيْهَا ثُمَّ ذَكَرَ: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] الْآيَةَ وَذَكَرَ أَقْوَالَ الْمُفَسِّرِينَ فِيهَا مِنْهُمْ الْحَسَنُ قَالَ: بِالْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ قَالَ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى حُبُوطِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ بِهَا. وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} [الحجرات: 2] الْآيَةَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَى مَا يُحْبَطُ بَلْ قَالَ: وَقَدْ قِيلَ إنَّ الْإِحْبَاطَ بِمَعْنَى نَقْصِ الْمَنْزِلَةِ لَا حُبُوطِ الْعَمَلِ مِنْ أَصْلِهِ كَمَا يُحْبَطُ بِالْكُفْرِ وَذَكَرَ الْبَغَوِيّ حُبُوطُ حَسَنَاتِكُمْ وَلَيْسَ مُرَادُهُ ظَاهِرَهُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ لَيْسَ قَوْلُهُ:

{أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2] بِمُوجِبٍ أَنْ يَكْفُرَ الْإِنْسَانُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَكَمَا لَا يَكُونُ الْكَافِرُ مُؤْمِنًا إلَّا بِاخْتِيَارِهِ الْإِيمَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ كَافِرًا مِنْ حَيْثُ لَا يَقْصِدُ إلَى الْكُفْرِ وَلَا يَخْتَارُهُ بِإِجْمَاعٍ، وَقِيلَ لَا تُحْبَطُ مَعْصِيَةٌ بِطَاعَةٍ لَا مَعَ التَّسَاوِي وَلَا مَعَ التَّفَاضُلِ. قَالَ: وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة: 264] . وَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء: 38] . وَلِأَنَّهُ فِي الْبَقَرَةِ أَخْبَرَ بِحُبُوطِ عَمَلِهِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ الْمَشْرُوطُ فِي قَبُولِ الْعَمَلِ هُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لَا بِأَحَدِهِمَا فَلَوْ قِيلَ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ لَكَانَ يُتَوَهَّمُ أَنَّ أَحَدَهُمَا كَافٍ فِي قَبُولِ الْعَمَلِ كَمَا لَوْ قِيلَ هَذَا يُصَلِّي بِلَا وُضُوءٍ وَلَا تَيَمُّمٍ وَيْحَكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِلَا كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج: 8] وَأَمَّا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فَإِنَّهُ ذَمَّهُمْ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ وَهُمْ مَذْمُومُونَ عَلَى تَرْكِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى حِدَتِهِ وَيَرُدُّهُ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ. وَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ «فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَنَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ يُكَفِّرُهَا الصِّيَامُ وَالصَّلَاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ قَالَ لِأَنَّ هَذِهِ حَسَنَاتٌ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُنَّ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ. قَالَ: وَإِنَّمَا يَعْنِي الصِّيَامَ الْمَفْرُوضَ وَالصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ فَلَا يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُعَيِّنَ لِذَلِكَ مُكَفِّرًا غَيْرَ ذَلِكَ وَلَوْ أَرَادَ غَيْرَ الْمَفْرُوضِ الْمَعْهُودِ لَقَالَ صِيَامٌ وَصَلَاةٌ.

قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ كَفَّارَةُ الشِّرْكِ التَّوْحِيدُ وَالْحَسَنَاتُ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ. قَالَ فِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِ، وَقِيلَ تُحْبَطُ الصَّغَائِرُ بِثَوَابِ الْمَرْءِ إذَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ. كَذَا قَالَ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يُخَالِفُهُ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الِانْتِصَارِ، وَقِيلَ لَهُ فِي الْفُنُونِ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، «إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ: أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَتَنَزَّهُ مِنْ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ» كَيْفَ يُعَذَّبَانِ بِمَا لَيْسَ بِكَبِيرَةٍ؟ وَالصَّغَائِرُ بِتَرْكِ الْكَبَائِرِ تَنْحَبِطُ أَوَّلًا فَأَوَّلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] فَقَالَ فِي الْخَبَرِ " كَانَ " وَكَانَ لِدَوَامِ الْفِعْلِ فَلِهَذَا بِالدَّوَامِ حُكْمُ الْكَبِيرَةِ عَلَى أَنَّ فِي الْخَبَرِ تَعْذِيبَهُمَا بِالصَّغَائِرِ وَفِي الْآيَةِ إخْبَارٌ بِتَكْفِيرِهَا وَتَكْفِيرُهَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِالْآلَامِ وَالْبَلَايَا وَلَعَلَّ الْمُعَذَّبَيْنِ لَمْ تُكَفَّرْ صَغَائِرُهُمَا بِمَصَائِبَ وَلَا آلَامٍ. كَذَا قَالَ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ فِيهِ، وَفِي الْغُنْيَةِ إذَا تَابَ الْمُؤْمِنُ عَنْ الْكَبَائِرِ انْدَرَجَتْ الصَّغَائِرُ فِي ضِمْنِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] لَكِنْ لَا يُطْمِعُ نَفْسَهُ فِي ذَلِكَ بَلْ يَجْتَهِدُ فِي التَّوْبَةِ عَنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا، فَعَلَى كَلَامِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ الصَّغَائِرَ تُكَفَّرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَا ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ مِنْهُمْ الْجَوْزِيُّ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ فِي الْكَبَائِرِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا بِضْعَةَ عَشَرَ قَوْلًا لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ الشِّرْكُ فَقَطْ. وَحَكَاهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ قَوْلًا وَلَمْ يَذْكُرْ قَائِلَهُ فَالْقَوْلُ بِهِ خِلَافُ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي الْآيَةِ مَعَ أَنَّهُ خِلَافٌ ظَاهِرٌ عَلَى مَا لَا يَخْفَى فَظَاهِرُهَا أَنَّ اجْتِنَابَهَا مُكَفِّرٌ نَصَبَهُ الشَّارِعُ

سَبَبًا لِذَلِكَ فَلَيْسَ الْمُكَفِّرُ حَسَنَاتٍ وَلَا مَصَائِبَ بَلْ ذَلِكَ مُكَفِّرٌ أَيْضًا. فَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ مُرَادُ الْآيَةِ وَمُقْتَضَاهَا أَوْ تَدُلُّ عَلَيْهِ فَقَدْ خَالَفَ ظَاهِرَ الْآيَةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ كَمَا خَالَفَ ظَاهِرَ الْإِجْمَاعِ السَّابِقِ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَهُ أَوْ كَمَا قَالَهُ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ الشِّرْكُ لَبَيَّنَهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَلَمَا أَغْفَلَهُ مِثْلُهُمْ وَإِنَّمَا أَجْرَوْا الْآيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَتَّجِهُ تَضْعِيفُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَتَصْحِيحُ الثَّانِي، وَأَنَّ طَرِيقَ التَّضْعِيفِ وَاحِدٌ. وَمِمَّا يُوَافِقُ ظَاهِرَ الْآيَةِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْجُمُعَةُ إلَى الْجُمُعَةِ وَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَرَمَضَانُ إلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إذَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ» . وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَا مِنْ امْرِئٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا إلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنْ الذُّنُوبِ مَا لَمْ يَأْتِ كَبِيرَةً وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ» وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ جَاءَ يَعْبُدُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ، وَيَتَّقِي الْكَبَائِرَ، فَإِنَّ لَهُ الْجَنَّةَ» إسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَفِيهِ بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ وَحَدِيثُهُ جَيِّدٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ يَصُومُ رَمَضَانَ. وَقَدْ ظَهَرَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ الصَّغَائِرَ لَا تَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ لِوُقُوعِهَا مُكَفَّرَةً شَيْئًا فَشَيْئًا. وَقَدْ اعْتَرَفَ ابْنُ عَقِيلٍ بِصِحَّةِ هَذَا وَأَنَّهُ لَوْلَا الْإِجْمَاعُ لَقُلْنَا بِهِ. كَذَا قَالَ. وَأَيْنَ الْإِجْمَاعُ الْمُخَالِفُ لِهَذَا؟ بَلْ مُقْتَضَى مَا سَبَقَ عَنْ أَصْحَابِنَا وَمُقْتَضَى الْإِجْمَاعِ السَّابِقِ لِظَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ كَمَا تَرَى. وَقَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْوَاضِحِ فِي النَّهْيِ عَنْ أَحَدِ شَيْئَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا إنَّهُ يَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ إدْمَانُ الصَّغِيرَةِ لَكِنَّ ظَاهِرَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَلَوْ أَدْمَنَ وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا} [النساء: 31]

حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ ثنا شِبْلٌ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ كَمْ الْكَبَائِرُ؟ سَبْعٌ؟ قَالَ: هِيَ إلَى سَبْعِمِائَةٍ أَقْرَبُ مِنْهَا إلَى سَبْعٍ غَيْرَ أَنَّهُ لَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ إصْرَارٍ. وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ شِبْلٍ وَهُوَ إسْنَادٌ صَحِيحٌ. فَإِنْ قُلْنَا قَوْلُ الصَّحَابَةِ حُجَّةٌ صَارَتْ الصَّغِيرَةُ بِإِدْمَانِهَا كَالْكَبِيرَةِ، وَإِنْ لَمْ نَقُلْ كَذَلِكَ فَالْعَمَلُ: لَا صَغِيرَةَ مَعَ إصْرَارٍ، وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ، صَارَتْ الصَّغِيرَةُ بِإِدْمَانِهَا كَالْكَبِيرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فَالْعَمَلُ بِظَاهِرِ الْقَوْلِ السَّابِقِ، وَظَاهِرِ الْأَدِلَّةِ أَوْلَى. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: «ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، وَاغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ، وَيْلٌ لِأَقْمَاعِ الْقَوْلِ، وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ حَدَّثَنَا حِبَّانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فَذَكَرَهُ. قَوْلُ الْبُخَارِيِّ فِي تَارِيخِهِ حِبَّانُ بْنُ زَيْدٍ الشَّرْعَبِيُّ أَبُو خِدَاشٍ الشَّامِيُّ، وَرَوَى عَنْهُ حَرِيزٌ يَرْوِي عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو قَالَهُ مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ وَحَدَّثَنِي عِصَامُ حَدَّثَنَا حَرِيزٌ عَنْ حِبَّانَ وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ حِبَّانَ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَلَمْ أَجِدْ فِي حِبَّانَ كَلَامًا وَلَا رَوَى عَنْهُ إلَّا حَرِيزٌ لَكِنَّ ظَاهِرَ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ مَشْهُورٌ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ أَصْلُ الشَّرْعَبَةِ الطُّولُ، يُقَالُ رَجُلٌ شَرْعَابٌ وَامْرَأَةٌ شَرْعَابَةٌ وَهَذَا مَنْسُوبٌ إلَى شَرْعَبَ بْنِ قَيْسٍ مِنْ حِمْيَرَ ، وَالْأَقْمَاعُ جَمْعُ قِمْعٍ بِكَسْرِ الْقَافِ وَبِسُكُونِ الْمِيمِ وَفَتْحِهَا كَنِطْعٍ وَنِطَعٍ، وَقِيلَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَهُوَ الْإِنَاءُ الَّذِي يَنْزِلُ فِي رُءُوسِ الظُّرُوفِ لِتُمْلَأَ بِالْمَائِعَاتِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ وَالْأَدْهَانِ. شَبَّهَ أَسْمَاعَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْقَوْلَ وَلَا يَعُونَهُ وَيَحْفَظُونَهُ وَيَعْمَلُونَ بِهِ بِالْأَقْمَاعِ الَّتِي لَا تَعِي شَيْئًا مِمَّا يُفَرَّغُ فِيهَا فَكَأَنَّهُ يَمُرُّ عَلَيْهَا مُجْتَازًا كَمَا يَمُرُّ الشَّرَابُ فِي الْأَقْمَاعِ. . قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «أَوَّلُ مَنْ يُسَاقُ إلَى النَّارِ الْأَقْمَاعُ الَّذِينَ إذَا أَكَلُوا لَمْ يَشْبَعُوا، وَإِذَا جَمَعُوا لَمْ يَسْتَغْنُوا» أَيْ كَانَ مَا يَأْكُلُونَهُ

وَيَجْمَعُونَهُ يَمُرُّ بِهِمْ مُجْتَازًا غَيْرَ ثَابِتٍ فِيهِمْ وَلَا بَاقٍ عِنْدَهُمْ، وَقِيلَ أَرَادَ بِهِمْ أَهْلَ الْبَطَالَاتِ الَّذِينَ لَا هَمَّ لَهُمْ إلَّا فِي تَرْجِئَةِ الْأَيَّامِ بِالْبَاطِلِ، فَلَا هُمْ فِي عَمَلِ الدُّنْيَا وَلَا عَمَلِ الْآخِرَةِ. وَيَأْتِي هَذَا الْمَعْنَى فِي آخِرِ الْكِتَابِ فِي نَظْمِ صَاحِبِ النَّظْمِ. وَجَعْلُ الصَّغِيرَةِ فِي الْكَبِيرَةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ ذَلِكَ وَقَدْ عُمِلَ بِهِ فِي الْكَبَائِرِ وَلَيْسَ بِخَاصٍّ فِي الصَّغَائِرِ لِيُخَصَّ بِهِ ظَاهِرُ مَا سَبَقَ. وَالْأَشْهَرُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ أَنَّ الصَّغَائِرَ تَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ فَلَا تُكَفَّرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، فَعَلَى هَذَا إذَا مَاتَ غَيْرَ تَائِبٍ مِنْهُمَا فَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ كَالْكَبَائِرِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَعَلَى الْأَوَّلِ إذَا كُفِّرَتْ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ ظَاهِرُهُ لَا تَنْقُصُ دَرَجَتُهُ عَنْ دَرَجَةِ مَنْ لَمْ يَأْتِ صَغِيرَةً كَالتَّوْبَةِ مِنْهَا. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ يَجِبُ الْإِحْبَاطُ وَإِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ أَنْ لَا يُعَاقَبَ عَلَى صَغِيرَةٍ بَلْ تَنْقُصُ دَرَجَتُهُ عَنْ دَرَجَةِ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ مَعَ مُسَاوَاتِهِ لَهُ فِي الْحَسَنَاتِ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُعَاقَبَ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّ عِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ: لَا يَجُوزُ الْإِحْبَاطُ وَيُعَاقَبَ عَلَى السَّيِّئَةِ وَيُجَازَى بِالْحَسَنَةِ وَأَنَّ الصَّغِيرَةَ يَجُوزُ أَنْ تُغْفَرَ فَلَا تَنْقُصُ دَرَجَتُهُ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَأَمْثَالُهُ: حَمَلُوا قَوْله تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْكُفْرُ فَقَطْ. وَقَالُوا: {نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] أَيْ إنْ شِئْنَا وَجَعَلُوا هَذِهِ الْآيَةَ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]

وَهَذَا غَلَطٌ فِي مَعْنَى الْآيَةِ خَالَفُوا بِهِ تَفْسِيرَ إجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ وَمَدْلُولَهَا وَالْمُعْتَزِلَةُ أَيْضًا غَلِطُوا فِي مَعْنَى الْآيَةِ فَاعْتَقَدُوا أَنَّ قَوْلَهُ: {نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] . الْمُرَادُ بِهِ الْمَغْفِرَةُ وَلَا بُدَّ، وَهَذَا قَدْ يَظُنُّهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بِخِلَافِ تَفْسِيرِ الْكَبَائِرِ بِالشِّرْكِ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَجَعَلَتْ الْمُعْتَزِلَةُ الْمَغْفِرَةَ فِي: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] وَالْآيَةُ مَشْرُوطَةٌ بِالتَّوْبَةِ كَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ لَوْ كَانَتْ مَشْرُوطَةً بِالتَّوْبَةِ لَمْ تُخَصَّ بِمَا دُونَ الشِّرْكِ وَلَمْ تُعَلَّقْ بِالْمَشِيئَةِ بَلْ قَوْلُهُ {لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] لَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ الْمَغْفِرَةُ بِأَسْبَابٍ مِنْهَا الْحَسَنَاتُ وَمِنْهَا الْمَصَائِبُ الْمُكَفِّرَةُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنْ تَجْتَنِبُوا الْآيَةَ، فَفِيهِ الْوَعْدُ بِالتَّكْفِيرِ، وَالتَّكْفِيرُ يَكُونُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ تَارَةً وَبِالْمَصَائِبِ الْمُكَفِّرَةِ تَارَةً، فَمَنْ كُفِّرَتْ سَيِّئَاتُهُ بِنَفْسِ الْعَمَلِ كَانَ مِنْ بَابِ الْمُوَازَنَةِ وَهَذَا تَنْقُصُ دَرَجَتُهُ عَمَّنْ سَلِمَ مِنْ تِلْكَ الذُّنُوبِ كَمَا قَالَ ذَلِكَ مَنْ قَالَهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَمَنْ كُفِّرَتْ بِالْمَصَائِبِ وَالْحُدُودِ وَعُقُوبَاتِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ تَسْلَمُ لَهُ حَسَنَاتُهُ فَلَا تُنْتَقَصُ دَرَجَتُهُ بَلْ تَرْتَفِعُ دَرَجَاتُهُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى الْمَصَائِبِ فَيَكُونُونَ أَرْفَعَ مِمَّا لَوْ عُوقِبُوا وَأَصْحَابُ الْعَافِيَةِ يَكُونُونَ أَدْنَى. وَقَوْلُهُ {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] عَامٌّ وَسُقُوطُ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تُقَابِلُهَا مِنْ الْجَزَاءِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [الزلزلة: 7] الْآيَةَ ثُمَّ إمَّا أَنْ يُقَالَ هَذَا مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ التَّوْبَةِ أَوْ يُقَالَ التَّوْبَةُ فِيهَا شِدَّةٌ عَلَى

النَّفْسِ وَمُخَالَفَةُ هَوَى فَفِيهَا أَلَمٌ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْجَزَاءِ فَيَكُونُ {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا} [النساء: 123] . عَامٌّ مَخْصُوصًا، أَوْ يُقَالُ التَّوْبَةُ مِنْ جِنْسِ الْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ فَلَمْ تَبْقَ السَّيِّئَةُ سَيِّئَةً كَمَا أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي تَتَعَقَّبُهُ الرِّدَّةُ لَيْسَ بِإِيمَانٍ فَالتَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ. وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وُجُودُ التَّوْبَةِ كَعَدَمِهَا يُمْكِنُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُعَذِّبَهُ لَكِنْ يَظُنُّ أَنَّهُ يُغْفَرُ لَهُ وَإِلَّا فَالِاسْتِحْقَاقُ لَا يُدْرَى عِنْدَهُمْ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِحْبَاطِ وَهُمْ يَقُولُونَ إنَّهُ مُمْتَنِعٌ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْحَسَنَةَ تَعْظُمُ وَيَكْثُرُ ثَوَابُهَا بِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصِ حَتَّى تُقَابِلَ جَمِيعَ الذُّنُوبِ وَذَكَرَ حَدِيثَ «فَثَقُلَتْ الْبِطَاقَةُ وَطَاشَتْ السِّجِلَّاتُ» وَحَدِيثَ الْبَغِيِّ الَّتِي سَقَتْ الْكَلْبَ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهَا ذَلِكَ فَغَفَرَ اللَّهُ لَهَا. وَحَدِيثَ الَّذِي نَحَّى غُصْنَ شَوْكٍ عَنْ الطَّرِيقِ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ فَغَفَرَ لَهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.

فصل في سرور الإنسان بمعرفة طاعته والعجب والرياء والغرور بها

[فَصْلٌ فِي سُرُورِ الْإِنْسَانِ بِمَعْرِفَةِ طَاعَتِهِ وَالْعُجْبِ وَالرِّيَاءِ وَالْغُرُورِ بِهَا] إذَا سُرَّ الْإِنْسَانُ بِمَعْرِفَةِ طَاعَتِهِ هَلْ هُوَ مَذْمُومٌ؟ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ إنْ كَانَ قَصْدُهُ إخْفَاءَ الطَّاعَةِ وَالْإِخْلَاصَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَكِنَّهُ لَمَّا أَطْلَعَ عَلَيْهِ الْخَلْقَ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ أَطْلَعَهُمْ وَأَظْهَرَ الْجَمِيلَ مِنْ أَحْوَالِهِ فَسُرَّ بِحُسْنِ صَنِيعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَنَظَرِهِ لَهُ وَلُطْفِهِ بِهِ حَيْثُ كَانَ يَسْتُرُ الطَّاعَةَ وَالْمَعْصِيَةَ فَأَظْهَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ الطَّاعَةَ وَسَتَرَ الْمَعْصِيَةَ فَيَكُونُ فَرَحُهُ بِذَلِكَ لَا بِحَمْدِ النَّاسِ، وَقِيَامِ الْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِهِمْ أَوْ يَسْتَدِلُّ بِإِظْهَارِ اللَّهِ الْجَمِيلَ وَسَتْرِ الْقَبِيحَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُ كَذَلِكَ يَفْعَلُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ قَدْ جَاءَ مَعْنَى ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ. فَأَمَّا إنْ كَانَ فَرَحُهُ بِإِطْلَاعِ النَّاسِ عَلَيْهِ لِقِيَامِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَهُمْ حَتَّى يَمْدَحُوهُ وَيُعَظِّمُوهُ وَيَقْضُوا حَوَائِجَهُ فَهَذَا مَكْرُوهٌ مَذْمُومٌ. فَإِنْ قِيلَ فَمَا وَجْهُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَجُلٌ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يَعْمَلُ الْعَمَلَ فَيَسُرُّهُ فَإِذَا اُطُّلِعَ عَلَيْهِ أَعْجَبَهُ؟ فَقَالَ لَهُ أَجْرَانِ أَجْرُ السِّرِّ وَأَجْرُ الْعَلَانِيَةِ» فَالْجَوَابُ أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَدْ فَسَّرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ مَعْنَاهُ بِأَنْ يُعْجِبَهُ ثَنَاءُ النَّاسِ عَلَيْهِ بِالْخَيْرِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ» . وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قِيلَ «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنْ الْخَيْرِ فَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ» فَأَمَّا إذَا أَعْجَبَهُ لِيَعْلَمَ النَّاسُ مِنْهُ الْخَيْرَ وَيُكْرِمُونَهُ عَلَيْهِ فَهَذَا رِيَاءٌ. وَوُجُودُ الرِّيَاءِ بَعْدَ الْفَرَاغَ مِنْ الْعِبَادَةِ لَا يُحْبِطُهَا لِأَنَّهُ قَدْ تَمَّ عَلَى نَعْتِ الْإِخْلَاصِ فَلَا يَنْعَطِفُ مَا طَرَأَ عَلَيْهِ بَعْدَهُ لَا سِيَّمَا إذَا لَمْ يَتَكَلَّفْ هُوَ إظْهَارَهُ وَالتَّحَدُّثَ بِهِ، فَأَمَّا إنْ تَحَدَّثَ بِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ وَأَظْهَرَهُ فَهَذَا مَخُوفٌ، وَالْغَالِبُ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ فِي قَلْبِهِ وَقْتَ مُبَاشَرَةِ الْعَمَلِ نَوْعُ رِيَاءٍ فَإِنْ سَلِمَ مِنْ الرِّيَاءِ نَقَصَ أَجْرُهُ، فَإِنَّ

بَيْنَ عَمَلِ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ سَبْعِينَ دَرَجَةً. وَوُرُودُ الرِّيَاءِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعِبَادَةِ إنْ كَانَ مُجَرَّدَ سُرُورٍ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْعَمَلِ، وَإِنْ كَانَ بَاعِثًا عَلَى الْعَمَلِ مِثْلَ أَنْ يُطِيلَ الصَّلَاةَ لِيُرَى مَكَانُهُ فَهَذَا يُحْبِطُ الْأَجْرَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: الْإِعْجَابُ لَيْسَ بِالْفَرَحِ وَالْفَرَحُ لَا يَقْدَحُ فِي الطَّاعَاتِ لِأَنَّهَا مَسَرَّةُ النَّفْسِ بِطَاعَةِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مِمَّا سَرَّ الْعُقَلَاءَ وَأَبْهَجَ الْفُضَلَاءَ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنِّي كُنْتُ أُصَلِّي فَدَخَلَ عَلَيَّ صَدِيقٌ لِي فَسَرَّنِي ذَلِكَ. فَقَالَ: لَكَ أَجْرَانِ أَجْرُ السِّرِّ وَأَجْرُ الْعَلَانِيَةِ» وَإِنَّمَا الْإِعْجَابُ اسْتِكْثَارُ مَا يَأْتِي بِهِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرُؤْيَةُ النَّفْسِ بِعَيْنِ الِافْتِخَارِ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ اقْتِضَاءُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا أَتَى الْأَوْلِيَاءُ وَانْتِظَارُ الْكَرَامَةِ وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَيَنْكَشِفُ ذَلِكَ بِمَا يُرَى مِنْ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ مِنْ إمْرَارِ أَيْدِيهِمْ عَلَى أَرْبَابِ الْعَاهَاتِ وَالْأَمْرَاضِ ثِقَةً بِالْبَرَكَاتِ وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ مِنْ الْخُدَعِ حَتَّى أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ لَوْ كُسِرَ لَهُ عَرَضٌ قَالَ عَلَى سَبِيلِ الِاقْتِضَاءِ لِلَّهِ؟ أَلَيْسَ قَدْ ضَمِنْتَ نَصْرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَدْرِي الْجَاهِلُ مَنْ الْمُؤْمِنُ الْمَنْصُورُ؟ وَمَا النَّصْرُ؟ وَمَاذَا شَرْطُ النُّصْرَةِ؟ وَذَكَرَ كَلَامًا كَثِيرًا إلَى أَنْ قَالَ: إنَّ الْعُجْبَ يَدْخُلُ مِنْ إثْبَاتِ نَفْسِكَ فِي الْعَمَلِ وَنِسْيَانِ أَلْطَافِ الْحَقِّ وَمِنْ إغْفَالِ نِعَمِهِ الَّتِي لَا تُحْصَى، وَإِلَّا فَلَوْ لَحَظَ الْعَبْدُ اتِّصَالَ النِّعَمِ لَاسْتَقَلَّ عَمَلَهُ وَإِنْ كَثُرَ أَنْ يُقَابِلَ النِّعَمَ شُكْرًا وَيَدْخُلُ مِنْ الْجَهْلِ بِالْمُطَاعِ، فَلَوْ عَرَفَ الْعَبْدُ مَنْ يُطِيعُ وَلِمَنْ يَخْدُمُ لَاسْتَكْثَرَ لِنَفْسِهِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ، وَاسْتَقَلَّهَا أَنْ تَكُونَ دَاخِلَةً مَعَ أَمْلَاكِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ. وَيَدْخُلُ أَيْضًا عَنْ طُرُقِ الْجَهَالَةِ بِكَثْرَةِ الْخَلَلِ وَالْعِلَلِ، الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَعَهَا عَلَى غَايَةِ الْخَجَلِ، وَالْخَوْفِ مِنْ أَنْ يَقَعَ الطَّرْدُ وَالرَّدُّ، فَإِنَّ الْفَيْءَ مُسْتَوْحَشٌ، وَيَدْخُلُ أَيْضًا مِنْ النَّظَرِ إلَى الْخَلْقِ بِعَيْنِ الِاسْتِقْلَالِ، وَإِدْمَانِ النَّظَرِ إلَى الْعُصَاةِ الْمُتَشَرِّدِينَ، وَلَوْ أَنَّهُ نَظَرَ إلَى الْعُمَّالِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَاسْتَقَلَّ نَفْسَهُ. فَهَذِهِ مُعَالَجَةُ الْأَدْوَاءِ، وَحَسْمُ مَوَادِّ الْفَسَادِ فِي الْأَعْمَالِ.

قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى: وَفَهْمُ هَذَا يُنَكِّسُ رَأْسَ الْكَبِيرِ وَيُوجِبُ مُسَاكَنَةَ الذُّلِّ فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّهُ أَصْلٌ عَظِيمٌ وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ أَيْضًا: اُنْظُرْ إلَى لُطْفِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِخَلْقِهِ كَيْفَ وَضَعَ فِيهِمْ لِمَصَالِحِهِمْ مَدَارِكَ تَزِيدُ عَلَى الْعِلْمِ، وَدَوَاعِيَ تَحُثُّهُمْ عَلَى فِعْلِ مَا فِيهِ الصَّلَاحُ وَالْكَفُّ عَنْ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ مِنْ ذَلِكَ وَضْعُهُ لِلشَّهْوَةِ وَهَيَجَانِ الطَّبْعِ لِطَلَبِ الْجِمَاعِ وَذَلِكَ طَرِيقُ النُّشُوءِ وَحِفْظُ النَّسْلِ وَآلَامٌ تَحْصُلُ مِنْ الرِّقَّةِ عَلَى الْحَيَوَانِ لِيَحْصُلَ الِامْتِنَاعُ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الْإِيلَامِ، وَيَحْصُلُ مَنْعُ الْمُؤْلِمِ وَكَفُّ الْمُتَعَدِّي وَجَعْلُ الْمَسَرَّةِ الْوَاقِعَةِ بِالْمِدْحَةِ دَاعِيَةً إلَى فِعْلِ الْخَيْرِ إذْ لَا يُمْدَحُ إلَّا عَلَى الْخَيْرَ وَعَلَى ذَلِكَ جَمِيعُ مَا يَدْفَعُ الضَّرَرَ وَيَجْلِبُ الْخَيْرَ لَمْ يُخَلِّهِ مِنْ دَوَاعٍ بَاعِثَةٍ عَلَى فِعْلِهِ، وَلَوَاذِعَ زَاجِرَةٍ عَنْ فِعْلِ الْقَبِيحِ. فَسُبْحَانَ مَنْ يَفِيضُ جُودُهُ بِالْخَيْرِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ حَسَنٌ نَافِعٌ، وَيَصْرِفُ السُّوءَ لِعِلْمِهِ بِقُبْحِهِ وَغَنَائِهِ، وَيُصَرِّفُ خَلْقَهُ بِأَنْوَاعِ الصَّوَارِفِ الْعَاجِلَةِ، وَالصَّوَارِفِ بِالْوَعِيدِ وَبِالْعِقَابِ الْآجِلِ. وَذَكَرَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَسُرُّهُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَفَّقَهُ لِذَلِكَ الْعَمَلِ فَعَسَى يُسْتَنُّ بِهِ فِيهِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَجْرَيْنِ، وَإِذَا سَرَّهُ ذَلِكَ لِتَعْظِيمِ النَّاسِ إيَّاهُ أَوْ مَيْلِهِمْ إلَيْهِ بِهِ كَانَ ذَلِكَ ضَرْبًا مِنْ الرِّيَاءِ لَا يَكُونُ لَهُ أَجْرَانِ وَلَا أَجْرٌ وَاحِدٌ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى ثنا أَبُو دَاوُد ثنا أَبُو سِنَانٍ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إسْنَادٌ جَيِّدٌ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ غَرِيبٌ قَالَ وَرَوَاهُ الْعَمَشُ وَغَيْرُهُ عَنْ حَبِيبٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ مُرْسَلًا ثُمَّ ذَكَرَ التَّفْسِيرَ السَّابِقَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ. قَالَ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إذَا اُطُّلِعَ عَلَيْهِ فَأَعْجَبَهُ رَجَا أَنْ يُعْمَلَ بِعَمَلِهِ فَيَكُونَ لَهُ مِثْلُ أُجُورِهِمْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ فَهَذَا لَهُ مَذْهَبٌ أَيْضًا، وَحَمَلَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَقَالَ: هَذَا كُلُّهُ إذَا حَمَدَهُ النَّاسُ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ مِنْهُ إلَى حَمْدِهِمْ وَإِلَّا فَالتَّعْرِيضُ مَذْمُومٌ.

انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلِأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ حَدِيثِ جُنْدُبٍ «مَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ وَمَنْ يُسَمِّعْ يُسَمِّعْ اللَّهُ بِهِ» . قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ إنَّك لَوْ عَلِمْتَ أَنَّ إكْرَامَ الْخَلْقِ لَك رِيَاءٌ سَقَطْتَ مِنْ عَيْنِكَ، أَفَأَقْنَعُ أَنَا مِنْكَ أَنْ تَجْعَلَنِي فِي الْعَادَةِ جُزْءًا مِنْ كُلٍّ بَعْضًا مِنْ جَمَاعَةٍ؟ وَقَالَ: مَا يَحْلُو لَكَ الْعَمَلُ حَتَّى تَحْلُو لَكَ تَسْمِيَتُهُمْ بِعَابِدٍ وَزَاهِدٍ، فَارْثِ لِنَفْسِكَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ وَلَيْسَ لَك مِنْهُ إلَّا مَا حَظِيتَ بِهِ مِنْ الصِّيتِ، تَدْرِي كَمْ فِي الْجَرِيدَةِ أَقْوَامٌ لَا يَؤُبْهُ لَهُمْ إلَّا عِنْدَ الْقِيَامِ مِنْ الْقُبُورِ، وَكَمْ يُفْتَضَحُ غَدًا مِنْ أَرْبَابِ الْأَسْمَاءِ مِنْ الْخَلْقِ بِعَالِمٍ وَصَالِحٍ وَزَاهِدٍ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ طُفَيْلِيٍّ تَصَدَّرَ بِالْوَقَاحَةِ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ يَعْمَلُ فِي صَخْرَةٍ صَمَّاءَ لَيْسَ لَهَا بَابٌ وَلَا كَوَّةٌ لَخَرَجَ عَمَلُهُ لِلنَّاسِ كَائِنًا مَا كَانَ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «إنَّ الْعَبْدَ إذَا صَلَّى فِي الْعَلَانِيَةِ فَأَحْسَنَ وَصَلَّى فِي السِّرِّ فَأَحْسَنَ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذَا عَبْدِي حَقًّا» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: مُذْ عَرَفْتُ النَّاسَ لَمْ أَفْرَحْ بِمَدْحِهِمْ وَلَمْ أَكْرَهْ مَذَمَّتَهُمْ قِيلَ وَلِمَ ذَاكَ؟ قَالَ لِأَنَّ حَامِدَهُمْ مُفَرِّطٌ، وَذَامَّهُمْ مُفَرِّطٌ. وَرَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مَنَاقِبِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ السَّمَّاكِ سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ إظْهَارُ الْمِحْبَرَةِ مِنْ الرِّيَاءِ.

فصل في إصلاح السريرة والإخلاص وعلامات فساد القلب

[فَصْلٌ فِي إصْلَاحِ السَّرِيرَةِ وَالْإِخْلَاصِ وَعَلَامَاتِ فَسَادِ الْقَلْبِ] فِي الْأَثَرِ مَنْ أَصْلَحَ سَرِيرَتَهُ أَصْلَحَ اللَّهُ عَلَانِيَتَهُ، وَمَنْ أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَصْلَحَ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ. قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ " كَانَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا مَضَى يَكْتُبُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ " فَذَكَرَ ذَلِكَ وَفِي آخِرِهِ وَمَنْ عَمِلَ لِآخِرَتِهِ كَفَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَمْرَ دُنْيَاهُ رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْإِخْلَاصِ وَقَالَ «أَلَا إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ» . قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَأَخْبَرَ أَنَّ صَلَاحَ الْقَلْبِ مُسْتَلْزِمٌ لِصَلَاحِ سَائِرِ الْجَسَدِ، وَفَسَادَهُ مُسْتَلْزِمٌ لِفَسَادِهِ، فَإِذَا رَأَى ظَاهِرَ الْجَسَدِ فَاسِدًا غَيْرَ صَالِحٍ عَلِمَ أَنَّ الْقَلْبَ لَيْسَ بِصَالِحٍ بَلْ فَاسِدٌ، وَيَمْتَنِعُ فَسَادُ الظَّاهِرِ مَعَ صَلَاحِ الْبَاطِنِ كَمَا يَمْتَنِعُ صَلَاحُ الظَّاهِرِ مَعَ فَسَادِ الْبَاطِنِ إذْ كَانَ صَلَاحُ الظَّاهِرِ وَفَسَادُهُ مُلَازِمًا لِصَلَاحِ الْبَاطِنِ وَفَسَادِهِ. قَالَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إلَّا أَظْهَرَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى صَفَحَاتِ وَجْهِهِ وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ: لِلْإِيمَانِ رَوَائِحُ وَلَوَائِحُ لَا تَخْفَى عَلَى اطِّلَاعِ مُكَلَّفٍ بِالتَّلَمُّحِ لِلْمُتَفَرِّسِ، وَقَلَّ أَنْ يُضْمِرَ مُضْمِرٌ شَيْئًا إلَّا وَظَهَرَ مَعَ الزَّمَانِ عَلَى فَلَتَاتِ لِسَانِهِ وَصَفَحَاتِ وَجْهِهِ. وَقَدْ أَخَذَ الْفُقَهَاءُ بِالتَّكَشُّفِ عَلَى مُدَّعِي الطَّرَشِ وَالْعَمَى عِنْدَ لَطْمِهِ، أَوْ زَوَالِ عَقْلِهِ عِنْدَ ضَرْبِهِ، أَوْ الْخَرَسِ وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ مِمَّا لَا تُعْلَمُ صِحَّتُهُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ وَلَا تُمْكِنُ الشَّهَادَةُ بِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ فِي التَّكَشُّفِ عَنْ هَذَا مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ وَأَنَّ مَنْ أَرَادَ التَّكَشُّفَ عَنْ رَجُلٍ خَطَبَ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَزَلْ يَذْكُرُ الْمَذَاهِبَ وَيُعَرِّضُ بِهَا وَيَذْكُرُ الْأَفْعَالَ الْمُزْرِيَةَ فِي الشَّرْعِ الَّتِي يَمِيلُ إلَيْهَا الطَّبْعُ وَيَنْظُرُ هَشَاشَتَهُ إلَيْهَا

وَتَعَبُّسَهُ عِنْدَ ذِكْرِهَا وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ الْبَحْثُ بِصَاحِبِهِ حَتَّى يُوقِفَهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِمَا يَظْهَرُ مِنْ الدَّلَائِلِ، فَافْهَمْ ذَلِكَ بِطَرِيقٍ مُرِيحٍ مِنْ كُلِّ إقْدَامٍ عَلَى مَا لَا تَسْلَمُ مِنْ عَاقِبَتِهِ، وَيَعْصِمُ مِنْ كُلِّ وَرْطَةٍ وَسَقْطَةٍ يَبْعُدُ تَلَافِيهَا، وَذَلِكَ دَأْبُ الْعُقَلَاءِ، فَأَيْنَ رَائِحَةُ الْإِيمَانِ مِنْكَ وَأَنْتَ لَا يَتَغَيَّرُ وَجْهُكَ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَتَكَلَّمَ، وَمُخَالَفَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَاقِعَةٌ مِنْ كُلِّ مُعَاشِرٍ وَمُجَاوِرٍ فَلَا تَزَالُ مَعَاصِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْكُفْرُ يَزِيدُ، وَحَرِيمُ الشَّرْعِ يُنْتَهَكُ، فَلَا إنْكَارَ وَلَا مُنْكِرَ، وَلَا مُفَارَقَةَ لِمُرْتَكِبِ ذَلِكَ وَلَا هِجْرَانَ لَهُ. وَهَذَا غَايَةُ بَرَدِ الْقَلْبِ وَسُكُونِ النَّفْسِ وَمَا كَانَ ذَلِكَ فِي قَلْبٍ قَطُّ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ إيمَانٍ؛ لِأَنَّ الْغِيرَةَ أَقَلُّ شَوَاهِدِ الْمَحَبَّةِ وَالِاعْتِقَادِ. قَالَ حَتَّى لَوْ تَحَجَّفَ الْإِنْسَانُ بِكُلِّ مَعْنًى وَأَمْسَكَ عَنْ كُلِّ قَوْلٍ لَمَا تَرَكُوهُ وَيُفْصِحُ لِأَنَّهُمْ كَثْرَةٌ وَهُوَ وَاحِدٌ وَالْكَلَامُ شُجُونٌ، وَالْمَذَاهِبُ فُنُونٌ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَنْطِقُ بِمَذْهَبٍ وَيُعَظِّمُ شَخْصًا، وَآخَرُ يَذُمُّ ذَلِكَ الشَّخْصَ وَالْمَذْهَبَ وَيَمْدَحُ غَيْرَهُ، وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَهِشَّ لِمَدْحِ مَنْ يَهْوَى، وَيَعْبَسَ لِذَمِّهِ، وَيَنْفِرَ مِنْ ذَمِّ مَذْهَبٍ يَعْتَقِدُهُ فَيَكْشِفَ ذَلِكَ. فَالْعَاقِلُ مَنْ اجْتَهَدَ فِي تَفْوِيضِ أَمْرِهِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي سَتْرِ مَا يَجِبُ سَتْرُهُ وَكَشْفِ مَا يَجِبُ كَشْفُهُ، وَلَا يَعْتَمِدُ عَلَى نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَتْعَبُ وَلَا يَبْلُغُ مِنْ ذَلِكَ الْغَرَضَ. قَالَ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَهِشَّ بِخِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَلَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إنْ كَانَتْ الْمُنَاظَرَةُ فِيهِمَا، وَلَا إلَى الْقَدَرِ وَلَا إلَى نَفْيِهِ وَلَا حُدُوثِ الْعَالَمِ وَلَا قِدَمِهِ، وَلَا النَّسْخِ وَلَا الْمَنْعِ مِنْ النَّسْخِ، وَالسُّكُونُ إلَى هَذَا وَبَرْدُ قَلْبِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَافِرٌ لَا يَعْتَقِدُ إذْ لَوْ كَانَ لِهَذَا اعْتِقَادٌ بِحَرَكَةٍ لَهَشَّ إلَى نَاصِرِ مُعْتَقَدِهِ، وَلَأَنْكَرَ عَلَى مُفْسِدِ مُعْتَقَدِهِ. فَالْوَيْلُ لِلْكَاتِمِ مِنْ الْمُتَكَشِّفِينَ، وَإِرْضَاءُ الْخَلْقِ بِالْمُعْتَقَدَاتِ وَبَالٌ فِي الْآخِرَةِ، وَمُبَاغَتَتُهُمْ فِيهَا وَمُكَاشَفَتُهُمْ بِهَا وَبَالٌ فِي الدُّنْيَا وَتَغْرِيرٌ بِالنَّفْسِ، وَلَا يَنْجُو مِنْهُمْ الْمُشَارِكُ لَهُمْ فِي الْحِيَلِ. وَالْأَحْرَى بِالْإِنْسَانِ أَنْ يَتَمَاسَكَ عَمَّا فِيهِ وَيَتْرُكَ

فُضُولَ الْكَلَامِ، وَإِذَا تَوَسَّطَ اعْتَمَدَ عَلَى اللَّهِ فِي إصْلَاحِ دُنْيَاهُ، وَإِذَا قَصَدَ إظْهَارَ الْحَقَّ لِأَجْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَاَللَّهُ تَعَالَى يَعْصِمُهُ وَيُسَلِّمُهُ وَمَا رَأَيْنَا مِنْ رَدِّ الْبِدَعِ إلَّا السَّلَامَةَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75] أَيْ الْمُتَفَرِّسِينَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي تَفْسِيرِهَا الْخَبَرَ الْمَشْهُورَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» وَقَدْ رَوَى الْجُنَيْدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا الْخَبَرَ وَهُوَ فِي تَرْجَمَتِهِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «مَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ، وَلَا يُمْسِي إلَّا فَقِيرًا وَلَا يُصْبِحُ إلَّا فَقِيرًا، وَمَا أَقْبَلَ عَبْدٌ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِقَلْبِهِ، إلَّا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ تَنْقَادُ إلَيْهِ بِالْوُدِّ وَالرَّحْمَةِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ خَيْرٍ أَسْرَعَ» . وَلِأَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ عَنْ شَدَّادٍ مَرْفُوعًا «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» دَانَ نَفْسَهُ حَاسَبَهَا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ أَنْ يُحَاسَبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدُ الْبَرِّ فِي كِتَابِ بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ: قَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ كَثْرَةُ الْأَمَانِيِّ مِنْ غَرُورِ الشَّيْطَانِ. وَقَالَ يَزِيدُ عَلَى الْمِنْبَرِ: ثَلَاثٌ يَحْلِقْنَ الْعَقْلَ وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى الضَّعْفِ: سُرْعَةُ الْجَوَابِ وَطُولُ التَّمَنِّي وَالِاسْتِغْرَاقُ فِي الضَّحِكِ وَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: وَمَا الْعَيْشُ إلَّا فِي الْخُمُولِ مَعَ الْغِنَى ... وَعَافِيَةٍ تَغْدُو بِهَا وَتَرُوحُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْلَا مُنَى الْعَاشِقِينَ مَاتُوا ... أَسًى وَبَعْضُ الْمُنَى غَرُورُ مَنْ رَاقَبَ النَّاسَ مَاتَ غَمَّا ... وَفَازَ بِاللَّذَّةِ الْجَسُورُ

فصل في فضيحة العاصي

وَقَالَ آخَرُ: مَنْ رَاقَبَ الْمَوْتَ لَمْ تَكْثُرْ أَمَانِيهِ ... وَلَمْ يَكُنْ طَالِبًا مَا لَيْسَ يَعْنِيهِ وَلِلتِّرْمِذِيِّ مَرْفُوعًا بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ وَمَوْقُوفًا بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: اُكْتُبِي لِي كِتَابًا تُوصِينِي فِيهِ وَلَا تُكْثِرِي عَلَيَّ فَكَتَبَتْ إلَيْهِ " سَلَامٌ عَلَيْكَ مَنْ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنْ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَى النَّاسِ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ ". [فَصْلٌ فِي فَضِيحَةِ الْعَاصِي] هَلْ يَفْضَحُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَاصِيًا بِأَوَّلِ مَرَّةٍ أَمْ بَعْدَ التَّكْرَارِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَالثَّانِي مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَاخْتَارَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ الْأَوَّلَ، وَاعْتَرَضَ عَلَى مَنْ قَالَ بِالثَّانِي: تُرَى آدَم هَلْ كَانَ عَصَى قَبْلَ أَكْلِ الشَّجَرَةِ بِمَاذَا؟ فَسَكَتَ. [فَصْلٌ أَسْبَابُ مَوَانِعِ الْعِقَابِ وَثَمَرَاتُ التَّوْحِيدِ وَالدُّعَاءِ] ِ) (وَالْمَأْثُورُ الْمَرْفُوعُ مِنْهُ) . قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَثْنَاءِ كَلَامٍ لَهُ: الذُّنُوبُ تَزُولُ عُقُوبَاتُهَا بِأَسْبَابٍ بِالتَّوْبَةِ وَبِالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ وَبِالْمَصَائِبِ الْمُكَفِّرَةِ، لَكِنَّهَا مِنْ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا، وَكَذَلِكَ مَا يَحْصُلُ فِي الْبَرْزَخِ مِنْ الشِّدَّةِ وَكَذَلِكَ مَا يَحْصُلُ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، وَتَزُولُ أَيْضًا بِدُعَاءِ الْمُؤْمِنِينَ كَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَشَفَاعَةِ الشَّفِيعِ الْمُطَاعِ لِمَنْ شَفَعَ فِيهِ.

وَسُئِلَ مَا السَّبَبُ فِي أَنَّ الْفَرَجَ يَأْتِي عِنْدَ انْقِطَاعِ الرَّجَاءِ بِالْخَلْقِ؟ وَمَا الْحِيلَةُ فِي صَرْفِ الْقَلْبِ عَنْ التَّعَلُّقِ بِهِمْ وَتَعَلُّقِهِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ فَقَالَ سَبَبُ هَذَا تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ: تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَتَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ، فَتَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ أَنَّهُ لَا خَالِقَ إلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا يَسْتَقِلُّ شَيْءٌ سِوَاهُ بِإِحْدَاثِ أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ، بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ إذَا قَدَّرَ شَيْئًا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ شَرِيكٍ مُعَاوِنٍ وَضِدٍّ مَعْرُوفٍ، فَإِذَا طُلِبَ مِمَّا سِوَاهُ إحْدَاثُ أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ طُلِبَ مِنْهُمَا لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ وَلَا يَقْدِرُ وَحْدَهُ عَلَيْهِ إلَى أَنْ قَالَ: فَالرَّاجِي مَخْلُوقًا طَالِبٌ بِقَلْبِهِ مَا يُرِيدُهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَخْلُوقِ وَذَلِكَ الْمَخْلُوقُ عَاجِزٌ عَنْهُ. ثُمَّ هَذَا مِنْ الشِّرْكِ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَمِنْ كَمَالِ نِعْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إلَى عِبَادِهِ أَنْ يَمْنَعَ تَحْصِيلَ مَطَالِبِهِمْ بِالشِّرْكِ حَتَّى يَصْرِفَ قُلُوبَهُمْ إلَى التَّوْحِيدِ، ثُمَّ إنْ وَحَّدَهُ الْعَبْدُ تَوْحِيدَ الْإِلَهِيَّةِ حَصَلَتْ لَهُ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إلَى أَنْ قَالَ فَمِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُنْزِلَ بِهِمْ مِنْ الشِّدَّةِ وَالضَّرَرِ مَا يُلْجِئُهُمْ إلَى تَوْحِيدِهِ فَيَدْعُونَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَيَرْجُونَهُ وَلَا يَرْجُونَ أَحَدًا سِوَاهُ، وَتَتَعَلَّقُ قُلُوبُهُمْ بِهِ لَا بِغَيْرِهِ فَيَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ، وَحَلَاوَةِ الْإِيمَانِ، وَذَوْقِ طَعْمِهِ، وَالْبَرَاءَةِ مِنْ الشِّرْكِ، مَا هُوَ أَعْظَمُ نِعْمَةً عَلَيْهِمْ مِنْ زَوَالِ الْمَرَضِ وَالْخَوْفِ وَالْجَدْبِ، أَوْ حُصُولِ الْيُسْرِ، أَوْ زَوَالِ الْعُسْرِ فِي الْمَعِيشَةِ. فَإِنَّ ذَلِكَ لَذَّةٌ بَدَنِيَّةٌ وَنِعْمَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ قَدْ يَحْصُلُ مِنْهَا لِلْكَافِرِ أَعْظَمُ مِمَّا يَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِ. وَأَمَّا مَا يَحْصُلُ لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ الْمُخْلِصِينَ لِلَّهِ وَالدِّينِ فَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِمَقَالٍ، أَوْ يَسْتَحْضِرَ تَفْصِيلَهُ بَالٌ، وَلِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ ذَلِكَ نَصِيبٌ بِقَدْرِ إيمَانِهِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: يَا ابْنَ آدَمَ لَقَدْ بُورِكَ لَكَ فِي حَاجَةٍ أَكْثَرْتَ فِيهَا مِنْ قَرْعِ بَابِ سَيِّدِكَ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: إنَّهُ لَيَكُونُ لِي إلَى اللَّهِ حَاجَةٌ وَأَدْعُو فَيَفْتَحُ لِي مِنْ لَذِيذِ مَعْرِفَتِهِ وَحَلَاوَةِ مُنَاجَاتِهِ مَا لَا أُحِبُّ مَعَهُ أَنْ يُعَجِّلَ قَضَاءَ حَاجَتِي خَشْيَةَ أَنْ تَنْصَرِفَ نَفْسِي عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّ النَّفْسَ لَا تُرِيدُ إلَّا حَظَّهَا فَإِذَا قُضِيَ انْصَرَفَتْ. وَفِي بَعْضِ الْإِسْرَائِيلِيَّات: يَا ابْنَ آدَمَ الْبَلَاءُ يَجْمَعُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ.

وَالْعَافِيَةُ تَجْمَعُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ نَفْسِكَ. وَهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ وَهُوَ مَوْجُودٌ مَحْسُوسٌ بِالْحِسِّ الْبَاطِنِ لِلْمُؤْمِنِ وَمَا مِنْ مُؤْمِنٍ إلَّا وَقَدْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ مَا يَعْرِفُ بِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَإِنَّ مَا كَانَ مِنْ بَابِ الذَّوْقِ وَالْوَجْدِ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا مَنْ كَانَ لَهُ ذَوْقٌ وَحِسٌّ، وَلَفْظُ الذَّوْقِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُظَنَّ أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ مُخْتَصٌّ بِذَوْقِ اللِّسَانِ فَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِحْسَاسِ بِالْمُلَائِمِ وَالْمُنَافِي، كَمَا أَنَّ لَفْظَ الْإِحْسَاسِ عَامٌّ فِيمَا يُحَسُّ بِالْحَوَاسِّ الْخَمْسِ، بَلْ وَبِالْبَاطِنِ. وَأَمَّا فِي اللُّغَةِ فَأَصْلُهُ الرُّؤْيَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} [مريم: 98] . وَهَذَا الْكَلَامُ بِتَمَامِهِ فِي آخِرِ الْكَلَامِ عَلَى دَعْوَةِ ذِي النُّونِ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ «فَإِنَّهَا لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْعَظِيمُ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمُ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَالْأَرْضِ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمُ» وَعَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ. قَالَ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا أَهَمَّهُ الْأَمْرُ رَفَعَ طَرْفَهُ إلَى السَّمَاءِ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فِي الدُّعَاءِ قَالَ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ» رَوَاهُمَا التِّرْمِذِيُّ وَإِسْنَادُ الثَّانِي ضَعِيفٌ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ الْأَوَّلَ مِنْ حَدِيثِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرٍ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَاتَلْتُ شَيْئًا مِنْ قِتَالٍ ثُمَّ جِئْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

أَنْظُرُ مَا صَنَعَ فَجِئْتُ فَإِذَا هُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ ثُمَّ رَجَعْتُ إلَى الْقِتَالِ ثُمَّ جِئْتُ فَإِذَا هُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ ذَهَبْتُ إلَى الْقِتَالِ ثُمَّ جِئْتُ فَإِذَا هُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ ذَلِكَ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ» . وَعَنْهُ قَالَ «عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا نَزَلَ بِي كَرْبٌ أَنْ أَقُولَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» رَوَاهُمَا النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ الثَّانِيَ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «مَا كَرَبَنِي أَمْرٌ إلَّا تَمَثَّلَ لِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ قُلْ تَوَكَّلْتُ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111] » رَوَاهُ الْحَاكِمُ. وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «دَعْوَةُ الْمَكْرُوبِ اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلَا تَكِلْنِي إلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ» وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَلَا أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ تَقُولِيهِنَّ عِنْدَ الْكَرْبِ: اللَّهُ رَبِّي لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» وَفِي رِوَايَةٍ «أَنَّهَا تُقَالُ سَبْعَ مَرَّاتٍ» . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو أُمَامَةَ فَقَالَ يَا أَبَا أُمَامَةَ مَا لِي أَرَاك فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: هُمُومٌ لَزِمَتْنِي وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلَامًا إذَا أَنْتَ قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّكَ وَقَضَى دَيْنَكَ؟ قَالَ: قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ قُلْ إذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ. قَالَ: فَقُلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمِّي وَقَضَى عَنِّي دَيْنِي» . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ «مَنْ

لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ» رَوَاهُنَّ أَبُو دَاوُد. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ حَدِيثَ أَسْمَاءَ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ. وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مُرْسَلًا وَإِسْنَادُ الْمُتَّصِلِ جَيِّدٌ وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْغُدَانِيِّ عَنْ غَسَّانَ بْنِ عَوْفٍ عَنْ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ غَسَّانُ ضَعَّفَهُ الْأَزْدِيُّ وَاخْتَلَطَ الْجُرَيْرِيُّ بِآخِرِهِ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَا أَصَابَ عَبْدًا هَمٌّ وَلَا حُزْنٌ فَقَالَ اللَّهُمَّ إنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ مَاضٍ فِي حُكْمُكَ عَدْلٌ فِي قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي وَجَلَاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي إلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ حُزْنَهُ وَهَمَّهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجًا» رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَأَحْمَدُ وَفِيهِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَتَعَلَّمُهَا؟ قَالَ بَلَى يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا. وَرَوَى أَحْمَدُ حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ الْوَلِيدِ ثنا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الدُّؤَلِيِّ قَالَ: قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ أَخُو حُذَيْفَةَ قَالَ حُذَيْفَةُ يَعْنِي ابْنَ الْيَمَانِ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ يُصَلِّي» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا وَقَالَ ابْنُ أَخِي حُذَيْفَةَ قَالَ بَعْضُهُمْ: كَذَا رَوَاهُ شُرَيْحٌ عَنْ يُونُسَ عَنْ يَحْيَى وَخَالَفَهُمَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ وَخَلَفُ بْنُ الْوَلِيدِ فَرَوَيَاهُ عَنْ يَحْيَى وَقَالَا فِيهِ: قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ أَخُو حُذَيْفَةَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَذْكُرْ لِحُذَيْفَةَ رَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ الْهَمَذَانِيُّ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قُدَامَةَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ ابْنِ أَخِي حُذَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَذْكُرْ حُذَيْفَةَ. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جَرِيرٍ وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْيَمَانِ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَهُ قَالَ بَعْضُهُمْ فِي عَبْدِ الْعَزِيزِ لَا يُعْرَفُ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَمُحَمَّدٌ تَفَرَّدَ عَنْهُ عِكْرِمَةُ.

وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ الْقَطَوَانِيُّ ثَنَا سَيَّارٌ ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ سَمِعْت ثَابِتًا يَقُولُ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَصَابَتْ أَهْلَهُ خَصَاصَةٌ نَادَى أَهْلَهُ يَا أَهْلَاهُ صَلُّوا صَلُّوا» قَالَ ثَابِتٌ: وَكَانَتْ الْأَنْبِيَاءُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - إذَا نَزَلَ بِهِمْ أَمْرٌ فَزِعُوا إلَى الصَّلَاةِ. الظَّاهِرُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ جَيِّدُ الْإِسْنَادِ وَلِهَذَا الْمَعْنَى شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي الْكُسُوفِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111] . وَرَوَى الْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ قَالَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ كَانَ دَوَاءً مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ دَاءً أَيْسَرُهَا الْهَمُّ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ» وَصَحَّحَ التِّرْمِذِيُّ أَنَّهَا بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقُلُوبَ تَضْعُفُ وَتَمْرَضُ وَرُبَّمَا مَاتَتْ بِالْغَفْلَةِ وَالذُّنُوبِ وِتْرِك إعْمَالِهِ فِيمَا خُلِقَ لَهُ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ الْمَطْلُوبَةِ شَرْعًا وَأَعْظَمُ ذَلِكَ الشِّرْكُ، وَتَحْيَا وَتَقْوَى وَتَصِحُّ بِالتَّوْحِيدِ، وَالْيَقَظَةِ وَإِعْمَالِهِ فِيمَا خُلِقَ لَهُ وَالضِّدُّ يَزُولُ بِضِدِّهِ وَيَنْفَعِلُ عَنْهُ عَكْسَ مَا كَانَ مُنْفَعِلًا عَنْهُ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: رَأَيْت الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ ... وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إدْمَانُهَا وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ ... وَخَيْرٌ لِنَفْسِك عِصْيَانُهَا قَالَ تَعَالَى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ «إنَّ الْعَبْدَ إذَا أَذْنَبَ نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ ثُمَّ إذَا أَذْنَبَ نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ حَتَّى يَبْقَى أَسْوَدَ مُرْبَدًّا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ» فَالْهَوَى أَعْظَمُ الْأَدْوَاءِ وَمُخَالَفَتُهُ أَعْظَمُ الدَّوَاءِ وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ فُصُولِ التَّدَاوِي.

فِي دَوَاءِ الْعِشْقِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا، وَخُلِقَتْ النَّفْسُ فِي الْأَصْلِ جَاهِلَةً ظَالِمَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111] . فَلِجَهْلِهَا تَظُنُّ شِفَاءً فِي اتِّبَاعِ هَوَاهَا، وَإِنَّمَا هُوَ أَعْظَمُ دَاءٍ فِيهِ تَلَفُهَا، وَتَضَعُ الدَّاءَ مَوْضِعَ الدَّوَاءِ وَالدَّوَاءَ مَوْضِعَ الدَّاءِ، فَيَتَوَلَّدُ مِنْ ذَلِكَ عِلَلٌ وَأَمْرَاضٌ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ تُبَرِّئُ نَفْسَهَا وَتَلُومُ رَبَّهَا عَزَّ وَجَلَّ بِلِسَانِ الْحَالِ، وَقَدْ تُصَرِّحُ بِاللِّسَانِ وَلَا تَقْبَلُ النُّصْحَ لِظُلْمِهَا وَجَهْلِهَا وَلِهَذَا كَانَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي دُعَاءِ الْكَرْبِ مُشْتَمِلًا عَلَى كَمَالِ الرُّبُوبِيَّةِ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَيَسْتَلْزِمُ تَوْحِيدَهُ، وَأَنَّهُ الَّذِي لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ وَالْخَوْفُ وَالرَّجَا إلَّا لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَفِيهِ الْعَظَمَةُ الْمُطْلَقَةُ وَهِيَ مُسْتَلْزِمَةٌ إثْبَاتَ كُلِّ كَمَالٍ، وَفِيهِ الْحِلْمُ مُسْتَلْزِمٌ كَمَالَ رَحْمَتَهُ وَإِحْسَانِهِ فَمَعْرِفَةُ الْقَلْبِ بِذَلِكَ تُوجِبُ إعْمَالَهُ فِي أَعْمَالِ الْقُلُوبِ الْمَطْلُوبَةِ شَرْعًا، فَيَجِدُ لَذَّةً وَسُرُورًا يَدْفَعُ مَا حَصَلَ وَرُبَّمَا حَصَلَ الْبَعْضُ بِحَسَبِ قُوَّةِ ذَلِكَ وَضَعْفِهِ كَمَرِيضٍ وَرَدَ عَلَيْهِ مَا يُقَوِّي طَبِيعَتَهُ. وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ فِي غَايَةِ الْمُنَاسَبَةِ لِتَفْرِيجِ مَا حَصَلَ لِلْقَلْبِ، وَكُلَّ مَا كَانَ الْإِنْسَانُ أَشَدَّ اعْتِنَاءً بِذَلِكَ وَأَكْثَرَ ذَوْقًا وَمُبَاشَرَةً ظَهَرَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يَظْهَرْ لِغَيْرِهِ. وَالْحَيَاةُ الْمُطْلَقَةُ التَّامَّةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِكُلِّ صِفَةِ كَمَالٍ، وَالْقَيُّومِيَّةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِكُلِّ صِفَةِ فِعْلٍ، وَكَمَالُهَا بِكِمَالِ الْحَيَاةِ، فَالتَّوَسُّلُ بِهَاتَيْنِ الصِّفَّتَيْنِ يُؤَثِّرُ فِي إزَالَةِ مَا يُضَادُّ الْحَيَاةَ وَيَضُرُّ بِالْأَفْعَالِ. وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111] وَفَاتِحَةِ آلِ عِمْرَانَ {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111] » .

صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَابْنُ مَاجَهْ، وَلِأَحْمَدَ: سَمِعْته يَقُولُ «فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111] {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111] . اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ» . وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ «أَنَّ رَجُلًا دَعَا فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِأَنَّ لَك الْحَمْدَ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَدْ دَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي إذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى» . وَفِي بَقِيَّةِ الْأَحَادِيثِ مِنْ تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ وَالِاعْتِمَادِ وَالتَّوَكُّلِ وَالرَّجَاءِ وَأَسْرَارِ الْعُبُودِيَّةِ وَالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ كُلِّ شَرٍّ وَالِاسْتِغْفَارِ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَالتَّوَسُّلِ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى مَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ وَالصَّلَاةُ أَمْرُهَا عَظِيمٌ وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ وَفِيهِ كَلَامٌ عَنْ مُجَاهِدٍ «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ وَقَدْ شَكَا وَجَعَ بَطْنِهِ قُمْ فَصَلِّ فَإِنَّ فِي الصَّلَاةِ شِفَاءً» وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَهُ لِمُجَاهِدٍ قَالَ الْبُخَارِيُّ قَالَ ابْنُ الْأَصْبَهَانِيِّ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ أَبُو هُرَيْرَةَ لَمْ يَكُنْ فَارِسِيًّا إنَّمَا مُجَاهِدٌ فَارِسِيٌّ وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا وَلَا يَصِحُّ. قَالَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي جَامِعِ الْمَسَانِيدِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّلَاةَ حَرَكَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ تَتَحَرَّكُ مَعَهَا الْأَعْضَاءُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْأَطِبَّاءُ أَنَّ فِي الْمَشْيِ رِيَاضَةً قُوَّةً وَتَحْلِيلًا وَأَنَّ مِمَّا يَحْفَظُ الصِّحَّةَ إتْعَابُ الْبَدَنِ قَلِيلًا، وَيَحْصُلُ لِلنَّفْسِ بِالصَّلَاةِ قُوَّةٌ وَانْشِرَاحٌ مَعَ ذَلِكَ فَتَقْوَى الطَّبِيعَةُ فَيَنْدَفِعُ الْأَلَمُ، وَالْجِهَادُ أَقْوَى فِي هَذَا الْمَعْنَى وَأَوْلَى.

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111] . وَعَنْ عُبَادَةَ مَرْفُوعًا «جَاهِدُوا فِي اللَّهِ فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ عَظِيمٌ يُنَجِّي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهَمِّ وَالْغَمِّ» رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ الشَّامِيِّ وَأَبُو بَكْرٍ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «سَافِرُوا تَصِحُّوا، وَاغْزُوا تَسْتَغْنُوا» رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ. وَفِي مَعْنَاهُ الْحَجُّ لَأَنَّهُ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقَوْله تَعَالَى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111] نَافِعَةٌ فِي ذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: قَالَهَا إبْرَاهِيمُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَالُوا: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111] . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَفِي السُّنَنِ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدْ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَحَنَى جَبْهَتَهُ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْمَرَ فَيَنْفُخُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ

وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إسْمَاعِيلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى بْنِ أَعْيَنَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا وَهُوَ إسْنَادٌ جَيِّدٌ. وَمِنْ ذَلِكَ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ الطُّفَيْلِيِّ بْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جَاءَتْ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت إنْ جَعَلْت صَلَاتِي كُلَّهَا عَلَيْك قَالَ إذًا يَكْفِيك اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَا أَهَمَّكَ مِنْ دُنْيَاك وَآخِرَتِك» حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِأَطْوَلَ مِنْ هَذَا وَحَسَّنَهُ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَلْحَظَ أَنَّ انْتِظَارَ الْفَرَجِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عِبَادَةٌ فَيَنْتَعِشُ بِذَلِكَ وَيُسَرُّ بِهِ فَفِي التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ» ، «وَأَفْضَلُ الْعِبَادَةِ انْتِظَارُ الْفَرَجِ» ، وَاعْلَمْ أَنَّ الدَّوَاءَ إنَّمَا يَنْفَعُ غَالِبًا مَنْ تَلَقَّاهُ بِالْقَبُولِ وَعَمِلَهُ بِاعْتِقَادٍ حَسَنٍ وَكُلَّمَا قَوِيَ الِاعْتِقَادُ وَحَسُنَ الظَّنُّ كَانَ أَنْفَعَ. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: غَرِيبٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اُدْعُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ» . وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ وَبَعْضُهَا أَوْعَى مِنْ بَعْضٍ فَإِذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَيُّهَا النَّاسُ فَاسْأَلُوهُ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَسْتَجِيبُ لِعَبْدٍ دَعَاهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْب غَافِل» وَسَيَأْتِي فِي الدُّعَاءِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، إنْ ظَنَّ خَيْرًا فَلَهُ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يُعَجِّلْ قَالُوا وَكَيْفَ يُعَجِّلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ يَقُولُ قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ» .

فَالْعَارِفُ يَجْتَهِدُ فِي تَحْصِيلِ أَسْبَابِ الْإِجَابَةِ مِنْ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَا يَمَلُّ وَلَا يَسْأَمُ وَيَجْتَهِدُ فِي مُعَامَلَتِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي غَيْرِ وَقْتِ الشِّدَّةِ فَإِنَّهُ أَنْجَحَ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «تَعَرَّفْ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ. وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَقَالَ غَرِيبٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالْكَرْبِ فَلْيُكْثِرْ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ» . فَهَذِهِ الْأُمُورُ يَنْظُرُ فِيهَا الْعَارِفُ وَيَعْلَمُ أَنَّ عَدَمَ إجَابَتِهِ إمَّا لِعَدَمِ بَعْضِ الْمُقْتَضَى أَوْ لِوُجُودِ مَانِعٍ فَيَتَّهِمُ نَفْسَهُ لَا غَيْرَهَا وَيَنْظُرُ فِي حَالِ سَيِّدِ الْخَلَائِقِ وَأَكْرَمِهِمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَيْفَ كَانَ اجْتِهَادُهُ فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ وَغَيْرِهَا، وَيَثِقُ بِوَعْدِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَوْلِهِ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] وَقَوْلِهِ: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] وَلِيَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، وَأَنَّ مَنْ تَعَاطَى ذَلِكَ عَلَى خَيْرٍ وَلَا بُدَّ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يُجِبْ إلَى دَعَوْتِهِ حَصَلَ لَهُ مِثْلُهَا وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَا عَلَى الْأَرْضِ مُسْلِمٌ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةٍ إلَّا آتَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إيَّاهَا وَصَرَفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةٍ. قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ إذًا نُكْثِرُ قَالَ اللَّهُ أَكْثَرُ» وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مِثْلُهُ وَفِيهِ «إمَّا أَنْ يُعَجِّلَهَا أَوْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا» وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّعَاءِ فِي الْجُمْلَةِ قَبْلَ آدَابِ الْقِرَاءَةِ وَلَهُ مُنَاسَبَةٌ بِهَذَا.

وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ شَكَا إلَيْهِ الْعُسْرَةَ فِي أُمُورِهِ: أَلَا أَيُّهَا الْمَرْءُ ... الَّذِي فِي عُسْرِهِ أَصْبَحْ إذَا اشْتَدَّ بِكَ الْأَمْرُ ... فَلَا تَنْسَ أَلَمْ نَشْرَحْ وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّ مُكَاتَبًا جَاءَهُ فَقَالَ إنِّي عَجَزْتُ عَنْ كِتَابَتِي فَأَعِنِّي قَالَ أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ عَلَّمَنِيهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ جَبَلِ صِيرٍ أَدَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْكَ قَالَ بَلَى قَالَ قُلْ «اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِحَلَالِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وَأَغْنِنِي بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ: يَا مُتَشَرِّدًا عَلَى مَوْلَاهُ لَا تَنْعَلْ لَا تَغْضَبَنَّ عَلَى قَوْمٍ تُحِبُّهُمْ ... فَلَيْسَ يُنْجِيكَ مِنْ أَحْبَابِكَ الْغَضَبُ وَلَا تُخَاصِمْهُمْ يَوْمًا وَإِنْ عَتَبُوا ... إنَّ الْقُضَاةَ إذَا مَا خُوصِمُوا غَلَبُوا وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ: وَاَللَّهِ مَا أَعْتَمِدُ عَلَى أَنِّي مُؤْمِنٌ بِصَلَاتِي وَصَوْمِي بَلْ أَعْتَمِدُ إذَا رَأَيْتُ قَلْبِي فِي الشَّدَائِدِ يَفْزَعُ إلَيْهِ، وَشُكْرِي لِمَا أَنْعَمَ عَلَيَّ، وَقَالَ قَدْ صُنْتُكَ بِكُلِّ مَعْنًى عَنْ أَنْ تَكُونَ عَبْدًا لِعَبْدٍ وَأَعْلَمْتُكَ أَنِّي أَنَا الْخَالِقُ الرَّازِقُ فَتَرَكْتَنِي وَقَبِلْتَ عَلَى الْعَبِيدِ، كُلُّكُمْ تَسْأَلُونِي وَقْتَ جَدْبِ الْمَطَرِ، وَبَعْدَ الْإِجَابَةِ يَعْبُدُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39] وَقَالَ أَيْضًا: أَمَا تَسْتَحْيِي وَأَنْتَ تُعَلِّمُ كَلْبَ الصَّيْدِ يَأْخُذُ إبْقَاءً عَلَيْكَ فَيَقْبَلُ تَعَلُّمَكَ وَتَكْسِرُ عَادِيَةَ طَبْعِهِ وَتُكَلِّبُ نَفْسَهُ عَنْ الْفَرِيسَةِ وَهُوَ جَائِعٌ

مُضْطَرٌّ إلَيْهَا، حَتَّى إذَا أَخَذْتَ الصَّيْدَ إنْ شِئْتَ أَطْعَمْتَهُ وَإِنْ شِئْت حَرَمْتَهُ، يَنْتَهِي حَالُك مَعِي وَأَنَا الْمُنْعِمُ الَّذِي أَنْشَأْتُك وَغَذَّيْتُك وَرَبَّيْتُك إنَّنِي كَلَّفْتُك أَنْ تُمْسِكَ نَفْسَكَ عَنْ الْبَحْثِ فِيمَا يُسْخِطُنِي، لَمْ تَضْبِطْ نَفْسَكَ بَلْ غَلَبَتْك عَلَى ارْتِكَابِ مَا نُهِيت وَعِصْيَانِ مَا أُمِرْت، بَلَغَتْ الصِّنَاعَةُ مِنْ هَذَا الْحَيَوَانِ الْخَسِيسِ أَنْ يَأْتَمِرَ إذَا أُمِرَ، وَيَنْزَجِرَ إذَا زُجِرَ، عُلِّقَتْ الْآدَابُ بِالْبَهِيمِ وَمَا تَعَلَّقَ بِقَلْبِك طُولُ الْعُمْرِ وَكَمَالُ الْعَقْلِ، تَنْشَطُ لِزَرْعِ نَوَاةٍ وَغَرْسِ فَسِيلَةٍ وَتَقْعُدُ مُنْتَظِرًا حَمْلَهَا، وَيَنْعَ ثَمَرِهَا، وَرُبَّمَا دُفِنْت قَبْلَ ذَلِكَ وَلَوْ عِشْت كَانَ مَاذَا وَمَا قَدْرُ مَا يَحْصُلُ مِنْهَا؟ وَأَنْتَ تَسْمَعُ قَوْلِي {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم: 24] وَقَوْلِي: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] هَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ لَا تَنْشَطُ أَنْ تَزْرَعَ عِنْدِي مَا تَجْنِي ثِمَارَهُ النَّافِعَةَ عَلَى التَّأْبِيدِ، هَذَا لِأَنَّك مُسْتَبْعِدٌ مَا ضَمِنْت فِي الْأُخْرَى، قَوِيُّ الْأَمَلِ فِي الدُّنْيَا، أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْله تَعَالَى {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} [الشورى: 20] وَتَسْمَعْ: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] . وَأَنْتَ تُحَدِّقُ إلَى الْمَحْظُورَاتِ تَحْدِيقَ مُتَوَسِّلٍ أَوْ مُتَأَسِّفٍ كَيْفَ لَا سَبِيلَ لَك إلَيْهَا، وَتَسْمَعْ قَوْله تَعَالَى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22] .

تَهِشُّ لَهَا كَأَنَّهَا فِيكَ نَزَلَتْ، وَتَسْمَعُ بَعْدَهَا {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} [القيامة: 24] فَتَطْمَئِنُّ أَنَّهَا لِغَيْرِك. وَمِنْ أَيْنَ ثَبَتَ هَذَا الْأَمْرُ، وَمِنْ أَيْنَ جَاءَ الطَّمَعُ، اللَّهَ اللَّهَ هَذِهِ خُدْعَةٌ تَحُولُ بَيْنَك وَبَيْنَ التَّقْوَى. وَقَالَ أَيْضًا الطِّبَاعُ الرَّدِيَّةُ أَبَالِسَةُ الْإِنْسَانِ، وَالْعُقُولُ وَالْأَدْيَانُ مَلَائِكَةُ هَذَا الشَّأْنِ. وَفِي خِلَالٍ تَعْتَلِجُ وَلَهَا أَخْلَاقٌ تَتَغَالَبُ وَالشَّرَائِعُ مِنْ خَارِجِ هَذَا الْجِسْمِ لِمَصَالِحِ الْعَالَمِ وَمَا دَامَ الْعَبْدُ فِي الْعِلَاجِ فَهُوَ طَالِبٌ، فَإِذَا غَلَّبَ الْعَقْلَ وَاسْتَعْمَلَ الشَّرْعَ فَهُوَ وَاصِلٌ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَيْضًا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مُفْلِسٌ مِنْ الْوُجُودِ فَكُلُّ أَحَدٍ يُرِيدُهُ لِنَفْسِهِ لَا لَهُ مِنْ أَهْلٍ وَوَلَدٍ وَصَدِيقٍ وَخَادِمٍ، وَلَيْسَ مَعَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ إلَّا الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَإِنْ خَذَلَهُ وَأَخَذَهُ بِذَنْبِهِ لَمْ يَبْقَ لَهُ مُتَعَلِّقٌ وَكَانَ الْهَلَاكُ الْكُلِّيُّ، وَإِنْ لَطَفَ بِهِ وَقَرَّبَهُ إلَيْهِ لَمْ يَضُرَّهُ انْقِطَاعُ كُلِّ مُنْقَطِعٍ عَنْهُ، فَيَجْعَلُ الْعَاقِلُ شُغْلَهُ خِدْمَةَ رَبِّهِ فَمَا لَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ غَيْرُهُ، وَلْيَكُنْ أَنِيسَهُ وَمَوْضِعَ شَكْوَاهُ فَلَا تَلْتَفِتْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُ إلَّا إلَيْهِ، وَلَا تُعَوِّلْ إلَّا عَلَيْهِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَعْقِدَ خِنْصَرَكَ إلَّا عَلَى الَّذِي نَظَّمَهَا. وَقَالَ تَأَمَّلْتُ إقْدَامَ أَكْثَرِ الْخَلْقِ عَلَى الْمَعَاصِي فَإِذَا سَبَبُهُ حُبُّ الْعَاجِلِ وَالطَّمَعِ فِي الْعَفْوِ، وَإِنِّي لَأَعْجَبُ مِنْ الصُّوفِيَّةِ إذَا مَاتَ لَهُمْ مَيِّتٌ كَيْفَ يَعْمَلُونَ دَعْوَةً وَيَرْقُصُونَ وَيَقُولُونَ وَصَلَ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَفَأَمِنُوا أَنْ يَكُونَ وَقَعَ فِي عَذَابٍ، فَهَؤُلَاءِ سَدُّوا بَابَ الْخَوْفِ وَعَمِلُوا عَلَى زَعْمِهِمْ عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالشَّوْقِ وَمَا كَانَ الْعُلَمَاءُ هَكَذَا.

فصل وجوب حب العبد لربه مما يتحبب إليه من نعمه

[فَصْلٌ وُجُوبُ حُبِّ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ مِمَّا يَتَحَبَّبُ إلَيْهِ مِنْ نِعَمِهِ] قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ قَالَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ «ابْنَ آدَمَ مَا أَنْصَفْتَنِي، أَتَحَبَّبُ إلَيْك بِالنِّعَمِ وَتَتَبَغَّضُ إلَيَّ بِالْمَعَاصِي، خَيْرِي إلَيْك نَازِلٌ وَشَرُّك إلَيَّ صَاعِدٌ» . وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ مَنْ نَقَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ ذُلِّ الْمَعَاصِي إلَى عِزِّ الطَّاعَةِ أَغْنَاهُ بِلَا مَالٍ، وَآنَسَهُ بِلَا أُنْسٍ، وَأَعَزَّهُ بِلَا عَشِيرَةٍ. أَخَذَهُ مَحْمُودُ الْوَرَّاقُ فَقَالَ: هَذَا الدَّلِيلُ لِمَنْ أَرَادَ ... غِنًى يَدُومُ بِغَيْرِ مَالِ وَأَرَادَ عِزًّا لَمْ تُوَطِّدْهُ ... الْعَشَائِرُ بِالْقِتَالِ وَمَهَابَةً مِنْ غَيْرِ سُلْطَانٍ ... وَجَاهًا فِي الرِّجَالِ فَلْيَعْتَصِمْ بِدُخُولِهِ ... فِي عِزِّ طَاعَةِ ذِي الْجَلَالِ وَخُرُوجِهِ مِنْ ذِلَّةِ الْعَاصِي ... لَهُ فِي كُلِّ حَالِ وَقَالَ الْحَسَنُ وَإِنْ هَمْلَجَتْ بِهِمْ خُيُولُهُمْ وَرَفْرَفَتْ بِهِمْ رَكَائِبُهُمْ، إنَّ ذُلَّ الْمَعْصِيَةِ فِي قُلُوبِهِمْ أَبَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَّا أَنْ يُذِلَّ مَنْ عَصَاهُ. وَقَالَتْ هِنْدُ: الطَّاعَةُ مَقْرُونَةٌ بِالْمَحَبَّةِ. فَالْمُطِيعُ مَحْبُوبٌ وَإِنْ نَأَتْ دَارُهُ، وَقَلَّتْ آثَارُهُ، وَالْمَعْصِيَةُ مَقْرُونَةٌ بِالْبِغْضَةِ، وَالْعَاصِي مَمْقُوتٌ وَإِنْ مَسَّتْك رَحْمَتُهُ وَأَنَا لَكَ مَعْرُوفَهُ. كَتَبَ ابْنُ السَّمَّاكِ إلَى أَخٍ لَهُ: أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ، وَالْوُقُوفُ عِنْدَ الشَّهْوَةِ، وَأَقْبَحُ الرَّغْبَةِ أَنْ تَطْلُبَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ، وَحُكِيَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ مِثْلَهُ وَقَالَ مَحْمُودُ الْوَرَّاقُ وَيُنْسَبُ إلَى الشَّافِعِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا شِعْرًا:

تَعْصِي الْإِلَهَ وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ ... هَذَا مُحَالٌ فِي الْقِيَاسِ بَدِيعُ لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لَأَطَعْتَهُ ... إنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ يُطِيعُ فِي كُلِّ يَوْمٍ يَبْتَدِيك بِنِعْمَةٍ ... مِنْهُ وَأَنْتَ لِشُكْرِ ذَاكَ مُضِيعُ وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ: أَرَاك امْرَأً تَرْجُو مِنْ اللَّهِ عَفْوَهُ ... وَأَنْتَ عَلَى مَا لَا يُحِبُّ مُقِيمُ فَحَتَّى مَتَى تَعْصِي وَيَعْفُو إلَى مَتَى ... تَبَارَكَ رَبِّي إنَّهُ لَرَحِيمُ.

فصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

[فَصْلٌ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ] [التَّعْرِيف بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر] الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَهُوَ كُلُّ مَا أُمِرَ بِهِ شَرْعًا، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَهُوَ كُلُّ مَا يُنْهَى عَنْهُ شَرْعًا فَرْضُ عَيْنٍ وَهَلْ هُوَ بِالشَّرْعِ أَوْ بِالْعَقْلِ؟ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ عَلَى مَنْ عَلِمَهُ جُرْمًا وَشَاهَدَهُ وَعَرَفَ مَا يُنْكَرُ وَلَمْ يَخَفْ سَوْطًا وَلَا عَصًا وَلَا أَذًى. زَادَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى يَزِيدُ عَلَى الْمُنْكَرِ أَوْ يُسَاوِيهِ وَلَا فِتْنَةَ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ حُرْمَتِهِ أَوْ أَهْلِهِ، وَأَطْلَقَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ سُقُوطَهُ بِخَوْفِ الضَّرْبِ وَالْحَبْسِ وَأَخْذِ الْمَالِ، وَإِنَّهُ ظَاهِرُ نَقْلِ ابْنِ هَانِئٍ فِي إسْقَاطِهِ بِالْعَصَا خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَأَسْقَطَهُ الْقَاضِي أَيْضًا بِأَخْذِ الْمَالِ الْيَسِيرِ قَالَ أَيْضًا وَقِيلَ لَهُ قَدْ أَوْجَبْتُمْ عَلَيْهِ شِرَاءَ الْمَاءِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ قَالَ إنَّمَا أَوْجَبْنَا ذَلِكَ إذَا لَمْ تُجْحَفْ الزِّيَادَةُ بِمَالِهِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ مِثْلُهُ هُنَا. وَلَا يَسْقُطُ فَرْضُهُ بِالتَّوَهُّمِ، فَلَوْ قِيلَ لَهُ لَا تَأْمُرْ عَلَى فُلَانٍ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنَّهُ يَقْتُلُك لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ كَذَلِكَ قَالَ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْإِنْكَارُ لِظَنِّنَا زِيَادَةَ الْمُنْكَرِ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ حَسَنًا لِأَنَّ مَا أَزَالَ وُجُوبَهُ أَزَالَ حُسْنَهُ. وَيُفَارِقُ هَذَا إذَا ظَنَنَّا أَنَّ الْمُنْكَرَ لَا يَزُولُ وَأَنَّهُ يَحْسُنُ الْإِنْكَارُ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ كَمَا يُقَاتِلُ الْكُفَّارَ وَالْبُغَاةَ وَالْخَوَارِجَ وَإِنْ ظُنَّ إقَامَتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ فَرْضَهُ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوَهُّمِ. وَقَوْلُهُ وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْإِنْكَارُ لِظَنِّنَا زِيَادَةَ الْمُنْكَرِ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ إلَّا بِالظَّنِّ. وَكَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالْأَصْحَابِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إنَّمَا اعْتَبَرُوا الْخَوْفَ وَهُوَ ضِدُّ الْأَمْنِ، وَقَدْ قَالُوا يُصَلِّي صَلَاةَ الْخَوْفِ إذَا لَمْ يُؤْمَنْ هُجُومُ الْعَدُوِّ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي آخِرِ الْإِرْشَادِ مِنْ شُرُوطِ الْإِنْكَارِ أَنْ يَعْلَمَ أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يُفْضِي إلَى مَفْسَدَةٍ.

قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ إذَا أَمَرْتَ أَوْ نَهَيْتَ فَلَمْ يَنْتَهِ فَلَا تَرْفَعْهُ إلَى السُّلْطَانِ لِتُعَدِّيَ عَلَيْهِ فَقَدْ نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ إذَا آلَ إلَى مَفْسَدَةٍ وَقَالَ أَيْضًا مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَأْمَنَ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ خَوْفَ التَّلَفِ، وَكَذَا قَالَهُ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ بَعْضٍ وُجُوبَ الْإِنْكَارِ مُطْلَقًا فِي هَذِهِ الْحَالِ وَغَيْرِهَا وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا «لَا يَحْقِرَنَّ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ أَنْ يَرَى أَمْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ فِيهِ مَقَالٌ ثُمَّ لَا يَقُولَ فِيهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَا مَنَعَك أَنْ تَقُولَ فِيهِ، فَيَقُولُ يَا رَبِّ خَشِيتُ النَّاسَ، فَيَقُولُ فَأَنَا أَحَقُّ أَنْ يُخْشَى وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ هَيْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ فِي حَقِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إذَا رَآهُ أَوْ شَهِدَهُ أَوْ سَمِعَهُ» رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَزَادَ فَبَكَى أَبُو سَعِيدٍ وَقَالَ وَاَللَّهِ قَدْ رَأَيْنَا أَشْيَاءَ فَهِبْنَا. وَلَهُمَا مِنْ حَدِيثِهِ «إنَّ أَحَدَكُمْ لَيُسْأَلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَكُونَ فِيمَا يُسْأَلُ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ مَا مَنَعَك أَنْ تُنْكِرَ الْمُنْكَرَ إذَا رَأَيْتَهُ؟ فَمَنْ لَقَّنَهُ اللَّهُ حُجَّتَهُ قَالَ يَا رَبِّ رَجَوْتُك وَخِفْتُ النَّاسَ» . وَعَنْ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا «لَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ قِيلَ كَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ قَالَ يَتَعَرَّضُ مِنْ الْبَلَاءِ مَا لَا يُطِيقُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقِيلَ إنْ زَادَ وَجَبَ الْكَفُّ، وَإِنْ تَسَاوَيَا سَقَطَ الْإِنْكَارُ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فَأَمَّا السَّبُّ وَالشَّتْمُ فَلَيْسَ بِعُذْرٍ فِي السُّكُوتِ لِأَنَّ الْآمِرَ بِالْمَعْرُوفِ يَلْقَى ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِهِ أَنَّهُ عُذْرٌ لِأَنَّهُ أَذًى، وَلِهَذَا يَكُونُ تَأْدِيبًا وَتَعْزِيرًا، وَقَدْ قَالَ لَهُ أَبُو دَاوُد وَيُشْتَمُ قَالَ يَحْتَمِلُ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَأْمُرَ وَيَنْهَى لَا يُرِيدُ أَنْ يَنْتَصِرَ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ الصَّبْرُ عَلَى أَذَى الْخَلْقِ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ إنْ لَمْ يُسْتَعْمَلْ لَزِمَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ إمَّا تَعْطِيلُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.

وَإِمَّا حُصُولُ فِتْنَةٍ وَمَفْسَدَةٍ أَعْظَمَ مِنْ مَفْسَدَةِ تَرْكِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أَوْ مِثْلِهَا أَوْ قَرِيبٍ مِنْهَا وَكِلَاهُمَا مَعْصِيَةٌ وَفَسَادٌ قَالَ تَعَالَى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان: 17] . فَمَنْ أَمَرَ وَلَمْ يَصْبِرْ أَوْ صَبَرَ وَلَمْ يَأْمُرْ أَوْ لَمْ يَأْمُرْ وَلَمْ يَصْبِرْ حَصَلَ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ مَفْسَدَةٌ وَإِنَّمَا الصَّلَاحُ فِي أَنْ يَأْمُرَ وَيَصْبِرَ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُبَادَةَ قَالَ «بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي يُسْرِنَا وَعُسْرِنَا وَمَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُومَ أَوْ نَقُولَ بِالْحَقِّ حَيْثُ مَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ» . «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قِتَالِ أَئِمَّةِ الْجَوْرِ وَأَمَرَ بِالصَّبْرِ عَلَى جَوْرِهِمْ وَنَهَى عَنْ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ» فَأَهْلُ الْبِدَعِ مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالشِّيعَةِ وَغَيْرِهِمْ يَرَوْنَ قِتَالَهُمْ وَالْخُرُوجَ عَلَيْهِمْ إذَا فَعَلُوا مَا هُوَ ظُلْمٌ أَوْ مَا ظَنُّوهُ هُمْ ظُلْمًا، وَيَرَوْنَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَآخَرُونَ مِنْ الْمُرْجِئَةِ وَأَهْلِ الْفُجُورِ قَدْ يَرَوْنَ تَرْكَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَرِ ظَنًّا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْفِتْنَةِ وَهَؤُلَاءِ يُقَابِلُونَك لِأُولَئِكَ. وَلِهَذَا ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ الْمُصَنِّفُ فِي الْكَلَامِ وَأُصُولِ الدِّينِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ الَّذِينَ وَرَاءَ النَّهْرِ مَا قَابَلَ بِهِ الْمُعْتَزِلَةَ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فَذَكَرَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ سَقَطَ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَقَدْ صَنَّفَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى كِتَابًا مُفْرَدًا فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ كَمَا صَنَّفَ الْخَلَّالُ وَالدَّارَقُطْنِيّ (فِي) ذَلِكَ انْتَهَى كَلَامُهُ قَالَ الْأَصْحَابُ: وَرَجَا حُصُولَ الْمَقْصُودِ وَلَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُ وَقَالَ

الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابِ الْمُعْتَمَدِ وَيَجِبُ إنْكَارُ الْمُنْكَرِ وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ فِي ظَنِّهِ زَوَالُهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ نَقَلَهَا أَبُو الْحَارِثِ وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ الرَّجُلِ يَرَى مُنْكَرًا وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ وَيَسْكُتُ؟ فَقَالَ إذَا رَأَى الْمُنْكَرَ فَلْيُغَيِّرْهُ مَا أَمْكَنَهُ. هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَوِيُّ عَنْ الْعُلَمَاءِ قَالَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ} [المائدة: 99] . وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى لَا يَجِبُ حَتَّى يَعْلَمَ زَوَالَهُ نَقَلَهَا حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَنْ يَرَى رَجُلًا يُصَلِّي لَا يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَلَا يُقِيمُ أَمْرَ صَلَاتِهِ فَإِنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ يَقْبَلُ مِنْهُ أَمَرَهُ وَوَعَظَهُ حَتَّى يُحْسِنَ صَلَاتَهُ. وَنَقَلَ إِسْحَاقُ بْنُ هَانِئٍ: إذَا صَلَّى خَلْفَ مَنْ يَقْرَأُ بِقِرَاءَةِ حَمْزَةَ فَإِنْ كَانَ يَقْبَلُ مِنْك فَانْهَهُ. وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَابْنُهُ أَبُو الْحُسَيْنِ هَلْ مِنْ شَرْطِ إنْكَارِ الْمُنْكَرِ غَلَبَةُ الظَّنِّ فِي إزَالَةِ الْمُنْكَرِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ (إحْدَاهُمَا) لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ لِظَاهِرِ الْأَدِلَّةِ (وَالثَّانِيَةُ) مِنْ شَرْطِهِ وَهِيَ قَوْلُ الْمُتَكَلِّمِينَ لِبُطْلَانِ الْغَرَضِ، وَكَذَا ذَكَرَهُمَا الْقَاضِي فِيمَا إذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ صَاحِبَ الْمُنْكَرِ يَزِيدُ فِي الْمُنْكَرِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَزُولُ فَرِوَايَتَانِ (إحْدَاهُمَا) يَجِبُ ثُمَّ ذَكَرَ رِوَايَةَ حَنْبَلٍ السَّابِقَةَ وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي الرَّجُلِ يَرَى مُنْكَرًا وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ هَلْ يَسْكُت؟ فَقَالَ يُغَيِّرُ مَا أَمْكَنَهُ. وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَمْ يَسْقُطْ وَقَالَ أَيْضًا لَا يَجُوزُ انْتَهَى كَلَامُهُ وَقَالَ فِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْإِنْكَارُ إذَا عَلِمَ حُصُولَ الْمَقْصُودِ وَلَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُ، وَعَنْهُ إذَا رَجَا حُصُولَهُ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَقِيلَ يُنْكِرُهُ وَإِنْ أَيِسَ مِنْ زَوَالِهِ أَوْ خَافَ أَذًى أَوْ فِتْنَةً وَقَالَ فِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ

يَجُوزُ الْإِنْكَارَ فِيمَا لَا يُرْجَى زَوَالُهُ، وَإِنْ خَافَ أَذًى قِيلَ لَا، وَقِيلَ يَجِبُ، وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي الْمُعْتَمَدِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ وَيُخَيَّرُ فِي رَفْعِهِ إلَى الْإِمَامِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ يَجِبُ رَفْعُهُ إلَى الْإِمَامِ، ثُمَّ احْتَجَّ الْقَاضِي بِحَدِيثِ عُقْبَةَ وَسَيَأْتِي. وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْإِنْكَارُ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهِ جَزَمَ بِهِ ابْنُ عَقِيلٍ قَالَ الْقَاضِي خِلَافًا لِأَكْثَرِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ ذَلِكَ قَبِيحٌ وَمَكْرُوهٌ إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ. (وَالثَّانِي) إظْهَارُ الْإِيمَانِ عِنْدَ ظُهُورِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَوْ صَرِيحُهُ عَدَمُ رُؤْيَةِ الْإِنْكَارِ فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ وَسَيَأْتِي قُبَيْلَ فُصُولِ اللِّبَاسِ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ هَلْ يَحْسُنُ الْإِنْكَارُ وَيَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ تَرْكِهِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَفِيهِ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ أَنَّهُ يَقْبُحُ بِهِ قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَجْهُ الْأُولَى اخْتَارَهَا ابْن بَطَّةَ وَالْوَجْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17] . وَوَجْهُ الثَّانِيَةِ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] انْتَهَى كَلَامُهُ وَذَكَرَ وَالِدُهُ الرِّوَايَتَيْنِ قَالَ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ الْمِحْنَةِ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: إنْ عُرِضْت عَلَى السَّيْفِ لَا أُجِيبُ، وَقَالَ فِيهَا أَيْضًا إذَا أَجَابَ الْعَالِمُ تَقِيَّةً وَالْجَاهِلُ بِجَهْلٍ فَمَتَى يَتَبَيَّنُ الْحَقُّ. وَقَالَ الْقَاضِي وَظَاهِرُ نَقْلِ (ابْنِ هَانِئٍ وَلَا يَتَعَرَّضُ لِلسُّلْطَانِ فَإِنَّ سَيْفَهُ مَسْلُولٌ لِلنَّهْيِ عَنْهُ قَالَ وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِأَنَّ الْمُضْطَرَّ لَوْ تَرَكَ أَكْلَ الْمَيْتَةِ حَتَّى مَاتَ أَوْ تَحَمَّلَ الْمَرِيضُ الصِّيَامَ وَالْقِيَامَ حَتَّى ازْدَادَ مَرَضُهُ أَثِمَ وَعَصَى وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ وُجُوبُ عَزِيمَةٍ كَذَا فِي مَسْأَلَتِنَا وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَسْقُطُ بِالضَّرَرِ الْمُتَوَهَّمِ لِأَنَّ خَوْفَ الزِّيَادَةِ فِي الْمَرَضِ وَخَوْفِ التَّلَفِ بِتَرْكِ الْأَكْلِ مُتَوَهَّمٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ فَرْضُهُ بِالتَّوَهُّمِ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ لَهُ لَا تَأْمُرْ عَلَى فُلَانٍ

بِالْمَعْرُوفِ فَإِنَّهُ يَقْتُلُكَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ لِذَلِكَ، وَلِأَنَّ مَنْفَعَةَ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ تَخْتَصُّهُ وَمَنْفَعَةَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ تَعُمُّ، وَلِأَنَّ سَبَبَ الْإِتْلَافِ هُنَاكَ بِمَعْنَى مِنْ جِهَتِهِ وَهُنَا مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ) . قَالَ أَبُو دَاوُد سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ نَحْنُ نَرْجُو إنْ أَنْكَرَ بِقَلْبِهِ فَقَدْ سَلِمَ، وَإِنْ أَنْكَرَ بِيَدِهِ فَهُوَ أَفْضَلُ. قَالَ عَبَّاسُ الْعَنْبَرِيُّ كُنْت مَارًّا مَعَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بِالْبَصْرَةِ قَالَ فَسَمِعْت رَجُلًا يَقُولُ لِرَجُلٍ يَا ابْنَ الزَّانِي قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ يَا ابْنَ الزَّانِي قَالَ: فَوَقَفْت وَمَضَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فَالْتَفَتَ إلَيَّ فَقَالَ يَا أَبَا الْفَضْلِ أَيُّ شَيْءٍ قَالَ؟ قُلْت: قَدْ سَمِعْنَا قَدْ وَجَبَ عَلَيْنَا قَالَ: امْضِ لَيْسَ هَذَا مِنْ ذَلِكَ. تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْخَلَّالُ: مَا يُوَسَّعُ عَلَى الرَّجُلِ فِي تَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ إذَا رَأَى قَوْمًا سُفَهَاءَ. وَقَالَ الْقَاضِي عَنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ قَالَ وَكَذَلِكَ نَقَلَ أَبُو عَلِيٍّ الدِّينَوَرِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَلَى الرَّجُلِ يَرَى مُنْكَرًا أَيَجِبُ عَلَيْهِ تَغْيِيرُهُ؟ فَقَالَ إنْ غَيَّرَ بِقَلْبِهِ أَرْجُو، وَذَكَرَ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ ' عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا قَالَ الْقَاضِي وَهُوَ مَحْمُولٌ مِنْ كَلَامِهِ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ مَنْ يَقُومُ بِهِ أَوْ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْإِنْكَارِ بِيَدِهِ.

فصل رجل له جار يعمل بالمنكر

[فَصْلٌ رَجُلٌ لَهُ جَارٌ يَعْمَلُ بِالْمُنْكَرِ] قَالَ أَبُو دَاوُد سَمِعْتُ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ لَهُ جَارٌ يَعْمَلُ بِالْمُنْكَرِ لَا يَقْوَى يُنْكِرَ عَلَيْهِ، وَضَعِيفٌ يَعْمَلُ بِالْمُنْكَرِ أَيْضًا يَقْوَى يُنْكِرَ عَلَيْهِ قَالَ نَعَم يُنْكِرُ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ مَرَاتِبُ إنْكَارِ الْمُنْكَرِ] وَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى مَنْ لَمْ يُعَيَّنْ عَلَيْهِ وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْإِمَامُ وَالْحَاكِمُ وَالْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ وَالْعَدْلُ وَالْفَاسِقُ وَقَالَ قَوْمٌ لَا يَجُوزُ لِفَاسِقٍ الْإِنْكَارُ وَقَالَ آخَرُونَ لَا يَجُوزُ الْإِنْكَارُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ وَلِيُّ الْأَمْرِ وَلِلْمُمَيِّزِ الْإِنْكَارُ وَيُثَابُ عَلَيْهِ لَكِنْ لَا يَجِبُ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ الْكَافِرُ مَمْنُوعٌ مِنْ إنْكَارِ الْمُنْكَرِ لِمَا فِيهِ مِنْ السُّلْطَةِ وَالْعِزِّ وَأَعْلَاهُ بِالْيَدِ ثُمَّ بِاللِّسَانِ، ثُمَّ بِالْقَلْبِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ» قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مُرَادُهُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ هَذَا الْإِنْكَارِ مَا يَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ حَتَّى يَفْعَلَهُ الْمُؤْمِنُ بَلْ الْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ آخِرُ حُدُودِ الْإِيمَانِ، لَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُنْكِرْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ وَلِهَذَا قَالَ: " لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ " فَجَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ ثَلَاثَ طَبَقَاتٍ فَكُلٌّ مِنْهُمْ فَعَلَ الْإِيمَانَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ قَالَ وَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاضَلُونَ فِي الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِمْ مَعَ بُلُوغِ الْخِطَابِ إلَيْهِمْ كُلِّهِمْ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَكَذَا قَالَ فِي الْغُنْيَةِ بَعْدَ الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ وَيَعْنِي أَضْعَفَ فِعْلِ أَهْلِ الْإِيمَانِ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ كَيْفَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ

قَالَ: بِالْيَدِ وَبِاللِّسَانِ وَبِالْقَلْبِ هُوَ أَضْعَفُ قُلْت: كَيْفَ بِالْيَدِ؟ قَالَ: يُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ. وَرَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَرَّ عَلَى صِبْيَانِ الْكِتَابِ يَقْتَتِلُونَ فَفَرَّقَ بَيْنَهُمْ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ التَّغْيِيرُ بِالْيَدِ لَيْسَ بِالسَّيْفِ وَالسِّلَاحِ. قَالَ الْقَاضِي: وَظَاهِرُ هَذَا يَقْتَضِي جَوَازَ الْإِنْكَارِ بِالْيَدِ إذَا لَمْ يُفْضِ إلَى الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ قَالَ الْقَاضِي: وَيَجِبُ فِعْلُ الْكَرَاهَةِ لِلْمُنْكَرِ كَمَا يَجِبُ إنْكَارُهُ. وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ إنَّمَا يَجِبُ أَنْ لَا يَفْعَلَ الْإِرَادَةَ لِأَنَّهُ قَدْ يَخْلُو الْمُكَلَّفُ مِنْ فِعْلِ الْإِرَادَةِ لَهُ وَالْكَرَاهَةِ، وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَخْلُوَ مِنْ فِعْلِ الضِّدَّيْنِ، وَلِأَنَّ الشَّارِعَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ فِعْلَ الْكَرَاهَةِ بِقَلْبِهِ. وَعَلَى النَّاسِ إعَانَةَ الْمُنْكِرِ وَنَصْرَهُ عَلَى الْإِنْكَارِ وَمَا اخْتَصَّ عِلْمُهُ بِالْعُلَمَاءِ اخْتَصَّ إنْكَارُهُ بِهِمْ أَوْ بِمَنْ يَأْمُرُونَهُ بِهِ مِنْ الْوُلَاةِ وَالْعَوَامِّ وَمَنْ وَلَّاهُ السُّلْطَانُ الْحِسْبَةَ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فِعْلُ ذَلِكَ وَلَهُ فِي ذَلِكَ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ كَسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ. وَإِنْ دَعَا الْإِمَامُ الْعَامَّةَ إلَى شَيْءٍ وَأُشْكِلَ عَلَيْهِمْ لَزِمَهُمْ سُؤَالُ الْعُلَمَاءِ فَإِنْ أَفْتَوْا بِوُجُوبِهِ قَامُوا بِهِ، وَإِنْ أَخْبَرُوا بِتَحْرِيمِهِ امْتَنَعُوا مِنْهُ، وَإِنْ قَالُوا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ: يَجِبُ، لَزِمَهُمْ طَاعَتُهُ كَمَا تَجِبُ طَاعَتُهُ فِي الْحُكْمِ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَهَلْ يَسْقُطُ الْإِثْمُ عَمَّنْ لَمْ يَرْضَ بِالْمُنْكَرِ وَسَخِطَ الْإِنْكَارَ ذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ رَأْيٌ لِبَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ، ثُمَّ ذَكَرَ احْتِمَالًا أَنَّهُ يَسْقُطُ أَنَّهُ ظَاهِرُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.

فصل في الإنكار على من يخالف مذهبه بغير دليل

[فَصْلٌ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ يُخَالِفُ مَذْهَبَهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ] وَمَنْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا أُنْكِرَ عَلَيْهِ مُخَالَفَتَهُ بِلَا دَلِيلٍ وَلَا تَقْلِيدٍ سَائِغٍ وَلَا عُذْرٍ كَذَا ذَكَرَ فِي الرِّعَايَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: يَلْزَمُ كُلُّ مُقَلِّدٍ أَنْ يَلْتَزِمَ بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ فِي الْأَشْهَرِ وَلَا يُقَلِّدُ غَيْرَ أَهْلِهِ، وَقِيلَ بِلَا ضَرُورَةٍ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى مِنْ كَلَامِ ابْنِ حَمْدَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا يُرَادُ بِهِ شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ مَنْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا ثُمَّ فَعَلَ خِلَافَهُ مِنْ غَيْرِ تَقْلِيدٍ لِعَالِمٍ آخَرَ أَفْتَاهُ وَلَا اسْتِدْلَالَ بِدَلِيلٍ يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ وَمِنْ غَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ يُبِيحُ لَهُ مَا فَعَلَهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ عَامِلًا بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ وَلَا تَقْلِيدٍ فَاعِلًا لَلْمُحَرَّمِ بِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ وَهَذَا مُنْكَرٌ. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي أَرَادَ الشَّيْخُ نَجْمُ الدِّينِ، وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَقِدَ الشَّيْءَ وَاجِبًا أَوْ حَرَامًا ثُمَّ يَعْتَقِدَهُ غَيْرَ وَاجِبٍ وَلَا حَرَامٍ بِمُجَرَّدِ هَوَاهُ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ طَالِبًا لِشُفْعَةِ الْجِوَارِ فَيَعْتَقِدَ أَنَّهَا حَقٌّ لَهُ ثُمَّ إذَا طُلِبَتْ مِنْهُ شُفْعَةُ الْجِوَارِ اعْتَقَدَ أَنَّهَا لَيْسَتْ ثَابِتَةً. أَوْ مِثْلُ مَنْ يَعْتَقِدُ إذَا كَانَ أَخًا مَعَ جَدٍّ أَنَّ الْإِخْوَةَ تُقَاسِمُ الْجَدَّ، فَإِذَا صَارَ جَدًّا مَعَ أَخٍ اعْتَقَدَ أَنَّ الْجَدَّ لَا يُقَاسِمُ الْإِخْوَةَ. وَإِذَا كَانَ لَهُ عَدُوٌّ يَفْعَلُ بَعْضَ الْأُمُورِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا كَشُرْبِ النَّبِيذِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ وَلَعِبِ الشِّطْرَنْجِ وَحُضُورِ السَّمَاعِ أَنَّ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُهْجَرَ وَيُنْكَرَ عَلَيْهِ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ صَدِيقِهِ اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي لَا تُنْكَرُ، فَمِثْلُ هَذَا مِمَّنْ يَكُونُ فِي اعْتِقَادِهِ حِلُّ الشَّيْءِ وَحُرْمَتُهُ وَوُجُوبُهُ وَسُقُوطُهُ بِحَسَبِ هَوَاهُ وَهُوَ مَذْمُومٌ مَجْرُوحٌ

خَارِجٌ عَنْ الْعَدَالَةِ. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ أَمَّا إذَا تَبَيَّنَ لَهُ رُجْحَانُ قَوْلٍ عَلَى قَوْلٍ إمَّا بِالْأَدِلَّةِ الْمُفَصَّلَةِ إنْ كَانَ يَعْرِفُهَا أَوْ يَفْهَمُهَا، وَإِمَّا بِأَنْ يَرَى أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ أَعْلَمَ بِتِلْكَ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْآخَرِ وَهُوَ أَتْقَى لِلَّهِ فِيمَا يَقُولُهُ فَيَرْجِعُ عَنْ قَوْلٍ إلَى قَوْلٍ لِمِثْلِ هَذَا، فَهَذَا يَجُوزُ بَلْ يَجِبُ وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ الْعَامِّيُّ هَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَزِمَ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا يَأْخُذُ بِعَزَائِمِهِ وَرُخَصِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ وَهُمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَالْجُمْهُورِ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ لَا يُوجِبُونَ لَهُ ذَلِكَ، وَاَلَّذِينَ يُوجِبُونَهُ يَقُولُونَ إذَا الْتَزَمَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ مَادَامَ مُلْتَزِمًا لَهُ أَوْ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى بِالِالْتِزَامِ عَنْهُ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْتِزَامَ الْمَذَاهِبِ وَالْخُرُوجَ عَنْهَا إنْ كَانَ لِغَيْرِ أَمْرٍ دِينِيٍّ مِثْلُ أَنْ يَلْتَمِسَ مَذْهَبًا لِحُصُولِ غَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ مِنْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا مِمَّا لَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ بَلْ يُذَمُّ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَوْ كَانَ مَا انْتَقَلَ إلَيْهِ خَيْرًا مِمَّا انْتَقَلَ عَنْهُ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُسْلِمُ لَا يُسْلِمُ إلَّا لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ، أَوْ يُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ إلَى امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا أَوْ دُنْيَا يُصِيبُهَا. قَالَ وَأَمَّا إنْ كَانَ انْتِقَالُهُ مِنْ مَذْهَبٍ إلَى مَذْهَبٍ لِأَمْرٍ دِينِيٍّ فَهُوَ مُثَابٌ عَلَى ذَلِكَ بَلْ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي أَمْرٍ أَنْ لَا يَعْدِلَ عَنْهُ وَلَا يَتْبَعَ أَحَدًا فِي مُخَالَفَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ اللَّهَ فَرَضَ طَاعَةَ رَسُولِهِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ حَالٍ قَالَ الْقَاضِي فِيمَنْ خَالَفَ مَذْهَبَهُ يُنْكِرُ عَلَيْهِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَخْتَلِفَ اجْتِهَادُهُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ بَقَاؤُهُ عَلَيْهِ وَإِلَّا أَظْهَرَهُ لِيَنْفِيَ عَنْهُ الظَّنَّ وَالشُّبْهَةَ كَمَا يُنْكِرُ عَلَى مَنْ أَكَلَ فِي رَمَضَانَ أَوْ طَعَامَ غَيْرِهِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ عُذْرٌ قَالَ وَإِنْ عَلِمْنَا مَنْ حَالِ الْعَامِّيِّ أَنَّهُ قَلَّدَ مَنْ يَسُوغُ اجْتِهَادُهُ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ وَإِلَّا أَنْكَرْنَا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ بِمَا عِنْدَهُ كَذَا قَالَ، وَالْأَوْلَى أَنَّا لَا نُنْكِرُ إلَّا مَعَ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَا يُقَلِّدُ مَعَ الظَّنِّ فِيهِ نَظَرٌ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي مُعْتَقَدِهِ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْفِعْلَ الْوَاقِعَ مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ جَائِزٌ

فِي الشَّرْعِ أَمْ غَيْرُ جَائِزٍ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْمُرَ وَلَا يَنْهَى وَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي. وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ وَغَيْرُهُ عَقِبَ حَدِيثِ عَائِشَةَ إنَّ نَاسًا يَأْتُونَنَا بِاللَّحْمِ لَا نَدْرِي أَسَمَّوْا عَلَيْهِ أَمْ لَا قَالَ: «سَمُّوا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَكُلُوا» . قَالُوا: وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ وَالْأَفْعَالَ تُحْمَلُ عَلَى الصِّحَّةِ وَالسَّلَامَةِ إلَى أَنْ يَقُومَ دَلِيلُ الْفَسَادِ.

فصل على من ومتى يجوز الإنكار

[فَصْلٌ عَلَى مَنْ وَمَتَى يَجُوزُ الْإِنْكَارُ] وَلَا إنْكَارَ فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ خِلَافٌ مِنْ الْفُرُوعِ عَلَى مَنْ اجْتَهَدَ فِيهِ أَوْ قَلَّدَ مُجْتَهِدًا فِيهِ كَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَالْأَصْحَابُ وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَمَثَّلُوهُ بِشُرْبِ يَسِيرِ النَّبِيذِ وَالتَّزَوُّجِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، وَمَثَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِأَكْلِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ. وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْهُمْ مَعَ قَوْلِهِمْ يُحَدُّ شَارِبُ النَّبِيذِ مُتَأَوِّلًا وَمُقَلِّدًا أَعْجَبُ لِأَنَّ الْإِنْكَارَ يَكُونُ وَعْظًا وَأَمْرًا وَنَهْيًا وَتَعْزِيرًا وَتَأْدِيبًا وَغَايَتُهُ الْحَدُّ، فَكَيْفَ يُحَدُّ وَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ أَمْ كَيْفَ يَفْسُقُ عَلَى رِوَايَةٍ وَلَا يُنْكَرُ عَلَى فَاسِقٍ؟ وَذَكَرَ فِي الْمُغْنِي أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَنْعَ امْرَأَتِهِ الذِّمِّيَّةِ مِنْ يَسِيرِ الْخَمْرِ عَلَى نَصِّ أَحْمَدَ لِاعْتِقَادِهَا إبَاحَتَهُ ثُمَّ ذَكَرَ تَخْرِيجًا مِنْ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فِي أَكْلِ الثُّومِ أَنَّهُ يَمْلِكُ مَنْعَهَا لِكَرَاهَةِ رَائِحَتِهِ قَالَ وَعَلَى هَذَا الْحُكْمِ لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً تَعْتَقِدُ إبَاحَةَ يَسِيرِ النَّبِيذِ هَلْ لَهُ مَنْعُهَا عَلَى وَجْهَيْنِ. وَذَكَرَ أَيْضًا فِي مَسْأَلَةٍ مُفْرَدَةٍ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى غَيْرِهِ الْعَمَلَ بِمَذْهَبِهِ فَإِنَّهُ لَا إنْكَارَ عَلَى الْمُجْتَهَدَاتِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ لَا يَنْبَغِي لِلْفَقِيهِ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى مَذْهَبِهِ. وَلَا يُشَدِّدُ عَلَيْهِمْ وَقَالَ مُهَنَّا سَمِعْتُ أَحْمَدَ يَقُولُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَشْرَبَ هَذَا النَّبِيذَ يَتْبَعْ فِيهِ شُرْبَ مَنْ شَرِبَهُ فَلْيَشْرَبْهُ وَحْدَهُ. وَعَنْ أَحْمَدَ

رِوَايَةٌ أُخْرَى بِخِلَافِ ذَلِكَ قَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ فِي الرَّجُلِ يَمُرّ بِالْقَوْمِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ يَنْهَاهُمْ وَيَعِظهُمْ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد سَمِعْتُ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ رَجُل مَرَّ بِقَوْمٍ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ فَنَهَاهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا فَأَخَذَ الشِّطْرَنْج فَرَمَى بِهِ فَقَالَ قَدْ أَحْسَن وَقَالَ فِي رِوَايَة أَبِي طَالِبٍ فِيمَنْ يَمُرّ بِالْقَوْمِ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ يَقْلِبهَا عَلَيْهِمْ إلَّا أَنْ يُغَطُّوهَا وَيَسْتُرُوهَا. وَصَلَّى أَحْمَدُ يَوْمًا إلَى جَنْب رَجُل لَا يُتِمُّ رُكُوعَهُ وَلَا سُجُودَهُ فَقَالَ يَا هَذَا أَقِمْ صُلْبك وَأَحْسِنْ صَلَاتَكَ، نَقَلَهُ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ دَخَلْتُ عَلَى رَجُلٍ وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بَعَثَ بِي إلَيْهِ بِشَيْءٍ فَأَتَى بِمُكْحُلَةٍ رَأْسُهَا مُفَضَّض فَقَطَعْتُهَا فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ وَتَبَسَّمَ وَأَنْكَرَ عَلَى صَاحِبهَا وَفِي التَّبْصِرَةِ لِلْحَلْوَانِيِّ لِمَنْ تَزَوَّجَ بِلَا وَلِيٍّ، أَوْ أَكَلَ مَتْرُوك التَّسْمِيَة، أَوْ تَزَوَّجَ بِنْته مِنْ زِنًا أَوْ أُمَّ مَنْ زَنَى بِهَا احْتِمَال تُرَدُّ شَهَادَته، وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُون فِيمَا قَوِيَ دَلِيلُهُ أَوْ كَانَ الْقَوْل خِلَاف خَبَر وَاحِد، وَإِذَا نَقَضَ الْحُكْم لِمُخَالَفَتِهِ خَبَر الْوَاحِد أَوْ إجْمَاعًا ظَنِّيًّا أَوْ قِيَاسًا جَلِيًّا فَمَا نَحْنُ فِيهِ مِثْله وَأَوْلَى، وَحَمَلَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ رِوَايَة الْمَيْمُونِيِّ عَلَى أَنَّ الْفَاعِل لَيْسَ مِنْ أَهْل الِاجْتِهَاد وَلَا هُوَ مُقَلِّد لِمَنْ يَرَى ذَلِكَ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ لَا يُنْكَرُ عَلَى الْمُجْتَهِد بَلْ عَلَى الْمُقَلِّد فَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الصَّلَاة فِي جُلُود الثَّعَالِب قَالَ: إذَا كَانَ مُتَأَوِّلًا أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا يُنْهَى وَيُقَال لَهُ

إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ نَهَى عَنْهَا. وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ رَابِعٌ قَالَ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ: مَا ضَعُفَ الْخِلَاف فِيهِ وَكَانَ ذَرِيعَة إلَى مَحْظُورٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ كَرِبَا النَّقْدِ الْخِلَافُ فِيهِ ضَعِيف وَهُوَ ذَرِيعَة إلَى رِبَا النَّسَاء الْمُتَّفَق عَلَى تَحْرِيمِهِ وَكَنِكَاحِ الْمُتْعَة وَرُبَّمَا صَارَتْ ذَرِيعَةً إلَى اسْتِبَاحَةِ الزِّنَا فَيَدْخُلُ فِي إنْكَارِ الْمُحْتَسِبِ بِحُكْمِ وِلَايَتِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْقَاضِي كَلَام أَبِي إِسْحَاقَ وَابْنِ بَطَّةَ فِي نِكَاح الْمُتْعَة، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْره مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ يَسُوغ التَّقْلِيد فِي نِكَاح الْمُتْعَة. وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ فِي نِكَاح الْمُتْعَة وَيُكْرَه تَقْلِيد مَنْ يُفْتِي بِهَا وَقَالَ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ فِي مَوْضِع آخَرَ الْمُجَاهَرَةُ بِإِظْهَارِ النَّبِيذ كَالْخَمْرِ وَلَيْسَ فِي إرَاقَته غُرْم، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلَامُهُ فِي رِوَايَة مُهَنَّا، وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ يُنْكَر عَلَى مَنْ يُسِيء فِي صَلَاته بِتَرْكِ الطُّمَأْنِينَة فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود مَعَ أَنَّهَا مِنْ مَسَائِل الْخِلَاف وَقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ يَجِب أَنْ يَأْمُرهُ وَيَعِظهُ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَاشْتِغَال الْمُعْتَكِف بِإِنْكَارِهِ هَذِهِ الْأَشْيَاء وَتَعْرِيفهَا أَفْضَل مِنْ نَافِلَة يَقْتَصِر عَلَيْهَا، وَذَكَرَ أَيْضًا فِي الْمُنْكَرَات غَمْس الْيَد وَالْأَوَانِي النَّجِسَة فِي الْمِيَاه الْقَلِيلَة قَالَ: فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ مَالِكِيّ لَمْ يُنْكِر عَلَيْهِ بَلْ يَتَلَطَّف بِهِ وَيَقُول لَهُ يُمْكِنُكَ أَنْ لَا تُؤْذِيَنِي بِتَفْوِيتِ الطَّهَارَة عَلَيَّ.

وَفِي الْمَسْأَلَة قَوْلٌ خَامِس قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَالصَّوَاب مَا عَلَيْهِ جَمَاهِير الْمُسْلِمِينَ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْر يُجْلَد شَارِبه وَلَوْ شَرِبَ قَطْرَة وَاحِدَة لِتَدَاوٍ أَوْ غَيْر تَدَاوٍ وَقَالَ فِي كِتَابِ " بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ " قَوْلهمْ وَمَسَائِل الْخِلَاف لَا إنْكَار فِيهَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ الْإِنْكَار إمَّا أَنْ يَتَوَجَّه إلَى الْقَوْل بِالْحُكْمِ أَوْ الْعَمَل أَمَّا الْأَوَّل فَإِنْ كَانَ الْقَوْل يُخَالِف سُنَّة أَوْ إجْمَاعًا قَدِيمًا وَجَبَ إنْكَاره وِفَاقًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يُنْكَر بِمَعْنَى بَيَان ضَعْفه عِنْد مَنْ يَقُول الْمُصِيب وَاحِد وَهُمْ عَامَّةُ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ. وَأَمَّا الْعَمَل إذَا كَانَ عَلَى خِلَاف سُنَّة أَوْ إجْمَاع وَجَبَ إنْكَاره أَيْضًا بِحَسَبِ الْإِنْكَار كَمَا ذَكَرنَا مِنْ حَدِيث شَارِب النَّبِيذ الْمُخْتَلَف فِيهِ وَكَمَا يُنْقَض حُكْم الْحَاكِم إذَا خَالَفَ سُنَّة وَإِنْ كَانَ قَدْ اتَّبَعَ بَعْض الْعُلَمَاء وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَة سُنَّة وَلَا إجْمَاع وَلِلِاجْتِهَادِ فِيهَا مَسَاغ فَلَا يُنْكَرُ عَلَى مَنْ عَمِلَ بِهَا مُجْتَهِدًا أَوْ مُقَلِّدًا. وَإِنَّمَا دَخَلَ هَذَا اللَّبْس مِنْ جِهَة أَنَّ الْقَائِل يَعْتَقِد أَنَّ مَسَائِل الْخِلَاف هِيَ مَسَائِل الِاجْتِهَاد كَمَا اعْتَقَدَ ذَلِكَ طَوَائِف مِنْ النَّاسِ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّة أَنَّ مَسَائِل الِاجْتِهَاد مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا دَلِيلٌ يَجِب الْعَمَل بِهَا وُجُوبًا ظَاهِرًا مِثْل حَدِيثٍ صَحِيحٍ لَا مُعَارِض لَهُ مِنْ جِنْسه فَيَسُوغ إذَا عُدِمَ ذَلِكَ الِاجْتِهَاد لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّة الْمُقَارِبَة أَوْ لِخَفَاءِ الْأَدِلَّة فِيهَا وَلَيْسَ فِي ذِكْر كَوْنِ الْمَسْأَلَة قَطْعِيَّة طَعْنٌ عَلَى مَنْ خَالَفَهَا مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ كَسَائِرِ الْمَسَائِل الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا السَّلَف وَقَدْ تَيَقَّنَا صِحَّة أَحَد الْقَوْلَيْنِ فِيهَا مِثْل كَوْنِ الْحَامِل الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا تَعْتَدُّ بِوَضْعِ الْحَمْل، وَأَنَّ الْجِمَاع الْمُجَرَّد عَنْ إنْزَال يُوجِب الْغُسْل، وَأَنَّ رِبَا الْفَضْل وَالْمُتْعَة حَرَام وَذَكَرَ مَسَائِل كَثِيرَة. وَقَالَ أَيْضًا فِي مَكَان آخَر: إنَّ مَنْ أَصَرَّ عَلَى تَرْكِ الْجَمَاعَةِ يُنْكَرُ عَلَيْهِ وَيُقَاتَلُ أَيْضًا فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ مَنْ اسْتَحَبَّهَا، وَأَمَّا مَنْ أَوْجَبَهَا فَإِنَّهُ عِنْده يُقَاتَل وَيُفَسَّق إذَا قَامَ الدَّلِيل عِنْدَهُ الْمُبِيح لِلْمُقَاتَلَةِ وَالتَّفْسِيق كَالْبُغَاةِ بَعْد زَوَال الشُّبْهَة. وَقَالَ أَيْضًا: يُعِيد مَنْ تَرَكَ الطُّمَأْنِينَة وَمَنْ لَمْ يُوَقِّت الْمَسْح نَصَّ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مُتَأَوِّل لَمْ يَتَوَضَّأ مِنْ لَحْمِ الْإِبِلِ فَإِنَّهُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّة وَالْآثَار فِيهِ.

وَذَكَر الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ أَنَّ الْمُخْتَلَف فِيهِ لَا إنْكَار فِيهِ قَالَ لَكِنْ إنْ نَدَبَهُ عَلَى جِهَة النَّصِيحَة إلَى الْخُرُوج مِنْ الْخِلَاف فَهُوَ حَسَنٌ مَحْبُوب مَنْدُوب إلَى فِعْلِهِ بِرِفْقِ وَذَكَر غَيْره مِنْ الشَّافِعِيَّة فِي الْمَسْأَلَة وَجْهَيْنِ وَذَكَرَ مَسْأَلَة الْإِنْكَار عَلَى مَنْ كَشَفَ فَخْذَهُ وَأَنَّ فِيهِ الْوَجْهَيْنِ.

فصل النصوص في وجوب الأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

[فَصْل النُّصُوص فِي وُجُوب الْأَمْر بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر] قَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيز بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر فِي مَوَاضِع وَعَنْ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ عِنْدِهِ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ. وَمَعْنَى أَوْشَكَ أَسْرَعَ. وَعَنْ جَرِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَا مِنْ قَوْمٍ يَكُونُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ مَنْ يَعْمَلُ بِالْمَعَاصِي هُمْ أَعَزُّ مِنْهُ وَأَمْنَعُ لَمْ يُغَيِّرُوا عَلَيْهِ إلَّا أَصَابَهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَذَابٍ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ. وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَ «يَا أَيُّهَا النَّاسُ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] . وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِعَذَابٍ مِنْهُ» إسْنَادٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. وَعَنْ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ عَنْ عَمْرو بْنِ حَارِثَةَ عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيِّ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ أَنَّهُ سَأَلَ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «بَلْ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى إذَا رَأَيْت شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْك بِنَفْسِك وَدَعْ عَنْك الْعَوَامَّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ قَالَ: لَا بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ» عُتْبَةُ مُخْتَلَف فِيهِ وَبَاقِيه جَيِّد رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَن غَرِيب وَابْنُ مَاجَهْ

وَزَادَ بَعْد قَوْله بِرَأْيِهِ «وَرَأَيْت أَمْرًا لَا يُدَانُ لَك بِهِ فَعَلَيْك بِخُوَيْصَةِ نَفْسِك» وَذَكَرَهُ. وَلِأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرهمْ مِنْ حَدِيث حُذَيْفَةَ «فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَنَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ يُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ، وَالصِّيَامُ، وَالصَّدَقَةُ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ» . وَعَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي رِوَايَة حَدَّثَنِي رَجُل مِنْ أَصْحَاب النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَنْ يَهْلِكَ النَّاسُ أَوْ يُعْذَرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ» إسْنَادٌ جَيِّد رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. يُقَال أَعْذَرَ فُلَان مِنْ نَفْسِهِ إذَا أَمْكَنَ مِنْهَا يَعْنِي أَنَّهُمْ لَا يَهْلِكُونَ حَتَّى تَكْثُر ذُنُوبُهُمْ وَعُيُوبهمْ فَيَسْتَوْجِبُونَ الْعُقُوبَة وَيَكُون لِمَنْ يُعَذِّبهُمْ عُذْرًا كَأَنَّهُمْ قَامُوا بِعُذْرِهِ فِي ذَلِكَ وَيُرْوَى بِفَتْحِ الْيَاء مَنْ عَذَرْته وَهُوَ بِمَعْنَاهُ وَحَقِيقَة عَذَرْتُهُ مَحَوْتُ الْإِسَاءَة وَطَمَسْتُهَا وَيَتَعَلَّق بِالصِّدْقِ وَالْكَذِب مَا يَتَعَلَّق بِالْحَقِّ وَالْبَاطِل وَلَهُ تَعَلُّق بِهَذَا. وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا «لَمَّا وَقَعَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ فِي الْمَعَاصِي نَهَتْهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا فَجَالَسُوهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ وَوَاكَلُوهُمْ وَشَارَبُوهُمْ فَضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ وَلَعَنَهُمْ عَلَى لِسَانِ دَاوُد وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة: 78] . وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ: لَا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى تَأْطُرُوهُمْ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا» رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَلِأَبِي دَاوُد «ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنْ الْغَدِ وَهُوَ عَلَى حَالِهِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ ثُمَّ قَالَ: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ} [المائدة: 78] إلَى قَوْلِهِ {فَاسِقُونَ} [المائدة: 81] ثُمَّ قَالَ: كَلًّا وَاَللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا» زَادَ فِي رِوَايَةٍ «أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ ثُمَّ لَيَلْعَنَنَّكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ» وَرَوَى

التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ هَذَا الْمَعْنَى. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيب. وَرَوَيَاهُ أَيْضًا مُرْسَلًا وَإِسْنَاد هَذَا الْخَبَر ثِقَات وَأَبُو عُبَيْدَةَ لَمْ يَسْمَع مِنْ أَبِيهِ عِنْدهمْ. وَعَنْ الْعُرْسِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا عُمِلَتْ الْخَطِيئَةُ فِي الْأَرْضِ كَانَ مَنْ شَهِدَهَا وَكَرِهَهَا فِي رِوَايَةٍ فَأَنْكَرَهَا كَمَنْ غَابَ عَنْهَا، وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَرَضِيَهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ مُغِيرَةَ بْنِ زِيَادٍ الْمُوصِلِيِّ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. وَرَوَى هُوَ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيدٍ «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَلَفْظه مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَاد وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيب. وَلِأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ قَالَ: كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» وَهُوَ لِأَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيث أَبِي أُمَامَةَ وَفِي السُّنَّة أَحَادِيث قَالَ الْمَرُّوذِيُّ قَالَ لِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: أَنْتَ كَيْف اسْتَخَرْت أَنْ تُقِيمَ بِسَامِرَةَ؟ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ فَذَكَرْت ذَلِكَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ. فَقَالَ: فَلِمَ لَمْ تَقُلْ لَهُ فَكَانَ يَد لِلْأَسِيرِ مِمَّنْ يَخْدِمُهُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَا نَزَالُ بِخَيْرٍ مَا كَانَ فِي النَّاسِ مَنْ يُنْكِر عَلَيْنَا.

فصل الإنكار الواجب والمندوب والمشترط فيه إذن الحاكم

[فَصْل الْإِنْكَار الْوَاجِب وَالْمَنْدُوب وَالْمُشْتَرَط فِيهِ إذْن الْحَاكِمِ] وَالْإِنْكَار فِي تَرْك الْوَاجِب وَفِعْلِ الْحَرَام وَاجِب وَفِي تَرْك الْمَنْدُوب وَفِعْلِ الْمَكْرُوه مَنْدُوب ذَكَره الْأَصْحَاب وَغَيْرهمْ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي آخِر كِتَابِ الْإِرْشَادِ وَقَالَ أَيْضًا غَيْره: فَمِنْ الْقَبِيح مَا يَقْبُح مِنْ كُلّ مُكَلَّف عَلَى وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ كَالرَّمْيِ بِالسِّهَامِ وَاِتِّخَاذِ الْحَمَامِ وَالْعِلَاجِ بِالسِّلَاحِ لِأَنَّ تَعَاطِيَ ذَلِكَ لِمَعْرِفَةِ الْحِرَابِ وَالتَّقَوِّي عَلَى الْعَدُوِّ، وَلِيُرْسِلَ عَلَى الْحَمَامِ الْكُتُبَ وَالْمُهِمَّاتِ لِحَوَائِجِ السُّلْطَانِ وَالْمُسْلِمِينَ حَسَنٌ لَا يَجُوزُ إنْكَارُهُ وَإِنْ قَصَدَ بِذَلِكَ الِاجْتِمَاعَ عَلَى الْفِسْقِ وَاللَّهْوَ وَمُعَامَلَةَ ذَوِي الرِّيَبِ وَالْمَعَاصِي فَذَلِكَ قَبِيحٌ يَجِبُ إنْكَارُهُ. وَمَنْ تَرَكَ مَا يَلْزَمُهُ فِعْلُهُ بِلَا عُذْرٍ زَادَ فِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ " ظَاهِرٍ " وَجَبَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ، وَلِلنِّسَاءِ الْخُرُوجُ لِلْعِلْمِ وَيُنْكَرُ عَلَى مَنْ تَرَكَ الْإِنْكَارَ الْمَطْلُوبَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ. وَلَا يُنْكِرُ أَحَدٌ بِسَيْفٍ إلَّا مَعَ سُلْطَانٍ وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: الضَّرْبُ بِالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ إشْهَارُ سِلَاحٍ أَوْ سَيْفٍ يَجُوزُ لِلْآحَادِ بِشَرْطِ الضَّرُورَةِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، فَإِنْ احْتَاجَ إلَى أَعْوَانٍ يُشْهِرُونَ السِّلَاحَ لِكَوْنِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِنْكَارِ بِنَفْسِهِ فَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى إذْنِ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْفِتَنِ وَهَيَجَانِ الْفَسَادِ، وَقِيلَ لَا يُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ إذْنُ الْإِمَامِ.

فصل في الإنكار على السلطان والفرق بين البغاة والإمام الجائر

[فَصْل فِي الْإِنْكَار عَلَى السُّلْطَان وَالْفَرْق بَيْن الْبُغَاة وَالْإِمَام الْجَائِر] وَلَا يُنْكِر أَحَد عَلَى سُلْطَان إلَّا وَعْظًا لَهُ وَتَخْوِيفًا أَوْ تَحْذِيرًا مِنْ الْعَاقِبَة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فَإِنَّهُ يَجِب وَيَحْرُم بِغَيْرِ ذَلِكَ ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَغَيْره وَالْمُرَاد وَلَمْ يَخَفْ مِنْهُ بِالتَّخْوِيفِ وَالتَّحْذِير وَإِلَّا سَقَطَ وَكَانَ حُكْم ذَلِكَ كَغَيْرِهِ. قَالَ حَنْبَلٌ: اجْتَمَعَ فُقَهَاءُ بَغْدَادَ فِي وِلَايَةِ الْوَاثِقِ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَقَالُوا لَهُ: إنَّ الْأَمْرَ قَدْ تَفَاقَمَ وَفَشَا يَعْنُونَ إظْهَار الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَغَيْر ذَلِكَ وَلَا نَرْضَى بِإِمْرَتِهِ وَلَا سُلْطَانه، فَنَاظَرَهُمْ فِي ذَلِكَ وَقَالَ عَلَيْكُمْ بِالْإِنْكَارِ بِقُلُوبِكُمْ وَلَا تَخْلَعُوا يَدًا مِنْ طَاعَة وَلَا تَشُقُّوا عَصَا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَسْفِكُوا دِمَاءَكُمْ وَدِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ مَعَكُمْ، وَانْظُرُوا فِي عَاقِبَةِ أَمْرِكُمْ، وَاصْبِرُوا حَتَّى يَسْتَرِيح بَرٌّ أَوْ يُسْتَرَاح مِنْ فَاجِر وَقَالَ لَيْسَ هَذَا صَوَاب، هَذَا خِلَاف الْآثَار. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَأْمُر بِكَفِّ الدِّمَاء وَيُنْكِر الْخُرُوج إنْكَارًا شَدِيدًا وَقَالَ فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ الْكَفُّ؛ لِأَنَّا نَجِدُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا صَلَّوْا فَلَا» خِلَافًا لِلْمُتَكَلِّمِينَ فِي جَوَاز قِتَالِهِمْ كَالْبُغَاةِ قَالَ الْقَاضِي: وَالْفَرْق بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَة الظَّاهِر وَالْمَعْنَى، أَمَّا الظَّاهِر فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَ بِقِتَالِ الْبُغَاة بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ} [الحجرات: 9] . وَفِي مَسْأَلَتِنَا أَمْرٌ بِالْكَفِّ عَنْ الْأَئِمَّة بِالْأَخْبَارِ الْمَذْكُورَة، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَإِنَّ الْخَوَارِج يُقَاتَلُونَ بِالْإِمَامِ وَفِي مَسْأَلَتِنَا يَحْصُل قِتَالهمْ بِغَيْرِ إمَام فَلَمْ يَجُزْ كَمَا لَمْ يَجُزْ الْجِهَاد بِغَيْرِ إمَام انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ إنَّ الْجَمَاعَةَ حَبْلُ اللَّهِ فَاعْتَصِمُوا ... مِنْهُ بِعُرْوَتِهِ الْوُثْقَى لِمَنْ دَانَا

كَمْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِالسُّلْطَانِ مُعْضِلَةً ... فِي دِينِنَا رَحْمَةً مِنْهُ وَدُنْيَانَا لَوْلَا الْخِلَافَةُ لَمْ تُؤْمَنْ لَنَا سُبُلٌ ... وَكَانَ أَضْعَفُنَا نَهْبًا لِأَقْوَانَا وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِابْنِهِ يَا بُنَيّ احْفَظْ عَنِّي مَا أُوصِيكَ بِهِ: إمَامٌ عَدْلٌ خَيْرٌ مِنْ مَطَرٍ وَبْلٍ وَأَسَدٌ حَطُومٌ خَيْرٌ مِنْ إمَامٍ ظَلُومٍ، وَإِمَامٌ ظَلُومٌ غَشُومٌ خَيْرٌ مِنْ فِتْنَةٍ تَدُومُ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنْ الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر مَعَ السَّلَاطِينِ التَّعْرِيف وَالْوَعْظ، فَأَمَّا تَخْشِينُ الْقَوْلِ نَحْو يَا ظَالِم يَا مَنْ لَا يَخَاف اللَّهَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُحَرِّك فِتْنَة يَتَعَدَّى شَرُّهَا إلَى الْغَيْر لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ لَمْ يَخَفْ إلَّا عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ جَائِز عِنْد جُمْهُور الْعُلَمَاء قَالَ: وَاَلَّذِي أَرَادَ الْمَنْع مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُود إزَالَة الْمُنْكَر وَحَمْلُ السُّلْطَان بِالِانْبِسَاطِ عَلَيْهِ عَلَى فِعْلِ الْمُنْكَر أَكْثَر مِنْ فِعْلِ الْمُنْكَر الَّذِي قُصِدَ إزَالَته قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا يُتَعَرَّض لِلسُّلْطَانِ فَإِنَّ سَيْفَهُ مَسْلُول وَعَصَاهُ. فَأَمَّا مَا جَرَى لِلسَّلَفِ مِنْ التَّعَرُّض لِأُمَرَائِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَهَابُونَ الْعُلَمَاء فَإِذَا انْبَسَطُوا عَلَيْهِمْ احْتَمَلُوهُمْ فِي الْأَغْلَب، وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيث عَطِيَّةَ السَّعْدِيِّ: «إذَا اسْتَشَاطَ السُّلْطَانُ، تَسَلَّطَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ» . وَوَعَظَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَخَمْسمِائَةٍ حَضَرَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَضِيءُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَقَالَ لَوْ أَنِّي مَثُلْت بَيْنَ يَدَيْ السُّدَّةِ الشَّرِيفَةِ لَقُلْت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كُنْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ مَعَ حَاجَتك إلَيْهِ، كَمَا كَانَ لَك مَعَ غِنَاهُ عَنْك، إنَّهُ لَمْ يَجْعَل أَحَدًا فَوْقَكَ، فَلَا تَرْضَ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ أَشْكَرَ لَهُ مِنْك، فَتَصَدَّقَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِصَدَقَاتِ وَأَطْلَقَ مَحْبُوسِينَ. وَوَعَظَ أَيْضًا فِي هَذِهِ السَّنَة وَالْخَلِيفَة حَاضِر قَالَ: وَبَالَغْتُ فِي وَعْظِ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا حَكَيْتُهُ لَهُ أَنَّ الرَّشِيدَ قَالَ لِشَيْبَانَ: عِظْنِي. فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَأَنْ تَصْحَبَ مَنْ يُخَوِّفك حَتَّى تُدْرِك الْأَمْن خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تَصْحَبَ مَنْ يُؤَمِّنَكَ حَتَّى تُدْرِك الْخَوْف قَالَ فَسِّرْ لِي هَذَا قَالَ مَنْ يَقُولُ لَكَ

أَنْتَ مَسْئُول عَنْ الرَّعِيَّة فَاتَّقِ اللَّه، أَنْصَحُ لَكَ مِمَّنْ يَقُولُ أَنْتُمْ أَهْلُ بَيْتٍ مَغْفُورٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ قَرَابَة نَبِيِّكُمْ، فَبَكَى الرَّشِيدُ حَتَّى رَحِمَهُ مَنْ حَوْله، فَقُلْت لَهُ فِي كَلَامِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنْ تَكَلَّمْت خِفْتُ مِنْكَ، وَإِنْ سَكَتّ خِفْتُ عَلَيْكَ، وَأَنَا أُقَدِّم خَوْفِي عَلَيْك عَلَى خَوْفِي مِنْكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَوَعَظَ شَبِيبُ بْنُ شَيْبَةَ الْمَنْصُورَ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَجْعَل فَوْقَكَ أَحَدًا، فَلَا تَجْعَل فَوْقَ شُكْرِكَ شُكْرًا. وَدَخَلَ ابْنُ السَّمَّاكِ عَلَى الرَّشِيدِ فَقَالَ لَهُ تَكَلَّمَ وَأَوْجِزْ، فَقَالَ: إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى نَفْسِي الدُّخُول إلَيْك فَغَضِبَ الرَّشِيدُ وَقَالَ: لَتَخْرُجَنَّ مِمَّا قُلْت أَوْ لَأَفْعَلَنَّ بِك وَأَصْنَعَن قَالَ: أَنْتَ وَلِيُّ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ فَإِنْ أَنَا لَمْ أَنْصَحْ لَكَ فِيهِمْ وَأَصْدُقْك عَنْهُمْ خِفْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ اتَّقِ اللَّهَ فِي رَعِيَّتِكَ، وَخَفْ الْمَرْجِعَ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَمْ أَرَ أَحْسَن مِنْ وَجْهِكَ فَلَا تُجَمِّلْهُ لِجَهَنَّمَ حَطَبًا. وَقَالَ بَعْضهمْ: رُبّ هَالِكٍ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَمَغْرُورٍ بِالسَّتْرِ عَلَيْهِ، وَمُسْتَدْرَج بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِ وَقَالَ الْفُضَيْلُ إذَا قِيلَ لَك أَتَخَافُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَاسْكُتْ، فَإِنَّك إنْ جِئْت بِلَا جِئْت بِأَمْرٍ عَظِيمٍ وَهَوْلٍ، وَإِنْ قُلْت نَعَم فَالْخَائِف لَا يَكُون عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: كُلُّ مَا يُكْرَه الْمَوْتُ مِنْ أَجْلِهِ فَاتْرُكْهُ لَا يَضُرَّك مَتَى مِتَّ وَقَالَ سُفْيَانُ: يَنْبَغِي لِمَنْ وَعَظَ أَنْ لَا يُعَنِّف، وَلِمَنْ وُعِظَ أَنْ لَا يَأْنَف، وَيُذَكِّر مَنْ يَعِظهُ وَيُخَوِّفهُ مَا يُنَاسِب الْحَال وَمَا يَحْصُل بِهِ الْمَقْصُود، وَلَا يُطِيل، وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ، وَلِكُلِّ فَنٍّ رِجَالٌ. وَالْآيَات وَالْأَخْبَار الْمُتَعَلِّقَة بِالظُّلْمِ وَالْأَمْر بِالْعَدْلِ وَالتَّقْوَى وَالْكَفِّ عَنْ الْمُحَرَّمَات مَعَ اخْتِلَافِهَا كَثِيرَة مَشْهُورَة. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ عَلَيْهِمْ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْهُ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْهُ» .

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: حَدَّثَنِي أَبُو الْيَمَانِ حَدَّثَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ عَنْ لُقْمَانَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَلِي أَمْرَ عَشَرَةٍ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ إلَّا أَتَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدُهُ مَغْلُولَةٌ إلَى عُنُقِهِ فَكَّهُ بِرُّهُ، أَوْ أَوْثَقَهُ إثْمُهُ، أَوَّلُهَا مَلَامَةٌ، وَأَوْسَطُهَا نَدَامَةٌ، وَآخِرُهَا خِزْيٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» إسْنَاد حَسَنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَعَنْ عُبَادَةَ مَرْفُوعًا «مَا مِنْ أَمِيرِ عَشَرَةٍ إلَّا جِيءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَدُهُ مَغْلُولَةٌ إلَى عُنُقِهِ حَتَّى يُطْلِقَهُ الْحَقُّ أَوْ يُوبِقَهُ» وَعَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ مَرْفُوعًا مَعْنَاهُ رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَإِسْنَادهمَا ضَعِيف لَكِنْ لِهَذَا الْمَعْنَى طُرُق يَعْضُد بَعْضهَا بَعْضًا. وَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ الْإِمَارَةِ «نِعْمَتْ الْمُرْضِعَةُ وَبِئْسَتْ الْفَاطِمَةُ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَظُنّهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ فَذَكَرَ مِنْهُمْ الْإِمَامَ الْعَادِلَ» . وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرو عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمُقْسِطُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وُلُّوا» . وَقَدْ ذَكَرْتُ مَا فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ لَهُمْ دَعْوَةٌ فَذَكَرَ مِنْهُمْ الْإِمَامَ الْعَادِلَ» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ دَعَا إلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا» ، وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ سَنَّ سُنَّةَ خَيْرٍ فَاتُّبِعَ عَلَيْهَا فَلَهُ أَجْرُهُ وَمِثْلُ أُجُورِ مَنْ اتَّبَعَهُ غَيْرَ مَنْقُوصٍ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةَ شَرٍّ فَاتُّبِعَ عَلَيْهَا كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهُ وَمِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ اتَّبَعَهُ غَيْرَ مَنْقُوصٍ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا» رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ وَيَأْتِي بَعْد نَحْو كُرَّاسَيْنِ مَا لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِم مِنْ النُّصْحِ وَغَيْرِهِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ

لَا يُصْلِحُ هَذَا الْأَمْرَ إلَّا شِدَّةٌ فِي غَيْرِ عُنْفٍ، وَلِينٌ فِي غَيْرِ ضَعْفٍ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَمْ يُقِمْ أَمْرَ النَّاسِ إلَّا امْرُؤٌ حَصِيفُ الْعُقْدَةِ، بَعِيد الْغَوْرِ، لَا يَطَّلِعُ النَّاسُ مِنْهُ عَلَى عَوْرَةٍ. وَلَا يَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ. وَعَنْهُ أَيْضًا لَا يُقِيمُ أَمْرَ اللَّهِ فِي النَّاسِ إلَّا رَجُلٌ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِهِ كَلِمَةً يَخَافُ اللَّهَ فِي النَّاسِ وَلَا يَخَافُ النَّاسَ فِي اللَّهِ. وَلِعَلَيَّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي أَوَّل كِتَابٍ كَتَبَهُ: أَمَّا بَعْد فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ أَنَّهُمْ مَنَعُوا الْحَقَّ حَتَّى اُشْتُرِيَ، وَبَسَطُوا الْجَوْرَ حَتَّى اُفْتُدِيَ. وَقَالَ مَجَاعَةُ بْنُ مَرَارَةَ الْحَنَفِيُّ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ: إذَا كَانَ الرَّأْيُ عِنْد مَنْ لَا يُقْبَل مِنْهُ وَالسِّلَاح عِنْد مَنْ لَا يَسْتَعْمِلُهُ وَالْمَال عِنْد مَنْ لَا يُنْفِقهُ ضَاعَتْ الْأُمُور. وَقَالَ عَلِيٌّ الْمُلْك وَالدِّين أَخَوَانِ لَا غِنًى لِأَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَر فَالدِّينُ أُسٌّ وَالْمُلْك حَارِسٌ فَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أُسٌّ فَمَهْدُوم وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَارِسٌ فَضَائِعٌ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ مِنْ الْمُلُوك مَنْ إذَا مُلِّكَ زَهَّدَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا فِي يَدَيْهِ، وَرَغَّبَهُ فِيمَا فِي يَد غَيْره، وَأَشْرَبَ قَلْبَهُ الْإِشْفَاقَ عَلَى مَنْ عِنْده، فَهُوَ يُحْسَد عَلَى الْقَلِيل وَيَتَسَخَّط الْكَثِير وَمِنْ كَلَام الْفُرْسِ: لَا مُلْكَ إلَّا بِرِجَالٍ، وَلَا رِجَالَ إلَّا بِمَالٍ، وَلَا مَالَ إلَّا بِعِمَارَةِ، وَلَا عِمَارَةَ إلَّا بِعَدْلٍ. وَمِنْ كَلَامِهِمْ أَيْضًا الْمَلِك الَّذِي يَأْخُذ أَمْوَالَ رَعِيَّتِهِ وَيُجْحِفَ بِهِمْ مِثْل مَنْ يَأْخُذُ الطِّينَ مِنْ أُصُولِ حِيطَانِهِ فَيُطَيِّن بِهِ سُطُوحه فَيُوشِكُ أَنْ تَقَع عَلَيْهِ السُّطُوح. وَمِنْ كَلَام أَرِسْطُوطَالِيس الْعَالَم بُسْتَانٌ سِيَاجُهُ الدَّوْلَة، الدَّوْلَة سُلْطَان تَحْيَا بِهِ السُّنَّة، السُّنَّة سِيَاسَةٌ، السِّيَاسَة يَسُوسُهَا الْمَلِكُ، وَالْمَلِك رَاعٍ يَعْضُدْهُ الْجَيْشُ، الْجَيْشُ أَعْوَانٌ يُكَلِّفهُمْ الْمَال، الْمَالُ رِزْقٌ تَجْمَعهُ الرَّعِيَّة، الرَّعِيَّةُ عَبِيدٌ يَتَعَبَّدهُمْ الْعَدْل، الْعَدْلُ مَأْلُوفٌ وَهُوَ صَلَاح الْعَالَم. كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ إلَى الْحَجَّاجِ أَنْ صِفْ لِي الْفِتْنَة حَتَّى كَأَنِّي أَرَاهَا رَأْيَ الْعَيْن فَكَتَبَ لَهُ لَوْ كُنْتُ شَاعِرًا لَوَصَفْتُهَا لَكَ فِي شِعْرِي وَلَكِنِّي

أَصِفُهَا لَكَ بِمَبْلَغِ عِلْمِي وَرَأْيِي: الْفِتْنَةُ تُلَقَّحُ بِالنَّجْوَى، وَتُنْتَجُ بِالشَّكْوَى، فَلَمَّا قَرَأَ كِتَابَهُ قَالَ إنَّ ذَلِكَ لَكَمَا وَصَفْت فَخُذْ مَنْ قِبَلَكَ مِنْ الْجَمَاعَة وَأَعْطِهِمْ عَطَايَا الْفُرْقَة، وَاسْتَعِنْ عَلَيْهِمْ بِالْفَاقَةِ. فَإِنَّهَا نِعْمَ الْعَوْنُ عَلَى الطَّاعَةِ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ فَلَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ. لَمَّا أَرَادَ عَمْرٌو الْمَسِير إلَى مِصْرَ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُوصِيكَ قَالَ أَجَل فَأَوْصِنِي قَالَ اُنْظُرْ فَاقَةَ الْأَحْرَار فَاعْمَلْ فِي سَدِّهَا، وَطُغْيَان السَّفَلَة فَاعْمَلْ فِي قَمْعِهَا، وَاسْتَوْحِشْ مِنْ الْكَرِيم الْجَائِع وَاللَّئِيم الشَّبْعَانِ، فَإِنَّمَا يَصُول الْكَرِيم إذَا جَاعَ، وَاللَّئِيمُ إذَا شَبِعَ. قَالَ بَعْض الْحُكَمَاء: الرَّعِيَّة لِلْمَلِكِ كَالرُّوحِ لِلْجَسَدِ، فَإِذَا ذَهَبَ الرُّوحُ فَنِيَ الْجَسَد قَالَ الْإِسْكَنْدَرُ لِأَرِسْطُوطَالِيسَ أَوْصِنِي قَالَ اُنْظُرْ مَنْ كَانَ لَهُ عَبِيدٌ فَأَحْسَنَ سِيَاسَتَهُمْ فَوَلِّهِ الْجُنْدَ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ ضَيْعَةٌ فَأَحْسَنَ تَدْبِيرَهَا فَوَلِّهِ الْخَرَاج وَقَالَ بَعْض الْحُكَمَاء: لَا تُصَغِّرْ أَمْرَ مَنْ جَاءَك يُحَارِبك، فَإِنَّك إنْ ظَفِرْتَ لَمْ تُحْمَد، وَإِنْ عَجَزْتَ لَمْ تُعْذَر. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي إذَا صَلُحَا صَلُحَ النَّاسُ: الْأُمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ» وَفِي خَبَر آخَر عَنْ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ عَلَامَةُ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى عَنْ عِبَادِهِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ عَلَيْهِمْ خِيَارَهُمْ، وَأَنْ يُنْزِلَ عَلَيْهِمْ الْغَيْثَ فِي أَوَانِهِ، وَعَلَامَةُ سَخَطِهِ أَنْ يُوَلِّيَ عَلَيْهِمْ شِرَارَهُمْ وَيُنْزِلَ عَلَيْهِمْ الْغَيْثَ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ. كَتَبَ عَامِل إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: إنَّ مَدِينَتَنَا قَدْ احْتَاجَتْ إلَى مَرَمَّةٍ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ: حَصِّنْ مَدِينَتَكَ بِالْعَدْلِ وَنَقِّ طُرُقَهَا مِنْ الْمَظَالِمِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ قَالَ لِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ صِفْ لِي الْعَدْلَ يَا ابْنَ كَعْبٍ قُلْت بَخٍ بَخٍ سَأَلْتَ عَنْ أَمْرٍ عَظِيمٍ كُنْ لِصَغِيرِ النَّاسِ أَبًا، وَلِكَبِيرِهِمْ ابْنًا، وَلِلْمِثْلِ مِنْهُمْ أَخًا، وَلِلنِّسَاءِ كَذَلِكَ، وَعَاقِبْ النَّاسَ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ عَلَى قَدْرِ احْتِمَالِهِمْ وَلَا تَضْرِبَنَّ لِغَضَبِك سَوْطًا وَاحِدًا فَتَكُونَ مِنْ الْعَادِينَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «يَوْمٌ مِنْ إمَامٍ عَادِلٍ أَفْضَلُ مِنْ مَطَرِ

أَرْبَعِينَ صَبَاحًا أَحْوَجَ مَا تَكُونُ الْأَرْضُ إلَيْهِ» وَمِنْ الْأَمْثَال فِي السُّلْطَان إذَا رَغِبَ الْمَلِكُ عَنْ الْعَدْلِ رَغِبَتْ الرَّعِيَّة عَنْ الطَّاعَة: لَا صَلَاحَ لِلْخَاصَّةِ مَعَ فَسَادِ الْعَامَّة. لَا نِظَامَ لِلدَّهْمَاءِ، مَعَ دَوْلَة الْغَوْغَاء الْمُلْك عَقِيمٌ الْمُلْك يُبْقِي عَلَى الْكُفْر وَلَا يُبْقِي عَلَى الظُّلْم سُكْر السُّلْطَان أَشَدُّ مِنْ سُكْرِ الشَّرَاب قَالَ الشَّاعِرُ: تَخَافُ عَلَى حَاكِمٍ عَادِلٍ ... وَنَرْجُو فَكَيْفَ بِمَنْ يَظْلِمُ إذَا جَارَ حُكْمُ امْرِئٍ مُلْحِدٍ ... عَلَى مُسْلِمٍ هَكَذَا الْمُسْلِمُ وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ الْمُعَلِّم إذَا لَمْ يَعْدِل بَيْنَ الصِّبْيَانِ كُتِبَ مِنْ الظَّلَمَة. وَقَالَ مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ: إنِّي وَهَبْتُ لِظَالِمِي ظُلْمِي ... وَعَفَوْتُ ذَاكَ لَهُ عَلَى عِلْمِي وَرَأَيْتُهُ أَسْدَى إلَيَّ يَدًا ... فَأَبَانَ مِنْهُ بِجَهْلِهِ حِلْمِي قَالَ أَيْضًا: اصْبِرْ عَلَى الظُّلْمِ وَلَا تَنْتَصِرْ ... فَالظُّلْمُ مَرْدُودٌ عَلَى الظَّالِمِ وَكِلْ إلَى اللَّهِ ظَلُومًا فَمَا ... رَبِّي عَنْ الظَّالِمِ بِالنَّائِمِ وَقَالَ آخَرُ: وَمَا مِنْ يَدٍ إلَّا يَدُ اللَّهِ فَوْقَهَا ... وَمَا مِنْ ظَالِمٍ إلَّا سَيُبْلَى بِظَالِمِ وَقَالَ كَعْبٌ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَيْلٌ لِسُلْطَانِ الْأَرْضِ مِنْ سُلْطَانِ السَّمَاءِ، فَقَالَ عُمَرُ إلَّا مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ، فَقَالَ كَعْبٌ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّهَا لَكَذَلِكَ إلَّا مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ، مَا بَيْنَهُمَا حَرْفٌ يَعْنِي فِي التَّوْرَاةِ. وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ: أَمَا وَاَللَّهِ إنَّ الظُّلْمَ لُؤْمٌ ... وَمَا زَالَ الْمُسِيءُ هُوَ الظَّلُومُ إلَى دَيَّانِ يَوْمِ الدِّينِ نَمْضِي ... وَعِنْدَ اللَّهِ تَجْتَمِعُ الْخُصُومُ سَتَعْلَمُ فِي الْحِسَابِ إذَا الْتَقَيْنَا ... غَدًا عِنْدَ الْإِلَهِ مَنْ الْمَلُومُ

وَكَتَبَ بِهَا مَعَ يَحْيَى بْنِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ وَقَالَ الشَّاعِرُ: إذَا جَارَ الْأَمِيرُ وَكَاتِبَاهُ ... وَقَاضِي الْأَرْضِ دَاهَنَ فِي الْقَضَاءِ فَوَيْلٌ ثُمَّ وَيْلٌ ثُمَّ وَيْلٌ ... لِقَاضِي الْأَرْضِ مِنْ قَاضِي السَّمَاءِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيث أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ» وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَن صَحِيح. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إلَّا عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إلَّا رَفَعَهُ» رَوَاهُ مُسْلِم وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ لَأَنْ يُخْطِئَ الْإِمَامُ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ لَأَنْ أَنْدَمَ عَلَى الْعَفْوِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَنْدَمَ عَلَى الْعُقُوبَةِ، كَانَ يُقَال لِي أَوْلَى النَّاس بِالْعَفْوِ أَقْدَرُهُمْ عَلَى الْعُقُوبَة، وَأَنْقَصُ النَّاسِ عَقْلًا مَنْ ظَلَمَ مَنْ هُوَ دُونَهُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ» وَذَكَرْتُ فِي مَكَان آخَر مَا تَكَرَّرَ مِنْ قَوْله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا تَغْضَبْ وَقَوْله «إذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَإِنْ كَانَ قَائِمًا فَلْيَجْلِسْ، وَإِنْ كَانَ جَالِسًا فَلْيَضْطَجِعْ» وَقَدْ قِيلَ: «أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اُذْكُرْنِي عِنْدَ غَضَبِكَ أَذْكُرْك عِنْدَ غَضَبِي فَلَا أَمْحَقُكَ فِيمَنْ أَمْحَقُ، وَإِذَا ظُلِمْتَ فَارْضَ بِنُصْرَتِي لَك فَإِنَّهَا خَيْرٌ مِنْ نُصْرَتِكَ لِنَفْسِك» . «وَقَالَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: يُبَاعِدُك مِنْ غَضَبِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا تَغْضَبَ» . وَقَدْ ذَكَرْتُ مَعْنَاهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -: أُعْطِينَا مَا أُعْطِيَ النَّاسُ وَمَا لَمْ يُعْطَوْا، وَعَلِمْنَا مَا عَلِمَ النَّاس وَمَا لَمْ يَعْلَمُوا، فَلَمْ نَرَ شَيْئًا أَفْضَلَ مِنْ الْعَدْلِ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَالْقَصْدِ فِي الْغِنَى وَالْفَقْر

وَخَشْيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ» . وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّمَا يُعْرَفُ الْحِلْمُ سَاعَةَ الْغَضَب وَكَانَ يَقُول أَوَّلُ الْغَضَبِ جُنُون وَآخِره نَدَم وَلَا يُقَوَّمُ الْغَضَب بِذُلِّ الِاعْتِذَار وَرُبَّمَا كَانَ الْعَطَب فِي الْغَضَب وَقِيلَ لِلشَّعْبِيِّ لِأَيِّ شَيْءٍ يَكُونُ السَّرِيعُ الْغَضَب سَرِيع الْفَيْئَة وَيَكُونُ بَطِيءُ الْغَضَب بَطِيءَ الْفَيْئَة قَالَ لِأَنَّ الْغَضَب كَالنَّارِ فَأَسْرَعُهَا وُقُودًا أَسْرَعُهَا خُمُودًا. أَرَادَ الْمَنْصُورُ خَرَاب الْمَدِينَةِ لِإِطْبَاقِ أَهْلهَا عَلَى حَرْبه مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أُعْطِيَ فَشَكَرَ، وَإِنَّ أَيُّوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اُبْتُلِيَ فَصَبَرَ، وَإِنَّ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدَرَ فَغَفَرَ، وَقَدْ جَعَلَك اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ نَسْلِ الَّذِينَ يَعْفُونَ وَيَصْفَحُونَ. فَطَفِئَ غَضَبُهُ وَسَكَتَ. وَسَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا بِالْقُرْبِ مِنْ نِصْفِ الْكِتَاب فِي الْخُلُق الْحَسَن وَالْحِلْم وَنَحْو ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ فِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ إلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ لَوْ أَسَاءَ لِيَزْدَادَ شُكْرًا، وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ إلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ لِيَكُونَ عَلَيْهِ حَسْرَةً» قَالَ فِيهِ مِنْ الْفِقْهِ أَنَّ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِ إذَا بُولِغَ فِي الْإِحْسَان إلَيْهِ فَإِنَّ مِنْ تَمَام الْإِحْسَان أَنْ يَشْعُر قَدْرَ أَكْثَر الَّذِي خَلَصَ فِيهِ لِيَكُونَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَتَيْنِ، بِأَنْ وَقَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الشَّرَّ وَغَمَسَهُ فِي الْخَيْر، كَمَا أَنَّ الْكَافِر إذَا اشْتَدَّ بِهِ الِانْتِقَام أُرِيَ مَقَامَ الْفَوْزِ الَّذِي فَاتَهُ لِتُضَاعَفَ حَسْرَتُهُ مِنْ طَرَفَيْنِ: مَا هُوَ فِيهِ وَتَوَالِي حَسَرَاتِهِ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْ الْخَيْر لِيَكُونَ غَمُّهُ مِنْ كِلَا جَانِبَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ قَالَ بَعْض أَهْل الْعِلْم قَوْلًا بِمَحْضَرٍ مِنْ السُّلْطَان فِي الِاحْتِدَاد عَلَيْهِ وَأَخَذَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ يَتَرَفَّق وَيُسَكِّن غَضَبه وَلَمْ يَكُ مَحِلّه بِحَيْثُ يَشْفَع فِي مِثْل ذَلِكَ الْعَالِم، فَالْتَفَتَ الْعَالِم فَقَالَ لِلشَّافِعِ يَا هَذَا غَضَبُ هَذَا الصَّدْر وَكَلَامُهُ إيَّايَ بِمَا يَشُقُّ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ شَفَاعَتك إلَيْهِ، فَإِنَّ غَضَبَهُ لَا يَغُضُّ مِنِّي وَهُوَ سُلْطَانِي، وَشَفَاعَتك فِي غَضَاضَةٌ عَلَيَّ وَكَانَ الْقَائِل حَنْبَلِيًّا فَأَفْحَمَ الشَّافِعَ وَأَرْضَى السُّلْطَان.

وَقَالَ أَيْضًا غَضِبَ بَعْض الصُّوفِيَّةِ عَلَى الْأَمِير فِي طَرِيق الْحَجّ فَقَالَ حَنْبَلِيّ بِلِسَانِ الْقَوْم. قَبِيحٌ بِنَا أَنْ نَخْرُجَ وَنَرْجِعَ مُطَاوَعَةً لِلنُّفُوسِ وَهَلْ خَرَجْنَا إلَّا وَقَدْ قَتَلْنَا النُّفُوس؟ فَرَجَعَ مَعَهُ وَأَطَاعَهُ فَقَالَ سُبْحَان اللَّه لَوْ خُوطِبُوا بِلِسَانِ الشَّرِيعَةِ مِنْ آيَةٍ أَوْ خَبَرٍ مَا اسْتَجَابُوا فَلَمَّا خُوطِبُوا بِكَلِمَتَيْنِ مِنْ الطَّرِيقَة أَسْرَعُوا الْإِجَابَة فَمَا أَحْسَن قَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] . وَفِي حَوَاشِي تَعْلِيقِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى ذَكَرَ الْمَدَائِنِيُّ فِي كِتَابِ السُّلْطَانِ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لَهُ رَجُل يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عِظْنِي قَالَ مُسْتَوْصٍ أَنْتَ قَالَ نَعَمْ قَالَ: لَا تُهْلِك النَّاسَ عَنْ نَفْسِكَ فَإِنَّ الْأَمْر يَصِلُ إلَيْك دُونَهُمْ، وَلَا تَقْطَع النَّهَار بِكَذَا وَكَذَا فَإِنَّهُ مَحْفُوظٌ عَلَيْك مَا غَفَلْتَ، وَإِذَا أَسَأْت فَأَحْسِنْ فَإِنِّي لَمْ أَرَ شَيْئًا أَشَدَّ طَلَبًا وَلَا أَسْرَعَ إدْرَاكًا مِنْ حَسَنَةٍ حَدِيثَةٍ لِذَنْبٍ قَدِيمٍ. وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «نِعْمَتْ الْهَدِيَّةُ وَنِعْمَتْ الْعَطِيَّةُ الْكَلِمَةُ مِنْ كَلَامِ الْحِكْمَةِ يَسْمَعُهَا الرَّجُلُ فَيَنْطَوِي عَلَيْهَا حَتَّى يُهْدِيَهَا إلَى أَخِيهِ» وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [المؤمنون: 96] . قَالَ الصَّبْرُ عِنْدَ الْغَضَبِ وَالْعَفْوُ عِنْدَ الْإِسَاءَةِ فَإِذَا عَصَمَهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَخَضَعَ لَهُمْ عَدُوُّهُمْ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي الْخَرَاجِ اتِّخَاذُ الْوَزِيرِ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عَامِرٍ الْمُرِّيُّ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْأَمِيرِ خَيْرًا جَعَلَ لَهُ وَزِيرَ صِدْقٍ إنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ وَإِنْ ذَكَرَ أَعَانَهُ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ غَيْرَ ذَلِكَ جَعَلَ لَهُ وَزِيرَ سُوءٍ، إنْ نَسِيَ لَمْ يُذَكِّرْهُ، وَإِنْ ذَكَرَ لَمْ يُعِنْهُ» حَدِيثٌ حَسَنٌ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ وَزُهَيْرٌ تُكُلِّمَ فِيهِ وَحَدِيثُهُ حَسَنٌ.

وَيَأْتِي فِي آدَابِ الْأَكْلِ فِي الضَّيْفِ قِصَّةُ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيْهَانِ فِيمَا تَعَلَّقَ بِهَذَا وَيَأْتِي أَيْضًا فِي الِاسْتِئْذَانِ وَأَيْضًا فِي الشَّفَاعَةِ بِالْقُرْبِ مِنْ نِصْفِ الْكِتَابِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ فِي ابْنِ السَّمَّاكِ الْوَاعِظِ. يَا وَاعِظَ النَّاسِ قَدْ أَصْبَحْتَ مُتَّهَمًا ... إذْ عِبْتَ مِنْهُمْ أُمُورًا أَنْتَ آتِيهَا كَلَابِسِ الصَّوْتِ مِنْ عُرْيٍ وَعَوْرَتُهُ ... لِلنَّاسِ بَادِيَةٌ مَا إنْ يُوَارِيهَا وَأَعْظَمُ الْإِثْمِ بَعْدَ الشِّرْكِ تَعْلَمُهُ ... فِي كُلِّ نَفْسٍ عَمَاهَا عَنْ مَسَاوِيهَا عِرْفَانُهَا بِعُيُوبِ النَّاسِ تُبْصِرُهَا ... مِنْهُمْ وَلَا تُبْصِرُ الْعَيْبَ الَّذِي فِيهَا وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْإِسْكَنْدَرِ لَهُ: قَدْ بَسَطَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مُلْكَكَ وَعَظَّمَ سُلْطَانَكَ فَبِأَيِّ الْأَشْيَاء أَنْتَ أَسَرُّ؟ بِمَا نِلْت مِنْ أَعْدَائِك، أَوْ بِمَا بَلَغْتَ مِنْ سُلْطَانك؟ فَقَالَ كِلَاهُمَا عِنْدِي يَسِير، وَأَعْظَم مَا أُسَرُّ بِهِ مَا اسْتَنَنْتُ فِي الرَّعِيَّة مِنْ السُّنَن الْجَمِيلَة وَالشَّرَائِع الْحَسَنَة. وَلَمَّا مَاتَ الْإِسْكَنْدَرُ قَالَ نَادِبه: حَرَّكَنَا الْإِسْكَنْدَرُ بِسُكُونِهِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كَانَ يُقَال مَنْ أَحَبَّكَ نَهَاك وَمَنْ أَبْغَضَكَ أَغْرَاك. وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ يَسَارٍ كَتَبَ إلَى بَعْض الْوُلَاة: لَا تَشْرَهَنَّ فَإِنَّ الذُّلَّ فِي الشَّرَهِ ... وَالْعِزُّ فِي الْحِلْمِ لَا فِي الطَّيْشِ وَالسَّفَهِ وَقُلْ لِمُغْتَبِطٍ فِي التِّيهِ مِنْ حُمْقٍ ... لَوْ كُنْتَ تَعْلَمُ مَا فِي التِّيهِ لَمْ تَتُهْ لِلتِّيهِ مَفْسَدَةٌ لِلدِّينِ مَنْقَصَةٌ ... لِلْعَقْلِ مَهْلَكَةٌ لِلْعِرْضِ فَانْتَبِهْ

فصل في الإنكار على غير المكلف للزجر والتأديب

[فَصْل فِي الْإِنْكَار عَلَى غَيْر الْمُكَلَّف لِلزَّجْرِ وَالتَّأْدِيب] وَلَا يُنْكِر عَلَى غَيْر مُكَلَّف إلَّا تَأْدِيبًا لَهُ وَزَجْرًا قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ الْمُنْكَر أَعْظَم مِنْ الْمَعْصِيَة وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَحْذُورَ الْوُقُوع فِي الشَّرْع فَمَنْ رَأَى صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا يَشْرَب الْخَمْرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُرِيقَ خَمْرَهُ وَيَمْنَعهُ كَذَلِكَ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعهُ مِنْ الزِّنَا، انْتَهَى كَلَامُهُ قَالَ الْمَرُّذِويُّ لِأَحْمَدَ الطُّنْبُور الصَّغِير يَكُونُ مَعَ الصَّبِيّ؟ قَالَ يُكْرَه أَيْضًا، إذَا كَانَ مَكْشُوفًا فَاكْسِرْهُ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي الْكَلَام عَلَى حَدَّثَ ابْنُ عُمَرَ «أَنَّهُ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَمِعَ زَمَّارَةَ رَاعٍ وَسَدَّ أُذُنَيْهِ» قَالَ: لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ الرَّقِيقَ كَانَ بَالِغًا فَلَعَلَّهُ كَانَ صَغِيرًا دُونَ الْبُلُوغِ وَالصِّبْيَانُ رُخِّصَ لَهُمْ فِي اللِّعْب مَا لَمْ يُرَخَّص فِيهِ لِلْبَالِغِ. انْتَهَى كَلَامُهُ وَذَكَرَ الْأَصْحَاب وَغَيْرهمْ أَنَّ سَمَاع الْمُحَرَّم بِدُونِ اسْتِمَاعه، وَهُوَ قَصْد السَّمَاع لَا يَحْرُم. وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَيْضًا وَزَادَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ قَالَ: وَإِنَّمَا سَدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُذُنَهُ مُبَالَغَةً فِي التَّحَفُّظ فَسَنَّ بِذَلِكَ أَنَّ الِامْتِنَاع عَنْ أَنْ يَسْمَع ذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ السَّمَاع. وَفِي الْمُغْنِي جَوَابٌ آخِرُهُ أَنَّهُ أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ إلَى مَعْرِفَة انْقِطَاع الصَّوْت، وَكَذَا قَالَ فِي الْفُنُونِ وَأُبِيحَ لِضَرُورَةِ الِاسْتِعْلَام كَمَا لَوْ أَرْسَلَ الْحَاكِم إلَى أَهْل الزَّمْرِ مَنْ يَسْتَمِع لَهُ وَيَسْتَلْهِم خَبَرهمْ أُبِيحَ لَهُ أَنْ يَسْتَمِعَ لِضَرُورَةِ الِاسْتِعْلَام وَكَالنَّظَرِ إلَى الْأَجْنَبِيَّات لِلْحَاجَةِ.

فصل في الإنكار على أهل السوق

[فَصْل فِي الْإِنْكَار عَلَى أَهْلِ السُّوقِ] ِ) قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مَنْ تَيَقَّنَ أَنَّ فِي السُّوقِ مُنْكَرًا يَجْرِي عَلَى الدَّوَام أَوْ فِي وَقْتٍ مُعَيَّن وَهُوَ قَادِر عَلَى تَغْيِيره لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُسْقِط ذَلِكَ عَنْهُ بِالْقُعُودِ فِي بَيْتِهِ بَلْ يَلْزَمهُ الْخُرُوج وَإِنْ قَدَرَ عَلَى تَغْيِير الْبَعْض لَزِمَهُ. [فَصْل فِي الْإِنْكَار عَلَى أَهْل الذِّمَّة] فَصْل (الْإِنْكَار عَلَى أَهْل الذِّمَّة) إذَا فَعَلَ أَهْلُ الذِّمَّةِ أَمْرًا مُحَرَّمًا عِنْدهمْ غَيْر مُحَرَّم عِنْدنَا لَمْ نَتَعَرَّضْ لَهُمْ وَنَدَعُهُمْ وَفِعْلَهُمْ سَوَاء أَسَرُّوهُ أَوْ أَظْهَرُوهُ. هَذَا ظَاهِر قَوْل أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ لِأَنَّ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى مَنَعَنَا مِنْ قِتَالِهِمْ وَالتَّعَرُّضِ لَهُمْ إذَا الْتَزَمُوا الْجِزْيَة وَالصَّغَار وَهُوَ جَرَيَان أَحْكَام الْمُسْلِمِينَ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُود إقَامَة أَمْر الْإِسْلَام وَهُوَ حَاصِل لَا أَمْرِ دِينِهِمْ الْمُبَدَّل الْمُغَيَّر، وَلِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَيْهِمْ بِإِنْكَارِ ذَلِكَ وَالتَّعَرُّض لَهُمْ فِيهِ يَفْتَقِرُ إلَى دَلِيل وَالْأَصْل عَدَمه لِأَنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فَاسِقًا فِي دِينه قَدْ يَتَرَتَّب عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَام الدُّنْيَا فَلَا تَصِحّ شَهَادَته مُطْلَقًا وَلَا وَصِيَّته إلَى غَيْره وَلَا وَصِيَّة غَيْرِهِ إلَيْهِ. وَإِنْ فَعَلُوا أَمْرًا مُحَرَّمًا عِنْدنَا فَمَا فِيهِ ضَرَرٌ أَوْ غَضَاضَة عَلَى الْمُسْلِمِينَ يُمْنَعُونَ مِنْهُ وَيَدْخُل فِيهِ نِكَاح مُسْلِمَة وَيَدْخُل فِيهِ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي جُزْءٍ لَهُ أَنَّهُمْ إنْ تَبَايَعُوا بِالرِّبَا فِي سُوقِنَا مُنِعُوا لِأَنَّهُ عَائِد بِفَسَادِ نَقْدِنَا فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّا لَا نَمْنَعهُمْ فِي غَيْرِ سُوقِنَا، وَالْمُرَاد إنْ اعْتَقَدُوا حِلَّهُ. وَفِي الِانْتِصَار فِيمَا إذَا عُقِدَ عَلَى مُحَرَّم هَلْ يَحِلّ؟ إنَّ أَهْلَ الذِّمَّة لَوْ اعْتَقَدُوا بَيْع دِرْهَم بِدِرْهَمَيْنِ يَتَخَرَّج أَنْ يُقَرُّوا عَلَى وَجْهٍ لَنَا، فَظَاهِر هَذَا بَلْ صَرِيحه أَنَّ الْأَشْهَر مَنْعُهُمْ مُطْلَقًا لِأَنَّهُمْ كَالْمُسْلِمِينَ فِي تَحْرِيم الرِّبَا عَلَيْهِمْ كَمَا ذَكَرُوهُ فِي بَاب الرِّبَا وَيَدْخُل فِيهِ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَفِي هَذَا الْجُزْء أَنَّهُ لَا يَجُوز

أَنْ يَتَعَلَّمُوا الرَّمْي وَكَذَا يُمْنَعُونَ مِمَّا يَتَأَذَّى الْمُسْلِمُونَ بِهِ كَإِظْهَارِ الْمُنْكَر مِنْ الْخَمْر وَالْخِنْزِير وَأَعْيَادِهِمْ وَصَلِيبِهِمْ وَضَرْبِ النَّاقُوس وَغَيْر ذَلِكَ، وَكَذَا إنْ أَظْهَرُوا بَيْعَ مَأْكُولٍ فِي نَهَارِ رَمَضَان كَالشِّوَاءِ مُنِعُوا ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي الْجُزْء الْمَذْكُور أَيْضًا. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِيمَا إذَا أَظْهَر أَحَد مِنْ أَهْل الذِّمَّة الْأَكْلَ فِي رَمَضَان بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ يُنْهَوْنَ عَنْهُ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْمُنْكَرَات فِي دِين الْإِسْلَام كَمَا يُنْهَوْنَ عَنْ إظْهَار شُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ لَحْمِ الْخِنْزِير انْتَهَى كَلَامه. وَإِنْ تَرَكُوا التَّمَيُّز عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي أَحَد أَرْبَعَة أَشْيَاء: لِبَاسُهُمْ وَشُعُورُهُمْ وَرُكُوبهمْ وَكُنَاهُمْ أُلْزِمُوا بِهِ وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ نِكَاح مَحْرَم بِشَرْطَيْنِ (أَحَدهمَا) أَنْ لَا يَرْتَفِعُوا إلَيْنَا (وَالثَّانِي) أَنْ يَعْتَقِدُوا حِلَّهُ فِي دِينهمْ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَعْتَقِدُونَ حِلَّهُ لَيْسَ مِنْ دِينهمْ فَلَا يُقَرُّونَ عَلَيْهِ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَة، وَهَذَا الْحُكْم مِنْ أَصْحَابنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة بِهَذَا التَّعْلِيل دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلّ أَمْرٍ مُحَرَّم عِنْدنَا إذَا فَعَلُوهُ غَيْرَ مُعْتَقِدِينَ حِلَّهُ يُمْنَعُونَ مِنْهُ وَيُوَافِق هَذَا الْمَعْنَى قَوْلهمْ لَا يَلْزَم الْإِمَام إقَامَة الْحُدُود عَلَيْهِمْ فِيمَا يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمه خَاصَّةً سَوَاءٌ كَانَ الْحَدُّ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ فِي دِينِهِمْ أَمْ لَا اسْتِدْلَالًا بِفِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي رَجْمِهِ الْيَهُودِيَّيْنِ الزَّانِيَيْنِ وَلِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ فِي دِينِهِمْ. وَقَدْ الْتَزَمُوا حُكْم الْإِسْلَام وَذَلِكَ لِأَنَّ تَحْرِيمه عِنْدنَا مَعَ اعْتِقَادهمْ تَحْرِيمه يَصِير مُنْكَرًا فَيَتَنَاوَلهُ أَدِلَّة الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر، وَلِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا الصَّغَار وَهُوَ جَرَيَان أَحْكَام الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ إلَّا فِيمَا اعْتَقَدُوا إبَاحَته وَمَا ذُكِرَ مِنْ إنْكَار مَا هُوَ مُحَرَّم عَلَيْهِمْ عِنْدنَا مَعَ اعْتِقَادهمْ تَحْرِيمه أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيم عَامًّا لَنَا وَلَهُمْ، أَوْ عَلَيْهِمْ خَاصَّة فِي مِلَّتهمْ وَقَرَّرَتْ شَرِيعَتُنَا تَحْرِيمَهُ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ لِاتِّفَاقِ الْمِلَّتَيْنِ عَلَى تَحْرِيمه كَمَا لَوْ كَانَ التَّحْرِيم عَامًّا لَنَا وَلَهُمْ لِعَدَمِ أَثَر اخْتِصَاصهمْ بِالتَّحْرِيمِ، إذْ لَا يُشْتَرَط فِي إنْكَار

الْمُحَرَّم أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيم عَامًّا لِلْفَاعِلِ وَلِغَيْرِهِ وَعَلَى هَذَا نَمْنَعهُمْ مِنْ تَبَايُعِهِمْ الشُّحُوم الْمُحَرَّمَة عَلَيْهِمْ فِي دِينهمْ لِأَكْلِهَا أَوْ لِغَيْرِهِ وَلِأَنَّ تَحْرِيمَهَا بَاقٍ عِنْد الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلِهَذَا نَصَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز لَنَا أَنْ نُطْعِمَهُمْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الشُّحُوم وَعَلَى هَذَا تَحْرُم إعَانَتهمْ عَلَى ذَلِكَ وَالشَّهَادَة فِيهِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامَ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهَا تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ لَا، هُوَ حَرَامٌ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ ذَلِكَ قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ الشُّحُومَ أَجْمَلُوهَا فَبَاعُوهَا جُمْلَةً» وَأَجْمَلَهُ أَيْ أَذَابَهُ. وَثَبَتَ فِي السُّنَن مِنْ حَدِيث ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْره، وَالْمُرَاد مَا الْمَقْصُود مِنْهُ الْأَكْل فَيَتْبَعهُ غَيْره وَتَحْرِيمه عَامٌّ فَلَا يُرَدُّ عَبْد وَحَيَوَان مُحَرَّم وَمَوْطُوءَة الْأَب يَرِثُهَا ابْنه وَنَحْو ذَلِكَ، وَاخْتَارَ أَبُو الْوَفَاءِ ابْنُ عَقِيلٍ نَسْخَ تَحْرِيمِ هَذِهِ الشُّحُوم جَزَمَ بِهِ فِي كِتَاب الرِّوَايَتَيْنِ لَهُ، وَفِيهِ نَظَر. وَفِي الْمُفِيدِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّة فِي بَاب الْغَصْب: وَيُمْنَع الذِّمِّيُّ مِنْ كُلِّ مَا يُمْنَع الْمُسْلِم مِنْهُ إلَّا شُرْبَ الْخَمْر وَأَكْل الْخِنْزِير لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى فِي عُقُودِهِمْ، وَلَوْ غَنُّوا وَضَرَبُوا بِالْعِيدَانِ مُنِعُوا كَمَا يُمْنَع الْمُسْلِمُونَ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُسْتَثْنَ فِي عُقُودِهِمْ.

فصل في تحقيق دار الإسلام ودار الحرب

[فَصْل فِي تَحْقِيق دَار الْإِسْلَام وَدَار الْحَرْب] فَكُلّ دَار غَلَبَ عَلَيْهَا أَحْكَام الْمُسْلِمِينَ فَدَارُ الْإِسْلَام وَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهَا أَحْكَام الْكُفَّار فَدَارُ الْكُفْر وَلَا دَارَ لِغَيْرِهِمَا وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ، وَسُئِلَ عَنْ مَارِدِينَ هَلْ هِيَ دَارُ حَرْب أَوْ دَار إسْلَام؟ قَالَ: هِيَ مُرَكَّبَة فِيهَا الْمَعْنَيَانِ لَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ دَار الْإِسْلَام الَّتِي يَجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ لِكَوْنِ جُنْدهَا مُسْلِمِينَ، وَلَا بِمَنْزِلَةِ دَار الْحَرْب الَّتِي أَهْلهَا كُفَّار، بَلْ هِيَ قِسْمٌ ثَالِث يُعَامَل الْمُسْلِمُ فِيهَا بِمَا يَسْتَحِقّهُ وَيُعَامَل الْخَارِج عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَام بِمَا يَسْتَحِقَّهُ. وَالْأَوَّل هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَالْأَصْحَاب وَاَللَّهُ أَعْلَم.

فصل ما ينبغي أن يتصف به الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر

[فَصْل مَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ الْآمِر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنْ الْمُنْكَر] وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُون الْآمِر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنْ الْمُنْكَر مُتَوَاضِعًا، رَفِيقًا فِيمَا يَدْعُو إلَيْهِ شَفِيقًا رَحِيمًا غَيْرَ فَظٍّ وَلَا غَلِيظ الْقَلْب، وَلَا مُتَعَنِّتًا، حُرًّا وَيَتَوَجَّه أَنَّ الْعَبْد مِثْله وَإِنْ كَانَ الْحُرّ أَكْمَلَ، عَدْلًا فَقِيهًا، عَالِمًا بِالْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّات شَرْعًا، دَيِّنًا نَزِهًا، عَفِيفًا ذَا رَأْيٍ وَصَرَامَة وَشِدَّة فِي الدِّين، قَاصِدًا بِذَلِكَ وَجْه اللَّهِ عَزَّ جَلَّ، وَإِقَامَة دِينه، وَنُصْرَة شَرْعِهِ، وَامْتِثَال أَمْرِهِ، وَإِحْيَاء سُنَنِهِ، بِلَا رِيَاء وَلَا مُنَافَقَة وَلَا مُدَاهَنَة غَيْر مُتَنَافِس وَلَا مُتَفَاخِر، وَلَا مِمَّنْ يُخَالِف قَوْلُهُ فِعْلَهُ، وَيُسَنُّ لَهُ الْعَمَل بِالنَّوَافِلِ وَالْمَنْدُوبَات وَالرِّفْق، وَطَلَاقَة الْوَجْه وَحُسْن الْخُلُقِ عِنْد إنْكَاره، وَالتَّثْبِيت وَالْمُسَامَحَة بِالْهَفْوَةِ عِنْد أَوَّل مَرَّة. قَالَ حَنْبَلٌ إنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُول وَالنَّاس يَحْتَاجُونَ إلَى مُدَارَاة وَرِفْق، الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ بِلَا غِلْظَة إلَّا رَجُل مُعْلَن بِالْفِسْقِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْك نَهْيُهُ وَإِعْلَامه لِأَنَّهُ يُقَال لَيْسَ لِفَاسِقٍ حُرْمَة فَهَؤُلَاءِ لَا حُرْمَةَ لَهُمْ. وَسَأَلَهُ مُهَنَّا هَلْ يَسْتَقِيم أَنْ يَكُون ضَرْبًا بِالْيَدِ إذَا أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ قَالَ الرِّفْق. وَنَقَلَ يَعْقُوبُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ قَالَ كَانَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ يَقُولُونَ مَهْلًا رَحِمكُمْ اللَّه. وَنَقَلَ مُهَنَّا يَنْبَغِي أَنْ يَأْمُرَ بِالرِّفْقِ وَالْخُضُوع قُلْت كَيْف قَالَ إنْ أَسْمَعُوهُ مَا يَكْرَه لَا يَغْضَبْ فَيُرِيد أَنْ يَنْتَصِر لِنَفْسِهِ. وَسَأَلَهُ أَبُو طَالِبٍ إذَا أَمَرْتُهُ بِمَعْرُوفٍ فَلَمْ يَنْتَهِ قَالَ دَعْهُ إنْ زِدْت عَلَيْهِ ذَهَبَ الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَصِرْت مُنْتَصِرًا لِنَفْسِك فَتَخْرُج إلَى الْإِثْم، فَإِذَا أَمَرْتَ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ قَبِلَ مِنْك وَإِلَّا فَدَعْهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ أَخْبَرَنِي الْمَيْمُونِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ حَنْبَلٍ

حَدَّثَنَا مَعْمَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ فُرَاتِ بْنِ سَلْمَانَ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ لَهُ يَا أَبَتِ مَا يَمْنَعك أَنْ تَمْضِي لِمَا تُرِيدهُ مِنْ الْعَدْل فَوَاَللَّهِ مَا كُنْت أُبَالِي لَوْ غَلَتْ بِي وَبِك الْقُدُور فِي ذَلِكَ قَالَ يَا بُنَيّ إنِّي إنَّمَا أُرَوِّض النَّاسَ رِيَاضَةَ الصَّعْبِ، إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُحْيِي الْأَمْرَ مِنْ الْعَدْل فَأُؤَخِّرَ ذَلِكَ حَتَّى أَخْرُجَ مِنْهُ طَمَعًا مِنْ طَمَع الدُّنْيَا فَيَنْفِرُوا مِنْ هَذِهِ وَيَسْكُنُوا لِهَذِهِ. وَأَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي هَارُونَ سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسَ قَالَ صَلَّى بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ يَوْمًا جُوَيْنٌ فَكَانَ إذَا سَجَدَ جَمَعَ ثَوْبه بِيَدِهِ الْيُسْرَى وَكُنْت بِجَنْبِهِ فَلَمَّا صَلَّيْنَا قَالَ لِي وَقَدْ خَفَضَ مِنْ صَوْته قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يَكُفَّ شَعْرًا وَلَا ثَوْبًا» فَلَمَّا قُمْنَا قَالَ لِي جُوَيْنٌ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ يَقُولُ لَك قُلْت قَالَ لِي كَذَا وَكَذَا وَمَا أَحْسِبُ الْمَعْنَى إلَّا لَك. وَرَوَى الْخَلَّالُ قِيلَ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ الرَّجُل يَرَى مِنْ الرَّجُل الشَّيْءَ وَيُبَلِّغهُ عَنْهُ أَيَقُولُ لَهُ؟ قَالَ هَذَا تَبْكِيت وَلَكِنْ تَعْرِيض وَقَدْ رَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ مَرْفُوعًا «لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ حَتَّى يَكُونَ فِيهِ ثَلَاثُ خِصَالٍ عَالِمًا بِمَا يَأْمُرُ، عَالِمًا بِمَا يَنْهَى، رَفِيقًا فِيمَا يَأْمُرُ، رَفِيقًا فِيمَا يَنْهَى» . وَعَنْ أُسَامَةَ مَرْفُوعًا «يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ فِي الرَّحَا فَيَجْتَمِعُ إلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ يَا فُلَانُ مَالَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ بَلَى كُنْت آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَزَادَ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ «مَرَرْت لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي بِأَقْوَامٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ قُلْت مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ قَالَ خُطَبَاءُ أُمَّتِكَ الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ» وَهَذِهِ الزِّيَادَة لِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيث أَنَسٍ وَفِيهِ قَالَ «خُطَبَاءُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا مِمَّنْ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا يَعْقِلُونَ» الِانْدِلَاق الْخُرُوج، وَالْأَقْتَاب الْأَمْعَاء. . وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ «قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى يُتْرَكُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ

عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَ إذَا ظَهَرَ فِيكُمْ مَا ظَهَرَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ قُلْنَا وَمَا ظَهَرَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَنَا قَالَ الْمُلْكُ فِي صِغَارِكُمْ وَالْفَاحِشَةُ فِي كِبَارِكُمْ وَالْعِلْمُ فِي رَذَالَتِكُمْ» قَالَ زَيْدٌ تَفْسِيره إذَا كَانَ الْعِلْم فِي الْفَاسِق رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مَنْ لَمْ يَقْطَع الطَّمَع مِنْ النَّاس مِنْ شَيْئَيْنِ لَمْ يَقْدِر عَلَى الْإِنْكَار (أَحَدهمَا) مِنْ لُطْفٍ يَنَالُونَهُ بِهِ (وَالثَّانِي) عَنْ رِضَاهُمْ عَنْهُ وَثَنَائِهِمْ عَلَيْهِ قَالَ الْخَلَّالُ أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَا أَبَا حَفْصٍ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الْمُؤْمِن بَيْنَهُمْ مِثْل الْجِيفَة، وَيَكُون الْمُنَافِق يُشَارُ إلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ، فَقُلْت وَكَيْف يُشَارُ إلَى الْمُنَافِق بِالْأَصَابِعِ؟ قَالَ صَيَّرُوا أَمْرَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فُضُولًا قَالَ الْمُؤْمِن إذَا رَأَى أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيًا عَنْ مُنْكَر لَمْ يَصْبِر حَتَّى يَأْمُر وَيَنْهَى. يَعْنِي قَالُوا هَذَا فُضُول، قَالَ وَالْمُنَافِق كُلّ شَيْء يَرَاهُ قَالَ بِيَدِهِ عَلَى أَنْفِهِ فَيُقَال نِعَم الرَّجُل لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفُضُول عَمَلٌ، وَسَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُول إذَا رَأَيْتُمْ الْيَوْم شَيْئًا مُسْتَوِيًا فَتَعَجَّبُوا. قَالَ الْقَاضِي وَغَيْره: وَيَجِب أَنْ يَبْدَأ وَقَالَ بَعْضهمْ وَيَبْدَأ فِي إنْكَاره بِالْأَسْهَلِ، وَيَعْمَل بِظَنِّهِ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَزُلْ الْمُنْكَر الْوَاجِب زَادَ بِقَدْرِ الْحَاجَة، فَإِنْ لَمْ يَنْفَع أَغْلَظَ فِيهِ، فَإِنْ زَالَ وَإِلَّا رَفَعَهُ إلَى وَلِيِّ الْأَمْر ابْتِدَاء إنْ أَمِنَ حَيْفه فِيهِ، لَكِنْ يُكْرَه. وَسَيَأْتِي كَلَامه فِي نِهَايَة الْمُبْتَدِئِينَ مَنْ قَدَر عَلَى إنْهَاءِ الْمُنْكَر إلَى السُّلْطَان أَنْهَاهُ، وَإِنْ خَافَ فَوْتَهُ قَبْل إنْهَائِهِ أَنْكَرَهُ هُوَ، وَتَقَدَّمَتْ رِوَايَة أَبِي طَالِبٍ: وَيَحْرُم أَخْذُ مَال عَلَى حَدٍّ أَوْ مُنْكَرٍ اُرْتُكِبَ. وَنَقَلَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِيهِ الْإِجْمَاع أَنَّ تَعْطِيل الْحَدّ بِمَالٍ يُؤْخَذ أَوْ غَيْره لَا يَجُوز، وَلِأَنَّهُ مَال سُحْت خَبِيث. وَظَاهِر قَوْله جَوَاز الْمُعَاقَبَة بِالْمَالِ مَعَ إقَامَة الْحَدّ، وَشُرُوط رَفْعِهِ إلَى وَلِيِّ الْأَمْر أَنْ يَأْمَن مِنْ حَيْفه فِيهِ وَيَكُون قَصْده فِي ذَلِكَ النُّصْح لَا الْغَلَبَة. وَقَالَ فِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ: يَفْعَل فِيهِ مَا يَجِب أَوْ يُسْتَحَبّ لَا غَيْرُ قَالَ وَقِيلَ لَا يَجُوز رَفْعُهُ إلَى السُّلْطَان يُظَنُّ عَادَةً أَنَّهُ لَا يَقُوم بِهِ أَوْ يَقُوم بِهِ عَلَى غَيْر الْوَجْه الْمَأْمُور، كَذَا قَالَ وَلَيْسَ الْمَذْهَبُ خِلَاف هَذَا الْقَوْل.

قَالَ وَيُخَيَّر فِي رَفْعِ مُنْكَرٍ غَيْرِ مُتَعَيَّن عَلَيْهِ وَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَة الْجَمَاعَة عَلَى أَنَّهُ لَا يَرْفَعهُ إلَى السُّلْطَان إنْ تَعَدَّى فِيهِ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ قَالَ: قَالَ أَحْمَدُ إنْ عَلِمْتَ أَنَّهُ يُقِيمُ الْحَدّ فَارْفَعْهُ. قَالَ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَشْرَسَ قَالَ مَرَّ بِنَا سَكْرَانُ فَشَتَمَ رَبَّهُ فَبَعَثْنَا إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَسُولًا وَكَانَ مُخْتَفِيًا فَقُلْنَا أَيْشٍ السَّبِيلُ فِي هَذَا؟ سَمِعْنَاهُ يَشْتُم رَبَّهُ أَتَرَى أَنْ نَرْفَعهُ إلَى السُّلْطَان؟ فَبَعَثَ إلَيْنَا إنْ أَخَذَهُ السُّلْطَان أَخَافُ أَنْ لَا يُقِيمَ عَلَيْهِ الَّذِي يَنْبَغِي وَلَكِنْ أَخِيفُوهُ حَتَّى يَكُون مِنْكُمْ شَبِيهًا بِالْهَارِبِ، فَأَخَفْنَاهُ فَهَرَبَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْكَحَّالِ: أَذْهَبُ إلَى السُّلْطَان قَالَ لَا إنَّمَا يَكْفِيك أَنْ تَنْهَاهُ وَقَالَ لِيَعْقُوبَ انْهَهُمْ وَاجْمَعْ عَلَيْهِمْ قُلْت السُّلْطَان قَالَ لَا. وَنَقَلَ أَبُو الْحَارِثِ يَعِظهُمْ وَيَنْهَاهُمْ قُلْت قَدْ فَعَلَ فَلَمْ يَنْتَهُوا قَالَ يَسْتَعِين عَلَيْهِمْ بِالْجِيرَانِ، فَأَمَّا السُّلْطَان فَلَا، إذَا رَفَعَهُمْ إلَى السُّلْطَان خَرَجَ الْأَمْر مِنْ يَده أَمَا عَلِمْتَ قِصَّةَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَنَقَلَ هَذَا الْمَعْنَى جَمَاعَة وَنَقَلَ مُثَنَّى فِي أَخَوَيْنِ يَحِيف أَحَدهمَا عَلَى أَخِيهِ هَلْ تَجُوز قَطِيعَته أَمْ يَرْفُق بِهِ وَيَنْصَح قَالَ إذَا أَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَكْثَر مِنْ هَذَا وَسَتَأْتِي رِوَايَة حَنْبَلٍ. فَإِنْ انْتَهَى وَإِلَّا أَنْهِ أَمْرَهُ إلَى السُّلْطَان حَتَّى يَمْنَعهُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: وَشَكَوْت إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ جَارًا لَنَا يُؤْذِينَا بِالْمُنْكَرِ قَالَ تَأْمُرهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قُلْت قَدْ تَقَدَّمْتُ إلَيْهِ مِرَارًا فَكَأَنَّهُ يَمْحَل، فَقَالَ أَيُّ شَيْءٍ عَلَيْك إنَّمَا هُوَ عَلَى نَفْسه أَنْكِرْ بِقَلْبِك وَدَعْهُ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَيُسْتَعَان بِالسُّلْطَانِ عَلَيْهِ قَالَ لَا رُبَّمَا أَخَذَ مِنْهُ الشَّيْء وَيَتْرُك وَقَالَ مُثَنَّى الْأَنْبَارِيُّ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: مَا تَقُول إذَا ضَرَبَ رَجُلٌ رَجُلًا بِحَضْرَتِي أَوْ شَتَمَهُ، فَأَرَادَنِي أَنْ أَشْهَدَ لَهُ عِنْد السُّلْطَان قَالَ: إنْ خَافَ أَنْ يَتَعَدَّى عَلَيْهِ لَمْ يَشْهَد وَإِنْ لَمْ يَخَفْ شَهِدَ. وَاَلَّذِي يَتَحَصَّل مِنْ كَلَام الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ هَلْ يَجِب رَفْعُهُ إلَى السُّلْطَان بِعِلْمِهِ أَنَّهُ يُقِيمهُ عَلَى الْوَجْه الْمَأْمُور أَمْ لَا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ فَإِنْ لَمْ يَجِب فَهَلْ يَلْزَمهُ أَنْ يَسْتَعِين فِي ذَلِكَ بِالْجَمِيعِ عَلَيْهِ بِالْجِيرَانِ أَوْ غَيْرهمْ أَمْ لَا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ.

وَرِوَايَة أَبِي طَالِبٍ يُكْرَه وَيَسْقُطُ وُجُوبُ الرَّفْع بِخَوْفِهِ أَنْ لَا يُقِيمهُ عَلَى الْوَجْه الْمَأْمُور عَلَى نَصّ أَحْمَدَ، وَظَاهِره أَيْضًا لَا يَجُوز لِعِلْمِهِ عَادَةً أَنَّهُ لَا يُقِيمهُ عَلَى الْوَجْه الْمَأْمُور، فَظَاهِر كَلَام جَمَاعَة جَوَازه، وَأَطْلَق بَعْضهمْ رَفْعُهُ إلَى وَلِيِّ الْأَمْر بِلَا تَفْصِيل وَاَللَّه أَعْلَم، لَكِنْ قَدْ قَالَ الْأَصْحَاب مَنْ عِنْده شَهَادَةٌ بِحَدٍّ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُقِيمهَا. وَلَعَلَّ كَلَام الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي الْأَمْر بِرَفْعِهِ عَلَى الِاسْتِحْبَاب وَعَلَى كُلّ تَقْدِير فَهُوَ مُخَالِف لِكَلَامِ الْأَصْحَاب إلَّا أَنْ يَتَأَوَّل عَلَى جَوَاز الرَّفْع وَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ مِنْ هَذَا الْكَلَام، وَلَعَلَّهُ أَمْرٌ بَعْد حَظْر فَيَكُون لِلْإِبَاحَةِ، فَيَكُون رَفْعُهُ لِأَجْلِ الْحَدّ مُبَاح وَرَفْعُهُ لِأَجْلِ إنْكَار الْمُنْكَر وَاجِب أَوْ مُسْتَحَبّ وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى أَعْلَمَ. وَلَهُ كَسْرُ آلَةِ اللَّهْو وَصُوَر الْخَيَال وَدُفِّ الصُّنُوج وَشَقُّ وِعَاء الْخَمْر وَكَسْرُ دَنِّهِ إنْ تَعَذَّرَ الْإِنْكَار بِدُونِهِ، وَقِيلَ مُطْلَقًا، كَذَا فِي الرِّعَايَةِ، وَنَقَلَ الْأَثْرَمُ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ فِي زِقّ الْخَمْر: يَحُلُّهُ فَإِنْ لَمْ يَقْدِر عَلَى حَلِّهِ يَشُقّهُ. وَظَاهِره أَنَّهُ لَا يَجُوز كَسْرُهُ عَلَى إرَاقَته قَالَهُ الْقَاضِي وَهَذِهِ اخْتِيَاره وَنَقَلَ الْمَرْوَزِيُّ فِي الرَّجُل يَرَى مُسْكِرًا فِي قِنِّينَةٍ أَوْ قِرْبَة: يَكْسِرهُ، وَظَاهِره جَوَاز الْكَسْر. وَأَصَحّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ إبَاحَة إتْلَاف وِعَاء الْخَمْر وَعَدَم ضَمَانه مُطْلَقًا وَذَكَرَهُ جَمَاعَة وَعَلَى هَذَا لَا ضَمَان وَعَلَى الرِّوَايَة الْأُخْرَى يَضْمَن إنْ لَمْ يَتَعَذَّر. وَذَكَرَ صَاحِبُ النَّظْمِ: إنَّمَا يَضْمَن إذَا مَا يَطْهُر بِغَسْلِهِ فَقَطْ كَذَا قَالَ، وَيُقْبَل قَوْل الْمُنْكِر فِي التَّعَذُّر لِتَيَقُّنِ الْمُنْكَر وَالشَّكّ فِي مُوجِب التَّضْمِين. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَال إنْ كَانَ ثَمَّ قَرِينَةٌ وَظَاهِرُ حَالٍ عُمِلَ بِهَا، وَإِلَّا اُحْتُمِلَ مَا قَالَ وَاحْتُمِلَ الضَّمَانُ لِلشَّكِّ فِي وُجُود السَّبَب الْمُسْقِط لِلضَّمَانِ وَالْأَصْل عَدَمه قَالَ الْمَرُّوذِيِّ: وَسَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قُلْت أَمُرُّ فِي السُّوق فَأَرَى الطُّبُول تُبَاع أَكْسِرُهَا؟ قَالَ: مَا أَرَاك تَقْوَى إنْ قَوِيت يَا أَبَا بَكْرٍ قُلْت: أُدْعَى أُغَسِّل

الْمَيِّتَ فَأَسْمَعُ صَوْت الطَّبْل قَالَ إنْ قَدَرْتَ عَلَى كَسْرِهِ وَإِلَّا فَاخْرُجْ. سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ كَسْرِ الطُّنْبُور قَالَ: تُكْسَر وَقَالَ ابْنُ هَانِئٍ لِأَحْمَدَ وَالدُّفّ الَّذِي يَلْعَب الصِّبْيَان بِهِ قَالَ: يُرْوَى عَنْ أَصْحَاب عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتْبَعُونَ الْأَزِقَّة يُخْرِجُونَ الدُّفُوف. قَالَ فِي الرِّعَايَةِ: وَكَذَا كَسْر آلَة التَّنْجِيم وَالسِّحْر وَالتَّعْزِيم وَالطَّلْسَمَات وَتَمْزِيق كُتُب ذَلِكَ وَنَحْوه يَعْنِي إنَّ لَهُ إتْلَاف ذَلِكَ مُطْلَقًا، وَمُرَاده وَمُرَاد غَيْره فِي هَذَا وَمِثْله أَنَّهُ يَجِب إتْلَافه لِأَنَّهُ مُنْكَر. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ رِوَايَة مَا هُجِيَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَحِلّ وَكَذَا كِتَابَته وَقِرَاءَته وَتَرْكه إنْ وُجِدَ لَا يَمْحِي أَثَره قَالَ أَبُو الْحَسَنِ لَا تَخْتَلِف الرِّوَايَة إذَا كَسَرَ عُودًا أَوْ مِزْمَارًا أَوْ طَبْلًا لَمْ يَضْمَن قِيمَته لِصَاحِبِهِ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَة فِي كَسْرِ الدُّفِّ هَلْ عَلَيْهِ الضَّمَان عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَيَحْرُم التَّكَسُّب بِذَلِكَ وَنَحْوه وَيُؤَدَّب الْآخِذ وَالْمُعْطِي وَالْإِعْطَاءُ عَلَيْهِ وَتَعَلُّمُهُ وَتَعْلِيمه وَلَوْ بِلَا عِوَض وَالْعَمَلُ بِهِ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَآلَات اللَّهْو لَا يَجُوز اتِّخَاذهَا وَلَا الِاسْتِئْجَار عَلَيْهَا عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة انْتَهَى كَلَامه. نَقَلَ مُهَنَّا فِي رَجُلٍ دَخَلَ مَنْزِلَ رَجُلٍ فَرَأَى قِنِّينَةً فِيهَا نَبِيذٌ يَنْبَغِي أَنْ يُلْقِي فِيهَا مِلْحًا أَوْ شَيْئًا يُفْسِدُهُ قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا صَحِيح لِأَنَّ بِالْإِفْسَادِ قَدْ زَالَ الْمُنْكَر. قَالَ صَاحِبُ النَّظْمِ وَيُؤْخَذ مِنْ كَلَام غَيْره: وَالْبَيْض وَالْجَوْز لِلْقِمَارِ يُتْلِف مِنْهُ بِحَيْثُ لَا يَنْفَعهُ فِي قِمَاره عَادَةً، فَإِنْ زَادَ ضَمِنَهُ.

فصل في البيت الذي فيه الخمر هل يتلف أو يحرق

[فَصْل فِي الْبَيْت الَّذِي فِيهِ الْخَمْر هَلْ يُتْلَف أَوْ يُحْرَق] ) قَطَعَ غَيْرُ وَاحِدٍ بِأَنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ الْخَمْر لَا يُتْلَف وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ: اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَة فِيمَنْ تِجَارَته فِي الْخَمْر هَلْ يُحْرَق بَيْتُهُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ إحْدَاهُمَا يُحْرَق (وَالثَّانِيَة) لَا يُحْرَق وَجْهُ الْأُولَى اخْتَارَهَا ابْنُ بَطَّةَ مَا رَوَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ أَبِي عُبَيْدٍ، قَالَتْ: وَجَدَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي بَيْت رَجُل مَنْ ثَقِيفٍ شَرَابًا فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ فَحَرَقَ بَيْته وَكَانَ يُدْعَى رُوَيْشِدًا، فَقَالَ عُمَرُ: إنَّك فُوَيْسِقٌ. وَقَالَ الْحَارِثُ شَهِدَ قَوْمٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْد عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ يَصْطَنِعَ الْخَمْرَ فِي بَيْته فَيَشْرَبهَا وَيَبِيعهَا، فَأَمَرَ بِهَا فَكُسِرَتْ وَحَرَقَ بَيْتَهُ وَأَنْهَبَ مَالَهُ ثُمَّ جَلَدَهُ وَنَفَاهُ رَوَاهُمَا ابْنُ بَطَّةَ قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ لِأَحْمَدَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ وُجِدَ فِي بَيْتِهِ خَمْرٌ قَالَ: يُرَاقُ الْخَمْرُ وَيُؤَدَّب وَإِنْ كَانَتْ تِجَارَته يُحْرَق بَيْتُهُ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بِرُوَيْشِدٍ. قَالَ إِسْحَاقُ كَمَا قَالَ وَجْه الثَّانِيَة أَنَّهَا كَبِيرَة فَلَا يُحْرَق بَيْتُ فَاعِلهَا عَلَيْهَا كَبَقِيَّةِ الْكَبَائِر. قَالَ حَنْبَل: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَمَّنْ يَعْمَل الْمُسْكِر وَيَبِيعهُ تَرَى أَنْ يُحَوَّل مِنْ الْجِوَار قَالَ أَرَى أَنْ يُوعَظ فِي ذَلِكَ وَيُقَال لَهُ فَإِنْ انْتَهَى وَإِلَّا أُنْهِيَ أَمْرُهُ إلَى السُّلْطَان حَتَّى يَمْتَنِعَ مِنْ ذَلِكَ ذَكَرَ الْقَاضِي الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ.

فصل في المعالجة بالرقى والعزائم

[فَصْل فِي الْمُعَالَجَة بِالرُّقَى وَالْعَزَائِم] ) قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رِوَايَة الْبِرْوَاطِيِّ فِي الرَّجُل يَزْعُم أَنَّهُ يُعَالِج الْمَجْنُونَ مِنْ الصَّرَعِ بِالرُّقَى وَالْعَزَائِم وَيَزْعُم أَنَّهُ يُخَاطِب الْجِنَّ وَيُكَلِّمُهُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْدِمُهُ قَالَ مَا أُحِبُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلهُ، تَرْكُهُ أَحَبُّ إلَيَّ. [فَصْل تَحْرِيق الثِّيَاب الَّتِي عَلَيْهَا الصُّوَر] قَالَ الْمَرْوَزِيُّ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَالرَّجُلُ يُدْعَى فَيَرَى سِتْرًا عَلَيْهِ تَصَاوِيرُ قَالَ: لَا يَنْظُرُ إلَيْهِ قُلْت: قَدْ نَظَرْتُ إلَيْهِ كَيْف أَصْنَعُ أَهْتِكهُ؟ قَالَ يَحْرِق شَيْءَ النَّاسِ؟ وَلَكِنْ إنْ أَمْكَنَك خَلْعُهُ خَلَعْتَهُ قُلْت: فَالرَّجُل يَكْتَرِي الْبَيْت يَرَى فِيهِ تَصَاوِيرَ تَرَى أَنْ يَحُكَّهُ قَالَ نَعَمْ قُلْت: فَإِنْ دَخَلْتُ حَمَّامًا فَرَأَيْت فِيهِ صُورَة تَرَى أَنْ أَحُكَّ الرَّأْسَ قَالَ نَعَمْ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُون: وَسُئِلَ هَلْ يَجُوز تَحْرِيق الثِّيَاب الَّتِي عَلَيْهَا الصُّوَر قَالَ: لَا يَجُوز لِأَنَّهَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مَفَارِشَ بِخِلَافِ غَيْرِهَا.

فصل في النظر إلى ما يخشى منه الوقوع في الضلال والشبهة

[فَصْل فِي النَّظَر إلَى مَا يُخْشَى مِنْهُ الْوُقُوعُ فِي الضَّلَال وَالشُّبْهَة] وَيَحْرُم النَّظَر فِيمَا يُخْشَى مِنْهُ الضَّلَال وَالْوُقُوع فِي الشَّكِّ وَالشُّبْهَة، وَنَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى الْمَنْع مِنْ النَّظَر فِي كُتُبِ أَهْلِ الْكَلَام وَالْبِدَع الْمُضِلَّة وَقِرَاءَتِهَا وَرِوَايَتِهَا وَقَالَ فِي رِوَايَة الْمَرُّوذِيِّ لَسْتَ بِصَاحِبِ كَلَامٍ فَلَا أَرَى الْكَلَام فِي شَيْء إلَّا مَا كَانَ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَوْ حَدِيثٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَوْ عَنْ التَّابِعِينَ فَأَمَّا غَيْر ذَلِكَ فَالْكَلَام فِيهِ غَيْرُ مَحْمُود رَوَاهُ الْخَلَّالُ وَقَالَ فِي رِوَايَة أَحْمَدَ بْنِ أَصْرَمَ لِرَجُلٍ إيَّاكَ وَمُجَالَسَةَ أَصْحَاب الْخُصُومَاتِ وَالْكَلَامِ وَقَالَ فِي رِوَايَته أَيْضًا لِرَجُلٍ لَا يَنْبَغِي الْجِدَالُ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُنَصِّبَ نَفْسَكَ وَتَشْتَهِر بِالْكَلَامِ لَوْ كَانَ هَذَا خَيْرًا لَتَقَدَّمَنَا فِيهِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ جَاءَك مُسْتَرْشِد فَأَرْشِدْهُ. رَوَاهُمَا أَبُو نَصْرٍ السِّجْزِيُّ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: عَلَيْكُمْ بِالسُّنَّةِ وَالْحَدِيث وَمَا يَنْفَعكُمْ، وَإِيَّاكُمْ وَالْخَوْضَ وَالْمِرَاءَ فَإِنَّهُ لَا يُفْلِح مَنْ أَحَبَّ الْكَلَام وَقَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَا تُجَالِسْهُمْ وَلَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ وَقَالَ أَيْضًا وَذَكَر أَهْل الْبِدَع فَقَالَ: لَا أُحِبُّ لِأَحَدٍ أَنْ، يُجَالِسَهُمْ وَلَا يُخَالِطَهُمْ وَلَا يَأْنَسَ بِهِمْ، وَكُلُّ مَنْ أَحَبَّ الْكَلَام لَمْ يَكُنْ آخِرُ أَمْرِهِ إلَّا إلَى بِدْعَة لِأَنَّ الْكَلَام لَا يَدْعُو إلَى خَيْر، عَلَيْكُمْ بِالسُّنَنِ وَالْفِقْه الَّذِي تَنْتَفِعُونَ بِهِ وَدَعُوا الْجِدَالَ وَكَلَامَ أَهْلِ الْبِدَع وَالْمِرَاءِ، أَدْرَكْنَا النَّاسَ وَمَا يَعْرِفُونَ هَذَا وَيُجَانِبُونَ أَهْلَ الْكَلَامِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُول كَانَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ خَبَرٌ قَلَّدَهُ وَخَيْرُ خَصْلَة فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَشْتَهِي الْكَلَام إنَّمَا كَانَتْ هِمَّتُهُ الْفِقْهَ وَقَالَ فِي رِوَايَته أَيْضًا وَكَتَبَ إلَيْهِ رَجُلٌ يَسْأَلهُ عَنْ مُنَاظَرَة أَهْلِ الْكَلَامِ، وَالْجُلُوس مَعَهُمْ قَالَ وَاَلَّذِي كُنَّا نَسْمَع وَأَدْرَكْنَا عَلَيْهِ مَنْ أَدْرَكْنَا

مِنْ سَلَفِنَا مِنْ أَهْل الْعِلْم أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ الْكَلَامَ وَالْخَوْضَ مَعَ أَهْل الزَّيْغ وَإِنَّمَا الْأَمْر فِي التَّسْلِيم وَالِانْتِهَاء إلَى مَا فِي كِتَابِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَسُنَّةِ رَسُوله لَا تَعَدَّى ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ عَنْ أَبِي الدَّهْمَاءِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ؛ مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَأْتِيهِ وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَمَا يَزَالُ بِهِ بِمَا مَعَهُ مِنْ الشُّبَهِ حَتَّى يَتْبَعَهُ» إسْنَادٌ جَيِّدٌ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيث حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ. وَقَالَ الزَّعْفَرَانِيُّ سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُول: مَا نَاظَرْتُ أَهْلَ الْكَلَام إلَّا مَرَّةً وَأَنَا أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ الرَّبِيعُ سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُول: لَأَنْ يَبْتَلِيَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْعَبْدَ بِكُلِّ ذَنْبٍ مَا خَلَا الشِّرْكَ بِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ الْأَهْوَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْهُ لَوْ عَلِمَ النَّاسُ مَا فِي الْأَهْوَاءِ مِنْ الْكَلَامِ لَفَرُّوا مِنْهُ كَمَا يَفِرُّونَ مِنْ الْأَسَدِ. وَقَالَ أَيْضًا مَا أَحَدٌ ارْتَدَى بِالْكَلَامِ فَأَفْلَحَ، وَسَأَلَهُ الْمُزَنِيّ عَنْ مَسْأَلَةٍ مِنْ عِلْمِ الْكَلَام فَقَالَ لَهُ: أَيْنَ أَنْتَ؟ فَقَالَ: فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ فِي الْفُسْطَاطِ، فَقَالَ لِي: أَنْتَ فِي تَارَانَ. وَتَارَانُ مَوْضِعٌ فِي بَحْرِ الْقُلْزُمِ لَا تَكَاد تَسْلَم مِنْهُ سَفِينَة ثُمَّ أَلْقَى عَلَيَّ مَسْأَلَةً فِي الْفِقْهِ فَأَجَبْت فِيهَا فَأَدْخَلَ عَلَيَّ شَيْئًا أَفْسَدَ جَوَابِي، فَأَجَبْت بِغَيْرِ ذَلِكَ فَأَدْخَلَ شَيْئًا أَفْسَدَ جَوَابِي فَجَعَلَ كُلَّمَا جِئْتُ بِشَيْءٍ، أَفْسَدَهُ، ثُمَّ قَالَ لِي: هَذَا الْفِقْه الَّذِي فِيهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّة وَأَقَاوِيلُ النَّاسِ يَدْخُلهُ مِثْل هَذَا فَكَيْفَ الْكَلَامُ فِي رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي الْجِدَال فِيهِ كُفْرٌ؟ فَتَرَكْتُ الْكَلَامَ وَأَقْبَلْتُ عَلَى الْفِقْه. وَقَالَ أَيْضًا: حُكْمِي فِي أَهْلِ الْكَلَامِ أَنْ يُضْرَبُوا بِالْجَرِيدِ وَيُحْمَلُوا عَلَى الْإِبِلِ وَيُطَافَ بِهِمْ فِي الْقَبَائِل وَالْعَشَائِر، وَيُنَادَى عَلَيْهِمْ هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّة وَأَقْبَلَ عَلَى الْكَلَامِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إمَّا مِنْ عِنْدِهِ أَوْ حِكَايَةً عَنْ الشَّافِعِيِّ

لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَوْصَى بِكُتُبِهِ مِنْ الْعِلْمِ لِآخَرَ، وَكَانَ فِيهَا كُتُبُ الْكَلَامِ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْعِلْمِ. وَقَالَ نُوحٌ الْجَامِعُ: قُلْتُ: لِأَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا أَحْدَثَ النَّاسُ فِي الْكَلَامِ مِنْ الْأَعْرَاضِ وَالْأَجْسَامِ فَقَالَ: مَقَالَاتُ الْفَلَاسِفَةِ، عَلَيْكَ بِطَرِيقِ السَّلَفِ وَإِيَّاكَ وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ. وَقَالَ عَبْدُوسُ بْنُ مَالِكٍ الْعَطَّارُ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: أُصُولُ السُّنَّةِ عِنْدَنَا التَّمَسُّكُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالِاقْتِدَاءُ بِهِمْ، وَتَرْكُ الْبِدَعِ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ فَهِيَ ضَلَالَةٌ، وَتَرْكُ الْخُصُومَاتِ، وَالْجُلُوسِ مَعَ أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ، وَتَرْكُ الْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ. وَالْخُصُومَاتِ فِي الدِّينِ إلَى أَنْ قَالَ لَا تُخَاصِمْ أَحَدًا وَلَا تُنَاظِرْهُ، وَلَا تَتَعَلَّمْ الْجِدَالَ فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي الْقَدَرِ وَالرُّؤْيَةِ وَالْقُرْآنِ وَغَيْرِهَا مِنْ السُّنَنِ مَكْرُوهٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لَا يَكُونُ صَاحِبُهُ إنْ أَصَابَ بِكَلَامِهِ السُّنَّةَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ حَتَّى يَدَعَ الْجِدَالَ. وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ غَالِبٍ الْوَرَّاقُ: قُلْت لِأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَكُونُ فِي الْمَجْلِسِ لَيْسَ فِيهِ مَنْ يَعْرِفُ السُّنَّةَ غَيْرِي، فَيَتَكَلَّمُ مُتَكَلِّمٌ مُبْتَدِعٌ أَرُدُّ عَلَيْهِ قَالَ: لَا تَنْصِبْ نَفْسَكَ لِهَذَا، أَخْبِرْ بِالسُّنَّةِ وَلَا تُخَاصِمْ، فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ الْقَوْلَ. فَقَالَ: مَا أَرَاك إلَّا مُخَاصِمًا. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ: وَجْهُ قَوْلِ إمَامِنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ شَرًّا أَلْقَى بَيْنَهُمْ الْجَدَلَ وَحَزَبَ عَنْهُمْ الْعَمَلَ» . وَقِيلَ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: تُجَادِلُ؟ فَقَالَ: لَسْتُ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: كُلَّمَا جَاءَ رَجُلٌ أَجْدَلُ مِنْ رَجُلٍ تَرَكْنَا مَا نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَى مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِجَدَلِهِ، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي» الْخَبَرُ. وَرَوَى أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ فِي كِتَابِ الِانْتِصَارُ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي أَهْلُ الْبِدَعِ» ، وَذَكَرَ أَبُو الْمُظَفَّرِ فِيهِ قِيلَ لِلْإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَمَا الْبِدَعُ قَالَ: أَهْلُ الْبِدَعِ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي

أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَكَلَامِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَلَا يَسْكُتُونَ عَمَّا سَكَتَ عَنْهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ عَلَيْكَ بِآثَارِ مَنْ سَلَفَ، وَإِنْ رَفَضَكَ النَّاسُ، وَإِيَّاكَ وَآرَاءَ الرِّجَالِ، وَإِنْ زَخْرَفُوا لَك الْقَوْلَ، فَلْيَحْذَرْ كُلُّ مَسْئُولٍ وَمُنَاظِرٍ مِنْ الدُّخُولِ فِيمَا يُنْكِرُهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وَلْيَجْتَهِدْ فِي اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَاجْتِنَابِ الْمُحْدَثَاتِ كَمَا أُمِرَ. انْتَهَى كَلَامُ أَبِي الْحُسَيْنِ. وَقَالَ رَجُلٌ لِأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ أُكَلِّمُك بِكَلِمَةٍ، قَالَ لَا وَلَا بِنِصْفِ كَلِمَةٍ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ إذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْمٍ شَرًّا فَتَحَ عَلَيْهِمْ الْجِدَالَ، وَمَنَعَهُمْ الْعَمَلَ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ هَذَا الْجَدَلُ مِنْ الدِّينِ بِشَيْءٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْمِرَاءُ فِي الْعِلْمِ يُقَسِّي الْقُلُوبَ وَيُوَرِّثُ الضَّغَائِنَ. وَرَوَى أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ ثَنَا حَجَّاجُ بْنُ دِينَارٍ الْوَاسِطِيُّ عَنْ أَبِي غَالِبٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58] » . وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ قَالَ ابْنُ مَعِينٍ فِي أَبِي غَالِبٍ: صَالِحُ الْحَدِيثِ وَوَثَّقَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ: ابْنُ عَدِيٍّ لَا بَأْسَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَضَعَّفَهُ النَّسَائِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَيْسَ بِقَوِيٍّ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ ، وَقَالَ مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْحَمَّالُ أَبُو عِمْرَانَ عَنْ أَحْمَدَ: لَا تُجَالِسْ أَصْحَابَ الْكَلَامِ وَإِنْ ذَبُّوا عَنْ السُّنَّةِ، وَقَالَ فِي رِسَالَتِهِ إلَى مُسَدَّدٍ: وَلَا تُشَاوِرْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ فِي دِينِك، وَلَا تُرَافِقْهُ فِي سَفَرِك. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: مَنْ تَعَاطَى الْكَلَامَ لَا يُفْلِحُ، وَمَنْ تَعَاطَى الْكَلَامَ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَتَجَهَّمَ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ: قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْمُحَقِّقِينَ إذَا كَانَتْ مَجَالِسُ النَّظَرِ الَّتِي تَدَّعُونَ أَنَّكُمْ عَقَدْتُمُوهَا لِاسْتِخْرَاجِ الْحَقَائِقِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى

عَوَائِرِ الشُّبَهِ وَإِيضَاحِ الْحُجَجِ لِصِحَّةِ الْمُعْتَقَدِ مَشْحُونَةً بِالْمُحَابَاةِ لِأَرْبَابِ الْمَنَاصِبِ تَقَرُّبًا، وَلِلْعَوَامِّ تَخَوُّنًا، وَلِلنُّظَرَاءِ تَعَمُّلًا وَتَجَمُّلًا، فَهَذَا فِي النَّظَرِ الظَّاهِرِ، ثُمَّ إذَا عَوَّلْتُمْ بِالْأَفْكَارِ فَلَاحَ دَلِيلٌ يَرُدُّكُمْ عَنْ مُعْتَقَدِ الْأَسْلَافِ وَالْإِلْفِ وَالْعُرْفِ وَمَذْهَبِ الْمَحَلَّةِ وَالْمَنْشَأِ خَوَّنْتُمْ اللَّائِحَ، وَأَطْفَأْتُمْ مِصْبَاحَ الْحَقِّ الْوَاضِحَ، إخْلَادًا إلَى مَا أَلِفْتُمْ، فَمَتَى تَسْتَجِيبُونَ إلَى دَاعِيَةِ الْحَقِّ؟ وَمَتَى يُرْجَى مِنْكُمْ الْفَلَاحُ فِي دَرْكِ الْبُغْيَةِ مِنْ مُتَابَعَةِ الْأَمْرِ، وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى وَالنَّفْسِ، وَالْخَلَاصُ مِنْ الْغِشِّ؟ هَذَا وَاَللَّهِ هُوَ الْإِيَاسُ مِنْ الْخَيْرِ، وَالْإِفْلَاسُ مِنْ إصَابَةِ الْحَقِّ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ مِنْ مُصِيبَةٍ عَمَّتَ الْعُقَلَاءَ فِي أَدْيَانِهِمْ، مَعَ كَوْنِهِمْ عَلَى غَايَةِ التَّحْقِيقِ، وَتَرْكِ الْمُحَابَاةِ فِي أَمْوَالِهِمْ، مَا ذَاكَ إلَّا؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَشَمُّوا رِيحَ الْيَقِينِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَحْضُ الشَّكِّ، وَمُجَرَّدُ التَّخْمِينِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ ابْنُ شُرَيْحٍ: قَلَّ مَا رَأَيْت مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ مَنْ اشْتَغَلَ بِالْكَلَامِ فَأَفْلَحَ، يَفُوتُهُ الْفِقْهُ وَلَا يَصِلُ إلَى مَعْرِفَةِ الْكَلَامِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَرْبَهَارِيُّ فِي كِتَابِهِ شَرْحُ السُّنَّةِ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي السُّنَّةِ قِيَاسٌ، وَلَا تُضْرَبُ لَهَا الْأَمْثَالُ، وَلَا يُتَّبَعُ فِيهَا الْأَهْوَاءُ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ بِآثَارِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَا كَيْفٍ وَلَا شَرْحٍ، وَلَا يُقَالُ: لِمَ وَكَيْفَ؟ فَالْكَلَامُ وَالْخُصُومَةُ وَالْجِدَالُ وَالْمِرَاءُ مُحْدَثٌ يَقْدَحُ الشَّكَّ فِي الْقَلْبِ، وَإِنْ أَصَابَ صَاحِبُهُ الْحَقَّ وَالسُّنَّةَ وَالْحَقَّ، إلَى أَنْ قَالَ وَإِذَا سَأَلَك رَجُلٌ عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَهُوَ مُسْتَرْشِدٌ فَكَلِّمْهُ وَأَرْشِدْهُ، وَإِنْ جَاءَك يُنَاظِرُك فَاحْذَرْهُ، فَإِنَّ فِي الْمُنَاظَرَةِ الْمِرَاءَ وَالْجِدَالَ وَالْمُغَالَبَةَ وَالْخُصُومَةَ وَالْغَضَبَ وَقَدْ نُهِيتَ عَنْ جَمِيعِ هَذَا، وَهُوَ يُزِيلُ عَنْ الطَّرِيقِ الْحَقِّ وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ فُقَهَائِنَا وَعُلَمَائِنَا أَنَّهُ جَادَلَ أَوْ نَاظَرَ أَوْ خَاصَمَ وَقَالَ الْبَرْبَهَارِيُّ الْمُجَالَسَةُ لِلْمُنَاصَحَةِ فَتْحُ بَابِ الْفَائِدَةِ، وَالْمُجَالَسَةُ لِلْمُنَاظَرَةِ غَلْقُ بَابِ الْفَائِدَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. رَوَى أَحْمَدُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ تَذَكَّرُوا الْحَدِيثَ فَإِنَّ حَيَاتَهُ الْمُذَاكَرَةُ، وَفِي شَرْحِ خُطْبَةِ مُسْلِمٍ بِالْمُذَاكَرَةِ يَثْبُتُ الْمَحْفُوظُ وَيَتَحَرَّرُ،

وَيَتَأَكَّدُ وَيَتَقَرَّرُ، وَيُذَاكَرُ مِثْلُهُ فِي الرُّتْبَةِ أَوْ فَوْقَهُ أَوْ تَحْتَهُ، وَمُذَاكَرَةُ حَاذِقٍ فِي الْفَنِّ سَاعَةً أَنْفَعُ مِنْ الْمُطَالَعَةِ وَالْحِفْظِ سَاعَاتٍ بَلْ أَيَّامٍ وَلْيَتَحَرَّ الْإِنْصَافَ، وَيَقْصِدُ الِاسْتِفَادَةَ أَوْ الْإِفَادَةَ لَا يَتَرَفَّعُ عَلَى صَاحِبِهِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي خُطْبَةِ الْإِرْشَادِ: وَأَعْتَذِرُ عَنْ لَوْمِ بَعْضِ أَهْلِ زَمَانِنَا بِقَوْلِهِمْ الِاشْتِغَالُ بِغَيْرِ الْأُصُولِ وَالسُّكُوتُ عَنْهَا أَحْرَى فَإِنَّ هَذَا قَوْلُ جَاهِلٍ بِمَحَلِّ الْأُصُولِ مُنْحَرِفٍ عَنْ الصَّوَابِ وَذَكَرَ كَلَامًا كَثِيرًا قَالَ أَحْمَدُ كُنَّا نَسْكُتُ حَتَّى دُفِعْنَا إلَى الْكَلَامِ فَتَكَلَّمْنَا. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَقِيلٍ تَرَى لِي أَنْ أَقْرَأَ عِلْمَ الْكَلَامِ؟ فَقَالَ: الدِّينُ النَّصِيحَةُ أَنْتَ الْآنَ عَلَى مَا بِك مُسْلِمٌ سَلِيمٌ وَإِنْ لَمْ تَنْظُرْ فِي الْجُزْءِ وَتَعْرِفُ الصُّفْرَةَ وَلَا عَرَفْت الْخَلَا وَالْمَلَا وَالْجَوْهَرَ وَالْعَرَضَ وَهَلْ يَبْقَى الْعَرَضُ زَمَانَيْنِ؟ وَهَلْ الْقُدْرَةُ مَعَ الْفِعْلِ أَوْ قَبْلَهُ؟ وَهَلْ الصِّفَاتُ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ؟ وَهَلْ الِاسْمُ عَيْنُ الْمُسَمَّى أَوْ غَيْرُهُ؟ وَإِنِّي أَقْطَعُ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَاتُوا وَمَا عَرَفُوا ذَلِكَ، فَإِنْ رَأَيْت طَرِيقَةَ الْمُتَكَلِّمِينَ أَجْوَدَ مِنْ طَرِيقَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَبِئْسَ الِاعْتِقَادُ، وَقَدْ أَفْضَى عِلْمُ الْكَلَامِ بِأَرْبَابِهِ إلَى الشُّكُوكِ فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ: قَوْلُ مُعْتَزِلِيٍّ لَا مُسْلِمَ إلَّا مَنْ اعْتَقَدَ وُجُودَ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ، فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَهَّلَ مَا قَدْ صَعَّبْتَهُ فَقَنَعَ مِنْ النَّاسِ بِدُونِ ذَلِكَ، وَيَقُولُ لِلْأَمَةِ: " أَيْنَ اللَّهُ؟ " فَتُشِيرُ إلَى السَّمَاءِ فَيَقُولُ: " إنَّهَا مُؤْمِنَةٌ " فَتَرَكَهُمْ عَلَى أَصْلِ الْإِثْبَاتِ إلَى أَنْ قَالَ: إنَّ مَذْهَبَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ مَنْ خَرَجَ مِنْ مُعْتَقَدِهِمْ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، وَإِنَّ هَذَا يَنْعَطِفُ عَلَى السَّلَفِ الصَّالِحِ بِالتَّكْفِيرِ، وَإِنَّا نُحَقِّقُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَغَيْرَهُمَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَمْ يَكُنْ إيمَانُهُمْ عَلَى مَا اعْتَقَدَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ، وَأَبُو هَاشِمٍ فَخَجِلَ ثُمَّ قَالَ: الْقَوْمُ كَانُوا يَعْرِفُونَ وَلَا يَتَكَلَّمُونَ، فَقِيلَ لَهُ: الْقَوْمُ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ الْجِدَالِ وَالْجِدَالُ شُبَهُ الْمُتَكَلِّمِينَ.

وَقَالَ أَيْضًا فِي أَثْنَاءِ كَلَامٍ لَهُ يَتَكَلَّمُ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: اعْرَفْنِي بِمَا تَعَرَّفْت، وَلَا تَطْلُبْنِي مِنْ حَيْثُ كَتَمْت وَاقْتَطَعْت، أَنَا قَطَعْت بَعْضَ مَخْلُوقَاتِي وَعَنْ عِلْمِك حَيْثُ وَقَفْتُك: فَلَمَّا سَأَلْتَنِي عَنْ لَطِيفَةٍ فِيكَ فَقُلْتَ: مَا الرُّوحُ: فَقُلْتُ مُجِيبًا لَك مِنْ أَمْرِي، وَقَصُرَتْ عَنْ عِلْمِك وَعِلْمِ مَنْ سَأَلَك عَنْهَا فَقُلْت {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} [الإسراء: 85] . قُلْت لِرَسُولِي فِي السَّاعَةِ: {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} [الأعراف: 187] . فَكَانَ جَوَابُ السَّائِلِ وَالْمَسْئُولِ: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ} [الأعراف: 187] تَجِيءُ بَعْدَهَا تَبْحَثُ عَنِّي مَنْ لَمْ يَرْضَك لِإِيقَافِك عَلَى بَعْضِك وَهُوَ يَصِفُك تَبْحَثُ عَنْ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، أَمَا كَفَاكَ قَوْلِي: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] . فَعَرَّفَك نَفْسَك وَنَفْسَهُ عِنْدَ سُؤَالِك عَنْهُ بِأَنَّهُ مُجِيبٌ لِدَعْوَتِك، فَإِيَّاكَ أَنْ تُطْلَبَ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَإِنَّك لَا تَجِدُ إلَّا مَا يُوَرِّثُك خَبَالًا، أَتَطْمَعُ أَنْ تَكْشِفَ حِجَابًا أَرْخَاهُ؟ أَوْ تَقِفَ عَلَى سِرٍّ غَطَّاهُ؟ عِلْمٌ قَصَرَهُ خَالِقُهُ عَنْ دَرْكِ بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ الَّتِي فِيك تُرِيدُ أَنْ تَطَّلِعَ بِهِ عَلَى كُنْهِ بَارِيك، وَاَللَّهِ إنَّ مَوْتَك أَحْسَنُ مِنْ حَيَاتِك. ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - سُؤَالَ فِرْعَوْنَ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ لِمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمُحَاجَّةَ نُمْرُودَ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ لِإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ثُمَّ قَالَ: فَالرُّسُلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ مُحِيلُونَ عِنْدَ السُّؤَالِ وَالْجِدَالِ فِي تَعْرِيفِهِ عَلَى أَفْعَالِهِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُصْغَى إلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: وَقَفْت عَلَى

نُعُوتِ ذَاتِهِ؟ وَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ فَضْلًا عَنْ أَنْ أُحْصِيَ نَعْتَكَ» ، وَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ عَنْ الْمَلَائِكَةِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] . فَهَلْ يَحْسُنُ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ أَنْ تَلْتَفِتَ إلَى مَنْ قَالَ: إنِّي وَقَفْتُ عَلَى نُعُوتِهِ؟ إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهَا تَتَلَقَّاهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ فَيُعْمَلُ عَلَيْهِ عَلَى شَرْطِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] وَتُمْسِكُ عَمَّا لَمْ يَرِدْ بِهِ نَقْلٌ، أَوْ عَمَّا وَرَدَ بِهِ نَقْلٌ ضَعِيفٌ. وَقَالَ أَيْضًا فِي مَكَان آخَرَ مِنْ الْفُنُونِ: قَدْ رَجَعْت إلَى مُعْتَقَدِي فِي الْمَكْتَبِ مُتَّبِعًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَبْرَأُ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ كُلِّ قَوْلٍ حَدَثَ بَعْدَ أَيَّامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ. وَقَالَ أَيْضًا: كُلُّ يَوْمٍ تَمُوتُ مِنْك شَهْوَةٌ وَلَا تَحْيَا مِنْك مَعْرِفَةٌ، وَاعَجَبًا يَخْتَلِفُ النَّاسُ فِي مَاهِيَّةِ الْعَقْلِ وَلَا يَدْرُونَ، فَكَيْفَ يُقْدِمُونَ عَلَى الْكَلَامِ فِي خَالِقِ الْعَقْلِ، وَقَالَ أَيْضًا: قَدْ تَكَرَّرَ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا سِيَّمَا أَصْحَابُنَا قَوْلُهُمْ: مَذْهَبُ الْعَجَائِزِ أَسْلَمُ فَظَنَّ قَوْمٌ أَنَّهُ كَلَامُ جَهْلٍ، وَلَوْ فَطِنُوا لِمَا قَالُوا لَاسْتَحْسَنُوا وَقْعَ الْكَلِمَةِ وَإِنَّمَا هِيَ كَلِمَةٌ صَدَرَتْ عَنْ عُلُوِّ رُتْبَةٍ فِي النَّظَرِ، حَيْثُ انْتَهَوْا إلَى غَايَةٍ هِيَ مُنْتَهَى الْمُدَقِّقِينَ فِي النَّظَرِ، فَلَمَّا لَمْ يَشْهَدُوا مَا يَشْفِي الْعَقْلَ مِنْ التَّعْلِيلَاتِ وَالتَّأْوِيلَاتِ بِالِاعْتِرَاضِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ، وَقَفُوا مَعَ الْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ مَرَاسِمُ الشَّرْعِ، وَجَنَحُوا عَنْ الْقَوْلِ بِالتَّعْلِيلِ، فَإِذَا سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ، وَقَفُوا مَعَ الِامْتِثَالِ حِينَ عَجَزَ أَهْلُ التَّعْلِيلِ فَقَدْ أَعْطَوْا الطَّاعَةَ حَقَّهَا، وَلَقَدْ عَلَّلَ قَوْمٌ فَمَنَعُوا الْعَقْلَ عَنْ الْإِصْغَاءِ إلَى ذَلِكَ الْإِذْعَانِ بِالْعَجْزِ. وَوَجَدْت فِي كِتَابٍ لِوَلَدِ وَلَدِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى ذَكَرَ فِيهِ خِلَافًا فِي الْمَذْهَبِ وَكَلَامَ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ قَالَ: وَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّ عِلْمَ الْكَلَامِ مَشْرُوعٌ مَأْمُورٌ بِهِ، وَتَجُوزُ الْمُنَاظَرَةُ فِيهِ وَالْمُحَاجَّةُ لِأَهْلِ الْبِدَعِ، وَوَضْعُ الْكُتُبِ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ أَئِمَّةُ التَّحْقِيقِ الْقَاضِي، وَالتَّمِيمِيُّ فِي جَمَاعَةِ الْمُحَقِّقِينَ

وَتَمَسَّكُوا فِي ذَلِكَ مَعَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْ قَوْلٍ يُسْنَدُ إلَيْهِ بِقَوْلِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ إذَا اشْتَغَلَ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَاعْتَزَلَ، وَسَكَتَ عَنْ الْكَلَامِ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ، فَالصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ لِنَفْسِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ كَانَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ يَتَكَلَّمُ أَفْضَلُ. وَقَدْ صَنَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَرَضِيَ عَنْهُ كِتَابًا فِي الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ فِي مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ، وَاحْتَجَّ فِيهِ بِدَلَائِلِ الْعُقُولِ، وَهَذَا الْكِتَابُ رَوَاهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَذَكَرَهُ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا تَمَسَّكَ بِهِ الْأَوَّلُونَ مِنْ قَوْلِ أَحْمَدَ فَهُوَ مَنْسُوخٌ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: قَدْ كُنَّا نَأْمُرُ بِالسُّكُوتِ فَلَمَّا دُعِينَا إلَى أَمْرٍ مَا كَانَ بُدٌّ لَنَا أَنْ نَدْفَعَ ذَلِكَ، وَنُبَيِّنَ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَنْفِي عَنْهُ مَا قَالُوهُ. ثُمَّ اسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] . وَبِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ رُسُلِهِ الْجِدَالُ، وَلِأَنَّ بَعْضَ اخْتِلَافِهِمْ حَقٌّ، وَبَعْضَهُ بَاطِلٌ وَلَا سَبِيلَ إلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمْ إلَّا بِالنَّظَرِ فَعَلِمْت صِحَّتَهُ. وَقَالَ ابْنُ طَاهِرٍ الْمَقْدِسِيُّ الْحَافِظُ سَمِعْت الْإِمَامَ أَبَا إسْمَاعِيلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيَّ بِهَرَاةَ يَقُولُ: عُرِضْت عَلَى السَّيْفِ خَمْسَ مَرَّاتٍ، لَا يُقَالُ لِي: ارْجِعْ عَنْ مَذْهَبِك، لَكِنْ يُقَالُ: لِي اُسْكُتْ عَمَّنْ خَالَفَك، فَأَقُولُ: لَا أَسْكُتُ. وَقَالَ ابْنُ طَاهِرٍ وَحَكَى لَنَا أَصْحَابُنَا أَنَّ السُّلْطَانَ أَلْبَ أَرْسِلَانَ حَضَرَ هَرَاةَ، وَحَضَرَ مَعَهُ وَزِيرُهُ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، فَاجْتَمَعَ أَئِمَّةُ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ لِلشِّكَايَةِ مِنْ الْأَنْصَارِيِّ وَمُطَالَبَتِهِ بِالْمُنَاظَرَةِ، فَاسْتَدْعَاهُ الْوَزِيرُ فَلَمَّا حَضَرَ قَالَ: إنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ اجْتَمَعُوا لِمُنَاظَرَتِك، فَإِنْ يَكُنْ الْحَقُّ مَعَك رَجَعُوا إلَى مَذْهَبِك، وَإِنْ يَكُنْ الْحَقُّ مَعَهُمْ إمَّا أَنْ تَرْجِعَ، وَإِمَّا أَنْ تَسْكُت عَنْهُمْ، فَقَامَ الْأَنْصَارِيُّ وَقَالَ: أَنَا أُنَاظِرُ عَلَى مَا فِي كُمِّي، فَقَالَ: وَمَا فِي كُمِّك، فَقَالَ: كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَشَارَ إلَى

كُمِّهِ الْيُمْنَى، وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَشَارَ إلَى كُمِّهِ الْيُسْرَى، وَكَانَ فِيهِ الصَّحِيحَانِ، فَنَظَرَ إلَى الْقَوْمِ كَالْمُسْتَفْهِمِ لَهُمْ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يُمْكِنُهُ أَنْ يُنَاظِرَهُ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ. قَالَ ابْنُ طَاهِرٍ: سَمِعْت الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: إذَا ذَكَرْت التَّفْسِيرَ فَإِنَّمَا أَذْكُرُهُ مِنْ مِائَةٍ وَسَبْعَةِ تَفَاسِيرَ قَالَ ابْنُ طَاهِرٍ: وَجَرَى وَأَنَا بَيْنَ يَدَيْهِ كَلَامٌ، فَقَالَ: أَنَا أَحْفَظُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ حَدِيثٍ أَسْرُدُهَا سَرْدًا، وَقَطُّ مَا ذَكَرَ فِي مَجْلِسِهِ حَدِيثًا إلَّا بِإِسْنَادِهِ، وَكَانَ يُشِيرُ إلَى صِحَّتِهِ وَسَقَمِهِ، قَالَ ابْنُ طَاهِرٍ سَمِعْت الْإِمَامَ أَبَا إسْمَاعِيلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيَّ يُنْشِدُ عَلَى الْمِنْبَرِ بِهَرَاةَ فِي يَوْمِ مَجْلِسِهِ: أَنَا حَنْبَلِيٌّ مَا حَيِيت وَإِنْ أَمُتْ ... فَوَصِيَّتِي لِلنَّاسِ أَنْ يَتَحَنْبَلُوا وَسَمِعْته يُنْشِدُ أَيْضًا: إذَا الْعُودُ لَمْ يُثْمِرْ وَلَمْ يَكُ أَصْلُهُ ... مِنْ الثَّمَرَاتِ اعْتَدَّهُ النَّاسُ فِي الْحَطَبِ وَرَوَى الْحَافِظُ عَبْدُ الْقَادِرِ الرَّهَاوِيُّ فِي تَارِيخِ الْمَادِحِ وَالْمَمْدُوحِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الصَّيْدَلَانِيِّ عَنْ أَبِي إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَا أَبُو يَعْقُوبَ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَسْنَوَيْهِ سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّامِيَّ سَمِعْت سَلَمَةَ بْنَ شَبِيبٍ سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ سَمِعْت سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: تَنْزِلُ الرَّحْمَةُ عِنْدَ ذِكْرِ الصَّالِحِينَ قِيلَ لِسُفْيَانَ: عَمَّنْ هَذَا؟ قَالَ: عَنْ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ فِي الْفُنُونِ: مَا عَلَى الشَّرِيعَةِ أَضَرُّ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْمُتَصَوَّفِينَ، فَهَؤُلَاءِ يُفْسِدُونَ الْعُقُولَ بِتَوَهُّمَاتِ شُبُهَاتِ الْعُقُولِ، وَهَؤُلَاءِ يُفْسِدُونَ الْأَعْمَالَ وَيَهْدِمُونَ قَوَانِينَ الْأَدْيَانِ، قَالَ وَقَدْ خَبَرْت طَرِيقَ الْفَرِيقَيْنِ غَايَةُ هَؤُلَاءِ الشَّكُّ، وَغَايَةُ هَؤُلَاءِ الشَّطْحُ، وَالْمُتَكَلِّمُونَ عِنْدِي خَيْرٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ قَدْ يَرُدُّونَ الشَّكَّ، وَالصُّوفِيَّةُ يُوهِمُونَ التَّشْبِيهَ وَالْأَشْكَالَ، وَالثِّقَةُ بِالْأَشْخَاصِ ضَلَالٌ، مَا لِلَّهِ طَائِفَةٌ أَجَلُّ مِنْ قَوْمٍ حَدَّثُوا عَنْهُ، وَمَا أَحْدَثُوا وَعَوَّلُوا عَلَى مَا رَوَوْا لَا عَلَى مَا رَأَوْا

قَالَ ابْنُ حَمْدَانَ فِي الْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي: وَعِلْمُ الْكَلَامِ الْمَذْمُومُ هُوَ أُصُولُ الدِّينِ إذَا تُكُلِّمَ فِيهِ بِالْمَعْقُولِ الْمَحْضِ، أَوْ الْمُخَالِفِ لِلْمَنْقُولِ الصَّرِيحِ الصَّحِيحِ، فَإِنْ تُكُلِّمَ فِيهِ بِالنَّقْلِ فَقَطْ، أَوْ بِالنَّقْلِ وَالْعَقْلِ الْمُوَافِقِ لَهُ فَهُوَ أُصُولُ الدِّينِ، وَطَرِيقَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَكَذَا قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: لَمْ يَذُمَّ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ الْكَلَامَ لِمُجَرَّدِ مَا فِيهِ مِنْ الِاصْطِلَاحَاتِ الْمُوَلَّدَةِ كَلَفْظِ الْجَوْهَرِ وَالْعَرَضِ وَالْجِسْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، بَلْ لِأَنَّ الْمَعَانِي الَّتِي يُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِهَذِهِ الْعِبَارَاتِ فِيهَا مِنْ الْبَاطِلِ الْمَذْمُومِ فِي الْأَدِلَّةِ وَالْأَحْكَامِ مَا يَجِبُ النَّهْيُ عَنْهُ لِاشْتِمَالِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عَلَى مَعَانٍ مُجْمَلَةٍ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي وَصْفِهِ لِأَهْلِ الْبِدَعِ: هُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ، مُتَّفِقُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ يَتَكَلَّمُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْكَلَامِ، وَيُلْبِسُونَ عَلَى جُهَّالِ النَّاسِ بِمَا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ مِنْ الْمُتَشَابِهِ. فَإِذَا عَرَفْت الْمَعَانِي الَّتِي يَقْصِدُونَهَا بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ وُزِنَتْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، بِحَيْثُ يُثْبَتُ الْحَقُّ الَّذِي أَثْبَتَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَيُنْفَى الْبَاطِلُ الَّذِي نَفَاهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بِخِلَافِ مَا سَلَكَهُ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ مِنْ التَّكَلُّمِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا فِي الْمَسَائِلِ، وَالْوَسَائِلِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ التَّفْصِيلِ وَالتَّقْسِيمِ، الَّذِي هُوَ مِنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، فَهَذَا مِنْ مُثَارَاتِ الشُّبْهَةِ. قَالَ: وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ الْإِيمَانُ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إيمَانًا عَامًّا مُجْمَلًا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَعْرِفَةَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ عَلَى التَّفْصِيلِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِي التَّبْلِيغِ بِمَا بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَعَقْلِهِ وَفَهْمِهِ وَعِلْمِ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَحِفْظِ الذِّكْرِ، وَالدُّعَاءِ إلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ: يَا أَصْحَابَنَا لَا تَشْتَغِلُوا بِالْكَلَامِ فَلَوْ عَرَفْت أَنَّ الْكَلَامَ يَبْلُغُ بِي إلَى مَا بَلَغَ مَا اشْتَغَلْت بِهِ وَقَالَ نَحْوَ هَذَا الشِّهْرِسْتَانِيّ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ وَغَيْرُهُمَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

فصل كتابا فيه أحاديث ردية ترى أن أحرقه أو أغرقه

[فَصْلٌ كِتَابًا فِيهِ أَحَادِيثُ رَدِيَّةٌ تَرَى أَنْ أُحْرِقَهُ أَوْ أُغْرِقَهُ] فَصْلٌ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قُلْت: لِأَحْمَدَ اسْتَعَرْت مِنْ صَاحِبِ الْحَدِيثِ كِتَابًا يَعْنِي فِيهِ أَحَادِيثُ رَدِيَّةٌ تَرَى أَنْ أُحْرِقَهُ أَوْ أَخْرِقَهُ قَالَ: نَعَمْ. وَلَا يَجُوزُ تَحْرِيقُ الثِّيَابِ الَّتِي عَلَيْهَا الصُّوَرُ وَلَا الْمَرْقُومَةِ لِلْبَسْطِ وَالدَّوْسِ، وَلَا كَسْرُ حُلِيِّ الرِّجَالِ الْمُحَرَّمِ عَلَيْهِمْ إنْ صَلُحَ لِلنِّسَاءِ، وَلَمْ تَسْتَعْمِلْهُ الرِّجَالُ. [فَصْلٌ فِي وُجُوبِ إبْطَالِ الْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى بُطْلَانِهَا] قَالَ فِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدَئِينَ: وَيَجِبُ إنْكَارُ الْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ، وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى إبْطَالِهَا سَوَاءٌ قَبِلَهَا قَائِلُهَا، أَوْ رَدَّهَا، وَمَنْ قَدَرَ عَلَى إنْهَاءِ الْمُنْكَرِ إلَى السُّلْطَانِ أَنْهَاهُ، وَإِنْ خَافَ فَوْتَهُ قَبْلَ إنْهَائِهِ أَنْكَرَهُ هُوَ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ فِي الطَّبَقَاتِ فِي تَرْجَمَةِ أَبِيهِ: وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي إمَامَنَا أَحْمَدَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَرَى لِلرَّجُلِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَيَسْكُتَ عَنْ الْكَلَامِ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ؟ فَكَلَحَ فِي وَجْهِهِ، وَقَالَ إذَا هُوَ صَامَ وَصَلَّى وَاعْتَزَلَ النَّاسَ أَلَيْسَ إنَّمَا هُوَ لِنَفْسِهِ؟ قُلْت: بَلَى قَالَ: فَإِذَا تَكَلَّمَ كَانَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ يَتَكَلَّمُ أَفْضَلُ. وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ عَنْ أَحْمَدَ كَانَ أَيُّوبُ يُقَدِّمُ الْجَرِيرِيَّ عَلَى سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُخَاصِمُ الْقَدَرِيَّةَ، وَكَانَ أَيُّوبُ لَا يُعْجِبُهُ أَنْ يُخَاصِمَهُمْ لَمْ يَكُونُوا أَصْحَابَ خُصُومَةٍ يَقُولُ: لَا تَضَعْهُمْ فِي مَوْضِعِ تَخَاصُمِهِمْ، وَكَانَ الْجَرِيرِيُّ لَا يُخَاصِمُهُمْ.

فصل أهل الحديث هم الطائفة الناجية القائمون على الحق

[فَصْلٌ أَهْلُ الْحَدِيثِ هُمْ الطَّائِفَةُ النَّاجِيَةُ الْقَائِمُونَ عَلَى الْحَقِّ] وَنَصَّ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ هُمْ الطَّائِفَةُ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ» وَنَصَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُمْ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرَ، وَكَذَا قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونُ. وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى أَبْدَالًا فِي الْأَرْضِ قِيلَ: مَنْ هُمْ؟ قَالَ إنْ لَمْ يَكُونُوا أَصْحَابَ الْحَدِيثِ فَلَا أَعْرِفُ لِلَّهِ أَبْدَالًا. وَقَالَ أَيْضًا عَنْهُمْ: إنْ لَمْ يَكُونُوا هَؤُلَاءِ النَّاسَ فَلَا أَدْرِي مَنْ النَّاسُ؟ وَنَقَلَ نُعَيْمُ بْنُ طَرِيفٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَزَالُ اللَّهُ تَعَالَى يَغْرِسُ غَرْسًا يُشْغِلُهُمْ فِي طَاعَتِهِ» قَالَ هُمْ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ. وَرَوَى الْبُوَيْطِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: عَلَيْكُمْ بِأَصْحَابِ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ صَوَابًا. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: مَنْ أَرَادَ الْحَدِيثَ خَدَمَهُ. قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: قَدْ خَدَمَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَرَحَلَ فِيهِ وَحَفِظَهُ وَعَمِلَ بِهِ وَعَلَّمَهُ وَحَمَلَ شَدَائِدَهُ. وَهُوَ كَمَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ عَظُمَتْ قِيمَتُهُ، وَمَنْ تَفَقَّهَ نَبُلَ قَدْرُهُ، وَمَنْ كَتَبَ الْحَدِيثَ قَوِيَتْ حُجَّتُهُ، وَمَنْ تَعَلَّمَ اللُّغَةَ رَقَّ طَبْعُهُ، وَمَنْ تَعَلَّمَ الْحِسَابَ جَزِلَ رَأْيُهُ، وَمَنْ لَمْ يَصُنْ نَفْسَهُ لَمْ يَنْفَعْهُ عِلْمُهُ. وَقَدْ مَدَحَ الْحَدِيثَ وَأَهْلَهُ بِالشِّعْرِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ فَتًى فِي مَجْلِسِ أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ، وَمِنْهُمْ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ الشِّيرَازِيُّ، وَمِنْهُمْ أَبُو عَامِرٍ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَسَوِيُّ، وَمِنْهُمْ أَبُو مُزَاحِمٍ الْخَاقَانِيُّ، وَمِنْهُمْ أَبُو ظَاهِرٍ بْنُ سُلْفَةَ، وَمِنْهُمْ أَبُو الْكَرَمِ خَمِيسُ بْنُ عَلِيٍّ الْوَاسِطِيُّ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَانَ مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مَنَاقِبِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَقَدْ وَقَعَ لِي بِخَطِّهِ.

وَرَوَى أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي عُتْبَةَ الْخَوْلَانِيِّ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا يَزَالُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَغْرِسُ فِي هَذَا الدِّينِ غَرْسًا يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي طَاعَتِهِ» قَالَ أَحْمَدُ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ: هُمْ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ، وَكَانَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُنْشِدُ: إذَا رَأَيْت شَبَابَ الْحَيِّ قَدْ نَشَئُوا ... لَا يَحْمِلُونَ قِلَالَ الْحِبْرِ وَالْوَرَقَا وَلَا تَرَاهُمْ لَدَى الْأَشْيَاخِ فِي حِلَقٍ ... يَعُونَ مِنْ صَالِحِ الْأَخْبَارِ مَا اتَّسَقَا فَعَدِّ عَنْهُمْ وَدَعْهُمْ إنَّهُمْ هَمَجُ ... قَدْ بَدَّلُوا بِعُلُوِّ الْهِمَّةِ الْحُمُقَا وَقَالَ الْمُزَنِيّ: قَالَ لِي الشَّافِعِيُّ يَا أَبَا إبْرَاهِيمَ الْعِلْمُ جَهْلٌ عِنْدَ أَهْلِ الْجَهْلِ، كَمَا أَنَّ الْجَهْلَ جَهْلٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، ثُمَّ أَنْشَدَ الشَّافِعِيُّ لِنَفْسِهِ: وَمَنْزِلَةُ الْفَقِيهِ مِنْ السَّفِيهِ ... كَمَنْزِلَةِ السَّفِيهِ مِنْ الْفَقِيهِ فَهَذَا زَاهِدٌ فِي قُرْبِ هَذَا ... وَهَذَا فِيهِ أَزْهَدُ مِنْهُ فِيهِ إذَا غَلَبَ الشَّقَاءُ عَلَى السَّفِيهِ ... تَنَطَّعَ فِي مُخَالَفَةِ الْفَقِيهِ قَالَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ وَهَذَا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا يَعْرِفُ الْفَضْلَ لِأَهْلِ الْفَضْلِ أُولُوا الْفَضْلِ» ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ مَا رَوَاهُ غَيْرُهُ، وَهُوَ مَشْهُورٌ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا دَخَلَ مِصْرَ أَتَاهُ جُلُّ أَصْحَابِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ فَابْتَدَأَ يُحَلِّفُ أَصْحَابَ مَالِكٍ فِي مَسَائِلَ فَتَنَكَّرُوا لَهُ وَجَفَوْهُ فَأَنْشَأَ يَقُولُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ لَمَّا دَخَلَ الشَّافِعِيُّ مِصْرَ أَوَّلَ قُدُومِهِ إلَيْهَا جَفَاهُ النَّاسُ فَلَمْ يَجْلِسْ إلَيْهِ أَحَدٌ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ قَدِمَ مَعَهُ: لَوْ قُلْت شَيْئًا يَجْتَمِعُ إلَيْك بِهِ النَّاسُ، فَقَالَ إلَيْك عَنِّي وَأَنْشَدَ يَقُولُ: أَأَنْثُرُ دُرًّا بَيْنَ سَارِحَةِ النَّعَمْ ... أَأَنْظِمُ مَنْثُورًا لِرَاعِيَةِ الْغَنَمْ لَعَمْرِي لَإِنْ ضُيِّعْتُ فِي شَرِّ بَلْدَةٍ ... فَلَسْت مُضَيِّعًا بَيْنَهُمْ غُرَرَ الْكَلِمْ فَإِنْ فَرَّجَ اللَّهُ اللَّطِيفُ بِلُطْفِهِ ... وَصَادَفْت أَهْلًا لِلْعُلُومِ وَلِلْحِكَمْ بَثَثْتُ مُفِيدًا وَاسْتَفَدْتُ وِدَادَهُمْ ... وَإِلَّا فَمَخْزُونٌ لَدَيَّ وَمُكْتَتَمْ وَمَنْ مَنَحَ الْجُهَّالَ عِلْمًا أَضَاعَهُ ... وَمَنْ مَنَعَ الْمُسْتَوْجِبِينَ فَقَدْ ظَلَمْ

وَحَكَى ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ عَنْ الْعَرَبِ أَنَّهَا تَقُولُ: مَنْ أَمَّلَ رَجُلًا هَابَهُ، وَمَنْ جَهِلَ شَيْئًا عَابَهُ، وَسَيَأْتِي فِي أَنَّ مِنْ الْعِلْمِ " لَا أَدْرِي " قَوْلُهُ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «وَإِنَّ مِنْ الْقَوْلِ عِيًّا» . وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ: يَقُولُ الشَّاعِرُ: أُحِبُّ الْمَكَانَ الْقَفْرَ مِنْ أَجْلِ أَنَّنِي ... أُصَرِّحُ فِيهِ بِاسْمِهِ غَيْرَ مُعْجَمِ وَاكَمَدَاهُ مِنْ مَخَافَةِ الْأَعْيَارِ، وَاحَصْرَاهُ مِنْ أَجْلِ اسْتِمَاعِ ذِي الْجَهَالَةِ لِلْحَقِّ وَالْإِنْكَارِ، وَاَللَّهِ مَا زَالَ خَوَاصُّ عِبَادِ اللَّهِ يَتَطَلَّبُونَ لِنُزُوحِهِمْ بِمُنَاجَاتِهِمْ رُءُوسَ الْجِبَالِ وَالْبَرَارِي وَالْقِفَارِ، لِمَا يَرَوْنَ مِنْ اسْتِزْرَاءِ الْمُنْكِرِينَ بِشَأْنِهِمْ مِنْ الْأَغْمَارِ، إلَى أَنْ قَالَ: فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يُنْكِرَ تَضْلِيعَ أَحْوَالِهِ، وَتَكْدِيرَ عَيْشِهِ. وَقَالَ: الْجُهَّالُ يَفْرَحُونَ بِسُوقِ الْوَقْتِ حَتَّى لَوْ اجْتَمَعَ أَلْفُ أَقْرَعَ يَزْعَقُونَ عَلَى بَقَرَةِ هَرَّاسٍ لَقَوِيَ قَلْبُهُ بِمَا يَعْتَقِدُ أُولَئِكَ، وَيَنْفِرُ قَلْبُهُ مِنْ أَدِلَّةِ الْمُحَقِّقِينَ، بَهِيمَةٌ فِي طِبَاعِ الْجُهَّالِ لَا تَزُولُ بِمُعَالَجَةٍ. وَقَالَ: وَيْلٌ لِعَالِمٍ لَا يَتَّقِي الْجُهَّالَ بِجَهْدِهِ، قَالَ: وَكَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّحَرُّزُ مِنْ مَضَارِّ الدُّنْيَا الْوَاقِعَةِ مِنْ جُهَّالِ أَهْلِهَا بِالتَّقِيَّةِ، وَالْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَحْلِفُ بِالْمُصْحَفِ لِأَجْلِ حَبَّةٍ، وَيَضْرِبُ بِالسَّيْفِ مَنْ لَقِيَ بِعَصَبِيَّتِهِ، وَيَرَى قَنَاةً مُلْقَاةً فِي الْأَرْضِ فَيُنَكِّبُ عَنْ أَخْذِهَا، وَالْوَيْلُ لِمَنْ رَأَوْهُ أَكَبَّ رَغِيفًا عَلَى وَجْهِهِ، أَوْ تَرَكَ نَعْلَهُ مَقْلُوبَةً ظَهْرُهَا إلَى السَّمَاءِ، أَوْ دَخَلَ مَشْهَدًا بِمَدَاسِهِ، أَوْ دَخَلَ وَلَمْ يُقَبِّلْ الضَّرِيحَ إلَى أَنْ قَالَ: هَلْ يَسُوغُ لِعَاقِلٍ أَنْ يُهْمِلَ هَؤُلَاءِ وَلَا يَفْزَعُ مِنْهُمْ كُلَّ الْفَزَعِ؟ وَيَتَجَاهَلُ كُلَّ التَّجَاهُلِ فِي الْأَخْذِ بِالِاحْتِيَاطِ مِنْهُمْ فَإِنَّ الذُّنُوبَ مِمَّا تُقْبَلُ التَّوْبَةُ عَنْهَا وَلَا إقَالَةَ لِلْعَالِمِ مِنْ شَرِّ هَؤُلَاءِ إذَا زَلَّ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَكْرَهُونَ وَيُنْكِرُونَ، وَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُ هَوَانٌ، وَأَبَى إلَّا إهْمَالَهُمْ، نَظَرًا إلَيْهِمْ بِعَيْنِ الِازْدِرَاءِ لَهُمْ، فَقَدْ ضَيَّعَ نَفْسَهُ، فَإِنَّهُ عِنْدَهُمْ أَهْوَنُ، وَهُمْ مِنْهُ أَكْثَرُ، وَعَلَى الْإِضْرَارِ بِهِ أَقْدَرُ، وَهَلْ تَقَعُ الْمَكَارِهُ بِالْمُسْلِمِ إلَّا مِنْ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ؟ فَإِذَا احْتَشَمَ الْإِنْسَانُ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ تَوْقِيرًا لَهُمْ وَتَعْظِيمًا، أَوْجَبَ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ احْتِشَامَ هَؤُلَاءِ تَحَدُّرًا وَاتِّقَاءَ فَتْكِهِمْ، وَهَلْ طَاحَتْ دِمَاءُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ إلَّا بِأَيْدِي هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ؟ حَيْثُ رَأَوْا مِنْ

التَّحْقِيقِ مَا يُنْكِرُونَ، فَصَالُوا لِمَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، وَغَالُوا لِمَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، فَهُمْ بَيْنَ قَاتِلٍ لِلْمُتَّقِينَ مُكَاشَفَةً حَالَ الْقُدْرَةِ، أَوْ غِيلَةً حَالَ الْعَجْزِ، فَاسْمَعْ هَذَا سَمْعَ قَابِلٍ فَإِنَّهُ قَوْلٌ مِنْ نَاصِحٍ خَبِيرٍ بِالْعَالِمِ، وَلَا تُهَوِّنْ بِهِمْ فَتُهَوِّنَ بِنَفْسِك، وَيَطِيحُ دَمُك مِمَّا رَأَيْت مِنْ جَهْلِهِمْ، إنَّهُمْ يَعْنِي لَا يَرَوْنَ الْحِيَلَ الَّتِي وَضَعَهَا الْعُلَمَاءُ عَلَى مَا دَلَّهُمْ عَلَيْهَا الشَّرْعُ كَبَيْعِ الصِّحَاحِ بِفِضَّةٍ قِرَاضَةً لِيَخْرُجَ مِنْ الرِّبَا أَخْذًا لِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «بِعْ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِ بِثَمَنِهِ» وَيَقُولُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ هَذَا خِدَاعٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَيَعْدِلُ إلَى بَيْعِ الدِّينَارِ الصَّحِيحِ بِدِينَارٍ وَنِصْفٍ قِرَاضَةً، وَيَرَى أَنَّ الرِّبَا الصَّرِيحَ خَيْرٌ مِنْ التَّسَيُّبِ الْحَلَالِ بِطَرِيقِ الشَّرْعِ إلَى أَنْ قَالَ إنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ اللَّحْمِ الَّذِي تُصَدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ: «هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ» طَرِيقٌ مُسْتَعْمَلٌ، وَيَتَعَيَّنُ فِي كُلِّ عَيْنٍ تَحْرُمُ فِي حَقِّنَا لِمَعْنًى إذَا مَلَكَهَا مَنْ تُبَاحُ لَهُ لِمَعْنًى مُبِيحٍ وَنَقَلَهَا ذَلِكَ إلَيْنَا بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ مَلَكْنَاهَا، وَالْعَامَّةُ لَا تَرْضَى ذَلِكَ، وَتَذُمُّ الْعَالِمَ الَّذِي يَسْلُكُ هَذَا الْمَسْلَكَ. وَسَمِعَ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ كَلَامَ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَحَرَكَتَهُمْ، فَقَالَ: يَا أَصْحَابَ الْحَدِيثِ مَا هَذِهِ الْحَرَكَةُ عَلَيْكُمْ بِالْوَقَارِ. وَرَأَى الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ قَوْمًا مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ بِهِمْ بَعْضُ الْخِفَّةِ فَقَالَ: هَكَذَا تَكُونُونَ يَا وَرَثَةَ الْأَنْبِيَاءِ؟ . وَقَالَ سُفْيَانُ: سَمَاعُ الْحَدِيثِ عِزٌّ لِمَنْ أَرَادَ بِهِ الدُّنْيَا، وَرَشَادٌ لِمَنْ أَرَادَ بِهِ الْآخِرَةَ، وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ لِلشَّعْبِيِّ: يَا شَعْبِيُّ عَهْدِي بِك وَإِنَّك لَغُلَامٌ فِي الْكُتَّابِ فَحَدِّثْنِي فَمَا بَقِيَ مَعِي شَيْءٌ إلَّا وَقَدْ مَلِلْته سِوَى الْحَدِيثِ الْحَسَنِ، وَأَنْشَدَ: وَمَلِلْت إلَّا مِنْ لِقَاءِ مُحَدِّثٍ ... حَسَنِ الْحَدِيثِ يَزِيدُنِي تَعْلِيمَا وَقَالَ الْقَاضِي الْمُعَافِي بْنُ زَكَرِيَّا الْجَرِيرِيُّ لِتَفَقُّهِهِ عَلَى مَذْهَبِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ قَالَ: نَظِيرُ هَذَا قَوْلُ ابْنِ الرُّومِيِّ.

وَلَقَدْ سَئِمْت مَآرِبِي ... وَكَانَ أَطْيَبَهَا الْحَدِيثُ إلَّا الْحَدِيثَ فَإِنَّهُ ... مِثْلُ اسْمِهِ أَبَدًا حَدِيثُ وَبَعْضُ النَّاسِ يَتْرُكُ الصِّفَاتِ الْمَطْلُوبَةَ الَّتِي هِيَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الرُّتَبِ الْعَالِيَةِ اتِّكَالًا عَلَى حَسَبِهِ وَنَسَبِهِ، وَفِعْلِ آبَائِهِ فَهَذَا أَعْمَى فَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ: لَسْنَا وَإِنْ كَرُمَتْ أَوَائِلُنَا ... أَبَدًا عَلَى الْأَحْسَابِ نَتَّكِلُ نَبْنِي كَمَا كَانَتْ أَوَائِلُنَا ... تَبْنِي وَنَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلُوا وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - تَمَثَّلَ بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ، وَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الْمَرْءُ كُنْ أَخَا أَدَبِ ... مِنْ عَجَمٍ كُنْت أَوْ مِنْ الْعَرَبِ إنَّ الْفَتَى مَنْ يَقُولُ هَأَنَذَا ... لَيْسَ الْفَتَى مَنْ يَقُولُ كَانَ أَبِي وَأَحْسَنَ ابْنُ الرُّومِيِّ فِي قَوْلِهِ: فَلَا تَفْتَخِرْ إلَّا بِمَا أَنْتَ فَاعِلٌ ... وَلَا تَحْسَبَنَّ الْمَجْدَ يُورَثُ بِالنَّسَبِ فَلَا لَا يَسُودُ الْمَرْءُ إلَّا بِفِعْلِهِ ... وَإِنْ عَدَّ آبَاءً كِرَامًا ذَوِي حَسَبِ إذَا الْعُودُ لَمْ يُثْمِرْ وَإِنْ كَانَ شُعْبَةً ... مِنْ الثَّمَرَاتِ اعْتَدَّهُ النَّاسُ فِي الْحَطَبِ وَقَدْ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ فِي عَصَمَ: وَقَوْلُهُ: مَا وَرَاءَك يَا عِصَامُ؟ هُوَ اسْمُ حَاجِبِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَفِي الْمَثَلِ كُنْ عِصَامِيًّا وَلَا تَكُنْ عِظَامِيًّا يُرِيدُونَ بِهِ قَوْلُهُ: نَفْسُ عِصَامٍ سَوَّدَتْ عِصَامَا ... وَصَيَّرَتْهُ مَلِكًا هُمَامَا وَعَلَّمَتْهُ الْكَرَّ وَالْإِقْدَامَا وَلِلْأَصْلِ تَأْثِيرٌ، وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: مَنْ طَابَ أَصْلُهُ حَسُنَ مَحْضَرُهُ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَحْتَجُّ لِتَرْكِهِ بِكِبَرِ السِّنِّ، أَوْ عَدَمِ الذَّكَاءِ، أَوْ الْقِلَّةِ وَالْفَقْرِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَمِنْ ذَلِكَ وَسْوَاسُ الشَّيْطَانِ يُثَبِّطُونَ بِهَا.

وَمَنْ نَظَرَ فِي حَالِ السَّلَفِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْخَلَفِ وَجَدَهُمْ لَا يَلْتَفِتُونَ إلَى هَذِهِ الْأَعْذَارِ، وَلَا يُعَرِّجُونَ عَلَيْهَا، وَقَدْ قِيلَ وَمَنْ يَجْتَهِدْ فِي نَيْلِ أَمْرٍ وَيَصْطَبِرْ ... يَنَلْهُ وَإِلَّا بَعْضَهُ إنْ تَعَسَّرَا فَمَا دُمْت حَيًّا فَاطْلُبْ الْعِلْمَ وَالْعُلَى ... وَلَا تَأْلُ جُهْدًا أَنْ تَمُوتَ فَتُعْذَرَا وَلَكِنْ يَنْبَغِي اغْتِنَامُ أَوْقَاتِ الْفَرَاغِ فَإِنَّهُ أَقْرَبُ إلَى حُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَذَكَرَ أَبُو حَفْصٍ النَّحَّاسُ قَوْلَ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ: بَادِرْ إذَا الْحَاجَاتُ يَوْمًا أَمْكَنَتْ ... بِوُرُودِهِنَّ مَوَارِدَ الْآفَاتِ كَمْ مِنْ مُؤَخِّرِ حَاجَةٍ قَدْ أَمْكَنَتْ ... لِغَدٍ وَلَيْسَ غَدٌ لَهُ بِمُوَاتِ تَأْتِي الْحَوَادِثُ حِينَ تَأْتِي جَمَّةً ... وَنَرَى السُّرُورَ يَجِيءُ فِي الْفَلَتَاتِ وَكَانَ الشَّاشِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ الْمَشْهُورُ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ يُنْشِدُ: تَعَلَّمْ يَا فَتَى وَالْعُودُ رَطْبٌ ... وَطِينُك لَيِّنٌ وَالطَّبْعُ قَابِلْ وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: إنَّ أَبَا بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدٍ الدِّينَوَرِيَّ الْحَنْبَلِيَّ تِلْمِيذَ أَبِي الْخَطَّابِ الْمُتَوَفَّى فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ قَالَ أَنْشَدَنِي: أَخِي لَنْ تَنَالَ الْعِلْمَ إلَّا بِسِتَّةٍ ... سَأُنْبِيكَ عَنْ مَكْنُونِهَا بِبَيَانِ ذَكَاءٍ وَحِرْصٍ وَاجْتِهَادٍ وَبُلْغَةٍ ... وَإِرْشَادِ أُسْتَاذٍ وَطُولِ زَمَانِ قَالَ وَأَنْشَدَنِي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:

تَمَنَّيْت أَنْ تُمْسِي فَقِيهًا مُنَاظِرًا ... بِغَيْرِ عَنَاءٍ وَالْجُنُونُ فُنُونُ وَلَيْسَ اكْتِسَابُ الْمَالِ دُونَ مَشَقَّةٍ ... تَلَقَّيْتهَا فَالْعِلْمُ كَيْفَ يَكُونُ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: مَا يَتَنَاهَى فِي طَلَبِ الْعِلْمِ إلَّا عَاشِقٌ، وَالْعَاشِقُ يَنْبَغِي أَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْمَكَارِهِ. وَمِنْ ضَرُورَةِ الْمُتَشَاغِلِ بِهِ الْبُعْدُ عَنْ الْكَسْبِ، وَقَدْ فُقِدَ التَّفَقُّدُ لَهُمْ مِنْ الْأُمَرَاءِ وَمِنْ الْإِخْوَانِ، وَلَازَمَهُمْ الْفَقْرُ، وَالْفَضَائِلُ يُنَادَى عَلَيْهَا: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا} [الأحزاب: 11] فَلَمَّا أَجَابَتْ مَرَارَةُ الِابْتِلَاءِ قَالَتْ: لَا تَحْسَبْ الْمَجْدَ تَمْرًا أَنْتَ آكِلُهُ ... لَنْ تَبْلُغَ الْمَجْدَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَّبِرَا ثُمَّ ذَكَرَ الْإِمَامَ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَشَأْنِهِ وَقَالَ: فَمَا شَاعَ لَهُ الذِّكْرُ الْجَمِيلُ جُزَافًا، وَلَا تَرَدَّدَتْ الْأَقْدَامُ إلَى قَبْرِهِ إلَّا لِمَعْنًى عَجِيبٍ، فَيَا لَهُ ثَنَاءً مَلَأَ الْآفَاقَ وَجَمَالًا زَيَّنَ الْوُجُودَ، وَعِزًّا نَسَخَ كُلَّ ذُلٍّ، هَذَا فِي الْعَاجِلِ، وَثَوَابُ الْآجِلِ لَا يُوصَفُ، وَتَلْمَحُ قُبُورَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ لَا تُعْرَفُ وَلَا تُزَارُ، تَرَخَّصُوا وَتَأَوَّلُوا وَخَالَطُوا السَّلَاطِينَ فَذَهَبَتْ بَرَكَةُ الْعِلْمِ وَمُحِيَ الْجَاهُ، وَوَرَدُوا عِنْدَ الْمَوْتِ حِيَاضَ النَّدَمِ، فَيَالَهَا حَسَرَاتٍ لَا تَتَلَافَى، وَخُسْرَانًا لَا يَنْجَبِرُ، كَانَتْ صُحْبَةُ اللَّذَّاتِ كَطَرْفَةِ عَيْنٍ، وَلَازَمَ الْأَسَفُ دَائِمًا. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: يَا نَفْسُ مَا هُوَ إلَّا صَبْرُ أَيَّامِ ... كَأَنَّ مُدَّتَهَا أَضْغَاثُ أَحْلَامِ يَا نَفْسُ جُوزِي عَنْ الدُّنْيَا مُبَادِرَةً ... وَخَلِّ عَنْهَا فَإِنَّ الْعَيْشَ قُدَّامِي ثُمَّ أَيُّهَا الْعَالِمُ الْفَقِيرُ أَيَسُرُّك مُلْكُ سُلْطَانٍ مِنْ السَّلَاطِينِ، وَأَنَّ مَا تَعْلَمُهُ مِنْ الْعِلْمِ لَا تَعْلَمُهُ؟ كَلًّا مَا أَظُنُّ الْمُتَيَقِّظَ يُؤْثِرُ هَذَا، ثُمَّ أَنْتَ إذَا وَقَعَ لَك خَاطِرٌ مُسْتَحْسَنٌ، أَوْ مَعْنًى عَجِيبٌ تَجِدُ لَذَّةً لَا يَجِدُهَا مُلْتَذٌّ بِاللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ، فَقَدْ حُرِمَ مِنْ رِزْقِ اللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ مَا قَدْ رُزِقْت. وَقَدْ شَارَكْتَهُمْ فِي قِوَامِ الْعَيْشِ، وَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْفُضُولُ الَّتِي إذَا حُذِفَتْ لَمْ تَكَدْ تَضُرُّ، ثُمَّ هِيَ عَلَى الْمُخَاطَرَةِ فِي

بَابِ الْآخِرَةِ غَالِبًا وَأَنْتَ عَلَى السَّلَامَةِ فِي الْأَغْلَبِ، فَتَلَمَّحْ يَا أَخِي عَوَاقِبَ الْأَحْوَالِ، وَاقْمَعْ الْكَسَلَ الْمُثَبِّطَ عَنْ الْفَضَائِلِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَضَائِلَ لَا تُنَالُ بِالْهُوَيْنَا، فَبَارَكَ اللَّهُ لِأَهْلِ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ، فَنَحْنُ الْأَغْنِيَاءُ وَهُمْ الْفُقَرَاءُ، فَإِنْ عَمَّرُوا دَارًا سَخَّرُوا الْفَعَلَةَ، وَإِنْ جَمَعُوا مَالًا فَمِنْ وُجُوهٍ لَا تَصْلُحُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَخَافُ أَنْ يُقْتَلَ أَوْ يُعْزَلَ أَوْ يُسَمَّ، فَعَيْشُهُمْ نَغَصٌ، الْعِزُّ فِي الدُّنْيَا لَنَا لَا لَهُمْ، وَإِقْبَالُ الْخَلْقِ عَلَيْنَا، وَفِي الْآخِرَةِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ تَفَاوُتٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْعَجَبُ لِمَنْ شَرُفَتْ نَفْسُهُ حَتَّى طَلَبَ الْعِلْمَ إذْ لَا تَطْلُبُهُ إلَّا نَفْسٌ شَرِيفَةٌ كَيْفَ يَذِلُّ لِنَذْلٍ، مَا عِزُّهُ إلَّا بِالدُّنْيَا، وَلَا فَخْرُهُ إلَّا بِالْمَسْكَنَةِ، وَقَالَ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا عَيْشٌ إلَّا لِعَالِمٍ أَوْ زَاهِدٍ قَالَ وَإِذَا قَنَعَا بِمَا يَكُفُّ لَمْ يَتَمَنْدَلْ بِهِمَا سُلْطَانٌ، وَلَمْ يُسْتَخْدَمَا بِالتَّرْدَادِ إلَى بَابِهِ، وَلَمْ يَحْتَجْ الزَّاهِدُ إلَى تَصَنُّعٍ، وَالْعَيْشُ اللَّذِيذُ الْمُنْقَطِعُ الَّذِي لَا يُتَمَنْدَلُ بِهِ وَلَا يُحْمَلُ مِنْهُ، وَمَا أَكْثَرَ تَفَاوُتَ النَّاسِ فِي الْفَهْمِ حَتَّى الشُّعَرَاءُ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: هَمُّهَا الْعِطْرُ وَالْفِرَاشُ وَيَعْلُو ... هَا لُجَيْنٌ وَلُؤْلُؤٌ مَنْظُومُ وَهَذَا قَاصِرٌ فَإِنَّهُ لَوْ فَعَلَتْ هَذَا سَوْدَاءُ لِحُسْنِهَا، إنَّمَا الْمَادِحُ هُوَ الْقَائِلُ: أَلَمْ تَرَ أَنِّي كُلَّمَا جِئْت زَائِرًا ... وَجَدْت بِهَا طِيبًا وَإِنْ لَمْ تَطَيَّبْ وَكَقَوْلِ الْآخَرِ: أَدْعُو إلَى هَجْرِهَا قَلْبِي فَيَتْبَعُنِي ... حَتَّى إذَا قُلْت هَذَا صَادِقٌ نَزَعَا وَلَوْ كَانَ صَادِقًا فِي الْمَحَبَّةِ لَمَا كَانَ لَهُ قَلْبٌ يُخَاطِبُهُ، وَإِذَا خَاطَبَهُ فِي الْهَجْرِ. لَمْ يُوَافِقْهُ، إنَّمَا الْمُحِبُّ الصَّادِقُ هُوَ الْقَائِلُ: يَقُولُونَ لَوْ عَاتَبْت قَلْبَك لَارْعَوَى ... فَقُلْت وَهَلْ لِلْعَاشِقَيْنِ قُلُوبُ انْتَهَى كَلَامُهُ وَالْبَيْتُ الثَّانِي لِامْرِئِ الْقَيْسِ قَالَهُ فِي أُمِّ جُنْدُبٍ.

وَقَالَ أَيْضًا فِي كِتَابِهِ السِّرُّ الْمَصُونُ: مِثْلُ الْمُحِبِّ لِلْعِلْمِ مِثْلُ الْعَاشِقِ، فَإِنَّ الْعَاشِقَ يَهْتَمُّ بِمَعْشُوقِهِ، وَيَهِيمُ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْمُحِبُّ لِلْعِلْمِ، فَكَمَا أَنَّ الْعَاشِقَ يَبِيعُ أَمْلَاكَهُ، وَيُنْفِقُهَا عَلَى مَعْشُوقِهِ فَيَفْتَقِرُ كَذَلِكَ مُحِبُّ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ يَسْتَغْرِقُ فِي طَلَبِهِ الْعُمُرَ فَيَذْهَبُ مَالُهُ، وَلَا يَتَفَرَّغُ لِلْكَسْبِ، فَإِذَا احْتَاجَ دَخَلَ فِي مُدَاخِلٍ صَعْبَةٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِالسَّلَاطِينِ إمَّا أَنْ يَدْخُلَ فِي أَشْغَالِهِمْ، أَوْ يَطْلُبَ مِنْهُمْ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَطْلُبُ مِنْ الْعَوَامّ الْبُخَلَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْجِعُ عَنْ الْجِدِّ فِي الْعِلْمِ إلَى الْكَسْبِ. وَقَدْ كَانَ لِلْعُلَمَاءِ قَدِيمًا حَظٌّ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ يُغْنِيهِمْ، وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ يَعِيشُ فِي ظِلِّ سُلْطَانٍ كَأَبِي عُبَيْدٍ مَعَ ابْنِ طَاهِرٍ، وَالزَّجَّاجِ مَعَ ابْنِ وَهْبٍ، ثُمَّ كَانَ لِلْعُلَمَاءِ مَنْ يُرَاعِيهِمْ مِنْ الْإِخْوَانِ حَتَّى قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: لَوْلَا فُلَانٌ وَفُلَانٌ مَا اتَّجَرْت، وَكَانَ يُبْعَثُ بِالْمَالِ إلَى الْفُضَيْلِ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فَصَارَ أَقْوَامٌ مِنْ التُّجَّارِ يَفْتَقِدُونَ الْعُلَمَاءَ بِالزَّكَاةِ فَيَنْدَفِعُ الزَّمَانُ، وَقَدْ وَصَلْنَا إلَى زَمَانٍ تَقَطَّعَتْ فِيهِ هَذِهِ الْأَسْبَابُ حَتَّى لَوْ احْتَاجَ الْعَالِمُ فَطَلَبَ لَمْ يُعْطَ، فَأَوْلَى النَّاسِ بِحِفْظِ الْمَالِ وَتَنْمِيَةِ الْيَسِيرِ مِنْهُ وَالْقَنَاعَةِ بِقَلِيلِهِ تَوْفِيرًا لِحِفْظِ الدِّينِ وَالْجَاهِ، وَالسَّلَامَةِ مِنْ مِنَنِ الْعَوَامّ الْأَرَاذِلِ الْعَالِمُ الَّذِي فِيهِ دِينٌ وَلَهُ أَنَفَةٌ مِنْ الذُّلِّ. وَقَدْ قَالَ مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ: إنَّ الرَّجُلَ لَيَسْقِينِي شُرْبَةً مِنْ مَاءٍ فَكَأَنَّهُ دَقَّ ضِلَعًا مِنْ أَضْلَاعِي، وَقَدْ كَانَ أَقْوَامٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إذَا افْتَقَرُوا لَا يَرَوْنَ سُؤَالَ النَّاسِ فَيَخْرُجُونَ إلَى جَبَلٍ فَيَمُوتُونَ فِيهِ. فَإِذَا اتَّفَقَ لِلْعَالِمِ عَائِلَةٌ، وَحَاجَاتٌ وَكَفَّتْ أَكُفُّ النَّاسِ عَنْهُ، وَمَنَعَتْهُ أَنَفَتُهُ مِنْ الذُّلِّ هَلَكَ، فَالْأَوْلَى لِمِثْلِ هَذَا (الْعَالِمِ) فِي هَذَا الزَّمَانِ الْمُظْلِمِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي كَسْبٍ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ نَسَخَ بِأُجْرَةٍ، وَيُدَبِّرُ مَا يُحَصِّلُ لَهُ، وَيَدَّخِرُ الشَّيْءَ لِحَاجَةٍ تَعْرِضُ لِئَلَّا يَحْتَاجَ إلَى نَذْلٍ. وَقَدْ يَتَّفِقُ لِلْعَالِمِ مِرْفَقٌ، فَيُنْفِقُ، وَلَا يَدَّخِرُ عَمَلًا بِمُقْتَضَى الْحَالِ وَنِسْيَانًا لِمَا يَجُوزُ وُقُوعُهُ مِنْ انْقِطَاعِ الْمِرْفَقِ وَطَبْعًا فِي نَفْسِهِ مِنْ الْبَذْلِ وَالْكَرَمِ، فَيُخْرِجُ مَا فِي يَدِهِ فَيَنْقَطِعُ مِرْفَقُهُ فَيُلَاقِي مِنْ الضَّرَرِ، أَوْ مِنْ الذُّلِّ مَا يَكُونُ الْمَوْتُ دُونَهُ.

فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَعْمَلَ بِمُقْتَضَى الْحَالِ الْحَاضِرَةِ، بَلْ يُصَوِّرُ كُلَّ مَا يَجُوزُ وُقُوعُهُ. وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَنْظُرُونَ فِي الْعَوَاقِبِ، فَكَمْ مِنْ مُخَاصِمٍ سَبَّ وَشَتَمَ وَطَلَّقَ، فَلَمَّا أَفَاقَ نَدِمَ، وَقَدْ كَانَ يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ يَزْهَدُ وَدَفَنَ كُتُبَهُ فَلَمْ يَصْبِرْ عَنْ الْحَدِيثِ فَحَدَّثَ مِنْ حِفْظِهِ فَغَلِطَ فَضَعَّفُوهُ، وَقَدْ تَزَهَّدَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَأَخْرَجُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ، ثُمَّ احْتَاجُوا فَدَخَلُوا فِي مَكْرُوهَاتٍ، وَكَانَ الشِّبْلِيُّ يَقْدِرُ عَلَى خَمْسِينَ أَلْفًا فَتَزَهَّدَ، وَفَرَّقَهَا فَنَزَلَ بِهِ قَوْمٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ فَبَعَثَ إلَى بَعْضِ أَرْبَابِ الدُّنْيَا يَطْلُبُ مِنْهُ فَقَالَ لَهُ يَا شِبْلِيُّ: اُطْلُبْ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ لَهُ: أَنَا أَطْلُبُ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَطْلُبُ الدُّنْيَا مِنْ خَسِيسٍ مِثْلِك، فَبَعَثَ إلَيْهِ مِائَةَ دِينَارٍ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: إنْ كَانَ بَعَثَ إلَيْهِ اتِّقَاءَ ذَمِّهِ فَقَدْ أَكَلَ الشِّبْلِيُّ الْحَرَامَ، وَقَدْ تَزَهَّدَ أَبُو حَامِدٍ الطُّوسِيُّ، وَأَقَامَ سِنِينَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ عَادَ إلَى وَطَنِهِ فَبَنَى دَارًا كَبِيرَةً وَغَرَسَ بُسْتَانًا. فَمِثْلُ هَذَا الْمُتَزَهِّدِ الْمُخْرِجِ لِمَالِهِ كَمُعِيرٍ لِبَاسَهُ، كَمِثْلِ مَاءٍ عُمِلَ لَهُ سَكْرٌ فَإِنَّهُ يَمْنَعُهُ مِنْ الْجَرَيَانِ، ثُمَّ يُعْمَلُ فِي بَاطِنِ السَّكْرِ إلَى أَنْ يَنْقُبَ، وَلِهَذَا كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا رَأَى شُبَّانًا قَدْ تَنَسَّكُوا يَقُولُ: الْمَوْتُ الْمَوْتُ جَاءَهُمْ، خَوْفًا مِنْ تَغْيِيرِ حَالِهِمْ. وَكَذَلِكَ مُخْرِجُ الْمَالِ فِي حَالِ الْغِنَى إذَا لَمْ يَحْسِبْ وُقُوعَ الْفَقْرِ. وَقَدْ رَأَيْنَا أَبَا الْحَسَنِ الْغَزْنَوِيَّ وَقَدْ بَنَى لَهُ رِبَاطًا بِبَغْدَادَ وَوُقِفَتْ عَلَيْهِ قَرْيَةٌ فَكَانَ يَقُولُ: يَدْخُلُ لِي فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَسِتُّ مِائَةِ دِينَارٍ فَأَلْفٌ وَمِائَتَانِ لِي وَلِأَوْلَادِي، وَأَلْفٌ وَمِائَتَانِ لِأَهْلِ الرِّبَاطِ، وَأَلْفٌ وَمِائَتَانِ لِلْمَجْلِسِ، فَكَانَ يُعْطِي الْعُلَمَاءَ وَالْقُرَّاءَ وَالزُّهَّادَ وَلَا يَقْبَلُ مِنْهُ أَحَدٌ حَتَّى إنَّهُ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ عِنْدَ الْوَزِيرِ أَبِي الْقَاسِمِ الزَّيْنِيِّ، فَبَعَثَ إلَيْهِ خِلْعَةً قَبْلَ الْعِيدِ وَهَذِهِ عَادَتُهُمْ فِيمَنْ يُفْطِرُ عِنْدَهُمْ فَحَدَّثَنِي الْحَاجِبُ أَنَّهُ حَمَلَهَا إلَيْهِ فَقَالَ: لَا أَقْبَلُ، قَالَ: فَقَبَّحْت لَهُ هَذَا وَبَالَغْت حَتَّى قَبِلَ عَلَى مَضَضٍ. وَكَانَ يَقُولُ: عُرِضَتْ عَلَيَّ خَمْسَةُ آلَافِ دِينَارٍ فَدَفَعْتهَا بِهَذِهِ الْأَصَابِعِ الْخَمْسِ، وَقُلْت: لَا حَاجَةَ لِي فِيهَا، وَكَانَ يَظُنُّ دَوَامَ مَا هُوَ فِيهِ فَاتَّفَقَ مَوْتُ السُّلْطَانِ

مَسْعُودٍ فَأُحْضِرَ بَابَ الْحَاكِمِ وَوُكِّلَ بِهِ وَأُخِذَتْ مِنْهُ الْقَرْيَةُ فَافْتَقَرَ، فَحَدَّثَنِي مَحَاسِنُ بْنُ حَمَّادٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ الْغَزْنَوِيِّ وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْمُلَقَّبِ شَيْخُ الشُّيُوخِ وَحْشَةٌ. فَلَمَّا افْتَقَرَ الْغَزْنَوِيُّ بَعَثَ مَعِي إلَيْهِ بِمِائَةِ دِينَارٍ وَرُقْعَةٍ بِكَارَاتِ دَقِيقٍ فَجِئْت بِهَا إلَيْهِ، فَقَالَ: لَا أَقْبَلُ، فَرَدَّهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إلَيَّ لِانْبِسَاطٍ كَانَ بَيْنَنَا، فَقَالَ لِي: أَغْنِنِي أَنْتَ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَخَمْسِ كَارَاتٍ، فَالصِّبْيَانُ جِيَاعٌ، وَكَانَ يَقُولُ: مِنْ النَّاسِ مَنْ يُحِبُّ الْمَوْتَ فَمَاتَ قَرِيبًا. وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ دِجْلَةَ قُرًى. وَالْحَازِمُ مَنْ يَحْفَظُ مَا فِي يَدِهِ كَمَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: مَنْ كَانَ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ فَلْيَجْعَلْهُ فِي قَرْنِ ثَوْرٍ فَإِنَّهُ زَمَانٌ مَنْ احْتَاجَ فِيهِ كَانَ أَوَّلُ مَا يَبْذُلُ دِينَهُ. وَقَدْ كَانَ صَالِحُ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ تَوَلَّى الْقَضَاءَ بِأَصْبَهَانَ فَلَمَّا قُرِئَ عَهْدُهُ بَكَى وَقَالَ ابْنُ عَيْنٍ أَبِي تَرَانِي وَعَلَيَّ السَّوَادُ؟ وَلَكِنْ مَا تَوَلَّيْت حَتَّى رَكِبَنِي الدَّيْنُ وَكَثُرَ الْعِيَالُ، وَكَذَلِكَ يُحْكَى عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْقُضَاةِ. وَقَدْ كَانَ الْمُتَوَكِّلُ يَبْعَثُ إلَى أَوْلَادِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ الْأُلُوفَ، وَإِنَّمَا كَانَ صَالِحٌ سَخِيًّا، فَالسَّخِيُّ الَّذِي لَا يَحْسَبُ إلَّا خَيْرًا لَا يَفِي سَخَاؤُهُ بِمَا يَلْقَى إذَا افْتَقَرَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِمْسَاكَ فِي حَقِّ الْكَرِيمِ جِهَادٌ لِأَنَّهُ قَدْ أَلِفَ الْكَرَمَ، كَمَا أَنَّ إخْرَاجَ مَا فِي يَدِ الْبَخِيلِ جِهَادٌ. فَإِنَّمَا يَسْتَعِينُ الْكَرِيمُ عَلَى الْإِمْسَاكِ بِذِكْرِ الْحَاجَةِ إلَى الْأَنْذَالِ قِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ: لِمَ حَفِظَتْ الْفَلَاسِفَةُ الْمَالَ؟ فَقَالَ: لِئَلَّا يَقِفُوا مَوَاقِفَ لَا تَلِيقُ بِهِمْ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ رَأَيْت أَنَا بِبَغْدَادَ مِنْ الصُّوفِيَّةِ مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَدَخَلَ فَكَانَ الْخَلْقُ يَتَقَرَّبُونَ إلَى السَّلَاطِينِ وَيَطْلُبُونَ مِنْهُمْ وَهُوَ لَا يُبَالِي فَكُنْت أَغْبِطُهُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَنْ احْتَاجَ إلَى السَّلَاطِينِ يُذِلُّونَهُ وَيَحْتَقِرُونَهُ وَرُبَّمَا مَنَعُوهُ، فَإِنْ أَعْطَوْهُ أَخَذُوا مِنْ دِينِهِ أَكْثَرَ قَالَ الرَّشِيدُ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ: أَتَيْنَاك فَانْتَفَعْنَا وَأَتَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فَلَمْ نَنْتَفِعْ بِهِ، وَكَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: قَدْ كُنْت أُوتِيت فَهْمًا فِي الْقُرْآنِ فَلَمَّا أَخَذْت مِنْ مَالِ أَبِي جَعْفَرٍ حُرِمْت ذَلِكَ.

وَإِنْ احْتَاجَ الْإِنْسَانُ إلَى الْعَوَامّ بَخِلُوا فَإِنْ أَعْطَوْا تَضَجَّرُوا وَمَنُّوا. وَقَلَّ مَنْ رَأَيْنَاهُ يُنَافِقُ، أَوْ يُرَائِي، أَوْ يَتَوَاضَعُ لِصَاحِبِ دُنْيَا إلَّا لِأَجْلِ الدُّنْيَا. وَالْحَاجَةُ تَدْعُو إلَى كُلِّ مِحْنَةٍ، قَالَ بِشْرٌ الْحَافِيُّ: لَوْ أَنَّ لِي دَجَاجَةً أَعُولُهَا خِفْت أَنْ أَكُونَ عَشَّارًا عَلَى الْجِسْرِ: فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَجْمَعَ هَمُّهُ لِيُقْبِلَ عَلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ بِقَلْبٍ فَارِغٍ مِنْ الْهَمِّ وَبَعْدُ فَإِذَا صَدَقَتْ نِيَّةُ الْعَبْدِ، وَقَصْدُهُ رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَحَفِظَهُ مِنْ الذُّلِّ وَدَخَلَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2 - 3] . وَيَأْتِي كَلَامُ ابْنُ عَقِيلٍ نَحْوَ ثُلُثَيْ الْكِتَابِ فِي إخْرَاجِ الْمَالِ وَالْكَرَمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ أَيْضًا فِي كِتَابِ السِّرُّ الْمَصُونُ مَنْ عَلِمَ أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ سِبَاقِ وَتَحْصِيلِ الْفَضَائِلِ، وَأَنَّهُ كُلَّمَا عَلَتْ مَرْتَبَتُهُ فِي عِلْمٍ وَعَمَلٍ زَادَتْ الْمَرْتَبَةُ فِي دَارِ الْجَزَاءِ، انْتَهَبَ الزَّمَانَ، وَلَمْ يُضَيِّعْ لَحْظَةً وَلَمْ يَتْرُكْ فَضِيلَةً تُمْكِنُهُ إلَّا حَصَّلَهَا، وَمَنْ وُفِّقَ لِهَذَا فَلْيَبْتَكِرْ زَمَانَهُ بِالْعِلْمِ، وَلْيُصَابِرْ كُلَّ مِحْنَةٍ وَفَقْرٍ، إلَى أَنْ يَحْصُلَ لَهُ مَا يُرِيدُ، وَلْيَكُنْ مُخْلِصًا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ عَامِلًا بِهِ حَافِظًا لَهُ، فَإِمَّا أَنْ يَفُوتَهُ الْإِخْلَاصُ فَذَاكَ تَضْيِيعُ زَمَانٍ وَخُسْرَانُ الْجَزَاءِ، وَإِمَّا أَنْ يَفُوتَهُ الْعَمَلُ بِهِ فَذَاكَ يُقَوِّي الْحُجَّةَ عَلَيْهِ وَالْعِقَابَ لَهُ، وَإِمَّا جَمَعَهُ مِنْ غَيْرِ حِفْظٍ، فَإِنَّ الْعِلْمَ مَا كَانَ فِي الصُّدُورِ لَا فِي الْقِمْطَرِ. وَمَتَى أَخْلَصَ فِي طَلَبِهِ دَلَّهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إلَى أَنْ قَالَ: وَلْيَبْعُدْ عَنْ مُخَالَطَةِ الْخَلْقِ مَهْمَا أَمْكَنَ خُصُوصًا الْعَوَامَّ، وَلْيَصُنْ نَفْسَهُ مِنْ الْمَشْيِ فِي الْأَسْوَاقِ فَرُبَّمَا وَقَعَ الْبَصَرُ عَلَى فِتْنَةٍ، وَلْيَجْتَهِدْ فِي مَكَان لَا يَسْمَعُ فِيهِ أَصْوَاتَ النَّاسِ، وَلْيُزَاحِمْ الْقُدَمَاءَ مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ مُنْتَهِبًا الزَّمَانَ فِي كُلِّ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَارٌّ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلَى الْعَيْشِ مَعَهُ، وَعِنْدَهُ وَإِنَّ أَيَّامَ الدُّنْيَا أَيَّامُ سَفَرٍ صَبَرَ

عَلَى تَفَثِ السَّفَرِ وَوَسَخِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ قَالَ أَيْضًا: لَوْ صَدَقْت فِي الطَّلَبِ، (لَوَقَعْتَ) عَلَى كَنْزِ الذَّهَبِ، وَلَوْ وَجَدُوك مُسْتَقِيمًا، مَا تَرَكُوك سَقِيمًا شِعْرٌ: وَرُبَّمَا غُوفِصَ ذُو غَفْلَةٍ ... أَصَحُّ مَا كَانَ وَلَمْ يَسْقَمْ يَا وَاضِعَ الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ ... خَاطَبَك الْقَبْرُ وَلَمْ تَفْهَمْ خَاضُوا أَمْرَ الْهَوَى فِي فُنُونٍ ... فَزَادَهُمْ فِي اسْمِ هَوَاهُمْ حَرْفَ نُونِ وَقَالَ أَيْضًا: اعْلَمْ أَنَّ الرَّاحِلَةَ لَا تُنَالُ بِالرَّاحَةِ وَمَعَالِي الْأُمُورِ لَا تُنَالُ بِالرَّاحَةِ، فَمَنْ زَرَعَ حَصَدَ، وَمَنْ جَدَّ وَجَدَ: تَفَانَى الرِّجَالُ عَلَى حُبِّهَا ... وَمَا يَحْصُلُونَ عَلَى طَائِلِ لَا يُعْجِبَنَّك لِينُهَا فَجِلْدُ الْحَيَّةِ كَالْحَرِيرِ، وَلَقَدْ رَأَيْت كَيْفَ غَرَّتْ غَيْرَك وَالْعَاقِلُ بَصِيرٌ. أَتَرَى يَنْفَعُ هَذَا الْعِتَابُ؟ أَتَرَى يُسْمَعُ لِهَذَا الْعَذَلِ جَوَابٌ؟ إذَا أَقْلَقَهُمْ الْخَوْفُ نَاحُوا، وَإِذَا أَزْعَجَهُمْ الْوَجْدُ صَاحُوا، وَإِذَا غَلَبَهُمْ الشَّوْقُ بَاحُوا. شِعْرٌ: وَحُرْمَةِ الْوُدِّ مَا لِي عَنْكُمْ عِوَضُ ... وَلَيْسَ وَاَللَّهِ لِي فِي غَيْرِكُمْ غَرَضُ وَمِنْ حَدِيثِي بِكُمْ قَالُوا بِهِ مَرَضُ ... فَقُلْت لَا زَالَ عَنِّي ذَلِكَ الْمَرَضُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ بَعْدَ جَمْعِهِ لِطُرُقٍ وَأَسَانِيدَ أَظُنُّهُ فِي حَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ وَهُوَ تَابِعِيٌّ إمَامٌ عَابِدٌ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُسْتَطَاعُ الْعِلْمُ بِرَاحَةِ الْجِسْمِ وَقَدْ قِيلَ.

لَيْسَ الْيَتِيمُ الَّذِي قَدْ مَاتَ وَالِدُهُ ... إنَّ الْيَتِيمَ يَتِيمُ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَهُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ الْمَذْكُورِ فَيَنْبَغِي لِلْمَشَايِخِ الْإِحْسَانُ إلَيْهِمْ، وَالصَّبْرُ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْهُمْ وَاللُّطْفُ بِهِمْ، لِئَلَّا يَتَضَاعَفَ أَلَمُهُمْ وَهَمُّهُمْ، فَيَضْعُفَ الصَّبْرُ، وَتَحْصُلَ النَّفْرَةُ عَنْ الْعِلْمِ، وَاسْتِحْبَابُ ذَلِكَ مِنْ الطَّلَبَةِ أَوْلَى بِهِمْ وَالْأَدَبُ وَالتَّلَطُّفُ وَمَا يُعِينُهُمْ عَلَى الْمَقْصُودِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ «بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا» . وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «إنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ» وَقَدْ ذَكَرْت قَوْلَهُ لِمُعَاذٍ وَأَبِي مُوسَى حِينَ بَعَثَهُمَا إلَى الْيَمَنِ: «بَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَيَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا» ، وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ يَقُولُ: مَرْحَبًا بِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ أَبِي سُوَيْدٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «عَلِّمُوا وَلَا تُعَنِّفُوا فَإِنَّ الْمُعَلِّمَ خَيْرٌ مِنْ الْمُعَنِّفِ» . حُمَيْدٌ لَهُ مَنَاكِيرُ تَكَلَّمَ فِيهِ ابْنُ عَدِيٍّ وَغَيْرُهُ، وَيَأْتِي قَبْلَ ذِكْرِ الْكَرَمِ وَالْبُخْلِ فِي فُضُولِ الْكَسْبِ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْبَاقِي الْحَنْبَلِيِّ: يَجِبُ عَلَى الْمُعَلِّمِ أَنْ لَا يُعَنِّفَ، وَعَلَى الْمُتَعَلِّمِ أَنْ لَا يَأْنَفَ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ: كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ إذَا جَاءَهُ أَصْحَابُهُ قَالَ: أَنْتُمْ جَلَاءُ قَلْبِي. وَيَأْتِي فِي أَوَّلِ فُصُولِ الْعِلْمِ قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تَوَاضَعُوا لِمَنْ عَلَّمَكُمْ، وَتَوَاضَعُوا لِمَنْ تُعَلِّمُونَ، وَلَا تَكُونُوا مِنْ جَبَّارِي الْعُلَمَاءِ، وَيَأْتِي بَعْدَهُ فِي فَصْلٍ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قَوْلُ عُمَرَ لَا تَعْلَمْ الْعِلْمَ لِتُمَارِيَ بِهِ، وَلَا لِتُرَائِيَ بِهِ، وَلَا لِتُبَاهِيَ بِهِ، وَلَا تَتْرُكْهُ حَيَاءً مِنْ طَلَبِهِ وَلَا زَهَادَةً فِيهِ، وَلَا

رِضَاءً بِالْجَهَالَةِ، وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ: مَنْ رَقَّ وَجْهُهُ رَقَّ عِلْمُهُ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِحَلْقَةٍ قَدْ جَلَسُوا إلَى جَانِبِ الْكَعْبَةِ فَلَمَّا قَضَى طَوَافُهُ جَلَسَ إلَيْهِمْ، وَقَدْ نَحَّوْا الْفِتْيَانَ عَنْ مَجْلِسِهِمْ، فَقَالَ: لَا تَفْعَلُوا أَوْسِعُوا لَهُمْ وَأَدْنُوهُمْ وَأَلْهِمُوهُمْ، فَإِنَّهُمْ الْيَوْمَ صِغَارُ قَوْمٍ يُوشِكُ أَنْ يَكُونُوا كِبَارَ قَوْمٍ آخَرِينَ قَدْ كُنَّا صِغَارَ قَوْمٍ أَصْبَحْنَا كِبَارَ آخَرِينَ. وَهَذَا صَحِيحٌ لَا شَكَّ فِيهِ، وَالْعِلْمُ فِي الصِّغَرِ أَثْبَتُ فَيَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِصِغَارِ الطَّلَبَةِ لَا سِيَّمَا الْأَذْكِيَاءِ الْمُتَيَقِّظِينَ الْحَرِيصِينَ عَلَى أَخْذِ الْعِلْمِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ عَلَى ذَلِكَ صِغَرُهُمْ أَوْ فَقْرُهُمْ وَضَعْفُهُمْ مَانِعًا مِنْ مُرَاعَاتِهِمْ، وَالِاعْتِنَاءِ بِهِمْ، وَقَدْ سَبَقَ فِي هَذَا الْفَصْلِ قَرِيبًا كَلَامُ الشَّاشِيِّ. وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ (طَرِيقَيْنِ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ فِي شَبِيبَتِهِ اخْتَلَطَ بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ، وَمَنْ تَعَلَّمَهُ فِي كِبَرِهِ فَهُوَ يَتَفَلَّتُ مِنْهُ وَلَا يَتْرُكْهُ فَلَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ» ، وَلِآخِرِهِ شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ يَحْتَلِمَ فَهُوَ مِمَّنْ أُوتِيَ الْحُكْمَ صَبِيًّا. وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ مَرْفُوعًا. وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: الْعِلْمُ فِي الصِّغَرِ، كَالنَّقْشِ فِي الْحَجَرِ وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ مُرْسَلًا " مَنْ تَعَلَّمَ وَهُوَ شَابٌّ كَانَ كَرَسْمٍ فِي حَجَرٍ، وَمَنْ تَعَلَّمَ فِي الْكِبَرِ كَانَ كَالْكَاتِبِ عَلَى ظَهْرِ الْمَاءِ " وَقَالَ عَلْقَمَةُ: مَا تَعَلَّمْته وَأَنَا شَابٌّ فَكَأَنَّمَا أَقْرَأهُ مِنْ دَفْتَرٍ. وَقَدْ تَوَاتَرَ تَعْظِيمُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَايَةً حَتَّى بُهِرَ الْأَعْدَاءُ كَمَا فِي حَدِيثِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَغَيْرِهِ، وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] .

وَقَوْلُ عُمَرَ «جَلَسْنَا حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جِنَازَةٍ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرُ» «وَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَعُونَ بَابَهُ بِالْأَظَافِيرِ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الْحَاكِمِ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ عَنْ الْحَافِظِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الزَّبْيَقِيِّ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى الْمُنْقِرِيِّ حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيُّ حَدَّثَنَا كَيْسَانُ مَوْلَى هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ الْمُغِيرَةِ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَرَوَيْنَاهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: " مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يُوَقَّرَ أَرْبَعَةٌ: الْعَالِمُ، وَذُو الشَّيْبَةِ، وَالسُّلْطَانُ، وَالْوَالِدُ، وَمِنْ الْجَفَاءِ أَنْ يَدْعُوَ الرَّجُلُ وَالِدَهُ بِاسْمِهِ ". وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُوَيْدٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا «ثَلَاثٌ مِنْ تَوْقِيرِ جَلَالِ اللَّهِ ذُو الشَّيْبَةِ فِي الْإِسْلَامِ، وَحَامِلُ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَحَامِلُ الْعِلْمِ مَنْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا» خَالِدٌ ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ وَالْأَكْثَرُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: أَخَذَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِرِكَابِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَقَالَ: هَكَذَا يُصْنَعُ بِالْعُلَمَاءِ وَقَالَ أَيُّوبُ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَخَذَ لَهُ بِالرِّكَابِ، وَأَخَذَ اللَّيْثُ بِرِكَابِ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ مُغِيرَةَ: كُنَّا نَهَابُ إبْرَاهِيمَ كَمَا نَهَابُ الْأَمِيرَ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ مَالِكٍ مَعَ مَالِكٍ. وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّاعِرُ: يَأْبَى الْجَوَابَ فَمَا يُرَاجَعُ هَيْبَةً ... وَالسَّائِلُونَ نَوَاكِسُ الْأَذْقَانِ أَدَبُ الْوَقَارِ وَعِزُّ سُلْطَانِ التُّقَى ... فَهُوَ الْأَمِيرُ وَلَيْسَ ذَا سُلْطَانِ وَقَالَ الرَّبِيعُ وَاَللَّهِ مَا اجْتَرَأْت أَنْ أَشْرَبَ الْمَاءَ وَالشَّافِعِيُّ يَنْظُرُ هَيْبَةً لَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا رَأَيْت رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ فَكَأَنَّمَا رَأَيْت رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ ارْحَمُوا عَزِيزَ قَوْمٍ ذَلَّ، وَغَنِيَّ قَوْمٍ افْتَقَرَ، وَعَالِمًا بَيْنَ جُهَّالٍ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَرُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا وَلَا يَصِحُّ.

وَقَالَ ابْنُ طَاهِرٍ الْمَقْدِسِيُّ الْحَافِظُ: سَمِعْت أَبَا إسْمَاعِيلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيَّ يَعْنِي شَيْخَ الْإِسْلَامِ سَمِعْت أَبَا الْفَضْلِ الْجَارُودِيَّ يَقُولُ: رَحَلْت إلَى أَبِي الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيِّ إلَى أَصْبَهَانَ فَلَمَّا دَخَلْت عَلَيْهِ قَرَّبَنِي وَأَدْنَانِي، وَكَانَ يَتَعَسَّرُ عَلَيَّ فِي الْأَخْذِ فَقُلْت لَهُ يَوْمًا: أَيُّهَا الشَّيْخُ لِمَ تَتَعَسَّرُ عَلَيَّ وَتَبْذُلُ لِلْآخَرِينَ قَالَ: لِأَنَّك تَعْرِفُ قَدْرَ هَذَا الشَّأْنِ وَهَؤُلَاءِ لَا يَعْرِفُونَ قَدْرَهُ. قَالَ ابْنُ طَاهِرٍ: سَمِعْت أَبَا إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيَّ الْحَافِظَ يَقُولُ: رَأَيْت فِي حَضَرِي وَسَفَرِي حَافِظًا وَنِصْفَ حَافِظٍ، فَالْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيُّ، وَالْآخَرُ أَبُو الْفَضْلِ الْجَارُودِيُّ، وَكَانَ إذَا حَدَّثَ عَنْ الْجَارُودِيِّ يَقُولُ: حَدَّثَنَا إمَامُ الْمَشْرِقِ. وَفِي تَارِيخِ الْمَادِحِ وَالْمَمْدُوحِ لِلْحَافِظِ عَبْدِ الْقَادِرِ الرَّهَاوِيِّ أَنَّ الْجَارُودِيَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَإِنَّ أَبَا إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ إذَا حَدَّثَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ وَكَانَ أَحْفَظُ الْبَشَرِ. قَالَ ابْنُ طَاهِرٍ رَحَلْت مِنْ مِصْرَ إلَى نَيْسَابُورَ لِأَجْلِ أَبِي الْقَاسِمِ الْفَضْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُحِبِّ صَاحِبِ أَبِي الْحُسَيْنِ الْخَفَّافِ، فَلَمَّا دَخَلْت عَلَيْهِ قَرَأْت فِي أَوَّلِ مَجْلِسٍ جُزْأَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْعَبَّاسِ السَّرَّاجِ فَلَمْ أَجِدْ لِذَلِكَ حَلَاوَةً وَاعْتَقَدْت أَنِّي نِلْته بِغَيْرِ تَعَبٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْتَنِعْ عَلَيَّ وَلَا طَالَبَنِي بِشَيْءٍ هُوَ كُلُّ حَدِيثٍ مِنْ الْجُزْأَيْنِ يَسْوَى رِحْلَةً، وَسَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا فِي فُصُولِ الْقِيَامِ وَبَعْدَهَا قَبْلَ فُصُولِ الْعِلْمِ وَفِي فُصُولِ الْعِلْمِ أَيْضًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قِيلَ: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا فِي الْبِلَادِ فَلَمْ نَجِدْ ... أَحَدًا سِوَاك إلَى الْمَكَارِمِ يُنْسَبُ فَاصْبِرْ لِعَادَتِنَا الَّتِي عَوَّدْتَنَا ... أَوْ لَا فَأَرْشِدْنَا إلَى مَنْ نَذْهَبُ وَقَالَ آخَرُ: لَا تَلْحَقَنَّك ضَجْرَةٌ مِنْ سَائِلٍ ... فَلَخَيْرُ يَوْمِك أَنْ تُرَى مَسْئُولَا

لَا تَجْبَهَنْ بِالْمَنْعِ وَجْهَ مُؤَمِّلِ ... فَبَقَاءُ عِزِّك أَنْ تُرَى مَأْمُولَا وَاعْلَمْ بِأَنَّك صَائِرٌ مَثَلًا فَكُنْ ... مَثَلًا يَرُوقُ السَّامِعِينَ جَمِيلَا وَقَالَ آخَرُ: وَإِذَا الْحَبِيبُ أَتَى بِذَنْبٍ وَاحِدٍ ... جَاءَتْ مَحَاسِنُهُ بِأَلْفِ شَفِيعِ وَقَدْ قِيلَ أَيْضًا: وَرُبَّمَا كَانَ مَكْرُوهُ النُّفُوسِ إلَى ... مَحْبُوبِهَا سَبَبًا مَا مِثْلُهُ سَبَبُ وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الدَّجَاجِيُّ الْحَنْبَلِيُّ فِي آخِرِ أَبْيَاتٍ لَهُ: فَجُدْ بِلُطْفِ عَطْفِك وَأَغْنِهِ ... بِجَمَالِ وَجْهِك عَنْ سُؤَالِ شَفِيعِ.

فصل حكم هجر أهل المعاصي

[فَصْلٌ حُكْمُ هَجْرِ أَهْلِ الْمَعَاصِي] يُسَنُّ هَجْرُ مَنْ جَهَرَ بِالْمَعَاصِي الْفِعْلِيَّةِ وَالْقَوْلِيَّةِ وَالِاعْتِقَادِيَّة قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: إذَا عَلِمَ أَنَّهُ مُقِيمٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ وَهُوَ يَعْلَمُ بِذَلِكَ لَمْ يَأْثَمْ إنْ هُوَ جَفَاهُ حَتَّى يَرْجِعَ، وَإِلَّا كَيْفَ يَتَبَيَّنُ لِلرَّجُلِ مَا هُوَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَرَ مُنْكِرًا وَلَا جَفْوَةً مِنْ صَدِيقٍ؟ وَنَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ: يَكُونُ فِي سَقْفِ الْبَيْتِ الذَّهَبُ يُجَانَبُ صَاحِبُهُ؟ يُجْفَى صَاحِبُهُ وَقَدْ اُشْتُهِرَتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُ فِي هَجْرِهِ مَنْ أَجَابَ فِي الْمِحْنَةِ إلَى أَنْ مَاتَ، وَقِيلَ: يَجِبُ أَنْ ارْتَدَعَ بِهِ وَإِلَّا كَانَ مُسْتَحَبًّا، وَقِيلَ: يَجِبُ هَجْرُهُ مُطْلَقًا إلَّا مِنْ السَّلَامِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَقِيلَ: تَرْكُ السَّلَامِ عَلَى مَنْ جَهَرَ بِالْمَعَاصِي حَتَّى يَتُوبَ مِنْهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَيُكْرَهُ لِبَقِيَّةِ النَّاسِ تَرْكُهُ، وَظَاهِرُ مَا نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ تَرْكُ الْكَلَامِ وَالسَّلَامِ مُطْلَقًا. قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْفَضْلِ وَقِيلَ لَهُ: يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ لَا يُكَلِّمَ أَحَدًا؟ فَقَالَ: نَعَمْ إذَا عَرَفْت مِنْ أَحَدٍ نِفَاقًا فَلَا تُكَلِّمْهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَافَ عَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا فَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ لَا يُكَلِّمُوهُمْ قُلْت: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ كَيْفَ يُصْنَعُ بِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ قَالَ أَمَّا الْجَهْمِيَّةُ وَالرَّافِضَةُ فَلَا، قِيلَ لَهُ: فَالْمُرْجِئَةُ قَالَ: هَؤُلَاءِ أَسْهَلُ إلَّا الْمُخَاصِمَ مِنْهُمْ فَلَا تُكَلِّمْهُ، وَنَقَلَ الْمَيْمُونِيُّ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كَلَامِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا بِالْمَدِينَةِ حِينَ خَافَ عَلَيْهِمْ النِّفَاقَ، وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ خِفْنَا عَلَيْهِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ اتَّهَمَهُمْ بِالنِّفَاقِ، وَكَذَا مَنْ اُتُّهِمَ بِالْكُفْرِ لَا بَأْسَ أَنْ يُتْرَكَ كَلَامُهُ. قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ أَخَذَ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -

فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ فِي رِوَايَةِ مُثَنَّى الْأَنْبَارِيِّ، وَقَدْ سَأَلَهُ أَكْثَرَ مَا يُعْرَفُ فِي الْمُجَانَبَةِ فَذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي تَرْكِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَلَامَهَا، وَالسَّلَامَ عَلَيْهَا حِينَ ذُكِرَ مَا ذُكِرَ كَذَا حَكَاهُ، وَلَمْ أَجِدْ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ هَذَا بَلْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا أَنْ تَذْهَبَ إلَى بَيْتِ أَبِيهَا إذَا دَخَلَ عَلَيْهَا يُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ: " كَيْفَ تِيكُمْ؟ " فَفِي هَذَا تَرْكُ اللُّطْفِ فَقَطْ، وَأَمَّا قِصَّةُ كَعْبٍ فَفِيهَا تَرْكُ السَّلَامِ وَالْكَلَامِ، وَلِهَذَا كَانَ يُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَأَقُولُ: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ؟ وَإِنَّهُ سَلَّمَ عَلَى أَبِي قَتَادَةَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ وَحَمَلَهُ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ شَرَحَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي هَجْرِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْمَعَاصِي بِتَرْكِ الْكَلَامِ، وَالسَّلَامِ بِخَوْفِ الْمَعْصِيَةِ. وَفِي رِوَايَةِ مُثَنَّى الْمَذْكُورَةِ وَاَلَّتِي قَبْلهَا إبَاحَةُ الْهَجْرِ وَتَرْكُ الْكَلَامِ وَالسَّلَامِ بِخَوْفِ الْمَعْصِيَةِ، وَرِوَايَةُ الْمَيْمُونِيِّ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ وَكَلَامُ الْأَصْحَابِ صَرِيحَةٌ فِي النُّشُوزِ عَلَى تَحْرِيمِهِ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ بَعْدَ قِصَّةِ الْإِفْكِ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُتَّهَمُ بِأُمِّ وَلَدِهِ فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَذْهَبَ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ فَذَهَبَ فَوَجَدَهُ يَغْتَسِلُ فِي رَكِيٍّ وَهِيَ الْبِئْرُ فَرَآهُ مَجْبُوبًا فَتَرَكَهُ» فَلَعَلَّ مَعْنَاهُ: اذْهَبْ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ إنْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَحُذِفَ لِلْعِلْمِ بِهِ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قِيلَ: لَعَلَّهُ مُسْتَحِقُّ الْقَتْلِ بِغَيْرِ الزِّنَا وَحَرَكَةِ الزِّنَا، وَكَفَّ عَنْهُ عَلِيٌّ اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ بِالزِّنَا، وَقَدْ عَلِمَ انْتِفَاءَ الزِّنَا. قَالَ الْقَاضِي: وَذَكَرَ الْآجُرِّيُّ فِي هِجْرَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ قِصَّةَ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِهَجْرِهِ، ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ كَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عَنْ رِوَايَةِ الْآجُرِّيِّ، وَلَمْ أَجِدْ هَذَا فِي قِصَّةِ حَاطِبٍ بَلْ فِيهَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: صَدَقَ وَلَا تَقُولُوا لَهُ إلَّا خَيْرًا فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ فَدَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ فَقَالَ: يَا عُمَرُ وَمَا يُدْرِيك لَعَلَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ

بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمْ الْجَنَّةُ فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ وَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ» ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ " فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ " كَرِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَيْضًا أَنَّ عُمَرَ سَأَلَهُ فِي قَتْلِهِ مَرَّتَيْنِ. قَالَ الْقَاضِي وَرَوَى الْآجُرِّيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «لِكُلِّ أُمَّةٍ مَجُوسٌ وَإِنَّ مَجُوسَ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْقَدَرِيَّةُ فَلَا تَعُودُوهُمْ إذَا مَرِضُوا وَلَا تُصَلُّوا عَلَيْهِمْ إذَا مَاتُوا» . قَالَ الْقَاضِي هَذَا مُبَالَغَةٌ فِي الْهَجْرِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ عَنْ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا مَعْنَاهُ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا مَعْنَاهُ وَلَيْسَ فِيهِ " لِكُلِّ أُمَّةٍ مَجُوسٌ "، وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ رَبِيعَةَ الْجُرَشِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْقَدَرِ وَلَا تُنَاكِحُوهُمْ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَفِيهِ حَكِيمُ بْنُ شَرِيكٍ الْهُذَلِيُّ تَفَرَّدَ عَنْهُ عَطَاءُ بْنُ دِينَارٍ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ. قَالَ الْقَاضِي: وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَضْحَكُ فِي جِنَازَةٍ. فَقَالَ: أَتَضْحَكُ مَعَ الْجِنَازَةِ؟ لَا أُكَلِّمُك أَبَدًا. وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: كَانَ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ امْرَأَةٌ فِي خُلُقِهَا سُوءٌ، فَكَانَ يَهْجُرُهَا السَّنَةَ وَالْأَشْهُرَ، فَتَتَعَلَّقُ بِثَوْبِهِ فَتَقُولُ: أَنْشُدُك بِاَللَّهِ يَا ابْنَ مَالِكٍ أَنْشُدُك بِاَللَّهِ يَا ابْنَ مَالِكٍ فَمَا يُكَلِّمُهَا. وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسٍ وَقِيلَ لَهُ: إنَّ قَوْمًا يُكَذِّبُونَ بِالشَّفَاعَةِ وَقَوْمًا يُكَذِّبُونَ بِعَذَابِ الْقَبْرِ، قَالَ: لَا تُجَالِسُوهُمْ وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ جَعَلَ فِي عَضُدِهِ خَيْطًا مِنْ الْحُمَّى: لَوْ مِتَّ وَهَذَا عَلَيْك لَمْ أُصَلِّ عَلَيْك، وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ قِيلَ لِسَمُرَةَ: إنَّ ابْنَك أَكَلَ طَعَامًا حَتَّى كَادَ أَنْ يَقْتُلَهُ، قَالَ: لَوْ مَاتَ مَا صَلَّيْت عَلَيْهِ، وَبِإِسْنَادِهِ أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ أَنْ لَا تُجَالِسُوا صَبِيغًا. وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ: إنْ أَتَيْتُك بِرَجُلٍ يَتَكَلَّمُ فِي الْقَدَرِ؟ فَقَالَ: لَوْ أَتَيْتَنِي بِهِ لَأَوْجَعْت رَأْسَك، ثُمَّ قَالَ: لَا تُكَلِّمْهُمْ وَلَا تُجَالِسْهُمْ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ لِأَيُّوبَ: لَا تُجَالِسْ

طَلْقَ بْنَ حَبِيبٍ فَإِنَّهُ مُرْجِئٌ، وَقَالَ إبْرَاهِيمُ لِرَجُلٍ تَكَلَّمَ عِنْدَهُ فِي الْإِرْجَاءِ: إذَا قُمْت مِنْ عِنْدِنَا فَلَا تَعُدْ إلَيْنَا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ: لَا تُجَالِسُوا أَصْحَابَ الْقَدَرِ وَلَا تُمَارُوهُمْ، وَكَانَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ إذَا جَلَسَ يَقُولُ: مَنْ كَانَ قَدَرِيًّا فَلْيَقُمْ، وَعَنْ طَاوُسٍ وَأَيُّوبَ، وَسُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ أَبِي السُّوَارِ وَيُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ مَعْنَى ذَلِكَ، قَالَ الْقَاضِي هُوَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَقَالَ وَلِأَنَّ كُلَّ مَعْصِيَةٍ حَلَّ بِهَا الْهَجْرُ لَمْ تَتَقَدَّرْ بِالثَّلَاثِ، أَوْ نَقُولُ جَازَ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الثَّلَاثِ دَلِيلُهُ هَجْرُ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ عِنْدَ إظْهَارِ النُّشُوزِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] . قَالَ وَإِنَّمَا لَمْ يُهْجَرُ أَهْلُ الذِّمَّةِ لِأَنَّا عَقَدْنَاهَا مَعَهُمْ لِمَصْلَحَتِنَا بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ، فَلَوْ قُلْنَا: يُهْجَرُونَ زَالَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ. وَأَمَّا أَهْلُ الْحَرْبِ فَفِي الِامْتِنَاعِ مِنْ كَلَامِهِمْ ضَرَرٌ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَرْكِ مُبَايَعَتِهِمْ وَشِرَائِهِمْ، وَأَمَّا الْمُرْتَدُّونَ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بَايَنَتْهُمْ بِالْحُرُوبِ وَالْقِتَالِ، وَأَيُّ هَجْرٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا؟ وَذَكَرَ الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمَنْعِ مِنْ النَّظَرِ فِي كُتُبِ الْمُبْتَدِعَةِ قَالَ: كَانَ السَّلَفُ يَنْهَوْنَ عَنْ مُجَالَسَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالنَّظَرِ فِي كُتُبِهِمْ وَالِاسْتِمَاعِ لِكَلَامِهِمْ إلَى أَنْ قَالَ: وَإِذَا كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ وَمَنْ اتَّبَعَ سُنَّتَهُمْ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ وَالْأَعْصَارِ مُتَّفِقِينَ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَتَرْكِ عِلْمِ الْكَلَامِ، وَتَبْدِيعِ أَهْلِهِ وَهِجْرَانِهِمْ، وَالْخَبَرِ بِزَنْدَقَتِهِمْ، وَبِدْعَتِهِمْ، فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِبُطْلَانِهِ وَأَنْ لَا يَلْتَفِتَ إلَيْهِ مُلْتَفِتٌ، وَلَا يَغْتَرَّ بِهِ أَحَدٌ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: أَرَى رَجُلًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مَعَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ أَتْرُكُ كَلَامَهُ قَالَ: لَا أَوْ تُعْلِمُهُ أَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي

رَأَيْته مَعَهُ صَاحِبُ بِدْعَةٍ فَإِنْ تَرَكَ كَلَامَهُ فَكَلِّمْهُ، وَإِلَّا فَأَلْحِقْهُ بِهِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْمَرْءُ بِخِدْنِهِ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الصَّيْدَاوِيُّ: قَالَ لِي أَحْمَدُ إذَا سَلَّمَ الرَّجُلُ عَلَى الْمُبْتَدِعِ فَهُوَ يُحِبُّهُ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا إذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» وَيَجِبُ الْإِغْضَاءُ عَمَّنْ سَتَرَهَا وَكَتَمَهَا. زَادَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى وَشَقَّ عَلَيْهِ إشَاعَتُهَا عَنْهُ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ قُلْت: لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ اطَّلَعْنَا مِنْ رَجُلٍ عَلَى فُجُورٍ، وَهُوَ يَتَقَدَّمُ يُصَلِّي بِالنَّاسِ أَخْرُجُ مِنْ خَلْفِهِ قَالَ: اُخْرُجْ مِنْ خَلْفِهِ خُرُوجًا لَا تَفْحُشْ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إذَا عُلِمَ مِنْ الرَّجُلِ الْفُجُورُ أَنُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ؟ قَالَ: لَا بَلْ يُسْتَرُ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ دَاعِيَةً، وَيَتَوَجَّهُ أَنَّ فِي مَعْنَى الدَّاعِيَةِ مَنْ اُشْتُهِرَ وَعُرِفَ بِالشَّرِّ وَالْفَسَادِ يُنْكَرُ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَسَرَّ الْمَعْصِيَةَ، وَهُوَ يُشْبِهُ قَوْلَ الْقَاضِي فِيمَنْ أَتَى مَا يُوجِبُ حَدًّا إنْ شَاعَ مِنْهُ اُسْتُحِبَّ أَنْ يَذْهَبَ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ لِيَأْخُذَهُ بِهِ، وَإِلَّا سَتَرَ نَفْسَهُ. وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي: فَإِنْ كَانَ يَسْتَتِرُ بِالْمَعَاصِي فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يُهْجَرُ، قَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: لَيْسَ لِمَنْ يَسْكَرُ وَيُقَارِفُ شَيْئًا مِنْ الْفَوَاحِشِ حُرْمَةٌ وَلَا صِلَةٌ إذَا كَانَ مُعْلِنًا بِذَلِكَ مُكَاشِفًا. قَالَ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ الْمُجَانَبَةِ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَهْجُرُ أَهْلَ الْمَعَاصِي وَمَنْ قَارَفَ الْأَعْمَالَ الرَّدِيَّةَ، أَوْ تَعَدَّى حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَعْنَى الْإِقَامَةِ عَلَيْهِ، أَوْ الْإِضْرَارِ، وَأَمَّا مَنْ سَكِرَ أَوْ شَرِبَ أَوْ فَعَلَ فِعْلًا مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَحْظُورَةِ، ثُمَّ لَمْ يُكَاشِفْ بِهَا، وَلَمْ يُلْقِ فِيهَا جِلْبَابَ الْحَيَاءِ، فَالْكَفُّ عَنْ أَعْرَاضِهِمْ، وَعَنْ الْمُسْلِمِينَ، وَالْإِمْسَاكُ عَنْ أَعْرَاضِهِمْ، وَعَنْ الْمُسْلِمِينَ أَسْلَمُ. وَكَلَامُ الشَّيْخِ مُوَفَّقِ الدِّينِ السَّابِقُ يَقْتَضِي أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الدَّاعِيَةِ إلَى الْبِدْعَةِ وَغَيْرِهِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ إجْمَاعُ السَّلَفِ، وَذَكَرَ غَيْرُهُ فِي عِيَادَةِ الْمُبْتَدِعِ الدَّاعِيَةِ رِوَايَتَيْنِ، وَتَرْكُ الْعِيَادَةِ مِنْ الْهَجْرِ، وَاعْتَبَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ الْمَصْلَحَةَ، وَذَكَرَ أَيْضًا أَنَّ الْمُسْتَتِرَ بِالْمُنْكَرِ يُنْكَرُ عَلَيْهِ، وَيُسْتَرُ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ فُعِلَ مَا يَنْكَفُّ بِهِ إذَا كَانَ أَنْفَعَ فِي الدِّينِ، وَإِنَّ الْمُظْهِرَ لِلْمُنْكَرِ يَجِبُ أَنْ يُعَاقَبَ عَلَانِيَةً بِمَا يَرْدَعُهُ عَنْ ذَلِكَ.

وَيَنْبَغِي لِأَهْلِ الْخَيْرِ أَنْ يَهْجُرُوهُ مَيِّتًا إذَا كَانَ فِيهِ كَفٌّ لِأَمْثَالِهِ فَيَتْرُكُونَ تَشْيِيعَ جِنَازَتِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا لَا يُنَافِيهِ وُجُوبُ الْإِغْضَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْإِنْكَارِ سِرًّا جَمْعًا بَيْنَ الْمَصَالِحِ، وَكَلَامُهُمْ ظَاهِرٌ، أَوْ صَرِيحٌ فِي وُجُوبِ السَّتْرِ عَلَى هَذَا، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخَلَّالِ السَّابِقِ يُسْتَحَبُّ، وَلَمْ أَجِدْ بَيْنَ الْأَصْحَابِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - خِلَافًا فِي أَنَّ مَنْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ بِمَا يُوجِبُ حَدًّا لَهُ أَنْ يُقِيمَهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُقِيمَهَا لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ سَتْرَهُ لَا يَجِبُ، وَأَنَّهُ يُنْكَرُ عَلَيْهِ بِطَرِيقَةٍ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مَشْهُورًا بِالشَّرِّ وَالْفَسَادِ أَمْ لَا، وَلَا يَتَوَجَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ الْقَاضِي فِي الْمُقِرِّ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ نَشِيطٍ عَنْ كَعْبِ بْنِ عَلْقَمَةَ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ رَأَى عَوْرَةً فَسَتَرَهَا كَانَ كَمَنْ أَحْيَا مَوْءُودَةً» حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى ثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَنْبَأَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ نَشِيطٍ عَنْ «كَعْبِ بْنِ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا الْهَيْثَمِ يَذْكُرُ أَنَّهُ سَمِعَ دُحَيْنًا كَاتِبَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: كَانَ لِي جِيرَانٌ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ فَنَهَيْتهمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا، فَقُلْت لِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: إنَّ جِيرَانَنَا هَؤُلَاءِ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَإِنِّي نَهَيْتهمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا فَأَنَا دَاعٍ لَهُمْ الشُّرَطَ، فَقَالَ: دَعْهُمْ، ثُمَّ رَجَعْت إلَى عُقْبَةَ مَرَّةً أُخْرَى فَقُلْت: إنَّ جِيرَانَنَا قَدْ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَأَنَا دَاعٍ لَهُمْ الشُّرَطَ، فَقَالَ: وَيْحَك دَعْهُمْ فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ مَعْنَى حَدِيثِ مُسْلِمٍ. قَالَ أَبُو دَاوُد: قَالَ هِشَامُ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ لَيْثٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: لَا تَفْعَلْ، وَلَكِنْ عِظْهُمْ وَتَهَدَّدْهُمْ» كَعْبٌ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ لَمْ يَرْوِ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ غَيْرُهُ

وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي أَبِي الْهَيْثَمِ لَا يُعْرَفُ. وَقَدْ رَوَى خَبَرَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ: الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - آثَرُوا فِرَاقَ نُفُوسِهِمْ لِأَجْلِ مُخَالَفَتِهَا لِلْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَهَذَا يَقُولُ: زَنَيْت فَطَهِّرْنِي، وَنَحْنُ لَا نَسْخُو أَنْ نُقَاطِعَ أَحَدًا فِيهِ لِمَكَانِ الْمُخَالَفَةِ. وَقَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قَالَ: وَأَمَّا السَّتْرُ الْمَنْدُوبُ إلَيْهِ هُنَا فَالْمُرَادُ بِهِ السَّتْرُ عَلَى ذَوِي الْهَيْئَاتِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ هُوَ مَعْرُوفًا بِالْأَذَى وَالْفَسَادِ، وَأَمَّا الْمَعْرُوفُ بِذَلِكَ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُسْتَرَ عَلَيْهِ، بَلْ تُرْفَعُ قِصَّتُهُ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ إنْ لَمْ يَخَفْ مِنْ ذَلِكَ مَفْسَدَةً؛ لِأَنَّ السَّتْرَ عَلَى هَذَا يُطَمِّعُهُ فِي الْإِيذَاءِ وَالْفَسَادِ وَانْتِهَاكِ الْحُرُمَاتِ وَجَسَارَةِ غَيْرِهِ عَلَى مِثْلِ فِعْلِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي سَتْرِ مَعْصِيَةٍ وَقَعَتْ وَانْقَضَتْ، أَمَّا مَعْصِيَةٌ رَآهُ عَلَيْهَا، وَهُوَ بَعْدُ مُتَلَبِّسٌ، فَتَجِبُ الْمُبَادَرَةُ بِإِنْكَارِهَا عَلَيْهِ وَمَنْعُهُ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، فَلَا يَحِلُّ تَأْخِيرُهَا، فَإِنْ عَجَزَ لَزِمَهُ رَفْعُهَا إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ إذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ. وَأَمَّا جَرْحُ الرُّوَاةِ وَالشُّهُودِ وَالْأُمَنَاءِ عَلَى الصَّدَقَاتِ وَالْأَوْقَافِ وَالْأَيْتَامِ وَنَحْوِهِمْ فَيَجِبُ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَلَا يَحِلُّ السَّتْرُ عَلَيْهِمْ إذَا رَأَى مِنْهُمْ مَا يَقْدَحُ فِي أَهْلِيَّتِهِمْ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْغِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ، بَلْ مِنْ النَّصِيحَةِ الْوَاجِبَةِ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الَّذِي يُسْتَرُ فِيهِ: هَذَا السَّتْرُ مَنْدُوبٌ فَلَوْ رَفَعَهُ إلَى السُّلْطَانِ وَنَحْوِهِ لَمْ يَأْثَمْ بِالْإِجْمَاعِ، لَكِنْ هَذَا الْأَوْلَى وَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ صُوَرِهِ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَإِذَا لَمْ يَأْثَمْ بِرَفْعِ فَاعِلِ مَعْصِيَةٍ انْقَضَتْ فَرَفَعَ مَنْ هُوَ مُتَلَبِّسٌ بِهَا ابْتِدَاءً مِثْلَهُ، أَوْ أَوْلَى وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ فِيهِ نَظَرٌ لِمَا سَبَقَ وَلِمَا يَأْتِي. وَقَدْ ذَكَرَ هُوَ وَغَيْرُهُ قِصَّةَ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ فِيهَا هَتْكُ سَتْرِ الْمَفْسَدَةِ إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، أَوْ كَانَ فِي السَّتْرِ مَفْسَدَةٌ، وَإِنَّ الْأَحَادِيثَ فِي السُّنَنِ تُحْمَلُ عَلَى مَا إذَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ، وَلَا تَفُوتُ بِهِ مَصْلَحَةٌ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمَهْدَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتَجَسَّسَ عَلَى أَحَدٍ

مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَالَ: فَإِنْ اطَّلَعَ مِنْهُ عَلَى رِيبَةٍ وَجَبَ أَنْ يَسْتُرَهَا وَيَعِظُهُ مَعَ ذَلِكَ وَيُخَوِّفُهُ بِاَللَّهِ تَعَالَى. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إلَّا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنْ الْإِجْهَارِ أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحُ، وَقَدْ سَتَرَهُ عَلَيْهِ اللَّهُ، فَيَقُولُ: يَا فُلَانُ عَمِلْت الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ» . فِي نُسَخٍ مُعْتَمَدَةٍ أَوْ مُعْظَمِ النُّسَخِ «مُعَافَاةً» يَعُودُ إلَى الْأُمَّةِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ «وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ» وَفِي بَعْضِهَا «وَإِنَّ مِنْ الْجِهَارِ» يُقَالُ: جَهَرَ بِأَمْرِهِ وَأَجْهَرَ وَجَاهَرَ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ: سُؤَالٌ عَنْ قَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَجَبَتْ» ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ ذَلِكَ مِمَّا أُلْقِيَ إلَيْهِ مِنْ الْوَحْيِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِمَا ظَهَرَ لَهُ حِينَ غُفِرَ شَرُّهُ لِخَيْرِهِ (وَالثَّالِثُ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِسْرَارُهُ بِالشَّرِّ طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى حَيْثُ قَالَ: مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ فَلْيَسْتَتِرْ بِسَتْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَوَجَبَتْ لَهُ الْمَغْفِرَةُ بِطَاعَةِ الشَّرْعِ بِاسْتِسْرَارِهِ لِسَتْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَجَازَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِالْمَغْفِرَةِ لِمَا سَتَرَهُ عَنْ الْخَلْقِ طَاعَةً لِلْحَقِّ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

فصل في هجر الكافر والفاسق والمبتدع والداعي إلى بدعة مضلة

[فَصْلٌ فِي هَجْرِ الْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ وَالْمُبْتَدِعِ وَالدَّاعِي إلَى بِدْعَةٍ مُضِلَّةٍ] وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْهَجْرِ وَقَالَ أَحْمَدُ فِي مَكَان آخَرَ: وَيَجِبُ هَجْرُ مَنْ كَفَرَ، أَوْ فَسَقَ بِبِدْعَةٍ، أَوْ دَعَا إلَى بِدْعَةٍ مُضِلَّةٍ، أَوْ مُفَسِّقَةٍ عَلَى مَنْ عَجَزَ عَنْ الرَّدِّ عَلَيْهِ، أَوْ خَافَ الِاغْتِرَارَ بِهِ، وَالتَّأَذِّي دُونَ غَيْرِهِ وَقِيلَ: يَجِبُ هَجْرُهُ مُطْلَقًا وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ السَّابِقِ، وَقَطَعَ ابْنُ عَقِيلٍ بِهِ فِي مُعْتَقَدِهِ قَالَ لِيَكُونَ ذَلِكَ كَسْرًا لَهُ وَاسْتِصْلَاحًا وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَيْضًا: إذَا أَرَدْت أَنْ تَعْلَمَ مَحَلَّ الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الزَّمَانِ فَلَا تَنْظُرْ إلَى زِحَامِهِمْ فِي أَبْوَابِ الْجَوَامِعِ، وَلَا ضَجِيجِهِمْ فِي الْمَوْقِفِ بِلَبَّيْكَ، وَإِنَّمَا اُنْظُرْ إلَى مُوَاطَأَتِهِمْ أَعْدَاءَ الشَّرِيعَةِ، عَاشَ ابْنُ الرَّاوَنْدِيِّ وَالْمَعَرِّيُّ عَلَيْهِمَا لَعَائِنُ اللَّهِ يَنْظِمُونَ وَيَنْثِرُونَ، هَذَا يَقُولُ: حَدِيثُ خُرَافَةَ وَالْمَعَرِّيُّ يَقُولُ: تَلَوْا بَاطِلًا وَجَلَوْا صَارِمًا ... وَقَالُوا صَدَقْنَا فَقُلْنَا نَعَمْ يَعْنِي بِالْبَاطِلِ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَعَاشُوا سِنِينَ وَعُظِّمَتْ قُبُورُهُمْ وَاشْتُرِيَتْ تَصَانِيفُهُمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُرُودَةِ الدِّينِ فِي الْقَلْبِ. وَهَذَا الْمَعْنَى قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ الْخَلَّالُ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ لَهُ جَارٌ رَافِضِيُّ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ. قَالَ: لَا وَإِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: يَجِبُ عَلَى الْخَامِلِ، وَمَنْ لَا يَحْتَاجُ إلَى خُلْطَتِهِمْ، وَلَا يَلْزَمُ مَنْ يَحْتَاجُ إلَى خُلْطَتِهِمْ لِنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ وَقَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: وَهِجْرَانُ أَهْلِ الْبِدَعِ كَافِرِهِمْ وَفَاسِقِهِمْ الْمُتَظَاهِرِينَ بِالْمَعَاصِي، وَتَرْكُ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَمَكْرُوهٌ لِسَائِرِ النَّاسِ، وَقِيلَ: لَا يُسَلِّمُ أَحَدٌ عَلَى فَاسِقٍ مُعْلِنٍ وَلَا مُبْتَدِعٍ مُعْلِنٍ دَاعِيَةٍ، وَلَا يَهْجُرُ مُسْلِمًا مَسْتُورًا غَيْرَهُمَا مِنْ السَّلَامِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَقَدْ

تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ فِي التَّمَامِ: لَا تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ وَفِي وُجُوبِ هَجْرِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَفُسَّاقِ الْمِلَّةِ أَطْلَقَ كَمَا تَرَى، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُجَاهِرِ، وَغَيْرِهِ فِي الْمُبْتَدِعِ وَالْفَاسِقِ قَالَ: وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ ذِي الرَّحِمِ، وَالْأَجْنَبِيِّ إذَا كَانَ الْحَقُّ لِلَّهِ تَعَالَى، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْحَقُّ لِآدَمِيٍّ كَالْقَذْفِ وَالسَّبِّ وَالْغِيبَةِ وَأَخْذِ مَالِهِ غَصْبًا وَنَحْوِ ذَلِكَ نَظَرْت، فَإِنْ كَانَ الْمُهَاجِرُ وَالْفَاعِلُ لِذَلِكَ مِنْ أَقَارِبِهِ وَأَرْحَامِهِ لَمْ تَجُزْ هِجْرَتُهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ، فَهَلْ تَجُوزُ هِجْرَتُهُ أَمْ لَا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَهَذَا لَفْظُ وَالِدِهِ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ مَعْنَاهُ إلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ غَيْرَهُ، فَهَلْ تَجُوزُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَقَالَ: قَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى مَعْنَى هَذَا التَّفْصِيلِ قَالَ فِي رِوَايَةِ الْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ وَقَدْ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ ابْنَةِ عَمٍّ لَهُ تَنَالُ مِنْهُ وَتَظْلِمُهُ وَتَشْتُمُهُ وَتَقْذِفُهُ فَقَالَ: سَلِّمْ عَلَيْهَا إذَا لَقِيتهَا اقْطَعْ الْمُصَارَمَةَ، الْمُصَارَمَةُ شَدِيدَةٌ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ الْهَجْرِ لِأَقَارِبِهِ لِحَقِّ نَفْسِهِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: وَقَدْ سَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ قَدْ تَرَكْت كَلَامَهُ لِأَنَّهُ قَذَفَ مَسْتُورًا بِمَا لَيْسَ مِنْهُ وَلِي قَرَابَةٌ يَسْكَرُونَ، فَقَالَ: اذْهَبْ إلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ حَتَّى تُكَلِّمَهُ وَدَعْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسْكَرُونَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْقَرِيبِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِكَلَامِ الْقَاذِفِ، وَمَنَعَهُ مِنْ كَلَامِ الشَّارِبِ مَعَ كَوْنِهِ قَرَابَةً لَهُ. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ ذُكِرَ الطُّوسِيُّ، فَقَالَ: صَاحِبُ صَلَاةٍ وَخَيْرٍ، فَقِيلَ: لَهُ تُكَلِّمُهُ؟ فَنَفَضَ يَدَهُ. وَقَالَ: إنَّمَا أَنْكَرْت عَلَيْهِ كَلَامَهُ فِي ذَلِكَ الرَّجُلِ يَعْنِي بِشْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَقَالَ: إنَّهُ قِيلَ: مِنْ أُمِّ جَعْفَرٍ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ لِحَقِّ آدَمِيٍّ؛ لِأَنَّهُ هَجَرَ الطُّوسِيَّ مَعَ صَلَاحِهِ لِكَلَامِهِ فِي بِشْرٍ وَذَلِكَ لِحَقِّ آدَمِيٍّ. قَالَ الْقَاضِي: وَإِنَّمَا كَرِهَ أَحْمَدُ هِجْرَةَ الْأَقَارِبِ لِحَقِّ نَفْسِهِ لِلْأَخْبَارِ فِي صِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِنَّمَا أَجَازَهَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَنَعَهَا فِي حَقِّ الْغَيْرِ عَلَى رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَضْيَقُ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُهُ الْعَفْوُ

وَحَقُّ الْآدَمِيِّ أَخَفُّ لِأَنَّهُ يَدْخُلُهُ الْعَفْوُ، وَيُبَيِّنُ هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَدَيْنُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى» . وَكَلَامُ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مَوَاضِعَ، وَهُوَ الْأَوْلَى وَالْأَخْبَارُ فِي صِلَةِ الرَّحِمِ تُخَصُّ بِأَدِلَّةِ الْهَجْرِ، وَحَقُّ الْآدَمِيِّ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ وَالْمُسَامَحَةِ بِخِلَافِ حَقِّ الْآدَمِيِّ.

فصل لا تجوز الهجرة بخبر الواحد عما يوجب الهجرة

[فَصْلٌ لَا تَجُوزُ الْهِجْرَةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَمَّا يُوجِبُ الْهِجْرَةَ] قَالَ الْقَاضِي: وَلَا تَجُوزُ الْهِجْرَةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِمَا تُوجِبُ الْهِجْرَةَ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي مُزَاحِمٍ مُوسَى بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَاقَانَ فَقَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ مُكْرَمٍ الصَّفَّارُ حَدَّثَنَا مُثَنَّى بْنُ جَامِعٍ الْأَنْبَارِيُّ قَالَ: ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي حَدِيثَ الْمُثَنَّى «كَانَ لَا يَأْخُذُ بِالْقِرْفِ وَلَا يُصَدِّقُ أَحَدًا عَلَى أَحَدٍ» فَقَالَ: إلَى هَذَا أَذْهَبُ أَنَا أَوْ هَذَا مَذْهَبِي ابْنُ مُكْرَمٍ يَشُكُّ وَرَوَى أَبُو مُزَاحِمٍ حَدَّثَنِي ابْنُ مُكْرَمٍ حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ الْبَزَّارُ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُحَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَأْخُذُ بِالْقِرْفِ وَلَا يُصَدِّقُ أَحَدًا عَلَى أَحَدٍ» . فَإِنْ قِيلَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُهْجَرَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُ يَكْسِبُ التُّهْمَةَ كَمَا يَجُوزُ الْحَبْسُ بِالتُّهْمَةِ لِخَبَرِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ حَبَسَ فِي تُهْمَةٍ» . وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ وَحَنْبَلٍ: «حَبَسَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تُهْمَةٍ» . قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَجْهُ الْحَدِيثِ أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ حَقًّا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ وَبِالْبَدَنِ، وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ ظَاهِرُهُمَا الْعَدَالَةُ، وَلَمْ يَعْرِفْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَدَالَتَهُمَا فِي الْبَاطِنِ فَحَبَسَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ لِيَسْأَلَ عَنْ عَدَالَتِهِمَا فِي الْبَاطِنِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا تُهْمَةٌ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهَذَا مَعْدُومٌ فِي مَسْأَلَتِنَا انْتَهَى كَلَامُ الْقَاضِي. وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا كَلَامَ أَحْمَدَ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْحَبْسِ فِي تُهْمَةٍ فَيَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْهَجْرُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَفِي الْمَسْأَلَتَيْنِ نَظَرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْقِرْفُ التُّهْمَةُ يُقَالُ: قَرِفْته بِكَذَا إذَا أَضَفْته إلَيْهِ وَعِبْته وَاتَّهَمْته. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْكِتَابِ عِنْدَ ذِكْرِ الْغِيبَةِ إخْبَارُ ابْنِ مَسْعُودٍ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاَلَّذِي

قَالَ مِنْ الْأَنْصَارِ: إنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ، أَظُنُّهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَظِيرُهُ إخْبَارُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ لِلنَّبِيِّ عَنْ كَلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَفِيهِ أُنْزِلَتْ سُورَةُ الْمُنَافِقِينَ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: إذَا كَانَ لَك أَخٌ فِي اللَّهِ تَعَالَى فَلَا تُمَارِهِ وَلَا تَسْمَعْ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ، فَرُبَّمَا قَالَ لَك مَا لَيْسَ فِيهِ فَحَالَ بَيْنَك وَبَيْنَهُ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْوُشَاةَ كَثِيرٌ إنْ أَطَعْتَهُمْ ... لَا يَرْقُبُونَ بِنَا إلًّا وَلَا ذِمَمَا الْإِلُّ اُخْتُلِفَ فِيهِ، وَاسْتَشْهَدَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِهَذَا الْبَيْتِ عَلَى أَنَّهُ الْقَرَابَةُ وَقِيلَ أَيْضًا: لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا بُحْت عِنْدَهُمْ ... بِسِرٍّ وَلَا رَاسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ أَيْ: بِرِسَالَةٍ اسْتَشْهَدَ بِهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16] الْمَعْنَى إنَّا رِسَالَةُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَيْ: ذَوُو رِسَالَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الرَّسُولُ يَكُونُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَؤُلاءِ ضَيْفِي} [الحجر: 68] وقَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا} [غافر: 67] وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ أَنَّ رَجُلًا ذُكِرَ فِي مَجْلِسِ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ، فَتَنَاوَلَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْمَجْلِسِ، فَقَالَ لَهُ سَلْمُ يَا هَذَا أَوْحَشْتنَا مِنْ نَفْسِك، وَآيَسْتَنَا مِنْ مَوَدَّتِك، وَدَلَلْتنَا عَلَى عَوْرَتِك سَلْمٌ ثِقَةٌ رَوَى لَهُ الْبُخَارِيُّ تُوُفِّيَ سَنَةَ مِائَتَيْنِ.

فصل حكم هجر المسلم العدل ومقاطعته ومعاداته وتحقيره

فَصْلٌ مَنْ عِنْدَهُ سَمَّاعٌ لِمُبْتَدِعٍ فَطَلَبَهُ دَفَعَهُ إلَيْهِ لَعَلَّ اللَّهَ يُنْقِذُ بِهِ. نَقَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَحَضَرَ زِنْدِيقٌ مَجْلِسَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ هَانِئٍ: هَذَا عَدُوُّ اللَّهِ كَبْشُ الزَّنَادِقَةِ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: مَنْ أَمَرَكُمْ بِهَذَا عَمَّنْ أَخَذْتُمْ هَذَا؟ دَعُوا النَّاسَ يَأْخُذُونَ الْعِلْمَ وَيَنْصَرِفُونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يُخَالِفُ هَذَا عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ. [فَصْلٌ حُكْمُ هَجْرِ الْمُسْلِمِ الْعَدْلِ وَمُقَاطَعَتِهِ وَمُعَادَاتِهِ وَتَحْقِيرِهِ] فَأَمَّا هَجْرُ الْمُسْلِمِ الْعَدْلِ فِي اعْتِقَادِهِ وَأَفْعَالِهِ فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ يُكْرَهُ وَكَلَامُ الْأَصْحَابِ خِلَافُهُ وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اقْتِصَارُهُ فِي الْهِجْرَةِ عَلَى الْكَرَاهَةِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ بَلْ مِنْ الْكَبَائِرِ عَلَى نَصِّ أَحْمَدَ الْكَبِيرَةُ مَا فِيهِ حَدٌّ فِي الدُّنْيَا، أَوْ وَعِيدٌ فِي الْآخِرَةِ. وَقَدْ صَحَّ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ» . وَظَاهِرُ كَلَامِ الْأَكْثَرِ هُنَا، لَا فَرْقَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَأَكْثَرَ وَكَلَامُهُمْ فِي النُّشُوزِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا وَذَلِكَ لِظَاهِرِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا كَمَا أَمَرَكُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هَهُنَا وَيُشِيرُ إلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ» ، وَفِيهِمَا أَوْ فِي مُسْلِمٍ «وَلَا تَنَافَسُوا وَلَا تَهْجُرُوا» . وَفِي نُسْخَةٍ مُعْتَمَدَةٍ «وَلَا تُهَاجِرُوا وَلَا تُقَاطِعُوا، إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إلَى أَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» التَّدَابُرُ الْمُعَادَاةُ وَالْمُقَاطَعَةُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُوَلِّي

صَاحِبَهُ دُبُرَهُ، وَالتَّحَسُّسُ بِالْحَاءِ قِيلَ: الِاسْتِمَاعُ لِحَدِيثِ قَوْمٍ وَبِالْجِيمِ التَّفْتِيشُ عَنْ الْعَوْرَاتِ، وَقِيلَ: بِالْحَاءِ تَطْلُبُهُ لِنَفْسِك وَبِالْجِيمِ لِغَيْرِك، وَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى، وَهُوَ طَلَبُ مَعْرِفَةِ مَا غَابَ، وَحَالَ وَلَا تَهْجُرُوا وَلَا تُهَاجِرُوا بِمَعْنًى، وَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَنْ الْهِجْرَةِ، وَقَطْعِ الْكَلَامِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ " لَا تَهْجُرُوا " أَيْ: لَا تَتَكَلَّمُوا بِالْهُجْرِ بِضَمِّ الْهَاءِ وَهُوَ الْكَلَامُ الْقَبِيحُ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَخُونُهُ وَلَا يَكْذِبُهُ» ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَى بَعْضِ مَا تَقَدَّمَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ» ، وَفِي لَفْظٍ «تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ فِي كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا إلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا» وَفِي رِوَايَةٍ «إلَّا الْمُتَهَاجِرَيْنِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ الشَّحْنَاءُ الْعَدَاوَةُ كَأَنَّهُ شَحَنَ قَلْبَهُ بُغْضًا أَيْ: مَلَأَهُ، وَكَلَامُهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ فِي الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ لِلْخَبَرِ «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ» . قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْعُلَمَاءُ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إنَّمَا عُفِيَ عَنْهَا فِي الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ مَجْبُولٌ مِنْ الْغَضَبِ وَسُوءِ الْخُلُقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَعُفِيَ عَنْهَا فِي الثَّلَاثِ لِيَزُولَ ذَلِكَ الْعَارِضُ وَسَيَأْتِي كَلَامُ أَبِي دَاوُد بَعْدَ هَذَا الْخَبَرِ يُوَافِق هَذَا، وَقِيلَ: إنَّ الْخَبَر لَا يَدُلُّ عَلَى الْهِجْرَةِ فِي الثَّلَاثَةِ. قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ لَا يَحْتَجُّ بِالْمَفْهُومِ: وَيَتَوَجَّهُ أَوَّلًا أَنَّ الْخَبَرَ فِي الْهَجْرِ بِعُذْرٍ شَرْعِيٍّ لِلْخَبَرِ السَّابِقِ. وَاَلَّذِي ذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَالشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ وَغَيْرُهُمَا اسْتِحْبَابُ هِجْرَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ وَالْفُسَّاقِ أَطْلَقُوا وَلَمْ يُفَرِّقُوا.

فصل في زوال الهجر ومسائل في الغيبة، ومتى تباح بالسلام

[فَصْلٌ فِي زَوَالِ الْهَجْرِ وَمَسَائِلُ فِي الْغِيبَةِ، وَمَتَى تُبَاحُ بِالسَّلَامِ] وَالْهَجْرُ الْمُحَرَّمُ يَزُولُ بِالسَّلَامِ ذَكَرَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَالْمُسْتَوْعِبِ، وَزَادَ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتْرُكَ كَلَامَهُ بَعْدَ السَّلَامِ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ: وَالْهِجْرَانُ الْجَائِزُ هَجْرُ ذَوِي الْبِدَعِ أَوْ مُجَاهِرٍ بِالْكَبَائِرِ وَلَا يَصِلُ إلَى عُقُوبَتِهِ، وَلَا يُقْدِمُ عَلَى مَوْعِظَتِهِ، أَوْ لَا يَقْبَلُهَا، وَلَا غِيبَةَ فِي هَذَيْنِ فِي ذِكْرِ حَالِهِمَا قَالَ فِي الْفُصُولِ لِيَحْذَرْ مِنْهُ، أَوْ يَكْسِرْهُ عَنْ الْفِسْقِ وَلَا يَقْصِدُ بِهِ الْإِزْرَاءَ عَلَى الْمَذْكُورِ، وَالطَّعْنَ فِيهِ وَلَا فِيمَا يُشَاوَرُ فِيهِ مِنْ النِّكَاحِ أَوْ الْمُخَاطَبَةِ. قَالَ أَبُو طَالِبٍ سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يَسْأَلُ الرَّجُلَ يَخْطُبُ إلَيْهِ فَيَسْأَلُ عَنْهُ فَيَكُونُ رَجُلَ سَوْءٍ، فَيُخْبِرُهُ «مِثْلَ مَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَالَ لِفَاطِمَةَ: مُعَاوِيَةُ عَائِلٌ، وَأَبُو جَهْمٍ عَصَاهُ عَلَى عَاتِقِهِ» . يَكُونُ غِيبَةً إنْ أَخْبَرَهُ قَالَ: «الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ» يُخْبِرُهُ بِمَا فِيهِ وَهُوَ أَظْهَرُ، وَلَكِنْ يَقُولُ: مَا أَرْضَاهُ لَك وَنَحْوُ هَذَا حَسَنٌ. وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ سَأَلَ، أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مَعْنَى الْغِيبَةِ يَعْنِي فِي النَّصِيحَةِ قَالَ: إذَا لَمْ تُرِدْ عَيْبَ الرَّجُلِ. وَقَالَ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنِي حَرْبٌ سَمِعْت أَحْمَدَ يَقُولُ: إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُعْلِنًا بِفِسْقِهِ فَلَيْسَتْ لَهُ غِيبَةٌ أَخْبَرَنَا أَبُو عُتْبَةَ ثَنَا ضَمْرَةُ أَنْبَأَنَا ابْنُ شَوْذَبٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: لَيْسَ لِلْفَاسِقِ الْمُعْلِنِ بِفِسْقِهِ غِيبَةٌ. أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: إنَّمَا الْغِيبَةُ لِمَنْ لَمْ يُعْلِنْ بِالْمَعَاصِي وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ فِي رَجُلٍ صَاحِبِ قَيْنَاتٍ وَمَعَازِفَ يُؤْذِي أَهْلَ الْمَسْجِدِ إذَا ذَكَرَ مَا فِيهِ لَا يَضُرُّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَعْلَنَ لَا يَضُرّهُ إذَا حَدَّثَ النَّاسَ عَنْهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْكَحَّالُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الْغِيبَةُ أَنْ يَقُولَ فِي الرَّجُلِ مَا فِيهِ قَالَ: نَعَمْ. قُلْت: حَدِيثُ بَهْزٍ قَالَ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ وَلَفْظُهُ «أَتَرْغَبُونَ عَنْ ذِكْرِ الْفَاسِقِ كَيْ يَعْرِفَهُ النَّاسُ؟ اُذْكُرُوهُ» ذَكَرَهُ الْقَاضِي

وَغَيْرُهُ وَخَبَرُ بَهْزٍ هَذَا لَهُ طُرُقٌ عَنْهُ، وَهِيَ ضَعِيفَةٌ قَالَ بَعْضُهُمْ: وَأَمْثَلُهَا الْجَارُودُ بْنُ يَزِيدَ وَهُوَ مَتْرُوكٌ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ بَهْجَةُ الْمَجَالِسِ عَنْ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثَةٌ لَا غِيبَةَ فِيهِمْ الْفَاسِقُ الْمُعْلِنُ بِفِسْقِهِ، وَشَارِبُ الْخَمْرِ، وَالسُّلْطَانُ الْجَائِرُ» قَالَ: وَقَالَ أَنَسٌ وَالْحَسَنُ: مَنْ أَلْقَى جِلْبَابَ الْحَيَاءِ فَلَا غِيبَةَ فِيهِ. وَقَالَ الْحَجَّاجُ بْنُ فُرَافِصَةَ قُلْت لِمُجَاهِدٍ: الرَّجُلُ يَكُونُ وَقَّاعًا فِي النَّاسِ فَأَقَعُ فِيهِ أَلَهُ غِيبَةٌ قَالَ: لَا قُلْت: مَنْ ذَا الَّذِي تَحْرُمُ غِيبَتُهُ قَالَ: رَجُلٌ خَفِيفُ الظَّهْرِ مِنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، خَفِيفُ الْبَطْنِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، أَخْرَسُ اللِّسَانِ عَنْ أَعْرَاضِهِمْ، فَهَذَا حَرَامُ الْغِيبَةِ، وَمَنْ كَانَ سِوَى ذَلِكَ فَلَا حُرْمَةَ لَهُ وَلَا غِيبَةَ فِيهِ، فَهَذِهِ فِي غَيْرِ النَّصِيحَةِ. وَرِوَايَةُ الْكَحَّالِ تَحْرِيمُ الْغِيبَةِ مُطْلَقًا، وَالْأَشْهَرُ عَنْهُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُعْلِنِ وَغَيْرِهِ، وَظَاهِرُ الْفُصُولِ وَالْمُسْتَوْعِبِ أَنَّ مَنْ جَازَ هَجْرُهُ جَازَتْ غِيبَتُهُ، وَمُرَادُهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَمَنْ لَا فَلَا، وَرِوَايَةُ الْكَحَّالِ أَيْضًا تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ لَقَبٍ كَالْأَعْمَشِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي أَوَائِلِ الْكِتَابِ، وَأَنَّ رِوَايَةَ الْأَثْرَمِ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ إذَا لَمْ يُعْرَفْ إلَّا بِهِ. وَقَدْ احْتَجَّ الْبُخَارِيُّ عَلَى غِيبَةِ أَهْلِ الْفَسَادِ وَأَهْلِ الرِّيَبِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي «عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ لَمَّا اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ: بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ» وَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا خَبَرُ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ فِي إنْكَارِ الْمُنْكَرِ الْمَظْنُونِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ تَخَلَّفَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِتَبُوكَ: «مَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَالنَّظَرُ فِي عِطْفَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ بِئْسَ مَا قُلْت، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ» ، فَفِيهِ الطَّعْنُ بِالِاجْتِهَادِ وَالظَّنِّ، وَأَنَّ مَنْ ظَنَّ غَلَطَ الطَّاعِنِ رَدَّ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَمِنْ الْغِيبَةِ لِلتَّظَلُّمِ قَوْله تَعَالَى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] . وَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ: «وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا

وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ؛» لِقُدْرَتِهِ سُبْحَانَهُ عَلَى الْعَدْلِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ قَالَ: وَعَلَى هَذَا أَرَى قَوْله تَعَالَى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] . أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ الْجِنْسِ لَيْسَ بِمُنْقَطِعٍ كَمَا كَانَ يَقُولُ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الزُّبَيْدِيُّ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمَظْلُومَ إذَا شَكَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى اقْتَضَى عَدْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْإِيقَاعَ بِظَالِمِهِ فَيُحِبُّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَجْهَرَ الْمَظْلُومُ بِالشَّكْوَى لِيَكُونَ الْمُقَدَّرُ وَالْإِيقَاعُ بِالظَّالِمِ مَبْسُوطَ الْعُذْرِ عِنْدَ الْخَلْقِ، وَزَاجِرًا لِأَمْثَالِهِ عَنْ أَمْثَالِ فَاعِلِهِ، وَإِنَّمَا يُمْهِلُ الظَّالِمَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْخَلْقَ إذَا مَلَكَ أَحَدُهُمْ مَمْلُوكِينَ فَجَنَى عَلَى أَحَدِهِمْ جِنَايَةً، فَإِنَّ أَرْشَهَا لِسَيِّدِهِ، فَالْخَلْقُ مِلْكٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ، فَلَوْلَا هَذِهِ الْحَالَةُ لَمَا كُنْت أَطْمَعُ لِلظَّالِمِ أَنْ يُؤَخَّرَ الْإِيقَاعُ بِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ: إلَّا أَنْ يَدْعُوَ الْمَظْلُومُ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَرْخَصَ لَهُ. وَعَنْ الْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ إلَّا أَنْ يَنْتَصِرَ الْمَظْلُومُ مِنْ ظَالِمِهِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنْ يُخْبِرَ الْمَظْلُومُ بِظُلْمِ مَنْ ظَلَمَهُ. وَعَنْهُ أَيْضًا إلَّا أَنْ يَجْهَرَ الضَّيْفُ بِذَمِّ مَنْ يَضِيفُهُ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَجَمَاعَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ بِفَتْحِ الظَّاءِ قَالَ ثَعْلَبُ: هِيَ مَرْدُودَةٌ عَلَى {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ} [النساء: 147] ؟ {إِلا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] وَقِيلَ: الْمَعْنَى إلَّا أَنْ يَجْهَرَ الظَّالِمُ بِالسُّوءِ ظُلْمًا، وَقِيلَ: إلَّا أَنْ يَجْهَرُوا بِالسُّوءِ لِلظَّالِمِ. فَعَلَى هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، وَمَعْنَاهُ لَكِنْ الْمَظْلُومُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْهَرَ لِظَالِمِهِ بِالسُّوءِ، وَلَكِنْ يَجْهَرُ بِالسُّوءِ وَاجْهَرُوا لَهُ بِالسُّوءِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ {مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] أَيْ: أَقَامَ عَلَى النِّفَاقِ فَيُجْهَرُ لَهُ بِالسُّوءِ حَتَّى يَنْزِعَ ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ هِنْدٍ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ

شَحِيحٌ» ، وَقَوْلُ الْحَضْرَمِيِّ أَوْ الْكِنْدِيِّ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَالَ: «لَك يَمِينُهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنَّهُ رَجُلٌ فَاجِرٌ لَا يُبَالِي» قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَفِيهِ أَنَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ إذَا قَالَ لِصَاحِبِهِ: إنَّهُ ظَالِمٌ، أَوْ فَاجِرٌ أَوْ نَحْوُهُ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَمَا قَالَهُ ظَاهِرٌ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ يُؤَاخَذُ بِذَلِكَ وَيَتَأَوَّلُ الْخَبَرَ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنْ الشَّرِيدِ مَرْفُوعًا «لَيُّ الْوَاجِدِ ظُلْمٌ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ» قَالَ أَحْمَدُ: قَالَ وَكِيعٌ عِرْضُهُ شِكَايَتُهُ وَعُقُوبَتُهُ حَبْسُهُ، وَلَعَلَّ مِنْ هَذَا مَا جَرَى بَيْنَ الْعَبَّاسِ وَعَلِيٍّ لَمَّا تَحَاكَمَا فِي ذَلِكَ إلَى عُمَرَ فَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُتَأَوِّلًا مَعْذُورًا فِي قَوْلِهِ لِلْآخَرِ، فَإِنَّهُ أُشْكِلَ عَلَى جَمَاعَةٍ حَتَّى أَسْقَطَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الْحَدِيثِ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلِذَلِكَ لَمْ يُنْكِرْ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَسَعْدٌ وَالزُّبَيْرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ مَا قِيلَ، لَكِنْ كَانَ الْقَوْلُ فِي الْوَجْهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي الِاسْتِعَانَةِ بِالْجِيرَانِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى إزَالَةِ الْمُنْكَرِ، وَفِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ «خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ بَنُو فُلَانٍ» الْحَدِيثُ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: فِيهِ جَوَازُ تَفْضِيلِ الْقَبَائِلِ وَالْأَشْخَاصِ بِغَيْرِ مُجَازَفَةٍ وَلَا هَوًى وَلَا يَكُونُ هَذَا غِيبَةً. وَهَذَا صَحِيحٌ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ. وَلَيْسَتْ الْغَيْرَةُ عُذْرًا فِي غِيبَةٍ وَنَحْوِهَا فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ، وَالْأَصْحَابِ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ، وَيَتَوَجَّهُ احْتِمَالٌ، وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِ ابْنِ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ فَإِنَّهُ قَالَ: قَلَّ أَنْ يَصِحَّ رَأْيٌ مَعَ فَوْرَةِ طَبْعٍ، فَوَجَبَ التَّوَقُّفُ إلَى حِينِ الِاعْتِدَالِ، وَهُوَ أَيْضًا مَعْنَى مَا اخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ، فَإِنَّهُ اخْتَارَ أَنْ لَا يَقَعَ طَلَاقٌ مِنْ غَضَبٍ حَتَّى تَغَيَّرَ، وَلَمْ يَزُلْ عَقْلُهُ كَالْمُكْرَهِ، وَذَلِكَ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «اسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ أُخْتُ خَدِيجَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ فَارْتَاحَ لِذَلِكَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَالَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ، فَقُلْت: وَمَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ حَمْرَاءُ الشِّدْقَيْنِ هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ فَأَبْدَلَك اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا» ؟ الْغَيْرَةُ بِفَتْحِ الْغَيْنِ مَصْدَرُ غَارَ الرَّجُلُ يَغَارُ غَيْرَةً وَغَيْرًا وَغَارًا. وَالْغِيرَةُ بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمِيرَةُ وَالنَّفْعُ. .

وَقَوْلُهَا: حَمْرَاءُ الشِّدْقَيْنِ أَيْ: لَمْ يَبْقَ بِشِدْقِهَا بَيَاضُ شَيْءٍ مِنْ الْأَسْنَانِ قَدْ سَقَطَتْ مِنْ الْكِبَرِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ: الْغَيْرَةُ مُسَامَحٌ لِلنِّسَاءِ فِيهَا لَا عُقُوبَةَ عَلَيْهِنَّ فِيهَا لِمَا جُبِلْنَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَمْ يَزْجُرْ عَائِشَةَ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: عِنْدِي أَنَّ ذَلِكَ جَرَى مِنْ عَائِشَةَ لِصِغَرِ سِنِّهَا، وَأَوَّلِ شُبَيْبِهَا، وَلَعَلَّهَا لَمْ تَكُنْ بَلَغَتْ حِينَئِذٍ، كَذَا قَالَ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ الْإِنْكَارَ زَجْرًا وَتَأْدِيبًا كَسَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ

اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنِّي أَعْرِفُ إذَا كُنْت رَاضِيَةً عَنِّي وَإِذَا كُنْت عَلَيَّ غَضْبَى قَالَتْ: فَقُلْت: وَمِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَمَّا إذَا كُنْت عَنِّي رَاضِيَةً فَإِنَّك تَقُولِينَ: لَا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْت غَضْبَى قُلْت: لَا وَرَبِّ إبْرَاهِيمَ قُلْت: أَجَلْ وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَهْجُرُ إلَّا اسْمَك» قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: مُغَاضَبَةُ عَائِشَةَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ مِمَّا سَبَقَ مِنْ الْغَيْرَةِ الَّتِي عُفِيَ عَنْهَا لِلنِّسَاءِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ لِعَدَمِ انْفِكَاكِهِنَّ مِنْهَا حَتَّى قَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ: يَسْقُطُ عَنْهَا الْحَدُّ إذَا قَذَفَتْ زَوْجَهَا بِالْفَاحِشَةِ عَلَى جِهَةِ الْغَيْرَةِ قَالَ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا تَدْرِي الْغَيْرَاءُ أَعْلَى الْوَادِي مِنْ أَسْفَلِهِ» قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَلَوْلَا ذَلِكَ كَانَ عَلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي ذَلِكَ مِنْ الْحَرَجِ مَا فِيهِ، لِأَنَّ الْغَضَبَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَجْرَهُ كَبِيرَةٌ. عَظِيمَةٌ وَلِهَذَا قَالَتْ لَا أَهْجُرُ إلَّا اسْمَك. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَلْبَهَا وَحُبَّهَا كَمَا كَانَ، وَإِنَّمَا الْغَيْرَةُ فِي النِّسَاءِ لِفَرْطِ الْمَحَبَّةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا خَرَجَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَطَارَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ فَخَرَجْنَا مَعَهُ جَمِيعًا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا كَانَ اللَّيْلُ سَارَ مَعَ عَائِشَةَ يَتَحَدَّثُ مَعَهَا فَقَالَتْ حَفْصَةُ لِعَائِشَةَ: أَلَا تَرْكَبِينَ اللَّيْلَةَ بَعِيرِي وَأَرْكَبُ بَعِيرَك فَتَنْظُرِينَ، وَأَنْظُرُ قُلْت: بَلَى فَرَكِبَتْ حَفْصَةُ عَلَى بَعِيرِ عَائِشَةَ وَرَكِبَتْ عَائِشَةُ عَلَى بَعِيرِ حَفْصَةَ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى جَمَلِ عَائِشَةَ وَعَلَيْهِ حَفْصَةُ فَسَلَّمَ، ثُمَّ سَارَ مَعَهَا حَتَّى نَزَلُوا، فَافْتَقَدَتْهُ عَائِشَةُ فَغَارَتْ فَلَمَّا نَزَلَتْ جَعَلَتْ تَجْعَلُ رِجْلَيْهَا بَيْنَ الْإِذْخِرِ وَتَقُولُ يَا رَبِّ سَلِّطْ عَلَيَّ عَقْرَبًا أَوْ حَيَّةً تَلْدَغُنِي، رَسُولُك وَلَا أَسْتَطِيعُ أَقُولَ لَهُ شَيْئًا» . قَالَ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: هَذَا الَّذِي فَعَلَتْهُ، وَقَالَتْهُ حَمَلَهَا عَلَيْهِ فَرْطُ الْغَيْرَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ أَمْرَ الْغَيْرَةِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ انْتَهَى كَلَامُهُ، وَمَا قَالَهُ لَا يُوَافِقُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ.

وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلَامٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ الْأَزْرَقَ عَنْ عُقْبَةَ مَرْفُوعًا: «غَيْرَتَانِ إحْدَاهُمَا يُحِبُّهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْأُخْرَى يُبْغِضُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: الْغَيْرَةُ فِي الرِّيبَةِ يُحِبُّهَا اللَّهُ، وَالْغَيْرَةُ فِي غَيْرِهَا يُبْغِضُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْمَخِيلَةُ إذَا تَصَدَّقَ الرَّجُلُ يُحِبُّهَا، وَالْمَخِيلَةُ فِي الْكِبْرِ يُبْغِضُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَقَالَ: ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٍ دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ» . وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ذَكَرَ الْغَيْرَةَ فَقَطْ. قِيلَ: يَحْيَى لَمْ يَسْمَعْ مِنْ زَيْدٍ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْغَيْرَةَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَيُوَافِقهُ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَوْصِنِي قَالَ: لَا تَغْضَبْ فَرَدَّدَ عَلَيْهِ قَالَ: لَا تَغْضَبْ» وَرَوَى أَحْمَدُ غَيْرَ حَدِيثٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَفِي بَعْضِهَا مِنْ رِوَايَةِ حُمَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّ الرَّجُلَ قَالَ: فَفَكَّرْت حِينَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا قَالَ، فَإِذَا الْغَضَبُ يَجْمَعُ الشَّرَّ كُلَّهُ، وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «عَلِّمُوا وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ ثَلَاثًا» . وَرُوِيَ عَنْ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاذَا يُبَاعِدُنِي مِنْ غَضَبِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالَ لَا تَغْضَبْ» . فَنَهْيُهُ عَنْهُ دَلِيلٌ عَلَى دُخُولِهِ تَحْتَ الْوُسْعِ وَإِلَّا لَمْ يَنْهَ عَنْ الْمُحَالِ، وَمَا كَانَ سَبَبُهُ مُحَرَّمًا أَوْ غَيْرَ مُحَرَّمٍ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ مَعَ وُجُودِ الْعَقْلِ إلَّا الْمُكْرَهَ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ، وَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ هَذَا السَّبَب إنْ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا فِيهِ، وَزَالَ عَقْلُهُ كَانَ كَزَوَالِهِ بِبَنْجٍ وَنَحْوِهِ عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ عِنْدَنَا، وَإِلَّا كَانَ كَسُكْرٍ مَعْذُورٍ فِيهِ، وَنَوْمٍ وَنَحْوِهِ، وَقَدْ «أَتَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَحْمِلُهُ فَوَجَدَهُ غَضْبَانَ، وَحَلَفَ لَا يَحْمِلُهُمْ وَكَفَّرَ» . الْحَدِيثَ. «وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ ضَالَّةِ الْإِبِلِ، فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ، وَاحْمَرَّ وَجْهُهُ ثُمَّ قَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا؟ دَعْهَا» الْحَدِيثُ وَهُمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ. «وَكَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ فَأَهْدَى بَعْضُهُنَّ إلَيْهِ طَعَامًا فَضَرَبَتْ يَدَ الْخَادِمِ، فَسَقَطَتْ الصَّحْفَةُ فَانْفَلَقَتْ فَجَمَعَ الطَّعَامَ وَيَقُولُ: غَارَتْ أُمُّكُمْ

ثُمَّ أَتَى بِصَحْفَةٍ مِنْ عِنْدِ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا فَدَفَعَهَا إلَى الَّتِي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا، وَأَمْسَكَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْهَا.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَالدَّارَقُطْنِيّ، فَصَارَتْ قَضِيَّةً مَنْ كَسَرَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ وَعَلَيْهِ مِثْلُهُ. وَلِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَخَذَتْنِي رِعْدَةٌ مِنْ شِدَّةِ الْغَيْرَةِ، فَكَسَرْتُ الْإِنَاءَ، ثُمَّ نَدِمْتُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا كَفَّارَةُ مَا صَنَعْتُ؟ فَقَالَ: إنَاءٌ مِثْلُ إنَاءٍ، وَطَعَامٌ مِثْلُ طَعَامٍ» . وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي بَابِ تَرْكِ السَّلَامِ عَلَى أَهْلِ الْأَهْوَاءِ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ سُمَيَّةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ «اعْتَلَّ بَعِيرٌ لِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ، وَعِنْدَ زَيْنَبَ فَضْلُ ظَهْرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِزَيْنَبِ: أَعْطِيهَا بَعِيرَكِ فَقَالَتْ: أَنَا أُعْطِي تِلْكَ الْيَهُودِيَّةَ؟ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَجَرَهَا ذَا الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمَ وَبَعْضَ صَفَرٍ.» سُمَيَّةُ تَفَرَّدَ عَنْهَا ثَابِتٌ؛ وَلِأَنَّهُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ ذَلِكَ الْجَوَابُ عَمَّا تَقَدَّمَ مَعَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْإِنْكَارَ اخْتَصَرَهُ الرَّاوِي، وَأَنَّهُ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ النَّبِيِّ فَاكْتَفَى بِهِ. وَالْحَدِيثُ الْأَخِيرُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ بِذَلِكَ، وَظَهَرَ أَيْضًا الْجَوَابُ عَمَّا قَالَ الْبُخَارِيُّ: بَابُ إذَا لَطَمَ الْمُسْلِمُ يَهُودِيًّا عِنْدَ الْغَضَبِ، ثُمَّ رَوَى قِصَّةَ الْأَنْصَارِيِّ لَمَّا سَمِعَ الْيَهُودِيَّ يَقُولُ: وَاَلَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ، فَغَضِبَ فَلَطَمَهُ، وَأَخْبَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْغَضَبَ مَعَ وُجُودِ الْعَقْلِ لَا يُسَامَحُ بِسَبَبِهِ فِي الْأَفْعَالِ هَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ جَزَاءُ هَذَا الْفِعْلِ اخْتَصَرَهُ الرَّاوِي مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ لِلْعِلْمِ بِهِ وَوُضُوحِهِ، لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَلِهَذَا فَهِمَ الْبُخَارِيُّ خِلَافَهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ «ابْن عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَأَلَ عُمَرَ عَنْ الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَظَاهَرَتَا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَذَكَرَ الْقِصَّةَ، «وَدُخُولَ عُمَرَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَوْلَهُ: لَوْ رَأَيْتَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ، فَغَضِبْتُ عَلَى امْرَأَتِي يَوْمًا، فَإِذَا هِيَ تُرَاجِعُنِي فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي فَقَالَتْ: مَا تُنْكِرُ أَنْ

أُرَاجِعَكَ فَوَاَللَّهِ إنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيُرَاجِعْنَهُ، وَتَهْجُرُهُ إحْدَاهُنَّ الْيَوْمَ إلَى اللَّيْلِ، فَقُلْتُ: قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُنَّ وَخَسِرَ أَفَتَأْمَنُ إحْدَاهُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ. فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ دَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ: لَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ أَوْسَمَ مِنْكِ وَأَحَبَّ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْكِ فَتَبَسَّمَ أُخْرَى فَقُلْتُ: أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " نَعَمْ " فَجَلَسْتُ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فِي الْبَيْتِ فَوَاَللَّهِ مَا رَأَيْت فِيهِ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ إلَّا أُهُبًا ثَلَاثَةً فَقُلْتُ: اُدْعُ اللَّهَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى أُمَّتِك، فَقَدْ وَسَّعَ عَلَى فَارِسَ وَالرُّومِ وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَاسْتَوَى جَالِسًا ثُمَّ قَالَ: أَوَ فِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ ، أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَقُلْتُ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَانَ قَدْ أَقْسَمَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا مِنْ شِدَّةِ مَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ، حَتَّى عَاتَبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَوْجِدَتِهِ أَيْ: غَضَبِهِ» . وَقَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَيُكْرَهُ هَجْرُ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ فَوْقَ ثَلَاثٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَالْفُسَّاقِ الْمُدْمِنِينَ عَلَى ذَلِكَ انْتَهَى كَلَامُهُ، وَالْأَوْلَى التَّحْرِيمُ كَمَا تَقَدَّمَ وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا، وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ» وَفِي رِوَايَةٍ " فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ " يَصُدُّ " بِضَمِّ الصَّادِ يُعْرِضُ أَيْ: يُوَلِّيهِ عُرْضَهُ بِضَمِّ الْعَيْنِ أَيْ: جَانِبَهُ. وَرَوَى أَحْمَدُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ يَزِيدَ الرِّشْكِ عَنْ مُعَاذَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ مُسْلِمًا فَوْقَ ثَلَاثٍ فَإِنَّهُمَا نَاكِبَانِ عَنْ الْحَقِّ مَا دَامَا عَلَى إصْرَارِهِمَا، وَأَوَّلُهُمَا فَيْئًا يَكُونُ سَبْقُهُ بِالْفَيْءِ كَفَّارَةً لَهُ، فَإِنْ سَلَّمَ فَلَمْ يَقْبَلْ وَرَدَّ عَلَيْهِ سَلَامَهُ رَدَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ وَرَدَّ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ، وَإِنْ مَاتَا عَلَى إصْرَارِهِمَا لَمْ يَدْخُلَا الْجَنَّةَ جَمِيعًا أَبَدًا» إسْنَادُهُ جَيِّدٌ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «لَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَهْجُرَ مُؤْمِنًا فَوْقَ ثَلَاثٍ فَإِنْ مَرَّتْ بِهِ ثَلَاثٌ، فَلْيَلْقَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ رَدَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَدْ اشْتَرَكَا فِي الْأَجْرِ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ فَقَدْ بَاءَ بِالْإِثْمِ، وَخَرَجَ الْمُسْلِمُ مِنْ الْهِجْرَةِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ السَّرَخْسِيِّ أَنَّ أَبَا عَامِرٍ أَخْبَرَهُمْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنِ هِلَالٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَذَكَرَهُ، وَقَالَ: " إذَا كَانَتْ الْهِجْرَةُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا فِي شَيْءٍ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ غَطَّى وَجْهَهُ عَنْ رَجُلٍ انْتَهَى كَلَامُهُ ". أَبُو عَامِرٍ هُوَ الْعَقَدِيُّ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ عَمْرٍو وَهِلَالٌ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ ابْنِهِ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَبَاقِيهِ جَيِّدٌ. وَلِأَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " فَإِنْ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ " حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا فَذَكَرَهُ وَفِيهِ " فَإِذَا لَقِيَهُ سَلَّمَ عَلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كُلُّ ذَلِكَ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ بَاءَ بِإِثْمِهِ " حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرَوَى أَبُو حَفْصٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «السَّلَامُ يَقْطَعُ الْهِجْرَانَ» وَذَكَرَ النَّوَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَمَنْ وَافَقَهُمَا يَزُولُ الْهَجْرُ الْمُحَرَّمُ بِالسَّلَامِ، وَقَالَ أَحْمَدُ وَابْنُ الْقَاسِمِ الْمَالِكِيِّ إنْ كَانَ يُؤَدِّيهِ لَمْ يَقْطَعْ السَّلَامُ هِجْرَتَهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ السَّلَامِ يَقْطَعُ الْهِجْرَانَ؟ فَقَالَ: قَدْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَقَدْ صَدَّ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا» فَإِذَا كَانَ قَدْ عَوَّدَهُ أَنْ يُكَلِّمَهُ، وَأَنْ يُصَافِحَهُ، ثُمَّ قَالَ: إلَّا أَنَّهُ مَا كَانَ مِنْ هِجْرَانٍ فِي شَيْءٍ يُخَالَفُ عَلَيْهِ فِيهِ الْكُفْرُ فَهُوَ

جَائِزٌ، ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي قِصَّةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ حِين خَافَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ فِيهِمْ: " لَا تُكَلِّمُوهُمْ " قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: عُمَرُ قَالَ فِي صَبِيغٍ: لَا تُجَالِسُوهُ، قَالَ: الْمُجَالَسَةُ الْآنَ غَيْرُ الْكَلَامِ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: كَانَ لِي جَارٌ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ أُسَلِّمُ عَلَيْهِ؟ فَسَكَتَ، وَقَدْ قَالَ لِي فِي بَعْضِ هَذَا الْكَلَامِ: لَا تُسَلِّمْ عَلَيْهِ وَلَا تُجَالِسْهُ. قَالَ الْقَاضِي: فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْهِجْرَةِ بِمُجَرَّدِ السَّلَامِ بَلْ يَعُودُ إلَى حَالِهِ مَعَ الْمَهْجُورِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَذَكَرَ رِوَايَةَ الْأَثْرَمِ وَقَوْلَ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبٍ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ لَا يُكَلِّمُ الرَّجُلَ أَيُجَرِّبُهُ السَّلَامَ مِنْ الصَّرْم؟ فَقَالَ: أَتَخَوَّفُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا يَصُدُّ أَحَدُهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ، وَقَدْ كَانَا مُتَآنِسَيْنِ يَلْقَى أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بِالْبِشْرِ إلَّا أَنْ يَتَخَوَّفَ مِنْهُ نِفَاقًا قَالَ: وَإِنَّمَا لَمْ يَجْعَلْهُ أَحْمَدُ خَارِجًا مِنْ الْهِجْرَةِ بِمُجَرَّدِ السَّلَامِ حَتَّى يَعُودَ إلَى عَادَتِهِ مَعَهُ فِي الِاجْتِمَاعِ وَالْمُؤَانَسَةِ؛ لِأَنَّ الْهِجْرَةَ لَا تَزُولُ إلَّا بِعَوْدِهِ إلَى عَادَتِهِ مَعَهُ انْتَهَى كَلَامُ الْقَاضِي وَتَقَدَّمَ قَوْلُ أَحْمَدَ فِي الَّذِي تَشْتُمُهُ ابْنَةُ عَمِّهِ إذَا لَقِيَهَا: سَلِّمْ عَلَيْهَا اقْطَعْ الْمُصَارَمَةَ؟ فَظَاهِرُهُ أَنَّ السَّلَامَ يَقْطَعُهَا مُطْلَقًا، وَظَاهِرُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْهَجْرَ مُحَرَّمٌ لَا يَزُولُ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَوَاهُ عَنْهُ الْبَيْهَقِيّ، وَيَتَوَجَّهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ مِنْ أَصْحَابِنَا الْكِتَابَةَ وَالْمُرَاسَلَةَ كَلَامًا أَنْ يَزُولَ الْهَجْرُ الْمُحَرَّمُ بِهَا. ثُمَّ وَجَدْت ابْنَ عَقِيلٍ ذَكَرَهُ وَلِلشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَاوِيُّ: وَأَصَحُّهُمَا يَزُولُ لِزَوَالِ الْوَحْشَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ: لَا تَلْتَمِسْ مِنْ مَسَاوِي النَّاسِ مَا سَتَرُوا ... فَيَكْشِفَ اللَّهُ سِتْرًا مِنْ مَسَاوِيكَا وَاذْكُرْ مَحَاسِنَ مَا فِيهِمْ إذَا ذُكِرُوا ... وَلَا تَعِبْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِمَا فِيكَا وَاسْتَغْنِ بِاَللَّهِ عَنْ كُلٍّ فَإِنَّ بِهِ ... غِنًى لِكُلٍّ وَثِقْ بِاَللَّهِ يَكْفِيكَا وَقَالَ صَاحِبُ الْمُخْتَارِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: وَلَا غِيبَةَ لِظَالِمٍ وَلَا لِفَاسِقٍ وَلَا إثْمَ فِي السَّعْيِ بِهِ وَلَا غِيبَةَ إلَّا لِمَعْلُومٍ وَلَا غِيبَةَ لِأَهْلِ قَرْيَةٍ، وَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ

وَغَيْرُهُ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ، وَخَالَفَ فِيهِ بَعْضُهُمْ ذَكَرَهُ النَّوَاوِيُّ فِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ، وَالْأَوَّلُ مَأْثُورٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ، وَلَمْ يَذْكُر أَصْحَابُنَا هَذَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ هَذَا فَظَاهِرُ كَلَامِ بَعْضِهِمْ إنْ عَرَفَ بَعْدَ الْبَحْثِ لَمْ يَجُزْ، وَإِلَّا جَازَ فَلَيْسَ هَذَا بِبَعِيدٍ، وَذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ أَنَّ الْغِيبَةَ حَرَامٌ إلَّا فِي حَالٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا يَضُرُّ النَّاسَ بِاللِّسَانِ، وَالْيَدِ فَلَا غِيبَةَ فِي ذِكْرِهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «اُذْكُرُوا الْفَاجِرَ بِمَا فِيهِ» وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ إنَّ الْمُظْهِرَ لِلْمُحَرَّمَاتِ تَجُوزُ غِيبَتُهُ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، قَالَ: وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «مَنْ أَلْقَى جِلْبَابَ الْحَيَاءِ فَلَا غِيبَةَ لَهُ» . وَهَذَا الْخَبَرُ مِنْ رِوَايَةِ الرَّبِيعِ بْنِ بَدْرٍ عَنْ أَبَانَ، وَهُمَا ضَعِيفَانِ، وَعَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا وَسُئِلَ أَيْضًا عَنْ غِيبَةِ تَارِكِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ: إذَا قِيلَ عَنْهُ: إنَّهُ تَارِكٌ الصَّلَاةَ وَكَانَ تَارِكَهَا فَهَذَا جَائِزٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُشَاعَ ذَلِكَ عَنْهُ، وَيُهْجَرَ حَتَّى يُصَلِّيَ. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي الْمُسْتَتِرِ: وَيُذْكَرُ أَمْرُهُ عَلَى وَجْهِ النَّصِيحَةِ، وَقَالَ أَيْضًا: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ النُّصْحِ، وَابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِعِرْضِهِ عَلَى مَنْ اغْتَابَهُ قَبْلَ أَنْ يَغْتَابَهُ، فَإِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِهِ، وَحَدِيثُ أَبِي ضَمْضَمٍ أَنَّهُ كَانَ يَتَصَدَّقُ بِعِرْضِهِ إذَا أَصْبَحَ لَعَلَّ الْمُرَادُ مِنْ غِيبَتِهِ وَقَعَتْ مَعَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ صِحَّتَهُ.

فصل في الاستعانة بأهل الأهواء وأهل الكتاب في الدولة

[فَصْلٌ فِي الِاسْتِعَانَةِ بِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ فِي الدَّوْلَةِ] قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْفَضْلِ الْبَلْخِيّ دَخَلْتُ عَلَى أَحْمَدَ ابْنِ حَنْبَلٍ، فَجَاءَهُ رَسُولُ الْخَلِيفَةِ يَسْأَلُهُ عَنْ الِاسْتِعَانَةِ بِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ. فَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يُسْتَعَانُ بِهِمْ قَالَ: يُسْتَعَانُ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَا يُسْتَعَانُ بِهِمْ قَالَ: إنَّ النَّصَارَى وَالْيَهُودَ لَا يَدْعُونَ إلَى أَدْيَانِهِمْ، وَأَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ دَاعِيَةٌ. عَزَاهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ إلَى مَنَاقِبِ الْبَيْهَقِيّ وَابْنِ الْجَوْزِيِّ يَعْنِي لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَقَالَ: فَالنَّهْيُ عَنْ الِاسْتِعَانَةِ بِالدَّاعِيَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى الْأُمَّةِ انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ كَمَا ذَكَرَ. وَفِي جَامِعِ الْخِلَالِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ أَصْحَابَ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ، وَأَهْلُ الْبِدَع وَالْأَهْوَاءِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَعَانَ بِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنَّ فِي ذَلِكَ أَعْظَمَ الضَّرَرِ عَلَى الدِّينِ وَالْمُسْلِمِينَ وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ فِي مَنَاقِبِ أَحْمَدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مَنْصُورٍ الْمَرُّوذِيِّ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فَأَذِنَ فَجَاءَ أَرْبَعَةُ رُسُلِ الْمُتَوَكِّلَ يَسْأَلُونَهُ فَقَالُوا: الْجَهْمِيَّةُ يُسْتَعَانُ بِهِمْ عَلَى أُمُورِ السُّلْطَانِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا أَوْلَى أَمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ فَقَالَ أَحْمَدُ: أَمَّا الْجَهْمِيَّةُ فَلَا يُسْتَعَانُ بِهِمْ عَلَى أُمُورِ السُّلْطَانِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا، وَأَمَّا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَلَا بَأْسَ أَنْ يُسْتَعَانَ بِهِمْ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يُسَلَّطُونَ فِيهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَتَّى لَا يَكُونُوا تَحْتِ أَيْدِيهمْ، قَدْ اسْتَعَانَ بِهِمْ السَّلَفُ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَرُّوذِيُّ أَيُسْتَعَانُ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَهُمَا مُشْرِكَانِ، وَلَا يُسْتَعَانُ بِالْجَهْمِيِّ؟ قَالَ: يَا بُنَيَّ يَغْتَرُّ بِهِمْ الْمُسْلِمُونَ وَأُولَئِكَ لَا يَغْتَرُّ بِهِمْ الْمُسْلِمُونَ.

فصل في حظر حبس أهل البدع لبدعتهم

[فَصْل فِي حَظْرِ حَبْسِ أَهْلِ الْبِدَعِ لِبِدْعَتِهِمْ] قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ يَتَعَرَّضُونَ وَيَكْفُرُونَ قَالَ: لَا تَتَعَرَّضُوا لَهُمْ قُلْتُ: وَأَيُّ شَيْءٍ تَكْرَهُ مِنْ أَنْ يُحْبَسُوا؟ قَالَ: لَهُمْ وَالِدَاتٌ وَأَخَوَاتٌ، قُلْت: فَإِنَّهُمْ قَدْ حَبَسُوا رَجُلًا وَظَلَمُوهُ، وَقَدْ سَأَلُونِي أَنْ أَتَكَلَّمَ فِي أَمْرِهِ حَتَّى يَخْرُجَ، فَقَالَ: إنْ كَانَ يُحْبَسُ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَلَا، ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: هَذَا جَارُنَا حَبَسَ ذَلِكَ الرَّجُلَ فَمَاتَ فِي السِّجْنِ، وَأَظُنُّ أَنَّهُ قَالَ غَيْرَ مَرَّةٍ كَيْف حَكَى أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ فَقُلْتُ لَهُ. قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عُيَيْنَةَ قَاعِدًا فَجَاءَ الْفُضَيْلُ فَقَالَ: لَا تُجَالِسُوهُ يَعْنِي لِابْنِ عُيَيْنَةَ تَحْبِسُ رَجُلًا فِي السِّجْنِ؟ مَا يُؤْمِنُكَ أَنْ يَقَعَ السِّجْنُ عَلَيْهِ قُمْ فَأَخْرِجْهُ فَعَجِبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَجَعَلَ يَسْتَحْسِنُهُ.

فصل في إنكار المنكر الخفي والبعيد والماضي

[فَصْلٌ فِي إنْكَارِ الْمُنْكَرِ الْخَفِيِّ وَالْبَعِيدِ وَالْمَاضِي] قَالَ فِي الرِّعَايَةِ: وَيَحْرُمُ التَّعَرُّضُ لِمُنْكَرِ فِعْلٍ خَفِيٍّ عَلَى الْأَشْهَرِ، أَوْ مَسْتُورٍ، أَوْ مَاضٍ، أَوْ بَعِيدٍ، وَقِيلَ: يُجْهَلُ فَاعِلُهُ، وَمَحَلُّهُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ أَيْضًا، وَالْإِنْكَارُ فِيمَا فَاتَ وَمَضَى إلَّا فِي الْعَقَائِدِ وَالْآرَاءِ قَالَ الْقَاضِي فِي الْمَاضِي يُشْتَرَطُ أَنْ يُعْلَمَ اسْتِمْرَارُ الْفَاعِلِ عَلَى فِعْلِ الْمُنْكَرِ، فَإِنْ عُلِمَ مِنْ حَالِهِ تَرْكُ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الْفِعْل لَمْ يَجُزْ إنْكَارُ مَا وَقَعَ عَلَى الْفِعْلِ، كَذَا قَالَ فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ أَنَّهُ نَدِمَ، وَأَقْلَعَ وَتَابَ، فَصَحِيحٌ، لَكِنْ هَلْ يَجُوزُ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَيَرْفَعُهُ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ لِيُقِيمَ الْحَدَّ؟ يَنْبَنِي عَلَى سُقُوطِهِ بِالتَّوْبَةِ فَإِنْ اعْتَقَدَ الشَّاهِدُ سُقُوطَهُ لَمْ يَرْفَعْهُ وَإِلَّا رَفَعَهُ، وَبَيَّنَ الْحَالَ كَمَا قَالَهُ فِي الْمُغْنِي فِيمَنْ شَهِدَ بِرَهْنِ الرَّهْنِ ثَانِيًا عَلَى دَيْنٍ أَخَذَهُ الرَّاهِنُ مِنْ الْمُرْتَهِنِ، وَجَعَلَهُ الرَّاهِنُ رَهْنًا بِهِمَا. وَأَمَّا إذَا كَانَ مُصِرًّا عَلَى الْمُحَرَّمِ وَلَمْ يَتُبْ، فَهَذَا يَجِبُ إنْكَارُ الْفِعْلِ الْمَاضِي وَإِصْرَارُهُ، وَهَلْ يَرْفَعُهُ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ؟ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي وُجُوبِ السَّتْرِ وَاسْتِحْبَابِهِ، وَالتَّفْرِقَةِ فِيهِ، وَلِهَذَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عِنْدَنَا بِسَبَبٍ قَدِيمٍ يُوجِبُ الْحَدَّ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الْمَذْهَبِ، فَهَذَا إنْكَارٌ، وَإِقَامَةُ شَهَادَةٍ، وَعُلِّلَ الْمَنْعُ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ: إنَّمَا شَهِدَ لِضِغْنٍ وَلَمْ يُعَلَّلْ بِأَنَّ الشَّاهِدَ فَعَلَ مَا لَا يَجُوزُ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «احْتَجَّ آدَم وَمُوسَى فَقَالَ مُوسَى: يَا آدَم خَيَّبْتنَا وَأَخْرَجْتنَا مِنْ الْجَنَّةِ» وَفِي لَفْظٍ: «تَحَاجَّ آدَم وَمُوسَى فَقَالَ لَهُ مُوسَى: أَنْتَ آدَم الَّذِي أَغْوَيْت النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنْ الْجَنَّةِ» . وَفِي لَفْظٍ «احْتَجَّ آدَم وَمُوسَى عِنْدَ رَبِّهِمَا عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ مُوسَى: أَنْتَ آدَم خَلَقَك اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَسْجَدَ لَك مَلَائِكَتَهُ وَأَسْكَنَك فِي جَنَّتِهِ، ثُمَّ أَهْبَطْتَ النَّاسَ بِخَطِيئَتِك إلَى الْأَرْضِ قَالَ آدَم: أَنْتَ

مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاك اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلَامِهِ، وَأَعْطَاك الْأَلْوَاحَ فِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ وَقَرَّبَك نَجِيًّا، فَبِكَمْ وَجَدْتَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَتَبَ التَّوْرَاةَ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟ قَالَ مُوسَى: بِأَرْبَعِينَ عَامًا قَالَ آدَم: فَهَلْ وَجَدْتَ فِيهَا: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] قَالَ: نَعَمْ، قَالَ أَفَتَلُومُنِي عَلَى أَنْ عَمِلْتُ عَمَلًا كَتَبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيَّ أَنْ أَعْمَلَهُ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةٍ؟» هُوَ فِي الْأَلْفَاظِ كُلِّهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَحَجَّ آدَم مُوسَى» وَلِلْبُخَارِيِّ فِي رِوَايَةٍ «فَحَجَّ آدَم مُوسَى ثَلَاثًا» وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةٍ؟ هَذِهِ الْكِتَابَةُ فِي التَّوْرَاةِ كَتَصْرِيحِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَا قَدَّرَهُ وَأَرَادَهُ قَدِيمٌ، وَآدَمُ مَرْفُوعٌ بِالِاتِّفَاقِ أَيْ: غَلَبَ فَظَهَرَ بِالْحُجَّةِ. قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَمَعْنَى كَلَامِ آدَمَ إنَّك يَا مُوسَى تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا كُتِبَ وَقُدِّرَ عَلَيَّ فَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ فَلَا تَلُومَنِّي عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّوْمَ عَلَى الذَّنْبِ شَرْعِيٌّ لَا عَقْلِيٌّ، وَإِذْ تَابَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى آدَمَ، وَغَفَرَ لَهُ زَالَ عَنْهُ اللَّوْمُ، فَمَنْ لَامَهُ كَانَ مَحْجُوجًا بِالشَّرْعِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْعَاصِي مِنَّا لَوْ قَالَ: هَذِهِ الْمَعْصِيَةُ قَدَّرَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيَّ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ اللَّوْمُ وَالْعُقُوبَةُ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِيمَا قَالَهُ. (فَالْجَوَابُ) أَنَّ هَذَا الْعَاصِي بَاقٍ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ جَارٍ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ الْعُقُوبَةِ وَاللَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا، وَفِي زَجْرٍ لَهُ وَلِغَيْرِهِ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الزَّجْرِ مَا لَمْ يَمُتْ، فَأَمَّا آدَم فَمَيِّتٌ خَارِجٌ عَنْ دَارِ التَّكْلِيفِ، وَعَنْ الْحَاجَةِ إلَى الزَّجْرِ، فَفِي الْقَوْلِ إيذَاءٌ لَهُ، وَتَخْجِيلٌ بِلَا فَائِدَةٍ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى مُوسَى قَالَ: لِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَنَفْسَكَ مِنْ الْجَنَّةِ؟ فَلَامَهُ عَلَى الْمُصِيبَةِ الَّتِي حَصَلَتْ بِسَبَبِ فِعْلِهِ لَا لِأَجْلِ كَوْنِهَا ذَنْبًا، وَلِهَذَا احْتَجَّ عَلَيْهِ آدَم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْقَدَرِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ لِأَجْلِ الذَّنْبِ كَمَا يَظُنُّهُ طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ فَلَيْسَ مُرَادًا بِالْحَدِيثِ، فَإِنَّ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ قَدْ تَابَ مِنْ الذَّنْبِ، وَالتَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ

وَلَا يَجُوزُ لَوْمُ التَّائِبِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - احْتَجَّ بِالْقَدْرِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْتَجَّ بِالْقَدْرِ عَلَى الذَّنْبِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَسَائِرِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَسَائِرِ الْعُقَلَاءِ. وَقَالَ أَيْضًا فِي كِتَابِ الْفُرْقَانِ: وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ ضَلَّتْ بِهِ طَائِفَتَانِ طَائِفَةٌ كَذَّبَتْ بِهِ لِمَا ظَنُّوا أَنَّهُ يَقْتَضِي رَفَعَ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ عَمَّنْ عَصَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لِأَجْلِ الْقَدَرِ، وَطَائِفَةٌ شَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ جَعَلُوهُ حُجَّةً لِأَهْلِ الْحَقِيقَةِ الَّذِينَ شَهِدُوهُ أَوْ الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ أَنَّ لَهُمْ فِعْلًا. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إنَّمَا حَجَّهُ؛ لِأَنَّهُ أَبُوهُ أَوْ لِأَنَّهُ قَدْ تَابَ أَوْ لِأَنَّ الذَّنْبَ كَانَ فِي شَرِيعَةٍ، وَاللَّوْمَ فِي أُخْرَى، أَوْ لِأَنَّ هَذَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ، وَكُلُّ هَذَا بَاطِلٌ، وَلَكِنْ وَجْهُ الْحَدِيثِ أَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَلُمْ إيَّاهُ إلَّا لِأَجْلِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي لَحِقَتْهُمْ مِنْ أَجْلِ أَكْلِهِ مِنْ الشَّجَرَةِ، فَقَالَ: لِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَنَفْسَكَ مِنْ الْجَنَّةِ، لَمْ يَلُمْهُ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ أَذْنَبَ ذَنْبًا، وَتَابَ مِنْهُ فَإِنَّ مُوسَى يَعْلَمُ أَنَّ التَّائِبَ مِنْ الذَّنْبِ لَا يُلَامُ، وَلَوْ كَانَ آدَم يَعْتَقِدُ رَفْعَ الْمُلَامَ عَنْهُ لِأَجْلِ الْقَدَرِ لَمْ يَقُلْ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] . وَالْمُؤْمِنُ مَأْمُورٌ عِنْدَ الْمَصَائِبِ أَنْ يَصْبِرَ وَيُسَلِّمَ، وَعِنْدَ الذُّنُوبِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ وَيَتُوبَ قَالَ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر: 55] : فَأَمَرَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى الْمَصَائِبِ، وَالِاسْتِغْفَارِ مِنْ الْمَعَائِبِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ وَكَلَامُ غَيْرِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الذَّنْبَ الْمَاضِي يُلَامُ صَاحِبُهُ وَيُنْكَرُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَتُبْ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الَّذِي فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ. وَنَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْمَرُّوذِيِّ وَأَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِمْ فِي الطُّنْبُورِ وَوِعَاءِ الْخَمْرِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ يَكُونُ مُغَطًّى لَا نَعْرِضُ لَهُ، وَنَصَّ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْبٍ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ يُنْكِرُهُ وَيُتْلِفُهُ.

وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ: هَلْ يَجِبُ إنْكَارُ الْمُغَطَّى؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ أَصَحُّهُمَا: يَجِبُ؛ لِأَنَّا تَحَقَّقْنَا الْمُنْكَرَ. (الثَّانِيَةُ) : لَا يَجِبُ كَأَهْلِ الذِّمَّةِ إذَا أَظْهَرُوا الْخَمْرَ أُنْكِرَ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا سَتَرُوهُ لَمْ يُتَعَرَّضْ لَهُمْ، وَكَذَا فِي التَّرْغِيبِ أَنَّهُ يَجِبُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ. وَفِي مُعْتَقَدِ ابْنِ عَقِيلٍ: وَلَا يُكْشَفُ مِنْ الْمَعَاصِي مَا لَمْ يَظْهَرْ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: مَنْ تَسَتَّرَ بِالْمَعْصِيَةِ فِي دَارِهِ، وَأَغْلَقَ بَابَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُتَجَسَّسَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ مَا يَعْرِفُهُ كَأَصْوَاتِ الْمَزَامِيرِ وَالْعِيدَانِ فَلِمَنْ سَمِعَ ذَلِكَ أَنْ يَدْخُلَ وَيُكَسِّرَ الْمَلَاهِيَ، وَإِنْ فَاحَتْ رَوَائِحُ الْخَمْرِ، فَالْأَظْهَرُ جَوَازُ الْإِنْكَارِ وَسَيَأْتِي كَلَامُ ابْنُ عَقِيلٍ فِيهِ فِي فُصُولِ اللِّبَاسِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَالتَّجَسُّسُ الْبَحْثُ عَنْ عَيْبِ الْمُسْلِمِينَ وَعَوْرَاتِهِمْ، فَالْمَعْنَى لَا يَبْحَثُ أَحَدُكُمْ عَنْ عَيْبِ أَخِيهِ لِيَطَّلِعَ عَلَيْهِ إذَا سَتَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: هَذَا الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ تَقْطُرُ لِحْيَتُهُ خَمْرًا قَالَ: إنَّا نُهِينَا عَنْ التَّجَسُّسِ، فَإِنْ يَظْهَرُ لَنَا شَيْءٌ نَأْخُذُ بِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْهَيْثَمِ الْعَاقُولِيِّ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الرَّجُلِ يَسْمَعُ صَوْتَ الطَّبْلِ وَالْمِزْمَارِ لَا يَعْرِفُ مَكَانَهُ، فَقَالَ: وَمَا عَلَيْكَ وَمَا غَابَ عَنْكَ؟ فَلَا تُفَتِّشْ. وَنَقَلَ يُوسُفُ وَغَيْرُهُ وَمَا عَلَيْكَ إذَا لَمْ تَعْرِفْ مَكَانَهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَرْبٍ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يَسْمَعُ الْمُنْكَرَ فِي دَارِ بَعْضِ جِيرَانِهِ، قَالَ: يَأْمُرُهُ فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ يَجْمَعُ عَلَيْهِ وَيُهَوِّلُ عَلَيْهِ. وَنَقَلَ جَعْفَرٌ فِيمَنْ يَسْمَعُ صَوْتَ الْغِنَاءِ فِي الطَّرِيقِ. قَالَ: هَذَا قَدْ ظَهَرَ، عَلَيْهِ أَنْ يَنْهَاهُمْ وَرَأْي أَنْ يُنْكِرَ الطَّبْلَ يَعْنِي إذَا سَمِعَ صَوْتَهُ. وَقِيلَ لَهُ: مَرَرْنَا بِقَوْمٍ قَدْ أَشْرَفُوا مِنْ عِلِّيَّةٍ لَهُمْ يُغَنُّونَ فَجِئْنَا صَاحِبَ الْخَبَرِ أَخْبَرْنَاهُ فَقَالَ: لَمْ تَكَلَّمُوا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي سَمِعْتُمْ؟ فَقِيلَ: لَا، قَالَ: كَانَ يُعْجِبُنِي أَنْ تَكَلَّمُوا، ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّ النَّاسَ كَانُوا يَجْتَمِعُونَ وَكَانُوا يُشْهِرُونَ. وَهَذَا مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ فِي بَابِ الْوَلِيمَةِ أَنَّهُ لَزِمَ الْقَادِرَ الْحُضُورُ وَالْإِنْكَارُ، وَإِلَّا لَمْ يَحْضُرْ وَانْصَرَفَ.

وَقَالَ الْقَاضِي فِي الْمُعْتَمَدِ: وَلَا يَجِبُ عَلَى الْعَالِمِ وَالْعَامِّيِّ أَنْ يَكْشِفَ مُنْكَرًا قَدْ سُتِرَ، بَلْ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ كَشْفُهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12] . وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى إرَاقَةِ الْخَمْرِ وَجَبَ عَلَيْهِ إرَاقَتُهَا، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ إذَا أَظْهَرُوا الْخَمْرَ، فَإِنَّهُمْ يُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ أَيْضًا بِإِرَاقَتِهَا، وَشَقِّ ظُرُوفِهَا وَكَسْرِ دِنَانِهَا، وَإِنْ كُنَّا لَا نَتَعَرَّضُ لَهُمْ إذَا أَسَرُّوا ذَلِكَ بَيْنَهُمْ. وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي إنْكَارِ الْمُنْكَرِ الْمَسْتُورِ، وَلَمْ نَجِدْ فِيهِ خِلَافًا، وَمَعْنَاهُ كَلَامُ صَاحِبِ النَّظْمِ، قَالَ فِي الرِّعَايَةِ بَعْدَ كَلَامِهِ السَّابِقِ: وَقِيلَ: مَنْ عَلِمَ مُنْكَرًا قَرِيبًا مِنْهُ فِي دَارٍ وَنَحْوِهَا دَخَلَهَا، وَأَنْكَرَهُ. وَقَالَ صَاحِبُ النَّظْمِ: الْمُسْتَتِرُ مَنْ فَعَلَهُ بِمَوْضِعٍ لَا يُعْلَمُ بِهِ غَالِبًا إمَّا لِبُعْدِهِ أَوْ نَحْوِهِ غَيْرُ مَنْ حَضَرَهُ وَيَكْتُمُهُ، وَأَمَّا مَنْ فَعَلَهُ بِمَوْضِعٍ يُعْلَمُ بِهِ جِيرَانُهُ، وَلَوْ فِي دَارِهِ فَإِنَّ هَذَا مُعْلِنٌ مُجَاهِرٌ غَيْرُ مُسْتَتِرٍ.

فصل ينبغي الإنكار على الفعل غير المشروع، وإن كثر فاعلوه

[فَصْلٌ يَنْبَغِي الْإِنْكَارُ عَلَى الْفِعْلِ غَيْر الْمَشْرُوعِ، وَإِنْ كَثُرَ فَاعِلُوهُ] يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأُمُورِ يَفْعَلُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ خِلَافَ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ، وَيَشْتَهِرُ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ وَيَقْتَدِي كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بِهِمْ فِي فِعْلِهِمْ. وَاَلَّذِي يَتَعَيَّنُ عَلَى الْعَارِفِ مُخَالَفَتُهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلًا وَفِعْلًا، وَلَا يُثَبِّطُهُ عَنْ ذَلِكَ وَحْدَتُهُ وَقِلَّةُ الرَّفِيقِ، وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ: وَلَا يَغْتَرُّ الْإِنْسَانُ بِكَثْرَةِ الْفَاعِلِينَ لِهَذَا الَّذِي نَهَيْنَا عَنْهُ مِمَّنْ لَا يُرَاعِي هَذِهِ الْآدَابَ، وَامْتَثِلْ مَا قَالَهُ السَّيِّدُ الْجَلِيلُ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: لَا تَسْتَوْحِشْ طُرُقَ الْهُدَى لِقِلَّةِ أَهْلِهَا، وَلَا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الْهَالِكِينَ. وَقَالَ أَبُو الْوَفَاءِ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ: مَنْ صَدَرَ اعْتِقَادُهُ عَنْ بُرْهَانٍ لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ تَلَوُّنٌ يُرَاعِي بِهِ أَحْوَالَ الرِّجَالِ. {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144] . كَانَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِمَّنْ يَثْبُتُ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ فَلَمْ تَتَقَلَّبْ بِهِ الْأَحْوَالُ فِي كُلِّ مَقَامٍ زَلَّتْ بِهِ الْأَقْدَامُ إلَى أَنْ قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ الْإِنْسَانُ مُسْلِمًا إلَى أَنْ يَضِيقَ بِهِ عَيْشٌ، وَإِنَّمَا دِينُنَا مَبْنِيٌّ عَلَى شَعْثِ الدُّنْيَا وَصَلَاحِ الْآخِرَةِ فَمَنْ طَلَبَ بِهِ الْعَاجِلَةَ أَخْطَأَ.

فصل في تمييز الأعمال وانقسام الفعل الواحد بالنوع إلى طاعة ومعصية بالنية

[فَصْلٌ فِي تَمْيِيزِ الْأَعْمَالِ وَانْقِسَامِ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ إلَى طَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ بِالنِّيَّةِ] ِ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّين - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: قَاعِدَةٌ نَافِعَةٌ عَامَّةٌ فِي الْأَعْمَالِ) وَذَلِكَ أَنَّهَا تَشْتَبِهُ دَائِمًا فِي الظَّاهِرِ، مَعَ افْتِرَاقِهَا فِي الْحَقِيقَةِ وَالْبَاطِنِ حَتَّى تَكُونَ صُورَةُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا الْمُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا الْبَاطِنُ ذَلِكَ إلَى فِعْلِ مَا هُوَ شَرٌّ بِاعْتِبَارِ الْبَاطِنِ مَعَ ظَنِّ الْفَاعِلِ، أَوْ غَيْرِهِ أَنَّهُ خَيْرٌ، وَإِلَى تَرْكِ مَا هُوَ خَيْرٌ مَعَ ظَنِّ التَّارِكِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ تَرَكَ شَرًّا، إلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْهِدَايَةِ، وَحُسْنِ النِّيَّةِ، وَأَكْثَرُ مَا يُبْتَلَى النَّاسُ بِذَلِكَ عِنْدَ الشَّهَوَاتِ وَالشُّبُهَاتِ، وَهَذَا الْأَصْلُ هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَجَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ إنَّ الْفِعْلَ الْوَاحِدَ بِالنَّوْعِ يَنْقَسِمُ إلَى طَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي الْوَاحِدِ بِالشَّخْصِ، هَلْ تَجْتَمِعُ فِيهِ الْجِهَتَانِ؟ وَخَالَفَ أَبُو هَاشِمٍ فِي الْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ أَيْضًا. وَاتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ النَّوْعَ الْوَاحِدَ مِنْ أَنَّ الْحَيَوَانَ كَالْآدَمِيِّ يَنْقَسِمُ إلَى مُطِيعٍ وَعَاصٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ هَلْ يَجْتَمِعُ فِيهِ اسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَالْمَدْحِ وَالذَّمِّ؟ فَذَهَبَ أَهْلُ السُّنَّةِ الْمَانِعُونَ مِنْ تَخَلُّدِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ لِجَوَازِ ذَلِكَ، وَأَبَاهُ الْمُخَلِّدَةُ، وَأَنَا أَذْكُرُ لِذَلِكَ أَمْثَالًا يَتَفَطَّنُ لَهَا اللَّبِيبُ حَتَّى تَحَقُّق النِّيَّةُ فِي الْعَمَلِ، فَإِنَّهَا هِيَ الْفَارِقَةُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» فَإِنَّ هَذِهِ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ، عَظِيمَةُ الْقَدْرِ. فَمِنْ الْأَمْثِلَةِ الظَّاهِرَةِ فِي الْأَعْمَالِ: الصَّلَاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْجِهَادُ وَالْحُكْمُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَنَحْوُ ذَلِكَ الصَّادِرُ مِنْ الْمُرَائِي الَّذِي يُرِيدُ الْعُلُوَّ فِي الْأَرْضِ، وَرِيَاءَ النَّاسِ، وَمِنْ الْمُخْلِصِ الَّذِي يُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةِ، وَمِنْ الْأَمْثِلَةِ فِي التَّرْكِ أَنَّ التَّقْوَى وَالْوَرَعَ الَّذِي هُوَ تَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ، وَالشُّبُهَاتِ مِنْ الْكَذِبِ وَالظُّلْمِ، وَفُرُوعِ ذَلِكَ فِي الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ تَشْتَبِهُ بِالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَالْكِبْرِ فَقَدْ يَتْرُكُ الرَّجُلُ مِنْ شَهَادَةِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ

إظْهَارُهَا مَا يُظَنُّ أَنْ يَتْرُكَهُ خَوْفًا مِنْ الْكَذِبِ، وَإِنَّمَا تَرَكَهُ جُبْنًا عَنْ الْحَقِّ، وَيَتْرُكُ الْجِهَادَ، وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ ظَنَّا أَنَّهُ يَتْرُكُهُ خَوْفًا مِنْ الظُّلْمِ، وَإِنَّمَا تَرَكَهُ جُبْنًا وَيَتْرُكُ فِعْلَ الْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إلَى النَّاسِ ظَنًّا أَنَّهُ تَرَكَهُ وَرَعًا مِنْ الظُّلْمِ إذَا كَانَ الْمُحْسِنُ إلَيْهِ يُخَافُ مِنْهُ الظُّلْمَ، وَإِنَّمَا تَرَكَهُ بُخْلًا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِ ذَلِكَ إعَانَةٌ عَلَى الظُّلْمِ، وَقَدْ يَتْرُكُ قَضَاءَ الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ الِابْتِدَاءِ بِالسَّلَامِ، وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَشُهُودِ الْجَنَائِزِ وَالتَّوَاضُعِ فِي الْأَخْلَاقِ، وَتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَأَدَائِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ ظَنَّا مِنْهُ أَنَّهُ تَرَكَهُ لِئَلَّا يُفْضِي إلَى مُخَالَطَةِ الظَّلَمَةِ وَالْخَوَنَةِ وَالْكَذَبَةِ، وَإِنَّمَا تَرَكَهُ كِبْرًا وَتَرَأُّسًا عَلَيْهِمْ، كَمَا أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ ظَنًّا أَنَّهُ فَعَلَهُ لِأَجْلِ الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ رَغْبَةً إلَيْهِمْ حِرْصًا وَطَمَعًا أَوْ رَهْبَةً مِنْهُمْ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» ثُمَّ قَسَّمَ الْهِجْرَةَ الْوَاحِدَةَ بِالنَّوْعِ إلَى قِسْمَيْنِ مِنْ أَجْلِ حَدِيثِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ.

فصل لا ينبغي ترك العمل المشروع خوف الرياء

[فَصْلٌ لَا يَنْبَغِي تَرْكُ الْعَمَلِ الْمَشْرُوعِ خَوْفَ الرِّيَاءِ] مِمَّا يَقَعُ لِلْإِنْسَانِ أَنَّهُ أَرَادَ فِعْلَ طَاعَةٍ يَقُومُ عِنْدَهُ شَيْءٌ يَحْمِلُهُ عَلَى تَرْكِهَا خَوْفَ وُقُوعِهَا عَلَى وَجْهِ الرِّيَاءِ، وَاَلَّذِي يَنْبَغِي عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إلَى ذَلِكَ، وَلِلْإِنْسَانِ أَنْ يَفْعَلَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ وَرَغَّبَهُ فِيهِ، وَيَسْتَعِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَيَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي وُقُوعِ الْفِعْلِ مِنْهُ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ. وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ مَعَ الْقَلْبِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُظَنَّ بِهِ الرِّيَاءُ بَلْ يَذْكُرُ بِهِمَا جَمِيعًا، وَيَقْصِدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَذَكَرَ قَوْلَ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ لِأَجْلِ النَّاسِ رِيَاءٌ، وَالْعَمَلُ لِأَجْلِ النَّاسِ شِرْكٌ قَالَ: فَلَوْ فَتَحَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ بَابَ مُلَاحَظَةِ النَّاسِ وَالِاحْتِرَازِ مِنْ تَطَرُّقِ ظُنُونِهِمْ الْبَاطِلَةِ لَانْسَدَّ عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَبْوَابِ الْخَيْرِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ فَأَمَّا تَرْكُ الطَّاعَاتِ خَوْفًا مِنْ الرِّيَاءِ فَإِنْ كَانَ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى الطَّاعَةِ غَيْرَ الدِّينِ فَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ، وَإِنْ كَانَ الْبَاعِثُ عَلَى ذَلِكَ الدِّينَ وَكَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُخْلِصًا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ الْعَمَلَ؛ لِأَنَّ الْبَاعِثَ الدِّينُ، وَكَذَلِكَ إذَا تَرَكَ الْعَمَلَ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُقَالَ: مُرَاءٍ، فَلَا يَنْبَغِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ مَكَايِدِ الشَّيْطَانِ. قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: إذَا أَتَاك الشَّيْطَانُ وَأَنْتَ فِي صَلَاةٍ، فَقَالَ: إنَّك مُرَاءٍ فَزِدْهَا طُولًا، وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ تَرَكَ الْعِبَادَةَ خَوْفًا مِنْ الرِّيَاءِ، فَيُحْمَلُ هَذَا عَلَى أَنَّهُمْ أَحَسُّوا مِنْ نُفُوسِهِمْ بِنَوْعِ تَزَيُّنٍ فَقَطَعُوا، وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمِنْ هَذَا قَوْلِ الْأَعْمَشِ كُنْتُ عِنْدَ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَهُوَ يَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ فَاسْتَأْذَنَ رَجُلٌ فَغَطَّى الْمُصْحَفَ، وَقَالَ: لَا يَظُنُّ أَنِّي أَقْرَأُ فِيهِ كُلَّ سَاعَةٍ، وَإِذَا كَانَ لَا يَتْرُكُ الْعِبَادَةَ خَوْفَ وُقُوعِهَا عَلَى وَجْهِ الرِّيَاءِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَتْرُكَ

خَوْفَ عُجْبٍ يَطْرَأُ بَعْدَهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ فِي الْعُجْبِ قَبْل فُصُولِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَيَأْتِي قَبْلَ فُصُولِ اللِّبَاسِ فِي الدُّخُولِ عَلَى السُّلْطَانِ يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ قَوْلُ دَاوُد الطَّائِيِّ أَخَافُ عَلَيْهِ السَّوْطَ، قَالَ: إنَّهُ يَقْوَى قَالَ: أَخَافُ عَلَيْهِ السَّيْفَ قَالَ: إنَّهُ يَقْوَى قَالَ: أَخَافُ عَلَيْهِ الدَّاءَ الدَّفِينَ: الْعُجْبَ.

فصل في تفاوت الأجر لمن يشق عليه العمل ومن لا يشق

[فَصْلٌ فِي تَفَاوُتِ الْأَجْرِ لِمَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ الْعَمَلُ وَمَنْ لَا يَشُقُّ] قَالَ الْخَلَّالُ: كَتَبَ إلَيَّ يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْإِسْكَافِ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يَشْرَعُ لَهُ وَجْهُ بِرٍّ، فَيَحْمِلُ نَفْسَهُ عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَآخَرُ يَشْرَعُ لَهُ فَيُسَرُّ بِذَلِكَ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ قَالَ: أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، وَهُوَ كَبِيرٌ يَشُقُّ عَلَيْهِ أَنَّ لَهُ أَجْرَيْنِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا «الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَاَلَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ لَهُ أَجْرَانِ» . السَّفَرَةُ الرُّسُلُ لِأَنَّهُمْ يُسْفِرُونَ إلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: الْكَتَبَةُ، وَالْبَرَرَةُ الْمُطِيعُونَ، وَاَلَّذِي يَتَتَعْتَعُ فِيهِ لَهُ أَجْرٌ بِالْقِرَاءَةِ، وَأَجْرٌ بِتَعَبِهِ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ: وَالْمَاهِرُ أَفْضَلُ، وَأَكْثَرُ أَجْرًا فَإِنَّهُ مَعَ السَّفْرَةِ، وَلَهُ أُجُورٌ كَثِيرَةٌ يَذْكُرْ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ لِغَيْرِهِ، وَكَيْف يَلْتَحِقُ بِهِ مَنْ لَمْ يَعْتَنِ بِكِتَابِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَحِفْظِهِ وَإِتْقَانِهِ وَكَثْرَةِ تِلَاوَتِهِ وَدِرَاسَتِهِ كَاعْتِنَائِهِ حَتَّى مَهَرَ فِيهِ، فَظَاهِرُ هَذَا يُنَاقِضُ مَا تَقَدَّمَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 54] . وَقَدْ يُقَالُ: مُرَادُ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا اعْتَنَى جُهْدَهُ، وَهُوَ يَشُقُّ عَلَيْهِ، وَمُرَادُ الْقَاضِي عِيَاضٍ وَغَيْرِهِ إذَا حَصَلَ مِنْهُ تَقْصِيرٌ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

فصل حكم اللعن، ولعن المعين

[فَصَلِّ حُكْمُ اللَّعْنِ، وَلَعْنِ الْمُعَيَّنِ] حُكْمُ اللَّعْنِ، وَلَعْنِ الْمُعَيَّنِ) وَيَجُوزُ لَعْنُ الْكُفَّارِ عَامًّا، وَهَلْ يَجُوزُ لَعْنُ كَافِرٍ مُعَيَّنٍ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَلَعْنُ تَارِكِ الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ جَائِزٌ، وَأَمَّا لَعْنُهُ الْمُعَيَّنَ، فَالْأَوْلَى تَرْكُهَا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَتُوبَ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: قِيلَ: لِأَحْمَدَ ابْنِ حَنْبَلٍ أَيُؤْخَذُ الْحَدِيثُ عَنْ يَزِيدَ فَقَالَ: لَا وَلَا كَرَامَةَ أَوَ لَيْسَ هُوَ فَعَلَ بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ مَا فَعَلَ؟ وَقِيلَ لَهُ: إنَّ أَقْوَامًا يَقُولُونَ: إنَّا نُحِبُّ يَزِيدَ فَقَالَ: وَهَلْ يُحِبُّ يَزِيدَ مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؟ فَقِيلَ لَهُ: أَوَ لَا تَلْعَنُهُ؟ فَقَالَ: مَتَى رَأَيْتَ أَبَاك يَلْعَنُ أَحَدًا. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي لَعْنِ الْمُعَيَّنِ مِنْ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَمِنْ الْفُسَّاقِ بِالِاعْتِقَادِ، أَوْ بِالْعَمَلِ: لِأَصْحَابِنَا فِيهَا أَقْوَالٌ (أَحَدُهَا:) أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ، وَهُوَ قَوْلَيْ أَبِي بَكْرٍ وَعَبْدِ الْعَزِيزِ (وَالثَّانِي) يَجُوزُ فِي الْكَافِرِ دُون الْفَاسِقِ (وَالثَّالِثُ) يَجُوزُ مُطْلَقًا قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِي لَعْنَةِ يَزِيدَ أَجَازَهَا الْعُلَمَاءُ الْوَرِعُونَ مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ عَبْدُ الْمُغِيثِ الْحَرْبِيِّ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا، لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ بَنَى الْأَمْرَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِسْقُهُ، وَكَلَامُ عَبْدِ الْمُغِيثِ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَفِيهِ نَوْعُ انْتِصَارٍ ضَعِيفٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ بَنَى الْأَمْرَ عَلَى أَنْ لَا يُلْعَنَ الْفَاسِقَ الْمُعَيَّنَ، وَشَنَّعَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ اسْتِجَازَةَ ذَمِّ الْمَذْمُومِ، وَلَعْنَ الْمَلْعُونِ كَيَزِيدَ. قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَ أَحْمَدُ فِي حَقِّ يَزِيدَ مَا يَزِيدُ عَلَى اللَّعْنَةِ، وَذَكَرَ رِوَايَةَ مُهَنَّا سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ يَزِيدَ، فَقَالَ: هُوَ الَّذِي فَعَلَ بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ مَا فَعَلَ. قُلْتُ: فَيُذْكَرُ عَنْهُ الْحَدِيثُ؟ قَالَ: لَا يُذْكَرُ عَنْهُ الْحَدِيثُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَكْتُبَ عَنْهُ حَدِيثًا. قُلْتُ: وَمَنْ كَانَ مَعَهُ حِينَ فَعَلَ؟ فَقَالَ: أَهْلُ الشَّامِ، قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: هَذَا أَكْثَرُ مَا يَدُلّ عَلَى الْفِسْقِ لَا عَلَى لَعْنَةِ الْمُعَيَّنِ. وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي الْمُعْتَمَدِ مِنْ رِوَايَةِ صَالِحٍ

وَمَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ. إِن صَحَّتْ الرِّوَايَةُ قَالَ: وَقَدْ صَنَّفَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ كِتَابًا فِي بَيَانِ مَنْ يَسْتَحِقُّ اللَّعْنَ، وَذَكَرَ فِيهِمْ يَزِيدَ قَالَ: وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ لَعْنُ مَنْ فَعَلَ مَا لَا يُقَارِبُ مِعْشَارَ عُشْرِ مَا فَعَلَ يَزِيدُ، وَذَكَرَ الْفِعْلَ الْعَامَّ كَلَعْنِ الْوَامِصَةِ وَأَمْثَالِهِ، وَذَكَرَ رِوَايَةَ أَبِي طَالِبٍ سَأَلْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَمَّنْ قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ. فَقَالَ: لَا تَكَلَّمْ فِي هَذَا، الْإِمْسَاكُ أَحَبُّ إلَيَّ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَدُلُّ عَلَى اشْتِغَالِ الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ عَنْ لَعْنِ غَيْرِهِ. وَالْأَوْلَى عَلَى جَوَازِ اللَّعْنَةِ كَمَا قُلْنَا فِي تَقْدِيمِ التَّسْبِيحِ عَلَى لَعْنَةِ إبْلِيسَ، وَسَلَّمَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ تَرْكَ اللَّعْنِ أَوْلَى، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ: «إنِّي لَمْ أُبْعَثُ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً» قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ لَعَنَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ مَنْ يَسْتَحِقُّ اللَّعْنَ. فَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُسَدَّدٍ: قَالَتْ الْوَاقِفِيَّةُ الْمَلْعُونَةُ، وَالْمُعْتَزِلَةُ الْمَلْعُونَةُ. وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ الْحَنْبَلِيِّ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ: لَعْنَةُ اللَّهِ، وَكَانَ الْحَسَنُ يَلْعَنُ الْحَجَّاجَ، وَأَحْمَدُ يَقُولُ: الْحَجَّاجُ رَجُلُ سُوءٍ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: لَيْسَ فِي هَذَا عَنْ أَحْمَدَ لَعْنَةُ مُعَيَّنٍ، لَكِنَّ قَوْلَ الْحَسَنِ نَعَمْ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قَالَ الْفُقَهَاءُ: لَا تَجُوزُ وِلَايَةُ الْمَفْضُولِ عَلَى الْفَاضِلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَانِعٌ إمَّا خَوْفُ فِتْنَةٍ، أَوْ يَكُونَ الْفَاضِلُ غَيْرَ عَالَمٍ بِالسِّيَاسَةِ لِحَدِيثِ عُمَرَ فِي السَّقِيفَةِ، وَحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ فِي تَوْلِيَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَأَجَابَ مَنْ قَالَ: كَانَ خَارِجِيًّا بِأَنَّ الْخَارِجِيَّ مَنْ خَرَجَ عَلَى مُسْتَحِقٍّ، وَإِنَّمَا خَرَجَ الْحُسَيْنُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِدَفْعِ الْبَاطِلِ وَإِقَامَةِ الْحَقِّ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: نَقَلْتُ مِنْ خَطِّ ابْنِ عَقِيلٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: كَانَ الْحُسَيْنُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَارِجِيًّا، فَبَلَغَ ذَلِكَ مِنْ قَلْبِي، فَقُلْتُ: لَوْ عَاشَ إبْرَاهِيمُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

صَلُحَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا، فَهَبْ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ نَزَلَا عَنْ رُتْبَةِ إبْرَاهِيمَ مَعَ كَوْنِهِ سَمَّاهُمَا ابْنَيْهِ، أَوَ لَا يُصِيبُ وَلَدُ وَلَدِهِ أَنْ يَكُونَ إمَامًا بَعْدَهُ؟ فَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ خَارِجِيًّا وَإِخْرَاجُهُ عَنْ الْإِمَامَةِ لِأَجْلِ صَوْلَةِ بَنِي أُمَيَّةَ هَذَا مَا لَا يَقْتَضِيه عَقْلٌ وَلَا دِينٌ، قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَمَتَى حَدَّثَتْكَ نَفْسُكَ وَفَاءَ النَّاسِ فَلَا تُصَدِّقْ، هَذَا ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْثَرُ النَّاسِ حُقُوقًا عَلَى الْخَلْقِ إلَى أَنْ قَالَ: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] . فَقَتَلُوا أَصْحَابَهُ وَأَهْلَكُوا أَوْلَادَهُ، وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: فَقَدْ جَوَّزَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ الْخُرُوجَ عَلَى غَيْرِ الْعَادِلِ، وَفَسَّرَ ابْنُ عَقِيلٍ الْآيَةَ بِالتَّفْسِيرِ الْمَرْجُوحِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ أَوَّلَ جَيْشٍ يَغْزُو الْقُسْطَنْطِينِيَّة مَغْفُورٌ لَهُمْ» وَأَوَّلُ جَيْشٍ غَزَاهَا كَانَ أَمِيرُهُمْ يَزِيدُ فِي خِلَافَةِ أَبِيهِ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ فِي الْجَيْشِ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَالْجَيْشُ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ لَا مُطْلَقٌ، وَشُمُولُ الْمَغْفِرَةِ لِآحَادِ هَذَا الْجَيْشِ أَقْوَى مِنْ شُمُولِ اللَّعْنَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنْ الظَّالِمِينَ، فَإِنَّ هَذَا حَصْرٌ، وَالْجَيْشُ مُعَيَّنُونَ وَيُقَالُ: إنَّ يَزِيدَ إنَّمَا غَزَا الْقُسْطَنْطِينِيَّة لِأَجْلِ هَذَا الْحَدِيثِ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي الْمُعْتَمَدِ: مَنْ حَكَمْنَا بِكُفْرِهِمْ مِنْ الْمُتَأَوِّلِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَجَائِزٌ لَعْنَتُهُمْ نَصَّ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ قَالَ فِي اللَّفْظِيَّةِ عَلَى مَنْ جَاءَ بِهَذَا: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، غَضَبُ اللَّهِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ قَالَ عَنْ قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ: هَتَكَ اللَّهُ الْخَبِيثَ، وَعَنْ قَوْمٍ: أَخْزَاهُ اللَّهُ. وَقَالَ فِي آخَرَ: مَلَأَ اللَّهُ قَبْرَهُ نَارًا. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: لَمْ أَرَهُ نَقَلَ لَعْنَةً مُعَيَّنَةً إلَّا لَعْنَةَ نَوْعٍ، أَوْ دُعَاءٍ عَلَى مُعَيَّنٍ بِالْعَذَابِ، أَوْ سَبًّا لَهُ لَكِنْ قَالَ الْقَاضِي: لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمُطْلَقِ، وَالْمُعَيَّنِ، وَكَذَلِكَ جَدُّنَا أَبُو الْبَرَكَاتِ. قَالَ الْقَاضِي: فَأَمَّا فُسَّاقُ أَهْلِ الْمِلَّةِ بِالْأَفْعَالِ كَالزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَقَتْلِ النَّفْسِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَلْ يَجُوزُ لَعْنُهُمْ أَمْ لَا؟ فَقَدْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ عَنْ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ قُلْت لِأَبِي: الرَّجُلُ يُذْكَرُ عِنْدَهُ الْحَجَّاجُ أَوْ غَيْرُهُ يَلْعَنُهُ؟ فَقَالَ: لَا يُعْجِبُنِي لَوْ عَمَّ فَقَالَ: أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ.

وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ مَنْ نَالَ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ قَالَ: لَا تَكَلَّمْ فِي هَذَا، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ» قَالَ فَقَدْ تَوَقَّفَ عَنْ لَعْنَةِ الْحَجَّاجِ مَعَ مَا فَعَلَهُ، وَمَعَ قَوْلِهِ: الْحَجَّاجُ رَجُلُ سُوءٍ، وَتَوَقَّفَ عَنْ لَعْنَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ مَعَ قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا، وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: هُوَ الَّذِي فَعَلَ بِالْمَدِينَةِ مَا فَعَلَ قَتَلَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَهَبَهَا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَكْتُبَ حَدِيثَهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي التَّوَقُّفِ فِي اللَّعْنَةِ فَفِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ لَا تَخْفَيْ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ، وَيَتْبَعُ قَوْلَ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ فَهُمَا الْإِمَامَانِ فِي زَمَانِهِمَا، وَيَقُولُ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ قَتَلَ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ قَتَلَ عُثْمَانَ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ قَتَلَ عَلِيًّا، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ قَتَلَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، وَنَقُولُ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ إذَا ذُكِرَ لَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْفِتَنِ عَلَى مَا تَقَلَّدَهُ أَحْمَدُ. قَالَ الْقَاضِي فَقَدْ صَرَّحَ الْخَلَّالُ بِاللَّعْنَةِ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِيمَا وَجَدْته فِي تَعَالِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ: لَيْسَ لَنَا أَنْ نَلْعَنَ إلَّا مَنْ لَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى طَرِيقِ الْإِخْبَارِ عَنْهُ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ الَّذِي قَرَّرَهُ الْخَلَّالُ اللَّعْنُ الْمُطْلَقُ الْعَامُّ لَا الْمُعَيَّنُ كَمَا قُلْنَا فِي نُصُوصِ الْوَعِيدِ وَالْوَعْدِ، وَكَمَا نَقُولُ فِي الشَّهَادَةِ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَإِنَّا نَشْهَدُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ، وَأَنَّ الْكَافِرِينَ فِي النَّارِ

وَنَشْهَدُ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَلَا نَشْهَدُ بِذَلِكَ لِمُعَيَّنٍ إلَّا مَنْ شَهِدَ لَهُ النَّصُّ، أَوْ شَهِدَ لَهُ الِاسْتِفَاضَةُ عَلَى قَوْلٍ، فَالشَّهَادَةُ فِي الْخَبَرِ كَاللَّعْنِ فِي الطَّلَبِ، وَالْخَبَرُ وَالطَّلَبُ نَوْعَا الْكَلَامِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الطَّعَّانِينَ وَاللَّعَّانِينَ لَا يَكُونُونَ شُهَدَاءَ وَلَا شُفَعَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، فَالشَّفَاعَةُ ضِدُّ اللَّعْنِ كَمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ ضِدُّ اللَّعْنَ وَكَلَامُ الْخَلَّالِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَلْعَنُ الْمُعَيَّنِينَ مِنْ الْكُفَّارِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ قَاتِلَ عُمَرَ، وَكَانَ كَافِرًا، وَيَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُلْعَنُ الْمُعَيَّنُ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ قَاتِلَ عَلِيٍّ، وَكَانَ خَارِجِيًّا. ثُمَّ اسْتَدَلَّ الْقَاضِي لِلْمَنْعِ بِمَا جَاءَ مِنْ ذَمِّ اللَّعْنِ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ تُرْجَى لَهُمْ الْمَغْفِرَةُ، وَلَا تَجُوزُ لَعْنَتُهُمْ؛ لِأَنَّ اللَّعْنَ يَقْتَضِي الطَّرْدَ وَالْإِبْعَادَ بِخِلَافِ مَنْ حُكِمَ بِكُفْرِهِ مِنْ الْمُتَأَوِّلِينَ، فَإِنَّهُمْ مُبْعَدُونَ مِنْ الرَّحْمَةِ كَغَيْرِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ، وَإِطْلَاقِهِ بِالنُّصُوصِ الَّتِي جَاءَتْ فِي اللَّعْنِ وَجَمِيعُهَا مُطْلَقَةٌ كَالرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي، وَآكِلِ الرِّبَا وَمُوَكِّلُهُ، وَشَاهِدِيهِ، وَكَاتِبِيهِ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: فَصَارَ لِلْأَصْحَابِ فِي الْفُسَّاقِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ (أَحَدُهَا) الْمَنْعُ عُمُومًا وَتَعَيُّنًا إلَّا بِرِوَايَةِ النَّصِّ. (وَالثَّانِي) إجَازَتُهَا. (وَالثَّالِثُ) التَّفْرِيقُ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ، لَكِنَّ الْمَنْعَ مِنْ الْمُعَيَّنِ هَلْ هُوَ مَنْعُ كَرَاهَةٍ أَوْ مَنْعُ تَحْرِيمٍ؟ ثُمَّ قَالَ فِي الرَّدِّ عَلَى الرَّافِضِيِّ لَا يَجُوزُ وَاحْتَجَّ بِنَهْيِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ لَعْنَةِ الرَّجُلِ الَّذِي يُدْعَى حِمَارًا. وَقَالَ هُنَا ظَاهِرُ كَلَامِهِ الْكَرَاهَةُ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَهُ الْقَاضِي فِيمَا بَعْدُ لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ أَحْمَدَ: لَا تُعْجِبُنِي لَعْنَةُ الْحَجَّاجِ وَنَحْوِهِ لَوْ عَمَّ فَقَالَ: أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ. قَالَ الْقَاضِي: فَقَدْ كَرِهَ أَحْمَدُ لَعْنَ الْحَجَّاجِ قَالَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُتَأَوَّلَ تَوَقُّفُ أَحْمَدَ عَنْ لَعْنَةِ الْحَجَّاجِ وَنُظَرَائِهِ (أَنَّهُ) كَانَ مِنْ الْأُمَرَاءِ فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) نَهْيٌ جَاءَ عَنْ لَعْنَةِ الْوُلَاةَ خُصُوصًا (الثَّانِي) أَنَّ لَعْنَ الْأُمَرَاءِ رُبَّمَا أَفْضَى إلَى الْهَرْجِ، وَسَفْكِ الدِّمَاءِ وَالْفِتَنِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ فِي غَيْرِهِمْ.

قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَاَلَّذِينَ اُتُّخِذُوا أَئِمَّةً فِي الدِّينِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ هُمْ أَعْظَمُ مِنْ الْأُمَرَاءِ عِنْد أَصْحَابِهِمْ، وَقَدْ يُفْضِي ذَلِكَ إلَى الْفِتَنِ. وَذَكَرَ يَعْنِي الْقَاضِي مَا نَقَلَهُ مِنْ خَطِّ أَبِي حَفْصٍ الْعُكْبَرِيِّ أَسْنَدَهُ إلَى صَالِحٍ بْنِ أَحْمَدَ قُلْتُ لِأَبِي: إنَّ قَوْمًا يَنْسُبُونَ إلَيَّ تَوَلِّي يَزِيدَ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ وَهَلْ يَتَوَلَّى يَزِيدَ أَحَدٌ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؟ فَقُلْتُ: وَلِمَ لَا تَلْعَنُهُ؟ فَقَالَ: وَمَتَى رَأَيْتنِي أَلْعَنُ شَيْئًا؟ لِمَ لَا نَلْعَنُ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ؟ فَقُلْتُ: وَأَيْنَ لَعَنَ اللَّهُ يَزِيدَ فِي كِتَابِهِ؟ فَقَرَأَ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22] {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 23] . فَهَلْ يَكُونُ فِي قَطْعِ الرَّحِمِ أَعْظَمُ مِنْ الْقَتْلِ؟ قَالَ الْقَاضِي: وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ إنْ صَحَّتْ فَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي مَعْنَى لَعْنِ يَزِيدَ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: الدَّلَالَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى اسْتِلْزَامِ الْمُطْلَقِ لِلْمُعَيَّنِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ فِي مَكَان آخَرَ: وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ لَعْنَةُ أَقْوَامٍ مُعَيَّنِينَ مِنْ دُعَاةِ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَلِهَذَا فَرَّقَ مَنْ فَرَّقَ مِنْ الْأَصْحَابِ بَيْنَ لَعْنَةِ الْفَاسِقِ بِالْفِعْلِ، وَبَيْنَ دُعَاةِ أَهْلِ الضَّلَالِ إمَّا بِنَاءً عَلَى تَكْفِيرِهِمْ، وَإِمَّا بِنَاءً عَلَى أَنَّ ضَرَرَهُمْ أَشَدُّ، وَمَنْ جَوَّزَ لَعْنَةَ الْمُبْتَدِعِ الْمُكَفِّرِ مُعَيَّنًا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَعْنَةُ الْكَافِرِ الْمُعَيَّنِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَمَنْ لَمْ يُجَوِّزْ أَنْ يُلْعَنَ إلَّا مَنْ ثَبَتَ لَعْنُهُ بِالنَّصِّ، فَإِنَّهُ لَا يُجَوِّزُ لَعْنَةَ الْكَافِرِ الْمُعَيَّنِ، فَمَنْ لَمْ يُجَوِّزْ إلَّا لَعْنَ الْمَنْصُوصِ يَرَى أَنْ لَا يَجُوزَ ذَلِكَ لَا عَلَى وَجْهِ الِانْتِصَارِ وَلَا عَلَى وَجْهِ الْجِهَادِ، وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ كَالْهِجْرَةِ، وَالتَّعْزِيرِ وَالتَّحْذِيرِ. وَهَذَا مُقْتَضَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ

«أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ لِأَحَدٍ، أَوْ عَلَى أَحَدٍ قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ. وَقَالَ فِيهِ: اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا لِأَحْيَاءٍ مِنْ الْعَرَبِ» حَتَّى نَزَلَتْ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] . قَالَ: وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَلْعَنْ الْمُعَيَّنَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، أَوْ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، أَوْ مُطْلَقًا، وَأَمَّا مَنْ جَوَّزَ لَعْنَةَ الْفَاسِقِ الْمُعَيَّنِ عَلَى وَجْهِ الْبُغْضِ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُ وَالتَّعْزِيرِ، فَقَدْ يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِانْتِصَارِ أَيْضًا، وَمَنْ يُرَجِّحُ الْمَنْعَ مِنْ لَعْنِ الْمُعَيَّنِ، فَقَدْ يُجِيبُ عَمَّا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَحَدِ أَجْوِبَةٍ ثَلَاثَةٍ إمَّا بِأَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ كَلَعْنِ مَنْ لَعَنَ فِي الْقُنُوتِ عَلَى مَا قَالَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَإِمَّا أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا دَخَلَ فِي قَوْلِهِ: «اللَّهُمَّ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ، فَأَيُّمَا مُسْلِمٍ سَبَبْتُهُ أَوْ لَعَنْتُهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ صَلَاةً وَزَكَاةً وَرَحْمَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إلَيْك يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ اللَّعْنَةِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ أَنَّهُ يَفْعَلُهَا بِاجْتِهَادِهِ بِالتَّعْزِيرِ فَجَعَلَ هَذَا الدُّعَاءَ دَافِعًا عَمَّنْ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: اللَّعْنُ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَابِتٌ بِالنَّصِّ فَقَدْ يَكُونُ اطَّلَعَ عَلَى عَاقِبَةِ الْمَلْعُونِ، وَقَدْ يُقَالُ: الْأَصْلُ مُشَارَكَتُهُ فِي الْفِعْلِ، وَلَوْ كَانَ لَا يَلْعَنُ إلَّا مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لِمَا قَالَ: «إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ، فَأَيُّمَا مُسْلِمٍ سَبَبْتُهُ، أَوْ شَتَمْتُهُ، أَوْ لَعَنْتُهُ فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ صَلَاةً وَزَكَاةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إلَيْك يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ يَخَافُ أَنْ يَكُونَ لَعَنَهُ بِمَا يَحْتَاجُ أَنْ يُسْتَدْرَكَ بِمَا يُقَابِلُهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ، فَإِنَّهُ مَعْصُومٌ، وَالِاسْتِدْرَاكُ بِهَذَا الدُّعَاءِ يَدْفَعُ مَا يَخَافُهُ مِنْ إصَابَةِ دُعَائِهِ لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ، وَإِنْ كَانَ بِاجْتِهَادٍ، إذْ هُوَ بِاجْتِهَادِهِ الشَّرْعِيِّ مَعْصُومٌ لِأَجْلِ التَّأَسِّي بِهِ. وَقَدْ يُقَالُ: نُصُوصُ الْفِعْلِ تَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ لِلظَّالِمِ كَمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ الْقِيَاسُ، فَإِنَّ اللَّعْنَةَ هِيَ الْبُعْدُ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُدْعَى عَلَيْهِ مِنْ الْعَذَابِ بِمَا يَكُونُ مُبْعِدًا عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَاللَّعْنَةُ أَوْلَى أَنْ تَجُوزَ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا نَهَى عَنْ لَعْنِ مَنْ عُلِمَ أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَمَنْ عُلِمَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فِي الْبَاطِنِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يُلْعَنُ؛ لِأَنَّ هَذَا مَرْحُومٌ بِخِلَافِ مَنْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: عَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ. فَقَالَ: يَا عَائِشَةَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ قَالَتْ: أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: قَدْ قُلْتِ: وَعَلَيْكُمْ» وَلِلْبُخَارِيِّ فِي رِوَايَةٍ: «إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ» ، وَفِيهِمَا أَيْضًا «أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: بَلْ عَلَيْكُمْ السَّامُ وَالذَّامُّ، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ لَا تَكُونِي فَاحِشَةً. فَقُلْتُ: مَا سَمِعْتَ مَا قَالُوا؟ فَقَالَ: أَوَلَيْسَ قَدْ رَدَدْت عَلَيْهِمْ الَّذِي قَالُوا؟ قُلْت: وَعَلَيْكُمْ» . وَفِي لَفْظٍ «مَهْ يَا عَائِشَةُ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَالتَّفَحُّشَ» وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ} [المجادلة: 8] . الذَّامُّ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ الذَّمُّ رُوِيَ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، وَمَعْنَاهُ الدَّائِمُ. وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ يَهُودَ أَتَوْا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: عَلَيْكُمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَغَضَبُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. قَالَ: مَهْلًا يَا عَائِشَةُ عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ» وَلَهُمَا أَوْ لِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ «إنَّا نُجَابُ عَلَيْهِمْ، وَلَا يُجَابُونَ عَلَيْنَا» قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِيهِ الِانْتِصَارُ مِنْ الظَّالِمِ، وَفِيهِ الِانْتِصَارُ لِأَهْلِ الْفَضْلِ مِمَّنْ يُؤْذِيهِمْ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْخَبَرِ فِي جَوَازِ لَعْنَةِ الْمُعَيَّنِ وَعَدَمِهِ مُحْتَمَلٌ. وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجَلَدَهُ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَلْعَنُوهُ فَوَاَللَّهِ مَا عَلِمْتُ إلَّا أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ مَا يُكْرَهُ مِنْ لَعْنِ شَارِبِ الْخَمْرِ، وَإِنَّهُ لَيْسَ بِخَارِجٍ عَنْ الْمِلَّةِ، فَهَذَا ظَاهِرُ الدَّلَالَةِ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ «أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ لَمَّا رَمَى الْمَرْجُومَةَ بِحَجَرٍ، فَنَضَحَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِهِ فَسَبَّهَا، فَسَمِعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبَّهُ إيَّاهَا فَقَالَ مَهْلًا يَا خَالِدُ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ» .

قَالَ فِي النِّهَايَةِ: اللَّعْنُ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ وَمِنْ الْخَلْقِ السَّبُّ وَالدُّعَاءُ انْتَهَى كَلَامُهُ، فَظَاهِرُهُ جَوَازُ السَّبِّ لَوْلَا التَّوْبَةُ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَكْرَانَ فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ فَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِيَدِهِ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِثَوْبِهِ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِنَعْلِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: مَا لَهُ أَخْزَاهُ اللَّهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ» ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ «قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: أَخْزَاك اللَّهُ قَالَ: لَا تَقُولُوا هَكَذَا، وَلَا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ» ، وَفِي النِّهَايَةِ قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ أَيْ: قَتَلَهُمْ، وَقِيلَ: لَعَنَهُمْ قِيلَ: عَادَاهُمْ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ عُمَرَ بَلَغَهُ عَنْ سَمُرَةَ أَنَّهُ بَاعَ خَمْرًا، فَقَالَ: قَاتَلَهُ اللَّهُ. لَكِنْ ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ أَنَّهُ مِنْ الدُّعَاءِ الَّذِي لَا يُقْصَدُ كَقَوْلِهِ: تَرِبَتْ يَدَاك. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي قُنُوتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلنَّازِلَةِ «اللَّهُمَّ الْعَنْ لِحْيَانَ وَرِعْلًا وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ» . قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِيهِ جَوَازُ لَعْنِ الْكُفَّارِ، وَطَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْهُمْ. وَفِي فُنُونِ ابْنِ عَقِيلٍ حَلَفَ رَجُلٌ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثَ أَنَّ الْحَجَّاجَ فِي النَّارِ فَسَأَلَ فَقِيهًا فَقَالَ الْفَقِيهُ أَمْسِكْ زَوْجَتَك، فَإِنَّ الْحَجَّاجَ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ أَفْعَالِهِ فِي النَّارِ، فَلَا يَضُرُّك الزِّنَا. وَيَجُوزُ لَعْنُ مَنْ وَرَدَ النَّصُّ بِلَعْنِهِ، وَلَا يَأْثَمُ عَلَيْهِ فِي تَرْكِهِ، وَيَجِبُ إنْكَارُ الْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ، وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى إبْطَالِهَا سَوَاءٌ قَبِلَهَا قَائِلُهَا، أَوْ رَدَّهَا، ذَكَرَهُ فِي الرِّعَايَةِ، وَقَدْ مَرَّ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ لَا يَصِحُّ ابْتِيَاعُ الْخَمْرِ لِيُرِيقَهَا، وَيَصِحُّ ابْتِيَاعُ كُتُبِ الزَّنْدَقَةِ لِيُحْرِقَهَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي مُسَوَّدَةِ شَرْحِ الْمُحَرَّرِ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ، ثُمَّ وَجَدْتُهُ فِي الْفُنُونِ قَالَ: لِأَنَّ فِي الْكُتُبِ مَالِيَّةَ الْوَرَقِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَيَتَوَجَّه قَوْلُ: أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّهُ اسْتِنْقَاذٌ كَشِرَاءِ الْأَسِيرِ. وَكَأَنَّ ابْنَ عَقِيلٍ إنَّمَا حَكَى ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِ، فَإِنَّ لَفْظَهُ قِيلَ لِحَنْبَلِيٍّ: أَيَجُوزُ شِرَاءُ الْخَمْرِ لِإِرَاقَتِهِ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَكُتُبِ الزَّنْدَقَةِ لِلتَّمْزِيقِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: فَمَا الْفَرْقُ؟ قَالَ: فِي الْكُتُبِ مَالِيَّةُ الْوَرَقِ.

قَالَ حَنْبَلِيٌّ جَيِّدُ الْفَهْمِ: هَذَا بَاطِلٌ بِآلَةِ اللَّهْوِ، فَإِنَّ فِيهَا أَخْشَابًا وَوَتَرًا، وَلَا يَصِحُّ بَيْعُهَا بِمَا فِيهَا مِنْ التَّأْلِيفِ الَّذِي أَسْقَطَ حُكْمَ مَالِيَّةِ الْآلَةِ حَتَّى لَوْ أُحْرِقَتْ لَمْ يُضْمَنْ فَهَلَّا أَسْقَطْت حُكْمَ مَالِيَّةِ الْوَرَقِ كَمَا أَسْقَطْتَ حُكْمَ مَالِيَّةِ الْخَشَبِ؟ وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ: وَيَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِي كُتُبَ الزَّنْدَقَةِ، وَنَحْوِهَا لِيُتْلِفَهَا فَقَطْ.

فصل الطعن على العلماء

[فَصْلٌ الطَّعْنُ عَلَى الْعُلَمَاءِ] (فَصْلٌ) قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ: يَخْطُرُ بِقُلُوبِ الْعُلَمَاءِ نَوْعُ يَقَظَةٍ، فَإِذَا نَطَقُوا بِهَا وَبِحُكْمِهَا نَفَرَتْ مِنْهَا قُلُوبُ غَيْرِهِمْ، وَلَوْ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَلَا أَقُولُ الْعَوَامُّ، وَمَثَّلَ بِأَشْيَاءَ مِنْهَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ مَا ازْدَدْت يَقِينًا. وَأَنَّ رَجُلًا لَوْ صَحَا، فَقَالَ كَلِمَةً ظَاهِرُهَا يُوجِبُ عِنْدَ الْعَوَامّ الْكُفْرَ فَقَالَ: لَسْتُ أَجِدُ لِلرَّقِيبِ، وَالْعَتِيدِ حِشْمَةً وَلَا هَيْبَةً حَتَّى لَوْ اُسْتُفْتِيَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ لَقَالُوا كَافِرٌ، فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَيْسَ مُصَدِّقًا بِهِمَا، وَهُوَ يُهَوِّنُ بِحَفَظَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ وَمَلَائِكَتِهِ، فَلَوْ كَانَ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ، فَكَشَفَ عَنْ سِرِّ وَاقِعِهِ لَاسْتَحْيَا مِنْ جَهْلِهِ، أَوْ كُفْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَضْلًا عَنْ الْعَوَامّ، وَكَشْفُ السِّرِّ عَنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: غَلَبَتْ عَلَيَّ هَيْبَةُ رَبِّي وَحِشْمَةُ مَنْ يَشْهَدُنِي فَسَقَطَ مِنْ عَيْنَيَّ حِشْمَةُ مَنْ يَشْهَدُ عَلَيَّ، وَكُنْت أَجِدُ الْحِشْمَةَ لَهُمَا الْغَفْلَةُ عَقِبَهَا صَحْوٌ، وَمُوجِبُ الْيَقَظَةِ وَالصَّحْوِ وَزَوَالِ الْغَفْلَةِ وَالسَّهْوِ السَّمْعُ {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ} [فصلت: 53] {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} [الواقعة: 85] وَالْعَقْلُ، فَإِنَّ مَنْ شَهِدَ الْحَقَّ كَانَ كَمَنْ شَهِدَ الْمَلِكَ، وَمَعَهُ أَصْحَابُ أَخْبَارِهِ فَلَا يَبْقَى لِأَصْحَابِهِ حُكْمٌ فِي قَلْبِ مَنْ شَهِدَ الْمَلِكَ، وَإِلَّا لَكَانَ وَهْنًا فِي مَعْرِفَتِهِ بِحُكْمِ الْمَلِك وَسُلْطَانِهِ. فَاحْذَرْ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الطَّعْنِ عَلَى الْعُلَمَاءِ مَعَ عَدَمِ بُلُوغِك إلَى مَقَامَاتِهِمْ، وَاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ حَتَّى أَنَّهُمْ فِي حَالٍ كَشَخْصٍ، وَفِي حَالٍ آخَرَ كَشَخْصٍ آخَرَ، فَإِنَّ لِلْعَبْدِ عِنْدَ كَشْفِ الْحَقِّ مَحْوًا عَنْ نَفْسِهِ، وَالْعَالَمُ يَتَلَاشَى فِي عَيْنِهِ، وَلِهَذَا قَالَتْ الْمُتَصَوِّفَةُ لِلصِّغَارِ: يُسَلَّمُ لِلْمَشَايِخِ الْكِبَارِ حَالُهُمْ، وَكَلَامُهُمْ سُمٌّ قَاتِلٌ لَهُمْ أَوَّلَا، ثُمَّ لِمَنْ لَا يَفْهَمُ مَا تَحْتَ كَلَامِهِمْ، وَالْقَاتِلُ قَدْ يَكُونُ مَعْذُورًا، وَالْمَقْتُولُ شَهِيدًا، أَمَّا الْمُنْكِرُ فَإِنَّهُ جَارٍ عَلَى الظَّاهِرِ. وَأَمَّا الْقَائِلُ فَقَالَ بِحُكْمِ حَالٍ كُشِفَتْ لَهُ خَاصَّةً وَحُجِبَ عَنْهَا السَّامِعُ، وَمِنْ هُنَا " كَلِّمُوا النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ ". فَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الْخَلْقَ لَا يَسْتَوُونَ فِي الْمَقَالِ، وَلَا فِي الْأَحْوَال لَا يَعْقِدُ الظُّنُونَ بِبَادِرَةِ الْوَاقِعِ، فَيَقَعُ نَاقِصًا.

فصل الإنكار على النساء الأجانب كشف وجوههن

[فَصْلٌ الْإِنْكَارُ عَلَى النِّسَاءِ الْأَجَانِبِ كَشْفَ وُجُوهِهِنَّ] هَلْ يَسُوغُ الْإِنْكَارُ عَلَى النِّسَاءِ الْأَجَانِبِ إذَا كَشَفْنَ وُجُوهَهُنَّ فِي الطَّرِيقِ؟ يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا سَتْرُ وَجْهِهَا، أَوْ يَجِبُ غَضُّ الْبَصَرِ عَنْهَا، أَوْ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ؟ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ نَظَرِ الْفَجْأَةِ «فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ قَالَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِي هَذَا حُجَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَسْتُرَ وَجْهَهَا فِي طَرِيقِهَا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ لَهَا، وَيَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ غَضُّ الْبَصَرِ عَنْهَا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ إلَّا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ شَرْعِيٍّ. ذَكَرَهُ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَاوِيُّ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ، وَقَالَ فِي الْمُغْنِي عَقِيبَ إنْكَارِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى الْأَمَةِ التَّسَتُّرَ: وَقَوْلُهُ: إنَّمَا الْقِنَاعُ لِلْحَرَائِرِ قَالَ: وَلَوْ كَانَ نَظَرُ ذَلِكَ مُحَرَّمًا لَمَا مَنَعَ مِنْ سَتْرِهِ، بَلْ أَمَرَ بِهِ، وَكَذَلِكَ احْتَجَّ هُوَ وَغَيْرُهُ عَلَى الْأَصْحَابِ وَغَيْرِهِمْ بِقَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا كَانَ لِإِحْدَاكُنَّ مُكَاتَبٌ فَمَلَكَ مَا يُؤَدِّي فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ» . وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَكَشْفُ النِّسَاءِ وُجُوهَهُنَّ بِحَيْثُ يَرَاهُنَّ الْأَجَانِبُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَلِمَنْ اخْتَارَ هَذَا أَنْ يَقُولَ: حَدِيثُ جَرِيرٍ لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا فِيهِ وُقُوعُهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ جَوَازُهُ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَشْرَعُ الْإِنْكَارُ؟ يَنْبَنِي عَلَى الْإِنْكَارِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ. فَأَمَّا عَلَى قَوْلِنَا وَقَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ النَّظَرَ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ وَلَا خَلْوَةٍ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسُوغَ الْإِنْكَارُ.

فصل في الإنكار بداعي الريبة وظن المنكر والتجسس لذلك

[فَصْلٌ فِي الْإِنْكَارِ بِدَاعِي الرِّيبَةِ وَظَنِّ الْمُنْكَرِ وَالتَّجَسُّسِ لِذَلِكَ] فِي الْإِنْكَارِ بِدَاعِي الرِّيبَةِ وَظَنِّ الْمُنْكَرِ وَالتَّجَسُّسِ لِذَلِكَ) نَصَّ أَحْمَدُ فِيمَنْ رَأْيَ إنَاءً يَرَى أَنَّ فِيهِ مُسْكِرًا أَنَّهُ يَدَعُهُ يَعْنِي لَا يُفَتِّشُهُ، تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْخَلَّالُ (مَا يُكْرَهُ أَنْ يُفَتَّشَ إذَا اسْتَرَابَ بِهِ) وَقَطَعَ الْقَاضِي فِي الْمُعْتَمَدِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إنْكَارُ الْمُنْكَرِ إذَا ظُنَّ وُقُوعُهُ، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَجِبُ، وَاخْتَارَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنَّ الْمَيِّتَ إذَا نِيحَ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ إذَا لَمْ يُوصِ بِتَرْكِهِ، وَكَانَ مِنْ عَادَةِ أَهْلِهِ النَّوْحُ، وَهَذَا مَعْنَى اخْتِيَارِ الشَّيْخِ فَخْرِ الدِّينِ فِي التَّلْخِيصِ قَالَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ: وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ؛ لِأَنَّهُ مَتَى غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ فِعْلُهُمْ لَهُ وَلَمْ يُوصِ بِتَرْكِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ فَقَدْ رَضِيَ بِهِ فَصَارَ كَتَارِكِ النَّهْيِ عَلَى الْمُنْكَرِ مَعَ الْقُدْرَةِ فَقَدْ جَعَلَ ظَنَّ وُقُوعِ الْمُنْكَرِ بِمَنْزِلَةِ الْمُنْكَرِ الْمَوْجُودِ فِي وُجُوبِ الْإِنْكَارِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَنَا فِي هَذَا الْحَالِ أَنَّهُ لَا يُعَذَّبُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ: إنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ اسْتِسْرَارُ قَوْمٍ بِالْمَعْصِيَةِ لِأَمَارَةٍ دَلَّتْ، وَآثَارِ ظَهَرَتْ، فَإِنْ كَانَ فِي انْتِهَاكِ حُرْمَةٍ يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهَا، مِثْلُ أَنْ يُخْبِرَهُ مَنْ يَثِقُ بِصِدْقِهِ أَنَّ رَجُلًا خَلَا

بِرَجُلٍ لِيَقْتُلَهُ أَوْ بِامْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا جَازَ أَنْ يَتَجَسَّسَ، وَيُقْدِمُ عَلَى الْبَحْثِ وَالْكَشْفِ هَذَا فِي الْمُحْتَسِبِ وَهَكَذَا لَوْ عَرَفَ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ الْمُتَطَوِّعَةِ جَازَ لَهُمْ الْإِقْدَامُ عَلَى الْكَشْفِ، وَالْإِنْكَارِ كَاَلَّذِي كَانَ مِنْ شَأْنِ الْمُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ وَشُهُودِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هُجُومَهُمْ، وَإِنْ حَدَّهُمْ لِلْقَذْفِ عِنْدَ قُصُورِ الشَّهَادَةِ. وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فِي الرِّيبَةِ لَمْ يَجُزْ التَّجَسُّسُ عَلَيْهِ، وَلَا كَشْفُ الْأَسْتَارِ عَنْهُ، وَكَذَا ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ فِي مَوْضِعٍ جَوَازُهُ كَمَا سَيَأْتِي فِي تَسْوِيَتِهِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ وَعَمَلًا بِالظَّنِّ، وَهُوَ رَأْيُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَيُتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ: نَصُّ أَحْمَدَ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي ظَنِّ وُقُوعِ مُنْكَرٍ مَسْتُورٍ، وَنَصُّهُ فِي الْفَصْلِ بَعْدَهُ فِي ظَنِّ وُقُوعِ مُنْكَرٍ ظَاهِرٍ، فَيُنْكِرُ الظَّاهِرَ لَا الْمَسْتُورَ. وَقَوْلُ الْقَاضِي فِي انْتِهَاكِ حُرْمَةٍ يَفُوت اسْتِدْرَاكُهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُنْكَرَ الْمَسْتُورَ إذَا زَالَ لَا تَجُوزُ الْمُجَاوَزَةُ بِدُخُولِ الدَّارِ وَالْمَكَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ زَوَالُ الْمُنْكَرِ، وَقَدْ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الرَّبِيعِ الصُّوفِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى سُفْيَانَ بِالْبَصْرَةِ فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إنِّي أَكُونُ مَعَ هَؤُلَاءِ الْمُحْتَسِبَةِ، فَنَدْخُلُ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَنَتَسَلَّقُ عَلَى الْحِيطَانِ، فَقَالَ: أَلَيْسَ لَهُمْ أَبْوَابٌ؟ قُلْتُ: بَلَى وَلَكِنْ نَدْخُلُ عَلَيْهِمْ لِئَلَّا يَفِرُّوا، فَأَنْكَرَهُ إنْكَارًا شَدِيدًا وَعَابَ فِعْلَنَا، فَقَالَ رَجُلٌ: مَنْ أَدْخَلَ ذَا؟ قُلْتُ: إنَّمَا دَخَلْتُ إلَى الطَّبِيبِ لِأُخْبِرَهُ بِدَائِي، فَانْتَفَضَ سُفْيَانُ. وَقَالَ: إنَّمَا أَهْلَكَنَا أَنَّا نَحْنُ سُقْمَى، وَنُسَمَّى أَطِبَّاءً، ثُمَّ قَالَ: لَا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ إلَّا مَنْ كُنَّ فِيهِ خِصَالُ ثَلَاثُ: رَفِيقٌ بِمَا يَأْمُرُ، رَفِيقٌ بِمَا يَنْهَى عَدْلٌ بِمَا يَأْمُرُ، عَدْلٌ بِمَا يَنْهَى، عَالِمٌ بِمَا يَأْمُرُ، عَالِمٌ بِمَا يَنْهَى. فَإِقْرَارُ أَحْمَدَ هَذَا وَلَمْ يُخَالِفْهُ دَلَّ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ، فَأَمَّا إنْ لَمْ يَزُلْ الْمُنْكَرُ إلَّا بِذَلِكَ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي إنْكَارِ الْمُنْكَرِ الْمَسْتُورِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ عَمِيَ فَبَعَثَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنِّي أُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَنِي فَتُصَلِّيَ فِي مَنْزِلِي فَأَتَّخِذَهُ مُصَلًّى، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَاءَ قَوْمُهُ، وَتَغَيَّبَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُمِ، وَهُوَ بِضَمِّ الدَّالِ وَسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَبَعْدَهَا مِيمٌ، وَقِيلَ: بِزِيَادَةِ يَاءٍ بَعْدَ الْخَاءِ عَلَى التَّصْغِيرِ. وَوَرَدَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي أَوَّلِهِ وَبِدُونِهِمَا وَرُوِيَ فِي غَيْرِ الصَّحِيحِ بِالنُّونِ بَدَلَ الْمِيمِ مُكَبَّرًا وَمُصَغَّرًا وَيُقَالُ أَيْضًا الدِّخْشِنُ بِكَسْرِ الدَّالِ وَالشِّينِ وَفِي الْخَبَرِ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دَخَلَ وَهُوَ يُصَلِّي فِي مَنْزِلِهِ وَأَصْحَابُهُ يَتَحَدَّثُونَ بَيْنَهُمْ، وَأَنَّهُمْ وَدُّوا أَنَّهُ دَعَا عَلَيْهِ، فَهَلَكَ وَوَدُّوا أَنَّهُ أَصَابَهُ شَيْءٌ، فَقَضَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَالَ: أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ فَقَالُوا: إنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ وَمَا هُوَ فِي قَلْبِهِ: قَالَ إنَّهُ لَا يَشْهَدُ أَحَدٌ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَيَدْخُلُ النَّارَ أَوْ تَطْعَمُهُ» . وَفِي الْبُخَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَلَا تَرَاهُ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» . قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا مِنْ الْمَشَاهِدِ قَالَ: وَلَا يَصِحُّ عَنْهُ النِّفَاقُ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَرِقَ السَّمْعَ عَلَى دَارِ غَيْرِهِ لِيَسْمَعَ صَوْتَ الْأَوْتَارِ، وَلَا يَتَعَرَّضُ لِلشَّمِّ لِيُدْرِكَ رَائِحَةَ الْخَمْرِ، وَلَا يَمَسُّ مَا قَدْ سُتِرَ بِثَوْبٍ لِيَعْرِفَ شَكْلَ الْمِزْمَارِ، وَلَا أَنْ يَسْتَخْبِرَ جِيرَانَهُ لِيُخْبَرَ بِمَا جَرَى، بَلْ لَوْ أَخَبَرَهُ عَدْلَانِ ابْتِدَاءً أَنَّ فُلَانًا يَشْرَبُ الْخَمْرَ فَلَهُ إذْ ذَاكَ أَنْ يَدْخُلَ، وَيُنْكِرَ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ قَالَ زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ: أُتِيَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَقِيلَ لَهُ: هَذَا فُلَانٌ يَعْنِي الْوَلِيدَ تَقْطُرُ لِحْيَتُهُ خَمْرًا، فَقَالَ: عَبْدُ اللَّهِ إنَّا قَدْ انْتَهَيْنَا عَنْ التَّجَسُّسِ، وَلَكِنْ إنْ يَظْهَرْ لَنَا شَيْءٌ نَأْخُذْ بِهِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ زَيْدٍ فَذَكَرَهُ، وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ يَعْنِي الْوَلِيدَ. وَالْأَعْمَشُ مُدَلِّسٌ وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ الْمُدَلِّسَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ إذَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالسَّمَاعِ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ حَمْلًا عَلَى السَّمَاعِ، وَبِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ، غَايَتُهُ ظَنُّ صَحَابِيٍّ وَاعْتِقَادُهُ أَنَّ هَذَا مِنْ التَّجَسُّسِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: أُتِيَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَقِيلَ لَهُ: هَذَا فُلَانٌ تَقْطُرُ لِحْيَتُهُ خَمْرًا، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْآنَ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ شَأْنِهِ وَعَادَتِهِ، ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد فِي بَابِ النَّهْيِ عَنْ التَّجَسُّسِ

وَرَوَى فِيهِ بِإِسْنَادِ الصَّحِيحِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ ثَوْرٍ عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: «إنَّك إنْ اتَّبَعْتَ عَوْرَاتِ النَّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ أَوْ كِدْت أَنْ تُفْسِدَهُمْ» فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ كَلِمَةٌ سَمِعَهَا مُعَاوِيَةُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الْحِمْصِيُّ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ حَدَّثَنَا ضَمْضَمُ بْنُ زُرْعَةَ عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ وَكَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ وَعَمْرِو بْنِ الْأَسْوَدِ وَالْمِقْدَادِ بْنَ مَعْدِي كَرِبَ وَأَبِي أُمَامَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ الْأَمِيرَ إذَا ابْتَغَى الرِّيبَةَ فِي النَّاسِ أَفْسَدَهُمْ» ضَمْضَمٌ حِمْصِيٌّ مُخْتَلَفٌ فِي تَوْثِيقِهِ. وَرَوَى فِي بَابِ الْغِيبَةِ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا الْأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ» سَعِيدٌ رَوَى عَنْهُ اثْنَانِ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ مَجْهُولٌ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِهِ، وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَعْنَاهُ وَفِيهِ: «لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ وَلَا تَطْلُبُوا عَوْرَاتِهِمْ» ثُمَّ ذَكَرَ مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ وَلِأَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ «لَا تُؤْذُوا عِبَادَ اللَّهِ» وَسَاقَهُ بِمَعْنَى مَا تَقَدَّمَ.

فصل الإنكار على الرجل والمرأة في موقف الريبة كخلوة ونحوها

[فَصْلٌ الْإِنْكَارُ عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي مَوْقِفِ الرِّيبَةِ كَخَلْوَةٍ وَنَحْوِهَا] فَإِنْ رَأْي رَجُلًا مَعَ امْرَأَةٍ فَهَلْ يَسُوغُ الْإِنْكَارُ؟ يَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ ثَمَّ قَرِينَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْوَاقِفِ، أَوْ قَرِينَةُ زَمَانٍ، أَوْ مَكَان، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ سَاغَ الْإِنْكَارُ، وَإِلَّا فَلَا، وَعَلَى هَذَا كَلَامُ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْقَاضِي قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْكَحَّالُ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ: الرَّجُلُ السُّوءُ يُرَى مَعَ الْمَرْأَةِ قَالَ: صِحْ بِهِ. وَقَالَ أَيْضًا لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الْغُلَامُ يَرْكَبُ خَلْفَ الْمَرْأَةِ، قَالَ: يُنْهَى، وَيُقَالُ لَهُ إلَّا أَنْ يَقُولَ: إنَّهَا لَهُ مَحْرَمٌ تَرْجَمَ عَلَيْهِمَا الْخَلَّالُ (بَابُ الرَّجُلِ يَرَى الْمَرْأَةَ مَعَ الرَّجُلِ السُّوءِ وَيَرَاهَا مَعَهُ رَاكِبَةً) وَذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ أَبَا دَاوُد قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، وَقِيلَ لَهُ: امْرَأَةٌ أَرَادَتْ أَنْ تَسْقُطَ عَنْ الدَّابَّةِ يُمْسِكُهَا الرَّجُلُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ الْقَاضِي: فَصْلٌ: وَمَنْ عُرِفَ بِالْفِسْقِ مُنِعَ مِنْ الْخَلْوَةِ بِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ لِمَا يَحْصُلُ فِيهِ مِنْ الرِّيبَةِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ ثَالِثُهُمَا» ثُمَّ ذَكَرَ رِوَايَةَ مُحَمَّدٍ بْنِ يَحْيَى الثَّانِيَةَ انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ الْقَاضِي: فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُحْتَسِبِ، وَإِذَا رَأَى وُقُوفَ رَجُلٍ مَعَ امْرَأَةٍ فِي طَرِيقٍ سَالِكٍ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُمَا أَمَارَاتُ الرَّيْبِ لَمْ يَتَعَرَّضْ عَلَيْهِمَا بِزَجْرٍ وَلَا إنْكَارٍ، وَإِنْ كَانَ الْوُقُوفُ فِي طَرِيقٍ خَالٍ فَخَلَوْا بِمَكَانِ رِيبَةٍ فَيُنْكِرُهَا، وَلَا يُعَجِّلْ فِي التَّأْدِيبِ عَلَيْهِمَا حَذَرًا مِنْ أَنْ تَكُونَ ذَاتَ مَحْرَمٍ وَلِيَقُلْ: إنْ كَانَتْ ذَاتَ مَحْرَمٍ فَصُنْهَا عَنْ مَوْقِفِ الرَّيْبِ، وَإِنْ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً فَاحْذَرْ مِنْ خَلْوَةٍ تُؤَدِّيكَ إلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلِيَكُنْ زَجْرُهُ بِحَسَبِ الْأَمَارَاتِ، وَإِذَا رَأَى الْمُحْتَسِبُ مِنْ هَذِهِ الْأَمَارَاتِ مَا يُنْكِرُهَا تَأَنَّى وَفَحَصَ وَرَاعَى شَوَاهِدَ الْحَالِ، وَلَمْ يُعَجِّلْ بِالْإِنْكَارِ قَبْلَ الِاسْتِخْبَارِ. وَتَقَدَّمَ كَلَامُ الْقَاضِي أَنَّهُ يُنْكِرُ عَلَى مَنْ خَالَفَ مَذْهَبَهُ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَخْتَلِفَ اجْتِهَادُهُ كَمَا يُنْكِرُ عَلَى مَنْ أَكَلَ فِي رَمَضَانَ، أَوْ طَعَامَ غَيْرِهِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ عُذْرٌ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ

وَقَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ: مَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْفِعْلَ الْوَاقِعَ مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ جَائِزٌ فِي الشَّرْعِ أَمْ غَيْرُ جَائِزٍ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْمُرَ وَلَا يَنْهَى فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا إنْكَارَ إلَّا مَعَ الْعِلْمِ، وَاَلَّذِي قَبْلَهُ يَقْتَضِي الْإِنْكَارَ بِالظَّنِّ إذَا انْبَنَى عَلَى أَصْلٍ، وَمَسْأَلَةُ النِّيَاحَةِ كَهَذَا، وَالْكَلَامُ الْمُتَقَدِّمُ يَقْتَضِي الْإِنْكَارَ بِأَمَارَةٍ، وَقَرِينَةٍ تُفِيدُ الظَّنَّ، فَهَذِهِ أَقْوَالٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَذُكِرَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّ فِي قِصَّةِ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْحُكْمَ بِالظَّاهِرِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ لِإِنْكَارِ مُوسَى، فَأَمَّا مُجَرَّدُ الْوَهْمِ وَالشَّكِّ فَلَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ بِهِ عَلَى الْإِنْكَارِ، وَالِاقْتِحَامِ بِهِ عَلَى الدِّيَارِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ «أَنَّهُ نَهَى الْمُسَافِرَ عَنْ قُدُومِهِ عَلَى أَهْلِهِ لَيْلًا» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ يَتَخَوَّنُهُمْ أَوْ يَطْلُبُ عَثَرَاتِهِمْ، وَالْمَعْنَيَانِ صَحِيحَانِ وَهُمَا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.

فصل في نشر السنة بالقول والعمل بغير خصومة ولا عنف

[فَصْلٌ فِي نَشْرِ السُّنَّةَ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ بِغَيْرِ خُصُومَةٍ وَلَا عُنْفٍ] سَأَلَ الْإِمَامَ أَحْمَدَ رَجُلٌ فَقَالَ: أَكُونُ فِي الْمَجْلِسِ فَتُذْكَرُ فِيهِ السُّنَّةُ لَا يَعْرِفهَا غَيْرِي أَفَأَتَكَلَّمُ بِهَا؟ فَقَالَ: أَخْبِرْ بِالسُّنَّةِ، وَلَا تُخَاصِمْ عَلَيْهَا فَعَادَ عَلَيْهِ الْقَوْلَ فَقَالَ: مَا أَرَاك إلَّا رَجُلًا مُخَاصِمًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ كَذَلِكَ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَالَهُ مَالِكٌ فَإِنَّهُ أَمَرَ بِالْإِخْبَارِ بِالسُّنَّةِ قَالَ: فَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ مِنْك فَاسْكُتْ. وَسَبَقَ فِي فُصُولِ الْكَذِبِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَفِي مَسَائِلِ صَالِحِ بْنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: وَسَأَلْته عَنْ رَجُلٍ يُبْلَى بِأَرْضٍ يُنْكِرُونَ فِيهَا رَفْعَ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ، وَيَنْسُبُونَهُ إلَى الرَّفْضِ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ هَلْ يَجُوزُ لَهُ تَرْكُ الرَّفْعِ قَالَ أَبِي: لَا يَتْرُكُ، وَلَكِنْ يُدَارِيهِمْ. وَقَالَ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: مَا أَغْضَبْتَ رَجُلًا قَطُّ فَسَمِعَ مِنْك. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ سِرًّا فَقَدْ نَصَحَهُ وَزَانَهُ، وَمَنْ وَعَظَهُ عَلَانِيَةً فَقَدْ فَضَحَهُ وَشَانَهُ. وَقَالَ فِي الْغُنْيَةِ، وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ بِالْعَلَانِيَةِ فَقَدْ شَانَهُ، وَمَنْ وَعَظَهُ سِرًّا فَقَدْ زَانَهُ. وَلَعَلَّهُ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ قَالَ الْخَلَّالُ: رُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ سِرًّا فَقَدْ زَانَهُ، وَمَنْ وَعَظَهُ عَلَانِيَةً فَقَدْ شَانَهُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ تَأْخِيرُ عُثْمَانَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَجَاءَ وَعُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ؟ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَهُ تَوْبِيخًا وَإِنْكَارًا لِتَوْبِيخِهِ لَا لِتَأْخِيرِهِ إلَى هَذَا الْوَقْتِ، فَفِيهِ تَفَقُّدُ الْإِمَامِ رَعِيَّتَهُ، وَأَمْرُهُمْ بِصَلَاحِ دِينِهِمْ، وَالْإِنْكَارُ عَلَى مُخَالِفِ السُّنَّةِ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرَ الْقَدْرِ. وَفِيهِ جَوَازُ الْإِنْكَارِ عَلَى الْكِبَارِ فِي مَجْمَعِ النَّاسِ، وَفِي قَوْلِ عُثْمَانَ شُغِلْتُ الْيَوْمَ فَلَمْ أَنْقَلِبْ إلَى أَهْلِي حَتَّى سَمِعْتُ النِّدَاءَ، فَلَمْ أَزِدْ عَلَى أَنْ تَوَضَّأْتُ فِيهِ

الِاعْتِذَارُ إلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ وَغَيْرِهِمْ قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ: فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَلَمْ يَنْفَعْهُ أَظْهَرَ حِينَئِذٍ ذَلِكَ وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ بِأَهْلِ الْخَيْرِ، وَإِنْ لَمْ يَنْفَعْ فَبِأَصْحَابِ السُّلْطَانِ، وَتَقَدَّمَ فِي حِفْظِ اللِّسَانِ خَبَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ «كَفَى بِك إثْمًا أَنْ لَا تَزَال مُخَاصِمًا» .

فصل في كراهة مداخل السوء

[فَصْلٌ فِي كَرَاهَةِ مَدَاخِلِ السُّوءِ] ِ قَالَ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَكْرَهُ الْمَدْخَلَ السُّوءَ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ: أَكْرَهُ أَنْ يَخْرُجَ إلَى صَيْحَةٍ بِاللَّيْلِ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا يَكُونُ؟ تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْخَلَّالُ (مَا يُكْرَهُ أَنْ يَخْرُجَ إلَى صَيْحَةٍ بِاللَّيْلِ) وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ: أَكْرَهُ مُمَاشَاةَ الْمُرِيبِ كَرَاهَةَ أَنْ أَعِيبَ الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ، وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَوْلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: مَنْ كَتَمَ سِرَّهُ كَانَ الْخِيَارُ بِيَدِهِ، وَمَنْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلتُّهَمَةِ فَلَا يَلُومَنَّ مَنْ أَسَاءَ الظَّنَّ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلِ فِي الْفُنُونِ: قَالَ الْحَسَنُ مَنْ دَخَلَ مَدَاخِلَ التُّهَمَةِ لَمْ يَكُنْ أَجْرُ لِلْغِيبَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ لَمَّا فَعَلَ مَا لَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ سَقَطَ حَقُّهُ وَحَرَّمْتُهُ، وَهَذَا كَمَا قُلْنَا: تَسْقُطُ حُرْمَةُ الدَّاعِي إلَى وَلِيمَةٍ بِفِعْلِهِ مَا لَا يَنْبَغِي، وَحُرْمَةُ مَنْ سَلَّمَ فِي مَوْضِعٍ، لَا يَنْبَغِي وَحُرْمَةُ مَنْ صَلَّى فِي مَوْضِعٍ يَمُرُّ فِيهِ النَّاس، فَلَا يَرُدُّ مَنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَيَأْتِي كَلَامُهُ فِي الْغِيبَةِ فِي لِبَاسِ الشُّهْرَة.

فصل في حق المسلم على المسلم

[فَصْلٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ] ومما لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ، وَيَغْفِرَ زَلَّتَهُ، وَيَرْحَمَ عَبْرَتَهُ، وَيُقِيلَ عَثْرَتَهُ، وَيَقْبَلَ مَعْذِرَتَهُ، وَيَرُدَّ غِيبَتَهُ، وَيُدِيمَ نَصِيحَتَهُ، وَيَحْفَظَ خِلَّتَهُ، وَيَرْعَى ذِمَّتَهُ، وَيُجِيبَ دَعْوَتَهُ، وَيَقْبَلَ هَدِيَّتَهُ، وَيُكَافِئَ صِلَتَهُ، وَيَشْكُرَ نِعْمَتَهُ، وَيُحْسِنَ نُصْرَتَهُ، وَيَقْضِيَ حَاجَتَهُ، وَيَشْفَعَ مَسْأَلَتَهُ، وَيُشَمِّتَ عَطْسَتَهُ، وَيَرُدَّ ضَالَّتَهُ، وَيُوَالِيَهُ، وَلَا يُعَادِيَهُ، وَيَنْصُرَهُ عَلَى ظَالِمِهِ، وَيَكُفَّهُ عَنْ ظُلْمِهِ غَيْرِهِ، وَلَا يُسْلِمَهُ، وَلَا يَخْذُلَهُ، وَيُحِبَّ لَهُ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَيَكْرَهَ لَهُ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي الرِّعَايَةِ. قَالَ حَنْبَلٌ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: وَلَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ نُصْحُ الذِّمِّيِّ، وَعَلَيْهِ نُصْحُ الْمُسْلِمِ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَالنُّصْحُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ» وَمُرَادُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: قَالَ رَجُلٌ لِمِسْعَرٍ: تُحِبُّ أَنْ تُنْصَحَ؟ قَالَ: أَمَّا مِنْ نَاصِحٍ فَنَعَمْ، وَأَمَّا مِنْ شَامِتٍ فَلَا. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ عَنْ مِسْعَرٍ قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ مَنْ أَهْدَى إلَيَّ عُيُوبِي فِي سِرٍّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَإِنَّ النَّصِيحَةَ فِي الْمَلَأِ تَقْرِيعٌ. وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ مَرْفُوعًا: «إنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» وَلَيْسَ فِي مُسْلِمٍ فِي أَوَّلِهِ " إنَّ " وَلِأَبِي دَاوُد «إنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ» وَكَرَّرَهُ ثَلَاثًا وَذَكَرَهُ. وَلِلنَّسَائِيِّ «وَإِنَّمَا الدِّينُ النَّصِيحَةُ» وَذَكَرَهُ. فَظَاهِرُهُ أَنَّ مَدَارَ الدِّينِ وَالْإِسْلَامِ عَلَى هَذَا الْخَبَرِ. وَقَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ أَنَّهُ أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي تَجْمَعُ أَمْرَ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ:

مَعْنَى الْحَدِيثِ قِوَامُ الدِّينِ وَعِمَادُهُ النَّصِيحَةُ كَقَوْلِهِ «الْحَجُّ عَرَفَةَ» وَلِأَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «أَحَبُّ مَا تَعَبَّدَ لِي بِهِ عَبْدِي النُّصْحُ لِي» وَقَالَ جَرِيرٌ: «بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَالطَّاعَةِ فَلَقَّنَنِي " فِيمَا اسْتَطَعْت " وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ كَأَحْمَدَ وَزَادَ وَعَلَى فِرَاقِ الشِّرْكِ. قِيلَ: النَّصِيحَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ نَصَحَ الرَّجُلُ ثَوْبَهُ إذَا خَاطَهُ فَشَبَّهُوا فِعْلَ النَّاصِحِ فِيمَا يَتَحَرَّاهُ مِنْ صَلَاحِ الْمَنْسُوجِ لَهُ بِمَا يَسُدُّهُ مِنْ خَلَلِ الثَّوْبِ، وَقِيلَ: مِنْ نَصَحْت الْعَسَلَ إذَا صَفَّيْته مِنْ الشَّمْع، شَبَّهُوا تَخْلِيصَ الْقَوْلِ مِنْ الْغِشِّ بِتَخْلِيصِ الْعَسَلِ مِنْ الْخَلْطِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَالْأَصْحَابِ وُجُوبُ النُّصْحِ لِلْمُسْلِمِ، وَإِنْ لَمْ يَسْأَلْهُ ذَلِكَ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْإِخْبَارِ وَلِمُسْلِمٍ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ مَرْفُوعًا «مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ لَا يَجْتَهِدُ لَهُمْ وَيَنْصَحُ إلَّا لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ مَعَهُمْ» فَقَدْ يُقَالُ: ظَاهِرُهُ أَنَّ وُجُوبَ النُّصْحِ يَتَوَقَّفُ عَلَى السُّؤَالِ، وَقَدْ يُقَالُ: لَا بَلْ خَصَّ الْأَمِيرَ هَذَا لِأَنَّهُ أَخَصُّ. لَكِنْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة مَرْفُوعًا «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ وَفِيهِ فَإِذَا اسْتَنْصَحَك فَانْصَحْ لَهُ» وَهَذَا أَوْلَى وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ عَلَى مُحَرَّمٍ وَلَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ قَوْلِهِ بِخِلَافِ إنْكَارِ الْمُنْكَرِ. وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: التَّاجِرُ يَدْخُلُ عَلَيْهِ رَجُلٌ مُفْلِسٌ وَأَنَا أَعْرِفُهُ، وَلَا يَعْرِفُهُ أَسْكُتُ أَمْ أُخْبِرُهُ، قَالَ لَوْ أَنَّ خَنَّاقًا صَحِبَك، وَأَنْتَ لَا تَعْرِفُهُ وَأَنَا أَعْرِفُهُ أَأَسْكُتُ حَتَّى يَقْتُلَك؟ وَعَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَإِنْ ظَنَّ أَنْ لَا يَقْبَلَ نُصْحَهُ أَوْ خَافَ أَذًى مِنْهُ فَيُتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ مَا سَبَقَ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي بَابِ النَّصِيحَةِ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمُؤَذِّنُ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ سُلَيْمَانَ يَعْنِي ابْنَ بِلَالٍ عَنْ كَثِيرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ رَبَاحٍ

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ يَكُفُّ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ» كَثِيرٌ حَسَنُ الْحَدِيثِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» . وَلِمُسْلِمٍ «الْمُسْلِمُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إذَا اشْتَكَى عَيْنُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ، وَإِذَا اشْتَكَى رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ» وَفِي لَفْظٍ «كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» . وَصَحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ ابْنُ مَاجَهْ وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ وَلِابْنِ مَاجَهْ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ «وَإِذَا اسْتَشَارَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُشِرْ عَلَيْهِ» . وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا «مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ» وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ جَعْفَرٍ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ قَالَ لِوَلَدَيْهِ: اُكْتُبَا مَنْ سَلَّمَ عَلَيْنَا مِمَّنْ حَجَّ فَإِذَا قَدِمَ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: هَذَا مَحْمُولٌ مِنْهُ عَلَى صِيَانَةِ الْعِلْمِ لَا عَلَى الْكِبْرِ. وَقَالَ ابْنُ الصَّيْرَفِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي النَّوَادِرِ نَقَلَ عَنْهُ وَلَدُهُ صَالِحُ أَنَّهُ قَالَ: اُنْظُرُوا إلَى الَّذِينَ جَاءُوا مُسَلِّمِينَ عَلَيْنَا فَنَمْضِي بَعْدُ نُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ قَالَ الْقَاضِي وَذَلِكَ أَنَّهُ جَعَلَ مُضِيَّهُ إلَيْهِمْ فِي مُقَابَلَةِ مُضِيِّهِمْ إلَيْهِ وَلَمْ يَسْتَحِبَّ أَنْ يَبْدَأَهُمْ بِالْمُضِيِّ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ الْحِمَّانِيُّ الرَّجُلُ يَخْرُجُ إلَى مَكَّةَ لَا يَجِيءُ يُسَلِّمُ عَلَيَّ أَمْضِي أُسَلِّمُ عَلَيْهِ قَالَ: لَا إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَا عِلْمٍ أَوْ هَاشِمِيًّا أَوْ إنْسَانًا يُخَافُ شَرُّهُ وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قَالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ: قُلْ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ رِقَّ عَلَى هَذَا الْخَلْقِ وَاجْعَلْهُمْ فِي حِلٍّ فَقَدْ وَجَبَتْ نُصْرَتُك فَقُلْتُ: لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَجَعَلَ يَقُولُ: هَذَا رَجُلٌ صَالِحٌ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ، مَعْنَى كَلَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ لَمْ يَسْتَحِلَّنِي أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ غَيْرُهُ.

وَفِي مَسَائِلِ هَذَا الْفَصْلِ أَحَادِيثُ مَشْهُورَةٌ وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي (بَابِ مَنْ رَدَّ عَنْ مُسْلِمٍ غِيبَةً) حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْجَرِيرِيُّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجُشَمِيِّ حَدَّثَنَا جُنْدُبٌ قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ ثُمَّ عَقَلَهَا ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا سَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَثَارَ رَاحِلَتَهُ، فَأَطْلَقَهَا، ثُمَّ رَكِبَ، ثُمَّ نَادَى اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تُشْرِكْ فِي رَحْمَتِنَا أَحَدًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَقُولُونَ هُوَ أَضَلُّ أَمْ بَعِيرُهُ؟ أَلَمْ تَسْمَعُوا إلَى مَا قَالَ؟ الْجُشَمِيُّ» تَفَرَّدَ عَنْهُ الْجَرِيرِيُّ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا أَنَّ نَصْرَ الْمَظْلُومِ وَاجِبٌ وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا فِي شَيْءٍ آخَرَ وَإِنَّ ظُلْمَهُ فِي شَيْءٍ لَا يَمْنَعُ نَصْرَهُ عَلَى ظَالِمِهِ فِي شَيْءٍ آخَرَ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْأَدِلَّةِ. وَقَالَ الْخَلَّالُ: بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ مُعَاوَنَةِ الظَّالِمِ قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَلُ عَنْ رَجُلٍ جَحَدَ آخَرَ مِيرَاثًا لَهُ فِي يَدَيْهِ ثُمَّ عَدَا عَلَيْهِ رَجُلٌ آخِر وَظَلَمَهُ فِي شَيْءٍ آخَرَ غَيْرِ هَذَا الْمِيرَاثِ وَلَهُ قَرَابَةٌ فَاسْتَغَاثَهُمْ عَلَى ظَالِمِهِ فَقَالُوا: إنَّا نَخَافُ أَنْ نُعِينَك عَلَى ظُلَامَتِك هَذِهِ فَلَسْنَا بِفَاعِلِينَ حَتَّى تَرُدَّ إلَى أُخْتِكَ مِيرَاثَهَا، فَإِنْ فَعَلْتَ أَعَنَّاك عَلَى هَذَا الَّذِي ظَلَمَك قَالَ: مَا أَعْرِفُ مَا تَقُولُونَ وَمَا لِهَذِهِ عِنْدِي مِيرَاثٌ. فَقَالَ: لَا. مَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُعِينُوهُ، أَخْشَى أَنْ يَجْتَرِئَ، لَا، وَلَكِنْ يَدَعُوهُ حَتَّى يَنْكَسِرَ فَيَرُدَّ عَلَى هَذِهِ قِيلَ لَهُ وَهُمْ قَرَابَتُهُ وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ هَذَا قَدْ ظَلَمَهُ قَالَ: لَا يُعِينُوهُ حَتَّى يُؤَدِّي إلَى تِلْكَ لَعَلَّهُ أَنْ يَنْتَهِي بِهَذَا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَرْبٍ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ ظَالِمٍ ظَلَمَهُ رَجُلٌ أُعِينُهُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: لَا حَتَّى يَرْجِعَ عَنْ ظُلْمِهِ. وَرَوَى الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حَمَّادٍ الْمُنْقِرِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو ثَابِتٍ الْخَطَّابُ قَالَ: لَقِيَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ يَا أَبَا ثَابِتٍ؟ قُلْتُ: أَشْتَرِي دَقِيقًا لِأَبِي سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيِّ، فَقَالَ: تَشْتَرِي لِأَبِي سُلَيْمَانَ دَقِيقًا؟ فَقُلْتُ: وَمَا بَأْسٌ؟ فَقَالَ: مَا يَحِلُّ لَك قَالَ: فَقُلْتُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَقُولُ يَا أَبَا عَبْد اللَّه؟ قَالَ: لَا يَحِلُّ، تَشْتَرِي دَقِيقًا لِرَجُلٍ يَرُدُّ

أَحَادِيثَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُصُولِ: وَيُكْرَهُ لِأَهْلِ الْمُرُوآتِ وَالْفَضَائِلِ التَّسَرُّعُ إلَى إجَابَةِ الطَّعَامِ وَالتَّسَامُحُ بِحُضُورِ الْوَلَائِمِ غَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّهُ يُورِثُ دَنَاءَةً وَإِسْقَاطَ الْهَيْبَةِ مِنْ نُفُوسِ النَّاسِ، وَسَلَامُ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْمَشْهُورُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اُسْتُنْبِطَ مِنْهُ اسْتِحْبَابُ تَغَافُلِ أَهْلِ الْفَضْلِ عَنْ سَفَهِ الْمُبْطِلِينَ إذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْكَيِّسُ الْعَاقِلُ، هُوَ الْفَطِنُ الْمُتَغَافِلُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَإِنِّي لَأَعْفُو عَنْ ذُنُوبٍ كَثِيرَةٍ ... وَفِي دُونِهَا قَطْعُ الْحَبِيبِ الْمُوَاصِلِ وَأُعْرِضُ عَنْ ذِي الذَّنْبِ حَتَّى كَأَنَّنِي ... جَهِلْتُ الَّذِي يَأْتِي وَلَسْتُ بِجَاهِلِ وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَنَّهُ قَالَ: صَدِيقُكَ حِينَ تَسْتَغْنِي كَثِيرٌ ... وَمَا لَكَ عِنْدَ فَقْرِك مِنْ صَدِيقِ وَكُنْتُ إذَا الصَّدِيقُ أَرَادَ غَيْظِي ... عَلَى حَنَقٍ وَأَشْرَقَنِي بِرِيقِي غَفَرْتُ ذُنُوبَهُ وَصَفَحْتُ عَنْهُ ... مَخَافَةَ أَنْ أَكُونَ بِلَا صَدِيقِ وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَأَنْشَدَ فِي هَذَا الْمَعْنَى: وَمَنْ لَمْ يُغْمِضْ عَيْنَهُ عَنْ صَدِيقِهِ ... وَعَنْ بَعْضِ مَا فِيهِ يَمُتْ وَهْوَ عَاتِبُ وَمَنْ يَتَتَبَّعْ جَاهِدًا كُلَّ عَثْرَةٍ ... يَجِدْهَا وَلَا يَسْلَمْ لَهُ الدَّهْرَ صَاحِبُ وَقَالَ أَبُو فِرَاسٍ: لَمْ أُؤَاخِذْكَ بِالْجَفَاءِ لِأَنِّي ... وَاثِقٌ مِنْك بِالْإِخَاءِ الصَّحِيحِ وَجَمِيلُ الْعَدُوِّ غَيْرُ جَمِيلٍ ... وَقَبِيحُ الصَّدِيقِ غَيْرُ قَبِيحِ وَقَدْ قِيلَ: لَا تَرْجُ شَيْئًا خَالِصًا نَفْعُهُ ... فَالْغَيْثُ لَا يَخْلُو مِنْ الْغُثَاءِ وَقَالَ أَبُو شُعَيْبٍ صَالِحُ بْنُ عِمْرَانَ دَعَا رَجُلٌ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فَقَالَ:

تَرَى أَنْ تَعْصِيَنِي بَعْدَ الْإِجَابَةِ قَالَ: لَا. فَذَهَبَ الرَّجُلُ فَأَقْعَدَ مَعَ أَحْمَدَ مَنْ لَمْ يَشْتَهِ أَحْمَدُ أَنْ يَقْعُدَ، فَقَالَ أَحْمَدُ عِنْدَ ذَلِكَ رَحِمَ اللَّهُ ابْنَ سِيرِينَ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا تُكْرِمْ أَخَاكَ بِمَا يَشُقُّ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ هَذَا أَخِي أَكْرَمَنِي بِمَا يَشُقُّ عَلَيَّ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَا نَدْعُو مَنْ تَشُقُّ عَلَيْهِ الْإِجَابَةُ وَإِذَا حَضَرَ تَأَذَّى الْحَاضِرُونَ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ، وَقَالَ: إنْ كَانَ الطَّعَامُ حَرَامًا فَلِيَمْتَنِعْ مِنْ الْإِجَابَةِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مُنْكَرٌ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الدَّاعِي ظَالِمًا أَوْ فَاسِقًا أَوْ مُبْتَدِعًا أَوْ مُفَاخِرًا بِدَعْوَتِهِ وَذَكَرَ أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي الضِّيَافَةِ مُبْتَدِعٌ يَتَكَلَّمُ بِبِدْعَتِهِ لَمْ يَجُزْ الْحُضُورُ مَعَهُ إلَّا لِمَنْ يُقْدِمُ عَلَى الرَّدِّ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُبْتَدِعُ جَازَ الْحُضُورُ مَعَهُ مَعَ إظْهَارِ الْكَرَاهَةِ لَهُ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ مُضْحِكٌ بِالْفُحْشِ وَالْكَذِبِ لَمْ يَجُزْ الْحُضُورُ، وَيَجِبُ الْإِنْكَارُ فَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ مَزْحٌ لَا كَذِبَ فِيهِ، وَلَا فُحْشَ أُبِيحَ مَا يَقِلُّ مِنْ ذَلِكَ، فَأَمَّا اتِّخَاذُهُ صِنَاعَةً وَعَادَةً فَيَمْتَنِعُ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد بَابٌ فِي طَعَامِ الْمُتَبَارِيَيْنِ حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَبِي الزَّرْقَاءِ أَنْبَأْنَا أَبِي حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ الزُّبَيْرِ أَبِي الْحَارِثِ سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يَقُولُ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: «إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ طَعَامِ الْمُتَبَارِيَيْنِ أَنْ يُؤْكَلَ» . إسْنَادٌ جَيِّدٌ. قَالَ أَبُو دَاوُد أَكْثَرُ مَنْ رَوَاهُ عَنْ جَرِيرٍ لَا يَذْكُرُ فِيهِ ابْنَ عَبَّاسٍ. وَهَارُونُ النَّحْوِيُّ ذَكَرَ فِيهِ ابْنَ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ لَمْ يَذْكُرْ ابْنَ عَبَّاسٍ وَذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ أَنَّ الْمُتَبَارِيَيْنِ هُمَا الْمُتَعَارِضَانِ، فَفِعْلُهُمَا لِيُعْجِزَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِصَنِيعِهِ. وَإِنَّهُ إنَّمَا كَرِهَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُبَاهَاةِ وَالرِّيَاءِ. فَهَذَا يَدُلُّ لِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيُّ فِي الْمُفَاخِرِ بِدَعْوَتِهِ، وَذِكْرُ

أَبُو دَاوُد لِذَلِكَ يُوَافِقُهُ، ثُمَّ هَلْ يَحْرُمُ أَكْلُ هَذَا الطَّعَامِ أَوْ يُكْرَهُ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ نَظَرًا إلَى ظَاهِر النَّهْيِ وَالْمَعْنَى. وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي فَتَاوِيهِ إنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى مَنْ لَا يُصَلِّي وَلَا يُجِيبُ دَعْوَتَهُ، انْتَهَى كَلَامُهُ، وَقَطَعَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا تَجِبُ إجَابَةُ مَنْ يَجُوزُ هَجْرُهُ. وَقَطَعَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ الَّذِي لَا تَجِبُ إجَابَتُهُ، وَحَكَاهُ فِي الْمُغْنِي عَنْ الْأَصْحَابِ، وَقَالَ: إنَّهُ لَا يَأْمَنُ اخْتِلَاطَ طَعَامِهِمْ بِالْحَرَامِ وَالنَّجَاسَةِ فَعَلَى مُقْتَضَى هَذَا التَّعْلِيلِ لَا تَجِبُ إجَابَةُ مُسْلِمٍ فِي مَا لَهُ شُبْهَةٌ وَلَا سِيَّمَا إذَا كَثُرَتْ، وَلَا مَنْ لَا يَتَحَرَّزُ مِنْ النَّجَاسَةِ، وَيُلَابِسُهَا كَثِيرًا، وَقَدْ سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الرَّجُلِ يُدْعَى إلَى الْخِتَانِ أَوْ الْعُرْسِ وَعِنْدَهُ الْمُخَنَّثُونَ، فَيَدْعُوهُ بَعْد ذَلِكَ بِيَوْمٍ أَوْ سَاعَةٍ وَلَيْسَ عِنْدَهُ أُولَئِكَ؟ فَقَالَ: أَرْجُو أَنْ لَا يَأْثَمَ إنْ لَمْ يُجِبْ، وَإِنْ أَجَابَ فَأَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ آثِمًا. وَقَالَ فِي الْمُغْنِي بَعْدَ ذِكْرِهِ لِهَذَا النَّصِّ: فَأُسْقِطَ الْوُجُوبُ لِإِسْقَاطِ الدَّاعِي حُرْمَةَ نَفْسِهِ بِاِتِّخَاذِ الْمُنْكَرِ وَلَمْ يُمْنَعْ مِنْ الْإِجَابَةِ لِكَوْنِ الْمُجِيبِ لَا يَرَى مُنْكَرًا وَلَا يَسْمَعُهُ وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: إنَّمَا تَجِبُ الْإِجَابَةُ إذَا كَانَ الْمُكْتَسِبُ طَيِّبًا وَلَمْ يَرَ مُنْكَرًا، وَهَذَا يُؤَيِّد مَا تَقَدَّمَ مِنْ مُقْتَضَى كَلَامِهِ فِي الْمُغْنِي وَقَالَ فِي الْمُغْنِي بَعْد ذِكْرِهِ لِهَذَا النَّصِّ: فَعَلَى هَذَا لَا تَجِبُ إجَابَةُ مَنْ طَعَامُهُ مِنْ مُكْتَسَبٍ خَبِيثٍ؛ لِأَنَّ اتِّخَاذَهُ مُنْكَرٌ وَالْأَكْلُ مِنْهُ مُنْكَرٌ، فَهُوَ أَوْلَى بِالِامْتِنَاعِ، وَإِنْ حَضَرَ لَمْ يَأْكُلْ. وَقَالَ صَالِحُ لِأَبِيهِ: مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ شَرِبَ الْخَمْرَ يَدْعُونِي إلَى غِذَائِهِ وَعَشَائِهِ أُجِيبُهُ، وَأُجَالِسُهُ قَالَ: تَأْمُرُهُ وَتَنْهَاهُ فَإِنْ كَانَ كَسْبُهُ كَسْبًا طَيِّبًا وَعَصَى اللَّه فِي بَعْضِ أَمْرِهِ يَدْعُو لَا يُجَابُ. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَأَنَا شَاهِدٌ: الرَّجُلُ يَكُونُ فِي الْقَرْيَةِ أَوْ الرُّسْتَاقِ وَسُئِلَ عَنْ الشَّيْءِ مِنْ الْعِلْمِ

فَأُهْدِيَ لَهُ الثِّمَارُ وَرُبَّمَا اسْتَعَانَ بِقَوْمٍ يَعْمَلُونَ فِي أَرْضِهِ فَقَالَ: إنْ كَانَ يُكَافِئُ وَإِلَّا فَلَا يَقْبَلُ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّه عَنْ الرَّجُلِ يُهْدَى إلَيْهِ الشَّيْءُ أَفَتَرَى أَنْ يَقْبَلَ؟ فَقَالَ: قَدْ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ» ، أَرَى لَهُ إنْ هُوَ قَبِلَ أَنْ يُثِيبَ. وَذَكَرَ إِسْحَاقُ فِي الْأَدَب مِنْ مَسَائِلِهِ أَنَّ إنْسَانًا أَهْدَى لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مَرَّةً شَيْئًا مَا يُسَاوِي ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ قَالَ: فَأَعْطَانِي دِينَارًا. فَقَالَ: اذْهَبْ فَاشْتَرِ بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ سُكَّرًا وَبِتِسْعَةِ دَرَاهِمَ تَمْرًا بَرْنِيًّا وَاذْهَبْ بِهِ إلَيْهِ، فَفَعَلْتُ، فَقَالَ اذْهَبْ بِهِ إلَيْهِ بِاللَّيْلِ. وَلِأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ كَلَامٌ كَثِيرٌ فِي قَبُولِ الْهَدِيَّةِ وَقَدْ ذَكَرْتُهُ وَبَعْضَ الْأَخْبَارِ فِيهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: نِعْمَ الشَّيْءُ الْهَدِيَّةُ أَمَامَ الْحَاجَةِ. وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِعْمَ الْعَوْنُ الْهَدِيَّةُ عَلَى طَلَبِ الْحَاجَةِ وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ كَذَّابًا مَتْرُوكًا فَإِنَّهُ إخْبَارِيٌّ عَلَّامَةٌ فَقَالَ: يُقَالُ: مَا اُرْتُضِيَ الْغَضْبَانُ، وَلَا اُسْتُعْطِفَ السُّلْطَانُ، وَلَا سُلَّتْ السَّخَائِمُ، وَلَا دُفِعَتْ الْمَغَارِمُ، وَلَا تُوُقِّيَ الْمَحْذُورُ، وَلَا اُسْتُمِيلَ الْمَهْجُورُ، بِمِثْلِ الْهَدِيَّةِ وَالْبِرِّ وَقَالَ ابْنُ عَبْد الْبَرِّ: وَقَدْ وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «تَجَاوَزُوا وَتَزَاوَرُوا وَتَهَادَوْا، فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تُثْبِتُ الْمَوَدَّةَ وَتَسُلُّ السَّخِيمَةَ» قَالَ الشَّاعِرُ: هَدَايَا النَّاسِ بَعْضَهُمْ لِبَعْضِ ... تُوَلِّدُ فِي قُلُوبِهِمْ الْوِصَالَا وَتَزْرَعُ فِي الضَّمِيرِ هَوًى وَوُدَّا ... وَتُلْبِسُهُمْ إذَا حَضَرُوا جَمَالَا.

فصل الهدية لمن أهديت إليه لا لمن حضر

[فَصْلٌ الْهَدِيَّةُ لِمَنْ أُهْدِيَتْ إلَيْهِ لَا لِمَنْ حَضَرَ] الْهَدِيَّةُ إنْ أُهْدِيَتْ إلَيْهِ يَخُصُّ بِهَا مَنْ شَاءَ، وَلَا يَصِحُّ الْخَبَرُ إنَّهَا لِمَنْ حَضَرَ، وَمِمَّا يُسْتَحَبُّ شَرْعًا وَعُرْفًا الْهَدِيَّةُ أَوَائِلُ الثِّمَارِ وَالزَّرْعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْهَا لَا سِيَّمَا إلَى الْكَبِيرِ الصَّالِحِ وَدُعَائِهِ عِنْدَ ذَلِكَ بِالْبَرَكَةِ، وَأَنَّهُ يُخَصِّصُ ذَلِكَ أَوْ بَعْضَهُ بَعْضَ مَنْ يُحْضِرُهُ مِنْ الصِّغَارِ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ لِذَلِكَ مَوْقِعًا عَظِيمًا بِخِلَافِ الْكِبَار. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُؤْتَى بِأَوَّلِ الثَّمَرِ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا وَفِي مُدِّنَا وَفِي صَاعِنَا وَفِي ثِمَارِنَا بَرَكَةً مَعَ بَرَكَةٍ ثُمَّ يُعْطِيهِ أَصْغَرَ مَنْ يُحْضِرُهُ مِنْ الْوِلْدَانِ» . [فَصْلٌ قَبُولُ الْهَدِيَّةِ إذَا لَمْ تَكُنْ عَلَى عَمَلِ الْبِرِّ] قَالَ أَبُو الْحَارِثِ: إنَّ أَبَا عَبْدَ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَسْأَلهُ الرَّجُلُ الْحَاجَةَ فَيَسْعَى مَعَهُ فِيهَا فَيُكَافِئُهُ عَلَى ذَلِكَ بِلُطْفِهِ يُهْدِي لَهُ تَرَى لَهُ أَنْ يَقْبَلَهَا؟ قَالَ إنْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ الْبِرِّ وَطَلَبِ الثَّوَابِ كَرِهْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَهَذَا النَّصُّ إنَّمَا فِيهِ الْكَرَاهَةُ لِمَنْ طَلَبَ الْبِرَّ وَالثَّوَابَ، وَظَاهِرُهُ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا فِي الْمُعَلِّمِ إنْ أُعْطِيَ شَيْئًا بِلَا شَرْطٍ جَازَ، وَإِنَّهُ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، وَكَرِهَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لِحَدِيثِ الْقَوْسَيْنِ. قَالَ فِي الْمُغْنِي: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَصَدَ الْقُرْبَةَ فَكَرِهَهُ لَهُ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَقَالَ صَالِحٌ وُلِدَ لِي مَوْلُودٌ فَأَهْدَى إلَيَّ صَدِيقٌ لِي شَيْئًا، فَمَكَثْت عَلَى ذَلِكَ أَشْهُرًا، وَأَرَادَ الْخُرُوجَ إلَى الْبَصْرَةِ فَقَالَ لِي: كَلِّمْ لِي أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَكْتُبُ لِي إلَى الْمَشَايِخِ بِالْبَصْرَةِ فَكَلَّمْته، فَقَالَ: لَوْلَا أَنَّهُ أَهْدَى إلَيْك كَتَبْتُ فَلَسْتُ أَكْتُبُ لَهُ. وَقَالَ صَالِحٌ قُلْتُ لِأَبِي: رَجُلٌ

أَوْدَعَ رَجُلًا وَدِيعَةً فَسَلَّمَهَا إلَى الَّذِي أَوْدَعَهُ فَأَهْدَى إلَيْهِ شَيْئًا يَقْبَلُهُ أَمْ لَا؟ فَقَالَ أَبِي: إذَا عَلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا أَهْدَى إلَيْهِ لِأَدَاءِ أَمَانَتِهِ فَلَا يَقْبَلْ الْهَدِيَّةَ إلَّا أَنْ يُكَافِئ بِمِثْلِهَا، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ السَّابِقَةِ. وَقَالَ يَعْقُوبُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَا يَنْبَغِي لِلْخَاطِبِ إذَا خَطَبَ لِقَوْمٍ أَنْ يَقْبَلَ لَهُمْ هَدِيَّةً. وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ التَّحْرِيمُ مُطْلَقًا أَوْ الْكَرَاهَةُ، وَاخْتَارَ التَّحْرِيمَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنِ تَيْمِيَّةَ فِي كُلِّ شَفَاعَةٍ فِيهَا إعَانَةٌ عَلَى فِعْلٍ وَاجِبٍ أَوْ تَرْكُ مُحَرَّمٍ وَفِي شَفَاعَةٍ عِنْدَ وَلِيِّ أَمْرٍ لِيُوَلِّيَهُ وِلَايَةً أَوْ يَسْتَخْدِمَهُ فِي الْمُقَاتَلَةِ، وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِذَلِكَ أَوْ لِيُعْطِيَهُ مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، أَوْ الْقُرَّاءِ وَالْفُقَهَاءِ، أَوْ غَيْرِهِمْ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَالَ هَذَا هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ، وَقَدْ رَخَّصَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي ذَلِكَ وَجَعَلَ هَذَا مِنْ بَابِ الْجَعَالَةِ يَعْنِي مِنْ الشَّافِعِيَّةِ قَالَ: وَهَذَا مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ فَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي الْقِيَامُ بِهَا فَرْضُ عَيْنٍ أَوْ كِفَايَةٍ، فَيَلْزَمُ مِنْ أَخْذِ الْجُعْلِ فِيهِ تَرْكُ الْأَحَقِّ، وَالْمَنْفَعَةُ لَيْسَتْ لِلْبَاذِلِ بَلْ لِلنَّاسِ، وَطَلَبِ الْوِلَايَةِ مَنْهِيُّ عَنْهُ فَكَيْفَ؟ بِالْعِوَضِ فَهَذَا مِنْ بَابِ الْفَسَادِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي احْتَجَّ بِهِ خَاصٌّ، وَيُتَوَجَّه لِأَجْلِهِ قَوْلٌ ثَالِثُ وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ الْآتِي، وَأَمَّا الْخَبَرُ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ فَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ: بَابُ الْهَدِيَّةِ لِلْحَاجَةِ ثُمَّ رَوَى عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: «مَنْ شَفَعَ لِأَخِيهِ شَفَاعَةً فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا» مِنْ رِوَايَةِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَالْعِجْلِيُّ وَيَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ وَالنَّسَوِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ لَا بَأْسَ بِهِ وَقَالَ الْجُوزَجَانِيُّ كَانَ خَيِّرًا فَاضِلًا وَتَكَلَّمَ فِيهِ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ، وَقَالَ ابْنُ حِرَاشٍ ضَعِيفٌ جِدًّا وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيُّ ضَعِيفٌ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ

رِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ وَضُعْفُهُ مَشْهُورٌ، وَفِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ، وَكَيْف يَكُونُ هَذَا بَابًا عَظِيمًا مِنْ الرِّبَا ثُمَّ يُحْمَلُ عَلَى شَفَاعَةٍ مُتَعَيَّنَةٍ لَا سِيَّمَا فِي وِلَايَةٍ، أَوْ عَلَى قَصْدِ الْقُرْبَةِ، وَلِهَذَا رَتَّبَ الْهَدِيَّةَ عَلَى الشَّفَاعَةِ. وَرَأَيْتُ تَعْلِيقًا عَلَى كَلَامِ الْقَاضِي عَلَى النُّسْخَةِ الْعَتِيقَةِ لِابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَعَلَيْهَا خَطُّ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ ابْنِ الْبَنَّا نَسَخَهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ رَأَيْت عَلَى الْمُجَلَّدَةِ الْأَخِيرَةِ: لَا يَجُوزُ أَخَذُ الْعِوَضِ فِي مُقَابَلَةِ الدَّفْعِ عَنْ الْمَظْلُومِ. ثُمَّ ذَكَرَ رِوَايَةَ أَبِي الْحَارِثِ السَّابِقَةِ وَقَالَ: فَإِذَا كَرِهَ ذَلِكَ فِيمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ فَأَوْلَى أَنْ يَكْرَهَ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ دَفْعِ الْمَظَالِمِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ ابْنَ بَطَّةَ وَصَاحِبَهُ أَبَا حَفْصٍ رَوَيَا خَبَرَ أَبِي أُمَامَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَرَوَى ابْن عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ زَاذَانَ «أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ يَقُولُ لِمَسْرُوقِ بْنِ الْأَجْدَعِ: إيَّاكَ وَالْهَدِيَّةَ فِي سَبَبِ الشَّفَاعَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ السُّحْتِ» ثُمَّ ذَكَرَ رِوَايَةَ يَعْقُوبَ السَّابِقَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَذَكَرَ ابْنُ حَفْصٍ فِي كِتَابِ الْهِبَاتِ بَابَ كَرَاهَةِ الْهَدِيَّةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ قَالَ الْأَثْرَمُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الرَّجُلُ يُعْطَى عِنْدَ الْمُفَصَّلِ قَالَ: لَا يُعْجِبُنِي. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَتَكَلَّمَ أَبُو مَسْعُودٍ لِرَجُلٍ فِي حَاجَةٍ فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةَ فَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهَا وَقَالَ: آخُذُ أَجْرَ شَفَاعَتِي فِي الدُّنْيَا، رَوَاهُ صَالِحُ عَنْ أَبِيهِ إسْمَاعِيلَ عَنْ ابْنِ عَوْفٍ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْهُ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ رَدَّهَا وَقَالَ إنَّا أَهْلُ بَيْتٍ لَا نَأْخُذُ عَلَى مَعْرُوفِنَا ثَمَنًا. رَوَاهُ صَالِحٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيِّ بْن عَاصِمٍ وَقَدْ ضَعَّفَهُ جَمَاعَةٌ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ وَهِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْهُ. وَقَدْ كَانَ إبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ بْنِ سَهْلٍ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ صَاحِبُ التَّصَانِيفِ الْحِسَانِ وَمِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْعِلْمِ مَعَ حُسْنِ الِاعْتِقَادِ أَدَّبَ الْقَاسِمَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّه فَلَمَّا تَوَلَّى الْقَاسِمُ الْوَزَارَةَ كَانَ وَظِيفَةُ أَبِي إِسْحَاقَ عِنْده أَنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْقَصَصَ وَيَقْضِي عِنْده الْأَشْغَالَ وَيُشَارِطُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَأْخُذُ مَا أَمْكَنَهُ وَقِصَّتُهُ مَشْهُورَةٌ. وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمُنْتَظِمِ بَعْدَ أَنْ تَرْجَمَ أَبَا إِسْحَاقَ بِهَذِهِ

التَّرْجَمَةِ، وَذَكَرَ قِصَّتَهُ قَالَ: رَأَيْتُ كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَالْعِلْمِ يَقْرَءُونَ هَذِهِ الْحِكَايَةَ وَيَتَعَجَّبُونَ، مُسْتَحْسِنِينَ لِهَذَا الْفِعْلِ، غَافِلِينَ عَمَّا تَحْتَهُ مِنْ الْقَبِيحِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوُلَاةِ إيصَالُ قَصَصِ الْمَظْلُومِينَ وَأَهْلِ الْحَوَائِجِ، فَإِقَامَةُ مَنْ يَأْخُذُ الْأَجْعَالَ عَلَى هَذَا الْقَبِيحِ حَرَامٌ، وَهَذَا مِمَّا وَهِيَ بِهِ الزَّجَّاجُ وَهْيًا عَظِيمًا، وَلَا يَرْتَفِعُ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ يَعْلَمُ مَا فِي بَاطِنِ مَا قَدْ حَكَاهُ عَنْ نَفْسِهِ فَهَذَا جَهْلٌ بِمَعْرِفَةِ حُكْمِ الشَّرْعِ، وَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ فَحِكَايَتُهُ فِي غَايَةِ الْقُبْحِ، فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ قِلَّةِ الْفِقْهِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَنَا خِلَافٌ مَشْهُورٌ فِي أَخْذِ الْأُجْرَةِ وَالْجَعَالَةِ عَلَى تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَأَدَائِهَا وَالتَّفْرِقَةِ، فَغَايَةُ الشَّفَاعَةِ كَذَلِكَ. وَنَصَّ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى أَنْ لَوْ قَالَ: اقْتَرِضْ لِي مِائَةً وَلَك عَشَرَةً. أَنَّهُ يَصِحُّ، قَالَ أَصْحَابُنَا: لِأَنَّهُ جَعَالَةٌ عَلَى فِعْلٍ مُبَاحٍ، قَالُوا: يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَبْذُلَ جُعْلًا لِمَنْ يَدُلُّ عَلَى مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ الْمَجْعُولَ لَهُ يَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا. وَقَاسُوهُ عَلَى أُجْرَةِ الدَّلِيلِ. وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَسُئِلَ عَنْ السُّحْتِ فَقَالَ: أَنْ تَشْفَعَ لِأَخِيكَ شَفَاعَةً فَيَهْدِي لَك هَدِيَّةً فَتَقْبَلُهَا، فَقِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ إنْ كَانَ هَدِيَّةً فِي بَاطِلٍ قَالَ: ذَلِكَ كُفْرٌ {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] . فَفِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ، وَالْمَعْرُوفُ عَنْهُ: وَإِنَّمَا السُّحْتُ أَنْ يَسْتَعِينَكَ عَلَى مَظْلِمَةٍ، فَيَهْدِي لَك فَلَا تَقْبَلُ ثُمَّ يُجَابُ عَنْهُ بِمَا سَبَقَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

فصل حمل ما جاء عن الإخوان على أحسن المحامل

[فَصْلٌ حَمْلُ مَا جَاءَ عَنْ الْإِخْوَانِ عَلَى أَحْسَنِ الْمَحَامِلِ] قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ: إنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ «إذَا بَلَغَكَ شَيْءٌ عَنْ أَخِيكَ فَاحْمِلْهُ عَلَى أَحْسَنِهِ حَتَّى لَا تَجِدَ لَهُ مَحْمَلًا» مَا يَعْنِي بِهِ؟ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: يَقُولُ تَعْذُرُهُ، تَقُولُ: لَعَلَّهُ كَذَا، لَعَلَّهُ كَذَا. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إنَّ أَبَا مُوسَى هَارُونَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَدْ جَاءَ إلَى رَجُلٍ شَتَمَهُ لَعَلَّهُ يَعْتَذِرُ إلَيْهِ، فَلَمْ يَخْرُجْ إلَيْهِ وَشَقَّ الْبَابَ فِي وَجْهِهِ؛ فَعَجِبَ وَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، أَمَا إنَّهُ قَدْ بَغَى عَلَيْهِ سَيُنْصَرُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: رَجُلٌ نَقَلَ قَدَمَهُ وَيَجِيءُ إلَيْهِ يَعْتَذِرُ لَا يَخْرُجُ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ ثنا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْن مِينَاءَ عَنْ جُوذَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ اعْتَذَرَ إلَى أَخِيهِ بِمَعْذِرَةٍ لَمْ يَقْبَلْهَا كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ خَطِيئَةِ صَاحِبِ مَكْسٍ» . وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَمُرَةَ عَنْ وَكِيعٍ، وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ مِينَاءَ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ وَكِيعٍ. وَقَالَ عَنْ ابْنِ جُوذَانَ: وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ، وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَلَمْ أَرَ فِي الْعَبَّاسِ ضَعْفًا. وَمُرَادُ هَذَا الْخَبَرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا لَمْ يُعْلَمْ كَذِبُهُ. وَلِهَذَا ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ اعْتَذَرَ إلَيْهِ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ فَلْيَقْبَلْ عُذْرَهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ كَذِبَهُ.» وَقَالَ عُمَرُ: لَا تَلُمْ أَخَاكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْعُذْرُ فِي مِثْلِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا شَتَمَنِي فِي أُذُنِي هَذِهِ وَاعْتَذَرَ إلَيَّ فِي أُذُنِي الْأُخْرَى لَقَبِلْتُ عُذْرَهُ. وَمِنْ النَّظْمِ فِي مَعْنَاهُ: قِيلَ لِي قَدْ أَسَاءَ إلَيْكَ فُلَانُ ... وَقُعُودُ الْفَتَى عَلَى الضَّيْمِ عَارُ قُلْتُ قَدْ جَاءَنَا فَأَحْدَثَ عُذْرَا ... دِيَةُ الذَّنْبِ عِنْدَنَا الِاعْتِذَارُ وَقَالَ الْأَحْنَفُ: إنْ اعْتَذَرَ إلَيْكَ مُعْتَذِرٌ تَلَقَّهُ بِالْبِشْرِ

وَقَالَ الشَّاعِرُ: يَلُومُنِي النَّاسُ فِيمَا لَوْ أُخَبِّرُهُمْ ... بِالْعُذْرِ مِنِّي فِيهِ لَمْ يَلُومُونِي وَقَالَ آخَرُ: اقْبَلْ مَعَاذِيرَ مَنْ يَأْتِيكَ مُعْتَذِرَا ... إنْ بَرَّ عِنْدَكَ فِيمَا قَالَ أَوْ فَجَرَا فَقَدْ أَطَاعَكَ مَنْ يُرْضِيكَ ظَاهِرُهُ ... وَقَدْ أَجَلَّكَ مَنْ يَعْصِيكَ مُسْتَتِرَا وَكَانَ يُقَالُ: مَنْ وُفِّقَ لِحُسْنِ الِاعْتِذَارِ خَرَجَ مِنْ الذَّنْبِ. وَكَانَ يُقَالُ: اعْتِذَارُ مَنْ يَمْنَعُ خَيْرٌ مِنْ وَعْدٍ مَمْطُولٍ. وَلِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَا لَهْفَ نَفْسِي عَلَى مَالٍ أُفَرِّقُهُ ... عَلَى الْمُقِلِّينَ مِنْ أَهْلِ الْمُرُوآت إنَّ اعْتِذَارِي إلَى مَنْ جَاءَ يَسْأَلُنِي ... مَا لَيْسَ عِنْدِي مِنْ إحْدَى الْمُصِيبَاتِ وَقَالَ آخَرُ: هِيَ الْمَقَادِيرُ فَلُمْنِي أَوْ فَذَرْ ... إنْ كُنْتُ أَخْطَأْتُ فَمَا أَخْطَأَ الْقَدَرْ وَقَالَ آخَرُ: وَإِذَا عُيِّرُوا قَالُوا مَقَادِيرُ قُدِّرَتْ ... وَمَا الْعَارُ إلَّا مَا تَجُرُّ الْمَقَادِيرُ وَقَالَ الْأَحْنَفُ: إيَّاكَ وَمَا تَعْتَذِرُ مِنْهُ فَإِنَّهُ قَلَّمَا اعْتَذَرَ أَحَدٌ فَيَسْلَمُ مِنْ الْكَذِبِ. وَقَالَ أَيْضًا: أَسْرَعُ النَّاسِ فِي الْفِتْنَةِ أَقَلُّهُمْ حَيَاءً مِنْ الْفِرَارِ. قَالَ الشَّاعِرُ: الْعَبْدُ يُذْنِبُ وَالْمَوْلَى يُقَوِّمُهُ ... وَالْعَبْدُ يَجْهَلُ وَالْمَوْلَى يُعَلِّمُهُ إنِّي نَدِمْتُ عَلَى مَا كَانَ مِنْ زَلَلِي ... وَزَلَّةُ الْمَرْءِ يَمْحُوهَا تَنَدُّمُهُ وَقَدْ قِيلَ: عَجِبْتُ لِمَنْ يَبْكِي عَلَى فَقْدِ غَيْرِهِ ... زَمَانًا وَلَا يَبْكِي عَلَى فَقْدِهِ دَمَا وَأَعْجَبُ مِنْ ذَا أَنْ يَرَى عَيْبَ غَيْرِهِ ... عَظِيمًا وَفِي عَيْنَيْهِ عَنْ عَيْبِهِ عَمَى وَقِيلَ أَيْضًا: عَجِبْتُ مِنْ الدُّنْيَا سَلَامَةَ ظَالِمِ ... وَعِزَّةَ ذِي بُخْلٍ وَذُلَّ كَرِيمِ

وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا كَرِيمٌ أَصَابَهُ ... قَضَاءٌ فَأَضْحَى تَحْتَ حُكْمِ لَئِيمِ وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ مِنْ كَلَامِ أَبِي الدَّرْدَاءِ: مُعَاتَبَةُ الْأَخِ أَهْوَنُ مِنْ فَقْدِهِ، وَمَنْ لَكَ بِأَخِيكَ كُلِّهِ، فَأَعْطِ أَخَاكَ وَهَبْ لَهُ، وَلَا تُطِعْ فِيهِ كَاشِحًا فَتَكُونَ مِثْلَهُ. وَقَالَ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ: مَنْ لَكَ بِأَخِيكَ كُلِّهِ؟ لَا تَسْتَقْصِ عَلَيْهِ فَتَبْقَى بِلَا أَخٍ، وَقَالَ عَمْرٌو: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَعْقَلُ النَّاسِ أَعْذَرُهُمْ لَهُمْ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: قَالَ أَعْرَابِيٌّ: عَاتِبْ مَنْ تَرْجُو رُجُوعَهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الْعِتَابُ الْوَفَاءُ، وَسِلَاحُ الْأَكْفَاءِ، وَحَاصِلُ الْجَفَاءِ، وَقَالَ (الْعَتَّابِيُّ) : ظَاهِرُ الْعِتَابِ خَيْرٌ مِنْ مَكْنُونِ الْحِقْدِ، وَصِرْفَةُ النَّاصِحِ خَيْرٌ مِنْ تَحِيَّةِ الشَّانِي، وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ كَثُرَ حِقْدُهُ قَلَّ عِتَابُهُ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُد: مَنْ لَمْ يُعَاتِبْ عَلَى الزَّلَّةِ، فَلَيْسَ بِحَافِظٍ لِلْخُلَّةِ وَقَالَ أَسْمَاءُ بْنُ خَارِجَةَ: الْإِكْثَارُ مِنْ الْعِتَابِ دَاعِيَةٌ إلَى الْمَلَالِ، وَسَبَقَ قَرِيبًا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ " الْكَيِّسُ الْعَاقِلُ، هُوَ الْفَطِنُ الْمُتَغَافِلُ " وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ: أُعَاتِبُ مَنْ يَحْلُو بِقَلْبِي عِتَابُهُ ... وَأَتْرُكُ مَنْ لَا أَشْتَهِي أَنْ أُعَاتِبَهْ وَلَيْسَ عِتَابُ الْمَرْءِ لِلْمَرْءِ نَافِعًا ... إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْءِ لُبٌّ يُعَاتِبُهْ وَقَالَ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ: إنْ كَانَ لَفْظِي كَرِيهًا فَاصْبِرَا فَعَلَى ... كُرْهِ الْعِلَاجِ يُصِحُّ اللَّهُ أَبْدَانَا لَوْلَا الْعَوَارِضُ مَا طَابَ الشَّبَابُ كَذَا ... لَوْلَا قِصَارَتُنَا لِلثَّوْبِ مَا لَانَا إنِّي أُعَاتِبُ إخْوَانِي وَهُمْ ثِقَتِي ... طَوْرًا وَقَدْ يُصْقَلُ السَّيْفُ أَحْيَانَا هِيَ الذُّنُوبُ إذَا مَا كُشِفَتْ دَرَسَتْ ... مِنْ الْقُلُوبِ وَإِلَّا صِرْنَ أَضْغَانَا وَقَالَ آخَرُ:

خُذْ مِنْ صَدِيقِكِ مَا صَفَا ... لَكَ لَا تَكُنْ جَمَّ الْمَعَائِبْ إنَّ الْكَثِيرَ عِتَابُهُ ... الْإِخْوَانَ لَيْسَ لَهُمْ بِصَاحِبْ وَقَالَ آخَرُ: إنَّ الظَّنِينَ مِنْ الْإِخْوَانِ يُبْرِمُهُ ... طُولُ الْعِتَابِ وَتُغْنِيهِ الْمَعَاذِيرُ وَذُو الصَّفَاءِ إذَا مَسَّتْهُ مَعْذِرَةٌ ... كَانَتْ لَهُ عِظَةٌ فِيهَا وَتَذْكِيرُ وَقَالَ آخَرُ: وَلَسْتُ مُعَاتِبًا خِلًّا لِأَنِّي ... رَأَيْتُ الْعَتْبَ يُغْرِي بِالْعُقُولِ وَقَالَ آخَرُ: وَلَوْ أَنِّي أُوَقِّفُ لِي صَدِيقَا ... عَلَى ذَنْبٍ بَقِيتُ بِلَا صَدِيقِ وَقَالَ آخَرُ: إنِّي لَيَهْجُرُنِي الصَّدِيقُ تَجَنُّبَا ... فَأُرِيهِ أَنَّ لِهَجْرِهِ أَسْبَابَا وَأَخَافُ إنْ عَاتَبْتُهُ أَغْرَيْتُهُ ... فَأَرَى لَهُ تَرْكَ الْعِتَابِ عِتَابَا وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا «ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، اغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ وَيْلٌ لِأَقْمَاعِ الْقَوْلِ، وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ. أَقْمَاعُ الْقَوْلِ: هُمْ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْقَوْلَ وَلَا يَعُونَهُ وَلَا يَفْهَمُونَهُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ: «مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ لَا يَرْحَمُهُ اللَّهُ» وَهُوَ لِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ. وَرَوَى أَحْمَدُ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ أَنْبَأَنَا زِيَادُ بْنُ مِخْرَاقٍ ثنا مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي لَأَذْبَحُ الشَّاةَ وَأَنَا أَرْحَمُهَا أَوْ قَالَ: إنِّي أَرْحَمُ الشَّاةَ أَنْ أَذْبَحَهَا قَالَ: وَالشَّاةُ إنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللَّهُ» إسْنَادٌ جَيِّدٌ. وَلِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إلَّا مِنْ شَقِيٍّ» . وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ «لَا حَلِيمَ إلَّا ذُو عَثْرَةٍ، وَلَا حَكِيمَ إلَّا ذُو تَجْرِبَةٍ» وَلَهُ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ عَنْ حُذَيْفَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا.

«لَا تَكُونُوا إمَّعَةً تَقُولُونَ إنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا» الْإِمَّعَةُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ مَعَ أَحَدٍ وَلَا عَلَى رَأْيٍ لِضَعْفِ رَأْيِهِ، وَالْهَاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ وَيُقَالُ فِيهِ إمَّعٌ أَيْضًا وَلَا يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ إمَّعَةٌ وَهَمْزَتُهُ أَصْلِيَّةٌ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إفَّعَلُ وَصْفًا، قَالَ فِي النِّهَايَةِ: هُوَ الَّذِي يَقُولُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنَا مَعَكَ، قَالَ: وَمِنْهُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ «لَا يَكُونُ أَحَدُكُمْ إمَّعَةً، قِيلَ وَمَا الْإِمَّعَةُ؟ قَالَ: الَّذِي يَقُولُ وَأَنَا مَعَ النَّاسِ» وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ السَّرَّاجُ: هُوَ فِعْلٌ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إفَّعَلُ وَصْفًا، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: امْرَأَةٌ إمَّعَةٌ غَلَطٌ، لَا يُقَالُ لِلنِّسَاءِ ذَلِكَ، وَقَدْ حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ. وَفِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا بَلَغَهُ عَنْ الرَّجُلِ الشَّيْءُ لَمْ يَقُلْ مَا بَالُ فُلَانٍ يَقُولُ؟ وَلَكِنْ يَقُولُ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا» . وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ رِوَايَةِ سَلْمٍ الْعَلَوِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَلَّمَا يُوَاجِهُ رَجُلًا بِشَيْءٍ يَكْرَهُهُ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ: لَوْ أَمَرْتُمْ أَنْ يَغْسِلَ ذِرَاعَيْهِ» وَرَوَوْا أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ رَافِعٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيمٌ، وَالْفَاجِرُ خِبٌّ لَئِيمٌ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ حَجَّاجِ بْنِ فُرَافِصَةَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمْ، وَيُرْوَى بِضَمِّ الْغَيْنِ وَكَسْرِهَا فَالضَّمُّ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ، مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ هُوَ الْكَيِّسُ الْحَازِمُ الَّذِي لَا يُؤْتَى مِنْ جِهَةِ الْغَفْلَةِ فَيُخْدَعُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَلَا يَفْطَنُ، وَالْمُرَادُ فِي أَمْرِ الدِّينِ، وَأَمَّا الْكَسْرُ فَعَلَى وَجْهِ النَّهْيِ يَقُولُ لَا يُخْدَعَنَّ الْمُؤْمِنُ وَلَا يَقْرَبَنَّ مِنْ نَاحِيَةِ الْغَفْلَةِ فَيَقَعُ فِي مَكْرُوهٍ أَوْ شَرٍّ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، وَلْيَكُنْ فَطِنًا حَذِرًا، وَهَذَا التَّأْوِيلُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ لِأَمْرِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا. ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ: إنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ذَكَرَ إبْلِيسَ وَقَالَ: إنَّمَا أُمِرَ بِالسُّجُودِ فَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ فَالِاسْتِكْبَارُ كُفْرٌ.

وَعَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ مَرْفُوعًا «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ؟ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ» إسْنَادُهُ صَحِيحٌ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَعَنْهُ مَرْفُوعًا «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ الْجَوَّاظُ وَلَا الْجَعْظَرِيُّ» إسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْعَتَلَةُ عَمُودُ حَدِيدٍ يُهْدَمُ بِهَا الْحِيطَانُ وَمِنْهُ اُشْتُقَّ الْعُتُلُّ وَهُوَ الشَّدِيدُ الْجَافِي وَالْفَظُّ الْغَلِيظُ مِنْ النَّاسِ وَالْجَوَّاظُ الْجَمُوعُ الْمَنُوعُ، وَقِيلَ: الْكَثِيرُ اللَّحْمِ الْمُخْتَالُ فِي مَشْيَتِهِ، وَقِيلَ: الْقَصِيرُ الْبَطِينُ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد هُوَ الْغَلِيظُ الْفَظُّ وَالْجَعْظَرِيُّ الْفَظُّ الْغَلِيظُ الْمُتَكَبِّرُ، وَقِيلَ الَّذِي يَتَنَفَّجُ بِمَا لَيْسَ عِنْدَهُ، وَفِي خَبَرٍ آخَرَ فِي أَهْلِ النَّارِ " الْجَعْظُ " وَهُوَ الْعَظِيمُ فِي نَفْسِهِ، وَقِيلَ: السَّيِّئُ الْخُلُقِ الَّذِي يَتَسَخَّطُ عِنْدَ الطَّعَامِ.

فصل في احترام الجليس وإكرام الصديق والمكافأة على المعروف

[فَصْلٌ فِي احْتِرَامِ الْجَلِيسِ وَإِكْرَامِ الصَّدِيقِ وَالْمُكَافَأَةِ عَلَى الْمَعْرُوفِ] وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ (بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَعَزُّ النَّاسِ عَلَيَّ جَلِيسِي الَّذِي يَتَخَطَّى النَّاسَ إلَيَّ، أَمَا وَاَللَّهِ إنَّ الذُّبَابَ يَقَعُ عَلَيْهِ فَيَشُقُّ عَلَيَّ. وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ عَلَيْكَ؟ قَالَ: جَلِيسِي حَتَّى يُفَارِقَنِي. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: ثَلَاثَةٌ لَا أَقْدِرُ عَلَى مُكَافَأَتِهِمْ وَرَابِعٌ لَا يُكَافِئُهُ عَنِّي إلَّا اللَّهُ تَعَالَى، فَأَمَّا الَّذِينَ لَا أَقْدِرُ عَلَى مُكَافَأَتِهِمْ: فَرَجُلٌ أَوْسَعَ لِي فِي مَجْلِسِهِ، وَرَجُلٌ سَقَانِي عَلَى ظَمَإٍ، وَرَجُلٌ أُغْبِرَتْ قَدَمَاهُ فِي الِاخْتِلَافِ إلَى بَابِي، وَأَمَّا الرَّابِعُ الَّذِي لَا يُكَافِئُهُ عَنِّي إلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَرَجُلٌ عَرَضَتْ لَهُ حَاجَةٌ فَظَلَّ سَاهِرًا مُتَفَكِّرًا بِمَنْ يُنْزِلُ حَاجَتَهُ وَأَصْبَحَ فَرَآنِي مَوْضِعًا لِحَاجَتِهِ، فَهَذَا لَا يُكَافِئُهُ عَنِّي إلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنِّي لَأَسْتَحِي مِنْ الرَّجُلِ أَنْ يَطَأَ بِسَاطِي ثَلَاثًا لَا يَرَى عَلَيْهِ أَثَرًا مِنْ أَثَرِي. [فَصْلٌ إجَابَةُ الدَّعْوَةِ] ِ وَهَلْ يَمْنَعُ وُجُوبَهَا الْأَسْتَارُ ذَاتُ التَّصَاوِيرِ) . قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّجُلُ يُدْعَى فَيَرَى سِتْرًا عَلَيْهِ تَصَاوِيرُ؟ قَالَ: لَا تَنْظُرْ إلَيْهِ، قُلْتُ قَدْ نَظَرْتُ إلَيْهِ كَيْف أَصْنَعُ؟ أَهْتِكْهُ؟ قَالَ: تَخْرِقُ شَيْءَ النَّاسِ وَلَكِنْ إنْ أَمْكَنَكَ خَلْعُهُ خَلَعْتَهُ. وَرَوَى الْمَرُّوذِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ يُوسُفَ بْنِ أَسْبَاطَ قَالَ: قُلْتُ لِسُفْيَانَ مَنْ أُجِيبُ وَمَنْ لَا أُجِيبُ؟ قَالَ: لَا تَدْخُلْ عَلَى رَجُلٍ إذَا دَخَلْتَ عَلَيْهِ أَفْسَدَ عَلَيْك، قَدْ كَانَ يُكْرَهُ الدُّخُولُ عَلَى أَهْلِ الْبَسْطَةِ يَعْنِي الْأَغْنِيَاءَ.

فصل في الهدية لذي القربى في الوليمة

[فَصْلٌ فِي الْهَدِيَّةِ لِذِي الْقُرْبَى فِي الْوَلِيمَةِ] قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: إنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَلَيْسَ قَدْ رُوِيَ «تَهَادَوْا تَحَابُّوا» قَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ سُلَيْمَانُ الْقَصِيرُ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَيُّ شَيْءٍ تَقُولُ فِي رَجُلٍ لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ وَلَهُ قَرَابَةٌ لَهُمْ وَلِيمَةٌ تَرَى أَنْ يَسْتَقْرِضَ وَيُهْدِيَ لَهُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ. [فَصْلٌ مَا صَحَّ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي اتِّقَاءِ النَّارِ] ِ بِاصْطِنَاعِ الْمَعْرُوفِ وَالصَّدَقَةِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ) قَدْ ذَكَرْتُ مَا صَحَّ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَكَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لِكُلِّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَوْلَيْتُهُ مَعْرُوفًا إلَّا أَضَاءَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنِي، وَلَا رَأَيْتُ رَجُلًا فُرِّطَ إلَيْهِ مِنِّي شَيْءٌ إلَّا أَظْلَمَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ،. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الْمَعْرُوفُ أَمْيَزُ زَرْعٍ، وَأَفْضَلُ كَنْزٍ، وَلَا يَتِمُّ إلَّا بِثَلَاثِ خِصَالٍ: بِتَعْجِيلِهِ وَتَصْغِيرِهِ وَسَتْرِهِ، فَإِذَا عُجِّلَ فَقَدْ هَنَأَ وَإِذَا صَغُرَ فَقَدْ عَظُمَ، وَإِذَا سُتِرَ فَقَدْ تَمَمَ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ: مَا شَيْءٌ أَفْضَلُ مِنْ الْمَعْرُوفِ إلَّا ثَوَابَهُ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ يَرْغَبُ فِيهِ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَلَا كُلُّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ يُؤْذَنُ لَهُ فِيهِ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ الرَّغْبَةُ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِذْنُ تَمَّتْ السَّعَادَةُ لِلطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ مِنْهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ وَهُوَ زُهَيْرٌ: وَمَنْ يَجْعَلْ الْمَعْرُوفَ مِنْ دُونِ عِرْضِهِ ... يَقِيهِ وَمَنْ لَا يَتَّقِي الشَّتْمَ يُشْتَمْ

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُزَهِّدَنَّكَ فِي الْمَعْرُوفِ كُفْرُ مَنْ كَفَرَهُ فَإِنَّهُ يَشْكُرُكَ عَلَيْهِ مَنْ لَا تَصْنَعُهُ إلَيْهِ، وَكَانَ يُقَالُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إسْرَافٌ إلَّا فِي الْمَعْرُوفِ وَكَانَ يُقَالُ لَا يُزَهِّدَنَّكَ فِي اصْطِنَاعِ الْمَعْرُوفِ دَمَامَةُ مَنْ تُسْدِيهِ إلَيْهِ، وَلَا مَنْ يَنْبُو بَصَرُكَ عَنْهُ، فَإِنَّ حَاجَتَكَ فِي شُكْرِهِ وَوَفَائِهِ لَا فِي مَنْظَرِهِ، وَكَانَ يُقَالُ: اصْنَعْ الْمَعْرُوفَ إلَى كُلِّ أَحَدٍ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ فَقَدْ وَضَعْتَهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ كُنْتَ أَنْتَ مِنْ أَهْلِهِ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَلَمْ أَرَ كَالْمَعْرُوفِ أَمَّا مَذَاقُهُ ... فَحُلْوٌ وَأَمَّا وَجْهُهُ فَجَمِيلُ كَانَ يُقَالُ: مَنْ أَسْلَفَ الْمَعْرُوفَ كَانَ رِبْحُهُ الْحَمْدَ وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي كُلِّ شَيْءٍ سَرَفٌ إلَّا فِي إتْيَانِ مَكْرُمَةٍ أَوْ اصْطِنَاعِ مَعْرُوفٍ أَوْ إظْهَارِ مُرُوءَةٍ، وَقَدْ قِيلَ أَيْضًا: كَانَ يُقَالُ كَمَا يُتَوَخَّى لِلْوَدِيعَةِ أَهْلُ الْأَمَانَةِ وَالثِّقَةِ كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُتَوَخَّى بِالْمَعْرُوفِ أَهْلُ الْوَفَاءِ وَالشُّكْرِ، وَكَانَ يُقَالُ: إعْطَاءُ الْفَاجِرِ يُقَوِّيهِ عَلَى فُجُورِهِ، وَمَسْأَلَةُ اللَّئِيمِ إهَانَةٌ لِلْعِرْضِ، وَتَعْلِيمُ الْجَاهِلِ زِيَادَةٌ فِي الْجَهْلِ، وَالصَّنِيعَةُ عِنْدَ الْكَفُورِ إضَاعَةٌ لِلنِّعْمَةِ، فَإِذَا هَمَمْتَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا فَارْتَدِ الْمَوْضِعَ قَبْلَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى الْفِعْلِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ الصَّنِيعَةَ لَا تَكُونُ إلَّا فِي ذِي حَسَبٍ أَوْ دِينٍ كَمَا أَنَّ الرِّيَاضَةَ لَا تَكُونُ إلَّا فِي نَجِيبٍ» . وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي مَكَان آخَرَ: خَمْسَةُ أَشْيَاءَ أَضْيَعُ شَيْءٍ فِي الدُّنْيَا: سِرَاجٌ يُوقَدُ فِي الشَّمْسِ، وَمَطَرٌ وَابِلٌ فِي أَرْضٍ سَبِخَةٍ، وَامْرَأَةٌ حَسْنَاءُ تُزَفُّ إلَى عِنِّينٍ، وَطَعَامٌ يُسْتَجَادُ ثُمَّ يُقَدَّمُ إلَى سَكْرَانَ أَوْ شَبْعَانَ، وَمَعْرُوفٌ تَصْنَعُهُ عِنْدَ مَنْ لَا يَشْكُرُكَ، وَفِي التَّوْرَاةِ مَكْتُوبٌ: افْعَلْ إلَى امْرِئِ السُّوءِ يَجْزِيكَ شَرًّا وَكَانَ يُقَالُ: صَاحِبُ الْمَعْرُوفِ لَا يَقَعُ فَإِذَا وَقَعَ أَصَابَ مُتَّكِئًا. وَكَتَبَ أَرِسْطُوطَالِيسُ إلَى الْإِسْكَنْدَرِ: امْلِكْ الرَّعِيَّةَ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهَا تَظْفَرْ بِالْمَحَبَّةِ مِنْهَا، وَطَلَبُكَ ذَلِكَ مِنْهَا بِإِحْسَانِكَ أَدْوَمُ بَقَاءً مِنْهُ بِاعْتِسَافِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ إنَّمَا تَمْلِكُ الْأَبْدَانَ فَتَخَطَّاهَا إلَى الْقُلُوبِ بِالْمَعْرُوفِ، وَاعْلَمْ أَنَّ

الرَّعِيَّةَ إذَا قَدَرَتْ عَلَى أَنْ تَقُولَ قَدَرَتْ عَلَى أَنْ تَفْعَلَ، فَاجْتَهِدْ أَنْ لَا تَقُولَ، تَسْلَمْ مِنْ أَنْ تَفْعَلَ. وَقَالَ مُعَاوِيَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِيَزِيدَ ابْنِهِ: يَا بُنَيَّ اتَّخِذْ الْمَعْرُوفَ مَنَالًا عِنْدَ ذَوِي الْأَحْسَابِ تَسْتَمِلْ بِهِ مَوَدَّتَهُمْ وَتَعْظُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ، وَإِيَّاكَ وَالْمَنْعَ فَإِنَّهُ ضِدُّ الْمَعْرُوفِ فَإِنَّهُ يُقَالُ حَصَادُ مَنْ يَزْرَعُ الْمَعْرُوفَ فِي الدُّنْيَا اغْتِبَاطٌ فِي الْآخِرَةِ. ذَمَّ أَعْرَابِيٌّ رَجُلًا فَقَالَ: كَانَ سَمِينَ الْمَالِ مَهْزُولَ الْمَعْرُوفِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ أَوْ الزُّبَيْرِيُّ: مَنْ زَرَعَ مَعْرُوفًا حَصَدَ خَيْرًا، وَمَنْ زَرَعَ شَرًّا حَصَدَ نَدَامَةً. قَالَ الشَّاعِرُ: مَنْ يَزْرَعْ الْخَيْرَ يَحْصُدْ مَا يُسَرُّ بِهِ ... وَزَارِعُ الشَّرِّ مَنْكُوسٌ عَلَى الرَّاسِ وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: يَدُ الْمَعْرُوفِ غُنْمٌ حَيْثُ كَانَتْ ... تَحَمَّلَهَا شَكُورٌ أَوْ كَفُورُ فَفِي شُكْرِ الشَّكُورِ لَهَا جَزَاءٌ ... وَعِنْدَ اللَّهِ مَا كَفَرَ الْكَفُورُ وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: سَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا يَقُولُ أَسْرَعُ الذُّنُوبِ عُقُوبَةً كُفْرُ الْمَعْرُوفِ. وَلِابْنِ دُرَيْدٍ وَقِيلَ: إنَّهُ أَنْشَدَهُمَا وَمَا هَذِهِ الْأَيَّامُ إلَّا مُعَارَةٌ ... فَمَا اسْطَعْتَ مِنْ مَعْرُوفِهَا فَتَزَوَّدْ فَإِنَّك لَا تَدْرِي بِأَيَّةِ بَلْدَةٍ ... تَمُوتُ وَلَا مَا يُحْدِثُ اللَّهُ فِي غَدِ وَقَالَ بَزَرْجَمْهَرْ: خَيْرُ أَيَّامِ الْمَرْءِ مَا أَغَاثَ فِيهِ الْمُضْطَرَّ، وَارْتَهَنَ فِيهِ الشُّكْرَ، وَاسْتَرَقَّ فِيهِ الْحُرَّ. جَمَعَ كِسْرَى مَرَازِبَتَهُ وَعُيُونَ أَصْحَابِهِ فَقَالَ لَهُمْ: عَلَى أَيِّ شَيْءٍ أَنْتُمْ أَشَدُّ نَدَامَةً؟ فَقَالُوا عَلَى وَضْعِ الْمَعْرُوفِ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ، وَطَلَبِ الشُّكْرِ مِمَّنْ لَا شُكْرَ لَهُ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَزَهَّدَنِي فِي كُلِّ خَيْرٍ صَنَعْتُهُ ... إلَى النَّاسِ مَا جَرَّبْتُ مِنْ قِلَّةِ الشُّكْرِ

وَقَالَ: وَمَنْ يَجْعَلْ الْمَعْرُوفَ مَعْ غَيْرِ أَهْلِهِ ... يُلَاقِ الَّذِي لَاقَى مُجِيرُ أُمِّ عَامِرِ قَالَ الْمُهَلَّبُ: عَجِبْتُ لِمَنْ يَشْتَرِي الْمَمَالِيكَ بِمَالِهِ وَلَا يَشْتَرِي الْأَحْرَارَ بِمَعْرُوفِهِ وَقَالَ: لَيْسَ لِلْأَحْرَارِ ثَمَنٌ إلَّا الْإِكْرَامَ فَأَكْرِمْ حُرًّا تَمْلِكْهُ. وَقَالَ الْمُتَنَبِّي: إذَا أَنْتَ أَكْرَمْتَ الْكَرِيمَ مَلَكْتَهُ ... وَإِنْ أَنْتَ أَكْرَمْتَ اللَّئِيمَ تَمَرَّدَا وَقَالَ عَبْدُ مَنَافٍ: دَوَاءُ مَنْ لَا يُصْلِحُهُ الْإِكْرَامُ الْهَوَانُ. قَالَ الشَّاعِرُ: مَنْ لَمْ يُؤَدِّبْهُ الْجَمِيلُ ... فَفِي عُقُوبَتِهِ صَلَاحُهْ وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ: فِعْلُ الْخَيْرِ مَعَ الْأَشْرَارِ تَقْوِيَةٌ لَهُمْ عَلَى الْأَخْيَارِ، كَمَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْرَمَ الْخَيْرُ أَهْلَهُ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْرَمَ الْخَيْرَ حَقَّهُ، فَإِنَّ وَضْعَ الْخَيْرِ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ ظُلْمٌ لِلْخَيْرِ كَمَا قِيلَ: لَا تَمْنَعُوا الْحِكْمَةَ أَهْلَهَا فَتَظْلِمُوهُمْ، وَلَا تَضَعُوهَا فِي غَيْرِ أَهْلِهَا فَتَظْلِمُوهَا، كَذَلِكَ الْبِرُّ وَالْإِنْعَامُ مُفْسِدٌ لِقَوْمٍ حَسَبُ مَا يُفْسِدُ الْحِرْمَانُ قَوْمًا، قَالَ: فَهُوَ كَالنَّارِ كُلَّمَا أُطِيبَ لَهَا مَأْكَلًا سَطَتْ فَأَفْسَدَتْ قَالَ فَرْقَدٌ قَالَ الْمُتَنَبِّي: وَوَضْعُ النَّدَى فِي مَوْضِعِ السَّيْفِ بِالْعُلَا ... مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيْفِ فِي مَوْضِعِ النَّدَى فَالسِّيَاسَةُ الْكُلِّيَّةُ افْتِقَادُ مَحَالِّ الْإِنْعَامِ قَبْلَ الْإِنْعَامِ، وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كُنْ مِنْ خَمْسَةٍ عَلَى حَذَرٍ مِنْ لَئِيمٍ إذَا أَكْرَمْتَهُ، وَكَرِيمٍ إذَا أَهَنْتَهُ، وَعَاقِلٍ إذَا أَحْرَجْتَهُ، وَأَحْمَقَ إذَا مَازَحْتَهُ، وَفَاجِرٍ إذَا مَازَجْتَهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ وَيَأْتِي فِي آخِرِ كُرَّاسَةٍ فِي الْكِتَابِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا.

فصل من لم يشكر الناس لا يشكر الله

[فَصْلٌ مَنْ لَمْ يَشْكُرْ النَّاسَ لَا يَشْكُرُ اللَّهَ] َ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ» إسْنَادٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ قَالَ فِي النِّهَايَةِ: مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ شُكْرَ الْعَبْدِ عَلَى إحْسَانِهِ إلَيْهِ إذَا كَانَ الْعَبْدُ لَا يَشْكُرُ إحْسَانَ النَّاسِ وَيَكْفُرُ أَمْرَهُمْ؛ لِاتِّصَالِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِالْآخَرِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَنَّ مَنْ كَانَ عَادَتُهُ وَطَبْعُهُ كُفْرَانَ نِعْمَةِ النَّاسِ وَتَرْكَ شُكْرِهِ لَهُمْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِ كُفْرُ نِعْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَرْكُ الشُّكْرِ لَهُ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ كَانَ كَمَنْ لَا يَشْكُرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَّ شُكْرَهُ كَمَا تَقُولُ لَا يُحِبُّنِي مَنْ لَا يُحِبُّكَ أَيْ: أَنَّ مَحَبَّتَكَ مَقْرُونَةٌ بِمَحَبَّتِي فَمَنْ أَحَبَّنِي يُحِبّكَ، وَمَنْ لَا يُحِبُّكَ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُحِبَّنِي. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى رَفْعِ اسْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَنَصْبِهِ. وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ مَرْفُوعًا مِثْلَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ أَيْضًا بِلَفْظٍ آخَرَ «إنَّ أَشْكَرَ النَّاسِ لِلَّهِ تَعَالَى أَشْكَرُهُمْ لِلنَّاسِ» . وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَرْفُوعًا «مَنْ أَتَى إلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَلْيُكَافِئْ بِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيَذْكُرْهُ فَمَنْ ذَكَرَهُ فَقَدْ شَكَرَهُ.» رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «الْأَمْرُ بِالْمُكَافَأَةِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيَدْعُ لَهُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ أَظُنُّهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. وَعَنْ أُسَامَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ صُنِعَ إلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَقَالَ لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. قَالَ: قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلُهُ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْجَرَّاحِ حَدَّثَنَا جَرِيرُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ: مَنْ أَبْلَى بَلَاءً فَذَكَرَهُ فَقَدْ شَكَرَهُ وَإِنْ كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ» وَرَوَاهُ أَيْضًا بِمَعْنَاهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَهُوَ لِلتِّرْمِذِيِّ وَقَالَ: غَرِيبٌ وَلَفْظُهُ «مَنْ أُعْطِيَ عَطَاءً فَلْيَجْزِ بِهِ إنْ وَجَدَ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُثْنِ بِهِ فَإِنَّ مَنْ أَثْنَى بِهِ فَقَدْ شَكَرَهُ وَمَنْ

كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ، وَمَنْ تَحَلَّى بِمَا لَمْ يُعْطِ كَانَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ» أَيْ: ذِي زُورٍ وَهُوَ الَّذِي يُزَوِّرُ عَلَى النَّاسِ يَتَزَيَّا بِزِيِّ أَهْلِ الزُّهْدِ رِيَاءً أَوْ يُظْهِرُ أَنَّ عَلَيْهِ ثَوْبَيْنِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ. وَعَنْ النُّعْمَانِ مَرْفُوعًا «مَنْ لَمْ يَشْكُرْ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْكُرْ الْكَثِيرَ، وَمَنْ لَمْ يَشْكُرْ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَالتَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ شُكْرٌ وَتَرْكُهَا كُفْرٌ، وَالْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَضَعَّفَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْجَرَّاحَ بْنَ مَلِيحٍ وَالِدَ وَكِيعٍ، وَأَكْثَرُهُمْ قَوَّاهُ فَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا «مَنْ لَمْ يَشْكُرْ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ.» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ. وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «إنَّ الْمُهَاجِرِينَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَتْ الْأَنْصَارُ بِالْأَجْرِ كُلِّهِ قَالَ لَا مَا دَعَوْتُمْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ قَالَ " مُثَنَّى بْنُ جَامِعٍ: إنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَذْكُرُ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ تَرْكُ الْمُكَافَأَةِ مِنْ التَّطْفِيفِ " وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَهْبٍ مِنْ السَّلَفِ. قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ فِي رَجُلٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ مَعْرُوفٌ وَأَيَادٍ مَا أَحْسَنَ أَنْ يُخْبِرَ بِفِعَالِهِ بِهِ لِيَشْكُرَهُ النَّاسُ وَيَدْعُونَ لَهُ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ لَا يَشْكُرْ النَّاسَ لَا يَشْكُرْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ» وَاَللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يُشْكَرَ وَيُحْمَدَ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَبَّ الشُّكْرَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ وَأَكْثِرْنَ الِاسْتِغْفَارَ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ جَزْلَةٌ: وَمَا لَنَا أَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ» جَزْلَةٌ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الزَّايِ أَيْ: ذَاتُ عَقْلٍ وَرَأْيٍ، وَالْجَزَالَةُ: الْعَقْلُ وَالْوَقَارُ فَقَدْ تَوَعَّدَ عَلَى كُفْرَانِ الْعَشِيرِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ الْمُعَاشَرُ وَالْمُرَادُ هُنَا الزَّوْجُ، تَوَعَّدَ عَلَى كَفْرَانِ الْعَشِيرِ وَالْإِحْسَانِ بِالنَّارِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَبِيرَةٌ عَلَى نَصِّ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِخِلَافِ اللَّعْنِ فَإِنَّهُ قَالَ: " تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ " وَالصَّغِيرَةُ تَصِيرُ كَبِيرَةً بِالْكَثْرَةِ. وَلِأَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً إلَّا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَهَا عَلَيْهِ» أَيْضًا بِإِسْنَادٍ

ضَعِيفٍ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ «أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى عِبَادًا لَا يُكَلِّمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ قِيلَ مَنْ أُولَئِكَ؟ قَالَ: مُتَبَرٍّ مِنْ وَالِدَيْهِ رَاغِبٌ عَنْهُمَا مُتَبَرٍّ مِنْ وَلَدِهِ وَرَجُلٌ أَنْعَمَ عَلَيْهِ قَوْمٌ فَكَفَرَ نِعْمَتَهُمْ وَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ» . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنْشِدِينِي شِعْرَ ابْنِ الْعَرِيضِ الْيَهُودِيِّ حَيْثُ قَالَ: إنَّ الْكَرِيمَ فَأَنْشَدَتْ: إنَّ الْكَرِيمَ إذَا أَرَادَ وِصَالَنَا ... لَمْ يُلْفِ حَبْلًا وَاهِيًا رَثَّ الْقُوَى أَرْعَى أَمَانَتَهُ وَأَحْفَظُ غَيْبَهُ ... جَهْدِي فَيَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ مَا أَتَى أَجْزِيهِ أَوْ أُثْنِي عَلَيْهِ فَإِنَّ مَنْ ... أَثْنَى عَلَيْكَ بِمَا فَعَلْتَ فَقَدْ جَزَى » قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا الشِّعْرُ مَا يَصِحُّ فِيهِ إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ لِلْعَرِيضِ الْيَهُودِيِّ وَهُوَ الْعَرِيضُ بْنُ السَّمَوْأَلِ بْنِ عَادِيَا الْيَهُودِيُّ مِنْ وَلَدِ الْكَاهِنِ بْنِ هَارُونَ، شَاعِرٌ ابْنُ شَاعِرٍ وَأَمَّا أَهْلُ الْأَخْبَارِ فَاخْتَلَفُوا فِي قَائِلِهِ فَقِيلَ لِوَرَقَةِ بْنِ نَوْفَلٍ وَقِيلَ (لِزُهَيْرِ بْنِ جَنَابٍ) الْكَلْبِيِّ وَقِيلَ لِعَامِرِ بْنِ الْمَجْنُونِ، وَقِيلَ لِزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إنَّهَا لِزَيْدِ بْنِ عَمْرِو، وَلِوَرَقَةِ بْنِ نَوْفَلٍ الْبَيْتَانِ وَلَمْ أَذْكُرْهُمَا أَنَا هُنَا، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَالصَّحِيحُ فِيهِمَا وَفِي الْأَبْيَاتِ غَيْرِهِمَا أَنَّهُمَا لِلْعَرِيضِ الْيَهُودِيِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: أَنْشَدَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لَوْ كُنْتُ أَعْرِفُ فَوْقَ الشُّكْرِ مَنْزِلَةً ... أَعْلَى مِنْ الشُّكْرِ عِنْدَ اللَّهِ فِي الثَّمَنِ إذًا مَنَحْتُكَهَا مِنِّي مُهَذَّبَةً ... حَذْوًا عَلَى حَذْوِ مَا أَوْلَيْتَ مِنْ حَسَنِ وَمِمَّا أَنْشَدَهُ الرِّيَاشِيُّ: شُكْرِي كَفِعْلِكَ فَانْظُرْ فِي عَوَاقِبِهِ ... تَعْرِفْ بِفِعْلِكَ مَا عِنْدِي مِنْ الشُّكْرِ وَقِيلَ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْمَجُوسِيِّ يُولِينِي خَيْرًا فَأَشْكُرُهُ قَالَ: نَعَمْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ:

إنَّنِي أُثْنِي بِمَا أَوْلَيْتَنِي ... لَمْ يُضِعْ حُسْنَ بَلَاءٍ مَنْ شَكَرِ إنَّنِي وَاَللَّهِ لَا أَكْفُرُكُمْ ... أَبَدًا مَا صَاحَ عُصْفُورُ الشَّجَرْ وَقَالَ آخَرُ: فَلَوْ كَانَ يَسْتَغْنِي عَنْ الشُّكْرِ مَاجِدٌ ... لِعِزَّةِ مُلْكٍ أَوْ عُلُوِّ مَكَانِ لَمَا نَدَبَ اللَّهُ الْعِبَادَ لِشُكْرِهِ ... فَقَالَ اُشْكُرُونِي أَيُّهَا الثَّقَلَانِ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: ذِكْرُ النِّعَمِ شُكْرٌ. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: مَنْ لَمْ يَشْكُرْ الْجَفْوَةَ لَمْ يَشْكُرْ النِّعْمَةَ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْهُ فَإِنْ صَحَّ فَفِيهِ نَظَرٌ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَمَا تَخْفَى الصَّنِيعَةُ حَيْثُ كَانَتْ ... وَلَا الشُّكْرُ الصَّحِيحُ مِنْ السَّقِيمِ وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّمِيمِيُّ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْعَمَ عَلَى عِبَادِهِ بِقَدْرِ طَاعَتِهِمْ وَكَلَّفَهُمْ مِنْ الشُّكْرِ بِقَدْرِ طَاقَتِهِمْ، فَقَالُوا: كُلُّ شُكْرٍ وَإِنْ قَلَّ: ثَمَنٌ لِكُلِّ نَوَالٍ وَإِنْ جَلَّ. وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ لِأَشْعَبَ: الطَّمَعُ يَا أَشْعَبُ، أَحْسَنْتُ إلَيْكَ فَلَمْ تَشْكُرْ، فَقَالَ: إنَّ مَعْرُوفَكَ خَرَجَ مِنْ غَيْرِ مُحْتَسِبٍ إلَى غَيْرِ شَاكِرٍ، وَقَالُوا: لَا تَثِقْ بِشُكْرِ مَنْ تُعْطِيهِ حَتَّى تَمْنَعَهُ. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَا مِنْ شَيْءٍ أَسَرُّ إلَيَّ مِنْ يَدٍ أُتْبِعُهَا أُخْرَى؛ لِأَنَّ مَنْعَ الْأَوَاخِرِ، يَقْطَعُ لِسَانَ شُكْرِ الْأَوَائِلِ. وَذَكَرَ غَيْرُ ابْنِ عَبْد الْبَرِّ قَوْلَ ابْنِ شُبْرُمَةَ: مَا أَعْرَفَنِي بِجَيِّدِ الشِّعْرِ: أُولَئِكَ قَوْمٌ إنْ بَنَوْا أَحْسَنُوا الْبِنَا ... وَإِنْ عَاهَدُوا أَوْفَوْا وَإِنْ عَقَدُوا شَدُّوا وَإِنْ كَانَتْ النَّعْمَاءُ فِيهِمْ جَزَوْا بِهَا ... وَإِنْ أَنْعَمُوا لَا كَدَّرُوهَا وَلَا كَدُّوا وَإِنْ قَالَ مَوْلَاهُمْ عَلَى حَمْلِ حَادِثِ ... مِنْ الْأَمْرِ رُدُّوا فَضْلَ أَحْلَامِكُمْ رَدُّوا

وَسَأَلَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ الْأَصْمَعِيَّ كَيْفَ تُنْشِدُ هَذَا الْبَيْتَ يَعْنِي الْبَيْتَ الْأَوَّلَ فَأَنْشَدَهُ وَقَالَ: الْبِنَاءُ بِكَسْرِ الْبَاءِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ: اُلْبُنَا بِضَمِّ الْبَاءِ. وَقَالَ: إنَّ الْقَوْمَ إنَّمَا بَنَوْا الْمَكَارِمَ لَا اللَّبِنَ وَالطِّينَ، وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ كَسْرَ الْبَاءِ وَضَمَّهَا، فَالْكَسْرُ جَمْعُ بِنْيَةٍ نَحْوَ كِسْرَةٍ وَكِسَرٍ، وَالضَّمُّ جَمْعُ بُنْيَةٍ نَحْوَ ظُلْمَةٍ وَظُلَمٍ، قَالُوا: وَكَانَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ رَأَى الضَّمَّ لِئَلَّا يَشْتَبِهَ بِالْبِنَاءِ بِمَعْنَى الْعِمَارَةِ بِاللَّبِنِ وَالطِّينِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ الْوَزِيرُ الْحَنْبَلِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنَّمَا يُبَالَغُ فِي التَّوَسُّلِ إلَى الْبَخِيلِ لَا إلَى الْكَرِيمِ كَمَا قَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ: وَإِذَا امْرُؤٌ مَدَحَ امْرَأً لِنَوَالِهِ ... وَأَطَالَ فِيهِ فَقَدْ أَسَرَّ هِجَاءَهُ لَوْ لَمْ يُقَدِّرْ فِيهِ بُعْدَ الْمُسْتَقَى ... عِنْدَ الْوُرُودِ لَمَا أَطَالَ رِشَاءَهُ.

فصل في تحريم المن على العطاء

[فَصْلٌ فِي تَحْرِيمِ الْمَنِّ عَلَى الْعَطَاءِ] وَيَحْرُمُ الْمَنُّ بِمَا أَعْطَى بَلْ هُوَ كَبِيرَةٌ عَلَى نَصِّ أَحْمَدَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَدْ رَوَى هُوَ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: الْمُسْبِلُ وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنْفِقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ» وَلِأَبِي دَاوُد فِي رِوَايَةٍ «وَالْمَنَّانُ الَّذِي لَا يُعْطِي شَيْئًا إلَّا مِنَّةً» . وَلِأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنَّانٌ» وَهُوَ لِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ. وَلَهُمَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَمُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَالْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى» . (فَصْلٌ) قَالَ صَالِحُ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي مَسَائِلِهِ عَنْ أَبِيهِ قُلْتُ: حَدِيثٌ يُحَدِّثُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُد أَنَّ الْهَدِيَّةَ لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - هَلْ تَعْرِفُهُ؟ قَالَ: لَا أَعْرِفُهُ، وَأَنْكَرَهُ وَقَالَ: إنَّمَا رُوِيَ عَنْ الضَّحَّاكِ: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] قَالَ الضَّحَّاكُ: إنَّمَا هَذِهِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةٌ لَا يُهْدَى إلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَأَمَّا سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ بِهِ بَأْسٌ.

فصل في الشماتة واستعاذته من شماتة الأعداء ومن أمور أخرى

[فَصْلٌ فِي الشَّمَاتَةِ وَاسْتِعَاذَتِهِ مِنْ شَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ وَمِنْ أُمُورٍ أُخْرَى] فَصْلٌ (فِي الشَّمَاتَةِ وَاسْتِعَاذَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ شَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ وَمِنْ أُمُورٍ أُخْرَى) عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ وَاثِلَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُظْهِرْ الشَّمَاتَةَ لِأَخِيكَ، فَيَرْحَمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَيَبْتَلِيكَ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ إسْمَاعِيلَ عَنْ مُجَالِدٍ وَهُوَ رَوَاهُ عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ شَبِيبٍ عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ حَفْصٍ عَنْ بُرْدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ مَكْحُولٍ. أُمَيَّةُ تَفَرَّدَ عَنْ سَلَمَةَ، وَبُرْدٌ حَدِيثُهُ حَسَنٌ. الشَّمَاتَةُ: الْفَرَحُ بِبَلِيَّةِ الْعَدُوِّ، يُقَالُ شَمِتَ بِهِ بِالْكَسْرِ يَشْمَتُ شَمَاتَةً، وَأَشْمَتَهُ غَيْرَهُ وَبَاتَ فُلَانٌ بِلَيْلَةِ الشَّوَامِتِ أَيْ: شَمِتَ الشَّوَامِتُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ، وَدَرْكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ» جَهْدٌ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَضَمِّهَا لُغَةٌ، دَرْكٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ الِاسْمُ وَبِسُكُونِهَا الْمَصْدَرُ فَلَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَمَرَ بِالتَّعَوُّذِ مِنْ شَيْءٍ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «إذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الْحِمَارِ فَتَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَإِنَّهُ رَأَى شَيْطَانًا» وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ مَنْ خَلَقَ كَذَا مَنْ خَلَقَ كَذَا حَتَّى يَقُولَ مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ وَلْيَنْتَهِ» وَحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ وَيَأْتِي فِي الرُّؤْيَا وَلَا فِي أَحَدِهِمَا سِوَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «إذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ» . وَحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: «بَيْنَمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَائِطٍ لِبَنِي النَّجَّارِ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ وَنَحْنُ مَعَهُ إذْ حَادَتْ بِهِ فَكَادَتْ تُلْقِيهِ وَإِذَا أَقْبُرٌ سِتَّةٌ أَوْ خَمْسَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ، فَقَالَ: مَنْ يَعْرِفُ أَصْحَابَ هَذِهِ الْأَقْبُرِ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا، فَقَالَ: مَتَى مَاتَ هَؤُلَاءِ قَالَ: مَاتُوا فِي الْإِشْرَاكِ، فَقَالَ:

إنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا فَلَوْلَا أَنْ تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُسْمِعَكُمْ عَذَابَ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فَقَالُوا نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ قَالَ: تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ قَالُوا: نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ قَالَ: تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ قَالُوا: نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ قَالَ: تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ قَالُوا: نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ» وَيَأْتِي حَدِيثُ جَابِرٍ فِي الرُّؤْيَا. وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّهُ «أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي وَقِرَاءَتِي يَلْبِسُ عَلَيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خَنْزَبٌ، فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْهُ وَاتْفُلْ عَنْ يَسَارِكَ ثَلَاثًا، قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنِّي» . رَوَاهُنَّ مُسْلِمٌ. خَنْزَبٌ بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ نُونٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ زَايٍ مَكْسُورَةٍ وَمَفْتُوحَةٍ، وَيُقَالُ أَيْضًا بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالزَّايِ، وَيُقَالُ بِضَمِّ الْخَاءِ وَفَتْحِ الزَّايِ «وَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَدْعُو اللَّهُمَّ لَا تُشَمِّتْ بِي عَدُوًّا حَاسِدًا» رَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. وَقَدْ حَكَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: {فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 150] وَقِيلَ لِأَيُّوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَيُّ شَيْءٍ مِنْ بَلَائِكَ كَانَ أَشَدَّ عَلَيْكَ قَالَ: شَمَاتَةُ الْأَعْدَاءِ وَقَالَ: الْكَلْبِيُّ: لَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَمِتَ بِهِ نِسَاءُ كِنْدَةَ وَحَضْرَمَوْتَ وَخَضَّبْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَأَظْهَرْنَ السُّرُورَ لِمَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَضَرَبْنَ بِالدُّفِّ، فَقَالَ الشَّاعِرُ: بَلِّغْ أَبَا بَكْرٍ إذَا مَا جِئْتَهُ ... أَنَّ الْبَغَايَا رُمْنَ كُلَّ مَرَامِ أَظْهَرْنَ مِنْ مَوْتِ النَّبِيِّ شَمَاتَةً ... وَخَضَّبْنَ أَيْدِيَهُنَّ بِالْعَنَامِ فَاقْطَعْ هُدِيتَ أَكُفَّهُنَّ بِصَارِمٍ ... كَالْبَرْقِ أَوْمَضَ فِي مُتُونِ غَمَامِ

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ: سَمِعْتُ أَشْهَبَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَدْعُو عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ إدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ بِالْمَوْتِ أَظُنُّهُ قَالَ فِي سُجُودِهِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَتَمَثَّلَ يَقُولُ: تَمَنَّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوتَ وَإِنْ أَمُتْ ... فَتِلْكَ سَبِيلٌ لَسْتُ فِيهَا بِأَوْحَدِ فَقُلْ لِلَّذِي يَبْغِي خِلَافَ الَّذِي مَضَى ... تَهَيَّأْ لِأُخْرَى مِثْلِهَا فَكَأَنْ قَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: فَمَاتَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاشْتَرَى أَشْهَبُ مِنْ تَرِكَتِهِ مَمْلُوكًا، ثُمَّ مَاتَ أَشْهَبُ بَعْدَهُ بِنَحْوٍ مِنْ شَهْرٍ أَوْ قَالَ: خَمْسَةَ عَشَرَ أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَاشْتَرَيْتُ أَنَا ذَلِكَ الْمَمْلُوكَ مِنْ تَرِكَةِ أَشْهَبَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. الْبَيْتُ الْأَوَّلُ لِطَرَفَةَ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {لا يَصْلاهَا إِلا الأَشْقَى} [الليل: 15] . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْأَشْقَى بِمَعْنَى الشَّقِيِّ وَالْعَرَبُ تَضَعُ أَفْعَلَ فِي مَوْضِعِ فَاعِلٍ، قَالَ طَرَفَةُ: فَذَكَرَهُ، وَأَمَّا الْبَيْتُ الثَّانِي فَفِي تَرْجَمَةِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ عُمَرَ قَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ أَخَا بَنِي تَمِيمٍ مَا أَشْعَرَهُ حَيْثُ يَقُولُ، فَذَكَرَهُ وَذَكَرَ بَعْدَهُ بَيْتًا آخَرَ وَهُوَ: فَمَا عَيْشُ مَنْ قَدْ عَاشَ بَعْدِي بِنَافِعِي ... وَلَا مَوْتُ مَنْ قَدْ مَاتَ قَبْلِي بِمُخْلِدِي وَقَالَ الْعَلَاءُ بْنُ قَرْضَةَ: إذَا مَا الدَّهْرُ جَرَّ عَلَى أُنَاسٍ ... حَوَادِثَهُ أَنَاخَ بِآخَرِينَا فَقُلْ لِلشَّامِتِينَ بِنَا أَفِيقُوا ... سَيَلْقَى الشَّامِتُونَ مَا لَقِينَا وَلِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُتْبَةَ: كُلُّ الْمَصَائِبِ قَدْ تَمُرُّ عَلَى الْفَتَى ... فَتَهُونُ غَيْرَ شَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ وَلِلْمُبَارَكِ بْنِ الطَّبَرِيِّ: لَوْلَا شَمَاتَةُ أَعْدَاءٍ ذَوِي حَسَدِ ... أَوْ اغْتِمَامُ صَدِيقٍ كَانَ يَرْجُونِي لَمَا طَلَبْتُ مِنْ الدُّنْيَا مَرَاتِبَهَا ... وَلَا بَذَلْتُ لَهَا عِرْضِي وَلَا دِينِي

وَلِعَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ: فَهَلْ مِنْ خُلْدٍ إنَّا هَلَكْنَا ... وَهَلْ بِالْمَوْتِ يَا لَلنَّاسِ عَارُ وَعَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ مُعَاذٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَعْمَلَهُ» . قَالَ أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ: قَالُوا مِنْ ذَنْبٍ قَدْ تَابَ مِنْهُ فِي إسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ الْهَمْدَانِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَلَيْسَ إسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ. خَالِدٌ لَمْ يُدْرِكْ مُعَاذًا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيُحِدَّهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا.» قَالَ صَاحِبُ الْمُنْتَقَى: مِنْ أَصْحَابِنَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَى لَا يُثَرِّبْ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى التَّثْرِيبِ وَهُوَ التَّعْيِيرُ وَالتَّوْبِيخُ وَاللَّوْمُ وَالتَّقْرِيعُ. وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: أَيْ: لَا يُوَبِّخُهَا بِالزِّنَا بَعْدَ الضَّرْبِ، قَالَ: وَقِيلَ: لَا يَقْنَعُ فِي عُقُوبَتِهَا بِالتَّثْرِيبِ بَلْ يَضْرِبُهَا الْحَدَّ فَإِنَّ زِنَا الْإِمَاءِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْعَرَبِ مَكْرُوهًا وَلَا مُنْكَرًا فَأَمَرَهُمْ بِحَدِّ الْإِمَاءِ كَمَا أَمَرَهُمْ بِحَدِّ الْحَرَائِرِ. نَظَرَ بَعْضُ الْعُبَّادِ شَخْصًا مُسْتَحْسَنًا فَقَالَ لَهُ شَيْخُهُ: سَتَجِدُ غِبَّهُ فَنَسِيَ الْقُرْآنَ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَقَالَ آخَرُ: عِبْتُ شَخْصًا قَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَسْنَانِهِ فَذَهَبَتْ أَسْنَانِي، وَنَظَرْتُ إلَى امْرَأَةٍ لَا تَحِلُّ لِي فَنَظَرَ زَوْجَتِي مَنْ لَا أُرِيدُ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: عَيَّرْتُ رَجُلًا بِالْإِفْلَاسِ فَأَفْلَسْتُ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ وَمَا نَزَلَتْ بِي آفَةٌ وَلَا غَمٌّ وَلَا ضِيقُ صَدْرٍ إلَّا بِزَلَلٍ أَعْرِفُهُ حَتَّى يُمْكِنَنِي أَنْ أَقُولَ هَذَا بِالشَّيْءِ الْفُلَانِيِّ، وَرُبَّمَا تَأَوَّلْتُ تَأْوِيلًا فِيهِ بُعْدٌ فَأَرَى الْعُقُوبَةَ. فَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَرَقَّبَ جَزَاءَ الذَّنْبِ فَقَلَّ أَنْ يَسْلَمَ مِنْهُ، وَلْيَجْتَهِدْ فِي التَّوْبَةِ وَقَالَ مَحْمُودُ الْوَرَّاقُ: رَأَيْتُ صَلَاحَ الْمَرْءِ يُصْلِحُ أَهْلَهُ ... وَيُعْدِيهِمْ دَاءُ الْفَسَادِ إذَا فَسَدْ وَيَشْرُفُ فِي الدُّنْيَا بِفَضْلِ صَلَاحِهِ ... وَيُحْفَظُ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي الْأَهْلِ وَالْوَلَدْ كَذَا قَالَ. وَمُرَادُهُ كَثْرَةُ ذَلِكَ لَا أَنَّهُ مُطَّرِدٌ عَلَى مَا لَا يَخْفَى.

فصل في صيغة الدعاء بالمغفرة وغيرها بعد الجواب بلا النافية

[فَصْلٌ فِي صِيغَةِ الدُّعَاءِ بِالْمَغْفِرَةِ وَغَيْرِهَا بَعْدَ الْجَوَابِ بِلَا النَّافِيَةِ] عَنْ عَائِدِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ «أَبَا سُفْيَانَ أَتَى عَلَى سَلْمَانَ وَصُهَيْبٍ وَبِلَالٍ فِي نَفَرٍ فَقَالُوا: مَا أَخَذَتْ سُيُوفُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ عُنُقِ عَدُوِّ اللَّهِ مَأْخَذَهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: تَقُولُونَ هَذَا لِشَيْخِ قُرَيْشٍ وَسَيِّدِهِمْ؟ فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ لَعَلَّك أَغْضَبْتَهُمْ؟ لَئِنْ كُنْتَ أَغْضَبْتَهُمْ لَقَدْ أَغْضَبْتَ رَبَّكَ عَزَّ وَجَلَّ فَأَتَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: يَا إخْوَتَاهُ، أَغْضَبْتُكُمْ؟ قَالُوا: لَا. يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَخِي» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الصِّيغَةِ وَقَالَ: «قُلْ عَافَاكَ اللَّهُ رَحِمَكَ اللَّهُ لَا تُزِدْ» ، لَا تَقُلْ قَبْلَ الدُّعَاءِ: لَا. فَتَصِيرُ صُورَتُهُ نَفْيًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قُلْ لَا، وَيَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ. [فَصْلٌ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ] فَصْلٌ (فِي الْتِزَامِ الْمَشُورَةِ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا وَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَا يَدَعُ الْمَشُورَةَ إذَا كَانَ فِي أَمْرٍ حَتَّى إنْ كَانَ لَيُشَاوِرُ مَنْ هُوَ دُونَهُ، وَكَانَ إذَا أَشَارَ عَلَيْهِ مَنْ يَثِقُ بِهِ أَوْ أَشَارَ عَلَيْهِ مَنْ لَا يَتَّهِمُهُ مِنْ أَهْلِ النُّسُكِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشَاوِرَهُ قَبِلَ مَشُورَتَهُ وَكَانَ إذَا شَاوَرَهُ الرَّجُلُ اجْتَهَدَ لَهُ رَأْيَهُ وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِمَا يَرَى مِنْ صَلَاحٍ، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يُشَاوِرُ فِي كُلِّ مَا يَهُمُّ بِهِ، وَيَأْتِي بِالْقُرْبِ مِنْ نِصْفِ الْكِتَابِ بَعْدَ ذِكْرِ حُسْنِ الْخُلُقِ وَالْحَيَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَبْلَ ذِكْرِ الزُّهْدِ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْخَيْرِ يُبَادَرُ بِهِ، وَقَوْلُ الْخَلَّالِ فِي الْأَدَبِ كَرَاهَةُ الْعَجَلَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَسَبَقَ مِنْ نَحْوِ نِصْفِ كُرَّاسَةٍ الْكَلَامُ فِي النُّصْحِ. قَالَ: قَالَ: ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] .

مَعْنَاهُ: اسْتَخْرِجْ آرَاءَهُمْ وَاعْلَمْ مَا عِنْدَهُمْ، وَيُقَالُ إنَّهُ مِنْ شَارَ الْعَسَلَ وَأَنْشَدُوا: وَقَاسَمَهَا بِاَللَّهِ حَقًّا لَأَنْتُمْ ... أَلَذُّ مِنْ السَّلْوَى إذَا مَا نَشُورُهَا قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ شَاوَرْتُ الرَّجُلَ مُشَاوَرَةً وَشِوَارًا وَمَا يَكُونُ عَنْ ذَلِكَ اسْمُ الْمَشُورَةِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: الْمَشُورَةُ وَيُقَالُ فُلَانٌ حَسَنُ الصُّورَةِ وَالْمَشُورَةِ، أَيْ: حَسَنُ الْهَيْئَةِ وَاللِّبَاسِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: شَاوَرْتُ فُلَانًا أَظْهَرْتُ مَا عِنْدِي وَمَا عِنْدَهُ، وَشُرْتُ الدَّابَّةَ، إذَا امْتَحَنْتَهَا فَعَرَفْتُ هَيْئَتَهَا فِي سَيْرِهَا، وَشُرْتُ الْعَسَلَ إذَا أَخَذْتُهُ مِنْ مَوَاضِعِ النَّحْلِ، وَعَسَلٌ مَشَارٌ. وَقَالَ الْأَعْشَى: كَأَنَّ الْقُرُنْفُلَ وَالزَّنْجَبِيلَ ... بَاتَا بِفِيهَا وَأَرْيًا مَشَارَا وَالْأَرْيُ الْعَسَلُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ: أَشَارَ إلَيْهِ بِالْيَدِ أَوْمَأَ وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالرَّأْيِ، وَشُرْتُ الْعَسَلَ وَاشْتَرْتُهَا اجْتَنَيْتُهَا وَأَشَرْتُ لُغَةٌ، وَأَنْكَرَهَا الْأَصْمَعِيُّ وَشُرْتُ الدَّابَّةَ شَوْرًا عَرَضْتُهَا عَلَى الْبَيْعِ أَقْبَلْتُ بِهَا وَأَدْبَرْتُ، وَالْمَكَانُ الَّذِي يُعْرَضُ فِيهِ الدَّوَابُّ مِشْوَارٌ، يُقَالُ إيَّاكَ وَالْخُطَبَ فَإِنَّهَا مِشْوَارٌ كَثِيرُ الْعِثَارِ، وَأَشَارَتْ الْإِبِلُ إذَا سَمِنَتْ بَعْضَ السِّمَنِ، يُقَالُ جَاءَتْ الْإِبِلُ شِيَارًا، أَيْ: سِمَانًا حِسَانًا، وَقَدْ أَشَارَ الْفَرَسُ أَيْ: سَمِنَ، وَحَسُنَ وَالْمَشُورَةُ الشُّورَى وَكَذَلِكَ الْمَشُورَةُ بِضَمِّ الشِّينِ تَقُولُ مِنْهُ شَاوَرْتُهُ فِي الْأَمْرِ وَاسْتَشَرْتُهُ بِمَعْنًى، وَالْمُسْتَشِيرُ السَّمِينُ وَقَدْ اسْتَشَارَ الْبَعِيرُ مِثْلَ اسْتَشَارَ أَيْ: سَمِنَ، وَالشَّوَارُ: فَرْجُ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ، وَمِنْهُ قِيلَ شَوَّرَ بِهِ أَيْ: كَأَنَّهُ أَبْدَى عَوْرَتَهُ وَيُقَالُ أَبْدَى اللَّهُ شَوَارَهُ أَيْ عَوْرَتُهُ، وَالشُّوَارُ، وَالشَّارَةُ اللِّبَاسُ وَالْهَيْئَةُ، وَشَوَّرْتُ الرَّجُلَ فَتَشَوَّرَ أَيْ: خَجَّلْتُهُ فَخَجِلَ، وَشَوَّرَ إلَيْهِ بِيَدِهِ أَيْ: أَشَارَ. عَنْ ابْنِ السِّكِّيتِ وَهُوَ رَجُلٌ حَسَنُ الصُّورَةِ وَالشُّورَةِ، وَإِنَّهُ لَصَيِّرٌ شَيِّرٌ، أَيْ: حَسَنُ الصُّورَةِ وَالشَّارَةِ

وَهِيَ الْهَيْئَةُ عَنْ الْفَرَّاءِ وَفُلَانٌ خَيِّرٌ شَيِّرٌ أَيْ: يَصْلُحُ لِلْمُشَاوَرَةِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْأَرْيُ هُوَ الْعَسَلُ وَعَمَلُ النَّحْلِ أَرْيٌ أَيْضًا، وَقَدْ أَرَتْ النَّحْلُ تَأْرِي أَرْيًا عَمِلَتْ الْعَسَلَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لِأَيِّ مَعْنًى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بِمُشَاوَرَةِ أَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَعَ كَمَالِ رَأْيِهِ وَتَدْبِيرِهِ فَقِيلَ لِيَسْتَنَّ بِهِ مَنْ بَعْدَهُ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَقِيلَ لِتَطِيبَ قُلُوبُهُمْ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَمُقَاتِلٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْهُ: نَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا» إنَّمَا أَرَادَ اسْتِطَابَةُ نَفْسِهَا فَإِنَّهَا لَوْ كَرِهَتْ كَانَ لِلْأَبِ أَنْ يُزَوِّجَهَا، وَكَذَلِكَ مُشَاوَرَةُ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِابْنِهِ حِينَ أُمِرَ بِذَبْحِهِ وَقِيلَ لِلْإِعْلَامِ بِتَرْكِهِ الْمُشَاوَرَةَ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَمِنْ فَوَائِدِ الْمُشَاوَرَةِ أَنَّ الْمُشَاوِرَ إذَا لَمْ يَنْجَحْ أَمْرُهُ عَلِمَ أَنَّ امْتِنَاعَ النَّجَاحِ مَحْضُ قَدَرٍ فَلَمْ يَلُمْ نَفْسَهُ وَمِنْهَا أَنَّهُ قَدْ يَعْزِمُ عَلَى أَمْرٍ يَتَبَيَّنُ لَهُ الصَّوَابُ فِي قَوْلِ غَيْرِهِ فَيَعْلَمُ عَجْزَ نَفْسِهِ عَنْ الْإِحَاطَةِ بِفُنُونِ الْمَصَالِحِ، قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الِاسْتِشَارَةُ عَيْنُ الْهِدَايَةِ وَقَدْ خَاطَرَ مَنْ اسْتَغْنَى بِرَأْيِهِ، وَالتَّدْبِيرُ قَبْلَ الْعَمَلِ يُؤَمِّنُكَ مِنْ النَّدَمِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَا اُسْتُنْبِطَ الصَّوَابُ بِمِثْلِ الْمُشَاوَرَةِ، وَلَا حُصِّنَتْ النِّعَمُ بِمِثْلِ الْمُوَاسَاةِ، وَلَا اُكْتُسِبَتْ الْبَغْضَاءُ بِمِثْلِ الْكِبْرِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ إنَّمَا أُمِرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمُشَاوَرَةِ أَصْحَابِهِ فِيمَا لَمْ يَأْتِهِ بِهِ وَحْيٌ وَعَمَّهُمْ

بِالذِّكْرِ وَالْمَقْصُودُ: أَرْبَابُ الْفَضْلِ وَالتَّجَارِبِ مِنْهُمْ وَفِي الَّذِي أُمِرَ بِمُشَاوَرَتِهِمْ فِيهِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى أَحَدُهُمَا أَمْرُ الدُّنْيَا خَاصَّةً (وَالثَّانِي) أَمْرُ الدُّنْيَا وَالدِّينِ وَهُوَ أَصَحُّ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ (وَشَاوِرْهُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159] . أَيْ: لَا عَلَى الْمُشَاوَرَةِ، وَالْعَزْمُ عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى الشَّيْءِ يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَذَكَرَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَرَأَ (فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) وَأَنَّ الْأَمْرَ هُنَا جِنْسٌ وَهُوَ عَامٌّ يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ وَقَرَأَ جَمَاعَةٌ (عَزَمْتُ) بِضَمِّ التَّاءِ أَيْ: إذَا أَمَرْتُكَ بِفِعْلِ شَيْءٍ فَتَوَكَّلْ، فَوَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْخَبَرَ الْمَرْوِيَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا تَشَاوَرَ قَوْمٌ إلَّا هَدَاهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِأَرْشَدِ أُمُورِهِمْ» وَالْمَرْوِيُّ عَنْهُ أَيْضًا «لَنْ يَهْلَكَ امْرُؤٌ عَنْ مَشُورَةٍ» وَالْخَبَرُ الْمَشْهُورُ «الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ وَفِي إسْنَادِهِ اضْطِرَابٌ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التِّيهَانِ فِي الضِّيَافَةِ. وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِهِ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَهُوَ حَدِيثٌ جَيِّدُ الْإِسْنَادِ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ رِوَايَةِ شَرِيكٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ عَنْهُ، شَرِيكٌ حَدِيثُهُ حَسَنٌ. قَالَ الْحَسَنُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمُشَاوَرَةِ أَصْحَابِهِ حَاجَةً مِنْهُ.

إلَى رَأْيِهِمْ وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ مَا فِي الْمَشُورَةِ مِنْ الْبَرَكَةِ وَعَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ نَزَلَ بِهِ أَمْرٌ فَشَاوَرَ فِيهِ مَنْ هُوَ دُونَهُ تَوَاضُعًا عَزَمَ لَهُ عَلَى الرُّشْدِ» . وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: شَاوِرْ فِي أَمْرِكَ مَنْ يَخَافُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. وَقِيلَ لِرَجُلٍ مِنْ عَبْسٍ مَا أَكْثَرَ صَوَابَكُمْ؟ قَالَ: نَحْنُ أَلْفٌ وَفِينَا وَاحِدٌ حَازِمٌ وَنَحْنُ نُشَاوِرُهُ وَنُطِيعُهُ فَصِرْنَا أَلْفَ حَازِمٍ، وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: رَأْيُ الشَّيْخِ خَيْرٌ مِنْ مَشْهَدِ الْغُلَامِ وَقَالَ: بَزَرْجَمْهَرْ حَسْبُ ذِي الرَّأْيِ وَمَنْ لَا رَأْيَ لَهُ أَنْ يَسْتَشِيرَ عَالِمًا وَيُطِيعَهُ. مَرَّ حَارِثَةُ بْنُ زَيْدٍ بِالْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ فَقَالَ: لَوْلَا أَنَّك عَجْلَانُ لَشَاوَرْتُكَ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ قَالَ: يَا حَارِثَةُ أَجَلْ كَانُوا لَا يُشَاوِرُونَ الْجَائِعَ حَتَّى يَشْبَعَ، وَالْعَطْشَانَ حَتَّى يُنْقَعَ، وَالْأَسِيرَ حَتَّى يُطْلَقَ، وَالْمُضِلَّ حَتَّى يَجِدَ، وَالرَّاغِبَ حَتَّى يُمْنَحَ وَكَانَ يُقَالُ اسْتَشِرْ عَدُوَّكَ الْعَاقِلَ، وَلَا تَسْتَشِرْ صَدِيقَكَ الْأَحْمَقَ، فَإِنَّ الْعَاقِلَ يَتَّقِي عَلَى رَأْيِهِ الزَّلَلَ كَمَا يَتَّقِي الْوَرِعُ عَلَى دِينِهِ الْحَرَجَ، وَكَانَ يُقَالُ لَا تُدْخِلْ فِي رَأْيِكَ بَخِيلًا فَيُقَصِّرَ فِعْلَكَ، وَلَا جَبَانًا فَيُخَوِّفَكَ مَا لَا يُخَافُ، وَلَا حَرِيصًا فَيُبْعِدَكَ عَمَّا لَا يُرْجَى. وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ، لَا تَقْطَعْ أَمْرًا حَتَّى تُشَاوِرَ مُرْشِدًا، فَإِنَّك إذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ لَمْ تَنْدَمْ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: مَا نَزَلَتْ بِي قَطُّ عَظِيمَةٌ فَأَبْرَمْتُهَا حَتَّى أُشَاوِرَ عَشَرَةً مِنْ قُرَيْشٍ، فَإِنْ أَصَبْتُ كَانَ الْحَظُّ لِي دُونَهُمْ، وَإِنْ أَخْطَأْتُ لَمْ أَرْجِعْ عَلَى نَفْسِي بِلَائِمَةٍ. وَقَالَ بَزَرْجَمْهَرْ: أَفْرَهُ الدَّوَابِّ لَا غِنَى بِهِ

عَنْ السَّوْطِ، وَأَعْقَلُ الرِّجَالِ لَا غِنَى بِهِ عَنْ الْمَشُورَةِ وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ: لَأَنْ أُخْطِئَ وَقَدْ اسْتَشَرْتُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُصِيبَ مِنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ. وَقَالَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ: الْخَطَأُ مَعَ الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الصَّوَابِ مَعَ الْفُرْقَةِ وَإِنْ كَانَتْ الْجَمَاعَةُ لَا تُخْطِئُ وَالْفُرْقَةُ لَا تُصِيبُ. كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَسْتَشِيرُ فِي الْأَمْرِ حَتَّى إنْ كَانَ رُبَّمَا اسْتَشَارَ الْمَرْأَةَ فَأَبْصَرَ فِي رَأْيِهَا فَضْلًا، وَكَانَ يُقَالُ: مَنْ طَلَبَ الرُّخْصَةَ مِنْ الْإِخْوَانِ عِنْدَ الْمَشُورَةِ، وَمِنْ الْفُقَهَاءِ عِنْدَ الشُّبْهَةِ، وَمِنْ الْأَطِبَّاءِ عِنْدَ الْمَرَضِ، أَخْطَأَ الرَّأْيَ، وَحَمَلَ الْوِزْرَ، وَازْدَادَ مَرَضًا. قَالَ الشَّاعِرُ: إنَّ اللَّبِيبَ إذَا تَفَرَّقَ أَمْرُهُ ... فَتَقَ الْأُمُورَ مُنَاظِرًا وَمُشَاوِرَا وَأَخُو الْجَهَالَةِ يَسْتَبِدُّ بِرَأْيِهِ ... فَتَرَاهُ يَعْتَسِفُ الْأُمُورَ مُخَاطِرَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا «إذَا اسْتَشَارَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُشِرْ عَلَيْهِ.» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ضَعَّفَهُ الْأَكْثَرُ وَقَالَ الْعِجْلِيُّ: هُوَ جَائِزُ الْحَدِيثِ وَمُرَادُ الْخَبَرِ إذَا ظَهَرَ وَجْهُ الْمَصْلَحَةِ، وَيَأْتِي اسْتِشَارَةُ الْمُشْرِكِينَ فِي فُضُولِ الطَّلَبِ بِالْقُرْبِ مِنْ نِصْفِ الْكِتَابِ وَقَبْلَ ذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالِاسْتِخَارَةِ بَعْدَ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ قَبْلَ ذِكْرِ الزُّهْدِ.

فصل في عدم المبالاة بالقول

[فَصْلٌ فِي عَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِالْقَوْلِ] رَوَى الْخَلَّالُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ: كَانَ يُقَالُ مَنْ لَمْ يُبَالِ مَا قَالَ وَلَا مَا قِيلَ لَهُ فَهُوَ وَلَدُ شَيْطَانٍ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ الْمُصَفَّرِ مِثْلُهُ إلَّا أَنَّهُ قَالَ: فَهُوَ لِغَيْرِ رَشْدَةٍ. قَالَ الْخَلَّالُ: سَأَلْتُ ثَعْلَبًا النَّحْوِيَّ عَنْ السَّفِلَةِ فَقَالَ: الَّذِي لَا يُبَالِي مَا قَالَ وَلَا مَا قِيلَ لَهُ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: السُّفْلُ وَالسِّفْلُ وَالسُّفُولُ وَالسُّفَالُ بِالضَّمِّ نَقِيضُ الْعُلُوِّ وَالْعُلْوِ وَالْعِلْوِ وَالْعَلَاءِ وَالْعُلَاوَةِ، وَالسَّافِلُ نَقِيضُ الْعَالِي، وَالسَّفَالَةُ بِالْفَتْحِ النَّذَالَةُ، وَقَدْ سَفُلَ بِالضَّمِّ، وَالسَّفِلَةُ بِكَسْرِ الْفَاءِ السَّاقِطُ مِنْ النَّاسِ يُقَالُ هُوَ مِنْ السَّفِلَةِ وَلَا يُقَالُ هُوَ مِنْ سَفَلَةٍ لِأَنَّهُ جَمْعٌ، وَالْعَامَّةُ تَقُولُ رَجُلٌ سَفَلَةٌ مِنْ قَوْمٍ سُفْلٍ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: وَبَعْضُ الْعَرَبِ يُخَفِّفُ فَيَقُولُ فُلَانٌ مِنْ سِفْلَةِ النَّاسِ، قَالَ الْخَلَّالُ: وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ مَالِكٍ، قَالَ لِي رَبِيعَةُ الرَّأْيِ يَا مَالِكُ مَنْ السَّفِلَةُ؟ قَالَ: قُلْتُ مَنْ أَكَلَ بِدِينِهِ، فَقَالَ لِي: وَمَنْ أَسْفَلُ السَّفِلَةِ؟ قُلْتُ مَنْ أَصْلَحَ دُنْيَا غَيْرِهِ بِفَسَادِ دِينِهِ، فَصَدَرَنِي. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَسُئِلَ مَا حَدُّ السَّفِلَةِ؟ قَالَ: هُمْ الَّذِينَ يَتَطَيْلَسُونَ وَيَأْتُونَ أَبْوَابَ الْقُضَاةِ وَيَطْلُبُونَ الشَّهَادَاتِ. وَقَالَ ابْنُ الصَّيْرَفِيِّ الْحَنْبَلِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحَدِ الصُّوفِيَّةِ: السَّفِلَةُ مَنْ يَمُنُّ بِمَا يُعْطِيهِ. وَقَالَ أَيْضًا: مَنْ لَا يَخَافُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ أَيْضًا: مَنْ يَعْصِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ الْخَلَّالُ أَيْضًا: سَأَلْتُ ثَعْلَبًا قُلْتُ: الْقَلِيلُ الْحَيَاءِ وَالسَّفِيقُ الْوَجْهِ، قَالَ مَا أَقْرَبَهُمَا مِنْ الْقَوْلِ. وَسَأَلْتُ إبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيَّ قُلْتُ: الْقَلِيلُ الْحَيَاءِ وَالسَّفِيقُ الْوَجْهِ وَاحِدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا «لَا يَبْغِي عَلَى النَّاسِ إلَّا وَلَدُ بَغْيٍ أَوْ فِيهِ عِرْقٌ مِنْهُ» وَرَوَى أَيْضًا عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِعَطَاءٍ أَبِي مُسْلِمٍ: يَا عَطَاءُ احْذَرْ النَّاسَ وَاحْذَرْنِي.

فصل في الصلاة على النبي في غير الصلاة وأنها فرض كفاية

[فَصْلٌ فِي الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَأَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ] ٍ) تُسَنُّ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ بِقَوْلِ " اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ " وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ إذَا ذُكِرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَى غَيْرِهِ تَبَعًا لَهُ وَقِيلَ مُطْلَقًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى» مِنْ الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى، وَهَذَا الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَى غَيْرِهِ مُنْفَرِدًا، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ عَلِيًّا قَالَ لِعُمَرَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ، وَذُكِرَ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَى غَيْرِهِ مُنْفَرِدًا، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رَوَاهُ سَعِيدٌ وَاللَّالَكَائِيُّ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَلِلشَّافِعِيَّةِ خِلَافٌ، هَلْ يُقَالُ هُوَ مَكْرُوهٌ أَوْ أَدَبٌ؟ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: وَالسَّلَامُ عَلَى الْغَيْرِ بِضَمِيرِ الْغَائِبِ مِثْلُ فُلَانٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَالصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ: الصَّلَاةُ عَلَى غَيْرِ الرَّسُولِ جَائِزَةٌ تَبَعًا لَا مَقْصُودًا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ فَلَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ فِيهِ، نَعَمْ الرَّسُولُ لَهُ فِعْلُ ذَلِكَ وَقَالَ فِي الزَّكَاةِ: يُسْتَحَبُّ لِلْوَالِي يَعْنِي إذَا أَخَذَ الزَّكَاةَ أَنْ يَقُولَ يَعْنِي الدُّعَاءَ الْمَشْهُورَ، وَلَوْ قَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ فَلَا بَأْسَ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ نَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي قَصِيدَتِهِ عَنْ الْعَبَّاسِ وَبَنِيهِ: صَلَّى الْإِلَهُ عَلَيْهِ مَا هَبَّتْ صَبَا ... وَعَلَى بَنِيهِ الرَّاكِعِينَ السُّجَّدِ

وَرَأَيْتُ بِخَطِّ ابْنِ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ قَالَ عَنْ الْعَبَّاسِ: صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه وَعَنْ الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ: الصَّلَاةُ عَلَيْهِ، وَاخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ مَنْصُوصَ أَحْمَدَ قَالَ وَذَكَرَهُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَالشَّيْخُ عَبْدِ الْقَادِرِ قَالَ: وَإِذَا جَازَتْ أَحْيَانًا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِمَّا أَنْ يُتَّخَذَ شِعَارًا لِذِكْرِ بَعْضِ النَّاسِ أَوْ يَقْصُدَ الصَّلَاةَ عَلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ دُونَ بَعْضٍ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَالسَّلَامُ عَلَى غَيْرِهِ بِاسْمِهِ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ.

فصل في السلام وتحقيق القول في أحكامه على المنفرد والجماعة

[فَصْلٌ فِي السَّلَامِ وَتَحْقِيقِ الْقَوْلِ فِي أَحْكَامِهِ عَلَى الْمُنْفَرِدِ وَالْجَمَاعَةِ] السَّلَامُ سُنَّةُ عَيْنٍ مِنْ الْمُنْفَرِدِ، وَسُنَّةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ مِنْ الْجَمَاعَةِ، وَالْأَفْضَلُ السَّلَامُ مِنْ جَمِيعِهِمْ وَلَا يَجِبُ إجْمَاعًا، وَنَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ، وَظَاهِرُ مَا نُقِلَ عَنْ الظَّاهِرِيَّةِ وُجُوبُهُ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّ ابْتِدَاءَ السَّلَامِ وَاجِبٌ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَيُكْرَهُ فِي الْحَمَّامِ، صَحَّحَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي التَّلْخِيصِ غَيْرَهُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ، وَفِيهِ قَوْلٌ: لَا يُكْرَهُ، ذَكَرَ فِي الشَّرْحِ أَنَّهُ الْأَوْلَى لِلْعُمُومِ وَصَحَّحَهُ أَبُو الْبَرَكَاتِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَعَنْ أَحْمَدَ التَّوَقُّفُ، وَيُكْرَهُ عَلَى مَنْ يَأْكُلُ أَوْ يُقَاتِلُ لِاشْتِغَالِهِمَا، وَفِيمَنْ يَأْكُلُ نَظَرٌ، فَظَاهِرُ التَّخْصِيصِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ عَلَى غَيْرِهِمَا، وَمُقْتَضَى التَّعْلِيلِ خِلَافُهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي الْفُصُولِ فِي السَّلَامِ عَلَى الْمُصَلِّي، وَصَرَّحَ بِالْمُنْحَجِمِ وَالْمُشْتَغِلِ بِمَعَاشٍ أَوْ حِسَابٍ، وَيَأْتِي قَرِيبًا كَلَامُ أَبِي الْمَعَالِي وَعَلَى امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ غَيْرِ عَجُوزٍ وَبَرْزَةٍ، فَلَوْ سَلَّمَتْ شَابَّةٌ عَلَى رَجُلٍ رَدَّهُ عَلَيْهَا كَذَا قَالَ فِي الرِّعَايَةِ وَلَعَلَّهُ فِي النُّسْخَةِ غَلَطٌ وَيُتَوَجَّهُ لَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهَا لَمْ تَرُدَّهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، إذَا خَرَجَتْ الْمَرْأَةُ لَمْ تُسَلِّمْ عَلَى الرَّجُلِ أَصْلًا، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَعَلَى هَذَا لَا يُرَدُّ عَلَيْهَا، وَيُتَوَجَّهُ احْتِمَالُ مِثْلِهِ عَكْسَهُ مَعَ عَدَمِ مَحْرَمٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ قَالَتْ «ذَهَبْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْفَتْحِ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ بِثَوْبٍ، قَالَتْ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قُلْتُ أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ مَرْحَبًا يَا أُمَّ هَانِئٍ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ قَامَ فَصَلَّى ثَمَانِ رَكَعَاتٍ» الْحَدِيثَ. قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِيهِ سَلَامُ الْمَرْأَةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَحْرَمٍ عَلَى الرَّجُلِ بِحَضْرَةِ مَحَارِمِهِ وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يُكَنِّيَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْرِيفِ إذَا اُشْتُهِرَ

بِالْكُنْيَةِ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْكَلَامِ فِي الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ وَلَا بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ، وَجَوَازِ الِاغْتِسَالِ بِحَضْرَةِ امْرَأَةٍ مِنْ مَحَارِمِهِ إذَا كَانَ مَسْتُورَ الْعَوْرَةِ عَنْهَا، وَجَوَازِ تَسْتِيرِهَا إيَّاهُ بِثَوْبٍ وَنَحْوِهِ، وَمَعْنَى مَرْحَبًا صَادَفْت رَحْبًا أَيْ سَعَةً. وَرَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنْ الْحِلْيَةِ عَنْ الزُّبَيْدِيِّ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ يَرْفَعُ الْحَدِيثَ قَالَ: «لَيْسَ لِلنِّسَاءِ سَلَامٌ وَلَا عَلَيْهِنَّ سَلَامٌ» وَهَذَا مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تُسَلِّمُ عَلَى الرَّجُلِ وَلَا يُسَلِّمُ عَلَيْهَا مُطْلَقًا. قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: التَّسْلِيمُ عَلَى النِّسَاءِ؟ قَالَ: إذَا كَانَتْ عَجُوزًا فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَقَالَ حَرْبٌ لِأَحْمَدَ الرَّجُلُ يُسَلِّمُ عَلَى النِّسَاءِ؟ قَالَ: إنْ كُنَّ عَجَائِزَ فَلَا بَأْسَ. وَقَالَ صَالِحٌ: سَأَلْتُ أَبِي: يُسَلَّمُ عَلَى الْمَرْأَةِ؟ قَالَ: أَمَّا الْكَبِيرَةُ فَلَا بَأْسَ، وَأَمَّا الشَّابَّةُ فَلَا تُسْتَنْطَقُ، فَظَهَرَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ كَلَامَ أَحْمَدَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَجُوزِ وَغَيْرِهَا. وَجَزَمَ صَاحِبُ النَّظْمِ فِي تَسْلِيمِهِنَّ وَالتَّسْلِيمِ عَلَيْهِنَّ، وَأَنَّ التَّشْمِيتَ مِنْهُنَّ وَلَهُنَّ كَذَلِكَ، وَقِيلَ لَا تُسَلِّمُ امْرَأَةٌ عَلَى رَجُلٍ وَلَا يُسَلِّمُ عَلَيْهَا، وَقِيلَ: الشَّابَّةُ الْبَرْزَةُ كَعَجُوزٍ، وَيُتَوَجَّهُ تَخْرِيجُ رِوَايَةٍ مِنْ تَشْمِيتِهَا وَعَلَى مَا يَأْتِي فِي الرِّعَايَةِ فِي التَّشْمِيتِ لَا تُسَلِّمُ، وَإِنْ قُلْنَا يُسَلِّمُ الرَّجُلُ عَلَيْهَا، وَإِرْسَالُ السَّلَامِ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ وَإِرْسَالُهَا إلَيْهِ لَمْ يَذْكُرْهُ أَصْحَابُنَا، وَقَدْ يُقَالُ لَا بَأْسَ بِهِ لِلْمَصْلَحَةِ وَعَدَمِ الْمَحْظُورِ وَأَنَّ كَلَامَ أَحْمَدَ الْمَذْكُورَ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ إنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلَامَ» قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: فِيهِ بَعْثُ الْأَجْنَبِيِّ السَّلَامَ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ الصَّالِحَةِ إذَا لَمْ يُخَفْ تَرَتُّبُ مَفْسَدَةٍ، وَسَيَأْتِي زِيَارَةُ الْأَجْنَبِيَّةِ الصَّالِحَةِ الْأَجْنَبِيَّ الصَّالِحَ وَلَا مَحْذُورَ، وَمِنْهُ مَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: انْطَلِقْ بِنَا إلَى أُمِّ أَيْمَنَ نَزُورُهَا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَزُورُهَا.

قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: فِيهِ زِيَارَةُ الصَّالِحِينَ وَفَضْلُهَا وَزِيَارَةُ الصَّالِحِ لِمَنْ دُونَهُ، وَزِيَارَةُ الْإِنْسَانِ لِمَنْ كَانَ صَدِيقُهُ يَزُورُهُ، وَلِأَهْلٍ وُدُّ صَدِيقِهِ، وَزِيَارَةُ رِجَالٍ لِلْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ وَسَمَاعُ كَلَامِهَا، وَالْبُكَاءُ حُزْنًا عَلَى فِرَاقِ الصَّالِحِينَ وَالْأَصْحَابِ.

فصل في حكم السلام على المصلي المتوضئ والمؤذن والآكل والمتخلي

[فَصْلٌ فِي حُكْمِ السَّلَامِ عَلَى الْمُصَلِّي الْمُتَوَضِّئِ وَالْمُؤَذِّنِ وَالْآكِلِ وَالْمُتَخَلِّي] وَهَلْ يُكْرَهُ أَنْ يُسَلَّمَ عَلَى الْمُصَلِّي وَأَنْ يَرُدَّ إشَارَةً؟) عَلَى رِوَايَتَيْنِ (إحْدَاهُمَا) يُكْرَهُ وَهُوَ الَّذِي قَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ. (وَالثَّانِيَةُ) لَا يُكْرَهُ لِلْعُمُومِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُنْكِرْ عَلَى أَصْحَابِهِ حِينَ سَلَّمُوا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَلِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّ إشَارَةً عَلَى ابْنِ عُمَرَ وَصُهَيْبٍ.» رَوَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُمَا، وَعَنْهُ لَا يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي النَّفْلِ فَقَطْ وَقِيلَ إنْ عَلِمَ الْمُصَلِّي كَيْفِيَّةَ الرَّدِّ جَازَ وَإِلَّا كُرِهَ، وَعَنْهُ يَجِبُ رَدُّهُ إشَارَةً. وَقَالَ فِي الْمُحَرَّرِ: لَهُ رَدُّ السَّلَامِ إشَارَةً. وَقَالَ فِي الشَّرْحِ: يَرُدُّ السَّلَامَ إشَارَةً، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الصَّلَاةِ فَحَسَنٌ لِأَنَّ ذَلِكَ جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَإِنْ رَدَّ فِي صَلَاتِهِ لَفْظًا بَطَلَتْ، وَبِهِ قَالَ الثَّلَاثَةُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَرُدَّ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحْدِثُ مَا يَشَاءُ وَإِنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ أَنْ لَا يُتَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ.» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَقَالَ: رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ وَتَدَاوَلَهُ الْفُقَهَاءُ بَيْنَهُمْ، وَكَانَ الْحَسَنُ وَابْنُ الْمُسَيِّبِ وَقَتَادَةُ لَا يَرَوْنَ بِهِ بَأْسًا، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ، وَقَالَ إِسْحَاقُ إنْ فَعَلَهُ مُتَأَوِّلًا جَازَتْ صَلَاتُهُ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ عَمَّارٍ «أَنَّهُ سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُصَلِّي، فَرَدَّ عَلَيْهِ» . وَيُكْرَهُ عَلَى الْمُتَوَضِّئِ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ تَمِيمٍ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ وَذَكَرَهُ أَيْضًا فِي الرِّعَايَةِ وَزَادَ: وَرَدُّهُ مِنْهُ. وَرَوَى الْمُهَاجِرُ بْنُ قُنْفُذٍ «أَنَّهُ سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ وُضُوئِهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ وَقَالَ: إنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ إلَّا أَنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إلَّا عَلَى طَهَارَةٍ» بِإِسْنَادِهِ جَيِّدٌ رَوَاهُ

جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ وَقَالَ: أَرَادَ بِهِ الْفَضْلَ لِأَنَّ الذِّكْرَ عَلَى الطَّهَارَةِ أَفْضَلُ لَا أَنَّهُ مَكْرُوهٌ غَيْرُ جَائِزٍ. وَيُكْرَهُ السَّلَامُ عَلَى مَنْ يَقْضِي حَاجَتَهُ وَرَدُّهُ مِنْهُ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَرُدَّ عَلَى الَّذِي سَلَّمَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَبُولُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ وَقُدِّمَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى أَنَّ الرَّدَّ لَا يُكْرَهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّ. كَذَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بْنَ أَبِي يَحْيَى وَإِبْرَاهِيمُ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ. قَالَ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ يُكْرَهُ السَّلَامُ عَلَى مَنْ هُوَ فِي شُغْلٍ يَقْضِيهِ كَالْمُصَلِّي وَالْآكِلِ وَالْمُتَغَوِّطِ وَإِنْ لَقِيَ طَائِفَةً فَخَصَّ بَعْضَهُمْ بِالسَّلَامِ كُرِهَ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَظَاهِرُهُ كَرَاهَةُ السَّلَامِ عَلَى الْمُؤَذِّنِ، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ الْمُؤَذِّنِ يَتَكَلَّمُ فِي الْأَذَانِ فَقَالَ: لَا، فَقِيلَ لَهُ يَرُدُّ السَّلَامَ؟ قَالَ: السَّلَامُ كَلَامٌ، وَجَعَلَ الْقَاضِي هَذَا النَّصَّ مُسْتَنَدَ رِوَايَةِ كَرَاهَةِ الْكَلَامِ فِي الْأَذَانِ، فَإِنَّهُ حَكَى فِي كَرَاهَةِ الْكَلَامِ رِوَايَتَيْنِ وَأَنَّهُ يُكْرَهُ فِي الْإِقَامَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَأَنَّ عَلَيْهِمَا تَخْرُجُ كَرَاهَةُ السَّلَامِ عَلَيْهِ، وَإِذَا وَجَبَ رَدُّ الْمُصَلِّي إشَارَةً وَاسْتَحِبَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ فَهَهُنَا أَوْلَى.

فصل في أحكام رد السلام المسنون

[فَصْلٌ فِي أَحْكَامِ رَدِّ السَّلَامِ الْمَسْنُونِ] وَرَدُّ السَّلَامِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَهَذَا مِنْ أَصْحَابِنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ رَدُّ السَّلَامِ وَلَا يُسَنُّ وَلَعَلَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ لِأَنَّهُمْ أَطْلَقُوا وُجُوبَ رَدِّ السَّلَامِ، لَا سِيَّمَا وَسَيَأْتِي كَلَامُ صَاحِبِ النَّظْمِ أَوَّلَ الْفَصْلِ الْخَامِسِ وَيَأْتِي كَلَامُ الشَّيْخِ وَجِيهِ الدِّينِ فِيمَا إذَا بَدَأَ بِصِيغَةِ الْجَوَابِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ جَوَابًا لِكَوْنِهِ بَدَأَ بِالْجَوَابِ فَدَلَّ أَنَّهُ إذَا أَتَى بِصِيغَةِ الِابْتِدَاءِ لَزِمَ الرَّدُّ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الِابْتِدَاءُ مَكْرُوهًا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُرَادُ الْأَصْحَابِ بِقَوْلِهِمْ الْمَسْنُونِ. وَقَدْ عُرِفَ مِنْ الْمَسَائِلِ السَّابِقَةِ فِي الْفَصْلِ قَبْلَهُ أَنَّ حُكْمَ الرَّدِّ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ، وَلَا يُخَالِفُ هَذَا إلَّا كَلَامُهُ فِي الرِّعَايَةِ: يُكْرَهُ عَلَى الْمُتَخَلِّي لَا رَدُّهُ. وَقَالَ: أَبُو حَفْصٍ فِي الْأَدَبِ لَهُ قَالَ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَمْدَانَ الْعَطَّارُ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ رَجُلٍ مَرَّ بِجَمَاعَةٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَرُدُّوا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؟ فَقَالَ: يُسْرِعُ فِي خُطَاهُ لَا تَلْحَقُهُ اللَّعْنَةُ مَعَ الْقَوْمِ، وَقِيلَ بَلْ سُنَّةٌ، وَذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ الْإِجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِ الرَّدِّ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ جَعَلُوهُ فَرْضًا مُتَعَيَّنًا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَمَاعَةِ الْمُسَلَّمِ عَلَيْهِمْ، وَحَكَاهُ غَيْرُهُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ الْحَنَفِيَّةِ، ذَكَرَهُ فِي تَسْلِيمِ الْخَطِيبِ فِي الْجُمُعَةِ. وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَلَا يَجِبُ رَدُّ سَلَامِ السَّائِلِ عَلَى بَابِ الدَّارِ لِأَنَّهُ يُسَلِّمُ لِشِعَارِ سُؤَالِهِ لَا لِلتَّحِيَّةِ، وَيُجْزِي سَلَامُ وَاحِدٍ مِنْ جَمَاعَةٍ وَرَدُّ أَحَدِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونُوا مُجْتَمِعِينَ فَأَمَّا الْوَاحِدُ الْمُنْقَطِعُ فَلَا يُجْزِي سَلَامُهُ عَنْ سَلَامِ آخَرَ مُنْقَطِعٍ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِهِ خِلَافُهُ. قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا: «يُجْزِي عَنْ الْجَمَاعَةِ إذَا مَرُّوا أَنْ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمْ وَيُجْزِي عَنْ الْجُلُوس أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ

سَعِيدِ بْنِ خَالِدٍ الْخُزَاعِيُّ. ضَعَّفَهُ أَبُو زُرْعَةَ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: فِيهِ نَظَرٌ. وَفِي مُوَطَّإِ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ مُرْسَلًا «وَإِذَا سَلَّمَ مِنْ الْقَوْمِ وَاحِدٌ أَجْزَأَ عَنْ الْجَمَاعَةِ» . قَالَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ: وَرَدُّ السَّلَامِ سَلَامٌ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ يَجُوزُ بِلَفْظِ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ فَيَدْخُلُ فِي الْعُمُومِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ رَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ تَحِيَّتِهِ فَلَا تَجِبُ زِيَادَةٌ كَزِيَادَةِ الْقَدْرِ، قَالَ: وَإِنَّمَا لَمْ يَسْقُطْ بِرَدِّ غَيْرِ الْمُسَلَّمِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ هَذَا الْفَرْضِ، كَمَا لَا يَسْقُطُ الْأَذَانُ عَنْ أَهْلِ بَلْدَةٍ بِأَذَانِ أَهْلِ بَلْدَةٍ أُخْرَى. وَيَجُوزُ السَّلَامُ عَلَى الصِّبْيَانِ تَأْدِيبًا لَهُمْ، وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِ ابْنِ عَقِيلٍ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَصَاحِبُ عُيُونِ الْمَسَائِلِ فِيهَا وَالشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ. وَذَكَرَهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ إجْمَاعًا، قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: فَأَمَّا الْحَدَثُ الْوَضِيءُ فَلَمْ يَسْتَثْنُوهُ، فِيهِ نَظَرٌ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُشْبِهُ مَسْأَلَةَ النَّظَرِ إلَيْهِ وَهِيَ مَشْهُورَةٌ. وَقَالَ أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَتَانَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ صِبْيَانٌ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا» . وَالصِّبْيَانُ بِكَسْرِ الصَّادِ وَضَمِّهَا لُغَةٌ. وَعَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «مَرَّ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ فِي نِسْوَةٍ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا.» رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ. وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ مَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ. قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهُ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى حَدِيثَ شَهْرٍ عَنْ أَسْمَاءَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَلَفْظُهُمْ: قَالَتْ: «مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ يَوْمًا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ مِنْ النِّسَاءِ قُعُودٌ فَأَلْوَى بِيَدِهِ بِالتَّسْلِيمِ» . وَقَالَ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا، لَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ وَلَا بِالنَّصَارَى فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْيَهُودِ الْإِشَارَةُ بِالْأَصَابِعِ وَتَسْلِيمُ النَّصَارَى الْإِشَارَةُ بِالْكَفِّ.» إسْنَادٌ ضَعِيفٌ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: إسْنَادٌ ضَعِيفٌ. وَرَوَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ فَلَمْ يَرْفَعْهُ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَإِنْ صَحَّ فَمَحْمُولٌ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِهِ بَدَلَ السَّلَامِ. وَتُزَادُ الْوَاوُ فِي رَدِّ السَّلَامِ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ أَنَّهُ وَاجِبٌ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ وَأَصَحُّ لِأَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ " إنَّ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. فَقَالُوا لَهُ: عَلَيْكَ السَّلَامُ

وَرَحْمَةُ اللَّهِ ". وَسَيَأْتِي ذَلِكَ وَلِأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى الْوُجُوبِ. وَاحْتَجَّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهَا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ} [هود: 69] انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ، قِيلَ هُوَ مَرْفُوعٌ خَبَرُهُ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفٌ، أَيْ: قَوْلِي سَلَامٌ أَوْ جَوَابِي أَوْ أَمْرِي، وَقِيلَ هُوَ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، وَأَمَّا النَّصْبُ فَقِيلَ: مَفْعُولٌ بِهِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى، كَأَنَّهُ قَالَ ذَكَرُوا سَلَامًا، وَقِيلَ هُوَ مَصْدَرٌ، أَيْ: سَلَّمُوا سَلَامًا. وَلَا يُقَالُ: سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وَلَا سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَكَأَنَّهُ سَبَبُهُ أَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالتَّسْلِيمِ وَهُوَ كَذِبٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ بَلْ هُوَ إنْشَاءٌ، كَقَوْلِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَلَعَلَّ مُرَادَ مَنْ ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ أَنَّ الْأَوْلَى تَرْكُ قَوْلِ ذَلِكَ، وَالْإِتْيَانُ بِالسَّلَامِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ الْمَشْهُورِ لَا أَنَّ قَوْلَ ذَلِكَ يُكْرَهُ أَوْ لَا يَجُوزُ. وَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ الْخَامِسِ أَنَّ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَهُ رَدًّا لِسَلَامِ غَائِبٍ نَظَرَ إلَى مَعْنَى السَّلَامِ، وَلَعَلَّ هَذَا أَوْلَى مَعَ أَنَّهُ خِلَافُ الْأُولَى. وَآخِرُهُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ابْتِدَاءً وَأَدَاءً وَلَا تُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ، قَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حُبَيْشِ بْنِ سِنْدِيٍّ وَسُئِلَ عَنْ تَمَامِ السَّلَامِ، فَقَالَ وَبَرَكَاتُهُ. وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ السَّلَامَ انْتَهَى إلَى الْبَرَكَةِ. قَالَ الْقَاضِي: وَيَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ الِابْتِدَاءَ عَلَى لَفْظِ الرَّدِّ، وَالرَّدُّ عَلَى لَفْظِ الِابْتِدَاءِ إلَّا أَنَّ الِانْتِهَاءَ فِي ذَلِكَ إلَى الْبَرَكَاتِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِهِ وَيُتَوَجَّهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَجِبُ مُسَاوَاةُ الرَّدِّ لِلْجَوَابِ أَوْ أُزِيدَ لِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَلَعَلَّهُ ظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي الْبَرَكَاتِ السَّابِقِ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ، قَالَ: أَرْبَعُونَ وَقَالَ

هَكَذَا تَكُونُ الْفَضَائِلُ» وَهُوَ خَبَرٌ ضَعِيفٌ وَخِلَافُ الْأَمْرِ الْمَشْهُورِ وَيُسَنُّ أَنْ يَتْرُكَهُ الْمُبْتَدِئُ بِالسَّلَامِ لِيَقُولَهُ الرَّادُّ عَلَيْهِ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَابْنُ تَمِيمٍ وَابْنُ حَمْدَانَ. وَقَالَ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَوِيُّ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ الْمُبْتَدِئُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. فَيَأْتِي بِضَمِيرِ الْجَمْعِ وَإِنْ كَانَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ وَاحِدًا، وَيَقُولُ الْمُجِيبُ وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ عِمْرَانَ قَالَ «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَرَدَّ عَلَيْهِ ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَشْرٌ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. فَرَدَّ عَلَيْهِ فَجَلَسَ فَقَالَ: عِشْرُونَ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. فَرَدَّ عَلَيْهِ فَجَلَسَ فَقَالَ: ثَلَاثُونَ» . قَالَ أَبُو دَاوُد (بَابُ كَيْفَ السَّلَامُ) ثُمَّ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَهَذَا أَظْهَرُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ الْمُبْتَدِئُ كَامِلًا وَهَذَا مُقْتَضَى كَلَامِ أَبِي دَاوُد. وَكَذَا قَالَ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ مِنْ أَصْحَابِنَا: أَكْمَلُهُ ذِكْرُ الرَّحْمَةِ وَالْبَرَكَةِ ابْتِدَاءً وَكَذَا الْجَوَابُ، وَأَقَلُّهُ السَّلَامُ عَلَيْكَ وَأَوْسَطُهُ ذِكْرُ الرَّحْمَةِ أَوْ عَلَيْكُمْ، إنْ كَانُوا جَمَاعَةً، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَنَوَى مَلَائِكَتَهُ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ. وَصَحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ «خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ يُصَلِّي فَقَالَ يَا أُبَيٍّ فَالْتَفَتَ ثُمَّ لَمْ يُجِبْهُ ثُمَّ صَلَّى أُبَيٍّ فَخَفَّفَ ثُمَّ انْصَرَفَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَعَلَيْكَ

مَا مَنَعَكَ أَنْ تُجِيبَنِي إذْ دَعَوْتُكَ؟» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْقَوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِهِ (مَجْمَعُ الْبَحْرَيْنِ) : وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ قَوْلِ الرَّادِّ لِلسَّلَامِ وَعَلَيْك بِحَذْفِ الْمُبْتَدَإِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَكَذَا رَدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَبِي ذَرٍّ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي فَضَائِلِهِ، وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ قَالُوا: وَهَذَا فِيمَا إذَا أَتَى بِالْوَاوِ. فَأَمَّا إنْ قَالَ: عَلَيْكَ أَوْ عَلَيْكُمْ لَمْ يُجْزِئْهُ، وَأَصْحَابُنَا تَصْرِيحًا وَتَعْرِيضًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: فَإِنْ اقْتَصَرَ الرَّادُّ عَلَى لَفْظِ وَعَلَيْكَ كَمَا رَدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْأَعْرَابِيِّ وَهُوَ مُقْتَضَى الْكِتَابِ فَإِنَّ الْمُضْمَرَ كَالْمُظْهَرِ إلَّا أَنْ يُقَالَ: إذَا وَصَلَهُ بِكَلَامٍ فَلَهُ الِاقْتِصَارُ بِخِلَافِ مَا إذَا سَكَتَ، وَلَوْلَا أَنَّ الرَّدَّ الْوَاجِبَ يَحْصُلُ بِهِ لَمَا أَجْزَأَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ فِي الرَّدِّ عَلَى الذِّمِّيِّ. وَمُقْتَضَى كَلَامِ ابْنِ أَبِي مُوسَى وَابْنِ عَقِيلٍ لَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمُقْتَضَى أَخْذِهِ مِنْ الرَّدَّ عَلَى الذِّمِّيِّ أَنْ يُجْزِئَ، وَلَوْ حَذَفَ الْوَاوَ وَقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ: فَإِنْ قَالَ سَلَامٌ، لَمْ يُجِبْهُ وَيُعَرِّفُهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامٍ تَامٍّ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ، وَيُتَوَجَّهُ مِنْ الِاكْتِفَاءِ بِرَدِّ وَعَلَيْكَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَرُدَّهُ. وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: يُقَالُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَسَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَسَلَامٌ بِحَذْفِ عَلَيْكُمْ، قَالَ: وَكَانُوا يَسْتَحِبُّونَ تَنْكِيرَ الِابْتِدَاءِ وَتَعْرِيفَ الْجَوَابِ، وَيَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ يَعْنِي السَّلَامَ الْأَوَّلَ. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَارَّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْجَالِسِ أَوْ الْجُلُوسِ مِنْهُمْ أَنْ يَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَوْ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، وَاتَّفَقُوا عَلَى إيجَابِ الرَّدِّ بِمِثْلِ ذَلِكَ.

فَصْلٌ (فِي " حَدِيثِ " حَذْفُ السَّلَامِ سُنَّةٌ) قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ: إنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " حَذْفُ السَّلَامِ سُنَّةٌ " قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: هَذَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ إلَى الْقَوْمِ فَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، وَمَدَّ بِهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ صَوْتَهُ شَدِيدًا، وَلَكِنْ لِيَقُلْ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، وَخَفَّفَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ صَوْتَهُ، قَالَ: يَقُولُ هَكَذَا، قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: وَرَأَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إذَا خَرَجَ عَلَيْنَا سَلَّمَ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ سَلَّمَ. وَفِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «إذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إلَى الْمَجْلِسِ فَلْيُسَلِّمْ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ فَلْيُسَلِّمْ، وَلَيْسَتْ الْأُولَى بِأَحَقَّ مِنْ الْآخِرَةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.

فصل في رد جواب الكتاب وأسلوب السلف في المكاتبة كالسلام

[فَصْلٌ فِي رَدِّ جَوَابِ الْكِتَابِ وَأُسْلُوبِ السَّلَفِ فِي الْمُكَاتَبَةِ كَالسَّلَامِ] فِي رَدِّ جَوَابِ الْكِتَابِ وَأُسْلُوبِ السَّلَفِ فِي الْمُكَاتَبَةِ كَالسَّلَامِ) رَوَى أَبُو جَعْفَرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: «إنِّي لَأَرَى لِرَدِّ جَوَابِ الْكِتَابِ عَلَيَّ حَقًّا كَمَا أَرَى رَدَّ جَوَابِ السَّلَامِ.» قَالَ الشَّيْخَ تَقِيُّ الدِّينِ وَهُوَ الْمَحْفُوظُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ يَعْنِي مَوْقُوفًا انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَقَوْلُ صَحَابِيٍّ لَا يَصِحُّ خِلَافُهُ عَنْ صَحَابِيٍّ مَعْمُولٍ بِهِ، وَيُتَوَجَّهُ الْقَوْلُ بِهِ اسْتِحْبَابًا وَيُتَوَجَّهُ فِي الْوُجُوبِ مَا فِي الْمُكَافَأَةِ عَلَى الْهَدِيَّةِ، وَرَدِّ جَوَابِ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَمَّا إنْ أَفْضَى تَرْكُ ذَلِكَ إلَى سُوءِ ظَنٍّ وَإِيقَاعِ عَدَاوَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ تَوَجَّهَ الْوُجُوبُ وَلَا بُدَّ مِنْ رَدِّ جَوَابِ مَا قَصَدَهُ الْكَاتِبُ وَإِلَّا كَانَ الرَّدُّ كَعَدَمِهِ شَرْعًا وَعُرْفًا. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ «إنِّي لَا أَنْقُضُ الْعَهْدَ وَلَا أُفْسِدُهُ» وَأَصْلُهُ مِنْ خَاسَ الشَّيْءُ فِي الْوِعَاءِ إذَا فَسَدَ قَالَ: وَقَوْلُهُ «لَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ» يُشْبِهُ أَنَّ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّ الرِّسَالَةَ تَقْتَضِي جَوَابًا وَالْجَوَابَ لَا يَصِلُ إلَى الْمُرْسَلِ إلَّا عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ بَعْدَ انْصِرَافِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَدْ عَقَدَ لَهُ الْعَهْدَ مُدَّةَ مَجِيئِهِ وَرُجُوعِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ، وَإِذَا أَبْطَأَ الْجَوَابَ فَيَنْبَغِي التَّلَطُّفُ لِيَزُولَ لَهُ مَا حَصَلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: كَتَبَ إلَيَّ الْمُغِيرَةُ يَسْتَبْطِئُ كُتُبِي فَكَتَبْتُ إلَيْهِ: مَا غَيَّرَ النَّأْيُ وُدًّا كُنْتَ تَعْهَدُهُ ... وَلَا تَبَدَّلْتُ بَعْدَ الذِّكْرِ نِسْيَانَا وَلَا حَمِدْتُ إخَاءً مِنْ أَخِي ثِقَةِ ... إلَّا جَعَلْتُكَ فَوْقَ الْحَمْدِ عُنْوَانَا وَأَظُنُّ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ هُوَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ الْمَشْهُورُ الْإِخْبَارِيُّ صَاحِبُ كِتَابِ النَّسَبِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - جَدُّ جَدِّ أَبِيهِ وَلَمْ أَجِدْ مَنْ اسْمُهُ الزُّبَيْرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ غَيْرَهُ وَنَظِيرُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ مَا يَأْتِي فِي آخِرِ الْكِتَابِ مِنْ قَوْلِ أَبِي تَمَّامٍ الطَّائِيِّ فِي التَّأَخُّرِ عَنْ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ:

وَلَئِنْ جَفَوْتُكَ فِي الْعِيَادَةِ إنَّنِي ... لِبَقَاءِ جِسْمِكَ فِي الدُّعَاءِ لَجَاهِدُ وَلَرُبَّمَا تَرَكَ الْعِيَادَةَ مُشْفِقُ ... وَطَوَى عَلَى غِلِّ الضَّمِيرِ الْعَائِدُ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الدَّارِمِيُّ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ: كَتَبَ إلَيَّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لِأَبِي جَعْفَرٍ أَكْرَمَهُ اللَّهُ مِنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَقَالَ حَرْبٌ قُلْتُ لِأَحْمَدَ كَيْفَ تَكْتُبُ عَلَى عُنْوَانِ الْكِتَابِ؟ قَالَ نَكْتُبُ: إلَى أَبِي فُلَانٍ، وَلَا يُكْتَبُ لِأَبِي فُلَانٍ، قَالَ: لَيْسَ لَهُ مَعْنًى إذَا كُتِبَ لِأَبِي فُلَانٍ. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَكْتُبُ عُنْوَانَ الْكِتَابِ: إلَى أَبِي فُلَانٍ، وَقَالَ: هُوَ أَصْوَبُ مِنْ أَنْ يَكْتُبَ لِأَبِي فُلَانٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ يَعْقُوبَ: كَتَبَ إلَيَّ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ إلَى سَعِيدِ بْنِ يَعْقُوبَ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ الدُّنْيَا دَاءٌ، وَالسُّلْطَانُ دَوَاءٌ، وَالْعَالِمَ طَبِيبٌ، فَإِذَا رَأَيْتَ الطَّبِيبَ يَجُرُّ الدَّاءَ إلَى نَفْسِهِ فَاحْذَرْهُ. وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ. وَقَالَ حَنْبَلٌ: كَانَتْ كُتُبُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ الَّتِي يَكْتُبُ بِهَا: مِنْ فُلَانٍ إلَى فُلَانٍ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ إلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَكَتَبَ كُلَّ مَا كَتَبَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَمْرٌو كَتَبَ إلَى عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ، وَهَذَا الَّذِي يُكْتَبُ الْيَوْمَ لِفُلَانٍ مُحْدَثٌ لَا أَعْرِفُهُ، قُلْتُ: فَالرَّجُلُ يَبْدَأُ بِنَفْسِهِ، قَالَ: أَمَّا الْأَبُ فَلَا أُحِبُّ إلَّا أَنْ يُقَدِّمَهُ بِاسْمِهِ، وَلَا يَبْدَأُ وَلَدٌ بِاسْمِهِ عَلَى وَالِدٍ، وَالْكَبِيرُ السِّنِّ كَذَلِكَ يُوَقِّرُهُ بِهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ لَا بَأْسَ، وَفِي مَعْنَى كِبَرِ السِّنِّ: الْعِلْمُ وَالشَّرَفُ وَنَحْوُهُمَا وَهُوَ مُرَادُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ وَإِلَّا فَلَا وَجْهَ لِمُرَاعَاةِ شَيْخٍ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ، وَتَرْكِ عَالِمٍ صَغِيرِ السِّنِّ، وَلَمْ أَجِدْ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا يُخَالِفُ هَذَا النَّصَّ صَرِيحًا، وَلَعَلَّ ظَاهِرَ حَالِهِ اتِّبَاعُ طَرِيقِ مَنْ مَضَى فِي بُدَاءَةِ الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ مُطْلَقًا، فَيَكُونُ عَنْهُ رِوَايَتَانِ فِي ذَلِكَ، وَهِيَ تُشْبِهُ مَسْأَلَةَ الْقِيَامِ أَوْ نَظِيرَهَا. وَسَيَأْتِي بَعْدَ نَحْوِ سِتَّةِ كَرَارِيسَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْكِتَابِ وَالْكِتَابَةِ. (فَصْلٌ) وَذَكَرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنْ ثَعْلَبِ بْنِ الْأَعْرَابِيِّ قَالَ: الرَّسُولُ وَالرُّسُلُ وَالرِّسَالَةُ سَوَاءٌ، قَالَ: وَيُنْشَدُ هَذَا الْبَيْتُ عَلَى وَجْهَيْنِ

لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا بُحْتُ عِنْدَهُمْ ... بِسِرٍّ وَلَا أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ وَبِرَسِيلِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا أَبْرَدْتُمْ إلَيَّ بَرِيدًا أَوْ بَعَثْتُمْ إلَيَّ رَسُولًا فَلْيَكُنْ حَسَنَ الْوَجْهِ حَسَنَ الِاسْمِ، وَإِذَا سَأَلْتُمْ الْحَوَائِجَ فَاسْأَلُوهَا حِسَانَ الْوُجُوهِ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرَّجُلُ الصَّالِحُ يَجِيءُ بِالْخَبَرِ الصَّالِحِ، وَالرَّجُلُ السُّوءُ يَأْتِي بِالْخَبَرِ السُّوءِ» قَالُوا: الرَّسُولُ قِطْعَةٌ مِنْ الْمُرْسِلِ، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثَلَاثَةٌ دَالَّةٌ عَلَى صَاحِبِهَا الرَّسُولُ عَلَى الْمُرْسِلِ، وَالْهَدِيَّةُ عَلَى الْمُهْدِي، وَالْكِتَابُ عَلَى الْكَاتِبِ. قَالَ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ: إذَا كُنْتَ فِي حَاجَةٍ مُرْسِلًا ... فَأَرْسِلْ حَكِيمًا وَلَا تُوصِهِ فَسَمِعَ الْخَلِيلُ رَجُلًا يُنْشِدُ هَذَا الْبَيْتَ فَقَالَ هُوَ الدِّرْهَمُ. وَقَالَ آخَرُ: مَا أَرْسَلَ الْأَقْوَامُ فِي حَاجَةٍ ... أَمْضَى وَلَا أَنْفَعَ مِنْ دِرْهَمِ يَأْتِيكَ عَفْوًا بِاَلَّذِي تَشْتَهِي ... نِعْمَ الرَّسُولُ لِلرَّجُلِ الْمُسْلِمِ وَقَالَ آخَرُ: مَا مُرْسَلٌ أَنْجَحُ فِيمَا نَعْلَمُ ... مِنْ طَبَقٍ يُهْدَى وَهَذَا الدِّرْهَمِ وَقَالَ مَنْصُورٌ: أَرْسَلْتُ فِي حَاجَةٍ رَسُولًا ... يُكْنَى أَبَا دِرْهَمٍ فَتَمَّتْ وَلَوْ سِوَاهُ بَعَثْتُ فِيهَا ... لَمْ تَحْظَ نَفْسِي بِمَا تَمَنَّتْ وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ: الصَّوَابُ، إلَى أَبِي فُلَانٍ لِأَنَّ الْكِتَابَ إلَيْهِ لَا لَهُ إلَّا عَلَى مَجَازٍ بَعِيدٍ، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَيْهِ. كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: يَكْتُبُ الرَّجُلُ مِنْ فُلَانٍ إلَى فُلَانٍ، وَلَا يَكْتُبُ لِفُلَانٍ. وَرَوَى ابْنُ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: كَتَبَ رَجُلٌ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لِفُلَانٍ مِنْ فُلَانٍ فَقَالَ: مَهْ، إنَّ اسْمَ اللَّهِ هُوَ لَهُ إذًا، وَعَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ:

كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَكْتُبُوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لِفُلَانٍ مِنْ فُلَانٍ وَكَانُوا يَكْرَهُونَهُ فِي الْعُنْوَانِ وَلَا أَحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ رَخَّصَ فِي أَنْ يُكْتَبَ لِأَبِي فُلَانٍ فِي عُنْوَانٍ وَلَا غَيْرِهِ، قَالَهُ أَبُو جَعْفَرٍ. وَقَالَ: فَأَمَّا ابْتِدَاءُ الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ وَكَتْبِهِ مِنْ فُلَانٍ إلَى فُلَانٍ، فَفِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْعُنْوَانِ وَصَدْرِ الْكِتَابِ فَأَكْثَرُهُمْ يَرَى أَنْ يَبْتَدِئَ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ هُوَ السُّنَّةُ كَمَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: أَنَّ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ كَتَبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَدَأَ بِنَفْسِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا الْخَبَرُ رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ زَاذَانَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ عَنْ هُشَيْمٍ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: أَحْمَدُ قَالَ مَرَّةً يَعْنِي هُشَيْمًا: عَنْ بَعْضِ وَلَدِ الْعَلَاءِ: إنَّ الْعَلَاءَ كَانَ عَامِلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْبَحْرَيْنِ فَكَانَ إذَا كَتَبَ إلَيْهِ بَدَأَ بِنَفْسِهِ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَحْمَدَ. وَابْنُ سِيرِينَ لَمْ يُدْرِكْ الْعَلَاءَ وَابْنُ الْعَلَاءِ تَفَرَّدَ عَنْهُ ابْنُ سِيرِينَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَعَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ لِغِلْمَانِهِ وَوَلَدِهِ: إذَا كَتَبْتُمْ إلَيَّ فَلَا تَبْدَءُوا بِي، وَكَانَ إذَا كَتَبَ إلَى الْأُمَرَاءِ بَدَأَ بِنَفْسِهِ، وَذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ أَيْضًا أَنَّهُ كَتَبَ إلَى مُعَاوِيَةَ وَعَبْدِ الْمَلِكِ فَبَدَأَ بِهِمَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذْ كَتَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِنَفْسِهِ إلَّا إلَى وَالِدٍ أَوْ وَالِدَةٍ، وَإِمَامٍ يَخَافُ عُقُوبَتَهُ» وَقِيلَ لِسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ اُكْتُبْ إلَى الْمَهْدِيِّ قَالَ: إنْ كَتَبْتُ إلَيْهِ بَدَأْتُ بِنَفْسِي قِيلَ فَلَا تَكْتُبْ إلَيْهِ إذًا. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: مَا كَانَ أَحَدٌ أَعْظَمَ حُرْمَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَصْحَابُهُ يَكْتُبُونَ إلَيْهِ فَيَبْدَءُونَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَرُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ كَتَبَ إلَى مُعَاوِيَةَ فَبَدَأَ بِاسْمِ مُعَاوِيَةَ. وَعَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ لَا بَأْسَ أَنْ يَبْدَأَ بِالرَّجُلِ إذَا كَتَبَ إلَيْهِ، وَكَتَبَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إلَى عَامِلٍ فِي حَاجَةٍ فَبَدَأَ بِاسْمِهِ فَقِيلَ لَهُ: ابْتَدَأْتَ بِاسْمِهِ فَقَالَ: لِي إلَيْهِ حَاجَةٌ، وَعَنْ ابْنِ شَوْذَبٍ قُلْتُ لِأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ لِي إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ حَاجَةٌ وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَكْتُبَ إلَيْهِ، قَالَ: فَابْدَأْ بِهِ، ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو جَعْفَرٍ وَذَكَرَ أَيْضًا أَنَّ لِأَبِي فُلَانٍ إنَّ اللَّامَ

بِمَعْنَى إلَى، فَقَدْ قَالَ قَوْمٌ فِي مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 5] . مَعْنَاهُ أَوْحَى إلَيْهَا، فَإِنْ أَعَدْتَ الْكُنْيَةَ خَفَضْتَ عَلَى الْبَدَلِ وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى إضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، وَالنَّصْبُ بِمَعْنَى أَعْنِي وَفِي إعَادَةِ الْكُنْيَةِ مَعْنَى التَّعْظِيمِ وَالتَّبْجِيلِ وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ: لَا أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ ... نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى وَالْفَقِيرَا فِيهِ الْأَخْبَارُ يُقَالُ وَتَتْرِيبُ الْكِتَابِ مَحْمُودٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، قَالَهُ أَبُو جَعْفَرٍ، وَسَتَأْتِي فِيهِ الْأَخْبَارُ، يُقَالُ أَتْرَبْتُ الْكِتَابَ وَتَرَّبْتُهُ بِمَعْنًى، وَيُقَالُ تَرِبَ الرَّجُلُ إذَا افْتَقَرَ، وَاشْتِقَاقُهُ أَنَّهُ صَارَ إلَى التُّرَابِ وَأَتْرَبَ: اسْتَغْنَى، مَعْنَاهُ كَثُرَ مَالُهُ حَتَّى صَارَ كَالتُّرَابِ، وَأَكْثَرُ الِاسْتِعْمَالِ أَتْرَبْتُ الْكِتَابَ، فَوَافَقَ لَفْظُهُ لَفْظَ أَتْرَبَ الرَّجُلُ إذَا اسْتَغْنَى، وَيُقَالُ: أَوَّلُ مَنْ خَتَمَ الْكِتَابَ سُلَيْمَانُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29] . أَيْ: مَخْتُومٌ وَيُقَالُ: فُضَّ الْكِتَابُ إذَا كُسِرَ خَاتَمُهُ وَمَعْنَى الْفَضِّ فِي اللُّغَةِ التَّفْرِيقُ وَالْكَسْرُ وَمِنْهُ انْفَضَّ الْقَوْمُ وَمِنْهُ لَا يَفْضُضُ اللَّهُ فَاكَ وَإِنْ شِئْتَ لَا يَفُضُّ اللَّهُ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ وَالضَّمِّ، وَذَكَرَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ مَعْنَى لَا يَفْضُضُ اللَّهُ فَاكَ: قَالَ: لَا يَجْعَلُهُ فَضَاءً لَا أَسْنَانَ فِيهِ لِأَنَّ الْفَضَاءَ الْمَكَانُ الْوَاسِعُ وَهَذَا غَلَطٌ فِي الِاشْتِقَاقِ لِأَنَّ لَامَ الْفِعْلِ مِنْ الْفَضَاءِ لَيْسَتْ ضَادًا وَلَامَ الْفِعْلِ مِنْ فَضَّ ضَادٌ. وَفِي عُنْوَانِ الْكِتَابِ لُغَاتٌ أَفْصَحُهَا: عِنْوَانٌ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَجَمْعُهَا عَنَاوِينُ وَعِلْوَانُ وَجَمْعُهَا عَلَاوِينُ وَعِنْيَانٌ وَعِينَانٌ، تَقُولُ عَنْوَنْتُ الْكِتَابَ أُعَنْوِنُهُ عَنْوَنَةً وَعَلْوَنْتُهُ وَعَنَيْتُ تَعْنِيًا وَعَنَيْتُ تَعْنِيَةً وَعَنَوْتُ الْكِتَابَ

أَعْنُوهُ عَنْوًا، وَتَقُولُ مِنْهُ يَا عَانٍ اُعْنُ كِتَابَكَ مِثْلُ دَعَا يَدْعُو، وَالْعُنْوَانُ الْأَثَرُ، فَالْعُنْوَانُ أَثَرُ الْكِتَابِ مِمَّنْ هُوَ وَإِلَى مَنْ هُوَ، وَقِيلَ الْعُنْوَانُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ عَنَتْ الْأَرْضُ تَعْنُوا إذَا أَخْرَجَتْ النَّبَاتَ وَأَعْنَاهَا الْمَطَرُ إذَا أُخْرِجَ نَبَاتُهَا، فَعُنْوَانٌ عَلَى هَذَا فُعْلَانٌ، يَنْصَرِفُ فِي النَّكِرَةِ دُونَ الْمَعْرِفَةِ، وَقِيلَ مُشْتَقٌّ مِنْ عَنَّ يَعِنُّ إذَا عَرَضَ وَبَدَأَ فَعَلَى هَذَا يَنْصَرِفُ نَكِرَةً وَمَعْرِفَةً لِأَنَّهُ فُعْلَانٌ، وَمَنْ قَالَ عِلْوَانٌ أَبْدَلَ مِنْ النُّونِ لَامًا مِثْلُ صَيْدَلَانِيِّ وَصَيْدَنَانِيِّ وَالِاشْتِقَاقُ وَاحِدٌ. وَقِيلَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْعَلَانِيَةِ لِأَنَّهُ خَطٌّ مُظْهَرٌ عَلَى الْكِتَابِ، وَاسْتَحْسَنَ جَمَاعَةٌ أَنْ يُصَغِّرُوا أَسْمَاءَهُمْ عَلَى عُنْوَانَاتِ الْكُتُبِ وَرَأَوْا ذَلِكَ تَوَاضُعًا، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحَسِّنَ اسْمَ اللَّهِ إذَا كَتَبَهُ، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَكَانُوا يَكْرَهُونَ الدُّعَاءَ عَلَى الْعُنْوَانِ وَيُنْكِرُونَهُ، كَذَا قَالَ مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَ الدُّعَاءَ عَلَيْهِ، وَقَوْلُ الْفَضْلِ بْنِ سَهْلٍ: لَا يَحْسُنُ بِالْعُنْوَانِ كَثْرَةُ الدُّعَاءِ، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (بَابُ تَرْتِيبَاتٍ اصْطَلَحُوا عَلَيْهَا) فَمِنْ ذَلِكَ: اصْطِلَاحُهُمْ عَلَى أَنَّ " أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَ سَيِّدِنَا " أَجَلُّ الدُّعَاءِ، وَيَلِيهِ: أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَ سَيِّدِي، وَاسْتَقْبَحُوا الْخِلَافَ فِي فُصُولِ الْكِتَابَةِ وَذَلِكَ أَنْ يَكْتُبَ: أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَ سَيِّدِنَا أَوْ سَيِّدِي ثُمَّ يَقُولُ فِي الْكِتَابِ بَلَّغَكَ اللَّهُ أَمَلَكَ فَإِنْ رَأَيْتَ فَهَذَا خِلَافٌ فِي الدُّعَاءِ، أَوْ يَقُولُ أَيَّدَ اللَّهُ سَيِّدِي ثُمَّ يَقُولُ أَكْرَمَ اللَّهُ سَيِّدِي، وَاسْتَقْبَحُوا أَيْضًا أَنْ تَكُونَ الْأَدْعِيَةُ مُتَّفِقَةً وَذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: أَعَزَّكَ اللَّهُ وَيَكْتُبَ فِي الْفَصْلِ الَّذِي يَلِيهِ مِثْلَهُ، وَاصْطَلَحُوا عَلَى مُكَاتَبَةِ النَّظِيرِ نَظِيرَهُ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا وَكَذَا فَعَلْتَ، وَلَا يَكْتُبُونَ إلَيْهِ فَرَأْيُكَ، فَإِنْ كَانَ دُونَكَ قَلِيلًا فَرَأْيُكَ، وَكَتَبُوا فَأُحِبُّ أَنْ تَفْعَلَ فَإِنْ كَانَ دُونَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَتَبَ فَيَنْبَغِي أَنْ تَفْعَلَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ كَتَبَ فَافْعَلْ كَذَا وَكَذَا.

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمَانَ يَتَعَجَّبُ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الْكُتَّابِ الَّذِينَ يَنْتَحِلُونَ الْعِلْمَ وَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ فَرَأْيُكَ وَبَيْنَ إنْ رَأَيْتَ وَجَعَلَ فَرَأْيُكَ لَا يَكْتُبُ بِهَا إلَّا جَلِيلٌ لَهُ أَمْرٌ، فَقَالَ مَا أَعْجَبَ هَذَا؟ أَتَرَاهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الْإِنْسَانَ يُخَاطِبُ الرَّجُلَ الْجَلِيلَ فَيَقُولُ: اُنْظُرْ فِي أَمْرِي فَيَكُونُ لَفْظُهُ لَفْظَ الْأَمْرِ وَمَعْنَاهُ السُّؤَالُ وَالطَّلَبُ، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَجَعَلُوا أَعَزَّكَ اللَّهُ أَجَلَّ مِنْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ وَهُوَ مِنْ الِاصْطِلَاحِ الْمُحْدَثِ، قَالَ وَمِنْ الْمُسْتَقِيمِ عِنْدَهُمْ أَيْضًا أَنْ يَدْعُوَ لَهُ وَيَشْتُمَهُ فِي كِتَابٍ وَاحِدٍ. ثُمَّ ذَكَرَ اصْطِلَاحَاتٍ فِي الْمُكَاتَبَاتِ وَالْأَدْعِيَةِ إلَى أَنْ قَالَ: إنَّهُ يُسْتَحْسَنُ مَعَ الرُّؤَسَاءِ الْإِيجَازُ وَالِاخْتِصَارُ لِأَنَّ الْإِكْثَارَ يُضْجِرُهُمْ حَتَّى رُبَّمَا يُصَيِّرُهُمْ إلَى اسْتِقْبَاحِ الْحَسَنِ مِمَّا يُكَاتَبُونَ بِهِ وَالرَّدِّ عَمَّا يُسْأَلُونَ، وَإِنَّهُ قَدْ يَكْتُبُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضِ الْخُلَفَاءِ يُعَزِّيهِ: أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ عَرَفَ حَقَّ اللَّهِ عَلَيْهِ فِيمَا أُخِذَ مِنْهُ مَنْ عَظَّمَ حَقَّ اللَّهِ عَلَيْهِ فِيمَا أَبْقَاهُ لَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَجْرَ الصَّابِرِينَ فِيمَا يُصَابُونَ أَعْظَمُ مِنْ النِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ فِيمَا يُعَافُونَ فِيهِ. وَعَنْ الْمَأْمُونِ سَمِعْتُ الرَّشِيدَ يَقُولُ: الْبَلَاغَةُ: التَّبَاعُدُ عَنْ الْإِطَالَةِ، وَالتَّقَرُّبُ مِنْ مَعْنَى الْبُغْيَةِ، وَالدَّلَالَةُ بِالْقَلِيلِ مِنْ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى. وَكَتَبَ الْحَسَنُ بْنُ وَهْبٍ إلَى مَالِكِ بْنِ طَوْقٍ فِي ابْنِ أَبِي الشِّيصِ الشَّاعِرِ: كِتَابِي إلَيْكَ كِتَابٌ خَطَطْتُهُ بِيَمِينِي، وَفَرَّغْتُ لَهُ ذِهْنِي، فَمَا ظَنُّكَ بِحَاجَةٍ هَذَا مَوْقِعُهَا مِنِّي؟ أَتَرَانِي أَقْبَلُ الْعُذْرَ فِيهَا أَوْ أُقَصِّرُ الشُّكْرَ عَلَيْهَا. وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى قَالَ: إنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ يَكُونَ كَلَامُكُمْ مِثْلَ التَّوْقِيعِ فَافْعَلُوا. وَذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ أَنَّ مِنْ مُجَانَسَةِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْبَلَاغَةِ قَوْلُ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ كَثِيرًا: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: أَنَا بَيْنَ نِعْمَةٍ وَذَنْبٍ فَأَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى النِّعْمَةِ وَأَسْتَغْفِرُهُ مِنْ الذَّنْبِ. وَاعْتَذَرَ رَجُلٌ إلَى سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ فَأَكْثَرَ فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: حَسْبُكَ فَإِنَّ الْوَلِيَّ لَا يُحَاسَبُ وَالْعَدُوَّ لَا يَحْتَسِبُ لَهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: لَا يُرَى الْجَاهِلُ إلَّا مُفْرِطًا أَوْ مُفَرَّطًا، وَقَالَ ابْنُ السَّمَّاكِ: اللَّهُمَّ اُرْزُقْنِي حَمْدًا وَمَجْدًا، فَإِنَّهُ لَا حَمْدَ إلَّا بِفِعَالٍ وَلَا مَجْدَ إلَّا بِمَالٍ، اللَّهُمَّ إنَّهُ لَا يَسَعُنِي الْقَلِيلُ وَلَا أَسَعُهُ. وَقَالَ عِنْدَ وَفَاتِهِ: اللَّهُمَّ إنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ إذْ كُنْتُ أَعْصِيكَ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ مِمَّنْ يُطِيعُكَ

وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَغْفِرُكَ مِمَّا أَمْلِكُ وَأَسْتَحِلُّكَ لِمَا لَا أَمْلِكُ وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ أَرْضَى لِلرِّضَى، وَأَسْخَطُ لِلسَّخَطِ، وَأَقْدَرُ أَنْ تُغَيِّرَ مَا كَرِهْتَ وَأَعْلَمُ بِمَا تَقْدِرُ، وَمِنْ دُعَاءِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - اللَّهُمَّ اُرْزُقْنِي خَوْفَ الْوَعِيدِ وَسُرُورَ رَجَاءِ الْمَوْعُودِ، حَتَّى لَأَرْجُو إلَّا مَا رَجَيْتَ، وَلَا أَخَافُ إلَّا مَا خَوَّفْتَ. وَكَانَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ يَقُولُ: أَسْتَلْطِفُ اللَّهَ لِكُلِّ عَسِيرٍ، فَإِنَّ تَيْسِيرَ الْعَسِيرِ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ، وَكَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنَّكَ بِمَا أَنْتَ لَهُ أَهْلٌ مِنْ الْعَفْوِ، أَوْلَى مِنِّي بِمَا أَنَا لَهُ أَهْلٌ مِنْ الْعُقُوبَةِ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْفَقْرِ إلَّا إلَيْكَ، وَمِنْ الذُّلِّ إلَّا لَكَ، وَحَكَى فِي مَكَان آخَرَ هَذِهِ الدَّعْوَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى الدُّنْيَا بِالْغِنَى وَعَلَى الْآخِرَةِ بِالتَّقْوَى، وَذَكَرَ دُعَاءً آخَرَ مِنْ الْمَأْثُورِ قَالَ: وَقَالَ غَيْرُهُ: اللَّهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْقَوْلِ كَمَا نَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْعَمَلِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ التَّكَلُّفِ لِمَا لَا يُحْسَنُ، كَمَا نَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجَبِ مِمَّا يُحْسَنُ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ السَّلَاطَةِ وَالْهَذْرِ، كَمَا نَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْعِيِّ وَالْحَصْرِ. وَقَالَ الْأَفْوَهُ: فِينَا مَعَاشِرُ لَمْ يَبْنُوا لِقَوْمِهِمْ ... وَإِنْ بَنَى قَوْمُهُمْ مَا أَفْسَدُوا عَادُوا وَمِنْهَا: لَا يُصْلِحُ اللَّهُ قَوْمًا لَا سَرَاةَ لَهُمْ ... وَلَا سَرَاةَ إذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا وَإِنْ تَوَلَّى سَرَاةُ الْقَوْمِ أَمْرَهُمْ ... نَمَا لِذَلِكَ أَمْرُ الْقَوْمِ فَازْدَادُوا تُهْدَى الْأُمُورُ بِأَهْلِ الرَّأْيِ مَا صَلُحَتْ ... فَإِنْ تَوَلَّتْ فَبِالْأَشْرَارِ تَنْقَادُ وَبَلَغَ هُشَامًا كَلَامٌ عَنْ رَجُلٍ فَأُتِيَ بِهِ فَاحْتَجَّ فَقَالَ لَهُ هِشَامٌ: أَتَتَكَلَّمُ أَيْضًا؟ فَقَالَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل: 111] . فَيُجَادِلُ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَلَا تَكَلَّمُ أَنْتَ؟ فَقَالَ تَكَلَّمَ بِمَا أَحْبَبْتَ. وَقَدِمَ إلَى الْحَجَّاجِ أَسْرَى لِيُقْتَلُوا فَقَدِمَ رَجُلٌ لِيُضْرَبَ عُنُقُهُ فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَئِنْ كُنَّا

أَسَأْنَا فِي الذَّنْبِ لَمَا أَحْسَنْتَ فِي الْعُقُوبَةِ. فَقَالَ الْحَجَّاجُ أُفٍّ لِهَذِهِ الْجِيَفِ أَمَا كَانَ فِيهَا أَحَدٌ يُحْسِنُ مِثْلَ هَذَا؟ وَأَمْسَكَ عَنْ الْقَتْلِ. وَأُتِيَ الْهَادِي بِرَجُلٍ مِنْ الْحَبْسِ فَجَعَلَ يُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ فَقَالَ الرَّجُلُ: اعْتِذَارِي رَدَّ عَلَيْكَ، وَإِقْرَارِي يُوجِبُ لِي ذَنْبًا وَلَكِنِّي أَقُولُ: إذَا كُنْتَ تَرْجُو فِي الْعُقُوبَةِ رَاحَةً ... فَلَا تَزْهَدَنَّ عِنْدَ الْمُعَافَاةِ فِي الْأَجْرِ فَعَفَا عَنْهُ. وَدَخَلَ رَجُلٌ عَلَى الْمَنْصُورِ فَقَالَ لَهُ: تَكَلَّمْ بِحُجَّتِكَ فَقَالَ لَوْ كَانَ لِي ذَنْبٌ تَكَلَّمْتُ بِعُذْرِي وَعَفْوُكَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ بَرَاءَتِي. وَاعْتَذَرَ رَجُلٌ إلَى الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ مِنْ ذَنْبٍ كَانَ لَهُ فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: تَقَدَّمَتْ لَك طَاعَةٌ، وَحَدَثَتْ لَكَ تَوْبَةٌ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمَا مِنْكَ نَبْوَةٌ، وَلَنْ تَغْلِبَ سَيِّئَةٌ حَسَنَتَيْنِ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ: عَفَوْتُ عَمَّنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ مِثْلِهِ ... عَفْوٌ وَلَمْ يَشْفَعْ إلَيْكَ بِشَافِعِ إلَّا الْعُلُوَّ عَنْ الْعُقُوبَةِ بَعْدَ مَا ... ظَفِرَتْ يَدَاكَ بِمُسْتَكِينٍ خَاضِعِ وَرَحِمْتَ أَطْفَالًا كَأَفْرَاخِ الْقَطَا ... وَحُنَيْنِ وَالِهَةٍ كَقَوْسِ النَّازِعِ وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ الْيَزِيدِيُّ وَكَانَ مُعَلِّمًا حِذَاءَ دَارِ أَبِي الْعَلَاءِ وَقِيلَ لَهُ الْيَزِيدِيُّ لِأَنَّهُ كَانَ يُؤَدِّبُ وَلَدَ يَزِيدَ بْنِ مَنْصُورٍ الْحِمْيَرِيِّ قَالَ فِي أَبْيَاتٍ: أَنَا الْمُذْنِبُ الْخَطَّاءُ وَالْعَفْوُ وَاسِعُ ... وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَنْبٌ لَمَا عُرِفَ الْعَفْوُ قَالَ ذَلِكَ يَعْتَذِرُ إلَى الْمَأْمُونِ لِأَنَّهُ امْتَنَّ عَلَيْهِ بِتَأْدِيبِهِ إيَّاهُ وَوَقَفَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى حَلْقَةِ الْحَسَنِ فَقَالَ رَحِمَ اللَّهُ مَنْ تَصَدَّقَ مِنْ فَضْلٍ، أَوْ وَاسَى مِنْ كَفَافٍ، أَوْ آثَرَ مِنْ قُوتٍ، فَقَالَ الْحَسَنُ مَا تَرَكَ أَحَدًا إلَّا وَقَدْ سَأَلَهُ. وَقَالَ أَعْرَابِيُّ آخَرُ لِعَبْدِ الْمَلِكِ: قَدْ جَهِدَ النَّاسُ وَأَحَاطَتْ بِهِمْ السُّنُونَ جَاءَتْ سَنَةٌ فَذَهَبَتْ بِالْمَالِ، ثُمَّ رَدِفَتْهَا سَنَةٌ بَرَتْ اللَّحْمَ، ثُمَّ رَدِفَتْهَا سَنَةٌ كَسَرَتْ الْعَظْمَ وَعِنْدَكَ أَمْوَالٌ فَإِنْ تَكُنْ لِلَّهِ فَاقْسِمْهَا بَيْنَ عِبَادِهِ، وَإِنْ تَكُنْ لَهُمْ

فَلَا تَخْزُنْهَا دُونَهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِالْمِرْصَادِ، وَإِنْ تَكُنْ لَك فَتَصَدَّقْ فَإِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ. وَسُئِلَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ عَنْ: أَعْدَلِ النَّاسِ، وَأَجْوَرِ النَّاسِ، وَأَكْيَسِ النَّاسِ، وَأَحْمَقِ النَّاسِ وَأَسْعَدِ النَّاسِ فَقَالَ: أَعْدَلُ النَّاسِ مَنْ أَنْصَفَ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَجْوَرُ النَّاسِ مَنْ رَأَى جَوْرَهُ عَدْلًا، وَأَكْيَسُ النَّاسِ مَنْ أَخَذَ أُهْبَةَ الْأَمْرِ قَبْلَ نُزُولِهِ، وَأَحْمَقُ النَّاسِ مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ، وَأَسْعَدُ النَّاسِ مَنْ خُتِمَ لَهُ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِ بِخَيْرٍ وَقِيلَ لِلْعَتَّابِيِّ فُلَانٌ بَعِيدُ الْهِمَّةِ. فَقَالَ: إذًا لَا يَكُونُ لَهُ غَايَةٌ دُونَ الْجَنَّةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْأَعْرَابِ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ رَفَعَ دَرَجَةَ اللِّسَانِ فَأَنْطَقَهُ بِتَوْحِيدِهِ بَيْنَ الْجَوَارِحِ وَضَحِكَ الْمُعْتَصِمُ مِنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَكِّيِّ وَكَانَ مُفْرِطَ الْقُبْحِ فَقَالَ الْمَكِّيُّ لِلْمَأْمُونِ: مِمَّا يَضْحَكُ هَذَا؟ وَاَللَّهِ مَا اُصْطُفِيَ يُوسُفُ لِجَمَالِهِ، وَإِنَّمَا اصْطَفَاهُ لِبَيَانِهِ قَالَ {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54] . فَبَيَانِي أَحْسَنُ مِنْ وَجْهِ هَذَا فَضَحِكَ الْمَأْمُونُ وَأَعْجَبَهُ كَلَامُهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْكَلَامُ الْجَزْلُ، أَغْنَى الْمَعَانِي عَنْ اللَّطِيفَةِ مِنْ الْمَعَانِي اللَّطِيفَةِ عَنْ الْكَلَامِ الْجَزْلِ فَإِذَا اجْتَمَعْنَا فَذَاكَ الْبَلَاغَةُ وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ الْبَلَاغَةُ أَنْ يَظْهَرَ الْمَعْنَى صَرِيحًا وَالْكَلَامُ صَحِيحًا وَقَالَ غَيْرُهُ أَفْضَلُ اللَّفْظِ بَدِيهَةُ امْرِئٍ وَرَدَتْ فِي مَكَانِ خَوْفٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ يَسْتَحْسِنُ الْكُتَّابُ أَنْ تَكُونَ الْأَلْفَاظُ غَيْرَ نَاقِصَةٍ عَنْ الْمَعَانِي فِي الْمِقْدَارِ وَالْكَثْرَةِ فَإِذَا كَتَبُوا حَسُنَ عِنْدَهُمْ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْأَلْفَاظِ غَيْرَ نَاقِصَةٍ عَنْ الْمَعَانِي وَلَا زَائِدَةً عَلَيْهَا إلَّا فِي مَوْضِعٍ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْإِسْهَابِ وَيُسْتَحْسَنُ فِي هَذَا مَا قَالَهُ جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى إذَا كَانَ الْإِكْثَارُ أَبْلَغَ كَانَ الْإِيجَازُ تَقْصِيرًا، وَإِذَا كَانَ الْإِيجَازُ كَافِيًا كَانَ الْإِكْثَارُ عَيًّا. وَدَخَلَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ فَقَالَ لَهُ يَا عُمَرُ إلَى مَنْ أَوْصَى بِكَ أَبُوكَ؟ فَقَالَ: أَوْصَى إلَيَّ وَلَمْ يُوصِ بِي. وَقِيلَ لِعِيسَى بْنِ عَاصِمٍ مَا الْبَلَاغَةُ قَالَ: الْإِيجَازُ. وَقِيلَ لِلْأَصْمَعِيِّ مَا حَدُّ الِاخْتِصَارِ؟ قَالَ حَذْفُ الْفُضُولِ وَتَقْرِيبُ الْبَعِيدِ وَسُئِلَ رَجُلٌ عَنْ الْبَلَاغَةِ؟ فَقَالَ: سُهُولَةُ اللَّفْظِ وَحُسْنُ الْبَدِيهَةِ وَقَالَ آخَرُ:

أَحْسَنُ الْقَوْلِ أَوْجَزُهُ وَأَهْنَأُ الْمَعْرُوفِ أَوْحَاهُ. وَقَالَ مَعْنُ بْنُ زَائِدَةَ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي شَيْبَانَ مَا هَذِهِ الْغَيْبَةُ الْمُنْسَاةُ؟ قَالَ: أَبْقَى اللَّهُ الْأَمِيرَ فِي نِعَمٍ زَائِدَةٍ، وَكَرَامَةٍ دَائِمَةٍ، مَا غَابَ أَيُّهَا الْأَمِيرُ عَنْ الْعَيْنِ مَنْ ذَكَرَهُ الْقَلْبُ وَمَا زَالَ شَوْقِي إلَى الْأَمِيرِ شَدِيدًا، وَهُوَ دُونَ مَا يَجِبُ لَهُ عَلَيَّ، وَذِكْرِي لَهُ كَثِيرٌ وَهُوَ دُونَ قَدْرِهِ عِنْدِي، وَلَكِنْ جَفْوَةُ الْحُجَّابِ وَقِلَّةُ بِشْرِ الْغِلْمَانِ، يَمْنَعَانِي مِنْ الْإِتْيَانِ فَأَمَرَ بِتَسْهِيلِ أَمْرِهِ وَأَحْسَنَ مَثْوَاهُ. وَقَالَ أَعْرَابِيٌّ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ سَاقَتْنِي إلَيْكَ الْحَاجَةُ وَانْتَهَيْتُ فِي الْغَايَةِ وَاَللَّهُ مُسَائِلُكَ عَنْ مَقَامِي هَذَا. فَبَكَى عُمَرُ وَقَالَ: مَا سَمِعْتُ كَلَامًا أَبْلَغَ مِنْ هَذَا وَلَا وَعْظًا أَوْجَعَ مِنْهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: الْبَلَاغَةُ فِي الْمَعَانِي أَلْطَفُ مِنْ الْبَلَاغَةِ فِي الْأَلْفَاظِ، فَيُسْتَحْسَنُ مِنْهَا صِحَّةُ التَّقْسِيمِ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِي وَإِنَّمَا لَكَ مِنْ مَالِكَ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ أَعْطَيْتَ فَأَمْضَيْتَ» . وَعَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى» . وَمِنْ حُسْنِ الْبَلَاغَةِ فِي الْمَعَانِي صِحَّةُ الْمَقَالِ يُؤْتَى فِي الْمُوَافِقِ بِمُوَافِقَةٍ، وَفِي الْمُضَادِّ بِمُضَادٍّ، كَقَوْلِ بَعْضِ الْكُتَّابِ: فَإِنَّ أَهْلَ الرَّأْيِ وَالنُّصْحِ لَا يُسَاوِيهِمْ ذَوُو الْأَفَنِ وَالْغِشِّ وَلَيْسَ مِنْ جَمْعِ الْكِفَايَةِ الْأَمَانَةُ، كَمَنْ أَضَافَ إلَى الْعَجْزِ الْخِيَانَةَ، قَالَ بَعْضُ الْكُتَّابِ إذَا تَأَمَّلْتَ هَذِهِ الْمَقَالَ وَجَدْتَ غَايَةَ الْمُعَادَلَةِ لِأَنَّهُ جَعَلَ بِإِزَاءِ الرَّأْيِ الْأَفَنَ، وَالْأَفْنُ سُوءُ الرَّأْيِ، وَبِإِزَاءِ النُّصْحِ الْغِشَّ، وَقَابَلَ الْعَجْزَ بِالْكِفَايَةِ وَالْأَمَانَةَ بِالْخِيَانَةِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ: الْأَفَنُ بِالتَّحْرِيكِ ضَعْفُ الرَّأْيِ وَقَدْ أَفِنَ الرَّجُلُ بِالْكَسْرِ وَأَفِنَ فَهُوَ مَأْفُونٌ وَأَفِنَ، وَأَفَنَهُ اللَّهُ يَأْفِنُهُ أَفْنًا فَهُوَ مَأْفُونٌ قَالَ جَعْفَرٌ وَمِنْ هَذَا مَا دَعَتْ بِهِ هِنْدُ بِنْتُ النُّعْمَانِ وَقَدْ أُحْسِنَ إلَيْهَا فَقَالَتْ: شَكَرَتْكَ يَدٌ نَالَتْهَا خَصَاصَةٌ بَعْدَ ثَرْوَةٍ. وَأَغْنَاكَ اللَّهُ عَنْ يَدٍ نَالَتْ ثَرْوَةً بَعْدَ فَاقَةٍ. وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَقَدْ ذَكَرَ أَمْرَ الْخِلَافَةِ: وَمَنْ يَصْلُحُ لَهَا: فَقَالَ: يَصْلُحُ لَهَا مَنْ كَانَ فِيهِ لِينٌ فِي غَيْرِ مَهَانَةٍ، وَشِدَّةٌ فِي غَيْرِ

عُنْفٍ، وَكَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى إنَّ أَسْعَدَ الْوُلَاةِ مَنْ سَعِدَتْ بِهِ رَعِيَّتُهُ، وَأَشْقَاهُمْ مَنْ شَقِيَتْ بِهِ رَعِيَّتُهُ. وَعَنْ دَاوُد أَنَّهُ قَالَ لِلُقْمَانِ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - بَعْدَ مَا كَبِرَتْ سِنُّهُ: مَا بَقِيَ مِنْ عَقْلِكَ؟ قَالَ: لَا أَنْطِقُ فِيمَا لَا يَعْنِينِي، وَلَا أَتَكَلَّفُ مَا كُفِيتُهُ. وَكَانَ الْأَحْنَفُ رَجُلًا دَمِيمًا أَعْوَرَ قَصِيرًا أَحْنَفَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ بِأَيِّ شَيْءٍ بَلَغْتَ مَا بَلَغْتَ؟ فَوَاَللَّهِ مَا أَنْتَ بِأَشْرَفِ قَوْمِكَ وَلَا أَشْجَعِهِمْ وَلَا أَجْوَدِهِمْ، فَقَالَ يَا ابْنَ أَخِي بِخِلَافِ مَا أَنْتَ فِيهِ، فَقَالَ وَمَا خِلَافُ مَا أَنَا فِيهِ قَالَ: تَرْكِي مِنْ أَمْرِكَ مَا لَا يَعْنِينِي، كَمَا عَنَاكَ مِنْ أَمْرِي مَا لَا يَعْنِيكَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ صِحَّةُ التَّقْسِيمِ فِي الْبَلَاغَةِ أَنْ تَضَعَ مَعَانِيَ ثُمَّ تَشْرَحَ فَلَا تَزِيدُ عَلَيْهَا وَلَا تُنْقِصُ، قَالَ: وَلِبَعْضِهِمْ مَنْ صَنَّفَ كِتَابًا فَقَدْ اسْتَشْرَفَ لِلْمَدْحِ وَالذَّمِّ لِأَنَّهُ إنْ أَحْسَنَ فَقَدْ اُسْتُهْدِفَ لِلْحَسَدِ، وَإِنْ أَسَاءَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِلشَّتْمِ. وَذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ مِنْ التَّكَافُؤِ فِي الْبَلَاغَةِ وَهِيَ الْمُمَاثَلَةُ مَا قِيلَ لِبَعْضِ الْقُرَّاءِ إنَّ أَخًا لَكَ قَدْ وُلِّيَ وِلَايَةً فَلِمَ لَا تُهَنِّئُهُ؟ قَالَ مَا سَرَّتْنِي لَهُ فَأُهَنِّيهِ، وَلَا سَاءَتْهُ فَأُعَزِّيهِ. وَقَالَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيْنَا الْمُؤَنُ فَقَالَ مَا أَحَدٌ لِلَّهِ عَلَيْهِ نِعْمَةٌ، إلَّا وَلِلنَّاسِ عَلَيْهِ مُؤْنَةٌ، فَإِنْ ضَجِرَهُمْ تَعَرَّضَ لِزَوَالِهَا. وَذُكِرَ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رَجُلٌ شَرِيفٌ لَا يُفِيقُ مِنْ الشَّرَابِ فَقَالَ الْعَجَبُ لِمَنْ فَقَدَ عَقْلَهُ مَرَّةً كَيْفَ لَا يَشْغَلُهُ الِاهْتِمَامُ بِمَا فَقَدَ عَنْ مُعَاوَدَةِ مِثْلِهِ؟ وَذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ مِنْ الِاسْتِعَارَةِ مِنْ اللُّغَةِ فِي الْبَلَاغَةِ قَوْلُ " الطِّمِّ وَالرِّمِّ " إذَا أَرَادُوا الْمُبَالَغَةَ فِي كَثْرَةِ مَالِهِ، وَهَذَا مِنْ الِاسْتِعَارَةِ الْبَلِيغَةِ لِأَنَّ الطِّمَّ الْبَحْرُ وَالرِّمَّ الثَّرَى، وَهَذَا لَا يَمْلِكُهُ إلَّا اللَّهُ، وَلَيْسَ هُوَ كَذِبًا لِأَنَّهُ قَدْ عَرَفَ مَعْنَاهُ. وَقَالَ وَمَحْفُوظٌ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ كَانَ هَذَا الطَّائِرُ يَسْكُتُ، فَقَالَ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ مَعْنَاهُ التَّكْثِيرُ. وَمِنْهُ " مَا لَهُ سَبَدٌ وَلَا لَبَدٌ " أَيْ مَا لَهُ شَيْءٌ، وَالسَّبَدُ الشَّعْرُ وَاللَّبَدُ الصُّوفُ. وَمِنْهُ " مَا يُعْرَفُ قَبِيلُهُ مِنْ دَبِيرِهِ " فَالْقَبِيلُ مَا أَقْبَلَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ عَنْ غَزْلِهَا حِينَ تَفْتِلُهُ، وَالدَّبِيرُ مَا أَدْبَرَتْ بِهِ، وَذَهَبَ الْأَصْمَعِيُّ إلَى أَنَّهُ اسْتِعَارَةٌ مِنْ الْإِقْبَالَةِ.

وَالْإِدْبَارَةِ وَهُوَ شَقٌّ فِي الْأُذُنِ يُفْتَلُ، فَإِذَا بِهِ فَهُوَ الْإِقْبَالَةُ وَإِذَا أَدْبَرَ فَهُوَ الْإِدْبَارَةُ وَذَكَرَ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ قَالَ يَعْقُوبُ الْقَبِيلُ مَا أَقْبَلْتَ بِهِ إلَى صَدْرِكَ، وَالدَّبِيرُ مَا أَدْبَرْتَ بِهِ عَنْ صَدْرِكَ، يُقَالُ فُلَانٌ مَا يَعْرِفُ قَبِيلًا مِنْ دَبِيرٍ وَالْجِلْدَةُ الْمُعَلَّقَةُ مِنْ الْأُذُنِ هِيَ الْإِقْبَالَةُ وَالْإِدْبَارَةُ كَأَنَّهَا زَنَمَةٌ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَيُسْتَحْسَنُ مِنْ هَذَا مَا كَتَبَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغِيرَةِ يَصِفُ الْقَلَمَ: يَخْدُمُ الْإِرَادَةَ وَلَا يَمَلُّ الِاسْتِزَادَةَ، وَيَسْكُتُ وَاقِفًا، وَيَنْطِقُ سَائِرًا عَلَى أَرْضٍ بَيَاضُهَا مُظْلِمٌ، وَسَوَادُهَا مُضِيءٌ. وَمِنْ الْكُتَّابِ مَنْ يَسْتَحْسِنُ السَّجْعَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهُ لِقَوْلِ «حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَغْرَمُ مَنْ لَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ، وَلَا نَطَقَ وَلَا اسْتَهَلَّ، وَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا هُوَ مِنْ إخْوَانِ الْكُهَّانِ مِنْ أَجْلِ سَجْعِهِ الَّذِي سَجَعَ» قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْعُلَمَاءُ إنَّمَا ذَمَّ سَجْعَهُ لِأَنَّهُ عَارَضَ بِهِ حُكْمَ الشَّرْعِ، فَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّفْهُ فَحَسَنٌ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى «أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الْأَعْرَابِ» وَاخْتَارَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ حَسَنٌ إذَا خَلَا مِنْ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ» وَقَوْلِهِ لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ «أُعِيذُكُمَا مِنْ السَّامَّةِ وَالْحَامَّةِ وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ» وَعَنْ بَعْضِ الْأُمَرَاءِ وَهُوَ ابْنُ زِيَادٍ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ مَنْ أَنْعَمُ النَّاسِ عَيْشًا؟ قَالُوا الْأَمِيرُ وَأَصْحَابُهُ قَالَ كَلًّا أَنْعَمُ النَّاسِ عَيْشًا رَجُلٌ فِي دَارٍ لَا يُجْرَى عَلَيْهِ كِرَاءٌ، لَهُ زَوْجَةٌ قَدْ قَنَعَ بِهَا وَقَنَعَتْ بِهِ، لَا يَعْرِفُنَا وَلَا نَعْرِفُهُ، إنَّا إنْ عَرَفْنَاهُ أَفْسَدْنَا عَلَيْهِ دِينَهُ وَدُنْيَاهُ، وَأَتْعَبْنَا لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ: هَذَا وَاَللَّهِ كَلَامٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْمَعَ كَلَامًا مِنْ ذَهَبٍ فَلْيَسْمَعْ هَذَا. وَعَنْ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ بِقَدْرِ السُّمُوِّ فِي الرِّفْعَةِ، تَكُونُ وَحْيَةُ الْوَقْعَةِ

وَقَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْمَازِنِيُّ كَتَبَ لَا تُحَقِّرْ ضَعِيفًا، وَلَا تَحْسُدْ شَرِيفًا. وَعَنْ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ مَنْ عَرَفَ النَّاسَ دَارَاهُمْ، وَمَنْ جَهِلَهُمْ مَارَاهُمْ وَقَالَ رَجُلٌ لِأَبِيهِ مَا الْمُرُوءَةُ؟ قَالَ إذَا أُنْعِمَ عَلَيْكَ شَكَرْتَ، وَإِذَا اُبْتُلِيتَ صَبَرْتَ، وَإِذَا قَدَرْتَ غَفَرْتَ. وَوَصَفَ رَجُلٌ رَجُلًا فَقَالَ ظَاهِرُهُ مُرُوَّةٌ، وَبَاطِنُهُ فُتُوَّةٌ، وَعَنْ عَلِيٍّ قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ هَذَا إذَا تَدَبَّرَ كَانَ فِيهِ أَعْظَمُ الْحِكْمَةِ لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْبَهِيمَةِ مَا يُحْسِنُ وَعَنْهُ أَيْضًا الْفُرَصُ تَمُرُّ مِثْلَ السَّحَابِ. وَعَاتَبَ عُثْمَانُ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَ عُثْمَانُ مَا لَكَ لَا تَقُولُ؟ فَقَالَ إنْ قُلْتُ لَمْ أَقُلْ إلَّا مَا تَكْرَهُ، وَلَيْسَ لَكَ عِنْدِي إلَّا مَا تُحِبُّ. وَعَنْهُ أَيْضًا مَنْ لَانَتْ كَلِمَتُهُ، وَجَبَتْ مَحَبَّتُهُ. وَرَأَى بَعْضَ أَصْحَابِهِ جَزِعًا فَقَالَ عَلَيْكَ بِالصَّبْرِ فَبِهِ يَأْخُذُ الْحَازِمُ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ الْجَزِعُ. وَقِيلَ لَهُ صِفْ لَنَا الدُّنْيَا فَقَالَ أَوَّلُهَا عَنَاءٌ، وَآخِرُهَا فَنَاءٌ، حَلَالُهَا حِسَابٌ، وَحَرَامُهَا عَذَابٌ مَنْ صَحَّ فِيهَا زَمِنَ، وَمَنْ مَرِضَ فِيهَا نَدِمَ، وَمَنْ اسْتَغْنَى فِيهَا فُتِنَ وَمَنْ افْتَقَرَ فِيهَا حَزَنَ مَنْ سَاعَاهَا فَاتَتْهُ، وَمَنْ قَعَدَ عَنْهَا أَتَتْهُ، وَمَنْ نَظَرَ إلَيْهَا أَعْمَتْهُ، وَمَنْ تَهَاوَنَ بِهَا بَصُرَتْهُ. وَعَنْهُ: الدُّنْيَا دَارُ مَمَرٍّ، لَا دَارُ مَقَرٍّ النَّاسُ فِيهَا رَجُلَانِ رَجُلٌ بَاعَ نَفْسَهُ فَأَوْبَقَهَا وَرَجُلٌ بَاعَ نَفْسَهُ فَأَعْتَقَهَا. وَعَنْهُ: مَثَلُ الدُّنْيَا كَمِثْلِ الْحَيَّةِ لَيِّنٌ لَمْسُهَا وَفِي جَوْفِهَا السُّمُّ النَّاقِعُ، يَهْوِي إلَيْهَا الصَّبِيُّ، الْجَاهِلُ وَيَحْذَرُهَا ذُو اللُّبِّ الْحَاذِرُ. وَعَنْهُ إذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلْ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْرًا لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ.

فصل في طائفة أخرى من نوابغ الكلم ونوابغ الحكم وكتب البلغاء

[فَصْلٌ فِي طَائِفَةٍ أُخْرَى مِنْ نَوَابِغِ الْكَلِمِ وَنَوَابِغِ الْحِكَمِ وَكُتُبِ الْبُلَغَاءِ] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ عَنْ الْكُتَّابِ قَالَ وَهُمْ يَعِيبُونَ تَكْرِيرَ الْأَلْفَاظِ وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ كَمَا يَذْهَبُونَ إلَيْهِ، وَقَدْ يَقَعُ مِنْ ذَلِكَ التَّوْكِيدُ وَغَيْرُهُ قَالَ بِشْرُ بْنُ النُّعْمَانِ إيَّاكَ وَالتَّوَعُّرَ فَإِنَّهُ يُسَلِّمُكَ إلَى التَّعَقُّدِ، وَالتَّعَقُّدُ هُوَ الَّذِي يَسْتَهْلِكُ مَعَانِيكَ، وَيَمْنَعُكَ مَرَامِيكَ. وَمِمَّنْ كَانَ يَسْتَعْمِلُ حَوَاشِيَ الْكَلَامِ أَبُو عَلْقَمَةَ النَّحْوِيُّ وَهَذَا مُسْتَثْقَلٌ مِنْ كُلِّ مُتَعَمِّدٍ، فَأَمَّا مَنْ لَا يَتَعَمَّدُ مِنْ الْفُصَحَاءِ وَالْمُتَقَدِّمِينَ فَإِنَّ ذَلِكَ مُسْتَحْسَنٌ مِنْهُمْ، وَأَنْشَدَ عَمْرُو بْنُ بَحْرٍ: حِمَارٌ فِي الْكِتَابَةِ يَدَّعِيهَا ... كَدَعْوَى آلِ حَرْبٍ مِنْ زِيَادِ فَدَعْ عَنْكَ الْكِتَابَةَ لَسْتَ مِنْهَا ... وَلَوْ غَرَّقْتَ ثَوْبَكَ بِالْمِدَادِ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْمَرْءَ يَسُرُّهُ دَرَكُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَفُوتَهُ، وَيَسُوءُهُ فَوْتُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيُدْرِكَهُ فَمَا نِلْتَ مِنْ دُنْيَاكَ فَلَا تَكُنْ بِهِ فَرِحًا وَمَا فَاتَكَ فَلَا تَأْسَ عَلَيْهِ حُزْنًا، وَلْيَكُنْ سُرُورُكَ فِيمَا قَدَّمْتَ، وَأَسَفُكَ عَلَى مَا أَخَّرْتَ، وَهَمُّكَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ. وَكَتَبَ سَالِمٌ إلَى بَعْضِ الْوُلَاةِ: أَمَّا أَنَا فَمُعْتَرِفٌ بِالتَّقْصِيرِ فِي شُكْرِكَ عِنْدَ ذِكْرِكَ، لَيْسَ ذَاكَ لِتَرْكِي إيَّاهُ فِي مَوَاضِعِهِ، وَلَكِنْ لِزِيَادَةِ حَقِّكَ عَلَى مَا يَبْلُغُهُ جَهْدِي. وَأَهْدَى بَعْضُهُمْ طِيبًا وَكَتَبَ: الثِّقَةُ بِكَ سَهَّلَتْ السَّبِيلَ إلَيْكَ، فَأَهْدَيْتُ هَدِيَّةَ مَنْ لَا يَحْتَشِمُ إلَى مَنْ لَا يَغْتَنِمُ. وَأَهْدَى بَعْضُهُمْ إلَى الْمَأْمُونِ قَارُورَةً فِيهَا دُهْنُ أُتْرُجٍّ، وَكَتَبَ إلَيْهِ إذَا

كَانَتْ الْهَدِيَّةُ مِنْ الصَّغِيرِ إلَى الْكَبِيرِ فَكُلَّمَا لَطُفَتْ كَانَتْ أَبْلَغَ وَأَوْصَلَ، فَإِذَا كَانَتْ مِنْ الْكَبِيرِ إلَى الصَّغِيرِ فَكُلَّمَا عَظُمَتْ كَانَ أَجْزَلَ لَهَا وَأَخْطَرَ. وَكَتَبَ الْحَسَنُ بْنُ سُهَيْلٍ إلَى أَخٍ لَهُ يُعَزِّيهِ مَدَّ اللَّهُ فِي عُمُرِكَ مَوْفُورًا غَيْرَ مُنْتَقِصٍ، وَمَمْنُوحًا غَيْرَ مُمْتَحِنٍ، وَمُعْطٍ غَيْرَ مُسْتَلِبٍ. وَعَزَّى أَبُو الْعَتَاهِيَةِ الْفَضْلَ بْنَ الرَّبِيعِ بِابْنِهِ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنَا نُعَزِّيكَ عَنْهُ وَلَا نُعَزِّيهِ عَنْكَ فَدَعَا بِالطَّعَامِ وَقَدْ كَانَ امْتَنَعَ مِنْهُ. وَكَتَبَ بَعْضُهُمْ أَطَالَ اللَّهُ فِي دَوَامِ الْعِزِّ وَالْكَرَامَةِ بَقَاءَكَ، وَأَسْبَغَ النِّعْمَةَ مُدَّتَكَ، وَأَحَاطَ الدِّينَ وَالْمُرُوءَةَ بِحِفْظِهِ دَوْلَتَكَ، وَجَعَلَ إلَى خَيْرِ عَوَاقِبِ الْأُمُورِ عَاقِبَةَ أَمْرِكَ، وَعَلَى الرُّشْدِ وَالتَّوْفِيقِ وَاقِعَ قَوْلِكَ وَفِعْلِكَ، وَلَا أَخْلَى مِنْ السُّلْطَانِ مَكَانَكَ، وَمِنْ الرِّفْعَةِ مَنْزِلَتَكَ. وَكَتَبَ أَيْضًا وَأَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، رَاغِبًا إلَيْهِ بِسَرِيرَةٍ يَعْلَمُ صِحَّتَهَا، وَنِيَّةٍ يَشْهَدُ عَلَى صِدْقِهَا أَنْ يَشْفَعَ إحْسَانَهُ إلَيَّ وَجَمِيلَ بَلَائِهِ لَدَيَّ، بِطُولِ بَقَائِكَ، إمْتَاعِي بِمَا وُهِبَ لِي مِنْ رَبِّكَ عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ دُونَ الْهَوَى، وَتَمَامُ شُرُوطِ الْوُدِّ دُونَ التَّجَاوُزِ وَالْإِغْضَاءِ. وَكَتَبَ أَيْضًا: أَرَاك اللَّهُ فِي وَلِيِّكَ مَا يَسُرُّكَ بِهِ، وَفِي عَدُوِّكَ مَا يَعْطِفُكَ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَمِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي الْبَلَاغَةِ مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ الْكَاتِبُ وَلَقَدْ كَانَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ يَقُولُ إنَّ رَسَائِلَهُ تُطْرِبُنِي كَمَا يُطْرِبُنِي الْغِنَاءُ، فَمِنْ مُسْتَحْسَنِ فُصُولِهِ وَرَسَائِلِهِ فَصْلٌ لَهُ يُعَزِّيهِ: وَمَنْ صَدَّقَ نَفْسَهُ هَانَتْ عَلَيْهِ الْمَصَائِبُ، وَعَلِمَ أَنَّ الْبَاقِيَ تَبَعٌ لِلْمَاضِي، حَتَّى يَرِثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَهُوَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ، وَلَهُ لِي أَبِي نَجْدَةَ الشَّاعِرِ: أَمَّا الشِّعْرُ فَلَسْنَا نُسَاجِلُكَ فِيهِ، وَلَا نَرْكَبُ مِضْمَارَكَ فِيمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ مِنْهُ، إلَى أَنْ قَالَ لِأَنَّا نَرَى الِاعْتِرَافَ لِلْمُبْرِزِ فَضِيلَةً، وَغُمُوضَ حَقِّهِ نَقِيصَةً، وَلَهُ أَيْضًا قَدْ انْقَضَتْ أَيَّامُ أَهْلِ الْأَدَبِ وَأَفْلَتَ نُجُومُهُمْ، حَتَّى صَارُوا غُرَبَاءَ فِي أَوْطَانِهِمْ، مُنْقَطِعِي الْوَصْلِ وَالْوَسَائِلِ، تَرْتَدُّ عَنْهُمْ الْأَبْصَارُ، وَتَنْبُو عَنْهُمْ الْقُلُوبُ، وَإِذَا شَامُوا مُخَيِّلَةً مِثْلَكَ مِمَّنْ يُحْسِنُ تَأَلُّفَهُمْ وَرِفْدَهُمْ، وَيَرْعَى وَسَائِلَهُمْ ثَلِجَتْ صُدُورُهُمْ

وَانْبَسَطَتْ آمَالُهُمْ، وَأَمْسَكَ ذَلِكَ بِحَشَاشَاتٍ قَدْ نَهَكَهَا سُوءُ بَلَاءِ الزَّمَانِ، فَزَادَكَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَزَادَ بِكَ. وَلَهُ أَيْضًا وَأَنَا مُنْتَظِرٌ مِنْ نَصْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى هَذَا الْبَاغِي وَانْتِقَامِهِ مِنْ الظَّالِمِ مَا لَيْسَ بِبَعِيدٍ وَإِنْ كَانَ قَوْمٌ مُسْتَدْرَجِينَ بِالْإِمْهَالِ فَإِنَّ وَعْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ نَاجِزٌ وَهُوَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ ظَالِمٍ. وَكَتَبَ بَعْضُ مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى إيجَازِ الْقَوْلِ وَحُسْنِ النَّظْمِ وَالْبَلَاغَةِ فِي السَّجْعِ إلَى بَعْضِهِمْ كِتَابِي إلَيْكَ لَيْسَ بِاسْتِبْطَاءٍ، وَإِمْسَاكِي عَنْكَ لَيْسَ بِاسْتِغْنَاءٍ، لَكِنَّهُ تَذْكِرَةٌ لَكَ، وَإِمْسَاكِي ثِقَةٌ بِكَ، وَكَتَبَ هَذَا الرَّجُلُ إلَى الْمَأْمُونِ إنَّكَ مِمَّنْ إذَا أَسَّسَ بَنَى، وَإِذَا غَرَسَ سَقَى، لِيَسْتَتِمَّ بِنَاءُ أُسِّهِ، وَيَجْتَنِيَ ثِمَارَ غَرْسِهِ، وَأَشُكُّ فِي بِرِّي قَدْ وَهِيَ وَقَارَبَ الدُّرُوسَ، وَغَرْسُكَ فِي حِفْظِي قَدْ عَطِشَ وَشَارَفَ الْيُبُوسَ، فَتَدَارَكْ مَا أَسَّسْتَ، وَاسْقِ مَا غَرَسْتَ فَأَمَرَ لَهُ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. قَالَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ: رَسَائِلُ الْمَرْءِ فِي كُتُبِهِ أَدَلُّ عَلَى مِقْدَارِ عَقْلِهِ، وَأَصْدَقُ شَاهِدًا عَلَى غَيْبِهِ لَكَ وَمَعْنَاهُ فِيكَ مِنْ أَضْعَافِ ذَلِكَ عَلَى الْمُشَافَهَةِ وَالْمُوَاجَهَةِ. كَتَبَ رَجُلٌ إلَى أَخٍ لَهُ قَدْ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ لَا أَفْتَتِحَ مُكَاتَبَتَكَ بِذِكْرِ حَاجَةٍ إلَّا أَنَّ الْمَوَدَّةَ إذَا خَلَصَتْ سَقَطَتْ الْحِشْمَةُ، وَاسْتُعْمِلَتْ الدَّالَّةُ. وَلِآخَرَ: إنَّ مِنْ صِغَرِ الْهِمَّةِ، الْحَسَدُ لِلصِّدِّيقِ عَلَى النِّعْمَةِ. كَتَبَ آخَرُ كَفَاكَ مِنْ الْقَطِيعَةِ لِي سُوءُ ظَنِّكَ بِي. وَكَتَبَ آخَرُ قَدْ سَبَقَ جَمِيلُ وَعْدِكَ إيَّايَ مَا أَنْتَ أَهْلُهُ وَتَأَخَّرَ الْأَمْرُ تَأَخُّرًا دَلَّنِي عَلَى زُهْدِكَ فِي الصَّنِيعَةِ عِنْدِي، وَلَوْلَا أَنَّ النَّفْسَ اللَّجُوجَ تُطَالِبُنِي بِبُلُوغِ آخِرِ الْأَمْرِ، لِتَنْصَرِفَ عَنْ الطَّمَعِ بِوَاضِحِ الْعُذْرِ، لَكَانَ فِيمَا عَايَنْتَ مِنْ التَّقْصِيرِ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى ضَعْفِ الْعِنَايَةِ، وَلَقَدْ حَمِدْت اللَّهَ إذَا لَمْ أُخْبِرْ بِمَسْأَلَتِي وَضَمَانِكَ أَحَدًا، فَأَكُونُ فِي وَقْتِي هَذَا إمَّا كَاذِبًا فِيمَا حَكَيْتُهُ، وَإِمَّا شَاكِيًا، بَعْدَ أَنْ عَرَفْت لَكَ شَاكِرًا، وَلَسْتُ أَنْتَقِلُ مِنْ شُكْرٍ إلَى ذَمٍّ، وَلَا أَرْغَبُ مِنْ عَلِيٍّ إلَى خُلُقٍ دَنِيٍّ، فَيُسَرُّ حَسُودٌ، وَيُسَاءُ وَدُودٌ، وَلَكِنِّي أَرْكَبُ طَرِيقًا بَيْنَ شُكْرِكَ عَلَى مَا يَسَّرَهُ الْمِقْدَارُ عَلَى يَدِكَ، وَبَيْنَ عُذْرِكَ عَلَى مَا عَسَّرَهُ عَلَيْكَ

غَيْرَ مُخْلِفٍ وَلَا مُجْحِفٍ. وَلِغَيْرِهِ فَإِنَّ اللَّهَ بِحَمْدِهِ نَزَّهَ الْإِسْلَامَ عَنْ كُلِّ قَبِيحَةٍ، وَأَكْرَمَهُ عَنْ كُلِّ رَذِيلَةٍ وَرَفَعَهُ عَنْ كُلِّ دَنِيئَةٍ، وَشَرَّفَهُ بِكُلِّ فَضِيلَةٍ، وَجَعَلَ سِيمَا أَهْلِهِ الْوَقَارَ وَالسَّكِينَةَ. وَكَتَبَ آخَرُ قَدْ أَغْنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِكَرَمِكَ عَنْ ذَرِيعَةٍ إلَيْكَ وَمَا تُنَازِعُنِي نَفْسِي إلَى اسْتِعَانَةٍ عَلَيْكَ، إلَّا أَبَى ذَلِكَ حُسْنُ الظَّنِّ بِكَ، وَتَأْمِيلٌ نَحُجُّ لِلرَّغْبَةِ إلَيْكَ دُونَ الشُّفَعَاءِ عِنْدَكَ وَلِغَيْرِهِ حَتَّى إذَا نَزَلَ الْجَمْعَانِ تَبَرَّأَ الشَّيْطَانُ مِنْ حِزْبِهِ، وَأَزْهَقَ اللَّهُ بَاطِلَهُمْ بِحَقِّهِ، وَجَعَلَ الْفَتْحَ وَالظَّفَرَ لِأَوْلَى الْحِزْبَيْنِ بِهِ، وَبِذَلِكَ جَرَتْ سُنَّةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْمَاضِينَ مِنْ خَلْقِهِ، وَبِذَلِكَ وَعَدَ مَنْ تَمَسَّكَ بِأَمْرِهِ وَطَاعَتِهِ، وَلِغَيْرِهِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ أُولَى نِعْمَةٍ تُشْكَرُ سَلَامَةٌ شَمَلَتْ، عَزَّ فِيهَا الْحَقُّ فَوَقَعَ مَوَاقِعَهُ، وَذَلَّ الْبَاطِلُ فَقُمِعَ أَشْيَاعُهُ، وَتَقَلَّبَ فِي سِرْبِهَا وَأَمْنِهَا خَاصَّةً وَعَامَّةً، وَانْبَسَطَ فِي تَأْمِيلِ فَضْلِهَا وَعَاقِدَتِهَا رَغْبَةً حَاضِرَةً وَقَاصِيَةً. وَكَتَبَ آخَرُ: كَتَبْتُ وَأَنَا ذُو صَبَابَةٍ تُوهِي قَوِيَّ الصَّبْرِ إلَى لِقَائِكَ وَاسْتِرَاحَةٍ لَيْسَ إلَّا إلَى طَيِّبِ إخْبَارِكَ مُنْتَهَاهَا. وَكَتَبَ آخَرُ كَتَبْتُ عَنْ سَلَامَةٍ وَوَحْشَةٍ لِفِرَاقِكَ، وَبُعْدِ الْبَلَدِ الَّذِي يَجْمَعُ السَّادَةَ وَالْإِخْوَانَ، وَالْأَهْلَ وَالْجِيرَانَ عَلَى حَسَبِ الْأَمْرِ كَانَ بِمَكَانِي فِيهِ، وَالسُّرُورِ بِهِ، وَلَكِنَّ الْمِقْدَارَ يَجْرِي فَيَنْصَرِفُ مَعَهُ، وَقَعَ ذَلِكَ بِالْهَوَى أَوْ خَالَفَهُ، وَلَئِنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالِي فِي الْوَحْشَةِ أَنْ أُكْثِرَ ذَلِكَ وَأُوَفِّرَهُ لِفِرَاقِكَ وَمَا بَعِدْنَا عَنْهُ مِنْ الْأُنْسِ بِكَ، فَأَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَهَبَ لَنَا اجْتِمَاعًا عَاجِلًا فِي سَلَامَةٍ مِنْ الْأَبَدَانِ وَالْأَدْيَانِ، وَغِبْطَةٍ مِنْ الْحَالِ، وَغِنًى عَنْ الْمَطَالِبِ بِرَحْمَتِهِ وَلَهُ كِتَابِي، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَعْلَمُ وَحْشَتِي وَلَا أَوْحَشَكَ اللَّهُ مِنْ نِعْمَةٍ، وَلَا فَرَّقَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَافِيَتِهِ وَكَانَ مِمَّا زَادَ فِي الْوَحْشَةِ أَنَّهَا جَاوَزَتْ الْأَمَلَ الْمُتَمَكِّنَ فِي الْأُنْسِ بِقُرْبِ الدَّارِ، وَتَدَانِي الْمَزَارِ، نَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى نِعْمَةٍ، وَنَسْتَدِيمُهُ لَنَا فِيكَ أَجْمَلَ بَلَائِهِ، وَنَسْأَلُهُ أَنْ لَا يُخَلِّينَا وَإِيَّاكَ مِنْ شُكْرِهِ وَمَزِيدِهِ، وَلَوْ كَتَبْتُ فِي كُلِّ يَوْمٍ كِتَابًا.

بَلْ لَوْ شَخَصْتُ نَحْوَكَ قَاصِدًا، لَكَانَ ذَلِكَ دُونَ الْحَقِّ لَكَ، وَلَكِنِّي عَلِقٌ بِمَا تَعْلَمُهُ مِنْ الْعَمَلِ، وَأَكْرَهُ أَنْ أُتَابِعَ كَتْبِي وَأَسْلُكَ سَبِيلًا مِنْ الثِّقَلِ فَأَنَا وَاقِفٌ بِمَنْزِلَةٍ مُتَوَسِّطَةٍ أَرْجُو أَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْجَفَاءِ وَالْإِبْرَامِ، وَأَنَا وَإِنْ أَبْقَيْتُهُ عَلَيْكَ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي شُغْلِكَ، فَلَسْتُ بِمُمْتَنِعٍ مِنْ سُؤَالِكَ التَّطَوُّلَ بِتَعْرِيفِي جُمْلَةً مِنْ خَبَرِكَ، أَسْكُنُ إلَيْهَا، وَأَعْتَدُّ بِالنِّعْمَةِ فِيهَا وَأَحْمَدُ اللَّهَ عَلَيْهَا. وَكَتَبَ آخَرُ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مَنْ قَضَى الْحَاجَاتِ لِإِخْوَانِهِ وَاسْتَوْجَبَ الشُّكْرَ عَلَيْهِمْ، فَلِنَفْسِهِ عَمِلَ لَا لَهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ إذَا وُضِعَ عِنْدَ مَنْ شَكَرَهُ فَهُوَ زَرْعٌ لَا بُدَّ لِزَارِعِهِ مِنْ حَصَادِهِ، أَوْ لِعَقِبِهِ مِنْ بَعْدِهِ. وَكَتَبَ آخَرُ: لَا تَتْرُكْنِي مُعَلَّقًا بِحَاجَتِي، فَالصَّبْرُ الْجَمِيلُ خَيْرٌ مِنْ الْمَطْلِ الطَّوِيلِ. (تَعْزِيَةٌ) إذَا اسْتَوَى الْمُعَزِّي وَالْمُعَزَّى فِي النَّائِبَةِ، اسْتَغْنَى عَنْ الْإِكْثَارِ فِي الْوَصْفِ لِمَوْضِعِ الرَّزِيَّةِ وَكَانَ ظُهُورُهُ يُغْنِي عَنْ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّ لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ، إقْرَارًا بِالْمُلْكِ لَهُ، وَاعْتِرَافًا بِالْمَرْجِعِ إلَيْهِ، وَتَسْلِيمًا لِقَضَائِهِ، وَرِضًا بِمَوَاقِعِ أَقْدَارِهِ، وَأَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَوَاتٍ مُتَّصِلَةً بَرَكَاتُهَا، وَأَنْ يُوَفِّقَ لِمَا يُرْضِيهِ عَنْك قَوْلًا وَفِعْلًا حَتَّى يَكْمُلَ لَك ثَوَابُ الصَّابِرِينَ الْمُحْتَسِبِينَ، وَأَجْرُ الْمُطِيعِ الْمُمْتَحَنِ لِلْوَعْدِ، فَرَحِمَ اللَّهُ فُلَانًا وَأَنْزَلَهُ مَنَازِلَ أَوْلِيَائِهِ الَّذِينَ يَرْضَى سَعْيَهُمْ، وَيَطُولُ بِفَضْلِهِ عَلَيْهِمْ، إنَّهُ وَلِيٌّ قَدِيرٌ. كَتَبَ آخَرُ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِتَمْكِينِهِ إيَّاكَ فِي النِّعْمَةِ، وَإِعْلَائِهِ يَدَكَ بِالْقُدْرَةِ، وَصَلَ بِك آمَالَ الْمُؤَمِّلِينَ، وَخَصَّ بِجَمِيلِ الْحَظِّ مِنْكَ أَهْلَ الْمُرُوءَةِ وَالدِّينِ، وَقَدْ حَلَلْنَا بِفِنَائِكَ، وَأَمَلْنَا حُسْنَ عَائِدَتِكَ، وَرَجَوْنَا أَنْ تُودِعَنَا مِنْ مَعْرُوفِكَ مَا تَجِدُ عِنْدَنَا شُكْرَهُ، وَالْوَفَاءَ بِمَا تُسْدِي إلَيْنَا مِنْهُ، وَأَنْتَ بَيْنَ صَنِيعَةٍ مَشْكُورَةٍ وَمَثُوبَةٍ مَذْخُورَةٍ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُصْغِيَ إلَيْنَا بِكَرَمِكَ، وَتَخْلِطَنَا بِعَدَدِكَ، وَتَجْعَلَ لَنَا مِنْ لَحَظَاتِ بِرِّكَ، بِحَيْثُ يَشْمَلُنَا فَضْلُكَ، وَيَسَعُنَا طَوْلُكَ، فَعَلْتَ إنْ شَاءَ اللَّهُ انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ.

فصل تقبيل اليد أو الكف أو القدم أو الباسطة أو الباسط ونحو ذلك

[فَصْلٌ تَقْبِيلِ الْيَدِ أَوْ الْكَفِّ أَوْ الْقَدَمِ أَوْ الْبَاسِطَةِ أَوْ الْبَاسِطِ وَنَحْوِ ذَلِكَ] فَصْلٌ يَتَعَلَّقُ بِالْمُكَاتَبَةِ وَيَنْبَغِي فِي الْمُكَاتَبَةِ تَحَرِّي طَرِيقِ السَّلَفِ وَمَا قَارَبَهَا، فَأَمَّا مَا أَحْدَثَهُ الْكُتَّابُ مِنْ تَقْبِيلِ الْيَدِ أَوْ الْكَفِّ أَوْ الْقَدَمِ أَوْ الْبَاسِطَةِ أَوْ الْبَاسِطِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ فِي أَمْرٍ دِينِيٍّ أَوْ تَرَتَّبَ عَلَى تَرْكِهِ مَفْسَدَةٌ أَعْظَمُ مِنْهُ. فَأَمَّا تَقْبِيلُ الْأَرْضِ فَيُتَلَطَّفُ فِي تَرْكِهَا مُطْلَقًا حَسَبُ الْإِمْكَانِ، وَإِنْ أَتَى بِهَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْرِنَ بِذَلِكَ نِيَّةً وَتَأْوِيلًا، كَمَا فِي لَفْظِ الْإِتْيَانِ بِالْعَبْدِ أَوْ الْعَبْدِ الْأَصْغَرِ أَوْ الْعَبْدِ الرِّقِّ أَوْ الْمَمْلُوكِ أَوْ الْخَادِمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَدْ رَأَيْتُ بِخَطِّ الشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ (كِتَابَ سِيرَةِ الْخُلَفَاءِ) كَأَنَّهُ صَنَعَهُ لِبَعْضِ الْخُلَفَاءِ أَوْ لِبَعْضِ الْأَكَابِرِ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَرَغَ مِنْ تَصْنِيفِهِ الْعَبْدُ فِي خَمْسَةِ أَيَّامٍ وَهُوَ يُقَبِّلُ الْأَرْضَ بِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، أَوْ بِوَجْهِهِ وَيَدِهِ. وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَأَمَّا الْمُكَاتَبَةُ بِمِثْلِ هَذَا إلَى الْكُفَّارِ فَيَنْبَغِي الْجَزْمُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَقَدْ رَأَيْتُ مَنْ يَفْعَلُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَعَهُمْ. لَكِنْ لَيْسَ هُوَ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِهِ فِي عِلْمٍ وَلَا عَمَلٍ، وَرَأَيْتُ مِنْ حَالِ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا الْعُلَمَاءِ الْأَخْيَارِ أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى مَفْسَدَةِ هَذَا وَمَا يُشْبِهُهُ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ حُصُولِ الْمَصْلَحَةِ أَوْ دَفْعِ الْمَفْسَدَةِ لِأَنَّ الشَّارِعَ يَنْظُرُ فِي دَرْءِ أَعْظَمِ الْمَفْسَدَتَيْنِ بِارْتِكَابِ أَدْنَاهُمَا، وَهَذَا فِيهِ تَسْهِيلٌ، وَقَدْ يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي مِثْل هَذِهِ الْأَزْمَانِ، وَالِاحْتِيَاطُ الْكَفُّ عَنْ ذَلِكَ وَالتَّلَطُّفُ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ إلَى سُلُوكِ طَرِيقِ الشَّرْعِ وَمَا يُقَارِبُهَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ أَنَّهُمْ كَرِهُوا أَنْ يُقَالَ عَبْدُكَ وَيَا مَوْلَايَ. وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَ أَنْ يُقَالَ يَا سَيِّدِي وَأَجَازَ هَذَا بَعْضُهُمْ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَالْقَوْلُ فِي هَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِمُنَافِقٍ وَلَا كَافِرٍ وَلَا فَاسِقٍ يَا سَيِّدِي وَيُقَالُ، لِغَيْرِهِمْ، وَاحْتَجَّ بِأَخْبَارٍ تَأْتِي فِي الْمَدْحِ فِي الْوَجْهِ قَبْلَ فُصُولِ اللِّبَاسِ قَالَ: وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَرْضَى أَحَدٌ أَنْ يُخَاطَبَ يَا سَيِّدِي وَأَنْ يُنْكِرَ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ «السَّيِّدُ اللَّهُ» انْتَهَى كَلَامُهُ. وَعَنْ الْحَسَنِ سَمِعْتُ «أَبَا بَكْرَةَ يَقُولُ رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً وَعَلَيْهِ أُخْرَى وَيَقُولُ إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي فَكُلُّكُمْ عَبِيدٌ لِلَّهِ وَكُلُّ نِسَائِكُمْ إمَاءُ اللَّهِ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ غُلَامِي وَجَارِيَتِي، وَفَتَايَ وَفَتَاتِي» وَفِي رِوَايَةٍ «وَلَا يَقُلْ الْعَبْدُ رَبِّي وَلَكِنْ لِيَقُلْ سَيِّدِي» وَفِي رِوَايَةٍ «لَا يَقُلْ الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ مَوْلَايَ، فَإِنَّ مَوْلَاكُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» . وَعَنْهُ أَيْضًا مَرْفُوعًا «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ اسْقِ رَبَّكَ وَأَطْعِمْ رَبَّكَ وَوَضِّئْ رَبَّكَ، وَلْيَقُلْ سَيِّدِي وَمَوْلَايَ، وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي، أَمَتِي، وَلْيَقُلْ فَتَايَ فَتَاتِي وَغُلَامِي» رَوَى ذَلِكَ مُسْلِمٌ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ الْخَبَرَ الْأَخِيرَ. وَفِي الصِّحَاحِ فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا أَوْ رَبَّهَا» فَقِيلَ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّنْزِيهِ، وَقِيلَ النَّهْيُ عَنْ كَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا لَا فِي النَّادِرِ، وَالنَّهْيُ عَنْ لَفْظِ الْأَمَةِ وَالْعَبْدِ لِلْكَرَاهَةِ جَزَمَ بِهِ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَجَزَمَ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِسَيِّدِي وَذَكَرَ مَا فِي الصِّحَاحِ مِنْ قَوْلِهِ لِلْأَنْصَارِ «قُومُوا إلَى سَيِّدِكُمْ» يَعْنِي سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، وَقَوْلُهُ «اسْمَعُوا مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ» يَعْنِي سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ. وَنَقَلَ الْقَاضِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ دُعَاءَ اللَّهِ بِسَيِّدِي وَيَأْتِي اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ فِي كَرَاهَةِ الْمَدْحِ وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ أَيْضًا لَا نَعْلَمُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ لِأَحَدٍ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ مَوْلَايَ وَلَا يَقُولَ عَبْدَكَ وَلَا عَبْدِي وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا، وَقَدْ حَظَرَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمَمْلُوكِينَ فَكَيْفَ الْأَحْرَارُ؟ كَذَا قَالَ، وَجَزَمَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ بِأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِمَوْلَايَ، وَأَنَّ النَّهْيَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَاخْتَلَفَ الرُّوَاةُ عَنْ الْأَعْمَشِ، وَحَذْفُهَا أَصَحُّ انْتَهَى كَلَامُهُ، ثُمَّ هِيَ لِتَرْكِ الْأُولَى جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِذْنِ فِي اسْتِعْمَالِهَا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ

أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ عَبْدٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ، وَمَنْ انْتَمَى إلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ» وَيَأْتِي فِي الِاسْتِئْذَانِ: هَلْ يَكْنِي الرَّجُلُ نَفْسَهُ؟ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: وَيَكْتُبُ مِنْ أَخِيهِ إنْ كَانَتْ الْحَالُ بَيْنَهُمَا تُوجِبُ ذَلِكَ وَدُونَهُ مِنْ وَلِيِّهِ قَالَ وَمَحْظُورٌ أَنْ يَكْتُبَ مِنْ عَبْدِهِ وَإِنْ كَانَ الْكَاتِبُ غُلَامَهُ. وَالْمُسْتَعْمَلُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ سَلَامٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ مَعْرِفَةٌ وَفِي آخِرِ الْكِتَابِ وَالسَّلَامُ عَلَيْك لِأَنَّهُ مُشَارٌ بِهِ إلَى الْأُولَى وَمَا ذَكَرَهُ مُتَّجِهٌ. وَكَذَا كَانَ يَكْتُبُ عُمَرُ وَغَيْرُهُ أَوَّلُ الْكِتَابِ سَلَامٌ عَلَيْكَ.

فصل مذهب عامة العلماء ألا يبدأ أهل الذمة بالسلام

[فَصْلٌ مَذْهَبُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُبْدَأَ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِالسَّلَامِ] ِ وَلَا يَجُوزُ بُدَاءَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالسَّلَامِ هَذَا هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ سَلَفًا وَخَلَفًا لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ بُدَاءَتِهِمْ بِالسَّلَامِ وَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَسُئِلَ عَمَّنْ يَبْتَدِئُ الذِّمِّيَّ بِالسَّلَامِ إذَا كَانَتْ حَاجَةٌ إلَيْهِ قَالَ لَا يُعْجِبُنِي. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ وَسَأَلَهُ قَالَ: مَرَرْتُ بِقَوْمٍ جُلُوسٍ وَفِيهِمْ نَصْرَانِيٌّ أُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ؟ قَالَ سَلِّمْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَنْوِهِ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِمَجْلِسٍ فِيهِ أَخْلَاطٌ مِنْ الْيَهُودِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ» وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ لَهُ قَرَابَةٌ ذِمِّيٌّ أَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ؟ قَالَ لَا يَبْدَأْهُ بِالسَّلَامِ يَقُولُ: ابدراتم، وَلَا يَبْدَأْ بِالسَّلَامِ. وَكَذَا نَقَلَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ سُئِلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ رَجُلٍ لَهُ قَرَابَاتٌ مَجُوسٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ أَيُسَلِّمُ؟ قَالَ: لَا فَقِيلَ لَهُ كَيْفَ يَقُولُ؟ قَالَ يَقُولُ ابدراتم وَلَا يَبْدَأْ بِالسَّلَامِ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فَقَدْ نَهَى عَنْ الِابْتِدَاءِ مُطْلَقًا وَرَخَّصَ عِنْدَ قُدُومِ الْمُسْلِمِ أَنْ يُحَيِّيَ بِمِثْلِ ابدراتم. وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ وَهُوَ وَجْهٌ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى جَوَازِهِ لِلْحَاجَةِ وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ احْتِمَالًا رَأَيْتُهُ بِخَطِّ الْقَاضِي تَقِيِّ الدِّينِ الزَّيْدَانِيِّ الْبَغْدَادِيِّ، وَسَبَقَ قَوْلُ أَحْمَدَ لَا يُعْجِبُنِي. وَلِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ فِي هَذَا اللَّفْظِ هَلْ يُحْمَلُ عَلَى التَّحْرِيمِ أَوْ الْكَرَاهَةِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قِيلَ لِمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ إنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ سُئِلَ عَنْ ابْتِدَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالسَّلَامِ قَالَ: يَرُدُّ عَلَيْهِمْ وَلَا يَبْدَؤُهُمْ بِالسَّلَامِ، فَقَالَ لَهُ: لِمَ؟ فَقَالَ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ} [الزخرف: 89]

كَذَا قَالَ وَهُوَ غَرِيبٌ قَالَ السُّدِّيُّ: قُلْ خَيْرًا بَدَلًا مِنْ شَرِّهِمْ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: اُرْدُدْ عَلَيْهِمْ مَعْرُوفًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قُلْ مَا تَسْلَمُ بِهِ مِنْ شَرِّهِمْ. وَتَأَوَّلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ النَّهْيَ عَنْ بُدَاءَتِهِمْ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ لَيْسَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَبْدَءُوهُمْ قَالَ بِدَلِيلِ مَا رَوَى الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْمٍ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ يُسَلِّمُ عَلَى كُلِّ مَنْ لَقِيَ مِنْ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ وَيَقُولُ هِيَ تَحِيَّةٌ لِأَهْلِ مِلَّتِنَا، وَاسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ نُفْشِيهِ بَيْنَنَا قَالَ: وَمُحَالٌ أَنْ يُخَالِفَ أَبُو أُمَامَةَ السُّنَّةَ فِي ذَلِكَ كَذَا قَالَ وَأَبُو أُمَامَةَ إنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُ فَقَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ بِلَا شَكٍّ وَالنَّهْيُ ظَاهِرٌ فِي التَّحْرِيمِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْإِضْمَارِ. وَفِي تَتِمَّةِ الْخَبَرِ «وَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُمْ إلَى أَضْيَقِهَا» وَهَذَا السِّيَاقُ يَقْتَضِي النَّهْيَ وَقَدْ خَالَفَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مَالِكًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ وُدًّا وَلُطْفًا وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِمُجَاهَدَتِهِمْ وَالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ وَكَذَلِكَ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مُوَالَاتِهِمْ وَمَوَدَّتِهِمْ كَمَا يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي آخِرِ الْكِتَابِ وَمِنْ ذَلِكَ مُوَاكَلَتُهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ كَانَ يُقَالُ: مِنْ الْجَفَاءِ أَنْ تُوَاكِلَ غَيْرَ أَهْلِ دِينِكَ، فَأَمَّا مَنْ خَافَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَحَبَّ أَوْ يَجِبُ نَظَرًا إلَى ارْتِكَابِ أَدْنَى الْمَفْسَدَتَيْنِ لِدَفْعِ أَعْلَاهُمَا، فَأَمَّا الْحَاجَةُ إلَيْهِ يَسْهُلُ تَرْكُهَا بِلَا مَشَقَّةٍ مِثْلُ كَثِيرٍ مِنْ حَوَائِجِ الدُّنْيَا الْمُعْتَادَةِ فَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الَّذِي أَرَادَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَكَلَامُهُ فِيهِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ التَّحْرِيمِ وَالْكَرَاهَةِ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ التَّحْرِيمُ وَالْمَسْأَلَةُ فِيهِ مُحْتَمَلَةٌ. فَأَمَّا الْحَاجَةُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَتَبْعُدُ إرَادَتُهُ كَمَا يَبْعُدُ الْمَنْعُ مِنْهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. فَإِنْ سَلَّمَ أَحَدُهُمْ وَجَبَ الرَّدُّ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.

لِصِحَّةِ الْأَحَادِيثِ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْأَمْرِ بِالرَّدِّ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ، وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ وَأَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ. وَصِفَةُ الرَّدِّ عَلَيْكُمْ أَوْ وَعَلَيْكُمْ بِحَذْفِ الْوَاوِ وَإِثْبَاتِهَا. صَحَّتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاخْتَارَ أَصْحَابُنَا الْوَاوَ وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى فِي الْإِرْشَادِ حَذْفَهَا قَطَعَ بِهِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: اخْتَارَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ ابْنُ حَبِيبٍ الْمَالِكِيُّ حَذْفَ الْوَاوِ لِئَلَّا تَقْتَضِيَ التَّشْرِيكَ وَقَالَ غَيْرُهُ بِإِثْبَاتِهَا كَمَا هُوَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: عَامَّةُ الْمُحَدِّثِينَ يَرْوُونَهُ وَعَلَيْكُمْ بِالْوَاوِ وَكَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ يَرْوِيهِ عَلَيْكُمْ بِحَذْفِ الْوَاوِ وَهُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّهُ إذَا حَذَفَ الْوَاوَ صَارَ قَوْلُهُمْ الَّذِي قَالُوهُ بِعَيْنِهِ مَرْدُودًا عَلَيْهِمْ، فَإِدْخَالُ الْوَاوِ يُوجِبُ الِاشْتِرَاكَ مَعَهُمْ وَالدُّخُولَ فِيمَا قَالُوهُ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْوَاوُ أَجْوَدُ كَمَا هُوَ أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ وَلَا مَفْسَدَةَ فِيهِ لِأَنَّ السَّامَ الْمَوْتُ وَهُوَ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ، وَقِيلَ الْوَاوُ هُنَا لِلِاسْتِئْنَافِ لَا لِلْعَطْفِ وَالتَّشْرِيكِ، وَقَوْلُهُ وَعَلَيْكُمْ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنْ الذَّمِّ وَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ نَصَّ عَلَيْهِ وَلِلشَّافِعِيَّةِ وَجْهٌ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَيْكُمْ السِّلَامُ بِكَسْرِ السِّينِ وَهِيَ الْحِجَارَةُ وَذَكَرَ فِي آخِرِ الرِّعَايَةِ أَنَّهُ إذَا كَسَرَ سِينَ السَّلَامِ وَهِيَ حِجَارَةٌ رَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَهُ وَذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَالْأَوَّلُ أَوْلَى عَمَلًا بِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِيهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ إذَا سَلَّمَ الذِّمِّيُّ عَلَى الْمُسْلِمِ فَإِنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ مِثْلَ تَحِيَّتِهِ وَإِنْ قَالَ أَهْلًا وَسَهْلًا فَلَا بَأْسَ كَذَا قَالَ، وَجَزَمَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ بِمِثْلِ قَوْلِ الْأَصْحَابِ وَسَلَّمَ أَحْمَدُ عَلَى ذِمِّيٍّ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ ذِمِّيٌّ، وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَقُولُ لَهُ رُدَّ عَلَيَّ سَلَامِي، فَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ.

فصل السلام والدعاء لأهل الذمة ومصافحتهم

[فَصْلُ السَّلَامِ وَالدُّعَاءِ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُصَافَحَتِهِمْ] قِيلَ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نُعَامِلُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَنَأْتِيهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ وَعِنْدَهُمْ قَوْمٌ مُسْلِمُونَ أُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ؟ قَالَ نَعَمْ تَنْوِي السَّلَامَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ وُجُوبُ النِّيَّةِ لِذَلِكَ، وَسَبَقَ فِي الْفَصْلِ قَبْلَهُ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ وَلَا يَنْوِيهِ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ هَذِهِ النِّيَّةَ لَا تَجِبُ لَكِنْ لَا يَنْوِي السَّلَامَ عَلَيْهِ. وَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ هُمَا نَظِيرُ الرِّوَايَتَيْنِ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يُسَلِّمُ عَلَى رَجُلٍ فَسَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ هُوَ فِيهِمْ هَلْ يَحْنَثُ إنْ لَمْ يَنْوِ إخْرَاجَهُ أَوْ يَحْنَثُ إنْ قَصَدَهُ فَقَطْ. وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ مُصَافَحَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَكَرِهَهُ وَرَوَى أَبُو حَفْصٍ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي النَّهْيِ عَنْ مُصَافَحَتِهِمْ وَابْتِدَائِهِمْ بِالسَّلَامِ وَقَالَ لَهُ أَبُو دَاوُد: يُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلذِّمِّيِّ كَيْفَ أَصْبَحْتَ، أَوْ كَيْفَ أَنْتَ؟ أَوْ كَيْفَ حَالُكَ؟ قَالَ أَكْرَهُهُ، هَذَا عِنْدِي أَكْبَرُ مِنْ السَّلَامِ وَقَالَ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ: أَهْلُ الذِّمَّةِ لَا تَبْدَأْهُمْ بِالسَّلَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجِيبَهُمْ هَدَاكَ اللَّهُ، وَأَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ، وَنَحْوُهُ. وَكَذَا قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ. وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ فَقَطْ. وَلَمْ يُصَرِّحْ أَصْحَابُنَا بِخِلَافِ قَوْلِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ لَكِنْ ذَكَرُوا قَوْلَ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ وَنَحْوِهِ وَاقْتَصَرُوا عَلَيْهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ مَنْعُ غَيْرِهِ كَالسَّلَامِ وَيُحْتَمَلُ جَوَازُ مَنْعِ الدُّعَاءِ بِالْبَقَاءِ وَنَحْوِهِ إلَّا بِنِيَّةِ الْجِزْيَةِ أَوْ الْإِسْلَامِ، أَوْ الْإِخْبَارِ بِالْوَاقِعِ. وَهَذَا قَدْ يُقَالُ هُوَ نَظِيرُ نَصِّ أَحْمَدَ فِي أَكْرَمَكَ اللَّهُ يَنْوِي الْإِسْلَامَ فَيَكُونُ هُوَ مَذْهَبَهُ فِيهِمَا وَيُحْتَمَلُ مَعَ الْحَاجَةِ فَقَطْ، وَأَمَّا الدُّعَاءُ بِالْهِدَايَةِ وَنَحْوِهَا فَهَذَا جَوَازُهُ وَاضِحٌ.

وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ إنْ خَاطَبَهُ بِكَلَامٍ غَيْرِ السَّلَامِ مِمَّا يُؤْنِسُهُ بِهِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحِيطِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ إنْ نَوَى بِقَلْبِهِ أَنَّ اللَّهَ يُطِيلُ بَقَاءَهُ لَعَلَّهُ يُسْلِمُ أَوْ يُؤَدِّي الْجِزْيَةَ عَنْ ذُلٍّ وَصَغَارٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ دَعَا لَهُ الْإِسْلَامَ فِي الْأَوَّلِ وَفِي الثَّانِي مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا لَا يَجُوزُ قَالَ: وَلَوْ قَالَ لِذِمِّيٍّ أَرْشَدَكَ اللَّهُ أَوْ هَدَاكَ اللَّهُ فَحَسُنَ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: سُئِلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ يَقُولُ لِلرَّجُلِ النَّصْرَانِيِّ أَكْرَمَكَ اللَّهُ قَالَ نَعَمْ. يَقُولُ أَكْرَمَكَ اللَّهُ يَعْنِي بِالْإِسْلَامِ وَيَتَوَجَّهُ فِيهِ مَا سَبَقَ مِنْ الدُّعَاءِ بِالْبَقَاءِ وَإِنَّهُ كَالدُّعَاءِ بِالْهِدَايَةِ وَيُشْبِهُ هَذَا أَعَزَّكَ اللَّهُ، وَذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَهُ لِنَصْرَانِيٍّ وَأَنَّهُ عُوتِبَ فَقَالَ أَخَذْتُهُ مِنْ عَزَّ الشَّيْءُ إذَا قَلَّ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ الطُّوسِيُّ: كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إذَا نَظَرَ إلَى نَصْرَانِيٍّ غَمَّضَ عَيْنَيْهِ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: لَا أَقْدِرُ أَنْظُرُ إلَى مَنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ وَكَذَبَ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ فِي الْحَدِيثِ الرَّابِعِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ كَانَ إذَا رَأَى يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا غَمَّضَ عَيْنَيْهِ وَيَقُولُ: لَا تَأْخُذُوا عَنِّي هَذَا فَإِنِّي لَمْ أَجِدْهُ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ تَقَدَّمَ وَلَكِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرَى مَنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَنَى أَحْمَدُ نَصْرَانِيًّا وَاحْتَجَّ بِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِعْلِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.

فصل من يبدأ بالسلام وتبليغه بالكتاب، وحكم الجواب

[فَصْلٌ مَنْ يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ وَتَبْلِيغِهِ بِالْكِتَابِ، وَحُكْمُ الْجَوَابِ] يُسَنُّ أَنْ يُسَلِّمَ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ. وَالْمَاشِي عَلَى الْجَالِسِ، وَيُسَلِّمَ الرَّاكِبُ عَلَيْهِمَا، لِخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي ذَلِكَ هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ خَلَا ذِكْرِ الصَّغِيرِ عَلَى الْكَبِيرِ فَإِنَّهُ انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ. وَذَكَرَ صَاحِبُ النَّظْمِ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ سَلَّمَ الْمَأْمُورُ بِالرَّدِّ مِنْهُمْ فَقَدْ حَصَلَ الْمَسْنُونُ إذْ هُوَ مُبْتَدِئٌ، وَظَاهِرُ هَذَا صَرِيحُهُ أَنَّهُ إذَا بَدَأَ بِالسَّلَامِ مَنْ قُلْنَا يَبْدَأُ غَيْرَهُ أَنَّهُ تَحْصُلُ السُّنَّةُ بِسَلَامِهِ وَيَكُونُ مُبْتَدِئًا، وَهَذَا خِلَافُ ظَاهِرِ كَلَامِهِ السَّابِقِ وَكَلَامِ الْأَصْحَابِ وَالْأَخْبَارِ. وَيَكُونُ فُهِمَ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ وَالْأَخْبَارِ أَنَّ ذَلِكَ كَمَالُ السُّنَّةِ وَأَفْضَلُهَا. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ غَيْرَهُ سُنَّةٌ مَفْضُولَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْأَمْرِ بِإِفْشَاءِ السَّلَامِ وَامْتِيَازِ أَحَدِهِمَا وَهَذَا مُحْتَمَلٌ، وَقَدْ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَمَّا جَاءَ فِي الْأَخْبَارِ لِلِاسْتِحْبَابِ قَالَ وَلَوْ عَكَسُوا جَازَ وَكَانَ خِلَافَ الْأَفْضَلِ قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ مُرَادُهُ أَنَّهُ يَأْتِي بِالْجَوَابِ بِصِيغَةِ الِابْتِدَاءِ كَمَا تَأْتِي الْمَسْأَلَةُ. لَكِنْ فَكَيْفَ يَقُولُ حَصَلَ الْمَسْنُونُ وَإِنَّمَا حَصَلَ الْمَفْرُوضُ؟ وَيَقُولُ إذْ هُوَ مُبْتَدِئٌ إنَّمَا يَكُونُ مُجِيبًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: إنْ سَلَّمَ عَلَى رَجُلٍ فَقَدْ أَمِنَهُ، فَالْفَارِسُ أَقْوَى مِنْ الرَّاجِلِ فَأَمَرَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِسَلَامِ الْأَقْوَى عَلَى الْأَضْعَفِ، وَسَلَامُ الْقَلِيلِ عَلَى الْكَثِيرِ أَقَلُّ حَرَجًا وَلَوْ سَلَّمَ الْغَائِبُ عَنْ الْعَيِّنِ مِنْ وَرَاءِ جِدَارٍ أَوْ سِتْرٍ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا فُلَانُ أَوْ سَلَّمَ الْغَائِبُ عَنْ الْبَلَدِ بِرِسَالَتِهِ أَوْ كِتَابِهِ وَجَبَتْ الْإِجَابَةُ عِنْدَ الْبَلَاغِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِأَنَّ تَحِيَّةَ الْغَائِبِ كَذَلِكَ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى الرَّسُولِ قِيلَ لِأَحْمَدَ إنَّ فُلَانًا يُقْرِئُكَ السَّلَامَ قَالَ عَلَيْكَ وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَعَلَيْكَ وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ رَجُلٌ أَبِي يُقْرِئُكَ السَّلَامَ قَالَ: عَلَيْكَ وَعَلَى أَبِيكَ السَّلَامُ»

وَقَالَ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنِي يُوسُفُ بْنُ أَبِي مُوسَى قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ إنَّ فُلَانًا يُقْرِئُكَ السَّلَامَ قَالَ سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَعَلَيْهِ. وَهُوَ مَعْنَى مَا سَبَقَ عِنْدَنَا وَلِهَذَا يَجِبُ رَدُّ السَّلَامِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ رَجُلٌ لِأَبِي ذَرٍّ فُلَانٌ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ، فَقَالَ هَدِيَّةٌ حَسَنَةٌ وَمَحْمَلٌ خَفِيفٌ. قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَيُسْتَحَبُّ بَعْثُ السَّلَامِ وَيَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ تَبْلِيغُهُ، وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ إذَا تَحَمَّلَهُ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَإِلَّا فَلَا يَجِبُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قَالَتْ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا عَائِشُ هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلَامَ فَقَالَتْ: وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ» . زَادَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ: وَبَرَكَاتُهُ زَادَ أَحْمَدُ: جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْ صَاحِبٍ وَدَخِيلٍ فَنِعْمَ الصَّاحِبُ وَنِعْمَ الدَّخِيلُ. فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الرَّدُّ عَلَى مُبَلِّغِ السَّلَامِ وَهُوَ الرَّسُولُ. وَفِيهِ تَرْخِيمُ الْمُنَادَى وَيَجُوزُ فَتْحُ آخِرِهِ وَهُوَ الشِّينُ هُنَا وَضَعَهُ. وَمَعْنَى " يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلَامَ " يُسَلِّمُ عَلَيْكِ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَفِيهِ بَعْثُ الْأَجْنَبِيِّ السَّلَامَ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ الصَّالِحَةِ إذَا لَمْ يَخَفْ تَرَتُّبَ مَفْسَدَةٍ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «قَالَ أَتَى جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ خَدِيجَةُ مَعَهَا إنَاءٌ فِيهِ إدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ - عَلَيْهَا السَّلَامُ - مِنْ رَبِّهَا، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ " فَاقْرَأْ - عَلَيْهَا السَّلَامُ - مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي "، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ سِوَى هَذَا وَكَأَنَّهُ اخْتَصَرَ إبْلَاغَهُ لَهَا ذَلِكَ وَرَدَّهَا الْجَوَابَ مَعَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَنْ صَرَّحَ بِوُجُوبِ رَدِّ سَلَامِ الْمَلَكِ وَوُجُوبِ الرَّدِّ مِنْهُ، وَلَيْسَ رَدُّ سَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى كَرَدِّ سَلَامِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَلِهَذَا لَمَّا كَانُوا يَقُولُونَ فِي الصَّلَاةِ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالتَّشَهُّدِ: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ عِبَادِهِ، السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ، السَّلَامُ عَلَى مِيكَائِيلَ، السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ، فَلَمَّا سَمِعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَقُولُوا السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ وَلَكِنْ قُولُوا التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ» الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ

وَالدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَنَهَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ السَّلَامِ عَلَى اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ وَلَمْ يَنْهَ عَنْ السَّلَامِ عَلَى غَيْرِهِ. وَأَظُنُّ أَنَّ فِي غَرِيبِ مَا رُوِيَ أَنَّ خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَمَّا قِيلَ لَهَا قَالَتْ: اللَّهُ السَّلَامُ وَمِنْهُ السَّلَامُ، وَهَذَا كَمَا فِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ» . وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي قَرَأَ وَفِيهِ " أَنَّ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ " يُقَالُ أَقْرِئْ فُلَانًا السَّلَامَ وَاقْرَأْ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، كَأَنَّهُ حِينَ يُبَلِّغُهُ سَلَامَهُ يَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يَقْرَأَ السَّلَامَ وَيَرُدَّهُ. هَذَا لَفْظُ النِّهَايَةِ فِي فَصْلِ الْقَافِ مَعَ الرَّاءِ وَإِذَا قَرَأَ الرَّجُلُ الْقُرْآنَ أَوْ الْحَدِيثَ عَلَى الشَّيْخِ يَقُولُ أَقْرَأَنِي فُلَانٌ أَيْ حَمَلَنِي عَلَى أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْحَدِيثِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَجَّ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ لِزَوْجِهَا أَحِجَّنِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَا عِنْدِي مَا أُحِجُّكِ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ: أَحِجَّنِي عَلَى جَمَلِكَ فُلَانٍ قَالَ: ذَلِكَ حَبِيسٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّ امْرَأَتِي تَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَرَحْمَةَ اللَّهِ، وَإِنَّهَا سَأَلَتْنِي الْحَجَّ مَعَكَ. فَقَالَتْ: أَحِجَّنِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْت: مَا عِنْدِي مَا أُحِجُّكِ عَلَيْهِ. قَالَتْ: أَحِجَّنِي عَلَى جَمَلِكَ فُلَانٍ. فَقُلْتُ: ذَلِكَ حَبِيسٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَقَالَ: أَمَا إنَّكَ لَوْ حَجَجْتَهَا عَلَيْهِ كَانَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَإِنَّمَا أَمَرَتْنِي مَا تَعْدِلُ حَجَّةً مَعَكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَقْرِئْهَا السَّلَامَ وَرَحْمَةَ اللَّهِ وَبَرَكَاتِهِ وَأَخْبِرْهَا أَنَّهَا تَعْدِلُ حَجَّةً يَعْنِي عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَيُسَلِّمُ مَنْ انْصَرَفَ بِحَضْرَةِ أَحَدٍ أَوْ أَتَى أَهْلَهُ أَوْ غَيْرَهُمْ أَوْ دَخَلَ بَيْتًا مَسْكُونًا لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَوْ خَرَجَ مِنْهُ أَوْ لَقِيَ صَبِيًّا أَوْ رَجُلًا وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ. وَقَدْ سَبَقَ بَعْضُ ذَلِكَ لِلْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ قَالَ: تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ

عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ» . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَدْخُلُ إلَى السُّوقِ فَلَا يَمُرُّ بِأَحَدٍ إلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ الطُّفَيْلُ بْنُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَا تَصْنَعُ فِي السُّوقِ وَأَنْتَ لَا تَقِفُ عَلَى الْبَيْعِ وَلَا تَسْأَلُ عَنْ السِّلَعِ وَلَا تَسُومُ بِهَا وَلَا تَجْلِسُ فِي مَجَالِسِ السُّوقِ؟ فَقَالَ يَا أَبَا بَطْنٍ وَكَانَ الطُّفَيْلُ ذَا بَطْنٍ إنَّمَا نَغْدُو مِنْ أَجْلِ السَّلَامِ وَنُسَلِّمُ عَلَى مَنْ لَقِينَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، وَيَأْتِي بِالْقُرْبِ مِنْ نِصْفِ الْكِتَابِ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ إنَّ مِنْ التَّوَاضُعِ أَنْ تُسَلِّمَ عَلَى مَنْ لَقِيتَ. وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» وَلَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ السَّلَامِ عَلَى مَنْ عَرَفَهُ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ يُكْثِرُ مِنْهُ وَيُفْشِيهِ وَيُشِيعُهُ، لَا أَنَّهُ يُسَلِّمُ عَلَى كُلِّ مَنْ رَآهُ، فَإِنَّ هَذَا فِي السُّوقِ وَنَحْوِهِ يُسْتَهْجَنُ عَادَةً وَعُرْفًا. وَلَوْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُحَافَظَةِ وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهِ لَشَاعَ وَتَوَاتَرَ وَنَقَلَهُ الْجَمُّ الْغَفِيرُ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا «مَا حَسَدَتْكُمْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ مَا حَسَدَتْكُمْ عَلَى السَّلَامِ وَالتَّأْمِينِ» وَقَالَ الشَّاعِرُ: قَدْ يَمْكُثُ النَّاسُ دَهْرًا لَيْسَ بَيْنَهُمْ ... وُدٌّ فَيَزْرَعُهُ التَّسْلِيمُ وَاللُّطْفُ وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَا بُنَيَّ إذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ تَكُنْ بَرَكَةً عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَقَالَ ابْنُ حَمْدَانَ: إنْ سَلَّمَ بَالِغٌ عَلَى بَالِغٍ وَصَبِيٌّ رَدَّهُ الْبَالِغُ وَلَمْ يَكْفِ رَدُّ الصَّبِيِّ، وَكَذَا فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ لِأَبِي الْمَعَالِي بِنَاءً عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ لَا يَحْصُلُ بِهِ، وَيُتَوَجَّهُ، يَخْرُجُ مِنْ الِاكْتِفَاءِ بِأَذَانِهِ وَصَلَاتِهِ عَلَى الْجِنَازَةِ قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: وَالسَّلَامُ عَلَى الصَّبِيِّ لَا يَسْتَحِقُّ جَوَابًا لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ لِلْجَوَابِ وَالْأَمْرِ بِهِ، كَذَا قَالَ وَيُتَوَجَّهُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْجَوَابَ، وَيَرُدَّهُ الصَّبِيُّ لَكِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَسَبَقَ كَلَامُهُمْ أَنَّهُ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَكَيْفَ يُشْرَعُ السَّلَامُ عَلَى مَنْ

لَا يَرُدُّهُ؟ وَكَيْفَ يَجِبُ رَدُّ سَلَامِ مَنْ لَيْسَ أَهْلًا لِرَدِّهِ؟ وَلَعَلَّ مُرَادَ أَبِي الْمَعَالِي لَا يَسْتَحِقُّ جَوَابًا عَلَى طَرِيقِ الْوُجُوبِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ. وَقَدْ قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: فَإِنْ سَلَّمَ صَبِيٌّ عَلَى بَالِغِينَ فَوَجْهَانِ فِي وُجُوبِ الرَّدِّ مُخْرَجَانِ مِنْ صِحَّةِ إسْلَامِهِ وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ يُسَلَّمُ عَلَى الصَّبِيِّ أَيْ الْمُمَيِّزِ، وَإِلَّا فَلَا يُسَلَّمُ عَلَى مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ وَلَا تَمْيِيزَ كَالْمَجْنُونِ لِأَنَّ إذَا لَمْ يُشْرَعْ السَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا يُشْرَعُ مِنْهُ الرَّدُّ لِعَارِضٍ فَهُنَا مِثْلُهُ وَأَوْلَى، وَيُتَوَجَّهُ عَلَى كَلَامِ أَبِي الْمَعَالِي يُشْرَعُ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ الْمَجْنُونُ وَقَدْ يَلْتَزِمُهُ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ، وَمَنْ سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ فِي دُخُولِهِ أَعَادَهُ فِي خُرُوجِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَطَعَ بِهِ ابْنُ عَقِيلٍ، وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِ الْقَاضِي وَالشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ وَغَيْرِهِمَا وَقَدْ تَقَدَّمَ نَصُّ أَحْمَدَ، قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَالدُّخُولُ آكَدُ اسْتِحْبَابًا. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ «إذَا لَقِيَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ حَالَتْ بَيْنَهُمَا شَجَرَةٌ أَوْ جِدَارٌ أَوْ حَجَرٌ ثُمَّ لَقِيَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ» وَكَلَامُهُ فِي الرِّعَايَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيهِ نَظَرٌ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يُعِيدُ السَّلَامَ ثَانِيًا وَقِيلَ: بَلَى، وَمَنْ دَخَلَ بَيْتًا خَالِيًا سَلَّمَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الْمَلَائِكَةِ وَرَدَّ هُوَ السَّلَامَ عَلَى نَفْسِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ وَيُعَايَا، بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُسْلِمَ هُوَ يَرُدُّ السَّلَامَ وَيُتَوَجَّهُ مِنْهُ تَخْرِيجٌ فِيمَنْ عَطَسَ وَلَيْسَ بِحَضْرَتِهِ أَحَدٌ أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا يَأْتِي، وَظَاهِرُ كَلَامِ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ إذَا دَخَلَ بَيْتًا مَسْكُونًا يُسَلِّمُ لَا خَالِيًا، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ. وَرَوَى سَعِيدٌ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ كَانَ إذَا دَخَلَ بَيْتًا لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ قَالَ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَلَمْ يَرُدَّ ابْنُ عُمَرَ السَّلَامَ عَلَى نَفْسِهِ وَقَالَ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْهَدِيَّةِ: إذَا دَخَلَ بَيْتًا خَالِيًا أَوْ مَسْجِدًا خَالِيًا فَلْيَقُلْ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61] . كَذَا قَالَ وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ قِيلَ: بُيُوتُ أَنْفُسِكُمْ فَسَلِّمُوا عَلَى أَهَالِيكُمْ وَعِيَالِكُمْ، وَقِيلَ الْمَسَاجِدُ فَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ فِيهَا، وَقِيلَ

الْمَعْنَى إذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتَ غَيْرِكُمْ فَسَلِّمُوا عَلَيْهِمْ وَقَالَ كَقَوْلِ الشَّيْخِ وَجِيهِ الدِّينِ مَنْ قَالَ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَعَطَاءٍ. وَإِنْ دَخَلَ عَلَى جَمَاعَةٍ فِيهِمْ عُلَمَاءُ سَلَّمَ عَلَى الْكُلِّ ثُمَّ سَلَّمَ عَلَى الْعُلَمَاءِ سَلَامًا ثَانِيًا، ذَكَرَهُ ابْنُ تَمِيمٍ وَابْنُ حَمْدَانَ وَظَاهِرُ كَلَامِ بَعْضِهِمْ خِلَافُهُ وَيُتَوَجَّهُ كَمَا ذَكَرَ الْقَرِيبَ وَالصَّالِحَ وَنَحْوَهُمَا. وَيَجُوزُ تَعْرِيفُ السَّلَامِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَتَنْكِيرُهُ عَلَى الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ نَصَّ عَلَيْهِ وَقَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَغَيْرِهَا وَقِيلَ تَنْكِيرُهُ أَفْضَلُ وَقَالَ ابْنُ الْبَنَّاءِ سَلَامُ التَّحِيَّةِ مُنَكَّرٌ وَسَلَامُ الْوَدَاعِ مُعَرَّفٌ وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ سَلَامُ الْأَحْيَاءِ مُنَكَّرٌ وَسَلَامُ الْأَمْوَاتِ مُعَرَّفٌ، كَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. وَقِيلَ عَكْسُهُ، أَمَّا سَلَامُ الرَّدِّ فَمُعَرَّفٌ وَجَعَلَهُ صَاحِبُ النَّظْمِ أَصْلًا فِي الْمَسْأَلَةِ فَدَلَّ أَنَّ تَعْرِيفَهُ لِلِاسْتِحْبَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ. وَعَنْ أَبِي جُرَيٍّ الْهُجَيْمِيِّ قَالَ: «أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ عَلَيْكَ السَّلَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: لَا تَقُلْ عَلَيْكَ السَّلَامُ فَإِنَّ عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةُ الْمَوْتَى» إسْنَادُهُ جَيِّدٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ بَابَ كَرَاهِيَةِ أَنْ يَقُولَ: عَلَيْكَ السَّلَامُ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ يُكْرَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ بِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ وَيَجِبُ الرَّدُّ لِأَنَّهُ سَلَامٌ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ «إذَا لَقِيَ الرَّجُلُ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ فَلْيَقُلْ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ» ثُمَّ رَدَّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " وَعَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ " فَهَذَا مِنْ كَلَامِ أَبِي دَاوُد وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِنَا يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الِابْتِدَاءِ بِهِ، وَيُجَابُ لَكِنْ لَا عَلَى الْوُجُوبِ لِعَدَمِ دَلِيلِهِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِتَحِيَّةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَرَدَّهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُبَيِّنَّ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ الرَّدُّ، أَوْ اسْتِحْبَابًا لَكِنْ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَعْرِفُ لَا مُطْلَقًا، وَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ بَعْدَهُ كَلَامُ أَبِي الْمَعَالِي قَالَ أَبُو الْبَرَكَاتِ: إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ إشَارَةً مِنْهُ إلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْعَرَبِ بَيْنَهُمْ فِي

تَحِيَّةِ الْأَمْوَاتِ إنَّهُمْ كَانُوا يُقَدِّمُونَ اسْمَ الْمَيِّتِ عَلَى الدُّعَاءِ وَهُوَ مَذْكُورٌ كَثِيرٌ فِي أَشْعَارِهِمْ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: عَلَيْكَ سَلَامُ اللَّهِ قَيْسُ بْنَ عَاصِمِ ... وَرَحْمَتُهُ مَا شَاءَ أَنْ يَتَرَحَّمَا قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَإِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسَلِّمَ عَلَى الْقَوْمِ يَتَوَقَّعُ الْجَوَابَ وَأَنْ يُقَالَ لَهُ عَلَيْكَ السَّلَامُ، فَلَمَّا كَانَ الْمَيِّتُ لَا يُتَوَقَّعُ مِنْهُ جَوَابٌ جَعَلُوا السَّلَامَ عَلَيْهِ كَالْجَوَابِ. وَقِيلَ أَرَادَ بِالْمَوْتَى كُفَّارَ الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ وَهَذَا فِي الدُّعَاءِ بِالْخَيْرِ وَالْمَدْحِ فَأَمَّا فِي الشَّرِّ وَالذَّمِّ فَيُقَدَّمُ الضَّمِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي} [ص: 78] . وَقَوْلِهِ {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [التوبة: 98] وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ مَرَّ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَهُوَ بِعَقَبَةَ بِمَكَّةَ وَهُوَ مَقْتُولٌ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ وَكَرَّرَهُ ثَلَاثًا قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِيهِ اسْتِحْبَابُ السَّلَامِ عَلَى الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ ثَلَاثًا كَمَا كَرَّرَهُ ابْنُ عُمَرَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. لَمْ يَذْكُرْ أَصْحَابُنَا هَذَا السَّلَامَ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ، بَلْ ذَكَرُوا كَمَا فِي الْأَخْبَارِ وَلَا شَكَّ أَنَّهَا أَوْلَى وَلَمْ يَذْكُرُوا أَيْضًا تَكْرَارَهُ وَلَعَلَّ هَذَا رَأْيٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ تَكْرَارُهُ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْ «جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَهُ فِي حَاجَةٍ، قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ فَوَقَعَ فِي قَلْبِي مَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي لَعَلَّهُ وَجَدَ عَلَيَّ أَنْ أَبْطَأْتَ عَلَيْهِ، ثُمَّ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ فَوَقَعَ فِي قَلْبِي أَشَدُّ مِنْ الْمَرَّةِ الْأُولَى، ثُمَّ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيَّ وَقَالَ: إنَّمَا مَنَعَنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ أَنِّي كُنْتُ أُصَلِّي وَكَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ مُتَوَجِّهًا إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ» . وَلِمُسْلِمٍ «أَنَّهُ أَوْمَأَ بِيَدِهِ» ، وَفِي هَذَا الْخَبَرِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ مَنَعَهُ مِنْ رَدِّ السَّلَامِ مَانِعٌ أَنْ يَعْتَذِرَ إلَى الْمُسَلِّمِ (وَيَذْكُرَ) الْمَانِعَ لَهُ، وَكَذَا نَظَائِرُهُ.

وَرَوَى سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: " إنَّ السَّلَامَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ فَأَفْشُوهُ بَيْنَكُمْ فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا سَلَّمَ عَلَى الْقَوْمِ فَرَدُّوا عَلَيْهِ كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ فَضْلُ دَرَجَةٍ أَنْ ذَكَّرَهُمْ السَّلَامَ، وَإِنْ لَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ وَأَطْيَبُ ". وَقَالَ أَبُو دَاوُد (بَابٌ فِي فَضْلِ مَنْ بَدَأَ بِالسَّلَامِ) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ أَبِي خَالِدٍ وَهْبٍ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ الْحِمْصِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ أَوْلَى النَّاسِ مَنْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ» حَدِيثٌ جَيِّدٌ وَأَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ وَأَبُو خَالِدٍ وَهْبُ بْنُ خَالِدٍ وَأَبُو سُفْيَانَ مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ الْأَلْهَانِيُّ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طُرُقٍ ضَعِيفَةٍ وَحَسَّنَهُ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ.

فصل فروع في السلام ورده باللفظ وبالإشارة

[فَصْلٌ فُرُوعٌ فِي السَّلَامِ وَرَدِّهِ بِاللَّفْظِ وَبِالْإِشَارَةِ] إذَا الْتَقَيَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَأَ صَاحِبَهُ بِالسَّلَامِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْإِجَابَةُ ذَكَرَهُ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَقَالَ الشَّاشِيُّ مِنْهُمْ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ كَانَ جَوَابًا قَالَ النَّوَوِيُّ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَمَا قَالَهُ صَحِيحٌ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ جَمَاعَةٍ مِنْ الْأَصْحَابِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ، وَقَدْ سَبَقَ كَلَامُ صَاحِبِ الْمُحَرَّرِ وَصَاحِبِ النَّظْمِ قَالَ وَجِيهُ الدِّينِ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: وَلَوْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ ابْتِدَاءً لَا جَوَابًا لَمْ يَسْتَحِقَّ الْجَوَابَ لِأَنَّ هَذِهِ صِيغَةُ جَوَابٍ فَلَا يَسْتَحِقُّ جَوَابًا. وَلَوْ سَلَّمَ عَلَى أَصَمَّ جَمَعَ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْإِشَارَةِ، فَإِنْ لَمْ يَجْمَعْ لَمْ يَجِبْ الْجَوَابُ، فَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ أَصَمُّ جَمَعَ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْإِشَارَةِ فِي الرَّدِّ وَالْجَوَابِ، فَأَمَّا الْأَخْرَسُ فَسَلَامُهُ بِالْإِشَارَةِ وَكَذَلِكَ جَوَابُ الْأَخْرَسِ. وَيُؤْخَذُ مِنْ الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا أَنَّ مَنْ سَلَّمَ عَلَى أَخْرَسَ أَوْ رَدَّ سَلَامَهُ جَمَعَ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْإِشَارَةِ وَهُوَ مُتَوَجَّهٌ وَالْوَاجِبُ مِنْهُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِهِ قَدْرَ الْإِبْلَاغِ وَقَدْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ هَذَا. قَالَ قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «زَارَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَنْزِلِنَا فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَرَدَّ سَعْدُ خَفِيًّا، فَقُلْتُ أَلَا تَأْذَنُ لِرَسُولِ اللَّهِ قَالَ ذَرْهُ ثُمَّ ذَكَرَ كَلِمَةً مَعْنَاهَا يُكْثِرُ عَلَيْنَا مِنْ السَّلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَرَدَّ سَعْدُ رَدًّا خَفِيًّا ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاتَّبَعَهُ سَعْدٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي كُنْتُ أَسْمَعُ تَسْلِيمَكَ وَأَرُدُّ عَلَيْكَ رَدًّا خَفِيًّا لِتُكْثِرَ عَلَيْنَا مِنْ السَّلَامِ» ، وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ، فَوُجِّهَ مِنْهُ أَنَّهُ اكْتَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَدِّ سَعْدٍ هَذَا حَيْثُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِرَدٍّ يَسْمَعُهُ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ هَذَا الرَّدَّ. وَيَنْبَغِي فِي هَذَا أَنْ يُنْظَرَ إلَى الْحَالِ فَإِنْ

أَفْضَى الرَّدُّ بِهَذِهِ الصِّفَةِ إلَى مَفْسَدَةٍ تَعَيَّنَ مَا قَالَ الْأَصْحَابُ. وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَ: «مَرَرْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَهُ جِبْرِيلُ جَالِسٌ فِي الْمَقَاعِدِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ أَجَزْتُ فَلَمَّا رَجَعْتُ وَأَبْصَرْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: هَلْ رَأَيْتَ الَّذِي كَانَ مَعِي قُلْتُ نَعَمْ قَالَ: فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ وَقَدْ رَدَّ عَلَيْكَ السَّلَامَ» . وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالسَّلَامِ بِلَا فَائِدَةٍ وَرُبَّمَا آذَى. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَادِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَجِيءُ مِنْ اللَّيْلِ فَيُسَلِّمُ تَسْلِيمًا لَا يُوقِظُ نَائِمًا، وَيُسْمِعُ الْيَقْظَانَ» . وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: إنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَمَّا اشْتَدَّ بِهِ الْمَرَضُ كَانَ رُبَّمَا أَذِنَ لِلنَّاسِ فَيَدْخُلُونَ عَلَيْهِ أَفْوَاجًا فَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ فَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ بِيَدِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى السَّلَامِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ نَصُّ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَسَيَأْتِي، فَقَوْلُهُ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيْ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكَ، وَمَعْنَاهُ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَيْ أَنْتَ فِي حِفْظِهِ كَمَا يُقَالُ اللَّهُ يَصْحَبُكَ وَاَللَّهُ مَعَكَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: السَّلَامُ بِمَعْنَى السَّلَامَةِ أَيْ السَّلَامَةُ مُلَازِمَةٌ لَكَ.

فصل في قول كيف أمسيت؟ كيف أصبحت؟ بدلا من السلام

[فَصْلٌ فِي قَوْلِ كَيْفَ أَمْسَيْتَ؟ كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ بَدَلًا مِنْ السَّلَامِ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِصَدَقَةَ وَهُمْ فِي جِنَازَةٍ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ كَيْفَ أَمْسَيْتَ؟ فَقَالَ لَهُ: مَسَّاكَ اللَّهُ بِالْخَيْرِ وَقَالَ أَيْضًا لِلْمَرُّوذِيِّ: وَقْتَ السَّحَرِ كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ وَقَالَ إنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَقُولُونَ إذَا مَضَى مِنْ اللَّيْلِ يُرِيدُ بَعْدَ النَّوْمِ كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ فَقَالَ لَهُ الْمَرُّوذِيُّ: صَبَّحَكَ اللَّهُ بِخَيْرٍ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ اكْتَفَى بِهِ بَدَلًا مِنْ السَّلَامِ وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ الْخَلَّالُ (قَوْلَهُ فِي السَّلَامِ كَيْفَ أَصْبَحْتَ) . وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ عَنْ الْحَسَنِ مُرْسَلًا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَصْحَابِ الصُّفَّةِ: كَيْفَ أَصْبَحْتُمْ؟» وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ لَيِّنٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُسَيْدٍ السَّاعِدِيِّ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دَخَلَ عَلَى الْعَبَّاسِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ قَالُوا وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ قَالَ: كَيْفَ أَصْبَحْتُمْ؟ قَالُوا بِخَيْرٍ نَحْمَدُ اللَّهَ، كَيْفَ أَصْبَحْتَ بِأَبِينَا وَأُمِّنَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: أَصْبَحْتُ بِخَيْرٍ أَحْمَدُ اللَّهَ» . وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ قُلْتُ: «كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: بِخَيْرٍ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يُصْبِحْ صَائِمًا وَلَمْ يَعُدْ سَقِيمًا» وَفِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ بْنِ هُرْمُزَ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَفِي حَوَاشِي تَعْلِيقِ الْقَاضِي الْكَبِيرِ عِنْدَ كِتَابِ النُّذُورِ: رَوَى أَبُو بَكْرٍ الْبَرْقَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ لَوْ لَقِيتُ رَجُلًا فَقَالَ بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ، لَقُلْتُ وَفِيكَ فَقَدْ ظَهَرَ مِنْ ذَلِكَ الِاكْتِفَاءُ بِنَحْوِ كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ وَكَيْفَ أَمْسَيْتَ؟ بَدَلًا مِنْ السَّلَامِ، وَإِنَّهُ يُرَدُّ عَلَى الْمُبْتَدِئِ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ السَّلَامُ وَجَوَابُهُ أَفْضَلَ وَأَكْمَلَ. وَقَدْ اسْتَحَبَّ ابْنُ الْجَوْزِيِّ الْقِيَامَ لِمَنْ يَصْلُحُ الْقِيَامُ لَهُ لَمَّا صَارَ تَرْكُ الْقِيَامِ كَالْإِهْوَانِ بِالشَّخْصِ، وَاسْتَحَبَّ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ الدُّعَاءَ لِلْمُتَجَشِّئِ إذَا حَمِدَ اللَّهَ وَقَالَ: إنَّهُ لَا سُنَّةَ فِيهِ بَلْ هُوَ عَادَةٌ مَوْضُوعَةٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَسْأَلَتَنَا

لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا سُنَّةٌ كَانَتْ كَذَلِكَ أَوْ أَوْلَى لِشُهْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ هُنَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَأَمَّا مَعَ السُّنَّةِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ وَالِاسْتِعْمَالِ الْمُتَقَدِّمِ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ، ثُمَّ هَلْ يَجِبُ رَدُّ ذَلِكَ؟ بِتَوَجُّهِ أَنْ يُقَالَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مِنْ اتِّبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّهُ يَجِبُ فَإِنَّهُمْ خَصُّوا الْوُجُوبَ بِرَدِّ السَّلَامِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِرَدِّ السَّلَامِ وَإِفْشَائِهِ يَخُصُّهُ فَلَا يَتَعَدَّاهُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ آدَمَ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ إلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ وَهُمْ نَفَرٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ جُلُوسٌ فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فَذَهَبَ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ» فَظَاهِرُ هَذَا الْخَبَرِ الصَّحِيحِ أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى مَا سِوَى هَذَا لَيْسَ بِتَحِيَّةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَيُتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ ظَاهِرُ تَسْوِيَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ السَّلَامِ عَلَى الذِّمِّيِّ فِي الْمَنْعِ أَنَّهُ يَجِبُ رَدُّهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ مِنْ التَّحِيَّةِ وَالدُّعَاءِ وَالْإِكْرَامِ أَوْ أَوْلَى كَمَا سَبَقَ كَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ وَهَذَا أَخَصُّ مِنْ مَأْخَذِ عَدَمِ الْوُجُوبِ مِمَّا سَبَقَ وَقَدْ ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ وَعَمِلُوا بِهِ فَكَانَ أَوْلَى وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] . وَمِثْلُ هَذَا تَحِيَّةٌ لِوُرُودِهِ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ وَحَمَلَةِ الشَّرْعِ، وَلِأَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِذَلِكَ وَالْأَصْلَ التَّقْرِيرُ وَعَدَمُ التَّغْيِيرِ عَلَى مَا ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ، إلَّا أَنْ يَظْهَرَ خِلَافُهُ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ السَّلَامُ وَالدُّعَاءُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1] . قَالَ مُقَاتِلٌ وَعُمَرُ وَابْنُ مُرَّةَ: تَرْكُ الْمُكَافَأَةِ مِنْ التَّطْفِيفِ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ وَلَمْ يَنُصَّ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى مَا يُخَالِفُهُ وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ أَسْدَى إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَادْعُوا لَهُ» وَإِخْرَاجُ مَسْأَلَتِنَا مِنْ ظَوَاهِرِ هَذِهِ الْأَوَامِرِ دَعْوَى تَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ لِأَنَّ فِي تَرْكِ الرَّدِّ لَا سِيَّمَا مَعَ التَّكْرَارِ عَدَاوَةً وَشَنَآنًا وَوَحْشَةً وَنَفْرَةً عَلَى مَا لَا

يَخْفَى فَيَجِبُ الرَّدُّ لِذَلِكَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَمَرَ بِالْمَحَبَّةِ وَالِائْتِلَافِ. وَنَهَى عَنْ التَّفْرِيقِ وَالِاخْتِلَافِ. فَإِنْ قِيلَ يَزُولُ مَا ذُكِرَ مِنْ الْمَحْذُورِ بِإِعْلَامِ قَائِلِ ذَلِكَ أَنَّ مَا قَالَهُ لَيْسَ بِتَحِيَّةٍ شَرْعِيَّةٍ وَأَنَّهُ بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ لِيُوَطَّنَ الْمُكَلَّفُونَ عَلَى فِعْلِ السُّنَنِ وَاجْتِنَابِ الْبِدَعِ قِيلَ فَهَذَا الْإِعْلَامُ وَاجِبٌ؟ فَإِنْ لَمْ يَجِبْ جَازَ تَرْكُهُ وَبَقِيَ الْمَحْذُورُ، وَإِنْ وَجَبَ فَمَنْ أَوْجَبَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَمَا دَلِيلُهُ شَرْعًا؟ ثُمَّ مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِتَحِيَّةٍ شَرْعِيَّةٍ وَأَنَّهُ بِدْعَةٌ؟ وَلَوْ صَحَّ هَذَا لَكَانَ ضَلَالَةً لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» فَيَكُونُ مُحَرَّمًا وَلَمْ يَقُلْ هَذَا أَحَدٌ فَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِهِ. ثُمَّ قَدْ سَبَقَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ تَحِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ لَا بِدْعِيَّةٌ وَأَنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ مِنْ الْكَلَامِ الطَّيِّبِ وَالْمَعْرُوفِ وَكِلَاهُمَا صَدَقَةٌ بِنَصِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَ الْإِحْسَانِ، وَالشَّرْعِ قَدْ أَمَرَ بِمُجَازَاةِ ذَلِكَ وَمُكَافَأَتِهِ، وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ إلَّا مَا دَلَّ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى خِلَافِهِ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَيُؤَيِّدُ مَا سَبَقَ أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ مَعَ وُقُوعِهِ وَلِهَذَا لَمَّا تَزَوَّجَ عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ امْرَأَةً قَالُوا لَهُ: بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ. فَقَالَ لَا تَقُولُوا هَكَذَا وَلَكِنْ قُولُوا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِمْ» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَلِأَحْمَدَ مَعْنَاهُ، وَلَهُ فِي رِوَايَةٍ لَا تَقُولُوا ذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ نَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، «قُولُوا بَارَكَ اللَّهُ لَهَا فِيكَ وَبَارَكَ لَكَ فِيهَا» قَالَ فِي النِّهَايَةِ الرِّفَاءُ الِالْتِئَامُ وَالِاتِّفَاقُ وَالْبَرَكَةُ وَالنَّمَاءُ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ رَفَأْتُ الثَّوْبَ رَفْئًا وَرَفَوْتُهُ رَفْوًا وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهُ كَرَاهِيَةً لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ عَادَاتِهِمْ وَلِهَذَا سُنَّ فِيهِ غَيْرُهُ انْتَهَى كَلَامُهُ مَعَ أَنَّ فِي هَذَا الْخَبَرِ كَلَامًا وَبَعْضُهُ فِي حَوَاشِي الْأَحْكَامِ وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ دَعَوْتُ يُونُسَ بْنَ زَيْدٍ فِي

عُرْسِي فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ سَمِعْتُ ابْنَ شِهَابٍ يَقُولُ فِي عُرْسٍ لِصَاحِبِهِ بِالْجَدِّ الْأَسْعَدِ وَالطَّائِرِ الْأَيْمَنِ قَالَ وَهَذِهِ تَهْنِئَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ. وَلِأَنَّ الشَّارِعَ نَهَى عَنْ الِابْتِدَاءِ يَقُولُ عَلَيْكُمْ السَّلَامُ وَمَعَ هَذَا رَدَّهُ أَبُو دَاوُد وَقَدْ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِيهِ يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ وَأَوْجَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ رَدَّهُ مَعَ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَلَمْ يَجْرِ بِهِ عُرْفٌ لَا عَنْهُ وَلَا عَنْ حَمَلَةِ الشَّرْعِ فَمَا نَحْنُ فِيهِ أَوْلَى وَهَذَا الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ فَإِنَّهُ قَالَ يَجِبُ الْعَدْلُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَيَجِبُ لِكُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ قَالَ وَلِشُمُولِ الْعَدْلِ لِكُلٍّ قَالَ تَعَالَى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] . قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ أَظُنُّهُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَنَفِيَّةِ هِيَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ يَعْنِي أَنَّ الْمُحْسِنَ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُجْزَى بِالْإِحْسَانِ وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا لِأَنَّهُ مِنْ الْعَدْلِ وَالْعَدْلُ وَاجِبٌ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] . فَرَدُّ مِثْلِهَا عَدْلٌ وَالْعَدْلُ وَاجِبٌ، وَالتَّحِيَّةُ بِأَحْسَنَ مِنْهَا فَضْلٌ وَالْفَضْلُ مُسْتَحَبٌّ. وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي " عَلَيْكُمْ السَّلَامُ " مَا سَبَقَ وَقَالَ فِي مَسْأَلَتِنَا لَا يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِصِحَّةِ النَّهْيِ فِي عَلَيْكُمْ السَّلَامُ وَلَا نَهْيَ فِي مَسْأَلَتِنَا وَإِنْ كَانَ فَلِلتَّأْدِيبِ لِيَتَعَلَّمَ السَّلَامَ الْمَشْهُورَ وَلِهَذَا لَا يُقَالُ بِالْكَرَاهَةِ فِي مَسْأَلَتِنَا بَلْ قَدْ يُقَالُ: تَرَكَ الْأَوْلَى. فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ مَأْخُوذَيْنِ مِنْ كَلَامِ الْإِمَامِ وَالْأَصْحَابِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَإِنَّهَا مُحْتَمِلَةٌ لِوَجْهَيْنِ مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل في النهي عن تحية الجاهلية وما هي

[فَصْلٌ فِي النَّهْيِ عَنْ تَحِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا هِيَ] قَالَ أَبُو دَاوُد فِي الْأَدَبِ مِنْ سُنَنِهِ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأْنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ أَوْ غَيْرِهِ عَنْ «عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ كُنَّا نَقُولُ فِي: الْجَاهِلِيَّةِ: أَنْعَمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا. وَأَنْعَمَ صَاحِبًا فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ نُهِينَا عَنْ ذَلِكَ» قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ مَعْمَرٌ يُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ أَنْعَمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَقُولَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَيْنَيْكَ. فَهَذِهِ مِنْ أَبِي دَاوُد تَدُلُّ عَلَى اخْتِيَارِهِ لِذَلِكَ وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ إمَامِنَا أَحْمَدَ فَاخْتِيَارُهُ يُعَدُّ مِنْ مَذْهَبِهِ كَاخْتِيَارِ غَيْرِهِ وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا ذَكَرَ هَذَا غَيْرُهُ إنْ كَانَ ذِكْرُ قَتَادَةَ مَحْفُوظًا فَهُوَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عِمْرَانَ، وَغَيْرِ قَتَادَةَ مَجْهُولٌ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ فِي حَدِيثِ مُطَرِّفٍ: وَلَا تَقُلْ نَعِمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَنْعَمُ بِأَحَدٍ عَيْنًا وَلَكِنْ قُلْ أَنْعَمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ الَّذِي مَنَعَ مِنْهُ مُطَرِّفٌ صَحِيحٌ (فَصِيحٌ) فِي كَلَامِهِمْ، وَعَيْنًا نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ مِنْ الْكَافِ، وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ وَالْمَعْنَى نَعَّمَكَ اللَّهُ عَيْنًا أَيْ نَعَّمَ عَيْنَكَ وَأَقَرَّهَا. وَقَدْ يَحْذِفُونَ الْجَارَّ وَيُوصِلُونَ الْفِعْلَ فَيَقُولُونَ نَعِمَكَ اللَّهُ عَيْنًا وَأَمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا فَالْبَاءُ فِيهِ زَائِدَةٌ لِأَنَّ الْهَمْزَةَ كَافِيَةٌ فِي التَّعْدِيَةِ تَقُولُ نَعِمَ زَيْدٌ عَيْنًا وَأَنْعَمَهُ اللَّهُ عَيْنًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَنْعَمَ إذَا دَخَلَ فِي النَّعِيمِ فَيُعَدَّى بِالْبَاءِ (قَالَ) وَلَعَلَّ مُطَرِّفًا خُيِّلَ إلَيْهِ أَنَّ انْتِصَابَ الْمُمَيِّزِ فِي هَذَا الْكَلَامِ عَنْ الْفَاعِلِ فَاسْتَعْظَمَهُ تَعَالَى اللَّهُ أَنْ يُوصَفَ بِالْحَوَاسِّ عُلُوًّا كَبِيرًا كَمَا يَقُولُونَ نَعِمْتُ بِهَذَا الْأَمْرِ عَيْنًا وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، فَحَسِبَ أَنَّ الْأَمْرَ فِي نَعِمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا كَذَلِكَ انْتَهَى كَلَامُهُ وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ أَنْعَمَ اللَّهُ صَبَاحَكَ مِنْ النُّعُومَةِ وَأَنْعَمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا أَيْ أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَكَ بِمَنْ تُحِبُّهُ، وَكَذَلِكَ نَعِمَ اللَّهُ.

بِكَ عَيْنًا نِعْمَةً مِثْلُ غَلِمَ غُلْمَةً وَنَزِهَ نُزْهَةً وَنِعَمَكَ عَيْنًا مِثْلَهَا. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَيُتَوَجَّهُ أَنَّ النَّهْيَ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ إمَّا لِأَنَّهُ كَلَامٌ جَاهِلِيٌّ فَيَنْبَغِي هَجْرُهُ وَتَرْكُهُ، وَإِمَّا أَنَّهُمْ رُبَّمَا جَعَلُوهُ عِوَضًا وَبَدَلًا مِنْ تَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ (السَّلَامُ) لِاعْتِيَادِهِمْ لَهُ وَإِلْفِهِمْ إيَّاهُ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل يكره قول أبقاك الله في السلام

[فَصْلٌ يُكْرَهُ قَوْلُ أَبْقَاكَ اللَّهُ فِي السِّلَامِ] قَالَ الْخَلَّالُ فِي الْأَدَبِ: كَرَاهِيَةُ قَوْلِهِ فِي السَّلَامِ أَبْقَاك اللَّهُ. أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ رَأَيْتُ أَبِي إذَا دُعِيَ لَهُ بِالْبَقَاءِ يَكْرَهُهُ وَيَقُولُ هَذَا شَيْءٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ وَقَالَ إِسْحَاقُ جِئْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بِكِتَابٍ مِنْ خُرَاسَانَ فَإِذَا عِنْوَانُهُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَبْقَاهُ اللَّهُ فَأَنْكَرَهُ وَقَالَ أَيْشٍ هَذَا؟ وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّهُ يُكْرَهُ ذَلِكَ وَأَنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ. وَاحْتَجَّ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَغَيْرُهُ فِي هَذَا بِحَدِيثِ «أُمِّ حَبِيبَةَ لَمَّا سَأَلَتْ أَنْ يُمَتِّعَهَا اللَّهُ بِزَوْجِهَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِأَبِيهَا أَبِي سُفْيَانَ وَبِأَخِيهَا مُعَاوِيَةَ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّكِ سَأَلْتِ اللَّهَ لِآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ، وَآثَارٍ مَوْطُوءَةٍ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لَا يُعَجَّلُ مِنْهَا شَيْءٌ قَبْلَ حِلِّهِ، وَلَا يُؤَخَّرُ مِنْهَا شَيْءٌ بَعْدَ حِلِّهِ، وَلَوْ سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ وَعَذَابٍ فِي الْقَبْرِ كَانَ خَيْرًا لَكِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَهُ فِي رِوَايَةٍ «وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ» فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «وَآثَارٍ مَبْلُوغَةٍ» (حِلِّهِ) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا. وَعَنْ ثَوْبَانَ مَرْفُوعًا «إنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ وَإِنَّهُ لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إلَّا الْبِرُّ» رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ ثَوْبَانَ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ وَكِيعٍ، كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدٍ الرَّازِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ يَعْقُوبَ الطَّالَقَانِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ الضُّرَيْسِ عَنْ أَبِي مَوْدُودٍ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إلَّا الدُّعَاءُ وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إلَّا الْبِرُّ» إسْنَادٌ جَيِّدٌ قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى وَأَبُو مَوْدُودٍ هَذَا اسْمُهُ فِضَّةُ.

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْكُتَّابُ: وَمِنْ الِاصْطِلَاحِ الْمُحْدَثِ كَتْبُهُمْ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَ سَيِّدِنَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ لَا أَدْرِي مِمَّنْ أَخَذُوا هَذَا وَزَعَمُوا أَنَّهُ أَجَلُّ الدُّعَاءِ وَنَحْنُ نَدْعُو رَبَّ الْعَالَمِينَ عَلَى غَيْرِ هَذَا، وَمَعَ هَذِهِ فَفِيهِ انْقِلَابُ الْمَعْنَى قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ إنِّي لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ النَّحْوِيِّينَ أَعْرَفَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْهُ سَيُسِيءُ مِنْ عَلِيِّ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَةِ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ أَيْضًا وَمِنْ الِاصْطِلَاحِ الْمُحْدَثِ كَتْبُهُمْ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ، وَقَدْ حَكَى إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ دُعَاءٌ مُحْدَثٌ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى هَذَا بِأَنَّ الْكُتُبَ الْمُتَقَدِّمَةَ كُلَّهَا لَا يُوجَدُ فِيهَا هَذَا الدُّعَاءُ غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَهُ الزَّنَادِقَةُ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ أَيْضًا: رَأَيْتُ عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمَانَ يُنْكِرُ كَتْبَهُمْ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَ سَيِّدِي وَقَالَ هَذَا دُعَاءُ الْغَائِبِ وَهُوَ جَهْلٌ بِاللُّغَةِ، وَنَحْنُ نَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِالْمُخَاطَبَةِ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ أَجَلُّ الدُّعَاءِ لِأَنَّ الْعِزَّ وَمَا بَعْدَهُ إنَّمَا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ طُولِ الْبَقَاءِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ أَفْخَمُ الدُّعَاءِ فَلِذَلِكَ قَدَّمُوهُ وَاتَّبَعُوهُ، وَأَدَامَ عِزَّكَ لِأَنَّهُ إذَا دِيمَ عِزُّهُ كَانَ مَحُوطًا مَصُونًا غَالِبًا لِعَدُوِّهِ آمِنًا غَنِيًّا فَاتَّبَعُوهُ، " وَتَأْيِيدَكَ ". لِأَنَّ مَعْنَاهُ وَزَادَ مِمَّا دَعَوْتُ لَكَ بِهِ، وَأَصْلُهُ مِنْ أَيَّدَهُ أَيْ قَوَّاهُ " وَسَعَادَتَكَ " أَصْلُهُ مِنْ الْمُسَاعَدَةِ أَيْ أَنْ يُسَاعِدَ عَلَى مَا يُرِيدُهُ. وَهَذَا كُلُّهُ أَجَلُّ مِنْ " وَأَكْرَمَكَ " لِأَنَّهُ قَدْ يُكْرَمُ وَلَا يُسَاعَدُ وَقَدْ قِيلَ إنَّهُ كَانَ أَعَزَّكَ جَلِيلًا ثُمَّ حَدَثَ وَتَأْيِيدُكَ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ أَيْضًا مِنْهُمْ مَنْ كَرِهَ أَنْ يُكْتَبُ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ يَعْنِي الْمَذْكُورَ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَخَّصَ فِي ذَلِكَ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي الْيُسْرِ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو «اللَّهُمَّ أَمْتِعْنَا بِهِ» وَمَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَهُوَ آخِرُ أَهْلِ بَدْرٍ وَفَاةً. وَبِحَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ «اللَّهُمَّ أَمْتِعْنِي بِسَمْعِي وَبَصَرِي» كَذَا قَالَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَلَا بِحَضْرَتِي الْآنَ إلَّا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَفِيهِ «وَاجْعَلْهُ

الْوَارِثَ مِنِّي» . وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «اللَّهُمَّ أَمْتِعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنِّي» وَذُكِرَ الْحَدِيثُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ. وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي جَسَدِي وَعَافِنِي فِي بَصَرِي وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنِّي» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ غَرِيبٌ وَسَمِعْتُ مُحَمَّدًا يَقُولُ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ شَيْئًا. وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ «اللَّهُمَّ فَالِقَ الْإِصْبَاحِ وَجَاعِلَ اللَّيْلِ سَكَنًا وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ حُسْبَانًا اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَأَغْنِنِي مِنْ الْفَقْرِ وَأَمْتِعْنِي بِسَمْعِي وَبَصَرِي وَقُوَّتِي فِي سَبِيلِكَ» رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مُرْسَلًا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَأَمَّا مَا أَشْكَلَ مِنْ هَذَا لِأَنَّ الْعُمُرَ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ فَالْجَوَابُ أَنَّ الدُّعَاءَ مُعَلَّقٌ بِمَا فِيهِ الصَّلَاحُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَذَا أَنْسَأَ اللَّهُ فِي أَجَلِكَ وَنَسَأَ اللَّهُ أَجَلَكَ قَالَ وَقِيلَ الدُّعَاءُ بِهَذَا مَعْنَاهُ التَّوْسِعَةُ وَالْغِنَى وَرُوِيَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّ مُكَاتَبَةَ الْمُسْلِمِينَ: كَانَتْ مِنْ فُلَانٍ إلَى فُلَانٍ سَلَامٌ عَلَيْكَ، أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَحْمَدُ إلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَأَسْأَلُهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ. ثُمَّ إنَّ الزَّنَادِقَةَ أَحْدَثُوا هَذِهِ الْمُكَاتَبَاتِ، أَوَّلُهَا أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ وَقَالَ غَيْرُهُ كَانَ يُدْعَى لِلْخُلَفَاءِ الْغَابِرِينَ أَمَّا بَعْدُ حَفِظَ اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَمْتَعَ بِهِ، وَأَمَّا بَعْدُ أَبْقَى اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَمَّا بَعْدُ أَكْرَمَ اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَحَفِظَهُ وَزَعَمَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ رَسَمَ الدُّعَاءَ مُعَاوِيَةُ كَتَبَ إلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ: عَافَانَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ مِنْ السُّوءِ. ثُمَّ زَادَ النَّاسُ. فَمِمَّا يُكَاتَبُ بِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ فَمَنْ يَسْتَحْسِنُ أَنْ يُكَاتِبَ بِطُولِ الْبَقَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي بِذَلِكَ مُطْلَقًا وَلَكِنْ يُضَمِّنُهُ بِشَيْءٍ آخَرَ فَيَكْتُبُ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ فِي طَاعَتِهِ وَسَلَامَتِهِ وَكِفَايَتِهِ، وَأَعْلَى جَدَّكَ وَصَانَ قَدْرَكَ وَكَانَ مَعَكَ وَلَكَ حَيْثُ لَا تَكُونُ لِنَفْسِكَ. وَكَذَا يَكْتُبُ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ فِي أَسَرِّ عَيْشٍ وَأَنْعَمِ بَالٍ، وَخَصَّكَ مِنْهُ بِالتَّوْفِيقِ بِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى وَحَيَّاكَ بِرُشْدِهِ، وَقَطَعَ بَيْنَكَ

وَبَيْنَ مَعَاصِيهِ بِلُطْفِهِ. وَمَنِّهِ، أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ بِمَا أَطَالَ بِهِ بَقَاءَ الْمُطِيعِينَ وَأَعْطَاكَ مِنْ الْعَطَاءِ بِمَا أَعْطَى الْمُصْلِحِينَ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُضَمِّنُهُ بِشَيْءٍ إلَّا أَنَّهُ يَدْعُو بِغَيْرِ دُعَاءِ الْكُتَّابِ فَيَقُولُ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ وَأَكْرَمَ مَثْوَاكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْتَجِيزُ الدُّعَاءَ بِطُولِ الْبَقَاءِ وَيَكْتُبُ أَكْرَمَكَ اللَّهُ بِطَاعَتِهِ وَتَوَلَّاكَ بِحِفْظِهِ وَحُسْنِ كِلَاءَتِهِ، وَأَسْعَدَكَ بِمَغْفِرَتِهِ، وَأَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ. وَجَمَعَ لَكَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِرَحْمَتِهِ، وَفِي مِثْلِهِ: تَوَلَّاكَ اللَّهُ مَنْ يُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إلَّا بِإِذْنِهِ وَكَانَ لَكَ مَنْ هُوَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ، وَمِثْلُهُ: أَكْرَمَكَ اللَّهُ وَأَكْرَمَ عَنْ النَّارِ وَجْهَكَ، وَزَيَّنَ بِالتَّقْوَى عَمَلَكَ وَمِثْلُهُ أَكْرَمَكَ اللَّهُ كَرَامَةً تَكُونُ لَكَ فِي الدُّنْيَا عِزًّا، وَفِي الْآخِرَةِ مِنْ النَّارِ حِرْزًا. وَسُئِلَ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ مَعْنَى " أَمَّا بَعْدُ " فَذَكَرَ قَوْلَ سِيبَوَيْهِ: مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ إذَا كَانَ الرَّجُلُ فِي حَدِيثٍ وَأَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ بِغَيْرِهِ قَالَ أَمَّا بَعْدُ وَعَلَى هَذَا النَّحْوِيُّونَ وَلِهَذَا لَمْ يُجِيزُوا فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ أَمَّا بَعْدُ، وَقِيلَ أَمَّا بَعْدُ. فَصْلُ الْخِطَابِ الَّذِي أُوتِيهِ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ، وَقِيلَ بَلْ هُوَ عِلْمُ الْقَضَاءِ، وَقِيلَ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ كَعْبُ بْنُ لُؤَيٍّ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَمَّى يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ الْعُرُوبَةُ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ أَمَّا بَعْدًا بِالنَّصْبِ وَالتَّنْوِينِ، وَأَمَّا بَعْدٌ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ، وَأَجَازَ ابْنُ هِشَامٍ أَمَّا بَعْدَ بِفَتْحِ الدَّالِ، وَيَقُولُ أَمَّا بَعْدُ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ فَإِنِّي نَظَرْتُ فِي كَذَا وَأَجْوَدُ مِنْهُ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي نَظَرْتُ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ. وَلَك أَنْ تَقُولَ أَمَّا بَعْدُ فَأَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ إنِّي، وَفَإِنِّي، وَإِنِّي، وَثُمَّ إنِّي، وَأَمَّا بَعْدُ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ فَإِنِّي، وَأَمَّا بَعْدُ ثُمَّ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ ثُمَّ إنِّي، وَبَقَاؤُكَ مَصْدَرٌ مِنْ بَقِيَ، وَإِنْ أَخَذْتُهُ مِنْ أَبْقَى قُلْتُ أَبْقَاكَ اللَّهُ فَإِنْ ثَنَّيْتَ بَقَاءً أَوْ جَمَعْتَهُ قُلْتَ بَقَاءَكُمَا وَبَقَاءَكُمْ وَبَقَاءَكُنَّ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ وَإِنْ جَعَلْتَ بَقَاءً مُخَالِفًا لِبَقَاءٍ قُلْتَ بَقَاءً كَمَا وَأَبْقَيْتُمْ.

وَيُكْتَبُ فِي الدُّعَاءِ الْآخَرِ وَأَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ بِالْوَاوِ، وَالْفَائِدَةُ فِي الْمَجِيءِ بِالْوَاوِ الْإِعْلَامُ بِأَنَّكَ لَمْ تَضْرِبْ عَنْ الْأَوَّلِ، وَلَوْ حَذَفْتَهَا جَازَ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّكَ قَدْ أَضْرَبْتَ عَنْ الْأَوَّلِ، وَهَذَا مِنْ جِنْسِ قَوْلِ النَّحْوِيِّينَ فِي الْفَائِدَةِ فِي الْمَجِيءِ بِوَاوِ الْعَطْفِ مَعَ الْجُمَلِ، وَإِنَّ حَذْفَهَا أَيْضًا جَائِزٌ لِأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ الْمَعْنَى. وَكَذَا وَحَسْبِي اللَّهُ، وَإِنْ شِئْتَ حَذَفْتَ الْوَاوَ، فَأَمَّا حَسْبُنَا اللَّهُ فَإِنَّمَا يَكْتُبُ بِهِ الْجَلِيلُ مِنْ النَّاسِ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكْتُبَ حَسْبِي اللَّهُ تَوَاضُعًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَيَسْتَعْمِلُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي فُنُونِهِ مَعْنَى هَذَا فَيَقُولُ حَضَرْتُ بِمَجْلِسِ الْأَجَلِّ قَاضِي الْقُضَاةِ حَرَسَ اللَّهُ نِعَمَهُ وَأَطَالَ عُمُرَهُ. وَرَوَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادِهِمْ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ جَلَسَ إلَى عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَذَاكَرُوا الْعَزْلَ فَقَالُوا لَا بَأْسَ بِهِ فَقَالَ رَجُلٌ إنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ الْمَوْءُودَةُ الصُّغْرَى، فَقَالَ عَلِيٌّ لَا يَكُونُ مَوْءُودَةً حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْهِ التَّارَاتُ السَّبْعُ حَتَّى يَكُونَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ تَكُونَ نُطْفَةً ثُمَّ تَكُونَ عَلَقَةً ثُمَّ تَكُونَ مُضْغَةً ثُمَّ تَكُونَ عَظْمًا ثُمَّ تَكُونَ لَحْمًا ثُمَّ تَكُونَ خَلْقًا آخَرَ، فَقَالَ عُمَرُ صَدَقْتَ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ قَالَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا وَبِهَذَا احْتَجَّ مَنْ احْتَجَّ عَلَى جَوَازِ الدُّعَاءِ لِلرَّجُلِ بِطُولِ الْبَقَاءِ.

فصل في كراهية قول أمتع الله بك في الدعاء

[فَصْلٌ فِي كَرَاهِيَةِ قَوْلِ أَمْتَعَ اللَّهُ بِكَ فِي الدُّعَاءِ] قَالَ الْخَلَّالُ (كَرَاهِيَةُ قَوْلِهِ فِي الدُّعَاءِ أَمْتَعَ اللَّهُ بِكَ) قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ سَمِعْتُ سُفْيَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ أَمْتَعَ اللَّهُ بِكَ قَالَ أَحْمَدُ لَا أَدْرِي مَا هَذَا قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ كَمَا قَالَ. [فَصْلٌ قَوْلُهُمْ فِي السَّلَامِ وَالْكِتَابِ جُعِلْتُ فِدَاءَكَ وَفِدَاكَ أُمِّي وَأَبِي وَنَحْوُهُ] قَالَ الْخَلَّالُ (كَرَاهِيَةُ قَوْلِهِ فِي السَّلَامِ جُعِلْتُ فِدَاءَكَ) قَالَ بِشْرُ بْنُ مُوسَى سَأَلَ رَجُلٌ وَأَنَا أَسْمَعُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ جُعِلْتُ فِدَاءَكَ فَقَالَ: لَا تَقُلْ هَكَذَا فَإِنَّ هَذَا مَكْرُوهٌ وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ مِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثٍ يُرْوَى عَنْ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَالَ هَذَا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ أَوْلَى مِنْهُ لِصِحَّةِ غَيْرِهِ ثُمَّ رَوَاهُ بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَك، وَذَكَرَهُ أَيْضًا عَنْ غَيْرِهِ قَالَ وَقَدْ قَالَ حَسَّانُ: فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَتِي وَعِرْضِي ... لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ «أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لَيْلَةٍ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَك مَرَّتَيْنِ» فِي الْخَبَرِ الَّذِي فِيهِ «أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لَهُ بَشِّرْ أُمَّتَكَ أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ فَقُلْت يَا جِبْرِيلُ وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى قَالَ نَعَمْ قَالَ أَبُو ذَرٍّ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى قَالَ نَعَمْ قُلْت وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى قَالَ نَعَمْ وَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ» .

وَقَالَ الْخَلَّالُ (قَوْلُهُ فِي السَّلَامِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي) قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: يُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي قَوْلُهُمْ قَالَ أَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاك، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَقُولَ فِدَاك أَبِي وَأُمِّي. وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي» وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفِدَاءٍ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا هُوَ بِرٌّ وَإِعْلَامٌ بِمَحَبَّتِهِ وَمَنْزِلَتِهِ عِنْدَهُ، وَكَرِهَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَالْحَسَنُ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ. وَكَرِهَهُ بَعْضُهُمْ فِي التَّفْدِيَةِ مِنْ الْمُسْلِمِ بِأَبَوَيْهِ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد (بَابٌ فِي الرَّجُلِ يَقُولُ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ) ثُمَّ رُوِيَ عَنْ مُوسَى بْنِ إسْمَاعِيلَ عَنْ حَمَّادٍ وَعَنْ مُسْلِمٍ عَنْ هِشَامٍ جَمِيعًا عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو ذَرٍّ فَقُلْت لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا فِدَاؤُكَ» إسْنَادٌ جَيِّدٌ. «وَنَادَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَالًا وَقَالَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَأَنَا فِدَاؤُك» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هَمَّامٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ تَفَرَّدَ عَنْهُ يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفِهْرِيِّ قَالَ شَهِدْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُنَيْنًا الْحَدِيثَ وَصَحَّ أَنَّ «أَبَا قَتَادَةَ لَزِمَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ حَفِظَك اللَّهُ بِمَا حَفِظْت بِهِ نَبِيَّهُ» وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَضْحَكُ فَقَالَ أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّك» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ.

فصل في سنة الاستئذان في الدخول على الناس

[فَصْلٌ فِي سُنَّةِ الِاسْتِئْذَانِ فِي الدُّخُولِ عَلَى النَّاسِ] يُسَنُّ أَنْ يُسْتَأْذَنَ فِي الدُّخُولِ عَلَى غَيْرِهِ ثَلَاثًا فَقَطْ قَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَيَجُوزُ ثَلَاثًا وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ جَمَاعَةٍ وَقِيلَ يَجِبُ ذَلِكَ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَالسَّامِرِيُّ وَابْنُ تَمِيمٍ وَلَا وَجْهَ لِحِكَايَةِ الْخِلَافِ فَيَجِبُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى غَيْرِ زَوْجَةٍ وَأَمَةٍ ثُمَّ قَالَ الْأَصْحَابُ عَلَى الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ. وَقَدْ رَوَى سَعِيدٌ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ عَلَى وَالِدَتِهِ فَلْيَسْتَأْذِنْ، ثُمَّ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوُ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي قَالَ نَعَمْ فَأَمَرَ أَنْ يَسْتَأْذِنَ عَلَيْهَا» ، مُرْسَلٌ جَيِّدٌ وَهُوَ فِي الْمُوَطَّأِ. وَصَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَمْ يُؤْمَرْ بِهَا أَكْثَرُ النَّاسِ (آيَةُ الْإِذْنِ) وَإِنِّي لَآمُرُ جَارِيَتِي هَذِهِ تَسْتَأْذِنُ عَلَيَّ وَصَحَّ عَنْهُ أَيْضًا وَقِيلَ كَيْفَ تَرَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي أُمِرْنَا فِيهَا بِمَا أُمِرْنَا وَلَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ؟ : {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور: 58] إلَى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: 58] . قَالَ إنَّ اللَّهَ حَكِيمٌ رَءُوفٌ بِالْمُؤْمِنِينَ يُحِبُّ التَّسَتُّرَ وَكَانَ النَّاسُ لَيْسَ لِبُيُوتِهِمْ سُتُورٌ وَلَا حِجَالٌ فَرُبَّمَا دَخَلَ الْخَادِمُ أَوْ الْوَلَدُ أَوْ يَتِيمَةُ الرَّجُلِ أَوْ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالِاسْتِئْذَانِ فِي تِلْكَ الْعَوْرَاتِ فَجَاءَهُمْ اللَّهُ بِالسُّتُورِ وَالْخَيْرِ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَعْمَلُ بِذَلِكَ بَعْدُ. الْحِجَالِ جَمْعُ حَجَلَةٍ بِالتَّحْرِيكِ بَيْتٌ كَالْقُبَّةِ يَسْتُرُ الثِّيَابَ وَلَهُ أَزْرَارٌ كِبَارٌ.

قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ وَأَنَّهُ أَصَحُّ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59] . لِأَنَّ الْبَالِغَ يَسْتَأْذِنُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَالطِّفْلَ وَالْمَمْلُوكَ يَسْتَأْذِنُ فِي الْعَوْرَاتِ الثَّلَاثِ وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَيْضًا أَنَّ الْبُيُوتَ الْخَالِيَةَ هَلْ دَخَلَتْ فِي آيَةِ الْأَمْرِ بِالِاسْتِئْذَانِ ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} [النور: 29] . أَمْ لَمْ تَدْخُلْ لِأَنَّ الْإِذْنَ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْ غَيْرِ آذِنٍ، فَإِذَا بَطَلَ الِاسْتِئْذَانُ لَمْ تَكُنْ الْبُيُوتُ الْخَالِيَةُ دَاخِلَةً فِي الْأُولَى عَلَى قَوْلَيْنِ وَأَنَّ الثَّانِيَ أَصَحُّ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَيْضًا لَا يَجُوزُ أَنْ تَدْخُلَ بَيْتَ غَيْرِك إلَّا بِالِاسْتِئْذَانِ لِهَذِهِ الْآيَةِ يَعْنِي: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] . (وَمَعْنَى تَسْتَأْنِسُوا) تَسْتَأْذِنُوا وَفِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ. وَلَا يُوَاجِهُ الْبَابَ فِي اسْتِئْذَانِهِ لِأَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَامَ مُسْتَقْبِلَ الْبَابَ فَقَالَ لَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «هَكَذَا عَنْك وَهَكَذَا فَإِنَّمَا الِاسْتِئْذَانُ مِنْ النَّظَرِ» وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «إذَا دَخَلَ الْبَصَرُ فَلَا إذْنَ» حَدِيثَانِ حَسَنَانِ رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ. فَإِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتَهُ وَإِلَّا زَادَ حَتَّى يَعْلَمَ أَوْ يَظُنَّ أَنَّهُ سَمِعَ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ وَإِلَّا رَجَعَ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ فَلَا يَقِفُ عَلَى الْبَابِ وَيُلَازِمُهُ لِلْآيَةِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا «إذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ» وَقِيلَ لَا يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثٍ مُطْلَقًا قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ بَعْضِ الْأَصْحَابِ، وَقَدْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ

سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الِاسْتِئْذَانِ فَقَالَ إذَا اسْتَأْذَنَ ثَلَاثًا رَجَعَ وَالِاسْتِئْذَانُ السَّلَامُ، فَظَاهِرُهُ كَهَذَا الْقَوْلِ وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى مَنْ لَمْ يَظُنَّ. وَحَجَبَ مُعَاوِيَةُ أَبَا الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَوْمًا وَأَجْلَسَهُ عِنْدَ بَابِهِ فَقِيلَ يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ يُفْعَلُ هَذَا بِك وَأَنْتَ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَ مَنْ يَأْتِي أَبْوَابَ السُّلْطَانِ يَقُمْ وَيَقْعُدْ. وَاسْتَأْذَنَ أَبُو سُفْيَانَ عَلَى عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَأَبْطَأَ إذْنَهُ فَقِيلَ: حَجَبَك أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ لَا عَدِمْت مِنْ قَوْمِي مَنْ إذَا شَاءَ حَجَبَ. وَقَالَ مَرْوَانُ لِابْنِهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ حِينَ وَلَّاهُ مِصْرَ: يَا بُنَيَّ مُرْ حَاجِبَك يُخْبِرْك مَنْ حَضَرَ بَابَك كُلَّ يَوْمٍ فَتَكُونُ أَنْتَ تَأْذَنُ وَتَحْجُبُ، وَآنِسْ مَنْ دَخَلَ إلَيْك بِالْحَدِيثِ فَيَنْبَسِطَ إلَيْك، وَلَا تُعَجِّلْ بِالْعُقُوبَةِ إذَا أَشْكَلَ عَلَيْكَ الْأَمْرُ فَإِنَّك عَلَى الْعُقُوبَةِ أَقْدَرُ مِنْك عَلَى ارْتِجَاعِهَا. وَأَقَامَ رَجُلٌ عَلَى بَابِ كِسْرَى فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَقَالَ لَهُ الْحَاجِبُ اُكْتُبْ كِتَابًا وَخَفِّفْهُ أُوصِلْهُ لَك فَقَالَ لَا أَزِيدُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْطُرٍ فَكَتَبَ فِي السَّطْرِ الْأَوَّلِ الضَّرُورَةُ وَالْأَمَلُ أَقْدَمَانِي عَلَى الْمَلِكِ، وَفِي السَّطْرِ الثَّانِي لَيْسَ لِي صَبْرٌ عَلَى الطَّلَبِ، وَفِي السَّطْرِ الثَّالِثِ الرُّجُوعُ بِلَا إفَادَةٍ شَمَاتَةُ الْأَعْدَاءِ، وَفِي السَّطْرِ الرَّابِعِ أَمَّا " نَعَمْ " مُثْمِرَةٌ وَأَمَّا " لَا " مُؤَيِّسَةٌ فَوَضَعَ كِسْرَى تَحْتَ كُلِّ سَطْرٍ " ز " فَانْصَرَفَ بِسِتَّةَ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ. قَالَ الشَّاعِرُ: يَزْدَحِمُ النَّاسُ عَلَى بَابِهِ ... وَالْمَشْرَبُ الْعَذْبُ كَثِيرُ الزِّحَامِ وَقَالَ آخَرُ: وَإِنِّي لَأَرْثِي لِلْكَرِيمِ إذَا غَدَا ... عَلَى طَمَعٍ عِنْدَ اللَّئِيمِ يُطَالِبُهْ وَأَرْثِي لَهُ مِنْ وَقْفَةٍ عِنْدَ بَابِهِ ... كَمَرْثِيَّتِي لِلطِّرْفِ وَالْعِلْجُ رَاكِبُهْ كَتَبَ رَجُلٌ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ: إذَا كَانَ الْجَوَادُ لَهُ حِجَابٌ ... فَمَا فَضْلُ الْجَوَادِ عَلَى الْبَخِيلِ فَأَجَابَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ: إذَا كَانَ الْجَوَادُ قَلِيلَ مَالٍ ... وَلَمْ يُعَلِّلْ تَعَذَّرَ بِالْحِجَابِ

وَقِيلَ لِحَاجِبٍ: سَأَتْرُكُ بَابًا أَنْتَ تَمْلِكُ إذْنَهُ ... وَإِنْ كُنْت أَعْمَى مِنْ جَمِيعِ الْمَسَالِكِ فَلَوْ كُنْت بَوَّابَ الْجِنَانِ تَرَكْتُهَا ... وَحَوَّلْتُ رِجْلِي مُسْرِعًا نَحْوَ مَالِكِ وَقَالَ مَحْمُودُ الْوَرَّاقُ: سَأَتْرُكُ هَذَا الْبَابَ مَا دَامَ إذْنُهُ ... كَعَهْدِي بِهِ حَتَّى يَلِينَ قَلِيلَا وَمَا خَابَ مَنْ لَمْ يَأْتِهِ مُتَعَمِّدَا ... وَلَا فَازَ مَنْ قَدْ نَالَ مِنْهُ وُصُولَا وَمَا جُعِلَتْ أَرْزَاقُنَا بِيَدِ امْرِئٍ ... حَمَى بَابَهُ مِنْ أَنْ يُنَالَ دُخُولَا إذَا لَمْ أَجِدْ فِيهِ إلَى الْإِذْنِ سُلَّمَا ... وَجَدْت إلَى تَرْكِ الْمَجِيءِ سَبِيلَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ رَفَعَ حَاجَةَ ضَعِيفٍ إلَى ذِي سُلْطَانٍ لَا يَسْتَطِيعُ رَفْعَهَا ثَبَّتَ اللَّهُ قَدَمَيْهِ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ لِلَّهِ عِبَادًا خَلَقَهُمْ لِحَوَائِجِ النَّاسِ هُمْ الْآمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةَ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اُطْلُبُوا الْخَيْرَ عِنْدَ حِسَانِ الْوُجُوهِ» كَذَا يَذْكُرُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِثْلَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَأَحْسَنُ أَحْوَالِهَا أَنْ تَكُونَ ضَعِيفَةً إنْ لَمْ تَكُنْ مَوْضُوعَةً لَكِنْ لَوْ اعْتَقَدَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لَمْ يَذْكُرْهَا فِي التَّرْغِيبِ وَالْفَضَائِلِ وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ فِي ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] . وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] . وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128] . وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» . وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ احْمِلْنِي قَالَ: لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُك عَلَيْهِ وَلَكِنْ ائْتِ فُلَانًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَحْمِلَك فَأَتَاهُ فَحَمَلَهُ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَالْخَبَرُ الْأَوَّلُ ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي حَدِيثِ صِفَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ وَكَانَ يَقُولُ: «أَبْلِغُونِي حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إبْلَاغَهَا فَإِنَّهُ مَنْ بَلَّغَ سُلْطَانًا حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إبْلَاغَهَا ثَبَّتَ اللَّهُ قَدَمَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَسَبَقَ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا، وَيَأْتِي فِي الشَّفَاعَةِ بِالْقُرْبِ مِنْ نِصْفِ الْكِتَابِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا. وَالدُّعَاءُ إلَى الْوَلِيمَةِ إذْنٌ فِي الدُّخُولِ وَفِي الْأَكْلِ ذَكَرَهُ فِي الْمُغْنِي وَغَيْرِهِ وَظَاهِرُ كَلَامِ أَكْثَرِهِمْ يَسْتَأْذِنُ الدُّخُولَ وَالْمَعْنَى يَقْتَضِيهِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا جَازِمًا بِهِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ. قَالَ أَبُو دَاوُد وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَجَاءَ مَعَ الرَّسُولِ فَذَلِكَ إذْنٌ لَهُ» . وَرُوِيَ قَبْلَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «رَسُولُ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ إذْنُهُ» وَتَرْجَمَ عَلَيْهِمَا فِي الِاسْتِئْذَانِ (بَابٌ فِي الرَّجُلِ يُدْعَى أَيَكُونُ ذَلِكَ إذْنَهُ؟) . «وَقَدْ دَعَا

النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ الصُّفَّةِ فَاقْبَلُوا فَاسْتَأْذَنُوا فَأَذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ، وَإِنْ دَخَلَ سَلَّمَ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَصِفَةُ الِاسْتِئْذَانِ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، زَادَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى وَالشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ: أَأَلِجُ؟ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ الْمُفَسِّرِينَ لِأَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَامِرٍ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي بَيْتٍ فَقَالَ: أَأَلِجُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِخَادِمِهِ " اُخْرُجْ إلَى هَذَا فَعَلِّمْهُ الِاسْتِئْذَانَ " فَقَالَ لَهُ: قُلْ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ؟ فَسَمِعَهُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ؟ فَأَذِنَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَخَلَ إسْنَادُهُ جَيِّدٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمَا. وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذَا تَقْدِيمُ السَّلَامِ عَلَى الِاسْتِئْذَانِ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ وَادَّعَى فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّ اسْتِحْبَابَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا صَرَّحَ بِهِ الْقُرْآنُ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ غَيْرُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ أَحْمَدَ: الِاسْتِئْذَانُ السَّلَامُ. قَالَ أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ الْفَضْلِ الْحَرَّانِيُّ فِي آخَرَيْنِ حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِشْرٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَتَى بَابَ قَوْمٍ لَمْ يَسْتَقْبِلْ الْبَابَ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ وَلَكِنْ مِنْ رُكْنِهِ الْأَيْمَنِ أَوْ الْأَيْسَرِ وَيَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَذَلِكَ أَنَّ الدُّورَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا يَوْمَئِذٍ سُتُورٌ» بَقِيَّةُ حَدِيثُهُ حَسَنٌ إذَا صَرَّحَ بِالسَّمَاعِ وَلَمْ يُدَلِّسْ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْيَحْصُبِيُّ، فَذَكَرَهُ وَمُحَمَّدٌ ثِقَةٌ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ صَفْوَانَ أَخْبَرَهُ «أَنَّ كَلَدَةَ بْنَ الْحَنْبَلِ أَخْبَرَهُ أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ بَعَثَهُ فِي الْفَتْحِ بِلِبَإٍ وَجَدَايَةٍ وَضَغَابِيسَ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَعْلَى الْوَادِي قَالَ: فَدَخَلْت عَلَيْهِ وَلَمْ أُسَلِّمْ وَلَمْ أَسْتَأْذِنْ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ارْجِعْ فَقُلْ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَدْخُلُ؟» وَذَلِكَ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ صَفْوَانُ. حَدِيثٌ جَيِّدٌ وَعَمْرُو بْنُ صَفْوَانَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَفِي لَفْظِهِ بِلَبَنٍ وَلَمْ يَقُلْ وَلَمْ أَسْتَأْذِنْ وَلَمْ يَزِدْ " أَدْخُلُ؟ " وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ. وَالْجَدَايَةُ مِنْ أَوْلَادِ الظِّبَاءِ مَا بَلَغَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَوْ سَبْعَةَ بِمَنْزِلَةِ الْجَدْيِ فِي أَوْلَادِ الْمُعِزِّ

وَالضَّغَابِيسُ صِغَارُ الْقِثَّاءِ وَاحِدَتُهَا ضُغْبُوسٌ، وَقِيلَ هُوَ نَبْتٌ يَنْبُتُ فِي أَصْلِ التَّمَامِ يُسْلَقُ بِالْخَلِّ وَالزَّيْتِ وَيُؤْكَلُ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَا أَكْثَرَ مَا يُلْقَى مِنْ النَّاسِ يَدُقُّونَ الْبَابَ فَيَقُولُونَ أَنَا أَنَا، أَلَا نَقُولُ أَنَا فُلَانٌ؟ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ يَقُولُ لِلْمُسْتَأْذِنِ عَلَيْهِ وَهُوَ جَابِرٌ أَنَا أَنَا» كَأَنَّهُ كَرِهَهَا وَلِيَزُولَ اللَّبْسُ فَذَكَرَ مَا يُمَيِّزُهُ مِنْ كُنْيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا كَقَوْلِ أُمِّ هَانِئٍ وَقَوْلِ أَبِي قَتَادَةَ: أَبُو قَتَادَةَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ طَرَقَ أَبِي الْبَابَ فَقِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَسَأَلَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْإِمَامَ أَحْمَدَ عَنْ شَيْءٍ فَذَكَرَهُ وَقَالَ لَهُ تَقُولُ قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إذَا لَمْ يُنْسَبْ الْإِنْسَانُ إلَى مَا لَا يَلِيقُ وَإِلَّا فَلَا يَبْعُدُ مَا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ وَلَا يَتَكَنَّى الرَّجُلُ عَلَى كُنْيَتِهِ إلَّا أَنْ تَكُونَ كُنْيَتُهُ أَشْهَرَ مِنْ اسْمِهِ فَيُكَنَّى عَلَى نَظِيرِهِ وَيَتَسَمَّى لِمَنْ فَوْقَهُ ثُمَّ يُلْحِقُ الْمَعْرُوفَ أَبَا فُلَانٍ أَوْ بِأَبِي فُلَانٍ وَلَا يَدُقُّ الْبَابَ بِعُنْفٍ لِنِسْبَةِ فَاعِلِهِ عُرْفًا إلَى قِلَّةِ الْأَدَب. وَسَبَقَ قَوْلُ أَحْمَدَ فِي أَوَائِلِ الْكِتَابِ فِي سَعَةِ الْكَلَامِ إذَا دُقَّ الشَّرْطُ. وَفِي مَعْنَاهُ الصِّيَاحُ الْعَالِي وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ لِلْمُسْتَأْذِنِ اُدْخُلْ بِسَلَامٍ فَهَلْ يَدْخُلُ؟ كَانَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ إذَا قِيلَ لَهُ ذَلِكَ قَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا قِيلَ ذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ حَكَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدَ وَعَلَّلَهُ ابْنُ عُمَرَ بِأَنَّهُ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَمْ يَدْرِ يَفِي بِهِ أَمْ لَا وَقَالَ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُحَرِّكَ نَعْلَهُ فِي اسْتِئْذَانِهِ عِنْدَ دُخُولِهِ حَتَّى إلَى بَيْتِهِ قَالَ أَحْمَدُ إذَا دَخَلَ عَلَى أَهْلِهِ يَتَنَحْنَحُ وَقَالَ مُهَنَّا سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يَدْخُلُ إلَى مَنْزِلِهِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَأْذِنَ قَالَ: يُحَرِّكُ نَعْلَهُ إذَا دَخَلَ وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ إنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَسْتَأْذِنُ الرَّجُلَ عَلَى أَهْلِهِ أَعْنِي زَوْجَتَهُ قَالَ: مَا أَكْرَهُ ذَلِكَ أَنْ أَسْتَأْذِنَ مَا يَضُرُّهُ؟ قُلْت زَوْجَتُهُ وَهُوَ يَرَاهَا فِي جَمِيعِ

حَالَاتِهَا فَسَكَتَ عَنِّي. فَهَذِهِ نُصُوصُ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يُسْتَحَبَّ فِيهَا الِاسْتِئْذَانُ عَلَى زَوْجَتِهِ بِالسَّلَامِ أَوْ قَوْلِهِ أَأَدْخُلُ؟ لِأَنَّهُ بَيْتُهُ وَمَنْزِلُهُ وَاسْتَحَبَّ إذَا دَخَلَ النَّحْنَحَةَ أَوْ تَحْرِيكَ النَّعْلِ لِئَلَّا يَرَاهَا عَلَى حَالَةٍ لَا يُعْجِبُهَا وَلَا تُعْجِبُهُ، وَيَقُولُ مَا وَرَدَ فِي دُخُولِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ دَخَلَ مَنْزِلَهُ أَنْ يَقُولَ (مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ) وَيُسَلِّمَ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ إذَا دَخَلَ يُكْثِرُ خَيْرَ بَيْتِهِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «يَا بُنَيَّ إذَا دَخَلْت عَلَى أَهْلِك فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ تَكُنْ بَرَكَةً عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِك» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَصَحَّ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا» وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَاَلَّذِي لَا يَذْكُرُهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ» . وَلِمُسْلِمٍ «مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ فِيهِ وَالْبَيْتُ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ» . وَلِأَحْمَدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا «اُذْكُرْ اللَّهَ حَتَّى يَقُولُوا مَجْنُونٌ» وَفِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ مَا رَوَى أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بِشْرٍ يَقُولُ «جَاءَ أَعْرَابِيَّانِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَحَدُهُمَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ قَالَ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ وَقَالَ الْآخَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيْنَا فَمُرْنِي بِأَمْرٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ فَقَالَ لَا يَزَالُ لِسَانُك رَطْبًا بِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» إسْنَادٌ جَيِّدٌ وَمُعَاوِيَةُ حَدِيثُهُ حَسَنٌ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا «إذَا وَلَجَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ الْمَوْلَجِ وَخَيْرَ الْمَخْرَجِ، بِاسْمِ اللَّهِ وَلَجْنَا وَبِاسْمِ اللَّهِ خَرَجْنَا وَعَلَى اللَّهِ رَبِّنَا تَوَكَّلْنَا، ثُمَّ لِيُسَلِّمَ عَلَى أَهْلِهِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ الْحِمْصِيِّينَ فَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا «ثَلَاثَةٌ كُلُّهُمْ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ رَجُلٌ خَرَجَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُ فَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرُدُّهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ وَرَجُلٌ رَاحَ إلَى الْمَسْجِدِ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَرَجُلٌ

دَخَلَ بَيْتَهُ بِسَلَامٍ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: " ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ " مَعْنَاهُ مَضْمُونٌ فَاعِلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ يُرِيدُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَالَ: وَقَوْلُهُ " دَخَلَ بَيْتَهُ بِسَلَامٍ " يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) أَنْ يُسَلِّمَ إذَا دَخَلَ مَنْزِلَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61] . (وَالثَّانِي) أَنْ يَكُونَ أَرَادَ لُزُومَ الْبَيْتِ فَطَلَبَ السَّلَامَةَ مِنْ الْفِتَنِ، يَرْغَبُ بِذَلِكَ فِي الْعُزْلَةِ، وَيَأْمُرُ بِإِقْلَالٍ مِنْ الْخُلْطَةِ، وَيَجْلِسُ حَيْثُ أَجْلَسَهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ. وَقِيلَ: بَلْ حَيْثُ انْتَهَى إلَيْهِ مِنْهُ كَذَا فِي الرِّعَايَةِ وَدَخَلَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ النَّحْوِيُّ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ بَيْتَهُ زَائِرًا لَهُ قَالَ: فَوَجَدْته جَالِسًا بِالْأَرْضِ إلَى وِسَادَةٍ فَقُلْت لَهُ إنِّي قَدْ رَضِيت لِنَفْسِي مَا قَدْ رَضِيتَ لِنَفْسِك، فَقَالَ: إنِّي لَا أَرْضَى لَك فِي بَيْتِي بِمَا أَرْضَى بِهِ لِنَفْسِي فَاجْلِسْ حَيْثُ تُؤْمَرُ فَلَعَلَّ الرَّجُلَ أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِهِ شَيْءٌ يَكْرَهُ أَنْ تَسْتَقْبِلَهُ. ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَقَالَ الْخَلَّالُ: (مَا يُكْرَهُ إذَا دَخَلَ الرَّجُلُ إلَى مَنْزِلِ رَجُلٍ أَنْ يَقْعُدَ إلَّا فِي مَوْضِعٍ يُقْعِدُهُ) قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَوْلُهُ: " لَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ، وَلَا يَجْلِسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ ". قَالَ: أَرْجُو أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى كُلِّهِ، وَأَمَّا التَّكْرِمَةُ فَلَا بَأْسَ إذَا أَذِنَ لَهُ. وَحَاصِلُ ذَلِكَ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ إنْ أَمَرَهُ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ بِالْجُلُوسِ فِي مَكَان مِنْهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَدَّاهُ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وَسُلْطَانُهُ وَتَكْرِمَتُهُ وَلِهَذَا لَوْ لَمْ يَأْذَنْ فِي الدُّخُولِ لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ أَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْمُقَامُ فِيهِ، وَهَذَا وَاضِحٌ. وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْجُلُوسِ فِي مَكَان مِنْهُ فَهَلْ يَجْلِسُ؟ وَأَيْنَ يَجْلِسُ؟ يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ إلَى عُرْفِ صَاحِب الْمَنْزِل وَعَادَتِهِ فِي ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَدَّاهُ لِأَنَّهُ خَاصٌّ فَيَتَقَيَّدُ الْمُطْلَقُ كَالْكَلَامِ فَإِنْ خَالَفَ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ عَادَتَهُ مَعَهُ بِأَنْ أَمَرَهُ أَوْ أَذِنَ لَهُ فِي شَيْءٍ وَافَقَهُ إنْ ظَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَكَذَا إنْ شَكَّ حَمْلًا لِحَالِ الْمُكَلَّفِ عَلَى الصِّحَّةِ وَالسَّلَامَةِ. وَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ فَعَلَ مَعَهُ ذَلِكَ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا لِمَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي لَمْ يُجِبْهُ لِأَنَّ الْمَقَاصِدَ مُعْتَبَرَةٌ فَلَمْ

يَأْذَنْ، ثُمَّ يَجْلِسُ فِيمَا يَظُنُّ إذْنَهُ فِيهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَيَعْمَلُ فِي ذَلِكَ بِالْقَرَائِنِ وَالْأَمَارَاتِ وَظَوَاهِرِ الْحَالِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُرْفٌ وَعَادَةٌ فِي ذَلِكَ فَالْعُرْفُ وَالْعَادَةُ فِي ذَلِكَ الْجُلُوسُ بِلَا إذْنٍ خَاصٍّ فِيهِ لِحُصُولِهِ بِالْإِذْنِ فِي الدُّخُولِ ثُمَّ إنْ شَاءَ جَلَسَ أَدْنَى الْمَجْلِسِ مِنْ مَحَلِّ الْجُلُوسِ لِتَحَقُّقِ جَوَازِهِ مَعَ سُلُوكِ الْأَدَبِ، وَلَعَلَّ هَذَا أَوْلَى وَلَعَلَّ هَذَا مُرَادُ صَاحِبِ الْقَوْلِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَالْمُرَادُ مَا لَمْ يُعَدَّ جُلُوسُهُ هُنَاكَ مُسْتَهْجَنًا عَادَةً وَعُرْفًا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَرْتَبَتِهِ، أَوْ يَحْصُلُ لِصَاحِبِ الْمَنْزِلِ بِذَلِكَ خَجَلٌ وَاسْتِحْيَاءٌ، فَإِنَّهُ يُعْجِبُهُ فِي خِلَافِ ذَلِكَ، وَرُبَّمَا ظَنَّ شَيْئًا لَا يَلِيقُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ عَمِلَ بِالظَّنِّ فِي جُلُوسِهِ فِيمَا يَأْذَنُ فِيهِ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى عَوَائِدِ النَّاسِ وَأَبْعَدُ مِنْ التُّهْمَةِ وَأَقَلُّ لِلْكَلَامِ فِي ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي مَا يُشْبِهُ هَذَا بَعْدَ آدَابِ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ وَالنَّوْمِ فِي فَصْلِ الْمَشْيِ مَعَ غَيْرِهِ. وَيُعْمَلُ بِعَلَامَةٍ كَرَفْعِ سِتْرٍ أَوْ إرْخَائِهِ فِي الْإِذْنِ وَعَدَمِهِ لِقَوْلِهِ لِابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إذْنُكَ عَلَيَّ أَنْ تَرْفَعَ الْحِجَابَ وَأَنْ تَسْمَعَ سِوَادِي حَتَّى أَنْهَاك» قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ السِّوَادُ بِكَسْرِ السِّينِ وَبِالدَّالِ أَيْ السِّرَارُ وَهُوَ السِّرُّ وَالْمُسَارَّةُ يُقَالُ سَاوَدْت الرَّجُلَ مُسَاوَدَةً إذَا سَارَرْته وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ سِوَادِهِ عِنْدَ الْمُسَارَّةِ أَيْ شَخْصُك مِنْ شَخْصِهِ وَالسِّوَادُ اسْمٌ لِكُلِّ شَخْصٍ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُ يَعْمَلُ بِذَلِكَ إذَا عَلِمَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَنْزِلِ قَدْ عَلِمَ بِهِ وَكَذَلِكَ إنْ ظَنَّ أَنَّهُ عَلِمَ بِهِ وَالْأَوْلَى الثَّانِي احْتِيَاطًا، وَإِنْ لَمْ يَظُنَّ تَأَكَّدَ التَّثَبُّتُ وَالتَّأَنِّي وَيَنْبَغِي لِصَاحِبِ الْمَنْزِلِ أَنْ لَا يَأْذَنَ بِالْعَلَامَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَحَقَّقَ الْمُسْتَأْذِنَ فَقَدْ يَكُونُ الْمُسْتَأْذِنُ غَيْرَ مَنْ ظَنَّهُ فَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مَا لَا يَلِيقُ وَيَحْصُلُ بِهِ شَرٌّ وَمَحْذُورٌ وَمَنْ أُذِنَ لَهُ فِي الدُّخُول فَمَنْ شَاءَ دَخَلَ فِي الْحَالِ، وَيَتَثَبَّتُ إنْ اقْتَضَى الْحَالُ تَوَقُّفَهُ. وَلِهَذَا فِي مُسْلِمٍ أَوْ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: غَدَوْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَوْمًا بَعْدَ مَا صَلَّيْنَا الْغَدَاةَ فَسَلَّمْنَا بِالْبَابِ فَأَذِنَ لَنَا فَمَكَثْنَا بِالْبَابِ هُنَيْهَةً قَالَ: فَخَرَجَتْ الْجَارِيَةُ فَقَالَتْ: أَلَا تَدْخُلُونَ؟ فَدَخَلْنَا

فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ يُسَبِّحُ فَقَالَ: مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا وَقَدْ أُذِنَ لَكُمْ؟ فَقُلْنَا: لَا إلَّا أَنَّا ظَنَنَّا أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْبَيْتِ نَائِمٌ قَالَ: ظَنَنْتُمْ بَلْ أُمُّ عَبْدٍ غَفَلَةٌ قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلَ يُسَبِّحُ حَتَّى ظَنَّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ طَلَعَتْ قَالَ: يَا جَارِيَةُ اُنْظُرِي هَلْ طَلَعَتْ؟ فَنَظَرَتْ فَإِذَا هِيَ قَدْ طَلَعَتْ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَقَالَنَا يَوْمَنَا هَذَا قَالَ مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ أَحْسَبُهُ قَالَ: وَلَمْ يُهْلِكْنَا بِذُنُوبِنَا فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: قَرَأْت الْبَارِحَةَ الْمُفَصَّلَ كُلَّهُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَفِيهِ التَّلَبُّثُ عَنْ الدُّخُولِ بَعْدَ الْإِذْنِ لِاحْتِمَالِ عُذْرٍ وَعَرَضَ الدُّخُولَ ثَانِيًا وَالسُّؤَالَ عَنْ سَبَبِ التَّلَبُّثِ عَنْ الدُّخُولِ وَذَكَرَ سَبَبَ ذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَبْدُ اللَّهِ التَّوَقُّفَ لِلْعُذْرِ، لَكِنْ ذَكَرَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا السَّبَبِ لَا يُظَنُّ بِآلِهِ فَفِيهِ الْمُؤَاخَذَةُ بِالسَّبَبِ وَنَفْيُ التُّهَمَةِ وَالنَّقْصِ عَنْ الْإِنْسَانِ وَعَنْ أَهْلِهِ. وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ مَنْ يُعَاشِرُهُ وَيُلَازِمُهُ وَرُبَّمَا قِيلَ وَعَمَّنْ يَبْعُدُ مِنْهُ وُقُوعُ مِثْلِ ذَلِكَ وَفِيهِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْوَقْتِ لَا يُغْفَلُ عَنْهُ، وَأَنَّ النَّوْمَ إذَنْ يُكْرَهُ، وَأَنَّ مَنْ اُسْتُؤْذِنَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي عَمَلِ طَاعَةٍ يُمْكِنُهُ تَرْكُهَا لَا يَتْرُكُهَا لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ وَسِيلَةً فِي تَرْكِ الطَّاعَاتِ وَيَتَّخِذَهُ الشَّيْطَانُ سَبَبًا يَصُدُّ بِهِ عَنْهَا، وَإِنْ خَافَ رِيَاءً وَإِعْجَابًا تَعَوَّذَ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وَحَاسَبَ نَفْسَهُ، وَإِنْ قَوِيَ الْخَوْفُ مِنْ ذَلِكَ وَرُبَّمَا قَوِيَ الْخَوْفُ جِدًّا فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ فَحِينَئِذٍ يَتْرُكُهُ ظَاهِرًا وَيَأْتِي بِهِ خِفْيَةً إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا قَضَاهُ وَلَا يَفُوتُهُ دَفْعًا لِلْمَفْسَدَةِ وَتَحْصِيلًا لِلْمَصْلَحَةِ، وَفِيهِ الْإِخْبَارُ بِالطَّاعَةِ لَكِنَّ لِلْمَصْلَحَةِ وَإِلَّا فَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ وَالرَّدُّ عَلَى فَاعِلِهَا بِمَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ. قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَنْ قَوْلِهِمْ فَقَوْلُنَا: لَا مَعْنَاهُ لَا مَانِعَ لَنَا إلَّا أَنَّا تَوَهَّمْنَا أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْبَيْتِ نَائِمٌ فَنُزْعِجُهُ، وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ " ظَنَنَّا " تَوَهَّمْنَا وَجَوَّزْنَا، لَا أَنَّهُمْ أَرَادُوا الظَّنَّ الْمَعْرُوفَ وَهُوَ رُجْحَانُ الِاعْتِقَادِ قَالَ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُرَاعَاةُ الرَّجُلِ لِأَهْلِ بَيْتِهِ وَرَعِيَّتِهِ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي (بَابِ مَا جَاءَ فِي الْمِزَاحِ) ثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ الْفَضْلِ ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَلَاءِ عَنْ بِشْرِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي إدْرِيسَ

الْخَوْلَانِيِّ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ: «أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ فَسَلَّمْت فَرَدَّ وَقَالَ: اُدْخُلْ فَقُلْت: أَكُلِّيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: كُلُّك فَدَخَلْت» . وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ دُحَيْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْوَلِيدِ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ دُحَيْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْوَلِيدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَاقِدٍ عَنْ بِشْرٍ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ قَالَ أَبُو دَاوُد ثَنَا صَفْوَانُ بْنُ صَالِحٍ ثَنَا الْوَلِيدُ ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاتِكَةَ قَالَ: إنَّمَا قَالَ: " أَدْخُلُ كُلِّي " مِنْ صِغَرِ الْقُبَّةِ وَيَأْتِي قَرِيبًا فِي آدَابِ السَّفَرِ قُدُومُ الْمُسَافِرِ لَيْلًا.

فصل في الجلوس في وسط الحلقة والتفرقة بين الرجلين

[فَصْلٌ فِي الْجُلُوسِ فِي وَسَطِ الْحَلَقَةِ وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ] ِ) قَالَ الْخَلَّالُ: (كَرَاهِيَةُ الْجُلُوسِ فِي وَسَطِ الْحَلَقَةِ) أَنْبَأَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: رَأَيْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا كَانَ فِي الْحَلَقَةِ فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَعَدَ خَلْفَهُ يَتَأَخَّرُ يَعْنِي يَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ وَسَطَ الْحَلَقَةِ لِمَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. انْتَهَى كَلَامُهُ وَيَتَوَجَّهُ تَحْرِيمُ ذَلِكَ وَلَعَلَّهُ مُرَادُ الْخَلَّالِ فَإِنَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَعْنَ مَنْ جَلَسَ وَسَطَ الْحَلَقَةِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مَخْلَدٍ عَنْ حُذَيْفَةَ وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: إذَا جَلَسَ فِي وَسَطِهَا اسْتَدْبَرَ بَعْضَهُمْ بِظَهْرِهِ فَيُؤْذِيهِمْ بِذَلِكَ وَيَسُبُّونَهُ وَيَلْعَنُونَهُ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: «لَا حِمَى إلَّا فِي ثَلَاثٍ» وَذَكَرَ مِنْهَا حَلَقَةَ الْقَوْمِ أَيْ لَهُمْ أَنْ يَحْمُوهَا حَتَّى لَا يَتَخَطَّاهُمْ أَحَدٌ وَلَا يَجْلِسَ وَسَطَهَا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْلِسَ حَيْثُ انْتَهَى بِهِ الْمَجْلِسُ لِلْأَخْبَارِ فَإِنْ قَامَ لَهُ أَحَدٌ عَنْ مَجْلِسِهِ فَفِي كَرَاهَةِ إيثَارِهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ فَإِنْ كُرِهَ فَفِي كَرَاهَةِ الْقَبُولِ خِلَافٌ بَيْنَ الْأَصْحَابِ وَيَتَوَجَّهُ احْتِمَالٌ يُحَرِّمُ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَمْرِو بْنِ أَبِي بَكْرَةَ رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَفِي خَبَرِ ابْنِ عُمَرَ زِيَادُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ تَفَرَّدَ عَنْهُ عَقِيلُ بْنُ طَلْحَةَ وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَوْلًى لِآلِ أَبِي بُرْدَةَ تَفَرَّدَ عَنْهُ عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ سَعِيدٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا. وَرَوَى عَامِرٌ الْأَحْوَلُ عَنْ عُمَرَ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا «لَا يُجْلَسُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ إلَّا بِإِذْنِهِمَا» . وَرَوَى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ اللَّيْثِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ اثْنَيْنِ إلَّا بِإِذْنِهِمَا» رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد وَهُمَا حَدِيثَانِ حَسَنَانِ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ الثَّانِيَ وَحَسَّنَهُ.

فصل في القيام للقادم وأدب السنة ومراعاة العادة فيه

[فَصْلٌ فِي الْقِيَامِ لِلْقَادِمِ وَأَدَبِ السُّنَّةِ وَمُرَاعَاةِ الْعَادَةِ فِيهِ] وَيُكْرَهُ الْقِيَامُ لِغَيْرِ سُلْطَانٍ وَعَالِمٍ وَوَالِدٍ ذَكَرَهُ السَّامِرِيُّ وَقِيلَ سُلْطَانٍ عَادِلٍ وَزَادَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى وَلِغَيْرِ ذِي دِينٍ وَوَرَعٍ وَكَرِيمِ قَوْمٍ وَسِنٍّ فِي الْإِسْلَامِ وَقَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: لَا يُسْتَحَبُّ الْقِيَامُ إلَّا لِلْإِمَامِ الْعَادِلِ وَالْوَالِدَيْنِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالْوَرَعِ وَالْكَرَمِ وَالنَّسَبِ وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِهِ فِي الْمُجَرَّدِ وَالْفُصُولِ، وَكَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ وَقَاسَهُ عَلَى الْمُهَادَاةِ لَهُمْ قَالَ: وَيُكْرَهُ لِأَهْلِ الْمَعَاصِي وَالْفُجُورِ وَهَذَا كُلُّهُ مَعْنَى كَلَامِ أَبِي بَكْرٍ، وَاَلَّذِي يُقَامُ إلَيْهِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَسْتَكْبِرَ نَفْسَهُ إلَيْهِ وَلَا يَطْلُبَهُ، وَالنَّهْيُ قَدْ وَقَعَ عَلَى السُّرُورِ بِذَلِكَ الْحَالِ فَإِذَا لَمْ يُسَرَّ بِالْقِيَامِ إلَيْهِ وَقَامُوا لَهُ فَغَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ وَلِمَنْ قَامَ إلَيْهِ لِإِعْظَامِهِ الرَّجُلَ الْكَبِيرَ عَلَى مَا رَسَمْنَاهُ. وَكَذَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَغَيْرُهُمْ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ: إنَّمَا هُوَ تَحْذِيرٌ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالْعُجْبِ وَالْخُيَلَاءِ قَالُوا مَعَ أَنَّ ابْنَ قُتَيْبَةَ قَدْ قَالَ: إنَّمَا مَعْنَاهُ مَا يَفْعَلُهُ الْأَعَاجِمُ وَالْأُمَرَاءُ فِي زَمَانِنَا هَذَا أَنَّهُ يَجْلِسُ وَالنَّاسُ قِيَامٌ بَيْنَ يَدَيْهِ تَكَبُّرًا وَعُجْبًا قَالَ صَاحِبُ النَّظْمِ: وَكَذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ فِيمَنْ يَمْشِي النَّاسُ خَلْفَهُ إكْرَامًا: إنَّهَا ذِلَّةٌ لِلتَّابِعِ فِتْنَةٌ لِلْمَتْبُوعِ وَيَأْتِي ذَلِكَ بَعْدَ فُصُولِ آدَابِ الطَّعَامِ وَكَلَامِ أَبِي الْمَعَالِي فِي فُصُولِ الْمُصَافَحَةِ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: فَأَبُو بَكْرٍ وَالْقَاضِي وَمَنْ تَبِعَهُمَا فَرَّقُوا بَيْنَ الْقِيَامِ لِأَهْلِ الدِّينِ وَغَيْرِهِمْ فَاسْتَحَبُّوهُ لِطَائِفَةٍ وَكَرَّهُوهُ لِأُخْرَى، وَالتَّفْرِيقُ فِي مِثْلِ هَذَا بِالصِّفَاتِ فِيهِ نَظَرٌ. قَالَ: وَأَمَّا أَحْمَدُ فَمَنَعَ مِنْهُ مُطْلَقًا لِغَيْرِ الْوَالِدَيْنِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيِّدُ الْأَئِمَّةِ وَلَمْ يَكُونُوا يَقُومُونَ لَهُ فَاسْتِحْبَابُ ذَلِكَ لِلْإِمَامِ الْعَادِلِ مُطْلَقًا خَطَأٌ وَقِصَّةُ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ مَعَ الْمَنْصُورِ تَقْتَضِي ذَلِكَ وَمَا أَرَادَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إلَّا لِغَيْرِ الْقَادِمِ مِنْ سَفَرٍ فَإِنَّهُ قَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ الْقَادِمَ مِنْ السَّفَرِ إذَا أَتَاهُ إخْوَانُهُ فَقَامَ إلَيْهِمْ وَعَانَقَهُمْ فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَحَدِيثُ سَعْدٍ يُخَرَّجُ

عَلَى هَذَا وَسَائِرُ الْأَحَادِيثِ فَإِنَّ الْقَادِمَ يُتَلَقَّى لَكِنَّ هَذَا قَامَ فَعَانَقَهُمْ، وَالْمُعَانَقَةُ لَا تَكُونُ إلَّا بِالْقِيَامِ، وَأَمَّا الْحَاضِرُ فِي الْمِصْرِ الَّذِي قَدْ طَالَتْ غَيْبَتُهُ وَاَلَّذِي لَيْسَ مِنْ عَادَتِهِ الْمَجِيءُ إلَيْهِ فَمَحَلُّ نَظَرٍ. فَأَمَّا الْحَاضِرُ الَّذِي يَتَكَرَّرُ مَجِيئُهُ فِي الْأَيَّامِ كَإِمَامِ الْمَسْجِدِ، أَوْ السُّلْطَانِ فِي مَجْلِسِهِ، أَوْ الْعَالِمِ فِي مَقْعَدِهِ فَاسْتِحْبَابُ الْقِيَامِ لَهُ خَطَأٌ بَلْ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ هُوَ الصَّوَابُ، هَذَا كَلَامُهُ. وَقَالَ أَيْضًا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَاعِدًا وَهُمْ قِيَامٌ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» . وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُمْ لَمَّا قَامُوا خَلْفَهُ فِي الصَّلَاةِ. قَالَ: «لَا تُعَظِّمُونِي كَمَا يُعَظِّمُ الْأَعَاجِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا» انْتَهَى كَلَامُهُ. وَأَمَّا الْقِيَامُ لِمَصْلَحَةٍ وَفَائِدَةٍ كَقِيَامِ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ يَرْفَعُ غُصْنًا مِنْ شَجَرَةٍ عَنْ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقْتَ الْبَيْعَةِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَقِيَامِ أَبِي بَكْرٍ يُظِلُّهُ مِنْ الشَّمْسِ فَمُسْتَحَبٌّ. وَذَكَرَ ابْنُ هُبَيْرَةَ يَجُوزُ وَلَا يُكْرَهُ وَقَالَ عَنْ الْأَنْبَارِ وَالْأَعَاجِمِ: الْقِيَامُ عَلَى رُءُوسِهِمْ شَدِيدُ الْكَرَاهِيَةِ قَالَ: فَأَمَّا وُقُوفُ مَنْ يَذْهَبُ فِي شُغْلٍ وَيَعُودُ كَقِيَامِ الْحُجَّابِ وَالْمُسْتَخْدِمِينَ فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ مَنْ يَتَقَدَّمُ فِي الْأَشْغَالِ وَيَتَرَدَّدُ فِيهَا وَبَيْنَ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ مَعْنًى ظَاهِرٌ وَسَتَأْتِي نُصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بَعْضُهَا يُؤْخَذُ مِنْهُ مُوَافَقَةُ الْأَصْحَابِ وَبَعْضُهَا يَدُلُّ عَلَى الْكَرَاهَةِ إلَّا لِلْوَالِدَيْنِ، وَبَعْضُهَا يُكْرَهُ إلَّا لِقَادِمٍ مِنْ سَفَرٍ وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ خَرَجَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ فِي الْمَسْجِدِ فَقَامُوا لَهُ فَقَالَ: لَا تَقُومُوا لِأَحَدٍ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ فَهَذِهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا خَرَجَ لَا يَقُومُونَ لَهُ لِمَا يَعْرِفُونَ مِنْ كَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ. وَهَذَا كَانَ شِعَارَ السَّلَفِ ثُمَّ صَارَ تَرْكُ الْقِيَامِ كَالْإِهْوَانِ بِالشَّخْصِ لِذَلِكَ. فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَامَ لِمَنْ يَصْلُحُ، وَكَذَا قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي الْفَتَاوَى الْمِصْرِيَّةِ: يَنْبَغِي تَرْكُ الْقِيَامِ فِي اللِّقَاءِ الْمُتَكَرِّرِ الْمُعْتَادِ لَكِنْ إذَا اعْتَادَ النَّاسُ الْقِيَامَ وَقَدِمَ مَنْ لَا يَرَى كَرَامَتَهُ إلَّا بِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ.

فَالْقِيَامُ دَفْعًا لِلْعَدَاوَةِ وَالْفَسَادِ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ الْمُفْضِي إلَى الْفَسَادِ وَيَنْبَغِي مَعَ هَذَا أَنْ يَسْعَى فِي الْإِصْلَاحِ عَلَى مُتَابَعَةِ السُّنَّةِ. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ قِيلَ لِمَالِكٍ فَالرَّجُلُ يَقُومُ لِلرَّجُلِ لَهُ الْفَضْلُ وَالْفِقْهُ قَالَ أَكْرَهُ ذَلِكَ. وَصَحَّ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. قَالَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا» وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ " شَرَفَ كَبِيرِنَا " وَلِلتِّرْمِذِيِّ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. وَعَنْ عُبَادَةَ مَرْفُوعًا «لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ. حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ الْخَيْرِ الزِّيَادِيُّ عَنْ أَبِي قَبِيلٍ الْمَعَافِرِيِّ عَنْ عُبَادَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ (الزَّبَادِيُّ) بِفَتْحِ الزَّايِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ تَحْتُ وَرَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ أَحَدٌ قَالَ بَعْضُهُمْ: وَهَذَا كَافٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: لَمْ تَثْبُتْ عَدَالَتُهُ وَلِأَبِي دَاوُد بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى «إنَّ مِنْ إجْلَالِ اللَّهِ إكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَلَا الْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ،» وَسَيَأْتِي فِي أَهْلِ الْقُرْآنِ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا الْقِيَامُ لَهُ وَإِنَّمَا فِيهِ إكْرَامُهُ وَتَوْقِيرُهُ فَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: اتَّفَقُوا عَلَى تَوْقِيرِ أَهْلِ الْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ وَالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَلِكَ الْخَلِيفَةُ وَالْفَاضِلُ وَالْعَالِمُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا حَكَّمَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ أَرْسَلَ إلَيْهِ فَجَاءَ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ وَكَانَ مَجْرُوحًا فَقَالَ: قُومُوا إلَى سَيِّدِكُمْ» وَفِي الْبُخَارِيِّ فَقَالَ لِلْأَنْصَارِ: «قُومُوا إلَى سَيِّدِكُمْ» وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا بِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَأْمُرْ بِالْقِيَامِ لَهُ بِهِ إلَيْهِ لِتَلَقِّيهِ لِضَعْفِهِ وَجِرَاحَتِهِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «لَمَّا تَابَ اللَّهُ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلَمُ النَّاسِ بِذَلِكَ فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا وَرَكَضَ رَجُلٌ إلَى فَرَسِي وَسَعَى سَاعٍ قِبَلِي فَأَوْفَى عَلَى الْحَبْلِ فَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنْ الْفَرَسِ فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْت صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي نَزَعْت لَهُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُمَا إيَّاهُ وَاَللَّهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ يَعْنِي مِنْ الثِّيَابِ وَاسْتَعَرْت ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا.

وَانْطَلَقْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ يَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنُّونِي بِالتَّوْبَةِ وَيَقُولُونَ لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْك، حَتَّى دَخَلْت الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَحَوْلَهُ النَّاسُ فَقَامَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي، وَاَللَّهِ مَا قَامَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ. فَكَانَ كَعْبٌ لَا يَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ فَوَائِدُ وَآدَابٌ كَثِيرَةٌ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْبَرَكَةُ مَعَ أَكَابِرِكُمْ» إسْنَادُهُ جَيِّدٌ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلْمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْمٍ الْأَنْطَاكِيِّ ثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ فَذَكَرَهُ، وَلَفْظُهُ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا سَقَى قَالَ: ابْدَءُوا بِالْكُبَرَاءِ أَوْ الْأَكَابِرِ» وَذَكَرَهُمَا فِي الْمُخْتَارَةِ وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ إنَّمَا حَدَّثَ بِهِ ابْنُ الْمُبَارَكِ بِدَرْبِ الرُّومِ فَسَمِعَ مِنْهُ أَهْلُ الشَّامِ وَلَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي كُتُبِ ابْنِ الْمُبَارَكِ مَرْفُوعًا. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَارِثِ إنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْقِيَامِ فِي السَّلَامِ فَكَأَنَّهُ كَرِهَهُ إذَا لَمْ يَقْدَمْ مِنْ سَفَرٍ أَنْ يَقُومَ كَذَا إلَى الرَّجُلِ فَيُعَانِقُهُ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إذَا قَامَ يَعْنِي الرَّجُلَ حَتَّى يُجِلَّهُ لِكَبَرِهِ فَأَقُولُ لَهُ إمَّا أَنْ تَقْعُدَ وَإِمَّا أَنْ أَقُومَ فَقَالَ: إذَا كَانَ لِكِبَرِهِ أَوْ لِكَذَا. وَأَمَّا الْحَدِيثُ: «الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ النَّاسُ قِيَامًا» قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مَا مَعْنَى الْحَدِيثِ «لَا يَقُومُ أَحَدٌ لِأَحَدٍ» قَالَ إذَا كَانَ عَلَى جِهَةِ الدُّنْيَا مِثْلُ مَا رَوَى مُعَاوِيَةُ فَلَا يُعْجِبُنِي مِنْ الْأَدَبِ لِلْخَلَّالِ ثُمَّ رَوَى الْخَلَّالُ حَدِيثَ مُعَاوِيَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ بَنُو آدَمَ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» . وَقَالَ حَنْبَلٌ قُلْت لِعَمِّي تَرَى لِلرَّجُلِ أَنْ يَقُومَ لِلرَّجُلِ إذَا رَآهُ قَالَ: لَا يَقُومُ أَحَدٌ لِأَحَدٍ إلَّا الْوَلَدُ لِوَالِدِهِ أَوْ لِأُمِّهِ، فَأَمَّا لِغَيْرِ الْوَالِدَيْنِ فَلَا، نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي» . إنَّمَا ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ لِحُرْمَةِ الصَّلَاةِ إذَا قَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامُوا لِلصَّلَاةِ وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ الرَّجُلُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» وَقَالَ مُثَنَّى إنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا تَقُولُ فِي الْمُعَانَقَةِ؟ وَهَلْ يَقُومُ أَحَدٌ لِأَحَدٍ فِي السَّلَامِ

إذَا رَآهُ؟ قَالَ لَا يَقُومُ أَحَدٌ لِأَحَدٍ، وَأَمَّا إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَلَا أَعْلَمُ بِهِ بَأْسًا إذَا كَانَ عَلَى التَّدَيُّنِ يُحِبُّهُ فِي اللَّهِ أَرْجُو، لِحَدِيثِ جَعْفَرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ» . وَنَقَلَ غَيْرُهُ أَنَّ أَبَا إبْرَاهِيمَ الزُّهْرِيَّ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ سَعْدٍ جَاءَ إلَى أَحْمَدَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَلَمَّا رَآهُ وَثَبَ إلَيْهِ وَقَامَ إلَيْهِ قَائِمٌ وَأَكْرَمَهُ، فَلَمَّا أَنْ مَشَى قَالَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ: يَا أَبَتِ أَبُو إبْرَاهِيمَ شَابٌّ وَتَعْمَلُ بِهِ هَذَا وَتَقُومُ إلَيْهِ فَقَالَ لَهُ يَا بُنَيَّ لَا تُعَارِضْنِي فِي مِثْلِ هَذَا أَلَا أَقُومُ إلَى ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ؟ ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَخْضَرِ فِيمَنْ رَوَى عَنْ أَحْمَدَ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد (بَابُ مَا جَاءَ فِي الْقِيَامِ) ثُمَّ رَوَى حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ وَقَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلْأَنْصَارِ «قُومُوا إلَى سَيِّدِكُمْ» وَهَذَا اللَّفْظُ فِي الصَّحِيحِ. ثُمَّ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ يَسَارٍ قَالَا حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ أَنْبَأَنَا إسْرَائِيلُ عَنْ مَيْسَرَةَ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: مَا رَأَيْت أَحَدًا كَانَ أَشْبَهَ سَمْتًا وَهَدْيًا وَدَلًّا وَقَالَ الْحَسَنُ حَدِيثًا وَكَلَامًا وَلَمْ يَذْكُرْ الْحَسَنُ السَّمْتَ وَالْهَدْيَ وَالدَّلَّ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ فَاطِمَةَ كَانَتْ إذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَامَ إلَيْهَا فَأَخَذَ بِيَدِهَا وَقَبَّلَهَا وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ وَكَانَ إذَا دَخَلَ عَلَيْهَا قَامَتْ إلَيْهِ فَأَخَذَتْ بِيَدِهِ فَقَبَّلَتْهُ وَأَجْلَسَتْهُ فِي مَجْلِسِهَا. إسْنَادٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ (بَابٌ فِي قُبْلَةِ مَا بَيْنَ الْعَيْنَيْنِ) . ثُمَّ رُوِيَ مِنْ رِوَايَةِ أَجْلَحَ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَلَقَّى جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَالْتَزَمَهُ وَقَبَّلَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَقَالَ أَيْضًا (بَابٌ فِي قِيَامِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ) ثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ

ثَنَا حَمَّادُ عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: خَرَجَ مُعَاوِيَةُ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ وَابْنِ عَامِرٍ فَقَامَ ابْنُ عَامِرٍ وَجَلَسَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِابْنِ عَامِرٍ: اجْلِسْ فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» إسْنَادُهُ جَيِّدٌ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ وَحَمَلَهُ الْخَطَّابِيُّ عَلَى مَا إذَا أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ وَأَلْزَمَهُمْ عَلَى طَرِيقِ الْكِبْرِ. قَالَ أَبُو دَاوُد: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ أَبِي الْعَدَبَّسِ عَنْ أَبِي مَرْزُوقٍ عَنْ أَبِي غَالِبٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا فَقُمْنَا إلَيْهِ فَقَالَ: «لَا تَقُومُوا كَمَا تَقُومُ الْأَعَاجِمُ يُعَظِّمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا» . أَبُو الْعَدَبَّسِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَبِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِهَا وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، تَفَرَّدَ عَنْهُ أَبُو الْعَدَبَّسِ وَأَبُو غَالِبٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَحَدِيثُهُ حَسَنٌ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، وَمَنَعَ ابْنُ هُبَيْرَةَ الْقِيَامَ وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ. وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانُوا إذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وَعَنْ عُبَادَةَ قَالَ «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: قُومُوا بِنَا نَسْتَغِيثُ بِرَسُولِ اللَّهِ مِنْ هَذَا الْمُنَافِقِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُقَامُ لِي إنَّمَا يُقَامُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» رَوَاهُ أَحْمَدُ. حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُد ثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ عُبَادَةَ، فَذِكْرُهُ الرَّجُلَ مَجْهُولٌ وَابْنُ لَهِيعَةَ ضَعِيفٌ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ الْبَيْهَقِيّ بِسَنَدِهِ إلَى مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيِّ عَنْ مُجَاهِدٍ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ وَائِلَةَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهُوَ صَحَابِيٌّ سَكَنَ دِمَشْقَ قَالَ: «دَخَلَ رَجُلٌ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ فَتَحَرَّكَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَجُلٌ: إنَّ فِي الْمَكَانِ سَعَةً فَقَالَ لِلْمُؤْمِنِ أَوْ الْمُسْلِمِ حَقٌّ» حَدِيثٌ غَرِيبٌ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ. أَنْبَأَنَا أَبُو طَاهِرٍ الْفَقِيهُ ثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْقَطَّانُ ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيُّ ثَنَا

مُجَاهِدٌ فَذَكَرَهُ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ جَائِزٌ لِلرَّجُلِ أَنْ يُكْرِمَ الْقَاصِدَ إلَيْهِ إذَا كَانَ كَرِيمَ قَوْمٍ أَوْ عَالِمَهُمْ أَوْ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْبِرَّ مِنْهُمْ بِالْقِيَامِ إلَيْهِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ لِلرَّئِيسِ وَغَيْرِهِ أَنْ يُكَلِّفَ النَّاسَ الْقِيَامَ إلَيْهِ أَوْ يَرْضَى بِذَلِكَ مِنْهُمْ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد ثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ثَنَا أَبُو عَامِرٍ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هِلَالٍ سَمِعَ أَبَاهُ يُحَدِّثُ قَالَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَهُوَ يُحَدِّثُنَا: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْلِسُ مَعَنَا فِي الْمَجْلِسِ فَإِذَا قَامَ قُمْنَا قِيَامًا حَتَّى نَرَاهُ قَدْ دَخَلَ بَعْضَ بُيُوتِ أَزْوَاجِهِ فَحَدَّثَنَا يَوْمًا فَقُمْنَا حِينَ قَامَ فَنَظَرْنَا إلَى أَعْرَابِيٍّ قَدْ أَدْرَكَهُ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ فَحَمَّرَ رَقَبَتَهُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَكَانَ رِدَاءً خَشِنًا فَالْتَفَتَ فَقَالَ لَهُ الْأَعْرَابِيُّ احْمِلْ لِي عَلَى بَعِيرَيَّ هَذَيْنِ فَإِنَّك لَا تَحْمِلُ لِي مِنْ مَالِك وَلَا مِنْ مَالِ أَبِيك فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، لَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، لَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، لَا أَحْمِلُ لَك حَتَّى تُقَيِّدَنِي مِنْ جَبْذِك الَّذِي جَبَذْتنِي فَكُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ لَهُ الْأَعْرَابِيُّ وَاَللَّهِ لَا أُقَيِّدُكَهَا فَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ ثُمَّ دَعَا رَجُلًا فَقَالَ لَهُ احْمِلْ لَهُ عَلَى بَعِيرَيْهِ هَذَيْنِ عَلَى بَعِيرٍ شَعِيرًا وَعَلَى الْآخَرِ تَمْرًا ثُمَّ الْتَفَتَ إلَيْنَا فَقَالَ انْصَرِفُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ تَعَالَى» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِنَحْوِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ الْقَعْنَبِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ هِلَالٍ تَفَرَّدَ عَنْهُ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ لَيْسَ بِمَشْهُورٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ هِلَالٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ فَذَكَرَ بَعْضَهُ. وَفِيهِ فَهَمُّوا بِهِ فَقَالَ " دَعُوهُ " وَكَانَتْ يَمِينُهُ أَنْ يَقُولَ " لَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ". وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ (بَابُ الْقِيَامِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَامِ) ثُمَّ ذَكَرَ قِيَامَ طَلْحَةَ إلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَمَّا جَاءَ سَعْدٌ «قُومُوا إلَى سَيِّدِكُمْ» وَقَالَ مُسْلِمٌ: لَا أَعْلَمُ فِي قِيَامِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ حَدِيثًا أَصَحَّ مِنْ هَذَا. وَقَالَ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَوِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَهُ مُحْتَجًّا بِهِ: وَقَدْ احْتَجَّ الْعُلَمَاءُ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى الْقِيَامِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَمِمَّنْ احْتَجَّ بِهِ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ فَتَرْجَمَ لَهُ بَابُ مَا جَاءَ فِي الْقِيَامِ وَاحْتَجَّ بِهِ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ

الْحَافِي الزَّاهِدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو زُرْعَةَ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ وَالْخَطَّابِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالْخَطِيبُ وَأَبُو مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيّ وَالْحَافِظُ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ وَآخَرُونَ لَا يُحْصَوْنَ. أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَمْرِو بْنِ السَّائِبِ أَنَّهُ بَلَغَهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِمَ عَلَيْهِ أَبُوهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَأَجْلَسَهُ عَلَى بَعْضِ ثَوْبِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ أُمُّهُ فَوَضَعَ شِقَّ ثَوْبِهِ مِنْ جَانِبِهِ الْآخَرِ فَجَلَسَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ أَقْبَلَ أَخُوهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ» . مُرْسَلٌ جَيِّدٌ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ بِسَنَدِهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ مُسْلِمًا مُهَاجِرًا قَامَ إلَيْهِ فَرِحًا بِقُدُومِهِ» . وَرَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا. وَعَنْ «جَرِيرٍ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَلْقَى لَهُ كِسَاءَهُ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ إذَا جَاءَكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ حُسَيْنِ بْنِ عُمَرَ الْأَحْمَسِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مِنْ أَوْجُهٍ أُخَرَ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ وَرُوِيَ مُرْسَلًا عَنْ الشَّعْبِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ: قَامَ وَكِيعٌ لِسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ قِيَامَهُ لَهُ فَقَالَ لَهُ وَكِيعٌ: أَنْتَ حَدَّثْتنِي عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ مِنْ إجْلَالِ اللَّهِ إجْلَالَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ» فَأَخَذَ سُفْيَانُ بِيَدِهِ فَأَجْلَسَهُ إلَى جَانِبِهِ. وَقَالَ الْخَلِيلِيُّ الْحَافِظُ أَخْبَرَنِي عُثْمَانُ بْنُ إسْمَاعِيلَ ثَنَا أَبُو نُعَيْمِ بْنُ عَدِيٍّ قَالَ: كَانَ أَبُو زُرْعَةَ لَا يَقُومُ لِأَحَدٍ وَلَا يُجْلِسُ أَحَدًا فِي مَكَانِهِ إلَّا ابْنُ دَارِهِ فَإِنِّي رَأَيْته يَفْعَلُ ذَلِكَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «دَخَلَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمَدِينَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِي فَأَتَاهُ فَقَرَعَ الْبَابَ فَقَامَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُرْيَانًا يَجُرُّ ثَوْبَهُ وَاَللَّهِ مَا رَأَيْته عُرْيَانًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ» . وَيَأْتِي فِي الْمُصَالَحَةِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي بَابِ الضَّرِيرِ يُوَلَّى مِنْ كِتَابِ الْإِمَارَةِ: «إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

كَانَ يَقُومُ لِابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ كُلَّمَا أَقْبَلَ وَيَقُولُ مَرْحَبًا بِمَنْ عَاتَبَنِي فِيهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ» ذَكَرَ جَمَاعَةٌ غَيْرُ الْخَطَّابِيِّ ذَلِكَ سِوَى الْقِيَامِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَهُ: «هَلْ لَك حَاجَةٌ؟» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا صَلَّى جَالِسًا وَصَلَّى مَنْ صَلَّى وَرَاءَهُ قِيَامًا فَأَشَارَ إلَيْهِمْ أَنْ اجْلِسُوا فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ كِدْتُمْ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ تَفْعَلُونَ فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ، يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكِهِمْ وَأُمَرَائِهِمْ» .

فصل في استحباب الفخر والخيلاء في الحرب

[فَصْلٌ فِي اسْتِحْبَابِ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ فِي الْحَرْبِ] فَصْلٌ قَالَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي أَحْكَامِهِ الْمُنْتَقَى عَنْ قِيَامِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالسَّيْفِ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ: فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ فِي الْحَرْبِ. لِإِرْهَابِ الْعَدُوِّ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي ذَمِّهِ لِمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ النَّاسُ قِيَامًا، وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إقَامَةَ الرَّئِيسِ الرِّجَالَ عَلَى رَأْسِهِ فِي مَقَامِ الْخَوْفِ وَمَوَاطِنِ الْحُرُوبِ جَائِزٌ، وَأَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ صُفُوفًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ قَصَدَ بِهِ الْكِبْرَ وَهُوَ مَذْهَبُ النَّحْوِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِمَقْصُودٍ شَرْعِيٍّ لَا بَأْسَ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي إكْرَامِ كَرِيمِ الْقَوْمِ كَالشُّرَفَاءِ وَإِنْزَالِ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ] قَالَ الْمَرُّوذِيُّ سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا جَاءَكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ» قَالَ: نَعَمْ هَكَذَا يُرْوَى قُلْت: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الرَّجُلُ السُّوءُ وَالرَّجُلُ الصَّالِحُ فِي هَذَا وَاحِدٌ قَالَ: لَا قُلْت: فَإِنْ كَانَ رَجُلَ سُوءٍ يُكْرِمُهُ، قَالَ: لَا، وَرَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَقَدْ حَضَرَ غُلَامٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَمَعَهُ إبْرَاهِيمُ سِيلَانُ فَرَأَيْته قَدَّمَ الْغُلَامَ، وَرَأَيْت رَجُلًا مِنْ وَلَدِ الزُّبَيْرِ فِي الْمَسْجِدِ فَرَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَدْ قَدَّمَهُ فِي الْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ وَكَانَ حَدِيثَ السِّنِّ فَجَعَلَ الْفَتَى يَمْتَنِعُ، وَجَعَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَأْتِي حَتَّى قَدَّمَهُ. وَالْخَبَرُ الْمَذْكُورُ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَفِيهِ سَعْدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ أَرْجُو أَنَّهُ لَا يُتْرَكُ، وَسَبَقَ فِي الْفَصْلِ قَبْلَهُ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ.

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: رَأَيْت أَبِي إذَا جَاءَ الشَّيْخُ وَالْحَدَثُ مِنْ قُرَيْشٍ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْأَشْرَافِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ حَتَّى يُخْرِجَهُمْ فَيَكُونُوا هُمْ يَتَقَدَّمُونَهُ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: رَأَيْته جَاءَ إلَيْهِ مَوْلَى ابْنِ الْمُبَارَكِ فَأَلْقَى لَهُ مِخَدَّةً وَأَكْرَمَهُ وَكَانَ إذَا دَخَلَ عَلَيْهِ مَنْ يُكْرَمُ عَلَيْهِ يَأْخُذُ الْمِخَدَّةَ مِنْ تَحْتِهِ فَيُلْقِيهَا لَهُ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ إعْظَامًا لِإِخْوَانِهِ وَمَنْ هُوَ أَسَنُّ مِنْهُ، لَقَدْ جَاءَهُ أَبُو هَمَّامٍ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ فَأَخَذَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بِالرِّكَابِ وَرَأَيْته فَعَلَ هَذَا بِمَنْ هُوَ أَسَنُّ مِنْ الشُّيُوخِ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد (بَابٌ فِي تَنْزِيلِ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ) ثَنَا يَحْيَى بْنُ إسْمَاعِيلَ وَأُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ أَنَّ يَحْيَى بْنَ يَمَانٍ أَخْبَرَهُمْ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ «أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَرَّ بِهَا سَائِلٌ فَأَعْطَتْهُ كِسْرَةً وَمَرَّ عَلَيْهَا رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابٌ وَهَيْئَةٌ فَأَقْعَدَتْهُ فَأَكَلَ فَقِيلَ لَهَا فِي ذَلِكَ فَقَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ» قَالَ أَبُو دَاوُد: مَيْمُونٌ لَمْ يُدْرِكْ عَائِشَةَ وَحَدِيثُ يَحْيَى مُخْتَصَرٌ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَيَحْيَى بْنُ يَمَانٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَحَدِيثُهُ حَسَنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْفَصْلِ قَبْلَهُ الْخَبَرَ الصَّحِيحَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ شَرَفَ كَبِيرِنَا» قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي الْخِلَافِ فِي قَوْلِهِ: «مَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا» قَالَ: الْمُرَادُ بِهِ لَيْسَ مِنْ خِيَارِنَا كَمَا قَالَ: «مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَلَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا فَلَيْسَ مِنَّا» كَذَا قَالَ، وَسَبَقَ قَوْلُهُ «لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي» . وَكَلَامُ ابْنِ حَزْمٍ وَسَبَقَ فِي صِحَّةِ تَوْبَةِ غَيْرِ الْعَاصِي كَلَامَ ابْنِ عَقِيلٍ يُوَافِقُ مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَفِيهِ اعْتِرَافٌ بِأَنَّ مُقْتَضَاهَا التَّحْرِيمُ وَكَذَا ذَكَرَ الْأَصْحَابُ أَنَّ مُقْتَضَى هَذِهِ الصِّيغَةِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّارِعِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَيْسَ مِنَّا مَنْ قَالَ أَوْ فَعَلَ كَذَا» مُقْتَضَاهُ التَّحْرِيمُ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ كَبِيرَةً وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخُرُوجَ عَنْ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ دَعْوَى تَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ فَقَوْلُهُ «يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَرَوَاهُ غَيْرُهُ.

فصل ثلاثة لا ترد الطيب والوسادة واللبن

[فَصْلٌ ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ الطِّيبُ وَالْوِسَادَةُ وَاللَّبَنُ] فَصْلٌ عَنْ سَلْمَانَ مَرْفُوعًا «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْخُلُ عَلَى أَخِيهِ فَيُلْقِي لَهُ وِسَادَتَهُ إكْرَامًا لَهُ إلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ» وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ: الطِّيبُ وَالْوِسَادَةُ وَاللَّبَنُ» رَوَاهُمَا الطَّبَرَانِيُّ وَقَدْ «جَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَأَلْقَى لَهُ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ فَجَلَسَ عَلَى الْأَرْضِ وَصَارَتْ الْوِسَادَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ فِي الِاسْتِئْذَانِ فِي الْقِيَامِ مِنْ الْمَجْلِسِ] قَالَ الْخَلَّالُ: الرَّجُلُ يَسْتَأْذِنُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ عَنْ الْمَجْلِسِ قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ إذَا جَلَسَ رَجُلٌ إلَى قَوْمٍ يَسْتَأْذِنُهُمْ إذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ قَالَ: قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ قَوْمٌ مَا أَحْسَنَهُ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ كَمَا قَالَ. وَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ إذَا جَلَسُوا إلَيْهِ فَأَرَادَ الْقِيَامَ اسْتِئْذَانُهُمْ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ كَانَ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، فَكُنْت رُبَّمَا غَمَزْت بَعْضَ أَصْحَابِنَا فَأَقُولُ قُمْ فَإِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَقُومَ وَقَالَ أَبُو دَاوُد: رَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَكُنَّا نَقْعُدُ إلَيْهِ كَثِيرًا فَيَقُومُ لَا يَسْتَأْذِنُنَا وَقَالَ الْبُخَارِيُّ (بَابُ مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ أَوْ بَيْتِهِ وَلَمْ يَسْتَأْذِنْ أَصْحَابَهُ أَوْ تَهَيَّأَ لِلْقِيَامِ لِيَقُومَ النَّاسُ) وَذَكَرَ وَلِيمَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى زَيْنَبَ وَجُلُوسَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ وَقَالَ (بَابُ مَنْ اتَّكَأَ بَيْنَ يَدَيْ أَصْحَابِهِ) وَذَكَرَ فِعْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَرَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ تَمَّامِ بْنِ نَجِيحٍ ضَعَّفَهُ الْأَكْثَرُ عَنْ كَعْبٍ الْإِيَادِيِّ تَفَرَّدَ عَنْهُ تَمَّامٌ قَالَ: كُنْت أَخْتَلِفُ إلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا جَلَسَ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ فَقَامَ فَأَرَادَ الرُّجُوعَ نَزَعَ نَعْلَهُ أَوْ بَعْضَ مَا يَكُونُ عَلَيْهِ فَعَرَفَ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ فَيَثْبُتُونَ» .

فصل في تعلم الأدب وحسن السمت والسيرة والمعاشرة والاقتصاد

[فَصْلٌ فِي تَعَلُّمِ الْأَدَبِ وَحُسْنِ السَّمْتِ وَالسِّيرَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ وَالِاقْتِصَادِ] وَيُسَنُّ أَنْ يُتَعَلَّمَ الْأَدَبُ وَالسَّمْتُ وَالْفَضْلُ وَالْحَيَاءُ وَحُسْنُ السِّيرَةِ شَرْعًا وَعُرْفًا قَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا حَسَنٌ ثَنَا زُهَيْرٌ ثَنَا قَابُوسُ بْنُ أَبِي ظَبْيَانَ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ الْهَدْيَ الصَّالِحَ وَالسَّمْتَ الصَّالِحَ وَالِاقْتِصَادَ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ» قَابُوسٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ النُّفَيْلِيِّ عَنْ زُهَيْرٍ قَالَ فِي النِّهَايَةِ: " الْهَدْيُ السِّيرَةُ وَالْهَيْئَةُ وَالطَّرِيقَةُ " وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ هَذِهِ الْخِلَالَ مِنْ شَمَائِلِ الْأَنْبِيَاءِ وَمِنْ جُمْلَةِ خِصَالِهِمْ وَأَنَّهَا جُزْءٌ مَعْلُومٌ مِنْ أَجْزَاءِ أَفْعَالِهِمْ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ النُّبُوَّةَ تَتَجَزَّأُ وَلَا أَنَّ مَنْ جَمَعَ هَذِهِ الْخِلَالَ كَانَ فِيهِ جُزْءٌ مِنْ النُّبُوَّةِ فَإِنَّ النُّبُوَّةَ غَيْرُ مُكْتَسَبَةٍ وَلَا مُجْتَلَبَةٍ بِالْأَسْبَابِ وَإِنَّمَا هِيَ كَرَامَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالنُّبُوَّةِ مَا جَاءَتْ بِهِ النُّبُوَّةُ وَدَعَتْ إلَيْهِ وَتَخْصِيصُ هَذَا الْعَدَدِ مِمَّا يَسْتَأْثِرُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَعْرِفَتِهِ. وَهَذَا الْخَبَرُ فِي الْمُوَطَّأِ وَلَفْظُهُ «الْقَصْدُ وَالتُّؤَدَةُ وَحُسْنُ السَّمْتِ» وَذَكَرَهُ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ إسْنَادٌ جَيِّدٌ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَفِيهِ «جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ» وَتَرْجَمَ أَبُو دَاوُد عَلَى الْحَدِيثَيْنِ الصَّحِيحَيْنِ الْمَشْهُورَيْنِ قَوْلَ أَنَسٍ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا مَشَى كَأَنَّهُ يَتَوَكَّأُ، وَقَوْلَ أَبِي الطُّفَيْلِ كَانَ إذَا مَشَى كَأَنَّمَا يَهْوِي فِي صَبُوبٍ (بَابٌ فِي هَدْيِ الرَّجُلِ) يُرْوَى صَبُوبٌ بِالْفَتْحِ وَهُوَ اسْمٌ لِمَا يُصَبُّ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ مَاءٍ وَغَيْرِهِ كَالطَّهُورِ وَالْغَسُولِ، وَبِالضَّمِّ جَمْعُ صَبَبٍ أَيْ فِي مَوْضِعٍ مُنْحَدِرٍ، وَقِيلَ: الصَّبُّ وَالصَّبُوبُ تَصَوُّبُ نَهْرٍ أَوْ طَرِيقٍ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ كَانُوا إذَا أَتَوْا الرَّجُلَ لِيَأْخُذُوا عَنْهُ نَظَرُوا إلَى سَمْتِهِ وَإِلَى صَلَاتِهِ وَإِلَى حَالِهِ ثُمَّ يَأْخُذُونَ عَنْهُ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ جَمَاعَةٍ.

وَأَنْ يُحَسِّنَ خُلُقَهُ وَصُحْبَةَ وَالِدَيْهِ وَغَيْرِهِمَا وَأَنْ يَقُولَ مَا وَرَدَ إذَا رَكِبَ دَابَّةً أَوْ غَيْرَهَا أَوْ سَافَرَ أَوْ وَدَّعَ مُسَافِرًا أَوْ يَقُولَ لِلسَّائِلِ رَزَقَنَا اللَّهُ، وَإِيَّاكَ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِلسَّائِلِ ذَلِكَ وَرَوَى اللَّفْظَ الْأَوَّلَ عَنْهُ جَعْفَرُ وَالثَّانِيَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ لَا تَقُولُوا لِلسَّائِلِ بُورِكَ فِيك فَإِنَّهُ قَدْ يَسْأَلُ الْكَافِرُ وَالْمُسْلِمُ وَلَكِنْ قُولُوا رَزَقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ. وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا ذُكِرَ أَحَدٌ عِنْدَهُ فَدَعَا لَهُ بَدَأَ بِنَفْسِهِ» إسْنَادٌ جَيِّدٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ابْدَأْ بِنَفْسِك» وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَمْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي بَابِ الْأَدَبِ: كَتَبَ أَحْمَدُ مَعِي كِتَابًا إلَى رَجُلٍ فَأَمَرَنِي الرَّجُلُ فَقَرَأْته فَكَانَ فِيهِ وَكَفَانَا وَإِيَّاكَ كُلَّ مُهِمٍّ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ذَكَرَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَوْلَهُ «رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى مُوسَى» إنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ نَفْسِهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الْآخِرَةِ وَأَنَّ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا الْمُسْتَحَبَّ تَقْدِيمُ غَيْرِهِ وَإِيثَارُهُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى: 10] قِيلَ طَالِبُ الْعِلْمِ وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ الْمُرَادُ بِهِ سَائِلُ الْبِرِّ وَالْمَعْنَى: لَا تَنْهَرْهُ إمَّا أَنْ تُعْطِيَهُ وَإِمَّا أَنْ تَرُدَّهُ رَدًّا لَيِّنًا قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَالْبَغَوِيُّ: يُقَالُ نَهَرَهُ يَنْتَهِرُهُ إذَا اسْتَقْبَلَهُ بِكَلَامٍ يَزْجُرُهُ انْتَهَى كَلَامُهُمَا فَهَذَا الْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا لَوْ رَدَّهُ بِلِينٍ فَلَمْ يَقْبَلْ وَأَلَحَّ كَفِعْلِ بَعْضِ السُّؤَالِ سَقَطَ احْتِرَامُهُ وَيُؤَدَّبُ بِلُطْفٍ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ وَالْمَصْلَحَةُ ثُمَّ قَدْ يُقَالُ هُوَ أَوْلَى

مِنْ تَرْكِهِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ، لَا سِيَّمَا إنْ قَالَ أَوْ فَعَلَ مَا لَا يَنْبَغِي لِمَا فِيهِ مِنْ زَجْرِهِ وَتَهْذِيبِهِ وَتَقْوِيمِهِ فَهُوَ إحْسَانٌ إلَيْهِ مَعَ إقَامَةِ الشَّرْعِ فِي عُقُوبَةِ الْمُعْتَدِي وَقَدْ يُقَالُ الصَّبْرُ عَلَيْهِ أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة: 263] . إنَّ ابْنَ دُرَيْدٍ قَصَدَ بَعْضَ الْوُزَرَاءِ فِي حَاجَةٍ لَمْ يَقْضِهَا فَظَهَرَ مِنْهُ ضَجَرٌ فَأَنْشَدَهُ: لَا يَدْخُلَنَّكَ ضَجْرَةٌ مِنْ سَائِلِ ... فَلَخَيْرُ دَهْرِك أَنْ تُرَى مَسْئُولَا لَا تَجْبَهَنْ بِالرَّدِّ وَجْهَ مُؤَمِّلِ ... فَبَقَاءُ عِزِّك أَنْ تُرَى مَأْمُولَا تَلْقَى الْكَرِيمَ فَيَسْبِقَنَّكَ بِشْرُهُ ... وَتَرَى الْعُبُوسَ عَلَى اللَّئِيمِ دَلِيلَا وَاعْلَمْ بِأَنَّك عَنْ قَلِيلٍ صَائِرُ ... خَبَرًا فَكُنْ خَبَرًا يَرُوقُ جَمِيلَا وَيَقُولُ لِلْمُسَافِرِ سَفَرًا مُبَاحًا: أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَك وَخَوَاتِيمَ عَمَلِك وَزَوَّدَك اللَّهُ التَّقْوَى. وَقَالَ صَالِحٌ لِأَبِيهِ: الْمَرْأَةُ تَقُولُ لِأَبِيهَا: اللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَيْك قَالَ لَوْ اسْتَوْدَعْته اللَّهَ كَانَ أَحَبَّ إلَيَّ، فَأَمَّا خَلِيفَتِي فَمَا أَدْرِي. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِي حَدِيثِ الدَّجَّالِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: اللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» . فِي حَوَاشِي تَعْلِيقِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى قَالَ عِيسَى بْنُ جَعْفَرٍ وَدَّعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ حِينَ أَرَدْت الْخُرُوجَ إلَى بَابِلَ فَقَالَ: لَا جَعَلَهُ اللَّهُ آخِرَ الْعَهْدِ مِنَّا وَمِنْك. وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْهُ قَالَ «اسْتَأْذَنْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعُمْرَةِ فَأَذِنَ وَقَالَ: لَا تَنْسَنَا يَا أَخِي مِنْ دُعَائِك فَقَالَ: كَلِمَةٌ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا الدُّنْيَا.» وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «أَشْرِكْنَا يَا أَخِي فِي دُعَائِك» . وَعَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَزَادَ: " عَلَى وَلَدِهِ " وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَلَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ لِوَلَدِهِ وَأَبُو جَعْفَرٍ تَفَرَّدَ عَنْهُ يَحْيَى. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَالصَّائِمُ حِينَ يُفْطِرُ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ»

رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَعِنْدَهُ قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ مِمَّ خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ؟ قَالَ: " مِنْ الْمَاءِ ". وَرَوَى أَحْمَدُ ثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ ثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي إذَا رَأَيْتُك طَابَتْ نَفْسِي، وَقَرَّتْ عَيْنِي، فَأَنْبِئْنِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ» إسْنَادٌ جَيِّدٌ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِلرَّجُلِ أُوَدِّعُك كَمَا «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوَدِّعُنَا فَيَقُولُ: أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَك وَأَمَانَتَك وَخَوَاتِيمَ عَمَلِك» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخِطْمِيِّ الصَّحَابِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَالْمُرَادُ بِالْأَمَانَةِ هَاهُنَا أَهْلُهُ وَمَنْ يَخْلُفُهُ مِنْهُمْ وَمَالُهُ الَّذِي يُودِعُهُ وَيَسْتَحْفِظُهُ أَمِينَهُ وَوَكِيلَهُ، وَجَرَى ذِكْرُ الدِّينِ مَعَ الْوَدَائِعِ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِإِهْمَالِ بَعْضِ الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالدِّينِ فَدَعَا لَهُ بِالْمَعُونَةِ وَالتَّوْفِيقِ فِيهَا. ذَكَرَ ذَلِكَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ. «وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أُرِيدُ سَفَرًا فَزَوِّدْنِي قَالَ: زَوَّدَك اللَّهُ التَّقْوَى قَالَ: زِدْنِي قَالَ: وَغَفَرَ ذَنْبَكَ قَالَ: زِدْنِي قَالَ: وَيَسَّرَ لَك الْخَيْرَ حَيْثُ مَا كُنْت.» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ: إذَا خَرَجَ أَحَدُكُمْ إلَى سَفَرٍ فَلْيُوَدِّعْ إخْوَانَهُ فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ فِي دُعَائِهِمْ بَرَكَةً قَالَ: وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: السُّنَّةُ إذَا قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ سَفَرٍ أَنْ يَأْتِيَهُ إخْوَانُهُ فَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ، وَإِذَا خَرَجَ إلَى سَفَرٍ أَنْ يَأْتِيَهُمْ فَيُوَدِّعُهُمْ وَيَغْنَمُ دُعَاءَهُمْ. وَقَدْ قِيلَ: فِرَاقُك مِثْلُ فِرَاقِ الْحَيَاةِ ... وَفَقْدُك مِثْلُ افْتِقَادِ الدِّيَمِ وَقِيلَ: عَلَيْك السَّلَامُ فَكَمْ مِنْ وَفَا ... أُفَارِقُ مِنْك وَكَمْ مِنْ كَرَمْ

وَقِيلَ: لَمْ أَنْسَ يَوْمَ الرَّحِيلِ مَوْقِفَهَا ... وَطَرْفُهَا فِي دُمُوعِهَا غَرِقُ وَقَوْلَهَا وَالرِّكَابُ وَاقِفَةٌ ... تَتْرُكُنِي هَكَذَا وَتَنْطَلِقُ وَقِيلَ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْفِرَاقِ وَإِنْ كَانَ ... أَخُو الْوَجْدِ وَالِهًا كَلِفَا أَحْرَقَ مِنْ وَقْفَةِ الْمُشَيِّعِ لِلْقَلْبِ ... يُرِيدُ الرُّجُوعَ مُنْصَرِفَا وَقِيلَ: أَقُولُ لَهُ حِينَ وَدَّعْته ... وَكُلٌّ بِعَبْرَتِهِ مُفْلِسُ لَئِنْ رَجَعَتْ عَنْك أَجْسَامُنَا ... لَقَدْ سَافَرَتْ مَعَك الْأَنْفُسُ وَقِيلَ: يَا رَاحِلَ الْعِيسِ عَرِّجْ بِي أُوَدِّعْهُمْ ... يَا رَاحِلَ الْعِيسِ فِي تَرْحَالِكَ الْأَجَلُ إنِّي عَلَى الْعَهْدِ لَمْ أَنْقُضْ مَوَدَّتَهُمْ ... يَا لَيْتَ شِعْرِي لِطُولِ الْعَهْدِ مَا فَعَلُوا صَاحَ الْغُرَابُ بِوَشْكِ الْبَيْنِ فَارْتَحَلُوا ... وَقَرَّبُوا الْعِيسَ قَبْلَ الصُّبْحِ وَاحْتَمَلُوا وَغَادَرُوا الْقَلْبَ مَا تَهْدَا لَوَاعِجُهُ ... كَأَنَّهُ بِضِرَامِ النَّارِ يَشْتَعِلُ وَفِي الْجَوَانِحِ نَارُ الْحُبِّ تَقْدَحُهَا ... أَيْدِي النَّوَى بِزِنَادِ الشَّوْقِ إذْ رَحَلُوا وَقِيلَ: أُهْدِي إلَيْهِ سَفَرْجَلًا فَتَطَيَّرَا ... مِنْهُ وَظَلَّ مُفَكِّرًا مُتَحَيِّرَا خَوْفَ الْفِرَاقِ لِأَنَّ شَطْرَ هِجَائِهِ ... سَفَرٌ وَحُقَّ لَهُ بِأَنْ يَتَطَيَّرَا وَدَّعَ أَعْرَابِيٌّ رَجُلًا فَقَالَ: كَبَتَ اللَّهُ لَك كُلَّ عَدُوٍّ إلَّا نَفْسَك، وَجَعَلَ خَيْرَ عَمَلِك مَا وَلِيَ أَجَلَك قَالَ الشَّاعِرُ: وَكُلُّ مُصِيبَاتِ الزَّمَانِ وَجَدْتهَا ... سِوَى فُرْقَةِ الْأَحْبَابِ هَيِّنَةَ الْخَطْبِ

وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارِجًا إلَى سَفَرٍ كَبَّرَ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13] {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 14] . اللَّهُمَّ إنَّا نَسْأَلُك فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنْ الْعَمَلِ مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ، وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَالِ وَالْأَهْلِ وَإِذَا رَجَعَ قَالَهُنَّ وَزَادَ فِيهِنَّ آيِبُونَ تَائِبُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. مَعْنَى مُقْرِنِينَ (مُطِيقِينَ) . وَاحْتَجَّ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ عَلَى كَرَاهَةِ أَوَّلِ اللَّيْلِ بِحَدِيثِ جَابِرٍ الْآتِي فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ «لَا تُرْسِلُوا مَوَاشِيَكُمْ إذَا غَابَتْ الشَّمْسُ حَتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ» وَقَالَ: (بَابٌ فِي أَيِّ يَوْمٍ يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ؟) وَذَكَرَ حَدِيثَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَقَالَ: «قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْرُجُ فِي سَفَرٍ إلَّا يَوْمَ الْخَمِيسِ» ، وَلِأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ إلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَخْرُجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ» وَقَالَ: (بَابٌ فِي الِابْتِكَارِ فِي السَّفَرِ) وَذَكَرَ حَدِيثَ صَخْرٍ الْغَامِدِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا» . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا «إذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا مِثْلُهُ رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد وَإِسْنَادُهُمَا جَيِّدٌ، وَفِيهِمَا ابْنُ عَجْلَانَ وَحَدِيثُهُ حَسَنٌ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا «لَا يَحِلُّ لِثَلَاثَةٍ يَكُونُونَ بِفَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ إلَّا أَمَّرُوا عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ» رَوَاهُ أَحْمَدُ قَالَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ فِي أَحْكَامِهِ (بَابُ وُجُوبِ نَصْبِهِ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ وَالْإِمَارَةِ وَغَيْرِهِمَا) وَذَكَرَ هَذِهِ الْأَخْبَارَ. وَقَالَ حَفِيدُ الشَّيْخِ مَجْدِ الدِّينِ فَأَوْجَبَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَأْمِيرَ الْوَاحِدِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْقَلِيلِ الْعَارِضِ فِي السَّفَرِ تَنْبِيهًا بِذَلِكَ عَلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ الِاجْتِمَاعِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَوُجُوبُ هَذَا يُخَرَّجُ عَلَى وِلَايَةِ الْقَضَاءِ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ (أَشْهَرُهُمَا)

يَجِبُ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد (بَابٌ فِيمَا يُسْتَحَبُّ مِنْ الْجُيُوشِ وَالرُّفَقَاءِ وَالسَّرَايَا) وَذَكَرَ خَبَرَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَشْهُورَ خَيْرُ الصَّحَابَةِ أَرْبَعَةٌ، وَخَيْرُ السَّرَايَا أَرْبَعُمِائَةٍ وَخَيْرُ الْجُيُوشِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَلَنْ يُغْلَبَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ. قَالَ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ طُرُوقًا قَالَ: نَعَمْ يُؤْذِنُهُمْ قِيلَ بِكِتَابٍ قَالَ: نَعَمْ» وَهَذَا الْخَبَرُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَفِي آخِرِهِ كَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ، وَتَسْتَحِدَّ الْمُغَيَّبَةُ، وَفِي مُسْلِمٍ يَتَخَوَّنُهُمْ أَوْ يَطْلُبُ عَثَرَاتِهِمْ. . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَطَالَ الرَّجُلُ الْغَيْبَةَ أَنْ يَجِيءَ أَهْلَهُ طُرُوقًا» . وَهُوَ بِضَمِّ الطَّاءِ أَيْ لَيْلًا، يُقَالُ لِكُلِّ مَنْ أَتَاك لَيْلًا طَارِقٌ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1] . أَيْ النَّجْمِ لِأَنَّهُ يَطْرُقُ بِطُلُوعِهِ لَيْلًا، وَقَوْلُهُ تَسْتَحِدَّ أَيْ تُصْلِحَ مِنْ شَأْنِ نَفْسِهَا، وَالِاسْتِحْدَادُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْحَدِيدِ وَمَعْنَاهُ الِاحْتِلَاقُ بِالْمُوسَى، يُقَالُ: اسْتَحَدَّ الرَّجُلُ إذَا احْتَلَقَ بِالْحَدِيدِ، وَاسْتَبَانَ مَعْنَاهُ إذَا حَلَقَ عَانَتَهُ وَيَتَوَجَّهُ أَنَّ مَنْ يَعْمَلُهُ طَلَبًا لِلْعَثَرَاتِ حَرُمَ لِأَنَّهُ مِنْ التَّجَسُّسِ، وَإِلَّا كَرُهَ. وَإِنَّمَا خَصَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اللَّيْلَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ لَا لِاخْتِصَاصِ الْحُكْمِ. وَقَوْلُ أَحْمَدَ يُؤْذِنُهُمْ بِكِتَابٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَإِلَّا لَقَالَ يَدْخُلُ نَهَارًا وَالْمَعْنَى يَقْتَضِي ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ ذَكَرْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَجُلًا مِنْ الْمُحَدِّثِينَ، فَقَالَ: إنَّمَا أَنْكَرْت عَلَيْهِ أَنْ لَيْسَ زِيُّهُ زِيَّ النُّسَّاكِ.

فصل فيما يستحب في السفر والعود منه من ذكر وعمل

[فَصْلٌ فِيمَا يُسْتَحَبُّ فِي السَّفَرِ وَالْعَوْدِ مِنْهُ مِنْ ذِكْرٍ وَعَمَلٍ] عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ النَّاسُ إذَا نَزَلُوا مَنْزِلًا تَفَرَّقُوا فِي الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ تَفَرُّقَكُمْ فِي هَذِهِ الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ إنَّمَا ذَلِكُمْ مِنْ الشَّيْطَانِ» فَلَمْ يَنْزِلُوا بَعْدَ ذَلِكَ مَنْزِلًا إلَّا انْضَمَّ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ. إسْنَادُهُ جَيِّدٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَالْمُرَادُ بِحَيْثُ لَا يُضَيِّقُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُد (بَابُ مَا يُؤْمَرُ مِنْ انْضِمَامِ الْعَسْكَرِ) ثُمَّ رَوَى بَعْدَ هَذَا الْخَبَرِ: ثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ ثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ أَسِيد بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخَثْعَمِيِّ عَنْ فَرْوَةَ بْنِ مُجَاهِدٍ اللَّخْمِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «غَزَوْت مَعَ نَبِيِّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَزْوَةَ كَذَا وَكَذَا فَضَيَّقَ النَّاسُ الْمَنَازِلَ وَقَطَعُوا الطَّرِيقَ فَبَعَثَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنَادِيًا يُنَادِي فِي النَّاسِ أَنَّ مَنْ ضَيَّقَ مَنْزِلًا أَوْ قَطَعَ طَرِيقًا فَلَا جِهَادَ لَهُ» إسْمَاعِيلُ حَدِيثُهُ حَسَنٌ عَنْ الشَّامِيِّينَ وَأُسِيدُ مِنْ الرَّمْلَةِ وَسَهْلٌ رَوَى عَنْهُ أَئِمَّةٌ وَهُوَ فِي ثِقَاتِ ابْنِ حِبَّانَ وَضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ. وَالْمُرَادُ لَا جِهَادَ لَهُ كَامِلٌ لِفِعْلِهِ الْمُحَرَّمَ وَعَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «الْأَرْضُ تُطْوَى بِاللَّيْلِ» حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا «إذَا سِرْتُمْ فِي الْخِصْبِ فَأَمْكِنُوا الرِّكَابَ أَسْنَانَهَا وَلَا تُجَاوِزُوا الْمَنَازِلَ، وَإِذَا سِرْتُمْ فِي الْجَدْبِ فَاسْتَجِدُّوا وَعَلَيْكُمْ بِالدَّلْجِ فَإِنَّ الْأَرْضَ تُطْوَى بِاللَّيْلِ، وَإِذَا تَغَوَّلَ لَكُمْ الْغِيلَانُ فَنَادُوا بِالْأَذَانِ وَإِيَّاكُمْ وَالصَّلَاةَ عَلَى جَوَادِّ الطُّرُقِ وَالنُّزُولَ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا مَأْوَى الْحَيَّاتِ وَالسِّبَاعِ وَقَضَاءَ الْحَاجَةِ فَإِنَّهَا الْمَلَاعِنُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنَّا إذَا صَعِدْنَا كَبَّرْنَا وَإِذَا نَزَلْنَا سَبَّحْنَا.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجُيُوشُهُ إذَا عَلَوْا الثَّنَايَا كَبَّرُوا وَإِذَا هَبَطُوا سَبَّحُوا.» وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنَّا إذَا نَزَلْنَا مَنْزِلًا نُسَبِّحُ حَتَّى نَحُلَّ الرِّحَالَ» . إسْنَادُهُمَا جَيِّدٌ رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ.

وَقَدْ وَرَدَ التَّكْبِيرُ وَالتَّسْبِيحُ عِنْدَ التَّعَجُّبِ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ (بَابُ التَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيحِ عِنْدَ التَّعَجُّبِ) وَذَكَرَ قَوْلَ عُمَرَ «قُلْت لِلنَّبِيِّ: أَطَلَّقْتَ نِسَاءَك؟ قَالَ: لَا قُلْت: اللَّهُ أَكْبَرُ.» وَقَوْلَ أُمِّ سَلَمَةَ «اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْخَزَائِنِ» «وَقَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأَنْصَارِيَّيْنِ: إنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ قَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ» . وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ تُلُقِّيَ بِالصِّبْيَانِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ قَالَ: وَإِنَّهُ قَدِمَ مَرَّةً مِنْ سَفَرِهِ فَسَبَقَ بِي إلَيْهِ فَحَمَلَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ جِيءَ بِأَحَدِ ابْنَيْ فَاطِمَةَ إمَّا حَسَنٌ وَإِمَّا حُسَيْنٌ فَأَرْدَفَهُ خَلْفَهُ قَالَ: فَدَخَلْنَا الْمَدِينَةَ ثَلَاثَةً عَلَى دَابَّةٍ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُد (بَابٌ فِي رُكُوبِ ثَلَاثَةٍ عَلَى دَابَّةٍ) . وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَّ عَلَى رَحْلٍ وَكَانَتْ زَامِلَتَهُ» وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ اسْتَقْبَلَهُ أُغَيْلِمَةُ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَحَمَلَ وَاحِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَآخَرَ خَلْفَهُ» . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ أَبِي الْعَنْبَسِ عَنْ زَاذَانَ قَالَ: «رَأَى عَلِيٌّ ثَلَاثَةً عَلَى بَغْلٍ فَقَالَ: لِيَنْزِلْ أَحَدُكُمْ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَنَ الثَّالِثَ» . إسْنَادٌ جَيِّدٌ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الدَّابَّةَ لَمْ تَطُقْ الثَّلَاثَةَ وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَمَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا فَقَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ خَوْلَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَوْمَهُ فَإِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ نَهْمَتَهُ مِنْ سَفَرٍ فَلْيُعَجِّلْ إلَى أَهْلِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، نَهْمَتُهُ مَقْصُودُهُ.

فصل ما يحرم من سفر المرأة مع غير ذي رحم محرم منها

[فَصْلٌ مَا يَحْرُمُ مِنْ سَفَرِ الْمَرْأَةِ مَعَ غَيْرِ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا] قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُسَافِرَ مَعَ غَيْرِ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا سَفَرَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَأَكْثَرَ، وَقِيلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَأَكْثَرَ لَا فِي حَجِّ فَرِيضَةٍ وَلَا نَافِلَةٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ ضَرُورَةٍ وَخَوْفٍ عَلَى نَفْسِهَا وَقَالَ فِي التَّلْخِيصِ: وَفِي اعْتِبَارِ الْمَحْرَمِ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ رِوَايَتَانِ وَقَدَّمَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَالرِّعَايَةِ اعْتِبَارَ الْمَحْرَمِ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ السَّفَرَ الْقَصِيرَ عِنْدَنَا مَا دُونَ الْيَوْمَيْنِ، وَعَنْ أَحْمَدَ لَا يُعْتَبَرُ الْمَحْرَمُ فِي سَفَرِ الْحَجِّ الْوَاجِبِ. وَالْمَذْهَبُ اعْتِبَارُهُ، وَهَلْ لَهُ أَنْ يُرْدِفَهَا عَلَى الدَّابَّةِ مَعَ الْأَمْنِ وَعَدَمِ سُوءِ الظَّنِّ؟ يَتَوَجَّهُ خِلَافٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ إرَادَتَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ يُرْدِفَ أَسْمَاءً يَخْتَصُّ بِهِ. وَاخْتَارَ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَاوِيُّ الْجَوَازَ وَاخْتَارَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الْمَنْعَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي كَرَاهَةِ سَفَرِ الرَّجُلِ وَمَبِيتِهِ وَحْدَهُ] قَالَ الْخَلَّالُ (مَا يُكْرَهُ أَنْ يَبِيتَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ أَوْ يُسَافِرَ وَحْدَهُ) أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ سَمِعْت أَبِي يَقُولُ لَا يُسَافِرُ الرَّجُلُ وَحْدَهُ وَلَا يَبِيتُ الرَّجُلُ فِي بَيْتٍ وَحْدَهُ وَقَالَ جَعْفَرٌ سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يَبِيتُ وَحْدَهُ قَالَ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَتَوَقَّى ذَلِكَ قَالَ: وَسَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يُسَافِرُ وَحْدَهُ قَالَ: لَا يُعْجِبُنِي. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ: مَا أُحِبُّ ذَلِكَ يَعْنِي فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ إلَّا أَنْ يُضْطَرَّ مُضْطَرٌّ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ فِي الرَّجُلِ يَسِيرُ وَحْدَهُ:

مَعَ الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إلَيَّ. وَقَالَ: قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَزِيدَ إلَى رَجُلٍ وَقَالَ أَبُو دَاوُد (بَابٌ فِي الرَّجُلِ يُسَافِرُ وَحْدَهُ) ثَنَا الْقَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرَّاكِبُ شَيْطَانٌ وَالرَّاكِبَانِ شَيْطَانَانِ وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ» حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ.

فصل فيما يقول من انفلتت دابته أو ضل الطريق

[فَصْلٌ فِيمَا يَقُولُ مِنْ انْفَلَتَتْ دَابَّتُهُ أَوْ ضَلَّ الطَّرِيقَ] وَرَوَى ابْنُ السُّنِّيِّ فِي كِتَابِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا انْفَلَتَتْ دَابَّةُ أَحَدِكُمْ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ فَلْيَقُلْ يَا عِبَادَ اللَّهِ احْبِسُوا فَإِنَّ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ حَاضِرًا سَيَحْبِسُهُ» قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إمَامِنَا أَحْمَدَ سَمِعْت أَبِي يَقُولُ: حَجَجْت خَمْسَ حِجَجٍ مِنْهَا اثْنَتَيْنِ رَاكِبًا وَثَلَاثًا مَاشِيًا فَجَعَلْت أَقُولُ يَا عِبَادَ اللَّهِ دُلُّونَا عَلَى الطَّرِيقِ فَلَمْ أَزَلْ أَقُولُ ذَلِكَ حَتَّى وَقَعْت عَلَى الطَّرِيقِ، أَوْ كَمَا قَالَ أَبِي.

فصل فيما يقال عند أخذ الرجل شيئا من لحية الرجل

[فَصْلٌ فِيمَا يُقَالُ عِنْدَ أَخْذِ الرَّجُلِ شَيْئًا مِنْ لِحْيَةِ الرَّجُلِ] قَالَ الْخَلَّالُ فِي الْأَدَبِ الرَّجُلُ يَأْخُذُ الشَّيْءَ مِنْ لِحْيَةِ الرَّجُلِ قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْخَفَّافُ: أَخَذَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مِنْ لِحْيَةِ رَجُلٍ شَيْئًا فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَيْشٍ أَحْسَنُ شَيْءٍ فِي هَذَا؟ فَقَالَ: فِيهِ شَيْءٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: لَا عَدِمْت نَافِعًا قَالَ الْخَلَّالُ وَأَخْبَرَنِي الْعَبَّاسُ الْمَدِينِيُّ قَالَ: سَمِعْت عَبَّاسَ بْنَ صَالِحٍ يَقُولُ: وَقَدْ أَخَذَ رَجُلٌ مِنْ لِحْيَتِهِ شَيْئًا فَقَالَ لَهُ عَبَّاسٌ لَا عَدِمْت نَافِعًا قَالَ: يَعْنِي كُلَّ شَيْءٍ نَفَعَهُ لَا عَدِمَهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ (بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ وَأُنْسِ الْمَجَالِسِ لَهُ) عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: لَوْ أَنَّ إنْسَانًا أَخَذَ مِنْ رَأْسِي شَيْئًا قُلْت: صَرَفَ اللَّهُ عَنْك السُّوءَ. وَعَنْ عُمَرَ قَالَ: إذَا أَخَذَ أَحَدٌ عَنْك شَيْئًا فَقُلْ أَخَذْت بِيَدِك خَيْرًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ وَقَدْ أَخَذَ عَنْهُ أَذًى: نَزَعَ اللَّهُ عَنْك مَا تَكْرَهُ يَا أَبَا أَيُّوبَ» . وَفِي الْأَدَبِ لِأَبِي حَفْصٍ الْعُكْبَرِيِّ (مَا يُسْتَحَبُّ إذَا أَخَذَ مِنْ لِحْيَةِ الرَّجُلِ شَيْئًا أَنْ يُرِيَهُ إيَّاهُ) ثُمَّ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَخَذَ مِنْ لِحْيَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَيْئًا وَكَانَ لَا يَزَالُ يَفْعَل ذَلِكَ فَأَخَذَ عُمَرُ يَدَهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَلَمْ يَجِدْ فِيهَا شَيْئًا فَقَالَ: أَمَا اتَّقَيْت اللَّهَ؟ أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْمَلَقَ كَذِبٌ؟ وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ الْحَسَنِ عَنْ عُمَرَ قَالَ: إذَا أَخَذَ أَحَدُكُمْ مِنْ رَأْسِ أَخِيهِ شَيْئًا فَلْيُرِهِ إيَّاهُ قَالَ الْحَسَنُ: نَهَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ الْمَلَقِ.

فصل في كراهة السياحة إلى غير مكان معلوم ولا غرض مشروع

[فَصْلٌ فِي كَرَاهَةِ السِّيَاحَةِ إلَى غَيْرِ مَكَان مَعْلُومٍ وَلَا غَرَضٍ مَشْرُوعٍ] قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: السِّيَاحَةُ فِي الْأَرْضِ لَا لِمَقْصُودٍ وَلَا إلَى مَكَان مَعْرُوفٍ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا تَبَتُّلَ وَلَا سِيَاحَةَ فِي الْإِسْلَامِ» وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مَا السِّيَاحَةُ مِنْ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ، وَلَا مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّينَ وَلَا الصَّالِحِينَ، وَلِأَنَّ السَّفَرَ يُشَتِّتُ الْقَلْبَ فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ يُسَافِرَ إلَّا فِي طَلَبِ عِلْمٍ أَوْ مُشَاهَدَةِ شَيْخٍ يَقْتَدِي بِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِي الْحَدِيثِ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَنَّهُ قَالَ: سِيَاحَةُ أُمَّتِي الصَّوْمُ، وَرَهْبَانِيّتهمْ الْجِهَادُ» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: «سِيَاحَةُ أُمَّتِي الْجِهَادُ وَرَهْبَانِيّتهمْ الْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ» فَأَمَّا الْحَدِيثُ فِي أَنَّ «السِّيَاحَةَ الصَّوْمُ» فَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا قَالَ بَعْضُهُمْ: وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلًا وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فِي أَنَّ «السِّيَاحَةَ الْجِهَادُ» فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْسَبُهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ. وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «رَهْبَانِيَّةُ أُمَّتِي الْجِهَادُ» . وَعَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْله تَعَالَى

{السَّائِحُونَ} [التوبة: 112] قَالَ: هُمْ طَلَبَةُ الْحَدِيثِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْخَيَّاطُ: سَأَلْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ مَا تَقُولُ فِي السِّيَاحَةِ؟ قَالَ: لَا، التَّزْوِيجُ وَلُزُومُ الْمَسْجِدِ. ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَخْضَرِ فِيمَنْ رَوَى عَنْ أَحْمَدَ.

فصل في بر الوالدين وطاعتهما وولي الأمر والزوج والسيد في غير معصية

[فَصْلٌ فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَطَاعَتِهِمَا وَوَلِيِّ الْأَمْرِ وَالزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ] فَصْلٌ (فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَطَاعَتِهِمَا وَوَلِيِّ الْأَمْرِ وَالزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ وَمُعَلِّمِ الْخَيْرِ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ) قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ: وَمِنْ الْوَاجِبِ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَإِنْ كَانَا فَاسِقَيْنِ وَطَاعَتُهُمَا فِي غَيْرِ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ كَانَا كَافِرَيْنِ فَلْيُصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا، وَلَا يُطِعْهُمَا فِي كُفْرٍ وَلَا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَعَلَى الْوَالِدَيْنِ أَنْ يُعَلِّمَا وَلَدَهُمَا الْكِتَابَةَ وَمَا يُتْقِنُ بِهِ دِينَهُ مِنْ فَرَائِضِهِ وَسُنَنِهِ، وَالسِّبَاحَةَ وَالرَّمْيَ وَأَنْ يُوَرِّثَهُ طَيِّبًا، وَعَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللَّهَ لِوَالِدَيْهِ الْمُؤْمِنَيْنِ وَأَنْ يَصِلَ رَحِمَهُ، وَعَلَيْهِ مُوَالَاةُ الْمُؤْمِنِينَ وَالنَّصِيحَةُ لَهُمْ، وَفُرِضَ عَلَيْهِ النَّصِيحَةُ لِإِمَامِهِ، وَطَاعَتُهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَالذَّبُّ عَنْهُ وَالْجِهَادُ بَيْنَ يَدَيْهِ إذَا كَانَ فِيهِ فَضْلٌ لِذَلِكَ، وَاعْتِقَادُ إمَامَتِهِ وَإِنْ بَاتَ لَيْلَةً لَا يَعْتَقِدُ فِيهَا إمَامَتَهُ فَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ كَانَتْ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً. انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ هَارُونَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي غُلَامٍ يَصُومُ وَأَبَوَاهُ يَنْهَيَانِهِ عَنْ الصَّوْمِ التَّطَوُّعِ: مَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَصُومَ إذَا نَهَيَاهُ، لَا أُحِبُّ أَنْ يَنْهَاهُ يَعْنِي عَنْ التَّطَوُّعِ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ فِي رَجُلٍ يَصُومُ التَّطَوُّعَ فَسَأَلَهُ أَبَوَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا أَنْ يُفْطِرَ قَالَ: يُرْوَى عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: يُفْطِرُ وَلَهُ أَجْرُ الْبِرِّ وَأَجْرُ الصَّوْمِ إذَا أَفْطَرَ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى: إذَا أَمَرَهُ أَبَوَاهُ أَنْ لَا يُصَلِّيَ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ قَالَ: يُدَارِيهِمَا وَيُصَلِّي قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: فَفِي الصَّوْمِ كُرِهَ الِابْتِدَاءُ فِيهِ إذَا نَهَاهُ وَاسْتُحِبَّ الْخُرُوجُ مِنْهُ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَقَالَ يُدَارِيهِمَا وَيُصَلِّي. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى خُرُوجِهِ مِنْ صَلَاةِ النَّفْلِ إذَا سَأَلَهُ أَحَدُ وَالِدَيْهِ، ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَسَأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ

يَكُونُ لَهُ وَالِدٌ يَكُونُ جَالِسًا فِي بَيْتٍ مَفْرُوشٍ بِالدِّيبَاجِ يَدْعُوهُ لِيَدْخُلَ عَلَيْهِ قَالَ: لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ قُلْت: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَالِدُهُ أَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: يَلُفُّ الْبِسَاطَ مِنْ تَحْتِ رِجْلَيْهِ وَيَدْخُلُهُ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَمَّادٍ الْمُقْرِي فِي الرَّجُلِ يَأْمُرُهُ وَالِدُهُ بِأَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ لِيُصَلِّيَ بِهِ قَالَ يُؤَخِّرُهَا قَالَ الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ: فَلَوْ كَانَ تَأْخِيرُهَا لَا يَجُوزُ لَمْ تَجِبْ طَاعَتُهُ لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ فِي الرَّجُلِ يَنْهَاهُ أَبُوهُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ قَالَ لَيْسَ طَاعَتُهُ فِي الْفَرْضِ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي التَّعْلِيقِ فِي بَحْثِ مَسْأَلَةِ فُصُولِ الْقُرُبَاتِ عُقَيْبَ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَمَّادٍ فَقَدْ أَمَرَ بِطَاعَةِ أَبِيهِ فِي تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ وَتَرْكِ فَضِيلَةِ أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّهُ قَدْ نُدِبَ إلَى طَاعَةِ أَبِيهِ فِي تَرْكِ صَوْمِ النَّفْلِ وَصَلَاةِ النَّفْلِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قُرْبَةً وَطَاعَةً ثُمَّ ذَكَرَ رِوَايَةَ هَارُونَ الْمَذْكُورَةَ. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ وَأَبِي دَاوُد: إنْ كَانَ لَهُ أَبَوَانِ يَأْمُرَانِهِ بِالتَّزْوِيجِ أَمَرْته أَنْ يَتَزَوَّجَ، أَوْ كَانَ شَابًّا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْعَنَتَ أَمَرْته أَنْ يَتَزَوَّجَ. وَقَالَ الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ إنَّ لِلْوَالِدِ مَنْعَ الْوَلَدِ مِنْ الْخُرُوجِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ لَهُ مَنْعَهُ مِنْ الْغَزْوِ وَهُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، وَالتَّطَوُّعُ أَوْلَى وَقَالَ فِي مَسْأَلَةِ (لَا يُجَاهِدُ مَنْ أَبَوَاهُ مُسْلِمَانِ إلَّا بِإِذْنِهِمَا يَعْنِي تَطَوُّعًا) إنَّ ذَلِكَ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَإِنَّهُ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَاحْتَجَّ بِالْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ فِي ذَلِكَ قَالَ: وَلِأَنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ فَرْضُ عَيْنٍ وَالْجِهَادُ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَفَرْضُ الْعَيْنِ مُقَدَّمٌ، فَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْجِهَادُ سَقَطَ إذْنُهُمَا، وَكَذَلِكَ كُلُّ فَرَائِضِ الْأَعْيَانِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا وَجَبَ كَالْحَجِّ وَصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَالْجُمَعِ وَالسَّفَرِ لِلْعِلْمِ الْوَاجِبِ لِأَنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ فَلَمْ يُعْتَبَرْ إذْنُ الْأَبَوَيْنِ فِيهَا كَالصَّلَاةِ. وَظَاهِرُ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّ التَّطَوُّعَ يُعْتَبَرُ فِيهِ إذْنُ الْوَالِدَيْنِ كَمَا يَقُولهُ فِي الْجِهَادِ وَهُوَ غَرِيبٌ وَالْمَعْرُوفُ اخْتِصَاصُ الْجِهَادِ بِهَذَا

الْحُكْمِ وَالْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُسَافِرُ لِمُسْتَحَبٍّ إلَّا بِإِذْنِهِ كَسَفَرِ الْجِهَادِ. وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ فِي الْحَضَرِ كَالصَّلَاةِ النَّافِلَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ إذْنُهُ وَلَا أَظُنُّ أَحَدًا يَعْتَبِرُهُ وَلَا وَجْهَ لَهُ وَالْعَمَلُ عَلَى خِلَافِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَتَوَجَّهُ أَنْ يُرَادَ بِالسَّفَرِ مَا فِيهِ خَوْفٌ كَالْجِهَادِ مَعَ أَنَّ الْجِهَادَ يُرَادُ بِهِ الشَّهَادَةُ، وَمِثْلُهُ الدُّخُولُ فِيمَا يُخَافُ فِي الْحَضَرِ كَإِطْفَاءِ حَرِيقٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلِهَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي الْمَدِينِ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِ الْغَرِيمِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ فِي الرَّجُلِ يَغْزُو وَلَهُ وَالِدَةٌ قَالَ إذَا أَذِنَتْ لَهُ وَكَانَ لَهُ مَنْ يَقُومُ بِأَمْرِهَا وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد يَظْهَرُ سُرُورُهَا قَالَ: هَلْ تَأْذَنُ لِي قَالَ إنْ أَذِنَتْ لَك مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِي قَلْبِهَا وَإِلَّا فَلَا تَغْزُ وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ كَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ فَرْضٌ قَالَ لَا أَدْرِي قُلْت: فَمَالِكٌ قَالَ: وَلَا أَدْرِي قُلْت: فَتَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا قَالَ فَرْضٌ قَالَ: لَا أَعْلَمُهُ قُلْت: مَا تَقُولُ أَنْتَ فَرْضٌ قَالَ: فَرْضٌ؟ هَكَذَا وَلَكِنْ أَقُولُ وَاجِبٌ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً. ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] وَقَالَ {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14] . قَالَ الْمَيْمُونِيُّ قَالَ: عَلِيٌّ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ «سَأَلْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ» وَيَقُولُ فِي الْجِهَادِ: «الْزَمْهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ عِنْدَ رِجْلَيْهَا» وَيَقُولُ: «ارْجِعْ فَأَضْحِكْهُمَا مِنْ حَيْثُ أَبْكَيْتَهُمَا» قُلْت: فِيهِ تَغْلِيظٌ مِنْ كِتَابٍ وَسُنَّةٍ قَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ الْإِجْمَاعِ قَبْلَ السَّبَقِ وَالرَّمْيِ: اتَّفَقُوا عَلَى

أَنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ فَرْضٌ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ بِرَّ الْجَدِّ فَرْضٌ، كَذَا قَالَ، وَمُرَادُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَاجِبٌ. وَنَقْلُ الْإِجْمَاعِ فِي الْجَدِّ فِيهِ نَظَرٌ، وَلِهَذَا عِنْدَنَا يُجَاهِدُ الْوَلَدُ وَلَا يَسْتَأْذِنُ الْجَدَّ وَإِنْ سَخِطَ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ كَفَّارَةُ الْكَبَائِرِ. وَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ مَكْحُولٍ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَغَيْرِهِ أَيْضًا أَنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ وَاجِبٌ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي زَادِ الْمُسَافِرِ مَنْ أَغْضَبَ وَالِدَيْهِ وَأَبْكَاهُمَا يَرْجِعُ فَيُضْحِكُهُمَا وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ: رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَايَعَهُ فَقَالَ: جِئْت لِأُبَايِعَك عَلَى الْجِهَادِ وَتَرَكْت أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ قَالَ: ارْجِعْ إلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا» وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بَعْدَ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ: هَذَا مُقْتَضَى قَوْلِهِ أَنْ يَبْرَأَ فِي جَمِيعِ الْمُبَاحَاتِ فَمَا أَمَرَاهُ ائْتَمَرَ وَمَا نَهَيَاهُ انْتَهَى، وَهَذَا فِيمَا كَانَ مَنْفَعَةً لَهُمَا وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِيهِ ظَاهِرٌ مِثْلُ تَرْكِ السَّفَرِ وَتَرْكِ الْمَبِيتِ عَنْهُمَا نَاحِيَةً. وَاَلَّذِي يَنْتَفِعَانِ بِهِ وَلَا يُسْتَضَرُّ هُوَ بِطَاعَتِهِمَا فِيهِ قِسْمَانِ: قِسْمٌ يَضُرُّهُمَا تَرْكُهُ فَهَذَا لَا يُسْتَرَابُ فِي وُجُوبِ طَاعَتِهِمَا فِيهِ، بَلْ عِنْدَنَا هَذَا يَجِبُ لِلْجَارِ. وَقِسْمٌ يَنْتَفِعَانِ بِهِ وَلَا يَضُرُّهُ أَيْضًا طَاعَتُهُمَا فِيهِ عَلَى مُقْتَضَى كَلَامِهِ، فَأَمَّا مَا كَانَ يَضُرُّهُ طَاعَتُهُمَا فِيهِ لَمْ تَجِبْ طَاعَتُهُمَا فِيهِ لَكِنْ إنْ شَقَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يَضُرَّهُ وَجَبَ، وَإِنَّمَا لَمْ يُقَيِّدْهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لِأَنَّ فَرَائِضَ اللَّهِ مِنْ الطَّهَارَةِ وَأَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ تَسْقُطُ بِالضَّرَرِ فَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ لَا يَتَعَدَّى ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا بَنَيْنَا أَمْرَ التَّمَلُّكِ فَإِنَّا جَوَّزْنَا لَهُ أَخْذَ مَا لَهُ مَا لَمْ يَضُرُّهُ، فَأَخْذُ مَنَافِعِهِ كَأَخْذِ مَالِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» فَلَا يَكُونُ الْوَلَدُ بِأَكْثَرَ مِنْ الْعَبْدِ. ثُمَّ ذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: نُصُوصُ أَحْمَدَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا طَاعَةَ لَهُمَا فِي تَرْكِ الْفَرْضِ وَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي عَدَمِ تَرْكِ الْجَمَاعَةِ وَعَدَمِ تَأْخِيرِ الْحَجِّ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْحَارِثِ فِي رَجُلٍ تَسْأَلُهُ أُمُّهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهَا مِلْحَفَةً لِلْخُرُوجِ قَالَ: إنْ كَانَ خُرُوجُهَا فِي بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْبِرِّ كَعِيَادَةِ مَرِيضٍ أَوْ جَارٍ أَوْ قَرَابَةٍ لِأَمْرٍ وَاجِبٍ لَا بَأْسَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يُعِينُهَا عَلَى

الْخُرُوجِ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَقِيلَ لَهُ إنْ أَمَرَنِي أَبِي بِإِتْيَانِ السُّلْطَانِ لَهُ عَلَى طَاعَتِهِ قَالَ لَا. وَذَكَرَ أَبُو الْبَرَكَاتِ أَنَّ الْوَالِدَ لَا يَجُوزُ لَهُ مَنْعُ وَلَدِهِ مِنْ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ، وَكَذَا الْمُكْرِي وَالزَّوْجُ وَالسَّيِّدُ وَقَدْ تَقَدَّمَ نَصُّ أَحْمَدَ، وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ صَاحِبِ الْمُحَرَّرِ هَذَا أَنَّ كُلَّ مَا تَأَكَّدَ شَرْعًا لَا يَجُوزُ لَهُ مَنْعُ وَلَدِهِ فَلَا يُطِيعُهُ فِيهِ، وَكَذَا ذَكَرَ صَاحِبُ النَّظْمِ لَا يُطِيعُهُمَا فِي تَرْكِ نَفْلٍ مُؤَكَّدٍ كَطَلَبِ عِلْمٍ لَا يَضُرُّهُمَا بِهِ وَتَطْلِيقِ زَوْجَةٍ بِرَأْيٍ مُجَرَّدٍ قَالَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» وَطَلَاقُ زَوْجَتِهِ لِمُجَرَّدِ هَوًى ضَرَرٌ بِهَا وَبِهِ. وَظَاهِرُ مَا سَبَقَ وُجُوبُ طَاعَةِ الْوَالِدِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا وَجَزَمَ بِهِ صَاحِبُ النَّظْمِ وَظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي الْمُسْتَوْعِبِ السَّابِقِ فِي قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَا فَاسِقَيْنِ لِأَنَّ الْكَافِرَيْنِ لَا تَجِبُ طَاعَتُهُمَا وَيُوَافِقُهُ مَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ أَنَّهُ لَا إذْنَ لَهُمَا فِي الْجِهَادِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَمْ لَا، وَيُعَامِلُهُمَا بِمَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ اتِّبَاعًا لِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «جَاءَتْنِي أُمِّي مُشْرِكَةً فَسَأَلْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصِلُهَا قَالَ نَعَمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتٍ وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْأَكْثَرُونَ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ نَزَلَ فِيهَا {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 8] إلَى آخِرِ الْآيَةِ. فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَقْبَلَ هَدِيَّتَهَا وَأَنْ تُدْخِلَهَا بَيْتَهَا. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ رُخْصَةٌ فِي صِلَةِ الَّذِينَ لَمْ يَنْصِبُوا الْحَرْبَ لِلْمُسْلِمِينَ وَجَوَازِ بِرِّهِمْ وَإِنْ كَانَتْ الْمُوَالَاةُ مُنْقَطِعَةً، وَذُكِرَ عَنْ بَعْضِهِمْ نَسْخُهَا وَاَلَّتِي بَعْدَهَا آيَةُ السَّيْفِ. قَالَ: وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: لَا وَجْهَ لَهُ؛ لِأَنَّ بِرَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُحَارِبِينَ قَرَابَةً كَانُوا أَوْ غَيْرَ قَرَابَةٍ لَا يَحْرُمُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَقْوِيَةٌ عَلَى الْحَرْبِ بِكُرَاعٍ أَوْ سِلَاحٍ، أَوْ دَلَالَةٌ عَلَى عَوْرَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لِحَدِيثِ أَسْمَاءَ.

وَلَنَا قَوْلٌ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِحَرْبِيٍّ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَاحْتَجَّ فِي الْمُغْنِي عَلَيْهِمْ بِإِهْدَاءِ عُمَرَ الْحُلَّةَ الْحَرِيرَ إلَى أَخِيهِ الْمُشْرِكِ وَبِحَدِيثِ أَسْمَاءَ قَالَ: وَهَذَانِ فِيهِمَا صِلَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ وَبِرُّهُمْ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ وَفِيهِ جَوَازُ صِلَةِ الْقَرِيبِ الْمُشْرِكِ وَهَذِهِ الْعِبَارَاتُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ طَاعَةُ الْكَافِرِ كَالْمُسْلِمِ لَا سِيَّمَا فِي تَرْكِ النَّوَافِلِ وَالطَّاعَاتِ وَهَذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ لَكِنْ يُعَامَلُ بِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَا سَبِيلَ لِلْوَالِدَيْنِ الْكَافِرَيْنِ إلَى مَنْعِهِ مِنْ الْجِهَادِ فَرْضًا كَانَ أَوْ نَفْلًا وَطَاعَتُهُمَا حِينَئِذٍ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ مَعُونَةٌ لِلْكُفَّارِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَبَرَّهُمَا وَيُطِيعَهُمَا فِيمَا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ، كَذَا قَالَ وَلَعَلَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ وَإِنَّمَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ. وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَصْحَابِ: إنَّ لِلزَّوْجِ الِاسْتِمْتَاعَ بِزَوْجَتِهِ مَا لَمْ يَشْغَلْهَا عَنْ الْفَرَائِضِ إذَا لَمْ يَضُرَّ بِهَا. وَقَالَ حَنْبَلٌ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَسُئِلَ عَنْ الْمَرْأَةِ تَصُومُ فَيَمْنَعُهَا زَوْجُهَا تَرَى لَهَا أَنْ تَصُومَ؟ قَالَ: لَا تَصُومُ وَلَا تُحْدِثُ فِي نَفْسِهَا مِنْ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهَا، إلَّا الْوَاجِبَ الْفَرْضَ، فَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا تَصُومُ إلَّا بِإِذْنِهِ وَتُطِيعُهُ، وَنَقَلَ حَنْبَلٌ مَعْنَى ذَلِكَ أَيْضًا قَالَ: وَتُطِيعُهُ فِي كُلِّ مَا أَمَرَهَا بِهِ مِنْ الطَّاعَةِ. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ فِي الْعَبْدِ يُرْسِلُهُ مَوْلَاهُ فِي حَاجَةٍ فَتَحْضُرُهُ الصَّلَاةُ قَالَ: إذَا عَلِمَ أَنَّهُ إذَا قَضَى حَاجَةَ مَوْلَاهُ أَصَابَ مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ قَضَى حَاجَةَ مَوْلَاهُ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَجِدُ مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ صَلَّى ثُمَّ قَضَى حَاجَةَ مَوْلَاهُ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ: إنْ وَجَدَ مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ قَضَى حَاجَةَ مَوَالِيهِ وَإِنْ صَلَّى فَلَا بَأْسَ. وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ كَمَا يَجِبُ الْإِغْضَاءُ عَنْ زَلَّاتِ الْوَالِدَيْنِ يَجِبُ الْإِغْضَاءُ عَنْ زَلَّاتِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» وَإِذَا شَبَّهْنَاهُمْ بِالْوَالِدَيْنِ يَجِبُ تَوْقِيرُهُمْ وَاحْتِرَامُهُمْ كَمَا فِي الْوَالِدَيْنِ. وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ مِنْ أَنَّ طَاعَةَ الْإِمَامِ فَرْضٌ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ.

ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَالْآخَرُونَ بِالْإِجْمَاعِ. وَلَعَلَّ مُرَادَ أَصْحَابِ هَذَا الْقَوْلِ مَا يَرْجِعُ إلَى السِّيَاسَةِ وَالتَّدْبِيرِ. وَقَطَعَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِأَنَّهُ تَجِبُ طَاعَتُهُ فِي الطَّاعَةِ، وَتَحْرُمُ فِي الْمَعْصِيَةِ. وَتُسَنُّ فِي الْمَسْنُونِ، وَتُكْرَهُ فِي الْمَكْرُوهِ، وَلَا نِزَاعَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ طَاعَةُ سَيِّدِهِ فَلَوْ قُلْنَا لَيْسَتْ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ غَيْرَ وَاجِبَةٍ عَلَيْهِ لَمْ تَلْزَمْهُ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ أَوْ أَجْبَرَهُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ مَا لَا يَجِبُ بِالشَّرْعِ لَا يَمْلِكُ السَّيِّدُ إجْبَارَهُ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِ التَّعَبُّدِ كَالنَّوَافِلِ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ. وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ وَأَبُو الْمَعَالِي ابْنُ الْمُنَجَّا أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ نَذَرَ الِاسْتِسْقَاءَ مِنْ الْجَدْبِ انْعَقَدَ نَذْرُهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَ غَيْرَهُ بِالْخُرُوجِ مَعَهُ؛ لِأَنَّ نَذْرَهُ انْعَقَدَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ دُونَهُمْ. وَحَكَى ابْنُ حَزْمٍ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ الشُّهُودَ إذَا شَهِدُوا عَلَى السَّارِقِ أَنْ يَلُوا قَطْعَ يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا بِوَاجِبٍ بَلْ طَاعَةُ الْإِمَامِ أَوْ الْأَمِيرِ فِي هَذَا وَاجِبَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِمَشْرُوعٍ وَقَالَ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَاوِيُّ فِي قَوْلِ مَرْوَانَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ: عَزَمْت عَلَيْك إلَّا مَا ذَهَبْت إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ فَرَدَدْت عَلَيْهِ مَا يَقُولُ. يَعْنِي مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ لَهُ. قَالَ: أَيْ أَمَرْتُك أَمْرًا جَازِمًا عَزِيمَةً مُجْتَمِعَةً، وَأَمْرُ وُلَاةِ الْأُمُورِ تَجِبُ طَاعَتُهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ وَقَالَ فِي قَوْلِ عَمَّارٍ لَمَّا حَدَّثَ بِتَيَمُّمِ الْجُنُبِ وَقَالَ لَهُ عُمَرُ: اتَّقِ اللَّهَ يَا عَمَّارُ. قَالَ: إنْ شِئْتَ لَمْ أُحَدِّثْ. مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ تَثَبَّتْ فَلَعَلَّك نَسِيت أَوْ اشْتَبَهَ عَلَيْك، وَمَعْنَى قَوْلِ عَمَّارٍ إنْ رَأَيْتَ الْمَصْلَحَةَ فِي إمْسَاكِي عَنْ التَّحْدِيثِ بِهِ رَاجِحَةً مَصْلَحَةَ تَحْدِيثِي أَمْسَكْتُ فَإِنَّ طَاعَتَك وَاجِبَةٌ عَلَيَّ فِي غَيْرِ الْمَعْصِيَةِ. وَأَصْلُ تَبْلِيغِ هَذِهِ السُّنَّةِ وَالْعِلْمِ قَدْ حَصَلَ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ إنْ شِئْت لَمْ أُحَدِّثْ بِهِ تَحْدِيثًا شَائِعًا. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ» . وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ» مُخْتَصَرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ أُخِذَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ عَلَى ظَاهِرِهِ تَوَجَّهَ أَنْ تُخَرَّجَ مَسْأَلَتُهُ بِمَا لَوْ أُمِرَ بِالصِّيَامِ لِأَجْلِ الِاسْتِسْقَاءِ هَلْ يَجِبُ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -

إذَا وَجَبَ الْعُشْرُ عَلَى فَلَّاحٍ أَوْ غَيْرِهِ وَأَمَرَ وَلِيُّ الْأَمْرِ بِصَرْفِهِ إلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ ذَلِكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَيَنْبَغِي احْتِرَامُ الْمُعَلِّمِ وَالتَّوَاضُعُ لَهُ، وَكَلَامُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ مَعْرُوفٌ وَيَأْتِي ذَلِكَ بَعْدَ نَحْوِ كُرَّاسٍ فِي الْفُصُولِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِفَضَائِلَ أَحْمَدَ وَبَعْدَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ فِي الْعِلْمِ وَالْعَالِمِ وَبَعْدَ فُصُولِ آدَابِ الْإِنْسَانِ فِيمَنْ مَشَى مَعَ إنْسَانٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ قَبْلَ السَّبَقِ وَالرَّمْيِ فِي الْإِجْمَاعِ: اتَّفَقُوا عَلَى إيجَابِ تَوْقِيرِ أَهْلِ الْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ وَالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَلِكَ الْخَلِيفَةُ وَالْفَاضِلُ وَالْعَالِمُ وَذَكَرَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فِي كِتَابِهِ فَاتِحَةِ الْعِلْمِ أَنَّ حَقَّهُ آكَدُ مِنْ حَقِّ الْوَالِدِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِتَحْصِيلِ الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ، وَالْوَالِدُ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْحَيَاةِ الْفَانِيَةِ وَعَلَى هَذَا تَجِبُ طَاعَتُهُ وَتَحْرُمُ مُخَالَفَتُهُ، وَأَظُنُّهُ صَرَّحَ بِذَلِكَ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الْعِلْمِ لَا مُطْلَقًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل هل تجب طاعة الوالدين في تناول الحرام أو ما بعضه حلال وبعضه حرام

[فَصْلٌ هَلْ تَجِبُ طَاعَةُ الْوَالِدَيْنِ فِي تَنَاوُلِ الحرام أَوْ مَا بَعْضُهُ حَلَالٌ وَبَعْضُهُ حَرَامٌ] فَصْلٌ (فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْمُشْتَبَهِ فِيهِ وَحُكْمِ الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ مِنْ الْحَرَامِ) هَلْ تَجِبُ طَاعَةُ الْوَالِدَيْنِ فِي تَنَاوُلِ الْمُشْتَبَهِ وَهُوَ مَا بَعْضُهُ حَلَالٌ وَبَعْضُهُ حَرَامٌ؟ يَنْبَنِي عَلَى مَسْأَلَةِ تَحْرِيمِ تَنَاوُلِهِ وَفِيهَا أَقْوَالٌ فِي الْمَذْهَبِ (أَحَدُهُمَا) التَّحْرِيمُ مُطْلَقًا قَطَعَ بِهِ شَرَفُ الْإِسْلَامِ عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي كِتَابِهِ الْمُنْتَخَبِ ذَكَرَهُ قُبَيْلَ بَابِ الصَّيْدِ. وَعَلَّلَ الْقَاضِي وُجُوبَ الْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ بِتَحْرِيمِ الْكَسْبِ عَلَيْهِ هُنَاكَ لِاخْتِلَاطِ الْأَمْوَالِ لِأَخْذِهِ مِنْ غَيْرِ جِهَتِهِ وَوَضْعِهِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ قَالَ الْأَزَجِيُّ فِي نِهَايَتِهِ هُوَ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ كَمَا قُلْنَا فِي اشْتِبَاهِ الْأَوَانِي الطَّاهِرَةِ بِالنَّجِسَةِ، وَقَدَّمَهُ أَبُو الْخَطَّابِ فِي الِانْتِصَارِ فِي مَسْأَلَةِ اشْتِبَاهِ الْأَوَانِي. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الَّذِي يَتَعَامَلُ بِالرِّبَا يُؤْكَلُ عِنْدَهُ قَالَ: لَا، قَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ، وَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْوُقُوفِ عِنْدَ الشُّبْهَةِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ» . وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: إذَا دَخَلْت عَلَى مُسْلِمٍ لَا يُتَّهَمُ فَكُلْ مِنْ طَعَامِهِ وَاشْرَبْ مِنْ شَرَابِهِ. . وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا «دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. (وَالثَّانِي) إنْ زَادَ الْحَرَامُ عَلَى الثُّلُثِ حَرُمَ الْأَكْلُ وَإِلَّا فَلَا، قَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ لِأَنَّ الثُّلُثَ ضَابِطٌ فِي مَوَاضِعَ (وَالثَّالِثُ) إنْ كَانَ الْأَكْثَرُ الْحَرَامَ حَرُمَ وَإِلَّا فَلَا إقَامَةَ لِلْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ الْقَلِيلَ تَابِعٌ، قَطَعَ بِهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمِنْهَاجِ وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّهُ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ. وَقَدْ نَقَلَ الْأَثْرَمُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِيمَنْ وَرِثَ مَالًا يَنْبَغِي إنْ عَرَفَ شَيْئًا بِعَيْنِهِ أَنْ يَرُدَّهُ وَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ فِي مَالِهِ الْفَسَادَ تَنَزَّهَ عَنْهُ أَوْ نَحْوُ هَذَا، وَنَقَلَ عَنْهُ حَرْبٌ فِي الرَّجُلِ يَخْلُفُ مَالًا إنْ كَانَ غَالِبُهُ نَهْبًا أَوْ رِبًا يَنْبَغِي لِوَارِثِهِ أَنْ يَتَنَزَّهَ عَنْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ

يَسِيرًا لَا يُعْرَفُ، وَنَقَلَ عَنْهُ أَيْضًا هَلْ لِلرَّجُلِ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ وَرَثَةِ إنْسَانٍ مَالًا مُضَارَبَةً يَنْفَعُهُمْ وَيَنْتَفِعُ قَالَ إنْ كَانَ غَالِبَهُ الْحَرَامُ فَلَا. (وَالرَّابِعُ) عَدَمُ التَّحْرِيمِ مُطْلَقًا قَلَّ الْحَرَامُ أَوْ كَثُرَ وَهُوَ ظَاهِرُ مَا قَطَعَ بِهِ وَقَدَّمَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ لَكِنْ يُكْرَهُ، وَتَقْوَى الْكَرَاهَةُ وَتَضْعُفُ بِحَسَبِ كَثْرَةِ الْحَرَامِ وَقِلَّتِهِ. قَدَّمَهُ الْأَزَجِيُّ وَغَيْرُهُ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمُغْنِي وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ فَأَطْعَمَهُ طَعَامًا فَلْيَأْكُلْ مِنْ طَعَامِهِ وَلَا يَسْأَلْهُ عَنْهُ وَإِنْ سَقَاهُ شَرَابًا مِنْ شَرَابِهِ فَلْيَشْرَبْ مِنْ شَرَابِهِ وَلَا يَسْأَلْهُ عَنْهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَرَوَى جَمَاعَةٌ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ ذَرِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَقَالَ: لِي جَارٌ يَأْكُلُ الرِّبَا وَلَا يَزَالُ يَدْعُونِي قَالَ الثَّوْرِيُّ إنْ عَرَفْته بِعَيْنِهِ فَلَا تَأْكُلْهُ: وَمُرَادُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَكَلَامُهُ لَا يُخَالِفُ هَذَا. وَرَوَى جَمَاعَةٌ مِنْ حَدِيثِ مَعْمَرٍ أَيْضًا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: إذَا كَانَ لَك صَدِيقٌ عَامِلٌ فَدَعَاك إلَى طَعَامٍ فَاقْبَلْهُ فَإِنَّ مَهْنَأَهُ لَك وَإِثْمَهُ عَلَيْهِ. قَالَ مَعْمَرٌ: وَكَانَ عَدِيُّ بْنُ أَرْطَاةَ عَامِلُ الْبَصْرَةِ يَبْعَثُ إلَى الْحَسَنِ كُلَّ يَوْمٍ بِجِفَانِ ثَرِيدٍ فَيَأْكُلُ مِنْهَا وَيُطْعِمُ أَصْحَابَهُ. وَبَعَثَ عَدِيٌّ إلَى الشَّعْبِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ وَالْحَسَنِ فَقَبِلَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَرَدَّ ابْنُ سِيرِينَ قَالَ: وَسُئِلَ الْحَسَنُ عَنْ طَعَامِ الصَّيَارِفَةِ فَقَالَ: قَدْ أَخْبَرَكُمْ اللَّهُ عَنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ الرِّبَا وَأَحَلَّ لَكُمْ طَعَامَهُمْ. وَقَالَ مَنْصُورٌ: قُلْت لِإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَرِيفٌ لَنَا يُصِيبُ مِنْ الظُّلْمِ وَيَدْعُونِي فَلَا أُجِيبُهُ، فَقَالَ إبْرَاهِيمُ: لِلشَّيْطَانِ غَرَضٌ بِهَذَا لِيُوقِعَ عَدَاوَةً، قَدْ كَانَ الْعُمَّالُ يَهْمِطُونَ وَيُصِيبُونَ، ثُمَّ يَدْعُونَ فَيُجَابُونَ قُلْت: نَزَلْتُ بِعَامِلٍ فَنَزَّلَنِي وَأَجَازَنِي قَالَ: اقْبَلْ قُلْت: فَصَاحِبُ رِبًا قَالَ: اقْبَلْ مَا لَمْ تَرَهُ بِعَيْنِهِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْهَمْطُ الظُّلْمُ وَالْخَبْطُ يُقَالُ هَمَطَ النَّاسَ فُلَانٌ يَهْمِطُهُمْ حَقَّهُمْ، وَالْهَمْطُ أَيْضًا الْأَخْذُ بِغَيْرِ تَقْدِيرٍ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ وَكَمَا لَوْ لَمْ يَتَيَقَّنْ مُحَرَّمًا فَإِنَّهُ لَا يَحْرُمُ بِالِاحْتِمَالِ وَإِنْ كَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى، وَقَدْ احْتَجَّ لِهَذَا

بِحَدِيثِ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى تَمْرَةً فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ لَوْلَا أَنِّي أَخْشَى أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتهَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي هَذَا الِاحْتِجَاجِ بِهَذَا نَظَرٌ، لَكِنْ إنْ قَوِيَ سَبَبُ التَّحْرِيمِ فَظَنَّهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ كَآنِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَثِيَابِهِمْ، وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْخِلَافِ حُكْمُ مُعَامَلَتِهِ وَقَبُولُ ضِيَافَتِهِ وَهَدِيَّتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرَهُ: إنَّهُ يَحْرُمُ الْأَكْثَرُ وَيَجِبُ السُّؤَالُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ فَالْوَرَعُ التَّفْتِيشُ وَلَا يَجِبُ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَسْئُولَ وَعَلِمْت أَنَّ لَهُ غَرَضًا فِي حُضُورِك وَقَبُولِ هَدِيَّتِهِ فَلَا تَثِقُ بِقَوْلِهِ وَيَنْبَغِي أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا فِي تَرْكِ الْإِجَابَةِ إلَى الدَّعْوَةِ وَلَوْ قُلْنَا بِالْكَرَاهَةِ كَمَا صَرَّحَ الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ أَنَّ سَتْرَ الْحِيطَانِ بِسُتُورٍ لَا صُوَرَ فِيهَا أَوْ فِيهَا غَيْرُ صُوَرِ الْحَيَوَانِ أَنْ تَكُونَ عُذْرًا فِي تَرْكِ الْإِجَابَةِ عَلَى رِوَايَةِ الْكَرَاهَةِ، وَسَبَقَ هَذَا الْمَعْنَى بَعْدَ فُصُولِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ فِيمَا لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَقَدْ كَرِهَ مُعَامَلَةَ الْجُنْدِيِّ وَإِجَابَةَ دَعْوَتِهِ، وَقَدْ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ هَلْ لِلْوَالِدَيْنِ طَاعَةٌ فِي الشُّبْهَةِ؟ فَقَالَ فِي مِثْلِ الْأَكْلِ قُلْت: نَعَمْ قَالَ مَا أُحِبُّ أَنْ يُقِيمَ مَعَهُمَا عَلَيْهَا وَمَا أُحِبُّ أَنْ يَعْصِيَهُمَا، يُدَارِيهِمَا، وَلَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الشُّبْهَةِ مَعَ وَالِدَيْهِ. وَذَكَرَ الْمَرُّوذِيُّ لَهُ قَوْلَ الْفُضَيْلِ: كُلْ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ حَرَامٌ بِعَيْنِهِ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَمَا يُدْرِيهِ أَيَّهُمَا الْحَرَامُ؟ وَذَكَرَ لَهُ الْمَرُّوذِيُّ قَوْلَ بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَسُئِلَ هَلْ لِلْوَالِدَيْنِ طَاعَةٌ فِي الشُّبْهَةِ؟ فَقَالَ: لَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: هَذَا شَدِيدٌ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَلِلْوَالِدَيْنِ طَاعَةٌ فِي الشُّبْهَةِ؟ فَقَالَ: إنَّ لِلْوَالِدَيْنِ حَقًّا قُلْت: فَلَهُمَا طَاعَةٌ فِيهَا قَالَ أُحِبُّ أَنْ تُعْفِيَنِي، أَخَافُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَدْخُلُ عَلَيْهِ أَشَدَّ مِمَّا يَأْتِي قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إنِّي سَأَلْت مُحَمَّدَ بْنَ مُقَاتِلٍ الْعَبَّادَانِيُّ عَنْهَا فَقَالَ لِي: بِرَّ وَالِدَيْك. فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ قَدْ رَأَيْت مَا قَالَ، وَهَذَا بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ قَدْ قَالَ مَا قَالَ، ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: مَا أَحْسَنَ أَنْ يُدَارِيَهُمْ. وَرَوَى الْمَرُّوذِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الشُّبْهَةِ فَقَالَ أَطِعْ

وَالِدَيْك، وَسُئِلَ عَنْهَا بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ فَقَالَ لَا تُدْخِلْنِي بَيْنَك وَبَيْنَ وَالِدَيْك. وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رِوَايَةَ الْمَرُّوذِيِّ ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إبْرَاهِيمَ فِيمَا هُوَ شُبْهَةٌ فَتَعْرِضُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَ فَقَالَ: إذَا عَلِمَ أَنَّهُ حَرَامٌ بِعَيْنِهِ فَلَا يَأْكُلُ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: مَفْهُومُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُمَا قَدْ يُطَاعَانِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ حَرَامٌ، وَرِوَايَةُ الْمَرُّوذِيِّ فِيهَا أَنَّهُمَا لَا يُطَاعَانِ فِي الشُّبْهَةِ، وَكَلَامُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْلَا الشُّبْهَةُ لَوَجَبَ الْأَكْلُ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِيهِ وَهُوَ يُطَيِّبُ نَفْسَهُمَا. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَإِنْ أَرَادَ مَنْ مَعَهُ حَلَالٌ وَحَرَامٌ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ إثْمِ الْحَرَامِ فَنَقَلَ الْجَمَاعَةُ عَنْ أَحْمَدَ التَّحْرِيمَ إلَّا أَنْ يَكْثُرَ الْحَلَالُ وَاحْتَجَّ بِخَبَرِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فِي الصَّيْدِ وَعَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا إنَّمَا قُلْته فِي دِرْهَمٍ حَرَامٍ مَعَ آخَرَ وَعَنْهُ فِي عَشَرَةٍ فَأَقَلَّ لَا تُجْحَفُ بِهِ وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يَكُونُ مَعَهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ مِنْهَا دِرْهَمٌ حَرَامٌ لَا يَعْرِفُهُ فَقَالَ: لَا يَأْكُلُ مِنْهَا شَيْئًا حَتَّى يَعْرِفَهُ وَاحْتَجَّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بِحَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ «أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنِّي أُرْسِلُ كَلْبِي فَأَجِدُ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ فَقَالَ: لَا تَأْكُلْ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ كَلْبَك قَتَلَهُ. قُلْت لَهُ: فَإِنْ كَانَتْ دَرَاهِمَ كَثِيرَةً فَقَالَ: ثَلَاثِينَ أَوْ نَحْوَهَا فِيهَا دِرْهَمٌ حَرَامٌ أَخْرِجْ الدِّرْهَمَ قُلْت: إنَّ بِشْرًا قَالَ تُخْرِجُ دِرْهَمًا مِنْ الثَّلَاثَةِ» ، فَقَالَ: بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ قُلْت: لَا بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ قَالَ: مَا ظَنَنْته إلَّا قَوْلَ بِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ. هَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَقَالَ الْقَاضِي فِي الْخِلَافِ فِي مَسْأَلَةِ اشْتِبَاهِ الْأَوَانِي الطَّاهِرَةِ بِالنَّجِسَةِ: ظَاهِرُ مَقَالَةِ أَصْحَابِنَا يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ وَأَبَا عَلِيٍّ النَّجَّادَ وَأَبَا إِسْحَاقَ يَتَحَرَّى فِي عَشَرَةٍ طَاهِرَةٍ فِيهَا إنَاءٌ نَجِسٌ لِأَنَّهُ قَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي الدَّرَاهِمِ فِيهَا دِرْهَمٌ حَرَامٌ، فَإِنْ كَانَتْ عَشَرَةً أَخْرَجَ قَدْرَ الْحَرَامِ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ امْتَنَعَ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ امْتَنَعَ مِنْ جَمِيعِهَا قَالَ وَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ هَذَا حَدًّا، إنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِمَا كَثُرَ عَادَةً وَاخْتِيَارُ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَالْأَصْحَابُ وَالشَّيْخُ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ كَلَامَ أَحْمَدَ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ التَّحْدِيدِ وَأَنَّ الْوَاجِبَ إخْرَاجُ قَدْرِ الْحَرَامِ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْرُمْ لِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا حَرُمَ لِتَعَلُّقِ حَقِّ غَيْرِهِ بِهِ فَإِذَا أَخْرَجَ

عِوَضَهُ زَالَ التَّحْرِيمُ عَنْهُ كَمَا لَوْ كَانَ صَاحِبُهُ حَاضِرًا فَرَضِيَ بِعِوَضِهِ فَظَاهِرُ هَذَا، وَلَوْ عَلِمَ صَاحِبَهُ أَوْ اُسْتُهْلِكَ فِيهِ كَزَيْتٍ اخْتَلَطَ بِزَيْتٍ وَقِيلَ لِلْقَاضِي فِي الْخِلَافِ فِي مَسْأَلَة الْأَوَانِي قَدْ قُلْت: إذَا اخْتَلَطَ دِرْهَمٌ حَرَامٌ بِدَرَاهِمَ يَعْزِلُ قَدْرَ الْحَرَامِ وَيَتَصَرَّفُ فِي الْبَاقِي فَقَالَ إذَا كَانَ لِلدَّرَاهِمِ مَالِكٌ مُعَيَّنٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مُنْفَرِدًا وَإِلَّا عَزَلَ قَدْرَ الْحَرَامِ وَتَصَرَّفَ فِي الْبَاقِي وَكَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إذَا كَانَ مَعْرُوفًا فَهُوَ شَرِيكٌ مَعَهُ فَهُوَ يَتَوَصَّلُ إلَى مُقَاسَمَتِهِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا فَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ مَالٌ لِلْفُقَرَاءِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ وَابْنُ الصَّيْرَفِيِّ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ إذَا اخْتَلَطَ زَيْتٌ حَرَامٌ بِمُبَاحٍ تَصَدَّقَ بِهِ، هَذَا مُسْتَهْلَكٌ وَالنَّقْدُ يُتَحَرَّى قَالَهُ أَحْمَدُ وَذَكَرَ الْخَلَّالُ عَنْ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ نَقَلَ عَنْ أَحْمَدَ فِي الزَّيْتِ أَعْجَبُ إلَيَّ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ هَذَا غَيْرَ الدَّرَاهِمِ. وَذَكَرَ الْأَصْحَابُ فِي النَّقْدِ أَنَّ الْوَرَعَ تَرْكُ الْجَمِيعِ وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْوَرَعِ وَمَتَى جَهِلَ قَدْرَ الْحَرَامِ تَصَدَّقَ بِهِ بِمَا يَرَاهُ حَرَامًا قَالَهُ أَحْمَدُ فَدَلَّ هَذَا أَنَّهُ يَكْتَفِي بِالظَّنِّ وَقَالَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قَالَ أَحْمَدُ: لَا يَبْحَثُ عَنْ شَيْءٍ مَا لَمْ يَعْلَمْ فَهُوَ خَبِيرٌ، وَبِأَكْلِ الْحَلَالِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ وَتَلِينُ. وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الْفِقْهِ أَوَّلَ كِتَابِ الشَّرِكَةِ وَمَآلِ بَيْتِ الْمَالِ فِي آخِرِ كِتَابِ الزَّكَاةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل ليس للوالدين إلزام الولد بنكاح من لا يريد

[فَصْلٌ لَيْسَ لِلْوَالِدَيْنِ إلْزَامُ الْوَلَدِ بِنِكَاحِ مَنْ لَا يُرِيدُ] ُ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ الْأَبَوَيْنِ أَنْ يُلْزِمَ الْوَلَدَ بِنِكَاحِ مَنْ لَا يُرِيدُ، وَإِنَّهُ إذَا امْتَنَعَ لَا يَكُونُ عَاقًّا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يُلْزِمَهُ بِأَكْلِ مَا يَنْفِرُ مِنْهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى أَكْلِ مَا تَشْتَهِيهِ نَفْسُهُ كَانَ النِّكَاحُ كَذَلِكَ وَأَوْلَى، فَإِنَّ أَكْلَ الْمَكْرُوهِ مَرَارَةٌ سَاعَةً وَعِشْرَةَ الْمَكْرُوهِ مِنْ الزَّوْجَيْنِ عَلَى طُولٍ تُؤْذِي صَاحِبَهُ وَلَا يُمْكِنُهُ فِرَاقُهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد إذَا قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ فَعَلَ لَمْ آمُرْهُ أَنْ يُفَارِقَهَا، وَإِنْ كَانَ لَهُ وَالِدَانِ يَأْمُرَانِهِ بِالتَّزْوِيجِ أَمَرْته أَنْ يَتَزَوَّجَ، وَإِنْ كَانَ شَابًّا يَخَافُ الْعَنَتَ أَمَرْته أَنْ يَتَزَوَّجَ إذَا قَالَ: فُلَانَةُ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَهَا وَهَذَا مَعَ مَا نَقَلَهُ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي مَسَائِلَ لَهُ فِي الْعُقُودِ كَانَ يَأْمُرُ بِالْوَرَعِ احْتِيَاطًا أَنْ لَا يَأْتِيَ الشُّبُهَاتِ «فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ» ، إلَّا إذَا أَمَرَهُ الشَّارِعُ بِالتَّزَوُّجِ إمَّا لِحَاجَتِهِ أَوْ لِأَمْرِ أَبَوَيْهِ فَهُنَا إنْ تَرَكَ ذَلِكَ كَانَ عَاصِيًا فَلَا تُتْرَكُ الشُّبْهَةُ بِرُكُوبِ مَعْصِيَةٍ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ إنَّ أَبِي مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَهُ مَالٌ فِيهِ شُبْهَةٌ وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ أَسْتَوْفِيَهُ قَالَ: أَتَدَعُ ذِمَّةَ أَبِيك مُرْتَهَنَةً؟ يَعْنِي أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ وَاجِبٌ فَلَا تُتَّقَى شُبْهَةٌ بِتَرْكِ وَاجِبٍ.

فصل لا تجب طاعة الوالدين بطلاق امرأته

[فَصْلٌ لَا تَجِبُ طَاعَةُ الْوَالِدَيْنِ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ] ِ فَإِنْ أَمَرَهُ أَبُوهُ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ لَمْ يَجِبْ، ذَكَرَهُ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ قَالَ سِنْدِيٌّ سَأَلَ رَجُلٌ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ إنَّ أَبِي يَأْمُرُنِي أَنْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي قَالَ: لَا تُطَلِّقْهَا قَالَ: أَلَيْسَ عُمَرُ أَمَرَ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ قَالَ حَتَّى يَكُونَ أَبُوك مِثْلَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَاخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَجِبُ لِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِابْنِ عُمَرَ، وَنَصِّ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ إذَا أَمَرَتْهُ أُمُّهُ بِالطَّلَاقِ لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُطَلِّقَ لِأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي الْأَبِ وَنَصَّ أَحْمَدَ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى أَنَّهُ لَا يُطَلِّقُ لِأَمْرِ أُمِّهِ فَإِنْ أَمَرَهُ الْأَبُ بِالطَّلَاقِ طَلَّقَ إذَا كَانَ عَدْلًا وَقَوْلُ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يُعْجِبُنِي كَذَا هَلْ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ أَوْ الْكَرَاهَةَ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِيمَنْ تَأْمُرُهُ أُمُّهُ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ قَالَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَبَرَّهَا وَلَيْسَ تَطْلِيقُ امْرَأَتِهِ مِنْ بِرِّهَا. انْتَهَى كَلَامُهُ.

فصل حكم أمر الوالدين الولد بالزواج أو بيع سريته

[فَصْلٌ حُكْمُ أَمْرِ الْوَالِدَيْنِ الْوَلَدَ بِالزَّوَاجِ أَوْ بَيْعِ سُرِّيَّتِهِ] قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد إذَا خَافَ الْعَنَتَ أَمَرْته أَنْ يَتَزَوَّجَ، وَإِذَا أَمَرَهُ وَالِدُهُ أَمَرْته أَنْ يَتَزَوَّجَ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ جَعْفَرٍ وَاَلَّذِي يَحْلِفُ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ لَا يَتَزَوَّجُ أَبَدًا قَالَ إنْ أَمَرَهُ أَبُوهُ تَزَوَّجَ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ كَأَنَّهُ أَرَادَ الطَّلَاقَ الْمُضَافَ إلَى النِّكَاحِ، كَذَا قَالَ، أَوْ إنْ كَانَ مُزَوَّجًا فَحَلَفَ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ أَبَدًا سِوَى امْرَأَتِهِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ إنْ كَانَ الرَّجُلُ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ وَوَالِدَاهُ يَمْنَعَانِهِ مِنْ التَّزَوُّجِ فَلَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ لِي جَارِيَةٌ وَأُمِّي تَسْأَلُنِي أَنْ أَبِيعَهَا قَالَ: تَتَخَوَّفُ أَنْ تُتْبِعَهَا نَفْسَك قَالَ: نَعَمْ قَالَ: لَا تَبِعْهَا قَالَ: إنَّهَا تَقُولُ لَا أَرْضَى عَنْك أَوْ تَبِيعَهَا قَالَ إنْ خِفْت عَلَى نَفْسِك فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ لِأَنَّهُ إذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ يَبْقَى إمْسَاكُهَا وَاجِبًا أَوْ لِأَنَّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ضَرَرًا. وَمَفْهُومُ كَلَامِهِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ يُطَبِّعُهَا فِي تَرْكِ التَّزَوُّجِ وَفِي بَيْعِ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ حِينَئِذٍ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِيهِ لَا دِينًا وَلَا دُنْيَا وَقَالَ أَيْضًا قُيِّدَ أَمْرُهُ بِبَيْعِ السُّرِّيَّةِ إذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ بَيْعَ السُّرِّيَّةِ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِيهِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الثَّمَنَ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ مُضِرٌّ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَأَيْضًا فَإِنَّهَا مُتَّهَمَةٌ فِي الطَّلَاقِ مَا لَا تُتَّهَمُ فِي بَيْعِ السُّرِّيَّةِ.

فصل في أمر الوالدين بالمعروف ونهيهما عن المنكر

[فَصْلٌ فِي أَمْرِ الْوَالِدَيْنِ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيِهِمَا عَنْ الْمُنْكَرِ] ِ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى يَأْمُرُ أَبَوَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمَا عَنْ الْمُنْكَرِ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ إذَا رَأَى أَبَاهُ عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ يُعَلِّمُهُ بِغَيْرِ عُنْفٍ وَلَا إسَاءَةٍ وَلَا يُغْلِظُ لَهُ فِي الْكَلَامِ وَإِلَّا تَرَكَهُ وَلَيْسَ الْأَبُ كَالْأَجْنَبِيِّ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ إذَا كَانَ أَبَوَاهُ يَبِيعَانِ الْخَمْرَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ طَعَامِهِمْ وَخَرَجَ عَنْهُمْ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ هَانِئٍ إذَا كَانَ لَهُ أَبَوَانِ لَهُمَا كَرْمٌ يَعْصِرَانِ عِنَبَهُ وَيَجْعَلَانِهِ خَمْرًا يَسْقُونَهُ يَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ فَإِنْ لَمْ يَقْبَلُوا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِمْ وَلَا يَأْوِي مَعَهُمْ. ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي زَادِ الْمُسَافِرِ. وَذَكَرَ الْمَرُّوذِيُّ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ حِمْصَ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ أَبَاهُ لَهُ كُرُومٌ يُرِيدُ أَنْ يُعَاوِنَهُ عَلَى بَيْعِهَا قَالَ إنْ عَلِمْت أَنَّهُ يَبِيعُهَا مِمَّنْ يَعْصِرُهَا خَمْرًا فَلَا تُعَاوِنُهُ.

فصل في استئذان الأم للخروج من مكان المنكر

[فَصْلٌ فِي اسْتِئْذَانِ الْأُمِّ لِلْخُرُوجِ مِنْ مَكَانِ الْمُنْكَرِ] قَالَ الْمَرُّوذِيُّ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَإِنْ كَانَ يَرَى الْمُنْكَرَ وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يُغَيِّرَهُ قَالَ يَسْتَأْذِنُهَا فَإِنْ أَذِنَتْ لَهُ خَرَجَ. [فَصْلٌ فِي اتِّقَاءِ غَضَبِ الْأُمِّ] ِّ إذَا سَاعَدَ قَرِيبَهُ) قَالَ الْمَرُّوذِيُّ سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قَرِيبٍ لِي أَكْرَهُ نَاحِيَتَهُ يَسْأَلُنِي أَنْ أَشْتَرِيَ لَهُ ثَوْبًا أَوْ أُسَلِّمَ لَهُ غَزْلًا، فَقَالَ: لَا تُعِنْهُ وَلَا تَسْتُرْ لَهُ إلَّا بِأَمْرِ وَالِدَتِك فَإِنْ أَمَرَتْك فَهُوَ أَسْهَلُ لَعَلَّهَا أَنْ تَغْضَبَ.

فصل فيما يجوز من ضرب الأولاد بشرطه

[فَصْلٌ فِيمَا يَجُوزُ مِنْ ضَرْبِ الْأَوْلَادِ بِشَرْطِهِ] ِ قَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ سَأَلْت أَحْمَدَ عَمَّا يَجُوزُ فِيهِ ضَرْبُ الْوَلَدِ قَالَ: الْوَلَدُ يُضْرَبُ عَلَى الْأَدَبِ قَالَ وَسَأَلْت أَحْمَدَ هَلْ يُضْرَبُ الصَّبِيُّ عَلَى الصَّلَاةِ قَالَ إذَا بَلَغَ عَشْرًا وَقَالَ حَنْبَلٌ إنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ الْيَتِيمُ يُؤَدَّبُ وَيُضْرَبُ ضَرْبًا خَفِيفًا. وَقَالَ الْأَثْرَمُ سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ضَرْبِ الْمُعَلِّمِ الصِّبْيَانَ فَقَالَ: عَلَى قَدْرِ ذُنُوبِهِمْ وَيَتَوَقَّى بِجَهْدِهِ الضَّرْبَ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا لَا يَعْقِلُ فَلَا يَضْرِبُهُ وَقَالَ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْوَاسِطِيُّ عَنْ أَيُّوبَ قَالَ سَأَلْت أَبَا هَاشِمٍ عَنْ الْغُلَامِ يُسَلِّمُهُ أَبُوهُ إلَى الْكُتَّابِ فَيَبْعَثُهُ الْمُعَلِّمُ فِي غَيْرِ الْكِتَابَةِ فَمَاتَ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ قَالَ هُوَ ضَامِنٌ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا يَتَوَجَّهُ عَلَى أَصْلِ مَسْأَلَتِنَا كَمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَنْ اسْتَقْضَى غُلَامَ الْغَيْرِ فِي حَاجَةٍ أَنَّهُ يَضْمَنُ.

فصل في صلة الرحم وحد ما يحرم قطعه منها

[فَصْلٌ فِي صِلَةِ الرَّحِمِ وَحَدِّ مَا يَحْرُمُ قَطْعُهُ مِنْهَا] قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ عَلَيْهِ صِلَةَ رَحِمِهِ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ أَدْخَلْت عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَجُلًا قَدِمَ مِنْ الثَّغْرِ فَقَالَ لِي قِرَابَةٌ بِالْمَرَاغَةِ فَتَرَى لِي أَنْ أَرْجِعَ إلَى الثَّغْرِ أَوْ تَرَى أَنْ أَذْهَبَ فَأُسَلِّمَ عَلَى قَرَابَتِي وَإِنَّمَا جِئْت قَاصِدًا لِأَسْأَلَك؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَدْ رُوِيَ «صِلُوا أَرْحَامَكُمْ وَلَوْ بِالسَّلَامِ» اسْتَخِرْ اللَّهَ وَاذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ وَقَالَ مُثَنَّى قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الرَّجُلُ يَكُونُ لَهُ الْقَرَابَةُ مِنْ النِّسَاءِ فَلَا يَقُومُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَيْشْ يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ بِرِّهِمْ وَفِي كَمْ يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَهُمْ قَالَ: اللُّطْفُ وَالسَّلَامُ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْعِتْقِ بِالْمِلْكِ: قَدْ تَوَعَّدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَطْعِ الْأَرْحَامِ بِاللَّعْنِ وَإِحْبَاطِ الْعَمَلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يُرِدْ صِلَةَ كُلِّ ذِي رَحِمٍ وَقَرَابَةٍ إذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَوَجَبَ صِلَةُ جَمِيعِ بَنِي آدَمَ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ ضَبْطِ ذَلِكَ بِقَرَابَةٍ تَجِبُ صِلَتُهَا وَإِكْرَامُهَا وَيَحْرُمُ قَطْعُهَا وَتِلْكَ قَرَابَةُ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ. وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا، وَلَا عَلَى بِنْتِ أَخِيهَا وَأُخْتِهَا فَإِنَّكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَّعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ» . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا صِلَةُ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ اخْتَارَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَنَصُّ أَحْمَدَ الْأَوَّلُ أَنَّهُ تَجِبُ صِلَةُ الرَّحِمِ مَحْرَمًا كَانَ أَوْ لَا، وَقَدْ عُرِفَ مِنْ كَلَامِ أَبِي الْخَطَّابِ أَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي صِلَةِ الرَّحِمِ مُجَرَّدُ السَّلَامِ وَكَلَامُ أَحْمَدَ مُحْتَمَلٌ. قَالَ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: رَجُلٌ لَهُ إخْوَةٌ وَأَخَوَاتٌ بِأَرْضِ غَصْبٍ تَرَى أَنْ يَزُورَهُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ يَزُورُهُمْ وَيُرَاوِدُهُمْ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا فَإِنْ أَجَابُوا إلَى ذَلِكَ وَإِلَّا لَمْ يَقُمْ مَعَهُمْ، وَلَا يَدَعُ زِيَارَتَهُمْ.

فصل بعض النصوص في بر الوالدين والإحسان إلى البنات وتربية الأولاد وتعليمهم

[فَصْلٌ بَعْضُ النُّصُوصِ فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَالْإِحْسَانِ إلَى الْبَنَاتِ وَتَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ وَتَعْلِيمِهِمْ] قَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة: 83] وَقَالَ تَعَالَى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14] . وَالْأُمُّ أَوْلَى بِالْبِرِّ وَفِي ذَلِكَ وَصِلَةِ الرَّحِمِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ وَفِيهَا شُهْرَةٌ وَمِنْ صَحِيحِهَا «إنَّ مِنْ أَتَمِّ الْبِرِّ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَمَا يُوَلِّي» . وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْخَبَر عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَصِلَ أَبَاهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلْيَصِلْ إخْوَانَ أَبِيهِ» وَقَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوُدُّ يُتَوَارَثُ وَالْبُغْضُ يُتَوَارَثُ» وَقَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «ثَلَاثٌ يُطْفِئْنَ نُورَ الْعَبْدِ أَنْ يَقْطَعَ وُدَّ أَهْلِ أَبِيهِ وَيُبَدِّلَ سُنَّةً صَالِحَةً وَيَرْمِيَ بِبَصَرِهِ فِي الْحُجُرَاتِ» . وَمَكْتُوبٌ فِي بَعْضِ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى: لَا تَقْطَعْ مَنْ كَانَ أَبُوك يَصِلُهُ فَيُطْفَأَ نُورُك. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ: بِتُّ أَغْمِزُ رِجْلَيْ أُمِّي وَبَاتَ عَمِّي يُصَلِّي لَيْلَتَهُ فَمَا سَرَّنِي لَيْلَتَهُ بِلَيْلَتِي. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إنَّمَا رَدَّ اللَّهُ عُقُوبَةَ سُلَيْمَانَ عَنْ الْهُدْهُدِ لِبِرِّهِ بِأُمِّهِ،. وَرَأَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَجُلًا يَمْشِي خَلْفَ رَجُلٍ فَقَالَ: مَنْ هَذَا قَالَ: أَبِي قَالَ لَا تَدْعُهُ بِاسْمِهِ وَلَا تَجْلِسْ قَبْلَهُ وَلَا تَمْشِ أَمَامَهُ وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ فِي ابْنِهِ: يَوَدُّ الرَّدَى لِي مِنْ سَفَاهَةِ رَأْيِهِ ... وَلَوْ مِتُّ بَانَتْ لِلْعَدُوِّ مَقَاتِلُهْ إذَا مَا رَآنِي مُقْبِلًا غَضَّ طَرْفَهُ ... كَأَنَّ شُعَاعَ الشَّمْسِ دُونِي يُقَابِلُهْ

وَسَبَقَ قَرِيبًا تَأْدِيبُ الْوَلَدِ. وَيَنْبَغِي الصَّبْرُ عَلَى الْبَنَاتِ وَالْإِحْسَانُ إلَيْهِنَّ وَأَنْ لَا يُنَفَّلَ عَلَيْهِنَّ الذُّكُورُ بِغَيْرِ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ، وَفِي ذَلِكَ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا. وَقَدْ دَخَلَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَعِنْدَهُ بِنْتٌ لَهُ فَقَالَ لَهُ أَبْعَدَهَا اللَّهُ عَنْك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَوَاَللَّهِ مَا عَلِمْت أَنَّهُنَّ يَلِدْنَ إلَّا عَدُوًّا، وَيُقَرِّبْنَ الْبُعَدَاءَ، وَيُوَرِّثْنَ الضَّغَائِنَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَا تَقُلْ هَذَا يَا عَمْرُو فَوَاَللَّهِ مَا مَرَّضَ الْمَرْضَى وَلَا نَدَبَ الْمَوْتَى وَلَا أَعْوَنَ عَلَى الْأَحْزَانِ مِنْهُنَّ، وَلَرُبَّ ابْنِ أُخْتٍ قَدْ يَنْفَعُ خَالَهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ: الْبَنُونَ نِعَمٌ، وَالْبَنَاتُ حَسَنَاتٌ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يُحَاسِب عَلَى النِّعَمِ وَيُجَازِي عَلَى الْحَسَنَاتِ وَقَالَ مَنْصُورٌ الْفَقِيهُ: أُحِبُّ الْبَنَاتِ وَحُبُّ الْبَنَاتِ ... فَرْضٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ كَرِيمَهْ لِأَنَّ شُعَيْبًا مِنْ أَجْلِ الْبَنَاتِ ... أَخْدَمَهُ اللَّهُ مُوسَى كَلِيمَهْ قَالَ قَتَادَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: رُبَّ جَارِيَةٍ خَيْرٌ مِنْ غُلَامٍ قَدْ هَلَكَ أَهْلُهُ عَلَى يَدَيْهِ. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَجِّلُوا بِكُنَى أَوْلَادِكُمْ لَا تُسْرِعُ إلَيْهِمْ الْأَلْقَابُ السُّوءُ،. وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلَى أُمَرَاءِ الْأَمْصَارِ: عَلِّمُوا أَوْلَادَكُمْ الْعَوْمَ وَالْفُرُوسِيَّةَ وَمَا سَارَ مِنْ الْمَثَلِ وَمَا حَسُنَ مِنْ الشِّعْرِ وَكَانَ يُقَالُ مِنْ تَمَامِ مَا يَجِبُ لِلْأَبْنَاءِ عَلَى الْآبَاءِ تَعْلِيمُ الْكِتَابَةِ وَالْحِسَابِ وَالسِّبَاحَةِ قَالَ الْحَجَّاجُ لِمُعَلِّمِ وَلَدِهِ: عَلِّمْ وُلْدِي السِّبَاحَةَ قَبْلَ أَنْ تُعَلِّمَهُمْ الْكِتَابَةَ، فَإِنَّهُمْ يَجِدُونَ مَنْ يَكْتُبُ عَنْهُمْ وَلَا يَجِدُونَ مَنْ يَسْبَحُ عَنْهُمْ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّهْيُ عَنْ الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ. وَكَانَ يُقَالُ الدُّعَاءُ عَلَى الْوَلَدِ وَالْأَهْلِ بِالْمَوْتِ يُورِثُ الْفَقْرَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ

وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ. فَقَالَ إنْ كُنْت كَمَا تَقُولُ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنْ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْت عَلَى ذَلِكَ» وَصَحَّ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ وَلَكِنَّ الْوَاصِلَ مَنْ إذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا» قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «حَقُّ كَبِيرِ الْإِخْوَةِ عَلَى صَغِيرِهِمْ كَحَقِّ الْوَالِدِ عَلَى الْوَلَدِ» قَالَ الشَّاعِرُ: وَجَدْت قَرِيبَ الْوُدِّ خَيْرًا وَإِنْ نَأَى ... مِنْ الْأَبْعَدِ الْوُدِّ الْقَرِيبِ الْمُنَاسِبِ وَرُبَّ أَخٍ لَمْ يُدْنِهِ مِنْك وَالِدُ ... أَبَرُّ مِنْ ابْنِ الْأُمِّ عِنْدَ النَّوَائِبِ وَرُبَّ بَعِيدٍ حَاضِرٍ لَك نَفْعُهُ ... وَرُبَّ قَرِيبٍ شَاهِدٍ مِثْلِ غَائِبِ وَقَالَ مَنْصُورٌ الْفَقِيهُ: وَلَا خَيْرَ فِي قُرْبَى لِغَيْرِك نَفْعُهَا ... وَلَا فِي صَدِيقٍ لَا تَزَالُ تُعَاتِبُهْ يَخُونُك ذُو الْقُرْبَى مِرَارًا وَإِنَّمَا ... وَفَى لَك عِنْدَ الْجَهْدِ مَنْ لَا تُنَاسِبُهْ وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ: لَا تَطْمَعُوا أَنْ تُهِينُونَا وَنُكْرِمَكُمْ ... وَأَنْ نَكُفَّ الْأَذَى عَنْكُمْ وَتُؤْذُونَا مَهْلًا بَنِي عَمِّنَا مَهْلًا مَوَالِينَا ... لَا تَنْشُرُوا بَيْنَنَا مَا كَانَ مَدْفُونَا.

فصل في حسن الملكة وسوء الملكة

[فَصْلٌ فِي حُسْنِ الْمَلَكَةِ وَسُوءِ الْمَلَكَةِ] فِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ سَيِّئُ الْمَلَكَةِ» وَهُوَ الَّذِي يُسِيءُ إلَى مَمَالِيكِهِ وَكَانَ يُقَالُ التَّسَلُّطُ عَلَى الْمَمْلُوكِ دَنَاءَةٌ وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: اُذْكُرْ عِنْدَ قُدْرَتِك وَغَضَبِك قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَيْك، وَعِنْدَ حُكْمِك حُكْمَ اللَّهِ فِيك وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَكْثِرُوا شِرَاءَ الرَّقِيقِ فَرُبَّ عَبْدٍ يَكُونُ أَكْثَرَ مَالًا مِنْ سَيِّدِهِ وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: أَفْضَلُ الْمَمَالِيكِ الصِّغَارُ؛ لِأَنَّهُمْ أَحْسَنُ طَاعَةً، وَأَقَلُّ خِلَافًا وَأَسْرَعُ قَبُولًا، كَانَ يُقَالُ اسْتَخْدِمْ الصَّغِيرَ حَتَّى يَكْبُرَ، وَالْأَعْجَمِيَّ حَتَّى يُفْصِحَ، قَالَتْ ابْنَةُ الْفَتْحِ: بَطَرْتُمْ فَطِرْتُمْ وَالْعَصَا زَجْرُ مَنْ عَصَى ... وَتَقْوِيمُ عَبْدِ الْهُونِ بِالْهُونِ رَادِعُ كَانَ يُقَالُ الْحُرُّ حُرٌّ وَإِنْ مَسَّهُ الضُّرُّ، وَالْعَبْدُ عَبْدٌ وَإِنْ مَشَى عَلَى الدُّرِّ وَقَالَ الشَّاعِرُ: إنَّ الْعَبِيدَ إذَا ذَلَلْتَهُمْ صَلَحُوا ... عَلَى الْهَوَانِ وَإِنْ أَكْرَمْتَهُمْ فَسَدُوا

فصل في الإنفاق على الإخوان وسؤال بعضهم لبعض

وَقَالَ الْمُتَنَبِّي: لَا تَشْتَرُوا الْعَبْدَ إلَّا وَالْعَصَا مَعَهُ ... إنَّ الْعَبِيدَ لَأَنْجَاسٌ مَنَاكِيدُ وَقَالَ آخَرُ: إذَا أَبْرَمَ الْمَوْلَى بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ ... تَجَنَّى لَهُ ذَنْبًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَنْبُ وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ «قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إذَا بَعَثَتْنِي أَكُونُ كَالسِّكَّةِ الْمُحْمَاةِ أَمْ الشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ؟ قَالَ الشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ. [فَصْلٌ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى الْإِخْوَانِ وَسُؤَالِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ] قَالَ ابْنُ وَهْبٍ أَنْفَقَ رَبِيعَةُ عَلَى إخْوَانِهِ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ ثُمَّ كَانَ بَعْدُ يَسْأَلُ إخْوَانَهُ فِي إخْوَانِهِ وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْتُ بِشْرَ بْنَ الْحَارِثِ يَقُولُ: وَلَقَدْ جَاءَنِي صَدِيقٌ لِي وَعِنْدِي عِشْرُونَ دِرْهَمًا فَأَعْطَيْتُهُ تِسْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَبَقَّيْت لِنَفْسِي دِرْهَمًا، فَفِيهِمْ الْيَوْمَ مَنْ يَفْعَلُ هَذَا بِصَاحِبِهِ؟ وَأَبْلَغُ مِنْ هَذَا مَا قَالَ هَارُونُ الْمُسْتَمْلِي: لَقِيتُ أَحْمَدَ فَقُلْت مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ فَأَعْطَانِي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَقَالَ عِنْدَنَا غَيْرُهَا. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ هِلَالٍ الْوَرَّاقُ: جِئْتُ إلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ فَشَكَوْت إلَيْهِ فَأَخْرَجَ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ أَوْ خَمْسَةً وَقَالَ: هَذَا نِصْفُ مَا أَمْلِكُ، وَجِئْت مَرَّةً إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْبَلٍ فَأَخْرَجَ إلَيَّ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ وَقَالَ: هَذَا جَمِيعُ مَا أَمْلِكُ.

فصل في الأدب والتواضع ومكارم الأخلاق وحظ الإمام أحمد منها

[فَصْلٌ فِي الْأَدَبِ وَالتَّوَاضُعِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَحَظِّ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْهَا] رَوَى الْخَلَّالُ أَنَّ أَحْمَدَ جَاءَ إلَى وَكِيعٍ وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْكُوفِيِّينَ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ أَدَبِهِ وَتَوَاضُعِهِ. فَقِيلَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إنَّ الشَّيْخَ لَيُكْرِمُك فَمَا لَك لَا تَتَكَلَّمُ؟ فَقَالَ: وَإِنْ كَانَ يُكْرِمُنِي فَيَنْبَغِي لِي أَنْ أُجِلَّهُ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ: مَا اسْتَأْذَنْت قَطُّ عَلَى مُحَدِّثٍ كُنْت أَنْتَظِرُ، حَتَّى يَخْرُج إلَيَّ، وَتَأَوَّلْتُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [الحجرات: 5] . وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَا يَجْهَلُ، وَإِنْ جُهِلَ عَلَيْهِ احْتَمَلَ وَحَلُمَ وَيَقُولُ: يَكْفِينِي اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ بِالْحَقُودِ وَلَا الْعَجُولِ، وَلَقَدْ وَقَعَ بَيْنَ عَمِّهِ وَجِيرَانِهِ مُنَازَعَةٌ فَكَانُوا يَجِيئُونَ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَلَا يُظْهِرُ لَهُمْ مَيْلَهُ إلَى عَمِّهِ وَلَا يَغْضَبُ لِعَمِّهِ وَيَلْقَاهُمْ بِمَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ الْكَرَامَةِ وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ كَثِيرَ التَّوَاضُعِ يُحِبُّ الْفُقَرَاءَ، لَمْ أَرَ الْفَقِيرَ فِي مَجْلِسِ أَحَدٍ أَعَزَّ مِنْهُ فِي مَجْلِسِهِ، مَائِلٌ إلَيْهِمْ مُقْصِرٌ عَنْ أَهْلِ الدُّنْيَا تَعْلُوهُ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، إذَا جَلَسَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الْعَصْرِ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى يُسْأَلَ، وَإِذَا خَرَجَ إلَى مَجْلِسِهِ لَمْ يَتَصَدَّرْ، يَقْعُدُ حَيْثُ انْتَهَى بِهِ الْمَجْلِسُ وَكَانَ لَا يَقْطُنُ الْأَمَاكِنَ وَيَكْرَهُ إيطَانَهَا وَكَانَ إذَا انْتَهَى إلَى مَجْلِسِ قَوْمٍ جَلَسَ حَيْثُ انْتَهَى بِهِ الْمَجْلِسُ، وَصَحِبْتُهُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ. وَكَانَ حَسَنَ الْخُلُقِ دَائِمَ الْبِشْرِ لَيِّنَ الْجَانِبِ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَكَانَ يُحِبُّ فِي اللَّهِ وَيُبْغِضُ فِي اللَّهِ وَكَانَ إذَا أَحَبَّ رَجُلًا أَحَبَّ لَهُ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَكَرِهَ لَهُ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَمْنَعْهُ حُبُّهُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى يَدَيْهِ وَيَكُفَّهُ عَنْ ظُلْمٍ أَوْ إثْمٍ أَوْ مَكْرُوهٍ إنْ كَانَ مِنْهُ وَكَانَ إذَا

بَلَغَهُ عَنْ رَجُلٍ صَلَاحٌ أَوْ زُهْدٌ أَوْ اتِّبَاعُ الْأَثَرِ سَأَلَ عَنْهُ وَأَحَبَّ أَنْ يُجْرِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَعْرِفَةً وَكَانَ رَجُلًا وَطِيئًا إذَا كَانَ حَدِيثٌ لَا يَرْضَاهُ اضْطَرَبَ لِذَلِكَ وَتَبَيَّنَ التَّغْيِير فِي وَجْهِهِ غَضَبًا لِلَّهِ وَلَا يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ وَلَا يَنْتَصِرُ لَهَا فَإِذَا كَانَ فِي أَمْرٍ مِنْ الدِّينِ اشْتَدَّ غَضَبُهُ لَهُ وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ حَسَنَ الْجِوَارِ يُؤْذَى فَيَصْبِرُ وَيَحْتَمِلُ الْأَذَى مِنْ الْجِيرَانِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ يُونُسَ رَأَيْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ صَلَّى الْغَدَاةَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ وَقَالَ لَا تَتْبَعُونِي مَرَّةً أُخْرَى وَكَانَ يَمْشِي وَحْدَهُ مُتَوَاضِعًا وَقَالَ ابْنُ هَانِئٍ رَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إذَا لَقِيَ امْرَأَتَيْنِ فِي الطَّرِيقِ وَكَانَ طَرِيقُهُ بَيْنَهُمَا وَقَفَ وَلَمْ يَمُرَّ حَتَّى يَجُوزَا. وَعَنْ أُسَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ «سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ خَارِجٌ مِنْ الْمَسْجِدُ فَاخْتَلَطَ الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنِّسَاءِ: اسْتَأْخِرْنَ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تَحْقُقْنَ الطَّرِيقَ، عَلَيْكُنَّ بِحَافَّاتِ الطَّرِيقِ فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ تَلْصَقُ بِالْجِدَارِ حَتَّى إنَّ ثَوْبَهَا لَيَعْلَقُ بِالْجِدَارِ مِنْ لُصُوقِهَا بِهِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ شَدَّادِ بْنِ أَبِي عَمْرو بْنِ حِمَاشٍ تَفَرَّدَ عَنْهُ أَبُو الْيَمَانِ الرَّحَّالُ الْمَدَنِيُّ وَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ قَالَ فِي النِّهَايَةِ هُوَ أَنْ يَرْكَبْنَ حَقَّهَا وَهُوَ وَسْطُهَا يُقَالُ سَقَطَ عَلَى حَاقِّ الْقَفَا وَحَقِّهِ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى أَنْ يَمْشِيَ الرَّجُلُ بَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْخَلَّالُ مِنْ رِوَايَةِ دَاوُد بْنِ أَبِي صَالِحٍ قَالَ أَبُو زُرْعَةَ لَا أَعْرِفُهُ إلَّا بِهَذَا الْخَبَرِ، وَهُوَ مُنْكَرٌ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ كَأَنَّهُ رَجُلٌ قَدْ وُفِّقَ لِلْأَدَبِ، وَسُدِّدَ بِالْحِلْمِ، وَمُلِئَ بِالْعِلْمِ، أَتَاهُ رَجُلٌ يَوْمًا فَقَالَ عِنْدَك كِتَابُ زَنْدَقَةٍ؟ فَسَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: إنَّمَا يَحْرُزُ الْمُؤْمِنُ قَبْرَهُ. وَقَالَ الْخَلَّالُ ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ يَعْنِي الْمَعْرُوفَ بِلُؤْلُؤٍ قَالَ حَضَرَ مَجْلِسَ

أَبِي عَبْدِ اللَّهِ كَبْشُ الزَّنَادِقَةِ فَقُلْت لَهُ أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ أَنْتَ فِي مَجْلِسِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مَا تَصْنَعُ؟ فَسَمِعَنِي أَحْمَدُ فَقَالَ مَالَك؟ فَقُلْت هَذَا عَدُوُّ اللَّهِ كَبْشُ الزَّنَادِقَةِ قَدْ حَضَرَ الْمَجْلِسَ، فَقَالَ مَنْ أَمَرَكُمْ بِهَذَا عَمَّنْ أَخَذْتُمْ هَذَا؟ دَعُوا النَّاسَ يَأْخُذُونَ الْعِلْمَ وَيَنْصَرِفُونَ لَعَلَّ اللَّهَ يَنْفَعُهُمْ بِهِ. ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَخْضَرِ فِي تَرْجَمَتِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُنَادِي سَمِعْت جَدِّي يَقُولُ: كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مِنْ أَحْيَا النَّاسِ، وَأَكْرَمِهِمْ نَفْسًا وَأَحْسَنِهِمْ عِشْرَةً وَأَدَبًا كَثِيرَ الْإِطْرَاقِ وَالْغَضِّ، مُعْرِضًا عَنْ الْقَبِيحِ وَاللَّغْوِ، لَا يُسْمَعُ مِنْهُ إلَّا الْمُذَاكَرَةُ بِالْحَدِيثِ وَالرِّجَالِ وَالطُّرُقِ وَذِكْرِ الصَّالِحِينَ وَالزُّهَّادِ، فِي وَقَارٍ وَسُكُونٍ وَلَفْظٍ حَسَنٍ، وَإِذَا لَقِيَهُ إنْسَانٌ بَشَّ بِهِ وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ وَكَانَ يَتَوَاضَعُ تَوَاضُعًا شَدِيدًا، وَكَانُوا يُكْرِمُونَهُ وَيُعَظِّمُونَهُ وَيُحِبُّونَهُ. وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: كُنَّا فِي مَجْلِسِ أَبِي مُوسَى بِشْرِ بْنِ مُوسَى يَعْنِي ابْنَ صَالِحٍ بْنَ شَيْخٌ بْنَ عَمِيرَةَ الْأَسَدِيَّ وَمَعَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْج الْفَقِيهُ الْقَاضِي فَخَاضُوا فِي ذِكْرِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ وَإِنَّهُ لَمْ يُدْخِلْ ذِكْرَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي كِتَابِهِ الَّذِي أَلَّفَهُ فِي اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ. فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَهَلْ أُصُولُ الْفِقْهِ إلَّا مَا كَانَ يُحْسِنُهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ؟ حِفْظُ آثَارِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمَعْرِفَةُ بِسُنَّتِهِ. وَاخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنُ اللَّيْثِ الرَّازِيّ كُنْت فِي مَجْلِسِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فَقَامَ إلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ يُقَالُ لَهُ بِشْرٌ، فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عِنْدَنَا شَابٌّ بِالرَّيِّ يُقَالُ لَهُ أَبُو زُرْعَةَ نَكْتُبُ عَنْهُ؟ فَنَظَرَ أَحْمَدُ إلَيْهِ كَالْمُنْكِرِ لِقَوْلِهِ شَابٌّ فَقَالَ: نِعْمَ الثِّقَةُ الْمَأْمُونُ أَعْلَى اللَّهُ كَعْبَهُ، نَصَرَهُ اللَّهُ عَلَى أَعْدَائِهِ. فَلَمَّا قَدِمْت الرَّيَّ أَخْبَرْت أَبَا زُرْعَةَ فَاسْتَعْبَرَ وَقَالَ: وَاَللَّهِ إنِّي لَأَكُونُ فِي الْأَمْرِ الْعَظِيمِ مِنْ أَذَى الْجَهْمِيَّةِ فَأَتَوَقَّعُ الْفَرَجَ بِدُعَاءِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُول: قَدْ جَاءَنِي أَبُو عَلِيِّ بْنُ يَحْيَى بْنُ خَاقَانَ فَقَالَ لِي: إنَّ كِتَابًا جَاءَ فِيهِ: إنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَعْنِي الْمُتَوَكِّلَ يُقْرِئُك

السَّلَامَ وَيَقُولُ لَك لَوْ سَلِمَ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ لَسَلِمْت أَنْتَ، هَهُنَا رَجُلٌ قَدْ رَفَعَ عَلَيْك وَهُوَ فِي أَيْدِينَا مَحْبُوسٌ رَفَعَ عَلَيْك أَنَّ عَلَوِيًّا قَدْ تَوَجَّهَ مِنْ أَرْضِ خُرَاسَانَ وَقَدْ بَعَثْت بِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِك يَتَلَقَّاهُ فَإِنْ شِئْت ضَرَبْته وَإِنْ شِئْت حَبَسْته، وَإِنْ شِئْت بَعَثْته إلَيْك قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فَقُلْت لَهُ مَا أَعْرِفُ مِمَّا قَالَ شَيْئًا وَأَرَى أَنْ تُطْلِقُوهُ وَلَا تَعَرَّضُوا لَهُ. وَقَالَ لَمَّا سُيِّرَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ إلَى الشَّامِ اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ وَحَوْلَهُ بِالْمِرْبَدِ فَقَالَ: إنِّي دَاعٍ فَأَمِّنُوا ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ مَنْ سَعَى لِي فَأَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَأَطِلْ عُمْرَهُ وَاجْعَلْهُ مُوَطَّأَ الْعَقِبَيْنِ. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ أَخْبَرْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ سَفِيهٍ يَتَكَلَّمُ وَيُؤْذِي قَالَ لَا تَعَرَّضُوا لَهُ إنَّهُ مَنْ لَمْ يُقِرَّ بِقَلِيلِ مَا يَأْتِي بِهِ السَّفِيهُ أَقَرَّ بِالْكَثِيرِ. وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْخِطْمِيِّ عَنْ جَدِّهِ عَمْرو بْنِ حَبِيبٍ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ أَنَّهُ أَوْصَى بَنِيهِ فَقَالَ إيَّاكُمْ وَمُجَالَسَةَ السُّفَهَاءِ فَإِنَّ مُجَالَسَتَهُمْ دَاءٌ وَإِنَّهُ مَنْ لَمْ يُقِرَّ بِقَلِيلِ مَا يَأْتِي بِهِ السَّفِيهُ يُقِرّ بِالْكَثِيرِ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ السَّفَهُ نُبَاحُ الْإِنْسَانِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَمَنْ يَعَضُّ الْكَلْبَ إنْ عَضَّا وَأَنْتَ تَرَى السَّبْع إذَا مَرَّ بِهِ السِّبَاعُ فِي السُّوقُ كَيْفَ تَنْبَحُهُ الْكِلَابُ وَتَقْرَبُ مِنْهُ وَلَا يَلْتَفِتُ وَلَا يَعُدُّهَا شَيْئًا إذْ لَوْ الْتَفَتَ كَانَ نَظِيرًا، وَمَتَى أَمْسَكَ عَنْ الْجَاهِلِ عَادَ مَا عِنْدَهُ مِنْ الْعَقْل مُوَبَّخًا عَلَى قُبْحِ مَا أَتَى بِهِ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ الْخَلْقُ لَائِمِينَ لَهُ عَلَى سُوءِ أَدَبِهِ فِي حَقِّ مَنْ لَا يُجِيبُهُ وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: وَأَغْيَظُ مَنْ نَادَاكَ مَنْ لَا تُجِيبُهُ وَمَا نَدِمَ حَلِيمٌ وَلَا سَاكِتٌ وَإِنَّمَا يَنْدَمُ الْمُقْدِمُ عَلَى الْمُقَابَلَةِ وَالنَّاطِقُ فَإِنْ

شِئْت فَاحْتَسِبْ سُكُوتَك عَنْ السَّفِيهِ أَجْرًا لَك، وَإِنْ شِئْت فَاعْدُدْهُ احْتِرَازًا مِنْ أَنْ تَقَعَ فِي إثْمٍ، وَإِنْ شِئْت كَانَ احْتِقَارًا لَهُ، وَإِنْ شِئْت كَانَ سُكُوتُك سَبَبًا لَمُعَاوَنَةِ النَّاسِ لَك، وَإِنْ تَلَمَّحْتَ الْقَدَرَ عَلِمْت أَنَّهُ مَا يُسَلَّطُ إلَّا مُسَلِّطٌ فَرَأَيْت الْفِعْلَ مِنْ غَيْرِهِ إمَّا عُقُوبَةً وَإِمَّا مَثُوبَةً. وَرَوَى أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ أَنْبَأْنَا اللَّيْثُ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ بِشْرِ بْنِ الْمُحْرِزِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ: «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ وَقَعَ رَجُلٌ فِي أَبِي بَكْرٍ، فَآذَاهُ فَصَمَتَ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ آذَاهُ الثَّانِيَةَ فَصَمَتَ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ آذَاهُ الثَّالِثَةَ فَانْتَصَرَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ حِينَ انْتَصَرَ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَوْجَدْت عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَزَلَ مَلَكٌ مِنْ السَّمَاءِ يُكَذِّبُهُ لَمَّا قَالَ لَك فَلَمَّا انْتَصَرْت وَقَعْ الشَّيْطَانُ، فَلَمْ أَكُنْ لِأَجْلِسَ إذَا وَقَعَ الشَّيْطَانُ» ثنا عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ ثنا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَسُبُّ أَبَا بَكْرٍ وَسَاقَ نَحْوَهُ. قَالَ أَبُو دَاوُد وَكَذَلِكَ رَوَاهُ صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ كَمَا قَالَ سُفْيَانُ إسْنَادٌ جَيِّدٌ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ مِنْ مَرَاسِيلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَبَشِيرٍ تَفَرَّدَ عَنْهُ الْمَقْبُرِيُّ. ثُمَّ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي هَذَا الْبَابِ وَهُوَ بَاب الِانْتِصَارِ عَنْ عُبَيْدِ بْن مُعَاذِ وَالْقَوَارِيرِيِّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ ثنا ابْنُ عَوْنٍ قَالَ: كُنْت أَسْأَلُ عَنْ الِانْتِصَارِ: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41] . فَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جُدْعَانَ عَنْ أُمِّ مُحَمَّدٍ امْرَأَةِ أَبِيهِ قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: وَزَعَمُوا أَنَّهَا كَانَتْ تَدْخُلُ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: قَالَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِنْدَنَا زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ فَجَعَلَ يَصْنَعُ شَيْئًا بِيَدِهِ حَتَّى فَطِنْته لَهَا فَأَمْسَكَ فَأَقْبَلَتْ زَيْنَبُ تُفْحِمُ لِعَائِشَةَ فَأَبَتْ أَنْ تَنْتَهِيَ فَقَالَ لِعَائِشَةَ سُبِّيهَا فَغَلَبَتْهَا فَانْطَلَقَتْ زَيْنَبُ إلَى عَلِيٍّ فَقَالَتْ: إنَّ عَائِشَةَ

وَقَعَتْ بِكُمْ فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ فَقَالَ لَهَا: إنَّهَا حِبَّةُ أَبِيك وَرَبِّ الْكَعْبَةِ فَانْصَرَفَ فَقَالَتْ لَهُمْ: إنِّي قُلْت كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ لِي: كَذَا وَكَذَا. قَالَتْ: وَجَاءَ عَلِيٌّ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَلَّمَهُ فِي ذَلِكَ» أُمُّ مُحَمَّدٍ تَفَرَّدَ عَنْهَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ وَعَلِيٌّ، حَدِيثُهُ حَسَنٌ وَلِأَبِي دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ «وَإِنْ امْرُؤٌ شَتَمَك أَوْ عَيَّرَك بِمَا يَعْلَمُ فِيك فَلَا تُعَيِّرْهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ، يَكُنْ وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ» وَلِأَحْمَدَ هَذَا الْمَعْنَى وَفِيهِ «فَيَكُونُ أَجْرُهُ لَك وَوِزْرُهُ عَلَيْهِ» . وَرَوَى أَحْمَدُ حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ ثنا أَبُو بَكْرٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْوَالِبِيِّ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ الْمُزَنِيّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَسَبَّ رَجُلٌ رَجُلًا عِنْدَهُ فَجَعَلَ الرَّجُلُ الْمَسْبُوبُ يَقُولُ: عَلَيْك السَّلَامُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَمَا إنَّ مَلَكًا بَيْنَكُمَا يَذُبُّ عَنْك، كُلَّمَا شَتَمَك هَذَا قَالَ لَهُ بِك أَنْتَ وَأَنْتَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِذَا قَالَ لَهُ عَلَيْك السَّلَامُ قَالَ: لَا بَلْ أَنْتَ أَحَقُّ بِهِ» وَكُلُّهُمْ ثِقَاتٌ وَأَبُو بَكْرٍ هُوَ ابْنُ عَيَّاشٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَبَا خَالِدٍ لَمْ يُدْرِكْ النُّعْمَانَ. وَرَوَى أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ فِي الْأَدَبِ لَهُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَالْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ مَنْ يَتَحَرَّ الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ. وَرَوَى أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبْجَرَ قَالَ انْتَهَى الشَّعْبِيُّ إلَى رَجُلَيْنِ وَهُمَا يَغْتَابَانِهِ وَيَقَعَانِ فِيهِ فَقَالَ: هَنِيئًا مَرِيئًا غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرٍ ... لِعَزَّةِ مِنْ أَعْرَاضِنَا مَا اسْتَحَلَّتْ . وَرَوَى أَيْضًا عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَا حِلْمَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ حِلْمِ إمَامٍ وَرِفْقِهِ، وَلَا جَهْلَ أَبْغَضُ إلَى اللَّهِ مِنْ جَهْلِ إمَامٍ وَحِدَّتِهِ، وَمَنْ يُنْصِفُ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ يُعْطَ الظَّفَرَ مِنْ أَمْرِهِ، وَالذُّلُّ فِي الطَّاعَة أَقْرَبُ إلَى الْمُؤْمِنِ مِنْ التَّقْرِيبِ فِي الْمَعْصِيَةِ.

وَرَوَى أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا بَلَغَنِي مِنْ أَحَدٍ مَكْرُوهٌ إلَّا أَنْزَلْته إحْدَى ثُلَاثِ مَنَازِلَ، إنْ كَانَ فَوْقِي عَرَفْت لَهُ قَدْرَهُ، وَإِنْ كَانَ نَظِيرِي تَفَضَّلْت عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ دُونِي لَمْ أَحْفَلْ بِهِ، هَذِهِ سِيرَتِي فِي نَفْسِي فَمَنْ رَغِبَ عَنْهَا فَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ وَذَكَرَ قَوْلَ الْمَجْنُونِ: حَلَالٌ لِلَيْلَى شَتْمُنَا وَانْتِقَاصُنَا ... هَنِيئًا وَمَغْفُورًا لِلَيْلَى ذُنُوبُهَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَكَانَ يُقَالُ: الْغَالِبُ فِي الشَّرِّ مَغْلُوبٌ، شَتَمَ رَجُلٌ أَبَا ذَرٍّ فَقَالَ لَهُ يَا هَذَا لَا تُغْرِقَنَّ فِي شَتْمِنَا وَدَعْ لِلصُّلْحِ مَوْضِعًا، فَإِنَّا لَا نُكَافِئُ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِينَا بِأَكْثَرَ مِنْ أَنْ نُطِيعَ اللَّهَ فِيهِ. أَعْطَى الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - شَاعِرًا فَقِيلَ لَهُ: لِمَ تُعْطِي مَنْ يَقُولُ الْبُهْتَانَ، وَيَعْصِي الرَّحْمَنَ؟ فَقَالَ: إنَّ خَيْرَ مَا بَذَلْت مِنْ مَالِكَ مَا وَقَيْت بِهِ مِنْ عِرْضِكَ، وَمَنْ ابْتَغَى الْخَيْرَ اتَّقَى الشَّرَّ. قَالَ الشَّاعِرُ: مَا بَقِيَ عَنْك قَوْمًا أَنْتَ خَائِفُهُمْ ... كَمِثْلِ دَفْعِك جُهَّالًا بِجُهَّالِ قَعِّسْ إذَا حَدِبُوا وَاَحْدُبْ إذَا قَعَسُوا ... وَوَازِنْ الشَّرَّ مِثْقَالًا بِمِثْقَالِ الْقَعَسُ خُرُوجُ الصَّدْرِ وَدُخُولُ الظَّهْرِ وَهُوَ ضِدُّ الْحَدَبِ، يُقَالُ رَجُلٌ قَعْسٌ وَقَعِيسٌ وَمُتَقَاعِسٌ وَقَالَ آخَرُ: لَعَمْرُكَ مَا سَبَّ الْأَمِيرَ عَدُوُّهُ ... وَلَكِنَّمَا سَبَّ الْأَمِيرَ الْمُبَلِّغُ وَقَالَ آخَرُ حَلَالٌ لِلَيْلَى شَتْمُنَا وَانْتِقَاصُنَا ... هَنِيئًا وَمَغْفُورًا لِلَيْلَى ذُنُوبُهَا وَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا بِالْقُرْبِ مِنْ نِصْفِ الْكِتَابِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَكَارِمِ

الْأَخْلَاقِ قَبْلَ ذِكْرِهِ الزَّهْدَ وَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ الْحَنْبَلِيُّ الْوَزِيرُ لِيَكُنْ غَايَةُ أَمَلِكَ مِنْ عَدُوِّك الْإِنْصَافَ فَمَتَى طَلَبْته مِنْهُ كَانَ سَائِرُ الْخَلْقِ عَوْنًا لَك، فَأَمَّا أَخُوك وَصَدِيقُك فَعَامِلْهُمَا بِالْفَضْلِ وَالْمُسَامَحَةِ لَا بِالْعَدْلِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي أَثْنَاءِ كَلَامٍ لَهُ فَبَارَكَ اللَّهُ فِيمَا أَعْطَاهُ مِنْ الْحِلْمِ وَالْعِلْمِ وَالْفَهْمِ وَإِنَّهُ لَكَمَا قَالَ مُطْرِيهِ: يَرِينُكَ إمَّا غَابَ عَنْك فَإِنْ دَنَا ... رَأَيْت لَهُ وَجْهًا يَسُرُّك مُقْبِلَا يُعَلِّمُ هَذَا الْخَلْقَ مَا شَذَّ عَنْهُمْ ... مِنْ الْأَدَبِ الْمَجْهُولِ كَهْفًا وَمَعْقِلَا وَيَحْسُرُ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ إذَا رَأَى ... مُضِيمًا لِأَهْلِ الْحَقِّ لَا يَسْأَمُ الْبِلَى وَإِخْوَانُهُ الْأَدْنَوْنَ كُلٌّ مُوَفَّقٌ ... بَصِيرٌ بِأَمْرِ اللَّهِ يَسْمُو إلَى الْعُلَى وَقَالَ الْخَلَّالُ ثنا الْمَرُّوذِيُّ قَالَ: قَالَ لِي أَحْمَدُ مَا كَتَبْت حَدِيثًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا وَقَدْ عَمِلْتُ بِهِ حَتَّى مَرَّ بِي فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «احْتَجَمَ وَأَعْطَى أَبَا طَيْبَةَ دِينَارًا» ، فَأَعْطَيْت الْحَجَّامَ دِينَارًا حِينَ احْتَجَمْتُ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ إسْمَاعِيلَ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ كَانَ يَجْتَمِعُ فِي مَجْلِسِ أَحْمَدَ زُهَاءُ عَلَى خَمْسَةِ آلَافٍ، أَوْ يَزِيدُونَ، أَقَلُّ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ يَكْتُبُونَ، وَالْبَاقِي يَتَعَلَّمُونَ مِنْهُ حُسْنَ الْأَدَبِ وَحُسْنَ السَّمْتِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ كُنَّا نَهَابُ أَنْ نُرَادَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فِي الشَّيْءِ أَوْ نُحَاجَّهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ، يَعْنِي لِجَلَالَتِهِ وَلِهَيْبَةِ الْإِسْلَامِ الَّذِي رُزِقَهُ. وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَنْظَفَ ثَوْبًا وَلَا أَشَدَّ تَعَاهُدًا لِنَفْسِهِ فِي شَارِبِهِ وَشَعْرِ رَأْسِهِ وَشَعْرِ بَدَنِهِ وَلَا أَنْقَى ثَوْبًا وَأَشَدَّ بَيَانًا مِنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَقَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَقَعَ الْحَرِيقُ فِي بَيْتِ أَخِي صَالِحٍ وَكَانَ قَدْ تَزَوَّجَ إلَى قَوْمٍ مَيَاسِيرَ فَحَمَلُوا إلَيْهِ جِهَازًا شَبِيهًا بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِينَارٍ فَأَكَلَتْهُ النَّارُ فَجَعَلَ صَالِحٌ يَقُولُ مَا غَمَّنِي مَا ذَهَبَ مِنِّي إلَّا ثَوْبُ أَبِي كَانَ يُصَلَّى فِيهِ أَتَبَرَّكُ بِهِ وَأُصَلِّي فِيهِ، قَالَتْ فَطُفِئَ الْحَرِيقُ وَدَخَلُوا فَوَجَدُوا الثَّوْبَ عَلَى سَرِيرٍ قَدْ أَكَلَتْ النَّارُ مَا حَوْلَهُ وَالثَّوْبُ سَالِمٌ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيّ: وَهَكَذَا بَلَغَنِي عَنْ

قَاضِي الْقُضَاةِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الزَّيْنَبِيِّ أَنَّهُ حَكَى أَنَّ الْحَرِيقَ وَقَعَ فِي دَارِهِمْ فَاحْتَرَقَ مَا فِيهَا إلَّا كِتَابٌ فِيهِ شَيْءٌ بِخَطِّ أَحْمَدَ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَلَمَّا وَقَعَ الْغَرَقُ بِبَغْدَادَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ وَغَرِقَتْ كُتُبِي سَلِمَ لِي مُجَلَّدٌ فِيهِ وَرَقَتَانِ مِنْ خَطِّ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - انْتَهَى كَلَامُهُ، وَفِي قَصِيدَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ فُلَانٍ التِّرْمِذِيّ الَّذِي أَنْشَدَهَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْن حَنْبَلٍ وَهُوَ فِي السِّجْنِ فِي الْمِحْنَةِ يَقُولُ فِيهَا: إذَا مُيِّزَ الْأَشْيَاخُ يَوْمًا وَحَصَّلُوا ... فَأَحْمَدُ مِنْ بَيْنِ الْمَشَايِخِ جَوْهَرُ فَيَا أَيُّهَا السَّاعِي لِيُدْرِكَ شَأْوَهُ ... رُوَيْدَك عَنْ إدْرَاكِهِ سَتُقَصِّرُ حَمَى نَفْسَهُ الدُّنْيَا وَقَدْ سَنَحَتْ لَهُ ... فَمَنْزِلُهُ إلَّا مِنْ الْقُوتِ مُقْفِرُ فَإِنْ يَكُ فِي الدُّنْيَا مُقِلًّا فَإِنَّهُ ... مِنْ الْأَدَبِ الْمَحْمُودِ وَالْعِلْمِ مُكْثِرُ وَرُوِيَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقٍ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ مِنْ مِصْرَ كِتَابًا وَأَعْطَاهُ لِلرَّبِيعِ بْنِ سَلْمَانَ وَقَالَ: اذْهَبْ بِهِ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأْتِنِي بِالْجَوَابِ فَجَاءَ بِهِ إلَيْهِ فَلَمَّا قَرَأَهُ تَغَرْغَرَتْ عَيْنَاهُ بِالدُّمُوعِ وَكَانَ الشَّافِعِيُّ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ وَقَالَ لَهُ اُكْتُبْ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَاقْرَأْ عَلَيْهِ مِنِّي السَّلَامَ وَقُلْ لَهُ إنَّك سَتُمْتَحَنُ وَتُدْعَى إلَى خَلْقِ الْقُرْآنِ وَلَا تُجِبْهُمْ يَرْفَعْ اللَّهُ لَك عَلَمًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ لَهُ الرَّبِيعُ الْبِشَارَةَ فَأَعْطَاهُ قَمِيصَهُ الَّذِي يَلِي جِلْدَهُ وَجَوَابَ الْكِتَابِ، فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ أَيُّ شَيْءٍ رُفِعَ إلَيْكَ قَالَ: الْقَمِيصُ الَّذِي يَلِي جِلْدَهُ قَالَ لَيْسَ نَفْجَعُكَ بِهِ، وَلَكِنْ بُلَّهُ وَادْفَعْ إلَيْنَا الْمَاءَ حَتَّى نُشْرِكَك فِيهِ. وَفِي بَعْضِ الطُّرُقِ قَالَ الرَّبِيعُ فَغَسَلْتَهُ وَحَمَلْت مَاءَهُ إلَيْهِ فَتَرَكَهُ فِي قِنِّينَةٍ وَكُنْتُ أَرَاهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ يَأْخُذُ مِنْهُ فَيَمْسَحُ عَلَى وَجْهِهِ تَبَرُّكًا بِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدَّيْنِ كَذَبُوا عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ حِكَايَاتٍ فِي السُّنَّةِ وَالْوَرِعِ وَذِكْرُهُ هَذِهِ الْحِكَايَةَ وَحِكَايَةَ امْتِنَاعِهِ مِنْ الْخُبْزِ الَّذِي خُبِزَ فِي بَيْتِ ابْنِهِ صَالِحٍ لَمَّا تَوَلَّى الْقَضَاءَ؟ وَدُفِعَ إلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ كِتَابٌ مِنْ رَجُلٍ يَسْأَلُهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ فَقَالَ فَإِذَا دَعَوْنَا لِهَذَا فَنَحْنُ مَنْ يَدْعُو لَنَا؟ .

فصل في حسن الجوار

[فَصْلٌ فِي حُسْنِ الْجِوَارِ] ِ) وَرَوَى الْمَرُّوذِيُّ عَنْ الْحَسَنِ لَيْسَ حُسْنُ الْجِوَارِ كَفَّ الْأَذَى، حُسْنُ الْجِوَارِ الصَّبْرُ عَلَى الْأَذَى. وَرَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ فِي الْأَدَبِ لَهُ عَنْ الشَّعْبِيِّ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ» . وَلِمُسْلِمِ أَيْضًا «فَلْيُحْسِنْ إلَى جَارِهِ» رَوَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ وَلِأَحْمَدَ «فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ» وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «فَلْيَحْفَظْ جَارَهُ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ» . وَرَوَى أَبُو دَاوُد ثنا الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ بْنِ تَوْبَةَ ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ حِبَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْكُو جَارَهُ فَقَالَ اذْهَبْ فَاصْبِرْ فَآتَاهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَقَالَ اذْهَبْ فَاطْرَحْ مَتَاعَهُ فِي الطَّرِيقِ فَطَرَحَ مَتَاعَهُ فِي الطَّرِيقِ فَجَعَلَ النَّاسَ يَسْأَلُونَهُ فَيُخْبِرُهُمْ خَبَرَهُ فَجَعَلَ النَّاسُ يَلْعَنُونَهُ: فَعَلَ اللَّهُ بِهِ وَفَعَلَ، فَجَاءَ إلَيْهِ جَارُهُ فَقَالَ لَهُ ارْجِعْ لَا تَرَى مِنِّي شَيْئًا تَكْرَهُهُ» . إسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَمُحَمَّدُ حَسَنُ الْحَدِيثِ وَلَهُ أَيْضًا وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرو أَنَّهُ ذَبَحَ شَاةً فَقَالَ أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ؟ فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ» الْحَدِيثَ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ فِي الْكُنَى: أَبُو عُمَرَ هُوَ الْبَجَلِيُّ قَالَ عَلِيُّ بْنَ حَكِيمٍ الْأَوْدِيُّ ثَنَا شَرِيكٌ عَنْ أَبِي عُمَرَ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ «شَكَا رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَارَهُ فَقَالَ احْمِلْ مَتَاعَك فَضَعْهُ عَلَى الطَّرِيقِ

فَمَنْ مَرَّ بِهِ يَلْعَنُهُ فَجَاءَ بِهِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ مَا لَقِيت مِنْ النَّاسِ قَالَ لَعْنَةَ اللَّهِ فَوْقَ لَعْنَتِهِمْ» وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كَانَ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَقُولُ اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ جَارِ سَوْءٍ عَيْنُهُ تَرَانِي وَقَلْبُهُ لَا يَنْسَانِي. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ: إنَّ أَحَسَدَ النَّاسِ لِلْعَالِمِ وَأَبْغَاهُمْ عَلَيْهِ قَرَابَتُهُ وَجِيرَانُهُ وَقَالَ عِكْرِمَةُ أَزْهَدُ النَّاسِ فِي عَالِمٍ جِيرَانُهُ وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ: فِي الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ الْأَوَّلِ أَزْهَدُ النَّاسِ فِي عَالِمٍ جِيرَانُهُ. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَرُوِيَ مَرْفُوعًا وَلَا يَصِحُّ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَقَالَ رَجُلٌ لِسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَاَللَّهِ إنِّي أُحِبُّك: فَقَالَ وَلِمَ لَا تُحِبُّنِي وَلَسْت لِي بِجَارٍ وَلَا ابْنِ عَمٍّ؟ كَانَ يُقَال الْحَسَدُ فِي الْجِيرَانِ وَالْعَدَاوَةُ فِي الْأَقَارِبِ. قَالَ الشَّاعِرُ: أَنْتَ حِلِّي وَأَنْتَ حُرْمَةُ جَارِي ... وَحَقِيقٌ عَلَيَّ حِفْظُ الْجِوَارِ إنَّ لِلْجَارِ إنْ تَغَيَّبَ عَيْنًا ... حَافِظًا لِلْمَغِيبِ وَالْأَسْرَارِ مَا أُبَالِي إنْ كَانَ لِلْبَابِ سِتْرٌ ... مُسْبَلٌ أَمْ بَقِيَ بِغَيْرِ سِتَارِ وَقَالَ آخَرُ: نَارِي وَنَارُ الْجَارِ وَاحِدَةٌ ... وَإِلَيْهِ قَبْلِي تَنْزِلُ الْقِدْرُ مَا ضَرَّ جَارًا لِي أُجَاوِرُهُ ... أَنْ لَا يَكُونَ لِبَابِهِ سِتْرُ أَعْمَى إذَا مَا جَارَتِي بَرَزَتْ ... حَتَّى تُوَارِي جَارَتِي الْجُدْرُ وَقَالَ آخَرُ: أَقُول لِجَارِي إذْ أَتَأْنِي مُعَاتِبًا ... مُدِلًّا بِحَقٍّ أَوْ مُدِلًّا بِبَاطِلِ إذَا لَمْ يَصِلْ خَيْرِي وَأَنْتَ مُجَاوِرٌ ... إلَيْكَ فَمَا شَرِّي إلَيْكَ بِوَاصِلِ وَمِنْ كَلَامِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْجَارُ قَبْلَ الدَّارِ وَالرَّفِيقُ قَبْلَ الطَّرِيقِ. أَخَذَهُ الشَّاعِرُ فَقَالَ: يَقُولُونَ قَبْلَ الدَّارِ جَارٌ مُوَافِقٌ ... وَقَبْلَ الطَّرِيقِ النَّهْجِ أُنْسُ رَفِيقِ

وَقَالَ آخَرُ: اُطْلُبْ لِنَفْسِكَ جِيرَانًا تُجَاوِرُهُمْ ... لَا تَصْلُحُ الدَّارُ حَتَّى يَصْلُحَ الْجَارُ وَقَالَ آخَرُ: يَلُومُونَنِي إذْ بِعْت بِالرُّخْصِ مَنْزِلًا ... وَلَمْ يَعْرِفُوا جَارًا هُنَاكَ يُنَغِّصُ فَقُلْت لَهُمْ كُفُّوا الْمَلَامَ فَإِنَّهَا ... بِجِيرَانِهَا تَغْلُو الدِّيَارُ وَتَرْخُصُ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إلَى جَنْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ مُنَافِقٌ يُؤْذِيه وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ حَقِّ الْجَارِ أَنْ تَبْسُطَ إلَيْهِ مَعْرُوفَك وَتَكُفَّ عَنْهُ آذَاك وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لِلْعَبَّاسِ مَا بَقِيَ مِنْ كَرَمِ إخْوَانِك؟ قَالَ الْإِفْضَالُ عَلَى الْإِخْوَانِ، وَتَرْكُ أَذَى الْجِيرَانِ قَالَ الشَّاعِرُ: سُقْيًا وَرَعْيًا لِأَقْوَامٍ نَزَلْتُ بِهِمْ ... كَأَنَّ دَارَ اغْتِرَابِي عِنْدَهُمْ وَطَنِي إذَا تَأَمَّلْت مِنْ أَخْلَاقِهِمْ خُلُقًا ... عَلِمْت أَنَّهُمْ مِنْ حِلْيَةِ الزَّمَنِ وَقَالَ آخَرُ: إذَا مَا رَفِيقِي لَمْ يَكُنْ خَلْفَ نَاقَتِي ... لَهُ مَرْكَبُ فَضْلٍ فَلَا حَمَلَتْ رَحْلِي وَلَمْ يَكُ مِنْ زَادِي لَهُ نِصْفَ مِزْوَدِي ... فَلَا كُنْت ذَا زَادٍ وَلَا كُنْت ذَا رَحْلِ شَرِيكَيْنِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَقَدْ أَرَى ... عَلَيَّ لَهُ فَضْلًا بِمَا نَالَ مِنْ فَضْلِي وَقَالَ آخَرُ: نَزَلْتُ عَلَى آلِ الْمُهَلَّبِ شَائِنًا ... غَرِيبًا عَنْ الْأَوْطَانِ فِي بَلَدٍ مَحْلِ فَمَا زَالَ بِي إكْرَامُهُمْ وَافْتِقَادُهُمْ ... وَبِرُّهُمُو حَتَّى حَسِبْتُهُمُو أَهْلِي وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: ثَلَاثٌ إذَا كُنَّ فِي الرَّجُلِ لَمْ يُشَكَّ فِي عَقْلِهِ وَفَضْلِهِ: إذَا حَمِدَهُ جَارُهُ وَقَرَابَتُهُ وَرَفِيقُهُ. كَدُرَ الْعَيْشِ فِي ثَلَاثٍ: الْجَارِ السَّوْءِ، وَالْوَلَدِ الْعَاقِّ، وَالْمَرْأَةِ السَّيِّئَةِ الْخُلُقِ. ثَلَاثَةٌ لَا يَأْنَفُ الْكَرِيمُ مِنْ الْقِيَامِ عَلَيْهِنَّ: أَبُوهُ وَضَيْفُهُ وَدَابَّتُهُ وَيَأْتِي هَذَا الْمَعْنَى فِي مُخَالَطَةِ السُّلْطَانِ قَبْلَ فُصُولِ اللِّبَاسِ

خَمْسَةُ أَشْيَاءَ تُقَبَّحُ فِي خَمْسَةِ أَصْنَافٍ: الْحِدَّةُ فِي السُّلْطَانِ، وَقِلَّةُ الْحَيَاءِ فِي ذَوِي الْأَحْسَابِ، وَالْبُخْلُ فِي ذَوِي الْأَمْوَالِ، وَالْفُتُوَّةُ فِي الشُّيُوخِ، وَالْحِرْصُ فِي الْعُلَمَاءِ وَالْقُرَّاءِ. وَفِيهِمَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِهِ «يَا نِسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ» . وَلِلتِّرْمِذِيِّ «تَهَادَوْا فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ، وَلَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ» . الْفِرْسِنُ الْعَظْمُ قَلِيلُ اللَّحْمِ وَهُوَ خُفُّ الْبَعِيرِ أَيْضًا كَالْحَافِرِ لِلدَّابَّةِ وَقَدْ يُسْتَعَارُ لِلشَّاةِ وَهُوَ الظِّلْفُ. وَنُونُهُ زَائِدَةٌ وَقِيلَ أَصْلِيَّةٌ، وَوَحَرُ الصَّدْرِ بِالتَّحْرِيكِ غِشُّهُ وَوَسْوَاسُهُ. وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ: لَا يَشْبَعُ الرَّجُلُ دُونَ جَارِهِ. قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ: وَحُسْنُ الْجِوَارِ مَأْمُورٌ بِهِ فَإِنَّ لِلْجَارِ حَقًّا وَحُرْمَةً ثُمَّ ذَكَرَ كَمَا ذَكَرَ الْحَسَنُ وَزَادَ فِي آخِرِهِ مَا لَمْ يَعْصِ اللَّهَ تَعَالَى. وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى بْنِ ثَعْلَبٍ يُشَاوِرُهُ فِي الِانْتِقَالِ عَنْ مَحَلَّةٍ إلَى أُخْرَى لِتَأَذِّي الْجِوَارِ، فَقَالَ الْعَرَبُ تَقُولُ صَبْرُكَ عَلَى أَذَى مَنْ تَعْرِفُهُ خَيْرٌ لَك مِنْ اسْتِحْدَاثِ مَنْ لَا تَعْرِفُهُ وَكَانَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ يَقُولُ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي مَنَاقِبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ زَائِدَةَ قَالَ الْعَافِيَةُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ تِسْعَةٌ مِنْهَا فِي التَّغَافُلِ. فَحَدَّثْتُ بِهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فَقَالَ الْعَافِيَةُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ كُلُّهَا فِي التَّغَافُلِ. وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ مَا كَثُرَتْ النِّعَمُ عَلَى قَوْمٍ قَطُّ إلَّا كَثُرَ أَعْدَاؤُهَا. وَقَدْ ذَكَرْتُ خَبَرَ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ؟ قَالَ يَتَعَرَّضُ مِنْ الْبَلَاءِ مَا لَا يُطِيقُ» وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الْهَوَانَ حِمَارُ الْمَوْتِ يَأْلَفُهُ ... وَالْحُرُّ يُنْكِرُهُ وَالْفِيلُ وَالْأَسَدُ

وَلَا يُقِيمُ بِدَارِ الذُّلِّ يَأْلَفُهَا ... إلَّا الذَّلِيلَانِ عَبْدُ السَّوْءِ وَالْوَتَدُ هَذَا عَلَى الْخَسْفِ مَرْبُوطٌ بِرُمَّتِهِ ... وَذَا يُشَجُّ فَلَا يَرْثِي لَهُ أَحَدُ وَقَالَ آخَرُ: إذَا كُنْتَ فِي دَارٍ يُهِينُكَ أَهْلُهَا ... وَلَمْ تَكُ مَكْبُولًا بِهَا فَتَحَوَّلْ وَقَالَ آخَرُ: لَا تَأْسَفَنَّ عَلَى خِلٍّ تُفَارِقُهُ ... إنَّ الْأَقَاصِيَ قَدْ تَدْنُو فَتَأْتَلِفُ فَالنَّاسُ مُبْتَذَلٌ وَالْأَرْضُ وَاسِعَةٌ ... فِيهَا مَجَالٌ لِذِي لُبٍّ وَمُنْصَرَفُ وَقَالَ آخَرُ: إذَا مَا الْحُرُّ هَانَ بِأَرْضِ قَوْمٍ ... فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي هَرَبٍ جُنَاحُ وَقَدْ هُنَّا بِأَرْضِكُمْ وَصِرْنَا ... كَقَيْءِ الْأَرْضِ تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَقَالَ آخَرُ: وَإِذَا الدِّيَارُ تَنَكَّرَتْ عَنْ حَالِهَا ... فَدَعِ الدِّيَارَ وَأَسْرِعْ التَّحْوِيلَا لَيْسَ الْمُقَامُ عَلَيْك حَقًّا وَاجِبًا ... فِي مَنْزِلٍ يَدَعُ الْعَزِيزَ ذَلِيلَا وَقَالَ آخَرُ: وَكُنْتُ إذَا ضَاقَتْ عَلَيَّ مَحَلَّةٌ ... تَيَمَّمْتُ أُخْرَى مَا عَلَيَّ تَضِيقُ وَمَا خَابَ بَيْنَ اللَّهِ وَالنَّاسِ عَامِلٌ ... لَهُ فِي التُّقَى أَوْ فِي الْمَحَامِدِ سُوقُ

وَلَا ضَاقَ فَضْلُ اللَّهِ عَنْ مُتَعَفِّفٍ ... وَلَكِنَّ أَخْلَاقَ الرِّجَالِ تَضِيقُ وَقَالَ آخَرُ: إذَا كُنْتَ فِي دَارٍ فَحَاوَلْتَ رِحْلَةً ... فَدَعْهَا وَفِيهَا إنْ أَرَدْتَ مَعَادُ وَقَالَ آخَرُ: اصْبِرْ عَلَى حَدَثِ الزَّمَانِ فَإِنَّمَا ... فَرَجُ الشَّدَائِدِ مِثْلُ حَلِّ عِقَالِ فَإِذَا خَشِيتَ تَعَذُّرًا فِي بَلْدَةٍ ... فَاشْدُدْ عَلَيْك بِعَاجِلِ التَّرْحَالِ إنَّ الْمُقَامَ عَلَى الْهَوَانِ مَذَلَّةٌ ... وَالْعَجْزُ آفَةُ حِيلَةِ الْمُحْتَالِ وَقِيلَ: لَا يَمْنَعَنَّك خَفْضُ الْعَيْشِ فِي دَعَةٍ ... نُزُوعَ نَفْسٍ إلَى أَهْلٍ وَأَوْطَانِ تَلْقَى بِكُلِّ بِلَادٍ إنْ نَزَلْتَ بِهَا ... أَهْلًا بِأَهْلٍ وَجِيرَانًا بِجِيرَانِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ حِينَ رَحَلَ مِنْ إشْبِيلِيَّةَ: وَقَائِلَةٍ مَالِي أَرَاك مُرَحَّلَا ... فَقُلْتُ لَهَا صَبْرًا وَاسْمَعِي الْقَوْلَ مُجْمَلَا تَنَكَّرَ مَنْ كُنَّا نُسَرُّ بِقُرْبِهِ ... وَعَادَ زُعَاقًا بَعْد مَا كَانَ سَلْسَلَا وَحُقَّ لِجَارٍ لَمْ يُوَافِقْهُ جَارُهُ ... وَلَا لَايَمَتْهُ الدَّارُ أَنْ يَتَرَحَّلَا أَلَيْسَ بِحَزْمٍ مَنْ لَهُ الظِّلُّ مَقْعَدٌ ... إذَا أَدْرَكَتْهُ الشَّمْسُ أَنْ يَتَحَوَّلَا بُلِيت بِحِمْصٍ وَالْمُقَامُ بِبَلْدَةٍ ... طَوِيلًا لَعَمْرِي مُخْلِقٌ يُورِثُ الْبِلَا إذَا هَانَ حُرٌّ عِنْدَ قَوْمٍ أَتَاهُمْ ... وَلَمْ يَنْأَ عَنْهُمْ كَانَ أَعْمَى وَأَجْهَلَا وَلَمْ تُضْرَبْ الْأَمْثَالُ إلَّا لِعَالِمٍ ... وَلَا غُرِّبَ الْإِنْسَانُ إلَّا لِيَعْقِلَا

قَالَ ابْنُ عَبْدٍ الْبَرِّ قِيلَ لِلْأَوْزَاعِيِّ رَجُلٌ قَدَّمَ إلَى ضَيْفِهِ الْكَامِخَ وَالزَّيْتُونَ وَعِنْدَهُمْ اللَّحْمُ وَالْعَسَلُ وَالسَّمْنُ؟ فَقَالَ لَا يُؤْمِنُ هَذَا بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِر. قَالَ الشَّاعِرُ: طَعَامِي طَعَامُ الضَّيْفِ وَالرَّحْلُ رَحْلُهُ ... وَلَمْ يُلْهِنِي عَنْهُ غَزَالٌ مُقَنَّعُ أُحَدِّثُهُ إنَّ الْحَدِيثَ مِنْ الْقِرَى ... وَتَعْلَمُ نَفْسِي أَنَّهُ سَوْفَ يَهْجَعُ وَقَالَ آخَرُ: يَسْتَأْنِسُ الضَّيْفُ فِي أَبْيَاتِنَا أَبَدًا ... فَلَيْسَ يَعْلَمُ خَلْقٌ أَيُّنَا الضَّيْفُ وَقَالَ حَسَّانُ: يُغْشَوْنَ حَتَّى مَا تَهِرُّ كِلَابُهُمْ ... لَا يَسْأَلُونَ عَنْ السَّوَادِ الْمُقْبِلِ وَقَدْ عَرَفَتْ كِلَابُهُمْ ثِيَابِي ... كَأَنِّي مِنْهُمْ وَنَسِيت أَهْلِي وَقَالَ آخَرُ: أُضَاحِكُ ضَيْفِي قَبْلَ إنْزَالِ رَحْلِهِ ... وَيُخْصِبُ عِنْدِي وَالْمَحَلُّ جَدِيبُ وَمَا الْخِصْبُ لِلْأَضْيَافِ أَنْ يَكْثُرَ الْقِرَى ... وَلَكِنَّمَا وَجْهُ الْكَرِيمِ خَصِيبُ وَقِيلَ: ضَيْفُكَ قَابِلْهُ بِبِشْرِك وَلْيَكُنْ ... لَهُ مِنْك أَبْكَارُ الْحَدِيثِ وَعُونُهُ وَقِيلَ: تَرَاهُمْ خَشْيَةَ الْأَضْيَافِ خُرْسًا ... يُصَلُّونَ الصَّلَاةَ بِلَا أَذَانِ وَقِيلَ: ذَرِينِي فَإِنَّ الشُّحَّ يَا أُمَّ مَالِكٍ ... لِصَالِحِ أَخْلَاقِ الرِّجَالِ سَرُوقُ ذَرِينِي وَحَظِّي فِي هَوَانِي إنَّنِي ... عَلَى الْحَسَبِ الْعَالِي الرَّفِيعِ شَفِيقُ.

فصل في حب الفقر والموت والحذر من الدنيا

[فَصْلُ فِي حُبِّ الْفَقْرِ وَالْمَوْتِ وَالْحَذَرِ مِنْ الدُّنْيَا] ) قَالَ الْمَرُّوذِيُّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: كَأَنَّك بِالْمَوْتِ وَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَنَا أَنَا لَا أَعْدِلُ بِالْفَقْرِ شَيْئًا أَنَا أَفْرَحُ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدِي شَيْءٌ، إنِّي لَأَتَمَنَّى الْمَوْتَ صَبَاحًا وَمَسَاءً أَخَافُ أَنْ أُفْتَنَ فِي الدُّنْيَا. قَالَ مَسْرُوقٌ إنَّمَا تُحْفَةُ الْمُؤْمِنِ قَبْرُهُ وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ هَانِئٍ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ الْحَسَنُ أَهِينُوا الدُّنْيَا فَوَاَللَّهِ لَأَهْنَأُ مَا تَكُونُ حِينَ تُهَانُ وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا الْغِنَى مِنْ الْعَافِيَةِ وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ أَوْصِنِي قَالَ أَعِزَّ أَمْرَ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْت يُعِزّكَ اللَّهُ. وَقَالَ يَحْيَى الْجَلَا سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنْ تُذِيبَ الدُّنْيَا أَكْبَادَ رِجَالٍ وَعَتْ صُدُورُهُمْ الْقُرْآنَ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ هَانِئٍ اخْتَفَى عِنْدِي أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، ثَلَاثَ لَيَالٍ ثُمَّ قَالَ لِي اُطْلُبْ لِي مَوْضِعًا حَتَّى أَدُورَ، قُلْت إنِّي لَا آمَنُ عَلَيْك يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اخْتَفَى فِي الْغَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ تَتَّبِعَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الرَّخَاءِ وَتَتْرُكَ فِي الشِّدَّةِ. وَطَلَبَهُ الْمَأْمُونُ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ قَالَ صَالِحٌ قَالَ أَبِي وَكُنْت أَدْعُو اللَّهَ أَنْ لَا أَرَاهُ فَحَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا مَعْمَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ فُرَاتِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ مَيْمُونٍ عَنْ مِهْرَانَ قَالَ: ثَلَاثَةٌ لَا تَبْلُوَنَّ نَفْسَك بِهِنَّ: لَا تَدْخُلَنَّ عَلَى سُلْطَانٍ وَإِنْ قُلْت آمُرُهُ بِطَاعَةٍ، وَلَا تَدْخُلَنَّ عَلَى امْرَأَةٍ وَإِنْ قُلْت أُعَلِّمُهَا كِتَابَ اللَّهِ، وَلَا تُصْغِيَنَّ سَمْعَك لِذِي هَوًى فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَا تَعَلَّقَ قَلْبُك مِنْهُ قَالَ صَالِحٌ سَمِعْت أَبِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ وَاَللَّهِ لَقَدْ أَعْطَيْتُ الْمَجْهُودَ مِنْ نَفْسِي وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أَنْجُو مِنْ هَذَا الْأَمْرِ كَفَافًا لَا عَلَيَّ وَلَا لِي. وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ زُهَيْرٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى أَحْمَدَ فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فَأَجَابَهُ فَقَالَ لَهُ جَزَاك اللَّهُ عَنْ الْإِسْلَامِ خَيْرًا، فَغَضِبَ وَقَالَ لَهُ مَنْ أَنَا حَتَّى يُجْزِيَنِي اللَّهُ عَنْ الْإِسْلَامِ خَيْرًا؟ أَنْتَ فِي

غَيْرِ حِلٍّ مِنْ جُلُوسِك قَالَ رَجُلٌ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ جَزَاك اللَّهُ عَنْ الْإِسْلَامِ خَيْرًا وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَحْمَدَ مَا سَمِعْت كَلِمَةً كَانَتْ أَقْوَى لِقَلْبِي وَأَقَرَّ لِعَيْنِي فِي الْمِحْنَةِ مِنْ كَلِمَةٍ سَمِعْتُهَا مِنْ فَقِيرٍ أَعْمَى فِي رَحْبَة طُرُقٍ قَالَ لِي يَا أَحْمَدُ إنْ تَهْلِكْ فِي الْحَقِّ مِتَّ شَهِيدًا، وَإِنْ عِشْت عِشْت حَمِيدًا. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ حَنْبَلٍ عَمُّ أَحْمَدَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَدْ أَعْذَرْت فِيمَا بَيْنَك وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ أَجَابَ أَصْحَابُكَ وَالْيَوْمَ بَقِيت فِي الْحَبْسِ وَالشَّرِّ، فَقَالَ لِي يَا عَمُّ إذَا أَجَابَ الْعَالِمُ تَقِيَّةً وَالْجَاهِلُ بِجَهْلٍ فَمَتَى يَتَبَيَّنُ الْحَقّ؟ فَأَمْسَكَتْ عَنْهُ وَقَالَ ابْنُ الْمُنَادِي دَخَلَ أَحْمَدُ بْنُ دَاوُد الْحَدَّادُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحَبْسَ قَبْلَ الضَّرْبِ فَقَالَ لَهُ فِي بَعْضِ كَلَامِهِ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْك رِجَالٌ وَلَك صِبْيَانٌ وَأَنْتَ مَعْذُورٌ كَأَنَّهُ يُسَهِّلُ عَلَيْهِ الْإِجَابَةَ فَقَالَ لَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إنْ كَانَ هَذَا عَقْلَك فَقَدْ اسْتَرَحْت وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيّ كَانَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ يَقُولُ أَنَا وَاَللَّهِ رَأَيْت يَوْمَ ضُرِبَ أَحْمَدُ وَقَدْ ارْتَفَعَ مِنْ بَعْدِ انْخِفَاضِهِ، وَانْعَقَدَ مِنْ بَعْد انْحِلَالِهِ وَلَمْ يَفْطُنْ لِذَلِكَ لِذُهُولِ عَقْلِ مَنْ حَضَرَهُ وَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا كَانَ أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ الْبَزَّارُ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ ثنا سَيِّدُنَا وَشَيْخُنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَقَالَ قَدْ كَانَ هَهُنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَبِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَكُنَّا نَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِمَا، إنَّهُمَا مَاتَا وَبَقِيَ سِرِّي، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنَا اللَّهُ بِسِرِّي. وَقَدْ قَالَ أَبُو الْفَضْلِ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَعْيَنَ سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ لَوْلَا بِشْرٌ يَعْنِي الْحَافِيَّ وَمَا نَرْجُو مِنْ اسْتِغْفَارِهِ لَنَا لَكِنَّا فِي عُطْلَةٍ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ قُلْت لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ كَيْفَ تَخَلَّصْت مِنْ سَيْفِ الْمُعْتَصِمِ وَسَوْطِ الْوَاثِقِ؟ فَقَالَ لَوْ وُضِعَ الصِّدْقُ عَلَى جُرْحٍ لَبَرِيءَ وَقَالَ خَلَفٌ: جَاءَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَسْمَعُ حَدِيثَ أَبِي عَوَانَةَ فَاجْتَهَدْت أَنْ أَرْفَعَهُ فَأَبَى وَقَالَ لَا أَجْلِسُ بَيْنَ يَدَيْك، أُمِرْنَا أَنْ نَتَوَاضَعَ لِمَنْ نَتَعَلَّمُ مِنْهُ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْعَطَّارُ أَنَّهُ رَأَى أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ أَخَذَ لِدَاوُدَ بْنِ عُمَرَ بِالرِّكَابِ ذَكَرَهُ الْحَافِظُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ الْأَخْضَرِ

فِيمَنْ رَوَى عَنْ أَحْمَدَ. وَذَكَرَ أَيْضًا أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ سَعِيدٍ الرِّبَاطَيَّ لِأَنَّهُ تَوَلَّى الرِّبَاطَاتِ فَنُسِبَ إلَيْهَا قَالَ سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَل يَقُول أَخَذْنَا هَذَا الْعَالَمَ بِالذُّلِّ فَلَا نَدْفَعُهُ إلَّا بِالذُّلِّ. وَقَالَ الرِّبَاطِيُّ قَدِمْتُ عَلَى أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فَجَعَلَ لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إلَيَّ، فَقُلْت يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إنَّهُ يُكْتَبُ عَنِّي بِخُرَاسَانَ وَإِنْ عَامَلْتَنِي بِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ رَمَوْا بِحَدِيثِي، فَقَالَ لِي أَحْمَدُ وَهَلْ بُدٌّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يُقَالَ أَيْنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ وَأَتْبَاعُهُ؟ اُنْظُرْ أَيْنَ تَكُونُ مِنْهُمْ؟ فَقُلْت يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إنَّمَا وَلَّانِي أَمْرَ الرِّبَاطِ لِذَلِكَ دَخَلْت قَالَ فَجَعَلَ يُكَرِّرُ ذَلِكَ عَلَيَّ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَخْفِضَ صَوْتَهُ عِنْدَهُ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ عَلَى غَيْرِهِ عَلِمَ كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّهُ قِلَّةُ احْتِرَامٍ لَهُ انْتَهَى كَلَامُهُ وَلَمَّا رَفَعَ صَوْتُهُ سَعْدٌ عَلَى أَبِي جَهْلٍ قَالَ لَهُ بَعْضُ قُرَيْشٍ لَا تَرْفَعْ صَوْتَك عَلَى أَبِي الْحَكَمِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان: 19] . أَيْ اُنْقُصْ مِنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ غَضَضْت بَصَرِي وَفُلَانٌ يَغُضُّ بَصَرَهُ مِنْ فُلَانٍ {إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ} [لقمان: 19] أَيْ أَقْبَحَ يَقُولُ أَتَانَا فُلَانٌ بِوَجْهٍ مُنْكَرٍ أَيْ قَبِيحٍ وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: تَأْوِيلُهُ أَنَّ الْجَهْرَ بِالصَّوْتِ لَيْسَ بِمَحْمُودٍ وَأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي بَابِ الصَّوْتِ الْمُنْكَرِ وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: عَرَّفَهُ قُبْحَ رَفْعِ الْأَصْوَاتِ فِي الْمُخَاطَبَةِ بِقُبْحِ أَصْوَاتِ الْحَمِيرِ لِأَنَّهَا عَالِيَةٌ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ لَوْ كَانَ رَفْعُ الصَّوْتِ خَيْرًا مَا جَعَلَهُ اللَّهُ لِلْحَمِيرِ وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ صِيَاحُ كُلِّ شَيْءٍ تَسْبِيحُ لِلَّهِ إلَّا الْحِمَارَ فَإِنَّهُ يَنْهَقُ بِلَا فَائِدَةٍ ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ مِمَّا وَجَدْته فِي آدَابِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ مُسْتَنِدًا وَذُكِرَ عِنْدَهُ ابْنُ طَهْمَانَ فَأَزَالَ ظَهْرَهُ عَنْ الِاسْتِنَادِ وَقَالَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْرِيَ ذِكْرُ الصَّالِحِينَ وَنَحْنُ مُسْتَنِدُونَ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فَأَخَذْتُ

مِنْ هَذَا حُسْنَ الْأَدَبِ فِيمَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ عِنْدَ إمَامِ الْعَصْرِ مِنْ النُّهُوضِ لِسَمَاعِ تَوْقِيعَاتِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْحَافِظُ ابْنُ الْأَخْضَرِ فِيمَنْ رَوَى عَنْ أَحْمَدَ فِي تَرْجَمَتِهِ أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَذُكِرَ عِنْدَهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ وَكَانَ مُتَّكِئًا مِنْ عِلَّةٍ فَاسْتَوَى جَالِسًا وَقَالَ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ الصَّالِحُونَ فَنَتَّكِئُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَطْلُبُ هَذَا الْعِلْمَ أَحَدٌ بِالْمُلْكِ وَعِزَّةِ النَّفْسِ فَيُفْلِحُ لَكِنَّ مَنْ طَلَبَهُ بِذِلَّةِ النَّفْسِ وَضِيقِ الْعَيْشِ وَخِدْمَةِ الْعِلْمِ وَتَوَاضُعِ النَّفْسِ أَفْلَحَ وَقَالَ أَبُو تَوْبَةَ الْبَغْدَادِيُّ رَأَيْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقُلْتُ لَهُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ هَذَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ يُحَدِّثُ فَقَالَ هَذَا يَفُوتُ وَذَاكَ لَا يَفُوتُ. وَرَوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْت لِرِجْلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ: هَلُمَّ فَلْنَسْأَلْ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُمْ الْيَوْمَ كَثِيرٌ قَالَ: وَاعَجَبًا لَك يَا ابْنَ عَبَّاسٍ أَتَرَى النَّاسَ يَفْتَقِرُونَ إلَيْك وَفِي النَّاسِ مِنْ أَصْحَابٍ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ فِيهِمْ قَالَ: فَتَرَكَ ذَلِكَ وَأَقْبَلْتُ أَنَا أَسْأَلُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْحَدِيثِ فَإِنْ كَانَ لَيَبْلُغُنِي الْحَدِيثُ عَنْ الرَّجُلِ فَآتِي بَابَهُ وَهُوَ قَائِلٌ فَأَتَوَسَّدُ رِدَائِي عَلَى بَابِهِ تَسْفِي الرِّيحُ عَلَيَّ مِنْ التُّرَابِ فَيَخْرُجُ فَيَقُولُ يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا جَاءَ بِك؟ أَلَا أَرْسَلْت إلَى فَآتِيك؟ فَأَقُولُ أَنَا أَحَقُّ أَنْ آتِيك، فَاسْأَلْهُ عَنْ الْحَدِيثِ قَالَ فَعَاشَ ذَلِكَ الرَّجُلُ الْأَنْصَارِيُّ حَتَّى رَآنِي وَقَدْ اجْتَمَعَ النَّاسُ حَوْلِي فَيَقُولُ هَذَا الْفَتَى كَانَ أَعْقَلَ مِنِّي. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البينة: 1] .

وَأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ قَرَأَ عَلَيْهِ لِتَعْلِيمِهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِيُسِنَّ التَّوَاضُعَ فِي أَخْذِ الْإِنْسَان مِنْ الْعُلُومِ عَنْ أَهْلِهَا وَإِنْ كَانُوا دُونَهُ فِي النَّسَبِ وَالدِّينِ وَالْفَضِيلَةِ وَالْمَرْتَبَةِ وَالشُّهْرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلِيُنَبِّهَ النَّاسَ عَلَى فَضِيلَةِ أُبَيٍّ وَتَقْدِيمِهِ فَيَجْتَهِدُونَ فِي الْأَخْذِ عَنْهُ وَإِنَّمَا خَصَّ هَذِهِ السُّورَةَ لِاقْتِضَاءِ الْحَالِ الِاخْتِصَارَ مَعَ أَنَّهَا جَامِعَةٌ. وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ زَيْنُ الْعَابِدِينَ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ فَيَشُقُّ النَّاسَ حَتَّى يَجْلِسَ فِي حَلَقَةِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فَعُوتِبَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إنَّ الْعِلْمَ يُبْتَغَى وَيُؤْتَى وَيُطْلَبُ مِنْ حَيْثُ كَانَ. كَانَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ يَقُولُ لِبَنِيهِ: إنَّا كُنَّا صِغَارَ قَوْمٍ وَإِنَّا الْيَوْمَ كِبَارٌ وَإِنَّكُمْ سَتَكُونُونَ مِثْلَنَا إنْ بَقِيتُمْ، وَلَا خَيْرَ فِي كَبِيرٍ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ لَقَدْ رَأَيْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى فِي حَلَقَةٍ فِيهَا نَفَرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ يَسْتَمِعُونَ لِحَدِيثِهِ وَيُنْصِتُونَ لَهُ مِنْهُمْ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ. وَعَنْ الْأَصْمَعِيِّ قَالَ مَنْ لَمْ يَحْمِلْ ذُلَّ التَّعَلُّمِ سَاعَةً بَقِيَ فِي ذُلِّ الْجَهْلِ أَبَدًا. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ: الْمُتَوَاضِعُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ أَكْثَرُهُمْ عِلْمًا كَمَا أَنَّ الْمَكَانَ الْمُنْخَفِضَ أَكْثَرُ الْبِقَاعِ مَاءً. وَقَدْ نَظَمَ هَذَا أَبُو عَامِرٍ النَّسَوِيُّ فَقَالَ: الْعِلْمُ يَأْتِي كُلَّ ذِي ... خَفْضٍ وَيَأْبَى كُلَّ آبِي كَالْمَاءِ يَنْزِلُ فِي الْوِهَادِ ... وَلَيْسَ يَصْعَدُ فِي الرَّوَابِي وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَحْتَمِلَ الطَّالِبُ مَا يَكُونُ مِنْ الشَّيْخِ أَوْ مِنْ بَقِيَّةِ الطَّلَبَةِ لِئَلَّا يَفُوتَهُ الْعِلْمِ فَتَفُوتَهُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ مَعَ حُصُولِ الْعَدُوِّ طَلَبِهِ، وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ مِنْ الْأَرْبَعَةِ الْمَأْمُورِ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ» . وَقَدْ قِيلَ: لَمَحْبَرَةٌ تُجَالِسُنِي نَهَارِي ... أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أُنْسِ الصَّدِيقِ وَرِزْمَةُ كَاغِدٍ فِي الْبَيْتِ عِنْدِي ... أَعَزُّ إلَيَّ مِنْ عَدْلِ الدَّقِيقِ

وَلَطْمَةُ عَالِمٍ فِي الْخَدِّ مِنِّي ... أَلَذُّ عَلَيَّ مِنْ شُرْبِ الرَّحِيقِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ غَضِبَ الْأَعْمَشُ يَوْمًا عَلَى رَجُلٍ مِنْ الطَّلَبَةِ فَقَالَ آخَرُ لَوْ غَضِبَ عَلَيَّ مِثْلُك لَمْ أَعُدْ إلَيْهِ فَقَالَ لَهُ الْأَعْمَشُ: إذًا هُوَ أَحْمَقُ مِثْلُك يَتْرُكُ مَا يَنْفَعُهُ لِسُوءِ خُلُقِي. ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيّ.

فصل في الوحدة والعزلة والتواضع في سيرة أحمد

[فَصْلٌ فِي الْوَحْدَةِ وَالْعُزْلَةِ وَالتَّوَاضُعِ فِي سِيرَةِ أَحْمَدَ] َ) قَالَ عَبْدُ اللَّهِ كَانَ أَبِي أَصْبَرَ النَّاسِ عَلَى الْوَحْدَةِ وَقَالَ لَمْ يَرَ أَحَدٌ أَبِي إلَّا فِي مَسْجِدٍ أَوْ حُضُورِ جِنَازَةٍ أَوْ عِيَادَةِ مَرِيضٍ وَكَانَ يَكْرَهُ الْمَشْيَ فِي الْأَسْوَاقِ وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ عَنْهُ: رَأَيْتُ الْوَحْدَةَ أَرْوَحَ لِقَلْبِي. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ ذَكَرْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَبْدِ الْوَهَّابِ عَلَى أَنْ يَلْتَقِيَا فَقَالَ أَلَيْسَ قَدْ كَرِهَ بَعْضُهُمْ اللِّقَاءَ وَقَالَ يَتَزَيَّنُ لِي وَأَتَزَيَّنُ لَهُ، وَكَفَى بِالْعُزْلَةِ عِلْمًا، وَالْفَقِيهُ الَّذِي يَخَافُ اللَّهَ وَقَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قُلْ لِعَبْدِ الْوَهَّابِ أُخْمِلَ ذِكْرُكَ، فَإِنِّي أَنَا قَدْ بُلِيت بِالشُّهْرَةِ وَقَالَ غَيْرُهُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: أَشْتَهِي مَا لَا يَكُونُ، أَشْتَهِي مَكَانًا لَا يَكُونُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُسَيِّبِيُّ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ إنِّي أُحِبُّ أَنْ آتِيَك فَأُسَلِّمَ عَلَيْك وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ تَكْرَهَ الرَّحْلَ، فَقَالَ: إنَّا لَنَكْرَهُ ذَلِكَ وَقَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت الْهَيْثَمَ بْنَ خَارِجَةَ قَالَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنْتَ عَرُوسٌ تُزَارُ وَلَا تَزُورُ. وَمَنْ نَظَرَ فِي سِيرَةِ أَبِي عَبْدِ اللَّه وَتَرْجَمَةِ مَا سَبَقَ وَمَا يَأْتِي وَمَا لَمْ نَذْكُرْهُ وَجَدَ هِمَّتَهُ فِي الْخَيْرَاتِ وَالطَّاعَاتِ مِنْ أَعْلَى الْهِمَمِ، وَإِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّ دَغْفَلًا دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ لَهُ أَيُّ بَيْتٍ أَفْخَرُ، قَالَ: قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَهُ هِمَمٌ لَا مُنْتَهَى لِكِبَارِهَا ... وَهِمَّتُهُ الصُّغْرَى أَجَلُّ مِنْ الدَّهْرِ لَهُ رَاحَةٌ لَوْ أَنَّ مِعْشَارَ جُودِهَا ... عَلَى الْبَرِّ كَانَ الْبَرُّ أَنْدَى مِنْ الْبَحْرِ وَقَالَ صَالِحٌ: كَانَ أَبِي إذَا دَعَا لَهُ رَجُلٌ يَقُولُ الْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا وَقَالَ عَامِرٌ: لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بَلَغَنِي أَنَّك رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ فَمِنْ أَيِّ

الْعَرَبِ أَنْتَ؟ فَقَالَ لِي يَا أَبَا النُّعْمَانِ نَحْنُ قَوْمٌ مَسَاكِينُ وَمَا نَصْنَعُ بِهَذَا؟ فَكَانَ رُبَّمَا جَاءَنِي أُرِيدُهُ عَلَى أَنْ يُخْبِرَنِي فَيُعِيدُ عَلَيَّ مِثْلَ ذَلِكَ الْكَلَامِ وَلَا يُخْبِرُنِي بِشَيْءٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّه بْنُ الرُّومِيِّ: كُنْت كَثِيرًا مَا أَرَى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَعْنِي وَهُوَ بِالْبَصْرَةِ يَأْتِي إلَى مَسْجِدِ بَنِي مَازِنٍ فَيُصَلِّي فِيهِ فَقُلْت يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إنِّي أَرَاك كَثِيرًا تُصَلِّي فِي هَذَا الْمَسْجِدِ قَالَ: إنَّهُ مَسْجِدُ آبَائِي وَقَالَ الْخَلَّالُ: حَدَّثَنَا الْمَرُّوذِيُّ قَالَ: حَضَرْت أَبَا ثَوْرٍ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إمَامُنَا، أَوْ قَالَ شَيْخُنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِيهَا كَذَا وَكَذَا، فَجَعَلَ السَّائِلُ يَدْعُو لَهُ وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ رَأْيِهِ، فَلَمَّا مَضَى الْتَفَتَ إلَيْنَا فَقَالَ: هَذَا لَوْ أَخْبَرْته عَنْ رَأْيِي لَكَانَ يَعْنِي يَطُولُ فَحَيْثُ قُلْت لَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ مَرَّ وَسَكَتَ، وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: إنَّ لِي وَالِدَةً مُقْعَدَةً تَسْأَلُك أَنْ تَدْعُوَ لَهَا قَالَ: فَغَضِبَ وَقَالَ: كَيْف قَصَدَتْنِي؟ قُلْ لِوَالِدَتِك تَدْعُو لِي، هَذِهِ مُبْتَلَاةٌ، وَأَنَا مُعَافًى. ثُمَّ دَعَا لَهَا وَعُوفِيَتْ. وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مِنْ سَمَرْقَنْدَ بِكِتَابِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ يَجْعَلُ لَهُ مَجْلِسًا فَأَهْدَى إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ يَوْمًا ثَوْبًا فَأَعْطَاهُ رَجُلًا، فَقَالَ: اذْهَبْ بِهِ إلَى السُّوقِ فَقَوِّمْهُ، فَذَهَبَ فَجَاءَ نَيِّفٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا فَحَجَبَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ حَتَّى اشْتَرَى لَهُ ثَوْبَيْنِ وَمِقْنَعَةً أَوْ ثَوْبًا وَمِقْنَعَةً وَبَعَثَ بِهِ إلَيْهِ ثُمَّ أَذِنَ لَهُ فَحَدَّثَهُ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: رَأَيْت أَبِي إذَا اخْتَفَى، أَكْثَرُ ذَلِكَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ رُبَّمَا يَتْرُكُ أَصْحَابُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَشْيَاءَ لَيْسَ لَهَا تَبِعَةٌ عِنْدَ اللَّهِ مَخَافَةَ أَنْ يُعَيَّرُوا بِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيُّ رَأَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَشْتَرِي مِنْ السُّوقِ الْخُبْزَ وَيَحْمِلُ بِنَفْسِهِ فِي الزِّنْبِيلِ، وَرَأَيْتَهُ يَشْتَرِي الْبَاقِلَّا غَيْرَ مَرَّةً وَيَجْعَلُهُ فِي زُبْدِيَّةٍ أَوْ شَيْءٍ آخَرَ فَيَحْمِلُهُ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِهِ وَقَالَ صَالِحٌ كَانَ أَبِي رُبَّمَا خَرَجَ إلَى الْبَقَّالِ فَيَشْتَرِي جِرْزَةَ حَطَبٍ فَيَحْمِلُهَا. وَقَالَ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنَا الْمَرُّوذِيُّ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: كَانَ

يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَدْ أُوصِي لِي بِجُبَّةٍ قَالَ: فَفَرِحْتُ بِهَا وَأَرَدْتُ أَنْ آخُذَهَا قَالَ: وَكَانَتْ أَعْجَبَتْنِي الْجُبَّةُ فَقُلْتُ رَجُلٌ صَالِحٌ وَقَدْ يُصَلِّي فِيهَا قَالَ فَجَاءُوا بِهَا وَمَعَهَا شَيْءٌ آخَرُ فَرَدَدْته كُلَّهُ وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادَةَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: مَا أَعْظَمَ بَرَكَةِ الْمِغْزَلِ وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: الْخَوْفُ مَنَعَنِي أَكْلَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَمَا اشْتَهَيْتُهُ وَقَالَ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ صَدَقَةَ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّيْرَفِيَّ قَالَ: أَتَيْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ الْحَمَّالُ وَذَلِكَ فِي آخِرِ سَنَةِ الْمِائَتَيْنِ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ إنَّ أَقْوَامًا يَسْأَلُونِي أَنْ أُحَدِّثَ فَهَلْ تَرَى ذَلِكَ؟ قَالَ فَسَكَتَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَأَطَالَ السُّكُوتَ قَالَ: فَقُلْتُ أَنَا لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أُجِيبُكَ أَنَا؟ قَالَ تَكَلَّمْ قَالَ قُلْتُ لَهُ إنْ كُنْتَ تَشْتَهِي أَنْ تُحَدِّثَ فَلَا تُحَدِّثْ، وَإِنْ كُنْت تَشْتَهِي أَنْ لَا تُحَدِّثَ فَحَدِّثْ قَالَ فَكَأَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ اسْتَحْسَنَ ذَلِكَ قَالَ فَلَمَّا انْبَسَطَ فِي الْحَدِيثِ قَالَ: فَظَنَنْتُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَشْتَهِي أَنْ يُحَدِّثَ. وَقِيلَ لَبِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ يَا أَبَا نَصْرٍ الرَّجُلُ يَكُونُ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْقُرْآنِ فَتَرَى لَهُ أَنْ يَجْلِسَ فَيُعَلِّمَ النَّاسَ قَالَ إنْ كَانَ يُحِبُّ ذَلِكَ فَلَا يَجْلِسُ.

فصل الخوف والرجاء وما قيل في تساويها وعدمه

[فَصْلٌ الْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ وَمَا قِيلَ فِي تَسَاوِيهَا وَعَدَمِهِ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سُبْحَانَك مَا أَغْفَلَ هَذَا الْخَلْقَ عَمَّا أَمَامَهُمْ، الْخَائِفُ مِنْهُمْ مُقَصِّرٌ، وَالرَّاجِي مُتَوَانٍ وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَمِعْتُ الْإِمَامَ أَحْمَدَ قَالَ: الْخَوْفُ مَنَعَنِي عَنْ أَكْلِ الطَّعَامِ فَمَا أَشْتَهِيهِ فَإِذَا ذَكَرْتُ الْمَوْتَ هَانَ عَلَيَّ كُلُّ شَيْءٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ سَمِعْتُ أَحْمَدَ يَقُولُ: إنْ أَحْبَبْتَ أَنْ يُدَوِّمَ اللَّهُ لَك عَلَى مَا تُحِبُّ فَدُمْ لَهُ عَلَى مَا يُحِبُّ، وَالْخَيْرُ فِيمَنْ لَا يَرَى لِنَفْسِهِ خَيْرًا. وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ وَكِيعٍ سَمِعْتُ سُفْيَانَ يَقُولُ: لَا يَتَّقِي اللَّهَ أَحَدٌ إلَّا اتَّقَاهُ النَّاسُ شَاءُوا أَمْ أَبَوْا. وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بِشْرِ بْنِ الْحَكَمِ الْعَالِمِ ابْنِ الْعَالِمِ ابْنِ الْعَالِمِ قَالَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: مَنْ اسْتَغْنَى بِاَللَّهِ أَحْوَجَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَيْهِ النَّاسَ. وَقَالَ ابْنُ هَانِئٍ قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ رَجَاؤُهُ وَخَوْفُهُ وَاحِدًا وَقَالَ غَيْرُهُ عَنْهُ: فَأَيَّهمَا رَجَّحَ صَاحِبُهُ هَلَكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ رَجَاءُ الْمَرِيضِ أَكْثَرَ، وَقَطَعَ بِهِ صَاحِبُ النَّظْمِ، وَقَالَ أَحْمَدُ لِرَجُلٍ: لَوْ صَحَحْتَ مَا خِفْتَ أَحَدًا. وَقَدْ قِيلَ: فَمَا فِي الْأَرْضِ أَشْجَعُ مِنْ بَرِيءٍ ... وَلَا فِي الْأَرْضِ أَخْوَفُ مِنْ مُرِيبِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ بَهْجَةُ الْمَجَالِسِ: كَانَ يُقَالُ مَنْ خَافَ اللَّهَ وَرَجَاهُ أَمَّنَهُ خَوْفَهُ وَلَمْ يُحْرِمْهُ رَجَاءَهُ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى بَعْضِ إخْوَانِهِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ مَنْ خَافَ اللَّهَ أَخَافَ اللَّهُ مِنْهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَمَنْ لَمْ يَخَفْ اللَّهَ أَخَافَهُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَلِلْحَسَنِ بْنِ وَهْبٍ وَيُنْسَبُ إلَى الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ:

خَفْ اللَّهَ وَارْجُهُ لِكُلِّ عَظِيمَةٍ ... وَلَا تُطِعْ النَّفْسَ اللَّجُوجَ فَتَنْدَمَا وَكُنْ بَيْنَ هَاتَيْنِ مِنْ الْخَوْفِ وَالرَّجَا ... وَأَبْشِرْ بِعَفْوِ اللَّهِ إنْ كُنْتَ مُسْلِمَا فَلَمَّا قَسَا قَلْبِي وَضَاقَتْ مَذَاهِبِي ... جَعَلْتُ الرَّجَا مِنِّي لِعَفْوِك سُلَّمَا وَقَالَ آخَرُ: وَإِنِّي لَأَرْجُو اللَّهَ حَتَّى كَأَنَّمَا ... أَرَى بِجَمِيلِ الظَّنِّ مَا اللَّهُ صَانِعُ وَقَالَ مَنْصُورُ الْفَقِيهُ: قَطَعْتُ رَجَائِي مِنْ بَنِي آدَمَ طُرَّا ... فَأَصْبَحْتُ مِنْ رِقِّ الرَّجَاءِ لَهُمْ حُرَّا وَعَدْلُ يَأْسِي بَيْنَهُمْ فَأَجَلُّهُمْ ... إذَا ذُكِرُوا قَدْرًا كَأَدْنَاهُمْ قَدْرَا غِنًى عَنْهُمْ بِاَللَّهِ لَا مُتَطَاوِلًا ... عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ وَلَا قَائِلًا هُجْرَا وَكَيْفَ يَعِيبُ النَّاسَ بِالْمَنْعِ مُؤْمِنٌ ... يَرَى النَّفْعَ مِمَّنْ يَمْلِكُ النَّفْعَ وَالضَّرَّا عَلَيْهِ اتِّكَالِي فِي الشَّدَائِدِ كُلِّهَا ... وَحَسْبِي بِهِ عِنْدَ الشَّدَائِدِ لِي ذُخْرَا وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ: أَسِيرُ الْخَطَايَا عِنْدَ بَابِك وَاقِفُ ... عَلَى وَجَلٍ مِمَّا بِهِ أَنْتَ عَارِفُ يَخَافُ ذُنُوبًا لَمْ يَغِبْ عَنْك غَيْبُهَا ... وَيَرْجُوكَ فِيهَا فَهْوَ رَاجٍ وَخَائِفُ

فَمَنْ ذَا الَّذِي يُرْجَى سِوَاكَ وَيُتَّقَى ... وَمَا لَكَ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ مُخَالِفُ فَيَا سَيِّدِي لَا تُخْزِنِي فِي صَحِيفَتِي ... إذَا نُشِرَتْ يَوْمَ الْحِسَابِ الصَّحَائِفُ وَكُنْ مُؤْنِسِي فِي ظُلْمَةِ الْقَبْرِ عِنْدَمَا ... يَصْعَدُ ذَوُو الْقُرْبَى وَيَجْفُو الْمُوَالِفُ لَئِنْ ضَاقَ عَنِّي عَفْوُكَ الْوَاسِعُ الَّذِي ... أُرَجِّي لِإِسْرَافِي فَإِنِّي لَتَالِفُ.

فصل في طلب العلم وما يبدأ به منه وما هو فريضة منه وفضل أهله

[فَصْلٌ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَمَا يُبْدَأُ بِهِ مِنْهُ وَمَا هُوَ فَرِيضَةٌ مِنْهُ وَفَضْلِ أَهْلِهِ] قَالَ الْمَيْمُونِيُّ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه أَيُّهُمَا أَحَبُّ إلَيْك أَبْدَأُ ابْنِي بِالْقُرْآنِ أَوْ بِالْحَدِيثِ قَالَ: لَا بِالْقُرْآنِ قُلْتُ: أُعَلِّمُهُ كُلَّهُ قَالَ: إلَّا أَنْ يَعْسُرَ فَتُعَلِّمَهُ مِنْهُ. ثُمَّ قَالَ لِي: إذَا قَرَأَ أَوَّلًا تَعَوَّدَ الْقِرَاءَةَ ثُمَّ لَزِمَهَا وَعَلَى هَذَا أَتْبَاعُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ إلَى زَمَنِنَا هَذَا. وَسَيَأْتِي قَرِيبًا قَوْلُ ابْنِ الْمُبَارَكِ إنَّ الْعِلْمَ يُقَدَّمُ عَلَى نَفْلِ الْقُرْآنِ وَهَذَا مُتَعَيِّنٌ إذَا كَانَ مُكَلَّفًا لِأَنَّهُ فَرْضٌ فَيُقَدَّمُ عَلَى النَّفْلِ وَكَلَامُ أَحْمَدَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إنَّمَا هُوَ فِي الصَّغِيرِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ وَاَلَّذِي سَأَلَ ابْنَ الْمُبَارَكِ كَانَ رَجُلًا فَلَا تَعَارُضَ، وَأَمَّا الصَّغِيرُ فَيُقَدِّمُ حِفْظَ الْقُرْآنِ لِمَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ مِنْ الْمَعْنَى. وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ يُمْكِنُ إدْرَاكُهَا وَالْفَرَاغُ مِنْهَا فِي الصِّغَرِ غَالِبًا، وَالْعِلْمُ عِبَادَةُ الْعُمُرِ لَا يُفْرَغُ مِنْهُ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا حَسَبَ الْإِمْكَانِ، وَهَذَا وَاضِحٌ وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ أَوْلَى لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ لِصُعُوبَتِهِ وَقِلَّةِ مَنْ يَعْتَنِي بِهِ بِخِلَافِ الْقُرْآنِ وَلِهَذَا يُقَصِّرُ فِي الْعِلْمِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ طَلَبُهُ وَلَا يُقَصِّرُ فِي حِفْظِ الْقُرْآنِ حَتَّى يَشْتَغِلَ بِحِفْظِهِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الِاشْتِغَالُ فِي الْعِلْمِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ. وَقَالَ ابْنُ هَانِئٍ: لِأَحْمَدَ مَا مَعْنَى لَوْ كَانَ الْقُرْآنُ فِي إهَابٍ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ قَالَ: " هَذَا يُرْجَى لِمَنْ الْقُرْآنُ فِي قَلْبِهِ أَنْ لَا تَمَسَّهُ النَّارُ " فِي إهَابٍ يَعْنِي فِي قَلْبِ رَجُلٍ وَقَالَ: أَيْضًا فِي جِلْدٍ وَقَالَ إسْمَاعِيلُ الشَّالَنْجِيُّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: وَاَلَّذِي يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ فِي صَلَاتِهِ وَإِقَامَةِ عَيْنِهِ، وَأَقَلُّ مَا يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ مِنْ تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَسُورَتَانِ كَذَا وَجَدْتُهُ، وَلَعَلَّهُ وَسُورَةٌ، وَإِلَّا فَلَا أَدْرِي مَا وَجْهُهُ؟ مَعَ أَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ حِفْظُهُ مَا بَلَغَ أَنْ يُجْزِئَهُ فِي صَلَاتِهِ وَهُوَ الْفَاتِحَةُ خَاصَّةً فِي الْأَشْهَرِ عَنْ أَحْمَدَ وَالْمَسْأَلَةُ مَعْرُوفَةٌ فِي الْفِقْهِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْإِجْمَاعِ قَبْلَ

السَّبْقِ وَالرَّمْيِ: اتَّفَقُوا أَنَّ حِفْظَ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَاجِبٌ وَلَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى مَا هِيَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَلَا كَمِّيَّتِهِ بِمَا يُمْكِنُ ضَبْطُ إجْمَاعٍ فِيهِ إلَّا أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مَنْ حَفِظَ أُمَّ الْقُرْآنِ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَسُورَةً أُخْرَى مَعَهَا فَقَدْ أَدَّى فَرْضَ الْحِفْظِ، وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. وَاتَّفَقُوا عَلَى اسْتِحْبَابِ حِفْظِ جَمِيعِهِ وَأَنَّ ضَبْطَ جَمِيعِهِ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لَا مُتَعَيِّنٌ. وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ حَفِظَ الْقُرْآنَ وَهُوَ يَكْتُبُ الْحَدِيثَ يَخْتَلِفُ إلَى مَسْجِدٍ يَقْرَأُ وَيُقْرِئُ وَيَفُوتُهُ الْحَدِيثُ أَنْ يَطْلُبَهُ فَإِنْ طَلَبَ الْحَدِيثَ فَاتَهُ الْمَسْجِدُ وَإِنْ قَصَدَ الْمَسْجِدَ فَاتَهُ الْحَدِيثُ فَمَا تَأْمُرهُ قَالَ: بِذَا وَبِذَا فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ الْقَوْلَ مِرَارًا كُلُّ ذَلِكَ يُجِيبُنِي جَوَابًا وَاحِدًا بِذَا وَبِذَا. وَسَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ الْمُبَارَكِ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي أَيِّ شَيْءٍ أَجْعَلُ فَضْلَ يَوْمِي فِي تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ أَوْ فِي تَعَلُّمِ الْعِلْمِ؟ فَقَالَ هَلْ تُحْسِنُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا تَقُومُ بِهِ صَلَاتُك: قَالَ نَعَمْ قَالَ: عَلَيْك بِالْعِلْمِ. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ وَقِيلَ لَهُ طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ قَالَ نَعَمْ لِأَمْرِ دِينِك وَمَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يَنْبَغِيَ أَنْ تَعْلَمَهُ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ: يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ الْعِلْمِ مَا يَقُومُ بِهِ دِينُهُ وَلَا يُفَرِّطُ فِي ذَلِكَ قُلْتُ: فَكُلُّ الْعِلْمِ يَقُومُ بِهِ دِينُهُ قَالَ: الْفَرْضُ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ طَلَبِهِ. قُلْت: مِثْلُ أَيِّ شَيْءٍ قَالَ الَّذِي لَا يَسَعُهُ جَهْلُهُ صَلَاتُهُ وَصِيَامُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ سَأَلْتُ أَبِي عَنْ الرَّجُلِ يَجِبُ عَلَيْهِ طَلَبُ الْعِلْمِ قَالَ أَمَّا مَا يُقِيمُ بِهِ دِينَهُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَذَكَرَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَلَّمَ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ مَنْصُور لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ تَذَاكَرَ بَعْضِ لَيْلَةٍ أَحَبُّ إلَيْك مِنْ إحْيَائِهَا قَالَ: الْعِلْمُ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ قُلْت الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ وَالطَّلَاقُ وَنَحْوُ هَذَا قَالَ نَعَمْ قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ: قَالَ لِي إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: «طَلَبُ الْعِلْمِ وَاجِبٌ» لَمْ يَصِحَّ الْخَبَرُ فِيهِ إلَّا أَنَّ مَعْنَاهُ قَائِمٌ يَلْزَمُهُ طَلَبُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ وُضُوئِهِ وَصَلَاتِهِ وَزَكَاتِهِ إذَا وَقَعَتْ فَلَا حَاجَةَ لِلْوَالِدَيْنِ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا مَنْ خَرَجَ يَبْتَغِي عِلْمًا

فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْخُرُوجِ بِإِذْنِ الْأَبَوَيْنِ لِأَنَّهُ فَضِيلَةٌ فَالنَّوَافِلُ لَا تُبْتَغَيْ إلَّا بِإِذْنِ الْآبَاءِ وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّجُلُ يَطْلُبُ الْعِلْمَ وَيَسْتَأْذِنُ وَالِدَتَهُ فَتَأْذَنُ لَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُقَامَ أَحَبُّ إلَيْهَا قَالَ: إذَا كَانَ جَاهِلًا لَا يَدْرِي كَيْفَ يُطَلِّقُ وَلَا يُصَلَّى فَطَلَبُ الْعِلْمِ أَحَبُّ إلَيَّ. وَإِنْ كَانَ قَدْ عَرَفَ فَالْمُقَامُ عَلَيْهَا أَحَبُّ إلَيَّ. وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ: إنِّي أَطْلُبُ الْعِلْمَ وَإِنَّ أُمِّي تَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ تُرِيدُ حَتَّى أَشْتَغِلَ فِي التِّجَارَةِ، قَالَ لِي دَارِهَا وَأَرْضِهَا وَلَا تَدَعْ الطَّلَبَ وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ غَرِيبٌ عَنْ بَلَدِهِ طَلَبُ الْعِلْمِ أَحَبُّ إلَيْك أَمْ أَرْجِعُ إلَى أُمِّي؟ فَقَالَ لَهُ إذَا كَانَ طَلَبُ الْعِلْمِ مِمَّا لَا بُدَّ أَنْ تَطْلُبَهُ فَلَا بَأْسَ، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ قَدِمَتْ السَّاعَةُ وَلَيْسَ أَدْرِي شَيْئًا مَا تَأْمُرُنِي؟ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: عَلَيْك بِالْعِلْمِ وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ أَبَوَانِ مُوسِرَانِ يُرِيدُ طَلَبَ الْحَدِيثِ وَلَا يَأْذَنَانِ لَهُ قَالَ: يَطْلُبُ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا يَنْفَعُهُ، الْعِلْمُ لَا يَعْدِلُهُ شَيْءٌ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ مُعَاوِيَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» وَعَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا «إنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْعِلْمِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إلَى الْجَنَّةِ» رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودِ: إنَّ أَحَدَكُمْ لَمْ يُولَدْ عَالِمًا وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ وَقَالَ أَيْضًا: اُغْدُ عَالِمًا، أَوْ مُتَعَلِّمًا وَلَا تَغْدُ إمَّعَةً بَيْنَ ذَلِكَ وَقَالَ أَيْضًا: اُغْدُ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا، أَوْ مُسْتَمِعًا وَلَا تَكُنْ الرَّابِعَ فَتَهْلَكَ وَقَالَ حَمَّادُ بْن حُمَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ كُنَّ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا أَوْ مُحِبًّا، أَوْ مُتَّبِعًا وَلَا تَكُنْ الْخَامِسَ فَتَهْلَكَ قَالَ الْحَسَنُ هُوَ الْمُبْتَدِعُ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَرُوِيَ مَرْفُوعًا وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: الْعَالِمُ وَالْمُتَعَلِّمُ فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ وَسَائِرُ النَّاسِ هَمَجٌ لَا خَيْرَ فِيهِمْ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ ابْن مَسْعُودِ تَعَلَّمُوا فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَتَى يَحْتَاجُ إلَيْهِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ

عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ. وَقَبْضُهُ ذَهَابُ أَهْلِهِ، وَعَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّعَ وَالتَّعَمُّقَ، وَعَلَيْكُمْ بِالْعِتْقِ فَإِنَّهُ سَيَجِيءُ أَقْوَامٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَنْبِذُونَهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا مَثَلُ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَرْضِ مَثَلُ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ إذَا رَآهَا النَّاسُ اقْتَدَوْا بِهَا، وَإِذَا عَمِيَتْ عَلَيْهِمْ تَحَيَّرُوا» وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا «فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ، إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا «إنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ بِنَحْوِهِ. وَأَمَّا مَا يَذْكُرهُ بَعْضُ النَّاسِ " عُلَمَاءُ أُمَّتِي كَأَنْبِيَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ " فَلَمْ أَجِدْ لَهُ أَصْلًا وَلَا ذِكْرَ لَهُ فِي الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ الْمَعْرُوفَةِ وَلَا يَصِحُّ. وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ " طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ " وَرَوَى ابْنُ شَاهِين ثَنَا سُلَيْمَانُ الْأَشْعَثُ ثَنَا حَفْصُ بْنُ مُسَافِرٍ الشِّيشِيُّ ثَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ قَرْمٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ إلَّا سُلَيْمَانَ فَإِنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ قَالَ أَحْمَدُ لَا أَرَى بِهِ بَأْسًا لَكِنَّهُ يُفْرِطُ فِي التَّشَيُّعِ وَضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: لَيْسَ بِذَاكَ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَيْسَ بِالْمَتِينِ وَقَالَ النَّسَائِيُّ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ أَحَادِيثُهُ حِسَانٌ. وَرَوَاهُ حَسَّانُ ابْنُ سَارَةَ عَنْ ثَابِتٍ لَكِنَّ حَسَّانَ ضَعِيفٌ قَالَ ابْنُ شَاهِينَ وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ أَصَحِّ حَدِيثٍ فِي هَذَا الْبَابُ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ حَفْصٍ بْنِ سُلَيْمَانَ الْقَارِئِ وَهُوَ مَتْرُوكٌ عِنْدَهُمْ وَفِيهِ «وَوَاضِعُ الْعِلْمِ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ كَمُقَلِّدِ الْخَنَازِيرِ الْجَوْهَرَ وَالذَّهَبَ» . وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا حَدِيثٌ يُرْوَى

عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ كُلُّهَا مَعْلُولَةٌ لَا حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ مِنْ جِهَةِ الْإِسْنَادِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ الْمُؤَدِّبُ ثَنَا عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ ثَابِتِ بْنِ ثَوْبَانَ سَمِعْتُ عَطَاءَ بْنَ فَرْوَةَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ سَمِعَتْ أَبَا هُرَيْرَةَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إلَّا ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ» إسْنَادٌ جَيِّدٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدِيثُهُ حَسَنٌ قَوَّاهُ الْأَكْثَرُ قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِهِ وَرَأَى ابْنُ الشِّخِّيرِ ابْنَ أَخٍ لَهُ يَتَعَبَّدُ فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ، الْعِلْمُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ وَقَالَ مُهَنًّا: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: حَدِّثْنَا مَا أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ قَالَ: طَلَبُ الْعِلْمِ قُلْتُ: لِمَنْ، قَالَ: لِمَنْ صَحَّتْ نِيَّتُهُ قُلْتُ: وَأَيُّ شَيْءٍ يُصَحِّحُ النِّيَّةَ قَالَ يَنْوِي يَتَوَاضَعُ فِيهِ وَيَنْفِي عَنْهُ الْجَهْلَ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ ثَوَّابٍ قَالَ لِي أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: مَا أَعْلَمُ النَّاسَ فِي زَمَانٍ أَحْوَجُ مِنْهُمْ إلَى طَلَبِ الْحَدِيثِ مِنْ هَذَا الزَّمَانِ قُلْتُ وَلِمَ؟ قَالَ: ظَهَرَتْ بِدَعٌ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ حَدِيثٌ وَقَعَ فِيهَا. وَقَالَ بِشْرٌ الْحَافِي: لَا أَعْلَمُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ عَمَلًا أَفْضَلَ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ وَالْحَدِيثِ لِمَنْ اتَّقَى اللَّهَ وَحَسُنَتْ نِيَّتُهُ وَقَالَ سُفْيَانُ: مَا أَعْلَمُ شَيْئًا يُرَادُ اللَّهُ بِهِ أَفْضَلَ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: طَلَبْنَا هَذَا الْعِلْمَ وَمَا لَنَا فِيهِ كَبِيرُ نِيَّةٍ ثُمَّ رَزَقَ اللَّهُ النِّيَّةَ بَعْدُ وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ حَبِيبٌ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ وَسِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: طَلَبنَا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَأَبَى أَنْ يَرُدَّنَا إلَّا إلَى اللَّهِ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ إنَّ مَعْمَرًا قَالَ: كَانَ يُقَالُ إنَّ الرَّجُلَ لَيَطْلُبُ الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَيَأْبَى عَلَيْهِ الْعِلْمُ حَتَّى يَكُونَ لِلَّهِ. وَرَوَى الْخَلَّالُ أَخْبَرَنِي حَرْبٌ ثَنَا عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ ثَنَا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ قَالَ: قَالُوا لِسُفْيَانَ إنَّ أَصْحَابَ الْحَدِيث يَطْلُبُونَ الْحَدِيثَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، قَالَ طَلَبُهُمْ لَهُ نِيَّةٌ إسْنَادٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ سُفْيَانَ قَالَ: إنَّمَا فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى

غَيْرِهِ لِأَنَّهُ يَتَّقِي رَبَّهُ. وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ يُبْقِي اللَّهُ لِهَذَا الْعِلْمِ قَوْمًا يَطْلُبُونَهُ وَلَا يَطْلُبُونَهُ خَشْيَةً وَلَيْسَتْ لَهُمْ نِيَّةٌ يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ تَعَالَى كَيْ لَا يَضِيعَ الْعِلْمُ فَيَبْقَى عَلَيْهِمْ حُجَّةً. وَعَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: مَا مِنْ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ لِلَّهِ وَمَا مِنْ شَيْءٍ أَبْغَضُ إلَى اللَّهِ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ لِغَيْرِ اللَّهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا يُونُس وَشُرَيْحُ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبِي طُوَالَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ لَا يَتَعَلَّمُهُ إلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ شُرَيْحٍ. فُلَيْحٌ وَإِنْ كَانَ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحَيْنِ فَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ ابْنُ مَعِينٍ وَأَبُو حَاتِمٍ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَفِي مَعْنَاهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا لِغَيْرِ اللَّهِ، أَوْ أَرَادَ بِهِ غَيْرَ اللَّهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَعَنْ جَابِرِ مَرْفُوعًا «لَا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُبَاهُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ وَلَا لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ وَلَا لِتُحَدِّثُوا بِهِ فِي الْمَجَالِسِ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَالنَّارَ النَّارَ» رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْبَيْهَقِيّ، وَانْفَرَدَ بِهِ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ الْكُتُبِ السِّتَّةِ فَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ. وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ مُرْسَلًا. وَيَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ هُوَ الْمَغَافِقِيُّ وَإِنْ كَانَ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحِ فَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ أَحْمَدُ وَأَبُو حَاتِمٍ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَابْنُ الْقَطَّانِ وَغَيْرُهُمْ، وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ هَذَا الْخَبَرَ مِنْ مَنَاكِيرِهِ. وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا «مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُجَارِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ وَيَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إلَيْهِ أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَإِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ عِنْدَهُمْ. وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا حَدِيثُ «الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ يُؤْمَرُ بِهِمْ إلَى النَّارِ وَهُمْ الْمُجَاهِدُ الْمُرَائِي لِيُقَالَ إنَّهُ جَرِيءٌ، وَالْمُنْفِقُ الْمُبَاهِي لِيُقَالَ إنَّهُ جَوَادٌ، وَالرَّجُلُ الَّذِي يَقُولُ تَعَلَّمْت الْعِلْمَ وَقَرَأْتُ الْقُرْآنَ، فَيَقُولُ اللَّهُ

كَذَبْتَ إنَّمَا أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلَانُ جَرِيءٌ وَفُلَان قَارِئٌ وَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ يُسْحَبُ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى يُلْقَى فِي النَّارِ.» . وَعَنْ زَيْدٍ بْنِ أَرْقَمَ مَرْفُوعًا كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَقَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَنَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَدَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ عَنْ حَمَّادٍ بْنِ سَلِمَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا وَفِيهِ «وَعَمَلٍ لَا يُرْفَعُ» بَدَلَ «نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ» وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ تَعَلَّمُوا فَمَنْ عَلِمَ فَلْيَعْمَلْ وَكَانَ يَقُولُ إنِّي لَأَحْسَبُ أَنَّ الرَّجُلَ يَنْسَى الْعِلْمَ لِلْخَطِيئَةِ يَعْمَلُهَا. وَعَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ مَرْفُوعًا «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ بِهِ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ» ؟ إسْنَاده جَيِّدٌ، وَسَعِيدٌ رَوَى عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَلَا وَجْهُ لِقَوْلِ أَبِي حَاتِمٍ مَجْهُولٌ. وَرَوَى حَدِيثَهُ هَذَا التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ وَفِي نُسْخَةٍ سَلَّامٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مِقْسَمٍ وَهُوَ كَذَّابٌ مَتْرُوكٌ عِنْدَهُمْ، وَعَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ» وَأَمَّا مَا رَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ الثَّوْرِيِّ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْعُلَمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنِّي لَمْ أَجْعَلْ حُكْمِي وَعِلْمِي فِيكُمْ إلَّا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَغْفِرَ لَكُمْ عَلَى مَا كَانَ مِنْكُمْ وَلَا أُبَالِي» فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَخْبَارُ السَّابِقَةُ، وَلَوْ صَحَّ فَالْمُرَادُ بِهِ الْعُلَمَاءُ الْأَخْيَارُ، وَقَدْ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَلَا أَرَاهُ مَحْفُوظًا. وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ رُوَاةِ صَدَقَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ زَيْدٍ وَهُوَ كَذَّابٌ مَتْرُوكٌ بِالِاتِّفَاقِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْعُلَمَاءِ: إنِّي أَضَعُ عِلْمِي فِيكُمْ إلَّا لِعِلْمِي بِكُمْ وَلَمْ أَضَعْ

عِلْمِي فِيكُمْ لِأُعَذِّبَكُمْ، انْطَلِقُوا فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» وَقَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَا تُحَقِّرُوا عَبْدًا آتَيْتُهُ عِلْمًا فَإِنِّي لَمْ أُحَقِّرْهُ حِينَ عَلَّمْتُهُ» قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بَاطِلٌ، وَذَكَرَهُ فِي تَرْجَمَةِ طَلْحَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ الْبَيْهَقِيّ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ بَعْضُ هَذَا عَنْ أَبِي عَمْرٍو الصَّنْعَانِيِّ قَالَ: «إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ عَزَلَتْ الْمَلَائِكَةُ الْعُلَمَاءَ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْحِسَابِ قَالَ لَمْ أَجْعَلْ حُكْمِي فِيكُمْ إلَّا خَيْرًا أُرِيدُهُ فِيكُمْ اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا فِيكُمْ» . وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الرَّجُلِ مَالٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ وَاجِبًا أَنْ يَتَعَلَّمَ الزَّكَاةَ فَإِذَا كَانَ عِنْدَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ كَيْفَ يُخْرِجُ وَأَيْنَ يَضَعُ، وَسَائِرُ الْأَعْمَالِ عَلَى هَذَا. وَعَنْ عَطَاءٍ قَالَ مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا لِلذِّكْرِ كَفَّرَ سَبْعِينَ مَجْلِسًا مِنْ مَجَالِسِ الْبَاطِلِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَجْلِسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُكَفِّرُ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنْ مَجَالِسِ الْبَاطِلِ قَالَ عَطَاءٌ وَمَجَالِسُ الذِّكْرِ كَيْفَ أُصَلِّي كَيْفَ أُزَكِّي كَيْفَ أَحُجُّ كَيْفَ أَنْكِحُ كَيْفَ أُطَلِّقُ كَيْفَ أَبِيعُ كَيْفَ أَشْتَرِي. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إنَّ قَوْمًا يَكْتُبُونَ الْحَدِيثَ وَلَا أَرَى أَثَرَهُ عَلَيْهِمْ وَلَا يُرَى لَهُمْ وَقْرٌ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يُؤَوِّلُونَ فِي الْحَدِيثِ إلَى خَيْرٍ وَقَالَ دَخَلْتُ عَلَيْهِ يَوْمًا وَمَعِي كِتَابٌ لَهُ فَرَمَيْت بِهِ مِنْ قَامَتِي فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ تَرْمِي بِكَلَامِ الْأَبْرَارِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: زَيْنُ الْعِلْمِ حِلْمُ أَهْلِهِ وَقَالَ أَيْضًا إنَّ هَذَا الْعِلْمَ لَا يَصْلُحُ إلَّا لِمَنْ فِيهِ عَقْلٌ وَنُسُكٌ، فَالْيَوْمَ يَطْلُبُهُ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ وَلَا نُسُكَ فِيهِ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ الثَّوْرِيِّ عَنْ زَيْدِ بْن أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: لَمْ نَرَ شَيْئًا إلَى شَيْءٍ أَزْيَنَ مِنْ حِلْمٍ إلَى عِلْمٍ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد لِأَحْمَدَ كَتَبْتَ الْحَدِيثَ بِنِيَّةٍ قَالَ: شَرْطُ النِّيَّةِ شَدِيدٌ وَلَكِنْ حُبِّبَ إلَيَّ فَجَمَعْتُهُ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ سَأَلْتُ أَبِي عَنْ رَجُلٍ مَلَكَ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَهُوَ رَجُلٌ جَاهِلٌ أَيَحُجُّ بِهَا، أَوْ يَطْلُبُ الْعِلْمَ، قَالَ: يَحُجُّ لِأَنَّ الْحَجَّ فَرِيضَةٌ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَطْلُبَ الْعِلْمَ وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ قِيلَ: لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَجُلٌ لَهُ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ تَرَى أَنْ يَصْرِفَهُ فِي الْغَزْوِ وَالْجِهَادِ أَوْ يَطْلُبَ الْعِلْمَ قَالَ: إذَا كَانَ جَاهِلًا يَطْلُبُ الْعِلْمَ أَحَبَّ إلَيَّ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى عَجِبْت لِمَنْ يَتَثَبَّطُ

عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ وَيَحْتَجُّونَ بِالْفُضَيْلِ وَلَعَلَّ الْفُضَيْلَ قَدْ اكْتَفَى لَيْسَ يَتَثَبَّطُ عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ إلَّا جَاهِلٌ وَقَالَ الرَّبِيعُ سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: طَلَبُ الْعِلْمِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّافِلَةِ. وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ قَالَ مُطَرِّفٌ بْنُ الشِّخِّيرِ: فَضْلُ الْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ وَخَيْرُ دِينِكُمْ الْوَرَعُ، وَرُوِيَ مَرْفُوعًا بِأَسَانِيدَ ضَعِيفَةٍ وَهُوَ صَحِيحٌ عَنْ مُطَرِّفٍ ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ: حَظٌّ مَنْ عِلْمٍ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ حَظِّ عِبَادَةٍ، سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: مُذَاكَرَةُ الْعِلْمِ سَاعَةً أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ إحْيَاءِ لَيْلَةٍ، وَرُوِيَ مَنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عُتْبَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ لَئِنْ أَجْلِسَ مَجْلِسَ فِقْهٍ سَاعَةً أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ صِيَامِ يَوْمٍ وَقِيَامِ لَيْلَةٍ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ مَسْعُودٍ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ قَالَ: الْعِلْمُ، فَكَرَّرَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ الْعِلْمَ، ثُمَّ قَالَ وَيْحَكَ إنَّ مَعَ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ يَنْفَعُكَ قَلِيلُ الْعِلْمِ وَكَثِيرُهُ، وَمَعَ الْجَهْلِ بِاَللَّهِ لَا يَنْفَعُكَ قَلِيلُ الْعِلْمِ وَلَا كَثِيرُهُ وَقَالَ أَبُو نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: مُذَاكَرَةُ الْحَدِيثِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. . وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بِمِثْلِ الْفِقْهِ ذَكَرَ ذَلِكَ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ: قَالَ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ سَمِعْتُ الْأَعْمَشَ حَدَّثَنِي عَمْرو بْنُ مُرَّةَ سَمِعْتُ أَبَا عُبَيْدَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو مُوسَى لَمَقْعَدٌ كُنْتُ أَقْعُدُهُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ عَمَلِ سَنَةٍ فِي نَفْسِي وَكَانَ يَحْيَى يَقُولُ فِيهِ سَمِعْتُ أَبَا مُوسَى فَلَمْ يَقُلْهُ لَنَا يَعْلَى عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى وَهَذَا إنَّمَا قَالَهُ لِمَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ عِلْمِهِ وَهَدْيِهِ وَسَمْتِهِ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: الْعِلْمُ أَفْضَلُ مِنْ

الْعَمَلِ لِمَنْ جَهِلَ، وَالْعَمَلُ أَفْضَلُ مِنْ الْعِلْمِ لِمَنْ عَلِمَ وَقَالَ حَرْبٌ سَمِعْتُ أَحْمَدَ يَقُولُ: النَّاسُ مُحْتَاجُونَ إلَى الْعِلْمِ قَبْلَ الْخُبْزِ وَالْمَاءِ لِأَنَّ الْعِلْمَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْإِنْسَانُ فِي كُلّ سَاعَةٍ وَالْخُبْزُ وَالْمَاءُ فِي الْيَوْمِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ هَانِئٍ قِيلَ لَهُ يَطْلُبُ الرَّجُلُ الْحَدِيثَ بِقَدْرِ مَا يَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ انْتَفَعَ بِهِ؟ قَالَ: الْعِلْمُ لَا يَعْدِلُهُ شَيْءٌ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيُّ لَيْسَ قَوْمٌ عِنْدِي خَيْرًا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَيْسَ يَعْرِفُونَ إلَّا الْحَدِيثَ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ: أَهْلُ الْحَدِيثِ أَفْضَلُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْعِلْمِ وَقَالَ أَبُو إسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ سَمِعْتُ أَحْمَدَ وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ أَنَّ رَجُلًا قَالَ إنَّ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ قَوْمُ سُوءٍ، فَقَالَ هَذَا زِنْدِيقٌ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ أَكْثِرُوا مِنْ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ سِلَاحٌ وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ إنِّي لَأَسْمَعُ الْحَدِيثَ مَا أُرِيدُ أَنْ أُحَدِّثَ بِهِ وَلَا أَعْمَلَ بِهِ وَلَكِنْ لِأُعِدَّهُ لِأَخٍ مِنْ إخْوَانِي يَقَعُ فِي الشَّيْءِ فَأَجِدُ لَهُ مَخْرَجًا، وَقِيلَ لِأَحْمَدَ إلَى مَتَى يَكْتُبُ الرَّجُلُ قَالَ حَتَّى يَمُوتَ وَقَالَ نَحْنُ إلَى السَّاعَةِ نَتَعَلَّمُ. وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيدٍ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ «لَنْ يَشْبَعَ الْمُؤْمِنُ مِنْ خَبَرٍ يَسْمَعُهُ حَتَّى يَكُونَ مُنْتَهَاهُ الْجَنَّةَ» . وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عُمَرَ قَالَ تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تَسُودُوا. وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا بِصِيغَةِ الْجَزْمِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي كِتَابِ الْعُزْلَةِ: يُرِيدُ مَنْ لَمْ يَخْدِمْ الْعِلْمَ فِي صِغَرِهِ يَسْتَحِي أَنْ يَخْدِمَهُ بَعْدَ كِبَرِ السِّنِّ وَإِدْرَاكِ السُّؤْدُدِ قَالَ: وَبَلَغَنِي عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ مَنْ تَرَأَّسَ فِي حَدَاثَتِهِ كَانَ أَدْنَى عُقُوبَتِهِ أَنْ يَفُوتَهُ حَظٌّ كَثِيرٌ مِنْ الْعِلْمِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ مَنْ طَلَب الرِّيَاسَةَ بِالْعِلْمِ قَبْلَ أَوَانِهِ لَمْ يَزَلْ فِي ذُلٍّ مَا بَقِيَ، وَقِيلَ لِلْمُبَرِّدِ لِمَ صَارَ أَبُو الْعَبَّاسِ يَعْنِي ثَعْلَبَ أَحْفَظَ مِنْكَ لِلْغَرِيبِ وَالشِّعْرِ؟ قَالَ لِأَنِّي تَرَأَّسْتُ وَأَنَا حَدَثٌ وَتَرَأَّسَ وَهُوَ شَيْخٌ انْتَهَى كَلَامُ الْخَطَّابِيِّ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ قَوْلَ عُمَرَ الْمَذْكُورَ مِنْ حَدِيثِ وَكِيعٍ عَنْ ابْن عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ

الْأَحْنَفِ بْنِ قِيسٍ عَنْهُ قِيلَ مَعْنَاهُ قَبْلَ أَنْ تَزَوَّجُوا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إذَا تَرَأَّسْتَ فَلَا سَبِيلَ إلَى التَّفَقُّهِ. وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ زُفَرَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَا زُفَرُ لَا تُحَدِّثْ قَبْلَ وَقْتِكَ فَيُسْتَخَفَّ بِكَ. وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ أَيُّوبَ قَالَ يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَضَعَ التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ تَوَاضُعًا لِلَّهِ وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ قِيلَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ كَيْفَ تَعْرِفُ الْعَالِمَ الصَّادِقَ قَالَ الَّذِي يَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا وَيُقْبِلُ عَلَى آخِرَتِهِ وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: نَعَمْ هَكَذَا يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ. وَقَالَ الْفُضَيْلُ: يُغْفَرُ لِسَبْعَيْنِ جَاهِلًا قَبْل أَنْ يُغْفَرَ لِعَالِمٍ وَاحِدٍ وَقَالَ أَحْمَدُ ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ سَمِعْتُ فُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ قَالَ يُغْفَرُ لِجَاهِلٍ سَبْعِينَ ذَنْبًا قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لِلْعَالِمِ ذَنْبٌ وَاحِدٌ وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: ثَنَا سَيَّارُ بْنُ حَاتِمٍ ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ يُعَافِي الْأُمِّيِّينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا لَا يُعَافِي الْعُلَمَاءَ» . وَذَكَرَ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ هَذَا الْخَبَرَ فِي تَرْجَمَةِ جَعْفَرٍ مِنْ الْمَنَاكِيرِ. قَالَ: وَقِيلَ أَخْطَأَ مَنْ حَدَّثَ بِهِ عَنْ جَعْفَرٍ. وَسَيَّارٌ وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ وَقَالَ الْأَزْدِيُّ: عِنْدَهُ مَنَاكِيرُ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: مَحْمُولٌ إنْ صَحَّ عَلَى الْعَالِمِ الْفَاجِرِ. وَنَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ قَالَ: الْعَالِمُ يُقْتَدَى بِهِ، لَيْسَ الْعَالِمُ مِثْلَ الْجَاهِلِ وَهَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِهِ. وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا إنَّهُ قِيلَ لَهُ: لِمَنْ نَسْأَلُ بَعْدَكَ؟ فَقَالَ لِعَبْدِ الْوَهَّابِ يَعْنِي الْوَرَّاقَ فَقِيلَ إنَّهُ ضَيِّقُ الْعِلْمِ فَقَالَ: رَجُلٌ صَالِحٌ مِثْلُهُ يُوَفَّقُ لِإِصَابَةِ الْحَقِّ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ لَا يَنْبَغِي الْخُرُوجُ مِنْ عَادَاتِ النَّاسِ إلَّا فِي الْحَرَامِ فَإِنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرَكَ الْكَعْبَةَ وَقَالَ «لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ الْجَاهِلِيَّةَ»

وَقَالَ عُمَرُ لَوْلَا أَنْ يُقَالَ عُمَرُ زَادَ فِي الْقُرْآنِ لَكَتَبْتُ آيَةَ الرَّجْمِ. وَتَرَكَ أَحْمَدُ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ لِإِنْكَارِ النَّاسِ لَهَا، وَذَكَرَ فِي الْفُصُولِ عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ وَفَعَلَ ذَلِكَ إمَامُنَا أَحْمَدُ ثُمَّ تَرَكَهُ بِأَنْ قَالَ رَأَيْت النَّاسَ لَا يَعْرِفُونَهُ، وَكَرِهَ أَحْمَدُ قَضَاءَ الْفَوَائِتِ فِي مُصَلَّى الْعِيدِ وَقَالَ: أَخَافُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ بَعْضُ مَنْ يَرَاهُ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَسْلَمَ أَنَّ عُمَرَ رَأَى عَلَى طَلْحَةَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا فَقَالَ مَا هَذَا؟ قَالَ: إنَّهُ يَمْدُرُ، فَقَالَ إنَّكُمْ أَيُّهَا الرَّهْطُ أَئِمَّةٌ يَقْتَدِي بِكُمْ النَّاسُ، وَإِنَّ جَاهِلًا لَوْ رَأَى هَذَا لَقَالَ عَلَى طَلْحَةَ ثَوْبٌ مَصْبُوغٌ فَلَا يَلْبَسُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ هَذِهِ الثِّيَابِ شَيْئًا إنَّهُ مُحَرَّمٌ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ كُنَّا نَمْزَحُ وَنَضْحَكُ فَلَمَّا صِرْنَا يُقْتَدَى بِنَا خَشِيتُ أَنْ لَا يَسْعَنَا التَّبَسُّمُ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ لَوْ صَلَحَ الْقُرَّاءُ لَصَلَحَ النَّاسُ وَقَالَ أَيْضًا يُعْجِبُنِي أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْحَدِيثِ مَكْفِيًّا لِأَنَّ الْآفَاتِ أَسْرَعُ إلَيْهِمْ وَأَلْسِنَةَ النَّاسِ إلَيْهِمْ أَسْرَعُ وَإِذَا احْتَالَ ذُلَّ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد السِّجِسْتَانِيُّ مَنْ اقْتَصَرَ عَلَى لِبَاسٍ وَمَطْعَمٍ دُونٍ أَرَاحَ جَسَدَهُ وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ رَأَيْتُ بَيْنَ كَتِفَيْ عُمَرَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ رُقْعَةً بَعْضُهَا مِنْ أَدَمٍ وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسٍ رَأَيْتُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ رَقَّعَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ ثَلَاثَ رِقَاعٍ لُبِّدَ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ: لَوْ نَظَرْتَ إلَى ثِيَابِ شُعْبَةَ لَمْ تَكُنْ تَسْوَى عَشَرَةَ دَرَاهِمَ. إزَارُهُ وَرِدَاؤُهُ وَقَمِيصُهُ، كَانَ شَيْخًا كَثِيرَ الصَّدَقَةِ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ رَأَيْتُ الثَّوْرِيَّ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَقَوَّمْتُ كُلَّ شَيْءٍ عَلَيْهِ حَتَّى نَعْلَهُ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةَ دَوَانِقَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يَنْبَغِي لِحَامِلِ الْقُرْآنِ أَنْ يُعْرَفَ بِلَيْلِهِ إذْ النَّاسُ نَائِمُونَ، وَنَهَارِهِ إذْ النَّاسُ مُفْطِرُونَ، وَبُكَائِهِ إذْ النَّاسُ يَضْحَكُونَ، وَبِحُزْنِهِ إذْ النَّاسُ يَفْرَحُونَ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ الْعَالِمُ طَبِيبُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَالْمَالُ الدَّاءُ فَإِذَا كَانَ الطَّبِيبُ يَجُرُّ الدَّاءَ إلَى نَفْسِهِ كَيْفَ يُعَالِجُ غَيْرَهُ؟ وَعَنْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -

أَنَّهُ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْحَوَارِيِّينَ ارْضَوْا بِدَنِيِّ الدُّنْيَا مَعَ سَلَامَةِ الدِّينِ كَمَا رَضِيَ أَهْلُ الدُّنْيَا بِدَنِيِّ الدِّينِ مَعَ سَلَامَةِ الدُّنْيَا. وَرَوَى ابْنُ بَطَّةَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى أَنَّ الْفِقْهَ لَيْسَ بِسِعَةِ الْهَذَرِ وَكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ إنَّمَا الْفِقْهُ خَشْيَةُ اللَّهِ وَرَوَى أَيْضًا عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: لَا يَكُونُ الْعَالِمُ عَالِمًا حَتَّى يَكُونَ فِيهِ ثَلَاثُ خِصَالٍ: لَا يُحَقِّرُ مَنْ دُونَهُ فِي الْعِلْمِ، وَلَا يَحْسُدُ مَنْ فَوْقَهُ، وَلَا يَأْخُذُ دُنْيَا. وَرَوَى أَيْضًا عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: الْفَقِيهُ الْوَرِعُ الزَّاهِدُ الْمُقِيمُ عَلَى سُنَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي لَا يَسْخَرُ بِمَنْ أَسْفَلَ مِنْهُ وَلَا يَهْزَأُ بِمَنْ فَوْقَهُ وَلَا يَأْخُذُ عَلَى عِلْمٍ عَلَّمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حُطَامًا وَقَالَ أَيْضًا مَا رَأَيْتُ فَقِيهًا قَطُّ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ كَانَ الرَّجُلُ يَطْلُبُ الْعِلْمَ فَلَا يَلْبَثُ أَنْ يُرَى ذَلِكَ فِي تَخَشُّعِهِ وَهَدْيِهِ وَلِسَانِهِ وَبَصَرِهِ وَيَدِهِ وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مَالكِ بْنِ دِينَارٍ سَأَلْت الْحَسَنَ مَا عُقُوبَةُ الْعَالِمِ قَالَ: مَوْتُ الْقَلْبِ قُلْتُ وَمَا مَوْتُ الْقَلْبِ قَالَ: طَلَبُ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: بَلَغَنِي أَنَّهُ يُقَالُ وَيْلٌ لِلْمُتَفَقِّهِينَ لِغَيْرِ الْعِبَادَةِ، وَالْمُسْتَحَلِّينَ الْمُحَرَّمَاتِ بِالشُّبُهَاتِ وَقَالَ مَالِكُ إنَّ حَقًّا عَلَى مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَقَارٌ وَسَكِينَةٌ وَخَشْيَةٌ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَّبِعًا لِأَثَرِ مَنْ مَضَى قَبْلَهُ وَقَالَ الرَّبِيعُ سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: أَخْشَى أَنْ أَطْلُبَ الْعِلْمَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ أَنْ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: زِينَةُ الْعِلْمِ الْوَرَعُ وَالْحِلْمُ وَقَالَ أَيْضًا لَا يَجْمُلُ الْعِلْمُ وَلَا يَحْسُنُ إلَّا بِثَلَاثِ خِلَالٍ: تَقْوَى اللَّهِ، وَإِصَابَةِ السُّنَّةِ، وَالْخَشْيَةِ. وَقَالَ أَيْضًا لَيْسَ الْعِلْمُ مَا حُفِظَ، الْعِلْمُ مَا نَفَعَ وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ لِأَيُّوبَ إذَا حَدَثَ لَك عِلْمٌ فَأَحْدِثْ فِيهِ عِبَادَةً وَلَا يَكُنْ هَمُّكَ أَنْ تُحَدِّثَ بِهِ النَّاسَ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ سَمِعْتُ وَكِيعًا يَقُول: قَالَتْ أُمُّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: اذْهَبْ فَاطْلُبْ الْعِلْمَ حَتَّى أَعُولَكَ أَنَا بِمِغْزَلِي، فَإِذَا كَتَبْتَ عَشَرَةَ أَحَادِيثَ فَانْظُرْ هَلْ فِي نَفْسِكَ زِيَادَةٌ فَابْتَغِهِ وَإِلَّا فَلَا تَتَعَنَّى. وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ

بَلَغَنِي أَنَّ الْعُلَمَاءَ فِيمَا مَضَى كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا عَمِلُوا. وَإِذَا عَمِلُوا، شُغِلُوا، وَإِذَا شُغِلُوا فُقِدُوا، وَإِذَا فُقِدُوا طُلِبُوا. وَإِذَا طُلِبُوا هَرَبُوا وَقَالَ عُمَرُ: تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ وَتَعَلَّمُوا لِلْعِلْمِ السَّكِينَةَ وَالْحِلْمَ وَتَوَاضَعُوا لِمَنْ يُعْلِمُكُمْ وَتَوَاضَعُوا لِمَنْ تُعَلِّمُونَ وَلَا تَكُونُوا مِنْ جَبَّارِي الْعُلَمَاءِ فَلَا يَقُومُ عَمَلُكُمْ مَعَ جَهْلِكُمْ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: تَغْفُلُونَ عَنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَةِ. التَّوَاضُعِ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: اتَّقُوا الْفَاجِرَ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَالْجَاهِلَ مِنْ الْمُتَعَبِّدِينَ، فَإِنَّهُ آفَةُ كُلِّ مَفْتُونٍ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الْعَالِمِ الْفَاجِرِ، وَالْعَابِدِ الْجَاهِلِ فَإِنَّ فِتْنَتَهُمَا فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ. ذَكَرَ ذَلِكَ الْبَيْهَقِيُّ. وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَالِمَ الْمُتَوَاضِعَ وَيُبْغِضُ الْعَالِمَ الْجَبَّارَ. وَيَأْتِي الْخَبَرُ فِي فُصُولِ كَسْبِ الْمَالِ فِي الْأَئِمَّةِ الْمُضِلِّينَ. وَعَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا «إنِّي أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي زَلَّةَ الْعَالِمِ، وَمِنْ حُكْمٍ جَائِرٍ، وَهُوًى مُتَّبَعٍ» . وَفِي لَفْظٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ «اتَّقُوا زَلَّةَ الْعَالِمِ وَانْتَظِرُوا فَيْئَتَهُ» كَثِيرٌ كَذَّابٌ مَتْرُوكٌ، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي تَرْجَمَتِهِ، وَقَدْ صَحَّحَ لَهُ التِّرْمِذِيُّ وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا إنَّ «أَشَدَّ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي ثَلَاثٌ: زَلَّةُ عَالِمٍ، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، وَدُنْيَا تَقْطَعُ أَعْنَاقَكُمْ، فَاتَّهِمُوهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ» يَزِيدُ ضَعِيفٌ وَلَمْ يُتْرَكْ وَقَالَ دَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُفْسِدُ النَّاسَ ثَلَاثَةٌ: أَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ وَالْقُرْآنُ حَقٌّ، وَزَلَّةُ الْعَالِمِ. وَقَدْ قَالَ مَنْصُورٌ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنِّي لَآمُرُكُمْ بِالْأَمْرِ وَمَا أَفْعَلُهُ وَلَكِنْ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَأْجُرَنِي فِيهِ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسْتَحَبَّاتِ أَوْ أَنَّهُ قَالَهُ عَلَى وَجْهِ التَّوَاضُعِ وَقَالَ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ ثَنَا الصَّعْقُ بْنُ حَزَنٍ عَنْ عَقِيلٍ الْجَعْدِيِّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَا عَبْدَ اللَّهِ أَتَدْرِي أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: فَإِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ أَعْلَمُهُمْ بِالْحَقِّ إذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ وَإِنْ كَانَ مُقَصِّرًا فِي الْعَمَلِ وَإِنْ كَانَ يَزْحَفُ عَلَى اسْتِهِ» . قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي

عَقِيلٍ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ يَرْوِي عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ ابْنُ حِبَّانَ وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: غَيْرُ مَعْرُوفٍ قَالَ وَيُمْكِنُ إجْرَاءُ الْخَبَرِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَيَكُونُ تَرْكُهُ الْعَمَلَ زَلَّةً مِنْهُ تَنْتَظِرُ فَيْئَتَهُ. وَلَمَّا حَجَّ سَالِمٌ الْخَوَّاصُ لَقِيَ ابْنَ عُيَيْنَةَ فِي السُّوقِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ كَوْنَهُ فِي السُّوقِ فَأَنْشَدَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: خُذْ بِعِلْمِي وَإِنْ قَصَّرْتُ فِي عَمَلِي ... يَنْفَعْكَ عِلْمِي وَلَا يَضْرُرْكَ تَقْصِيرِي وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ: خُذْ مِنْ عُلُومِي وَلَا تَنْظُرْ إلَى عَمَلِي ... وَاقْصِدْ بِذَلِكَ وَجْهَ الْوَاحِدِ الْبَارِي وَإِنْ مَرَرْتَ بِأَشْجَارٍ لَهَا ثَمَرٌ ... فَاجْنِ الثِّمَارَ وَخَلِّ الْعُودَ لِلنَّارِ فَالْمُرَادُ إذَا كَانَ أَهْلًا لِأَخْذِ الْعِلْمِ عَنْهُ وَلَكِنَّهُ مُقَصِّرٌ فِي الْعَمَلِ وَإِلَّا كَانَ مَرْدُودًا عَلَى قَائِلِهِ. وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ وَمَنْ لَزِمَهُ تَعَلُّمُ شَيْءٍ وَقِيلَ أَوْ كَانَ فِي حَقِّهِ فَرْضَ كِفَايَةٍ وَقِيلَ أَوْ نَفْلًا وَلَا يَحْصُلُ لَهُ فِي بَلَدِهِ فَلَهُ السَّفَرُ فِي طَلَبِهِ بِغَيْرِ إذْنِ أَبَوَيْهِ وَبَقِيَّةِ أَقَارِبِهِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَكَلَامُ أَحْمَدَ السَّابِقُ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ يَدُلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ، وَغَيْرُهَا عَنْ أَحْمَدَ يُخَالِفُهَا قَالَ الْقَاضِي وَمِمَّا يَجِبُ إنْكَارُهُ تَرْكُ التَّعْلِيمِ وَالتَّعَلُّمِ لِمَا يَجِبُ تَعْلِيمُهُ وَتَعَلُّمُهُ نَحْوُ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِمَعْرِفَةِ الصَّلَوَاتِ وَجُمْلَةِ الشَّرَائِعِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَرَائِضِ وَيَلْزَمُ النِّسَاءَ الْخُرُوجُ لِتَعَلُّمِ ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي الصِّبْيَانِ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَى تَرْكِهَا لِعَشْرٍ» فَأَوْلَى أَنْ يُضْرَبَ الْمُكَلَّفُ عَلَى تَعَلُّمِ ذَلِكَ. وَوَاجِبٌ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَتَعَاهَدَ الْمُعَلِّمَ وَالْمُتَعَلِّمَ كَذَلِكَ وَيَرْزُقُهُمَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ قِوَامًا لِلدِّينِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْجِهَادِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا نَشَأَ الْوَلَدُ عَلَى مَذْهَبٍ فَاسِدٍ فَيَتَعَذَّرُ زَوَالُهُ مِنْ قَلْبِهِ.

وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ رِبْعِيٍّ عَنْ عَلِيٍّ {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6] قَالَ: عَلِّمُوهُمْ الْخَيْرَ. وَقَدْ رَوَى الْخَلَّالُ فِي أَخْلَاقِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ خَرَجْتُ إلَى الْكُوفَةِ فَكُنْتُ فِي بَيْتٍ تَحْتَ رَأْسِي لَبِنَةٌ فَحُمِمْتُ فَرَجَعْتُ إلَى أُمِّي وَلَمْ أَكُنْ اسْتَأْذَنْتُهَا. وَقَالَ الْفُضَيْلُ: الْعُلَمَاءُ رَبِيعُ النَّاسِ إذَا رَآهُمْ الْمَرِيضُ لَا يَشْتَهِي أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا، وَإِذَا رَآهُمْ الْفَقِيرُ لَا يَشْتَهِي أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا، وَعَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ شِرَارُ كُلِّ ذِي دِينٍ عُلَمَاؤُهُمْ غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ. وَرَوَى الْخَلَّالُ أَنْبَأْنَا مُحَمَّدٌ ثَنَا وَكِيعٌ عَنْ الْمَسْعُودِيِّ عَنْ الْقَاسِمِ قَالَ: قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ: كَفَى بِخَشْيَةِ اللَّهِ عِلْمًا، وَبِالِاغْتِرَارِ بِاَللَّهِ جَهْلًا. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ لَا يَكُونُ الرَّجُلُ عَالِمًا حَتَّى يَكُونَ بِهِ عَامِلًا. وَقَالَتْ: عَائِشَةُ «مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْسِبُ أَحَدًا إلَّا إلَى الدِّينِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوا الْعِلْمَ وَوَضَعُوهُ عِنْدَ أَهْلِهِ لَسَادُوا أَهْلَ زَمَانِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ وَضَعُوهُ عِنْدَ أَهْلِ الدُّنْيَا لِيَنَالُوا مِنْ دُنْيَاهُمْ فَهَانُوا عَلَيْهِمْ رَوَاهُ الْخَلَّالُ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ رِوَايَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ سَلَمَةَ الْبَصْرِيِّ عَنْ نَهْشَلٍ وَهُوَ كَذَّابٌ مَتْرُوكٌ عِنْدَهُمْ عَنْ الضَّحَّاكِ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوا الْعِلْمَ وَوَضَعُوهُ عِنْدَ أَهْلِهِ لَسَادُوا أَهْلَ زَمَانِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ أَتَوْا بِهِ أَهْلَ الدُّنْيَا فَاسْتَخَفُّوا بِهِمْ. سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ جَعَلَ هُمُومَهُ هَمًّا وَاحِدًا كَفَاهُ اللَّهُ سَائِرَ هُمُومِهِ. وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ وَأَحْوَالُ الدُّنْيَا لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ» . وَفِي حَوَاشِي تَعْلِيقِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلِي ذَكَرَ الْمَدَائِنِيُّ فِي كِتَابِ السُّلْطَانُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لَوْ أَنَّ حَمَلَةَ الْعِلْمِ حَمَلُوهُ بِحَقِّهِ لَأَحَبَّهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَمَلَائِكَتُهُ وَأَهْلُ طَاعَتِهِ مِنْ خَلْقِهِ. وَلَكِنْ حَمَلُوهُ لِطَلَبِ الدُّنْيَا فَمَقَتَهُمْ اللَّهُ وَهَانُوا عَلَى النَّاسِ.

وَقَالَ مَالِكٌ وَجَّهَ إلَيَّ الرَّشِيدُ أَنْ أُحَدِّثَهُ فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ الْعِلْمَ يُؤْتَى وَلَا يَأْتِي. فَصَارَ إلَى مَنْزِلِي فَاسْتَنَدَ مَعِي عَلَى الْجِدَارِ فَقُلْتُ لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ مِنْ إجْلَالِ اللَّهِ إجْلَالَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، فَقَامَ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيَّ قَالَ فَقَالَ بَعْدَ مُدَّةٍ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ تَوَاضَعْنَا لِعِلْمِكِ فَانْتَفَعْنَا بِهِ، وَتَوَاضَعَ لَنَا عِلْمُ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فَلَمْ نَنْتَفِعْ بِهِ. وَرُوِيَ نَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ مَعَ طَاهِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَرُوِيَ أَنَّ طَاهِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ كَانَ بِبَغْدَادَ فَطَمِعَ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ أَبِي عُبَيْدٍ وَطَمِعَ أَنْ يَأْتِيَهُ فِي مَنْزِلِهِ فَلَمْ يَفْعَلْ أَبُو عُبَيْدٍ فَقَدِمَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيُّ وَعَبَّاسُ الْعَنْبَرِيُّ فَأَرَادَا أَنْ يَسْمَعَا غَرِيبَ الْحَدِيثِ فَكَانَ يَحْمِل كُلَّ يَوْمٍ كِتَابَهُ وَيَأْتِيهِمَا فِي مَنْزِلِهِمَا فَيُحَدِّثَهُمَا فِيهِ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْمَهْدِيَّ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ حَاجًّا جَاءَهُ مَالِكُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَأَمَرَ الْمَهْدِيُّ ابْنَهُ مُوسَى الْهَادِي وَهَارُونَ الرَّشِيدَ أَنْ يَسْمَعَا مِنْهُ فَطَلَبَاهُ إلَيْهِمَا فَامْتَنَعَ فَعَاتَبَهُ الْمَهْدِيُّ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ لِلْعِلْمِ نَضَارَةً يُؤْتَى أَهْلُهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: الْعِلْمُ أَهْلٌ أَنْ يُوَقَّرَ وَيُؤْتَى أَهْلُهُ، فَأَمَرَهُمَا وَالِدُهُمَا بِالْمَصِيرِ إلَيْهِ، فَسَأَلَهُ مُؤَدِّبُهُمَا أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِمَا فَقَالَ: إنَّ أَهْلَ هَذِهِ الْبَلْدَةِ يَقْرَءُونَ عَلَى الْعَالِمِ كَمَا يَقْرَأُ الصِّبْيَانُ عَلَى الْمُعَلِّمِ، فَإِذَا أَخْطَئُوا أَفْتَاهُمْ، فَرَجَعُوا إلَى الْخَلِيفَةِ فَعَاتَبَهُ الْمَهْدِيُّ فِي ذَلِكَ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ سَمِعْتُ ابْنَ شِهَابٍ يَقُولُ سَمِعْنَا هَذَا الْعِلْمَ مِنْ رِجَالٍ فِي الرَّوْضَةِ وَهُوَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَأَبُو سَلَمَةَ وَعُرْوَةُ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَنَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ وَابْنُ هُرْمُزَ، وَمِنْ بَعْدِهِمْ أَبُو الزِّنَادِ وَرَبِيعَةُ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَابْنُ شِهَابٍ كُلُّ هَؤُلَاءِ يُقْرَأُ عَلَيْهِمْ وَلَا يَقْرَءُونَ، فَقَالَ الْمَهْدِيُّ: فِي هَؤُلَاءِ قُدْوَةٌ، صِيرُوا إلَيْهِ فَاقْرَءُوا عَلَيْهِ، فَفَعَلُوا. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ طَلَبُوهُ لِمَا عِنْدَ اللَّهِ لَهَابَهُمْ النَّاسُ وَلَكِنْ طَلَبُوا بِهِ الدُّنْيَا فَهَانُوا عَلَى النَّاسِ وَقَالَ سُفْيَانُ: مَا زَالَ الْعِلْمُ عَزِيزًا حَتَّى حُمِلَ إلَى أَبْوَابِ الْمُلُوكِ وَأَخَذُوا عَلَيْهِ أَجْرًا فَنَزَعَ اللَّهُ الْحَلَاوَةَ مِنْ

قُلُوبِهِمْ وَمَنَعَهُمْ الْعَمَلَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَصُونَ الْعِلْمَ وَلَا يَبْذُلُهُ وَلَا يَحْمِلُهُ إلَى النَّاسِ خُصُوصًا إلَى الْأُمَرَاءِ، وَرُوِيَ عَنْ الْقَاضِي أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْجُرْجَانِيِّ أَنَّهُ أَنْشَدَ لِنَفْسِهِ: يَقُولُونَ لِي فِيكَ انْقِبَاضٌ وَإِنَّمَا ... رَأَوْا رَجُلًا عَنْ مَوْقِفِ الذُّلِّ أَحْجَمَا أَرَى النَّاسَ مَنْ دَانَاهُمْ هَانَ عِنْدَهُمْ ... وَمَنْ لَزِمَتْهُ عِزَّةُ النَّفْسِ أُكْرِمَا وَلَمْ أَقْضِ حَقَّ الْعِلْمِ إنْ كَانَ كُلَّمَا ... بَدَا طَمَعٌ صَيَّرْتُهُ لِي سُلَّمَا وَمَا كُلُّ بَرْقٍ لَاحَ لِي يَسْتَفِزُّنِي ... وَلَا كُلُّ مَنْ فِي الْأَرْضِ أَرْضَاهُ مُنْعِمَا إذَا قِيلَ هَذَا مَنْهَلٌ قُلْتُ قَدْ أَرَى ... وَلَكِنَّ نَفْسَ الْحُرِّ تَحْتَمِلُ الظَّمَا وَلَمْ أَبْتَذِلْ فِي خِدْمَةِ الْعِلْمِ مُهْجَتِي ... لِأَخْدِمَ مَنْ لَاقَيْتُ لَكِنْ لِأُخْدَمَا أَأَشْقَى بِهِ غَرْسًا وَأَجْنِيهِ ذِلَّةً ... إذًا فَاتِّبَاعُ الْجَهْلِ قَدْ كَانَ أَحْزَمَا وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ ... وَلَوْ عَظَّمُوهُ فِي النُّفُوسِ لَعُظِّمَا وَلَكِنْ أَذَلُّوهُ فَهَانَ وَدَنَّسُوا ... مُحَيَّاهُ بِالْأَطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا وَأَرْسَلَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ إلَى حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ يَطْلُبُ مِنْهُ الْحُضُورَ إلَيْهِ لِأَجْلِ مَسْأَلَةٍ وَقَعَتْ لَهُ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ حَمَّادُ إنَّا أَدْرَكْنَا الْعُلَمَاءَ وَهُمْ لَا يَأْتُونَ أَحَدًا، فَإِنْ وَقَعَتْ مَسْأَلَةٌ فَأْتِنَا فَاسْأَلْنَا عَمَّا بَدَا لَكَ. وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ وَفِيهَا أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سُلَيْمَانَ جَاءَ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: مَالِي إذَا نَظَرْتُ إلَيْكَ امْتَلَأْتُ رُعْبًا؟ فَقَالَ حَمَّادُ: سَمِعْتُ ثَابِتًا الْبُنَانِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُول: «إنَّ الْعَالِمَ إذَا أَرَادَ بِعِلْمِهِ وَجْهَ اللَّهِ هَابَهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُكْثِرَ بِهِ الْكُنُوزَ هَابَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» وَالْقِصَّةُ طَوِيلَةٌ وَفِيهَا أَنَّهُ عَرَضَ عَلَيْهِ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَلَمْ يَقْبَلْهَا لِنَفْسِهِ وَلَا لِيُقَسِّمَهَا وَيُفَرِّقَهَا. وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ: إذَا شِئْتَ أَنْ تَسْتَقْرِضَ الْمَالَ مُنْفِقًا ... عَلَى شَهَوَاتِ النَّفْسِ فِي زَمَنِ الْعُسْرِ فَسَلْ نَفْسَكَ الْإِنْفَاقَ مِنْ كَنْزِ صَبْرِهَا ... عَلَيْكَ وَإِرْفَاقًا إلَى زَمَنِ الْيُسْرِ فَإِنْ فَعَلَتْ كُنْتَ الْغَنِيَّ وَإِنْ أَبَتْ ... فَكُلُّ مَنُوعٍ بَعْدَهَا وَاسِعُ الْعُذْرِ

وَقَالَ أَبُو الْحَارِثِ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَتَرَى الرَّجُلَ أَنْ يَرْحَلَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ قَالَ نَعَمْ قَدْ رَحَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَرَوَى عَنْهُ الْخَلَّالُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ يُقِيمُ بِبَلْدَةٍ وَيَنْزِلُ فِي الْحَدِيثِ دَرَجَةً قَالَ لَيْسَ طَلَبُ الْعِلْمِ هَكَذَا لَوْ طَلَبَ الْعِلْمَ هَكَذَا مَاتَ آثِمًا، يُؤْخَذُ الْعِلْمُ عَنْ الْأَكَابِرِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ إنْ كُنْتُ لَأُسَافِرُ مَسِيرَةَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ فِي الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ لَقَدْ أَقَمْتُ بِالْمَدِينَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مَا لِي حَاجَةٌ إلَّا رَجُلٌ يَقْدَمُ عِنْدَهُ حَدِيثٌ فَأَسْمَعُهُ. وَعَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا سَافَرَ مِنْ أَقْصَى الشَّامِ إلَى أَقْصَى الْيَمَنِ فَسَمِعَ كَلِمَةً تَنْفَعُهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ أَمْرِهِ مَا رَأَيْتُ سَفْرَهُ ضَاعَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ «ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ، عَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ وَرَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِي وَرَجُلٌ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا» ثُمَّ قَالَ الشَّعْبِيُّ: خُذْهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ فَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَرْحَلُ فِي مِثْلِهَا إلَى الْمَدِينَةِ يَعْنِي مِنْ الْكُوفَةِ. وَأَشَارَ الْبُخَارِيُّ إلَى حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ وَإِنَّ جَابِرًا رَحَلَ إلَيْهِ شَهْرًا فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ. وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ ابْتَاعَ بَعِيرًا وَسَارَ شَهْرًا إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، وَالْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَنَا اللَّهُ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ» . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَدْ رَحَلَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا تَقَبَّلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُمْ. وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَقَلْتُ نَاقَتِي بِالْبَابِ فَتَاهَتْ فَآتَاهُ نَاسٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ: اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ قَالُوا: بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا، مَرَّتَيْنِ، فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ إذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ قَالُوا: قَبِلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالُوا جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ وَلِنَسْأَلكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ قَالَ

كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ ثُمَّ أَتَانِي رَجُلٌ فَقَالَ يَا عِمْرَانُ أَدْرِكْ نَاقَتَكَ فَقَدْ ذَهَبَتْ، فَانْطَلَقْتُ أَطْلُبُهَا فَإِذَا السَّرَابُ يَنْقَطِعُ دُونَهَا وَأَيْمُ اللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّهَا قَدْ ذَهَبَتْ وَلَمْ أَقُمْ.» قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: فِيهِ الرِّحْلَةُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَجَوَازُ السُّؤَالِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَعْلَمُهُ، وَجَوَازُ الْعُدُولِ عَنْ سَمَاعِ الْعِلْمِ إلَى مَا يُخَافُ فَوَاتُهُ؛ لِأَنَّ عِمْرَانَ قَامَ عَنْ الْمَجْلِسِ لِأَجْلِ نَاقَتِهِ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، وَجَوَازُ إيثَارُ الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ لِقَوْلِ عِمْرَانَ وَدِدْتُ أَنَّهَا ذَهَبَتْ وَلَمْ أَقُمْ. وَقَالَ مُهَنَّا سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُذْرِيُّ قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولَهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْجَاهِلِينَ وَإِبْطَالَ الْبَطَّالِينَ، وَتَأْوِيلَ الْغَالِينَ» فَقُلْتُ لِأَحْمَدَ هُوَ كَلَامٌ مَوْضُوعٌ؟ قَالَ لَا، هُوَ صَحِيحٌ، فَقُلْتُ لَهُ سَمِعْتَهُ أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، قُلْت مَنْ؟ قَالَ حَدَّثَنِي بِهِ مِسْكِينٌ إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ عَنْ مُعَاذٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. ثُمَّ رَوَاهُ الْخَلَّالُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَوَاهُ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ الْحَافِظُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْبَغَوِيِّ ثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ الْوَلِيدِ ثَنَا مُعَاذُ بْنُ رِفَاعَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُذْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَهُ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَتَابَعَهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ مُعَاذٍ. وَرَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ الثِّقَةِ مِنْ أَشْيَاخِهِمْ عَنْ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرُوِيَ مِنْ أَوْجُهٍ أُخَرَ ضَعِيفَةٍ، قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَاعْتَنَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَحَاوَلَ تَصْحِيحَهُ وَاحْتَجَّ بِهِ فِي أَنَّ كُلَّ مَنْ حَمَلَ الْعِلْمَ فَهُوَ عَدْلٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَمُعَاذُ بْنُ رِفَاعَةَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ قَالَ أَحْمَدُ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ وَأَبُو دَاوُد لَا بَأْسَ بِهِ وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَنُعَيْمٌ ثِقَةٌ وَقَالَ النَّسَوِيُّ لَيِّنُ الْحَدِيثِ وَضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ.

وَقَالَ الْجُوزَجَانِيُّ: لَيْسَ بِحُجَّةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: عَامَّةُ مَا يَرْوِيهِ لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْن حِبَّانَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَنَقَلَ الْمَرْوَزِيُّ وَيُوسُفُ بْنُ مُوسَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: رَجُلٌ أَرَادَ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا تَطَوُّعًا فَأَفْطَرَ لِطَلَبِ الْعِلْم؟ فَقَالَ إذَا احْتَاجَ إلَى طَلَبِ الْعِلْمِ فَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ. فَقِيلَ لَهُ لِأَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ أَفْضَلُ؟ فَسَكَتَ. وَقَالَ الْمَرْوَزِيُّ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَصِفُ كَيْفَ يُؤْخَذُ الْعِلْمُ قَالَ: نَنْظُرُ مَا كَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَنْ أَصْحَابِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَنْ التَّابِعِينَ وَقَالَ أَبُو دَاوُد سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَلُ إذَا جَاءَ الشَّيْءُ عَنْ الرَّجُلِ مِنْ التَّابِعِينَ لَا يُوجَدُ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُلْزَمُ الرَّجُلَ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ. قَالَ لَا، وَلَكِنْ لَا يَكَادُ يَجِيءُ شَيْءٌ عَنْ التَّابِعِينَ إلَّا وَيُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ. وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ أَحْمَدَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْن حَنْبَلٍ وَقَدْ أَقْبَلَ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ بِأَيْدِيهِمْ الْمَحَابِرُ، فَأَوْمَأَ إلَيْهَا، وَقَالَ: هَذِهِ سُرُجُ الْإِسْلَامِ، يَعْنِي الْمَحَابِرَ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْلَا الْمَحَابِرُ، لَخَطَبَتْ الزَّنَادِقَةُ عَلَى الْمَنَابِرِ. وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: رَآنِي الشَّافِعِيُّ وَأَنَا فِي مَجْلِسٍ وَعَلَى قَمِيصِي حِبْرٌ وَأَنَا أُخْفِيهِ، فَقَالَ: لِمَا تُخْفِيهِ وَتَسْتُرهُ؟ فَإِنَّ الْحِبْرَ عَلَى الثَّوْبِ مِنْ الْمُرُوءَةِ؛ لِأَنَّ صُورَتَهُ فِي الْأَبْصَارِ سَوَادٌ وَفِي الْبَصَائِرِ بَيَاضٌ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَيَنْبَغِي تَجْوِيدُ الْخَطِّ وَتَحْقِيقُهُ دُونَ الْمَشْقِ وَالتَّعْلِيقِ، وَيُكْرَهُ تَضْيِيقُ السُّطُورِ، وَتَدْقِيقُ الْقَلَمِ فَإِنَّ النَّظَرَ إلَى الْخَطِّ الدَّقِيقِ يُؤْذِي قَالَ حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ رَآنِي أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَنَا أَكْتُبُ خَطًّا دَقِيقًا فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ أَحْوَجُ مَا تَكُونُ إلَيْهِ يَخُونُك قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يُضَيِّقُ السُّطُورَ لِعَدَمِ الْكَاغِدِ. وَقَدْ رَأَيْتُ فِي وِجْهَةٍ مِنْ خَطِّ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصُّورِيِّ أَحَدًا وَثَمَانِينَ سَطْرًا. وَقَالَ الْبَغَوِيّ عَنْ أَحْمَدَ أَنَا أَطْلُبُ الْعِلْمَ إلَى أَنْ أَدْخُلَ الْقَبْرَ وَقَالَ صَالِحٌ رَأَى رَجُلٌ مَعَ أَبِي مِحْبَرَةً فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ هَذَا

الْمَبْلَغَ وَأَنْتَ إمَامُ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ مَعِي الْمِحْبَرَةُ إلَى الْمَقْبَرَةِ. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إظْهَارُ الْمِحْبَرَةِ مِنْ الرِّيَاءِ. وَذَكَرَ لَهُ الصِّدْقَ وَالْإِخْلَاصَ فَقَالَ بِهَذَا ارْتَفَعَ الْقَوْمُ. وَرَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ قَالَ كَانَ الرَّجُلُ إذَا لَقِيَ مَنْ هُوَ فَوْقَهُ فِي الْعِلْمِ كَانَ يَوْمَ غَنِيمَةٍ. وَإِذَا لَقِيَ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ دَارَسَهُ وَتَعَلَّمَ مِنْهُ، وَإِذَا لَقِيَ مَنْ دُونَهُ تَوَاضَعَ لَهُ وَعَلَّمَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ وَقَالَ الْأَحْنَفُ: مُذَاكَرَةُ الرِّجَالِ تَلْقِيحٌ لِعُقُولِهَا. وَيَأْتِي بِنَحْوِ كُرَّاسَةٍ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا.

فصل موعظة العلماء المتقين بالشعر

[فَصْلٌ مَوْعِظَةُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَّقِينَ بِالشِّعْرِ] قَالَ أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: خَرَجْتُ فِي وَجْهِ الصُّبْحِ فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ مُسْبِلٍ مِنْدِيلَهُ عَلَى وَجْهِهِ فَنَاوَلَنِي رُقْعَةً، فَلَمَّا أَضَاءَ الصُّبْحُ قَرَأْتُهَا فَإِذَا فِيهَا مَكْتُوبٌ عِشْ مُوسِرًا إنْ شِئْتَ أَوْ مُعْسِرًا ... لَا بُدَّ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْغَمِّ وَكُلَّمَا زَادَكَ مِنْ نِعْمَةٍ ... زَادَ الَّذِي زَادَكَ فِي الْهَمِّ إنِّي رَأَيْتُ النَّاسَ فِي عَصْرِنَا ... لَا يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ لِلْعِلْمِ إلَّا مُبَاهَاةً لِأَصْحَابِهِمْ ... وَعُدَّةً لِلْخَصْمِ وَالظُّلْمِ قَالَ فَظَنَنْتُ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ نَاوَلَنِي فَلَقِيتُهُ فَقُلْتُ لَهُ الرُّقْعَةُ الَّتِي نَاوَلْتنِي، فَقَالَ: مَا رَأَيْتُكَ مَا نَاوَلْتُكَ رُقْعَةً، فَعَلِمْتُ أَنَّهَا عِظَةٌ لِي وَقَالَ الْحَافِظُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ الْأَخْضَرِ فِيمَنْ رَوَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَرْوَانَ قَاضِي تِكْرِيتَ قَالَ: كَتَبَ رَجُلٌ مِنْ إخْوَانِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ إلَيْهِ أَيَّامَ الْمِحْنَةِ: هَذِي الْخُطُوبُ سَتَنْتَهِي يَا أَحْمَدُ ... فَإِذَا جَزِعْتَ مِنْ الْخُطُوبِ فَمَنْ لَهَا الصَّبْرُ يَقْطَعُ مَا تَرَى فَاصْبِرْ لَهَا ... فَعَسَى بِهَا أَنْ تَنْجَلِي وَلَعَلَّهَا فَأَجَابَهُ أَحْمَدُ: صَبَّرْتَنِي وَوَعَظَتْنِي فَأَنَا لَهَا ... فَسَتَنْجَلِي بَلْ لَا أَقُولُ لَعَلَّهَا وَيَحُلُّهَا مَنْ كَانَ يَمْلِكُ عَقْدَهَا ... ثِقَةً بِهِ إذْ كَانَ يَمْلِكُ حَلَّهَا.

فصل العلم مواهب من الله يؤتيه من يشاء ينال بالتقوى والعمل لا بالحسب

[فَصْلٌ الْعِلْمُ مَوَاهِبُ مِنْ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ يُنَالُ بِالتَّقْوَى وَالْعَمَلِ لَا بِالْحَسَبِ] ِ وَقَالَ أَبُو الْحَارِثِ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ إنَّمَا الْعِلْمُ مَوَاهِبُ يُؤْتِيهِ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ مِنْ خَلْقِهِ وَلَيْسَ يَنَالُهُ أَحَدٌ بِالْحَسَبِ وَلَوْ كَانَ بِالْحَسَبِ كَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِهِ أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ قَالَ لِي أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَا أَحْمَدُ حَدِّثْنَا بِحِكَايَةٍ سَمِعْتُهَا مِنْ أُسْتَاذِكَ أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ، فَقَالَ أَحْمَدُ: سُبْحَانَ اللَّهِ بِلَا عَجَبٍ، فَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ سُبْحَانَ اللَّهِ وَطُولُهَا بِلَا عَجَبٍ، فَقَالَ أَحْمَدُ بْن أَبِي الْحَوَارِيِّ سَمِعْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ يَقُولُ: إذَا عَقَدَتْ النُّفُوسُ عَلَى تَرْكِ الْآثَامِ، جَالَتْ فِي الْمَلَكُوتِ وَعَادَتْ إلَى ذَلِكَ الْعَبْدِ بِطَرَائِفِ الْحِكْمَةِ مِنْ غَيْر أَنْ يُؤَدِّيَ إلَيْهَا عَالِمٌ عِلْمًا فَقَامَ أَحْمَدُ بْن حَنْبَلٍ ثَلَاثًا وَقَعَدَ ثَلَاثًا وَقَالَ سَمِعْتُ فِي الْإِسْلَامِ بِحِكَايَةٍ أَعْجَبَ مِنْ هَذِهِ إلَيَّ. ثُمَّ ذَكَرَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ عَمِلَ بِمَا يَعْلَمُ وَرَّثَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ» ثُمَّ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لِأَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْحَوَارِيِّ صَدَقْت يَا أَحْمَدُ وَصَدَقَ شَيْخُكَ قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ عَقِبَ ذَلِكَ ذَكَرَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ هَذَا الْكَلَامَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ عَنْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَوَهِمَ بَعْضُ الرُّوَاةِ أَنَّهُ ذَكَرَهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَضَعَ هَذَا الْإِسْنَادَ عَلَيْهِ لِسُهُولَتِهِ وَقُرْبِهِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يُحْتَمَلُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَخْضَرَ فِيمَنْ رَوَى عَنْ أَحْمَدَ فِي تَرْجَمَةِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْحَوَارِيِّ.

فصل الحذر من القول في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالظن

[فَصْلٌ الْحَذَرُ مِنْ الْقَوْلِ فِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالظَّنِّ] نَقَلَ الْمَيْمُونِيُّ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَدِيثٍ فَقَالَ: سَلُوا أَصْحَابَ الْغَرِيبِ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ أَتَكَلَّمَ فِي قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالظَّنِّ فَأُخْطِئَ وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ سَمِعْتُ شُعْبَةَ قَالَ: سَأَلْتُ الْأَصْمَعِيَّ عَنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي» مَا مَعْنَى يُغَانُ قَالَ: فَقَالَ لِي هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ لَوْ كَانَ عَنْ غَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَفَسَّرْتُ ذَلِكَ وَلَكِنْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا أَجْتَرِئُ عَلَيْهِ. وَعَنْ الْأَصْمَعِيِّ عَنْ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانُوا يَتَّقُونَ حَدِيثَ النَّبِيِّ كَمَا يَتَّقُونَ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ وَكَانَ أَحْمَدُ يَجِيءُ إلَى أَبِي عُبَيْدٍ يَسْأَلُهُ فِي الْغَرِيبِ، رَوَى ذَلِكَ الْخَلَّالُ وَقَالَ أَبُو دَاوُد قُلْتُ لِأَحْمَدَ كِتَابَةُ كِتَابِ الْغَرِيبِ الَّذِي وَضَعَهُ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ قَالَ: قَدْ كَثُرَتْ جِدًّا يُشْغَلُ الْإِنْسَانُ عَنْ مَعْرِفَةِ الْعِلْمِ لَوْ كَانَ تَرَكَهُ عَلَى مَا كَانَ أَوَّلًا.

فصل في قول العالم لا أدري واتقاء التهجم على الفتوى

[فَصْلٌ فِي قَوْلِ الْعَالِمِ لَا أَدْرِي وَاتِّقَاءِ التَّهَجُّمِ عَلَى الْفَتْوَى] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إذَا تَرَكَ الْعَالِمُ لَا أَدْرِي أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ وَكَذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ وَقَالَ مَالِكٌ كَانَ يُقَالُ إذَا أَغْفَلَ الْعَالِمُ لَا أَدْرِي أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ وَقَالَ أَيْضًا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إمَامَ الْمُسْلِمِينَ وَسَيِّدَ الْعَالَمِينَ يُسْأَلُ عَنْ الشَّيْءِ فَلَا يُجِيبُ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْوَحْيُ مِنْ السَّمَاءِ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ لَا أَدْرِي نِصْفَ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ كَانَ مَالِكٌ يُسْأَلُ عَنْ الشَّيْءِ فَيُقَدِّمُ وَيُؤَخِّرُ يَثْهَتُ وَهَؤُلَاءِ يَقِيسُونَ عَلَى قَوْلِهِ وَيَقُولُونَ قَالَ مَالِكٌ. وَبِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ مِنْ عِلْمِ الرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ لِمَا لَا يَعْلَمُ " اللَّهُ أَعْلَمُ " لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ لِرَسُولِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] . وَصَحَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: الْعِلْمُ ثَلَاثَةٌ كِتَابٌ نَاطِقٌ، وَسُنَّةٌ مَاضِيَةٌ، وَلَا أَدْرِي وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ لَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ يَنْبَغِي أَنْ يُتَكَلَّمَ فِيهِ وَذَكَرَ أَحَادِيثَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُسْأَلُ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ جِبْرِيلَ» وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: كَانَ سُفْيَانُ لَا يَكَادُ يُفْتِي فِي الطَّلَاقِ وَيَقُولُ مَنْ يُحْسِنُ ذَا؟ مَنْ يُحْسِنُ ذَا؟ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ وَدِدْتُ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ عَنْ مَسْأَلَةٍ، أَوْ مَا شَيْءٌ أَشَدُّ عَلَيَّ مِنْ أَنْ أُسْأَلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ. الْبَلَاءِ يُخْرِجُهُ الرَّجُلُ عَنْ عُنُقِهِ وَيُقَلِّدُكَ، وَخَاصَّةً مَسَائِلَ الطَّلَاقِ وَالْفُرُوجِ نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ وَنَقَلَ الْأَثْرَمُ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ

فَقُلْتُ كَيْفَ هُوَ عِنْدَكَ؟ فَقَالَ وَمَا عِنْدِي أَنَا؟ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: إنَّمَا هُوَ يَعْنِي الْعِلْمَ مَا جَاءَ مِنْ فَوْقٍ. وَقَالَ سُفْيَانُ لَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُسْتَفْتَى فَيُفْتِي وَهُوَ يَرْعُدُ وَقَالَ سُفْيَانُ مِنْ فِتْنَةِ الرَّجُلِ إذَا كَانَ فَقِيهًا أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ السُّكُوتِ وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ إنَّ الْعَالِمَ يَظُنُّونَهُ عِنْدَهُ عِلْمُ كُلِّ شَيْءٍ فَقَالَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّ الَّذِي يُفْتِي النَّاسَ فِي كُلِّ مَا يَسْتَفْتُونَهُ لَمَجْنُونٌ وَأَنْكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَى مَنْ يَتَهَجَّمُ فِي الْمَسَائِلِ وَالْجَوَابَاتِ وَسَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: لِيَتَّقِ اللَّهَ عَبْدٌ وَلِيَنْظُرْ مَا يَقُولُ وَمَا يَتَكَلَّمُ، فَإِنَّهُ مَسْئُولٌ وَقَالَ مَنْ أَفْتَى النَّاسَ لَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى مَذْهَبِهِ وَيُشَدِّدَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ: إنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤْمَرَ النَّاسُ بِالْأَمْرِ الْبَيِّنِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَيْتَ النَّاسَ إذَا أُمِرُوا بِالشَّيْءِ الصَّحِيحِ أَنْ لَا يُجَاوِزُوهُ وَنَقَلَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي الطَّلَاقِ فَقَالَ سَلْ غَيْرِي لَيْسَ لِي أَنْ أُفْتِيَ فِي الطَّلَاقِ بِشَيْءٍ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُجِيبَ فِي كُلِّ مَا يُسْتَفْتَى. وَصَحَّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: ذُلٌّ وَإِهَانَةٌ لِلْعِلْمِ أَنْ تُجِيبَ كُلَّ مَنْ سَأَلَك وَقَالَ أَيْضًا كُلُّ مَنْ أَخْبَرَ النَّاسَ بِكُلِّ مَا يَسْمَعُ فَهُوَ مَجْنُونٌ وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْأَبَّارِ وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ حَلَفْتُ بِيَمِينٍ لَا أَرَى أَيْشٍ هِيَ؟ قَالَ لَيْتَ أَنَّك إذَا دَرَيْتُ أَنَا وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ إذَا هَابَ الرَّجُلُ شَيْئًا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْمِلَ عَلَى أَنْ يَقُولَ. وَعَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ قَالَ عُمَرُ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا رَأَيْتُمْ الْقَارِئَ يَغْشَى السُّلْطَانَ فَهُوَ لِصٌّ. وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ يُخَالِطُ الْأَغْنِيَاءَ فَهُوَ مُرَاءٍ. وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ:

جَلَسْتُ مَعَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي الْمَقْبَرَةِ وَكُنَّا نَتَحَدَّثُ وَكُنْتُ أُسَائِلُهُ وَيُجِيبُنِي قَالَ الْخَلَّالُ: وَكُنْتُ أَمْضِي مَعَ الْمَرُّوذِيِّ إلَى الْمَقَابِرِ وَيُصَلِّي عَلَى الْجَنَائِزِ فَأَقْرَأُ عَلَيْهِ وَنَحْنُ قُعُودٌ بَيْنَ الْقُبُورِ إلَى أَنْ يُفْرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ إنَّ الَّذِي يُفْتِي النَّاسَ يَتَقَلَّدُ أَمْرًا عَظِيمًا، أَوْ قَالَ يُقْدِمُ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ، يَنْبَغِي لِمَنْ أَفْتَى أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِقَوْلِ مَنْ تَقَدَّمَ وَإِلَّا فَلَا يُفْتِي وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي شَيْءٍ لَيْسَ لَهُ فِيهِ إمَامٌ أَخَافُ عَلَيْهِ الْخَطَأَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ لَا نَزَالُ نَتَعَلَّمُ مَا وَجَدْنَا مَنْ يُعَلِّمُنَا وَقَالَ أَحْمَدُ نَحْنُ إلَى السَّاعَةِ نَتَعَلَّمُ. وَسَأَلَهُ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ «أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الْفُتْيَا أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ» مَا مَعْنَاهُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يُفْتِي بِمَا لَمْ يَسْمَعْ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَرْبٍ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَسُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُفْتِي بِغَيْرِ عِلْمٍ قَالَ يُرْوَى عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: يَمْرُقُ مِنْ دِينِهِ. وَنَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ أَنَّ رَجُلًا تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: هَذَا مِنْ حُبِّهِ الدُّنْيَا يُسْأَلُ عَنْ الشَّيْءِ الَّذِي لَا يُحْسِنُ فَيَحْمِلُ نَفْسَهُ عَلَى الْجَوَابِ، وَنَحْوُ هَذَا عَنْ حَمَّادٍ وَقَالَ كُنْتُ أُسَائِلُ إبْرَاهِيمَ عَنْ الشَّيْءِ فَيَعْرِفُ فِي وَجْهِي أَنِّي لَمْ أَفْهَمْ فَيُعِيدُهُ حَتَّى أَفْهَمَ. رَوَى ذَلِكَ الْخَلَّالُ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَدَّثَ رَجُلًا بِحَدِيثٍ فَاسْتَفْهَمَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ الصِّدِّيقُ؟ هُوَ كَمَا حَدَّثْتُكَ أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إذَا قُلْتُ بِمَا لَا أَعْلَمُ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ أَفْتَى بِفُتْيَا غَيْرَ ثَبْتٍ فِيهَا فَإِنَّمَا إثْمُهُ عَلَى الَّذِي أَفْتَاهُ» . وَفِي لَفْظٍ «مَنْ أَفْتَى بِفُتْيَا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إثْمُ ذَلِكَ عَلَى الَّذِي أَفْتَاهُ» رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَرَوَى الثَّانِيَ أَبُو دَاوُد وَالْأَوَّلَ ابْنُ مَاجَهْ وَهُوَ حَدِيثٌ جَيِّدٌ لَهُ طُرُقٌ مَذْكُورَةٌ فِي حَوَاشِي الْمُنْتَقَى. وَقَالَ مُسْلِمٌ الْبَطِينُ عَنْ عُزْرَةَ التَّمِيمِيِّ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: وَأَبْرَدُهَا عَلَى الْكَبِدِ

ثَلَاثًا أَنْ يُسْأَلَ الرَّجُلُ عَمَّا لَا يَعْلَمُ فَيَقُولُ اللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا خَمْسٌ لَوْ سَافَرَ الرَّجُلُ فِيهِنَّ إلَى الْيَمَنِ لَكُنَّ عِوَضًا مِنْ سَفَرِهِ: لَا يَخْشَى عَبْدٌ إلَّا رَبَّهُ، وَلَا يَخَافُ إلَّا ذَنْبَهُ، وَلَا يَسْتَحِي مَنْ لَا يَعْلَمُ أَنْ يَتَعَلَّمَ، وَلَا يَسْتَحِي مَنْ تَعَلَّمَ إذَا سُئِلَ عَمَّا لَا يَعْلَمُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُ أَعْلَمُ، وَالصَّبْرُ مِنْ الدِّينِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ وَإِذَا قُطِعَ الرَّأْسُ تَوَى الْجَسَدُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ مَنْ أَفْتَى النَّاسَ فِي كُلِّ مَا يَسْتَفْتُونَهُ فَهُوَ مَجْنُونٌ وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. قَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ خَالِدِ بْنِ أَسْلَمَ أَخِي زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: كُنَّا مَعَ ابْنِ عُمَرَ فَسَأَلَهُ أَعْرَابِيٌّ أَتَرِثُ الْعَمَّةُ، فَقَالَ لَا أَدْرِي. قَالَ أَنْتَ لَا تَدْرِي قَالَ نَعَمْ. اذْهَبْ إلَى الْعُلَمَاءِ فَاسْأَلْهُمْ. فَلَمَّا أَدْبَرَ الرَّجُلُ قَبَّلَ ابْنُ عُمَرَ يَدَهُ. فَقَالَ: نِعِمَّا قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: سُئِلَ عَنْ مَا لَا يَدْرِي، فَقَالَ لَا أَدْرِي وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَالثَّوْرِيُّ: عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: أَدْرَكْتُ عِشْرِينَ وَمِائَةً مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ يُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ إلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ إيَّاهُ، وَلَا يُسْتَفْتَى عَنْ شَيْءٍ إلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْفَتْوَى، هَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ وَلَفْظُ ابْنِ عُيَيْنَةَ إذَا سُئِلَ أَحَدُهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ رَدَّهَا هَذَا إلَى هَذَا، وَهَذَا إلَى هَذَا حَتَّى تَرْجِعَ إلَى الْأَوَّلِ وَقَالَ أَبُو حُصَيْنٍ عُثْمَانُ بْنُ عَاصِمٍ التَّابِعِيُّ الْجَلِيلُ إنَّ أَحَدَهُمْ لَيُفْتِي فِي الْمَسْأَلَةِ وَلَوْ وَرَدَتْ عَلَى عُمَرَ لَجَمَعَ لَهَا أَهْلَ بَدْرٍ وَقَالَ الْقَاسِمُ وَابْنُ سِيرِينَ لَأَنْ يَمُوتَ الرَّجُلُ جَاهِلًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَقُولَ مَا لَا يَعْلَمُ وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ إنَّ مِنْ إكْرَامِ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ أَنْ لَا يَقُولَ إلَّا مَا أَحَاطَ بِهِ عِلْمُهُ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَيْلٌ لِمَنْ يَقُولُ لِمَا لَا يَعْلَمُ إنِّي أَعْلَمُ وَقَالَ مَالِكٌ: مِنْ فِقْهِ الْعَالِمِ أَنْ يَقُولَ: لَا أَعْلَمُ فَإِنَّهُ عَسَى أَنْ يُهَيَّأَ لَهُ الْخَيْرُ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - سَمِعْت مَالِكًا سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَجْلَانَ يَقُولُ: إذَا تَرَكَ الْعَالِمُ " لَا أَدْرِي " أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ

وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ دَاوُد عَنْ أَبِي زُبَيْرٍ الزُّبَيْرِيِّ عَنْ مَالِكِ بْنِ عَجْلَانَ قَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَذَكَرَهُ وَقَدْ سَبَقَ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَلَمْ يُجِبْهُ فَقَالَ الرَّجُلُ: إنَّ فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْئًا فَأَجِبْنِي فَقَالَ إنْ يَكُنْ فِي نَفْسِك مِنْهَا مِثْلُ أَبِي قُبَيْسٍ أَحَبَّ إلَيَّ أَنْ يَكُونَ فِي نَفَسِي مِنْهَا مِثْلُ الشَّعْرَةِ. وَقَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ سَأَلَ رَجُلٌ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَطَالَ تَرْدَادُهُ إلَيْهِ فِيهَا وَأَلَحَّ عَلَيْهِ فَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ يَا هَذَا إنِّي لَمْ أَتَكَلَّمْ إلَّا فِيمَا أَحْتَسِبُ فِيهِ الْخَيْرَ وَلَسْتُ أُحْسِنُ مَسْأَلَتَكَ هَذِهِ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ الْعَجَلَةُ فِي الْفَتْوَى نَوْعٌ مِنْ الْجَهْلِ وَالْخُرْقِ وَكَانَ يُقَالُ التَّأَنِّي مِنْ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ. كَذَا وُجِدْتُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ (الْخُرْقِ) فَإِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ فَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ الْخَرَقُ بِالتَّحْرِيكِ الدَّهَشُ مِنْ الْخَوْفِ أَوْ الْحَيَاءِ وَقَدْ خَرِقَ بِالْكَسْرِ فَهُوَ خَرِقٌ وَأَخْرَقْتُهُ أَنَا أَيْ أَدْهَشْتُهُ، وَالْخَرَقُ أَيْضًا مَصْدَرُ الْأَخْرَقِ وَهُوَ ضِدُّ الرَّفِيقِ وَقَدْ خَرِقَ بِالْكَسْرِ يَخْرَقُ خَرَقًا وَالِاسْمُ الْخِرْقُ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ التَّخَرُّقَ فَالتَّخَرُّقُ لُغَةٌ فِي التَّخَلُّقِ مِنْ الْكَذِبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ سِنَانٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ وَحَسَّنَ لَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «التَّأَنِّي مِنْ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ» . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ " الْعَالِمُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فَلِيَنْظُرْ كَيْفَ يَدْخُلُ بَيْنَهُمْ " وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ لَا يَكَادُ يُفْتِي فُتْيَا وَلَا يَقُولُ شَيْئًا إلَّا قَالَ اللَّهُمَّ سَلِّمْنِي وَسَلِّمْ مِنِّي، ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ وَلَا سِيَّمَا إنْ كَانَ مَنْ يُفْتِي يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلْفَتْوَى لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ وَلَا يَعْلَمُ النَّاسَ ذَلِكَ مِنْهُ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ إفْتَاءُ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْحَالِ بِلَا إشْكَالٍ فَهُوَ يُسَارِعُ إلَى مَا يَحْرُمُ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْحَامِلُ عَلَى ذَلِكَ غَرَضَ الدُّنْيَا وَأَمَّا السَّلَفُ فَكَانُوا يَتْرُكُونَ ذَلِكَ خَوْفًا وَلَعَلَّ غَيْرَهُ يَكْفِيهِ وَقَدْ يَكُونُ أَدْنَى لِوُجُودِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ. قَالَ ابْنُ مَعِينٍ الَّذِي يُحَدِّثُ بِالْبَلْدَةِ وَبِهَا مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ بِالْحَدِيثِ فَهُوَ أَحْمَقُ وَقَالَ أَيْضًا إذَا رَأَيْتَنِي أُحَدِّثُ فِي بَلْدَةٍ فِيهَا مِثْلُ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ فَيَنْبَغِي لِلِحْيَتِي أَنْ تُحْلَقَ وَأَمَرَّ يَدَهُ عَلَى

عَارِضَيْهِ وَيَأْتِي بِنَحْوِ كُرَّاسَيْنِ هَذَا الْمَعْنَى قَبْلَ فَصْلٍ قَالَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بْنُ دُرُسْتَوَيْهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: مَا أَفْتَيْتُ حَتَّى شَهِدَ لِي سَبْعُونَ أَنِّي أَهْلٌ لِذَلِكَ وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَسَحْنُونٌ أَجْسَرُ النَّاسِ عَلَى الْفُتْيَا أَقَلُّهُمْ عِلْمًا قَالَ سَحْنُونٌ أَشْقَى النَّاسِ مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ وَقَالَ فِتْنَةُ الْجَوَابِ بِالصَّوَابِ أَشَدُّ مِنْ فِتْنَةِ الْمَالِ وَقَالَ سُفْيَانُ: أَدْرَكْتُ الْفُقَهَاءَ وَهُمْ يَكْرَهُونَ أَنْ يُجِيبُوا فِي الْمَسَائِلِ وَالْفُتْيَا حَتَّى لَا يَجِدُوا بُدًّا مِنْ أَنْ يُفْتُوا وَقَالَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْفُتْيَا أَسْكَتُهُمْ عَنْهَا وَأَجْهَلُهُمْ بِهَا أَنْطَقُهُمْ فِيهَا. وَبَكَى رَبِيعَةُ فَقِيلَ مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: اُسْتُفْتِيَ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ وَظَهَرَ فِي الْإِسْلَامِ أَمْرٌ عَظِيمٌ وَقَالَ وَلَبَعْضُ مَنْ يُفْتِي هَهُنَا أَحَقُّ بِالسِّجْنِ مِنْ السُّرَّاقِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا «إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ النَّاسِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» وَفِيهِمَا أَيْضًا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا «إنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ أَيَّامًا يَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ وَيُتْرَكُ فِيهَا الْعِلْمُ، يَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ» وَالْهَرْجُ الْقَتْلُ. وَفِيهِمَا عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «إنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَقِلَّ الْعِلْمُ، وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ وَالزِّنَا وَشُرْبُ الْخَمْرِ، وَيَقِلَّ الرِّجَالُ، وَيَكْثُرَ النِّسَاءُ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ وَيُقْبَضُ الْعِلْمُ» . وَفِي لَفْظٍ «وَيَنْقُصُ الْعِلْمُ، وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ، وَيُلْقَى الشُّحُّ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ قَالُوا وَمَا الْهَرْجُ قَالَ: الْقَتْلُ» وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَظَرَ إلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: هَذَا أَوَانُ يُرْفَعُ الْعِلْمُ مِنْ النَّاسِ فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ وَقَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ وَاَللَّهِ لَنَقْرَأَنَّهُ وَلَنُقْرِأَنَّهُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ، إنْ كُنْتُ لَأَعُدّكَ مِنْ أَفْقَهِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، هَذِهِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ فَمَاذَا يُغْنِي عَنْهُمْ» وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ هَذَا

الْمَعْنَى وَفِيهِ «هَذَا أَوَانُ يُخْتَلَسُ الْعِلْمُ» حَدِيثَانِ جَيِّدَا الْإِسْنَادِ. وَرَوَى الْأَوَّلَ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ وَرَوَى الثَّانِيَ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: مَا لِي أَرَى عُلَمَاءَكُمْ يَذْهَبُونَ. وَلَا أَرَى جُهَّالَكُمْ يَتَعَلَّمُونَ، مَا لِي أَرَاكُمْ تَحْرِصُونَ عَلَى مَا قَدْ تَكَفَّلَ لَكُمْ، وَتَدَعُونَ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ، تَعَلَّمُوا قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَرَفْعُ الْعِلْمِ ذَهَابُ الْعُلَمَاءِ، لَأَنَا أَعْلَمُ بِشِرَارِكُمْ مِنْ الْبَيْطَارِ بِالْفَرَسِ هُمْ الَّذِينَ لَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إلَّا دَبْرًا، وَلَا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ إلَّا هَجْرًا، وَلَا يَعْتِقُ مُحَرَّرُوهُمْ وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ إذَا لَبَسَتْكُمْ فِتْنَةٌ يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ، وَيَرْبُوا فِيهَا الصَّغِيرُ، وَيَتَّخِذُهَا النَّاسُ سُنَّةً، فَإِذَا غُيِّرَتْ قَالُوا غُيِّرَتْ السُّنَّةُ. قَالُوا مَتَى ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: إذَا كَثُرَتْ قُرَّاؤُكُمْ. وَقَلَّتْ فُقَهَاؤُكُمْ، وَكَثُرَتْ أُمَرَاؤُكُمْ، وَقَلَّتْ أُمَنَاؤُكُمْ، وَالْتُمِسَتْ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ كَانَ مَنْ مَضَى مِنْ عُلَمَائِنَا يَقُولُونَ الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ نَجَاةٌ، وَالْعِلْمُ يُقْبَضُ قَبْضًا سَرِيعًا وَنَعْشُ الْعِلْمِ ثَبَاتُ الدِّينِ، وَالدُّنْيَا فِي ذَهَابِ الْعِلْمِ ذَلِكَ كُلُّهُ، ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَقَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ ثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا «تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، أَعْظَمُهَا فِتْنَةً عَلَى أُمَّتِي قَوْمٌ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ فَيُحَلِّلُونَ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ تَفَرَّدَ بِهِ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ وَقَدْ سَرَقَهُ مِنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الضُّعَفَاءِ وَهُوَ مُنْكَرٌ، وَفِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ كِفَايَةٌ وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حَمْزَةَ الْمَرْوَزِيُّ: سَأَلْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ عَنْ هَذَا فَقَالَ: لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ قُلْتُ: فَنُعَيْمٌ قَالَ: ثِقَةٌ قُلْتُ: كَيْفَ يُحَدِّثُ ثِقَةٌ بِبَاطِلٍ قَالَ: شُبِّهَ لَهُ. وَقَالَ الْخَطِيبُ وَافَقَهُ عَلَى رِوَايَتِهِ سُوَيْدٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عِيسَى وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ رَوَاهُ

الْحَاكِمُ بْنُ الْمُبَارَكِ الْخَوَاشِنِيُّ وَيُقَالُ لَا بَأْسَ بِهِ عَنْ عِيسَى قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ هَؤُلَاءِ أَرْبَعَةٌ لَمْ يَتَّفِقُوا عَادَةً عَلَى بَاطِلٍ فَإِنْ كَانَ خَطَأٌ فَمِنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ ثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ ثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ أَوْسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا «لَنْ يَسْتَكْمِلَ مُؤْمِنٌ إيمَانَهُ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ» قَالَ النَّوَوِيُّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَيْنَاهُ فِي كِتَابِ الْحُجَّةِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: اتَّقُوا الرَّأْيَ فِي دِينِكُمْ وَكَانَ يَنْهَى عَنْ الْمُكَايَلَةِ يَعْنِي الْمُقَايَسَةَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَقُولُ يَا أَيّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا الرَّأْيَ عَلَى الدِّينِ فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ اسْتَطَعْتُ لَرَدَدْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْرَهُ، وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. وَعَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ نَحْوُ ذَلِكَ. وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ مَسْحُ أَسْفَلِ الْخُفِّ أَوْلَى مِنْ أَعْلَاهُ، «وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْسَحُ أَعْلَى الْخُفِّ» وَقَالَ الشَّعْبِيُّ إنَّمَا هَلَكْتُمْ حِينَ تَرَكْتُمْ الْآثَارَ وَأَخَذْتُمْ بِالْمَقَايِيسِ وَقَالَ النَّخَعِيُّ إنَّ الْقَوْمَ لَمْ يُدَّخَرْ عَنْهُمْ شَيْءٌ خُبِّئَ لَكُمْ لِفَضْلٍ عِنْدَكُمْ وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ لَا تُجَالِسْ أَصْحَابَ الرَّأْيِ وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: إنَّمَا الْعِلْمُ كُلُّهُ بِالْآثَارِ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ عَلَيْكَ بِالْأَثَرِ وَإِنْ رَفَضَكَ النَّاسُ وَإِيَّاكَ وَآرَاءَ الرِّجَالِ وَإِنْ زَخْرَفُوهُ بِالْقَوْلِ فَإِنَّ الْأَمْرَ يَنْجَلِي وَأَنْتَ فِيهِ عَلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ إذَا بَلَغَكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثٌ فَإِيَّاكَ أَنْ تَأْخُذَ بِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ كَانَ مُبَلِّغًا عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ أَحْمَدُ ثَنَا حَجَّاجٌ ثَنَا شَرِيكٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ الْفُضَيْلِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ أَرَاهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» فَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَنْ الْمُتْعَةِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:

أَرَاهُمْ سَيَهْلِكُونَ أَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَقُولُ نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَرَوَاهُ فِي الْمُخْتَارِ مِنْ طَرِيقِهِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ «أَنَّ عُثْمَانَ نَهَى عَنْ الْمُتْعَةِ وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَلَبَّى عَلِيٌّ بِهِمَا وَقَالَ مَا كُنْتُ لِأَدَعَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْلِ أَحَدٍ» «وَقَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عُمَرَ إنَّ أَبَاكَ نَهَى عَنْهَا، فَقَالَ لِلرَّجُلِ أَمْرُ أَبِي يُتَّبَعُ أَمْ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: بَلْ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لَقَدْ صَنَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

فصل في الوصية بالفهم في الفقه والتثبيت وعلم ما يختلف فيه

[فَصْلٌ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْفَهْمِ فِي الْفِقْهِ وَالتَّثْبِيتِ وَعِلْمِ مَا يُخْتَلَفُ فِيهِ] فَصْلٌ (فِي الْوَصِيَّةِ بِالْفَهْمِ فِي الْفِقْهِ وَالتَّثَبُّتِ وَعِلْمِ مَا يُخْتَلَفُ فِيهِ) قَالَ الْمَرْوَزِيُّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يُعْجِبُنِي أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ فَهِمًا فِي الْفِقْهِ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ يَقُولُ: عَلَيْكَ بِالْفَهْمِ فِي الْفِقْهِ مَرَّتَيْنِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ الْمُسْتَمْلِي: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: كَانَ لَهُ فِقْهٌ؟ فَقَالَ: مَا أَقَلَّ الْفِقْهَ فِي أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ هَانِئٍ قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَا أَبَا إِسْحَاقَ تَرَكَ النَّاسُ فَهْمَ الْقُرْآنِ وَقَالَ مَالِكٌ رُبَّمَا كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ، أَوْ نَزَلَتْ الْمَسْأَلَةُ فَلَعَلِّي أَسْهَرُ فِيهَا عَامَّةَ لَيْلِي وَقَالَ صَالِحٌ: سَأَلْتُ أَبِي عَنْ الرَّجُلِ يَكُونُ فِي الْقَرْيَةِ وَقَدْ رَوَى الْحَدِيثَ وَوَرَدَتْ عَلَيْهِ مَسْأَلَةٌ فِيهَا أَحَادِيثُ مُخْتَلِفَةٌ كَيْفَ يَصْنَعَ قَالَ لَا يَقُلْ فِيهَا شَيْئًا. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ يَكُونُ الرَّجُلُ فِي الْقَرْيَةِ فَيُسْأَلُ عَنْ الشَّيْءِ الَّذِي فِيهِ اخْتِلَافٌ قَالَ يُفْتِي بِمَا يُوَافِقُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَمَا لَمْ يُوَافِقْ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ أَمْسَكَ عَنْهُ قِيلَ لَهُ فَيُخَافُ عَلَيْهِ قَالَ لَا، وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ مَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ عِلْمًا فَلْيُعَلِّمْهُ النَّاسَ وَإِيَّاهُ أَنْ يَقُولَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ فَيَصِيرُ مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ، وَيَمْرُقُ مِنْ الدِّينِ. وَقَالَ مُهَنَّا قُلْتُ لِأَحْمَدَ فِي مَسْأَلَةٍ فَقَالَ لِي: قَدْ تَرَكَ هَذَا النَّاسُ الْيَوْمَ وَمَنْ يَعْمَلُ بِهَذَا الْيَوْمَ قُلْتُ لَهُ: وَإِنْ تَرَكَ النَّاسُ هَذَا فَلَا يُتْرَكُ مَعْرِفَةُ عِلْمِهِ يَعْرِفُهُ النَّاسُ حَتَّى لَا يَمُوتَ قَالَ نَعَمْ، حَدَّثَنِي بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ قَالَ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ تَعَلَّمْ مِنْ الْأَحَادِيثِ مَا لَا يُؤْخَذُ بِهِ كَمَا تَعَلَّمُ مَا يُؤْخَذُ بِهِ، فَقَالَ أَحْمَدُ يَقُولُ نَعْرِفُهَا وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ مَنْ عَلِمَ اخْتِلَافَ النَّاسِ فَقَدْ فَقِهَ، وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَسْأَلَ عَمَّا يُخْتَلَفُ فِيهِ مِنْك قَالَ قُلْتُ إنَّمَا يُسْأَلُ مَنْ يَعْقِلُ عَمَّا يُخْتَلَفُ فِيهِ فَأَمَّا مَا لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ فَلَمْ نَسْأَلْ عَنْهُ. وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: أَعْلَمُ النَّاسِ أَعْلَمُهُمْ بِالِاخْتِلَافِ، وَعَنْ

ابْن عُمَرَ قَالَ مَنْ رَقَّ وَجْهُهُ رَقَّ عِلْمُهُ، وَعَنْ الشَّعْبِيِّ مِثْلُهُ. وَرَوَى الْخَلَّالُ ذَلِكَ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ الْكَلَامَ الْأَخِيرَ وَقَالَ مُجَاهِدٌ لَا يَنَالُ الْعِلْمَ حَيِيٌّ وَلَا مُسْتَكْبِرٌ، وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا تَعَلَّمْ الْعِلْمَ لِتُمَارِيَ بِهِ وَلَا لِتُبَاهِيَ بِهِ وَلَا تَتْرُكْهُ حَيَاءً مِنْ طَلَبَةٍ، وَلَا زَهَادَةً فِيهِ وَلَا رِضًا بِالْجَهَالَةِ وَذَكَرَ ذَلِكَ الْبَيْهَقِيّ.

فصل في كراهة السؤال عن الغرائب وعما لا ينتفع ولا يعمل به وما لم يكن

[فَصْلٌ فِي كَرَاهَةِ السُّؤَالِ عَنْ الْغَرَائِبِ وَعَمَّا لَا يُنْتَفَعُ وَلَا يُعْمَلُ بِهِ وَمَا لَمْ يَكُنْ] قَالَ الْمَرْوَزِيُّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: سَأَلَنِي رَجُلٌ مَرَّةً عَنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَمُسْلِمُونَ هُمْ؟ فَقُلْتُ لَهُ أَحْكَمْتَ الْعِلْمَ حَتَّى تَسْأَلَ عَنْ ذَا وَقَالَ أَيْضًا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: سَأَلَ بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ عَنْ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ فَصَاحَ بِهِ وَقَالَ يَا صَبِيُّ أَنْتَ تَسْأَلُ عَنْ ذَا وَقَالَ حَنْبَلٌ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَسَأَلَهُ ابْنُ الشَّافِعِيِّ الَّذِي وَلِيَ قَضَاءَ حَلَبَ قَالَ لَهُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ذَرَارِيُّ الْمُشْرِكِينَ أَوْ الْمُسْلِمِينَ لَا أَدْرِي أَيُّهُمَا سَأَلَ عَنْهُ، فَصَاحَ بِهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَ لَهُ: هَذِهِ مَسَائِلُ أَهْلِ الزَّيْغِ مَا لَكَ وَلِهَذِهِ الْمَسَائِلِ؟ فَسَكَتَ وَانْصَرَفَ وَلَمْ يَعُدْ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى خَرَجَ. وَنَقَلَ أَحْمَدُ بْنُ أَصْرَمَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي اللِّعَانِ فَقَالَ سَلْ رَحِمَكَ اللَّهُ عَمَّا اُبْتُلِيتَ بِهِ، وَنَقَلَ عَنْهُ أَبُو دَاوُد وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ لَهُ دَعْنَا مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْمُحْدَثَةِ، وَسَأَلْتُهُ عَنْ أُخْرَى فَغَضِبَ وَقَالَ: خُذْ وَيْحَكَ فِيمَا تَنْتَفِعُ بِهِ وَإِيَّاكَ وَهَذِهِ الْمُحْدَثَةَ وَخُذْ فِي شَيْءٍ فِيهِ حَدِيثٌ وَقَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ قَالَ دَعْنَا لَيْتَ أَنَّا نُحْسِنُ مَا جَاءَ فِيهِ الْأَثَرُ وَقَالَ مُهَنَّا سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ مِنْ رَجُلٍ دَارِهِ سَنَةً بِعَبْدٍ فَلَمْ يَسْكُنْ الدَّارَ وَأَبَقَ الْعَبْدُ، فَقَالَ لِي اعْفِنَا مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَسَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ الْمَرِيضِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ يَضْعُفُ عَنْ الصَّوْمِ قَالَ: يُفْطِرُ قُلْتُ: يَأْكُلُ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ وَيُجَامِعُ امْرَأَتَهُ قَالَ: لَا أَدْرِي فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ فَحَوَّلَ وَجْهَهُ عَنِّي. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ جَيَّانَ الْقَطِيعِيُّ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَقُلْتُ: أَتَوَضَّأُ بِمَاءِ النُّورَةِ؟ فَقَالَ مَا أُحِبُّ ذَلِكَ، فَقُلْتُ: أَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَاقِلَّا قَالَ: مَا أُحِبُّ ذَلِكَ قَالَ: ثُمَّ قُمْتُ فَتَعَلَّقَ بِثَوْبِي وَقَالَ: أَيْشٍ تَقُولُ

إذَا دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ؟ فَسَكَتَ فَقَالَ: أَيْشٍ تَقُولُ إذَا خَرَجْتُ مِنْ الْمَسْجِدِ؟ فَسَكَتَ فَقَالَ: اذْهَبْ فَتَعَلَّمْ هَذَا. وَعَنْ شُبْرُمَةَ قَالَ قَالَ لِي إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ إيَّاكَ وَمَا يَسْتَشْنِعُ النَّاسُ مِنْ الْكَلَامِ، وَعَلَيْكَ بِمَا يَعْرِفُ النَّاسُ مِنْ الْقَضَاءِ وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِرَأْيِهِ أَوْ فِي أَمْرِ خُصُومَةٍ. وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ لَيْثٍ عَنْ طَاوُسِ عَنْ ابْن عُمَرَ قَالَ: لَا تَسْأَلُوا عَمَّا لَمْ يَكُنْ فَإِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ يَنْهَى أَنْ يُسْأَلَ عَمَّا لَمْ يَكُنْ. وَرَوَى أَيْضًا بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ قَوْمًا كَانُوا خَيْرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا سَأَلُوا إلَّا عَنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مَسْأَلَةً حَتَّى قُبِضَ، كُلُّهُنَّ فِي الْقُرْآنِ وَمَا كَانُوا يَسْأَلُونَ إلَّا عَمَّا يَنْفَعُهُمْ وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ مُجَالِدٍ عَنْ عَامِرٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ مَا أَنْزَلَ الْبَلَاءَ إلَّا كَثْرَةُ السُّؤَالِ. وَرَوَى ذَلِكَ الْخَلَّالُ. وَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ أَنَّهُ يُكْرَهُ عِنْدَ أَحْمَدَ السُّؤَالُ عَمَّا لَا يَنْفَعُ السَّائِلَ وَيَتْرُكُ مَا يَنْفَعُهُ وَيَحْتَاجُهُ، وَإِنَّ الْعَامِّيَّ يَسْأَلُ عَمَّا يَعْلَمُ بِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المائدة: 101] . وَاحْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ عَلَى كَرَاهَةِ السُّؤَالِ عَنْ الشَّيْءِ قَبْلَ وُقُوعِهِ. وَفِي حَدِيثِ اللِّعَانِ «فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ مَرْفُوعًا «كَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ

وَإِضَاعَةِ الْمَالِ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ وَفِي لَفْظٍ إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ذَلِكَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِيهِمَا عَنْ سَعْدٍ مَرْفُوعًا قَالَ: «أَعْظَمُ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» . قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ: هَذَا الْحَدِيثُ فِيمَنْ سَأَلَ تَكَلُّفًا أَوْ تَعَنُّتًا عَمَّا لَا حَاجَةَ بِهِ إلَيْهِ فَأَمَّا مَنْ سَأَلَ لِضَرُورَةٍ بِأَنْ وَقَعَتْ لَهُ مَسْأَلَةٌ فَسَأَلَ عَنْهَا فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَلَا يَحْنَثُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل: 43] . وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْمَدْخَلِ كَرِهَ السَّلَفُ السُّؤَالَ عَنْ الْمَسْأَلَةِ قَبْلَ كَوْنِهَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ، وَإِنَّمَا سَأَلَ بِالِاجْتِهَادِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ قَبْلَ الْوَاقِعَةِ وَقَدْ يَتَغَيَّرُ اجْتِهَادُهُ عِنْدَهَا. وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ «مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» وَقَالَ طَاوُسِ عَنْ عُمَرَ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَسْأَلُوا عَمَّا لَمْ يَكُنْ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي الْفَتْحُ بْنُ بَكْرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شُرَيْحٍ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: وَإِيَّاكُمْ وَهَذِهِ الْعَضْلَ فَإِنَّهَا إذَا نَزَلَتْ بَعَثَ اللَّهُ لَهَا مِنْ يُقِيمُهَا أَوْ يُفَسِّرُهَا، وَرُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ نَحْوُ ذَلِكَ وَقَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ الصَّلْتِ بْنِ رَاشِدٍ قَالَ: سَأَلْتُ طَاوُسًا عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ: أَكَانَ هَذَا قُلْتُ نَعَمْ. فَحَلَّفَنِي فَحَلَفْت لَهُ. فَقَالَ: إنَّ أَصْحَابَنَا حَدَّثُونَا عَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ قَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَعَجَّلُوا بِالْبَلَاءِ قَبْلَ نُزُولِهِ فَيَذْهَبَ بِكُمْ هَهُنَا وَهَهُنَا وَإِنَّكُمْ إنْ لَمْ تَعَجَّلُوا لَمْ يَنْفَكَّ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ إذَا سُئِلَ سُدِّدَ، أَوْ قَالَ وُفِّقَ " وَرَوَى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَبَلَغَنِي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحَلِيمِيِّ أَنَّهُ أَبَاحَ ذَلِكَ لِلْمُتَفَقِّهَةِ لِيُرْشِدُوا إلَى طَرِيقِ النَّظَرِ قَالَ: وَالرَّأْيِ، قَالَ وَعَلَى ذَلِكَ وَضَعَ الْفُقَهَاءُ مَسَائِلَ الِاجْتِهَادِ وَأَخْبَرُوا بِآرَائِهِمْ فِيهَا.

وَقَالَ عِكْرِمَةُ قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ انْطَلِقْ فَأَفْتِ النَّاسَ فَمَنْ سَأَلَكَ عَمَّا يَعْنِيهِ فَأَفْتِهِ، وَمَنْ سَأَلَكَ عَمَّا لَا يَعْنِيهِ فَلَا تُفْتِهِ فَإِنَّك تَطْرَحُ عَنْ نَفْسِك ثُلْثَيْ مُؤْنَةِ النَّاسِ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ وَفِيهِ انْطَلِقْ فَأَفْتِ النَّاسَ وَأَنَا لَكَ عَوْنٌ قَالَ قُلْتُ لَوْ أَنَّ هَذَا النَّاسَ مِثْلَهُمْ مَرَّتَيْنِ لَأَفْتَيْتُهُمْ. وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ «لَا تَكْتُبُوا عَنِّي وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» وَقَدْ أَذِنَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْكِتَابَةِ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «اُكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ» وَلِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْن عُمَرَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوَمَأَ بِإِصْبَعِهِ إلَى فِيهِ وَقَالَ: اُكْتُبْ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إلَّا حَقٌّ» وَأَمَرَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْكِتَابَةِ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ. فَأَمَّا قَوْلُ الْعَالِمِ لِلنَّاسِ سَلُونِي فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «سَلُونِي فَهَابُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ فَجَاءَ رَجُلٌ فَجَلَسَ عِنْدَ رُكْبَتِهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْإِسْلَامُ» الْحَدِيثَ. أَيْ سَلُونِي عَمَّا تَحْتَاجُونَ إلَيْهِ، فَلَا تَعَارَضَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شَيْءٍ فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مِنْ الْبَادِيَةِ الْعَاقِلَ فَيَسْأَلُهُ» الْحَدِيثُ. وَفِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْكَهْفِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: سَلُونِي. وَأَمَّا جُلُوسُ الْعَالِمِ فِي حَلْقَةٍ فَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْأَحَادِيثِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «كُنَّا قُعُودًا حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَنَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي نَفَرٍ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَيْنَ أَظْهُرِنَا وَخَشِينَا أَنْ يَنْقَطِعَ دُونَنَا

وَفَزِعْنَا فَقُمْنَا فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ فَزِعَ» . الْحَدِيثَ يُقَالُ قَعَدْنَا حَوْلَهُ وَحَوَلَيْهِ وَحَوْلَيْهِ وَحَوَلَهُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَاللَّامِ فِي جَمِيعِهَا أَيْ جَوَانِبُهُ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: وَلَا يُقَالُ حَوَالِهِ بِكَسْرِ اللَّامِ، وَيُقَالُ نَحْنُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ وَظَهْرَيْكُمْ وَظَهْرَانِيكُمْ بِفَتْحِ النُّونِ أَيْ: بَيْنكُمْ، وَالْفَزَعُ يَكُونُ بِمَعْنَى الرَّوْعِ وَبِمَعْنَى الْهُبُوبِ لِلشَّيْءِ وَالِاهْتِمَامِ بِهِ وَبِمَعْنَى الْإِغَاثَةِ. قَالُوا: وَفِي هَذَا الْخَبَرِ اهْتِمَامُ الْأَتْبَاعِ بِحُقُوقِ مَتْبُوعِهِمْ وَالِاعْتِنَاءُ بِتَحْصِيلِ مَصَالِحِهِمْ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ عَنْهُمْ، وَفِيهِ «أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَائِطًا لِلْأَنْصَارِ وَهُوَ الْبُسْتَانُ وَأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَعْطَاهُ نَعْلَيْهِ وَقَالَ: اذْهَبْ بِنَعْلَيَّ أَيْ عَلَامَةً فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطِ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ وَأَنَّهُ لَقِيَ عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ قَالَ: فَضَرَبَ عُمَرُ بَيْنَ ثَدْيَيَّ فَخَرَرْتُ لِاسْتِي، فَقَالَ: ارْجِعْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ. وَقَوْلُهُ فَأَجْهَشْتُ بُكَاءً، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَجَهَشْتُ أَيْ تَغَيَّرَ وَجْهُهُ وَتَهَيَّأَ لِلْبُكَاءِ وَأَنَّهُ أَخْبَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ يَا عُمَرُ عَلَى مَا فَعَلْتَ؟ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَبَعَثْتَ أَبَا هُرَيْرَةَ أَيْ بِكَذَا قَالَ نَعَمْ قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّكِلَ النَّاسُ عَلَيْهَا فَخَلِّهِمْ يَعْمَلُونَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَلِّهِمْ» وَفِي هَذَا الْخَبَرِ فَوَائِدُ.

فصل في النهي عن الأغلوطات والمغالطة وسوء القصد بالأسئلة

[فَصْلٌ فِي النَّهْيِ عَنْ الْأُغْلُوطَاتِ وَالْمُغَالَطَةِ وَسُوءِ الْقَصْدِ بِالْأَسْئِلَةِ] رَوَى الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ الْأَوْزَاعِيِّ فَلِهَذَا قِيلَ مَجْهُولٌ وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ يُخْطِئُ عَنْ الصُّنَابِحِيِّ عَنْ مُعَاوِيَةَ مَرْفُوعًا عَنْهُ «نَهَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ الْغُلُوطَاتِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرَوَاهُ غَيْرُهُ الْأُغْلُوطَاتِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ شِذَاذُ الْمَسَائِلِ وَصِعَابُهَا، وَاحِدَةُ الْأُغْلُوطَاتِ أُغْلُوطَةٌ وَهِيَ الَّتِي يُغَالَطُ بِهَا وَتُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى أَغَالِيطَ لِقَوْلِ حُذَيْفَةَ عَنْ عُمَرَ حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: شِرَارُ عِبَادِ اللَّهِ يَنْتَقُونَ شِرَارَ الْمَسَائِلِ يُعْمُونَ بِهَا عِبَادَ اللَّهِ وَقَالَ مَالِكٌ قَالَ رَجُلٌ لِلشَّعْبِيِّ إنِّي خَبَّأْتُ لَكَ مَسَائِلَ، فَقَالَ: أَخْبِئْهَا لِإِبْلِيسَ حَتَّى تَلْقَاهُ فَتَسْأَلَهُ عَنْهَا وَقَالَ مَالِكٌ: الْعِلْمُ وَالْحِكْمَةُ نُورٌ يَهْدِي اللَّهُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَلَيْسَ بِكَثْرَةِ الْمَسَائِلِ وَقَالَ مَالِكٌ قَالَ بَعْضُهُمْ مَا تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ إلَّا لِنَفْسِي مَا تَعَلَّمْتُهُ لِيَحْتَاجَ إلَيَّ النَّاسُ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ صَاحِبَ الرُّومِ كَتَبَ إلَى مُعَاوِيَةَ يَسْأَلُهُ عَنْ أَفْضَلِ الْكَلَامِ وَمَا هُوَ؟ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ، وَكَتَبَ إلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَنْ أَكْرَمِ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَنْ أَكْرَمِ الْإِمَاءِ عَلَى اللَّهِ، وَعَنْ أَرْبَعَةٍ مِنْ الْخَلْقِ لَمْ يَرْكُضُوا فِي رَحِمٍ. وَعَنْ قَبْرٍ سَارَ بِصَاحِبِهِ، وَعَنْ الْمِجَرَّةِ وَعَنْ الْقَوْسِ، وَعَنْ مَكَان طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْس لَمْ تَطْلُعْ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا بَعْدَهُ. فَلَمَّا قَرَأَ مُعَاوِيَةُ الْكِتَابَ قَالَ: أَخْزَاهُ اللَّهُ وَمَا عِلْمِي بِمَا هَهُنَا؟ قِيلَ اُكْتُبْ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَكَتَبَ إلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ فَكَتَبَ إلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ أَفْضَلُ الْكَلَامِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ لَا عَمَلَ إلَّا بِهَا، وَاَلَّتِي تَلِيهَا سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ صَلَاةُ الْخَلْقِ. وَاَلَّتِي تَلِيهَا الْحَمْدُ لِلَّهِ كَلِمَةُ الشُّكْرِ، وَاَلَّتِي تَلِيهَا اللَّهُ أَكْبَرُ فَاتِحَةُ الصَّلَوَاتِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَأَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ آدَم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.

وَأَكْرَمُ الْإِمَاءِ عَلَى اللَّهِ مَرْيَمُ - عَلَيْهَا السَّلَامُ -، وَأَمَّا الْأَرْبَعَةُ الَّذِينَ لَمْ يَرْكُضُوا فِي رَحِمٍ فَآدَمُ وَحَوَّاءُ وَالْكَبْشُ الَّذِي فُدِيَ بِهِ إسْمَاعِيلُ وَعَصَا مُوسَى حَيْثُ أَلْقَاهَا فَصَارَتْ ثُعْبَانًا مُبِينًا، وَأَمَّا الْقَبْرُ الَّذِي سَارَ بِصَاحِبِهِ فَهُوَ الْحُوتُ الَّذِي الْتَقَمَ يُونُسَ، وَأَمَّا الْمِجَرَّةُ فَبَابُ السَّمَاءِ، وَأَمَّا الْقَوْسُ فَإِنَّهَا أَمَانٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ الْغَرَقِ بَعْدَ نُوحٍ، وَأَمَّا الْمَكَانُ الَّذِي طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ وَلَمْ تَطْلُعْ فِيهِ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ فَالْمَكَانُ الَّذِي انْفَجَرَ مِنْ الْبَحْرِ لِبَنِي إسْرَائِيلَ مَعَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ أَرْسَلَهُ إلَى مَلِكِ الرُّومِ فَقَالَ: لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِهَذَا عِلْمٌ وَمَا أَصَابَ هَذَا إلَّا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ. كَذَا ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا الْأَثَرَ، وَبَعْضُهُ صَحِيحٌ وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ وَمَا ذَكَرَهُ فِي آدَمَ وَمَرْيَمَ فَبَعْضُهُ اللَّهُ بِهِ وَبِغَيْرِهِ أَعْلَمُ. وَبَعَثَ مَلِكُ الرُّومِ إلَى مُعَاوِيَةَ بِقَارُورَةٍ فَقَالَ ابْعَثْ لِي فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَبَعَثَ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: تُمْلَأُ مَاءً، فَلَمَّا وَرَدَ بِهِ عَلَى مَلَكِ الرُّومِ قَالَ لَهُ أَخُوهُ: مَا أَهْدَاهُ فَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: كَيْفَ اخْتَرْتَ ذَلِكَ قَالَ: لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَنْ يَحْيَى بْن أَكْثَمَ قَالَ قَالَ لِي الْمَأْمُونُ مَنْ تَرَكْتَ بِالْبَصْرَةِ؟ فَوَصَفَ لَهُ مَشَايِخَ مِنْهُمْ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ فَقُلْتُ هُوَ ثِقَةٌ حَافِظٌ لِلْحَدِيثِ عَاقِلٌ فِي نِهَايَةِ السِّتْرِ وَالصِّيَانَةِ فَأَمَرَنِي بِحَمْلِهِ إلَيْهِ فَكَتَبْتُ إلَيْهِ فَقَدِمَ فَأَدْخَلْتُهُ إلَيْهِ وَفِي الْمَجْلِسِ ابْنُ أَبِي دَاوُد وَثُمَامَةُ وَأَشْبَاهٌ لَهُمَا فَكَرِهْتُ أَنْ يَدْخُلَ مِثْلُهُ بِحَضْرَتِهِمْ، فَلَمَّا دَخَلَ سَلَّمَ فَأَجَابَهُ الْمَأْمُونُ وَرَفَعَ مَجْلِسَهُ وَدَعَا لَهُ سُلَيْمَانُ بِالْعِزِّ وَالتَّوْفِيقِ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي دَاوُد يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَسْأَلُ الشَّيْخَ عَنْ مَسْأَلَةٍ؟ فَنَظَرَ إلَيْهِ الْمَأْمُونُ نَظْرَةَ تَخْيِيرٍ لَهُ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ شُبْرُمَةَ: أَسْأَلُكَ؟ قَالَ: إنْ كَانَتْ مَسْأَلَتُكَ لَا تُضْحِكُ الْجَلِيسَ وَلَا تُزْرِي بِالْمَسْئُولِ فَسَلْ، وَثَنَا وَهْبٌ قَالَ: قَالَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: مِنْ الْمَسَائِلِ مَا لَا يَنْبَغِي لِلسَّائِلِ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهَا وَلَا لِلْمُجِيبِ أَنْ يُجِيبَ

عَنْهَا، فَإِنْ كَانَتْ مَسْأَلَتُهُ مِنْ غَيْرِ هَذَا فَلِيَسْأَلْ قَالَ فَهَابُوهُ فَمَا نَطَقَ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَتَّى قَامَ وَوَلَّاهُ قَضَاءَ مَكَّةَ فَخَرَجَ إلَيْهَا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ سَأَلَهُ رَجُلٌ كَيْفَ تَقْرَأُ هَذَا الْحَرْفَ أَلِفًا أَمْ يَاءً مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ أَوْ يَاسِنٍ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَكُلُّ الْقُرْآنِ قَدْ أَحْصَيْتَ غَيْرَ هَذَا الْحَرْفِ قَالَ: إنِّي لَأَقْرَأُ الْمُفَصَّلَ فِي رَكْعَةٍ فَقَالَ: هَذَا كَهَذَا الشِّعْرِ إنَّ قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يَتَجَاوَزُ تَرَاقِيَهُمْ وَلَكِنْ إذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ فَرَسَخَ فِيهِ نَفَعَ وَقَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ فَهِمَ مِنْهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَرْشِدٍ فِي سُؤَالِهِ، إذْ لَوْ كَانَ مُسْتَرْشِدًا لَوَجَبَ جَوَابُهُ وَهَذَا لَيْسَ بِجَوَابٍ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ أَنَّ رَجُلًا عِرَاقِيًّا قَالَ لِعَائِشَةَ أَيُّ الْكَفَنِ خَيْرٌ؟ قَالَتْ: وَيْحَكَ وَمَا يَضُرُّكَ؟ قَالَ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرِينِي مُصْحَفَكِ، قَالَتْ: لِمَ؟ قَالَ لَعَلِّي أُؤَلِّفُ الْقُرْآنَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُقْرَأُ غَيْرَ مُؤَلَّفٍ، قَالَتْ وَمَا يَضُرُّكَ آيَةً آيَةً قَرَأْتَ قَبْلُ إلَى أَنْ قَالَ فَأَخْرَجَتْ لَهُ الْمُصْحَفَ فَأَمْلَتْ عَلَيْهِ آيَ السُّوَرِ. فَأَمَّا رَمْيُ الشَّيْخِ الْمَسْأَلَةَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَمَنْ يَحْضُرُهُ مِنْ الطَّلَبَةِ لِيَخْتَبِرَ مَا عِنْدَهُمْ فَحَسَنٌ لِحَدِيثٍ «طَرَحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَجَرَةً لَا تَرْمِي وَرَقَهَا هِيَ مِثْلُ الْمُؤْمِنِ وَأَنَّهُ وَقَعَ فِي نَفْسِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهَا النَّخْلَةُ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هِيَ النَّخْلَةُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ثُمَّ إنْ أَصَابَ وَاحِدٌ وَأَخْطَأَ غَيْرُهُ جَازَ مَدْحُ الْمُصِيبِ لِتَزْدَادَ رَغْبَتُهُ وَحِرْصُهُ وَيَجْتَهِدَ أَيْضًا الْمُخْطِئُ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى تَرْكَهُ. وَيُكْرَهُ عَيْبُ الْمُخْطِئِ لِحُصُولِ الْمَصْلَحَةِ بِدُونِهِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ كَثْرَةِ الْأَذَى. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُشْبِهُ مَدْحَ الْأَمِينِ وَالشُّهُودَ لِلْمُصِيبِ فِي السَّبْقِ وَعَيْبَ الْمُخْطِئِ وَهُوَ مَكْرُوهٌ وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ لَا يَجُوزُ. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي عَتِيقٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَ: تَحَدَّثْتُ أَنَا وَالْقَاسِمُ وَهُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ عِنْدَ عَائِشَةَ حَدِيثًا وَكَانَ الْقَاسِمُ رَجُلًا لَحَّانًا وَرُوِيَ لَحَّانَةً

بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْحَاءِ أَيْ كَثِيرَ اللَّحْنِ فِي كَلَامِهِ، وَرُوِيَ لُحْنَةً بِضَمِّ اللَّامِ وَإِسْكَانِ الْحَاءِ، وَرُوِيَ بِفَتْحِ الْحَاءِ أَيْضًا وَهُوَ بِمَعْنَى التَّسْكِينِ وَقِيلَ بَلْ هُوَ الَّذِي يُخَطِّئُ النَّاسَ قَالَ ابْنُ أَبِي عَتِيقٍ: وَكَانَ الْقَاسِمُ لِأُمِّ وَلَدٍ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ مَا لَكَ لَا تُحَدِّثَ كَمَا يَتَحَدَّثُ ابْنُ أَخِي هَذَا؟ أَمَا إنِّي قَدْ عَلِمْتُ مِنْ أَيْنَ أَتَيْتَ؟ هَذَا أَدَّبَتْهُ أُمُّهُ، وَأَنْتَ أَدَّبَتْكَ أُمُّكَ قَالَ فَغَضِبَ الْقَاسِمُ وَأَضَبَّ عَلَيْهِ. وَهُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ أَيْ حَقَدَ فَلَمَّا رَأَى مَائِدَةَ عَائِشَةَ قَدْ أُتِيَ بِهَا قَامَ، قَالَتْ أَيْنَ؟ قَالَ: أُصَلِّي. قَالَتْ: اجْلِسْ قَالَ: إنِّي أُصَلِّي، قَالَتْ: اجْلِسْ غُدَرُ إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ وَلَا وَهُوَ يُدَافِعُ الْأَخْبَثَيْنِ» غُدَرُ بِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الدَّالِ. أَيْ يَا غَادِرُ وَهُوَ تَرْكُ الْوَفَاءِ، وَيُقَالُ لِمَنْ غَدَرَ غَادِرٌ وَغُدَرُ وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي النِّدَاءِ بِالشَّتْمِ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَإِنَّمَا قَالَتْ لَهُ غُدَرُ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِاحْتِرَامِهَا لِأَنَّهَا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ وَعَمَّتُهُ وَأَكْبَرُ مِنْهُ وَنَاصِحَةٌ لَهُ وَمُؤَدِّبَةٌ فَكَانَ حَقَّهُ أَنْ يَحْتَمِلَهَا وَلَا يَغْضَبَ عَلَيْهَا انْتَهَى كَلَامُهُ وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي لِلْمُسْتَفِيدِ أَنْ يَصْبِرَ وَيَحْتَمِلَ وَلَا يَغْضَبَ لِئَلَّا يَفُوتَهُ الْعِلْمُ وَلَا يُكْثِرَ مُخَالَفَتَهُ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بَحْرًا وَكَانَ كَثِيرًا مَا يُخَالِفُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَحُرِمَ لِذَلِكَ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عِلْمًا كَثِيرًا، وَسَأَلَ ابْنُ سِيرِينَ ابْنَ عُمَرَ عَنْ إطَالَةِ الْقِرَاءَةِ فِي سُنَّةِ الْفَجْرِ، فَقَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى وَيُوتِرُ بِرَكْعَةٍ» قُلْتُ: لَسْتُ عَنْ هَذَا أَسْأَلُكَ. فَقَالَ: إنَّك لَضَخْمٌ أَلَا تَدَعُنِي أَسْتَقْرِئُ لَكَ الْحَدِيثَ؟ ثُمَّ ذَكَرَهُ فِيهِ تَأْدِيبُ السَّائِلِ وَالتِّلْمِيذِ. وَقَوْلُهُ بِهِ بِهِ بِمُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ، وَهَاءٍ سَاكِنَةٍ مُكَرَّرٍ، قِيلَ مَعْنَاهُ: مَهْ مَهْ زَجْرٌ وَكَفٌّ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: هِيَ لِتَفْخِيمِ الْأَمْرِ مَعْنَاهُ بَخٍ بَخٍ، وَقَوْلُهُ إنَّك لَضَخْمٌ إشَارَةٌ إلَى الْغَبَاوَةِ وَقِلَّةِ الْأَدَبِ لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ يَكُونُ غَالِبًا وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَطَعَ كَلَامَهُ وَعَاجَلَهُ، وَقَوْلُهُ أَسْتَقْرِئُ

بِالْهَمْزَةِ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَمَعْنَاهُ أَذْكُرُهُ عَلَى وَجْهِهِ بِكَمَالِهِ «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيَّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمَ قُلْتُ: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] . فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ: لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فصل هدي النبي في التنبيه وصراحته في التعليم

[فَصْلٌ هَدْيُ النَّبِيِّ فِي التَّنْبِيهِ وَصَرَاحَتُهُ فِي التَّعْلِيمِ] فَصْلٌ (هَدْيُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّنْبِيهِ وَصَرَاحَتُهُ فِي التَّعْلِيمِ) ذَكَرَ أَبُو الْعَالِيَةِ الْبَرَّاءُ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَبِالْمَدِّ كَانَ يَبْرِي النَّبْلَ تَأْخِيرَ ابْنِ زِيَادٍ الصَّلَاةَ ذَكَرَ ذَلِكَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ فَعَضَّ عَلَى شَفَتَيْهِ فَضَرَبَ فَخِذِي وَقَالَ: سَأَلْتُ أَبَا ذَرٍّ كَمَا سَأَلْتَنِي فَضَرَبَ فَخِذِي كَمَا ضَرَبْتُ فَخِذَكَ وَقَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا سَأَلْتَنِي فَضَرَبَ فَخِذِي كَمَا ضَرَبْتُ فَخِذَكَ وَقَالَ صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا فَإِنْ أَدْرَكْتَ الصَّلَاةَ مَعَهُمْ فَصَلِّ وَلَا تَقُلْ إنِّي قَدْ صَلَّيْتُ فَلَا أُصَلِّي» قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: قَوْلُهُ فَضَرَبَ فَخِذِي أَيْ لِلتَّنْبِيهِ وَجَمْعِ الذِّهْنِ عَلَى مَا يَقُولُهُ لَهُ. وَفِي قِصَّةِ «تَخْيِيرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِسَاءَهُ لَمَّا بَدَأَ بِعَائِشَةَ وَقَالَتْ: أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، وَأَسْأَلُكَ أَلَّا تُخْبِرَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِكَ بِاَلَّذِي قُلْتُ قَالَ: لَا تَسْأَلُنِي امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ إلَّا أَخْبَرْتُهَا، أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا وَلَا مُتَعَنِّتًا بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «لَا تُخْبِرْ نِسَاءَكَ أَنِّي اخْتَرْتُكَ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَرْسَلَنِي مُبَلِّغًا وَلَمْ يُرْسِلْنِي مُتَعَنِّتًا» .

فصل كراهة الكلام في الوساوس وخطرات المتصوفة

[فَصْلٌ كَرَاهَةُ الْكَلَامِ فِي الْوَسَاوِسِ وَخَطَرَاتِ الْمُتَصَوِّفَةِ] ِ) قَالَ الْمَرْوَزِيُّ سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَمَّنْ تَكَلَّمَ فِي الْوَسَاوِسِ وَالْخَطَرَاتِ فَنَهَى عَنْ مُجَالَسَتِهِمْ وَقَالَ لِلسَّائِلِ: احْذَرْهُمْ وَقَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: جَاءَنِي الْأَرْمِينِيُّونَ بِكِتَابٍ ذَكَرَ الْوَسْوَاسَ وَالْخَطَرَاتِ وَغَيْرَهُ قُلْتُ فَأَيَّ شَيْءٍ قُلْتَ لَهُمْ قَالَ قُلْتُ هَذَا كُلُّهُ مَكْرُوهٌ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لِلْمَرُّوذِيِّ: عَلَيْكَ بِالْعِلْمِ عَلَيْكَ بِالْفِقْهِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْخَطَرَاتِ التَّابِعُونَ تَابَعُوا التَّابِعِينَ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَرَجُلٌ يَسْأَلُهُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ رَجُلٌ غَرِيبٌ: فَذَكَرَ أَنَّ ابْنَ أَبِي الْحَوَارِيِّ. وَقَوْمًا مَعَهُ هُنَاكَ يَتَكَلَّمُونَ بِكَلَامٍ قَدْ وَضَعُوهُ فِي كِتَابٍ وَيَتَذَاكَرُونَهُ بَيْنَهُمْ. فَقَالَ: مَا هُوَ قَالَ: يَقُولُونَ الْمَحَبَّةُ لِلَّهِ أَفْضَلُ مِنْ الطَّاعَةِ، وَمَوْضِعُ الْحُبِّ دَرَجَةُ كَذَا فَلَمْ يَدَعْهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَسْتَتِمُّ كَلَامَهُ وَقَالَ هَذَا لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ، لَا يُلْتَفَتُ إلَى مَنْ قَالَ هَذَا، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ وَكَرِهَهُ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيّ: وَسُئِلَ عَنْ الْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيِّ وَكُتُبِهِ فَقَالَ لِلسَّائِلِ: إيَّاكَ وَهَذِهِ الْكُتُبَ، هَذِهِ كُتُبُ بِدَعٍ وَضَلَالَاتٍ، عَلَيْكَ بِالْأَثَرِ فَإِنَّكَ تَجِدُ فِيهِ مَا يُغْنِيكَ قِيلَ لَهُ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ عِبْرَةٌ، فَقَالَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ عِبْرَةٌ فَلَيْسَ لَهُ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ عِبْرَةٌ. بَلَغَكُمْ أَنَّ سُفْيَانَ وَمَالِكًا وَالْأَوْزَاعِيَّ صَنَّفُوا هَذِهِ الْكُتُبَ فِي الْخَطَرَاتِ وَالْوَسَاوِسِ، مَا أَسْرَعَ النَّاسَ إلَى الْبِدَعِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَحْفُوظٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ النَّهْيُ عَنْ كُتُبِ كَلَامِ مَنْصُورِ بْنِ عَمَّارٍ وَالِاسْتِمَاعِ لِلْقَاصِّ بِهِ.

قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ إنَّمَا رَأَى إمَامُنَا أَحْمَدُ النَّاسَ لَهِجِينَ بِكَلَامِهِ وَقَدْ اشْتَهَرُوا بِهِ حَتَّى دَوَّنُوهُ وَفَصَّلُوهُ مَجَالِسَ يَحْفَظُونَهَا وَيُلْقُونَهَا وَيُكْثِرُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ دِرَاسَتَهَا، فَكُرِهَ لَهُمْ أَنْ يُلْهَوْا بِذَلِكَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَيَشْتَغِلُوا بِهِ عَنْ كُتُبِ السُّنَّةِ وَأَحْكَامِ الْمِلَّةِ لَا غَيْرُ.

فصل في وعظ القصاص ونفعهم وضررهم وكذبهم

[فَصْلٌ فِي وَعْظِ الْقُصَّاصِ وَنَفْعِهِمْ وَضَرَرِهِمْ وَكَذِبِهِمْ] ْ (فِي وَعْظِ الْقُصَّاصِ وَنَفْعِهِمْ وَضَرَرِهِمْ وَكَذِبِهِمْ) قَالَ الْمَرْوَزِيُّ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ يُعْجِبُنِي الْقُصَّاصُ لِأَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ الْمِيزَانَ وَعَذَابَ الْقَبْرِ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَتَرَى الذَّهَابَ إلَيْهِمْ؟ فَقَالَ أَيْ لَعَمْرِي إذَا كَانَ صَدُوقًا لِأَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ الْمِيزَانَ وَعَذَابَ الْقَبْرِ قُلْتُ لَهُ كُنْتَ تَحْضُرُ مَجَالِسَهُمْ أَوْ تَأْتِيهِمْ قَالَ: لَا قَالَ: وَشَكَا رَجُلٌ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْوَسْوَسَةَ فَقَالَ عَلَيْكَ بِالْقُصَّاصِ، مَا أَنْفَعَ مَجَالِسِهِمْ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ مَا أَحْوَجَ النَّاسَ إلَى قَاصٍّ صَدُوقٍ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ زَكَرِيَّا التَّمَّارِ وَسُئِلَ عَنْ الْقُصَّاصِ وَالْمُعَبِّرِ فَقَالَ: يَخْرُجَ الْمُعَبِّرُ وَلَا يَخْرُجُ الْقُصَّاصُ وَقَالَ لَنَا يُعْجِبُنِي الْقَصَّاصُ فِي هَذَا الزَّمَانِ لِأَنَّهُ يَذْكُرُ الشَّفَاعَةَ وَالصِّرَاطَ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ مَا أَنْفَعَهُمْ لِلْعَامَّةِ وَإِنْ كَانَ عَامَّةُ مَا يَتَحَدَّثُونَ بِهِ كَذِبًا وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ أَكْذَبُ النَّاسِ الْقُصَّاصُ وَالسُّؤَالُ. وَسُئِلَ عَنْ مُجَالَسَةِ الْقُصَّاصِ فَقَالَ: إذَا كَانَ الْقَاصُّ صَدُوقًا فَلَا أَرَى بِمُجَالَسَتِهِ بَأْسًا. وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى فِي مَسْجِدٍ فَقَامَ سَائِلٌ فَسَأَلَ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: أَخْرِجُوهُ مِنْ الْمَسْجِدِ هَذَا يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ مُهَنَّا إنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سَأَلُوهُ عَنْ الْقَصَصِ فَرَخَّصَ فِيهِ، فَقُلْتُ لَهُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ يَقُولُ مَا أَخْرَجَنِي إلَّا الْقُصَّاصُ وَلَوْلَاهُمْ مَا خَرَجْتُ، فَقَالَ لِي يُعْجِبُنِي الْقُصَّاصُ الْيَوْمَ لِأَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ عَذَابَ الْقَبْرِ وَيُخَوِّفُونَ النَّاسَ، فَقُلْتُ لَهُ حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ قَالَ: جَاءَنَا سُفْيَانُ هَهُنَا

فَقُلْنَا نَسْتَقْبِلُ الْقُصَّاصَ بِوُجُوهِنَا؟ فَقَالَ وَلَّوْا الْبِدَعَ ظُهُورَكُمْ، فَقَالَ أَحْمَدُ: نَعَمْ هَذَا مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ. وَقَالَ أَحْمَدُ ثَنَا هِشَامٌ ثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ سَمِعْتُ كُرْدُوسَ بْنَ قَيْسٍ وَكَانَ قَاصَّ الْعَامَّةِ بِالْكُوفَةِ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ بَدْرٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَأَنْ أَقْعُدَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَجْلِسِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتِقَ أَرْبَعَ رِقَابٍ» قَالَ شُعْبَةُ. فَقُلْتُ أَيُّ مَجْلِسٍ قَالَ: كَانَ قَاصًّا. لَمْ أَجِدْ فِي كُرْدُوسٍ كَلَامًا وَعَبْدُ الْمَلِكِ مِنْ الثِّقَاتِ الْكِبَارِ وَقَالَ أَيْضًا حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ حَدَّثَنَا صَفْوَانُ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرِ بْنُ نَفِيرٍ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْكِنْدِيِّ أَنَّهُ رَكِبَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَسْأَلُهُ عَنْ ثَلَاثِ خِلَالٍ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ فَسَأَلَهُ عُمَرُ مَا أَقْدَمَكَ قَالَ لِأَسْأَلكَ عَنْ ثَلَاثٍ وَسَأَلَهُ الثَّالِثَةَ عَنْ الْقَصَصِ فَإِنَّهُمْ أَرَادُونِي عَلَى الْقَصَصِ، فَقَالَ: مَا شِئْتَ كَأَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَمْنَعَهُ قَالَ إنَّمَا أَرَدْتُ، أَنْ أَنْتَهِيَ إلَى قَوْلِكَ قَالَ: أَخْشَى عَلَيْكَ أَنْ تَقُصَّ فَتَرْتَفِعَ عَلَيْهِمْ فِي نَفْسِكَ ثُمَّ تَقُصَّ فَتَرْتَفِعَ حَتَّى يُخَيَّلَ إلَيْكَ أَنَّكَ فَوْقَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الثُّرَيَّا فَيَضَعَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَحْتَ أَقْدَامِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ إسْنَادٌ جَيِّدٌ. وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا فِي حَلْقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ فَقَالَ: تَعَالَ، فَقَالَ فَجِئْتُ. فَقَالَ: إنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَعَلَيْكَ بِحَلْقَةِ الْقُصَّاصِ. وَرَوَى أَيْضًا عَنْ زِيَادٍ النُّمَيْرِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَنَّهُ أَتَى أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: فَقَالَ لِي قُصَّ. فَقُلْتُ: كَيْفَ وَالنَّاسُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ بِدْعَةٌ، فَقَالَ لَوْ كَانَ بِدْعَةً مَا أَمَرْنَاكَ بِهِ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِدْعَةً قَالَ: فَقَصَصْتُ فَجَعَلْتُ أَكْثَرَ قِصَصِي دُعَاءً رَجَاءَ أَنْ يُؤَمِّنَ قَالَ: فَجَعَلْتُ أَقُصُّ وَهُوَ يُؤَمِّنُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ كَانَ الْحَسَنُ إذَا قَصَّ الْقَاصُّ لَمْ يَتَكَلَّمْ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ إجْلَالًا لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ مَحْمُودِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبَّادٍ الْخَوَّاصِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ مَرْفُوعًا

«لَا يَقُصُّ إلَّا أَمِيرٌ أَوْ مَأْمُورٌ أَوْ مُخْتَالٌ» عَمْرٌو تَفَرَّدَ عَنْهُ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَبَاقِيهِ جَيِّدٌ تَابَعَهُ صَالِحُ بْنُ أَبِي عَرِيبٍ عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ عَوْفٍ وَتَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ وَيُقَالُ ابْنُ زَيْدٍ وَيُقَالُ ابْنُ يَزِيدَ قَاصُّ مَسْلَمَةَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ عَنْ عَوْفٍ قَالَ فِي النِّهَايَةِ أَيْ لَا يَنْبَغِي ذَلِكَ إلَّا لِأَمِيرٍ يَعِظُ النَّاسَ وَيُخْبِرُهُمْ بِمَا مَضَى لِيَعْتَبِرُوا أَوْ مَأْمُورٍ بِذَلِكَ فَحُكْمُهُ كَالْأَمِيرِ، وَلَا يَقُصُّ تَكَسُّبًا، أَوْ يَكُونُ الْقَاصُّ مُخْتَالًا يَفْعَلُ ذَلِكَ تَكَبُّرًا عَلَى النَّاسِ أَوْ مُرَائِيًا، وَقِيلَ أَرَادَ الْخُطْبَةَ لِأَنَّ الْأُمَرَاءَ كَانُوا يَلُونَهَا وَيَعِظُونَ النَّاسَ فِيهَا وَيَقُصُّونَ عَلَيْهِمْ أَخْبَارَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ قَالَ: وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «الْقَاصُّ يَنْتَظِرُ الْمَقْتَ» لِمَا يَعْرِضُ فِي قَصَصِهِ مِنْ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ قَالَ: وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «إنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ لَمَّا قَصُّوا هَلَكُوا. وَفِي رِوَايَةٍ لَمَّا هَلَكُوا قَصُّوا» أَيْ اتَّكَلُوا عَلَى الْقَوْلِ وَتَرَكُوا الْعَمَلَ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ هَلَاكِهِمْ، أَوْ بِالْعَكْسِ لَمَّا هَلَكُوا فَتَرَكُوا الْعَمَلَ أَخْلَدُوا إلَى الْقَصَصِ. وَسُئِلَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ الْقَوْمِ يَجْتَمِعُونَ فَيَأْمُرُونَ رَجُلًا فَيَقُصُّ عَلَيْهِمْ فَقَالَ إذَا كَانَ ذَلِكَ يَوْمًا بَعْدَ الْأَيَّامِ فَلَيْسَ بِهِ بَأْسٌ وَقَالَ حَبِيبُ بْنُ الشَّهِيدِ قَالَ إنْسَانٌ لِابْنِ سِيرِينَ إنَّ أَبَا مِجْلَزٍ كَانَ لَا يَقْعُدُ إلَى الْقَاصِّ قَالَ قَعَدَ إلَيْهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ الْقَصَصُ بِدْعَةٌ وَنِعْمَ الْبِدْعَةُ، كَمْ مِنْ دُعَاءٍ مُسْتَجَابٍ وَأَخٍ مُسْتَفَادٍ وَقَالَ حَنْبَلٌ قُلْتُ لِعَمِّي فِي الْقُصَّاصِ قَالَ: الْقَصَّاصُ الَّذِي يَذْكُرُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَالتَّخْوِيفَ وَلَهُمْ نِيَّةٌ وَصِدْقُ الْحَدِيثِ، فَأَمَّا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَحْدَثُوا مِنْ وَضْعِ الْأَخْبَارِ وَالْأَحَادِيثِ فَلَا أَرَاهُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَلَوْ قُلْتُ أَيْضًا إنَّ هَؤُلَاءِ يَسْمَعُهُمْ الْجَاهِلُ وَاَلَّذِي لَا يَعْلَمُ فَلَعَلَّهُ يَنْتَفِعُ بِكَلِمَةٍ أَوْ يَرْجِعُ عَنْ أَمْرٍ، كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَكْرَهُ أَنْ يُمْنَعُوا أَوْ قَالَ رُبَّمَا جَاءُوا بِالْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ. وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ غُضَيْفِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ بَعَثَ إلَيَّ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ قَالَ يَا أَبَا أَسْمَاءَ إنَّا جَمَعْنَا النَّاسَ عَلَى أَمْرَيْنِ فَقَالَ وَمَا هُمَا قَالَ رَفْعُ الْأَيْدِي عَلَى الْمَنَابِرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْقَصَصُ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ؟ فَقَالَ أَمَا إنَّهُمَا

أَفْضَلُ بِدْعَتِكُمْ وَلَسْتُ بِمُجِيبِكُمْ إلَى شَيْءٍ مِنْهَا قَالَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَا أَحْدَثَ قَوْمٌ بِدْعَةً إلَّا رُفِعَ مِنْ السُّنَّةِ مِثْلُهَا، فَتَمَسَّكْ بِسُنَّةٍ خَيْرٌ مِنْ إحْدَاثِ بِدْعَةٍ» وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ لَا أُحِبُّ أَنْ يُمِلَّ النَّاسَ وَلَا يُطِيلَ الْمَوْعِظَةَ إذْ وَعَظَ. وَرَوَى حَنْبَلٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيّ مَاهَانَ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ مَرَّ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى قَاصٍّ فَقَامَ إلَيْهِ فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُ النَّاسِخَ مِنْ الْمَنْسُوخِ؟ قَالَ: لَا قَالَ هَلْ تَعْرِفُ الْمُحْكَمَ مِنْ الْمُتَشَابِهِ؟ قَالَ: لَا قَالَ: هَلْ تَعْرِفُ الزَّجْرَ مِنْ الْأَمْرِ؟ قَالَ: لَا. فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَرَفَعَهَا وَقَالَ إنَّ هَذَا يَقُولُ اعْرِفُونِي اعْرِفُونِي. وَبِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَالَ انْتَهَى عَلِيٌّ إلَى رَجُلٍ وَهُوَ يَقُصُّ فَقَالَ عَلِمْتَ النَّاسِخَ مِنْ الْمَنْسُوخِ؟ قَالَ: لَا قَالَ: هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ. وَعَنْ عَابِدِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِقَاصٍّ هَلْ تَعْرِفُ النَّاسِخَ مِنْ الْمَنْسُوخِ؟ قَالَ: لَا قَالَ فَعَلَامَ تَقُصُّ عَلَى النَّاسِ وَتَغُرُّهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَأَنْتَ لَا تَعْرِفُ حَلَالَ اللَّهِ مِنْ حَرَامِهِ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ إذَا سَمِعْتُمْ السَّائِلَ يُحَدِّثُ بِأَحَادِيثِ الْجَاهِلِيَّةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَاضْرِبُوهُ بِالْحَصَى. وَرَوَى ذَلِكَ الْخَلَّالُ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَكْذَبُ النَّاسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السُّؤَالُ وَالْقُصَّاصُ فَيَجِبُ مَنْعُ مَنْ يَكْذِبُ مُطْلَقًا، فَكَيْفَ إذَا كَانَ يَكْذِبُ وَيَسْأَلُ وَيَتَخَطَّى؟ وَكَيْفَ مَنْ يَكْذِبُ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ فِي مِثْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ؟ فَنَهْيُ مَنْ يَكْذِبُ مِنْ أَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ بَلْ وَيُنْهَى مَنْ رَوَى مَا لَا يَعْرِفُ أَصِدْقٌ هُوَ أَمْ كَذِبٌ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ وَلَا يَصْلُحُ لِلْكَلَامِ عَلَى الْعَوَامّ مُلْحِدٌ وَلَا أَبْلَهُ، وَكِلَاهُمَا يُفْسِدُ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ وَقَالَ: الْمَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَنْكَشِفَ قَصْدُهُ مِنْ صَفَحَاتِ وَجْهِهِ وَقَلْبِهِ أَوْ لِسَانِهِ وَقَالَ مَا أَخْوَفَنِي عَلَى مَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هِمِّهِ أَنْ تَكُونَ غَايَةَ حَظِّهِ قَالَ وَسُئِلَ عَنْ قَوْمٍ يَجْتَمِعُونَ حَوْلَ رَجُلٍ يَقْرَأُ عَلَيْهِمْ أَحَادِيثَ وَهُوَ غَيْرُ فَقِيهٍ؟ فَقَالَ هَذَا وَبَالٌ

عَلَى الشَّرْعِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَإِنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْعَوَامّ تَفَرَّقُوا عَنْ مَجْلِسٍ مِثْلِ هَذَا وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ لِبَعْضٍ اسْتَغْفِرْ مِمَّا فَعَلْتَ كَثِيرًا وَلَمْ أَعْلَمْ أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ نَهَى عَنْهُ قِيلَ لَهُ وَمَا هُوَ قَالَ كُنْتُ أَبَذْلُ مَاءَ قِرَاحِي وَأَبْذُلُ حَقِّي مِنْ الْمَاءِ وَإِذَا هُوَ قَدْ نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ قَدْ رَوَى لَنَا الشَّيْخُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُسْقِيَنَّ أَحَدُكُمْ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ» . وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ» وَقَدْ كُنْت أَشْرُطُ الْخِيَارَ لِنَفْسِي فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ ذَلِكَ، فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ إذَا وَرَدَ وَسَمِعَهُ الْعَوَامُّ كَانَ نَسْخًا عِنْدَهُمْ لِأَحْكَامِ الشَّرْعِ وَإِنَّمَا الرَّاوِي إذَا كَانَ قَادِرًا أَنْ يُبَيِّنَ خُصُوصَ الْعَامِّ الْمُخَصَّصِ وَتَقْيِيدَ الْمُطْلَقِ بِتَقْيِيدِهِ وَإِلَّا فَمُخَاطَرَةٌ، وَرُبَّمَا قَرَأَ نَفْسَ الرَّحْمَنِ مِنْ الْيَمِينِ " وَالْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ " وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ اعْتَقَدَ ظَاهِرَ هَذَا كَفَرَ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ السِّرِّ الْمَكْتُومِ لَا يَصْلُحُ لِإِيدَاعِ الْأَسْرَارِ كُلُّ أَحَدٍ وَلَا يَنْبَغِي لِمَنْ وَقَعَ بِكَنْزٍ أَنْ يَكْتُمَهُ مُطْلَقًا فَرُبَّمَا ذَهَبَ هُوَ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِالْكَنْزِ، وَكَمَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يُخَاطِبَ الْعَوَامَّ بِكُلِّ عِلْمٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَخُصَّ الْخَوَاصَّ بِأَسْرَارِ الْعِلْمِ لِاحْتِمَالِ هَؤُلَاءِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ أُولَئِكَ، وَقَدْ عُلِمَ تَفَاوُتُ الْأَفْهَامِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ} [النساء: 83] . وَقَالَ {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]

وَقَالَ {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] الْآيَةَ وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى» وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وِعَاءَيْنِ بَثَثْتُ أَحَدَهُمَا وَلَوْ بَثَثْتُ الْآخَرَ لَقُطِعَ هَذَا الْحُلْقُومُ. وَهَذَا يُشْكِلُ فَيُقَالُ كَيْفَ كَتَمَ الْعِلْمَ؟ وَلَا أَحْسِبُ هَذَا الْمَكْتُومَ إلَّا مِثْلَ قَوْلِهِ «إذَا بَلَغَ بَنُو أَبِي الْعَاصِ ثَلَاثِينَ رَجُلًا جَعَلُوا مَالَ اللَّهِ دُوَلًا» وَمِثْلَ ذِكْرِ قَتْلِ عُثْمَانَ وَمَا سَيَظْهَرُ مِنْ الْفِتَنِ. وَمِنْ التَّغْفِيلِ تَكَلُّمِ الْقُصَّاصِ عِنْدَ الْعَوَامّ الْجَهَلَةِ بِمَا لَا يَنْفَعُهُمْ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَاطَبَ الْإِنْسَانُ عَلَى قَدْرِ فَهْمِهِ وَمُخَاطَبَةُ الْعَوَامّ صَعْبَةٌ فَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَرَى رَأْيًا يُخَالِفُ فِيهِ الْعُلَمَاءَ وَلَا يَنْتَهِي. وَقَدْ رَأَيْنَا أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِوَلَدِهَا مِنْ غَيْرِ زَوْجِهَا: هَذَا زَوْجِي كَافِرٌ قَالَ: وَكَيْفَ؟ قَالَتْ: طَلَّقَنِي بُكْرَةً وَضَاجَعَنِي فِي اللَّيْلِ، فَقَالَ: أَنَا أَقْتُلُهُ وَمَا عَلِمَ أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ وَأَنَّهُ قَدْ أَشْهَدَ عَلَى ارْتِجَاعِهَا مِنْ غَيْرِ عِلْمِهَا، أَوْ أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْوَطْءَ رَجْعَةٌ وَرَأَى رَجُلٌ رَجُلًا يَأْكُلُ فِي رَمَضَانَ فَهَمَّ بِقَتْلِهِ وَمَا عَلِمَ أَنَّهُ مُسَافِرٌ فَالْوَيْلُ لِلْعُلَمَاءِ مِنْ مُقَاسَاةِ الْجَهَلَةِ. ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «مَا أَنْتَ مُحَدِّثٌ قَوْمًا حَدِيثًا لَمْ تَبْلُغْهُ عُقُولُهُمْ إلَّا كَانَ عَلَى بَعْضِهِمْ فِتْنَةً» وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُسِرُّ إلَى قَوْمٍ وَلَا يُحَادِثُ قَوْمًا وَقَالَ عَمَّنْ وَعَظَ الْعَوَامَّ لِيَحْذَرَ الْخَوْضَ فِي الْأُصُولِ فَإِنَّهُمْ لَا يَفْهَمُونَ ذَلِكَ لَكِنَّهُ يُوجِبُ الْفِتَنَ وَرُبَّمَا كَفَّرُوهُ مَعَ كَوْنِهِمْ جَهَلَةً.

وَيَنْبَغِي أَنْ يَمْدَحَ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلَا يَتَعَرَّضَ بِتَخْطِئَةِ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَقَلَّ أَنْ يَرْجِعَ ذُو هَوًى عَنْ عَصَبِيَّتِهِ وَإِنْ كَانَ عَامِّيًّا فَمَا يَسْتَفِيدُ مُكَلِّمُ النَّاسِ بِمَا قَدْ رَسَخَ فِي قُلُوبِهِمْ غَيْرُهُ إلَّا الْبُغْضَ وَالْوَقِيعَةَ فِيهِ فَإِنْ سَأَلَهُ ذُو هَوًى تَلَطَّفَ فِي الْأَمْرِ وَأَشَارَ لَهُ إلَى الصَّوَابِ، وَذَكَرْتُ مَرَّةً أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْعَلَوِيِّينَ خَرَجُوا عَلَى الْخُلَفَاءِ فَعَادَانِي الْعَلَوِيُّونَ وَقُلْتُ مَا أَسْلَمَ أَبُو طَالِبٍ فَزَادَتْ عَدَاوَتُهُمْ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْوَاعِظِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِغَيْرِ الْوَعْظِ فَإِنَّهُ يُعَادَى وَمَا يَتَغَيَّرُ ذُو عَقِيدَةٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَغْرَاضَ الْعَوَامّ لَا يَقْدِرُ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَغْيِيرِهَا فَقَدْ رَأَيْنَا مِنْ الْوُعَّاظِ مَنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالتَّشَيُّعِ ذُكِرَ يَوْمًا أَنَّ عَلَيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَوْمًا شَرِبَ الْخَمْرَ حِينَ كَانَتْ مُبَاحَةً فَهَجَرُوهُ وَسَبُّوهُ وَسُئِلَ آخَرُ هَلْ يَسْمَعُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ صَلَاةَ مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ فَقَالَ لَيْسَ هَذَا بِصَحِيحٍ فَضَجُّوا بِلَعْنَتِهِ. وَقَالَ آخَرُ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الصِّبْيَانِ عَلِيٌّ فَغَضِبَ قَوْمٌ وَقَالُوا كَأَنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ مُسْلِمًا فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ مُخَاطَبَةِ مَنْ لَا يَفْهَمُ بِمَا لَا يُحْتَمَلُ. وَقَدْ جَرَتْ فِتَنٌ بَيْنَ أَهْلِ الْكَرْخِ وَأَهْلِ بَابِ الْبَصْرَةِ سِنِينَ قُتِلَ فِيهَا مِنْ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ لِمَ قَتَلَ وَلَا الْمَقْتُولُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ لَهُمْ أَهْوَاءٌ مَعَ الصَّحَابَةِ فَاسْتَبَاحُوا بِأَهْوَائِهِمْ الْقَتْلَ فَاحْذَرْ الْعَوَامَّ كُلَّهُمْ وَالْخَلْقَ جُمْلَةً فَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: فَسَدَ الزَّمَانُ فَلَا كَرِيمٌ يُرْتَجَى ... مِنْهُ النَّوَالُ وَلَا مَلِيحٌ يُعْشَقُ.

فصل في هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكلام

[فَصْلٌ فِي هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكَلَامِ] ِ) قَالَ أَبُو دَاوُد بَابُ الْهَدْيِ فِي الْكَلَامِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى الْحَرَّانِيُّ حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ يَعْنِي ابْنَ سَلَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا جَلَسَ يَتَحَدَّثُ يُكْثِرُ أَنْ يَرْفَعَ طَرْفَهُ إلَى السَّمَاءِ» ابْنُ إِسْحَاقَ مُدَلِّسٌ، ثُمَّ رَوَى مِنْ حَدِيثِ مِسْعَرٍ سَمِعْتُ شَيْخًا فِي الْمَسْجِدِ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: «كَانَ فِي كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ تَرْتِيلٌ أَوْ تَرْسِيلٌ» . ثُمَّ رَوَى مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ عَنْ أُسَامَةَ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَلَامًا فَصْلًا يَفْهَمُهُ كُلُّ مَنْ يَسْمَعُهُ، وَقَالَتْ كَانَ يُحَدِّثُنَا حَدِيثًا لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لَأَحْصَاهُ وَقَالَتْ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ كَانَ «إذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ فَإِذَا أَتَى عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ سَلَّمَ ثَلَاثًا» .

فصل كراهة التشدق في الكلام

[فَصْلٌ كَرَاهَةُ التَّشَدُّقِ فِي الْكَلَامِ] ِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبْغِضُ الْبَلِيغَ مِنْ الرِّجَالِ الَّذِي يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ كَمَا تَتَخَلَّلُ الْبَقَرُ بِلِسَانِهَا» إسْنَادُهُ جَيِّدٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ قَالَ فِي النِّهَايَةِ هُوَ الَّذِي يَتَشَدَّقُ فِي الْكَلَامِ وَيُفَخِّمُ بِهِ لِسَانَهُ وَيَلُفُّهُ كَمَا تَلُفُّ الْبَقَرَةُ الْكَلَأَ بِلِسَانِهَا لَفًّا، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْ أَبِي غَسَّانَ مُحَمَّدِ بْنِ مُطَرِّفٍ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْحَيَاءُ وَالْعِيُّ شُعْبَتَانِ مِنْ الْإِيمَانِ، وَالْبَذَاءُ وَالْبَيَانُ شُعْبَتَانِ مِنْ النِّفَاقِ» كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ. وَفِي أَطْرَافِ الْحَافِظِ ابْنِ عَسَاكِرَ حَسَّانُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَإِنَّمَا جُعِلَ الْحَيَاءُ وَهُوَ غَرِيزَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ وَهُوَ اكْتِسَابٌ لِأَنَّ الْمُسْتَحْيِي يَنْقَطِعُ بِحَيَائِهِ عَنْ الْمَعَاصِي فَصَارَ كَالْإِيمَانِ الَّذِي يَقْطَعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ بَعْضَهُ لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَنْقَسِمُ إلَى ائْتِمَارِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَانْتِهَاءٍ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ. فَإِذَا حَصَلَ الِانْتِهَاءُ بِالْحَيَاءِ كَانَ بَعْضَ الْإِيمَانِ، وَالْعِيُّ قِلَّةُ الْكَلَامِ، وَالْبَذَاءُ الْفُحْشُ فِي الْكَلَامِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ خِرَاشٍ الْبَغْدَادِيُّ ثَنَا حَسَّانُ بْنُ هِلَالٍ ثَنَا مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنِي عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ وَالْمُتَفَيْهِقُونَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارِينَ وَالْمُتَشَدِّقِينَ فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ؟ قَالَ: الْمُتَكَبِّرُونَ» مُبَارَكٌ ثِقَةٌ تَكَلَّمَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْ جِهَةِ التَّدْلِيسِ وَقَدْ زَالَ قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ مُبَارَكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ وَلَمْ يَذْكُرْ عَبْدَ رَبِّهِ وَهَذَا أَصَحُّ قَالَ فِي النِّهَايَةِ الثَّرْثَارُ الَّذِي يُكْثِرُ الْكَلَامَ تَكَلُّفًا وَخُرُوجًا عَنْ

الْحَقِّ، وَالثَّرْثَرَةُ كَثْرَةُ الْكَلَامِ وَتَرْدِيدُهُ. وَالْمُتَشَدِّقُ الْمُتَوَسِّعُ فِي الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاطٍ وَاحْتِرَازٍ، وَقِيلَ الْمُسْتَهْزِئُ بِالنَّاسِ يَلْوِي شِدْقَهُ بِهِمْ وَعَلَيْهِمْ قَالَ وَالْمُتَفَيْهِقُ الَّذِي يَتَوَسَّعُ فِي الْكَلَامِ وَيَفْتَحُ فَاهُ بِهِ مَأْخُوذٌ مِنْ الْفَهْقِ وَهُوَ الِامْتِلَاءُ الِاتِّسَاعُ يُقَالُ أَفْهَقْتُ الْإِنَاءَ فَفَهِقَ يَفْهَقُ فَهْقًا. ثُمَّ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي هَذَا الْبَابِ وَهُوَ بَابُ مَا جَاءَ فِي الْمُتَشَدِّقِ فِي الْكَلَامِ ثَنَا ابْنُ السَّرْحِ أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ الضَّحَّاكِ بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ تَعَلَّمَ صَرْفَ الْكَلَامِ لِيَسْبِيَ بِهِ قُلُوبَ الرِّجَالِ أَوْ النَّاسِ لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا» عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُسَيِّبِ تَفَرَّدَ عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَصَرْفُ الْحَدِيثِ مَا يَتَكَلَّفُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ الزِّيَادَةِ فِيهِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ وَإِنَّمَا كُرِهَ لِمَا يَدْخُلُهُ مِنْ الرِّيَاءِ وَالتَّصَنُّعِ وَلِمَا يُخَالِطُهُ مِنْ الْكَذِبِ وَالتَّزَيُّدِ. يُقَالُ فُلَانٌ لَا يُحْسِنُ صَرْفَ الْكَلَامِ أَيْ فَضْلُ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ، وَهُوَ مِنْ صَرْفِ الدَّرَاهِمِ وَتَفَاضُلِهَا ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ. وَالصَّرْفُ التَّوْبَةُ وَقِيلَ النَّافِلَةُ وَالْعَدْلُ الْفِدْيَةُ وَقِيلَ الْفَرِيضَةُ وَتَكَرَّرَتْ هَاتَانِ اللَّفْظَتَانِ فِي الْحَدِيثِ. وَرَوَى أَيْضًا ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ أَنَّهُ قَرَأَ فِي أَصْلِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ وَحَدَّثَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ ابْنَهُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنِي ضَمْضَمٌ عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا أَبُو طِيبَةَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ قَالَ يَوْمًا وَقَالَ رَجُلٌ فَأَكْثَرَ الْقَوْلَ فَقَالَ عَمْرُو لَوْ قَصَدَ فِي قَوْلِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «أُمِرْتُ أَنْ أَتَجَوَّزَ فِي الْقَوْلِ فَإِنَّ الْجَوَازَ هُوَ خَيْرٌ» مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ لَيْسَ بِذَاكَ وَضَمْضَمٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَعَنْ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِينَ يُشَقِّقُونَ الْكَلَامَ تَشْقِيقَ الشِّعْرِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَدِمَ رَجُلَانِ مِنْ الْمَشْرِقِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَطَبَا فَعَجِبَ النَّاسُ لِبَيَانِهِمَا فَقَالَ «إنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا أَوْ إنَّ مِنْ بَعْضِ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمْ قَالَ فِي النِّهَايَةِ أَيْ مِنْهُ مَا يَصْرِفُ قُلُوبَ السَّامِعِينَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ حَقٍّ وَقِيلَ مَعْنَاهُ

إنَّ مِنْ الْبَيَانِ مَا يُكْتَسَبُ بِهِ مِنْ الْإِثْمِ مَا يَكْتَسِبُهُ السَّاحِرُ بِسِحْرِهِ فَيَكُونُ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ لِأَنَّهُ تُسْتَمَالُ بِهِ الْقُلُوبُ وَيَتَرَضَّى بِهِ السَّاخِطُ وَيُسْتَنْزَلُ بِهِ الصَّعْبُ. وَالسِّحْرُ فِي كَلَامِهِمْ صَرْفُ الشَّيْءِ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ تَأَوَّلَتْهُ طَائِفَةٌ عَلَى الذَّمِّ لِأَنَّ السِّحْرَ مَذْمُومٌ وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَجَمَاعَةُ أَهْلِ الْأَدَبِ إلَى أَنَّهُ عَلَى الْمَدْحِ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَدَحَ الْبَيَانَ وَأَضَافَهُ إلَى الْقُرْآنِ. قَالَ وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِرَجُلٍ سَأَلَهُ عَنْ حَاجَةٍ فَأَحْسَنَ الْمَسْأَلَةَ فَأَعْجَبَهُ قَوْلُهُ فَقَالَ هَذَا وَاَللَّهِ السِّحْرُ الْحَلَالُ قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْعَبَّاسِ الرُّومِيُّ: وَحَدِيثُهَا السِّحْرُ الْحَلَالُ لَوْ أَنَّهَا ... لَمْ تَجْنِ قَتْلَ الْمُسْلِمِ الْمُتَحَرِّزِ وَقَالَ الْحَسَنُ الرِّجَالُ ثَلَاثَةٌ رَجُلٌ بِنَفْسِهِ وَرَجُلٌ بِلِسَانِهِ وَرَجُلٌ بِمَالِهِ وَنَظَرَ مُعَاوِيَةُ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَتْبَعَهُ بَصَرَهُ ثُمَّ قَالَ مُتَمَثِّلًا: إذَا قَالَ لَمْ يَتْرُكْ مَقَالًا لِقَائِلٍ ... مُصِيبٍ وَلَمْ يَثْنِ اللِّسَانَ عَلَى هُجْرِ يُصَرِّفُ بِالْقَوْلِ اللِّسَانَ إذَا انْتَحَى ... وَيَنْظُرُ فِي أَعْطَافِهِ نَظَرَ الصَّقْرِ وَلِحَسَّانٍ فِي ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إذَا قَالَ لَمْ يَتْرُكْ مَقَالًا لِقَائِلِ ... بِمُلْتَقَطَاتٍ لَا تَرَى بَيْنَهَا فَصْلًا شَفَى وَكَفَى مَا فِي النُّفُوسِ فَلَمْ يَدَعْ ... لِذِي إرْبَةٍ فِي الْقَوْلِ جِدًّا وَلَا هَزْلَا قَالَ أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى ثَنَا فَارِسُ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ ثَنَا أَبُو تُمَيْلَةَ حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ النَّحْوِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ ثَابِتٍ حَدَّثَنِي صَخْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «إنَّ مِنْ الْبَيَانِ سِحْرًا، وَإِنَّ مِنْ الْعِلْمِ جَهْلًا، وَإِنَّ مِنْ الشِّعْرِ حِكَمًا، وَإِنَّ مِنْ الْقَوْلِ عِيَالًا» فَقَالَ صَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ صَدَقَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَّا قَوْلُهُ «إنَّ مِنْ الْبَيَانِ سِحْرًا» فَالرَّجُلُ يَكُونُ عَلَيْهِ الْحَقُّ وَهُوَ أَلَحْنُ بِالْحُجَجِ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ فَيَسْحَرُ الْقَوْمَ بِبَيَانِهِ فَيَذْهَبُ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ " إنَّ مِنْ الْعِلْمِ جَهْلًا ".

فَتَكَلُّفُ الْعَالِمِ إلَى عِلْمِ مَا لَا يَعْلَمُهُ فَيُجْهِلُهُ ذَلِكَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ مِنْ الشِّعْرِ حِكَمًا " فَهِيَ هَذِهِ الْمَوَاعِظُ وَالْأَمْثَالُ الَّتِي يَتَّعِظُ بِهَا النَّاسُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ مِنْ الْقَوْلِ عِيَالًا " فَعَرْضُكَ كَلَامَكَ وَحَدِيثَكَ عَلَى مَنْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ وَلَا يُرِيدُهُ، وَقَدْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ «لَا تُحَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ» وَقَوْلُهُ «لَا تُعْطُوا الْحِكْمَةَ غَيْرَ أَهْلِهَا فَتَظْلِمُوهَا وَلَا تَمْنَعُوهَا أَهْلَهَا فَتَظْلِمُوهُمْ» قَالَ وَقَدْ ضُرِبَ لِذَلِكَ مَثَلٌ أَنَّهُ كَتَعْلِيقِ اللَّآلِئِ فِي أَعْنَاقِ الْخَنَازِيرِ وَيَأْتِي بِنَحْوِ كُرَّاسَةٍ مَنْ حَدَّثَ النَّاسَ بِمَا لَا تَحْتَمِلُهُ عُقُولُهُمْ أَبُو جَعْفَرٍ تَفَرَّدَ عَنْهُ أَبُو تُمَيْلَةَ وَأَمَّا صَعْصَعَةُ فَثِقَةٌ شَهِدَ صِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ أَمِيرًا وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ فِي " إنَّ مِنْ الْعِلْمِ جَهْلًا " قِيلَ هُوَ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كَالنُّجُومِ وَعُلُومِ الْأَوَائِلِ وَيَدْعُ مَا يَحْتَاجُهُ فِي دِينِهِ مِنْ عِلْمِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ قَالَ وَالْحُكْمُ الْعِلْمُ وَالْفِقْهُ وَالْقَضَاءُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ مَصْدَرُ حَكَمَ يَحْكُمُ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ «إنَّ مِنْ الشِّعْرِ حِكْمَةً» قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَهِيَ الْحِكَمُ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «الصَّمْتُ حِكَمٌ وَقَلِيلٌ فَاعِلُهُ» وَقَالَ «إنَّ مِنْ الْقَوْلِ عَيْلًا» يُقَالُ عِلْتُ الضَّالَّةَ أَعِيلُ عَيْلًا إذَا لَمْ تَدْرِ أَيَّ جِهَةٍ تَبْغِيهَا كَأَنَّهُ لَمْ يَهْتَدِ لِمَنْ يَطْلُبُ كَلَامَهُ فَعَرَضَهُ عَلَى مَنْ لَا يُرِيدُهُ. وَلِلشَّافِعِيِّ عَنْ عُرْوَةَ مُرْسَلًا «الشِّعْرُ كَلَامٌ فَحَسَنُهُ حَسَنٌ وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ» وَصَلَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِذِكْرِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَلِأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا حَتَّى يَرِيَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا» وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ «بَيْنَمَا نَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ عَرَضَ شَاعِرٌ يَنْشُدُ فَقَالَ خُذُوا الشَّيْطَانَ أَوْ أَمْسِكُوا الشَّيْطَانَ لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا» وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " امْرُؤُ الْقِيسِ صَاحِبُ لِوَاءِ الشُّعَرَاءِ إلَى النَّارِ ". وَعَنْ الشَّرِيدِ قَالَ «كُنْتُ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا فَقَالَ هَلْ مَعَكَ

مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ قُلْتُ نَعَمْ فَأَنْشَدْتُهُ بَيْتًا فَقَالَ هِيهِ فَأَنْشَدْتُهُ بَيْتًا فَقَالَ هِيهِ فَأَنْشَدْتُهُ بَيْتًا قَالَ هِيهِ حَتَّى أَنْشَدْتُهُ مِائَةَ بَيْتٍ فَقَالَ لَقَدْ كَادَ أَنْ يُسْلِمَ فِي شِعْرِهِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا «وَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَقُولُ: خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ ... الْيَوْمَ نَضْرِبْكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ ... وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَا ابْنَ رَوَاحَةَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي حَرَمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تَقُولُ الشِّعْرَ قَالَ خَلِّ عَنْهُ يَا عُمَرُ فَلَهِيَ أَسْرَعُ فِيهِمْ مِنْ نَضْحِ النَّبْلِ» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ وَقَدْ رَوَى فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ «أَنَّهُ دَخَلَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ» وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ لِأَنَّ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ كَانَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ «وَقَالَ لَهُ الْأَسْوَدُ بْنُ سَرِيعٍ إنِّي قَدْ حَمِدْتُ رَبِّي بِمَحَامِدِ مَدْحٍ وَإِيَّاكَ، فَقَالَ أَمَا إنَّ رَبَّكَ يُحِبُّ الْمَدْحَ فَهَاتِ مَا امْتَدَحْتَ بِهِ رَبَّكَ عَزَّ وَجَلَّ فَأَنْشَدْتُهُ فَاسْتَأْذَنَ رَجُل فَاسْتَنْصَتَنِي لَهُ فَتَكَلَّمَ سَاعَةً ثُمَّ خَرَجَ، فَأَنْشَدْتُهُ ثُمَّ رَجَعَ فَاسْتَنْصَتَنِي فَقُلْتُ مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ هَذَا رَجُلٌ لَا يُحِبُّ الْبَاطِلَ هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ ثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَأَكْثَرُهُمْ لَيَّنَهُ. وَرَوَى لَهُ مُسْلِمٌ، وَاقْتَصَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَلَى ذِكْرِ مَنْ ضَعَّفَهُ عَقِبَ هَذَا الْخَبَرِ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ عَنْ يُونُسَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْهُ قَالَ ابْنُ مَعِينٍ وَابْنُ الْمَدِينِيِّ لَمْ يَسْمَعْ الْحَسَنُ مِنْ الْأَسْوَدِ وَعَنْ الْبَرَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِحَسَّانَ يَوْمَ قُرَيْظَةَ «اُهْجُ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّ جِبْرِيلَ مَعَكَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ هَجَاهُمْ حَسَّانُ فَشَفَى وَأَشْفَى. وَرَوَى أَحْمَدُ ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ

عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَنْزَلَ فِي الشِّعْرِ مَا أَنْزَلَ فَقَالَ «إنَّ الْمُؤْمِنَ يُجَاهِدُ بِسَيْفِهِ وَلِسَانِهِ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَكَأَنَّ مَا تَرْمُونَهُمْ بِهِ نَضْحُ النَّبْلِ» حَدِيثٌ صَحِيحٌ ثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ ثَنَا شَرِيكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُرَادِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ قَالَ عَمَّارٌ «لَمَّا هَجَانَا الْمُشْرِكُونَ شَكَوْنَا ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: قُولُوا لَهُمْ كَمَا يَقُولُونَ لَكُمْ فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا نُعَلِّمُهُ إمَاءَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ» مُحَمَّدٌ لَمْ أَجِدْ لَهُ تَرْجَمَةً، وَبَاقِيهِ حَسَنٌ وَسَبَقَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَعْظِ أَيْضًا فِي أَوَائِلِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى الْوُلَاةِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إلَّا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ» . وَفِي لَفْظِ «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاغْدُوَا وَرَوِّحُوا، وَشَيْئًا مِنْ الدُّلْجَةِ وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا» رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ " الدِّينُ " مَرْفُوع عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَرُوِيَ مَنْصُوبًا " لَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدًا " وَقَوْلُهُ: " إلَّا غَلَبَهُ " أَيْ غَلَبَهُ الدِّينُ لِكَثْرَةِ طُرُقِهِ وَالْغَدْوَةُ أَوَّلُ النَّهَارِ وَالرَّوْحَةُ آخِرُهُ وَالدُّلْجَةُ آخِرُ اللَّيْلِ وَالْمُرَادُ الْعَمَلُ وَقْتَ النَّشَاطِ وَالْفَرَاغِ كَمَا أَنَّ الْمُسَافِرَ يَسِيرُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لِلْيُسْرِ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ قَالَهَا ثَلَاثًا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. الْمُتَنَطِّعُونَ الْمُبَالِغُونَ فِي الْأُمُورِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد (فِي بَابِ الْحَسَدِ) ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الْعَمْيَاءِ أَنَّ سَهْلَ بْنَ أَبِي أُمَامَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ دَخَلَ هُوَ وَأَبُوهُ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي الْمَدِينَةِ فَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَانَ يَقُولُ: «لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ يُشَدِّدْ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارِ {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد: 27] » إسْنَادٌ جَيِّدٌ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ: «مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ أَمْرَيْنِ إلَّا

اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إثْمًا وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِنَفْسِهِ قَطُّ إلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ» ، زَادَ مُسْلِمٌ «وَمَا ضَرَبَ شَيْئًا بِيَدِهِ وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا إلَّا أَنْ يَكُونَ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ «يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا» رَوَى أَحْمَدُ حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ الْخُزَاعِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو هِلَالٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ الْعَدَوِيِّ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «إنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ» وَرَوَى أَيْضًا حَدَّثَنَا يَزِيدُ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَدْيَانِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ قَالَ الْحَنِيفَةُ السَّمْحَةُ» وَذَكَرَهُ فِي الْمُخْتَارَةِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ مُدَلِّسٌ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «مَثَلُ الَّذِي يَجْلِسُ لِيَسْمَعَ الْحِكْمَةَ ثُمَّ لَا يُحَدِّثُ عَنْ صَاحِبٍ إلَّا بِشَرِّ مَا يَسْمَعُ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى رَاعِيًا فَقَالَ يَا رَاعٍ اخْتَرْ لِي شَاةً مِنْ غَنَمِكَ قَالَ: اذْهَبْ فَخُذْ بِأُذْنِ خَيْرِهَا فَذَهَبَ فَأَخَذَ بِأُذْنِ كَلْبِ الْغَنَمِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ مَرْفُوعًا «لَا يُدْرِكُنِي زَمَانٌ وَلَا تُدْرِكُوا زَمَانًا لَا يُتَّبَعُ فِيهِ الْعِلْمُ وَلَا يُسْتَحْيَى فِيهِ مِنْ الْحَكِيمِ، قُلُوبُهُمْ الْأَعَاجِمُ وَأَلْسِنَتُهُمْ أَلْسِنَةُ الْعَرَبِ» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «إذَا تَمَنَّى أَحَدُكُمْ فَلِيَنْظُرْ مَا يَتَمَنَّى فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا كُتِبَ لَهُ مِنْ أَمْنِيَّتِهِ» رَوَاهُمَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ.

فصل في قراءة التوراة والإنجيل والزبور ونحو ذلك كما يفعله بعض القصاص

[فَصْلٌ فِي قِرَاءَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْقُصَّاصِ] ِ) سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ فَغَضِبَ فَقَالَ: هَذِهِ مَسْأَلَةُ مُسْلِمٍ؟ وَغَضِبَ. وَظَاهِرُهُ الْإِنْكَارُ وَذَكَرَهُ الْقَاضِي ثُمَّ احْتَجَّ بِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَمَّا رَأَى فِي يَدِ عُمَرَ قِطْعَةً مِنْ التَّوْرَاةِ غَضِبَ وَقَالَ أَلَمْ آتِ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً» ؟ الْحَدِيثَ، وَهُوَ مَشْهُورٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ وَهُوَ مِنْ رِوَايَة مُجَالِدٍ وَجَابِرٍ الْجُعْفِيِّ وَهُمَا ضَعِيفَانِ وَلِأَنَّهَا كُتُبٌ مُبَدَّلَةٌ مُغَيَّرَةٌ فَلَمْ تَجُزْ قِرَاءَتُهَا وَالْعَمَلُ عَلَيْهَا. قَالَ وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ جَرَتْ بَيْنَ شُيُوخِنَا الْعُكْبَرِيِّينَ فَكَانَ ابْنُ هُرْمُزَ وَالِدُ الْقَاضِي أَبِي الْحُسَيْنِ يَقُصُّ بِهَذِهِ الْكُتُبِ وَكَانَتْ مُعَرَّبَةً فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ ذَلِكَ وَصَنَّفَ فِيهِ جُزْءًا ذَكَرَ مَا حَكَيْنَا مِنْ رِوَايَةِ إِسْحَاقَ وَذَكَرَ فِيهِ أَيْضًا عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةَ ابْنِ أَبِي يَحْيَى النَّاقِدِ قَالَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ يَقُولُ: الِاشْتِغَالُ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ الْقَدِيمَةِ يَقْطَعُ عَنْ الْعِلْمِ وَذَكَرَ حَدِيثَ عُمَرَ. وَذَكَرَ أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ مَسْجِدَ دِمَشْقَ فَإِذَا كَعْبٌ يَقُصُّ. فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَنْ قَصَّ بِغَيْرِ كِتَابِ اللَّهِ وَسَنَةِ نَبِيِّهِ فَاضْرِبُوا رَأْسَهُ» فَمَا رُئِيَ كَعْبٌ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ بَعْدُ. وَبِإِسْنَادِهِ أَنَّ رَجُلًا أَهْدَى إلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - هَدِيَّةً، فَقَالَتْ:

وَلَا حَاجَةَ لِي فِي هَدِيَّتِهِ بَلَغَنِي أَنَّهُ يَتَتَبَّعُ الْكُتُبَ الْأُوَلَ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51] . ذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ الْجَامِعِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَالْمُصْحَفِ، وَسَبَقَ أَوَّلَ الْكِتَابِ فِي بَيَانِ الْكَذِبِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ» وَكَلَامُ

فصل في التخول بالموعظة خشية الملل

أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. [فَصْلٌ فِي التَّخَوُّلِ بِالْمَوْعِظَةِ خَشْيَةَ الْمَلَلِ] ِ) فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يُذَكِّرُ كُلَّ خَمِيسٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إنَّا نُحِبُّ حَدِيثَكَ وَنَشْتَهِيهِ وَلَوَدِدْنَا أَنَّكَ حَدَّثَتْنَا كُلَّ يَوْمٍ، فَقَالَ مَا يَمْنَعُنِي أَنْ أُحَدِّثَكُمْ إلَّا كَرَاهِيَةٌ أَنْ أُمِلَّكُمْ «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا» . وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيّ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ حَدِّثْ النَّاسَ مَا أَقْبَلَتْ عَلَيْكَ قُلُوبُهُمْ إذَا حَدَّقُوكَ بِأَبْصَارِهِمْ وَإِذَا انْصَرَفَتْ عَنْكَ قُلُوبُهُمْ فَلَا تُحَدِّثْهُمْ، وَذَلِكَ إذَا اتَّكَأَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَقَالَ عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدِّثْ النَّاسَ كُلَّ جُمُعَةٍ مَرَّةً فَإِنْ أَكْثَرْتَ فَمَرَّتَيْنِ، فَإِنْ أَكْثَرْتَ فَثَلَاثًا وَلَا تُمِلَّ النَّاسَ مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ وَلْتَأْتِ الْقَوْمَ وَهُمْ فِي حَدِيثٍ فَتَقْطَعَ عَلَيْهِمْ حَدِيثَهُمْ وَقَالَ: أَنْصِتْ فَإِذَا أَمَرُوكَ فَحَدِّثْهُمْ وَهُمْ يَشْتَهُونَهُ، وَإِيَّاكَ وَالسَّجْعَ فِي الدُّعَاءِ فَإِنِّي عَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ لَا يَفْعَلُونَهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: أَيُّهَا النَّاسُ لَا تُبَغِّضُوا اللَّهَ إلَى عِبَادِهِ، فَقِيلَ كَيْفَ ذَاكَ أَصْلَحَكَ اللَّهُ قَالَ يَجْلِسُ أَحَدُكُمْ قَاصًّا فَيُطَوِّلُ عَلَى النَّاسِ حَتَّى يُبَغِّضَ إلَيْهِمْ مَا هُمْ فِيهِ، وَيَقُومُ أَحَدُكُمْ إمَامًا فَيُطَوِّلُ عَلَى النَّاسِ حَتَّى يُبَغِّضَ إلَيْهِمْ مَا هُمْ فِيهِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لِعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ إيَّاكَ وَإِمْلَالَ النَّاسِ وَتَقْنِيطَهُمْ وَكَانَ الزُّهْرِيُّ إذَا سُئِلَ عَنْ الْحَدِيثِ يَقُولُ أَحْمِضُوا أَخْلِطُوا الْحَدِيثَ بِغَيْرِهِ حَتَّى تَنْفَتِحَ النَّفْسُ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ نَقْلُ الصَّخْرِ أَيْسَرُ مِنْ تَكْرِيرِ الْحَدِيثِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كَانَ يُقَالُ سِتَّةٌ إذَا أُهِينُوا فَلَا يَلُومُوا أَنْفُسَهُمْ: الذَّاهِبُ إلَى مَائِدَةٍ لَمْ يُدْعَ إلَيْهَا وَطَالِبُ الْفَضْلِ مِنْ اللِّئَامِ. وَالدَّاخِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي حَدِيثِهِمَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُدْخِلَاهُ فِيهِ، وَالْمُسْتَخِفُّ بِالسُّلْطَانِ، وَالْجَالِسُ مَجْلِسًا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ، وَالْمُقْبِلُ بِحَدِيثِهِ عَلَى مَنْ لَا يُسْمَعُ مِنْهُ وَلَا يُصْغِي إلَيْهِ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ: كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: إنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ تَمَلُّ كَمَا تَمَلُّ الْأَبْدَانُ: فَابْتَغَوْا لَهَا طَرَائِفَ الْحِكْمَةِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَرِيحُوا الْقُلُوبَ فَإِنَّ الْقَلْبَ إذَا كَرِهَ عَمِيَ وَقَالَ أَيْضًا: إنَّ لِلْقُلُوبِ شَهْوَةً وَإِقْبَالًا، وَفَتْرَةً وَإِدْبَارًا. فَخُذُوهَا عِنْدَ شَهْوَتِهَا وَإِقْبَالِهَا، وَذَرُوهَا عِنْدَ فَتْرَتِهَا وَإِدْبَارِهَا. وَفِي صُحُفِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَلَاثُ سَاعَاتٍ سَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ. وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٌ يُخَلِّي فِيهَا بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ لَذَّاتِهَا فِيمَا يَحِلُّ وَيَجْمُلُ، فَإِنَّ هَذِهِ السَّاعَةَ عَوْنٌ لَهُ عَلَى سَائِرِ السَّاعَاتِ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ تَحَدَّثُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَتَجَالَسُوا، وَإِذَا مَلَلْتُمْ فَحَدِيثٌ مِنْ أَحَادِيثِ الرِّجَالِ حَسَنٌ جَمِيلٌ وَقَالَ أَيْضًا لِابْنِهِ عَبْدِ الْمَلِكِ يَا بُنَيَّ إنَّ نَفْسِي مَطِيَّتِي وَإِنْ حَمَلْتُ عَلَيْهَا فَوْقَ الْجَهْدِ قَطَعْتُهَا. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: حَادِثُوا هَذِهِ الْقُلُوبَ بِالذِّكْرِ فَإِنَّهَا تَصْدَأُ كَمَا يَصْدَأُ الْحَدِيدُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ تَصْدَأُ كَمَا يَصْدَأُ الْحَدِيدُ قَالُوا فَمَا جِلَاؤُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ» وَكَانَ يُقَالُ: التَّفَكُّرُ نُورٌ وَالْغَفْلَةُ ظُلْمَةٌ. وَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ قَوْلُ سَلْمَانَ لِأَبِي الدَّرْدَاءِ: إنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِك عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " صَدَقَ سَلْمَانُ " وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سُنَيْدٍ قَالَ: لَا تَنْسَى شَيْئًا فَتَقُولُ: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32] . إلَّا ذُكِّرْتَهُ وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ إذَا جَلَسَ مَجْلِسَهُ لَا يَنْطِقُ بِشَيْءٍ حَتَّى يَقُولَهَا.

وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ الْأَعْمَشِ: جَوَابُ الْأَحْمَقِ السُّكُوتُ عَنْهُ وَقَالَ الْأَعْمَشُ: السُّكُوتُ جَوَابٌ وَالتَّغَافُلُ يُطْفِئُ شَرًّا كَثِيرًا، وَرِضَى الْمُتَجَنِّي غَايَةٌ لَا تُدْرَكُ، وَاسْتِعْطَافُ الْمُحِبِّ عَوْنٌ لِلظَّفَرِ، وَمَنْ غَضِبَ عَلَى مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ طَالَ حُزْنُهُ.

فصل في حكم اجتماع الناس للذكر والدعاء ورفع الصوت به ومتى يكون بدعة

[فَصْلٌ فِي حُكْمِ اجْتِمَاعِ النَّاسِ لِلذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ بِهِ وَمَتَى يَكُونُ بِدْعَةً] فَصْلٌ حُكْمِ اجْتِمَاعِ النَّاسِ لِلذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ بِهِ وَمَتَى يَكُونُ بِدْعَةً قَالَ: مُهَنَّا: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يَجْلِسُ إلَى الْقَوْمِ فَيَدْعُو هَذَا وَيَدْعُو هَذَا، وَيَقُولُونَ لَهُ: اُدْعُ أَنْتَ. فَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا هَذَا وَقَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: يُكْرَهُ أَنْ يَجْتَمِعَ الْقَوْمُ يَدْعُونَ وَيَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ؟ فَقَالَ: مَا أَكْرَهُهُ لِلْإِخْوَانِ إذَا لَمْ يَجْتَمِعُوا عَلَى عَمْدٍ إلَّا أَنْ يَكْثُرُوا. قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ: قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ كَمَا قَالَ وَإِنَّمَا مَعْنَى إلَّا أَنْ يَكْثُرُوا إلَّا أَنْ يَتَّخِذُوهَا عَادَةً حَتَّى يَكْثُرُوا. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ مِهْرَانَ سَأَلْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ وَأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ قُلْتُ: إنَّ عِنْدَنَا قَوْمًا يَجْتَمِعُونَ فَيَدْعُونَ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى فَمَا تَرَى فِيهِمْ قَالَ: فَأَمَّا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ فَقَالَ: يَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ وَيَدْعُو بَعْدَ صَلَاةٍ وَيَذْكُرُ اللَّهَ فِي نَفْسِهِ. قُلْتُ: فَأَخٌ لِي يَفْعَلُ هَذَا قَالَ: انْهَهُ قُلْتُ: لَا يَقْبَلُ قَالَ: عِظْهُ قُلْتُ: لَا يَقْبَلُ، أَهْجُرُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. ثُمَّ أَتَيْتُ أَحْمَدَ حَكَيْتُ لَهُ نَحْوَ هَذَا الْكَلَامِ فَقَالَ لِي أَحْمَدُ أَيْضًا: يَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ وَيَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى فِي نَفْسِهِ. وَيُطْلَبُ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْتُ: فَأَنْهَاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ قَالَ: بَلَى إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّ هَذَا مُحْدَثٌ، الِاجْتِمَاعُ وَاَلَّذِي تَصِفُ قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَهْجُرُهُ؟ فَتَبَسَّمَ وَسَكَتَ. وَعَنْ مَعْمَرٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ

قَالَ: فَخَرَجَ يَوْمًا وَقَرَأَ وَجَهَرَ بِصَوْتِهِ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ لَهُ فَقَالَ لَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: فَتَنْت النَّاسَ قَالَ: فَدَخَلَ. وَسَأَلَهُ الْمَرُّوذِيُّ عَنْ الْقَوْمِ يَجْتَمِعُونَ فَيَقْرَأُ قَارِئٌ وَيَدْعُونَ حَتَّى يُصْبِحُوا؟ قَالَ: أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: كُنْت أُصَلِّي فَرَأَيْت إلَى جَنْبِي رَجُلًا عَلَيْهِ كِسَاءٌ، وَمَعَهُ نَفْسَانِ يَدْعُوَانِ فَدَنَوْت فَدَعَوْت مَعَهُمْ، فَلَمَّا قُمْت رَأَيْت جَمَاعَةً يَدْعُونَ فَأَرَدْت أَنْ أَعْدِلَ إلَيْهِمْ وَلَوْلَا مَخَافَةُ الشُّهْرَةِ لَقَعَدْت مَعَهُمْ. وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ أَحْسَنُ مِنْ أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ فَيُصَلُّوا وَيَذْكُرُوا مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَتْ الْأَنْصَارُ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ ثَنَا إسْمَاعِيلُ ثَنَا أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: نُبِّئْت أَنَّ الْأَنْصَارَ قَبْلَ قُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ قَالُوا: لَوْ نَظَرْنَا يَوْمًا فَاجْتَمَعْنَا فِيهِ، فَذَكَرْنَا هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْنَا، وَذُكِرَ الْحَدِيثُ وَفِيهِ أَنَّهُمْ اجْتَمَعُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي بَيْتِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ وَذُبِحَتْ لَهُمْ شَاةٌ وَكَفَتْهُمْ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: فَقَيَّدَ أَحْمَدُ الِاجْتِمَاعَ عَلَى الدُّعَاءِ إذَا لَمْ يُتَّخَذْ عَادَةً، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ لَمَّا اتَّخَذَ أَصْحَابُهُ مَكَانًا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ لِلذِّكْرِ، فَخَرَجَ إلَيْهِمْ فَقَالَ: يَا قَوْمُ لَأَنْتُمْ أَهْدَى مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ أَوْ لَأَنْتُمْ عَلَى شُعْبَةِ ضَلَالَةٍ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الِاجْتِمَاعُ لِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ لِلْخَبَرِ الْمَشْهُورِ وَقَالَ مَالِكٌ: يُكْرَهُ وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَكَانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ إذَا قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ يَسْقُطُ إلَى الْأَرْضِ حَتَّى يَكَادَ يَذْهَبُ عَقْلُهُ، وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ يَبْكِي وَيُنْكِرُ سُقُوطَ يَحْيَى، قَالَ يَحْيَى قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: لَوْ قَدَرَ أَنْ يَدْفَعَ هَذَا أَحَدٌ لَدَفَعَهُ يَحْيَى، وَيَأْتِي فِي آدَابِ الْقِرَاءَةِ قَبْلَ فُصُولِ الطَّلَبِ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَا رَأَيْت أَبِي يَبْكِي قَطُّ إلَّا فِي حَدِيثِ تَوْبَةِ كَعْبٍ.

فصل في صفة المحدث الذي يؤخذ عنه

[فَصْلٌ فِي صِفَةِ الْمُحَدِّثِ الَّذِي يُؤْخَذُ عَنْهُ] ُ) قَالَ الْمَرُّوذِيُّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ إذَا لَمْ يَعْرِفْ الْحَدِيثَ أَنْ يُحَدِّثَ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: صَارَ الْحَدِيثُ بِهِ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ وَاسْتَرْجَعَ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُؤْخَذُ الْعِلْمُ مِنْ شَيْخٍ لَهُ فَضْلٌ وَصَلَاحٌ وَعِبَادَةٌ إذَا كَانَ لَا يَعْرِفُ مَا يُحَدِّثُ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: الْحَدِيثُ شَدِيدٌ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَشَدَّهُ، أَوْ كَمَا قَالَ ثُمَّ قَالَ: يَحْتَاجُ إلَى ضَبْطٍ وَذِهْنٍ وَكَلَامٍ يُشْبِهُ هَذَا ثُمَّ قَالَ: وَلَا سِيَّمَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ قَالَ إذَا حَدَّثَ، ثُمَّ قَالَ: هُوَ مَا لَمْ يُحَدِّثْ مَسْتُورٌ، فَإِذَا حَدَّثَ خَرَجَ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ بَدَا مَا كَانَ فِيهِ، وَكَلَامٌ نَحْوُ هَذَا، وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ قَالَ: كَتَبَ إلَيْنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَقَالَ فِي كِتَابِهِ: وَمُرْ أَهْلَ الْفِقْهِ مِنْ جُنْدِك فَلْيَنْشُرُوا مَا عَلَّمَهُمْ اللَّهُ فِي مَسَاجِدِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ، وَالسَّلَامُ وَقَالَ أَحْمَدُ لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ: أَفِدْ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ وَأَكْرِمْهُمْ، فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ بْنَ بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ لَمْ يَكُنْ يُفِيدُ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ وَيَجْفُوهُمْ فَلَمْ يُفْلِحْ، وَمَشْهُورٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ إذَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ: يَقُولُ: سَلُوا مَوْلَانَا الْحَسَنَ فَإِنَّهُ حَضَرَ وَغِبْنَا. وَحَفِظَ وَنَسِينَا وَقَالَ الصَّاحِبُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَبَّادٍ: مَا عَبَّرَ الْإِنْسَانُ عَنْ فَضْلِ نَفْسِهِ بِمِثْلِ مَيْلِهِ إلَى الْفَضْلِ وَأَهْلِهِ، وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّوْقَاتِيُّ بِنُونٍ مَفْتُوحَةٍ وَقَافٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ، ثُمَّ بِتَاءٍ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ فَوْقٍ نِسْبَةً إلَى نَوْقَاتَ مَوْضِعٌ بِسِجِسْتَانَ، وَيَشْتَبِهُ بِالنَّوْقَانِيِّ بِنُونٍ بَعْدَ الْأَلِفِ بَلْدَةٌ مِنْ مُدُنِ طُوسٍ، كَانَ حَاضِرًا فَنَظَمَ الْمَعْنَى وَقَالَ: وَمَا عَبَّرَ الْإِنْسَانُ عَنْ فَضْلِ نَفْسِهِ ... بِمِثْلِ اعْتِقَادِ الْفَضْلِ فِي كُلِّ فَاضِلِ وَإِنَّ أَخَسَّ النَّقْصِ أَنْ يَتَّقِيَ الْفَتَى ... قَذَى النَّقْصِ عَنْهُ بِانْتِقَاصِ الْأَفَاضِلِ وَهَذَا لَمَّا سَعَى بَعْضُ النَّاسِ إلَى أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ عَبَّادٍ، وَقَالَ عَنْ الْحَافِظِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْدَهْ أَنَّهُ جَمَعَ كِتَابًا فِي التَّشْبِيهِ فَاسْتَدْعَاهُ، وَبَحَثَ عَنْهُ فَأَنْصَفَ

وَإِنْ كَانَ ابْنُ عَبَّادٍ مُعْتَزِلِيًّا، وَقَالَ: كَيْفَ يُنْقَمُ عَلَى رَجُلٍ مَا أَوْدَعَ كِتَابَهُ إلَّا آيَةً مُحْكَمَةً أَوْ أَخْبَارًا صَحِيحَةً. وَدَخَلَ ابْنُ مَنْدَهْ عَلَى ابْنِ عَبَّادٍ فَقَامَ لَهُ وَأَكْرَمَهُ فَلَمَّا خَرَجَ قِيلَ لَهُ: قُمْت لِرَجُلٍ مِنْ مُعَانِدِينَا لَا يُحْسِنُ شَيْئًا، إنَّمَا يَعْرِفُ جَمَاعَةً مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ. قَالَ ابْنُ عَبَّادٍ: أَلَيْسَ يَعْرِفُ جَمَاعَةً مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ لَا أَعْرِفُهُمْ؟ فَلَهُ بِذَلِكَ مَزِيَّةٌ وَقَدْ قَالَ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ: مَنْ لَمْ يَكْتُبْ الْحَدِيثَ لَمْ يَعْرِفْ حَلَاوَةَ الْإِسْلَامِ، وَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُمْلِيَ وَيَرْوِيَ الْحَدِيثَ، امْتَنَعَ مِنْ حُضُورِ الدِّيوَانِ وَأَظْهَرَ التَّنَسُّكَ وَالتَّوَرُّعَ، فَلَمَّا شَاعَ ذَلِكَ عَنْهُ أَحْضَرَ الْفُقَهَاءَ وَاسْتَفْتَاهُمْ بِالْكِتَابَةِ عَنْ مِثْلِهِ، فَأَفْتَوْا بِجَوَازِهَا فَأَفْتَى مَجَالِسَ، ذَكَرَ ذَلِكَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْقَادِرِ الرَّهَاوِيُّ فِي كِتَابِ تَارِيخِ الْمَادِحِ وَالْمَمْدُوحِ. وَلَمَّا حَجَّ يَحْيَى بْنُ عَمَّارٍ السِّجْزِيُّ، وَنَزَلَ بِظَاهِرِ الرَّيِّ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ ضِيَافَةً، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا فَقَالَ: وَدِدْت أَنِّي ضُرِبْت بِكُلِّ سَوْطٍ ضُرِبَ بِهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ، وَاسْتَرَحْت مِنْ عَدَاوَةِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ. وَرَوَى الْحَاكِمَ فِي تَارِيخِهِ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: مَنْ بَخِلَ بِالْعِلْمِ اُبْتُلِيَ بِثَلَاثٍ: إمَّا أَنْ يَمُوتَ فَيَذْهَبَ عِلْمُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَنْسَى حَدِيثَهُ، وَإِمَّا أَنْ يُبْتَلَى بِالسُّلْطَانِ وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ الْحِبْرُ خَلُوقُ الْعُلَمَاءِ.

فصل في إنصاف طلاب العلم ومن كان يحابي في التحديث

[فَصْلٌ فِي إنْصَافِ طُلَّابِ الْعِلْمِ وَمَنْ كَانَ يُحَابِي فِي التَّحْدِيثِ] ِ) قَالَ مُهَنَّا: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: كَانَ إسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ يَضَعُ فِي الْحَدِيثِ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ فِي الشَّفَاعَاتِ، وَنَحْنُ عَلَى الْبَابِ نَتَضَوَّرُ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْفَضْلِ بْنِ زِيَادَةَ: كَانَ لَا يُنْصِفُهُمْ فِي الْحَدِيثِ يَعْنِي إسْمَاعِيلَ قُلْت: كَيْفَ كَانَ لَا يُنْصِفُ؟ قَالَ كَانَ يُحَدِّثُ بِالشَّفَاعَاتِ قُلْت: فَإِنْ كَانَ رَجُلٌ لَهُ إخْوَانٌ يَخُصُّهُمْ بِالْحَدِيثِ لَا تَرَى ذَلِكَ قَالَ مَا أَحْسَنَ الْإِنْصَافَ؟ مَا أَرَى يَسْلَمُ أَهْلُ الْحَدِيثِ مِنْ هَذَا قُلْت: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُقْرِئُ رَجُلًا مِائَتَيْ آيَةٍ، وَيُقْرِئُ آخَرَ مِائَةَ آيَةٍ مَا تَقُولُ فِيهِ؟ فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يُنْصِفَ بَيْنَ النَّاسِ وَقُلْت لَهُ: إنَّهُ يَأْخُذُ عَلَى هَذَا مِائَتَيْ آيَةٍ لِأَنَّهُ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ عَامِلًا بِهِ، وَيَأْخُذُ عَلَى هَذَا أَقَلَّ لِأَنَّهُ لَا يَبْلُغُ هَذَا فِي الْعَمَلِ، مَا تَرَى فِيهِ قَالَ مَا أَحْسَنَ الْإِنْصَافَ فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ عِيسَى كَانَ مُنْتَصِبًا لِلنَّاسِ وَحَفْصٌ كَانَ يُحَدِّثُ بِالشَّفَاعَةِ. وَرَوَى الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّوْرِيُّ ثَنَا أَبُو سُلَيْمَانَ الْأَشْقَرُ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ بِالْبَصْرَةِ فَجَعَلَ يُقْبِلُ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَيُحَدِّثُهُمْ فَقُلْنَا: تُقْبِلُ عَلَى هَؤُلَاءِ وَتَدَعُنَا قَالَ: أَهْلُ بَلَدِي أَحَقُّ بِالْحَدِيثِ مِنْكُمْ، وَسَمِعْت الْعَبَّاسَ بْنَ مُحَمَّدٍ الدَّوْرِيَّ يَقُولُ: رُبَّمَا كُنَّا عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَيَّامَ الْحَجِّ فَيَجِيئُهُ أَقْوَامٌ مِنْ الْحُجَّاجِ، فَيُقْبِلُ عَلَيْهِمْ وَيُحَدِّثُهُمْ فَرُبَّمَا قُلْنَا لَهُ فِي ذَلِكَ فَيَقُولُ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ غُرَبَاءُ وَإِلَى أَيَّامٍ يَخْرُجُونَ. وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ جَاءَ إلَى يُونُسَ فَأَخَذَ يَسْأَلُهُ وَيُمْلِي عَلَيْهِ وَمَعَهُ أَلْوَاحٌ، فَلَمَّا قَامَ قَالُوا: نَسْأَلُك فَلَا تُحَدِّثُنَا وَتُحَدِّثُ سُفْيَانَ قَالَ: سُفْيَانُ غَرِيبٌ وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَنْ تَزَالُوا بِخَيْرٍ مَا دَامَ الْعَالِمُ يَعْدِلُ بَيْنَكُمْ بِعِلْمِهِ لَا يَحِيفُ. وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان: 18] .

قَالَ: يَكُونُ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ عِنْدَك فِي الْعِلْمِ سَوَاءً وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ: كَلَّمُوا مُحَمَّدًا فِي رَجُلٍ يُحَدِّثُهُ فَقَالَ: لَوْ كَانَ رَجُلٌ مِنْ الزِّنْجِ لَكَانَ عِنْدِي وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ فِي هَذَا سَوَاءً. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: مَنْ أَنْصَفَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ قَضَى بِهِ حُكْمًا لِغَيْرِهِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: إذَا أَنْتَ لَمْ تُنْصِفْ أَخَاك وَجَدْته ... عَلَى طَرَفِ الْهِجْرَانِ إنْ كَانَ يَعْقِلُ وَقَالُوا ثَلَاثَةٌ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ: الِاقْتِصَادُ فِي الْإِنْفَاقِ، وَالِابْتِدَاءُ بِالسَّلَامِ، وَالْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِك وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: وَلَيْسَ فِي النَّاسِ شَيْءٌ أَقَلَّ مِنْ الْإِنْصَافِ وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ سَعْدٍ: مَا أَقَلَّ الْإِنْصَافَ وَمَا أَكْثَرَ الْخِلَافَ، وَالْخِلَافُ مُوَكَّلٌ بِكُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الْقَذَاةِ فِي رَأْسِ الْكُوزِ، فَإِذَا أَرَدْت أَنْ تَشْرَبَ الْمَاءَ حَارَتْ إلَى فِيك، وَإِذَا أَرَدْت أَنْ تَصُبَّ عَنْ رَأْسِ الْكُوزِ لِتَخْرُجَ رَجَعَتْ. قَالَ الشَّاعِرُ: آخِ الْكِرَامَ الْمُنْصِفِينَ وَصِلْهُمْ ... وَاقْطَعْ مَوَدَّةَ كُلِّ مَنْ لَا يُنْصِفُ وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ: إذَا مَا لَمْ يَكُنْ لَك حُسْنُ فَهْمٍ ... أَسَأْت إجَابَةً وَأَسَأْت سَمْعَا وَعَنْ أَبِي عَوَانَةَ أَنَّهُ حَدَّثَ قَوْمًا وَمَنَعَ آخَرِينَ، وَأَسْمَعَ هُشَيْمٌ رَجُلًا بِشَفَاعَةِ أَحْمَدَ، وَعَنْ أَبِي عَاصِمٍ أَنَّهُ كَانَ إذَا جَاءَهُ إنْسَانٌ مِنْ قِبَلِ السُّلْطَانِ أَوْ شَفَاعَةً حَدَّثَهُ مَعَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يُحَدِّثْهُ دُونَهُمْ، وَلَمْ يَخُصَّهُ.

فصل لا يودع العلم عند غير أهله

[فَصْلٌ لَا يُودَعَ الْعِلْمُ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ] فَصْلٌ جَاءَ رَجُلَانِ إلَى أَحْمَدَ فَقَالَ: لَوْ جِئْتُكُمْ إلَى الْمَنْزِلِ وَحَدَّثْتُكُمْ لَكُنْتُمْ أَهْلًا لِذَلِكَ وَقَالَ عُرْوَةُ: ائْتُونِي فَتَلَقَّوْا مِنِّي، وَصَحَّ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يَأْلَفُ النَّاسَ عَلَى حَدِيثِهِ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حُبَيْشٍ: جَاءَ زُهَيْرٌ إلَى ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ بِرَجُلٍ فَقَالَ: حَدِّثْهُ قَالَ: حَتَّى أَسْأَلَ عَنْهُ فَقَالَ لَهُ زُهَيْرٌ: مَتَى عَهِدْت النَّاسَ يَفْعَلُونَ هَذَا؟ فَقَالَ لَهُ زَائِدَةُ: وَمَتَى عَهِدْت النَّاسَ يَسُبُّونَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَقَالَ أَيُّوبُ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ حَدِيثٍ فَمَنَعَهُ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ تُؤْجَرُ، فَقَالَ لَهُ: لَيْسَ كُلُّ الْأَجْرِ نَقْوَى عَلَيْهِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ. وَعَنْ أَحْمَدَ قَالَ فِيمَا رُوِيَ عَنْ أَيُّوبَ قَالَ: لَا تُحَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ أَوْ لَا يَعْرِفُونَ فَتَضُرُّوهُمْ، وَصَحَّ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: لَا تَنْشُرْ بَزَّك إلَّا عِنْدَ مَنْ يَبْغِيهِ، رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَ يَعْنِي الْحَدِيثَ وَقَالَ شُعْبَةُ: أَتَانِي الْأَعْمَشُ وَأَنَا أُحَدِّثُ قَوْمًا فَقَالَ: وَيْحَك تُعَلِّقُ اللُّؤْلُؤَ فِي أَعْنَاقِ الْخَنَازِيرِ، وَقَالَ مُهَنَّا لِأَحْمَدَ مَا مَعْنَى قَوْلِهِ؟ فَقَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحَدَّثَ مَنْ لَا يَسْتَأْهِلُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: قَالَ سُفْيَانُ قَالَ عِيسَى: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلْحِكْمَةِ أَهْلٌ فَإِنْ وَضَعْتهَا فِي غَيْرِ أَهْلِهَا ضِيعَتْ، وَإِنْ مَنَعْتهَا مِنْ أَهْلِهَا ضِيعَتْ، كُنْ كَالطَّبِيبِ يَضَعُ الدَّوَاءَ حَيْثُ يَنْبَغِي وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِك بْنُ عُمَيْرٍ: كَانَ يُقَالُ: إضَاعَةُ الْحَدِيثِ أَنْ يُحَدَّثَ بِهِ مَنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ، وَعَنْ دَغْفَلٍ قَالَ: آفَةُ الْعِلْمِ أَنْ تَخْزُنَهُ وَلَا تُحَدِّثَ بِهِ وَلَا تَنْشُرَهُ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: حَدِّثْ حَدِيثَك مَنْ تَشْتَهِيهِ وَمَنْ لَا تَشْتَهِيهِ فَإِنَّك تَحْفَظُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ أَمَامَك تَقْرَأُهُ. رَوَى ذَلِكَ الْخَلَّالُ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ رَجُلٍ هُوَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا تَطْرَحْ اللُّؤْلُؤَ إلَى الْخِنْزِيرِ، فَإِنَّ

الْخِنْزِيرَ لَا يَصْنَعُ بِاللُّؤْلُؤِ شَيْئًا، وَلَا تُعْطِ الْحِكْمَةَ مَنْ لَا يُرِيدُهَا، فَإِنَّ الْحِكْمَةَ خَيْرٌ مِنْ اللُّؤْلُؤِ، وَمَنْ لَا يُرِيدُهَا شَرٌّ مِنْ الْخِنْزِيرِ وَقَالَ مَالِكٌ: ذَلِكَ ذُلٌّ وَإِهَانَةٌ لِلْعِلْمِ أَنْ يُتَكَلَّمَ بِهِ عِنْدَ مَنْ لَا يُطِيعُهُ. وَقَالَ كَثِيرُ بْنُ مُرَّةَ الْحَضْرَمِيُّ: لَا تُحَدِّثْ بِالْحِكْمَةِ عِنْدَ السُّفَهَاءِ فَيُكَذِّبُوك، وَلَا تُحَدِّثْ بِالْبَاطِلِ عِنْدَ الْحُكَمَاءِ فَيَمْقُتُوك، وَلَا تَمْنَعْ الْعِلْمَ أَهْلَهُ فَتَأْثَمْ، وَلَا تُحَدِّثْ بِهِ غَيْرَ أَهْلِهِ فَتَجْهَلْ، إنَّ عَلَيْك فِي عِلْمِك حَقًّا كَمَا أَنَّ عَلَيْك فِي مَالِكَ حَقًّا. ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيّ وَغَيْرُهُ. وَرَوَى الْخَلَّالُ فِي الْأَخْلَاقِ أَنَّ إبْرَاهِيمَ بْنَ شِمَاسٍ قَالَ كُنَّا بِعَبَّادَانَ فَجَرَى تَشَاجُرٌ بَيْنَ طَلَبَةِ الْحَدِيثِ، فَلَمْ يُحَدِّثْهُمْ يَعْنِي وَكِيعَ بْنَ الْجَرَّاحِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فَقَالَ: إنَّمَا أَرَدْت أَدَبَهُمْ، ثُمَّ حَدَّثَهُمْ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ الرَّعَاعَ وَالْغَوْغَاءَ فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ، فَتَخْلُصَ بِأَهْلِ الْفِقْهِ. فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ قَبِلَ مَشُورَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِذَلِكَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنْ لَا يُودَعَ الْعِلْمُ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ وَلَا يُحَدَّثَ الْقَلِيلُ الْفَهْمِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ فَهْمُهُ قَالَ: وَالرَّعَاعُ السَّفَلَةُ وَالْغَوْغَاءُ نَحْوُ ذَلِكَ، وَأَصْلُ الْغَوْغَاءِ صِغَارُ الْجَرَادِ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] . ذَلِكَ مَعَ الْمُعْجِزِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَهِدَ الْحَقُّ لَهُ لَوْلَا تَخَلُّقُهُ لِلْخُلُقِ الْجَمِيلِ لَانْفَضُّوا عَنْك، وَلَمْ يَقْنَعْ بِالْمُعْجِزِ فِي تَحْصِيلِهِمْ، لَا تَقْنَعْ أَنْتَ بِالْعُلُومِ وَتَظُنَّ أَنَّهَا كَافِيَةٌ فِي حَوْشِ النَّاسِ إلَى الدِّينِ، بَلْ حُسْنُ ذَلِكَ وَجُلُّهُ بِالْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ.

فصل في أخذ العلم عن أهله وإن كانوا صغار السن

[فَصْلٌ فِي أَخْذِ الْعِلْمِ عَنْ أَهْلِهِ وَإِنْ كَانُوا صِغَارَ السِّنِّ] ِّ) قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بَلَغَنِي عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ الْغُلَامُ أُسْتَاذٌ إذَا كَانَ ثِقَةً. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: لَأَنْ أَسْأَلَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَيُفْتِيَنِي أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَسْأَلَ أَبَا عَاصِمٍ وَابْنَ دَاوُد، إنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ بِالسِّنِّ. وَرَوَى الْخَلَّالُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ عَنْ حَدَاثَةِ السِّنِّ وَلَا قِدَمِهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ وَقَالَ وَكِيعٌ: لَا يَكُونُ الرَّجُلُ عَالِمًا حَتَّى يَسْمَعَ مِمَّنْ هُوَ أَسَنُّ مِنْهُ وَمَنْ هُوَ مِثْلُهُ وَمَنْ هُوَ دُونَهُ فِي السِّنِّ. هَذِهِ طَرِيقَةُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيّ فِي مَنَاقِبِهِ وَغَيْرُهُ. وَفِي فُنُونِ ابْنِ عَقِيلٍ وَجَدْت فِي تَعَالِيقِ مُحَقِّقٍ أَنَّ سَبْعَةً مِنْ الْعُلَمَاءِ مَاتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلَهُ سِتٌّ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، فَعَجِبْت مِنْ قُصُورِ أَعْمَارِهِمْ مَعَ بُلُوغِهِمْ الْغَايَةَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ، فَمِنْهُمْ الْإِسْكَنْدَرُ ذُو الْقَرْنَيْنِ وَقَدْ مَلَكَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ، وَأَبُو مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ صَاحِبُ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ، وَابْنُ الْمُقَفَّعِ صَاحِبُ الْخَطَابَةِ وَالْفَصَاحَةِ، وَسِيبَوَيْهِ صَاحِبُ التَّصَانِيفِ وَالتَّقَدُّمِ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَأَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ فِي عِلْمِ الشِّعْرِ، وَإِبْرَاهِيمُ النِّظَامُ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، وَابْنُ الرَّاوَنْدِيِّ فِي الْمَخَازِي، وَلَهُ كِتَابُ الدَّامِغِ مِمَّا غُرَّ بِهِ أَهْلُ الْخَلَاعَةِ، وَلَهُ الْجَدَلُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَشُورَةِ عُمَرَ كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: كُنْت أُقْرِئُ رِجَالًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُمْ

عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كَشْفِ الْمُشْكِلِ: فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَخْذِ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِهِ وَإِنْ صَغُرَتْ أَسْنَانُهُمْ أَوْ قَلَّتْ أَقْدَارُهُمْ، وَقَدْ كَانَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ يَقْرَأُ عَلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فَقِيلَ لَهُ: تَقْرَأُ عَلَى هَذَا الْغُلَامِ الْخَزْرَجِيِّ؟ ، قَالَ: إنَّمَا أَهْلَكَنَا التَّكَبُّرُ.

فصل الكلمة الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها فهو أحق بها

[فَصْلٌ الْكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا] فَصْلٌ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ: مِنْ أَكْبَرِ مَا يُفَوِّتُ الْفَوَائِدَ تَرْكُ التَّلَمُّحِ لِلْمَعَانِي الصَّادِرَةِ عَمَّنْ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْحِكْمَةِ، أَتَرَى يَمْنَعُنِي مِنْ أَخْذِ اللُّؤْلُؤَةِ وِجْدَانِي لَهَا فِي مَزْبَلَةٍ؟ كَلًّا سَمِعْت كَلِمَةً بَقِيَتْ مِنْ قَلِقِهَا مُدَّةً، وَهِيَ أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَقُولُ عَلَى شُغْلِهَا وَتَتَرَنَّمُ بِهَا. كَمْ كُنْت بِاَللَّهِ أَقُلْ لَك؟ إنَّ لِلتَّوَانِي غَائِلَةً وَلِلْقَبِيحِ خَمِيرَةً تَبِينُ بَعْدَ قَلِيلٍ، فَمَا أَوْقَعَهَا مِنْ تَخْجِيلٍ عَلَى إهْمَالِنَا الْأُمُورَ، غَدًا تَبِينُ خَمَائِرُهَا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْإِسْنَادُ ضَعِيفٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «الْكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا» .

فصل خير الناس من شهد له بالخير أهله وجيرانه

[فَصْلٌ خَيْرُ النَّاسِ مَنْ شَهِدَ لَهُ بِالْخَيْرِ أَهْلُهُ وَجِيرَانُهُ] ُ قَالَ الْفَضْلُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَسُئِلَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ صَاحِبِ الْمَغَازِي فَقَالَ: هَذَا يُسْأَلُ عَنْهُ جِيرَانُهُ، فَإِذَا أَثْنَوْا عَلَيْهِ قُبِلَ مِنْهُمْ. وَرَوَى الْخَلَّالُ مِنْ حَدِيثِ إسْمَاعِيلَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: خَيْرُ النَّاسِ خَيْرُهُمْ فِي أَهْلِهِ وَخَيْرُهُمْ فِي جِيرَانِهِ قَالَ: هُمْ أَعْلَمُ بِهِ وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيْفَ لِي أَنْ أَعْلَمَ إذَا أَحْسَنْتُ وَإِذَا أَسَأْتُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا سَمِعْتَ جِيرَانَك يَقُولُونَ: قَدْ أَحْسَنْتَ فَقَدْ أَحْسَنْتَ، وَإِذَا سَمِعْتهمْ يَقُولُونَ: قَدْ أَسَأْتَ فَقَدْ أَسَأْتَ» إسْنَادٌ جَيِّدٌ وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ كُلْثُومٍ الْخُزَاعِيِّ وَرَوَى أَحْمَدُ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ وَلَفْظُهُ " إذَا سَمِعْتَهُمْ " وَلَمْ يَقُلْ: " جِيرَانَك " وَقَدْ سَبَقَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا. بِنَحْوِ كُرَّاسَيْنِ وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: إذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ مُحَبَّبًا إلَى جِيرَانِهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ مُدَاهِنٌ.

فصل فيمن يتلقى العلم ممن ينتفع منه بغير العلم

[فَصْلٌ فِيمَنْ يَتَلَقَّى الْعِلْمَ مِمَّنْ يَنْتَفِعُ مِنْهُ بِغَيْرِ الْعِلْمِ] قَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قِيلَ لَهُ: الرَّجُلُ يَكْتُبُ عَنْ الرَّجُلِ لِكَيْ يَقْضِيَ لَهُ حَاجَةً؟ فَقَالَ: إذَا كَانَ عِنْدَهُ ثِقَةٌ يَكْتُبُ عَنْهُ قُلْت: لَيْسَ هُوَ عِنْدَهُ فِي مَوْضِعٍ يَكْتُبُ عَنْهُ يَقُولُ: اُكْتُبْ ثُمَّ ارْمِي بِهِ فَكَرِهَ ذَلِكَ قُلْتُ: أَتَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَأْكُلُ بِالْعِلْمِ؟ فَقَالَ: أَخَافُ. وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قِيلَ لَهُ: الرَّجُلُ لَا يَكُونُ ثِقَةً فِي الْحَدِيثِ فَتَعْرِضُ لِلرَّجُلِ إلَيْهِ الْحَاجَةُ، أَيَكْتُبُ عَنْهُ لِمَكَانِ حَاجَتِهِ؟ فَقَالَ: إنْ كَانَ ثِقَةً يَكْتُبْ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُ ثِقَةً فَلَا يَكْتُبُ عَنْهُ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إنْ كُنْت لَأَسْتَقْرِئُ الرَّجُلَ الْآيَةَ هِيَ مَعِي كَيْ يَنْقَلِبَ بِي فَيُطْعِمَنِي قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ مُحَادَثَةِ الرَّجُلِ بِشَيْءٍ مِنْ الذِّكْرِ وَالْقُرْآنِ لِقَصْدٍ يَقْصِدُهُ الْإِنْسَانُ يَسْتَجْلِبُ بِهِ نَفْعًا لَهُ أَوْ يَدْفَعُ بِهِ ضَرُورَةً، قَالَ: وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ مُنْكِرٌ. وَقِيلَ لِأَبِي زُرْعَةَ: كَتَبْت عَنْ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ؟ فَقَالَ: مَا أَطْمَعْته فِي هَذَا قَطُّ، وَقَدْ كَانَ شَدِيدَ الْإِيجَابِ لِي، لَقَدْ مَرِضْت مِرْضَةً بِبَغْدَادَ، فَمَا أُحْسِنُ أَصِفُ مَا كَانَ يُولِينِي مِنْ التَّعَاهُدِ وَالِافْتِقَادِ. وَحَدَّثَ ذَاتَ يَوْمٍ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ مُرَّةَ الْحَنَفِيِّ بِحَدِيثِ الْأَشْرِبَةِ فَقَالَ " يَعِيشُ " وَصَحَّفَ فِيهِ فَقَالَ: " تَعِيسٌ " مِنْ أَسَامِي الْعَبِيدِ وَخَجِلَ، فَقُلْت لَهُ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالْقَوَارِيرِيُّ قَالَا: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ مُرَّةَ فَرَجَعَ لِمَا وَرَدَ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَالْقَوَارِيرِيُّ قَالَ أَبُو زُرْعَةَ جَبَلَانِ.

فصل في محو كتب الحديث أو دفنها إذا كانت لا ينتفع بها

[فَصْلٌ فِي مَحْوِ كُتُبِ الْحَدِيثِ أَوْ دَفْنِهَا إذَا كَانَتْ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا] ) قَالَ بَكْرٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ سَمِعَهُ، وَسُئِلَ عَنْ رَجُلٍ أَوْصَى إلَيْهِ رَجُلٌ أَنْ يَدْفِنَ كُتُبَهُ قَالَ: مَا أَدْرِي مَا هَذَا وَقَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: دَفَنَ دَفَاتِرَ الْحَدِيثِ قَالَ: أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ مَحْوِ كُتُبِ الْحَدِيثِ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ تَمْحِي السُّنَّةَ وَالْعِلْمَ قُلْت: مَا تَقُولُ قَالَ: لَا وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا تَرَى فِي دَفْنِ الْعِلْمِ إذَا كَانَ الرَّجُلُ يَخَافُ أَنْ لَيْسَ لَهُ خَلَفٌ يَقُومُ بِهِ وَيَخَافُ عَلَيْهِ الضَّيْعَةَ قَالَ: لَا يُدْفَنُ وَلَعَلَّ وَلَدَهُ يَنْتَفِعُ بِهِ، عُبَيْدَةُ أَوْصَى أَنْ تُدْفَنَ وَالثَّوْرِيُّ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَلَعَلَّ غَيْرَ وَلَدِهِ يَنْتَفِعُ بِهِ قُلْت يُبَاعُ قَالَ: لَا يُبَاعُ الْعِلْمُ وَلَكِنْ يَدَعُهُ لِوَلَدِهِ يَنْتَفِعُ بِهِ أَوْ غَيْرِ وَلَدِهِ يَنْتَفِعُ بِهِ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ وَسَأَلَهُ عَمَّنْ أَوْصَى أَنْ تُدْفَنَ كُتُبُهُ قَالَ: مَا يُعْجِبُنِي دَفْنُ الْعِلْمِ. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ أَمَرَ بِدَفْنِ كُتُبِهِ وَلَهُ أَوْلَادٌ فَأَطْرَقَ مَلِيًّا ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّهُ يُنْتَفَعُ بِهَا، ثُمَّ قَالَ إنْ كَانَ فِيهَا مَنْفَعَةٌ عُرِضَتْ فَمَا أُعْطِيَ بِهَا مِنْ شَيْءٍ حُسِبَتْ مِنْ ثُلُثِهِ. وَحَمَلَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ كُتُبَهُ إلَى الْبَحْرِ فَفَرَّقَهَا وَقَالَ: لَمْ أَفْعَلْ هَذَا تَهَاوُنًا بِك وَلَا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّك وَلَكِنْ كُنْت أَطْلُبُ أَنْ أَهْتَدِيَ بِك إلَى رَبِّي، فَلَمَّا اهْتَدَيْتُ بِك إلَى رَبِّي اسْتَغْنَيْتُ عَنْك.

فَصْلٌ قَالَ صَالِحٌ سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ أَوْصَاهُ أَبُوهُ إذَا هُوَ مَاتَ أَنْ يَدْفِنَ كُتُبَهُ، قَالَ الِابْنُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ مَا أَشْتَهِي أَنْ أَدْفِنَهَا قَالَ: إنِّي أَرْجُو إذَا كَانَتْ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِالنَّظَرِ فِيهَا وَرَثَتُهُ رَجَوْت إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَسَأَلَهُ الْمَرُّوذِيُّ عَمَّنْ أَوْصَى أَنْ تُدْفَنَ كُتُبُهُ وَلَهُ أَوْلَادٌ قَالَ فِيهِمْ مَنْ أَدْرَكَ؟ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ: وَعَمَّنْ كَتَبَ هَذِهِ الْكُتُبَ قُلْتُ: عَنْ قَوْمٍ صَالِحِينَ قَالَ: أُحِبُّ الْعَافِيَةَ مِنْهَا، أَكْرَهُ أَنْ أَتَكَلَّمَ فِيهَا، وَاسْتَعْفَى مِنْ أَنْ يُجِيبَ مِنْ أَنْ تُتْرَكَ أَوْ تُدْفَنَ. قَالَ الْخَلَّالُ: وَاَلَّذِي أَذْهَبُ إلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ فِي هَذَا أَنَّهُ إنْ كَانَتْ صُحُفًا أَوْ حَدِيثًا أَنَّهَا لَا تُبَاعُ وَلَا تُمْحَى وَلَا تُحْسَبُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنِّي لَا أَعْرِفُ لِحِسَابِهِ مِنْ الثُّلُثِ مَعْنًى لَعَلَّهُ قَدْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ فِي أَبْوَابِ الْبِرِّ، وَقَدْ تَوَقَّفَ عَنْهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَالْأَحْوَطُ فِي هَذَا أَنْ تُدْفَنَ فَهُوَ أَشْبَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ.

فصل في كتابة الحديث والعلم والأحاديث المتعارضة فيها

[فَصْلٌ فِي كِتَابَةِ الْحَدِيثِ وَالْعِلْمِ وَالْأَحَادِيثِ الْمُتَعَارِضَةِ فِيهَا] ) رَوَى الْخَلَّالُ ثَنَا أَبُو عَبَّاسٍ الدَّوْرِيُّ سَمِعْت يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ الْقَطَّانَ مَا رَأَيْت مِثْلَ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، كُنْت إذَا سَأَلْته عَنْ الْحَدِيثِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ اشْتَدَّ عَلَيْهِ وَكَانَ مِسْعَرٌ لَا يُبَالِي أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَهُ وَقَالَ رَجُلٌ لِأَحْمَدَ: أُرِيدُ أَعْرِفُ الْحَدِيثَ قَالَ: إنْ أَرَدْت أَنْ تَعْرِفَ الْحَدِيثَ فَأَكْثِرْ مِنْ الْكِتَابَةِ. وَقَدْ دَلَّ هَذَا النَّصُّ وَغَيْرُهُ عَلَى كِتَابَةِ الْحَدِيثِ، بَلْ وَكِتَابَةِ الْعِلْمِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «اُكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ» وَفِيهِمَا أَيْضًا قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا مِنِّي إلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلَا أَكْتُبُ. وَفِي رِوَايَةٍ «اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْكِتَابَةِ فَأَذِنَ لَهُ» . وَفِي السُّنَنِ «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكْتُبُ عَنْك فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا؟ فَقَالَ: اُكْتُبْ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إلَّا حَقٌّ وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَعَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابِ وَقَالَ حَنْبَلٌ ثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُؤَمَّلِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَيِّدُوا الْعِلْمَ قُلْت وَمَا تَقْيِيدُهُ قَالَ الْكِتَابُ» ابْنُ الْمُؤَمَّلِ ضَعِيفٌ، وَلِلنَّسَائِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ «إنَّا نَسْمَعُ مِنْك أَحَادِيثَ فَتَأْذَنُ لَنَا أَنْ نَكْتُبَهَا، قَالَ نَعَمْ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ النَّسَائِيُّ مُنْكَرٌ، وَهُوَ عِنْدِي خَطَأٌ. وَسَمِعَ أَنَسٌ وَكَتَبَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَرَضَهَا عَلَيْهِ، وَأَمْلَى وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ عَلَى النَّاسِ الْأَحَادِيثَ، وَهُمْ يَكْتُبُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَقَالَ

أَبُو الْمَلِيحِ يَعِيبُونَ عَلَيْنَا الْكِتَابَ، وَاَللَّهُ يَقُولُ {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ} [طه: 52] . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ غُدْوَةً حَتَّى يَنْظُرَ فِي كُتُبِهِ. وَقَالَ بَشِيرُ بْنُ نَهِيكٍ كَتَبْت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا كُنْت أَسْمَعُهُ مِنْهُ، ثُمَّ أَتَيْته بِهِ فَقُلْت: هَذَا سَمِعْته مِنْك قَالَ نَعَمْ. وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ أَمَرَ بَنِيهِ وَبَنِي أَخِيهِ بِكِتَابَةِ الْعِلْمِ حَتَّى يَرْوُوهُ أَوْ يَضَعُوهُ فِي بُيُوتِهِمْ، وَكَتَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَثِيرًا وَكَتَبَ النَّاسُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَجَابِرٍ وَالْبَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَخَلْقٍ مِنْ التَّابِعِينَ لَا يُحْصَوْنَ، وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ أَنْ يَجْمَعَ لَهُ السُّنَنَ وَالْآثَارَ: فَإِنِّي خَشِيت ذَهَابَ الْعِلْمِ. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا «مَنْ كَتَبَ عَنِّي سِوَى الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ» وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا نُكَتِّبُكُمْ وَلَا نَجْعَلُهَا مَصَاحِفَ، احْفَظُوا عَنَّا كَمَا كُنَّا نَحْفَظُ عَنْ نَبِيِّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا كَانَ خَشْيَةَ أَنْ يَخْتَلِطَ بِكِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ، ثُمَّ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ: أَنَّ عُمَرَ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ السُّنَنَ، فَاسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِذَلِكَ، ثُمَّ اسْتَخَارَ اللَّهَ شَهْرًا ثُمَّ قَالَ: إنِّي ذَكَرْت قَوْمًا كَانُوا قَبْلَكُمْ كَتَبُوا كُتُبًا، فَأَكَبُّوا عَلَيْهَا وَتَرَكُوا كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنِّي وَاَللَّهِ لَا أُلْبِسُ كِتَابَ اللَّهِ بِشَيْءٍ أَبَدًا. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَرِهَ كِتَابَةَ الْعِلْمِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ أَنَّهُمْ كَرِهُوا ذَلِكَ،. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَكْتُمُ،. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَنْهَى عَنْ كِتَابَةِ الْعِلْمِ. وَقَالَ: إنَّمَا أَضَلَّ مَنْ كَانَ

قَبْلَكُمْ الْكُتُبُ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلْمَعْنَى الَّذِي أَشَرْنَا إلَيْهِ أَوْ نَحْوِهِ وَقَالَ أَيْضًا: لَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَذِنَ فِي الْكِتَابَةِ لِمَنْ خَشِيَ عَلَيْهِ النِّسْيَانَ، وَنَهَى عَنْ الْكِتَابَةِ لِمَنْ وَثِقَ بِحِفْظِهِ، أَوْ نَهَى عَنْ الْكِتَابَةِ حِينَ خَافَ الِاخْتِلَاطَ، وَأَذِنَ فِي الْكِتَابَةِ حِينَ أَمِنَ مِنْهُ، فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: كَانَ هَذَا الْعِلْمُ كَرِيمًا يَتَلَافَاهُ الرِّجَالُ بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا دَخَلَ فِي الْكُتُبِ دَخَلَ فِيهِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ. وَقَالَ أَبُو كُرَيْبٍ: كَانَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَقُولُ: لَا خَيْرَ فِي عِلْمٍ لَا يَعْبُرُ مَعَك الْوَادِيَ، وَلَا يَعْمُرُ بِك النَّادِيَ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى اسْتِحْبَابِ كِتَابَةِ الْعِلْمِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَجَابُوا عَنْ أَحَادِيثِ النَّهْيِ بِخَوْفِ اخْتِلَاطِ الْقُرْآنِ بِغَيْرِهِ قَبْلَ اشْتِهَارِهِ، فَلَمَّا اُشْتُهِرَ وَأُمِنَ ذَلِكَ جَازَ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي أَنَّهُ نَهْيُ تَنْزِيهٍ لِمَنْ وُثِقَ بِحِفْظِهِ وَخِيفَ اتِّكَالُهُ عَلَى الْكِتَابَةِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: مَعْرِفَةُ مَعَانِي الْحَدِيثِ وَتَفْسِيرِهِ أَشَدُّ مِنْ حِفْظِهِ وَقَالَ وَكِيعٌ: قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَمِّعٍ وَكَانَ ثِقَةً: كُنَّا نَسْتَعِينُ عَلَى حِفْظِ الْحَدِيثِ بِالْعَمَلِ بِهِ. وَسَأَلَ مُهَنَّا أَحْمَدَ مَا الْحِفْظُ؟ قَالَ الْإِتْقَانُ هُوَ الْحِفْظُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: الْحِفْظُ الْإِتْقَانُ، وَلَا يَكُونُ إمَامًا فِي الْعِلْمِ مَنْ يُحَدِّثُ بِكُلِّ مَا سَمِعَ، وَلَا يَكُونُ إمَامًا فِي الْعِلْمِ مَنْ يُحَدِّثُ بِالشَّاذِّ مِنْ الْعِلْمِ، وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: إنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَا أَنْفَعَ مَجَالِسَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ قُلْت: كَيْفَ مُجَالَسَتُهُمْ وَهُمْ يَغْتَابُونَ؟ قَالَ: مَا أَنْفَعَ مُجَالَسَتَهُمْ يَعْرِفُ الرَّجُلُ الْحَدِيثَ بِهِمْ. وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْلِسُونَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَقًا يَتَذَاكَرُونَ الْحَدِيثَ وَيَتَرَاجَزُونَ الشِّعْرَ، وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: تَذَاكَرُوا الْحَدِيثَ فَإِنَّ حَيَاتَهُ الْمُذَاكَرَةُ، وَعَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: أَطِيلُوا ذِكْرَ الْحَدِيثِ لَا يَدْرُسُ، وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: مَجْلِسٌ يُتَنَازَعُ فِيهِ الْعِلْمُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ قَدْرِهِ صَلَاةً، رَوَى ذَلِكَ الْخَلَّالُ. وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْمَدْخَلِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا جَلَسُوا كَانَ حَدِيثُهُمْ يَعْنِي الْفِقْهَ إلَّا أَنْ يَقْرَأَ رَجُلٌ سُورَةً أَوْ يَأْمُرُوا

أَحَدَهُمْ أَنْ يَقْرَأَ سُورَةً، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: تَذَاكَرُوا الْحَدِيثَ فَإِنَّكُمْ إنْ لَمْ تَفْعَلُوا ذَلِكَ انْدَرَسَ الْعِلْمُ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: تَذَاكَرُوا الْحَدِيثَ فَإِنَّ الْحَدِيثَ يَهِيجُ الْحَدِيثَ وَقَالَ عُمَرُ الْمُهَاجِرِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: إنَّ لَهُ لِسَانًا سَئُولًا، وَقَلْبًا عَقُولًا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْهُ. وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ مُغِيرَةَ قَالَ قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ: بِمَ أَصَبْت هَذَا الْعِلْمَ قَالَ: بِلِسَانٍ سَئُولٍ، وَقَلْبٍ عَقُولٍ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ قَالَ الزُّهْرِيُّ: الْعِلْمُ خَزَائِنُ وَتَفْتَحُهَا الْمَسْأَلَةُ. وَرُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَرْجِعُ إلَى مَنْزِلِهِ وَقَدْ سَمِعَ حَدِيثًا كَثِيرًا، فَيُعِيدُهُ عَلَى جَارِيَةٍ لَهُ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ كَمَا سَمِعَهُ وَيَقُولُ لَهَا: إنَّمَا أَرَدْت أَنْ أَحْفَظَهُ وَكَانَ غَيْرُهُ يُعِيدُهُ عَلَى صِبْيَانِ الْمَكْتَبِ لِيَحْفَظَهُ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ: آفَةُ الْعِلْمِ النِّسْيَانُ وَقِلَّةُ الْمُذَاكَرَةِ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ مُرْسَلًا: مَا تَجَالَسَ قَوْمٌ يُنْصِتُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إلَّا نَزَعَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ الْبَرَكَةَ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ إذَا قَعَدَ يَقُولُ: إنَّكُمْ فِي مَمَرِّ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إلَى آجَالٍ مَنْقُوصَةٍ، وَأَعْمَالٍ مَحْفُوظَةٍ، وَالْمَوْتُ يَأْتِي بَغْتَةً فَمَنْ زَرَعَ خَيْرًا يُوشِكُ أَنْ يَحْصُدَ رَغْبَةً، وَمَنْ زَرَعَ شَرًّا يُوشِكُ أَنْ يَحْصُدَ نَدَامَةً، وَلِكُلِّ زَارِعٍ مَا زَرَعَ لَا يَفُوتُ بَطِيءٌ حَظَّهُ، وَلَا يُدْرِكُ حَرِيصٌ مَا لَمْ يُقْدَرُ لَهُ، فَمَنْ أُعْطِيَ خَيْرًا فَاَللَّهُ أَعْطَاهُ، وَمَنْ وُقِيَ شَرًّا فَاَللَّهُ وَقَاهُ، الْمُتَّقُونَ سَادَةٌ، وَالْفُقَهَاءُ قَادَةٌ، مُجَالَسَتُهُمْ زِيَادَةٌ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرُوِيَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ حَدَّثَنَا جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرُّوَاسِيُّ ثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْأَقْمَرِ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: جَالِسُوا الْكُبَرَاءَ وَسَائِلُوا الْعُلَمَاءَ، وَخَالِطُوا الْحُكَمَاءَ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رُوِيَ مَرْفُوعًا وَهُوَ ضَعِيفٌ «وَقَالَ لُقْمَانُ: يَا بُنَيَّ جَالِسْ الْعُلَمَاءَ وَزَاحِمْهُمْ بِرُكْبَتَيْك، فَإِنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْقُلُوبَ بِنُورِ الْحِكْمَةِ كَمَا يُحْيِي الْأَرْضَ بِوَابِلِ الْمَطَرِ» قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرُوِيَ مَرْفُوعًا

وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَعَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ طَالِبُ عِلْمٍ وَطَالِبُ دُنْيَا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرُوِيَ عَنْ كَعْبٍ مِنْ قَوْلِهِ. وَرَوَى الْفَقِيهُ نَصْرُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْمَقْدِسِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنِ أَبِي الطَّيِّبِ الْمُؤَدِّبُ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الثَّلْجِ حَدَّثَنَا جَدِّي قَالَ: سَأَلْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ قُلْت: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَيُّمَا أَحَبُّ إلَيْك الرَّجُلُ يَكْتُبُ الْحَدِيثَ أَوْ يَصُومُ وَيُصَلِّي؟ قَالَ: يَكْتُبُ الْحَدِيثَ قُلْت: فَمِنْ أَيْنَ فَضَّلْت كِتَابَةَ الْحَدِيثِ عَلَى الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ؟ قَالَ: لَأَنْ يَقُولَ: إنِّي رَأَيْت قَوْمًا عَلَى شَيْءٍ فَاتَّبَعْتُهُمْ.

فصل في فضل الجمع بين الحديث وفقهه وكراهة طلب الغريب والضعيف منه

[فَصْلٌ فِي فَضْلِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَفِقْهِهِ وَكَرَاهَةِ طَلَبِ الْغَرِيبِ وَالضَّعِيفِ مِنْهُ] ُ) قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيُّ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: إذَا كَانَ يَعْرِفُ الْحَدِيثَ وَيَكُونُ مَعَهُ فِقْهٌ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ حِفْظِ الْحَدِيثِ لَا يَكُونُ مَعَهُ فِقْهٌ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ سَأَلَ رَجُلٌ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حَدِيثٍ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ تَرَكُوا الْعِلْمَ وَأَقْبَلُوا عَلَى الْغَرَائِبِ، مَا أَقَلَّ الْفِقْهَ فِيهِمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ سُئِلَ عَنْ أَحَادِيثَ غَرَائِبَ فَقَالَ: شَيْءٌ غَرِيبٌ أَيُّ شَيْءٍ يُرْجَى بِهِ قَالَ: يَطْلُبُ الرَّجُلُ مَا يَزِيدُ فِي أَمْرِ دِينِهِ مَا يَنْفَعُهُ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: يَطْلُبُونَ حَدِيثًا مِنْ ثَلَاثِينَ وَجْهًا أَحَادِيثَ ضَعِيفَةً قَالَ: شَيْءٌ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ. وَنَحْوُ هَذَا الْكَلَامِ قَالَ أَيْضًا: شَرُّ الْحَدِيثِ الْغَرَائِبُ الَّتِي لَا يُعْمَلُ بِهَا وَلَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: كَانُوا يَكْرَهُونَ غَرِيبَ الْحَدِيثِ ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ. وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ قَالَ: إنَّ مِنْ الْحَدِيثِ حَدِيثًا لَهُ ظُلْمَةٌ كَظُلْمَةِ اللَّيْلِ تُنْكِرُهُ، وَإِنَّ مِنْ الْحَدِيثِ حَدِيثًا لَهُ ضَوْءٌ كَضَوْءِ النَّهَارِ تَعْرِفُهُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ زَيْنُ الْعَابِدِينَ: الْعِلْمُ مَا تَوَاطَأَتْ عَلَيْهِ الْأَلْسُنُ. وَقَالَ مَالِكٌ: شَرُّ الْعِلْمِ الْغَرِيبُ، وَخَيْرُ الْعِلْمِ الظَّاهِرُ الَّذِي قَدْ رَآهُ النَّاسُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي: مَنْ طَلَبَ الدِّينَ بِالْكَلَامِ تَزَنْدَقَ، وَمَنْ طَلَبَ غَرِيبَ الْحَدِيثِ كَذَبَ، وَمَنْ طَلَبَ الْمَالَ بِالْكِيمْيَاءِ أَفْلَسَ، وَعَنْ مَالِكٍ مِثْلُهُ وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: لَنَا فِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ شَغْلٌ عَنْ سَقِيمِهِ وَقَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: لَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَشْغَلَ نَفْسَهُ بِكِتَابَةِ الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ، فَأَقَلُّ مَا فِي ذَلِكَ أَنْ يَفُوتَهُ مِنْ الصَّحِيحِ بِقَدْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: الِاشْتِغَالُ بِالْأَخْبَارِ الْقَدِيمَةِ يَقْطَعُ عَنْ الْعِلْمِ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْنَا طَلَبُهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: مَا أَكْثَرَ أَحَدٌ مِنْ الْحَدِيثِ

فَأَنْجَحَ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَإِنَّمَا الْإِشَارَةُ إلَى مَا ذَكَرْتُ مِنْ التَّشَاغُلِ بِكَثْرَةِ الطُّرُقِ وَالْغَرَائِبِ فَيَفُوتُ الْفِقْهُ. وَذَكَرَ كَلَامًا كَثِيرًا إلَى أَنْ قَالَ: وَقَدْ أَوْغَلَ خَلْقٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي كِتَابَةِ طُرُقِ الْمَنْقُولَات، فَشَغَلَهُمْ عَنْ مَعْرِفَةِ الْوَاجِبَاتِ، حَتَّى إنَّ أَحَدَهُمْ يُسْأَلُ عَنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَلَا يَدْرِي، لَا بَلْ قَدْ أَثَّرَ هَذَا فِي الْقُدَمَاءِ، ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ أَنَّ امْرَأَةً وَقَفَتْ عَلَى مَجْلِسٍ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَأَبُو خَيْثَمَةَ وَخَلَفُ بْنُ سَالِمٍ فِي جَمَاعَةٍ يَتَذَاكَرُونَ الْحَدِيثَ، فَسَأَلَتْهُمْ عَنْ الْحَائِضِ تُغَسِّلُ الْمَوْتَى وَكَانَتْ غَاسِلَةً، فَلَمْ يُجِبْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَنْظُرُ إلَى بَعْضٍ، فَأَقْبَلَ أَبُو ثَوْرٍ فَقَالُوا لَهَا: عَلَيْك بِالْمُقْبِلِ، فَسَأَلَتْهُ فَقَالَ: نَعَمْ تُغَسِّلُ الْمَيِّتَ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَمَا إنَّ حَيْضَتَك لَيْسَتْ فِي يَدِك» وَلِقَوْلِهَا: «كُنْت أَفْرُقُ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَاءِ وَأَنَا حَائِضٌ» قَالَ أَبُو ثَوْرٍ: فَإِذَا فَرَقَتْ رَأْسَ الْحَيِّ فَالْمَيِّتُ بِهِ أَوْلَى، قَالُوا: نَعَمْ رَوَاهُ فُلَانٌ وَحَدَّثَنَا بِهِ فُلَانٌ وَنَعْرِفُهُ مِنْ طَرِيقِ كَذَا، وَخَاضُوا فِي الطُّرُقِ وَالرِّوَايَاتِ فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: فَأَيْنَ كُنْتُمْ إلَى الْآنَ. قَالَ: وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَكَابِرِهِمْ يَسْتَحِي مِنْ رَدِّ الْفُتْيَا فَيُفْتِي بِمَا لَا يَحْسُنُ ذِكْرُهُ حَتَّى إنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ عَلِيَّ بْنَ دَاوُد وَفِي مَجْلِسِهِ نَحْوُ أَلْفِ رَجُلٍ فَقَالَتْ: إنِّي حَلَفْت بِصَدَقَةِ إزَارِي؟ فَقَالَ: بِكَمْ اشْتَرَيْته فَقَالَتْ: بِاثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا قَالَ: صُومِي اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، فَلَمَّا ذَهَبَتْ جَعَلَ يَقُولُ آهٍ غَلِطْنَا وَاَللَّهِ، أَمَرْنَاهَا بِكَفَّارَةِ الظِّهَارِ، حَكَاهُ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ. ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ قَالَ: كُتِبَ إلَى أَبِي ثَوْرٍ لَمْ يَزَلْ هَذَا الْأَمْرُ فِي أَصْحَابِك حَتَّى شَغَلَهُمْ عَنْهُ إحْصَاءُ عَدَدِ رُوَاةِ «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا» فَغَلَبَهُمْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ عَلَيْهِ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي (صَيْدِ الْخَاطِرِ) : فَهُوَ كَمَا قَالَ الْحُطَيْئَةُ: زَوَامِلُ لِلْأَخْبَارِ لَا عِلْمَ عِنْدَهَا ... بِمُتْقَنِهَا إلَّا كَعِلْمِ الْأَبَاعِرِ لَعَمْرُك مَا يَدْرِي الْبَعِيرُ إذَا غَدَا ... بِأَوْسَاقِهِ أَوْ رَاحَ مَا فِي الْغَرَائِرِ ثُمَّ ذَكَرَ الْعُلُومَ وَقَالَ: إنَّ الْفِقْهَ عَلَيْهِ مَدَارُ الْعُلُومِ، فَإِنْ اتَّسَعَ الزَّمَانُ

لِلتَّزَيُّدِ مِنْ الْعِلْمِ فَلْيَكُنْ مِنْ الْفِقْهِ. فَإِنَّهُ الْأَنْفَعُ وَقَالَ فِيهِ: وَلَقَدْ أَدْرَكْنَا فِي زَمَانِنَا مَنْ قَرَأَ مِنْ اللُّغَةِ أَحْمَالًا فَحَضَرَ بَعْضُ الْمُتَفَقِّهَةِ فَسَأَلَهُ عَنْ الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ: «لَوْ طَعَنْت فِي فَخِذِهَا أَجْزَأَك» فَقَالَ: هَذَا لِلْمُبَالَغَةِ، فَقَالَ لَهُ الصَّبِيُّ: أَلَيْسَ هَذَا فِي ذَكَاةِ غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ؟ فَفَكَّرَ الشَّيْخُ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: صَدَقْت. وَأَدْرَكْنَا مَنْ قَرَأَ الْحَدِيثَ سِتِّينَ سَنَةً فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ؟ وَأَدْرَكْنَا مَنْ بَرَعَ فِي عُلُومِ الْفِقْهِ فَكَانَ إذَا سُئِلَ عَنْ حَدِيثٍ لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ؟ وَأَدْرَكْنَا مَنْ بَرَعَ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يَوْمًا: إنِّي أَدْرَكْتُ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَأَضَفْت إلَيْهَا أُخْرَى فَمَا تَقُولُ؟ فَسَبَّهُ وَلَامَهُ عَلَى تَخَلُّفِهِ وَلَمْ يَدْرِ مَا الْجَوَابُ، وَأَدْرَكْنَا مَنْ بَرَعَ فِي عُلُومِ الْقِرَاءَاتِ فَكَانَ إذَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ يَقُولُ: عَلَيْك بِفُلَانٍ. هَذِهِ كُلُّهَا مِحَنٌ قَبِيحَةٌ، فَلَمَّا رَأَيْت فِي الصِّبَا أَنَّ كُلَّ مَنْ بَرَعَ مِنْ أُولَئِكَ فِي فَنِّهِ مَا اسْتَقْصَى، وَإِنَّمَا عَوَّقَتْهُ فُضُولُهُ عَنْ الْمُهِمِّ، وَمَا بَلَغَ الْغَايَةَ رَأَيْت أَنَّ أَخْذَ الْمُهِمِّ مِنْ كُلِّ عِلْمٍ هُوَ الْمُهِمُّ، فَإِنَّهُ مِنْ أَقْبَحِ الْأَشْيَاءِ أَنْ يَطْلُبَ الْمُحَدِّثُ عُلُوَّ الْإِسْنَادِ وَحُسْنَ التَّصَانِيفِ، فَيَقْرَأَ الْمُصَنَّفَاتِ الْكِبَارِ وَيَطْلُبَ الْأَسَانِيدَ الْعَوَالِيَ وَيَكْتُبَ، فَيَذْهَبَ الْعُمْرُ وَيَرْجِعَ كَمَا كَانَ، لَيْسَ عِنْدَهُ إلَّا أَجْزَاءٌ مُصَحَّحَةٌ لَا يَدْرِي مَا فِيهَا وَقَدْ سَهِرَ وَتَعِبَ. وَإِذَا سَاءَلْته عَنْ عِلْمِهِ ... قَالَ عِلْمِي يَا خَلِيلِي فِي سَفَطْ فِي كَرَارِيسَ جِيَادٍ أُحْكِمَتْ ... وَبِخَطٍّ أَيِّ خَطٍّ أَيِّ خَطْ وَإِذَا سَاءَلْته عَنْ مُشْكِلٍ ... حَكَّ لَحْيَيْهِ جَمِيعًا وَامْتَخَطْ وَيَتَفَقَّهُ صَبِيٌّ صَغِيرٌ فَيُفْتِي فِي مَسْأَلَةٍ عَجَزَ ذَلِكَ الشَّيْخُ عَنْهَا، وَإِنَّمَا أَشْرَحُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِلتَّعْلِيمِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلِأَبِي دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَرْفُوعًا «الْعِلْمُ ثَلَاثَةٌ وَمَا سِوَى

ذَلِكَ فَهُوَ فَضْلٌ: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ، أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ، أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ» وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ «إنْ قَدَرْت أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِيَ، وَلَيْسَ فِي قَلْبِك غِشٌّ لِأَحَدٍ فَافْعَلْ ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي مَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحْيَانِي، وَمَنْ أَحْيَانِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ» . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لِيُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى: عَلَيْك بِالْفِقْهِ فَإِنَّهُ كَالتُّفَّاحِ الشَّامِيِّ يُحْمَلُ مِنْ عَامِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ: الْفِقْهُ عُمْدَةُ الْعُلُومِ، وَأَمْلَى الشَّافِعِيُّ عَلَى مُصْعَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَشْعَارَ هُذَيْلٍ وَوَقَائِعَهَا وَأَيَّامَهَا حِفْظًا، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَيْنَ أَنْتَ بِهَذَا الذِّهْنِ عَنْ الْفِقْهِ؟ فَقَالَ إيَّاهُ أَرَدْت وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَحُثُّنَا عَلَى الْفِقْهِ، وَنَهَانَا عَنْ الْكَلَامِ وَكَانَ يَقُولُ: لَعَنَ اللَّهُ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ لَقَدْ فَتَحَ لِلنَّاسِ الطَّرِيقَ إلَى الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِمْ. وَقَالَ الرَّبِيعُ: مَرَّ الشَّافِعِيُّ بِيُوسُفَ بْنِ عَمْرٍو وَهُوَ يَذْكُرُ شَيْئًا مِنْ الْحَدِيثِ فَقَالَ: يَا يُوسُفُ تُرِيدُ تَحْفَظُ الْحَدِيثَ وَتَحْفَظُ الْفِقْهَ هَيْهَاتَ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحِيطِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: أَفْضَلُ الْعُلُومِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَصْلِ الدِّينِ وَعِلْمِ الْيَقِينِ مَعْرِفَةُ الْفِقْهِ وَالْأَحْكَامِ الْفَاصِلَةِ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ يَحْيَى قَالَ: قَالَ لَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: يَا أَصْحَابَ الْحَدِيثِ تَعَلَّمُوا مَعَانِيَ الْحَدِيثِ فَإِنِّي تَعَلَّمْتُ مَعَانِيَ الْحَدِيثِ ثَلَاثِينَ سَنَةً، قَالَ: فَتَرَكُوهُ وَقَالُوا: عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَمَّنْ؟ وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ النَّحْوِيُّ الْمُتَأَخِّرُ الْمَشْهُورُ فِي أَثْنَاءِ كَلَامٍ لَهُ: وَأَمَّا إنَّ صَاحِبَ تَنَاتِيفٍ وَيَنْظُرُ فِي عُلُومٍ كَثِيرَةٍ، فَهَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَبْلُغَ الْإِمَامَةَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، وَقَدْ قَالَ الْعُقَلَاءُ: ازْدِحَامُ الْعُلُومِ مُضِلَّةٌ لِلْمَفْهُومِ، وَلِذَلِكَ تَجِدُ مَنْ بَلَغَ الْإِمَامَةَ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي عِلْمٍ مِنْ الْعُلُومِ لَا يَكَادُ يَشْتَغِلُ بِغَيْرِهِ، وَلَا يُنْسَبُ إلَى غَيْرِهِ وَقَدْ نَظَمْتُ أَبْيَاتًا فِي شَأْنِ مَنْ يَنْهَزُ بِنَفْسِهِ. وَيَأْخُذُ الْعِلْمَ مِنْ الصُّحُفِ بِفَهْمِهِ: يَظُنُّ الْغَمْرُ أَنَّ الْكُتْبَ تَهْدِي ... أَخَا فَهْمٍ لِإِدْرَاكِ الْعُلُومِ وَمَا يَدْرِي الْجَهُولُ بِأَنَّ فِيهَا ... غَوَامِضَ حَيَّرَتْ عَقْلَ الْفَهِيمِ إذَا رُمْت الْعُلُومَ بِغَيْرِ شَيْخٍ ... ضَلَلْت عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ

وَتَلْتَبِسُ الْعُلُومُ عَلَيْك حَتَّى ... تَصِيرَ أَضَلَّ مِنْ تُوِّمَا الْحَكِيمِ أَشَرْت إلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ: قَالَ حِمَارُ الْحَكِيمِ تُوِّمَا ... لَوْ أَنْصَفُونِي لَكُنْت أَرْكَبُ لِأَنَّنِي جَاهِلٌ بَسِيطٌ ... وَصَاحِبِي جَاهِلٌ مُرَكَّبُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا لَمْ تَكُنْ حَافِظًا وَاعِيًا ... فَجَمْعُك لِلْكُتْبِ لَا يَنْفَعُ وَتَحْضُرُ بِالْجَهْلِ فِي مَوْضِعٍ ... وَعِلْمُك فِي الْكُتْبِ مُسْتَوْدَعُ وَمَنْ كَانَ فِي عُمُرِهِ هَكَذَا ... يَكُنْ دَهْرَهُ الْقَهْقَرَى يَرْجِعُ وَمِنْ الْمَشْهُورِ: فَدَعْ عَنْك الْكِتَابَةَ لَسْتَ مِنْهَا ... وَلَوْ سَوَّدْت وَجْهَك بِالْمِدَادِ وَلِلْعُلُومِ رِجَالٌ يُعْرَفُونَ بِهَا ... وَلِلدَّوَاوِينِ كُتَّابٌ وَحُسَّابُ.

فصل من علوم الحديث معرفة علله

[فَصْلٌ مِنْ عُلُومِ الْحَدِيثِ مَعْرِفَةُ عِلَلِهِ] فَصْلٌ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَمِنْ عُلُومِ الْحَدِيثِ مَعْرِفَةُ عِلَلِهِ، وَذَلِكَ بِجَمْعِ طُرُقِهِ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: إذَا لَمْ يُجْمَعْ طُرُقُ الْحَدِيثِ لَمْ يُفْهَمْ، وَالْحَدِيثُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: لَأَنْ أَعْرِفَ عِلَّةَ الْحَدِيثِ هُوَ عِنْدِي أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْتُبَ عِشْرِينَ حَدِيثًا لَيْسَتْ عِنْدِي، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُنْذِرٍ أَبِي يَعْلَى الثَّوْرِيِّ عَنْ الرَّبِيعِ قَالَ: إنَّ مِنْ الْحَدِيثِ حَدِيثًا لَهُ ضَوْءٌ كَضَوْءِ النَّهَارِ نَعْرِفُهُ، وَإِنَّ مِنْ الْحَدِيثِ حَدِيثًا لَهُ ظُلْمَةٌ كَظُلْمَةِ اللَّيْلِ نُنْكِرُهُ، وَقَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ قُلْت لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ: كَيْفَ تَعْرِفُ صَحِيحَ الْحَدِيثِ مِنْ خَطَئِهِ؟ فَقَالَ: كَمَا يَعْرِفُ الطَّبِيبُ الْمَجْنُونَ. وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ الْمَدِينِيِّ عَنْ ابْنِ مَهْدِيٍّ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَرَأَيْت لَوْ أَتَيْت النَّاقِدَ فَأَرَيْته دَرَاهِمَك، فَقَالَ: هَذَا جَيِّدٌ وَهَذَا مَسْتُوقٌ، وَهَذَا مُبَهْرَجٌ، أَكُنْت تَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ كُنْت تُسَلِّمُ الْأَمْرَ لَهُ؟ قَالَ: بَلْ كُنْت أُسَلِّمُ الْأَمْرَ إلَيْهِ قَالَ: فَهَذَا كَذَلِكَ لِطُولِ الْمُجَالَسَةِ وَالْمُنَاظَرَةِ وَالْخِبْرَةِ. وَعَنْ ابْنِ مَهْدِيٍّ قَالَ: عِلْمُنَا بِصِلَةِ الْحَدِيثِ كِهَانَةٌ عِنْدَ الْجَاهِلِ وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى أَبِي زُرْعَةَ فَقَالَ: مَا الْحُجَّةُ فِي تَعْلِيلِكُمْ الْحَدِيثَ؟ فَقَالَ: الْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَنِي عَنْ حَدِيثٍ لَهُ عِلَّةٌ فَأَذْكُرَ عِلَّتَهُ، ثُمَّ تَقْصِدَ مُحَمَّدَ بْنَ مُسْلِمِ بْنِ وَارَةَ فَتَسْأَلَهُ عَنْهُ فَيُعَلِّلَهُ، ثُمَّ تَقْصِدَ أَبَا حَاتِمٍ الرَّازِيَّ فَيُعَلِّلَهُ، ثُمَّ تَنْظُرَ فَإِنْ وَجَدْت بَيْنَنَا اخْتِلَافًا فِي عِلَّتِهِ فَاعْلَمْ أَنَّ كُلًّا مِنَّا تَكَلَّمَ عَلَى مُرَادِهِ، وَإِنْ وَجَدْت الْكَلِمَةَ مُتَّفِقَةً فَاعْلَمْ حَقِيقَةَ هَذَا الْعِلْمِ، فَفَعَلَ الرَّجُلُ فَاتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ إلْهَامٌ رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالْخَطِيبُ وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ سَمِعْت الْأَوْزَاعِيَّ يَقُولُ: كُنَّا نَسْمَعُ الْحَدِيثَ فَنَعْرِضُهُ عَلَى أَصْحَابِنَا كَمَا نَعْرِضُ الدِّرْهَمَ الْمُزَيَّفَ، فَمَا عَرَفُوا مِنْهُ أَخَذْنَا وَمَا أَنْكَرُوا مِنْهُ تَرَكْنَا. وَقَالَ الْأَعْمَشُ:

كَانَ إبْرَاهِيمُ صَيْرَفِيَّ الْحَدِيثِ فَكُنْت إذَا سَمِعْت الْحَدِيثَ مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَتَيْته فَعَرَضْته عَلَيْهِ. وَقَالَ قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ: رَأَيْت زَائِدَةَ يَعْرِضُ كُتُبَهُ عَلَى سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ثُمَّ الْتَفَتَ إلَى رَجُلٍ فِي الْمَجْلِسِ فَقَالَ: مَا لَكَ لَا تَعْرِضُ كُتُبَك عَلَى الْجَهَابِذَةِ كَمَا نَعْرِضُ؟ وَقَالَ زَائِدَةُ: كُنَّا نَأْتِي الْأَعْمَشَ فَيُحَدِّثُنَا بِكَثِيرٍ، ثُمَّ نَأْتِي سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ فَنَذْكُرُ لَهُ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ فَيَقُولُ: لَيْسَ هَذَا مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ فَنَقُولُ: صَدَقَ سُفْيَانُ لَيْسَ هَذَا مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ فَنَقُولُ هُوَ حَدَّثَنَاهُ السَّاعَةَ فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَقُولُوا لَهُ إنْ شِئْتُمْ فَنَأْتِي الْأَعْمَشَ فَنُخْبِرُهُ، فَيَقُولُ: صَدَقَ سُفْيَانُ لَيْسَ هَذَا مِنْ حَدِيثِنَا. وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَوْلَا الْجَهَابِذَةُ كَثُرَتْ السَّتُّوقُ وَالزُّيُوفُ فِي رُوَاةِ الشَّرِيعَةِ أَمَا تَحْفَظُ قَوْلَ شُرَيْحٍ: إنَّ لِلْأَثَرِ جَهَابِذَةً كَجَهَابِذَةِ الْوَرِقِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَسْتَدِلُّ عَلَى أَكْثَرِ الْحَدِيثِ وَكَذِبِهِ إلَّا بِصِدْقِ الْمُخْبِرِ وَكَذِبِهِ، إلَّا فِي الْخَاصِّ الْقَلِيلِ مِنْ الْحَدِيثِ، وَذَلِكَ أَنْ تَسْتَدِلَّ عَلَى الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِيهِ بِأَنْ يُحَدِّثَ الْمُحَدِّثُ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ، أَوْ يُخَالِفُهُ مَنْ هُوَ أَثْبَتُ وَأَكْثَرُ دَلَالَاتٍ بِالصِّدْقِ مِنْهُ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ يَحْيَى بْنِ آدَمَ يَعْنِي مَا يَأْتِي فِي الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي آدَابِ الدُّعَاءِ وَالْقِرَاءَةِ، قَالَ: وَإِنْ كَانَتْ رُوَاتُهُ ثِقَاتٍ. فَهُوَ مِمَّا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَأْمُرُ بِتَصْدِيقِ مَنْ أَخْبَرَ عَنْهُ مَا لَمْ يَقُلْهُ، وَقَدْ تَفَرَّدَ عَنْهُ يَحْيَى بْنُ آدَمَ وَهُوَ ثِقَةٌ، وَلَكِنْ اُخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِيهِ وَأَرْسَلَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَشْبَهُ، وَالْخَطَأُ فِي مَرَاسِيلِ الْمَقْبُرِيِّ مُتَوَهَّمٌ. ثُمَّ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ أَحَادِيثَ أُخَرَ مُعَلَّلَةً، إلَى أَنْ ذَكَرَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ فِي آخِرِ الْكِتَابِ فِي كَفَّارَةِ الْمَجْلِسِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَبَقَ قَبْلَ هَذَا بِنَحْوِ كُرَّاسَةٍ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ حَدِيثُ «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ» .

فصل في علم الإعراب لصاحب الحديث

[فَصْلٌ فِي عِلْمِ الْإِعْرَابِ لِصَاحِبِ الْحَدِيثِ] ِ) قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَمِنْ الْعُلُومِ الَّتِي تَلْزَمُ صَاحِبَ الْحَدِيثِ مَعْرِفَتُهُ لِلْإِعْرَابِ لِئَلَّا يَلْحَنَ وَلِيُورِدَ الْحَدِيثَ عَلَى الصِّحَّةِ. كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَضْرِبُ وَلَدَهُ عَلَى اللَّحْنِ، انْتَهَى كَلَامُهُ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَضْرِبُ وَلَدَهُ عَلَى اللَّحْنِ قَالَ: وَكَتَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَمَّا بَعْدُ فَتَفَقَّهُوا فِي السُّنَّةِ وَتَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إدْرِيسَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، إسْنَادٌ جَيِّدٌ، وَرُوِيَ الثَّانِي عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ عَنْ ثَوْرٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعْدٍ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ، فَذَكَرَهُ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: تَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ فَإِنَّهَا تُثَبِّتُ الْعَقْلَ وَتَزِيدُ فِي الْمُرُوءَةِ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَقَالَ شُعْبَةُ: مَثَلُ الَّذِي يَتَعَلَّمُ الْحَدِيثَ وَلَا يَتَعَلَّمُ النَّحْوَ مَثَلُ الْبُرْنُسِ لَا رَأْسَ لَهُ. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ اللَّحْنُ فِي الْكَلَامِ أَقْبَحُ مِنْ آثَارِ الْجُدَرِيِّ فِي الْوَجْهِ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ إذَا سَرَّك أَنْ تَعْظُمَ فِي عَيْنِ مَنْ كُنْت فِي عَيْنِهِ صَغِيرًا، أَوْ يَصْغُرَ فِي عَيْنِك مَنْ كَانَ فِيهَا كَبِيرًا، فَتَعَلَّمْ الْعَرَبِيَّةَ فَإِنَّهَا تُجَرِّئُك عَلَى الْمَنْطِقِ وَتُدْنِيك مِنْ السُّلْطَانِ قَالَ الشَّاعِرُ: اللَّحْنُ يَصْلُحُ مِنْ لِسَانِ الْأَلْكَنِ ... وَالْمَرْءُ تُعْظِمُهُ إذَا لَمْ يَلْحَنِ وَلَحْنُ الشَّرِيفِ مَحَطَّةٌ مِنْ قَدْرِهِ ... فَتَرَاهُ يَسْقُطُ مِنْ لِحَانِ الْأَعْيُنِ وَتَرَى الدَّنِيَّ إذَا تَكَلَّمَ مُعْرِبًا ... حَازَ النِّهَايَةَ بِاللِّسَانِ الْمُعْلِنِ وَإِذَا طَلَبْت مِنْ الْعُلُومِ أَجَلَّهَا ... فَأَجَلُّهَا مِنْهَا مُقِيمُ الْأَلْسُنِ وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي مَكَان آخَرَ أَنَّ قَائِلَ هَذَا لَوْ كَانَ مُهْتَدِيًا لَقَالَ: فَأَجَلُّهَا مِنْهَا مُقِيمُ الْأَدْيُنِ وَمَا قَالَهُ حَقٌّ قَالَ: وَقَالُوا الْعَرَبِيَّةُ تَزِيدُ فِي الْمُرُوءَةِ

وَقَالُوا مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَجِدَ فِي نَفْسِهِ الْكِبَرَ فَلْيَتَعَلَّمْ النَّحْوَ، كَذَا قَالَ وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: وَيُرْوَى أَنَّ الْمَأْمُونَ كَانَ يَتَفَقَّدُ مَا يَكْتُبُ بِهِ الْكُتَّابُ، فَيُسْقِطُ مَنْ لَحَنَ، وَيَحُطُّ مِقْدَارَ مَنْ أَتَى بِمَا غَيْرُهُ أَجْوَدُ مِنْهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، فَكَانَ الْكُتَّابُ يُثَابِرُونَ عَلَى النَّحْوِ لَمَّا كَانَ الرُّؤَسَاءُ يَتَفَقَّدُونَ هَذَا مِنْهُمْ وَيُقَرِّبُونَ الْعُلَمَاءَ، كَمَا قَالَ الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ: جَاءَنِي رَسُولُ الرَّشِيدِ فَنَهَضْت وَدَخَلْت وَسَلَّمْت عَلَيْهِ فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ، وَمُحَمَّدٌ عَنْ يَمِينِهِ وَالْمَأْمُونُ عَنْ يَسَارِهِ، وَالْكِسَائِيُّ بَيْنَ يَدَيْهِ يُطَارِحُهُمْ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ وَالشِّعْرِ، فَقَالَ لِي الرَّشِيدُ: كَمْ اسْمٌ {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137] ؟ فَقُلْت: ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اسْمُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْكَافُ الثَّانِيَةُ اسْمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْهَاءُ مَعَ الْمِيمِ اسْمُ الْكُفَّارِ، قَالَ الرَّشِيدُ: كَذَا قَالَ الرَّجُلُ، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إلَى الْكِسَائِيّ، ثُمَّ الْتَفَتَ إلَى مُحَمَّدٍ فَقَالَ أَفَهِمْت؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَارْدُدْهُ عَلَيَّ إنْ كُنْت صَادِقًا، فَرَدَّهُ عَلَى مَا لَفَظْت بِهِ، فَقَالَ: أَحْسَنْت أَمْتَعَ اللَّهُ بِك. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ فَقَالَ مَنْ يَقُولُ: نَفْلِقُ هَامًا لَمْ تَنَلْهُ أَكُفُّنَا ... بِأَسْيَافِنَا هَامَ الْمُلُوكِ الْقَمَاقِمِ فَقُلْت الْفَرَزْدَقُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: كَيْفَ يَفْلِقُ هَامًا لَمْ تَنَلْهُ كَفُّهُ؟ قُلْت: عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، كَأَنَّهُ قَالَ نَفْلِقُ بِأَسْيَافِنَا مِنْ الْمُلُوكِ الْقَمَاقِمِ هَامًا لَمْ تَنَلْهُ أَكُفُّنَا عَلَى التَّعَجُّبِ وَالِاسْتِفْهَامِ، فَقَالَ أَصَبْت، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الْكِسَائِيّ فَحَادَثَهُ سَاعَةً ثُمَّ الْتَفَتَ إلَيَّ فَقَالَ: أَعِنْدَك مَسْأَلَةٌ؟ قُلْت: نَعَمْ، لِصَاحِبِ هَذَا الْبَيْتِ قَالَ: هَاتِ، فَقُلْت: أَخَذْنَا بِآفَاقِ السَّمَاءِ عَلَيْكُمْ ... لَنَا قَمَرَاهَا وَالنُّجُومُ الطَّوَالِعُ قَالَ الرَّشِيدُ: أَفَادَنَا هَذَا الشَّيْخُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؟ قَالَا نَعَمْ، عَلَّمَنَا عَلِيُّ بْنُ حَمْزَةَ أَنَّ الْقَمَرَيْنِ هَهُنَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، قَالُوا سِيرَةُ الْعُمَرَيْنِ يُرِيدُونَ

أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، كَمَا قِيلَ: مَا اطَّرَدَ الْأَسْوَدَانِ، يُرِيدُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ قُلْت: أَزِيدُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي السُّؤَالِ قَالَ: زِدْ قُلْت: فَلِمَ اسْتَحْسَنُوا هَذَا قَالَ: لَمَّا اجْتَمَعَ شَيْئَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَكَانَ أَحَدُهُمَا أَشْهَرَ مِنْ الْآخَرِ غَلَبَ الْأَشْهَرُ؛ لِأَنَّ الْقَمَرَ أَشْهَرُ عِنْدَ الْعَرَبِ لِأُنْسِهِ وَكَثْرَةِ بُرُوزِهِمْ فِيهِ وَمُشَاهَدَتِهِمْ إيَّاهُ دُونَ الشَّمْسِ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ، وَتِلْكَ الْقِصَّةُ فِي قَوْلِهِمْ: الْعُمْرَانِ لِطُولِ خِلَافَةِ عُمَرَ وَكَثْرَةِ الْفُتُوحِ فِيهَا، وَكَذَلِكَ اللَّيْلُ لِأَنَّهُمْ فِيهِ أَفْرَغُ، وَسَمَرُهُمْ فِيهِ أَكْثَرُ. قُلْت: أَفِيهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ هَذَا؟ قَالَ: مَا أَعْلَمُهُ، ثُمَّ الْتَفَتَ إلَى الْكِسَائِيّ فَقَالَ: أَتَعْرِفُ فِي هَذَا غَيْرَ مَا قُلْنَاهُ مِمَّا أَفَدْتنَاهُ؟ قَالَ: لَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ وَفَاءُ الْمَعْنَى، فَأَمْسَكَ عَنِّي قَلِيلًا ثُمَّ قَالَ: أَتَعْرِفُ فِيهِ أَنْتَ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا قُلْت: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بَقِيَتْ الْغَايَةُ الَّتِي افْتَخَرَ بِهَا قَائِلُ هَذَا الشِّعْرِ قَالَ قُلْت: الشَّمْسُ أَرَادَ بِهَا إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ، وَالْقَمَرُ ابْنُ عَمِّك مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنُّجُومُ أَنْتَ وَالْخُلَفَاءُ مِنْ آبَائِك وَمَنْ يَكُونُ مِنْ وَلَدِك إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ: فَتَهَلَّلَ وَجْهُهُ وَقَالَ: حَسَنٌ وَاَللَّهِ، وَالْعِلْمُ كَثِيرٌ لَا يُحَاطُ بِهِ، وَلَعَلَّ هَذَا الشَّيْخَ لَمْ يَسْمَعْ هَذَا فَيُفِيدَنَاهُ، وَإِنَّ هَذَا الْعُمَرِيَّ لَأَبْلَغُ إلَى غَايَةِ الْفَخْرُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إلَى الْفَضْلِ بْنِ الرَّبِيعِ فَقَالَ تَحْمِلُ إلَى مَنْزِلِ الشَّيْخِ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَتَقَدَّمَ بِهَا مِنْ سَاعَتِهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ وَغَيْرُهُ وَمِمَّنْ امْتَنَعَ مِنْ النَّحْوِيِّينَ مِنْ مُلَازَمَةِ السُّلْطَانِ، إجْلَالًا لِلْعِلْمِ وَغِنَى نَفْسٍ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ وَبَكْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَازِنِيُّ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كَانَ الْخَلِيلُ مِنْ الزُّهَّادِ الْمُنْقَطِعِينَ إلَى الْعِلْمِ، وَمِنْ خِيَارِ عِبَادِ اللَّهِ الْمُتَقَشِّفِينَ فِي الْعِبَادَةِ، أَرْسَلَ إلَيْهِ سُلَيْمَانُ بْنُ حُبَيْتٍ الْمُهَلَّبِيُّ لَمَّا وَلِيَ، فَنَثَرَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِهِ كَثِيرًا وَامْتَنَعَ أَنْ يَأْتِيَهُ وَكَتَبَ إلَيْهِ: أَبْلِغْ سُلَيْمَانَ أَنِّي عَنْهُ فِي سَعَةٍ ... وَفِي غِنًى غَيْرَ أَنِّي لَسْت ذَا مَالِ شُحًّا بِنَفْسِي إنِّي لَا أَرَى أَحَدًا ... يَمُوتُ هُزْلًا وَلَا يَبْقَى عَلَى حَالِ وَالرِّزْقُ عَنْ قَدَرٍ لَا الضَّعْفُ يُنْقِصُهُ ... وَلَا يَزِيدَنَّ فِيهِ حَوْلُ مُحْتَالِ وَالرِّزْقُ يَغْشَى أُنَاسًا لَا طَبَاخَ لَهُمْ ... كَالسَّيْلِ يَغْشَى أُصُولَ الدِّنْدِنِ الْبَالِي

كُلُّ امْرِئٍ بِسَبِيلِ الْمَوْتِ مُرْتَهَنٌ ... فَاعْمَلْ لِبَالِك إنِّي شَاغِلٌ بَالِي وَالْفَقْرُ فِي النَّفْسِ لَا فِي الْمَالِ نَعْرِفُهُ ... وَمِثْلُ ذَاكَ الْغِنَى فِي النَّفْسِ لَا الْمَالِ وَأَمَّا الْمَازِنِيُّ، فَأَشْخَصَهُ الْوَاثِقُ إلَى سُرَّ مَنْ رَأَى لِأَنَّ جَارِيَةً غَنَّتْ وَرَاءَ سِتَارِهِ أَظُلَيْمُ إنَّ مُصَابَكُمْ رَجُلًا ... أَهْدَى السَّلَامَ تَحِيَّةً ظُلْمُ فَقَالَ لَهَا الْوَاثِقُ: رَجُلٌ، فَقَالَتْ: لَا أَقُولُ إلَّا كَمَا عَلِمْت، فَقَالَ لِلْفَتْحِ: كَيْفَ هُوَ يَا فَتْحُ؟ فَقَالَ: هُوَ خَبَرُ إنَّ كَمَا قُلْت، فَقَالَتْ الْجَارِيَةُ: عَلَّمَنِي أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْعَرَبِيَّةِ الْمَازِنِيُّ فَأَمَرَ بِإِشْخَاصِهِ فَأُشْخِصَ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: فَلَقِيَنِي يَعْقُوبُ بْنُ السِّكِّيتِ فَسَأَلَنِي فَأَجَبْته بِالنَّصْبِ فَقَالَ: فَأَيْنَ خَبَرُ إنَّ قُلْت ظُلْمُ، ثُمَّ أَتَى الْمَازِنِيُّ، فَأَجَابَهُ بِمَقَالَةِ الْجَارِيَةِ. قَالَ الْمَازِنِيُّ: قُلْت لِابْنِ قَادِمٍ وَلِابْنِ سَعْدٍ، لَمَّا كَابَرَنِي: كَيْفَ تَقُولُ نَفَقَتُك دِينَارًا أَصْلَحُ مِنْ دِرْهَمٍ؟ فَقَالَ: دِينَارًا قُلْت: كَيْفَ تَقُولُ: ضَرْبُك زَيْدًا خَيْرٌ لَك؟ فَنَصَبَ، قُلْت: فَرِّقْ بَيْنَهُمَا فَانْقَطَعَ، وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ الْوَاثِقِ وَحَضَرَ ابْنُ السِّكِّيتِ فَقَالَ لِي الْوَاثِقُ: هَاتِ مَسْأَلَةً فَقُلْت لِيَعْقُوبَ: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ} [يوسف: 63] . مَا وَزْنُهُ مِنْ الْفِعْلِ؟ قَالَ: نَفْعَلْ، قَالَ الْوَاثِقُ: غَلِطْت، ثُمَّ قَالَ لِي: فَسِّرْهُ، فَقُلْت: نَكْتَلْ تَقْدِيرُهُ نَفْتَعِلُ نَكْتَيِلُ فَانْقَلَبَتْ الْيَاءُ أَلِفًا لِفَتْحِ مَا قَبْلَهَا، فَصَارَ لَفْظُهَا نَكْتَالُ، فَأُسْكِنَتْ اللَّامُ لِلْجَزْمِ لِأَنَّهُ جَوَابُ الْأَمْرِ، وَحُذِفَتْ الْأَلِفُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، فَقَالَ: هَذَا هُوَ الْجَوَابُ، فَلَمَّا خَرَجْنَا عَاتَبَنِي يَعْقُوبُ، فَقُلْت: وَاَللَّهِ مَا قَصَدْت تَخْطِئَتَك وَلَكِنْ كَانَتْ فِي نَفْسِي هَيِّنَةَ الْجَوَابِ، وَلَمْ أَظُنَّ أَنَّهَا تَعْزُبُ عَلَيْك. قَالَ: وَحَضَرَ يَوْمًا آخَرَ وَاجْتَمَعَ جَمَاعَةُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ فَقَالَ لِي الْوَاثِقُ: يَا مَازِنِيُّ، هَاتِ مَسْأَلَةً فَقُلْت: مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28]

وَلَمْ يَقُلْ: بَغِيَّةً وَهِيَ صِفَةٌ لِمُؤَنَّثٍ فَأَجَابُوا بِجَوَابَاتٍ لَيْسَتْ مُرْضِيَةً، فَقَالَ لِي الْوَاثِقُ: هَاتِ الْجَوَابَ، فَقُلْت: لَوْ كَانَتْ بَغِيٌّ عَلَى تَقْدِيرِ فَعِيلٍ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ لَحِقَتْهَا الْهَاءُ إذًا لَكَانَتْ مَفْعُولَةً بِمَعْنَى: امْرَأَةٌ قَتِيلٌ وَكَفٌّ خَضِيبٌ، وَتَقْدِيرُ بَغِيٍّ هَهُنَا لَيْسَ بِفَعِيلٍ إنَّمَا هُوَ فَعُولٌ، وَفَعُولٌ لَا تَلْحَقُهُ الْهَاءُ فِي وَصْفِ التَّأْنِيثِ نَحْوَ امْرَأَةٌ سُكُونٌ وَبِئْرٌ شَطُونٌ إذَا كَانَتْ بَعِيدَةَ الرِّشَاءِ، وَتَقْدِيرُ بَغِيٍّ بَغَوِيٌّ قُلِبَتْ الْوَاوُ يَاءً ثُمَّ أُدْغِمَتْ الْيَاءُ فِي الْيَاءِ نَحْوَ سَيِّدٍ وَمَيِّتٍ، فَاسْتَحْسَنَ الْجَوَابَ ثُمَّ اسْتَأْذَنْته فِي الْخُرُوجِ فَقَالَ: أَلَا أَقَمْت عِنْدَنَا: فَقُلْت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ لِي بُنَيَّةً أُشْفِقُ أَغِيبُ عَنْهَا قَالَ: كَأَنِّي بِهَا قَدْ قَالَتْ مَا قَالَتْ ابْنَةُ الْأَعْشَى لِلْأَعْشَى: أُرَانَا إذَا أَضْمَرَتْك الْبِلَادُ ... نُجْفَى وَتُقْطَعُ مِنَّا الرَّحِمْ وَقُلْت أَنْتَ: تَقُولُ بِنْتِي وَقَدْ قَرُبْت مُرْتَحِلًا ... يَا رَبِّ جَنِّبْ أَبِي الْأَوْصَابَ وَالْوَجَعَا عَلَيْك مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْت فَاغْتَمِضِي ... يَوْمًا فَإِنَّ بِجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجَعَا فَوَاَللَّهِ مَا أَخْطَأَ مَا فِي نَفْسِي، فَأَمَرَ لِي بِجَائِزَةٍ وَأَذِنَ لِي فِي الِانْصِرَافِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: وَفَرَّ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ مِنْ الْحَجَّاجِ قَالَ: فَبَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ إذْ سَمِعْت رَجُلًا يُنْشِدُ: رُبَّمَا تَجْزَعُ النُّفُوسُ مِنْ الْأَمْرِ ... لَهُ فُرْجَةٌ كَحَلِّ الْعِقَالِ قَدْ مَاتَ الْحَجَّاجُ فَلَمْ أَدْرِ بِأَيِّهِمَا كُنْت أَشَدَّ فَرَحًا؟ أَبِمَوْتِ الْحَجَّاجِ أَوْ قَوْلِهِ: فُرْجَةٌ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْحَاقَ أَحَدُ الْقُرَّاءِ وَالنَّحْوِيِّينَ: كَانَ مُمْتَنِعَ الْجَانِبِ قَلِيلَ الْغِشْيَانِ لِلسُّلْطَانِ حَتَّى ذَكَرَهُ الْفَرَزْدَقُ وَعَيَّرَهُ الْكِبْرَ وَهَجَاهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَمِنْ النَّحْوِيِّينَ مَنْ سَارَعَ إلَى السَّلَاطِينِ وَلَمْ يَحْمَدْ الْعَاقِبَة، مِنْهُمْ سِيبَوَيْهِ وَابْنُ السِّكِّيتِ كَمَا حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى وَمُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، قَالَا لَمَّا وَرَدَ سِيبَوَيْهِ إلَى الْعِرَاقِ شَقَّ أَمْرُهُ عَلَى

الْكِسَائِيّ، فَأَتَى جَعْفَرَ بْنَ يَحْيَى وَالْفَضْلَ بْنَ يَحْيَى فَقَالَ: أَنَا وَلِيُّكُمَا وَصَاحِبُكُمَا، وَهَذَا الرَّجُلُ قَدْ قَدِمَ لِيُذْهِبَ مَحَلِّي، قَالَا فَاحْتَمِلْ لِنَفْسِك فَسَنَجْمَعُ بَيْنَكُمَا، فَجُمِعَا عِنْدَ الْبَرَامِكَةِ وَحَضَرَ سِيبَوَيْهِ وَحْدَهُ، وَحَضَرَ الْكِسَائِيُّ وَمَعَهُ الْفَرَّاءُ وَعَلِيٌّ الْأَحْمَرُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَسَأَلُوهُ كَيْفَ تَقُولُ: كُنْت أَظُنُّ أَنَّ الْعَقْرَبَ أَشَدُّ لَسْعَةً مِنْ الزُّنْبُورِ، فَإِذَا هُوَ هِيَ أَوْ هُوَ إيَّاهَا؟ فَقَالَ: أَقُولُ: فَإِذَا هُوَ هِيَ، فَقَالَ لَهُ: أَخْطَأْت وَلَحَنْت، فَقَالَ يَحْيَى: هَذَا مَوْضِعٌ مُشْكِلٌ فَمَنْ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ؟ قَالُوا: هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابُ بِالْبَابِ، فَأُدْخِلَ أَبُو الْجَرَّاحِ وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ فَسُئِلُوا فَقَالُوا نَقُولُ: فَإِذَا هُوَ إيَّاهَا فَانْصَرَمَ الْمَجْلِسُ عَلَى أَنَّ سِيبَوَيْهِ قَدْ أَخْطَأَ وَحُكِمَ عَلَيْهِ، فَأَعْطَاهُ الْبَرَامِكَةُ وَأُخِذَ لَهُ مِنْ الرَّشِيدِ وَبُعِثَ بِهِ إلَى بَلْدَةٍ فَيُقَالُ: إنَّهُ مَا لَبِثَ إلَّا يَسِيرًا ثُمَّ مَاتَ كَمَدًا قَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: وَأَصْحَابُ سِيبَوَيْهِ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّ الْجَوَابَ عَلَى مَا قَالَ سِيبَوَيْهِ، وَهُوَ فَإِذَا هُوَ هِيَ وَهَذَا مَوْضِعُ الرَّفْعِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا ابْنُ السِّكِّيتِ فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ النَّحْوِيُّ قَالَ قَالَ لِي يَعْقُوبُ بْنُ السِّكِّيتِ: أُرِيدُ أُشَاوِرُك فِي شَيْءٍ قُلْت: قُلْ قَالَ: إنَّ الْمُتَوَكِّلَ قَدْ أَدْنَانِي وَقَرَّبَنِي وَنَدَبَنِي إلَى مُنَادَمَتِهِ فَمَا تَرَى؟ قُلْت: لَا تَفْعَلْ وَكَرِهْت لَهُ النِّهَايَةَ، فَدَافَعَ بِهِ يَعْقُوبُ ثُمَّ تَطَلَّعَتْ نَفْسُهُ إلَيْهِ فَشَاوَرَنِي، فَقُلْت: يَا أَخِي أُحَذِّرُك عَلَى نَفْسِك، فَإِنَّهُ سُلْطَانٌ وَأَكْرَهُ أَنْ تَزِلَّ بِشَيْءٍ، فَحَمَلَهُ حُبُّ ذَلِكَ عَلَى أَنْ خَالَفَنِي فَقَتَلَهُ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ لِشَيْءٍ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِي أَمْرِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَكَانَ أَوَّلُهُ مِزَاحًا وَكَانَ ابْنُ السِّكِّيتِ يَتَشَيَّعُ فَقَتَلَهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَمِنْ النَّحْوِيِّينَ مَنْ قَرُبَ مِنْ السَّلَاطِينِ فَحَظِيَ عِنْدَهُمْ، مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ حَمْزَةَ قَالَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ: أَقَامَ الْكِسَائِيُّ بِالْبَصْرَةِ عِشْرِينَ سَنَةً ثُمَّ رَحَلَ إلَى الْكُوفَةِ، فَأَخَذَ عَنْ أَعْرَابٍ لَيْسُوا بِفُصَحَاءَ فَأَفْسَدَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، فَقَدْ صَارَ النَّحْوُ كُلُّهُ مِنْ الْبَصْرَةِ؛ لِأَنَّ الْكِسَائِيَّ مِنْهُمْ تَعَلَّمَ، ثُمَّ قَرَأَ عَلَى الْأَخْفَشِ كِتَابَ سِيبَوَيْهِ، وَيُحْكَى أَنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِ مِائَةَ دِينَارٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ:

وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الرُّؤَسَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي النَّحْوِ إلَّا بَصْرِيٌّ، حَتَّى إنَّهُمْ حُجَجٌ فِي اللُّغَةِ يُؤْخَذُ عَنْهُمْ لِفَصَاحَتِهِمْ، وَكَانُوا لَا يَأْخُذُونَ إلَّا عَنْ الْفُصَحَاءِ مِنْ الْأَعْرَابِ، وَلَهُمْ السَّبْقُ وَالتَّقْدِيمُ، مِنْهُمْ أَبُو الْأَسْوَدِ وَأَبُو عَمْرٍو، وَسَمِعْت عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمَانَ يَقُولُ: سَاءَنِي أَنَّ خَلَفًا الْبَزَّارَ عَلَى جَلَالَتِهِ وَمَحَلَّهُ تَرَكَ الْكِسَائِيَّ، وَهُوَ أُسْتَاذُهُ فَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ حَرْفًا وَاحِدًا، مَعَ حَاجَتِهِ إلَيْهِ فِي تَصْنِيفِهِ كِتَابَ الْقِرَاءَاتِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: ثُمَّ عَرَّفَنِي غَيْرُ أَبِي الْحَسَنِ أَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَ الرِّوَايَةَ عَنْهُ لِأَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: قَالَ لِي سَيِّدِي الرَّشِيدُ، فَتَرَكَهُ وَقَالَ: إنَّ إنْسَانًا مِقْدَارُ الدُّنْيَا عِنْدَهُ أَنْ يَجْعَلَ مِنْ أَجْلِهَا هَذَا الْإِجْلَالَ، لَحَرِيٌّ أَنْ لَا يُؤْخَذَ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ الْعِلْمِ، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ كَانَ الْأَصْمَعِيُّ مُتَّصِلًا بِالرَّشِيدِ وَكَانَ يُقَدِّمُهُ وَيَتَكَلَّمُ فِي مَجْلِسِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ الْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ أَنَّهُ قَالَ: النَّحْوُ أَوَّلُهُ شُغْلٌ، وَآخِرُهُ بَغْيٌ، وَرَدَّ أَبُو جَعْفَرٍ عَلَى ذَلِكَ، وَسِيقَ فِي فُصُولِ السَّلَامِ وَالْكَلَامِ فِي الْكِتَابَةِ، وَيَأْتِي بَعْدَ نِصْفِ كُرَّاسَةٍ أَيْضًا. وَذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ فِي بَاب الِاصْطِلَاحِ الْمُحْدَثَ الَّذِي اسْتِعْمَالُهُ خَطَأٌ قَالَ: وَاسْتَعْمَلُوا يَفْعَلْ ذَلِكَ بِغَيْرِ لَامِ الْأَمْرِ، وَهَذَا مِنْ الْخَطَأِ الْقَبِيحِ الَّذِي يُقْلَبُ مَعَهُ الْمَعْنَى فَيَصِيرُ خَبَرًا، وَالْمُرَادُ الْأَمْرُ، وَإِنْ جُزِمَ أَيْضًا فَخَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَا يَكُونُ بِغَيْرِ لَامٍ إلَّا فِي شُذُوذٍ وَاضْطِرَارٍ، عَلَى أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ سُلَيْمَانَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ وَلَا عِنْدَ أَصْحَابِهِ حَذْفُ اللَّامِ مِنْ الْأَمْرِ لِلْغَائِبِ؛ لِأَنَّ الْحُرُوفَ لَا تُضْمَرُ؛ وَلِأَنَّ عَوَامِلَ الْأَفْعَالِ أَضْعَفُ مِنْ عَوَامِلِ الْأَسْمَاءِ، وَأَنَّ مَا أُنْشِدَ فِيهِ مِنْ الشِّعْرِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ قَائِلُهُ، وَهُوَ: مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَك كُلُّ نَفْسِ كَذَا قَالَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 64] . قِيلَ هُوَ خَبَرٌ مِنْ اللَّهِ عَنْ حَالِهِمْ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إنَّهُ أَمْرٌ مِنْ اللَّهِ لَهُمْ

بِالْحَذَرِ، فَتَقْدِيرُهُ لِيَحْذَرْ الْمُنَافِقُونَ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَالْعَرَبُ رُبَّمَا أَخْرَجَتْ الْأَمْرَ عَلَى لَفْظِ الْخَبَرِ فَيَقُولُونَ: يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُؤْمِنَ وَيُعَذِّبُ الْكَافِرَ، يُرِيدُونَ لِيَرْحَمْ وَيُعَذِّبْ فَيُسْقِطُونَ اللَّامَ وَيُجْرُونَهُ مَجْرَى الْخَبَرِ فِي الرَّفْعِ، وَهُمْ لَا يَنْوُونَ إلَّا الدُّعَاءَ، وَالدُّعَاءُ مُضَارِعٌ لِلْأَمْرِ. وَأَمَّا الْجَزْمُ بِلَامٍ مُقَدَّرَةٍ فَيَجُوزُ كَثِيرًا مُطَّرِدًا بَعْدَ أَمْرٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ} [إبراهيم: 31] . وَالْأَشْهَرُ أَنَّهُ جَوَابُ قُلْ، وَالتَّقْدِيرُ: قُلْ لَهُمْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ يُقِيمُوا، أَيْ إنْ تَقُلْ لَهُمْ يُقِيمُوا. وَرَدَّهُ قَوْمٌ بِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمْ لَا يُوجِبُ أَنْ يُقِيمُوا، وَاخْتَارَ ابْنُ مَالِكٍ هَذَا الرَّدَّ، وَلَمْ يَرَهُ أَبُو الْبَقَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالْعِبَادِ الْكُفَّارَ، بَلْ الْمُؤْمِنِينَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ {لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} [إبراهيم: 31] وَإِذَا أَمَرَهُمْ الرَّسُولُ قَامُوا. وَقِيلَ: يُقِيمُوا جَوَابُ أَقِيمُوا الْمَحْذُوفَةِ أَيْ: أَنْ يُقِيمُوا، يُقِيمُوا وَرُدَّ بِوُجُوبِ مُخَالَفَةِ جَوَابِ الشَّرْطِ لَهُ فِي الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ أَوْ فِيهِمَا، فَلَا يَجُوزُ قُمْ تَقُمْ، وَبِأَنَّ الْمُقَدَّرَ لِلْمُوَاجَهَةِ وَيُقِيمُوا عَلَى لَفْظِ الْغَيْبَةِ، وَهُوَ خَطَأٌ إذَا كَانَ الْفَاعِلُ وَاحِدًا، وَيَجُوزُ الْجَزْمُ فَاللَّامُ الْأَمْرِ مُقَدَّرَةً قَلِيلًا بَعْدَ قَوْلٍ بِلَا أَمْرٍ، ذَكَرَهُ ابْنُ مَالِكٍ، وَلَا يَجُوزُ الْجَزْمُ بِهَا بِلَا أَمْرٍ وَلَا قَوْلٍ وَلَا ضَرُورَةٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنَّمَا ذَكَرْت ذَلِكَ لِكَثْرَةِ كِتَابَةِ " يُعْتَمَدُ ذَلِكَ " وَنَحْوِهَا وَكَثْرَةِ مَنْ لَا يَعْرِفُ إلَّا إنْكَارَهُ فَيُنْكِرُهُ، وَيُوَافِقُهُ عَلَيْهِ مَنْ لَا يَعْلَمُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

فصل في إصلاح اللحن العارض لمتن الحديث، ومتى يجوز التحديث ومن يقدم

[فَصْلٌ فِي إصْلَاحِ اللَّحْنِ الْعَارِضِ لِمَتْنِ الْحَدِيثِ، وَمَتَى يَجُوزُ التَّحْدِيثُ وَمَنْ يُقَدَّمُ] ُ) قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ: سَمِعْت ابْنَ زَنْجُوَيْهِ يَسْأَلُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ: يَجِيءُ الْحَدِيثُ فِيهِ اللَّحْنُ وَشَيْءٌ فَاحِشٌ، فَتَرَى أَنْ يُغَيِّرَ أَوْ يُحَدِّثَ بِهِ كَمَا سَمِعَ قَالَ: يُغَيِّرُهُ شَدِيدٌ؛ إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ لَمْ يَكُونُوا يَلْحَنُونَ، وَإِنَّمَا يَجِيءُ اللَّحْنُ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَيَنْبَغِي لِصَاحِبِ الْحَدِيثِ أَنْ يُصْلِحَ اللَّحْنَ فِي كِتَابِهِ، ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ، وَكَانَ أَحْمَدُ يَفْعَلُهُ قَالَ: وَيُصْلِحُ الْغَلَطَ الَّذِي لَا يَشُكُّ فِيهِ، وَذَكَرَهُ عَنْ جَمَاعَةٍ. وَالْأَوْلَى لَا يُحَدِّثُ حَتَّى أَنْ يَتِمَّ لَهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، إلَّا أَنْ يُحْتَاجَ إلَيْهِ فَقَدْ حَدَّثَ بُنْدَارٌ وَلَهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَحَدَّثَ الْبُخَارِيُّ وَمَا فِي وَجْهِهِ شَعْرَةٌ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُحَدِّثَ بِحَضْرَةِ مَنْ هُوَ أَسَنُّ مِنْهُ أَوْ أَعْلَمُ، فَقَدْ كَانَ الشَّعْبِيُّ إذَا حَضَرَ مَعَ إبْرَاهِيمَ لَمْ يَتَكَلَّمْ إبْرَاهِيمُ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ مَا لَك لَا تُحَدِّثُ؟ فَقَالَ: أَمَّا وَأَنْتَ حَيٌّ فَلَا وَقَالَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ لَقَدْ كُنْت عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غُلَامًا، فَكُنْت أَحْفَظُ عَنْهُ فَمَا يَمْنَعُنِي مِنْ الْقَوْلِ إلَّا أَنَّ هَهُنَا رِجَالًا هُمْ أَسَنُّ مِنِّي، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ فِيهِ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْحَدَثِ أَنْ يُوَقِّرَ الشُّيُوخَ، وَأَنَّهُ إذَا رُئِيَ عِنْدَهُمْ لَمْ يُزَاحِمْهُمْ بِالرِّوَايَةِ لَهُ، فَإِنَّهُ يَعْرِضُ أَنْ يَعِيشَ بَعْدَهُمْ فَيَرْوِيَ فِي حَالَةِ عَدَمِهِمْ فَيَكُونَ ذَلِكَ فِي مَوْقِعِهِ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَهُمْ لَمْ تَكُنْ تُغْنِي رِوَايَتُهُ، لِمَا يَعْرِفُهُ الشُّيُوخُ طَائِلًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَسَبَقَ هَذَا الْمَعْنَى بِنَحْوِ كُرَّاسَيْنِ فِي فَصْلٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إذَا تَرَكَ الْعَالِمُ لَا أَدْرِي. وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى الْقَارِئِ الْغَلَطَ الْخَطَأَ كَمَا عَلَيْهِ عَادَةُ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ طَاهِرٍ الْمَقْدِسِيُّ الْحَافِظُ: سَمِعْت أَبَا إِسْحَاقَ الْحَبَّالَ بِمِصْرَ يَقُولُ: لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا مِثْلُ أَبِي الْقَاسِمِ سَعْدِ بْنِ عَلِيٍّ الزَّنْجَانِيِّ فِي الْفَضْلِ، وَكَانَ يَحْضُرُ مَعَنَا الْمَجَالِسَ وَيُقْرَأُ الْخَطَأُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَا يَرُدُّ عَلَى أَحَدٍ شَيْئًا، وَلَوْ

قُرِئَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْكُفْرُ، إلَّا أَنْ يُسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ أَجَابَ، وَأُرِيَ يَوْمًا بَعْضَ الصِّبْيَانِ يَتْبَعُونَ الْأَغْلَاطَ وَيُبَادِرُونَ بِالرَّدِّ عَلَى الْمُقْرِئِ وَلَا يُحْسِنُونَ الْأَدَبَ. وَمُرَادُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ أَبَا الْقَاسِمِ لَا يُبَادِرُ بِالرَّدِّ، وَلَعَلَّهُ يَكْتَفِي بِغَيْرِهِ، وَلِهَذَا قَالَ وَلَوْ قُرِئَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْكُفْرُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَحِلُّ عَدَمُ بَيَانِهِ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ، قَالَ ابْنُ طَاهِرٍ: سَمِعْت الْفَقِيهَ أَبَا مُحَمَّدٍ هَيَّاجَ بْنَ عُبَيْدٍ إمَامَ الْحَرَمِ وَمُفْتِيَهُ يَقُولُ: يَوْمٌ لَا أَرَى فِيهِ سَعْدَ بْنَ عَلِيٍّ الزَّنْجَانِيَّ لَا أَعْتَدُّ أَنِّي عَمِلْت خَيْرًا. قَالَ ابْنُ طَاهِرٍ وَكَانَ هَيَّاجٌ يَعْتَمِرُ كُلَّ يَوْمٍ ثَلَاثَ عُمَرَ، وَيُوَاصِلُ الصَّوْمَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَيَدْرُسُ عِدَّةَ دُرُوسٍ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ نَظْرَةً إلَى الشَّيْخِ سَعْدٍ وَالْجُلُوسَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَجَلُّ مِنْ سَائِرِ عَمَلِهِ، قَالَ ابْنُ طَاهِرٍ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ الْكَرْخِيَّ يَقُولُ: لَمَّا عَزَمَ الشَّيْخُ سَعْدٌ عَلَى الْإِقَامَةِ بِالْحَرَمِ وَالْمُجَاوَرَةِ بِهِ، عَزَمَ عَلَى نَفْسِهِ نَيِّفًا وَعِشْرِينَ عَزِيمَةً أَنَّهُ يُلْزِمُ نَفْسَهُ مِنْ الْمُجَاهَدَاتِ وَالْعِبَادَاتِ، وَمَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً وَلَمْ يُخَلِّ مِنْهَا عَزِيمَةً وَاحِدَةً - رَحِمَهُ اللَّهُ -.

فصل في مكانة حفاظ الحديث وإقبال الألوف على مجالسهم، وحسد الخلفاء لهم

[فَصْلٌ فِي مَكَانَةِ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ وَإِقْبَالِ الْأُلُوفِ عَلَى مَجَالِسِهِمْ، وَحَسَدِ الْخُلَفَاءِ لَهُمْ] ْ) قَالَ جَعْفَرُ بْنُ دُرُسْتَوَيْهِ كُنَّا نَأْخُذُ الْمَجْلِسَ فِي مَجْلِسِ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَقْتَ الْعَصْرِ، الْيَوْمَ لِمَجْلِسِ غَدٍ، فَنَقْعُدُ طُولَ اللَّيْلِ مَخَافَةَ أَنْ لَا نَلْحَقَ مِنْ الْغَدِ مَوْضِعًا نَسْمَعُ فِيهِ، فَرَأَيْت شَيْخًا فِي الْمَجْلِسِ يَبُولُ فِي طَيْلَسَانِهِ، وَيُدْرِجُ الطَّيْلَسَانَ مَخَافَةَ أَنْ يُؤْخَذَ مَكَانُهُ إنْ قَامَ لِلْبَوْلِ، وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ كَانَ فِي مَجْلِسِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ يَحْزِرُ بِسَبْعِينَ أَلْفًا، وَأَمَرَ الْمُعْتَصِمُ بِحَزْرِ مَجْلِسِ عَاصِمِ بْنِ عَلِيٍّ فَحَزَرُوا الْمَجْلِسَ عِشْرِينَ أَلْفًا وَمِائَةَ أَلْفٍ، وَأَمْلَى الْبُخَارِيُّ بِبَغْدَادَ فَاجْتَمَعَ لَهُ عِشْرُونَ أَلْفًا. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الزُّهْرِيُّ كَانَ فِي مَجْلِسِ جَعْفَرٍ الْفِرْيَابِيِّ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مَنْ يَكْتُبُ حُدُودَ عَشَرَةِ آلَافٍ، مَا بَقِيَ مِنْهُمْ غَيْرِي سِوَى مَنْ لَا يَكْتُبُ، وَأَمْلَى أَبُو مُسْلِمٍ اللُّجِّيُّ فِي رَحْبَةِ غَسَّانَ، فَكَانَ فِي مَجْلِسِهِ سَبْعَةُ مُسْتَمْلِينَ يُبَلِّغُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَاحِبَهُ الَّذِي يَلِيهِ، وَكَتَبَ النَّاسُ عَنْهُ قِيَامًا بِأَيْدِيهِمْ الْمَحَابِرُ، ثُمَّ مُسِحَتْ الرَّحْبَةُ وَحُسِبَ مَنْ حَضَرَ بِمِحْبَرَةٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ أَلْفَ مِحْبَرَةٍ سِوَى الْعِطَارَةِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: قَدْ كَانَتْ الْهِمَمُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ كَمَا قَدْ ذَكَرْنَا، ثُمَّ مَا زَالَتْ تَقِلُّ الرَّغَبَاتُ حَتَّى اضْمَحَلَّتْ فَحَكَى شَيْخُنَا أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ طَفْرٍ الْمَغَازِلِيُّ قَالَ: كُنَّا فِي حَلْقَةِ ابْنِ يُوسُفَ نَسْمَعُ الْحَدِيثَ فَطَلَبْنَا مِحْبَرَةً نَكْتُبُ بِهَا السَّمَاعَ، فَمَا وَجَدْنَا قَالَ: وَقَدْ كَانَ الْخُلَفَاءُ وَالْكُبَرَاءُ يَغْبِطُونَ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ، ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ الْجُمَحِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ لِلْمَنْصُورِ: هَلْ مِنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا شَيْءٌ لَمْ تَنَلْهُ؟ قَالَ: بَقِيَتْ خَصْلَةٌ أَنْ أَقْعُدَ فِي مِصْطَبَةٍ وَحَوْلِي أَصْحَابُ الْحَدِيثِ فَيَقُولُ الْمُسْتَمْلِي: مَنْ ذَكَرْت رَحِمَك اللَّهُ؟ قَالَ فَغَدَا عَلَيْهِ النُّدَمَاءُ وَأَبْنَاءُ الْوُزَرَاءِ بِالْمَحَابِرِ وَالدَّفَاتِرِ فَقَالَ: لَسْتُمْ بِهِمْ إنَّمَا هُمْ الدَّنِسَةُ ثِيَابُهُمْ، الْمُتَشَقِّقَةُ أَرْجُلُهُمْ، الطَّوِيلَةُ شُعُورُهُمْ، بَرْدُ الْآفَاقِ وَنَقَلَةُ الْحَدِيثِ.

وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ قَالَ لِي الرَّشِيدُ: مَا أَنْبَلُ الْمَرَاتِبِ قُلْت: مَا أَنْتَ فِيهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: فَتَعْرِفُ أَجَلَّ مِنِّي؟ قُلْت: لَا قَالَ: لَكِنِّي أَعْرِفُهُ رَجُلٌ فِي حَلْقَةٍ يَقُولُ: حَدَّثَنَا فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: هَذَا خَيْرٌ مِنْك وَأَنْتَ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَلِيُّ عَهْدِ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ نَعَمْ وَيْلَك هَذَا خَيْرٌ مِنِّي؛ لِأَنَّ اسْمَهُ مُقْتَرِنٌ بِاسْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَمُوتُ أَبَدًا، وَنَحْنُ نَمُوتُ وَنَفْنَى وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ. وَقَالَ الْمَأْمُونُ: مَا طَلَبَتْ مِنِّي نَفْسِي شَيْئًا إلَّا وَقَدْ نَالَتْهُ مَا خَلَا هَذَا الْحَدِيثَ، فَإِنِّي كُنْت أُحِبُّ أَنْ أَقْعُدَ عَلَى كُرْسِيٍّ وَيُقَالُ لِي: مَنْ حَدَّثَك؟ فَأَقُولُ: حَدَّثَنِي فُلَانٌ قِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَلِمَ لَا تُحَدِّثُ؟ قَالَ لَا يَصْلُحُ الْمِلْكُ وَالْخِلَافَةُ مَعَ الْحَدِيثِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ وَلِيت الْقَضَاءَ وَقَضَاءَ الْقَضَاءِ وَالْوَزَارَةَ وَكَذَا وَكَذَا، مَا سُرِرْت لِشَيْءٍ كَسُرُورِي بِقَوْلِ الْمُسْتَمْلِي مَنْ ذَكَرْت رَضِيَ اللَّهُ عَنْك.

فصل في تقديم النية الصالحة والإخلاص قبل القول والعمل

[فَصْلٌ فِي تَقْدِيمِ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ وَالْإِخْلَاصِ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ] ِ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي النِّيَّةِ لِلْعِلْمِ وَالْحَذَرِ مِنْ الرِّيَاءِ، وَقَالَ فِي صَيْدِ الْخَاطِرِ: يَا قَوْمِ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ، وَقَدْ فَهِمْتُمْ قَوْله تَعَالَى {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3] . وَقَدْ سَمِعْتُمْ عَنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُعَلِّمُونَ وَلَا يَقُولُونَ حَتَّى تَتَقَدَّمَ النِّيَّةُ وَتَصِحَّ، أَيَذْهَبُ زَمَانُكُمْ يَا فُقَهَاءُ فِي الْجَدَلِ وَالصِّيَاحِ، وَتَرْتَفِعُ أَصْوَاتُكُمْ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْعَوَامّ تَقْصِدُونَ الْمُغَالَبَةَ، ثُمَّ يُقْدِمُ أَحَدُكُمْ عَلَى الْفَتْوَى وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يَتَدَافَعُونَهَا، وَيَا مَعْشَرَ الْمُتَزَهِّدِينَ إنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَمَا يَخْفَى، أَتُظْهِرُونَ الْفَقْرَ فِي لِبَاسِكُمْ وَأَنْتُمْ تَشْتَهُونَ شَهَوَاتٍ، وَتُظْهِرُونَ التَّخَشُّعَ وَالْبُكَاءَ فِي الْجَلَوَاتِ دُونَ الْخَلَوَاتِ، كَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَضْحَكُ وَيُقَهْقِهُ، فَإِذَا خَلَا بَكَى فَأَكْثَرَ وَقَالَ سُفْيَانَ لِصَاحِبِهِ: مَا أَوْقَحَك تُصَلِّي وَالنَّاسُ يَرَوْنَك. أَفْدِي ظِبَاءَ فَلَاةٍ مَا عَرَفْنَ بِهَا ... مَضْغَ الْكَلَامِ وَلَا صَبْغَ الْحَوَاجِيبِ آهٍ لِلْمُرَائِي مِنْ يَوْمَ يُحَصَّلُ مَا فِي الصُّدُورِ، وَهِيَ النِّيَّاتُ وَالْعَقَائِدُ، فَالْجَزَاءُ عَلَيْهِمَا لَا عَلَى الظَّوَاهِرِ، فَأَفِيقُوا مِنْ سَكْرَتِكُمْ، وَتُوبُوا مِنْ زَلَلِكُمْ وَاسْتَقِيمُوا عَلَى الْجَادَّةِ. {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56] .

فصل في جرح رواة الحديث لبيان الحقيقة ومعرفة الصحيح من غيره

[فَصْلٌ فِي جَرْحِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ لِبَيَانِ الْحَقِيقَةِ وَمَعْرِفَةِ الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِهِ] ِ) سَأَلَ رَجُلٌ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ فَقَالَ: كَانَ كَذَّابًا يَضَعُ الْحَدِيثَ فَقَالَ الرَّجُلُ أَنَا ابْنُ عَمِّهِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَلَكِنْ لَيْسَ فِي الدِّينِ مُحَابَاةٌ. وَقَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت ابْنَ مَعِينٍ عَنْ الْوَاقِدِيِّ قَالَ: أَنْتَ تَعْرِفُهُ وَأُحِبُّ أَنْ تُعْفِيَنِي قُلْت لِمَ قَالَ: إنَّ ابْنَهُ أَخٌ لِي قُلْت فَدَعْهُ، وَسَأَلَ أَحْمَدُ رَجُلًا عَنْ مَوْتِ ابْنِ الْمُبَارَكِ فَقَالَ مَا تَصْنَعُ بِهَذَا يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ نَعْرِفُ بِهِ الْكَذَّابِينَ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ سَأَلْت شُعْبَةَ وَسُفْيَانَ بْنَ سَعِيدٍ وَسُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ وَمَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَنْ الرَّجُلِ يُحَدِّثُ بِالْحَدِيثِ يُخْطِئُ فِيهِ أَوْ يَكْذِبُ فِيهِ فَقَالُوا جَمِيعًا بَيِّنْ أَمْرَهُ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا هُوَ كَمَا قَالُوا، فَقُلْت لَهُ أَمَا تَخَافُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ الْفَاحِشَةِ قَالَ لَا هَذَا دِينٌ وَنَقَلَ غَيْرُهُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ مَعْنَى الْغِيبَةِ فَقَالَ: إذَا لَمْ تُرِدْ عَيْبَ الرَّجُلِ قُلْت قَدْ جَاءَ يَقُولُ فُلَانٌ لَمْ يَسْمَعْ وَفُلَانٌ يُخْطِئُ قَالَ لَوْ تَرَكَ هَذَا لَمْ يُعْرَفْ الصَّحِيحُ مِنْ غَيْرِهِ وَقَالَ شُعْبَةُ وَقِيلَ لَهُ تُمْسِكُ عَنْ أَبَانَ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ؟ فَقَالَ مَا أَرَى يَسَعُنِي السُّكُوتُ عَنْهُ، وَقَدْ سَبَقَ هَذَا الْمَعْنَى فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، وَفِي فُصُولِ الْهِجْرَةِ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ. وَقِيلَ لِيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَمَا تَخْشَى أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَرَكْت حَدِيثَهُمْ خُصَمَاءَك عِنْدَ اللَّهِ قَالَ: ذَاكَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَصْمِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لِمَ حَدَّثْت عَنِّي حَدِيثًا تَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ. وَقَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ لِابْنِ الْمُبَارَكِ وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي الْمُعَلَّى بْنِ هِلَالٍ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ تَغْتَابُ؟ فَقَالَ لَهُ: اُسْكُتْ إذَا لَمْ نُبَيِّنْ كَيْفَ نَعْرِفُ الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ؟ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ هَذَا مِنْ الْغِيبَةِ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ وَآثَارٌ كَثِيرَةٌ. وَقَالَ أَبُو الْحَارِثِ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ غَيْرَ مَرَّةٍ يَقُولُ: مَا تَكَلَّمَ أَحَدٌ

فِي النَّاسِ إلَّا سَقَطَ وَذَهَبَ حَدِيثُهُ قَدْ كَانَ بِالْبَصْرَةِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْأَفْطَسُ كَانَ يَرْوِي عَنْ الْأَعْمَشِ وَالنَّاسِ، وَكَانَتْ لَهُ مَجَالِسُ وَكَانَ صَحِيحَ الْحَدِيثِ، إلَّا أَنَّهُ كَانَ لَا يَسْلَمُ عَلَى لِسَانِهِ أَحَدٌ فَذَهَبَ حَدِيثُهُ وَذِكْرُهُ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ وَذَكَرَ الْأَفْطَسَ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ: إنَّمَا سَقَطَ بِلِسَانِهِ فَلَيْسَ نَسْمَعُ أَحَدًا يَذْكُرُهُ. وَتَكَلَّمَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ فِي أَبِي بَدْرٍ فَدَعَا عَلَيْهِ قَالَ أَحْمَدُ: فَأُرَاهُ اُسْتُجِيبَ لَهُ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عَدَمُ التَّثَبُّتِ وَالْغِيبَةُ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَمَةَ الْأَفْطَسُ: كَانَ عِنْدِي صَدُوقًا لَكِنَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِي عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ وَيَحْيَى الْقَطَّانِ، وَذُكِرَ لَهُ يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ فَقَالَ: لَا يَنْتَهِي يُونُسُ حَتَّى يَقُولَ سَمِعْت الْبَرَاءَ. قَالَ أَبُو زُرْعَةَ فَانْظُرْ كَيْفَ يُرَدُّ أَمْرُهُ، كُلُّ مَنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي هَذَا الشَّأْنِ عَلَى الدِّيَانَةِ فَإِنَّمَا يُعْطِبُ نَفْسَهُ، وَكَانَ الثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ يَتَكَلَّمُونَ فِي النَّاسِ عَلَى الدِّيَانَةِ فَيَنْفُذُ قَوْلُهُمْ، وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِمْ عَلَى غَيْرِ الدِّيَانَةِ يَرْجِعُ الْأَمْرُ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو زُرْعَةَ وَذَكَرَ أَبَا قَتَادَةَ الْحَرَّانِيَّ فَقَالَ سَمِعْت ابْنَ نُفَيْلٍ يَقُولُ: قَرَأَ يَعْنِي أَبَا قَتَادَةَ كِتَابَ مِسْعَرٍ فَبَلَغَ: وَشَكَّ أَبُو نُعَيْمٍ، فَقَالَ مَا هَذَا؟ فَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: وَذَكَرَ ابْنُ نُفَيْلٍ يَوْمًا مَاتَ فُلَانٌ سَنَةَ كَذَا لِشُيُوخِهِ فَقِيلَ لَهُ: مَتَى مَاتَ أَبُو قَتَادَةَ؟ فَقَالَ: إنَّمَا نُسْأَلُ عَنْ تَارِيخِ الْعُلَمَاءِ، فَظَنَنْت أَنَّهُ سُلِّطَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ ابْنَ نُفَيْلٍ حَدَّثَ فَقِيلَ لِأَبِي قَتَادَةَ حَدَّثَ ابْنُ نُفَيْلٍ، فَقَالَ ابْنُ أُخْتِ ذَاكَ الصَّبِيِّ يَعْنِي سَعِيدَ بْنَ جَعْفَرٍ: فَجَعَلْت أَعْجَبُ مِنْ اسْتِخْفَافِهِ هَذَا بِهِ ثُمَّ سُلِّطَ عَلَيْهِ تُرَى انْتَهَى كَلَامُهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَاقِدٍ ضَعِيفٌ مَتْرُوكٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ وَكَذَّبَهُ بَعْضُهُمْ، وَقَوَّاهُ أَحْمَدُ، وَكَذَا ابْنُ مَعِينٍ فِي رِوَايَةٍ وَلَا رِوَايَةَ لَهُ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ، وَمَاتَ سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَتَيْنِ، فَمَنْ هَذِهِ حَالُهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ لَا سِيَّمَا بِغَيْرِ إنْصَافٍ فِيمَنْ عَظَّمَهُ الْأَئِمَّةُ وَأَثْنَوْا

عَلَيْهِ وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ أَبُو جَعْفَرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُفَيْلٍ النُّفَيْلِيُّ الْحَرَّانِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ حَفْصٍ ثِقَةٌ، وَتُوُفِّيَا سَنَةَ بِضْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ فَلَمْ يَضُرَّهُمَا كَلَامُ أَبِي قَتَادَةَ وَانْضَرَّ هُوَ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَفْوَ وَالسَّتْرَ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: ذَكَرْت لِأَبِي جَعْفَرٍ النُّفَيْلِيِّ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ حَدَّثَنَا عَنْ أَبِي قَتَادَةَ فَاغْتَمَّ وَقَالَ: قَدْ كَتَبْت إلَيْهِ أَنْ لَا يُحَدِّثَ عَنْهُ وَإِنَّمَا كَانَ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَنْهُ فِي الْمُذَاكَرَةِ.

فصل في خطإ الثقات وكونه لا يسلم منه بشر

[فَصْلٌ فِي خَطَإِ الثِّقَاتِ وَكَوْنِهِ لَا يَسْلَمُ مِنْهُ بَشَرٌ] ٌ) قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ: لَيْسَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُنْكِرَ حَدِيثًا يُلْقَى عَلَيْهِ كَانَ وَكِيعٌ يَقُولُ: لَيْسَ هَذَا عِنْدَنَا وَلَا يَقُولُ: لَمْ أَسْمَعْهُ يَسْكُتُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَكَانَ ابْنُ مَهْدِيٍّ ذُكِرَ لَهُ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ وَرْقَاءَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ إذَا أَقَرَّ بِالْحَدِّ ثُمَّ أَنْكَرَ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ، فَأَنْكَرَهُ إنْكَارًا شَدِيدًا ثُمَّ نَظَرَ فَوَجَدَهُ فِي كِتَابِهِ. وَقَالَ مُهَنَّا لِأَحْمَدَ كَانَ غُنْدَرٌ يَغْلَطُ قَالَ: أَلَيْسَ هُوَ مِنْ النَّاسِ؟ ، وَقَالَ الْبُوَيْطِيُّ: سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: قَدْ أَلَّفْت هَذِهِ الْكُتُبَ وَلَمْ آلُ فِيهَا، وَلَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ فِيهَا الْخَطَأُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] . فَمَا وَجَدْتُمْ فِي كُتُبِي هَذِهِ مِمَّا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَقَدْ رَجَعْت عَنْهُ وَقَالَ حَنْبَلٌ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: مَا رَأَيْت أَحَدًا أَقَلَّ خَطَأً مِنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ يَعْنِي الْقَطَّانَ، وَلَقَدْ أَخْطَأَ فِي أَحَادِيثَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَمَنْ يَعْرَى مِنْ الْخَطَإِ وَالتَّصْحِيفِ؟ وَنَقَلَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَحْمَدَ كَانَ وَكِيعٌ يَحْفَظُ عَنْ الْمَشَايِخِ وَلَمْ يَكُنْ يُصَحِّفُ وَكُلُّ مَنْ كَتَبَ يَتَّكِلُ عَلَى الْكِتَابِ يُصَحِّفُ. وَنَقَلَ إِسْحَاقُ أَيْضًا عَنْ أَحْمَدَ: مَا أَكْثَرَ مَا يُخْطِئُ شُعْبَةُ فِي أَسَامٍ وَقَالَ عَبَّاسٌ الدَّوْرِيُّ: سَمِعْت يَحْيَى يَقُولُ: مَنْ لَا يُخْطِئُ فِي الْحَدِيثِ فَهُوَ كَذَّابٌ وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: مَنْ يُبَرِّئْ نَفْسَهُ مِنْ الْخَطَإِ فَهُوَ مَجْنُونٌ وَقَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ ذَا الَّذِي لَا يُخْطِئُ؟ ،.

فصل في صفات من يؤخذ عنهم الحديث والدين ومن لا يؤخذ عنهم

[فَصْلٌ فِي صِفَاتِ مَنْ يُؤْخَذُ عَنْهُمْ الْحَدِيثُ وَالدِّينُ وَمَنْ لَا يُؤْخَذُ عَنْهُمْ] ْ) قَالَ الصَّاغَانِيُّ رَأَيْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عِنْدَ أَبِي سَلَمَةَ الْخُزَاعِيِّ وَكُنْت قَائِمًا فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ هَهُنَا، فَأَبَى حَتَّى كَتَبَ الْمَجْلِسَ، وَهُوَ قَائِمٌ. وَقَالَ أَبُو النَّضْرِ الْعِجْلِيُّ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: بَلَغَنِي أَنَّ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ سُئِلَ عَنْ حَدِيثٍ، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ تَسْأَلُ؟ عَنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنْتَ قَائِمٌ؟ وَقَالَ حَنْبَلٌ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: إنَّمَا يَحْيَا النَّاسُ بِالْمَشَايِخِ، فَإِذَا ذَهَبَ الْمَشَايِخُ فَمَاذَا بَقِيَ؟ وَقَالَ الْحَافِظُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ الْأَخْضَرِ فِي تَسْمِيَةِ مَنْ رَوَى عَنْ أَحْمَدَ قَالَ الْبُخَارِيُّ: سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: إنَّمَا النَّاسُ بِشُيُوخِهِمْ فَإِذَا ذَهَبَ الشُّيُوخُ فَمَعَ مَنْ الْعَيْشُ؟ وَصَحَّ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: الْعِلْمُ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ؟ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ فِي مُقَدِّمَةِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْأَشَجِّ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ الْمُسَيِّبِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدَةَ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إنَّ الشَّيْطَانَ لَيَتَمَثَّلُ فِي صُورَةٍ فَيَأْتِي الْقَوْمَ فَيُحَدِّثُهُمْ بِالْحَدِيثِ مِنْ الْكَذِبِ، فَيَتَفَرَّقُونَ، فَيَقُولُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ سَمِعْت رَجُلًا أَعْرِفُ وَجْهَهُ وَلَا أَدْرِي مَا اسْمُهُ يُحَدِّثُ عَامِرٌ تَفَرَّدَ عَنْهُ الْمُسَيِّبُ. وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «سَيَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي أُنَاسٌ يُحَدِّثُونَكُمْ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ» . وَفِي لَفْظٍ «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ يَأْتُونَكُمْ مِنْ الْأَحَادِيثِ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ، فَإِيَّاكُمْ لَا يُضِلُّونَكُمْ وَلَا يَفْتِنُونَكُمْ» . وَقَالَ مَالِكٌ لِرَجُلٍ: اُطْلُبْ هَذَا الْأَمْرَ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ وَقَالَ مَالِكٌ أَيْضًا لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: إنَّك امْرُؤٌ ذُو هَيْئَةٍ وَكِبَرٍ، فَانْظُرْ عَمَّنْ تَأْخُذُ؟ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُؤْخَذُ الْعِلْمُ عَنْ أَرْبَعَةٍ وَيُؤْخَذُ عَمَّنْ سِوَاهُمْ، لَا يُؤْخَذُ عَنْ

مُعْلِنٍ بِالسَّفَهِ، وَلَا عَمَّنْ جُرِّبَ عَلَيْهِ الْكَذِبُ، وَلَا عَنْ صَاحِبِ هَوًى يَدْعُو النَّاسَ إلَى هَوَاهُ، وَلَا عَنْ شَيْخٍ لَهُ فَضْلٌ وَعِبَادَةٌ إذَا كَانَ لَا يَعْرِفُ مَا يُحَدِّثُ بِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ أَيْضًا: إنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ، لَقَدْ أَدْرَكْنَا فِي هَذَا الْمَسْجِدِ سَبْعِينَ مِمَّنْ يَقُولُ قَالَ فُلَانٌ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَوْ ائْتُمِنَ عَلَى بَيْتِ مَالٍ لَكَانَ أَمِينًا عَلَيْهِ فَمَا أَخَذْت مِنْهُمْ شَيْئًا، لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ، وَيَقْدَمُ عَلَيْنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ وَهُوَ شَابٌّ فَنَزْدَحِمُ عَلَى بَابِهِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ الْقَطَّانِ: كَمْ مِنْ رَجُلٍ صَالِحٍ لَوْ لَمْ يُحَدِّثْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَقَالَ أَيْضًا: مَا رَأَيْت الْكَذِبَ فِي أَحَدٍ أَكْثَرَ مِنْهُ فِيمَنْ يُنْسَبُ إلَى الْخَيْرِ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لِأَنَّهُمْ اشْتَغَلُوا بِالْعِبَادَةِ عَنْ ضَبْطِ الْحَدِيثِ وَإِتْقَانِهِ، فَأَدْخَلَ عَلَيْهِمْ الْكَذَّابُونَ مَا لَيْسَ مِنْ حَدِيثِهِمْ، وَمِنْهُمْ قَوْمٌ تَوَهَّمُوا أَنَّ فِي وَضْعِ الْأَحَادِيثِ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ أَجْرًا، وَجَهِلُوا مَا فِي الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ كَبِيرِ الْإِثْمِ. وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «لَا تَأْخُذُوا الْعِلْمَ إلَّا مِمَّنْ تُجِيزُونَ شَهَادَتَهُ» وَرَوَى الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ مُرْسَلًا وَقَالَ بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ: دِينُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُطْلَبَ عَلَيْهِ الْعُدُولُ. وَقَالَ هُشَيْمٌ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: كَانُوا إذَا أَتَوْا الرَّجُلَ لِيَأْخُذُوا عَنْهُ نَظَرُوا إلَى سَمْتِهِ، وَإِلَى صَلَاتِهِ، وَإِلَى حَالِهِ، ثُمَّ يَأْخُذُونَ عَنْهُ. وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ: لَا يُؤْخَذُ الْعِلْمُ إلَّا عَمَّنْ شُهِدَ لَهُ بِطَلَبِ الْعِلْمِ وَقَالَ رَبِيعَةُ: مِنْ إخْوَانِنَا مَنْ نَرْجُو بَرَكَةَ دُعَائِهِ وَلَوْ شَهِدَ عِنْدَنَا عَلَى شَهَادَةٍ مَا قَبِلْنَا. وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيُّ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا إنْ حَدَّثَ مِنْ حِفْظِهِ، حَافِظًا لِكِتَابِهِ إنْ حَدَّثَ مِنْ كِتَابِهِ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ نَحْوُ هَذَا، لِئَلَّا يُدْخَلَ عَلَيْهِ مَا لَيْسَ مِنْ حَدِيثِهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: يُكْتَبُ الْحَدِيثُ عَنْ النَّاسِ كُلِّهِمْ إلَّا عَنْ ثَلَاثَةٍ: صَاحِبُ هَوًى يَدْعُو إلَيْهِ، أَوْ كَذَّابٌ، أَوْ رَجُلٌ يَغْلَطُ فِي الْحَدِيثِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ

فَلَا يُقْبَلُ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: لَا يُؤْخَذُ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ إلَّا عَنْ الرُّؤَسَاءِ الْمَشْهُورِينَ بِالْعِلْمِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ، وَلَا بَأْسَ بِمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْمَشَايِخِ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ لَا تَأْخُذُوا الْعِلْمَ عَنْ الصُّحُفِيِّينَ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُكْتَبُ الْآثَارُ مِمَّنْ كَانَ عَدْلًا فِي هَوَاهُ إلَّا الشِّيعَةَ، فَإِنَّ أَصْلَ عَقِيدَتهمْ تَضْلِيلُ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ أَتَى السُّلْطَانَ طَائِعًا حَتَّى انْقَادَتْ الْعَامَّةُ لَهُ، فَذَاكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَقَالَ حَرْمَلَةُ: سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: مَا فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ قَوْمٌ أَشْهَدُ بِالزُّورِ مِنْ الرَّافِضَةِ. وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا أَخَذُوا الْعِلْمَ عَنْ أَكَابِرِهِمْ وَعَنْ عُلَمَائِهِمْ وَأُمَنَائِهِمْ، فَإِذَا أَخَذُوهُ مِنْ أَصَاغِرِهِمْ وَشِرَارِهِمْ هَلَكُوا. وَقَالَ ابْنُ طَاهِرٍ الْمَقْدِسِيُّ: سَمِعْت أَبَا مُحَمَّدٍ السَّمَرْقَنْدِيَّ الْحَافِظَ الْحَسَنَ بْنَ أَحْمَدَ سَمِعْت أَبَا الْعَبَّاسِ الْمُسْتَغْفِرِيَّ الْحَافِظَ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْدَهْ الْحَافِظَ يَقُولُ: إذَا رَأَيْت فِي إسْنَادٍ حَدَّثَنَا فُلَانٌ الزَّاهِدُ فَاغْسِلْ يَدَك مِنْ ذَلِكَ الْإِسْنَادِ.

فصل في سمت العلماء الذين يؤخذ عنهم الحديث والعلم وهديهم

[فَصْلٌ فِي سَمْتِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُؤْخَذُ عَنْهُمْ الْحَدِيثُ وَالْعِلْمُ وَهَدْيِهِمْ] ْ) رَوَى الْخَلَّالُ فِي أَخْلَاقِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانُوا إذَا أَتَوْا الرَّجُلَ لِيَأْخُذُوا عَنْهُ نَظَرُوا إلَى صَلَاتِهِ وَإِلَى سَمْتِهِ وَإِلَى هَيْئَتِهِ ثُمَّ يَأْخُذُونَ عَنْهُ وَقَدْ سَبَقَ. وَعَنْ الْأَعْمَشِ قَالَ: كَانُوا يَتَعَلَّمُونَ مِنْ الْفَقِيهِ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى لِبَاسَهُ وَنَعْلَيْهِ. وَقِيلَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: إلَى الْبَصْرَةِ، فَقِيلَ لَهُ مَنْ بَقِيَ؟ فَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ آخُذُ مِنْ أَخْلَاقِهِ آخُذُ مِنْ آدَابِهِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: كُنَّا نَأْتِي الرَّجُلَ مَا نُرِيدُ عِلْمَهُ لَيْسَ إلَّا أَنْ نَتَعَلَّمَ مِنْ هَدْيِهِ وَسَمْتِهِ وَدَلِّهِ، وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ يَحْضُرُونَ عِنْدَ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ مَا يُرِيدُونَ أَنْ يَسْمَعُوا شَيْئًا إلَّا يَنْظُرُوا إلَى هَدْيِهِ وَسَمْتِهِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ سَمِعْت ابْنَ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ يَقُولُ: رَأَيْت فِي كُتُبِ أَبِي سِتَّةَ أَجْزَاءٍ مَذْهَبَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَأَخْلَاقَهُ، وَرَأَيْت أَحْمَدَ يَفْعَلُ كَذَا وَيَفْعَلُ كَذَا وَبَلَغَنِي عَنْهُ كَذَا وَكَذَا. قَالَ الشَّاعِرُ: إذَا أَعْجَبَتْك طِبَاعُ امْرِئٍ ... فَكُنْهُ يَكُنْ مِنْك مَا يُعْجِبُك فَلَيْسَ عَلَى الْجُودِ وَالْمَكْرُمَاتِ ... حِجَابٌ إذَا جِئْته يَحْجُبُك.

فصل في الإقامة في بلاد العلم والرحلة عن غيرها

[فَصْلٌ فِي الْإِقَامَةِ فِي بِلَادِ الْعِلْمِ وَالرِّحْلَةِ عَنْ غَيْرِهَا] ) قَالَ الْفَرَبْرِيُّ: سَمِعْت الْبُخَارِيَّ يَقُولُ: دَخَلْت بَغْدَادَ آخِرَ ثَمَانِ مَرَّاتٍ فِي كُلِّ ذَلِكَ أُجَالِسُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فَقَالَ لِي فِي آخِرِ مَا وَرَدَ عَنْهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ تَتْرُكُ الْعِلْمَ وَالنَّاسَ وَتَصِيرُ إلَى خُرَاسَانَ؟ قَالَ الْبُخَارِيُّ فَأَنَا الْآنَ أَذْكُرُ قَوْلَهُ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ خَرَزٍ إذْ دَخَلَ عَلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَخَلَفُ بْنُ سَالِمٍ حَلَبَ، فَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لِخَلَفٍ ارْحَلْ بِنَا عَنْ هَذَا الْبَلَدِ، فَإِنَّ هَذَا بَلَدٌ يَضِيعُ فِيهِ الْعِلْمُ.

فصل في خطر كتمان العلم وفضل التعليم وما قيل في أخذ الأجر عليه

[فَصْلٌ فِي خَطَرِ كِتْمَانِ الْعِلْمِ وَفَضْلِ التَّعْلِيمِ وَمَا قِيلَ فِي أَخْذِ الْأَجْرِ عَلَيْهِ] ِ) قَالَ مُثَنَّى: إنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» فَرَفَعَهُ وَلَمْ يَرَ إذَا سُئِلْت عَنْ شَيْءٍ إلَّا أَنْ أُجِيبَ عَلِمْت، وَلَمْ يَرَ الْجُلُوسَ فِي مَسْجِدِ الْجَامِعِ لِمَكَانِ الشُّهْرَةِ، وَلَمْ يَكْرَهْ أَنْ أُحَدِّثَ فِيهِ إذَا مَنْ أَرَادَ ذَلِكَ مِنِّي وَإِنْ كُنْت مُتَعَلِّمًا. وَقَالَ الْخَلَّالُ: سَمِعْت أَبَا بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ صَدَقَةَ يَقُولُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: الْأَحَادِيثُ فِيمَنْ كَتَمَ عِلْمًا أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ لَا يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ. قَالَ أَبُو دَاوُد (بَابُ كَرَاهِيَةِ مَنْعِ الْعِلْمِ) ثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ ثَنَا حَمَّادٌ أَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَكَمِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ لَهُ طُرُقٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ، وَعَلِيٌّ مِنْ رِجَالِ الْبُخَارِيِّ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ سَعْدٍ وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ لَا بَأْسَ بِهِ صَالِحُ الْحَدِيثِ وَقَدْ رَوَاهُ صَدَقَةُ بْنُ مُوسَى، وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَطَاءٍ وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ} [البقرة: 159] . قَالَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ تُوجِبُ إظْهَارَ عُلُومِ الدِّينِ مَنْصُوصَةً كَانَتْ أَوْ مُسْتَنْبَطَةً، وَتَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ اسْتِحْقَاقُ الْأَجْرِ عَلَى مَا يَجِبُ فِعْلُهُ، كَذَا قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَقَدْ يُسْتَحَقُّ

الْأَجْرُ عَلَى مَا يَجِبُ فِعْلُهُ كَأَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى خِلَافٍ مَشْهُورٍ فِيهِ. ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: إنَّكُمْ تَقُولُونَ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاَللَّهِ الْمُوعِدِ وَاَيْمُ اللَّهِ لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْت أَحَدًا بِشَيْءٍ أَبَدًا ثُمَّ تَلَا {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا} [البقرة: 159] إلَى آخِرِهَا. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْمُسْلِمُ عِلْمًا ثُمَّ يُعَلِّمَهُ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ» . وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا هَذَا الْمَعْنَى وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَلِكَ فِي بَعْضِ كَلَامِهِ وَقَالَ: إنَّ كَاتِمَ الْعِلْمِ يَلْعَنُهُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُ اللَّاعِنُونَ، وَمُرَادُ هَؤُلَاءِ إذَا لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ وَغَرَضٌ صَحِيحٌ فِي كِتْمَانِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَقَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عِلْمٌ لَا يُقَالُ بِهِ كَكَنْزٍ لَا يُنْفَقُ مِنْهُ، وَرُوِيَ مَرْفُوعًا وَلَا يَصِحُّ وَقَالَ الضَّحَّاكُ أَوَّلُ بَابٍ مِنْ الْعِلْمِ الصَّمْتُ ثُمَّ اسْتِمَاعُهُ ثُمَّ الْعَمَلُ بِهِ ثُمَّ نَشْرُهُ. وَعَنْ الْمَسِيحِ مَنْ تَعَلَّمَ وَعَمِلَ فَذَاكَ يُسَمَّى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاءِ، وَعَنْ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلِّمْ مَجَّانًا كَمَا عُلِّمْت مَجَّانًا وَقَالَ الزُّهْرِيُّ إيَّاكُمْ وَغُلُولَ الْكُتُبِ وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: إذَا كَتَمَ الْعَالَمُ عِلْمَهُ اُبْتُلِيَ إمَّا بِمَوْتِ الْقَلْبِ، أَوْ يُنَسَّى، أَوْ يَتْبَعُ السُّلْطَانَ ذَكَرَ ذَلِكَ الْبَيْهَقِيّ وَغَيْرُهُ وَسَبَقَ هَذَا الْمَعْنَى بِنَحْوِ كُرَّاسَةٍ فِي فَصْلِ " جَاءَ رَجُلَانِ " وَقَبْلَهُ بِنَحْوِ كُرَّاسَةٍ فِي فَصْلٍ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: وَيُشْتَرَطُ فَهْمُ الْمُتَعَلِّمِ وَالسَّائِلِ وَيَسْقُطُ الْفَرْضُ بِذَلِكَ، عَلَى هَذَا يَدُلُّ كَلَامُ إمَامِنَا وَأَصْحَابِنَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ حِفْظَهُ وَضَبْطَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ اُفْتُرِضَ عَلَيْهِ التَّعْلِيمُ بِقَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِإِقَامَةِ فَرَائِضِهِ وَلَا يَتَمَكَّنُ إلَّا بِالْحِفْظِ. وَقَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَحْمَدَ قَالَ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: رُبَّمَا جَاءَنِي مَنْ يَسْتَأْهِلُ فَلَا أُحَدِّثُهُ، وَيَجِيءُ مَنْ لَا يَسْتَأْهِلُ أَنْ أُحَدِّثَهُ فَأُحَدِّثُهُ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَ مَا ضُرِبَ قَالَ: هَذَا زَمَانُ حَدِيثٍ؟ فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ: يَحِلُّ لَك أَنْ تَمْنَعَنِي حَقِّي وَتَمْنَعَ هَذَا حَقَّهُ؟ لِرَجُلٍ آخَرَ

سَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ: وَمَا حَقّكُمْ قَالَ: مِيرَاثُ مُحَمَّدٍ قَالَ: فَسَكَتَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ. وَعَنْهُ أَيْضًا وَقَالَ لَهُ جَمَاعَةٌ نَسْأَلُكَ عَنْ مَسْأَلَةٍ قَالَ: قَدْ قُلْتُ الْيَوْمَ لَا أُجِيبُ فِي مَسْأَلَةٍ وَلَكِنْ تَرْجِعُونَ فَأُجِيبَكُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: أَتَيْنَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فِي عَشْرِ الْأَضْحَى فَقَالَ قَالَ أَبُو عَوَانَةَ: كُنَّا نَأْتِي الْجَرِيرِيَّ فِي الْعَشْرِ فَيَقُولُ: هَذِهِ أَيَّامُ شُغْلٍ وَلِلنَّاسِ حَاجَاتٌ فَابْنُ آدَمَ إلَى الْمُلَالِ مَا هُوَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْكَحَّالُ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ كَأَنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَحُثَّهُ عَلَى الْحَدِيثِ قَالَ: لَيْسَ لَهُمْ إكْرَامٌ لِلشُّيُوخِ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى بَابِنَا فَقَالَ لِي أَبِي اُخْرُجْ إلَيْهِ فَقُلْ لَهُ: لَسْتُ أُحَدِّثُكَ وَلَا أُحَدِّثُ قَوْمًا أَنْتَ فِيهِمْ، فَقُلْتُ: مَا شَأْنُهُ يَا أَبَتِ؟ قَالَ: رَأَيْتُهُ يَمْجُنُ عَلَى بَابِ عَفَّانَ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ خَرَجَ إلَى الْكُتَّابِ لِيُحَدِّثَ قَالَ الرَّاوِي: فَأَخْرَجْنَا الْكُتُبَ فَاطَّلَعَ رَجُلٌ صَاحِبُ هَيْئَةٍ وَلِبَاسٍ فَنَظَرَ إلَيْهِ أَحْمَدُ فَأَطْبَقَ الْكِتَابَ وَغَضِبَ وَقَامَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنَا أَذْهَبُ فَحَدِّثْ الْقَوْمَ، فَقَالَ: لَيْسَ أُحَدِّثُ الْيَوْمَ. وَعَنْ مُغِيرَةَ قَالَ: كُنْتُ أُحَدِّثُ النَّاسَ رَغْبَةً فِي الْأَجْرِ، فَأَنَا أَمْنَعُهُمْ الْيَوْمَ رَغْبَةً فِي الْأَجْرِ، وَعَنْ الْمَيْمُونِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: وَخَرَجَ إلَيْنَا فَرَأَى جَمَاعَتَنَا فَشَكَا ذَلِكَ إلَيْنَا، وَأَخْبَرَنَا بِمَا يَكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ لِمَكَانِ السُّلْطَانِ قَالَ: وَلَوْلَا ذَلِكَ لَخَفَّ عَلَيَّ أَنْ آتِيَهُمْ فِي مَنَازِلِهِمْ قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ قُلْت لِأَحْمَدَ: أَيَسَعُك أَلَّا تُحَدِّثَ؟ قَالَ: لِمَ لَا يَسَعُنِي؟ ، أَنَا قَدْ حَدَّثْتُ وَقَالَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ بْنُ فَارَةَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لِمَ قَطَعْتَ الْحَدِيثَ وَالنَّاسُ يَحْتَاجُونَ فَمَنْ فَعَلَ هَذَا؟ فَسَمَّى رَبَاحَ بْنَ زَيْدٍ وَحِبَّانَ أَبُو حَبِيبٍ يَعْنِي ابْنَ هِلَالٍ حَدَّثَا ثُمَّ قَطَعَا. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ سَأَلُونِي يَعْنِي فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي وَرَدَتْ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْخَلِيفَةِ فَلَمْ أُجِبْ قُلْتُ: فَلِأَيِّ شَيْءٍ امْتَنَعْتَ أَنْ تُجِيبَ؟ قَالَ خِفْتُ أَنْ تَكُونَ ذَرِيعَةً إلَى غَيْرِهَا؛ قَالَ: وَسَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَسَأَلَهُ عَلِيُّ بْنُ الْجَهْمِ عَنْ شَيْءٍ فَلَمْ يُجِبْهُ وَقَالَ: قَدْ فَقَدْتُ بَعْضَ ذِهْنِي

وَسَأَلَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَاقَانَ عَنْ شَيْءٍ فَلَمْ يُجِبْهُ وَقَالَ: قَدْ فَقَدْتُ بَعْضَ ذِهْنِي. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي أَوَائِلِ صَيْدِ الْخَاطِرِ: أَنَا لَا أَرَى تَرْكَ التَّحْدِيثِ بِعِلَّةِ قَوْلِ قَائِلِهِمْ: إنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي شَهْوَةً لِلتَّحْدِيثِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ شَهْوَةِ الرِّيَاسَةِ فَإِنَّهَا جِبِلَّةٌ فِي الطِّبَاعِ. وَإِنَّمَا يَنْبَغِي مُجَاهَدَتُهَا. وَلَا يُتْرَكُ حَقٌّ لِلْبَاطِلِ.

فصل مخاطبة الناس على قدر عقولهم

[فَصْلٌ مُخَاطَبَةُ النَّاسِ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ] ْ) قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْعَدْلِ فَقَالَ: لَا تَسْأَلْ عَنْ هَذَا فَإِنَّك لَا تُدْرِكُهُ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ: حَرَامٌ عَلَى عَالِمٍ قَوِيِّ الْجَوْهَرِ أَدْرَكَ بِجَوْهَرِيَّتِهِ وَصَفَاءِ نَحِيزَتِهِ عِلْمًا أَطَاقَهُ فَحَمَلَهُ أَنْ يُرَشِّحَ بِهِ إلَى ضَعِيفٍ لَا يَحْمِلُهُ وَلَا يَحْتَمِلُهُ، فَإِنَّهُ يُفْسِدُهُ، وَلِهَذَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنْ نُكَلِّمَ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ» انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا الْخَبَرُ رَوَاهُ أَبُو الْحَسَنُ التَّمِيمِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِ الْعَقْلِ لَهُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ نُخَاطِبُ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ» . وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَاكَمَدَاهُ مِنْ مَخَافَةِ الْأَغْيَار، وَاحَصْرَاهُ مِنْ أَجْلِ اسْتِمَاعِ ذِي الْجَهَالَةِ لِلْحَقِّ وَالْإِنْكَارِ، وَاَللَّهِ مَا زَالَ خَوَاصُّ عِبَادِ اللَّهِ يُتَطَلَّبُونَ لِتَرَوُّحِهِمْ رُءُوسَ الْجِبَالِ، وَالْبَرَارِي وَالْقِفَارَ، لِمَا يَرَوْنَهُ مِنْ الْمُنْكَرِينَ لِشَأْنِهِمْ مِنْ الْأَغْمَارِ، وَالسَّفِيرُ الْأَكْبَرُ يَهْرُبُ مِنْ فَرْشِ الزَّوْجَاتِ إلَى خَلْوَةٍ بِمَسْجِدٍ لِلتَّرَوُّحِ بِتِلْكَ الْمُنَاجَاةِ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يُنْكِرَ تَكْدِيرَ عِيشَةٍ. وَقَالَ أَيْضًا: وَقَدْ يَكُونُ الْإِنْسَانُ مُسْلِمًا إلَى أَنْ يَضِيقَ بِهِ عَيْشٌ، وَإِنَّمَا دِينُنَا مَبْنِيٌّ عَلَى شَعَثِ الدُّنْيَا وَصَلَاحِ الْآخِرَةِ. فَمَنْ طَلَبَ بِهِ الْعَاجِلَةَ أَخْطَأَهُ. وَرَوَى الْحَافِظُ ضِيَاءُ الدِّينِ فِي الْمُخْتَارَةِ مِنْ رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ زِيَادٍ الْعَتَكِيِّ ثَنَا الْأَسْوَدُ بْنُ سَالِمِ ثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَزِيدُ بْنُ يَزِيدَ الزَّرَّادُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ نَافِعِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أُمِرْنَا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ نُكَلِّمَ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ» ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ الضِّيَاءُ الزَّرَّادُ: لَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَلَا الْحَاكِمُ أَبُو أَحْمَدَ فِي كِتَابِهِ الْكُنَى. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُمْلِيَ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ عُقُولُ الْعَوَامّ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:

حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ وَدَعُوا مَا يُنْكِرُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إلَّا كَانَ فِتْنَةً لِبَعْضٍ، رَوَاهُ مُسْلِمٍ فِي الْمُقَدِّمَة وَعَزَاهُ بَعْضُهُمْ إلَى الْبُخَارِيِّ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ الْمِقْدَادِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ مَرْفُوعًا «إذَا حَدَّثْتُمْ النَّاسَ عَنْ رَبِّهِمْ فَلَا تُحَدِّثُوهُمْ مَا يَعْزُبُ عَنْهُمْ وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ» وَسَبَقَ بِنَحْوِ كُرَّاسَةٍ الْكَلَامُ فِي الْقِصَاصِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ وَلَهُ تَعَلُّقٌ بِهَذَا. وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي قُدَامَةَ عَنْ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ قَالَ: سُئِلَ الْخَلِيلُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَبْطَأَ بِالْجَوَابِ فِيهَا قَالَ: فَقُلْتُ مَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كُلُّ هَذَا النَّظَرِ قَالَ: فَرَغْتُ مِنْ الْمَسْأَلَةِ وَجَوَابِهَا وَلَكِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجِيبَك جَوَابًا يَكُونُ أَسْرَعَ إلَى فَهْمِكَ قَالَ أَبُو قُدَامَةَ: فَحَدَّثْتُ بِهِ أَبَا عُبَيْدٍ فَسُرَّ بِهِ. وَفِي تَارِيخِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ السَّرَخْسِيِّ أَبُو مُحَمَّدٍ الْفَقِيهِ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَامِدٍ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ سَمِعْتُ الرَّبِيعَ سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ كَانَ يُكَلِّمُنَا عَلَى قَدْرِ عَقْلِهِ مَا فَهِمْنَا عَنْهُ لَكِنَّهُ كَانَ يُكَلِّمُنَا عَلَى قَدْرِ عُقُولِنَا فَنَفْهَمُهُ. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ «قَزَعَةَ قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ وَهُوَ مَكْثُورٌ عِنْدَهُ، أَيْ: عِنْدَهُ نَاسٌ كَثِيرُونَ، فَلَمَّا تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ قُلْتُ: أَسْأَلُكَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَا لَكَ فِي ذَلِكَ مِنْ خَيْرٍ. فَأَعَادَ عَلَيْهِ فَأَجَابَهُ» . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: مَعْنَاهُ أَنَّك لَا تَسْتَطِيعُ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَكَلَّفْتَ ذَلِكَ شَقَّ عَلَيْكَ وَلَمْ تُحَصِّلْهُ، فَتَكُونُ قَدْ عَلِمْتَ السُّنَّةَ وَتَرَكْتَهَا. وَسَبَقَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا فِي رَمْي الْعَالِمِ الْمَسْأَلَةَ وَسُؤَالِ النَّاسِ لَهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ أَخْبَرْتُ الشَّافِعِيَّ يَوْمًا بِحَدِيثٍ وَأَنَا غُلَامٌ فَقَالَ مَنْ حَدَّثَكَ؟ فَقُلْتُ: أَنْتَ قَالَ: مَا حَدَّثْتُكَ مِنْ شَيْءٍ، فَهُوَ كَمَا حَدَّثْتُكَ، وَإِيَّاكَ وَالرِّوَايَةَ عَنْ الْأَحْيَاءِ.

فصل في وضع العالم المحبرة بين يديه وجواز استمداد الرجل من محبرة غيره

[فَصْلٌ فِي وَضْعِ الْعَالِمِ الْمِحْبَرَةَ بَيْن يَدَيْهِ وَجَوَازِ اسْتِمْدَادِ الرَّجُلِ مِنْ مِحْبَرَةِ غَيْرِهِ] ِ) وَضَعَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنَ يَدَيْهِ مِحْبَرَةً فَقِيلَ لَهُ: أَسْتَمِدُّ مِنْهَا فَتَبَسَّمَ وَقَالَ: قَدْ رُوِيَ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ أَنَّهُ كَانَتْ مَعَهُ مِحْبَرَةٌ فَقَالُوا: نَسْتَمِدُّ مِنْهَا فَقَالَ: إنَّهَا عَارِيَّةٌ. نَقَلَهُ الْمَرُّوذِيُّ. وَقَالَ حَرْبٌ قُلْتُ لِإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ يَسْتَمِدُّ الرَّجُلُ مِنْ مِحْبَرَةِ الرَّجُلِ؟ قَالَ: لَا يَسْتَمِدُّ إلَّا بِإِذْنِهِ قَالَ الْخَلَّالُ (كَرَاهِيَةُ أَنْ يَسْتَمِدَّ الرَّجُلُ مِنْ مِحْبَرَةِ الرَّجُلِ إلَّا بِإِذْنِهِ) وَذَكَرَ ذَلِكَ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْمَعْرُوفُ بِمِرْبَعٍ: كُنْتُ عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَبَيْنَ يَدَيْهِ مِحْبَرَةٌ فَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ حَدِيثًا فَاسْتَأْذَنْتُهُ بِأَنْ أَكْتُبَ مِنْ مِحْبَرَتِهِ، فَقَالَ: اُكْتُبْ يَا هَذَا فَهَذَا وَرَعٌ مُظْلِمٌ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ طَارِقٍ الْبَغْدَادِيُّ: كُنْتُ جَالِسًا إلَى جَانِبِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فَقُلْتُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَسْتَمِدُّ مِنْ مِحْبَرَتِك؟ فَنَظَرَ إلَيَّ وَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْ وَرَعِي وَرَعَك هَذَا. وَعَنْ وَكِيعٍ وَجَاءَ إلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: إنِّي أَمُتُّ إلَيْكَ بِحُرْمَةٍ قَالَ: وَمَا حُرْمَتُكَ قَالَ: كُنْتَ تَكْتُبُ مِنْ مِحْبَرَتِي فِي مَجْلِسِ الْأَعْمَشِ، فَوَثَبَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ فَأَخْرَجَ صُرَّةً فِيهَا دَنَانِيرُ وَقَالَ لَهُ: اُعْذُرْنِي فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ غَيْرَهَا. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى الْأَحْوَلُ جِئْتُ يَوْمًا وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يُمْلِي فَجَلَسْتُ أَكْتُبُ فَاسْتَمْدَيْتُ مِنْ مِحْبَرَةِ إنْسَانٍ فَنَظَرَ إلَيَّ أَحْمَدُ فَقَالَ: يَا يَحْيَى اسْتَأْذَنْتَهُ؟ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: لَزِمْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ سِنِينَ فَكَانَ إذَا خَرَجَ لِيُحَدِّثَنَا يُخْرِجُ مَعَهُ مِحْبَرَةً مُجَلَّدَةً بِجِلْدٍ أَحْمَرَ وَقَلَمًا. فَإِذَا مَرَّ بِهِ سَقْطٌ أَوْ خَطَأٌ فِي كِتَابِهِ أَسْقَطَهُ بِقَلَمِهِ مِنْ مِحْبَرَتِهِ يَتَوَرَّعُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مِحْبَرَةِ أَحَدِنَا شَيْئًا. وَحَكَى ابْنُ عَقِيلٍ فِي بَابِ الْغَصْبِ مِنْ الْفُصُول عَنْ الْقَاضِي أَنَّهُ قَالَ: رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَنْعُ الْكَتْبِ مِنْ مِحْبَرَةِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ لِمَنْ اسْتَأْذَنَهُ هَذَا مِنْ الْوَرَعِ الْمُظْلِمِ. فَحَمَلْنَا الْأَوَّلَ عَلَى كَتْبٍ يَطُولُ. وَالثَّانِي عَلَى غَمْسِهِ قَلَمًا لِكَتْبِ كَلِمَةٍ. أَوْ فِي حَقِّ مَنْ يَنْبَسِطُ إلَيْهِ

وَيَأْذَنُ لَهُ حُكْمًا وَعُرْفًا انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: يُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَى كَتْبٍ يَطُولُ، وَالثَّانِي عَلَى كَتْبٍ قَلِيلٍ؛ لِأَنَّهُ يُتَسَامَحُ بِهِ عَادَةً وَعُرْفًا. أَوْ يُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَى مَنْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَطِيبُ قَلْبُهُ وَلَا يَأْذَنُ فِيهِ. وَيُحْمَلُ الثَّانِي عَلَى مَنْ يَطِيبُ بِهِ وَيَأْذَنُ فِيهِ.

فصل في الكتابة والكتب والكتاب وأدواتهم الكتابية

[فَصْلٌ فِي الْكِتَابَةِ وَالْكُتُبِ وَالْكُتَّابِ وَأَدَوَاتِهِمْ الْكِتَابِيَّةِ] ِ. قَالَ الْخَلَّالُ: التَّوَقِّي أَنْ لَا يُتَرَّبَ الْكِتَابُ إلَّا مِنْ الْمُبَاحَاتِ ثُمَّ رُوِيَ عَنْ الْمَرْوَزِيُّ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ كَانَ يَجِيءُ مَعَهُ بِشَيْءٍ، وَلَا يَأْخُذُ مِنْ تُرَابِ الْمَسْجِدِ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ سَمِعْتُ عَبْدَ الصَّمَدِ بْنَ مُقَاتِلٍ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: رَأَيْتُهُمْ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ فِي دُورِ السَّبِيلِ، فَإِذَا أَرَادُوا أَنْ يَخْتِمُوهُ أَرْسَلُوا إلَى الْبَحْرِ فَأَخَذُوا الطِّينَ. وَذَكَرَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فِي كِتَابِ فَاتِحَةِ الْعِلْمِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا لَا يَحْرُمُ. وَعَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا «تَرِّبُوا صُحُفَكُمْ أَنْجَحُ لَهَا فَإِنَّ التُّرَابَ مُبَارَكٌ» وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مَرْفُوعًا «ضَعْ الْقَلَمَ عَلَى أُذُنِكَ فَإِنَّهُ أَذْكَرُ لِلْمُمْلِي» رَوَاهُمَا التِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُمَا، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ الْأَوَّلَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «تَرِّبُوا الْكُتُبَ وَسَحُّوهَا مِنْ أَسْفَلِهَا فَإِنَّهُ أَنْجَحُ لِلْحَاجَةِ» وَذَكَرَ أَيْضًا الْخَبَرَ الْمَشْهُورَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «نَحْنُ أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ» . وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَفِيضَ الْمَالُ، وَيَكْثُرَ التُّجَّارُ، وَيَظْهَرَ الْقَلَمُ» يَعْنِي الْكِتَابَةَ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدُ الْبَرِّ وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ «يُرْفَعُ الْعِلْمُ وَيَفِيضُ الْمَالُ» حَسْبُ. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَقَدْ أَتَى عَلَيْنَا زَمَانٌ وَإِنَّمَا يُقَالُ: تَاجِرُ بَنِي فُلَانٍ وَكَاتِبُ بَنِي فُلَانٍ، مَا يَكُونُ فِي الْحَيِّ إلَّا التَّاجِرُ الْوَاحِدُ وَالْكَاتِبُ الْوَاحِدُ. وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: لَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي الْحَيَّ الْعَظِيمَ فَمَا يَجِدُ بِهِ كَاتِبًا. وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ أَيْضًا «فُشُوُّ الْقَلَمِ وَفُشُوُّ التِّجَارَةِ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ» يَعْنِي بِقَوْلِهِ " فُشُوُّ الْقَلَمِ " ظُهُورَ الْكِتَابَةِ وَكَثْرَةَ الْكُتَّابِ. وَعَنْ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْله تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -

{اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] . قَالَ: كَاتِبٌ حَاسِبٌ. وَقَدْ كَتَبَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَعَلِيٌّ وَعُثْمَانُ وَحَنْظَلَةُ الْأَسَدِيُّ وَمُعَاوِيَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَرْقَمِ، وَكَانَ كَاتِبَهُ الْمُوَاظِبَ عَلَى الرَّسَائِلِ وَالْأَجْوِبَةِ، وَهُوَ الَّذِي كَتَبَ الْوَحْيَ كُلَّهُ وَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتَعَلَّمَ كِتَابَ السُّرْيَانِيَّةِ لِيُجِيبَ عَنْهُ مَنْ كَتَبَ إلَيْهِ بِهَا، فَتَعَلَّمَهَا فِي ثَمَانِيَةِ عَشَرَ يَوْمًا. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِكَاتِبِهِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ: إذَا كَتَبْتَ فَأَلْقِ دَوَاتَكَ. وَأَطِلْ سِنَّ قَلَمِكَ، وَفَرِّجْ السُّطُورَ، وَقَارِبْ بَيْنَ الْحُرُوفِ. وَقَالَتْ الْعَرَبُ: الْقَلَمُ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ، وَقَالُوا: الْخَطُّ الْحَسَنُ يَزِيدُ الْحَقَّ وُضُوحًا. وَقَالَ الْمَأْمُونُ: الْخَطُّ لِسَانُ السَّيِّدِ وَهُوَ أَفْضَلُ أَجْزَاءِ الْيَدِ، وَأَمَرَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ بِسَجْنِ طَائِفَةٍ مِنْ الْكُتَّابِ عَتَبَ عَلَيْهِمْ فَكَتَبَ إلَيْهِ بَعْضُهُمْ مِنْ طَرِيقِ السَّجْنِ: أَطَالَ اللَّهُ عُمُرَكَ فِي صَلَاحٍ ... وَعِزٍّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَا بِعَفْوِك نَسْتَجِيرُ فَإِنْ تُجِرْنَا ... فَإِنَّك رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَا وَنَحْنُ الْكَاتِبُونَ وَقَدْ أَسَأْنَا ... فَهَبْنَا لِلْكِرَامِ الْكَاتِبِينَا قَالَ: فَعَفَا عَنْهُمْ وَأَمَرَ بِتَخْلِيَتِهِمْ. وَاسْمُ الْكَاتِبِ بِالْفَارِسِيَّةِ دِيوَانٌ أَيْ شَيَاطِينُ لِحِذْقِهِمْ بِالْأُمُورِ وَلُطْفِهِمْ، فَسُمِّيَ الدِّيوَانُ بِاسْمِهِمْ كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ وَاسْمُهُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِ مِائَةٍ قَالَ: مَعْنَى الدِّيوَانِ الْأَصْلُ الَّذِي يُرْجَعُ إلَيْهِ وَيُعْمَلُ بِمَا فِيهِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إذَا سَأَلْتُمُونِي عَنْ شَيْءٍ مِنْ غَرِيبِ الْقُرْآنِ فَالْتَمِسُوهُ فِي الشَّعْرِ، فَإِنَّ الشِّعْرَ دِيوَانُ الْعَرَبِ، أَيْ: أَصْلُهُ وَيُقَال: دَوَّنَ هَذَا أَيْ: أَثْبَتَهُ وَجَعَلَهُ أَصْلًا. وَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ أَصْلَهُ عَجَمِيٌّ وَبَعْضُهُمْ يَقُول: عَرَبِيٌّ وَقَدْ ذَكَرَهُ

سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ وَتَكَلَّمَ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ دِوَانٌ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ فِي الْجَمْعِ دَوَاوِينُ. وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ أَبْدَلُوا مِنْ أَحَدِ الْوَاوَيْنِ يَاءً. وَنَظِيرُهُ دِينَارٌ الْأَصْلُ فِيهِ دَنَارٌ وَكَذَا قِيرَاطٌ الْأَصْلُ فِيهِ قِرَاطٌ. فَأَمَّا الْفَرَّاءُ فَيَزْعُمُ أَنَّك إذَا سَمَّيْتَ رَجُلًا بِدِيوَانٍ، وَأَنْتَ تُرِيدُ كَلَامَ الْأَعَاجِمِ لَمْ تَصْرِفْهُ، وَهَذَا عِنْدِي غَلَطٌ لِأَنَّك إذَا سَمَّيْتَ رَجُلًا دِيوَانًا عَلَى أَنَّهُ أَعْجَمِيٌّ لَمْ يَجُزْ إلَّا صَرْفُهُ؛ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لَا يَدْخُلَانِ فِيهِ فَقَدْ صَارَ بِمَنْزِلَةِ طَاوُسٍ وَرَاقُودٍ وَمَا أَشْبَهَهُمَا، وَإِنْ جَعَلْتَهُ عَرَبِيًّا صَرَفْتَهُ أَيْضًا لِأَنَّهُ فِعَالٌ، الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُمْ دَوَاوِينَ، وَدِيوَانَ بِالْفَتْحِ غَلَطٌ، وَلَوْ كَانَ بِالْفَتْحِ لَمْ يَجُزْ قَلْبُ الْوَاوِ يَاءً، فَإِنْ قِيلَ: الْيَاءُ أَصْلٌ قِيلَ هَذَا خَطَأٌ، وَلَوْ كَانَ كَذَا لَقِيلَ فِي الْجَمْعِ دَيَاوِينُ، فَدِيوَانٌ لَا يُقَالُ كَمَا لَا يُقَالُ دِينَارٌ وَلَا قِيرَاطٌ، وَزَعَمَ الْأَصْمَعِيُّ أَنَّ أَصْلَهُ أَعْجَمِيٌّ. وَرَوَى أَنَّ كِسْرَى أَمَرَ الْكُتَّابَ أَنْ يَجْتَمِعُوا فِي دَارٍ فَيَعْلَمُوا حِسَابَ السَّوَادِ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَاجْتَمَعُوا فِي الدَّارِ وَاجْتَهَدُوا فَأَشْرَفَ عَلَيْهِمْ، وَبَعْضُهُمْ يَعْقِدُ وَبَعْضُهُمْ يَكْتُبُ فَقَالَ: " إيشان ديواشد " أَيْ: هَؤُلَاءِ مَجَانِين، فَلَزِمَ مَوْضِعَ الْكِتَابَةِ هَذَا الِاسْمُ مِنْ ذَلِكَ الدَّهْرِ ثُمَّ عَرَّبَتْهُ الْعَرَبُ فَقَالَتْ: دِيوَانٌ انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو جَعْفَرٍ. قَالَ وَالدَّفْتَرُ اسْمٌ عَرَبِيٌّ لَا نَعْلَمُ لَهُ اشْتِقَاقًا، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ يَذْهَبُ إلَى أَنَّ كُلَّ اسْمٍ عَرَبِيٍّ، فَهُوَ مُشْتَقٌّ إلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا غَابَ عَنْ الْعَالِمِ شَيْءٌ وَعَرَفَهُ غَيْرُهُ، يُقَالُ لَهُ: دَفْتَرٌ وَدَفْتَرٌ وَتَفْتُرُ ثَلَاثُ لُغَاتٍ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الدَّفْتَرُ وَاحِدُ الدَّفَاتِرِ وَهِيَ الْكَرَارِيسُ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْكُرَّاسَةُ مَعْنَاهَا الْكُتُبُ الْمَضْمُومَةُ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، وَالْوَرَقُ الَّذِي أُلْصِقَ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِهِمْ: رَسْمٌ مُكَرَّسٌ إذَا أَلْصَقَتْ الرِّيحُ التُّرَابَ بِهِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْكُرَّاسَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ كُرَّاسِ الْغَنَمِ وَهُوَ أَنْ يَبُولَ فِي الْمَوْضِعِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَيَتَلَبَّدَ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَصْلُ الْكُرَّاسِ وَالْكَرَارِيسُ الْعِلْمُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِصَحِيفَةٍ

يَكُونُ فِيهَا عِلْمٌ مَكْتُوبٌ: كُرَّاسَةٌ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْكُرَّاسَةُ وَاحِدَةُ الْكُرَّاسِ وَالصَّحِيفَةُ الْكِتَابُ وَالْجَمْعُ صُحُفٍ وَصَحَائِفُ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَقِيلَ: مُصْحَفٌ لِأَنَّهُ مَجْمَعُ الْوَرِقِ الَّذِي يُصَحَّفُ فِيهِ مِنْ أَصْحَفَ كَمُكْرَمٍ، وَمَنْ قَالَ مَصْحِفٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ جَعَلَهُ مِنْ صَحِفْتُ مُصْحَفًا مِثْل جَلَسْتُ مَجْلِسًا، وَمَنْ كَسَرَ الْمِيمَ شَبَّهَهُ بِمِنْقَلٍ. وَأَمَّا السِّفْرُ فَمُشْتَقٌّ مِنْ أَسْفَرَ الشَّيْءُ إذَا تَبَيَّنَ فَهُوَ الَّذِي فِيهِ الْبَيَانُ، وَمِنْهُ أَسْفَرَ الصُّبْحُ إذَا تَبَيَّنَ، وَأَسْفَرَ وَجْهُ الْمَرْأَةِ إذَا أَضَاءَ. وَسُمِّيَ الْقَلَمُ قَلَمًا لِأَنَّهُ يُقْلَمُ أَيْ يُقْطَعُ مِنْهُ، وَمِنْهُ قَلَّمْت أَظْفَارِي، وَقِيلَ: قَطْعُهُ لَيْسَ بِقَلَمٍ وَلَكِنَّهُ أُنْبُوبٌ، وَقِيلَ الْقَلَمُ مُشْتَقٌّ مِنْ القلام وَهُوَ نَبْتٌ ضَعِيفٌ وَاهِي الْأَصْل، فَقِيلَ قَلَمٌ لِأَنَّهُ خُفِّفَ وَأُضْعِفَ بِمَا أُخِذَ مِنْهُ، وَرَجُلٌ مُقَلَّمُ الْأَظْفَارِ مِنْ هَذَا، أَيْ ضَعِيفٌ فِي الْحَرْبِ نَاقِصٌ، وَيُقَالُ رَعَفَ الْقَلَمُ إذَا قَطَرَ، وَرَاعَفَ الرَّجُلُ الْقَلَمَ إذَا أَخَذَ فِيهِ مِدَادًا كَثِيرًا حَتَّى يَقْطُرَ وَيُقَالُ اسْتَمِدَّ وَلَا تَرْعُفْ. أَيْ لَا تُكْثِرْ الْمِدَادَ حَتَّى يَقْطُرَ، وَيُقَال ذَنَبْتُ الْقَلَمَ فَهُوَ مِذْنَبٌ، فَأَمَّا الرُّطَبُ فَيُقَالُ فِيهِ مِذْنَبٌ مِنْ ذَنَب هُوَ وَيُقَالُ حَفِيَ الْقَلَمُ يَحْفَى حَفْوَةً وَحُفْوَةً وَحِفْيَةً وَحَفَاوَة وَحِفًا مَقْصُورٌ، فَأَمَّا الْحَفَاءُ مَمْدُودٌ فَمَشْيُ الرَّجُلِ بِلَا نَعْلٍ. وَيُقَالُ لِلْقِطْعَةِ الَّتِي تُقْطَعُ مِنْ الْأُنْبُوبَةِ شَظِيَّةٌ مُشْتَقٌّ مِنْ شَظِيَ الْقَوْمُ تَفَرَّقُوا، وَيُقَالُ: قَلَمٌ ذَنُوبٌ إذَا كَانَ طَوِيلَ الذَّنَبِ، كَمَا يُقَالُ: فَرَسٌ ذَنُوبٌ، وَلِلْقَلَمِ سِنَّانِ فَإِذَا كَانَ الْأَيْمَنُ أَرْفَعَ قِيلَ مُحَرَّفٌ، وَإِنْ اسْتَوَيَا قِيلَ قَلَمٌ مُسْتَوِي السِّنَّيْنِ، وَأَشْحَمْتُ الْقَلَمَ تَرَكْتُ شَحْمَهُ فَلَمْ آخُذْهُ، فَإِنْ أَخَذْتُ شَحْمَهُ قُلْت بَطَّنْتُهُ تَبْطِينًا، وَيُقَالُ: بَرَيْت الْقَلَمَ بَرْيًا وَمَا سَقَطَ بُرَايَةٌ وَقَدْ يُقَالُ لِلْقَلَمِ نَفْسِهِ بُرَايَةٌ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَجْعَلُ فُعَالَةً لِكُلِّ مَا نَقَصَ مِنْهُ فَيَقُولُونَ قُطَاعَةً وَقُوَارَةً ذَكَرَهُ أَبُو جَعْفَرٍ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ قَوَّرَهُ وَاقْتَوَرَهُ وَاقْتَارَهُ بِمَعْنَى قَطَعَهُ مُدَوَّرًا، وَمِنْهُ قُوَارَةُ الْقَمِيصِ وَالْبِطِّيخِ وَقَالَ: وَالْقُطَاعَةُ بِالضَّمِّ مَا سَقَطَ عَنْ الْقَطْعِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ

يُقَالُ: قَطِطْتُ الْقَلَمَ أَيْ: قَطَعْت مِنْهُ وَالْقَلَمُ مَقْطُوطٌ، وَقُطَيْطٌ، وَالْمِقَطُّ الَّذِي يُقَطُّ الْقَلَمُ عَلَيْهِ، وَالْمَقَطُّ بِفَتْحِ الْمِيمِ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُقَطُّ مِنْ رَأْسِ الْقَلَمِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ قَطِطْتُ أَيْ قَطَعْت، وَمَا رَأَيْتُهُ قَطُّ أَيْ: انْقَطَعَتْ الرُّؤْيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَالْقَطُّ الْكِتَابُ بِالْجَائِزَةِ؛ لِأَنَّهُ يُقْطَعُ، وَمِنْهُ يُعْطِي الْقُطُوطَ وَثَائِقَ، وَقَطُّ بِمَعْنَى حَسْبُ. وَالدَّوَاةُ جَمْعُهَا دَوِيَّاتُ فِي الْعَدَدِ الْقَلِيلِ، وَكَذَا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَفِي الْكَثِيرِ دُوِيٌّ بِضَمِّ الدَّالِ وَيُقَالُ بِكَسْرِهَا وَدِوِيٌّ وَدِوَايًا، وَيُقَالُ: أَدْوَيْتُ دَوَاةً إذَا اتَّخَذْتَهَا، وَقَدْ دَوِيَ الدَّوَاةَ أَيْ عَمِلَهَا، فَهُوَ مُدْوٍ مِثْلَ مُقْنٍ لِلَّذِي يَعْمَلُ الْقَنَا، وَيُقَالُ لِمَنْ يَبِيعُهَا دَوَاءٍ مِثْلَ تَبَّانٍ لِلَّذِي يَبِيعُ التِّبْنَ، وَاَلَّذِي يَحْمِلُهَا وَيُمْسِكُهَا دَاوٍ وَمِثْلُهُ رَامِحٌ لِلَّذِي يَحْمِلُ الرُّمْحَ، وَاشْتِقَاقُ الْمِدَادِ مِنْ الْمَدَدِ لِلْكَاتِبِ، وَهِيَ جَمْعُ مِدَادَةٍ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَاسْمُهُ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الْكُوفِيُّ تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَمِائَتَيْنِ: إنْ جَعَلْت الْمِدَادَ مَصْدَرًا لَمْ تُثَنِّهِ وَلَمْ تَجْمَعْهُ، وَيُقَالُ أُمِدَّتْ الدَّوَاةُ إذَا جَعَلْتَ فِيهَا الْمِدَادَ، فَإِنْ زِدْت عَلَى مِدَادِهَا قُلْت: مَدَدْتُهَا. وَاسْتَمْدَدْتُ مِنْهَا أَيْ: أَخَذْت فَإِنْ أَخَذْت مِدَادَهَا كُلَّهُ قُلْت: قَعُرَتْ الدَّوَاةُ أَقْعَرَهَا قَعْرًا، وَاشْتِقَاقُهُ أَنَّك بَلَغْت إلَى قَعْرِهَا، وَقَدْ سُمِعَ أَقْعَرْت الْإِنَاءَ إقْعَارًا إذَا جَعَلْت لَهُ قَعْرًا. وَإِذَا أُلْصِقَ الْقُطْنُ يَعْنِي أَوْ غَيْرُهُ بِالدَّوَاةِ، فَهُوَ لَيْقَةٌ، مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَا يَلِيقُ فُلَانٌ بِقَلْبِي أَيْ مَا يَلْصَقُ بِهِ، وَيُقَالُ: أَلَقْتُ الدَّوَاةَ إلَاقَةً، وَلِقْتُهَا لَيْقًا وَلُيُوقًا وَلَيَقَانًا إذَا أَلْصَقْت مِدَادَهَا، وَقَدْ أَنْعَمْت لِيقَةَ الدَّوَاةِ إنْعَامًا أَيْ: زِدْت فِي لَيْقِهَا وَأَنْعَمَ الشَّيْءُ إذَا زَادَ، وَمِنْهُ الْحَدِيث «وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْهُمْ وَأَنْعَمَا» أَيْ: زَادَ عَلَى ذَلِكَ. وَمِنْهُ سَحَقْت الْمِدَادَ سَحْقًا نَعَمًا قِيلَ لِلْفَرَّاءِ لِمَ سُمِّيَ الْمِدَادُ حِبْرًا قَالَ: يُقَالُ لِلْعَالِمِ: حَبْرٌ وَحِبْرٌ وَإِنَّمَا أَرَادُوا مِدَادَ حَبْرٍ فَحَذَفُوا مِدَادًا ثُمَّ جَعَلُوا مَكَانه حِبْرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]

وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ إنَّمَا هُوَ لِتَأْثِيرِهِ عَلَى أَسْنَانِهِ حَبْرَةٌ يُقَالُ إذَا كَثُرَتْ فِيهَا الصُّفْرَةُ حَتَّى تَضْرِبَ إلَى السَّوَادِ قَالَ مُحَمَّدُ بْن يَزِيدَ: وَأَنَا أَحْسَبُ أَنَّهُ إنَّمَا سُمِّيَ حِبْرًا لِأَنَّهُ تُحْبَرُ بِهِ الْكُتُبُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: مِنْ حُسْنِ تَقْدِيرِ الْكَاتِبِ أَلَّا يُفَرِّقَ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إلَيْهِ فِي سَطْرٍ، وَكَذَا أَعَزَّهُ اللَّهُ، وَكَذَا أَحَدَ عَشَرَ لِأَنَّهُ كَاسْمٍ وَاحِدٍ، وَيُسْتَحْسَنُ الْمَشْقُ فِي الشِّينِ وَالسِّينِ إلَّا فِي أَوَاخِرِ الْكَلِمِ نَحْوَ النَّاسِ، وَأَصْلُ الْمَشْقِ فِي اللُّغَةِ الْخِفَّةُ، يُقَالُ: مَشَقَ بِالرُّمْحِ وَمَشَقَ الرَّجُلُ الرَّغِيفَ إذَا أَكَلَهُ أَكْلًا خَفِيفًا، فَمَعْنَى مَشَقَ الْكَاتِبُ إذَا خَفَّفَ يَدَهُ، وَهَذَا اخْتِيَارٌ مُحْدَثٌ، وَأَمَّا رُؤَسَاءُ الْكُتَّابِ الْمُتَقَدِّمِينَ فَكَانُوا يَكْرَهُونَ الْمَشْقَ كُلَّهُ وَإِرْسَالَ الْيَدِ وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: هُوَ لِلْمُبْتَدِي مَفْسَدَةٌ لِخَطِّهِ وَدَلِيلٌ عَلَى تَهَاوُنِهِ بِمَا يَكْتُبُهُ. وَقَدْ ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ أَنْ يَكْتُبَ بِسْمِ اللَّهِ بِغَيْرِ سِينٍ. وَيَسْتَحْسِنُونَ إذَا تَوَالَتْ السِّينُ وَالشِّينُ فِي كَلِمَةٍ أَنْ يُقَدِّرَ الْكَاتِبُ فَصْلًا بِمَدَّةٍ. وَيَسْتَحْسِنُونَ فِي كِتَابَةِ نَحْوِ بَيْنَ أَنْ يَرْفَعَ الْوُسْطَى مِنْ الثَّلَاثِ فَرْقًا بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ السِّينِ وَالشِّينِ، وَيَسْتَحِبُّونَ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ غَيْرَ مَشْقُوقَةٍ إذَا كَانَتْ طَرَفًا عِنْدهمْ، وَيُحِبُّونَ تَعْلِيمَهَا إذَا كَانَتْ مُتَوَسِّطَةً وَلَا تُعَلَّم إذَا كَانَتْ طَرَفًا، وَيَسْتَحِبُّونَ أَنْ تَكُونَ الْأَلْفَاظُ سَهْلَةً سَمْحَةً غَيْرَ بَشِعَةٍ. وَمِمَّا يَسْتَحْسِنُونَ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ مَهْدِيٍّ تَوْقِيعُهُ إلَى كَاتِبِهِ: إيَّاكَ وَالتَّتَبُّعَ لِحُوشِيِّ الْكَلَامِ طَمَعًا فِي نَيْلِ الْبَلَاغَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ الْعِيُّ الْأَكْبَرُ، وَعَلَيْك بِمَا يَسْهُلُ مَعَ تَجَنُّبِك لِلْأَلْفَاظِ السُّفْلَى. وَكَذَا مَا رُوِيَ مِنْ صِفَةِ يَحْيَى بْنِ زِيَادٍ الْكَاتِبِ فَإِنَّهُ قَالَ: أَخَذَ بِذِمَامِ الْكَلَامِ فَقَادَهُ أَسْهَلَ مُقَادٍ، وَسَاقَهُ أَحْسَنَ مَسَاقٍ، فَاسْتَرْجَعَ بِهِ الْقُلُوبَ النَّافِرَةَ، وَاسْتَصْرَفَ بِهِ الْأَبْصَارَ الطَّامِحَةَ. قَالَ الْجَاحِظُ: لَمْ أَرَ قَوْمًا أَمْثَلَ طَبَقَةً فِي الْبَلَاغَةِ مِنْ الْكُتَّابِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ الْتَمِسُوا مَا لَمْ يَكُنْ مُتَوَعِّرًا مِنْ الْأَلْفَاظِ حُوشِيًّا، وَلَا سَاقِطًا عَامِّيًّا. وَقَالَ مُحَمَّدُ

بْنُ الْفَضْلِ صَاحِبُ كِتَابِ الدِّيبَاجِ: يَجِبُ لِلْكَاتِبِ أَنْ يَعْدِلَ بِكَلَامِهِ عَنْ الْغَرِيبِ الْحُوشِيِّ، وَالْعَامِّيِّ السُّوقِيِّ، وَالرَّذْلِ السَّلِيقِيِّ، وَيُجَانِبَ التَّقْعِيرَ، وَيَجِبُ أَنْ يُعْمِلَ نَفْسَهُ فِي تَنْزِيلِ الْأَلْفَاظِ، وَسُئِلَ أَعْرَابِيٌّ مَنْ أَبْلَغُ النَّاسِ؟ قَالَ: أَسْهَلُهُمْ لَفْظًا وَأَحْسَنُهُمْ بَدِيهَةً، وَقَدْ سَبَقَ فِي فُصُولِ رَدِّ السَّلَامِ رَدُّ جَوَابِ الْكُتَّابِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي الْخَرَاجِ عَنْ عَمْرو بْنِ عُثْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ أَبِي مُسْلِمَةَ سُلَيْمَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ جَابِرٍ عَنْ صَالِح بْنِ يَحْيَى بْنِ الْمِقْدَامِ عَنْ جَدِّهِ وَفِي نُسْخَةِ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَرَبَ عَلَى مَنْكِبِهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ: «أَفْلَحْتَ يَا قَدِيمُ إنْ مِتَّ وَلَمْ تَكُنْ أَمِيرًا وَلَا كَاتِبًا وَلَا عَرِيفًا» وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الْحَرَّانِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ الْأَبْرَشِ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ صَالِحٍ عَنْ جَدِّهِ صَالِحٍ قَالَ الْبُخَارِيُّ: فِيهِ نَظَرٌ وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ يُخْطِئ.

فصل في نظر الرجل في كتاب غيره بإذنه أو رضاه

[فَصْلٌ فِي نَظَرِ الرَّجُلِ فِي كِتَابِ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ أَوْ رِضَاهُ] ُ) قَالَ الْخَلَّالُ كَرَاهِيَةُ النَّظَرِ فِي كِتَابِ الرَّجُلِ إلَّا بِإِذْنِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ بْنُ عَسْكَرٍ: كُنْت عِنْد أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَعِنْدَهُ الْهَيْثَمُ بْن خَارِجَةُ فَذَهَبْت أَنْظُرُ فِي كِتَابِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَكَرِهَ أَبُو عَبْد اللَّهِ أَنْ أَنْظُرَ فِي كِتَابِهِ، وَاطَّلَعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ فِي كِتَابِ أَبِي عَوَانَةَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ مَرَّتَيْنِ. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا فِي رَجُلٍ رَهَنَ مُصْحَفًا هَلْ يَقْرَأُ فِيهِ؟ قَالَ: أَكْرَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ مِنْ الرَّهْنِ بِشَيْءٍ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ فِي الرَّجُلِ يَكُونُ عِنْدَهُ مُصْحَفٌ رُهِنَ لَا يَقْرَأُ إلَّا بِإِذْنِهِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ فِي الرَّجُلِ رُهِنَ عِنْدَهُ الْمُصْحَفُ يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْقِرَاءَةِ فِيهِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ قَرَأَ فِيهِ قَالَ الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ: أَمَّا مَنْعُهُ مِنْ الْقِرَاءَةِ إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ مَعَ قَوْلِنَا: إنَّهُ يَلْزَمُهُ بَذْلُهُ إذَا طَلَبَهُ الْغَيْرُ لِلْقِرَاءَةِ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَجِدُ مُصْحَفًا غَيْرَهُ. وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ بَذْلُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ عِنْدَ مَسْأَلَةِ رَهْنِ الْمُصْحَفِ: وَلَا يَقْرَأُ أَحَدٌ فِي الْمُصْحَفِ بِلَا إذْنِ رَبِّهِ، وَقِيلَ: بَلَى إنْ لَمْ يَضُرَّ مَالِيَّتَهُ، وَإِنْ طَلَبَهُ أَحَدٌ لِيَقْرَأَ فِيهِ لَمْ يَجِبْ بَذْلُهُ وَقِيلَ يَجِبُ، وَقِيلَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَذَكَرَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ النَّظَرَ فِي كِتَابِ الْغَيْرِ مِنْ كُتُبِ الْعِلْمِ لَا يَحْرُمُ، وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ نَظَرَ فِي كِتَابِ أَخِيهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَكَأَنَّمَا يَنْظُرُ فِي النَّارِ» قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْكِتَابِ الَّذِي فِيهِ سِرٌّ وَأَمَانَةٌ يَكْرَهُ صَاحِبُهُ أَنْ يُطَّلَعَ عَلَيْهِ، قَالَ: وَقِيلَ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ كِتَابٍ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: بَابُ مَنْ نَظَرَ فِي كِتَابِ مَنْ يُحْذَرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِيَسْتَبِينَ أَمْرَهُ وَذَكَرَ كِتَابَ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ وَقِصَّتَهُ.

وَهَذَا مُتَوَجَّهٌ مَعَ الْعِلْمِ، وَمَعَ الظَّنِّ فِيهِ نَظَرٌ وَيَحْرُمُ مَعَ الشَّكِّ، وَالْقِصَّةُ قَضِيَّةُ عَيْنٍ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: فِيهِ هَتْكُ سَتْرِ الْمُفْسِدِ إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ أَوْ كَانَ فِي السَّتْرِ مَفْسَدَةٌ، وَإِنَّمَا يُنْدَبُ السَّتْرُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ وَلَا تَفُوتُ بِهِ مَصْلَحَةٌ.

فصل في بذل العلم ومنه إعارة الكتب

[فَصْلٌ فِي بَذْلِ الْعِلْمِ وَمِنْهُ إعَارَةُ الْكُتُبِ] ِ قَالَ الْخَلَّالُ كَرَاهِيَةُ حَبْسِ الْكِتَابِ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: رَجُلٌ سَقَطَتْ مِنْهُ وَرَقَةٌ فِيهَا أَحَادِيثُ فَوَائِدُ فَأَخَذْتهَا، تُرَى أَنْ أَنْسَخَهَا وَأَسْمَعَهَا؟ قَالَ: لَا إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِهَا. وَقَالَ يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ لِي الزُّهْرِيُّ: إيَّاكَ وَغُلُولَ الْكُتُبِ قَالَ حَبْسُهَا عَنْ أَهْلِهَا. انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ. وَقَالَ الطَّحَاوِيَّ كَانَ الشَّافِعِيُّ قَدْ طَلَبَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ كِتَابَ السِّيَرِ فَلَمْ يُجِبْهُ إلَى الْإِعَارَةِ فَكَتَبَ إلَيْهِ: قُلْ لِلَّذِي لَمْ تَرَ عَيْنُ ... مَنْ رَآهُ مِثْلَهُ حَتَّى كَأَنَّ مَنْ رَآهُ ... قَدْ رَأَى مَنْ قَبْلَهُ الْعِلْمُ يَنْهَى أَهْلَهُ ... أَنْ يَمْنَعُوهُ أَهْلَهُ لَعَلَّهُ يَبْذُلُهُ ... لِأَهْلِهِ لَعَلَّهُ فَوَجَّهَ إلَيْهِ بِهِ فِي الْحَالِ هَدِيَّةً لَا عَارِيَّة، وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: يَنْبَغِي لِمَنْ مَلَكَ كِتَابًا أَنْ لَا يَبْخَلَ بِإِعَارَتِهِ لِمَنْ هُوَ أَهْلُهُ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي إفَادَةُ الطَّالِبِينَ بِالدَّلَالَةِ عَلَى الْأَشْيَاخِ وَتَفْهِيمِ الْمُشْكِلِ، فَإِنَّ الطَّلَبَةَ قَلِيلٌ وَقَدْ عَمَّهُمْ الْفَقْرُ فَإِذَا بُخِلَ عَلَيْهِمْ بِالْكِتَابِ وَالْإِفَادَةِ كَانَ سَبَبًا لِمَنْعِ الْعِلْمِ. قَالَ سُفْيَانُ: تَعَجَّلُوا بَرَكَةَ الْعِلْمِ، لِيُفِدْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فَإِنَّكُمْ لَعَلَّكُمْ لَا تَبْلُغُونَ مَا تُؤَمِّلُونَ وَقَالَ وَكِيعٌ: أَوَّلُ بَرَكَةِ الْحَدِيثِ إعَارَةُ الْكُتُبِ، وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ مَنْ بَخِلَ بِالْعِلْمِ اُبْتُلِيَ بِثَلَاثٍ: إمَّا أَنْ يَمُوتَ فَيَذْهَبَ عِلْمُهُ أَوْ يَنْسَاهُ أَوْ يَتَّبِعَ السُّلْطَانَ.

فصل في قيام أهل الحديث الليل وخشوعهم

[فَصْلٌ فِي قِيَامِ أَهْلِ الْحَدِيثِ اللَّيْلَ وَخُشُوعِهِمْ] ْ) بَاتَ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَجُلٌ فَوَضَعَ عِنْدَهُ مَاءً قَالَ الرَّجُلُ: فَلَمْ أَقُمْ بِاللَّيْلِ وَلَمْ اسْتَعْمِلْ الْمَاءَ، فَلَمَّا أَصْبَحْت قَالَ لِي: لِمَ لَا تَسْتَعْمِلُ الْمَاءَ؟ فَاسْتَحْيَيْت وَسَكَتُّ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا سَمِعْت بِصَاحِبِ حَدِيثٍ لَا يَقُومُ بِاللَّيْلِ. وَجَرَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ مَعَهُ لِرَجُلٍ آخَرَ، فَقَالَ لَهُ: أَنَا مُسَافِرٌ قَالَ: وَإِنْ كُنْتَ مُسَافِرًا. حَجَّ مَسْرُوقٌ فَمَا نَامَ إلَّا سَاجِدًا. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: فِيهِ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِأَهْلِ الْعِلْمِ تَرْكُ قِيَامِ اللَّيْلِ، وَإِنْ كَانُوا مُسَافِرِينَ. وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ: يَنْبَغِي لِأَصْحَابِ الْحَدِيثِ أَنْ يُنْزِلُوهُ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمِ يَعْلَمُونَ مِنْ كُلِّ مِائَتَيْنِ خَمْسَةً. وَقَالَ سُفْيَانُ فِي الْإِنْجِيلِ: لَا تَطْلُبُوا عِلْمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا حَتَّى تَعْمَلُوا بِمَا قَدْ عَلِمْتُمْ. وَصَحَّ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَسْمَعُ الْبَابَ مِنْ أَبْوَابِ الْعِلْمِ فَيَعْلَمُهُ فَيَعْمَلُ بِهِ، فَيَكُونُ خَيْرًا لَهُ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، لَوْ كَانَتْ لَهُ فَوَضَعَهَا فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ بَدِيلٍ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا وَنَحْنُ نَكْتُبُ الْحَدِيثَ فَمَا يُسْمَعُ إلَّا صَوْتُ قَلَمٍ أَوْ بَاكٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ كَانَ أَبِي، سَاعَةَ يُصَلِّي الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ يَنَامُ نَوْمَةً خَفِيفَةً، ثُمَّ يَقُومُ إلَى الصَّبَاحِ يُصَلِّي وَيَدْعُو. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ شِمَاسٍ: كُنْت أَعْرِفُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَهُوَ غُلَامٌ وَهُوَ يُحْيِي اللَّيْلَ.

فصل في الأدب مع المحدث ومنه التجاهل والإقبال والاستماع

[فَصْلٌ فِي الْأَدَبِ مَعَ الْمُحَدِّثِ وَمِنْهُ التَّجَاهُلُ وَالْإِقْبَالُ وَالِاسْتِمَاعُ] ُ) قَالَ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنَا الدَّاوُدِيُّ سَمِعْت أَبَا عُبَيْدٍ الْقَاسِمَ بْنَ سَلَامٍ يَقُولُ: إنَّ مِنْ شُكْرِ الْعِلْمَ أَنْ يَجْلِسَ مَعَ رَجُلٍ فَيُذَاكِرَهُ بِشَيْءٍ لَا يَعْرِفُهُ، فَيَذْكُرَ لَهُ الْحَرْفَ عِنْدَ ذَلِكَ فَيَذْكُرَ ذَلِكَ الْحَرْفَ الَّذِي سَمِعْت مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ، فَيَقُولَ مَا كَانَ عِنْدِي مِنْ هَذَا شَيْءٌ حَتَّى سَمِعْت فُلَانًا يَقُولُ فِيهِ كَذَا وَكَذَا. فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ فَقَدْ شَكَرْت الْعِلْمَ وَلَا تُوهِمُهُمْ أَنَّك قُلْت هَذَا مِنْ نَفْسِك. . وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَإِذَا رَوَى الْمُحَدِّثُ حَدِيثًا قَدْ عَرَفَهُ السَّامِعُ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُدَاخِلَهُ فِيهِ قَالَ عَطَاءُ بْن أَبِي رَبَاحٍ: إنَّ الشَّابَّ لَيُحَدِّثُنِي بِحَدِيثٍ فَأَسْتَمِعُ لَهُ كَأَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ، وَلَقَدْ سَمِعْته قَبْلَ أَنْ يُولَدَ، ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ خَالِدِ بْنِ صَفْوَانَ قَالَ: إذَا رَأَيْت مُحَدِّثًا يُحَدِّثُ حَدِيثًا قَدْ سَمِعْته أَوْ يُخْبِرُ بِخَبَرٍ قَدْ عَلِمْتُهُ، فَلَا تُشَارِكْهُ فِيهِ حِرْصًا عَلَى أَنْ يَعْلَمَ مَنْ حَضَرَك أَنَّك قَدْ عَلِمْته، فَإِنَّ ذَلِكَ خِفَّةٌ فِيك وَسُوءُ أَدَبٍ. وَرَوَى أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ فِي الْأَدَبِ لَهُ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ: إنِّي لَأَسْمَعُ مِنْ الرَّجُلِ الْحَدِيثَ قَدْ سَمِعْته قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَ أَبَوَاهُ فَأُنْصِتُ لَهُ كَأَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ، ثُمَّ رَوَى مَا تَقَدَّمَ عَنْ عَطَاء ثُمَّ قَالَ: سَمِعْت أَبَا عَلِيٍّ الْحَسَنَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ جَلِيسَ أَبِي أَحْمَدَ الْفَقِيهَ الْبَغْدَادِيَّ يَقُولُ: يُرْوَى عَنْ سُفْيَان الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: وَتَرَاهُ يَعْجَبُ مِنْ حَدِيثٍ وَلَعَلَّةُ أَدْرَى بِهِ، وَرَوَى مَا تَقَدَّمَ عَنْ خَالِدِ بْنِ صَفْوَانَ وَرَوَى ذَلِكَ ابْنُ بَطَّةَ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَمَتَى أَشْكَلَ شَيْءٌ مِنْ الْحَدِيثِ عَلَى الطَّالِبِ صَبَرَ حَتَّى يَنْتَهِي الْحَدِيثُ، ثُمَّ يَسْتَفْهِمُ الشَّيْخَ بِأَدَبٍ وَلُطْفٍ وَلَا يَقْطَعْ عَلَيْهِ فِي وَسَطِ الْحَدِيثِ قَالَ: وَفِي أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مِنْ يُنْزِلُ جُزْءًا فِي جُزْءٍ وَيُوهِمُ الشَّيْخَ أَنَّهُ جُزْءٌ وَاحِدٌ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ لَا يَجُوزُ اعْتِمَادُهَا. وَرَوَى ابْنُ بَطَّةَ عَنْ

إبْرَاهِيمَ بْنِ الْجُنَيْدِ قَالَ حَكِيمٌ لِابْنِهِ: تَعَلَّمْ حُسْنَ الِاسْتِمَاعِ كَمَا تَعْلَمُ حُسْنَ الْكَلَامِ، فَإِنَّ حُسْنَ الِاسْتِمَاعَ إمْهَالُكَ لِلْمُتَكَلِّمِ حَتَّى يُفْضِي إلَيْك بِحَدِيثِهِ، وَالْإِقْبَالُ بِالْوَجْهِ وَالنَّظَرُ، وَتَرْكُ الْمُشَارَكَةِ لَهُ فِي حَدِيثٍ أَنْتَ تَعْرِفُهُ وَأَنْشَدَ: وَلَا تُشَارِكْ فِي الْحَدِيثِ أَهْلَهُ ... وَإِنْ عَرَفْت فَرْعَهُ وَأَصْلَهُ وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ الْهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ قَالَ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ: مِنْ الْأَخْلَاقِ السَّيِّئَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ مُغَالَبَةُ الرَّجُلِ عَلَى كَلَامِهِ، وَالِاعْتِرَاضُ فِيهِ لِقَطْعِ حَدِيثِهِ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: إيَّاكَ إذَا سُئِلَ غَيْرُك أَنْ تَكُونَ أَنْتَ الْمُجِيبُ كَأَنَّك أَصَبْت غَنِيمَةً أَوْ ظَفِرْت بِعَطِيَّةٍ، فَإِنَّك إنْ فَعَلْت ذَلِكَ أَزْرَيْت بِالْمَسْئُولِ، وَعَنَّفْت السَّائِلَ، وَدَلَلْت السُّفَهَاءَ عَلَى سَفَاهَةِ حِلْمِك وَسُوءِ أَدَبِك، يَا بُنَيَّ لِيَشْتَدَّ حِرْصُك عَلَى الثَّنَاءِ مِنْ الْأَكْفَاءِ، وَالْأَدَبِ النَّافِعِ، وَالْإِخْوَانِ الصَّالِحِينَ قَالَ ابْنُ بَطَّةَ: كُنْت عِنْدَ أَبِي عُمَرَ الزَّاهِدِ فَسُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَبَادَرْت أَنَا فَأَجَبْت السَّائِلَ، فَالْتَفَتَ إلَيَّ فَقَالَ لِي: تَعْرِفُ الْفُضُولِيَّاتِ الْمُنْتَقِبَاتِ يَعْنِي: أَنْتَ فُضُولِيٌّ فَأَخْجَلَنِي. وَذَكَرَ ذَلِكَ أَيْضًا أَبُو جَعْفَرٍ الْعُكْبَرِيُّ فِي الْآدَابِ لَهُ.

فصل لا تطلب من صاحب دنيا حاجة

[فَصْلٌ لَا تَطْلُبْ مِنْ صَاحِبِ دُنْيَا حَاجَةً] فَصْلٌ فِي طَبَقَاتِ الْقَاضِي أَبِي الْحُسَيْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ نَقَلَ عَنْ إمَامِنَا أَشْيَاءَ مِنْهَا قَالَ قُلْتُ لِأَحْمَدَ إنَّ فُلَانًا يَعْنِي أَبَا يُوسُفَ رُبَّمَا سَعَى فِي الْأُمُورِ مِثْلَ الْمَصَانِعِ وَالْمَسَاجِدِ وَالْآبَارِ، فَقَالَ لِي أَحْمَدُ: لَا، لَا، نَفْسُهُ أَوْلَى بِهِ. وَكَرِهَ أَنْ يَبْذُلَ الرَّجُلُ وَجْهَهُ وَنَفْسَهُ لِهَذَا، وَذَكَرَهُ أَيْضًا الْخَلَّالُ وَأَبُو يُوسُفَ هُوَ الْغَسُّولِي. وَقَالَ مُهَنَّا سَمِعْت بِشْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَذُكِرَ لَهُ أَيْضًا رَجُلٌ يَسْأَلُ النَّاسَ فَقَالَ بِشْرٌ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ فِي هَذَا؟ فَقَالَ: مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، فَقَالَ لَهُ بِشْرٌ أُرِيدُ أَرْفَعَ مِنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ، فَسَمِعْت بِشْرًا يَقُولُ لَهُ لَا تَفْعَلْ وَلَا تَطْلُبْ مِنْ صَاحِبِ دُنْيَا حَاجَةً، دَعْهُ حَتَّى يَكُونَ هُوَ يَطْلُبُ إلَيْكَ. وَكَانَ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ يَبْعَثُ يَحْيَى بْنَ خَاقَانَ إلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ كَثِيرًا أَوْ يَسْأَلُ عَنْ أَشْيَاءَ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: وَقَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قَدْ جَاءَنِي يَحْيَى بْنُ خَاقَانَ وَمَعَهُ شَرًى فَجَعَلَ يُقَلِّلُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، فَقُلْتُ لَهُ قَالُوا إنَّهَا أَلْفُ دِينَارٍ قَالَ هَكَذَا فَرَدَدْتُهَا عَلَيْهِ فَبَلَغَ الْبَابَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ إنْ جَاءَكَ لِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِك شَيْءٌ تَقْبَلُهُ؟ قُلْتُ لَا قَالَ: إنَّمَا أُرِيدُ أَنْ أُخْبِرَ الْخَلِيفَةَ بِهَذَا. قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَيُّ شَيْءٍ كَانَ عَلَيْكَ لَوْ أَخَذْتَهَا فَقَسَمْتَهَا فَكَلَحَ فِي وَجْهِهِ وَقَالَ إذَا أَنَا قَسَمْتَهَا أَيَّ شَيْءٍ كُنْتُ أُرِيدُ أَكُونُ لَهُ قَهْرَمَانًا؟ وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَجُلٌ جَاءَنِي وَمَعَهُ دَرَاهِمُ فَقَالَ لِي خُذْ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ فَتَصَدَّقْ بِهَا فِي جِيرَانِك فَأَبَيْتُ فَلَمْ يَزَلْ يَطْلُبُ إلَيَّ فَأَبَيْتُ فَقَالَ لَا يَحِلُّ لَكَ وَلَا يَسَعُك أَنْ تَمْنَعَ الْمَسَاكِينَ وَالْفُقَرَاءَ، فَلَمْ آخُذْهَا أَكُونُ قَدغ أَثِمْت

إذَا أَرَدْتُهَا؟ قَالَ: لِمَ لَا تَأْثَمُ مَنْ يَسْلَمُ مِنْ هَذَا؟ قَدْ أَحْسَنْتَ، لَوْ أَخَذْتَهَا لَمْ تَسْلَمْ. وَرَوَى يَعْقُوبُ عَنْهُ: إنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ كَانَ أَسْلَمَ لَهُ، وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ مَا أُحِبُّ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بَعَثَ إلَيَّ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِينَارٍ فَأَتَصَدَّقُ بِهَا، فَقِيلَ لَهُ: أَوَلَمْ تُؤْجَرْ وَلَا تَرُدَّ شَيْئًا؟ قَالَ: إنِّي أَخَافُ وَسَاوِسَ نَفْسِي وَعَوَاذِلَ قَوْمِي، فَيُحْبِطُ ذَلِكَ أَجْرِي، وَالسَّلَامَةُ أَحَبُّ إلَيَّ. وَقَالَ الْخَلَّالُ فِي الْأَخْلَاقِ: ثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَاتِمٍ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْجُنَيْدِ عَنْ هَارُونَ بْنِ سُفْيَانَ الْمُسْتَمْلِي قَالَ: جِئْتُ إلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ حِينَ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ الدَّرَاهِمَ الَّتِي جَاءَتْهُ مِنْ الْمُتَوَكِّلِ قَالَ فَأَعْطَانِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَقُلْتُ: لَا تَكْفِينِي قَالَ: لَيْسَ هَهُنَا غَيْرُهَا، وَلَكِنْ هُوَ ذَا أَعْمَلُ بِكَ شَيْئًا أُعْطِيكَ ثَلَاثَمِائَةٍ تُفَرِّقُهَا، قَالَ: فَلَمَّا أَخَذْتُهَا قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَيْسَ وَاَللَّهِ أُعْطِي أَحَدًا مِنْهَا شَيْئًا فَتَبَسَّمَ. وَقَالَ صَالِحٌ لِأَبِيهِ: مَا تَقُولُ فِي امْرَأَةٍ مِسْكِينَةٍ تَكُونُ مَعِي فِي دَارِي فَرُبَّمَا أَتَوْنِي بِشَيْءٍ لِلْمَسَاكِينِ فَأُعْطِيهَا مِنْهُ إذَا قَسَمْتُ، فَقَالَ لَا تَحْلِبْهَا وَأَعْطِهَا كَمَا تُعْطِي غَيْرَهَا.

فصل في الاشتغال بالمذاكرة عن النوافل وفضل أهل السنة والأصدقاء

[فَصْلٌ فِي الِاشْتِغَالِ بِالْمُذَاكَرَةِ عَنْ النَّوَافِلِ وَفَضْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْأَصْدِقَاءِ] ِ) قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ لَمَّا قَدِمَ أَبُو زُرْعَةَ نَزَلَ عِنْد أَبِي فَكَانَ كَثِيرَ الْمُذَاكَرَةِ لَهُ، فَسَمِعْت أَبِي يَوْمًا يَقُولُ: مَا صَلَّيْت غَيْرَ الْفَرَائِضِ اسْتَأْثَرْت بِمُذَاكَرَةِ أَبِي زُرْعَةَ عَلَى نَوَافِلِي. وَرَوَى الْخَلَّالُ فِي أَخْلَاقِ أَحْمَدَ أَنَّ إِسْحَاقَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَا وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ: فَمَضَيْنَا مَعَهُ إلَى الْمُصَلَّى يَوْمَ عِيدٍ قَالَ: فَلَمْ يُكَبِّرْ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَلَا أَنَا وَلَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ فَقَالَ لَنَا: رَأَيْتُ مَعْمَرًا وَالثَّوْرِيَّ فِي هَذَا الْيَوْمِ كَبَّرَا فَكَبَّرْت، وَرَأَيْتُكُمَا لَا تُكَبِّرَانِ فَلَمْ أُكَبِّرْ قَالَ: وَرَأَيْتُكُمَا لَا تُكَبِّرَانِ فَهِبْتُ. قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فَلِمَ لَمْ تُكَبِّرَا؟ قَالَ فَقُلْنَا: نَحْنُ نَرَى التَّكْبِيرَ وَلَكِنْ شُغِلْنَا بِأَيِّ شَيْء نَبْتَدِئُ مِنْ الْكُتُبِ. وَقَالَ صَالِحُ بْنُ مُوسَى أَبُو الْوَجِيهِ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: وَمَنْ يَفْلِتُ مِنْ التَّصْحِيفِ؟ لَا يَفْلِتُ أَحَدٌ مِنْهُ. وَقَالَ الْخَلَّالُ: أَنْبَأَنَا طَالِبُ بْنُ حَرَّةَ الْأُذْنِيُّ قَالَ: حَضَرْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فَقَالَ: عَلَامَةُ الْمُرِيدِ، قَطِيعَةُ كُلِّ خَلِيطٍ لَا يُرِيدُ مَا تُرِيدُ. وَفِي طَبَقَاتِ الْقَاضِي أَبِي الْحُسَيْنِ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الصُّفْرِ ثَنَا هِبَةُ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ ثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ أَنْبَأَنَا سُلَيْمَانُ الطَّبَرَانِيُّ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ ثَنَا أَبِي قَالَ: قُبُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ رَوْضَةٌ، وَقُبُورُ أَهْلِ الْبِدَعِ الزَّنَادِقَةِ حُفْرَةٌ، فُسَّاقُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ، وَزُهَّادُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ أَعْدَاءُ اللَّهِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: سُئِلَ أَبِي لِمَ لَا تَصْحَبُ النَّاسَ؟ قَالَ

لِوَحْشَةِ الْفِرَاقِ. وَرَوَى ابْنُ بَطَّةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: وَحْشَةُ الِانْفِرَادِ، أَبْقَى لِلْعِزِّ مِنْ مُؤَانَسَةِ اللِّقَاءِ. . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: وَسُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَكْتُبُ الْحَدِيثَ فَيُكْثِرُ قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يُكْثِرَ الْعَمَلَ بِهِ عَلَى قَدْرِ زِيَادَتِهِ فِي الطَّلَبِ، ثُمَّ قَالَ: سَبِيلُ الْعِلْمِ مِثْلُ سَبِيلِ الْمَالِ أَنَّ الْمَالَ إذَا زَادَ زَادَتْ زَكَاتُهُ. وَفِي طَبَقَاتِ الْقَاضِي أَبِي الْحُسَيْنِ وَأَنْبَأَنَا يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَهْرَوَانِيُّ ثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ سَمِعْت الْمُطِيعَ الْخَلِيفَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ فِي يَوْمِ عِيدٍ: سَمِعْت شَيْخِي عَبْدَ اللَّهِ الْبَغَوِيَّ يَقُولُ: سَمِعْت الْإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: إذَا مَاتَ أَصْدِقَاءُ الرَّجُلِ ذَلَّ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: حَدَّثَنِي أَبِي ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ: قَالَ لِي أَيُّوبُ: إنَّهُ لَيَبْلُغُنِي مَوْتُ الرَّجُلِ مِنْ إخْوَانِي فَكَأَنَّمَا سَقَطَ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِي.

فصل في قضاء الحوائج والشفاعة فيها لدى الأئمة والسلاطين

[فَصْلٌ فِي قَضَاءِ الْحَوَائِجِ وَالشَّفَاعَةِ فِيهَا لَدَى الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَاطِينِ] ِ) قَدْ سَبَقَ فِي الِاسْتِئْذَانِ كَلَامٌ يَتَعَلَّقُ بِقَضَاءِ الْحَوَائِجِ وَالْمُسَاعَدَةِ عَلَيْهَا. وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ يَسْتَشْفِعُ بِهِ فِي حَاجَةٍ فَقَضَاهَا فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ يَشْكُرُهُ فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ: عَلَامَ تَشْكُرُنَا وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ لِلْجَاهِ زَكَاةً كَمَا أَنَّ لِلْمَالِ زَكَاةً؟ وَفِي لَفْظٍ وَنَحْنُ نَرَى كَتْبَ الشَّفَاعَاتِ زَكَاةَ مُرُوآتِنَا ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُول: فُرِضَتْ عَلَيَّ زَكَاةُ مَا مَلَكَتْ يَدِي ... وَزَكَاةُ جَاهِي أَنْ أُعِينَ وَأَشْفَعَا فَإِذَا مَلَكْتَ فَجُدْ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ ... فَاجْهَدْ بِوُسْعِك كُلِّهِ أَنْ تَنْفَعَا قَالَ الْقَاضِي الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا: وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ: وَإِذَا امْرُؤٌ أَهْدَى إلَيْك صَنِيعَةً ... مِنْ جَاهِهِ فَكَأَنَّهَا مِنْ مَالِهِ وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنْ جَهْمَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «لِكُلِّ شَيْءٍ زَكَاةٌ وَزَكَاةُ الْجَسَدِ الصَّوْمُ» . وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَإِذَا السَّعَادَةُ أَحْرَسَتْك عُيُونُهَا ... نَمْ فَالْمَخَاوِفُ كُلُّهُنَّ أَمَانُ وَاصْطَدْ بِهَا الْعَنْقَاءَ فَهْيَ حَبَائِلُ ... وَاقْتَدْ بِهَا الْجَوْزَاءَ فَهْيَ عَنَانُ وَعَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ إذَا أَتَاهُ السَّائِلُ أَوْ صَاحِبُ الْحَاجَةِ قَالَ اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا، وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مَا شَاءَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَفِي لَفْظِهِ " تُؤْجَرُوا " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَلِأَبِي دَاوُد «اشْفَعُوا إلَيَّ لِتُؤْجَرُوا وَلْيَقْضِ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مَا شَاءَ» . وَعَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ الرَّجُلَ لَيَسْأَلُنِي عَنْ الشَّيْءِ فَأَمْنَعُهُ كَيْ تَشْفَعُوا

لَهُ فَتُؤْجَرُوا» وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ هَارُونَ بْنِ سَعِيدٍ الْأَيْلِيِّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَمْرو بْنِ دِينَارٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَخِيهِ هَمَّامٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ إسْنَادٌ جَيِّدٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبْد الْبَرِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اسْتَعِينُوا عَلَى حَوَائِجِكُمْ بِالْكِتْمَانِ فَإِنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ» وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ لِقُتَيْبَةِ بْنِ مُسْلِمٍ: إنِّي أَتَيْتُك فِي حَاجَةٍ رَفَعْتهَا إلَى اللَّهِ قَبْلَك فَإِنْ يَأْذَنْ اللَّهُ فِيهَا قَضَيْتهَا وَحَمِدْنَاك، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ فِيهَا لَمْ تَقْضِهَا وَعَذَرْنَاك. وَقَالَ يُونُسُ: أَنْزَلْتُ بِالْحُرِّ إبْرَاهِيمَ مَسْأَلَةً ... أَنْزَلْتُهَا قَبْلَ إبْرَاهِيمَ بِاَللَّهِ فَإِنْ قَضَى حَاجَتِي فَاَللَّهُ يَسَّرَهَا ... هُوَ الْمُقَدِّرُهَا وَالْآمِرُ النَّاهِي إذَا أَبَى اللَّهُ شَيْئًا ضَاقَ مَذْهَبُهُ ... عَنْ الْكَبِيرِ الْعَرِيضِ الْقَدْرِ وَالْجَاهِ قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ: خَيْرُ الْمَذَاهِبِ فِي الْحَاجَاتِ أَنْجَحُهَا ... وَأَضْيَقُ الْأَمْرِ أَدْنَاهُ إلَى الْفَرَجِ وَكَتَبَ سَوَّارُ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَوَّارِ الْقَاضِي إلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ: لَنَا حَاجَةٌ وَالْعُذْرُ فِيهَا مُقَدَّمٌ ... خَفِيفٌ وَمَعْنَاهَا مُضَاعَفَةُ الْأَجْرِ فَإِنْ تَقْضِهَا فَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّنَا ... وَإِنْ تَكُنْ الْأُخْرَى فَفِي وَاسِعِ الْعُذْرِ عَلَى أَنَّهُ الرَّحْمَنُ مُعْطٍ وَمَانِعٌ ... وَلِلرِّزْقِ أَسْبَابٌ إلَى قَدَرٍ يَجْرِي فَأَجَابَهُ مُحَمَّدُ بْنِ طَاهِرٍ: فَسَلْهَا تَجِدْنِي مُوجِبًا لِقَضَائِهَا ... سَرِيعًا إلَيْهَا لَا يُخَاطِبُنِي فِكْرُ شَكُورٌ بِإِفْضَالِي عَلَيْك بِمِثْلِهَا ... وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا حَوَتْهُ يَدِي شُكْرُ فَهَذَا قَلِيلٌ لِلَّذِي قَدْ رَأَيْته ... لِحَقِّك لَا مَنٌّ لَدَيَّ وَلَا ذُخْرُ

وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: حَاجَةُ الرَّجُلُ إلَى أَخِيهِ فِتْنَةٌ لَهُمَا، إنْ أَعْطَاهُ شَكَرَ مَنْ لَمْ يُعْطِهِ، وَإِنْ مَنَعَهُ ذَمَّ مَنْ لَمْ يَمْنَعْهُ. وَقَالَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ: لَا تَطْلُبُوا الْحَوَائِجَ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهَا، وَلَا تَطْلُبُوهَا فِي غَيْرِ حِينِهَا، وَلَا تَطْلُبُوا مَا لَا تَسْتَحِقُّونَ مِنْهَا، فَإِنَّ مَنْ طَلَبَ مَا لَا يَسْتَحِقُّ اسْتَوْجَبَ الْحِرْمَانَ. وَقَالَ رَجُلٌ لِلْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَوْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ أَتَيْتُك فِي حَاجَةٍ صَغِيرَةٍ قَالَ: فَاطْلُبْ لَهَا رَجُلًا صَغِيرًا. وَقِيلَ لِآخَرَ أَتَيْتُك فِي حَاجَةٍ صَغِيرَةٍ قَالَ: اُذْكُرْهَا عِنْدَ الْحُرِّ يَقُومُ بِصَغِيرِ الْحَاجَاتِ وَكَبِيرِهَا، كَأَنْ يُقَالَ: لَا تَسْتَعِنْ عَلَى حَاجَةٍ بِمَنْ هِيَ طُعْمَتُهُ، وَلَا تَسْتَعِنْ بِكَذَّابٍ، فَإِنَّهُ يُقَرِّبُ الْبَعِيدَ وَيُبَاعِدُ الْقَرِيبَ، وَلَا تَسْتَعِنْ عَلَى رَجُلٍ بِمَنْ لَهُ إلَيْهِ حَاجَةٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَصْلُ الْعِبَادَةِ أَنْ لَا تَسْأَلَ سِوَى اللَّهِ حَاجَةً. فَلِكُلِّ أَحَدٍ فِي اللَّهِ عِوَضٌ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ اللَّهِ عِوَضٌ بِأَحَدٍ وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدُ: وَإِذَا طَلَبْتَ إلَى كَرِيمٍ حَاجَةً ... فَلِقَاؤُهُ يَكْفِيك وَالتَّسْلِيمُ وَإِذَا طَلَبْت إلَى لَئِيمٍ حَاجَةً ... فَأَلِحَّ فِي رَقٍّ وَأَنْتَ مُدِيمُ وَقَالَ آخَرُ: لَا تَطْلُبَنَّ إلَى لَئِيمٍ حَاجَةً ... وَاقْعُدْ فَإِنَّك قَائِمٌ كَالْقَاعِدِ يَا خَادِعَ الْبُخَلَاءِ عَنْ أَمْوَالِهِمْ ... هَيْهَاتَ تَضْرِبُ فِي حَدِيدٍ بَارِدِ وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ: اقْضِ الْحَوَائِجَ مَا اسْتَطَعْ ... تَ وَكُنْ لِهَمِّ أَخِيكَ فَارِجْ فَلَخَيْرُ أَيَّامِ الْفَتَى ... يَوْمٌ قَضَى فِيهِ الْحَوَائِجْ

وَقَالَ بَعْضُهُمْ قَالُوا مَنْ صَبَرَ عَلَى حَاجَتِهِ ظَفِرَ بِهَا، وَمَنْ أَدْمَنَ قَرْعَ الْبَابِ يُوشِكُ أَنْ يُفْتَحَ لَهُ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: اصْبِرْ عَلَى مَضَضِ الْإِدْلَاجِ فِي السَّحَرِ ... وَفِي الرَّوَاحِ إلَى الْحَاجَاتِ وَالْبَكْرِ لَا تَضْجَرَنَّ وَلَا يُعْجِزْكَ مَطْلَبُهَا ... فَالنُّجْحُ يَتْلَفُ بَيْنَ الْعَجْزِ وَالْقِصَرِ إنِّي رَأَيْت وَفِي الْأَيَّامِ تَجْرِبَةٌ ... لِلصَّبْرِ عَاقِبَةً مَحْمُودَةَ الْأَثَرِ وَقَلَّ مَنْ جَدَّ فِي شَيْءٍ تَطَلَّبَهُ ... وَاسْتَشْعَرَ الصَّبْرَ إلَّا فَازَ بِالظَّفَرِ وَقَالَ سُفْيَانُ: الْإِلْحَاحُ لَا يَصْلُحُ وَلَا يَجْمُلُ إلَّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَالَ مُوَرِّقٌ الْعِجْلِيُّ سَأَلْت رَبِّي حَاجَةً عِشْرِينَ سَنَةً فَمَا انْقَضَتْ لِي وَلَا يَئِسْت مِنْهَا وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ: فِي النَّاسِ مَنْ تَسْهُلُ الْمَطَالِبُ أَحْ ... يَانًا عَلَيْهِ وَرُبَّمَا صَعُبَتْ مَا كُلُّ ذِي حَاجَةٍ بِمُدْرِكِهَا ... كَمْ مِنْ يَدٍ لَا تَنَالُ مَا طَلَبَتْ مَنْ لَمْ يَسَعْهُ الْكَفَافُ مُعْتَدِلًا ... ضَاقَتْ عَلَيْهِ الدُّنَا بِمَا رَحُبَتْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اسْتَعِينُوا عَلَى النَّاسِ فِي حَوَائِجكُمْ بِالتَّثْقِيلِ فَذَلِكَ نُجْحٌ لَكُمْ وَقَالَ آخَرُ: مَنْ عَفَّ خَفَّ عَلَى الصَّدِيقِ لِقَاؤُهُ ... وَأَخُو الْحَوَائِجِ وَجْهُهُ مَمْلُولُ وَكَتَبَ أَبُو الْعَتَاهِيَة إلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ يُعَاتِبُهُ فَقَالَ: لَئِنْ عُدْت بَعْدَ الْيَوْمِ إنِّي لَظَالِمٌ ... سَأَصْرِفُ نَفْسِي حِينَ تُبْغَى الْمَكَارِمُ مَتَى يَنْجَحْ الْغَادِي إلَيْك بِحَاجَةٍ ... وَنِصْفُك مَحْجُوبٌ وَنِصْفُكَ نَائِمُ وَسُئِلَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ حَاجَةً فَامْتَنَعَ فَعُوتِبَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَأَنْ يَحْمَرَّ وَجْهِي مَرَّةً خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَصْفَرَّ مِرَارًا. وَقَالَ مَنْصُورٌ الْفَقِيهُ: مَنْ قَالَ لَا فِي حَاجَةٍ ... مَطْلُوبَةٍ فَمَا ظَلَمْ

وَإِنَّمَا الظَّالِمُ مَنْ ... قَالَ لَا بَعْدَ نَعَمْ وَقَالَ آخَرُ: إنَّ لَا بَعْدَ نَعَمْ فَاحِشَةٌ ... فَبِلَا فَابْدَأْ إذَا خِفْتَ النَّدَمْ وَإِذَا قُلْت نَعَمْ فَاصْبِرْ لَهَا ... بِنَجَازِ الْوَعْدِ إنَّ الْخُلْفَ ذَمْ وَسَبَقَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا فِي الِاسْتِئْذَانِ، وَقَبْلَهُ فِي فُصُولِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ. وَفِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ عَبْدَانِ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَا سَأَلَنِي أَحَدٌ حَاجَةً إلَّا قُمْت لَهُ بِنَفْسِي، فَإِنْ تَمَّ وَإِلَّا قُمْت لَهُ بِمَالِي، فَإِنْ تَمَّ وَإِلَّا اسْتَعَنَّا لَهُ بِالْإِخْوَانِ، فَإِنْ تَمَّ وَإِلَّا اسْتَعَنْت لَهُ بِالسُّلْطَانِ. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْدَمَ مَنْ رُدَّتْ شَفَاعَتُهُ وَلَا يَتَأَذَّى عَلَى مَنْ لَمْ يَقْبَلْهَا، وَيَفْتَحُ بَابَ الْعُذْرِ وَسَيِّدُ الْخَلَائِقِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ أَعْظَمُ حَقًّا وَأَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ زَوْجُ بَرِيرَةَ عَبْدًا يُقَالُ لَهُ: مُغِيثٌ كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِي وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْعَبَّاسِ: أَلَا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا؟ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ رَاجَعْتِيهِ فَإِنَّهُ أَبُو وَلَدك قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَأْمُرُنِي؟ قَالَ لَا إنَّمَا أَشْفَعُ قَالَتْ: فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهِ» ، وَالنَّاسُ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَرَدِّ شَفَاعَتِهِمْ وَعَدَمِ قَبُولِهَا مُتَفَاوِتُونَ جِدًّا، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ هَارُونُ الرَّقِّيُّ قَدْ عَاهَدَ اللَّهَ أَنْ لَا يَسْأَلَهُ أَحَدٌ كِتَابَ شَفَاعَةٍ إلَّا فَعَلَ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَهُ قَدْ أُسِرَ بِالرُّومِ وَسَأَلَهُ أَنْ يَكْتُبَ إلَى مَلِكِ الرُّوم فِي إطْلَاقِهِ، فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ وَمِنْ أَيْنَ يَعْرِفُنِي وَإِذَا سَأَلَ عَنِّي قِيلَ هُوَ مُسْلِمٌ فَكَيْف يَقْضِي حَقِّي؟ فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: اُذْكُرْ الْعَهْدَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فَكَتَبَ لَهُ إلَى مَلِكِ الرُّوم، فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ قَالَ مَنْ هَذَا الَّذِي

قَدْ شَفَعَ إلَيْنَا؟ قِيلَ: هَذَا رَجُلٌ قَدْ عَاهَدَ اللَّهَ لَا يُسْأَلُ كِتَابَ شَفَاعَةٍ إلَّا كَتَبَهُ إلَى أَيِّ مَنْ كَانَ. فَقَالَ مَلِكُ الرُّومِ: هَذَا حَقِيقٌ بِالْإِسْعَافِ، أَطْلِقُوا أَسِيرَهُ وَاكْتُبُوا جَوَابَ كِتَابِهِ وَقُولُوا لَهُ: اُكْتُبْ بِكُلِّ حَاجَةٍ تَعْرِضُ، فَإِنَّا نُشَفِّعُك فِيهَا. وَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي الْكَلَامِ وَالْبُخْلِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ ثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى أَقْوَامًا اخْتَصَّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ مَا بَذَلُوهَا، فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا مِنْهُمْ وَحَوَّلَهَا إلَى غَيْرِهِمْ» ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ الْأَخْضَرِ فِيمَنْ رَوَى عَنْ أَحْمَدَ فِي تَرْجَمَةِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ اللَّبَّادِ أَبِي نَصْرٍ رَوَاهُ عَنْ أَحْمَدَ.

فصل رجل ليس عنده شيء وله قرابة ولهم وليمة

[فَصْلٌ رَجُلٌ لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ وَلَهُ قَرَابَةٌ وَلَهُمْ وَلِيمَةٌ] فَصْلٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ الْمَذْكُورِ عَنْ أَحْمَدَ: إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ حَاجَةً فَقُولُوا: فِي عَافِيَةٍ، قَالَ سُلَيْمَانُ الْقَصِيرُ قُلْت لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَيْشٍ تَقُولُ فِي رَجُلٍ لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ وَلَهُ قَرَابَةٌ وَلَهُمْ وَلِيمَةٌ تُرَى أَنْ يَسْتَقْرِضَ وَيُهْدِي لَهُمْ، قَالَ: نَعَمْ رَوَاهُ الْخَلَّالُ. [فَصْلٌ فِي كَرَاهَةِ الشَّكْوَى مِنْ الْمَرَضِ وَالضَّيْرِ وَاسْتِحْبَابِ حَمْدِ اللَّهِ قَبْلَ ذِكْرَهُمَا] ) قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ فِي الطَّبَقَاتِ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي الْفَضْلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُتَطَبِّبِ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الصَّلْتِ: سَمِعْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ الْمُتَطَبِّبَ يُعْرَفُ بِطَبِيبِ السُّنَّةِ يَقُولُ: دَخَلْت عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَعُودُهُ فَقُلْت: كَيْف تَجِدُك؟ فَقَالَ: أَنَا بِعَيْنِ اللَّهِ، ثُمَّ دَخَلْت عَلَى بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ فَقُلْت: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قَالَ أَحْمَدُ اللَّهَ إلَيْك، أَجِدُ كَذَا، أَجِدُ كَذَا، فَقُلْت: أَمَا تَخْشَى أَنْ يَكُونَ هَذَا شَكْوَى؟ فَقَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعَافَى بْنُ عِمْرَانَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ قَالَا: سَمِعْنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا كَانَ الشُّكْرُ قَبْلَ الشَّكْوَى فَلَيْسَ بِشَاكٍ» فَدَخَلْت عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فَحَدَّثْته فَكَانَ إذَا سَأَلْته قَالَ: أَحْمَدُ اللَّهَ إلَيْك، أَجِدُ كَذَا أَجِدُ كَذَا. قَالَ الْخَلَّالُ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ هَذَا: كَانَ يَأْنَسُ بِهِ أَحْمَدُ وَبِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَيَخْتَلِفُ إلَيْهِمَا، وَأَظُنُّ أَنَّ أَبَا الْحُسَيْنِ نَقَلَ هَذَا مِنْ كِتَابِ الْخَلَّالِ، وَهَذَا الْخَبَرُ السَّابِقُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ وَلَا بَأْسَ أَنْ يُخْبِرَ بِمَا يَجِدُهُ مِنْ أَلَمٍ وَوَجَعٍ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، لَا لِقَصْدِ الشَّكْوَى. وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ لَمَّا قَالَتْ: «وَارَأْسَاهُ. قَالَ: بَلْ أَنَا وَارَأْسَاهُ»

وَاحْتَجَّ ابْنُ الْمُبَارَكِ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّك لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، فَقَالَ أَجَلْ إنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ قَوْله تَعَالَى: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف: 62] . يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِرَاحَةِ إلَى نَوْعٍ مِنْ الشَّكْوَى عِنْدَ إمْسَاس الْبَلْوَى وَنَظِيرُهُ {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84] {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء: 83] «مَا زَالَتْ أَكْلَةُ خَيْبَرَ تُعَاوِدُنِي» انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَقِيلٍ. وَقَالَ رَجُلٌ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ: كَيْفَ تَجِدُك يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: بِخَيْرٍ فِي عَافِيَةٍ، فَقَالَ: حُمِّمْتُ الْبَارِحَةَ قَالَ إذَا قُلْت لَك: أَنَا فِي عَافِيَةٍ فَحَسْبُك لَا تُخْرِجْنِي إلَى مَا أَكْرَهُ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: إذَا كَانَتْ الْمُصِيبَةُ مِمَّا يُمْكِنُ كِتْمَانُهَا فَكِتْمَانُهَا مِنْ أَعْمَالِ اللَّهِ الْخَفِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: شَكْوَى الْمَرِيضِ مُخْرِجَةٌ مِنْ التَّوَكُّلِ وَقَدْ كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنِينَ الْمَرِيضِ لِأَنَّهُ يُتَرْجِمُ عَنْ الشَّكْوَى، وَذُكِرَ هَذَا النَّصُّ عَنْ أَحْمَدَ وَقَالَ: فَأَمَّا وَصْفُ الْمَرِيضِ لِلطَّبِيبِ مَا يَجِدُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّهُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ إنَّ أُخْتَ بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَتْ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَنِينُ الْمَرِيضِ شَكْوَى قَالَ: أَرْجُو أَنَّهُ لَا يَكُونُ شَكْوَى وَلَكِنَّهُ اشْتَكَى إلَى اللَّهِ، وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ فِي كَرَاهَةِ الْأَنِينِ فِي الْمَرَضِ رِوَايَتَيْنِ، وَرُوِيَتْ الْكَرَاهَةُ عَنْ طَاوُسٍ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ مَا ذَكَرَ غَيْرُهُ مِنْ أَنَّ الصَّبْرَ وَاجِبٌ قَالَ: وَالصَّبْرُ لَا تُنَافِيه الشَّكْوَى وَقَالَ فِي مَسْأَلَةِ الْعُبُودِيَّةِ: وَالصَّبْرُ الْجَمِيلُ صَبْرٌ بِغَيْرِ شَكْوَى إلَى الْمَخْلُوقِ. ثُمَّ حُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ تَرْكُهُ الْأَنِينَ لِمَا حُكِيَ لَهُ عَنْ طَاوُسٍ كَرَاهَتُهُ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الشَّكْوَى إلَى الْخَالِقِ فَلَا تُنَافِي الصَّبْرَ الْجَمِيلَ وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84] .

فَإِنْ قِيلَ: هَذَا لَفْظُ الشَّكْوَى فَأَيْنَ الصَّبْرُ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ شَكَا إلَى اللَّهِ لَا مِنْهُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الدُّعَاءَ فَالْمَعْنَى يَا رَبُّ ارْحَمْ أَسَفِي عَلَى يُوسُفَ وَقَالَ: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَالْحُزْنُ وَنُفُورُ النُّفُوسِ مِنْ الْمَكْرُوهِ وَالْبَلَاءِ لَا عَيْبَ فِيهِ، وَلَا مَأْثَمَ إذَا لَمْ يَنْطِقْ اللِّسَانُ بِكَلَامٍ مُؤَثِّمٍ وَلَمْ يَشْكُ مِنْ رَبِّهِ. فَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ يَا أَسَفَى شَكْوَى إلَى رَبِّهِ، كَانَ غَيْرَ مَلُومٍ.

فصل في شكر النعم والصبر على البلاء وفوائده في الالتجاء إلى الله

[فَصْلٌ فِي شُكْرِ النِّعَمِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْبَلَاءِ وَفَوَائِدِهِ فِي الِالْتِجَاءِ إلَى اللَّهِ] ِ) قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ: النَّعَمُ أَضْيَافٌ وَقِرَاهَا الشُّكْرُ، وَالْبَلَايَا أَضْيَافٌ وَقِرَاهَا الصَّبْرُ، فَاجْتَهِدْ أَنْ تَرْحَلَ الْأَضْيَافُ شَاكِرَةً حُسْنَ الْقِرَى، شَاهِدَةً بِمَا تَسْمَعُ وَتَرَى. وَقَالَ: مِنْ أَحْسَنِ ظَنِّي بِهِ أَنَّهُ بَلَغَ مِنْ لُطْفِهِ أَنْ وَصَّى وَلَدِي إذَا كَبِرْت فَقَالَ: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] . فَأَرْجُو إذَا صِرْتُ عِنْدَهُ رَمِيمًا أَنْ لَا يَعْسِفَ؛ لِأَنَّ أَفْعَالَهُ، تُشَاكِلُ أَقْوَالَهُ، وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: مِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُنْزِلَ بِهِمْ مِنْ الشِّدَّةِ وَالضُّرِّ مَا يُلْجِئُهُمْ إلَى تَوْحِيدِهِ، فَيَدْعُونَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَيَرْجُونَهُ لَا يَرْجُونَ أَحَدًا سِوَاهُ، فَتَتَعَلَّقُ قُلُوبُهُمْ بِهِ لَا بِغَيْرِهِ، فَيَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ، وَحَلَاوَةِ الْإِيمَانِ وَذَوْقِ طَعْمِهِ، وَالْبَرَاءَةِ مِنْ الشِّرْكِ مَا هُوَ أَعْظَمُ نِعْمَةً عَلَيْهِمْ مِنْ زَوَالِ الْمَرَضِ وَالْخَوْفِ، أَوْ الْجَدْبِ أَوْ الضُّرِّ، وَمَا يَحْصُلُ لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ الْمُخْلِصِينَ لِلَّهِ الدِّينَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ مَقَالٌ، وَلِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ ذَلِكَ نَصِيبٌ بِقَدْرِ إيمَانِهِ، وَلِهَذَا قِيلَ: يَا ابْنَ آدَمَ لَقَدْ بُورِكَ لَك فِي حَاجَةٍ أَكْثَرْتَ فِيهَا مِنْ قَرْعِ بَابِ سَيِّدِك. وَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: إنَّهُ لَيَكُونُ لِي إلَى اللَّهِ حَاجَةٌ فَادْعُوهُ فَيَفْتَحُ لِي مِنْ لَذِيذِ مَعْرِفَتِهِ وَحَلَاوَةِ مُنَاجَاتِهِ مَا لَا أُحِبُّ مَعَهُ أَنْ يُعَجِّلَ قَضَاءَ حَاجَتِي أَوْ أَنْ يَنْصَرِفَ عَنِّي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ لَا تُرِيدُ إلَّا حَظَّهَا وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا» . وَقَالَ أَيْضًا: «وَجَدَ طَعْمَ الْإِيمَانِ» فَوُجُودُ الْمُؤْمِنِ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ

وَذَوْقُ طَعْمِهِ أَمْرٌ يَعْرِفُهُ مَنْ حَصَلَ لَهُ هَذَا الْوَجْهُ وَهَذَا الذَّوْقُ. فَاَلَّذِي يَحْصُلُ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ عِنْدَ تَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ يَجْذِبُ قُلُوبَهُمْ إلَى اللَّهِ وَإِقْبَالُهُمْ عَلَيْهِ دُونَ مَا سِوَاهُ، بِحَيْثُ يَكُونُونَ حُنَفَاءَ لِلَّهِ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ إلَى أَنْ قَالَ: وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْإِسْلَامِ الَّذِي بُعِثَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَأُنْزِلَ بِهِ الْكُتُبُ، وَهُوَ قُطْبُ الْقُرْآنِ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ رَحَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل في الصبر والصابرين وفوائد المصائب والشدائد

[فَصْلٌ فِي الصَّبْرِ وَالصَّابِرِينَ وَفَوَائِدِ الْمَصَائِبِ وَالشَّدَائِدِ] ِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155] {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 157] وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] . إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ. وَصَحَّ عَنْهُ الْأَمْرُ بِالصَّبْرِ فِي أَحَادِيثَ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] اللَّهُمَّ اُؤْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إلَّا آجَرَهُ اللَّهُ فِي مُصِيبَتِهِ وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ «وَمَنْ يَصْبِرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنْ الصَّبْرِ» وَخَيْرٌ مَرْفُوعٌ خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هُوَ خَيْرٌ. وَرُوِيَ " خَيْرًا " قَالَ: «وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا» . فَإِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّهُ وَمَا يَمْلِكُهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ أَوْجَدَهُ مِنْ عَدَمٍ وَيُعْدِمُهُ أَيْضًا وَيَحْفَظُهُ فِي حَالِ وُجُودِهِ، وَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ الْعَبْدُ إلَّا بِمَا يُتَاحُ لَهُ وَأَنَّ مَرْجِعَهُ إلَى اللَّه، وَلَا بُدَّ فَرْدًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم: 80] .

وَقَوْلُهُ {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 94] . وَأَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ. كَمَا قَالَهُ وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ - لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 22 - 23] . وَإِنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ جَعَلَ مُصِيبَتَهُ أَعْظَمَ مِمَّا هِيَ، وَإِنَّهُ إنْ صَبَرَ أَخْلَفَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَعْظَمَ مِنْ فَوَاتِ مُصِيبَتِهِ، وَإِنَّ الْمُصِيبَةَ لَا تَخْتَصُّ بِهِ فَيَتَأَسَّى بِأَهْلِ الْمَصَائِبِ، وَمُصِيبَةُ بَعْضِهَا أَعْظَمُ، وَإِنَّ سُرُورَ الدُّنْيَا مَعَ قِلَّتِهِ وَانْقِطَاعِهِ مُنَغِّصٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لِكُلِّ فَرْحَةٍ تَرْحَةٌ، وَمَا مُلِئَ بَيْتٌ فَرَحًا إلَّا مُلِئَ تَرَحًا وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَا كَانَ ضَحِكٌ قَطُّ إلَّا كَانَ بَعْدَهُ بُكَاءٌ. وَقَدْ شَاهَدَ النَّاسُ مِنْ تَغَيُّرِ الدُّنْيَا بِأَهْلِهَا فِي أَسْرَعِ مَا يَكُونُ الْعَجَائِبَ. وَقَالَتْ هِنْدُ بِنْتُ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ: لَقَدْ رَأَيْتنَا وَنَحْنُ مِنْ أَعَزِّ النَّاسِ وَأَشَدِّهِمْ مُلْكًا، ثُمَّ لَمْ تَغِبْ الشَّمْسُ حَتَّى رَأَيْتنَا وَنَحْنُ مِنْ أَقَلِّ النَّاسِ، وَإِنَّهُ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يَمْلَأَ دَارًا حِيَرَةً إلَّا مِلْأَهَا عِبْرَةً، وَبَكَتْ أُخْتُهَا حُرْقَةُ بِنْتُ النُّعْمَانِ يَوْمًا وَهِيَ فِي عِزِّهَا فَقِيلَ: مَا يُبْكِيك لَعَلَّ أَحَدًا آذَاك؟ قَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ رَأَيْت غَضَارَةً فِي أَهْلِي وَقَلَّمَا امْتَلَأَتْ دَارٌ سُرُورًا إلَّا امْتَلَأَتْ حُزْنًا. وَالْغَضَارَةُ طَيِّبُ الْعَيْشِ يَقُولُ: بَنُو فُلَانٍ مَغْضُورُونَ وَقَدْ غَضَرَهُمْ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَفِي غَضَارَةٍ مِنْ الْعَيْشِ، وَفِي غَضْرَاءَ مِنْ الْعَيْشِ أَيْ:

فِي خِصْبٍ وَخَيْرٍ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: لَا يُقَالُ: أَبَادَ اللَّهُ غَضْرَاءَهُمْ، وَلَكِنْ أَبَادَ اللَّهُ غَضِرَاهُمْ، أَيْ هَلَكَ خَيْرُهُمْ وَغَضَارَتُهُمْ. وَقَالَتْ حُرْقَةُ أَيْضًا: مَا نَحْنُ فِيهِ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِمَّا كُنَّا فِيهِ بِالْأَمْسِ. إنَّا نَجِدُ فِي الْكُتُبِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْل بَيْتٍ يَعِيشُونَ فِي حِيرَةٍ، إلَّا سَيُعَقَّبُونَ بَعْدهَا غُبْرَةٌ. وَإِنَّ الدَّهْرَ لَمْ يَظْهَرْ لِقَوْمٍ بِيَوْمٍ يُحِبُّونَهُ إلَّا بَطَنَ لَهُمْ بِيَوْمٍ يَكْرَهُونَهُ، ثُمَّ قَالَتْ: فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالْأَمْرُ أَمْرُنَا ... إذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ فَأُفٍّ لِدُنْيَا لَا يَدُومُ نَعِيمُهَا ... تَقَلَّبُ تَارَاتٍ بِنَا وَتَصَرَّفُ تَنَصَّفَ أَيْ خَدَمَ وَعَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّ الْجَزَعَ لَا يَرُدُّ الْمُصِيبَةَ بَلْ هُوَ مَرَضٌ يَزِيدُهَا، وَإِنَّهُ يَسُرُّ عَدُوَّهُ وَيُسِيءُ مُحِبَّهُ، وَإِنَّ فَوَاتَ ثَوَابِهَا بِالْجَزَعِ أَعْظَمُ مِنْهَا، وَمِنْهُ بَيْتُ الْحَمْدِ الَّذِي يُبْنَى لَهُ فِي الْجَنَّةِ عَلَى حَمْدِهِ وَاسْتِرْجَاعِهِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إذَا قَبَضْت صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إلَّا الْجَنَّةَ» وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَقَالَ غَرِيبٌ عَنْ جَابِرَ مَرْفُوعًا: «يَوَدُّ نَاسٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ تُقْرَضُ بِالْمَقَارِيضِ فِي الدُّنْيَا، لِمَا يَرَوْنَ مِنْ ثَوَابِ أَهْلِ الْبَلَاءِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ، وَلَا هَمٍّ، وَلَا حُزْنٍ، وَلَا أَذًى، وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» . وَعَنْ ابْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً قَالَ: الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلِ مِنْ النَّاسِ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسْبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي بَلَائِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ خُفِّفَ عَنْهُ، وَمَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَمْشِي عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةُ «بِالْمُؤْمِنِ أَوْ الْمُؤْمِنَةِ فِي جَسَدِهِ وَفِي مَالِهِ وَفِي وَلَدِهِ، حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» صَحَّحَهُمَا التِّرْمِذِيُّ وَرَوَى الثَّانِيَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ. وَرَوَيَا أَيْضًا وَالْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِيبُ مِنْهُ» .

وَعَنْ صُهَيْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إنَّ أَمَرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَلِأَحْمَدَ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «عَجِبْتُ لِلْمُؤْمِنِ، إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَقْضِ لَهُ قَضَاءً إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ» . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا «أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ، إنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيَفْرَحُ بِالْبَلَاءِ، كَمَا يَفْرَحُ أَحَدُكُمْ بِالرَّخَاءِ» مُخْتَصَرٌ مِنْ ابْنِ مَاجَهْ. وَعَنْ شَدَّادٍ مَرْفُوعًا «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنًا فَحَمِدَنِي عَلَى مَا ابْتَلَيْتُهُ، فَإِنَّهُ يَقُومُ مِنْ مَضْجَعِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ مِنْ الْخَطَايَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ يُقَالُ لَهُ: مَنْظُورٌ عَنْ عَمِّهِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا «إنَّ الْمُؤْمِنَ إذَا أَصَابَهُ سَقَمٌ ثُمَّ أَعْفَاهُ اللَّهُ مِنْهُ، كَانَ كَفَّارَةً لِمَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِ وَمَوْعِظَةً لَهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ، وَإِنَّ الْمُنَافِقَ إذَا مَرِضَ ثُمَّ أُعْفِيَ كَانَ كَالْبَعِيرِ عَقَلَهُ أَهْلُهُ ثُمَّ أَرْسَلُوهُ، فَلَمْ يَدْرِ لِمَ عَقَلُوهُ وَلِمَ أَرْسَلُوهُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُشَاكُ شَوْكَةً فَمَا فَوْقَهَا، إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً» وَمَا كَفَى إنْ فَاتَ حَتَّى عَصَى بِذَلِكَ لِأَنَّهُ أَسْخَطَ رَبَّهُ، وَفَوَاتُ لَذَّةِ عَاقِبَةِ الصَّبْرِ وَاحْتِسَابُهُ أَعْظَمُ مِمَّا أُصِيبَ بِهِ، لَوْ بَقِيَ وَعَلِمَ أَنَّ فِي اللَّه خَلَفًا وَدَرْكًا فَرَجَا الْخَلَفَ مِنْهُ. وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا تُوُفِّيَ سَمِعُوا قَائِلًا يَقُولُ: إنَّ فِي اللَّهِ عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَخَلَفًا مِنْ كُلِّ هَالِكٍ، وَدَرْكًا مِنْ كُلِّ مَا فَاتَ، فَبِاَللَّهِ فَثِقُوا، وَإِيَّاهُ فَارْجُوَا، فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ، وَعَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّ حَظَّهُ مِنْ الْمُصِيبَةِ مَا يُحْدِثُهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيَدٍ مَرْفُوعًا «إنَّ اللَّهَ إذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمِنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ» إسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَهُوَ إسْنَادُ حَدِيثِ «إذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا حَمَاهُ الدُّنْيَا» وَلِذَاكَ إسْنَادٌ آخَرُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ فِي مَحْمُودٍ لَهُ صُحْبَةٌ وَقَالَ أَبُو حَاتِم وَغَيْرُهُ: لَا صُحْبَةَ لَهُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَحْمَدُ وَزَادَ «وَمَنْ جَزِعَ

فَلَهُ الْجَزَعُ» . وَعَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «إنَّ أَعْظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمِنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ» وَعَنْهُ أَيْضًا «إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ حَتَّى يُوَافِيَ رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رَوَاهُمَا التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ الْأَوَّلَ وَرَوَى أَحْمَدُ الثَّانِيَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، وَعَلِمَ أَنَّ آخِرَ أَمْرِهِ الصَّبْرَ، وَهُوَ مُثَابٌ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ «إنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى» وَقَالَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ: إنَّكَ إنْ صَبَرْتَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا وَإِلَّا سَلَوْتَ الْبَهَائِمَ، وَعَلِمَ أَنَّ الَّذِي ابْتَلَاهُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ لِيَمْتَحِنَ صَبْرَهُ وَيَسْمَعَ تَضَرُّعَهُ، وَيُخَوِّفَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76] وَقَالَ تَعَالَى {وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 48] . قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْقَادِرِ: يَا بُنَيَّ الْمُصِيبَةُ مَا جَاءَتْ لِتُهْلِكَ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ لِتَمْتَحِنَ صَبْرَك وَإِيمَانَك، يَا بُنَيَّ الْقَدَرُ سَبُعٌ، وَالسَّبُعُ لَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، فَالْمُصِيبَةُ كِيرُ الْعَبْدِ، فَإِمَّا أَنْ يَخْرُجَ ذَهَبًا أَوْ خَبَثًا كَمَا قِيلَ: سَبَكْنَاهُ وَنَحْسَبُهُ لُجَيْنًا ... فَأَبْدَى الْكِيرُ عَنْ خَبَثِ الْحَدِيدِ اللُّجَيْنُ الْفِضَّةُ جَاءَ مُصَغَّرًا مِثْلَ الثُّرَيَّا وَكُمَيْتٌ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْلَا الْمَصَائِبُ لَبَطَرَ الْعَبْدُ وَبَغَى وَطَغَى فَيَحْمِيهِ بِهَا مِنْ ذَلِكَ وَيُطَهِّرُهُ مِمَّا فِيهِ، فَسُبْحَانَ مِنْ يَرْحَمُ بِبَلَائِهِ، وَيَبْتَلِي بِنَعْمَائِهِ كَمَا قِيلَ:

قَدْ يُنْعِمُ اللَّهُ بِالْبَلْوَى وَإِنْ عَظُمَتْ ... وَيَبْتَلِي اللَّهُ بَعْضَ الْقَوْمِ بِالنِّعَمِ وَاعْلَمْ أَنَّ مَرَارَةَ الدُّنْيَا حَلَاوَةُ الْآخِرَةِ وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ، وَلِهَذَا قَالَ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» وَقَالَ: «حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَاقِلَ مَنْ احْتَمَلَ مَرَارَةَ سَاعَةٍ لِحَلَاوَةِ الْأَبَدِ. وَذُلَّ سَاعَةٍ لِعِزِّ الْأَبَدِ، هَذَا مِنْ لُطْفِ اللَّهِ بِهِ حَتَّى نَظَرَ فِي الْعَوَاقِبِ وَالْغَايَاتِ، وَالنَّاسُ إلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ آثَرُوا الْعَاجِلَ لِمُشَاهَدَتِهِ وَضَعْفِ الْإِيمَانِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ يُحِبُّ رَبَّهُ وَأَنَّ الْمُحِبَّ وَأَنَّهُ إنْ أَسْخَطَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ فِي مَحَبَّتِهِ، وَلِهَذَا كَانَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ فِي مَرَضِهِ: أَحَبُّهُ إلَيَّ أَحَبُّهُ إلَيْهِ، وَكَذَا أَبُو الْعَالِيَة وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّ اللَّهَ إذَا قَضَى قَضَاءً أَحَبَّ أَنْ يُرْضَى بِهِ، وَعَلِمَ أَنَّ مَرَاتِبَ الْكَمَالِ مَنُوطَةٌ بِالصَّبْرِ وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ، وَأَقَلُّ الْأَحْوَالِ أَنْ لَا يَتَّهِمَ رَبَّهُ فِي قَضَائِهِ لَهُ. كَمَا رَوَى أَحْمَدُ حَدَّثَنَا حَسَنُ ثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ أَنَّهُ سَمِعَ جُنَادَةَ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ يَقُولُ: سَمِعْت عُبَادَة بْنَ الصَّامِتِ يَقُولُ: إنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَتَصْدِيقٌ بِهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ، قَالَ: أُرِيدُ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: السَّمَاحَةُ وَالصَّبْرُ قَالَ: أُرِيدُ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: لَا تَتَّهِمْ اللَّهَ فِي شَيْءٍ قُضِيَ لَك» ابْنُ لَهِيعَةَ فِيهِ كَلَامٌ مَشْهُورٌ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدِ السُّلَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا «أَنَّ الْعَبْدَ إذَا سَبَقَتْ لَهُ مِنْ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ لَمْ يَبْلُغْهَا، ابْتَلَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي جَسَدِهِ أَوْ فِي مَالِهِ أَوْ فِي وَلَدِهِ، ثُمَّ صَبَّرَهُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يُبْلِغَهُ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» رَوَاهُ أَحْمَدُ أَبُو دَاوُد، وَعَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي مُرَّةَ عَنْ بِلَالِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا «لَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ نَكْبَةٌ فَمَا فَوْقَهَا أَوْ دُونَهَا إلَّا بِذَنْبٍ، وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: غَرِيبٌ. فَإِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ هَذِهِ الْأُمُورَ نَظَرَ فِيهَا وَتَأَمَّلَهَا صَبَرَ وَاحْتَسَبَ وَحَصَلَ لَهُ مِنْ

خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَالنَّاسُ فِي هَذَا مُتَفَاوِتُونَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأُمُورِ وَسَيَأْتِي آخِرَ فُصُولِ التَّدَاوِي. (فَصْلٌ فِي دَاءِ الْعِشْقِ) لَهُ مُنَاسَبَةٌ وَتَعَلُّقٌ بِهَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ مَا أَنْشَدَهُ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُد الظَّاهِرِيُّ لِنَفْسِهِ: يَقُولُونَ لِي فِي الصَّبْرِ رَوْحٌ وَرَاحَةٌ ... وَلَا عَهْدَ لِي بِالصَّبْرِ مُذْ خُلِقَ الْحُبُّ وَلَا شَكَّ أَنَّ الصَّبْرَ كَالصَّبِرِ طَعْمُهُ ... وَإِنَّ سَبِيلَ الصَّبْرِ مُمْتَنِعٌ صَعْبُ وَقَدْ قَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ: السِّرُّ الْمَصُونُ اعْلَمْ أَنَّ مِنْ طَلَبَ أَفْعَالَهُ مِنْ حَيْثُ الْعَقْلِ الْمُجَرَّدِ، فَلَمْ يَجِدْ يَعْتَرِضُ، وَهَذِهِ حَالَةٌ قَدْ شَمِلَتْ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْجُهَّالِ أَوَّلَهُمْ إبْلِيسُ، فَإِنَّهُ نَظَرَ بِمُجَرَّدِ عَقْلِهِ فَقَالَ: كَيْفَ يُفَضَّلُ الطِّينُ عَلَى جَوْهَرِ النَّارِ؟ وَفِي ضِمْنِ اعْتِرَاضِهِ أَنَّ حِكْمَتَك قَاصِرَةٌ وَأَنَّ رَأْيِي أَجْوَدُ، فَلَوْ لَقِيت أَنَا إبْلِيسَ كُنْت أَقُولُ لَهُ: حَدِّثْنِي عَنْ فَهْمِك هَذَا الَّذِي رَفَعْت بِهِ أَمْرَ النَّارِ عَلَى الطِّينِ، أَهُوَ وَهَبَهُ لَك أَمْ حَصَلَ لَك مِنْ غَيْرِ مَوْهِبَتِهِ فَإِنَّهُ سَيَقُولُ: وُهِبَ لِي، فَأَقُولُ: أَفِيهِ لَك كَمَالُ الْفَهْمِ الَّذِي لَا تُدْرِكُهُ حِكْمَتُهُ فَتَرَى أَنْتَ الصَّوَابَ، وَيَرَى هُوَ الْخَطَأَ؟ وَتَبِعَ إبْلِيسَ فِي تَغْفِيلِهِ وَاعْتِرَاضِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِثْلَ ابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ وَالْمَعَرِّيّ وَمِنْ قَوْلِهِ: إذَا كَانَ لَا يَحْظَى بِرِزْقِك عَاقِلٌ ... وَتَرْزُقُ مَجْنُونًا وَتَرْزُقُ أَحْمَقَا فَلَا ذَنْبَ يَا رَبَّ السَّمَاءِ عَلَى امْرِئٍ ... رَأَى مِنْكَ مَا لَا يُشْتَهَى فَتَزَنْدَقَا وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ يَقُول: أَيَا رَبُّ تَخْلُقُ أَقْمَارَ لَيْلٍ ... وَأَغْصَانَ بَانٍ وَكُثْبَانَ رَمْلِ

وَتُبْدِعُ فِي كُلِّ طَرْفٍ بِسِحْرٍ ... وَفِي كُلِّ قَدٍّ وَسَبْقٍ بِشَكْلِ وَتَنْهَى عِبَادَك أَنْ يَعْشَقُوا ... أَيَا حَاكِمَ الْعَدْلِ ذَا حُكْمُ عَدْلِ وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ يَقُولُ: لَيْسَ عَلَى الْمَخْلُوقِ أَضَرُّ مِنْ الْخَالِقِ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: دَخَلْت عَلَى صَدَقَةَ بْنِ الْحُسَيْنِ الْحَدَّادِ وَكَانَ فَقِيهًا غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الِاعْتِرَاضِ، وَكَانَ عَلَيْهِ جَرَبٌ فَقَالَ: هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى جَمَلٍ لَا عَلَيَّ، وَكَانَ يَتَفَقَّدُهُ بَعْضُ الْأَكَابِرِ بِمَأْكُولٍ فَيَقُولُ: بُعِثَ لِي هَذَا عَلَى الْكِبَرِ وَقْتَ لَا أَقْدِرُ آكُلُهُ، وَكَانَ رَجُلٌ يَصْحَبُنِي قَدْ قَارَبَ ثَمَانِينَ سَنَةً كَثِيرَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَمَرِضَ وَاشْتَدَّ بِهِ الْمَرَضُ فَقَالَ لِي: إنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ أَمُوتَ، فَيُمِيتَنِي، فَأَمَّا هَذَا التَّعْذِيبُ فَمَا لَهُ مَعْنًى. وَاَللَّهُ لَوْ أَعْطَانِي الْفِرْدَوْسَ كَانَ مَكْفُورًا. وَرَأَيْت آخَرَ يَتَزَيَّا بِالْعِلْمِ إذَا ضَاقَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ يَقُولُ أَيْشٍ هَذَا التَّدْبِيرُ؟ وَعَلَى هَذَا كَثِيرٌ مِنْ الْعَوَامّ إذَا ضَاقَتْ أَرْزَاقُهُمْ اعْتَرَضُوا، وَرُبَّمَا قَالُوا: مَا تُرِيدُ نُصَلِّي. وَإِذَا رَأَوْا رَجُلًا صَالِحًا يُؤْذَى قَالُوا: مَا يَسْتَحِقُّ، قَدْ حَافَ الْقَدَرُ، وَكَانَ قَدْ جَرَى فِي زَمَانِنَا تَسَلُّطٌ مِنْ الظَّلَمَةِ فَقَالَ بَعْضُ مَنْ يَتَزَيَّا بِالدِّينِ: هَذَا حُكْمٌ بَارِدٌ، وَمَا فَهِمَ ذَاكَ الْأَحْمَقُ أَنَّ اللَّهَ يُمْلِي لِلظَّالِمِ. وَفِي الْحَمْقَى مَنْ يَقُولُ: أَيُّ فَائِدَةٍ فِي خَلْقِ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ، وَمَا عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ أُنْمُوذَجٌ لِعُقُوبَةِ الْمُخَالِفِ وَبَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ مَنْ يَتَزَيَّا بِالْعِلْمِ أَنَّهُ قَالَ: اشْتَهَيْت أَنْ يَجْعَلَنِي وَزِيرًا فَأَدْبَرَ. وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ شَاعَ فَلِهَذَا مَدَدْت النَّفْسَ فِيهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَرِضَ قَدْ ارْتَفَعَ أَنْ يَكُونَ شَرِيكًا وَعَلَا عَلَى الْخَالِقِ بِالتَّحَكُّمِ عَلَيْهِ، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ كَفَرَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ رَأَوْا حِكْمَةَ الْخَالِقِ قَاصِرَةٌ. وَإِذَا كَانَ تَوَقُّفُ الْقَلْبِ عَنْ الرِّضَا بِحُكْمِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُخْرِجُ عَنْ الْإِيمَانِ. قَالَ تَعَالَى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] .

فَكَيْف يَصِحُّ الْإِيمَانُ مَعَ الِاعْتِرَاضِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ وَكَانَ فِي زَمَنِ ابْن عَقِيلٍ رَجُلٌ رَأَى بَهِيمَةً عَلَى غَايَةٍ مِنْ السَّقَمِ فَقَالَ: وَا رَحْمَتِي لَك، وَا قِلَّةَ حِيلَتِي فِي إقَامَةِ التَّأْوِيلِ لِمُعَذِّبِكِ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَقِيلٍ: إنْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى حَمْلِ هَذَا الْأَمْرِ لِأَجْلِ رِقَّتِكَ الْحَيَوَانِيَّةِ، وَمُنَاسَبَتِك الْجِنْسِيَّةِ، فَعِنْدَك عَقْلٌ تَعْرِفُ بِهِ تَحَكُّمَ الصَّانِعِ، وَحِكْمَتُهُ تُوجِبُ عَلَيْك التَّأْوِيلَ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ اسْتَطْرَحْت لِفَاطِرِ الْعَقْلِ، حَيْثُ خَانَكَ الْعَقْلُ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ رِضَا الْعَقْلِ بِأَفْعَالِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْ فِي الْعِبَادَاتِ أَشَدِّهَا وَأَصْعَبِهَا. ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامَ ابْنِ عَقِيلٍ وَفِيهِ: وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى الْعَجْزِ عَنْ مُلَاحَظَةِ الْعَوَاقِبِ فَقَالَ تَعَالَى: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ. فَفِي عُقُولِنَا قُوَّةُ التَّسْلِيمِ وَلَيْسَ فِيهَا قُدْرَةُ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ. وَقَدْ يَدْعُو الْإِنْسَانُ فَلَا يُجَابُ فَيَنْدَمُ، وَهُوَ يُدْعَى إلَى الطَّاعَةِ فَيَتَوَقَّف، فَالْعَجَبُ مِنْ عَبِيدٍ يَقْتَضُونَ الْمَوَالِيَ اقْتِضَاءَ الْغَرِيمِ، وَلَا يَقْتَضُونَ الْغَرِيمَ وَلَا يَقْتَضُونَ أَنْفُسَهُمْ بِحُقُوقِ الْمَوَالِي. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَمَنْ تَأَمَّلَ دَقَائِقَ حِكْمَتِهِ وَمَحَاسِنَ صِفَاتِهِ أَخْرَجَهُ حُبُّهُ إلَى الْهَيَمَانِ فِيهِ، فَإِنَّ الْمَعَانِيَ الْمُسْتَحْسَنَةَ تُحَبُّ أَكْثَرَ مِنْ الصُّوَرِ، وَلِهَذَا تُحِبُّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لِمَعَانِيهِمْ لَا لِصُوَرِهِمْ، فَكَيْفَ لَا تَقَعُ الْمَحَبَّةُ الْمُخْتَصَّةُ بِالْكَمَالِ الْمُنَزَّهِ عَنْ نَقْصٍ؟ فَوَا أَسَفَا لِلْغَافِلِينَ عَنْهُ، وَوَا حَسْرَتَا لِلْجَاهِلِينَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قَبْلَ ذَلِكَ: مَنْ نَظَرَ إلَى أَفْعَالِهِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ أَنْكَرَ، فَأَمَّا مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَالِكٌ وَحَكِيمٌ، وَأَنَّ حِكْمَتَهُ قَدْ تَخْفَى سَلَّمَ لِمَا لَمْ يَعْلَمْ عِلَّتَهُ بِأَفْعَالِهِ مُسْلِمًا إلَى حِكْمَتِهِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ لَمْ يَحْتَرِزْ بِعَقْلِهِ مِنْ عَقْلِهِ هَلَكَ بِعَقْلِهِ. وَهَذَا

كَلَامٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، فَإِنَّا إذَا قُلْنَا لِلْعَقْلِ هُوَ حَكِيمٌ قَالَ: لَا شَكَّ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنِّي قَدْ رَأَيْت عَجَائِبَ أَفْعَالِهِ الْمُحْكَمَةِ فَعَلِمْت أَنَّهُ حَكِيمٌ، فَإِذَا رَأَيْت مَا يُصْدَرُ مَا ظَاهِرُهُ يُنَافِي الْحِكْمَةَ، نَسَبْت الْعَجْزَ إلَيَّ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْمُرَادَ تَسْلِيمُ الْعُقُولِ لِمَا يُنَافِيهَا، وَذَلِكَ عِبَادَةُ الْعُقُولِ قَالَ: وَصَارَ هَذَا كَمَا خَفِيَ عَنْ مُوسَى حِكْمَةُ فِعْلِ الْخَضِرِ، وَقَدْ يَخْفَى عَلَى الْعَامِّيِّ مَا يَفْعَلُهُ الْمَلِكُ فَقَدْ قَالَ الْمُتَنَبِّي: يَدِقُّ عَنْ الْأَفْكَارِ مَا أَنْتَ فَاعِلُ وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ: الْوَاحِدُ مِنْ الْعَوَامّ إذَا رَأَى مَرَاكِبَ مُقَلَّدَةً بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَدُورًا مَشِيدَةً مَمْلُوءَةً بِالْخَدَمِ وَالزِّينَةِ قَالَ: اُنْظُرْ إلَى مَا أَعْطَاهُمْ مَعَ سُوءِ أَفْعَالِهِمْ، وَلَا يَزَالُ يَلْعَنُهُمْ وَيَذُمُّ مُعْطِيَهُمْ وَيَسْقَفُ حَتَّى يَقُولَ: فُلَانٌ يُصَلِّي الْجَمَاعَاتِ وَالْجُمَعِ، وَلَا يَذُوقُ قَطْرَةَ خَمْرٍ، وَلَا يُؤْذِي الذَّرَّ، وَلَا يَأْخُذُ مَا لَيْسَ لَهُ، وَيُؤَدِّي الزَّكَاةَ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ، وَيَحُجُّ وَيُجَاهِدُ، وَلَا يَنَالُ خُلَّةً بِقُلَّةٍ، وَيُظْهِرُ الْإِعْجَابَ كَأَنَّهُ يَنْطِقُ عَنْ تَخَايُلِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الشَّرَائِعُ حَقًّا لَكَانَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ مَا نَرَى، وَكَانَ الصَّالِحُ غَنِيًّا وَالْفَاسِقُ فَقِيرًا. مَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّهُ لَحَظَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَى هَذَا أَمْوَالَ الْأَيْتَامِ وَالْوُقُوفِ، بِأَنْ يَأْكُلَ الرِّبَا وَيُفَاسِدَ الْعُقُودَ، وَهَذَا افْتِئَاتٌ وَتَجَوُّزٌ وَسَخَطٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. فَإِنَّ لِلَّهِ كِتَابًا قَدْ مَلَأَهُ بِالنَّهْيِ وَحِرْمَانِ أَخْذِ الْمَالِ الْحَرَامِ وَأَكْلِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَوْ كَانَ مُنْصِفًا لَقَالَ لَهُ تَدَبَّرْ هَذَا كِتَابُ اللَّهِ مَمْلُوءٌ بِالنَّهْيِ وَالْوَعِيدِ، فَصَارَ الْفَرِيقَانِ مَلْعُونَيْنِ، هَذَا بِكُفْرِهِ وَهَذَا بِارْتِكَابِ النَّهْيِ. وَمِنْ الْفَسَادِ فِي هَذَا الِاعْتِقَادِ أَنَّهُ لَا يُبْقِي فِي الْعَقْلِ ثِقَةً إلَى دَلَالَةٍ قَامَتْ عَلَى شَرِيعَةٍ أَوْ حُكْمٍ. فَإِنَّ يَنْبُوعَ الثِّقَةِ وَمَصْدَرَهَا إنَّمَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُؤَيِّدُ غَيْرَ الصَّادِقِ، وَلَا يُلْبِسُ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ. فَإِذَا لَمْ تَسْتَقِرَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فَلَا ثِقَةَ وَقَالَ أَيْضًا: إذَا تَأَمَّلَ الْمُتَدَيِّنُ أَفْعَالَ الْخَلْقِ فِي مُقَابَلَةِ إنْعَامِ الْحَقِّ اسْتَكْثَرَ لَهُمْ شَمَّ الْهَوَاءِ، وَاسْتَقَلَّ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَكْثَرَ الْبَلَاءِ، إذَا رَأَى هَذِهِ الدَّارَ الْمُزَخْرَفَةَ بِأَنْوَاعِ الزَّخَارِيفِ، الْمُعَدَّةَ لِجَمِيعِ التَّصَارِيفِ وَاصْطِبَاغًا وَأَشْرِبَةً وَأَدْوِيَةً، وَأَقْوَاتًا

وَإِدَامًا وَفَاكِهَةً، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعَقَاقِيرِ، ثُمَّ إرْخَاءَ السَّحَابِ بِالْغُيُوثِ فِي زَمَنِ الْحَاجَاتِ ثُمَّ تَطْيِيبَ الْأَمْزِجَةِ وَإِحْيَاءَ النَّبَاتِ، وَخَلْقَ هَذِهِ الْأَبْنِيَةِ عَلَى أَحْسَنِ إتْقَانٍ، وَتَسْخِيرَ الرِّيَاحِ وَالنَّسِيمِ الْمُعَدِّ لِلْأَنْفَاسِ، إلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ النِّعَمِ، ثُمَّ نِعْمَةَ الْعَقْلِ وَالذِّهْنِ ثُمَّ سَائِرَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الصَّانِعِ، ثُمَّ إنْزَالَ الْكُتُبِ الَّتِي تَحُثُّ عَلَى الطَّاعَاتِ وَتَرْدَعُ عَنْ الْمُخَالَفَةِ، ثُمَّ اللُّطْفَ بِالْمُكَلَّفِ، وَإِبَاحَةَ الشِّرْكِ مَعَ الْإِكْرَاهِ، وَأَمَرَ بِالْجُمُعَةِ فَضَايَقُوهُ فِي سَاعَةِ السَّعْي بِنَفْسِ مَا نَهَى عَنْهُ مِنْ الْبَيْعِ فِي أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ، وَعَظَّمُوا كُلَّ مَا هَوَّنَهُ وَارْتَكَبُوا كُلَّ مَا هَوَّنَهُ حَتَّى اسْتَخَفُّوا بِحُرْمَةِ كِتَابِهِ، فَأَنَا أَسْتَقِلُّ لَهُمْ كُلَّ مِحْنَةً. وَقَالَ أَيْضًا: لَا تَتِمُّ الرُّجْلَةُ فِي الْعَبْدِ حَتَّى يَكُونَ فِي مَقَامِ اخْتِلَالِ أَحْوَالِهِ، وَإِشْبَاطِ أَخْلَاطِهِ وَأَفْرَاحِهِ، وَتَسَلُّطِ أَعْدَائِهِ ثَابِتًا بِثُبُوتِ الْمُتَلَقِّي وَالْمُتَوَقِّي، فَيَتَلَقَّى النِّعَمَ بِالشُّكْرِ لَا بِالْبَطَرِ، مُتَمَاسِكًا عَنْ تَحَرُّكِ الرَّعَنِ، وَعِنْدَ الْمَصَائِبِ مُسْتَسْلِمًا نَاظِرًا إلَى الْمُبْتَلَى بِعَيْنِ الْكَمَالِ، وَعِنْدَ اشْتِطَاطِ الْغَضَبِ مُتَلَقِّيًا بِالْحُكْمِ، وَعِنْدَ الشَّهَوَاتِ مُسْتَحْضِرًا لِلْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، فَسُبْحَانَ مَنْ كَمَنَ جَوَاهِرَ الرِّجَالِ فِي هَذِهِ الْأَجْسَادِ، ثُمَّ أَظْهَرَهَا بِابْتِلَائِهِ لِيُعْطِيَ عَلَيْهَا جَزِيلَ ثَوَابِهِ، وَيَجْعَلَهَا حُجَّةً عَلَى بَقِيَّةِ عِبَادِهِ. وَقَالَ: زِنُوا أَنْفُسَكُمْ: مِنْ الْمَبَادِئِ مَاءٌ وَطِينٌ، وَفِي الثَّوَانِي مَاءٌ مَهِينٌ، وَفِي الْوَسَطِ عَبِيدٌ مَحَاوِيج لَوْ حُبِسَ عَنْكُمْ نَسِيمُ الْهَوَاءِ لَأَصْبَحْتُمْ جِيَفًا، وَلَوْ مُكِّنَتْ مِنْكُمْ الْبُقُوقُ عَنْ السِّبَاعِ لَأَكَلَتْكُمْ، كُونُوا مُتَعَرِّفِينَ لَا عَارِفِينَ. وَقَالَ لَنَا: عِنْدَك ذَخَائِرُ وَوَدَائِعُ بِاَللَّهِ لَا تَضَعْهَا فِي التُّرَّهَاتِ، وَدُمُوعٌ وَدِمَاءٌ وَنُفُوسٌ، بِاَللَّهِ لَا تَجْرِي الدُّمُوعَ إلَّا عَلَى مَا فَاتَ وَيَفُوتُ، وَلَا تُرِقْ الدِّمَاءَ، إلَّا فِي مُكَافَحَةِ الْأَعْدَاءِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِنَا، وَأَنْفَاسٌ مِنْ نَفَائِسِ الذَّخَائِرِ، فَبِحَقِّنَا لَا تَتَنَفَّسْ الصُّعَدَاءَ إلَّا فِي الشَّوْقِ إلَيْنَا، وَالتَّأَسُّفِ عَلَيْنَا.

كَمْ نَخْلَعُ عَلَيْك خِلْعَةً نَفِيسَةً تَبْذُلُهَا فِي الْأَقْذَارِ، وَتَخْلُقُهَا فِي خِدْمَةِ الْأَغْيَارِ، اشْتَغَلْتَ بِالصُّوَرِ، شَغْلَ الْأَطْفَالِ بِاللَّعِبِ، فَاتَتْكَ أَوْقَاتٌ لَا تَتَلَافَى إلَى أَنْ قَالَ: فَإِنْ كَسَرْنَا عَلَيْك لُعْبَةً مِثْلَ أَنْ نَسْلُبَك وَلَدًا مَنَحْنَاهُ، أَخَذْت تُضَيِّعُ الدُّمُوعَ وَتَخْرُقُ الْجُيُوبَ، وَا أَسَفَا عَلَى أَوْقَاتٍ فَاتَتْ، أَمَا رَأَيْت الْمُتَدَارِكِينَ هَذَا يَقُولُ: هَلَكْت وَأَهْلَكْت، وَهَذَا يَقُولُ: زَنَيْت فَطَهِّرْنِي، زَاهِدًا فِي مُصَاحَبَةِ نَفْسٍ خَائِنَةٍ فِيمَا عَاهَدَتْ، وَصَاحِبُ الشَّرْعِ يُقِيمُ لَهَا التَّأْوِيلَ وَيَقُولُ: " لَعَلَّكَ قَبِلْت " وَذَاكَ مُصِرٌّ عَلَى التَّشَفِّي مِنْ النَّفْسِ الْمُخَالِفَةِ لِلْحَقِّ، أَتُرَاهُ سَلَّطَ هَذِهِ الْبَلَاوِيَ إلَّا لِيُظْهِرَ هَذِهِ الْجَوَاهِرَ فِي الصَّبْرِ عَلَيْهِ وَالْغَيْرَةِ؟ تُرَى لَوْ دَامَ الْخَلِيلُ وَالذَّبِيحُ فِي كَتْمِ الْعَزْمِ، كَانَ وُجِدَ لِأَخْذِ قَدَمٍ، إلَى أَنْ قَالَ: فَصَارَ الْوَلَدُ كَالشَّاةِ الْمُعَدَّةِ لِلذَّبْحِ. أَخْجَلَ وَاَللَّهِ هَذَا الْجَوْهَرُ الَّذِي أَظْهَرَهُ الِامْتِحَانُ مَلَائِكَةَ الرَّحْمَنِ. {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ} [البقرة: 30] . أَيْنَ التَّسْبِيحُ مِنْ عَزْمِ الذَّبْحِ وَبَذْلِ الذَّبِيحِ؟ لَقَدْ تَرَكَتْ هَذِهِ الْمَكَارِمُ رُءُوسَ الْكُلِّ مُنَكَّسَةً خَجَلًا بِبُخْلِهِمْ شَاةً مِنْ أَرْبَعِينَ، وَنِصْفَ دِينَارٍ مِنْ عِشْرِينَ. وَتَعْجَبُ مِنْ قَوْلِ الدَّبُوسِيِّ الْحَنَفِيِّ: إنَّ الدُّنْيَا دَارُ جَزَاءٍ لِحَقِّ الْآدَمِيِّ، فَأَمَّا لِحَقِّهِ فَيَتَأَخَّرُ إلَى الْآخِرَةِ، وَإِنَّ هَذَا خِلَافُ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] . وَقِيلَ لِأَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ مَا بَالُ الْعُقَلَاءِ أَزَالُوا اللَّوْمَ عَمَّنْ أَسَاءَهُمْ، قَالَ: إنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ إنَّمَا ابْتَلَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ. وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَلِابْنِ مَاجَهْ

وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» وَلِأَحْمَدَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «مَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَقَدْ أَخْطَأَ أَوْ هَمَّ بِخَطِيئَةٍ لَيْسَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا» وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيح عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ} [النجم: 32] إنْ تَغْفِرْ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا ... وَأَيُّ عَبْدٍ لَك إلَّا أَلَمَّا.

فصل في عيادة المريض

[فَصْلٌ فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ] تُسْتَحَبُّ عِيَادَةُ الْمَرِيضِ قَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ: وَتُكْرَهُ وَسَطَ النَّهَارِ نَصَّ عَلَيْهِ وَقَالَ الْأَثْرَمُ: قِيلَ: لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فُلَانٌ مَرِيضٌ وَكَانَ عِنْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ فِي الصَّيْفِ. فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا وَقْتُ عِيَادَةٍ قَالَ الْقَاضِي: وَظَاهِرُ هَذَا كَرَاهِيَةُ الْعِيَادَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ انْتَهَى كَلَامُ الْأَصْحَابِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: تُسْتَحَبُّ الْعِيَادَةُ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْثِيرِ صَلَاةِ الْمَلَائِكَةِ. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ عُدْت مَعَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مَرِيضًا بِاللَّيْلِ وَكَانَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ثُمَّ قَالَ لِي: فِي شَهْرِ رَمَضَانَ يُعَادُ بِاللَّيْلِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ سَهْلِ بْنِ بَكَّارٍ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أُمِّ الْعَلَاءِ عَمَّةِ حَزَامِ بْنِ حَكِيمٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَتْ: «عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا مَرِيضَةٌ وَقَالَ: أَبْشِرِي يَا أُمَّ الْعَلَاءِ فَإِنَّ مَرَضَ الْمُسْلِمِ يُذْهِبُ اللَّهُ بِهِ خَطَايَاهُ، كَمَا تُذْهِبُ النَّارُ خَبَثَ الْحَدِيدِ» حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَأَنْشَدَ الشَّافِعِيُّ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرِضَ الْحَبِيبُ فَعُدْتُهُ ... فَمَرِضْت مِنْ حَذَرِي عَلَيْهِ فَأَتَى الْحَبِيبُ يَعُودُنِي ... فَشُفِيتُ مِنْ نَظَرِي إلَيْهِ.

فصل في التقاط ما يقع على الأرض

[فَصْلٌ فِي الْتِقَاطِ مَا يَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ] فَصْلٌ الْتِقَاط مَا يَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْوَرَّاقُ رَأَيْت أَبِي إذَا وَقَعَتْ مِنْهُ قِطْعَةٌ فَأَكْثَرُ لَا يَأْخُذُهَا وَلَا يَأْمُرُ أَحَدًا أَنْ يَأْخُذَهَا فَقُلْت لَهُ يَوْمًا يَا أَبَتِ السَّاعَةَ سَقَطَتْ مِنْك هَذِهِ الْقِطْعَةُ فَلِمَ لَا تَأْخُذُهَا؟ فَقَالَ رَأَيْتُهَا وَلَكِنِّي لَا أُعَوِّدُ نَفْسِي أَخْذَ شَيْءٍ مِنْ الْأَرْضِ كَانَ لِي أَوْ لِغَيْرِي. وَهَذَا رَأْيٌ مِنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْأَوْلَى أَخْذُ مَا لَا يَجِبُ الْتِقَاطُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ حُصُولِ النَّفْعِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَكَذَا أَخْذُ مَا وَقَعَ مِنْهُ بَلْ يُنْهَى عَنْ تَرْكِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ.

فصل في أدب الصحبة واتقاء أسباب الملل والقطيعة

[فَصْلٌ فِي أَدَبِ الصُّحْبَةِ وَاتِّقَاءِ أَسْبَابِ الْمَلَلِ وَالْقَطِيعَةِ] ِ) قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ قَالَ لِي أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إنِّي لَأُحِبُّ أَنْ أَصْحَبَكَ إلَى مَكَّةَ فَمَا يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ إلَّا أَنِّي أَخَافُ أَمَلَّكَ أَوْ تَمَلَّنِي، فَلَمَّا وَدَّعْتُهُ قُلْت يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ تُوصِينِي بِشَيْءٍ قَالَ نَعَمْ أَلْزِمْ التَّقْوَى قَلْبَكَ، وَاجْعَلْ الْآخِرَةَ أَمَامَكَ. وَرَوَى الْخَلَّالُ فِي الْأَدَبِ عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ قُلْت لِلْحَسَنِ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَخْرُجَ إلَى مَكَّةَ قَالَ فَلَا تَصْحَبْ رَجُلًا يَكْرُمُ عَلَيْكَ فَيَنْقَطِعَ الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ قُلْت لِصَدِيقٍ لِي مِنْ قُرَيْشٍ تَعَالَى أُوَاضِعُك الرَّأْيَ فَانْظُرْ أَيْنَ رَأْيِي مِنْ رَأْيِك فَقَالَ لِي دَعْ الْمَوَدَّةَ عَلَى حَالِهَا قَالَ فَغَلَبَنِي الْقُرَيْشِيُّ بِعَقْلِهِ. وَعَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ أَقَامَ عَلَى صَاحِبٍ لَهُ مَرِضَ حَتَّى فَاتَهُ الْحَجُّ وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ قَدْ كُنْتُ رَافَقْتُ يَحْيَى وَنَحْنُ بِالْكُوفَةِ فَمَرِضَ قَالَ فَتَرَكْتُ سَمَاعِي وَرَجَعْتُ مَعَهُ إلَى بَغْدَادَ قَالَ فَكَانَ يَحْيَى يَشْكُرُ لِي ذَلِكَ.

فصل في حسن الخلق

[فَصْلٌ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ] قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حُسْنِ الْخُلُقِ قَالَ أَنْ لَا تَغْضَبَ وَلَا تَحْتَدَّ، قِيلَ لَهُ الْمُعَامَلَةُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ فَلَمْ يَرَ ذَلِكَ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ هُوَ بَسْطُ الْوَجْهِ وَأَنْ لَا تَغْضَبَ وَنَحْوُ ذَلِكَ، ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي مَنَاقِبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَّهُ سَأَلَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ حُسْنِ الْخُلُقِ فَقَالَ هُوَ أَنْ يَحْتَمِلَ مِنْ النَّاسِ مَا يَكُونُ إلَيْهِ. وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ سَلَّامِ بْنِ أَبِي مُطِيعٍ فِي تَفْسِيرِ حُسْنِ الْخُلُقِ فَأَنْشَدَ هَذَا الْبَيْتَ. تَرَاهُ إذَا مَا جِئْته مُتَهَلِّلَا ... كَأَنَّك مُعْطِيهِ الَّذِي أَنْتَ سَائِلُهْ وَرَوَى أَيْضًا عَنْ الْفُضَيْلِ أَنَّهُ قَالَ مَنْ سَاءَ خُلُقُهُ سَاءَ دِينُهُ، وَحَسْبُهُ مَوَدَّتُهُ. وَقَالَ مُهَنَّا سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ رَجُلٍ ظَلَمَنِي وَتَعَدَّى عَلَيَّ وَوَقَعَ فِي شَيْءٍ عِنْدَ السُّلْطَانِ أُعِينُ عَلَيْهِ عِنْدَ السُّلْطَانِ قَالَ لَا بَلْ اشْفَعْ فِيهِ إنْ قَدَرْت قُلْت سَرَقَنِي فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ أَدُسُّ إلَيْهِ مَنْ يُوقِفُهُ عَلَى السَّرِقَةِ قَالَ إنْ وَقَعَ فِي شَيْءٍ فَقَدَرْت أَنْ تَشْفَعَ لَهُ فَاشْفَعْ لَهُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَرَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «إنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ» . وَرَوَى أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ فِي الْأَدَبِ لَهُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا «إنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ فَلْيَسَعْهُمْ مِنْكُمْ طَلَاقَةُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الْبِشْرِ» وَفِي حُسْنِ الْخُلُقِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا» . وَفِي بَعْضِ طُرُقٍ لِلْبُخَارِيِّ «إنَّ خِيَارَكُمْ أَحْسَنُكُمْ أَخْلَاقًا»

بِإِسْقَاطِ مِنْ وَقَالَ أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ أَبُو الْجُمَاهِرِ ثَنَا أَبُو كَعْبٍ أَيُّوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّعْدِيُّ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ حَبِيبٍ الْمُحَارِبِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ «أَنَا زَعِيمُ بَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا وَبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا وَبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ» أَيُّوبُ تَفَرَّدَ عَنْهُ أَبُو الْجُمَاهِرِ لَكِنَّهُ ثِقَةٌ. وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ وَرْدَانَ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «مَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَهُوَ بَاطِلٌ بُنِيَ لَهُ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَهُوَ مُحِقٌّ بُنِيَ لَهُ فِي وَسَطِهَا، وَمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ بُنِيَ لَهُ فِي أَعْلَاهَا» سَلَمَةُ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ «اللَّهُمَّ أَحْسَنْت خَلْقِي فَأَحْسِنْ خُلُقِي» وَعَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا مِثْلُهُ رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَصَحَّحَ ابْنُ حِبَّانَ خَبَرَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ. وَقَالَ فِيهِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا نَظَرَ إلَى وَجْهِهِ فِي الْمِرْآةِ ذَكَرَهُ، وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيْهِ فِي كِتَابِ الْأَدْعِيَةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ وَفِي آخِرِهِ «وَحَرِّمْ وَجْهِي عَلَى النَّارِ» . وَقَالَ الْحَسَنُ وَالْقُرَظِيُّ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] . أَيْ وَخُلُقَكَ فَحَسِّنْ وَعَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا «الشُّؤْمُ سُوءُ الْخُلُقِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَالشُّؤْمُ ضِدُّ الْيُمْنِ يُقَالُ تَشَاءَمْت بِالشَّيْءِ وَتَيَمَّنْت بِهِ، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا «حُرِّمَ عَلَى النَّارِ كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ قَرِيبٍ مِنْ النَّاسِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ

وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ الْبَرَاءُ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْسَنُ النَّاسِ وَجْهًا وَأَحْسَنُهُمْ خُلُقًا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] . قِيلَ دِينُ الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ أَدَبُ الْقُرْآنِ وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ الطَّبْعُ الْكَرِيمُ فَسُمِّيَ خُلُقًا لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْخِلْقَةِ فِي صَاحِبِهِ. فَأَمَّا مَا طُبِعَ عَلَيْهِ فَيُسَمَّى الْخِيمَ فَيَكُونُ الْخِيمُ الطَّبْعُ الْغَرِيزِيُّ وَالْخُلُقُ الطَّبْعُ الْمُتَكَلَّفُ. انْتَهَى كَلَامُهُ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ الْخُلْقُ وَالْخُلُقُ السَّجِيَّةُ وَفُلَانٌ يَتَخَلَّقُ بِغَيْرِ خُلُقِهِ أَيْ يَتَكَلَّفُهُ قَالَ الشَّاعِرُ يَا أَيُّهَا الْمُتَحَلِّي غَيْرَ شِيمَتِهِ ... إنَّ التَّخَلُّقَ يَأْتِي دُونَهُ الْخُلُقُ قَالَ وَالْخِيمُ بِالْكَسْرِ السَّجِيَّةُ وَالطَّبِيعَةُ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ فَدَلَّ عَلَى التَّرَادُفِ خِلَافَ مَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ الْخُلُقُ بِضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِهَا الدِّينُ وَالطَّبْعُ وَالسَّجِيَّةُ. وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ لِصُورَةِ الْإِنْسَانِ الْبَاطِنَةِ وَهِيَ نَفْسُهُ وَأَوْصَافُهَا وَمَعَانِيهَا الْمُخْتَصَّةُ بِهَا بِمَنْزِلَةِ الْخُلُقِ لِصُورَتِهِ الظَّاهِرَةِ وَأَوْصَافِهَا وَمَعَانِيهَا وَلَهَا أَوْصَافٌ حَسَنَةٌ وَقَبِيحَةٌ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ يَتَعَلَّقَانِ بِأَوْصَافِ الصُّورَةِ الْبَاطِنَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَتَعَلَّقَانِ بِأَوْصَافِ الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ وَلِهَذَا تَكَرَّرَتْ الْأَحَادِيثُ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ وَذَمِّ سُوءِ الْخُلُقِ. وَلِمُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنُ» . أَيْ كَانَ مُتَمَسِّكًا بِآدَابِهِ وَأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ وَمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَكَارِمِ وَالْمَحَاسِنِ وَالْأَلْطَافِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ «فِي قِصَّةِ نَوْمِهِمْ عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ لَمَّا لَحِقَهُمْ وَقَدْ عَطِشُوا فَقَالَ لَا هُلْكَ عَلَيْكُمْ بِضَمِّ الْهَاءِ الْهَلَاكُ ثُمَّ قَالَ أَطْلِقُوا إلَيَّ غُمَرِي بِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَبِالرَّاءِ وَهُوَ الْقَدَحُ الصَّغِيرُ وَدَعَا بِالْمِيضَأَةِ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُبُّ وَأَبُو قَتَادَةَ يَسْقِيهِمْ فَلَمْ يَعْدُ أَنْ رَأَى النَّاسُ مَاءً فِي الْمِيضَأَةِ تَكَابُّوا عَلَيْهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْسِنُوا الْمَلَأَ كُلُّكُمْ سَيَرْوَى قَالَ فَفَعَلُوا فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

يَصُبُّ وَأَسْقِيهِمْ حَتَّى مَا بَقِيَ غَيْرِي وَغَيْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لِي اشْرَبْ فَقُلْت لَا أَشْرَبُ حَتَّى تَشْرَبَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إنَّ سَاقِيَ الْقَوْمِ آخِرُهُمْ شُرْبًا قَالَ فَشَرِبْت وَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالْمَلَأُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَاللَّامِ وَآخِرُهُ هَمْزَةٌ مَنْصُوبٌ مَفْعُولُ أَحْسِنُوا وَالْمَلَأُ الْخُلُقُ وَالْعِشْرَةُ يُقَالُ مَا أَحْسَنَ مَلَأَ فُلَانٍ أَيْ خُلُقَهُ وَعِشْرَتَهُ وَمَا أَحْسَنَ مَلَأَ بَنِي فُلَانٍ أَيْ عِشْرَتَهُمْ وَأَخْلَاقَهُمْ. كَانَ يُقَالُ مَنْ سَاءَ خُلُقُهُ قَلَّ صَدِيقُهُ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حَازِمٍ وَمَا اكْتَسَبَ الْمَحَامِدَ طَالِبُوهَا ... بِمِثْلِ الْبِشْرِ وَالْوَجْهِ الطَّلِيقِ وَقَالَ آخَرُ: خَالِقْ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ ... لَا تَكُنْ كَلْبًا عَلَى النَّاسِ تَهِرُّ وَقَالَ آخَرُ وَمَا حَسَنٌ أَنْ يَمْدَحَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ ... وَلَكِنَّ أَخْلَاقًا تُذَمُّ وَتُمْدَحُ. وَلِأَبِي دَاوُد عَنْ قُتَيْبَةَ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو عَنْ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا. «إنَّ الرَّجُلَ لَيَبْلُغُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ» . كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ وَالْمُطَّلِبُ حَسَنُ الْحَدِيثِ وَثَّقَهُ الْأَكْثَرُ وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ أَرْجُو أَنْ يَكُونَ سَمِعَ مِنْ عَائِشَةَ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ لَمْ يُدْرِكْهَا، وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا «مَا مِنْ شَيْءٍ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ» إسْنَادٌ جَيِّدٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَلِلتِّرْمِذِيِّ فِي رِوَايَةٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مَعْنَى حَدِيثِ عَائِشَةَ. وَقَالَ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ قَالَ تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ قَالَ الْفَمُ وَالْفَرْجُ» رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ «يَا رَسُولَ اللَّهِ الْمَرْأَةُ تَتَزَوَّجُ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ وَالْأَرْبَعَةَ ثُمَّ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَيَدْخُلُونَ مَعَهَا مَنْ يَكُونُ زَوْجُهَا قَالَ إنَّهَا تُخَيَّرُ فَتَخْتَارُ أَحْسَنَهُمْ خُلُقًا

ثُمَّ قَالَ يَا أُمَّ سَلَمَةَ ذَهَبَ حُسْنُ الْخُلُقِ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» فِي إسْنَادِهِ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي كَرِيمَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَعَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ عَنْ مُعَاذٍ وَأَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْت وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقْ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» سَنَدُهُ جَيِّدٌ إلَى مَيْمُونٍ وَمَيْمُونٌ حَسَنُ الْحَدِيثِ وَضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ مَيْمُونٍ عَنْ مُعَاذٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ» وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ «لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاك بِوَجْهٍ طَلْقٍ» رُوِيَ بِسُكُونِ اللَّامِ وَكَسْرِهَا وَبِزِيَادَةِ يَاءِ طَلِيقٍ، وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ قَالَ أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا» . وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ «أَتَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ عِنْدَهُ فَكَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِمْ الطَّيْرَ الْحَدِيثَ، وَفِي آخِرِهِ قَالُوا مَا خَيْرُ مَا أُعْطِيَ النَّاسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ خُلُقٌ حَسَنٌ» حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، وَلِابْنِ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ «لَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ، وَلَا وَرَعَ كَالْكَفِّ، وَلَا حَسَبَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ» . قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ حَقِيقَةُ حُسْنِ الْخُلُقِ بَذْلُ الْمَعْرُوفِ، وَكَفُّ الْأَذَى وَطَلَاقَةُ الْوَجْهِ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَحَكَى فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي بَابِ كَثْرَةِ حَيَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْقَاضِيَ عِيَاضًا قَالَ حَكَى الطَّبَرِيُّ خِلَافًا لِلسَّلَفِ هَلْ هُوَ غَرِيزَةٌ أَمْ مُكْتَسَبٌ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُ الْمَاوَرْدِيُّ فَيَكُونُ هَذَا وَهَذَا كَمَا قِيلَ: إنَّ الْعَقْلَ غَرِيزَةٌ، وَمِنْهُ مَا يُسْتَفَادُ بِالتَّجَارِبِ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ. وَعَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا «إذَا سَمِعْتُمْ بِجَبَلٍ زَالَ عَنْ مَكَانِهِ فَصَدِّقُوا، وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِرَجُلٍ زَالَ عَنْ خُلُقِهِ فَلَا تُصَدِّقُوا بِهِ، فَإِنَّهُ سَيَصِيرُ إلَى مَا جُبِلَ عَلَيْهِ» مُنْقَطِعٌ وَهُوَ ثَابِتٌ إلَى الزُّهْرِيِّ رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَرَوَى هَذَا الْمَعْنَى أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ فِي الْأَدَبِ لَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَقَالَ فَإِنَّكُمْ لَا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تُغَيِّرُوا خُلُقَهُ. وَرَوَى أَبُو حَفْصٍ أَيْضًا عَنْ

هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ: لِيَكُنْ وَجْهُك بَسْطًا وَكَلِمَتُك طَيِّبَةً تَكُنْ أَحَبَّ إلَى النَّاسِ مِنْ الَّذِي يُعْطِيهِمْ الْعَطَاءَ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَوْلَ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ مَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ سَاءَ خُلُقُ خَادِمِهِ وَكَانَ بَيْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَقَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مُنَازَعَةٌ فَلَمَّا وَلَّاهُ مُعَاوِيَةُ الْمَدِينَةَ تَرَكَ الْمُنَازَعَةَ وَقَالَ لَا أَنْتَصِرُ لِنَفْسِي وَأَنَا وَالٍ عَلَيْهِمْ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ هَذِهِ وَاَللَّهِ مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ. وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ مَرْفُوعًا «إنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرِيمَ وَمَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا» وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا» السَّفْسَافُ الْأَمْرُ الْحَقِيرُ، وَالرَّدِيءُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ضِدُّ الْمَعَالِي وَالْمَكَارِمِ وَقَدْ قِيلَ: إذَا أَنْتَ جَازَيْت الْمُسِيءَ بِفِعْلِهِ ... فَفِعْلُك مِنْ فِعْلِ الْمُسِيءِ قَرِيبُ وَقِيلَ أَيْضًا: وَإِذَا أَرَدْت مَنَازِلَ الْأَشْرَافِ ... فَعَلَيْك بِالْإِسْعَافِ وَالْإِنْصَافِ وَإِذَا بَغَى بَاغٍ عَلَيْك فَخَلِّهِ ... وَالدَّهْرَ فَهْوَ لَهُ مُكَافٍ كَافِ وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ رِوَايَةِ عُيَيْنَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَوْشَنٍ عَنْ أَبِيهِ وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ ابْنِهِ عُيَيْنَةَ وَوَثَّقَهُ أَبُو زُرْعَةَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ مَرْفُوعًا، وَلِمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِمَا عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ. وَلَا يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ» قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي اقْتِضَاءِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فَجَمَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ نَوْعَيْ الِاسْتِطَالَةِ لِأَنَّ الْمُسْتَطِيلَ إنْ اسْتَطَالَ بِحَقٍّ فَهُوَ الْمُفْتَخِرُ، وَإِنْ اسْتَطَالَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَهُوَ الْبَاغِي. فَلَا يَحِلُّ

لَا هَذَا وَلَا هَذَا وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «مَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ» وَيَأْتِي فِي أَحَادِيثِ اللِّبَاسِ أَوَاخِرَ الْكِتَابِ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَى مَنْ جَرَّ إزَارَهُ بَطَرًا» . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ يَا عَجَبًا مِنْ الْمُخْتَالِ الْفَخُورِ الَّذِي خُلِقَ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ يَصِيرُ جِيفَةً لَا يَدْرِي بَعْدَ ذَلِكَ مَا يُفْعَلُ بِهِ وَقِيلَ لِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - طُوبَى لِبَطْنٍ حَمَلَك، فَقَالَ طُوبَى لِمَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ كِتَابَهُ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ كَيْفَ يَتِيهُ مَنْ أَوَّلُهُ نُطْفَةٌ مَذِرَةٌ، وَآخِرُهُ جِيفَةٌ قَذِرَةٌ، وَهُوَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ يَحْمِلُ الْعَذِرَةَ. وَقَالَ مَنْصُورُ: تَتِيهُ وَجِسْمُك مِنْ نُطْفَةٍ ... وَأَنْتَ وِعَاءٌ لِمَا تَعْلَمُ وَكَانَ يَقُولُ لَوْلَا ثَلَاثٌ سَلِمَ النَّاسُ، شُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ الذَّنْبَ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ الْعُجْبِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا اُبْتُلِيَ مُؤْمِنٌ بِذَنْبٍ وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَمَنْ أَمِنَ الْآفَاتِ عَجَبًا بِرَأْيِهِ ... أَحَاطَتْ بِهِ الْآفَاتُ مِنْ حَيْثُ يَجْهَلُ وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْخَبَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا حَسَبَ إلَّا فِي التَّوَاضُعِ، وَلَا نَسَبَ إلَّا بِالتَّقْوَى، وَلَا عَمَلَ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَلَا عِبَادَةَ إلَّا بِالْيَقِينِ» وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ عَظُمَتْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَلْيَطْلُبْ بِالتَّوَاضُعِ شُكْرَهَا» وَإِنَّهُ لَا يَكُونُ شَكُورًا حَتَّى يَكُونَ مُتَوَاضِعًا. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ إنَّ مِنْ التَّوَاضُعِ الرِّضَا بِالدُّونِ مِنْ شَرَفِ الْمَجْلِسِ، وَأَنْ تُسَلِّمَ عَلَى مَنْ لَقِيت وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ التَّعَزُّزُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ تَوَاضُعٌ. كَانَ يُقَالُ الْغِنَى فِي النَّفْسِ، وَالْكَرَمُ فِي التَّقْوَى، وَالشَّرَفُ فِي التَّوَاضُعِ وَكَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - يَجِيءُ إلَى أَوْضَعِ مَجَالِسِ بَنِي إسْرَائِيلَ وَيَقُولُ مِسْكِينٌ بَيْنَ ظَهْرَانِي مَسَاكِينَ وَكَانَ يُقَالُ ثَمَرَةُ الْقَنَاعَةِ الرَّاحَةُ، وَثَمَرَةُ التَّوَاضُعِ الْمَحَبَّةُ. وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ

تَوَاضَعْ لِلْحَقِّ تَكُنْ أَعْقَلَ النَّاسِ وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ الَّذِي يَقُولُ الْحَقَّ وَيَفْعَلُهُ بِأَفْضَلَ مِنْ الَّذِي يَسْمَعُهُ فَيَقْبَلُهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْفَلَاسِفَةِ إذَا نَسُكَ الشَّرِيفُ تَوَاضَعَ، وَإِذَا نَسُكَ الْوَضِيعُ تَكَبَّرَ وَقَالَ بَعْضُ الْفَلَاسِفَةِ أَظْلَمُ النَّاسِ لِنَفْسِهِ مَنْ تَوَاضَعَ لِمَنْ لَا يُكْرِمُهُ، وَرَغِبَ فِيمَنْ يُبْعِدُهُ. وَقَالَ بَزَرْجَمْهَرْ: وَجَدْنَا التَّوَاضُعَ مَعَ الْجَهْلِ وَالْبُخْلِ أَحْمَدَ مِنْ الْكِبْرِ مَعَ الْأَدَبِ وَالسَّخَاءِ وَقَالَ ابْنُ السَّمَّاكِ لِلرَّشِيدِ تَوَاضُعُك فِي شَرَفِك أَشْرَفُ مِنْ شَرَفِك. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُعْجِبَنَّكُمْ إيمَانُ الرَّجُلِ حَتَّى تَعْلَمُوا مَا عُقْدَةُ عَقْلِهِ» وَهَذَا الْخَبَرُ مِنْ رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ مَذْكُورٌ فِي تَرْجَمَتِهِ وَهُوَ مَتْرُوكٌ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَدْ رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فِي صُحُفِ مُوسَى وَحِكْمَةِ دَاوُد حَقٌّ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَرْبَعُ سَاعَاتٍ، سَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ، وَسَاعَةٌ يَقْضِي فِيهَا إلَى إخْوَانِهِ الَّذِينَ يُخْبِرُونَهُ بِعُيُوبِهِ وَيُصَدِّقُونَ عَنْ نَفْسِهِ، وَسَاعَةٌ يُخَلِّي فِيهَا بَيْنَ نَفْسِهِ وَلَذَّاتِهَا فِيمَا يَحِلُّ وَيَجْمُلُ، فَإِنَّ هَذِهِ السَّاعَةَ عَوْنٌ لَهُ قَالَ وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِزَمَانِهِ مَالِكًا لِلِسَانِهِ، مُقْبِلًا عَلَى شَأْنِهِ» . وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَوْحَى اللَّهُ إلَى مُوسَى أَتَدْرِي لِمَ رَزَقْت الْأَحْمَقَ قَالَ: لَا قَالَ: لِيَعْلَمَ الْعَاقِلُ أَنَّ الرِّزْقَ لَيْسَ بِاحْتِيَالٍ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَلَاثٌ مَنْ حُرِمَهُنَّ فَقَدْ حُرِمَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَقْلٌ يُدَارِي بِهِ النَّاسَ، وَحِلْمٌ يُدَارِي بِهِ السَّفِيهَ، وَوَرَعٌ يَحْجِزُهُ عَنْ الْمَحَارِمِ» . افْتَخَرَ رَجُلَانِ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: أَتَفْتَخِرَانِ بِأَجْسَادٍ بَالِيَةٍ، وَأَرْوَاحٍ فِي النَّارِ؟ إنْ يَكُنْ لَكُمَا عَمَلٌ فَلَكُمَا أَصْلٌ، وَإِنْ يَكُنْ لَكُمَا خُلُقٌ فَلَكُمَا شَرَفٌ، وَإِنْ يَكُنْ لَكُمَا تَقْوَى فَلَكُمَا كَرَمٌ وَإِلَّا فَالْحِمَارُ خَيْرٌ مِنْكُمَا وَلَسْتُمَا خَيْرًا مِنْ أَحَدٍ. وَقَالَ أَيْضًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْعَاقِلُ الَّذِي لَمْ يَحْرِمْهُ نَصِيبُهُ مِنْ الدُّنْيَا حَظَّهُ مِنْ الْآخِرَةِ. وَقَالَ أَيْضًا فِي وَصِيَّتِهِ لِابْنِهِ: لَا مَالَ أَعْوَدُ مِنْ

الْعَقْلِ، وَلَا فَقْرَ أَشَدُّ مِنْ الْجَهْلِ، وَلَا وَحْدَةَ أَوْحَشُ مِنْ الْعُجْبِ، وَلَا مُظَاهَرَةَ كَالْمُشَاوَرَةِ، وَلَا حَسَبَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ وَكَانَ يُقَالُ إذَا كَانَ عِلْمُ الرَّجُلِ أَكْثَرَ مِنْ عَقْلِهِ كَانَ قَمِنًا أَنْ يَضُرَّهُ عِلْمُهُ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَلَا خَيْرَ فِي حُسْنِ الْجُسُومِ وَطُولِهَا ... إذَا لَمْ يَزِنْ حُسْنَ الْجُسُومِ عُقُولُ وَقَالَ مُطَرِّفُ بْنُ الشِّخِّيرِ عُقُولُ كُلِّ قَوْمٍ عَلَى قَدْرِ زَمَانِهِمْ، كَانَ يُقَالُ خِصَالٌ سِتٌّ تُعْرَفُ فِي الْجَاهِلِ: الْغَضَبُ فِي غَيْرِ شَيْءٍ، وَالْكَلَامُ فِي غَيْرِ نَفْعٍ، وَالْعَطِيَّةُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَإِفْشَاءُ السِّرِّ، وَالثِّقَةُ بِكُلِّ أَحَدٍ، وَلَا يَعْرِفُ صَدِيقَهُ مِنْ عَدُوِّهِ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ تَدُلُّ عَلَى عُقُولِ أَرْبَابِهَا الْكِتَابُ عَلَى مِقْدَارِ كَاتِبِهِ، وَالرَّسُولُ عَلَى مِقْدَارِ عَقْلِ مُرْسِلِهِ، وَالْهَدِيَّةُ عَلَى مِقْدَارِ عَقْلِ مُهْدِيهَا. وَقِيلَ لِابْنِ هُبَيْرَةَ مَا حَدُّ الْحُمْقِ قَالَ لَا حَدَّ لَهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْحُمْقُ الْكَسَادُ، يُقَالُ انْحَمَقَتْ السُّوقُ إذَا كَسَدَتْ، وَمِنْهُ الرَّجُلُ الْأَحْمَقُ لِأَنَّهُ كَاسِدُ الْعَقْلِ لَا يُنْتَفَعُ بِرَأْيِهِ وَلَا بِعَقْلِهِ، وَالْحُمْقُ أَيْضًا الْغُرُورُ، يُقَالُ سِرْنَا فِي لَيَالٍ مُحْمِقَاتٍ: إذَا كَانَ الْقَمَرُ فِيهِنَّ يَسِيرُ بِغَيْمٍ أَبْيَضَ دَقِيقٍ فَيَغْتَرُّ النَّاسُ بِذَلِكَ يَظُنُّونَ أَنْ قَدْ أَصْبَحُوا فَيَسِيرُونَ حَتَّى يَمَلُّوا قَالَ: وَمِنْهُ أُخِذَ الِاسْمُ الْأَحْمَقُ؛ لِأَنَّهُ يَغُرُّك فِي أَوَّلِ مَجْلِسِهِ بِتَغَافُلِهِ فَإِذَا انْتَهَى إلَى آخِرِ كَلَامِهِ تَبَيَّنَ حُمْقُهُ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ الْحُمْقُ وَالْحُمُقُ قِلَّةُ الْعَقْلِ، وَقَدْ حَمُقَ الرَّجُلُ بِالضَّمِّ حَمَاقَةً فَهُوَ أَحْمَقُ وَحَمِقَ أَيْضًا بِالْكَسْرِ يَحْمَقُ حُمْقًا مِثْلُ غَنِمَ غُنْمًا فَهُوَ حَمِقٌ وَامْرَأَةٌ حَمْقَاءُ وَقَوْمٌ وَنِسْوَةٌ حُمْقٌ وَحَمْقَى وَحَمَاقَى، وَحَمُقَتْ السُّوقُ بِالضَّمِّ أَيْ كَسَدَتْ، أَحْمَقَتْ الْمَرْأَةُ أَيْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ أَحْمَقَ فَهِيَ مَحْمُوقٌ وَمُحْمِقَةٌ، فَإِنْ كَانَ مِنْ عَادَتِهَا أَنْ تَلِدَ الْحَمْقَى فَهِيَ مِحْمَاقٌ، وَيُقَالُ أَحْمَقْت الرَّجُلَ إذَا وَجَدْته أَحْمَقَ، وَحَمَّقْتُهُ تَحْمِيقًا نَسَبْته إلَى الْحُمْقِ، وَحَامَقْتُهُ إذَا سَاعَدْته عَلَى حُمْقِهِ، وَاسْتَحْمَقْته أَيْ عَدَدْته أَحْمَقَ، وَتَحَامَقَ فُلَانٌ إذَا تَكَلَّفَ الْحَمَاقَةَ، وَيُقَالُ حَمِقَتْ السُّوقُ بِالْكَسْرِ وَانْحَمَقَتْ أَيْ

كَسَدَتْ، وَانْحَمَقَ الثَّوْبُ أَيْ أَخْلَقَ. ذَكَرَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ يَوْمًا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَالَ: كَانَ وَاَللَّهِ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ يُخْدَعَ وَأَعْقَلَ مِنْ أَنْ يُخْدَعَ وَقَالَ الْحَجَّاجُ يَوْمًا: الْعَاقِلُ مَنْ يَعْرِفُ عَيْبَ نَفْسِهِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ فَمَا عَيْبُك قَالَ أَنَا حَسُودٌ حَقُودٌ، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ مَا فِي إبْلِيسَ شَرٌّ مِنْ هَاتَيْنِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ صِلَةُ الْعَاقِلِ إقَامَةُ دِينِ اللَّهِ، وَهِجْرَانُ الْأَحْمَقِ قُرْبَةٌ إلَى اللَّهِ، وَإِكْرَامُ الْمُؤْمِنِ خِدْمَةٌ لِلَّهِ وَتَوَاضُعٌ لَهُ، كَانَ يُقَالُ: إذَا تَمَّ الْعَقْلُ نَقَصَ الْكَلَامُ قَالَ الشَّاعِرُ: أَلَا إنَّمَا الْإِنْسَانُ غِمْدٌ لِعَقْلِهِ ... وَلَا خَيْرَ فِي غِمْدٍ إذَا لَمْ يَكُنْ نَصْلُ فَإِنْ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَقْلٌ فَإِنَّهُ ... هُوَ النَّصْلُ وَالْإِنْسَانُ مِنْ بَعْدِهِ فَضْلُ وَقَالَ آخَرُ: وَلَيْسَ عِتَابُ الْمَرْءِ لِلْمَرْءِ نَافِعًا ... إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْءِ عَقْلٌ يُعَاتِبُهْ وَقَالَ آخَرُ: تَحَامَقْ مَعَ الْحَمْقَى إذَا مَا لَقِيتهمْ ... وَلَا تَلْقَهُمْ بِالْعَقْلِ إذَا كُنْت ذَا عَقْلِ فَإِنِّي رَأَيْت الْمَرْءَ يَشْقَى بِعَقْلِهِ ... كَمَا كَانَ دُونَ الْيَوْمِ يَسْعَدُ بِالْعَقْلِ وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إذَا أُخْبِرَ عَنْ أَحَدٍ بِصَلَاحٍ قَالَ كَيْفَ عَقْلُهُ؟ مَا يَتِمُّ دِينُ امْرِئٍ حَتَّى يَتِمَّ عَقْلُهُ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ قِيلَ لِعِيسَى يَا رُوحَ اللَّهِ أَنْتَ تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَتُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ فَمَا دَوَاءُ الْأَحْمَقِ؟ قَالَ: ذَلِكَ أَعْيَانِي. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ لَأَنْ يَضْرِبَك الْحَلِيمُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُدَاهِنَكَ الْأَحْمَقُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ خَصْلَتَانِ لَا تَعْدِمُك مِنْ الْأَحْمَقِ، أَوْ قَالَ مِنْ الْجَاهِلِ: كَثْرَةُ الِالْتِفَاتِ وَسُرْعَةُ الْجَوَابِ. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ هَارُونَ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْمَجَانِينِ وَإِنْ كَانُوا عُقَلَاءَ الْغَضْبَانُ، وَالْعُرْيَانُ، وَالسَّكْرَانُ. سَمِعَ الْأَحْنَفُ رَجُلًا يَقُولُ

مَا أُبَالِي أَمُدِحْت أَمْ هُجِيت، فَقَالَ اسْتَرَحْت مِنْ حَيْثُ تَعِبَ الْكِرَامُ. وَقَالَتْ الْعَرَبُ: اسْتَرَاحَ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ. وَقَالَتْ الْفُرْسُ: مَاتَ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ قَالَ الشَّاعِرُ: كَمْ كَافِرٍ بِاَللَّهِ أَمْوَالُهُ ... تَزْدَادُ أَضْعَافًا عَلَى كُفْرِهِ وَمُؤْمِنٍ لَيْسَ لَهُ دِرْهَمٌ ... يَزْدَادُ إيمَانًا عَلَى فَقْرِهِ لَا خَيْرَ فِيمَنْ لَمْ يَكُنْ عَاقِلًا ... يَمُدُّ رِجْلَيْهِ عَلَى قَدْرِهِ وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَقِيلَ لَهُ مَا خَيْرُ مَا أُعْطِيَ الْإِنْسَانُ قَالَ غَرِيزَةُ عَقْلٍ قُلْت: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَالَ حُسْنُ أَدَبٍ قُلْت: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَالَ أَخٌ شَفِيقٌ يَسْتَشِيرُهُ فَيُشِيرُ عَلَيْهِ قُلْت: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَالَ صَمْتٌ طَوِيلٌ قُلْت فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَالَ مَوْتٌ عَاجِلٌ. وَمِنْ كَلَامِ الْحَمْقَى: اسْتَعْمَلَ مُعَاوِيَةُ رَجُلًا مِنْ كَلْبٍ فَذَكَرَ الْمَجُوسَ يَوْمًا فَقَالَ لَعَنَ اللَّهُ الْمَجُوسَ يَنْكِحُونَ أُمَّهَاتِهِمْ وَاَللَّهِ لَوْ أُعْطِيت عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ مَا نَكَحْت أُمِّي، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ قَالَ قَبَّحَهُ اللَّهُ أَتَرَوْنَهُ لَوْ زِيدَ فَعَلَ قِيلَ لِبَرْدَعَةِ الْمُوَسْوَسِ أَيُّمَا أَفْضَلُ غَيْلَانُ أَمْ مُعَلَّى قَالَ مُعَلَّى قَالَ: وَمِنْ أَيْنَ؟ قَالَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ غَيْلَانُ ذَهَبَ مُعَلَّى إلَى جِنَازَتِهِ، فَلَمَّا مَاتَ مُعَلَّى لَمْ يَذْهَبْ غَيْلَانُ إلَى جِنَازَتِهِ. رَفَعَ رَجُلٌ مِنْ الْعَامَّةِ بِبَغْدَادَ إلَى بَعْضِ وُلَاتِهَا عَلَى جَارٍ لَهُ أَنَّهُ يَتَزَنْدَقَ، فَسَأَلَهُ الْوَالِي عَنْ قَوْلِهِ الَّذِي نَسَبَهُ بِهِ إلَى الزَّنْدَقَةِ؟ فَقَالَ: هُوَ مُرْجِئٌ نَاصِبِيٌّ، رَافِضِيٌّ مِنْ الْخَوَارِجِ يُبْغِضُ مُعَاوِيَةَ بْنَ الْخَطَّابِ الَّذِي قَتَلَ عَلِيَّ بْنَ الْعَاصِ. فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ الْوَالِي: مَا أَدْرِي عَلَى أَيِّ شَيْءٍ أَحْسُدُك؟ أَعَلَى عِلْمِك بِالْمَقَالَاتِ أَمْ عَلَى بَصَرِك بِالْأَنْسَابِ؟ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ الْعَامَّةِ الْجَهَلَةِ الْحَمْقَى عَلَى شَيْخٍ مِنْ شُيُوخِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَقَالَ لَهُ: أَصْلَحَ اللَّهُ الشَّيْخَ قَدْ سَمِعْت فِي السُّوقِ السَّاعَةَ شَيْئًا مُنْكَرًا وَلَا يُنْكِرُهُ

أَحَدٌ قَالَ وَمَا سَمِعْت قَالَ: سَمِعْتهمْ يَسُبُّونَ الْأَنْبِيَاءَ قَالَ الشَّيْخُ: وَمَنْ الْمَشْتُومُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ قَالَ: سَمِعْتهمْ يَشْتُمُونَ مُعَاوِيَةَ قَالَ يَا أَخِي لَيْسَ مُعَاوِيَةُ بِنَبِيٍّ قَالَ: فَهَبْهُ نِصْفَ نَبِيٍّ لِمَ يُشْتَمُ؟ وَقَالَ عَمْرُو بْنُ بَحْرٍ ذَكَرَ لِي بَعْضُ الْإِبَاضِيَّةِ أَنَّهُ جَرَى عِنْدَهُ ذِكْرُ الشِّيعَةِ يَوْمًا فَغَضِبَ وَشَتَمَهُمْ وَذَكَرَ ذَلِكَ كَالْمُنْكِرِ عَلَيْهِمْ نِحْلَتَهُمْ إنْكَارًا شَدِيدًا قَالَ: فَسَأَلْته يَوْمًا عَنْ سَبَبِ إنْكَارِهِ عَلَى الشِّيعَةِ وَلَعْنِهِ لَهُمْ؟ فَقَالَ: لِمَكَانِ الشِّينِ فِي أَوَّلِ كَلِمَةٍ لِأَنِّي لَمْ أَجِدْ ذَلِكَ قَطُّ إلَّا فِي مَسْخُوطَةٍ مِثْلُ شُؤْمٍ وَشَرٍّ وَشَيْطَانٍ وَشَيْخٍ وَشُعْثٍ وَشِعْبٍ وَشِرْكٍ وَشَتْمٍ وَشِقَاقٍ وَشِطْرَنْجَ وَشَيْنٍ وَشَنٍّ وَشَانِئٍ وَشُوصَةٍ وَشَوْكٍ وَشَكْوَى وَشِنَانٍ، فَقُلْت لَهُ: إنَّ هَذَا كَثِيرٌ مَا أَظُنُّ أَنَّ هَذَا الْقَوْمَ يُقِيمُ اللَّهُ لَهُمْ عِلْمًا مَعَ هَذَا أَبَدًا. سَلَّمَ فَزَارَةُ صَاحِبُ الْمَظَالِمِ بِالْبَصْرَةِ عَلَى يَسَارِهِ فِي الصَّلَاةِ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: كَانَ عَلَى يَمِينِي إنْسَانٌ لَا أُكَلِّمُهُ. قَالَ فَزَارَةُ يَوْمًا فِي مَجْلِسِهِ: لَوْ غَسَلْت يَدَيَّ مِائَتَيْ مَرَّةٍ مَا تَنَظَّفَتْ حَتَّى أَغْلِيَهَا مَرَّتَيْنِ، وَفِيهِ يَقُولُ الشَّاعِرُ: وَمِنْ الْمَظَالِمِ أَنْ تَكُونَ ... عَلَى الْمَظَالِمِ يَا فَزَارَهْ وُلِّيَ رَجُلٌ مُقِلٌّ قَضَاءَ الْأَهْوَازِ فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَحَضَرَ عِيدُ الْأَضْحَى وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يُضَحِّي بِهِ وَلَا مَا يُنْفِقُ فَشَكَا ذَلِكَ إلَى زَوْجَتِهِ فَقَالَتْ: لَا تَغْتَمَّ فَإِنَّ عِنْدِي دِيكًا جَلِيلًا قَدْ سَمَّنْته فَإِذَا كَانَ عِيدُ الْأَضْحَى ذَبَحْنَاهُ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَضْحَى وَأَرَادُوا الدِّيكَ لِلذَّبْحِ طَارَ عَلَى سُقُوفِ الْجِيرَانِ فَطَلَبُوهُ وَفَشَا الْخَبَرُ فِي الْجِيرَانِ وَكَانُوا مَيَاسِيرَ فَرَقُّوا لِلْقَاضِي وَرَقُّوا لِقِلَّةِ ذَاتِ يَدِهِ فَأَهْدَى إلَيْهِ كُلُّ وَاحِدٍ كَبْشًا فَاجْتَمَعَتْ فِي دَارِهِ أَكْبُشٌ كَثِيرَةٌ وَهُوَ فِي الْمُصَلَّى لَا يَعْلَمُ، فَلَمَّا صَارَ إلَى مَنْزِلِهِ وَرَأَى مَا فِيهِ مِنْ الْأَضَاحِيِّ قَالَ لِامْرَأَتِهِ مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ فَقَالَتْ: أَهْدَى إلَيْنَا فُلَانٌ وَفُلَانٌ حَتَّى سَمَّتْ جَمَاعَتَهُمْ مَا تَرَى

قَالَ: وَيْحَكِ احْتَفِظِي بِدِيكِنَا هَذَا فَمَا فُدِيَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ إلَّا بِكَبْشٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ فُدِيَ دِيكُنَا بِهَذَا الْعَدَدِ. قَالَ الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الْأَخْلَاقُ لِلْمُؤْمِنِ قُوَّةٌ فِي لِينٍ، وَحَزْمٌ فِي دِينٍ، وَإِيمَانٌ فِي يَقِينٍ، وَحِرْصٌ عَلَى الْعِلْمِ، وَاقْتِصَادٌ فِي النَّفَقَةِ، وَبَذْلٌ فِي السَّعَةِ، وَقَنَاعَةٌ فِي الْفَاقَةِ، وَرَحْمَةٌ لِلْجُمْهُورِ، وَإِعْطَاءٌ فِي كَرَمٍ وَبِرٌّ فِي اسْتِقَامَةٍ وَقَالَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ يَوْمًا لِقَوْمِهِ: إنَّمَا أَنَا رَجُلٌ مِنْكُمْ لَيْسَ فِي فَضْلٌ عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَبْسُطُ لَكُمْ وَجْهِي، وَأَبْذُلُ لَكُمْ مَالِي، وَأَقْضِي حُقُوقَكُمْ، وَأَحُوطُ حَرِيمَكُمْ فَمَنْ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِي فَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي، وَمَنْ زِدْت عَلَيْهِ فَأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ قِيلَ لَهُ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ مَا يَدْعُوَك إلَى هَذَا الْكَلَامِ قَالَ: أَحُضُّهُمْ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وَسُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ السُّؤْدُدِ فَقَالَ: الْحِلْمُ السُّؤْدُدُ وَقَالَ أَيْضًا: نَحْنُ مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَعُدُّ الْحِلْمَ وَالْجُودَ السُّؤْدُدَ، وَنَعُدُّ الْعَفَافَ وَإِصْلَاحَ الْمَالِ الْمُرُوءَةَ وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُسَوِّدُونَ إلَّا مَنْ كَانَتْ فِيهِ سِتُّ خِصَالٍ وَتَمَامُهَا فِي الْإِسْلَامِ سَابِعَةٌ: السَّخَاءُ وَالنَّجْدَةُ وَالصَّبْرُ وَالْحِلْمُ وَالْبَيَانُ وَالْحَسَبُ، وَفِي الْإِسْلَامِ زِيَادَةُ الْعَفَافِ. ذُكِرَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَمُعَاوِيَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَقَالَ كَانَ مُعَاوِيَةُ أَسْوَدَ مِنْهُمْ وَكَانُوا خَيْرًا مِنْهُ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا فَبَذَلَ مَعْرُوفَهُ وَكَفَّ أَذَاهُ فَذَلِكَ السَّيِّدُ» «وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا لِلْأَنْصَارِ مَنْ سَيِّدُكُمْ؟ قَالُوا

الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ عَلَى بُخْلٍ فِيهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ دَاءٍ أَدْوَأُ مِنْ الْبُخْلِ؟ بَلْ سَيِّدُكُمْ الْجَعْدُ الْأَبْيَضُ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ» فَقَالَ شَاعِرُهُمْ فِي ذَلِكَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ وَالْحَقُّ قَوْلُهُ ... لِمَنْ قَالَ مِنَّا مَنْ تُسَمُّونَ سَيِّدَا فَقَالُوا لَهُ الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ عَلَى الَّتِي ... نُبَخِّلُهُ فِيهَا وَإِنْ كَانَ أَسْوَدَا فَتًى مَا تَخَطَّى خُطْوَةً لِدَنِيَّةٍ ... وَلَا مَدَّ فِي يَوْمٍ إلَى سَوْأَةٍ يَدَا فَسَوَّدَ عَمْرَو بْنَ الْجَمُوحِ بِجُودِهِ ... وَحُقَّ لِعَمْرٍو بِالنَّدَى أَنْ يُسَوَّدَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ السُّؤْدُدُ بِالْبَخْتِ، كَمْ مِنْ فَقِيرٍ سَادَ وَلَيْسَ لَهُ بَذْلٌ بِالْمَالِ إلَى غَيْرِهِ كَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَغَيْرِهِ سَبَّ الشَّعْبِيَّ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: إنْ كُنْت كَاذِبًا يَغْفِرُ اللَّهُ لَك، وَإِنْ كُنْت صَادِقًا يَغْفِرُ اللَّهُ لِي وَقَالَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ: شَهِدْت عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ وَرَجُلٌ يَشْتِمُهُ فَقَالَ لَهُ: آجَرَك اللَّهُ عَلَى مَا ذَكَرْت مِنْ خَطَأٍ قَالَ: فَمَا حَسَدْت أَحَدًا حَسَدِي عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ عَلَى هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ. وَقَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: مَا نَازَعَنِي أَحَدٌ إلَّا أَخَذْت فِي أَمْرِهِ بِإِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ: إنْ كَانَ فَوْقِي عَرَفْت لَهُ قَدْرَهُ، وَإِنْ كَانَ دُونِي كَرَّمْت نَفْسِي عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ مِثْلِي تَفَضَّلْت عَلَيْهِ. أَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى مَحْمُودُ الْوَرَّاقُ فَقَالَ: سَأُلْزِمُ نَفْسِي الصَّبْرَ عَنْ كُلِّ مُذْنِبٍ ... وَإِنْ كَثُرَتْ مِنْهُ عَلَيَّ الْجَرَائِمُ وَمَا النَّاسُ إلَّا وَاحِدٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ ... شَرِيفٌ وَمَشْرُوفٌ وَمِثْلٌ مُقَاوِمُ فَأَمَّا الَّذِي فَوْقِي فَأَعْرِفُ فَضْلَهُ ... وَأَلْزَمُ فِيهِ الْحَقَّ وَالْحَقُّ لَازِمُ وَأَمَّا الَّذِي دُونِي فَإِنْ قَالَ صُنْت عَنْ ... إجَابَتِهِ عِرْضِي وَإِنْ لَامَ لَائِمُ وَأَمَّا الَّذِي مِثْلِي فَإِنْ زَلَّ أَوْ هَفَا ... تَفَضَّلْت إنَّ الْفَضْلَ بِالْعِزِّ حَاكِمُ وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ الْأَبْرَصِ: إذَا أَنْتَ لَمْ تَعْمَلْ بِرَأْيٍ وَلَمْ تُطِعْ ... أُولِي الرَّأْيِ لَمْ تَرْكَنْ إلَى أَمْرِ مُرْشِدِ وَلَمْ تَجْتَنِبْ ذَمَّ الْعَشِيرَةِ كُلِّهَا ... وَتَدْفَعُ عَنْهَا بِاللِّسَانِ وَبِالْيَدِ وَتَحْلُمُ عَنْ جُهَّالِهَا وَتَحُوطُهَا ... وَتَقْمَعُ عَنْهَا نَخْوَةَ الْمُتَهَدِّدِ

فَلَسْت وَلَوْ عَلَّلْت نَفْسَك بِالْمُنَى ... بِذِي سُؤْدُدٍ بَادٍ وَلَا قُرْبِ سُؤْدُدِ وَقَالَ آخَرُ: إذَا هَلَكَتْ أُسْدُ الْعَرِينِ وَلَمْ يَكُنْ ... لَهَا خَلَفٌ فِي الْغِيلِ سَادَ الثَّعَالِبُ كَذَا الْقَمَرُ السَّارِي إذَا غَابَ لَمْ يَكُنْ ... لَهُ خَلَفٌ فِي الْجَوِّ إلَّا الْكَوَاكِبُ وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ مَنْ ابْتَغَى الْمَكَارِمَ، فَلْيَجْتَنِبْ الْمَحَارِمَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ «فِيك خَلَّتَانِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَوْ قَالَ يَرْضَاهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَشَيْءٌ جَبَلَنِي اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْ شَيْءٌ اخْتَرَعْته مِنْ نَفْسِي قَالَ بَلْ شَيْءٌ جَبَلَك اللَّهُ عَلَيْهِ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى شَيْءٍ أَوْ عَلَى خُلُقٍ يَرْضَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» . وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ فِي الصَّحِيحِ قَالَ الشَّعْبِيُّ زَيَّنَ الْعِلْمُ حِلْمُ أَهْلِهِ وَقَالَ رَجَاءُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْحِلْمُ أَرْفَعُ مِنْ الْعَقْلِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَسَمَّى بِهِ، كَانَ الْأَحْنَفُ إذَا عَجِبُوا مِنْ حِلْمِهِ قَالَ: إنِّي لَأَجِدُ مَا تَجِدُونَ وَلَكِنِّي صَبُورٌ وَقَالَ مُعَاوِيَةُ إنِّي لَأَرْفَعُ نَفْسِي أَنْ يَكُونَ ذَنْبٌ أَرْجَحَ مِنْ حِلْمِي. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَا قُرِنَ شَيْءٌ إلَى شَيْءٍ أَحْسَنُ مِنْ حِلْمٍ إلَى عِلْمٍ وَمِنْ عَفْوٍ إلَى قُدْرَةٍ. وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ: فَيَا رَبِّ هَبْ لِي مِنْك حِلْمًا فَإِنَّنِي ... أَرَى الْحِلْمَ لَمْ يَنْدَمْ عَلَيْهِ حَلِيمُ

وَيَا رَبِّ هَبْ لِي مِنْك عَزْمًا عَلَى التُّقَى ... أُقِيمُ بِهِ مَا عِشْت حَيْثُ أُقِيمُ أَلَا إنَّ تَقْوَى اللَّهِ أَكْرَمُ نِسْبَةً ... تَسَامَى بِهَا عِنْدَ الْفَخَارِ كَرِيمُ وَقَالَ آخَرُ: أَرَى الْحِلْمَ فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ ذِلَّةً ... وَفِي بَعْضِهَا عِزًّا يُسَوَّدُ فَاعِلُهْ وَقَالَ آخَرُ: وَإِنَّك تَلْقَى صَاحِبَ الْجَهْلِ نَادِمًا ... عَلَيْهِ وَلَا يَأْسَى عَلَى الْحِلْمِ صَاحِبُهْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا سَافَرَ سَافَرَ مَعَهُ بِسَفِيهٍ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إنْ جَاءَنَا سَفِيهٌ لِأَنَّا مَا نَدْرِي مَا يُقَابَلُ بِهِ السُّفَهَاءُ قَالَ عَمْرُو بْنُ أُمِّ كُلْثُومٍ: أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا ... فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَرُبَّمَا اعْتَضَدَ الْحَلِيمُ بِجَاهِلٍ ... لَا خَيْرَ فِي الْيُمْنَى بِغَيْرِ يَسَارِ وَمَرَّ قَوْمٌ بِدَيْرِ رَاهِبٍ وَفِيهِمْ عَالِمٌ كَبِيرٌ مُشَارٌ إلَيْهِ فَأَنْزَلَهُمْ الرَّاهِبُ فِي صَوْمَعَةٍ وَرَحَّبَ بِهِمْ وَتَلَقَّاهُمْ بِالْبِشْرِ وَالْكَرَامَةِ فَأَقَامُوا عِنْدَهُ كُلَّ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلِ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فِي حَالِهِمْ وَإِصْلَاحِ شَأْنِهِمْ، فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يُضِيءَ لَهُمْ جَاءَ بِالْقَدَّاحِ فَقَدَحَ لَهُمْ، فَلَمَّا أَضَاءَ الضَّوْءُ الْتَفَتَ إلَى أَحَدِهِمْ فَقَالَ أَيُّكُمْ الشَّيْخُ الْمُشَارُ إلَيْهِ؟ فَأَشَارَ أَحَدُهُمْ إلَى الشَّيْخِ فَتَكَلَّمَ حِينَئِذٍ الرَّاهِبُ بِكَلَامٍ فَصِيحٍ ثُمَّ قَالَ لِلشَّيْخِ يَا سَيِّدِي هَذِهِ النَّارُ الَّتِي طَلَعَتْ وَأَشْعَلْت مِنْهَا أَهِيَ مِنْ الصَّوَّانَةِ أَمْ مِنْ الْحَرَّاقَةِ أَمْ مِنْ الْحَدِيدَةِ؟ فَسَكَتَ الشَّيْخُ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ وَكَانَ فِي جَمْعِ الشَّيْخِ رَجُلٌ سَفِيهٌ فَتَكَلَّمَ وَأَبْلَغَ وَقَالَ أَيُّهَا الرَّاهِبُ: لَقَدْ تَهَجَّمْت عَلَى مَقَامٍ لَمْ يَكُنْ لَك، أَلَا سَأَلْتنِي عَنْ هَذَا السُّؤَالِ؟ فَقَالَ لَمْ أَعْرِفْ أَنَّ عِنْدَك عِلْمًا مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ بَلَى، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَكَلَّمَ الرَّاهِبُ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ لَهُ السَّفِيهُ

وَكَانُوا فِي قُبَّةٍ: مَا هَذَا الَّذِي عَلَى صَدْرِك؟ فَطَأْطَأَ الرَّاهِبُ رَأْسَهُ يَنْظُرُ إلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ السَّفِيهُ فَصَفَعَهُ صَفْعَةً عَلَا حِسُّهَا عُلُوًّا شَدِيدًا ثُمَّ قَالَ لِلرَّاهِبِ: أَهَذَا الْحِسُّ مِنْ سَاحِلِك أَمْ مِنْ يَدِي أَمْ مِنْ الْقُبَّةِ قَالَ: فَأُفْحِمَ الرَّاهِبُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ جَوَابًا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْحُلْمَ بِضَمِّ الْحَاءِ مَا يَرَاهُ النَّائِمُ تَقُولُ مِنْهُ حَلَمَ وَاحْتَلَمَ وَتَقُولُ حَلَمْت بِكَذَا وَحَلَمْته أَيْضًا، وَالْحِلْمُ بِالْكَسْرِ الْأَنَاةُ تَقُولُ مِنْهُ حَلُمَ الرَّجُلُ بِالضَّمِّ، وَتَحَلَّمَ تَكَلَّفَ الْحِلْمَ قَالَ الشَّاعِرُ: تَحَلَّمْ عَنْ الْأَدْنَيْنِ وَاسْتَبِقْ وُدَّهُمْ ... وَلَنْ تَسْتَطِيعَ الْحِلْمَ حَتَّى تَحَلَّمَا وَتَحَالَمَ أَيْ رَأَى مِنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ وَلَيْسَ بِهِ. وَحَلَّمْت الرَّجُلَ تَحْلِيمًا جَعَلْته حَلِيمًا. وَالْمُحَلِّمُ الَّذِي يَأْمُرُ بِالْحِلْمِ. وَالْحَلَمُ بِالتَّحْرِيكِ يَدَانِ تُفْسِدُ الْإِهَابَ تَقُولُ مِنْهُ حَلِمَ الْأَدِيمُ بِالْكَسْرِ. وَيَنْبَغِي لِمَنْ اسْتَعَانَ بِسَيْفِهِ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى يَدَيْهِ وَلَا يُطْلِقُ عِنَانَهُ وَيُسَلِّطَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ ضَرَرُهُ أَكْثَرَ مِنْ نَفْعِهِ لَا سِيَّمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآخِرَةِ وَرُبَّمَا انْتَشَرَ الْفَسَادُ وَعَظُمَ وَتَعِبَ الْكَبِيرُ فِي اسْتِدْرَاكِهِ، وَقَدْ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ فَقَطْعُ هَذَا مِنْ الِابْتِدَاءِ هُوَ الْوَاجِبُ وَهَذَا أَمْرٌ وَاضِحٌ مَعْلُومٌ لَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ نَظَرَ فِيهِ. وَقَدْ قَالَ جَرِيرُ الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ: أَبَنِي حَنِيفَةَ أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ ... إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ أَغْضَبَا وَسَبَقَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا بِكَرَارِيسَ فِي ذِكْرِ مَنَاقِبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بَعْدُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِطَاعَةِ الْوَالِي وَغَيْرِهِ وَفِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى السُّلْطَانِ وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «حَسْبُ الْمَرْءِ دِينُهُ وَكَرَمُهُ تَقْوَاهُ وَمُرُوءَتُهُ عَقْلُهُ» وَيُرْوَى نَحْوُ هَذَا عَنْ عُمَرَ، وَعَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ

مِنْ ثَقِيفٍ: مَا الْمُرُوءَةُ قَالَ الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ وَإِصْلَاحُ الْمَعِيشَةِ وَسَخَاءُ النَّفْسِ وَصِلَةُ الرَّحِمِ. فَقَالَ هَكَذَا هِيَ عِنْدَنَا فِي حِكْمَةِ آلِ دَاوُد» تَذَاكَرُوا الْمُرُوءَةَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «أَمَّا مُرُوءَتُنَا فَأَنْ نَغْفِرَ لِمَنْ ظَلَمَنَا، وَنُعْطِيَ مَنْ حَرَمَنَا. وَنَصِلَ مَنْ قَطَعَنَا، وَنُعْطِيَ مَنْ حَرَمَنَا» سُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ الْمُرُوءَةِ فَقَالَ: الْعَفَافُ وَإِصْلَاحُ الْمَالِ. سَأَلَ مُعَاوِيَةُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَنْ الْمُرُوءَةِ وَالْكَرَمِ وَالنَّجْدَةِ، فَقَالَ: أَمَّا الْمُرُوءَةُ فَحِفْظُ الرَّجُلِ نَفْسَهُ، وَإِحْرَازُهُ دِينَهُ وَحُسْنُ قِيَامِهِ بِصَنْعَتِهِ، وَتَرْكُ الْمُنَازَعَةِ، وَإِفْشَاءُ السَّلَامِ. وَأَمَّا الْكَرَمُ فَالتَّبَرُّعُ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِعْطَاؤُك قَبْلَ السُّؤَالِ، وَإِطْعَامٌ فِي الْمَحَلِّ، وَأَمَّا النَّجْدَةُ فَالذَّبُّ عَنْ الْجَارِ، وَالصَّبْرُ فِي الْمَوَاطِنِ، وَالْإِقْدَامُ عَلَى الْكَرِيهَةِ قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ جُلُوسُ الرَّجُلِ بِبَابِهِ مِنْ الْمُرُوءَةِ وَلَيْسَ مِنْ الْمُرُوءَةِ حَمْلُ الْكِيسِ فِي الْكُمِّ. وَسُئِلَ الْأَحْنَفُ، عَنْ الْمُرُوءَةِ فَقَالَ التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَالصَّبْرُ عَلَى النَّوَائِبِ، وَيُرْوَى عَنْ الْأَحْنَفِ قَالَ: لَا مُرُوءَةَ لِكَذُوبٍ، وَلَا إخَاءَ لِمَلُولٍ، وَلَا سُؤْدُدَ لِسَيِّئِ الْخُلُقِ. سُئِلَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ عَنْ الْمُرُوءَةِ فَقَالَ اجْتِنَابُ الرَّيْبِ وَإِصْلَاحُ الْمَالِ وَالْقِيَامُ بِحَوَائِجِ الْأَهْلِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ أَيْضًا: الْفَصَاحَةُ مِنْ الْمُرُوءَةِ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ لَيْسَ مِنْ الْمُرُوءَةِ كَثْرَةُ الِالْتِفَاتِ فِي الطَّرِيقِ وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ كَمَالِ الْمُرُوءَةِ أَنْ تَصُونَ عِرْضَكَ، وَتُكْرِمَ إخْوَانَك، وَتُقِيلَ فِي مَنْزِلِك. وَذُكِرَتْ الْفُتُوَّةُ عِنْدَ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فَقَالَ: لَيْسَتْ الْفُتُوَّةُ بِالْفِسْقِ وَلَا الْفُجُورِ، وَلَكِنْ الْفُتُوَّةُ كَمَا قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ طَعَامٌ مَوْضُوعٌ، وَحِجَابٌ مَرْفُوعٌ وَنَائِلٌ مَبْذُولٌ وَبِشْرٌ مَقْبُولٌ، وَعَفَافٌ مَعْرُوفٌ، وَأَذًى مَكْفُوفٌ.

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُد مَنْ كَانَ ظَرِيفًا فَلْيَكُنْ عَفِيفًا قَالَ مَنْصُورُ الْفَقِيهُ: فَضْلُ التُّقَى أَفْضَلُ مِنْ ... فَضْلِ اللِّسَانِ وَالْحَسَبْ إذَا هُمَا لَمْ يُجْمَعَا ... إلَى الْعَفَافِ وَالْأَدَبْ وَقَالَ آخَرُ: وَلَيْسَ فَتَى الْفِتْيَانِ مَنْ رَاحَ وَاغْتَدَى ... لِشُرْبِ صَبُوحٍ أَوْ لِشُرْبِ غَبُوقِ وَلَكِنْ فَتَى الْفِتْيَانِ مَنْ رَاحَ وَاغْتَدَى ... لِضُرِّ عَدُوٍّ أَوْ لِنَفْعِ صَدِيقِ. وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ أَحْمَدَ وَجَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ الْمُمَازَحَةُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ. وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «إنِّي لَأَمْزَحُ وَلَا أَقُولُ إلَّا حَقًّا» وَلِأَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «إنِّي لَا أَقُولُ إلَّا حَقًّا» فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَإِنَّك تُدَاعِبُنَا قَالَ «إنِّي لَا أَقُولُ إلَّا حَقًّا» هُوَ حَدِيثُ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ اللَّيْثِيِّ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأُسَامَةُ وَإِنْ كَانَ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ فَقَدْ ضَعَّفَهُ الْأَكْثَرُ. وَعَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسْتَحْمَلَهُ فَقَالَ: إنَّا حَامِلُوك عَلَى وَلَدِ النَّاقَةِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ النَّاقَةِ؟ فَقَالَ وَهَلْ تَلِدُ الْإِبِلَ إلَّا النُّوقُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ صَحِيحٌ غَرِيبٌ وَلِأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ يَا ذَا الْأُذُنَيْنِ يَعْنِي يُمَازِحُهُ» «وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ اسْمُهُ زَاهِرٌ يُهْدِي لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْهَدِيَّةَ مِنْ الْبَادِيَةِ فَيُجَهِّزُهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، فَقَالَ: إنَّ زَاهِرَ بَادِيًا وَنَحْنُ حَاضِرَتُهُ وَكَانَ دَمِيمًا فَأَتَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ لَا يُبْصِرُهُ الرَّجُلُ فَقَالَ: أَرْسِلْنِي مَنْ هَذَا؟ فَالْتَفَتَ فَعَرَفَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَعَلَ لَا يَأْلُو مَا أَلْصَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ عَرَفَهُ وَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إذًا وَاَللَّهِ تَجِدُنِي كَاسِدًا؟ فَقَالَ: لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ لَسْت

بِكَاسِدٍ أَوْ قَالَ لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ أَنْتَ غَالٍ» رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ الدَّمِيمُ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ فِي الْخَلْقِ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْقِصَرُ وَالْقُبْحُ وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ فِي الْخُلُقِ بِضَمِّهَا. وَقَالَ مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ «إنِّي لَأَعْقِلُ مَجَّةً مَجَّهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَجْهِي» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ وَزَادَ فِي وَجْهِي قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمَجُّ طَرُّ الْمَاءِ مِنْ الْفَمِ بِالتَّزْرِيقِ وَهَذَا فِي مُلَاطَفَةِ الصِّبْيَانِ وَتَأْنِيسِهِمْ وَإِكْرَامِ آبَائِهِمْ بِذَلِكَ وَجَوَازِ الْمَزْحِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَيُّوبَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُحَارِبِيِّ عَنْ لَيْثٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «لَا تُمَارِ أَخَاك وَلَا تُمَازِحْهُ وَلَا تَعِدْهُ مَوْعِدًا فَتُخْلِفَهُ» عَبْدُ الْمَلِكِ هُوَ ابْنُ جُرَيْجٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عِكْرِمَةَ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَسَبَقَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا فِي فُصُولِ الْكَذِبِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمُزَاحُ بِمَا يَحْسُنُ مُبَاحٌ، وَقَدْ «مَزَحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَقُلْ إلَّا حَقًّا» قَالَ غَالِبٌ الْقَطَّانُ أَتَيْت مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ وَكَانَ مَزَّاحًا فَسَأَلْته عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ فَقَالَ تُوُفِّيَ الْبَارِحَةَ أَمَا شَعُرْت؟ {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] وَقَالَ {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42] . وَفِي الْحَدِيثِ الْمَأْثُورِ أَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَبْكِي وَيَضْحَكُ وَكَانَ يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَبْكِي وَلَا يَضْحَكُ، فَكَانَ خَيْرُهُمَا الْمَسِيحُ. وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ النَّاسُ فِي سِجْنٍ مَا لَمْ يَتَمَازَحُوا. مَزَحَ الشَّعْبِيُّ يَوْمًا فَقِيلَ لَهُ يَا أَبَا عَمْرٍو أَتَمْزَحُ قَالَ: إنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مُتْنَا مِنْ الْغَمِّ، كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ

يُدْعَبُ وَيَضْحَكُ حَتَّى يَسِيلَ لُعَابُهُ فَإِذَا أَرَدْته عَلَى شَيْءٍ مِنْ دِينِهِ كَانَتْ الثُّرَيَّا أَقْرَبُ إلَيْك مِنْ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَقَدْ كَرِهَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْخَوْضَ فِي الْمُزَاحِ لِمَا فِيهِ مِنْ ذَمِيمِ الْعَاقِبَةِ. وَمِنْ التَّوَصُّلِ إلَى الْأَعْرَاضِ وَاسْتِجْلَابِ الضَّغَائِنِ وَإِفْسَادِ الْإِخَاءِ. كَانَ يُقَالُ لِكُلِّ شَيْءٍ بَدْءٌ وَبَدْءُ الْعَدَاوَةِ الْمُزَاحُ وَكَانَ يُقَالُ لَوْ كَانَ الْمُزَاحُ فَحْلًا مَا أَلَقَحَ إلَّا الشَّرَّ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ لَا تُمَازِحْ الشَّرِيفَ فَيَحْقِدَ، وَلَا الدَّنِيَّ فَيَجْتَرِئَ عَلَيْك. وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانُ إذَا كَانَ الْمُزَاحُ أَمَامَ الْكَلَامِ، فَآخِرُهُ الشَّتْمُ وَاللِّطَامُ وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ إيَّاكُمْ وَالْمُزَاحَ فَإِنَّهُ يُذْهِبُ بَهَاءَ الْوَجْهِ، كَانَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ يَكْرَهُ الْمُزَاحَ وَيَقُولُ يُسْعِطُ أَحَدُهُمْ أَخَاهُ بِأَحَرَّ مِنْ الْخَرْدَلِ، وَيُفْرِغُ عَلَيْهِ أَشَدَّ مِنْ غَلْيِ الْمِرْجَلِ، وَيَقُولُ مَازَحْته. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ لَا يَكُونُ الْمُزَاحُ إلَّا فِي سُخْفٍ أَوْ بَطَرٍ السُّخْفُ بِضَمِّ السِّينِ رِقَّةُ الْعَقْلِ، وَقَدْ سَخُفَ الرَّجُلُ بِالضَّمِّ سَخَافَةً فَهُوَ سَخِيفٌ مِثْلُ حَامَقْتُهُ. قَالَ أَبُو هَفَّانَ: مَازِحْ صَدِيقَك مَا أَحَبَّ مُزَاحَا ... وَتَوَقَّ مِنْهُ فِي الْمُزَاحِ مُزَاحَا فَلَرُبَّمَا مَزَحَ الصَّدِيقُ بِمَزْحَةٍ ... كَانَتْ لِبَابِ عَدَاوَةٍ مِفْتَاحَا وَقَالَ آخَرُ: لَا تَمْزَحَنْ فَإِذَا مَزَحْت فَلَا يَكُنْ ... مَزْحًا تُضَافُ بِهِ إلَى سُوءِ الْأَدَبْ وَاحْذَرْ مُمَازَحَةً تَعُودُ عَدَاوَةً ... إنَّ الْمُزَاحَ عَلَى مُقَدِّمَةِ الْغَضَبْ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الضَّحِكِ فَإِنَّهُ يُمِيتُ الْقَلْبَ وَيُذْهِبُ بِنُورِ الْوَجْهِ» قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَنْ كَثُرَ ضَحِكُهُ اُسْتُخِفَّ بِهِ وَذَهَبَ بَهَاؤُهُ وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ إيَّاكَ وَالْمَشْيَ فِي غَيْرِ أَدَبٍ، وَالضَّحِكَ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: الْكِبْرُ ذُلٌّ وَالتَّوَاضُعُ رِفْعَةٌ ... وَالْمَزْحُ وَالضَّحِكُ الْكَثِيرُ سُقُوطُ

وَالْحِرْصُ فَقْرٌ وَالْقَنَاعَةُ عِزَّةٌ ... وَالْيَأْسُ مِنْ صُنْعِ الْإِلَهِ قُنُوطُ وَقَالَ آخَرُ: فَإِيَّاكَ إيَّاكَ الْمُزَاحَ فَإِنَّهُ ... يُجَرِّئُ عَلَيْك الطِّفْلَ وَالدَّنِسَ النَّذْلَا وَيُذْهِبُ مَاءَ الْوَجْهِ بَعْدَ بَهَائِهِ ... وَيُورِثُهُ مِنْ بَعْدِ عِزَّتِهِ ذُلَّا وَقَالَ مَحْمُودُ الْوَرَّاقُ: تَلَقَّى الْفَتَى أَخَاهُ وَخِدْنَهُ ... فِي لَحْنِ مَنْطِقِهِ بِمَا لَا يُغْفَرُ وَيَقُولُ كُنْت مُمَازِحًا وَمُلَاعِبًا ... هَيْهَاتَ نَارُك فِي الْحَشَا تَتَسَعَّرُ أَلْهَبْتهَا وَطَفِقْت تَضْحَكُ لَاهِيًا ... مِمَّا بِهِ وَفُؤَادُهُ يَتَفَطَّرُ أَوَمَا عَلِمْت وَمِثْلُ جَهْلِك غَالِبٌ ... أَنَّ الْمُزَاحَ هُوَ السِّبَابُ الْأَكْبَرُ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْمُزَاحُ الدُّعَابَةُ وَقَدْ مَزَحَ يَمْزَحُ وَالِاسْمُ الْمُزَاحُ وَالْمُزَاحَةُ أَيْضًا، وَأَمَّا الْمِزَاحُ بِالْكَسْرِ فَهُوَ مَصْدَرُ مَازَحَهُ. وَهُمَا يَتَمَازَحَانِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالُوا مَنْ أَرَادَ أَنْ يَدُومَ لَهُ وُدُّ أَخِيهِ فَلَا يُمَازِحْهُ وَلَا يَعِدْهُ مَوْعِدًا فَيُخْلِفَهُ. وَسَبَقَ الْكَلَامُ فِي ضَحِكِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ فِي فُصُولِ التَّوْبَةِ فِي أَنَّ سَيِّئَةَ التَّائِبِ هَلْ تُبَدَّلُ حَسَنَةً، «وَقَدْ ضَحِكَ الْمِقْدَادُ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أُلْقِيَ إلَى الْأَرْضِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَادِ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ فِي آدَابِ الْأَطْعِمَةِ. وَرَوَى ابْنُ الْأَخْضَرِ فِيمَنْ رَوَى عَنْ أَحْمَدَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَصْبَهَانِيِّ أَحْمَدَ بْنِ الْفُرَاتِ قَالَ كُنَّا نَتَذَاكَرُ الْأَبْوَابَ فَخَاضُوا فِي بَابٍ فَجَاءُوا فِيهِ بِخَمْسَةِ أَحَادِيثَ قَالَ فَجِئْتهمْ بِسَادِسٍ فَنَخَسَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي صَدْرِي لِإِعْجَابِهِ بِهِ. وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ فِي أَوَائِلِ صَيْدِ الْخَاطِرِ مَا أَعْرِفُ لِلْعَالِمِ قَطُّ لَذَّةً وَلَا عِزًّا وَلَا شَرَفًا وَلَا رَاحَةً وَسَلَامَةً أَفْضَلَ مِنْ الْعُزْلَةِ فَإِنَّهُ يَنَالُ بِهَا سَلَامَةَ بَدَنِهِ وَدِينِهِ

وَجَاهِهِ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعِنْدَ الْخَلْقِ؛ لِأَنَّ الْخَلْقَ يَهُونُ عَلَيْهِمْ مَنْ يُخَالِطُهُمْ وَلَا يُعَظَّمُ عِنْدَهُمْ قَوْلُ الْمُخَالِطِ لَهُمْ، وَلِهَذَا عَظُمَ عَلَيْهِمْ قَدْرُ الْخُلَفَاءِ لِاحْتِجَابِهِمْ. وَإِذَا رَأَى الْعَوَامُّ أَحَدَ الْعُلَمَاءِ مُتَرَخِّصًا فِي أَمْرٍ هَانَ عِنْدَهُمْ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ صِيَانَةُ عِلْمِهِ وَإِقَامَةُ قَدْرِ الْعِلْمِ عِنْدَهُمْ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ كُنَّا نَمْزَحُ وَنَضْحَكُ فَإِذَا صِرْنَا يُقْتَدَى بِنَا فَمَا أُرَاهُ يَسَعُنَا وَقَالَ سُفْيَانُ تَعَلَّمُوا هَذَا الْعِلْمَ وَاكْظِمُوا عَلَيْهِ وَلَا تَخْلِطُوهُ بِهَزْلٍ فَتَمُجَّهُ الْقُلُوبُ، فَمُرَاعَاةُ النَّاسِ لَا يَنْبَغِي أَنْ تُنْكَرَ فَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِك بِكُفْرٍ لَنَقَضْت الْكَعْبَةَ وَجَعَلْت لَهَا بَابَيْنِ» . وَقَالَ أَحْمَدُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ رَأَيْت النَّاسَ يَكْرَهُونَهَا فَتَرَكْتهَا فَلَا نَسْمَعُ مِنْ جَاهِلٍ يَرَى مِثْلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ رِيَاءً، إنَّمَا هَذِهِ صِيَانَةٌ لِلْعِلْمِ، إلَى أَنْ قَالَ فَيَصِيرُ بِمَثَابَةِ تَخْلِيطِ الطَّبِيبِ الْأَمْرِ بِالْحَمِيَّةِ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَتَبَسَّطَ عِنْدَ الْعَوَامّ حِفْظًا لَهُمْ، وَمَتَى أَرَادَ مُبَاحًا فَلْيَسْتَتِرْ بِهِ عَنْهُمْ. وَهَذَا الْقَدْرُ الَّذِي لَاحَظَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ حِينَ رَأَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَدْ قَدِمَ الشَّامَ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ وَرِجْلَاهُ مِنْ جَانِبٍ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَلْقَاك عُظَمَاءُ النَّاسِ، فَمَا أَحْسَنَ مَا لَاحَظَ، إلَّا أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَرَادَ بِهِ تَأْدِيبَ أَبِي عُبَيْدَةَ بِحِفْظِ الْأَصْلِ فَقَالَ إنَّ اللَّهَ أَعَزَّكُمْ بِالْإِسْلَامِ فَمَهْمَا طَلَبْتُمْ الْعِزَّ فِي غَيْرِهِ أَذَلَّكُمْ. وَالْمَعْنَى يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ طَلَبَكُمْ الْعِزُّ بِالدِّينِ لَا بِصُوَرِ الْأَفْعَالِ وَإِنْ كَانَتْ الصُّوَرُ تُلَاحَظُ انْتَهَى كَلَامُهُ، وَقَدْ سَبَقَ هَذَا الْمَعْنَى بِنَحْوِ ثَلَاثِ كَرَارِيسَ فِي فُصُولِ الْعِلْمِ.

فصل في الحياء

[فَصْلٌ فِي الْحَيَاءِ] فَصْلٌ عَنْ عِمْرَانَ مَرْفُوعًا «الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إلَّا بِخَيْرٍ، الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ» وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ يَقُولُ: حَتَّى إنَّك تَسْتَحْيِي كَأَنَّهُ يَقُولُ قَدْ أَضَرَّ بِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنْ الْإِيمَانِ» رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ عِمْرَانَ لَمَّا حَدَّثَ قَالَ لَهُ بَشِيرُ. بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ ابْنُ كَعْبٍ إنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ أَنَّ مِنْهُ وَقَارًا وَمِنْهُ سَكِينَةً، فَقَالَ عِمْرَانُ أُحَدِّثُك عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتُحَدِّثُنِي عَنْ صَحِيفَتِك؟ وَلِمُسْلِمٍ أَنَّ بَشِيرًا قَالَ إنَّا لَنَجِدُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَوْ الْحِكْمَةِ أَنَّ مِنْهُ سَكِينَةً وَوَقَارًا لِلَّهِ وَمِنْهُ ضَعْفٌ، بِفَتْحِ الضَّادِ وَضَمِّهَا، فَغَضِبَ عِمْرَانُ حَتَّى احْمَرَّتَا عَيْنَاهُ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ احْمَرَّتْ وَقَالَ أَلَا أَرَانِي أُحَدِّثُك عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتُعَارِضُ فِيهِ، فَأَعَادَ عِمْرَانُ الْحَدِيثَ، فَأَعَادَ بَشِيرٌ فَغَضِبَ عِمْرَانُ فَمَا زِلْنَا نَقُولُ إنَّهُ مِنَّا يَا أَبَا نُجَيْدٍ إنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشَدَّ حَيَاءً مِنْ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ» ، وَعَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «مَا كَانَ الْفُحْشُ فِي شَيْءٍ إلَّا شَانَهُ وَمَا كَانَ الْحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إلَّا زَانَهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «الْحَيَاءُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ وَالْبَذَاءُ مِنْ الْجَفَاءِ وَالْجَفَاءُ مِنْ النَّارِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ مِثْلُهُ. وَفِي الْمُوَطَّأِ مُرْسَلًا «إنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا وَإِنَّ خُلُقَ الْإِسْلَامِ الْحَيَاءُ» وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. وَالْحَيَاءُ مَمْدُودٌ الِاسْتِحْيَاءُ قَالَ الْوَاحِدِيُّ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الِاسْتِحْيَاءُ مِنْ الْحَيَاءِ، وَاسْتَحْيَا الرَّجُلُ مِنْ قُرَّةِ الْحَيَاءِ فِيهِ لِشِدَّةِ عِلْمِهِ بِمَوَاقِعِ الْعَيْبِ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ قَدْ يَكُونُ الْحَيَاءُ تَخَلُّقًا وَاكْتِسَابًا كَسَائِرِ أَعْمَالِ

الْبَرِّ وَقَدْ يَكُونُ غَرِيزَةً، وَاسْتِعْمَالُهُ عَلَى مُقْتَضَى الشَّرْعِ يَحْتَاجُ إلَى كَسْبٍ وَنِيَّةٍ وَعِلْمٍ وَإِنْ حَلَّ شَيْءٌ عَلَى تَرْكِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِخْلَالِ بِحَقٍّ فَهُوَ عَجْزٌ وَمَهَانَةٌ، وَتَسْمِيَتُهُ حَيَاءً مَجَازٌ. وَحَقِيقَةُ الْحَيَاءِ خُلُقٌ يَبْعَثُ عَلَى فِعْلِ الْحَسَنِ وَتَرْكِ الْقَبِيحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْحَيَاءُ نِظَامُ الْإِيمَانِ فَإِذَا انْحَلَّ النِّظَامُ ذَهَبَ مَا فِيهِ، وَفِي التَّفْسِيرِ: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} [الأعراف: 26] . قَالُوا الْحَيَاءُ وَقَالُوا الْوَقَارُ مِنْ اللَّهِ فَمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ الْوَقَارَ فَقَدْ وَسَمَهُ بِسِيمَا الْخَيْرِ وَقَالُوا مَنْ تَكَلَّمَ بِالْحِكْمَةِ لَاحَظَتْهُ الْعُيُونُ بِالْوَقَارِ وَقَالَ الْحَسَنُ أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ كَامِلًا، وَمَنْ تَعَلَّقَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ كَانَ مِنْ صَالِحِي قَوْمِهِ دِينٌ يُرْشِدُهُ، وَعَقْلٌ يُسَدِّدُهُ، وَحَسَبٌ يَصُونُهُ، وَحَيَاءٌ يَقُودُهُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ رَحِمَ اللَّهُ نِسَاءَ الْأَنْصَارِ لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَسْأَلْنَ عَنْ أَمْرِ دِينِهِنَّ، وَأَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ، وَقَالَتْ أَيْضًا رَأْسُ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ الْحَيَاءُ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْت» . وَقَالَ حَبِيبٌ: إذَا لَمْ تَخْشَ عَاقِبَةَ اللَّيَالِي ... وَلَمْ تَسْتَحِي فَافْعَلْ مَا تَشَاءُ فَلَا وَاَللَّهِ مَا فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ ... وَلَا الدُّنْيَا إذَا ذَهَبَ الْحَيَاءُ يَعِيشُ الْمَرْءُ مَا اسْتَحْيَا بِخَيْرٍ ... وَيَبْقَى الْعُودُ مَا بَقِيَ اللِّحَاءُ وَقَالَ أَبُو دُلَفٍ الْعِجْلِيُّ: إذَا لَمْ تَصُنْ عِرْضًا وَلَمْ تَخْشَ خَالِقًا ... وَلَمْ تَرْعَ مَخْلُوقًا فَمَا شِئْت فَاصْنَعْ وَقَالَ صَالِحُ بْنُ جَنَاحٍ: إذَا قَلَّ مَاءُ الْوَجْهِ قَلَّ حَيَاؤُهُ ... وَلَا خَيْرَ فِي وَجْهٍ إذَا قَلَّ مَاؤُهُ

وَقَالَ آخَرُ: إذَا رُزِقَ الْفَتَى وَجْهًا وَقَاحًا ... تَقَلَّبَ فِي الْوُجُوهِ كَمَا يَشَاءُ وَقَالَ آخَرُ كَأَنَّهُ الْفَرَزْدَقُ: يُغْضِي حَيَاءً وَيُغْضَى مِنْ مَهَابَتِهِ ... فَلَا يُكَلَّمُ إلَّا حِينَ يَبْتَسِمُ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ سَمِعْت أَعْرَابِيًّا يَقُولُ مَنْ كَسَاهُ الْحَيَاءُ ثَوْبَهُ لَمْ يَرَ النَّاسُ عَيْبَهُ.

فصل في البصيرة والنظر في العواقب

[فَصْلٌ فِي الْبَصِيرَةِ وَالنَّظَرِ فِي الْعَوَاقِبِ] كَانَ مُلُوكُ فَارِسَ يَعْتَبِرُونَ أَحْوَالَ الْحَوَاشِي بِإِيفَادِ التُّحَفِ عَلَى أَيْدِي مُسْتَحْسَنَاتِ الْجَوَارِي وَيَأْمُرُونَهُنَّ بِالتَّدْرِيجِ حَتَّى إذَا أَطَالُوا الْجُلُوسَ فَتَدِبُّ بِوَادِي الشَّهْوَةِ قَتَلُوا أُولَئِكَ، وَإِذَا أَرَادُوا مُطَالَعَةَ عَقَائِدِ الْفُسَّادِ دَسُّوا مَنْ يُتَابِعُهُمْ عَلَى ذَمِّ الدَّوْلَةِ فَإِذَا أَظْهَرُوا مَا فِي نُفُوسِهِمْ اسْتَأْصَلُوهُمْ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ: فَيَنْبَغِي الْحَذَرُ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَمَنْ مَخَّضَ الرَّأْيَ كَانَتْ زُبْدَتُهُ الصَّوَابَ. وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ حِكَايَاتٍ وَقَالَ لِيَحْذَرْ الْحَازِمُ مِنْ الِاشْتِرَاكِ وَقَالَ الرَّجُلُ مَنْ عَمِلَ بِالْحَزْمِ وَحَذِرَ الْجَائِزَاتِ، وَالْأَبْلَهُ الَّذِي يَعْمَلُ عَلَى الظَّوَاهِرِ وَيَثِقُ مَنْ لَمْ يُجَرِّبْ. وَقَالَ أَيْضًا أَبُو الْفَرَجِ فِي كِتَابِهِ السِّرِّ الْمَصُون (فَصْلٌ مُهِمٌّ) إنَّمَا فُضِّلَ الْعَقْلُ عَلَى الْحِسِّ بِالنَّظَرِ فِي الْعَوَاقِبِ، فَإِنَّ الْحِسَّ لَا يَرَى الْحَاضِرَ، وَالْعَقْلُ يُلَاحِظُ الْآخِرَةَ وَيَعْمَلُ عَلَى مَا يَتَصَوَّرُ أَنْ يَقَعَ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَغْفُلَ عَنْ تَلَمُّحِ الْعَوَاقِبِ فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ التَّكَاسُلَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَإِيثَارَ عَاجِلِ الرَّاحَةِ يُوجِبُ حَسَرَاتٍ دَائِمَةً لَا تَفِي لَذَّةُ الْبَطَالَةِ بِمِعْشَارِ تِلْكَ الْحَسْرَةِ، وَلَقَدْ كَانَ يَجْلِسُ إلَيَّ أَخِي وَهُوَ عَامِّيٌّ فَقِيرٌ، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي قَدْ تَسَاوَيْنَا فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ فَأَيْنَ تَعَبِي فِي طَلَبِ الْعِلْمِ؟ وَأَيْنَ لَذَّةُ بَطَالَتِهِ؟ وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَجْهَلُ بَعْضَ الْعِلْمِ فَيَسْتَحِي مِنْ السُّؤَالِ وَالطَّلَبِ لِكِبَرِ سِنِّهِ وَلِئَلَّا يُرَى بِعَيْنِ الْجَهْلِ فَيَلْقَى مِنْ الْفَضِيحَةِ إنْ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ أَضْعَافَ مَا آثَرَ مِنْ الْحَيَاءِ. وَمِنْ ذَلِكَ الطَّبْعُ يُطَالِبُ بِالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الْحَالَةِ الْحَاضِرَةِ مِثْلُ جَوَابِ

جَاهِلٍ وَقْتَ الْغَضَبِ، ثُمَّ يَقَعُ النَّدَمُ فِي ثَانِي الْحَالِ عَلَى أَنَّ لَذَّةَ الْحِلْمِ أَوْفَى مِنْ الِانْتِقَامِ، وَرُبَّمَا أَثَّرَ ذَلِكَ الْحِقْدُ مِنْ الْجَاهِلِ فَتَمَكَّنَ فَبَالَغَ فِي الْأَذَى لَهُ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُعَادِيَ النَّاسَ وَمَا يَأْمَنُ أَنْ يَرْتَفِعَ الْمُعَادَى فَيُؤْذِيَهُ. وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُضْمِرَ عَدَاوَةَ الْعَدُوِّ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُحِبَّ شَخْصًا فَيُفْشِيَ إلَيْهِ أَسْرَارَهُ ثُمَّ تَقَعُ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ فَيَظْهَرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَرَى الْمَالَ الْكَثِيرَ فَيُنْفِقُ نَاسِيًا أَنَّ ذَلِكَ يَفْنَى فَيَقَعُ لَهُ فِي ثَانِي الْحَالِ حَوَائِجُ فَيَلْقَى مِنْ النَّدَمِ أَضْعَافَ مَا الْتَذَّ بِهِ فِي النَّفَقَةِ، فَيَنْبَغِي لِمَنْ رُزِقَ مَالًا أَنْ يُصَوِّرَ السِّنَّ وَالْعَجْزَ عَنْ الْكَسْبِ، وَيُمَثِّلَ ذَهَابَ الْجَاهِ فِي الطَّلَبِ مِنْ النَّاسِ، لِيَحْفَظَ مَا مَعَهُ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَنْبَسِطَ ذُو دَوْلَةٍ فِي دَوْلَتِهِ فَإِذَا عُزِلَ نَدِمَ عَلَى مَا فَعَلَ وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَوِّرَ الْعَزْلَ وَيَعْمَلَ بِمُقْتَضَاهُ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُؤْثِرَ لَذَّةَ مَطْعَمٍ فَيَشْبَعَ فَيَفُوتَهُ قِيَامُ اللَّيْلِ، أَوْ يُؤْثِرُ لَذَّةَ النَّوْمِ فَيَفُوتُهُ التَّهَجُّدُ، أَوْ يَأْكُلُ أَوْ يُجَامِعُ بِشَرَهٍ فَيَمْرَضُ، أَوْ يَشْتَهِي جِمَاعَ سَوْدَاءَ وَيَنْسَى أَنَّهَا رُبَّمَا حَمَلَتْ فَجَاءَتْ بِبِنْتٍ سَوْدَاءَ، فَكَمْ مِنْ حَسْرَةٍ تَقَعُ لَهُ عَلَى مَدَى الزَّمَانِ كُلَّمَا رَأَى تِلْكَ الْبِنْتَ، وَقَدْ كَانَ فِي زَمَانِنَا مَنْ جَامَعَ سَوْدَاءَ فَجَاءَتْ لَهُ بِوَلَدٍ فَافْتُضِحَ بِهِ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْمَخْزَنِ، وَقَاضِي الْقُضَاةِ الدَّامَغَانِيُّ وَكَانَ تَاجِرًا قَدْ وُلِدَ لَهُ ابْنٌ أَسْوَدُ فَلَمَّا رَآهُ قَالَ لَعَنَ اللَّهُ شَهْوَتِي. وَمِنْ ذَلِكَ اشْتِغَالُ الْعَالِمِ بِصُورَةِ الْعِلْمِ وَإِنَّمَا يُرَادُ الْعَمَلُ بِهِ وَالْإِخْلَاصُ فِي طَلَبِهِ فَيَذْهَبُ الزَّمَانُ فِي حُبِّ الصِّيتِ وَطَلَبِ مَدْحِ النَّاسِ فَيَقَعُ الْخُسْرَانُ إذَا حُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ.

وَمِنْ ذَلِكَ اقْتِنَاعُ الْعَالِمِ بِطَرَفٍ مِنْ الْعِلْمِ، فَأَيْنَ مُزَاحَمَةُ الْكَامِلِينَ وَالنَّظَرُ فِي عَوَاقِبِ أَحْوَالِهِمْ؟ وَقَدْ يُؤْثِرُ الْأَسْهَلَ كَإِيثَارِ عِلْمِ الْحَدِيثِ عَلَى الْفِقْهِ وَمُعَانَاةُ الدَّرَجِ تَسْهُلُ عِنْدَ الْعُلُوِّ. وَمِنْ ذَلِكَ الْإِكْثَارُ مِنْ الْجِمَاعِ نَاسِيًا مَغَبَّتَهُ وَأَنَّهُ يُضْعِفُ الْبَدَنَ وَيُؤْذِي فَالطَّبْعُ يَرَى اللَّذَّةَ الْحَاضِرَةَ وَالْعَقْلُ يَتَأَمَّلُ، وَشَرْحُ هَذَا يَطُولُ لَكِنْ قَدْ نَبَّهْت عَلَى أُصُولِهِ، لَقَدْ جِئْت يَوْمًا مِنْ حَرٍّ شَدِيدٍ فَتَعَجَّلْت رَاحَةَ الْبُرُودَةِ فَنَزَعْت ثَوْبِي فَأَصَابَنِي زُكَامٌ أَشْرَفْت مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ، وَلَوْ صَبَرْت سَاعَةً رَبِحْت مَا لَقِيت، فَقِسْ كُلَّ لَذَّةٍ عَاجِلَةٍ وَدَعْ الْعَقْلَ يَتَلَمَّحُ عَوَاقِبَهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ أَيْضًا تَأَمَّلْت اللَّذَّاتِ فَرَأَيْتهَا بَيْنَ حِسِّيٍّ وَمَعْنَوِيٍّ فَأَمَّا الْحِسِّيَّاتُ فَلَيْسَتْ بِشَيْءٍ عِنْدَ النُّفُوسِ الشَّرِيفَةِ، إنَّمَا تُرَادُ لِغَيْرِهَا كَالنِّكَاحِ لِلْوَلَدِ وَلِزَوَالِ الْفُضُولِ الْمُؤْذِيَةِ، وَالطَّعَامِ لِلتَّغَذِّي وَالتَّدَاوِي، وَالْمَالِ لِلْإِعْدَادِ وَلِلْحَوَائِجِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الْخَلْقِ، وَإِنَّمَا جُعِلَتْ اللَّذَّاتُ فِي تَحْصِيلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَالْبِرْطِيلِ حَتَّى يُحَصِّلَهَا وَإِنْ طُلِبَ مِنْهَا شَيْءٌ لِنَفْسِ الِالْتِذَاذِ فَإِنَّ لِلطَّبْعِ حَظًّا، إلَّا أَنَّ كُلَّ لَذَّةٍ حِسِّيَّةٍ تُلَازِمُهَا آفَاتٌ لَا تَكَادُ تَفِي بِاللَّذَّةِ فَإِنَّ النِّكَاحَ لَذَّةُ سَاعَةٍ فَيُلَازِمُهُ عَاجِلًا ذَهَابُ الْقُوَّةِ وَتَكَلُّفُ الْغُسْلِ وَمُدَارَاةُ الْمَرْأَةِ وَالنَّفَقَةُ عَلَيْهَا وَعَلَى الْأَوْلَادِ، فَاللَّذَّةُ خُطِفَتْ خَطْفَ بَرْقٍ وَمَا لَازَمَهَا صَوَاعِقُ وَمَا يُلَازِمُ الْمَطْعَمَ مَعْلُومٌ مِنْ الطَّهَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَمَعْلُومٌ مَا يُلَازِمُ حُبَّ الْمَالِ مِنْ مُعَانَاةِ الْكَسْبِ وَالْخَوْضِ فِي الشُّبُهَاتِ وَصَرْفِ الْقَلْبِ عَنْ الْفِكْرِ فِي الْآخِرَةِ شُغْلًا بِالِاكْتِسَابِ وَعَلَى هَذَا جَمِيعُ اللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْهَا الضَّرُورِيَّ فَتَقَعَ مُعَانَاةٌ ضَرُورِيَّةٌ فَتَحْصُلَ قَنَاعَةٌ بِمِقْدَارِ الْكِفَايَةِ وَالْعِفَّةِ عَنْ فُضُولِ الشَّهَوَاتِ. وَإِنَّمَا اللَّذَّةُ الْكَامِلَةُ الْأُمُورُ الْمَعْنَوِيَّةُ وَهِيَ الْعِلْمُ وَالْإِدْرَاكُ لِحَقَائِقِ الْأُمُورِ وَالِارْتِفَاعُ بِالْكَمَالِ عَلَى النَّاقِصِينَ، وَالِانْتِقَالُ مِنْ الْأَعْدَاءِ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ تَكُونُ لَذَّةُ الْعَفْوِ أَطْيَبَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقَعُ إلَّا فِي حَقِّ ذَلِيلٍ قَدْ قُهِرَ، وَالصَّبْرُ عَلَى نَيْلِ كُلِّ فَضِيلَةٍ وَعَنْ كُلِّ رَذِيلَةٍ، وَالْمُلَاحَظَةُ لِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ، وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ فَلَا تَقْصُرُ عَنْ بُلُوغِ غَايَةٍ تُرَادُ بِهِ فَضِيلَةٌ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الدُّنْيَا تَزُولُ، وَأَنَّ مَرَاتِبَ

النَّاسِ فِي الْجَنَّةِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا، نَافَسَ أُولَئِكَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى هُنَاكَ لِيَقْدَمَ عَلَى مَفْضُولِينَ لَهُ. وَمَنْ تَفَكَّرَ عَلِمَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي نَقْصٍ بِالْإِضَافَةِ إلَى مَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُمْ غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِنَقْصِهِمْ وَقَدْ رَضُوا بِحَالِهِمْ وَإِنَّمَا الْيَوْمَ نَعْلَمُ ذَلِكَ، فَالْبِدَارَ الْبِدَارَ إلَى تَحْصِيلِ أَفْضَلِ الْفَضَائِلِ، وَاغْتِنَامِ الزَّمَنِ السَّرِيعِ مَرَّةً قَبْلَ أَنْ تُجَرَّعَ شَرَابَ النَّدَمِ الْفَظِيعِ مَرَّةً، وَقُلْ لِنَفْسِك أَيُّ شَيْءٍ إلَى فُلَانٍ وَفُلَانٌ مِنْ الْمَوْتَى فَلَهُمْ فَنَافِسْ: إذَا أَعْجَبَتْك خِصَالُ امْرِئٍ ... فَكُنْهُ تَكُنْ مِثْلَ مَا يُعْجِبُك فَلَيْسَ عَلَى الْجُودِ وَالْمَكْرُمَاتِ ... إذَا جِئْتهَا حَاجِبٌ يَحْجُبُك وَقَالَ أَيْضًا لَذَّاتُ الْحِسِّ شَهْوَانِيَّةٌ وَكُلُّهَا مَعْجُونٌ بِالْكَدَرِ، وَأَمَّا اللَّذَّاتُ النَّفْسَانِيَّةُ فَلَا كَدَرَ فِيهَا كَالْأَرَايِحِ الطَّيِّبَةِ وَالصَّوْتِ الْحَسَنِ وَالْعِلْمِ، وَأَعْلَاهُ مَعْرِفَةُ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ، فَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ شَهَوَاتُ الْحِسِّ شَارَكَ الْبَهَائِمَ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ شَهَوَاتُ النَّفْسِ زَاحَمَ الْمَلَائِكَةَ. وَقَالَ أَيْضًا: تَفَكَّرْت يَوْمًا فَرَأَيْت أَنَّنَا فِي دَارِ الْمُعَامَلَةِ وَالْأَرْبَاحِ وَالْفَضَائِلِ فَمِثْلُنَا كَمِثْلِ مَزْرَعَةٍ مَنْ أَحْسَنَ بَذْرَهَا وَالْقِيَامَ عَلَيْهَا وَكَانَتْ الْأَرْضُ زَكِيَّةً وَالشُّرْبُ مُتَوَفِّرًا كَثُرَ الرِّيعُ، وَمَتَى اخْتَلَّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَثَّرَ يَوْمَ الْحَصَادِ، فَالْأَعْمَالُ فِي الدُّنْيَا مِنْهَا فَرْضٌ وَقَدْ وَقَعَ فِيهِ تَفْرِيطٌ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، وَمِنْهَا فَضِيلَةٌ وَأَكْثَرُ النَّاسِ مُتَكَاسِلٌ عَنْ طَلَبِ الْفَضَائِلِ، وَالنَّاسُ عَلَى ضَرْبَيْنِ عَالِمٌ يَغْلِبُهُ هَوَاهُ فَيَتَوَانَى عَنْ الْعَمَلِ، وَجَاهِلٌ يَظُنُّ أَنَّهُ عَلَى الصَّوَابِ، وَهَذَا الْأَغْلَبُ عَلَى الْخَلْقِ، فَالْأَمِيرُ يُرَاعِي سَلْطَنَتَهُ وَلَا يُبَالِي بِمُخَالِفَةِ الشَّرْعِ، أَوْ يَرَى بِجَهْلِهِ جَوَازَ مَا يَفْعَلُهُ، وَالْفَقِيهُ هِمَّتُهُ تَرْتِيبُ الْأَسْئِلَةِ لِيَقْهَرَ الْخَصْمَ، وَالْقَاصُّ هِمَّتُهُ تَزْوِيقُ الْكَلَامِ لِيُعْجِبَ السَّامِعِينَ، وَالزَّاهِدُ مَقْصُودُهُ تَزْيِينُ ظَاهِرِهِ بِالْخُشُوعِ لِتُقَبَّلَ يَدُهُ وَيُتَبَرَّكَ بِهِ، وَالتَّاجِرُ يُمْضِي عُمْرَهُ فِي جَمْعِ الْمَالِ كَيْفَ اتَّفَقَ فَفِكْرُهُ مَصْرُوفٌ إلَى ذَلِكَ عَنْ النَّظَرِ إلَى صِحَّةِ الْعُقُودِ، وَالْمُغْرَى بِالشَّهَوَاتِ مُنْهَمِكٌ عَلَى تَحْصِيلِ غَرَضِهِ تَارَةً بِالْمَطْعَمِ وَتَارَةً بِالْوَطْءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِذَا ذَهَبَ

الْعُمْرُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَكَانَ الْقَلْبُ مَشْغُولًا بِالْفِكْرِ فِي تَحْصِيلِهَا. فَمَتَى تَتَفَرَّغُ لِإِخْرَاجِ زَيْفِ الْقَصْدِ مِنْ خَالِصِهِ، وَمُحَاسَبَةِ النَّفْسِ فِي أَفْعَالِهَا، وَدَفْعِ الْكَدَرِ عَنْ بَاطِنِ السِّرِّ وَجَمْعِ الزَّادِ لِلرَّحِيلِ، وَالْبِدَارِ إلَى تَحْصِيلِ الْفَضَائِلِ وَالْمَعَالِي؟ فَالظَّاهِرُ قُدُومُ الْأَكْثَرِينَ عَلَى الْحَسَرَاتِ. إمَّا فِي التَّفْرِيطِ لِلْوَاجِبِ أَوْ لِلتَّأَسُّفِ عَلَى فَوَاتِ الْفَضَائِلِ، فَاَللَّهَ اللَّهَ يَا أَهْلَ الْفَهْمِ اقْطَعُوا الْقَوَاطِعَ عَنْ الْمُهِمِّ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ الِاسْتِلَابُ بَغْتَةً عَلَى شَتَاتِ الْقَلْبِ وَضَيَاعِ الْأَمْرِ.

(فَصْلٌ) لَمَّا صَعِدَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ وَاسِطَ إلَى بَغْدَادَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ خُلِعَ عَلَيْهِ وَجَلَسَ لِلنَّاسِ يَوْمَ السَّبْتِ وَأَحْسَنَ الْكَلَامَ وَكَانَ مِمَّا أَنْشَدَهُ قَوْلُ الرَّضِيِّ الْمُوسَوِيِّ: لَا تُعْطِشْ الرَّوْضَ الَّذِي نَبْتُهُ ... بِصَوْبِ إنْعَامِك قَدْ رُوِّضَا لَا تَبْرِ عُودًا أَنْتَ رَشَيْتَهُ ... حَاشَا لِبَانِي الْمَجْدِ أَنْ يَنْقُضَا إنْ كَانَ لِي ذَنْبٌ تَجَرَّمْته ... فَاسْتَأْنِفْ الْعَفْوَ وَهَبْ مَا مَضَى قَدْ كُنْت أَرْجُوك لِنَيْلِ الْمُنَى ... فَالْيَوْمَ لَا أَطْلُبُ إلَّا الرِّضَا ثُمَّ أَنْشَدَ أَيْضًا: شَقِينَا بِالنَّوَى زَمَنًا فَلَمَّا ... تَلَاقَيْنَا كَأَنَّا مَا شَقِينَا سَخِطْنَا عِنْدَمَا جَنَتْ اللَّيَالِي ... وَمَا زَالَتْ بِنَا حَتَّى رَضِينَا وَمَنْ لَمْ يَحْيَ بَعْدَ الْمَوْتِ يَوْمًا ... فَإِنَّا بَعْدَمَا مِتْنَا حَيِينَا.

فصل إنكار أحمد للتبرك به وتواضعه وثناؤه على معروف الكرخي

[فَصْلٌ إنْكَارُ أَحْمَدَ لِلتَّبَرُّكِ بِهِ وَتَوَاضُعُهُ وَثَنَاؤُهُ عَلَى مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ] ِّ) رَوَى الْخَلَّالُ فِي أَخْلَاقِ أَحْمَدَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ الطَّيَالِسِيِّ قَالَ مَسَحْت يَدِي عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ثُمَّ مَسَحْت يَدِي عَلَى بَدَنِي وَهُوَ يَنْظُرُ فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا وَجَعَلَ يَنْفُضُ يَدَهُ وَيَقُولُ عَمَّنْ أَخَذْتُمْ هَذَا؟ وَأَنْكَرَهُ إنْكَارًا شَدِيدًا. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ فِي كِتَابِ الْوَرَعِ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ قَدْ كَانَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَوْصَى لِي بِجُبَّتِهِ فَجَاءَنِي بِهَا ابْنُهُ فَقَالَ لِي فَقُلْت رَجُلٌ صَالِحٌ قَدْ أَطَاعَ اللَّهَ فِيهَا أَتَبَرَّكُ بِهَا قَالَ فَذَهَبَ فَجَاءَنِي بِمِنْدِيلٍ ثِيَابٍ فَرَدَدْتهَا مَعَ الثِّيَابِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ هَارُونَ رَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إذَا مَشَى فِي طَرِيقٍ يَكْرَهُ أَنْ يَتْبَعَهُ أَحَدٌ يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ. قَالَ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْهَيْثَمِ أَبُو يَحْيَى الْقَطَّانُ الْعَاقُولِيُّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ جَلِيلُ الْقَدْرِ قَالَ وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ قَالَ كُنْت مَعَ أَحْمَدَ فَجَعَلْت أَتَأَخَّرُ عَنْهُ فِي الصَّفِّ إجْلَالًا لَهُ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى يَدِي فَقَدَّمَنِي إلَى الصَّفِّ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ دَاوُد الْمِصِّيصِيُّ كُنَّا عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَهُمْ يَذْكُرُونَ الْحَدِيثَ فَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيُّ حَدِيثًا فِيهِ ضَعْفٌ فَقَالَ لَهُ أَحْمَدُ لَا تَذْكُرْ مِثْلَ هَذَا، فَكَأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى دَخَلَهُ خَجْلَةً فَقَالَ لَهُ أَحْمَدُ إنَّمَا قُلْت هَذَا إجْلَالًا لَك يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ كَانَ مَعْرُوفُ الْكَرْخِيُّ مِنْ الْأَبْدَالِ مُجَابَ الدَّعْوَةِ وَذُكِرَ فِي مَجْلِسِ أَحْمَدَ فَقَالَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ هُوَ قَصِيرُ الْعِلْمِ فَقَالَ لَهُ أَحْمَدُ أَمْسِكْ عَافَاك اللَّهُ وَهَلْ يُرَادُ مِنْ الْعِلْمِ إلَّا مَا وَصَلَ إلَيْهِ مَعْرُوفٌ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ

قُلْت لِأَبِي هَلْ كَانَ مَعَ مَعْرُوفٍ شَيْءٌ مِنْ الْعِلْمِ؟ فَقَالَ لِي يَا بُنَيَّ كَانَ مَعَهُ رَأْسُ الْعِلْمِ خَشْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ أَثْنَى مَعْرُوفٌ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَقَالَ سَمِعْت مِنْهُ إذًا كَلِمَتَيْنِ أَزْعَجَتَانِي مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ إذَا مَاتَ نُسِيَ، فَلْيُحْسِنْ وَلَا يُسِئْ.

فصل في دعاء المظلوم على ظالمه وشيء من مناقب أحمد

[فَصْلٌ فِي دُعَاءِ الْمَظْلُومِ عَلَى ظَالِمِهِ وَشَيْءٍ مِنْ مَنَاقِبِ أَحْمَدَ] َ) قَالَ هِشَامُ بْنُ مَنْصُورٍ سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُول تَدْرِي مَا قَالَ لِي يَحْيَى بْنُ آدَمَ قُلْت: لَا قَالَ: يَجِيئُنِي الرَّجُلُ مِمَّنْ أُبْغِضُهُ وَأَكْرَهُ مَجِيئَهُ فَأَقْرَأُ عَلَيْهِ كُلَّ شَيْءٍ مَعَهُ حَتَّى أَسْتَرِيحَ مِنْهُ، وَيَجِيءُ الرَّجُلُ الَّذِي أَوَدُّهُ فَأَرُدُّهُ حَتَّى يَرْجِعَ إلَيَّ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ نُعَيْمٍ: لَمَّا خَرَجَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إلَى الْمُعْتَصِمِ يَوْمَ ضُرِبَ قَالَ لَهُ الْعَوْنُ الْمُوَكَّلُ بِهِ اُدْعُ عَلَى ظَالِمِك قَالَ لَيْسَ بِصَابِرٍ مَنْ دَعَا عَلَى ظَالِمِهِ يَعْنِي الْإِمَامُ أَحْمَدَ أَنَّ الْمَظْلُومَ إذَا دَعَا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ فَقَدْ انْتَصَرَ كَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ دَعَا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ فَقَدْ انْتَصَرَ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ أَبِي حَمْزَةَ وَهُوَ مَيْمُونٌ الْأَعْوَرُ، ضَعَّفُوهُ لَا سِيَّمَا فِيمَا رَوَاهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَإِذَا انْتَصَرَ فَقَدْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ وَفَاتَهُ الدَّرَجَةُ الْعُلْيَا. قَالَ تَعَالَى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41] إلَى قَوْلِهِ {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: 43] . وَقَالَ ابْنُ الزَّاغُونِيِّ: رَأَيْت فِي الْمَنَامِ كَأَنِّي أَمْضِي إلَى قَبْرِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَإِذَا بِهِ جَالِسٌ عَلَى قَبْرِهِ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرُ السِّنِّ فَقَالَ لِي يَا فُلَانُ قَلَّ أَنْصَارُنَا، وَمَاتَ أَصْحَابُنَا، ثُمَّ قَالَ لِي إذَا أَرَدْت أَنْ تُنْصَرَ فَإِذَا دَعَوْت فَقُلْ يَا عَظِيمُ يَا عَظِيمُ كُلِّ عَظِيمٍ وَادْعُ بِمَا شِئْت تُنْصَرُ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ ذَكَرْت لِأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَوْمًا بَعْضَ إخْوَانِنَا وَتَغَيَّرَ عَلَيْنَا فَأَنْشَأَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: وَلَيْسَ خَلِيلِي بِالْمَلُولِ وَلَا الَّذِي ... إذَا غِبْت عَنْهُ بَاعَنِي بِخَلِيلِ وَلَكِنْ خَلِيلِي مَنْ يَدُومُ وِصَالُهُ ... وَيَحْفَظُ سِرِّي عِنْدَ كُلِّ خَلِيلِ

وَنَقَلَ غَيْرُهُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: تَفْنَى اللَّذَاذَةُ مِمَّنْ نَالَ صَفْوَتَهَا ... مِنْ الْحَرَامِ وَيَبْقَى الْإِثْمُ وَالْعَارُ تَبْقَى عَوَاقِبُ سُوءٍ فِي مَغَبَّتِهَا ... لَا خَيْرَ فِي لَذَّةٍ مِنْ بَعْدِهَا النَّارُ وَقَدْ رَأَيْت هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ لِمِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ الْإِمَامِ الْمَشْهُورِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ بَهْجَة الْمَجَالِسِ كَانَ الْمُتَمَنِّي بِالْكُوفَةِ إذَا تَمَنَّى يَقُولُ أَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ لِي فِقْهُ أَبِي حَنِيفَةَ وَحِفْظُ سُفْيَانَ وَوَرَعُ مِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ وَجَوَابُ شَرِيكٍ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي هِشَامٍ يَوْمًا عِنْدَ أَحْمَدَ فَذَ كَرُوا الْكُتَّابَ وَدِقَّةَ ذِهْنِهِمْ فَقَالَ إنَّمَا هُوَ التَّوْفِيقُ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ وُلِدَ لِأَبِي مَوْلُودٌ فَأَعْطَانِي عَبْدُ الْأَعْلَى رُقْعَةً إلَى أَبِي يُهَنِّئُهُ فَرَمَى بِالرُّقْعَةِ إلَيَّ وَقَالَ لَيْسَ هَذَا كِتَابَ عَالِمٍ وَلَا مُحَدِّثٍ هَذَا كِتَابُ كَاتِبٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ أَقَامَتْ أُمُّ صَالِحٍ مَعِي عِشْرِينَ سَنَةً فَمَا اخْتَلَفْت أَنَا وَهِيَ فِي كَلِمَةٍ وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ دَخَلْت يَوْمًا عَلَى أَحْمَدَ فَقُلْت كَيْفَ أَصْبَحْت قَالَ: كَيْفَ أَصْبَحَ مَنْ رَبُّهُ يُطَالِبُهُ بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ، وَنَبِيُّهُ يُطَالِبُهُ بِأَدَاءِ السُّنَّةِ، وَالْمَلَكَانِ يُطَالِبَانِهِ بِتَصْحِيحِ الْعَمَلِ، وَنَفْسُهُ تُطَالِبُهُ بِهَوَاهَا، وَإِبْلِيسُ يُطَالِبُهُ بِالْفَحْشَاءِ، وَمَلَكُ الْمَوْتِ يُطَالِبُهُ بِقَبْضِ رُوحِهِ، وَعِيَالُهُ يُطَالِبُونَهُ بِنَفَقَتِهِمْ. وَقَالَ رَجُلٌ لِبِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ أَبَا نَصْرٍ إنِّي وَاَللَّهِ أُحِبُّك، فَقَالَ وَكَيْفَ لَا تُحِبُّنِي وَلَسْت لِي بِجَارٍ وَلَا قَرَابَةٍ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ قُلْت لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ الرَّجُلُ يَبْلُغُنِي عَنْهُ صَلَاحٌ أَفَأَذْهَبُ أُصَلِّي خَلْفَهُ قَالَ لِي أَحْمَدُ اُنْظُرْ إلَى مَا هُوَ أَصْلَحُ لِقَلْبِك فَافْعَلْهُ.

فصل في الاستخارة وهل هي فيما يخفى أو في كل شيء

[فَصْلٌ فِي الِاسْتِخَارَةِ وَهَلْ هِيَ فِيمَا يَخْفَى أَوْ فِي كُلِّ شَيْءٍ] ٍ) قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّائِغُ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: كُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْخَيْرِ يُبَادَرُ بِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْعَابِدُ سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْخَيْرِ يُبَادَرُ فِيهِ قَالَ وَشَاوَرْته فِي الْخُرُوجِ إلَى الثَّغْرِ فَقَالَ لِي بَادِرْ بَادِرْ، وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَا اسْتِخَارَةَ فِيهِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لِظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ مُرَادَهُ بَعْدَ فِعْلِ مَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ مِنْ صَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ وَغَيْرِهِ وَقَوْلُ جَابِرٍ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا» حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ، «وَقَدْ اسْتَخَارَتْ زَيْنَبُ لَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتَزَوَّجَهَا» قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: فِيهِ اسْتِحْبَابُ صَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ لِمَنْ هَمَّ بِأَمْرٍ سَوَاءَ كَانَ الْأَمْرُ ظَاهِرَ الْخَيْرِ أَمْ لَا قَالَ وَلَعَلَّهَا اسْتَخَارَتْ لِخَوْفِهَا مِنْ تَقْصِيرِهَا فِي حَقِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيُّ أَحْفَظُ مَنْ رَأَيْت مِنْ الْبَشَرِ ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ ثنا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْقَطَّانُ ثنا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ ثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ خَالِدٍ الصَّنْعَانِيُّ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعْت وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ يَقُولُ قَالَ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَا رَبِّ أَيُّ عِبَادِك أَبْغَضُ إلَيْك قَالَ عَبْدٌ اسْتَخَارَنِي فِي أَمْرٍ فَخِرْت لَهُ فَلَمْ يَرْضَ. الظَّاهِرُ أَنَّهُ إسْنَادٌ حَسَنٌ. وَقَالَ الْخَلَّالُ فِي الْأَدَبِ كَرَاهَةُ الْعَجَلَةِ وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ حَدَّثَنِي أَبِي ثنا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى الطَّبَّاعُ سَمِعْت مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَابَ الْعَجَلَةَ فِي الْأُمُورِ، ثُمَّ قَالَ قَرَأَ ابْنُ عُمَرَ الْبَقَرَةَ فِي ثَمَانِ سِنِينَ وَظَاهِرُ هَذَا مِنْ الْخَلَّالِ مُخَالَفَتُهُ لِمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّبَّاحُ ثنا عَفَّانَ ثنا عَبْدُ الْوَاحِدِ ثنا سُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ الْأَعْمَشُ وَقَدْ سَمِعْتُهُمْ يَذْكُرُونَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ الْأَعْمَشُ وَلَا أَعْلَمُهُ إلَّا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ

إلَّا فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ» كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ وَاتَّأَدَ فِي مَشْيِهِ وَتَوَأَّدَ فِي مَشْيِهِ وَهُوَ افْتَعَلَ وَتَفَعَّلَ مِنْ التُّؤَدَةِ وَأَصْلُ التَّاءِ فِي " اتَّئِدْ " وَاوٌ، يُقَالُ اتَّئِدْ فِي أَمْرِكَ. وَقَدْ سَبَقَ التَّثَبُّتُ وَالتَّأَنِّي فِي الْفُتْيَا فِي فُصُولِ الْعِلْمِ وَقَوْلُ مَالِكٍ إنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الْجَهْلِ وَالْخُرْقِ وَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ سَعْدِ بْنِ سِنَانٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ وَحَسَّنَ لَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «التَّأَنِّي مِنْ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ» وَذَكَرْت فِي مَكَان آخَرَ مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ» وَقَوْلُهُ «مَنْ يُحْرَمْ الرِّفْقَ يُحْرَمْ الْخَيْرَ» .

فصل في حقيقة الزهد

[فَصْلٌ فِي حَقِيقَةِ الزُّهْدِ] ِ) قَالَ الْخَلَّالُ مَا بَلَغَنِي أَنَّ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ الزَّاهِدِ يَكُونُ زَاهِدًا وَمَعَهُ مِائَةُ دِينَارٍ قَالَ نَعَمْ عَلَى شَرِيطَةٍ إذَا زَادَتْ لَمْ يَفْرَحْ، وَإِذَا نَقَصَتْ لَمْ يَحْزَنْ قَالَ وَبَلَغَنِي أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ لِسُفْيَانَ: حُبُّ الرِّيَاسَةِ أَعْجَبُ إلَى الرَّجُلِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمَنْ أَحَبَّ الرِّيَاسَةَ طَلَبَ عُيُوبَ النَّاسِ أَوْ عَابَ النَّاسَ أَوْ نَحْوَ هَذَا وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ سُئِلَ أَحْمَدُ وَأَنَا شَاهِدٌ: مَا الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا قَالَ قِصَرُ الْأَمَلِ وَالْإِيَاسُ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ وَكَانَ كَاَلَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ» وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا «لَيْسَ الزَّهَادَةُ فِي الدُّنْيَا بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ، وَلَا إضَاعَةِ الْمَالِ وَلَكِنْ الزُّهْدُ أَنْ تَكُونَ بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ أَوْثَقَ مِنْك بِمَا فِي يَدِك، وَأَنْ تَكُونَ فِي ثَوَابِ الْمُصِيبَةِ إذَا أُصِبْت بِهَا أَرْغَبَ مِنْك فِيهَا لَوْ أَنَّهَا نُفِيَتْ عَنْك؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 23] » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَعَمْرُو بْنُ وَاقِدٍ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ يَعْنِي الَّذِي فِي إسْنَادِهِ وَكَذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ وَقَالَ النَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ مَتْرُوكٌ، وَضَعَّفَهُ أَيْضًا غَيْرُهُمْ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِهِ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ إذَا سَلِمَ فِيهِ الْقَلْبُ مِنْ الْهَلَعِ وَالْيَدُ مِنْ الْعُدْوَانِ

كَانَ صَاحِبُهُ مَحْمُودًا وَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَالٌ عَظِيمٌ، بَلْ قَدْ يَكُونُ مَعَ هَذَا زَاهِدًا أَزْهَدُ مِنْ فَقِيرٍ هَلُوعٍ كَمَا قِيلَ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ وَذَكَرَ مَا سَبَقَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ وَذَكَرَ الْخَبَرَيْنِ السَّابِقَيْنِ وَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ» وَعَنْ سُفْيَانَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ يَكُونُ الرَّجُلُ زَاهِدًا وَلَهُ مَالٌ قَالَ نَعَمْ، إنْ اُبْتُلِيَ صَبَرَ، وَإِنْ أُعْطِيَ شَكَرَ. وَقَالَ سُفْيَانُ إذَا بَلَغَك عَنْ رَجُلٍ بِالْمَشْرِقِ أَنَّهُ صَاحِبُ سُنَّةٍ وَبِالْمَغْرِبِ صَاحِبُ سُنَّةٍ فَابْعَثْ إلَيْهِمَا بِالسَّلَامِ وَادْعُ اللَّهَ لَهُمَا فَمَا أَقَلَّ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَذَكَرَ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ فِي كِتَابِ الرِّسَالَةُ إلَى الصُّوفِيَّةِ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ الزُّهْدُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ تَرْكُ الْحَرَامِ وَهُوَ زُهْدُ الْعَوَامّ (وَالثَّانِي) تَرْكُ الْفُضُولِ مِنْ الْحَلَالِ وَهُوَ زُهْدُ الْخَوَاصِّ (وَالثَّالِثُ) تَرْكُ مَا يُشْغِلُ الْعَبْدَ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ زُهْدُ الْعَارِفِينَ قَالَ وَسَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ الْحُسَيْنِ يَقُولُ سَمِعْت عَلِيَّ بْنَ عُمَرَ الْحَافِظَ سَمِعْت أَبَا سَهْلِ بْنَ زِيَادٍ يَقُولُ: سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ يَقُولُ: سُئِلَ أَبِي مَا الْفُتُوَّةُ؟ فَقَالَ تَرْكُ مَا تَهْوَى لِمَا تَخْشَى. وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ قَدْ قُلْت عِشْرِينَ أَلْفَ بَيْتٍ فِي الزُّهْدِ وَوَدِدْت أَنَّ لِي مِنْهَا الْأَبْيَاتَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي لِأَبِي نُوَاسٍ يَا نُوَاسُ تَوَقَّرْ ... وَتَعَزَّ وَتَصَبَّرْ إنْ يَكُنْ سَاءَك دَهْرٌ ... فَلَمَا سَرَّك أَكْثَرْ يَا كَثِيرَ الذَّنْبِ عَفْوُ ال ... لَّهِ مِنْ ذَنْبِك أَكْبَرْ وَرَأَى بَعْضُ إخْوَانِ أَبِي نُوَاسٍ لَهُ فِي النَّوْمِ بَعْدَ أَيَّامٍ فَقَالَ لَهُ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِك قَالَ: غَفَرَ لِي بِأَبْيَاتٍ قُلْتهَا وَهِيَ الْآنَ تَحْتَ وِسَادَتِي فَنَظَرُوا فَإِذَا بِرُقْعَةٍ تَحْتَ وِسَادَتِهِ فِي بَيْتِهِ مَكْتُوبٍ فِيهَا: يَا رَبِّ إنْ عَظُمَتْ ذُنُوبِي كَثْرَةً ... فَلَقَدْ عَلِمْت بِأَنَّ عَفْوَك أَعْظَمُ إنْ كَانَ لَا يَرْجُوك إلَّا مُحْسِنٌ ... فَمَنْ الَّذِي يَدْعُو إلَيْهِ الْمُجْرِمُ

أَدْعُوك رَبِّ كَمَا أَمَرْت تَضَرُّعًا ... فَإِذَا رَدَدْت يَدِي فَمَنْ ذَا يَرْحَمُ مَا لِي إلَيْك وَسِيلَةٌ إلَّا الرَّجَا ... وَجَمِيلُ ظَنِّي ثُمَّ أَنِّي مُسْلِمُ وَرُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الزُّهْدِ قَالَ قِصَرُ الْأَمَلِ. وَرَوَاهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ حَدَّثَنِي أَبِي سَمِعْت سُفْيَانَ يَقُولُ مَا ازْدَادَ رَجُلٌ عِلْمًا فَازْدَادَ مِنْ الدُّنْيَا قُرْبًا إلَّا ازْدَادَ مِنْ اللَّهِ بُعْدًا. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ مَاهَانَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أَسَدٍ: سُئِلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي الْوَرَعِ فَقَالَ أَنَا أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَتَكَلَّمَ فِي الْوَرَعِ، وَأَنَا آكُلُ مِنْ غَلَّةِ بَغْدَادَ لَوْ كَانَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ صَلُحَ أَنْ يُجِيبَك عَنْهُ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَأْكُلُ مِنْ غَلَّةِ بَغْدَادَ وَلَا مِنْ طَعَامِ السَّوَادِ. ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَخْضَرِ فِيمَنْ رَوَى عَنْ أَحْمَدَ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَخْزَمَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي الْوَزِيرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَخْرَمِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نُبَيْهٍ عَنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «ذُكِرَ رَجُلٌ عِنْد النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعِبَادَةٍ وَاجْتِهَادٍ وَذُكِرَ آخَرُ بِرِعَةٍ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا يُعْدَلُ بِالرِّعَةِ شَيْءٌ» ابْنُ نُبَيْهٍ تَفَرَّدَ عَنْهُ الْمَخْرَمِيُّ وَبَاقِيهِ جَيِّدٌ قَالَ التِّرْمِذِيُّ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ الْفَضْلِ قَالَ عَلَامَةُ الزُّهْدِ فِي النَّاسِ إذَا لَمْ يُحِبَّ ثَنَاءَ النَّاسِ عَلَيْهِ وَلَمْ يُبَالِ بِمَذَمَّتِهِمْ وَإِنْ قَدَرْت أَنْ لَا تُعْرَفَ فَافْعَلْ وَمَا عَلَيْك أَلَّا يُثْنَى عَلَيْك وَمَا عَلَيْك أَنْ تَكُونَ مَذْمُومًا عِنْدَ النَّاسِ إذَا كُنْت مَحْمُودًا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُذْكَرَ لَمْ يُذْكَرْ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بَنَانَ قَالَ أَحْمَدُ: سَمِعْته يَقُولُ يَعْنِي بِشْرًا قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ مَا صَدَقَ اللَّهَ عَبْدٌ أَحَبَّ الشُّهْرَةَ. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ مَنْ بُلِيَ بِالشُّهْرَةِ لَمْ يَأْمَنْ أَنْ يَفْتِنُوهُ لِأَنِّي لَا أُفَكِّرُ فِي بَدْءِ أَمْرِي، طَلَبْت الْحَدِيثَ وَأَنَا ابْنُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ هِجْرَانُ الدُّنْيَا فِي عَصْرِنَا هَذَا لَيْسَ مِنْ الزُّهْدِ فِي شَيْءٍ، إنَّمَا الْمُنْقَطِعُ أَنِفَ مِنْ الذُّلِّ فَإِنَّ مُخَالَطَةَ الْقَدَرِيِّ وَالتَّخَلِّي عَنْهُمْ

تَرَّاعَة وَمَنْ طَلَّقَ عَجُوزًا مُنَاقِرَةً فَلَا عَجَبَ وَقَالَ مَا قَطَعَ عَنْ اللَّهِ وَحَمَلَ النَّفْسَ عَلَى مَحَارِمِ اللَّهِ فَهُوَ الدُّنْيَا الْمَذْمُومَةُ وَإِنْ كَانَ إمْلَاقًا وَفَقْرًا وَمَا أَوْصَلَ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ فَذَاكَ لَيْسَ بِالدُّنْيَا الْمَذْمُومَةِ وَإِنْ كَانَ إكْثَارًا وَقَالَ الْوَاجِبُ شُكْرُهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ نِعْمَةُ اللَّهِ وَطَرِيقٌ إلَى الْآخِرَةِ وَذَرِيعَةٌ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَكُلُّ خَيْرٍ يَعُودُ بِالْإِفْرَاطِ فِيهِ شَرٌّ، كَالسَّخَاءِ يَعُودُ إسْرَافًا، وَالتَّوَاضُعُ يَعُودُ ذُلًّا، وَالشَّجَاعَةُ تَعُودُ تَهَوُّرًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] قَالَ: الْقَنَاعَةُ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ لَوْ عَلِمْت قَدْرَ الرَّاحَةِ فِي الْقَنَاعَةِ وَالْعِزِّ الَّذِي فِي مَدَارِجِهَا عَلِمْت أَنَّهَا الْعِيشَةُ الطَّيِّبَةُ لِأَنَّ الْقَنُوعَ قَدْ كُفِيَ تَكَلُّبَ طِبَاعِهِ، وَالطَّبْعُ كَالصِّبْيَانِ الرُّعَّنِ وَمَنْ بُلِيَ بِذَلِكَ أَذْهَبَ وَقْتَهُ فِي أَخَسِّ الْمَطَالِبِ وَفَاتَتْهُ الْفَضَائِلُ فَأَصْبَحَ كَمُرَبِّي طِفْلٍ يَتَصَابَى لَهُ وَيَجْتَهِدُ فِي تَسْكِينِ طِبَاعِهِ تَارَةً بِلُعْبَةٍ تُلْهِيهِ وَتَارَةً بِشَهْوَةٍ، وَتَارَةً بِكَلَامِ الْأَطْفَالِ، وَمَنْ كَانَ دَأْبهُ التَّصَابِي مَتَى يَذُوقُ طَعْمَ الرَّاحَةِ، وَمَنْ كَانَ فِي طَبْعِهِ كَذَا فَمَتَى يَسْتَعْمِلُ عَقْلَهُ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَالْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ التَّفْوِيضُ إلَى اللَّهِ كَالصَّبِيِّ حَالَ التَّرْبِيَةِ يُفَوِّضُ أَمْرَهُ إلَى وَالِدَيْهِ وَيَثِقُ بِهِمَا مُسْتَرِيحًا مِنْ كَدِّ التَّخَيُّرِ، فَلَا يَتَخَيَّرُ لِنَفْسِهِ مَعَ تَفْوِيضِهِ إلَى مَنْ يَخْتَارُ لَهُ. الْمُفَوِّضُ وَثِقَ بِالْمُفَوَّضِ إلَيْهِ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَعِنْدِي أَنَّهَا فِي الْجَنَّةِ أَعْنِي الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ لِأَنَّ الطَّيِّبَ الصَّافِي وَالصَّفَاءُ فِي الْجَنَّةِ. وَقَالَ أَيْضًا مِنْ عَجِيبِ مَا نَقَدْت أَحْوَالَ النَّاسِ كَثْرَةُ مَا نَاحُوا عَلَى خَرَابِ الدِّيَارِ وَمَوْتِ الْأَقَارِبِ وَالْأَسْلَافِ وَالتَّحَسُّرِ عَلَى الْأَرْزَاقِ بِذَمِّ الزَّمَانِ وَأَهْلِهِ، وَذِكْرِ نَكَدِ الْعَيْشِ فِيهِ، وَقَدْ رَأَوْا مِنْ انْهِدَامِ الْإِسْلَامِ، وَتَشَعُّثِ الْأَدْيَانِ، وَمَوْتِ السُّنَنِ، وَظُهُورِ الْبِدَعِ، وَارْتِكَابِ الْمَعَاصِي، وَتَقَضِّي الْعُمْرِ فِي الْفَارِغِ الَّذِي لَا يُجْدِي، فَلَا أَحَدٌ مِنْهُمْ نَاحَ عَلَى دِينِهِ

وَلَا بَكَى عَلَى فَارِطِ عُمْرِهِ وَلَا تَأَسَّى عَلَى فَائِتِ دَهْرِهِ، وَلَا أَرَى لِذَلِكَ سَبَبًا إلَّا قِلَّةَ مُبَالَاتِهِمْ بِالْأَدْيَانِ وَعِظَمَ الدُّنْيَا فِي عُيُونِهِمْ ضِدُّ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ: يَرْضَوْنَ بِالْبَلَاغِ وَيَنُوحُونَ عَلَى الدِّينِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ فُصُولِ طَلَبِ الْعِلْمِ حَدِيثُ «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا» وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» . وَعَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا «الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ، وَلَهَا يَجْمَعُ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ» وَأَخَذَ ابْنٌ لِعُمَرَ خَاتَمًا فَأَدْخَلَهُ فِي فِيهِ فَانْتَزَعَهُ عُمَرُ مِنْهُ ثُمَّ بَكَى عُمَرُ وَعِنْدَهُ نَفَرٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ فَقَالُوا لَهُ لِمَ تَبْكِي وَقَدْ فَتَحَ اللَّهُ لَك وَأَظْهَرَك عَلَى عَدُوِّك وَأَقَرَّ عَيْنَك؟ فَقَالَ عُمَرُ إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَا تُفْتَحُ الدُّنْيَا عَلَى أَحَدٍ إلَّا أَلْقَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَأَنَا مُشْفِقٌ مِنْ ذَلِكَ، وَعَنْ الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ يَا ضَحَّاكُ مَا طَعَامُك؟ قَالَ اللَّحْمُ وَاللَّبَنُ قَالَ: ثُمَّ يَصِيرُ إلَى مَاذَا قَالَ إلَى مَا قَدْ عَلِمْت قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ضَرَبَ مَا يَخْرُجُ مِنْ ابْنِ آدَمَ مَثَلًا لِلدُّنْيَا» . وَعَنْ أَبِي كَعْبٍ مَرْفُوعًا «إنَّ مَطْعَمَ ابْنِ آدَمَ مَثَلٌ لِلدُّنْيَا، وَإِنْ قَزَّحَهُ وَمَلَّحَهُ فَانْظُرْ إلَى مَاذَا يَصِيرُ؟» وَعَنْ مُطَرِّفِ بْنِ الشِّخِّيرِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ الصَّحَابَةِ «كَانَ بِالْكُوفَةِ أَمِيرٌ فَخَطَبَ يَوْمًا فَقَالَ: إنَّ إعْطَاءَ هَذَا الْمَالِ فِتْنَةٌ، وَإِنَّ إمْسَاكَهُ فِتْنَةٌ، وَبِذَلِكَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى فَرَغَ ثُمَّ نَزَلَ» إسْنَادُهُ جَيِّدٌ. وَعَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا «مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى» . وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا «حُلْوَةُ الدُّنْيَا مُرَّةُ الْآخِرَةِ وَمُرَّةُ الدُّنْيَا حُلْوَةُ الْآخِرَةِ» . وَعَنْ مُعَاذٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ قَالَ: وَإِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ، فَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ» وَعَنْ مُعَاوِيَةَ مَرْفُوعًا «إنَّمَا بَقِيَ مِنْ الدُّنْيَا بَلَاءٌ وَفِتْنَةٌ» وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا «أَنَّهُ نَهَى عَنْ التَّبَقُّرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ» ، التَّبَقُّرُ التَّوَسُّعُ وَأَصْلُهُ مِنْ الْبَقْرِ الشَّقُّ. وَعَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ مَرْفُوعًا «لَوْ أَنَّ رَجُلًا يُجَرُّ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ يَوْمِ وُلِدَ إلَى يَوْمِ يَمُوتُ وَمَا فِي مَرْضَاةِ

اللَّهِ تَعَالَى لَحَقَّرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رَوَاهُنَّ أَحْمَدُ وَأَنْشَدَ ابْنُ هُبَيْرَةَ الْوَزِيرُ الْحَنْبَلِيُّ لِنَفْسِهِ: يَلِذُّ نَدَى الدُّنْيَا الْغَنِيُّ وَيَطْرَبُ ... وَيَزْهَدُ فِيهَا الْأَلْمَعِيُّ الْمُجَرِّبُ وَمَا عَرَفَ الْأَيَّامَ وَالنَّاسَ عَاقِلٌ ... وَوُفِّقَ إلَّا كَانَ فِي الْمَوْتِ يَرْغَبُ إلَى اللَّهِ أَشْكُو هِمَّةً لَعِبَتْ بِهَا ... أَبَاطِيلُ آمَالٍ تَغُرُّ وَتَخْلُبُ فَوَا عَجَبًا مِنْ عَاقِلٍ يَعْرِفُ الدُّنَا ... فَيُصْبِحُ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ يَرْغَبُ وَأَنْشَدَ أَيْضًا: الْحَمْدُ لِلَّهِ هَذِي الْعَيْنُ وَالْأَثَرُ ... فَمَا الَّذِي بِاتِّبَاعِ الْحَقِّ يُنْتَظَرُ وَقْتٌ يَفُوتُ وَأَشْغَالٌ مُعَوِّقَةٌ ... وَضَعْفُ عَزْمٍ وَدَارٌ شَأْنُهَا الْغِيَرُ وَالنَّاسُ رَكْضًا إلَى مَأْوَى مَصَارِعِهِمْ ... وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنْ رَكْضِهِمْ خَبَرُ تَسْعَى بِهِمْ حَادِثَاتٌ مِنْ نُفُوسِهِمْ ... فَيَبْلُغُونَ إلَى الْمَهْوَى وَمَا شَعَرُوا وَالْجَهْلُ أَصْلُ فَسَادِ النَّاسِ كُلِّهِمْ ... وَالْجَهْلُ أَصْلٌ عَلَيْهِ يُخْلَقُ الْبَشَرُ فِي أَبْيَاتٍ ذَكَرَهَا وَأَنْشَدَ أَيْضًا يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي نَاصِحٌ لَكُمْ ... فَعُوا كَلَامِي فَإِنِّي ذُو تَجَارِيبِ لَا تُلْهِيَنَّكُمْ الدُّنْيَا بِزَهْرَتِهَا ... فَمَا تَدُومُ عَلَى حُسْنٍ وَلَا طِيبِ وَأَنْشَدَ أَيْضًا: إذَا قَلَّ مَالُ الْمَرْءِ قَلَّ صَدِيقُهُ ... وَقَبُحَ مِنْهُ كُلُّ مَا كَانَ يَجْمُلُ وَأَنْشَدَ أَيْضًا: وَالْوَقْتُ أَنْفَسُ مَا عُنِيتَ بِحِفْظِهِ ... وَأَرَاهُ أَسْهَلَ مَا عَلَيْك يَضِيعُ

وَقَدْ قَالَ ابْنُ هَانِئٍ الشَّاعِرُ فِي قَصِيدَتِهِ الَّتِي يَرْثِي فِيهَا وَلَدَهُ حُكْمُ الْمَنِيَّةِ فِي الْبَرِيَّةِ جَارِ ... مَا هَذِهِ الدُّنْيَا بِدَارِ قَرَارِ بَيْنَمَا يُرَى الْإِنْسَانُ فِيهَا مُخْبِرًا ... حَتَّى يُرَى خَبَرًا مِنْ الْأَخْبَارِ طُبِعَتْ عَلَى كَدَرٍ وَأَنْتَ تُرِيدُهَا ... صَفْوًا مِنْ الْأَقْذَارِ وَالْأَكْدَارِ وَمُكَلِّفُ الْأَيَّامِ ضِدَّ طِبَاعِهَا ... مُتَطَلِّبٌ فِي الْمَاءِ جِذْوَةَ نَارِ الْعَيْشُ نَوْمٌ وَالْمَنِيَّةُ يَقْظَةٌ ... وَالْمَرْءُ بَيْنَهُمَا خَيَالٌ سَارِ لَيْسَ الزَّمَانُ وَإِنْ حَرَصْت مُسَاعِدًا ... خُلُقُ الزَّمَانِ عَدَاوَةُ الْأَحْرَارِ وَمِنْهَا: وَتَلَهُّبُ الْأَحْشَاءِ شَيَّبَ مَفْرِقِي ... هَذَا الضِّيَاءُ شُوَاظُ تِلْكَ النَّارِ لَا حَبَّذَا الشَّيْبُ الْوَفِيُّ وَحَبَّذَا ... شَرْخُ الشَّبَابِ الْخَائِنِ الْغَدَّارِ وَطَرِي مِنْ الدُّنْيَا الشَّبَابُ وَرَوْقُهُ ... فَإِذَا انْقَضَى فَقَدْ انْقَضَتْ أَوْطَارِي وَمِنْهَا: ذَهَبَ التَّكَرُّمُ وَالْوَفَاءُ مِنْ الْوَرَى ... وَتَصَرَّمَا إلَّا مِنْ الْأَشْعَارِ وَكَانَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَتَمَثَّلُ كَثِيرًا بِالْبَيْتِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ وَذَكَرَهُمَا السُّرُوجِيُّ الْحَنَفِيُّ فِي شَرْحِهِ فِي الْجَنَائِزِ فِي الْمُصَابِ وَلِابْنِ هَانِئٍ أَيْضًا مِمَّا قَدْ يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ هَذَا الْوَضْعِ: لَا أَنْتَ عِنْدَ الْيُسْرِ مِنْ زُوَّارِهِ ... يَوْمًا وَلَا فِي الْعُسْرِ مِنْ عُوَّادِهِ وَلَهُ مِنْهَا: أَفْدِي الْكِتَابَ بِنَاظِرِي فَبَيَاضُهُ ... بِبَيَاضِهِ وَسَوَادُهُ بِسَوَادِهِ

وَلَهُ: قَدْ كَانَ يَرْجُفُ فِي لَيَالِي وَصْلِهِ ... قَلْبِي فَكَيْفَ يَكُونُ يَوْمَ صُدُودِهِ وَلَهُ: كَمْ عَاهَدَ الدَّمْعُ لَا يُغْرِي بِجِرْيَتِهَا ال ... وَاشِي فَلَمَّا اسْتَقَلَّتْ ظَعْنُهُمْ غَدَرَا وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ «اُبْتُلِينَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالضَّرَّاءِ فَصَبَرْنَا، ثُمَّ اُبْتُلِينَا بِالسَّرَّاءِ بَعْدَهُ فَلَمْ نَصْبِرْ» .

فصل في أخبار العابدات والعابدين والزهاد

[فَصْلٌ فِي أَخْبَارِ الْعَابِدَاتِ وَالْعَابِدِينَ وَالزُّهَّاد] ِ) قَالَ الْحَسَنُ بْنُ اللَّيْثِ الرَّازِيّ قِيلَ لِأَحْمَدَ يَجِيئُك بِشْرٌ يَعْنُونَ ابْنَ الْحَارِثِ قَالَ لَا، تَعْنُونَ الشَّيْخَ نَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نَذْهَبَ إلَيْهِ قِيلَ لَهُ نَجِيءُ بِك قَالَ لَا أَكْرَهُ أَنْ يَجِيءَ إلَيَّ أَوْ أَذْهَبَ إلَيْهِ فَيَتَصَنَّعُ لِي وَأَتَصَنَّعُ لَهُ فَنَهْلِك. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَذُكِرَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ فَقَالَ لَقَدْ كَانَ فِيهِ أُنْسٌ، وَقَالَ مَا كَلَّمْته قَطُّ نَقَلْته مِنْ الْوَرَعِ. وَقَدْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَنَاقِبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ ثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دِرَامٍ الْحَافِظُ بِالْكُوفَةِ حَدَّثَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمُقْرِي الْبَغْدَادِيُّ ثنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ صَاحِبُ بِشْرٍ قَالَ: اعْتَلَّ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ فَعَادَتْهُ آمِنَةُ الرَّمْلِيَّةُ مِنْ الرَّمْلَةِ فَإِنَّهَا لَعِنْدَهُ إذْ دَخَلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَعُودُهُ فَقَالَ مَنْ هَذِهِ؟ فَقَالَ: هَذِهِ آمِنَةُ الرَّمْلِيَّةُ بَلَغَهَا عِلَّتِي فَجَاءَتْ مِنْ الرَّمْلَةِ تَعُودُنِي، فَقَالَ: فَسَلْهَا تَدْعُو لَنَا. فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ إنَّ بِشْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَسْتَجِيرَانِك مِنْ النَّارِ فَأَجِرْهُمَا قَالَ أَحْمَدُ: فَانْصَرَفْت فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلِ طُرِحَتْ إلَيَّ رُقْعَةٌ فِيهَا مَكْتُوبٌ: بِاسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قَدْ فَعَلْنَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُتَعَبِّدَاتِ فَأَخْبَرَتْنِي عَنْ امْرَأَةٍ أُخْرَى أَنَّهَا عَمَدَتْ إلَى بَيْتِهَا فَفَوَّتَتْهُ عَلَى نَفْسِهَا وَاقْتَصَرَتْ عَلَى قُرْصَيْنِ وَتَرَكَتْ الدُّنْيَا وَهِيَ تَسْأَلُك أَنْ تَدْعُوَ لَهَا قَالَ: فَقُلْت لَهَا قُولِي لِصَاحِبَةِ الْقُرْصَيْنِ تَدْعُو لِي. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: مَا أَعْدِلُ بِفَضْلِ الْفَقْرِ شَيْئًا أَتَدْرِي إذَا سَأَلَك أَهْلُك حَاجَةً لَا تَقْدِرُ عَلَيْهَا أَيُّ شَيْءٍ لَك مِنْ الْأَجْرِ؟ مَا قَلَّ مِنْ الدُّنْيَا كَانَ أَقَلَّ لِلْحِسَابِ. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ سَمِعْت أَحْمَدَ يَقُولُ إنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ كَرَمًا وَكَرَمُ الْقَلْبِ الرِّضَا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى، سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ لِشُجَاعِ بْنِ مَخْلَدٍ يَا أَبَا الْفَضْلِ إنَّمَا هُوَ طَعَامٌ دُونَ طَعَامٍ وَلِبَاسٌ دُونَ لِبَاسٍ، وَإِنَّهَا أَيَّامٌ قَلَائِلُ.

وَقَالَ أَيْضًا عَنْ أَحْمَدَ مَا أَعْدِلُ بِالصَّبْرِ عَلَى الْفَقْرِ شَيْئًا، كَمْ بَيْنَ مَنْ يُعْطَى مِنْ الدُّنْيَا لِيُفْتَتَنَ إلَى آخَرَ تُزْوَى عَنْهُ قَالَ: وَذَكَرْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ بَعْضِ الْمُفْتِينَ شَيْئًا فِي الْوَرَعِ فَشَدَّدَ عَلَى السَّائِلِ وَهُوَ عَبْدُ الْوَهَّابِ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَيْسَ يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى مَا يَفْعَلُ أَوْ كَلَامًا ذَا مَعْنَاهُ إذَا كَانَ يُفْتِي وَقَالَ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَذَكَرَ قَوْمًا مِنْ الْمُتْرَفِينَ فَقَالَ الدُّنُوُّ مِنْهُمْ فِتْنَةٌ وَالْجُلُوسُ مَعَهُمْ فِتْنَةٌ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ غَرِيبٌ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنْ أَرَدْت اللُّحُوقَ بِي فَلْيَكْفِك مِنْ الدُّنْيَا كَزَادِ رَاكِبٍ، وَإِيَّاكِ وَمُجَالَسَةَ الْأَغْنِيَاءِ وَلَا تَسْتَخْلِفِي ثَوْبًا حَتَّى تُرَقِّعِيهِ» وَعَنْ مَكْحُولٍ قَالَ قُلْت لِلْحَسَنِ إنِّي أُرِيدُ الْخُرُوجَ إلَى مَكَّةَ قَالَ: إيَّاكَ أَنْ تَصْحَبَ رَجُلًا يَكْرُمُ عَلَيْك فَيَفْسُدُ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَك. وَقَالَ أَحْمَدُ إنَّمَا قَوِيَ بِشْرٌ لِأَنَّهُ كَانَ وَحْدَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عِيَالٌ، لَيْسَ مَنْ كَانَ مُعِيلًا كَمَنْ كَانَ وَحْدَهُ لَوْ كَانَ إلَيَّ مَا بَالَيْت مَا أَكَلْت. وَقَالَ أَيْضًا لَوْ تَرَكَ النَّاسُ التَّزْوِيجَ مَنْ كَانَ يَدْفَعُ الْعَدُوَّ؟ لِبُكَاءِ الصَّبِيِّ بَيْنَ يَدَيْ أَبِيهِ مُتَسَخِّطًا يَطْلُبُ مِنْهُ خُبْزًا أَفْضَلَ مِنْ كَذَا وَكَذَا يَرَاهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يَلْحَقَ الْمُتَعَبِّدَ الْأَعْزَبُ وَقَالَ فِي الْفُنُونِ حَدِيثٌ مُسْنَدٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا طَلَبَ إلَى ذِي الْعَيْلَةِ عَيْلَتُهُ شَهْوَةً فَأَيْنَ يَلْحَقُهُ الْقَائِمُ الصَّائِمُ» . وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرَهُ تَمَتَّعُوا مِنْ الدُّنْيَا: إنِّي لَأَعْجَبُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُحَدِّثِينَ حِرْصَهُمْ عَلَى الدُّنْيَا قَالَ الْمَرُّوذِيُّ وَذَكَرْت رَجُلًا مِنْ الْمُحَدِّثِينَ فَقَالَ أَنَا أَشَرْت بِهِ أَنْ يُكْتَبَ عَنْهُ وَإِنَّمَا أَنْكَرْت عَلَيْهِ حُبَّهُ الدُّنْيَا. وَقَدْ سَبَقَ مَعْنَى هَذَا فِي فُصُولِ الْعِلْمِ وَأَنَّ الْعَالِمَ لَيْسَ كَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ يُقْتَدَى بِهِ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: قَدْ تَفَكَّرْت فِي هَذِهِ الْآيَةِ {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131] .

ثُمَّ قَالَ تَفَكَّرْت فِي وَفِيهِمْ وَأَشَارَ نَحْوَ الْعَسْكَرِ وَقَالَ: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131] قَالَ رِزْقُ يَوْمٍ بِيَوْمٍ خَيْرٌ قَالَ وَلَا يَهْتَمُّ لِرِزْقِ غَدٍ وَقَالَ أَبُو دَاوُد كَانَتْ مُجَالَسَةُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ مُجَالَسَةَ الْآخِرَةِ لَا يَذْكُرُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَمَا رَأَيْته ذَكَرَ الدُّنْيَا قَطُّ وَقَالَ أَحْمَدُ لِرَجُلٍ لَوْ صَحَحْت مَا خِفْت أَحَدًا وَسَبَقَ بِنَحْوِ أَرْبَعَةِ كَرَارِيسَ فِي فَضَائِلِهِ. وَسُئِلَ عَنْ الْحُبِّ فِي اللَّهِ فَقَالَ: هُوَ أَنْ لَا يُحِبَّهُ لِطَمَعِ الدُّنْيَا. وَفِيهِ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا مَا رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «يَقُولُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي؟ الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلِّي» وَلِلتِّرْمِذِيِّ. وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ مُعَاذٍ مَرْفُوعًا قَالَ اللَّهُ «الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمْ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ» وَلِأَبِي دَاوُد هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ وَفِيهِ «قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ وَلَا أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا» وَلِمَالِكٍ وَأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: «وَجَبَتْ جَنَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِي وَالْمُتَجَالِسِينَ فِي» وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ الْمَلَكَ قَالَ لِلَّذِي زَارَ أَخَاهُ: إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْك إنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّك كَمَا أَحْبَبْته فِيهِ» وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ «مَا أَحَبَّ عَبْدٌ عَبْدًا إلَّا أَكْرَمَ رَبَّهُ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَمَّا يَلْحَقُ بِهِمْ قَالَ الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» وَذَكَرَ أَحْمَدُ الدُّنْيَا فَقَالَ قَلِيلُهَا يُجْزِي وَكَثِيرُهَا لَا يُجْزِي وَقَالَ لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا حَتَّى تَكُونَ فِي مِقْدَارِ لُقْمَةٍ ثُمَّ أَخَذَهَا امْرُؤٌ مُسْلِمٌ فَوَضَعَهَا فِي فَمِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ لَمَا كَانَ مُسْرِفًا.

التهمة في البدعة

[التُّهَمَةِ فِي الْبِدْعَةِ] فَصْلٌ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ أَبُو جَعْفَرٍ الْخَيَّاطُ: سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ بَلَغَنِي عَنْ أَخِي مَنْصُورِ بْنِ عِمْرَانَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ قَدْ أَحَاطَتْ بِنَا الشَّدَائِدُ وَأَنْتَ ذُخْرٌ لَهَا فَلَا تُعَذِّبْنَا وَأَنْتَ قَادِرٌ عَلَى الْعَفْوِ سَيِّدِي قَدْ أَرَيْتنَا قُدْرَتَك وَلَمْ تَزَلْ قَادِرًا فَأَرِنَا عَفْوَك فَلَمْ تَزَلْ عَفُوًّا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْمُنَادِي فَلَوْ كَانَ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي مَنْصُورٍ، أَدْنَى شَيْءٍ مِنْ التُّهَمَةِ فِي الْبِدْعَةِ لَمَا حَكَى عَنْهُ شَيْئًا وَلَا خَصَّهُ بِالْأُخُوَّةِ. قَالَ ابْنُ الْمُنَادِي: إنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ النَّوَاوِيَّ قَالَ قُلْت لِبِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ إنَّ مَنْصُورَ بْنَ عَمَّارٍ يَقُولُ فِي بَعْضِ كَلَامِهِ يَا عَبِيدَ مَا يَفْنَى، كَيْفَ رَأَيْتُمْ ذُلَّ مَلَكَةِ الدُّنْيَا؟ أَلَمْ تَصْحَبُوهَا بِالِائْتِمَانِ لَهَا فَأَذَاقَتْكُمْ الْغِشَّ مِنْ مَكْرُوهِهَا قَالَ فَوَجَمَ لِذَلِكَ بِشْرٌ وَسَكَتَ، فَأَرَدْت أَنْ أَزِيدَهُ فَقَالَ قَدْ أَشْغَلْت عَلَيَّ قَلْبِي.

فصل في تعبد الجهل وتقشف الرياء وتزهد الشهرة وعبودية العلم والحكمة

[فَصْلٌ فِي تَعَبُّدِ الْجَهْلِ وَتَقَشُّفِ الرِّيَاءِ وَتَزَهُّدِ الشُّهْرَةِ وَعُبُودِيَّةِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ] ِ) قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إسْمَاعِيلَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنِ سَمْعُونٍ وَسَأَلَهُ الْبَرْقَانِيِّ: أَيُّهَا الشَّيْخُ تَدْعُو النَّاسَ إلَى الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَالتَّرْكِ لَهَا وَتَلْبَسُ أَحْسَنَ الثِّيَابِ وَتَأْكُلُ أَطْيَبَ الطَّعَامِ فَكَيْفَ هَذَا قَالَ كُلُّ مَا يُصْلِحُك مَعَ اللَّهِ فَافْعَلْهُ، إذَا صَلُحَ حَالُك مَعَ اللَّهِ تَلْبَسُ لَيِّنَ الثِّيَابِ وَتَأْكُلُ طَيِّبَ الطَّعَامِ فَلَا يَضُرُّك. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قَدْ تَقَعُ لِكَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ يَقَظَةٌ عِنْدَ سَمَاعِ الْمَوَاعِظِ وَأَخْبَارِ الزُّهَّادِ وَالصَّالِحِينَ فَيَقُومُونَ عَلَى أَقْدَامِ الْعَزَائِمِ عَلَى الزُّهْدِ وَانْتِظَارِ الْمَوْتِ بِمَا يَصْلُحُ لَهُمْ، فَفِيهِمْ مَنْ يَقْتَدِي بِجَاهِلٍ مِنْ الْمُتَزَهِّدِينَ أَوْ يَعْمَلُ عَلَى مَا فِي كِتَابِ بَعْضِ الزُّهَّادِ فَيَرَى فِيهِ التَّقَلُّلَ مِنْ الطَّعَامِ بِالتَّدْرِيجِ وَتَرْكَ الشَّهَوَاتِ وَأَشْيَاءَ قَدْ وَضَعَهَا عَنْ قِلَّةِ عِلْمِهِ بِالشَّرِيعَةِ وَالْحِكْمَةِ فَيُدِيمُ الصَّوْمَ وَالسَّهَرَ وَالتَّقَلُّلَ، وَيَدُومُ عَلَى الْمَآكِلِ الرَّدِيَّةِ، فَتَجِفُّ الْمَعِدَةُ وَتَضِيقُ، وَتَقْوَى السَّوْدَاءُ، وَتَنْصَبُّ الْأَخْلَاطُ إلَى الْكَبِدِ وَالطِّحَالِ وَرُبَّمَا تَصَاعَدَتْ إلَى الدِّمَاغِ فَيَبِسَ أَوْ فَسَدَ الطَّبْعُ وَرُبَّمَا تَغَيَّرَ ذِهْنُهُ فَاسْتَوْحَشَ مِنْ الْخَلْقِ وَحْشَةً يَعْتَقِدُهَا أُنْسًا بِالْحَقِّ، فَأَعْرَضَ عَنْ مُجَالَسَةِ الْعُلَمَاءِ ظَنًّا مِنْهُ أَنْ قَدْ بَلَغَ الْمَقْصُودَ، فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تُعَكِّرُ أَوَّلًا الْمَطْلُوبَ مِنْ التَّعَبُّدِ فَيَنْقَطِعُ الْإِنْسَانُ بِضَعْفِ الْقُوَّةِ وَيَبْقَى، مُعَالِجًا لِلْأَمْرَاضِ فَيَشْتَغِلُ الْفِكْرُ فِيهَا عَمَّا هُوَ أَهَمُّ، وَلَقَدْ تَخَبَّطَ فِي هَذَا الْأَمْرِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ الصَّالِحِينَ صَحَّتْ مَقَاصِدُهُمْ وَجَهِلُوا الْجَادَّةَ فَمَشَوْا فِي غَيْرِهَا، وَفِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَمَلُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ عَاجِلَةِ الْمَرَضِ وَالْمَوْتَ، وَفِيهِمْ مَنْ رَجَعَ الْقَهْقَرَى، وَمِنْهُمْ مَنْ تَخَبَّطَ فَلَا مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَا مِنْ هَؤُلَاءِ. فَأَمَّا الْعُلَمَاءُ الْفُقَهَاءُ فَإِنَّهُمْ عَلَى قَانُونِ الْحِكْمَةِ سَبِيلِ الْعِلْمِ، فَإِيَّاكَ أَنْ تُعْرِضَ عَنْ الْجَادَّةِ السَّلِيمَةِ، وَاحْذَرْ مِنْ الِاقْتِدَاءِ بِجُهَّالِ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَزَهَّدِينَ

الَّذِينَ تَرَكُوا الدُّنْيَا عَلَى زَعْمِهِمْ، فَالصَّادِقُ مِنْهُمْ فِي تَرْكِهَا عَامِلٌ بِوَاقِعِهِ لَا بِالْعِلْمِ وَالْمُبَهْرَجُ مِنْهُمْ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ. وَمَنْ جَهْلِ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ لَوْ رَأَوْا عَامِلًا يَرْفُقُ بِنَفْسِهِ عَابُوهُ، وَلَوْ رَأَوْا عَلَيْهِ قَمِيصَ كَتَّانٍ قَالَ زَاهِدُهُمْ هَذَا مَا يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ؟ وَلَوْ رَأَوْهُ رَاكِبًا فَرَسًا قَالُوا هَذَا جَبَّارٌ فَإِيَّاكَ أَنْ تَحْمِلَك وَثْبَةُ عَزْمٍ عَلَى أَنْ تَرُومَ مَا لَا تَنَالُهُ فَتَزْلَقْ، وَإِنْ نِلْته أَثْمَرَ تَلَفًا أَوْ رَدَّ إلَى وَرَاءٍ، وَاسْتَضِئْ بِمِصْبَاحِ الْعِلْمِ، فَإِنْ قَلَّ عِلْمُك فَاقْتَدِ بِعَالِمٍ مُحَكَّمٍ وَرَاعِ بَدَنَك مُرَاعَاةَ الْمَطِيَّةِ، وَلْيَكُنْ هَمُّك تَقْوِيمَ أَخْلَاقِك، وَالْمَقْصُودُ صِدْقُ النِّيَّةِ لَا تَعْذِيبُ الْأَبْدَانِ. وَأَكْثَرُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ وَأَنَّ الْجَادَّةَ طَرِيقُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ أَيْضًا أَمَا تَرَى زُهَّادَ زَمَانِنَا إلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ يَغْشَاهُمْ أَبْنَاءُ الدُّنْيَا وَالظَّلَمَةُ فَلَا يَنْهَوْنَهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ إلَّا بِطَرَفِ اللِّسَانِ؟ أَيْنَ هَؤُلَاءِ مِنْ سُفْيَانَ حَيْثُ كَانَ لَا يُكَلِّمُ مَنْ يُكَلِّمُ ظَالِمًا؟ وَلَوْ قِيلَ لِزُهَّادِنَا اُخْرُجُوا فَاشْتَرُوا حَاجَةً مِنْ السُّوقِ صَعُبَ عَلَيْهِمْ حِفْظًا لِرِيَاسَتِهِمْ كَأَنَّهُمْ مَا عَلِمُوا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَشْتَرِي حَاجَتَهُ وَيَحْمِلُهَا بِنَفْسِهِ» ، وَلَوْ قِيلَ لِزُهَّادِ زَمَانِنَا كُلُوا مَعَنَا لُقْمَةً لَخَافُوا مِنْ انْكِسَارِ الْجَاهِ لِأَنَّ النَّاسَ يَعْتَقِدُونَ فِيهِمْ دَوَامَ الصَّوْمِ وَأَيْنَ هُمْ مِنْ مَعْرُوفٍ، أَصْبَحَ يَوْمًا صَائِمًا فَسَمِعَ سَاقِيًا يَقُولُ رَحِمَ اللَّهُ مَنْ شَرِبَ، فَشَرِبَ. فَقِيلَ لَهُ: أَمَا كُنْت صَائِمًا؟ فَقَالَ بَلَى، وَلَكِنْ رَجَوْت دَعْوَتَهُ: أَفْدِي ظِبَاءَ فَلَاةٍ مَا عَرَفْنَ بِهَا ... مَضْغَ الْكَلَامِ وَلَا صَبْغَ الْحَوَاجِيبِ وَلَا خَرَجْنَ مِنْ الْحَمَّامِ مَائِلَةً ... أَوْرَاكُهُنَّ صَقِيلَاتِ الْعَرَاقِيبِ حُسْنُ الْحَضَارَةِ مَجْلُوبٌ بِتَطْرِيَةٍ ... وَفِي الْبَدَاوَةِ حُسْنٌ غَيْرُ مَجْلُوبِ وَاَللَّهِ لَا يَبْقَى فِي الْقِيَامَةِ إلَّا الْإِخْلَاصُ، وَقَبْلَ الْقِيَامَةِ لَا يَبْقَى إلَّا ذِكْرُ

الْمُخْلِصِينَ، كَمْ حَوْلَ مَعْرُوفٍ مِنْ عَالِمٍ لَا يُعْرَفُ قَبْرُهُ، وَمِنْ زَاهِدٍ لَا يُدْرَى أَيْنَ هُوَ؟ وَمَعْرُوفٌ مَعْرُوفُ بِاَللَّهِ عَلَيْكُمْ اقْبَلُوا نُصْحِي يَا إخْوَانِي عَامِلُوا اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْبَاطِنِ حَتَّى لَا يُدْرَى أَنَّكُمْ أَهْلُ مُعَامَلَةٍ إلَى أَنْ قَالَ إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ مَعَهُ يُبْسُ الزُّهَّادِ وَحْدَهُ، وَلَا الِانْبِسَاطُ فِي الدُّنْيَا وَحْدَهُ بَلْ حَالُهُ جَامِعَةٌ لِكُلِّ صَالِحٍ إلَى أَنْ قَالَ إنَّ الرِّبَا يَكُونُ فِي التَّعَبُّدَاتِ فَالْعِلْمُ أَصْلُ كُلِّ خَيْرٍ، وَمَعْدِنُهُ أَخْلَاقُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَآدَابُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ أَيْضًا أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ سِيَرِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نُعَاشِرُهُمْ لَا نَرَى فِيهِمْ ذَا هِمَّةٍ عَالِيَةٍ فَيَقْتَدِيَ بِهَا الْمُبْتَدِئُ، وَلَا صَاحِبَ وَرَعٍ فَيَسْتَفِيدُ مِنْهُ الْمُتَزَهِّدُ، فَاَللَّهَ اللَّهَ، عَلَيْكُمْ بِمُلَاحَظَةِ سِيَرِ الْقَوْمِ وَمُطَالَعَةِ تَصَانِيفِهِمْ وَأَخْبَارِهِمْ، وَالِاسْتِكْثَارِ مِنْ مُطَالَعَةِ كُتُبِهِمْ رُؤْيَةً لَهُمْ كَمَا قَالَ: فَاتَنِي أَنْ أَرَى الدِّيَارَ بِطَرْفِي ... فَلَعَلِّي أَرَى الدِّيَارَ بِسَمْعِي وَإِنِّي أُخْبِرُ عَنْ حَالِي، مَا أَشْبَعُ مِنْ مُطَالَعَةِ الْكُتُبِ، وَإِذَا رَأَيْت كِتَابًا لَمْ أَرَهُ فَكَأَنِّي وَقَعْت عَلَى كَنْزٍ، فَلَوْ قُلْت إنِّي قَدْ طَالَعْت عِشْرِينَ أَلْفَ مُجَلَّدٍ كَانَ أَكْثَرَ، وَأَنَا بَعْدُ فِي طَلَبِ الْكُتُبِ فَاسْتَفَدْت بِالنَّظَرِ فِيهَا مُلَاحَظَةَ سِيَرِ الْقَوْمِ وَقَدْرَ هِمَمِهِمْ وَحِفْظِهِمْ وَعَادَاتِهِمْ وَغَرَائِبَ عُلُومٍ لَا يَعْرِفُهَا مَنْ لَمْ يُطَالِعْ.

فصل في من خاف من الله عز وجل

[فَصْلٌ فِي مَنْ خَافَ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ] فَصْلٌ: رَوَى أَبُو حَفْصٍ الْبَرْمَكِيُّ بِإِسْنَادٍ عَنْ عُمَرَ قَالَ مَنْ خَافَ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَشْفِ غَيْظَهُ، وَمَنْ اتَّقَى اللَّهَ لَمْ يَصْنَعْ مَا يُرِيدُ، وَلَوْلَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ كَانَ غَيْرَ مَا تَرَوْنَ. [فَصْلٌ أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يُزَوِّجَ رَجُلًا فَأَرَادَ أَنْ يَجْتَمِعَ لَهُ الدُّنْيَا وَالدِّينُ] فَصْلٌ: قَالَ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ سَمِعْت أَبَا بَكْرِ بْنَ مَلِيحٍ يَقُولُ بَلَغَنِي عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يُزَوِّجَ رَجُلًا فَأَرَادَ أَنْ يَجْتَمِعَ لَهُ الدُّنْيَا وَالدِّينُ فَلْيَبْدَأْ فَيَسْأَلْ عَنْ الدُّنْيَا، فَإِنْ حُمِدَتْ سَأَلَ عَنْ الدِّينِ فَإِنْ حُمِدَ فَقَدْ اجْتَمَعَا، وَإِنْ لَمْ يُحْمَدْ كَانَ فِيهِ رَدُّ الدُّنْيَا مِنْ أَجْلِ الدِّينِ، وَلَا يَبْدَأُ فَيَسْأَلُ عَنْ الدِّينِ فَإِنْ حُمِدَ ثُمَّ سَأَلَ عَنْ الدُّنْيَا فَلَمْ يُحْمَدْ. كَانَ فِيهِ رَدُّ الدِّينِ لِأَجْلِ الدُّنْيَا وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ حَسَّانَ كَتَبْت إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أُشَاوِرُهُ فِي التَّزْوِيجِ فَكَتَبَ إلَيَّ تَزَوَّجْ بِبِكْرٍ وَاحْرِصْ عَلَى. أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا أُمٌّ.

فصل في سنة المصافحة بين الرجال والنساء وما قيل في التقبيل والمعانقة

[فَصْلٌ فِي سُنَّةِ الْمُصَافَحَةِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَمَا قِيلَ فِي التَّقْبِيلِ وَالْمُعَانَقَةِ] وَتُسَنُّ الْمُصَافَحَةُ فِي اللِّقَاءِ لِلْخَبَرِ قَالَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادَةَ صَافَحْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَابْتَدَأَنِي بِالْمُصَافَحَةِ، وَرَأَيْتُهُ يُصَافِحُ النَّاسَ كَثِيرًا. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ دَخَلْتُ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَمَدَدْتُ يَدِي إلَيْهِ فَصَافَحَنِي. فَلَمَّا خَرَجْتُ قَالَ: مَا أَحْسَنَ أَدَبَ هَذَا الْفَتَى لَوْ انْكَبَّ عَلَيْنَا كُنَّا نَحْتَاجُ أَنْ نَقُومَ، وَصَافَحَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ابْنَ الْمُبَارَكِ بِيَدَيْهِ. وَاحْتَجَّ الْبُخَارِيُّ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّشَهُّدَ كَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ، فَتُصَافِحُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ وَالرَّجُلُ الرَّجُلَ، وَالْعَجُوزُ وَالْبَرْزَةُ غَيْرُ الشَّابَّةِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ مُصَافَحَتُهَا لِلرَّجُلِ ذَكَرَهُ فِي الْفُصُولِ وَالرِّعَايَةِ وَقَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: تَكْرَهُ مُصَافَحَةَ النِّسَاءِ قَالَ أَكْرَهُهُ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ كَمَا قَالَ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِهْرَانَ إنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُصَافِحُ الْمَرْأَةَ قَالَ: لَا وَشَدَّدَ فِيهِ جِدًّا قُلْت: فَيُصَافِحُهَا بِثَوْبِهِ قَالَ: لَا، قَالَ رَجُلٌ: فَإِنْ كَانَ ذَا مَحْرَمٍ قَالَ: لَا قُلْت: ابْنَتُهُ قَالَ: إذَا كَانَتْ ابْنَتَهُ فَلَا بَأْسَ، فَهَاتَانِ رِوَايَتَانِ فِي تَحْرِيمِ الْمُصَافَحَةِ وَكَرَاهَتِهَا لِلنِّسَاءِ، وَالتَّحْرِيمُ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ وَعَلَّلَ بِأَنَّ الْمُلَامَسَةَ أَبْلَغُ مِنْ النَّظَرِ وَيَتَوَجَّهُ تَفْصِيلٌ بَيْنَ الْمَحْرَمِ وَغَيْرِهِ، فَأَمَّا الْوَالِدُ فَيَجُوزُ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي هِجْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اشْتَرَى مِنْ عَازِبٍ رَحْلًا فَحَمَلَهُ مَعَهُ ابْنُهُ الْبَرَاءُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالَ الْبَرَاءُ: فَدَخَلْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ عَلَى أَهْلِهِ فَإِذَا عَائِشَةُ ابْنَتُهُ مُضْطَجِعَةٌ قَدْ أَصَابَتْهَا حُمَّى فَرَأَيْتُ أَبَاهَا يُقَبِّلُ خَدَّهَا

وَقَالَ: كَيْفَ أَنْتِ يَا بُنَيَّةُ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. وَذَكَرَ صَاحِبُ النَّظْمِ تُكْرَهُ مُصَافَحَةُ الْعَجُوزِ وَتَجُوزُ مُصَافَحَةُ الصَّبِيِّ لِمَنْ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ الثِّقَةَ إذَا قَصَدَ تَعْلِيمَهُ حُسْنَ الْخُلُقِ ذَكَرَهُ فِي الْفُصُولِ وَالرِّعَايَةِ وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ كَلَامُ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِ يَمْنَعُ ذَلِكَ، وَالْمُصَافَحَةُ شَرٌّ مِنْ النَّظَرِ. وَتُبَاحُ الْمُعَانَقَةُ وَتَقْبِيلُ الْيَدِ وَالرَّأْسِ تَدَيُّنًا وَإِكْرَامًا وَاحْتِرَامًا مَعَ أَمْنِ الشَّهْوَةِ، وَظَاهِرُ هَذَا عَدَمُ إبَاحَتِهِ لِأَمْرِ الدُّنْيَا، وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْكَرَاهَةُ أَوْلَى. وَكَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَقْبِيلُ رِجْلِهِ. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قُبْلَةِ الْيَدِ فَقَالَ: إنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِ التَّدَيُّنِ فَلَا بَأْسَ قَدْ قَبَّلَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَإِنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الدُّنْيَا فَلَا، إلَّا رَجُلًا يُخَافُ سَيْفُهُ أَوْ سَوْطُهُ. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ أَيْضًا: وَكَرِهَهَا عَلَى طَرِيقِ الدُّنْيَا، وَقَالَ تَمِيمُ بْنُ سَلَمَةَ التَّابِعِيُّ الْقُبْلَةُ سُنَّةٌ. وَقَالَ مُهَنَّا بْنُ يَحْيَى رَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ كَثِيرًا يُقَبِّلُ وَجْهَهُ وَرَأْسَهُ وَخَدَّهُ وَلَا يَقُولُ شَيْئًا، وَرَأَيْته لَا يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَكْرَه، وَرَأَيْت سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد الْهَاشِمِيَّ يُقَبِّلُ جَبْهَتَهُ وَرَأْسَهُ وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَكْرَهُهُ وَرَأَيْت يَعْقُوبَ بْنَ إبْرَاهِيمَ يُقَبِّلُ وَجْهَهُ وَجَبْهَتَهُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ رَأَيْت كَثِيرًا مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَبَنِي هَاشِمٍ وَقُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارَ يُقَبِّلُونَهُ يَعْنِي أَبَاهُ بَعْضُهُمْ يَدَيْهِ وَبَعْضُهُمْ رَأْسَهُ، وَيُعَظِّمُونَهُ تَعْظِيمًا لَمْ أَرَهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِأَحَدٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ غَيْرَهُ، لَمْ أَرَهُ يَشْتَهِي أَنْ يُفْعَلَ ذَلِكَ. وَقَالَ الْخَلَّالُ أَخْبَرَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ السَّرَّاجُ قَالَ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَوَّلَ مَا رَأَيْته يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ائْذَنْ لِي أَنْ أُقَبِّلَ رَأْسَك قَالَ: لَمْ أَبْلُغْ أَنَا ذَاكَ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ تُقَبَّلُ يَدُ الرَّجُلِ قَالَ: عَلَى الْإِخَاءِ. وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قُلْت: تَرَى أَنْ يُقَبِّلَ الرَّجُلُ رَأْسَ الرَّجُلِ أَوْ يَدَهُ؟ قَالَ نَعَمْ وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ تَقْبِيلُ الْيَدِ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَادُونَهُ إلَّا قَلِيلًا. وَذَكَرَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ عَنْ

ابْنِ عُمَرَ «أَنَّهُمْ لَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ مَوْتِهِ قَبَّلُوا يَدَهُ» ، وَرَخَّصَ فِيهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ عَلَى وَجْهِ الدِّينِ وَكَرِهَهُ آخَرُونَ كَمَالِكٍ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ: هِيَ السَّجْدَةُ الصُّغْرَى، وَأَمَّا ابْتِدَاءُ الْإِنْسَانِ بِمَدِّ يَدِهِ لِلنَّاسِ لِيُقَبِّلُوهَا وَقَصْدُهُ لِذَلِكَ فَهَذَا يُنْهَى عَنْهُ بِلَا نِزَاعٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُقَبِّلُ هُوَ الْمُبْتَدِئ بِذَلِكَ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَانَ يُقَالُ تَقْبِيلُ الْيَدِ إحْدَى السَّجْدَتَيْنِ، وَتَنَاوَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَدَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لِيُقَبِّلَهَا فَقَبَضَهَا، فَتَنَاوَلَ رِجْلَهُ فَقَالَ مَا رَضِيت مِنْك بِتِلْكَ فَكَيْفَ بِهَذِهِ؟ وَقَبَضَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ يَدَهُ مِنْ رَجُلٍ أَرَادَ أَنْ يُقَبِّلَهَا وَقَالَ مَهْ فَإِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ هَذَا مِنْ الْعَرَبِ إلَّا هَلُوعٌ، وَمِنْ الْعَجْمِ إلَّا خَضُوعٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ قُبْلَةُ يَدِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ طَاعَةٌ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قُبْلَةُ الْوَالِدِ عِبَادَةٌ وَقُبْلَةُ الْوَلَدِ رَحْمَةٌ، وَقُبْلَةُ الْمَرْأَةِ شَهْوَةٌ، وَقُبْلَةُ الرَّجُلِ إخَاءُ دِينٍ. وَفِي تَرْجَمَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُقَبِّلَ يَدَ الْمَنْصُورِ فَمَنَعَهُ وَقَالَ نُكْرِمُك عَنْهَا وَنُكْرِمُهَا عَنْ غَيْرِك. وَصَرَّحَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِأَنَّ تَقْبِيلَ يَدِ الظَّالِمِ مَعْصِيَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَ خَوْفٍ وَقَالَ فِي مَنَاقِبِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ يَنْبَغِي لِلطَّالِبِ أَنْ يُبَالِغَ فِي التَّوَاضُعِ لِلْعَالِمِ وَيُذِلَّ نَفْسَهُ لَهُ قَالَ وَمِنْ التَّوَاضُعِ لِلْعَالَمِ تَقْبِيلُ يَدِهِ، وَقَبَّلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَالْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ أَحَدُهُمَا يَدَ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ الْجُعْفِيِّ وَالْآخَرُ رِجْلَهُ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ: إنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ احْتَجَّ فِي الْمُعَانَقَةِ بِحَدِيثِ «أَبِي ذَرٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَانَقَهُ» قَالَ: وَسَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يَلْقَى الرَّجُلَ يُعَانِقُهُ قَالَ نَعَمْ فَعَلَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ. وَقَالَ فِي الْإِرْشَادِ الْمُعَانَقَةُ عِنْدَ الْقُدُومِ مِنْ السَّفَرِ حَسَنَةٌ وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فَقَيَّدَهَا بِالْقُدُومِ مِنْ السَّفَرِ وَقَالَ الْقَاضِي أُطْلِقَ وَالْمَنْصُوصُ فِي السَّفَرِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ فِي السُّنَنِ الْكَبِيرِ أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرِ بْنُ قَتَادَةَ أَنْبَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ إسْمَاعِيلَ السَّرَّاجُ ثنا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الْقَاضِي ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ يَعْقُوبَ

ثنا شُعْبَةُ عَنْ غَالِبٍ التَّمَّارِ قَالَ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ يَكْرَهُ الْمُصَافَحَةَ وَذَكَرْت ذَلِكَ لِلشَّعْبِيِّ فَقَالَ كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا الْتَقَوْا صَافَحُوا، فَإِذَا قَدِمُوا مِنْ السَّفَرِ عَانَقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إسْنَادٌ جَيِّدٌ. وَتُكْرَهُ مُصَافَحَةُ الْكَافِرِ وَذَكَرَ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَوِيُّ مُعَانَقَةَ الْقَادِمِ مِنْ السَّفَرِ مُسْتَحَبَّةٌ وَأَنَّ الِانْحِنَاءَ مَكْرُوهٌ وَأَنَّ تَقْبِيلَ يَدِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ مُسْتَحَبٌّ. وَقَالَ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ أَبُو الْمَعَالِي فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ تُسْتَحَبُّ زِيَارَةُ الْقَادِمِ وَمُعَانَقَتُهُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ قَالَ وَإِكْرَامُ الْعُلَمَاءِ وَأَشْرَافُ الْقَوْمِ بِالْقِيَامِ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ قَالَ وَيُكْرَهُ أَنْ يَطْمَعَ فِي قِيَام النَّاسِ لَهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ النَّاسُ لَهُ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ " صُفُوفًا " كَذَا قَالَ وَسَبَقَ فِي الْقِيَامِ مَا ظَاهِرُهُ أَوْ صَرِيحُهُ التَّحْرِيمُ لِهَذَا الْخَبَرِ قَالَ أَبُو الْمَعَالِي وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ الْمُلُوكُ مِنْ اسْتِدَامَةِ قِيَامِ النَّاسِ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ يُرَاوِحُ بَيْنَ رِجْلَيْهِ كَمَا تَقِفُ الدَّابَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَتُرِيحُ وَاحِدَةً قَالَ: فَأَمَّا تَقْبِيلُ يَدِ الْعَالِمِ وَالْكَرِيمِ لِرِفْدِهِ وَالسَّيِّدِ لِسُلْطَانِهِ فَجَائِزٌ، فَأَمَّا إنْ قَبَّلَ يَدَهُ لِغِنَاهُ فَقَدْ رُوِيَ مَنْ تَوَاضَعَ لِغَنِيٍّ لِغِنَاهُ فَقَدْ ذَهَبَ ثُلُثَا دِينِهِ وَقَالَ التَّحِيَّةُ بِانْحِنَاءِ الظَّهْرِ جَائِزٌ وَقِيلَ هُوَ سُجُودُ الْمَلَائِكَةِ لِآدَمَ، وَقِيلَ السُّجُودُ حَقِيقَةً. وَلَمَّا قَدِمَ ابْنُ عُمَرَ الشَّامَ حَيَّاهُ أَهْلُ الذِّمَّةِ كَذَلِكَ فَلَمْ يَنْهَهُمْ وَقَالَ هَذَا تَعْظِيمٌ لِلْمُسْلِمِينَ انْتَهَى كَلَامُهُ وَفِي بَعْضِهِ نَظَرٌ. وَأَمَّا السُّجُودُ إكْرَامًا وَإِعْظَامًا فَلَا يَجُوزُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَخْبَارُ الْمَشْهُورَةُ. وَأَمَّا تَقْبِيلُ الْأَرْضِ فَقَالَ صَاحِبُ النَّظْمِ: يُكْرَهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ السُّجُودَ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِسُجُودٍ لِأَنَّ السُّجُودَ الشَّرْعِيَّ وَضْعُ الْجَبْهَةِ بِالْأَرْضِ عَلَى طَهَارَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ إلَى جِهَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَهَذَا إنَّمَا يُصِيبُ

الْأَرْضَ مِنْهُ فَمُهُ وَذَلِكَ لَا يُجْزِئُ فِي السُّجُودِ انْتَهَى كَلَامُهُ وَهَذَا لَا يُفْعَلُ غَالِبًا إلَّا لِلدُّنْيَا، وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ النَّظْمِ أَنَّهُ يُكْرَهُ الِانْحِنَاءُ مُسَلِّمًا وَذَكَرَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيُّ الْحَنْبَلِيُّ الْمَشْهُورُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} [يوسف: 100] . أَنَّهُمْ سَجَدُوا لِيُوسُفَ إكْرَامًا وَتَحِيَّةً، وَأَنَّهُ «كَانَ يُحَيِّي بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِذَلِكَ وَبِالِانْحِنَاءِ فَحَظَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرَ الْخَبَرَ الْآتِي أَيَنْحَنِي لَهُ قَالَ: لَا» ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَلَمْ يُخَالِفْهُ فَدَلَّ عَلَى الْمُوَافَقَةِ فَهَذِهِ ثَلَاثُ أَقْوَالٍ. وَجَزَمَ فِي كِتَابِ الْهَدْي بِتَحْرِيمِ السُّجُودِ وَالِانْحِنَاءِ وَالْقِيَامِ عَلَى الرَّأْسِ وَهُوَ جَالِسٌ، وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ وَهُوَ قَاعِدٌ وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ تَكْبِيرَهُ فَالْتَفَتَ إلَيْنَا فَرَآنَا قِيَامًا فَأَشَارَ إلَيْنَا فَقَعَدْنَا فَصَلَّيْنَا بِصَلَاتِهِ قُعُودًا. فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: إنْ كِدْتُمْ آنِفًا لَتَفْعَلُونَ فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ، فَلَا تَفْعَلُوا ائْتَمُّوا بِأَئِمَّتِكُمْ إنْ صَلَّوْا قِيَامًا فَصَلُّوا قِيَامًا وَإِنْ صَلَّوْا قُعُودًا فَصَلُّوا قُعُودًا» ؛ فَهَذَا نَهْيٌ، وَظَاهِرُهُ التَّحْرِيمُ لَا سِيَّمَا مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ قَائِمًا خَلْفَ قَاعِدٍ، وَاحْتَجُّوا بِهَذَا النَّهْي. وَقَالَ الْحَافِظُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ الْأَخْضَرِ فِيمَنْ رَوَى عَنْ أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْمُثَنَّى أَبُو جَعْفَرٍ الْبَزَّارُ قَالَ: أَتَيْت ابْنَ حَنْبَلٍ فَجَلَسْت عَلَى بَابِهِ أَنْتَظِرُ خُرُوجَهُ فَلَمَّا خَرَجَ قُمْت إلَيْهِ فَقَالَ لِي أَمَا عَلِمْت أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» فَقُلْت: إنَّمَا قُمْت إلَيْك، فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ انْتَهَى كَلَامُهُ، وَمَدْلُولُ هَذَا وَاضِحٌ فَإِنَّ النَّهْيَ دَلَّ عَلَى الْقِيَامِ لَهُ، وَمَنْ قَامَ إلَيْهِ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ النَّهْيُ مَعَ أَنَّ النَّهْيَ لِمَنْ أَحَبَّ ذَلِكَ وَسَبَقَ الْكَلَامُ فِي الْقِيَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْدَ فُصُولِ السَّلَامِ (فَصْلٌ فِي ذِكْرِ الْقِيَامِ) . وَيُكْرَهُ تَقْبِيلُ الْفَمِ؛ لِأَنَّهُ قَلَّ أَنْ يَقَعَ كَرَامَةً، وَنَزْعُ يَدِهِ مِنْ يَدِ مَنْ صَافَحَهُ

قَبْلَ نَزْعِهِ هُوَ، إلَّا مَعَ حَيَاءٍ أَوْ مَضَرَّةِ التَّأْخِيرِ، ذَكَرَهُ فِي الْفُصُولِ وَالرِّعَايَةِ وَقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ وَلَا يَنْزِعُ يَدَهُ حَتَّى يَنْزِعَ الْآخَرُ يَدَهُ إذَا كَانَ هُوَ الْمُبْتَدِئُ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ الضَّابِطُ أَنَّ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْآخَرَ يَنْزِعُ أَمْسَكَ، وَإِلَّا فَلَوْ اُسْتُحِبَّ الْإِمْسَاكُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَفْضَى إلَى دَوَامِ الْمُعَاقَدَةِ، لَكِنَّ تَقْيِيدَ عَبْدِ الْقَادِرِ حَسَنٌ أَنَّ النَّازِعَ هُوَ الْمُبْتَدِئُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ ثنا أَبُو قَطَنٍ أَنْبَأَنَا مُبَارَكٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «مَا رَأَيْت رَجُلًا الْتَقَمَ أُذُنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيُنَحِّي رَأْسَهُ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ يُنَحِّي رَأْسَهُ وَمَا رَأَيْت رَجُلًا أَخَذَ بِيَدِهِ فَتَرَك يَدَهُ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يَدَعُ يَدَهُ.» مُبَارَكٌ هُوَ ابْنُ فُضَالَةَ ثِقَةٌ مُدَلِّسٌ. وَقَالَ أَيْضًا بَابٌ (فِي الْمُعَانَقَةِ) ثُمَّ رَوَى مِنْ رِوَايَةِ أَيُّوبَ بْنِ بِشْرِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ عَنَزَةَ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَافِحُكُمْ إذَا لَقِيتُمُوهُ قَالَ مَا لَقِيته قَطُّ إلَّا صَافَحَنِي، وَبَعَثَ إلَيَّ يَوْمًا فَلَمْ أَكُنْ فِي أَهْلِي فَلَمَّا جِئْت أُخْبِرْت أَنَّهُ أَرْسَلَ إلَيَّ فَأَتَيْته وَهُوَ عَلَى سَرِيرِهِ فَالْتَزَمَنِي فَكَانَتْ تِلْكَ أَجْوَدُ وَأَجْوَدُ هَذَا الرَّجُلُ مَجْهُولٌ وَأَيُّوبُ رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ. وَقَالَ ابْنُ خِرَاشٍ مَجْهُولٌ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ «قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ مِنَّا يَلْقَاهُ أَخُوهُ أَوْ صَدِيقُهُ أَيَنْحَنِي لَهُ قَالَ: لَا قَالَ أَفَيَلْتَزِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ قَالَ: لَا قَالَ فَيَأْخُذُ بِيَدِهِ وَيُصَافِحُهُ قَالَ نَعَمْ» وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ الْمُرَادِيِّ وَحَدِيثُهُ حَسَنٌ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ «قَالَ يَهُودِيٌّ لِصَاحِبِهِ اذْهَبْ بِنَا إلَى هَذَا النَّبِيِّ قَالَ: فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَاهُ عَنْ تِسْعِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى قَوْلِهِ: فَقَبَّلُوا يَدَهُ وَرِجْلَهُ وَقَالَا: نَشْهَدُ إنَّك نَبِيٌّ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى ثنا مَطَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْنَقُ حَدَّثَتْنِي أُمُّ أَبَانَ بِنْتُ الْوَازِعِ بْنِ زَارِعٍ عَنْ جَدِّهَا زَارِعٍ كَانَ فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقِيسِ

قَالَ «لَمَّا جِئْنَا الْمَدِينَةَ فَجَعَلْنَا نَتَبَادَرُ مِنْ رَوَاحِلِنَا فَنُقَبِّلُ يَدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرِجْلَيْهِ قَالَ: وَانْتَظَرْنَا الْمُنْذِرَ الْأَشَجَّ حَتَّى أَتَى مِنْ غَيْبَتِهِ فَلَبِسَ ثَوْبَهُ ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّ فِيك خُلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ» الْحَدِيثَ أُمُّ أَبَانَ تَفَرَّدَ عَنْهَا مَطَرٌ. وَرُوِيَ أَيْضًا ثنا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ أَنْبَأَنَا خَالِدٌ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ قَالَ: «بَيْنَمَا هُوَ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ وَكَانَ فِيهِ مِزَاحٌ يُضْحِكُهُمْ فَطَعَنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خَاصِرَتِهِ بِعُودٍ فَقَالَ: اصْبِرْنِي. فَقَالَ: اصْطَبِرْ قَالَ: إنَّ عَلَيْك قَمِيصًا وَلَيْسَ عَلَيَّ قَمِيصٌ، فَرَفَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَمِيصِهِ فَاحْتَضَنَهُ وَجَعَلَ يُقَبِّلُ كَشْحَهُ قَالَ: إنَّمَا أَرَدْتُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ» . إسْنَادُهُ ثِقَاتٌ، وَمَاتَ أُسَيْدٌ وَلِعَبْدِ الرَّحْمَنِ نَحْوُ ثَلَاثِ سِنِينَ تَرْجَمَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُد بَابٌ (فِي قُبْلَةِ الْجَسَدِ) أَيْ أَقِدْنِي مِنْ نَفْسِك قَالَ اسْتَقِدْ يُقَالُ صَبَرَ فُلَانٌ مِنْ خَصْمِهِ وَاصْطَبَرَ أَيْ اقْتَصَّ مِنْهُ، وَأَصْبَرَهُ الْحَاكِمُ أَيْ قَصَّهُ مِنْ خَصْمِهِ. وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمَدِينَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِي فَآتَاهُ فَقَرَعَ الْبَابَ فَقَامَ إلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجُرُّ ثَوْبَهُ فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ فَقَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ إنَّ لِي عَشْرَةً مِنْ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْت مِنْهُمْ أَحَدًا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ الْبَرَاءِ مَرْفُوعًا «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَجْلَحِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.

وَعَنْ الْبَرَاءِ مَرْفُوعًا «إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ فَتَصَافَحَا وَحَمِدَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَاسْتَغْفَرَا غُفِرَ لَهُمَا» إسْنَادُهُ حَسَنٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ «لَمَّا جَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَدْ جَاءَكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ جَاءَ بِالْمُصَافَحَةِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَسَأَلَهُ قَتَادَةَ أَكَانَتْ الْمُصَافَحَةُ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ نَعَمْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ تَصَافَحُوا يَذْهَبُ الْغِلُّ، وَتَهَادَوْا تَحَابُّوا تَذْهَبُ الشَّحْنَاءُ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: الْمُصَافَحَةُ تَجْلِبُ الْمَوَدَّةَ، وَقَدْ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الرَّازِيّ فِيمَا أَلَّفَهُ فِي ابْتِدَاءِ الشَّافِعِيِّ وَلَقِيَهُ مَالِكٌ أَخْبَرَنِي أَبُو رَافِعٍ أُسَامَةُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ سَعْدٍ بِمِصْرَ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ قَالَ: سَأَلْت الشَّافِعِيَّ عَنْ الِاعْتِنَاقِ فِي الْحَمَّامِ لِلْغَائِبِ، فَقَالَ: لَا يَجُوزُ لَا دَاخِلَ وَلَا خَارِجَ قَالَ وَكَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ الْمُصَافَحَةَ فَكَيْفَ الِاعْتِنَاقُ وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ اتَّفَقُوا أَنَّ مُصَافَحَةَ الرَّجُلِ حَلَالٌ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «خَرَجْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي طَائِفَةٍ مِنْ النَّهَارِ لَا يُكَلِّمُنِي وَلَا أُكَلِّمُهُ حَتَّى جَاءَ سُوقَ بَنِي قَيْنُقَاعَ ثُمَّ انْصَرَفَ حَتَّى أَتَى خِبَاءَ فَاطِمَةَ فَقَالَ: أَثَمَّ لُكَعُ؟ أَثَمَّ لُكَعُ يَعْنِي حَسَنًا فَظَنَنَّا أَنَّهُ إنَّمَا تَحْبِسُهُ أَمَةٌ لَأَنْ تُغَسِّلَهُ وَتُلْبِسَهُ سِخَابًا فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ يَسْعَى حَتَّى اعْتَنَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللَّهُمَّ إنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ» قَوْلُهُ فِي طَائِفَةٍ: أَيْ قِطْعَةٍ مِنْهُ وَقَيْنُقَاعَ مُثَلَّثُ النُّونِ، وَلُكَعُ هُنَا الصَّغِيرُ، وَالْخِبَاءُ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَالْمَدِّ بَيْتُهَا. وَالسِّخَابُ بِكَسْرِ السِّينِ جَمْعُهُ سُخُبُ الْقِلَادَةِ مِنْ الْقُرُنْفُلِ وَالْمِسْكِ وَالْعُودِ وَنَحْوِهَا مِنْ أَخْلَاطِ الطِّيبِ يُعْمَلُ عَلَى هَيْئَةِ السُّبْحَةِ وَيُجْعَلُ قِلَادَةً لَلصِّبْيَانِ وَالْجَوَارِي. وَقِيلَ هُوَ خَيْطٌ سُمِّيَ سِخَابًا لِصَوْتِ خَرَزِهِ عِنْدَ حَرَكَتِهِ مِنْ السَّخَبِ بِفَتْحِ السِّينِ وَالْخَاءِ وَيُقَالُ الصَّخَبُ وَهُوَ اخْتِلَاطُ الْأَصْوَاتِ. وَفِيهِ جَوَازُ لِبَاسِ الصِّبْيَانِ الْقَلَائِدَ

وَالسُّخُبَ مِنْ الزِّينَةِ، وَتَنْظِيفِهِمْ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ لِقَاءَ أَهْلِ الْفَضْلِ، وَمُلَاطَفَةِ الصَّبِيِّ وَالتَّوَاضُعِ. وَكَرِهَ مَالِكٌ مُعَانَقَةَ الْقَادِمِ مِنْ سَفَرٍ وَقَالَ بِدْعَةٌ، وَاعْتَذَرَ عَنْ فِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ بِجَعْفَرٍ حِين قَدِمَ بِأَنَّهُ خَاصٌّ لَهُ، فَقَالَ لَهُ سُفْيَانُ مَا تَخُصُّهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ فَسَكَتَ مَالِكٌ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَسُكُوتُهُ دَلِيلٌ لِتَسْلِيمِ قَوْلِ سُفْيَانَ وَمُوَافَقَتِهِ وَهُوَ الصَّوَابُ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى التَّخْصِيصِ.

فصل في تقبيل المحارم من النساء في الجبهة والرأس

[فَصْلٌ فِي تَقْبِيلِ الْمَحَارِمِ مِنْ النِّسَاءِ فِي الْجَبْهَةِ وَالرَّأْسِ] قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ يُقَبِّلُ الرَّجُلُ ذَاتَ مَحْرَمٍ مِنْهُ؟ قَالَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ وَلَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ، وَذَكَرَ حَدِيثَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ كَمَا قَالَ «النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَدِمَ مِنْ الْغَزْوِ فَقَبَّلَ فَاطِمَةَ» وَلَكِنْ لَا يَفْعَلُهُ عَلَى الْفَمِ أَبَدًا، الْجَبْهَةِ أَوْ الرَّأْسِ. وَقَالَ بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَسُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُقَبِّلُ أُخْتَهُ؟ قَالَ قَدْ قَبَّلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ أُخْتَهُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُشْبِهُ مَسْأَلَةَ الْمُصَافَحَةِ لِذِي مَحْرَمٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْقِيَامِ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي تَقْبِيلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِفَاطِمَةَ.

فصل في التناجي وكلام السر وأمانة المجالس

[فَصْلٌ فِي التَّنَاجِي وَكَلَامِ السِّرِّ وَأَمَانَةِ الْمَجَالِسِ] ِ) وَيُكْرَهُ أَنْ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ ثَالِثِهِمَا قَالَ فِي الرِّعَايَةِ وَقَالَ فِي الْمُجَرَّدِ وَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ، وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ التَّحْرِيمُ وَجَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَرْفُوعًا «لَا يَحِلُّ لِثَلَاثَةٍ يَكُونُونَ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّهْي عَامٌّ وِفَاقًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَخَصَّهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِالسَّفَرِ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ وَأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَمُرَادُهُمْ جَمَاعَةٌ دُونَ وَاحِدٍ، وَأَنَّهُ إنْ أَذِنَ فَلَا نَهْيَ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ. وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ النَّظْمِ يُكْرَهُ أَنْ يَتَنَاجَى الْجَمِيعُ دُونَ مُفْرَدٍ وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ وَأَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ فِي سِرِّ قَوْمٍ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِيهِ وَالْجُلُوسُ وَالْإِصْغَاءُ إلَى مَنْ يَتَحَدَّثُ سِرًّا بِدُونِ إذْنِهِ، وَقِيلَ يَحْرُمُ وَظَاهِرُهُ عَوْدُهُ إلَى مَا تَقَدَّمَ وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْمُجَرَّدِ وَالْفُصُولِ وَعُيُونِ الْمَسَائِلِ، وَإِنْ كَانَ إذْنُهُ اسْتِحْيَاءً فَذَكَرَ صَاحِبُ النَّظْمِ يُكْرَهُ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ مَنْ أَعْطَى مَالًا حَيَاءً لَمْ يَجُزْ الْأَخْذُ قَالَ فِي الرِّعَايَةِ وَهُوَ مَعْنَى الْفُصُولِ. وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِمَاعُ إلَى كَلَامِ قَوْمٍ يَتَشَاوَرُونَ وَيَجِبُ حِفْظُ سِرِّ مَنْ يَلْتَفِتُ فِي حَدِيثِهِ حَذَرًا مِنْ إشَاعَتِهِ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُسْتَوْدَعِ لِحَدِيثِهِ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَطَاءٍ وَهُوَ ثِقَةٌ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِيهِ نَظَرٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَرْفُوعًا «إذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ بِالْحَدِيثِ ثُمَّ الْتَفَتَ فَإِذًا هِيَ أَمَانَةٌ» ثُمَّ قَالَ أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ قَرَأْت عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ ابْنِ أَخِي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ إلَّا ثَلَاثَةُ مَجَالِسَ: سَفْكُ دَمٍ حَرَامٍ

وَفَرْجٌ حَرَامٌ، وَاقْتِطَاعُ مَالٍ بِغَيْرِ حَقٍّ» وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثٍ أَبِي الدَّرْدَاءِ «مَنْ سَمِعَ مِنْ رَجُلٍ حَدِيثًا لَا يَشْتَهِي أَنْ يُذْكَرَ عَنْهُ فَهُوَ أَمَانَةٌ وَإِنْ لَمْ يَسْتَكْتِمْهُ» وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْوَلِيدِ الْوَصَّافِيِّ بِتَشْدِيدِ الصَّادِ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ. وَلَهُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «مَا خَطَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا قَالَ: لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ» . وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَتَى السَّاعَةُ قَالَ: إذَا ضُيِّعَتْ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ قَالَ كَيْفَ إضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ» . وَسَبَقَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ عِنْدَ ذِكْرِ الْغِيبَةِ وَالْكَذِبِ أَنَّهُ يَحْرُمُ إفْشَاءُ السِّرِّ زَادَ فِي الرِّعَايَةِ: الْمُصَرِّ. وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَالصَّحِيحَيْنِ أَنَّ بِلَالًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَخْبَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْمَرْأَةِ الْأَنْصَارِيَّةِ لَمَّا سَأَلَهُ " مَنْ هُمَا؟ " بَعْدَ قَوْلِهِمَا لَا تُخْبِرْهُ مَنْ، نَحْنُ، وَكَانَتَا تَسْتَفْتِيَانِهِ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ جَوَابُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاجِبٌ وَلَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَإِذَا تَعَارَضَتْ الْمَصَالِحُ بُدِئَ بِأَهَمِّهَا وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْخَبَرَ الْمَرْوِيَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَسَرَّ إلَى أَخِيهِ سِرًّا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يُفْشِيَهُ عَلَيْهِ» وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَا بُنَيَّ إنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِيك يَعْنِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَاحْفَظْ عَنِّي ثَلَاثًا: لَا تُفْشِيَنَّ لَهُ سِرًّا، وَلَا تَغْتَابَنَّ عِنْدَهُ أَحَدًا، وَلَا يَطَّلِعَنَّ مِنْك عَلَى كِذْبَةٍ. وَقَالَ أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيٍّ: إنَّ سِرَّك مِنْ دَمِك فَانْظُرْ أَيْنَ تُرِيقُهُ وَكَانَ يُقَالُ أَكْثَرُ مَا يُتِمُّ التَّدْبِيرَ الْكِتْمَانُ وَلِهَذَا كَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذَا أَرَادَ غَزْوَةً وَرَّى بِغَيْرِهَا. قَالَ الشَّاعِرُ: وَسِرُّك مَا كَانَ عِنْدَ امْرِئٍ ... وَسِرُّ الثَّلَاثَةِ غَيْرُ الْخَفِيِّ وَقَالَ آخَرُ: فَلَا تُخْبِرْ بِسِرِّك كُلُّ سِرٍّ ... إذَا مَا جَاوَزَ الِاثْنَيْنِ فَاشِ

وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّ السِّرَّ مَا أَسْرَرْته فِي نَفْسِك وَلَمْ تُبْدِهِ إلَى أَحَدٍ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مَا اسْتَوْدَعْت رَجُلًا سِرًّا فَأَفْشَاهُ فَلُمْته لِأَنِّي كُنْت أَضْيَقَ صَدْرًا مِنْهُ حَيْثُ اسْتَوْدَعْته إيَّاهُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْقَائِلُ: إذَا ضَاقَ صَدْرُ الْمَرْءِ عَنْ سِرِّ نَفْسِهِ ... فَصَدْرُ الَّذِي يُسْتَوْدَعُ السِّرَّ أَضْيَقُ وَأَنْشَدَ بَعْضُ الْأَعْرَابِ: وَلَا أَكْتُمُ الْأَسْرَارَ لَكِنْ أَبُثُّهَا ... وَلَا أَدَعُ الْأَسْرَارَ تَقْتُلُنِي غَمَّا وَإِنَّ سَخِيفَ الرَّأْيِ مَنْ بَاتَ لَيْلَةً ... حَزِينًا بِكِتْمَانٍ كَأَنَّ بِهِ حُمَّى وَفِي بَثِّك الْأَسْرَارَ لِلْقَلْبِ رَاحَةٌ ... وَتَكْشِفُ بِالْإِفْشَاءِ عَنْ قَلْبِك الْهَمَّا وَقَالَ آخَرُ: وَلَا أَكْتُمُ الْأَسْرَارَ لَكِنْ أُذِيعُهَا ... وَلَا أَدَعُ الْأَسْرَارَ تَغْلِي عَلَى قَلْبِي وَإِنَّ ضَعِيفَ الْقَلْبِ مَنْ بَاتَ لَيْلَةً ... تُقَلِّبُهُ الْأَسْرَارُ جَنْبًا عَلَى جَنْبِ وَكَانَ يُقَالُ لَا تُطْلِعُوا النِّسَاءَ عَلَى سِرِّكُمْ، يَصْلُحُ لَكُمْ أَمْرُكُمْ وَكَانَ يُقَالُ كُلُّ شَيْءٍ تَكْتُمُهُ عَنْ عَدُوِّك فَلَا تُظْهِرْ عَلَيْهِ صَدِيقَك. قَالَ الشَّاعِرُ: إذَا كَتَمَ الصَّدِيقُ أَخَاهُ سِرًّا ... فَمَا فَضْلُ الْعَدُوِّ عَلَى الصَّدِيقِ وَقَالَ آخَرُ: أُدَارِي خَلِيلِي مَا اسْتَقَامَ بِوُدِّهِ ... وَأَمْنَحُهُ وُدِّي إذَا يَتَجَنَّبُ وَلَسْت بِبَادٍ صَاحِبِي بِقَطِيعَةٍ ... وَلَا أَنَا مُبْدٍ سِرَّهُ حِينَ يَغْضَبُ وَقَالَ آخَرُ: إذَا مَا ضَاقَ صَدْرُك عَنْ حَدِيثٍ ... فَأَفْشَتْهُ الرِّجَالُ فَمَنْ تَلُومُ

إذَا عَاتَبْتُ مَنْ أَفْشَى حَدِيثِي ... وَسِرِّي عِنْدَهُ فَأَنَا الظَّلُومُ وَإِنِّي حِينَ أَسْأَمُ حَمْلَ سِرِّي ... وَقَدْ ضَمَّنْته صَدْرِي سَئُومُ وَلَسْت مُحَدِّثًا سِرِّي خَلِيلًا ... وَلَا عِرْسِي إذَا خَطَرَتْ هُمُومُ وَأَطْوِي السِّرَّ دُونَ النَّاسِ إنِّي ... لِمَا اسْتَوْدَعْت مِنْ سِرِّي كَتُومُ وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ،» وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا «إذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى رَجُلَانِ دُونَ الْآخَرِ حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُحْزِنَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.

فصل ما يستحب فعله لإسكات الغضب

[فَصْلٌ مَا يُسْتَحَبُّ فِعْلُهُ لِإِسْكَاتِ الْغَضَبِ] ِ) قَالَ الْقَاضِي وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ غَضِبَ إنْ كَانَ قَائِمًا جَلَسَ، وَإِذَا كَانَ جَالِسًا اضْطَجَعَ وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ غَضِبَ أَنْ يُغَيِّرَ، فَإِنْ كَانَ جَالِسًا قَامَ وَاضْطَجَعَ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا مَشَى، وَقَوْلُ الْقَاضِي هُوَ الصَّوَابُ قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَهُوَ كَمَا قَالَ وَلِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ «إذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ» إسْنَادُهُ صَحِيحٌ «وَقَدْ اسْتَبَّ رَجُلَانِ عِنْد النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاشْتَدَّ غَضَبُ أَحَدِهِمَا فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ فَفِي خَبَرِ مُعَاذٍ اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. وَفِي خَبَرِ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ أَعُوذُ بِك مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ قَالَ فِي خَبَرِ مُعَاذٍ فَأَبَى وَمَحِكَ وَجَعَلَ يَزْدَادُ غَضَبًا. وَفِي خَبَرِ سُلَيْمَانَ فَقَالَ الرَّجُلُ هَلْ تَرَى بِي مِنْ جُنُونٍ» رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ خَبَرَ سُلَيْمَانَ وَرَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ خَبَرَ مُعَاذٍ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَوَضَّأَ لِخَبَرِ عَطِيَّةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ الْغَضَبَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنْ النَّارِ وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ.

فصل في الدعاء وآدابه والإسرار والجهر به

[فَصْلٌ فِي الدُّعَاءِ وَآدَابِهِ وَالْإِسْرَارِ وَالْجَهْرِ بِهِ] ِ) يُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالدُّعَاءِ مُطْلَقًا قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: يَنْبَغِي أَنْ يُسِرَّ دُعَاءَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] . قَالَ هَذَا الدُّعَاءُ قَالَ: وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ وَكَانَ يُكْرَهُ أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالدُّعَاءِ لَا سِيَّمَا عِنْد شِدَّةِ الْحَرْبِ وَحَمْلِ الْجِنَازَةِ وَالْمَشْيِ بِهَا وَقِيلَ يُسَنُّ أَنْ يَسْمَعَ الْمَأْمُومُ الدُّعَاءَ. قَدَّمَهُ ابْنُ تَمِيمٍ، وَقِيلَ مَعَ قَصْدِ تَعْلِيمِهِ وَلَا يَجِبُ لَهُ الْإِنْصَاتُ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ ذَكَرَهُ ابْنُ تَمِيمٍ وَابْنُ حَمْدَانَ، وَقِيلَ خَفْضُ الصَّوْتِ بِالدُّعَاءِ أَوْلَى قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ يُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالدُّعَاءِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُخْفِيَ ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] . فَأَمَرَ بِذَلِكَ. وَعَنْ سَعْدٍ مَرْفُوعًا «خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ وَخَيْرُ الرِّزْقِ مَا يَكْفِي» رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إذَا ذَكَرَنِي» وَلِأَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ «أَنَا مَعَ عَبْدِي إذَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ» وَلِأَحْمَدَ «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي إنْ ظَنَّ بِي خَيْرًا فَلَهُ، وَإِنْ ظَنَّ بِي شَرًّا فَلَهُ» قَوْلُهُ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إذَا دَعَانِي» وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ الْجَوْزِيِّ وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ أَبِي الْمَلِيحِ الْفَارِسِيِّ وَضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ لَمْ يَسْأَلْ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ» وَعَنْهُ أَيْضًا مَرْفُوعًا «لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْ الدُّعَاءِ» وَفِيهِ عِمْرَانُ الْقَطَّانُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ قَالَ التِّرْمِذِيُّ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا

مِنْ حَدِيثِهِ، رَوَاهُمَا التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. وَرَوَى أَحْمَدُ الثَّانِيَ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ. وَرَوَى أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيِّ ثنا مَسْرُوقُ بْنُ الْمَرْزُبَانِ ثنا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجِزَ بِالدُّعَاءِ، وَأَبْخَلُ النَّاسِ مَنْ بَخِلَ بِالسَّلَامِ» حَدِيثٌ حَسَنٌ وَمَسْرُوقٌ وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ لَيْسَ بِقَوِيٍّ، يَكْتُبُ حَدِيثَهُ وَيُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ عِنْدَ حَمْلِ الْجِنَازَةِ وَعِنْدَ شِدَّةِ الْقِتَالِ، وَلَا يُكْرَهُ الْإِلْحَاحُ بِهِ لِلْأَثَرِ ذَكَرَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَدُعَاءُ الرَّغْبَةِ بِبَطْنِ الْكَفِّ وَدُعَاءُ الرَّهْبَةِ بِظَهْرِهِ مَعَ قِيَامِ السَّبَّابَةِ كَدُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دُعَاءِ الِاسْتِسْقَاءِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى تُسْتَحَبُّ الْإِشَارَةُ إلَى نَحْوِ السَّمَاءِ فِي الدُّعَاءِ قَالَ صَالِحٌ فِي مَسَائِلِهِ سَأَلْتُ أَبِي عَنْ الِاعْتِدَاءِ فِي الدُّعَاءِ قَالَ: يَدْعُو بِدُعَاءٍ مَعْرُوفٍ.

فصل في الدعاء والتوكل ومراعاة الأسباب وسؤال المخلوق

[فَصْلٌ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّوَكُّلِ وَمُرَاعَاةِ الْأَسْبَابِ وَسُؤَالِ الْمَخْلُوقِ] ِ) قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اللَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّبَبَ وَالْمُسَبِّبَ وَالدُّعَاءُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يُقَدِّرُهَا، فَالِالْتِفَاتُ إلَى الْأَسْبَابِ شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ، وَمَحْوُ الْأَسْبَابِ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الْأَسْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ قَدْحٌ فِي الشَّرْعِ، بَلْ الْعَبْدُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَوَكُّلُهُ وَدُعَاؤُهُ وَسُؤَالُهُ وَرَغْبَتُهُ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَاَللَّهُ يُقَدِّرُ لَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ مِنْ دُعَاءِ الْخَلْقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا يَشَاءُ، وَالدُّعَاءُ مَشْرُوعٌ أَنْ يَدْعُوَ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى وَالْأَدْنَى لِلْأَعْلَى. وَمِنْ ذَلِكَ طَلَبُ الشَّفَاعَةِ وَالدُّعَاءُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، وَذَكَرَ الْأَخْبَارَ فِي ذَلِكَ إلَى أَنْ قَالَ: فَالدُّعَاءُ لِلْغَيْرِ يَنْتَفِعُ بِهِ الدَّاعِي وَالْمَدْعُوُّ لَهُ، فَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ اُدْعُ لِي قَصَدَ انْتِفَاعَهُمَا جَمِيعًا بِذَلِكَ كَانَ هُوَ وَأَخُوهُ مُتَعَاوِنَيْنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، فَهُوَ نَبَّهَ الْمَسْئُولَ وَأَشَارَ إلَيْهِ بِمَا يَنْفَعُهُمَا، وَالْمَسْئُولُ فَعَلَ مَا يَنْفَعُهُمَا، بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِبِرٍّ وَتَقْوَى فَيُثَابُ الْمَأْمُورُ عَلَى فِعْلِهِ وَالْآمِرُ أَيْضًا يُثَابُ مِثْلَ ثَوَابِهِ لِكَوْنِهِ دَعَاهُ إلَيْهِ إلَى أَنْ قَالَ وَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ مَخْلُوقًا أَنْ يَسْأَلَ مَخْلُوقًا شَيْئًا لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ الْمَخْلُوقَ الْمَسْئُولَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ الْعَبْدَ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ إلَى أَنْ قَالَ: وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ مَخْلُوقًا أَنْ يَسْأَلَ مَخْلُوقًا إلَّا مَا كَانَ مَصْلَحَةً لِذَلِكَ الْمَخْلُوقِ الْمَسْئُولِ إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَطْلُبُ مِنْ الْعَبْدِ إلَّا ذَلِكَ فَكَيْفَ يَأْمُرُ غَيْرَهُ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ غَيْرَ ذَلِكَ، بَلْ قَدْ حَرَّمَ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَسْأَلَ الْعَبْدَ مَسْأَلَةً إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَإِنْ كَانَ إعْطَاءُ الْمَالِ مُسْتَحَبًّا، ثُمَّ مَنْ طَلَبَ مِنْ غَيْرِهِ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا إنْ كَانَ قَصْدُهُ مَصْلَحَةَ الْمَأْمُورِ أَيْضًا فَهَذَا مُثَابٌ عَلَى ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ حُصُولَ مَطْلُوبِهِ مِنْ

غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ لِانْتِفَاعِ الْمَأْمُورِ فَهَذَا مُثَابٌ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ حُصُولُ مَطْلُوبِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ لِانْتِفَاعِ الْمَأْمُورِ فَهَذَا مِنْ نَفْسِهِ أَتَى. وَمِثْلُ هَذَا السُّؤَالِ لَا يَأْمُرُ اللَّهِ بِهِ قَطُّ بَلْ قَدْ نَهَى عَنْهُ؛ إذْ هَذَا سُؤَالٌ مَحْضٌ لِلْمَخْلُوقِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ لِنَفْعِهِ وَلَا لِمَصْلَحَتِهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَأْمُرُنَا أَنْ نَعْبُدَهُ وَنَرْغَبَ إلَيْهِ وَيَأْمُرُنَا أَنْ نُحْسِنَ إلَى عِبَادِهِ، وَهَذَا لَمْ يَقْصِدْ هَذَا وَلَا هَذَا إلَى أَنْ قَالَ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ قَدْ لَا يَأْثَمُ بِمِثْلِ هَذَا السُّؤَالِ لَكِنْ فَرْقٌ بَيْنَ مَا يُؤْمَرُ الْعَبْدُ بِهِ وَمَا يُؤْذَنُ لَهُ فِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ " إنَّهُمْ لَا يَسْتَرْقُونَ " وَإِنْ كَانَ الِاسْتِرْقَاءُ جَائِزًا، إلَى أَنْ قَالَ: الْأَصْلُ فِي سُؤَالِ الْخَلْقِ أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمًا فَإِنَّمَا يُبَاحُ لِلْحَاجَةِ فَإِنَّ فِيهِ الظُّلْمَ الْمُتَعَلِّقَ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَظُلْمَ الْعِبَادِ، وَظُلْمَ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ إلَى أَنْ قَالَ الطَّاعَةُ وَالْإِيتَاءُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْخَشْيَةُ وَالتَّحَسُّبُ لِلَّهِ وَحْدَهُ إلَى أَنْ قَالَ يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ فِي الْأَسْبَابِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ: (أَحَدُهَا) أَنَّ السَّبَبَ الْمُعَيَّنَ لَا يَسْتَقِلُّ بِالْمَطْلُوبِ بَلْ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ أَسْبَابٍ أُخْرَى، وَمَعَ هَذَا فَلَهَا مَوَانِعُ، فَإِنْ لَمْ يُكْمِلْ اللَّهُ الْأَسْبَابَ وَيَدْفَعْ الْمَوَانِعَ لَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ (الثَّانِي) أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنَّ الشَّيْءَ سَبَبٌ إلَّا بِعِلْمٍ كَمَنْ يَظُنُّ أَنَّ النَّذْرَ سَبَبٌ فِي دَفْعِ الْبَلَاءِ وَحُصُولِ النَّعْمَاءِ (الثَّالِثُ) أَنَّ الْأَعْمَالَ الدِّينِيَّةَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَّخَذَ شَيْءٌ سَبَبًا إلَّا أَنْ تَكُونَ مَشْرُوعَةً فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ مَبْنَاهَا عَلَى التَّوْقِيفِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل في كون التوكل والدعاء نافعين في الدنيا والآخرة

[فَصْلٌ فِي كَوْنِ التَّوَكُّلِ وَالدُّعَاءِ نَافِعَيْنِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ] فَصْلٌ فِي كَوْنِ التَّوَكُّلِ وَالدُّعَاءِ نَافِعَيْنِ فِي الدُّنْيَا لَا عِبَادَتَيْنِ لِنَفْعِ الْآخِرَةِ وَحْدَهُ) قَالَ الشَّيْخُ أَيْضًا ظَنَّ طَائِفَةٌ أَنَّ التَّوَكُّلَ لَا يَحْصُلُ بِهِ جَلْبُ مَنْفَعَةٍ وَلَا دَفْعُ مَضَرَّةٍ، بَلْ كَانَ مَقْدُورًا بِدُونِ التَّوَكُّلِ فَهُوَ مَقْدُورٌ مَعَهُ وَلَكِنَّ التَّوَكُّلَ عِبَادَةٌ يُثَابُ عَلَيْهَا مِنْ جِنْسِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ يُشْبِهُ قَوْلَ مَنْ قَالَ إنَّ الدُّعَاءَ لَا يَحْصُلُ بِهِ جَلْبُ مَنْفَعَةٍ وَلَا دَفْعُ مَضَرَّةٍ بَلْ هُوَ عِبَادَةٌ يُثَابُ عَلَيْهَا إلَى أَنْ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْمُتَوَكِّلَ وَالدَّاعِيَ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ مَا لَا يَحْصُلُ لِغَيْرِهِ، وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ هُوَ سَبَبٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ وَعَلَامَةٌ وَأَمَارَةٌ عِنْدَ مَنْ يَنْفِي الْأَسْبَابَ وَيَقُولُ إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ عِنْدَهَا لَا بِهَا وَيَقُولُونَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ وَذَكَرَ كَلَامًا كَثِيرًا، احْتَجَّ بِالْآيَاتِ الْمَشْهُورَةِ. وَذُكِرَ فِي التُّحْفَةِ الْعِرَاقِيَّةِ أَنَّ التَّوَكُّلَ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الدِّينِ وَقَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْعُلَمَاءُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - اسْتِعَاذَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِتَكْمُلَ صِفَاتُهُ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ، وَشَرَعَهُ أَيْضًا تَعْلِيمًا لِأُمَّتِهِ. وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ دَلِيلٌ لِاسْتِحْبَابِ الدُّعَاءِ وَالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحِ وَاَلَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ وَأَهْلُ الْفَتَاوَى فِي الْأَمْصَارِ فِي كُلِّ الْأَعْصَارِ وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الزُّهَّادِ وَأَهْلِ الْمَعَارِفِ إلَى أَنَّ تَرْكَ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ اسْتِسْلَامًا لِلْقَضَاءِ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ إنْ دَعَا لِلْمُسْلِمِينَ فَحَسَنٌ، وَإِنْ دَعَا لِنَفْسِهِ فَالْأَوْلَى تَرْكُهُ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ إنْ وَجَدَ فِي

نَفْسِهِ بَاعِثًا لِلدُّعَاءِ اُسْتُحِبَّ وَإِلَّا فَلَا، وَدَلِيلُ الْفُقَهَاءِ ظَوَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فِي الْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ وَفِعْلِهِ وَالْإِخْبَارُ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ - بِفِعْلِهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي مَوَاضِعَ: أَعْمَالُ الْقُلُوبِ كَمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ وَالشُّكْرِ لَهُ وَالصَّبْرِ عَلَى حُكْمِهِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ وَالرَّجَاءِ لَهُ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ مَأْمُورُونَ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الدِّينِ لَا يَكُونُ تَرْكُهَا مَحْمُودًا فِي حَالِ أَحَدٍ وَإِنْ ارْتَقَى مَقَامُهُ وَاَلَّذِي ظَنَّ أَنَّ التَّوَكُّلَ مِنْ الْمَقَامَاتِ الْعَامَّةِ ظَنَّ أَنَّ التَّوَكُّلَ لَا يُطْلَبُ بِهِ إلَّا حُظُوظُ الدُّنْيَا وَهُوَ غَلَطٌ، بَلْ التَّوَكُّلُ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ أَعْظَمُ. قَالَ وَأَمَّا الْحُزْنُ فَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ وَلَا رَسُولُهُ بَلْ قَدْ نَهَى عَنْهُ فِي مَوَاضِعَ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِأَمْرِ الدِّينِ كَقَوْلِهِ: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا} [آل عمران: 139] {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} [يس: 76] {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 23] . وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ لَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ، نَعَمْ وَلَا يَأْثَمُ بِهِ صَاحِبُهُ إذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِحُزْنِهِ مُحَرَّمٌ وَقَدْ يَقْتَرِنُ الْحُزْنُ بِمَا يُثَابُ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ وَيُحْمَدُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مَحْمُودًا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ لَا مِنْ جِهَةِ الْحُزْنِ، كَالْحَزِينِ عَلَى مُصِيبَةٍ فِي دِينِهِ وَعَلَى مَصَائِبِ الْمُسْلِمِينَ عُمُومًا، فَهَذَا يُثَابُ عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ حُبِّ الْخَيْرِ وَبُغْضِ الشَّرِّ وَتَوَابِعِ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْحُزْنَ عَلَى ذَلِكَ إذَا أَفْضَى إلَى تَرْكِ مَأْمُورٍ مِنْ الصَّبْرِ وَالْجِهَادِ وَجَلْبِ مَنْفَعَةٍ وَدَفْعِ

مَضَرَّةٍ نُهِيَ عَنْهُ وَإِلَّا كَانَ حَسْبَ صَاحِبِهِ رُفِعَ الْإِثْمُ عَنْهُ مِنْ جِهَةِ الْحُزْنِ، وَأَمَّا إذَا أَفْضَى إلَى ضَعْفِ الْقَلْبِ وَاشْتِغَالِهِ بِهِ عَنْ فِعْلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ كَانَ مَذْمُومًا وَمَرْدُودًا عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ وَإِنْ كَانَ مَحْمُودًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى. وَأَمَّا الْمَحَبَّةُ لَهُ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَالْإِخْلَاصُ لَهُ فَهَذِهِ كُلُّهَا خَيْرٌ مَحْضٌ وَهِيَ مَحْبُوبَةٌ. وَمَنْ قَالَ إنَّ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ تَكُونُ لِلْعَامَّةِ دُونَ الْخَاصَّةِ فَقَدْ غَلِطَ إنْ أَرَادَ خُرُوجَ الْخَاصَّةِ عَنْهَا فَإِنَّ هَذَا لَا يَخْرُجُ مِنْهَا مُؤْمِنٌ قَطُّ، إنَّمَا يَخْرُجُ عَنْهَا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ، وَذَكَرَ كَلَامًا كَثِيرًا. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ: الْعُقَلَاءُ يَعْلَمُونَ أَنَّ الِاحْتِرَازَ لَا يَقْدَحُ فِي التَّوَكُّلِ وَأَنَّ دَقِيقَ الْحِيَلِ مِنْ الْأَعْدَاءِ يُدْفَعُ بِلَطِيفِ التَّحَرُّزِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي التَّحَفُّظِ، وَرَوَى الْخَلَّالُ فِي الْجَامِعِ فِي آخِرِ الْجَنَائِزِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: إنْ لَقِيت رَبَّك فَأَخْبَرَنِي مَا لَقِيت وَإِنْ لَقِيته قَبْلَك أَخْبَرْتُك، فَذَكَرَ سَعِيدٌ أَنَّ أَحَدَهُمَا تُوُفِّيَ فَلَقِيَ صَاحِبَهُ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لَهُ الْمَيِّتُ تَوَكَّلْ وَأَبْشِرْ فَإِنِّي مَا رَأَيْت مِثْلَ التَّوَكُّلِ. وَرُوِيَ فِيهِ أَيْضًا فِي التِّجَارَةِ وَالتَّكَسُّبِ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ: سَأَلَ الْمَازِنِيُّ بِشْرَ بْنَ الْحَارِثِ عَنْ التَّوَكُّلِ فَقَالَ الْمُتَوَكِّلُ لَا يَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ لِيُكْفَى وَلَوْ حَلَّتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ فِي قُلُوبِ الْمُتَوَكِّلَةِ لَضَجُّوا إلَى اللَّهِ بِالنَّدَمِ وَالتَّوْبَةِ، وَلَكِنَّ التَّوَكُّلَ يُحِلُّ بِقَلْبِهِ الْكِفَايَةَ مِنْ اللَّهِ فَيَصْدُقُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا ضَمِنَ. وَلَمْ يَذْكُرْ الْخَلَّالُ مَا يُخَالِفُ كَلَامَ بِشْرٍ لَا مِنْ عِنْدِهِ وَلَا مِنْ عِنْدِ غَيْرِهِ، فَبِشْرٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ مَنْ تَوَكَّلَ لِيُكْفَى لَمْ يَخْلُصْ التَّوَكُّلُ لِلَّهِ فَيَقْدَحُ فِيهِ وَيَكُونُ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَنَظِيرُهُ مَنْ اتَّقَى اللَّهَ لِيَجْعَلَ اللَّهُ لَهُ مَخْرَجًا، وَمَنْ اتَّقَى اللَّهَ لِيَجْعَلَ لَهُ فُرْقَانًا، وَمَنْ تَوَاضَعَ لِيَرْتَفِعَ. وَلِهَذَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ» وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مَنْ تَوَاضَعَ لِيَرْتَفِعَ: لَا يَرْتَفِعُ بِالتَّوَاضُعِ أَيْ لَا يَقْصِدُ هَذَا وَهُوَ نَظِيرُ الْكَلَامِ الْمَشْهُورِ مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نَطَقَ

بِالْحِكْمَةِ. وَفَعَلَ بَعْضُ النَّاسِ لَهُ لِيَنْطِقَ بِالْحِكْمَةِ وَأَنَّهُ لَمْ يَنْطِقْ بِهَا، وَسَأَلَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ عَنْ هَذَا فَقَالَ لَهُ: لَمْ تُخْلِصْ إنَّمَا فَعَلْت هَذَا لِأَجَلِ هَذَا، وَهَذَا الْكَلَامُ " مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ " يُرْوَى عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلًا وَسَبَقَ فِي فُصُولِ التَّوْبَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الْفِقْهِ فِي بَابِ مَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ.

فصل التسليم لله في استجابة الدعاء وقضاء الحوائج

[فَصْلٌ التَّسْلِيمُ لِلَّهِ فِي اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ وَقَضَاءِ الْحَوَائِجِ] ِ) قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ: قَدْ نَدَبَ اللَّهُ إلَى الدُّعَاءِ وَفِيهِ مَعَانٍ: الْوُجُودُ وَالْغِنَى وَالسَّمْعُ وَالْكَرَمُ وَالرَّحْمَةُ وَالْقُدْرَةُ، فَإِنَّ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ لَا يُدْعَى، وَمَنْ يَقُولُ بِالطَّبَائِعِ يَعْلَمُ أَنَّ النَّارَ لَا يُقَالُ لَهَا كُفِّي، وَلَا النَّجْمُ لَا يُقَالُ لَهُ أَصْلِحْ مِزَاجِي؛ لِأَنَّ هَذِهِ عِنْدَهُمْ مُؤَثِّرَةٌ طَبْعًا لَا اخْتِيَارًا، فَشَرَعَ الدُّعَاءَ وَالِاسْتِسْقَاءَ لِيُبَيِّنَ كَذِبَ أَهْلِ الطَّبَائِعِ وَقَالَ: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} [الحجر: 21] . حَتَّى لَا يُطْلَبَ إلَّا مِنْهُ، ثُمَّ أَحَبَّ أَنْ يُظْهِرَ جَوَاهِرَ أَهْلِ الِابْتِلَاءِ فَقَالَ لِذَا اذْبَحْ وَلَدَك، وَقَرَنَ هَذَا بِالْبَلَاءِ لِيَحْمِلَهُمْ عَلَى الدُّعَاءِ وَاللَّجَاءِ. وَقَالَ أَيْضًا فِي الْفُنُونِ: تَسْتَبْطِئُ الْإِجَابَةَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِأَدْعِيَتِك فِي أَغْرَاضِك الَّتِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي بَاطِنِهَا الْمَفَاسِدُ فِي دِينِك وَدُنْيَاك، وَتَتَسَخَّطُ بِإِبْطَاءِ مُرَادِك مَعَ الْقَطْعِ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَمْنَعُك شُحًّا وَلَا بُخْلًا وَلَا نِسْيَانًا، وَقَدْ شَهِدَ لِصِحَّةِ ذَلِكَ مُرَاعَاتُهُ لَك. وَلَا لِسَانَ يَنْطِقُ بِدُعَاءٍ، وَلَا أَرْكَانَ لِعَبْدِهِ، وَلَا قُوَّةً تَتَحَرَّك بِهَا فِي طَاعَةٍ مِنْ طَاعَاتِهِ، فَكَيْفَ وَجُمْلَتُك وَأَبْعَاضُك وَقْفٌ عَلَى خِدْمَتِهِ، وَلِسَانُك رَطْبٌ بِأَذْكَارِهِ؟ لَكِنْ إنَّمَا أُخِّرَ رَحْمَةً لَك وَحِكْمَةً وَمَصْلَحَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ إلَيْك بِذَلِكَ تَقْدِمَةً، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] . وَأَنْتَ الْعَبْدُ الْمُحْتَاجُ تَتَخَلَّفُ عَنْ أَكْثَرِ أَوَامِرِهِ، وَلَا تَسْتَبْطِئُ نَفْسَك فِي أَدَاءِ حُقُوقِهِ. هَلْ هَذَا إنْصَافٌ أَنْ يَكُونَ مِثْلُك يُبْطِئُ عَنْ الْحُقُوقِ وَلَا تُنْكِرُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِك، ثُمَّ تَسْتَبْطِئُ الْحَكِيمَ الْأَزَلِيَّ الْخَالِقَ فِي بَابِ الْحُظُوظِ الَّتِي لَا تَدْرِي كَيْفَ حَالُك فِيهَا هَلْ طَلَبُهَا عَطَبٌ وَهَلَاكٌ، أَوْ غِبْطَةٌ وَصَلَاحٌ.

وَقَالَ أَيْضًا بَعْدَ أَنْ تَكَلَّمَ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6] . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يُنَبِّهُك عَلَى الِاحْتِيَاطِ لِنَفْسِك وَسِرِّك وَمَالِك، بِالِاحْتِيَاطِ لِمَالِ غَيْرِك، لَقَدْ أَوْجَبَ عَلَيْك ذَلِكَ التَّحَرُّزَ وَالتَّحَفُّظَ وَالِارْتِيَادَ وَالْمُبَالَغَةَ فِي الِانْتِقَادِ لِكُلِّ مَحَلٍّ تُودِعُهُ سِرًّا أَوْ مَالًا أَوْ تَرْجِعُ إلَيْهِ، أَوْ مَشُورَةٍ تَقْتَبِسُ بِهَا رَأْيًا، وَنَبَّهَك عَلَى مَا هُوَ أَوْكَدُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ تَعْلَمَ بِأَنَّك وَإِنْ بَلَغْت الْغَايَةَ مِنْ الْفَهْمِ وَالْعَقْلِ وَالتَّجْرِبَةِ يَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَ الْبَارِي سُبْحَانَهُ تَقْصِيرَك عَنْ تَدْبِيرِ نَفْسِك، فَإِذَا بَالَغَتْ فِي الدُّعَاءِ الْمَحْبُوبِ نَفْسَك جَازَ لَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُعْطِيَك بِحَسَبِ مَا طَلَبْت، وَلَا يُرْخِي لِذَلِكَ الْعِنَانَ بِحُكْمِ مَا لَهُ أَرَدْت، بَلْ يَحْبِسُ عَنْك لِصَلَاحِك، وَيُضَيِّقُ عَلَيْك مَا وَسَّعَهُ عَلَى غَيْرِك نَظَرًا لَك؛ لِأَنَّهُ فِي حِجْرِ الرُّبُوبِيَّةِ مَا دُمْت عَبْدًا. فَإِذَا أَخْرَجَك عَنْ رِبْقَةِ التَّكْلِيفِ سَرَّحَك تَسْرِيحًا، وَلَا تَطْلُبْ التَّخْلِيَةَ حَالَ حَبْسِك، وَلَا التَّصَرُّفَ بِحَسْبِ مُرَادِك حَالَ حَجْرِك فَلَسْت رَشِيدًا فِي مَصَالِحِك، فَكُنْ بِاَللَّهِ كَالْيَتِيمِ، مَعَ الْوَلِيِّ الْحَمِيمِ، تَسْتَرِحْ مِنْ كَدِّ التَّسَخُّطِ، وَتَنْجُو مِنْ مَأْثَمِ الِاعْتِرَاضِ وَالتَّحَيُّرِ، وَلَيْسَ يُمْكِنُك هَذَا إلَّا بِشِدَّةِ بَحْثٍ وَنَظَرٍ فِي حُبِّك وَقَدْرِك. فَإِذَا عَلِمْت أَنَّك بِالْإِضَافَةِ إلَى الْحِكْمَةِ الرَّبَّانِيَّةِ وَالتَّدْبِيرِ الْإِلَهِيِّ دُونَ الْيَتِيمِ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْوَلِيِّ بِكَثِيرٍ، صَحَّ لَك التَّفْوِيضُ وَالتَّسْلِيمُ، وَاسْتَرَحْت مِنْ كَدِّ الِاعْتِرَاضِ وَمَرَارَةِ التَّسَخُّطِ وَالتَّدْبِيرِ. وَقَدْ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا} [الإسراء: 65] . وَاعْلَمْ أَنَّهُ فِي أَسْرِ الْأَقْدَارِ تُصْرَفُ فَإِنْ اعْتَرَضْت صِرْت فِي أَسْرِ الشَّيْطَانِ، فَلَأَنْ تَكُونَ فِي أَسْرِ مَنْ لَا يُتَّهَمُ عَلَيْك خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي أَسْرَيْنِ أَحَدُهُمَا لَا مَحِيصَ لَك عَنْهُ، وَالْآخَرُ أَنْتَ أَوْقَعْت نَفْسَك فِيهِ. وَلَا أَقْبَحَ مِنْ عَاقِلٍ حَمَاهُ اللَّهُ وَحَجَرَ عَلَيْهِ حَمِيمُهُ نَظَرًا لَهُ أَدْخَلَ عَلَى نَفْسِهِ عَدُوًّا بِقُبْحِ آثَارِ وَلِيِّهِ عَنْدَهُ، وَيُسْخِطُهُ عَلَيْهِ لِيُفْسِدَ عَلَيْهِ مَعَ الْوَلِيِّ. وَذَكَرَ كَلَامًا كَثِيرًا.

وَقَالَ أَيْضًا كُلُّ حَالٍ خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَغْتَنِمَ تِلْكَ اللَّحْظَةَ فَإِنَّهَا سَاعَةُ إجَابَةٍ. فَحُضُورُ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَلْبِ الْعَبْدِ حُضُورٌ وَاسْتِحْضَارٌ، وَخَيْرُ أَوْقَاتِ الطَّلَبِ اسْتِحْضَارُ الْمُلُوكِ، وَمَنْ اشْتَدَّتْ فَاقَتُهُ فَدَعَا، أَوْ اشْتَدَّ خَوْفُهُ فَبَكَى، فَذَلِكَ الْوَقْت الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوَ فِيهِ فَإِنَّهُ سَاعَةُ إجَابَةٍ وَسَاعَةُ صِدْقٍ فِي الطَّلَبِ وَمَا دَعَا صَادِقٌ إلَّا أُجِيبَ. وَسَبَقَ مَا يُسْتَعْمَلُ لِإِزَالَةِ الْهَمِّ وَالْغَمِّ قُبَيْلَ فُصُولِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَفِي الْكَلَامِ عَلَى دَعْوَةِ ذِي النُّونِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَيَأْتِي أَدْعِيَةٌ فِي فُصُولِ التَّدَاوِي.

فصول خاصة بالقرآن والمصحف

[فُصُولُ خَاصَّةُ بِالْقُرْآنِ وَالْمُصْحَفِ] [فَصْلٌ فِي كَرَاهَةِ نَقْطِ الْمُصْحَفِ وَشَكْلِهِ وَكِتَابَةِ الْأَخْمَاسِ وَالْأَعْشَارِ وَأَسْمَاءِ السُّوَرِ] الْفُصُولُ الْخَاصَّةُ بِالْقُرْآنِ وَالْمُصْحَفِ فَصْلٌ (فِي كَرَاهَةِ نَقْطِ الْمُصْحَفِ وَشَكْلِهِ وَكِتَابَةِ الْأَخْمَاسِ وَالْأَعْشَارِ وَأَسْمَاءِ السُّوَرِ) وَعَدَدِ الْآيَاتِ فِيهِ رِوَايَتَانِ، وَعَنْهُ يُسْتَحَبُّ نَقْطُهُ وَقَالَ ابْنُ حَمْدَانَ وَمِثْلُهُ شَكْلُهُ، وَيُكْرَهُ التَّغَيُّرُ فِيهِ وَعَنْهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَتَحْرُمُ مُخَالَفَةُ خَطِّ عُثْمَانَ فِي وَاوٍ وَيَاءٍ وَأَلِفٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ نُصَّ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ تَقْبِيلُ الْمُصْحَفِ، قَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَغَيْرِهَا. وَعَنْهُ يُسْتَحَبُّ لِأَنَّ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الدَّارِمِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَعَنْهُ التَّوَقُّفُ فِيهِ وَفِي جَعْلِهِ عَلَى عَيْنَيْهِ قَالَ الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ إنَّمَا تَوَقَّفَ عَنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ فِيهِ رِفْعَةٌ وَإِكْرَامٌ لِأَنَّ مَا طَرِيقُهُ الْقُرْبُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْقِيَاسِ فِيهِ مَدْخَلٌ لَا يُسْتَحَبُّ فِعْلُهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَعْظِيمٌ إلَّا بِتَوْقِيفٍ أَلَا تَرَى أَنَّ عُمَرَ لَمَّا رَأَى الْحَجَرَ قَالَ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبَّلَك مَا قَبَّلْتُك. وَكَذَلِكَ مُعَاوِيَةُ لَمَّا طَافَ فَقَبَّلَ الْأَرْكَانَ كُلَّهَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: لَيْسَ فِي الْبَيْتِ شَيْءٌ مَهْجُورٌ، فَقَالَ إنَّمَا هِيَ السُّنَّةُ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ الزِّيَادَةَ عَلَى فِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَسَبَقَ بِنَحْوِ ثَلَاثَةِ كَرَارِيسَ أَنَّ أَحْمَدَ اسْتَوَى جَالِسًا لَمَّا ذُكِرَ عِنْدَهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، وَقَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ أَخَذْت مِنْ هَذَا أَحْسَنَ الْأَدَبِ

فِيمَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ عِنْدَ إمَامِ الْعَصْرِ مِنْ النُّهُوضِ لِسَمَاعِ تَوْقِيعَاتِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقِيَامَ لِلْمُصْحَفِ أَوْلَى مِنْ ذَلِكَ. وَكَلَامُ الْقَاضِي السَّابِقُ يَدُلُّ عَلَى الْعَمَلِ بِالتَّوْقِيفِ وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ إذَا اعْتَادَ النَّاسُ قِيَامَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فَقِيَامُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ أَحَقُّ.

فصل في أسماء السور وما تجب صيانة المصحف عنه

[فَصْلٌ فِي أَسْمَاءِ السُّوَرِ وَمَا تَجِبُ صِيَانَةُ الْمُصْحَفِ عَنْهُ] تَوَقَّفَ أَحْمَدُ أَنْ يُقَالَ سُورَةُ كَذَا قَالَ الْخَلَّالُ لَا بَأْسَ بِهِ وَهُوَ الَّذِي قَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَقَالَ الْقَاضِي الْأَشْبَهُ أَنْ يُكْرِمَهُ بَلْ يُقَالُ السُّورَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا. وَيَحْرُمُ أَنْ يُكْتَبَ الْقُرْآنُ وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى بِشَيْءٍ نَجِسٍ أَوْ عَلَيْهِ أَوْ فِيهِ فَإِنْ كُتِبَا بِهِ أَوْ عَلَيْهِ أَوْ فِيهِ غُسِلَا. وَقِيلَ إنْ نَجَّسَ وَرَقَةَ الْمَكْتُوبِ فِيهِ أَوْ كَتَبَ بِشَيْءٍ نَجِسٍ أَوْ بُلَّ وَانْدَرَسَ أَوْ غَرِقَ دُفِنَ كَالْمُصْحَفِ نُصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُصْحَفِ إذَا بَلِيَ وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ السِّتْرِ يُكْتَبُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ؟ فَكَرِهَ ذَلِكَ وَقَالَ: لَا يُكْتَبُ الْقُرْآنُ عَلَى شَيْءٍ مَنْصُوبٍ وَلَا سِتْرٍ وَلَا غَيْرِهِ. وَيُكْرَهُ تَوَسُّدُ الْمُصْحَفِ ذَكَرَهُ ابْنُ تَمِيمٍ وَذَكَرَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَقَالَ بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ كَرِهَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَنْ يَضَعَ الْمُصْحَفَ تَحْتَ رَأْسِهِ فَيَنَامُ عَلَيْهِ قَالَ الْقَاضِي: إنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ ابْتِذَالًا لَهُ وَنُقْصَانًا مِنْ حُرْمَتِهِ فَإِنَّهُ يَفْعَلُ بِهِ كَمَا يَفْعَلُ بِالْمَتَاعِ. وَاخْتَارَ ابْنُ حَمْدَانَ التَّحْرِيمَ وَقَطَعَ بِهِ فِي الْمُغْنِي وَالشَّرْحِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ بَعْدَهُ، وَكَذَا سَائِرُ كُتُبِ الْعِلْمِ إنْ كَانَ فِيهَا قُرْآنٌ وَإِلَّا كُرِهَ فَقَطْ وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ نُعَيْمِ بْنِ نَاعِمٍ وَسَأَلَهُ أَيَضَعُ الرَّجُلُ الْكُتُبَ تَحْتَ رَأْسِهِ؟ قَالَ أَيُّ كُتُبٍ؟ قُلْت كُتُبَ الْحَدِيثِ قَالَ: إذَا خَافَ أَنْ تُسْرَقَ فَلَا بَأْسَ وَأَمَّا أَنْ تَتَّخِذَهُ وِسَادَةً فَلَا. وَرَوَى الْخَلَّالُ فِي الْأَخْلَاقِ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ فِي رِحْلَتِهِ إلَى الْكُوفَةِ أَوْ غَيْرِهَا فِي بَيْتٍ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ وَكَانَ يَضَعُ تَحْتَ رَأْسِهِ لَبِنَةً وَيَضَعُ كُتُبَهُ فَوْقَهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْقَوِيِّ فِي كِتَابِهِ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ أَنَّهُ يَحْرُمُ الِاتِّكَاءُ عَلَى الْمُصْحَفِ وَعَلَى كُتُبِ الْحَدِيثِ وَمَا فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ اتِّفَاقًا انْتَهَى كَلَامُهُ. وَيَقْرُبُ مِنْ

ذَلِكَ مَدُّ الرِّجْلَيْنِ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِسَاءَةِ الْأَدَبِ قَالَ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ تَعْظِيمِ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَتَنْزِيهِهِ وَصِيَانَتِهِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ جَحَدَ حَرْفًا لَمْ يَقْرَأْ بِهِ أَحَدٌ وَهُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: اعْلَمْ أَنَّ مَنْ اسْتَخَفَّ بِالْقُرْآنِ أَوْ بِالْمُصْحَفِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهُ أَوْ جَحَدَ حَرْفًا مِنْهُ أَوْ كَذَّبَ بِشَيْءٍ مِمَّا صُرِّحَ بِهِ فِيهِ مِنْ حُكْمٍ أَوْ خَبَرٍ أَوْ أَثْبَتَ مَا نَفَاهُ أَوْ نَفَى مَا أَثْبَتَهُ وَهُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ أَوْ شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ إنْ جَحَدَ التَّوْرَاةَ أَوْ الْإِنْجِيلَ أَوْ كُتُبَ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةَ أَوْ كَفَرَ بِهَا أَوْ سَبَّهَا أَوْ اسْتَخَفَّ بِهَا فَهُوَ كَافِرٌ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ الْمَتْلُوَّ فِي جَمِيعِ الْأَقْطَارِ الْمَكْتُوبَ فِي الْمُصْحَفِ الَّذِي بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ مَا جَمَعَتْهُ الدَّفَّتَانِ مِنْ أَوَّلِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] إلَى آخِرِ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] كَلَامُ اللَّهِ وَحْيُهُ الْمُنَزَّلُ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ جَمِيعَ مَا فِيهِ حَقٌّ وَأَنَّ مَنْ نَقَصَ مِنْهُ حَرْفًا قَاصِدًا لِذَلِكَ أَوْ بَدَّلَهُ بِحَرْفٍ آخَرَ مَكَانَهُ أَوْ زَادَ فِيهِ حَرْفًا لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَيْهِ الْمُصْحَفُ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْآنٍ عَامِدًا بِكُلِّ هَذَا فَهُوَ كَافِرٌ. قَالَ أَبُو عُثْمَانَ بْنُ الْحَذَّاءِ جَمِيعُ مَنْ يَنْتَحِلُ التَّوْحِيدَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْجَحْدَ بِحَرْفٍ مِنْ الْقُرْآنِ كُفْرٌ وَقَدْ اتَّفَقَ فُقَهَاءُ بَغْدَادَ عَلَى اسْتِتَابَةِ ابْنِ شَنَبُوذٍ الْمُقْرِي أَحَدِ أَئِمَّةِ الْمُقْرِئِينَ الْمُتَصَدِّرِينَ بِهَا مَعَ ابْنِ مُجَاهِدٍ لِقِرَاءَتِهِ وَإِقْرَائِهِ بِشَوَاذٍّ مِنْ الْحُرُوفِ مِمَّا لَيْسَ فِي الْمُصْحَفِ وَعَقَدُوا عَلَيْهِ لِلرُّجُوعِ عَنْهُ وَالتَّوْبَةِ سِجِلًّا أُشْهِدَ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ فِي مَجْلِسِ الْوَزِيرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ.

وَأَفْتَى مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي زَيْدٍ فِيمَنْ قَالَ لِصَبِيٍّ لَعَنَ اللَّهُ مُعَلِّمَك وَمَا عَلَّمَك وَقَالَ أَرَدْت سُوءَ الْأَدَبِ وَلَمْ أُرِدْ الْقُرْآنَ قَالَ يُؤَدَّبُ الْقَائِلُ قَالَ: وَأَمَّا مَنْ لَعَنَ الْمُصْحَفَ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ انْتَهَى كَلَامُهُ، وَكَذَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مِقْسَمٍ أَبُو بَكْرٍ الْمُقْرِئُ النَّحْوِيُّ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ اُسْتُتِيبَ مِنْ قِرَاءَتِهِ بِمَا لَا يَصِحُّ نَقْلُهُ فَكَانَ يَقْرَأُ بِذَلِكَ فِي الْمِحْرَابِ وَيَعْتَمِدُ عَلَى مَا يَسُوغُ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ قَارِئٌ. تُوُفِّيَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ وَثَلَاثِ مِائَةٍ. وَيَحْرُمُ السَّفَرُ بِهِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ لِلْخَبَرِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ. وَقِيلَ إنْ كَثُرَ الْعَسْكَرُ وَأُمِنَ اسْتِيلَاءُ الْعَدُوِّ عَلَيْهِ فَلَا، لِقَوْلِهِ فِي الْخَبَرِ " مَخَافَةَ أَنْ تَنَالَهُ أَيْدِيهِمْ ". وَقَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ يُكْرَهُ أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَسْكَرُ كَثِيرًا فَيَكُونَ الْغَالِبُ فِيهِ السَّلَامَةُ وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الشَّرْحِ وَقَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ. وَلِلْإِمَامِ وَنَائِبِهِ أَنْ يَكْتُبَا فِي كُتُبِهِمَا إلَى الْكُفَّارِ آيَتَيْنِ أَوْ أَقَلَّ كَالتَّسْمِيَةِ فِي الرِّسَالَةِ. وَهَلْ لِلذِّمِّيِّ نَسْخُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِدُونِ حَمْلِهِ وَلَمْسِهِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَيُمْنَعُ مِنْ قِرَاءَتِهِ نُصَّ عَلَيْهِ، وَقِيلَ لَا يُمْنَعُ مِنْهَا بَلْ يُمْنَعُ مِنْ لَمْسِهِ وَتَمَلُّكِهِ. وَيُمْنَعُ الْمُسْلِمُ مِنْ تَمْلِيكِهِ لَهُ فَإِنْ مَلَكَهُ بِإِرْثٍ أَوْ غَيْرِهِ أُلْزِمَ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهُ. وَيَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى نَسْخِ الْمُصْحَفِ نُصَّ عَلَيْهِ.

فصل لا يجوز أن يجعل القرآن بدلا من الكلام

[فَصْلٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الْقُرْآنُ بَدَلًا مِنْ الْكَلَامِ] فَصْلٌ قَالَ فِي الْمُغْنِي وَالشَّرْحِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الْقُرْآنُ بَدَلًا مِنْ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لَهُ فِي غَيْرِ مَا هُوَ لَهُ أَشْبَهَ اسْتِعْمَالَ الْمُصْحَفِ فِي التَّوَسُّدِ وَنَحْوِهِ ذَكَرَهُ فِي الِاعْتِكَافِ. وَقَالَ فِي الْكَافِي قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: ثُمَّ ذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمُغْنِي وَلَمْ يَزِدْهُ، وَذَكَرَ فِي الرِّعَايَةِ فِي الِاعْتِكَافِ أَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي التَّلْخِيصِ.

فصل في الاقتباس بتضمين بعض من القرآن في النظم والنثر

[فَصْلٌ فِي الِاقْتِبَاسِ بِتَضْمِينِ بَعْضٍ مِنْ الْقُرْآنِ فِي النَّظْمِ وَالنَّثْرِ] سُئِلَ ابْنُ عَقِيلٍ عَنْ وَضْعِ كَلِمَاتٍ وَآيَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ فِي آخِرِ فُصُولِ خُطْبَةٍ وَعْظِيَّةٍ؟ فَقَالَ تَضْمِينُ الْقُرْآنِ لِمَقَاصِدَ تُضَاهِي مَقْصُودَ الْقُرْآنِ لَا بَأْسَ بِهِ تَحْسِينًا لِلْكَلَامِ، كَمَا يُضَمَّنُ فِي الرَّسَائِلِ إلَى الْمُشْرِكِينَ آيَاتٌ تَقْتَضِي الدِّعَايَةَ إلَى الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا تَضْمِينُ كَلَامٍ فَاسِدٍ فَلَا يَجُوزُ كَكُتُبِ الْمُبْتَدِعَةِ وَقَدْ أَنْشَدُوا فِي الشِّعْرِ: وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ ... وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَا وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَى الشَّاعِرِ ذَلِكَ لِمَا قَصَدَ مَدْحَ الشَّرْعِ وَتَعْظِيمَ شَأْنِ أَهْلِهِ وَكَانَ تَضْمِينُ الْقُرْآنِ فِي الشَّعْرِ سَائِغًا لِصِحَّةِ الْقَصْدِ وَسَلَامَةِ الْوَضْعِ.

فصل في تفسير القرآن بمقتضى اللغة وحكم تفسير الصحابي والتابعي له

[فَصْلٌ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِمُقْتَضَى اللُّغَةِ وَحُكْمِ تَفْسِيرِ الصَّحَابِيِّ وَالتَّابِعِيِّ لَهُ] ُ وَفِي جَوَازِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِمُقْتَضَى اللُّغَةِ) رِوَايَتَانِ ذَكَرَهُمَا الْقَاضِي وَغَيْرُهُ وَيُقْبَلُ تَفْسِيرُ الصَّحَابِيِّ وَيَلْزَمُ قَبُولُهُ إنْ قُلْنَا حُجَّةٌ قَالَ ابْنُ تَمِيمٍ يُرْجَعُ إلَى تَفْسِيرِ الصَّحَابِيِّ لِلْقُرْآنِ قَالَ وَقَالَ الْقَاضِي تَفْسِيرُ الصَّحَابِيِّ كَقَوْلِهِ: فَإِنْ قُلْنَا هُوَ حُجَّةٌ لَزِمَ الْمَصِيرُ إلَى تَفْسِيرِهِ، وَإِنْ قُلْنَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَنَقْلُ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ صِيرَ إلَيْهِ، وَإِنْ فَسَّرَهُ اجْتِهَادًا أَوْ قِيَاسًا عَلَى كَلَامِ الْعَرَبِ لَمْ يَلْزَمْ، وَلَا يَلْزَمُ الرُّجُوعُ إلَى تَفْسِيرِ التَّابِعِيِّ إلَّا أَنْ يُنْقَلَ ذَلِكَ عَنْ الْعَرَبِ وَعَنْهُ هُوَ كَالصَّحَابِيِّ فِي الْمَصِيرِ إلَى تَفْسِيرِهِ وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ إذَا لَمْ نَقُلْ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ فَفِي تَفْسِيرِهِ وَتَفْسِيرِ التَّابِعِيِّ رِوَايَتَانِ: اللُّزُومُ وَعَدَمُهُ.

فصل في القراءة في كل حال إلا لمن ثبت عليه الغسل

[فَصْلٌ فِي الْقِرَاءَةِ فِي كُلِّ حَالٍ إلَّا لِمَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ] تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ لِمَاشٍ وَرَاكِبٍ وَمُضْطَجِعٍ وَمُحْدِثٍ حَدَثًا أَصْغَرَ وَنَجِسِ الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ إلَّا مِنْ جَنَابَةٍ أَوْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ، وَحَكَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَدِيثٍ وَهُوَ مُتَّكِئٌ فَاسْتَوَى جَالِسًا وَقَالَ أَكْرَهُ أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا مُتَّكِئٌ، فَكَلَامُ اللَّهِ أَوْلَى وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهَا نَجِسُ الْفَمِ. وَقَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: لَا تَمْنَعُ نَجَاسَةُ الْفَمِ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَالْأَوْلَى الْمَنْعُ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الطَّرِيقِ. وَتُكْرَهُ الْقِرَاءَةُ مَعَ حَمْلِ الْجِنَازَةِ جَهْرًا وَحَالَ خُرُوجِ الرِّيحِ لَا حَالَ لَمْسِ الذَّكَرِ وَالزَّوْجَةِ، زَادَ الْقَاضِي وَأَكْلِهِ لِلَحْمِ الْجَزُورِ وَغُسْلِهِ لِلْمَيِّتِ عَلَى احْتِمَالٍ فِيهِ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَ غَيْرُ مُسْتَقْذَرَةٍ فِي الْعَادَةِ،؛ وَلِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ يَبْعُدُ مِنْهُ الْمَلَكُ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ فِي الرَّجُلِ يَقْرَأُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الرِّيحُ يُمْسِكُ عَنْ الْقِرَاءَةِ. وَتُكْرَهُ الْقِرَاءَةُ فِي الْحَمَّامِ قَالَ فِي الرِّعَايَةِ وَابْنُ تَمِيمٍ عَلَى الْأَصَحِّ صِيَانَةً لِلْقُرْآنِ. وَرَوَاهُ سَعِيدٌ عَنْ عَلِيٍّ وَحَكَاهُ ابْنُ عَقِيلٍ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ

قَالَ فِي الشَّرْحِ وَلَمْ يَكْرَهْهُ النَّخَعِيُّ وَمَالِكٌ؛ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ حُجَّةً عَلَى الْكَرَاهَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْمُسْتَوْعِبِ غَيْرَ الْكَرَاهَةِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ وَقَالَ نَصَّ عَلَيْهِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَإِسْحَاقُ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ عَلِيٍّ.

فصل في القراء في السوق واختلاف حال القارئ والسامعين فيه

[فَصْلٌ فِي الْقُرَّاءِ فِي السُّوقِ وَاخْتِلَافِ حَالِ الْقَارِئِ وَالسَّامِعِينَ فِيهِ] ِ) قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ قَالَ حَنْبَلِيٌّ: كَمْ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ تَخْرُجُ مَخْرَجَ الطَّاعَاتِ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَهِيَ مَأْثَمٌ وَبُعْدٌ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ مِثْلُ الْقِرَاءَةِ فِي أَسْوَاقٍ يَصِيحُ فِيهَا أَهْلُ الْمَعَاشِ بِالنِّدَاءِ وَالْبَيْعِ وَلَا أَهْلُ السُّوقِ يُمْكِنُهُمْ السَّمَاعُ، ذَلِكَ امْتِهَانٌ. قَالَ حَنْبَلِيٌّ: أَعْرِفُ هُوَ وَلَعَلَّ أَهْلَ السُّوقِ يَسْمَعُونَ النَّهْيَ عَنْ مُرَاءَاتٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ فَيَتْرُكُونَهَا انْتَهَى كَلَامُهُ.

فصل في التلاوة عند المصائب لتسكينها

[فَصْلٌ فِي التِّلَاوَةِ عِنْدَ الْمَصَائِبِ لِتَسْكِينِهَا] ) مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ يُشْرَعُ فِي أَوْقَاتِ الشَّدَائِدِ وَالْمَصَائِبِ قِرَاءَةُ شَيْءٍ يُسْكِنُهَا بِذِكْرِ مَا جَرَى عَلَى الْأَئِمَّةِ. لِيَتَأَسَّى بِهِمْ صَاحِبُ الْمُصِيبَةِ وَمَا وَعَدَ اللَّهُ الصَّابِرِينَ مِنْ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ الْجَزِيلِ. فَأَمَّا قِرَاءَةُ شَيْءٍ يُهَيِّجُ الْحُزْنَ وَيَحْمِلُ عَلَى الْجَزَعِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْرَهَ. وَفِي كَلَامِ ابْنِ عَقِيلٍ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا تُوُفِّيَ ابْنُهُ عَقِيلٌ سَنَةَ عَشْرٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَعُمْرُهُ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً وَكَانَ تَفَقَّهَ وَنَاظَرَ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَظَهَرَ مِنْهُ أَشْيَاءُ تَدُلُّ عَلَى دِينِهِ وَخَيْرِهِ حَزِنَ عَلَيْهِ وَصَبَرَ صَبْرًا جَمِيلًا فَلَمَّا دُفِنَ جَعَلَ يَتَشَكَّرُ لِلنَّاسِ فَقَرَأَ قَارِئٌ {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 78] فَبَكَى ابْنُ عَقِيلٍ وَبَكَى النَّاسُ وَضَجَّ الْمَوْضِعُ بِالْبُكَاءِ فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ لِلْقَارِئِ يَا هَذَا: إنْ كَانَ يُهَيِّجُ الْحُزْنَ فَهُوَ نِيَاحَةٌ، وَالْقُرْآنُ لَمْ يَنْزِلْ لِلنَّوْحِ بَلْ لِتَسْكِينِ الْأَحْزَانِ.

فصل في تحزيب القرآن وتقسيم ختمه على الأيام

[فَصْلٌ فِي تَحْزِيبِ الْقُرْآنِ وَتَقْسِيمِ خَتْمِهِ عَلَى الْأَيَّامِ] وَيُسْتَحَبُّ الْقُرْآنُ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ نَصَّ عَلَيْهِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً وَلَا تَزِيدَنَّ عَلَى ذَلِكَ» وَقَالَ أَوْسُ بْنُ حُذَيْفَةَ سَأَلْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَيْفَ تُحَزِّبُونَ الْقُرْآنَ؟ قَالُوا: ثَلَاثٌ وَخَمْسٌ وَسَبْعٌ وَتِسْعٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ وَثَلَاثُ عَشْرَةَ وَحِزْبُ الْمُفَصَّلِ وَحْدَهُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرَوَى الثَّانِيَ أَحْمَدُ وَفِيهِ حِزْبُ الْمُفَصَّلِ مِنْ قَافْ حَتَّى تَخْتِمَ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فَسَأَلْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَزِّبُ الْقُرْآنَ؟ قَالُوا كَانَ يُحَزِّبُهُ ثَلَاثًا وَخَمْسًا» وَذَكَرَهُ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ. وَإِنْ قَرَأَهُ فِي كُلِّ ثَلَاثٍ فَحَسَنٌ لَمْ يُذْكَرْ فِي الشَّرْحِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو «قُلْت لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ بِي قُوَّةً قَالَ: اقْرَأْهُ فِي ثَلَاثٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد قَالَ فِي رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ الرَّجُلِ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ سَبْعٍ: مَا يُعْجِبنِي وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ رُخْصَةً ثُمَّ ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ نَظَرَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو «لَا يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ» فَهَذِهِ رُخْصَةٌ قَالَ الْقَاضِي وَظَاهِرُ هَذَا الرُّجُوعُ يَعْنِي عَنْ رِوَايَةِ الْكَرَاهَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ وَعَنْهُ تُكْرَهُ قِرَاءَتُهُ دُونَ السَّبْعِ قَالَ الْقَاضِي نُصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ؟ فَقَالَ لَهُ اقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً قُلْت إنِّي أُطِيقُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ فِي كُلِّ عِشْرِينَ قُلْت: إنِّي أُطِيقُ

أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: فِي كُلِّ عَشْرٍ قُلْت إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ فِي كُلِّ سَبْعٍ وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ» وَفِي لَفْظٍ «اقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ قُلْت: إنِّي أَجِدُ قُوَّةً قَالَ: فِي عِشْرِينَ لَيْلَةً قُلْت: إنِّي أَجِدُ قُوَّةً قَالَ: فِي سَبْعٍ وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ. وَفِي لَفْظٍ اقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ قُلْت: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَرَدَّدَهُ فِي الصَّوْمِ إلَى صَوْمِ دَاوُد وَقَالَ وَاقْرَأْهُ فِي سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً» مُتَّفَقٌ عَلَى ذَلِكَ. وَتُكْرَهُ قِرَاءَتُهُ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ أَكْرَهُ لَهُ دُونَ ثَلَاثٍ وَهُوَ مَعْنَى مَا نَقَلَ حَرْبٌ وَيَعْقُوبُ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَعَنْهُ لَا يُكْرَهُ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو اقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ قَالَ أُطِيقُ أَكْثَرَ فَمَا زَالَ حَتَّى قَالَ فِي ثَلَاثٍ» . وَالْمُرَادُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ إذَا لَمْ يُكْرَهْ أَنَّ الْفِعْلَ مُسْتَحَبٌّ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ مَطْلُوبَةٌ وَلَا كَرَاهَةَ وَهُوَ ظَاهِرُ الْخَبَرِ، وَعَنْهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ أَحْيَانًا وَكَرِهَ الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ تَمِيمٍ وَهُوَ أَصَحُّ وَتَجُوزُ قِرَاءَتُهُ كُلُّهُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَعَنْهُ تُكْرَهُ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى ذَلِكَ. وَعَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بَلْ هُوَ عَلَى حَسْبِ حَالِهِ مِنْ النَّشَاطِ وَالْقُوَّةِ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ كَانَ يَخْتِمُهُ فِي لَيْلَةٍ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ. وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُ خَتْمِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا بِلَا عُذْرٍ نُصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ «عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كَمْ يُخْتَمُ الْقُرْآنُ قَالَ: فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا» الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَإِنْ خَافَ نِسْيَانَهُ أَوْ زَادَ عَلَيْهَا كَنَسْيِهِ بِلَا عُذْرٍ حَرُمَ وَفِيهِ وَجْهٌ يُكْرَهُ، وَيُسَنُّ خَتْمُهُ فِي الشِّتَاءِ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَفِي الصَّيْفِ أَوَّلَ النَّهَارِ

قَالَ ذَلِكَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد لِأَحْمَدَ فَكَأَنَّهُ أَعْجَبَهُ وَيَجْمَعُ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ وَغَيْرَهُمْ عِنْد خَتْمِهِ وَيَدْعُو نُصَّ عَلَيْهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا خِلَافُهُ فَرَوَى الْمَرُّوذِيُّ قَالَ: كُنْت مَعَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ نَحْوًا عَنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ بِالْعَسْكَرِ وَلَا يَدَعُ قِيَامَ اللَّيْلِ وَقِرَاءَةَ النَّهَارِ فَمَا عَلِمْت بِخَتْمَةٍ خَتَمَهَا وَكَانَ يُسِرُّ ذَلِكَ. وَقَدْ رَوَى طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ قَالَ: أَدْرَكْت أَهْلَ الْخَيْرِ مِنْ صَدْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَسْتَحِبُّونَ الْخَتْمَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ وَأَوَّلِ النَّهَارِ وَيَقُولُونَ: إذَا خَتَمَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى يُمْسِي، وَإِذَا خَتَمَ أَوَّلَ اللَّيْلِ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى يُصْبِحَ وَرَوَاهُ ابْن أَبِي دَاوُد وَنَصَّ عَلَى هَذَا فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبٍ وَكَانَ أَنَسٌ إذَا خَتَمَ الْقُرْآنَ جَمَعَ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ. قَالَهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ وَغَيْرِهِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ شَاهِينَ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ أَبِي قِلَابَةَ مُرْسَلًا.

فصل في بيان سور المفصل

[فَصْلٌ فِي بَيَانِ سُوَرِ الْمُفَصَّلِ] وَلِلْعُلَمَاءِ فِي الْمُفَصَّلِ أَقْوَالٌ: (أَحَدُهَا) أَنَّهُ مِنْ أَوَّلِ (ق) صَحَّحَهُ ابْنُ أَبِي الْفَتْحِ فِي مَطْلَعِهِ وَغَيْرُهُ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ حَكَاهُ عِيسَى بْنُ عُمَرَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ لِلْخَبَرِ الْمَذْكُورِ فِي الْفَصْلِ قَبْلَهُ وَالثَّانِي مِنْ الْحُجُرَاتِ وَالثَّالِثُ مِنْ أَوَّلِ الْفَتْحِ وَالرَّابِعُ مِنْ أَوَّلِ الْقِتَالِ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ وَالْخَامِسُ مِنْ: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ} [الإنسان: 1] . وَالسَّادِسُ مِنْ سُورَةِ الضُّحَى قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ سَيْفُ الدِّينِ ابْنُ الشَّيْخِ فَخْرِ الدِّينِ الْحَنْبَلِيِّ الْحَرَّانِيُّ فِي خُطْبَةٍ لَهُ: وَفِي الْمُفَصَّلِ خِلَافٌ مُفَصَّلٌ غَيْرُ مُجْمَلٍ، فَقِيلَ هُوَ مِنْ سُورَةِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ النَّبِيُّ الْمُرْسَلُ وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ الْفَتْح وَهُوَ قَوْلٌ مُهْمَلٌ وَقَوْلُ قَوْمٍ مِنْ (ق) وَهَذَا الْقَوْلُ أَجْزَلُ وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ الضُّحَى، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ وَمَا عَلَيْهِ مُعَوَّلٌ. وَفِي تَسْمِيَتِهِ بِالْمُفَصَّلِ لِلْعُلَمَاءِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: (أَحَدُهَا) لِفَصْلِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ. (وَالثَّانِي) لِكَثْرَةِ الْفَصْلِ بَيْنَهَا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. (وَالثَّالِثُ) لِإِحْكَامِهِ. (وَالرَّابِعُ) لِقِلَّةِ الْمَنْسُوخِ فِيهِ.

فصل في فضل القراءة في المصحف

[فَصْلٌ فِي فَضْلِ الْقِرَاءَةِ فِي الْمُصْحَفِ] وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الْمُصْحَفِ أَفْضَلُ قَالَ الطَّبَرَانِيُّ ثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ دُحَيْمٍ الدِّمَشْقِيُّ ثنا أَبِي وَحَدَّثَنَا عَبْدَانُ بْنُ حَمْدَانَ ثنا دُحَيْمٌ الدِّمَشْقِيُّ ثنا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ ثنا أَبُو سَعِيدِ بْنِ عَوْنٍ الْمَكِّيُّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قِرَاءَةُ الرَّجُلِ الْقُرْآنَ فِي غَيْرِ الْمُصْحَفِ أَلْفُ دَرَجَةٍ وَقِرَاءَتُهُ فِي الْمُصْحَفِ تُضَاعَفُ عَلَى ذَلِكَ إلَى أَلْفَيْ دَرَجَةٍ» كَذَا نَقَلْته مِنْ خَطِّ الْحَافِظِ ضِيَاءِ الدِّينِ وَإِنَّمَا هُوَ أَبُو سَعِيدِ بْنِ عَوْدٍ رَوَى ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ ابْنِ مَعِينٍ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ وَرَوَى غَيْرُهُ عَنْهُ: ضَعِيفٌ. وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ خَبَرَهُ هَذَا وَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي مَتْنِهِ وَقَالَ: مِقْدَارُ مَا يَرْوِيهِ غَيْرُ مَحْفُوظٍ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ الْآمِدِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى فِي (الْوَظَائِفِ) فِي ذَلِكَ آثَارًا. وَفِي الْحَدِيثِ «النَّظَرُ فِي الْمُصْحَفِ عِبَادَةٌ» قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كَانَ أَبِي يَقْرَأُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعًا لَا يَكَادُ يَتْرُكُهُ نَظَرًا قَالَ الْقَاضِي: وَإِنَّمَا اخْتَارَ أَحْمَدُ الْقِرَاءَةَ فِي الْمُصْحَفِ لِأَخْبَارٍ فَرَوَى ابْنُ أَبِي دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي دَاوُد مَرْفُوعًا «مَنْ قَرَأَ مِائَتَيْ آيَةٍ كُلَّ يَوْمٍ نَظَرًا شُفِّعَ فِي سَبْعَةِ قُبُورٍ حَوْلَ قَبْرِهِ وَخُفِّفَ الْعَذَابُ عَنْ وَالِدَيْهِ وَإِنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ» وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَضْلُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ نَظَرًا عَلَى مَنْ يَقْرَؤُهُ ظَاهِرًا كَفَضْلِ الْفَرِيضَةِ عَلَى النَّافِلَةِ» وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا دَخَلَ الْبَيْتَ نَشَرَ الْمُصْحَفَ فَقَرَأَ فِيهِ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ مَعْنَى ذَلِكَ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ الْحَثُّ عَلَى ذَلِكَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ رُوِيَ فِي فَضْلِ النَّظَرِ إلَى الْمُصْحَفِ مِنْ غَيْرِ قِرَاءَةٍ

أَخْبَارٌ فَرَوَى ابْنُ أَبِي دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَالنَّظَرُ إلَى الْكَعْبَةِ عِبَادَةٌ، وَالنَّظَرُ فِي وَجْهِ الْوَالِدَيْنِ عِبَادَةٌ، وَالنَّظَرُ فِي الْمُصْحَفِ عِبَادَةٌ» وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ كَانَ يُعْجِبُهُمْ النَّظَرُ فِي الْمُصْحَفِ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ هَيْبَةً قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَيَنْبَغِي لِمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مُصْحَفٌ أَنْ يَقْرَأَ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ آيَاتٍ يَسِيرَةً لِئَلَّا يَكُونَ مَهْجُورًا.

فصل في العمل بالحديث الضعيف وروايته والتساهل في أحاديث الفضائل

[فَصْلٌ فِي الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ وَرِوَايَتِهِ وَالتَّسَاهُلِ فِي أَحَادِيثِ الْفَضَائِلِ] ِ دُونَ مَا تَثْبُتُ بِهِ الْأَحْكَامُ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْحَاجَةِ إلَى السُّنَّةِ وَكَوْنِهَا) وَلِأَجْلِ الْآثَارِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْفَصْلِ قَبْلَ هَذَا يَنْبَغِي الْإِشَارَةُ إلَى ذِكْرِ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ، وَاَلَّذِي قَطَعَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ حِكَايَةً عَنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يُعْمَلُ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ تَحْلِيلٌ وَلَا تَحْرِيمٌ كَالْفَضَائِلِ، وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مَا يُوَافِقُ هَذَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ: سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَهُوَ شَابٌّ عَلَى بَابِ أَبِي النَّضْرِ، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مَا تَقُولُ فِي مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ؟ قَالَ: أَمَّا مُحَمَّدٌ فَهُوَ رَجُلٌ نَسْمَعُ مِنْهُ وَنَكْتُبُ عَنْهُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ يَعْنِي الْمَغَازِيَ وَنَحْوَهَا، وَأَمَّا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ فَلَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ وَلَكِنَّهُ رَوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَحَادِيثَ مَنَاكِيرَ، فَأَمَّا إذَا جَاءَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ

أَرَدْنَا أَقْوَامًا، هَكَذَا قَالَ الْعَبَّاسُ، وَأَرَانَا بِيَدِهِ، قَالَ الْخَلَّالُ: وَأَرَانَا الْعَبَّاسُ فِعْلَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَبَضَ كَفَّيْهِ جَمِيعًا وَأَقَامَ إبْهَامَيْهِ. وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْقَطَّانُ النَّيْسَابُورِيُّ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ سَمِعْت أَبَا زَكَرِيَّا الْعَنْبَرِيَّ سَمِعْت أَبَا الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدٍ السِّجْزِيَّ يَقُولُ: سَمِعْت النَّوْفَلِيَّ يَعْنِي أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: إذَا رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَلَالُ وَالْحَرَامِ شَدَّدْنَا فِي الْأَسَانِيدِ، وَإِذَا رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَمَا لَا يَضَعُ حُكْمًا وَلَا يَرْفَعُهُ تَسَاهَلْنَا فِي الْأَسَانِيدِ. وَذَكَرَ هَذَا النَّصَّ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ فِي طَبَقَاتِ أَصْحَابِنَا فِي تَرْجَمَةِ النَّوْفَلِيِّ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ ضَعَّفَ الْأَحَادِيثَ الَّتِي فِيهَا: «أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَآخِرُ الْوَقْتِ عَفْوُ اللَّهِ» . قَالَ: وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ لَمْ يُحْتَجَّ بِهِ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ قَالَهُ الْقَاضِي مُجِيبًا لِمَنْ قَالَ: إنَّ الْعَفْوَ يَكُونُ مَعَ الْإِسَاءَةِ؛ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُسِيئًا بِتَأْخِيرِهَا وَيَشْهَدُ لِهَذَا أَحَادِيثُ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ: ثنا شُرَيْحٌ ثنا أَبُو مَعْشَرٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا جَاءَكُمْ عَنِّي مِنْ خَيْرٍ قُلْته أَوْ لَمْ أَقُلْهُ فَأَنَا أَقُولُهُ، وَمَا أَتَاكُمْ مِنْ شَرٍّ فَإِنِّي لَا أَقُولُ الشَّرَّ» . أَبُو مَعْشَرٍ اسْمُهُ نَجِيحٌ لَيِّنٌ مَعَ أَنَّهُ صَدُوقٌ حَافِظٌ وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِهِ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ ثنا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا حُدِّثْتُمْ عَنِّي حَدِيثًا تُنْكِرُونَهُ وَلَا تَعْرِفُونَهُ فَلَا تُصَدِّقُوا؛ فَإِنِّي لَا أَقُولُ مَا يُنْكَرُ وَلَا يُعْرَفُ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ آدَمَ فَقَالَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَعَلَّ أَحْمَدَ رَوَاهُ هَكَذَا وَسَقَطَ مِنْ النُّسْخَةِ، وَهُوَ حَدِيثٌ جَيِّدُ الْإِسْنَادِ. وَسَيَأْتِي فِي كَلَامِ الْبَيْهَقِيّ فِي آخِرِ الْفَصْلِ، وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: ثنا أَبُو عَامِرٍ ثنا سُلَيْمَانُ يَعْنِي ابْنَ بِلَالٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ وَأَبِي أَسِيدٍ

أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا سَمِعْتُمْ الْحَدِيثَ عَنِّي تَعْرِفُهُ قُلُوبُكُمْ، وَتَلِينُ لَهُ أَشْعَارُكُمْ وَأَبْشَارُكُمْ، وَتَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْكُمْ قَرِيبٌ فَأَنَا أَوْلَاكُمْ بِهِ. وَإِذَا سَمِعْتُمْ الْحَدِيثَ عَنِّي تُنْكِرُهُ قُلُوبُكُمْ، وَتَنْفِرُ مِنْهُ أَشْعَارُكُمْ وَأَبْشَارُكُمْ، وَتَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْكُمْ بَعِيدٌ فَأَنَا أَبْعَدُكُمْ مِنْهُ» . إسْنَادٌ جَيِّدٌ وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِيهِ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ الثَّانِيَ مِنْ حَدِيثِ قُتَيْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ وَمِنْ حَدِيثِ الدَّرَاوَرْدِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ رَبِيعَةَ بِهِ قَالَ، وَتَابَعَهُ عُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ أَوْ أَبِي أَسِيدٍ بِالشَّكِّ قَالَ: وَهَذَا أَمْثَلُ إسْنَادٍ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ: قَالَ لَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ ثنا بَكْرٌ هُوَ ابْنُ مُضَرَ عَنْ عَمْرٍو هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ عَنْ بُكَيْرٍ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدٍ حَدِيثُهُ عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ أُبَيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إذَا بَلَغَكُمْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يُعْرَفُ وَيُلِينُ الْجِلْدَ، فَقَدْ يَقُولُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْخَيْرَ، وَلَا يَقُولُ إلَّا الْخَيْرَ.» قَالَ الْبُخَارِيُّ وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةٍ عَنْهُ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ أَوْ أَبِي أَسِيدٍ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَصَارَ الْحَدِيثُ الْمُسْنَدُ مَعْلُولًا. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ فِي جُزْئِهِ ثنا أَبُو يَزِيدَ خَالِدُ بْنُ حِبَّانَ الرَّقِّيُّ عَنْ فُرَاتِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَعِيسَى بْنِ كَثِيرٍ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي رَجَاءٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَلَغَهُ عَنْ اللَّهِ شَيْءٌ لَهُ فِيهِ فَضِيلَةٌ فَأَخَذَ بِهِ إيمَانًا وَرَجَاءَ ثَوَابِهِ أَعْطَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ» . خَالِدٌ قَوَّاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ وَضَعَّفَهُ الْفَلَّاسُ. وَأَمَّا أَبُو رَجَاءٍ فَهُوَ مُحْرِزُ الْجَزَرِيُّ فِيمَا أَظُنُّ. قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِخَبَرِهِ إذَا انْفَرَدَ وَذَكَرَهُ أَيْضًا فِي الثِّقَاتِ.

وَقَالَ: يُدَلِّسُ. وَقَالَ: أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ شَيْخٌ ثِقَةٌ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ وَلَعَلَّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ أَبَا رَجَاءٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَرَّرٍ بِرَاءَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ وَهُوَ مَتْرُوكٌ بِالِاتِّفَاقِ، لَكِنْ لَمْ أَجِدْ أَحَدًا ذَكَرَ لَهُ كُنْيَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَجْهُولٌ وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ. وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْمَوْضُوعَاتِ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقٍ وَلَمْ يَذْكُرْهُ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ. وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْمَلُ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي الْفَضَائِلِ وَالْمُسْتَحَبَّات؛ وَلِهَذَا لَمْ يَسْتَحِبَّ صَلَاةَ التَّسْبِيحِ لِضَعْفِ خَبَرِهَا عِنْدَهُ مَعَ أَنَّهُ خَبَرٌ مَشْهُورٌ عَمِلَ بِهِ وَصَحَّحَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَلَمْ يَسْتَحِبَّ أَيْضًا التَّيَمُّمَ بِضَرْبَتَيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ عَنْهُ مَعَ أَنَّ فِيهِ أَخْبَارًا وَآثَارًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ، فَصَارَتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَيَّنَ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُشَدِّدْ فِي الرِّوَايَةِ فِي الْفَضَائِلِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا وَاهِيًا، وَلَا أَنْ يُعْمَلَ بِهِ بِانْفِرَادِهِ، بَلْ يَرْوِيهِ لِيَعْرِفَ وَيُبَيِّنَ أَمْرَهُ لِلنَّاسِ أَوْ يُعْتَبَرَ بِهِ وَيُعْتَضَدَ بِهِ مَعَ غَيْرِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ يُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَى عَدَمِ الشِّعَارِ وَإِنَّمَا تَرْكُ الْعَمَلِ بِالثَّانِي لِمَا فِيهِ مِنْ الشِّعَارِ، هُوَ مَعْنًى مُنَاسِبٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ عَنْ قَوْلِ أَحْمَدَ وَعَنْ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ فِي الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ قَالَ: الْعَمَلُ بِهِ بِمَعْنَى أَنَّ النَّفْسَ تَرْجُو ذَلِكَ الثَّوَابَ أَوْ تَخَافُ ذَلِكَ الْعِقَابَ، وَمِثَالُ ذَلِكَ التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ بِالْإِسْرَائِيلِيَّاتِ وَالْمَنَامَاتِ وَكَلِمَاتِ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ وَوَقَائِعِ الْعَالِمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِهِ لَا اسْتِحْبَابٌ وَلَا غَيْرُهُ، لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ فِيمَا عُلِمَ حُسْنُهُ أَوْ قُبْحُهُ بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُ وَلَا

يَضُرُّ، وَسَوَاءٌ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا إلَى أَنْ قَالَ: فَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا الْبَابَ يُرْوَى وَيُعْمَلُ بِهِ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ لَا فِي الِاسْتِحْبَابِ، ثُمَّ اعْتِقَادُ مُوجِبِهِ وَهُوَ مَقَادِيرُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ. وَقَالَ أَيْضًا فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ فِي التَّيَمُّمِ بِضَرْبَتَيْنِ: وَالْعَمَلُ بِالضِّعَافِ إنَّمَا يُشْرَعُ فِي عَمَلٍ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِذَا رَغِبَ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِهِ بِحَدِيثٍ ضَعِيفٍ عُمِلَ بِهِ، أَمَّا إثْبَاتُ سُنَّةٍ فَلَا، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَأَمَّا الْعَمَلُ بِالضَّعِيفِ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ قَدْ كَانَ حَسَنًا فَإِنَّهُ يُحْتَجُّ بِهِ، وَقَدْ يُطْلِقُ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ وَلَمْ يَكُنْ حَسَنًا لَمْ يُحْتَجَّ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا: «النَّاسُ أَكْفَاءٌ إلَّا حَائِكٌ أَوْ حَجَّامٌ أَوْ كَسَّاحٌ» هُوَ ضَعِيفٌ وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْخَطَّابِ: مَعْنَى قَوْلِهِ: ضَعِيفٌ عَلَى طَرِيقَةِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُمْ يُضَعِّفُونَ بِالْإِرْسَالِ وَالتَّدْلِيسِ وَالْعَنْعَنَةِ، وَقَوْلُهُ: وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُضَعِّفُونَ بِذَلِكَ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي التَّيَمُّمِ مِنْ جَامِعِهِ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ بُجْدَانَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا: «الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ» إنَّ أَحْمَدَ لَمْ يَمِلْ إلَيْهِ قَالَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ عَمْرَو بْنَ بُجْدَانَ، وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ بُجْدَانَ هُوَ حَدِيثٌ تَفَرَّدَ بِهِ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَلَوْ كَانَ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ صَحِيحًا لَقَالَ بِهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ مَذْهَبُهُ إذَا ضَعُفَ إسْنَادُ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَالَ إلَى قَوْلِ أَصْحَابِهِ، وَإِذَا ضَعُفَ إسْنَادُ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مُعَارِضٌ قَالَ بِهِ

فَهَذَا كَانَ مَذْهَبُهُ. وَقَالَ الْخَلَّالُ أَيْضًا فِي الْجَامِعِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي كَفَّارَةِ وَطْءِ الْحَائِضِ قَالَ كَأَنَّهُ يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ: أَحَبَّ أَنْ لَا يَتْرُكَ الْحَدِيثَ وَإِنْ كَانَ مُضْطَرِبًا؛ لِأَنَّ مَذْهَبَهُ فِي الْأَحَادِيثِ إذَا كَانَتْ مُضْطَرِبَةً، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مُخَالِفٌ قَالَ بِهَا. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي التَّعْلِيقِ فِي حَدِيثِ مُظَاهِرِ بْنِ أَسْلَمَ: فِي أَنَّ عِدَّةَ الْأَمَةِ قُرْءَانِ، مُجَرَّدُ طَعْنِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ لَا يُقْبَلُ حَتَّى يُبَيِّنُوا جِهَتَهُ مَعَ أَنَّ أَحْمَدَ يَقْبَلُ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي الْوَاجِبَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ بِتَجَرُّدِهِ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ أَصْحَابِنَا، وَأَمَّا إذَا كَانَ حَسَنًا فَإِنَّهُ يُحْتَجُّ بِهِ كَمَا سَبَقَ قَالَ تَعَالَى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَهَذَا وَإِنْ كَانَ نَازِلًا فِي أَمْوَالِ الْفَيْءِ فَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَهَى عَنْهُ، وَالْأَخْبَارُ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَشْهُورَةٌ صَحِيحَةٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَخَبَرِ الْمِقْدَادِ بْنِ مَعْدِي كَرِبٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَلَا إنِّي أُوتِيت الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ فَيَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ. فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ» . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ. وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ ثنا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ ثنا الْحَسَنُ بْنُ جَابِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ الْمِقْدَامَ فَذَكَرَهُ مَرْفُوعًا، وَلَفْظُهُ: «يُوشِكُ أَنْ يَقْعُدَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدِّثُ بِحَدِيثِي فَيَقُولُ: بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلَالًا اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَرَامًا حَرَّمْنَاهُ. إنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ.» وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَالنُّفَيْلِيِّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي النَّضْرِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ: لَا نَدْرِي، مَا وَجَدْنَاهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ» . حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ

وَرَوَى الْخَطِيبُ فِي كِفَايَةِ الْكِفَايَةِ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ مَكْحُولِ أَنَّهُ قَالَ: الْقُرْآنُ أَحْوَجُ إلَى السُّنَّةِ مِنْ السُّنَّةِ إلَى الْقُرْآنِ. وَقَالَ يَحْيَى بْن أَبِي كَثِيرِ: السُّنَّةُ قَاضِيَةٌ عَلَى الْكِتَابِ وَلَيْسَ الْكِتَابُ قَاضِيًا عَلَى السُّنَّةِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ حَسَّانِ بْنِ عَطِيَّةَ كَانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالسُّنَّةُ تُفَسِّرُ الْقُرْآنَ. وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ إذَا حُدِّثَ الرَّجُلُ بِالسُّنَّةِ فَقَالَ: دَعْنَا مِنْ هَذَا حَدِّثْنَا مِنْ الْقُرْآنِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ ضَالٌّ مُضِلٌّ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] . وَقَالَ {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] . وَقَالَ مَالِكُ: مَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَهُ قَبْلَهُ مُجَاهِدٌ وَالشَّعْبِيُّ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَاضْرِبُوا بِقَوْلِي هَذَا الْحَائِطَ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ: مَا تُوُفِّيَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ حَرَامٌ فَهُوَ حَرَامٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَا تُوُفِّيَ عَنْهُ وَهُوَ حَلَالٌ فَهُوَ حَلَالٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَخَطَبَ بِذَلِكَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد: «أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سُئِلَ عَنْ الْمَرْأَةِ تَحِيضُ

بَعْدَ مَا طَافَتْ يَوْمَ النَّحْرِ فَأَفْتَى بِأَنَّهَا لَا تَرْحَلُ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهَا بِالْبَيْتِ، فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: إنِّي سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَذِنَ لَهَا، فَجَعَلَ عُمَرُ يَضْرِبُهُ بِالدُّرَّةِ. وَيَقُولُ لَهُ: وَيْلُكَ تَسْأَلُنِي عَنْ شَيْءٍ سَأَلْتَ عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَقَدْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْمَدْخَلِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قَالَ بَعْضُ مَنْ رَدَّ الْأَخْبَارَ: فَهَلْ تَجِدُ حَدِيثًا فِيهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَا جَاءَكُمْ عَنِّي فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، فَمَا وَافَقَهُ فَأَنَا قُلْتُهُ، وَمَا خَالَفَهُ فَلَمْ أَقُلْهُ» فَقُلْتُ لَهُ: مَا رَوَى هَذَا أَحَدٌ يَثْبُتُ حَدِيثُهُ فِي صَغِيرٍ وَلَا كَبِيرٍ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ مُنْقَطِعَةٍ عَنْ رَجُلٍ مَجْهُولٍ، وَنَحْنُ لَا نَقْبَلُ مِثْلَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي شَيْءٍ، ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ: قَالَ أَبُو يُوسُفَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ أَبِي كَرِيمَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ دَعَا الْيَهُودَ فَسَأَلَهُمْ فَحَدَّثُوهُ حَتَّى كَذَبُوا عَلَى عِيسَى فَصَعِدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمِنْبَرَ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: إنَّ الْحَدِيثَ سَيَفْشُو عَنِّي، فَمَا أَتَاكُمْ عَنِّي فَوَافَقَ الْقُرْآنَ فَهُوَ عَنِّي، وَمَا أَتَاكُمْ عَنِّي فَخَالَفَ الْقُرْآنَ فَلَيْسَ عَنِّي» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَيْسَ يُخَالِفُ الْحَدِيثُ الْقُرْآنَ وَلَكِنَّهُ يُبَيِّنُ مَعْنَى مَا أَرَادَ: خَاصًّا وَعَامًّا، وَنَاسِخًا وَمَنْسُوخًا، ثُمَّ يُلْزِمُ النَّاسَ مَا سُنَّ بِفَرْضِ اللَّهِ، فَمَنْ قَبِلَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَنْ اللَّهِ قَبِلَ، وَاحْتَجَّ بِالْآيَاتِ الْوَارِدَاتِ فِي ذَلِكَ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَكَأَنَّ الشَّافِعِيَّ أَرَادَ بِالْمَجْهُولِ خَالِدَ بْنَ أَبِي كَرِيمَةَ فَلَمْ يُعْرَفْ مِنْ حَالِهِ مَا يَثْبُتُ بِهِ خَبَرُهُ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ أَوْجُهٍ أُخَرَ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ، ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ كَمَا قَالَ، فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ حَنْبَلِ بْن إِسْحَاقَ ثنا جُبَارَةُ بْنُ الْمُفْلِسِ ثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ عَاصِمِ بْن أَبِي النَّجُودِ عَنْ زَرٍّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّهَا تَكُونُ بَعْدِي رُوَاةٌ يَرْوُونَ عَنِّي الْحَدِيثَ فَاعْرِضُوا حَدِيثَهُمْ عَلَى الْقُرْآنِ، فَمَا وَافَقَ الْقُرْآنَ فَحَدِّثُوا بِهِ، وَمَا لَمْ يُوَافِقْ الْقُرْآنَ فَلَا تَأْخُذُوا» . قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَالصَّوَابُ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زَيْدِ بْن عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ الْعَدْلُ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ

بْنِ زِيَادَةَ ثنا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ ثنا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إذَا حُدِّثْتُمْ عَنِّي حَدِيثًا تَعْرِفُونَهُ وَلَا تُنْكِرُوا، قُلْتُهُ أَوْ لَمْ أَقُلْهُ فَصَدِّقُوا بِهِ، فَإِنِّي أَقُولُ مَا يُعْرَفُ وَلَا يُنْكَرُ، وَإِذَا حُدِّثْتُمْ عَنِّي حَدِيثًا تُنْكِرُونَهُ وَلَا تَعْرِفُونَهُ فَلَا تُصَدِّقُوا بِهِ فَإِنِّي لَا أَقُولُ مَا يُنْكَرُ وَلَا يُعْرَفُ. ثُمَّ رُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ خُزَيْمَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي صِحَّةِ هَذَا الْخَبَرِ مَقَالٌ لَمْ نَرَ فِي شَرْقِ الْأَرْضِ وَلَا غَرْبِهَا أَحَدًا يَعْرِفُ خَبَرَ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ آدَمَ وَلَا رَأَيْتَ أَحَدًا مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ يُثْبِتُ هَذَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَالَ عَبَّاسُ الدُّورِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ كَانَ يَحْيَى بْنُ آدَمَ يُحَدِّثُ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ يَرْوِيهِ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ مُرْسَلًا. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ مُرْسَلًا قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَهُوَ وَهْمٌ لَيْسَ فِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ وَسَبَقَ بِنَحْوِ ثَلَاثَةِ كَرَارِيسَ فِي مَعْرِفَةِ عِلَلِ الْحَدِيثِ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الْحَاكِمِ عَنْ الْأَصَمِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ نَبْهَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَا بَلَغَكُمْ عَنِّي مِنْ حَدِيثٍ حَسَنٍ لَمْ أَقُلْهُ فَأَنَا قُلْتُهُ» . قَالَ الْحَاكِمُ: هَذَا بَاطِلٌ وَالْحَارِثُ بْنُ نَبْهَانَ وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَرْزَمِيُّ مَتْرُوكَانِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُرْسَلٌ فَاحِشٌ، ثُمَّ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ حَدِيثَ أَبِي حُمَيْدٍ وَأَبِي أَسِيدٍ السَّابِقَ. وَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ مَا صَحَّ مِنْ الْأَخْبَارِ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَأَوْلَاهُمَا وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي مَكَان آخَرَ قَوْلَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا تَظُنَّ كَلِمَةً خَرَجَتْ مِنْ أَخِيكَ شَرًّا وَأَنْتَ تَجِدَ لَهَا فِي الْخَيْرِ مَحْمَلًا. وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا حَدَّثْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا فَظُنُّوا بِهِ الَّذِي هُوَ عَدْلٌ وَاَلَّذِي هُوَ أَهْنَأُ وَاَلَّذِي هُوَ أَنْقَى، وَسَبَقَ مَا يَتَعَلَّقُ بِعِلَلِ الْحَدِيثِ بِنَحْوِ كُرَّاسَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ.

فصل رواية التكبير مع القرآن من سورة الضحى إلى آخر القرآن

[فَصْلٌ رِوَايَةُ التَّكْبِيرِ مَعَ الْقُرْآنِ مِنْ سُورَةِ الضُّحَى إلَى آخِرِ الْقُرْآنِ] وَاسْتَحَبَّ أَحْمَدُ التَّكْبِيرَ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الضُّحَى إلَى أَنْ يَخْتِمَ ذَكَرَهُ ابْنُ تَمِيمٍ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ قِرَاءَةُ أَهْلِ مَكَّةَ أَخَذَهَا الْبَزِّيُّ عَنْ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَخَذَهَا ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَأَخَذَهَا مُجَاهِدٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَخَذَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأَخَذَهَا أُبَيٍّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رَوَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: الْبَغَوِيّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ انْقِطَاعُ الْوَحْيِ، وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ رِوَايَةُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَزِّيِّ وَهُوَ ثَبْتٌ فِي الْقِرَاءَةِ ضَعِيفٌ فِي الْحَدِيثِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمِ الرَّازِيّ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. وَقَالَ أَبُو الْبَرَكَاتِ: يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ مِنْ سُورَةِ {أَلَمْ نَشْرَحْ} [الشرح: 1] وَقَالَ فِي الشَّرْحِ: اسْتَحْسَنَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ التَّكْبِيرَ عِنْدَ آخِرِ كُلِّ سُورَةٍ وَمِنْ الضُّحَى إلَى أَنْ يَخْتِمَ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ رَوَاهُ الْقَاضِي. وَعَنْ الْبَزِّيِّ أَيْضًا مِثْلُ هَذَا وَعَنْ قُنْبُلٍ هَكَذَا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ، وَعَنْهُ أَيْضًا: لَا تَكْبِيرَ كَمَا هُوَ قَوْلُ سَائِرِ الْقُرَّاءِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَفْصِلُ بَيْنَ كُلِّ سُورَتَيْنِ بِالتَّكْبِيرِ وَمِنْ الضُّحَى وَهُوَ رَاوِي قُرَّاءِ مَكَّةَ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ يُهَلِّلُ وَيُكَبِّرُ وَهُوَ قَوْلٌ عَنْ الْبَزِّيِّ، وَسَائِرُ الْقُرَّاءِ عَلَى خِلَافِهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَسُئِلَ عَنْ جَمَاعَةٍ قَرَءُوا بِغَيْرِ تَهْلِيلٍ وَلَا تَكْبِيرٍ قَالَ: إذَا قَرَءُوا بِغَيْرِ حَرْفِ ابْنِ كَثِيرٍ كَانَ تَرْكُهُمْ لِذَلِكَ هُوَ الْأَفْضَلُ، بَلْ الْمَشْرُوعُ الْمَسْنُونُ. وَإِذَا قَرَأَ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ مَعَ غَيْرِهَا قَرَأَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَا يُكَرِّرُ ثَلَاثًا نَصَّ عَلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ تَمِيمٍ مَنَعَ أَحْمَدُ الْقَارِئَ مِنْ تَكْرَارِ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ ثَلَاثًا إذَا وَصَلَ إلَيْهَا.

فصل في ترتيل القرآن وتدبره والتخشع والتغني به

[فَصْلٌ فِي تَرْتِيلِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرِهِ وَالتَّخَشُّعِ وَالتَّغَنِّي بِهِ] ِ) وَيُسْتَحَبُّ تَرْتِيلُ الْقِرَاءَةِ وَإِعْرَابُهَا وَتَمَكُّنُ حُرُوفِ الْمَدِّ وَاللِّينِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفِ، قَالَ أَحْمَدُ: تُعْجِبُنِي الْقِرَاءَةُ السَّهْلَةُ، وَكَرِهَ السُّرْعَةَ فِي الْقِرَاءَةِ قَالَ حَرْبُ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ السُّرْعَةِ فِي الْقِرَاءَةِ فَكَرِهَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ لِسَانُ الرَّجُلِ كَذَلِكَ أَوْ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَتَرَسَّلَ، قِيلَ: فِيهِ إثْمٌ؟ قَالَ أَمَّا الْإِثْمُ فَلَا أَجْتَرِئُ عَلَيْهِ قَالَ الْقَاضِي: يَعْنِي إذَا لَمْ تَبِنْ الْحُرُوفُ مَعَ أَنَّهُ قَالَ: ظَاهِرُ هَذَا كَرَاهَةُ السُّرْعَةِ وَالْعَجَلَةِ. قَالَ فِي رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ وَقَدْ سُئِلَ إذَا قَامَ الرَّجُلُ مِنْ اللَّيْلِ أَيُّمَا أَحَبُّ إلَيْكَ: التَّرَسُّلُ أَوْ السُّرْعَةُ؟ فَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ جَاءَ: بِكُلِّ حَرْفٍ كَذَا وَكَذَا حَسَنَةً؟ قُولُوا لَهُ فِي السُّرْعَةِ قَالَ: إذَا صَوَّرَ الْحَرْفَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَسْقُطْ مِنْ الْهِجَاءِ قَالَ الْقَاضِي: وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ اخْتَارَ السُّرْعَةَ. وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى: كَرِهَ أَحْمَدُ سُرْعَتَهَا إذَا لَمْ يُبَيِّنْ الْحُرُوفَ انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ الْقَاضِي: أَقَلُّ التَّرْتِيلِ تَرْكُ الْعَجَلَةِ فِي الْقُرْآنِ عَنْ الْإِبَانَةِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا بَيَّنَ مَا يَقْرَأُ بِهِ فَقَدْ أَتَى بِالتَّرَسُّلِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَعْجِلًا فِي قِرَاءَتِهِ، وَأَكْمَلَهُ أَنْ يُرَتِّلَ الْقِرَاءَةَ وَيَتَوَقَّفَ فِيهَا مَا لَمْ يُخْرِجْهُ ذَلِكَ إلَى التَّمْدِيدِ وَالتَّمْطِيطِ، فَإِذَا انْتَهَى إلَى التَّمْطِيطِ كَانَ مَمْنُوعًا، قَالَ وَقَدْ أَوْمَأَ أَحْمَدُ إلَى مَعْنَى هَذَا فَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ: يُعْجِبُنِي مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ السَّهْلَةُ وَلَا تُعْجِبُنِي هَذِهِ الْأَلْحَانُ، قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: أَظُنُّهُ حِكَايَةً عَنْ أَبِي مُوسَى، وَالتَّفَهُّمُ فِيهِ وَالِاعْتِبَارُ فِيهِ مَعَ قِلَّةِ الْقِرَاءَةِ أَفْضَلُ مِنْ إدْرَاجِهِ بِغَيْرِ تَفَهُّمٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ أَحْمَدُ: يُحَسِّنُ الْقَارِئُ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ وَيَقْرَؤُهُ بِحُزْنٍ وَتَدَبُّرٍ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ كَإِذْنِهِ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ» نَصَّ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ: أَذِنَ بِكَسْرِ الذَّالِ وَمَعْنَاهُ الِاسْتِمَاعُ. وَقَوْلُهُ: " كَأَذَنِهِ " هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالذَّالِ وَهُوَ مَصْدَرُ أَذِنَ يَأْذَنُ أَذَنًا كَفَرِحَ يَفْرَحُ فَرَحًا. وَفِي

رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ: " كَإِذْنِهِ " بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الذَّالِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: هُوَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِمَعْنَى الْحَثِّ عَلَى ذَلِكَ وَالْأَمْرِ بِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ» وَمَعْنَاهُ أَذِنَ اسْتَمَعَ. وَقَالَ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، كَذَا عَزَاهُ فِي الشَّرْحِ وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ أَبَا دَاوُد رَوَاهُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي لُبَابَةَ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ حَمَّادٍ عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ الْوَرْدِ عَنْ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ: مَرَّ بِنَا أَبُو لُبَابَةَ فَذَكَرَهُ فِي قِصَّةٍ. قَالَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ: يُخَالَفُ فِي بَعْضِ حَدِيثِهِ. وَوَثَّقَهُ غَيْرُهُ، وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَلَمْ أَجِدْهُ فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَأَظُنُّهُ رَوَاهُ فِي غَيْرِ الْمُسْنَدِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ مَعْنَى قَوْلِهِ: «مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» ، أَيْ: يَسْتَغْنِي بِهِ وَلَوْ كَانَ مِنْ الْغِنَاءِ بِالصَّوْتِ لَكَانَ مَنْ لَمْ يُغَنِّ بِالْقُرْآنِ، وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا التَّفْسِيرِ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَزِّيُّ: هَذَا قَوْلُ مَنْ أَدْرَكْنَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ تَفْسِيرُهُ التَّحَزُّنُ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ: تَفْسِيرُهُ الِاسْتِغْنَاءُ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَتَغَنَّوْا وَلَوْ بِحُزَمِ الْحَطَبِ» وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ مَعْنَاهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ يُحَسِّنُ صَوْتَهُ بِهِ. وَلِأَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» . قَالَ الْهَرَوِيُّ: مَعْنَاهُ الْهَجُوا بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَتَزَيَّنُوا بِهِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ عَلَى تَطْرِيبِ الصَّوْتِ وَالتَّحْزِينِ إذْ لَيْسَ ذَلِكَ فِي وُسْعِ كُلِّ أَحَدٍ قَالَ: وَهَكَذَا قَوْلُهُ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» . وَقَالَ فِيهِ الْبَغَوِيّ

قَرِيبًا مِنْهُ، قَالَ: إنَّهُ مِنْ الْمَقْلُوبِ كَقَوْلِهِمْ خَرَقَ الثَّوْبُ الْمِسْمَارَ. وَقَالَ ` تَعَالَى: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} [القصص: 76] أَيْ: تَنْهَضُ وَرَوَاهُ الْبَغَوِيّ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ: «زَيِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ» . وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مِنْهُمْ الْآجُرِّيُّ وَالْحَافِظُ أَبُو مُوسَى لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ آدَابًا، مِنْهَا إدْمَانُ تِلَاوَتِهِ، وَمِنْهَا الْبُكَاءُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالتَّبَاكِي، وَمِنْهَا حَمْدُ اللَّهِ عِنْدُ قَطْعِ الْقِرَاءَةِ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَنِعْمَتِهِ وَسُؤَالُ الثَّبَاتِ وَالْإِخْلَاصِ، وَمِنْهَا السُّؤَالُ ابْتِدَاءً، وَمِنْهَا أَنْ يَسْأَلَ عِنْدَ آيَةِ الرَّحْمَةِ وَيَتَعَوَّذَ عِنْدَ آيَةِ الْعَذَابِ وَمِنْهَا أَنْ يَجْهَرَ بِالْقِرَاءَةِ لَيْلًا لَا نَهَارًا، وَمِنْهَا أَنْ يُوَالِيَ قِرَاءَتَهُ، وَلَا يَقْطَعُهَا حَدِيثُ النَّاسِ، وَفِيهَا نَظَرٌ إذَا عَرَضَتْ حَاجَةٌ، وَمِنْهَا أَنْ يَقْرَأَ بِالْقِرَاءَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ لَا الشَّاذَّةِ الْغَرِيبَةِ، وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ قِرَاءَتُهُ عَنْ الْعُدُولِ الصَّالِحِينَ الْعَارِفِينَ بِمَعَانِيهَا، وَمِنْهَا أَنْ يَقْرَأَ مَا أَمْكَنَهُ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ أَحْوَالِ الْعَبْدِ؛ وَلِأَنَّ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ الْقِرَاءَةَ فِيهَا تُضَاعَفُ عَلَى الْقِرَاءَةِ خَارِجًا عَنْهَا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جُحَادَةَ: (كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَخْتِمُوا فِي رَكْعَتَيْ الْمَغْرِبِ أَوْ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ) . وَمِنْهَا أَنْ يَتَحَرَّى قِرَاءَتَهُ مُتَطَهِّرًا، وَمِنْهَا إنْ كَانَ قَاعِدًا اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَمِنْهَا كَثْرَةُ تِلَاوَتِهِ فِي رَمَضَانَ، وَمِنْهَا أَنْ يَتَحَرَّى أَنْ يَعْرِضَهُ كُلَّ عَامٍ عَلَى مَنْ هُوَ أَقْرَأُ مِنْهُ، وَمِنْهَا بِالْإِعْرَابِ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إنَّ الْمَعْنَى الِاجْتِهَادُ عَلَى حِفْظِ إعْرَابِهِ لَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِهِ عَمْدًا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَيُؤَدَّبُ فَاعِلُهُ لِتَغْيِيرِهِ الْقُرْآنَ، وَمِنْهَا أَنْ يُفَخِّمَهُ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «نَزَلَ الْقُرْآنُ بِالتَّفْخِيمِ» قَالَ الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى: مَعْنَاهُ أَنْ يَقْرَأَهُ عَلَى قِرَاءَةِ الرِّجَالِ وَلَا يُخْضِعَ الصَّوْتَ بِهِ كَكَلَامِ النِّسَاءِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ كَرَاهَةَ الْإِمَالَةِ وَيُحْتَمَلُ إرَادَتُهَا، ثُمَّ رُخِّصَ فِيهَا، وَمِنْهَا أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ سُورَةٍ مِمَّا قَبْلَهَا إمَّا بِالْوَقْفِ أَوْ التَّسْمِيَةِ وَلَا يَقْرَأُ مِنْ أُخْرَى قَبْلَ فَرَاغِ الْأُولَى، وَمِنْهَا الْوَقْفُ عَلَى رُءُوسِ الْآيِ وَإِنْ لَمْ يُتِمَّ الْكَلَامَ لِوَقْفِهِ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ عَلَى كُلِّ آيَةٍ، وَلَمْ يُتِمَّ الْكَلَامَ قَالَ أَبُو مُوسَى

وَلِأَنَّ الْوَقْفَ عَلَى آخِرِ السُّورَةِ لَا شَكَّ فِي اسْتِحْبَابِهِ، وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ كَسُورَةِ الْفِيلِ مَعَ قُرَيْشٍ: وَمِنْهَا أَنْ يَعْتَقِدَ جَزِيلَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ إذْ أَهَّلَهُ لِحِفْظِ كِتَابِهِ، وَيَسْتَصْغِرَ عَرَضَ الدُّنْيَا أَجْمَعَ فِي جَنْبِ مَا خَوَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَيَجْتَهِدُ فِي شُكْرِهِ. وَمِنْهَا تَرْكُ الْمُبَاهَاةِ وَأَنْ لَا يَطْلُبَ بِهِ الدُّنْيَا، بَلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَقْرَأَ فِي الْمَوَاضِعِ الْقَذِرَةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَا سَكِينَةٍ وَوَقَارٍ وَقَنَاعَةٍ وَرِضَا بِمَا قَسَمَ اللَّهُ تَعَالَى مُجَانِبًا لِلدَّنَايَا مُحَاسِبًا لِنَفْسِهِ، يُعْرَفُ الْقُرْآنُ فِي سَمْتِهِ وَخُلُقِهِ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ الْمَلِكِ وَالْمُطَّلِعُ عَلَى مَا قَدْ وُعِدَ فِيهِ وَهُدِّدَ فَإِذَا بَدَرَتْ مِنْهُ سَيِّئَةٌ بَادَرَ مَحْوَهَا بِالْحَسَنَةِ. وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: يَنْبَغِي لِحَامِلِ الْقُرْآنِ أَنْ يُعْرَفَ بِلَيْلِهِ إذْ النَّاسُ نَائِمُونَ، وَبِنَهَارِهِ إذَا النَّاسُ مُفْطِرُونَ، وَبِحُزْنِهِ إذَا النَّاسُ يَفْرَحُونَ، وَبِبُكَائِهِ إذَا النَّاسُ يَضْحَكُونَ، وَبِصَمْتِهِ إذَا النَّاسُ يَخْلِطُونَ، وَبِخُشُوعِهِ إذَا النَّاسُ يَخْتَالُونَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَاكِيًا مَحْزُونًا حَكِيمًا عَلِيمًا سَكِينًا، وَلَا يَكُون جَافِيًا، وَلَا غَافِلًا وَلَا صَاخِبًا وَلَا صَيَّاحًا وَلَا حَدِيدًا.

فصل في التلاوة بألحان الخاشعين لا ألحان المطربين

[فَصْلٌ فِي التِّلَاوَةِ بِأَلْحَانِ الْخَاشِعِينَ لَا أَلْحَانِ الْمُطْرِبِينَ] َ) وَكَرِهَ أَصْحَابُنَا قِرَاءَةَ الْإِدَارَةِ وَقَالَ حَرْبٌ: هِيَ حَسَنَةٌ. وَقَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ: قِرَاءَةُ الْإِدَارَةِ وَتَقْطِيعُ حُرُوفُ الْقُرْآنِ مَكْرُوهٌ عِنْدَهُ. وَكَرِهَ أَحْمَدُ قِرَاءَةَ الْأَلْحَانِ وَقَالَ هِيَ بِدْعَةٌ. قِيلَ: يُهْجَرُ مَنْ سَمِعَهَا قَالَ لَا وَقَالَ فِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَتَعَلَّمَ الرَّجُلُ الْأَلْحَانَ إلَّا أَنْ يَكُونَ حَزْمُهُ مِثْلَ حَزْمِ أَبِي مُوسَى. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: فَيُكَلَّمُونَ؟ قَالَ: لَا كُلُّ ذَا. وَرَأَيْتُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حِزْبَهُ فَيَقْرَأُ بِحُزْنٍ مِثْلَ صَوْتِ أَبِي مُوسَى. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ: أَكْرَهُ الْقِرَاءَةَ بِالْأَلْحَانِ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لَا أَكْرَهُهَا قَالَ أَصْحَابُهُ: حَيْثُ كَرِهَهَا أَرَادَ إذَا مَطَّطَ وَأَخْرَجَ الْكَلَامَ عَنْ مَوْضُوعِهَا، وَحَيْثُ أَبَاحَهَا أَرَادَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا تَغْيِيرٌ لِمَوْضُوعِ الْكَلَامِ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: اخْتَلَفُوا فِي الْقِرَاءَةِ بِالْأَلْحَانِ فَكَرِهَهَا مَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ لِخُرُوجِهَا عَمَّا جَاءَ الْقُرْآنُ لَهُ مِنْ الْخُشُوعِ وَالتَّفَهُّمِ وَأَبَاحَهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ لِلْأَحَادِيثِ؛ وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلرِّقَّةِ وَإِثَارَةِ الْخَشْيَةِ وَإِقْبَالِ النُّفُوسِ عَلَى اسْتِمَاعِهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِصِفَةِ التَّلْحِينِ الَّذِي يُشْبِهُ تَلْحِينَ الْغِنَاءِ مَكْرُوهٌ مُبْتَدَعٌ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ.

فصل تكرار الختم

[فَصْلٌ تَكْرَارُ الْخَتْمِ] فَصْلٌ (إذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ النَّاسِ لَمْ يَزِدْ الْفَاتِحَةَ وَخَمْسًا مِنْ الْبَقَرَةِ) نَصَّ عَلَيْهِ وَذَلِكَ إلَى قَوْلِهِ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] ؛ لِأَنَّ (الم) آيَةٌ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ وَهِيَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ غَيْرُ آيَةٍ، قَالَ فِي الشَّرْحِ: وَلَعَلَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ عِنْدَهُ أَثَرٌ صَحِيحٌ، وَقِيلَ: يَجُوزُ بَعْدَ الدُّعَاءِ، وَقِيلَ: يُسْتَحَبُّ. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ صَالِحٍ الْمُرِّيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالَ: الْحَالُّ الْمُرْتَحِلُ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ زُرَارَةَ مُرْسَلًا، ثُمَّ قَالَ: هَذَا عِنْدِي أَصَحُّ. قَالَ الْقَاضِي بَعْدَ ذِكْرِهِ لِمَعْنَى هَذَا الْخَبَرِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي دَاوُد قَالَ: وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْحَثُّ عَلَى تَكْرَارِ الْخَتْمِ خَتْمَةً بَعْدَ خَتْمَةٍ، وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ لَا يَتَعَقَّبُ الْخَتْمَةَ.

فصل في الاستماع للقرآن والإنصات والأدب له

[فَصْلٌ فِي الِاسْتِمَاعِ لِلْقُرْآنِ وَالْإِنْصَاتِ وَالْأَدَبِ لَهُ] ُ) وَيُسْتَحَبُّ اسْتِمَاعُ الْقِرَاءَةِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ، وَيُكْرَهُ الْحَدِيثُ عِنْدَهَا بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي الْإِشْرَافِ إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الِاسْتِمَاعُ لِلْقِرَاءَةِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ، وَتَكَلَّمَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ عَلَى الْخُشُوعِ وَعَلَى ذَمِّ قَسْوَةِ الْقَلْبِ، وَقَالَ: فَإِنْ قِيلَ فَخُشُوعُ الْقَلْبِ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَاجِبٌ قِيلَ نَعَمْ، لَكِنَّ النَّاسَ فِيهِ عَلَى قِسْمَيْنِ: مُقْتَصِدٌ وَسَابِقٌ، فَالسَّابِقُونَ يَخْتَصُّونَ بِالْمُسْتَحَبَّاتِ، وَالْمُقْتَصِدُونَ الْأَبْرَارُ هُمْ عُمُومُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْجَنَّةِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَا هَؤُلَاءِ فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ مَا أَخْوَفَنِي أَنْ أُسَاكِنَ مَعْصِيَةً فَتَكُونَ سَبَبًا فِي سُقُوطِ عَمَلِي وَسُقُوطِ مَنْزِلَةٍ إنْ كَانَتْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَمَا سَمِعْتُ قَوْله تَعَالَى {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي بَعْضِ التَّسَبُّبِ وَسُوءِ الْأَدَبِ عَلَى الشَّرِيعَةِ مَا يُحْبِطُ الْأَعْمَالَ، وَلَا يَشْعُرُ الْعَامِلُ إلَّا أَنَّهُ عِصْيَانٌ يَنْتَهِي إلَى رُتْبَةِ الْإِحْبَاطِ، هَذَا يَتْرُكُ الْفَطِنَ خَائِفًا وَجِلًا مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَآثِمِ ثُمَّ خَوْفًا أَنْ يَكُونَ تَحْتَهَا مِنْ الْعُقُوبَةِ مَا يُشَاكِلُ هَذِهِ إلَى أَنْ قَالَ: أَلَيْسَ بَيْنَنَا كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ كَلَامُهُ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَزَمَّلُ وَيَتَدَثَّرُ لِنُزُولِهِ، وَالْجِنُّ تُنْصِتُ لِاسْتِمَاعِهِ وَأَمَرَ بِالتَّأَدُّبِ بِقَوْلِهِ: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] . فَعَمَّ كُلَّ قَارِئٍ، وَهَذَا مَوْجُودٌ بَيْنَنَا. فَلَمَّا أُمِرْنَا بِالْإِنْصَاتِ إلَى كَلَامٍ مَخْلُوقٍ

كَانَ أَمْرُ النَّاسِ بِالْإِنْصَاتِ إلَى كَلَامِهِ أَوْلَى. وَالْقَارِئُ يَقْرَأُ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ، وَرُبَّمَا أَصْغَيْتُمْ إلَى النَّغْمَةِ اسْتِثَارَةً لِلْهَوَى، فَاَللَّهَ اللَّهَ لَا تَنْسَ الْأَدَبَ فِيمَا وَجَبَ عَلَيْكَ فِيهِ حُسْنُ الْأَدَبِ، مَا أَخْوَفَنِي أَنْ يَكُونَ الْمُصْحَفُ فِي بَيْتِكَ وَأَنْتَ مُرْتَكِبٌ لِنَوَاهِي الْحَقِّ سُبْحَانَهُ فِيهِ فَتَدْخُلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187] . فَهِجْرَانُ الْأَوَائِلِ كَلَامَ الْحَقِّ يُوجِبُ عَلَيْكَ مَا أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْإِبْعَادِ وَالْمَقْتِ، فَقَدْ نَبَّهَكَ عَلَى التَّأَدُّبِ لَهُ مِنْ أَدَبِكَ لِلْوَالِدَيْنِ، وَالتَّأَدُّبُ لِلْأَبَوَيْنِ يُوجِبُ التَّأَدُّبَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِأَنَّهُ الْمُبْتَدِئُ بِالنِّعَمِ، فَاَللَّهَ اللَّهَ فِي إهْمَالِ مَا وَجَبَ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ الْأَدَبِ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَالْإِنْصَاتُ لِلْفَهْمِ وَالنَّهْضَةُ لِلْعَمَلِ بِالْحُكْمِ إيفَاءٌ لِلْحُقُوقِ إذَا وَجَبَتْ، وَصَبْرًا عَلَى أَثْقَالِ التَّكَالِيفِ إذَا حَضَرَتْ، وَتَلَقِّيًا بِالتَّسْلِيمِ لِلْمَصَائِبِ إذَا نَزَلَتْ، وَحِشْمَةً لِلْحَقِّ سُبْحَانَهُ فِي كُلِّ أَخْذٍ وَتَرْكٍ حَيْثُ نَبَّهَكَ عَلَى سَبَبِ الْحِشْمَةِ فَقَالَ: {وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ - أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 3 - 53] . وَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: كُرِهَ السُّؤَالُ بِالْقُرْآنِ لِثَلَاثِ مَعَانٍ: (أَحَدِهَا) أَنَّ النَّاسَ يَكْرَهُونَ بِالطَّبْعِ سَمَاعَ سُؤَالِ السَّائِلِ فَإِذَا أَعْرَضُوا عَنْ الْقَارِئِ الَّذِي يَسْأَلُ بِالْقُرْآنِ أَعْرَضُوا عَنْ الْقُرْآنِ فَيَحْمِلهُمْ الْقَارِئُ عَلَى أَنْ يَأْثَمُوا. (وَالثَّانِي) أَنَّهُ رُبَّمَا قَرَأَ وَهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْهُ، وَقَدْ أُمِرُوا بِالْإِنْصَاتِ لِلْقُرْآنِ فَيُعَرِّضُهُمْ لِلْإِثْمِ أَيْضًا. (الثَّالِثِ) أَنْ يَأْتِيَ بِأَعَزِّ الْأَشْيَاءِ فَيَسْتَشْفِعُ بِهِ فِي أَخَسِّهَا.

فصل فيما يعتري المتصوفة عند سماع الوعظ والغناء

[فَصْلٌ فِيمَا يَعْتَرِي الْمُتَصَوِّفَةُ عِنْدَ سَمَاعِ الْوَعْظِ وَالْغِنَاءِ] فَصْلٌ وَالْمَرْوِيُّ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَعَنْ أَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عِنْدَ سَمَاعِهِ إنَّمَا هُوَ فَيْضُ الدُّمُوعِ، وَاقْشِعْرَارُ الْجُلُودِ، وَلِينُ الْقُلُوبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر: 23] . «وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا بَلَغَ إلَى قَوْلِهِ: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] قَالَهَا: حَسْبُكَ فَالْتَفَتَ إلَيْهِ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَأَمَّا الصَّعْقُ وَالْغَشْيُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَحَدَثَ فِي التَّابِعِينَ لِقُوَّةِ الْوَارِدِ وَضَعْفِ الْمَوْرُودِ عَلَيْهِ وَالصَّحَابَةُ لِقُوَّتِهِمْ وَكَمَالِهِمْ لَمْ يَحْدُثْ فِيهِمْ، فَأَقْدَمُ مَنْ عَلِمْتُ هَذَا عَنْهُ الْإِمَامُ الرَّبَّانِيُّ مِنْ أَعْيَانِ التَّابِعِينَ الْكِبَارِ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان: 12] فَصَعِقَ وَكَانَ قَبْلَ الظُّهْرِ فَلَمْ يُفِقْ إلَى اللَّيْلِ، وَكَذَا الْإِمَامُ الْقَاضِي التَّابِعِيُّ الْمُتَوَسِّطُ زُرَارَةُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ فَلَمَّا بَلَغَ: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} [المدثر: 8] . شَهِقَ فَمَاتَ، وَكَانَ هَذَا الْحَالُ يَحْصُلُ كَثِيرًا لِلْإِمَامِ عِلْمًا وَعَمَلًا شَيْخِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ يَحْيَى بْنَ الْقَطَّانَ وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَوْ دَفَعَ أَوْ لَوْ قَدَرَ أَحَدٌ أَنْ يَدْفَعَ هَذَا عَنْ نَفْسِهِ دَفَعَهُ يَحْيَى. وَحَدَثَ ذَلِكَ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ فَمِنْهُمْ الصَّادِقُ فِي حَالِهِ وَمِنْهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ

وَلَعَمْرِي إنَّ الصَّادِقَ مِنْهُمْ عَظِيمُ الْقَدْرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا حُضُورُ قَلْبٍ حَيٍّ وَعِلْمُ مَعْنَى الْمَسْمُوعِ وَقَدْرِهِ، وَاسْتِشْعَارُ مَعْنَى مَطْلُوبٍ يُتَلَمَّحُ مِنْهُ، لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ لَكِنَّ الْحَالَ الْأَوَّلَ أَكْمَلُ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لِصَاحِبِهِ مَا يَحْصُلُ لِهَؤُلَاءِ وَأَعْظَمُ مَعَ ثَبَاتِهِ وَقُوَّةِ جَنَانِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْجَمِيعِ. لَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا يَصْدُقُ فِي هَذَا الْحَالِ، فَسُبْحَانَ عَلَّامِ الْغُيُوبِ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ كُلِّ رِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ. وَقَدْ قَالَ أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ بَعْدَ السُّؤَالِ عَمَّا يَعْتَرِي الْمُتَصَوِّفَةُ عِنْدَ سَمَاعِ الْوَعْظِ وَالْغِنَاءِ هَلْ هُوَ مَمْدُوحٌ أَوْ مَذْمُومٌ؟ قَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُجِيبَ عَنْهَا مُجِيبٌ حَتَّى يُبَيِّنَ تَحْقِيقَ السُّؤَالِ، فَإِنَّ الصَّعْقَ دَخِيلٌ عَلَى الْقَلْبِ وَغَمًّا لَا عَزْمًا غَيْرُ مُكْتَسَبٍ وَلَا مُجْتَلَبٍ، وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ حُكْمِ الشَّرْعِ بِأَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ وَلَا إبَاحَةٍ، وَأَمَّا الَّذِي يَتَحَقَّقُ مِنْ سُؤَالِكِ أَنْ نَقُولَ: هَذَا التَّصَدِّي لِلسَّمَاعِ الْمُزْعِجِ لِلْقُلُوبِ الْمُهَيِّجِ لَلطِّبَاعِ الْمُوجِبِ لِلصَّعْقِ جَائِزٌ أَوْ مَحْظُورٌ؟ وَهُوَ كَسُؤَالِ السَّائِلِ عَنْ الْعَطْسَةِ هَلْ هِيَ مُبَاحَةٌ أَوْ مَحْظُورَةٌ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَا يُجَابُ عَنْهَا جُمْلَةً وَلَا جَوَابًا مُطْلَقًا، بَلْ فِيهَا تَفْصِيلٌ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إنْ عَلِمَ هَذَا الْمُصْغِي إلَى إنْشَادِ الْأَشْعَارِ أَنَّهُ يَزُولُ عَقْلُهُ وَيَعْزُبُ رَأْيُهُ بِحَيْثُ لَا يَدْرِي مَا يَصْنَعُ مِنْ إفْسَادٍ أَوْ جِنَايَةٍ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَمَّدَ ذَلِكَ وَهُوَ كَالْمُتَعَمِّدِ لِشُرْبِ النَّبِيذِ الَّذِي يُزِيلَ عَقْلَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَدْرِي لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ فَإِنَّهُ تَارَةً يُصْعَقُ وَتَارَةً لَا، فَهَذَا لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَلَا يُكْرَهُ، كَذَا قَالَ وَيَتَوَجَّهُ كَرَاهَتُهُ بِخِلَافِ النَّوْمِ فَإِنَّهُ وَإِنْ غَطَّى عَلَى الْعَقْلِ فَإِنَّهُ لَا يُوَرِّثُ اضْطِرَابًا تَفْسُدُ بِهِ الْأَمْوَالُ، بَلْ يُغَطَّى عَقْلُ النَّائِمِ ثُمَّ يَحْصُلُ مَعَهُ الرَّاحَةُ. قَالَ: وَإِذَا اسْتَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ مَعْرِفَةُ الرَّبِّ، وَسَمِعَ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ لَمْ يَسْمَعْ التِّلَاوَةَ إلَّا مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا فَصَعِقَ السَّامِعُ خُضُوعًا لِلْمَسْمُوعِ عَنْهُ إلَى أَنْ قَالَ: فَهُوَ الصَّعْقُ الْمَمْدُوحُ يُعَطِّلُ حُكْمَ الظَّاهِرِ، وَيُوَفِّرُ دَرْكَ النَّاظِرِ، لَوْ رَأَيْتُمُوهُمْ لَقُلْتُمْ: مَجَانِينَ، وَالظَّاهِرُ مِنْ خَارِجِ أَحْوَالِهِمْ، خَلَى مِمَّا يَلُوحُ لَهُمْ.

وَالْأَصْلُ فِي تَفَاوُتِ هَذَا صَفَاءُ الْمَدَارِكِ وَاخْتِلَافُ الْمَسَالِكِ، فَالْقُلُوبُ تَسْمَعُ الْأَصْوَاتَ وَتَرْجِيعَ الْأَلْحَانِ فَيُحَرِّكُهُمْ طَرَبُ الطِّبَاعِ، وَمَا عِنْدَهُمْ ذَوْقٌ مِنْ الْوَجْدِ فِي السَّمَاعِ، وَالْخَوَاصُّ يُدْرِكُونَ بِصَفَاءِ مَدَارِكِهِمْ أَرْوَاحَ الْأَلْفَاظِ وَهِيَ الْمَعَانِي، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْإِيهَامُ الْبَرَّانِيُّ يَتَعَجَّبُ مِمَّا يَسْمَعُ مِنْ الْقَوْمِ، وَقَدْ قَالَ الْوَاجِدُ: لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْتُ كَلَامَهَا ... خَرُّوا لِعَزَّةِ رُكَّعًا وَسُجُودَا وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: النَّاظِرُ إلَى الْقَوْمِ مِنْ خَارِجِ حَالِهِمْ يَتَعَجَّبُ دَهْشًا، وَالْمُلَاحِظُ يَذُوقُ الْمُنَاسَبَةَ يَتَلَظَّى عَطَشًا، كَمَا قَالَ الْقَوَّالُ: صَغِيرُ هَوَاكِ عَذَّبَنِي ... فَكَيْفَ بِهِ إذَا احْتَنَكَا وَمُرَادُ ابْنِ عَقِيلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَدَمُ الْإِنْكَارِ عَلَى صَاحِبِ هَذِهِ الْحَالِ كَمَا يَرَاهُ بَعْضُ النَّاسِ أَيْ: الصَّادِقُ مِنْهُمْ وَمَدْحُ حَالِهِ لَا هَذِهِ الْحَالُ هِيَ الْغَايَةُ. وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ أَوْ غَيْرُهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمَّا حَدَّثَ بِحَدِيثِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تُسَعَّرُ بِهِمْ النَّارُ زَفَرَ زَفْرَةً وَخَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ ثُمَّ ثَانِيَةً ثُمَّ ثَالِثَةً ثُمَّ حَدَّثَ بِهِ. وَالْحَدِيثُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، فَإِنْ صَحَّ فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ عَلِمْتُ حَدَثَ لَهُ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ أَيْضًا فِي الْفُنُونِ: لَمَّا رَأَيْنَا الشَّرِيعَةَ تَنْهَى عَنْ تَحْرِيكَاتِ الطِّبَاعِ بِالرَّعُونَاتِ، وَكَسَرَتْ الطُّبُولَ وَالْمَعَازِفَ، وَنَهَتْ عَنْ النَّدْبِ وَالنِّيَاحَةِ وَالْمَدْحِ وَجَرِّ الْخُيَلَاءِ فَعَلِمْنَا أَنَّ الشَّرْعَ يُرِيدُ الْوَقَارَ دُونَ الْخَلَاعَةِ، فَمَا بَالُ التَّغْيِيرِ وَالْوَجْدِ، وَتَخْرِيقِ الثِّيَابِ وَالصَّعْقِ، وَالتَّمَاوُتِ مِنْ هَؤُلَاءِ

الْمُتَصَوِّفَة؟ وَكُلُّ مُهَيِّجٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْوُعَّاظِ الْمُنْشِدِينَ مِنْ غَزَلِ الْأَشْعَارِ وَذِكْرِ الْعُشَّاقِ فَهُمْ كَالْمُغَنِّي وَالنَّائِحِ، فَيَجِبُ تَعْزِيرُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يُهَيِّجُونَ الطِّبَاعَ، وَالْعَقْلُ سُلْطَانُ هَذِهِ الطِّبَاعِ فَإِذَا هَيَّجَهَا صَارَ إهَاجَةَ الرَّعَايَا عَلَى السُّلْطَانِ أَمَا سَمِعْتَ: (يَا أَنْجَشَةُ) رُوَيْدَكَ سُوقًا بِالْقَوَارِيرِ وَمَا الْعِلْمُ إلَّا الْحِكْمَةُ الْمُتَلَقَّاةُ مَعَ السُّكُونِ وَالدَّعَةِ وَاعْتِدَالِ الْأَمْزِجَةِ، أَمَا رَأَيْتَهُ عَزَلَ الْقَاضِيَ حِينَ غَضَبِهِ، وَكَذَلِكَ يَعْزِلُ حَالَ طَرَبِهِ أَمَا سَمِعْتَ: {فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} [الأحقاف: 29] . فَأَيْنَ الطَّرَبُ مِنْ الْأَدَبِ؟ وَاَللَّهِ مَا رَقَصَ قَطُّ عَاقِلٌ، وَلَا تَعَرَّضَ لِلطَّرِبِ فَاضِلٌ، وَلَا صَغَى إلَى تَلْحِينِ الشِّعْرِ إلَّا بَطِرٌ، أَلَيْسَ بَيْنَنَا الْقُرْآنُ؟ وَقَدْ قَالَ: طَلَبْنَا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَأَبَى، وَذَلِكَ أَنَّ بِدَايَةَ الطَّلَبِ صَعْبَةٌ فَهُوَ كَلُعْبَةِ الْمَفْطُومِ ثُمَّ يَسْتَغْنِي عَنْهَا بِقُوَّةِ النَّهِمِ فَيَدَعُ الثَّدْيَ تَقَذُّرًا وَاسْتِقْذَارًا. وَقَالَ أَيْضًا: هَذِهِ فِتَنٌ وَمِحَنٌ دَخَلَتْ عَلَى الْعُقُولِ مِنْ غَلَبَةِ الطِّبَاعِ وَالْأَهْوَاءِ، وَهَلْ يَحْكُم عَلَى الْعُقُولِ حَقٌّ قَطُّ؟ وَهَلْ رَأَيْتُمْ فِي السَّلَفِ أَوْ سَمِعْتُمْ رَجُلًا زَعَقَ أَوْ خَرَقَ؟ بَلْ سَمَاعُ صَوْتٍ وَفَهْمٌ وَاسْتِجَابَةٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ التَّخَبُّطَ لَيْسَ مِنْ قَانُونِ الشَّرْعِ، لَكِنْ أَمْرٌ بِخَفْضِ الصَّوْتِ وَغَضِّهِ، وَأَمَّا التَّوَاجُدُ وَالْحَرَكَةُ وَالتَّخْرِيقُ فَالْأَشْبَهُ بِدَاعِيَةِ الْحَقِّ الْخَمُودِ، ثَكِلْتُ نَفْسِي حِينَ أَسْمَعُ الْقُرْآنَ وَلَا أَخْشَعُ، وَأَسْمَعُ كَلَامَ الطُّرُقِيِّينَ فَيَظْهَرُ مِنِّي الِانْزِعَاجُ، هَذَا أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الطِّبَاعَ تُوَرِّثُ مَا تُورَثُ مِنْ التَّغْيِيرَاتِ، وَإِنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ صَدَرَ عَنْ طَبْعٍ فَأَهَاجَ طَبْعًا، وَلِلْحَقِّ ثِقَلٌ، فَلَا يَغُرَّنَّكُمْ تَحَرُّكُ الطِّبَاعِ بِالْأَسْجَاعِ وَالْأَلْحَانِ فَإِنَّمَا هُوَ كَعَمَلِ الْأَوْتَارِ وَالْأَصْوَاتِ، وَهَلْ نَهَتْ الشَّرِيعَةُ عَنْ سُكْرِ الْعَقَارِ إلَّا لِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ مِنْ هَذَا الْفَسَادِ وَذَكَرَ كَلَامَهُ كَثِيرًا. وَذَكَرَ الْحَافِظُ بْنُ الْأَخْضَرِ فِيمَنْ رَوَى عَنْ أَحْمَدَ فِي تَرْجَمَةِ إبْرَاهِيمَ

بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَلَانِسِيِّ قَالَ: قِيلَ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: إنَّ الصُّوفِيَّةَ يَجْلِسُونَ فِي الْمَسَاجِدِ بِلَا عِلْمٍ عَلَى سَبِيلِ التَّوَكُّلِ قَالَ: الْعِلْمُ أَجْلَسَهُمْ؟ فَقَالَ: لَيْسَ مُرَادُهُمْ مِنْ الدُّنْيَا إلَّا كِسْرَةُ خُبْزٍ وَخِرْقَةٌ، فَقَالَ: لَا أَعْلَمُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَقْوَامًا أَفْضَلَ مِنْهُمْ قِيلَ إنَّهُمْ يَسْتَمِعُونَ وَيَتَوَاجَدُونَ قَالَ: دَعُوهُمْ يَفْرَحُونَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى سَاعَةً قِيلَ: فَمِنْهُمْ مَنْ يُغْشَى عَلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُوتُ فَقَالَ: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47] . كَذَا رَوَى هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَالْمَعْرُوفُ خِلَافُ هَذَا عَنْهُ، وَلَعَلَّ مُرَادَهُ أَنَّهُمْ يَسْتَمِعُونَ وَيَتَوَاجَدُونَ عِنْدَ الْقُرْآنِ فَيَحْصُلُ لِبَعْضِهِمْ مَا يَحْصُلُ مِنْ الْغَشْيِ وَالْمَوْتِ كَمَا كَانَ يَحْصُلُ لِيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، وَعَذَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَلَا يُخَالِفُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل حكم الاجتماع في المساجد في ليالي المواسم والذهاب في أيامها إلى المقابر

[فَصْلٌ حُكْمُ الِاجْتِمَاعِ فِي الْمَسَاجِدِ فِي لَيَالِي الْمَوَاسِمِ وَالذَّهَابِ فِي أَيَّامِهَا إلَى الْمَقَابِرِ] فَصْلٌ (فِي سُوءِ حَالِ الِاجْتِمَاعِ فِي الْمَسَاجِدِ فِي لَيَالِي الْمَوَاسِمِ وَالذَّهَابِ فِي أَيَّامِهَا إلَى الْمَقَابِرِ) هَلْ يُسْتَحَبُّ الِاجْتِمَاعُ لِلْقِرَاءَةِ وَالدُّعَاءِ؟ سَبَقَ قَرِيبًا مِنْ ثُلُثِ الْكِتَابِ فِي الْفُصُولِ مِنْ كَلَامٍ عِنْدَ ذِكْرِ الْقِصَاصِ وَالْكَلَامِ فِي الْوَسَاوِسِ وَالْخَطَرَاتِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ: أَنَا أَبْرَأُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ جُمُوعِ أَهْلِ وَقْتِنَا فِي الْمَسَاجِدِ وَالْمَشَاهِدِ لَيَالِي يُسَمُّونَهَا إحْيَاءً، لَعَمْرِي إنَّمَا لِإِحْيَاءِ أَهْوَائِهِمْ وَإِيقَاظِ شَهَوَاتِهِمْ جُمُوعِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، مَخَارِجُ الْأَمْوَالِ فِيهَا أَفْسَدُ الْمَقَاصِدِ، وَهُوَ الرِّيَاءُ وَالسُّمْعَةُ وَمَا فِي خِلَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ اللِّعْبِ وَالْكَذِبِ وَالْغَفْلَةِ، مَا كَانَ أَحْوَجَ الْجَوَامِعِ أَنْ تَكُونَ مُظْلِمَةً مِنْ سَرْجِهِمْ مُنَزَّهَةً عَنْ مَعَاصِيهِمْ وَفِسْقِهِمْ، مُرْدَانٌ وَنِسْوَةٌ وَفِسْقُ الرَّجُلِ عِنْدِي مَنْ وَزَنَ فِي نَفْسِهِ ثَمَنَ الشَّمْعَةِ فَأَخْرَجَ بِهَا دُهْنًا وَحَطَبًا إلَى بُيُوتِ الْفُقَرَاءِ وَوَقَفَ فِي زَاوِيَةِ بَيْتِهِ بَعْدَ إرْضَاءِ عَائِلَتِهِ بِالْحُقُوقِ فَكُتِبَ فِي الْمُتَهَجِّدِينَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بِحُزْنٍ، وَدَعَا لِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَبَكَّرَ إلَى مَعَاشِهِ لَا إلَى الْمَقَابِرِ. فَتَرْكُ الْمَقَابِرِ فِي ذَلِكَ عِبَادَةٌ يَا هَذَا اُنْظُرْ إلَى خُرُوجِكَ إلَى الْمَقَابِرِ كَمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا وَصَفْتُ لَهُ قَالَ: " تُذَكِّركُمْ الْآخِرَةَ " مَا أَشْغَلَكَ بِتَلَمُّحِ الْوُجُوهِ النَّاضِرَةِ فِي تِلْكَ الْجُمُوعِ لِزَرْعِ اللَّذَّةِ فِي قَلْبِكَ، وَالشَّهْوَةِ فِي نَفْسِكَ عَنْ مُطَالَعَةِ الْعِظَامِ النَّاخِرَةِ، تَسْتَدْعِي بِهَا ذِكْرَ الْآخِرَةِ؟ كَلًّا مَا خَرَجْت إلَّا مُتَنَزِّهًا، وَلَا عُدْت إلَّا مُتَأَثِّمًا، وَلَا فَرْقَ عِنْدَكَ بَيْنَ الْقُبُورِ وَالْبَسَاتِينِ مَعَ الْفَرْحَةِ، إلَّا أَقَلُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ الْمَعَاصِي بَيْنَ الْجُدْرَانِ، فَإِمَّا أَنْ تَجْعَلَ الْمَقَابِرَ وَالْمَشَاهِدَ

عِلَّةً فِي الِاشْتِهَارِ فَإِذَا فَعَلَ مَنْ فَطِنَ لِقَوْلِهِ فِي رَجَبٍ وَأَمْثَالِهِ: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36] . عَزَّ عَلَيَّ بِقَوْمٍ فَاتَتْهُمْ أَيَّامُ الْمَوَاسِمِ الَّتِي يَحْظَى فِيهَا قَوْمٌ بِأَنْوَاعِ الْأَرْبَاحِ، وَلَيْتَهُمْ خَرَجُوا مِنْهَا بِالْبَطَالَةِ رَأْسًا بِرَأْسٍ: مَا قَنَعُوا حَتَّى جَعَلُوهَا مِنْ السَّنَةِ إلَى السَّنَةِ خَلْسًا لِاسْتِيفَاءِ اللَّذَّاتِ، وَاسْتِسْلَامِ الشَّهَوَاتِ وَالْمَحْظُورَاتِ، مَا بَالُ الْوُجُوهِ الْمَصُونَةِ فِي جُمَادَى هُتِكَتْ فِي رَجَبٍ بِحُجَّةِ الزِّيَارَاتِ؟ {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة: 50] ؟ {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] . تُرَى بِمَاذَا تُحَدِّثُ عَنْك سَوَارِي الْمَسْجِدِ فِي الظُّلَمِ وَأَفْنِيَةُ الْقُبُورِ وَالْقِبَابِ بِالْبُكَاءِ وَمِنْ خَوْفِ الْوَعِيدِ وَالتَّذَكُّرِ لِلْآخِرَةِ يَنْظُرُ الْعَبْرَةَ، إذَا تَحَدَّثْتُ عَنْ أَقْوَامٍ خَتَمُوا فِي بُيُوتِهِمْ الْخَتَمَاتِ وَصَانُوا الْأَهْلَ، اتِّبَاعًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ انْسَلَّ مِنْ فِرَاشِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إلَى الْمَسْجِدِ لَا شُمُوعَ وَلَا جُمُوعَ، طُوبَى لِمَنْ سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ فَانْزَوَى إلَى زَاوِيَةِ بَيْتِهِ، وَانْتَصَبَ لِقِرَاءَةِ جُزْءٍ فِي رَكْعَتَيْنِ بِتَدَبُّرٍ وَتَفَكُّرٍ، فَيَالَهَا مِنْ لَحْظَةٍ مَا أَصْفَاهَا مِنْ أَكْدَارِ الْمُخَالَطَاتِ، وَأَقْذَارِ الرِّيَاءِ غَدًا يَرَى أَهْلُ الْجُمُوعِ أَنَّ الْمَسَاجِدَ تَلْعَنُهُمْ وَالْمَقَابِرَ تَسْتَغِيثُ مِنْهُمْ، يُبَكِّرُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ أَنَا صَائِمٌ، قَدْ أَفْلَحَ عُرْسُكَ حَتَّى يَكُونَ لَك صُبْحُهُ، قُلْ لِي يَا مَنْ أَحْيَاهُ فِي الْجَامِعِ بِأَيِّ قَلْبٍ رُحْتَ؟ مَاتَ وَاَللَّهِ قَلْبُكَ، وَعَاشَتْ نَفْسُكَ وَمَا أَخْوَفَنِي عَلَى مَنْ فَعَلَ هَذَا الْفِعْلَ فِي هَذِهِ اللَّيَالِي أَنْ يَخَافَ فِي مَوْطِنِ الْأَمْنِ وَيَظْمَأَ فِي مَقَامَاتِ الرَّيِّ.

فصل في التعوذ قبل القراءة والبسملة لكل سورة

[فَصْلٌ فِي التَّعَوُّذِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَالْبَسْمَلَةِ لِكُلِّ سُورَةٍ] ٍ) وَيُسَنُّ التَّعَوُّذُ فِي الْقِرَاءَةِ، فَإِنْ قَطَعَهَا قَطْعَ تَرْكٍ وَإِهْمَالٍ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعُودُ إلَيْهَا أَعَادَ التَّعَوُّذَ إذَا رَجَعَ إلَيْهَا، وَإِنْ قَطَعَهَا بِعُذْرٍ عَازِمًا عَلَى إتْمَامِهَا إذَا زَالَ عُذْرُهُ كَفَاهُ التَّعَوُّذُ الْأَوَّلُ، وَإِنْ تَرَكَهَا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ فَيَتَوَجَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا ثُمَّ يَقْرَأُ؛ لِأَنَّ وَقْتَهَا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ لِلِاسْتِحْبَابِ فَلَا يَسْقُطُ بِتَرْكِهَا إذَنْ؛ وَلِأَنَّ الْمَعْنَى يَقْتَضِي ذَلِكَ، أَمَّا لَوْ تَرَكَهَا حَتَّى فَرَغَ سَقَطَتْ لِعَدَمِ الْقِرَاءَةِ. وَتُسْتَحَبُّ قِرَاءَةُ الْبَسْمَلَةِ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا نَصَّ عَلَيْهِ وَقَالَ: لَا يَدَعَهَا قِيلَ لَهُ: فَإِنْ قَرَأَ مِنْ بَعْضِ سُورَةٍ يَقْرَؤُهَا؟ قَالَ لَا بَأْسَ فَإِنْ قَرَأَ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ فَإِنْ شَاءَ جَهَرَ بِالْبَسْمَلَةِ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَجْهَرْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَتِهِ أَبِي دَاوُد وَمُهَنَّا قَالَ الْقَاضِي: مَحْصُولُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ بِالْخِيَارِ وَالْإِسْرَارِ كَمَا كَانَ مُخَيَّرًا فِي أَصْلِ الْقِرَاءَةِ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ. وَكَالِاسْتِعَاذَةِ وَعَنْهُ يَجْهَرُ بِهَا مَعَ الْقِرَاءَةِ وَعَنْهُ لَا يَعْتَدُّ بِتِلْكَ قُرْبَةً، فَلَا يَجُوزُ. وَقَالَ صَالِحُ فِي مَسَائِلِهِ عَنْ أَبِيهِ وَسَأَلْتُهُ عَنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ وَسُورَةِ التَّوْبَةِ هَلْ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَهُمَا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ أَبِي: يَنْتَهِي فِي الْقُرْآنِ إلَى مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُزَادُ فِيهِ وَلَا يَنْقُصُ. وَهَذَا مَعْنَى مَا نَقَلَ الْفَضْلُ وَأَبُو الْحَارِثِ.

فصل في الأحوال التي يكره فيها الجهر بالقراءة

[فَصْلٌ فِي الْأَحْوَالِ الَّتِي يُكْرَهُ فِيهَا الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ] ِ) قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينُ: مَنْ كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ تَطَوُّعًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْهَرَ جَهْرًا يُشْغِلُهُمْ بِهِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ وَهُمْ يُصَلُّونَ مِنْ السَّحَرِ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ كُلّكُمْ يُنَاجِي رَبَّهُ فَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ» انْتَهَى كَلَامُهُ. وَرَوَى أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالْقِرَاءَةِ قَبْلَ الْعِشَاءِ وَبَعْدَهَا يُغَلِّطُ أَصْحَابَهُ وَهُمْ يُصَلُّونَ» وَذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى وَغَيْرُهُ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْأَدَبِ أَنْ لَا يَجْهَرَ بَيْنَ مُصَلِّينَ أَوْ نِيَامٍ أَوْ تَالِينَ جَهْرًا يُؤْذِيهِمْ.

فصل في ثواب القراءة كل حرف بحسنة مضاعفة

[فَصْلٌ فِي ثَوَابِ الْقِرَاءَةِ كُلُّ حَرْفٍ بِحَسَنَةٍ مُضَاعَفَةٍ] ٍ) عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، وَالْمُرَادُ بِالْحَرْفِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا حَرْفُ التَّهَجِّي الَّذِي هُوَ جُزْءٌ مِنْ الْكَلِمَةِ صَرَّحَ بِهَذَا الْمَعْنَى الْقَاضِي فِي الْكَلَامِ عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ فِيمَنْ لَمْ يُحْسِنْ الْفَاتِحَةَ هَلْ يَقْرَأُ مِنْ غَيْرِهَا بِعَدَدِ الْحُرُوفِ أَوْ بِعَدَدِ الْآيَات؟ وَقَدْ قَالَ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ: إذَا اخْتَلَفَتْ الْقِرَاءَاتُ فَكَانَتْ فِي إحْدَاهَا زِيَادَةُ حَرْفٍ أَنَا أَخْتَارُ الزِّيَادَةَ وَلَا يَتْرُكُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ مِثْلُ (فَأَزَلَّهُمَا فَأَزَالَهُمَا وَوَصَّى وَأَوْصَى) قَالَ الْقَاضِي فَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ يَخْتَارُ الزِّيَادَةَ لِمَا احْتَجَّ بِهِ مِنْ زِيَادَةِ الثَّوَابِ بِزِيَادَةِ الْحُرُوفِ. وَاخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُرُوفِ الْكَلِمَةُ سَوَاءٌ كَانَتْ اسْمًا أَوْ فِعْلًا أَوْ حَرْفًا أَوْ اصْطِلَاحًا. وَاحْتَجَّ بِالْخَبَرِ الْمَذْكُورِ، فَلَوْلَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَرْفِ الْكَلِمَةُ لَا حَرْفُ الْهِجَاءِ كَانَ فِي أَلِفْ لَامْ مِيم تِسْعُونَ حَسَنَةً، وَالْخَبَرُ إنَّمَا جَعَلَ فِيهَا ثَلَاثِينَ حَسَنَةً، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الْمَفْهُومِ وَالْمَعْرُوفِ مِنْ إطْلَاقِ الْحَرْفِ فَقَدْ اسْتَعْمَلَهُ الشَّارِعُ هُنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل في فضائل القرآن وأهله

[فَصْلٌ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ وَأَهْلِهِ] أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا قَوْلُهُ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ «يَقُولُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ عَنْ ذِكْرِي وَمَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ، وَفَضْلُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ وَهُوَ عَنْ رِوَايَةِ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ هُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ شَاهِينَ ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيّ ثنا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيُّ ثنا صَفْوَانُ بْنُ أَبِي الصَّهْبَاءِ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَتِيقٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ» . قَالَ ابْنُ شَاهَيْنِ: وَقَدْ فَسَّرَ هَذَا الْكَلَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثٍ آخَرَ ثُمَّ رُوِيَ حَدِيثَ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمَذْكُورِ قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي» مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ ذِكْرِهِ لِي، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] . اُذْكُرُونِي بِطَاعَتِي أَذْكُرْكُمْ بِرَحْمَتِي انْتَهَى كَلَامُهُ. الْحِمَّانِيُّ كَذَّبَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ نُمَيْرٍ وَغَيْرُهُمَا وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَمْ أَرَ فِي أَحَادِيثِهِ مَنَاكِيرَ. وَصَفْوَانُ وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ. وَقَالَ أَيْضًا فِي الضُّعَفَاءِ: يَرْوِي مَا لَا أَصْلَ لَهُ لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ إذَا انْفَرَدَ، وَذَكَرُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ الْخَبَرَيْنِ فِي الْمَوْضُوعَاتِ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ عَنْ الْخَبَرِ الثَّانِي: هَذَا مَوْضُوعُ

مَا رَوَاهُ الْأَصْفَوَانُ مَرْفُوعًا وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ: «مَا تَقَرَّبَ الْعِبَادُ إلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَا خَرَجَ مِنْهُ» قَالَ أَبُو النَّضْرِ: يَعْنِي الْقُرْآنَ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ عَنْ أَبِي النَّضْرِ عَنْ بَكْرِ بْنِ خُنَيْسٍ عَنْ اللَّيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بَكْرٌ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ وَلَيْثٌ ضَعَّفَهُ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَرَوَى أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ ثنا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى الْمِصْرِيُّ وَأَبُو هَمَّامٍ قَالَا ثنا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ جُبَيْرٍ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَنْ تَرْجِعُوا إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِشَيْءٍ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ يَخْرُجُ مِنْهُ» يَعْنِي الْقُرْآنَ مُرْسَلٌ حَسَنٌ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآن عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ» . وَرَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي كِنَانَة عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ مِنْ إجْلَالِ اللَّهِ إكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ» قَوْلُهُ " غَيْرَ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ " قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ أَخْلَاقِهِ وَآدَابِهِ الَّتِي أَمَرَ بِهَا الْقَصْدَ فِي الْأُمُورِ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا، وَكِلَا طَرَفَيْ قَصْدِ الْأُمُورِ ذَمِيمٌ، وَسَبَقَ هَذَا الْخَبَرُ فِي فَضَائِلِ الْقِيَامِ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ. وَعَنْ زَبَّانِ بْنِ فَائِدٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا: «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أُلْبِسَ وَالِدَاهُ تَاجًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ضَوْءُهُ أَحْسَنُ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ فِي بُيُوتِ الدُّنْيَا لَوْ كَانَ فِيكُمْ فَمَا ظَنُّكُمْ بِاَلَّذِي عَمِلَ بِهَذَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد زَبَّانٌ ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَقَالَ أَحْمَد: أَحَادِيثُهُ مَنَاكِيرُ. وَسَهْلٌ ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ: لَا أَدْرِي أَوَقَعَ التَّخْلِيطُ مِنْهُ أَوْ مِنْ زَبَّانٍ؟

وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا: «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَاسْتَظْهَرَهُ فَأَحَلَّ حَلَالَهُ وَحَرَّمَ حَرَامَهُ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَشَفَّعَهُ فِي عَشْرَةٍ مِنْ أَهْلِهِ كُلُّهُمْ قَدْ وَجَبَتْ النَّارُ لَهُمْ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: غَرِيبٌ. وَابْنُ مَاجَهْ وَلَمْ يَذْكُرْ: فَاسْتَظْهَرَهُ فَأَحَلَّ حَلَالَهُ وَحَرَّمَ حَرَامَهُ. «وَقَدَّمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَتْلَى أُحُدٍ فِي الْقَبْرِ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَدَّمَ شَابًّا عَلَى سَرِيَّةٍ فَقَالَ شَيْخٌ مِنْهُمْ: أَنَا أَكْبَرُ مِنْهُ، فَقَالَ: إنَّهُ أَكْثَرُ مِنْكَ قُرْآنًا» وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى عُمَّالِهِ: لَا تَسْتَعِينُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِي إلَّا بِأَهْلِ الْقُرْآنِ، فَكَتَبُوا إلَيْهِ اسْتَعْمَلْنَا أَهْلَ الْقُرْآنِ فَوَجَدْنَاهُمْ خَوَنَةً، فَكَتَبَ إلَيْهِمْ: لَا تَسْتَعْمِلُوا إلَّا أَهْلَ الْقُرْآنِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ خَيْرٌ فَغَيْرُهُمْ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِمْ خَيْرٌ.

فصل فيما يقول من نسي شيئا من القرآن

[فَصْل فِيمَا يَقُولُ مَنْ نَسِيَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ] ِ) مَنْ غَلَطَ فَتَرَكَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ فَقَالَ: " أُنْسِيتُ ذَلِكَ " أَوْ أَسْقَطَهُ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ. وَفِيهِمَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا: «بِئْسَمَا لِأَحَدِكُمْ» وَلِلْبُخَارِيِّ «لِأَحَدِهِمْ يَقُول: نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ، بَلْ هُوَ نُسِّيَ اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنْ النَّعَمِ» . وَلِمُسْلِمٍ «لَا يَقُولُ أَحَدُكُمْ نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ، بَلْ هُوَ نُسِّيَ» نُسِّيَ: بِتَشْدِيدِ السِّينِ، وَقِيلَ: وَتَخْفِيفِهَا. قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: إنَّمَا نَهَى عَنْ نَسِيتُهَا، وَهُوَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ التَّسَاهُلَ فِيهَا وَالتَّغَافُلَ عَنْهَا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} [طه: 126] . وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: أَوْلَى مَا يَتَأَوَّلُ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ أَنَّ مَعْنَاهُ ذَمُّ الْحَالِ لَا ذَمُّ الْقَوْلِ، أَيْ بِئْسَ الْحَالَةُ حَالَةَ مَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ فَغَفَلَ عَنْهُ حَتَّى نَسِيَهُ. وَلِمُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِي آخِرِهِ: «فَإِذَا قَامَ صَاحِبُ الْقُرْآنِ فَقَرَأَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ذَكَرَهُ، وَإِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ نَسِيَهُ» .

فصل في تطيب المصحف وكرسيه وكيسه

[فَصْلٌ فِي تَطَيُّبِ الْمُصْحَفِ وَكُرْسِيِّهِ وَكِيسِهِ] ِ) لَا يُكْرَهُ تَطَيُّبُ الْمُصْحَفِ وَلَا جَعْلُهُ عَلَى كُرْسِيٍّ أَوْ كِيسٍ حَرِيرٍ نَصَّ عَلَيْهِ، بَلْ يُبَاحُ ذَلِكَ وَتَرْكُهُ بِالْأَرْضِ وَعَلَّلَهُ الْآمِدِيُّ فَقَالَ: إنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْ يَسِيرِهِ، وَفِي ذَلِكَ تَعْظِيمٌ لَهُ كَلُبْسِهِ فِي الْحَرْب وَتُكْرَهُ تَحْلِيَتُهُ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ قَدَّمَهُ ابْنُ تَمِيمٍ وَابْنُ حَمْدَانَ، وَعَنْهُ لَا يُكْرَهُ، وَقِيلَ: يَحْرُمُ كَبَقِيَّةِ الْكُتُبِ، وَقِيلَ: يُبَاحُ عَلَاقَتُهُ لِلنِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ هَذَا جَمِيعَهُ لَمْ تَرِدْ بِهِ السُّنَّةُ وَلَا نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ فِيهِ شَيْءٌ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ.

فصل في العطاس والتثاؤب وتشميت العاطس إذا حمد الله

[فَصْلٌ فِي الْعُطَاسِ وَالتَّثَاؤُبِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ إذَا حَمِدَ اللَّهَ] تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ وَجَوَابُهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ. قَدَّمَهُ ابْنُ تَمِيمٍ وَابْن حَمْدَانَ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، وَقِيلَ: بَلْ هُمَا سُنَّةٌ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ قِيلَ: بَلْ وَاجِبَانِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَيُسَنُّ أَنْ يُغَطِّيَ الْعَاطِسُ وَجْهَهُ وَيَخْفِضَ صَوْتَهُ إلَّا بِقَدْرِ مَا يَسْمَعُ جَلِيسُهُ لِيُشَمِّتَهُ، وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَأَحْمَدَ بْنِ أَصْرَمَ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَيَبْعُدُ مِنْ النَّاسِ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ الْبَغْدَادِيُّ غَرِيبٌ قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ: وَلَا يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا انْتَهَى كَلَامُهُ وَيَحْمَدُ اللَّهَ جَهْرًا. قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِعِ مِنْ إفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى قَالَ الرَّازِيّ: مِنْ الْأَطِبَّاءِ: الْعُطَاسُ لَا يَكُونُ أَوَّلَ مَرَضٍ أَبَدًا إلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ زُكْمَةٌ قَالَ ابْن هُبَيْرَةَ: فَإِذَا عَطَسَ الْإِنْسَانُ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ عَلَى صِحَّةِ بَدَنِهِ وَجَوْدَةِ هَضْمِهِ وَاسْتِقَامَةِ قُوَّتِهِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ، وَلِذَلِكَ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ. وَكَذَلِكَ الطَّنِينُ فِي الْأُذُنِ فَإِنَّهُ مِنْ حَاسَّةِ السَّمْعِ فَإِذَا طَنَّتْ أُذُنُ الْإِنْسَانِ ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى مُثْنِيًا عَلَيْهِ بِمَا أَرَاهُ مِنْ دَلِيلِ حُسْنِ صَنْعَتِهِ فِيهِ، وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْأَبْدَانِ، وَهُوَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الطَّنِينَ لَا يَعْرِضُ لِمَنْ قَدْ فَسَدَ سَمْعُهُ كَذَلِكَ لَا يَعْرِضُ لِلشُّيُوخِ إلَّا نَادِرًا انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ الْأَطِبَّاءُ: الدَّوِيُّ وَالطَّنِينُ فِي الْأُذُنِ قَدْ يَكُونُ مِنْ حَاسَّةِ السَّمْعِ وَلَا خَطَرَ فِيهِ، وَيَكُونُ مِنْ أَرْيَاحٍ غَلِيظَةٍ مُحْتَبِسَةٍ فِي الدِّمَاغِ أَوْ كَيْمُوسَاتٍ غَلِيظَةٍ فِيهِ، وَعِلَاجُهُ إسْهَالُ الْبَطْنِ بِالْإِيرَاحَاتِ الْكِبَارِ وَكَبِّ الْأُذُنِ عَلَى بُخَارِ الرَّيَاحِينِ اللَّطِيفَةِ وَهَجْرِ الْأَطْعِمَةِ الْغَلِيظَةِ الَّتِي تَمْلَأُ الرَّأْسَ مِثْلَ الْفُومِ وَالْكُرَّاتِ وَالْجَوْزِ، وَيُقَطِّرُ فِي الْأُذُنِ دُهْنَ اللَّوْزِ الْمُرِّ وَيَكُونُ الْغِذَاءُ اسفيدناجات أَوْ مَاءَ الْحِمَّصِ انْتَهَى كَلَامُهُمْ.

وَقَالَ فِي الْغُنْيَةِ: «وَإِذَا طَنَّتْ أُذُنُهُ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلْيَقُلْ ذَكَرَ اللَّهُ مَنْ ذَكَرَنِي بِخَيْرٍ» ؛ لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْتَهَى كَلَامُهُ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْمَلُ هَذَا، وَهَذَا الْخَبَرُ مَوْضُوعٌ أَوْ ضَعِيفٌ وَلَمْ يَذْكُرْ الْأَصْحَابُ هَذَا وَلَا الَّذِي قَبْلَهُ لِعَدَمِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ شَرْعًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْبُخَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ» ؛ لِأَنَّ الْعُطَاسَ يَدُلّ عَلَى خِفَّةِ بَدَنٍ وَنَشَاطٍ وَالتَّثَاؤُبَ غَالِبًا لِثِقَلِ الْبَدَنِ وَامْتِلَائِهِ وَاسْتِرْخَائِهِ فَيَمِيلُ إلَى الْكَسَلِ فَأَضَافَهُ إلَى الشَّيْطَانِ؛ لِأَنَّهُ يُرْضِيهِ أَوْ مِنْ تَسَبُّبِهِ لِدُعَائِهِ إلَى الشَّهَوَاتِ وَيَقُولُ مَنْ سَمِعَ الْعَاطِسَ لَهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ أَوْ يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ وَيَقُول هُوَ: يَهْدِيكُمْ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ ذَكَرَهُ السَّامِرِيُّ، وَفِي الرِّعَايَةِ وَزَادُوا {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 6] أَوْ يَقُول: يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ، وَقِيلَ: بَلْ يَقُولُ: مِثْلَ مَا قِيلَ: لَهُ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا عَطَسَ فَقِيلَ: لَهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ قَالَ: يَرْحَمُنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ، وَيَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ رَوَاهُ مَالِكٌ. قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: التَّشْمِيتُ يَهْدِيكُمْ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ، وَهَذَا مَعْنَى مَا نَقَلَ غَيْرُهُ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ: هَذَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وُجُوهٍ. وَقَالَ ابْنُ تَمِيمٍ يَرُدُّ عَلَيْهِ الْعَاطِسُ وَإِنْ كَانَ الْمُشَمِّتُ كَافِرًا فَيَقُولُ: آمِينَ يَهْدِيكُمْ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ وَإِنْ قَالَ الْمُشَمِّتُ الْمُسْلِمُ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ فَحَسَنٌ، وَالْأَوَّلُ أَفْضَلُ، وَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ إلَّا قَوْلَهُ: وَإِنْ كَانَ الْمُشَمِّتُ كَافِرًا. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَفْظَانِ (أَحَدُهُمَا) يَهْدِيكُمْ اللَّهُ. (وَالثَّانِي) يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ. كَذَا قَالَ: وَصَوَابُهُ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ قَالَ الْقَاضِي: وَيَخْتَارُ أَصْحَابُنَا يَهْدِيكُمْ اللَّهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ يُدِيمُ اللَّهُ هُدَاكُمْ، وَاخْتَارَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ يَهْدِيكُمْ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَلَا يُسْتَحَبُّ تَشْمِيتُ الْكَافِرِ فَإِنْ شَمَّتَهُ أَجَابَهُ بِآمِينَ يَهْدِيكُمْ اللَّهُ فَإِنَّهَا دَعْوَةٌ تَصْلُحُ لِلْمُسْلِمِ

وَالْكَافِرِ، وَقَدْ قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ «كَانَتْ الْيَهُودُ يَتَعَاطَسُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجَاءَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: رَحِمَكُمْ اللَّهُ، فَكَانَ يَقُولُ لَهُمْ يَهْدِيكُمْ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ وَكِيعٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ حَكِيمِ بْنِ دَيْلَمٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ إسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَحَكِيمٍ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ وَقَالَ أَحْمَدُ: شَيْخٌ صَدُوقٌ وَقَدْ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ صَالِحٌ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ تَشْمِيتُ الذِّمِّيِّ ذَكَرَهُ أَبُو حَفْصٍ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ عَنْ الْفَضْلِ بْنِ زِيَادَةَ قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَوْ عَطَسَ يَهُودِيٌّ قُلْتُ لَهُ: يَهْدِيكُمْ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ قُلْتُ: أَيُّ شَيْءٍ يُقَالُ لِلْيَهُودِيِّ؟ كَأَنَّهُ لَمْ يَرَهُ قَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَحِبَّ تَشْمِيتَهُ؛ لِأَنَّ التَّشْمِيتَ تَحِيَّةٌ لَهُ فَهُوَ كَالسَّلَامِ وَلَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِالسَّلَامِ كَذَلِكَ التَّشْمِيتُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتَّ خِصَالٍ إنْ تَرَكَ مِنْهُنَّ شَيْئًا تَرَكَ حَقًّا وَاجِبًا عَلَيْهِ، إذَا دَعَاهُ أَنْ يُجِيبَهُ وَإِذَا مَرِضَ أَنْ يَعُودَهُ، وَإِذَا مَاتَ أَنْ يَحْضُرَهُ، وَإِذَا لَقِيَهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَهُ أَنْ يَنْصَحَهُ، وَإِذَا عَطَسَ أَنْ يُشَمِّتَهُ أَوْ يُسَمِّتَهُ» فَلَمَّا خَصَّ الْمُسْلِمَ بِذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ بِخِلَافِهِ، وَهُوَ فِي السُّنَنِ إلَّا قَوْلَهُ " حَقًّا وَاجِبًا عَلَيْهِ "، وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ» وَذَكَرَهُ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: التَّخْصِيصُ بِالْوُجُوبِ أَوْ الِاسْتِحْبَابِ إنَّمَا يَنْفِي ذَلِكَ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ كَمَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ فِي النَّصِيحَةِ، وَإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ لَا تَنْفِي جَوَازَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْبَابٍ وَلَا كَرَاهَةٍ كَإِجَابَةِ دَعَوْتِهِ وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَهُوَ ظَاهِرُ

كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُكْرَهُ، وَكَلَامُ ابْنِ عَقِيلٍ إنَّمَا نَفَى الِاسْتِحْبَابَ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ حَدِيثُ تَعَاطُسِ الْيَهُودِ عِنْدَ النَّبِيِّ وَكَانَ يُجِيبُهُمْ بِالْهِدَايَةِ، وَإِذَا كَانَ فِي التَّهْنِئَةِ وَالتَّعْزِيَةِ وَالْعِيَادَةِ رَاوِيَتَانِ فَالتَّشْمِيتُ كَذَلِكَ انْتَهَى كَلَامهُ. فَظَهَرَ فِي تَشْمِيتِ الْكَافِرِ أَقْوَالٌ: الْجَوَازُ، وَالْكَرَاهَةُ، وَالتَّحْرِيمُ. وَالتَّشْمِيتُ بِالشِّينِ وَالسِّينِ ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ وَالْمُعْجَمَةُ أَفْصَحُ قَالَ ثَعْلَبُ: مَعْنَاهُ بِالْمُعْجَمَةِ أَبْعَدَكَ اللَّهُ عَنْ الشَّمَاتَةِ. وَبِالْمُهْمَلَةِ هُوَ السَّمْتُ وَهُوَ الْقَصْدُ وَالْهُدَى قَالَ اللَّيْثُ: التَّشْمِيتُ ذِكْرُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَمِنْهُ قَوْلُكَ لِلْعَاطِسِ يَرْحَمُكَ اللَّهُ وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ: تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ مَعْنَاهُ هَدَاكَ اللَّهُ إلَى السَّمْتِ وَذَلِكَ لِمَا فِي الْعَاطِسِ مِنْ الِانْزِعَاجِ وَالْقَلَقِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الشِّينُ الْمُعْجَمَةُ عَلَى اللُّغَتَيْنِ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ أَيْضًا: يُقَالُ سَمَّتْ الْعَاطِسَ وَشَمَّتَهُ إذَا دَعَوْتَ لَهُ بِالْهُدَى وَقَصْدِ السَّمْتِ وَالْمُسْتَقِيمِ قَالَ: وَالْأَصْلُ فِيهِ السِّينُ الْمُهْمَلَةُ فَقُلِبَتْ شِينًا مُعْجَمَةً وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ يُقَالُ: شَمَّتَهُ وَسَمَتَ عَلَيْهِ إذَا دَعَوْتُ لَهُ بِخَيْرٍ، وَكُلُّ دَاعٍ بِالْخَيْرِ فَهُوَ مُشَمِّتٌ وَمُسَمِّتٌ. وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: التَّشْمِيتُ بِالشِّينِ وَالسِّينِ الدُّعَاءُ بِالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ وَالْمُعْجَمَةُ أَعْلَاهَا يُقَال: شَمَّتَ فُلَانًا وَشَمَّتَ عَلَيْهِ تَشْمِيتًا فَهُوَ مُشَمِّتٌ وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ الشَّوَامِتِ، وَهِيَ الْقَوَائِمُ كَأَنَّهُ دَعَا لِلْعَاطِسِ بِالثَّبَاتِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَبْعَدَكَ اللَّهُ عَنْ الشَّمَاتَةِ وَجَنَّبَكَ مَا يُشَمَّتُ بِهِ عَلَيْكَ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: قَالَ ثَعْلَبٌ: الِاخْتِيَارُ بِالسِّينِ؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ السَّمْتِ وَهُوَ الْقَصْدُ وَالْحُجَّةُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الشِّينُ أَعْلَى فِي كَلَامِهِمْ وَأَكْثَرُ

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ:: كُلُّ دَاعٍ لِأَحَدٍ بِخَيْرٍ فَهُوَ مُشَمِّتٌ وَمُسَمِّتٌ وَالشَّوَامِتُ قَوَائِمُ الدَّابَّةِ وَهُوَ اسْمٌ لَهَا قَالَ أَبُو عَمْرٍو يُقَالُ: لَا تَرَكَ اللَّهُ لَهُ شَامِتَةً أَيْ: قَائِمَةً. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَإِسْنَادُهُ ثِقَاتٌ إلَّا مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى فَإِنَّ فِيهِ كَلَامًا، وَلَعَلَّهُ حَسَّنَ الْحَدِيثَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «إذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلْيَرُدَّ عَلَيْهِ مَنْ حَوْلَهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ، وَلْيَرُدَّ عَلَيْهِمْ يَهْدِيكُمْ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ» وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَعِنْدَهُ «فَلْيَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ» . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ هَذَا اللَّفْظَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ وَغَيْرِهِ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا «إذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ حَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتُوهُ، فَإِنْ لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ فَلَا تُشَمِّتُوهُ» . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَكَرَاهَةُ تَشْمِيتِ مَنْ لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَكَذَا عِنْدَ مَالِكٍ وَقَالَ إنْ شَمَّتَهُ غَيْرُهُ فَلْيُشَمِّتْهُ وَيَتَوَجَّهُ احْتِمَالُ تَشْمِيتِ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ لِظَاهِرِ الْخَبَرِ لَكِنْ رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «فَإِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَحَمِدَ اللَّهَ فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يَقُولَ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ» . قَالَ فِي الْغُنْيَةِ وَرُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الْعَبْدَ إذَا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ قَالَ الْمَلَكُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: رَبِّ الْعَالَمِينَ بَعْدَ الْحَمْدُ قَالَ الْمَلَكُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ رَبُّكَ» فَيَتَوَجَّهُ عَلَى هَذَا أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ ذِكْرَهُ عَلَى الْآدَمِيِّ، وَهَذَا الْخَبَرُ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَافِظُ ضِيَاءُ الدِّينِ فِي الْمُخْتَارِ مِنْ طَرِيقِهِ مِنْ حَدِيثِ صَالِحِ بْنِ يَحْيَى الْمُزَنِيّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ: رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَإِذَا قَالَ: رَبِّ الْعَالَمِينَ، قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ.» وَرَوَى سَعِيدُ حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: إذَا عَطَسَ الرَّجُلُ وَهُوَ وَحْدَهُ فَلْيَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلْيَقُلْ يَرْحَمْنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ فَإِنَّهُ يُشَمِّتُهُ مَنْ سَمِعَهُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ وَسَبَقَ كَلَامُهُ فِي الرِّعَايَةِ فِي السَّلَامِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا عَطَسَ وَضَعَ يَدَهُ أَوْ ثَوْبَهُ عَلَى فِيهِ وَخَفَضَ أَوْ غَضَّ بِهَا صَوْتَهُ» شَكَّ الرَّاوِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عُبَيْدٍ مَرْفُوعًا «إذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلْيَقُلْ يَغْفِرْ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَفِيهِ «أَنَّ رَجُلًا عَطَسَ عِنْدَ سَالِمِ بْنِ عُبَيْدٍ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَ: سَالِمٌ وَعَلَيْكَ وَعَلَى أُمِّكَ، ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: لَعَلَّكَ وَجَدْتَ مِمَّا قُلْتُ: لَكَ قَالَ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ لَمْ تَذْكُرْ أُمِّي بِخَيْرٍ وَلَا بِشَرٍّ قَالَ: إنَّمَا قُلْتُ: لَكَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّا بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا عَطَسَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْكَ وَعَلَى أُمِّكَ ثُمَّ قَالَ: إذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ الْحَدِيث» وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَفِي لَفْظٍ «فَلْيَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، أَوْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ مَسْعَدَةَ عَنْ زِيَادِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ حَضْرَمِيِّ مَوْلَى الْجَارُودِ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: «عَطَسَ رَجُلٌ إلَى جَنْبِ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَأَنَا أَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا هَكَذَا عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَقُولَ إذَا عَطَسْنَا إنَّمَا عَلَّمَنَا أَنْ نَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ» إسْنَادٌ جَيِّدٌ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ زِيَادَةَ.

فصل الإمام يقول في الصلاة سمع الله لمن حمده فقط

[فَصْل الْإِمَامَ يَقُولُ فِي الصَّلَاةِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقَطْ] فَصْل قِيلَ: لِلْقَاضِي فِي الْخِلَافِ إنَّ الْإِمَامَ يَقُولُ فِي الصَّلَاةِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقَطْ ذِكْرٌ مَسْنُونٌ يَقْتَضِي الْجَوَابَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ سُنَّتِهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْجَوَابِ وَبَيْنَ مَا يَقْتَضِيه كَالسَّلَامِ وَرَدِّهِ وَحَمْدِ الْعَاطِسِ وَتَشْمِيتِهِ، فَأَجَابَ الْقَاضِي بِأَنَّهُ يُنْتَقَضُ بِقَوْلِ الْإِمَامِ: وَلَا الضَّالِّينَ آمِينَ فَإِنَّهُ يَجْتَمِعُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْجَوَابَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَأْمُرُ بِالْحَمْدِ، وَإِنَّمَا هُوَ ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ مَعْنَاهُ يَا سَمِيعَ الدُّعَاءِ. هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَمَّا رَدُّ السَّلَامِ فَإِنَّ السَّلَامَ يَقْتَضِي الْجَوَابَ مِنْ غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ التَّشْمِيتُ فَلِهَذَا لَمْ يُسَنَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ هُنَا؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْجَوَابَ مِنْ غَيْرِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ وُجِدَ مِنْ الْمُنْفَرِدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَنْ يُوجَدُ مِنْهُ الْجَوَابُ. وَقَالَ ابْنُ حَمْدَانَ: وَإِنْ عَطَسَ كَافِرٌ وَحَمِدَ اللَّهَ قَالَ لَهُ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ عَافَاكَ اللَّهُ.

فصل الرجل يشمت المرأة إذا عطست

[فَصْل الرَّجُلُ يُشَمِّت الْمَرْأَةَ إذَا عَطَسَتْ] (فَصْلٌ) : قَالَ ابْنُ تَمِيمٍ لَا يُشَمِّتُ الرَّجُلُ الشَّابَّةَ، وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى لِلرَّجُلِ أَنْ يُشَمِّتَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً وَقِيلَ: عَجُوزًا وَشَابَّةً بَرْزَةً وَلَا تُشَمِّتُهُ هِيَ وَقِيلَ: لَا يُشَمِّتُهَا. وَقَالَ السَّامِرِيُّ يُكْرَهُ أَنْ يُشَمِّتَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ إذَا عَطَسَتْ وَلَا يُكْرَهُ ذَلِكَ لِلْعَجُوزِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ:: وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ الْعُبَّادِ فَعَطَسَتْ امْرَأَةُ أَحْمَدَ فَقَالَ لَهَا الْعَابِدُ: يَرْحَمُكِ اللَّهُ فَقَالَ أَحْمَد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَابِدٌ جَاهِلٌ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ حَرْبٌ قُلْتُ: لِأَحْمَدَ الرَّجُلُ يُشَمِّتُ الْمَرْأَةَ إذَا عَطَسَتْ؟ فَقَالَ إنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَنْطِقَهَا وَيَسْمَعَ كَلَامَهَا فَلَا؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِتْنَةٌ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُشَمِّتَهُنَّ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِيهِ عُمُومٌ فِي الشَّابَّةِ وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: إنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُشَمِّتُ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ إذَا عَطَسَتْ قَالَ: نَعَمْ قَدْ شَمَّتَ أَبُو مُوسَى امْرَأَتَهُ قُلْتُ: فَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً تَمُرُّ أَوْ جَالِسَةً فَعَطَسَتْ أُشَمِّتُهَا قَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ الْقَاضِي: وَيُشَمِّتُ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ الْبَرْزَةَ وَيُكْرَهُ لِلشَّابَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ يُشَمِّتُ الْمَرْأَةَ الْبَزْرَةَ وَتُشَمِّتُهُ وَلَا يُشَمِّتُ الشَّابَّةَ وَلَا تُشَمِّتُهُ وَقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ: وَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ تَشْمِيتُ الْمَرْأَةِ الْبَرْزَةِ وَالْعَجُوزِ وَيُكْرَهُ لِلشَّابَّةِ الْخَفِرَةِ فَظَهَرَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّهُ هَلْ يُشَمِّتُ الْمَرْأَةَ إذَا لَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَهَا أَمْ لَا وَيُشَمِّتُهَا عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَأَكْثَرُ الْأَصْحَابِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الشَّابَّةِ وَغَيْرِهَا وَسَبَقَتْ نُصُوصُهُ فِي التَّسْلِيمِ عَلَيْهَا مِثْلُ هَذَا، وَلَا فَرْقَ وَسَبَقَ أَنَّ صَاحِبَ النَّظْمِ سَوَّى بَيْنَ التَّسْلِيمِ وَالتَّشْمِيتِ، وَقِيلَ: يُشَمِّتُ عَجُوزًا أَوْ شَابَّةً بَرْزَةً وَمَنْ قُلْنَا: يُشَمِّتُهَا فَإِنَّهَا تُشَمِّتُهُ وَعَلَى مَا فِي الرِّعَايَةِ لَا.

فصل في تشميت العاطس كلما عطس إلى ثلاث

[فَصْل فِي تَشْمِيتِ الْعَاطِسِ كُلَّمَا عَطَسَ إلَى ثَلَاث] فَإِنْ عَطَسَ رَابِعَةً لَمْ يُشَمِّتْهُ) ذَكَرَهُ السَّامِرِيُّ وَقَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ وَذَكَرَ رِوَايَةَ صَالِحٍ وَمُهَنَّا وَقِيلَ: أَوْ ثَالِثَةً. وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ تَمِيمٍ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّهُ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ كَلَامُ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ، وَقِيلَ: أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَيُقَالُ: لَهُ عَافَاكَ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ رِيحٌ قَالَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ لِأَبِيهِ: تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ فِي مَجْلِسهِ ثَلَاثَةً قَالَ: أَكْثَرُ مَا فِيهِ ثَلَاثٌ، وَهَذَا مَعَ كَلَامِ الْأَصْحَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِفِعْلِ التَّشْمِيتِ لَا بِعَدَدِ الْعَطَسَاتِ، فَلَوْ عَطَسَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ مُتَوَالِيَاتٍ شَمَّتَهُ بَعْدَهَا إذَا لَمْ يَتَقَدَّمْ تَشْمِيتٌ قَوْلًا وَاحِدًا، وَالْأَدِلَّةُ تُوَافِقُ هَذَا، وَهُوَ وَاضِحٌ قَالَ مُهَنَّا: لِأَحْمَدَ أَيُّ شَيْءٍ مَذْهَبُكَ فِي الْعَاطِسِ يُشَمَّتُ إلَى ثَلَاثٍ مِرَارًا؟ فَقَالَ إلَى قَوْلِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قُلْتُ: مَنْ ذَكَرَهُ قَالَ: هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: الْعَاطِسُ بِمَنْزِلَةِ الْخَاطِبِ يُشَمَّتُ إلَى ثَلَاثٍ مِرَارًا فَمَا زَادَ فَهُوَ دَاءٌ فِي الرَّأْسِ، وَقَالَ أَبُو الْحَارِثِ عَنْهُ يُشَمَّتُ إلَى ثَلَاثٍ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ، وَإِسْنَادُهُ ثِقَاتٌ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ مَرْفُوعًا «يُشَمَّتُ الْعَاطِسُ ثَلَاثَةً فَمَا زَادَ فَهُوَ مَزْكُومٌ» وَلِأَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفًا، وَلِمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد عَنْ سَلَمَةَ أَنَّهُ «سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَطَسَ عِنْدَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ ثُمَّ عَطَسَ أُخْرَى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّجُلُ مَزْكُومٌ» وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ قَالَ لَهُ: فِي الثَّالِثَةِ " أَنْتَ مَزْكُومٌ " قَالَ: وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ الْأَوَّلِ.

وَرَوَى أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ثَنَا مَالِكُ بْنُ إسْمَاعِيلَ ثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ يَحْيَى بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أُمِّهِ حُمَيْدَةَ أَوْ عُبَيْدَةَ بِنْتِ عُتْبَةَ بْنِ رِفَاعَةَ الزُّرَقِيِّ عَنْ أَبِيهَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يُشَمَّتُ الْعَاطِسُ ثَلَاثًا فَإِنْ شِئْتَ فَشَمِّتْهُ وَإِنْ شِئْتَ فَكُفَّ» مُرْسَلٌ وَعُبَيْدَةُ تَفَرَّدَ عَنْهَا ابْنُهَا قَالَ بَعْضهمْ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَإِسْنَادُهُ مَجْهُولٌ قَالَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى: وَيُقَالُ: لِلصَّبِيِّ قَبْلَ الثَّلَاثِ مَرَّاتٍ: بُورِكَ فِيكَ، وَكَذَا قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ وَزَادَ وَجَبَرَكَ اللَّهُ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الصَّبِيِّ الصَّغِيرِ يَعْطِسُ قَالَ: يُقَالُ: لَهُ بُورِكَ فِيكَ وَقَالَ صَاحِبُ النَّظْمِ: إنْ عَطَسَ صَبِيٌّ يَعْنِي عَلِمَ الْحَمْدُ لِلَّهِ ثُمَّ قِيلَ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ أَوْ بُورِكَ فِيكَ وَنَحْوُهُ وَيَعْلَمُ الرَّدَّ وَإِنْ كَانَ طِفْلًا حَمِدَ اللَّهَ وَلِيُّهُ أَوْ مَنْ حَضَرَهُ وَقِيلَ لَهُ: نَحْوُ ذَلِكَ انْتَهَى كَلَامُهُ أَمَّا كَوْنُهُ يَعْلَمُ الْحَمْدَ فَوَاضِحٌ، وَأَمَّا تَعْلِيمُهُ الرَّدَّ فَيَتَوَجَّهُ فِيهِ مَا سَبَقَ فِي رَدِّ السَّلَامِ لَكِنْ ظَاهِرُ مَا سَبَقَ مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِ أَنَّهُ يُدْعَى لَهُ وَإِنْ لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ، لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: الدُّعَاءُ لَهُ تَشْمِيتٌ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ كَالْبَالِغِ، لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ فِي كَلَامِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْمُمَيِّزِ وَغَيْرِهِ وَلَمْ يَذْكُرُوا قَوْلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ مِنْ غَيْرِ الْعَاطِسِ لِأَنَّ الْخِطَابَ لَمْ يَتَوَجَّهْ إلَى غَيْرِهِ وَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ وَلَا تَمْيِيزَ لَا يُخَاطَبُ، فَفِعْلُ الْغَيْرِ عَنْهُ فَرْعُ ثُبُوتِ الْخِطَابِ وَلَمْ يَثْبُتْ فَلَا فِعْلَ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ الْبَدَنِيَّةَ الْمَحْضَةَ الْمُسْتَقْبَلَةَ لَا تُفْعَلُ عَنْ الْحَيِّ بِاتِّفَاقِنَا. وَقَدْ يَتَوَجَّهُ احْتِمَالُ تَخْرِيجٍ يَقُولُهُ: الْوَلِيُّ فَقَطْ وَيَتَوَجَّهُ فِي التَّسْمِيَةِ لِأَكْلٍ وَشُرْبٍ كَذَلِكَ فِي غَيْرِ مُمَيِّزٍ. وَظَاهِرُ مَا ذَكَرُوهُ أَنَّهُ لَا حُكْمَ لِعُطَاسِ الْمَجْنُونِ كَمَا لَا حُكْمَ لِكَلَامِهِ مُطْلَقًا لَكِنْ يُشْرَعُ الدُّعَاءُ لَهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ الْقِيَاسَ فِي الطِّفْلِ كَذَلِكَ خُولِفَ لِلْأَثَرِ، وَيَتَوَجَّهُ فِي الْمَجْنُونِ احْتِمَالٌ كَالطِّفْلِ؛ وَلِأَنَّ مَنْ

لَا عَقْلَ لَهُ وَلَا تَمْيِيزَ كَانَ مَوْجُودًا عَلَى عَهْدِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَعَهْدِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَلَوْ شُرِعَتْ عَنْهُ التَّسْمِيَةُ لِذَلِكَ لَشَاعَ وَلَنَقَلَهُ الْخَلْفُ عَنْ السَّلَفِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ وَالْحَاجَةِ فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى سُقُوطِ وَعَدَمِ اعْتِبَارِهِ، بَلْ قَدْ يُؤْخَذُ مِنْ الْمَنْقُولِ مِنْ تَحْنِيكِ الْأَطْفَالِ عَدَمُ التَّسْمِيَةِ؛ لِأَنَّ الرَّاوِيَ لَمْ يَذْكُرْهَا، وَالْأَصْلُ عَدَمُهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل تشميت من حمد الله دون من لم يحمده

[فَصْل تَشْمِيتِ مَنْ حَمِدَ اللَّهَ دُونَ مَنْ لَمْ يَحْمَدْهُ] فَصْلٌ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ سَبَقَ الْعَاطِسَ بِالْحَمْدِ أَمِنَ مِنْ الشَّوْصِ وَاللَّوْصِ وَالْعِلَّوْصِ» وَهَذِهِ أَوْجَاعٌ اُخْتُلِفَ فِي تَعْيِينهَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِير وَغَيْره، وَكَانَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابنَا الْمُتَأَخِّرِينَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَذْكَرُ هَذَا الْخَبَرَ وَيُعَلِّمُهُ النَّاسَ، وَلَعَلَّ الْخَبَرَ فِي تَشْمِيتِ مَنْ حَمِدَ اللَّهَ دُونَ مَنْ لَمْ يَحْمَدْهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ وَإِلَّا لَفَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَدَبَ إلَيْهِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْأَخْضَر فِيمَنْ رَوَى عَنْ أَحْمَد قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: إنَّ رَجُلًا عَطَسَ عِنْد أَبِي عَبْد اللَّه فَلَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ فَانْتَظَرَهُ أَنْ يَحْمَدْ اللَّهَ فَيُشَمِّتهُ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ قَالَ لَهُ أَبُو عَبْد اللَّه: كَيْف تَقُولُ إذَا عَطَسْتَ؟ قَالَ: أَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ. فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْد اللَّه: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، وَهَذَا يُؤَيِّد مَا سَبَقَ وَهُوَ مُتَّجِهٌ.

فصل فيما ينبغي للمجشي

[فَصْل فِيمَا يَنْبَغِي لِلْمُجَشِّي] ) وَلَا يُجِيب الْمُجَشِّي بِشَيْءٍ، فَإِنْ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. قِيلَ لَهُ: هَنِيئًا مَرِيئًا، أَوْ هَنَّأَكَ اللَّهُ وَأَمْرَاك ذَكَرَهُ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى وَابْنُ تَمِيم، وَكَذَا ابْنُ عَقِيلٍ. وَقَالَ: لَا نَعْرِفُ فِيهِ سُنَّةً، بَلْ هُوَ عَادَة مَوْضُوعَة، وَتَأْتِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي آدَابِ الْآكِل. قَالَ الْأَطِبَّاءُ: يَنْفَعُ فِيهِ السَّذَابُ أَوْ الْكَرَاوْيَا أَوْ الْأَنِيسُونَ أَوْ الْكُسْفُرَةُ أَوْ الصَّعْتَرُ أَوْ النَّعْنَاعُ أَوْ الْكُنْدُرُ مَضْغًا وَشُرْبًا. رَوَى أَبُو هُرَيْرَة «أَنَّ رَجُلًا تَجَشَّأَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: كُفَّ عَنَّا جُشَاءَكَ فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ شِبَعًا أَكْثَرُهُمْ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيب. قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِب: إذَا تَجَشَّى وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَرْفَعْ رَأْسَهُ إلَى السَّمَاءِ حَتَّى تَذْهَبَ الرِّيحُ، وَإِذَا لَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ آذَى مَنْ حَوْلَهُ مِنْ رِيحِهِ، قَالَ: وَهَذَا مِنْ الْأَدَبِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا: إذَا تَجَشَّى الرَّجُلُ يَنْبَغِي أَنْ يَرْفَعَ وَجْهَهُ إلَى فَوْقِهِ لِكَيْ لَا يَخْرُجَ مِنْ فِيهِ رَائِحَةٌ يُؤْذِي بِهَا النَّاسَ.

فصل في التثاؤب وما ينبغي فيه

[فَصْل فِي التَّثَاؤُب وَمَا يَنْبَغِي فِيهِ] ِ) مَنْ تَثَاءَبَ كَظَمَ مَا اسْتَطَاعَ لِلْخَبَرِ، وَأَمْسَكَ يَدَهُ عَلَى فَمِهِ أَوْ غَطَّاهُ بِكُمِّهِ أَوْ غَيْرِهِ إنْ غَلَبَ عَلَيْهِ التَّثَاؤُبُ؛ لِقَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «التَّثَاؤُبُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إذَا تَثَاءَبَ ضَحِكَ الشَّيْطَانُ» وَفِيهِ: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ، فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَقُلْ: هَاهْ هَاهْ فَإِنَّ ذَلِكُمْ مِنْ الشَّيْطَانِ يَضْحَكُ مِنْهُ» . رَوَى ذَلِكَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَلِلْبُخَارِيِّ وَعِنْده: «إذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ» وَرَوَى أَيْضًا وَحَسَّنَهُ: «الْعُطَاسُ مِنْ اللَّهِ وَالتَّثَاؤُبُ مِنْ الشَّيْطَانِ» رَوَاهُمَا النَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ قَالَ فِي النِّهَايَة: إنَّمَا أَحَبَّ الْعُطَاسَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ مَعَ خِفَّةِ الْبَدَنِ وَانْفِتَاحِ الْمَسَامِّ وَتَيْسِيرِ الْحَرَكَاتِ، وَالتَّثَاؤُبُ بِخِلَافِهِ، وَسَبَب هَذِهِ الْأَوْصَافِ الْإِقْلَالُ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيد: «إذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيُمْسِكْ بِيَدِهِ عَلَى فَمِهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ» وَلَهُ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «وَلَا يَقُولُ فِي الصَّلَاةِ هَاهْ وَلَا مَا لَهُ هِجَاءٌ وَلَا يُزِيلُ يَدَهُ عَنْ فَمِهِ حَتَّى يَفْرُغَ تَثَاؤُبُهُ» وَيُكْرَه إظْهَارُهُ بَيْنَ النَّاسِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى كَفِّهِ وَإِنْ احْتَاجَهُ تَأَخَّرَ عَنْ النَّاسِ وَفَعَلَهُ وَعِنْده يُكْرَه التَّثَاؤُبُ مُطْلَقًا.

فصل في حكم التداوي مع التوكل على الله

[فَصْل فِي حُكْمِ التَّدَاوِي مَعَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ] ِ) يُبَاحُ التَّدَاوِي وَتَرْكُهُ أَفْضَلُ نَصَّ عَلَيْهِ قَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: الْعِلَاجُ رُخْصَةٌ وَتَرْكُهُ دَرَجَة أَعْلَى مِنْهُ، وَسَأَلَهُ إِسْحَاقُ بْن إبْرَاهِيم بْن هَانِئٍ فِي الرَّجُلِ يَمْرَضُ يَتْرُكُ الْأَدْوِيَةَ أَوْ يَشْرَبُهَا قَالَ: إذَا تَوَكَّلَ فَتَرَكَهَا أَحَبُّ إلَيَّ. وَذَكَرَ أَبُو طَالِب فِي كِتَابِ التَّوَكُّلِ عَنْ أَحْمَد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: أَحَبُّ لِمَنْ عَقَدَ التَّوَكُّلَ وَسَلَكَ هَذَا الطَّرِيقَ تَرْكُ التَّدَاوِي مِنْ شُرْبِ الدَّوَاءِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ كَانَتْ تَكُونُ بِهِ عِلَلٌ فَلَا يُخْبِرُ الطَّبِيبَ بِهَا إذَا سَأَلَهُ، وَقَدَّمَهُ ابْنُ تَمِيمٍ وَابْنُ حَمْدَانَ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَحَكَاهُ عَمَّنْ حَكَاهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ، هُمْ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَلَا يَكْتَوُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ فِيهِ: " هُمْ الَّذِينَ لَا يَرْقُونَ وَلَا يَسْتَرْقُونَ " وَذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَهُوَ الصَّوَابُ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ اكْتَوَى أَوْ اسْتَرْقَى فَقَدْ بَرِئَ مِنْ التَّوَكُّلِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ وَإِسْنَادَهُ ثِقَاتٌ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَرَوَى سَعِيد ثنا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ الْغَفَّارِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ

: «لَمْ يَتَوَكَّلْ مَنْ أَرْقَى وَاسْتَرْقَى» إسْنَادٌ جَيِّدٌ. وَقَالَ سَعِيدٌ: ثَنَا سُفْيَانُ عَنْ " عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ سَمِعَ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ: سَبَقَكُمْ الْأَوَّلُونَ بِالتَّوَكُّلِ، كَانُوا لَا يَرْقُونَ وَلَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ فَهُمْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ " عُبَيْدٌ أَدْرَكَ عُمَرَ وَأُبَيًّا. وَقِيلَ: بَلْ فِعْله أَفْضَل وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَذَكَرَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّة وَجُمْهُورِ السَّلَفِ وَعَامَّةِ الْخَلَف، وَقَطَعَ بِهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمِنْهَاجِ، وَاخْتَارَهُ الْوَزِيرُ بْنُ هُبَيْرَةَ فِي الْإِفْصَاح قَالَ: وَمَذْهَب أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مُؤَكَّد حَتَّى يُدَانِي بِهِ الْوُجُوب، قَالَ: وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ يَسْتَوِي فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِالتَّدَاوِي وَلَا بَأْسَ بِتَرْكِهِ. وَذَكَرَ ابْنُ هُبَيْرَةَ أَنَّ عِلْمَ الْحِسَابِ وَالطِّبِّ وَالْفِلَاحَة فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: " لَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَسْتَرْقُونَ "، قَالَ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُسْتَرْقَى الرَّجُلُ بِالْكَلِمَاتِ الْخَبِيثَةِ فَيُوهِمهُ الرَّاقِي فِي ذَلِكَ، وَفِي الْكَيِّ أَنَّهُمَا يَمْنَعَانِهِ مِنْ الْمَرَضِ أَبَدًا، فَذَلِكَ الَّذِي مَنَعَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: وَالْحِجَامَةُ سُنَّةٌ وَهُوَ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى فِعْل التَّدَاوِي، احْتَجَّ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَا يُبَاح لِلرَّجُلِ أَنْ لَا يُدَاوِي مَغَابِنَهُ مِنْ إبِطَيْهِ لِيَقْطَع ضَرَرَ بُخَارِهِمَا عَنْ النَّاسِ وَعَنْهُ فِي نَفْسِهِ كَذَا قَالَ، وَلَا أَحْسَب هَذَا مَحِلَّ وِفَاقٍ وَلَوْ كَانَ فَهُوَ لَا يَرَى وُجُوبَ التَّدَاوِي، قَالَ: وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ تَارِكٌ جُرْحَهُ يَسِيلُ دَمُهُ فَلَمْ يَعْصِبهُ حَتَّى سَالَ مِنْهُ الدَّمُ فَمَاتَ كَانَ عَاصِيًا لِلَّهِ تَعَالَى قَاتِلًا لِنَفْسِهِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي هَذَا. وَقَالَ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ: وَهُوَ نَحْو حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّم رَوَاهُ مُسْلِمٌ يَعْنِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَا يَبْلُغ بِهِمْ الذَّهَابُ فِي التَّدَاوِي إلَى أَنْ يَكْتَوُوا وَهُوَ آخِرُ الْأَدْوِيَة وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ " وَلَا يَسْتَرْقُونَ " رُقَى الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَمَّا الِاسْتِشْفَاءُ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا. وَقَالَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا» قَالَ: فَمَنْ تَدَاوَى بِنِيَّةِ أَنْ يَتَّبِعَ فِي التَّدَاوِي السُّنَّةَ وَيُدَبِّرَ بَدَنَهُ الْمُودَعَ عِنْدَ اللَّهِ بِأَصْوَبِ التَّدْبِيرِ، فَهَذَا إيمَانٌ وَتَوْفِيقٌ إنْ خَطَرَ بِقَلْبِهِ أَوْ وَسْوَسَ لَهُ الشَّيْطَانُ إذَا لَمْ يَتَدَاوَى رُبَّمَا يَهْلَكُ وَيُوهِمُهُ الشَّيْطَانُ أَنَّهُ يَمُوتُ بِغَيْرِ أَجَلِهِ فَيَتَدَاوَى بِهَذَا الْعَزْمِ

فَيَكُونَ كَافِرًا، كَذَا قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: لَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْد جَمَاهِيرِ الْأَئِمَّةِ إنَّمَا أَوْجَبَهُ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ انْتَهَى كَلَامه. وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِهِ فَاتِحَة الْعِلْم: أَنَّ عِلْمَ الطِّبِّ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَإِنَّهُ لَا يَجُوز تَرْكُ الْمُدَاوَاةِ، وَقَدْ قَالَ حَرْمَلَةُ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: شَيْئَانِ أَغْفَلَهُمَا النَّاسُ: الْعَرَبِيَّةُ وَالطِّبُّ. وَقَالَ الرَّبِيعُ: سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُول: الْعِلْمُ عِلْمَانِ: عِلْمُ الْأَدْيَانِ، وَعِلْمُ الْأَبَدَانِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَجِب عَلَيْهِ أَوْ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُدَافِعَ عَنْ نَفْسِهِ إذَا أُرِيدَتْ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ هُنَاكَ يَتَحَقَّقُ إحْيَاءُ نَفْسِهِ بِذَلِكَ بِخِلَافِ هَذَا. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: هُوَ وَاجِبٌ، زَادَ فِي الرِّعَايَةِ إنْ ظَنَّ نَفْعَهُ. قَالَ الْقَاضِي: رَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ الطِّبِّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَثُرَتْ أَسَقَامُهُ فَكَانَ يَقْدُمُ عَلَيْهِ أَطِبَّاءُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ فَيَصِفُونَ لَهُ فَنُعَالِجُهُ» . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ: أَنَّ عُرْوَةَ كَانَ يَقُولُ لِعَائِشَةَ: " يَا أُمَّتَاهُ لَا أَعْجَبُ مِنْ فِقْهِكَ، أَقُولُ: زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ وَلَا أَعْجَبُ مِنْ عِلْمِكِ بِالشِّعْرِ وَأَيَّامِ النَّاسِ، أَقُولُ: ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ أَوْ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ، وَلَكِنْ أَعْجَبُ مِنْ عِلْمِكِ بِالطِّبِّ كَيْفَ هُوَ وَمِنْ أَيْنَ هُوَ قَالَ: فَضَرَبَتْ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، وَقَالَتْ: أَيْ عُرَيَّةُ «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسْقَمُ عِنْدَ آخِرِ عُمْرِهِ، وَكَانَتْ تَقْدَمُ عَلَيْهِ وُفُودُ الْعَرَبِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَكَانَتْ تُنْعَتُ لَهُ الْأَنْعَاتُ وَكُنْتُ أُعَالِجُهَا؛ فَمِنْ ثَمَّ عَلِمْتُ» . وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ وَسَعِيدٌ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَن جَيِّد عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ اكْتَوَى مِنْ اللَّقْوَةِ، وَاسْتَرْقَى مِنْ الْحَيَّةِ. وَاللَّقْوَةُ: مَرَضٌ يَعْرِض لِلْوَجْهِ فَيَمِيلهُ إلَى أَحَدِ جَانِبَيْهِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَادَةَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْوَاسِطِي ثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونِ أَنْبَأَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنَ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

: «إنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً؛ فَتَدَاوَوْا، وَلَا تَتَدَاوَوْا بِحَرَامٍ» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، وَهَذَا إسْنَادٌ حَسَن وَثَعْلَبَةُ شَامِيٌّ وَابْنُ عَيَّاشٍ إذَا رَوَى عَنْ الشَّامِيِّينَ كَانَ حُجَّةً عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ. وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: «إنَّ اللَّهَ حَيْثُ خَلَقَ الدَّوَاءَ فَتَدَاوَوْا» قِيلَ: مَعْنَى أَنْزَلَ اللَّهُ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ وَخَلَقَهُمَا لِهَذَا الْخَبَر. وَقِيلَ: إعْلَامُ النَّاسِ بِهِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ: «عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ» وَقِيلَ: أَنْزَلَهَا مَعَ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِمُبَاشَرَةِ الْخَلْقِ، وَقِيلَ: أَنْزَلَ الْمَطَرَ لِيُوَلِّدَهُمَا عَنْهُ أَوْ مِنْ الْجِبَالِ، وَدَخَلَ غَيْرهمَا تَبَعًا، وَهَذَا مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ كَمَا هُوَ شَائِعٌ أَنَّهُ سُبْحَانه إذَا ابْتَلَى أَعَانَ فَابْتَلَى بِالدَّاءِ وَأَعَانَ بِالدَّوَاءِ، وَابْتَلَى بِالذَّنْبِ وَأَعَانَ بِالتَّوْبَةِ، وَابْتَلَى بِالْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ الشَّيَاطِين، وَأَعَانَ بِالْأَرْوَاحِ الطَّيِّبَةِ الْمَلَائِكَة، وَابْتَلَى بِالْمُحَرَّمَاتِ وَأَعَانَ بِإِبَاحَةِ نَظِيرهَا. وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ: «قَالَتْ الْأَعْرَابُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَتَدَاوَى؟ قَالَ: نَعَمْ عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً إلَّا دَاءً وَاحِدًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُوَ؟ قَالَ: الْهَرَمُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ قَالَ: «دَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَرِيضٍ لِيَعُودَهُ فَقَالَ: أَرْسِلُوا إلَى الطَّبِيبِ فَقَالَ قَائِلٌ: وَأَنْتَ تَقُولُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ إنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إلَّا جَعَلَ لَهُ دَوَاءً» . مُرْسَلٌ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ. وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الرُّقَى، فَجَاءَ آلُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ كَانَتْ عِنْدَنَا رُقْيَةٌ نَرْقِي بِهَا عَنْ الْعَقْرَبِ فَإِنَّكَ

نَهَيْتَ عَنْ الرُّقَى فَعَرَضُوهَا عَلَيْهِ فَقَالَ: مَا أَرَى بِهَا بَأْسًا مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ» ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ» رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ، وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ، فَلَمَّا مَرِضَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ جَعَلْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُهُ بِيَدِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ بَرَكَةً مِنْ يَدِي» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ. : «فَلَمَّا اشْتَكَى كَانَ يَأْمُرنِي أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ بِهِ» ، وَفِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «كَانَ إذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَيَنْفُثُ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُ عَنْهُ بِيَدِهِ رَجَاءَ بَرَكَتِهَا.» وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَسْتَرْقِيَ مِنْ الْعَيْنِ» وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِجَارِيَةٍ فِي بَيْتِهَا رَأَى فِي وَجْهِهَا سَفْعَةً يَعْنِي صُفْرَةً فَقَالَ: إنَّهَا نَظْرَةٌ اسْتَرْقُوا لَهَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. قَوْله: " إنَّهَا نَظْرَةٌ " أَيْ: عَيْنٌ، وَقِيلَ: عَيْنٌ مِنْ نَظَرِ الْجِنِّ، وَعَنْ عَمْرَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ وَيَهُودِيَّةٌ تَرْقِينِي فَقَالَ ارْقِيهَا بِكِتَابِ اللَّهِ. رَوَاهُ مَالِكٌ. وَرَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ قَالَ: «أَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِي وَجَعٌ قَدْ كَادَ يُهْلِكُنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْسَحْ بِيَمِينِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَقُلْ: أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ قَالَ: فَفَعَلْتُ هَذَا فَأَذْهَبَ اللَّهُ مَا كَانَ فِي، فَلَمْ أَزَلْ آمُرُ بِهِ أَهْلِي وَغَيْرَهُمْ، وَلِمُسْلِمٍ: ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي يَأْلَمُ مِنْ جَسَدِكَ وَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَقُلْ: سَبْعَ مَرَّاتٍ» وَذَكَرَهُ وَفِي آخِرِهِ: " وَأُحَاذِرُ " وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا: «إذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ أَلَمًا فَلْيَضَعْ يَدَهُ حَيْثُ يَجِدُ الْأَلَمَ ثُمَّ لِيَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَالِمٍ قَالَ: قَالَ لِي ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ: «يَا مُحَمَّدُ إذَا اشْتَكَيْتَ فَضَعْ يَدَكَ حَيْثُ تَشْتَكِي ثُمَّ قُلْ: أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِد مِنْ وَجَعِي هَذَا، ثُمَّ ارْفَعْ يَدَكَ ثُمَّ أَعِدْ ذَلِكَ وِتْرًا فَإِنَّ

أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدَّثَهُ بِذَلِكَ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ الطِّبِّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُرْوَةَ وَفِي نُسْخَة عَمْرِو بْنِ سَوْدَةَ قَالَ: جَلَسَ الْمَأْمُونُ لِلنَّاسِ مَجْلِسًا عَامًّا، فَكَانَ فِيمَنْ حَضَرَهُ منجه وهنجه طَبِيبَا الرُّومِ وَالْهِنْدِ إلَى أَنْ قَالَ: فَأَقْبَلَ الْمَأْمُونُ عَلَى إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ فَقَالَ: مَا تَرَى؟ فَقَالَ: ذَكَرَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَيْهَا وَهِيَ تَشْتَكِي فَقَالَ لَهَا: يَا عَائِشَةُ الْحِمْيَةُ دَوَاءٌ، وَالْمَعِدَةُ بَيْتُ الْأَدْوَاءِ: وَعَوِّدُوا بَدَنًا مَا اعْتَادَ» فَأَقْبَلَ الْمَأْمُونُ عَلَى منجه وهنجه فَقَالَ: مَا تَقُولَانِ؟ فَقَالَ: هَذَا كَلَامٌ جَامِعٌ وَهُوَ أَصْلُ الطِّبِّ. وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: الْمَعِدَةُ بَيْتُ الدَّاءِ وَالْحِمْيَةُ رَأْسُ الطِّبِّ، وَالْعَادَة طَبْع ثَانٍ فَعَوِّدُوا بَدَنًا مَا اعْتَادَ. قَالَ شِهَابُ بْنُ عُطَارِدِ بْنِ شِهَابٍ فَحَدَّثْتُ بِهِ بَعْضَ عُلَمَاءِ مُطَبِّبِي هَذَا الزَّمَانِ فَقَالَ: مَا تَرَكَ لَنَا مَا نَتَكَلَّم عَلَيْهِ أَبْلَغ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى وَلَا أَوْجَزَ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ الْأَصْمَعِيِّ قَالَ: جَمَعَ هَارُونُ الرَّشِيدُ أَرْبَعَةً مِنْ الْأَطِبَّاء: عِرَاقِيٍّ وَرُومِيٍّ وَهِنْدِيٍّ وَسَوَادِيٍّ، فَقَالَ: لِيَصِفْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ الدَّوَاءَ الَّذِي لَا دَاءَ فِيهِ، فَقَالَ الرُّومِيُّ: هُوَ حَبُّ الرَّشَادِ الْأَبْيَضِ. وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: الْمَاءُ الْحَارُّ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ: الْهَيْلَجُ الْأَسْوَد، وَكَانَ السَّوَادِيُّ أَبْصَرَهُمْ فَقَالَ لَهُ تَكَلَّمَ، فَقَالَ: حَبُّ الرَّشَادِ يُوَلِّد الرُّطُوبَة، وَالْمَاءُ الْحَارُّ يُرْخِي الْمَعِدَةَ، وَالْهَيْلَجُ الْأَسْوَد يُرِقُّ الْمَعِدَة. فَقَالُوا لَهُ: فَأَنْتَ مَا تَقُول؟ قَالَ: أَقُولُ الدَّوَاءُ الَّذِي لَا دَاءَ فِيهِ أَنْ تَقْعُدَ عَلَى الطَّعَامِ وَأَنْتَ تَشْتَهِيه وَتَقُومَ عَنْهُ وَأَنْتَ تَشْتَهِيه. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيُّ: وَنُقِلَ أَنَّ الرَّشِيدَ كَانَ لَهُ طَبِيبٌ نَصْرَانِيٌّ حَاذِقٌ، فَقَالَ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: لَيْسَ فِي كِتَابكُمْ مِنْ عِلْمِ الطِّبِّ شَيْءٌ، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنُ وَهُوَ ابْنُ وَاقِدٍ: قَدْ جَمَعَ اللَّهُ الطِّبَّ فِي نِصْفِ آيَةٍ مِنْ كِتَابنَا فَقَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَ قَوْله تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] .

فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: لَا يُؤْثَرُ عَنْ نَبِيِّكُمْ شَيْءٌ مِنْ الطِّبِّ، فَقَالَ: قَدْ جَمَعَ رَسُولُنَا فِي أَلْفَاظٍ يَسِيرَةٍ، قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: «الْمَعِدَةُ بَيْتُ الدَّاءِ، وَالْحِمْيَةُ رَأْسُ الدَّوَاءِ، وَعَوِّدُوا كُلَّ بَدَنٍ مَا اعْتَادَ» فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: مَا تَرَكَ كِتَابكُمْ وَلَا نَبِيُّكُمْ لِجَالِينُوسَ طِبًّا. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيُّ: هَكَذَا نُقِلَتْ هَذِهِ الْحِكَايَة إلَّا أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ فِيهَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَثْبُت. وَقَالَ غَيْرُهُ: هَذَا مِنْ كَلَامِ الْحَارِثِ بْنِ كِلْدَةَ الثَّقَفِيِّ طَبِيب الْعَرَبِ وَكَانَ فِيهِمْ كَالطَّبِيبِ أَبُقْرَاط فِي قَوْمِهِ.

فصل الصرع من الأرواح الخبيثة

[فَصْل الصَّرَعُ مِنْ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ] فَصْلٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَطَاءٍ «أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لَهُ: أَلَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ أَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: إنِّي أُصْرَعُ وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِي، فَقَالَ: إنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُعَافِيَكِ. فَقَالَتْ أَصْبِرُ، قَالَتْ: فَإِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ فَدَعَا لَهَا.» أَمَّا الصَّرَعُ عَنْ أَخْلَاطٍ رَدِيئَةٍ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهُوَ عِلَّةٌ تَمْنَعُ الْأَعْضَاءَ النَّفْسِيَّة عَنْ الْأَفْعَالِ وَالْحَرَكَةِ وَالِانْتِصَابِ مَنْعًا غَيْرَ تَامٍّ، وَلَهُ أَسْبَابٌ مُخْتَلِفَة ذَكَرَهُ الْأَطِبَّاء وَذَكَرُوا عِلَاجَهُ. وَأَمَّا الصَّرَعُ مِنْ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ فَهُوَ قَوْلنَا وَقَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَخَالَفَ فِيهِ الْمُعْتَزِلَة. وَأَمَّا الْأَطِبَّاء فَاعْتَرَفَ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَقِيلَ أَئِمَّتهمْ بِأَنَّ عِلَاجَهُ بِمُقَابَلَةِ الْأَرْوَاحِ الْخَيِّرَة الشَّرِيفَة الْعُلْوِيَّة لِتِلْكَ الْأَرْوَاحِ الشِّرِّيرَةِ الْخَبِيثَة فَتُعَارِض أَفْعَالَهَا وَتُبْطِلُهَا. قَالَ أَبُقْرَاطُ بَعْد أَنْ ذَكَرَ عِلَاجَ الصَّرَعِ الْأَوَّلِ قَالَ: وَأَمَّا الصَّرَعُ الَّذِي يَكُونُ مِنْ الْأَرْوَاحِ فَلَا يَنْفَعُ فِيهِ هَذَا الْعِلَاج. وَأَنْكَرَ هَذَا الصَّرَعَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ، وَقُدَمَاءُ الْأَطِبَّاءِ كَانُوا يُسَمُّونَ هَذَا الصَّرَعَ الْمَرَضَ الْإِلَهِيَّ لِكَوْنِ هَذِهِ الْعِلَّة تَحْدُث فِي الرَّأْسِ فَتَضُرُّ بِالْجُزْءِ الْإِلَهِيِّ الَّذِي مَسْكَنه الدِّمَاغ. وَعِلَاجُ هَذَا الصَّرَعِ إمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَصْرُوعِ بِصِدْقِ تَوَجُّهِهِ وَقْتَ إفَاقَتِهِ إلَى خَالِقِ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَالتَّعَوُّذُ الصَّحِيحُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَإِمَّا مِنْ جِهَة مَنْ يُعَالِجهُ بِذَلِكَ.

وَمَعْلُوم أَنَّ الْأَرْوَاحَ تَخْتَلِف فِي ذَاتهَا وَصِفَاتهَا، وَبِحَسَبِ ذَلِكَ قَدْ يَخْرُج بِأَيْسَرِ شَيْءٍ أَوْ بِوَعْظٍ أَوْ بِتَخْوِيفٍ، وَقَدْ لَا يَخْرُج إلَّا بِالضَّرْبِ عَلَى اخْتِلَافِهِ أَيْضًا فَيُفِيقَ الْمَصْرُوع وَلَا أَلَمَ بِهِ. وَكَانَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ يُعَالِجُ هَذَا الصَّرَعَ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَتَارَةً بِقِرَاءَةِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَيَأْمُر الْمَصْرُوعَ بِكَثْرَةِ قِرَاءَتِهَا وَكَذَا مَنْ يُعَالِجهُ بِهَا وَبِقِرَاءَةِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ، وَفِي الْغَالِب أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْخَبِيثَةَ لَا تَتَسَلَّطُ إلَّا عَلَى فَاعِلٍ غَيْرِ مُتَيَقِّظٍ وَلَا مُعَامِلٍ لِرَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَصَرَعُ الْمَرْأَةِ فِي الْحَدِيثِ وَاَللَّهُ أَعْلَم مِنْ الصَّرَعِ الْأَوَّلِ، وَاحْتَجَّ بِهِ عَلَى أَنَّ تَرْكَ التَّدَاوِي أَفْضَلُ وَفِيهِ أَنَّ التَّوَجُّه إلَى اللَّهِ سُبْحَانه يَجْلُب مِنْ النَّفْعِ وَيَدْفَع مِنْ الضُّرِّ مَا لَا يَفْعَلهُ عِلَاج الْأَطِبَّاءِ، وَإِنَّ تَأْثِيرَهُ وَتَأَثُّر الطَّبِيعَةِ عَنْهُ أَعْظَمُ مِنْ الْأَدْوِيَةِ الْبَدَنِيَّةِ وَتَأَثُّر الطَّبِيعَةِ عَنْهَا. وَعُقَلَاءُ الْأَطِبَّاءِ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ فِعْلَ الْقُوَى النَّفْسِيَّة وَانْفِعَالَاتهَا فِي شَقَاءِ الْأَمْرَاضِ عَجَائِب، وَأَمَّا الصَّرَعُ بِمَلَاهِي الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعهَا وَعَدَم التَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ وَغَلَبَة الْغَفْلَةِ وَالْهَوَى حَتَّى إنَّ بَعْضَ الْقُلُوبِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَوْ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إلَّا مَا آثَرَ مِنْ هَوَاهُ» نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، فَهَذَا الصَّرَعُ مِمَّا عَمَّ أَمْرُهُ وَغَلَبَ عَلَى النَّاسِ إلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ، وَالنَّاسُ فِيهِ مُتَفَاوِتُونَ جِدًّا عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوف، وَيَأْتِي آخِر فُصُولِ الطِّبِّ دَوَاءُ الْعِشْقِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ.

فصل حكم مسألة الحمية

[فَصْلٌ حُكْمُ مَسْأَلَةِ الْحِمْيَةِ] فَصْلٌ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفَصْلِ قَبْلَ الْفَصْلِ قَبْلَهُ ذِكْرُ الْحِمْيَةِ، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: لَا بَأْسَ بِالْحِمْيَةِ. وَكَانَ هَذَا مِنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ التَّدَاوِي. وَالْأَوْلَى عِنْدَهُ تَرْكُهُ فَعَلَى هَذَا حُكْمُ مَسْأَلَةِ الْحِمْيَةِ حُكْمُ مَسْأَلَةِ التَّدَاوِي عَلَى مَا سَبَقَ، وَيَتَوَجَّهُ أَنْ يَجِبَ إذَا ظَنَّ الضَّرَرَ بِمَا يَتَنَاوَلُهُ. وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ لَا يُخَالِفُ هَذَا، وَأَمَّا إنْ احْتَمَلَ الضَّرَرَ أَوْ ظَنَّ عَدَمَهُ فَهَذَا مُرَادُ الْإِمَامِ. يَتَوَجَّهُ اسْتِحْبَابُهَا إذًا احْتِيَاطًا وَتَحَرُّزًا وَإِنْ لَمْ يُسْتَحَبَّ التَّدَاوِي؛ وَلِهَذَا يَحْرُمُ تَنَاوُلُ مَا يَظُنُّ ضَرَرَهُ، وَلَا يَجِبُ التَّدَاوِي إذَا ظَنَّ نَفْعَهُ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] . وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ عَنْ أُمِّ الْمُنْذِرِ بِنْتِ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيَّةِ قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَهُ عَلِيٌّ، وَعَلِيٌّ نَاقِهٌ مِنْ مَرَضٍ، وَلَنَا دَوَالِي مُعَلَّقَةٌ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ مِنْهَا، وَقَامَ عَلِيٌّ يَأْكُلُ مِنْهَا فَطَفِقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لِعَلِيٍّ: إنَّكَ نَاقِهٌ حَتَّى كَفَّ، قَالَتْ: وَصَنَعْتُ شَعِيرًا وَسِلْقًا فَجِئْتُ بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَلِيٍّ: مِنْ هَذَا أَصِبْ فَإِنَّهُ أَنْفَعُ لَكَ وَفِي لَفْظٍ فَإِنَّهُ أَوْفَقُ لَكَ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَهُوَ كَمَا قَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَالدَّوَالِي: أَقْنَاءٌ مِنْ الرُّطَبِ تُعَلَّقُ فِي الْبَيْتِ لِلْأَكْلِ. وَالنَّاقِهُ طَبِيعَتُهُ مَشْغُولَةٌ بِدَفْعِ آثَارِ الْعِلَّةِ. فَالْفَاكِهَةُ تَضُرُّهُ لِسُرْعَةِ اسْتِحَالَتِهَا وَضَعْفِ طَبِيعَتِهِ عَنْ دَفْعِهَا لَا سِيَّمَا وَفِي الرُّطَبِ ثِقَلٌ، وَأَمَّا السِّلْقُ وَالشَّعِيرُ فَنَافِعٌ لَهُ، وَيُوَافِقُ لِمَنْ فِي مَعِدَتِهِ ضَعْفٌ، وَفِي مَاءِ الشَّعِيرِ تَبْرِيدٌ وَتَغْذِيَةٌ وَتَلْطِيفٌ وَتَلْيِينٌ وَتَقْوِيَةُ الطَّبِيعَةِ لَا سِيَّمَا مَعَ السِّلْقِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهَا فِي الْمُفْرَدَاتِ.

وَعَنْ صُهَيْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ يَدَيْهِ خُبْزٌ وَتَمْرٌ فَقَالَ: اُدْنُ فَكُلْ. فَأَخَذْتُ تَمْرًا فَأَكَلْتُ فَقَالَ: أَتَأْكُلُ تَمْرًا وَبِك رَمَدٌ؟ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَمْضُغُ مِنْ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ. وَفِي الْأَثَرِ الْمَشْهُورِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ إنَّهُ مَحْفُوظٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ إذَا أَحَبَّ عَبْدًا حَمَاهُ الدُّنْيَا كَمَا يَحْمِي أَحَدُكُمْ مَرِيضَهُ عَنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ.» كَذَا قِيلَ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَلَفْظُهُ «كَمَا يَظَلُّ أَحَدُكُمْ يَحْمِي نَفْسَهُ الْمَاءَ» وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ مَحْمُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: إنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَمَى مَرِيضًا لَهُ حَتَّى إنَّهُ مِنْ شِدَّةِ مَا حَمَاهُ كَانَ يَمُصُّ النَّوَى ، فَالْحِمْيَةُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدْوِيَةِ وَهِيَ عَمَّا يَجْلِبُ الْمَرَضَ حِمْيَةُ الْأَصِحَّاءِ، وَعَمَّا يَزِيدُهُ حِمْيَةُ الْمَرْضَى، فَإِنَّ الْمَرِيضَ إذَا احْتَمَى وَقَفَ مَرَضُهُ فَلَمْ يَتَزَايَدْ وَأَخَذَتْ الْقُوَى فِي دَفْعِهِ. وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ كِلْدَةَ: الطِّبُّ الْحِمْيَةُ، وَالْحِمْيَةُ عِنْدَهُمْ لِلصَّحِيحِ فِي الْمَضَرَّةِ كَالتَّخْلِيطِ لِلْمَرِيضِ وَالنَّاقِهِ. وَأَنْفَعُ الْحِمْيَةِ لِلنَّاقِهِ، فَإِنَّ طَبِيعَتَهُ لَمْ تَرْجِعْ إلَى قُوَّتِهَا، فَقُوَّتُهَا الْهَاضِمَةُ ضَعِيفَةٌ، وَالطَّبِيعَةُ قَابِلَةٌ، وَالْأَعْضَاءُ مُسْتَعِدَّةٌ فَتَخْلِيطُهُ يُوجِبُ انْتِكَاسَةً أَصْعَبَ مِنْ ابْتِدَاءِ مَرَضِهِ. وَلَا يَضُرُّ تَنَاوُلُ يَسِيرٍ لَا تَعْجَزُ الطَّبِيعَةُ عَنْ هَضْمِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ صُهَيْبٍ الْمَذْكُورُ، وَقَدْ يَنْتَفِعُ بِهِ لِشِدَّةِ الشَّهْوَةِ فَتَتَلَقَّاهُ الطَّبِيعَةُ وَالْمَعِدَةُ بِالْقَبُولِ فَيُصْلِحَانِ مَا يَخَافُ مِنْهُ، وَلَعَلَّهُ أَنْفَعُ مِمَّا تَكْرَهُهُ الطَّبِيعَةُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَادَ رَجُلًا

فَقَالَ لَهُ: مَا تَشْتَهِي؟ فَقَالَ أَشْتَهِي خُبْزَ بُرٍّ» وَفِي لَفْظٍ «أَشْتَهِي» كَعَطَاءٍ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ خُبْزُ بُرٍّ فَلْيَبْعَثْ إلَى أَخِيهِ، ثُمَّ قَالَ: إذَا اشْتَهَى مَرِيضُ أَحَدِكُمْ شَيْئًا فَلْيُطْعِمْهُ» . وَلَا يَنْبَغِي إكْرَاهُ الْمَرِيضِ عَلَى طَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ. قَالَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ: لِأَنَّ كَرَاهَتَهُ إمَّا لِاشْتِغَالِ طَبِيعَتِهِ بِمُجَاهَدَةِ الْمَرَضِ أَوْ لِسُقُوطِ شَهْوَتِهِ أَوْ نُقْصَانِهَا لِضَعْفِ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ أَوْ خُمُودِهَا، فَلَا يَجُوزُ إعْطَاءُ الْغِذَاءِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَالْجُوعُ طَلَبُ الْأَعْضَاءِ لِلْغِذَاءِ، لِتُخْلِفَ الطَّبِيعَةُ بِهِ عَلَيْهَا عِوَضَ مَا تَحَلَّلَ مِنْهَا فَتَجْذِبُ الْأَعْضَاءُ الْبَعِيدَةُ مِنْ الْقَرِيبَةِ حَتَّى يَنْتَهِيَ الْجَذْبُ إلَى الْمَعِدَةِ فَيُحِسُّ الْإِنْسَانُ بِالْجُوعِ، فَيَطْلُبُ الْغِذَاءَ، فَإِذَا وَجَدَهُ الْمَرِيضُ اشْتَغَلَتْ الطَّبِيعَةُ بِمَادَّتِهِ وَإِنْضَاجِهَا، أَوْ إخْرَاجِهَا عَنْ طَلَبِ الْغِذَاءِ أَوْ الشَّرَابِ، فَإِذَا أُكْرِهَ الْمَرِيضُ عَلَى ذَلِكَ تَعَطَّلَتْ بِهِ الطَّبِيعَةُ عَنْ فِعْلِهَا، وَاشْتَغَلَتْ بِهَضْمِهِ وَتَدْبِيرِهِ عَنْ إنْضَاجِ مَادَّةِ الْمَرَضِ وَدَفْعِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبَهُ لِضَرَرِ الْمَرِيضِ لَا سِيَّمَا فِي أَوْقَاتِ الْبُخَارَيْنِ أَوْ ضَعْفِ الْحَارِّ الْغَرِيزِيِّ أَوْ خُمُودِهِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِي هَذَا الْحَالِ إلَّا مَا يَحْفَظُ عَلَيْهِ قُوَّتَهُ وَيُقَوِّيهَا بِمَا لَطُفَ قَوَامُهُ وَاعْتَدَلَ مِزَاجُهُ مِنْ شَرَابٍ وَغِذَاءٍ، وَهَذَا مِنْ غَيْرِ اشْتِغَالٍ مُزْعِجٍ لِلطَّبِيعَةِ، فَإِنَّ الطَّبِيبَ خَادِمٌ لِلطَّبِيعَةِ وَمُعِينُهَا لَا مُعِيقُهَا. وَالدَّمُ الْجَيِّدُ هُوَ الْمُغَذِّي لِلْبَدَنِ، وَالْبَلْغَمُ دَمٌ فَجٌّ قَدْ نَضِجَ بَعْضَ النُّضْجِ، فَإِذَا عَدِمَ الْغِذَاءَ مَرِيضٌ فِيهِ بَلْغَمٌ كَثِيرٌ عَطَفَتْ الطَّبِيعَةُ عَلَيْهِ وَطَبَخَتْهُ وَأَنْضَجَتْهُ وَصَيَّرَتْهُ دَمًا وَغَذَّتْ بِهِ الْأَعْضَاءَ وَاكْتَفَتْ بِهِ، وَالطَّبِيعَةُ هِيَ الْقُوَّةُ الَّتِي وَكَّلَهَا اللَّهُ بِتَدْبِيرِ الْبَدَنِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُكْرِهُوا مَرَضَاكُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَوْ الشَّرَابِ؛ فَإِنَّ

اللَّهَ يُطْعِمُهُمْ وَيَسْقِيهِمْ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ: هَذَا الْحَدِيثُ بَاطِلٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ يُحْتَاجُ إلَى إجْبَارِ الْمَرِيضِ عَلَى طَعَامٍ وَشَرَابٍ فِي أَمْرَاضٍ مَعَهَا اخْتِلَاطُ الْعَقْلِ، فَيَكُونُ الْحَدِيثُ مَخْصُوصًا أَوْ مُقَيَّدًا. وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَرِيض يَعِيشُ بِلَا غِذَاءٍ أَيَّامًا، لَا يَعِيشُ الصَّحِيحُ فِي مِثْلِهَا. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَغَيْرُهُمْ بِنَحْوِهِ، وَفِي قَوْلِهِ: " فَإِنَّ اللَّهَ يُطْعِمُهُمْ وَيَسْقِيهِمْ " مَعْنًى لَطِيفٌ يَعْرِفُهُ مَنْ لَهُ عِنَايَةٌ بِأَحْكَامِ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ وَتَأْثِيرِهَا فِي طَبِيعَةِ الْبَدَنِ وَانْفِعَالِ الطَّبِيعَةِ عَنْهَا كَمَا تَنْفَعِلُ هِيَ كَثِيرًا عَنْ الطَّبِيعَةِ، فَالنَّفْسُ إذَا اشْتَغَلَتْ بِمَحْبُوبٍ أَوْ مَكْرُوهٍ اشْتَغَلَتْ بِهِ عَنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، بَلْ وَعَنْ غَيْرِهِمَا فَإِنْ كَانَ مُفْرِحًا قَوِيَّ التَّفْرِيحِ قَامَ لَهَا مَقَامَ الْغِذَاءِ؛ فَشَبِعَتْ بِهِ وَانْتَعَشَتْ قُوَاهَا وَتَضَاعَفَتْ وَجَرَتْ الدَّمَوِيَّةُ فِي الْجَسَدِ حَتَّى تَظْهَرَ فِي سَطْحِهِ فَإِنَّ الْفَرَحَ يُوجِبُ انْبِسَاطَ دَمِ الْقَلْبِ فَيَنْبَعِثُ فِي الْعُرُوقِ فَتَمْتَلِئُ بِهِ. وَالطَّبِيعَةُ إذَا ظَفِرَتْ بِمَا تُحِبُّ آثَرَتْهُ عَلَى مَا هُوَ دُونَهُ، وَإِنْ كَانَ مَخُوفًا وَنَحْوَهُ اشْتَغَلَتْ بِمُحَارَبَتِهِ أَوْ مُقَاوَمَتِهِ وَمُدَافَعَتِهِ عَنْ طَلَبِ الْغِذَاءِ، فَإِنْ ظَفِرَتْ فِي هَذِهِ الْحَرْبِ انْتَعَشَتْ قُوَاهَا، وَأَخْلَفَتْ عَلَيْهَا نَظِيرَ مَا فَاتَهَا مِنْ قُوَّةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَإِلَّا انْحَطَّ مِنْ قُوَاهَا بِحَسَبِ مَا حَصَلَ لَهَا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْحَرْبُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذَا الْعَدُوِّ سِجَالًا، فَالْقُوَّةُ تَظْهَرُ تَارَةً وَتَخْتَفِي أُخْرَى، فَالْمَرِيضُ لَهُ مَدَدٌ مِنْ اللَّهِ يُغَذِّيه بِهِ زَائِدٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْأَطِبَّاءُ مِنْ تَغْذِيَتِهِ بِالدَّمِ، وَهَذَا الْمَدَدُ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ قُرْبِ الشَّخْصِ مِنْ رَبِّهِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُوَاصِلُ الصَّوْمَ وَيَقُولُ: لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إنِّي أَظَلُّ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي» . وَقَدْ سَبَقَ قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْخَوْفُ مَنَعَنِي الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ فَمَا أَشْتَهِيهِ. وَكَانَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَلِيلَ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَيُنْشِدُ كَثِيرًا. لَهَا أَحَادِيثُ مِنْ ذِكْرَاكَ تَشْغَلُهَا ... عَنْ الشَّرَابِ وَتُلْهِيهَا عَنْ الزَّادِ

وَأَمَّا مَا سَبَقَ مِنْ الْكَلَامِ: " وَعَوِّدُوا كُلَّ بَدَنٍ مَا اعْتَادَ " فَهُوَ مِنْ أَنْفَعِ شَيْءٍ فِي الْعِلَاجِ وَأَعْظَمِهِ، فَإِنَّ مُلَاءَمَةَ الْأَدْوِيَةِ وَالْأَغْذِيَةِ لِلْأَبْدَانِ بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهَا وَقَبُولِهَا، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَشْهَدُ لِذَلِكَ، وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ فَمَنْ لَمْ يُرَاعِ ذَلِكَ مِنْ الْأَطِبَّاءِ، وَاعْتَمَدَ عَلَى مَا يَجِدُهُ فِي كُتُبِهِمْ فَذَلِكَ لِجَهْلِهِ وَيَضُرُّ الْمَرِيضَ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ يَنْفَعُهُ فَالْمَادَّةُ كَالطَّبِيعَةِ لِلْإِنْسَانِ. وَفِي كَلَامِ الْأَطِبَّاءِ وَغَيْرِهِمْ: الْعَادَةُ طَبْعٌ ثَانٍ، وَهِيَ قُوَّةٌ عَظِيمَةٌ فِي الْبَدَنِ حَتَّى إنَّهُ إذَا قِيسَ أَمْرٌ وَاحِدٌ إلَى أَبْدَانٍ مُخْتَلِفَةِ الْعَادَاتِ مُتَّفِقَةٍ فِي الْوُجُوهِ الْأُخَرِ، كَانَ مُخْتَلِفًا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا مِثَالُهُ: ثَلَاثَةُ شَبَابٍ أَمْزِجَتُهُمْ حَارَّةٌ، أَحَدُهُمْ تَعَوَّدَ الْحَارَّ، وَالْآخَرُ الْبَارِدَ، وَالْآخَرُ الْمُتَوَسِّطَ، فَالْعَسَلُ لَا يَضُرُّ بِالْأَوَّلِ وَيَضُرُّ بِالثَّانِي وَيَضُرُّ بِالثَّالِثِ قَلِيلًا. وَقَدْ قَالَ الْحَارِثُ بْن كِلْدَةَ: الْأَزْمُ دَوَاءٌ. الْأَزْمُ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ، وَمُرَادُهُ الْجُوعُ وَهُوَ مِنْ أَجْوَدِ الْأَدْوِيَةِ فِي شِفَاءِ الْأَمْرَاضِ الِامْتِلَائِيَّةِ كُلِّهَا، وَهُوَ أَفْضَلُ فِي عِلَاجِهَا مِنْ الْمُسْتَفْرِغَاتِ إذَا لَمْ يَخَفْ مِنْ كَثْرَةِ الِامْتِلَاءِ وَهَيَجَانِ الْأَخْلَاطِ وَحِدَّتِهَا وَغَلَيَانِهَا. وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ النَّبَوِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «صُومُوا تَصِحُّوا» . وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ وَغَيْرُهُمْ صِفَةَ الْمَعِدَةِ أَنَّهَا عُضْوٌ عَصَبِيٌّ مُجَوَّفٌ كَالْقَرْعَةِ فِي شَكْلِهِ، مُرَكَّبٌ فِي ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ مُؤَلَّفَةٍ مِنْ شَظَايَا دَقِيقَةٍ عَصَبِيَّةٍ تُسَمَّى اللِّيفَ، يُحِيطُ بِهَا لَحْمٌ وَلِيفٌ، إحْدَى الطَّبَقَاتِ بِالطُّولِ وَالْأُخْرَى بِالْعَرْضِ، وَالثَّالِثَةُ بِالْوِرَابِ. وَفَمُ الْمَعِدَةِ أَكْثَرُ عَصَبًا. وَقَعْرُهَا أَكْثَرُ لَحْمًا وَفِي بَاطِنِهَا خَمْلٌ، وَهِيَ مَحْصُورَةٌ فِي وَسَطِ الْبَطْنِ وَأَمْيَلُ إلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ وَهِيَ بَيْتُ الدَّاءِ. وَكَانَتْ مَحِلًّا لِلْهَضْمِ الْأَوَّلِ، وَفِيهَا يَنْطَبِخُ الْغِذَاءُ ثُمَّ يَنْحَدِرُ مِنْهَا إلَى الْكَبِدِ وَالْأَمْعَاءِ، وَيَتَخَلَّفُ فِيهَا مِنْهُ فَضْلَةٌ عَجَزَتْ الْقُوَّةُ الْهَاضِمَةُ عَنْ تَمَامِ هَضْمِهِ لِمَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إلَى تَقْلِيلِ الْغِذَاءِ وَالتَّحَرُّزِ عَنْ الْفَضْلَةِ كَمَا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْأَطِبَّاءُ أَنَّهُ يُخَافُ مِنْ الْإِكْثَارِ مِنْ الْغِذَاءِ النَّافِعِ، وَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ مِنْهُ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: يَكُفُّ عَنْهُ وَهُوَ يَمِيلُ إلَيْهِ فَلَا يَمِيلُ بِالْكُلِّيَّةِ وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " أَصْلُ كُلِّ دَاءٍ الْبَرَدَةُ " الْبَرَدَةُ بِالتَّحْرِيكِ التُّخَمَةُ وَثِقَلُ الطَّعَامِ عَلَى الْمَعِدَةِ. سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُبَرِّدُ الْمَعِدَةَ فَلَا تَسْتَمْرِئُ الطَّعَامَ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْمَعِدَةُ لِلْإِنْسَانِ بِمَنْزِلَةِ الْكِرْشِ لِكُلِّ مُجْتَرٍّ، وَيُقَالُ: مِعْدَةٌ وَمَعِدَةٌ. وَلْيُجْتَهَدْ فِي الْعِلَاجِ بِأَلْطَفِ الْغِذَاءِ الْمُعْتَادِ لِذَلِكَ الْمَرِيضِ؛ وَلِهَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ: " أَنَّهَا كَانَتْ إذَا مَاتَ الْمَيِّتُ مِنْ أَهْلِهَا اجْتَمَعَ لِذَلِكَ النِّسَاءُ ثُمَّ تَفَرَّقْنَ إلَى أَهْلِهِنَّ، أَمَرَتْ بِبُرْمَةِ تَلْبِينَةٍ فَطُبِخَتْ وَصُنِعَتْ ثَرِيدًا ثُمَّ صَبَّتْ التَّلْبِينَةَ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَتْ: كُلُوا مِنْهَا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «التَّلْبِينَةُ مَجَمَّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحَزَنِ» وَلِابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا «عَلَيْكُمْ بِالْبَغِيضِ النَّافِعِ» يَعْنِي الْحَسَاءَ. قَالَتْ: «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا اشْتَكَى أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ لَمْ تَزَلْ الْبُرْمَةُ عَلَى النَّارِ حَتَّى يَنْتَهِيَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ يَعْنِي يَبْرَأُ أَوْ يَمُوتُ» . وَلِلْبُخَارِيِّ أَوَّلُهُ مِنْ قَوْلِهَا: وَعَنْهَا «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قِيلَ لَهُ: إنَّ فُلَانًا وَجِعٌ لَا يَطْعَمُ الطَّعَامَ، قَالَ: عَلَيْكُمْ بِالتَّلْبِينَةِ فَحَسُّوهُ إيَّاهَا وَيَقُولُ: فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّهَا تَغْسِلُ بَطْنَ أَحَدِكُمْ كَمَا تَغْسِلُ إحْدَاكُنَّ وَجْهَهَا مِنْ الْوَسَخِ.» وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَخَذَ أَهْلَهُ الْوَعْكُ أَمَرَ بِالْحَسَاءِ فَصُنِعَ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ فَحَسَوْا مِنْهُ، وَكَانَ يَقُولُ: إنَّهُ لَيَرْتُو فُؤَادَ الْحَزِينِ وَيَسْرُو عَنْ فُؤَادِ السَّقِيمِ كَمَا تَسْرُو إحْدَاكُنَّ الْوَسَخَ بِالْمَاءِ عَنْ وَجْهِهَا» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَفِيهِ أَمَرَهُمْ بِالْحَسَاءِ مِنْ الشَّعِيرِ. يُقَالُ: رَتَاهُ يَرْتُوهُ أَيْ يَشُدُّهُ وَيُقَوِّيهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَيُرَادُ أَيْضًا إرْخَاؤُهُ وَأَوْهَاهُ، وَهُوَ مِنْ الْأَضْدَادِ، وَيُقَالُ: سَرَوْتُ الثَّوْبَ عَنِّي سَرْوًا إذَا أَلْقَيْتَهُ عَنْكَ وَسَرَيْتُ لُغَةً: مَجَمَّةٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْجِيمِ، وَيُقَالُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْجِيمِ مَعْنَاهُ مُرِيحَةٌ لَهُ مِنْ الْإِجْمَامِ وَهِيَ الرَّاحَةُ، وَالتَّلْبِينَةُ وَالتَّلْبِينُ بِفَتْحِ التَّاءِ

حَسَاءٌ رَقِيقٌ مِنْ دَقِيقٍ وَنُخَالَةٍ، وَرُبَّمَا جُعِلَ فِيهَا عَسَلٌ. سُمِّيَتْ بِذَلِكَ تَشْبِيهًا بِاللَّبَنِ لِبَيَاضِهَا وَرِقَّتِهَا. وَسَبَقَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ فَضْلُ مَاءِ الشَّعِيرِ، وَكَانُوا يَتَّخِذُونَهَا مِنْهُ، وَهِيَ أَنْفَعُ مِنْ مَاءِ الشَّعِيرِ لِطَبْخِهَا مَطْحُونًا فَتَخْرُجُ خَاصِّيَّةُ الشَّعِيرِ بِالطَّحْنِ، وَمَاءُ الشَّعِيرِ يُطْبَخُ صِحَاحًا، فَعَلَ ذَلِكَ أَطِبَّاءُ الْمُدُنِ لِيَكُونَ أَلْطَفَ لِرِقَّتِهِ، فَلَا يَثْقُلُ عَلَى طَبِيعَةِ الْمَرِيضِ، وَشُرْبُ ذَلِكَ حَارًّا أَبْلَغُ فِي فِعْلِهِ. وَقَوْله: " وَتَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحَزَنِ " قَدْ يَكُونُ لِخَاصِّيَّةٍ فِيهَا وَقَدْ يَكُونُ لِزَوَالِ مَا حَصَلَ بِالْحَزَنِ مِنْ الْيُبْسِ وَبَرُدَ الْمِزَاجُ بِاسْتِعْمَالِ ذَلِكَ فَقَوِيَتْ الْقُوَى وَقَوِيَ الْحَارُّ الْغَرِيزِيُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل يتعلق بما قبله الحمية من التمر للرمد

[فَصْلٌ يَتَعَلَّقُ بِمَا قَبْلَهُ الْحَمِيَّة مِنْ التَّمْر لِلرَّمَدِ] فَصْلٌ يَتَعَلَّقُ بِمَا قَبْلَهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْحِمْيَةِ مِنْ التَّمْرِ لِلرَّمَدِ، وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّهُ «دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ يَدَيْهِ تَمْرٌ يَأْكُلُهُ وَعَلِيٌّ أَرْمَدُ، فَقَالَ: يَا عَلِيُّ تَشْتَهِي؟ وَرَمَى إلَيْهِ بِتَمْرَةٍ ثُمَّ بِأُخْرَى حَتَّى رَمَى إلَيْهِ سَبْعًا. ثُمَّ قَالَ: حَسْبُكَ يَا عَلِيُّ» وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ النَّبَوِيِّ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا رَمِدَتْ عَيْنُ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ لَمْ يَأْتِهَا حَتَّى تَبْرَأَ عَيْنُهَا» . الرَّمَدُ وَرَمٌ حَارٌّ يَعْرِضُ فِي الطَّبَقَةِ الْمُلْتَحِمَةِ مِنْ الْعَيْنِ، وَهُوَ بَيَاضُهَا الظَّاهِرُ، وَسَبَبُهُ انْصِبَابُ أَحَدِ الْأَخْلَاطِ الْأَرْبَعَةِ أَوْ رِيحٌ حَارَّةٌ تَكْثُرُ كَمِّيَّتُهَا فِي الرَّأْسِ وَالْبَدَنِ فَيَنْبَعِثُ مِنْهَا قِسْطٌ إلَى جَوْهَرِ الْعَيْنِ أَوْ يَضْرِبُهُ نَصِيب الْعَيْنِ فَتُرْسِلُ الطَّبِيعَةُ إلَيْهَا مِنْ الدَّمِ وَالرُّوحِ مِقْدَارًا كَثِيرًا تَرُومُ بِذَلِكَ شِفَاءَهَا مِمَّا عَرَضَ لَهَا؛ وَلِأَجْلِ ذَلِكَ يَوْرَمُ الْعُضْوُ الْمَضْرُوبُ، وَالْقِيَاسُ يُوجِبُ ضِدَّهُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَمَا يَرْتَفِعُ مِنْ الْأَرْضِ إلَى الْجَوِّ بُخَارَانِ: أَحَدُهُمَا حَارٌّ يَابِسٌ، وَالْآخَرُ حَارٌّ رَطْبٌ فَيَنْعَقِدَانِ سَحَابًا مُتَرَاكِمًا وَيَمْنَعَانِ أَبْصَارَنَا مِنْ إدْرَاكِ السَّمَاءِ فَكَذَلِكَ يَرْتَفِعُ مِنْ قَعْرِ الْمَعِدَةِ إلَى مُنْتَهَاهَا مِثْلُ ذَلِكَ فَيَمْنَعَانِ الْفِكْرَ وَيَتَوَلَّدُ عَنْهُمَا عِلَلٌ شَتَّى، فَإِنْ قَوِيَتْ الطَّبِيعَةُ عَلَى ذَلِكَ وَرَفَعَتْهُ إلَى الْخَوَاشِيمِ أَحْدَثَ الزُّكَامَ، وَإِنْ دَفَعَتْهُ إلَى اللَّهَاةِ وَالْمَنْخَرَيْنِ أَحْدَثَ الْخُنَاقَ، وَإِنْ دَفَعَتْهُ إلَى الْجَنْبِ أَحْدَثَ الشَّوْصَةَ، وَإِنْ دَفَعَتْهُ إلَى الصَّدْرِ أَحْدَثَ النَّزْلَةَ، وَإِنْ انْحَدَرَ إلَى الْقَلْبِ أَحْدَثَ الْخَبْطَةَ، وَإِنْ دَفَعَتْهُ إلَى الْعَيْنِ أَحْدَثَ رَمَدًا، وَإِنْ انْحَدَرَ إلَى الْجَوْفِ أَحْدَثَ السَّيَلَانَ، وَإِنْ دَفَعَتْهُ إلَى مَنَازِلِ الدِّمَاغِ أَحْدَثَ النِّسْيَانَ، وَإِنْ تَرَطَّبَتْ أَوْعِيَةُ الدِّمَاغِ مِنْهُ وَامْتَلَأَتْ بِهِ عُرُوقُهُ أَحْدَثَ النَّوْمَ الشَّدِيدَ، وَلِذَلِكَ كَانَ النَّوْمُ رَطْبًا وَالسَّهَرُ يَابِسًا، وَإِنْ طَلَبَ الْبُخَارُ النُّفُوذَ مِنْ الرَّأْسِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ أَعْقَبَهُ الصُّدَاعُ وَالسَّهَرُ. وَإِنْ مَال الْبُخَارُ إلَى أَحَدِ شِقَّيْ الرَّأْسِ

أَعْقَبَهُ الشَّقِيقَةُ، وَإِنْ مَلَكَ قِمَّةَ الرَّأْسِ وَوَسَطَ الْهَامَةِ أَعْقَبَهُ دَاءُ الْبَيْضَةِ، وَإِنْ بَرَدَ مِنْهُ حِجَابُ الدِّمَاغِ أَوْ سَخِنَ أَوْ تَرَطَّبَ وَهَاجَتْ مِنْهُ أَرْيَاحٌ أَحْدَثَ الْعُطَاسَ، وَإِنْ أَهَاجَ الرُّطُوبَةَ الْبَلْغَمِيَّةَ فِيهِ حَتَّى غَلَبَ الْحَارُّ الْغَرِيزِيُّ أَحْدَثَ الْإِغْمَاءَ وَالسُّكَاتَ، وَإِنْ أَهَاجَ الْمِرَّةَ السَّوْدَاءَ حَتَّى أَظْلَمَ هَوَادُ الدِّمَاغِ أَحْدَثَ الْوَسْوَاسَ، وَإِنْ أَفَاضَ ذَلِكَ إلَى مَجَارِي الْعَصَبِ أَحْدَثَ الصَّرْعَ الطَّبِيعِيَّ، وَإِنْ تَرَطَّبَتْ مَجَامِعُ عَصَبِ الرَّأْسِ وَفَاضَ ذَلِكَ فِي مَجَارِيهِ أَعْقَبَهُ الْفَالِجُ، وَإِنْ كَانَ الْبُخَارُ مِنْ مِرَّةٍ صَفْرَاءَ مُلْتَهِبَةٍ مَحْمِيَّةِ الدِّمَاغِ أَحْدَثَ الْبِرْسَامَ، فَإِنْ شَرِكَهُ الصَّدْرُ فِي ذَلِكَ صَارَ سِرْسَامًا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَخْلَاطَ هَائِجَةٌ وَقْتَ الرَّمَدِ وَالْجِمَاعُ يَزِيدُهَا فَإِنَّهُ حَرَكَةٌ كُلِّيَّةٌ لِلْبَدَنِ وَالرُّوحِ وَالطَّبِيعَةِ فَالْبَدَنُ يَسْخَنُ بِالْحَرَكَةِ، وَالنَّفْسُ تَشْتَدُّ حَرَكَتُهَا طَلَبًا لِلَّذَّةِ وَكَمَالِهَا. وَالرُّوحُ تَتَحَرَّك تَبَعًا لِحَرَكَةِ النَّفْسِ وَالْبَدَنِ، فَإِنَّ أَوَّلَ تَعَلُّقِ الرُّوحِ مِنْ الْبَدَنِ بِالْقَلْبِ، وَمِنْهُ تَنْشَأُ الرُّوحُ وَتَنْبَثُّ فِي الْأَعْضَاءِ، وَأَمَّا حَرَكَةُ الطَّبِيعَةِ فَلِأَنَّهَا تُرْسِلَ مَا يَجِبُ إرْسَالُهُ مِنْ الْمَنِيِّ، وَكُلُّ حَرَكَةٍ فَهِيَ مُثِيرَةٌ لِلْأَخْلَاطِ مُرَقِّقَةٌ لَهَا تُوجِبُ دَفْعَهَا وَسَيَلَانَهَا إلَى الْأَعْضَاءِ الضَّعِيفَةِ، وَالْعَيْنُ أَضْعَفُ مَا تَكُونُ حَالَ رَمَدِهَا فَعِلَاجُ الرَّمَدِ بِالْحِمْيَةِ مِمَّا يُهَيِّجُ الرَّمَدَ. وَتَرْكُ الْحَرَكَةِ، وَأَضَرُّهَا حَرَكَةُ الْجِمَاعِ وَتَرْكُ مَسِّ الْعَيْنِ بِالرَّاحَةِ. قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مِثْلُ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ مَثَلُ الْعَيْنِ وَدَوَاءُ الْعَيْنِ تَرْكُ مَسِّهَا، وَفِي خَبَرٍ مَرْفُوعٍ: «عِلَاجُ الرَّمَدِ تَقْطِيرُ الْمَاءِ الْبَارِدِ فِي الْعَيْنِ» وَهُوَ لِلرَّمَدِ الْحَارِّ مِنْ أَعْظَمِ الدَّوَاءِ، وَيَأْتِي خَبَرُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّمَدَ وَرَمُ الْمُلْتَحِمِ أَوْ تَكَدُّرُهُ، وَقَدْ يَكْفِي فِي نَوْعِ التَّكَدُّرِ تَقْطِيرُ لَبَنِ النِّسَاءِ، وَبَيَاضُ الْبَيْضِ قَالَ الْأَطِبَّاءُ: وَيُدَبَّرُ فِي كُلِّ أَنْوَاعِ الرَّمَدِ بِالتَّدْبِيرِ اللَّطِيفِ؛ فَيُغَذَّى الْمُزَوِّدَاتِ وَيُسْقَى شَرَابَ اللُّوفَرِ مَعَ السَّكَنْجَبِينِ. وَيُمْنَعُ مِنْ الْحَوَامِضِ الصِّرْفَةِ وَالْقَابِضَةِ وَالْمَالِحَةِ وَعَنْ كُلِّ مَا يُرَطِّبُ وَمِنْ الطَّعَامِ الرَّدِيءِ الْكَيْمُوسُ وَإِنْ تَاقَتْ نَفْسُهُ إلَى الْفَاكِهَةِ فَمِنْ السَّفَرْجَلِ وَالْكُمَّثْرَى. وَيُمْنَعُ مِنْ أَكْلِ الْحَلْوَى وَيُجْعَلُ فِي بَيْتٍ لَيْسَ قَوِيَّ الضَّوْءِ وَيَكُونُ عِنْدَهُ وَرَقُ الْخِلَافِ، وَالْآسُ الرَّطْبُ رَائِحَتُهُ تُقَوِّي الدِّمَاغَ وَيَأْتِي مَا يُسَكِّنُ الْوَجَعَ فِي عِلَاجِ لَدْغَةِ الْعَقْرَبِ، قَالَ

وَالتَّمْرُ حَارٌّ قَالَ ابْنُ جَزْلَةَ: رَطْبٌ غَلِيظٌ كَثِيرُ الْإِغْذَاءِ يُورِثُ إدْمَانُهُ غِلَظًا فِي الْأَحْشَاءِ وَيُورِثُ السَّدَدَ وَيُفْسِدُ الْأَسْنَانَ وَيَزِيدُ فِي الدَّمِ وَالْمَنِيِّ لَا سِيَّمَا مَعَ حَبِّ الصَّنَوْبَرِ، وَيُصَدِّعُ وَيُصْلِحُهُ اللَّوْزُ وَالْخَشْخَاشُ وَبَعْدَهُ سَكَنْجَبِينُ سَاذَجٌ وَهُوَ مُقَوٍّ لِلْكَبِدِ وَيُبْرِئُ لِلطَّبْعِ مُلَيِّنٌ مِنْ خُشُونَةِ الْحَلْقِ، وَأَكْلُهُ عَلَى الرِّيقِ يُضْعِفُ الدُّودَ وَيَقْتُلُهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا فِيهِ مِنْ الْأَذَى لِمَنْ لَمْ يَعْتَدْهُ. وَبَاقِي أَيْضًا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَعْدٍ. وَفِي الرَّمَدِ مَنَافِعُ كَالْحِمْيَةِ وَالِاسْتِفْرَاغِ وَزَوَالِ الْفَضْلَةِ وَالْعُفُونَةِ وَالْكَفِّ عَمَّا يُؤْذِي النَّفْسَ وَالْبَدَنَ كَحَرَكَةٍ عَنِيفَةٍ وَغَضَبٍ وَهَمٍّ وَحُزْنٍ. قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ لَا تَكْرَهُوا الرَّمَدَ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ عِرْقَ الْعَمَى.

فصل في الحرارة والرطوبة واعتدال المزاج باعتدالهما

[فَصْلٌ فِي الْحَرَارَةِ وَالرُّطُوبَةِ وَاعْتِدَالِ الْمِزَاجِ بِاعْتِدَالِهِمَا] فَصْلٌ (فِي الْحَرَارَةِ وَالرُّطُوبَةِ وَاعْتِدَالِ الْمِزَاجِ بِاعْتِدَالِهَا) اعْلَمْ أَنَّ قِوَامَ الْبَدَنِ بِمَا فِيهِ مِنْ الْحَرَارَةِ وَالرُّطُوبَةِ، وَقِوَامَ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْأُخْرَى. فَالْحَرَارَةُ تَحْفَظُ الرُّطُوبَةَ وَتَمْنَعُهَا مِنْ الْفَسَادِ وَالِاسْتِحَالَةِ وَتَدْفَعُ فَضَلَاتِهَا وَتُلَطِّفُهَا وَإِلَّا أَفْسَدَتْ الْبَدَنَ، وَالرُّطُوبَةُ تَغْذُو الْحَرَارَةَ وَإِلَّا أَحْرَقَتْ الْبَدَنَ وَأَيْبَسَتْهُ، وَيَنْحَرِفُ مِزَاجُ الْبَدَنِ بِحَسَبِ زِيَادَةِ أَحَدِهِمَا. وَلَمَّا كَانَتْ الْحَرَارَةُ تُحَلِّلُ الرُّطُوبَةَ احْتَاجَ الْبَدَنُ إلَى مَا يُخْلِفُ عَلَيْهِ مَا حَلَّلَتْهُ الْحَرَارَةُ ضَرُورَةَ بَقَائِهِ، وَهُوَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ فَمَتَى زَادَ عَلَى مِقْدَارِ التَّحَلُّلِ ضَعُفَتْ الْحَرَارَةُ عَنْ تَحْلِيلِ فَضَلَاتِهِ فَاسْتَحَالَتْ مَوَادَّ رَدِيئَةً فَتَنَوَّعَتْ الْأَمْرَاضُ لِتَنَوُّعِ مَوَادِّهَا وَقَبُولِ الْأَعْضَاءِ وَاسْتِعْدَادِهَا؛ فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] . فَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِإِدْخَالِ مَا يُقِيمُ الْبَدَنَ مِنْ الطَّعَام وَالشَّرَابِ عِوَضَ مَا تَحَلَّلَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْبَدَنُ، فَمَتَى جَاوَزَهُ أَسْرَفَ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ عَدَمِ الْغِذَاءِ وَالْإِسْرَافِ فِيهِ مَانِعٌ مِنْ الصِّحَّةِ جَالِبٌ لِلْمَرَضِ؛ فَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ الطِّبُّ حِفْظُ الصِّحَّةِ فِي بَعْضِ آيَةٍ، فَالْبَدَنُ فِي التَّحَلُّلِ وَالِاسْتِخْلَافِ دَائِمًا، فَكُلَّمَا كَثُرَ التَّحَلُّلُ ضَعُفَتْ الْحَرَارَةُ لِفَنَاءِ الرُّطُوبَةِ وَهِيَ مَادَّةُ الْحَرَارَةِ، وَإِذَا ضَعُفَتْ الْحَرَارَةُ ضَعُفَ الْهَضْمُ وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى تَفْنَى الرُّطُوبَةُ وَتَنْطَفِئَ الْحَرَارَةُ جُمْلَةً فَيَمُوتُ، فَغَايَةُ الطَّبِيبِ أَنْ يَحْمِيَ الرُّطُوبَةَ عَمَّا يُفْسِدُهَا مِنْ الْعُفُونَةِ وَغَيْرِهَا، وَالْحَرَارَةَ عَمَّا يُضْعِفُهَا وَيَعْدِلُ بَيْنَهَا بِالْعَدْلِ فِي التَّدْبِيرِ الَّذِي قَامَ بِهِ الْبَدَنُ فَالْمَخْلُوقَاتُ قِوَامُهَا بِالْعَدْلِ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ عَنْ النَّبِيِّ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهِمَا كَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

وَحَدِيثِ سَلَمَةَ بْن عُبَيْدِ اللَّهِ بْن مُحْصَنٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ: «مَنْ أَصْبَحَ مُعَافًى فِي جِسْمِهِ آمِنًا فِي سِرْبِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا.» سَلَمَةُ فِيهِ جَهَالَةٌ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَوَّلُ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ النَّعِيمِ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَلَمْ نَصِحَّ جِسْمَكَ وَنَرْوِكَ مِنْ الْمَاءِ الْبَارِدِ» إسْنَادٌ جَيِّدٌ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ غَرِيبٌ. «وَأَمَرَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَائِشَةَ إنْ عَلِمَتْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ إنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي» صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ. وَعَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «لَا يُرَدُّ الدُّعَاءُ بَيْنَ الْآذَانِ وَالْإِقَامَةِ، قَالُوا: فَمَاذَا نَقُولُ؟ قَالَ: سَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَلِأَبِي دَاوُد هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْن عَمْرٍو. وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «مَا سُئِلَ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ الْعَافِيَةِ» وَلِابْنِ مَاجَهْ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَعَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: سَلْ رَبَّك الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. ثُمَّ سَأَلَهُ فَأَعَادَهُ. ثُمَّ سَأَلَهُ فَأَعَادَهُ وَزَادَ: فَإِذَا أُعْطِيتَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَقَدْ أَفْلَحْتَ» . مُخْتَصَرٌ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، «وَسَأَلَهُ الْعَبَّاسُ: عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: سَلْ اللَّهَ الْعَافِيَةَ. قَالَ: فَمَكَثَ أَيَّامًا ثُمَّ سَأَلَهُ. فَقَالَ: يَا عَبَّاسُ يَا عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَلْ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَلِأَحْمَدَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ مَرْفُوعًا. «سَلُوا اللَّهَ الْيَقِينَ وَالْمُعَافَاةَ فَمَا أُوتِيَ أَحَدٌ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْرًا مِنْ الْمُعَافَاةِ» وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «سَلُوا اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ وَالْمُعَافَاةَ فَمَا أُوتِيَ أَحَدٌ بَعْدَ يَقِينٍ خَيْرًا مِنْ مُعَافَاةٍ» فَالشَّرُّ الْمَاضِي يَزُولُ بِالْعَفْوِ وَالْحَاضِرُ بِالْعَافِيَةِ وَالْمُسْتَقْبَلُ بِالْمُعَافَاةِ لِتَضَمُّنِهَا دَوَامَ الْعَافِيَةِ مِنْ أَجْلِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ؛ فَيَتَعَيَّنُ مُرَاعَاتُهَا وَحِفْظُهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ طَرِيقَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كُلِّ شَيْءٍ أَكْمَلُ الطُّرُقِ وَحَالُهُ أَكْمَلُ الْأَحْوَالِ.

فصل في العلاج وحفظ الصحة بدفع كل شيء بضده

[فَصْلٌ فِي الْعِلَاجِ وَحِفْظِ الصِّحَّةِ بِدَفْعِ كُلِّ شَيْءٍ بِضِدِّهِ] وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعِلَاجِ وَفِي حِفْظِ الصِّحَّةِ وَقُوَّةِ الْبَدَنِ دَفْعُ ضَرَرِ شَيْءٍ بِمُقَابِلِهِ كَالْبَارِدِ بِالْحَارِّ وَالرَّطْبِ بِالْيَابِسِ وَبِالضِّدِّ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّعْدِيلِ وَدَفْعِ ضَرَرِ كُلِّ كَيْفِيَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ بِمَا يُقَابِلُهَا وَمِنْ هَذَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ الرُّطَبَ بِالْقِثَّاءِ» . وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَرَادَتْ أُمِّي أَنْ تُسَمِّنَنِي لِدُخُولِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ أَقْبَلْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ مِمَّا تُرِيدُ حَتَّى أَطْعَمَتْنِي الْقِثَّاءَ بِالرُّطَبِ فَسَمِنْت عَلَيْهِ كَأَحْسَنِ السِّمَنِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. وَالرُّطَبُ حَارٌّ رَطْبٌ فِي الثَّانِيَةِ يُقَوِّي الْمَعِدَةَ الْبَارِدَةَ وَيُوَافِقُهَا وَيَزِيدُ فِي الْبَاءَةِ وَيَغْذُو وَهُوَ مُعَطِّشٌ، مُكَدِّرٌ لِلدَّمِ، مُصَدِّعٌ، مُوَلِّدٌ لِلسَّدَدِ، وَوَجَعُ الْمَثَانَةِ يَضُرُّ بِالْأَسْنَانِ، سَرِيعُ التَّعَفُّنِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا فِيمَنْ لَمْ يَعْتَدْهُ، وَالْقِثَّاءُ بَارِدٌ رَطْبٌ فِي الثَّانِيَةِ أَوْ الثَّالِثَةِ يُسَكِّنُ الْحَرَارَةَ وَالصَّفْرَاءَ وَالْعَطَشَ، يُقَوِّي الْمَعِدَةَ فَيُدْفَعُ ضَرَرُهُ بِتَمْرٍ أَوْ عَسَلٍ أَوْ نَحْوِهِ وَكَيْمُوسُهُ رَدِيءٌ مُسْتَعِدٌّ لِلْعُفُونَةِ، وَيُهَيِّجُ حُمَّيَاتٍ صَعْبَةً لِذَهَابِهِ فِي الْعُرُوقِ، وَهُوَ مُنْعِشٌ لِلْقُوَى مُدِرٌّ لِلْبَوْلِ مُوَافِقٌ لِلْمَثَانَةِ. وَفِي مَعْنَى هَذَا عَنْ عَائِشَةَ: قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ الْبِطِّيخَ بِالرُّطَبِ، يَقُولُ يَدْفَعُ حَرَّ هَذَا بَرْدُ هَذَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَالْمُرَادُ بِالْبِطِّيخِ فِي هَذَا الْبِطِّيخُ الْأَخْضَرُ، وَهُوَ بَارِدٌ رَطْبٌ فِي الثَّانِيَةِ نَافِعٌ لِلْأَمْرَاضِ الْحَادَّةِ وَالْحُمَّيَاتِ الْمُحْرِقَةِ وَالْأَمْزِجَةِ الْمُلْتَهِبَةِ وَيُسَكِّنُ الْعَطَشَ مَعَ السَّكَنْجَبِينَ. وَيُدِرُّ الْبَوْلَ وَيَغْسِلُ الْمَثَانَةَ، وَمَاؤُهُ مَعَ السُّكَّرِ أَبْلَغُ فِي التَّبْرِيدِ وَهُوَ يُسِيءُ الْهَضْمَ وَيَضُرُّ بِالْمَشَايِخِ وَالْأَمْزِجَةِ الْبَارِدَةِ وَيَفْجُجُ الْأَخْلَاطَ، وَيَصْلُحُ السُّكَّرُ وَالْعَسَلُ وَنَحْوُهُ مَعَهُ أَوْ عَقِبَهُ قَالَ بَعْضُهُمْ: يُؤْكَلُ قَبْلَ الطَّعَامِ. وَيُتْبَعُ بِهِ وَإِلَّا غَثِيَ وَقَيَأَ، قَالَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ: هُوَ قَبْلَ الطَّعَامِ يَغْسِلُ الْبَطْنَ غَسْلًا، وَيَذْهَبُ بِالدَّاءِ أَصْلًا.

وَفِي الْبِطِّيخِ أَحَادِيثُ لَا تَصِحُّ وَأَكْثَرُهَا أَوْ كُلُّهَا مَوْضُوعَةٌ، وَقَدْ ذَكَرَ الْقُشَيْرِيُّ أَوْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَأْكُلُ الْبِطِّيخَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُهُ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَصِحُّ عَنْ أَحْمَدَ، وَلَا يَعْرِفُهُ أَصْحَابُهُ. وَأَمَّا الْبِطِّيخُ الْأَصْفَرُ فَبَارِدٌ فِي أَوَّلِ الثَّانِيَةِ رَطْبٌ فِي آخِرِهَا، قَالَ ابْنُ جَزْلَةَ: هَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ حَارٌّ وَهُوَ مُبَرِّدٌ يُدِرُّ وَيَقْطَعُ وَيَجْلُو وَيَنْفَعُ مِنْ حِصِيِّ الْكُلَى وَالْمَثَانَةِ الصِّغَارِ، وَيُرْخِي الْأَحْشَاءَ، وَرُبَّمَا عَرَضَتْ مِنْهُ الْهَيْضَةُ وَيُثَوِّرُ الْمِرَّةَ الصَّفْرَاءَ، وَأَيُّ خَلْطٍ صَادَفَهُ فِي الْمَعِدَةِ اسْتَحَالَ إلَيْهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُؤْكَلَ بَعْدَهُ السَّكَنْجَبِينُ وَنَحْوُهُ كَالرُّمَّانِ الْحَامِضِ وَأَنْ يُؤْكَلَ بَيْنَ طَعَامَيْنِ قَالَ بَعْضُهُمْ: أَوْ يُخْلَطُ بِالطَّعَامِ وَإِذَا فَسَدَ صَارَ كَالسُّمِّ فَلَا يُتْرَكُ وَيُتَّقَى، وَلْيَحْذَرْ الْبِطِّيخَ مَنْ كَانَتْ بِهِ حُمَّى وَهُوَ يُصَفِّي ظَاهِرَ الْبَدَنِ يَقْلَعُ الْبَهَقَ وَالْكَلَفَ وَالْوَسَخَ خُصُوصًا إنْ دُقَّ بِزْرُهُ وَنُخِلَ وَاسْتُعْمِلَ غَسُولًا. وَقِشْرُهُ يُلْزَقُ عَلَى الْجَبْهَةِ فَيَمْنَعُ النَّوَازِلَ إلَى الْعَيْنِ وَدِرْهَمَانِ مِنْ أَصْلِهِ يُحَرِّكُ الْقَيْءَ بِلَا عُنْفٍ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَإِذَا كَانَ الْبِطِّيخُ فِي بَيْتٍ لَا يَخْتَمِرُ فِيهِ الْعَجِينُ أَصْلًا وَبَذْرُ الْبِطِّيخِ حَارٌّ رَطْبٌ فِي الثَّانِيَة يُقَوِّي الْمَعِدَةَ وَيَزِيدُ فِي الْمَنِيِّ وَيُكْثِرُ الْجِمَاعَ وَيُقَوِّي عَلَيْهِ، وَقِشْرُ الْبِطِّيخِ إذَا يَبِسَ كَانَ صَالِحًا لِجَلَاءِ الْآنِيَةِ مِنْ الزُّهُومَةِ قَالَ أَبُقْرَاطُ: قِشْرُهُ إذَا جُفِّفَ وَرُمِيَ مَعَ اللَّحْمِ أَنْضَجَهُ بِخَاصَّتِهِ. وَلِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ عَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُفْطِرُ عَلَى رُطَبَاتٍ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رُطَبَاتٍ فَتَمَرَاتٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَمَرَاتٍ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ» . وَرَوَاهُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا: «إذَا أَفْطَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى تَمْرٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى مَاءٍ فَإِنَّهُ طَهُورٌ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّوْمَ يُخْلِي الْمَعِدَةَ مِنْ الْغِذَاءِ فَتَضْعُفُ الْكَبِدُ وَالْقُوَى، وَالْحُلْوُ تَجْذِبُهُ الْقُوَى وَتُحِبُّهُ فَتَقْوَى بِهِ سَرِيعًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالْمَاءُ يُطْفِئُ حَرَارَةَ الصَّوْمِ وَلَهَبَ الْمَعِدَةِ فَتَأْخُذُ الْغِذَاءَ بِشَهْوَةٍ، ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهُوَ يُوَافِقُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ غَيْرَ

التَّمْرِ مِنْ الْحُلْوِ كَالتَّمْرِ فِي ذَلِكَ وَلَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ الْمَاءُ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَيَتَوَجَّهُ بِمِثْلِهِ احْتِمَالٌ نَظَرًا إلَى الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، وَيَكُونُ خِطَابُ الشَّارِعِ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَعَلَى كُلٍّ فَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ. وَعَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: «كُلُوا الْبَلَحَ بِالتَّمْرِ فَإِنَّ ابْنَ آدَمَ إذَا أَكَلَهُ غَضِبَ الشَّيْطَانُ، وَيَقُول: بَقِيَ ابْنُ آدَمَ حَتَّى أَكَلَ الْحَدِيثَ بِالْعَتِيقِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ هُوَ وَغَيْرُهُ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ رَوَاهُ الْبَزَّارُ بِمَعْنَاهُ وَفِيهِ: «إنَّ الشَّيْطَانَ يَحْزَنُ بَدَلَ الْغَضَبِ» وَمَدَارُ حَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا عَلَى أَبِي زُكَيْرٍ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ مُتَكَلَّمٌ فِيهِ، وَقَدْ أَنْكَرَ الْأَئِمَّةُ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثَ وَغَيْرَهُ، وَذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيُّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ، وَالْمُرَاد: كُلُوا هَذَا مَعَ هَذَا فَالْبَاءُ بِمَعْنَى مَعَ قَالَ بَعْضُ أَطِبَّاءِ: الْإِسْلَامِ أَمَرَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْبَلَحَ بَارِدٌ يَابِسٌ وَالتَّمْرَ حَارٌّ رَطْبٌ فَفِي كُلٍّ مِنْهَا إصْلَاحٌ لِلْآخَرِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِأَكْلِ الْبُسْرِ مَعَ التَّمْرِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا حَارٌّ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: أَوَّلُ التَّمْرِ طَلْعٌ ثُمَّ خِلَالٌ ثُمَّ بَلَحٌ ثُمَّ بُسْرٌ ثُمَّ رُطَبٌ ثُمَّ تَمْرٌ الْوَاحِدَة بَلَحَةٌ وَبُسْرَةٌ، وَقَدْ أَبْلَحَ النَّخْلُ وَأَبْسَرَ أَيْ: صَارَ مَا عَلَيْهِ بَلَحًا وَبُسْرًا قَالَ الْأَطِبَّاءُ: الْبَلَحُ بَارِدٌ يَابِسٌ فِي الثَّانِيَةِ يُغْزِرُ الْبَوْلَ، وَشَرَابُهُ يَعْقِلُ الطَّبْعَ خَاصَّةً مَعَ شَرَابٍ قَابِضٍ وَيَمْنَعُ النَّزْفَ وَالسَّيَلَانَ وَالْبَوَاسِيرَ وَيَدْبُغُ الْفَمَ وَاللِّثَةَ وَالْمَعِدَةَ، وَالْإِكْثَارُ مِنْ أَكْلِهِ يُوقِعُ فِي النَّافِضِ وَالْقُشَعْرِيرَةُ وَيَنْفُخُ خَاصَّةً إذَا شُرِبَ الْمَاءُ عَلَى أَثَرِهِ، وَتُدْفَعُ مَضَرَّتُهُ بِالتَّمْرِ أَوْ الْعَسَلِ، وَيَضُرُّ بِالصَّدْرِ وَالرِّئَةِ وَيُصْلِحُهُ الْبَنَفْسَجُ الْمُرَبَّى بَعْدَهُ وَهُوَ بَطِيءٌ فِي الْمَعِدَةِ يَسِيرُ التَّغْذِيَةِ قَالُوا: وَالْبُسْرُ حَارٌّ فِي الْأُولَى يَابِسٌ فِي الثَّانِيَةِ وَقِيلَ: بَارِدٌ يَابِسٌ فِي الثَّانِيَةِ، وَالْحُلْوُ مِنْهُ يَمِيلُ إلَى الْحَرَارَةِ وَفِيهِ قَبْضٌ وَكَذَلِكَ طَبِيخُهُ يَحْبِسُ الطَّبْعَ وَيُسْكِنُ اللَّهْثَ مَعَ حِفْظِ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ. وَالْأَخْضَرُ مِنْهُ أَشَدُّ حَبْسًا لِلطَّبْعِ وَيَدْبُغُ الْمَعِدَةَ وَيَنْفَعُ اللِّثَةَ وَالْفَمَ. قَالَهُ بَعْضُهُمْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مُضِرٌّ بِالْفَمِ وَالْأَسْنَانِ عَسِرُ الْهَضْمِ وَيُوَلِّدُ رِيحًا وَسَدَادًا وَيُصْلِحُهُ السَّكَنْجَبِينُ السَّاذَجُ وَمِنْ ذَلِكَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَشْرَبُ نَقِيعَ التَّمْرِ إذَا أَصْبَحَ وَيَوْمَهُ ذَلِكَ وَعِشَاءً» ، وَدَعَاهُ أَبُو أَسِيدٍ السَّاعِدِيُّ فِي عُرْسِهِ وَامْرَأَتُهُ

وَهِيَ الْعَرُوسُ خَادِمُهُمْ، وَكَانَتْ أَنْقَعَتْ لَهُمْ تَمَرَاتٍ فِي تَوْرٍ فَلَمَّا أَكَلَ سَقَتْهُ وَإِيَّاهُ، وَفِي لَفْظٍ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الطَّعَام أَمَاثَتْهُ فَسَقَتْهُ تَخُصُّهُ بِذَلِكَ. وَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «إذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَامْقُلُوهُ فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً وَفِي الْآخَرِ شِفَاءً» وَفِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ «فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ السُّمَّ وَيُؤَخِّرُ الشِّفَاءَ» " اُمْقُلُوهُ " اغْمِسُوهُ لِيَخْرُجَ الشِّفَاءُ كَمَا خَرَجَ الدَّاءُ، يُقَال لِلرَّجُلَيْنِ: هُمَا يَتَمَاقَلَانِ إذَا تَغَاطَى فِي الْمَاءِ، وَفِي الذُّبَابِ قُوَّةٌ سُمِّيَّةٌ يَدُلُّ عَلَيْهَا الْوَرَمُ وَالْحَكَّةُ الْعَارِضَةُ عَنْ لَسْعِهِ وَهِيَ كَالسِّلَاحِ فَإِذَا سَقَطَ فِيمَا يُؤْذِيه أَلْقَاهُ بِسِلَاحِهِ، وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَطِبَّاءِ أَنَّ لَسْعَ الزُّنْبُورِ وَالْعَقْرَبِ إذَا دُلِّكَ مَوْضِعُهُ بِالذُّبَابِ نَفَعَ مِنْهُ نَفْعًا بَيِّنًا، وَسَكَّنَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الشِّفَاءِ، وَإِذَا دُلِّكَ بِهِ الْوَرَمُ الَّذِي يَخْرُجُ فِي شَعْرِ الْعَيْنِ الْمُسَمَّى شُعَيْرَةٌ بَعْدَ قَطْعِ رَأْسِ الذُّبَابِ أَبْرَأَهُ. وَكَذَلِكَ قَالَ الْأَطِبَّاءُ: يُكْرَهُ الْجَمْعُ فِي الْمَعِدَةِ بَيْنَ حَارَّيْنِ أَوْ بَارِدَيْنِ أَوْ لَزِجَيْنِ أَوْ مُسْتَحِيلَيْنِ إلَى خَلْطٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْفَخَيْنِ أَوْ قَابِضَيْنِ أَوْ مُسَهِّلَيْنِ أَوْ غَلِيظَيْنِ أَوْ مُرْخِيَيْنِ، أَوْ بَيْنَ مُخْتَلِفَيْنِ كَقَابِضٍ وَمُسَهِّلٍ وَسَرِيعِ الْهَضْمِ وَبَطِيئِهِ، وَشِوَاءٍ وَطَبِيخٍ، وَبَيْنَ لَحْمٍ وَسَمَكٍ، وَبَيْنَ لَحْمٍ طَرِيٍّ وَقَدِيدٍ، وَبَيْنَ الْحَامِضِ وَاللَّبَنِ، قَالُوا: وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْبَيْضِ وَالسَّمَكِ يُوَلِّدُ الْبَوَاسِيرَ وَالْقُولَنْجَ وَالْفَالِجَ وَاللَّقْوَةَ وَوَجَعَ الضِّرْسِ، وَالْجَمْعُ بَيْن السَّمَكِ وَاللَّبَنِ يُوَلِّدُ الْبَرَصَ وَالْبَهَقَ وَالْجُذَامَ وَالنِّقْرِسَ، وَاللَّبَنُ وَالنَّبِيذُ يُوَلِّدُ الْبَرَصَ وَالنِّقْرِسَ، وَالْبَصَلُ النَّيْءُ وَالسَّمَكُ يُوَلِّدَانِ السَّوَادَ فِي الْوَجْهِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ وَأَكْلِ الْمُلُوحَةِ زَادَ بَعْضُهُمْ بَعْد الْحَمَّامِ يُوَلِّدُ الْجَرَبَ وَالْبَهَقَ. وَالنُّزُولُ فِي الْمَاءِ الْبَارِد عَقِيبَ أَكْلِ السَّمَكِ رُبَّمَا وَلَّدَ الْفَالِجَ، وَشُرْبُ الْمَاءِ الْبَارِدِ عَقِيبَ الْجِمَاعِ رُبَّمَا أَوْرَثَ الِاسْتِرْخَاءَ، وَالْحَامِضُ بَعْدَ الْجِمَاعِ رَدِيءٌ وَالنَّوْمُ بَعْدَ أَكْلِ السَّمَكِ عَقِيبَ غَيْظٍ أَوْ جِمَاعٍ رُبَّمَا وَلَّدَ اللَّقْوَةَ، وَكَذَا لَبَنُ الْحَلِيبِ وَدُخُولُ الْحَمَّامِ بَعْدَهُ، وَالْإِكْثَارُ مِنْ الْبَيْضِ الْمَسْلُوقِ يُوَلِّدُ الطِّحَالَ

وَكَذَلِكَ الْكَبُّودَ، قَالُوا وَيُكْرَهُ الْخَلُّ بَعْدَ الْأَرُزِّ، وَالرُّمَّانُ بَعْدَ الْهَرِيسِ، وَالْمَاءُ الْحَارُّ بَعْدَ الْأَغْذِيَةِ الْمَالِحَةِ، وَالْمَاءُ الْبَارِدُ عَقِيبَ الْفَاكِهَةِ، أَوْ الْحُلْوِ أَوْ الطَّعَامِ الْحَارِّ، وَلَا يُشْرَبُ بَعْدَ الْأَكْلِ إلَى أَنْ يَخِفَّ أَعَالِي الْبَطْنِ إلَّا بِمِقْدَارِ مَا يَسْكُنُ بِهِ الْعَطَشُ، وَلَا يُشْرَبُ الْمَاءُ الْبَارِدُ دَفْعَةً وَاحِدَةً عَقِيبَ حَمَّامٍ وَلَا فِيهِ وَجِمَاعٍ وَشِوَاءٍ وَحَرَكَةٍ ثَقِيلَةٍ يَتَجَرَّعُهُ قَلِيلًا قَلِيلًا، وَلَا يَشْرَبُ بِاللَّيْلِ إذَا انْتَبَهَ إذَا كَانَ الْعَطَشُ كَاذِبًا، وَلَا عَلَى الرِّيقِ فَإِنَّهُ يَقْرَعُ الْمَعِدَةَ، وَيُبَرِّدُ الْكَبِدَ. وَكَثْرَةُ أَكْلِ الْبَصَلِ، قَالَ ابْنُ مَاسَوَيْهِ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا يُورِثُ الْكَلَفَ وَالتُّخَمَةَ مَنْ أَكَلَ الْبَيْضَ تَوَرَّثَ الطِّحَالَ. قَالَ ابْنُ مَاسَوَيْهِ: مَنْ تَمَلَّأَ مِنْ بَيْضٍ مَسْلُوقٍ بَارِدٍ فَأَصَابَهُ رَبْوٌ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ. قَالَ هُوَ وَغَيْرُهُ: مَنْ نَظَرَ فِي الْمِرْآةِ لَيْلًا فَأَصَابَهُ لَقْوَةٌ أَوْ دَاءٌ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ. وَيَنْبَغِي الِاقْتِصَارُ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَإِنَّ الطَّبِيعَةَ تَتَحَيَّرُ مِنْ اخْتِلَافِ الْأَلْوَانِ وَتَعْجَزُ عَنْ تَمَامِ هَضْمِهَا، وَلَمْ يَصِحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ كَمَا لَا يَصِحُّ عَنْهُ أَكْلُ الْأَطْعِمَةِ الْمَالِحَةِ وَالْعَفِنَةِ كَالْكَامِخِ، وَالْمُخَلَّلِ، وَلَا طَعَامًا شَدِيدَ الْحَرَارَةِ، وَلَا طَبِيخًا بَائِتًا يُسَخَّنُ لَهُ بِالْغَدِ، لَكِنَّ هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَيْسَ لِضَرَرِهِ كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، بَلْ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَدَّخِرُ شَيْئًا وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ عَادَةِ طَعَامِ أَهْلِ بَلَدِهِ. وَقَدْ قَالَ الْأَطِبَّاءُ: إنَّ الْقَابِضَ يُصْلِحُ الدَّسَمَ وَالْحُلْوَ وَيُصْلِحَانِهِ، وَالْحَامِضُ يُصْلِحُ الْمَالِحَ، وَإِنَّ الْحُلْوَ مُعْتَدِلُ الْحَرَارَةِ تَجْتَذِبُهُ الْقُوَى وَتُحِبُّهُ وَيُعَطِّشُ، وَالْمَالِحُ حَارٌّ يَمْنَعُ التَّعَفُّنَ، وَالْحِرِّيفُ قَوِيُّ الْحَرَارَةِ يُلَطِّفُ، وَالْحَامِضُ يُوَلِّدُ الرِّيَاحَ وَيَضُرُّ الْعَصَبَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِالْعَشَاءِ

وَلَوْ بِكَفٍّ مِنْ تَمْرٍ، وَيَقُولُ: تَرْكُ الْعَشَاءِ مَهْرَمَةٌ» وَرَوَاهُ أَيْضًا ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ النَّوْمِ عَلَى الْأَكْلِ» ، وَكَذَا قَالَ الْأَطِبَّاءُ: حِفْظُ الصِّحَّةِ الْحَرَكَةُ بِاعْتِدَالٍ لَا السُّكُونُ الدَّائِمُ، وَكَذَا النَّوْمُ الْكَثِيرُ وَإِنْ كَانَ يُسْرِعُ الْهَضْمَ، وَكَذَا الْحَرَكَةُ الْعَنِيفَةُ بَعْدَ الطَّعَام، وَإِنْ أَسْرَعَ الْهَضْمَ فَإِنَّهُ جَالِبٌ لِصُنُوفِ الْأَمْرَاضِ. وَالِامْتِلَاءُ مِنْ الطَّعَام يَضُرُّ بِالْعَيْنِ، وَكَذَا النَّوْمُ عَلَى الِامْتِلَاءِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ: أَنْ يَمْشِي نَحْوَ خَمْسِينَ خُطْوَةً وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَيُصَلِّي أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ لِيَسْتَقِرَّ الْغِذَاءُ بِقَعْرِ الْمَعِدَةِ. قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ أَرَادَ الصِّحَّةَ فَلْيُجَوِّدْ الْغِذَاءَ، وَلْيَأْكُلْ عَلَى نَقَاءٍ، وَلْيَشْرَبْ عَلَى ظَمَإٍ، وَلْيُقْلِلْ مِنْ شُرْبِ الْمَاءِ، وَيَتَمَدَّدْ بَعْدَ الْغَدَاءِ، وَيَتَمَشَّى بَعْدَ الْعَشَاءِ، وَلَا يَنَامُ حَتَّى يَعْرِضَ نَفْسَهُ عَلَى الْخَلَاءِ، وَلْيَحْذَرْ الْحَمَّامَ عَقِبَ الِامْتِلَاءِ، وَمَرَّةٌ فِي الصَّيْفِ خَيْرٌ مِنْ عَشْرَةٍ فِي الشِّتَاءِ، وَأَكْلُ الْقَدِيدِ الْيَابِسِ بِاللَّيْلِ مُعِينٌ عَلَى الْفَنَاءِ، وَمُجَامَعَةُ الْعَجُوزِ تُهْرِمُ وَتُسْقِمُ. وَهَذَا بَعْضُهُ مِنْ كَلَامِ الْحَارِثِ طَبِيبِ الْعَرَبِ، وَقَالَ الْحَارِثُ وَهُوَ ابْنُ كِلْدَةَ وَقَدْ قِيلَ لَهُ: مُرْنَا بِأَمْرٍ نَنْتَهِي إلَيْهِ مِنْ بَعْدِك، فَقَالَ: لَا تَتَزَوَّجُوا مِنْ النِّسَاءِ إلَّا شَابَّةً، وَلَا تَأْكُلُوا الْفَاكِهَةَ إلَّا فِي أَثَرِ أَوَانِ نُضْجِهَا، وَلَا يَتَعَالَجَنَّ أَحَدُكُمْ مَا احْتَمَلَ بَدَنُهُ الدَّاءَ، وَعَلَيْكُمْ بِتَنْظِيفِ الْمَعِدَةِ فِي كُلِّ شَهْرٍ فَإِنَّهَا مُذِيبَةٌ لِلْبَلْغَمِ، مُهْلِكَةٌ لِلْمِرَّةِ، مُنْبِتَةٌ لِلَّحْمِ، وَإِذَا تَغَذَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَنَمْ عَلَى أَثَرِ غَدَائِهِ، وَإِذَا تَعَشَّى فَلِيَمْشِ أَرْبَعِينَ خُطْوَةً. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ نَحْوَ هَذِهِ الْأُمُورَ. وَقَالَ: خَمْسِينَ خُطْوَةً، وَقَالَ

عَلَيْك فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ بِقَيْئَةٍ تُنَقِّي جِسْمَكَ، وَلَا تُخْرِجْ الدَّمَ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَعَلَيْك بِدُخُولِ الْحَمَّامِ فَإِنَّهُ يُخْرِجُ مِنْ الْأَطْبَاقِ مَا لَا تَصِلُ الْأَدْوِيَةُ إلَى إخْرَاجِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَرْبَعَةٌ تُقَوِّي الْبَدَنَ، أَكْلُ اللَّحْمِ، وَشَمُّ الطِّيبِ، وَكَثْرَةُ الْغُسْلِ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ، وَلُبْسُ الْكَتَّانِ. وَأَرْبَعَةٌ تُوهِنُ الْبَدَنَ: كَثْرَةُ الْجِمَاعِ وَكَثْرَةُ الْهَمِّ، وَكَثْرَةُ شُرْبِ الْمَاءِ عَلَى الرِّيقِ وَكَثْرَةُ أَكْلِ الْحَامِضِ، وَأَرْبَعَةٌ تُقَوِّي الْبَصَرَ: الْجُلُوسُ حِيَالَ الْكَعْبَةِ، وَالْكُحْلُ عِنْدَ النَّوْمِ، وَالنَّظَرُ إلَى الْخُضْرَةِ وَتَنْظِيفُ الْمَجْلِسِ، وَأَرْبَعَةٌ تُوهِنُ الْبَصَرَ: النَّظَرُ إلَى الْقَذَرِ وَإِلَى الْمَصْلُوبِ وَإِلَى فَرْجِ الْمَرْأَةِ وَالْقُعُودُ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ، وَأَرْبَعَةٌ تَزِيدُ فِي الْجِمَاعِ: أَكْلُ الْعَصَافِيرِ والأطريفل وَالْفُسْتُقِ وَالْخَرُّوبِ. وَأَرْبَعَةٌ تَزِيدُ فِي الْعَقْلِ: تَرْكُ الْفُضُولِ مِنْ الْكَلَامِ، وَالسِّوَاكُ، وَمُجَالَسَةُ الصَّالِحِينَ، وَمُجَالَسَةُ الْعُلَمَاءِ. كَذَا رَأَيْتُهُ عَنْهُ وَالْخَرُّوبُ وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ غِذَاءَهُ رَدِيءٌ وَهُوَ قَابِضٌ بَارِدٌ يَابِسٌ، وَقِيلَ حَارٌّ. وَقِيلَ لِجَالِينُوسَ: مَالَكَ لَا تَمْرَضُ؟ فَقَالَ: لِأَنِّي لَا أَجْمَعُ بَيْنَ طَعَامَيْنِ رَدِيئَيْنِ، وَلَمْ أُدْخِلْ طَعَامًا عَلَى طَعَامٍ، وَلَمْ أَحْبِسْ فِي الْمَعِدَةِ طَعَامًا تَأَذَّيْتُ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُقْرَاطُ: كُلُّ كَثِيرٍ فَهُوَ مُعَادٍ لِلطَّبِيعَةِ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: الْكَلَامُ الْكَثِيرُ يُقَلِّلُ مُخَّ الدِّمَاغِ وَيُضْعِفُهُ وَيُعَجِّلُ الشَّيْبَ. وَالنَّوْمُ الْكَثِيرُ يُصَفِّرُ الْوَجْهَ، وَيُهَيِّجُ الْعَيْنَ، وَيُكَسِّلُ عَنْ الْعَمَلِ، وَيُوَلِّدُ الرُّطُوبَاتِ فِي الْبَدَنِ، وَيُعْمِي الْقَلْبَ. وَقَالَ طَبِيبُ الْمَأْمُونِ: عَلَيْك بِخِصَالٍ مَنْ حَفِظَهَا فَهُوَ جَدِيرٌ أَنْ لَا يَعْتَلَّ إلَّا عِلَّةَ الْمَوْتِ: لَا تَأْكُلْ طَعَامًا وَفِي مَعِدَتِك طَعَامٌ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَأْكُلَ طَعَامًا تُتْعِبُ أَضْرَاسَك فِي مَضْغِهِ فَتَعْجِزُ مَعِدَتُك عَنْ هَضْمِهِ: وَإِيَّاكَ وَكَثْرَةَ

الْجِمَاعِ فَإِنَّهُ يَقْتَبِسُ نُورَ الْحَيَاةِ، وَإِيَّاكَ وَمُجَامَعَةَ الْعَجُوزِ فَإِنَّهُ يُورِثُ مَوْتَ الْفَجْأَةِ، وَإِيَّاكَ وَالْفَصْدَ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ وَعَلَيْكَ بِالْقَيْءِ فِي الصَّيْفِ. وَقَالَ أَفْلَاطُونُ: خَمْسٌ يُذِبْنَ الْبَدَنَ وَرُبَّمَا قَتَلْنَ: قِصَرُ ذَاتِ الْيَدِ، وَفِرَاقُ الْأَحِبَّةِ، وَتَجَرُّعُ الْمَغَائِظِ وَرَدُّ النُّصْحِ، وَضَحِكُ ذَوِي الْجَهْلِ بِالْعُقَلَاءِ. وَقَالَ جَالِينُوسُ لِأَصْحَابِهِ: اجْتَنِبُوا ثَلَاثًا، وَعَلَيْكُمْ بِأَرْبَعٍ وَلَا حَاجَةَ بِكُمْ إلَى الطَّبِيبِ: اجْتَنِبُوا الْغُبَارَ وَالدُّخَانَ وَالنَّتِنَ، وَعَلَيْكُمْ بِالدَّسَمِ وَالطِّيبِ. وَالْحَلْوَى وَالْحَمَامِ، وَلَا تَأْكُلُوا فَوْقَ شِبَعِكُمْ، وَلَا تَتَحَلَّلُوا بِالْبَاذَرُوجِ وَالرَّيْحَانِ، وَلَا تَأْكُلُوا الْجَوْزَ عِنْدَ الْمَسَاءِ، وَلَا يَنَامُ مَنْ بِهِ زُكْمَةٌ عَلَى قَفَاهُ، وَلَا يَأْكُلُ مَنْ بِهِ غَمٌّ حَامِضًا، وَلَا يُسْرِعُ الْمَشْيَ مَنْ افْتَصَدَ فَإِنَّهُ مَخَاطِرُ الْمَوْتِ، وَلَا يَتَقَيَّأُ مَنْ تُؤْلِمُهُ عَيْنُهُ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي الصَّيْفِ لَحْمًا كَثِيرًا. وَلَا يَنَمْ صَاحِبُ الْحُمَّى الْبَارِدَةِ فِي الشَّمْسِ، وَلَا تَقْرَبُوا الْبَاذِنْجَانَ الْعَتِيقَ الْمُبَزَّرَ. وَمَنْ شَرِبَ كُلَّ يَوْمٍ فِي الشِّتَاءِ قَدَحًا مِنْ مَاءٍ حَارٍّ أَمِنَ مِنْ الْإِعْلَالِ، وَمَنْ دَلَّكَ جِسْمَهُ فِي الْحَمَّامِ بِقُشُورِ الرُّمَّانِ أَمِنَ مِنْ الْحَكَّةِ وَالْجَرَبِ. وَمَنْ أَكَلَ خَمْسَ سُوسَاتٍ مَعَ قَلِيلِ مُصْطَكَى رُومِي وَمِسْكٍ وَعُودٍ خَامٍ بَقِيَ طُولَ عُمْرِهِ لَا تَضْعُفُ مَعِدَتُهُ وَلَا تَفْسُدُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرْبَعَةٌ تَضُرُّ بِالْفَهْمِ وَالذِّهْنِ: إدْمَانُ أَكْلِ الْحَامِضِ وَالْفَوَاكِهِ، وَالنَّوْمُ عَلَى الْقَفَا، وَالْهَمُّ، وَالْغَمُّ. وَأَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ تَزِيدُ فِي الْفَهْمِ: فَرَاغُ الْقَلْبِ وَقِلَّةُ التَّمَلُّؤِ مِنْ الطَّعَام وَالشَّرَابِ، وَحُسْنُ تَدْبِيرِ الْغِذَاءِ بِالْحُلْوِ وَالدَّسَمِ، وَإِخْرَاجُ فَضْلَةٍ مُثْقِلَةٍ لِلْبَدَنِ. وَيَضُرُّ بِالْعَقْلِ: إدْمَانُ أَكْلِ الْبَصَلِ وَالْبَاقِلَّاءِ وَالزَّيْتُونِ وَالْبَاذِنْجَانِ وَكَثْرَةُ الْجِمَاعِ وَالْوَحْدَةُ وَالْأَفْكَارُ وَالسُّكْرُ وَالْهَمُّ وَالْغَمُّ وَكَثْرَةُ الضَّحِكِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ النَّظَرِ: قُطِعْتُ فِي ثَلَاثِ مَجَالِسَ فَلَمْ أَجِدْ لِذَلِكَ عِلَّةً إلَّا أَنِّي أَكْثَرْتُ مِنْ الْبَاذِنْجَانِ فِي أَحَدِ تِلْكَ الْأَيَّامِ وَمِنْ الزَّيْتُونِ فِي الْآخَرِ وَمِنْ الْبَاقِلَّا فِي الثَّالِثِ. وَيَضُرُّ بِالْعَيْنِ الْأَغْذِيَةُ الْغَلِيظَةُ وَالْمُبَخِّرَةُ كَالسُّكَّرِ

وَالشَّرَابُ الْغَلِيظُ الْحُلْوُ وَالْمُصَدِّعَةُ وَالْكُسْفُرَةُ وَالْفُجْلُ وَالْخَسُّ وَالْعَدَسُ وَالنَّوْمُ عَلَى الْقَفَا وَالنَّظَرُ إلَى الضَّوْءِ الْكَثِيرِ فَإِنَّهُ يُشَتِّتُ الْبَصَرَ وَإِلَى الظُّلْمَةِ الْكَثِيرَةِ فَإِنَّهَا تُطْفِئُ الْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ وَالْبُكَاءُ وَاسْتِقْبَالُ رِيحٍ بَارِدَةٍ وَالْغُبَارُ وَالدُّخَانُ وَالسَّهَرُ وَالتَّعَبُ وَالْمَالِحَةُ كَالتَّمْرِ وَالسَّمَكِ لَا سِيَّمَا الْمَالِحِ مِنْهُ وَكَذَا الْقَيْءُ فَإِنْ احْتَاجَ إلَيْهِ فَيَرْفُقُ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ: وَيَعْصِبُ عَيْنَيْهِ. وَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ فِي الِاسْتِفْرَاغَاتِ بَعْدَ ذِكْرِ الْحِجَامَةِ. وَالدَّارَصِينِيُّ وَالسَّذَابُ، وَالزَّنْجَبِيلُ يَحِدُّ الْبَصَرَ أَكْلًا وَكُحْلًا وَالْقُرُنْفُلُ يَحِدُّ الْبَصَرَ وَالْفِلْفِلُ يَنْفَعُ مِنْ ظُلْمَةِ الْبَصَرِ وَالدَّمْعَةِ وَالْعَسَلُ يُقَوِّي السَّمْعَ وَيَجْلُو ظُلْمَةَ الْبَصَرَ وَالِاكْتِحَالُ بِمَاءِ الرازيانج عَلَى الدَّوَامِ يَحْفَظُ صِحَّةَ الْعَيْنِ، قَالَ ابْنُ جَزْلَةَ وَغَيْرُهُ: هُوَ يَحِدُّ الْبَصَرَ وَخُصُوصًا مَضْغُهُ، وَالِاكْتِحَالُ بِالْحَضَضِ يَحْفَظُ صِحَّةَ الْعَيْنِ وَقُوَّتَهَا، وَكَذَلِكَ الْهَلِيلَجُ إذَا أُخِذَ عَلَى الْمِسَنِّ بِمَاءِ الْوَرْدِ وَدُلِّكَ الْأَعْضَاءُ السُّفْلَى مَعَ الرِّيَاضَةِ فَإِنَّ بِذَلِكَ تَنْحَطُّ الْبُخَارَاتُ الصَّاعِدَةُ إلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ، وَقَدْ يَنْفَعُ فِي ذَلِكَ الْغَوْصُ فِي الْمَاءِ الْبَارِدِ وَالتَّحْدِيقُ فِيهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَجْمَعُ الْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ، وَتَعَاهُدُ قِرَاءَةِ الْكُتُبِ غَيْرِ الدَّقِيقَةِ وَحَمْلُهَا عَلَى اسْتِخْرَاجِ الدَّقِيقَةِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ. قَالَ جَالِينُوسُ: وَالْخَسُّ يَجْلُو الْبَصَرَ الْمُظْلِمَ، وَيُحْدِثُ فِي الصَّحِيحِ ظُلْمَةً وَمِنْ الْمَعْلُومِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَنَاوَلُ الْمُعْتَادَ غَالِبًا بِبَلَدِهِ وَلَمْ يَكُنْ يَتَكَلَّفُ مَفْقُودًا، وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ مَوْجُودٍ اشْتَهَاهُ، فَحَبْسُ النَّفْسِ وَقَسْرُهَا عَلَى مُطْعَمٍ أَوْ مَشْرُوبٍ خِلَافُ عَادَتِهِ. وَذَكَرَ الْأَطِبَّاءُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَوَّدَ شَيْئًا وَيُلَازِمَهُ وَلَا النَّوْمَ فِي وَقْتٍ خَاصٍّ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ نَفْسَهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَلَوْ بِالتَّدْرِيجِ إنْ كَانَ أَلِفَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَضُرُّهُ وَقَدْ يَتَعَذَّرُ فَيَنْضَرُّ بِتَرْكِهِ وَيَحْمِلُ نَفْسَهُ عَلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَشْتَهِيه ضَرَرُهُ أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِ، وَلِهَذَا «لَمْ يَأْكُلْ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الضَّبَّ الْمَشْوِيَّ، وَقِيلَ لَهُ: أَحَرَامٌ هُوَ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ» . " وَأَكَلَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْظُرُ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فَلَمْ يَمْنَعْ مَنْ اشْتَهَاهُ وَأَكَلَهُ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «مَا عَابَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَعَامًا قَطُّ إنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ، وَإِلَّا تَرَكَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

«وَكَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُحِبُّ اللَّحْمَ وَأَحَبُّهُ إلَيْهِ الذِّرَاعُ» وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَحْمٍ فَرُفِعَ إلَيْهِ الذِّرَاعُ وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ» ، وَعَزَاهُ بَعْضُهُمْ إلَى الصَّحِيحَيْنِ وَمَعْنَاهُ لِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَعَنْ «ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ: أَنَّهَا ذَبَحَتْ فِي بَيْتِهَا شَاةً فَأَرْسَلَ إلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَطْعِمِينَا مِنْ شَاتِكُمْ، قَالَتْ لِلرَّسُولِ: مَا بَقِيَ عِنْدَنَا إلَّا الرَّقَبَةُ وَإِنِّي لِأَسْتَحْيِيَ أَنْ أُرْسِلَ بِهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَجَعَ الرَّسُولُ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ إلَيْهَا قُلْ لَهَا: أَرْسِلِي بِهَا فَإِنَّهَا هَادِيَةُ الشَّاةِ وَإِنَّهَا أَقْرَبُ الشَّاةِ إلَى الْخَيْرِ وَأَبْعَدُهَا مِنْ الْأَذَى» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَالنَّسَائِيُّ وَفِيهِ الْفَضْلُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: تَفَرَّدَ عَنْهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ اللَّيْثِيُّ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ: وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ الْفَضْلِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلًا قَالَ غَيْرُ الْبُخَارِيِّ رَوَاهُ مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ هِشَامٍ. الْهَادِيَةُ وَالْهَوَادِي الْعُنُقُ وَالرَّقَبَةُ؛ لِأَنَّهَا تَتَقَدَّمُ الْبَدَنَ وَلِأَنَّهَا تَهْدِي الْجَسَدَ، وَإِنَّمَا أَحَبَّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَخَفُّ عَلَى الْمَعِدَةِ وَأَسْرَعُ هَضْمًا وَأَكْثَرُ نَفْعًا، وَهَذَا أَفْضَلُ الْغِذَاءِ، وَقَدْ قَالَ الْأَطِبَّاءُ: مَقَادِمُ الْحَيَوَانِ أَخَفُّ وَأَسْخَنُ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ مَرْفُوعًا: «أَطْيَبُ اللَّحْمِ لَحْمُ الظَّهْرِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَفِيهِ ضَعْفٌ أَوْ ضَعِيفٌ «، وَكَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُحِبُّ الْحَلْوَى وَالْعَسَلَ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَاجَهْ وَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي الْعَسَلِ

وَسَبَقَ كَلَامُ الْأَطِبَّاءِ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الْحُلْوَ تَجْتَذِبُهُ الْقُوَى وَتُحِبُّهُ وَأَنَّهُ مُعْتَدِلُ الْحَرَارَةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ: الْحُلْوُ حَارٌّ رَطْبٌ يُكَثِّرُ الصَّفْرَاءَ وَالدَّمَ وَيُوَلِّدُ السَّدَادَ وَالْوَرَم فِي الْكَبِدِ وَالطِّحَالِ، وَيُطْلِقُ الْبَطْنَ وَيُرْخِي الْمَعِدَةَ وَهُوَ صَالِحٌ لِلصَّدْرِ وَالرِّئَةِ مُخْصِبٌ لِلْبَدَنِ مُكْثِرٌ لِلْمَنِيِّ، وَالْحَامِضُ بَارِدُهُ يَقْمَعُ الصَّفْرَاءَ وَالدَّمَ وَيَعْقِلُ إذَا كَانَتْ الْمَعِدَةُ نَقِيَّةً وَيُطْلِقُ إذَا كَانَ فِيهَا بَلْغَمٌ كَثِيرٌ: وَيُوهِنُ قُوَّةَ الْهَضْمِ عَنْ الْكَبِدِ وَيَضُرُّ الْعَصَبَ وَيُخَفِّفُ الْبَدَنَ إلَّا أَنَّهُ يُنَبِّهُ قُوَّةَ الشَّهْوَةِ، وَالدَّسَمُ يُرْخِي الْمَعِدَةَ وَيُطْلِقُ الْبَطْنَ وَيُسَخِّنُ لَا سِيَّمَا الْمَحْمُومِينَ وَأَصْحَابِ الْمَعِدَةِ الْحَارَّةِ وَالْأَكْبَادِ الْحَارَّةِ، وَيُرَطِّبُ الْبَدَنَ وَيُلَيِّنُهُ وَيَزِيدُ فِي الْبَلْغَمِ وَيُنَوِّمُ، وَالْحِرِّيفُ يُسَخِّنُ وَيُهَيِّجُ الْحَرَارَةَ وَيَمِيلُ بِالْبَدَنِ أَوَّلًا إلَى الصَّفْرَاءِ ثُمَّ إلَى السَّوْدَاءِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَيْضًا: الْإِكْثَارُ مِنْ الْأَغْذِيَةِ الْجَافَّةِ يَذْهَبُ بِالْقُوَّةِ وَبِاللَّوْنِ، وَالْإِكْثَارُ مِنْ الدَّسَمِ يُذْهِبُ الشَّهْوَةَ وَمِنْ الْمَالِحِ يَضُرُّ بِالْبَصَرِ، وَمِنْ الْحِرِّيفِ وَالْحَامِضِ يَجْلِبُ الْهَرَمَ، وَكَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: يَأْدُمُ الْخُبْزَ بِمَا تَيَسَّرَ لَهُ، وَنُقِلَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَشْيَاءُ فَمِنْهُ: تَمْرٌ وَخُبْزٌ وَشَعِيرٌ وَهُوَ مِنْ التَّدْبِيرِ الْحَسَنِ لِحَرَارَةِ التَّمْرِ وَرُطُوبَتِهِ. وَخُبْزُ الشَّعِيرِ بَارِدٌ يَابِسٌ قَالَ بَعْضُهُمْ: سُمِّيَ الْأُدْمُ أُدْمًا لِإِصْلَاحِهِ الْخُبْزَ وَجَعْلِهِ مُلَائِمًا لِحِفْظِ الصِّحَّةِ. وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْإِدَامُ وَالْأُدْمُ مَا يُؤْدَمُ بِهِ، تَقُولُ مِنْهُ: أَدَم الْخُبْزَ بِاللَّحْمِ يَأْدِمُهُ بِالْكَسْرِ، وَالْأُدْمُ الْأُلْفَةُ وَالِاتِّفَاقُ، يُقَالُ: أَدِمَ اللَّهُ وَآدَمَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فَعَلَ وَافْعَلَّ، بِمَعْنَى أَيْ: أَصْلَحَ وَأَلْفَتَ. . وَلِمُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «كُنْت جَالِسًا فِي دَارِي فَمَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَشَارَ إلَيَّ فَقُمْتُ إلَيْهِ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَى بَعْضَ حُجَرِ نِسَائِهِ فَدَخَلَ، ثُمَّ أَذِنَ لِي فَدَخَلْت الْحِجَابَ عَلَيْهَا فَقَالَ: هَلْ مِنْ غَدَاءٍ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَأُتِيَ

بِثَلَاثَةِ أَقْرِصَةٍ فَوُضِعْنَ عَلَى نَبِيٍّ فَأَخَذَ قُرْصًا فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيَّ ثُمَّ أَخَذَ آخَرَ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَخَذَ الثَّالِثَ فَكَسَرَهُ بِاثْنَتَيْنِ فَجَعَلَ نِصْفَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَنِصْفَهُ بَيْنَ يَدَيَّ، ثُمَّ قَالَ: هَلْ مِنْ أُدُمٍ؟ قَالُوا: لَا إلَّا شَيْءٌ مِنْ خَلٍّ. فَقَالَ: هَاتُوهُ فَنِعْمَ الْأُدُمُ هُوَ» وَفِي لَفْظٍ قَالَ جَابِرٌ: فَمَا زِلْت أُحِبُّ الْخَلَّ مُذْ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ طَلْحَةُ بْنُ نَافِعٍ: وَمَا زِلْت أُحِبُّ الْخَلَّ مُنْذُ سَمِعْتُهَا مِنْ جَابِرٍ نَبِيٌّ بِنُونٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ بَاءٍ مُشَدَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ يَاءٍ مُثَنَّاةٍ تَحْتَ مُشَدَّدَةٍ أَيْ: مَائِدَةٌ مِنْ خُوصٍ، وَقِيلَ إنَّهُ بَتِّيٌّ بِبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ فَوْقَ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ يَاءٍ مُثَنَّاةٍ مِنْ تَحْتَ مُشَدَّدَةٍ، وَالْبَتُّ: كِسَاءٌ مِنْ وَبَرٍ أَوْ صُوفٍ، قِيلَ: هُوَ مَدْحٌ لِلْخَلِّ مُطْلَقًا. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إنَّمَا هُوَ مَدْحٌ لَهُ بِحَسَبِ مُقْتَضَى الْحَالِ الْحَاضِرِ، وَهَذَا مُتَوَجِّهٌ لَوْلَا فَهْمُ جَابِرٍ كَقَوْلِ أَنَسٍ مَا زِلْت أُحِبُّ الدُّبَّاءَ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وَالْقَاضِي عِيَاضٌ: مَعْنَاهُ ائْتَدِمُوا بِالْخَلِّ وَنَحْوِهِ مِمَّا تَخِفُّ مُؤْنَتُهُ وَلَا يَعِزُّ وُجُودُهُ، كَذَا قَالَا، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَدْحٌ لِلْخَلِّ فِي الْجُمْلَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْأَطِبَّاءُ أَنَّهُ بَارِدٌ يَابِسٌ وَأَنَّهُ يُضَادُّ الْبَلْغَمَ وَأَنَّهُ جَيِّدٌ لِلْمَعِدَةِ الْحَارَّةِ الرَّطْبَةِ. وَفَهْمُ جَابِرٍ قَدْ لَا يُعَارِضُ هَذَا، وَلِهَذَا نَظَائِرُ تَأْتِي قَالَ الْأَطِبَّاءُ: الْخَلُّ قَوِيُّ التَّجْفِيفِ يَمْنَعُ مِنْ انْصِبَابِ الْمَوَادِ، وَيُلَطِّفُ بِقَمْعِ الصَّفْرَاءِ، وَيَمْنَعُ ضَرَرَ الأدية الْقَتَّالَةِ وَيُحَلِّلُ اللَّبَنَ وَالدَّمَ إذَا جَمَدَ فِي الْجَوْفِ، وَيَنْفَعُ الطِّحَالَ وَيَدْبُغُ الْمَعِدَةَ وَيَعْقِلُ الطَّبِيعَةَ وَيَقْطَعُ الْعَطَشَ؛ وَلِهَذَا إذَا قَلَّ الْمَاءُ فَلْيُمْزَجْ بِقَلِيلِ خَلٍّ فَإِنَّ قَلِيلَهُ يَكْفِي فِي تَسْكِينِ الْعَطَشِ وَيَمْنَعُ الْوَرَمَ حَيْثُ يُرِيدُ أَنْ يَحْدُثَ، وَيُعِينُ عَلَى الْهَضْمِ وَيُلَطِّفُ الْأَغْذِيَةَ الْغَلِيظَةَ وَيَرِقُّ الدَّمَ، وَإِذَا شُرِبَ بِالْمِلْحِ نَفَعَ مَنْ أَكَلَ الْفِطْرَ الْقَتَّالَ. وَإِذَا حُسِيَ قَلَعَ الْعَلَقَ الْمُتَعَلِّقَ بِأَصْلِ الْحَنَكِ نَافِعٌ لِلدَّاحِسِ إذَا طُلِيَ بِهِ وَالنَّمِلَةِ وَالْأَوْرَامِ الْحَارَّةِ وَحَرْقِ النَّارِ مِنْهُ لِلْأَكْلِ مُطَيِّبٌ لِلْأَطْعِمَةِ صَالِحٌ لِلشَّبَابِ فِي الصَّيْفِ وَلِسُكَّانِ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ، قَالَ بَعْضُهُمْ

الْإِكْثَارُ مِنْهُ يُضْعِفُ الْبَصَرَ وَيَضُرُّ بِالْعَصَبِ، وَرُبَّمَا أَدَّى إلَى الِاسْتِسْقَاءِ، وَيُقِلُّ ضَرَرَهُ مَزْجُهُ بِالْمَاءِ وَالسُّكَّرِ، وَيُهْزِلُ وَيُسْقِطُ الْقُوَّةَ وَيُقَوِّي السَّوْدَاءَ. وَالْخَبَرُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أُمِّ سَعْدٍ مَرْفُوعًا: «نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ، اللَّهُمَّ بَارِكْ فِي الْخَلِّ فَإِنَّهُ كَانَ إدَامَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي وَلَمْ يَفْقَرْ بَيْتٌ فِيهِ خَلٌّ» إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ بِلَا خِلَافٍ. وَمِنْ حِفْظِ الصِّحَّةِ أَكْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِمَّا تَيَسَّرَ لَهُ مِنْ الْفَاكِهَةِ وَهِيَ دَوَاءٌ نَافِعٌ إذَا أُكِلَتْ عَلَى مَا يَنْبَغِي، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ فِي كُلِّ بَلَدٍ مِنْ الْفَاكِهَةِ مَا يُنَاسِبُهُمْ، وَمَنْ احْتَمَى عَنْهَا مُطْلَقًا إنْ انْتَفَعَ بِذَلِكَ فَضَرَرُهُ أَكْثَرُ. وَمِنْ حِفْظِ الصِّحَّةِ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ أَحَبُّ الشَّرَابِ إلَيْهِ الْحُلْوَ الْبَارِدَ» قَالَتْهُ عَائِشَةُ رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْهَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ وَيُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ: أَيُّ الشَّرَابِ أَطْيَبُ؟ قَالَ: الْحُلْوُ الْبَارِدُ.» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهَذَا أَصَحُّ. وَهَذَا مِنْ أَلَذِّ شَيْءٍ وَأَنْفَعِهِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الْبَارِدَ رَطْبٌ، رُطُوبَتُهُ فِي الدَّرَجَةِ الرَّابِعَةِ، وَشُرْبُهُ بَعْدَ الطَّعَامِ يُقَوِّي الْمَعِدَةَ، وَيُنْهِضُ الشَّهْوَةَ، وَيُجْزِئُ قَلِيلُهُ، وَيُخْلِفُ عَلَى الْبَدَنِ مَا تَحَلَّلَ مِنْ رُطُوبَاتِهِ، وَيَرْفُقُ الْغِذَاءَ وَيُسْرِعُ نُفُوذَهُ وَإِيصَالَهُ إلَى الْأَعْضَاءِ، لَكِنَّ الْإِكْثَارَ مِنْهُ يُورِثُ هُزَالًا. يُقَال: هَزِلَ لَحْمُهُ بِكَسْرِ الزَّايِ أَيْ: اضْطَرَبَ وَاسْتَرْخَى ، وَيُحْدِثُ كِرَازًا وَسُبَاتًا وَرَعْشَةً وَنِسْيَانًا فَيُقْتَصَرُ عَلَى أَكْثَرِ مَا يَرْوِي، وَقِيلَ عَلَى نِصْفِهِ. وَالْمَاءُ رَدِيءٌ لِلْقُرُوحِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْطَشَ، فَإِنَّهُ يُوهِنُ الشَّهْوَةَ وَالْقُوَّةَ، وَيُجَفِّفُ، وَيُظْلِمُ الْبَصَرَ. وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ أَنَّهُ لَا يُغَذِّي؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَمِّي الْأَعْضَاءَ وَلَا يُخْلِفُ عَلَيْهَا بَدَلَ مَا حَلَّلَتْهُ الْحَرَارَةُ كَالطَّعَامِ، وَلَا يُكْتَفَى بِهِ بَدَلَ الطَّعَامِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُغَذِّي الْبَدَنَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ عَنْ زَمْزَمَ إنَّهَا مُبَارَكَةٌ

إنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادِ مُسْلِمٍ، وَزَادُوا فِيهِ: «وَشِفَاءُ سَقَمٍ» أَيْ: تُشْبِعُ شَارِبَهَا كَالطَّعَامِ. وَمَا سَبَقَ مِنْ نَفْعِ الْمَاءِ الْبَارِدِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ عُمُومُ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ فَإِنَّ مَنْ ضَعُفَ عَصَبُهُ، أَوْ مَعِدَتُهُ وَكَبِدُهُ بَارِدَتَانِ لَا يَنْبَغِي لَهُ شُرْبُ مَاءِ الثَّلْجِ، وَكَذَا الْمَشَايِخُ وَمَنْ يَتَوَلَّدُ فِيهِمْ الْأَخْلَاطُ الْبَارِدَةُ، وَيُهَيِّجُ السُّعَالَ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالتَّجْرِبَةِ وَقَدْ ذَكَرَهُ الْأَطِبَّاءُ وَحَذَّرُوا مِنْهُ فِي أَمْرَاضٍ كَوَجَعِ الْمَفَاصِلِ. وَقَوْلُ بَعْضِ الْأَطِبَّاءِ: الثَّلْجُ حَارٌّ غَلِيظٌ وَهُوَ يُهَيِّجُ الْحَرَارَةَ؛ فَلِذَلِكَ يُعَطِّشُ لَا أَنَّهُ حَارٌّ فِي نَفْسِهِ، وَتَوَلُّدُ الْحَيَوَانِ فِيهِ لَا يَدُلُّ عَلَى حَرَارَتِهِ كَتَوَلُّدِهِ فِي خَلٍّ وَفَاكِهَةٍ بَارِدَةٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ» وَإِنَّمَا سَأَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْخَطَايَا تُضْعِفُ الْقَلْبَ وَتَكْسِيهِ حَرَارَةً، وَهَذَا الْمَاءُ يُقَوِّيه وَيُصْلِبُهُ وَيُطَهِّرُهُ وَيُبَرِّدُهُ. وَلَا يَتَنَاوَلُ بَارِدًا بَعْدَ حَارٍّ وَلَا عَكْسَهُ، فَإِنَّهُ مِنْ حِفْظِ صِحَّةِ الْأَسْنَانِ وَقُوَّتِهَا وَذَلِكَ مَعْلُومٌ. وَمِنْهُ تَرْكُ كَسْرِ الْأَشْيَاءِ الصُّلْبَة بِهَا وَمَضْغُ الْأَشْيَاءِ الْعَلِكَةِ كَالْحُلْوِ وَالتَّمْرِ وَالْمُحَذِّرَةِ كَالثَّلْجِ وَالْمُضَرِّسَةِ كَالْحَوَامِضِ، وَكَثْرَةُ الْقَيْءِ يُفْسِدُهَا. وَإِذَا تَوَجَّعَ السِّنُّ مِنْ مَسِّ شَيْءٍ بَارِدٍ فَلْيَعَضَّ عَلَى خُبْزٍ حَارٍّ وَنَحْوِهِ، وَإِذَا كَانَ وَجَعُ السِّنِّ مِنْ حَرَارَةٍ سَكَنَ مِنْ بَارِدٍ، وَيُفِيدُ فِي وَجَعِهَا الْمَضْمَضَةُ بِحَامِضٍ وَمَضْغُ الطَّرْخُونِ وَالْغِذَاءُ حُمُوضَاتٌ، وَيُمْسَكُ فِي الْفَمِ آسٌ رَطْبٌ أَوْ وَرَقُ زَيْتُونٍ غَضٍّ أَوْ خَلٌّ طُبِخَ فِيهِ جَوْزُ السَّرْوِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَوْ طُبِخَ فِيهِ عَفْصٌ. هَذَا إذَا كَانَ مِنْ بُخَارِ الدَّمِ: فَإِنْ كَانَ مِنْ بُخَارِ الْبَلْغَمِ أَمْسَكَ فِي الْفَمِ دُهْنًا مُسَخَّنًا وَيُدَلَّكُ السِّنُّ بِالْفِلْفِلِ وَالثُّومِ وَنَحْوِهِ. قَالَ ثَابِتٌ الطَّبِيبُ: أَجْمَعَ الْأَوَائِلُ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْفَمَ فِي عِلَاجِ الْأَسْنَانِ خَيْرٌ مِنْ الْخَلِّ وَالْمِلْحِ؛ لِأَنَّهُمَا يُسَكِّنَانِ الْوَجَعَ وَيُخَفِّفَانِ الْبَلَمَةَ الزَّائِدَةَ وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْحَارَّةِ الْخَلُّ وَحْدَهُ وَسَوَادُ الْأَسْنَانِ لِرَدَاءَةِ مَا يَتَغَدَّى بِهِ فَيُدَلَّكُ بِالْفِلْفِلِ

وَنَحْوِهِ وَيَزُولُ الضِّرْسُ بِمَضْغِ الْبَقْلَةِ الْحَمْقَاءِ وَهِيَ الفرفحين أَوْ اللَّوْزِ، وَيُمْسَكُ دُهْنُ اللَّوْزِ مُفَتَّرًا فِي الْفَمِ وَالْعِلْكِ، وَالشَّمْعِ وَالزِّفْتِ إذَا مُضِغَ. وَالسِّوَاكِ وَمَنَافِعِهِ، وَمَا يُطَيِّبُ النَّكْهَةَ وَيَمْنَعُ ارْتِقَاءَ الْبُخَارِ مَذْكُورٌ فِي بَابِ السِّوَاكِ مِنْ الْفِقْهِ، وَإِنْ وُضِعَتْ الْيَدَانِ أَوْ الرِّجْلَانِ الَّتِي تَثَلَّجَتْ وَتَفَتَّحَتْ عَلَى الْبَلَاطِ الشَّدِيدِ الْحَرَارَةِ فِي الْحَمَّامِ وَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ مِرَارًا، فَإِنَّهُ يَبْرَأُ مِنْهُ، وَالتَّثَلُّجُ الَّذِي لَمْ يَنْفَتِحْ يُؤْخَذُ قَلِيلُ فِلْفِلٍ فَيُسْحَقُ نَاعِمًا وَيُغْلَى فِي الزَّيْتِ ثُمَّ يُدْهَنُ بِهِ التَّثَلُّجُ قَبْلَ فَتْحِهِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً فَإِنَّهُ يَزُولُ وَلَا يُفْتَحُ، وَأَمَّا الْمَاءُ الْفَاتِرُ وَالْحَارُّ فَفِعْلُهُ عَكْسُ فِعْلِ الْمَاءِ الْبَارِدِ. لَكِنْ إذَا شَرِبَ عَلَى الرِّيقِ مَاءً حَارًّا غَسَلَ الْمَعِدَةَ مِنْ فُضُولِ الْغِذَاءِ الْمُتَقَدِّمِ وَرُبَّمَا أَطْلَقَ، وَالسَّرَفُ فِي اسْتِعْمَالِهِ يُوهِنُ الْمَعِدَةَ، وَأَمَّا إذَا خَالَطَ الْمَاءُ الْبَارِدُ مَا يُحَلِّيهِ فَإِنَّهُ يُوَصِّلُ الْغِذَاءَ إلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَيُغَذِّي الْبَدَنَ وَيُسَخِّنُهُ وَيَنْشُرُ حَرَارَتَهُ الْغَرِيزِيَّةَ إلَى سَائِرِهِ وَيُجَوِّدُ الْهَضْمَ. وَالْمَاءُ الْبَارِدُ بَعْضُهُ أَنْفَعُ. وَلِهَذَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنْ كَانَ عِنْدَكَ مَاءٌ بَاتَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ فِي شَنَّةٍ وَإِلَّا كَرَعْنَا» . وَفِي مُسْلِمٍ: «أَنَّ عَائِشَةَ سُئِلَتْ عَنْ النَّبِيذِ فَدَعَتْ جَارِيَةً حَبَشِيَّةً فَقَالَتْ: سَلْ هَذِهِ فَإِنَّهَا كَانَتْ تَنْبِذُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ الْحَبَشِيَّةُ: كُنْتُ أَنْبِذُ لَهُ فِي سِقَاءٍ مِنْ اللَّيْلِ وَأُوكِيهِ وَأُعَلِّقُهُ، فَإِذَا أَصْبَحَ شَرِبَ مِنْهُ» وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ؛ لِأَنَّهُ أَلَذُّ وَأَنْقَعُ لِصَفَائِهِ وَبُرُودَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يُرَكِّدُ وَيُرَشِّحُ الْمَاءَ مِنْ مَسَامِّهَا الْمُتَفَتِّحَةِ فِيهَا. وَفِي الْخَبَرِ جَوَازُ الْكَرْعِ وَهُوَ الشُّرْبُ بِالْفَمِ مِنْ حَوْضٍ وَنَحْوِهِ وَتَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا بَابَ الْكَرْعِ فِي الْحَوْضِ.

قَالَ أَبُو دَاوُد بَابُ الْكَرْعِ: وَهَذِهِ قَضِيَّةُ عَيْنٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَوْضُ مُرْتَفِعًا فَيَجْلِسُ عَلَى شَيْءٍ وَيَكْرَعُ مِنْهُ، أَوْ يَكْرَعُ مِنْهُ قَائِمًا فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُتَّكِئًا وَلَا غَيْرَ مُنْتَصِبٍ، وَإِنْ ثَبَتَ هَذَا فَقَدْ بُيِّنَ الْجَوَازُ بِهِ وَسَيَأْتِي فِي أَثْنَاءِ فُصُولِ آدَابِ الْأَكْلِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شَرِبَ خَالِصًا وَمَشُوبًا وَفِي ذَلِكَ حِفْظُ الصِّحَّةِ لَا سِيَّمَا فِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ؛ لِأَنَّهُ يُرَطِّبُ الْبَدَنَ وَيَرْوِي الْكَبِدَ لَا سِيَّمَا لَبَنُ الدَّوَابِّ الَّتِي تَرْعَى الشِّيحَ وَغَيْرَهُ فَإِنَّ لَبَنَهَا شَرَابٌ وَغِذَاءٌ وَدَوَاءٌ وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْآتِي فِيمَا يَقُولُهُ بَعْدَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ ثَنَا سُفْيَانُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً، فَعَلَيْكُمْ بِأَلْبَانِ الْبَقَرِ فَإِنَّهَا تَرُمُّ مِنْ كُلِّ الشَّجَرِ.» طَارِقٌ لَهُ رُؤْيَةٌ وَيَزِيدُ هُوَ أَبُو خَالِدٍ الدَّالَانِيُّ قَالَ ابْنُ مَعِينٍ وَالنَّسَائِيُّ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ. وَوَثَّقَهُ أَبُو حَاتِمٍ وَقَالَ: ابْنُ عَدِيٍّ فِي حَدِيثِهِ لِينٌ وَلَا يُكْتَبُ حَدِيثُهُ. وَقَالَ الْحَاكِمُ أَبُو أَحْمَدَ: لَا يُتَابَعُ فِي بَعْضِ حَدِيثِهِ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ فُضَالَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقٍ بْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. وَعَنْ ابْنِ مُثَنَّى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَمَا سَبَقَ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ لُوطٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ طَارِقٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ نَقَصَهُ اللَّيِّنُ. قَوْلُهُ: وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى بِهِ وَعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ أَيُّوبَ الطَّائِيِّ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقٍ بِهِ مُرْسَلًا وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَخْزَمَ عَنْ أَبِي زَيْدٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ الرُّكَيْنِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مَرْفُوعًا: «أَلْبَانُ الْبَقَرِ شِفَاءٌ» وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَسْلَمَ بِإِسْنَادٍ مَرْفُوعًا. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى الشَّيْبَانِيِّ عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ دَغْفَلٍ السَّدُوسِيِّ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ صَيْفِيِّ بْنِ صُهَيْبٍ

عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا: «عَلَيْكُمْ بِأَلْبَانِ الْبَقَرِ شِفَاءٌ وَسَمْنُهَا دَوَاءٌ، وَلُحُومُهَا دَاءٌ» . رِفَاعٌ ضَعَّفَهُ أَبُو حَاتِمٍ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ. وَمُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى هُوَ ابْنُ بُزَيْغٍ الْجَرِيرِيُّ لَمْ أَجِدْ لَهُ تَرْجَمَةً فِي ثِقَاتٍ وَلَا ضُعَفَاءَ وَيَخْطِرُ عَلَى بَالِي أَنَّ الْعُقَيْلِيَّ قَالَ: لَا يُتَابَعُ عَلَى حَدِيثِهِ وَبَاقِي الْإِسْنَادِ حَسَنٌ، وَلَيْسَ هَذَا الْخَبَرُ بِذَاكَ الضَّعِيفِ الْوَاهِي، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا الْإِسْنَادَ لَا يَثْبُتُ، كَذَا قَالَ وَفِيهِ نَظَرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْ حِفْظِ الصِّحَّةِ إخْرَاجُ حَاصِلٍ يَضُرُّ الْبَدَنَ بَقَاؤُهُ وَفِعْلُ مَا احْتَاجَهُ الْبَدَنُ مِنْ نَوْمٍ وَغَيْرِهِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ حَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَالِ الْعُقَلَاءِ وَيَأْتِي فِي آدَابِ الْأَكْلِ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُخَالَفَةَ ذَلِكَ يَضُرُّ مَعَ التَّكْرَارِ. وَلِهَذَا قَالَ الْأَطِبَّاءُ: حَبْسُ الرِّيحِ إذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ يُورِثُ الْحَصْرَ وَظُلْمَةَ الْعَيْنِ وَوَجَعَ الْفُؤَادِ وَالرَّأْسِ، وَحَبْسُ الْبَوْلِ يُورِثُ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَعَ الْحَصَاةِ. وَحَبْسُ الْبِرَازِ يُورِثُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَطُولُ الْمُكْثِ عَلَى قَضَاءِ الْحَاجَةِ يُوَلِّدُ الدَّاءَ الدَّوِيَّ، وَحَبْسُ الْجُشَاءِ يُورِثُ الْفِرَاقَ، وَحَبْسُ الْبَاءَةِ يُورِثُ وَجَعَ الذَّكَرِ وَالْفُؤَادِ وَسَيَلَانَ النُّطْفَةِ وَالْحَصَاة وَالْأُدْرَةِ، وَحَبْسُ النَّوْمِ يُورِثُ الثِّقَلَ فِي الرَّأْسِ وَوَجَعَ الْعَيْنِ. وَمِنْ مَقَاصِدِ الْجِمَاعِ إخْرَاجُ الْمَنِيِّ الَّذِي يَضُرُّ بَقَاؤُهُ وَنَيْلُ اللَّذَّةِ وَالشَّهْوَةِ وَتَكْثِيرُ النَّسْلِ إلَى أَنْ تَتَكَامَلَ الْعِدَّةُ الَّتِي عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدَّرَ ظُهُورَهَا إلَى الْعَالَمِ. وَكَانَ جَالِينُوسُ وَغَيْرُهُ يَرَوْنَ الْجِمَاعَ مِنْ أَسْبَابِ حِفْظِ الصِّحَّةِ. وَمِزَاجُ الْمَنِيِّ حَارٌّ رَطْبٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الدَّمِ الْمُغَذِّي لِلْأَعْضَاءِ الْأَصْلِيَّةِ؛ وَلِهَذَا لَا يَنْبَغِي إخْرَاجُهُ إلَّا لِشِدَّةِ الشَّهْوَةِ فَإِنَّ الْإِكْثَارَ مِنْهُ يُطْفِئُ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيَّةَ وَيُشْعِلُ الْحَرَارَةَ الْغَرِيبَةَ وَيُسْقِطُ الْقُوَّةَ وَيُضْعِفُ الْمَعِدَةَ وَالْكَبِدَ وَيُسِيءُ الْهَضْمَ وَيُفْسِدُ الدَّمَ وَيُجِفُّ الْأَعْضَاءَ الْأَصْلِيَّةَ وَيُسْرِعُ إلَيْهَا الْهَرَمَ وَالذُّبُولَ وَيُبَرِّدُ الْبَدَنَ

وَيُجَفِّفُهُ وَيُضْعِفُهُ وَيُخَلْخِلُهُ وَيَهْرَمُ سَرِيعًا وَيُجَفِّفُ الدِّمَاغَ وَيَضُرُّ بِالْعَصَبِ وَيُفْسِدُ اللَّوْنَ وَيُورِثُ الرَّعْشَةَ وَيَضُرُّ بِالصَّدْرِ وَالرِّئَةِ وَالْكُلَى وَيُهْزِلُهَا، وَيَضُرُّ مَنْ يَعْتَرِيهِ الْقُولَنْجُ وَوَجَعُ الْمَفَاصِلِ وَمَنْ بِهِ مَرَضٌ بَارِدٌ وَمَنْ بِهِ جَرَبٌ وَنَحْوُهُ؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ يُحَرِّكُ الْمَوَادَّ إلَى خَارِجٍ، وَالْمَخْمُورُ فَإِنَّهُ يَمْلَأُ الرَّأْسَ بُخَارًا دُخَّانِيًّا وَيَضُرُّ بِالْعَيْنِ وَالْخَاصِرَةِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِمَا، وَقَدْ قِيلَ: هُوَ نُورُ عَيْنِكَ، وَمُخُّ سَاقَيْكَ، وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مُلْتَقَطِ الْمَنَافِعِ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ الْإِمَامِ. وَالْأَوْلَى بِالْحَذَرِ مِنْهُ أَصْحَابُ الْأَبْدَانِ النَّحِيفَةِ وَالْأَمْزِجَةِ الْيَابِسَةِ؛ فَإِنَّهُ يُسْرِعُ بِهِمْ إلَى الذُّبُولِ. وَالْأَبْدَانُ الْبِيضُ الشَّحْمِيَّةُ وَإِنْ كَانَتْ أَبْعَدَ عَنْ الذُّبُولِ إلَّا أَنَّهَا أَقْرَبُ إلَى أَمْرَاضِ الْعَصَبِ لِكَثْرَةِ الْفُضُولِ. وَمَنْ مَنِيُّهُ قَلِيلٌ وَدَمُهُ قَلِيلٌ فَشَهْوَتُهُ لَهُ ضَعِيفَةٌ، وَالْأَقْوَى عَلَيْهِ مَنْ كَثُرَ شَعْرُ أَسْفَلِ بَدَنِهِ مِمَّا يَلِي الْعَانَةَ وَالْفَخِذَيْنِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى حَرَارَةِ مِزَاجِ الْأُنْثَيَيْنِ وَالْقَضِيبِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَحْذَرَ مِنْهُ حَذَرَ الْعَدُوِّ الشَّيْخُ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَالْكَهْلُ وَمَنْ فَقَدَ شَعْرَ إبْطَيْهِ لِكِبَرِهِ انْقَطَعَ نِكَاحُهُ وَنَسْلُهُ، وَمَنْ أَكْثَرَ مِنْهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقِلَّ إخْرَاجَ الدَّمِ وَالتَّعَبَ وَالْحَمَّامَ وَيَزِيدَ فِي الْغِذَاءِ وَالشَّرَابِ وَالنَّوْمِ وَالطِّيبِ وَالِادِّهَانِ، وَلْيَتَنَقَّلْ بِاللَّوْزِ وَالْفُسْتُقِ وَالسُّكَّرِ وَيَتَعَاهَدُ مَا يُكَثِّرُ الْمَنِيَّ. وَالْأَغْذِيَةُ فِي ذَلِكَ أَبْلَغُ مِنْ الْأَدْوِيَةِ، وَاَلَّذِي يَجْمَعُ ذَلِكَ مَا لَهُ غِلَظٌ وَرُطُوبَةٌ فَضْلِيَّةٌ وَحَرَارَةٌ، وَاجْتَمَعَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ فِي الْحَمْضِ وَاللِّفْتِ وَالْجَزَرِ، وَمَنْ ضَعُفَتْ قُوَّتُهُ بَعْدَهُ جِدًّا يَتَدَارَكُ بِالْأَغْذِيَةِ السَّرِيعَةِ النُّفُوذَ كَاللَّحْمِ الْمُطَيَّبِ وَالْبِيضِ النِّيمَرِشْتِ. قَالَ جَالِينُوسُ: الْإِكْثَارُ مِنْهُ إذَا كَانَتْ الْقُوَّةُ قَوِيَّةً يَنْفَعُ مِنْ الْأَمْرَاضِ الْبَلْغَمِيَّةِ، وَمِنْ مَنَافِعِهِ الْإِبْرَاءُ مِنْ الْمَالَيْخُولِيَا وَطَرَبُ النَّفْسِ وَقُوَّةُ النَّشَاطِ وَيُخَفِّفُ عَلَى الرَّأْسِ وَالْحَوَاسِّ وَإِزَالَةُ دَاءِ الْعِشْقِ وَغَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ النَّفْسِ

وَالْأَجْرُ عَلَيْهِ فَهُوَ يَنْفَعُهُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْمَرْأَةُ كَذَلِكَ، وَقَدْ رَغَّبَ الشَّرْع فِيهِ، وَحَضَّ عَلَيْهِ، وَأَمَرَ بِهِ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ فِي الْأَخْبَارِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَمِمَّا يَزِيدُ فِي الْبَاءَةِ اللَّوْزُ الْحُلْوُ وَالْفُسْتُقُ وَالْبُنْدُقُ وَحَبُّ الصَّنَوْبَرِ وَالسُّكَّرُ وَالسِّمْسِمُ الْمَقْشُورُ وَلُبْسُ الثَّوْبِ الْمَصْبُوغِ بِالْوَرْسِ وَكَثْرَةُ رُكُوبِ الْخَيْلِ وَالْعِنَبُ الْحُلْوُ وَالتِّينُ وَصُفْرَةُ الْبَيْضِ وَلِسَانُ الْعَصَافِيرِ، وَالدَّارَصِينِيّ، وَالْمَاءُ الَّذِي يُغْمَسُ فِيهِ الْحَدِيدُ الْمَحْمِيُّ وَسَمْنُ الْبَقَرِ وَالْعَصَافِيرُ وَالْعَسَلُ وَالْهِلْيُونُ وَاللَّبَنُ الْحَلِيبُ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَلَا يَدَعُ الْجِمَاعَ دَائِمًا؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الشَّرْعِ. وَقَالَ الْأَطِبَّاءُ مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الرَّازِيّ وَغَيْرُهُ: مَنْ هَجَرَهُ ضَعُفَتْ قُوَى أَعْضَائِهِ وَاسْتَدَّتْ مَجَارِيهَا وَتَقَلَّصَ ذَكَرُهُ، وَرَأَيْتُ جَمَاعَةً تَرَكُوهُ لِنَوْعٍ مِنْ التَّقَشُّفِ فَبَرَدَتْ أَبْدَانُهُمْ، وَعَسُرَتْ حَرَكَاتُهُمْ، وَوَقَعَتْ عَلَيْهِمْ كَآبَةٌ وَقَلَّتْ شَهَوَاتُهُمْ وَهَضْمُهُمْ، وَأَنْفَعُ الْجِمَاعِ بَعْدَ الْهَضْمِ عِنْدَ اعْتِدَالِ الْبَدَنِ، وَشِدَّةِ الشَّهْوَةِ لَا مَعَ فِكْرٍ أَوْ نَظَرٍ وَنَحْوِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ يَنْبَغِي لِحَاجَةِ الْبَدَنِ إلَيْهِ لَا لِشَوْقِ النَّفْسِ إلَيْهِ. وَمُرَادُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَدْنَى شَوْقٍ وَإِلَّا فَإِذَا أَشْتَدَّ شَوْقُهُ ضَرَّهُ إنْ لَمْ يُخْرِجْهُ. وَلَا يَنْبَغِي الْجِمَاعُ عَلَى الْجُوعِ فَإِنَّهُ يُوقِعُ فِي الدِّقِّ وَلَا عَلَى الِامْتِلَاءِ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ الْهَضْمَ مَعَ أَنَّهُ أَقَلُّ ضَرَرًا مِنْ الْجُوعِ وَلَا عَلَى عَطَشٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ عَقِبَ سَهَرٍ أَوْ تَعَبٍ أَوْ فِي الْحَمَّامِ أَوْ عَقِبَ إسْهَالٍ. وَمِمَّا يُضْعِفُ الْبَاءَةَ كُلُّ حَارٍّ لَطِيفٍ مِنْ الْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ كَالسَّذَابِ وَنَحْوِهِ، وَكُلُّ قَوِيِّ التَّجْفِيفِ يَابِسٍ كَالْأَرُزِّ وَالْعَدَسِ، وَكُلُّ بَارِدٍ مُجَمِّدٍ لِلْمَنِيِّ كَالنَّيْلُوفَرِ وَالْخِلَافِ وَالْوَرْدِ وَالْأَشْيَاءِ الْقَابِضَةِ وَالْحَامِضَةِ وَالْمُزَّةِ كَالسَّفَرْجَلِ وَالتُّفَّاحِ وَالْخَلِّ، وَشَرُّهَا مَا جَمَعَ إلَى الْحُمُوضَةِ قَبْضًا مِثْلُ الْحِصْرِمِ وَالسُّمَّاقِ وَالرُّمَّانِ وَالْحَامِضِ، وَكُلُّ مَالَهُ مَائِيَّةٌ كَثِيرَةٌ بَارِدَةٌ مِنْ الْبُقُولِ كَالْخَسِّ وَالْقَرْعِ وَبَقْلَةِ الْحَمْقَاءِ وَهِيَ الفرفحين وَالطَّرْخُونُ وَالْهِنْدَبَا وَالْقِثَّاءُ وَالْخِيَارُ وَكَثْرَةُ شُرْبِ الْمَاءِ الْبَارِدِ وَالتَّخَمُ وَإِتْيَانُ الْحَائِضِ وَالصَّغِيرَةِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الَّتِي لَا شَهْوَةَ لَهَا وَالْكَرِيهَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَالْمَرِيضَةِ. وَقَالَ

بَعْضُهُمْ: وَالْحَائِلِ الَّتِي لَمْ تُؤْتَ زَمَانًا طَوِيلًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَالْعَاقِرِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَجِمَاعُ الثَّيِّبِ أَنْفَعُ مِنْ جِمَاعِ الْبِكْرِ وَأَحْفَظُ لِلصِّحَّةِ؛ وَعُلِّلَ بِأَنَّ جِمَاعَ الْبِكْرِ وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُنَّ يُضْعِفُ قُوَّةَ أَعْضَاءِ الْجِمَاعِ خَاصَّةً، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فِي الْبِكْرِ مُخَالِفٌ لِلْحِسِّ وَالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، قَالَ ابْنُ بَخْتَيَشُوعَ وَغَيْرُهُ: وَطْءُ الْحَائِضِ يُوَلِّدُ الْجُذَامَ. قَالَ جَالِينُوسُ فِي النَّيْلُوفَرِ خَاصِّيَّةٌ مُضَادَّةٌ لِلْمَنِيِّ فَشَمُّهُ يُضْعِفُهُ وَشُرْبُهُ يَقْطَعُهُ، وَقَالَ: الْإِكْثَارُ مِنْ إدْرَارِ الْبَوْلِ يَنْقُضُ الْبَاءَةَ؛ لِأَنَّهُ يُهْزِلُ الْكُلَى وَمَنْ يَعْتَرِيه عَقِبَهُ نَافِضٌ فَمِنْ الْمُرَارِ الْأَصْفَرِ، وَمَنْ تَأْتِيه رَعْشَةٌ فَيُقَوِّي دِمَاغَهُ بِالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَالطُّيُورِ الْحَارَّةِ، وَمَنْ يَرْتَفِعُ إلَى رَأْسِهِ بُخَارٌ فَيَصْعَدُ فَيُقَوِّي رَأْسَهُ بِمَا يُنَاسِبُ مِنْ الْبَارِدِ. قَالَ أَبُقْرَاطُ: السِّمَانُ لَا يَشْتَهُونَ الْبَاءَةَ وَلَا يَقْوُونَ عَلَى الْإِكْثَارِ مِنْهُ، قَالَ: وَالْمُقْعَدُونَ أَكْثَرُ جِمَاعًا لِقِلَّةِ تَعَبِهِمْ؛ وَلِأَنَّهُمْ لَا يَمْشُونَ كَثِيرًا وَمَنْ كَانَ مِزَاجُ أُنْثَيَيْهِ حَارًّا رَطْبًا انْتَفَعَ بِالْجِمَاعِ لِكَثْرَةِ الْمَنِيِّ الْمُتَوَلِّدِ فِيهِ فَإِنْ لَمْ يُخْرِجْهُ تَعَفَّنَ وَوَلَّدَ أَمْرَاضًا. وَمَنْ كَانَ مِزَاجُ أُنْثَيَيْهِ حَارًّا يَابِسًا كَانَ كَثِيرَ الشَّبَقِ إلَّا أَنَّهُ يَمَلُّ الْجِمَاعَ سَرِيعًا بِسَبَبِ قِلَّةِ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْ الْمَنِيِّ لِغَلَبَةِ الْيُبْسِ، وَهَذَا مَتَى جَامَعَ كَثِيرًا اسْتَضَرَّ بِهِ، وَمَنْ كَانَ مِزَاجُ أُنْثَيَيْهِ بَارِدًا رَطْبًا كَانَتْ نَهْضَتُهُ إلَى الْجِمَاعِ بَطِيئَةً، وَهَذَا يَسْتَضِرُّ بِالْجِمَاعِ، وَإِنْ كَانَ مِزَاجُهُمَا بَارِدًا يَابِسًا كَانَ عَدِيمَ الشَّهْوَةِ بِالْجُمْلَةِ. وَمَادَّةُ الْمَنِيِّ مِنْ الْهَضْمِ الرَّابِعِ، وَنَقْضُ الْمَنِيِّ مِنْ قِبَلِ الدِّمَاغِ، وَعَدَمُ انْتِشَارِ الذَّكَرِ، وَقُوَّةُ حَرَكَتِهِ مِنْ قِبَلِ الْقَلْبِ، وَفَقْدُ شَهْوَةِ الذَّكَرِ مِنْ قِبَلِ الْكَبِدِ. وَأَحْرَصُ مَا يَكُونُ أَشَدُّ غِلْمَةً إذَا احْتَلَمَ، وَكُلَّمَا دَخَلَ فِي السِّنِّ نَقَصَ ذَلِكَ، وَالْمَرْأَةُ يَشْتَدُّ حِرْصُهَا عَلَى ذَلِكَ حِين تَكْتَهِلُ، وَلِلْأَطِبَّاءِ قَوْلَانِ أَيُّهُمَا أَشَدُّ شَهْوَةً الرِّجَالُ أَمْ النِّسَاءُ؟

وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا «فُضِّلَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى الرَّجُلِ بِتِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ جُزْءًا مِنْ اللَّذَّةِ أَوْ قَالَ مِنْ الشَّهْوَةِ، لَكِنَّ اللَّهَ أَلْقَى عَلَيْهِنَّ الْحَيَاءَ» وَذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ: قَالَ فَقِيهٌ: شَهْوَةُ الْمَرْأَةِ فَوْقَ شَهْوَةِ الرَّجُلِ بِتِسْعَةِ أَجْزَاءٍ، فَقَالَ حَنْبَلِيٌّ: لَوْ كَانَ هَذَا مَا كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَرْبَعٍ وَيَنْكِحَ مَا شَاءَ مِنْ الْإِمَاءِ. وَلَا تَزِيدُ الْمَرْأَةُ عَلَى رَجُلٍ، وَلَهَا مِنْ الْقَسْمِ الرُّبُعُ وَحَاشَا حِكْمَتَهُ أَنْ تَضِيقَ عَلَى الْأَحْوَجِ. وَأَحْسَنُ أَحْوَالِ الْجِمَاعِ أَنْ تَتَقَدَّمَهُ مُقَدِّمَاتُهُ مِنْ الْقُبْلَةِ وَالْمُدَاعَبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِتَتَحَرَّكَ الشَّهْوَةُ مِنْهَا. وَقَدْ ذَكَرَ الْأَطِبَّاءُ: أَنَّ الرَّجُلَ إذَا فَرَكَ حَلَمَتَيْ الْمَرْأَةِ اغْتَلَمَتْ ثُمَّ يَعْلُوهَا مُسْتَفْرِشًا لَهَا قَالَ تَعَالَى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] وَهَذِهِ الْحَالُ أَسْبَغُ اللِّبَاسِ وَأَكْمَلُهُ. وَأَمَّا عُلُوُّ الْمَرْأَةِ لِلرَّجُلِ فَخِلَافُ مُقْتَضَى الشَّرْعِ وَالطَّبْعِ وَهُوَ مُضِرٌّ عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ قَالُوا: يُورِثُ الْأُدْرَةَ وَالِانْتِفَاخَ وَقُرُوحَ الْإِحْلِيلِ وَالْمَثَانَةِ؛ لِأَجْلِ مَا يَسِيلُ مِنْ مَنِيِّهَا وَيَدْخُلُ الْإِحْلِيلَ وَهُوَ حَارٌّ، وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ إنَّمَا يَأْتُونَ النِّسَاءَ عَلَى جُنُوبِهِنَّ عَلَى حَرْفٍ: وَيَقُولُونَ هُوَ أَسْتَرُ لِلْمَرْأَةِ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ وَالْأَنْصَارُ تُشَرِّحُ النِّسَاءَ عَلَى أَقْفَائِهِنَّ فَعَابَتْ الْيَهُودُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] . وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ، وَقَدْ كَرِهَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِلْمَرْأَةِ تَسْتَلْقِي عَلَى قَفَاهَا، وَقَالَ: يُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ كَرِهَهُ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ غَيْرُ حَالِ الْمُجَامَعَةِ مَعَ أَنَّ كَرَاهَتَهُ، تَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ. وَقَدْ ذَكَرَ

الْأَطِبَّاءُ: أَنَّ الْجِمَاعَ عَلَى جَنْبٍ مُضِرٌّ رُبَّمَا أَوْرَثَ وَجَعَ الْكُلَى وَأَنَّ الْجِمَاعَ مِنْ قُعُودٍ يَضُرُّ بِالْعَصَبِ. قَالَ ابْنُ مَاسَوَيْهِ: وَمَنْ احْتَلَمَ فَلَمْ يَغْتَسِلْ حَتَّى وَطِئَ أَهْلَهُ فَوَلَدَتْ مَجْنُونًا أَوْ مُخْتَبَلًا فَلَا يَلُومَنِّ إلَّا نَفْسَهُ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي بَقَاءِ الْبَدَنِ مِنْ الْغِذَاءِ وَالشَّرَابِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَبْقَى مِنْ الْغِذَاءِ فَضْلَةٌ عِنْدَ كُلِّ هَضْمٍ فَيَجْتَمِعُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَمَرِّ الزَّمَانِ شَيْءٌ يَضُرُّ الْبَدَنَ بِثِقَلِهِ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِنْ اسْتَفْرَغَ بِدَوَاءٍ تَأَذَّى الْبَدَنُ بِهِ إمَّا بِسُمْنَةٍ أَوْ لِإِخْرَاجِهِ صَالِحًا مُنْتَفَعًا بِهِ، وَقَدْ يَضُرُّ بِكَيْفِيَّتِهِ بِأَنْ يَسْخَنَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالْعَفَنِ أَوْ يَبْرُدَ بِنَفْسِهِ أَوْ يُضْعِفَ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيَّةَ عَنْ إنْضَاجِهِ، وَالْحَرَكَةُ أَقْوَى الْأَسْبَابِ فِي مَنْعِ تَوَلُّدِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا تُسَخِّنُ الْأَعْضَاءَ وَتُسِيلُ فَضَلَاتِهَا فَلَا تَجْتَمِعُ، وَتُعَوِّدُ الْبَدَنَ الْخِفَّةَ وَالنَّشَاطَ وَتَجْعَلُهُ قَابِلًا لِلْغِذَاءِ وَتُصَلِّبُ الْمَفَاصِلَ وَتُقَوِّي الْأَوْتَارَ وَالرِّبَاطَاتِ. وَتُؤْمَنُ جَمِيعُ الْأَمْرَاضِ الْمَادِّيَّةِ وَأَكْثَرُ الْمِزَاجِيَّةِ إذَا اسْتَعْمَلَ الْقَدْرَ الْمُعْتَدِلَ مِنْهَا فِي وَقْتِهِ وَكَانَ بَاقِي التَّدْبِيرِ صَوَابًا، وَوَقْتُ الرِّيَاضَةِ بَعْدَ انْحِدَارِ الْغِذَاءِ وَكَمَالِ الْهَضْمِ، وَالرِّيَاضَةُ الْمُعْتَدِلَةُ هِيَ الَّتِي تَحْمَرُّ فِيهَا الْبَشَرَةُ وَتَرْبُو وَيَتَنَدَّى بِهَا الْبَدَنُ، فَأَمَّا الَّذِي يَلْزَمُهَا سَيَلَانُ الْعَرَقِ فَمُفْرِطَةٌ. قَالَ الْأَطِبَّاءُ: وَكُلُّ عُضْوٍ يَقْوَى بِالرِّيَاضَةِ. قَالَ بَعْضُهُمْ وَخُصُوصًا عَلَى نَوْعِ تِلْكَ الرِّيَاضَةِ، بَلْ كُلُّ قُوَّةٍ. فَهَذَا شَأْنُهَا فَمَنْ اسْتَكْثَرَ مِنْ الْحِفْظِ قَوِيَتْ حَافِظَتُهُ، وَمِنْ الْفِكْرِ قَوِيَتْ قُوَّتُهُ الْمُفَكِّرَةُ قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلِكُلِّ عُضْوٍ رِيَاضَةٌ تَخُصُّهُ، فَلِلصَّدْرِ الْقِرَاءَةُ فَيَبْتَدِئُ فِيهَا مِنْ الْخُفْيَةِ إلَى الْجَهْرِ بِتَدْرِيجٍ، وَرِيَاضَةُ السَّمْعِ بِسَمْعِ الْأَصْوَاتِ، وَالْكَلَامِ بِالتَّدْرِيجِ فَيَنْتَقِلُ مِنْ الْأَخَفِّ إلَى الْأَثْقَلِ، وَكَذَلِكَ رِيَاضَةُ الْبَصَرِ وَقَدْ سَبَقَ رِيَاضَةُ اللِّسَانِ فِي الْكَلَامِ. وَرِيَاضَةُ الْمَشْيِ بِالتَّدْرِيجِ شَيْئًا فَشَيْئًا وَرُكُوبِ الْخَيْلِ وَرَمْيِ النُّشَّابِ وَالصِّرَاعِ. وَالْمُسَابَقَةُ عَلَى الْأَقْدَامِ رِيَاضَةُ الْبَدَنِ كُلِّهِ، وَهِيَ قَالِعَةٌ لِأَمْرَاضٍ مُزْمِنَةٍ كَالْجُذَامِ وَالِاسْتِقَاءِ

وَالْقُولَنْجِ. وَرِيَاضَةُ النُّفُوسِ بِالتَّعَلُّمِ وَالتَّأَدُّبِ، وَالْفَرَحِ، وَالصَّبْرِ، وَالثَّبَاتِ وَالْإِقْدَامِ وَالسَّمَاحَةِ وَفِعْلِ الْخَيْرِ، وَإِذَا تَكَرَّرَ ذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى صَارَ عَادَةً وَطَبِيعَةً ثَانِيَةً. وَقَدْ ذَكَرَ الْأَطِبَّاءُ أَنَّ الْعَوَائِدَ طَبَائِعُ ثَوَانٍ، وَمِنْ أَبْلَغِ ذَلِكَ وَأَنْفَعِهِ الْجِهَادُ وَالصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْحَجُّ. وَقَدْ سَبَقَ هَذَا الْمَعْنَى قَبْلَ فُصُولِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى ذِي النُّونِ وَتَضَمُّنِهِ عِلَاجَ زَوَالِ الْهَمِّ وَالْغَمِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي الصَّبْرِ نَحْوَ نِصْفِ الْكِتَابِ قَبْلَ الْكَلَامِ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ وَالزُّهْدِ وَسَبَقَ الْكَلَامُ فِي الصَّوْمِ وَالْجُوعِ فِي ذِكْرِ الْحِمْيَةِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يُبَلِّغُ بِهِ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ ثَلَاثَ عُقَدٍ إذَا نَامَ يَضْرِبُ عَلَى كُلِّ عُقْدَةٍ: عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِذَا اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِذَا تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَتَانِ فَإِذَا صَلَّى انْحَلَّتْ الْعُقَدُ فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ» قَافِيَةُ كُلِّ شَيْءٍ آخِرَهُ، وَمِنْهُ قَافِيَةُ الشِّعْرِ. وَهَذِهِ الْعُقَدُ قِيلَ: حَقِيقَةٌ كَعُقَدِ السِّحْرِ، وَقِيلَ: هُوَ قَوْلٌ يَقُولُهُ، وَقِيلَ: هُوَ فِعْلٌ يَفْعَلُهُ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ عَقْدِ الْقَلْبِ وَتَصْمِيمِهِ، فَكَأَنَّهُ يُوَسْوِسُ فِي نَفْسِهِ بِبَقَاءِ اللَّيْلِ، وَقِيلَ: هُوَ مَجَازٌ كَنَّى بِهِ عَنْ تَثْبِيطِ الشَّيْطَانِ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ. قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَظَاهِرُ الْخَبَرِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِالذِّكْرِ وَالْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ وَإِلَّا دَخَلَ فِيمَنْ أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ. وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ: وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ إنْ لَمْ يَأْتِ بِبَعْضِ ذَلِكَ، وَقَدْ سَبَقَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ الَّذِي بَاتَ عِنْدَهُ ابْنُ عُمَرَ وَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ إذَا اسْتَيْقَظَ وَيُصَلِّي قَبْلَ نَوْمِهِ مَا قُدِّرَ لَهُ، وَلِهَذَا كَانَتْ التَّرَاوِيحُ قِيَامَ اللَّيْلِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهَا خَلْقٌ، فَلَا يَتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ مَنْ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ؛ وَلِأَنَّهُ يَبْعُدُ الْقَوْلُ بِظَاهِرِهِ فِيمَنْ ذَكَرَ اللَّهَ ثُمَّ اشْتَغَلَ بِقِرَاءَةٍ وَاسْتِغْفَارٍ وَدُعَاءٍ حَتَّى تَوَضَّأَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ، أَوْ اشْتَغَلَ بِرِبَاطٍ أَوْ غَيْرِهِ مَعَ إمْكَانِ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ، أَوْ فِيمَنْ

تَوَضَّأَ وَصَلَّى وَلَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْهُ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَعَلَّ الْحَدِيثَ فِيمَنْ اسْتَيْقَظَ فَلَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ أَمَّا مَنْ لَمْ يَسْتَيْقِظْ فَإِنَّهُ مَعْذُورٌ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ إنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ» فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يُصْبِحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ. فَإِنْ قِيلَ فَفِي مُسْلِمٍ أَوْ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّ رَجُلًا ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَامَ لَيْلَهُ حَتَّى أَصْبَحَ قَالَ: ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ، أَوْ قَالَ: فِي أُذُنَيْهِ» فَلَمْ يُعْذَرْ بِالنَّوْمِ، قِيلَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ فِي رَجُلٍ خَاصٍّ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ الْعِشَاءِ أَوْ الْفَجْرِ أَوْ هُمَا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ. وَلَمْ أَجِدْ مَنْ ذَكَرَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا ذَكَرُوهُ حُجَّةً فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ، فَيُقَالُ: لَا عُقُوبَةَ فِي هَذَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَمَكَّنَ مِنْهُ فَثَبَّطَهُ عَنْ فِعْلِ الْمُبْرَزِينَ فِي الْخَيْرَاتِ بِنَوْمِهِ، وَأَمَّا هُنَا فَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ مُسْتَقْبَلَةٌ لِمَا سَبَقَ مِنْهُ. وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَأَبَا الدَّرْدَاءِ وَأَظُنُّ فِي مُسْلِمٍ وَأَبَا ذَرٍّ فِي النَّسَائِيّ بِالْوَتْرِ قَبْلَ النَّوْمِ لِغَلَبَةِ النَّوْمِ عَلَيْهِمْ، وَبِصَلَاةِ الضُّحَى بَدَلًا عَمَّا فَاتَهُمْ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ؛ وَلِذَلِكَ لَمْ يَأْمُرْ بِهِمَا سِوَاهُمْ أَوْ مَنْ فِي مَعْنَاهُمْ، وَلَا يُظَنُّ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ يُصْبِحُ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ هُوَ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي بَابِ صَلَاةِ الْعَتَمَةِ مِنْ أَبْوَابِ الْأَدَبِ ثَنَا مُسَدَّدٌ ثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ ثَنَا مُسَعَّرُ بْنُ كَدَامٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ قَالَ مُسَعَّرٌ: أَرَاهُ مِنْ خُزَاعَةَ لَيْتَنِي صَلَّيْتُ وَاسْتَرَحْتُ، فَكَأَنَّهُمْ عَابُوا ذَلِكَ عَلَيْهِ فَقَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «يَا بِلَالُ أَقِمْ الصَّلَاةَ أَرِحْنَا بِهَا» . حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ أَنْبَأَ إسْرَائِيلُ ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ

عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبِي إلَى صِهْرٍ لَنَا مِنْ الْأَنْصَارِ نَعُودُهُ، فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَقَالَ لِبَعْضِ أَهْلِهِ: يَا جَارِيَةُ ائْتُونِي بِوَضُوءٍ لَعَلِّي أُصَلِّي فَأَسْتَرِيحَ فَقَالَ: فَأَنْكَرْنَا ذَلِكَ فَقَالَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «يَا بِلَالُ أَقِمْ فَأَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ» إسْنَادَانِ جَيِّدَانِ، وَاحْتَجَّ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بِهِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَالَ: وَلَمْ يَقُلْ أَرِحْنَا مِنْهَا.

فصل يتعلق بما قبله في الأكحال وفضيلة الإثمد منها

[فَصْلٌ يَتَعَلَّقُ بِمَا قَبْلَهُ فِي الْأَكْحَالِ وَفَضِيلَةِ الْإِثْمِدِ مِنْهَا] فَصْلٌ (فِي الْأَكْحَالِ وَفَضِيلَةِ الْإِثْمِدِ مِنْهَا) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خَيْثَمَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ: خَيْرُ أَكْحَالِكُمْ الْإِثْمِدُ، إنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَلَفْظُهُمْ مِنْ خَيْرِ. وَابْنُ خُثَيْمَ احْتَجَّ بِهِ مُسْلِمٌ وَوَثَّقَهُ جَمَاعَةٌ وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: ضَعِيفٌ لَيَّنُوهُ لِهَذَا الْحَدِيثِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَكْتَحِلُ بِالْإِثْمِدِ كُلَّ لَيْلَةٍ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ فِي عَيْنٍ ثَلَاثَةَ أَمْيَالٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَفِيهِ «كَانَتْ لَهُ مُكْحُلَةٌ يَكْتَحِلُ مِنْهَا كُلَّ لَيْلَةٍ ثَلَاثَةً فِي هَذِهِ وَثَلَاثَةً فِي هَذِهِ» ، وَهَذَا الْخَبَرُ مِنْ رِوَايَةِ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورِ النَّاجِي وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَقِيلَ رَوَاهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى، وَالتِّرْمِذِيُّ أَيْضًا فِي الْيُمْنَى ثَلَاثًا يَبْتَدِئُ بِهَا وَيَخْتِمُ بِهَا وَفِي الْيُسْرَى ثِنْتَيْنِ. وَرَوَى وَكِيعٌ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَكْتَحِلُ بِالْإِثْمِدِ فِي الْيُمْنَى ثَلَاثًا وَفِي الْيُسْرَى مَرَّتَيْنِ» . وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ مَعْبَدِ بْنِ هَوْذَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «أَمَرَ بِالْإِثْمِدِ الْمُرَوَّحِ عِنْدَ النَّوْمِ وَقَالَ: لِيَتَّقِهِ الصَّائِمُ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَسُئِلَ أَحْمَدُ الْإِمَامُ عَنْهُ فَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ مَعِينٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ ضَعِيفٌ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ صَدُوقٌ وَأَبُوهُ تَفَرَّدَ عَنْهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْمُرَوَّحُ الْمُطَيَّبُ بِالْمِسْكِ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ. وَفِي الْكُحْلِ حِفْظُ صِحَّةِ الْعَيْنِ، وَتَقْوِيَةٌ لِلنُّورِ الْبَاصِرِ وَجَلَاؤُهَا وَتَلْطِيفٌ لِلْمَادَّةِ الرَّدِيئَةِ وَاسْتِخْرَاجٌ لَهَا. وَعِنْدَ النَّوْمِ أَفْضَلُ لِعَدَمِ الْحَرَكَةِ الْمُضِرَّةِ وَخِدْمَةِ الطَّبِيعَةِ وَفِي بَعْضِ أَنْوَاعِهِ زِينَةٌ.

وَالْإِثْمِدُ هُوَ حَجَرُ الْكُحْلِ الْأَسْوَدِ وَأَفْضَلُهُ مَا يَأْتِي مِنْ أَصْفَهَانَ وَيَأْتِي مِنْ الْغَرْبِ أَيْضًا، وَأَجْوَدُهُ سَرِيعُ التَّفَتُّتِ لِفُتَاتِهِ بَصِيصٌ وَدَاخِلُهُ أَمْلَسُ وَلَا وَسَخَ فِيهِ وَهُوَ بَارِدٌ يَابِسٌ وَيَنْفَعُ الْعَيْنَ وَيُقَوِّيهَا وَيَشُدُّ أَعْصَابَهَا وَيَحْفَظُ صِحَّتَهَا وَيُذْهِبُ اللَّحْمَ الزَّائِدَ فِي الْقُرُوحِ وَيَدْمُلُهَا، وَيُنَقِّي أَوْسَاخَهَا وَيَجْلُوهَا وَيُذْهِبُ الصُّدَاعَ إذَا اُكْتُحِلَ بِهِ مَعَ الْعَسَلِ الْمَائِيِّ الرَّقِيقِ، وَهُوَ أَجْوَدُ أَكْحَالِ الْعَيْنِ لَا سِيَّمَا لِلْمَشَايِخِ وَمَنْ ضَعُفَ بَصَرُهُ إذَا جُعِلَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْمِسْكِ وَإِذَا دُقَّ وَخُلِطَ بِبَعْضِ الشُّحُومِ الطَّرِيَّةِ وَلُطِخَ عَلَى حَرْقِ النَّارِ لَمْ يُعَوَّضْ فِيهِ خشكريشة وَنَفَعَ مِنْ النَّقْطِ الْحَادِثِ بِسَبَبِهِ.

فصل في الروائح الطيبة وفائدتها في الصحة

[فَصْلٌ فِي الرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ وَفَائِدَتِهَا فِي الصِّحَّةِ] وَلِلرَّائِحَةِ الطَّيِّبَةِ أَثَرٌ فِي حِفْظِ الصِّحَّةِ فَإِنَّهَا غِذَاءُ الرُّوحِ، وَالرُّوحُ مَطِيَّةُ الْقُوَى، وَالْقُوَى تَزْدَادُ بِالطِّيبِ وَهُوَ يَنْفَعُ الْأَعْضَاءَ الْبَاطِنَةَ كَالدِّمَاغِ وَالْقَلْبِ وَيَسُرُّ النَّفْسَ، وَهُوَ أَصْدَقُ شَيْءٍ لِلرُّوحِ وَأَشَدُّهُ مُلَاءَمَةً، وَلِهَذَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَبَخَّرَ «بِالْأَلْوَةِ» بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّهَا، وَهِيَ الْعُودُ الَّذِي يُتَبَخَّرُ بِهِ وَبِكَافُورٍ يَطْرَحُهُ مَعَهَا. وَلِلنَّسَائِيِّ وَالْبُخَارِيِّ فِي تَارِيخِهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَطَّيَّبُ بِالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ،» وَفِي الصَّحِيحِ أَوْ فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهَا طَيَّبَتْهُ لِإِحْرَامِهِ وَلِحِلِّهِ مِنْهُ بِالْمِسْكِ» . رَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ عِيسَى الْقُومِسِيُّ عَنْ عَفَّانَ عَنْ سَلَامِ بْنِ سُلَيْمَانَ أَبِي الْمُنْذِرِ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حُبِّبَ إلَى مِنْ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ عَفَّانَ أَوْ عَنْ غَيْرِهِ عَنْ سَلَامٍ. وَسَلَامٌ قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَا بَأْسَ بِهِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: صَدُوقٌ. وَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ: لَا يُتَابَعُ حَدِيثُهُ ثُمَّ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ، قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ بِسَنَدٍ فِيهِ لِينٌ أَيْضًا. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ سَيَّارِ بْنِ حَاتِمٍ عَنْ جَعْفَرَ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ فَذَكَرَهُ إسْنَادٌ جَيِّدٌ. وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ رَيْحَانٌ فَلَا يَرُدُّهُ فَإِنَّهُ طَيِّبُ الرِّيحِ خَفِيفُ الْمَحْمَلِ» . وَلِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ: «مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ طِيبٌ فَلَا يَرُدُّهُ؛ فَإِنَّهُ خَفِيفُ الْمَحْمَلِ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ» وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَرُدُّ الطِّيبَ» وَرَوَى هَؤُلَاءِ إلَّا الْبُخَارِيَّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي الْمِسْكِ: هُوَ أَطْيَبُ طِيبِكُمْ» وَعَنْهُ أَيْضًا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ

عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ وَالسِّوَاكُ وَأَنْ يَمَسَّ مِنْ طِيبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَالْمَلَائِكَةُ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - تُحِبُّ الرَّائِحَةَ الطَّيِّبَةَ وَتَتَأَذَّى بِالرَّائِحَةِ الْخَبِيثَةِ كَمَا فِي قِصَّةِ الْبَصَلِ وَالثُّومِ وَالْكُرَّاثِ، وَالشَّيَاطِينُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ عَكْسُهُمْ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ «إنَّ هَذِهِ الْحُشُوشَ مُحْتَضَرَةٌ» أَيْ: بِالشَّيَاطِينِ. وَفِي مُسْنَدِ الْبَزَّارِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ، نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرِيمَ، جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُودَ، فَنَظِّفُوا أَفْنَاءَكُمْ وَسَاحَاتِكُمْ، وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ يَجْمَعُونَ الْأَكْبَاءَ فِي دُورِهِمْ» الْكِبَا بِكَسْرِ الْكَافِ مَقْصُورٌ: الْكُنَاسَةُ، وَالْجَمْعُ الْأَكْبَاءُ مِثْلُ: مِعًى وَأَمْعَاءَ، وَالْكُبَةُ مِثْلُهُ وَالْجَمْعُ كُبُونَ. ذِكْرُ أَنْوَاعِ مَا يُتَطَيَّبُ بِهِ شَمًّا أَوْ بَخُورًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ قَالَ الْأَطِبَّاءُ: أَظْفَارُ الطِّيبِ هِيَ أَظْفَارٌ تُشْبِهُ الْأَظْفَارَ عَطِرَةُ الرَّائِحَةِ، حَارٌّ يَابِسٌ فِي الثَّانِيَةِ، مُلَطِّفٌ إذَا تَبَخَّرَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ الْحَيْضَ، وَدُخَانُهُ يَنْفَعُ مَنْ بِهَا اخْتِنَاقُ الرَّحِمِ، وَإِذَا شُرِبَ حَرَّكَ الْبَطْنَ. (بَانٌ) حَارٌّ يَابِسٌ فِي الثَّانِيَةِ، وَقِيلَ: حَرَارَتُهُ فِي الثَّانِيَةِ، وَقِيلَ: رَطْبٌ وَقِيلَ قِشْرُهُ قَابِضٌ. وَهُوَ يَجْلُو وَيَقْطَعُ وَيَقْلَع الثَّآلِيلَ وَالْكَلَفَ وَالْبَهَقَ وَيَنْفَعُ الْأَوْرَامَ الصُّلْبَةَ مَعَ الْمَرْهَمِ وَيَنْفَعُ مِنْ الْجَرَبِ وَالْحَكَّةِ وَالْبُثُورِ، وَيُسَخِّنُ الْعَصَبَ وَيَقْطَعُ الرُّعَافَ بِقَبْضِهِ وَيَفْتَحُ سَدَدَ الْكَبِدِ وَالطِّحَالِ، وَيُلَيِّنُ صَلَابَتَهُمَا ضِمَادًا مَعَ دَقِيقِ الْكِرْسِنَّةِ وَيَنْفَعُ مِنْ السَّوْدَاءِ وَالْبَلْغَمِ قَالَ ابْنُ جَزْلَةَ: مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْهُ يُسَهِّلُ الْبَلْغَمَ وَهُوَ يُؤْذِي الْمَعِدَةَ وَيُغْثِي وَيُصْلِحُهُ الرازيانج وَبَدَلُهُ وَزْنُهُ فُوهُ، وَنِصْفُ وَزْنِهِ قُشُورُ السَّلِيخَةِ وَعُشْرُ وَزْنِهِ بَسْبَاسَةٌ. (الْبَنَفْسَجُ) بَارِدٌ فِي الثَّانِيَةِ رَطْبٌ فِي الثَّالِثَةِ يَجْلِبُ النَّوْمَ وَيُسَكِّنُ الصُّدَاعَ الْحَارَّ. (رَيْحَانٌ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:

{فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الواقعة: 88] {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} [الواقعة: 89] [الْوَاقِعَةَ] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} [الرحمن: 12] . وَسَبَقَ الْحَدِيثُ عَنْهُ، وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَلَا مُشَمِّرٌ لِلْجَنَّةِ؟ فَإِنَّ الْجَنَّةَ لَا خَطَرَ لَهَا، هِيَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ، وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وَقَصْرٌ مَشِيدٌ، وَنَهْرٌ مُطَّرِدٌ، وَثَمَرَةٌ نَضِيجَةٌ، وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ، وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ، وَمَقَامٌ فِي أَبَدٍ فِي دَارٍ سَلِيمَةٍ، وَفَاكِهَةٍ وَخَضِرَةٍ وَحَبْرَةٍ وَنِعْمَةٍ فِي مَحِلِّهِ، عَالِيَةٌ بَهِيَّةٌ. قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَحْنُ الْمُشَمِّرُونَ قَالَ: قُولُوا إنْ شَاءَ اللَّهُ. فَقَالَ الْقَوْمُ: إنْ شَاءَ اللَّهُ» ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ الضَّحَّاكِ الْمَعَافِرِيِّ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ مُحَمَّدِ بْنِ مُهَاجِرٍ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ. أَهْلُ الْمَغْرِبِ يَخُصُّونَ الرَّيْحَانَ بِالْآسِ وَهُوَ الَّذِي تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ الرَّيْحَانِ، وَهُوَ بَارِدٌ فِي الْأَوَّلِ يَابِسٌ فِي الثَّانِيَةِ، وَالْأَكْثَرُ فِيهِ الْجَوْهَرُ الْأَرَاضِي الْبَارِدُ وَفِيهِ مَعَ هَذَا شَيْءٌ حَارٌّ لَطِيفٌ، فَهُوَ لِذَلِكَ يُجَفِّفُ تَجْفِيفًا قَوِيًّا، قُوَّتُهُ قَابِضَةٌ حَابِسَةٌ مِنْ دَاخِلٍ وَخَارِجٍ مَعًا، قَاطِعٌ لِلْإِسْهَالِ الصَّفْرَاوِيِّ، وَهُوَ يُنَشِّفُ الرُّطُوبَاتِ فِي الْمَعِدَةِ، وَيُقَوِّي الْمَعِدَةَ وَالْقَلْبَ، وَيُذْهِبُ الْخَفَقَانَ وَيُوَلِّدُ السَّهَرَ، إصْلَاحُهُ بِالْبَنَفْسَجِ الطَّرِيِّ نَافِعٌ لِلْبُخَارِ الْحَارِّ الرَّطْبِ إذَا شُمَّ وَأُكِلَ حَبُّهُ، وَيُفْرِحُ الْقَلْبَ جِدًّا وَشَمُّهُ نَافِعٌ لِلْوَبَاءِ، وَكَذَلِكَ افْتِرَاشُهُ فِي الْبَيْتِ، وَيُبْرِئُ الْأَوْرَامَ الْحَادِثَةَ فِي الْحَالِبَيْنِ إذَا وُضِعَ عَلَيْهَا، وَإِذَا دُقَّ وَرَقُهُ غَضًّا وَضُرِبَ بِالْخَلِّ وَوُضِعَ عَلَى الرَّأْسِ قَطَعَ الرُّعَافَ، وَإِذَا سُحِقَ وَرَقُهُ الْيَابِسُ وَذُرَّ عَلَى الْقُرُوحِ ذَوَاتِ الرُّطُوبَةِ نَفَعَهَا، وَتَقْوَى الْأَعْضَاءُ الْوَاهِنَةُ إذَا ضُمِّدَ بِهِ، وَيَنْفَعُ الدَّاحِسَ وَفِي الْآبَاطِ وَالْأُرْبِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا الْمُتَغَيِّرِ

الرَّائِحَةِ، وَيَقْطَعُ عَرَقَ مَنْ بِهِ خَفَقَانٌ وَيُقَوِّيهِ. وَيُؤْكَلُ حَبُّهُ رَطْبًا وَيَابِسًا لِنَفْثِ الدَّمِ، وَطَبِيخُ ثَمَرِهِ يُسَوِّدُ الشَّعْرَ، وَحَبُّهُ صَالِحٌ لِلسُّعَالِ بِمَا فِيهِ مِنْ الْحَلَاوَةِ الطَّبِيعِيَّةِ وَلَيْسَ بِضَارٍّ لِلصَّدْرِ وَلَا الرِّئَةِ. قَاطِعٌ لِلْعَطَشِ ذَاهِبٌ بِالْقَيْءِ وَلَيْسَ فِي الْأَشْرِبَةِ مَا يَعْقِلُ وَيَنْفَعُ مِنْ أَوْجَاعِ الرِّئَةِ وَالسُّعَالِ غَيْرُ شَرَابِهِ، وَإِذَا جُلِسَ فِي طَبِيخِهِ نَفَعَ مِنْ خُرُوجِ الْمَقْعَدَةِ وَالرَّحِمِ وَمِنْ اسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ، وَإِذَا صُبَّ عَلَى كَسُوَرِ الْعِظَامِ الَّتِي لَمْ تُلْحَمُ نَفَعَهَا. وَيَجْلُو قُشُورَ الرَّأْسِ وَبُثُورَهُ. وَيُمْسِكُ الشَّعْرَ الْمُتَسَاقِطَ وَيُسَوِّدُهُ إذَا دُقَّ وَرَقُهُ وَصُبَّ عَلَيْهِ مَاءٌ يَسِيرٌ وَخُلِطَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ زَيْتِ أَوْ دُهْنِ الْوَرْدِ وَضُمِّدَ بِهِ وَافَقَ الْقُرُوحَ الرَّطْبَةَ وَالنَّمِلَةَ وَالْجَمْرَةَ وَالْأَوْرَامَ الْحَارَّةَ وَالْبِئْرَةَ وَالْبَوَاسِيرَ، وَهُوَ مُدِرٌّ لِلْبَوْلِ نَافِعٌ مِنْ لَدْغِ الْمَثَانَةِ وَعَضِّ الرتيلا وَلَسْعِ الْعَقْرَبِ، وَرَقُهُ يَمْنَعُ سَيَلَانَ الْفُضُولِ إلَى الْمَعِدَةِ، وَلْيُحْذَرْ التَّحَلُّلُ بِعُرْفِهِ فَإِنَّهُ يَضُرُّ لَحْمَ الْفَمِ وَيُهَيِّجُ الدَّمَ، وَفِي خَبَرٍ ضَعِيفٍ عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ يُحَرِّكُ عِرْقَ الْجُذَامِ» ، وَمِنْ الْخَوَاصِّ أَنَّهُ إذَا اُتُّخِذَتْ حَلْقَةٌ مِثْلُ الْخَاتَمِ مِنْ قَضِيبِ الْآسِ الطَّرِيِّ وَأُدْخِلَ فِيهَا خِنْصَرُ الرَّجُلِ الَّذِي فِي أَرْنَبَتِهِ وَرَمٌ سَكَّنَهُ، وَمِنْ الْمُجَرَّبِ أَنْ يُؤْخَذَ عُودٌ مِنْ آسٍ وَيُحْرَقَ طَرَفُهُ وَيُوضَعَ عَلَى طَرَفِ الدُّمَّلِ أَوَّلَ مَا يَظْهَرُ فَإِنَّهُ لَا يَتَزَيَّدُ. وَأَمَّا الْآسُ الْمُعْتَصَرُ وَالْمُسْتَقْطَرُ فَقَطَعَ الْعَرَقَ، وَإِذَا جُفِّفَ وَرَقُهُ وَبُخِّرَتْ بِهِ الْبَوَاسِيرُ الْبَارِزَةُ أَضْمَرَهَا وَشُفِيَ مِنْهَا، وَإِنْ خُلِطَ مَعَهُ سندروس كَانَ أَقْوَى، وَإِذَا طُبِخَ حَبُّهُ فِي زَيْتِ إنْفَاقٍ وَيُدَّهَنُ بِهِ قَطَعَ الْعَرَقَ الْكَثِيرَ وَأَصْلَحَ نَسِيمَ الْعَرَقِ. وَالْآسُ يُقَوِّي الْعَيْنَ وَيَقْطَعُ دَمْعَتَهَا وَيَمْنَعُ مَا يَنْحَدِرُ إلَيْهَا إذَا طُلِيَ عَلَى الْجَبْهَةِ. (وَأَمَّا الرَّيْحَانُ غَيْرُ الْآسِ فَيُطْلَقُ عَلَى الْحَبَقِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: أَهْلُ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ يَخُصُّونَهُ بِهِ. قَالَ ابْنُ جَزْلَةَ: قِيلَ هُوَ وَرَقُ الْخِلَافِ وَهُوَ جَبَلِيٌّ وَبُسْتَانِيٌّ وَنَهْرِيٌّ، وَهُوَ نَبَاتٌ طَيِّبُ الرِّيحِ جَيِّدُ الطَّعْمِ مُرَبَّعُ السَّاقِ، وَرَقُهُ نَحْوُ وَرَقِ الْخِلَافِ: وَالْجَبَلِيُّ حَارٌّ يَابِسٌ فِي الثَّالِثَةِ، وَالْبُسْتَانِيُّ حَارٌّ فِي الثَّانِيَةِ يَابِسٌ فِي الْأُولَى، وَالنَّهَرِيُّ أَقْوَى أَنْوَاعِهِ وَهُوَ يَذْهَبُ بِنَفْخِ الْعَدَسِ وَالْبَاقِلَّا

إذَا خُلِطَ بِهِ وَيَقْطَعُ الْبَلْغَمَ، وَيُقَوِّي الْمَعِدَةَ وَيَنْفَعُ مِنْ الِاسْتِسْقَاءِ إذَا أُكِلَ مَعَ التِّينِ حَبُّهُ. وَقَالَ ابْنُ جَزْلَةَ: رَيْحَانُ هُوَ الشاهسفرم أَجْوَدُهُ الصُّغْرَى حَارٌّ فِي الْأُولَى يَابِسٌ فِي الثَّانِيَةِ، وَقِيلَ مُعْتَدِلٌ وَقِيلَ بَارِدٌ، وَهُوَ يُحَلِّلُ الْفَضَلَاتِ مِنْ الدِّمَاغِ وَيَمْلَأُ الدِّمَاغَ الْبَارِدَ بُخَارًا وَإِصْلَاحُهُ بِالنَّيْلُوفَرِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الرَّيْحَانُ الْفَارِسِيُّ الَّذِي يُسَمَّى الْحَبَقُ قِيلَ حَارٌّ يَنْفَعُ شَمُّهُ مِنْ الصُّدَاعِ الْحَارِّ إذَا رُشَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ وَيُبَرَّدُ وَيُرَطَّبُ بِالْغَرَضِ، وَقِيلَ بَارِدٌ وَقِيلَ رَطْبٌ وَقِيلَ يَابِسٌ يَجْلِبُ النَّوْمَ وَبَذْرُهُ حَابِسٌ لِلْإِسْهَالِ الصَّفْرَاوِيِّ مُقَوٍّ لِلْقَلْبِ نَافِعٌ لِلْأَمْرَاضِ السَّوْدَاوِيَّةِ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَالْغَرِيبِ: الرَّيْحَانُ كُلُّ نَبْتٍ مَشْمُومٍ طَيِّبِ الرَّائِحَةِ. وَالْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ يَطُولُ. (سُكٌّ) حَارٌّ يَابِسٌ فِي الثَّانِيَةِ نَابِضٌ مُقَوٍّ لِلْأَحْشَاءِ وَفِي الطِّيبِ مِنْهُ تَحْلِيلٌ وَتَفْتِيحٌ، وَهُوَ جَيِّدٌ لِأَوْجَاعِ الْمَفَاصِلِ، وَقِيلَ: يَزِيدُ فِي الْبَاءَةِ وَهُوَ يَعْقِلُ الطَّبْعَ إذَا ضُمِّدَ بِهِ الْبَطْنُ وَيَمْنَعُ النَّزِيفَ وَيَنْفَعُ مِنْ أَوْجَاعِ الْقَلْبِ، وَقَدْرُ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ نِصْفُ دِرْهَمٍ، وَشَمُّهُ يُصَدِّعُ الرَّأْسَ الْحَارَّ، وَيُصْلِحُهُ الْكَافُورُ. (سُنْبُلُ الطِّيبِ) حَارٌّ فِي الْأُولَى يَابِسٌ فِي الثَّانِيَةِ، وَقِيلَ: فِي أَوَّلِ الثَّالِثَةِ مُفَتِّحٌ مُحَلِّلٌ يُتَّخَذُ مِنْهُ غَسُولٌ لِلْيَدِ طَيِّبٌ وَذَرِيرَتُهُ تَمْنَعُ الْعَرَقَ وَهُوَ يُحَلِّلُ الْأَوْرَامَ وَيُقَوِّي الدِّمَاغَ وَيُثَبِّتُ أَهْدَابَ الْعَيْنَيْنِ، إذَا وَمَعَ فِي الْأَكْحَالِ وَيَنْفَعُ الْخَفَقَانَ وَيُنَقِّي الصَّدْرَ وَالرِّئَةَ وَيَفْتَحُ سَدَدَ الْكَبِدِ وَالْمَعِدَةِ وَيُقَوِّيهِمَا، وَيُطَيِّبُ النَّكْهَةَ وَيَمْنَعُ مِنْ الْيَرْقَانِ وَوَجَعِ الطِّحَالِ، وَيُمْسِكُ الطَّبْعَ، وَقَدْرُ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ دِرْهَمٌ. (الْعَنْبَرُ) حَارٌّ يَابِسٌ فِي الثَّانِيَةِ يَنْفَعُ الْمَشَايِخَ، مُلَطِّفٌ نُسْخَتُهُ تُقَوِّي الدِّمَاغَ وَالْحَوَاسَّ وَالْقَلْبَ تَقْوِيَةً عَجِيبَةً وَيَزِيدُ فِي الرُّوحِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مُقَوٍّ لِجَوْهَرِ كُلِّ رُوحٍ فِي الْأَعْضَاءِ، وَإِذَا تَبَخَّرَ بِهِ نَفَعَ مِنْ الزُّكَامِ وَالصُّدَاعِ وَالشَّقِيقَةِ الْبَارِدَةِ. وَأَجْوَدُ أَلْوَانِهِ الْأَشْهَبُ ثُمَّ الْأَزْرَقُ ثُمَّ الْأَصْفَرُ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي عُنْصُرِهِ وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الْفِقْهِ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَيَضُرُّ مَنْ يَعْتَادُهُ الْمَاشِرُ وَيُصْلِحُهُ الْكَافُورُ وَالْخِيَارُ.

(غَالِيَةٌ) تُلَيِّنُ الْأَوْرَامَ الصُّلْبَةَ وَمَعَ دُهْنِ الْبَانِ تُقَطَّرُ فِي الْأُذُنِ الْوَجِعَةِ وَشَمُّهَا يَنْفَعُ الْمَصْرُوعَ وَيُنْعِشُهُ وَلِلْمَسْكُوتِ، وَتُسَكِّنُ الصُّدَاعَ الْبَارِدَ وَشَمُّهَا يُفْرِحُ الْقَلْبَ وَيَنْفَعُ مِنْ أَوْجَاعِ الرَّحِمِ الْبَارِدَةِ حُمُوًّا وَمِنْ أَوْرَامِهَا الصُّلْبَةِ وَالْبَلْغَمِيَّةِ وَتُدِرُّ الْحَيْضَ وَتَنْفَعُ مِنْ اخْتِنَاقِ الرَّحِمِ وَيُنَقِّيهَا وَيُهَيِّئُهَا لِلْحَبَلِ وَهِيَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ مِسْكٍ وَسُكٍّ وَمِثْلِ نِصْفِ الْمِسْكِ عَنْبَرٌ وَيُخْلَطُ الْجَمِيعُ بِدُهْنِ بَانٍ أَوْ دُهْنِ النَّيْنُوفَرِ وَالْعُودُ قَرِيبٌ مِنْهُ وَمِزَاجُهُ أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ وَيَضُرُّ شَمُّهُ بِأَمْرَاضِ الدِّمَاغِ الْحَارِّ وَمَضْغُهُ يُطَيِّبُ النَّكْهَةَ وَيُفْرِحُ الْقَلْبَ، وَأَجْوَدُهُ الْهِنْدِيُّ ثُمَّ الصِّينِيُّ ثُمَّ الْقَمَارِيّ بِفَتْحِ الْقَافِ ثُمَّ الْمَذَرِيُّ وَأَجْوَدُهُ الْأَسْوَدُ وَالْأَزْرَقُ الصُّلْبُ، وَأَقَلُّهُ جَوْدَةً مَا خَفَّ وَطَفَا عَلَى الْمَاءِ وَفِي خَلْطِ الْكَافُورِ بِهِ إصْلَاحُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ وَفِي التَّبَخُّرِ وَهُوَ التَّجَمُّرُ مُرَاعَاةُ جَوْهَرِ الْهَوَاءِ وَإِصْلَاحُهُ. فَإِنَّ فِي صَلَاحِهِ صَلَاحَ الْبَدَنِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي الْعُودِ قَرِيبًا فِي فَصْلٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ. (الْفَاغِيَةُ) وَالْفَغْوُ نَوْرُ الْحِنَّاءِ وَأَفْغَى النَّبَاتُ أَيْ خَرَجَتْ فَاغِيَتُهُ، رَوَى الْبَيْهَقِيّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ «كَانَ أَحَبُّ الرَّيَاحِينِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْفَاغِيَةَ» ، وَرُوِيَ فِيهِ أَيْضًا عَنْ بُرَيْدَةَ يَرْفَعُهُ «سَيِّدُ الرَّيَاحِينِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الْفَاغِيَةُ» وَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ قَرِيبًا فِي فَصْلٍ عَنْ سَلْمَانَ. (زَبَّادُ) حَارٌّ فِي الثَّالِثَةِ مُعْتَدِلٌ فِي الرُّطُوبَةِ مُحَلِّلٌ يَنْفَعُ لِلصُّدَاعِ الْبَارِدِ وَيُسَكِّنُ وَجَعَ الْأُذُنِ وَيَنْفَعُ مِنْ الْبَوْلِ الْعَارِضِ فِي الْفِرَاشِ مَحْلُولًا بِدُهْنِ بَنَفْسَجٍ أَوْ يُعْمَلُ عَلَى وَرِقِهِ مَقْشُورَةُ فَتِيلَةٍ وَتُحْمَلُ فِي الْقَضِيبِ، وَإِذَا أُمْسِكَ فِي الْفَمِ جَفَّفَ الْمَنِيَّ وَقِيلَ يُلَذِّذُ الْجِمَاعَ طِلَاءً، وَفِي عُنْصُرِهِ خِلَافٌ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ. (زَعْفَرَانٌ) حَارٌّ فِي الثَّانِيَةِ يَابِسٌ فِي الْأُولَى فِيهِ قَبْضٌ وَهُوَ مُحَلِّلٌ مُنْضِجٌ يُصْلِحُ الْعُفُونَةَ وَالْبَلْغَمَ وَيُقَوِّي الْأَحْشَاءَ وَيُحَسِّنُ اللَّوْنَ وَيَجْلُو الْبَصَرَ وَالْغِشَاوَةَ

وَيُكْتَحَلُ بِهِ لِلزُّرْقَةِ الْمُكْتَسَبَةِ فِي الْأَمْرَاضِ وَيُقَوِّي الْقَلْبَ وَيُفْرِحُهُ وَيُنَوِّمُ صَاحِبَ الشَّقِيقَةِ وَيُهَيِّجُ الْبَاهَ، يُدِرُّ الْبَوْلَ، وَيُسَهِّلُ الْوِلَادَةَ إذَا شُرِبَ بِمُحِّ الْبَيْضِ، وَيُنْفِذُ الْأَدْوِيَةَ الَّتِي يُخْلَطُ بِهَا إلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ مِنْهُ إلَى دِرْهَمٍ، وَهُوَ مُصَدِّعٌ مُضِرٌّ بِالرَّأْسِ مُنَوِّمٌ مُظْلِمٌ لِلْحَوَاسِّ، وَيُسْقِطُ الشَّهْوَةَ وَيُغْثِي وَيَضُرُّ بِالرِّئَةِ وَيُصْلِحُهُ الْأَيْنِيسُونَ وَيُقَالُ ثَلَاثَةُ مَثَاقِيلَ مِنْهُ تَقْتُلُ بِالتَّفْرِيحِ. «وَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمُزَعْفَرِ لِلرَّجُلِ» قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. وَقِيلَ يُكْرَهُ وَقِيلَ لَا، نَقَلَهُ الْجَمَاعَةُ عَنْ أَحْمَدَ. وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ «مِلَاطُهَا الْمِسْكُ الْأَذْفَرُ وَتُرَابُهَا الزَّعْفَرَانُ» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ «مِسْكٌ أَذْفَرُ» الْمِلَاطُ الطِّينُ الَّذِي يُجْعَلُ بَيْنَ شَافَّتِي الْبِنَاءِ يُمَلَّطُ بِهِ الْحَائِطُ وَالذَّفَرُ بِالتَّحْرِيكِ كُلُّ رِيحٍ ذَكِيَّةٍ مِنْ طِيبٍ أَوْ دُهْنٍ يُقَالُ مِسْكٌ أَذْفَرُ بَيِّنُ الذَّفَرِ وَقَدْ ذَفِرَ بِالْكَسْرِ يَذْفَرُ، وَرَوْضَةٌ ذَفِرٌ، وَالذَّفَرُ الصُّنَانُ وَهَذَا رَجُلٌ ذَفِرٌ أَيْ لَهُ صُنَانٌ وَخُبْثُ رِيحٍ. (الْقُرُنْفُلُ) حَارٌّ يَابِسٌ فِي الثَّانِيَةِ يُطَيِّبُ النَّكْهَةَ وَيَحِدُّ الْبَصَرَ وَيُقَوِّي الْكَبِدَ وَرَائِحَتُهُ تُقَوِّي الدِّمَاغَ الْبَارِدَ وَهُوَ مُفْرِحٌ. قَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ مُقَوٍّ لِلْمَعِدَةِ وَالدِّمَاغِ وَالْقَلْبِ وَيَنْفَعُ مِنْ الْقَيْءِ وَالْغَثَيَانِ وَقَدْرُ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ إلَى دِرْهَمٍ. (كَافُورٌ) بَارِدٌ يَابِسٌ فِي الثَّالِثَةِ يَمْنَعُ الْأَوْرَامَ الْحَادَّةَ وَالرُّعَافَ مَعَ عَصِيرِ الْبَنْجِ أَوْ مَاءِ الْبَاذَرُوجِ وَيَنْفَعُ الصُّدَاعَ الْحَارَّ وَيُقَوِّي حَوَاسَّ الْمَحْرُورِينَ وَيَنْفَعُ فِي أَدْوِيَةِ الرَّمَدِ الْحَارَّةِ، وَدَانَقٌ مِنْهُ يَنْفَعُ مِنْ الْوَرَمِ الْحَارِّ وَدِرْهَمٌ مِنْهُ يُخَلِّصُ مِنْ مَضَرَّةِ الْعَقْرَبِ الْحَرَّارَةِ مَعَ مَاءِ التُّفَّاحِ الْحَامِضِ، وَالْإِكْثَارُ مِنْهُ يُسْرِعُ الشَّيْبَ وَيَقْطَعُ الْبَاءَةَ، وَيُوَلِّدُ حَصَاةَ الْكُلَى وَالْمَثَانَةِ، وَشَمُّهُ يُسَهِّرُ

فِي الْحُمَّيَاتِ: وَيُصْلِحُهُ الْبَنَفْسَجُ وَالنَّيْلُوفَرُ، وَيُجْعَلُ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ يُطَيِّبُ وَيُصَلِّبُ وَيُبَرِّدُ فَلَا يُسْرِعُ الْفَسَادُ. (النَّيْلُوفَرُ) بَارِدٌ رَطْبٌ فِي الثَّانِيَةِ بَرْدُهُ أَكْثَرُ مِنْ الْبَنَفْسَجِ، وَقِيلَ بَارِدٌ فِي الثَّالِثَةِ أَصْلُهُ يَنْفَعُ إذَا جُعِلَ عَلَى الْبَهَقِ بِالْمَاءِ، وَمِنْ الْأَوْرَامِ الْحَادَّةِ ضِمَادًا وَبَزْرُهُ يَمْنَعُ النَّزْفَ، وَإِذَا غُلِيَ وَصُبَّ عَلَى رَأْسِ مَنْ نَالَهُ حَرَارَةٌ نَفَعَهُ. قَالَ ابْنُ سِينَا فِي كِتَابِ الْأَدْوِيَةِ الْقَلْبِيَّةِ النَّيْلُوفَرُ يَقْرُبُ فِي أَحْكَامِهِ مِنْ الْكَافُورِ إلَّا أَنَّهُ أَرْطَبُ مِنْهُ وَرُطُوبَتُهُ لِكَثْرَتِهَا تُحْدِثُ لِجَوْهَرِ الرُّوحِ الَّذِي فِي الدِّمَاغِ كَلَالًا وَفُتُورًا إلَّا أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إلَى تَرْطِيبٍ وَتَبْرِيدٍ لِيَعْتَدِلَ وَيُعْدَلُ بَرْدُهُ بِالدَّارِ صِينِيٍّ. وَقَالَ غَيْرُهُ يَقْرَبُ مِنْ الْكَافُورِ الصَّنْدَلُ وَهُوَ بَارِدٌ فِي آخِرِ الثَّانِيَةِ، وَقِيلَ فِي الثَّالِثَةِ يَابِسٌ فِي الثَّانِيَةِ يَنْفَعُ مِنْ الصُّدَاعِ وَالْخَفَقَانِ الْعَارِضِ فِي الْحُمَّيَاتِ الْحَادَّةِ وَلِلْكَبِدِ الْحَارَّةِ وَلِلْفَمِ الْحَارِّ وَالْمُحَرَّكُ مِنْهُ يُفِيدُ الْحَكَّ يَسِيرَ حَرَارَةٍ كَمَا يَسْتَفِيدُ الدَّقِيقُ مِنْ الْعَجْنِ وَإِنْ خُلِطَ مَعَ الْأَدْوِيَةِ الْمَشْرُوبَةِ لِتَقْوِيَةِ الْمَعِدَةِ وَالْكَبِدِ وَتَبْرِيدِهِمَا نَفَعَ وَيَضُرُّ بِالصَّوْتِ وَيُصْلِحُهُ الْجُلَّابُ وَأَجْوَدُهُ الْمُقَاصِرِيُّ وَقِيلَ الْأَبْيَضُ مِنْهُ أَقْوَى مِنْ الْأَحْمَرِ، وَقِيلَ أَضْعَفُ وَالْأَحْمَرُ بَارِدٌ يَابِسٌ فِي الثَّانِيَةِ وَقِيلَ بَارِدٌ فِي الثَّالِثَةِ يَمْنَعُ مِنْ انْصِبَابِ الْمَوَادِّ وَيُحَلِّلُ الْأَوْرَامَ الْحَادَّةَ وَيُطْلَى عَلَى الْحُمْرَةِ وَيَنْفَعُ الصُّدَاعَ. (لُبَانٌ) الَّذِي يُقَالُ لَهُ حَصَى لُبَانٍ وَهُوَ الْكُنْدُرُ حَارٌّ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ يَابِسٌ فِي الْأُولَى وَقِيلَ فِي الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا يَنْفَعُ مِنْ قَذْفِ الدَّمِ وَنَزْفِهِ وَيَحْبِسُ الْقَيْءَ وَمِنْ وَجَعِ الْمَعِدَةِ وَاسْتِطْلَاقِ الْبَطْنِ وَيَهْضِمُ الطَّعَامَ وَيَطْرُدُ الرِّيَاحَ وَيَجْلُو قُرُوحَ الْعَيْنِ وَيُنْبِتُ اللَّحْمَ فِي سَائِرِ الْقُرُوحِ وَيُقَوِّي الْمَعِدَةَ الضَّعِيفَةَ وَيُسَخِّنُهَا وَيُجَفِّفُ الْبَلْغَمَ وَيُنَشِّفُ رُطُوبَاتِ الصَّدْرِ وَيَجْلُو ظُلْمَةَ الْبَصَرِ وَيَمْنَعُ الْقُرُوحَ الْخَبِيثَةَ مِنْ الِانْتِشَارِ وَفِيهِ قَبْضٌ يَسِيرٌ وَهُوَ أَفْضَلُ الْعِلْكِ وَإِذَا مُضِغَ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ الصَّعْتَرِ الْفَارِسِيِّ جَلَبَ الْبَلْغَمَ وَنَفَعَ مِنْ اعْتِقَالِ اللِّسَانِ وَيَزِيدُ فِي الذِّهْنِ وَيُذْكِيهِ وَإِنْ بُخِّرَ بِهِمَا نَفَعَ مِنْ الْوَبَاءِ وَطَيَّبَ رَائِحَةَ الْهَوَاءِ. وَيُرْوَى فِي خَبَرٍ ضَعِيفٍ أَوْ مَوْضُوعٍ عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ بَخِّرُوا بُيُوتَكُمْ بِاللُّبَانِ» وَهُوَ يُجَوِّدُ الْحِفْظَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ شَكَا إلَيْهِ

النِّسْيَانَ عَلَيْك بِاللُّبَانِ فَإِنَّهُ يُشَجِّعُ الْقَلْبَ وَيَذْهَبُ بِالنِّسْيَانِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ شُرْبَهُ مَعَ السُّكَّرِ عَلَى الرِّيقِ جَيِّدٌ لِلْبَوْلِ وَالنِّسْيَانِ، وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ شَكَا إلَيْهِ رَجُلٌ النِّسْيَانَ فَقَالَ: عَلَيْكَ بِالْكُنْدُرِ انْقَعْهُ مِنْ اللَّيْلِ ثُمَّ اشْرَبْهُ عَلَى الرِّيقِ فَإِنَّهُ جَيِّدٌ لِلنِّسْيَانِ وَهَذَا إذَا كَانَ النِّسْيَانُ حَدَثَ مِنْ الْبَلْغَمِ الرَّطْبِ الَّذِي يَرْبِطُ مُقَدَّمَ الدِّمَاغِ وَيَمْنَعُهُ مِنْ قَبُولِ مَا يُودِعهُ فِيهِ فَيَبْقَى كَالشَّمْعِ الذَّائِبِ وَلَا يَقْبَلُ الطَّابَعَ وَيَنْفَعُ فِيهِ شَمُّ الْمِسْكِ وَالْمَرْزَنْجُوشِ وَجَمِيعِ الطِّيبِ الْحَارِّ وَالتَّغَذِّي فِيهِ بِمَاءِ الْحَمْضِ مَعَ الْخَرْدَلِ وَالْحَسَاءِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ اللَّوْزِ مَعَ الْعَسَلِ وَيُسْتَعْمَلُ فِيهِ الِانْكِبَابُ عَلَى الْمِيَاهِ اللَّطِيفَةِ الْمُحَلِّلَةِ كَمَاءِ الْبَابُونَجِ وَالْمَرْزَنْجُوشِ، وَلِلْكُنْدُرِ خَاصِّيَّةٌ فِي تَجْفِيفِ الدِّمَاغِ وَقُوَّتِهِ وَالزِّيَادَةِ فِي الْحِفْظِ وَكَذَا الزَّنْجَبِيلُ الْمُرَبَّى وَيَزِيدُ فِي الْحِفْظِ وَجَوْهَرِ الدِّمَاغِ وَقُوَّتِهِ بِخَاصِّيَّةٍ فِيهِ. (النَّارْجِيلُ) وَهُوَ جَوْزُ الْهِنْدِ وَمَرَقَةُ الدَّجَاجِ وَلَحْمُهَا وَاَلَّذِي يَضُرُّ الذِّهْنَ الْكُسْفُرَةُ الرَّطْبَةُ وَالتُّفَّاحُ الْحَامِضُ وَلَمْ يَقُلْ بَعْضُهُمْ الْحَامِضُ وَإِدْمَانُ السُّكَّرِ وَكَثْرَةُ الْهَمِّ وَالْفِكْرِ وَالْغَمِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَالنَّظَرُ فِي الْمَاءِ الْوَاقِفِ وَالْبَوْلُ فِيهِ وَالنَّظَرُ إلَى الْمَصْلُوبِ، وَقِرَاءَةُ أَلْوَاحِ الْقُبُورِ، وَالْمَشْيُ بَيْنَ جَمَلَيْنِ مَقْطُورَيْنِ، وَإِلْقَاءُ الْقَمْلِ بِالْحَيَاةِ وَحِجَامَةُ النُّقَرَةِ، وَأَكْلُ سُؤْرِ الْفَأْرِ وَيَكُونُ النِّسْيَانُ مِنْ السَّوْدَاءِ الَّتِي تُيَبِّسُ الدِّمَاغَ وَتُجَفِّفُهُ فَلَا يَقْبَلُ مَا يُودَعُ فِيهِ مِثْلُ الشَّمْعِ الشَّدِيدِ الْيُبْسِ وَالتَّغَذِّي بِلُحُومِ الدَّجَاجِ وَالْجِدَاءِ وَالْخِرْفَانِ وَمَرَقِهِمَا نَافِعٌ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: النِّسْيَانُ عَنْ يُبْسٍ يَتْبَعُهُ سَهَرٌ، وَحِفْظٌ لِلْأُمُورِ الْمَاضِيَةِ دُونَ الْحَالِيَّةِ، وَالنِّسْيَانُ عَنْ رُطُوبَةٍ بِالْعَكْسِ. (مَرْزَنْجُوشُ) وَيُسَمَّى الْمَرْدَقُوشَ، يَابِسٌ فِي الثَّانِيَةِ وَقِيلَ فِي الرَّابِعَةِ وَقِيلَ فِي الثَّالِثَةِ مُلَطِّفٌ يَنْفَعُ مِنْ الصُّدَاعِ عَنْ بَرْدٍ وَبَلْغَمٍ وَسَوْدَاءَ وَزُكَامٍ وَرِيَاحٍ غَلِيظَةٍ، وَيَفْتَحُ السَّدَدَ الْحَادِثَةَ فِي الرَّأْسِ وَالْمَنْخَرَيْنِ وَيُحَلِّلُ أَكْثَرَ

الْأَوْرَامَ وَالْأَوْجَاعَ الْبَارِدَةَ الرَّطْبَةَ، وَإِذَا اُحْتُمِلَ آدَر الطَّمْثَ وَأَعَانَ عَلَى الْحَبَلِ، وَإِذَا طُلِيَ مَاؤُهُ عَلَى الْعُضْوِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْحَجْمِ مَنَعَ الْآثَارَ الْحَادِثَةَ عَنْ الشَّرْطِ بَعْدَ الْحَجْمِ وَيُطْلَى يَابِسُهُ عَلَى الدَّمِ وَاخْضِرَارُهُ وَخُصُوصًا تَحْتَ الْعَيْنِ فَيُحَلِّلُهُ وَطَبِيخُهُ يَنْفَعُ مِنْ الِاسْتِسْقَاءِ وَخَمْسَةُ دَرَاهِمَ مِنْهُ يَنْفَعُ مِنْ الشَّرَى الْبَلْغَمِيِّ وَهُوَ يَنْفَعُ مِنْ عُسْرِ الْبَوْلِ وَالْحَيْضِ، وَيُضَمَّدُ بِهِ لَسْعُ الْعَقْرَبِ مَعَ الْخَلِّ، وَدُهْنُهُ نَافِعٌ لِوَجَعِ الظَّهْرِ وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَيَذْهَبُ بِالْإِعْيَاءِ وَمَنْ أَدَمْنَهُ شَهْرًا يَنْزِلُ فِي عَيْنَيْهِ الْمَاءُ وَإِذَا اسْتَعَطَ بِمَائِهِ مَعَ دُهْنِ اللَّوْزِ الْمُرِّ فَتَحَ سَدَدَ الْمَنْخَرَيْنِ وَنَفَعَ مِنْ الرِّيحِ الْعَارِضَةِ فِيهِمَا وَفِي الرَّأْسِ، وَذَكَرَ حُنَيْنٌ أَنَّهُ يَضُرُّ بِالْمَثَانَةِ وَأَنَّهُ يُصْلِحُهُ بَزْرُ الْبَقْلَةِ الْحَمْقَاءِ. (الْمِسْكُ) قَالَ تَعَالَى: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} [المطففين: 25] {خِتَامُهُ مِسْكٌ} [المطففين: 26] وَهُوَ حَارٌّ يَابِسٌ فِي الثَّانِيَةِ وَقِيلَ فِي الثَّالِثَةِ، وَيَسُرُّ النَّفْسَ وَيُقَوِّي الْأَعْضَاءَ الْبَاطِنَةَ جَمِيعًا شُرْبًا وَشَمًّا وَالظَّاهِرَةَ إذَا وُضِعَ عَلَيْهَا نَافِعٌ لِلْمَشَايِخِ وَالْمَبْرُودِينَ لَا سِيَّمَا زَمَنَ الشِّتَاءِ جَيِّدٌ لِلْغَشْيِ وَالْخَفَقَانِ وَضَعْفِ الْقُوَّةِ بِإِنْعَاشَةِ لِلْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ وَيَجْلُو بَيَاضَ الْعَيْنِ وَيُنَشِّفُ رُطُوبَتَهَا وَيُنَفِّسُ الرِّيَاحَ مِنْهَا وَمِنْ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ وَيُبْطِلُ عَمَلَ السُّمُومِ، وَيَنْفَعُ مِنْ نَهْشِ الْأَفَاعِي وَيُوَصِّلُ الْأَدْوِيَةَ إلَى دَاخِلِ طَبَقَاتِ الْعَيْنِ وَيُقَوِّي الْقَلْبَ وَيُفْرِحُ وَيُذْكِي وَشَمُّهُ يَضُرُّ بِالدِّمَاغِ الْحَارِّ وَيُورِثُ الصُّفَارَ وَيُصْلِحُهُ الْكَافُورُ. وَذَكَرَ ابْنُ جَزْلَةَ وَغَيْرُهُ أَنَّ مِنْ خَوَاصِّهِ أَنَّهُ يُبَخِّرُ الْفَمَ إذَا وَقَعَ فِي الطَّبِيخِ وَهُوَ أَطْيَبُ الطِّيبِ كَمَا سَبَقَ عَنْ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِهَذَا كَانَ هُوَ الْمَذْكُورَ فِي أَخْبَارِ صِفَةِ الْجَنَّةِ فَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ «تُرَابُهَا الْمِسْكُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ «وَطِينُ نَهْرِ الْكَوْثَرِ الْمِسْكُ الْأَذْفَرُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي خَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي سُوقِ الْجَنَّةِ «وَيَجْلِسُ أَدْنَاهُمْ وَمَا فِيهِمْ دَنِيٌّ عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ وَالْكَافُورِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ غَرِيبٌ، وَمَنْ

قَدَّمَ مِنْ الْأَطِبَّاءِ الْعَنْبَرَ عَلَى الْمِسْكِ فَقَدْ أَخْطَأَ وَكَوْنُ الْعَنْبَرِ لَا يَتَغَيَّرُ عَلَى طُولِ الزَّمَانِ فَهُوَ كَالذَّهَبِ فَهَذِهِ خَاصِّيَّةٌ وَاحِدَةٌ لِلْعَنْبَرِ لَا تُقَاوِمُ مَا فِي الْمِسْكِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (مَيْعَةٌ) فِيهَا قَبْضٌ وَتَجْفِيفٌ حَارَّةٌ يَابِسَةٌ وَقِيلَ رَطْبَةٌ تُسَخَّنُ وَتُلَيَّنُ وَتُنْضَحُ، وَقِيلَ تُنَقِّي الدِّمَاغَ وَتَنْفَعُ الْجُذَامَ، وَتُمْسِكُ الطَّبْعَ، يُؤْخَذُ مِنْهَا إلَى مِثْقَالٍ، وَتَنْفَعُ مِنْ السُّعَالِ، وَالزُّكَامِ، وَالنَّزَلَاتِ، وَالْبُحُوحَةِ مِنْ رُطُوبَةٍ وَتَحْدُرُ الْحَيْضَ شُرْبًا وَحَمْلًا وَهِيَ مُصَّدِّعَةٌ، وَقِيلَ تَضُرُّ بِالرِّئَةِ وَيُصْلِحُهَا الْمُصْطَكَا. (نَدٌّ) يُسَخَّنُ وَإِذَا بُخِّرَ بِهِ وَالْبَخُورُ بِهِ يُقَوِّي الْقَلْبَ وَيَنْفَعُ مِنْ السُّمُومِ وَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ عُودٍ هِنْدِيٍّ وَمِسْكٍ وَعَنْبَرٍ يُعْجَنُ بِهِمَا وَقَدْ يُعْمَلُ مِنْ عَنْبَرٍ وَمِسْكٍ وَقَدْ يُضَمُّ إلَى ذَلِكَ الْكَافُورُ. (نَرْجِسُ) يُرْوَى فِيهِ وَفِي الْمَرْزَنْجُوشِ وَالْبَنَفْسَجِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَا يَصِحُّ وَبَعْضُهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَهُوَ فِي مَوْضُوعَاتِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ وَالنِّرْجِسُ مُعْتَدِلٌ فِي الْحَرِّ وَالْيُبْسِ يُلَطِّفُ وَقِيلَ حَارٌّ يَابِسٌ فِي الثَّانِيَةِ وَقِيلَ فِي الثَّالِثَةِ فِيهِ تَحْلِيلٌ قَوِيٌّ وَيَنْفَعُ الزُّكَامَ الْبَارِدَ وَيَفْتَحُ سُدَدَ الدِّمَاغِ وَالْمَنْخَرَيْنِ وَيَنْفَعُ مِنْ الصُّدَاعِ عَنْ رُطُوبَةٍ أَوْ سَوْدَاءَ وَيُصَدِّعُ الرُّءُوسَ الْحَارَّةَ، وَيُصْلِحُهُ الْبَنَفْسَجُ أَوْ الْكَافُورُ. وَأَصْلُهُ وَهُوَ بَصَلٌ يُدْمِلُ الْقُرُوحَ الْغَائِرَةَ إلَى الْعَصَبِ وَلَهُ قُوَّةٌ جَالِيَةٌ جَاذِبَةٌ تَجْذِبُ مِنْ الْقَمَرِ وَيَجْلُو وَيُخْرِجُ الشَّوْكَ وَيَجْلُو الْكَلَفَ وَيَنْفَعُ مِنْ دَاءِ الثَّعْلَبِ وَيُهَيِّجُ الدينلات، وَأَكْلُهُ يُهَيِّجُ الْقَيْءَ وَيَجْذِبُ الرُّطُوبَةَ مِنْ قَعْرِ الْبَدَنِ وَالْمُحْدَقُ مِنْهُ إذَا شُقَّ بَصَلُهُ صَلِيبًا وَغُرِسَ صَارَ مُضَاعَفًا وَمَنْ أَدَمْنَ شَمَّهُ فِي الشِّتَاءِ أَمِنَ الْبِرْسَامَ فِي الصَّيْفِ، وَفِيهِ مِنْ الْعِطْرِيَّةِ مَا يُقَوِّي الْقَلْبَ وَالدِّمَاغَ وَقَالَ صَاحِبُ التَّيْسِيرِ شَمُّهُ يَذْهَبُ بِصَرْعِ الصِّبْيَانِ. (وَرْدٌ) مُرَكَّبٌ مِنْ جَوْهَرَيْنِ مَائِيٍّ وَأَرْضِيٍّ فِيهِ حَرَافَةٌ وَقَبْضٌ وَمَرَارَةٌ وَمَرَارَتُهُ تَقِلُّ إذَا يَبِسَ، بَارِدٌ فِي الْأُولَى يَابِسٌ فِي أَوَّلِ الثَّانِيَةِ وَقِيلَ فِي الثَّالِثَةِ

مُتَوَسِّطٌ فِي الْغِلَظِ وَاللَّطَافَةِ، تَجْفِيفُهُ أَقْوَى مِنْ قَبْضِهِ، يُقَوِّي الْأَعْضَاءَ الْبَاطِنَةَ وَاللِّثَةَ وَالْأَسْنَانَ وَيُصْلِحُ نَتَنَ الْعَرَقِ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِي الْحَمَّامِ وَيَقْطَعُ الثَّآلِيلَ. وَإِذَا اُسْتُعْمِلَ مَسْحُوقًا يَنْفَعُ مِنْ الْقُرُوحِ وَالسُّجُوحِ فِي الْمُعَلَّى وَيُنْبِتُ اللَّحْمَ فِي الْقَرْحَةِ الْعَمِيقَةِ، مُسَكِّنٌ لِلصُّدَاعِ الْحَارِّ، مُهَيِّجٌ لِلزُّكَامِ وَالْعِطَاشِ وَأَقْمَاعُهُ تَنْفَعُ مِنْ نَفْثِ الدَّمِ وَهُوَ نَافِعٌ لِلْكَبِدِ وَالْمَعِدَةِ. وَيُسَكِّنُ أَوْجَاعَ السَّفْلِ طِلَاءً بِرِيشَةٍ وَيُحْتَقُّ بِطِّيخُهُ لِقُرُوحِ الْأَمْعَاءِ، وَالطَّرِيُّ مِنْهُ يُسْهِلُ. عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِنْهُ عَشَرَةُ مَجَالِسَ، وَثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ مِنْهُ تَنْفَعُ مِنْ حَرَارَةِ حُمَّى الرَّبِيعِ، وَيَابِسُهُ لَا يُسَهِّلُ، وَإِذَا طُبِخَ مَعَ الْعَدَسِ وَضُمِّدَتْ بِهِ الْمَعِدَةُ نَفَعَ قُرُوحَهَا وَإِذَا أُمْسِكَ فِي الْفَمِ نَفَعَ مِنْ النَّتْنِ وَالْقِلَاعِ لَا سِيَّمَا إذَا خُلِطَ مَعَهُ الْعَدَسُ. وَالْكَافُورُ، وَشَمُّ الطَّرِيِّ يُقَوِّي الدِّمَاغَ وَالْقَلْبَ وَهُوَ يَقْطَعُ شَهْوَةَ الْبَاهِ إذَا اُضْطُجِعَ عَلَى الْمَفْرُوشِ مِنْهُ أَوْ أُكِلَ لِتَبْرِيدِهِ وَتَجْفِيفِهِ، وَمَاءُ الْوَرْدِ بَارِدٌ وَقِيلَ حَارٌّ يَشُدُّ اللِّثَةَ وَيُسَكِّنُ وَجَعَ الْعَيْنِ مِنْ حَرَارَةٍ وَإِذَا تَجَرَّعَ مِنْهُ نَفَعَ مِنْ الْغَشْيِ وَنَفْثِ الدَّمِ وَقَوِيٌّ لِلْقُوَّةِ وَآلَاتِهَا، وَالْمَعِدَةِ خَشِنُ الصَّدْرِ وَيُصْلِحُهُ نَبَاتُ الْجُلَّابِ مِنْ الْوَرْدِ نَوْعٌ حَارٌّ مُحْرِقٌ. (وَرْدٌ صِينِيٌّ) وَهُوَ وَرْدُ النِّسْرِينِ هُوَ كَالْيَاسَمِينِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَضْعَفَ مِنْهُ وَدَهْنُهُ كَدُهْنِ النِّرْجِسِ وَهُوَ حَارٌّ يَابِسٌ فِي الْأُولَى وَقِيلَ فِي الثَّالِثَةِ مُنَقٍّ مُلَطِّفٌ يَنْفَعُ مِنْ بَرْدِ الْعَصَبِ وَيَقْتُلُ الدِّيدَانَ فِي الْأُذُنِ وَيَنْفَعُ مِنْ طَنِينِهَا وَدَوِيِّهَا وَيَفْتَحُ سَدَدَ الْمِنْخَرَيْنِ وَيُسَكِّنُ الْقَيْءَ وَالْفَوَاقَ. (وَرْدُ الْخِلَافِ) وَوَرْدُ التُّفَّاحِ وَوَرْدُ الْكُمَّثْرَى وَوَرْدُ السَّفَرْجَلِ بَارِدٌ يُقَوِّي الْقَلْبَ وَالدِّمَاغَ (وَرْدُ الْجُورِيِّ) أَجْوَدُهُ الْأَصْفَرُ حَارٌّ فِي الْأُولَى مُعْتَدِلٌ فِي الْيُبْسِ مُلَطِّفٌ مُحَلِّلٌ شَمُّهُ يَنْفَعُ الدِّمَاغَ الْبَارِدَ. الرَّطْبُ يُحَلِّلُ الرِّيَاحَ الْغَلِيظَةَ وَمَاؤُهُ الْمَطْبُوخُ إذَا شُرِبَ أَدَرَّ الْحَيْضَ وَأَسْقَطَ الْمَشِيمَةَ وَيُحَلِّلُ أَوْرَامَ الرَّحِمِ إذَا طُلِيَ عَلَى الْعَانَةِ.

(لَاذَنُ) هُوَ رُطُوبَةٌ تَتَعَلَّقُ بِشَعْرِ الْمِعْزَى وَلِحَاهَا إذَا رَعَتْ نَبَاتًا مَعْرُوفًا يَقَعُ عَلَيْهِ طَلٌّ وَتَرْتَكِمُ عَلَيْهِ نَدَاوَةٌ فَإِذَا عَلِقَ بِشَعْرِ الْمِعْزَى أُخِذَ عَنْهَا وَكَانَ اللَّاذَنُ. وَالرَّدِيءُ مِنْهُ مَا يَعْلَقُ بِأَظْلَافِهَا وَأَجْوَدُهُ الدَّسَمُ الرَّزِينُ الطَّيِّبُ الرِّيحِ الَّذِي لَوْنُهُ إلَى الصُّفْرَةِ وَهُوَ حَارٌّ فِي آخِرِ الْأُولَى وَقِيلَ فِي آخِرِ الثَّانِيَةِ رَطْبٌ وَقِيلَ يَابِسٌ وَهُوَ لَطِيفٌ جِدًّا وَفِيهِ يَسِيرُ قَبْضٍ، مُنْضِجٌ لِلرُّطُوبَاتِ الْغَلِيظَةِ اللَّزِجَةِ، وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ الْمُنْتَثِرَ وَيُكَثِّفُهُ وَيَحْفَظُهُ مَعَ دَهْنِ الْآسِ وَيُخْرِجُ الْجَنِينَ الْمَيِّتَ وَالْمَشِيمَةَ تَدْخِينًا فِي قَمْعٍ، وَإِنْ شُرِبَ بِشَرَابٍ عَقَلَ الْبَطْنَ وَأَدَرَّ الْبَوْلَ وَهُوَ يُنَقِّي الْبَلْغَمَ وَقَدْرُ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ إلَى نِصْفِ دِرْهَمٍ وَيُلَيِّنُ صَلَابَةَ الْمَعِدَةِ وَالْكَبِدِ وَيُقَوِّيهِمَا إذَا كَانَ قَدْ نَالَهُمَا ضَعْفٌ مِنْ بَرْدٍ. (يَاسَمِينٌ) وَيُقَالُ لَهُ يَاسَمُونُ وَهُوَ أَبْيَضُ وَأَصْفَرُ وَأُرْجُوَانِيٌّ، وَالْأَبْيَضُ أَسْمَنُهُ وَبَعْدَهُ الْأَصْفَرُ وَهُوَ يَابِسٌ حَارٌّ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ وَقِيلَ فِي الثَّانِيَةِ وَيُلَطِّفُ الرُّطُوبَاتِ وَيُذْهِبُ الْكَلَفَ وَيُحَلِّلُ الصُّدَاعَ الْبَلْغَمِيِّ إذَا شُمَّ وَيَنْفَعُ أَصْحَابَ اللَّقْوَةِ وَالْفَالِجِ وَيَفْتَحُ السَّدَدَ وَيَنْفَعُ مِنْ عِرْقِ النَّسَا وَكَثِيرُهُ يَنْفَعُ الطِّحَالَ وَيُوَرِّثُ الصَّفَّارَ وَرَائِحَتُهُ مُصَدِّعَةٌ وَيُصْلِحُهُ الْكَافُورُ.

فصل في عرق النساء وما ورد في دوائه

[فَصْلٌ فِي عِرْقِ النَّسَاءِ وَمَا وَرَدَ فِي دَوَائِهِ] عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «دَوَاءُ عِرْقِ النَّسَا أَلْيَةُ شَاةٍ أَعْرَابِيَّةٍ تُذَابُ ثُمَّ تُجَزَّأُ فِي ثَلَاثَةِ أَجْزَاءٍ ثُمَّ تُشْرَبُ عَلَى الرِّيقِ فِي كُلِّ يَوْمٍ جُزْءٌ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَلِأَحْمَدَ «أَلْيَةُ كَبْشٍ عَرَبِيٍّ أَسْوَدَ لَيْسَ بِالْعَظِيمِ وَلَا الصَّغِيرِ» . (عِرْقُ النَّسَا) وَجَعٌ يَبْتَدِئُ مِنْ مَفْصِلِ الْوَرِكِ وَيَنْزِلُ مِنْ خَلْفٍ عَلَى الْفَخِذِ وَرُبَّمَا امْتَدَّ عَلَى الْكَعْبِ وَكُلَّمَا طَالَتْ مُدَّتُهُ زَادَ نُزُولُهُ وَتَهْزِلُ مَعَهُ الرِّجْلُ وَالْفَخِذُ وَفِي هَذَا الْخَبَرِ تَسْمِيَةُ هَذَا الْمَرَضِ بِعِرْقِ النَّسَاءِ أَعَمُّ مِنْ النَّسَاءِ فَهُوَ مِنْ إضَافَةِ الْعَامِّ إلَى الْخَاصِّ كَكُلِّ الدِّرْهَمِ أَوْ بَعْضِهَا، وَإِنَّ النَّسَا هُوَ الْمَرَضُ الْحَالُّ بِالْعِرْقِ فَهُوَ إضَافَةُ الشَّيْءِ إلَى مَحَلِّهِ وَمَنَعَ بَعْضُهُمْ مِنْ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ وَقَالَ: النَّسَا هُوَ الْعِرْقُ نَفْسُهُ فَيَكُونُ مِنْ إضَافَةِ الشَّيْءِ إلَى نَفْسِهِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، وَقِيلَ سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَلَمَهُ يُنْسِي مَا سِوَاهُ. وَهَذَا الْخَبَرُ خِطَابٌ لِأَهْلِ الْحِجَازِ وَمَا قَارَبَهُمْ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَرَضَ يَحْدُثُ مِنْ يُبْسٍ أَوْ مَادَّةٍ غَلِيظَةٍ أَوْ لَزِجَةٍ فَعِلَاجُهَا بِالْإِسْهَالِ وَالْأَلْيَةُ فِيهَا الْخَاصَّتَانِ الْإِنْضَاجُ وَالْإِخْرَاجُ وَتَعْيِينُ الشَّاةِ بِالْأَعْرَابِيَّةِ لِقِلَّةِ فُضُولِهَا وَرَعْيِهَا نَبَاتَ الْبَرِّ الْحَارِّ كَالشِّيحِ، وَالْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ اسْتِعْمَالُ الْأَدْوِيَةِ الْمُفْرَدَةِ، وَغَالِبُ أَطِبَّاءِ الْهِنْدِ وَالرُّومِ وَالْيُونَانِ يَعْتَنُونَ بِالْمُرَكَّبَةِ وَالتَّحْقِيقُ اخْتِلَافُ الدَّوَاءِ بِاخْتِلَافِ الْغِذَاءِ فَالْعَرَبُ وَالْبَوَادِي غِذَاؤُهُمْ بَسِيطٌ فَمَرَضُهُمْ بَسِيطٌ، فَدَوَاؤُهُمْ بَسِيطٌ وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل في الشبرم

[فَصْلٌ فِي الشبرم] فَصْلٌ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا بِمَاذَا كُنْتِ تَسْتَمْشِينَ؟ قَالَتْ بِالشُّبْرُمِ قَالَ حَارٌّ حَارٌّ ثُمَّ قَالَتْ اسْتَمْشَيْت بِالسَّنَا فَقَالَ لَوْ كَانَ شَيْءٌ يَشْفِي مِنْ الْمَوْتِ لَكَانَ السَّنَا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَرَامٍ «عَلَيْكُمْ بِالسَّنَا وَالسَّنُّوتِ فَإِنَّ فِيهِمَا شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ إلَّا السَّامَ قِيلَ وَمَا السَّامُ؟ قَالَ الْمَوْتُ» بَعْضُ الْأَعْرَابِ يَقُولُونَ فِي السَّنُّوتِ تَسْمِينٌ أَيْ تَلْيِينُ الطَّبْعِ، وَيُسَمِّي الدَّوَاءَ الْمُسْهِلَ مَشْيًا عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ، وَقِيلَ لِأَنَّ الْمَسْهُولَ يُكْثِرُ الْمَشْيَ لِلْحَاجَةِ. (وَالشُّبْرُمُ) قِشْرُ عِرْقِ شَجَرَةٍ حَارٌّ يَابِسٌ فِي الرَّابِعَةِ لَمْ يَرَ الْأَطِبَّاءُ اسْتِعْمَالَهُ لِفَرْطِ إسْهَالِهِ وَهُوَ يُسْهِلُ الدَّوَاءَ وَالْكَيْمُوسَ الْغَلِيظَ وَالْمَاءَ الْأَصْفَرَ وَالْبَلْغَمَ، مُكْرِبٌ مُغِثُّ، وَالْإِكْثَارُ مِنْهُ يَقْتُلُ. وَيَنْبَغِي إذَا اُسْتُعْمِلَ أَنْ يُنْقَعَ فِي اللَّبَنِ الْحَلِيبِ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَيُغَيَّرُ عَلَيْهِ اللَّبَنُ فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَيُخْرَجُ وَيُجَفَّفُ فِي الظِّلِّ وَيُخْلَطُ مَعَهُ الْوَرْدُ وَالْكَثِيرَا أَوْ يُشْرَبُ بِمَاءِ الْعَسَلِ أَوْ عَصِيرِ الْعِنَبِ. وَالشَّرْبَةُ مِنْهُ مِنْ دَانَقَيْنِ إلَى أَرْبَعَةٍ بِحَسَبِ الْقُوَّةِ، وَقِيلَ إنَّ الشُّبْرُمَ لَا خَيْرَ فِيهِ قَتَلَ بِهَا أَطِبَّاءُ الطُّرُقَاتِ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ، وَقَوْلُهُ «حَارٌّ حَارٌّ» وَيُرْوَى «حَارٌّ بَارٌّ» . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ أَكْثَرُ كَلَامِهِمْ بِالْبَاءِ قِيلَ الْحَارُّ الشَّدِيدُ الْإِسْهَالِ، وَقِيلَ هُوَ مِنْ الِاتِّبَاعِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ تَأْكِيدُ الْأَوَّلِ مَعَ أَنَّ فِي الْحَارِّ مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ الَّذِي يَحَرُّ مَا تُصِيبُهُ لِشِدَّةِ حَرَارَتِهِ، وَأَمَّا بَارٌّ فَلُغَةٌ فِي حَارٍّ كَصِهْرِيجٍ وَصِهْرِي وَالصَّهَارِي وَالصَّهَارِيجُ أَوْ اتِّبَاعٌ. وَأَمَّا السَّنَا فَبِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ نَبْتٌ حِجَازِيٌّ أَفْضَلُهُ الْمَكِّيُّ مَأْمُونٌ حَارٌّ يَابِسٌ فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى يُسَهِّلُ الصَّفْرَاءَ وَالسَّوْدَاءَ وَيُقَوِّي جُرْمَ الْقَلْبِ، وَخَاصِّيَّتُهُ النَّفْعُ مِنْ الْوَسْوَاسِ السَّوْدَاوِيِّ وَمِنْ الشِّقَاقِ الْعَارِضِ فِي الْبَدَنِ وَيَفْتَحُ الْعَضَلَ وَانْتِشَارَ الشَّعْرِ، وَمِنْ الْقَمْلِ وَالصُّدَاعِ الْعَتِيقِ وَالْجَرَبِ وَالْبُثُورِ

وَالْحَكَّةِ وَالصَّرَعِ، وَشُرْبُ مَائِهِ مَطْبُوخًا أَصْلَحُ مِنْ شُرْبِهِ مَدْقُوقًا وَقَدْرُ الشَّرْبَةِ مِنْهُ إلَى ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ وَمِنْ مِائَةٍ إلَى خَمْسَةٍ، وَإِنْ طُبِخَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ زَهْرِ الْبَنَفْسَجِ وَالزَّبِيبِ الْأَحْمَرِ الْمَنْزُوعِ الْعَجَمِ كَانَ أَصْلَحَ، وَقِيلَ الشَّرْبَةُ مِنْهُ مِنْ أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ إلَى سَبْعَةٍ. وَأَمَّا السَّنُّوتُ فَقِيلَ الْعَسَلُ وَقِيلَ رُبُّ عُكَّةِ سَمْنٍ، وَقِيلَ الْكَمُّونَ، وَقِيلَ حَبٌّ يُشْبِهُهُ وَقِيلَ الرازيانج وَقِيلَ الشَّبِتُّ وَقِيلَ التَّمْرُ وَقِيلَ الْعَسَلُ الَّذِي يَكُونُ فِي زِقَاقِ السَّمْنِ قَالَ بَعْضُهُمْ وَهَذَا أَقْرَبُ، فَيُخْلَطُ السَّنَا مَدْقُوقًا بِعَسَلٍ مُخَالِطٍ لِسَمْنٍ ثُمَّ يُلْعَقُ لِمَا فِيهِمَا مِنْ إصْلَاحِ السَّنَا وَإِعَانَتِهِ عَلَى الْإِسْهَالِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل في خواص القسط البحري الهندي والزيت والزيتون

[فَصْلٌ فِي خَوَاصِّ الْقُسْطِ الْبَحْرِيِّ الْهِنْدِيِّ وَالزَّيْتِ وَالزَّيْتُونِ] ِ) عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «تَدَاوَوْا مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ بِالْقُسْطِ الْبَحْرِيِّ وَالزَّيْتِ» وَعَنْهُ أَيْضًا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَنْعَتُ الزَّيْتَ وَالْوَرْسَ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ» قَالَ قَتَادَةُ يَلِدُ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي يَشْتَكِيهِ. رَوَاهُمَا التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ قَالَ «وَذَاتُ الْجَنْبِ يَعْنِي السُّلَّ» وَلِأَحْمَدَ «بِالْعُودِ الْهِنْدِيِّ وَالزَّيْتِ» وَلِابْنِ مَاجَهْ «وَرْسًا قُسْطًا وَزَيْتًا» . وَذَاتُ الْجَنْبِ الْحَقِيقِيِّ عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ وَرَمٌ حَارٌّ يَعْرِضُ فِي الْغِشَاءِ الْمُسْتَبْطِنِ لِلْأَضْلَاعِ وَغَيْرُ الْحَقِيقِيِّ وَجَعٌ يُشْبِهُهُ يَعْرِضُ فِي نَوَاحِي الْجَنْبِ عَنْ رِيَاحٍ غَلِيظَةٍ مُؤْذِيَةٍ تُحْتَقَنُ بَيْنَ الصِّفَاقَاتِ وَالْوَجَعُ فِي هَذَا مَمْدُودٌ وَفِي الْحَقِيقِيِّ نَاخِسٌ. قَالَ صَاحِبُ الْقَانُونِ قَدْ يَعْرِضُ فِي الْجَنْبِ وَالصِّفَاقَاتِ وَالْعَضَلِ الَّذِي فِي الصُّدُورِ وَالْأَضْلَاعِ وَنَوَاحِيهَا أَوْرَامٌ مُوجِعَة تُسَمَّى شُوصًا وَبِرْسَامًا وَذَاتَ الْجَنْبِ وَقَدْ تَكُونُ أَوْجَاعٌ فِي هَذِهِ الْأَعْضَاءِ لَيْسَتْ مِنْ وَرَمٍ وَلَكِنْ مِنْ رِيَاحٍ غَلِيظَةٍ فَيَظُنُّ أَنَّهَا مِنْ هَذِهِ الْعِلَّةِ وَلَا يَكُونُ. قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ وَجَعٍ فِي الْجَنْبِ قَدْ يُسَمَّى ذَاتَ الْجَنْبِ اشْتِقَاقًا مِنْ مَكَانِ الْأَلَمِ لِأَنَّ مَعْنَى ذَاتِ الْجَنْبِ صَاحِبَةُ الْجَنْبِ وَالْغَرَضُ هَهُنَا وَجَعُ الْجَنْبِ فَإِذَا عَرَضَ فِي الْجَنْبِ أَلَمٌ عَنْ أَيْ سَبَبٍ كَانَ نُسِبَ إلَيْهِ، وَعَلَيْهِ حُمِلَ كَلَامُ أَبُقْرَاطَ فِي قَوْلِهِ إنَّ أَصْحَابَ ذَاتِ الْجَنْبِ يَنْتَفِعُونَ بِالْحَمَّامِ قِيلَ الْمُرَادُ بِهِ كُلُّ مَنْ بِهِ وَجَعُ جَنْبٍ أَوْ وَجَعُ رِثَّةٍ مِنْ سُوءِ مِزَاجٍ أَوْ مِنْ أَخْلَاطٍ غَلِيظَةٍ أَوْ لَذَّاعَةٍ مِنْ غَيْرِ وَرَمٍ وَلَا حُمَّى. قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَاتِ الْجَنْبِ فِي لُغَةِ الْيُونَانِ وَرَمُ الْجَنْبِ الْحَادِّ أَوْ وَرَمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَعْضَاءِ الْبَاطِنَةِ وَيَلْزَمُ ذَاتَ الْجَنْبِ الْحَقِيقِيِّ وَالسُّعَالُ وَالْوَجَعُ النَّاخِسُ وَضِيقُ النَّفَسِ وَالنَّبْضِ الْمُتَسَاوِي وَالْعِلَاجُ الْمَوْجُودُ وَلَيْسَ هَذَا مُرَادُ

الْحَدِيثِ بَلْ الْكَائِنُ عَنْ الرِّيحِ الْغَلِيظَةِ فَإِنَّ الْقُسْطَ الْبَحْرِيَّ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَهُوَ الْعُودُ الْهِنْدِيُّ إذَا دُقَّ نَاعِمًا وَخُلِطَ بِهِ الزَّيْتُ الْمُسَخَّنُ وَدُلِكَ بِهِ مَكَانُ الرِّيحِ الْمَذْكُورِ أَوْ لُعِقَ كَانَ دَوَاءً مُوَافِقًا لِذَلِكَ نَافِعًا مُحَلِّلًا مُقَوِّيًا لِلْأَعْضَاءِ الْبَاطِنَةِ وَيَطْرُدُ الرِّيحَ وَيَفْتَحُ السَّدَدَ نَافِعٌ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ وَيُذْهِبُ فَضْلَ الرُّطُوبَةِ، وَالْعُودُ الْمَذْكُورُ جَيِّدٌ لِلدِّمَاغِ. قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ يَنْفَعَ الْقُسْطُ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ الْحَقِيقِيِّ إذَا كَانَ حُدُوثُهَا عَنْ مَادَّةٍ بَلْغَمِيَّةٍ لَا سِيَّمَا وَقْتَ انْحِطَاطِ الْعِلَّةِ، وَقَدْ عُرِفَ بِذَلِكَ بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّ الْأَطِبَّاءَ تُنْكِرُ مُدَاوَاةَ ذَاتِ الْجَنْبِ بِالْقُسْطِ لِحَرَارَتِهِ الشَّدِيدَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اتَّفَقَ الْأَطِبَّاءُ أَنَّهُ يُدِرُّ الطَّمْثَ وَالْبَوْلَ وَيَنْفَعُ مِنْ السَّمُومِ وَيُحَرِّكُ شَهْوَةَ الْجِمَاعِ وَيَقْتُلُ الدُّودَ وَحَبَّ الْقَرْعِ فِي الْأَمْعَاءِ إذَا شُرِبَ بِعَسَلٍ وَيُذْهِبُ الْكَلَفَ إذَا طُلِيَ عَلَيْهِ وَيَنْفَعُ مِنْ بَرْدِ الْمَعِدَةِ وَالْكَبِدِ وَالْبَرْدِ وَمِنْ حُمَّى الدَّوْرِ وَالرُّبْعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ صِنْفَانِ، وَقِيلَ أَكْثَرُ، بَحْرِيٌّ وَهُوَ الْأَبْيَضُ، وَهِنْدِيٌّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْبَحْرِيُّ أَفْضَلُ مِنْهُ وَأَقَلُّ حَرَارَةً، وَقِيلَ هُمَا حَارَّانِ يَابِسَانِ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ. وَالْهِنْدِيُّ أَشَدُّ حَرًّا وَقِيلَ الْقُسْطُ حَارٌّ فِي الثَّانِيَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ جَالِينُوسُ أَنَّهُ يَنْفَعُ مِنْ يَنْفَعُ مِنْ الْكُزَازِ بِضَمِّ الْكَافِ وَبِالزَّايِ دَاءٌ يَأْخُذُ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ وَإِنَّهُ يَنْفَعُ مِنْ وَجَعِ الْجَبِينِ. وَأَمَّا الزَّيْتُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} [النور: 35] . وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مَهْدِيٍّ ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «ائْتَدِمُوا بِالزَّيْتِ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ» إسْنَادُهُ ثِقَاتٌ وَسَأَلَ أَبُو طَالِبٍ لِأَحْمَدَ عَنْهُ وَلَفْظُهُ «كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ» وَفِيهِ عَنْ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ فَقَالَ خَطَأٌ لَيْسَ فِيهِ عُمَرُ إنَّمَا لَقَّنُوهُ عَنْ عُمَرَ فَقَالَ عَنْ عُمَرَ إنَّمَا

هُوَ مُرْسَلٌ حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ يَعْنِي كَذَلِكَ وَكَذَا قَالَ ابْنُ مَعِينٍ، وَرَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِذِكْرِ عُمَرَ فِيهِ. وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلَهُ. قَالَ الْأَطِبَّاءُ الزَّيْتُ حَارٌّ بِاعْتِدَالٍ إلَى رُطُوبَةٍ وَقِيلَ حَارٌّ رَطْبٌ وَقِيلَ يَابِسٌ وَالْمُعْتَصَرُ مِنْ الزَّيْتُونِ النَّضِيجِ أَعْدَلُ وَأَجْوَدُ مِنْ الْفَجِّ مِنْهُ فِيهِ بَرْدٌ وَيُبْسٌ وَمِنْ الزَّيْتُونِ الْأَحْمَرِ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الزَّيْتَيْنِ وَمِنْ الْأَسْوَدِ يُسَخَّنُ وَيُرَطِّبُ بِاعْتِدَالٍ وَيَنْفَعُ مِنْ السَّمُومِ وَيَنْفَعُ الْبَطْنَ وَيُخْرِجُ الدُّودَ، وَالْعَتِيقُ مِنْهُ أَشَدُّ إسْخَانًا وَتَحْلِيلًا يُطْلَى بِهِ النِّقْرِسُ. وَالْمَغْسُولُ مِنْ الزَّيْتِ يُوَافِقُ أَوْجَاعَ الْأَعْصَابِ وَالنَّسَاءِ، وَغَسْلُهُ أَنْ يُضْرَبَ مَعَ الْمَاءِ الْعَذْبِ الْمُفْتِرِ مَرَّاتٍ وَيُطْفِي زَيْتَ الْإِنْفَاقِ أَنْ يُعْتَصَرَ مِنْ الزَّيْتُونِ الْأَخْضَرِ قَالَ بَعْضُهُمْ: بِالْمَاءِ خَيْرُ أَنْوَاعِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَقَلُّ حَرَارَةً وَأَلْطَفُ وَأَبْلَغُ فِي النَّفْعِ. وَذَكَرَ ابْنُ جَزْلَةَ أَنَّ هَذَا بَارِدٌ يَابِسٌ وَجَمِيعُ الزَّيْتِ مُلَيِّنٌ لِلْبَشَرَةِ وَيُبْطِئُ بِالشَّيْبِ. وَأَمَّا الزَّيْتُونُ الْمَالِحُ يَمْنَعُ مِنْ نُقَطِ حَرْقِ النَّارِ وَيَشُدُّ اللِّثَةَ وَوَرَقُهُ يَنْفَعُ مِنْ الْحُمْرَةِ وَالنَّمْلَةِ وَالْقُرُوحِ وَالْبُشْرِيِّ وَيَمْنَعُ الْعَرَقَ وَيَنْفَعُ مِنْ الدَّاحِسِ وَمَنَافِعُهُ كَثِيرَةٌ. وَأَمَّا الْوَرْسُ فَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ «كَانَتْ النُّفَسَاءُ تَجْلِسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَكُنَّا نَطْلِي وُجُوهَنَا بِالْوَرْسِ مِنْ الْكَلَفِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِي حُسْنِهِ وَضَعْفِهِ. (الْوَرْسُ) يُجْلَبُ مِنْ الْيَمَنِ قِيلَ يُنْتَحَتُ مِنْ أَشْجَارِهِ وَقِيلَ يُزْرَعُ بِهَا وَلَا يَكُونُ مِنْهُ شَيْءٌ بَرِيءٌ وَيُزْرَعُ سَنَةً فَيَبْقَى عَشْرَ سِنِينَ يَنْبُتُ وَيُثْمِرُ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ فِي الْحَرَارَةِ وَالْيُبُوسَةِ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ قَالَ بَعْضُهُمْ: فِي أَوَّلِهَا. وَأَجْوَدُهُ الْأَحْمَرُ اللَّيِّنُ فِي الْيَدِ الْقَلِيلُ النُّخَالَةِ، قَابِضٌ لَطِيفٌ يَمْنَعُ مِنْ

الْكَلَفِ وَالنَّمَشِ وَالْحَكَّةِ وَالْبُثُورِ فِي سَطْحِ الْبَدَنِ وَالْبَهَقِ وَالسَّفْعَةِ طِلَاءٌ، وَإِذَا شُرِبَ مَنَعَ الْوَضَحَ وَفَتَّتَ الْحَصَاةَ وَنَفَعَ مِنْ أَوْجَاعِ الْكُلَى وَالْمَثَانَةِ الْبَارِدَةِ وَقَدْرُ مَا يُشْرَبُ مِنْهُ دِرْهَم وَقِيلَ يَضُرُّ بِالْمَثَانَةِ وَيُصْلِحُهُ الْعَسَلُ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَنَافِعُهُ تَقْرُبُ مِنْ مَنَافِعِ الْقُسْطِ الْبَحْرِيِّ.

فصل في الصداع وأسبابه وفائدة الحجامة والحناء فيه

[فَصْلٌ فِي الصُّدَاعِ وَأَسْبَابِهِ وَفَائِدَةِ الْحِجَامَةِ وَالْحِنَّاءِ فِيهِ] عَنْ سَلْمَى خَادِمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ «مَا سَمِعْتُ أَحَدًا قَطُّ يَشْكُو إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعًا فِي رَأْسِهِ إلَّا قَالَ لَهُ احْتَجِمْ وَلَا وَجَعًا فِي رِجْلَيْهِ إلَّا قَالَ اخْضِبْهُمَا بِالْحِنَّاءِ» حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد، وَلِأَحْمَدَ أَيْضًا وَالتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ بِالْإِسْنَادِ الْحَسَنِ قَالَ «كُنْت أَخْدُمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا كَانَتْ تُصِيبُهُ قَرْحَةٌ وَلَا نَكْبَةٌ إلَّا أَمَرَنِي أَنْ أَضَعَ عَلَيْهَا الْحِنَّاءَ» وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ إذَا صُدِعَ غَلَّفَ رَأْسَهُ بِالْحِنَّاءِ وَيَقُولُ إنَّهُ نَافِعٌ بِإِذْنِ اللَّهِ مِنْ الصُّدَاعِ» . (الصُّدَاعُ) وَجَعٌ فِي الرَّأْسِ فَمَا كَانَ لَازِمًا فِي أَحَدِ شِقَّيْهِ سُمِّيَ شَقِيقَةٌ وَإِنْ كَانَ شَامِلًا لِجَمِيعِهِ لَازِمًا سُمِّيَ بَيْضَةً وَخُوذَةً تَشْبِيهًا بِبَيْضَةِ السِّلَاحِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَى الرَّأْسِ كُلِّهِ وَرُبَّمَا كَانَ فِي مُؤَخَّرِ الرَّأْسِ وَفِي مُقَدَّمِهِ، وَحَقِيقَةُ سُخُونَةِ الرَّأْسِ وَاحْتِمَاؤُهُ لِمَا كَانَ فِيهِ مِنْ الْبُخَارِ يَطْلُبُ النُّفُوذَ مِنْ الرَّأْسِ فَلَا يَجِدُ مَنْفَذًا فَيُصَدِّعُهُ كَمَا يَتَصَدَّعُ الْوِعَاءُ إذَا حُمِّي مَا فِيهِ وَطَلَبَ النُّفُوذَ، وَكُلُّ رَطْبٍ إذَا حُمِّي طَلَبَ مَكَانًا أَوْسَعَ مِنْ مَكَانِهِ لِلَّذِي كَانَ. وَلِلصُّدَاعِ أَسْبَابٌ أَحَدُهَا مِنْ الطَّبَائِعِ الْأَرْبَعَةِ وَمِنْ قُرُوحٍ فِي الْمَعِدَةِ وَمِنْ رِيحٍ غَلِيظَةٍ فِيهَا وَعَنْ وَرَمٍ فِي عُرُوقِهَا وَعَنْ امْتِلَائِهَا وَبَعْدَ الْجِمَاعِ وَبَعْدَ الْقَيْءِ وَعَنْ الْجَرِّ وَعَنْ الْبَرْدِ وَعَنْ السَّهَرِ وَعَنْ حَمْلِ شَيْءٍ ثَقِيلٍ عَلَيْهِ وَعَنْ كَثْرَةِ الْكَلَامِ وَعَنْ كَثْرَةِ الْحَرَكَةِ وَعَنْ عَرَضٍ نَفْسَانِيٍّ كَالْهَمِّ وَالْغَمِّ وَعَنْ شِدَّةِ الْجُوعِ

وَعَنْ وَرَمٍ فِي صِفَاتِ الدِّمَاغِ (السَّبَبُ الْعِشْرُونَ) الْحُمَّى لِاشْتِعَالِ حَرَارَتِهَا فِيهِ فَيَتَأَلَّمُ. وَسَبَبُ صُدَاعِ الشَّقِيقَةِ مَادَّةٌ فِي شَرَايِينِ الرَّأْسِ وَحْدَهَا حَاصِلَةٌ فِيهَا أَوْ مُرْتَقِيَةٌ إلَيْهَا فَيَقْبَلُهَا الْجَانِبُ الْأَضْعَفُ مِنْ جَانِبَيْهِ، وَتِلْكَ الْمَادَّةُ إمَّا بُخَارِيَّةٌ وَإِمَّا أَخْلَاطٌ حَارَّةٌ أَوْ بَارِدَةٌ وَعَلَامَتُهَا الْخَاصَّةُ بِهَا ضَرْبَانِ لِلشَّرَايِينِ وَخَاصَّةً فِي الدَّمَوِيِّ، وَإِذَا ضُبِطَتْ بِالْعَصَائِبِ وَمُنِعَتْ مِنْ الضَّرْبَانِ سَكَنَ الْوَجَعُ، وَصَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ عَصَّبَ رَأْسَهُ بِعِصَابَةٍ فِي مَرَضِهِ» فَعَصْبُهُ يَنْفَعُ مِنْ أَوْجَاعِهِ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ عِلَاجَهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَسْبَابِهِ فَالْحِنَّاءُ عِلَاجُ بَعْضِ أَسْبَابِهِ فَيَنْفَعُ نَفْعًا ظَاهِرًا مِنْ حَرَارَةٍ مُلْهِبَةٍ لَا مِنْ مَادَّةٍ يَجِبُ اسْتِفْرَاغُهَا وَإِنْ ضُمِّدَتْ بِهِ الْجَبْهَةُ مَعَ خَلٍّ سَكَنَ الصُّدَاعُ، وَفِيهِ قُوَّةٌ مُوَافِقَةٌ لِلْعَصْبِ إذَا ضُمِّدَ بِهِ سَكَّنَ أَوْجَاعَهُ وَهَذَا يَعُمُّ الْأَعْضَاءَ، وَفِيهِ قَبْضٌ تَشْتَدُّ بِهِ الْأَعْضَاءُ، وَإِذَا ضُمِّدَ بِهِ مَوْضِعُ الْوَرَمِ الْحَارِّ الْمُلْتَهِبُ سَكَّنَهُ، وَالْحِنَّاءُ بَارِدٌ فِي الْأُولَى يَابِسٌ فِي الثَّانِيَةِ وَقِيلَ مُعْتَدِلُ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَقُوَّةُ شَجَرِهِ مُرَكَّبَةٍ مِنْ قُوَّةٍ مُحَالَةٍ اكْتَسَبَتْهَا مِنْ جَوْهَرٍ فِيهَا مَائِيٍّ حَارٍّ بِاعْتِدَالٍ، وَمِنْ قُوَّةٍ قَابِضَةٍ اكْتَسَبَهَا مِنْ جَوْهَرٍ فِيهَا أَرْضِيٍّ بَارِدٍ وَهُوَ مُحَلِّلٌ نَافِعٌ مِنْ حَرْقِ النَّارِ، وَيَنْفَعُ مَضْغُهُ مِنْ قُرُوحِ الْفَمِ وَالسُّلَاقِ الْعَارِضِ فِيهِ، وَإِذَا خُلِطَ نُورُهُ مَعَ الشَّمْعِ الْمُصَفَّى، وَدَهْنِ الْوَرْدِ نَفَعَ مِنْ أَوْجَاعِ الْجَنْبِ وَيَفْعَلُ فِي الْجُرْحِ فِعْلَ دَمِ الْأَخَوَيْنِ. وَمِنْ خَوَاصِّهِ إذَا لُطِخَ بِهِ أَسْفَلُ الرِّجْلَيْنِ أَوَّلَ خُرُوجِ الْجُدَرِيِّ أُمِنَ عَلَى الْعَيْنَيْنِ مِنْهُ صَحِيحٌ مُجَرَّبٌ، وَإِذَا جُعِلَ نُورُهُ بَيْنَ طَيِّ ثِيَابِ الصُّوفِ طَيَّبَهَا وَمَنَعَ السُّوسَ عَنْهَا، وَدَهْنُهُ يُحَلِّلُ الْإِعْيَاءَ وَيُلَيِّنُ الْعَصَبَ، وَإِذَا نُقِعَ وَرَقُهُ فِي مَاءٍ عَذْبٍ يَغْمُرُهُ ثُمَّ عَصَرَهُ وَشَرِبَ مِنْ صَفْوِهِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا

كُلَّ يَوْمٍ عِشْرِينَ يَوْمًا مَعَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ سَكَرَ وَتَغَدَّى عَلَيْهِ بِلَحْمِ الضَّأْنِ الصَّغِيرِ نَفَعَ مِنْ ابْتِدَاءِ الْجُذَامِ بِخَاصِّيَّةٍ فِيهِ عَجِيبَةٍ وَيَنْفَعُ الْأَظْفَارَ مَعْجُونًا وَيُحَسِّنُهَا وَيُعْجَنُ بِسَمْنٍ وَيُضَمَّدُ بِهِ بَقَايَا وَرَمٍ حَارٍّ الَّذِي يَرْشَحُ مَاءً أَصْفَرَ وَيَنْفَعُ مِنْ الْجَرَبِ الْمُتَقَرِّحِ مَنْفَعَةً بَلِيغَةً وَهُوَ يُنْبِتُ الشَّعْرَ وَيُقَوِّيهِ وَيُحَسِّنُهُ وَيُقَوِّي الرَّأْسَ وَيَنْفَعُ مِنْ النُّفَّاخَاتِ وَالْبُثُورِ الْعَارِضَةِ فِي الْبَدَنِ، وَشَرْبُ نِصْفَ مِثْقَالٍ مِنْهُ يَنْفَعُ مِنْ الْقُولَنْجِ وَمِنْ خَوَاصِّهِ إذَا خَضَبَ بِهِ الرَّجُلُ أَصْبَحَ الْبَوْلُ أَحْمَرَ كَبَوْلِ الْمَحْمُومِ.

فصل في العذرة

[فَصْلٌ فِي الْعُذْرَةِ] ِ - أَمْرَاضِ الْحَلْقِ - وَمَا وَرَدَ فِي عِلَاجِهَا) عَنْ أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ «أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِابْنٍ لَهَا قَدْ أَعْلَقَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْعُذْرَةِ قَالَ يُونُسُ أَعْلَقَتْ غَمَزَتْ فَهِيَ تَخَافُ أَنْ يَكُونَ بِهِ عُذْرَةٌ فَقَالَ عَلَامَ تَدْغَرْنَ أَوْلَادَكُنَّ بِهَذَا الْعِلَاقِ؟» وَفِي لَفْظٍ «الْأَعْلَاقِ عَلَيْكُنَّ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ يَعْنِي بِهِ الْكُسْتَ فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ مِنْهَا ذَاتُ الْجَنْبِ يُسْعَطُ مِنْ الْعُذْرَةِ وَيُلَدُّ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِلْبُخَارِيِّ أَيْضًا «اتَّقُوا اللَّهَ عَلَامَ تَدْغَرُونَ أَوْلَادَكُمْ؟» وَوَصَفَ سُفْيَانُ الْغُلَامَ يُحَنَّكُ بِالْأُصْبُعِ فَأَدْخَلَ سُفْيَانُ فِي حَنَكِهِ إنَّمَا يَعْنِي رَفْعَ حَنَكِهِ بِإِصْبَعِهِ وَقَالَ فِي الْعُودِ الْهِنْدِيِّ يُرِيدُ الْقُسْطَ، وَلِمُسْلِمٍ (عَلَامَهْ؟) أَثْبَتَ هَاءَ السَّكْتِ هُنَا فِي الدَّرْجِ وَالْوَصْلِ. وَلِأَحْمَدَ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَعِنْدَهَا صَبِيٌّ تَنْبَعِثُ مَنْخِرَاهُ دَمًا فَقَالَ مَا لِهَذَا؟ قَالُوا بِهِ الْعُذْرَةُ قَالَ عَلَامَ تُعَذِّبْنَ أَوْلَادَكُنَّ؟ إنَّمَا يَكْفِي إحْدَاكُنَّ أَنْ تَأْخُذَ قُسْطًا هِنْدِيًّا فَتَحُكَّهُ بِمَاءٍ سَبْعَ مَرَّاتٍ ثُمَّ تُوجِرَهُ إيَّاهُ فَفَعَلُوا ذَلِكَ فَبَرَّأَ،» قَوْلُهَا أَعْلَقَتْ عَلَيْهِ كَذَا فِي مُسْلِمٍ وَكَذَا فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ وَغَيْرِهِ، وَفِيهِ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَعْلَقَتْ عَنْهُ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ وَقِيلَ هُمَا لُغَتَانِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ الْأَعْلَاقُ الدَّغْرَةُ يُقَالُ أَعْلَقَتْ الْمَرْأَةُ وَلَدَهَا مِنْ الْعُذْرَةِ إذَا رَفَعَتْهَا بِيَدِهَا، وَالْعَلَاقُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْإِعْلَاقُ أَشْهَرُ لُغَةً وَقِيلَ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ وَهُوَ مَصْدَرُ أَعْلَقَتْ عَنْهُ أَيْ أَزَالَتْ عَنْهُ الْعَلُوقَ مُعَالَجَةُ الْعُذْرَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَلَاقُ وَهُوَ الِاسْمُ مِنْهُ، وَفِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ شَيْءٌ كَانُوا يُعَلِّقُونَهُ عَلَى الصَّبِيَّانِ كَذَا قَالَ.

وَالْعُذْرَةُ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَهِيَ وَجَعٌ فِي الْحَلْقِ يَهِيجُ مِنْ الدَّمِ يُقَالُ فِي عِلَاجِهَا عَذَرْتُهُ فَهُوَ مَعْذُورٌ وَقِيلَ هِيَ قَرْحَةٌ تَخْرُجُ فِي الْخَرْمِ الَّذِي بَيْنَ الْأَنْفِ وَالْحَلْقِ تَعْرِضُ لِلصِّبْيَانِ غَالِبًا عِنْدَ طُلُوعِ الْعُذْرَةِ وَهِيَ الْعَذَارَى خَمْسَةُ كَوَاكِبَ قِيلَ فِي وَسَطِ الْمَجَرَّةِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي آخِرِهَا وَتُعَالِجُ الْمَرْأَةُ الْعُذْرَةَ عَادَةً بِفَتْلِ خِرْقَةٍ تُدْخِلُهَا فِي أَنْفِ الصَّبِيِّ وَتَطْعَنُ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ فَيَنْفَجِرُ مِنْهُ دَمٌ أَسْوَدُ وَرُبَّمَا أَقْرَحَتْهُ وَذَلِكَ الطَّعْنُ يُسَمَّى دَغْرًا وَعَذْرًا فَمَعْنَى «تَدْغَرْنَ أَوْلَادَكُنَّ» أَنَّهَا تَغْمِزُ حَلْقَ الْوَلَدِ بِأُصْبُعِهَا فَتَرْفَعُ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ وَتَكْبِسُهُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ الدَّغْرُ أَنْ تَرْفَعَ لَهَاةَ الْمَعْذُورِ وَقَالَ الْعُذْرَةُ وَجَعُ الْحَلْقِ مِنْ الدَّمِ وَذَلِكَ الْمَوْضِعُ أَيْضًا عُذْرَةٌ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ اللَّهَاةِ وَعَذَرَهُ اللَّهُ مِنْ الْعُذْرَةِ فَعُذِرَ وَعُذِرَ فَهُوَ مَعْذُورٍ، أَيْ هَاجَ بِهِ وَجَعُ الْحَلْقِ مِنْ الدَّمِ قَالَ الْأَخْطَلُ: غَمَزَ ابْنُ مُرَّةَ يَا فَرَزْدَقُ كَيْنَهَا ... غَمْزَ الطَّبِيبِ نَقَائِعَ الْمَعْذُورِ أَمَّا نَقْعُ السُّعُوطِ مِنْهَا بِالْقُسْطِ الْمُحْدَلِ فَلِأَنَّ الْعُذْرَةَ مَادَّتُهَا دَمٌ يَغْلِبُ عَلَيْهِ لِكَثْرَةِ تَوَلُّدِهِ فِي أَبْدَانِ الصِّبْيَانِ وَفِي الْقُسْطِ تَجْفِيفٌ يَشُدُّ اللَّهَاةَ وَيَرْفَعُهَا إلَى مَكَانِهَا وَقَدْ يَكُونُ نَفْعُهُ فِي هَذَا الْبَدَاءِ بِالْخَاصِّيَّةِ، وَقَدْ يَنْفَعُ فِي الْأَدْوَاءِ الْحَارَّةِ وَالْأَدْوِيَةِ الْحَارَّةِ بِالذَّاتِ تَارَةً وَبِالْعَرْضِ أُخْرَى، وَذَكَرَ صَاحِبُ الْقَانُونِ فِي مُعَالَجَةِ سُقُوطِ اللَّهَاةِ الْقُسْطُ مَعَ الشَّبِّ الْيَمَانِي وَبَزْرِ الْمَرْوِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعَطَ» وَسَبَقَ فِي الْفَصْلِ قَبْلَ الْفَصْلِ قَبْلَهُ مَنَافِعُ الْقُسْطِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ «إنَّ أَفْضَلَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ وَالْقُسْطُ» أَوْ قَالَ «مِنْ أَفْضَلِ دَوَائِكُمْ» وَفِي لَفْظِ فِي الصَّحِيحَيْنِ «إنَّ أَفْضَلَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ وَالْقُسْطُ الْبَحْرِيُّ وَلَا تُعَذِّبُوا صِبْيَانَكُمْ بِالْغَمْزِ» .

فصل في ذر الرماد على الجرح وفوائد نبات البردي

[فَصْلٌ فِي ذَرِّ الرَّمَادِ عَلَى الْجُرْحِ وَفَوَائِدِ نَبَاتِ الْبَرْدِيِّ] ِّ) فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ جُرِحَ وَجْهُهُ وَكُسِرَتْ رُبَاعِيَّتُهُ وَهُشِّمَتْ الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ وَكَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَغْسِلُ الدَّمَ وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَسْكُبُ عَلَيْهَا بِالْمِجَنِّ، فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ الدَّمَ لَا يَزِيدُ إلَّا كَثْرَةً أَخَذَتْ قِطْعَةً مِنْ حَصِيرٍ فَأَحْرَقَتْهَا حَتَّى إذَا صَارَتْ رَمَادًا أَلْصَقَتْهُ عَلَى الْجُرْحِ فَاسْتَمْسَكَ الدَّمُ» . (الْبَرْدِيُّ) بِالْفَتْحِ نَبْتٌ مَعْرُوفٍ بَارِدٌ يَابِسٌ قَوِيُّ التَّجْفِيفِ لِأَنَّ الْقَوِيَّ التَّجْفِيفِ إذَا كَانَ فِيهِ لَذْعٌ هَيَّجَ الدَّمَ فَهُوَ يَمْنَعُ النَّزْفَ وَيَقْطَعُ الرُّعَافَ وَيُذَرُّ عَلَى الْجُرْحِ الطَّرِيِّ فَيُدْمِلُهُ، وَالْقِرْطَاسُ الْمِصْرِيُّ كَانَ قَدِيمًا يُعْمَلُ مِنْهُ وَيَنْفَعُ رَمَادُهُ مِنْ أَكَلَةِ الْقَمْلِ وَيَمْنَعُ الْقُرُوحَ الْخَبِيثَةَ أَنْ تَسْعَى.

فصل في القمل

[فَصْلٌ فِي الْقَمْلِ] فَصْلٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ «كَانَ بِي أَذًى مِنْ رَأْسِي فَحُمِلْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي فَقَالَ مَا كُنْتُ أَرَى الْجَهْدَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى» وَلِمُسْلِمٍ «فَاحْلِقْهُ وَاذْبَحْ شَاةً أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ تَصَدَّقْ بِثَلَاثَةِ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ» . (الْقَمْلِ) يَتَوَلَّدُ. مِنْ شَيْءٍ خَارِجٍ عَنْ الْبَدَنِ وَهُوَ الْوَسَخُ فِي سَطْحِ الْجَسَدِ مِنْ خَلْطٍ رَدِيءٍ عَفِنٍ تَدْفَعُهُ الطَّبِيعَةُ بَيْنَ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ فَتُعَفِّنُ الرُّطُوبَةَ الدَّمَوِيَّةَ فِي الْبَشَرَةِ بَعْدِ خُرُوجِهَا مِنْ الْمَسَامِّ فَيَكُونُ مِنْهُ الْقَمْلُ. وَالْقَمْلُ فِي الصِّبْيَانِ أَكْثَرُ لِكَثْرَةِ رُطُوبَتِهِمْ وَتَعَاطِيهمْ السَّبَبَ الَّذِي يُوَلِّدُهُ، وَلِذَلِكَ «حَلَقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُءُوسَ بَنِي جَعْفَرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -» وَحَلْقُهُ مِنْ أَكْبَرِ عِلَاجِهِ لِتَتَفَتَّحَ مَسَامُّ الْأَبْخِرَةِ فَتَتَصَاعَدُ فَتَقِلُّ مَادَّةُ الْخَلْطِ وَيَنْبَغِي طَلْيُ الرَّأْسِ بَعْدِ حَلْقِهِ بِدَوَاءٍ يَقْتُلُ الْقَمْلَ وَيَمْنَعُ تَوَلُّدَهُ، وَأَكْلُ التِّينِ الْيَابِسِ يُوَلِّدُ دَمًا لَيْسَ بِالْجَيِّدِ فَلِذَلِكَ يَقْمَلُ. قَالَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ: سَبَبُ تَوَلُّدِ الْقَمْلِ رُطُوبَةٌ فَاسِدَةٌ تَغْلُظُ عَنْ مِقْدَارِ الْعَرَقِ قَلِيلًا فَلَا تَنْفُذُ فِي الْمَسَامِّ فَيَتَوَلَّدُ فِي عُمْقِ الْجِلْدِ لَا فِي سَطْحِهِ. فَيُطْلَى الرَّأْسُ أَوْ الْمَكَانُ الَّذِي يَتَوَلَّدُ فِيهِ الْقَمْلُ بِصَبِرٍ وَبِوَرَقٍ وَمُرٍّ فِي الْحَمَّامِ وَيُتْرَكُ سَاعَةً ثُمَّ يُغْسَلُ أَوْ يُطْلَى بِالزِّئْبَقِ الْمَقْتُولِ بِدُهْنِ الْوَرْدِ وَيُكْثِرُ الِاسْتِحْمَامَ وَلُبْسَ الْكَتَّانِ فَإِنَّهُ أَقَلُّ الثِّيَابِ إقْمَالًا أَوْ يَتْرُكُ الْأَغْذِيَةَ الْغَلِيظَةَ الْحَارَّةَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا صَاحِبُ الْقَمْلِ تَعْرِضُ لَهُ صُفْرَةٌ فِي وَجْهِهِ وَقِلَّةُ شَهْوَةِ الطَّعَامِ وَيَنْحُفُ بَدَنُهُ وَتَضْعَفُ قُوَّتُهُ.

فصل يتعلق بما قبله في النخل وثمره وفوائده وتشبيهه المؤمن به وبالأترج

[فَصْلٌ يَتَعَلَّقُ بِمَا قَبْلَهُ فِي النَّخْلِ وَثَمَرِهِ وَفَوَائِدِهِ وَتَشْبِيهُهُ الْمُؤْمِنَ بِهِ وَبِالْأُتْرُجِّ] ِّ (فِي النَّخْلِ وَثَمَرِهِ وَفَوَائِدِهِ وَتَشْبِيهِهِ الْمُؤْمِنَ بِهِ وَبِالْأُتْرُجِّ) . عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الْأُتْرُجَّةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ وَلَا رِيحَ لَهَا» . وَفِي رِوَايَةٍ «الْفَاجِرُ بَدَلُ الْمُنَافِقِ» وَرَوَى ذَلِكَ مُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ وَلَهُ فِي لَفْظِ «الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كَالْأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ، وَالْمُؤْمِنُ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كَالتَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الزَّرْعِ لَا يَزَالُ الرِّيحُ تُمِيلُهُ وَلَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ يُصِيبُهُ الْبَلَاءُ، وَمَثَلُ الْكَافِرِ كَمَثَلِ شَجَرَةِ الْأَرْزِ لَا تَهْتَزُّ حَتَّى تُسْتَحْصَدَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ وَلَفْظُهُ «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَخَامَةِ الزَّرْعِ تَفِي وَرَقُهُ مِنْ حَيْثُ انْتَهَى الرِّيحُ تُكْفِئُهَا فَإِذَا سَكَنَتْ اعْتَدَلَتْ، وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنِ يُكْفَأُ بِالْبَلَاءِ، وَمَثَلُ الْكَافِرِ كَمَثَلِ الْأَرْزَةِ صَمَّاءَ مُعْتَدِلَةً حَتَّى يَقْصِمَهَا اللَّهُ إذَا شَاءَ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا وَإِنَّهَا مِثْلُ الْمُسْلِمِ فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ؟ فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي قَالَ عَبْدُ اللَّهِ

وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ فَاسْتَحْيَيْتُ ثُمَّ قَالُوا حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَقَالَ هِيَ النَّخْلَةُ قَالَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعُمَرَ قَالَ لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَ هِيَ النَّخْلَةُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، وَفِيهِمَا أَيْضًا «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ فَجَعَلْتُ أُرِيدُ أَنْ أَقُولَهَا فَإِذَا أَسْنَانُ الْقَوْمِ فَأَهَابُ أَنْ أَتَكَلَّمَ» وَلِلْبُخَارِيِّ: «كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَأْكُلُ جُمَّارًا وَفِيهِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ مِنْ الشَّجَرِ لَمَا بَرَكَتُهُ كَبَرَكَةِ الْمُسْلِمِ» وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ (بَابُ مَا لَا يُسْتَحَى مِنْهُ مِنْ الْحَقِّ لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ) . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «وَرَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لَا يَتَكَلَّمَانِ فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ» فَتَرْجَمَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ بَابَ (إكْرَامِ الْكَبِيرِ وَبَابَ طَرْحِ الْإِمَامِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَصْحَابِهِ لِيَخْتَبِرَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ) . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَاقْرَءُوهُ وَارْقُدُوا فَإِنَّ مَثَلَ الْقُرْآنِ مَنْ تَعَلَّمَهُ فَقَامَ بِهِ كَمَثَلِ جِرَابٍ مَحْشُوٍّ مِسْكًا يَفُوحُ رِيحُهُ كُلَّ مَكَان، وَمَثَلُ مَنْ تَعَلَّمَهُ وَرَقَدَ وَهُوَ فِي جَوْفِهِ كَمِثْلِ جِرَابٍ أُوكِئَ عَلَى مِسْكٍ» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ. (الْخَامَةُ) بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَمِيمٍ خَفِيفَةٍ الطَّاقَةُ الْغَضَّةُ اللَّيِّنَةُ مِنْ الزَّرْعِ وَأَلِفُهَا مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ وَتَسْتَحْصِدُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الصَّادِ أَيْ لَا تَتَغَيَّرُ حَتَّى تَنْقَلِعَ مَرَّةً وَاحِدَةً كَالزَّرْعِ الَّذِي انْتَهَى يُبْسُهُ وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الصَّادِ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَجْهِ تَشْبِيهِ النَّخْلَةِ بِالْمُسْلِمِ فَقِيلَ لِأَنَّهَا لَا تَحْمِلُ حَتَّى تُلَقَّحَ، وَقِيلَ لِأَنَّهَا إذَا قُطِعَ رَأْسُهَا مَاتَتْ وَقِيلَ وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِكَثْرَةِ خَيْرِهَا، وَطِيبِ ثَمَرِهَا، وَدَوَامِ ظِلِّهَا وَوُجُودِهِ دَائِمًا، وَأَكْلِهِ عَلَى صِفَاتٍ وَأَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ وَيُتَّخَذُ مِنْهُ مَنَافِعُ مُخْتَلِفَةٌ وَيُتَّخَذُ مِنْهُ مَنَافِعُ مِنْ حَشِيشِهَا، وَوَرَقِهَا وَأَغْصَانِهَا خَشَبًا وَجُذُوعًا وَحَطَبًا وَعِصِيًّا، وَمَخَاصِرَ وَحُصُرًا وَقِفَّانًا وَلِيفًا وَحِبَالًا وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَنَوَاهَا عَلَفٌ لِلْإِبِلِ، فَهِيَ كُلُّهَا مَنَافِعُ وَخَيْرٌ وَجَمَالٌ كَالْمُؤْمِنِ خَيْرٌ كُلُّهُ لِإِيمَانِهِ وَكَثْرَةِ طَاعَاتِهِ.

وَالْجُمَّارُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ مَا يُؤْكَلُ مِنْ قَلْبِ النَّخْلِ يَكُونُ لَيِّنًا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْجُمَّارُ شَحْمُ النَّخْلِ وَجَمَّرْتُ النَّخْلَةَ قَطَعْتُ جُمَّارَهَا قَالَ الْأَطِبَّاءُ هُوَ بَارِدٌ يَابِسٌ فِي الْأُولَى، وَقِيلَ فِي الثَّانِيَةِ: قَابِضٌ يَنْفَعُ مِنْ خُشُونَةِ الْحَلْقِ وَالْإِسْهَالِ وَالنَّزْفِ وَغَلَبَةِ الْمُرَّةِ الصَّفْرَاءِ وَثَائِرَةِ الدَّمِ وَلَحْمِ الْقُرُوحِ وَيَنْفَعُ مِنْ لَسْعِ الزُّنْبُورِ ضِمَادًا وَيُقَوِّي الْأَحْشَاءَ وَلَيْسَ بِرَدِيءِ الْكَيْمُوسِ، وَيَغْذُو غِذَاءً يَسِيرًا وَيُبْطِئُ فِي الْمَعِدَةِ وَيُؤْلِمُهَا وَيُصْلِحُهُ التَّمْرُ وَالشُّهْدُ قَالَ بَعْضُهُمْ: وَيَضُرُّ بِالصَّدْرِ وَالْحَلْقِ وَأَجْوَدُهُ الْحُلْوُ الرَّطْبُ وَسَبَقَ الْكَلَامُ قَرِيبًا فِي التَّمْرِ وَالرَّيْحَانِ وَالْمِسْكِ. وَأَمَّا الْأُتْرُجُّ فَبِهَمْزَةٍ وَرَاءٍ مَضْمُومَتَيْنِ وَتَاءٍ سَاكِنَةٍ وَجِيمٍ مُشَدَّدَةٍ الْوَاحِدَةِ أُتْرُجَّةٌ وَقَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدَةَ: يَحْمِلْنَ أُتْرُجَّةً نَضْحُ الْعَبِيرِ بِهَا ... كَأَنَّ تَطَيُّبَهَا فِي الْأَنْفِ مَشْمُومُ وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ تُرُنْجَةٌ وَتُرُنْجٌ، لَهُ قُوًى مُخْتَلِفَةٌ أَجْوَدُهُ الْكِبَارُ السُّوسِيُّ قِشْرُهُ حَارٌّ يَابِسٌ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ وَلَحْمُهُ حَارٌّ رَطْبٌ فِي الْأُولَى، وَقِيلَ فِي الثَّانِيَةِ، وَقِيلَ بَارِدٌ وَبَذْرُهُ حَارٌّ فِيهِ يَسِيرُ رُطُوبَةٍ، وَقِيلَ بَارِدٌ فِي الثَّانِيَةِ وَهُوَ يَابِسٌ وَحَمْضُهُ بَارِدٌ يَابِسٌ فِي الثَّالِثَةِ رَائِحَتُهُ تُصْلِحُ فَسَادَ الْهَوَاءِ وَالْوَبَاءِ وَتَضُرُّ بِالدِّمَاغِ الْحَارِّ وَيُصْلِحُهُ الْبَنَفْسَجُ وَقِشْرُهُ مِنْ الْمُفْرِحَاتِ التِّرْيَاقِيَّةِ وَيُجْعَلُ فِي الثِّيَابِ يَمْنَعُ السُّوسَ وَيُطَيِّبُ النَّكْهَةَ إذَا جُعِلَ فِي الْفَمِ، وَيُحَلِّلُ الرِّيَاحَ، وَإِذَا جُعِلَ فِي الطَّعَامِ كَالْأَبَازِيرِ أَعَانَ عَلَى الْهَضْمِ. قَالَ صَاحِبُ الْقَانُونِ: وَعُصَارَةُ قِشْرِهِ تَنْفَعُ مِنْ نَهْشِ الْأَفَاعِي شُرْبًا، وَقِشْرُهُ ضِمَادًا وَحُرَاقَةُ قِشْرِهِ طِلَاءٌ جَيِّدٌ لِلْبَرَصِ انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ ابْنُ جَزْلَةَ: وَلَحْمُهُ رَدِيءٌ لِلْمَعِدَةِ بَطِيءُ الْهَضْمِ يُوَرِّثُ الْقُولَنْجَ وَالضَّرَبَانَ وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ مُلَطِّفٌ لِحَرَارَةِ الْمَعِدَةِ نَافِعٌ لِأَصْحَابِ الْمُرَّةِ الصَّفْرَاءِ قَامِعٌ لِلْبُخَارَاتِ الْحَادَّةِ قَالَ الْغَافِقِيُّ أَكْلُ لَحْمِهِ يَنْفَعُ الْبَوَاسِيرَ انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَأَمَّا حُمَاضُهُ فَيَجْلُو الْكَلَفَ وَاللَّوْنَ وَيُذْهِبُ الْقُوبَا طِلَاءً، وَلِهَذَا يُقْلِعُ صَبْغَ الْحِبْرِ طِلَاءً وَيَقْمَعُ الصَّفْرَاءَ وَيُشَهِّي الطَّعَامَ وَيَنْفَعُ الْخَفَقَانَ مِنْ حَرَارَةٍ وَيُطَيِّبُ النَّكْهَةَ مَشْرُوبًا، عَاقِلٌ لِلطَّبِيعَةِ نَافِعٌ مِنْ الْإِسْهَالِ الصَّفْرَاوِيِّ قَاطِعٌ لِلْقَيْءِ الصَّفْرَاوِيِّ وَيُوَافِقُ الْمَحْمُومِينَ، وَيَضُرُّ بِالصَّدْرِ وَالْعَصَبِ وَيُصْلِحُهُ شَرَابُ الْخَشْخَاشِ وَيَنْفَعُ مِنْ الْيَرَقَانِ شُرْبًا وَاكْتِحَالًا وَيُسَكِّنُ غُلْمَةَ النِّسَاءِ وَالْعَطَشِ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْبَلْغَمِيُّ لِأَنَّهُ يُلَطِّفُ وَيَقْطَعُ وَيُبَرِّدُ وَيُطْفِئُ حَرَارَةَ الْكَبِدِ وَيُقَوِّي الْمَعِدَةَ وَيُقَوِّي الْقَلْبَ الْحَارَّ الْمِزَاجِ وَفِيهِ تِرْيَاقِيَّةٌ. وَأَمَّا بَزْرُهُ فَلَهُ قُوَّةٌ مُحَلِّلَةٌ مُجَفِّفَةٌ مُلَيِّنٌ مُطَيِّبٌ لِلنَّكْهَةِ وَخَاصَّةً لِلنَّفْعِ مِنْ السَّمُومِ الْقَاتِلَةِ وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِلَسْعِ الْعَقَارِبِ إذَا شُرِبَ مِنْهُ وَزْنُ مِثَالَيْنِ بِمَاءٍ فَاتِرٍ أَوْ طِلَاءٍ مَطْبُوخٍ، وَكَذَا إنْ دُقَّ وَوُضِعَ عَلَى مَوْضِعِ اللَّسْعَةِ. قَالَ الْأَطِبَّاءُ إذَا بُخِّرَتْ شَجَرَتُهُ بِالْكِبْرِيتِ تَنَاثَرَ، قَالُوا وَإِذَا يَبُسَ وَأُحْرِقَ وَسُحِقَ نَاعِمًا وَجُعِلَ فِي خِرْقَةِ كَتَّانٍ وَدُفِعَتْ إلَى امْرَأَةٍ تَشَمُّهَا فَإِنْ أَخَذَهَا الْعُطَاسُ فَهِيَ ثَيِّبٌ وَإِلَّا فَبِكْرٌ. وَذُكِرَ أَنَّ بَعْضَ الْأَكَاسِرَةِ غَضِبَ عَلَى قَوْمٍ مِنْ الْأَطِبَّاءِ فَأَمَرَ بِحَبْسِهِمْ وَخَيَّرَهُمْ أُدْمًا لَا مَزِيدَ لَهُمْ عَلَيْهِ، فَاخْتَارُوا الْأُتْرُجَّ فَقِيلَ لَهُمْ لِمَ اخْتَرْتُمُوهُ عَلَى غَيْرِهِ؟ قَالُوا؛ لِأَنَّهُ فِي الْعَاجِلِ رَيْحَانٌ وَنَظَرُهُ مُفَرِّحٌ وَقِشْرُهُ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ وَلَحْمُهُ فَاكِهَةٌ وَحَمْضُهُ أُدْمٌ وَحَبُّهُ تِرْيَاقٌ وَفِيهِ دَهْنٌ وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يُحِبُّ النَّظَرَ إلَيْهِ لِمَا فِي مَنْظَرِهِ مِنْ التَّفْرِيحِ قَالَ ابْنُ جَزْلَةَ وَرَقُ الْأُتْرُجِّ حَارٌّ يَابِسٌ فِيهِ تَحْلِيلِ وَتَجْفِيفٌ وَعُصَارَتُهُ إذَا شُرِبَتْ نَفَعَتْ مِنْ رُطُوبَةِ الْمَعِدَةِ وَبَرْدِهَا وَإِذَا مُضِغَ طَيَّبَ النَّكْهَةَ وَقَطَعَ رَائِحَةَ الثُّومِ وَالْبَصَلِ فَلِهَذِهِ الْمَنَافِعِ الْعَظِيمَةِ الْكَثِيرَةِ حَصَلَ تَشْبِيهُ الْمُؤْمِنِ بِذَلِكَ. (وَأَمَّا الْحَنْظَلُ) وَهُوَ الْعَلْقَمُ وَهُوَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ طَعْمَهُ

مُرٌّ وَلَا رِيحَ لَهُ» وَهَذَا حَقٌّ مَعْلُومٌ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا نَفْعَ فِيهِ وَقَدْ ذَكَرَ الْأَطِبَّاءُ فِيهِ مَنَافِعَ وَمَضَارَّ وَإِنَّهُ رُبَّمَا قَتَلَ قَالُوا مِنْهُ ذَكَرٌ وَمِنْهُ أُنْثَى فَالذَّكَرُ لِيفِيٌّ وَالْأُنْثَى رَخْوٌ أَبْيَضُ سَلِسٌ وَالْأَسْوَدُ مِنْهُ رَدِيءٌ، وَإِذَا لَمْ تَنْسَلِخْ خُضْرَتُهُ عَنْهُ فَهُوَ رَدِيءُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى شَجَرَتِهِ إلَّا حَنْظَلَةٌ وَاحِدَةٌ فَهِيَ رَدِيئَةٌ قَتَّالَةٌ وَأَجْوَدُهُ الْأَصْفَرُ الْهِنْدِيُّ الْمُدْرَكُ فِي أَيَّامِ الرَّبِيعِ وَهُوَ حَارٌّ فِي الثَّالِثَةِ وَقِيلَ فِي الثَّانِيَةِ وَقِيلَ بَارِدٌ رَطْبٌ وَهُوَ مُحَلِّلٌ مُقَطِّعٌ جَاذِبٌ إذَا دُلِكَ بِهِ الْجُذَامُ وَدَاءُ الْفِيلِ، نَافِعٌ مِنْ أَوْجَاعِ الْعَصَبِ وَالْمَفَاصِلِ وَالنَّسَاءِ وَالنِّقْرِسِ الْبَارِدِ وَيُنَقِّي الدِّمَاغَ وَيَنْفَعُ مِنْ بُدُوِّ الْمَاءِ فِي الْعَيْنِ وَأَصْلُهُ نَافِعٌ مِنْ الِاسْتِسْقَاءِ، وَهُوَ يُسَهِّلُ الْبَلْغَمَ مِنْ الْمَفَاصِلِ وَالْعَصَبِ وَيُسَهِّلُ الْمِرَارَ الْأَسْوَدَ وَيَنْفَعُ مِنْ الْقُولَنْجِ الرَّيْحِيِّ، وَالشَّرْبَةُ مِنْهُ نِصْفُ دِرْهَمٍ مَعَ عَسَلٍ وَدَانَقٍ وَنِصْفٌ مَعَ الْأَدْوِيَةِ وَأَصْلُهُ يَنْفَعُ مِنْ لَدْغِ الْأَفَاعِي وَهُوَ مِنْ أَنْفَعِ الْأَدْوِيَةِ لِلَدْغِ الْعَقْرَبِ طِلَاءً وَشُرْبًا وَيَتَبَخَّرُ مِنْهُ لِلْبَوَاسِيرِ وَشُرْبُهُ رُبَّمَا أَسْهَلَ الدَّمَ وَهُوَ يَضُرُّ بِالْمَعِدَةِ وَتُصْلِحُهُ الْكَثِيرَةُ وَإِذَا اُحْتُمِلَ قَتَلَ الْجَنِينَ. وَالْمُجْتَنَى أَخْضَرُ يُسَهِّلُ بِإِفْرَاطٍ وَيُقَيِّئُ بِإِفْرَاطٍ وَكَرْبٍ حَتَّى إنَّهُ رُبَّمَا قَتَلَ، وَالْمُفْرَدُ الثَّابِتُ فِي أَصْلِهِ وَحْدَهُ رُبَّمَا قَتَلَ مِنْهُ وَزْنُ دَانَقَيْنِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ اسْتِعْمَالَ مِثْلَ هَذَا عَلَى كَلَامِ الْأَطِبَّاءِ عَلَى خَطَرٍ إلَّا مَنْ اجْتَهَدَ فِيهِ فَاجْتَنَاهُ بِنَفْسِهِ أَوْ مَنْ يَثِقُ بِهِ وَاعْتَبَرَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ صِفَاتِهِ وَاحْتَاطَ مَعَ تَعْجِيلِ أَلَمٍ بِأَكْلِهِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِنْسَانَ فِيهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ الْقَتْلِ وَالْأَذَى وَعَلَى يَقِينٍ مِنْ الْأَلَمِ، وَنَفْعُهُ مُحْتَمَلٌ وَغَايَتُهُ الظَّنُّ وَأَيْنَ هَذَا مِنْ الْأُتْرُجِّ؟ (وَأَمَّا الْأَرْزُ) فَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَرَاءٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ زَايٍ شَجَرٌ مَعْرُوفٌ يُقَالُ لَهُ الْأَرْزَنُ، يُشْبِهُ شَجَرَ الصَّنَوْبَرِ بِفَتْحِ الصَّادِ يَكُونُ

بِالشَّامِ وَبِلَادِ الْأَرْمَنِ وَقِيلَ هُوَ الصَّنَوْبَرُ، وَذَكَرَ الْجَوْهَرِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَالْأَرَزَةُ بِالتَّحْرِيكِ شَجَرُ الْأَرْزَنِ قَالَ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْأَرْزَةُ بِالتَّسْكِينِ شَجَرُ الصَّنَوْبَرِ. وَقَالَ الْأَطِبَّاءُ هُوَ ذَكَرُ شَجَرِ الصَّنَوْبَرِ وَهُوَ الَّذِي لَا يُثْمِرُ وَكَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَقْصُودُهُ بِذَلِكَ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَاضِحٌ مَعْلُومٌ لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا نَفْعَ فِيهِ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ فِيهِ مَنَافِعَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ وَصِحَّتِهِ.

فصل في اللحوم وأنواعها وأجزاء الحيوان ومعالجتها

[فَصْلٌ فِي اللُّحُومِ وَأَنْوَاعِهَا وَأَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ وَمُعَالَجَتِهَا] يَتَعَلَّقُ بِمَا قَبْلَهُ قَالَ تَعَالَى {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة: 21] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا «أَنَّ النَّبِيَّ أَكَلَ اللَّحْمَ وَأَكَلَ لَحْمَ دَجَاجٍ» وَسَبَقَ فِيهِ كَلَامٌ فِي حِفْظِ الصِّحَّةِ وَسَيَأْتِي فِي آدَابِ الْأَكْلِ إنْكَارُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى مَنْ امْتَنَعَ مِنْ الْمُبَاحَاتِ مُطْلَقًا وَعَنْ بُرَيْدَةَ مَرْفُوعًا «سَيِّدُ أُدْمِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اللَّحْمُ» حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي غَرِيبِهِ وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ مُحْتَجًّا بِهِ. وَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ لَا يَصِحُّ وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا «سَيِّدُ طَعَامِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَأَهْلِ الْجَنَّةِ اللَّحْمُ» وَعَنْهُ أَيْضًا «مَا دُعِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى لَحْمِ قَطُّ إلَّا أَجَابَ وَلَا أُهْدِيَ إلَيْهِ لَحْمٌ قَطُّ إلَّا قَبِلَهُ» رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَطَاءٍ الْجَزَرِيِّ وَهُوَ وَاهٍ عِنْدَهُمْ قَالَ أَبُو زُرْعَةَ وَغَيْرُهُ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَفِي مُسْلِمٍ أَوْ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ» أَيْ ثَرِيدُ كُلِّ طَعَامٍ أَفْضَلُ مِنْ مَرَقِهِ فَثَرِيدُ اللَّحْمِ وَغَيْرِهِ أَفْضَلُ مِنْ مَرَقِهِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «كَانَ أَحَبَّ الطَّعَامِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثَّرِيدُ مِنْ الْخُبْزِ وَالثَّرِيدُ مِنْ الْحَيْسِ» وَقَالَ الشَّاعِرُ: إذَا مَا الْخُبْزُ تَأْدُمُهُ بِلَحْمٍ ... فَذَاكَ أَمَانَةَ اللَّهِ الثَّرِيدُ فَاللَّحْمُ سَيِّدُ الْإِدَامِ وَالْخُبْزُ أَفْضَلُ الْقُوتِ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ وَيُتَوَجَّهُ أَنَّ اللَّحْمَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ طَعَامُ أَهْلِ الْجَنَّةِ؛ وَلِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِجَوْهَرِ الْبَدَنِ

وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة: 61] الْأَشْهَرُ أَنَّ الْمَنَّ مَاءٌ يَقَعُ عَلَى الشَّجَرِ أَوْ الْعَسَلُ أَوْ شَرَابٌ خِلَافًا لِمَنْ ذَهَبَ أَنَّهُ خُبْزٌ وَالْأَشْهَرُ أَنَّ السَّلْوَى طَائِرٌ وَقِيلَ الْعَسَلُ، وَالْأَشْهَرُ أَنَّ الْفُومَ الْحِنْطَةُ أَوْ الْحُبُوبُ لَا الثُّومُ فَظَهَرَ أَنَّ عَلَى الْأَشْهَرِ أَنَّ اللَّحْمَ خَيْرٌ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالْحَبِّ، وَالْحَاجَةُ إلَى الْخُبْزِ أَكْثَرُ وَيَأْتِيَ فَصْلٌ فِي ذِكْرِ الْخُبْزِ بَعْدِ هَذَا الْفَصْلِ. وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: كُلُوا اللَّحْمَ فَإِنَّهُ يُصَفِّي اللَّوْنَ وَيَخْمُصُ الْبَطْنَ وَيُحَسِّنُ الْخُلُقَ، وَعَنْهُ أَيْضًا مَنْ تَرَكَهُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً سَاءَ خُلُقُهُ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ: أَكْلُ اللَّحْمِ يَزِيدُ فِي الْبَصَرِ وَقَالَ الزُّهْرِيِّ أَكْلُ اللَّحْمِ يَزِيدُ سَبْعِينَ قُوَّةً، وَأَمَّا إدْمَانُ اللَّحْمِ فَلَيْسَ هُوَ بِطَرِيقٍ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا لِأَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - هَذَا مَعْلُومٌ مِنْ حَالِهِمْ وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَدُ أَكْرَهُ إدْمَانَ اللَّحْمِ. وَقَالَ نَافِعٌ وَكَانَ عُمَرُ إذَا كَانَ رَمَضَانُ لَمْ يَفُتْهُ اللَّحْمُ وَإِذَا سَافَرَ لَمْ يَفُتْهُ اللَّحْمُ يَعْنِي لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى بَقَاءِ الْقُوَّةِ وَالصِّحَّةِ وَلِلتَّقَوِّي عَلَى الْعِبَادَةِ وَفِي الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضَ أَهْلَ الْبَيْتِ اللَّحْمِيِّينَ قِيلَ هُمْ الَّذِينَ يُكْثِرُونَ أَكْلَ لَحْمِ النَّاسِ بِالْغِيبَةِ» . رُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَقِيلَ هُمْ الَّذِينَ يُكْثِرُونَ أَكْلَ اللَّحْمِ وَيُدْمِنُونَهُ قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ وَهُوَ أَشْبَهُ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِيَّاكُمْ وَاللَّحْمَ فَإِنَّ لَهُ ضَرَاوَةً كَضَرَاوَةِ الْخَمْرِ ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْهُ قَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ وَغَيْرُهُ يَعْنِي إذَا أَكْثَرَ مِنْهُ. وَمِنْهُ كَلْبٌ ضَارِي وَمِثْلُ هَذَا مَعْلُومٌ بِالتَّجْرِبَةِ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ النَّفَقَاتِ صَرِيحًا أَنَّهُ يَجِبُ لِلْمَرْأَةِ اللَّحْمُ كُلَّ يَوْمٍ وَلَوْ كَانَتْ مُوسِرَةً تَحْتَ مُوسِرٍ وَذَلِكَ مُحَرَّرٌ فِي النَّفَقَاتِ، وَذَكَرَ الْخَلَّالُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ كَمْ يَأْكُلُ الرَّجُلُ اللَّحْمَ قَالَ فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَلَعَلَّ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ أَثَرًا فَإِنَّهُ قَالَ إنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا تَحُكَّ رَأْسَكَ إلَّا بِأَثَرٍ فَافْعَلْ، وَلَعَلَّ مُرَادَهُ

أَكْثَرُ مَا يَنْبَغِي تَرْكُهُ، وَمُرَادُهُ مَا لَمْ يَحْتَجْ إلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ أَبُقْرَاطُ لَا تَجْعَلُوا أَجْوَافَكُمْ مَقْبَرَةً لِلْحَيَوَانِ يَعْنِي إدْمَانَ اللَّحْمِ. وَقَالَ الْأَطِبَّاءُ اللُّحُومُ لَا تَصْلُحُ لِلْمُبْتَلَى، وَإِدْمَانُ اللَّحْمِ يُوَرِّثُ الِامْتِلَاءَ وَيَحْتَاجُ إلَى الْفَصْدِ، وَاللَّحْمُ الْأَحْمَرُ أَغْذَى مِنْ السَّمِينِ وَأَقَلُّ فُضُولًا وَالْأَجْوَدُ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ السَّمِينِ وَالْهَزِيلِ قَالَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ اللَّحْمُ يُنْبِتُ اللَّحْمَ، وَالشَّحْمُ لَا يُنْبِتُ اللَّحْمَ وَلَا الشَّحْمَ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَأَبْعَدُ اللَّحْمِ مِنْ أَنْ يُعَفَّنَ أَقَلُّهُ شَحْمًا وَأَيْبَسُهُ جَوْهَرًا، أَوْ اللَّحْمُ مُقَوٍّ لِلْبَدَنِ وَأَقْرَبُ اسْتِحَالَةً إلَى الدَّمِ. (لَحْمُ الْجَدْيِ) مُعْتَدِلٌ يُبْرِئُ مِنْ كُلِّ دَاءٍ لَا سِيَّمَا الرَّضِيعِ وَهُوَ أَسْرَعُ هَضْمًا لِقُوَّةِ اللَّبَنُ فِيهِ: مُلَيِّنٌ لِلطَّبْعِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُوَافِقُ أَكْثَرَ النَّاسِ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ، وَلَحْمُ الْحُمْلَانِ أَغْلَظُ مِنْهُ وَأَسْخَنُ وَأَكْثَرُ فُضُولًا، وَهُوَ تَالٍ لِلَحْمِ الْجَدْيِ فِي الْجَوْدَةِ وَقَالَ ابْنُ جَزْلَةَ تَضُرُّ بِالْقُولَنْجِ إذَا كَانَتْ مَشْوِيَّةً وَيُصْلِحُهُ حُلْوُ السُّكَّرِ. (لَحْمُ الْمَاعِزِ) يَابِسٌ قَلِيلُ الْحَرَارَةِ وَخَلْطَةُ الْمُتَوَلَّدُ مِنْهُ لَيْسَ بِفَاضِلٍ وَلَا جَيِّدِ الْهَضْمِ وَلَا مَحْمُودِ الْغِذَاءِ وَلَحْمُ التَّيْسِ رَدِيءٌ مُطْلَقًا. وَقَالَ الْجَاحِظُ قَالَ لِي فَاضِلُ مِنْ الْأَطِبَّاءِ يَا أَبَا عُثْمَانَ إيَّاكَ وَلَحْمَ الْمَعْزِ فَإِنَّهُ يُوَرِّثُ الْغَمَّ وَيُحَرِّكُ السَّوْدَاءَ وَيُوَرِّثُ النِّسْيَانَ وَيُفْسِدُ الدَّمَ، وَهُوَ وَاَللَّهِ يَخْبِلُ الْأَوْلَادَ. وَقَالَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ: الْمَذْمُومُ مِنْهُ الْمُسِنُّ لَا سِيَّمَا لِلْمُسِنِّينَ وَلَا رَدَاءَةَ فِيهِ لِمَنْ اعْتَادَهُ، وَجَالِينُوسُ جَعَلَ الْحَوْلِيُّ مِنْهُ مِنْ الْأَغْذِيَةِ الْمُعْتَدِلَةِ الْمُعَدِّلَةِ الْكَيْمُوسَ الْمَحْمُودَ، وَإِنَاثُهُ أَفْضَلُ مِنْ ذُكُورِهِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنْ مَا يَضُرُّ مِنْ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ، فَيَضُرُّ مَعَ ضَعْفِ الْمِزَاجِ وَالْمَعِدَةِ وَعَدَمِ اعْتِيَادِهِ وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَحْمُ (الضَّأْنِ) حَارٌّ فِي الثَّانِيَةِ رَطْبٌ فِي الْأُولَى يُوَلِّدُ دَمًا قَوِيًّا مَحْمُودًا لِمَنْ جَادَ هَضْمُهُ، يَصْلُحُ لِمَنْ مِزَاجُهُ بَارِدٌ وَمُعْتَدِلٌ نَافِعٌ لِأَصْحَابِ الْمُرَّةِ السَّوْدَاءِ يُقَوِّي الذِّهْنَ وَالْحِفْظَ، وَحَرَاقَةُ لَحْمِهِ تُطْلَى عَلَى الْبَهَقِ وَالْقَوَابِي وَرَمَادُ لَحْمِ الْبِيضِ يَنْفَعُ بَيَاضَ الْعَيْنِ وَلَحْمُهُ الْمُحْتَرَقُ لِلَسْعِ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَيُوَلِّدُ أَكْلُهُ بَلْغَمًا فَيَتْبَعُ بِمَا يُحَلِّلُهُ وَيَنْفُذُهُ كَحُلْوِ السُّكَّرِ، وَيَضُرُّ لِمَنْ اعْتَادَهُ الْغَثَيَانُ فَيَعْمَلُهُ بِأَمْرَاقٍ قَابِضَةٍ. وَلَحْمُ النِّعَاجِ وَالْهَرِمِ وَالْعَجِيفُ رَدِيءٌ وَالْأَسْوَدُ مِنْ لَحْمِ الذَّكَرِ أَجْوَدُ وَأَخَفُّ وَأَلَذُّ وَأَنْفَعُ، وَالْخَصِيّ أَنْفَعُ وَأَجْوَدُ، وَأَفْضَلُ اللَّحْمِ الْمُتَّصِلُ بِالْعَظْمِ وَالْأَيْمَنُ أَخَفُّ وَأَجْوَدُ مِنْ الْأَيْسَرِ، وَمَقَادِمُ الْحَيَوَانِ أَخَفُّ وَأَسْخَنُ وَكُلُّ مَا عَلَا مِنْهُ سِوَى الرَّأْسِ كَانَ أَخَفَّ وَأَجْوَدَ مِمَّا سَفُلَ وَأَعْطَى الْفَرَزْدَقُ رَجُلًا يَشْتَرِي لَهُ لَحْمًا وَقَالَ لَهُ خُذْ الْمَقْدَمَ، وَإِيَّاكَ وَالرَّأْسَ وَالْبَطْنَ فَإِنَّ الدَّاءَ فِيهِمَا. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْرٍ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا «اتَّخِذِي غَنَمًا فَإِنَّ فِيهَا بَرَكَةً» إسْنَادٌ جَيِّدٌ وَلِابْنِ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ «الْإِبِلُ عِزٌّ لِأَهْلِهَا وَالْغَنَمُ بَرَكَةٌ، وَالْخَيْرُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِي الْخَيْلِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَرَوَاهُ الْيَرَقَانِيُّ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحَيْنِ وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «الشَّاةُ مِنْ دَوَابِّ الْجَنَّةِ» . وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَحْسِنُوا إلَى الْمَعْزِ وَأَمِيطُوا عَنْهَا الْأَذَى فَإِنَّهَا مِنْ دَوَابِّ أَهْلِ الْجَنَّةِ» . وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ أَحْسِنْ إلَى غَنَمِكَ وَامْسَحْ الرُّعَامَ عَنْهَا وَأَطِبْ مُرَاحَهَا وَصَلِّ فِي نَاحِيَتِهَا فَإِنَّهَا مِنْ دَوَابِّ الْجَنَّةِ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ تَكُونُ الثُّلَّةُ مِنْ الْغَنَمِ أَحَبُّ إلَى صَاحِبِهَا مِنْ دَارِ مَرْوَانَ: الرُّعَامُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ الْمُخَاطُ. (لَحْمُ الْبَقَرِ) بَارِدٌ يَابِسٌ أَكْثَرُ مِنْ لَحْمِ الْمَعْزِ، وَقِيلَ حَارٌّ يَابِسٌ فِي الرَّابِعَةِ كَثِيرُ الْغِذَاءِ وَأَفْضَلُ مَا أُكِلَ مِنْهُ فِي فَصْلِ الرَّبِيعِ غَلِيظٌ عَسِرُ الْهَضْمِ بَطِيءُ

الِانْحِدَارِ يُوَلِّدُ دَمًا غَلِيظًا مُنْتِنًا سَوْدَاوِيًّا، لَا يَصْلُحُ لِأَهْلِ الْكَدِّ وَالتَّعَبِ الشَّدِيدِ، وَيُوَرِّثُ إدْمَانُهُ الْأَمْرَاضَ السَّوْدَاوِيَّةَ كَالْجَرَبِ. وَالْبَهَقِ وَالْجُذَامِ وَالْقُوبَا وَدَاءِ الْفِيلِ وَالسَّرَطَانِ وَالْوَسْوَاسِ وَحُمَّى الرِّبْعِ وَكَثِيرًا مِنْ الْأَوْرَامِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَهَذَا لِمَنْ لَمْ يَعْتَدْهُ أَوْ لِمَنْ لَمْ يَدْفَعْ ضَرَرَهُ بِالثُّومِ وَالدَّارَصِينِيِّ وَالْفُلْفُلِ وَالزَّنْجَبِيلِ وَنَحْوِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ جَزْلَةَ الْعَادَةَ وَإِنَّمَا قَالَ يُقَلِّلُ ضَرَرَهُ وَيُصْلِحُهُ بَعْضَ الْإِصْلَاحِ الدَّارَصِينِيِّ وَالزَّنْجَبِيلُ وَالْفُلْفُلُ، وَلَحْمُ الْأُنْثَى أَقَلُّ يُبْسًا وَلَحْمُ الذَّكَرِ أَقَلُّ بَرْدًا وَلَحْمُ الْعِجْلِ لَا سِيَّمَا السَّمِينِ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْقَرِيبُ الْعَهْدِ بِالْوِلَادَةِ حَارٌّ رَطْبٌ مُعْتَدِلُ الْغِذَاءِ طَيِّبٌ لَذِيذٌ مَحْمُودٌ قَالَ ابْنُ جَزْلَةَ خَيْرٌ مِنْ الْكِبَاشِ قَالَ وَيَضُرُّ بِالْمَطْحُولِينَ، وَيُصْلِحُهُ الرِّيَاضَةُ وَالِاسْتِحْمَامُ. (لَحْمُ الْجَزُورِ) شَدِيدُ الْحَرَارَةِ وَالْإِسْخَانِ يَصْلُحُ لِأَصْحَابِ الْكَدِّ الشَّدِيدِ وَالرِّيَاضَةِ الْقَوِيَّةِ غَلِيظُ الْغِذَاءِ يُوَلِّدُ السَّوْدَاءَ وَيُصْلِحُهُ الزَّنْجَبِيلُ الْمُرَبَّى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ اعْتَادَهُ لَا يَضُرُّهُ بَلْ هُوَ كَلَحْمِ الضَّأْنِ لِمَنْ اعْتَادَهُ وَمِثْلُهُ لَحْمُ الْخَيْلِ. (لَحْمُ الْغَزَالِ) أَصْلَحُ الصَّيْدِ وَأَحْمَدُهُ عَلَى أَنَّهَا بِأَسْرِهَا رَدِيئَةٌ تُوَلِّدُ دَمًا غَلِيظًا سَوْدَاوِيًّا، وَالْغَزَالُ أَقَلُّهَا غِذَاءً وَأَجْوَدُهُ الْخَشَفُ وَهُوَ حَارٌّ يَابِسٌ وَقِيلَ مُعْتَدِلٌ يَنْفَعُ مِنْ الْقُولَنْجِ وَالْفَالِجِ وَيَصْلُحُ لِلْبَدَنِ الْكَثِيرِ الْفُضُولِ وَهُوَ يُجَفَّفُ وَيُسَخَّنُ وَتُصْلِحُهُ الْأَدْهَانُ وَالْحَوَامِضُ. (لَحْمُ الْأَرْنَبِ) بَعْدَ الْغَزَالِ فِي الْجَوْدَةِ وَأَجْوَدُهُ مَا تَصِيدُ الْكِلَابُ حَارٌّ يَابِسٌ يَجْلِسُ فِي مَرَقِهِ صَاحِبُ النِّقْرِسِ وَوَجَعِ الْمَفَاصِلِ وَيُقَارِبُ مَنْفَعَتُهُ مَرَقَ الثَّعْلَبِ، وَلَحْمُهُ الْمَشْوِيُّ جَيِّدٌ لِقُرُوحِ الْأَمْعَاءِ وَهُوَ يَعْقِلُ الطَّبْعَ وَيُدِرُّ الْبَوْلَ وَيُفَتِّتُ الْحَصَاةَ وَهُوَ غَلِيظٌ يُحْدِثُ حُمَّى رِبْعٍ وَأَكْلُ رُءُوسِهَا يَنْفَعُ مِنْ الرَّعْشَةِ.

لَحْمُ الْكِبَاشِ الْجَبَلِيَّةِ وَالْحُمُرِ الْوَحْشِيَّةِ) حَارَّةٌ يَابِسَةٌ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ رَدِيءُ الْغِذَاءِ عَسِرُ الِانْهِضَامِ وَحِمَارُ الْوَحْشِ كَثِيرُ الْغِذَاءِ يُوَلِّدُ دَمًا غَلِيظًا سَوْدَاوِيًّا وَشَحْمُهُ نَافِعٌ مَعَ دُهْنِ الْقُسْطِ لِوَجَعِ الظَّهْرِ، وَالرِّيحِ الْغَلِيظَةِ الْمُرْخِيَةِ لِلْكُلَى. وَشَحْمُهُ جَيِّدٌ لِلْكَلَفِ طِلَاءً. (لَحْمُ الضَّبِّ) حَارٌّ يَابِسٌ يُقَوِّي شَهْوَةَ الْجِمَاعِ وَبَعْرُهُ يُطْلَى بِهِ الْكَلَفُ وَالنَّمَشُ وَيَقْلَعُ بَيَاضَ الْعَيْنِ، وَإِذَا دُقَّ لَحْمُهُ وَوُضِعَ عَلَى مَوْضِعِ الشَّوْكَةِ اجْتَذَبَهَا (لَحْمُ الْأَجِنَّةِ) غَيْرُ مَحْمُودٍ لِاخْتِنَاقِ الدَّمِ وَلَيْسَتْ بِحَرَامٍ. الرُّءُوسُ غَلِيظَةٌ كَثِيرَةُ الْإِغْذَاءِ تُؤْكَلُ فِي زَمَانِ الْبَرْدِ مُسَخَّنَةً كَثِيرًا مَا تَهِيجُ مِنْهَا الْحُمَّى وَالْقُولَنْجُ لَكِنَّهَا تُقَوِّي غَايَةَ الْقُوَّةِ وَتَزِيدُ فِي الْمَنِيِّ. (الْأَكَارِعُ) تُوَلِّدُ دَمًا أَبْرَدَ وَأَلْزَجَ وَأَخَفَّ مِمَّا يُوَلِّدُ اللَّحْمُ. (الْأَلْيَةُ) رَدِيئَةُ الْغِذَاءِ بَطِيئَةُ الْهَضْمِ وَيُصْلِحُهَا الْأَبَازِيرُ الْحَارَّةُ وَهِيَ حَارَّةٌ رَدِيئَةٌ لِلْمَعِدَةِ مُتْخِمَةٌ تُوَلِّدُ الصَّفْرَاءَ. (وَالشَّحْمُ) حَارٌّ رَطْبٌ أَقَلُّ رُطُوبَةً مِنْ السَّمْنِ وَلِهَذَا لَوْ أُذِيبَا كَانَ الشَّحْمُ أَسْرَعَ جُمُودًا يَنْفَعُ مِنْ خُشُونَةِ الْحَلْقِ وَيُرْخِي وَيُعَفِّنُ وَيُدْفَعُ ضَرَرُهُ بِاللَّيْمُونِ الْمَمْلُوحِ وَالزَّنْجَبِيلِ، وَشَحْمُ الْمِعْزَى أَقْبَضُ الشُّحُومِ، وَشَحْمُ التَّيْسِ أَشَدُّ تَحْلِيلًا وَيَنْفَعُ مِنْ قُرُوحِ الْأَمْعَاءِ، وَشَحْمُ الْعَنْزِ أَقْوَى فِي ذَلِكَ وَيُحْتَقَنُ بِهِ لِلزَّحِيرِ. (اللَّحْمُ الْمَشْوِيُّ) كَثِيرُ الْإِغْذَاءِ يُقَوِّي الْبَدَنَ وَيُغَذِّيهِ بِسُرْعَةٍ وَيَصْلُحُ لِمَنْ اسْتَفْرَغَ بَدَنُهُ غَيْرَ أَنَّهُ عَسِرُ الْهَضْمِ لَا يَكَادُ يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ الْهَضْمُ عَنْ آخِرِهِ وَلَا يَنْبَغِي عَلَى طَعَامٍ وَلَا يُخْلَطُ مَعَهُ غَيْرُهُ وَلَا يُشْرَبُ عَلَيْهِ سَاعَةَ الْأَكْلِ، إلَّا قَلِيلًا لَا بُدَّ مِنْهُ وَالْمَطْبُوخُ أَرْطَبُ وَأَخَفُّ وَأَنْفَعُ. وَأَرْدَؤُهُ الْمَشْوِيُّ فِي الشَّمْسِ وَالْمَشْوِيُّ عَلَى الْجَمْرِ وَالرَّضَفِ وَهُوَ الْحَنِيذُ خَيْرٌ مِنْ الْمَشْوِيِّ بِاللَّهَبِ.

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: «أَكَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَحْمًا فِي الْمَسْجِدِ قَدْ شُوِيَ فَمَسَحْنَا أَيْدِيَنَا بِالْحَصْبَاءِ ثُمَّ قُمْنَا نُصَلِّي وَلَمْ نَتَوَضَّأْ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَفِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ قَالَ بَعْضُهُمْ: الشِّوَاءُ غَلِيظٌ كَثِيرُ الْإِغْذَاءِ لَا يَسْتَمْرِئُهُ إلَّا الْمَعِدَةُ الْحَارَّةُ الْقَوِيَّةُ يُمْسِكُ الْبَطْنَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤْكَلَ مَعَهُ مَا يُلَطِّفُهُ وَكَثِيرًا مَا يَتَوَلَّدُ عَنْهُ الْقُولَنْجُ وَخُصُوصًا إذَا أُكِلَ مَعَهُ بَقْلٌ كَثِيرٌ وَشُرِبَ عَلَيْهِ الْمَاءُ. (الْمُطَجَّنَةُ) أَغْذَاؤُهَا رَدِيءٌ قَلِيلٌ يَصْلُحُ لِمَنْ يَتَجَشَّى جُشَاءً حَامِضًا. (الْقَلَايَا) حَارَّةٌ مُعْتَدِلَةُ الْيُبْسِ فَإِنْ كَانَتْ مَقْلُوَّةً بِالسَّمْنِ فَهِيَ بَطِيئَةٌ تُجَوِّدُ الْحِفْظَ وَتَقْطَعُ الْبَلَاغِمَ وَهِيَ تَضُرُّ بِفَمِ الْمَعِدَةِ لِبُطْءِ هَضْمِهَا وَتُصْلِحُهَا الْمُحْمِضَاتُ وَكُلُّ ضَرْبٍ مِنْ الْمُطَجَّنَاتِ وَالْقَلَايَا قَلِيلَةُ الْإِغْذَاءِ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْأَلْوَانِ الَّتِي لَهَا ثُرُدٌ وَأَمْرَاقٌ تَصْلُحُ لِمَنْ يَشْكُو رُطُوبَةً وَيَجِبُ تَخْفِيفُ بَدَنِهِ وَتَلْطِيفُهُ. (قَدِيدٌ) أَكَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ أَنْفَعُ مِنْ الْمَكْسُودِ يُقَوِّي الْأَبْدَانَ قَلِيلُ الْغِذَاءِ وَلِهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُطْبَخَ بِالدُّهْنِ وَاللَّبَنِ وَيَنْفَعُ الْمُسْتَسْقِي الْمُتَرَهِّلُ سِيَّمَا الْمَنْقُوعُ فِي الْخَلِّ لِقِلَّةِ تَعْطِيشِهِ وَكَذَا يُطْبَخُ الْمَكْسُودُ بِالدُّهْنِ وَاللَّبَنِ وَهُوَ حَارٌّ يَابِسٌ يَضُرُّ بِالْقُولَنْجِ. وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: «أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ فَقَالَ هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ إنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ» إسْنَادُهُ جَيِّدٌ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ «لَقَدْ كُنَّا نَرْفَعُ الْكُرَاعَ فَيَأْكُلُهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنْ الْأَضَاحِيِّ» . (قُلُوبٌ) حَارَّةٌ صَالِحَةٌ لِأَصْحَابِ الْكَدِّ وَتَضُرُّ بِآلَاتِ الْهَضْمِ لِعُسْرِ انْهِضَامِهَا وَلِهَذَا تُعْمَلُ بِخَلٍّ، وَفُلْفُلٍ، وَكَمُّونٍ، وَصَعْتَرٍ، وَيُسْتَعْمَلُ بَعْدَهَا الزَّنْجَبِيلُ الْمُرَبَّى. (كَبِدٌ) حَارَّةٌ رَطْبَةُ الدَّمِ الْمُتَوَلَّدُ مِنْهَا مَحْمُودٌ يَنْبَغِي أَنْ تُعْمَلَ بِمَا يُلَطِّفُهَا كَالزَّيْتِ وَنَحْوِهِ قَالَ ابْنُ جَزْلَةَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْتَنَبَ كُبُودُ الْمَوَاشِي فَإِنْ

أُكِلَ مِنْهَا شَيْءٌ فَلْيُتْبَعْ بِبَعْضِ الجوارشنات، وَإِذَا انْهَضَمَ الْقَلْبُ وَالْكَبِدُ غَذَّى كَثِيرًا. (كُلًى) مُعْتَدِلَةُ الْحَرِّ وَالْيُبْسُ وَقِيلَ بَارِدَةٌ رَطْبَةٌ تَحْبِسُ الطَّبْعَ خَلْطُهَا رَدِيءٌ عَسِرُ الْهَضْمِ فَلِهَذَا تُنْضَجُ بِالْخَلِّ وَنَحْوِهِ وَقَالَ ابْنُ بَخْتَيَشُوعَ إدَامَةُ أَكْلِ كُلَى الْغَنَمِ يُعَفِّنَ الْمَثَانَةَ. (رِئَةٌ) حَارَّةٌ رَطْبَةٌ سَهْلَةُ الْهَضْمِ تَحْبِسُ الطَّبْعَ يُعَلَّلُ بِهَا النَّاقِهُونَ لِلَطَافَتِهَا وَسُرْعَةِ انْحِدَارِهَا، قَلِيلَةُ الْغِذَاءِ، تَضُرُّ بِأَصْحَابِ الْكَدِّ، وَقِيلَ هِيَ يَابِسَةٌ عَسِرَةُ الْهَضْمِ. (كُرُوشٌ) بَارِدَةٌ عَسِرَةُ الْهَضْمِ رَدِيئَةُ الْكَيْمُوسِ يَنْبَغِي أَنْ تُعَدَّلَ بِفُلْفُلٍ وَنَحْوِهِ. (وَأَمَّا لَحْمُ الطَّيْرِ) فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَطْيَبُ اللَّحْمِ لَحْمُ الطَّيْرِ» وَيُوَافِقُ ذَلِكَ تَخْصِيصُهُ تَعَالَى لَحْمَ الطَّيْرِ بِقَوْلِهِ: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة: 21] . (لَحْمُ دَجَاجٍ) حَارٌّ رَطْبٌ فِي الْأُولَى، وَقِيلَ مُعْتَدِلُ الْحَرِّ يَزِيدُ فِي الدِّمَاغِ وَالْعَقْلِ وَالْمَنِيِّ يُصَفِّي الصَّوْتَ، وَيُحَسِّنُ الصَّوْتَ، وَيُحَسِّنُ اللَّوْنَ. وَهِيَ مِنْ أَغْذِيَةِ النَّاقِهِينَ وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُدَاوَى بِهَا صَاحِبُ الرِّيَاضَةِ وَالْكَدِّ، وَيُقَالُ أَكْلُهُ دَائِمًا يُوَرِّثُ النَّقْرَسَ وَلَا يَصِحُّ هَذَا، وَلَحْمُ الدُّيُوكِ أَسْخَنُ مِزَاجًا وَأَقَلُّ رُطُوبَةٍ، وَالْعَتِيقُ مِنْهُ دَوَاءٌ يَنْفَعُ الْقُولَنْجَ وَالرَّبْوَ وَالرِّيَاحَ الْغَلِيظَةَ إذَا طُبِخَ بِمَاءِ الْقُرْطُمِ وَالشِّبِتِّ، وَخَصِيُّهَا مَحْمُودُ الْغِذَاءِ سَرِيعُ الْهَضْمِ، وَالْفَرَارِيجُ سَرِيعَةُ الْهَضْمِ مُلَيِّنَةٌ لِلطَّبْعِ دَمُهَا لَطِيفٌ جَيِّدٌ. (لَحْمُ الدُّرَّاجِ) حَارٌّ يَابِسٌ فِي الثَّانِيَةِ خَفِيفٌ لَطِيفٌ سَرِيعُ الْهَضْمِ، دَمُهُ مُعْتَدِلٌ وَالْإِكْثَارُ مِنْهُ يَحِدُّ الْبَصَرَ، وَهُوَ أَعْدَلُ وَأَفْضَلُ وَأَلْطَفُ مِنْ لَحْمِ الْحَجَلِ وَيَزِيدُ فِي الْمَنِيِّ وَيُمْسِكُ الطَّبْعَ، وَيَصْلُحُ لِلنَّاقِهَيْنِ.

(لَحْمُ الْحَجَلِ) وَهُوَ الْقَبَجُ مِنْ أَلْطَفِ اللُّحُومِ حَارٌّ رَطْبٌ يَعْقِلُ الطَّبْعَ وَيُسْمِنُ وَيَزِيدُ فِي الْبَاهِ وَيُغَذِّي كَثِيرًا إذَا اُسْتُمْرِئَتْ؛ لِأَنَّهَا بَطِيئَةُ الْهَضْمِ. (لَحْمُ الْإِوَزِّ) كِبَارُ الطَّيْرِ جَمِيعًا غَلِيظَةُ اللَّحْمِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُطْلَى قَبْلَ شَيِّهِ بِزَيْتٍ لِيُذْهِبَ سَهُوكَتَهُ، حَارٌّ رَطْبٌ أَوْ رَطْبُ الطَّيْرِ الْحَضَرِيِّ يُخْصِبُ التَّحْفَاءَ وَلَكِنَّهُ يَمْلَأُ الْبَدَنَ فُضُولًا غَلِيظَةً، وَيُطْبَخُ بِأَبَازِيرَ حَارَّةٍ. (بَطٌّ) أَجْنِحَتُهُ أَخَفُّ كَثِيرُ الرُّطُوبَةِ وَالْحَرَارَةِ، وَلَعَلَّهُ أَرْطَبُ الطَّيْرِ الْحَامِي وَشَحْمُهُ أَفْضَلُ شُحُومِ الطَّيْرِ، يُسَكِّنُ الْأَوْجَاعَ وَاللَّذَغَ فِي عُمْقِ الْبَدَنِ، وَلَحْمُهُ يُصَفِّي اللَّوْنَ وَالصَّوْتَ يَزِيدُ فِي الْبَاهِ إذَا انْهَضَمَ غَذَّى كَثِيرًا، بَطِيءُ الْهَضْمِ، ثَقِيلٌ كَثِيرُ الْفُضُولِ سَرِيعٌ إلَى حُدُوثِ الْحُمَّيَاتِ، وَيُطْبَخُ بِأَبَازِيرَ حَارَّةٍ، وَيُطْلَى بِزَيْتٍ قَبْلَ شَيِّهِ. (حُبَارَى) رَطْبَةٌ بَيْنَ الدَّجَاجِ وَالْبَطِّ فِي الْغِلَظِ: يُسَكِّنُ الرِّيَاحَ يَضُرُّ بِالْمَفَاصِلِ وَالْقُولَنْجِ، عَسِرَةُ الْهَضْمِ يُعْمَلُ بِدَارَصِينِيِّ وَخَلٍّ وَزَيْتٍ، وَيُؤْكَلُ بَعْدَهَا عَسَلٌ أَوْ زَنْجَبِيلٌ مُرَبَّى. (لَحْمُ الْكُرْكِيِّ) يَابِسٌ وَالْأَصَحُّ حَارٌّ، يَصْلُحُ لِأَصْحَابِ الْكَدِّ سَيِّئُ الِاسْتِمْرَاءِ، وَلِهَذَا يُعْمَلُ بِأَبَازِيرَ حَارَّةٍ وَبَعْدَهَا عَسَلٌ. (طَاوُسِ) أَجْوَدُهَا الْحَدِيثَةُ السِّنِّ حَارَّةٌ تَصْلُحُ لِلْمَعِدَةِ الْجَيِّدَةِ الْهَضْمِ رَدِيئَةِ الْمِزَاجِ أَعْسَرُ الطَّيْرِ هَضْمًا، وَلِذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ تُتْرَكَ بَعْدِ ذَبْحِهَا يَوْمَيْنِ وَتُشَدُّ فِي أَرْجُلِهَا الْحِجَارَةُ وَتُعَلَّقُ ثُمَّ تُطْبَخُ بِالْخَلِّ قَالَ بَعْضُهُمْ: الطَّاوُسُ إذَا نَظَرَ إلَى طَعَامٍ مَسْمُومٍ أَوْ شَمَّ رَوَائِحَ السُّمِّ نَشَرَ جَنَاحَهُ وَصَاحَ وَرَقَصَ، وَهَذِهِ حِكْمَةُ اتِّخَاذِ الْمُلُوكِ لَهُ فِي مَجَالِسِهِمْ لَا كَمَا يَظُنُّ مَنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ لِحُسْنِ رِيشِهِ، وَكَذَلِكَ الطَّائِرُ الْمَعْرُوفُ بِالْبَبَّغَاءِ. (لَحْمُ الْعُصْفُورِ) حَارٌّ يَابِسٌ فِي الثَّانِيَةِ عَاقِلٌ لِلطَّبِيعَةِ وَيَزِيدُ فِي الْبَاهِ وَخَاصَّةً أَدْمِغَةُ الْعَصَافِيرِ، وَتَضُرُّ بِالرُّطُوبَاتِ الْأَصْلِيَّةِ وَتُوَلِّدُ خَلْطًا صَفْرَاوِيًّا وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْمَلَ بِدُهْنِ اللَّوْزِ، وَمَرَقُهُ يُلَيِّنُ الطَّبْعَ وَالْمَفَاصِلَ.

لَحْمُ الْقَنَابِرِ) نَحْوَ ذَلِكَ لَكِنْ غِذَاؤُهَا مَحْمُودٌ وَمَرَقُهَا يَنْفَعُ مِنْ الْقُولَنْجِ (لَحْمُ الْحَمَامِ) حَارٌّ قَالَ بَعْضُهُمْ: رَطْبٌ وَنَاهِضُهُ أَجْوَدُ مِنْ فِرَاخِهِ وَفِي فِرَاخِهِ حَرَارَةٌ وَرُطُوبَةٌ فَضْلِيَّةٌ تَضُرُّ بِالدِّمَاغِ وَالْعَيْنِ، جَيِّدٌ لِلْبَاهِ وَالْكُلَى يَزِيدُ فِي الدَّمِ. (لَحْمُ الْقَطَا) شَدِيدُ الْيُبْسِ قَلِيلُ الْحَرَارَةِ عَسِرُ الْهَضْمِ، يُوَلِّدُ السَّوْدَاءَ رَدِيءُ الْغِذَاءِ يَقِلُّ ضَرَرُهُ بِالدُّهْنِ لَكِنَّهُ يَنْفَعُ الِاسْتِسْقَاءَ. (لَحْمُ السُّمَانَى) حَارٌّ يَابِسٌ يَنْفَعُ الْمَفَاصِلَ مِنْ بَرْدٍ وَيَضُرُّ بِالْكَبِدِ الْحَارَّةِ وَدَفْعُ مَضَرَّتِهِ بِالْخَلِّ وَالْكُسْفُرَةِ وَمَا كَانَ مِنْ الطَّيْرِ فِي الْأَمَاكِنِ الْعَفِنَةِ وَالْآجَامِ فَالْأَوْلَى اجْتِنَابُ لَحْمِهِ، وَلَحْمُ الطَّيْرِ أَسْرَعُ هَضْمًا مِنْ الْمَوَاشِي وَأَسْرَعُهُ مَا قَلَّ غِذَاؤُهُ وَهُوَ الرِّقَابُ وَأَدْمِغَتُهُ أَحْمَدُ مِنْ أَدْمِغَةِ الْمَوَاشِي. (جَرَادٌ) حَارٌّ يَابِسٌ قَلِيلُ الْغِذَاءِ يُهْزِلُ، وَإِذَا تُبُخِّرَ بِهِ نَفَعَ مِنْ نُقْطَةِ الْبَوْلِ وَعُسْرِهِ وَخَاصَّةً النِّسَاءَ، وَتُبَخَّرُ بِهِ الْبَوَاسِيرُ، وَيُشْوَى وَيُؤْكَلُ لِلَسْعِ الْعَقْرَبِ، وَيَضُرُّ أَصْحَابَ الصَّرَعِ، وَخَلْطُهُ رَدِيءٌ، وَالْمَرَقُ نَافِعٌ عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْجِبُهُ الثِّقَلُ يَعْنِي ثِقَلَ الْمَرَقِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَرَوَى أَيْضًا التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا «إذْ عَمِلْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا وَاغْرِفْ لِجِيرَانِكَ» وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا «إذَا اشْتَرَى أَحَدُكُمْ لَحْمًا فَلْيُكْثِرْ مَرَقَتَهُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدُ لَحْمًا أَصَابَ مَرَقًا وَهُوَ أَحَدُ اللَّحْمَيْنِ» إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ غَرِيبٌ.

فصل في الخبز وما ورد فيه وأنواعه وخواصها

[فَصْلٌ فِي الْخُبْزِ وَمَا وَرَدَ فِيهِ وَأَنْوَاعِهِ وَخَوَاصِّهَا] ) وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُ الْأَلْبَانِ فِي فُصُولِ آدَابِ الْأَكْلِ وَذِكْرُ مُفْرَدَاتٍ وَرَدَ فِيهَا شَيْءٌ وَمِنْهَا الْجُبْنُ وَالسَّمْنُ وَالزُّبْدُ. وَأَمَّا ذِكْرُ الْخُبْزِ فَسَبَقَ فِيهِ شَيْءٌ فِي الْفَصْلِ قَبْلَهُ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَكُونُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً يَتَكَفَّؤُهَا الْجَبَّارُ بِيَدِهِ نُزُلًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ» عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «كَانَ أَحَبَّ الطَّعَامِ إلَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثَّرِيدُ مِنْ الْخُبْزِ وَالثَّرِيدُ مِنْ الْحَيْسِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرَوَى أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «وَدِدْتُ أَنَّ عِنْدِي خُبْزَةً بَيْضَاءَ مِنْ بُرَّةٍ سَمْرَاءَ مَقْلِيَّةٍ بِسَمْنٍ وَلَبَنٍ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فَاتَّخَذَهُ، فَجَاءَ بِهِ فَقَالَ فِي أَيْ شَيْءٍ كَانَ هَذَا السَّمْنُ؟ فَقَالَ فِي عُكِّ ضَبٍّ قَالَ ارْفَعْهُ،» وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا «أَكْرِمُوا الْخُبْزَ وَمِنْ كَرَامَتِهِ أَنْ لَا تَنْتَظِرَ بِهِ الْأُدْمَ» وَلَا يَصِحُّ هَذَا وَأَظُنُّ وَلَا الَّذِي قَبْلَهُ وَقَدْ رُوِيَ ذِكْرُ الْخُبْزِ فِي أَحَادِيثَ. وَأَحْمَدُ أَنْوَاعِ الْخُبْزِ أَجْوَدُهُ اخْتِمَارًا وَعَجْنًا ثُمَّ خُبْزُ التَّنُّورِ أَجْوَدُ مِنْ غَيْرِهِ ثُمَّ خُبْزُ الْفُرْنِ ثُمَّ خُبْزُ الْمَلَّة لِاحْتِرَاقِ ظَاهِرِهِ وَقِلَّةِ نُضْجِ بَاطِنِهِ وَيُسِيءُ الْهَضْمَ. وَأَجْوَدُهُ الْخُبْزُ الَّذِي مِنْ الْحِنْطَةِ الْحَدِيثَةِ يُسْمِنُ بِسُرْعَةٍ، وَأَكْثَرُ أَنْوَاعِهِ تَغْذِيَةً خُبْزُ السَّمِيدِ الْمُتَّخَذِ مِنْ لِبَابِ الْحِنْطَةِ وَأَبْطَؤُهُ هَضْمًا لِقِلَّةِ نُخَالَتِهِ وَلِذَلِكَ يُوَلِّدُ سَدَادًا وَالْقَرِيبُ الْعَهْدِ بِالطَّحْنِ يَحْبِسُ الْبَطْنَ وَالْبَعِيدُ بِالْعَكْسِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَأَحْمَدُ أَوْقَاتِ أَكْلِهِ فِي آخِرِ الْيَوْمِ الَّذِي خُبِزَ فِيهِ وَاللَّيِّنُ مِنْهُ أَكْثَرُ تَلْيِينًا وَغِذَاءً وَتَرْطِيبًا وَأَسْرَعُ انْحِدَارًا وَالْيَابِسُ بِخِلَافِهِ، وَالْخُبْزُ الْحَارُّ يُعَطِّشُ وَيُصَفِّرُ لِرُطُوبَتِهِ الْبُخَارِيَّةِ وَيُشْبِعُ بِسُرْعَةٍ لِذَلِكَ، وَهُوَ أَسْرَعُ انْهِضَامًا وَأَبْطَأُ انْحِدَارًا وَالْخُبْزُ الْيَابِسُ يَعْقِلُ. وَالْفَطِيرُ إذَا جُعِلَ فِي الْمَاءِ رَسَبَ وَالْمُخْتَمَرُ جِدًّا يَطْفُو وَالْمُتَوَسِّطُ يُتَوَسَّطُ، وَالْفَطِيرُ بَطِيءُ الْهَضْمِ يُوَلَّدُ الرِّيَاحَ

وَالْحَصَى وَالسَّدَادَ، وَقَدْ يَقَعُ مَنْ يُدَاوِمُهُ فِي أَمْرَاضٍ خَطِرَةٍ لَا يَكَادُ يَتَخَلَّصُ مِنْهَا، وَمِمَّا يُقَلِّلُ ضَرَرَهُ الزَّنْجَبِيلُ والأطريفل بَعْدَهُ أَوْ مَاءُ الْعَسَلِ وَالرِّيَاضَةُ وَالِاسْتِحْمَامُ، وَالْفَتِيتُ نَفَّاخٌ بَطِيءُ الْهَضْمِ وَالْمَعْمُولُ بِاللَّبَنِ مُسَدِّدٌ كَثِيرُ الْغِذَاءِ بَطِيءُ الِانْحِدَارِ، وَخُبْزُ الْأَبَازِيرِ الَّذِي يُعْجَنُ بِشَيْرَجٍ وَسِمْسِمٍ يُتْخِمُ وَيُؤْذِي الْمَعِدَةَ وَيُوَلِّدُ خَلْطًا رَدِيئًا، وَيُصْلِحُهُ اللَّبَنُ أَوْ السُّكَّرُ أَوْ الْعَسَلُ، وَالْخُبْزُ حَارٌّ فِي وَسَطِ الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ قَرِيبٌ مِنْ الِاعْتِدَالِ فِي الرُّطُوبَةِ وَالْيُبْسِ يَغْلِبُ عَلَى مَا جَفَّفَتْهُ النَّارُ مِنْهُ وَالرُّطُوبَةُ عَلَى ضِدِّهِ. وَالْقَطَائِفُ غَلِيظَةٌ مُسَمِّنَةٌ مُغَذِّيَةٌ لِلْبَدَنِ جِدًّا. وَالزَّلَابِيَّةُ أَخَفُّ مِنْهَا وَأَسْرَعُ هَضْمًا تَنْفَعُ مِنْ السُّعَالِ الرَّطْبِ وَرُطُوبَةِ الصَّدْرِ وَالرِّئَةِ وَتُوَلِّدُ سُخُونَةً، وَيُصْلِحُهَا أَنْ يُؤْخَذَ مَعَهَا السَّكَنْجَبِينَ أَوْ الرُّمَّانُ الْمُزُّ، وَقَدْ يُوَلِّدُ سَدَدًا. وَخُبْزُ الشَّعِيرِ بَارِدٌ يَابِسٌ فِي الْأَوَّلِ قَلِيلُ الْغِذَاءِ رَدِيئُهُ يُصْلِحُهُ الْأَشْيَاءُ الدَّهِنَةُ، وَدَقِيقُ الْحِنْطَةِ يُنَقِّي الْوَجْهَ.

فصل استطباب غير المسلمين وائتمانهم ونظر الأطباء والطبيبات إلى العورات

[فَصْلٌ اسْتِطْبَابِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ وَائْتِمَانِهِمْ وَنَظَرِ الْأَطِبَّاءِ وَالطَّبِيبَاتِ إلَى الْعَوْرَاتِ] فَصْلٌ (فِي اسْتِطْبَابِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ وَائْتِمَانِهِمْ وَنَظَرِ الْأَطِبَّاءِ وَالطَّبِيبَاتِ إلَى الْعَوْرَاتِ) يُكْرَهُ أَنْ يَسْتَطِبَّ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ وَأَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ دَوَاءً لَمْ يُبَيِّنْ مُفْرَدَاتِهِ الْمُبَاحَةَ وَكَذَا مَا وَصَفَهُ مِنْ الْأَدْوِيَةِ أَوْ عَمَلِهِ ذَكَرَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَغَيْرِهَا، وَذَكَرُوا أَلَّا تَطِبَّ ذِمِّيَّةٌ مُسْلِمَةً وَلَا تَقْبَلْهَا مَعَ وُجُودِ مُسْلِمَةٍ تَطِبُّهَا أَوْ تَقْبَلْهَا، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى تَحْرِيمِ نَظَرِ الذِّمِّيَّةِ لِلْمُسْلِمَةِ وَإِلَّا جَازَ، وَعَنْهُ أَنَّهَا لَا تَقْبَلْهَا. وَقَالَ فِي مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَطِبَّ أَهْلُ الذِّمَّةِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَذَكَرَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي مَسْأَلَةِ نَظَرِ الذِّمِّيَّةِ لِمُسْلِمٍ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَطِبَّ ذِمِّيًّا إذَا لَمْ يَجِدُ غَيْرَهُ عَلَى احْتِمَالٍ فِي الْمَذْهَبِ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ أَدْخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نَصْرَانِيًّا فَجَعَلَ يَصِفُ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَكْتُبُ مَا وَصَفَهُ ثُمَّ أَمَرَنِي فَاشْتَرَيْتُ لَهُ قَالَ الْقَاضِي إنَّمَا يَرْجِعُ إلَى قَوْلِهِ فِي الدَّوَاءِ الْمُبَاحِ فَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِلدَّاءِ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْ فَلَا حَرَجَ فِي تَنَاوُلِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَشَارَ بِالْفِطْرِ فِي الصَّوْمِ، وَالصَّلَاةِ جَالِسًا وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ فَتَعَلَّقَ بِالدِّينِ فَلَا يُقْبَلُ. قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ التِّرْمِذِيِّ: يُكْرَهُ شُرْبُ دَوَاءِ الْمُشْرِكِ وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ كَانَ يَأْمُرُنِي أَنْ لَا أَشْتَرِيَ لَهُ مَا يَصِفُ لَهُ النَّصَارَى وَلَا يَشْرَبُ مِنْ أَدْوِيَتِهِمْ وَلِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَخْلِطُوا بِذَلِكَ شَيْئًا مِنْ السُّمُومَاتِ وَالنَّجَاسَاتِ فَهَذَا مِنْ الْقَاضِي يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ اسْتِعْمَالُ دَوَاءِ ذِمِّيٍّ لَمْ تُعْرَفْ مُفْرَدَاتُهُ وَسَبَقَ فِي الرِّعَايَةِ الْكَرَاهَةُ وَقَدْ كَرِهَهُ أَحْمَدُ وَفِيمَا كَرِهَهُ الْخِلَافَ الْمَشْهُورُ هَلْ يَحْرُمُ أَوْ يُكْرَهُ وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: إذَا كَانَ الْيَهُودِيُّ أَوْ النَّصْرَانِيُّ خَبِيرًا بِالطِّبِّ ثِقَةً عِنْدَ الْإِنْسَانِ جَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَطِبَّ كَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُودِعَهُ الْمَالَ وَأَنْ يُعَامِلَهُ

كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] . وَفِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا هَاجَرَ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا مُشْرِكًا هَادِيًا خِرِّيتًا وَالْخِرِّيتُ الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ وَائْتَمَنَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَكَانَتْ خُزَاعَةُ عَيْبَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْلِمُهُمْ وَكَافِرُهُمْ،» وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَنْ يَسْتَطِبَّ الْحَارِثُ بْنُ كِلْدَةَ وَكَانَ كَافِرًا،» وَإِذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَسْتَطِبَّ مُسْلِمًا فَهُوَ كَمَا لَوْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُودِعَهُ أَوْ يُعَامِلَهُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْدِلَ عَنْهُ، وَأَمَّا إذَا احْتَاجَ إلَى ائْتِمَانِ الْكِتَابِيِّ أَوْ اسْتِطْبَابِهِ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ وِلَايَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الْمَنْهِيُّ عَنْهَا وَإِذَا خَاطَبَهُ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ كَانَ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46] انْتَهَى كَلَامُهُ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي حَدِيثِهِ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ «وَبَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَيْنًا لَهُ مِنْ خُزَاعَةُ وَقَبُولُهُ خَبَرَهُ» إنَّ فِيهِ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ قَبُولُ الْمُتَطَبِّبِ الْكَافِرِ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ صِفَةِ الْعِلَّةِ وَوَجْهِ الْعِلَاجِ إذَا كَانَ غَيْرَ مُتَّهَمٍ فِيمَا يَصِفُهُ وَكَانَ غَيْرَ مَظْنُونٍ بِهِ الرِّيبَةُ. فَإِنْ مَرِضَتْ امْرَأَةٌ وَلَمْ يُوجَدْ مَنْ يَطِبُّهَا غَيْرُ رَجُلٍ جَازَ لَهُ مِنْهَا نَظَرُ مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى نَظَرَهُ مِنْهُ حَتَّى الْفَرْجَيْنِ وَكَذَا الرَّجُلُ مَعَ الرَّجُلِ قَالَ ابْنُ حَمْدَانَ: وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَطِبُّهُ سِوَى امْرَأَةٍ فَلَهَا نَظَرُ مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى نَظَرِهِ مِنْهُ حَتَّى فَرْجَيْهِ. قَالَ الْقَاضِي يَجُوزُ لِلطَّبِيبِ أَنْ يَنْظُرَ مِنْ الْمَرْأَةِ إلَى الْعَوْرَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ وَحَرْبٍ وَالْأَثْرَمِ وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ، وَلِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ

حَرْبٍ وَالْمَرُّوذِيِّ وَكَذَلِكَ تَجُوزُ خِدْمَةُ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَيُشَاهِدُ مِنْهَا عَوْرَةً فِي حَالِ الْمَرَضِ إذَا لَمْ يُوجَدْ مَحْرَمٌ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ وَلِذَلِكَ يَجُوزُ لِذَوَاتِ الْمَحَارِمِ أَنْ يَلِيَ بَعْضَهُمْ عَوْرَةَ بَعْضٍ عِنْدَ الضَّرُورَةِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ جَعْفَرٍ وَإِسْمَاعِيلَ. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمَرْأَةُ يَكُونُ بِهَا الْكَسْرُ فَيَضَعُ الْمُجَبِّرُ يَدَهُ عَلَيْهَا قَالَ: هَذِهِ ضَرُورَةٌ وَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُجَبِّرٌ يَعْمَلُ بِخَشَبَةٍ فَقَالَ لَا بُدَّ لِي مِنْ أَنْ أَكْشِفَ صَدْرَ الْمَرْأَةِ وَأَضَعَ يَدِي عَلَيْهَا، قَالَ قَالَ طَلْحَةُ يُؤْجَرُ قُلْتُ ابْنُ مُضَرِّسٍ؟ قَالَ: نَعَمْ قُلْتُ فَأَيْشٍ تَقُولُ؟ قَالَ هَذِهِ ضَرُورَةٌ وَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَالْكَحَّالُ يَخْلُو بِالْمَرْأَةِ وَقَدْ انْصَرَفَ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ النِّسَاءِ هَلْ هَذِهِ الْخَلْوَةُ مَنْهِيٌّ عَنْهَا قَالَ أَلَيْسَ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ قِيلَ نَعَمْ قَالَ إنَّمَا الْخَلْوَةُ تَكُونُ فِي الْبُيُوتِ.

فصل في الاستعانة بأهل الذمة

[فَصْلٌ فِي الِاسْتِعَانَةِ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ] قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَيُكْرَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ مُسْلِمٌ بِذِمِّيٍّ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُ كِتَابَةٍ وَعِمَالَةٍ وَجِبَايَةِ خَرَاجٍ وَقِسْمَةِ فَيْءٍ وَغَنِيمَةٍ وَحِفْظِ ذَلِكَ وَنَقْلِهِ إلَّا ضَرُورَةً قَالَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى وَلَا يَكُونُ بَوَّابًا وَلَا جَلَّادًا وَنَحْوَهُمَا. وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ أَتَّخِذ كَاتِبًا نَصْرَانِيًّا فَانْتَهَرَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَعَنْ عُمَرَ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: لَا تَرْفَعُوهُمْ إذْ وَضَعَهُمْ اللَّهُ، وَلَا تُعِزُّوهُمْ إذْ أَذَلَّهُمْ اللَّهُ، وَلِأَنَّ فِي الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفْسَدَةِ مَا لَا يَخْفَى وَهِيَ مَا يَلْزَمُ عَادَةً أَوْ مَا يُفْضِي إلَيْهِ مِنْ تَصْدِيرِهِمْ فِي الْمَجَالِسِ، وَالْقِيَامِ لَهُمْ وَجُلُوسِهِمْ فَوْقَ الْمُسْلِمِينَ وَابْتِدَائِهِمْ بِالسَّلَامِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ وَرَدِّهِ عَلَيْهِمْ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ وَأَكْلِهِمْ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ مَا أَمْكَنَهُمْ لِخِيَانَتِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ حِلِّهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ إذَا مُنِعَ مِنْ الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ فِي الْجِهَادِ مَعَ حُسْنِ رَأْيِهِمْ فِي الْمُسْلِمِينَ وَالْأَمْنِ مِنْهُمْ وَقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمَجْمُوعِ لَا سِيَّمَا مَعَ الْحَاجَةِ إلَيْهِمْ عَلَى قَوْلٍ فَهَذَا فِي مَعْنَاهُ وَأَوْلَى لِلُزُومِهِ وَإِفْضَائِهِ إلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ بِخِلَافِ هَذَا، وَبِهَذَا يَظْهَرُ التَّحْرِيمُ هُنَا وَإِنْ لَمْ تَحْرُمْ الِاسْتِعَانَةُ بِهِمْ عَلَى الْقِتَالِ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَّخِذُوا الْكُفَّارَ بِطَانَةً لَهُمْ فَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران: 118] . وَبِطَانَةُ الرَّجُلِ تَشْبِيهُهُ بِبِطَانَةِ الثَّوْبِ الَّذِي يَلِي بَطْنَهُ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَنْبِطُونَ أَمْرَهُ وَيَطَّلِعُونَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ، وَقَوْلُهُ {مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران: 118] أَيْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا} [آل عمران: 118] أَيْ لَا يُبْقُونَ غَايَةً فِي إلْقَائِكُمْ فِيمَا يَضُرُّكُمْ وَالْخَبَالُ الشَّرُّ وَالْفَسَادُ {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران: 118] أَيْ يَوَدُّونَ مَا يَشُقُّ عَلَيْكُمْ مِنْ الضُّرِّ وَالشَّرِّ وَالْهَلَاكِ، وَالْعَنَتِ الْمَشَقَّةِ يُقَالُ فُلَانٌ يُعْنِتُ فُلَانًا أَيْ يَقْصِدُ إدْخَالَ الْمَشَقَّةِ وَالْأَذَى عَلَيْهِ. {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [آل عمران: 118] قِيلَ بِالشَّتْمِ وَالْوَقِيعَةِ فِي الْمُسْلِمِينَ وَمُخَالِفَةِ دِينِكُمْ، وَقِيلَ بِاطِّلَاعِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَسْرَارِ الْمُؤْمِنِينَ {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118] أَيْ أَعْظَمُ {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118] قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِنَا وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ [الِاسْتِعَانَةُ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ] فِي أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْعِمَالَاتِ وَالْكَتَبَةِ وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَسْتَعِينُ الْإِمَامُ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَقَدْ جَعَلَ الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ أَصْلًا فِي اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ فِي عَامِلِ الزَّكَاةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا مَحَلُّ وِفَاقٍ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَقَدْ سَأَلَهُ يُسْتَعْمَلُ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ فِي أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُ الْخَرَاجِ؟ فَقَالَ لَا يُسْتَعَانُ بِهِمْ فِي شَيْءٍ. فَانْظُرْ إلَى هَذَا الْعُمُومِ مِنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ نَظَرًا مِنْهُ إلَى رَدِيءِ الْمَفَاسِدِ الْحَاصِلَةِ بِذَلِكَ وَإِعْدَامِهَا وَهِيَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَازِمَةً مِنْ وِلَايَتِهِمْ وَلَا رَيْبَ فِي لُزُومِهَا فَلَا رَيْبَ فِي إفْضَائِهَا إلَى ذَلِكَ، وَمِنْ مَذْهَبِهِ اعْتِبَارُ

الْوَسَائِلِ وَالذَّرَائِعِ، وَتَحْصِيلًا لِلْمَأْمُورِ بِهِ شَرْعًا مِنْ إذْلَالِهِمْ وَإِهَانَتِهِمْ وَالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِمْ وَإِذَا أَمَرَ الشَّارِعُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِمْ فِي الطَّرِيقِ الْمُشْتَرَكَةِ فَمَا نَحْنُ فِيهِ أَوْلَى هَذَا مِمَّا لَا إشْكَالَ فِيهِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ وِلَايَاتٌ بِلَا شَكٍّ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ تَفْوِيضُهَا مَعَ الْفِسْقِ وَالْخِيَانَةِ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا بِدَلِيلِ سَائِرِ الْوِلَايَاتِ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ؛ وَلِأَنَّهَا إذَا لَمْ يَصِحَّ تَفْوِيضُهَا إلَى فَاسِقٍ فَإِلَى كَافِرٍ أَوْلَى بِلَا نِزَاعٍ. وَلِهَذَا قَدْ نَقُولُ يَصِحُّ تَفْوِيضُهَا إلَى فَاسِقٍ إمَّا مُطْلَقًا أَوْ مَعَ ضَمِّ أَمِينٍ إلَيْهِ يُشَارِفُهُ كَمَا نَقُولُ فِي الْوَصِيَّةِ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ تَصِحَّ وَصِيَّةُ الْمُسْلِمِ إلَى كَافِرٍ فِي النَّظَرِ فِي أَمْرِ أَطْفَالِهِ أَوْ تَفْرِيقِ ثُلُثِهِ مَعَ أَنَّ الْوَصِيَّ الْمُسْلِمَ الْمُكَلَّفَ الْعَدْلَ يَحْتَاطُ لِنَفْسِهِ وَمَالِهِ وَهِيَ مَصْلَحَةٌ خَاصَّةٌ يَقِلُّ حُصُولُ الضَّرَرِ فِيهَا فَمَسْأَلَتُنَا أَوْلَى هَذَا مِمَّا لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى تَأْوِيلٍ وَنَظَرٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] . وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ السَّبِيلِ اسْتَدَلَّ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَصْحَابِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا فِي الزَّكَاةِ وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا فِي كَاتِبِ الْحَاكِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً} [آل عمران: 118] . وَبِقَضِيَّةِ عُمَرَ عَلَى أَبِي مُوسَى وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي أَوَّلِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فِي أَثْنَاءِ كَلَامٍ لَهُ: وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يَسْتَدِلُّونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَرْكِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ فِي الْوِلَايَاتِ فَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ قُلْتُ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّ لِي كَاتِبًا نَصْرَانِيًّا قَالَ مَا لَكَ قَاتَلَكَ اللَّهُ أَمَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51] أَلَا اتَّخَذْت حَنِيفِيًّا؟ قَالَ قُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِي كِتَابَتُهُ وَلَهُ دِينُهُ قَالَ لَا أُكْرِمُهُمْ إذْ أَهَانَهُمْ اللَّهُ وَلَا أُعِزُّهُمْ إذْ أَذَلَّهُمْ اللَّهُ وَلَا أُدْنِيهِمْ إذْ أَقْصَاهُمْ اللَّهُ انْتَهَى كَلَامُهُ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَعِنْدَهُ " فَانْتَهَرَنِي وَضَرَبَ عَلَى فَخِذِي " وَعِنْدَهُ أَيْضًا " فَقَالَ أَبُو مُوسَى وَاَللَّهِ مَا تَوَلَّيْتُهُ إنَّمَا كَانَ يَكْتُبُ. فَقَالَ عُمَرُ لَهُ أَمَا وَجَدْتَ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ مَنْ يَكْتُبُ؟ لَا تُدْنِهِمْ إذَا أَقْصَاهُمْ اللَّهُ وَلَا تَأْمَنْهُمْ إذَا أَخَانَهُمْ اللَّهُ وَلَا تُعِزَّهُمْ بَعْدِ إذْ أَذَلَّهُمْ اللَّهُ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا تَسْتَعْمِلُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِلُّونَ الرِّشَاءَ فِي دِينِهِمْ وَلَا تَحِلُّ الرِّشَاءُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ ثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ الْعَوَامّ عَنْ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ قَالَ: قَالَ عُمَرُ لَا تَرْفَعُوهُمْ إذْ وَضَعَهُمْ اللَّهُ وَلَا تُعِزُّوهُمْ إذْ أَذَلَّهُمْ اللَّهُ يَعْنِي أَهْلَ الْكِتَابِ. كُلُّهُمْ أَئِمَّةٌ لَكِنَّ إبْرَاهِيمَ لَمْ يَلْقَ عُمَرَ، وَقَطَعَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ مَنْعُهُمْ مِنْ الْوِلَايَاتِ فِي جَمِيعِ أَرْضِ الْإِسْلَامِ وَقَالَ: أَيْضًا الْوِلَايَةُ إعْزَازٌ وَأَمَانَةٌ وَهُمْ يَسْتَحِقُّونَ لِلذُّلِّ وَالْخِيَانَةِ، وَاَللَّهُ يُغْنِي عَنْهُمْ الْمُسْلِمِينَ، فَمِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ أَنْ يَجْعَلُوا فِي دَوَاوِينِ الْمُسْلِمِينَ يَهُودِيًّا أَوْ سَامِرِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا. وَقَالَ أَيْضًا: لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ يُوجِبُ مِنْ إعْلَائِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ خِلَافً مَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، «وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ نَهَى أَنْ يُبْدَءُوا بِالسَّلَامِ» «وَأَمَرَ إذَا لَقِيَهُمْ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَضْطَرُّوهُمْ إلَى أَضْيَقِ الطُّرُقِ» . «وَقَالَ الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ،» وَقَدْ مُنِعُوا مِنْ تَعْلِيَةِ بِنَائِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَكَيْفَ إذَا كَانُوا وُلَاةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِيمَا يُقْبَضُ مِنْهُمْ وَيُصْرَفُ إلَيْهِمْ وَفِيمَا يُؤْمَرُونَ بِهِ مِنْ الْأُمُورِ الْمَالِيَّةِ وَيُقْبَلُ خَبَرُهُمْ فِي ذَلِكَ فَيَكُونُونَ هُمْ الْآمِرِينَ الشَّاهِدِينَ عَلَيْهِمْ؟ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا يَكُونُ مِنْ مُخَالِفَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَقَدْ قَدِمَ أَبُو مُوسَى عَلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِحِسَابِ الْعِرَاقِ فَقَالَ اُدْعُ

يَقْرَؤُهُ فَقَالَ إنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ فَقَالَ لِمَ؟ قَالَ لِأَنَّهُ نَصْرَانِيٌّ، فَضَرَبَهُ عُمَرُ بِالدِّرَّةِ فَلَوْ أَصَابَتْهُ لَأَوْجَعَتْهُ وَقَالَ لَا تُعِزُّوهُمْ إذْ أَذَلَّهُمْ اللَّهُ وَلَا تُصَدِّقُوهُمْ إذْ كَذَبَهُمْ اللَّهُ وَلَا تَأْمَنُوهُمْ إذْ خَوَّنَهُمْ اللَّهُ. وَكَتَبَ إلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ أَنَّ بِالشَّامِ كَاتِبًا نَصْرَانِيًّا لَا يَقُومُ خَرَاجُ الشَّامِ إلَّا بِهِ فَكَتَبَ إلَيْهِ لَا تَسْتَعْمِلْهُ، فَأَعَادَ عَلَيْهِ السُّؤَالَ وَإِنَّا مُحْتَاجُونَ إلَيْهِ فَكَتَبَ إلَيْهِ مَاتَ النَّصْرَانِيُّ وَالسَّلَامُ يَعْنِي قَدِّرْ مَوْتَهُ، فَمَنْ تَرَكَ لِلَّهِ شَيْئًا عَوَّضَهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ، إلَى أَنْ قَالَ وَقَدْ يُشِيرُونَ عَلَيْهِمْ بِالرَّأْيِ الَّتِي يَظُنُّونَ أَنَّهَا مَصْلَحَةٌ وَيَكُونُ فِيهَا مِنْ فَسَادِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَهُوَ يَتَدَيَّنُ بِخِذْلَانِ الْجُنْدِ وَغِشِّهِمْ يَرَى إنَّهُمْ ظَالِمِينَ، وَأَنَّ الْأَرْضَ مُسْتَحَقَّةٌ لِلنَّصَارَى وَيَتَمَنَّى أَنْ يَتَمَلَّكَهَا النَّصَارَى. وَقَالَ أَيْضًا كَانَ صَلَاحُ الدِّينِ وَأَهْلُ بَيْتِهِ يُذِلُّونَ النَّصَارَى وَلَمْ يَكُونُوا يَسْتَعْمِلُونَ مِنْهُمْ أَحَدًا. وَلِهَذَا كَانُوا مُؤَيَّدِينَ مَنْصُورِينَ عَلَى الْأَعْدَاءِ مَعَ قِلَّةِ الْمَالِ وَالْعَدَدِ، وَإِنَّمَا قَوِيَتْ شَوْكَةُ النَّصَارَى وَالتَّتَارِ بَعْدَ مَوْتِ الْعَادِلِ حَتَّى قَامَ بَعْضُ الْمُلُوكِ أَعْطَاهُمْ بَعْضَ مَدَائِنِ الْمُسْلِمِينَ وَحَدَثَتْ حَوَادِثُ بِسَبَبِ التَّفْرِيطِ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40] . إلَى أَنْ قَالَ وَهُمْ إلَى مَا فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ أَحْوَجُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَى مَا فِي بِلَادِهِمْ، بَلْ مَصْلَحَةُ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ لَا تَقُومُ إلَّا بِمَا فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُسْلِمُونَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ مُسْتَغْنُونَ عَنْهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، فَفِي ذِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عُلَمَاءِ النَّصَارَى وَرُهْبَانِهِمْ مَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهِمْ أُولَئِكَ النَّصَارَى وَلَيْسَ عِنْدَ النَّصَارَى مُسْلِمٌ يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مَعَ أَنَّ افْتِدَاءَ الْأَسْرَى مِنْ أَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ. وَكُلُّ مُسْلِمٍ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يَتَّجِرُونَ إلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا لِأَغْرَاضِهِمْ لَا لِنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ مَنَعَهُمْ مُلُوكُهُمْ مِنْ ذَلِكَ لَكَانَ حِرْصُهُمْ عَلَى الْمَالِ يَمْنَعُهُمْ مِنْ الطَّاعَةِ فَإِنَّهُمْ أَرْغَبُ النَّاسِ فِي الْمَالِ وَلِهَذَا يَتَقَامَرُونَ فِي الْكَنَائِسِ وَهُمْ طَوَائِفُ كُلُّ

طَائِفَةٍ تَضَادُّ الْأُخْرَى، وَلَا يُشِيرُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ بِمَا فِيهِ إظْهَارُ شِعَارِهِمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ تَقْوِيَةِ أَيْدِيهِمْ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ إلَّا رَجُلٌ مُنَافِقٌ أَوْ لَهُ غَرَضٌ فَاسِدٌ أَوْ فِي غَايَةِ الْجَهْلِ لَا يَعْرِفُ السِّيَاسَةَ الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي تَنْصُرُ سُلْطَانَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَعْدَائِهِ وَأَعْدَاءِ الدِّينِ. وَلْيَعْتَبِرْ الْمُعْتَبِرُ بِسِيرَةِ نُورِ الدِّينِ وَصَلَاحِ الدِّينِ ثُمَّ الْعَادِلِ كَيْفَ مَكَّنَهُمْ اللَّهُ وَأَيَّدَهُمْ وَفَتَحَ لَهُمْ الْبِلَادَ وَأَذَلَّ لَهُمْ الْأَعْدَاءَ لَمَّا قَامُوا مِنْ ذَلِكَ بِمَا قَامُوا وَلْيَعْتَبِرْ بِسِيرَةِ مَنْ وَالَى النَّصَارَى كَيْفَ أَذَلَّهُ وَكَبَتَهُ إلَى أَنْ قَالَ: وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مُشْرِكًا لَحِقَهُ لِيُقَاتِلَ مَعَهُ فَقَالَ لَهُ إنِّي لَا أَسْتَعِينُ بِمُشْرِكٍ» وَكَمَا أَنَّ اسْتِخْدَامَ الْجُنْدُ الْمُجَاهِدِينَ إنَّمَا يَصْلُحُ إذَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ فَكَذَلِكَ الَّذِينَ يُعَاوِنُونَ الْجُنْدَ فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ إلَى أَنْ قَالَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران: 118] وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] . وَذَكَرَ سَبَبَ نُزُولِهَا ثُمَّ قَالَ وَقَدْ عَرَفَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُنَافِقِينَ يُكَاتِبُونَ أَهْلَ دِينِهِمْ بِأَخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ وَرُبَّمَا يَطَّلِعُونَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَسْرَارِهِمْ وَعَوْرَاتِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَقَدْ قِيلَ: كُلُّ الْعَدَاوَاتِ قَدْ تُرْجَى مَوَدَّتُهَا ... إلَّا عَدَاوَةُ مَنْ عَادَاكَ فِي الدِّينِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ وَلَا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبِيًّا» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ «لَا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ» أَيْ

لَا تَسْتَشِيرُوهُمْ وَلَا تَأْخُذُوا آرَاءَهُمْ. جَعَلَ الضَّوْءَ مَثَلًا الرَّأْيَ عِنْدَ الْحِيرَةِ هَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَاحْتَجَّ الْحَسَنُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران: 118] وَكَذَا فَسَّرَهُ غَيْرُهُ، وَفَسَّرَ الْحَسَنُ «وَلَا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبِيًّا» أَيْ لَا تَنْقُشُوا فِيهَا مُحَمَّدًا وَفَسَّرَهُ غَيْرُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ لِأَنَّهُ كَانَ نَقْشَ خَاتَمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ «لَا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ الْعَرَبِيَّةَ» وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُنْقَشَ فِي الْخَاتَمِ الْقُرْآنُ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ النَّصْرَانِيِّ يُسْتَكْتَبُ؟ قَالَ لَا أَرَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكَاتِبَ يُسْتَشَارُ، فَيُسْتَشَارُ النَّصْرَانِيُّ فِي أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ؟ مَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُسْتَكْتَبَ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى الْمَأْمُونِ بَعْضُ شُيُوخِ الْفُقَهَاءِ فَأَذِنَ لَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ رَأَى بَيْنَ يَدَيْهِ رَجُلًا يَهُودِيًّا كَاتِبًا كَانَتْ لَهُ عِنْدَهُ مَنْزِلَةٌ وَقُرْبَةٌ لِقِيَامِهِ بِمَا يَصْرِفُهُ فِيهِ وَيَتَوَلَّاهُ مِنْ خِدْمَتِهِ فَلَمَّا رَآهُ الْفَقِيهُ قَالَ، وَقَدْ كَانَ الْمَأْمُونُ أَوْمَأَ إلَيْهِ بِالْجُلُوسِ، فَقَالَ، أَتَأْذَنُ لِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي إنْشَادِ بَيْتٍ حَضَرَ قَبْلَ أَنْ أَجْلِسَ قَالَ نَعَمْ، فَأَنْشَدَهُ: إنَّ الَّذِي شَرُفْتَ مِنْ أَجْلِهِ ... يَزْعُمُ هَذَا أَنَّهُ كَاذِبُ وَأَشَارَ إلَى الْيَهُودِيِّ. فَخَجِلَ الْمَأْمُونُ وَوَجَمَ ثُمَّ أَمَرَ حَاجِبَهُ بِإِخْرَاجِ الْيَهُودِيِّ مَسْحُوبًا عَلَى وَجْهِهِ فَأَنْفَذَ عَهْدًا بِإِطْرَاحِهِ وَإِبْعَادِهِ وَأَنْ لَا يُسْتَعَانَ بِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَيْفَ يُؤْتَمَنُ عَلَى سِرٍّ، أَوْ يُوثَقُ بِهِ فِي أَمْرِ مَنْ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ، وَكَذَّبَ النَّبِيَّ؟

وَقَدْ أَمَرَ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ أَنْ لَا يُسْتَخْدَمَ فِي الدِّيوَانِ بِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَكَتَبَ إلَيْهِ عَنْ أَبِي مَنْصُورٍ: ابْنُ رُطَيْنَا النَّصْرَانِيُّ إنَّا لَا نَجِدُ كَاتِبًا يَقُومُ مَقَامَهُ، فَقَالَ: نُقَدِّرُ أَنَّ رُطَيْنَا مَاتَ هَلْ كَانَ يَتَعَطَّلُ الدِّيوَانُ؟ فَحِينَئِذٍ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إسْلَامُهُ، فَأَمَّا [أَهْلُ الْأَهْوَاءِ فَهَلْ يُسْتَعَانُ بِهِمْ؟] الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ جَوَازُهُ، وَالْمَنْقُولُ عَنْ الْإِمَامِ الْمَنْعُ، وَإِنْ جَازَتْ الِاسْتِعَانَةُ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي فُصُولِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ.

فصل فيما يعتبر في الطبيب والعامل من العلم

[فَصْلٌ فِيمَا يُعْتَبَرُ فِي الطَّبِيبِ وَالْعَامِلِ مِنْ الْعِلْمِ] وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَعِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِأَعْلَمِ أَهْلِهِ كَمَا عَلَيْهِ نَظَرُ عُقَلَاءِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ الْأَعْلَمَ أَقْرَبُ إلَى الْإِصَابَةِ. وَلِمَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ «أَنَّ رَجُلًا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جُرِحَ فَاحْتَقَنَ الدَّمُ وَإِنَّ الرَّجُلَ دَعَا رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي أَنْمَارٍ يَنْظُرَانِ إلَيْهِ فَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُمَا أَيُّكُمْ أَطَبُّ؟ فَقَالَا أَوَ فِي الطِّبِّ خَيْرٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَنْزَلَ الدَّوَاءَ الَّذِي أَنْزَلَ الدَّاءَ» فَأَمَّا الْجَاهِلُ فَلَا يَسْتَعِينُ بِهِ لِمَا سَيَأْتِي. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ جُهَّالُ الْأَطِبَّاءِ هُمْ الْوَبَاءُ فِي الْعَالِمِ، وَتَسْلِيمُ الْمَرْضَى إلَى الطَّبِيعَةِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ تَسْلِيمِهِمْ إلَى جُهَّالِ الطِّبِّ. وَإِنْ اسْتَطَبَّ جَاهِلًا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إنْ ظَنَّ ضَرَرًا لَمْ يَجْزِ، وَإِنْ ظَنَّ السَّلَامَةَ بِقَرِينَةٍ لَمْ يُحَرَّمُ، وَإِنْ اسْتَوَى الْحَالُ عِنْدَهُمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَاسْتِوَاءِ الْحَالِ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ، وَفِي الْجَوَازِ قَوْلَانِ هُنَاكَ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْمُغْنِي مَا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ أَنَّهُ إنْ تَطَبَّبَ غَيْرُ حَاذِقٍ فِي صِنَاعَتِهِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ الْمُبَاشَرَةُ وَلِهَذَا لَمْ يَنْفِ الْأَصْحَابُ عَنْهُ الضَّمَانَ إلَّا مَعَ عِلْمِ الْحَذْقِ مِنْهُ وَلَمْ تَجْنِ يَدُهُ. الْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالْعِلْمِ الظَّنُّ وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ الْأَنْطَاكِيِّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ تَطَبَّبَ وَلَا يُعْلَمُ مِنْهُ طِبٌّ فَهُوَ ضَامِنٌ» . وَقَالَ ابْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَبُو دَاوُد لَمْ يَرْوِهِ إلَّا الْوَلِيدُ لَا نَدْرِي هُوَ صَحِيحٌ أَمْ لَا. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الْوَلِيدِ وَكَذَا النَّسَائِيُّ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا عَنْ مَحْمُودِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ الْوَلِيدِ وَلَمْ يَقُلْ عَنْ أَبِيهِ وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَعُمَرُ بْنُ شُعَيْبٍ الْكَلَامُ فِيهِ مَشْهُورٌ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ.

قَوْلُهُ «مَنْ تَطَبَّبَ» وَلَمْ يَقُلْ مِنْ طَبَّ لِأَنَّ لَفْظَ التَّفَعُّلَ يَدُلُّ عَلَى تَكَلُّفِ الشَّيْءِ، وَالدُّخُولِ فِيهِ بِكُلْفَةٍ وَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ كَتَكَلُّفٍ وَتَشَجُّعٍ وَتَحَلُّمٍ وَتَصَبُّرٍ، وَظَاهِرُ هَذَا مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَطِبَّ مَنْ لَا يُعْرَفُ حِذْقُهُ وَإِذَا لَمْ تَحِلَّ لَهُ الْمُبَاشَرَةُ لَا يَحِلُّ تَمْكِينُهُ مِمَّا لَا يَحِلُّ لَهُ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْخَبَرِ أَنَّ مَنْ لَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ طِبٌّ يَضْمَنُ، وَلَوْ عَلِمَ مَنْ اسْتَطَبَّهُ جَهْلَهُ وَأَذِنَ لَهُ فِي طِبِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَحِلُّ لَهُ الْمُبَاشَرَةُ مَعَ جَهْلِهِ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي زَمَانِنَا لَا يَضْمَنُ هَذَا وَمَا قَالَهُ مُتَوَجَّهٌ وَلَعَلَّ مُرَادَ الْأَصْحَابِ غَيْرُ هَذِهِ الصُّورَةِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ تَحِلَّ الْمُبَاشَرَةُ لَكِنَّ الْإِذْنَ مَعَ عِلْمِهِ بِجَهْلِهِ مَانِعٌ مِنْ الضَّمَانِ وَالتَّحْقِيقِ أَنَّهَا كَمَسْأَلَةِ مَنْ قَالَ لِآخَرَ اُقْتُلْنِي أَوْ اجْرَحْنِي فَفَعَلَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْأَشْهَرِ الْمَنْصُوصِ. وَأَمَّا الطَّبِيبُ الْحَاذِقُ فَلَا يَضْمَنُ فَإِنْ جَنَتْ يَدُهُ وَأَخْطَأَتْ فَجِنَايَتُهُ خَطَأٌ مَضْمُونَةٌ وَإِنْ وَصَفَ دَوَاءً فَأَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ فَتَلِفَ الْمَرِيضُ فَيُتَوَجَّهُ أَنَّهُ كَالْمُفْتِي إذَا بَانَ خَطَؤُهُ فِي إتْلَافٍ إنْ خَالَفَ قَاطِعًا ضَمَنَ لَا مُسْتَفْتِيهِ وَإِلَّا لَمْ يَضْمَنْ فَيُضَمِّنُ الطَّبِيبَ عَاقِلَتَهُ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَانِنَا يَتَخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي خَطَأِ الْإِمَامِ وَالْحَاكِمِ إحْدَاهُمَا فِي بَيْتِ الْمَالِ وَالثَّانِيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ كَذَا قَالَ وَالْفَرْقُ أَنَّهُ إنَّمَا كَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ كَسَائِرِ الْوُكَلَاءِ وَلِهَذَا لَهُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَزْلُ نَفْسِهِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الطَّبِيبِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ لَا يَضْمَنُ الْحَاذِقُ إلَّا إذَا جَنَتْ يَدُهُ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ هُنَا لَكِنَّ مُرَادَهُمْ أَنَّهُ إذَا كَانَ طِبُّهُ عَمَلًا وَقَدْ أَخْطَأَ هُنَا بِلِسَانِهِ بِمُخَالِفَةِ قَاطِعٍ فَهُوَ كَالْمُفْتِي. وَقَدْ قَالَ الْخَطَّابِيُّ لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ الْمُعَالِجَ إذَا تَعَدَّى فَتَلِفَ الْمَرِيضُ كَانَ ضَامِنًا وَالْمُتَعَاطِي عِلْمًا أَوْ عَمَلًا لَا يَعْرِفُهُ مُتَعَدٍّ فَإِذَا تَوَلَّدَ مَنْ فِعْلِهِ التَّلَفُ

ضُمِّنَ الدِّيَةَ وَلَا قَوَدَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَبِدُّ بِذَلِكَ دُونَ إذْنِ الْمَرِيضِ. وَجِنَايَةُ الْمُتَطَبِّبِ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ عَلَى عَاقِلَتِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالطَّبِيبُ يَتَنَاوَلُ لُغَةً مَنْ يَطِبُّ الْآدَمِيَّ وَالْحَيَوَانَ وَيَتَنَاوَلُ غَيْرَهُمَا أَيْضًا كَمَا يَتَنَاوَلُ الطَّبَايِعِيَّ وَالْكَحَّالَ وَالْجَرَائِحِيَّ أَنْوَاعَهُ وَالْحَاقِنَ وَالْكَوَّاءَ. وَالطَّبِيبُ الْحَاذِقُ مَنْ يُرَاعِي نَوْعَ الْمَرَضِ وَسَبَبَهُ وَقُوَّةَ الْمَرِيضِ هَلْ تُقَاوِمُ الْمَرَضَ فَإِنَّ مُقَاوَمَتَهُ تَرْكُهُ وَمِزَاجَ الْبَدَلِ الطَّبِيعِيِّ مَا هُوَ؟ وَالْمِزَاجَ الْحَادِثَ عَلَى غَيْرِ الْمَجْرَى الطَّبِيعِيِّ وَسِنَّ الْمَرِيضِ وَبَلَدَهُ وَعَادَتَهُ وَمَا يَلِيقُ بِالْوَقْتِ الْحَاضِرِ مِنْ فُصُولِ السَّنَةِ وَحَالَ الْهَوَاءِ وَقْتَ الْمَرَضِ وَالدَّوَاءِ وَقُوَّتَهُ وَقُوَّةَ الْمَرِيضِ وَإِزَالَةَ الْعِلَّةِ مَعَ أَمْنِ حُدُوثِ أَصْعَبَ مِنْهَا وَإِلَّا تَلَطَّفَ، وَالْعِلَاجَ بِالْأَسْهَلِ فَالْغِذَاءِ ثُمَّ الدَّوَاءِ الْبَسِيطِ ثُمَّ الْمُرَكَّبِ، وَهَلْ الْعِلَّةُ مِمَّا تَزُولُ بِالْعِلَاجِ أَوْ تَقِلُّ وَالْأَحْفَظُ صِنَاعَتُهُ وَحُرْمَتُهُ عَنْ عِلَاجٍ لَا يُفِيدُ، وَلَا يَسْتَفْرِغُ الْخَلْطَ قَبْلَ نُضْجِهِ وَيُرَاعِي أَحْوَالَ الْمَرِيضِ بِمَا يُنَاسِبُهُ. وَمِنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِاعْتِلَالِ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ وَأَدْوِيَتِهَا وَمَنْ يَتَلَطَّفُ بِالْمَرِيضِ وَيَرْفُقُ بِهِ كَالصَّغِيرِ، وَيَسْتَعِينُ عَلَى الْمَرَضِ بِكُلِّ مُعِينٍ وَيَحْتَمِلُ أَدْنَى الْمَفْسَدَتَيْنِ وَيُفَوِّتُ أَدْنَى الْمَصْلَحَتَيْنِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ طَبِيبٌ لَا حَكِيمٌ لِاسْتِعْمَالِ الشَّارِعِ هُنَا وَفِي أَوَّلِ الْفُصُولِ وَقَدْ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ الْحَكِيمُ الْعَالِمُ وَصَاحِبُ الْحِكْمَةِ، وَالْحَكِيمُ الْمُتْقِنُ لِلْأُمُورِ، وَقَدْ حَكَمَ أَيْ صَارَ حَكِيمًا، وَيَأْتِي فِي عِلَاجِ السِّحْرِ الْكَلَامُ فِي الطِّبِّ وَالطَّبِيبِ.

فصل فيما يجوز من التمائم والتعاويذ والكتابة للمرض واللدغ والعين ونحوه

[فَصْلٌ فِيمَا يَجُوزُ مِنْ التَّمَائِمِ وَالتَّعَاوِيذِ وَالْكِتَابَةِ لِلْمَرَضِ وَاللَّدْغِ وَالْعَيْنِ وَنَحْوِهِ] تُكْرَهُ التَّمَائِمُ وَنَحْوُهَا كَذَا قِيلَ تُكْرَهُ، وَالصَّوَابُ مَا يَأْتِي مِنْ تَحْرِيمِهِ لِمَنْ لَمْ يُرْقَ عَلَيْهِ قُرْآنٌ أَوْ ذِكْرٌ أَوْ دُعَاءٌ وَإِلَّا احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ، وَيَأْتِي أَنَّ الْجَوَازَ قَوْلُ الْقَاضِي وَأَنَّ الْمَنْعَ ظَاهِرُ الْخَبَرِ وَالْأَثَرِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَتُبَاحُ قِلَادَةٌ فِيهَا قُرْآنٌ أَوْ ذِكْرٌ غَيْرُهُ وَتَعْلِيقُ مَا هُمَا فِيهِ نَصَّ عَلَيْهِ، وَكَذَا التَّعَاوِيذُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُكْتَبَ الْقُرْآنُ أَوْ ذِكْرٌ غَيْرُهُ فِي إنَاءٍ خَالٍ بِالْعَرَبِيِّ ثُمَّ يُسْقَى مِنْهُ الْمَرِيضُ وَالْمُطَلَّقَةُ، وَأَنْ يُكْتَبَ لِلْحُمَّى وَالنَّمْلَةِ وَالْعَقْرَبِ وَالْحَيَّةِ وَالصُّدَاعِ وَالْعَيْنِ مَا يَجُوزُ، وَيُرْقَى مِنْ ذَلِكَ بِقُرْآنٍ وَمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ دُعَاءٍ وَذِكْرٍ وَيُكْرَهُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَتَحْرُمُ الرُّقَى وَالتَّعَوُّذُ بِطَلْسَمٍ وَعَزِيمَةٍ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ قَالَ الْمَأْمُونُ وَهُوَ صَاحِبُ الزِّيجِ الْمَأْمُونِيُّ لَوْ صَحَّ الْكِيمْيَاءُ مَا احْتَجْنَا إلَى الْخَرَاجِ: وَلَوْ صَحَّ الطَّلْسَمُ مَا احْتَجْنَا إلَى الْأَجْنَادِ وَالْحَرَسِ، وَلَوْ صَحَّتْ النُّجُومُ مَا احْتَجْنَا إلَى الْبَرِيدِ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ شَكَتْ امْرَأَةٌ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهَا مُسْتَوْحِشَةٌ فِي بَيْتٍ وَحْدَهَا فَكَتَبَ لَهَا رُقْعَةً بِخَطِّهِ بِسْمِ اللَّهِ، وَفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ وَقَالَ كَتَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مِنْ الْحُمَّى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بِسْمِ اللَّهِ وَبِاَللَّهِ وَمُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ:

{يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء: 70] اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ اشْفِ صَاحِبَ هَذَا الْكِتَابِ بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ وَجَبَرُوتِكَ إلَهَ الْحَقِّ آمِينَ. وَرَوَى أَحْمَدُ أَنَّ يُونُسَ بْنَ حَبَّابٍ كَانَ يَكْتُبُ هَذَا مِنْ حُمَّى الرِّبْعِ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَة مِنْهَا فِي الرَّجُلِ يَكْتُبُ الْقُرْآنَ فِي إنَاءٍ ثُمَّ يَسْقِيهِ لِلْمَرِيضِ قَالَ لَا بَأْسَ قَالَ مِنْهَا قُلْت لَهُ فَيَغْتَسِلُ بِهِ قَالَ مَا سَمِعْتُ فِيهِ بِشَيْءٍ. قَالَ الْخَلَّالُ إنَّمَا كُرِهَ الْغُسْلُ بِهِ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ مَاءَ الْغُسْلِ يَجْرِي فِي الْبَلَالِيعِ وَالْحُشُوشِ فَوَجَبَ أَنْ يُنَزَّهَ مَاءُ الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يُكْرَهُ شُرْبُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِشْفَاءِ. وَقَالَ صَالِحٌ رُبَّمَا اعْتَلَلْتُ فَيَأْخُذُ أَبِي قَدَحًا فِيهِ مَاءٌ فَيَقْرَأُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ لِي اشْرَبْ مِنْهُ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ وَيَدَيْكَ. وَنَقَلَ عَبْدُ اللَّهِ أَنَّهُ رَأَى أَبَاهُ يُعَوِّذُ فِي الْمَاءِ وَيَقْرَأُ عَلَيْهِ وَيَشْرَبُهُ وَيَصُبُّ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَأَيْتُهُ قَدْ أَخَذَ قَصْعَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَغَسَلَهَا فِي جُبِّ الْمَاءِ ثُمَّ شَرِبَ فِيهَا وَرَأَيْتُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ يَشْرَبُ مَاءَ زَمْزَمَ فَيَسْتَشْفِي بِهِ وَيَمْسَحُ بِهِ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ. وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ مُوسَى إنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ كَانَ يُؤْتَى بِالْكُوزِ وَنَحْنُ بِالْمَسْجِدِ فَيَقْرَأُ عَلَيْهِ وَيُعَوِّذُ. قَالَ أَحْمَدُ يُكْتَبُ لِلْمَرْأَةِ إذَا عُسِرَ عَلَيْهَا وَلَدُهَا فِي جَامٍ أَبْيَضَ أَوْ شَيْءٍ نَظِيفٍ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ، سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ} [الأحقاف: 35] {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 46] ثُمَّ تُسْقَى مِنْهُ وَيُنْضَحُ مَا بَقِيَ عَلَى صَدْرِهَا. وَرَوَى أَحْمَدُ هَذَا الْكَلَامَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرَفَعَهُ ابْنُ السُّنِّيِّ فِي عَمَلِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. وَرَوَى ابْنُ مَرْوَانَ فِي الْمُجَالَسَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ عِيسَى مَرَّ بِبَقَرَةٍ قَدْ اعْتَرَضَ وَلَدُهَا فِي بَطْنِهَا فَقَالَتْ يَا رُوحَ اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُخَلِّصَنِي. فَقَالَ اللَّهُمَّ يَا مُخْرِجَ النَّفْسِ وَيَا خَالِقَ النَّفْسِ مِنْ النَّفْسِ خَلِّصْهَا فَخَلَصَتْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَمَنْ قَالَهُ عَلَى امْرَأَةٍ خَلَّصَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَكَانَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَكْتُبُ عَلَى جَبْهَةِ الرَّاعِفِ: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} [هود: 44] قَالَ وَلَا يَجُوزُ كِتَابَتُهَا بِدَمٍ كَمَا يَفْعَلُهُ الْجُهَّالُ فَإِنَّ الدَّمَ نَجِسٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُكْتَبَ بِهِ كَلَامُ اللَّهِ. وَيُكْرَهُ التَّفْل بِالرِّيقِ وَالنَّفْخُ بِلَا رِيقٍ وَقِيلَ فِي كَرَاهَةِ النَّفْثِ فِي الرُّقْيَةِ وَإِبَاحَتِهِ مَعَ الرِّيقِ وَعَدَمِهِ رِوَايَتَانِ. وَذَكَرَ السَّامِرِيُّ أَنَّ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَرِهَ التَّفْلَ فِي الرُّقَى وَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِالنَّفْخِ قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ يُكْرَهُ التَّفْلُ فِي الرُّقْيَةِ قَالَ أَلَيْسَ يُقَال إذَا رَقَى نَفَخَ وَلَمْ يَتْفُلْ؟ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ كَمَا قَالَ.

وَجَزَمَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْأَصْحَابِ بِاسْتِحْبَابِ النَّفْخِ وَالتَّفْلِ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَوِيَتْ كَيْفِيَّةُ نَفْسِ الرَّاقِي كَانَتْ الرُّقْيَةُ أَتَمُّ تَأْثِيرًا وَأَقْوَى فِعْلًا وَلِهَذَا تَسْتَعِينُ بِهِ الرُّوحُ الطَّيِّبَةُ وَالْخَبِيثَةُ فَيَفْعَلُهُ الْمُؤْمِنُ وَالسَّاحِرُ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّ الْجُمْهُورَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ اسْتَحَبُّوا النَّفْثَ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَكَانَ مَالِكٌ يَنْفُثُ إذَا رَقَى نَفْسَهُ وَكَانَ يَكْرَهُ الرُّقْيَةَ بِالْحَدِيدِ وَالْمِلْحِ وَاَلَّذِي يَكْتُبُ خَاتَمَ سُلَيْمَانَ. وَالْعَقْدُ عِنْدنَا أَشَدُّ كَرَاهَةً لِمَا فِيهِ مِنْ مُشَابَهَةِ السِّحْرِ انْتَهَى كَلَامُهُ.

فصل في الكي والحقنة وتعاليق التمائم

[فَصْلٌ فِي الْكَيِّ وَالْحُقْنَةِ وَتَعَالِيقِ التَّمَائِمِ] وَيُبَاحُ الْكَيُّ وَالْحُقْنَةُ ضَرُورَةً وَيُكْرَهَانِ بِدُونِهَا قَالَ الْقَاضِي هَلْ تُكْرَهُ الْحُقْنَةُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ إحْدَاهُمَا تُكْرَهُ لِلْحَاجَةِ وَغَيْرِهَا نَقَلَهَا حَرْبٌ وَغَيْرُهُ وَبِهَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَطَاوُسُ وَعَامِرٌ. (وَالثَّانِيَةُ) لَا تُكْرَهُ وَلِلضَّرُورَةِ نَقَلَهَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ هَارُونَ وَالْأَثْرَمُ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ وَأَبُو طَالِبٍ وَصَالِحٌ وَإِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ وَأَحْمَدُ بْنُ بِشْرٍ الْكِنْدِيُّ وَبِهَا قَالَ إبْرَاهِيمُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ وَعَطَاءٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ كَانَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ كَرِهَهَا فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ ثُمَّ أَبَاحَهَا عَلَى مَعْنَى الْعِلَاجِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوذِيُّ وُصِفَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَفَعَلَهُ يَعْنِي الْحُقْنَةَ وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ مَا يُعْجِبُنِي الْكَيُّ، وَلِلْحَاقِنِ وَنَحْوِهِ نَظَرُ مَوْضِعِ الْحُقْنَةِ وَلِلْقَابِلَةِ وَنَحْوِهَا نَظَرُ مَوْضِعِ الْوِلَادَةِ وَنَحْوِهِ وَعَنْهُ لَا. وَعَنْهُ يُكْرَهُ الْكَيُّ مُطْلَقًا، وَعَنْهُ يُبَاحُ بَعْدَ الْأَلَمِ لَا قَبْلَهُ وَهِيَ أَصَحُّ، قَالَهَا ابْنُ حَمْدَانَ. وَكَذَا الْخِلَافُ وَالتَّفْصِيلُ فِي الرُّقَى وَالتَّعَاوِيذِ وَالتَّمَائِمِ وَنَحْوِهَا ذَكَرَهُ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى وَقَالَ فِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدَئِينَ وَيُكْرَهُ بِغَيْرِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَقِيلَ يَحْرُمُ وَكَذَا الطَّلْسَمُ، وَقَطَعَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِالتَّحْرِيمِ وَقَطَعَ بِهِ غَيْرُهُ. وَقَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ هَلْ تُعَلِّقُ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ التَّعْلِيقُ كُلُّهُ مَكْرُوهٌ، وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِّلَ إلَيْهِ وَقَالَ صَالِحٌ لِأَبِيهِ هَلْ تُعَلِّقُ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ التَّعْلِيقُ كُلُّهُ مَكْرُوهٌ. كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُشَدِّدُ فِيهِ. قَالَ الْمَيْمُونِيُّ سَمِعْتُ مَنْ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ التَّمَائِمِ تُعَلَّقُ بَعْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ قَالَ: أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ وَقَالَ حَرْبٌ قُلْت لِأَحْمَدَ تَعْلِيقُ التَّعْوِيذِ فِيهِ الْقُرْآنُ وَغَيْرُهُ قَالَ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَكْرَهُهُ كَرَاهِيَةً شَدِيدَةً

وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَائِشَةَ وَغَيْرِهَا أَنَّهُمْ سَهَّلُوا فِي ذَلِكَ وَلَمْ يُشَدِّدْ فِيهِ أَحْمَدُ وَقَالَ أَبُو دَاوُد رَأَيْتُ عَلَى ابْنٍ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ صَغِيرٌ تَمِيمَةً فِي رَقَبَتِهِ فِي أَدِيمٍ قَالَ الْخَلَّالُ قَدْ كَتَبَ هُوَ مِنْ الْحُمَّى بَعْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ، وَالْكَرَاهَةُ مِنْ تَعْلِيقِ ذَلِكَ قَبْلَ وُقُوعِ الْبَلَاءِ وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ. وَقَالَ فِي الْمُسْتَوْعَبِ فِي مَوْضِعٍ يُكْرَهُ الْكَيُّ وَقَطْعُ الْعُرُوقِ عَلَى وَجْهِ التَّدَاوِي فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَالْأُخْرَى لَا يُكْرَهُ وَيُبَاحُ الْفَصْدُ وَالْحِجَامَةُ وَتَشْرِيطُ الْآذَانِ وَالْكُحْلُ وَمُدَاوَاةُ أَمْرَاضِ الْعَيْنِ بِالْيَدِ وَالْحَدِيدِ وَقَالَ الْقَاضِي هَلْ يُكْرَهُ فَصْدُ الْعُرُوقِ أَمْ لَا عَلَى رِوَايَتَيْنِ إحْدَاهُمَا لَا يُكْرَهُ نَصَّ عَلَيْهَا فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ مِنْهُمْ صَالِحٌ وَجَعْفَرٌ. وَالثَّانِيَةُ: يُكْرَهُ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: لَا تَفْعَلُ لَا تَتَعَوَّدُوهُ وَقَالَ: مَا فَصَدْتُ عِرْقًا قَطُّ، وَيُبَاحُ قَطْعُ الْبَوَاسِيرِ وَقِيلَ يُكْرَهُ وَإِنْ خِيفَ مِنْهُ التَّلَفُ حُرِّمَ، وَإِنْ خِيفَ مِنْ تَرْكِ قَطْعِهَا التَّلَفُ جَازَ إنْ لَمْ يَضُرَّ الْقَطْعُ غَالِبًا ذَكَرَهُ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى. قَالَ السَّامِرِيُّ وَالنَّهْيُ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ وَقَالَ غَيْرُهُ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى الْكَرَاهَةِ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ أَكْرَهُهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً أَخْشَى أَنْ يَمُوتَ فَيَكُونَ قَدْ أَعَانَ عَلَى نَفْسِهِ. وَيُبَاحُ الْبَطُّ ضَرُورَةً مَعَ ظَنِّ السَّلَامَةِ غَالِبًا وَكَذَا قَطْعُ عُضْوٍ فِيهِ آوَكِلَةً تَسْرِي نَصَّ عَلَى مَعْنَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ كَانَ الْحَسَنُ يَكْرَهُ الْبَطَّ وَلَكِنَّ عُمَرَ رَخَّصَ فِيهِ. قَالَ ابْنُ حَمْدَانَ وَكَذَا مُعَالَجَةُ الْأَمْرَاضِ الْمَخُوفَةِ كُلِّهَا وَمُدَاوَاتُهَا وَيُرْوَى

عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «دَخَلْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى رَجُلٍ نَعُودُهُ بِظَهْرِهِ وَرَمٌ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ مُدَّةٌ قَالَ بُطُّوا عَنْهُ قَالَ عَلِيٌّ فَمَا بَرِحْتُ حَتَّى بُطَّتْ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَاهِدٌ» . وَيُرْوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ طَبِيبًا أَنْ يَبُطَّ بَطْنَ رَجُلٍ أَجْوَى الْبَطْنِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ يَنْفَعُ الْبَطُّ قَالَ الَّذِي أَنْزَلَ الدَّاءَ أَنْزَلَ الشِّفَاءَ فَبِمَا شَاءَ» . الْوَرَمُ عِنْدَهُمْ مَادَّةٌ فِي حَجْمِ الْعُضْوِ لِفَصْلِ مَادَّةٍ غَيْرِ طَبِيعِيَّةٍ تَنْصَبُّ إلَيْهِ وَتُوجَدُ فِي أَجْنَاسِ الْأَمْرَاضِ وَالْمَوَادِّ الَّتِي تَكُونُ عَنْهَا مِنْ الْأَخْلَاطِ الْأَرْبَعَةِ وَالْمَائِيَّةِ وَالرِّيحِ وَإِذَا جُمِعَ الْوَرَمُ يُسَمَّى خُرَّاجًا وَكُلُّ وَرَمٍ حَارٌّ إمَّا أَنْ يُؤَوَّلَ أَمْرُهُ إلَى تَحَلُّلِهِ لِقُوَّةِ الْقُوَّةِ فَتَسْتَوْلِي عَلَى مَادَّةِ الْوَرَمِ وَتُحَلِّلُهُ وَهَذَا أَصَحُّ حَالَاتِهِ. وَإِنْ كَانَتْ الْقُوَّةُ دُونَ ذَلِكَ أَنْضَجَتْ الْمَادَّةَ وَأَحَالَتْهَا مُدَّةً بَيْضَاءَ وَفَتَحَتْ لَهَا مَكَانًا أَسَالَتْهَا مِنْهُ، وَإِنْ نَقَصَتْ عَنْ ذَلِكَ أَحَالَتْ الْمَادَّةَ مُدَّةً غَيْرَ مُسْتَحِيلَةِ النُّضْجِ وَعَجَزَتْ عَنْ فَتْحِ مَكَان فِي الْعُضْوِ تَدْفَعُهَا مِنْهُ فَيَخَافُ عَلَى الْعُضْوِ الْفَسَادَ لِطُولِ لُبْثِهَا فِيهِ فَتَحْتَاجُ حِينَئِذٍ إلَى إعَانَةِ الطَّبِيبِ بِالْبَطِّ أَوْ غَيْرِهِ لِإِخْرَاجِ تِلْكَ الْمَادَّةِ فَهَذَا فَائِدَةُ الْبَطِّ وَلَهُ فَائِدَةٌ أُخْرَى مَنْعُ اجْتِمَاعِ مَادَّةٍ أُخْرَى إلَيْهَا تُقَوِّيهَا. (أَجْوَى) يُقَالُ عَلَى أَشْيَاءَ (أَحَدُهَا) الْمَاءُ الْمُنْتِنُ فِي الْبَطْنِ يَحْدُثُ عَنْهُ الِاسْتِسْقَاءُ وَمِنْ الْأَطِبَّاءِ مَنْ مَنَعَ بَذْلَهُ لِبُعْدِ السَّلَامَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا عِلَاجَ لَهُ سَوَاءً، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنْوَاعًا مِنْ الضِّمَادِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَخِفُّ مِنْ الْبَدَنِ كَثِيرًا وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّهُ إنْ خَفَّفَ فَيَسِيرٌ عَلَى طُولٍ، وَهَذَا فِي الِاسْتِسْقَاءِ الزُّرَقِيِّ وَمِنْ أَنْوَاعِهِ الطَّبْلِيِّ وَهُوَ الَّذِي يَنْتَفِخُ مِنْهُ الْبَطْنُ بِمَادَّةٍ رِيحِيَّةٍ إذَا ضُرِبَتْ عَلَيْهِ لَهَا صَوْتٌ كَصَوْتِ الطَّبْلِ وَمِنْ أَنْوَاعِهِ اللَّحْمِيُّ وَقِيلَ هُوَ أَرْدَؤُهَا، وَقِيلَ أَرْدَؤُهَا الزُّرَقِيُّ وَذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْأَطِبَّاءِ. وَرَوَى ابْنُ السُّنِّيِّ فِي كِتَابِهِ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ «دَخَلَ عَلَيَّ

رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ خَرَجَ فِي إصْبَعِي بَثْرَةٌ فَقَالَ عِنْدَك ذَرِيرَةٌ قُلْت نَعَمْ قَالَ ضَعِيهَا وَقُولِي: اللَّهُمَّ مُصَغِّرَ الْكَبِيرِ، وَمُكَبِّرَ الصَّغِيرِ صَغِّرْ مَا بِي» (الْبَثْرَةُ) وَالْبُثُورُ خُرَّاجٌ صِغَارٌ بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَاحِدَتُهَا بَثْرَةٌ وَقَدْ بَثِرَ وَجْهُهُ يَبْثَرُ وَبَثَرٌ بِتَثْلِيثِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ، وَتَبَثَّرَ جِلْدُهُ تَنَفَّطَ، وَالْبَثْرَةُ عَنْ مَادَّةٍ حَادَّةٍ تَدْفَعُهَا الطَّبِيعَةُ فَتَسْتَرِقَّ مَكَانًا مِنْ الْبَدَنِ تَخْرُجُ مِنْهُ فَهِيَ مُحْتَاجَةٌ إلَى مَا يُنْضِجُهَا وَيُخْرِجُهَا، وَالذَّرِيرَةُ بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ تَفْعَلُ ذَلِكَ وَهُوَ دَوَاءٌ هِنْدِيٌّ يُتَّخَذُ مِنْ قصطب يُجَاءُ بِهِ مِنْ الْهِنْدِ وَهِيَ حَارَّةٌ يَابِسَةٌ تَنْفَعُ مِنْ وَرَمِ الْمَعِدَةِ وَالْكَبِدِ وَالِاسْتِسْقَاءِ، وَتُقَوِّي الْقَلْبَ لِطِيبِهَا وَفِيهَا تَبْرِيدٌ لِنَارِيَّةِ تِلْكَ الْمَادَّةِ قَالَ صَاحِبُ الْقَانُونِ: لَا أَفْضَلَ لِحَرْقٍ مِنْ الذَّرِيرَةِ بِدُهْنِ اللَّوْزِ وَالْخَلِّ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِي بِذَرِيرَةٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ لِلْحِلِّ وَالْإِحْرَامِ» .

فصل في التداوي بالنجس والمحرم والألبان والسموم

[فَصْلٌ فِي التَّدَاوِي بِالنَّجَسِ وَالْمُحَرَّمِ وَالْأَلْبَانِ وَالسُّمُومِ] وَتَحْرُمُ الْمُدَاوَاةُ وَالْكُحْلُ بِكُلِّ نَجِسٍ وَطَاهِرٍ مُحَرَّمٍ أَوْ مُضِرٍّ وَنَحْوِهِ وَبِسَمَاعِ الْغِنَاءِ وَالْمَلَاهِي وَنَحْوِ ذَلِكَ نَصَّ عَلَيْهِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَذُكِرَ لَهُ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ يُتَدَاوَى بِالْخَمْرِ؟ فَقَالَ هَذَا قَوْلُ سُوءٍ وَذُكِرَ لَهُ أَنَّ فَتًى اُعْتُلَّ فَوَصَفُوا لَهُ دَوَاءً يَشْرَبُهُ بِنَبِيذٍ فَأَبَى الْفَتَى أَنْ يَشْرَبَهُ فَحَلَفَ الرَّجُلُ بِالطَّلَاقِ مِنْ امْرَأَتِهِ ثَلَاثًا إنْ لَمْ يَشْرَبْهُ؟ ؟ فَقَالَ لَا يَشْرَبُهُ حَرَامٌ شُرْبُهُ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ الضُّفْدَعُ لَا يَحِلُّ فِي الدَّوَاءِ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِهَا» . وَرَوَى فِي مُسْنَدِهِ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ خَالِدٍ وَقَدْ ضَعَّفَهُ النَّسَائِيُّ وَوَثَّقَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمَا عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ «أَنَّ طَبِيبًا ذَكَرَ ضُفْدَعًا فِي دَوَاءٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَهَاهُ عَنْ قَتْلِهَا» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ خَالِدٍ. قَالَ صَاحِبُ الْقَانُونِ مَنْ أَكَلَ مِنْ دَمِ ضُفْدَعٍ أَوْ جُرْمِهِ وَرِمَ بَدَنُهُ، وَكَمِدَ لَوْنُهُ، وَقَذَفَ الْمَنِيَّ حَتَّى يَمُوتَ، وَلِذَلِكَ تَرَكَ الْأَطِبَّاءُ اسْتِعْمَالَهُ خَوْفًا مِنْ ضَرَرِهِ، وَهُوَ نَوْعَانِ مَائِيَّةٌ وَتُرَابِيَّةٌ، وَالتُّرَابِيَّةُ تَقْتُلُ آكِلَهَا. وَيُدَاوَى الْقَيْءُ بِالْمَاءِ الْحَارِّ وَالْعَسَلِ وَالْمِلْحِ فَإِذَا تَنَظَّفَتْ الْمَعِدَةُ سُقِيَ السَّكَنْجَبِينَ، وَأَكَلَ الْإِسْفَانَاخَ بِدَارَصِينِيٍّ وَيَنْفَعُ كُلُّ مَا نَفَعَ مِنْ الِاسْتِسْقَاءِ، وَحُرَاقَةُ لَحْمِهِ تَنْفَعُ مِنْ دَاءِ الثَّعْلَبِ طِلَاءً، وَرَمَادُهُ يَحْبِسُ الدَّمَ إذَا جُعِلَ عَلَى مَوْضِعِهِ، وَإِذَا رُضِّضَ وَجُعِلَ عَلَى لَسْعِ الْعَقْرَبِ وَالْحَيَّةِ نَفَعَ وَهُوَ يُسْقِطُ الْأَسْنَانَ حَتَّى أَسْنَانِ الْبَهَائِمِ إذَا نَالَتْهُ فِي الرَّعْيِ وَالْعَلَفِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ فِي أَلْبَانِ الْأُتُنِ: لَا تُشْرَبُ وَلَا لِضَرُورَةٍ، وَنَقَلَ عَنْهُ ابْنُ مَنْصُورٍ وَجَمَاعَةٌ فِي مَرِيضِ وُصِفَ لَهُ دَوَاءٌ يَشْرَبُهُ مَعَ أَلْبَانِ

الْأُتُنِ: لَا تَشْرَبْهُ. وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَلْبَانِ الْأُتُنِ فَقَالَ «حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لُحُومَهَا وَأَلْبَانَهَا» . وَقَدْ ذَكَرَ الْأَطِبَّاءُ أَنَّ لَبَنَ الْأُتُنِ قَلِيلُ الدُّسُومَةِ، رَقِيقٌ يَشُدُّ الْأَسْنَانَ وَاللِّثَةَ إذَا تَمَضْمَضَ بِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَلْبَانِ، جَيِّدٌ لِلسُّعَالِ وَالسُّلِّ وَنَفَثَ الدَّمَ إذَا شُرِبَ حَلِيبًا جَبَّنَ يَخْرُجُ مِنْ الضَّرْعِ، وَيَنْفَعُ مِنْ الْأَدْوِيَةِ الْقَتَّالَةِ وَالزَّحِيرِ وَقُرُوحِ الْأَمْعَاءِ وَهُوَ غَيْرُ مُوَافِقٍ لِأَصْحَابِ الصُّدَاعِ وَالطَّنِينِ وَالدُّودِ، وَلَحْمُهَا لَمْ أَجِدْ فِيهِ نَفْعًا بَلْ قَالُوا هِيَ أَرْدَأُ مِنْ سَائِرِ اللُّحُومِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا جَوَازُ الِاكْتِحَالِ بِشَيْءٍ نَجِسٍ وَظَاهِرُ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ غَسْلُ دَاخِلِ الْعَيْنَيْنِ مِنْ نَجَاسَةٍ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ يَجِبُ لِنُدْرَتِهِ. وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ الشِّيرَازِيُّ فِي الْإِيضَاحِ: وَلَا يُؤْكَلُ الدِّرْيَاقُ إلَّا لِحَاجَتِهِ لِمَرَضٍ لِأَنَّ فِيهِ لُحُومَ الْحَيَّاتِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالدِّرْيَاقُ لُغَةٌ فِي التِّرْيَاقِ وَذُكِرَ فِي الْمُسْتَوْعَبِ أَنَّ الْأَدْوِيَةَ الْقَاتِلَةَ كَالدِّفْلَى وَغَيْرِهَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهَا أَكْلًا وَشُرْبًا وَغَيْرُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ. وَقَالَ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ: الْمَيْلُ لِلِاكْتِحَالِ ذَهَبًا وَفِضَّةً عَلَى سَبِيلِ الْمُدَاوَاةِ مُبَاحٌ لِحُصُولِ الْمُدَاوَاةِ لَا لِشَرَفِ الْأَعْضَاءِ رُخْصَةٌ، وَيُعْتَمَدُ فِيهِ عَلَى قَوْلِ الثِّقَاتِ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ فِي هَذَا الشَّأْنِ. وَيَجُوزُ شُرْبُ أَبْوَالِ الْإِبِلِ لِلضَّرُورَةِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ وَعَبْدِ اللَّهِ وَالْمَيْمُونِيِّ وَالْأَثْرَمِ وَجَمَاعَةٍ. وَأَمَّا شُرْبُهَا لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ فَهَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا؟ قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد أَمَّا مَنْ بِهِ عِلَّةٌ وَسَقَمٌ فَنَعَمْ رَجُلٌ صَحِيحٌ فَلَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَشْرَبَ أَبْوَالَ الْإِبِلِ قَالَ الْقَاضِي فِي كِتَابِ الطِّبِّ لَهُ: وَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا عَلَى طَرِيقِ الْكَرَاهَةِ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي طَهَارَتِهِ أَوْ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ أَنَّ بَوْلَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ نَجِسٌ. وَإِمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ هُوَ طَاهِرٌ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ

شُرْبُهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ كَسَائِرِ الْأَشْرِبَةِ. وَقَطَعَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِالتَّحْرِيمِ مُطْلَقًا لِغَيْرِ التَّدَاوِي وَهُوَ أَشْهُرُ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «إنَّ فِي أَبْوَالِ الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا شِفَاءً لِلذَّرِبَةِ بُطُونُهُمْ» رَوَاهُ أَحْمَدُ. الذَّرَبُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَتَحْرِيكِ الرَّاءِ: الدَّاءُ الَّذِي يَعْرِضُ لِلْمَعِدَةِ فَلَا يُهْضَمُ وَلَا تُمْسِكُهُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «قَدِمَ نَاسٌ مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ فَأَمَرَ لَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلِقَاحٍ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا» . وَلِمُسْلِمٍ «إنَّهُمْ قَالُوا إنَّا اجْتَوَيْنَا الْمَدِينَةَ فَعَظُمَتْ بُطُونُنَا وَارْتَهَنَتْ أَعْضَاؤُنَا،» وَهَذَا مَرَضُ الِاسْتِسْقَاءِ. وَهُوَ مَرَضٌ مَادِّيٌّ سَبَبُهُ مَادَّةٌ غَرِيبَةٌ بَارِدَةٌ تَتَخَلَّلُ الْأَعْضَاءَ فَتُزْكَمُ لَهَا الْأَعْضَاءُ الظَّاهِرَةُ كُلُّهَا وَهُوَ أَقْسَامٌ، وَيَحْتَاجُ فِي عِلَاجِهِ إلَى إطْلَاقٍ وَإِدْرَارٍ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي أَبْوَالِ الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا. وَفِي أَبْوَالِ الْإِبِلِ جَلَاءٌ وَتَلْيِينٌ وَإِدْرَارٌ وَتَلْطِيفٌ وَتَفْتِيحٌ لِلسُّدَدِ إذَا كَانَ أَكْثَرُ رَعْيِهَا الْأَدْوِيَةَ النَّافِعَةَ لِلِاسْتِسْقَاءِ قَالَ صَاحِبُ الْقَانُونِ: وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مَنْ قَالَ إنَّ طَبِيعَةَ اللَّبَنِ مُضَادَّةٌ لِعِلَاجِ الِاسْتِسْقَاءِ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ لَبَنَ النُّوقِ دَوَاءٌ نَافِعٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَلَاءِ بِرِفْقٍ وَمَا فِيهِ مِنْ خَاصَّةٍ وَأَنَّ هَذَا اللَّبَنَ شَدِيدُ الْمَنْفَعَةِ. وَأَنْفَعُ الْأَبْوَالِ أَبْوَالُ الْجَمَلِ الْأَعْرَابِيِّ وَقَالَ ابْنُ جَزْلَةَ لَبَنُ اللِّقَاحِ وَهِيَ النُّوقِ أَقَلُّ الْأَلْبَانِ دُسُومَةً وَجُبْنِيَّةً وَهُوَ رَقِيقٌ جِدًّا مَانِيٌّ لَا يُحْدِثُ سَوْدَاءَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَلْبَانِ لِقِلَّةِ جُبْنِيَّتِهِ يَنْفَعُ مِنْ الرَّبْوِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَأَمْرَاضِ الطِّحَالِ وَالْبَوَاسِيرِ، وَأَجْوَدُ مَا يُسْتَعْمَلُ لِلِاسْتِسْقَاءِ مَعَ أَبْوَالِ الْإِبِلِ فَإِنَّهُ يُسَهِّلُ الْمَاءَ الْأَصْفَرَ وَهُوَ سَرِيعُ الِانْحِدَارِ عَنْ الْمَعِدَةِ وَهُوَ أَقَلُّ غِذَاءً مِنْ سَائِرِ الْأَلْبَانِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي أَبْوَالِ الْإِبِلِ قَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَدَاوَوْنَ بِهَا فَلَا يَرَوْنَ بِهَا بَأْسًا، ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ الطَّحَاوِيَّ ثنا حُسَيْنُ بْنُ نَصْرٍ الْفِرْيَابِيُّ

عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانُوا يَسْتَشْفُونَ بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ لَا يَرَوْنَ بِهَا بَأْسًا.

فصل في خواص لباس الحرير والصوف والقطن والكتان

[فَصْلٌ فِي خَوَاصِّ لِبَاسِ الْحَرِيرِ وَالصُّوفِ وَالْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ] فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي لِبَاسِ الْحَرِيرِ لِحَكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا» ،، وَيَأْتِي فِي أَحَادِيثِ اللِّبَاسِ. وَالْحَرِيرُ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ مُبَاحٌ لِلنِّسَاءِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَالْحَرِيرُ مِنْ الْأَدْوِيَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ لِخُرُوجِهِ مِنْ حَيَوَانٍ. وَمِنْ خَاصَّتِهِ تَقْوِيَةُ الْقَلْبِ، وَتَفْرِيحُهُ، يَنْفَعُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَمْرَاضِهِ، وَمِنْ عِلَّةِ الْمُرَّةِ السَّوْدَاءِ، وَالدَّاءِ الْحَادِثِ عَنْهَا، وَهُوَ مُقَوٍّ لِلْبَصَرِ إذَا اُكْتُحِلَ بِهِ، وَالْخَامُ مِنْهُ، وَهُوَ الْمُسْتَعْمَلُ فِي صِنَاعَةِ الطِّبِّ حَارٌّ يَابِسٌ فِي الْأُولَى، وَقِيلَ: رَطْبٌ فِيهَا، وَقِيلَ: مُعْتَدِلٌ يُرَبِّي اللَّحْمَ، وَكُلُّ لِبَاسٍ حَسَنٍ، فَإِنَّهُ يُهْزِلُ، وَيُصَلِّبُ الْبَشَرَةَ، وَبِالْعَكْسِ، وَالصُّوفُ، وَالْوَبَرُ يُسَخِّنُ الْبَدَنَ، وَيُدَفِّئُهُ فَثِيَابُهُ حَارَّةٌ يَابِسَةٌ، وَالْكَتَّانُ بَارِدَةٌ يَابِسَةٌ، وَالْقُطْنُ مُعْتَدِلَةٌ، وَالْحَرِيرُ أَقَلُّ حَرَارَةً مِنْهُ، فَهَذِهِ الثَّلَاثَة تُدْفِئُ، وَلَا تُسْخِنُ، وَكُلُّ لِبَاسٍ صَقِيلٍ أَمْلَسَ أَقَلُّ إسْخَانًا لِلْبَدَنِ، وَأَقَلُّ عَوْنًا فِي تَحَلُّلِ مَا يَتَحَلَّلُ مِنْهُ، وَأَحْرَى أَنْ يُلْبَسَ فِي الصَّيْفِ، وَفِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ. وَالْحَكَّةُ لَا تَكُونُ إلَّا عَنْ حَرَارَةٍ، وَيُبْسٍ، وَخُشُونَةٍ، فَلِذَلِكَ كَانَتْ ثِيَابُ الْحَرِيرِ نَافِعَةً فِيهَا، وَهِيَ أَبْعَدُ عَنْ قَبُولِ تَوَلُّدِ الْقُمَّلِ فِيهَا إذَا كَانَ مِزَاجُهَا مُخَالِفًا لِمِزَاجِ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ الْقُمَّلُ، وَالْمُتَّخَذُ مِنْ الْحَدِيدِ، وَالرَّصَاصِ، وَالْخَشَبِ، وَالتُّرَابِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا يُدْفِئُ، وَلَا يُسْخِنُ، وَاَللَّهُ أَعْلَم.

فصل في خواص العجوة والكمأة والحلبة

[فَصْلٌ فِي خَوَاصِّ الْعَجْوَةِ وَالْكَمْأَةِ وَالْحُلْبَةِ] ِ) فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ تَصَبَّحَ بِثَلَاثِ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ سُمٌّ، وَلَا سِحْرٌ» . زَادَ الْبُخَارِيُّ «ذَلِكَ الْيَوْمَ إلَى اللَّيْلِ» ، وَفِي لَفْظٍ «مَنْ أَكَلَ سَبْعَ تَمَرَاتٍ» ، وَفِي لَفْظٍ «مِمَّا بَيْنَ لَابَتَيْهَا حِينَ يُصْبِحُ لَمْ يَضُرَّهُ سُمٌّ حَتَّى يُمْسِيَ» مُتَّفَقٌ عَلَى ذَلِكَ. ، وَلِمُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ فِي عَجْوَةِ الْعَالِيَةِ شِفَاءً، وَإِنَّهَا تِرْيَاقٌ أَوَّلَ الْبُكْرَةِ» . السُّمُّ مُثَلَّثُ السِّينِ، وَفَتْحُهَا أَفْصَحُ،، وَاللَّابَتَانِ الْحَرَّتَانِ، وَالْمُرَاد لَابَتَا الْمَدِينَةِ، وَالتِّرْيَاقُ بِضَمِّ التَّاءِ، وَكَسْرهَا، وَيُقَالُ دِرْيَاقٌ، وَطِرْيَاقٌ، وَأَوَّلَ الْبُكْرَةِ بِنَصْبِ أَوَّلَ عَلَى الظَّرْفِ أَيْ: مَنْ تَصَبَّحَ، وَالْعَالِيَةُ الْعِمَارَاتُ الْقُرَى مِنْ جِهَةِ الْمَدِينَةِ الْعُلْيَا مِمَّا يَلِي نَجْدَ، وَالسَّافِلَةُ مِنْ الْجِهَةِ الْأُخْرَى. مِمَّا يَلِي تِهَامَةَ، وَأَدْنَى الْعَالِيَةِ مِنْ الْمَدِينَةِ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ، وَأَبْعَدُهَا ثَمَانِيَةٌ. . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ سَعْدٍ قَالَ: «مَرِضْتُ مَرَضًا فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعُودُنِي فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ ثَدْيِي حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَهَا عَلَى فُؤَادِي، وَقَالَ لِي: إنَّكَ رَجُلٌ مَفْئُودٌ فَأْتِ الْحَارِثَ بْنَ كَلَدَةَ مِنْ ثَقِيفٍ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ يُطَبِّبُ فَلْيَأْخُذْ سَبْعَ تَمَرَاتٍ مِنْ عَجْوَةِ الْمَدِينَةِ فَلْيَجَأْهُنَّ بِنَوَاهُنَّ ثُمَّ لِيَلُدّكَ بِهِنَّ» الْمَفْئُودَ الَّذِي أُصِيبَ فُؤَادُهُ فَهُوَ يُسَكِّنُهُ قَالَ: الْأَصْمَعِيُّ اللَّدِيدَانِ جَانِبَا الْوَادِي، وَمِنْهُ أُخِذَ اللَّدُودُ، وَهُوَ مَا يُصَبُّ مِنْ الْأَدْوِيَةِ فِي أَحَدِ شِقَّيْ الْفَمِ جَمْعُهُ أَلِدَّةٌ. وَقَدْ لَدَّ الرَّجُلُ فَهُوَ مَلْدُودٌ، وَأَلْدَدْتُهُ أَنَا، وَالْتَدَّ هُوَ، وَاللَّدِيدُ مِثْلُ اللَّدُودِ. اخْتَارَ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اخْتِصَاصَ مَا سَبَقَ بِعَجْوَةِ الْمَدِينَةِ كَخَاصِّيَّةِ

السَّبْعِ الَّتِي لَا تُدْرَكُ إلَّا بِالْوَحْيِ. وَتَرْجَمَ أَبُو دَاوُد بَابٌ فِي تَمْرَةِ الْعَجْوَةِ، وَلَمْ يَقُلْ مِنْ الْمَدِينَةِ. ، وَلِأَحْمَدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «الْكَمْأَةُ مِنْ الْمَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ، وَالْعَجْوَةُ مِنْ الْجَنَّةِ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلسُّمِّ» زَادَ التِّرْمِذِيُّ فِي رِوَايَةٍ قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: فَأَخَذْتُ ثَلَاثَةَ أَكْمَاءٍ أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا، وَعَصَرْتُهُنَّ، وَجَعَلْتُ مَاءَهُنَّ فِي قَارُورَةٍ، وَكَحَّلْتُ بِهِ جَارِيَةً لِي عَمْشَاءَ فَبَرَأَتْ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ مَعًا كَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ،، وَلِابْنِ مَاجَهْ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَحْدَهُ أَيْضًا، وَلَيْسَ عِنْدَهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، " وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ "، وَعِنْدَهُ فِي الْعَجْوَةِ، " وَهِيَ شِفَاءٌ مِنْ السُّمِّ " لَمْ يَقُلْ " وَمَاؤُهَا ". كَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ فِي رِوَايَةٍ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «بَيْتٌ لَا تَمْرَ فِيهِ جِيَاعٌ أَهْلُهُ» ، وَظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَجْوَةَ لَا تَخْتَصُّ بِمَكَانٍ كَالْكَمْأَةِ، وَفِيهِ " إنَّهَا شِفَاءٌ مِنْ السُّمِّ " وَفِيمَا سَبَقَ أَنَّهَا تَمْنَعُ تَأْثِيرَهُ. وَالتَّمْرُ حَارٌّ فِي الثَّانِيَةِ يَابِسٌ فِي الْأُولَى، وَقِيلَ: رَطْبٌ فِيهَا، وَقِيلَ مُعْتَدِلٌ، وَهُوَ حَافِظٌ لِلصِّحَّةِ لَا سِيَّمَا لِمَنْ اعْتَادَهُ، وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَغْذِيَةِ فِي الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ، وَالْحَارَّةِ الَّتِي حَرَارَتُهَا فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ، وَهُوَ لَهُمْ أَنْفَعُ مِنْهُ لِأَهْلِ الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ لِبُرُودَةِ مَوَاطِنِ سُكَّانِهَا، وَحَرَارَةِ بُطُونِ سُكَّانِ الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ، وَلِذَلِكَ يُكْثِرُ أَهْلُ الْحِجَازِ، وَالْيَمَنِ وَمَا يَلِيهِمْ مِنْ الْبِلَادِ الْمُشَابِهَةِ لَهَا مِنْ الْأَغْذِيَةِ الْحَارَّةِ مَا لَا يَتَأَتَّى لِغَيْرِهِمْ. وَتَمْرُ الْعَالِيَةِ مِنْ أَجْوَدِ ثَمَرِهِمْ، وَيَدْخُلُ التَّمْرُ فِي الْأَدْوِيَةِ، وَالْأَغْذِيَةِ، وَالْفَوَاكِهِ، وَيُوَافِقُ أَكْثَرَ الْأَبْدَانِ، مُقَوٍّ لِلْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ، وَلَا يَتَوَلَّدُ عَنْهُ مِنْ الْفَضْلَةِ الرَّدِيئَةِ مَا يَتَوَلَّدُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْفَاكِهَةِ، وَالْأَغْذِيَةِ بَلْ يَمْنَعُ مَنْ اعْتَادَهُ مِنْ

بَعْضِ الْخَلْطِ، وَفَسَادِهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: هَذَا الْحَدِيثُ أُرِيدَ بِهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَمَنْ جَاوَرَهُمْ، كَذَا قَالَ. وَلِلْأَمْكِنَةِ اخْتِصَاصٌ يَنْفَعُ كَثِيرًا فَيَكُونُ الدَّوَاءُ الَّذِي يَنْبُتُ فِي هَذَا الْمَكَانِ نَافِعًا مِنْ الدَّاءِ، وَلَا يُوجَدُ فِيهِ ذَلِكَ النَّفْعُ إذَا نَبَتَ فِي مَكَان غَيْرِهِ لِتَأْثِيرِ نَفْسِ التُّرْبَةِ، وَالْهَوَاءِ أَوْ هُمَا، فَإِنَّ فِي الْأَرْضِ خَوَاصَّ، وَطَبَائِعَ تُقَارِبُ اخْتِلَافَهَا، وَاخْتِلَافَ طَبَائِعِ الْإِنْسَانِ. كَثِيرٌ مِنْ النَّبَاتِ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ غِذَاءً مَأْكُولًا، وَفِي بَعْضِهَا سُمًّا قَاتِلًا، وَرُبَّ أَدْوِيَةٍ لِقَوْمٍ أَغْذِيَةٌ لِآخَرِينَ، وَأَدْوِيَةٍ لِقَوْمٍ مِنْ أَمْرَاضٍ، وَهِيَ أَدْوِيَةٌ لِآخَرِينَ فِي أَمْرَاضٍ سِوَاهَا، وَأَدْوِيَةٍ لِأَهْلِ بَلَدٍ لَا تُنَاسِبُ غَيْرَهُمْ. وَالسَّبْعُ مِنْ الْعَدَدِ لَهُ مَوَاضِعُ كَثِيرَةٌ، وَهُوَ يَجْمَعُ مَعَانِي الْعَدَدِ، وَخَوَاصَّهُ؛ لِأَنَّ الْعَدَدَ شَفْعٌ، وَوِتْرٌ، وَشَفْعٌ أَوَّلُ، وَثَانٍ، وَالْوِتْرُ كَذَلِكَ، فَالشَّفْعُ الْأَوَّلُ اثْنَانِ، وَالثَّانِي أَرْبَعَةٌ، وَالْوِتْرُ الْأَوَّلُ ثَلَاثَةٌ، وَالثَّانِي خَمْسَةٌ، وَالْأَطِبَّاءُ تُعْنَى بِهِ لَا سِيَّمَا فِي الْبِحَارَيْنِ. وَيُذْكَرُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ عَادَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِمَكَّةَ فَقَالَ: اُدْعُوا لَهُ طَبِيبًا فَدُعِيَ الْحَارِثُ بْنُ كَلَدَةَ فَنَظَرَ إلَيْهِ فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ بَأْسٌ، وَاِتَّخِذُوا لَهُ فَرِيقَةً مَعَ تَمْرِ عَجْوَةٍ رَطْبَةٍ يُطْبَخَانِ فَتَحَسَّاهَا فَفَعَلَ ذَلِكَ فَبَرَأَ» ، وَالْفَرِيقَةُ الْحُلْبَةُ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْفَاءِ، وَكَسْرِ الرَّاءِ ثُمَّ يَاءٌ ذَاتُ نُقْطَتَيْنِ مِنْ تَحْتٍ ثُمَّ قَافٌ ثُمَّ هَاءٌ تَمْرٌ يُطْبَخُ بِحُلْبَةٍ، وَهُوَ طَعَامُ النُّفَسَاءِ قَالَ أَبُو كَثِير: وَلَقَدْ وَرَدْتُ الْمَاءَ لَوْنَ حَمَامَةٍ ... لَوْنَ الْفَرِيقَةِ صُفِّيَتْ لِلْمُدْنِفِ وَيُذْكَرُ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُرْسَلًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اسْتَشْفُوا بِالْحُلْبَةِ» ، وَالْحُلْبَةُ حَارَّةٌ فِي الثَّانِيَةِ، وَقِيلَ: فِي آخِرِ الْأُولَى، يَابِسَةٌ فِي الْأُولَى، وَقِيلَ: فِي الثَّانِيَةِ، وَلَا تَخْلُو مِنْ رُطُوبَةٍ فَضْلِيَّةٍ إذَا طُبِخَتْ بِالْمَاءِ لِتَلْيِينِ الْحَلْقِ، وَالصَّدْرِ، وَالْبَطْنِ نَافِعَةٌ لِلْحَصْرِ، وَتُسَكِّنُ السُّعَالَ، وَالْخُشُونَةِ، وَالرَّبْو، وَعُسْرِ النَّفَسِ.

مُنْضِجَةٌ مُلَيِّنَةٌ، وَتُزِيدُ فِي الْبَاهِ جَيِّدَةٌ لِلرِّيحِ، وَالْبَلْغَمِ، وَالْبَوَاسِيرِ مُحْدِرَةٌ لِلْكَيْمُوسَاتِ الْمُتَرَكِّبَةِ فِي الْأَمْعَاءِ، وَتَجْلُبُ الْبَلْغَمَ اللَّزِجَ مِنْ الصَّدْرِ، وَتَنْفَعُ مِنْ الرَّتِيلَاتِ، وَأَمْرَاضِ الرِّئَةِ، وَتُسْتَعْمَلُ لِهَذِهِ الْأَدْوَاءِ فِي الْأَحْشَاءِ مَعَ السَّمْنِ، وَالسُّكَّرِ، وَإِذَا شُرِبَتْ مَعَ وَزْنِ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ فُوَّهً أَدَرَّتْ الْحَيْضَ، وَدَمَ النِّفَاسِ إذَا طُبِخَتْ بِعَسَلٍ، وَإِذَا طُبِخَتْ، وَغُسِلَ بِهَا الشَّعْرُ جَعَّدَتْهُ، وَأَذْهَبَتْ الْحَرَارَةَ. وَدَقِيقُهَا إذَا خُلِطَ بِالنَّطْرُونِ، وَالْخَلِّ، وَضُمِّدَ بِهِ حُلَلُ وَرَمِ الطِّحَالِ، وَإِنْ جَلَسَتْ امْرَأَةٌ فِي مَاءٍ طُبِخَتْ فِيهِ الْحُلْبَةُ نَفَعَ مِنْ وَجَعِ الرَّحِمِ الْعَارِضِ مِنْ وَرَمٍ فِيهِ. وَإِذَا ضُمِّدَتْ بِهِ الْأَوْرَامُ الصُّلْبَةُ الْقَلِيلَةُ الْحَرَارَةِ نَفَعَتْهَا، وَحَلَّلَتْهَا، وَيُشْرَبُ مَاؤُهَا لِرِيحٍ عَارِضٍ، وَلِزَلَقِ الْأَمْعَاءِ، وَإِنْ أُكِلَتْ مَطْبُوخَةً بِتَمْرٍ أَوْ عَسَلٍ أَوْ تِينٍ عَلَى الرِّيقِ حَلَّلَتْ الْبَلْغَمَ اللَّزِجَ الْعَارِضَ فِي الصَّدْرِ، وَالْمَعِدَةِ، وَنَفَعَتْ مِنْ السُّعَالِ الْمُتَطَاوِلِ زَمَنُهُ، وَأَكْلُ الْحُلْبَةِ يُقَلِّلُ رَائِحَةَ الْبَرَازِ، وَيُسَهِّلُ الْإِوْلَادِ لِلرَّحِمِ الْعَسِرَةِ الْوِلَادَةِ بِجَفَافٍ، وَدُهْنُهَا إذَا خُلِطَ بِالشَّمْعِ يَنْفَعُ مِنْ الشِّقَاقِ الْعَارِضِ مِنْ الْبَرْدِ قَالَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ: لَوْ عَلِمَ النَّاسُ مَنَافِعَهَا لَاشْتَرَوْهَا بِوَزْنِهَا ذَهَبًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تُوَلِّدُ كَيْمُوسًا رَدِيئًا، وَتُصَدِّعُ.

فصل في خواص الكمأة

[فَصْلٌ فِي خَوَاصِّ الْكَمْأَةِ] ِ) عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْكَمْأَةُ مِنْ الْمَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِيهِ مِنْ الْمَنِّ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ، وَغَيْرُهُ: الْكَمْأَةُ جَمْعُ وَاحِدَةٍ كَمْءِ، وَهُوَ خِلَافُ قِيَاسِ الْعَرَبِيَّةِ، فَإِنَّ مَا فُرِّقَ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ وَاحِدِهِ التَّاءُ فَالْوَاحِدُ مِنْهُ بِالتَّاءِ، وَإِذَا حُذِفَتْ كَانَ الْجَمْعُ، وَهَلْ هُوَ جَمْعٌ أَوْ اسْمُ جَمْعٍ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ هَذِهِ إلَّا كَمْأَةٌ، وَكَمْءٌ، وَحَبَأَةٌ، وَحَبَءٌ. وَقَالَ غَيْرُهُمْ: هِيَ عَلَى الْقِيَاسِ الْكَمْأَةُ لِلْوَاحِدِ، وَالْكَمْءُ لِلْكَثْرَةِ، وَقِيلَ: الْكَمْأَة تَكُونُ وَاحِدًا وَجَمْعًا، وَسُمِّيَتْ كَمْأَةً لِاسْتِتَارِهَا، وَمِنْهُ كَمَأَ شَهَادَتَهُ يَكْمَؤُهَا إذَا كَتَمَهَا، وَانْكَمَأَ أَيْ: اسْتَخْفَى، وَتَكَمَّأَ تَغَطَّى، وَالْكَمِيُّ الشُّجَاعُ الْمُتَكَمِّي فِي سِلَاحِهِ؛ لِأَنَّهُ كَمَأَ نَفْسَهُ أَيْ: سَتَرَهَا بِالدِّرْعِ، وَالْبَيْضَةِ، وَالْجَمْعُ الْكُمَاةُ، كَأَنَّهُمْ جَمَعُوا كَامِئٍ، فِي مِثْلِ قَاضٍ، وَقُضَاةٍ قَالَ الشَّاعِرُ: قَهَرْنَاكُمْ حَتَّى الْكُمَاةَ فَإِنَّكُمْ ... لَتَخْشَوْنَنَا حَتَّى بَنِينَا الْأَصَاغِرَا وَيُرْوَى حَتَّى الْحُمَاةَ، وَلَا تُزْرَعُ الْكَمْأَةُ، وَمَادَّتُهَا مِنْ جَوْهَرٍ أَرْضِ بُخَارَى يَحْتَقِنُ فِي الْأَرْضِ نَحْوُ سَطْحِهَا يَحْتَقِنُ بِبَرْدِ الشِّتَاءِ، وَتُنَمِّيهِ أَمْطَارُ الرَّبِيعِ فَيَتَوَلَّدُ. وَلِهَذَا يُقَالُ لَهَا: جُدَرِي الْأَرْضِ تَشْبِيهًا بِالْجُدَرِيِّ فِي صُورَتِهِ، وَمَادَّتِهِ؛ لِأَنَّ مَادَّتَهُ رُطُوبَةٌ دَمَوِيَّةٌ يَنْدَفِعُ عِنْدَ سِنِّ التَّرَعْرُعِ فِي الْغَالِبِ، وَفِي ابْتِدَاءِ اسْتِيلَاءِ الْحَرَارَةِ، وَنَمَاءِ الْقُوَّةِ، وَهِيَ مَا تُوجَدُ فِي الرَّبِيعِ، وَتُؤْكَلُ شَيًّا، وَمَطْبُوخًا، وَسَمَّتْهَا نَبَاتَ الرَّعْدِ لِكَثْرَتِهَا بِكَثْرَتِهِ، وَتَنْفَطِرُ عَنْهَا الْأَرْضُ، وَتَكْثُرُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ، وَأَجْوَدُهَا مَا كَانَتْ أَرْضُهَا رَمْلَةً قَلِيلَةَ الْمَاءِ، وَمِنْهَا صِنْفٌ قَتَّالٌ يَضْرِبُ لَوْنُهُ إلَى الْحُمْرَةِ.

قِيلَ: هِيَ مِنْ الْمَنِّ حَقِيقَةً عَلَى ظَاهِرِهِ، وَقِيلَ: شَبَّهَهَا بِهِ لِحُصُولِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِلَا كُلْفَةٍ، وَلَا مُعَالَجَةٍ. وَظَاهِرُ اللَّفْظِ أَنَّ مَاءَهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ مُطْلَقًا مِنْ ضَعْفِ الْبَصَرِ، وَالرَّمَدِ الْحَادِّ، وَلَا مَانِعَ مِنْ الْقَوْلِ بِهِ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ مِثْلَ هَذَا مِنْ الْأَطِبَّاءِ الْمَسِيحِيُّ، وَصَاحِبُ الْقَانُونِ، وَغَيْرُهُمَا، وَقَدْ اكْتَحَلَ بِمَائِهَا مُجَرَّدًا بَعْضُ مَنْ عَمِيَ مُعْتَقِدًا مُتَبَرِّكًا فَشَفَاهُ اللَّهُ بِحَوْلِهِ، وَقُوَّتِهِ، وَأَظُنُّ قَدْ وَقَعَ مِثْلُ هَذَا فِي زَمَنِ أَبِي زَكَرِيَّا النَّوَوِيِّ. وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَوَى الْخَبَرَ، وَفَعَلَ ذَلِكَ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا رَوَاهُ. وَقِيلَ: يُخْلَطُ مَاؤُهَا بِدَوَاءٍ، وَيُعَالَجُ بِهِ، وَقِيلَ: هَذَا إنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ حَرَارَةٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ حَرَارَةٍ فَمَاؤُهَا مُجَرَّدُ شِفَاءٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِمَائِهَا الْمَاءُ الَّذِي تَحْدُثُ بِهِ مِنْ الْمَطَرِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَطَرٍ يَنْزِلُ إلَى الْأَرْضِ فَيَكُونُ إضَافَةَ اقْتِرَانٍ لَا إضَافَةَ جُزْءٍ ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَقَدْ ذَكَرَ الْأَطِبَّاءُ أَنَّ الْكَمْأَةَ بَارِدَةٌ رَطْبَةٌ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ، وَأَنَّهَا رَدِيئَةٌ لِلْمَعِدَةِ بَطِيئَةُ الْهَضْمِ تُوَرِّثُ الْقُولَنْجَ، وَعُسْرَ الْبَوْلِ، وَتُوَلِّدُ خَلْطًا رَدِيئًا، وَيُخَافُ مِنْهُ الْفَالِجُ، وَالسَّكْتَةُ. وَيَنْبَغِي أَنْ تُعْمَل بِالدَّارَصِينِيِّ؛ لِأَنَّ جَوْهَرَهَا أَرْضِيٌّ غَلِيظٌ، وَغِذَاؤُهَا رَدِيءٌ لَكِنْ فِيهَا جَوْهَرٌ مَائِيٌّ لَطِيفٌ يَدُلّ عَلَى خِفَّتِهَا، وَلَا يَمْنَعُ كَوْنَهَا مِنْ الْمَنِّ أَوْ أَنَّ مَاءَهَا يَنْفَعُ الْعَيْنَ عَدَمُ الضَّرَرِ فِيهَا وَقْتَ حَلْقِهَا فَالْعَسَلُ، وَغَيْرُهُ فِيهِ ضَرَرٌ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ النَّفْعِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: الْآفَاتُ، وَالْعِلَلُ حَادِثَةٌ، وَالْفَسَادُ بِأَسْبَابٍ اقْتَضَتْ ذَلِكَ لِمُجَاوَرَةٍ أَوْ امْتِزَاجٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَهُوَ فِي الِابْتِدَاءِ بَرِيءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْمَعَاصِيَ، وَمُخَالَفَةَ الرُّسُلِ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ، وَغَيْرَهُ قَالَ تَعَالَى {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41] وَقَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الطَّاعُونِ «إنَّهُ بَقِيَّةُ رِجْزٍ أَوْ عَذَابٍ أُرْسِلَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ» . وَاحْتَجَّ أَيْضًا بِالْقَحْطِ، وَقِلَّةِ الْبَرَكَاتِ «وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا» وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَرَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ أَنَّهُ وَجَدَ فِي بَعْضِ خَزَائِنِ بَنِي أُمَيَّة صُرَّةً فِيهَا حِنْطَةٌ أَمْثَالُ نَوَى التَّمْرِ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا هَذَا كَانَ يَنْبُتُ أَيَّامَ الْعَدْلِ.

فصل في ذكر مفردات فيها أخبار من ذلك

[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ مُفْرَدَاتٍ فِيهَا أَخْبَارٌ مِنْ ذَلِكَ] َ) (حَرْفُ الْأَلِفِ) خَوَاصُّ الْأُرْزِ يُذْكَرُ فِي الْأُرْزِ خَبَرَانِ مَوْضُوعَانِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَحَدُهُمَا لَوْ كَانَ رَجُلًا لَكَانَ حَلِيمًا وَالْآخَرُ: كُلُّ شَيْءٍ أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ فَفِيهِ دَاءٌ، وَشِفَاءٌ إلَّا الْأُرْزَ، فَإِنَّهُ شِفَاءٌ لَا دَاءَ فِيهِ» قِيلَ: الْأُرْزُ حَارٌّ يَابِسٌ فِي الثَّالِثَةِ، وَقِيلَ: حَارٌّ فِي الْأُولَى، وَقِيلَ: مُعْتَدِلٌ، وَقِيلَ: بَارِدٌ يَابِسٌ فِي الثَّانِيَةِ، وَقِيلَ: مُعْتَدِلٌ فِي الْحَرِّ، وَالْبَرْدِ شَدِيدُ الْيُبْسِ يَحْبِسُ الطَّبْعَ. وَالْمَطْبُوخُ بِالْأَلِيَّةِ يَنْفَعُ الْمَعِدَةَ وَلَا يُمْسِكُ، وَالْأُرْزُ يَنْفَعُ مِنْ قِيَامِ الدَّمِ وَيُوَلِّدُ الدَّمَ، وَمِنْ عِلَلِ الْكُلَى وَالْمَثَانَةِ، وَمِنْ كَثْرَةِ إنْزَالِ الْحَيْضَةِ، وَيُسَكِّنُ مَا يَعْرِضُ مِنْ الْبَلْغَمِ الْمَالِحِ الَّذِي مِنْهُ الْبَوَاسِيرُ، وَيَنْفَعُ مِنْ الزَّحِيرِ وَالْعِلَلِ الْعَارِضَةِ فِي أَسْفَلِ الْبَدَنِ، وَيَحْبِسُ دَمَ الطَّمْثِ، وَيَنْفَعُ مِنْ النَّزْفِ الْعَارِضِ لِلنِّسَاءِ، وَمِنْ اضْطِرَابِ الْجَنِينِ فِي الْجَوْفِ، وَالْإِكْثَارُ مِنْ أَكْلِهِ يَزِيدُ فِي نَضَارَةِ الْوَجْهِ وَيُخَصِّبُ الْبَدَنَ وَيُرِي أَحْلَامًا جَيِّدَةً، رَدِيءٌ لِلْقُولَنْجِ يُصْلِحُهُ الْعَسَلُ وَالسُّكَّرُ الْأَحْمَرُ، وَإِنْ طُبِخَ حَتَّى يَنْهَرِي، وَيَصِيرَ مِثْلَ مَاءِ الشَّعِيرِ وَشُرِبَ كَانَ جَيِّدًا لِلَّذْعِ فِي الْبَطْنِ عَنْ أَخْلَاطٍ مَرَارِيَّةٍ، وَالْمَطْبُوخُ بِاللَّبَنِ وَدُهْنِ اللَّوْزِ وَالْحُلْوِ وَالسُّكَّرِ يُقَوِّي الْبَاهَ، وَيَزِيدُ فِي الْمَنِيِّ وَلَا يَعْقِلُ، وَالْأَرُزُّ غِذَاؤُهُ جَيِّدٌ وَقَدْ يُعَطِّشُ مَنْ كَبِدُهُ حَارَّةٌ وَهُوَ يَدْفَعُ الْمَعِدَةَ. وَيَزْعُمُ الْهِنْدُ أَنَّهُ أَجْوَدُ الْأَغْذِيَةِ وَأَنْفَعُهَا إذَا طُبِخَ بِحَلِيبِ الْبَقَرِ الْحُمْرِ. وَزَعَمُوا أَنَّ مَنْ اقْتَصَرَ عَلَى الِاغْتِذَاءِ بِهِ طَالَ عُمْرُهُ وَصَحَّ جِسْمُهُ وَلَمْ يَنَلْهُ فِي بَدَنِهِ عِلَّةٌ وَلَا صُفْرَةٌ. وَفِيهِ جَلَاءٌ لِظَاهِرِ الْجَسَدِ وَأَكْلُهُ يَزِيدُ فِي الْمَنِيِّ، وَيَقِلُّ عَلَى أَكْلِهِ الْبَوْلُ وَالنَّجْوُ وَالرِّيحُ وَقِيلَ: لَيْسَ خَلْطُهُ بِحَسَنٍ وَإِذَا طُبِخَ بِلَبَنِ الْمَاعِزِ اعْتَدَلَ وَقِشْرُهُ يُعَدُّ مِنْ السُّمُومِ.

فصل في خواص البيض وأنواع طبخه

[فَصْلٌ فِي خَوَاصِّ الْبَيْضِ وَأَنْوَاعِ طَبْخِهِ] ِ) وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ أَنَّ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - شَكَا إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَأَمَرَهُ بِأَكْلِ الْبَيْضِ وَقَدْ ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيّ فِي كِتَابِ شُعَبِ الْإِيمَانِ قَالَ: الْأَطِبَّاءُ الْبَيْضُ الطَّرِيُّ أَجْوَدُ مِنْ الْعَتِيقِ. وَأَفْضَلُهُ بَيْضُ الدَّجَاجِ، وَأَفْضَلُهُ مُخُّهُ، وَأَفْضَلُهُ نِيمَرِشْتُ، وَبَيَاضُهُ إلَى الْبَرْدِ، وَصُفْرَتُهُ إلَى الْحَرِّ، وَجُمْلَتُهُ إلَى الِاعْتِدَالِ بَيْنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ رَطْبٌ غَلِيظٌ، وَالنِّيمَرِشْتُ أَسْرَعُ انْهِضَامًا وَأَجْوَدُهُ غِذَاءً يَنْفَعُ الْحَلْقَ وَالسُّعَالَ وَالسُّلَّ وَيُزِيدُ فِي الْبَاهِ وَمُخُّهُ الْمَشْوِيُّ قَابِضٌ يُسَكِّنُ الْأَوْجَاعَ اللَّذَّاعَةَ. وَالصُّفْرَةُ الْمَشْوِيَّةُ يُطْلَى بِهَا الْكَلَفُ مَعَ الْعَسَلِ، وَيَنْفَعُ مِنْ حَرْقِ النَّارِ وَمِنْ حَرْقِ الْمَاءِ الْحَارِّ إذَا جُعِلَ عَلَيْهِ بِصُوفَةٍ، وَيَنْفَعُ مِنْ جِرَاحَاتِ السُّفْلِ وَلِلْقَانَّةِ. وَالْمَطْبُوخُ فِي الْخَلِّ يُحَسِّنُ الطَّبْعَ وَهُوَ بَطِيءُ الْهَضْمِ خَاصَّةً الْمُنْعَقِدُ مِنْهُ وَيُوَرِّثُ الْكَلَفَ إذَا أُدْمِنَ أَكْلُهُ. وَالْمُطَجَّنُ رَدِيءٌ جِدًّا يُوَلِّدُ الْحِجَارَةَ وَتُخْمًا وَقَولَنْجًا. وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى صُفْرَةٍ أَوْ يُخْلَطَ بِهِ فُلْفُلٌ وَكَمُّونٌ وَيُسْتَعْمَلُ بَعْدَ الزَّنْجَبِيلِ الْمُرَبَّى. قَالَ بَعْضُهُمْ: بَيَاضُهُ إذَا قُطِّرَ فِي الْعَيْنِ الْوَارِمَةِ وَرَمًا حَارًّا بَرَّدَهُ وَسَكَّنَ الْوَجَعَ، وَإِذَا لُطِّخَ بِهِ حَرْقُ النَّارِ أَوَّلَ مَا يُعَرَّضُ لَهُ لَمْ يَدَعْهُ يَنْفِطُ، وَإِذَا لُطِّخَ بِهِ الْوَجْهُ مُنِعَ مِنْ الِاحْتِرَاقِ الْعَارِضِ مِنْ الشَّمْسِ، وَإِذَا خُلِطَ بِالْكُنْدُرِ وَلُطِّخَ عَلَى الْجَبْهَةِ نَفَعَ مِنْ النَّزْلَةِ، وَذَكَرَ صَاحِبُ الْقَانُونِ فِي الْأَدْوِيَةِ الْقَلْبِيَّةِ ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْأَدْوِيَةِ الْمُلَطِّفَةِ، فَإِنَّهُ مِمَّا لَهُ مَدْخَلٌ فِي تَقْوِيَتِهِ جِدًّا أَعْنِي: الصُّفْرَةَ تَجْمَعُ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ: سُرْعَةَ الِاسْتِحَالَةِ إلَى الدَّمِ، وَقِلَّةَ الْفَضْلِ، وَكَوْنَ الدَّمِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْهُ مُجَانِسًا لِلدَّمِ الَّذِي يَغْذُو الْقَلْبَ خَفِيفًا مُنْدَفِعًا إلَيْهِ بِسُرْعَةٍ.

فصل في خواص البصل والثوم

[فَصْلٌ فِي خَوَاصِّ الْبَصَلِ وَالثُّومِ] ِ) رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ الْبَصَلِ فَقَالَتْ: إنَّ آخِرَ طَعَامٍ أَكَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِيهِ بَصَلٌ. وَالْبَصَلُ حَارٌّ يَابِسٌ فِي الدَّرَجَةِ الرَّابِعَةِ وَفِيهِ رُطُوبَةٌ فَضْلِيَّةٌ، وَقِيلَ: رَطْبٌ فِي آخِرِ الثَّالِثَةِ يَنْفَعُ مِنْ تَغَيُّرِ الْمِيَاهِ، وَيَدْفَعُ رِيحَ السَّمُومِ وَيُفَتِّقُ الشَّهْوَةَ وَيُقَوِّي الْمَعِدَةَ وَيُهَيِّجُ الْبَاهَ، وَيَزِيدُ فِي الْمَنِيِّ وَيُحَسِّنُ اللَّوْنَ، وَيَقْطَعُ الْبَلْغَمَ، وَيَجْلُو الْمَعِدَةَ، وَإِذَا شَمَّهُ مَنْ شَرِبَ دَوَاءً مُسْهِلًا مَنَعَهُ مِنْ الْقَيْءِ وَالْغَثَيَانِ، وَأَذْهَبَ رَائِحَةَ ذَلِكَ الدَّوَاءِ وَإِذَا سَعَطَ بِمَائِهِ نَقَّى الرَّأْسَ، وَيُقَطَّرُ فِي الْأُذُنِ لِثِقَلِ السَّمْعِ وَالطَّنِينِ وَالْقَيْحِ وَالْمَاءِ الْحَادِثِ فِي الْأُذُنَيْنِ، وَيَنْفَعُ مِنْ الْمَاءِ النَّازِلِ فِي الْعَيْنِ اكْتِحَالًا. وَالْمَطْبُوخُ مِنْهُ كَثِيرُ الْغِذَاءِ يَنْفَعُ مِنْ الْيَرَقَانِ، وَالسُّعَالِ وَخُشُونَةِ الصَّدْرِ وَيُدِرُّ الْبَوْلَ، وَيُلَيِّنُ الطَّبْعَ، وَيَنْفَعُ مِنْ عَضَّةِ الْكَلْبِ غَيْرِ الْكَلْبِ إذَا طُلِيَ عَلَيْهَا مَاؤُهُ بِمِلْحِ وَسَذَابٍ، وَإِذَا احْتَمَلَ فَتْحَ الْبَوَاسِيرِ وَبَذْرُهُ يُذْهِبُ الْبَهَقَ وَيُدَلَّكُ بِهِ دَاءُ الثَّعْلَبِ فَيَنْفَعُ جِدًّا وَهُوَ بِالْمِلْحِ يَقْلَعُ الثَّآلِيلَ وَيُكْتَحَلُ بِهِ مَعَ الْعَسَلِ لِبَيَاضِ الْعَيْنِ. وَالْبَصَلُ يُصَدِّعُ الرَّأْسَ وَيُثَوِّرُ الشَّقِيقَةَ وَيُوَلِّدُ رِيَاحًا وَكَثْرَةُ أَكْلِهِ تُوَلِّدُ النِّسْيَانَ وَتُفْسِدُ الْعَقْلَ وَيُغَيِّرُ رَائِحَةَ الْفَمِ وَالنَّكْهَةِ وَتُؤْذِي الْجَلِيسَ وَالْمَلَائِكَةَ. وَيُذْهِبُ رَائِحَتَهُ وَرَقُ السَّذَابِ عَلَيْهِ وَإِمَاتَتُهُ طَبْخًا تُذْهِبُ هَذِهِ الْمُضِرَّاتِ مِنْهُ قَالَ بَعْضُهُمْ: وَهُوَ مُعَطِّشٌ مُعِنٌّ مُلَيِّنٌ لِلْبَطْنِ يُحْدِرُ الطَّمْثَ، وَيَشْفِي الرُّعَافَ إذَا اُسْتُعِطَ بِهِ وَإِذَا اُسْتُنْشِقَ، وَيَنْفَعُ التَّحَنُّكُ بِهِ مِنْ الْخِنَاقِ وَإِذَا خُلِطَ بِالْخَلِّ وَيُلَطَّخُ بِهِ فِي الشَّمْسِ أَثَرُ الْبَهَقِ أَزَالَهُ، وَلْيَحْذَرْ إكْثَارَهُ مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْمِرَارُ. وَفِيهِ جَذْبُ الدَّمِ إلَى خَارِجٍ فَهُوَ مُحَمِّرٌ لِلْجِلْدِ وَالْإِكْثَارُ مِنْهُ يُوَلِّدُ اللُّعَابَ، وَالْبَصَلُ الْمُخَلَّلُ فَاتِقٌ لِلشَّهْوَةِ جِدًّا وَالْبَصَلُ يَضُرُّ بِالرَّأْسِ وَالْعَيْنِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُخَلَّلًا، وَإِذَا سُلِقَ أَوْ شُوِيَ أَصْلَحَ حِدَّتَهُ، وَإِذَا أُذِيبَ الْأُشَّقُ فِي مَاءِ الْبَصَلِ

وَطُلِيَ بِهِ الزُّجَاجُ لَمْ يَنْكَسِرْ لِشِدَّةِ صَلَابَتِهِ، وَإِذَا وُضِعَ الْبَصَلُ فِي طَاحُونَةٍ مَنَعَهَا مِنْ الدَّوَرَانِ. وَالثُّومُ مَذْكُورٌ مَعَ الْبَصَلِ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ حَارٌّ يَابِسٌ فِي الرَّابِعَةِ تَسْخِينُهُ وَتَجْفِيفُهُ جِدًّا يَنْفَعُ مِنْ الْبَرْدِ وَالْبَلْغَمِ لِمَنْ خِيفَ عَلَيْهِ الْفَالِجُ مُجَفِّفٌ لِلْمَنِيِّ مُفَتِّحٌ لِلسُّدَدِ يَحُلُّ النَّفْخَ، وَيَهْضِمُ الطَّعَامَ، وَيَقْطَعُ الْعَطَشَ وَيُطْلِقُ الْبَطْنَ وَيُدِرُّ الْبَوْلَ يَقُومُ فِي لَسْعِ الْهَوَامِّ وَالْأَوْرَامِ الْبَارِدَةِ مَقَامَ التِّرْيَاقِ، وَإِنْ جُعِلَ ضِمَادًا نَفَعَ وَجَذَبَ السُّمَّ، وَيُصَفِّي الْحَلْقَ، وَيَنْفَعُ مِنْ تَغَيُّرِ الْمِيَاهِ وَالسُّعَالِ الْمُزْمِنِ وَمِنْ وَجَعِ الصَّدْرِ مِنْ بَرْدٍ وَيُخْرِجُ الْعَلَقَ مِنْ الْحَلْقِ، وَإِنْ دُقَّ مَعَ خَلٍّ وَمِلْحٍ وَعَسَلٍ وَجُعِلَ عَلَى الضِّرْسِ الْمُتَآكِلِ فَتَّتَهُ وَأَسْقَطَهُ وَعَلَى الضِّرْسِ الْوَجِعِ سَكَّنَهُ، وَإِذَا طُلِيَ بِالْعَسَلِ عَلَى الْبَهَقِ نَفَعَ، وَيَحْفَظُ صِحَّةَ أَكْثَرَ الْأَبْدَانِ وَيُصَدِّعُ، وَيَضُرُّ الدِّمَاغَ وَالْعَيْنَ وَيُضْعِفُ الْبَصَرَ وَالْبَاهَ وَيُعَطِّشُ الصَّفْرَاءَ، وَيَجِيفُ رَائِحَةَ الْفَمِ وَيُذْهِبُ رَائِحَتَهُ إنْ مُضِغَ عَلَيْهِ وَرَقُ السَّذَابِ وَيُصْلِحُهُ الْحَامِضُ وَالدُّهْنُ قَالَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ: قَطْعُ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ مِنْ الْمَأْكُولَاتِ يَنْفَعُ فِيهِ مَضْغُ وَرَقُ السَّذَابِ وَكَذَا السَّعْدُ.

فصل في خواص الباذنجان

[فَصْلٌ فِي خَوَاصِّ الْبَاذِنْجَانِ] ِ) وَمِنْ الْمَوْضُوعِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَاذِنْجَانُ لِمَا أُكِلَ لَهُ.» وَهُوَ حَارٌّ يَابِسٌ وَقِيلَ: بَارِدٌ يَابِسٌ وَالْكَيْمُوسُ الْمُتَوَلِّدُ مِنْهُ مَرَارٌ أَسْوَدُ مُحْتَرِقٌ فَلِذَلِكَ يُوَلِّدُ السَّوْدَاءَ وَالْبَوَاسِيرَ وَالْكَلَفَ وَالسَّرَطَانَ وَالْجُذَامَ وَالدُّوَارَ وَالصَّرَعَ، وَيَضُرُّ بِنَتِنِ الْفَمِ، وَيَنْبَغِي تَشْقِيقُهُ كَالصَّلِيبِ وَيُجْعَلُ فِي جَوْفِهِ مِلْحًا مَدْقُوقًا وَبِتَرْكِهِ سَاعَةً يَمْتَصُّ الْمِلْحُ مَائِيَّتَهُ الرَّدِيئَةَ ثُمَّ يَغْسِلُهُ مَرَّاتٍ وَيُبَدِّدُ عَنْهُ الْمَاءَ إلَى أَنْ يَصْفُوَ سَوَادُهُ، وَيَطْبُخُهُ بِخَلٍّ أَوْ مَاءِ حِصْرِمٍ مَعَ دُهْنِ اللَّوْزِ وَلَحْمٍ. قَالَ بَعْضُهُمْ: لَحْمُ جَمَلٍ، وَيَأْكُلُ بَعْدَهُ رُمَّانًا مُزًّا، وَخَاصَّةً الْبَاذِنْجَانُ إنَّهُ يُوَرِّثُ سَوَادَ اللَّوْنِ، وَإِصْلَاحُهُ بِالْخَلِّ وَالدُّسُومَاتِ، وَهُوَ جَيِّدٌ لِلْمَعِدَةِ الَّتِي تَقِيءُ الطَّعَامَ رَدِيءٌ لِلرَّأْسِ وَالْعَيْنِ وَكَثِيرًا مَا يَتَوَلَّدُ عَنْهُ الْقَوَابِي وَالْبَوَاسِيرُ وَالرَّمَدُ وَالْمَطْبُوخُ بِالْخَلِّ يُوَافِقُ، وَيَنْفَعُ أَصْحَابَ الْأَطْحِلَةِ الْغَلِيظَةِ نَفْعًا بَيِّنًا، وَإِذَا أُخِذَ مِنْ قطارميز الْبَاذِنْجَانِ وَخُلِطَ مَعَ مِثْلِهَا مِنْ لُبِّ اللَّوْزِ الْمُرِّ وَدُقَّا وَعُجِنَا بِدُهْنِ بَنَفْسَجٍ وَطُلِيَتْ بِهِ الْبَوَاسِيرُ نَفَعَتْ مِنْهَا مُجَرَّبٌ، وَمِنْ الْمُجَرَّبِ أَيْضًا إذَا سُحِقَ الزِّئْبَقُ بِمَاءِ الْبَاذِنْجَانِ سَحْقًا بَلِيغًا وَكُتِبَ بِهِ كِتَابَةً وَأُحْمِيَ فِي النَّارِ بَقِيَتْ الْكِتَابَةُ عَلَيْهِ كَأَنَّهَا الْفِضَّةُ. وَالْأَبْيَضُ مِنْ الْبَاذِنْجَانِ الْمُسْتَطِيلِ الَّذِي بِدِمَشْقَ أَصْلَحُ مِنْ الْأَسْوَدِ الَّذِي بِبِلَادِ الْعَجَمِ، وَبِالْفَوْرِ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ وَقِيلَ: هَذَا الْأَبْيَضُ عَارٍ مِنْ مَضَارِّ الْأَسْوَدِ. وَذَكَرَ ابْن عَبْد الْبَرِّ عَنْ عَيَّاشٍ الدَّوْرِيِّ عَنْ ابْنِ مَعِينٍ قَالَ: لَا يُمَلُّ الْبَاذِنْجَانُ قَالَ: وَسَمِعْتُ الْقَاضِيَ أَبَا عَمْرو فِي نُسْخَةٍ عَمْرو يَقُولُ لَوْ يَعْلَمُ الثَّوْرُ الَّذِي يَحْمِلُ الْبَاذِنْجَانَ أَنَّهُ عَلَيْهِ تَاهَ عَلَى الثِّيرَانِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا لِمَنْ اسْتَطَابَهُ وَعُذْرُهُ عِنْدَهُ، وَذَمُّهُ عِنْدَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ مَدْحِهِ.

فصل في خواص التين

فَصْلٌ قَدْ سَبَقَ فِي آخِرِ الْكَلَامِ فِي الْحِمْيَةِ الْكَلَامُ عَلَى التَّمْرِ وَبَعْدَهُ قَرِيبًا فِي حِفْظِ الصِّحَّةِ الْكَلَامُ وَعَلَى الْبِطِّيخِ وَالْكَلَامُ فِي الْبُسْرِ وَالْبَلَحِ وَالرُّطَبِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي التُّفَّاحِ وَفِي ذِكْرِ السَّفَرْجَلِ. [فَصْلٌ فِي خَوَاصِّ التِّينِ] ِ يُرْوَى عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أُهْدِيَ لَهُ طَبَقٌ مِنْ تِينٍ فَقَالَ: كُلُوا وَأَكَلَ مِنْهُ وَقَالَ: لَوْ قُلْتُ إنَّ فَاكِهَةً نَزَلَتْ مِنْ الْجَنَّةِ قُلْتُ: هَذِهِ؛ لِأَنَّ فَاكِهَةَ الْجَنَّةِ بِلَا عُجْمٍ فَكُلُوا مِنْهَا، فَإِنَّهَا تَقْطَعُ الْبَوَاسِيرَ» ، وَيَنْفَعُ مِنْ النِّقْرِسِ. وَقَدْ أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْله: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين: 1] رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ أَنَّهُ هَذَا التِّينُ الْمَعْرُوفُ وَالزَّيْتُونُ الْمَعْرُوفُ. وَهُوَ حَارٌّ قَلِيلًا رَطْبٌ فِي الثَّانِيَةِ وَقِيلَ: يَابِسٌ وَأَجْوَدُهُ الْأَبْيَضُ النَّاضِجُ الْمُقَشَّرُ وَهُوَ أَغْذَى مِنْ جَمِيعِ الْفَوَاكِهِ، وَيَسْرُعُ نُفُوذُهُ وَيُسْمِنُ وَيُوَافِقُ الصَّدْرَ وَيُسَكِّنُ الْعَطَشَ الَّذِي هُوَ بَلْغَمٌ مَالِحٌ، وَيَنْفَعُ الْكُلَى وَالْمَثَانَةَ، وَيَجْلُو رَمْلَهَا وَيُؤَمِّنُ مِنْ السُّمُومِ، وَيَنْفَعُ خُشُونَةَ الْحَلْقِ وَقَصَبَةَ الرِّئَةِ، وَيَغْسِلُ الْكَبِدَ وَالطِّحَالَ وَيُنَقِّي الْخَلْطَ الْبَلْغَمِيَّ مِنْ الْمَعِدَةِ، وَيَنْفَعُ السُّعَالَ الْمُزْمِنَ، وَيَزِيدُ الْبَوْلَ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَفِي أَكْلِهِ عَلَى الرِّيقِ مَنْفَعَةٌ عَجِيبَةٌ فِي فَتْحِ مَجَارِي الْغِذَاءِ وَأَكْلُهُ مَعَ الْأَغْذِيَةِ الْغَلِيظَةِ رَدِيءٌ جِدًّا، وَالتِّينُ فِيهِ نَفْخٌ وَيُوَلِّدُ مُرَّةً وَهُوَ رَدِيءٌ لِلْمَعِدَةِ، وَيَدْفَعُ ضَرَرَهُ شَرَابُ السَّكَنْجَبِينِ الصِّرْفُ بَعْدَ أَكْلِهِ، وَيُضَمَّدُ بِالتِّينِ الْيَابِسِ الْبَهَقُ وَقُضْبَانُهُ تَهْرِي اللَّحْمَ إذَا طُبِخَ مَعَهَا. وَالتِّينُ الْيَابِسُ حَارٌّ

مُعْتَدِلٌ فِي الْيُبْسِ وَالرُّطُوبَةِ لَطِيفٌ قَوِيٌّ لِجَلَاءِ السُّدَدِ، وَيَنْفَعُ الْعَصَبَ، وَأَكْلُ التِّينِ يُوَلِّدُ دَمًا لَيْسَ بِالْجَيِّدِ فَلِذَلِكَ يَعْمَلُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُؤْكَلَ مَعَهُ الْجَوْزُ أَوْ اللَّوْزُ قَالَ جَالِينُوسُ: وَإِذَا أُكِلَ مَعَ الْجَوْزِ وَالسَّذَابِ قَبْلَ أَخْذِ السُّمِّ الْقَاتِلِ نَفَعَ وَحَفِظَ مِنْ الضَّرَرِ.

فصل في خواص الجبن

[فَصْلٌ فِي خَوَاصِّ الْجُبْنِ] ِ) عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِجُبْنَةٍ فِي تَبُوكَ «فَدَعَا بِسِكِّينٍ فَسَمَّى وَقَطَعَ» رَوَاهُ دَاوُد. وَأَكَلَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الْجُبْنَ قَالَ الْأَطِبَّاءُ: الْجُبْنُ الرَّطْبُ بَارِدٌ رَطْبٌ فِي الثَّالِثَةِ مُسَمِّنٌ مُلَيِّنٌ تَلْيِينًا مُعْتَدِلًا وَهُوَ غَلِيظٌ يُزِيدُ فِي اللَّحْمِ مُوَلِّدٌ لِلْحَصَى وَالسُّدَدِ وَيُصْلِحُهُ الْجَوْزُ وَالزَّيْتُ أَوْ الْعَسَلُ قَالَ بَعْضُهُمْ جَيِّدٌ لِلْمَعِدَةِ، وَالْحَرِيفُ مِنْهُ وَهُوَ الْعَتِيقُ حَارٌّ يَابِسٌ فِي الثَّالِثَةِ مُلْهِبٌ مُعَطِّشٌ رَدِيءُ الْغِذَاءِ وَفِيهِ جَلَاءٌ وَيُقَوِّي فَمَ الْمَعِدَةِ إذَا تَلَقَّمَ بِهِ بَعْدَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُوَلِّدُ الْحَصَى فِي الْكُلَى وَالْمَثَانَةِ وَيُوَلِّدُ خَلْطًا مَرَارِيًّا، وَيَهْزِلُ، رَدِيءٌ لِلْمَعِدَةِ عَسِرُ الْهَضْمِ وَخَلْطُهُ لِلْمُطْلَقَاتِ أَرْدَأُ بِسَبَبِ تَنْفِيذِهَا لَهُ إلَى الْمَعِدَةِ وَسَيْفُهُ يُصْلِحُهُ لِاجْتِنَابِ النَّارِ مِنْ أَجْزَائِهِ وَيُمْسِكُ الطَّبْعَ. وَأَمَّا الزُّبْدُ فَأَجْوَدُهُ الطَّرِيُّ مِنْ لَبَنِ الضَّأْنِ حَارٌّ رَطْبٌ فِي الْأُولَى وَرُطُوبَتُهُ أَكْثَرُ مُنْضِجٌ مُحَلِّلٌ إذَا طُلِيَ بِهِ الْبَدَنُ سَمَّنَهُ وَغَذَّاهُ، وَيَنْفَعُ جِرَاحَاتِ الْعَصَبِ وَالْأَوْرَامِ، وَيَمْلَأُ الْقُرُوحَ وَيُنَقِّيهَا وَيُسَهِّلُ نَبَاتَ الْأَسْنَانِ إذَا طُلِيَ بِهِ، وَيَنْفَعُ مِنْ السُّعَالِ الْيَابِسِ وَالْبَارِدِ مَعَ السُّكَّرِ وَاللَّوْزِ وَلِذَاتِ الْجَنْبِ وَالرِّئَةِ وَيُسَهِّلُ النَّفْثَ، وَيَنْفَعُ نَفْثَ الدَّمِ وَقَذْفَ الْمِدَّةِ إذَا أُخِذَتْ مِنْهُ أُوقِيَّةٌ وَنِصْفٌ بِعَسَلٍ، وَيَحْتَقِنُ بِهِ لِلْأَوْرَامِ الصُّلْبَةِ وَيُقَاوِمُ السُّمُومَ، وَيَنْفَعُ نَهْشَةَ الْأَفْعَى طِلَاءً وَيُرْخِي الْمَعِدَةَ، وَتُصْلِحُهُ الْأَشْيَاءُ الْقَابِضَةُ، وَيُذْهِبُ الْقَوَابِيَ وَالْخُشُونَةَ الَّتِي فِي الْبَدَنِ وَيُلَيِّنُ الطَّبِيعَةَ وَيُسْقِطُ شَهْوَةَ الطَّعَامِ وَهُوَ وَخِمٌ أَيْ: وَبِيءٌ يَطْفُوا فِي فَمِ الْمَعِدَةِ وَيُذْهِبُ بِوَخَامَتِهِ الْحُلْوُ كَالْعَسَلِ وَالتَّمْرِ. وَلِهَذَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ بِالْإِسْنَادِ الْجَيِّدِ عَنْ ابْنَيْ بِشْرٍ وَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ وَعَطِيَّةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَا: «دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدَّمْنَا إلَيْهِ زُبْدًا وَتَمْرًا وَكَانَ يُحِبُّ الزُّبْدَ وَالتَّمْرَ، وَكَذَا السَّمْنُ» فَقَدْ سَبَقَ فِيهِ الْحَدِيثُ فِي فَضْلِ الصِّحَّةِ أَنَّ سَمْنَ الْبَقَرِ دَوَاءٌ.

وَفِي كِتَابِ ابْنِ السُّنِّيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَا يُسْتَشْفَى النَّاسُ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ السَّمْنِ قَالَ الْأَطِبَّاءُ: السَّمْنُ يَفْعَلُ أَفْعَالَ الزُّبْدِ وَهُوَ أَقْوَى فِي الْإِنْضَاجِ وَالْإِرْخَاءِ وَالتَّلْيِينِ وَكُلَّمَا عُتِّقَ كَانَ أَحَرَّ وَأَقْوَى جَلَاءً، حَارٌّ رَطْبٌ فِي الْأُولَى أَكْثَرُ حَرَارَةً مِنْ الزُّبْدِ مُحَلِّلٌ مُنْضِجٌ يَفْعَلَ فِي الْأَبْدَانِ النَّاعِمَةِ دُونَ الصُّلْبَةِ وَيُنْضِجُ الْبُثُورَ وَالْأَوْرَامَ وَيُلَيِّنَ الصَّدْرَ وَيُنْضِجُ الْفُضُولَ فِيهِ خُصُوصًا مَعَ السُّكَّرِ وَاللَّوْزِ وَهُوَ تِرْيَاقُ السُّمُومِ الْمَشْرُوبَةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَمْنُ الْبَقَرِ وَالْمَعْزِ إذَا شُرِبَ مَعَ الْعَسَلِ نَفَعَ مِنْ شُرْبِ السُّمِّ الْقَاتِلِ وَمِنْ لَدْغِ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل في خواص الثفا أي: حب الرشاد والصبر

[فَصْلٌ فِي خَوَاصِّ الثَّفَا أَيْ: حَبُّ الرَّشَادِ وَالصَّبِرِ] ِ) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَاذَا فِي الْأَمَرَّيْنِ مِنْ الشِّفَا؟ الصَّبِرُ وَالثُّفَّا» رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ مِنْ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ رَافِعٍ الْقَيْسِيِّ مُرْسَلًا مَرْفُوعًا وَلِأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ «إنَّ الصَّبِرَ يَشُبُّ الْوَجْهَ» أَمَّا الثَّفَا فَهُوَ الْحُرْفُ بِضَمِّ الْحَاءِ وَبِسُكُونِ الرَّاءِ وَبِالْفَاءِ حَبُّ الرَّشَادِ. وَقِيلَ: شَيْءٌ حِرِّيفٌ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَالرَّاءِ مُشَدَّدَةً وَهُوَ الَّذِي يَلْذَعُ اللِّسَانَ بِحَرَارَتِهِ وَكَذَلِكَ بَصَلٌ حِرِّيفٌ وَلَا تَقُلْ: حَرِيفٌ وَالرَّشَادُ فِي الْحَرَارَةِ وَالْيُبُوسَةِ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ يُسَخِّنُ وَيُلَيِّنُ الْبَطْنَ وَيُخْرِجُ الدُّودَ وَحَبُّ الْقَرْعِ وَيُحَلِّلُ أَوْرَامَ الطِّحَالِ وَيُحَرِّكُ شَهْوَةَ الْجِمَاعِ، وَيَجْلُو الْجَرَبَ الْمُتَقَرِّحَ وَالْقُوبَا وَإِذَا تُضُمِّدَ بِهِ مَعَ الْعَسَلِ حَلَّلَ وَرَمَ الطِّحَالِ وَإِذَا طُبِخَ فِي الْحِنَّاءِ أَخْرَجَ الْفُضُولَ الَّتِي فِي الصَّدْرِ وَشُرْبُهُ يَنْفَعُ مِنْ نَهْشِ الْهَوَامِّ وَلَسْعِهَا. وَإِذَا دُخِّنَ بِهِ فِي مَوْضِعٍ طُرِدَ الْهَوَامُّ عَنْهُ وَيُمْسِكُ الشَّعْرَ الْمُتَسَاقِطَ وَإِذَا تُضُمِّدَ بِهِ مَعَ الْمَاءِ وَالْمِلْحِ نَضَّجَ الدَّمَامِلَ، وَيَنْفَعُ مِنْ الِاسْتِرْخَاءِ فِي جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ، وَيَزِيدُ فِي الْبَاهِ وَيُشَهِّي الطَّعَامَ، وَيَنْفَعُ مِنْ الرَّبْوِ وَعُسْرِ النَّفَسِ وَغِلَظِ الطِّحَالِ وَيُنَقِّي الرِّئَةَ وَيُدِرُّ الطَّمْثَ، وَيَنْفَعُ مِنْ عِرْقِ النَّسَاءِ وَوَجَعِ الْوِرْكِ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْ الْفُضُولِ إذَا شُرِبَ أَوْ احْتُقِنَ بِهِ، وَيَجْلُوَ مَا فِي الصَّدْرِ مِنْ الْبَلْغَمِ اللَّزِجِ وَيُحَلِّلُ الرِّيَاحَ لَا سِيَّمَا وَزْنُ دِرْهَمٍ مَسْحُوقًا بِمَاءٍ حَارٍّ مَعَ إسْهَالٍ أَيْضًا، وَيَنْفَعُ شُرْبُهُ مَسْحُوقًا مِنْ الْبَرَصِ، وَإِنْ لُطِّخَ عَلَيْهِ وَعَلَى الْبَهَقِ الْأَبْيَضِ بِالْخَلِّ مِنْهُمَا، وَيَنْفَعُ مِنْ الصُّدَاعِ عَنْ بَرْدٍ وَبَلْغَمٍ، وَإِنْ غُلِيَ وَشُرِبَ عَقَلَ الْبَطْنَ لَا سِيَّمَا إذَا لَمْ يُسْحَقْ لِتَحَلُّلِ لُزُوجَتِهِ بِالْقَلْيِ، وَإِنْ غُسِلَ بِمَائِهِ الرَّأْسُ نَقَّاهُ مِنْ الْأَوْسَاخِ وَالرُّطُوبَاتِ اللَّزِجَةِ قَالَ جَالِينُوسُ قُوَّتُهُ مِثْلُ بِزْرِ الْخَرْدَلِ شَبِيهٌ بِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ يَضُرُّ

بِالْمَعِدَةِ وَالْمَثَانَةِ، وَإِنَّهُ يُحْدِثُ تَقْطِيرَ الْبَوْلِ، وَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُؤْكَلَ مَعَهُ الْهِنْدَبَا؛ لِأَنَّ الْهِنْدَبَا بَارِدٌ مُلَطِّفٌ جَيِّدٌ لِلْمَعِدَةِ الْمُلْتَهِبَةِ وَالْكَبِدِ مُحَلِّلُ السُّدَدِ. وَأَمَّا الصَّبِرُ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَلَا تُسَكَّنُ إلَّا ضَرُورَةً الدَّوَاءُ الْمَعْرُوفُ فَحَارٌّ يَابِسٌ فِي الثَّانِيَةِ وَقِيلَ: حَرَارَتُهُ فِي الثَّانِيَةِ وَقِيلَ: فِي الْأُولَى، وَقِيلَ: يُبْسُهُ فِي الثَّانِيَةِ وَقُوَّتُهُ قَابِضَةٌ مُجَفِّفَةٌ وَالْهِنْدِيُّ مِنْهُ كَثِيرُ الْمَنَافِعِ يُجَفَّفُ بِغَيْرِ لَذْعٍ، وَيَنْفَعُ بِالْعَسَلِ عَلَى آثَارِ الضَّرْبَةِ وَيُدْمِلُ الدَّاحِسَ وَعَلَى الشَّعْرِ الْمُتَسَاقِطِ فَيَمْنَعُهُ، وَيَنْفَعُ مِنْ أَوْرَامِ السُّفْلِ وَالْمَذَاكِيرِ وَيُدْمِلُ الْقُرُوحَ الَّتِي قَدْ عَسِرَ انْدِمَالُهَا وَيُنَقِّي الْفُضُولَ الصَّفْرَاوِيَّةَ مِنْ الرَّأْسِ وَيُطْلَى عَلَى الْأَنْفِ وَيُسَهِّلُ السَّوْدَاءَ، وَيَنْفَعُ مِنْ قُرُوحِ الْعَيْنِ وَجَرَبِهَا وَوَجَعِ الْمَآقِ وَيُجَفِّفُ رُطُوبَتَهَا، وَيَحِدُّ الْبَصَرَ وَيُنَقِّي الْبَلْغَمَ مِنْ الْمَعِدَةِ وَرُبَّمَا نَفَعَنَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ. وَقَدْ يُتَنَاوَلُ مِنْهُ بُكْرَةً وَعَشِيَّة حَبَّاتٌ مَخْلُوطَةٌ بِالطَّعَامِ فَتُسَهِّلُ الْبَطْنَ مِنْ غَيْرِ أَنْ نُفْسِدَ الطَّعَامَ، وَقَدْرُ شَرْبَتِهِ إذَا كَانَ مُفْرَدًا مَا بَيْنَ نِصْفِ دِرْهَمٍ إلَى دِرْهَمَيْنِ بِمَاءٍ حَارٍّ فَيُسْهِلُ بَلْغَمًا وَصَفْرَاءَ، وَإِذَا غُسِلَ كَانَ أَضْعَفَ إسْهَالًا وَإِذَا كَانَ مَعَ الْأَدْوِيَةِ فَشَرْبَتُهُ مِنْ دَانَقَيْنِ إلَى نِصْفِ دِرْهَمٍ وَهُوَ يَضُرُّ بِالْمِعَى وَيُعْدَلُ بِالْكَثِيرِ أَوْ يَضُرُّ بِالْكَبِدِ وَالسُّفْلِ وَيُصْلِحُهُ الْوَرْدُ وَالْمَصْطَكَى. وَسَقْيُ الصَّبِرِ فِي الْبَرْدِ خَطَرٌ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا أَسْهَلَ دَمًا، وَالْعَرَبِيُّ مِنْ الصَّبِرِ يُكْرِبُ وَيُمْغِصُ والسنجاري مِنْ الصَّبِرِ أَسْوَدُ لَا يَصْلُحُ اسْتِعْمَالُهُ بِحَالٍ، فَإِنَّهُ رَدِيءٌ جِدًّا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل في الأدهان وخواص أنواعها

[فَصْلٌ فِي الْأَدْهَانِ وَخَوَاصِّ أَنْوَاعِهَا] ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْحُلْبَةِ قَرِيبًا فِي فَصْلٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَعْدٍ وَسَبَقَ فِي فُصُولِ حِفْظِ الصِّحَّةِ الْكَلَامُ فِي الْخَلِّ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي الدُّبَّاءِ وَهُوَ الْقَرْعُ وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ «كُلُوا الزَّيْتَ وَادْهِنُوا بِهِ» وَالْكَلَامُ فِي الزَّيْتِ فِي مُدَاوَاةِ ذَاتِ الْجَنْبِ. وَلِلتِّرْمِذِيِّ فِي كِتَابِ الشَّمَائِلِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكْثِرُ دَهْنَ رَأْسِهِ وَتَسْرِيحَ لِحْيَتِهِ وَيُكْثِرُ الْقِنَاعَ كَأَنَّ ثَوْبَهُ ثَوْبُ زَيَّاتٍ» ، الدَّهْنُ فِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ كَالْحِجَازِ مِنْ أَسْبَابِ حِفْظِ الصِّحَّةِ وَإِصْلَاحِ الْبَدَنِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَهْلُ الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - اسْتِحْبَابَ الْأَدْهَانِ مُطْلَقًا وَخَصَّهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِالْبِلَادِ الْحَارَّةِ وَأَنَّ الْحَمَّامَ لِأَهْلِ الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ كَالِادِّهَانِ لِغَيْرِهِمْ. وَالْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ فِي بَابِ السِّوَاكِ. وَالدُّهْنُ يَسُدُّ مَسَامَّ الْبَدَنِ، وَيَمْنَعُ مَا يَتَحَلَّلُ مِنْهُ. وَاسْتِعْمَالُهُ بَعْدَ الِاغْتِسَالِ بِمَاءٍ حَارٍّ يُحْسِنُ الْبَدَنَ وَيُرَطِّبُهُ وَيُحْسِنُ الشَّعْرَ وَيُطَوِّلُهُ، وَيَنْفَعُ مِنْ الْحَصْبَةِ وَغَيْرِهَا وَالْإِلْحَاحُ بِالدُّهْنِ فِي الرَّأْسِ فِيهِ خَطَرٌ بِالْبَصَرِ، وَأَنْفَعُ الْأَدْهَانِ الْبَسِيطَةِ الزَّيْتُ ثُمَّ السَّمْنُ ثُمَّ الشَّيْرَجُ. وَأَمَّا الْمُرَكَّبَةُ فَمِنْهَا دُهْنُ الْبَنَفْسَج، وَمِنْ الْمَوْضُوعِ فِيهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَضْلُ دُهْنِ الْبَنَفْسَجِ عَلَى سَائِرِ الْأَدْهَانِ كَفَضْلِي عَلَى سَائِرِ النَّاسِ» . مَعَ أَنَّهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ قَدْ احْتَجَّ بِهِ. وَهُوَ بَارِدٌ رَطْبٌ أَجْوَدُهُ الْمُتَّخَذُ بِاللَّوْزِ يَنْفَعُ الْجَرَبَ طِلَاءً وَيُلَيِّنُ صَلَابَةَ الْمَفَاصِلِ وَالْعَصَبِ، وَيَحْفَظُ صِحَّةَ الْأَظْفَارِ طِلَاءً، وَيَنْفَعُ مِنْ الصُّدَاعِ الْحَارِّ الْيَابِسِ وَيُرَطِّبُ الدِّمَاغَ وَيُنَوِّمُ أَصْحَابَ السَّهَرِ لَا سِيَّمَا مَا عُمِلَ بِحَبِّ الْقَرْعِ وَاللَّوْزِ الْحُلْوِ، وَيَنْفَعُ مِنْ الشِّقَاقِ وَغَلْيُهُ الْيَبَسُ وَيُسَهِّلُ حَرَكَةَ الْمَفَاصِلِ وَالْإِكْثَارُ مِنْهُ يُرْخِي الْبَدَنَ وَيُصْلِحُهُ دُهْنُ الزَّنْبَقِ وَيُعْتَاضُ عَنْهُ بِدُهْنِ اللِّينُوفَرِ.

وَمِنْهَا دُهْنُ الْبَانِ وَمِنْ الْمَوْضُوعِ فِيهِ. «ادَّهِنُوا بِالْبَانِ، فَإِنَّهُ أَحْظَى لَكُمْ عِنْدَ نِسَائِكُمْ» . وَلَيْسَ الْمُرَادُ دُهْنَ زَهْرِهِ بَلْ دُهْنٌ يُسْتَخْرَجُ مِنْ حَبٍّ أَبْيَضَ أَغْبَرَ نَحْوِ الْفُسْتُقِ. وَهُوَ حَارٌّ رَطْبٌ فِي الثَّانِيَةِ يَنْفَعُ مِنْ صَلَابَةِ الْعَصَبِ وَتَلْبِينِهِ وَمِنْ الْبَرَصِ وَالنَّمَشِ وَالْكَلَفِ وَالْبَهَقِ يُسَهِّلُ بَلْغَمًا غَلِيظًا وَيُسَخِّنُ الْعَصَبَ وَيُلَيِّنُ الْأَوْتَارَ الْيَابِسَةَ، وَيَنْفَعُ مِنْ دَوِيِّ الْأُذُنِ مَعَ شَحْمِ الْبَطِّ، وَيَجْلُو الْأَسْنَانَ، وَيَقِيهَا الصَّدَأَ. وَمَنْ مَسَحَ بِهِ وَجْهَهُ وَأَطْرَافَهُ لَمْ يُصِبْهُ حَصًى وَلَا شِقَاقٌ. وَمَنْ دَهَنَ بِهِ حَقْوَهُ وَمَذَاكِيرَهُ وَمَا وَالَاهَا نَفَعَ مِنْ بَرْدِ الْكُلْيَتَيْنِ وَتَقْطِيرِ الْبَوْلِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْأَطِبَّاءُ أَدْهَانًا كَثِيرَةً يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَيُؤْخَذُ مِمَّا سَبَقَ فِي فُصُولِ حِفْظِ الصِّحَّةِ فِي ذِكْرِ الرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ بَعْضُ ذَلِكَ.

فصل في خواص الذهب

[فَصْلٌ فِي خَوَاصِّ الذَّهَبِ] ِ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الذُّبَابِ وَفِي الذَّرِيرَةِ فِي أَوَائِلِ فُصُولِ الطِّبِّ. وَأَمَّا الذَّهَبُ فَفِي السُّنَّةِ عَنْ عَرْفَجَةَ أَنَّهُ قُطِعَ أَنْفُهُ فَاِتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ وَرِقٍ فَأَنْتَنَ عَلَيْهِ «فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتَّخِذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ» . وَالذَّهَبُ مُعْتَدِلٌ لَطِيفٌ يَدْخُلُ فِي سَائِرِ الْمَعْجُونَاتِ اللَّطِيفَةِ وَلِلْقُرُحَاتِ وَهُوَ أَعْدَلُ الْمَعْدِنِيَّاتِ وَأَشْرَفُهَا، وَإِذَا دُفِنَ فِي الْأَرْضِ لَمْ يَضُرَّهُ التُّرَابُ وَلَمْ يَنْقُصْهُ شَيْئًا، وَبُرَادَتُهُ إذَا خُلِطَتْ بِالْأَدْوِيَةِ نَفَعَتْ مِنْ ضَعْفِ الْقَلْبِ وَالرَّجَفَانِ وَالْخَفَقَانِ الْعَارِضِ مِنْ السَّوْدَاءِ. وَقَالَ ابْنُ جَزْلَةَ: يَنْفَعُ مِنْ أَوْجَاعِ الْقَلْبِ وَالْخَفَقَانِ وَيُقَوِّيهِ، وَقَدْرُ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ قِيرَاطٌ انْتَهَى كَلَامُهُ، وَيَنْفَعُ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ وَالْحُزْنِ وَالْغَمِّ وَالْفَزَعِ وَالْعِشْقِ وَيُسَمِّنُ الْبَدَنَ وَيُقَوِّيهِ وَيُذْهِبُ الصُّفَارَ وَيُحَسِّنُ اللَّوْنَ، وَيَنْفَعُ مِنْ الْجُذَامِ وَجَمِيعِ الْأَوْجَاعِ وَالْأَمْرَاضِ السَّوْدَاوِيَّةِ، وَتَدْخُلُ نِحَاتَتُهُ فِي أَدْوِيَةِ الثَّعْلَبِ وَدَاءِ الْحَيَّةِ شُرْبًا وَطِلَاءً، وَيَجْلُو الْعَيْنَ وَيُقَوِّيهَا، وَيَنْفَعُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَمْرَاضِهَا وَيُقَوِّي جَمِيعَ الْأَعْضَاءِ. وَأَفْضُلُ الْكَيِّ وَأَسْرَعُهُ مَا كَانَ بِمِكْوَى مِنْ ذَهَبٍ وَلَا يَتَنَفَّطُ مَوْضِعُهُ وَإِمْسَاكُ الذَّهَبِ فِي الْفَمِ يُزِيلُ الْبَخَرَ، وَإِنْ اُتُّخِذَ مِنْهُ مِيلٌ وَاكْتُحِلَ بِهِ قَوَّى الْعَيْنَ وَجَلَاهَا، وَإِنْ اُتُّخِذَ خَاتَمٌ مِنْهُ وَكَوَى بِهِ قَوَادِمَ أَجْنِحَةِ الْحَمَامِ أَلِفَتْ أَبْرَاجَهَا وَلَمْ تَنْتَقِلْ عَنْهَا، وَلَهُ خَاصِّيَّةٌ عَجِيبَةٌ فِي تَقْوِيَةِ النُّفُوسِ لِأَجْلِهَا أُبِيحَ فِي الْحَرْبِ وَالسِّلَاحِ مِنْهُ مَا أُبِيحَ وَقَدْ قَالَ فِيهِ أَبُو الْقَاسِمِ الْحَرِيرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: تَبًّا لَهُ مِنْ خَادِعٍ مُمَزِّقِ ... أَصْفَرَ ذِي وَجْهَيْنِ كَالْمُنَافِقِ

يَبْدُو بِوَصْفَيْنِ لِعَيْنِ الرَّامِقِ ... زِينَةِ مَعْشُوقٍ وَلَوْنِ عَاشِقِ لَوْلَاهُ لَمْ تُقْطَعْ يَمِينُ سَارِقِ ... وَلَا بَدَتْ مَظْلَمَةٌ مِنْ فَاسْقِ وَلَا اشْمَأَزَّ بَاخِلٌ مِنْ طَارِقِ ... وَلَا شَكَا الْمَمْطُولُ مَطْلَ الْعَائِقِ وَلَا اُسْتُعِيذَ مِنْ حَسُودٍ رَاشِقِ ... وَشَرِّ مَا فِيهِ مِنْ الْخَلَائِقِ أَنْ لَيْسَ يُغْنِي عَنْك فِي الْمَضَايِقِ ... إلَّا إذَا فَرَّ فِرَارَ الْآبِقِ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ أَظُنّهُ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِئْسَ الصَّاحِبُ أَوْ الصَّدِيقُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ لَا يَنْفَعَانِك حَتَّى يُفَارِقَانِك قَالَ تَعَالَى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14] . أَيْ الْمَرْجِعُ، وَفِيهِ تَزْهِيدٌ فِي الدُّنْيَا وَتَرْغِيبٌ فِي الْآخِرَةِ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْمَذْكُورَةُ قَدْ تُحْسِنُ نِيَّةَ الْعَبْدِ فِي التَّلَبُّسِ بِهَا فَيُثَابُ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يَتَوَجَّهُ الذَّمُّ إلَى سُوءِ الْقَصْدِ فِيهَا وَبِهَا وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا} [الزخرف: 33]- إلَى قَوْلِهِ -: {وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 35] .

فصل في خواص الرمان

[فَصْلٌ فِي خَوَاصِّ الرُّمَّانِ] ِ) سَبَقَ الْكَلَامُ فِي الرَّيْحَانِ وَغَيْرِهِ مِمَّا لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ فِي حِفْظِ الصِّحَّةِ وَالرَّشَادِ قَرِيبًا لِأَنَّهُ الْحُرْفِ. وَأَمَّا الرُّمَّانُ فَقَالَ تَعَالَى: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: 99] . وَقَالَ تَعَالَى {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: خَصَّهُمَا مِنْ الْفَاكِهَةِ لِبَيَانِ فَضْلِهِمَا كَتَخْصِيصِهِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعَرَبِ إنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ الْفَاكِهَةِ وَقَدْ قَالَهُ قَوْمٌ. وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا وَهُوَ أَشْبَهُ «مَا مِنْ رُمَّانٍ مِنْ رُمَّانِكُمْ هَذَا إلَّا وَهُوَ مُلَقَّحٌ بِحَبَّةٍ مِنْ رُمَّانِ الْجَنَّةِ» . وَذَكَرَ حَرْبٌ وَغَيْرُهُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: كُلُوا الرُّمَّانَ بِشَحْمِهِ، فَإِنَّهُ دِبَاغُ الْمَعِدَةِ وَقَالَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ: الْفَوَاكِهُ مُضِرَّةٌ إلَّا السَّفَرْجَلَ وَالتُّفَّاحَ وَنَحْوَهُ وَالرُّمَّانُ الْحُلْوُ وَالْحَامِضُ مَخْلُوطًا بِهِ الْحُلْوُ فَلَا بَأْسَ بِهِ. الرُّمَّانُ الْحُلْوُ أَجْوَدُهُ الْكِبَارُ الْبَالِغُ الْإِمْلِيسِيُّ بَارِدٌ فِي الْأُولَى رَطْبٌ فِي آخِرِهَا وَقِيلَ: حَارٌّ بِاعْتِدَالٍ وَقِيلَ: حَارٌّ رَطْبٌ جَيِّدٌ لِلْمَعِدَةِ مُقَوٍّ لَهَا وَفِيهِ جَلَاءٌ مَعَ

قَبْضٍ لَطِيفٍ يَنْفَعُ الْحَلْقَ وَالصَّدْرَ وَالرِّئَةَ جَيِّدٌ لِلسُّعَالِ وَمَاؤُهُ مُلَيِّنٌ لِلْبَطْنِ يَغْذُو الْبَدَنَ غِذَاءً فَاضِلًا يَسِيرًا سَرِيعَ التَّحَلُّلِ لِرِقَّتِهِ وَلَطَافَتِهِ، وَيَنْفَعُ مِنْ الْخَفَقَانِ وَيُدِرُّ الْبَوْلَ، وَيَهِيجُ الْبَاهَ، وَيَزِيدُ فِي الْهَضْمِ وَيُحْدِثُ نَفْخًا وَرِيَاحًا فِي الْمَعِدَةِ وَقِيلَ: يُصْلِحُهُ الرُّمَّانُ الْحَامِضُ وَمَعَ كَوْنِ غِذَائِهِ غَيْرَ مَحْمُودٍ فَهُوَ مُوَافِقٌ لِعِلَلِ الْمَعِدَةِ كُلِّهَا قَالَ بَعْضُهُمْ: وَإِدْمَانُهُ يَضُرُّ بِالْمَعِدَةِ وَيُضْعِفُهَا وَيُزِيدُ بَرْدَهَا وَرُطُوبَتَهَا وَقِيلَ: يُعَطِّشُ قَالَ بَعْضُهُمْ: أَظُنُّهُ صَاحِبَ الْقَانُونِ وَغَيْرَهُ يُوَلِّدُ فِي الْمَعِدَةِ حَرَارَةً يَسِيرَةً فَلِهَذَا يُهَيِّجُ الْبَاهَ وَلَا يَصْلُحُ لِلْمَحْمُومِينَ. قَالَ صَاحِبُ الْقَانُونِ فِي الْأَدْوِيَةِ الْقَلْبِيَّةِ مِنْ الْمُفْرِحَاتِ رُمَّانٌ حُلْوٌ مُعْتَدِلٌ مُوَافِقٌ لِمِزَاجِ الرُّوحِ خُصُوصًا الَّتِي فِي الْكَبِدِ وَإِذَا أُكِلَ بِالْخُبْزِ مَنَعَهُ مِنْ الْفَسَادِ فِي الْمَعِدَةِ وَحَبُّهُ مَعَ الْعَسَلِ يَنْفَعُ مِنْ وَجَعِ الْأُذُنِ. وَأَقْمَاعُهُ الْمُحْرِقَةُ تَنْفَعُ الْجِرَاحَاتِ. وَمِنْ خَاصِّيَّةِ الرُّمَّان أَنَّ مَنْ كَانَ فِي وَجْهِهِ صُفْرَةٌ شَدِيدَةٌ فَأَدْمَنَ أَكْلَهُ زَالَتْ وَإِذَا أُخِذَ الرُّمَّانُ وَنُقِعَ فِي مَاءٍ حَارٍّ شَدِيدِ الْحَرَارَةِ وَغَمَرَهُ فَوْقَ ذَلِكَ بِأَرْبَعَةِ أَصَابِعَ وَتُرِكَ إلَى أَنْ يَبْرُدَ الْمَاءُ ثُمَّ أُخِذَ فَعَلَّقَ كُلَّ رُمَّانَةٍ مِنْ غَيْرِ مُمَاسَّةٍ لِلْأُخْرَى، فَإِنَّهُ لَا يَعْفَنُ وَلَا يَتَغَيَّرُ وَلَوْ بَقِيَ سَنَةً، وَإِذَا أَرَادَ أَكْلَهُ فَلْيَرُشَّ عَلَيْهِ الْمَاءَ الْبَارِدَ، وَيَتْرُكُهُ سَاعَةً ثُمَّ يَأْكُلُهُ. وَالرُّمَّانُ الْحَامِضُ أَجْوَدُهُ الْكِبَارُ الْكَثِيرُ الْمَائِيَّةِ بَارِدٌ يَابِسٌ فِي الثَّالِثَةِ قَابِضٌ لَطِيفٌ يَنْفَعُ الْمَعِدَةَ الْمُلْتَهِبَةَ وَالْكَبِدَ الْحَارَّةَ وَيُبَرِّدُهَا وَيُدِرُّ الْبَوْلَ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الرُّمَّانِ وَيُسَكِّنُ الصَّفْرَاءَ، وَيَقْطَعُ الْإِسْهَالَ، وَيَمْنَعُ الْقَيْءَ، وَيُلَطِّفُ الْفُضُولَ، وَيُقَوِّي الْأَعْضَاءَ، وَيَنْفَعُ مِنْ الْخَفَقَانِ الصَّفْرَاوِيِّ وَالْآلَامِ الْعَارِضَةِ لِلْقَلْبِ وَفَمِ الْمَعِدَةِ، وَيُقَوِّي الْمَعِدَةَ، وَيَدْفَعُ الْفُضُولَ عَنْهَا وَيُطْفِئُ نَارِيَّةَ الصَّفْرَاءِ وَالدَّمِ، وَإِذَا اُسْتُخْرِجَ مَاؤُهُ بِشَحْمِهِ وَطُبِخَ بِيَسِيرٍ مِنْ الْعَسَلِ حَتَّى يَصِيرَ كَالْمَرْهَمِ وَاكْتُحِلَ بِهِ قَطَعَ الطَّفْرَ مِنْ الْعَيْنِ وَنَقَّاهَا مِنْ الرُّطُوبَاتِ وَإِذَا لُطِّخَ عَلَى اللِّثَةِ نَفَعَ مِنْ الْأَكْلَةِ الْعَارِضَةِ لَهَا وَهُوَ مُجَفِّفٌ مُنْهِضٌ لِلشَّهْوَةِ. وَيُسْتَعْمَلُ بَعْدَ الْغِذَاءِ لِمَنْعِ الْبُخَارِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَضُرُّ بِالْمِعَى وَالْمَعِدَةِ. وَتُصْلِحُهُ

الْحَلْوَاءُ السُّكَّرِيَّةُ. وَإِذَا اُسْتُخْرِجَ مَاؤُهُمَا بِشَحْمِهِمَا أَطْلَقَ الْبَطْنَ وَأَخَذَ الرُّطُوبَاتِ الْعَفِنَةَ الْمُرِّيَّةَ وَنَفَعَ مِنْ حُمَّيَاتِ الْغِبِّ الْمُتَطَاوِلَةِ. وَأَمَّا الرُّمَّانُ الْمِزُّ فَهُوَ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَهُمَا وَهُوَ أَمْيَلُ إلَى لَطَافَةِ الْحَامِضِ وَحَبُّ الرُّمَّانِ مَعَ الْعَسَلِ طِلَاءٌ لِلدَّاحِسِ وَالْقُرُوحِ الْخَبِيثَةِ وَأَقْمَاعُهُ لِلْجِرَاحَاتِ.

فصل في خواص الزبيب

[فَصْلٌ فِي خَوَاصِّ الزَّبِيبِ] ِ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الزَّيْتِ فِي فَصْلٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فِي مُدَاوَاةِ ذَاتِ الْجَنْبِ وَالْكَلَامُ فِي الزُّبْدِ فِي ذِكْرِ الْجُبْنِ. وَأَمَّا الزَّبِيبُ فَمَا رُوِيَ فِيهِ مِمَّا لَا يَصِحُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نِعْمَ الطَّعَامُ الزَّبِيبُ مُطَيِّبُ النَّكْهَةِ وَيُذْهِبُ الْبَلْغَمَ نِعْمَ الطَّعَامُ الزَّبِيبُ يُذْهِبُ النَّصَبَ، وَيَشُدُّ الْعَصَبَ، وَيُطْفِئُ الْغَضَبَ، وَيُصَفِّي اللَّوْنَ وَيُطَيِّبُ النَّكْهَةَ» وَأَجْوَدُهُ مَا كَبُرَ جِسْمُهُ، وَسَمُنَ لَحْمُهُ وَشَحْمُهُ وَرَقَّ قِشْرُهُ، وَنُزِعَ عُجْمُهُ، وَصَغُرَ حَبُّهُ. وَالزَّبِيبُ حَارٌّ رَطْبٌ فِي الْأُولَى وَحَبُّهُ بَارِدٌ يَابِسٌ وَهُوَ كَالْعِنَبِ الْمُتَّخَذِ مِنْهُ، الْحُلْوُ مِنْهُ حَارٌّ، وَالْحَامِضُ وَالْقَابِضُ بَارِدٌ الْأَبْيَضُ أَشَدُّ قَبْضًا مِنْ غَيْرِهِ، وَإِذَا أُكِلَ لَحْمُهُ وَافَقَ قَصَبَةَ الرِّئَةِ، وَنَفَعَ مِنْ السُّعَالِ وَوَجَعِ الْكُلَى، وَالْمَثَانَةِ، وَيُقَوِّي الْمَعِدَةَ وَيُلَيِّنُ الْبَطْنَ. وَالْحُلْوُ اللَّحْمِ أَكْثَرُ غِذَاءً مِنْ الْعِنَبِ وَأَقَلُّ غِذَاءً مِنْ التِّينِ الْيَابِسِ وَلَهُ قُوَّةٌ مُنْضِجَةٌ هَاضِمَةٌ قَابِضَةٌ مُحَلِّلَةٌ بِاعْتِدَالٍ وَهُوَ بِالْجُمْلَةِ يُقَوِّي الْمَعِدَةَ وَالْكَبِدَ وَالطِّحَالَ نَافِعٌ مِنْ وَجَعِ الْحَلْقِ وَالصَّدْرِ وَالرِّئَةِ وَالْكُلَى وَالْمَثَانَةِ وَأَعْدَلُهُ أَنْ يُؤْكَلَ بِغَيْرِ حَبِّهِ وَهُوَ يَغْذُو غِذَاءً صَالِحًا وَلَا يَشُدُّ كَمَا يَفْعَلُ التَّمْرُ وَيُعِينُ الْأَدْوِيَةَ عَلَى الْإِسْهَالِ إذَا نُزِعَ عُجْمُهُ وَهُوَ بِعُجْمِهِ جَيِّدٌ لِلْمَعِدَةِ وَالْمِعَى وَالْكَبِدِ وَالطِّحَالِ، وَالْحُلْوُ مِنْهُ وَمَا لَا عُجْمَ لَهُ نَافِعٌ لِأَصْحَابِ الرُّطُوبَاتِ وَالْبَلْغَمِ وَهُوَ يُخَضِّبُ الْكَبِدَ، وَيَنْفَعُهَا بِخَاصِّيَّةٍ فِيهِ وَفِيهِ نَفْعٌ وَرُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَحْفَظَ الْحَدِيثَ فَلْيَأْكُلْ الزَّبِيبَ وَكَانَ الْمَنْصُورُ يَذْكُرُ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: عُجْمُهُ دَاءٌ وَشَحْمُهُ دَوَاءٌ، وَقِيلَ: يُحْرِقُ الدَّمَ وَيُصْلِحُهُ الْخِيَارُ. وَإِذَا لُصِقَ لَحْمُهُ عَلَى الْأَظَافِيرِ الْمُتَحَرِّكَةِ أَسْرَعَ قَلْعُهَا.

فصل في خواص الزنجبيل

[فَصْلٌ فِي خَوَاصِّ الزَّنْجَبِيلِ] ِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا} [الإنسان: 17] وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «أَهْدَى مَلِكُ الرُّومِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَرَّةَ زَنْجَبِيلٍ فَأَطْعَمَ كُلَّ إنْسَانٍ قِطْعَةً وَأَطْعَمَنِي قِطْعَةً.» رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ الطِّبِّ النَّبَوِيِّ وَالزَّنْجَبِيلُ فِيهِ رُطُوبَةٌ فَضْلِيَّةٌ حَارٌّ فِي الثَّالِثَةِ يَابِسٌ فِي الثَّانِيَةِ. وَقِيلَ: رَطْبٌ فِي الْأُولَى مُسَخِّنٌ مُعِينٌ عَلَى هَضْمِ الطَّعَامِ مُلَيِّنُ الْبَطْنِ تَلْيِينًا مُعْتَدِلًا نَافِعٌ مِنْ سُدَدِ الْكَبِدِ الْعَارِضَةِ عَنْ الْبَرْدِ وَالرُّطُوبَةِ، وَمِنْ ظُلْمَةِ الْبَصَرِ الْحَادِثَةِ عَنْ الرُّطُوبَةِ أَكْلًا وَاكْتِحَالًا، مُعِينٌ عَلَى الْجِمَاعِ، مُحَلِّلُ الرِّيَاحِ الْغَلِيظَةِ صَالِحٌ لِلْكَبِدِ وَالْمَعِدَةِ الْبَارِدَةِ فِي الْمِزَاجِ، وَإِذَا أُخِذَ مِنْهُ مَعَ السُّكَّرِ وَزْنُ دِرْهَمَيْنِ بِالْمَاءِ الْحَارِّ أَسْهَلَ فَضْلًا لَزِجًا لُعَابِيًّا، وَنَفَعَ فِي الْمَعْجُونَاتِ الَّتِي تُحَلِّلُ الْبَلْغَمَ وَتُذِيبُهُ وَتَزِيدُ فِي الْحِفْظِ، وَيَجْلُو الرُّطُوبَةَ مِنْ الْحَلْقِ وَنَوَاحِي الرَّأْسِ وَيُنَشِّفُ الْمَعِدَةَ وَيُطَيِّبُ النَّكْهَةَ، وَيَدْفَعُ ضَرَرَ الْأَطْعِمَةِ الْغَلِيظَةِ الْبَارِدَةِ.

فصل في خواص السفرجل والكمثرى والتفاح

[فَصْلٌ فِي خَوَاصِّ السَّفَرْجَلِ وَالْكُمَّثْرَى وَالتُّفَّاحِ] ) سَبَقَ الْكَلَامُ فِي السَّنَا وَالسَّنُّوتِ فِي فَصْلٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ وَالْكَلَامُ فِي السَّمْنِ فِي كَلَامٍ عَلَى الْجُبْنِ. وَالسِّوَاكُ مُسْتَحَبٌّ شَرْعًا فِيهِ فَوَائِدُ طِبِّيَّةٌ بَعْضُهَا مَعْلُومٌ بِالتَّجْرِبَةِ وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الْفِقْهِ فِي بَابِ السِّوَاكِ وَأَمَّا السَّفَرْجَلُ فَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ: ثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّلْحِيُّ عَنْ نَقِيبِ بْنِ حَاجِبٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ الزُّبَيْرِيِّ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «دَخَلْت عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِيَدِهِ سَفَرْجَلَةٌ فَقَالَ دُونَكَهَا يَا طَلْحَةُ، فَإِنَّهَا تُجِمُّ الْفُؤَادَ» إسْنَادٌ مَجْهُولٌ نَقِيبٌ تَفَرَّدَ عَنْهُ إسْمَاعِيلُ وَتَفَرَّدَ نَقِيبٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَتَفَرَّدَ أَبُو سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَرَوَاهُ ابْنُ عَائِشَةَ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَيْشِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَمَّادٍ الطَّلْحِيِّ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ طَلْحَةَ. وَرَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ أَيُّوبَ الطَّلْحِيُّ عَنْ أَبِيهِ. عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطَّلْحِيِّ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ فِي سُلَيْمَانَ بْنِ أَيُّوبَ الطَّلْحِيِّ: عَامَّةُ أَحَادِيثِهِ لَا يُتَابَعُ عَلَيْهَا وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ السَّدُوسِيُّ فِي أَحَادِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَيُّوبَ وَهِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا رَوَاهَا عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ: هَذِهِ الْأَحَادِيثُ عِنْدِي صِحَاحٌ. وَالسَّفَرْجَلُ جَيِّدٌ لِلْمَعِدَةِ وَمَاؤُهُ أَفْضَلُ مِنْ جُرْمِهِ فِي تَقْوِيَةِ الْمَعِدَةِ وَالْحُلْوُ مِنْهُ بَارِدٌ رَطْبٌ وَقِيلٌ: مُعْتَدِلٌ يَسُرُّ النَّفْسَ وَيُدِرُّ، وَالْحَامِضُ أَشَدُّ قَبْضًا وَيُبْسًا وَبَرْدًا وَأَكْلُهُ يُسَكِّنُ الْعَطَشَ وَالْقَيْءَ وَيُدِرُّ الْبَوْلَ، وَيَنْفَعُ مِنْ قُرْحَةِ الْأَمْعَاءِ

وَنَفْثِ الدَّمِ وَالْهَيْضَةِ، وَيَنْفَعُ مِنْ الْغَثَيَانِ، وَيَمْنَعُ مِنْ تَصَاعُدِ الْأَبْخِرَةِ إذَا اُسْتُعْمِلَ بَعْدَ الطَّعَامِ قَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا أُكِلَ عَلَى الطَّعَامِ أَطْلَقَ وَقَبْلَهُ يُمْسِكُ قَالَ بَعْضهمْ: إذَا أُكِلَ بَعْدَ الطَّعَامِ أَسْرَعَ بِانْحِدَارِ التُّفْلِ، وَالْحَامِضُ مِنْهُ أَبْلَغُ وَيُطْفِئُ الْمُرَّةَ الصَّفْرَاءَ الْمُتَوَلِّدَةَ فِي الْمَعِدَةِ وَرَائِحَتُهُ تُقَوِّي الدِّمَاغَ وَالْقَلْبَ وَالْإِكْثَارُ مِنْ أَكْلِهِ يُوَلِّدُ وَجَعَ الْعَصَبِ وَالْقُولَنْجِ، وَإِنْ شُوِيَ كَانَ أَقَلَّ لِخُشُونَتِهِ، وَأَخَفُّ وَأَجْوَدُ مَا أُكِلَ مَشْوِيًّا أَوْ مَطْبُوخًا بِالْعَسَلِ، وَحَبُّهُ يَنْفَعُ مِنْ خُشُونَةِ الْحَلْقِ وَقَصَبَةِ الرِّئَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْأَمْرَاضِ وَدُهْنُهُ يَمْنَعُ الْعَرَقَ وَيُقَوِّي الْمَعِدَةَ وَالْكَبِدَ، وَيَشُدُّ الْقَلْبَ وَيُطَيِّبُ النَّفَسَ. وَمَعْنَى " تُجِمُّ الْفُؤَادَ " تُرِيحُهُ وَقِيلَ: تَفْتَحُهُ وَتُوَسِّعُهُ مِنْ جُمَامِ الْمَاءِ وَهُوَ اتِّسَاعُهُ وَكَثْرَتُهُ، وَرُوِيَ فِي حَدِيثِ السَّفَرْجَلِ «فَإِنَّهَا تَشُدُّ الْقَلْبَ وَتُطَيِّبُ النَّفَسَ وَتُذْهِبُ بِطَخَاءِ الصَّدْرِ» . وَالطَّخَاءُ لِلْقَلْبِ مِثْلُ الْغَيْمِ عَلَى السَّمَاءِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الطَّخَاءُ بِالْمَدِّ ثِقَلٌ وَغُثَاءٌ، تَقُولُ مَا فِي السَّمَاءِ طَخَاءٌ أَيْ سَحَابٌ وَظُلْمَةٌ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَيُقَالُ وَجَدْت عَلَى قَلْبِي طَخَاءً وَهُوَ شِبْهُ الْكَرْبِ قَالَ اللِّحْيَانِيُّ مَا فِي السَّمَاءِ طُخْيَةٌ بِالضَّمِّ أَيْ شَيْءٌ مِنْ سَحَابٍ قَالَ: وَهُوَ مِثْلُ الطُّخْرُورِ وَالطَّخْيَاءِ مَمْدُودٌ اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ وَظَلَامٌ طَاخٌ وَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ طَخْيَاءَ لَا تُفْهَمُ. قَالَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ: وَالْكُمَّثْرَى قَرِيبٌ مِنْ السَّفَرْجَلِ وَهُوَ مُعْتَدِلٌ أَكْثَرُ الْفَوَاكِهِ غِذَاءً وَيُقَوِّي الْمَعِدَةَ، وَيَقْطَعُ الْعَطَشَ وَأَكْلُهُ بَعْدَ الْغِذَاءِ يَمْنَعُ الْبُخَارَ أَنْ يَرْتَقِيَ إلَى الرَّأْسِ بِخَاصِّيَّةٍ فِيهِ، وَمِنْ خَوَاصِّهِ مَنْعُ فَسَادِ الطَّعَامِ فِي الْمَعِدَةِ وَيُحْدِثُ الْقُولَنْجَ، وَيَضُرُّ بِالْمَشَايِخِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُؤْكَلَ عَلَى طَعَامٍ غَلِيظٍ وَلَا يُشْرَبُ فَوْقَهُ الْمَاءُ وَيُؤْكَلُ بَعْدَهُ المتجرنات الْحَارَّةُ. وَأَمَّا التُّفَّاحُ فَقَالَ اللَّيْثُ كَانَ الزُّهْرِيُّ يَكْرَهُ أَكْلَ التُّفَّاحِ وَسُؤْرَ الْفَارِ، وَيَقُولُ: إنَّهُ يُنْسِي، وَيَشْرَبُ الْعَسَلَ، وَيَقُولُ: إنَّهُ يُذَكِّي. وَقَالَ صَاحِبُ الْأَدْوِيَةِ الْقَلْبِيَّةِ: التُّفَّاحُ بَارِدٌ يَابِسٌ فِي الْأُولَى خَاصِّيَّتُهُ عَظِيمَةٌ فِي تَفْرِيحِ الْقَلْبِ وَقَالَ غَيْرُهُ: التُّفَّاحُ بَارِدٌ رَدِيءٌ لِلْمَعِدَةِ يُوَافِقُ مَنْ مِزَاجُهُ حَارٌّ، وَمِنْ

خَوَاصِّهِ تَقْوِيَةُ الْقَلْبِ وَإِيرَاثُ النِّسْيَانِ الشَّدِيدِ. وَقَالَ ابْن جَزْلَةَ الْحَامِضُ بَارِدٌ غَلِيظٌ وَالْحُلْوُ أَمْيَلُ إلَى الْحَرَارَةِ وَهُوَ يُقَوِّي الْقَلْبَ وَيُقَوِّي ضَعْفَ الْمَعِدَةِ وَالْمَشْوِيُّ مِنْهُ فِي الْعَجِينِ نَافِعٌ لِقِلَّةِ الشَّهْوَةِ وَالْفَجُّ مِنْهُ يُوَلِّدُ الْعُفُونَاتِ وَالْحُمَّيَاتِ وَإِدْمَانُ أَكْلِهِ يُحْدِثُ وَجَعَ الْعَصَبِ وَخُصُوصًا الْحَامِضَ، وَيَدْفَعُ ضَرَرَهُ جوارش النُّعْنُعِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: التُّفَّاحُ جَيِّدٌ لِفَمِ الْمَعِدَةِ غَيْرَ أَنَّهُ يَمْلَأُ الْمَعِدَةَ لُزُوجَاتٍ، وَلَعَلَّ الَّذِي يُوَرِّثُ النِّسْيَانَ الْحَامِضُ لَا الْحُلْوُ وَلَعَلَّهُ مُرَادُهُمْ. قَالَ ابْنُ الْأَثِير فِي النِّهَايَةِ: وَفِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ «أَنَّهُ كَانَ يُعْجِبُهُ النَّظَرُ إلَى الْأُتْرُجِّ وَالْحَمَامِ الْأَحْمَرِ» قَالَ مُوسَى: قَالَ هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ: هُوَ التُّفَّاحُ الْأَحْمَرُ وَهَذَا التَّفْسِيرُ لَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ.

فصل في خواص السلق

[فَصْلٌ فِي خَوَاصِّ السِّلْقِ] ِ) سَبَقَ فِي الْحِمْيَةِ حَدِيثٌ فِي السِّلْقِ وَهُوَ حَارٌّ يَابِسٌ فِي الْأُولَى وَقِيلَ: رَطْبٌ وَقِيلَ: مُرَكَّبٌ مِنْهُمَا وَفِيهِ بِوَرَقِيَّةِ تلطفة وَتَحْلِيلٌ وَتَفْتِيحٌ، فِي الْأَسْوَدِ مِنْهُ قَبْضٌ، وَيَنْفَعُ مِنْ دَاءِ الثَّعْلَبِ وَالْكَلَفِ وَالْحِزَازِ وَالثَّآلِيلِ إذَا طُلِيَ بِمَائِهِ، وَيَقْتُلُ الْقُمَّلَ وَيُطْلَى بِهِ الْقُوبَا مَعَ الْعَسَلِ، وَيَفْتَحُ سُدَدَ الْكَبِدِ وَالطِّحَالِ. وَأَسْوَدُهُ يَعْقِلُ الْبَطْنَ لَا سِيَّمَا مَعَ الْعَدَسِ. وَالْأَبْيَضُ يُلَيِّنُ مَعَ الْعَدَسِ وَيُحْقَنُ بِمَائِهِ لِلْإِسْهَالِ، وَيَنْفَعُ مِنْ الْقُولَنْجِ مَعَ الْمَرِيِّ وَالتَّوَابِلِ. وَالسِّلْقُ قَلِيلُ الْغِذَاءِ رَدِيءُ الْكَيْمُوسِ يُحْرِقُ الدَّمَ وَيُصْلِحُهُ الْخَلُّ وَالْخَرْدَلُ، وَالْإِكْثَارُ مِنْهُ يُوَلِّدُ الْقَبْضَ وَالنَّفْخَ.

فصل في خواص السمك

[فَصْلٌ فِي خَوَاصِّ السَّمَكِ] ِ) قَدْ وَرَدَ ذِكْرُ السَّمَكِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَجْوَدُهُ مَا لَذَّ طَعْمُهُ وَطَابَ رِيحُهُ وَتَوَسَّطَ مِقْدَارُهُ رَقِيقُ الْقِشْرِ لَا صُلْبَ اللَّحْمِ وَلَا يَابِسَهُ وَكَانَ فِي مَاءٍ عَذْبٍ جَارٍ عَلَى حَصْبَاءَ يَغْتَذِي بِنَبَاتِ لَا قَذَرَ فِيهِ. وَأَصْلَحُ أَمَاكِنِهِ مَا كَانَ فِي نَهْرٍ جَيِّدِ الْمَاءِ وَكَانَ يَأْوِي الْأَمَاكِنَ الصَّخْرِيَّةَ ثُمَّ الرَّمْلِيَّةَ. وَالْمِيَاهَ الْعَذْبَةَ الْجَارِيَةَ لَا قَذَرَ فِيهَا وَلَا حَمْأَةَ، الْكَثِيرَةَ الِاضْطِرَابِ وَالْمَوْجِ الْمَكْشُوفَةَ لِلشَّمْسِ وَالرِّيَاحِ. وَالسَّمَكُ الْبَحْرِيُّ فَاضِلٌ مَحْمُودٌ لَطِيفٌ. وَالطَّرِيُّ مِنْ السَّمَكِ بَارِدٌ رَطْبٌ فِي الثَّانِيَةِ عَسِرُ الِانْهِضَامِ يُخَصِّبُ الْبَدَنَ وَيُسَمِّنُهُ، وَيَزِيدُ فِي الْمَنِيِّ مُعَطِّشٌ، يُرْخِي الْعَصَبَ وَيُوَرِّثُ غِشَاوَةَ الْعَيْنِ، رَدِيءٌ لِلْقُولَنْجِ وَالْأَمْرَاضِ الْبَارِدَةِ صَالِحٌ لِلْمَعِدَةِ الْحَارَّةِ وَأَصْحَابِ الصَّفْرَاءِ عَلَى أَنَّهُ فِي الْجُمْلَةِ بِئْسَ الْغِذَاءُ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ اللُّزُوجَاتِ الرَّدِيئَةِ تَتَوَلَّدُ مِنْهُ صُنُوفُ الْأَمْرَاضِ، وَالسَّمَكُ يُوَلِّدُ بَلْغَمًا كَثِيرًا مَائِيًّا قَالَ بَعْضُهُمْ: إلَّا الْبَحْرِيَّ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، فَإِنَّهُ يُوَلِّدُ خَلْطًا مَحْمُودًا. وَأَمَّا الْمَالِحُ فَأَجْوَدُهُ قَرِيبُ الْعَهْدِ بِالتَّمْلِيحِ، وَهُوَ حَارٌّ يَابِسٌ وَكُلَّمَا تَقَادَمَ عَهْدُهُ ازْدَادَ حَرُّهُ، وَيَبْسُهُ، يُذِيبُ الْبَلَاغِمَ وَيُحْدِثُ الْبَهَقَ الْأَسْوَدَ، وَيُصْلِحُهُ السَّعْتَرُ وَالْكَرَاوْيَا وَبَعْدَهُ الْحُلْوُ وَالدُّهْنُ قَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَصْلُحُ أَنْ يُؤْكَلَ مِنْهُ إلَّا الْقَلِيلُ مَعَ الْأَغْذِيَةِ الدَّسِمَةِ. وَالْجَرِّيُّ ضَرْبٌ مِنْ السَّمَكِ لَا يَأْكُلهُ الْيَهُودُ كَثِيرُ اللُّزُوجَةِ وَهُوَ طَرِيٌّ

مُلَيِّنٌ لِلْبَطْنِ، وَأَكْلُ الْمَالِحِ مِنْهُ الْعَتِيقُ يُصَفِّي قَصَبَةَ الرِّئَةِ وَيُجَوِّدُ الصَّوْتَ، وَإِذَا دُقَّ وَوُضِعَ مِنْ خَارِجٍ أَخْرَجَ السَّلَى وَالْفُضُولَ مِنْ عُمْقِ الْبَدَنِ؛ لِأَنَّ لَهُ قُوَّةً جَاذِبَةً. وَمَاءُ مِلْحِ الْجَرِّيِّ الْمَالِحِ إذَا جَلَسَ مَنْ بِهِ قُرْحَةُ الْأَمْعَاءِ مِنْ ابْتِدَاءِ الْعِلَّةِ وَافَقَهُ بِجَذْبِ الْمَوَادِّ إلَى ظَاهِرِ الْبَدَنِ وَإِذَا احْتُقِنَ بِهِ أَبْرَأَ مِنْ عِرْقِ النَّسَا، وَأَجْوَدُ مَا فِي السَّمَكَةِ مَا قَرُبَ مِنْ مُؤَخِّرِهَا.

فصل في خواص الشعير

[فَصْلٌ فِي خَوَاصِّ الشَّعِيرِ] ِ) تَقَدَّمَ فِي الْحِمْيَةِ حَدِيثُ الشَّعِيرِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي خُبْزِ الشَّعِيرِ وَمَاءِ الشَّعِيرِ أَفْضَلُ صِفَتِهِ أَنْ يُؤْخَذُ الشَّعِيرُ الْحَدِيثُ السَّمِينُ الرَّزِينُ فَيُنْقَعُ وَيُقَشَّرُ وَيُهْرَسُ أَيْ: يُرَضُّ وَيُلْقَى عَلَى كُلِّ صَاعٍ مِنْ الشَّعِيرِ اثْنَا عَشْرَ صَاعًا مِنْ الْمَاءِ الْعَذْبِ الصَّافِي. وَقِيلَ: يُلْقَى عَلَيْهِ عَشْرَةُ آصُعٍ وَيُطْبَخُ بِنَارٍ مُعْتَدِلَةٍ وَيُحَرَّكُ وَتُكْشَطُ رَغْوَتُهُ فَإِذَا نَضِجَ رُفِعَ وَصُفِّيَ. وَقِيلَ: يُلْقَى عَلَى صَاعِ شَعِيرٍ خَمْسَةُ أَمْثَالِهِ مَاءً وَيُطْبَخُ إلَى أَنْ يَبْقَى مِنْهُ خُمْسُ مَائِهِ وَيُصَفَّى، وَهُوَ مُبَرِّدٌ مُرَطِّبٌ، وَيَكْسِرُ حِدَةَ الْأَخْلَاطِ وَيُدِرُّ الْبَوْلَ، وَيَنْفَعُ مِنْ الْحُمِّيَّاتِ الْحَادَّةِ وَيُوَلِّدُ دَمًا مُعْتَدِلًا، وَيُسَكِّنُ الْعَطَشَ، وَيَجْلُو، وَيَسْرُعُ نُفُوذُهُ فِي الْأَعْضَاءِ، وَيَخْرُجُ عَنْ الْمَعِدَةِ وَالْمِعَى بِسُرْعَةٍ، وَتُسْتَفْرَغُ مَعَهُ الْأَخْلَاطُ الْمُحْتَرِقَةُ، وَهُوَ يَضُرُّ بِالْحَشَا الْبَارِدَةِ وَيُنْفَخُ وَهُوَ رَدِيءٌ لِلْمَعِدَةِ الْبَارِدَةِ، وَيَدْفَعُ ضَرَرَهُ السُّكَّرُ.

فصل في خواص الطين وأنواعه

[فَصْلٌ فِي خَوَاصِّ الطِّينِ وَأَنْوَاعِهِ] ِ) سَبَقَ فِي حِفْظِ الصِّحَّةِ ذِكْرُ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالصَّبْرِ بِسُكُونِ الْبَاءِ وَسَبَقَ ذِكْرُ الصَّبِرِ بِكَسْرِ الْبَاءِ فِي ذِكْرِ الْحُرْفِ وَهُوَ الرَّشَادُ وَسَبَقَ الْكَلَامُ فِي الطِّيبِ وَالرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ فِي حِفْظِ الصِّحَّةِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي الضُّفْدَعِ فِي التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمَاتِ وَفِي الطَّرَفَا فِي نَبْقِ ثَمَرِ السِّدْرِ. وَأَمَّا الطِّينُ فَفِيهِ أَخْبَارٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَعِيفَةٌ أَوْ مَوْضُوعَةٌ وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الْفِقْهِ فِي الْأَطْعِمَةِ يُصَفِّرُ اللَّوْنَ، وَيَسُدُّ مَجَارِيَ الْعُرُوقِ بَارِدٌ يَابِسٌ مُجَفِّفٌ يَعْقِلُ وَيُوجِبُ نَفْثَ الدَّمِ وَقُرُوحَ الْأَمْعَاءِ وَيُطْلَى بِهِ الْمُسْتَسْقُونَ وَالْمَطْحُولُونَ فَيُنْفَعُونَ بِهِ. وَهُوَ أَنْوَاعٌ فَمِنْهُ الطِّينُ الْأَرْمَنِيُّ بَارِدٌ فِي الْأُولَى يَابِسٌ فِي الثَّانِيَةِ يَحْبِسُ الدَّمَ، وَيَنْفَعُ مِنْ الطَّوَاعِينِ شُرْبًا وَطِلَاءً، وَيَنْفَعُ مِنْ الْجِرَاحَاتِ وَالْقِلَاعِ، وَيَمْنَعُ النَّزْلَةَ وَالسُّلَّ، وَيَنْفَعُ مِنْ الْحُمَّى الْوَبَائِيَّةِ وَهُوَ عِلَاجُ ضِيقِ النَّفَسِ مِنْ النَّوَازِلِ وَقَدْرُ مَا يَتَدَاوَى بِهِ مِثْقَالٌ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ حُمَّى فَلْيُؤْخَذْ بِمَاءٍ بَارِدٍ وَمَاءِ وَرْدٍ، وَيَنْفَعُ مِنْ كَسْرِ الْعِظَامِ مَعَ الأفانيا طِلَاءٌ، وَمِنْهُ الطِّينُ الْقُبْرُسِيُّ فِيهِ قَبْضٌ مُعْتَدِلٌ يَمْنَعُ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْحَرَارَةِ وَالْأَوْرَامِ طِلَاءً وَيُجْبَرُ الْعِظَامَ، وَيَنْفَعُهَا عِنْدَ السُّقُوطِ مِنْ مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ، وَقَدْرُ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ إلَى ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، وَيَنْفَعُ مِنْ الثَّجَجِ الْمِعَائِيِّ وَالْكَبِدِ وَمِنْ نَفْثِ الدَّمِ وَقُرُوحِ الْمِعَى شُرْبًا وَاحْتِقَانًا وَمِنْ الْأَدْوِيَةِ الْقَتَّالَةِ إذَا شُرِبَ مِنْهُ دِرْهَمٌ بِمَاءٍ بَارِدٍ مَطْبُوخٍ. طِينٌ خُرَاسَانِيٌّ. هُوَ الطِّينُ الْمَأْكُولُ بَارِدٌ يَابِسٌ وَقِيلَ: حَارٌّ لِمُلُوحَتِهِ يُقَوِّي فَمَ الْمَعِدَةِ، وَيَذْهَبُ بِوَخَامَةِ الطَّعَامِ وَلَهُ خَاصِّيَّةٌ فِي مَنْعِ الْقَيْءِ، وَيَنْفَعُ مِنْ بِلَّةِ الْمَعِدَةِ وَقَدْرُ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ دِرْهَمٌ وَأَكْثَرُهُ مِثْقَالٌ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ مُفْسِدٌ لِلْمِزَاجِ مُسَدِّدٌ يُحْدِثُ حَصًى فِي الْكُلَى وَيُقَلِّلُ ضَرَرَهُ الْأَنِيسُونُ وَبِزْرُ الْكَرَفْسِ، وَالْأَصْوَبُ تَرْكُ أَكْلِهِ؛ لِأَنَّ إفْسَادَهُ أَكْثَرُ مِنْ إصْلَاحِهِ وَمَا يُقَالُ مِنْ تَطْيِيبِهِ النَّفَسَ فَهُوَ لِلْمُشْتَاقِينَ إلَيْهِ لِمَا يَحْدُثُ مِنْ الظَّفْرِ بِالشَّهْوَةِ.

طِينٌ مَخْتُومٌ: مُبَرَّدٌ لَيْسَ دَوَاءٌ أَقْطَعُ مِنْهُ لِلدَّمِ حَتَّى إنَّ الْأَعْضَاءَ لَا تَحْتَمِلُ قُوَّتَهُ إذَا كَانَ بِهَا وَهْنٌ وَوَرَمٌ. حَارٌّ وَخُصُوصًا النَّاعِمَ وَهُوَ يُدْمِلُ الْجِرَاحَاتِ الطَّرِيَّةَ وَالْقُرُوحَ الْعَسِرَةَ، وَيَمْنَعُ الْحَرْقَ مِنْ التَّقْرِيحِ، وَيَحْفَظُ الْأَعْضَاءَ عِنْدَ السَّقَطِ، وَيَنْفَعُ مِنْ السُّلِّ وَنَفْثِ الدَّمِ وَثَجَجِ الْأَمْعَاءِ شُرْبًا وَحَقْنًا وَقَدْرُ مَا يُؤْخَذ مِنْهُ إلَى دِرْهَمَيْنِ وَيُقَاوِم السُّمُومَ وَالنُّهُوشِ شُرْبًا وَطِلَاءً بِالْخَلِّ. وَالْحَامِضُ مِنْهُ إذَا سُقِيَ لَا يَزَالُ يَغْثِي، وَيَقْذِفُ السُّمَّ وَمِنْ عَضَّةِ الْكَلْبِ الْكَلْبَ قَالَ بَعْضُهُمْ: الطِّينُ الْمَخْتُومُ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِي مَوْضِعٍ يُرْتَابُ فِيهِ بِسَقْيِ شَيْءٍ مِنْ السُّمُومِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي بَدَنِ مُتَنَاوِلِهِ شَيْءٌ مِنْ السَّمُومِ، فَإِنَّ مَنْ أَخَذَ مِنْهُ وَزْنَ دِرْهَمٍ إلَى مِثْقَالٍ ثُمَّ أَكَلَ طَعَامًا مَسْمُومًا أَوْ شَرَابًا تَقَيَّأَهُ فِي الْحَالِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَعَامًا مَسْمُومًا أَجَادَ هَضْمَهُ.

فصل في خواص الطلح وهو الموز

[فَصْلٌ فِي خَوَاصِّ الطَّلْحِ وَهُوَ الْمَوْزُ] ُ) قَالَ تَعَالَى: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة: 29] وَالْأَشْهَرُ أَنَّهُ الْمَوْزُ وَالْمَنْضُودُ الَّذِي قَدْ نَضُدَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ كَالْمُشْطِ. وَقِيلَ: الطَّلْحُ الشَّجَرُ ذُو الشَّوْكِ نَضُدَ مَكَانَ كُلِّ شَوْكَةٍ ثَمَرَةٌ فَثَمَرَةٌ قَدْ نَضُدَ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ فَهُوَ مِثْلُ الْمَوْزِ. وَأَجْوَدُ الْمَوْزِ الْكُبَارُ الْبَالِغُ الْحُلْوُ وَهُوَ مُعْتَدِلٌ وَقِيلَ: بَارِدٌ وَقِيلَ: حَارٌّ رَطْبٌ فِي الْأُولَى مُلَيِّنٌ يَنْفَعُ مِنْ خُشُونَةِ الصَّدْرِ وَالْحَلْقِ وَالرِّئَةِ وَالسُّعَالِ وَقُرُوحِ الْكُلْيَتَيْنِ وَالْمَثَانَةِ وَيُغَذِّي كَثِيرًا وَقِيلَ: يَسِيرًا يُدِرُّ الْبَوْلَ وَيُحَرِّكُ الْبَاهَ، وَيَزِيدُ فِي الْمَنِيِّ وَهُوَ ثَقِيلٌ عَلَى الْمَعِدَةِ جِدًّا يَضُرُّهَا، وَيَزِيدُ فِي الصَّفْرَاءِ وَالْبَلْغَمِ بِحَسَبِ مِزَاجِ آكِلِهِ وَدَفْعُ ضَرَرِهِ بِالسُّكَّرِ أَوْ الْعَسَلِ وَلْيُؤْكَلْ مِثْلَ الطَّعَامِ وَيُتْبَعَ بِسَكَنْجَبِينٍ الْبُزُورُ وَلَا يَتَنَاوَلُ بَعْدَهُ غِذَاءً حَتَّى يَنْحَدِرَ.

فصل في خواص طلع النخل

[فَصْلٌ فِي خَوَاصِّ طَلْعِ النَّخْلِ] ِ) سَبَقَ ذِكْرُ الطَّلْعِ فِي حِفْظِ الصِّحَّةِ وَهُوَ حَارٌّ يَجْرِي مَجْرَى الْجُمَّارِ وَسَبَقَ الْكَلَامُ فِي فَصْلٍ يَتَعَلَّقُ بِمَا قَبْلَهُ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ تَعَالَى: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق: 10] وَالنَّضِيدُ الْمَنْضُودُ الَّذِي قَدْ نَضُدَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ نَضِيدٌ مَا دَامَ فِي قِشْرِهِ فَإِذَا انْفَتَحَ فَلَيْسَ بِنَضِيدٍ قَالَ أَبُو عَمْرٍو وَالْفَرَّاءُ الْكَافُورُ الطَّلْعُ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَهُوَ وِعَاءُ طَلْعِ النَّخْلَةِ وَكَذَلِكَ الْكَفْرِيُّ وَقَالَ تَعَالَى: {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} [الشعراء: 148] . وَهُوَ الْمُنْضَمُّ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ فَهُوَ كَالنَّضِيدِ. وَالطَّلْعُ يَنْفَعُ مِنْ الْبَاهِ، وَيَزِيدُ فِي الْمُبَاضَعَةِ وَهُوَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى وَالتَّلْقِيحُ وَهُوَ التَّأْبِيرُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ الذَّكَرِ وَهُوَ مِثْلُ دَقِيقِ الْحِنْطَةِ فَيُجْعَلُ فِي الْأُنْثَى فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اللِّقَاحِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «مَرَرْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَخْلٍ فَرَأَى قَوْمًا يُلَقِّحُونَ فَقَالَ مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ؟ قَالُوا: يَأْخُذُونَ مِنْ الذَّكَرِ فَيَجْعَلُونَهُ فِي الْأُنْثَى قَالَ مَا أَظُنُّ ذَلِكَ يُغْنِي شَيْئًا فَبَلَغَهُمْ فَتَرَكُوهُ فَلَمْ يَصْلُحْ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا هُوَ ظَنٌّ، إنْ كَانَ يُغْنِي شَيْئًا فَاصْنَعُوهُ، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، وَإِنَّ الظَّنَّ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَلَكِنْ مَا قُلْتُ لَكُمْ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ» وَفِي مُسْلِم مِنْ حَدِيثِ رَافِعٍ «إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ إذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِي، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ» وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَعَائِشَةَ «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ» .

فصل في خواص العدس

[فَصْلٌ فِي خَوَاصِّ الْعَدَسِ] ِ) سَبَقَ الْكَلَامُ فِي الْعَجْوَةِ قَبْلَ ذِكْرِ فُصُولِ الْمُفْرَدَاتِ وَقَبْلَهُ فِي فَصْلٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ الْكَلَامُ فِي الْعُودِ وَالْكَلَام فِي الْعَنْبَرِ فِي فُصُولِ حِفْظِ الصِّحَّةِ بِالرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي الْعَسَلِ. وَأَمَّا الْعَدَسُ فَمِنْ الْمَوْضُوعِ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ يَرِقُّ الْقَلْبَ وَيُغْزِرُ الدَّمْعَةَ، وَإِنَّهُ مَأْكُولٌ، وَإِنَّهُ قُدِّسَ فِيهِ سَبْعُونَ نَبِيًّا» . وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيّ عَنْ إِسْحَاقَ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ الْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ فِي الْعَدَسِ أَنَّهُ قُدِّسَ عَلَى لِسَانِ سَبْعِينَ نَبِيًّا فَقَالَ: وَلَا عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ وَاحِدٍ، وَإِنَّهُ لَمُؤْذٍ مُنْفِخٌ، وَإِنَّهُ قَرِينُ الْبَصَلِ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ شَهْوَةُ الْيَهُودِ الَّتِي قَدَّمُوهَا عَلَى الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَفِيهِ طَبْعُ الْمَوْتِ بَارِدٌ يَابِسٌ وَفِيهِ قُوَّتَانِ مُتَضَادَّتَانِ إحْدَاهُمَا تَعْقِلُ الطَّبِيعَةَ وَالْأُخْرَى تُطْلِقُهَا وَقِشْرُهُ حَارٌّ يَابِسٌ فِي الثَّانِيَةِ حِرِّيفٌ مُطْلِقٌ لِلْبَطْنِ وَتِرْيَاقُهُ فِي قِشْرِهِ وَلِهَذَا كَانَ صِحَاحُهُ أَنْفَعَ مِنْ مَطْحُونِهِ وَأَخَفَّ عَلَى الْمَعِدَةِ وَأَقَلَّ ضَرَرًا، فَإِنَّ لَبَّهُ بَطِيءُ الْهَضْمِ لِبُرُودَتِهِ وَيُبُوسَتِهِ. وَقِيلَ: الْعَدَسُ مُعْتَدِلٌ فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ يَابِسٌ فِي الثَّانِيَةِ وَالْمَقْشُورُ مِنْهُ بَارِدٌ فِي الثَّانِيَةِ يَابِسٌ فِي الثَّالِثَةِ يَعْقِلُ وَيُسَكِّنُ حِدَةَ الدَّمِ وَيُقَوِّي الْمَعِدَةَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ جَالِينُوسُ وَمَاؤُهُ يَنْفَعُ مِنْ الْخَوَانِيقِ وَهُوَ مُوَلِّدٌ لِلسَّوْدَاءِ، وَيَضُرُّ بالماليخوليا ضَرَرًا بَيِّنًا، وَيَرَى أَحْلَامًا رَدِيئَةً وَيُغْلِظُ الدَّمَ فَلَا يَجْرِي فِي الْعُرُوقِ، رَدِيءٌ لِلْأَعْصَابِ وَالْإِكْثَارُ مِنْهُ يُوَلِّدُ الْجُذَامَ وَيُظْلِمُ الْبَصَرَ إذَا كَانَ بِعَيْنِ آكِلِهِ يُبْسٌ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِزَاجُ عَيْنِهِ رَطْبًا. فَإِنَّهُ يَنْفَعُهُ وَهُوَ عَسِرُ الْهَضْمِ رَدِيءٌ لِلْمَعِدَةِ، وَيَضُرُّ بِأَصْحَابِ عُسْرِ الْبَوْلِ جِدًّا، وَيَمْنَعُ دُرُورَ الْحَيْضِ وَيُوجِبُ الْأَوْرَامَ الْبَارِدَةَ وَالرِّيَاحَ الْغَلِيظَةَ. وَيُقَلِّلُ ضَرَرَهُ السِّلْقُ وَالْإِسْفَانَاخُ وَإِكْثَارُ الدُّهْنِ. وَأَرْدَأُ مَا أُكِلَ

بِالْمَكْسُودِ، وَيَجِبُ أَنْ لَا يُخْلَطَ بِهِ حَلَاوَةٌ، فَإِنَّهُ يُوَرِّثُ السُّدَدَ فِي الْكَبِدِ. وَأَقْرَبُهُ الْأَبْيَضُ السَّمِينُ السَّرِيعُ النِّفَاخِ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ كَانَ سِمَاطَ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَدْ قَالَ قَوْلًا بِلَا عِلْمٍ وَهُوَ كَذِبٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل في خواص العنب ومنافعه

[فَصْلٌ فِي خَوَاصِّ الْعِنَبِ وَمَنَافِعِهِ] ِ) ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ الْعِنَبَ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْجَنَّةِ وَهُوَ فِي السُّنَّةِ فِي أَحَادِيثَ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا رَأَى الْجَنَّةَ «لَوْ أَخَذْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا أَوْ قُطُفًا لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتْ الدُّنْيَا» وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ فِي الصَّحِيحِ. «وَأَكَلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ الْعِنَبِ الَّذِي جَاءَ بِهِ عَدَّاسٌ لَمَّا رَجَعَ مِنْ ثَقِيفٍ وَهُوَ مَشْهُورٌ.» وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ الْعِنَبَ خَرْطًا» ، فِيهِ دَاوُد بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْكُوفِيُّ قَالَ ابْنُ مَعِينٍ يَكْذِبُ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ وَقَالَ النَّسَائِيُّ مَتْرُوكٌ، رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ فِي الْغَيْلَانِيَّاتِ وَأَبُو جَعْفَرٍ الْعُقَيْلِيُّ وَقَالَ لَا أَصْلَ لَهُ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ فِي الْعِنَبِ مَنَافِعَ كَثِيرَةً وَيُؤْكَلُ مُتَنَوِّعًا وَهُوَ قُوتٌ وَفَاكِهَةٌ وَشَرَابٌ وَأُدْمٌ وَدَوَاءٌ وَطَبْعُهُ طَبْعُ الْحَيَاةِ الْحَرَارَةُ وَالرُّطُوبَةُ وَأَجْوَدُهُ الْكُبَارُ الْمَائِيُّ، وَالْأَبْيَضُ أَحْمَدُ مِنْ الْأَسْوَدِ إذَا تَسَاوَيَا فِي الْحَلَاوَةِ، وَالْمَتْرُوكُ بَعْدَ الْقَطْفِ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً أَحْمَدُ مِنْ الْمَقْطُوفِ فِي يَوْمِهِ، وَمُلُوكُ الْفَاكِهَةِ الْعِنَبُ وَالرُّطَبُ، جَيِّدُ الْغِذَاءِ مُقَوٍّ لِلْبَدَنِ يُسَمِّنُ بِسُرْعَةٍ وَيُوَلِّدُ دَمًا جَيِّدًا، وَيَزِيدُ فِي الْإِنْعَاظِ، وَيَنْفَعُ نَفْعَ الصَّدْرِ وَالرِّئَةِ وَهُوَ مُنْفِخٌ مُطْلِقٌ لِلْبَطْنِ، وَإِذَا أُلْقِيَ عُجْمُهُ أُطْلِقَ أَكْثَرَ وَالْإِكْثَارُ مِنْهُ يُصَدِّعُ الرَّأْسَ، وَدَفْعُ مَضَرَّتِهِ بِالرُّمَّانِ الْمُزِّ وَالْحَامِضُ مِنْهُ يُبَرِّدُ الْمَعِدَةَ وَيُكْثِرُ الْقَيْءَ. وَالْعِنَبُ بِأَسْرِهِ يَضُرُّ بِالْمَثَانَةِ وَالْكَبِدِ وَالطِّحَالِ الْغَلِيظِينَ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي شَجَرِهِ فِي كَرْمٍ.

فصل فيما جاء في الفالوذج وخواص الفضة

[فَصْلٌ فِيمَا جَاءَ فِي الْفَالُوذَجِ وَخَوَاصِّ الْفِضَّةِ] (فِيمَا جَاءَ فِي الْفَالُوذَجِ وَخَوَاصِّ الْفِضَّةِ) سَبَقَ ذِكْرُ فَاغِيَةٍ وَهِيَ نَوْرُ الْحِنَّاءِ فِي فَصْلٍ عَنْ سُلَيْمَانَ. فَالُوذَجُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَوَّلُ مَا سَمِعْنَا بِالْفَالُوذَجِ «أَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّ أُمَّتَكَ تُفْتَحُ عَلَيْهِمْ الْأَرْضُ فَيُفَاضُ عَلَيْهِمْ مِنْ الدُّنْيَا حَتَّى إنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الْفَالُوذَجَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا الْفَالُوذَجُ قَالَ يَخْلِطُونَ السَّمْنَ وَالْعَسَلَ جَمِيعًا فَشَهَقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِذَلِكَ شَهْقَةً.» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ الْفَالُوذُ وَالْفَالُوذَقُ مُعَرَّبَانِ قَالَ يَعْقُوبُ وَلَا تَقُلْ الْفَالُوذَجُ. وَأَمَّا الْفِضَّةُ فَأَجْوَدُهَا مَا لَمْ يُخَالِطْهُ غِشٌّ وَهِيَ بَارِدَةٌ يَابِسَةٌ، وَقِيلَ: مُعْتَدِلَةٌ فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَقِيلَ: قَابِضَةٌ جِدًّا وَهِيَ تَبْرُدُ وَتَجِفُّ وَإِذَا خُلِطَتْ سِحَالَتُهَا بِالْأَدْوِيَةِ نَفَعَتْ مِنْ الرُّطُوبَاتِ اللَّزِجَةِ وَهُوَ جَيِّدٌ لِلْجَرَبِ وَالْحَكَّةِ وَسِحَالَتُهَا تَنْفَعُ مِنْ الْبَخَرِ مَعَ أَدْوِيَتِهِ، وَمِنْ الْخَفَقَانِ مَعَ أَدْوِيَتِهِ، وَلِعُسْرِ الْبَوْلِ وَقَدْرُ مَا يُؤْخَذُ مِنْهَا دَانَقٌ وَمَعَ الزِّئْبَقِ تَنْفَعُ الْبَوَاسِيرَ طِلَاءً. قَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ مِنْ الْأَدْوِيَةِ الْمُفْرِحَةِ النَّافِعَةِ لِلْهَمِّ وَالْغَمِّ وَالْحُزْنِ وَضَعْفِ الْقَلْبِ وَخَفَقَانِهِ وَتَجْتَذِبُ بِخَاصِّيَّتِهَا مَا يَتَوَلَّدُ فِي الْقَلْبِ مِنْ الْأَخْلَاطِ الْفَاسِدَةِ خُصُوصًا إذَا أُضِيفَ إلَى ذَلِكَ الْعَسَلُ الْمُصَفَّى وَالزَّعْفَرَانُ، وَمِمَّا يُسَكِّنُ الْعَطَشَ إذَا مُسِكَ فِي الْفَمِ فِضَّةٌ خَالِصَةٌ أَوْ قِطْعَةُ بِلَّوْرٍ أَوْ صَدَفٍ أَوْ تَمْرٍ هِنْدِيٍّ أَوْ حَبِّ رُمَّانٍ حَامِضٍ. الْقِثَّاءُ سَبَقَ فِي حِفْظِ الصِّحَّةِ.

فصل في خواص القرع وهو الدباء وما ورد فيه

[فَصْلٌ فِي خَوَاصِّ الْقَرْعِ وَهُوَ الدُّبَّاءُ وَمَا وَرَدَ فِيهِ] ِ) (الْقَرْعُ) وَهُوَ الدُّبَّاءُ بَارِدٌ رَطْبُ فِي الثَّانِيَةِ، وَقِيلَ: حَارٌّ رَطْبٌ يَتَوَلَّدُ مِنْهُ غِذَاءٌ شَبِيهٌ بِمَا يَصْحَبُهُ، فَإِنْ أُكِلَ بِالْخَرْدَلِ وَلَّدَ خَلْطًا حِرِّيفًا وَنَحْوَ ذَلِكَ، غِذَاؤُهُ يَسِيرٌ، وَيَنْحَدِرُ سَرِيعًا جَيِّدٌ لِلصَّفْراوَتَيْنِ يَقْطَعُ الْعَطَشَ جِدًّا وَيُلَيِّنُ الْبَطْنَ وَيُوَلِّدُ بِلَّةَ الْمَعِدَةِ، وَيَضُرُّ بِأَصْحَابِ السَّوْدَاءِ وَالْبَلْغَمِ وَبِالْمَعِدَةِ وَالْأَمْعَاءِ وَيُصْلِحُهُ الْفُلْفُلُ وَالصَّعْتَرُ وَالْخَرْدَلُ وَالزَّيْتُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَعُصَارَتُهُ تُسَكِّنُ وَجَعَ الْأُذُنِ مَعَ دُهْنِ وَرْدٍ وَتَنْفَعُ مِنْ أَوْرَامِ الدِّمَاغِ، وَسَوِيقُهُ يَنْفَعُ مِنْ السُّعَالِ وَوَجَعِ الصَّدْرِ مِنْ حَرَارَةٍ، وَإِنْ شُرِبَ مَاؤُهُ بِتَرَنْجَبِينٍ وَسَفَرْجَلٍ مُرَبًّى أَسْهَلَ صَفْرَاءَ مَحْضَةً. وَمَتَى صَادَفَ الْقَرْعُ فِي الْمَعِدَةِ خَلْطًا رَدِيئًا اسْتَحَالَ إلَيْهِ وَفَسَدَ وَوَلَّدَ فِي الْبَدَنِ خَلْطًا رَدِيئًا. وَفِي الْغَيْلَانِيَّاتِ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَا عَائِشَةُ إذَا طَبَخْتُمْ قِدْرًا فَأَكْثِرُوا فِيهَا مِنْ الدُّبَّاءِ، فَإِنَّهَا تَشُدُّ قَلْبَ الْحَزِينِ» ، وَيَأْتِي فِي آدَابِ الطَّعَامِ قَبْلَ فَصْلٍ قِيلَ: لِأَحْمَدَ يَعْتَزِلُ الرَّجُلُ فِي الطَّعَامِ أَوْ يُوَافِقُ حَدِيثَ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ يَأْكُلُ الدُّبَّاءَ وَيُعْجِبُهُ.» وَرَوَى ابْنَ مَاجَهْ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ عَنْ عُبَيْدَةَ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّ الْقَرْعَ إسْنَادٌ جَيِّدٌ وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي طَالُوتَ وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ قَالَ «دَخَلْت عَلَى أَنَسٍ وَهُوَ يَأْكُلُ قَرْعًا وَهُوَ يَقُولُ: يَا لَكِ شَجَرَةً مَا أَحَبَّكِ إلَيَّ بِحُبِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إيَّاكِ.» وَلِأَحْمَدَ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ تُعْجِبُهُ الْفَاغِيَةُ وَكَانَ أَعْجَبُ الطَّعَامِ إلَيْهِ الدُّبَّاءَ.»

فصل في خواص قصب السكر والسكر

[فَصْلٌ فِي خَوَاصِّ قَصَبِ السُّكَّرِ وَالسُّكَّرِ] ِ) الْقُسْطُ وَهُوَ الْكُسْتُ هُوَ الْعُودُ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ أَعْظَمُ شِفَاءً وَأَكْثَرُ دَوَاءً نَسْأَلُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِهِ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ وَفِي الْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا. وَأَمَّا قَصَبُ السُّكَّرِ فَرُوِيَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ أَحَادِيثِ الْحَوْضِ فِي غَيْرِ الصَّحِيحِ «مَاؤُهُ أَحْلَى مِنْ السُّكَّرِ» وَصَحَّحَهُ بَعْضُهُمْ. وَأَمَّا الَّذِي فِي الصَّحِيحِ «فَأَبْيَضُ مِنْ الْوَرِقِ» أَيْ الْفِضَّةِ «وَأَطْيَبُ مِنْ رَائِحَةِ الْمِسْكِ» وَفِي الصَّحِيحِ «أَشَدُّ بَيَاضًا مِنْ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ» وَفِي الصَّحِيحِ «أَشَدُّ بَيَاضًا مِنْ الثَّلْجِ وَأَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ بِاللَّبَنِ» وَلَمْ أَجِدْ لَفْظَ السُّكَّرِ فِي الْحَدِيثِ وَلَا هُنَا وَلَمْ يَعْرِفْهُ مُتَقَدِّمُو الْأَطِبَّاءِ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُونَ الْعَسَلَ وَيُدْخِلُونَهُ فِي الْأَدْوِيَةِ. وَالسُّكَّرُ حَارٌّ فِي آخِرِ الْأُولَى رَطْبٌ فِي الْأُولَى وَالْعَتِيقُ إلَى الْيُبْسِ وَقِيلَ: السُّكَّرُ بَارِدٌ وَأَجْوَدُهُ الْأَبْيَضُ الشَّفَّافُ الطَّبَرْزَدُ، وَكُلَّمَا عُتِّقَ كَانَ أَلْطَفَ إلَّا أَنَّهُ أَمْيَلُ إلَى الْحَرَارَةِ وَهُوَ مُلَيِّنٌ جِدًّا. قَالَ ابْنُ جَزْلَةَ وَهُوَ يُقَارِبُ فِي الْجَلَاءِ وَالتَّنْقِيَةِ وَيُلَيِّنُ الصَّدْرَ وَيُزِيلُ خُشُونَتَهُ وَهُوَ يَنْفَعُ الْمَعِدَةَ سِوَى الَّتِي تَتَوَلَّدُ فِيهَا الْمُرَّةُ الصَّفْرَاءُ، فَإِنَّهُ يَضُرُّهَا لِاسْتِحَالَتِهِ إلَيْهَا، وَدَفْعُ ضَرَرِهِ بِمَاءِ اللَّيْمُونِ أَوْ النَّارِنْجِ أَوْ الرُّمَّانِ الْمُزِّ، وَهُوَ مُفَتِّحٌ لِلسُّدَدِ وَيُسْهِلُ مَعَ دُهْنِ اللَّوْزِ، وَيَنْفَعُ مِنْ الْقُولَنْجِ، وَيَنْفَعُ الْكُلَى وَالْمَثَانَةَ، وَيَنْفَعُ مِنْ الْبَيَاضِ الرَّقِيقِ الَّذِي فِي الْعَيْنِ، وَهُوَ يُعَطِّشُ دُونَ تَعْطِيشِ الْعَسَلِ. وَخَاصَّةً الْعَتِيقَ، فَإِنَّهُ يُوَلِّدُ دَمًا عَكِرًا وَيُهَيِّجُ الصَّفْرَاءَ، وَيُصْلِحُهُ الرُّمَّانُ الْمُزُّ وَإِذَا طُبِخَ السُّكَّرُ وَنُزِعَتْ رَغْوَتُهُ سَكَّنَ الْعَطَشَ وَالسُّعَالَ. وَأَمَّا قَصَبُ السُّكَّرِ فَهُوَ فِي طَبْعِ السُّكَّرِ وَأَشَدُّ تَلْيِينًا مِنْهُ، وَأَجْوَدُهُ الْحُلْوُ الْعَزِيزُ الْمَاءِ وَهُوَ حَارٌّ رَطْبٌ فِي الْأُولَى، وَقِيلَ: مُعْتَدِلُ الْحَرَارَةِ وَقِيلَ: فِيهِ قَبْضٌ، وَالْمَأْخُوذُ كَالصَّمْغِ مِنْ الْقَصَبِ يَجْلُو الْعَيْنَ

وَقَصَبُ السُّكَّرِ يُعِينُ الْقَيْءَ، وَيَنْفَعُ الصَّدْرَ وَالسُّعَالَ وَيُوَلِّدُ دَمًا مُعْتَدِلًا وَيُدِرُّ الْبَوْلَ، وَيَجْلُو رُطُوبَةَ الصَّدْرِ قَالَ بَعْضُهُمْ: وَالْمَثَانَةَ وَقَصَبَةَ الرِّئَةِ، وَيَنْفَعُ مِنْ خُشُونَةِ الصَّدْرِ وَالْحَلْقِ إذَا شُوِيَ. وَالْقَصَبُ يَزِيدُ فِي الْبَاهِ وَيُوَلِّدُ رِيَاحًا وَنَفْخًا، وَيَنْبَغِي أَنْ يُغْسَلَ بِمَاءٍ حَارٍّ بَعْدَ تَقْشِيرِهِ لِيَزُولَ نَفْخُهُ. قَالَ عَفَّانَ بْنُ مُسْلِمٍ الصَّفَّارُ: مَنْ مَصَّ قَصَبَ السُّكَّرِ بَعْدَ طَعَامِهِ لَمْ يَزَلْ يَوْمُهُ أَجْمَعُ فِي سُرُورٍ وَقَالَ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ: سَمِعْت أَبَا زَكَرِيَّا الْعَنْبَرِيَّ سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ السَّلَامِ سَمِعْت إِسْحَاقَ بْنَ إبْرَاهِيمَ يَعْنِي: ابْنَ رَاهْوَيْهِ يَقُولُ: دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ فَقَالَ لِي: يَا أَبَا يَعْقُوبَ سَمِعْتُ أَنَّك شَرِبْتَ البلازر فَقُلْت: أَعَزَّ اللَّهُ الْأَمِيرَ وَاَللَّهِ مَا شَرِبْتُهُ وَلَا هَمَمْتُ بِشُرْبِهِ وَلَكِنْ أَخْبَرَنِي الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَنْبَأَنِي أَبُو سَاجٍ عَنْ خُصَيْفٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خُذْ مِثْقَالًا مِنْ كندي وَمِثْقَالًا مِنْ سُكَّرٍ فَدُقَّهُمَا ثُمَّ اسْحَقْهُمَا ثُمَّ اسْتَفَّهُمَا عَلَى الرِّيقِ، فَإِنَّهُ جَيِّدٌ لِلنِّسْيَانِ وَالْبَوْلِ، فَدَعَا الْأَمِيرَ بِالدَّوَاةِ فَكَتَبَهُ.

فصل في خواص الكباث وما ورد فيه

[فَصْلٌ فِي خَوَاصِّ الْكَبَاثِ وَمَا وَرَدَ فِيهِ] ِ) قَالَ الْحَاكِمُ: سَمِعْتُ أَبَا عَلِيٍّ الْحَافِظَ سَمِعْتُ ابْنَ خُزَيْمَةَ يَقُولُ وَاَللَّهِ لَوْ أَنَّ إِسْحَاقَ الْحَنْظَلِيَّ كَانَ فِي التَّابِعِينَ لَأَقَرُّوا لَهُ بِالتَّقَدُّمِ لِحِفْظِهِ وَعِلْمِهِ وَفَهْمِهِ. فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَجْنِي الْكَبَاثَ فَقَالَ عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ مِنْهُ، فَإِنَّهُ أَطْيَبُهُ» . الْكَبَاثُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ الْمُخَفَّفَةِ وَالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ ثَمَرُ الْأَرَاكِ وَهُوَ حَارٌّ يَابِسٌ وَمَنَافِعُهُ كَمَنَافِعِ الْأَرَاكِ يُقَوِّي الْمَعِدَةَ وَيُجِيدُ الْهَضْمَ، وَيَجْلُو الْبَلْغَمَ، وَيَنْفَعُ مِنْ أَوْجَاعِ الظَّهْرِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْأَدْوَاءِ وَطَبِيخُهُ يُقَوِّي الْمَعِدَةَ وَيُمْسِكُ الطَّبِيعَةَ وَيُدِرُّ الْبَوْلَ وَيُنَقِّي الْمَثَانَةَ. وَإِذَا صُنِعَ مِنْ قُضْبَانِهِ لِلْعَضُدِ، فَإِنَّهُ خِلْخَالٌ مَانِعٌ مِنْ السِّحْرِ.

فصل في خواص الكتم

[فَصْلٌ فِي خَوَاصِّ الْكَتَمِ] ِ) الْكَتَمُ بِالتَّحْرِيكِ بِتَخْفِيفِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقَ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: بِتَشْدِيدِهَا نَبْتٌ وَرَقُهُ قَرِيبٌ مِنْ وَرَقِ الزَّيْتُونِ يَعْلُو فَوْقَ الْقَامَةِ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْأَخْبَارِ فِي صَبْغِ الشَّيْبِ بِهِ وَلَهُ ثَمَرٌ فِي قَدْرِ حَبِّ الْفُلْفُلِ فِي دَاخِلِهِ نَوَى إذَا نَضَجَ اسْوَدَّ، وَإِذَا اُسْتُخْرِجَتْ عُصَارَةُ وَرَقِهِ وَشُرِبَ مِنْهَا قَدْرُ أُوقِيَّةٍ تَقَيَّأَ قَيْئًا شَدِيدًا، وَيَنْفَعُ مِنْ عَضَّةِ الْكَلَبِ. وَأَصْلُ الْكَتَمِ إذَا طُبِخَ بِالْمَاءِ كَانَ مِنْهُ مِدَادٌ يُكْتَبُ بِهِ، وَبِزْرُ الْكَتَمِ إذَا اُكْتُحِلَ بِهِ حَلَّلَ الْمَاءَ النَّازِلَ فِي الْعَيْنِ وَأَبْرَأَهُ. وَقِيلَ: الْكَتَمُ هُوَ الْوَشْمَةُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَالْوَشْمَةُ هِيَ وَرَقُ النِّيلِ حَارَّةٌ فِي آخِرِ الْأُولَى يَابِسَةٌ فِي الثَّانِيَةِ فِيهَا قَبْضٌ وَجَلَاءٌ وَتُخْصِبُ الشَّعْرَ.

فصل في منافع الكرمة شجرة العنب

[فَصْلٌ فِي مَنَافِعِ الْكَرْمَةِ شَجَرَةُ الْعِنَبِ] ِ) سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ فُصُولِ آدَابِ الْمَسَاجِدِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ لِلْعِنَبِ الْكَرْمَ، فَإِنَّ الْكَرْمَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ وَفِي لَفْظٍ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ» وَفِي لَفْظٍ «وَلَكِنْ قُولُوا الْعِنَبَ» وَالْحَبَلَةُ أَيْ: بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِفَتْحِ الْبَاءِ وَإِسْكَانُهَا شَجَرَةُ الْعِنَبِ. وَرَوَى أَحْمَدُ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ ثَنَا الْمُشْمَعِلُّ بْنُ إيَاسٍ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ سُلَيْمٍ الْمُزَنِيّ أَنَّهُ سَمِعَ رَافِعَ بْنَ عَمْرٍو الْمُزَنِيّ يَقُولُ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «الْعَجْوَةُ وَالشَّجَرَةُ مِنْ الْجَنَّةِ» إسْنَادٌ جَيِّدٌ وَعَمْرٌو تَفَرَّدَ عَنْهُ الْمُشْمَعِلُّ لَكِنْ قَالَ النَّسَائِيُّ: ثِقَةٌ وَلَمْ أَجِدْ فِيهِ كَلَامًا قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ الْعَجْوَةُ مِنْ تَمْرِ الْمَدِينَةِ وَالشَّجَرَةُ الْكَرْمَةُ قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّمَا أَرَادَ شَجَرَةَ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَهَا اسْتَوْجَبُوا الْجَنَّةَ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ هَذَا الْخَبَرَ عَنْ بُنْدَارٍ عَنْ ابْنِ مَهْدِيٍّ عَنْ الْمُشْمَعِلِّ وَلَفْظُهُ «الْعَجْوَةُ وَالصَّخْرَةُ مِنْ الْجَنَّةِ» قَالَ فِي النِّهَايَةِ: يُرِيدُ صَخْرَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَذَا قَالَ. وَشَجَرَةُ الْعِنَبِ بَارِدَةٌ يَابِسَةٌ وَوَرَقُهَا وَعَلَائِقُهَا وَمَرْمُوشُهَا مُبَرِّدٌ فِي آخِرِ الدَّرَجَةِ الْأُولَى وَإِذَا دُقَّتْ وَضُمِّدَ بِهَا مِنْ الصُّدَاعِ سَكَّنَتْهُ وَمِنْ الْأَوْرَامِ الْحَارَّةِ وَالْتِهَابِ الْمَعِدَةِ، وَعُصَارَةُ قُضْبَانِهِ إذَا شُرِبَتْ سَكَّنَتْ الْقَيْءَ وَعَقَلَتْ الْبَطْنَ، وَكَذَلِكَ إذَا مُضِغَتْ عُرُوقُهَا الرَّطْبَةُ، وَعُصَارَةُ وَرَقِهَا تَنْفَعُ مِنْ قُرُوحِ الْأَمْعَاءِ وَنَفْثِ الدَّمِ وَقَيْئِهِ وَوَجَعِ الْمَعِدَةِ وَدَمْعَةُ شَجَرِهِ الَّتِي تُحْمَلُ عَلَى الْقُضْبَانِ كَالصَّمْغِ إذَا شُرِبَتْ أَخْرَجَتْ الْحَصَاةَ، وَإِذَا لُطِّخَ بِهَا أَبْرَأَتْ الْقَوَابِيَ وَالْجَرَبَ الْمُتَقَرِّحَ وَغَيْرَهُ، وَيَنْبَغِي غَسْلُ الْعُضْوِ قَبْلَ اسْتِعْمَالِهَا بِالْمَاءِ وَالنَّطْرُونِ وَهُوَ البورق

الْأَرْمَنِيُّ، وَإِذَا تُمُسِّحَ بِهَا مَعَ الزَّيْتِ حَلَقَتْ الشَّعْرَ، وَرَمَادُ قُضْبَانِهِ إذَا تُضُمِّدَ بِهِ مَعَ الْخَلِّ وَدُهْنِ الْوَرْدِ وَالسَّذَابِ نَفَعَ مِنْ الْوَرَمِ الْعَارِضِ فِي الطِّحَالِ وَقُوَّةُ دُهْنِ زَهْرَةِ الْكَرْمِ قَابِضَةٌ شَبِيهَةٌ بِقُوَّةِ دُهْنِ الْوَرْدِ وَمَنَافِعُهَا تَقْرُبُ مِنْ مَنَافِعِ النَّخْلَةِ لِكَثْرَتِهَا.

فصل في خواص الكراث

[فَصْلٌ فِي خَوَاصِّ الْكُرَّاثِ] ِ) الْكُرَّاثُ لَهُ أَصْلٌ فِي الصَّحِيحِ «إنَّ مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى بِهِ بَنُو آدَمَ» وَالْكُرَّاثُ نَبَطِيٌّ وَشَامِيٌّ فَالنَّبَطِيُّ أَجْوَدُ وَهُوَ الْبَقْلُ الَّذِي يُوضَعُ عَلَى الْمَائِدَةِ حِرِّيفٌ لَيْسَ بِكَرِيهِ الرَّائِحَةِ كَثِيرًا وَهُوَ حَارٌّ يَابِسٌ فِي الثَّالِثَةِ. وَالشَّامِيُّ لَهُ رُءُوسٌ أَقَلَّ حَرَارَةً وَيُبْسًا. وَقِيلَ: إنَّهُ فِي الثَّانِيَةِ وَالشَّامِيُّ مَعَ السُّمَّاقِ يَنْفَعُ مِنْ الثَّآلِيلِ وَمَعَ الْمِلْحِ لِلْقُرُوحِ الْخَبِيثَةِ وَهُوَ يَقْطَعُ الرُّعَافَ وَمَعَ مَاءِ الشَّعِيرِ يَنْفَعُ مِنْ الرَّبْوِ عَنْ مَادَّةٍ غَلِيظَةٍ وَخُصُوصًا النَّبَطِيَّ مَعَ عَسَلٍ، وَهُوَ يَقْطَعُ الْجُشَاءَ الْحَامِضَ، وَيَنْفَعُ مِنْ الْبَوَاسِيرِ الْبَارِدَةِ أَكْلًا وَضِمَادًا وَيُحَرِّكُ الْبَاهَ، وَيَنْفَعُ مِنْ صَلَابَةِ الرَّحِمِ وَانْضِمَامُهَا إذَا جَلَسَتْ الْمَرْأَةُ فِي طَبِيخِ وَرَقِهِ، وَطَبِيخِ أُصُولِ الأسفيدناج بِدُهْنِ الغرطم وَدُهْنِ اللَّوْزِ الشَّيْرَجِيِّ نَافِعٌ مِنْ الْقُولَنْجِ وَيُدِرُّ الْبَوْلَ، وَيَزِيدُ فِي الْبَاهِ وَهُوَ يُصَدِّعُ وَيُرِي أَحْلَامًا رَدِيئَةً، وَيُفْسِدُ اللِّثَةَ وَالْأَسْنَانَ وَيُفْلِجُهَا، وَيَضُرُّ بِالْبَصَرِ وَالْمَعِدَةِ، وَيَنْفُخُ، بَطِيءُ الْهَضْمِ وَالشَّامِيُّ أَدْنَى مَضَرَّةً فِي ذَلِكَ وَيُصْلِحُهُ سَلْقُهُ بِمَا بُيِّنَ وَيُجْعَلُ مَعَ الدُّهْنِ وَالْخَلِّ. وَالنَّبَطِيُّ إذَا سُحِقَ بِزْرُهُ وَعُجِنَ بِقَطِرَانٍ وَنُجِزَتْ مِنْهُ الْأَضْرَاسُ الَّتِي فِيهَا الدُّودُ نَثَرَهَا وَأَخْرَجَهَا وَسَكَّنَ الْوَجَعَ الْعَارِضَ فِيهَا، وَإِذَا دَخَنَتْ الْمَعِدَةُ بِبِزْرِهِ جَفَّفَتْ الْبَوَاسِيرَ، وَالْكُرَّاثُ الْبَرِّيُّ يُقْرِحُ الْبَدَنَ وَعُصَارَةُ الْكُرَّاثِ الْيَابِسَةِ تُسَهِّلُ الدَّمَ. وَمِنْ الْمَوْضُوعِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَكَلَ الْكُرَّاثَ ثُمَّ نَامَ عَلَيْهِ نَامَ آمِنًا مِنْ رِيحِ الْبَوَاسِيرِ وَاعْتَزَلَهُ الْمَلَكُ لِنَتِنِ نَكْهَتِهِ حَتَّى يُصْبِحَ.»

فصل في الكرفس

[فَصْلٌ فِي الْكَرَفْسِ] فَصْلٌ الْكَرَفْسُ مِنْ الْمَوْضُوعِ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَكَلَهُ ثُمَّ نَامَ عَلَيْهِ نَامَ وَنَكْهَتُهُ طَيِّبَةٌ وَنَامَ آمِنًا مِنْ وَجَعِ الْأَضْرَاسِ وَالْأَسْنَانِ» وَهُوَ رَطْبٌ وَأَصْلُهُ يَابِسٌ، وَقِيلَ: حَارٌّ يَابِسٌ فِي الثَّالِثَةِ، وَقِيلَ: فِي الثَّانِيَةِ يُحَلِّلُ النَّفْخَ وَيُفَتِّحُ وَيُسَكِّنُ الْأَوْجَاعَ الْبَرِّيُّ مِنْهُ يَنْفَعُ مِنْ دَاءِ الثَّعْلَبِ وَشُقَاقِ الْأَظْفَارِ وَشُقُوقِ الْبَرْدِ وَالثَّآلِيلِ. وَالشَّامِيُّ مِنْهُ يُطَيِّبُ النَّكْهَةَ قَالَ بَعْضُهُمْ جِدًّا. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَيَنْفَعُ مِنْ الْبَخَرِ وَيُوَافِقُ مَنْ بِهِ عِرْقُ النَّسَا، وَيَنْفَعُ مِنْ الرَّبْوِ وَضِيقِ النَّفَسِ وَأَوْرَامِ الثَّدْيِ وَالْحِشَاءِ، وَالرُّومِيُّ أَجْوَدُهُ لِلْمَعِدَةِ وَهُوَ يَعْدِلُ بِزْرَ الْخَسِّ إذَا أُكِلَ مَعَهُ، وَهُوَ يُدِرُّ الْبَوْلَ وَالطَّمْثَ. وَالْجَبَلِيُّ مِنْهُ يُفَتِّتُ الْحَصَى وَيُخْرِجُ الْمَشِيمَةَ وَيُهَيِّجُ الْبَاهَ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: يَنْبَغِي أَنْ تَجْتَنِبَهُ الْمُرْضِعَةُ كَيْ لَا يُفْسِدَ لَبَنَهَا لِهَيَجَانِ شَهْوَةِ الْبَاهِ وَطَبْخُهُ مَعَ الْعَدَسِ يَشْفِي مَنْ سُقِيَ سُمًّا وَهُوَ يُسَكِّنُ وَجَعَ الْأَسْنَانِ لَكِنَّهُ يُفَتِّتُهَا. وَقِيلَ: إذَا عُلِّقَ أَصْلُهُ عَلَى الرَّقَبَةِ نَفَعَ مِنْ وَجَعِ الْأَسْنَانِ، وَإِذَا لَسَعَتْ الْعَقْرَبُ آكِلَهُ اشْتَدَّ بِهِ الْأَمْرُ، وَلِذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُجْتَنَبَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي لَا يُؤْمَنُ فِيهِ الْعَقَارِبُ. وَهُوَ يُهَيِّجُ الصَّرَعَ بِالْمَصْرُوعِينَ وَلِذَلِكَ هُوَ رَدِيءٌ لِلصَّرَعِ، وَقَدْ قِيلَ: يُؤْمَنُ مَضَرَّتُهُ فِيهِمْ إذَا تَعَلَّقَ أَصْلُهُ فِي رِقَابِهِمْ، وَهُوَ يَضُرُّ بِالْحَبَالَى وَيُهَيِّجُ الصُّدَاعَ وَيُصْلِحُهُ الْخَسُّ.

فصل في خواص الماء

[فَصْلٌ فِي خَوَاصِّ الْمَاءِ] ِ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي اللَّحْمِ وَاللَّبَنِ وَالْمَاءِ وَتُعْرَفُ جَوْدَةُ الْمَاءِ بِصَفَائِهِ، وَأَنْ لَا تَكُونَ لَهُ رَائِحَةٌ، وَأَنْ يَكُونَ عَذْبَ الطَّعْمِ حُلْوًا خَفِيفًا وَزْنُهُ، بَعِيدَ الْمَنْبَعِ طَيِّبَ الْجَرْيِ بَارِزًا لِلشَّمْسِ وَالرِّيحِ لِيَنْقَصِرَ كَثِيرًا لِيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ سَرِيعَ الْحَرَكَةِ وَالْجَرْيِ، آخِذًا إلَى الشَّمَالِ مِنْ الْجَنُوبِ أَوْ مِنْ الْغَرْبِ إلَى الشَّرْقِ، يَسْخُنُ سَرِيعًا عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ عَلَيْهِ، وَيَبْرُدُ عِنْدَ غُرُوبِهَا عَنْهُ، وَيَنْحَدِرُ عَنْ الْمَعِدَةِ سَرِيعًا وَيُخَفِّفُ ثِقَلَ الطَّعَامِ عَلَيْهَا. قَالَ أَبُقْرَاطُ: الْمَاءُ الَّذِي يَسْخُنُ سَرِيعًا، وَيَبْرُدُ سَرِيعًا أَخَفُّ الْمِيَاهِ، وَالْمَاءُ، وَإِنْ كَانَ فِي الْأَصْلِ بَارِدًا رَطْبًا، فَإِنَّهُ يَنْتَقِلُ لِعَارِضٍ، فَالْمَكْشُوفُ لِلشَّمَالِ خَاصَّةً فِيهِ يَبَسٌ فَيُكْتَسَبُ مِنْ رِيحِ الشَّمَالِ وَكَذَا بَقِيَّةُ الْجِهَاتِ بِحِسِّهَا وَمَا يَنْبُعُ مِنْ مَعْدِنٍ فَلَهُ طَبِيعَةُ ذَلِكَ الْمَعْدِنِ، وَيُؤَثِّرُ فِي الْبَدَنِ تَأْثِيرَهُ وَسَيَأْتِي. وَنَفْعُ الْمَاءِ الْبَارِدِ مِنْ دَاخِلٍ أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِ مِنْ خَارِجٍ، وَالْحَارُّ بِالْعَكْسِ، وَيَنْفَعُ الْبَارِدُ مِنْ عُفُونَةِ الدَّمِ وَالْحُمَّيَاتِ الْمُحْتَرِقَةِ وَصُعُودِ الْأَبْخِرَةِ إلَى الرَّأْسِ، وَيَدْفَعُ الْعُفُونَاتِ وَيُوَافِقُ الْأَمْزِجَةَ وَالْأَسْنَانَ وَالْأَزْمِنَةَ وَالْأَمَاكِنَ الْحَارَّةَ وَيُقَوِّي الْقُوَى الْأَرْبَعَ الْجَاذِبَةَ وَالْمَاسِكَةَ وَالْهَاضِمَةَ وَالدَّافِعَةَ عَلَى أَفْعَالِهَا. وَيُقَوِّي الشَّهْوَةَ وَيُحَسِّنُ وَيُهَضِّمُ بِجَمْعِهِ الْمَعِدَةَ عَلَى الْغِذَاءِ، وَيَحْفَظُ الصِّحَّةَ، وَيَنْفَعُ التَّخَلْخُلَ وَالسَّيَلَانَ، وَيَضُرُّ كُلَّ حَالَةٍ تَحْتَاجُ إلَى نُضْجٍ وَتَحْلِيلٍ كَالزُّكَامِ وَالْأَوْرَامِ، وَالشَّدِيدُ الْبَرْدِ يُؤْذِي الْأَسْنَانَ وَالْإِدْمَانُ عَلَيْهِ يُحْدِثُ انْفِجَارَ الدَّمِ وَالنَّزَلَاتِ وَأَوْجَاعَ الصَّدْرِ وَقَصَبَةِ الرِّئَةِ وَأَصْحَابَ السُّدَدِ يُضْعِفُ الْبَاهَ، وَيَضُرُّ مَنْ أَفْرَطَ بِهِ الِاسْتِفْرَاغَ، وَلْيُجْتَنَبْ عَلَى الرِّيقِ وَعَقِبَ حَمَّامٍ وَجِمَاعٍ

وَحَرَكَةٍ عَنِيفَةٍ كَثِيرَةٍ وَعَطَشٍ شَدِيدٍ حَادِثٍ فِي اللَّيْلِ عِنْدَ النَّوْمِ بِغَيْرِ سَبَبٍ. مَالِحٌ أَوْ حَارٌّ يَابِسٌ، فَإِنَّهُ يُفْسِدُ الْمِزَاجَ وَيُوَلِّدُ الِاسْتِسْقَاءَ وَهَذَا الْمَاءُ يَعْقِلُ الْبَطْنَ وَيُسَكِّنُ سَيَلَانَ الْمَنِيِّ، وَالِاسْتِحْمَامُ بِهِ يَنْفَعُ التَّشَنُّجَ مِنْ امْتِلَاءٍ وَالْأَجْسَامَ الْمُتَخَلْخِلَةَ وَيُرَطِّبُ وَيُسَكِّنُ الْأَوْجَاعَ، وَإِذَا صُبَّ حَوْلَ مَوْضِعٍ يَنْبَعِثُ مِنْهُ الدَّمُ قَطَعَهُ، وَالْبَارِدُ وَالْحَارُّ بِإِفْرَاطٍ يَضُرَّانِ الْعَصَبَ وَأَكْثَرَ الْأَعْضَاءِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا مُحَلِّلٌ وَالْآخَرَ مُكَثِّفٌ. وَالْمَاءُ الْحَارُّ يُسَكِّنُ لَذْعَ الْأَخْلَاطِ الْحَادَّةِ وَيُحَلِّلُ وَيُنْضِجُ وَيُخْرِجُ الْفُضُولَ وَيُرَطِّبُ وَيُسَخِّنُ، وَيُفْسِدُ الْهَضْمَ شُرْبُهُ، وَيَطْفُو بِالطَّعَامِ إلَى أَعَالِي الْمَعِدَةِ وَيُرْخِيهَا وَلَا يُسْرِعُ إلَى تَسْكِينِ الْعَطَشِ وَيُذْبِلُ الْبَدَنَ، وَيُؤَدِّي إلَى أَمْرَاضٍ رَدِيئَةٍ، وَيَضُرُّ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرَاضِ، وَهُوَ صَالِحٌ لِلشُّيُوخِ وَأَصْحَابِ الصَّرَعِ وَالصُّدَاعِ الْبَارِدِ وَالرَّمَدِ، وَأَنْفَعُ مَا اُسْتُعْمِلَ مِنْ خَارِجٍ وَإِذَا اُغْتُسِلَ بِهِ كَثِيرُ عَادِيَةِ النَّافِضِ قَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا مُزِجَ بِمَاءٍ بَارِدٍ نَفَعَ الْمَصْرُوعَ وَأَوْرَامَ الْحَلْقِ وَاللَّهَاةِ وَالصَّدْرِ، وَيَجْلُو خَمَلَ الْمَعِدَةِ وَيُطْلِقُ الطَّبْعَ إذَا صَادَفَ خَلْطًا خَاصَّةً إذَا شُرِبَ مَعَ سُكَّرٍ أَوْ عَسَلٍ، وَإِذَا لَمْ يُمْزَجْ بِمَاءٍ بَارِدٍ لَا يَرْوِي وَلَا تَقْبَلُهُ الْأَعْضَاءُ، فَإِنْ أَكْثَرَ مِنْهُ أَفْسَدَ الْمِزَاجَ وَأَحْدَثَ الرَّهَلَ وَأَرْخَى الْمَعِدَةَ وَمَلَأَ الدِّمَاغَ بُخَارًا وَلِفَسَادِ هَضْمِ شَارِبِيهِ يُصَفِّرُ أَلْوَانَهُمْ، وَيُوَرِّمُ أَطْحَالَهُمْ وَأَكْبَادَهُمْ، وَهُوَ يُهَيِّجُ الرُّعَافَ، وَيَنْبَغِي خَلْطُهُ بِمَاءِ وَرْدٍ حَتَّى لَا يُرْخِيَ الْمَعِدَةَ، وَالشَّدِيدُ السُّخُونَةِ يُفْسِدُ الذِّهْنَ وَيُحْدِثُ الْغَثْيَ وَيُذِيبُ شَحْمَ الْكُلَى وَاللَّحْمَ وَلِذَلِكَ يَنْبَغِي خَلْطُهُ بِمَاءٍ بَارِدٍ وَالِاسْتِحْمَامِ وَيُلَطِّفُ الْبَلْغَمَ وَيُسَخِّنُ جِدًّا. وَمَاءُ الْمَطَرِ أَجْوَدُهُ مَا أُخِذَ مِنْ أَرْضٍ جَيِّدَةٍ قَالَ بَعْضُهُمْ: وَكَانَ قَطْرُهُ قَلِيلًا فِي شَهْرِ كَانُونَ وَكَانَ مِنْ سَحَابٍ رَاعِدٍ وَكَانَ فِي مُسْتَنْقَعَاتِ الْجِبَالِ

وَهُوَ أَرْطَبُ مِنْ بَقِيَّةِ الْمِيَاهِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَطُولُ مُدَّتُهُ فَيُكْتَسَبُ مِنْ يَبَسِ الْأَرْضِ أَوْ غَيْرِهَا وَلِهَذَا يَعْفَنُ، وَيَتَغَيَّرُ سَرِيعًا لِطَاقَتِهِ وَسُرْعَةِ انْفِعَالِهِ. وَأُبُقْرَاطُ يَقُولُ: مَاءُ الْمَطَرِ أَجْوَدُ الْمِيَاهِ وَأَعْذَبُهَا وَأَخَفُّهَا وَزْنًا وَهُوَ أَقَلُّ بَرْدًا مِنْ مَاءِ الْعُيُونِ وَهُوَ يَنْفَعُ مِنْ السُّعَالِ وَخَاصَّةً إذَا طُبِخَ بِهِ أَشْرِبَةُ السُّعَالِ وَهُوَ مُدِرٌّ لِلْعَرَقِ، وَيَضُرُّ بِالْبُحُوحَةِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ عَفَنِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَطَرُ الشِّتْوِيُّ أَفْضَلُ مِنْ الرَّبِيعِيِّ لِقِلَّةِ حَرَارَةِ الشَّمْسِ حِينَئِذٍ فَلَا يُجْتَذَبُ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ إلَّا أَلْطَفُهُ وَالْجَوُّ صَافٍ لِخُلُوِّهِ عَنْ دُخَانٍ وَغُبَارٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَطَرُ الرَّبِيعِيُّ أَلْطَفُ؛ لِأَنَّ الْحَرَارَةَ تُوجِبُ تَحَلُّلَ الْأَبْخِرَةِ الْغَلِيظَةِ وَرِقَّةَ الْهَوَاءِ وَلَطَافَتَهُ فَيَخِفُّ بِذَلِكَ الْمَاءُ لِقِلَّةِ أَجْزَائِهِ وَيُصَادِفُ وَقْتَ النَّبَاتِ وَطِيبَ الْهَوَاءِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا رَأَى الْمَطَرَ يَقُولُ رَحْمَةً» رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَلِأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِهَا «اللَّهُمَّ صَيِّبًا نَافِعًا» وَلَيْسَ فِي الْبُخَارِيِّ " اللَّهُمَّ " وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «أَصَابَنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: فَحَسِرَ ثَوْبَهُ حَتَّى أَصَابَهُ مِنْ الْمَطَرِ فَقُلْنَا: لِمَ صَنَعْتَ هَذَا قَالَ: لِأَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ» . وَالْمِيَاهُ الْعَفِنَةُ كَمِيَاهِ الْآجَامِ وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي تَخْرُجُ إلَيْهَا الْأَوْسَاخُ فِيهِ حَرَارَةٌ وَيُغْلِظُ الطِّحَالَ وَالْكَبِدَ وَيُفْسِدُ الْمَعِدَةَ وَيُسَمِّحُ اللَّوْنَ وَيُوَلِّدُ الْحُمَّيَاتِ وَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى شُرْبِ الْمَاءِ الْعَفِنِ فَلْيَمْزُجْهُ بِرُبُوبِ الْفَوَاكِهِ الْحَامِضَةِ كَرُبِّ الرُّمَّانِ وَالْحِصْرِمِ والريناس. وَالْمَاءُ الْكَدِرُ الْغَلِيظُ يُحْدِثُ الْحَصَى فِي الْمَثَانَةِ وَالْكُلَى وَيُتَدَارَكُ ضَرَرُهُ بِبُقُولٍ لَطِيفَةٍ وَمُدِرَّةٍ وَثُومٍ وَكُرَّاثٍ وَبَصَلٍ وَيُصْلِحُهُ لِلشُّرْبِ الْخُرْنُوبُ الشَّامِيُّ وَحَبُّ الْآسِ وَالزُّعْرُورُ وَالطِّينُ الْحُرُّ وَالسَّوِيقُ

وَأَنْ يُجْعَلَ مَعَ السَّوِيقِ فِي جِرَارٍ جُدُدٍ وَيُسْتَقْطَرَ وَقَدْ يَصْفُو إذَا أُلْقِيَ فِيهِ الشَّبُّ أَوْ لُبَّ نَوَى الْمِشْمِشِ وَنَحْوِهِ أَوْ الْجَمْرِ الْمُلْتَهِبِ. وَالْمِيَاهُ الرَّدِيئَةُ يُصْلِحُهَا الْخَلُّ وَنَحْوُهُ وَمَاءُ الْآبَارِ قَلِيلُ اللُّطْفِ وَمَاءُ الْقِنَى الْمَدْفُونَةِ تَحْتَ الْأَرْضِ ثَقِيلٌ لِتَعَفُّنِ أَحَدِهِمَا بِانْحِقَانِهِ وَحَجْبِ الْآخَرِ عَنْ الْهَوَاءِ، وَيَنْبَغِي تَرْكُ شُرْبِهِ حَتَّى يُضَمَّدَ لِلْهَوَاءِ، وَيَأْتِيَ عَلَيْهِ لَيْلَةٌ. وَأَرْدَؤُهُ مَاءُ مَجَارِيهِ مِنْ رَصَاصٍ أَوْ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ خَاصَّةً إنْ كَانَتْ تُرْبَتُهَا رَدِيئَةً. وَأَمَّا مَاءُ الْبَحْرِ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي مَاءِ الْبَحْرِ «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا قَالَ تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [الفرقان: 53] . أَيْ خَلَّى بَيْنَهُمَا مَعْنَاهُ أَرْسَلَهُمَا فِي مَجَارِيهمَا فَمَا يَلْتَقِيَانِ (هَذَا عَذْبٌ) طَيِّبٌ (فُرَاتٌ) صِفَةٌ لِعَذْبٍ وَهُوَ أَشَدُّ الْمَاءِ عُذُوبَةً (وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ) يُقَالُ: مَاءٌ مِلْحٌ وَاسْتَعْمَلَهُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقِيلَ: هُوَ لُغَةً وَالْأُجَاجُ صِفَةُ الْمِلْحِ قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهُوَ الْمُرُّ الشَّدِيدُ الْمَرَارَةِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هُوَ أَشَدُّ الْمَاءِ مُلُوحَةً، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يُخَالِطُهُ مَرَارَةٌ {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} [الفرقان: 53] أَيْ حَاجِزًا وَهُوَ مَانِعٌ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ فَهُمَا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ مُنْفَصِلَانِ لَا يَخْتَلِطَانِ وَقَدْ يَكُونَانِ

فِي مَرْأَى الْعَيْنِ مُخْتَلِطَيْنِ، وَقِيلَ: الْحَاجِزُ الْأَرْضُ وَالْيَبَسُ قَالَهُ الْحَسَنُ {وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 53] . أَيْ حَرَامًا مُحَرَّمًا أَنْ يَغْلِبَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، وَإِنَّمَا جَعَلَ سُبْحَانَهُ مَاءَ الْبَحْرِ كَذَلِكَ لِكَثْرَةِ مَا فِيهِ مِنْ الْحَيَوَانِ، وَيَمُوتُ فِيهِ كَثِيرًا وَلَوْ كَانَ حُلْوًا لَأَنْتَنَ مِنْ ذَلِكَ وَكَانَ الْهَوَاءُ، وَيَكْتَسِبُ مِنْهُ ذَلِكَ فَيَفْسُدُ الْعَالَمُ فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ جَعَلَهُ كَذَلِكَ وَلَا يُغَيِّرُهُ شَيْءٌ أَبَدًا، وَلِأَنَّ أَرْضَهُ سُخْنَةٌ مَالِحَةٌ وَهُوَ حَارٌّ يَابِسٌ يَنْفَعُ مِنْ الشُّقُوقِ الْعَارِضَةِ عَنْ بَرْدٍ إذَا اغْتَسَلْت بِهِ، وَيَقْتُلُ الْقَمْلَ وَيُحَلِّلُ الدَّمَ الْمُنْعَقِدَ تَحْتَ الْجِلْدِ، وَيَنْفَعُ مِنْ الْجَرَبِ وَالْحَكَّةِ وَالْقَوَابِي وَالْفَالِجِ وَالْخَدْرِ وَأَوْرَامِ الثَّدْيِ وَيُحْتَقَنُ بِهِ لِلْمَغَصِ وَيُسْقَى فَيُسَهِّلُ ثُمَّ يُشْرَبُ بَعْدَهُ مَرَقُ الدَّجَاجِ فَيَكْسِرُ لَذْعَهُ، وَالْجُلُوسُ فِيهِ يَنْفَعُ مِنْ لَسْعِ الْأَفْعَى وَسَائِرِ الْهَوَامِّ الْقَتَّالَةِ وَشُرْبُهُ يُؤْذِي، فَإِنَّهُ يُعَطِّشُ وَيُهَزِّلُ وَيُحْدِثُ حَكَّةً وَجَرَبًا وَنَفْخًا، وَقَدْ يُتَدَارَكُ ضَرَرُهُ بِاللَّبَنِ وَالْأَشْيَاءِ الدَّسِمَةِ. وَقَدْ يُدَبَّرُ الْمَاءُ الْمَالِحُ فَيَعْذُبُ بِأَنْ يُوضَعَ فِي إنَاءٍ كَالْقَدَحِ مِنْ شَمْعٍ، فَإِنَّهُ يُرَشَّحُ إلَيْهِ مِنْ خَارِجِهِ مَاءٌ عَذْبٌ أَوْ يُجْعَلَ فِي قِدْرٍ وَيُجْعَلُ فَوْقَ الْقِدْرِ قُضْبَانٌ عَلَيْهَا صُوفٌ مَنْفُوشٌ وَيُوقَدُ تَحْتَ الْقِدْرِ حَتَّى يَرْتَفِعَ بُخَارُهَا إلَى الصُّوفِ فَإِذَا كَثُرَ عَصْرُهُ لَا يَزَالُ يَفْعَلُ ذَلِكَ حَتَّى يَجْتَمِعَ لَهُ مَا يُرِيدُ فَيَحْصُلَ لَهُ مِنْ الْبُخَارِ فِي الصُّوفِ مَاءٌ عَذْبٌ أَوْ يَحْفِرَ إلَى جَانِبِهِ حُفْرَةً يُرَشَّحُ مَاؤُهُ إلَيْهَا ثُمَّ أُخْرَى إلَى جَانِبِهَا تُرَشَّحُ هِيَ إلَيْهَا ثُمَّ ثَالِثَةٌ إلَى أَنْ يَعْذُبَ وَيُخْلَطَ بِطِينٍ جَيِّدٍ أَوْ يُخْلَطَ بِسَوِيقٍ فِي جِرَارٍ جُدُدٍ وَتُسْتَقْطَرَ، وَشُرْبُهُ عَلَيْهِ أَغْذِيَةٌ دَسِمَةٌ أَقَلُّ لِضَرَرِهِ، فَالْمَاءُ الْمُرُّ يُمْزَجُ بِحُلْوٍ وَيُؤْكَلُ عَلَيْهِ الْحُلْوُ، وَالْمَاءُ الْمَالِحُ الْعَادِمُ لِلْمَرَارَةِ حَارٌّ يَابِسٌ يُسَخَّنُ وَيُجَفَّفُ وَيُطْلِقُ الطَّبْعَ، فَإِذَا أَدَمْنَ عَلَيْهِ عَقَلَ وَهُوَ كَمَا سَبَقَ فِي مَاءِ الْبَحْرِ. وَأَمَّا مَاءُ زَمْزَمَ فَمَاءٌ شَرِيفٌ مُبَارَكٌ. أَشْرَفُ الْمِيَاهِ وَأَجَلُّهَا عِنْدَ النَّاسِ وَهُوَ لِمَا شُرِبَ لَهُ، وَيُسْتَحَبُّ التَّضَلُّعُ مِنْهُ كَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الْفِقْهِ وَسَبَقَ فِيهِ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ فِي فُصُولِ الصِّحَّةِ. وَأَمَّا الْأَنْهَارُ الَّتِي مِنْ الْجَنَّةِ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ وَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ كُلُّهَا مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ» .

وَفِي مُسْلِمٍ أَوْ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ لَمَّا ذَكَرَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى قَالَ وَحَدَّثَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ رَأَى «أَرْبَعَةَ أَنْهَارٍ فِي الْجَنَّةِ يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهَا نَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، وَنَهْرَانِ بَاطِنَانِ فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ: مَا هَذِهِ الْأَنْهَارُ قَالَ: أَمَّا النَّهْرَانِ الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ» . قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْلَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى فِي الْأَرْضِ بِخُرُوجِ النِّيلِ وَالْفُرَاتِ مِنْ أَصْلِهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَلْزَمُ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْأَنْهَارَ تَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهَا ثُمَّ تَسِيرُ حَيْثُ أَرَادَ اللَّهُ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ الْأَرْضِ وَتَسِيرَ فِيهَا. وَالْفُرَاتُ بِالتَّاءِ الْمُمْتَدَّةِ فِي الْخَطِّ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ مِنْ أَجْوَدِ الْمِيَاهِ، وَالْأَرْضُ الَّتِي يَسْقِيهَا النِّيلُ إبلين أَصْلِيَّةً إنْ أَمْطَرَ مَطَرَ الْعَادَةِ لَمْ تُرْوَ فَلَا يَتَهَيَّأُ النَّبَاتُ وَفَوْقَ الْعَادَةِ يَضُرُّ بِهَا وَبِسَاكِنِيهَا فَسَاقَ إلَيْهَا سُبْحَانَهُ هَذَا النَّهْرَ الْعَظِيمَ مِنْ مَكَان بَعِيدٍ. قَالَ بَعْضُهُمْ: أَصْلُهُ فِي أَقْصَى بِلَادِ الْحَبَشَةِ مِنْ أَمْطَارٍ تَجْتَمِعُ هُنَاكَ وَسُيُولٍ وَجَعَلَ سُبْحَانَهُ زِيَادَتَهُ فِي أَوْقَاتٍ مَعْلُومَةٍ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَكِفَايَةِ الْبِلَادِ فَإِذَا اكْتَفَتْ أَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِتَنَاقُصِهِ لِمَصْلَحَةِ الزَّرْعِ فَسُبْحَانَ مَنْ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ.

فَصْلٌ وَأَمَّا مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْمَاءَ يَكْتَسِبُ مِنْ مَعْدِنِهِ وَيُؤَثِّرُ تَأْثِيرَهُ قَالَ الْأَطِبَّاءُ فِي الْمَاءِ الزِّفْتِيِّ وَالْكِبْرِيتِيِّ وَالنِّفْطِيِّ وَمَاءِ الْعِثَارِ يُسَخَّنُ وَيُجَفَّفُ، وَيَنْفَعُ مِنْ الْبَهَقِ وَالْبَرَصِ وَالثَّآلِيلِ، وَأَوْرَامِ الْمَفَاصِلِ، وَالصَّلَابَاتِ، وَالْجَرَبِ، وَالْقَوَابِي إذَا اُسْتُحِمَّ بِهِ، وَيَنْفَعُ مِنْ أَوْجَاعِ الْعَصَبِ الْبَارِدَةِ، وَالِاسْتِسْقَاءُ جُلُوسًا فِيهِ وَشُرْبًا وَهُوَ رَدِيءٌ لِلْعَيْنِ يُحْدِثُ الْحِسِّيَّاتِ وَيُصْلِحُهُ رُبُوبُ الْفَوَاكِهِ الْحَامِضَةِ. وَالْمَاءُ الشَّبِّيُّ هُوَ الْجَارِي عَلَى أَرْضٍ شبية أَجْوَدُهُ السَّائِغُ الْقَلِيلُ الْقَبْضِ وَهُوَ يُبَرَّدُ وَيُجَفِّفُ، وَيَمْنَعُ الْإِسْقَاطَ وَيُرِقُّ الْحَيْضَ، وَقِيَامَ الدَّمِ وَبَعْثَهُ وَالدَّرْبَ وَالْبَوَاسِيرَ وَهُوَ يُحْدِثُ الْقُولَنْجَ وَهَذِهِ الْمِيَاهُ يُتَدَاوَى بِهَا مِنْ خَارِجٍ وَلَا تَصْلُحُ لِلشُّرْبِ. وَالْمَاءُ الزِّئْبَقِيُّ يَجْرِي عَلَى مَعْدِنِ الزِّئْبَقِ يُغْتَسَلُ بِهِ لِلْحَكَّةِ وَالْقَمْلِ. وَالْمَاءُ الْحَدِيدِيُّ يَنْبُعُ مِنْ مَعْدِنِ الْحَدِيدِ يُسَخَّنُ وَيُجَفَّفُ، وَيَنْفَعُ الطِّحَالَ وَالْمَعِدَةَ، وَيَحْبِسُ الْبَطْنَ، وَيَشُدُّ الْأَعْضَاءَ وَيُقَوِّيهَا. وَأَمَّا الْمَطْفِيُّ فِيهِ الْحَدِيدُ، فَإِنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ نَفْثِ الدَّمِ، وَيَزِيدُ فِي الْبَاهِ. وَالْمَاءُ النُّحَاسِيُّ يَنْبُعُ مِنْ مَعْدِنِ النُّحَاسِ يَنْفَعُ الْفَمَ وَالْآذَانَ وَالطِّحَالَ وَالْمَعِدَةَ وَرُطُوبَاتِ الْبَدَنِ وَفَسَادَ الْمِزَاجِ وَيُحْدِثُ عُسْرَ الْبَوْلِ. وَالْمَاءُ الْفِضِّيُّ يَنْبُعُ مِنْ مَعْدِنِ الْفِضَّةِ يُبَرَّدُ وَيُجَفَّفُ بِاعْتِدَالٍ. وَالْمَاءُ النَّطْرُونِيُّ يَجْرِي عَلَى مَعْدِنِ النَّطْرُونِ وَهُوَ البورق الْأَرْمَنِيُّ يُطْلِقُ الطَّبْعَ. وَمَاءُ الْكَافُورِ حَارٌّ يَابِسٌ فِي الثَّالِثَةِ يَسْتَخْرِجُ الزَّفَرَ مِنْ الْيَدِ. وَمِنْ خَوَاصِّهِ إذَا جُعِلَ عَلَى طَعَامٍ لَمْ تَقْرَبْهُ ذُبَابَةٌ وَرَائِحَتُهُ تَضُرُّ بِالصُّدَاعِ مِنْ حَرٍّ وَيُصْلِحُهُ خَلْطُهُ بِدُهْنِ بَنَفْسَجٍ.

فصل في خواص الملح

[فَصْلٌ فِي خَوَاصِّ الْمِلْحِ] رَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى بْنِ أَبِي عِيسَى الْحَنَّاطِ وَهُوَ ضَعِيفٌ مَتْرُوكٌ بِالِاتِّفَاقِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «سَيِّدُ إدَامِكُمْ الْمِلْحُ» وَفِي مُسْنَدِ أَبِي بَكْرٍ الْبَزَّارِ مَرْفُوعًا «سَتُوشِكُونَ أَنْ تَكُونُوا فِي النَّاسِ كَالْمِلْحِ فِي الطَّعَامِ، وَلَا يَصْلُحُ الطَّعَامُ إلَّا بِالْمِلْحِ» . وَذَكَرَ الْبَغَوِيّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مَرْفُوعًا «إنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ أَرْبَعَ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ: الْحَدِيدُ، وَالنَّارُ، وَالْمَاءُ، وَالْمِلْحُ» قَالَ الْأَطِبَّاءُ: فِي الْمِلْحِ مَرَارَةٌ وَقَبْضٌ، وَالْمُرُّ مِنْهُ قَرِيبٌ مِنْ البورق هَشٌّ وَمِنْهُ أندراني كَالْبَلُّورِ، وَمِنْهُ نِفْطِيٌّ أَسْوَدُ، وَمِنْهُ بَحْرِيٌّ يَذُوبُ كَمَا يَصُبُّهُ الْمَاءُ. وَأَجْوَدُهُ الأندراني الْأَبْيَضُ الرَّقِيقُ وَهُوَ حَارٌّ يَابِسٌ فِي الثَّانِيَةِ جَلَّاءٌ مُحَلِّلٌ قَابِضٌ يُكْثِرُ مِنْ الرِّيَاحِ، وَيَنْفَعُ مِنْ الْعُفُونَةِ، وَيَنْفَعُ مِنْ غِلَظِ الْأَخْلَاطِ وَيُذِيبُهَا. وَاسْتِعْمَالُ الْمِلْحِ بِالْغَدَاةِ يُحَسِّنُ اللَّوْنَ وَمَعَ الْعَسَلِ وَالزَّيْتِ يُضَمَّدُ بِهِ الدَّمَامِيلُ لِيُنْضِجَهَا وَمَعَ الفوندج وَالْعَسَلِ لِلْأَوْرَامِ الْبَلْغَمِيَّةِ، وَهُوَ يَأْكُلُ اللَّحْمَ الزَّائِدَ، وَيَنْفَعُ مِنْ الْجَرَبِ الْمُتَقَرِّحِ وَالْحَكَّةِ الْبَلْغَمِيَّةِ وَالنِّقْرِسِ وَيُطْلَى بِهِ مَعَ شَجَرِ الْحَنْظَلِ بُثُورُ الرَّأْسِ. والأندراني يُحِدُّ الْبَخَرَ، وَيَشُدُّ اللِّثَةَ الْمُسْتَرْخِيَةَ وَيُسَهِّلُ خُرُوجَ التُّفْلِ وَانْحِدَارَ الطَّعَامِ، وَيَنْفَعُ مِنْ أَوْجَاعِ الْمَعِدَةِ الْبَارِدَةِ وَيُسَهِّلُ الْبَلْغَمَ الْعَفِنَ وَالنُّخَامَ وَالسَّوْدَاءَ وَقَدْرُ شَرْبَتِهِ نِصْفُ دِرْهَمٍ وَيُضَمَّدُ بِهِ مَعَ بِزْرِ كَتَّانٍ لِلَسْعِ الْعَقْرَبِ وَمَعَ الْخَلِّ وَالْعَسَلِ لِلزَّنَابِيرِ، وَيُشْرَبُ مَعَ سَكَنْجَبِينٍ فَيَدْفَعُ مَضَرَّةَ الْفِطْرِ الْقَتَّالِ وَالْأَفْيُونُ وَالْمِلْحِ الْمُحَرَّقُ يَجْلُو الْأَسْنَانَ وَالْمُرُّ مِنْهُ يُسَهِّلُ السَّوْدَاءَ بِقُوَّةٍ. وَالْمِلْحُ يَضُرُّ الدِّمَاغَ وَالْبَصَرَ وَالرِّئَةَ وَيُصْلِحُهُ غَسْلُهُ وَشَيُّهُ وَيُضَافُ إلَيْهِ الصَّعْتَرُ. وَفِي الْمِلْحِ قُوَّةٌ تَزِيدُ الذَّهَبَ صُفْرَةً وَالْفِضَّةَ بَيَاضًا، وَيَمْنَعُ الْقُرُوحَ الْخَبِيثَةَ مِنْ الِانْتِشَارِ. وَإِذَا دُلِّكَ بِهِ بُطُونُ أَصْحَابِ الِاسْتِسْقَاءِ نَفَعَهُمْ.

وَالْمِلْحُ الْهِنْدِيُّ حَارٌّ يَابِسٌ أَشَدُّ أَنْوَاعِ الْمِلْحِ إسْخَانًا وَتَلْطِيفًا. الْمِلْحُ النِّفْطِيُّ، أَجْوَدُهُ الْمُنْتِنُ الرَّائِحَةِ حَارٌّ يَابِسٌ يُعِينُ عَلَى الْقَيْءِ وَيُسَهِّلُ السَّوْدَاءَ، وَقَدْرُ شَرْبَتِهِ إلَى نِصْفِ دِرْهَمٍ، وَيَضُرُّ بِالْمِعَى وَيُصْلِحُهُ الْهَلِيلَجُ مِلْحُ بابازير حَارٌّ يَابِسٌ يَهْضِمُ الْغِذَاءَ وَيُنْفِذُهُ وَيُجَفِّفُ الْبَدَنَ وَيُصْلِحُهُ الْخَشْخَاشُ وَالصَّعْتَرُ، فَإِنَّ الصَّعْتَرَ حَارٌّ يَابِسٌ فِي الثَّالِثَةِ مُحَلِّلٌ مُلَطِّفٌ يَنْفَعُ مِنْ أَوْجَاعِ الْوَرِكَيْنِ وَيُسَكِّنُ وَجَعَ الضِّرْسِ إذَا مُضِغَ، وَيَنْفَعُ الْكَبِدَ وَالْمَعِدَةَ وَيُخْرِجُ الدِّيدَانَ وَيُدِرُّ وَيُشَهِّي الطَّعَامَ وَيُحَلِّلُ الرِّيَاحَ وَأَكْلُهُ يَنْفَعُ مِنْ غِشَاوَةِ الْبَصَرِ الْحَادِثَةِ عَنْ رُطُوبَةٍ، وَيَنْفَعُ الصَّدْرَ وَالرِّئَةَ دُهْنُهُ، وَقِيلَ: يَضُرُّ بِالْأَرْنَبَةِ وَيُصْلِحُهُ الْخَلُّ.

فصل في خواص النورة

[فَصْلٌ فِي خَوَاصِّ النُّورَةِ] رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي هَاشِمٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ الرُّمَّانِيِّ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا اطَّلَى بَدَأَ بِعَوْرَتِهِ فَطَلَاهَا بِالنُّورَةِ وَسَائِرَ جَسَدِهِ أَهْلُهُ،» وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ كَامِلٍ أَبِي الْعَلَاءِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اطَّلَى وَوَلِيَ عَانَتَهُ بِيَدِهِ» . أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِسْنَادُهُ ثِقَاتٌ وَالثَّانِي كَذَلِكَ وَقَدْ تُكُلِّمَ فِي كَامِلٍ أَبِي الْعَلَاءِ قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ مِمَّنْ يَقْلِبُ الْأَسَانِيدَ، وَيَرْفَعُ الْمَرَاسِيلَ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ أَشْيَاءُ أَنْكَرْتُهَا وَمَعَ هَذَا أَرْجُو أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ وَقَالَ النَّسَائِيُّ مَرَّةً لَيْسَ بِقَوِيٍّ وَمَرَّةً لَا بَأْسَ بِهِ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ لَكِنْ فِي سَمَاعِ حَبِيبٍ مِنْ أُمِّ سَلَمَةَ نَظَرٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهَا، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَمْثَلُ مَا فِي هَذَا الْبَابِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ الْعِلَلِ أَنَّ مُهَنَّا قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حَدِيثِ كَامِلٍ أَبِي الْعَلَاءِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ الْحَدِيثُ فَقَالَ: لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ قَتَادَةَ قَالَ «مَا اطَّلَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَطَّلِي وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ وَلَا عُثْمَانُ» رَوَاهُ الْخَلَّالُ وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: أَسْنَدَهُ كَامِلٌ أَبُو الْعَلَاءِ وَأَرْسَلَهُ مَنْ هُوَ أَوْثَقُ مِنْهُ. قَالَ بَعْضُهُمْ: أَوَّلُ مَنْ صُنِعَتْ لَهُ النُّورَةُ وَدَخَلَ الْحَمَّامَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -. وَالنُّورَةُ مِنْ الْأَجْسَامِ الْحَرِيفِيَّةِ الْحَجَرِيَّةِ وَأَجْوَدُهَا الْبَيْضَاءُ السَّرِيعَةُ التَّحَلُّلِ وَغَيْرُ الْمُطْفَأَةِ شَدِيدَةُ الْحَرَارَةِ مُلَطِّفَةٌ مُحْرِقَةٌ جِدًّا. وَالْمُطْفَأَةُ مِنْهَا إذَا بَقِيَتْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، فَإِنَّهَا لَا تَحْرِقُ بَلْ تُسَخِّنُ فَقَطْ. وَالْمَغْسُولَةُ

مُعْتَدِلَةٌ يَابِسَةٌ وَالنُّورَةُ تَقْطَعُ نَزْفَ الدَّمِ إذَا وُضِعَتْ عَلَى الْمَوْضِعِ وَالْمَغْسُولَةُ مُجَفَّفَةٌ بِغَيْرِ لَذْعٍ وَتَأْكُلُ اللَّحْمَ الزَّائِدَ وَتُدْمِلُ وَتَنْفَعُ مِنْ حَرْقِ النَّارِ جِدًّا، وَهِيَ تَضُرُّ بِالنَّحِيفِ إذَا طَلَى بِهَا بَدَنَهُ فِي الْحَمَّامِ وَإِذَا طَلَى بِهَا الْجِلْدَ أَبْرَزَتْ مَا تَحْتَهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُدْهَنَ بَنَفْسَجٌ وَمَاءُ وَرْدٍ وَالْعُصْفُرُ وَبَزْرُ الْبِطِّيخِ وَدَقِيقُ الْأُرْزِ مَعَ مَاءِ وَرْدٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَوْ يُطْلَى مَكَانُهَا بِالْحِنَّاءِ، وَإِنْ أَعْرَضَ عَنْهَا تُنَقَّطُ فَيُطْلَى بِدُهْنٍ مَعَ دَقِيقِ عَدَسٍ وَخَلٍّ وَمَاءٍ بَارِدٍ، وَشُرْبُهَا قَتَّالٌ يَعْرِضُ لِمَنْ سُقِيَ مِنْهَا يَبَسُ الْفَمِ وَوَجَعُ الْمَعِدَةِ وَحَرْقُهَا وَعُسْرُ الْبَوْلِ وَالْمَغَصُ وَاسْتِطْلَاقُ الدَّمِ مِنْ الْبَطْنِ لِتَقْرِيحِهَا الْمِعَى وَتَخْرُجُ النُّورَةُ فِي بَوْلِهِ، وَرُبَّمَا عَرَضَ بَرْدُ الْأَطْرَافِ وَالْغَثْيُ وَرُبَّمَا عَرَضَ الْخَفَقَانُ وَيُدَاوَى بِالْقَيْءِ بِالْمَاءِ الْحَارِّ وَالدُّهْنِ ثُمَّ بِاللَّبَنِ الْحَلِيبِ وَدُهْنِ اللَّوْزِ وَالْجَلَّابِ وَالْأَمْرَاقِ الدَّسِمَةِ كَمَرَقِ الدَّجَاجِ الْمُسَمَّنِ بِدُهْنِ اللَّوْزِ.

فصل في خواص النبق وهو ثمر السدر

[فَصْلٌ فِي خَوَاصِّ النَّبْقِ وَهُوَ ثَمَرُ السِّدْرِ] ِ) قَالَ تَعَالَى: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} [الواقعة: 28] سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّهُمْ نَظَرُوا إلَى وَجْهِ وَادٍ بِالطَّائِفِ فَأَعْجَبَهُمْ سِدْرُهُ فَقَالُوا: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ هَذَا. وَهَلِ الْمَخْضُودُ الَّذِي لَا شَوْكَ فِيهِ أَوْ الْمُوَقَّرُ حَمْلُهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ وَقِيلَ: هُمَا وَقَالَ تَعَالَى: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ} [سبأ: 16] قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ بِسُكُونِ الْكَافِ، وَقَرَأَ غَيْرُهُمَا بِضَمِّهَا، وَقَرَأَ غَيْرُ أَبِي عَمْرٍو (أُكُلٍ) بِالتَّنْوِينِ وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو بِإِضَافَتِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْجُمْهُورُ: الْخَمْطُ الْأَرَاكُ، وَقِيلَ: كُلُّ شَجَرَةٍ ذَاتِ شَوْكٍ، وَقِيلَ: نَبْتٌ طَعْمُهُ مُرٌّ فَعَلَى هَذَا الْخَمْطُ اسْمٌ لِلْمَأْكُولِ فَتَحْسُنُ قِرَاءَةُ مَنْ نَوَّنَ الْأُكُلَ وَعَلَى مَا قَبْلَهُ هُوَ اسْمُ شَجَرَةٍ وَالْأُكُلُ ثَمَرُهَا فَتَحْسُنُ قِرَاءَةُ مَنْ أَضَافَ. وَالْأَثْلُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ الطَّرْفَاءُ، وَقِيلَ: شَجَرٌ يُشْبِهُهُ، وَقِيلَ: السَّمَرُ {وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ: 16] . وَهُوَ شَجَرَةُ النَّبْقِ أَيْ كَانَ الْخَمْطُ وَالْأَثْلُ أَكْثَرَ مِنْ السِّدْرِ {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ} [سبأ: 17] يُقَالُ فِي أَفْصَحِ اللُّغَةِ: جَزَى اللَّهُ الْمُؤْمِنَ وَلَا يُقَالُ جَازَاهُ فَقِيلَ: جَازَاهُ أَيْ كَافَأَهُ فَالْكَافِرُ يُجَازَى بِسَيِّئَاتِهِ مِثْلَهَا مُكَافَأَةً لَهُ، وَالْمُؤْمِنُ يُزَادُ فِي ثَوَابِهِ

وَيُتَفَضَّلُ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: الْكَافِرُ لَا حَسَنَةَ لَهُ فَيُجَازَى بِجَمِيعِ ذُنُوبِهِ، وَقِيلَ: الْمُؤْمِنُ لَا يُنَاقَشُ الْحِسَابَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَإِذَا نَبْقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ» وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ الطِّبِّ النَّبَوِيِّ مَرْفُوعًا «أَنَّ آدَمَ لَمَّا هَبَطَ إلَى الْأَرْضِ كَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ أَكَلَ مِنْ ثِمَارِهَا النَّبْقَ» . النَّبْقُ بِسُكُونِ الْبَاءِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ وَهُوَ ثَمَرُ السِّدْرِ الْوَاحِدَةُ نَبِقَةٌ وَنَبْقٌ وَنَبَقَاتٌ مِثْلُ كَلِمَةٍ وَكَلِمٍ وَكَلِمَاتٍ، وَالنَّبْقُ بَارِدٌ يَابِسٌ وَبَرْدُهُ أَقَلُّ مِنْ بَرْدِ الرَّطْبِ وَفِيهِ تَجْفِيفٌ وَتَلْطِيفٌ وَهُوَ قَابِضٌ يُقَوِّي الْمَعِدَةَ، وَخَاصَّةً إذَا قُلِيَ وَدُقَّ مَعَ نَوَاهُ، وَقِيلَ: النَّبْقُ رَطْبٌ، وَقِيلَ: رَطْبُهُ رَطْبٌ وَدَفْعُ مَضَرَّتِهِ بِالشَّهْدِ وَغِذَاءُ النَّاسِ مِنْ النَّبْقِ يَسِيرٌ وَالنَّبْقُ يُسَكِّنُ الصَّفْرَاءَ وَيُشَهِّي الطَّعَامَ وَيُوَلِّدُ بَلْغَمًا وَهُوَ بَطِيءُ الْهَضْمِ، وَوَرَقُهُ وَهُوَ السِّدْرُ مُعْتَدِلٌ مُجَفَّفٌ قَابِضٌ لَطِيفٌ يُقَوِّي الشَّعْرَ، وَيَمْنَعُ مِنْ انْتِشَارِهِ وَيُنْضِجُ الْأَوْرَامَ وَفِيهِ تَحْلِيلٌ وَالطَّرِيُّ مِنْهُ مَعَ الْخَلِّ يَنْفَعُ مِنْ تَقْشِيرِ الْجِلْدِ وَطَرِيُّهُ أَيْضًا يَلْصَقُ الْجِرَاحَاتِ وَيُقَوِّي الْعِظَامَ الْوَاهِنَةَ الْوَاهِيَةَ إذَا ضُمِّدَتْ بِهِ أَوْ نُطِلَتْ بِالْمَاءِ الْمَطْبُوخِ فِيهِ. قَالَ الْأَطِبَّاءُ: الْأَثْلُ ضَرْبٌ مِنْ الطَّرْفَاءِ بَارِدٌ يَابِسٌ فِيهِ قَبْضٌ وَتَجْفِيفٌ. وَثَمَرَتُهُ أَشَدُّ قَبْضًا، وَقِيلَ: إنَّهُ حَارٌّ وَطَبِيخُهُ يُسْتَعْمَلُ نُطُولًا عَلَى الْقَمْلِ فَيَقْتُلُهُ وَوَرَقُهُ لِلْأَوْرَامِ وَالرَّخْوَةِ وَدُخَانُهُ يُجَفِّفُ الْقُرُوحَ الرَّطْبَةَ وَالْجُدَرِيَّ وَرَمَادُهُ عَلَى حُرُوقِ النَّارِ وَالْقُرُوحِ الرَّطْبَةِ وَثَمَرَتُهُ مَعَ رَمَادِهِ تَأْكُلُ اللَّحْمَ الزَّائِدَ وَالْقُرُوحَ الْعَسِرَةَ الِانْدِمَالِ وَطَبِيخُ وَرَقِهِ بِالسَّذَابِ يَنْفَعُ مِنْ وَجَعِ الْأَسْنَانِ مَضْمَضَةً وَثَمَرَتُهُ تَنْفَعُ مِنْ النَّفْثِ الْمُزْمِنِ وَيُضَمَّدُ بِقُضْبَانِهِ الْمَطْبُوخَةِ بِالْخَلِّ حَتَّى يَتَهَرَّى الطِّحَالُ وَيُجْلَسُ فِي طَبِيخِهِ لِسَيَلَانِ الرَّحِمِ وَثَمَرَتُهُ تَنْفَعُ مِنْ نَهْشِ الرَّتِيلَا.

فصل في خواص الهندبا

[فَصْلٌ فِي خَوَاصِّ الْهِنْدَبَا] (الْهِنْدَبَا مِنْ الْمَوْضُوعِ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُوا الْهِنْدَبَاءَ وَلَا تَنْفُضُوهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ يَوْمٌ مِنْ الْأَيَّامِ إلَّا وَقَطَرَاتٌ مِنْ الْجَنَّةِ تَقْطُرُ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَكَلَ الْهِنْدَبَا وَنَامَ عَلَيْهِ لَمْ يَحِلَّ فِيهِ سُمٌّ وَلَا سِحْرٌ وَمَا مِنْ وَرَقَةٍ مِنْ وَرِقِ الْهِنْدَبَا إلَّا وَعَلَيْهَا قَطْرَةٌ مِنْ الْجَنَّةِ» . وَالْهِنْدَبَا بَرِّيٌّ وَبُسْتَانِيٌّ عَرِيضُ الْوَرَقِ وَدَقِيقُ الْوَرَقِ، وَقَدْ تَشْتَدُّ مَرَارَتُهُ فِي الصَّيْفِ فَيَمِيلُ إلَى قَلِيلِ حَرَارَةٍ وَلَا يُؤَثِّرُ، وَالْبُسْتَانِيُّ أَجْوَدُ وَأَفْضَلُهُ الشَّامِيُّ وَهِيَ بَارِدَةٌ فِي آخِرِ الْأُولَى رَطْبَةٌ فِي آخِرِهَا أَيْضًا. وَقِيلَ: يَابِسَةٌ فِي الثَّانِيَةِ وَالْبَرِّيُّ أَقَلُّ رُطُوبَةً، وَقِيلَ: الْهِنْدَبَا فِي الشِّتَاءِ بَارِدَةٌ رَطْبَةٌ وَفِي الصَّيْفِ حَارَّةٌ يَابِسَةٌ وَفِي الرَّبِيعِ وَالْخَرِيفِ مُعْتَدِلَةٌ، وَالْهِنْدَبَا تَفْتَحُ سُدَدَ الْكَبِدِ وَالطِّحَالِ وَالْعُرُوقِ وَالْأَحْشَاءِ وَتُنَقِّي مَجَارِي الْكُلَى وَأَنْفَعُهَا لِلْكَبِدِ أَمَرُّهَا، وَفِيهَا قَبْضٌ لَيْسَ بِشَدِيدٍ وَهِيَ تُبَرِّدُ طِلَاءً مَعَ إسْفِيدَاجِ الرَّصَاصِ وَيُضَمَّدُ بِهَا لِلنِّقْرِسِ وَتَنْفَعُ لِلرَّمَدِ الْحَارِّ وَيُضَمَّدُ بِهَا الْخَفَقَانُ مَعَ دَقِيقِ الشَّعِيرِ وَيُسَكَّنُ الْغَثَيَانُ وَهَيَجَانُ الصَّفْرَاءِ وَحَرَارَةُ الْمَعِدَةِ وَتَعَقُّلُ الْبَطْنِ وَتَنْفَعُ مِنْ حُمَّى الرِّبْعِ وَلَسْعِ الْعَقْرَبِ وَالْهَوَامِّ وَالزَّنَابِيرِ وَالْحَيَّةِ وَسَامٍّ أَبْرَصَ ضِمَادًا قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَ السَّوِيقِ. وَإِذَا دُقَّتْ وَوُضِعَتْ عَلَى الْأَوْرَامِ الْحَارَّةِ بَرَّدَتْهَا وَحَلَّلَتْهَا، وَأَصْلَحُ مَا أُكِلَتْ غَيْرَ مَغْسُولَةٍ وَلَا مَنْفُوضَةٍ لِئَلَّا تُفَارِقَهَا قُوَّتُهَا بِذَلِكَ وَفِيهَا مَعَ ذَلِكَ قُوَّةٌ تِرْيَاقِيَّةٌ تَنْفَعُ مِنْ جَمِيعِ السُّمُومِ، وَيَدْخُلُ وَرَقُهَا

فِي التِّرْيَاقِ وَمَاؤُهَا يَنْفَعُ مِنْ الْيَرَقَانِ السددي لَا سِيَّمَا إذَا خُلِطَ بِهِ مَاءُ الرازيانج الرَّطْبِ وَشُرْبُ مَائِهَا أَيْضًا يَنْفَعُ مِنْ لَسْعِ الْأَفَاعِي وَالْعَقْرَبِ وَالزُّنْبُورِ، وَإِذَا اُكْتُحِلَ بِمَائِهَا يَنْفَعُ مِنْ الْغِشَاوَةِ، وَإِذَا صُبَّ عَلَى مَائِهَا الزَّيْتُ خَلَّصَ مِنْ الْأَدْوِيَةِ الْقَتَّالَةِ كُلِّهَا، وَلَبَنُ الْهِنْدَبَا قَالَ بَعْضُهُمْ: الْبَرِّيُّ يَجْلُو بَيَاضَ الْعَيْنِ، وَالْهِنْدَبَا بَطِيئَةُ الْهَضْمِ وَتَصْلُحُ بِالرَّشَادِ

فصل في إصابة العين وما ينفع فيها

فَصْلٌ (وَ) قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْوَرْسِ فِي فَصْلٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فِي مُدَاوَاةِ ذَاتِ الْجَنْبِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْوَشْمَةِ وَالْكَتْمِ. [فَصْلٌ فِي إصَابَةِ الْعَيْنِ وَمَا يَنْفَعُ فِيهَا] وَإِنْ أَصَابَ زَيْدٌ عَمْرًا بِالْعَيْنِ غَسَلَ زَيْدٌ وَجْهَهُ، وَيَدَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَةَ إزَارِهِ وَصَبَّهُ عَلَى عَمْرٍو. قَدَّمَهُ السَّامِرِيُّ وَابْنُ حَمْدَانَ وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ عَامِرَ بْنَ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ وَهُوَ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ بِذَلِكَ فَفَعَلَ فِي قَدَحٍ ثُمَّ صَبَّ عَلَيْهِ فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ النَّاسِ» وَرَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَفِي آخِرِهِ ثُمَّ صَبَّ ذَلِكَ الْمَاءَ عَلَيْهِ يَصُبُّهُ رَجُلٌ عَلَى رَأْسِهِ وَظَهْرِهِ مِنْ خَلْفِهِ ثُمَّ لِيُلْقِ الْقَدَحَ وَرَاءَهُ، فَفَعَلَ بِهِ ذَلِكَ، فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ النَّاسِ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، وَدَاخِلَةُ إزَارِهِ قِيلَ: فُرْجَةٌ وَقِيلَ: طَرَفُ إزَارِهِ الدَّاخِلِ الَّذِي يَلِي جَسَدَهُ وَقِيلَ: بَلْ يَغْتَسِلُ الْعَائِنُ غُسْلًا كَامِلًا يَعُمُّ بِهِ جَمِيعَ بَدَنِهِ ثُمَّ يُصَبُّ ذَلِكَ عَلَى الْمَعِينِ، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «الْعَيْنُ حَقٌّ وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ

فَاغْسِلُوا» . وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَإِسْنَادُهُ ثِقَاتٌ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ يُؤْمَرُ الْعَائِنُ فَيَتَوَضَّأُ ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ الْمَعِينُ، وَهَذَا مِنْ الطِّبِّ الشَّرْعِيِّ الْمُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ عِنْدَ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ فِي حِكْمَةِ ذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ثَمَّ خَوَاصُّ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهَا فَلَا يَبْعُدُ مِثْلُ هَذَا وَلَا يُعَارِضُهُ شَيْءٌ، وَلَا يَنْفَعُ مِثْلُ هَذَا غَالِبًا إلَّا مَنْ أَخَذَهُ بِقَبُولٍ وَاعْتِقَادٍ حَسَنٍ لَا مَعَ شَكٍّ وَتَجْرِبَةٍ. وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي الْخَبَرِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَغَيَّظَ عَلَى عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ وَقَالَ عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ أَلَا بَرَّكْتَ؟» فَمَنْ خَافَ أَنْ يَضُرَّ غَيْرَهُ فَلْيَقُلْ ذَلِكَ وَكَانَ عُرْوَةُ إذَا رَأَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ قَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ مِنْ أَخِيهِ شَيْئًا يُعْجِبُهُ فَلْيَدْعُ بِالْبَرَكَةِ، فَإِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ» . وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ مِنْ نِعْمَةٍ فِي أَهْلٍ وَلَا مَالٍ أَوْ وَلَدٍ فَيَقُولُ: مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ، فَيَرَى فِيهِ آفَةً دُونَ الْمَوْتِ» رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ زُرَارَةَ قَالَ أَبُو الْفَتْحِ الْأَزْدِيُّ لَا يَصِحُّ حَدِيثُهُ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ يُكَفِّرُهَا الصِّيَامُ وَالصَّلَاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ» لَمْ يَقُلْ الْبُخَارِيُّ " فِي نَفْسِهِ ". وَهَذَا الْحَدِيثُ صَادِقٌ عَلَى الْمَقْصُودِ هُنَا، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ. وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38] ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مَنْعَهُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَنَصْرَهُمْ عَلَيْهِمْ فَهُوَ صَادِقٌ عَلَى الْمَقْصُودِ هُنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَيُعَالَجُ الْمَعِينُ مَعَ ذَلِكَ بِالرُّقَى مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالتَّعَوُّذِ وَالدُّعَاءِ وَلْيَحْتَرِزْ الْحَسَنُ مِنْ الْعَيْنِ وَالْحَسَدِ بِتَوْحِيشِ حُسْنِهِ فَقَدْ ذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ رَأَى صَبِيًّا تَأْخُذُهُ الْعَيْنُ فَقَالَ دَسِّمُوا نُونَتَهُ قَالَ ثَعْلَبٌ أَرَادَ بِالنُّونَةِ النُّقْرَةَ الَّتِي فِي ذَقَنِهِ، وَالتَّدْسِيمُ التَّسْوِيدُ، أَرَادَ سَوِّدُوا ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مِنْ ذَقَنِهِ لِيَرُدَّ الْعَيْنَ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَمِنْ هَذَا حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَطَبَ ذَاتَ يَوْمٍ وَعَلَى رَأْسِهِ عِمَامَةٌ دَسْمَاءُ أَيْ سَوْدَاءُ» وَمِنْ هَذَا أَخَذَ الشَّاعِرُ قَوْلَهُ: مَا كَانَ أَحْوَجَ ذَا الْكَمَالِ إلَى ... عَيْبٍ يُوَقِّيهِ مِنْ الْعَيْنِ وَقَدْ ذَكَرَ الْبَغَوِيّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ هَذَا الْأَثَرَ عَنْ عُثْمَانَ وَفَسَّرَهُ كَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ خِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَظَاهِرُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ النَّقْلِ وَالدَّلِيلِ وُجُوبُهُ وَهُوَ أَظْهَرُ. وَلِلْإِمَامِ حَبْسُ الْعَائِنِ، ذَكَرَهُ فِي التَّرْغِيبِ، وَفِي الرِّعَايَةِ مَنْ عُرِفَ بِأَذَى النَّاسِ حَتَّى بِعَيْنِهِ وَلَمْ يَكُفَّ حُبِسَ حَتَّى يَمُوتَ، وَظَاهِرُهُ يَجِبُ أَوْ يُسْتَحَبُّ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ وَكَفِّ الْأَذَى وَنَفَقَتُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لَكِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَحْبِسْهُ. وَفِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ: لِلْوَالِي فِعْلُهُ لِيَدْفَعَ ضَرَرَهُ لَا لِلْقَاضِي قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ مَنْعُهُ مِنْ مُدَاخَلَةِ النَّاسِ، وَيَأْمُرُهُ بِلُزُومِ بَيْتِهِ وَبِرِزْقِهِ إنْ كَانَ فَقِيرًا فَضَرَرُهُ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ أَكْلِ الثُّومِ وَالْبَصَلِ الَّذِي مَنَعَهُ النَّبِيُّ دُخُولَ الْمَسْجِدِ وَمِنْ ضَرَرِ الْمَجْذُومِ الَّذِي مَنَعَهُ عُمَرُ وَالْعُلَمَاءُ بِعَدَمِ الِاخْتِلَاطِ بِالنَّاسِ وَمِنْ ضَرَرِ الْمُؤْذِيَاتِ مِنْ الْمَوَاشِي الَّتِي يُؤْمَرُ بِتَغْرِيبِهَا بِحَيْثُ لَا يَتَأَذَّى بِهَا أَحَدٌ قَالَ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَوِيُّ: هَذَا صَحِيحٌ مُتَعَيَّنٌ لَا يُعْرَفُ عَنْ غَيْرِهِ تَصْرِيحٌ بِخِلَافِهِ. وَهَلْ تَنْبَعِثُ جَوَاهِرُ لَطِيفَةٌ لَا تُرَى مِنْ الْعَيْنِ فَتَتَّصِلُ بِالْمَعِينِ وَتَتَخَلَّلُ مَسَامَّ جِسْمِهِ أَمْ لَا بُدَّ تَنْبَعِثُ قُوَّةٌ سُمِّيَّةٌ تَتَّصِلُ بِالْمَعِينِ فَيَتَضَرَّرُ كَمَا قَدْ اُشْتُهِرَ عَنْ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْحَيَّاتِ إذَا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى إنْسَانٍ حَتَّى قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا

وَغَيْرُهُمْ لَا يَتَوَقَّفُ التَّأْثِيرُ عَلَى الرُّؤْيَةِ فَقَدْ يُوصَفُ لِلْأَعْمَى الشَّيْءُ فَتُؤَثِّرُ نَفْسُهُ فِيهِ؟ وَقَدْ يَعِينُ الْإِنْسَانُ بِإِرَادَتِهِ وَقَدْ يَعِينُ بِطَبْعِهِ وَهُوَ أَرْدَأُ، وَهَلْ يَحْصُلُ التَّلَفُ وَالْفَسَادُ بِهَا أَمْ عِنْدَهَا؟ مَبْنِيٌّ عَلَى إثْبَاتِ الْأَسْبَابِ، وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَالْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةٌ. وَفِي فُنُونِ ابْنِ عَقِيلٍ: الْقَوْلُ بِالْعَدْوَى إضَافَةُ الدَّاءِ إلَى التَّوَلُّدِ وَأَنَّ الْفَاسِدَ وُلِدَ فَاسِدًا وَفِي الْهَوَاءِ فِي الذَّاتِ السَّلِيمَةِ. وَالْعَيْنُ إضَافَةُ الْفِعْلِ إلَى صَاحِبِ الْعَيْنِ إذْ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ وَلَا فِي الْمُمْكِنِ أَنْ يَتَوَلَّدَ مِنْ عَيْنِهِ وَنَظَرِهِ فَسَادُ صَالِحٍ وَلَا مَوْتُ حَيٍّ وَلَا يُنْسَبُ ذَلِكَ إلَّا إلَى اللَّهِ. وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْفَاعِلُ لِكُلِّ حَادِثٍ مِنْ فَسَادِ الْأَجْسَادِ وَمِنْ صَلَاحِهَا وَأَنَّهُ يُحْدِثُ ذَلِكَ عِنْدَ وُجُودِ شَيْءٍ أَوْ مُقَارَنَتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ لَا يُولَدُ وَلَا يُحْدِثُ فَسَادًا وَلَا صَلَاحًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ ضَمَانٌ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَيَتَوَجَّهُ إنْ ثَبَتَ أَنَّهُ يَقْتُلُ بِهِ غَالِبًا وَقَصَدَ الْجِنَايَةَ فَعَمْدٌ. وَإِنْ قَصَدَهَا وَلَمْ يَقْتُلْ غَالِبًا فَشِبْهُ عَمْدٍ وَإِلَّا فَخَطَأٌ يَضْمَنُهُ، وَقَدْ أَنْكَرَ الْعَيْنَ طَوَائِفُ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: دَوَاءُ إصَابَةِ الْعَيْنِ أَنْ يَقْرَأَ الْآيَةَ يَعْنِي: قَوْلَهُ:

{وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ - وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [القلم: 51 - 52] وَلَمَّا كَانَ الْحَاسِدُ أَعَمَّ مِنْ الْعَائِنِ كَانَتْ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْهُ اسْتِعَاذَةً مِنْ الْعَائِنِ وَنَفْسُهُمَا خَبِيثَةٌ تَتَكَيَّفُ بِكَيْفِيَّةٍ خَبِيثَةٍ نَحْوَ الْمَحْسُودِ وَالْمَعِينِ، فَإِنْ صَادَفَتْهُ مُتَحَصِّنًا بِالطِّبِّ الشَّرْعِيِّ لَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ وَرُبَّمَا رُدَّ ذَلِكَ عَلَى صَاحِبِهِ فَأَثَّرَ فِيهِ كَالرَّمْيِ الْحِسِّيِّ، وَإِنْ لَمْ تُصَادِفْهُ مُتَحَصِّنًا أَثَّرَتْ فِيهِ.

فصل في تعليق شيء من القرآن ونحوه على حيوان

[فَصْلٌ فِي تَعْلِيق شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَنَحْوِهِ عَلَى حَيَوَانٍ] فَصْلٌ: فَإِنْ عَلَّقَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ وَنَحْوِهِ عَلَى حَيَوَانٍ وَلَمْ أَجِدْ لِأَحَدٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَلَامًا، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ إنْ كَانَ الْحَيَوَانُ طَاهِرًا كُرِهَ ذَلِكَ. وَفِي التَّحْرِيمِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ غَيْرُ مَأْثُورٍ وَلِمَا فِيهِ مِنْ الِامْتِهَانِ وَمُلَابَسَةِ الْأَنْجَاسِ وَالْأَقْذَارِ وَالصِّبْيَانُ وَنَحْوُهُمْ لَهُمْ مَنْ يَصُونُهُمْ، وَيَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْحَيَوَانِ، وَإِنْ كَانَ الْحَيَوَانُ نَجِسًا كَالْكَلْبِ وَنَحْوِهِ فَلَا إشْكَالَ فِي التَّحْرِيمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ يُقَالُ سِمَةُ الْإِمَامِ سَائِمَةُ الزَّكَاةِ بِكِتَابِ اللَّهِ يُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ ذَلِكَ وَالْحَاجَةُ تَزُولُ بِكِتَابَةِ ذَلِكَ زَكَاةً. [فَصْلٌ فِي خَوَاصِّ جَوَازِ قَطْعِ الْحَيْضِ وَالنَّسْلِ بِالدَّوَاءِ] ِ) نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ وَابْنِ مَنْصُورٍ فِي الْمَرْأَةِ تَشْرَبُ الدَّوَاءَ يَقْطَعُ عَنْهَا دَمَ الْحَيْضِ: إنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا كَانَ دَوَاءً يُعْرَفُ قَالَ الْقَاضِي: أَكْثَرُ مَا فِيهِ قَطْعُ النَّسْلِ وَهَذَا جَائِزٌ بِدَلِيلِ الْعَزْلِ عَنْ النِّسَاءِ قَالَ: وَذَاكَرْتُ بَعْضَ الشَّافِعِيَّةِ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ فِيهِ قَطْعًا لِلنَّسْلِ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّهَا إنْ شَرِبَتْ مَا تَحِيضُ بِهِ فَلَهَا ذَلِكَ كَمَنْ لَهَا غَرَضٌ فِي قَصْرِ عِدَّتِهَا لِارْتِفَاعِ الْحَيْضِ بِعَارِضٍ.

فصل في تخمة الماء

[فَصْلٌ فِي تُخَمَةِ الْمَاءِ] فَصْلٌ: قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَشْكُو إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنِّي أَجِدُ ضِرْبَانًا فِي إبْهَامِي؟ فَقَالَ هَذَا تُخَمَةُ الْمَاءِ وَأَرَى أَنْ تُقِلَّ مِنْ شُرْبِ الْمَاءِ بِاللَّيْلِ قَالَ الْقَاضِي: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحْمَدَ كَانَ لَهُ عِلْمٌ بِشَيْءٍ مِنْ الطِّبِّ وَعَلَى جَوَازِ الطِّبِّ وَفِيمَا قَالَ الْمَرُّوذِيُّ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَصَابَكَ بِمَكَّةَ اسْتِرْخَاءُ الرُّكَبِ حَتَّى مَا قَدِرْتَ تَمْشِي؟ فَقَالَ: إنَّهُمْ يَقُولُونَ إذَا اسْتَعْذَبُوا الْمَاءَ أَصَابَهُمْ هَذَا. وَفِي مَعْنَاهُ مَا قَالَ الْمَرُّوذِيُّ كُنْتُ أَكْبِسُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْخُبْزَ فِي الْقَدَحِ وَأَصُبُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ فَكَانَ يَأْكُلُهُ، وَيَشْرَبُ مَاءَ الْخُبْزِ قَالَ: هُوَ يُقَوِّي.

فصل في النشرة وهو ماء يرقى ويترك تحت السماء ويغسل به المريض

[فَصْلٌ فِي النُّشْرَةِ وَهُوَ مَاءٌ يُرْقَى وَيُتْرَكُ تَحْتَ السَّمَاءِ وَيُغْسَلُ بِهِ الْمَرِيضُ] ُ) قَالَ جَعْفَرٌ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ النُّشْرَةِ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يُكْرَهُ هَذَا كُلُّهُ، وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ عَنْ الْحَسَنِ مَرْفُوعًا «أَنَّهَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ» قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: وَرَأَيْتُ فِي مَسَائِلِ الْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا عَقِيلُ بْنُ مَعْقِلٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ النُّشْرَةِ فَقَالَ هِيَ مِنْ الشَّيْطَانِ» إسْنَادٌ جَيِّدٌ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ وَأَبُو دَاوُد. وَفِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مَعْقِلٍ عَنْ وَهْبٍ وَذَكَرَهُ كَمَا سَبَقَ إبْرَاهِيمُ هُوَ ابْنُ عَقِيلِ بْنِ مَعْقِلٍ ثِقَةٌ لَعَلَّهُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ وَهْبٍ رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ النُّشْرَةُ مَشْهُورَةٌ عِنْدَ أَهْلِ التَّعْزِيمِ وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا تَنْشُرُ عَنْ صَاحِبِهَا أَيْ: تُجْلِي عَنْهُ وَأَجَازَهَا الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي جَامِعِ الْمَسَانِيدِ: النُّشْرَةُ حَلُّ السِّحْرِ عَنْ الْمَسْحُورِ وَلَا يَكَادُ يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا مَنْ يَعْرِفُ السِّحْرَ، وَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ: لَا يُطْلِقُ السِّحْرَ إلَّا سَاحِرٌ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَسُئِلَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ حَلِّ الْعُقَدِ وَالنُّشُرِ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَمَّنْ يُطْلِقُ السِّحْرَ عَنْ الْمَسْحُورِ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ كَانُوا يَكْرَهُونَ التَّمَائِمَ، وَالرُّقَى، وَالنُّشُرَ.

فصل يكتب بسوطه بين أذني دابته

[فَصْلٌ يَكْتُبْ بِسَوْطِهِ بَيْنَ أُذُنَيْ دَابَّتِهِ] فَصْلٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ مَنْ كَانَ هَارِبًا مِنْ عَدُوِّهِ فَلْيَكْتُبْ بِسَوْطِهِ بَيْنَ أُذُنَيْ دَابَّتِهِ: {لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى} [طه: 77] . أَمَّنَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْخَوْفِ إنْ شَاءَ اللَّهُ ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ.

فصل في الرقى والتمائم والعوذ والعزائم وما ورد في كونها شركا

[فَصْلٌ فِي الرُّقَى وَالتَّمَائِمِ وَالْعَوْذِ وَالْعَزَائِمِ وَمَا وَرَدَ فِي كَوْنِهَا شِرْكًا] فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ هُمْ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَلَا يَكْتَوُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» وَفِي الصَّحِيحِ «هُمْ الَّذِينَ لَا يَرْقُونَ وَلَا يَسْتَرْقُونَ» وَذَكَرَهُ وَفِيهِمَا عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْقِي، وَأَنَّهُ كَانَ يُعَوِّذُ بَعْضَ أَهْلِهِ يَمْسَحُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، وَأَنَّهُ كَانَ يَنْفُثُ بِالْمُعَوِّذَاتِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، قَالَتْ فَلَمَّا ثَقُلَ كُنْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ بِهِنَّ وَأَمْسَحُهُ بِيَدِ نَفْسِهِ لِبَرَكَتِهَا، فَإِنَّهُ كَانَ إذَا أَوَى إلَى فِرَاشِهِ نَفَثَ بِكَفِّهِ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَبِالْمُعَوِّذَتَيْنِ جَمِيعًا، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَمَا بَلَغَتْ يَدُهُ مِنْ جَسَدِهِ، قَالَتْ: فَلَمَّا اشْتَكَى كَانَ يَأْمُرُنِي أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ بِهِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهَا أَوْ أَمَرَ أَنْ تَسْتَرِقَ مِنْ الْعَيْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فَقَالَتْ لَهُ زَيْنَبُ امْرَأَتُهُ: لِمَ تَقُولُ هَذَا وَقَدْ كَانَتْ عَيْنِي تَقْذِفُ فَكُنْتُ أَخْتَلِفُ إلَى فُلَانٍ الْيَهُودِيِّ يَرْقِيهَا فَكَانَ إذَا رَقَاهَا سَكَنَتْ؟ قَالَ إنَّمَا ذَلِكَ عَمَلُ الشَّيْطَانِ كَانَ يَنْخُسُهَا بِيَدِهِ فَإِذَا رَقَيْتهَا كَفَّ عَنْهَا، إنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَقُولِي كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَذْهِبْ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ، اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لَا شِفَاءَ إلَّا شِفَاؤُكَ شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا» . وَفِي لَفْظِ ابْنِ مَاجَهْ بَعْدَ قَوْلِهِ «وَالتُّوَلَةُ شِرْكٌ قُلْتُ: فَإِنِّي خَرَجْتُ يَوْمًا فَأَبْصَرَنِي فُلَانٌ فَدَمَعَتْ عَيْنِي الَّتِي تَلِيهِ فَإِذَا رَقَيْتُهَا سَكَنَتْ وَإِذَا تَرَكْتُهَا دَمَعَتْ قَالَ ذَاكَ الشَّيْطَانُ إذَا أَطَعْتِيهِ تَرَكَكِ، وَإِذَا عَصَيْتِيهِ طَعَنَ بِإِصْبَعِهِ فِي عَيْنَيْكِ، وَلَكِنْ لَوْ فَعَلْتِ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ خَيْرًا لَكِ وَأَجْدَرَ أَنْ تَسْتَشْفِيَ تَنْضَحِينَ فِي عَيْنِكِ الْمَاءَ ثُمَّ تَقُولِينَ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «إنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتُّوَلَةَ شِرْكٌ»

التُّوَلَةُ ضَرْبٌ مِنْ السِّحْرِ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: هُوَ يُحَبِّبُ الْمَرْأَةَ إلَى زَوْجِهَا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: التَّمِيمَةُ عُوذَةٌ تُعَلَّقُ عَلَى الْإِنْسَانِ وَيُقَالُ: هِيَ خَرَزَةٌ، وَأَمَّا الْمُعَاذَاتُ إذَا كُتِبَ فِيهَا الْقُرْآنُ وَأَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا بَأْسَ. وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: التَّمَائِمُ جَمْعُ تَمِيمَةٍ وَهِيَ خَرَزَاتٌ كَانَتْ الْعَرَبُ تُعَلِّقُهَا عَلَى أَوْلَادِهِمْ يَتَّقُونَ بِهَا الْعَيْنَ فِي زَعْمِهِمْ فَأَبْطَلَهُ الْإِسْلَامُ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ مِنْهُ حَدِيثَ عُمَرَ وَمَا أُبَالِي " وَحَدِيثَ مَنْ يُعَلِّقْ تَمِيمَةً " كَأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا تَمَامُ الدَّوَاءِ وَالشِّفَاءِ، وَإِنَّمَا جَعَلَهَا شِرْكًا؛ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا دَفْعَ الْمَقَادِيرِ الْمَكْتُوبَةِ عَلَيْهِمْ، وَطَلَبُوا دَفْعَ الْأَذَى مِنْ غَيْرِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ دَافِعُهُ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا «مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فَلَا أَتَمَّ اللَّهُ لَهُ، وَمَنْ تَعَلَّقَ وَدَعَةً فَلَا أَوْدَعَ اللَّهُ لَهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ «مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فَقَدْ أَشْرَكَ» وَالْوَدَعُ بِالْفَتْحِ وَالسُّكُونِ جَمْعُ وَدَعَةٍ وَهِيَ شَيْءٌ أَبْيَضُ يُجْلَبُ مِنْ الْبَحْرِ يُعَلَّقُ فِي حُلُوقِ الصِّبْيَانِ وَغَيْرِهِمْ،، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهَا؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَلِّقُونَهَا مَخَافَةَ الْعَيْنِ، وَقَوْلُهُ " لَا أَوْدَعَ اللَّهُ لَهُ " أَيْ لَا جَعَلَهُ فِي دَعَةٍ وَسُكُونٍ. وَقِيلَ: هُوَ لَفْظٌ مَبْنِيٌّ مِنْ الْوَدَعَةِ أَيْ لَا خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُ مَا يَخَافُهُ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «مَا أُبَالِي مَا رَكِبْتُ وَمَا أَتَيْتُ إذَا أَنَا شَرِبْتُ تِرْيَاقًا أَوْ تَعَلَّقْتُ تَمِيمَةً أَوْ قُلْتُ الشِّعْرَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِي» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَقَالَ هَذَا كَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً. وَقَدْ رَخَّصَ فِيهِ قَوْمٌ يَعْنِي: التِّرْيَاقَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ شُرَحْبِيلُ بْنُ يَزِيدَ الْمَعَافِرِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَافِعٍ التَّنُوخِيِّ. أَمَّا شُرَحْبِيلُ فَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ سَعِيدِ بْنِ أَيُّوبَ وَأَمَّا عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقَالَ الْبُخَارِيُّ: فِي حَدِيثِهِ مَنَاكِيرُ قَالَ الْقَاضِي: فَشَبَّهَ تَعْلِيقَ التَّمِيمَةِ بِمَثَابَةِ أَكْلِ التِّرْيَاقِ وَقَوْلِ الشِّعْرِ وَهُمَا مُحَرَّمَانِ

وَرَوَى وَكِيعٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ عَلَّقَ شَيْئًا وُكِّلَ إلَيْهِ» وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ الْجُهَيْنِيِّ مَرْفُوعًا «مَنْ عَلَّقَ شَيْئًا وُكِّلَ إلَيْهِ» وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا فِي يَدِهِ حَلْقَةٌ مِنْ صُفْرٍ فَقَالَ: مَا هَذَا قَالَ: مِنْ الْوَاهِنَةِ فَقَالَ انْزِعْهَا، فَإِنَّهَا لَا تَزِيدُكَ إلَّا وَهْنًا» وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: كَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَعْنِي: عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: إنَّ كَثِيرًا مِنْ هَذِهِ الرُّقَى وَالتَّمَائِمِ شِرْكٌ فَاجْتَنِبُوهَا. وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ مَنْ عَلَّقَ شَيْئًا وُكِّلَ إلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُعَلِّقَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ. وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ مَرِيضٍ يَعُودُهُ فَلَمَسَ عَضُدَهُ فَإِذَا فِيهِ خَيْطٌ فَقَالَ: مَا هَذَا قَالَ: شَيْءٌ رُقِيَ لِي فِيهِ فَقَطَعَهُ وَقَالَ: لَوْ مِتَّ وَهُوَ عَلَيْكَ مَا صَلَّيْتُ عَلَيْك، وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ اُتْفُلْ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ وَلَا تُعَلِّقْ. وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُعَلِّقُوا شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ. وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ التَّمَائِمَ كُلَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ وَغَيْرِ الْقُرْآنِ. وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ وَضْعُ التَّمِيمَةِ مِنْ الْقُرْآنِ شِرْكٌ وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: مَنْ قَطَعَ تَمِيمَةً مِنْ الْإِنْسَانِ كَانَ كَعِدْلِ رَقَبَةٍ. وَخَبَرُ ابْنُ عُكَيْمٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ ثَنَا وَكِيعٌ ثَنَا ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ عِيسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ وَهُوَ مَرِيضٌ نَعُودُهُ فَقِيلَ: لَهُ لَوْ تَعَلَّقْتَ شَيْئًا فَقَالَ: أَتَعَلَّقُ شَيْئًا وَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِّلَ إلَيْهِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: إنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ بَعْضُهُمْ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَخَبَرُ عِمْرَانَ الْمُتَقَدِّمُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ قَالَ أَحْمَدُ ثَنَا خَلَفُ بْنُ الْوَلِيدِ ثَنَا الْمُبَارَكُ عَنْ الْحَسَنِ أَخْبَرَنِي عِمْرَانُ فَذَكَرَهُ وَفِي آخِرِهِ «فَأَنْتَ لَوْ مِتَّ وَهِيَ عَلَيْكَ مَا أَفْلَحْتَ أَبَدًا» وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ وَكِيعٍ عَنْ الْمُبَارَكِ وَالْمُبَارَكُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ مُدَلِّسٌ وَقَالَ أَحْمَدُ مَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ لَا يُحْتَجُّ بِهِ. وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ

«مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ، وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِّلَ إلَيْهِ» قَالَ فِي الْمِيزَانِ: لَا يَصِحُّ لِلِينِ عَبَّادِ وَلِانْقِطَاعِهِ، كَذَا قَالَ: وَيَتَوَجَّهُ أَنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَجُوزُ أَنْ تُحْمَلَ الْأَخْبَارُ فِي هَذَا عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ. وَالْمَوْضُوعُ الَّذِي نَهَى عَنْ ذَلِكَ إذَا كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا هِيَ النَّافِعَةُ لَهُ أَوْ الدَّافِعَةُ عَنْهُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ النَّافِعَ هُوَ اللَّهُ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَجَازَهُ إذَا اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ النَّافِعُ الدَّافِعُ، وَلَعَلَّ هَذَا خَرَجَ عَلَى عَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَّ تِلْكَ الرُّقَى كَانَتْ نَافِعَةً دَافِعَةً كَمَا يَعْتَقِدُونَ وَأَنَّ الدَّهْرَ يَضُرُّهُمْ فَكَانُوا يَسُبُّونَ الدَّهْرَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ» ، وَإِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي: إذَا لَمْ يَنْزِلْ بِهِ الْبَلَاءُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا رَخَّصَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَذَا وَسَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي فَصْلٍ تُبَاحُ الْحُقْنَةُ وَالِاسْتِحْبَابُ هُوَ الصَّوَابُ لِلْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَذُكِرَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ النَّفْثَ فِي الرُّقَى. وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَنْفُثُ فِي الرُّقْيَةِ» وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إذَا كَانَتْ حُمَّى الرِّبْعِ فَلْيُؤْخَذْ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ مِنْ سَمْنٍ وَرُبْعٌ مِنْ لَبَنٍ.

فصل في المعالجة بالحجامة والعسل والكي والمسهلات

[فَصْلٌ فِي الْمُعَالَجَةِ بِالْحِجَامَةِ وَالْعَسَلِ وَالْكَيِّ وَالْمُسَهِّلَاتِ] عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «الشِّفَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ، فِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ كَيَّةٍ بِنَارٍ، وَأَنْهَى أُمَّتِي عَنْ الْكَيِّ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُتَّفَقٌ عَلَى مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ إلَّا أَنَّ فِيهِ بَدَلَ «وَأَنْهَى أُمَّتِي عَنْ الْكَيِّ وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ» وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «أَنَّ خَيْرَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ السَّعُوطُ، وَاللَّدُودُ، وَالْحِجَامَةُ، وَالْمَشْيُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. السَّعُوطُ مَا يُسْعَطُ بِهِ فِي الْأَنْفِ وَسَبَقَ مَعْنَى اللَّدُودِ فِي فَصْلٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَالْمَشْيُ كِنَايَةٌ عَنْ الْإِسْهَالِ وَسَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ فِي فَصْلٍ عَنْ أَسْمَاءَ. قَالَ بَعْضُهُمْ: أَمْرَاضُ الِامْتِلَاءِ دَمَوِيَّةٌ أَوْ صَفْرَاوِيَّةٌ أَوْ بَلْغَمِيَّةٌ، أَوْ سَوْدَاوِيَّةٌ: فَالدَّمَوِيَّةُ شِفَاؤُهَا إخْرَاجُ الدَّمِ وَالْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ شِفَاؤُهَا بِالْإِسْهَالِ الَّذِي يَلِيقُ بِكُلِّ خَلْطٍ مِنْهَا. وَكَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبَّهَ بِالْعَسَلِ عَلَى الْمُسَهِّلَاتِ. وَبِالْحِجَامَةِ عَلَى الْفَصْدِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ الْمَرَضُ حَارًّا عَالَجْنَاهُ بِإِخْرَاجِ الدَّمِ؛ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِفْرَاغًا لِلْمَادَّةِ وَتَبْرِيدًا لِلْمِزَاجِ، وَإِنْ كَانَ بَارِدًا عَالَجْنَاهُ بِالتَّسْخِينِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْعَسَلِ، فَإِنْ كَانَ يَحْتَاجُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى اسْتِفْرَاغِ الْمَادَّةِ الرَّطْبَةِ فَالْعَسَلُ أَيْضًا يَفْعَلُ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ مِنْ الْإِنْضَاجِ وَالتَّقْطِيعِ وَالتَّلْطِيفِ وَالْجَلَاءِ وَالتَّلْيِينِ فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ اسْتِفْرَاغُ تِلْكَ الْمَادَّةِ بِرِفْقٍ وَأَمْنٍ مِنْ نَكَبَاتِ الْمُسَهِّلَاتِ الْقَوِيَّةِ. وَأَمَّا الْكَيُّ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَاضِ الْمَادِّيَّةِ إنْ كَانَ حَادِثًا كَانَ سَرِيعَ الِانْقِضَاءِ لِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مُزْمِنًا فَأَفْضَلُ عِلَاجِهِ بَعْدَ الِاسْتِفْرَاغِ الْكَيُّ فِي الْأَعْضَاءِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا الْكَيُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُزْمِنًا إلَّا عَنْ مَادَّةٍ رَطْبَةٍ غَلِيظَةٍ قَدْ رَسَخَتْ فِي الْعُضْوِ وَأَفْسَدَتْ مِزَاجَهُ وَأَحَالَتْ جَمِيعَ مَا يَصِلُ إلَيْهِ إلَى مُشَابَهَةِ جَوْهَرِهَا فَيَشْتَغِلُ فِي ذَلِكَ الْعُضْوِ فَيُسْتَخْرَجُ

بِالْكَيِّ لِتِلْكَ الْمَادَّةِ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ فِيهِ يَأْخُذُ الْجُزْءَ النَّارِيَّ الْمَوْجُودَ بِالْكَيِّ لِتِلْكَ الْمَادَّةِ. فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُعَالَجَةُ الْأَمْرَاضِ الْمَادِّيَّةِ جَمِيعِهَا، وَهِيَ إمَّا حَارَّةٌ أَوْ بَارِدَةٌ أَوْ رَطْبَةٌ أَوْ يَابِسَةٌ أَوْ مَا تَرَكَّبَ مِنْهَا فَهَذِهِ كَيْفِيَّاتٌ أَرْبَعُ فَالْحَرَارَةُ وَالْبُرُودَةُ فَاعِلَتَانِ، وَالرُّطُوبَةُ وَالْيُبُوسَةُ مُنْفَعِلَتَانِ، وَفِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ شِدَّةَ الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ» مُعَالَجَةُ الْأَمْرَاضِ السَّاذَجَةِ الَّتِي لَا مَادَّةَ لَهَا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّ أَخِي يَشْتَكِي بَطْنَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ اسْتَطْلَقَ بَطْنَهُ فَقَالَ اسْقِهِ عَسَلًا فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ قَدْ سَقَيْتُهُ فَلَمْ يُغْنِ عَنْهُ شَيْئًا، وَفِي رِوَايَةٍ فَلَمْ يَزِدْهُ إلَّا اسْتِطْلَاقًا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ لَهُ اسْقِهِ عَسَلًا فَقَالَ لَهُ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ: صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ» وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ إنَّ أَخِي عَرِبَ بَطْنُهُ أَيْ فَسَدَ هَضْمُهُ وَاعْتَلَّتْ مَعِدَتُهُ وَالِاسْمُ الْعَرَبُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالذَّرْبُ أَيْضًا وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - " صَدَقَ اللَّهُ " هَذِهِ الْآيَةَ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] يَرْجِعُ إلَى الْعَسَلِ. ثُمَّ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَتَادَةَ أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ مَرَضٍ وَقَالَ السُّدِّيُّ فِيهِ شِفَاءٌ لِلْأَوْجَاعِ الَّتِي شِفَاؤُهَا فِيهِ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: الصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَالْغَالِبُ فِي الْعَسَلِ أَنَّهُ يَعْمَلُ فِي الْأَدْوَاءِ فَإِذَا لَمْ يُوَافِقْ آحَادَ الْمَرْضَى فَقَدْ وَافَقَ الْأَكْثَرِينَ، وَهَذَا كَقَوْلِ الْعَرَبِ الْمَاءُ حَيَاةٌ لِكُلِّ شَيْءٍ وَقَدْ نَرَى مَنْ يَقْتُلُهُ الْمَاءُ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ عَلَى

الْأَغْلَبِ قَالَ بَعْضُهُمْ الْعَسَلُ جِلَاءٌ لِلْوَسَخِ الَّذِي فِي الْعُرُوقِ وَالْأَمْعَاءِ وَغَيْرِهَا مُحَلِّلُ الْمَرْطُوبَاتِ أَكْلًا وَطِلَاءً نَافِعٌ لِلْمَشَايِخِ وَأَصْحَابِ الْبَلْغَمِ وَمَنْ مِزَاجُهُ بَارِدٌ رَطْبٌ، مُغَذٍّ مُلَيِّنٌ لِلطَّبِيعَةِ حَافِظٌ لِقُوَى الْمَعَاجِينِ وَلِمَا اُسْتُوْدِعَ فِيهِ مُذْهِبٌ لِكَيْفِيَّاتِ الْأَدْوِيَةِ الْكَرِيهَةِ، مُنَقٍّ لِلْكَبِدِ وَالصَّدْرِ، مُدِرٍّ لِلْبَوْلِ مُوَافِقٌ لِلسُّعَالِ عَنْ بَلْغَمٍ، وَشُرْبُهُ حَارًّا بِدُهْنِ وَرْدٍ يَنْفَعُ مِنْ نَهْشِ الْهَوَامِّ وَشُرْبِ الْأَفْيُونِ، وَشُرْبُهُ وَحْدَهُ مَمْزُوجًا بِمَاءٍ يَنْفَعُ مِنْ عَضَّةِ الْكَلْبِ وَأَكْلِ الْفِطَرِ الْقَتَّالِ. وَإِذَا جُعِلَ فِيهِ اللَّحْمُ الطَّرِيُّ حَفِظَ طَرَاوَتَهُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَكَذَا إنْ جُعِلَ فِيهِ الْقِثَّاءُ وَالْخِيَارُ وَالْقَرْعُ وَالْبَاذِنْجَانُ، وَيَحْفَظُ كَثِيرًا مِنْ الْفَوَاكِهِ إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَيَحْفَظُ جُثَثَ الْمَوْتَى وَيُسَمَّى الْحَافِظُ الْأَمِينُ، وَإِذَا لُطِّخَ بِهِ الْبَدَنُ الْمُقَمَّلُ وَالشَّعْرُ قَتَلَ قَمْلَهُ وَصِئْبَانَهُ وَطَوَّلَ الشَّعْرَ وَحَسَّنَهُ وَنَعَّمَهُ، وَإِنْ اُكْتُحِلَ بِهِ جَلَا ظُلْمَةَ الْبَصَرِ، وَإِنْ اُسْتُنَّ بِهِ بَيَّضَ الْأَسْنَانَ وَصَقَلَهَا وَحَفِظَ صِحَّتَهَا وَصِحَّةَ اللِّثَةِ، وَيَفْتَحُ أَفْوَاهَ الْعُرُوقِ وَيُدِرُّ الطَّمْثَ. وَلَعْقُهُ عَلَى الرِّيقِ يُذِيبُ الْبَلْغَمَ، وَيَغْسِلُ خَمْلَ الْمَعِدَةِ، وَيَدْفَعُ الْفَضَلَاتِ عَنْهَا وَيُسَخِّنُهَا تَسْخِينًا مُعْتَدِلًا وَيَفْتَحُ سُدَدَهَا، وَيَفْعَلُ ذَلِكَ بِالْكَبِدِ وَالْكُلَى وَالْمَثَانَةِ وَهُوَ أَقَلُّ ضَرَرًا لِسُدَدِ الْكَبِدِ وَالطِّحَالِ مِنْ كُلِّ حُلْوٍ وَهُوَ مَأْمُونُ الْغَائِلَةِ، وَيَضُرُّ بِالْعَرْضِ الصَّفْرَاوِيَّيْنِ يَنْدَفِعُ ضَرَرُهُ بِالْخَلِّ وَنَحْوِهِ فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ نَافِعًا لَهُمْ جِدًّا، وَهُوَ غِذَاءٌ وَدَوَاءٌ وَشَرَابٌ وَحُلْوٌ وَطِلَاءٌ وَمُفَرِّحٌ، فَمَا خُلِقَ لَنَا شَيْءٌ فِي مَعْنَاهُ قَرِيبٌ مِنْهُ وَلَمْ يُعَوِّلْ الْقُدَمَاءُ إلَّا عَلَيْهِ، وَالسُّكَّرُ حَدِيثُ الْعَهْدِ وَلَا سِيَّمَا لِمَنْ اعْتَادَ الْعَسَلَ وَلَمْ يَعْتَدْ هَذِهِ الْأَشْرِبَةَ فَلَا تُلَائِمُهُ وَالْعَادَةُ مُعْتَبَرَةٌ فِي الطِّبِّ.

قَالَ ابْنُ زُهَيْرٍ: الْعَسَلُ أَلْطَفُ مِنْ السُّكَّرِ وَأَسْرَعُ نُفُوذًا وَأَقْوَى تَلْطِيفًا لِلْأَخْلَاطِ وَهُوَ يَمِيلُ بِجَوْهَرِهِ إلَى اللَّطَافَةِ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ طَلٌّ وَالسُّكَّرُ يَمِيلُ بِجَوْهَرِهِ إلَى الْكَثَافَةِ وَالْأَرْضِيَّةِ وَلَا يَبْلُغُ السُّكَّرُ دَرَجَتَهُ فِي جَلَائِهِ وَتَلْطِيفِهِ، وَأَجْوَدُ الْعَسَلِ أَصْفَاهُ وَأَبْيَضُهُ وَأَلْيَنُهُ حِدَّةً وَأَحْلَاهُ وَهُوَ بِحَسَبِ مَرْعَى نَحْلِهِ، وَفَضَّلَ بَعْضُ النَّاسِ السُّكَّرَ عَلَى الْعَسَلِ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ حَرَارَةً وَهُوَ رَطْبٌ وَهَذَا ضَعِيفٌ وَمَنَافِعُ الْعَسَلِ أَضْعَافُ مَنَافِعِ السُّكَّرِ، وَفِي الْخَبَرِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَشْرَبُ الْعَسَلَ بِالْمَاءِ عَلَى الرِّيقِ» . وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الزُّبَيْرِ بْنِ سَعِيدٍ ضَعَّفَهُ الْأَكْثَرُ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ سَالِمٍ تَفَرَّدَ عَنْهُ الزُّبَيْرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا يُعْرَفُ لَهُ سَمَاعٌ مِنْهُ مَرْفُوعًا «مَنْ لَعِقَ الْعَسَلَ ثَلَاثَ غَدَوَاتٍ كُلَّ شَهْرٍ لَمْ يُصِبْهُ عَظِيمٌ مِنْ الْبَلَاءِ» وَلَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ «عَلَيْكُمْ بِالشِّفَاءَيْنِ الْعَسَلِ وَالْقُرْآنِ» . وَوَصَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَسَلَ الَّذِي اسْتَطْلَقَ بَطْنَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَنْ تُخْمَةٍ عَنْ امْتِلَاءٍ لِيَدْفَعَ الْفُضُولَ الْمُجْتَمِعَةَ؛ لِأَنَّ فِيهِ جِلَاءً وَدَفْعًا لِلْفُضُولِ وَكَانَ قَدْ أَصَابَ الْمَعِدَةَ أَخْلَاطٌ لَزِجَةٌ تَمْنَعُ اسْتِفْرَاغَ الْغِذَاءِ فِيهَا لِلُزُوجَتِهَا، فَإِنَّ الْمَعِدَةَ لَهَا خَمْلٌ كَخَمْلِ الْمُنَشِّفَةِ وَإِذَا عَلِقَتْ بِهَا الْأَخْلَاطُ اللَّزِجَةُ أَفْسَدَتْهَا وَأَفْسَدَتْ الْغِذَاءَ فَدَوَاؤُهَا بِمَا يَجْلُوهَا مِنْ تِلْكَ الْأَخْلَاطِ وَالْعَسَلُ مِنْ أَحْسَنِهِ لَا سِيَّمَا إنْ مُزِجَ بِمَاءٍ حَارٍّ، وَإِنَّمَا كَرَّرَ سَقْيَهُ؛ لِأَنَّ الدَّوَاءَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِحَسَبِ حَالِ الدَّاءِ إنْ قَصُرَ لَمْ يُزِلْهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنْ جَاوَزَهُ أَوْهَى الْقُوَى فَلَمَّا كَرَّرَ السَّقْيَ بِحَسَبِ الدَّاءِ بَرِئَ بِإِذْنِ اللَّهِ. وَقَدْ قَالَ الْأَطِبَّاءُ: مَتَى أَمْكَنَ التَّدَاوِي بِالْغِذَاءِ لَا يُعْدَلُ إلَى الدَّوَاءِ، وَمَتَى أَمْكَنَ بِالْبَسِيطِ لَا يُعْدَلُ إلَى الْمُرَكَّبِ. وَكُلُّ دَاءٍ أَمْكَنَ دَفْعُهُ بِغِذَاءٍ أَوْ حِمْيَةٍ لَمْ يُحَاوَلْ دَفْعُهُ بِدَوَاءٍ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ:

{فِيهِ شِفَاءٌ} [النحل: 69] . يَرْجِعُ إلَى الِاعْتِبَارِ وَالشِّفَاءُ بِمَعْنَى الْهُدَى قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ يَعُودُ إلَى الْقُرْآنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْحِجَامَةُ فَفِيهَا أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ يَأْتِي بَعْضُهَا فِي الْفَصْلِ بَعْدَهُ فِي فِعْلِهَا وَفَضْلِهَا وَوَقْتِهَا وَفِيهَا فِعْلًا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَوْلًا سَبْعَ عَشْرَةَ أَوْ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَهِيَ تُوَافِقُ مَا قَالَهُ الْأَطِبَّاءُ أَنَّهَا أَنْفَعُ فِي النِّصْفِ الثَّانِي وَمَا يَلِيهِ مِنْ الرُّبْعِ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّ الْأَخْلَاطَ حِينَئِذٍ تَكُونُ هَائِجَةً بَائِغَةً فِي تَزَيُّدِهَا لِتَزَيُّدِ النُّورِ فِي جِرْمِ الْقَمَرِ، يُقَالُ: تَبَوَّغَ بِهِ الدَّمُ وَتَبَغَ بِهِ أَيْ هَاجَ بِهِ، وَيُقَالُ: أَصْلُهُ يَبْتَغِي مِنْ الْبَغْيِ فَقُلِبَ مِثْلَ جَذَبَ وَجَبَذَ، هَذَا فِيمَا إذَا فُعِلَ احْتِيَاطًا تَحَرُّزًا مِنْ الْأَذَى وَحِفْظًا لِلصِّحَّةِ. وَفِي هَذَا قَالَ الْأَطِبَّاءُ: يُفْعَلُ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ أَوْ الثَّالِثَةِ، وَيَجِبُ تَوْقِيتُهَا بَعْدَ الْحَمَّامِ إلَّا فِيمَنْ دَمُهُ غَلِيظٌ، فَيَجِبُ أَنْ يَسْتَحِمَّ ثُمَّ يَتَوَقَّفَ سَاعَةً ثُمَّ يَحْتَجِمَ، قَالُوا: وَتُكْرَهُ عَلَى الشِّبَعِ، فَإِنَّهَا رُبَّمَا أَوْرَثَتْ سَدَادًا أَوْ أَمْرَاضًا رَدِيئَةً لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْغِذَاءُ رَدِيئًا غَلِيظًا وَفِي أَثَرٍ: الْحِجَامَةُ عَلَى الرِّيقِ دَوَاءٌ وَعَلَى الشِّبَعِ دَاءٌ، وَفِي سَبْعَةَ عَشَرَ مِنْ الشَّهْرِ شِفَاءٌ. فَأَمَّا مَعَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا فَتَنْفَعُ كُلَّ وَقْتٍ، وَيَجِبُ اسْتِعْمَالُهَا. قَالَ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنِي عِصْمَةُ بْنُ عِصَامٍ أَنْبَأَنَا حَنْبَلٌ قَالَ كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَحْتَجِمُ أَيَّ وَقْتٍ هَاجَ بِهِ الدَّمُ وَأَيَّ سَاعَةٍ كَانَتْ وَلَمْ يَذْكُرْ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ كَرَاهَةَ الْحِجَامَةِ فِي القمحدوة بِزِيَادَةِ الْمِيمِ مَا خَلْفَ الْقَفَا وَالْجَمْعُ قَمَاحِدُ، وَلِهَذَا رَخَّصَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي حَلْقِ الْقَفَا وَقْتَ الْحِجَامَةِ. وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَلَيْكُمْ بِالْحِجَامَةِ، فَإِنَّهَا تَشْفِي مِنْ خَمْسَةِ أَدْوَاءٍ» ذَكَرَ مِنْهَا الْجُذَامَ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «فَإِنَّهَا شِفَاءٌ مِنْ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ

دَاءً» وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا وَاسْتَحْسَنَهُ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ. وَإِنَّهَا تَنْفَعُ مِنْ جَحْظِ الْعَيْنِ وَالسُّوءِ الْعَارِضِ فِيهَا وَمِنْ ثِقَلِ الْحَاجِبَيْنِ وَالْجَفْنِ وَجَرَبِهِ وَذَكَرَهَا صَاحِبُ الْقَانُونِ وَقَالَ: إنَّهَا تُورِثُ النِّسْيَانَ حَقًّا كَمَا قَالَهُ سَيِّدُنَا وَمَوْلَانَا وَصَاحِبُ شَرِيعَتِنَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مُؤَخَّرُ الرَّأْسِ مَوْضِعُ الْحِفْظِ» . وَهَذَا الْخَبَرُ لَا يُعْرَفُ، وَإِنَّمَا تُضْعِفُ الْحِجَامَةُ مُؤَخَّرَ الدِّمَاغِ مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ احْتَاجَ إلَيْهَا فَاحْتَجَمَ فِي جَانِبَيْ قَفَاهُ وَلَمْ يَحْتَجِمْ فِي النُّقْرَةِ، وَمَتَى اُسْتُعْمِلَتْ الْحِجَامَةُ بِلَا حَاجَةٍ بَلْ تَحَرُّزًا وَاحْتِيَاطًا فَقَدْ كَرِهَهَا أَحْمَدُ يَوْمَ السَّبْتِ، وَيَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ احْتَجَمَ يَوْمَ السَّبْتِ أَوْ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ فَأَصَابَهُ وَضَحٌ يَعْنِي: الْبَرَصَ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ» مِنْ مَرَاسِيلِ الزُّهْرِيِّ وَهُوَ مُرْسَلٌ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ مُسْنَدًا وَلَا يَصْلُحُ، وَتُوَقَّفَ أَحْمَدُ فِي الْجُمُعَةِ قَالَهُ الْقَاضِي وَكَرِهَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فِيهِ لِخَبَرِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «إنَّ فِيهِ سَاعَةً لَا يَرْقَأُ فِيهَا الدَّمُ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ رِوَايَةِ الْعَطَّافِ بْنِ خَالِدٍ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِي تَوْثِيقِهِ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «احْتَجِمُوا يَوْمَ الْخَمِيسِ وَاجْتَنِبُوا يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَالْجُمُعَةِ وَالسَّبْتِ، وَيَوْمَ الْأَحَدِ وَاحْتَجِمُوا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاءِ» إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى أَهْلَهُ عَنْ الْحِجَامَةِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَيَزْعُمُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ يَوْمُ الدَّمِ وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يَرْقَأُ إسْنَادُهُ فِيهِ ضَعْفٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَلَعَلَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ اقْتِصَارِ أَبِي دَاوُد عَلَى هَذَا أَنَّهُ يَقُولُ بِهِ، وَالْحِجَامَةُ تُنَقِّي سَطْحَ الْبَدَنِ أَكْثَرَ مِنْ الْفَصْدِ، وَالْفَصْدُ لِأَعْمَاقِ الْبَدَنِ أَفْضَلُ وَالْحِجَامَةُ أَفْضَلُ فِي بَلَدٍ حَارٍّ وَمَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ مِنْ زَمَانٍ وَسِنٍّ وَالْفَصْدُ

بِالْعَكْسِ. وَالْحِجَامَةُ تَفْرِيقٌ اتِّصَالِيٌّ إرَادِيٌّ يَتْبَعُهُ اسْتِفْرَاغٌ كُلِّيٌّ مِنْ الْعُرُوقِ وَخَاصَّةً الْعُرُوقُ الَّتِي تُفْصَدُ كَثِيرًا، وَلِفَصْدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا نَفْعٌ خَاصٌّ ذَكَرَهُ الْأَطِبَّاءُ، فَفَصْدُ الْبَاسْلِيقِ يَنْفَعُ مِنْ حَرَارَةِ الْكَبِدِ وَالطِّحَالِ وَوَرَمٍ فِيهِمَا مِنْ الدَّمِ وَمِنْ وَرَمِ الرِّئَةِ وَالشَّوْصَةِ وَذَاتِ الْجَنْبِ وَجَمِيعِ الْأَمْرَاضِ الدَّمَوِيَّةِ الْعَارِضَةِ مِنْ أَسْفَلِ الرُّكْبَةِ إلَى الْوَرِكِ، وَفَصْدُ الْأَكْحَلِ يَنْفَعُ مِنْ الِامْتِلَاءِ الدَّمَوِيِّ الْعَارِضِ فِي الْبَدَنِ وَمِنْ الدَّمِ الْفَاسِدِ فِي الْبَدَنِ. وَفَصْدُ الْقِيفَالِ يَنْفَعُ مِنْ الْعِلَلِ الْعَارِضَةِ فِي الرَّأْسِ وَالرَّقَبَةِ مِنْ كَثْرَةِ الدَّمِ وَإِفْسَادِهِ، وَفَصْدُ الْوَدَجَيْنِ يَنْفَعُ مِنْ وَجَعِ الطِّحَالِ وَالرَّبْوِ وَالْبَهَقِ وَوَجَعِ الْجَبِينِ. وَالْحِجَامَةُ عَلَى الْكَاهِلِ تَنْفَعُ مِنْ وَجَعِ الْمَنْكِبِ وَالْحَلْقِ وَالْحِجَامَةُ عَلَى الْأَخْدَعَيْنِ تَنْفَعُ مِنْ أَمْرَاضِ الرَّأْسِ وَأَجْزَائِهِ كَالْوَجْهِ وَالْأَسْنَانِ وَالْأُذُنَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ وَالْأَنْفِ وَالْحَلْقِ إذَا كَانَ حُدُوثُ ذَلِكَ عَنْ كَثْرَةِ الدَّمِ أَوْ فَسَادِهِ. وَالْحِجَامَةُ تَحْتَ الذَّقَنِ تَنْفَعُ مِنْ وَجَعِ الْأَسْنَانِ وَالْوَجْهِ وَالْحُلْقُومِ إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي وَقْتِهَا وَتُنَقِّي الرَّأْسَ وَالْكَتِفَيْنِ. وَالْحِجَامَةُ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ تَنُوبُ عَنْ فَصْدِ الصَّافِنِ وَهُوَ عِرْقٌ عَظِيمٌ عِنْدَ الْكَعْبِ وَتَنْفَعُ مِنْ قُرُوحِ الْفَخِذَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ وَانْقِطَاعِ الطَّمْثِ وَالْحَكَّةِ الْعَارِضَةِ فِي الْأُنْثَيَيْنِ. وَالْحِجَامَةُ عَلَى أَسْفَلِ الصَّدْرِ نَافِعَةٌ مِنْ دَمَامِيلِ الْفَخِذِ وَجَرَبِهِ وَبُثُورِهِ مِنْ النِّقْرِسِ وَالْبَوَاسِيرِ وَالْقِيلِ وَلِحَكَّةِ الظَّهْرِ.

فصل في أخبار أكله من الشاة المسمومة ومعالجة السم

[فَصْلٌ فِي أَخْبَارِ أَكْلِهِ مِنْ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ وَمُعَالَجَةِ السُّمِّ] فَصْلٌ (فِي أَخْبَارِ أَكْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ وَمُعَالَجَةِ السُّمِّ) فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا فَجِيءَ بِهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ أَرَدْتُ لِأَقْتُلكَ قَالَ مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطكِ عَلَى ذَلِكَ أَوْ قَالَ عَلَيَّ قَالُوا: أَلَا نَقْتُلُهَا قَالَ: لَا فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» لَمْ يَقُلْ الْبُخَارِيُّ: فَسَأَلَهَا إلَى قَوْلِهِ عَلَيَّ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: يَا عَائِشَةُ مَا زَالَ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ» . وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ «لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ فَقَالَ اجْمَعُوا لِي مَنْ كَانَ هَهُنَا مِنْ الْيَهُودِ فَجُمِعُوا فَقَالَ لَهُمْ: إنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقُونِي إنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ. فَقَالَ لَهُمْ مَنْ أَبُوكُمْ فَقَالُوا أَبُونَا فُلَانٌ. فَقَالَ لَهُمْ: كَذَبْتُمْ بَلْ أَبُوكُمْ فُلَانٌ قَالُوا صَدَقْتَ وَبَرَرْتَ. فَقَالَ لَهُمْ: هَلْ أَنْتُمْ صَادِقُونِي عَنْ شَيْءٍ إنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَذَبْنَاكَ عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أَبِينَا. فَقَالَ لَهُمْ مَنْ أَهْلُ النَّارِ فَقَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا ثُمَّ تَخْلُفُونَا فِيهَا. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اخْسَئُوا فِيهَا وَاَللَّهِ لَا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: هَلْ أَنْتُمْ صَادِقُونِي عَنْ شَيْءٍ إنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ فَقَالُوا: نَعَمْ. فَقَالَ هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ سُمًّا فَقَالُوا نَعَمْ. فَقَالَ مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ فَقَالُوا: أَرَدْنَا إنْ كُنْتَ كَذَّابًا أَنْ نَسْتَرِيحَ مِنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرّكَ» . وَفِي كِتَابِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ

كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً أَهْدَتْ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَاةً مَصْلِيَّةً بِخَيْبَرَ فَأَكَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَكَلَ أَصْحَابُهُ ثُمَّ قَالَ أَمْسِكُوا ثُمَّ قَالَ لِلْمَرْأَةِ: هَلْ سَمَّيْتِ هَذِهِ الشَّاةِ؟ قَالَتْ: مَنْ أَخْبَرَكَ بِهَذَا قَالَ: هَذَا الْعَظْمُ لِسَاقِهَا وَهُوَ فِي يَدِهِ. قَالَتْ: نَعَمْ قَالَ: لِمَ؟ قَالَتْ: أَرَدْتُ إنْ كُنْتَ كَاذِبًا أَنْ يَسْتَرِيحَ مِنْكَ النَّاسُ، وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرّكَ قَالَ: فَاحْتَجَمَ النَّبِيُّ ثَلَاثَةً عَلَى الْكَاهِلِ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَاحْتَجَمُوا فَمَاتَ بَعْضُهُمْ» ، وَفِي طَرِيقٍ أُخْرَى «فَاحْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى كَاهِلِهِ مِنْ أَجْلِ الَّذِي أَكَلَ مِنْ الشَّاةِ حَجَمَهُ أَبُو هِنْدٍ بِالْقَرْنِ وَالشَّفْرَةِ وَهُوَ مَوْلَى لِبَنِي بَيَاضَةَ مِنْ الْأَنْصَارِ بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثَ سِنِينَ حَتَّى كَانَ وَجَعُهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ فَقَالَ: مَا زِلْتُ أَجِدُ مِنْ الْأَكْلَةِ الَّتِي أَكَلْتُ مِنْ الشَّاةِ يَوْمَ خَيْبَرَ حَتَّى كَانَ هَذَا أَوَانَ انْقِطَاعِ أَبْهَرِي مِنِّي فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَهِيدًا قَالَهُ ابْنُ عُقْبَةَ وَكَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَهِيدًا. اهـ» اللَّهَوَاتُ بِفَتْحِ اللَّامِ وَالْهَاءِ جَمْعُ لَهَاةٍ بِفَتْحِ اللَّامِ وَهِيَ اللُّحْمَةُ الْحَمْرَاءُ الْمُعَلَّقَةُ فِي أَصْلِ الْحَنَكِ قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ، وَقِيلَ: اللُّحْمَاتُ اللَّوَاتِي فِي سَقْفِ أَقْصَى الْفَمِ. وَقَوْلُهُ " مَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا " أَيِّ الْعَلَامَةَ كَأَنَّهُ بَقِيَ لِلسُّمِّ عَلَامَةٌ وَالْأَبْهَرُ عِرْقٌ إذَا انْقَطَعَ مَاتَ صَاحِبُهُ وَهُمَا أَبْهَرَانِ يَخْرُجَانِ مِنْ الْقَلْبِ ثُمَّ يَتَشَعَّبُ مِنْهُمَا سَائِرُ الشَّرَايِينِ. وَهَذِهِ الْيَهُودِيَّةُ هِيَ زَيْنَبُ بِنْتُ الْحَارِثِ أُخْتُ مَرْحَبٍ الْيَهُودِيِّ، ذَكَرَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَهِيَ امْرَأَةُ سَلَّامِ بْنِ مِشْكَمٍ وَاخْتُلِفَ هَلْ قَتَلَهَا. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: أَسْلَمَتْ فَتَرَكَهَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْهُ. ثُمَّ قَالَ مَعْمَرٌ: وَالنَّاسُ يَقُولُونَ قَتَلَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَقَلَ ابْنُ سَحْنُونٍ إجْمَاعَ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتَلَهَا. وَقَالَ جَابِرٌ: قَتَلَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَتَلَهَا لَمَّا مَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَفَعَهَا إلَى أَوْلِيَاءِ بِشْرِ بْنِ مَعْرُورٍ وَكَانَ أَكَلَ مِنْهَا فَمَاتَ فَقَتَلُوهَا فَلَمْ يَقْتُلْهَا فِي الْحَالِ، فَلَمَّا مَاتَ بِشْرٌ سَلَّمَهَا لِأَوْلِيَائِهِ فَقَتَلُوهَا قِصَاصًا» فَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ غَيْرِهِ. وَمُعَالَجَةُ السُّمِّ بِاسْتِفْرَاغٍ أَوْ دَوَاءٍ يُعَارِضُ فِعْلَهُ وَيُبْطِلُهُ بِكَيْفِيَّتِهِ أَوْ بِخَاصِّيَّتِهِ

وَإِنْ عَدِمَ الدَّوَاءَ فَالِاسْتِفْرَاغُ الْكُلِّيُّ، وَأَنْفَعُهُ الْحِجَامَةُ لَا سِيَّمَا مَعَ حَرِّ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، فَإِنَّ الْقُوَّةَ السُّمِّيَّةَ تَسْرِي فِي الدَّمِ فَتُبْعَثُ فِي الْعُرُوقِ وَالْمَجَارِي حَتَّى تَصِلَ إلَى الْقَلْبِ فَيَكُونُ الْهَلَاكُ فَإِذَا خَرَجَ الدَّمُ خَرَجَ مَعَهُ الْكَيْفِيَّةُ السُّمِّيَّةُ، فَإِنْ كَانَ اسْتِفْرَاغًا تَامًّا ذَهَبَ السُّمُّ أَوْ تَقْوَى عَلَيْهِ الطَّبِيعَةُ. وَإِنَّمَا احْتَجَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْكَاهِلِ وَهُوَ الْحَارِكُ وَهُوَ مَا بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ مَقْدِمُ أَعْلَى الظَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَوْضِعٍ يُمْكِنُ حَجْمُهُ إلَى الْقَلْبِ وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَإِسْنَادُهُ ثِقَاتٌ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحْتَجِمُ فِي الْأَخْدَعَيْنِ وَهُمَا عِرْقَانِ فِي جَانِبَيْ الْعُنُقِ وَالْكَاهِلِ وَكَانَ يَحْتَجِمُ لِسَبْعَ عَشْرَةَ وَتِسْعَ عَشْرَةَ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ» وَلِأَبِي دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ مَنْ احْتَجَمَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ كَانَ شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ» . وَالْمُرَادُ دَاءٌ سَبَبُهُ غَلَبَةُ الدَّمِ وَكَذَا مَعْنَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ مَرْفُوعًا «مَنْ أَهْرَاقَ مِنْ هَذِهِ الدِّمَاءِ فَلَا يَضُرُّهُ أَنْ لَا يَتَدَاوَى بِشَيْءٍ» . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «نِعْمَ الدَّوَاءُ الْحِجَامَةُ تُذْهِبُ الدَّمَ وَتُجَفِّفُ الصُّلْبَ وَتَجْلُو عَنْ الْبَصَرِ» وَقَالَ «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ عُرِجَ بِهِ مَا مَرَّ عَلَى مَلَإٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ إلَّا قَالُوا عَلَيْكَ بِالْحِجَامَةِ» وَقَالَ «إنَّ خَيْرَ مَا تَحْتَجِمُونَ فِيهِ سَبْعَ عَشْرَةَ وَتِسْعَ عَشْرَةَ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ» إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَفِي مُوَطَّإِ مَالِكٍ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنْ كَانَ دَوَاءٌ يَبْلُغُ الدَّاءَ، فَإِنَّ الْحِجَامَةَ تَبْلُغُهُ» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «إنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَتَدَاوَوْنَ بِهِ خَيْرٌ فَفِي الْحِجَامَةِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو دَاوُد وَعِنْدَهُ " مِمَّا تَدَاوَيْتُمْ " وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي الْحَجْمِ «هُوَ خَيْرُ مَا تَدَاوَى بِهِ النَّاسُ» وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَالتِّرْمِذِيِّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ مَا مَرَّ عَلَى مَلَإٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ إلَّا أَمَرُوهُ أَنْ مُرْ أُمَّتَكَ بِالْحِجَامَةِ» . قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَلَمَّا احْتَجَمَ مِنْ السُّمِّ بَقِيَ أَثَرُهُ مَعَ ضَعْفِهِ لِإِرَادَةِ اللَّهِ تَكْمِيلَ مَرَاتِبِ الْفَضْلِ كُلِّهَا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَظَهَرَ تَأْثِيرُ ذَلِكَ الْأَثَرِ لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ إكْرَامَهُ

بِالشَّهَادَةِ وَظَهَرَ سِرُّ قَوْله تَعَالَى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87] ، فَجَاءَ (كَذَّبْتُمْ) بِالْمَاضِي لِوُقُوعِهِ وَجَاءَ (تَقْتُلُونَ) بِالْمُسْتَقْبَلِ لِتَوَقُّعِهِ كَذَا قَالَ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ وَغَيْرُهُ: إنَّمَا قَالَ: (تَقْتُلُونَ) لِتَوَافُقِ رُءُوسِ الْآيِ وَقَالَ الْمَهْدِيُّ وَغَيْرُهُ: لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِمْ أَبَدًا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] . وَالْمُرَادُ مِنْ الْقَتْلِ فَلَا يَرِدُ كَوْنُهُ أُوذِيَ أَوْ أَنَّ الْأَذَى كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ. ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تُوَافِقُ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْيَهُودِيَّةِ «مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطكِ عَلَى ذَلِكَ أَوْ عَلَيَّ» كَذَا قَالَتْ الْيَهُودِيَّةُ وَالْيَهُودُ: إنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرّكَ وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ مَا رُوِيَ مِنْ وُجُودِ الْأَلَمِ وَانْقِطَاعِ الْأَبْهَرِ مِنْ السُّمِّ مُرْسَلٌ أَوْ مُنْقَطِعٌ أَوْ يُقَالُ: إنَّهُ خِلَافُ الْأَشْهَرِ فَالْقَوْلُ بِالْأَشْهَرِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ أَوْلَى مَعَ مُوَافَقَتِهِ لِلْكِتَابِ الْعَزِيزِ. وَصَاحِبُ الْقَوْلِ الْآخَرِ يَقُولُ: هَذِهِ مَرْتَبَةُ كَمَالٍ قَدْ صَحَّتْ بِهَا الرِّوَايَةُ وَلَا مَانِعَ مِنْ الْقَوْلِ بِهَا، وَالْمُرَادُ بِالْعِصْمَةِ مِنْ الْقَتْلِ بِالْآيَةِ وَالْخَبَرِ عَلَى وَجْهِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ وَالتَّسْلِيطِ وَهَذَا لَمْ يَقَعْ، وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَحْفُوظٌ آمِنٌ مِمَّا لَمْ يُحْفَظْ مِنْهُ غَيْرُهُ وَلَمْ يَأْمَنْ وَلِهَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ «أَنَّهُ لَمَّا نَامَ وَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَاخْتَرَطَ سَيْفَهُ فَاسْتَيْقَظَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالسَّيْفُ فِي يَدِ الْأَعْرَابِيِّ فَقَالَ تَخَافُنِي؟ فَقَالَ: لَا قَالَ: فَمَنْ يَعْصِمُكَ مِنِّي قَالَ: اللَّهُ» وَلِهَذَا مَاتَ بَعْضُ مَنْ أَكَلَ مَعَهُ مِنْ الشَّاةِ، وَقَصَدَتْ الْيَهُودِيَّةُ

أَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا أَنَّهُ يَمُوتُ، وَعَاشَ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِنِينَ عَلَى حَالِهِ قَبْلَ الْأَكْلِ يَتَصَرَّفُ كَمَا كَانَ فَلَمْ تَقْتُلْهُ الْيَهُودُ بِفِعْلِهَا كَمَا قَتَلَتْ غَيْرَهُ، وَأَحْسَنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ صَنِيعَهُ إلَيْهِ عَلَى جَارِي عَادَتِهِ تَعَالَى، فَأَظْهَرَ أَثَرًا بَعْدَ سِنِينَ إكْرَامًا لَهُ بِالشَّهَادَةِ وَلَا تَعَارُضَ يَبْنِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَهَا أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل في السحر وعلاجه وحديث سحر لبيد للنبي صلى الله عليه وسلم

[فَصْلٌ فِي السِّحْرِ وَعِلَاجِهِ وَحَدِيثِ سِحْرِ لَبِيدٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «سَحَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَهُودِيٌّ مِنْ يَهُودِ بَنِي زُرَيْقٍ يُقَالُ لَهُ لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا يَفْعَلُهُ حَتَّى كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ عِنْدِي دَعَا اللَّهَ ثُمَّ قَالَ يَا عَائِشَةُ أُشْعِرْتُ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ؟ جَاءَنِي رَجُلَانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلِي، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِي لِلَّذِي عِنْدَ رِجْلَيَّ مَا وَجَعُ الرَّجُلِ قَالَ: مَطْبُوبٌ قَالَ: مَنْ طَبَّهُ قَالَ لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ قَالَ: فِي أَيِّ شَيْءٍ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلْعَةِ ذَكَرٍ قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ قَالَ: فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ قَالَ: فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ثُمَّ قَالَ يَا عَائِشَةُ وَاَللَّهِ لَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ وَلَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أَخْرَجْتَهُ؟ وَفِي مُسْلِمٍ أَحْرَقْتَهُ قَالَ: لَا أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَافَانِي اللَّهُ وَكَرِهْتُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا فَأَمَرْتُ بِهَا فَدُفِنَتْ» . وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ «يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ يَأْتِي أَهْلَهُ وَلَا يَأْتِي، وَفِيهِ أَيْضًا حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ إنْ كَانَ يَأْتِي أَهْلَهُ وَلَا يَأْتِي وَفِيهِ أَيْضًا حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ إنْ كَانَ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلَا يَأْتِهِنَّ قَالَ سُفْيَانُ: وَذَلِكَ أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنْ السِّحْرِ. وَفِيهِ قَالَ مَنْ طَبَّهُ قَالَ لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ حَلِيفُ الْيَهُودِ كَانَ مُنَافِقًا» . أَنْكَرَ بَعْضُ النَّاسِ هَذَا؛ لِأَنَّهُ نَقْصٌ وَعَيْبٌ أَوْ أَنَّهُ يَمْنَعُ الثِّقَةَ بِالشَّرْعِ وَهَذَا بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْأَوْجَاعِ وَالْأَمْرَاضِ وَالسُّمِّ وَالدَّلَائِلُ الْقَطْعِيَّةُ

نَاطِقَةٌ بِصِدْقِهِ وَعِصْمَتِهِ وَالْإِجْمَاعُ أَيْضًا. فَأَمَّا بَعْضُ أُمُورِ الدُّنْيَا الَّتِي لَمْ يُبْعَثْ بِسَبَبِهَا وَلَمْ يُفَضَّلْ مِنْ أَجْلِهَا فَلَا مَانِعَ مِنْهُ. الطِّبُّ بِكَسْرِ الطَّاءِ فِي اللُّغَةِ يُقَالُ عَلَى مَعَانٍ (أَحَدُهَا) السِّحْرُ وَالْمَطْبُوبُ الْمَسْحُورُ. يُقَالُ: طَبَّ الرَّجُلُ إذَا سُحِرَ فَكَنُّوا بِالطِّبِّ عَنْ السِّحْرِ كَمَا كَنُّوا بِالسَّلِيمِ عَنْ اللَّدِيغِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ تَفَاؤُلًا بِالسَّلَامَةِ، وَكَمَا كَنُّوا بِالْمَفَازَةِ عَنْ الْفَلَاةِ الْمُهْلِكَةِ الَّتِي لَا مَاءَ فِيهَا فَقَالُوا: مَفَازَةً تَفَاؤُلًا بِالْفَوْزِ مِنْ الْهَلَاكِ. (وَالثَّانِي) الْإِصْلَاحُ يُقَالُ طَبَّبْتُهُ إذَا أَصْلَحْتُهُ، وَيُقَالُ: لَهُ طِبٌّ بِالْأُمُورِ أَيْ: لُطْفٌ وَسِيَاسَةٌ قَالَ الشَّاعِرُ: وَإِذَا تَغَيَّرَ مِنْ تَمِيمٍ أَمْرُهَا ... كُنْتُ الطَّبِيبَ لَهَا بِأَمْرٍ ثَاقِبِ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الطِّبُّ مِنْ الْأَضْدَادِ، يُقَالُ لِعِلَاجِ الدَّاءِ طِبٌّ، وَلِلسِّحْرِ طِبٌّ. (وَالثَّالِثُ) الْحَذْقُ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: كُلُّ حَاذِقٍ طَبِيبٌ عِنْدَ الْعَرَبِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ أَصْلُ الطِّبِّ الْحَذْقُ بِالْأَشْيَاءِ وَالْمَهَارَةُ بِهَا. يُقَالُ لِلرَّجُلِ طَبٌّ وَطَبِيبٌ إذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ عِلَاجِ الْمَرِيضِ وَقَالَ غَيْرُهُ رَجُلٌ طَبِيبٌ أَيْ حَاذِقٌ سُمِّيَ طَبِيبًا لِحِذْقِهِ وَفِطْنَتِهِ قَالَ عَلْقَمَةُ: فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي ... خَبِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ إذَا شَابَ رَأْسُ الْمَرْءِ أَوْ قَلَّ مَالُهُ ... فَلَيْسَ لَهُ فِي وُدِّهِنَّ نَصِيبُ

وَقَالَ غَيْرُهُ: إنْ تُغْدِقِي دُونِي الْقِنَاعَ فَإِنَّنِي ... طَبٌّ بِأَخْذِ الْفَارِسِ الْمُسْتَلْئِمِ وَذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ بِكَسْرِ الطَّاءِ وَبَعْضُهُمْ بِفَتْحِهَا. أَغْدَقَتْ الْمَرْأَةُ قِنَاعَهَا أَيْ أَرْسَلَتْهُ عَلَى وَجْهِهَا، وَأَغْدَقَ اللَّيْلُ أَيْ أَرْخَى سُدُولَهُ، وَأَغْدَقَ الصَّيَّادُ الشَّبَكَةَ عَلَى الصَّيْدِ. وَالْمُسْتَلْئِمُ الَّذِي قَدْ لَبِسَ لَأْمَةَ حَرْبَةٍ. (وَالرَّابِعُ) يُقَالُ الطِّبِّ لِنَفْسِ الدَّوَاءِ كَقَوْلِهِ: أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ حَسَّانَ عَنِّي ... أَسِحْرٌ كَانَ طِبُّكَ أَمْ جُنُونُ (وَالْخَامِسُ) الْعَادَةُ، يُقَالُ لَيْسَ ذَلِكَ بِطِبِّي أَيْ: عَادَتِي قَالَ فَرْوَةُ بْنُ مُسَيْكٍ: فَمَا إنَّ طِبَّنَا جُبْنٌ وَلَكِنْ ... مَنَايَانَا وَدَوْلَةُ آخَرِينَا وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ وَمَا التِّيهُ طِبِّي فِيهِمُو غَيْرَ أَنَّنِي ... بَغِيضٌ إلَيَّ الْجَاهِلُ الْمُتَعَاقِلُ وَقَوْلُ الْحَمَاسِيِّ: فَإِنْ كُنْتَ مَطْبُوبًا فَلَا زِلْتَ هَكَذَا ... وَإِنْ كُنْتَ مَسْحُورًا فَلَا بَرِئَ السِّحْرُ أَرَادَ بِالْمَطْبُوبِ الْمَسْحُورَ، وَبِالْمَسْحُورِ الْعَلِيلَ الْمَرِيضَ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَيُقَالُ: لِلْعَلِيلِ مَسْحُورٌ وَأَنْشَدَ هَذَا الْبَيْتَ وَمَعْنَاهُ يَعْنِي: إنْ كَانَ هَذَا الَّذِي قَدْ عَرَانِي مِنْكِ وَمِنْ حُبِّكِ أَسْأَلُ اللَّهَ دَوَامَهُ، وَلَا أُرِيدُ زَوَالَهُ سَوَاءٌ كَانَ سِحْرًا أَوْ مَرَضًا، وَالطَّبُّ بِفَتْحِ الطَّاءِ الْعَالِمُ بِالْأُمُورِ وَكَذَلِكَ الطَّبِيبُ يُقَالُ: لَهُ طَبٌّ أَيْضًا. وَبِضَمِّ الطَّاءِ اسْمُ مَوْضِعٍ وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ: فَقُلْتُ هَلْ انْهَلْتُمْ بِطُبِّ رِكَابِكُمْ ... بِجَائِزَةِ الْمَاءِ الَّتِي طَابَ طِيبُهَا

أَمَّا عِلَاجُ الْمَسْحُورِ فَإِمَّا بِاسْتِخْرَاجِهِ وَتَبْطِيلِهِ كَمَا فِي الْخَبَرِ فَهُوَ كَإِزَالَةِ الْمَادَّةِ الْخَبِيثَةِ بِالِاسْتِفْرَاغِ، وَإِمَّا بِالِاسْتِفْرَاغِ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يَصِلُ إلَيْهِ أَذَى السِّحْرِ، فَإِنَّ لِلسِّحْرِ تَأْثِيرًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ لَا مُجَرَّدَ خَيَالٍ بَاطِلٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَلِلْمَسْأَلَةِ وَأَحْكَامِ السِّحْرِ وَالسَّاحِرِ مَسَائِلُ مَشْهُورَةٌ لَيْسَ هَذَا مَحَلَّهَا. وَقَدْ رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْغَرِيبِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ عَلَى رَأْسِهِ بِقَرْنٍ حِينَ طُبَّ» قَالَ أَبُو عَبِيدٍ: مَعْنَى طُبَّ سُحِرَ قَالَ بَعْضُهُمْ: انْتَهَتْ مَادَّةُ هَذَا السِّحْرِ إلَى رَأْسِهِ إلَى إحْدَى قُوَاهُ الَّتِي فِيهِ بِحَيْثُ إنَّهُ كَانَ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَلَمْ يَفْعَلْهُ. وَالسِّحْرُ مُرَكَّبٌ مِنْ تَأْثِيرَاتِ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ وَانْفِعَالِ الْقُوَى الطَّبِيعِيَّةِ عَنْهُ وَهُوَ سِحْرُ النمريجات وَهُوَ أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنْ السِّحْرِ، فَاسْتِعْمَالُ الْحِجَامَةِ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي تَضَرَّرَ بِالسِّحْرِ عَلَى مَا يَنْبَغِي مِنْ أَنْفَعِ الْمُعَالَجَةِ. قَالَ أَبُقْرَاطُ: الْأَشْيَاءُ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تُسْتَفْرَغَ يَجِبُ أَنْ تُسْتَفْرَغَ مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي هِيَ إلَيْهَا أَمْثَلُ بِالْأَشْيَاءِ الَّتِي تَصْلُحُ لِاسْتِفْرَاغِهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَمَّا وَقَعَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا إنَّهُ عَنْ مَادَّةٍ دَمَوِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا مَالَتْ إلَى جِهَةِ الدِّمَاغِ وَغَلَبَتْ عَنْ الْبَطْنِ الْمُقَدَّمِ مِنْهُ فَغَيَّرَتْ مِزَاجَهُ عَنْ طَبِيعَتِهِ وَكَانَ اسْتِعْمَالُ الْحِجَامَةِ حِينَئِذٍ مِنْ أَنْفَعِ الْمُعَالَجَةِ وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْوَحْيِ فَلَمَّا جَاءَهُ الْوَحْيُ أَنَّهُ سُحِرَ عَدَلَ إلَى الْعِلَاجِ الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ اسْتِخْرَاجُ السِّحْرِ وَإِبْطَالُهُ فَدَعَا اللَّهَ فَأَعْلَمَهُ بِهِ فَاسْتَخْرَجَهُ وَكَانَ غَايَةَ هَذَا السِّحْرِ إنَّمَا هُوَ فِي جَسَدِهِ وَظَاهِرِ جَوَارِحِهِ لَا عَلَى عَقْلِهِ وَقَلْبِهِ وَمَا وَرَدَ مِنْ التَّخَيُّلِ فَهُوَ بِالْبَصَرِ لَا تَخَيُّلٌ يَطْرُقُ إلَى الْعَقْلِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يَعْتَقِدُ صِحَّةَ مَا يَمِيلُ إلَيْهِ مِنْ إتْيَانِهِ النِّسَاءَ بَلْ يَعْلَمُ أَنَّهُ خَيَالٌ وَقَدْ يَحْدُثُ مِثْلُ هَذَا عَنْ بَعْضِ الْأَمْرَاضِ. وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يُتَحَصَّنُ بِهِ مِنْ السِّحْرِ وَمِنْ أَنْفَعِ عِلَاجٍ لَهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ التَّوَجُّهُ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَتَوَكُّلُ الْقَلْبِ وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ وَالتَّعَوُّذُ وَالدُّعَاءُ وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الَّذِي لَمْ يَصِحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ شَيْئًا قَبْلَهُ بَلْ قَدْ

يُقَالُ لَمْ يَصِحَّ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ شَيْئًا غَيْرَهُ، وَهُوَ الْغَايَةُ الْقُصْوَى، وَالنِّهَايَةُ الْعُظْمَى، وَلِهَذَا فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهُ، وَإِنَّمَا دَفَنَهُ لِئَلَّا يُفْضِيَ ذَلِكَ إلَى مَفْسَدَةٍ وَانْتِشَارِهَا، لَا لِتَوَقُّفِ الشِّفَاءِ وَالْعَافِيَةِ عَلَيْهِ وَهَذَا وَاضِحٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَعِنْدَ السَّحَرَةِ أَنَّ سِحْرَهُمْ إنَّمَا يَتِمُّ فِي قَلْبٍ ضَعِيفٍ مُنْفَعِلٍ وَنَفْسٍ شَهْوَانِيَّةٍ كَجَاهِلٍ وَصَبِيٍّ وَامْرَأَةٍ لَا فِي قَلْبِ مُتَيَقِّظٍ عَارِفٍ بِاَللَّهِ لَهُ مُعَامَلَةٌ وَتَوَجُّهٌ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ الضَّعِيفَ فِيهِ مَيْلٌ وَتَعَلُّقٌ فَيَتَسَلَّطُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، فَالْأَرْوَاحُ الْخَبِيثَةُ تُسَلَّطُ عَلَيْهِ بِمَيْلِهِ إلَى مَا يُنَاسِبُهَا وَفَرَاغِهِ عَمَّا يُعَارِضُهَا وَيُقَاوِمُهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ: إذَا صُنِعَ مِنْ قُضْبَانِ الْأَرَاكِ خَلْخَالًا لِلْعَضُدِ مُنِعَ السِّحْرُ.

فصل في أنواع الاستفراغ القيء أسبابه وعلاجه

[فَصْلٌ فِي أَنْوَاعِ الِاسْتِفْرَاغِ الْقَيْءُ أَسْبَابُهُ وَعِلَاجُهُ] ُ) عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَاءَ فَتَوَضَّأَ فَلَقِيتُ ثَوْبَانَ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ فَقَالَ: صَدَقَ أَنَا صَبَبْتُ لَهُ وُضُوءَهُ» . وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ. الِاسْتِفْرَاغَاتُ خَمْسَةٌ: الْإِسْهَالُ، وَإِخْرَاجُ الدَّمِ، وَقَدْ سَبَقَ ذَلِكَ وَالْقَيْءُ، إمَّا بِالْغَلَبَةِ فَلَا يَجُوزُ حَبْسُهُ إلَّا إذَا أَفْرَطَ وَخِيفَ مِنْهُ فَيُقْطَعُ بِمَا يُمْسِكُهُ، وَإِمَّا بِالِاسْتِدْعَاءِ فَأَنْفَعُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ. وَسَبَبُ الْقَيْءِ صَفْرَاءُ أَوْ بَلْغَمٌ أَوْ ضَعْفُ الْمَعِدَةِ فِي ذَاتِهَا فَلَا تَهْضِمُ وَتَقْذِفُ الطَّعَامَ إلَى فَوْقٍ أَوْ يُخَالِطُهَا خَلْطٌ رَدِيءٌ فَيُسِيءُ هَضْمَهَا أَوْ زِيَادَةُ مَأْكُولٍ أَوْ مَشْرُوبٍ لَا تَحْتَمِلُهُ الْمَعِدَةُ، أَوْ كَرَاهَتُهَا لَهُمَا، فَتَطْلُبُ دَفْعَهُ، وَيَحْصُلُ فِيهَا مَا يَثُورُ الطَّعَامُ بِكَيْفِيَّتِهِ وَطَبِيعَتِهِ فَيَقْذِفُ بِهِ، أَوْ قَرَفٌ يَغْثِي النَّفْسَ، أَوْ عَرَضٌ نَفْسَانِيٌّ كَهَمٍّ وَحُزْنٍ يَشْغَلُ الطَّبِيعَةَ عَنْ تَدْبِيرِ الْبَدَنِ بِهِ فَتَقْذِفُهُ الْمَعِدَةُ، وَقَدْ يَكُونُ لِأَجْلِ تَحَرُّكِ الْأَخْلَاطِ عِنْدَ تَخَبُّطِ النَّفْسِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ النَّفْسِ وَالْبَدَنِ يَنْفَعِلُ عَنْ صَاحِبِهِ، أَوْ نَقْلِ الطَّبِيعَةِ بِأَنْ يَرَى مَنْ يَتَقَيَّأُ فَيَغْلِبُ الْقَيْءُ، فَإِنَّ الطَّبِيعَةَ نَقَّالَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَيْءَ فِي بَلَدٍ حَارٍّ وَزَمَنٍ حَارٍّ أَنْفَعُ لِرِقَّةِ الْأَخْلَاطِ وَانْجِذَابِهَا إلَى فَوْقٍ، وَبَلَدٍ وَزَمَنٍ بَارِدٍ يَغْلُظُ الْخَلْطُ، وَيَصْعُبُ جَذْبُهُ، وَالْإِسْهَالُ أَنْفَعُ. وَإِزَالَةُ الْخَلْطِ تَكُونُ بِالْجَذْبِ وَالِاسْتِفْرَاغِ، وَالْجَذْبُ يَكُونُ مِنْ أَبْعَدِ الطُّرُقِ وَالِاسْتِفْرَاغُ مِنْ أَقْرَبِهَا؛ لِأَنَّ الْمَادَّةَ إنْ كَانَتْ عَامِلَةً فِي الِانْصِبَابِ أَوْ التَّرَقِّي لَمْ تَسْتَقِرَّ بَعْدُ فَهِيَ مُحْتَاجَةٌ إلَى الْجَذْبِ، فَإِنْ كَانَتْ مُتَصَاعِدَةً جُذِبَتْ مِنْ أَسْفَلَ، وَإِنْ كَانَتْ مُنْصَبَّةً جُذِبَتْ مِنْ فَوْقٍ، وَأَمَّا إذَا اسْتَقَرَّتْ فِي مَوْضِعِهَا اُسْتُفْرِغَتْ مِنْ أَقْرَبِ الطُّرُقِ إلَيْهَا، فَمَتَى أَضَرَّتْ الْمَادَّةُ بِالْأَعْضَاءِ الْعُلْيَا اُجْتُذِبَتْ مِنْ أَسْفَلَ، وَمَتَى أَضَرَّتْ بِالْأَعْضَاءِ السُّفْلَى اُجْتُذِبَتْ مِنْ فَوْقٍ، وَمَتَى اسْتَقَرَّتْ

اُسْتُفْرِغَتْ مِنْ أَقْرَبِ مَكَان إلَيْهَا، وَلِهَذَا كَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَحْتَجِمُ تَارَةً عَلَى كَاهِلِهِ وَقَدَمِهِ وَفِي رَأْسِهِ، فَالْقَيْءُ يُسْتَفْرَغُ مِنْ أَعْلَى الْمَعِدَةِ وَيُجْذَبُ مِنْ أَسْفَلَ وَالْإِسْهَالُ بِالْعَكْسِ. قَالَ أَبُقْرَاطُ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْرَاغُ فِي الصَّيْفِ مِنْ فَوْقُ أَكْثَرَ مِنْ الِاسْتِفْرَاغِ بِالدَّوَاءِ وَفِي الشِّتَاءِ مِنْ أَسْفَلَ. وَالْقَيْءُ يُنَقِّي الْمَعِدَةَ وَيُقَوِّيهَا وَيُحِدُّ الْبَصَرَ وَيُزِيلُ ثِقَلَ الرَّأْسِ وَيَنْفَعُ مِنْ قُرُوحِ الْكُلَى وَالْمَثَانَةِ وَالْيَرَقَانِ وَالْأَمْرَاضِ الْمُزْمِنَةِ كَرَعْشَةٍ وَفَالِجٍ وَجُذَامٍ وَاسْتِسْقَاءٍ، وَيَسْتَعْمِلُهُ الصَّحِيحُ فِي الشَّهْرِ مَرَّتَيْنِ مِنْ غَيْرِ حِفْظِ دَوْرٍ لِيَتَدَارَكَ الثَّانِي مَا قَصُرَ عَنْهُ الْأَوَّلُ، وَيُنَقِّي فَضْلَةً انْصَبَّتْ بِسَبَبِهِ، وَيَضُرُّ الْإِكْثَارُ مِنْهُ الْمَعِدَةَ وَيَجْعَلُهَا قَلِيلَةَ الْفُضُولِ وَيَضُرُّ بِالْأَسْنَانِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَرُبَّمَا صَدَّعَ، وَيَجِبُ أَنْ يَتَنَبَّهَ مَنْ بِهِ وَرَمٌ فِي الْحَلْقِ أَوْ ضَعْفٌ فِي صَدْرٍ أَوْ دَقِيقَ الرَّقَبَةِ أَوْ مُسْتَعِدٌّ لِنَفْثِ الدَّمِ أَوْ عُسْرِ الْإِجَابَةِ. أَمَّا فِعْلُ بَعْضِ مَنْ يُسِيءُ التَّدْبِيرَ وَهُوَ أَنْ يَمْتَلِئَ طَعَامًا، ثُمَّ يَقْذِفَ بِهِ فَإِنَّهُ يُعَجِّلُ الْهَرَمَ وَيُوقِعُ فِي أَمْرَاضٍ رَدِيئَةٍ وَيَجْعَلُ الْقَيْءَ لَهُ عَادَةً وَالْقَيْءُ مَعَ الْيُبُوسَةِ وَضَعْفِ الْأَحْشَاءِ وَهَزْلِ الْمَرَاقِ أَوْ ضَعْفِ الْمُسْتَقِي خَطَرٌ وَأَحْمَدُ أَوْقَاتِهِ الصَّيْفُ وَالرَّبِيعُ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَرَّضَ فِي الْخَرِيفِ إلَى الْقَيْءِ فَإِنَّهُ يَجْلِبُ الْحُمَّى مِنْ سَاعَتِهِ، وَلْيَكُنْ الْمَيْلُ فِيهِ إلَى تَسْكِينِ الْأَخْلَاطِ مَهْمَا أَمْكَنَ. وَأَمَّا الشِّتَاءُ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ فِي التَّدْبِيرِ وَالْإِكْثَارَ مِنْ الْأَغْذِيَةِ، وَلْيَتَوَقَّ فِيهِ الْإِسْهَالَ الْمُفْرِطَ. وَيَنْبَغِي عِنْدَ الْقَيْءِ عَصْبُ الْعَيْنَيْنِ وَقَمْطُ الْبَطْنِ وَغَسْلُ الْوَجْهِ بِمَاءٍ بَارِدٍ إذَا فَرَغَ، وَأَنْ يَشْرَبَ عَقِبَهُ شَرَابَ التُّفَّاحِ مَعَ يَسِيرٍ مِنْ مُصْطَكَى وَمَاءِ وَرْدٍ، وَذَكَرَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الطَّبِيبُ أَنَّهُ إذَا خِيفَ مِنْ الْقَيْءِ بِعَكْسِ الْبُخَارِ إلَى الدِّمَاغِ فَلْيَكُنْ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ قَالَ: وَيَقُومُ مَقَامَهُ شَرَابُ اللَّيْمُونِ بُكْرَةَ النَّهَارِ. (وَالرَّابِعُ) مِنْ الاستفراغات اسْتِفْرَاغُ الْأَبْخِرَةِ

(الْخَامِسُ) الِاسْتِفْرَاغُ بِالْعَرَقِ لَا يُقْصَدُ غَالِبًا بَلْ الطَّبِيعَةُ تَدْفَعُهُ إلَى ظَاهِرِ الْجَسَدِ فَيُصَادِفُ الْمَسَامَّ مُفَتَّحَةً فَيَخْرُجُ مِنْهَا. وَعَرَقُ الْإِنْسَانِ مَائِيَّةُ الدَّمِ خَالَطَهَا صَدِيدٌ مَرَارِيٌّ وَهُوَ أَنْضَجُ مِنْ الْبَوْلِ إذَا كَانَ مِنْ فَضْلِ رُطُوبَةٍ بَعْدَ الْهَضْمِ الْأَخِيرِ، وَالْبَوْلُ مِنْ فَضْلِ الْهَضْمِ الثَّانِي وَفِيهِ تَحْلِيلٌ، وَعَرَقُ الْمُصَارِعَيْنِ يَنْفَعُ مِنْ وَرَمِ الْأُنْثَيَيْنِ وَيُحَلِّلُهُ وَيَابِسُ عَرَقِهِمْ الَّذِي قَدْ خَالَطَهُ تُرَابُ مَوْضِعِ الصِّرَاعِ مَعَ دُهْنِ الْحِنَّا يُجْعَلُ عَلَى أَوْرَامِ الثَّدْيِ فَيُطْفِئُ لَهِيبَهَا، وَإِذَا ضُمِّدَتْ بِهِ الدُّمُّلَةُ أَنْضَجَهَا.

فصل الكلام في الكي

[فَصْلٌ الْكَلَامُ فِي الْكَيِّ] فَصْلٌ قَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي الْكَيِّ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ. وَعَنْ عِمْرَانَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الْكَيِّ فَاكْتَوَيْنَا فَمَا أَفْلَحْنَا وَلَا أَنْجَحْنَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَقَالَ: فَمَا أَفْلَحْنَا وَلَا أَنْجَحْنَا. وَكَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ حَبِيبٍ ثَنَا أَبُو دَاوُد ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتِ بْنِ مُطَرِّفٍ. وَعَنْ عِمْرَانَ وَعَنْ جَابِرٍ قَالَا: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ طَبِيبًا فَقَطَعَ مِنْهُ عِرْقًا، ثُمَّ كَوَاهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْ جَابِرٍ أَيْضًا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَوَى سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي أَكْحَلِهِ فَحَسَمَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ بِمِشْقَصٍ، ثُمَّ وَرِمَتْ فَحَسَمَهُ الثَّانِيَةَ» : حَسَمَهُ أَيْ كَوَاهُ لِيَقْطَعَ دَمَهُ، وَأَصْلُ الْحَسْمِ الْقَطْعُ،، وَالْأَكْحَلُ عِرْقٌ فِي وَسَطِ الذِّرَاعِ يَكْثُرُ فَصْدُهُ. وَعَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَوَى سَعْدَ بْنَ زُرَارَةَ مِنْ الشَّوْكَةِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ وَهَذَا الْحَدِيثُ إسْنَادُهُ ثِقَاتٌ الشَّوْكَةُ حُمْرَةٌ تَعْلُو الْوَجْهَ، وَالْجَسَدَ وَعَنْ أَنَسٍ «أَنَّهُ كَوَى مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيٌّ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَعَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا «مَكَانُ الْكَيِّ التَّكْمِيدُ، وَمَكَانُ الْعِلَاقِ السَّعُوطُ، وَمَكَانُ النَّفْخِ اللَّدُودُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ فِي حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَادَ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ فَكَمَّدَهُ بِخِرْقَةٍ» التَّكْمِيدُ أَنْ تُسَخَّنَ خِرْقَةٌ وَتُوضَعَ عَلَى الْعُضْوِ الْوَجِعِ وَيُتَابَعَ ذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ لِيَسْكُنَ وَتِلْكَ الْخِرْقَةُ تُسَمَّى الْكِمَادَةُ، وَالْكِمَادُ.

فصل يتعلق بما سبق في ذكر الحديث من المسائل وغير ذلك

[فَصْلٌ يَتَعَلَّقُ بِمَا سَبَقَ فِي ذِكْرِ الْحَدِيثِ مِنْ الْمَسَائِلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ] رَوَى أَبُو دَاوُد ثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ ثَنَا يُونُسُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الدَّوَاءِ الْخَبِيثِ،» كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا، وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَفِي لَفْظِ بَعْضِهِمْ يَعْنِي السَّمَّ أَظُنُّهُ أَحْمَدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كُلِّ دَوَاءٍ خَبِيثٍ كَالسَّمِّ وَنَحْوِهِ» . وَرَوَى سَعِيدٌ ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْمُسْكِرِ «أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ» وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مُخَارِقٍ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَسَّانِ بْنِ مُخَارِقٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ «أَنَّ طَارِقَ بْنَ سُوَيْدٍ الْجُعْفِيَّ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْخَمْرِ فَنَهَاهُ عَنْهَا فَقَالَ: إنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ فَقَالَ: إنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ ، وَذَكَرَ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَ أَصْحَابِهِمْ الشَّافِعِيَّةِ تَحْرِيمُ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ الشَّارِعُ التَّدَاوِيَ بِالْمُحَرَّمَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْهُ إلَّا لِخُبْثِهِ لَا عُقُوبَةً. وَقَدْ قَالَ فِي بَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ: إنَّهُ دَاءٌ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ دَوَاءٌ وَلَا نَفْعَ فِيهِ؟ وَإِنْ كَانَ أَعْقَبَ الْبَدَنَ، وَالرُّوحَ، وَالطَّبِيعَةَ، وَالْقَلْبَ خُبْثًا وَضَرَرًا أَكْثَرَ مِمَّا حَصَلَ بِهِ مِنْ النَّفْعِ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ وَذَرِيعَةٌ إلَى تَعَاطِيهِ لِغَيْرِ التَّدَاوِي وَهُوَ عِلَّةُ النَّهْيِ عَنْهُ، وَالذَّرَائِعُ مُعْتَبَرَةٌ، وَلِذَلِكَ نَهَى عَنْ إمْسَاكِ الْخَمْرِ لِتُتَّخَذَ خَلًّا، وَلِأَنَّ مِنْهَا مَا تَعَافُهُ النَّفْسُ فَلَا تَنْبَعِثُ الطَّبِيعَةُ لِمُسَاعَدَتِهِ فَيَبْقَى كَلًّا عَلَيْهَا.

وَقَدْ قَالَ أَبُقْرَاطُ: ضَرَرُ الْخَمْرِ بِالرَّأْسِ شَدِيدٌ؛ لِأَنَّهُ يُسْرِعُ الِارْتِفَاعَ إلَيْهِ وَتُرْفَعُ بِارْتِفَاعِهِ الْأَخْلَاطُ الَّتِي تَعْلُو فِي الْبَدَنِ وَهُوَ لِذَلِكَ يَضُرُّ بِالذِّهْنِ وَقَالَ صَاحِبُ الْكَامِلِ: إنَّ خَاصِّيَّةَ الشَّرَابِ الْإِضْرَارُ بِالدِّمَاغِ، وَالْعَصَبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى سَعِيدٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: كَانَ عَلِيٌّ يَكْرَهُ الْحُقْنَةَ. كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ إلَّا لَيْثًا فَإِنَّهُ مُضَعَّفٌ وَقَدْ احْتَجَّ بِهِ بَعْضُهُمْ. وَرَوَى أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ وَإِبْرَاهِيمَ أَنَّهُمْ كَرِهُوا الْحُقْنَةَ. وَرَوَى أَيْضًا بِإِسْنَادٍ رَوَاهُ عَنْ الشَّعْبِيِّ وَسُئِلَ عَنْ الْحُقْنَةِ فَقَالَ: هِيَ سُنَّةُ الْمُشْرِكِينَ. وَرَوَى أَيْضًا حَدَّثَنَا شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ فِي الْحُقْنَةِ فَقَالَ: إنَّمَا هِيَ دَاءٌ، وَاحْتَجَّ الْقَاضِي لِلْقَوْلِ بِكَرَاهَةِ الْحُقْنَةِ بِمَا رَوَى وَكِيعٌ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الْحُقْنَةِ،» وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَلِيٍّ وَرَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ أَحْتَقِنُ قَالَ: لَا تُبْدِي الْعَوْرَةَ وَلَا تَسْتَنَّ بِسُنَّةِ الْمُشْرِكِينَ. وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْحُقْنَةُ كُفْرٌ قَالَ الْقَاضِي: وَرَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ رَخَّصَ فِي الْحُقْنَةِ. وَرَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا «خَيْرُ دَوَاءٍ الْحِجَامَةُ، وَالْفَصْدُ، وَالْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ» وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بَعَثَ إلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ طَبِيبًا فَكَوَاهُ وَفَصَدَهُ فِي الْعِرْقِ» وَقَالَ أَحْمَدُ: أَصْحَابُ الْأَعْمَشِ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ كَوَاهُ وَفَصَدَهُ فِي الْعُرُوقِ وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «قَطْعُ الْعُرُوقِ مَسْقَمَةٌ، الْحِجَامَةُ خَيْرٌ مِنْهُ» قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْكَرَاهَةِ. وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ لَا تَرَيْ بَأْسًا أَنْ تُعَوِّذَ فِي الْمَاءِ، ثُمَّ يُصَبَّ عَلَى الْمَرِيضِ. وَرَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ

عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «مَرِضَ الْحَسَنُ بْنَ عَلِيٍّ فَعَادَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَصَابَهُ مَوْعُوكًا فَانْكَبَّ عَلَيْهِ يُقَبِّلُهُ وَيَبْكِي فَهَبَطَ جِبْرِيلُ فَقَالَ: هَذِهِ هَدِيَّةٌ مِنْ اللَّهِ لَك وَلِأَهْلِ بَيْتِك. فَأَمَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ أَنْ يَكْتُبَ فَدَعَا بِجَامٍ وَعَسَلِ نَحْلٍ فَقَالَ: اُكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ} [الحشر: 21] إلَى آخِرِ السُّورَةِ {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصلت: 41] {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42] . ثُمَّ دَعَا بِمَاءِ مَطَرٍ فَغَسَلَهُ وَسَقَاهُ فَبَرِئَ مِنْ سَاعَتِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَعَاشِرَ أُمَّتِي هَذِهِ هَدِيَّةُ اللَّهِ فَتَدَاوَوْا بِهَا» وَبِإِسْنَادِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَبِي مُوسَى أَنْ «يَكْتُبَ لِابْنَتِهِ مِنْ الْحُمَّى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثُمَّ الْحَمْدُ لِلَّهِ، ثُمَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثُمَّ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدُ، ثُمَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثُمَّ سُورَةَ الْفَلَقِ، ثُمَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثُمَّ سُورَةَ النَّاسِ، ثُمَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثُمَّ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، ثُمَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثُمَّ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، ثُمَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثُمَّ الْحَمْدُ، ثُمَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثُمَّ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، ثُمَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثُمَّ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، ثُمَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثُمَّ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ثُمَّ يَكْتُبُ بَعْدَ هَذَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عِشْرِينَ مَرَّةً، ثُمَّ يَغْسِلُهُ وَيَسْقِيهِ الْمَرِيضَ عَلَى الرِّيقِ فَإِنْ عَادَتْ فَعَاوِدْهَا الثَّانِيَةَ فَإِنَّهَا لَا تَعُودُ الثَّالِثَةَ أَبَدًا» وَقَوْلُهُ، " ثُمَّ الْحَمْدُ لِلَّهِ، ثُمَّ الْحَمْدُ، ثُمَّ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " أَيْ الْفَاتِحَةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُنَا مِنْ الْحُمَّى، وَالْأَوْجَاعِ بِسْمِ اللَّهِ الْكَبِيرِ أَعُوذُ بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ مِنْ شَرِّ كُلِّ عِرْقٍ نَعَّارٍ وَمِنْ شَرِّ حَرِّ النَّارِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ قَالَ: كَانَ يُعَلِّمُهُمْ رُقَى الْحُمَّى وَمِنْ الْأَوْجَاعِ كُلِّهَا، وَذَكَرَهُ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ إبْرَاهِيمَ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَبِيبَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَضَعَّفَهُ أَيْضًا غَيْرُهُ وَوَثَّقَهُ أَحْمَدُ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَيْسَ بِقَوِيٍّ. نَعَرَ الْعِرْقُ إذَا امْتَلَأَ مِنْ الدَّمِ حَتَّى عَلَا وَخَرَجَ نَعُورَةً وَنَعُورًا إذَا ضُرِّيَ دَمُهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ. وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا اشْتَكَى الْإِنْسَانُ الشَّيْءَ مِنْهُ أَوْ كَانَتْ بِهِ قُرْحَةٌ أَوْ وَجَعٌ قَالَ بِإِصْبَعِهِ هَكَذَا وَوَضَعَ سُفْيَانُ سَبَّابَتَهُ بِالْأَرْضِ، ثُمَّ رَفَعَهَا وَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا بِرِيقَةِ بَعْضِنَا يُشْفَى سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَلِابْنِ مَاجَهْ فِي أَوَّلِهِ كَانَ مِمَّا يَقُولُهُ لِلْمَرِيضِ بِبُزَاقِهِ بِإِصْبَعِهِ وَذَكَرَهُ. وَلِأَبِي دَاوُد كَانَ يَقُولُ لِلْإِنْسَانِ إذَا اشْتَكَى نَفَثَ بِرِيقِهِ، ثُمَّ قَالَ بِهِ فِي التُّرَابِ " تُرْبَةُ أَرْضِنَا " وَذَكَرَهُ، وَالْمُرَادُ جَمِيعُ الْأَرْضِ وَقِيلَ أَرْضُ الْمَدِينَةِ لِبَرَكَتِهَا، وَالرِّيقَةُ أَقَلُّ مِنْ الرِّيقِ. وَهَذَا عِلَاجٌ مُرَكَّبٌ سَهْلٌ فَإِنَّ الْقُرُوحَ، وَالْجِرَاحَ يَتْبَعُهَا غَالِبًا سُوءُ مِزَاجٍ وَرُطُوبَةٌ رَدِيئَةٌ وَسَيَلَانٌ، وَالتُّرَابُ الْخَالِصُ طَبِيعَتُهُ بَارِدَةٌ يَابِسَةٌ فَوْقَ بَرْدِ كُلِّ دَوَاءٍ بَارِدٍ مُفْرَدٍ فَتُقَابِلُ بُرُودَتُهُ تِلْكَ الْحَرَارَةَ وَيُبْسُهُ تِلْكَ الرُّطُوبَةَ وَيَعْدِلُ مِزَاجَ الْعُضْوِ الْعَلِيلِ فَتَقْوَى قُوَّتُهُ الْمُدَبِّرَةُ فَتَدْفَعُ أَلَمَهُ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَنْضَمُّ مَعَ ذَلِكَ. هَذَا الْكَلَامُ الْمُتَضَمِّنُ لِبَرَكَةِ اسْمِ اللَّهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَتَفْوِيضِ الْأَمْرِ إلَيْهِ. وَلِبَعْضِ التُّرَابِ خَاصِّيَّةٌ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَلِهَذَا قَالَ جَالِينُوسُ: رَأَيْتُ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ مَطْحُولِينَ وَمُسْتَسْقِينَ كَثِيرًا يَسْتَعْمِلُونَ طِينَ مِصْرَ وَيُطْلُونَ بِهِ عَلَى سُوقِهِمْ وَأَفْخَاذِهِمْ وَسَوَاعِدِهِمْ وَظُهُورِهِمْ وَأَضْلَاعِهِمْ فَيَنْتَفِعُونَ بِهِ مَنْفَعَةً بَيِّنَةً قَالَ: وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ فَقَدْ يَنْفَعُ هَذَا الطِّلَاءُ لِلْأَوْرَامِ الْعَفِنَةِ وَالْمُتَرَهِّلَةِ، وَالرِّخْوَة قَالَ: وَإِنِّي لَأَعْرِفُ قَوْمًا تَرَهَّلَتْ أَبْدَانُهُمْ كُلُّهَا مِنْ كَثْرَةِ اسْتِفْرَاغِ الدَّمِ مِنْ سُفْلٍ انْتَفَعُوا بِهَذَا الطِّينِ نَفْعًا بَيِّنًا، وَقَوْمًا آخَرِينَ شَفَوْا بِهِ أَوْجَاعًا مُزْمِنَةً

كَانَتْ مُتَمَكِّنَةً فِي بَعْضِ الْأَعْضَاءِ تَمْكِينًا شَدِيدًا فَبَرِئَتْ وَذَهَبَتْ أَصْلًا. وَقَالَ الْمَسِيحِيُّ: قُوَّةُ الطِّينِ الْمَجْلُوبِ مِنْ كُبْرُسَ وَهِيَ جَزِيرَةُ الْمُصْطَكَى قُوَّةٌ تَجْلُو وَتَغْسِلُ وَتُنْبِتُ اللَّحْمَ فِي الْقُرُوحِ وَتَخْتِمُ الْقُرُوحَ فَمَا ظَنُّك بِتُرْبَةِ خَيْرِ الْأَرْضِ خَالَطَتْ رِيقَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ الطِّبِّ الْإِلَهِيِّ مِنْهُ. وَعَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُعَوِّذُ بَعْضَ أَهْلِهِ. يَمْسَحُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ أَذْهِبْ الْبَأْسَ اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لَا شَافِيَ إلَّا أَنْتَ شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقْمًا» وَفِي لَفْظٍ «كَانَ يَرْقِي يَقُول: امْسَحْ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ بِيَدِك الشِّفَاءُ لَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا أَنْتَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَلِابْنِ مَاجَهْ كَانَ إذَا أَتَى الْمَرِيضَ دَعَا لَهُ وَذَكَرَ مَعْنَاهُ. وَقَالَ ثَابِتٌ لِأَنَسٍ: اشْتَكَيْت. فَقَالَ: أَلَا أَرْقِيك بِرُقْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ وَذَكَرَ مَعْنَاهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاطِبٍ قَالَ: «وَقَعَتْ الْقِدْرُ عَلَى يَدِي فَأَحْرَقَتْ يَدِي فَانْطَلَقَ بِي أَبِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ يَتْفُلُ عَلَيْهَا وَيَقُولُ ثُمَّ ذَكَرَ مَعْنَاهُ،» وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ السَّائِبِ أَنَّ مَيْمُونَةَ قَالَتْ لَهُ: يَا ابْنَ أَخِي أَلَا أَرْقِيَك بِرُقْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ قُلْت بَلَى. قَالَتْ: «بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيك وَاَللَّهُ يَشْفِيكَ مِنْ كُلِّ دَاءٍ فِيكَ، أَذْهِبْ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ، وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لَا شَافِيَ إلَّا أَنْتَ» رَوَاهُمَا أَحْمَدُ. وَدَخَلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ وَهُوَ مَرِيضٌ فَقَالَ: «اكْشِفْ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ عَنْ ثَابِتٍ، ثُمَّ أَخَذَ تُرَابًا مِنْ بَطْحَانَ فَجَعَلَهُ فِي قَدَحٍ، ثُمَّ نَفَثَ عَلَيْهِ، ثُمَّ صَبَّهُ عَلَيْهِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرَوَى أَيْضًا هُوَ، وَالنَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ، وَاللَّيْلَةِ مِنْ رِوَايَةِ زِيَادَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ قَالَ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا «مَنْ اشْتَكَى مِنْكُمْ شَيْئًا أَوْ اشْتَكَى أَخٌ لَهُ فَلْيَقُلْ رَبَّنَا اللَّهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ تَقَدَّسَ اسْمُك أَمْرُكَ فِي السَّمَاءِ، وَالْأَرْضِ كَمَا رَحْمَتُك فِي السَّمَاءِ، وَالْأَرْضِ

فَاجْعَلْ رَحْمَتَك فِي الْأَرْضِ، وَاغْفِرْ لَنَا حَوْبَنَا وَخَطَايَانَا، أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ فَأَنْزِلْ شِفَاءً مِنْ شِفَائِك وَرَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِك عَلَى هَذَا الْوَجَعِ فَيَبْرَأُ» . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَعَوَّذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْجَانِّ وَمِنْ عَيْنِ الْإِنْسَانِ فَلَمَّا نَزَلَتْ الْمُعَوِّذَتَانِ أَخَذَ بِهِمَا وَتَرَكَ مَا سِوَاهُمَا» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ «أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ اشْتَكَيْتَ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ وَمِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ وَعَيْنٍ، بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ وَاَللَّهُ يَشْفِيكَ» . «وَرَقَى رَجُلٌ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ لَدِيغًا عَلَى قَطِيعٍ مِنْ غَنَمٍ فَبَرِئَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: وَمَا يُدْرِيك أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ» وَرَقَى بِهَا رَجُلٌ عَلَى مَجْنُونٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ غَدْوَةً وَعَشِيَّةً يَجْمَعُ بُزَاقَهُ، ثُمَّ يَتْفُلُ فَبَرَأَ فَأَعْطَوْهُ جُعْلًا، فَسَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «كُلْ فَلَعَمْرِي مَنْ أَكَلَ بِرُقْيَةِ بَاطِلٍ لَقَدْ أَكَلْت بِرُقْيَةِ حَقٍّ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد، فَفِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ بِسُورَةِ الْفَاتِحَةِ عَلَى كُلِّ وَجَعٍ وَمَرَضٍ. وَفِي مُسْلِمٍ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَخَّصَ فِي الرُّقْيَةِ مِنْ الْعَيْنِ وَالْحُمَّةِ وَالنَّمْلَةِ.» الْحُمَّةُ ذَوَاتُ السَّمُومِ كُلِّهَا،، وَالنَّمْلَةُ قُرُوحٌ تَخْرُجُ فِي الْجَنْبِ سُمِّيَ نَمْلَةً؛ لِأَنَّهُ يُحِسُّ بِهِ كَنَمْلَةٍ تَدِبُّ عَلَيْهِ وَتَعَضُّهُ وَلِأَبِي دَاوُد «لَا رُقْيَةَ إلَّا فِي عَيْنٍ أَوْ حُمَّةٍ» ، وَالْمُرَاد بِهِ إنْ صَحَّ إنَّهُمَا أَوْلَى بِالرُّقْيَةِ مِنْ غَيْرهمَا بِدَلِيلِ مَا سَبَقَ وَلِأَبِي دَاوُد عَنْ أَنْسَ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا رُقْيَة إلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَّةٍ أَوْ دَمٍ يُرْقَأُ» .

فصل في الاستشفاء بماء زمزم وما ينفع لعسر الولادة والعقرب

[فَصْل فِي الِاسْتِشْفَاءِ بِمَاءِ زَمْزَم وَمَا يَنْفَعُ لِعُسْرِ الْوِلَادَةِ وَالْعَقْرَبِ] فَصْل (فِي الِاسْتِشْفَاءِ بِمَاءِ زَمْزَم وَالْآثَارِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَالتَّبَرُّكِ بِهِمَا وَمَا يَنْفَعُ لِعُسْرِ الْوِلَادَةِ، وَالْعَقْرَبِ) قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: رَأَيْتُ أَبِي غَيْرَ مَرَّةٍ يَشْرَبُ زَمْزَمَ يَسْتَشْفِي بِهِ وَيَمْسَحُ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ. وَرَأَيْتُ أَبِي يَأْخُذُ شَعْرَةً مِنْ شَعْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَضَعُهَا عَلَى فِيهِ فَيُقَبِّلُهَا، وَأَحْسَبُ أَنِّي رَأَيْتُهُ يَضَعُهَا عَلَى عَيْنَيْهِ وَيَغْمِسُهَا فِي الْمَاءِ، ثُمَّ يَشْرَبُ مِنْهَا. وَرَوَى أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّهَا كَانَتْ تَحْمِلُ مَاءً مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ فِي الْقَوَارِيرِ، وَتَذْكُرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُهُ» ، وَبِإِسْنَادِهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ إلَى سَهْلِ بْنِ عَمْرٍو يَسْتَهْدِيهِ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ فَبَعَثَ إلَيْهِ بِرَاوِيَتَيْنِ» وَبِإِسْنَادِهِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ «وَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَقْعَدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ وَضَعَهَا عَلَى وَجْهِهِ» . وَرَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا عَسِرَ عَلَى الْمَرْأَةِ وَلَدُهَا أُخِذَ إنَاءٌ نَظِيفٌ فَيُكْتَبُ: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 35] وَ {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا} [النازعات: 46] إلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَ {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ} [يوسف: 111] إلَى آخِرِهَا، ثُمَّ يُغْسَلُ فَتُسْقَى الْمَرْأَةُ وَيُنْضَحُ عَلَى بَطْنِهَا مِنْهُ وَوَجْهِهَا قَالَ صَالِحٌ: لِأَبِيهِ يُكْتَبُ الشَّيْءُ مِنْ الْقُرْآنِ فِي قِرْطَاسٍ وَيُدْفَنُ لِلْآبِقِ قَالَ: لَا بَأْسَ» . وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَدَغَتْهُ عَقْرَبٌ فَدَعَا بِمِلْحٍ وَمَاءٍ فَجَعَلَهُ فِي إنَاءٍ، ثُمَّ جَعَلَ يَصُبُّهُ عَلَى أُصْبُعِهِ حَيْثُ لَدَغَتْهُ وَيَمْسَحُهَا وَيُعَوِّذُهَا بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ،» وَرَوَى أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي إذْ سَجَدَ فَلَدَغَتْهُ عَقْرَبٌ فِي أُصْبُعِهِ فَانْصَرَفَ

رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْعَقْرَبَ مَا تَدَعُ نَبِيًّا وَلَا غَيْرَهُ قَالَ: ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ وَمِلْحٌ فَجَعَلَ يَضَعُ مَوْضِعَ اللَّدْغَةِ فِي الْمَاءِ، وَالْمِلْحِ وَيَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ حَتَّى سَكَنَتْ» . هَذَا عِلَاجٌ مُرَكَّبٌ مِنْ إلَهِيٍّ وَطَبِيعِيٍّ فَإِنَّ شُهْرَةَ فَضَائِلِ هَذِهِ السُّوَرِ مِنْ التَّوْحِيدِ مَعْرُوفٌ غَيْرُ خَافٍ. وَأَمَّا الْمِلْحُ فَفِيهِ نَفْعُ كَثِيرٍ مِنْ السَّمُومِ وَقَدْ ذَكَرَهُ الْأَطِبَّاءُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُسَخَّنُ، يُوضَعُ عَلَيْهَا مِرَارًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَ بِزْرِ كَتَّانٍ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ وَشَيْءٍ مِنْ لَبَنِ شَجَرِ التِّينِ. وَالْمِلْحُ يَجْذِبُ السَّمَّ وَيُحَلِّلُهُ بِقُوَّتِهِ الْجَاذِبَةِ الْمُحَلِّلَةِ، وَفِي الْمَاءِ تَبْرِيدُ لِنَارِ اللَّدْغَةِ فَلِهَذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَهَذَا عِلَاجٌ تَامٌّ سَهْلٌ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِلَاجَهُ بِالتَّبْرِيدِ، وَالْجَذْبِ، وَالْإِخْرَاجِ، وَلِهَذَا بَدَأَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ بِشَرْطِ مَوْضِعِ اللَّدْغَةِ وَحَجْمِهِ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَالْمِلْحُ وَهَذَا يُوَافِقُ مَا قَالَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ الْحِجَامَة وَلَعَلَّهَا لَمْ تَتَيَسَّر فِي ذَلِكَ الْوَقْت أَوْ قَصَدَ الْأَسْهَلَ، وَالدَّوَاءُ الْإِلَهِيُّ أَتَمُّ وَأَكْمَلُ وَأَشْرَفُ مِنْ الدَّوَاءِ الطَّبِيعِيِّ. وَلِهَذَا قَدْ يَمْنَعُ الْإِلَهِيُّ وُقُوعَ السَّبَبِ وَإِنْ وَقَعَ لَمْ يَكْمُلْ تَأْثِيرُهُ فَهُوَ يَحْفَظُ الصِّحَّةَ وَيُزِيلُ الْمَرَضَ، وَالدَّوَاءُ الطَّبِيعِيُّ لَا أَثَر لَهُ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ الدَّاءِ وَذَلِكَ مَشْهُورٌ فِي الْأَخْبَارِ وَقَدْ ذَكَرْتُ بَعْضَهُ هُنَا وَفِيمَا يَقُولهُ عِنْدَ الصَّبَاحِ، وَالْمَسَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ الْأَطِبَّاءُ فِي عِلَاجِ الِاحْتِرَاقِ وَالْكَيِّ: يُبَرَّدُ بِخِرْقَةٍ بُلَّتْ بِمَاءِ الْوَرْدِ الْمُبَرَّدِ بِالثَّلْجِ وَمِمَّا يُسَكِّنُ الْوَجَعَ بَيَاضُ الْبَيْضِ الرَّقِيقِ إذَا دُهِنَ بِدُهْنِ الْوَرْدِ وَبُلَّتْ بِهِ خِرْقَةٌ وَوُضِعَتْ عَلَيْهِ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «مَنْ اشْتَكَى ضِرْسَهُ فَلْيَضَعْ أُصْبُعَهُ عَلَيْهِ وَلْيَقْرَأْ هَذِهِ الْآيَةَ {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك: 23] » .

فصل فيما يسكن الفزع

[فَصْلٌ فِيمَا يُسَكِّنُ الْفَزَعَ] عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أُحَدِّثُكُمْ مَا حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ شَهْرًا فَلَمَّا قَضَيْت جِوَارِي نَزَلْتُ فَاسْتَبْطَنْتُ بَطْنَ الْوَادِي فَنُودِيت فَنَظَرْت أَمَامِي وَخَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، ثُمَّ نُودِيت فَنَظَرْت فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، ثُمَّ نُودِيت فَرَفَعْت رَأْسِي فَإِذَا هُوَ عَلَى الْعَرْشِ فِي الْهَوَاءِ يَعْنِي جِبْرِيلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذَتْنِي رَجْفَةٌ شَدِيدَةٌ فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي فَدَثَّرُونِي وَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً» رَوَاهُ مُسْلِمُ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَعِنْدَهُ «فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي وَصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا فَنَزَلَتْ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] » . إنَّهُ فِيهِ يُسْتَحَبُّ مِثْل هَذَا لِمَنْ حَصَلَ لَهُ فَزَعٌ وَخَوْفٌ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: فِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُصَبَّ عَلَى الْفَزِعِ الْمَاءُ لِيَسْكُنَ فَزَعُهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} [القصص: 32] . الْمَعْنَى اُضْمُمْ يَدَك إلَى صَدْرِك لِيَذْهَب عَنْك الْخَوْفُ قَالَ مُجَاهِدٌ: كُلُّ مَنْ فَزِعَ فَضَمَّ جَنَاحَهُ إلَيْهِ ذَهَبَ عَنْهُ الْفَزَعُ، وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِي الْفُنُونِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَنْ كَانَ هَارِبًا مِنْ عَدُوِّهِ فَلْيَكْتُبْ بِسَوْطِهِ بَيْنَ أُذُنَيْ دَابَّتِهِ: {لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى} [طه: 77] أَمَّنَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْخَوْفِ.

فصل في فائدة الماء البارد في الخمود والحمى

[فَصْلٌ فِي فَائِدَةِ الْمَاءِ الْبَارِدِ فِي الْخُمُودِ وَالْحُمَّى] ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي غَرِيبِ الْحَدِيث مِنْ حَدِيثِ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ «أَنَّ قَوْمًا مَرُّوا بِشَجَرَةٍ فَأَكَلُوا مِنْهَا فَكَأَنَّمَا مَرَّتْ بِهِمْ رِيحٌ فَأَخْمَدَتْهُمْ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَرِّسُوا الْمَاءَ فِي الشِّنَانِ وَصُبُّوا عَلَيْهِمْ فِيمَا بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ» قَرِّسُوا الْمَاء يَعْنِي بَرِّدُوا الْمَاءَ، وَالْقَرْسُ الْبَرْدُ الشَّدِيدُ يُقَال لَيْلَةٌ ذَاتُ قَرْسٍ أَيْ بَرْدٍ قَرَسَ يَقْرِسُ قَرْسًا اشْتَدَّ وَفِيهِ لُغَةٌ قَرَسَ الْبَرْدُ قَرَسَا، وَالْبَرْدُ الْيَوْمُ قَارِسٌ وَقَرِيسٌ، وَلَا تَقُلْ قَارِصٌ،، وَالشِّنَانُ الْأَسْقِيَةُ، وَالْقِرَبُ الْخَلِقَاتُ، يُقَال لِلسِّقَاءِ شَنٌّ وَلِلْقِرْبَةِ شَنَّةٌ، وَإِنَّمَا الشِّنَانُ دُونَ الْجُدُدِ؛ لِأَنَّهَا أَشَدّ تَبْرِيدًا لِلْمَاءِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: قَوْلُهُ " بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ " يَعْنِي أَذَانَ الْفَجْرِ، وَالْإِقَامَةِ. قَالَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ: هَذَا مِنْ أَفْضَلِ عِلَاجِ هَذَا الدَّاءِ إذَا كَانَ وُقُوعُهُ بِالْحِجَازِ وَهِيَ بِلَادٌ حَارَّةٌ يَابِسَةٌ، وَالْحَارُّ الْغَرِيزِيُّ ضَعِيفٌ فِي بَوَاطِنِ سُكَّانِهَا وَصَبُّ الْمَاءِ الْبَارِدِ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ أَبْرَدُ أَوْقَاتِ الْيَوْمِ يُوجِبُ جَمْعَ الْحَارِّ الْغَرِيزِيِّ الْمُنْتَشِرِ فِي الْبَدَنِ الْحَامِلِ لِجَمِيعِ قُوَاهُ فَتَقْوَى الْقُوَّةَ الدَّافِعَةَ وَتَجْتَمِعُ مِنْ أَقْطَارِ الْبَدَنِ إلَى بَاطِنِهِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ ذَلِكَ الدَّاءِ وَيَسْتَظْهِرُ بِبَاقِي الْقُوَى عَلَى دَفْعِ الْمَرَضِ الْمَذْكُورِ فَيَدْفَعُهُ بِإِذْنِ اللَّهِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ مَا دَخَلَ إلَى بَيْتِهَا وَاشْتَدَّ وَجَعُهُ: «أَهْرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ لَعَلِّي أَعْهَدُ إلَى النَّاسِ قَالَتْ: فَأَجْلَسْنَاهُ فِي مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ طَفِقْنَا نَصُبُّ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْقِرَبِ حَتَّى جَعَلَ يُشِيرُ إلَيْنَا أَنْ قَدْ فَعَلْتُنَّ، وَخَرَجَ يُشِيرُ إلَى النَّاسِ فَصَلَّى بِهِمْ وَخَطَبَهُمْ» .

فصل في خواص الشونيز وهي الحبة السوداء

[فَصْلٌ فِي خَوَاصِّ الشُّونِيزِ وَهِيَ الْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ] فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إنَّ فِي الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ إلَّا السَّامَ» السَّامُ الْمَوْتُ،، وَالْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ الشُّونِيزُ. التَّفْسِيرُ عِنْد الْبُخَارِيِّ مِنْ قَوْلِ ابْنِ شِهَابٍ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مَعْنَى الْخَبَرِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي عَتِيقٍ أَنَّهُ عَادَ مَرِيضًا فَقَالَ: " عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ فَخُذُوا مِنْهَا خَمْسًا أَوْ سَبْعًا فَاسْحَقُوهَا، ثُمَّ اُقْطُرُوهَا فِي أَنْفِهِ بِقَطَرَاتِ زَيْتٍ فِي هَذَا الْجَانِب وَهَذَا الْجَانِبِ ". الْمُرَادُ بِهِ الْعِلَلُ الْبَارِدَةُ وَهُوَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ يَصِفُ وَيَقُولُ بِحَسَبِ حَالِ مَنْ شَاهَدَهُ، وَالشُّونِيزُ حَارٌّ يَابِسٌ فِي الثَّالِثَةِ مُقَطِّعٌ لِلْبَلْغَمِ مُحَلِّلُ الرِّيَاحِ يَقْلَعُ الثَّآلِيلَ، وَالْبَهَقَ، وَالْبَرَصَ وَيَنْفَعُ مِنْ الزُّكَامِ الْبَارِدِ وَخُصُوصًا مَقْلُوًّا مَجْعُولًا فِي خِرْقَةِ كَتَّانٍ وَيُطْلَى عَلَى جَبْهَةِ مَنْ بِهِ صُدَاعٌ بِمَاءِ بَارِدٍ وَيَفْتَحُ سَدَدَ الصَّفَاةِ، وَالسُّعُوطُ بِهِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْمَاءِ وَشُرْبُهُ يَمْنَعُ مِنْ انْتِصَابِ النَّفَسِ وَيَقْتُلُ الدِّيدَانَ لَوْ طُلِيَ عَلَى السُّرَّةِ، وَيُدِرُّ الْحَيْضَ، وَاللَّبَنَ، وَبِالْمَاءِ، وَالْعَسَلِ لِلْحَصَاةِ وَيُحِلُّ الْحُمِّيَّاتِ الْبَلْغَمِيَّةَ، وَالسَّوْدَاوِيَّةَ وَدُخَانُهُ يَهْرُبُ مِنْهُ الْهَوَامُّ، وَإِذَا نُقِعَ مِنْهُ سَبْعُ حَبَّاتٍ عَدَدًا فِي لَبَنِ امْرَأَةٍ وَسَعَطَ بِهِ صَاحِبُ الْيَرَقَانِ نَفَعَهُ نَفْعًا بَلِيغًا. وَإِذَا ضُمِّدَ بِهِ مَعَ الْخَلِّ قَلَعَ الْبُثُورَ، وَالْجَرَبَ الْمُتَقَرِّحَ وَحَلَّلَ الْأَوْرَامَ الْبَلْغَمِيَّةَ الْمُزْمِنَةَ، وَالْأَوْرَامَ الصُّلْبَةَ، وَيَنْفَعُ مِنْ اللِّقْوَةِ، وَالْفَالِجِ إذَا سُعِطَ بِدُهْنِهِ، وَإِنْ شُرِبَ مِنْهُ نِصْفُ مِثْقَالٍ إلَى مِثْقَالٍ نَفَعَ مِنْ لَسْعِ الرُّتَيْلَاءِ، وَإِنْ سُحِقَ وَاسْتُفَّ بِمَاءٍ بَارِدٍ دِرْهَمَانِ مِنْ عَضَّةِ الْكَلْبِ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ الْمَاءِ نَفَعَهُ نَفْعًا بَلِيغًا وَقِيلَ الْإِكْثَارُ مِنْهُ قَاتِلٌ وَإِنْ أُذِيبَ الأنزروت بِمَاءٍ وَلُطِّخَ عَلَى دَاخِلِ الْحَلْقَةِ، ثُمَّ ذُرَّ عَلَيْهَا الشُّونِيزُ كَانَ عَجَبًا فِي النَّفْعِ مِنْ الْبَوَاسِيرِ وَيَكُونُ اسْتِعْمَالُهُ تَارَةً مُنْفَرِدًا وَتَارَةً مُرَكَّبًا.

قَالَ بَعْضُهُمْ: الرَّمَدُ حَارٌّ بِاتِّفَاقِ الْأَطِبَّاءِ وَيُرَكَّبُ السُّكَّرُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُفْرَدَاتِ الْحَارَّةِ مَعَ الأنزروت، وَيَنْفَعُ الْكِبْرِيتُ الْحَارُّ جِدًّا مِنْ الْجَرَبِ وَلِهَذَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْقَانُونِ وَغَيْرُهُ الزَّعْفَرَانَ فِي قُرْصِ الْكَافُورِ لِسُرْعَةِ تَنْفِيذِهِ وَإِيصَالِهِ قُوَّتَهُ وَالْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ هِيَ الشُّونِيزُ فِي لُغَةِ الْفُرْسِ وَهِيَ الْكَمُّونُ الْأَسْوَدُ وَسُمِّيَ الْكَمُّونَ الْهِنْدِيَّ، وَذَكَرَ الْهَرَوِيُّ أَنَّهَا الْحَبَّةُ الْخَضْرَاءُ ثَمَرَةُ الْبُطْمِ، وَذَكَرَ الْحَرْبِيُّ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهَا الْخَرْدَلُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.

فصل أدوية الأطباء الطبيعية وأدوية الأنبياء الروحانية

[فَصْلٌ أَدْوِيَةُ الْأَطِبَّاءِ الطَّبِيعِيَّةُ وَأَدْوِيَةُ الْأَنْبِيَاءِ الرُّوحَانِيَّةُ] قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: الْأَدْوِيَةُ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ، وَالدُّعَاءُ، وَالرُّقَى أَعْظَمُ نَوْعَيْ الدَّوَاءِ حَتَّى قَالَ أَبُقْرَاطُ: نِسْبَةُ طِبِّنَا إلَى طِبِّ أَرْبَابِ الْهَيَاكِلِ كَنِسْبَةِ طِبِّ الْعَجَائِزِ إلَى طِبِّنَا. وَقَدْ يَحْصُلُ الشِّفَاءُ بِغَيْرِ سَبَبٍ اخْتِيَارِيٍّ بَلْ بِمَا يَجْعَلُهُ اللَّهُ فِي الْجِسْمِ مِنْ الْقَوَى الطَّبِيعِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالظَّاهِرُ إنْ لَمْ يَكُنْ يَقِينًا أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ بِالْهَيَاكِلِ طَائِفَةً مِنْ الْأَطِبَّاءِ لَمْ يُرِدْ بِهِ طِبَّ الْأَنْبِيَاءِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: طِبُّهُمْ بِالنِّسْبَةِ إلَى طِبِّ الْأَنْبِيَاءِ كَطِبِّ الطَّرْقِيَّة بِالنِّسْبَةِ إلَى طِبِّهِمْ وَإِنَّ نِسْبَةَ طِبِّهِمْ إلَى طِبِّ الْأَنْبِيَاءِ كَنِسْبَةِ عُلُومِهِمْ إلَى عُلُومِ الْأَنْبِيَاءِ؛ لِأَنَّ طِبَّ الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ قَطْعِيٌّ وَطِبُّهُمْ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقِيلَ هُوَ قِيَاسٌ وَقِيلَ تَجْرِبَةٌ وَقِيلَ هُمَا وَقِيلَ إلْهَامٌ وَمَنَامٌ وَحَدْسٌ، وَقِيلَ أُخِذَ بَعْضُهُ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ الْبَهِيمِيَّةِ لَكِنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ قَصْدُهُمْ الْأَكْبَرُ غَيْرُ هَذَا وَهَذَا مِنْ بَابِ الْعَرَضِ، وَأَمَّا الْأَطِبَّاءُ فَأَفْنَوْا الْأَعْمَارَ فِي هَذَا الْعَرَضِ مَعَ الِاخْتِلَافِ الشَّدِيدِ بَيْنَهُمْ فَلَمْ يَحْصُلُوا عَلَى طَائِلٍ وَقَدْ لَا يَنْتَفِعُ بَعْضُ الْمَرْضَى بِطِبِّ النُّبُوَّةِ لِعَدَمِ تَلَقِّيهِ بِالْقَبُولِ وَاعْتِقَادِ الشِّفَاءِ بِهِ أَوْ عَدَمِ اسْتِعْمَالِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَبَرِ الْمُنَاسِبِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقُرْآنَ شِفَاءٌ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إلَّا خَسَارًا.

وَالْعُدُولُ عَنْهُ إلَى بَعْضِ أَدْوِيَةٍ مُعْتَادَةٍ يَحْسُنُ الظَّنُّ بِهَا أَوْجَبَ ذَلِكَ سُوءَ الظَّنِّ أَوْ عَدَمَ التَّلَقِّي بِالْقَبُولِ فَامْتَنَعَ الشِّفَاءُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَعَ شِدَّة قَبُولِ الطَّبِيعَةِ وَفَرَحِ النَّفْسِ تَنْتَعِشُ الْقُوَّةُ وَيَنْبَعِثُ الْحَارُّ الْغَرِيزِيُّ فَيَحْصُلُ التَّسَاعُدُ عَلَى الْمَرَضِ وَهُوَ أَمْرٌ وَاضِحٌ لَا شَكَّ فِيهِ، وَلِهَذَا صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كَانَ يَتَلَطَّف بِالْمَرِيضِ فَتَارَةً يَضَعُ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ لَا بَأْسَ طَهُورٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَتَارَةً تَوَضَّأُ وَصَبَّ عَلَيْهِ وُضُوءَهُ وَتَارَةً يَسْأَلُهُ عَنْ حَالِهِ وَعَمَّا يَشْتَهِيهِ وَيُعَلِّمُهُ دُعَاءً يُوَافِقُهُ» . وَمِنْ ذَلِكَ مَا يُرْوَى عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا دَخَلْتُمْ عَلَى الْمَرِيضِ فَانْفُثُوا لَهُ فِي أَجَلِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَرُدُّ شَيْئًا وَيُطَيِّبُ نَفْسَ الْمَرِيضِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْمُحَدِّثِينَ مَعَ أَنَّهُ فَقِيهٌ مُحَدِّثٌ لَكِنَّ مَعْنَى الْخَبَرِ صَحِيحٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَتَحْدُثُ أَمْرَاضٌ كَثِيرَةٌ وَتَتَحَيَّرُ الْأَطِبَّاءُ فِي عِلَاجِهَا وَعِلَاجُهَا فِي الطِّبِّ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ الْقَطْعِيِّ مَوْجُودًا لَا يُسْتَعْمَلُ لِفَرْطِ الْجَهْلِ وَغَلَبَةِ الْعَوَائِدِ الْحَادِثَةِ وَقَدْ قِيلَ: وَمِنْ الْعَجَائِبِ وَالْعَجَائِبُ جَمَّةٌ ... قُرْبُ الشِّفَاءِ وَمَا إلَيْهِ وُصُولُ كَالْعِيسِ فِي الْبَيْدَاءِ يَقْتُلُهَا الظَّمَا ... وَالْمَاءُ فَوْقَ ظُهُورِهَا مَحْمُولُ وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ «خَيْرُ الدَّوَاءِ الْقُرْآنُ» .

فصل في وصايا صحية مختلفة

[فَصْلٌ فِي وَصَايَا صِحِّيَّةٍ مُخْتَلِفَةٍ] ٍ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ بَهْجَةُ الْمَجَالِسِ: وَرَوَى النَّزَّالُ بْنُ سَبْرَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ ابْتَدَأَ غَدَاءَهُ بِالْمِلْحِ أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ دَائِهِ، وَمَنْ أَكَلَ إحْدَى وَعُشْرِينَ زَبِيبَةً كُلَّ يَوْمٍ لَمْ يَرَ فِي جَوْفِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ، وَاللَّحْمُ يُنْبِتُ اللَّحْمَ، وَالثَّرِيدُ طَعَامُ الْعَرَبِ، وَلَحْمُ الْبَقَرِ دَاءٌ، وَلَبَنُهَا شِفَاءٌ، وَسَمْنُهَا شِفَاءٌ، وَالشَّحْمُ يُخْرِجُ مِثْلَهُ مِنْ الدَّاءِ قَالَ النَّزَّالُ: أَظُنُّهُ يُرِيدُ شَحْمَ الْبَقَرِ. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا اُسْتُشْفِيَ بِأَفْضَلَ مِنْ السَّمْنِ، وَالسَّمَكِ يُذِيبُ الْبَدَنَ أَوْ قَالَ الْجَسَدَ وَلَمْ تَسْتَشْفِ النُّفَسَاءُ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ الرُّطَبِ، وَالسِّوَاكِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ يُذْهِبَانِ الْبَلْغَمَ، وَمَنْ أَرَادَ الْبَقَاءَ وَالْإِبْقَاءَ، فَلْيُبَاكِرْ الْغَدَاءَ، وَلِيُخَفِّفْ الرِّدَاءَ، وَلْيُقْلِلْ غَشَيَانَ النِّسَاءِ قِيلَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا خِفَّةُ الرِّدَاءِ قَالَ: قِلَّةُ الدَّيْن. وَسُئِلَ الْحَارِثُ بْنُ كِلْدَةَ طَبِيبُ الْعَرَبِ مَا الدَّوَاءُ الَّذِي لَا دَاءَ فِيهِ قَالَ: هُوَ أَنْ لَا تُدْخِلَ بَطْنَك طَعَامًا وَفِيهِ طَعَامٌ وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ أَنْ يُقَدَّمَ الطَّعَامُ إلَيْك وَأَنْتَ تَشْتَهِيهِ وَيُرْفَعَ عَنْك وَأَنْتَ تَشْتَهِيهِ قَالَ: ثَلَاثَةٌ تَقْتُلُ الْحَمَّامُ عَلَى الْكِظَّةِ، وَالْجِمَاعُ عَلَى الْبِطْنَةِ، وَالْإِكْثَارُ مِنْ أَكْلِ الْقَدِيدِ الْيَابِسِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي مَكَان آخَر وَلَمْ يَعْزُهُ إلَى أَحَدٍ: ثَلَاثَةٌ تُهْرِمُ وَرُبَّمَا قَتَلَتْ، الْجِمَاعُ عَلَى الِامْتِلَاءِ، وَدُخُولُ الْحَمَّامِ عَلَى الْبِطْنَةِ، وَأَكْلُ الْقَدِيدِ الْيَابِسِ، وَثَلَاثَةٌ تُفْسِدُ الذِّهْنَ: الْهَمُّ، وَالْوَحْدَةُ، وَالْفِكْرَةُ، وَثَلَاثَةٌ يَفْرَحُ بِهِنَّ الْجَسَدُ وَيَرْبُو، الطِّيبُ، وَالثَّوْبُ اللَّيِّنُ وَشُرْبُ الْعَسَلِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ: ذَكَرْت عَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا كَانَتْ فِيهِمْ الْأَدْوَاءُ، وَكَانَتْ فِيهِمْ الْأَطِبَّاءُ

فَلَا الْمُدَاوَى بَقِيَ وَلَا الْمُدَاوِي وَقِيلَ لِلرَّبِيعِ فِي عِلَّتِهِ: أَلَا نَدْعُو لَك طَبِيبًا؟ فَقَالَ الطَّبِيبُ أَمْرَضَنِي. وَأَنْشَدَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ: إنَّ الطَّبِيب بِطِبِّهِ وَدَوَائِهِ ... لَا يَسْتَطِيعُ دِفَاعَ مَكْرُوهٍ أَتَى مَا لِلطَّبِيبِ يَمُوتُ بِالدَّاءِ الَّذِي ... قَدْ كَانَ يُبْرِئُ مِثْلَهُ فِيمَا مَضَى وَقَالَ آخِرٌ: كَمْ مِنْ عَلِيلٍ قَدْ تَخَطَّاهُ الرَّدَى ... فَنَجَا وَمَاتَ طَبِيبُهُ وَالْعُوَّدُ وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ: نَعَى لَك ظِلَّ الشَّبَابِ الْمَشِيبُ ... وَنَادَتْك بِاسْمِ سِوَاك الْخُطُوبُ وَقَبْلَك دَاوَى الْمَرِيضَ الطَّبِيبُ ... يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مَنْ يَتُوبُ فَكَيْفَ تُرَى حَالُ مَنْ لَا يَتُوبُ

فصل في كراهة سب الحمى وتكفيرها للذنوب كغيرها وأنواعها وعلاجها

[فَصْلٌ فِي كَرَاهَة سَبِّ الْحُمَّى وَتَكْفِيرِهَا لِلذُّنُوبِ كَغَيْرِهَا وَأَنْوَاعِهَا وَعِلَاجِهَا] ) عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَى أُمِّ السَّائِبِ أَوْ أُمِّ الْمُسَيِّبِ فَقَالَ: مَا لَكِ يَا أُمَّ السَّائِبِ أَوْ يَا أُمَّ الْمُسَيِّبِ تُزَفْزِفِينَ؟ فَقَالَتْ: الْحُمَّى لَا بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا فَقَالَ لَا تَسُبِّي الْحُمَّى فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ " تُزَفْزِفِينَ " تَتَحَرَّكِينَ حَرَكَةً سَرِيعَةً وَمَعْنَاهُ تَرْتَعِدُ وَهُوَ بِضَمِّ التَّاءِ، وَالرَّاءِ الْمُكَرَّرَةِ، وَالْفَاءِ الْمُكَرَّرَةِ، وَرُوِيَ أَيْضًا بِالرَّاءِ الْمُكَرَّرَةِ، وَالْقَافَيْنِ وَلَمْ يُصِبْ مَنْ قَالَ: زَارَتْ مُكَفِّرَةُ الذُّنُوبِ وَوَدَّعَتْ ... تَبًّا لَهَا مِنْ زَائِرٍ وَمُوَدِّعِ قَالَتْ وَقَدْ عَزَمَتْ عَلَى تَرْحَالِهَا ... مَاذَا تُرِيدُ فَقُلْت أَلَّا تَرْجِعِي وَلَا مَنْ قَالَ: زَارَتْ مُكَفِّرَةُ الذُّنُوبِ لِصَبِّهَا ... أَهْلًا بِهَا مِنْ زَائِرٍ وَمُوَدِّعِ قَالَتْ وَقَدْ عَزَمَتْ عَلَى تَرْحَالِهَا ... مَاذَا تُرِيدُ فَقُلْت أَلَّا تُقْلِعِي لِأَنَّ الْأَوَّلَ ارْتَكَبَ النَّهْيَ عَنْ سَبِّهَا، وَالثَّانِي تَرَكَ الْأَمْرَ بِسُؤَالِ الْعَفْوِ، وَالْعَافِيَةِ وَأَرَادَ بَقَاءَ الْمَرَضِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ اكْشِفْ عَنَّا الرِّجْزَ وَلِأَحْمَدَ، وَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى مِنْ مَرَضٍ فَمَا سِوَاهُ إلَّا حَطَّ اللَّهُ بِهِ سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا» . وَلِأَحْمَدَ عَنْ شَدَّادٍ أَنَّهُ عَادَ مَرِيضًا فَقَالَ: اُشْكُرْ كَفَّارَاتِ السَّيِّئَاتِ وَحَطَّ الْخَطَايَا فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إنِّي إذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنًا فَحَمِدَنِي عَلَى مَا ابْتَلَيْتُهُ فَإِنَّهُ يَقُومُ مِنْ مَضْجَعِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ مِنْ الْخَطَايَا» وَفِيهِ رَاشِدُ بْنُ دَاوُد الصَّنْعَانِيُّ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ مُرْسَلًا «إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ

بَعَثَ اللَّهُ إلَيْهِ مَلَكَيْنِ فَقَالَ اُنْظُرُوا مَاذَا يَقُولُ لِعُوَّادِهِ؟ فَإِذَا هُوَ إذَا جَاءَهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ رَفَعَا ذَلِكَ إلَى اللَّهِ وَهُوَ أَعْلَمُ فَيَقُولُ: إنَّ لِعَبْدِي عَلَيَّ إنْ تَوَفَّيْتُهُ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ أَنَا شَفَيْتُهُ أَنْ أُبَدِّلَهُ لَحْمًا خَيْرًا مِنْ لَحْمِهِ وَدَمًا خَيْرًا مِنْ دَمِهِ، وَأَنْ أُكَفِّرَ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ» وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيث أَبِي أُمَامَةَ «الْحُمَّى كِيرُ جَهَنَّمَ مَا أَصَابَ الْمُؤْمِنَ مِنْهَا كَانَ حَظُّهُ مِنْ النَّارِ» وَلِأَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَلِمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُشَاكُ بِشَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إلَّا كُتِبَتْ لَهُ بِهَا حَسَنَةٌ وَمُحِيَتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَر أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ الْحُمَّى أَوْ شِدَّةُ الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ» فَيْحُ جَهَنَّمَ شِدَّة لَهَبِهَا وَانْتِشَارِهَا وَكَذَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ شَدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» قِيلَ هُوَ دَقِيقَةٌ وَأُنْمُوذَجٌ مِنْ جَهَنَّمَ لِيَعْتَبِرَ بِهِ الْعِبَادُ وَقَدَّرَ اللَّهُ ظُهُورَهُ بِأَسْبَابٍ تَقْتَضِيهِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَلِهَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ فِي مُسْلِمٍ «اشْتَكَتْ النَّارُ إلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقِيلَ الْمُرَادُ التَّشْبِيهُ فَشَبَّهَ هَذَا بِفَيْحِ جَهَنَّمَ تَنْبِيهًا عَلَى عَذَابِ جَهَنَّمَ أَجَارَنَا اللَّهُ، وَالْمُسْلِمِينَ مِنْهَا. وَقَوْلُهُ " أَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ " الْأَفْصَحُ أَنَّهُ ثُلَاثِيٌّ هَمْزَةِ وَصْلٍ مِنْ بَرُدَ الشَّيْءُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَيُقَالُ بَرَدْتُهُ أَنَا فَهُوَ مَبْرُودٌ وَبَرَّدْتُهُ تَبْرِيدًا يُقَالُ بَرَدْتُ الْحُمَّى أَبْرُدُهَا بَرْدًا كَقَتَلْتُهَا قَتْلًا أَيْ أَسْكَنْتُ حَرَارَتهَا، وَقِيلَ هُوَ رُبَاعِيٌّ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ مَفْتُوحَةً وَكَسْرِ الرَّاءِ مِنْ أَبْرَدَ الشَّيْء إذَا صَيَّرَهُ بَارِدًا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ هِيَ لُغَةٌ رَدِيئَةٌ. ثُمَّ قِيلَ الْمُرَادُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، وَالْأَصَحُّ كُلُّ مَاءٍ وَأَنَّ الْمُرَادَ اسْتِعْمَالُهُ. وَلِهَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ أَسْمَاءَ كَانَتْ تَفْعَلُهُ بِالنِّسَاءِ وَتَحْتَجُّ بِالْخَبَرِ. وَعَنْ سَعِيدٍ الشَّامِيِّ هُوَ أَبُو زُرْعَةَ عَنْ ثَوْبَانَ مَرْفُوعًا «إذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ الْحُمَّى فَإِنَّ الْحُمَّى قِطْعَةٌ مِنْ النَّارِ فَلْيُطْفِئْهَا عَنْهُ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ وَلِيَسْتَقْبِلْ نَهْرًا جَارِيًا يَسْتَقْبِلُ جَرْيَةَ الْمَاءِ فَيَقُولُ بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ اشْفِ عَبْدَكَ وَصَدِّقْ رَسُولَك، بَعْدَ

صَلَاةِ الْفَجْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَيَنْغَمِسُ فِيهِ ثَلَاثَ غَمَسَاتٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ فِي ثَلَاثٍ فَخَمْسٌ فَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ فِي خَمْسٍ فَسَبْعٌ، فَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ فِي سَبْعٍ فَتِسْعٌ، فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يُجَاوِزُ التِّسْعَ بِإِذْنِ اللَّهِ» سَعِيدٌ رَوَاهُ عَنْهُ اثْنَانِ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَقِيلَ مَجْهُولٌ وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ ضَعِيفٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ غَرِيبٌ. وَقِيلَ الصَّدَقَةُ بِالْمَاءِ، وَيَحْتَمِل أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَبَرِ أَهْلُ الْحِجَازِ وَمَا، وَالَاهُمْ فَإِنَّ أَكْثَرَ الْحُمَّى الْعَارِضَةُ لَهُمْ عَنْ شِدَّةِ الْحَرِّ فَيَنْفَعُهَا الْمَاءُ الْبَارِدُ غَسْلًا وَشُرْبًا، لِأَنَّهَا بِمُجَرَّدِ كَيْفِيَّةٍ حَارَّةٍ فَتَزُولُ بِكَيْفِيَّةٍ بَارِدَةٍ تُسَكِّنُهَا بِلَا حَاجَةٍ إلَى اسْتِفْرَاغِ مَادَّةٍ أَوْ انْتِظَارِ نُضْجٍ، فَإِنَّ الْحُمَّى عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْأَطِبَّاءُ حَرَارَةٌ غَرِيبَةٌ تَشْتَعِلُ فِي الْقَلْبِ وَتُبَثُّ مِنْهُ بِتَوَسُّطِ الرُّوحِ، وَالدَّمِ فِي الشَّرَايِين، وَالْعُرُوقِ إلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ فَتَشْتَعِلُ فِيهِ اشْتِعَالًا يُضِرُّ بِالْأَفْعَالِ الطَّبِيعِيَّةِ. ثُمَّ الْحُمَّى عَرَضِيَّةٌ وَمَرَضِيَّةٌ، فَالْعَرَضِيَّةُ حَادِثَةٌ عَنْ حَرَارَةِ الشَّمْسِ أَوْ شِدَّةِ غَيْظٍ أَوْ وَرَمٍ أَوْ حَرَكَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْمَرَضِيَّةُ لَا تَكُونُ إلَّا فِي مَادَّةٍ أُولَى مِنْهَا تُسَخِّنُ جَمِيعَ الْبَدَنِ فَإِنْ كَانَ مَبْدَأُ تَعَلُّقِهَا بِالرُّوحِ سُمِّيَتْ حُمَّى يَوْمٍ لِزَوَالِهَا غَالِبًا فِي يَوْمٍ وَغَايَتُهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ. وَإِنْ كَانَ مَبْدَأُ تَعَلُّقِهَا بِالْأَخْلَاطِ سُمِّيَتْ عَفِنَةً وَهِيَ صَفْرَاوِيَّةٌ وَسَوْدَاوِيَّةٌ وَبَلْغَمِيَّةٌ وَدَمَوِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَ تَعَلُّقُهَا بِالْأَعْضَاءِ الصُّلْبَةِ الْأَصْلِيَّةِ سُمِّيَتْ حُمَّى دَقٍّ، وَيَحْتَمِل أَنْ يُرَادَ بِالْخَبَرِ أَنْوَاعُ الْحُمَّى. وَقَدْ ذَكَرَ جَالِينُوسُ أَنَّ الشَّابَّ الْحَسَنَ اللَّحْمِ الْخِصْبِ الْبَدَنِ وَلَا وَرَمَ فِي أَحْشَائِهِ إنْ اسْتَحَمَّ بِمَاءٍ بَارِدٍ أَوْ سَبَحَ فِيهِ انْتَفَعَ بِهِ وَقَالَ وَنَحْنُ نَأْمُرُ بِذَلِكَ وَقَالَ غَيْرُهُ إذَا كَانَتْ الْقَوَى قَوِيَّةً، وَالْحُمَّى حَارَّةً جِدًّا، وَالنَّضْجُ بَيِّنٌ وَلَا وَرَمَ فِي الْجَوْفِ وَلَا فَتْقَ يَنْفَعُ الْمَاءُ الْبَارِدُ شُرْبًا، وَإِنْ كَانَ خِصْبَ الْبَدَنِ، وَالزَّمَانُ حَارٌّ وَكَانَ مُعْتَادًا لِاسْتِعْمَالِ الْبَارِدِ مِنْ خَارِجٍ فَلْيُؤْذَنْ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ قَدْ يَنْتَفِعُ الْبَدَنُ بِالْحُمَّى انْتِفَاعًا لَا يَبْلُغُهُ الدَّوَاءُ فَتَكُونُ حُمَّى يَوْمٍ وَحُمَّى الْعَفِنَةِ سَبَبًا لِإِنْضَاجِ مَوَادَّ غَلِيظَةٍ لَا تَنْضَجُ بِدُونِهَا، وَسَبَبًا لِتَفَتُّحِ سُدَدٍ لَا تَصِلُ إلَيْهَا

الْأَدْوِيَةُ وَتُبْرِئُ أَكْثَرَ أَنْوَاعِ الرَّمَدِ وَتَنْفَعُ مِنْ الْفَالِجِ، وَاللَّقْوَةِ، وَالشَّنَجِ الِامْتِلَائِيِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا يُعَارِضُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ عَبْدُ الْقَادِرِ الرَّهَاوِيُّ فِي تَارِيخِهِ الْمَادِحِ، وَالْمَمْدُوحِ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الصغاني عَنْ مُعَاوِيَةَ يَعْنِي بْنَ عُمَرَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ يَعْنِي الْفَزَارِيِّ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أُمِّ طَارِقٍ مَوْلَاةِ سَعْدٍ قَالَتْ: «أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسْتَأْذَنَ مِرَارًا فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ فَرَجَعَ فَقَالَ سَعْدٌ ائْتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاقْرَئِي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأَخْبِرِيهِ إنَّمَا سَكَتْنَا عَنْك رَجَاءَ أَنْ تَزِيدَنَا فَأَتَيْتُهُ، فَبَيْنَا أَنَا قَاعِدَةٌ عِنْدَهُ إذْ جَاءَ شَيْءٌ فَاسْتَأْذَنَ عَلَى الْبَابِ فَقَالَتْ أَنَا أُمُّ مِلْدَمٍ قَالَ لَا مَرْحَبًا وَلَا أَهْلًا أَتَنْهَدِينَ إلَى أَهْلِ قُبَاءَ؟ قَالَتْ نَعَمْ قَالَ فَاذْهَبِي إلَيْهِمْ» رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ يَعْلَى بْن عُبَيْدٍ عَنْ الْأَعْمَشِ وَفِيهِ أَنَّ أُمَّ طَارِقٍ قَالَتْ سَمِعْت صَوْتًا عَلَى الْبَابِ يَسْتَأْذِنُ فَقَالَ مَنْ أَنْتِ؟ وَلَيْسَ فِيهِ فَاقْرَئِي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ جَعْفَرَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هَذَا وَذَكَرَ مَعْنَى أَوَّلِ الْخَبَرِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَى سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فَسَلَّمَ ثَلَاثًا» فَهَذَا الْخَبَرُ إنْ صَحَّ فَلَا يُعَارِضُ الْخَبَرَ السَّابِقَ، لِأَنَّ السَّابِقَ أَصَحُّ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا وَأُمُّ مِلْدَمٍ كُنْيَةُ الْحُمَّى، وَالْمِيمُ الْأُولَى مَكْسُورَةٌ زَائِدَةٌ وَأَلْدَمَتْ عَلَيْهِ الْحُمَّى دَامَتْ. وَلِأَحْمَدَ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ الْحُمَّى اسْتَأْذَنَتْ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّهُ أَمَرَ بِهَا إلَى أَهْلِ قُبَاءَ فَلَقُوا مِنْهَا مَا يَعْلَمُ اللَّهُ فَأَتَوْهُ فَشَكَوْا ذَلِكَ إلَيْهِ فَقَالَ مَا شِئْتُمْ إنْ شِئْتُمْ أَنْ أَدْعُوَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَيَكْشِفَهَا عَنْكُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَكُونَ لَكُمْ طَهُورًا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَتَفْعَلُ قَالَ نَعَمْ قَالُوا فَدَعْهَا» .

فصل في مرض القلوب وعلاجه

[فَصْلٌ فِي مَرَضِ الْقُلُوبِ وَعِلَاجِهِ] الْقُلُوبُ تَمْرَضُ كَغَيْرِهَا مِنْ الْأَعْضَاءِ وَعِلَاجُهَا فِي كُتُبِ الْأَطِبَّاءِ وَتَمْرَضُ بِالشُّبُهَاتِ، وَالشُّكُوكِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [المدثر: 31] تَمْرَضُ الْقُلُوبُ بِالشَّهَوَاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32] . أَيْ فُجُورٌ وَهُوَ شَهْوَةُ الزِّنَا، وَعِلَاجُ ذَلِكَ اتِّبَاعُ كِتَابِ اللَّهِ وَسَنَةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالِاجْتِهَادُ فِي الطَّاعَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَالْبَاطِنَةِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَالْبَاطِنَةِ فَالْقُلُوبُ كَثِيرَةُ التَّقَلُّبِ «وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحْلِفُ لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ» . وَقَالَ «مَا مِنْ قَلْبٍ إلَّا وَهُوَ بَيْنَ إصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ يُقَلِّبُهُ كَيْفَ يَشَاءُ إنْ شَاءَ أَنْ يُقِيمَهُ أَقَامَهُ وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُزِيغَهُ أَزَاغَهُ، وَصَلَاحُ الْقُلُوبِ رَأْسُ كُلِّ خَيْرٍ، وَفَسَادُهَا رَأْسُ كُلِّ شَرٍّ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ فَسَادَ قُلُوبِنَا وَقُلُوبِ إخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَحْصُلُ بِأَعْمَالِ الْقُلُوبِ مِنْ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الشِّفَاءِ مَا لَا يَحْصُلُ بِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ تَقْوَى بِذَلِكَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّفْسَ مَتَى قَوِيَتْ وَقَوِيَتْ الطَّبِيعَةُ تَعَاوَنَا عَلَى فِعْلِ الدَّاءِ وَأَوْجَبَ ذَلِكَ زَوَالَهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَمِثْلُ هَذَا مَعْلُومٌ مُجَرَّبٌ مَشْهُورٌ، وَلَا يُنْكِرهُ إلَّا جَاهِلٌ أَوْ بَعِيدٌ عَنْ اللَّهِ.

فصل في العشق وأسبابه وعلاجه

[فَصْلٌ فِي الْعِشْقِ وَأَسْبَابِهِ وَعِلَاجِهِ] الْعِشْقُ دَاءٌ صَعْبٌ وَمَرَضٌ لَيْسَ بِالْهَيِّنِ وَهُوَ فَرْطُ الْحُبِّ وَقَدْ عَشِقَهُ عِشْقًا مِثْل عَلِمَهُ عِلْمًا وَعَشَقًا أَيْضًا عَنْ الْفَرَّاءِ، وَالْعَشَقَةُ نَبْتٌ يَصْفَرُّ كُلُّهُ وَيَذْبُلُ بِهِ شُبِّهَ الْعَاشِقُ وَرَجُلٌ عَشَقٌ مِثْلُ فَسَقٍ أَيْ كَثِيرُ الْعِشْقِ عَنْ يَعْقُوبَ. وَالتَّعَشُّقُ تُكَلَّفُ الْعِشْقِ قَالَ الْفَرَّاءُ يَقُولُونَ امْرَأَةٌ مُحِبٌّ لِزَوْجِهَا وَعَاشِقٌ. وَالْعِشْقُ الطَّوِيلُ الَّذِي لَيْسَ بِمُثْقَلٍ وَلَا ضَخْمٍ مِنْ قَوْمٍ عَانِقَةٌ، وَالْمَرْأَةُ عِشْقَةٌ وَقَدْ يَقْتُلُ الْعِشْقُ صَاحِبَهُ. وَقَدْ صَنَّفَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مَصَارِعَ الْعُشَّاقِ، وَلِهَذَا ذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَنْ مَاتَ بِهِ مِنْ الشُّهَدَاءِ. وَذَكَرُوا الْخَبَرَ الضَّعِيفَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ عَشِقَ فَكَتَمَ فَمَاتَ مَاتَ شَهِيدًا» لَكِنْ لَهُ طَرِيقٌ آخَرُ وَقَدْ ذَكَرْتُهُ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ فِي عَدَدِ الشُّهَدَاءِ وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ التَّابِعِينَ فِي قَوْله تَعَالَى: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286] . إنَّهُ الْمَحَبَّةُ، وَالْعِشْقُ، وَمَاتَ بِهِ بَعْضُ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ أَظُنُّهُ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ قَالَ ثَعْلَبُ أَنْشَدَنَا ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ ثَلَاثَةُ أَحْبَابٍ فَحُبُّ عَلَاقَةٍ ... وَحُبُّ تِمْلَاقٍ وَحَبٌّ هُوَ الْقَتْلُ وَيُقَالُ تَمَلَّقَهُ وَتَمَلَّقَ لَهُ تَمْلِيقًا وَتَمَلُّقًا أَيْ تَوَدَّدَ إلَيْهِ وَتَلَطَّفَ لَهُ، وَلَا يُبْتَلَى بِالْعِشْقِ غَالِبًا إلَّا مَنْ غَفَلَ قَلْبُهُ عَنْ اللَّهِ وَعَنْ ذِكْرِهِ وَعَنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ يُوسُفَ {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24] يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِخْلَاصَ سَبَبٌ لِدَفْعِ السُّوءِ، وَالْفَحْشَاءِ فَالْقَلْبُ إذَا امْتَلَأَ مِنْ ذَلِكَ اسْتَحْلَاهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَتَغَذَّى بِهِ وَاسْتَغْنَى بِهِ عَمَّا سِوَاهُ. قَالَ فِي الْفُنُونِ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ لَيْسَ الْعِشْقُ مِنْ أَدْوَاءِ الْحُكَمَاءِ إنَّمَا هُوَ

مِنْ أَمْرَاضِ الْخُلَفَاءِ الَّذِينَ جَعَلُوا دَأْبَهُمْ وَلَهْجَتَهُمْ مُتَابَعَةَ النَّفْسِ وَإِرْخَاءً عَنْ الشَّهْوَةِ وَإِفْرَاطَ النَّظَرِ فِي الْمُسْتَحْسَنَاتِ مِنْ الصُّوَرِ، فَهُنَالِكَ تَتَقَيَّدُ النَّفْسُ بِبَعْضِ الصُّوَرِ فَتَأْنَسُ، ثُمَّ تَأْلَفُ، ثُمَّ تَتُوقُ، ثُمَّ تَتَشَوَّقُ، ثُمَّ تَلْهَجُ فَيُقَالُ عَشِقَ، وَالْحَكِيمُ مَنْ اسْتَطَالَ رَأْيُهُ عَلَى هَوَاهُ وَتَسَلَّطَتْ حِكْمَتُهُ أَوْ تَقْوَاهُ عَلَى شَهْوَتِهِ، فِرْعُونَاتُ نَفْسِهِ مُقَيَّدَةٌ أَبَدًا، كَصَبِيٍّ بَيْنَ يَدَيْ مُعَلِّمِهِ أَوْ عَبْدٍ بِمَرْأَى سَيِّدِهِ وَمَا كَانَ الْعِشْقُ إلَّا لِأَرْعَنَ بَطَّالٍ، وَقَلَّ أَنْ يَكُونَ فِي مَشْغُولٍ وَلَوْ بِصِنَاعَةٍ أَوْ تِجَارَةٍ فَكَيْفَ بِعُلُومٍ شَرْعِيَّةٍ أَوْ حُكْمِيَّةٍ؟ فَإِنَّهَا صَارِفَةٌ عَنْ ذَلِكَ. وَقَالَ أَيْضًا الْأَبْدَانُ الْمُدَلَّلَةُ تَسْتَحِيلُ تُرَابًا وَفِي تَدَرُّجِهَا تَسْتَحِيلُ دَمًا وَقَيْحًا وَمِدَّةً، فَلَوْ فَكَّرَ الْعَاشِقُ فِي حَالِ الْمَعْشُوقِ فَتَرَ عِشْقُهُ وَقَالَ أَيْضًا قَوْلُهُمْ أَوْحَشَنَا فُلَانُ، الْوَحْشَةُ انْقِبَاضٌ فِي الْقَلْبِ لِفَقْدِ الْمَأْلُوفِ، وَحَدُّ الْأُنْسِ انْبِسَاطُ الْقَلْبِ وَطُمَأْنِينَتِهِ إلَى مَحْسُوسٍ، وَحَدُّ الْقَلَقِ تَتَابُعُ حَرَكَةِ الْقَلْبِ لِمُزْعِجٍ،، وَالْوَجِيبُ أَشَدُّ حَرَكَاتِ الْقَلْبِ،، وَالطُّمَأْنِينَةُ سُكُونُ الْقَلْبِ وَدَعَتُهُ، وَالتَّشَفِّي دَرْكُ الْقَلْبِ غَرَضَهُ مِنْ الِانْتِقَامِ، وَالْغَيْظُ أَخْفَاهُ طَلَبُ الِانْتِقَامِ لِلْعَجْزِ عَنْ إيقَاعِهِ،، وَالْمُؤَاخَذَةُ الْمُجَازَاةُ عَلَى الْإِسَاءَةِ،، وَالْهَيَمَانُ الذَّهَاب فِي طَلَب غَرَضٍ لَا غَايَةَ لَهُ،، وَالْكَلَفُ الشَّغَفُ، وَاللَّهَجُ تَطَلُّبُ الْغَرَضِ، وَالْحَمَاقَةُ إهْمَالُ قَوَانِينِ الْحِكْمَةِ،، وَالتَّمَنِّي تَطَوُّحٌ بِالْأَمَلِ،، وَالشَّرَهُ إسْرَافُ الطَّبْعِ فِي الْمَطْلُوبِ. وَذَكَرَ أَيْضًا قَوْلَ الصَّابِئِ الْكَاتِبِ: وَقَالُوا أَفِقْ مِنْ لَذَّةِ السُّكْرِ وَالصِّبَا ... فَقَدْ بَانَ صُبْحٌ فِي دُجَاك عَجِيبُ فَقُلْت أَخِلَّائِي دَعُونِي وَلَذَّتِي ... فَإِنَّ الْكَرَى عِنْدَ الصَّبَاحِ يَطِيبُ وَطَرِيقُ عِلَاجِهِ الْبُعْدُ عَنْ الْمَعْشُوقِ بِحَيْثُ لَا يَرَاهُ وَلَا يَسْمَعُ كَلَامَهُ فَإِنَّ الْبُعْدَ جَفَاءٌ وَقَدْ قَالَ الشَّاعِر: تَزَوَّدْت مِنْ لَيْلَى بِتَكْلِيمِ سَاعَةٍ ... فَمَا زَادَ إلَّا ضِعْفَ مَا بِي كَلَامُهَا وَالتَّفَكُّرُ فِي مَسَاوِيهِ وَقَبِيحِ صِفَاتِهِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مَا قَالَهُ غَيْرُهُ: الِاطِّلَاعُ عَلَى بَعْضِ الْعُيُوبِ يَقْدَحُ فِي الْمَحَبَّةِ. وَالنَّظَرُ فِي عَاقِبَةِ الْمَعَاصِي وَمَا يَقْتَرِنُ بِهَا مِنْ الذُّلِّ، وَالْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّ عَاقِلًا لَا يُؤْثِرُ

لَذَّةَ سَاعَةٍ بِعُقُوبَةِ سَنَةٍ، كَمَا لَا يُؤْثِرُ مَا يُسَاوِي دِرْهَمًا عَلَى مَا يُسَاوِي دِينَارًا، بَلْ إيثَارُ مَا يُسَاوِي دِينَارًا عَلَى مَا يُسَاوِي دِرْهَمًا شَأْنُ الْعُقَلَاءِ الْعَارِفِينَ، وَكَيْفَ يُؤْثِرُ عَاقِلٌ لَذَّةَ سَاعَةٍ عَلَى فَوَاتِ نَعِيمٍ مِنْ صِفَتِهِ " مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ "؟ نَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْتَهُ فَاتَ حَسْبُ بَلْ مَعَ فَوَاتِهِ يَحْصُلُ لَهُ ضَعْفٌ فِي الْقَلْبِ وَوَهَنٌ فِي الْبَدَن وَسَوَادٌ فِي الْوَجْهِ وَضِيقٌ فِي الرِّزْقِ وَبَغْضَةٌ فِي قُلُوبِ النَّاسِ كَمَا قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَلَوْ تَرَكَ هَذِهِ اللَّذَّةَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ كَانَ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَاسْتَحَقَّ عَكْسَ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَتَحْصُلُ لَهُ لَذَّةٌ يَجِدُ حَلَاوَتَهَا كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَسْتَحِقُّ مَنْ فَعَلَ هَذِهِ اللَّذَّة مَعَ مَا سَبَقَ مِنْ الصِّفَاتِ سَخَطَ الرَّحْمَنِ وَغَضَبَ الْجَبَّارِ وَدُخُولَ دَارِ الذُّلِّ، وَالْهَوَانِ وَهِيَ جَهَنَّمُ أَعَاذَنَا اللَّهُ وَإِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقَدْ «سُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ فَقَالَ الْفَمُ، وَالْفَرْجُ» . وَقَالَ حَاتِمٌ الطَّائِيُّ: وَإِنَّكَ مَهْمَا تُعْطِ بَطْنَكَ سُؤْلَهُ ... وَفَرْجَك نَالَا مُنْتَهَى الذَّمِّ أَجْمَعَا وَالنَّظَرُ فِي حَقِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَظَمَتِهِ وَنِعَمِهِ الَّتِي لَا تُحْصَى وَأَنَّ مَعَ هَذَا كَيْفَ يُعْصَى وَيُخَالَفُ فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى؟ ، وَالنَّظَرُ فِي هَذِهِ الْمَحَبَّةِ لَيْسَ لَهَا سَبَبٌ صَحِيحٌ، وَأَنَّ هَذَا الْمَحْبُوبَ كَغَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ بَلْ رُبَّمَا كَانَ دُونَهُمْ كَمَا قَدْ شَاعَ عَنْ قُبْحِ لَيْلَى وَصَاحِبهَا الْمَجْنُونِ الْمَفْتُونِ بِهَا، وَجِمَاعُ الْحَلَالِ مِنْ زَوْجَةٍ وَجَارِيَةٍ فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى امْرَأَةً فَأَتَى امْرَأَتَهُ زَيْنَبَ وَهِيَ تَمْعَسُ مَنِيئَةً لَهَا فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ إنَّ الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ وَتُدْبِرُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ فَإِذَا أَبْصَرَ أَحَدُكُمْ امْرَأَةً فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ يُبْرِدُ مَا فِي نَفْسِهِ» . وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «إذَا أَحَدُكُمْ

أَعْجَبَتْهُ الْمَرْأَةُ فَوَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ فَلْيَعْمِدْ إلَى امْرَأَتِهِ فَلْيُوَاقِعْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ يُبْرِدُ نَفْسَهُ» قَوْلُهُ: " تَمْعَسُ " بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَة الدَّلْك،، وَالْمَنِيئَةُ بِمِيمٍ مَفْتُوحَةٍ، ثُمَّ نُونٍ مَكْسُورَةٍ، ثُمَّ هَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ، ثُمَّ تَاءٍ تُكْتَبُ هَاءً وَهِيَ الْجِلْدُ فِي الدِّبَاغِ قَالَ الْكِسَائِيُّ يُسَمَّى مَنِيئَةً مَا دَامَ فِي الدِّبَاغِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ فِي أَوَّلِ الدِّبَاغِ. مَنِيئَةٌ، ثُمَّ أَفِيقٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَكَسْرِ الْفَاءِ وَجَمْعُهُ فُيُقٌ كَقَفِيزٍ وَقُفُزٌ، ثُمَّ أَدِيمٌ وَقَوْلُهُ " تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ وَتُدْبِرُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ " أَيْ إنَّ الْمَرْأَةَ شَبِيهَةٌ بِهِ فِي دُعَائِهِ إلَى الشَّرِّ بِتَزْيِينِهِ وَوَسْوَسَتِهِ، وَالْمُرَادُ الْإِشَارَةُ إلَى الْهَوَى، وَالدُّعَاءُ إلَى الْفِتْنَةِ بِالْمَرْأَةِ لِمَيْلِ الْقُلُوبِ إلَى النِّسَاءِ، وَإِنَّمَا أَتَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا فَعَلَ بَيَانًا وَإِرْشَادًا إلَى مَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ فَعَلَّمَ النَّاسَ بِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ قَالَ الْأَطِبَّاءُ " مِنْ فَوَائِدِ الْجِمَاعِ أَنَّهُ يُزِيلُ دَاءَ الْعِشْقِ وَلَوْ كَانَ مَعَ غَيْرِ مَنْ يَهْوَى ". وَمِنْ أَكْبَرِ الدَّوَاءِ التَّضَرُّعُ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا سِيَّمَا فِي أَوْقَاتِ الْإِجَابَةِ، وَالْأَمَاكِنِ الْمُعَظَّمَةِ فِي كَشْفِ ذَلِكَ وَإِزَالَتِهِ، وَالْعَافِيَةِ مِنْهُ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَقَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا. وَمِنْ الدَّوَاءِ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْمَحْبُوبِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَتَعَذَّرُ الِاجْتِمَاعُ بِهِ فَيَقُولُ فِي نَفْسِهِ إنَّ الطَّمَعَ فِي ذَلِكَ جُنُونٌ كَالطَّمَعِ بِالشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ وَنَحْوِهِمَا، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُمْكِنُ الِاجْتِمَاعُ بِهِ كَالْمُمْتَنِعِ قَدَرًا بِالنَّظَرِ فِيمَا سَبَقَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُدَاوَاةِ يَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِهَا. وَإِنْ اعْتَنَى مَعَ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ مِمَّا يُبَاحُ شَرْعًا فَحَسَنٌ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ وَأَظُنُّهُ ابْنَ الْمَالِكِيِّ: الْمُدَاوَاةُ لِلْعِشْقِ، تُدْبِرُ بِالتَّدْبِيرِ الْمُرَطِّبِ كَالِاسْتِحْمَامِ بِالْمَاءِ الْعَذْبِ، وَالرُّكُوبِ، وَالرِّيَاضَةِ الْمُعْتَدِلَةِ، وَالتَّمْرِيخِ بِدُهْنِ الْبَنَفْسَجِ وَشُرْبِ الشَّرَابِ، وَالنَّظَرِ إلَى الْبَسَاتِينِ، وَالْمَزَارِعِ النَّضِرَةِ وَسَمَاعِ الصَّوْتِ الْمُطْرِبِ، وَالْحَدِيثِ، وَالْمُسَامَرَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَا يَنْبَغِي التَّمَادِي مَعَ الْهَوَى وَتَرْكِ السَّعْيِ فِي أَسْبَابِ إزَالَتِهِ وَكَشْفِهِ فَإِنَّ الْأَمْرَ فِي أَوَّلِهِ سَهْلٌ فَزَوَالُهُ قَرِيبٌ سَهْلٌ وَقَدْ قِيلَ وَمَا النَّفْسُ إلَّا حَيْثُ يَجْعَلُهَا الْفَتَى ... فَإِنْ أُطْمِعَتْ تَاقَتْ وَإِلَّا تَسَلَّتْ وَقَدْ يَعْظُمُ وَيَتَفَاقَمُ فَتَبْعُدُ إزَالَتُهُ جِدًّا وَيَبْعُدُ السَّعْيُ فِي سَبَبهَا لِغَلَبَةِ الْهَوَى، وَالْمَحَبَّةِ. وَسَبَقَ فِي أَوَائِل الْكِتَاب مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «حُبُّك الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ» وَيَحْصُلُ مَعَ التَّمَادِي فِي ذَلِكَ مِنْ الذُّلِّ، وَالشَّرِّ، وَالْفَسَادِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعِبَادِ وَيَصِيرُ ذَلِكَ عَادَةً وَطَبِيعَةً وَجِبِلَّةً فَيَسْتَمِرُّ ذَلِكَ مَعَ الشَّيْخُوخَةِ وَعُلُوِّ السِّنِّ وَيَنْتَقِلُ مِنْ صُورَةٍ إلَى صُورَةٍ وَلَا يَنْفَعُ مَعَ ذَلِكَ وَعْظٌ وَلَا زَجْرٌ وَيُضْعِفُ الطَّعَامَ عَنْهُ جِدًّا وَقَدْ قَالَ الْأَطِبَّاءُ مَا قَالَ غَيْرهمْ: الْعَادَةُ طَبِيعَةٌ ثَانِيَةٌ. وَفِي فُنُونِ ابْنِ عَقِيلٍ قَالَ حَنْبَلٌ الْخَيْرُ بِالتَّعَوُّدِ، وَالشَّرُّ طَبْعِيٌّ، وَانْظُرْ إلَى وَضْعِ الشَّرْعِ «مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ» فَلَمَّا جَاءَ إلَى الشَّرِّ «فَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» لِعِلْمِهِ أَنَّ ذَلِكَ أَكْثَر فِي الْمُجْتَمِعِينَ. وَقَدْ نَظَمَ الْوَزِيرُ ابْنُ هُبَيْرَةَ الْحَنْبَلِيُّ مِنْ أَصْحَابنَا. تَعَوَّدْ فِعَالَ الْخَيْرِ جَمْعًا فَكُلُّ مَا ... تَعَوَّدَ الْإِنْسَانُ صَارَ لَهُ خُلُقَا قَالَ أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيٍّ: مَا يَسُرُّنِي أَنِّي مُكْتَفٍ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا قِيلَ لَهُ وَلِمَ قَالَ أَخَافُ عَادَةَ الْعَجْزِ. وَقَالَتْ الْعَرَبُ، الْعَادَةُ أَمْلَكُ بِالْإِنْسَانِ مِنْ الْأَدَبِ. وَقَالُوا الْعَادَةُ طَبِيعَةٌ ثَانِيَةٌ، وَقَالُوا الْخَيْرُ عَادَةٌ، وَالشَّرُّ لَجَاجَةٌ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ وَكَانَ يُقَالُ وَاَللَّهِ لَا أَنْسَاك حَتَّى أَنْسَى الْعَوْمَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا تَعَلَّمَ السِّبَاحَةَ لَمْ يَنْسَهَا، وَقَدْ قِيلَ لِي عَنْ بَعْضِ مَنْ تَوَلَّعَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَأَلِفَهَا وَعَشِقَهَا وَأَرَادَ الْكَفَّ عَنْ ذَلِكَ وَزَجَرَ نَفْسَهُ فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنَّهُ مَا بَقِيَ يَشْرَبُهَا فَغَلَبَتْهُ عَادَتُهُ وَطَبِيعَتُهُ عَلَى أَنْ خَالَعَ زَوْجَتَهُ وَشَرِبَهَا وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مَعْرُوفٌ لِمَنْ نَظَرَ فِي أَحْوَالِ النَّاسِ.

وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي مَيْلِ الْقُلُوبِ إلَى الْمَعَاصِي فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِلُّهَا كُلَّهَا أَوْ أَكْثَرَهَا أَوْ كَثِيرًا مِنْهَا أَوْ مَعْصِيَةً وَاحِدَةً وَرُبَّمَا كَانَ الْمُفْتَتَنُ بِذَلِكَ عَالِمًا أَوْ عَابِدًا فَرُبَّمَا فَتَنَ بِعِلْمِهِ وَعِبَادَتِهِ قُلُوبَ بَعْضِ الْعَوَامّ وَرُبَّمَا اسْتَمَالَ النَّاسَ وَقُلُوبَهُمْ إلَيْهِ بِبَعْضِ أَغْرَاضِ الدُّنْيَا فَرُبَّمَا تَرَخَّصُوا بِفِعْلِهِ وَرُبَّمَا عَذَرُوهُ فِيهِ، وَرُبَّمَا حَمَلَهُمْ عَرَضُ الدُّنْيَا عَلَى ذِكْرِ مَحَاسِنِهِ، وَالْكَفِّ عَنْ مَسَاوِيهِ، فَتَحْصُلُ الْفِتْنَةُ، وَالْمَعْصِيَةُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ عَبَدَ هَوَاهُ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَلَمْ يُحِبَّ فِي اللَّهِ وَلَمْ يُبْغِضْ فِي اللَّهِ، بَلْ أَحَبَّ لِعَرَضِ الدُّنْيَا وَأَبْغَضَ لِلدُّنْيَا وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ» وَعَنْهُ أَيْضًا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ، وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ» بَلْ رُبَّمَا حَمَلَهُمْ عَرَضُ الدُّنْيَا مَعَ ذَلِكَ عَلَى مُعَادَاة مَنْ أَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَتَتَكَرَّرَ الْمَعْصِيَةُ عَلَى اخْتِلَافِ مَرَاتِبِهَا وَصِفَاتِهَا عَلَى مَا لَا يَخْفَى وَقَدْ يَصِيرُ هَذَا الْمِسْكِينُ لِأَجْلِ هَذَا الْعَرَضِ الْقَلِيلِ الزَّائِلِ عَنْ قَلِيلٍ مُعَادِيًا لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ مُوَالِيًا لِأَهْلِ الْفُسُوقِ، وَالْمَعَاصِي، وَلَا يَخْفَى مَا يَعْمَلُ الْمُعَادِي لِقَوْمٍ حَسْبَ مَا يُمْكِنُهُ وَمَا يَعْمَلُ الْمُوَالِي لِقَوْمٍ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَالَ «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ» وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب: 57] {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58] . وَمَنْ نَظَرَ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ عَلِمَ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَعْصِيَةَ قَدْ فُتِنَ بِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ وَحَصَلَ بِهَا مِنْ الضَّرَر مَا لَمْ يَحْصُل بِغَيْرِهَا، فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ وَحُسْنَ الْعَاقِبَةِ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يُصْلِحَ أَحْوَالَنَا وَأَحْوَالَهُمْ آمِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ وَهْبُ بْن مُنَبِّهٍ: الْعَقْلُ، وَالْهَوَى يَصْطَرِعَانِ فَأَيُّهُمَا غَلَبَ مَالَ بِصَاحِبِهِ قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: وَآفَةُ الْعَقْلِ الْهَوَى فَمَنْ عَلَا ... عَلَى هَوَاهُ عَقْلُهُ فَقَدْ نَجَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَفْضَلُ الْجِهَادِ جِهَادُ الْهَوَى وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ أَشْجَعُ النَّاسِ أَشَدُّهُمْ مِنْ الْهَوَى امْتِنَاعًا قَالَ وَمِنْ الْمُحَقَّرَاتِ تَنْتُجُ الْمُوبِقَاتُ، وَيَقُولُونَ إنَّ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ لَمْ يَقُلْ بَيْتَ شِعْرٍ قَطُّ إلَّا هَذَا الْبَيْتَ: إذَا أَنْتَ لَمْ تَعْصِ الْهَوَى قَادَك الْهَوَى ... إلَى بَعْضِ مَا فِيهِ عَلَيْك مَقَالُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَوْ قَالَ إلَى كُلِّ مَا فِيهِ عَلَيْك مَقَالُ كَانَ أَبْلَغَ وَأَحْسَنَ وَمَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مُتَوَجِّهٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ. إنَّمَا يَحْتَاج اللَّبِيبُ ذُو الرَّأْي، وَالتَّجْرِبَةِ إلَى الْمُشَاوَرَةِ لِيَتَجَرَّدَ لَهُ رَأْيُهُ مِنْ هَوَاهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ اعْصِ النِّسَاءَ وَهَوَاك وَاصْنَعْ مَا شِئْتَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَوْ قَالَ اعْصِ الْهَوَى لَاكْتَفَى وَصَدَقَ ابْنُ عَبْد الْبَرِّ وَكَانَ أَوْجَزَ قِيلَ لِلْمُهَلَّبِ بِمَ ظَفِرْت قَالَ بِطَاعَةِ الْحَزْمِ وَعِصْيَانِ الْهَوَى. قَالُوا مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْهَوَى فِي شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ إلَّا ذَمَّهُ وَقَالَ بَزَرْجَمْهَرْ الْهَوَى غَالِبٌ، وَالْقَلْبُ مُعَلَّقٌ بِهِ، وَقَدْ امْتَدَحَ بِتَرْكِ الْهَوَى جَمَاعَةٌ مِنْ الْحُكَمَاءِ. وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: وَأَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ حَيْثُ كَانَتْ ... وَأَتْرُكُ مَا هَوِيتُ لِمَا خَشِيتُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ حَدَّثَنَا عَبْد الْوَارِث ثَنَا قَاسِمٌ نَصْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَسَدِيُّ الْكُوفِيُّ ثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ عُثْمَانَ الْمِصِّيصِيّ ثَنَا مَخْلَدُ بْنُ حُسَيْنٍ ثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) يَحْرُسُ ذَاتَ لَيْلَةٍ إذْ سَمِعَ امْرَأَةً وَهِيَ تَقُولُ:

هَلْ مِنْ سَبِيلٍ إلَى خَمْرٍ فَأَشْرَبَهَا ... أَمْ مِنْ سَبِيلٍ إلَى نَصْرِ بْنِ حَجَّاجِ فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ عَلَيَّ بِنَصْرٍ فَجِيءَ بِهِ فَإِذَا هُوَ أَجْمَلُ النَّاسِ فَقَالَ: إنَّهَا الْمَدِينَةُ لَا تُسَاكِنِّي فِيهَا فَخَرَجَ إلَى الْبَصْرَةِ، فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ عَمٍّ لَهُ هُوَ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ، فَبَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ مَعَ ابْنِ عَمِّهِ وَامْرَأَتِهِ إذْ كَتَبَتْ فِي الْأَرْضِ إنِّي لَأُحِبّكَ حُبًّا لَوْ كَانَ فَوْقَكَ لَأَظَلَّكَ، وَلَوْ كَانَ تَحْتَكَ لَأَقَلَّكَ، فَقَرَأَهُ وَكَتَبَ تَحْتَهُ وَأَنَا كَذَلِكَ. وَكَانَ الْأَمِيرُ لَا يَقْرَأُ فَعَلِمَ أَنَّهُ جَوَابُ كَلَامٍ فَأَكْفَأَ عَلَيْهِ إنَاءً وَقَامَ فَبَعَثَ إلَى مَنْ يَقْرَؤُهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ نَصْرًا فَلَمْ يَجِئْ إلَيْهِ وَمَرِضَ حَتَّى سُلَّ وَصَارَ شِبْهَ الْفَرْخِ وَأُخْبِرَ الْأَمِيرُ بِذَلِكَ، فَقَالَ لَهَا اذْهَبِي إلَيْهِ وَأَسْنِدِيهِ إلَى صَدْرِكِ وَأَطْعِمِيهِ، فَلَمَّا أَتَتْ الْبَابَ قِيلَ لَهُ هَذِهِ فُلَانَةُ فَكَأَنَّهُ انْتَعَشَ فَصَعِدَتْ إلَيْهِ وَأَسْنَدَتْهُ إلَى صَدْرِهَا وَأَطْعَمَتْهُ فَأَفَاقَ، فَخَرَجَ مِنْ الْبَصْرَةِ وَاسْتَحْيَا مِنْ ابْنِ عَمِّهِ فَلَمْ يَلْقَهُ بَعْدَهَا قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ عُثْمَانَ الْأَمِيرُ مُجَاشِعُ بْنُ مَسْعُودٍ وَامْرَأَتُهُ الْخَضْرَاءُ. وَلِلشَّافِعِيِّ أَوْ لِسَهْلٍ الْوَرَّاقِ: إذَا حَارَ وَهْمُكَ فِي مَعْنَيَيْنِ ... وَأَعْيَاكَ حَيْثُ الْهَوَى وَالصَّوَابْ فَدَعْ مَا هَوِيت فَإِنَّ الْهَوَى ... يَقُودُ النُّفُوسَ إلَى مَا يُعَابْ كَانَ يُقَالُ إذَا غَلَبَ عَلَيْك عَقْلُك فَهُوَ لَك، وَإِنْ غَلَبَ هَوَاك فَهُوَ لِعَدُوِّكَ قَالَ عُمَرُ لِمُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَنْ أَصْبَرُ النَّاسِ قَالَ مَنْ كَانَ رَأْيُهُ رَادًّا لِهَوَاهُ قَالَ أَعْرَابِيٌّ أَشَدُّ جَوْلَةِ الرَّأْيِ عِنْدَ الْهَوَى، وَأَشَدُّ فِطَامِ النَّفْسِ عِنْد الصَّبْرِ. قَالَ نِفْطَوَيْهِ إنَّ الْمِرْآةَ لَا تُرِيَك خُدُوشَ وَجْهِك فِي صَدَاهَا، وَكَذَلِكَ نَفْسُك لَا تُرِيك عُيُوبَ نَفْسِك فِي هَوَاهَا. فَهَذِهِ نُبْذَةٌ يَسِيرَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْهَوَى.

وَلِلْحُكَمَاءِ كَجَالِينُوسَ وَغَيْرِهِ فِي الْعِشْقِ كَلَامٌ اخْتَصَرَتْهُ. وَسُئِلَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ عَنْهُ فَقَالَ شُغْلُ قَلْبٍ فَارِغٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَطْنٌ فَرَقَّ، وَظَهْرٌ فَكُثِّفَ، وَامْتَنَعَ وَصْفُهُ عَلَى اللِّسَانِ، فَهُوَ بَيْنَ السِّحْرِ، وَالْجُنُونِ، لَطِيفُ الْمَسْلَكِ، وَالْكُمُونِ. وُجِدَ فِي صَحِيفَةٍ لِبَعْضِ أَهْلِ الْهِنْدِ: الْعِشْقُ ارْتِيَاحٌ جُعِلَ فِي الرُّوحِ، وَهُوَ مَعْنَى تُنْتِجُهُ النُّجُومُ بِمَطَارِحِ شُعَاعِهَا، وَتُوَلِّدُهُ الطَّبَائِعُ بِوَصْلِهِ أَشْكَالَهَا، وَتَقْبَلُهُ النُّفُوسُ بِلُطْفِ خَوَاطِرهَا، وَهُوَ يُعَدُّ جَلَاءً لِلْقُلُوبِ، وَصَيْقَلًا لِلْأَذْهَانِ، مَا لَمْ يُفْرِطْ، فَإِذَا أَفْرَطَ عَادَ سَقْمًا قَاتِلًا، وَمَرَضًا مُنْهِكًا، لَا تَنْفُذُ فِيهِ الْآرَاءُ، وَلَا تَنْجَعُ فِيهِ الْحِيَلُ، الْعِلَاجُ مِنْهُ زِيَادَةٌ فِيهِ. حَضَرَ عِنْدَ الْمَأْمُونِ يَوْمًا يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ الْقَاضِي وَثُمَامَةُ بْنُ أَشْرَسَ فَقَالَ الْمَأْمُونُ لِيَحْيَى خَبِّرْنِي عَنْ حَدِّ الْعِشْقِ؟ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ سَوَانِحُ تَسْنَحُ لِلْعَاشِقِ يُؤْثِرُهَا وَيَهْتَمُّ بِهَا تُسَمَّى عِشْقًا. فَقَالَ ثُمَامَةُ اُسْكُتْ يَا يَحْيَى فَإِنَّمَا عَلَيْك أَنْ تُجِيبَ فِي مَسْأَلَةِ الْفِقْهِ وَهَذِهِ صِنَاعَتُنَا. فَقَالَ الْمَأْمُونُ: أَجِبْ يَا ثُمَامَةُ. فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا تَقَادَحَتْ جَوَاهِرُ النُّفُوسِ بِوَصْلِ الْمُشَاكَلَةِ أَثْبَتَتْ لَمْحَ نُورٍ سَاطِعٍ تَسْتَضِيءُ بِهِ نَوَاظِرُ الْعَقْلِ فَتَهْتَزُّ لِإِشْرَاقِهِ طَبَائِعُ وَيُتَصَوَّرُ مِنْ ذَلِكَ نُورٌ خَاطِرٌ بِالنَّفْسِ مُتَّصِلٌ بِجَوْهَرِهَا فَيُسَمَّى عِشْقًا قَالَ عَبَّاسُ بْنُ الْأَحْنَفِ فِيمَا أَنْشَدَهُ إِسْحَاقُ الْمُوصِلِيُّ: فَلَوْ كَانَ لِي قَلْبَانِ عِشْتُ بِوَاحِدٍ ... وَخَلَّيْت قَلْبًا فِي هَوَاك يُعَذَّبُ وَلَكِنَّمَا أَحْيَا بِقَلْبٍ مُرَوَّعٍ ... فَلَا الْعَيْشُ يَصْفُو لِي وَلَا الْمَوْتُ يَقْرُبُ تَعَلَّمْتُ أَلْوَانَ الرِّضَى خَوْفَ سُخْطِهَا ... وَعَلَّمَهَا حُبِّي لَهَا كَيْفَ تَغْضَبُ وَلِي أَلْفُ وَجْهٍ قَدْ عَرَفْتُ مَكَانَهُ ... وَلَكِنْ بِلَا قَلْبٍ إلَى أَيْنَ يَذْهَبُ وَقَالَ أَيْضًا: أَرَى الطَّرِيقَ قَرِيبًا حِينَ أَسْلُكُهُ ... إلَى الْحَبِيبِ بَعِيدًا حِينَ أَنْصَرِفُ وَلَهُ: يُقَرِّبُ الشَّوْقُ دَارًا وَهْيَ نَازِحَةٌ ... مَنْ عَالَجَ الشَّوْقَ لَمْ يَسْتَبْعِدْ الدَّارَا

وَقَالَ آخَرُ: فَلَوْ أَنَّ شَرْقَ الشَّمْسِ بَيْنِي وَبَيْنَهَا ... وَأَهْلِي وَرَاءَ الشَّمْسِ حَيْثُ تَغِيبُ لَحَاوَلْتُ قَطْعَ الْأَرْضِ بَيْنِي وَبَيْنَهَا ... وَقَالَ الْهَوَى لِي إنَّهُ لَقَرِيبُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعِشْقِ إلَّا أَنَّهُ يُشَجِّعُ قَلْبَ الْجَبَانِ، وَيُسَخِّي قَلْبَ الْبَخِيلِ، وَيُصَفِّي الْغَبِيَّ، وَيَبْعَثُ حَزْمَ الْعَاقِل، وَيَخْضَعُ لَهُ عِزُّ الْمُلُوكِ، وَتَضْرَعُ لَهُ صَوْلَةُ الشُّجَاعِ، وَيَنْقَادُ لَهُ كُلُّ مُمْتَنِعٍ، لَكَفَى بِهِ شَرَفًا. قَالَ أَعْرَابِيٌّ مِنْ فَزَارَة عَشِقْت امْرَأَةً مِنْ طَيِّئٍ فَكَانَتْ تُظْهِرُ لِي مَوَدَّةً فَوَاَللَّهِ مَا جَرَى بَيْنِي وَبَيْنَهَا شَيْءٌ مِنْ رِيبَةٍ غَيْرَ أَنِّي رَأَيْتُ بَيَاضَ كَفِّهَا فَوَضَعْت كَفِّي عَلَى كَفِّهَا فَقَالَتْ: مَهْ لَا تُفْسِدْ مَا صَلَحَ. فَارْفَضَضْتُ عَرَقًا مِنْ قَوْلِهَا فَمَا عُدْتُ لِذَلِكَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الرَّجُلُ يَكْتُمُ بُغْضَ الْمَرْأَةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَكْتُمَ حُبَّهَا يَوْمًا وَالْمَرْأَةُ تَكْتُمُ حُبَّ الرَّجُلِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَلَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَكْتُمَ بُغْضَهُ يَوْمًا وَاحِدًا. قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْجَهْمِ: يَا سَائِلِي مَا الْهَوَى اسْمَعْ إلَى صِفَتِي ... الْحُبُّ أَعْظَمُ مِنْ وَصْفِي وَمِقْدَارِي مَاءُ الْمَدَامِعِ نَارُ الشَّوْقِ تَحْدُرُهُ ... فَهَلْ سَمِعْت بِمَاءٍ فَاضَ مِنْ نَارِ وَقَالَ آخَر: أُسِرُّ الَّذِي بِي وَالدُّمُوعُ تَبُوحُ ... وَجِسْمِي سَقِيمٌ وَالْفُؤَادُ جَرِيحُ وَبَيْنَ ضُلُوعِي لَوْعَةٌ لَمْ أَزَلْ بِهَا ... أَذُوبُ اشْتِيَاقًا وَالْفُؤَادُ صَحِيحُ وَقَالَ عَلِيُّ بْن عَبَّاسٍ الرُّومِيُّ: وَحَدِيثُهَا السِّحْرُ الْحَلَالُ لَوْ أَنَّهُ ... لَمْ يَجْنِ قَتْلَ الْمُسْلِمِ الْمُتَحَرِّزِ إنْ طَالَ لَمْ يُمْلَلْ وَإِنْ هِيَ أَوْجَزَتْ ... وَدَّ الْمُحَدَّثُ أَنَّهَا لَمْ تُوجِزْ شِرْكُ الْعُقُولِ وَنُزْهَةٌ مَا مِثْلُهَا ... لِلْمُطْمَئِنِّ وَعُقْلَةُ الْمُسْتَوْفِزِ

وَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ: مُنَعَّمَةٌ لَوْ يُصْبِحُ الذَّرُّ سَارِيًا ... عَلَى جِلْدِهَا صَبَّتْ مَدَارِجُهَا دَمَا وَقَالَ عَمْرُو بْنُ رَبِيعَةَ: لَوْ دَبَّ ذَرٌّ فَوْقَ ضَاحِي جِلْدِهَا ... لَأَبَانَ مِنْ آثَارِهِنَّ حُدُودَا وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ هَانِئٍ: كَأَنَّ مَنْثُورَ رُمَّانٍ بِوَجْنَتِهَا ... لَوْ دَبَّ فِيهَا خَيَالُ الذَّرِّ لَانْجَرَحَا وَقَالَ آخَرُ رَقَّ فَلَوْ دَبَّ بِهِ ذَرَّةٌ ... مُنَعَّلَةٌ أَرْجُلُهَا بِالْحَرِيرِ لَأَثَّرَتْ فِيهِ كَمَا أَثَّرَتْ ... مُدَامَةٌ فِي الْعَارِضِ الْمُسْتَدِيرِ وَأَنْشَدَ أَبُو الْقَاسِمِ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْكَاتِبُ لِنَفْسِهِ أَبْيَاتَهُ الَّتِي يَقُولُ فِي أَوَّلِهَا: لِسَانُكِ يَاقُوتٌ وَثَغْرُكِ لُؤْلُؤٌ ... وَرِيقُكِ شَهْدٌ وَالنَّسِيمُ عَبِيرُ فَمَا لَكِ فِي الدُّنْيَا عَنْ النَّاسِ مُشْبِهٌ ... وَلَا لَكِ فِي حُورِ الْجِنَانِ نَظِيرُ لِأَنَّ الْحُورَ لَا نَظِيرَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَصِفَاتُهُمْ مَشْهُورَةٌ فِي الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، نَسْأَلُ اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ الْجَنَّةَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ نَظَرَ أَبُو حَازِمٍ إلَى امْرَأَةٍ حَسْنَاءَ تَرْمِي الْجِمَارَ وَتَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَقَدْ شَغَلَتْ النَّاسَ بِالنَّظَرِ إلَيْهَا لِبَدَاعَةِ حُسْنِهَا فَقَالَ لَهَا أَمَةَ اللَّهِ خَمِّرِي وَجْهَك فَقَدْ فَتَنْتِ النَّاسَ وَهَذَا مَوْضُوعُ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ، فَقَالَتْ لَهُ إحْرَامِي فِي وَجْهِي أَصْلَحَك اللَّهُ يَا أَبَا حَازِمٍ وَأَنَا مِنْ اللَّوَاتِي قَالَ فِيهِنَّ الْعَرْجِيُّ: مِنْ اللَّاءِ لَمْ يَحْجُجْنَ يَبْغِينَ جَنَّةً ... وَلَكِنْ لِيَقْتُلْنَ التَّقِيَّ الْمُغَفَّلَا فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ لِأَصْحَابِهِ تَعَالَوْا نَدْعُ أَنْ لَا يُعَذِّبَ اللَّهُ هَذِهِ الصُّورَةَ الْحَسَنَةَ بِالنَّارِ، فَقِيلَ لَهُ أَفَتَنَتْك يَا أَبَا حَازِمٍ؟ فَقَالَ لَا وَلَكِنَّ الْحُسْنَ مَرْحُومٌ.

وَذَكَرَ الْمَدَائِنِيُّ عَنْ عَبْد اللَّه بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ قَالَ: خَرَجْت حَاجًّا فَرَأَيْت امْرَأَةً جَمِيلَةً تَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ أَرْفَسَتْ فِيهِ يُقَالُ أَرْفَسَ فِي كَلَامِهِ زَوَّرَهُ وَزَخْرَفَهُ قَالَ: فَأَدْنَيْت نَاقَتِي مِنْهَا وَقُلْت يَا أَمَةَ اللَّهِ أَلَسْتِ حَاجَّةً أَمَا تَخَافِينَ اللَّهَ؟ فَسَفَرَتْ عَنْ وَجْهٍ بَهَرَ الشَّمْسَ حُسْنًا، فَقَالَتْ تَأَمَّلْ يَا عُمَرِيُّ فَإِنِّي مِمَّنْ عَنَاهُ الْعَرْجِيُّ بِقَوْلِهِ: أَمَاطَتْ كِسَاءَ الْحَجِّ عَنْ حُرِّ وَجْهِهَا ... وَأَبْدَتْ عَلَى الْخَدَّيْنِ وَرْدًا مُهَلَّلَا مِنْ اللَّاءِ لَمْ يَحْجُجْنَ يَبْغِينَ جَنَّةً ... وَلَكِنْ لِيَقْتُلْنَ الْبَرِيءَ الْمُغَفَّلَا وَتَرْمِي بِعَيْنَيْهَا الْقُلُوبَ وَلَحْظُهَا ... إذَا مَا رَمَتْ لَمْ تُخْطِ مِنْهُنَّ مَقْتَلَا قَالَ: فَقُلْت: فَأَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ لَا يُعَذِّبَ هَذَا الْوَجْهَ بِالنَّارِ قَالَ وَبَلَغَ ذَلِكَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ فَقَالَ: أَمَا وَاَللَّهِ لَوْ كَانَ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِرَاقِ لَقَالَ أَغْرُبِي قَبَّحَكِ اللَّهُ، وَلَكِنَّهُ أَظْرَفُ عُبَّادِ أَهْل الْحِجَاز قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ: وَجْهٌ يَدُلُّ النَّاظِرِينَ ... عَلَيْهِ فِي اللَّيْلِ الْبَهِيمِ فَكَأَنَّهُ رُوحُ الْحَيَاةِ ... تَهُبُّ مِسْكَ نَسِيمِ فِي خَدِّهِ وَرْدُ الْحَيَاءِ ... يُعَلُّ بِالْمَاءِ النَّعِيمِ سَقَمُ الصَّحِيحِ الْمُسْتَقِلِّ ... وَصِحَّةُ الرَّجُلِ السَّقِيمِ نَظَرَ رَجُلَانِ إلَى جَارِيَةٍ حَسْنَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِ مَكَّةَ فَمَالَا إلَيْهَا وَاسْتَسْقَيَاهَا فَسَقَتْهُمَا فَجَعَلَا يَشْرَبَانِهِ وَلَا يُسِيغَانِهِ فَعَرَفَتْ مَا بِهِمَا فَجَعَلَتْ تَقُول: هُمَا اسْتَسْقَيَا مَاءً عَلَى غَيْرِ ظِمْأَةٍ ... لِيَسْتَمْتِعَا بِاللَّحْظِ مِمَّنْ سَقَاهُمَا فَعَجِبَا مِنْ ذَلِكَ فَدَفَعَا الْإِنَاءَ إلَيْهَا فَمَرَّتْ وَهِيَ تَقُولُ: وَكُنْتَ مَتَى أَرْسَلْت طَرْفَك رَائِدًا ... لِقَلْبِك يَوْمًا أَتْعَبَتْك الْمَنَاظِرُ رَأَيْت الَّذِي لَا كُلَّهُ أَنْتَ قَادِرٌ ... عَلَيْهِ وَلَا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صَابِرُ

دَخَلَ الشَّعْبِيُّ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ. فَقَالَ يَا شَعْبِيُّ بَلَغَنِي أَنْ اخْتَصَمَ إلَيْك رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فَقَضَيْت لِلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا فَقَالَ فِيك شِعْرًا فَأَخْبِرْنِي بِقِصَّتِهِمَا وَأَنْشِدْنِي الشِّعْرَ إنْ كُنْتَ سَمِعَتْهُ، فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَسْأَلْنِي عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ عَزَمْت عَلَيْك لَتُخْبِرَنِّي قَالَ نَعَمْ اخْتَصَمَتْ إلَيَّ امْرَأَةٌ وَبَعْلُهَا فَقَضَيْت لِلْمَرْأَةِ إذْ تَوَجَّهَ الْقَضَاءُ لَهَا فَقَامَ بَعْلُهَا أَوْ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: فُتِنَ الشَّعْبِيُّ لَمَّا ... رَفَعَ الطَّرْفَ إلَيْهَا بِفَتَاةٍ حِينَ قَامَتْ ... رَفَعَتْ مَالَتَيْهَا وَمَشَتْ مَشْيًا رُوَيْدًا ... ثُمَّ هَزَّتْ مَنْكِبَيْهَا فَتَنَتْهُ بِقَوَامٍ ... وَبِخَطَّيْ حَاجِبَيْهَا وَبَنَانٍ كَالدَّرَارِي ... وَسَوَادَيْ مُقْلَتَيْهَا قَالَ لِلزَّوْجِ قَرِّبْ ... هَا وَأَحْضِرْ شَاهِدَيْهَا فَقَضَى جَوْرًا عَلَيْنَا ... ثُمَّ لَمْ يَقْضِ عَلَيْهَا كَيْفَ لَوْ أَبْصَرَ مِنْهَا ... نَحْرَهَا أَوْ سَاعِدَيْهَا لَصَبَا حَتَّى تَرَاهُ ... سَاجِدًا بَيْنَ يَدَيْهَا بِنْتُ عِيسَى بْنِ جَرَادٍ ... ظُلِمَ الْخَصْمُ لَدَيْهَا فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: فَمَا صَنَعْتَ يَا شَعْبِيُّ قَالَ: أَوْجَعْت ظَهْرَهُ حِينَ جورني فِي شِعْرِهِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَكَذَا رَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ وَهُوَ أَصَحُّ إسْنَادٍ لِهَذَا الْخَبَرِ. قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ: إنِّي امْرُؤٌ مُولَعٌ بِالْحُسْنِ أَتْبَعُهُ ... لَا حَظَّ لِي فِيهِ إلَّا لَذَّةُ النَّظَرِ كَانَ يُقَالُ أَرْبَعَةٌ تَزِيدُ فِي النَّظَرِ أَوْ فِي الْبَصَرِ. النَّظَرُ إلَى الْوَجْهِ الْحَسَنِ وَإِلَى الْخُضْرَةِ، وَإِلَى الْمَاءِ، وَالنَّظَرُ فِي الْمُصْحَفِ. دَخَلَ الشَّعْبِيُّ سُوقَ الرَّقِيقِ فَقِيلَ لَهُ: هَلْ مِنْ حَاجَةٍ؟ فَقَالَ: حَاجَتِي صُورَةٌ حَسَنَةٌ يَتَنَعَّمُ بِهَا طَرْفِي، وَيَلْتَذُّ بِهَا قَلْبِي، وَتُعِينُنِي عَلَى عِبَادَةِ رَبِّي

قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَنْبَغِي لِلْوَجْهِ الْحَسَنِ أَنْ لَا يَشِينَ وَجْهَهُ بِقُبْحِ فِعْلِهِ، وَيَنْبَغِي لِقَبِيحِ الْوَجْهِ أَنْ لَا يَجْمَعَ بَيْنَ قَبِيحَيْنِ قَالَ الشَّاعِرُ: إنَّ حُسْنَ الْوَجْهِ يَحْتَاجُ ... إلَى حُسْنِ الْفِعَالِ حَاجَةَ الصَّادِي مِنْ الْمَاءِ ... إلَى الْعَذْبِ الزُّلَالِ بَعَثَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ إلَى الْيَمَنِ عَسْكَرًا فَأَقَامُوا سِنِينَ فَقَالَتْ امْرَأَةُ يَزِيدَ بْنِ سِنَانٍ: تَطَاوَلَ هَذَا اللَّيْلُ فَالْعَيْنُ تَدْمَعُ ... وَأَرَّقَنِي حُزْنٌ بِقَلْبِي مُوجِعُ فَبِتُّ أُقَاسِي اللَّيْلَ أَرْعَى نُجُومَهُ ... وَبَاتَ فُؤَادِي هَائِمًا يَتَفَزَّعُ إذَا غَابَ مِنْهَا كَوْكَبٌ فِي مَغِيبِهِ ... لَمَحْتُ بِعَيْنِي آخَرًا حِينَ يَطْلُعُ إذَا مَا تَذَكَّرْت الَّذِي كَانَ بَيْنَنَا ... وَجَدْت فُؤَادِي لِلْهَوَى يَتَقَطَّعُ وَكُلُّ حَبِيبٍ ذَاكِرٌ لِحَبِيبِهِ ... يُرَجِّي لِقَاهُ كُلَّ يَوْمٍ وَيَطْمَعُ فَذَا الْعَرْشِ فَرِّجْ مَا تَرَى مِنْ صَبَابَتِي ... فَأَنْتَ الَّذِي تَرْعَى أُمُورِي وَتَسْمَعُ دَعَوْتُك فِي السَّرَّاءِ وَالضُّرِّ دَعْوَةً ... عَلَى عِلَّةٍ بَيْنَ الشَّرَاسِيفِ تَلْذَعُ فَسَأَلَ عَبْدَ الْمَلِكِ كَمْ تَصْبِرُ الْمَرْأَةُ عَنْ زَوْجِهَا، قَالُوا سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَأَمَرَ أَنْ لَا يَمْكُثَ الْعَسْكَرُ أَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ قَالَ الشَّرَاسِيفُ مُقَاطِعُ الْأَضْلَاعِ وَهِيَ أَطْرَافُهَا الَّتِي تُشْرِفُ عَلَى الْبَطْنِ وَيُقَالُ الشرسوف غُضْرُوفٌ مُعَلَّقٌ بِكُلِّ ضِلْعٍ مِثْلُ غُضْرُوفِ الْكَتِفِ.

فصل كمال الشريعة يستلزم كمال مقيمها حتى في العلوم الطبية

[فَصَلِّ كَمَالِ الشَّرِيعَة يُسْتَلْزَم كَمَالِ مُقِيمهَا حَتَّى فِي الْعُلُوم الطِّبِّيَّة] ِ قَدْ سَبَقَ جُمْلَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ الطِّبِّ مَنْ نَظَرَ فِيهَا وَتَأَمَّلَهَا وَأَنْصَفَ ظَهَرَ لَهُ أَنَّ نِسْبَةَ طِبِّ غَيْرِ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ بِالنِّسْبَةِ إلَى طِبِّهِمْ أَقَلُّ مِنْ نِسْبَةِ طِبِّ الْعَجَائِزِ بِالنِّسْبَةِ إلَى طِبِّهِمْ هَذَا وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ الْفُقَرَاءِ الْمُسْتَضْعَفِينَ، فَكَيْفَ لَوْ ظَهَرَ ذَلِكَ وَصَدَرَ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ. وَظَهَرَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ كَامِلَةٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] . وَأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ جَمِيعَ الطِّبِّ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ نَصًّا أَوْ ظَاهِرًا أَوْ إيمَاءً أَوْ قِيَاسًا. وَكَيْفَ لَا يَكُونُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَهِيَ شَرِيعَةُ سَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - الَّذِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمَيْنِ وَبَعَثَهُ إلَى النَّاسِ عَامَّةً، وَالْإِنْسِ، وَالْجِنِّ بِمَصَالِحِ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ، فَاشْتَمَلَتْ شَرِيعَتُهُ الطَّاهِرَةُ عَلَى مَصَالِحِ الْأَبَدَانِ كَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَى مَصَالِحِ الْقُلُوبِ وَفِيهَا مِنْ الطِّبِّ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا الْأَنْبِيَاءُ وَأَتْبَاعُهُمْ كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ، وَهَذَا مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا يُنْكِرُ ذَلِكَ إلَّا جَاهِلٌ أَوْ مُعَانِدٌ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْله تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] .

أَنَّهُ قَالَ: «إنَّكُمْ تُتِمُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» إسْنَادٌ جَيِّدٌ وَبَهْزٌ حَدِيثُهُ حَسَنٌ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَقَدْ رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ بَهْزٍ نَحْوَ هَذَا وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ يَعْنِي الْآيَةَ وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَقَالَ " تُوفُونَ فَهُمْ خَيْرُ الْأُمَمِ " كَمَا أَنَّ رَسُولَهُمْ أَفْضَلُ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ. وَلِهَذَا تَغْلِبُ الطَّبِيعَةُ الدَّمَوِيَّةُ عَلَيْهِمْ وَكُلُّ وَصْفٍ مَطْلُوبٍ شَرْعًا وَعُرْفًا مِنْ الْعَقْلِ، وَالْفَهْمِ، وَالْعِلْمِ، وَالْحِلْمِ، وَالْكَرَمِ، وَالشَّجَاعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَتَغْلِبُ عَلَى النَّصَارَى الطَّبِيعَةُ الْبَلْغَمِيَّةُ، وَالْبَلَادَةُ وَقِلَّةُ الْفَهْمِ وَكَثْرَةُ الْجَهْلِ، وَيَغْلِبُ عَلَى الْيَهُودِ الطَّبِيعَةُ الصَّفْرَاوِيَّةُ، وَالْهَمُّ، وَالْغَمُّ، وَالْحُزْنُ، وَالْحَسَدُ، وَالْمَكْرُ، وَالصَّغَارُ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَالسُّنَّةِ وَنَسْأَلُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يُحْيِيَنَا عَلَيْهِمَا وَأَنْ يَتَوَفَّانَا عَلَيْهِمَا بِفَضْلِهِ وَرَحْمَته، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ آمِينَ.

فصل في النهي عن الوسم ولا سيما الوجه

[فَصْلٌ فِي النَّهْيِ عَنْ الْوَسْمِ وَلَا سِيَّمَا الْوَجْهُ] لَا يَسِمُ فِي الْوَجْهِ وَلَا بَأْسَ بِهِ فِي غَيْرِهِ وَقَالَ جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ضَرْبِ الْوَجْهِ وَعَنْ وَسْمِ الْوَجْهِ» . وَفِي لَفْظٍ «مُرَّ عَلَيْهِ بِحِمَارٍ قَدْ وُسِمَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الَّذِي وَسَمَهُ» وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِمَارًا مَوْسُومًا فِي الْوَجْهِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ فَقَالَ: فَوَاَللَّهِ لَا أَسِمُهُ إلَّا فِي أَقْصَى شَيْءٍ مِنْ الْوَجْهِ وَأَمَرَ بِحِمَارٍ فَكُوِيَ عَلَى جَاعِرَتَيْهِ فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ كَوَى الْجَاعِرَتَيْنِ» ، رَوَى ذَلِكَ مُسْلِمٌ. وَلِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد حَدِيثُ جَابِرٍ «أَمَا بَلَغَكُمْ أَنِّي لَعَنْت مَنْ وَسَمَ الْبَهِيمَةَ فِي وَجْهِهَا وَضَرَبَهَا فِي وَجْهِهَا؟» فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «وَنَهَى عَنْ الْوَسْمِ» قَالَ الْجَوْهَرِيُّ الْجَاعِرَتَانِ مَوْضِعُ الرَّقْمَتَيْنِ مِنْ اسْتِ الْحِمَارِ وَهُوَ مَضْرِبُ الْفَرَسِ بِذَنَبِهِ عَلَى فَخِذَيْهِ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ هُمَا حَرْفَا الْوَرِكَيْنِ الْمُشْرِفَانِ عَلَى الْفَخِذَيْنِ. وَصَرَّحَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ فِي مَوْضِعٍ أَنَّ السِّمَةَ فِي الْوَجْهِ مَكْرُوهَةٌ وَظَاهِر كَلَامِهِ فِي الرِّعَايَةِ أَنَّ السِّمَةَ فِي الْوَجْهِ لَا تَجُوزُ وَهُوَ أَوْلَى وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الْغَنَمِ تُوسَمُ قَالَ: تُوسَمُ وَلَا يُعْمَلْ فِي اللَّحْمِ يَعْنِي يَجُزُّ الصُّوفَ نَقَلَهُ ابْنُ هَانِئٍ وَظَاهِرُهُ التَّحْرِيمُ. وَقَالَ النَّوَاوِيُّ الضَّرْبُ فِي الْوَجْهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي كُلِّ حَيَوَانٍ لَكِنَّهُ فِي الْآدَمِيِّ أَشَدُّ قَالَ وَالْوَسْمُ فِي الْوَجْهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إجْمَاعًا فَأَمَّا الْآدَمِيُّ فَوَسْمُهُ حَرَامٌ. وَأَمَّا غَيْرُ الْآدَمِيِّ فَكَرِهَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَقَالَ الْبَغَوِيّ لَا يَجُوزُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ وَغَيْرُ الْآدَمِيِّ فَوَسْمُهُ فِي وَجْهِهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَأَمَّا غَيْرُ الْوَجْهِ فَمُسْتَحَبٌّ فِي نَعَمِ الزَّكَاةِ، وَالْجِزْيَةِ؛ لِأَنَّهُ «- عَلَيْهِ السَّلَامُ -

وَسَمَهَا فِي آذَانِهَا» ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأُذُنَ لَيْسَتْ مِنْ الْوَجْهِ لِنَهْيِهِ عَنْ وَسْمِ الْوَجْهِ قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَيَجُوزُ فِي غَيْرِهِمَا. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُسْتَحَبُّ بَلْ يُكْرَهُ.، وَالْوَسْمُ بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ قَالَ عِيَاضٌ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ بِمُهْمَلَةٍ وَبِمُعْجَمَةٍ وَبَعْضُهُمْ قَالَ بِمُهْمَلَةٍ فِي الْوَجْهِ وَبِمُعْجَمَةٍ فِي سَائِر الْجَسَدِ.

فصل في إخصاء البهائم والناس

[فَصْلٌ فِي إخْصَاءِ الْبَهَائِمِ وَالنَّاسِ] وَيُبَاحُ خَصْيُ الْغَنَمِ لِمَا فِيهِ مِنْ إصْلَاحِ لَحْمِهَا وَقِيلَ يُكْرَهُ كَالْخَيْلِ وَغَيْرِهَا، وَالشَّدْخُ أَهْوَنُ مِنْ الْجَبِّ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لَا يُعْجِبُنِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْصِيَ شَيْئًا وَإِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ لِلنَّهْيِ الْوَارِدِ عَنْ إيلَامِ الْحَيَوَانِ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ إخْصَاءِ الْخَيْلِ، وَالْبَهَائِمِ» قَالَ ابْنُ عُمَر فِيهَا نَمَاءُ الْخَلْقِ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَاتَّفَقُوا عَلَى خِصَاءِ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَالْعَبِيدِ وَغَيْرِهِمْ فِي غَيْرِ الْقِصَاصِ، وَالتَّمْثِيلُ بِهِمْ حَرَامٌ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَلَا يَجُوزُ إخْصَاءُ الْبَهَائِمِ وَلَا كَيُّهَا بِالنَّارِ لِلْوَسْمِ وَتَجُوزُ الْمُدَاوَاةَ حَسَبَ مَا أَجَزْنَا فِي حَقِّ النَّاسِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَر إنَّ ذَلِكَ وَخَزْمَهَا فِي الْأَنْفِ لِقَصْدِ الْمُثْلَةِ إثْمٌ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ جَازَ، وَأَمَّا فِعْلُ ذَلِكَ فِي الْآدَمِيِّينَ فَيَحْصُلُ بِهِ الْفِسْقُ وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ كَلَامَ ابْنِ عَقِيلٍ الْأَوَّلَ وَقَالَ فَعَلَى قَوْلِهِ لَا يَجُوزُ وَسْمُهَا بِحَالٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي مُنَاظَرَاتِهِ: لَا يَمْلِكُ إيقَاعَ الْإِضْرَارِ بِمُثْلَةٍ وَلَا جِرَاحَةٍ وَلَا كَيٍّ وَلَا وَسْمٍ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ فِي، وَالِي الْحِسْبَةِ: وَيُمْنَعُ مِنْ إخْصَاءِ الْآدَمِيِّينَ، وَالْبَهَائِمِ وَيُؤَدَّبُ عَلَيْهِ قَالَ: وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ خِصَاءِ الدَّوَابِّ، وَالْغَنَمِ لِلسِّمَنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَكَرِهَهُ إلَّا أَنْ يَخَافَ غَضَاضَةً، وَكَذَا قَالَ فِي رِوَايَةِ الْبَوْنِيِّ الْقَاضِي وَقَدْ سُئِلَ عَنْ خِصَاءِ الْخَيْلِ، وَالدَّوَابِّ فَكَرِهَهُ إلَّا مِنْ غِضَاضٍ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَحْرُمُ خِصَاءُ الْآدَمِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يُؤْكَلُ وَكَذَا مَا يُؤْكَلُ فِي كِبَرِهِ لَا فِي صِغَرِهِ. وَفِي الْمُسْتَوْعِبِ فِي آخِرِ كِتَابِ الْجِهَادِ: وَلَا يَجُوزُ إخْصَاءُ شَيْءٍ مِنْ الْبَهَائِمِ وَيَجُوزُ

وَسْمُهَا فِي غَيْرِ الْوَجْهِ إذَا لَمْ يَأْخُذْ فِي اللَّحْمِ، وَأَمَّا قَطْعُ قَرْنِ الْحَيَوَانِ أَوْ أُذُنِهِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَالْخِصَاءِ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَالْخِلَافِ وَسَوَّى صَاحِبُ النَّظْمِ بَيْنَهُمَا وَيَحْتَمِلُ الْمَنْعَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْأَلَمِ أَوْ تَشْوِيهِ الْخَلْقِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ بَعْدَهُ حُكْمُ إنْزَاءِ حِمَارٍ عَلَى فَرَسٍ.

في جز أعراف الدواب وأذنابها ونواصيها

[فِي جَزِّ أَعْرَافِ الدَّوَابِّ وَأَذْنَابِهَا وَنَوَاصِيهَا] فَصْلٌ (فِي جَزِّ أَعْرَافِ الدَّوَابِّ وَأَذْنَابِهَا وَنَوَاصِيهَا) يُكْرَهُ جَزُّ مَعْرَفَةِ الدَّابَّةِ وَنَحْوِهَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ، وَالسَّامِرِيُّ وَابْنُ حَمْدَانَ، وَهَلْ يُكْرَهُ جَزُّ ذَنَبِهَا عَلَى رِوَايَتَيْنِ نَقَلَ مُهَنَّا الْكَرَاهَةَ ذَكَرَ صَاحِبُ النَّظْمِ أَنَّهَا أَشْهَرُ وَنَقَلَ أَبُو الْحَارِثِ، وَالْفَضْلُ نَفْيَ الْكَرَاهَةِ جَزَمَ بِهِ فِي الْفُصُولِ قَالَ فِي رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ إنَّمَا رُخِّصَ فِي جَزِّ الْأَذْنَابِ وَأَمَّا الْأَعْرَافُ فَلَا. وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ يُعْمَلُ بِالْمَصْلَحَةِ وَهِيَ مُتَّجِهَةٌ وَسَأَلَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ حَذْفِ الْخَيْلِ فَقَالَ إنْ كَانَ أَبْهَى وَأَجْوَدَ لَهُ (قُلْت) إنَّهُ يَنْفَعُهُ فِي الشِّتَاءِ وَهُوَ أَجْوَدُ لِرَكْضِهِ، فَكَأَنَّهُ سُهِّلَ فِيهِ وَقَالَ أَيْضًا مَعَ ذَلِكَ وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ النَّاسُ يَكْرَهُونَ حَذْفَ الْخَيْلِ. وَعَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ جَزِّ أَعْرَافِ الْخَيْلِ وَنَتْفِ أَذْنَابِهَا وَجَزِّ نَوَاصِيهَا وَقَالَ أَمَّا أَذْنَابُهَا فَإِنَّهَا مَذَابُّهَا، وَأَمَّا أَعْرَافُهَا فَإِنَّهَا أَدْفَاؤُهَا، وَأَمَّا نَوَاصِيهَا فَإِنَّ الْخَيْرَ مَعْقُودٌ فِيهَا» رَوَاهُ الْإِمَامِ أَحْمَدُ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنِي ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ نَضْرٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ عَنْ عُتْبَةَ فَذَكَرَهُ ثَنَا عَلِيُّ بْنُ بَحْرٍ ثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنِي نَضْرُ بْنُ عَلْقَمَةَ قَالَ حَدَّثَنِي رِجَالٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عُبَيْدٍ السُّلَمِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَقُصُّوا نَوَاصِي الْخَيْلِ فَإِنَّ فِيهَا الْبَرَكَةَ، وَلَا تَجُزُّوا أَعْرَافَهَا فَإِنَّهَا أَدْفَاؤُهَا، وَلَا تَقُصُّوا أَذْنَابَهَا فَإِنَّهَا مَذَابُّهَا» رِجَالٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ جَمَاعَةٌ يَبْعُدُ أَنْ لَا يَكُون فِيهِمْ مَنْ يُوثَقُ بِقَوْلِهِ لَا سِيَّمَا وَالْمُتَقَدِّمُونَ حَالُهُمْ حَسَنٌ وَبَاقِي الْإِسْنَادِ جَيِّدٌ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقِينَ عَنْ ثَوْرٍ فِي إحْدَاهُمَا عَنْ رَجُلٍ، وَفِي الْأُخْرَى عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ فِي بَابِ كَرَاهِيَةِ جَزِّ نَوَاصِي الْخَيْلِ وَأَذْنَابِهَا. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَانَ يُقَالُ «لَا تَقُودُوا الْخَيْلَ بِنَوَاصِيهَا فَتُذِلُّوهَا،

وَلَا تَجُزُّوا أَعْرَافَهَا فَإِنَّهَا أَدْفَاؤُهَا وَلَا تَجُزُّوا أَذْنَابَهَا فَإِنَّهَا مَذَابُّهَا» . وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عَلَيْكُمْ بِإِنَاثِ الْخَيْلِ فَإِنَّ بُطُونَهَا كَنْزٌ وَظُهُورَهَا حِرْزٌ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا أَيْضًا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَحِبُّوا الْخَيْلَ وَاصْطَبِرُوا عَلَيْهَا ... فَإِنَّ الْعِزَّ فِيهَا وَالْجَمَالَا إذَا مَا الْخَيْلُ ضَيَّعَهَا رِجَالٌ ... رَبَطْنَاهَا فَشَارَكَتْ الْعِيَالَا نُقَاسِمُهَا الْمَعِيشَةَ كُلَّ يَوْمٍ ... وَنَكْسُوهَا الْبَرَاقِعَ وَالْجِلَالَا وَلِلْحَسَنِ بْنِ بَشَّارٍ: يَا فَارِسًا يَحْذَرُ الْفُرْسَانُ صَوْلَتَهُ ... أَمَا عَلِمْت بِأَنَّ النَّفْسَ تُفْتَرَسُ يَا رَاكِبَ الْفَرَسِ السَّامِي يَعَزُّ بِهِ ... وَلَابِسَ السَّيْفِ يَحْكِي لَوْنَهُ الْقَبَسُ لَا أَنْتَ تَبْقَى عَلَى سَيْفٍ وَلَا فَرَسٍ ... وَلَيْسَ يَبْقَى عَلَيْك السَّيْفُ وَالْفَرَسُ وَأَوَّل هَذَا الشِّعْرِ: إنَّ الْحَبِيبَ مِنْ الْأَحْبَابِ يُخْتَلَسُ ... لَا يَمْنَعُ الْمَوْتَ حُجَّابٌ وَلَا حَرَسُ انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي هَذَا الْبَابِ. وَفِي الْخَيْلِ أَخْبَارٌ مِنْهَا عَنْ عُرْوَةَ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ مَرْفُوعًا «الْخَيْرُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِي الْخَيْلِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «الْخَيْلُ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَلِرَجُلٍ وِزْرٌ، فَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرَجٍ أَوْ رَوْضَةٍ فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيلِهَا ذَلِكَ مِنْ الْمَرَجِ، وَالرَّوْضَةِ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ حَبْلَهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كَانَتْ آثَارُهَا أَوْ أَرْوَاثُهَا لَهُ حَسَنَاتٍ، وَلَوْ مَرَّتْ بِنَهْرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَ بِمَكَانِهِ ذَلِكَ فَهُوَ لَهُ أَجْرٌ وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِي رِقَابِهَا وَلَا ظُهُورِهَا فَهِيَ لِذَلِكَ سِتْرٌ وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِيَاءً وَنِوَاءً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ» رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ

وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ مَرْفُوعًا «الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ فَرَسٌ رَبَطَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَثَمَنُهُ أَجْرٌ وَرُكُوبُهُ أَجْرٌ، وَرِعَايَتُهُ أَجْرٌ، وَعَلَفُهُ أَجْرٌ، وَفَرَسٌ يُغَالَقُ عَلَيْهِ وَيُرَاهَنُ فَثَمَنُهُ وِزْرٌ، وَعَلَفُهُ وِزْرٌ، وَرُكُوبُهُ وِزْرٌ، وَفَرَسٌ لِلْبِطْنَةِ فَعَسَى أَنْ يَكُونَ سَدَادًا مِنْ الْفَقْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى» إسْنَادُهُ ثِقَاتٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا «الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ: فَفَرَسُ الرَّحْمَنِ وَفَرَسٌ لِلْإِنْسَانِ، وَفَرَسٌ لِلشَّيْطَانِ، فَأَمَّا فَرَسُ الرَّحْمَنِ فَاَلَّذِي يُرْبَطُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَعَلَفُهُ وَرَوْثُهُ وَبَوْلُهُ وَذَكَرَ مَا شَاءَ اللَّهُ وَأَمَّا فَرَسُ الشَّيْطَانِ فَاَلَّذِي يُقَامَرُ بِهِ أَوْ يُرَاهَنُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا فَرَسُ الْإِنْسَانِ فَاَلَّذِي يَرْبِطُهُ الْإِنْسَانُ يَلْتَمِسُ بَطْنَهَا فَهِيَ سِتْرُ فَقْرٍ» يُغَالِقُ عَلَيْهِ أَيْ يُرَاهِنُ. وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ مَرْفُوعًا «خَيْرُ الْخَيْلِ الْأَدْهَمُ الْأَقْدَحُ الْأَرْثَمُ الْمُحَجَّلُ طَلْقُ الْيَمِينِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَدْهَمَ فَكُمَيْتٌ عَلَى هَذَا الشَّبَهِ» حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «يُمْنُ الْخَيْلِ فِي شُقْرِهَا» إسْنَادُهُ جَيِّدٌ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ قَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ عَنْ أَبِي وَهْبٍ الْجُشَمِيِّ مَرْفُوعًا «عَلَيْكُمْ بِكُلِّ كُمَيْتٍ أَغَرَّ مُحَجَّلٍ، أَوْ أَشْقَرَ أَغَرَّ مُحَجَّلٍ، أَوْ أَدْهَمَ أَغَرَّ مُحَجَّلٍ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ مُهَاجِرٍ عَنْ عَقِيلِ بْن شَبِيبٍ عَنْ أَبِي وُهَيْبٍ وَعَقِيلٌ تَفَرَّدَ عَنْهُ مُحَمَّدٌ فَلِهَذَا قِيلَ لَا يُعْرَفُ وَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْرَهُ الشِّكَالَ مِنْ الْخَيْلِ.» ، وَالشِّكَالُ أَنْ يَكُونَ الْفَرَسُ فِي رِجْلِهِ الْيُمْنَى بَيَاضٌ وَفِي يَدِهِ الْيُسْرَى أَوْ يَدِهِ الْيُمْنَى وَفِي رِجْلِهِ الْيُسْرَى رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. فَأَّمَا إنْزَاءُ الْحُمُرِ عَلَى الْخَيْلِ فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدًا مَأْمُورًا مَا اخْتَصَّنَا بِشَيْءٍ دُونَ النَّاسِ إلَّا بِثَلَاثٍ، أَمَرَنَا أَنْ نُسْبِغَ الْوُضُوءَ، وَأَنْ لَا نَأْكُلَ الصَّدَقَةَ، وَأَنْ لَا نُنْزِيَ حِمَارًا عَلَى فَرَسٍ» حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَعِنْدَ أَحْمَدَ وَابْنِ خُزَيْمَةَ وَأَشُكُّ فِي غَيْرِهِمَا قَالَ مُوسَى بْنُ سَالِمٍ

يَعْنِي رَاوِيَ الْحَدِيثِ فَلَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَسَنٍ يَعْنِي حَسَنَ بْنَ حَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقُلْت إنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ حَدَّثَنِي بِكَذَا وَكَذَا فَقَالَ إنَّ الْخَيْلَ كَانَتْ فِي بَنِي هَاشِمٍ قَلِيلَةٌ فَأُحِبُّ أَنْ تُكْثِرَ فِيهِمْ. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَغْلَةٌ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَنْزَيْنَا الْحُمُرَ عَلَى خَيْلِنَا فَجَاءَتْنَا بِمِثْلِ هَذِهِ فَقَالَ: إنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ» إسْنَادُ ثِقَاتٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ قَالَ أَبُو دَاوُد بَابٌ فِي كَرَاهِيَةِ الْحُمُرِ تُنْزِي عَلَى الْخَيْلِ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زُرَيْقٍ عَنْ عَلِيٍّ فَذَكَرَهُ. وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا عَلِيُّ «أَسْبِغْ الْوُضُوءَ وَإِنْ شَقَّ عَلَيْك وَلَا تَأْكُلْ الصَّدَقَةَ وَلَا تُنْزِ الْحُمُرَ عَلَى الْخَيْلِ وَلَا تُجَالِسْ أَصْحَابَ النُّجُومِ» رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ وَعَنْ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ قَالَ «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَحْمِلُ لَكَ حِمَارًا عَلَى فَرَسٍ فَتُنْتِجُ لَك بَغْلًا فَتَرْكَبَهَا قَالَ: إنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ. ثَنَا مُحَمَّدُ بْن عُبَيْدٍ ثَنَا عُمَرُ مِنْ آلِ حُذَيْفَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْهُ أَيْ عُمَرَ قِيلَ هُوَ ابْنُ حَنْبَلٍ وَقِيلَ ابْنُ أَبِي حَنْبَلِ بْنِ سَعْدِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ وَلَمْ أَجِدْ فِيهِ كَلَامًا وَحَدِيثُهُ حَسَنٌ إنْ شَاءَ اللَّه وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَفْصٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ النِّسَاءِ مِنْ الْخَيْلِ» إسْنَادٌ جَيِّدٌ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي إنْزَاءِ الْحُمُرِ عَلَى الْخَيْلِ فَذَهَبَ أَبُو دَاوُد وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ إلَى الْكَرَاهَةِ وَاحْتَجَّ بِالْخَبَرِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ ظَاهِرُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي أَحْكَامِهِ الْمُنْتَقَى وَلِأَصْحَابِنَا خِلَافٌ فِيمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَلَمْ يُخَالِفْهُ هَلْ يَكُونُ مَذْهَبًا لَهُ؟ وَقَدْ رَوَى هَذِهِ الْأَخْبَارَ وَلَمْ أَجِدْ عَنْهُ نَصًّا بِخِلَافِهَا وَقَدْ حَكَى هَذَا عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ لِيُدَلِّلَ عَلَى ذَلِكَ بِالْأَخْبَارِ الْمَذْكُورَةِ. فَإِنْ قِيلَ النَّهْيُ خَاصٌّ لِبَنِي هَاشِمٍ لِقِلَّةِ الْخَيْلِ بِدَلِيلِ مَا سَبَقَ مِنْ حَدِيثِ

ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ قِيلَ قَوْلُهُ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ» فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِمْ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْخَيْرَ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِي الْخَيْلِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَفِي ارْتِبَاطِهَا وَاقْتِنَائِهَا كَمَا سَبَقَ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ، وَالْفَضْلُ الْعَظِيمُ وَيَحْصُلُ بِهَا مِنْ النَّفْعِ فِي جِهَادِ أَعْدَاءِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ الَّذِي هُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ أَوْ أَفْضَلُهَا مِنْ الْكَرِّ، وَالْفَرِّ وَإِدْرَاكِ الْعَدُوِّ، وَالنَّجَاةِ عَلَيْهَا مِنْهُ وَيُسَمَّ لَهَا فِي الْجِهَادِ وَلَحْمُهَا مَأْكُولٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ لِلْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعُدُولَ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْمَنَافِعِ، وَالْفَضَائِلِ مَعَ عَدَمِ النَّسْلِ، وَالنَّمَاءِ إنَّمَا يَفْعَلُهُ مَنْ لَا يَعْلَمُ كَمَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أَمَّا مَنْ يَعْلَمُ هَذِهِ الْفَضَائِلَ، وَالْمَنَافِعَ وَمَا هُوَ الرَّاجِحُ فِي نَظَرِ الشَّارِعِ فَلَا يَعْدِل عَنْ ذَلِكَ بِلَا شَكٍّ وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُسْتَقِرًّا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَالْعُقَلَاءِ لَمْ يَعْدِلُوا عَنْهُ غَالِبًا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عَادَةً وَعُرْفًا تَرْجِيحًا مِنْهُمْ لِلْفَضَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْمَنَافِعِ الْعُرْفِيَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورُ فَفِيهِ إسْبَاغُ الْوُضُوءِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ سَوَاءٌ، وَمَهْمَا كَانَ الْجَوَابُ عَنْهُ كَانَ هُوَ الْجَوَابَ عَنْ إنْزَاءِ الْحُمُرِ عَلَى الْخَيْلِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الشَّارِعَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خَاطَبَهُمْ بِذَلِكَ شِفَاهًا اتِّفَاقًا أَوْ لِسَبَبٍ اقْتَضَى ذَلِكَ بِحَسَبِ الْحَالِ أَوْ أَنَّهُمْ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ لِشَرَفِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إطْلَاقُ مَنْ أَطْلَقَ اخْتِصَاصَهُمْ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانُوا وَغَيْرُهُمْ فِي الْحُكْمِ سَوَاءً، وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِ «لَا تُجَالِسْ أَصْحَابَ النُّجُومِ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ مُجَالَسَتِهِمْ عَامٌّ لَهُ وَلِغَيْرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ فَهُوَ اجْتِهَادٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشَاهِدْ الْحَالَ وَلَمْ يُدْرِكْ ذَلِكَ الزَّمَانَ فَظَاهِرُ الْأَخْبَارِ خِلَافُهُ وَهِيَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " إنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ " فَهَذَا يَقْتَضِي عُمُومَ النَّهْي بِلَا شَكٍّ فَكَيْفَ يُخَالِفْ كَلَامَ الشَّارِعِ وَيَتْبَعُ رَأْيَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ بَنِي هَاشِمٍ لَمْ يَكُونُوا أَقَلَّ خَيْلًا مِنْ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؟ بَلْ كَانَ فِيهِمْ مِثْلُهُمْ فِي ذَلِكَ وَدُونَهُمْ عَلَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ لَيْسَ فِي كَلَامِهِ اخْتِصَاصُ الْحُكْمِ

بِبَنِي هَاشِمٍ بَلْ أَرَادَ بَيَانَ وَجْهِ إطْلَاقِ الِاخْتِصَاصِ وَأَنَّهُ لِهَذَا السَّبَبِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ مِثْلَهُمْ فِي ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا وَجْهَ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِهَذَا الْحُكْمِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ أَرَادَ تَكْثِيرَ الْخَيْلِ فِي بَنِي هَاشِمٍ لِقِلَّتِهَا فَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ مِثْلَهُمْ فِي قِلَّتِهَا كَانُوا مِثْلَهُمْ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ مِنْهُمْ كَانُوا أَوْلَى بِهَذَا الْحُكْمِ أَوْ مِثْلَهُمْ. وَلِهَذَا لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُ قَالَ يَخْتَصُّ هَذَا الْحُكْمُ بِبَنِي هَاشِمٍ، وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذَا وَأَمْثَالَهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلتَّعَلُّقِ بِهَذَا فِي صَرْفِ دَلَالَةِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ، وَالْعُدُولِ عَنْهَا، فَعَلَى هَذَا ظَاهِرُ مَا سَبَقَ عَنْ إمَامِنَا وَأَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - اخْتِصَاصُ الْكَرَاهَةِ بِإِنْزَاءِ الْحَمِيرِ عَلَى الْخَيْلِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْأَخْبَارِ، وَلَا يُقَالُ عَدُّوا الْحُكْمَ نَظَرًا إلَى عَدَمِ النَّسْلِ، وَالنَّمَاءِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ قَدْ سَبَقَتْ أَوْصَافٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ قَدْ رَتَّبَ الْحُكْمَ عَلَى مَجْمُوعِهَا، وَالْحُكْمُ الْمُرَتَّبُ عَلَى أَوْصَافٍ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِمَجْمُوعِهَا فَلَا تَصِحُّ التَّعْدِيَةُ. ، وَقَدْ يَتَوَجَّهُ احْتِمَالٌ نَظَرًا إلَى عَدَمِ النَّمَاءِ فَإِنَّهُ الْمَقْصُودُ أَوْ مُعْظَمُهُ،، وَلِأَنَّ الْحَيَوَانَاتِ الْمُتَوَلِّدَةَ مِنْ جِنْسَيْنِ أَخْبَثُ طَبْعًا مِنْ أُصُولِهَا الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْهَا كَمَا مَعْرُوفٌ مِنْ الْبِغَالِ وَغَيْرِهَا فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ مِنْ مُلَابَسَتِهِ وَاقْتِنَائِهِ تَعَبٌ وَمَشَقَّةٌ لَا تَحْصُلُ بِالْجِنْسِ الْوَاحِدِ وَهَذَا مَعْنًى مُنَاسِبٌ لِعَدَمِ فِعْلِهِ وَيَصْلُحُ ذِكْرُهُ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْأَخْبَارُ خَرَجَتْ بِحَسَبِ الْوَاقِعِ أَوْ جَوَابًا لِسُؤَالٍ وَيَكُونُ الْمُرَادُ صِيَانَةَ الْخَيْلِ عَنْ مُزَاوَجَةِ الْحُمُرِ وَحِفْظِ مَائِهَا لِمَا فِيهَا مِنْ الْفَضَائِلِ، وَالْمَنَافِعِ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِإِنْزَاءِ الْحُمُرِ عَلَى الْخَيْلِ، وَالْخَيْلِ عَلَى الْحُمُرِ وَاخْتَارَهُ الْخَطَّابِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ عِلَّةَ الْكَرَاهَةِ وَقَالَ عَنْ إنْزَاءِ الْخَيْلِ عَلَى الْحُمُرُ يُحْتَمَل أَنْ لَا يَكُونَ دَاخِلًا فِي النَّهْيِ إلَّا أَنْ يَتَأَوَّلَ مُتَأَوِّلٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ صِيَانَةُ الْخَيْلِ وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ الْكَرَاهَةِ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] . ذَكَرَ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ فَدَلَّ عَلَى إبَاحَةِ أَسْبَابِ اتِّخَاذِ هَذِهِ

الْأَشْيَاءِ وَإِلَّا كَانَتْ مَكْرُوهَةً لَا يُمْتَنُّ بِهَا. وَمِنْ الْمُتَوَاتِرِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ رَكِبَ بَغْلَةً وَاقْتَنَاهَا» فَدَلَّ عَلَى إبَاحَةِ السَّبَبِ وَإِلَّا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُتَأَسَّى بِهِ فِي فِعْلِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِفَتْحِ هَذَا الْبَابِ، وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ، وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ، وَلِأَنَّهُ اسْتِيلَادُ حَيَوَانٍ لَهُمْ مُنْتَفَعٌ بِهِ شَرْعًا فَلَمْ يُكْرَهْ كَالْجِنْسِ الْوَاحِدِ. وَلِمَنْ اخْتَارَ الْأَوَّلَ أَنْ يُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ: أَمَّا الْآيَةُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ الِامْتِنَانِ هُنَا إبَاحَةُ السَّبَبِ وَمَنْ ادَّعَاهُ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ فَإِنْ أَبْدَى دَلِيلًا تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ. ثُمَّ نَقُولُ قَدْ يَكُونُ هَذَا السَّبَبُ مُحَرَّمًا، وَالِامْتِنَانُ حَاصِلٌ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَطَفَ بِنَا وَرَحِمَنَا إذْ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْنَا هَذَا الْحَيَوَانَ كَمَا أَنَّ بَعْضَ أَفْرَادِ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ قَدْ يَكُونُ مُحَرَّمًا إجْمَاعًا بِغَصْبٍ أَوْ غَيْرِهِ وَهُوَ دَاخِلٌ فِي جُمْلَةِ مَا امْتَنَّ بِهِ عَلَيْنَا بِلَا شَكٍّ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي السَّبَبِ الْمُحَرَّمِ فَكَيْفَ بِهَذَا السَّبَبِ الْمَكْرُوهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ، ثُمَّ لَوْ سَلِمَ هَذَا فِي السَّبَبِ الْمُحَرَّمِ هُنَا فَلَا نُسَلِّمُهُ فِي الْمَكْرُوهِ. وَيَحْسُنُ الِامْتِنَانُ مَعَهُ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ أَذِنَ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ فَلَمْ يَفْعَلْ الْمُكَلَّفُ إلَّا مَا وَسَّعَ الشَّارِعُ عَلَيْهِ فِيهِ، ثُمَّ لَوْ سَلِمَ ذَلِكَ فَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ غَيْرُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ جَمْعًا بَيْنَ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ أَوْلَى مِنْ التَّعَارُضِ، وَالْإِلْغَاءِ. وَهَذَا إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ امْتَنَّ عَلَى عِبَادِهِ بِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْجِنْسُ فَلَا يَلْزَمُ كُلَّ فَرْدٍ فَرْدٍ كَقَوْلِهِمْ الرَّجُلُ خَيْرٌ مِنْ الْمَرْأَةِ فَيَصِحُّ إنْ أُرِيدَ الْجِنْسُ لَا عَلَى تَقْدِيرِ إرَادَةِ عُمُومِ الْجِنْسِ فَكُلُّ رَجُلٍ لَيْسَ هُوَ خَيْرًا مِنْ كُلِّ امْرَأَةٍ. وَأَمَّا رُكُوبُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَغْلَةَ فَأَضْعَفُ فِي الدَّلَالَةِ لِعَدَمِ الِامْتِنَانِ فِيهِ وَلَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِلسَّبَبِ بِوَجْهٍ وَقَدْ يَكُونُ فَعَلَ ذَلِكَ لِحَاجَتِهِ إلَيْهَا وَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ غَيْرُهَا وَقَدْ يَكُونُ فَعَلَهُ بَيَانًا وَتَعْلِيمًا لِمَنْ قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ حُكْمُ هَذَا الْحَيَوَانِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَيَوَانَ لَيْسَ وُقُوعُ مِثْلِهِ كَثِيرًا عِنْدَهُمْ لِيَكُونَ حُكْمُهُ مَشْهُورًا لَا يَخْفَى وَقَدْ يَكُونُ فِعْلُهُ بَيَانًا لِجَوَازِ قَبُولِ هَدَايَا الْمُشْرِكِينَ، وَالِانْتِفَاعِ بِأَمْوَالِهِمْ وَدَوَامِ ذَلِكَ لِيَشْتَهِرَ فَيَبْلُغَهُمْ يَتَأَلَّفَهُمْ بِذَلِكَ رَجَاءَ خَيْرِهِمْ وَكَفًّا لِشَرِّهِمْ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ

لِيَتَبَيَّنَ بِهِ غَايَةَ الشَّجَاعَةِ إذَا حَضَرَ بِهِ الْجِهَادَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَيَوَانَ لَا يَكِرُّ وَلَا يَفِرُّ إنْ طَلَبَ لَمْ يُدْرِكْ وَإِنْ طُلِبَ أَدْرَكَ كَمَا جَرَى لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ هَوَازِنَ وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ وَقَدْ انْكَشَفَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُوَ يَقُولُ «أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبَ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ» وَهَذَا غَايَةُ الشَّجَاعَةِ، وَمَعَ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ وَغَيْرِهَا فَكَيْفَ يُحْتَجُّ بِهَذَا الْفِعْلِ لَا سِيَّمَا مَعَ مَا سَبَقَ عَنْهُ مِنْ الْبَيَانِ الْخَاصِّ فِي هَذَا الْفِعْلِ الْخَاصِّ، وَالْجَمْعُ أَوْلَى مِنْ التَّعَارُضِ، وَالْإِلْغَاءِ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَالْكَلَامُ عَلَيْهِ وَعَلَى فَسَادِهِ وَاضِحٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل كراهة تعليق الأجراس على الدواب والبهائم وما تبعد عنه الملائكة

[فَصْلٌ كَرَاهَةِ تَعْلِيقِ الْأَجْرَاسِ عَلَى الدَّوَابِّ وَالْبَهَائِمِ وَمَا تَبْعُدُ عَنْهُ الْمَلَائِكَةُ] فَصْلٌ وَيُكْرَهُ تَعْلِيقُ جَرَسٍ أَوْ وَتَرٍ عَلَى الدَّوَابِّ وَالْبَهَائِمِ وَالْجِمَالِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَنَحْوِهَا لِلْخَبَرِ وَهُوَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ مَرْفُوعًا «لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا كَلْبٌ أَوْ جَرَسٌ» . وَعَنْهُ أَيْضًا مَرْفُوعًا «الْجَرَسُ مِنْ مَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ» رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ قَالَ الْقَاضِي: وَيُكْرَهُ لِلْمُسَافِرِ اتِّخَاذُ الْأَجْرَاسِ فِي الرَّكْبِ، وَيُكْرَهُ تَرْكُ الْأَوْتَارِ فِي أَعْنَاقِ الْخَيْلِ، وَالرِّكَابِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ يُكْرَهُ اتِّخَاذُ الْأَجْرَاسِ فِي الرَّكْبِ وَيُكْرَهُ تَرْكُ الْأَوْتَارِ فِي أَعْنَاقِ الْخَيْلِ، وَالرِّكَابِ وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ يُكْرَهُ اتِّخَاذُ الْأَجْرَاسِ فِي مَرْكَبٍ وَيُكْرَهُ تَرْكُ الْأَوْتَارِ فِي أَعْنَاقِ الْخَيْلِ. وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ عُبَيْدٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْسَلَ رَسُولًا لَا يَبْقَيَنَّ فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلَادَةٌ مِنْ وَتَرٍ أَوْ قِلَادَةٌ إلَّا قُطِعَتْ» . وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «قَلِّدُوا الْخَيْلَ وَلَا تُقَلِّدُوهَا الْأَوْتَارَ» أَيْ قَلِّدُوهَا طَلَبَ أَعْدَاءِ الدِّينِ، وَالدِّفَاعَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا تُقَلِّدُوهَا طَلَبَ أَوْتَارِ الْجَاهِلِيَّةِ وَدُخُولَهَا الَّتِي كَانَتْ بَيْنَكُمْ، وَالْأَوْتَارُ جَمْعُ وِتْرٍ بِالْكَسْرِ وَهُوَ الدَّمُ وَطَلَبُ الثَّأْرِ، يُرِيدُ اجْعَلُوا ذَلِكَ لَازِمًا لَهَا فِي أَعْنَاقِهَا لُزُومَ الْقَلَائِدِ لِلْأَعْنَاقِ. وَقِيلَ أَرَادَ بِالْأَوْتَارِ جَمْعَ وَتَرٍ وَتَرَ الْقَوْسِ أَيْ لَا تَجْعَلُوا فِي أَعْنَاقِهَا الْأَوْتَارَ فَتَخْتَنِقَ؛ لِأَنَّ الْخَيْلَ رُبَّمَا رَعَتْ الْأَشْجَارَ فَنَشِبَتْ الْأَوْتَارُ بِبَعْضِ شُعَبِهَا فَخَنَقَتْهَا، وَقِيلَ إنَّمَا نَهَاهُمْ عَنْهَا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ تَقْلِيدَ الْخَيْلِ بِالْأَوْتَارِ يَدْفَعُ عَنْهَا الْعَيْنَ، وَالْأَذَى فَيَكُونُ كَالْعُوذَةِ لَهَا فَنَهَاهُمْ وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهَا لَا تَدْفَعُ ضَرَرًا انْتَهَى كَلَامُهُ، وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ الْأَوَّلَ قَوْلًا، وَالثَّانِي احْتِمَالًا وَقَالَ أَمَرَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِقَطْعِ قَلَائِدِ الْخَيْلِ قَالَ مَالِكٌ أَرَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ الْعَيْنِ قَالَ وَقَالَ غَيْرُهُ إنَّمَا أَمَرَ بِقَطْعِهَا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَلِّقُونَ فِي الْقَلَائِدِ الْأَجْرَاسَ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ ثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعِيدٍ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُهَاجِرٍ حَدَّثَنِي عَقِيلُ بْنُ شَبِيبٍ عَنْ أَبِي وَهْبٍ الْجُشَمِيِّ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

الْحَدِيثَ وَفِيهِ «وَارْتَبِطُوا الْخَيْلَ وَامْسَحُوا بِنَوَاصِيهَا وَأَعْجَازِهَا أَوْ قَالَ وَأَكْفَالِهَا، وَقَلِّدُوهَا وَلَا تُقَلِّدُوهَا الْأَوْتَارَ» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ هَارُونَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعِيدٍ وَعَقِيلٌ وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ مُحَمَّدٍ قَالَ بَعْضُهُمْ لَا يُعْرَفُ وَبَاقِي الْإِسْنَادِ جَيِّدٌ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا ابْنُ مُوسَى الْأَشْنَبُ ثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ ثَنَا عَيَّاشُ بْنُ عَبَّاسٍ عَنْ شُيَيْمِ بْنِ بَيْتَانِ ثَنَا رُوَيْفِعُ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ «كَانَ أَحَدُنَا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْخُذُ جَمَلَ أَخِيهِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ النِّصْفَ مِمَّا يَغْنَمُ وَلَهُ النِّصْفُ حَتَّى إنَّ أَحَدَنَا لَيَطِيرُ لَهُ النِّصَالُ، وَالرِّيشُ، وَالْآخَرَ الْقَدَحُ، ثُمَّ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا رُوَيْفِعُ لَعَلَّ الْحَيَاةَ سَتَطُولُ بِك فَأَخْبِرْ النَّاسَ أَنَّهُ مَنْ عَقَدَ لِحْيَتَهُ أَوْ تَقَلَّدَ وَتَرًا أَوْ اسْتَنْجَى بِرَجِيعِ دَابَّةٍ أَوْ عَظْمٍ فَإِنَّ مُحَمَّدًا بَرِيءٌ مِنْهُ» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد: ثَنَا يَزِيدُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ الْهَمْدَانِيِّ حَدَّثَنَا الْفَضْلُ يَعْنِي بْنَ فَضَالَةَ الْمِصْرِيَّ عَنْ عَيَّاشِ بْنِ عَبَّاسٍ الْقِتْبَانِيِّ أَنَّ شُيَيْمَ بْنَ بَيْتَانِ أَخْبَرَهُ عَنْ شَيْبَانَ الْعَنَانِيِّ أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ مَخْلَدٍ اسْتَعْمَلَ رُوَيْفِعَ بْنَ ثَابِتٍ عَلَى أَسْفَلِ الْأَرْضِ قَالَ شَيْبَانُ فَسِرْنَا مَعَهُ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. ثَنَا يَزِيدُ بْنُ خَالِدٍ ثَنَا مُفَضَّلٌ عَنْ عَيَّاشِ بْنِ شُيَيْمِ أَنَّ بَيْتَانِ أَخْبَرَهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ سَالِمٍ الْجَيَشَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ وَهْبٍ عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ وَذَكَرَ آخَرُ قَبْلَهُ عَنْ عَيَّاشِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ شُيَيْمَ بْنَ بَيْتَانِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رُوَيْفِعَ بْنَ ثَابِتٍ بِبَعْضِ الْحَدِيثِ وَأَوَّلُهُ «يَا رُوَيْفِعُ لَعَلَّ الْحَيَاةَ سَتَطُولُ بِك بَعْدِي» . وَمَتْنُ هَذَا الْحَدِيثِ صَحِيحٌ وَهَذِهِ الْأَسَانِيدُ الثَّلَاثَةُ جَيِّدَةٌ وَفِي ابْنِ لَهِيعَةَ كَلَامٌ مَشْهُورٌ وَلَيْسَ بِالْعُمْدَةِ هُنَا وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَلَمْ يُخَالِفْهُ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ تَقْلِيدِ الْوَتَرِ لَكِنْ قَدْ تَقَدَّمَ كَلَامُ ابْنِ الْأَثِيرِ فِي الْمُرَادِ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي مَنْ عَقَدَ لِحْيَتَهُ قِيلَ هُوَ مُعَالَجَتُهَا حَتَّى تَتَعَقَّدَ وَتَتَجَعَّدَ وَقِيلَ كَانُوا يَعْقِدُونَهَا فِي الْحُرُوبِ فَأَمَرَهُمْ بِإِرْسَالِهَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ تَكَبُّرًا وَعَجَبًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

وَلَوْ اجْتَمَعَ فِي الطَّرِيقِ اتِّفَاقًا بِمَنْ مَعَهُ كَلْبٌ أَوْ جَرَسٌ فَلَمْ يَقْصِدْ رُفْقَتَهُ يَكُونُ سَبَبًا لِعَدَمِ صُحْبَةِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ أَمْ لَا أَمْ إنْ أَمْكَنَهُ الِانْفِرَادُ فَلَمْ يَفْعَلْ كَانَ سَبَبًا وَإِلَّا فَلَا؟ يَتَوَجَّهُ احْتِمَالَاتُ. يُشْبِهُ هَذَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ، وَالْإِسْنَادُ حَسَنٌ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ وَلَا جُنُبٌ» فَهَلْ يُحْمَلُ عَلَى كُلِّ صُورَةٍ أَمْ صُورَةٍ مَنْهِيٍّ عَنْهَا؟ وَهَلْ يُحْمَلُ الْكَلْبُ عَلَى كَلْبٍ يَحْرُمُ اقْتِنَاؤُهُ كَمَا لَا يَنْقُصُ أَجْرَهُ بِغَيْرِهِ أَمْ مُطْلَقًا؟ وَهَلْ الْمُرَادُ بِالْجُنُبِ مَنْ يَتْرُكهُ عَادَةً وَتَهَاوُنًا أَمْ مُطْلَقًا؟ يَتَوَجَّهُ الْخِلَافُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَقَدْ ذُكِرَ هَذَا الْخَبَرُ فِي بَابِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَلِلنَّسَائِيِّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا «لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ جَرَسٌ وَلَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا جَرَسٌ» سُلَيْمَانُ تَفَرَّدَ عَنْهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تُمْنَعُ مِنْ دُخُولِ بَيْتٍ لَمْ يَرْتَكِبْ صَاحِبُهُ نَهْيًا. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْمَسَائِلِ الْوَرْعِيَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ الْجُنُبَ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ النَّوْمِ وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ ذَلِكَ كَرَاهَةَ أَنْ تُقْبَضَ رُوحُهُ وَهُوَ نَائِمٌ فَلَا تَشْهَدُ الْمَلَائِكَةُ جِنَازَتَهُ فَإِنَّ فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ جُنُبٌ» وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِنَهْيِهِ عَنْ اللُّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ بُيُوتُ الْمَلَائِكَةِ كَمَا نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ أَكَلَ الثُّومَ وَالْبَصَلَ عَنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَقَدْ قَالَ «إنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ» فَلَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجُنُبَ بِالْوُضُوءِ وَعِنْدَ النَّوْمِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ يَرْفَعُ الْجَنَابَةَ الْغَلِيظَةَ يَبْقَى مَرْتَبَةً بَيْنَ الْمُحْدِثِ وَبَيْنَ الْجُنُبِ لَمْ يُرَخَّصْ فِيمَا تُرُخِّصَ فِيهِ لِلْمُحْدِثِ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَلَمْ يُمْنَعْ مِمَّا يُمْنَعُ مِنْهُ الْجُنُبُ مِنْ اللُّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ وُضُوءٌ عِنْدَ النَّوْمِ يَقْتَضِي شُهُودَ الْمَلَائِكَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَدْخُلُ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ إذَا تَوَضَّأَ قَالَ وَإِذَا كَانَ الْجُنُبُ يَتَوَضَّأُ عِنْدَ النَّوْمِ فَتَشْهَدُ الْمَلَائِكَةُ جِنَازَتَهُ، حِينَئِذٍ عُلِمَ أَنَّ النَّوْمَ لَا يُبْطِلُ الطَّهَارَةَ الْحَاصِلَةَ بِذَلِكَ وَهُوَ تَخْفِيفُ الْجَنَابَةِ وَحِينَئِذٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَنَامَ فِي الْمَسْجِدِ حَيْثُ يَنَامُ

غَيْرُهُ وَإِنْ كَانَ النَّوْمُ الْكَثِيرُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فَذَلِكَ الْوُضُوءُ هُوَ الَّذِي يَرْفَعُ الْحَدَثَ الْأَصْغَرَ، وَوُضُوءُ الْجُنُبِ هُوَ لِيُخَفِّفَ الْجَنَابَةَ وَإِلَّا فَهَذَا الْوُضُوءُ لَا يُبِيحُ لَهُ مَا يَمْنَعُهُ الْحَدَثُ الْأَصْغَرُ مِنْ الصَّلَاةِ، وَالطَّوَافِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.

فصل استعمال اليد اليمنى وما يكره من استعمال اليسرى

[فَصْلٌ اسْتِعْمَالُ الْيَدِ الْيُمْنَى وَمَا يُكْرَهُ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْيُسْرَى] وَيُكْرَهُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَنْتَثِرَ وَيُنَقِّي أَنْفَهُ وَوَسَخَهُ وَدَرَنَهُ وَيَخْلَعَ نَعْلَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ بِيَمِينِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ بِيَسَارِهِ مُطْلَقًا وَيَتَنَاوَلُ الشَّيْءَ مِنْ يَدِ غَيْرِهِ بِالْيُمْنَى، ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ مِنْ الْمُسْتَحَبَّاتِ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَالشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ وَقَالَ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُنَاوِلَ إنْسَانًا تَوْقِيعًا أَوْ كِتَابًا فَلْيَقْصِدْ يَمِينَهُ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «لِيَأْكُلْ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ وَلْيَشْرَبْ وَلْيُعْطِ بِيَمِينِهِ وَلْيَأْخُذْ بِيَمِينِهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ وَيُعْطِي بِشِمَالِهِ وَيَأْخُذُ بِشِمَالِهِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَأَحْمَدُ وَلَيْسَ عِنْدَهُ " وَلْيَأْخُذْ بِيَمِينِهِ ". [فَصْلٌ فِي الْإِرْدَاف عَلَى الدَّابَّةِ وَرُكُوبُ ثَلَاثَةٍ] فَصْلٌ يَجُوزُ الْإِرْدَافُ عَلَى الدَّابَّةِ وَرُكُوبُ ثَلَاثَةٍ، «أَرْدَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُسَامَةَ عَلَى حِمَارٍ» وَقَالَ أَيُّوبُ ذُكِرَ أَشَرُّ الثَّلَاثَةِ عِنْدَ عِكْرِمَةَ فَقَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ «أَتَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ حَمَلَ قُثَمَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالْفَضْلَ خَلْفَهُ أَوْ قُثَمَ خَلْفَهُ، وَالْفَضْلَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَيُّهُمْ أَشَرُّ وَأَيُّهُمْ أَخْيَرُ؟» رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ.

فصل يكره أن يبصق الرجل عن يمينه في الصلاة وغير الصلاة

[فَصْلٌ يُكْرَهُ أَنْ يَبْصُقَ الرَّجُلُ عَنْ يَمِينِهِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِ الصَّلَاةِ] فَصْلٌ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ لَا يَبْصُقُ الرَّجُلُ إلَّا عَنْ يَسَارِهِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَيَبْصُقُ الرَّجُلُ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِ الصَّلَاةِ عَنْ يَسَارِهِ وَقَالَ مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ أَنْ يَبْصُقَ عَنْ يَسَارِهِ وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لِأَيِّ شَيْءٍ كُرِهَ الرُّكُوبُ فِي الْمَحْمَلِ فِي الشِّقِّ الْأَيْمَنِ قَالَ لِمَوْضِعِ الْبُصَاقِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا يُكْرَهُ أَنْ يَبْصُقَ الرَّجُلُ عَنْ يَمِينِهِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِ الصَّلَاةِ وَقَالَ أَلَيْسَ عَنْ يَمِينِهِ الْمَلَكُ؟ فَقُلْت وَعَنْ يَسَارِهِ أَيْضًا مَلَكٌ قَالَ الَّذِي عَنْ يَمِينِهِ يَكْتُبُ الْحَسَنَاتِ وَاَلَّذِي عَنْ يَسَارِهِ يَكْتُبُ السَّيِّئَاتِ.

فصل في الانتعال والشرب والبول قائما

[فَصْلٌ فِي الِانْتِعَالُ وَالشُّرْبُ وَالْبَوْلُ قَائِمًا] فَصْلٌ قَالَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى لَا يُكْرَهُ عَلَى الْأَصَحِّ الِانْتِعَالُ وَالشُّرْبُ وَالْبَوْلُ قَائِمًا مَعَ التَّحَرُّزِ وَحَكَى ابْنُ أَبِي مُوسَى الْكَرَاهَةَ وَقَطَعَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ بِعَدَمِهَا وَيَأْتِي بَعْدَ فُصُولٍ فِي هَيْئَةِ الْجُلُوسِ لِلْأَكْلِ مَسْأَلَةُ الشُّرْبِ قَائِمًا. وَيُكْرَهُ الْمَشْيُ فِي نَعْلٍ وَاحِدٍ لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ زَادَ فِي الْمُجَرَّدِ، وَالْفُصُولِ، وَالْغُنْيَةِ مَا مَعْنَاهُ إلَّا الْيَسِيرَ بِمِقْدَارِ مَا يُصْلِحُ الْأُخْرَى قَالَ فِي الْمُجَرَّدِ وَإِنْ كَانَ الِاخْتِيَارُ أَنْ يَقِفَ إلَى الْفَرَاغِ مِنْهَا وَيَأْتِي ذَلِكَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي اللِّبَاسِ قَبْلَ ذِكْرِ الْأَخْبَارِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ. وَيُكْرَهُ النَّوْمُ بَعْدَ الْعَصْرِ لِلْخَبَرِ أَنَّهُ يُخْتَلَسُ عَقْلُهُ فِي إسْنَادِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ مَذْكُورٌ فِي تَرْجَمَتِهِ وَلَمْ يَعْتَدَّ بِهِ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَنَامَ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنَامَ بَعْدَ الْعَصْرِ يُخَافُ عَلَى عَقْلِهِ. وَيُكْرَهُ الْجُلُوسُ بَيْنَ الشَّمْسِ وَالظِّلِّ قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ يُكْرَهُ الْجُلُوسُ بَيْنَ الظِّلِّ، وَالشَّمْسِ قَالَ هَذَا مَكْرُوهٌ أَلَيْسَ قَدْ نُهِيَ عَنْ ذَا قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: صَحَّ النَّهْيُ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ سَعِيدٌ ثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ «رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبِي فِي الشَّمْسِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ إلَى الظِّلِّ» وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادِهِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي بَابِ الْجُلُوسِ بَيْنَ الظِّلِّ، وَالشَّمْسِ عَنْ مُسَدَّدٍ عَنْ يَحْيَى عَنْ إسْمَاعِيلَ حَدَّثَنِي قَيْسٌ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ «جَاءَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ فَقَامَ فِي الشَّمْسِ فَأَمَرَ بِهِ فَحَوَّلَ إلَى الظِّلِّ» إسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَاهُ غَيْرُ الْمَعْنَى الْمُقْتَضَيْ لِذِكْرِهِ فِي هَذَا الْبَابِ وَهُوَ خَلَلُ فَهْمِ الْخُطْبَةِ بِتَشْوِيشِ الذِّهْنِ بِالشَّمْسِ أَوْ تَضَرُّرِهِ بِالشَّمْسِ بِلَا حَاجَةٍ إلَيْهَا أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ.

وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا فِي الشَّمْسِ فَقَالَ تَحَوَّلْ إلَى الظِّلِّ فَإِنَّهُ مُبَارَكٌ» وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ قَالَ " اسْتَقْبِلُوا الشَّمْسَ بِجِبَاهِكُمْ فَإِنَّهَا حَمَّامُ الْعَرَبِ ". وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى أَنْ يُقْعَدَ بَيْنَ الظِّلِّ، وَالشَّمْسِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَفِيهِ أَبُو الْمُنِيبِ الْعَتَكِيُّ وَقَدْ ضُعِّفَ وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ، هَذَا وَلِأَحْمَدَ الْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ مَجْلِسُ الشَّيْطَانِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي الشَّمْسِ وَفِي لَفْظٍ فِي الْفَيْءِ فَقَلَصَ عَنْهُ الظِّلُّ وَصَارَ بَعْضُهُ فِي الشَّمْسِ وَبَعْضُهُ فِي الظِّلِّ فَلْيَقُمْ» وَفِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ اخْتِيَارُ الظِّلِّ، وَالْفَيْءِ فَلَا يُكْثِرُ الْجُلُوسَ فِي الشَّمْسِ وَلَا يَنَامُ فِيهَا كَمَا قِيلَ يُثِيرُ الدَّاءَ الدَّفِينَ وَلَا بَيْنَهُمَا، وَيُحْمَلُ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ عَلَى الْحَاجَةِ لِدَفْعِ بَرْدٍ أَوْ غَيْرِهِ قَالَ جَالِينُوسُ مَنْ أَكْثَرَ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ السَّهَرِ أَوْ التَّعَرُّضِ لِلشَّمْسِ الْحَارَّةِ وَقَعَ فِي الْبِرْسَامِ سَرِيعًا، وَالْبِرْسَامُ وَرَمٌ حَارٌّ فِي الدِّمَاغِ. وَيُكْرَهُ أَنْ يَتَّكِئَ أَحَدٌ عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ قَالَ أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ بَحْرٍ ثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ ثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ مَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا جَالِسٌ هَكَذَا أَيْ وَقَدْ وَضَعْت يَدِي الْيُسْرَى خَلْفَ ظَهْرِي وَاتَّكَأْتُ عَلَى أَلْيَةِ يَدِي فَقَالَ: «لَا تَقْعُدْ قَعْدَةَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ» إسْنَادُهُ جَيِّدٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَيَأْتِي الْجُلُوسُ مُتَّكِئًا وَمُحْتَبِيًا وَمُتَرَبِّعًا وَغَيْرَ ذَلِكَ فِي آدَابِ الْمَجَالِسِ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَيُكْرَهُ الْجُلُوسُ فِي ظِلِّ الْمَنَارَةِ وَكَنْسُ الْبَيْتِ بِالْخِرْقَةِ.

فصل في استحباب القيلولة، والكلام في سائر نوم النهار

[فَصْلٌ فِي اسْتِحْبَابِ الْقَيْلُولَةِ، وَالْكَلَامِ فِي سَائِرِ نَوْمِ النَّهَارِ] قَالَ الْخَلَّالُ اسْتِحْبَابُ الْقَائِلَةِ نِصْفَ النَّهَارِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ كَانَ أَبِي يَنَامُ نِصْفَ النَّهَارِ شِتَاءً كَانَ أَوْ صَيْفًا لَا يَدَعُهَا وَيَأْخُذُنِي بِهَا وَيَقُولُ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قِيلُوا فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَا تَقِيلُ. وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: ثَلَاثٌ مَنْ ضَبَطَهُنَّ ضَبَطَ الصَّوْمَ مَنْ قَالَ وَتَسَحَّرَ وَأَكَلَ قَبْلَ أَنْ يَشْرَبَ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: نَوْمَةُ نِصْفِ النَّهَارِ تَزِيدُ فِي الْعَقْلِ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «اسْتَعِينُوا بِطَعَامِ السَّحَرِ عَلَى صِيَامِ النَّهَارِ، وَالْقَيْلُولَةِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ زَمْعَةَ بْنِ صَالِحٍ وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْأَكْثَرُ وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ مِنْ حَدِيثِهِ وَرَوَاهُ فِي الْمُخْتَارَةِ مِنْ حَدِيثِهِ. ظَاهِرُ مَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ فِي هَذَا الْفَصْلِ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ نَوْمَ النَّهَارِ لَا يُكْرَهُ شَرْعًا لِعَدَمِ دَلِيلِ الْكَرَاهَةِ إلَّا بَعْدَ الْعَصْرِ وَإِنَّهُ تُسْتَحَبُّ الْقَائِلَةُ. وَالْقَائِلَةُ النَّوْمُ فِي الظَّهِيرَةِ، ذَكَرَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ وَظَاهِرُهُ شِتَاءً وَصَيْفًا، وَإِنْ كَانَ الصَّيْفُ أَوْلَى بِهَا وَهُوَ ظَاهِرُ مَا سَبَقَ وَسَبَقَ الْمَنْقُولُ عَنْ أَحْمَدَ فِيهِ، وَجَزَمَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْأَصْحَابِ أَظُنُّهُ صَاحِبَ النَّظْمِ بِكَرَاهَةِ، النَّوْمِ بَعْدَ الْفَجْرِ. وَعَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ أَنَّ الْأَرْضَ تَعِجُّ مِنْ نَوْمِ الْعَالَمِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا قَدِمَ الشَّامَ رَأَى مُعَاوِيَةَ حَمَلَ اللَّحْمَ فَقَالَ يَا مُعَاوِيَةُ مَا هَذَا لَعَلَّك تَنَامُ نَوْمَةَ الضُّحَى؟ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِّمْنِي مِمَّا عَلَّمَك اللَّهُ. وَرَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ابْنًا لَهُ نَائِمًا نَوْمَةَ الضُّحَى فَقَالَ لَهُ قُمْ أَتَنَامُ فِي السَّاعَةِ الَّتِي تُقَسَّمُ فِيهَا الْأَرْزَاقُ؟ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ طَلَبِ الرِّزْقِ، وَالسَّعْيِ فِيهِ شَرْعًا وَعُرْفًا عِنْدَ الْعُقَلَاءِ وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا» وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: أَلَا إنَّ نَوْمَاتِ الضُّحَى تُورِثُ الْفَتَى ... خَبَالًا وَنَوْمَاتِ الْعَصِيرِ جُنُونُ

وَاقْتَصَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْأَطِبَّاءُ أَنَّ نَوْمَ النَّهَارِ رَدِيءٌ يُورِثُ الْأَمْرَاضَ الرُّطُوبِيَّةَ، وَالنَّوَازِلَ وَيُفْسِدُ اللَّوْنَ وَيُورِثُ الطِّحَالَ وَيُرْخِي الْعَصَبَ وَيُكْسِلُ وَيُضْعِفُ الشَّهْوَةَ إلَّا فِي الصَّيْفِ وَقْتَ الْهَاجِرَةِ وَأَرْدَؤُهُ النَّوْمَ أَوَّلَ النَّهَارِ وَأَرْدَأُ مِنْهُ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَنَوْمُ الصُّبْحَةِ مُضِرٌّ جِدًّا بِالْبَدَنِ؛ لِأَنَّهُ يُرْخِيهِ وَيُفْسِدُ الْعَضَلَاتِ الَّتِي يَنْبَغِي تَحْلِيلُهَا بِالرِّيَاضَةِ فَتُحْدِثُ تَكَسُّرًا وَعَنَاءً أَوْ ضَعْفًا، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْبِرَازِ، وَالرِّيَاضَةِ وَإِشْغَالِ الْمَعِدَةِ بِشَيْءِ فَهُوَ الدَّاءُ الْعُضَالُ الْمُوَلِّدُ لِأَنْوَاعٍ مِنْ الْأَدْوَاءِ وَرُوِيَ أَنَّ الْمَسِيحَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ خُلُقَانِ أَكْرَهُهُمَا: النَّوْمُ مِنْ غَيْرِ سَهَرٍ، وَالضَّحِكِ مِنْ غَيْرِ عَجَبٍ. وَالثَّالِثَةُ وَهِيَ الْعُظْمَى إعْجَابُ الرَّجُلِ بِعَمَلِهِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ دَاوُد لِابْنِهِ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -: إيَّاكَ وَكَثْرَةَ النَّوْمِ فَإِنَّهُ يُفْقِرُك إذَا احْتَاجَ النَّاسُ إلَى أَعْمَالِهِمْ وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ إيَّاكَ وَكَثْرَةَ النَّوْمِ، وَالْكَسَلَ، وَالضَّجَرَ فَإِنَّك إذَا كَسِلْت لَمْ تُؤَدِّ حَقًّا، وَإِذَا ضَجِرْت لَمْ تَصْبِرْ عَلَى حَقٍّ وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ الْجَهْلِ النَّوْمُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَالضَّحِكُ مِنْ غَيْرِ عَجَبٍ، وَالْقَائِلَةُ تَزِيدُ فِي الْعَقْلِ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: النَّوْمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ نَوْمُ خُرْقٍ، وَنَوْمُ خَلْقٍ، وَنَوْمُ حُمْقٍ. فَأَمَّا النَّوْمُ الْخُرْقُ فَنَوْمَةُ الضُّحَى يَقْضِي النَّاسُ حَوَائِجَهُمْ وَهُوَ نَائِمٌ، وَأَمَّا النَّوْمُ الْخَلْقُ فَنَوْمُ الْقَائِلَةِ نِصْفَ النَّهَارِ، وَأَمَّا نَوْمُ الْحُمْقِ فَنَوْمٌ حِينَ تَحْضُرُ الصَّلَاةُ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شُبْرُمَةَ نَوْمُ نِصْفَ النَّهَارِ يَعْدِلُ شَرْبَةَ دَوَاءٍ يَعْنِي فِي الصَّيْفِ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ النُّعَاسُ يُذْهِبُ الْعَقْلَ، وَالنَّوْمُ يَزِيدُ فِيهِ. قَالُوا تَنَامُ فَقُلْت الشَّوْقُ يَمْنَعُنِي ... مِنْ أَنْ أَنَامَ وَعَيْنِي حَشْوُهَا السَّهَدُ أَبْكِي الَّذِينَ أَذَاقُونِي مَوَدَّتَهُمْ ... حَتَّى إذَا أَيْقَظُونِي لِلْهَوَى رَقَدُوا هُمُو دَعَوْنِي فَلَمَّا قُمْت مُقْتَضِيًا ... لِلْحُبِّ نَحْوَهُمْ مِنْ قُرْبِهِمْ بَعُدُوا لَأَخْرُجَنَّ مِنْ الدُّنْيَا وَحُبُّهُمْ ... بَيْنَ الْجَوَانِحِ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَحَدُ

وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ: يَقُولُونَ طَالَ اللَّيْلُ وَاللَّيْلُ لَمْ يَطُلْ ... وَلَكِنَّ مَنْ يَبْكِي مِنْ الشَّوْقِ يَسْهَرُ وَقَالَ آخَرُ: أَبِيتُ أُرَاعِي النَّجْمَ حَتَّى كَأَنَّنِي ... بِنَاصِيَتِي حَبْلٌ إلَى النَّجْمِ مُوثَقُ وَمَا طَالَ لَيْلِي غَيْرَ أَنِّي أُحِبُّهَا ... أُعَلِّلُ نَفْسِي بِالْأَمَانِي فَتَقْلَقُ ذَكَرَ هَذِهِ الْآثَارَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ. فَأَمَّا النَّوْمُ عِنْدَ سَمَاعِ الْخَيْرِ فَهُوَ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: النَّوْمُ عِنْدَ الْمَوْعِظَةِ مِنْ الشَّيْطَانِ، كَانَ يُقَالُ لِإِبْلِيسِ لَعَنَهُ اللَّهُ لَعُوقٌ وَكُحْلٌ وَسَعُوطٌ، فَلُعُوقُهُ الْكَذِبُ وَكُحْلُهُ النُّعَاسُ عِنْدَ سَمَاعِ الْخَيْرِ وَسُعُوطُهُ الْغَضَبُ. وَسَبَقَ فِي الْفَصْلِ قَبْلَهُ حُكْمُ النَّوْمِ فِي الشَّمْسِ.

فصل في التكني ما يستحب منه وما يكره

[فَصْلٌ فِي التَّكَنِّي مَا يُسْتَحَبُّ مِنْهُ وَمَا يُكْرَهُ] يُكْرَهُ أَنْ يَتَكَنَّى بِأَبِي يَحْيَى وَأَبِي عِيسَى ذَكَرَهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَالرِّعَايَةِ وَذَكَرَهُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ دَلِيلًا. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ عَمَّنْ كَرِهَ أَنْ يُكَنَّى بِأَبِي عِيسَى قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: فَإِنَّمَا كَرِهَ أَبَا عِيسَى دُونَ أَبِي يَحْيَى، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد ثَنَا هَارُونُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَبِي الزَّرْقَاءِ ثَنَا أَبُو هِشَامِ بْنُ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضَرَبَ ابْنًا لَهُ يُكْنَى أَبَا عِيسَى. وَأَنَّ الْمُغِيرَةَ تَكَنَّى بِأَبِي عِيسَى فَقَالَ لَهُ عُمَرُ أَمَا يَكْفِيك أَنْ تُكْنَى بِأَبِي عَبْدِ اللَّه. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " كَنَّانِي " فَقَالَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ وَإِنَّا فِي جَلَجِنَا فَلَمْ يَزَلْ يُكْنَى بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ حَتَّى هَلَكَ، كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ: ثَنَا أَبُو بَكْرٍ ثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ ثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ صُهَيْبٍ «أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِصُهَيْبٍ مَا لَك تُكَنَّى بِأَبِي يَحْيَى وَلَيْسَ لَك وَلَدٌ قَالَ كَنَّانِي رَسُولُ اللَّهِ بِأَبِي يَحْيَى» إسْنَادُهُ حَسَنٌ وَعَنْ أَبِي الْقَاسِمِ رِوَايَاتٌ الْكَرَاهَةُ وَعَدَمُهَا، وَالثَّالِثَةُ إنْ اكْتَنَى بِهَا مَنْ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ كُرِهَ وَإِلَّا فَلَا ذَكَرَهُنَّ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا «تَسَمَّوْا بِاسْمِي وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي فَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ» . وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «نَادَى رَجُلٌ بِالْبَقِيعِ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَالْتَفَتَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ أَعْنِك إنَّمَا عَنَيْت فُلَانًا فَقَالَ سَمُّوا بِاسْمِي وَلَا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ وُلِدَ لِي مِنْ بَعْدِك وَلَدٌ أُسَمِّيهِ بِاسْمِك وَأُكَنِّيهِ بِكُنْيَتِك قَالَ نَعَمْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَفِيهِ فِطْرُ بْنُ خَلِيفَةَ. وَرَوَى

الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ كَانَتْ رُخْصَةً لِعَلِيٍّ رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَرَوَى أَبُو دَاوُد ثَنَا النُّفَيْلِيُّ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ الْحَجَبِيُّ عَنْ جَدَّتِهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ «جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي وَلَدْت غُلَامًا فَسَمَّيْته مُحَمَّدًا وَكَنَّيْته أَبَا الْقَاسِمِ فَذُكِرَ لِي أَنَّك تَكْرَهُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ مَا الَّذِي أَحَلَّ اسْمِي وَحَرَّمَ كُنْيَتِي؟ أَوْ مَا الَّذِي حَرَّمَ كُنْيَتِي وَأَحَلَّ اسْمِي» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ هِشَامٍ ثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ تَسَمَّى بِاسْمِي فَلَا يَتَكَنَّى بِكُنْيَتِي وَمَنْ تَكَنَّى بِكُنْيَتِي فَلَا يَتَسَمَّى بِاسْمِي» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ هِشَامٍ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرُوِيَ ذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ. وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ مَالِكًا كَانَ يَقُولُ إنَّمَا نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَرَاهِيَةَ أَنْ يُدْعَى أَحَدٌ بِاسْمِهِ أَوْ كُنْيَتِهِ فَيَلْتَفِتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ. رَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ سَمِعْت أَبَا الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنَ يَعْقُوبَ سَمِعْت الرَّبِيعَ بْنَ سُلَيْمَانَ سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَكْتَنِيَ بِأَبِي الْقَاسِمِ كَانَ اسْمُهُ مُحَمَّدًا أَوْ غَيْرَهُ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرَوَيْنَا مَعْنَى هَذَا عَنْ طَاوُسٍ قَالَ وَأَحَادِيثُ النَّهْي عَلَى الْإِطْلَاقِ أَكْثَرُ وَأَصَحُّ فَالْحُكْمُ لَهَا، وَحَدِيثُ عَلِيٍّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَرَفَ نَهْيًا حَتَّى سَأَلَ الرُّخْصَةَ لَهُ وَحْدَهُ وَقَدْ يَحْتَمِلُ حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إنْ صَحَّ طَرِيقُهُ أَنْ يَكُونَ نَهْيُهُ وَقَعَ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَالتَّنْزِيهِ لَا عَلَى غَيْرِ التَّحْرِيمِ فَحِينَ تَوَهَّمَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ عَلَى التَّحْرِيمِ بَيَّنَ أَنَّهُ عَلَى غَيْرِ التَّحَرُّمِ قَالَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَظَاهِرُ مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا أَنَّ التَّكَنِّي بِغَيْرِ ذَلِكَ لَا يُكْرَهُ وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ فِي حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَّهُ كَانَ يُكْنَى أَبَا الْحَكَمِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ وَكَنَّاهُ بِأَبِي شُرَيْحٍ» قَالَ وَإِنَّمَا كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ لِئَلَّا يُشَارِكَ اللَّهَ تَعَالَى فِي صِفَتِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُكْتَنَى بِوَلَدٍ قَبْلَ حُصُولِهِ وَبِحَيَوَانٍ صَغِيرٍ

لِلْأَثَرِ ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ لَا بَأْسَ أَنْ يُكْنَى الصَّبِيُّ «قَالَ النَّبِيُّ لِأَبِي عُمَيْرٍ وَكَانَ صَغِيرًا يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ» . وَقَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ قُلْت لِأَحْمَدَ تُكَنَّى الْمَرْأَةُ قَالَ نَعَمْ عَائِشَة كَنَّاهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأُمِّ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ إِسْحَاقُ كَمَا قَالَ صَحَّ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّ صَوَاحِبِي لَهُنَّ كُنًى قَالَ فَاكْتَنِي بِابْنِ أُخْتِك عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ مُسَدِّدٌ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ فَكَانَتْ تُكَنَّى أُمَّ عَبْدِ اللَّهِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَلِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ «أَتَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِابْنِ الزُّبَيْرِ فَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ وَقَالَ هَذَا عَبْدُ اللَّهِ وَأَنْتِ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ» . وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ سَأَلْتُهُ يَكْنِي الرَّجُلُ أَهْلَ الذِّمَّةِ قَالَ قَدْ كَنَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُسْقُفَ نَجْرَانَ وَعُمَرُ قَالَ يَا أَبَا حَسَّانٍ أَيْ: كَنَّى رَجُلًا أَنَّهُ لَا يَكُونُ بِهِ بَأْسٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي زَادِ الْمُسَافِرِ رَوَى مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ مُرْسَلًا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأُسْقُفِ نَجْرَانَ يَا أَبَا الْحَارِثِ أَسْلِمْ تَسْلَمْ» .

فصل في آداب الطعام والشراب ومراعاة الصحة فيها

[فَصْلٌ فِي آدَابِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَمُرَاعَاةِ الصِّحَّةِ فِيهَا] يُكْرَهُ نَفْخُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، أَطْلَقَهُ الْأَصْحَابُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لِظَاهِرِ الْخَبَرِ، وَحِكْمَةُ ذَلِكَ تَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ وَلِذَلِكَ سَوَّى الشَّارِعُ بَيْنَ النَّفْخِ، وَالتَّنَفُّسِ فِيهِ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ لَا بَأْسَ بِنَفْخِ الطَّعَامِ إذَا كَانَ حَارًّا وَيُكْرَهُ أَكْلُهُ حَارًّا وَسَيَأْتِي ذَلِكَ. وَالتَّنَفُّسُ فِي إنَائِهِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نَهَى أَنْ يُتَنَفَّسَ فِي الْإِنَاءِ» ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى أَنْ يُتَنَفَّسَ فِي الْإِنَاءِ أَوْ يُنْفَخَ فِيهِ» . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ النَّفْخِ فِي الشَّرَابِ فَقَالَ رَجُلٌ الْقَذَاةُ أَرَاهَا فِي الْإِنَاءِ؟ فَقَالَ أَهْرِقْهَا قَالَ فَإِنِّي لَا أُرْوَى مِنْ نَفَسٍ وَاحِدٍ وَقَالَ فَأَبِنْ الْقَدَحَ إذًا عَنْ فِيك» رَوَاهُمَا أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُمَا. وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ خَبَرَ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَيُكْرَهُ أَكْلُهُ مِمَّا يَلِي غَيْرَهُ، وَالطَّعَامُ نَوْعٌ وَاحِدٌ ذَكَرَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمَا هَذَا الْقَيْدَ وَمِنْ وَسَطِ الْقَصْعَةِ، وَالصَّحْفَةِ وَأَعْلَاهَا وَكَذَلِكَ الْكَيْلُ ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد ثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إبْرَاهِيمَ ثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلَا يَأْكُلْ مِنْ أَعْلَى الصَّحْفَةِ وَلَكِنْ لِيَأْكُلْ مِنْ أَسْفَلِهَا فَإِنَّ الْبَرَكَةَ تَنْزِلُ مِنْ أَعْلَاهَا» عَطَاءٌ حَسَنُ الْحَدِيثِ اخْتَلَطَ قَالَ يَحْيَى الْقَطَّانُ مَا سَمِعَ مِنْهُ شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ فَصَحِيحٌ إلَّا حَدِيثَيْنِ وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ فُضَيْلٍ عَنْ عَطَاءٍ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ عَنْ عَطَاءٍ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ إنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ حَدِيثِ عَطَاءٍ قَالَ وَرَوَاهُ شُعْبَةُ، وَالثَّوْرِيُّ عَنْ عَطَاءٍ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَلَفْظُ بَعْضِهِمْ «الْبَرَكَةُ تَنْزِلُ فِي وَسَطِ الطَّعَامِ فَكُلُوا مِنْ حَافَّتَيْهِ وَلَا تَأْكُلُوا مِنْ وَسَطِهِ» وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْخَبَرِ مَا رَوَى أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ الْحِمْصِيُّ ثَنَا أَبِي ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ قَالَ «كَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَصْعَةٌ يُقَالُ

لَهَا الْغَرَّاءُ يَحْمِلُهَا أَرْبَعَةُ رِجَالٍ فَلَمَّا أَضْحَوْا وَسَجَدُوا الضُّحَى أُتِيَ بِتِلْكَ الْقَصْعَةِ يَعْنِي وَقَدْ ثُرِدَ فِيهَا فَالْتَفُّوا عَلَيْهَا فَلَمَّا كَثُرُوا جَثَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ مَا هَذِهِ الْجِلْسَةُ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ اللَّهَ جَعَلَنِي عَبْدًا شَكُورًا وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا عَنِيدًا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُوا مِنْ جَوَانِبِهَا وَدَعُوا ذُرْوَتَهَا يُبَارَكْ فِيهَا» إسْنَادٌ جَيِّدٌ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مُخْتَصَرًا. وَيُكْرَهُ أَكْلُهُ مُتَّكِئًا أَوْ مُضْطَجِعًا، وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ بِشِمَالِهِ إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَابْنُ حَزْمٍ أَنَّ الْأَكْلَ بِالشِّمَالِ مُحَرَّمٌ لِظَاهِرِ الْأَخْبَارِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَإِذَا أَكَلْت أَوْ شَرِبْت فَوَاجِبٌ عَلَيْك أَنْ تَقُولَ بِسْمِ اللَّهِ وَتَتَنَاوَلَ بِيَمِينِك قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ كَلَامُ ابْنِ أَبِي مُوسَى فِيهِ وُجُوبُ التَّسْمِيَةِ، وَالتَّنَاوُلِ بِالْيَمِينِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ يَجِبُ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْيُسْرَى وَمَسُّ الْفَرْجِ بِهَا دُونَ الْيُمْنَى رُبَّمَا لِينَ النَّهْيُ فِي كِلَيْهِمَا. وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ أَكَلَ بِشِمَالِهِ أَكَلَ مَعَهُ الشَّيْطَانُ وَمَنْ شَرِبَ بِشِمَالِهِ شَرِبَ مَعَهُ الشَّيْطَانُ» وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ بِيَمِينِهِ خُبْزًا وَبِشِمَالِهِ شَيْئًا يَأْتَدِمُ بِهِ وَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْ هَذَا وَمِنْ هَذِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْخَبَرِ؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ بِشِمَالِهِ وَلِمَا فِيهِ مِنْ الشَّرَهِ وَغَيْرِهِ لَا سِيَّمَا إذَا كَرِهَ أَنْ لَا يَتَنَاوَلَ لُقْمَةً حَتَّى يَبْلَعُ مَا قَبْلَهَا وَقَدْ سَبَقَ فِي آخِرِ فُصُولِ الطِّبِّ قَوْلُ أَبِي نُعَيْمٍ إنَّ الرُّطَبَ يُؤْكَلُ بِأَشْيَاءَ لِيَقِلَّ ضَرَرُهُ، ثُمَّ رَوَى حَدِيثَ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَأْخُذُ الرُّطَبَ بِيَمِينِهِ، وَالْبِطِّيخَ بِيَسَارِهِ فَيَأْكُلُ الرُّطَبَ بِالْبِطِّيخِ» . فَهَذَا الْخَبَرُ غَرِيبٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِنْ صَحَّ خُصَّ الْعُمُومُ بِهِ وَمَعَ ضَعْفِهِ يُعْمَلُ بِالْعُمُومِ، وَقَدْ يُقَالُ الْمَقَامُ مَقَامُ اسْتِحْبَابٍ وَكَرَاهَةٍ، وَالْخَبَرُ الضَّعِيفُ يُعْمَلُ بِهِ فِي ذَلِكَ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهُوَ شَيْءٌ يُسْتَأْنَسُ بِهِ فِي مِثْلِ هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى هَنَّادُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّسَفِيُّ وَهُوَ رِوَايَةٌ لِلْمَوْضُوعَاتِ الْوَاهِيَاتِ مَعَ أَنَّ الْإِسْنَادَ لَا يُحْتَجُّ بِمِثْلِهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ التَّمْرَ بِيَمِينِهِ وَبَعْضَ الْبِطِّيخِ بِشِمَالِهِ» .

وَيُكْرَهُ غَسْلُ يَدَيْهِ بِمَطْعُومٍ غَيْرِ نُخَالَةٍ مَحْضَةٍ نَصَّ عَلَيْهِ وَقِيلَ وَمِلْحٍ، كَذَا فِي الرِّعَايَةِ وَجَزَمَ بِهِ صَاحِبُ النَّظْمِ وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ يُكْرَهُ غَسْلُ الْيَدِ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَطْعُومِ وَلَا بَأْسَ بِالنُّخَالَةِ. قَالَ فِي الْمُغْنِي وَاسْتَدَلَّ الْخَطَّابِيُّ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ الْمِلْحِ، وَالْمِلْحُ طَعَامٌ فَفِي مَعْنَاهُ مَا أَشْبَهَهُ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَهَذَا مِنْ أَبِي مُحَمَّدٍ يَقْتَضِي جَوَازَ غَسْلِهَا بِالْمَطْعُومِ، وَهَذَا خِلَافُ الْمَشْهُورِ. وَيَأْتِي كَلَامُهُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ فُصُولٍ: وَعَنْ عِكْرَاشِ بْنِ ذُؤَيْبٍ التَّمِيمِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَخَذَ بِيَدِهِ فَانْطَلَقَ بِهِ إلَى مَنْزِلِ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَقَالَ: هَلْ مِنْ طَعَامٍ فَأُتِينَا بِجَفْنَةٍ كَثِيرَةِ الثَّرِيدِ، وَالْوَدَكِ فَأَقْبَلْنَا نَأْكُلُ مِنْهَا فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَجَعَلْت أَخْبِطُ فِي نَوَاحِيهَا فَقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ الْيُسْرَى عَلَى يَدِي الْيُمْنَى، ثُمَّ قَالَ يَا عِكْرَاشُ كُلْ مِنْ مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ طَعَامٌ وَاحِدٌ، ثُمَّ أُتِينَا بِطَبَقٍ فِيهِ أَلْوَانُ رُطَبٌ أَوْ تَمْرٌ شَكَّ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عِكْرَاشٍ فَجَعَلْت آكُلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَجَالَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الطَّبَقِ، ثُمَّ قَالَ يَا عِكْرَاشُ كُلْ مِنْ حَيْثُ شِئْت فَإِنَّهُ مِنْ غَيْرِ لَوْنٍ وَاحِدٍ. ثُمَّ أُتِينَا بِمَاءٍ فَغَسَلَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَيْهِ، ثُمَّ مَسَحَ بِبَلَلِ كَفَّيْهِ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ، ثُمَّ قَالَ يَا عِكْرَاشُ هَكَذَا الْوُضُوءُ مِمَّا غَيَّرَتْ النَّارُ» رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ فِي الْغَيْلَانِيَّاتِ ثَنَا إسْمَاعِيلُ الْقَاضِي ثَنَا أَبُو الْهُذَيْلِ الْعَلَاءُ بْنُ الْفَضْلِ الْمُنْقِرِيُّ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِكْرَاشٍ حَدَّثَنِي أَبِي فَذَكَرَهُ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الْعَلَاءِ وَكَذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ الْعَلَاءِ وَقَدْ تَفَرَّدَ الْعَلَاءُ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حِبَّانَ يَنْفَرِدُ بِأَشْيَاءَ مَنَاكِيرَ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ فِي عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عِكْرَاشٍ شَيْخٌ مَجْهُولٌ وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: لَا يَثْبُتُ. وَالْقَوْلُ بِحُكْمِ هَذَا الْحَدِيثِ قَدْ سَبَقَ كَلَامُ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَلَمْ يَذْكُرْهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَظَاهِرُهُ الْأَكْلُ مِمَّا يَلِيهِ وَاخْتَارَهُ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَوِيُّ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ «يَا غُلَامُ سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِك وَكُلْ مِمَّا

يَلِيَك» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَحَدِيثُ عِكْرَاشٍ قَدْ يُعَضِّدُهُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جَعَلَ يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ تَتَبَّعَهُ مِنْ حَوَالَيْ جَانِبِهِ أَوْ أَنَّ الْعِلَّةَ اسْتِقْذَارُ جَلِيسِهِ ذَلِكَ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا يَتَبَرَّكُونَ بِآثَارِهِ وَلَمْ يُفَرِّقْ أَصْحَابُنَا بَيْنَ كَوْنِهِ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ، وَسَيَأْتِي كَلَامُ ابْنِ حَامِدٍ فِي مُبَاسَطَةِ الْإِخْوَانِ عَلَى الطَّعَامِ.

فصل في الأكل من بيوت الأقربين والأصدقاء بالإذن ولو عرفا

[فَصْلٌ فِي الْأَكْلِ مِنْ بُيُوتِ الْأَقْرَبِينَ وَالْأَصْدِقَاءِ بِالْإِذْنِ وَلَوْ عُرْفًا] يُبَاحُ الْأَكْلُ مِنْ بَيْتِ الْقَرِيبِ وَالصَّدِيقِ مِنْ مَالٍ غَيْرِ مُحْرَزٍ عَنْهُ إذَا عَلِمَ أَوْ ظَنَّ رِضَا صَاحِبِهِ بِذَلِكَ نَظَرًا إلَى الْعَادَةِ، وَالْعُرْفِ هَذَا هُوَ الْمُتَوَجِّهُ وَمَا يُذْكَرُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ الِاسْتِئْذَانِ فَمَحْمُولٌ عَلَى الشَّكِّ فِي رِضَا صَاحِبِهِ أَوْ عَلَى الْوَرَعِ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَبَاحَ الْأَكْلَ مِنْ بُيُوتِ الْقَرَابَاتِ الْمَذْكُورِينَ لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِبَذْلِ طَعَامِهِمْ لَهُمْ فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ وَرَاءَ حِرْزٍ لَمْ يَجُزْ هَتْكُ ذَلِكَ الْحِرْزَ. قَالَ وَكَانَ الْحَسَنُ وَقَتَادَة يَرَيَانِ الْأَكْلَ مِنْ طَعَامِ الصَّدِيقِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ جَائِزًا وَقَالَ الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ فَرْعٌ فِي مَنْعِ الْأَكْلِ مِنْ مَنْزِلِ الْأَهْلِ، وَالْأَصْدِقَاءِ بِغَيْرِ إذْنٍ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61] إلَى قَوْلِهِ: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61] . فَقَالَ إذَا أُذِنَ لَك فَلَا بَأْسَ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَأْكُلُوا فَرَخَّصَ لَهُمْ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ النَّضْرِ سُئِلَ أَحْمَدُ أَيَأْكُلُ الرَّجُلُ مِنْ بُيُوتِ أَهْلِهِ بَيْتِ عَمِّهِ أَوْ خَالِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ قَالَ لَا يَأْكُلُ إلَّا بِإِذْنِهِمْ.

فصل في كراهة القران بين التمرتين ونحوه مع شريك أو مطلقا

[فَصْلٌ فِي كَرَاهَةِ الْقِرَانِ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ وَنَحْوِهِ مَعَ شَرِيكٍ أَوْ مُطْلَقًا] وَيُكْرَهُ الْقِرَانُ فِي التَّمْرِ وَقِيلَ مَعَ الشُّرَكَاءِ فِيهِ لَا وَحْدَهُ وَلَا مَعَ أَهْلِهِ وَلَا مَعَ مَنْ أَطْعَمَهُمْ ذَلِكَ، كَذَا ذَكَرَهُ فِي الرِّعَايَةِ، وَالْمُسْتَوْعِبِ وَزَادَ وَتَرْكُهُ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ أَوْلَى وَأَفْضَلُ وَأَحْسَنُ، وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِهِ فِي التَّرْغِيبِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ وَعَنْ غَيْرِهِمْ أَنَّهُ لِلْكَرَاهَةِ، وَالْأَدَبِ. وَذَكَرَ النَّوَاوِيُّ أَنَّ الصَّوَابَ التَّفْصِيلُ، فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمْ فَالْقِرَانُ حَرَامٌ إلَّا بِرِضَاهُمْ بِقَوْلٍ أَوْ قَرِينَةٍ يَحْصُلُ بِهَا عِلْمٌ أَوْ ظَنٌّ، وَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ لِغَيْرِهِمْ أَوْ لِأَحَدِهِمْ اُشْتُرِطَ رِضَاهُ وَحْدَهُ فَإِنْ قَرَنَ بِغَيْرِ رِضَاهُ فَحَرَامٌ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَأْذِنَ الْآكِلِينَ مَعَهُ وَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ لِنَفْسِهِ وَقَدْ ضَيَّفَهُمْ بِهِ فَحَسَنٌ أَلَّا يَقْرِنَ لِيُسَاوِيَهُمْ إنْ كَانَ الطَّعَامُ فِيهِ قِلَّةٌ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا بِحَيْثُ يَفْضُلُ عَنْهُمْ فَلَا بَأْسَ لَكِنَّ الْإِذْنَ مُطْلَقًا لِلتَّأَدُّبِ وَتَرْكِ الشَّرَهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْجِلًا وَيُرِيدُ الْإِسْرَاعَ لِشُغْلٍ آخَرَ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ إنَّمَا كَانَ هَذَا فِي زَمَنِهِمْ حِينَ كَانَ الطَّعَامُ ضَيِّقًا فَأَمَّا الْيَوْمَ مَعَ اتِّسَاعِ الْحَالِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِذْنِ، وَفِيمَا ذَكَرَهُ نَظَرٌ، وَالْقِرَانُ فِي غَيْرِ التَّمْرِ مِثْلُهُ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُقْصَدُ وَلَا تَظْهَرُ فَائِدَتُهُ إلَّا فِي الْفَوَاكِهِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَعَلَى قِيَاسِهِ قِرَانُ كُلِّ مَا الْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِتَنَاوُلِهِ إفْرَادًا. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ الْحَنْبَلِيُّ الْمَقْدِسِيُّ فِي كِتَابِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فِي مَسْأَلَةِ الْأَمْرِ هَلْ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ؟ فَإِنْ قِيلَ النَّهْيُ يَقْتَضِي الْكَرَاهَةَ فَالْجَوَابُ إنَّا لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور: 22] الْآيَةَ. وَنَهَى عَنْ الْقِرَانِ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ، وَالتَّعْرِيسِ عَلَى الطُّرُقَاتِ وَذَلِكَ كُلُّهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْوَاضِحِ فِي أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَقْتَضِي حُسْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ

وَلَا النَّهْيَ قُبْحَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ عَقْلًا عِنْدنَا وَعِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ خِلَافًا لِلْقَدَرِيَّةِ، نَهَى الشَّرْعُ عَنْ أَشْيَاءَ، وَالْأَوْلَى تَرْكُهَا لَا لِقُبْحِهَا كَالنَّهْيِ عَنْ الْقِرَانِ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ وَكَنْسِ الْبَيْتِ بِالْخِرْقَةِ، وَالْجُلُوسِ فِي ظِلِّ الْمَنَارَةِ، وَالشُّرْبِ مِنْ ثُلْمَةِ الْإِنَاءِ، وَالْأَكْلِ فِي الْمِنْجَلِ أَوْ الْمُنْخُلِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. كَذَا قَالَ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْقِرَانِ إلَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ أَخَاهُ» قَالَ شُعْبَةُ الْإِذْنُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ وَفِي لَفْظٍ فِيهِمَا «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقْرِنَ الرَّجُلُ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ أَصْحَابَهُ» .

فصل في آداب الآكل والشرب

[فَصْلٌ فِي آدَابِ الْآكِل وَالشُّرْبِ] يُسَنُّ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَجْلِسَ لِلْأَكْلِ عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى وَيَنْصِبَ الْيُمْنَى أَوْ يَتَرَبَّعَ ذَكَرَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَذَكَرَ ابْنُ الْبَنَّا عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ مِنْ آدَابِ، الْأَكْلِ أَنْ يَجْلِسَ مُفْتَرِشًا وَإِنْ تَرَبَّعَ فَلَا بَأْسَ وَسَبَقَ قَبْلَ فُصُولِ آدَابِ، الْأَكْلِ بِفَصْلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فِي كَرَاهَةِ الشُّرْبِ قَائِمًا رِوَايَتَانِ قَطَعَ ابْنُ أَبِي مُوسَى بِالْكَرَاهَةِ، وَالْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ بِعَدَمِهَا. وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَجَرَ وَفِي لَفْظٍ نَهَى عَنْ الشُّرْبِ قَائِمًا» . وَرَوَى أَيْضًا اللَّفْظَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَأَنَّ قَتَادَةَ قَالَ قُلْت لِأَنَسٍ فَالْأَكْلُ قَالَ: ذَاكَ أَشَرُّ وَأَخْبَثُ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «فَإِذَا نَسِيَ فَلْيَسْتَقِ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرِبَ مِنْ زَمْزَمَ مِنْ دَلْوٍ مِنْهَا وَهُوَ قَائِمٌ» . وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أُتِيَ بِمَاءٍ فَشَرِبَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، ثُمَّ قَامَ فَشَرِبَ فَضْلَهُ وَهُوَ قَائِمٌ، ثُمَّ قَالَ: إنَّ نَاسًا يَكْرَهُونَ الشُّرْبَ قَائِمًا وَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْت» . وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْرَبُ قَائِمًا وَقَاعِدًا» ، إسْنَادُهُ جَيِّدٌ إلَى عَمْرٍو وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَيَتَوَجَّهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شَرِبَ قَائِمًا لِيُبَيِّنَ الْجَوَازَ وَإِنَّهُ لَا يَحْرُمُ، وَالنَّهْيِ لِلْكَرَاهَةِ أَوْ لِتَرْكِ الْأَوْلَى قَالَ ابْنُ عُمَرَ «كُنَّا نَأْكُلُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ نَمْشِي وَنَشْرَبُ وَنَحْنُ قِيَامٌ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَلِأَحْمَدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي زِيَادٍ الطَّحَّانِ سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَشْرَبُ قَائِمًا فَقَالَ لَهُ: قِهْ قَالَ: وَلِمَهْ قَالَ: أَيَسُرُّك أَنْ يَشْرَبَ مَعَك الْهِرُّ؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ شَرِبَ مَعَك مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ يَعْنِي الشَّيْطَانَ» أَبُو زِيَادٍ قِيلَ لَا يُعْرَفُ وَقِيلَ شُيُوخُ شُعْبَةَ جِيَادٌ. فَأَمَّا الْأَكْلُ قَائِمًا فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَالشُّرْبِ لِقَوْلِ أَنَسٍ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِتَخْصِيصِ الشَّارِعِ النَّهْيَ بِالشُّرْبِ لِسُرْعَةِ نُفُوذِهِ إلَى أَسَافِلِ الْبَدَنِ بِلَا تَدْرِيجٍ وَإِلَى الْمَعِدَةِ فَيُبَرِّدُهَا وَعَدَمِ اسْتِقْرَارِهِ فِيهَا حَتَّى يَقْسِمَهُ

الْكَبِدُ عَلَى الْأَعْضَاءِ بِخِلَافِ الْأَكْلِ فِي ذَلِكَ وَلِهَذَا أَمَرَ الشَّارِعُ بِالْقَيْءِ وَلَمْ أَجِدْ مَنْ قَالَ يُؤْمَرُ مَنْ أَكَلَ قَائِمًا بِالْقَيْءِ وَلَا مَعْنَى لِلْقَوْلِ بِهِ بِخِلَافِ الشُّرْبِ قَائِمًا فَدَلَّ عَلَى الْفَرْقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ اتَّفَقُوا عَلَى إبَاحَةِ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ فِي غَيْرِ حَالِ الْقِيَامِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ قَائِمًا فَمِنْ مَانِعٍ وَمُبِيحٍ. وَيُسَنُّ أَنْ يَأْكُلَ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ وَيُكْرَهُ أَنْ يَأْكُلَ بِإِصْبَعٍ؛ لِأَنَّهُ مَقْتٌ وَبِإِصْبَعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ كِبْرٌ وَبِأَرْبَعٍ وَخَمْسٍ، لِأَنَّهُ شَرَهٌ وَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْبَنَّا عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَلِأَنَّ بِأُصْبُعَيْنِ يَطُولُ حَتَّى يَشْبَعَ وَلَا تَفْرَحُ الْمَعِدَةُ وَلَا الْأَعْضَاءُ بِذَلِكَ لِقِلَّتِهِ كَمَنْ يَأْخُذُ حَقَّهُ قَلِيلًا قَلِيلًا فَلَا يَسْتَلِذُّ بِهِ وَلَا يُمْرِئُهُ، وَبِأَرْبَعِ أَصَابِعَ قَدْ يَغَصُّ بِهِ لِكَثْرَتِهِ وَلَعَلَّ الْمُرَادَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا لَا يُتَنَاوَلُ عَادَةً وَعُرْفًا بِإِصْبَعٍ أَوْ إصْبَعَيْنِ فَإِنَّ الْعُرْفَ يَقْتَضِيهِ وَدَلِيلُ الْكَرَاهَةِ مُنْتَفٍ عَنْهُ. وَيُسَنُّ أَنْ يَلْعَقَ أَصَابِعَهُ قَبْلَ غَسْلِهَا أَوْ مَسْحِهَا قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ فَإِذَا فَرَغَ لَعِقَهَا» وَعَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا أَكَلَ طَعَامًا لَعِقَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ» وَعَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا «إذَا وَقَعْت لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَأْخُذْهَا وَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ وَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ بِالْمِنْدِيلِ حَتَّى يَلْعَقَ أَصَابِعَهُ أَوْ يُلْعِقَهَا فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ» . وَعَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِلَعْقِ الْأَصَابِعِ، وَالصَّحْفَةِ وَقَالَ: إنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ فِي أَيِّهِ الْبَرَكَةُ» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا مَعْنَى الْحَدِيثِ الْآخَرِ وَعَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا «إنَّ الشَّيْطَانَ يَحْضُرُ أَحَدَكُمْ عِنْدَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِ حَتَّى يَحْضُرَهُ عِنْدَ طَعَامِهِ فَإِذَا سَقَطَتْ مِنْ أَحَدِكُمْ اللُّقْمَةُ فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى، ثُمَّ لِيَأْكُلهَا وَلَا يَدَعُهَا لِلشَّيْطَانِ فَإِذَا فَرَغَ فَلْيَلْعَقْ أَصَابِعَهُ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ» . رَوَى ذَلِكَ مُسْلِمٌ وَالْمِنْدِيلُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ النَّدْلِ وَهُوَ النَّقْلُ وَقِيلَ الْوَسَخُ؛ لِأَنَّهُ يُنْدَلُ بِهِ، يُقَالُ تَنَدَّلْت بِالْمِنْدِيلِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَيُقَالُ أَيْضًا تَمَنْدَلْتُ وَأَنْكَرَهَا الْكِسَائِيُّ، وَيُرْوَى فِي خَبَرٍ ضَعِيفٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «الْأَكْلُ بِإِصْبَعٍ وَاحِدٍ

أَكْلُ الشَّيْطَانِ وَبِاثْنَتَيْنِ أَكْلُ الْجَبَابِرَةِ وَبِثَلَاثٍ أَكْلُ الْأَنْبِيَاءِ» . وَذُكِرَ لِأَحْمَدَ الْحَدِيثُ الَّذِي يَرْوِي «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكَلَ بِكَفِّهِ كُلِّهَا» فَلَمْ يُصَحِّحْهُ وَلَمْ يَرَ إلَّا بِثَلَاثِ أَصَابِعَ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَيُسِنُّ أَنْ يُصَغِّرَ اللُّقَمَ وَيُجِيدُ الْمَضْغَ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ إطَالَةِ الْأَكْلِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَمْ أَجِدْهَا مَأْثُورَةً وَلَا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ لَكِنْ فِيهَا مُنَاسَبَةٌ. وَقَالَ أَيْضًا: هُوَ نَظِيرُ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ اسْتِحْبَابِ تَصْغِيرِ الْأَرْغِفَةِ وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا اسْتِحْبَابَ تَصْغِيرِ الْكِسَرِ كَذَلِكَ عِنْدَ الْخُبْزِ وَعِنْدَ الْوَضْعِ وَعِنْدَ الْأَكْلِ وَيُطِيلُ الْمَضْغَ وَلَا يَأْكُلُ لُقْمَةً حَتَّى يَبْلَعَ مَا قَبْلَهَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَلَا يَمُدُّ يَدَهُ الْأُخْرَى حَتَّى يَبْلُغَ الْأُولَى كَذَا فِي التَّرْغِيبِ وَغَيْرِهِ. وَيَنْوِي بِأَكْلِهِ وَشُرْبِهِ التَّقَوِّيَ عَلَى التَّقْوَى وَطَاعَةِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَيَبْدَأُ بِهِمَا الْأَكْبَرُ، وَالْأَعْلَمُ وَقَالَ حُذَيْفَةُ كُنَّا إذَا حَضَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَعَامًا لَمْ نَضَعْ أَيْدِيَنَا حَتَّى يَبْدَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَضَعَ يَدَهُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَذَكَرَ صَاحِبُ النَّظْمِ: وَيُكْرَهُ سَبْقُ الْقَوْمِ لِلْأَكْلِ نَهُمَةً ... وَلَكِنَّ رَبَّ الْبَيْتِ إنْ شَاءَ يَبْتَدِي.

فصل في التسمية في ابتداء الأكل والشرب والحمد بعدهما وآداب أخرى

[فَصْلٌ فِي التَّسْمِيَةِ فِي ابْتِدَاءِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْحَمْدِ بَعْدَهُمَا وَآدَابٌ أُخْرَى] وَيُسَمِّي فِي أَوَّلِهَا وَهِيَ بَرَكَةُ الطَّعَامِ يَكْفِي الْقَلِيلُ بِهَا وَبِدُونِهَا لَا يَكْفِي كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الْآتِيَةُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا فَقَرَّبَ طَعَامًا فَلَمْ أَرَ طَعَامًا كَانَ أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْهُ أَوَّلَ مَا أَكَلْنَا وَلَا أَقَلَّ بَرَكَةً فِي أَخِرِهِ فَقُلْنَا كَيْفَ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ:؛ لِأَنَّا ذَكَرْنَا اسْمَ اللَّهِ حِينَ أَكَلْنَا، ثُمَّ قَعَدَ بَعْدُ مَنْ أَكَلَ وَلَمْ يُسَمِّ فَأَكَلَهُ مَعَهُ الشَّيْطَانُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَيَحْمَدُ اللَّهَ إذَا فَرَغَ وَيَقُولُ مَا وَرَدَ، وَيُسَنُّ مَسْحُ الصَّحْفَةِ، وَالْأَكْلُ عِنْدَ حُضُورِ رَبِّ الطَّعَامِ وَإِذْنِهِ وَأَكْلُ مَا تَنَاثَرَ، وَقِيلَ يَحْمَدُ الشَّارِبُ كُلَّ مَرَّةٍ؛ لِأَنَّهُ يَحْمَدُهُ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ، وَالتَّسْمِيَةُ تُرَادُ لِعَدَمِ مُشَارَكَةِ الشَّيْطَانِ وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِالتَّسْمِيَةِ أَوَّلًا وَذَكَرَ السَّامِرِيُّ أَنَّ الشَّارِبَ يُسَمِّي اللَّهَ عِنْدَ كُلِّ ابْتِدَاءٍ وَيَحْمَدُهُ عِنْدَ كُلِّ قَطْعٍ؛ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ فِعْلٍ كَالْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ آكَدُّ وَإِنَّمَا خَصَّ هَؤُلَاءِ الشَّارِبَ إمَّا لِقِلَّتِهِ فَلَا يَشُقُّ التَّكْرَارُ، وَإِمَّا؛ لِأَنَّ كُلَّ مَرَّةٍ مَأْمُورٌ بِهَا وَاسْتُحِبَّ فِيهَا مَا اُسْتُحِبَّ فِي الْأُولَى بِخِلَافِ الْأَكْلِ فَإِنَّهُ يَطُولُ فَيَشُقُّ التَّكْرَارُ، وَالْقَطْعُ فِيهِ أَمْرٌ عَادِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ يُقَالُ مِثْلُهُ فِي أَكْلِ كُلِّ لُقْمَةٍ وَهُوَ ظَاهِرُ مَا رُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ تَعَشَّيْت مَرَّةً أَنَا وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَقَرَابَةٌ لَهُ فَجَعَلْنَا لَا نَتَكَلَّمُ وَهُوَ يَأْكُلُ وَيَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَبِسْمِ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ أَكْلٌ وَحَمْدٌ خَيْرٌ مِنْ أَكْلٍ وَصَمْتٍ وَلَمْ أَجِدْ عَنْ أَحْمَدَ خِلَافَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ صَرِيحًا وَلَمْ أَجِدْهَا فِي كَلَامِ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ،، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اتَّبَعَ الْأَثَرَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ مِنْ طَرِيقَتِهِ وَعَادَتِهِ تَحَرِّيَ الِاتِّبَاعِ. وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ لِبَعْضِ قَوْمٍ أَكَلُوا مَعَهُ

يَا بَنِيَّ لَا تَدَعُوا أَنْ تَأْدِمُوا أَوَّلَ طَعَامِكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَكْلٌ وَحَمْدٌ خَيْرٌ مِنْ أَكْلٍ وَصَمْتٍ، وَكَذَا قَالَ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ التَّابِعِيُّ الثِّقَةُ الْفَقِيهُ الصَّالِحُ أَكْلٌ وَحَمْدٌ خَيْرٌ مِنْ أَكْلٍ وَصَمْتٍ، وَوَجْهُ الْأَوَّلِ ظَاهِرُ الْأَخْبَارِ فَإِنَّهُ اقْتَصَرَ فِيهَا عَلَى التَّسْمِيَةِ أَوَّلًا، وَالْحَمْدُ آخِرًا، وَلَوْ كَانَ مُسْتَحَبًّا لَنُقِلَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلًا أَوْ فِعْلًا وَلَوْ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ، بَلْ ظَاهِرُ مَا نُقِلَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ وَهُوَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْغَايَةُ فِي فِعْلِ الْفَضَائِلِ، وَكَذَلِكَ الْمَعْرُوفُ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ حَالِ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَفِي كَلَامِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ مِنْ الْقُرَّاءِ مَنْ يَفْصِلُ بِالْبَسْمَلَةِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَفْصِلُ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ كَلَامُ اللَّهِ فَلَا يَفْصِلُونَ بِهَا بَيْنَ السُّورَتَيْنِ كَمَنْ سَمَّى إذَا أَكَلَ أَنْوَاعًا مِنْ الطَّعَامِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّي فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ وَهُوَ حَسَنٌ لِمُتَابَعَتِهِ لِخَطِّ الْمُصْحَفِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ رَفْعِ الطَّعَامِ وَوَضْعِ طَعَامٍ فَالتَّسْمِيَةُ عِنْدَهُ أَفْضَلُ انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَلَا يَشْرَبُ الْمَاءَ فِي أَثْنَاءِ الطَّعَامِ فَإِنَّهُ أَجْوَدُ فِي الطِّبِّ وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ إلَّا أَنْ يَكُونَ، ثَمَّ عَادَةٌ كَمَا سَبَقَ، وَلَا يَعُبُّ الْمَاءَ عَبًّا، وَيَأْخُذُ إنَاءَ الْمَاءِ بِيَمِينِهِ وَيُسَمِّي وَيَنْظُرُ فِيهِ، ثُمَّ يَشْرَبُ مِنْهُ مَصًّا، لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: «إذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَمُصَّ الْمَاءَ مَصًّا وَلَا يَعُبُّهُ عَبًّا فَإِنَّ مِنْهُ الْكُبَادَ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ، وَالْكُبَادُ بِضَمِّ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ الْبَاءِ أَيْ وَجَعُ الْكَبِدِ وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالتَّجْرِبَةِ، وَيَشْرَبُ مُقَطِّعًا ثَلَاثًا، وَيَتَنَفَّسُ دُونَ الْإِنَاءِ ثَلَاثًا فَإِنَّهُ أَرْوَى وَأَمْرَى وَأَبْرَى رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَلَا يَتَنَفَّسُ فِيهِ كَمَا سَبَقَ. قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ، وَالنَّفْخُ فِي الطَّعَامِ، وَالشَّرَابِ، وَالْكِتَابِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَسَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ وَتَأْتِي أَيْضًا، وَقِيلَ تَجِبُ التَّسْمِيَةُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا، وَذَكَرَ وُجُوبَهَا ابْنُ أَبِي مُوسَى، وَحَكَى ابْنُ الْبَنَّا عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ قَالَ فِي الْأَكْلِ أَرْبَعَةٌ: فَرِيضَةُ أَكْلِ الْحَلَالِ، وَالرِّضَا بِمَا قَسَمَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَالتَّسْمِيَةُ عَلَى الطَّعَامِ، وَالشُّكْرُ لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ، وَيَأْتِي فِي الشُّكْرِ كَلَامٌ فِي فَصْلِ هَلْ يُسْتَحَبُّ تَقْبِيلُ

الْخُبْزِ وَفِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ أَوْ بِقُرْبِهِ قَالَ ابْنُ الْبَنَّا وَتَحْقِيقُ الْفِقْهِ أَنَّ التَّسْمِيَةَ عَلَى الْأَكْلِ، وَالْحَمْدَ كِلَيْهِمَا مَسْنُونٌ. وَذَكَرَ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ التَّسْمِيَةَ هُنَا مُجْمَعٌ عَلَى اسْتِحْبَابِهَا وَظَاهِرُ مَا ذَكَرُوهُ لَا يُسَمِّي غَيْرُ الشَّارِبِ، وَالْآكِلِ عَنْهُ، وَسَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي مَسْأَلَةِ هَلْ يَحْمَدُ اللَّهَ أَحَدٌ عَنْ الْعَاطِسِ؟ ، ثُمَّ يَتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ إنْ شَرَعَ الْحَمْدَ عَنْ تَسْمِيَةِ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ وَلَا تَمْيِيزَ فَفَعَلَ عَنْهُ كَانَ كَتَسْمِيَةِ نَفْسِهِ فِي امْتِنَاعِ الشَّيْطَانِ مِنْ الطَّعَامِ وَعَدَمِ اسْتِحْلَالِهِ إيَّاهُ لِوُجُودِ التَّسْمِيَةِ مِمَّنْ يَشْرَعُ الْحَمْدَ عَنْهُ فَعَلْت أَمْ لَا وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ اسْتَحَلَّهُ لِتَرْكِ التَّسْمِيَةِ مِمَّنْ تَشْرَعُ مِنْهُ كَتَرْكِ الْعَاقِلِ لَهَا وَإِنْ لَمْ يَشْرَعْ الْحَمْدَ عَنْهُ فَفَعَلْتَ أَمْ لَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ، لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ الشَّرْعِيَّةَ لَمْ تُتْرَكْ وَهُوَ مَحَلُّ ضَرُورَةٍ فَعُفِيَ عَنْهُ كَفِعْلِ الْبَهِيمَةِ. فَأَمَّا الْمُمَيِّزُ الْعَاقِلُ فَإِنَّهُ يُسَمِّي وَيَمْتَنِعُ الشَّيْطَانُ بِهَا مِنْهُ مِنْ الطَّعَامِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ اسْتَحَلَّهُ الشَّيْطَانُ، وَإِنْ أَتَى بِهَا فِي أَثْنَائِهِ قَاءَ الشَّيْطَانُ كُلَّ شَيْءٍ أَكَلَهُ فَيَقُولُ " بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ " لِلْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ فِي ذَلِكَ كَخَبَرِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَقِصَّةُ الْجَارِيَةِ الَّتِي جَاءَ الشَّيْطَانُ يَسْتَحِلُّ بِهَا رَوَاهَا أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ، وَخَبَرُ أُمَيَّةَ بْنِ مَخْشِيِّ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَبِالْخَاءِ، وَالشِّينِ الْمُعْجَمَتَيْنِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. وَفِي ذَلِكَ أَنَّ الْآكِلَ يُعَلَّمُ آدَابَ الْأَكْلِ إذَا خَالَفَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ الْعَاقِلُ سَبْعَ سِنِينَ فَيَتَوَجَّهُ إنْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَبَيْعُهُ صَحَّتْ مِنْهُ وَاعْتُبِرَتْ وَإِلَّا فَلَا. وَقَدْ تَكَلَّمَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فِي مَوْضِعِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْهَرَ بِهَا لِيُنَبِّهَ غَيْرَهُ عَلَيْهَا وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْأَصْحَابُ وَلَهُ مُنَاسَبَةٌ. وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ إذَا سَمَّى وَاحِدٌ مِنْ الْجَمَاعَةِ حَصَلَ أَصْلُ السُّنَّةِ وَلَا يَشْرَبُ مِنْ فِي سِقَاءٍ وَلَا فِي ثُلْمَةِ إنَاءٍ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ اخْتِنَاثِ الْأَسْقِيَةِ أَنْ يُشْرَبَ مِنْ أَفْوَاهِهَا» . وَفِي رِوَايَةٍ «وَاخْتِنَاثُهَا أَنْ يَقْلِبَ رَأْسَهَا، ثُمَّ يَشْرَبَ مِنْهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى أَنْ يُشْرَبَ مِنْ فِي السِّقَاءِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَحْمَدُ وَزَادَ قَالَ أَبُو أَيُّوبَ فَأُنْبِئْتُ أَنَّ رَجُلًا

شَرِبَ مِنْ فِي السِّقَاءِ فَخَرَجَتْ حَيَّةٌ فَهَذِهِ عِلَّةُ النَّهْي أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ شَيْءٌ وَلِأَنَّهُ يُقَذِّرُهُ عَلَى غَيْرِهِ وَلِأَنَّهُ يُنْتِنُهُ بِتَرَدُّدِ أَنْفَاسِهِ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا غَلَبَهُ الْمَاءُ فَتَضَرَّرَ بِهِ، وَهَذَا نَهْيُ تَنْزِيهٍ لَا تَحْرِيمٍ اتِّفَاقًا، ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ، وَيَتَوَجَّهُ فِي كَرَاهَتِهِ مَا سَبَقَ أَوَّلَ الْفَصْلِ فِي الشُّرْبِ قَائِمًا. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي عُمَرَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ جَدَّتِهِ كَبْشَةَ قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَشَرِبَ مِنْ قِرْبَةٍ مُعَلَّقَةٍ قَائِمًا فَقُمْت إلَيْهَا فَقَطَعْتُهُ» وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وَرَوَاهُ سَعِيدٌ وَابْنُ مَاجَهْ وَلِأَحْمَدَ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ زَيْدِ ابْنِ بِنْتِ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أُمِّهِ أُمِّ سُلَيْمٍ الْبَرَاءُ انْفَرَدَ عَنْهُ عَبْدُ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيُّ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد ثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ عِيسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «دَعَا بِإِدَاوَةٍ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ اخْنَثَ فَمَ الْإِدَاوَةِ، ثُمَّ شَرِبَ مِنْ فِيهَا» حَدِيثٌ حَسَنٌ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَقَالَ لَيْسَ إسْنَادُهُ بِصَحِيحٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يُضَعَّفُ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ، وَلَا أَدْرِي سَمِعَ مِنْ عِيسَى أَمْ لَا. وَأَمَّا الشُّرْبُ مِنْ ثُلْمَةِ الْإِنَاءِ فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الشُّرْبِ مِنْ ثُلْمَةِ الْقَدَحِ وَأَنْ يُنْفَخَ فِي الشَّرَابِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ قُرَّةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ الزُّهْرِيِّ ضَعَّفَهُ الْأَكْثَرُ. وَقَالَ أَحْمَدُ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ جِدًّا فَيَتَوَجَّهُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ عِنْدَهُ وَتَرْكُهُ أَوْلَى وَحِكْمَتُهُ أَنْ لَا يَتَمَكَّنَ مِنْ حُسْنِ الشُّرْبِ وَهِيَ مَحَلُّ الْوَسَخِ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ غَسْلِهَا تَامًّا وَخُرُوجُ الْقَذَى وَنَحْوُهُ

وَرُبَّمَا انْجَرَحَ بِحَدِّهَا، وَيُقَالُ إنَّ الرَّدِيءَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ لَا خَيْرَ فِيهِ، يُرْوَى أَنَّ بَعْضَهُمْ رَأَى مَنْ يَشْتَرِي حَاجَةً رَدِيئَةً فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ أَمَا عَلِمْت أَنَّ اللَّهَ نَزَعَ الْبَرَكَةَ مِنْ كُلِّ رَدِيءٍ. قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَلَا يَشْرَبُ مُحَاذِيًا لِلْعُرْوَةِ وَيَشْرَبُ مِمَّا يَلِهَا، وَظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِهِ أَنَّ هَذَا وَغَيْرَهُ سَوَاءٌ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ الْجَوْزِيُّ وَصَاحِبُ الرِّعَايَةِ وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ ذَكَرَ آدَابَ ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} [الزخرف: 71] . وَاحِدُهَا كُوبٌ وَهُوَ إنَاءٌ مُسْتَدِيرٌ لَا عُرْوَةَ لَهُ وَلَا أُذُنَ لَهُ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيُّ قَالَ شَيْخُنَا أَبُو مَنْصُورٍ اللُّغَوِيُّ وَإِنَّمَا كَانَتْ بِغَيْرِ عُرًى لِيَشْرَبَ الشَّارِبُ مِنْ أَيْنَ شَاءَ، لِأَنَّ الْعُرْوَةَ تَرُدُّ الشَّارِبَ عَنْ بَعْضِ الْجِهَاتِ انْتَهَى كَلَامُهُ وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا اتَّصَلَتْ الْعُرْوَةُ بِرَأْسِ الْإِنَاءِ، فَحِينَئِذٍ تَرُدُّ الْعُرْوَةُ الشَّارِبَ مُطْلَقًا أَوْ بَعْضَ الشَّيْءِ فَيَمْتَنِعُ الشُّرْبُ مُطْلَقًا أَوْ يَحْصُلُ قَلِيلًا فَيَتَنَغَّصُ الشُّرْبُ وَرُبَّمَا شَرِقَ أَوْ تَبَذَّرَ الْمَاءُ وَرُبَّمَا رَجَعَ إلَى الْإِنَاءِ فَأَمَّا إذَا لَمْ تَتَّصِلْ الْعُرْوَةُ بِالرَّأْسِ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِسَبَبِهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا وَجْهَ لِلْكَرَاهَةِ إذًا وَلِأَنَّهُ مِنْ الْأَدَبِ وَكَلَامُ صَاحِبِ الْمُسْتَوْعِبِ وَإِنْ صَدَقَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ فَإِنَّمَا أَرَادَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا أُشِيرَ إلَيْهِ فِي التَّفْسِيرِ وَلَوْ لَمْ يُرِدْهُ فَحَمْلُ كَلَامِهِ عَلَيْهِ لِمَا سَبَقَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ أَيْضًا عَلَى مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُسَنُّ أَنْ يَغُضَّ طَرْفَهُ عَنْ جَلِيسِهِ وَيُؤْثِرَ عَلَى نَفْسِهِ الْمُحْتَاجَ وَيُخَلِّلَ أَسْنَانَهُ إنْ عَلِقَ بِهَا شَيْءٌ قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ: رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ تَرْكُ الْخِلَالِ يُوهِنُ الْأَسْنَانَ، وَذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ يُكْرَهُ التَّخَلُّلُ عَلَى الطَّعَامِ وَلَا يَتَخَلَّلُ بِقَصَبٍ

وَرُمَّانٍ وَرَيْحَانٍ وَطُرَفَاءَ وَنَحْوِهَا، وَكَذَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ يُخَلَّلُ مَا بَيْنَ الْمَوَاضِعِ بَعْدَ الْأَكْلِ قَالَ صَاحِبُ النَّظْمِ، وَالْقِ ذَلِكَ وَهَذَا لِلْخَبَرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَنْ أَكَلَ فَمَا تَخَلَّلَ فَلْيَلْفِظْ، وَمَنْ لَاكَ بِلِسَانِهِ فَلْيَبْلَعْ مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ وَفِي إسْنَادِهِ حُصَيْنُ بْنُ الْحِمْيَرِيِّ الْحُبْرَانِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخَيْرِ وَيُقَالُ أَبُو سَعْدٍ وَهُمَا مَجْهُولَانِ فَلِهَذَا ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ وَضَعْفُهُ أَوْلَى، وَقِيَاسُ قَوْلِ الْأَصْحَابِ الْعَمَلُ بِهِ فِي الِاسْتِحْبَابِ كَمَا قَالُوا بِمَا فِيهِ مِنْ الْمُسْتَجْمِرِ، وَالْمُكْتَحِلِ، وَلَا يَأْكُلُ مَا يُشْرَبُ عَلَيْهِ الْخَمْرُ، وَلَا مُخْتَلِطًا بِحَرَامٍ بِلَا ضَرُورَةٍ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَمِنْ الْآدَابِ أَنْ لَا يَأْكُلَ إلَّا مُطْمَئِنًّا وَهَذَا خِلَافُ أَشْهَرِ التَّفْسِيرَيْنِ فِيمَا رَوَاهُ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ مُتَّكِئًا» أَيْ لَا آكُلُ أَكْلَ رَاغِبٍ فِي الدُّنْيَا مُتَمَكِّنٍ بَلْ آكُلُ مُسْتَوْفِزًا بِحَسَبِ الْحَاجَةِ وَقَدْ فُسِّرَ ذَلِكَ بِالتَّرَبُّعِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّجَبُّرِ. وَعَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّمَا أَنَا عَبْدٌ أَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ، وَآكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ» وَفُسِّرَ الِاتِّكَاءُ بِالْمَيْلِ عَلَى الْجَنْبِ، وَالِاسْتِنَادِ إلَى شَيْءٍ وَهَذَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ إلَى الْفَهْمِ عُرْفًا وَهُوَ يَضُرُّ مِنْ جِهَةِ الطِّبِّ لِتَغَيُّرِ الْأَعْضَاءِ، وَالْمَعِدَةِ عَنْ الْوَضْعِ الطَّبِيعِيِّ وَلَا يَصِلُ الْغِذَاءُ بِسُهُولَةٍ. وَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ أَكْلُ الرَّجُلِ مُتَّكِئًا يَدُلُّ عَلَى اسْتِخْفَافِهِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ فِيمَا قَدَّمَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ رِزْقِهِ وَفِيمَا يَرَاهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى تَنَاوُلِهِ، وَيُخَالِفُ عَوَائِدَ النَّاسِ عِنْدَ أَكْلِهِمْ الطَّعَامَ مِنْ الْجُلُوسِ إلَى أَنْ يَتَّكِئَ فَإِنَّ هَذَا يَجْمَعُ بَيْنَ سُوءِ الْأَدَبِ، وَالْجَهْلِ وَاحْتِقَارِ النِّعْمَةِ، وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُتَّكِئًا لَا يَصِلُ الْغِذَاءُ إلَى قَعْرِ الْمَعِدَةِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْهَضْمِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَبَّهَ عَلَى كَرَاهَتِهِ.

وَعَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَنَّهُ أَكَلَ مُقْعِيًا تَمْرًا» وَفِي لَفْظٍ «يَأْكُلُ مِنْهُ أَكْلًا ذَرِيعًا» وَفِي لَفْظٍ «حَثِيثًا» رَوَى ذَلِكَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. " مُقْعِيًا " أَيْ جَالِسًا عَلَى أَلْيَتِهِ نَاصِبًا سَاقَيْهِ، " وَذَرِيعًا " " وَحَثِيثًا " أَيْ مُسْتَعْجِلًا لِشُغْلٍ آخَرَ. وَسَبَقَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جَثَا قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ تَكْرَهُ الْأَكْلَ مُتَّكِئًا قَالَ أَلَيْسَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا آكُلُ مُتَّكِئًا؟» قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ. لَا يَأْكُلُ مُتَّكِئًا فَقَدْ نُهِيَ عَنْهُ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ إنَّ مِنْ آدَابِ الْأَكْلِ أَنْ لَا يَأْكُلَ مُتَّكِئًا وَلَا مُنْبَطِحًا وَلَا يَأْكُلُ إلَّا مُطَمْئِنًا. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مَطْعَمَيْنِ عَنْ الْجُلُوسِ عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ وَأَنْ يَأْكُلَ وَهُوَ مُنْبَطِحٌ عَلَى بَطْنِهِ» وَقَالَ لَمْ يَسْمَعْهُ جَعْفَرٌ بْنُ بُرْقَانَ مِنْ الزُّهْرِيِّ وَهُوَ مُنْكَرٌ، ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ. وَذَكَرَ مَشَايِخُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ الْأَكْلُ مُتَّكِئًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكَلَ يَوْمَ خَيْبَرَ مُتَّكِئًا كَذَا قَالُوا، وَلَا يُلْقِمُ جَلِيسَهُ وَلَا يُفْسِحُ لَهُ إلَّا بِإِذْنِ رَبِّ الطَّعَامِ، ذَكَرَهُ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنْ الْأَدَبِ أَنْ لَا يُلْقِمَ أَحَدًا يَأْكُلُ مَعَهُ إلَّا بِإِذْنِ مَالِكِ الطَّعَامِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ عَمَلًا بِالْعَادَةِ، وَالْعُرْفِ فِي ذَلِكَ لَكِنَّ الْأَدَبَ، وَالْأَوْلَى الْكَفُّ عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ إسَاءَةِ الْأَدَبِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَالْإِقْدَامِ عَلَى طَعَامِهِ بِبَعْضِ التَّصَرُّفِ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ صَرِيحٍ وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ تَقْدِيمُ بَعْضِ الضِّيفَانِ مَا لَدَيْهِ وَنَقْلُهُ إلَى الْبَعْضِ الْآخَرِ لَكِنْ لَا يَنْبَغِي لِفَاعِلِ ذَلِكَ أَنْ يُسْقِطَ حَقَّ جَلِيسِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَالْقَرِينَةُ تَقُومُ مَقَامَ الْإِذْنِ فِي ذَلِكَ قَالَ أَنَسٌ «دَعَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَانْطَلَقْت مَعَهُ فَجِيءَ بِمَرَقٍ فِيهَا دُبَّاءٌ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْ ذَلِكَ الدُّبَّاءِ وَيُعْجِبُهُ فَلَمَّا رَأَيْت ذَلِكَ جَعَلْت أُلْقِيهِ وَلَا أَطْعَمُهُ قَالَ أَنَسٌ فَمَا زِلْت أُحِبُّ الدُّبَّاءَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالْبُخَارِيُّ وَلَمْ يَقُلْ وَلَا أَطْعَمُهُ. وَفِيهِ أَنَّ خَادِمَ الْكَبِيرِ يَتْبَعُهُ فِي الدَّعْوَةِ كَمَا هُوَ فِي الْعُرْفِ وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ زَوْجَةٍ وَغَيْرِهَا، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَتَوَقَّفُ حُضُورُ الْكَبِيرِ عَلَيْهِ لِتَعَلُّقِ مَصْلَحَتِهِ وَحَاجَتِهِ بِهِ،، وَالدَّاعِي يَرْضَى بِذَلِكَ وَيَأْذَنُ فِيهِ عَادَةً وَعُرْفًا لَا بِغَيْرِهِ فَاخْتُصَّ

بِالْجَوَازِ لِذَلِكَ، وَقَدْ يُقَالُ كَأَنَّهُ مَدْعُوٌّ لِهَذَا الْمَعْنَى وَهَذَا مُتَوَجِّهٌ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى وَلَمْ أَجِدْ مَنْ ذَكَرَهُ. فَإِنْ قِيلَ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الدَّاعِيَ يَأْذَنُ فِي ذَلِكَ لِمَكَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ يَأْذَنُ لِمَا ذَكَرْنَا وَهُوَ أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ لَا لِمَعْنًى خَاصٍّ وَلِهَذَا اسْتَأْذَنَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي غَيْرِ خَادِمِهِ وَلَمْ يَسْتَأْذِنْ فِي خَادِمِهِ قَطُّ مَعَ أَنَّهُ خَدَمَهُ مُدَّةَ إقَامَتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْمَدِينَةِ لَا زَمَنًا يَسِيرًا وَكَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يَمْتَنِعُ مِنْ دَعْوَةٍ بِلَا عُذْرٍ وَخَادِمُهُ مُلَازِمُهُ غَالِبًا أَوْ كَثِيرًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: «كَانَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو شُعَيْبٍ وَكَانَ لَهُ غُلَامٌ لَحَّامٌ فَقَالَ لِغُلَامِهِ: وَيْحَك اصْنَعْ لَنَا طَعَامًا لِخَمْسَةِ نَفَرٍ فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَدْعُوَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَامِسَ خَمْسَةٍ فَاتَّبَعَهُمْ رَجُلٌ لَمْ يُدْعَ فَلَمَّا بَلَغَ الْبَابَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ هَذَا اتَّبَعَنَا فَإِنْ شِئْت أَنْ تَأْذَنَ لَهُ وَإِنْ شِئْت رَجَعَ قَالَ بَلْ آذَنُ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلَيْسَ فِي مُسْلِمٍ لَمْ يُدْعَ، فِيهِ أَنَّ مَنْ دُعِيَ فَتَبِعَهُ رَجُلٌ لَا يَنْهَاهُ وَلَا يَأْذَنُ لَهُ وَيَلْزَمُهُ إعْلَامُ صَاحِبِ الطَّعَامِ وَيُسْتَحَبُّ لِصَاحِبِ الطَّعَامِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي حُضُورِهِ مَفْسَدَةٌ. وَعَنْ أَنَسٍ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) «أَنَّ جَارًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَارِسِيًّا كَانَ طَيِّبَ الْمَرَقِ صَنَعَ لَهُ طَعَامًا، ثُمَّ جَاءَ يَدْعُوهُ فَقَالَ: وَهَذِهِ لِعَائِشَةَ فَقَالَ: لَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا فَعَادَ يَدْعُوهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَهَذِهِ قَالَ: لَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا، ثُمَّ عَادَ يَدْعُوهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَذِهِ قَالَ نَعَمْ فِي الثَّالِثَةَ، فَقَامَا يَتَدَافَعَانِ حَتَّى أَتَيَا مَنْزِلَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ كَرِهَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ يَخْتَصَّ عَنْ عَائِشَةَ بِالطَّعَامِ فِي هَذِهِ الْحَالِ لِحَاجَتِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الْحَالِ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حُضُورُهَا مَعَهُ فِي ذَلِكَ مُعْتَادًا وَقَوْلُهُ يَتَدَافَعَانِ أَيْ يَمْشِي كُلُّ وَاحِدٍ فِي أَثَرِ الْآخَرِ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ ذَهَابِهِ هُوَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي حَالِ الضَّرُورَةِ، وَالْفَاقَةِ إلَى حَدِيقَةِ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التِّيهَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ اسْتِتْبَاعِ الْإِنْسَانِ

إلَى دَارِ مَنْ يَعْلَمُ رِضَاهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ مَدْعُوًّا فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَالْقَضِيَّةُ قَضِيَّةُ عَيْنٍ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ عَلِمُوا رِضَاهُ بِذَلِكَ وَهَذَا جَائِزٌ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ أَضْيَافٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيَافًا مِنِّي وَيُحْتَمَلُ أَنَّ فِيهِ دَلَالَةً عَلَى اسْتِتْبَاعِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ قُومَا فَقَامَا فَأَتَى رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ فَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ قَالَتْ مَرْحَبًا وَأَهْلًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَأَيْنَ فُلَانٌ؟ قَالَتْ ذَهَبَ لِيَسْتَعْذِبَ لَنَا مِنْ الْمَاءِ إذْ جَاءَ الْأَنْصَارِيُّ فَنَظَرَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَاحِبَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمُ أَضْيَافًا مِنِّي قَالَ: فَانْطَلَقَ فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ فَقَالَ كُلُوا وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إيَّاكَ، وَالْحَلُوبَ فَذَبَحَ لَهُمْ شَاةً فَأَكَلُوا مِنْ الشَّاةِ وَمِنْ ذَلِكَ الْعِذْقِ وَشَرِبُوا فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَوُوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ الْجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ» . وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «هَلْ لَك خَادِمٌ قَالَ: لَا قَالَ: فَإِذَا أَتَانَا شَيْءٌ فَائْتِنَا فَأُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَأْسَيْنِ فَأَتَاهُ أَبُو الْهَيْثَمِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اخْتَرْ مِنْهُمَا قَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ اخْتَرْ لِي، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ الْمُسْتَشَارَ مُؤْتَمَنٌ خُذْ هَذَا فَإِنِّي رَأَيْته يُصَلِّي وَاسْتَوْصِ بِهِ مَعْرُوفًا. فَانْطَلَقَ أَبُو الْهَيْثَمِ إلَى امْرَأَتِهِ فَأَخْبَرَهَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ امْرَأَتُهُ: مَا أَنْتَ بِبَالِغٍ مَا قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا أَنْ نُعْتِقَهُ قَالَ فَهُوَ عَتِيقٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا وَلَا خَلِيفَةً إلَّا وَلَهُ بِطَانَتَانِ بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَاهُ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَبِطَانَةٌ لَا تَأْلُوهُ خَبَالًا وَمَنْ يُوقَ بِطَانَةَ السُّوءِ فَقَدْ وُقِيَ» هَذَا حَدِيثٌ تَضَمَّنَ فَوَائِدَ حَسَنَةً يُحْتَاجُ إلَيْهَا مَفْهُومَةً مِنْهُ فَلِهَذَا ذَكَرْتُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَكِنْ فِي خَبَرِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - زَمَنَ الْخَنْدَقِ «أَنَّهُ صَنَعَ طَعَامًا، ثُمَّ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَقُلْت طُعَيِّمٌ لِي فَقُمْ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ قَالَ: كَمْ هُوَ؟ فَذَكَرْت لَهُ قَالَ كَثِيرٌ طَيِّبٌ، قُلْ لَهَا لَا تَنْزِعْ الْبُرْمَةَ وَلَا الْخُبْزَ حَتَّى آتِيَ قَالَ قُومُوا فَقَامَ الْمُهَاجِرُونَ، وَالْأَنْصَارُ وَمَنْ مَعَهُمْ قَالَ: فَقَالَ اُدْخُلُوا وَلَا تَضَاغَطُوا فَجَعَلَ يَكْسِرُ الْخُبْزَ وَيُجْعَلُ عَلَيْهِ اللَّحْمَ وَيُخَمِّرُ الْبُرْمَةَ، وَالتَّنُّورَ إذَا أَخَذَ مِنْهُ

وَيُقَرِّبُ إلَى أَصْحَابِهِ حَتَّى شَبِعُوا وَبَقِيَ بَقِيَّةٌ قَالَ كُلِي هَذَا وَأَهْدِي فَإِنَّ النَّاسَ أَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ يَعْنِي يَقُولُ لِامْرَأَةِ جَابِرٍ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَ جَابِرٌ «فَجِئْته فَسَارَرْته فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا قَدْ ذَبَحْنَا بَهِيمَةً لَنَا وَطَحَنْت صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ كَانَ عِنْدَنَا فَتَعَالَ أَنْتَ فِي نَفَرٍ مَعَك فَصَاحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ إنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ لَكُمْ سُورًا فَحَيَّ هَلًا بِكُمْ وَفِيهِ فَبَصَقَ فِيهِمَا وَبَارَكَ. وَفِيهِ وَهُمْ أَلْفٌ فَأُقْسِمُ بِاَللَّهِ لَأَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا، وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لِتَغُطّ كَمَا هِيَ، وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ» . وَفِي الْبُخَارِيُّ «أَنَّهُ عَرَضَتْ فِي الْخَنْدَقِ كُدْيَةٌ شَدِيدَةٌ فَجَاءُوا إلَيْهِ فَقَالَ أَنَا نَازِلٌ، ثُمَّ قَامَ وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بِحَجَرٍ وَلَبِثْنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا نَذُوقُ ذَوَاقًا فَأَخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمِعْوَلَ فَضَرَبَ فَعَادَ كَثِيبًا أَهْيَلَ أَوْ أَهْيَمَ» . وَمِثْلُ مَعْنَى هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي اسْتِتْبَاعِ الْمَدْعُوِّ إلَى مَنْ يَعْلَمُ رِضَاهُ حَدِيثُ «أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا أَرْسَلَهُ أَبُو طَلْحَةَ يَدْعُوهُ فَقَالَ لِمَنْ عِنْدَهُ: قُومُوا وَفِيهِ أَنَّهُ كَانَ عَصَبَ بَطْنَهُ عَنْ الْجُوعِ: وَفِيهِ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ رَآهُ فِي الْمَسْجِدِ يَتَقَلَّبُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ فَظَنَّهُ لَجَائِعًا، وَفِيهِ أَنَّهُ أَذِنَ لِعَشَرَةٍ عَشَرَةٍ» . وَفِي الْبُخَارِيِّ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا ثَمَانِينَ رَجُلًا وَفِي مُسْلِمٍ، وَالْقَوْمُ سَبْعُونَ رَجُلًا أَوْ ثَمَانُونَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ. وَأُخِذَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ السَّابِقِ اسْتِحْبَابُ إيثَارِ الضِّيفَانِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا إذَا لَمْ يَكْرَهْ صَاحِبُ الطَّعَامِ كَذَا قَالَ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ كَانُوا نَاسًا فُقَرَاءَ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَلَاثَةٍ» كَذَا فِي مُسْلِمٍ أَيْ بِتَمَامِ ثَلَاثَةٍ. وَفِي الْبُخَارِيِّ: " وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ أَرْبَعَةٍ فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ أَوْ بِسَادِسٍ " أَوْ كَمَا قَالَ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ بِثَلَاثَةٍ فَانْطَلَقَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَشَرَةٍ وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ تَعَشَّى عِنْدَ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ لَبِثَ حَتَّى صَلَّيْت الْعِشَاءَ، ثُمَّ رَجَعَ فَلَبِثَ حَتَّى نَعَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَ بَعْدَ مَا ذَهَبَ مِنْ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَتْ امْرَأَتُهُ: مَا أَحْبَسَكَ عَنْ

أَضْيَافِك قَالَ أَوَمَا عَشَّيْتِهِمْ؟ قَالَتْ أَبَوْا حَتَّى تَجِيءَ أَنْتَ قَدْ عَرَضُوا عَلَيْهِمْ فَغَلَبُوهُمْ قَالَ: فَذَهَبْت أَنَا فَاخْتَبَأْت فَقَالَ يَا غُنْثَرُ فَجَدَعَ وَسَبَّ وَقَالَ: كُلُوا لَا هَنِيئًا وَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَطْعَمُهُ أَبَدًا قَالَ: وَاَيْمُ اللَّهِ مَا كُنَّا نَأْخُذُ مِنْ لُقْمَةٍ إلَّا رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرَ مِنْهَا قَالَ: شَبِعْنَا وَصَارَتْ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ فَنَظَرَ إلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ فَإِذَا هِيَ كَمَا هِيَ أَوْ أَكْثَرُ، ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ مَا هَذَا؟ قَالَتْ: لَا وَقُرَّةِ عَيْنِي لَهِيَ الْآنَ أَكْثَرُ مِنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِثَلَاثِ مِرَارٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ الشَّيْطَانِ يَعْنِي يَمِينَهُ. وَعَنْهُ أَيْضًا قَالَ «نَزَلَ عَلَيْنَا أَضْيَافٌ لَنَا وَكَانَ أَبِي يَتَحَدَّثُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ اللَّيْلِ قَالَ فَانْطَلَقَ قَالَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ اُفْرُغْ مِنْ أَضْيَافِك قَالَ فَلَمَّا أَمْسَيْت جِئْنَا بِقِرَاهُمْ قَالَ فَأَبَوْا قَالُوا حَتَّى يَجِيءَ أَبُو مَنْزِلِنَا فَيَطْعَمَ مَعَنَا قَالَ فَقُلْتُ إنَّهُ رَجُلٌ حَدِيدٌ وَإِنَّكُمْ إنْ لَمْ تَفْعَلُوا خِفْت أَنْ يُصِيبَنِي مِنْهُ أَذًى قَالَ فَأَبَوْا فَلَمَّا جَاءَ لَمْ يَبْدَأْ بِشَيْءٍ أَوَّلَ مِنْهُمْ فَقَالَ فَرَغْتُمْ مِنْ أَضْيَافِكُمْ؟ قَالُوا لَا وَاَللَّهِ مَا فَرَغْنَا قَالَ أَوَلَمْ آمُرْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ قَالَ وَتَنَحَّيْت عَنْهُ فَقَالَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَتَنَحَّيْت، فَقَالَ يَا غُنْثَرُ أَقْسَمْت عَلَيْك إنْ كُنْت تَسْمَعُ صَوْتِي إلَّا أَجَبْت قَالَ فَجِئْت فَقُلْت وَاَللَّهِ مَا لِي ذَنْبٌ، هَؤُلَاءِ أَضْيَافُك فَسَلْهُمْ قَدْ أَتَيْتُهُمْ بِقِرَاهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُطْعَمُوا حَتَّى تَجِيءَ قَالَ فَقَالَ مَا لَكُمْ أَلَا تَقْبَلُوا عَنَّا قِرَاكُمْ قَالَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَاَللَّهِ لَا أَطْعَمُهُ اللَّيْلَةَ قَالَ فَقَالُوا وَاَللَّهِ لَا نَطْعَمُهُ حَتَّى تَطْعَمَهُ قَالَ فَمَا رَأَيْت الشَّرَّ كَاللَّيْلَةِ قَطُّ، وَيْلَكُمْ مَا لَكُمْ أَلَا تَقْبَلُوا عَنَّا قِرَاكُمْ، ثُمَّ قَالَ إنَّمَا الْأُولَى فَمِنْ الشَّيْطَانِ هَلُمُّوا قِرَاكُمْ قَالَ فَجِيءَ بِالطَّعَامِ فَسَمَّى فَأَكَلَ وَأَكَلُوا قَالَ فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَرُّوا وَحَنِثْتُ، وَأَخْبَرَهُ قَالَ بَلْ أَنْتَ أَبَرُّهُمْ وَأَخْيَرُهُمْ قَالَ وَلَمْ تَبْلُغْنِي كَفَّارَةٌ» . رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ، وَالْبُخَارِيُّ وَلَيْسَ فِيهِ: " بَرُّوا وَحَنِثْتُ إلَى آخِرِهِ ". وَفِيهِ فَحَلَفَتْ الْمَرْأَةُ لَا تَطْعَمُهُ حَتَّى يَطْعَمَهُ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ: حَتَّى نَعَسَ وَهِيَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ إنَّمَا عِنْدَهُ حَتَّى تَعَشَّى.

فِيهِ الِاشْتِغَالُ عَنْ الضَّيْفِ بِشُغْلٍ وَمَصْلَحَةٍ إذَا كَانَ لَهُ مَنْ يَقُومُ بِهِ. وَفِيهِ أَنَّ الضَّيْفَ لَا يَمْتَنِعُ مِمَّا يُرِيدُ الْمُضِيفُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِقِرَاهُ وَلَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَتَكَلَّفُ مَشَقَّةً حَيَاءً مِنْهُ اعْتَرَضَ بِرِفْقٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِلْمُضِيفِ غَرَضٌ فِي ذَلِكَ فَيَشُقُّ عَلَيْهِ إظْهَارُهُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ مُخَالَفَةُ الضَّيْفِ وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَاوِيُّ ذَلِكَ عَنْ الْعُلَمَاءِ. وَفِيهِ السَّمَرُ مَعَ الضَّيْفِ وَالْأَهْلِ كَمَا تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ وَتَرْجَمَ أَيْضًا (بَابٌ فِي قَوْلِ الضَّيْفِ لِصَاحِبِهِ لَا آكُلُ حَتَّى تَأْكُلَ) وَإِنَّمَا امْتَنَعَ أَضْيَافُ أَبِي بَكْرٍ لِمَصْلَحَةٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَحْصُلُ لَهُ عَشَاءٌ. وَإِنَّمَا اخْتَبَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ خَوْفَ خِصَامٍ وَشَتْمٍ، وَغُنْثَرُ الْأَشْهَرُ أَنَّهُ بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَمَضْمُومَةٍ، ثُمَّ نُونٍ سَاكِنَةٍ، ثُمَّ ثَاءٍ مُثَلَّثَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَمَضْمُومَةٍ وَهُوَ الثَّقِيلُ، وَقِيلَ الْجَاهِلُ وَقِيلَ السَّفِيهُ وَقِيلَ اللَّئِيمُ وَقِيلَ هُوَ ذُبَابٌ أَزْرَقُ. وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْتَرُ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ وَتَاءٍ مُثَنَّاةٍ مَفْتُوحَتَيْنِ وَهُوَ الذُّبَابُ الْأَزْرَقُ، وَقَوْلُهُ فَجَدَعَ أَيْ دَعَا بِالْجَدْعِ وَهُوَ قَطْعُ الْأَنْفِ وَغَيْرِهِ، وَالسَّبُّ الشَّتْمُ. وَفِيهِ الِاخْتِبَاءُ خَوْفَ أَذًى وَإِنَّهُ لَا أَذًى بِمِثْلِ هَذَا مِنْ الْوَالِدِ. قَوْلُهُ: لَا هَنِيئًا إنَّمَا قَالَهُ غَيْظًا بِتَرْكِهِمْ الْعَشَاءَ بِسَبَبِهِ، كَذَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ عَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ عَمَّا يَحْدُثُ فِي حَالِ الْغَيْظِ. وَيَتَوَجَّهُ أَنَّهُ قَالَ أَدَبًا عَلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَلَهُ نَظَائِرُ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلْمُمْتَنِعِ مِنْ الْأَكْلِ بِيَمِينِهِ وَقَوْلُهُ لَا أَسْتَطِيعُ قَالَ «لَا اسْتَطَعْتَ مَا مَنَعَهُ إلَّا الْكِبْرُ» . وَقَوْلُهُ «مَنْ سَمِعْتُمُوهُ يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْهِ» وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لِلْقَائِلِ فِي الْجِنَازَةِ اسْتَغْفِرُوا لَهُ: لَا غَفَرَ اللَّهُ لَك. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ لَا هَنِيئًا إنَّمَا هُوَ خَبَرٌ أَيْ لَمْ يَتَهَنَّوْا بِهِ فِي وَقْتِهِ، وَفِيهِ إثْبَاتُ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَقُرَّةُ الْعَيْنِ يُرَادُ بِهَا الْمَسَرَّةُ فَقِيلَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْقَرَارِ، لِأَنَّ عَيْنَهُ تَقِرُّ لِحُصُولِ مُرَادِهِ فَلَا تَسْتَشْرِفُ لِشَيْءٍ، وَقِيلَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْقُرِّ بِضَمِّ الْقَافِ وَهُوَ الْبَرْدُ أَيْ عَيْنُهُ بَارِدَةٌ لِسُرُورِهَا يُقَالُ أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ أَيْ أَبْرَدَ دَمْعَتَهُ؛ لِأَنَّ دَمْعَةَ الْفَرَحِ بَارِدَةٌ. وَيُقَالُ فِي ضِدِّهِ أَسْخَنَ اللَّهُ عَيْنَهُ، وَفِيهِ الْقَسَمُ بِمَخْلُوقٍ قِيلَ أَرَادَتْ بِقُرَّةِ عَيْنِهَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَقْسَمَتْ بِهِ، وَقَوْلُهُ لَا وَقُرَّةِ عَيْنِي لَا زَائِدَةٌ وَقِيلَ نَافِيَةٌ أَيْ لَا شَيْءَ غَيْرُ مَا أَقُولُ وَهُوَ قُرَّةُ عَيْنِي.

وَقَوْلُهُ رَجُلٌ حَدِيدٌ: أَيْ قَوِيٌّ يَغْضَبُ لِذَلِكَ. قَوْلُهُ أَلَا تَقْبَلُونَ؟ أَلَا بِتَخْفِيفِ اللَّامِ لِلتَّحْضِيضِ وَافْتِتَاحِ الْكَلَامِ، وَقِيلَ مُشَدَّدَةٌ أَيْ مَا لَكُمْ لَا تَقْبَلُونَ؟ وَأَيُّ شَيْءٍ مَنَعَكُمْ؟ قَوْلُهُ أَخْيَرُهُمْ هِيَ لُغَةٌ، وَالْأَشْهَرُ خَيْرُهُمْ، وَفِيهِ تَقْدِيمُ حِنْثِ الْمُضِيفِ لِتَأَكُّدِ حَقِّ الضَّيْفِ، وَقَوْلُهُ لَمْ يَبْلُغْنِي كَفَّارَةٌ أَيْ قَبْلَ الْحِنْثِ، أَمَّا وُجُوبُهَا فَلَا خِلَافَ فِيهِ، كَذَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَالْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ فِي الْأَيْمَانِ مِنْ الْفِقْهِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ إنِّي مَجْهُودٌ فَأَرْسَلَ إلَى نِسَائِهِ قُلْنَ كُلُّهُنَّ: لَا وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إلَّا مَاءٌ قَالَ مَنْ يُضِيفُهُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؟ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَانْطَلَقَ بِهِ إلَى رَحْلِهِ فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ هَلْ عِنْدَك شَيْءٌ؟ قَالَتْ لَا إلَّا قُوتُ صِبْيَانِنَا قَالَ فَعَلِّلِيهِمْ بِشَيْءٍ فَإِذَا دَخَلَ ضَيْفُنَا فَأَطْفِئِي السِّرَاجَ وَأَرِيهِ أَنَّا نَأْكُلُ فَإِذَا أَهْوَى لِيَأْكُلَ فَقُومِي إلَى السِّرَاجِ حَتَّى تُطْفِئِيهِ قَالَ فَقَعَدُوا فَأَكَلَ الضَّيْفُ فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: قَدْ عَجِبَ اللَّهُ مِنْ صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَفِيهِمَا «وَقَرِّبِي لِلضَّيْفِ مَا عِنْدَك» قَالَ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ. وَفِي الْبُخَارِيِّ: «ضَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا نَدَّخِرُ بِهِ شَيْئًا» وَفِيهِ «إذَا أَرَادَ الضَّيْفُ الْعَشَاءَ فَنَوِّمِيهِمْ» . وَفِيهِ «أَنَّ مَنْ سُئِلَ شَيْئًا قَامَ بِهِ إنْ أَمْكَنَهُ وَإِلَّا سَأَلَ لَهُ» لَكِنْ لَيْسَ فِي الْخَبَرِ سُؤَالٌ مُعَيَّنٌ، وَفِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ مِنْ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَالتَّقَلُّلِ مِنْهَا، وَفِيهِ الِاحْتِيَالُ، وَالتَّلَطُّفُ بِإِكْرَامِ الضَّيْفِ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، وَالْخَبَرُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِالْأَنْصَارِيِّ وَأَوْلَادِهِ حَاجَةٌ إلَى الْأَكْلِ بِحَيْثُ يَحْصُلُ الضَّرَرُ بِتَرْكِهِ وَإِلَّا لَوَجَبَ تَقْدِيمُهُمْ شَرْعًا عَلَى حَقِّ الضَّيْفِ وَفِيهِ الْإِيثَارُ مِمَّنْ لَمْ يَتَضَرَّرْ بِأُمُورِ الدُّنْيَا قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى فَضِيلَتِهِ وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِحُصُولِ الْكِفَايَةِ مَعَ حِيَازَةِ الْفَضِيلَةِ. وَلِهَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «طَعَامُ الِاثْنَيْنِ كَافٍ الثَّلَاثَةَ وَطَعَامُ الثَّلَاثَةِ كَافٍ الْأَرْبَعَةَ» وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ «طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ وَطَعَامُ الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الْأَرْبَعَةَ، وَطَعَامُ الْأَرْبَعَةِ يَكْفِي الثَّمَانِيَةَ» . وَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخَى بَيْنَ سَلْمَانَ

وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَنَّ سَلْمَانَ زَارَهُ فَصَنَعَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَهُ طَعَامًا وَقَالَ لَهُ كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ سَلْمَانُ مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ فَأَكَلَ» . قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ آدَابِ الضَّيْفِ وَلَكِنَّهُ قَصَدَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِفْرَاطِ فِي كَثْرَةِ الْعِبَادَةِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ النِّسَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ زِيَارَةِ الْأَخِ أَخَاهُ فَإِنْ رَآهُ عَلَى خَيْرٍ أَعَانَهُ، وَإِنْ رَآهُ مُحْتَاجًا إلَى تَقْوِيمٍ قَوَّمَهُ، قَالَ وَفِيهِ جَوَازُ أَنْ يُؤَاخَى بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إخْوَةٌ إلَّا أَنَّ هَذَا الْإِخَاءَ لِمَعْنًى وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ نَظَرَ بِنُورِ الْأَيْمَانِ إلَى خُشُونَةِ أَبِي الدَّرْدَاءِ يَصْلُحُ أَنْ يُضَافَ إلَيْهَا عِلْمُ سَلْمَانَ وَفِقْهُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ فِي الْغُنْيَةِ وَإِنْ كَانَ عَلَى رَأْسِهِ إنْسَانٌ قَائِمٌ أَمَرَهُ بِالْجُلُوسِ فَإِنْ أَبَى عَلَيْهِ أَوْ قَامَ مَمْلُوكُهُ أَوْ غُلَامُهُ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ وَسَقْيِهِ الْمَاءَ أَخَذَ مِنْ أَطَايِبِ الطَّعَامِ فَلَقَمَهُ، وَإِذَا أَكَلَ مَعَ ضَرِيرٍ أَعَلَمَهُ بِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ فَرُبَّمَا فَاتَهُ أَطَايِبُ الطَّعَامِ لِعَمَاهُ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ فِي الْمُغْنِي فِي مَسْأَلَةِ غَيْرِ الْمَأْذُونِ لَهُ هَلْ لَهُ الصَّدَقَةُ مِنْ قُوتِهِ إذَا لَمْ يَضُرَّ بِهِ: إنَّ الضَّيْفَ لَا يَمْلِكُ الصَّدَقَةَ بِمَا أُذِنَ لَهُ فِي أَكْلِهِ وَقَالَ إنْ حَلَفَ لَا يَهَبُهُ فَأَضَافَهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُمَلِّكْهُ شَيْئًا وَإِنَّمَا أَبَاحَهُ الْأَكْلَ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَذَلِكَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، خُولِفَ فِي أَكْلِهِ مِنْهُ لِإِذْنِهِ فِيهِ يَبْقَى مَا سِوَاهُ عَلَى الْأَصْلِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْإِذْنِ فِي الْأَدْنَى الْإِذْنُ فِي الْأَعْلَى وَحَقُّ الْآدَمِيِّ مَبْنِيٌّ عَلَى الشُّحِّ، وَالضِّيقِ. وَمُقْتَضَى هَذَا التَّعْلِيلِ التَّحْرِيمُ. وَقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ إنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يُلْقِمَ مَنْ حَضَرَ مَعَهُ قَالَ، لِأَنَّهُ يَأْكُلُ مِلْكَ صَاحِبِهِ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِتَمْلِيكٍ، وَوُجِّهَتْ رِوَايَةَ الْجَوَازِ فِي مَسْأَلَةِ غَيْرِ الْمَأْذُونِ بِأَنَّهُ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِالْمُسَامَحَةِ فِيهِ، وَالْإِذْنِ عُرْفًا فَجَازَ كَصَدَقَةِ الْمَرْأَةِ مِنْ بَيْت زَوْجِهَا، وَهَذَا التَّعْلِيلُ جَارٍ فِي مَسْأَلَةِ الضَّيْفِ فَيَتَوَجَّهُ الْقَوْلُ بِهِ فِيهَا حَيْثُ جَرَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَتَلْخِيصُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الضَّيْفَ لَا يَمْلِكُ مَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِفِعْلِهِ، وَالْمُسَامَحَةُ فِيهِ وَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ وَلَمْ تُخَالِفْهُ قَرِينَةٌ كَتَلْقِيمِ بَعْضٍ بَعْضًا وَتَقْدِيمِ طَعَامٍ

وَإِطْعَامِ سِنَّوْرٍ وَكَلْبٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَإِنْ عَلِمَ رِضَا صَاحِبِهِ بِذَلِكَ جَازَ وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، وَالْأَوْلَى جَوَازُهُ. وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ بَابُ مَنْ نَاوَلَ أَوْ قَدَّمَ إلَى صَاحِبِهِ عَلَى الْمَائِدَةِ شَيْئًا قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ لَا بَأْسَ أَنْ يُنَاوِلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَلَا يُنَاوِلُ مِنْ هَذِهِ الْمَائِدَةِ إلَى مَائِدَةٍ أُخْرَى. ثُمَّ رَوَى مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ «أَنَّ خَيَّاطًا دَعَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِطَعَامٍ صَنَعَهُ فَذَهَبَ أَنَسٌ مَعَهُ فَقَرَّبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُبْزًا مِنْ شَعِيرٍ وَمَرَقًا فِيهِ دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ قَالَ أَنَسٌ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَيْ الصَّحْفَةِ فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مِنْ يَوْمَئِذٍ فَجَعَلْت أَجْمَعُ الدُّبَّاءَ بَيْنَ يَدَيْهِ» . وَذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ قَبْلَ ذَلِكَ وَفِيهَا قَالَ فَاقْبَلْ الْغُلَامُ عَلَى عَمَلِهِ وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ بَابُ مَنْ أَضَافَ رَجُلًا إلَى طَعَامٍ وَأَقْبَلَ عَلَى عَمَلِهِ وَمَا ذَكَرَهُ حَسَنٌ إذَا لَمْ يُخَالِفْ عَادَةً أَوْ قَرِينَةً مُؤْذِيَةً لِلضَّيْفِ وَتَمْنَعُ إكْرَامَهُ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِمَنْ مَنَعَ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى أَنْ يَحْمِلَ خَبَرَ أَنَسٍ عَلَى أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ رَبَّ الطَّعَامِ رَاضٍ بِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ سَأَلَ سَائِلٌ حَنْبَلِيًّا فَقَالَ هَلْ يَجُوزُ لِلْقَوْمِ يُقَدَّمُ لَهُمْ الطَّعَامُ أَنْ يُقَرِّبَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ؟ فَقَالَ قَدْ كُنْت أَقُولُ لَا يَجُوزُ وَلَا لِسِنَّوْرٍ حَتَّى وَجَدْتُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَنَسٍ الْمَذْكُورَ. وَلِرَبِّ الطَّعَامِ أَوْ بَعْضِ أَهْلِهِ أَنْ يَخُصَّ بَعْضَ الضِّيفَانِ بِشَيْءٍ طَيِّبٍ إذَا لَمْ يَتَأَذَّ غَيْرُهُ وَأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَخْصُوصِ أَوْ يُسْتَحَبُّ لَهُ تَنَاوُلُهُ وَأَنَّهُ لَا يَفْضُلُ مِنْهُ شَيْئًا بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ مِنْ ذَلِكَ لِمَا سَبَقَ فِي حِفْظِ الصِّحَّةِ فِي قِصَّةِ أَبِي أَسِيدٍ مَعَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلضَّيْفِ أَنْ يُفْضِلَ شَيْئًا لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ مِمَّنْ يُتَبَرَّكُ بِفَضْلَتِهِ أَوْ كَانَ، ثَمَّ حَاجَةٌ. قَالَ أَبُو أَيُّوبَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ أَكَلَ وَبَعَثَ بِفَضْلِهِ إلَيَّ» فَيَسْأَلُ أَبُو أَيُّوبَ عَنْ مَوْضِعِ أَصَابِعِهِ فَيَتَتَبَّعُ مَوْضِعَ أَصَابِعِهِ وَقَدْ سَبَقَ حَدِيثُ جَابِرٍ «نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ» فِي حِفْظِ الصِّحَّةِ. وَفِيهِ أَنَّ صَاحِبَ الطَّعَامِ يَبْدَأُ بِالضَّيْفِ قَبْلَ نَفْسِهِ مَا لَمْ يَكُنْ مَانِعٌ وَإِنَّهُ

لَا بَأْسَ أَنْ يَخُصَّ الضَّيْفَ بِشَيْءٍ وَيَخْتَصَّ بِشَيْءٍ وَيَشْتَرِكَانِ فِي شَيْءٍ حَتَّى فِي الْخُبْزِ لَا سِيَّمَا مَعَ الْحَاجَةِ وَأَنَّ صَاحِبَ الطَّعَامِ إنْ شَاءَ أَبْقَى الْأَرْغِفَةَ صِحَاحًا وَإِنْ شَاءَ كَسَرَهَا أَوْ بَعْضَهَا وَإِنَّ الضَّيْفَ يُبْقِي ذَلِكَ، وَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ تَسَاوِيَ الضِّيفَانِ فِيمَا حَضَرَ أَوْلَى بَلْ قَدْ يَتَوَجَّهُ أَنْ لَوْ بَادَرَ أَحَدُهُمْ إلَى أَكْلِ مَا حَضَرَ مُخْتَصًّا بِهِ كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَأْذَنُ فِيهِ صَاحِبُ الطَّعَامِ وَلَا يُعْجِبُهُ وَيَتَسَخَّطُ بِهِ عَادَةً وَعُرْفًا. وَفِيهِ أَخْذُ الْإِنْسَانِ بِيَدِ صَاحِبِهِ فِي تَمَاشِيهِمَا وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ يَحْرُمُ رَفْعُ الْمَائِدَةِ إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِهَا؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ بِالْأَكْلِ لَا بِالرَّفْعِ وَلَوْ نَاوَلَ الضَّيْفَ لُقْمَةً مِنْ طَعَامِ ضَيْفٍ آخَرَ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْآخِذِ أَنْ يَأْكُلَ بَلْ يَضَعُ، ثُمَّ يَأْكُلُ مِنْ الْمَائِدَةِ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ بِالْأَكْلِ لَا بِالْإِعْطَاءِ. وَقَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِهِمْ يَحِلُّ لَهُ لِلْعَادَةِ، وَكَذَا لَوْ نَاوَلَ بَعْضُ الْخَدَمِ الَّذِي هُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ الْمَائِدَةِ جَازَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ سَائِلًا وَلَا إنْسَانًا دَخَلَ هُنَاكَ لِحَاجَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا إذْنَ فِيهِ عَادَةً، وَكَذَلِكَ لَوْ نَاوَلَ شَيْئًا مِنْ الْخُبْزِ، وَاللَّحْمِ كَلْبَ صَاحِبِ الْبَيْتِ أَوْ غَيْرَهُ لَا يَسَعُهُ، وَلَوْ نَاوَلَهُ الطَّعَامَ، وَالْخُبْزَ الْمُحْتَرِقِ وَسِعَهُ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ عَادَةً انْتَهَى كَلَامُهُمْ وَيَنْبَغِي أَنْ يُطْعِمَ رَبُّ الطَّعَامِ مِنْ حَضَرَهُ شَيْئًا مِنْهُ ذَكَرَ ابْنُ عَبْد الْبَرِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَبَعْضُهُمْ يَرْفَعُهُ قَالَ الْكِلَابُ ضَعَفَةُ الْجِنِّ فَإِذَا حَضَرَ طَعَامُكُمْ فَاطْرُدُوهُمْ وَأَطْعِمُوهُمْ شَيْئًا فَإِنَّ لَهَا أَنْفُسَ سُوءٍ يَعْنِي أَعْيُنَ سُوءٍ.

فصل في تناهد الرفاق واشتراكهم في الطعام

[فَصْلٌ فِي تَنَاهُدِ الرِّفَاقِ وَاشْتِرَاكِهِمْ فِي الطَّعَامِ] ِ) قِيلَ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ أَيُّهُمَا أَحَبُّ إلَيْك يَعْتَزِلُ الرَّجُلُ فِي الطَّعَامِ أَوْ يُرَافِقُ قَالَ يُرَافِقُ هَذَا أَرْفَقُ يَتَعَاوَنُونَ إذَا كُنْت وَحْدَك لَمْ يُمْكِنْك الطَّبْخُ وَلَا غَيْرُهُ، وَلَا بَأْسَ بِالنَّهْدِ قَدْ تَنَاهَدَ الصَّالِحُونَ. كَانَ الْحَسَنُ إذَا سَافَرَ أَلْقَى مَعَهُمْ وَيَزِيدُ أَيْضًا بِقَدْرِ مَا يَلْقَى يَعْنِي فِي السِّرِّ، وَمَعْنَى النَّهْدِ أَنْ يُخْرِجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الرُّفْقَةِ شَيْئًا مِنْ النَّفَقَةِ يَدْفَعُونَهُ إلَى رَجُلٍ يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ مِنْهُ وَيَأْكُلُونَ جَمِيعًا، وَإِنْ أَكَلَ بَعْضُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ فَلَا بَأْسَ، وَكَذَلِكَ قَالَتْ الشَّافِعِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِ أَحْمَدَ السَّابِقِ وَيُفَارَقُ النِّثَارُ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِنَهْبٍ وَتَسَالُبٍ وَتَجَاذُبٍ بِخِلَافِ هَذَا، فَعَلَى هَذَا لَوْ وُجِدَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ فِي التَّنَاهُدِ كُرِهَ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ كَالنِّثَارِ وَهَلْ تَجُوزُ الصَّدَقَةُ مِنْهُ قَالَ أَبُو دَاوُد سَمِعْت أَحْمَدَ قِيلَ لَهُ يُتَنَاهَدُ فِي الطَّعَامِ فَيُتَصَدَّقُ مِنْهُ. قَالَ أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ أَوْ قَالَ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ لَمْ يَزَلْ النَّاسُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فَنَظَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ إلَى الْعُرْفِ، وَالْعَادَةِ فِي ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا يَتَوَجَّهُ صَدَقَةُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ بِمَا يُتَسَامَحُ بِهِ عَادَةً وَعُرْفًا، وَالْمُضَارِبِ، وَالضَّيْفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

فصل في آداب الأكل

[فَصْلٌ فِي آدَابِ الْأَكْلِ] فَصْلٌ وَمِنْ آدَابِ الْأَكْلِ أَنْ تَجْعَلَ بَطْنَك ثَلَاثًا، ثُلُثًا لِلطَّعَامِ وَثُلُثًا لِلشَّرَابِ وَثُلُثًا لِلنَّفَسِ، وَلَوْ أَكَلْت كَثِيرًا لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ قَالَ الْحَسَنُ لَيْسَ فِي الطَّعَامِ إسْرَافٌ، وَالْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ فِي ذَلِكَ وَرَدَ بِالْأَكْلِ تَأْدِيبًا لَا تَحْدِيدًا ذُكِرَ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَغَيْرِهِ. قَالَ أَحْمَدُ ثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ سُلَيْمٍ ثَنَا يَحْيَى بْنُ جَابِرٍ الطَّائِيُّ سَمِعْت الْمِقْدَادَ بْنَ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيَّ سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ حَسْبُ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثُ طَعَامٍ وَثُلُثُ شَرَابٍ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ» حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَهُ طُرُقٌ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحٌ. وَرَوَى الْخَلَّالُ فِي جَامِعِهِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ وَقِيلَ لَهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُونَ مِنْ طَعَامِهِمْ قَالَ مَا يُعْجِبُنِي سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ يَقُولُ فَعَلَ قَوْمٌ هَكَذَا فَقَطَعَهُمْ عَنْ الْفَرْضِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَتَى بَالَغَ فِي تَقْلِيلِ الْغِذَاءِ أَوْ الشَّرَابِ فَأَضَرَّ بِبَدَنَةِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ أَوْ قَصَرَ عَنْ فِعْلِ وَاجِبٍ لِحَقِّ اللَّهِ أَوْ لِحَقِّ آدَمِيٍّ كَالتَّكَسُّبِ لِمَنْ يَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ وَإِلَّا كُرِهَ ذَلِكَ إذَا خَرَجَ عَنْ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ. وَقَدْ ذَكَرَ الْأَطِبَّاءُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي التَّأْخِيرُ عَنْ تُنَاوِل ذَلِكَ إذَا تَاقَتْ إلَيْهِ النَّفْسُ وَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْغِذَاءَ، ثُمَّ لَمْ تَطْلُبْهُ نَفْسُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَنَاوَلُهُ إذًا، بَلْ يُنْهِضُهَا بِالرِّيَاضَةِ أَوْ بِالْقَيْءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَنَقَلْت مِنْ غَيْرِ الْجَامِعِ وَهُوَ مِنْ كِتَابِ الْوَرَعِ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يُؤْجَرُ الرَّجُلُ فِي تَرْكِ الشَّهَوَاتِ قَالَ كَيْفَ لَا يُؤْجَرُ وَابْنُ عُمَرَ يَقُولُ مَا شَبِعْت مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. وَقُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ يَجِدُ الرَّجُلُ مِنْ قَلْبِهِ رِقَّةً

وَهُوَ يَشْبَعُ؟ قَالَ مَا أَرَى.، وَالْمُرَادُ بِهَذَا النَّصِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الشِّبَعُ الْكَثِيرُ، وَالْمُرَادُ بِالنَّصِّ الْأَوَّلِ مَنْ يَأْكُلُ يَسِيرًا يَحْصُلُ لَهُ بِهِ أَدْنَى شِبَعٍ. وَقَوْلُ الْأَصْحَابِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَلَوْ أَكَلْت كَثِيرًا لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ أَيْ زِيَادَةٌ عَلَى الْقَدْرِ الْمَذْكُورِ لَا مُطْلَقًا، فَإِنَّ أَكْلَ الْمَتْخُومِ أَوْ الْأَكْلَ الْمُفْضِيَ إلَى تُخَمَةٍ سَبَبٌ لِمَرَضِهِ وَإِفْسَادِ بَدَنِهِ وَهُوَ تَضْيِيعٌ لِلْمَالِ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ فِي مَضَرَّةٍ بَلْ وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَكْلِ فَوْقَ مُطْلَقِ الشِّبَع فَإِنَّهُ لَا يُفْضِي إلَى ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرَ الْأَصْحَابُ أَنَّ الْأَكْلَ مِنْ الْمَيْتَةِ فَوْقَ الشِّبَعِ لَا يَجُوزُ وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْأَكْلَ فَوْقَ مُطْلَقِ الشِّبَعِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ يَجُوزُ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ هَذِهِ الصُّورَةِ فَائِدَةٌ، وَقَدْ قَالَ فِي التَّرْغِيبِ وَلَوْ أَكَلَ كَثِيرًا بِحَيْثُ لَا يُؤْذِيهِ جَازَ وَقَالَ فِي الْغُنْيَةِ وَكَثْرَةُ الْأَكْلِ مِنْ حَيْثُ يُخَافُ مِنْهُ التُّخَمَةُ مَكْرُوهٌ. وَذَكَرَ صَاحِبُ النَّظْمِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالشِّبَعِ وَإِنَّهُ يُكْرَهُ الْإِسْرَافُ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ يَقُولُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ لَمَّا جَاءَهُ قَدَحٌ مِنْ لَبَنٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ أَهْلَ الصُّفَّةِ فَسَقَاهُمْ، ثُمَّ قَالَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ اشْرَبْ فَشَرِبَ، ثُمَّ أَمَرَهُ ثَانِيًا وَثَالِثًا حَتَّى قَالَ وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَجِدُ لَهُ مَسَاغًا» . وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَطَبَ يَوْمًا فَقَالَ: إيَّاكُمْ، وَالْبِطْنَةَ فَإِنَّهَا مُكْسِلَةٌ عَنْ الصَّلَاةِ مُؤْذِيَةٌ لِلْجِسْمِ، وَعَلَيْكُمْ بِالْقَصْدِ فِي قُوتِكُمْ فَإِنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ الْأَشَرِ وَأَصَحُّ لِلْبَدَنِ وَأَقْوَى عَلَى الْعِبَادَةِ، وَإِنَّ امْرَأً لَنْ يَهْلِكَ حَتَّى يُؤْثِرَ شَهْوَتَهُ عَلَى دِينِهِ. وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْمَعِدَةُ حَوْضُ الْبَدَنِ، وَالْعُرُوقُ وَارِدَةٌ عَلَيْهَا وَصَادِرَةٌ عَنْهَا فَإِذَا صَحَّتْ صَدَرَتْ الْعُرُوقُ عَنْهَا بِالصِّحَّةِ، وَإِذَا سَقِمَتْ صَدَرَتْ الْعُرُوقُ بِالسَّقَمِ. وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ اثْنَتَانِ يُقَسِّيَانِ الْقَلْبَ كَثْرَةُ الْكَلَامِ وَكَثْرَةُ الْأَكْلِ وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ لَا تَأْكُلْ شَيْئًا عَلَى شِبَعٍ فَإِنَّك إنْ تَتْرُكَهُ لِلْكَلْبِ خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تَأْكُلَهُ. وَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ

الْمَآكِلُ الَّتِي الْغَالِبُ فِيهَا الْأَذَى، وَالْإِفْرَاطُ فِي الشِّبَعِ وَإِدْخَالُ الطَّعَامِ عَلَى الطَّعَامِ وَمُطَاوَعَةُ الشَّرَهِ، وَالتَّعْرِيضُ بِالنَّفْسِ فِيمَا الْغَالِبُ فِيهِ الْأَذَى، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَلْقِيَ تَحْتَ حَائِطٍ مَائِلٍ أَوْ يَنَامَ عَلَى سَطْحٍ لَيْسَ لَهُ حِجَارٌ، أَوْ يَرْكَبُ الْبَحْرَ عِنْدَ ارْتِجَاجِهِ أَوْ يَتَعَرَّضَ مِنْ الْبَلَاءِ مَا لَا يُطِيقُهُ كَذَا قَالَ فِي النَّوْمِ عَلَى السَّطْحِ وَلَيْسَتْ نَظِيرَ ذَلِكَ وَسَيَأْتِي. وَقَالَ أَيْضًا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَنَاوَلَ فَوْقَ حَاجَتِهِ؛ لِأَنَّهُ قُوتُهُ وَقُوتُ غَيْرِهِ فَالْقِسْمَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لَمْ يُمْكِنْ تَقْدِيرُهَا إلَّا بِالْإِشَارَةِ بِحَسَبِ الِاحْتِيَاجِ فَإِذَا أَخَذَ مِنْ شَيْءٍ هُوَ مُشَاعٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِ فَقَدْ ظَلَمَ غَيْرَهُ بِمِقْدَارِ التَّفَاوُتِ. وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ إنَّ ابْنَك بَاتَ الْبَارِحَةَ بَشَمًا قَالَ أَمَا لَوْ مَاتَ لَمْ أُصَلِّ عَلَيْهِ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ يَعْنِي أَنَّهُ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ كَقَاتِلِ نَفْسِهِ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ يُكْرَهُ أَنْ يَأْكُلَ حَتَّى يَتْخَمَ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا سَبَقَ عَنْ سَمُرَةَ. وَاعْلَمْ أَنَّ كَثْرَةَ الْأَكْلِ تُنَوِّمُ وَإِنَّهُ يَنْبَغِي النَّفْرَةُ مِمَّنْ عُرِفَ بِذَلِكَ وَاشْتُهِرَ بِهِ وَاِتَّخَذَهُ عَادَةً وَلِهَذَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ نَافِعٍ رَأَى ابْنُ عُمَرَ مِسْكِينًا فَجَعَلَ يَضَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَضَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ كَثِيرًا قَالَ لَا تُدْخِلُنَّ هَذَا عَلَيَّ فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «الْمُؤْمِن يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ» . وَرَوَى أَيْضًا عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ كَانَ أَبُو نَهِيكٍ رَجُلًا أَكُولًا فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «إنَّ الْكَافِرَ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ قَالَ فَأَنَا أُومِنُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ» وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى «الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَافَهُ ضَيْفٌ وَهُوَ كَافِرٌ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَاةٍ فَحُلِبَتْ لَهُ فَشَرِبَ حِلَابَهَا حَتَّى شَرِبَ حِلَابَ سَبْعِ شِيَاهٍ، ثُمَّ إنَّهُ أَصْبَحَ فَأَسْلَمَ فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَاةٍ فَشَرِبَ حِلَابَهَا، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ

بِأُخْرَى فَلَمْ يُتِمَّهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُؤْمِنُ يَشْرَبُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَشْرَبُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَأْكُلُ أَكْلًا كَثِيرًا فَأَسْلَمَ فَكَانَ يَأْكُلُ أَكْلًا قَلِيلًا فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ إنَّ الْمُؤْمِنَ يَأْكُلُ فِي مِعَاءٍ وَاحِدٍ، وَالْكَافِرَ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ» . قِيلَ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَلِهَذَا احْتَجَّ بِهِ ابْنُ عُمَرَ فَقِيلَ الْمُؤْمِنُ يَقْصِدُ فِي أَكْلِهِ وَقِيلَ إنَّهُ يُسَمِّي اللَّهَ فَلَا يُشَارِكُهُ فِيهِ الشَّيْطَانُ، وَالْكَافِرُ بِالْعَكْسِ قَالَ الْأَطِبَّاءُ لِكُلِّ إنْسَانٍ سَبْعَةُ أَمْعَاءٍ الْمَعِدَةُ، ثُمَّ ثَلَاثَةٌ مُتَّصِلَةٌ بِهَا رِقَاقٌ، ثُمَّ ثَلَاثَةٌ غِلَاظٌ فَالْمُؤْمِنُ لِاقْتِصَادِهِ وَتَسْمِيَتِهِ يَكْفِيهِ مِلْءُ أَحَدِهَا، وَالْكَافِرُ بِالْعَكْسِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ الْجِنْسُ فَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَقِيلَ الْمُرَادُ سَبْعُ صِفَاتٍ الْحِرْصُ، وَالشَّرَهُ وَطُولُ الْأَمَلِ، وَالطَّمَعُ وَسُوءُ الطَّبْعِ، وَالْحَسَدُ، وَالسِّمَنُ، وَقِيلَ هَذَا فِي رَجُلٍ بِعَيْنِهِ قِيلَ لَهُ عَلَى وَجْهِ التَّمْثِيلِ وَإِنَّمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ مَا قَالَ؛ لِأَنَّهُ أَشْبَهَ الْكُفَّارَ وَمَنْ أَشْبَهَ الْكُفَّارَ كُرِهَتْ مُخَالَطَتُهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَمَا يَأْكُلُهُ هَذَا يَسُدُّ خَلَّةَ جَمَاعَةٍ. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ الْإِسْرَافُ فِي الْمُبَاحَاتِ هُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَهُوَ مِنْ الْعُدْوَانِ الْمُحَرَّمِ وَتَرْكُ فُضُولِهَا هُوَ مِنْ الزُّهْدِ الْمُبَاحِ وَأَمَّا الِامْتِنَاعُ مِنْ فِعْلِ الْمُبَاحَاتِ مُطْلَقًا كَاَلَّذِي يَمْتَنِعُ مِنْ أَكْلِ اللَّحْمِ أَوْ أَكْلِ الْخُبْزِ أَوْ شُرْبِ الْمَاءِ أَوْ مِنْ لِبْسِ الْكَتَّانِ، وَالْقُطْنِ وَلَا يَلْبَسُ إلَّا الصُّوفَ وَيَمْتَنِعُ مِنْ نِكَاحِ النِّسَاءِ وَيَظُنُّ أَنَّ هَذَا مِنْ الزُّهْدِ الْمُسْتَحَبِّ، فَهَذَا جَاهِلٌ ضَالٌّ إلَى أَنْ ذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْأَكْلِ مِنْ الطَّيِّبَاتِ، وَالشُّكْرِ لَهُ، وَالطَّيِّبُ هُوَ مَا يَنْفَعُ الْإِنْسَانَ وَيُعِينُهُ عَلَى الطَّاعَةِ وَحَرَّمَ الْخَبَائِثَ وَهُوَ مَا يَضُرُّهُ فِي دِينِهِ وَأَمَرَ بِشُكْرِهِ وَهُوَ الْعَمَلُ بِطَاعَتِهِ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ قَالَ فَمَنْ أَكَلَ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَلَمْ يَشْكُرْ رَبَّهُ وَلَمْ يَعْمَلْ صَالِحًا كَانَ مُعَاقَبًا عَلَى تَرْكِهِ مِنْ فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ وَلَمْ يُحِلَّ لَهُ الطَّيِّبَاتِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَحَلَّهَا لِمَنْ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى طَاعَتِهِ. وَلَمْ يَحِلّهَا لِمَنْ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى مَعْصِيَتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:

{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] الْآيَةَ قَالَ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَانَ الْإِنْسَانُ بِالْمُبَاحَاتِ عَلَى الْمَعَاصِي مِثْلَ مَنْ يُعْطِيَ اللَّحْمَ، وَالْخُبْزَ لِمَنْ يَشْرَبُ عَلَيْهِ الْخَمْرَ وَيَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى الْفَوَاحِشِ قَالَ وقَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] أَيْ عَنْ الشُّكْرِ عَلَى النَّعِيمِ فَيُطَالَبُ الْعَبْدُ بِأَدَاءِ شُكْرِ اللَّهِ عَلَى النَّعِيمِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُعَاقِبُ عَلَى مَا أَبَاحَ وَإِنَّمَا يُعَاقِبُ عَلَى تَرْكِ مَأْمُورٍ وَفِعْلِ مَحْذُورٍ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَآيَةُ الْمَائِدَةِ ذَكَرَ مَعْنَى كَلَامِهِ فِيهَا بَعْضُ الْمُفَسَّرَيْنِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُهَا. فَأَمَّا السُّؤَالُ عَنْ النَّعِيمِ فَقِيلَ يَخْتَصُّ بِالْكُفَّارِ وَيُعَذَّبُونَ عَلَى تَرْكِ الشُّكْرِ وَقِيلَ عَامٌّ، ثُمَّ النَّعِيمُ هَلْ هُوَ عَامٌّ أَوْ خَاصٌّ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، ثُمَّ فِي تَعْيِينِهِ نَحْوُ عَشَرَةِ أَقْوَالٍ، وَظَاهِرُ اللَّفْظِ الْعُمُومُ فِيهَا قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَهُوَ الصَّحِيحُ قَالَ فَالْكَافِرُ يُسْأَلُ تَوْبِيخًا لَهُ إذَا لَمْ يَشْكُرْ الْمُنْعِمَ وَلَمْ يُوَحِّدْهُ، وَالْمُؤْمِنُ يُسْأَلُ عَنْ شُكْرِهَا كَذَا قَالَ فَظَاهِرُهُ لَا يُسْأَلُ تَوْبِيخًا وَتَعْذِيبًا وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بَعْد كَلَامِهِ الْمَذْكُورِ: وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ثَلَاثٌ لَا أَسْأَلُ عَبْدِي عَنْ شُكْرِهِنَّ وَأَسْأَلُهُ عَمَّا سِوَى ذَلِكَ بَيْتٌ يَسْكُنُهُ وَمَا يُقِيمُ بِهِ صُلْبَهُ مِنْ الطَّعَامِ وَمَا يُوَارِي بِهِ عَوْرَتَهُ مِنْ اللِّبَاسِ» وَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا فِي فَصْلِ تَقْبِيلِ الْخُبْزِ، وَيُوَافِقُ كَلَامُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ مَا ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي قَوْله تَعَالَى {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} [المائدة: 1] وَسَبَقَ فِي الْفَصْلِ قَوْلُهُ

{لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] قَالَ الْقَاضِي أَيْ عَنْ الْقِيَامِ بِحَقِّ شُكْرِهِ. وَقَالَ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَاوِيُّ سُؤَالُ تَعْدَادِ النِّعَمِ وَإِعْلَامٍ بِالِامْتِنَانِ بِهَا لَا سُؤَالُ تَوْبِيخٍ وَمُحَاسَبَةٍ، وَقَوْلُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ إنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ الْمُبَاحِ رَأْسًا جَهْلٌ كَذَا قَالَ غَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ فِعْلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَطَرِيقِهِ فَمَنْ اتَّخَذَ طَرِيقًا إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ خِلَافَ طَرِيقِهِ فَإِنَّمَا يَرُومُ ذَلِكَ وَيَظُنُّ أَنَّهَا أَوْصَلُ إلَى الْمَقْصُودِ وَأَبْلَغُ فِي حُصُولِ الْمَطْلُوبِ لَا سِيَّمَا مَعَ شِدَّةِ طَرِيقِهِ وَضِيقِهَا وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا مِنْ الْجَهْلِ، وَالضَّلَالِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو شَامَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْمَقْدِسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الْبَاعِثِ عَلَى إنْكَارِ الْبِدَعِ، وَالْحَوَادِثِ مَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الْجَامِعِ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ مِنْ أَيْنَ أُحْرِمُ قَالَ مِنْ الْمِيقَاتِ الَّذِي وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَحْرَمَ فَقَالَ الرَّجُلُ فَإِنِّي أَوْ فَإِنْ أَحْرَمْت مِنْ أَبْعَدَ مِنْهُ قَالَ مَالِكٌ لَا أَرَى ذَلِكَ، فَقَالَ مَا تَكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ أَكْرَهُ عَلَيْك الْفِتْنَةَ قَالَ وَأَيُّ فِتْنَةٍ فِي ازْدِيَادِ الْخَيْرِ قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] . وَأَيُّ فِتْنَةٍ أَكْبَرُ مِنْ أَنَّك خُصِصْتَ بِفِعْلٍ لَمْ يُخْصَصْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ مِنْ أَيْنَ أُحْرِمُ قَالَ مِنْ حَيْثُ أَحْرَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَعَادَ عَلَيْهِ مِرَارًا قَالَ فَإِنْ زِدْتُ عَلَى ذَلِكَ قَالَ فَلَا تَفْعَلْ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْك الْفِتْنَةَ قَالَ وَمَا فِي هَذَا مِنْ الْفِتْنَةِ إنَّمَا هِيَ أَمْيَالٌ أَزِيدُهَا

قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] . قَالَ وَأَيُّ فِتْنَةٍ فِي هَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَيُّ فِتْنَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَرَيْ اخْتِيَارَك لِنَفْسِك خَيْرًا مِنْ اخْتِيَارِ اللَّهِ تَعَالَى وَاخْتِيَارِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا آكُلُ اللَّحْمَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ فَبَلَغَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا، لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَآكُلُ اللَّحْمَ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» . وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ قَالَهَا ثَلَاثًا» وَهُمْ الْمُبَالِغُونَ فِي الْأُمُورِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ وَهُوَ مِنْ التَّابِعِينَ الصُّلَحَاءِ أَنَّهُ عَاهَدَ اللَّهَ أَنْ لَا يَضَعَ جَنْبَهُ إلَى الْأَرْضِ مَا بَقِيَ فِي الدُّنْيَا وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثِينَ سَنَةً وَوَفَّى بِذَلِكَ. وَعَنْ دَاوُد الطَّائِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَسَفُّ السَّوِيقَ لِئَلَّا يَشْتَغِلُ بِمَضْغِ الْخُبْزِ وَغَيْرِهِ عَنْ الذِّكْرِ، وَعَنْ غَيْرِهِمَا مِنْ الْعُبَّادِ مَعْنَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَلَعَلَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ عَنْ عَابِدٍ عَالِمٍ، وَعَابِدٌ جَاهِلٌ لَا عِبْرَةَ بِرَأْيِهِ فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مَحْجُوجٌ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْكَلَامَ الْمَشْهُورَ: كُلُّ أَحَدٍ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا صَاحِبَ هَذَا الْقَبْرِ يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَيْدِ الْخَاطِرِ بَعْضَ ذَلِكَ وَغَيْرَهُ عَنْ بَعْضِ الْعُبَّادِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَالَ وَلَعَمْرِي إنَّ هَذِهِ خَيْرَاتٌ وَلَكِنْ عَلَيْك بِالْجَادَّةِ طَرِيقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أَوْ كَمَا قَالَ، وَأَمَّا إنْ أَسْرَفَ فِي تَنَاوُلِ ذَلِكَ

فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَجَمَاعَةٌ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ التَّبْذِيرَ وَالْإِسْرَافَ مَا أَخْرَجَهُ فِي الْحَرَامِ لِقَوْلِهِ: لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا لُقْمَةٌ فَوَضَعَهَا فِي فِي أَخِيهِ لَمْ يَكُنْ إسْرَافًا. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى إنْ لَمْ يَخَفْ الْفَقْرَ لَمْ يَكُنْ مُسْرِفًا، وَإِلَّا فَهُوَ مِنْ السَّرَفِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّبْذِيرِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إنْفَاقُ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقٍّ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَالَ الزَّجَّاجُ فِي غَيْرِ طَاعَةٍ. (وَالثَّانِي) الْإِسْرَافُ الْمُتْلِفُ الْمَالَ {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 27] . يُوَافِقُونَهُمْ فِيمَا يَدْعُونَهُمْ إلَيْهِ وَيُشَاكِلُونَهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 27] أَيْ جَاحِدًا لِنِعَمِهِ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَهَذَا يَتَضَمَّنُ أَنَّ الْمُسْرِفَ كَفُورٌ لِلنِّعَمِ وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ التَّبْذِيرَ أَنْ يَصْرِفَهُ فِي حَرَامٍ أَوْ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ وَالْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ فِي الْفِقْهِ فِي بَابِ الْحَجْرِ، وَسَبَقَ كَلَامُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ أَنَّ الْإِسْرَافَ فِي الْمُبَاحَاتِ مُحَرَّمٌ وَقَدْ يُحْتَجُّ لِعَدَمِ التَّحْرِيمِ بِعُمُومِ الْقُرْآنِ وَإِطْلَاقِهِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى السَّبَبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] . وَكَقَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] . وَبِأَنَّهُ إجْمَاعٌ سَابِقٌ فِي الْبِنَاءِ وَالْعِمَارَةِ كَمَا يَأْتِي فِي كَلَامِ ابْنِ حَزْمٍ فَهَذَا أَوْلَى، وَمِنْ قَالَ بِخِلَافِ ذَلِكَ يَحْتَجُّ بِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى:

{وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] . وَيُحْمَلُ مَا سَبَقَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْإِبَاحَةُ فِي الْجُمْلَةِ لَا مَعَ السَّرَفِ؛ لِأَنَّهُ أَخَصُّ وَحَيْثُ لَمْ يُحَرَّمْ فَمَعْلُومُ أَنَّ تَرْكَهُ أَوْلَى، وَهَلْ يُكْرَهُ؟ ظَاهِرُ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ وَعَدَمُ دَلِيلِهَا وَيَأْتِي كَلَامُ ابْنِ عَقِيلٍ فِي فُصُولِ التَّكَسُّبِ: أُقْسِمُ بِاَللَّهِ لَوْ عَبَسَ الزَّمَانُ فِي وَجْهِكَ مَرَّةً لَعَبَسَ فِي وَجْهِكَ أَهْلُكَ وَجِيرَانُكَ ثُمَّ حَثّ عَلَى الْإِمْسَاكِ، وَقَوْلُ أَحْمَدَ فِي الْكَرَمِ وَالْبُخْلِ مُتَمَثِّلًا: قَلِيلُ الْمَالِ تُصْلِحُهُ فَيَبْقَى ... وَلَا يَبْقَى الْكَثِيرُ عَلَى الْفَسَادِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْكَرَامَةِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ فِي الشَّاهِدِ وَالْغَائِبِ، افْتَقَرَ خَلْقٌ كَثِيرٌ بِالْإِسْرَافِ فِي اللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ الْكَرَاهَةُ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20] . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ الْمُرَادُ بِطَيِّبَاتِهِمْ مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ اللَّذَّاتِ مُشْتَغِلِينَ بِهَا عَنْ الْآخِرَةِ مُعْرِضِينَ عَنْ شُكْرِهَا، وَلَمَّا وَبَّخَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ آثَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ وَالصَّالِحُونَ بَعْدَهُمْ اجْتِنَابَ نَعِيمِ الْعَيْشِ وَلَذَّتِهِ لِيَتَكَامَلَ أَجْرُهُمْ وَلِئَلَّا يُلْهِيهِمْ عَنْ مَعَادِهِمْ. رَوَى جَابِرٌ قَالَ رَأَى عُمَرُ لَحْمًا مُعَلَّقًا فِي يَدِي فَقَالَ: مَا هَذَا يَا جَابِرُ؟ فَقُلْتُ: اشْتَهَيْتُ لَحْمًا فَاشْتَرَيْتُهُ، فَقَالَ أَوَ كُلَّمَا اشْتَهَيْتَ اشْتَرَيْتَ يَا جَابِرُ؟ أَمَا تَخَافُ هَذِهِ الْآيَةَ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20] . وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قِيلَ لَهُ لَوْ أَمَرْتَ أَنْ يُصْنَعَ لَكَ طَعَامٌ أَلْيَنُ

مِنْ هَذَا فَقَالَ: إنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ عَيَّرَ أَقْوَامًا فَقَالَ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20] انْتَهَى كَلَامُهُ. الْأَثَرُ عَنْ جَابِرٍ فِي الْمُوَطَّأِ وَفِيهِ أَنَّهُ اشْتَرَى لَحْمًا بِدِرْهَمٍ، وَأَنَّ عُمَرَ قَالَ لَهُ: مَا يُرِيدُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَطْوِيَ بَطْنَهُ عَنْ جَارِهِ وَابْنِ عَمِّهِ أَيْنَ يَذْهَبُ عَنْكُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20] . وَمَا يُرْوَى عَنْ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْخَلَفِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ مَا يَدُلَّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ إسْرَافٌ وَالْكَلَام فِيهِ. وَقَدْ قَالَ أَبُو حَازِمٍ لِسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ هَلْ أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النِّقْيَ؟ فَقَالَ: مَا رَأَى النِّقْيَ مَنْ حِينِ ابْتَعَثَهُ اللَّهُ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ، فَقُلْتُ هَلْ كَانَ لَكُمْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنَاخِلُ؟ قَالَ: مَا رَأَى مُنْخُلًا مَنْ حَيْثُ ابْتَعَثَهُ اللَّهُ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ قُلْتُ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ الشَّعِيرَ غَيْرَ مَنْخُولٍ؟ قَالَ: كُنَّا نَطْحَنُهُ وَنَنْفُخُهُ فَيَطِيرُ مَا طَارَ وَمَا بَقِيَ ثَرَيْنَاهُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَزَادَ بَعْد قَوْلِهِ: النِّقْيَ يَعْنِي الْحَوَارِيَّ ثَرَيْنَا عَجَنَّاهُ وَسَيَأْتِي فِي آدَابِ الْمَسَاجِدِ حُكْمُ إنْفَاقِ الْمَالِ فِي الْبِنَاء وَالْعِمَارَةِ، وَكَلَامُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ وَأَمَّا إنْفَاقُهُ فِي الصَّدَقَةِ فَمَذْكُورٌ فِي الْفِقْهِ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ وَيَأْتِي فِي فُصُولِ التَّكَسُّبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْحَنَفِيَّةُ الْأَكْلُ فَوْقَ الشِّبَعِ حَرَامٌ قَالَ الْمَشَايِخُ مِنْهُمْ إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ. (أَحَدُهُمَا) : أَنْ يَأْكُل فَوْقَ الشِّبَعِ لِيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى صَوْمِ الْغَدِ. (وَالثَّانِي) : إذَا نَزَلَ بِهِ ضَيْفٌ وَقَدْ تَنَاهَى أَكْلُهُ وَلَمْ يَشْبَعْ ضَيْفُهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَتَى أَمْسَكَ عَنْ الْأَكْلِ أَمْسَكَ الضَّيْفُ عَنْهُ حَيَاءً وَخَجَلًا فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ

فَوْقَ الشِّبَعِ؛ لِكَيْ لَا يَكُونَ دَاخِلًا فِي جُمْلَةِ مَنْ أَسَاءَ الْقِرَى وَإِسَاءَةُ الْقِرَى مَذْمُومَةٌ شَرْعًا، وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَقَالَ الْمَشَايِخَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: وَمِنْ السَّرَفِ أَنْ يُلْقَى عَلَى الْمَائِدَة مِنْ الْخُبْزِ أَضْعَافُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْآكِلُونَ. وَمِنْ السَّرَف أَنْ يَضَعَ لِنَفْسِهِ أَلْوَانَ الطَّعَامِ، وَيُكْرَهُ تَعْلِيقُ الْخُبْزِ عَلَى الْخِوَانِ بَلْ يُوضَعُ بِحَيْثُ لَا يَتَعَلَّقُ، وَيُكْرَهُ وَضْعُ الْخُبْزِ فِي جَنْبِ الْقَصْعَةِ لِتَسْتَوِيَ الْقَصْعَةُ وَيُكْرَهُ مَسْحُ الْأَصَابِعِ وَالسِّكِّينِ فِي الْخُبْزِ، وَيُكْرَهُ وَضْعُ الْمَمْلَحَةِ عَلَى الْخُبْزِ بَلْ يُوضَعُ الْمِلْحُ وَحْدَهُ عَلَى الْخُبْزِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَأْكُلَ مَا انْتَفَخَ مِنْ الْخُبْزِ وَوَجْهَهُ وَيَتْرُكَ الْبَاقِيَ، وَمَتَى أَذْهَبَ طَيِّبَاتِهِ فِي حَيَاتِهِ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعَ بِهَا ذَهَبَتْ دَرَجَاتُهُ فِي الْآخِرَةِ انْتَهَى كَلَامُهُمْ. وَقَدْ وَرَدَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَا ظَاهِرُهُ مُوَافِقٌ لِمَا ذُكِرَ فِي الْمَسْأَلَة الْأَخِيرَةِ. وَرَوَى مُسْلِمُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الْكَافِرَ إذَا عَمِلَ حَسَنَةً أُطْعِمَ بِهَا فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَإِنَّ اللَّهَ يَدَّخِرُ لَهُ حَسَنَاتِهِ فِي الْآخِرَةِ وَيُعْقِبُهُ رِزْقًا فِي الدُّنْيَا عَلَى طَاعَتِهِ» قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ الْمُؤْمِنُ يُدَّخَرُ لَهُ حَسَنَاتُهُ وَثَوَابُ أَعْمَالِهِ إلَى الْآخِرَةِ وَيُجْزَى بِهَا مَعَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي الدُّنْيَا وَلَا مَانِعَ مَنْ جَزَائِهِ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فَيَجِبُ اعْتِقَادُهُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «مَا مِنْ غَازِيَةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُصِيبُونَ الْغَنِيمَةَ إلَّا تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أَجْرِهِمْ مِنْ الْآخِرَةِ وَيَبْقَى لَهُمْ الثُّلُثُ وَإِنْ لَمْ يُصِيبُوا غَنِيمَةً تَمَّ لَهُمْ الْأَجْرُ» حَمَلَهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَقَالَ: وَتَكُونُ هَذِهِ الْغَنِيمَةُ مَنْ جُمْلَةِ الْأَجْرِ قَالَ: وَهَذَا مُوَافِقٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَقَوْلِهِمْ: مِنَّا مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَأْكُلْ مَنْ أَجْرِهِ شَيْئًا وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدُبُهَا أَيْ يَجْتَنِيهَا. وَذَكَرَ فِيهِ أَقْوَالًا وَضَعَّفَهَا وَقَالَ: إنَّ هَذَا الصَّوَابُ الَّذِي لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ وَاخْتَارَ الْقَاضِي عِيَاضٌ مَعْنَاهُ وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الْخَبَرَ

الْمَذْكُورَ فِي تَنْقِيصِ أَجْرِ مَنْ غَنِمَ لَا يَصِحُّ، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْقَصَ ثَوَابُ أَهْلِ بَدْرٍ قَالَ بَعْضُهُمْ وَرَاوِي هَذَا الْخَبَرِ أَبُو هَانِئٍ حُمَيْدُ بْنُ هَانِئٍ مَجْهُولٌ؛ وَلِأَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ الْمُجَاهِدَ يَرْجِعُ بِمَا نَالَ مَنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ وَأُجِيبَ بِأَنَّ أَبَا هَانِئٍ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ رَوَى عَنْهُ اللَّيْثُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ. وَلَيْسَ فِي غَنِيمَةِ بَدْرٍ نَصُّ إنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَغْنَمُوا لَكَانَ أَجْرُهُمْ عَلَى قَدْرِ أَجْرِهِمْ، وَقَدْ غَنِمُوا فَقَطْ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذَا الْخَبَرِ وَبَيْنَ الْخَبَرِ الْآخَرِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ: إنَّ الْغَنِيمَةَ تَنْقُصُ الْأَجْرَ أَمْ لَا، وَلَا قَالَ: أَجْرُهُ كَأَجْرِ مَنْ لَمْ يَغْنَمْ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الَّذِي تَعَجَّلَ ثُلُثَيْ أَجْرِهِ إنَّمَا هُوَ فِي غَنِيمَةٍ أُخِذَتْ عَلَى غَيْر وَجْهِهَا، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَاد أَنَّ الَّتِي لَمْ تَغْنَمْ يَكُونُ لَهَا أَجْرٌ بِالْأَسَفِ عَلَى مَا فَاتَهَا مَنْ الْغَنِيمَةِ فَيُضَاعَفُ ثَوَابُهَا كَمَا يُضَاعَفُ ثَوَابُ مَنْ أُصِيبَ فِي مَالِهِ وَأَهْلِهِ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ خَرَجَ بِنِيَّةِ الْغَزْوِ وَالْغَنِيمَةِ مَعًا فَيَنْقُصُ اللَّهُ ثَوَابَهُ وَاَللَّه أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي إبْرَاهِيمَ: {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة: 130] : قَالَ لَهُ هُنَاكَ جَزَاءُ الصَّالِحِينَ غَيْر مَنْقُوصٍ مِنْ الْآخِرَةِ بِمَا أُعْطِيَ فِي الدُّنْيَا مَنْ الْآخِرَة.

فصل في مباسطة الضيفان ومعاملة كل طبقة بما يليق بها

[فَصْلٌ فِي مُبَاسَطَةِ الضِّيفَانِ وَمُعَامَلَةِ كُلِّ طَبَقَةٍ بِمَا يَلِيقُ بِهَا] ) وَيُسْتَحَبُّ لِصَاحِبِ الطَّعَامِ أَنْ يُبَاسِطَ الْإِخْوَانَ بِالْحَدِيثِ الطَّيِّبِ وَالْحِكَايَاتِ الَّتِي تَلِيقُ بِالْحَالِ إذَا كَانُوا مُنْقَبِضِينَ قَالَ الْمَأْمُونُ سَبْعَةُ أَشْيَاءَ لَا تُمَلُّ أَكْلُ خُبْزِ الْبُرِّ، وَشُرْبُ مَاءِ الْعِنَبِ، وَأَكْلُ لَحْمِ الضَّأْنِ، وَالثَّوْبُ اللَّيِّنُ، وَالرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ، وَالْفِرَاشُ الْوَطِيءُ، وَالنَّظَرُ إلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسَنٍ، فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ: أَيْنَ مُحَادَثَةُ الْإِخْوَانِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: هُنَّ ثَمَانٍ وَهِيَ أُولَاهُنَّ. وَيَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مَعَ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا بِالْأَدَبِ وَمَعَ الْفُقَرَاءِ بِالْإِيثَارِ وَمَعَ الْإِخْوَانِ بِالِانْبِسَاطِ وَمَعَ الْعُلَمَاءِ بِالتَّعَلُّمِ وَالِاتِّبَاع قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: يَأْكُلُ بِالسُّرُورِ مَعَ الْإِخْوَانِ وَبِالْإِيثَارِ مَعَ الْفُقَرَاءِ وَبِالْمُرُوءَةِ مَعَ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا. قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَوْمَ عِيدٍ: خُذْ عَلَيْكَ رِدَاءَكَ وَادْخُلْ قَالَ: فَدَخَلْتُ فَإِذَا مَائِدَةٌ وَقَصْعَةٌ عَلَى خِوَانٍ عَلَيْهَا عِرَاقٌ وَقَدْ زَالَ جَانِبُهُ، فَقَالَ لِي: كُلْ فَلَمَّا رَأَى مَا نَزَلَ بِي قَالَ إنَّ الْحَسَنَ كَانَ يَقُولُ: وَاَللَّهِ لَتَأْكُلَنَّ. وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَقُولُ: إنَّمَا وُضِعَ الطَّعَامُ لِيُؤْكَلَ. وَكَانَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ يَبِيعُ ثِيَابَهُ وَيُنْفِقُهَا عَلَى أَصْحَابِهِ وَكَانَتْ الدُّنْيَا أَهْوَنَ عَلَيْهِ مَنْ ذَاكَ، وَأَوْمَأَ إلَى جِذْعٍ مَطْرُوحٍ قَالَ: فَانْبَسَطْت فَأَكَلْتُ لَتَأْكُلَنَّ هَذِهِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُد الْحَرْبِيُّ اشْتَرَى إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ لِأَصْحَابِهِ شَيْئًا وَقَالَ: يَا فِتْيَانُ كُلُوا فِي رَهْنٍ رَوَاهُ الْخَلَّالُ فِي الْأَخْلَاقِ وَغَدَّى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرٍ الْقَطِيعِيَّ وَأَبَاهُ قَالَ مُحَمَّدٌ فَجَعَلْتُ آكُلُ وَفِي انْقِبَاضٌ لِمَكَانِ أَحْمَدَ قَالَ: فَقَالَ لِي لَا تَحْتَشِمْ قَالَ: فَجَعَلْتُ آكُلُ قَالَهَا ثَلَاثًا أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ قَالَ لِي فِي الثَّالِثَةِ يَا بُنَيَّ كُلْ فَإِنَّ الطَّعَامَ أَهْوَنُ مِمَّا يُحْلَفُ عَلَيْهِ.

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْكُتَّابُ فِي بَابِ الِاصْطِلَاحِ الْمُحْدَثِ الَّذِي اسْتِعْمَالُهُ خَطَأٌ وَقَالَ وَاسْتَعْمَلُوا. احْتَشَمَ بِمَعْنَى اسْتَحْيَا وَلَا نَعْرِفُ احْتَشَمَ بِمَعْنَى اسْتَحْيَا وَلَا نَعْرِفُ احْتَشَمَ إلَّا بِمَعْنَى غَضِبَ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ عَنْ أَبِي زَيْدٍ حَشَمْتُ الرَّجُلَ وَأَحْشَمْتُهُ بِمَعْنَى وَهُوَ أَنْ يَجْلِسَ إلَيْك فَتُؤْذِيَهُ وَتُغْضِبهُ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ حَشَمْتُهُ أَخْجَلْتُهُ وَأَحْشَمْتُهُ أَغْضَبْتُهُ، وَالِاسْمُ الْحَشَمُ وَهُوَ الِاسْتِحْيَاءُ وَالْغَضَبُ أَيْضًا وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْحِشْمَةُ إنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى الْغَضَبِ لَا بِمَعْنَى الِاسْتِحْيَاءِ، وَأَحْشَمْتُهُ وَاحْتَشَمْتُ مِنْهُ بِمَعْنَى وَرَجُلٌ حَشَمٌ أَيْ: مُحْتَشِمٌ، وَحَشَمُ الرَّجُلِ خَدَمُهُ وَمَنْ يَغْضَبُ لَهُ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَغْضَبُونَ لَهُ ذَكَرَ ذَلِكَ الْجَوْهَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ بسرى قَدْ جَاءَ الْحِشْمَةُ بِمَعْنَى الْحَيَاءِ قَالَ أَبُو زَيْدٍ الْإِبَةُ الْحَيَاءُ، يُقَالُ: فَاتَّأَبَ أَيْ احْتَشَمَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِكُلِّ دَاخِلٍ دَهْشَةٌ، وَلِكُلِّ طَاعِمٍ حِشْمَةٌ، فَابْدَءُوهُ بِالْيَمِينِ وَقَالَ لِلْمُنْقَبِضِ عَنْ الطَّعَامِ مَا الَّذِي حَشَمَكَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذَا لِئَلَّا يَنْسِبُ بَعْضُ مَنْ يَقِفُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذَلِكَ إلَى مَا لَا يَنْبَغِي، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، لَكِنْ قَدْ اُسْتُعْمِلَ ذَلِكَ فِي عُرْفٍ حَادِثٍ عَلَى مَا لَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَذُكِرَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِصَاحِبِ الطَّعَامِ وَأَهْلِ الطَّعَامِ الْأَكْلُ بَعْد طَعَامِ الضِّيفَانِ لِحَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ الصَّحِيحِ، وَالْأَوْلَى النَّظَرُ فِي قَرَائِنِ الْحَالِ، وَمَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ وَفِيمَا تَقَدَّمَ إشْعَارٌ بِذَلِكَ، وَحَدِيثُ أَبِي طَلْحَةَ لَا يُخَالِفُهُ. وَذَكَرَ ابْن الْجَوْزِيِّ فِي آدَابِ الْأَكْلِ أَنْ لَا يَسْكُتُوا عَلَى الطَّعَامِ، بَلْ يَتَكَلَّمُوا بِالْمَعْرُوفِ وَيَتَكَلَّمُونَ بِحِكَايَاتِ الصَّالِحِينَ فِي الْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا. وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقْصِدَ كُلٌّ مِنْهُمْ الْإِيثَارَ لِرَفِيقِهِ وَلَا يُحْوِجُ رَفِيقَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ بَلْ يَنْبَسِطُ، وَلَا يَتَصَنَّعُ بِالِانْقِبَاضِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَفْعَلَ مَا يَسْتَقْذِرُهُ مَنْ غَيْرِهِ، فَلَا يَنْفُضُ يَدَهُ فِي الْقَصْعَةِ وَلَا يُقَدِّمُ إلَيْهَا رَأْسَهُ عِنْد وَضْعِ اللُّقْمَةِ فِي فِيهِ، وَإِذَا خَرَجَ شَيْءٌ مَنْ فِيهِ لِيَرْمِيَ بِهِ صَرَفَ وَجْهَهُ عَنْ الطَّعَامِ وَأَخَذَهُ بِيَسَارِهِ، وَلَا يَغْمِسُ اللُّقْمَةَ الدَّسِمَةَ فِي الْخَلِّ، وَلَا الْخَلَّ فِي الدَّسَمِ فَقَدْ يَكْرَهُهُ غَيْرُهُ، وَلَا يَغْمِسُ بَقِيَّةَ اللُّقْمَةِ الَّتِي أَكَلَ مِنْهَا فِي الْمَرَقَةِ. وَيُسْتَحَبُّ

تَقْدِيمُ الطَّعَامِ إلَى الْإِخْوَانِ وَيُقَدِّمُ مَا حَضَرَ مَنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ وَلَا يَسْتَأْذِنُهُمْ فِي التَّقْدِيمِ بَلْ يُقَدِّمُ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ كَذَا ذَكَرَ. وَفِي هَذَا الْأَدَبِ نَظَرٌ قَالَ: وَمِنْ التَّكَلُّفِ أَنْ يُقَدِّمَ جَمِيعَ مَا عِنْدَهُ انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ حَدَّثَنَا عَفَّانَ ثَنَا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سالور عَنْ شَقِيقٍ أَوْ نَحْوِهِ شَكَّ قَيْسٌ «أَنَّ سَلْمَانَ دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَدَعَا لَهُ بِمَا كَانَ عِنْدَهُ فَقَالَ: لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَانَا أَوْ قَالَ لَوْلَا أَنَّا نُهِينَا أَنْ يَتَكَلَّفَ أَحَدُنَا لِصَاحِبِهِ لَتَكَلَّفْنَا لَكَ» . هَذَا الْإِسْنَادُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَقَدْ يُحْتَجُّ بِهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْحُكْمِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَمِنْ آدَابِ الزَّائِرِ أَنْ لَا يَقْتَرِحَ طَعَامًا بِعَيْنِهِ وَإِنْ خُيِّرَ بَيْنَ طَعَامَيْنِ اخْتَارَ الْأَيْسَرَ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مُضِيفَهُ يُسَرُّ بِاقْتِرَاحِهِ، وَلَا يُقَصِّرُ عَنْ تَحْصِيلِ ذَلِكَ قَالَ: وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَقْصِدَ بِالْإِجَابَةِ إلَى الدَّعْوَةِ نَفْسَ الْأَكْلِ بَلْ يَنْوِي بِهِ الِاقْتِدَاءَ بِالسُّنَّةِ وَإِكْرَامَ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ وَيَنْوِي صِيَانَةَ نَفْسِهِ عَمَّنْ يُسِيءُ بِهِ الظَّنَّ، فَرُبَّمَا قِيلَ عَنْهُ إذَا امْتَنَعَ هَذَا مُتَكَبِّرٌ، وَلَا يُكْثِرُ النَّظَرَ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ الطَّعَامُ فَإِنَّهُ دَلِيلٌ مِنْهُ عَلَى الشَّرَهِ. وَهَذَا مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي فِعْلُ مَا يَدُلّ عَلَى الشَّرَهِ، وَمِنْهُ الْأَكْلُ الْكَثِيرُ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ عَنْ الْعَادَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْت وَلِهَذَا كَانَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا دُعِيَ أَكَلَ مَا يَكْسِر نَهْمَتَهُ قَبْلَ ذَهَابِهِ وَلَعَلَّهُ تَبِعَ فِي ذَلِكَ مَنْ مَضَى مَنْ السَّلَفِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَبْد الْبَرّ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ إذَا دُعِيَ إلَى طَعَام أَكْل شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ وَيَقُولُ قَبِيحٌ بِالرَّجُلِ أَنْ يُظْهِرَ نَهْمَتَهُ فِي طَعَامِ غَيْرِهِ، وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَم يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَال. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَمِنْ آدَابِ إحْضَارِ الطَّعَامِ تَعْجِيلُهُ وَتَقْدِيمُ الْفَاكِهَةِ قَبْلَ غَيْرِهَا لِأَنَّهُ أَصْلَحُ فِي بَابِ الطِّبِّ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} [الواقعة: 20] {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة: 21] . انْتَهَى كَلَامُهُ.

فصل ما ورد من حمد الله والثناء عليه بعد الطعام والاجتماع له والتسمية قبله

[فَصْلٌ مَا وَرَدَ مَنْ حَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ بَعْد الطَّعَامِ وَالِاجْتِمَاعِ لَهُ وَالتَّسْمِيَةِ قَبْلَهُ] فَصْلٌ (فِيمَا وَرَدَ مَنْ حَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ بَعْدَ الطَّعَامِ) وَالِاجْتِمَاعِ لَهُ وَالتَّسْمِيَةِ قَبْلَهُ. عَنْ أَبِي أُمَامَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا رَفَعَ مَائِدَتَهُ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلَا مُوَدَّعٍ وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبَّنَا» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ قَالَ فِي النِّهَايَةِ " فِي غَيْرَ مَكْفِيٍّ " أَيْ غَيْرَ مَرْدُودٍ وَلَا مَقْلُوبٍ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى الطَّعَامِ، وَقِيلَ مَكْفِيٍّ مِنْ الْكِفَايَةِ يَعْنِي أَنَّ اللَّهُ هُوَ الْمُطْعِمُ وَالْكَافِي وَغَيْرُ مُطْعَمٍ وَلَا مَكْفِيٍّ فَيَكُونُ الضَّمِيرُ لِلَّهِ. وَقَوْلُهُ " وَلَا مُوَدَّعٍ " أَيْ غَيْرُ مَتْرُوكِ الطَّلَبُ إلَيْهِ وَالرَّغْبَةُ فِيمَا عِنْدَهُ. وَقَوْلُهُ " رَبَّنَا " مَنْصُوبٌ عَلَى النِّدَاءِ وَعَلَى الثَّانِي مَرْفُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ أَيْ رَبَّنَا غَيْرَ مَكْفِيِّ وَلَا مُوَدَّعٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ الْكَلَامُ إلَى الْحَمْدِ كَأَنَّهُ قَالَ حَمْدًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلَا مُوَدَّعٍ وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ أَيْ عَنْ الْحَمْد. وَلِلْبُخَارِيِّ «كَانَ إذَا فَرَغَ مَنْ طَعَامِهِ قَالَ الْحَمَدُ لِلَّهِ الَّذِي كَفَانَا وَأَرْوَانَا غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلَا مَكْفُورٍ» وَعَنْ أَبِي سَعِيد قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ» هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ ضَعْفٌ وَاضْطِرَابٌ، وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَكَلَ طَعَامًا فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا وَرَزَقْنِيهِ مَنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مَنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ لَبِسَ ثَوْبًا فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي هَذَا وَرَزَقَنِيهِ مَنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مَنْ ذَنْبِهِ» . هَذَا الْحَدِيثُ فِي إسْنَادِهِ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مَيْمُونٍ أَبُو مَرْحُومٍ الْمَعَافِرِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ، أَمَّا أَبُو مَرْحُومٍ فَضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَأَبُو حَاتِمِ وَغَيْرُهُمَا وَقَالَ النَّسَائِيُّ: أَرْجُو أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ. وَأَمَّا سَهْلٌ فَضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ وَغَيْرُهُ يُكْرَهُ الْأَكْلُ عَلَى الطَّرِيقِ قَالَ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِالْمِلْحِ وَيَخْتِمَ بِهِ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فَقَدْ زَادَ الْمِلْحَ قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ وَمِنْ الْأَدَبِ أَنْ لَا يُكْثِرَ النَّظَرَ إلَى وُجُوهِ الْآكِلِينَ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَحْشِمُهُمْ وَلَا يَتَكَلَّمُ عَلَى الطَّعَامِ بِمَا يُسْتَقْذَرُ مَنْ الْكَلَامِ وَلَا بِمَا يُضْحِكهُمْ خَوْفًا عَلَيْهِمْ مَنْ الشَّرَقِ وَلَا بِمَا يُحْزِنُهُمْ لِئَلَّا يُنَغِّصَ عَلَى الْآكِلِينَ أَكْلَهُمْ وَيُكْرَهَ أَكْلُ الْبَقْلَةِ الْخَبِيثَةِ وَهِيَ الثُّومِ وَالْبَصَلُ وَالْكُرَّاثُ لِكَرَاهَةِ رِيحِهِ قَالَ: وَيُكْرَهُ إخْرَاجُ شَيْءٍ مِنْ فِيهِ وَرَدُّهُ إلَى الْقَصْعَةِ قَالَ: وَلَا يَمْسَحُ يَدَهُ بِالْخُبْزِ وَلَا يَسْتَبْدِلُهُ وَلَا يَخْلِطُ طَعَامًا بِطَعَامٍ قَالَ: وَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَمُّ الطَّعَامِ وَلَا لِصَاحِبِ الطَّعَامِ اسْتِحْسَانُهُ وَمَدْحُهُ وَلَا تَقْوِيمُهُ؛ لِأَنَّهُ دَنَاءَةٌ كَذَا قَالَ. وَالْقَوْلُ بِالْكَرَاهَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «مَا عَابَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَعَامًا قَطُّ كَانَ إذَا اشْتَهَى طَعَامًا أَكَلَهُ، وَإِنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ» . وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُد بَابٌ فِي كَرَاهِيَةِ ذَمِّ الطَّعَامِ قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ الطَّعَامِ إلَّا مَا يَشْتَهِيهِ، لَا يُجَاهِدُ نَفْسَهُ عَلَى تَنَاوُلِ مَا لَا يُرِيدُهُ فَإِنَّهُ مِنْ أَضَرِّ شَيْءٍ بِالْبَدَنِ، وَقَدْ جَاءَ فِي صِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة: 21] . قَالَ: وَفِيهِ أَيْضًا رَدٌّ عَلَى مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ تَنَاوُلَ مَا لَا يُشْتَهَى مَكْرُوهٌ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد (بَابٌ فِي كَرَاهِيَة التَّقَذُّرِ لِلطَّعَامِ) ثَنَا النُّفَيْلِيُّ ثَنَا زُهَيْرٌ ثَنَا سِمَاكٌ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنِي قَبِيصَةُ بْنُ هُلْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إنَّ مِنْ الطَّعَامِ طَعَامًا أَتَحَرَّجُ مِنْهُ. فَقَالَ: لَا يَخْتَلِجَنَّ فِي صَدْرِكَ شَيْءٌ ضَارَعْتَ فِيهِ النَّصْرَانِيَّةَ» قَبِيصَةُ تَفَرَّدَ عَنْهُ سِمَاكٌ قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَالنَّسَائِيُّ مَجْهُولٌ. وَقَالَ الْعِجْلِيّ وَغَيْرُهُ ثِقَةٌ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْن مَاجَهْ مِنْ حَدِيث سِمَاكٍ قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ الْمُضَارَعَةُ الْمُشَابَهَةُ وَالْمُقَارَبَةُ

كَأَنَّهُ أَرَادَ لَا يَتَحَرَّكَنَّ فِي قَلْبِكَ شَكٌّ أَنَّ مَا شَابَهْتَ فِيهِ النَّصَارَى حَرَامٌ أَوْ خَبِيثٌ أَوْ مَكْرُوهٌ وَذَكَرَهُ الْهَرَوِيُّ فِي بَابِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مَعَ اللَّامِ ثُمَّ قَالَ: إنَّهُ نَظِيفٌ قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ وَسِيَاقُ الْأَحَادِيث لَا يُنَاسِبُ هَذَا التَّفْسِيرَ. قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ: وَلَا يَرْفَعُ يَدَهُ حَتَّى يَرْفَعُوا أَيْدِيَهُمْ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ مِنْهُمْ الِانْبِسَاطَ إلَيْهِ وَلَا يَتَكَلَّفُ ذَلِكَ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُجْعَلَ مَاءُ الْأَيْدِي فِي طَسْتٍ وَاحِدٍ لِمَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ «لَا تُبَدِّدُوا يُبَدِّدْ اللَّهُ شَمْلَكُمْ» وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يُرْفَعَ الطَّسْتُ حَتَّى يَطِفَّ» يَعْنِي يَمْتَلِئَ كَذَا قَالَ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَدَلِيلُهَا ضَعِيفٌ إلَى أَنْ قَالَ: مِنْ الْأَدَبِ أَنْ لَا يَفْرِشَ الْمَائِدَةَ بِالْخُبْزِ وَيُوضَع فَوْقَهُ الْإِدَامُ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: يُسْتَدَلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الِاغْتِسَالِ بِالْأَقْوَاتِ؛ بِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى خَلْطِهَا بِالْأَدْنَاسِ وَالْأَنْجَاسِ فَنَهَى عَنْهُ كَمَا نَهَى عَنْ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِهَا، وَالْمِلْحُ لَيْسَتْ قُوتًا وَإِنَّمَا يَصْلُحُ بِهَا الْقُوتُ نَعَمْ يَنْهَى فِي الِاسْتِنْجَاءِ عَنْ قُوتِ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ لِلْإِنْسِ وَالْجِنِّ هَذَا لَا يُسْتَنْجَى بِالنُّخَالَةِ وَإِنْ غَسَلَ يَدَهُ بِهَا، فَأَمَّا إنْ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى اسْتِعْمَالِ الْقُوتِ، مِثْلَ الدَّبْغِ بِدَقِيقِ الشَّعِيرِ أَوْ التَّطَبُّبِ لِلْجَرَبِ بِاللَّبَنِ وَالدَّقِيقِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُرَخَّصَ فِيهِ كَمَا رُخِّصَ فِي قَتْلِ دُودِ الْقَزِّ بِالتَّشْمِيسِ؛ لِأَجَلِ الْحَاجَةِ إذْ لَا تَكُونُ حُرْمَةُ الْقُوتِ أَعْظَمَ مِنْ حُرْمَةِ الْحَيَوَانِ، وَبِهَذَا قَدْ يُجَابُ عَنْ الْمِلْحِ أَنَّهَا اُسْتُعْمِلَتْ لِأَجَلِ الْحَاجَةِ. وَعَلَى هَذَا فَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهَذَا الْأَصْلِ الشَّرْعِيِّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ إهَانَتِهَا بِوَضْعِ الْإِدَامِ فَوْقَهَا كَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ وَدَلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَمَرَ بِلَعْقِ الْأَصَابِعِ وَالصَّحْفَةِ وَأَخْذِ اللُّقْمَةِ السَّاقِطَةِ وَإِمَاطَةِ الْأَذَى عَنْهَا» كُلُّ ذَلِكَ؛ لِئَلَّا يَضِيعَ شَيْءٌ مَنْ الْقُوتِ، وَالتَّدَلُّكُ بِهِ إضَاعَةٌ لَهُ لِقِيَامِ غَيْرِهِ مَقَامَهُ وَهُوَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّبْذِيرِ الَّذِي هُوَ مِنْ فِعْلِ الشَّيْطَانِ. وَسُئِلْت عَنْ مِثْلِ هَذِهِ وَهُوَ غَسْلُ الْأَيْدِي بِالْمِسْكِ فَقُلْتُ: إنَّهُ إسْرَافٌ بِخِلَافِ تَتَبُّعِ الدَّمِ بِالْقَرْصَةِ الْمُمَسَّكَةِ فَإِنَّهُ يَسِيرٌ لِحَاجَةٍ وَهَذَا كَثِيرٌ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَاسْتِعْمَالُ الطِّيبِ فِي غَيْرِ التَّطَيُّبِ وَغَيْرِ

حَاجَةٍ كَاسْتِعْمَالِ الْقُوتِ فِي غَيْرِ التَّقَوُّتِ وَغَيْرِ حَاجَةٍ، وَحَدِيثُ الْبَقَرَةِ: إنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِلرُّكُوبِ يُسْتَأْنَسُ بِهِ فِي مِثْلِ هَذَا. وَيُسْتَدَلُّ عَلَى مَا فَعَلَهُ أَحْمَدُ مِنْ مَسْحِ الْيَد عِنْدَ كُلِّ لُقْمَةٍ بِأَنَّ وَضْع الْيَدِ فِي الطَّعَامِ يَخْلِطُ أَجْزَاءً مِنْ الرِّيقِ فِي الطَّعَامِ فَهُوَ فِي مَعْنَى مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ التَّنَفُّسِ فِي الْإِنَاء لَكِنْ يُسَوَّغُ فِيهِ؛ لِمَشَقَّةِ الْمَسْحِ عِنْد كُلِّ لُقْمَةٍ فَمَنْ يَحْشِمْ الْمَسْحَ، فَذَلِكَ حَسَنٌ مِنْهُ، انْتَهَى كَلَامُهُ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ غَسْلُ الْيَدِ بِطِيبٍ وَلَوْ كَثُرَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَيَتَوَجَّهُ تَحْرِيمُ الِاغْتِسَالِ بِمَطْعُومٍ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ تَعْلِيلِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ أَنَّ مِنْ السُّنَّةِ لِمَنْ أَرَادَ الْأَكْلَ أَنْ يَخْلَعَ نَعْلَيْهِ، وَرَوَى فِيهِ حَدِيثًا قَالَ: وَالْأَكْلُ عَلَى السُّفَر أَوْلَى مِنْ الْأَكْلِ عَلَى الْخِوَانِ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ «لَمْ يَأْكُلْ النَّبِيُّ عَلَى خِوَانٍ وَمَا أَكَلَ خُبْزًا مُرَقَّقًا حَتَّى مَاتَ» . وَلَهُ أَيْضًا عَنْهُ «مَا عَلِمْتُ النَّبِيَّ أَكَلَ عَلَى سُكُرُّجَةٍ قَطُّ وَلَا خُبِزَ لَهُ مُرَقَّقٌ قَطُّ، وَلَا أَكَلَ عَلَى خِوَانٍ قَطُّ» قِيلَ لِقَتَادَةَ عَلَى مَا كَانُوا يَأْكُلُونَ قَالَ عَلَى السُّفَرِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَزَادَ حَتَّى مَاتَ. وَمِنْ تَتِمَّةِ كَلَامِ ابْنِ حَامِدٍ قَالَ: وَيُكْرَهُ أَنْ يُعَيَّبَ الْأَكْلُ قَالَ: وَإِذَا كَانَ مَعَ الْجَمَاعَةِ فَقُدِّمَ إلَيْهِ لَوْنٌ وَاحِدٌ أَكَلَ مِمَّا يَلِيهِ، وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ فَلَا بَأْسَ أَنْ تَجُولَ يَدُهُ، فَإِنْ بَدَأَ بِالطَّعَامِ ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ ابْتَدَأَ إلَى الصَّلَاةِ لِحَدِيثِ اللَّحْمِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَكَلَامُ بَعْضِهِمْ يُخَالِفُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأَخِيرَةِ، وَكَرَاهَةُ عَيْبِ الْأَكْلِ أَوْلَى مِمَّا تَقَدَّمَ مَنْ تَحْرِيمِهِ. وَالْخَبَرُ الْمَذْكُورُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ قَالَ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا فَدُعِيَ إلَى الصَّلَاةِ، فَقَامَ وَطَرَحَ السِّكِّينَ وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» . قَالَ مُهَنَّا: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ حَدِيثٍ يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَقْطَعُوا اللَّحْمَ بِالسِّكِّينِ فَإِنَّهُ مَنْ صَنِيعِ الْأَعَاجِمِ وَانْهَشُوهُ نَهْشًا فَإِنَّهُ أَهْنَأُ وَأَمْرَأُ» قَالَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَاحْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِهَذَا النَّصِّ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ. وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ خِلَافُ

هَذَا وَحَدِيثُ الْمُغِيرَةِ وَهَذَا الْخَبَرُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ مَنْ رِوَايَةِ أَبِي مَعْشَرٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا وَعَدَّهُ النَّسَائِيُّ مِنْ مَنَاكِيرِ أَبِي مَعْشَرٍ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ إنْ صَحَّ فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنْ إذَا نَهَشَهُ كَانَ أَطْيَبَ كَالْخَبَرِ الْأَوَّلِ يَعْنِي مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ «كُنْتُ آكُلُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذَ اللَّحْمَ مَنْ الْعَظْمِ فَقَالَ: أَدْنِ الْعَظْمَ مِنْ فِيكَ فَإِنَّهُ أَهْنَأُ وَأَمْرَأُ» . وَهَذَا الْخَبَرُ فِيهِ ضَعْفٌ وَانْقِطَاعٌ وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى ضَعِيفَةٍ بِمَعْنَاهُ وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. لَكِنْ قَالَ الْأَصْحَابُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ فِي هَذَا الْحُكْمِ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ رَأَيْت بَعْضَ أَصْحَابِنَا يَقُولُ: لَعَلَّ كَلَامَ أَبِي دَاوُد يَدُلُّ عَلَيْهِ وَكَلَامُ أَحْمَدَ لَا يُخَالِفُهُ وَلَمْ أَجِدْ مَنْ صَرَّحَ بِأَنَّ النَّهْشَ مِنْهُ لَيْسَ بِأَوْلَى، وَقَدْ أَخَذَ الذِّرَاعَ الْمَسْمُومَةَ فَنَهَشَ مِنْهَا نَهْشَةً. وَاسْتِعْمَالُهُ السِّكِّينَ قَضِيَّةُ عَيْنٍ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لِقُوَّةِ اللَّحْمِ وَصُعُوبَتِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ؛ لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَلَا يَمْنَعُ أَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى لَكِنَّ الْكَرَاهَةَ لَا تَظْهَرُ، وَفِي شَرْح مُسْلِمٍ قَالُوا: وَيُكْرَهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ كَذَا قَالَ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ وَالْإِسْنَادُ صَحِيحٌ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ «ضِفْتُ النَّبِيَّ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَأَمَرَ بِجَنْبٍ فَشُوِيَ قَالَ فَأَخَذَ الشَّفْرَةَ فَجَعَلَ يَجُزُّ لِي بِهَا مِنْهُ» . وَأَمَّا تَقْطِيعُ الْخُبْزِ بِالسِّكِّينِ فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ كَلَامًا وَيُتَوَجَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ لِحَاجَةٍ وَإِلَّا احْتَمَلَ أَنْ يُكْرَهَ؛ لِعَدَمِ نَقْلِهِ وَفِعْلِهِ شَرْعًا بِخِلَافِ اللَّحْمِ وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنَّ تَرْكَهُ أَوْلَى فَقَطْ وَهُوَ نَظِيرُ الْأَكْلِ عَلَى الْخِوَانِ، وَالْأَكْلِ بِالْمِلْعَقَةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِعَدَمِ النَّهْيِ وَمَا يُرْوَى مِنْ النَّهْي عَنْ قَطْعِ الْخُبْزِ بِالسِّكِّينِ فَلَا أَصْلَ لَهُ عَنْ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَحْمَدَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِجُبْنَةٍ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهَا بِالْعِصِيِّ فَقَالُوا ضَعُوا السِّكِّينَ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ وَكُلُوا» .

وَيَفْسُد الْغِذَاءُ بِأَكْلِ الْفَاكِهَةِ بَعْدَهُ قَبْلَ هَضْمِهِ كَذَا أَطْلَقَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَغَيْرُهُمْ وَمُرَادُهُمْ فِي الْجُمْلَةِ مِمَّا لَا يَقْبِضُ وَقَدْ قَالَ الْأَطِبَّاءُ: أَكْلُ الْكُمَّثْرَى عَلَى الطَّعَامِ جَيِّدٌ يَمْنَعُ الْبُخَارَ أَنْ يَرْتَقِيَ مِنْ الْمَعِدَةِ إلَى الدِّمَاغِ وَمِثْلُهُ السَّفَرْجَلُ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ فِي السَّفَرْجَلِ لِشِدَّةِ قَبْضِهِ وَكَثْرَةِ أَرْضِيَّتِهِ، وَفِي الْكُمَّثْرَى لِخَاصِّيَّةٍ فِيهِ وَمِنْ خَاصِّيَّتِهِ مَنْعُ فَسَادِ الطَّعَامِ فِي الْمَعِدَةِ لَكِنْ لَا يُكْثِرُ مِنْ أَكْلِهَا وَلَا يُدْمِنُهُ فَإِنَّهُ يُحْدِثُ الْقُولَنْجَ، فَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تُؤْكَلُ الْكُمَّثْرَى عَلَى طَعَامٍ غَلِيظٍ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَالرُّمَّانُ الْحَامِضُ يُسْتَعْمَلُ بَعْدَ الْغِذَاءِ لِمَنْعِ الْبُخَارِ. وَيَأْتِي حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَكَلَ التَّمْرَ بَعْدَ الطَّعَامِ» ، وَفِي مُسْلِمٍ فِي قِصَّةِ أَبِي الْهَيْثَمِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَكَلَ التَّمْرَ أَوَّلًا لَكِنْ لَمْ يَكُنْ غَيْرَهُ إذًا. قَالَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ الْفَوَاكِهُ الرَّطْبَةُ تُقَدَّمُ قَبْلَ الطَّعَامِ إلَّا مَا كَانَ مِنْهَا أَبْطَأَ وُقُوفًا فِي الْمَعِدَةِ وَفِيهِ قَبْضٌ أَوْ حُمُوضَةٌ كَالسَّفَرْجَلِ وَالتُّفَّاحِ وَالرُّمَّانِ، وَتَفْسُدُ الْفَاكِهَةُ بِشُرْبِ الْمَاءِ عَلَيْهَا، وَقَدْ سَبَقَ فِي الطِّبِّ قَالَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ: مُصَابَرَةُ الْعَطَشِ بَعْدَ جَمِيعَ الْفَوَاكِهِ نِعْمَ الدَّوَاءُ لَهَا، وَرَأَيْتُ بَعْضَ النَّاسِ يَشْرَبُ الْمَاءَ بَعْدَ التُّوتِ الْحُلْوِ غَيْرِ الشَّامِيِّ وَبَعْد التِّينِ وَيَقُولُ: إنَّهُ نَافِعٌ يَهْضِمُهُ وَيَحْكِيهِ عَنْ بَعْضِ الْأَطِبَّاءِ، وَالْمَعْرُوفُ عَنْ الْأَطِبَّاءِ أَنَّهُمْ نَهَوْا عَنْ شُرْبِ الْمَاءِ بَعْدَ الْفَوَاكِهِ مُطْلَقًا وَيَقُولُونَ: إنَّهُ مُضِرٌّ، وَذَكَرَ الْأَطِبَّاءُ أَنَّهُ يَشْرَبُ بَعْدَ التُّوتِ وَالتِّينِ السَّكَنْجَبِينَ وَأَنَّهُ يَدْفَعُ ضَرَرَهُ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَلَا يُتَنَاوَلُ الْغِذَاءُ بَعْد التَّمَلُّؤِ مِنْهَا فَإِنَّ الْقُولَنْجَ يَحْدُثُ عَنْ ذَلِكَ كَثِيرًا وَمَا قَالَهُ صَحِيحٌ وَلَا يُخَالِفُ هَذَا قَوْلَ الْأَطِبَّاءِ: إنَّ الْبِطِّيخَ الْأَصْفَرَ يُؤْكَلُ بَيْنَ طَعَامَيْنِ. قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَكْرَهُ النَّفْخَ فِي الطَّعَامِ، وَإِدْمَانَ اللَّحْمِ وَالْخُبْزِ الْكِبَارِ. وَظَاهِرُهُ لَا يُكْرَهُ النَّفْخُ فِي الْكَبَابِ كَمَا سَبَقَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَالْكَرَاهَةُ تَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ مَعَ أَنْ ظَاهِرَ الْخَبَرِ كَقَوْلِ أَحْمَدَ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ النَّفْخِ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ» وَقَدْ سَبَقَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي أَكْلِ اللَّحْمِ فِي حِفْظِ الصِّحَّةِ مِنْ فُصُولِ الطِّبِّ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ أَنَّ إِسْحَاقَ قَالَ: تَعَشَّيْتُ مَعَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ فَرُبَّمَا مَسَحَ يَدَهُ عِنْدَ كُلِّ لَقْمَةٍ.

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُجْلِسَ غُلَامُهُ مَعَهُ عَلَى الطَّعَامِ فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ لَقَمَهُ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْآكِلِ مَعَ الْجَمَاعَة أَنْ لَا يَرْفَعَ يَدَهُ قَبْلَهُمْ قَالَ الْآمِدِيُّ لَا يَجُوز أَنْ يُتْرَكَ تَحْتَ الصَّحْفَةِ شَيْءٌ مِنْ الْخُبْزِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا وَقَالَ: السُّنَّةُ أَنْ يَأْكُلَ بِيَدِهِ وَأَلَّا يَأْكُل بِمِلْعَقَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، وَمَنْ أَكَلَ بِمِلْعَقَةٍ وَغَيْرِهَا أُحِلَّ بِالْمُسْتَحَبِّ وَجَازَ انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إنَّ أَبَا مَعْمَرٍ قَالَ إنَّ أَبَا أُسَامَةَ قَدَّمَ إلَيْهِمْ خُبْزًا فَكَسَرَهُ قَالَ: هَذَا لِئَلَّا يَعْرِفُوا كَمْ يَأْكُلُونَ. وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: غَرِيبٌ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَأَبُو دَاوُد وَزَادَ فِي آخِرِهِ فِي الْكِسْوَةِ وَمَا تَأَخَّرَ ". وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلْيَقُلْ بِسْمِ اللَّهِ فَإِنْ نَسِيَ فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُلْ بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَعَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا «مَنْ نَسِيَ أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ عَلَى طَعَامِهِ فَلْيَقْرَأْ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ زَادَ بَعْضُهُمْ إذَا فَرَغَ» وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخَبَر مَوْضُوعٌ فَإِنَّ فِيهِ حَمْزَةَ بْنَ أَبِي حَمْزَةَ وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ «فَإِنْ نَسِيَ فِي الْأَوَّلِ فَلْيَقُلْ فِي الْآخِرِ بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ» . وَأَوَّلُ الْخَبَرِ عَنْهَا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْكُلُ طَعَامًا فِي سِتَّةِ نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَأَكَلَهُ بِلُقْمَتَيْنِ فَقَالَ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَا إنَّهُ لَوْ سَمَّى لَكَفَاكُمْ» . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَعَنْ وَحْشِيٍّ «أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّا نَأْكُلُ وَلَا نَشْبَعُ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تَفْتَرِقُونَ؟ قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: اجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّه يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ» إسْنَادٌ لَيِّنٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. وَعَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا «كُلُوا جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا فَإِنَّ الْبَرَكَةَ مَعَ الْجَمَاعَةِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: «مَنْ أَطْعَمَهُ اللَّهُ طَعَامًا فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ، وَمَنْ سَقَاهُ اللَّهُ لَبَنًا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُجْزِئُ مَكَانَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ غَيْرُ اللَّبَنِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ. وَفِي هَذَا فَضِيلَةُ اللَّبَنِ وَكَثْرَةُ خَيْرِهِ وَنَفْعِهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَنْفَعُ مَشْرُوبٍ لِلْآدَمِيِّ لِمُوَافَقَتِهِ لِلْفِطْرَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَاعْتِيَادِهِ فِي الصِّغَرِ، وَلِاجْتِمَاعِ التَّغْذِيَةِ وَالدَّمَوِيَّةِ فِيهِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:

{لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66] . وَقَالَ عَنْ الْجَنَّةِ: {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد: 15] . وَقَدْ قَالَ الْأَطِبَّاءُ: اللَّبَنُ مُرَكَّبٌ مِنْ مَائِيَّةٍ وَجُبْنِيَّةٍ وَدُسُومَةٍ وَهِيَ الزُّبْدِيَّةُ، وَأَجْوَدُهُ الشَّدِيدُ الْبَيَاضِ الْمُعْتَدِلُ الْقِوَامِ فِي الرِّقَّةِ وَالْغِلَظِ، وَالْمَحْلُوبُ مِنْ حَيَوَانٍ صَحِيحٍ مُعْتَدِلِ اللَّحْمِ مَحْمُودِ الْمَرْعَى وَالْمَشْرَبِ، وَيُسْتَعْمَلُ عَقِبَ مَا يُحْلَبُ، وَأَصْلَحُ الْأَلْبَانِ لِلْإِنْسَانِ لَبَنُ النِّسَاءِ وَمَا يُشْرَبُ مِنْ الضَّرْعِ، وَأَفْضَلُهُ مَا يَثْبُتُ عَلَى الظُّفْرِ فَلَا يَسِيلُ وَلَا يَكُونُ فِيهِ طَعْمٌ غَرِيبٌ إلَى حُمُوضَةٍ أَوْ مَرَارَةٍ أَوْ حَرَافَةٍ أَوْ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ قَالَ بَعْضُهُمْ: أَوْ غَرِيبَةٌ وَهُوَ بَارِدٌ رَطْبٌ، وَالْحَلِيبُ أَقَلُّ بَرْدًا مِنْ غَيْرِهِ وَقِيلَ مَائِيَّتُهُ حَارَّةٌ مُلَطِّفَةٌ غَسَّالَةٌ بِغَيْرِ لَدْغٍ، وَجَزَمَ بَعْض الْأَطِبَّاءِ بِهَذَا الْقَوْلِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اللَّبَنُ عِنْدَ حَلْبِهِ مُعْتَدِلٌ فِي الْحَرَارَةِ وَالرُّطُوبَةِ وَزُبْدِيَّتُهُ إلَى الِاعْتِدَالِ وَإِنْ مَالَتْ إلَى حَرَارَةِ جُمْلَتِهِ، مُعْتَدِلٌ يُقَوِّي الْبَدَنَ، وَهُوَ مَحْمُودٌ يُولَدُ دَمًا جَيِّدًا وَيَغْذُو غِذَاءٌ جَيِّدًا وَيَزِيدُ فِي الدِّمَاغِ لَا سِيَّمَا لَبَنُ النِّسَاءِ، وَاللَّبَنُ يَنْهَضِمُ قَرِيبًا لِتَوَلُّدِهِ مِنْ دَمٍ فِي غَايَةِ الِانْهِضَامِ طَرَأَ عَلَيْهِ هَضْمٌ آخَرُ وَيَنْبَغِي إذَا شُرِبَ اللَّبَنُ أَنْ يُسْكَنَ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَفْسُدَ وَلَا يُنَامُ عَلَيْهِ وَلَا يَتَنَاوَلَ عَلَيْهِ غِذَاءً آخَرَ إلَى أَنْ يَنْحَدِرَ، وَيَنْفَعُ مَنْ الْوَسْوَاسِ وَالْغَمِّ وَالْأَمْرَاضِ السَّوْدَاوِيَّةِ، وَهُوَ أَنْفَعُ شَيْءٍ لِأَصْحَابِ الْمِزَاجِ الْحَارِّ الْيَابِسِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي مِعَدِهِمْ صَفْرَاءُ وَيُزِيلُ الْحَكَّةَ الَّتِي بِالْمَشَايِخِ وَيُعَانُونَ عَلَى هَضْمِهِ بِالْعَسَلِ أَوْ بِالسُّكَّرِ، وَأَجْوَدُ أَوْقَاتِ أَخْذِهِ وَسَطَ الصَّيْفِ لِاعْتِدَالِ الْأَلْبَانِ فِي الْغِلَظِ وَاللَّطَافَةِ وَلَكِنْ يَخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يُحَلِّيَهُ الْحَرُّ بَعْد الشُّرْبِ وَلَا يُخَافُ ذَلِكَ فِي الرَّبِيعِ، وَيَجْلُو الْآثَارَ الْقَبِيحَةَ فِي الْجِلْد طِلَاءً، وَشُرْبُهُ بِالسُّكَّرِ يَحْسُنُ جِدًّا لَا سِيَّمَا لِلنِّسَاءِ وَيُسْمِنُ حَتَّى أَنَّ مَاءَ الْجُبْنِ يُسْمِنُ أَصْحَابَ الْمِزَاجِ الْحَارّ الْيَابِسِ إذَا جَلَسُوا فِيهِ وَيَنْفَعُ مِنْ الْحَكَّةِ وَالْجَرَبِ وَيُهَيِّجُ الْجِمَاعَ وَإِذَا شُرِبَ مَعَ الْعَسَلِ نَقَّى الْقُرُوحَ الْبَاطِنَةَ فِي الْأَخْلَاطِ الْغَلِيظَةِ وَأَنْضَجَهَا. وَاللَّبَنُ يَنْفَعُ مِنْ السَّجْحِ وَشُرْبِ الْأَدْوِيَةِ الْقَتَّالَةِ وَيَرُدُّ عَقْلَ مَنْ سُقِيَ الْبَنْجَ وَيَسْتَحِيلُ فِي الْمَعِدَةِ الصَّفْرَاوِيَّةِ إلَى الصَّفْرَاءِ وَيُورِثُ السَّدَدَ فِي الْكَبِدِ وَيَضُرُّ أَصْحَابَ سَيَلَانِ الدَّمِ وَالْحَلِيبُ يَتَدَارَكُ ضَرَرَ الْجِمَاعِ، وَيُوَافِقُ الصَّدْرَ وَالرِّئَةَ جَيِّدًا لِأَصْحَابِ السُّلّ رَدِيءٌ لِلرَّأْسِ وَالْمَعِدَةِ وَالْكَبِدِ وَالطِّحَالِ.

وَلَيْسَ شَيْءٌ أَضَرَّ لِلْبَدَنِ مِنْ لَبَنٍ فَاسِدٍ رَدِيءٍ وَاللَّبَنُ إذَا أُكْثِرَ مِنْهُ تَوَلَّدَ مِنْهُ الْقَمْلُ وَالْبَرَصُ إلَّا لَبَنَ الْإِبِلِ فَإِنَّهُ قَلَّ مَا يُخَافُ مِنْهُ الْبَرَصُ. وَاللَّبَنُ رَدِيءٌ لِلْمَحْمُومِينَ وَأَصْحَابِ الصُّدَاعِ مُؤْذٍ لِلدِّمَاغِ وَالرَّأْسِ الضَّعِيفِ ضَارٌّ لِلْأَوْرَامِ الْبَاطِنَةِ وَالْأَعْصَابِ وَالْأَمْرَاضِ الْبَلْغَمِيَّةِ وَبِاللِّثَةِ وَالْأَسْنَانِ، قَالُوا: وَيَنْبَغِي أَنْ يُتَمَضْمَضَ بَعْدَهُ لِأَجْلِ اللِّثَةِ بِالْعَسَلِ، وَيُظْلِمُ الْبَصَرَ وَيَضُرُّ بِالْغِشَاءِ وَالْخَفَقَانِ وَالْحَصَاةِ وَوَجَعِ الْمَفَاصِلِ وَالْأَحْشَاءِ وَيَنْفُخُ الْمَعِدَةَ وَيَذْهَبُ بِنَفْخِهِ أَنْ يُغْلَى وَيُؤْكَلَ بَعْدَهُ الْمِشْمِشُ قَالَ بَعْضُهُمْ: أَوْ عَسَلٌ أَوْ زَنْجَبِيلٌ وَمَنْ اعْتَادَهُ فَلَيْسَ كَمَنْ لَمْ يَعْتَدْهُ. وَإِنْ جَمَدَ اللَّبَنُ لِإِنْفَحَةٍ شُرِبَتْ فِيهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ عَرَضَ عَنْهُ عِرْقٌ بَارِدٌ وَغَثًى وَحُمَّى نَافِضٌ وَجُمُودُهُ مَعَ إنْفَحَةٍ أَرْدَأُ وَأَسْرَعُ إلَى الْحَنَقِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْتَنِبَ الْمَلُوحَاتِ فَإِنَّهَا تُزِيدُهُ تَجَبُّنًا وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُسْقَى خَلًّا مَمْزُوجًا بِمَاءٍ وَيُسْقَى مِنْ الْإِنْفَحَةِ إلَى مِثْقَالٍ فَإِنَّهَا تُرَقِّقُهُ وَتُخْرِجُهُ بِقَيْءٍ أَوْ إسْهَالٍ. وَاللَّبَنُ الْمَطْبُوخُ وَالْمُلْقَى فِيهِ الْحَصَا الْمَحْمِيُّ وَالْحَدِيدُ يَعْقِلُ الْبَطْنَ وَاللَّبَنُ الْحَامِضُ أَجْوَدُهُ الْكَثِيرُ الزُّبْدِ فَإِنْ أُخِذَ زُبْدُهُ وَحَمُضَ فَهُوَ الْمَخِيضُ، وَإِنْ نُزِعَ زُبْدُهُ وَمَائِيَّتُهُ فَهُوَ اللَّدُوغُ وَهُوَ بَارِدٌ يَابِسٌ وَقِيلَ رَطْبٌ وَهُوَ يُوَافِقُ الْأَمْزِجَةَ الْحَارَّةَ وَلَكِنَّهُ جَامُّ الْخَلْطِ بَطِيءُ الِاسْتِمْرَاءِ مُضِرٌّ بِاللِّثَةِ وَالْأَسْنَانِ وَلِلدِّمَاغِ يَنْفَعُ الْمَعِدَةَ الْحَارَّةَ، وَالْمَخِيضُ لَا يُجَشِّئُ جُشَاءً دُخَّانِيًّا لِانْتِزَاعِ زُبْدِهِ وَيَحْبِسُ الْإِسْهَالَ الصَّفْرَاوِيَّ وَالدَّمَوِيَّ وَيُسْكِنُ الْعَطَشَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُتَمَضْمَضَ بِمَاءِ الْعَسَل حَتَّى لَا يَضُرَّ بِاللِّثَةِ فَإِنْ اسْتَحَالَ اللَّبَنُ الْحَامِضُ إلَى كَيْفِيَّةٍ عَفِنَةٍ أُخْرَى مَعَ الْحُمُوضَةِ تَوَلَّدَ عَنْهُ دُوَارٌ وَغَشَيَانٌ وَمَغَصٌ فِي فَمِ الْمَعِدَةِ وَرُبَّمَا عَرَضَتْ عَنْهُ هَيْضَةٌ قَاتِلَةٌ وَيَنْبَغِي أَنْ يُدَاوَى بِالْقَيْءِ وَتَنْظِيفِ الْمَعِدَةِ مِنْهُ بِمَاءِ الْعَسَلِ

فَأَمَّا أَنْوَاعُ اللَّبَنِ فَلَبَنُ اللِّقَاحِ سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ فِي فَصْل التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمَاتِ مِنْ فُصُول الطِّبِّ وَلَبَنُ الْبَقَرِ أَكْثَرُ الْأَلْبَانِ دُسُومَةً وَغِلَظًا وَأَكْثَرُ غِذَاءً مِنْ سَائِرِ الْأَلْبَانِ وَأَبْطَأُ انْحِدَارًا ذَكَرَهُ ابْنُ جَزْلَةَ وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهُ يُلَيِّنُ الْبَدَنَ وَيُطْلِقُهُ بِاعْتِدَالٍ وَإِنَّهُ مِنْ أَعْدَلِ الْأَلْبَانِ وَأَفْضَلِهَا بَيْنَ لَبَنِ الضَّأْنِ وَلَبَنِ الْمَعْزِ فِي الرِّقَّةِ وَالْغِلَظِ وَالدَّسَمِ وَقَدْ سَبَقَ الْحَدِيثُ فِيهِ فِي فَصْلِ حِفْظِ الصِّحَّةِ مِنْ الطِّبِّ. وَلَبَنُ الْمَعْزِ مُعْتَدِلٌ لِاعْتِدَالِ الْمَائِيَّةِ وَالْجُبْنِيَّةِ وَالزُّبْدِيَّةِ فِيهِ يَنْفَعُ مِنْ النَّوَازِلِ وَيَحْبِسُهَا مِنْ قُرُوحِ الْحَلْقِ وَاللِّسَانِ عَنْ الْيَبَسِ وَالْغَمِّ وَالْوَسْوَاسِ وَالسُّعَالِ وَنَفْثِ الدَّمِ وَالسِّلِّ بِكَسْرِ السِّين وَهُوَ السِّلَالُ يُقَالُ أَسَلَّهُ اللَّه فَهُوَ مَسْلُولٌ وَهُوَ مِنْ الشَّوَاذِّ. وَالْغَرْغَرَةُ بِهِ تَنْفَعُ مِنْ الْخَوَانِيقِ وَأَوْرَامِ اللَّهَاةِ وَقُرُوحِ الْمَثَانَةِ وَقِيلَ: إنَّهُ مُضِرٌّ بِالْأَحْشَاءِ. وَلَبَنُ الضَّأْنِ دَسِمٌ غَلِيظٌ كَثِيرُ الْجُبْنِيَّةِ وَالزُّبْدِيَّةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَغْلَظُ الْأَلْبَانِ وَأَرْطَبُهَا يَنْفَعُ مِنْ نَفْثِ الدَّمِ وَقُرُوحِ الرِّئَةِ وَيَتَدَارَكُ ضَرَرَ الْجِمَاعِ وَيُقَوِّي عَلَى الْبَاهِ وَيَنْفَعُ مِنْ الْأَدْوِيَةِ الْقَتَّالَةِ وَالزَّحِيرِ وَقُرُوحِ الْأَمْعَاءِ لَيْسَ مَحْمُودًا كَلَبَنِ الْمَعْزِ وَفِيهِ تَهْيِيجٌ لِلْقُولَنْجِ وَيُوَلِّدُ فُضُولًا بَلْغَمِيَّةً وَيُحْدِثُ فِي جِلْدِ مَنْ أَدْمَنَهُ بَيَاضًا قَالَ بَعْضهمْ: يَنْبَغِي أَنْ يُشَابَ بِالْمَاءِ لِيُقِلَّ الْبَدَنُ مَا نَالَهُ وَيَكْثُرُ تَبْرِيدُهُ وَيُسْرِعُ تَسْكِينُهُ لِلْعَطَشِ. لَبَنُ الْخَيْل قَلِيلُ الْجُبْنِيَّةِ وَالزُّبْدِيَّةِ يَعْدِلُ لَبَنَ اللِّقَاحِ فِي ذَلِكَ لَبَنَ النِّسَاءِ يُدِرُّ الْبَوْلَ وَهُوَ تِرْيَاقُ الْأَرْنَبِ الْبَحْرِيّ وَيَنْفَعُ مِنْ الرَّمَدِ إذَا حُلِبَ فِي الْعَيْنِ وَمِنْ خُشُونَةِ الْعَيْنِ خَاصَّةً مَعَ بَيَاضِ الْبَيْضِ وَيَنْفَعُ مِنْ السِّلِّ إذَا شُرِبَ حِينَ يَخْرُجُ مَنْ الثَّدْيِ أَوْ يُمَصُّ مِنْ الثَّدْيِ وَلَكِنْ مِنْ امْرَأَةٍ صَحِيحَةِ الْبَدَنِ مُعْتَدِلَةِ الْبَدَنِ وَيَنْفَعُ مِنْ أَوْرَامِ الْآذَانِ وَقُرُوحِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَبَقَ الْكَلَامُ فِي الْجُبْنِ فِي ذِكْرِ الْمُفْرَدَاتِ.

فصل استحباب المضمضة من شرب اللبن وكل دسم

[فَصْلٌ اسْتِحْبَابُ الْمَضْمَضَةِ مِنْ شُرْبِ اللَّبَنِ وَكُلِّ دَسِمٍ] ٍ) وَتُسَنُّ الْمَضْمَضَةُ مِنْ شُرْبِهِ قَالَ فِي الرِّعَايَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَمَضْمَضَ بَعْدَهُ بِمَاءٍ وَقَالَ إنَّ لَهُ دَسَمًا وَشِيبَ لَهُ بِمَاءٍ فَشَرِبَ» وَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَفِيهِ «أَنَّهُ لَمَّا شَرِبَ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ يَسَارِهِ وَعُمَرُ وِجَاهَهُ وَأَعْرَابِيٌّ عَنْ يَمِينِهِ قَالَ عُمَرُ هَذَا أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ يُرِيهِ إيَّاهُ فَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ الْأَعْرَابِيَّ وَقَالَ الْأَيْمَنُونَ الْأَيْمَنُونَ الْأَيْمَنُونَ» قَالَ أَنَسٌ فَهِيَ سُنَّةٌ، فَهِيَ سُنَّةٌ، فَهِيَ سُنَّةٌ، وَلِلْبُخَارِيِّ " الْأَيْمَنُونَ الْأَيْمَنُونَ أَلَا فَيَمِّنُوا " وَتَخْصِيصُهُ فِي الرِّعَايَةِ الْمَضْمَضَةُ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تُسْتَحَبُّ مِنْ غَيْرِهِ. وَذَكَرَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْأَطِبَّاء أَنَّ الْإِكْثَارَ مِنْهُ يَضُرُّ بِالْأَسْنَانِ وَاللِّثَةِ وَلِذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَمَضْمَضَ بَعْدَهُ بِالْمَاءِ ثُمَّ ذَكَرَ الْخَبَر «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَمَضْمَضَ وَقَالَ إنَّ لَهُ دَسَمًا» كَذَا قَالَ وَسَبَقَ فِي الْفَصْلِ قَبْلَهُ كَلَامُ الْأَطِبَّاءِ أَنَّهُ يَتَمَضْمَضُ بَعْدَهُ بِالْعَسَلِ؛ لِأَجْلِ اللِّثَةِ وَيُتَوَجَّهُ أَنْ تُسْتَحَبَّ الْمَضْمَضَةُ مِنْ كُلِّ مَا لَهُ دَسَمٌ لِتَعْلِيلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَأَمَّا الْمَضْمَضَةُ مِمَّا لَا دَسَمَ لَهُ فَفِيهِ نَظَرٌ وَظَاهِرُ الْخَبَرِ لَا يُسْتَحَبُّ. وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ مَرْفُوعًا «مَضْمِضُوا مِنْ اللَّبَنِ فَإِنَّ لَهُ دَسَمًا» وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا «إذَا شَرِبْتُمْ اللَّبَنَ فَمَضْمِضُوا فَإِنَّ لَهُ دَسَمًا» رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَاوِيُّ قَالَ الْعُلَمَاءُ: تُسْتَحَبُّ الْمَضْمَضَةُ مِنْ غَيْرِ اللَّبَنِ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ؛ لِئَلَّا يَبْقَى مِنْهُ بَقَايَا يَبْتَلِعُهَا فِي الصَّلَاة وَلِتَنْقَطِعَ لُزُوجَتُهُ

وَدَسَمُهُ وَيَتَطَهَّرُ فَمُهُ كَذَا قَالَ، وَقَدْ «أَكَلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَحْمًا وَغَيْرَهُ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَمَضْمَضْ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَهْلٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ وَعَنْ يَسَارِهِ الْأَشْيَاخُ فَقَالَ لِلْغُلَامِ أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا فَتَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي يَدِهِ» . وَفِي مُسْنَدِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّ هَذَا الْغُلَامَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَقَوْلُهُ فَتَلَّهُ أَيْ وَضَعَهُ، وَفِيهِ أَنَّ الْأَيْمَنَ فِي مِثْلِ هَذَا يُقَدَّمُ وَإِنْ كَانَ مَفْضُولًا أَوْ صَغِيرًا. وَاسْتَأْذَنَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِإِدْلَالِهِ عَلَيْهِ يَتَأَلَّفُ الْأَشْيَاخِ وَفِيهِ بَيَانُ هَذِهِ السُّنَّةِ تَقْدِيمُ الْأَيْمَنِ وَأَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِئْذَانُهُ فِي تَرْكِ حَقِّهِ وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْإِذْنُ وَهَلْ يَجُوزُ؟ يَخْرُجُ فِيهِ الْخِلَافُ فِي الْإِيثَارِ بِالْقُرَبِ وَلَمْ يَسْتَأْذِنْ الْأَعْرَابِيَّ لِمَخَافَةِ إيحَاشِهِ فِي صَرْفِهِ إلَى أَصْحَابِهِ وَلِتَوَهُّمِهِ شَيْئًا يَهْلَكُ بِهِ لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْجَاهِلِيَّةِ وَفِيهِ التَّذْكِيرُ بِبَعْضِ الْحَاضِرِينَ مَخَافَةَ نِسْيَانِهِ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَفِيهِ أَنَّ مَنْ سَبَقَ إلَى مُبَاحٍ أَوْ مَجْلِسِ عَالِمٍ أَوْ كَبِيرٍ فَهُوَ أَحَقُّ مِمَّنْ يَجِيءُ بَعْدَهُ، وَمُرَادُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فِي الْجُمْلَةِ. فَأَمَّا إنْ عُرِفَ كُلُّ إنْسَانٍ بِمَكَانٍ وَمَنْزِلَةٍ وَصَارَ ذَلِكَ عَادَةً وَعُرْفًا لَهُمْ فَلَا يَتَعَدَّاهُ فِيهِ مِنْ الشَّرِّ.

فصل استحباب غسل اليدين قبل الطعام وبعده

[فَصْلٌ اسْتِحْبَابُ غَسْلِ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ] ُ) يُسْتَحَبُّ غَسْلُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ وَعَنْهُ يُكْرَهُ، اخْتَارَهُ الْقَاضِي كَذَا ذَكَرَهُ السَّامِرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ فِي الْمُحَرَّرِ وَعَنْهُ يُكْرَهُ قَبْلَهُ وَقَالَ مَالِكٌ لَا يُسْتَحَبُّ غَسْلُ الْيَدِ لِلطَّعَامِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى الْيَدِ أَوَّلًا قَذَرٌ أَوْ يَبْقَى عَلَيْهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ رَائِحَةٌ وَذَكَرَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِي اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ أَقْوَالًا ثُمَّ ذَكَرَ الْأَظْهَرَ تَفْصِيلًا وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِ مَالِكٍ. وَقَدْ رَوَى قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ وَقَدْ ضَعَّفَهُ جَمَاعَةٌ وَوَثَّقَهُ آخَرُونَ عَنْ أَبِي هَاشِمِ عَنْ زَاذَانَ عَنْ سَلْمَانَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «بَرَكَةُ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ» . قَالَ مُهَنَّا ذَكَرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ لِأَحْمَدَ فَقَالَ مَا حَدَّثَ بِهِ إلَّا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ قُلْتُ بَلَغَنِي عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ كَانَ سُفْيَانُ يَكْرَهُ غَسْلَ الْيَدِ عِنْدَ الطَّعَامِ، لِمَ يَكْرَهُ سُفْيَانُ ذَلِكَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ مِنْ زِيِّ الْعُجْمِ قَالَ مُهَنَّا: وَذَكَرْتُهُ لِيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ فَقَالَ لِي يَحْيَى: مَا أَحْسَنَ الْوُضُوءَ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ. وَعَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكْثُرَ خَيْرُ بَيْتِهِ فَلْيَتَوَضَّأْ إذَا حَضَرَ غِذَاؤُهُ وَإِذَا رُفِعَ» إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ مَنْ كَرِهَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فِعْلِ الْيَهُودِ فَيُكْرَهُ التَّشَبُّهُ بِهِمْ وَأَمَّا حَدِيثُ سَلْمَانَ فَقَدْ ضَعَّفَهُ بَعْضُهُمْ قَالَ كَانَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَمَّا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَر فِيهِ بِشَيْءٍ وَلِهَذَا كَانَ يُسْدِلُ شَعْرَهُ مُوَافَقَةً

لَهُمْ ثُمَّ فَرَّقَ بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ صَامَ عَاشُورَاءَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ ثُمَّ إنَّهُ قَالَ قَبْلَ مَوْتِهِ «لَئِنْ عِشْتُ إلَى قَابِلَ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ» يَعْنِي مَعَ الْعَاشِرِ؛ لِأَجْلِ مُخَالِفَةِ الْيَهُودِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ مِنْ الْخَلَاءِ فَقُرِّبَ إلَيْهِ الطَّعَامُ فَقَالُوا: أَلَا نَأْتِيَكَ بِوَضُوءٍ قَالَ إنَّمَا أُمِرْتُ بِالْوُضُوءِ إذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ» رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّ هَذَا يَنْفِي وُجُوبَ الْوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ حَدَثٍ وَإِنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِبِلَالٍ «مَا دَخَلْتُ الْجَنَّةَ إلَّا سَمِعْتُ خَشْخَشَتَكَ أَمَامِي» الْحَدِيثَ قَالَ يَقْتَضِي اسْتِحْبَابَ الْوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ حَدَثٍ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ الْحَدِيثُ فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ بَعْدَ الطَّعَامِ حَسَنٌ وَلَمْ يَثْبُت فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الطَّعَامِ حَدِيثٌ وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِالْوُضُوءِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ غَسْلُ الْيَدَيْنِ لَا الْوُضُوءُ الشَّرْعِيُّ وَقَالَ الشَّيْخُ: تَقِيُّ الدِّينِ وَلَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا اسْتَحَبَّ الْوُضُوءَ لِلْأَكْلِ إلَّا إذَا كَانَ الرَّجُلُ جُنُبًا انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ سَعِيدٌ ثَنَا فُضَيْلُ بْن عِيَاضٍ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ كَانُوا يُحِبُّونَ أَنْ يَتَوَضَّئُوا وُضُوءَ الصَّلَاةِ عِنْدَ النَّوْمِ وَالطَّعَامِ قَالَ فِي الرِّعَايَةِ: وَيُسَنُّ غَسْلُ يَدِهِ وَفَمِهِ مِنْ ثُومٍ وَبَصَلٍ وَرَائِحَةٍ كَرِيهَةٍ غَيْرِهِمَا.

فصل في غسل اليدين في الإناء الذي أكل فيه

[فَصْلٌ فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ فِي الْإِنَاءِ الَّذِي أُكِلَ فِيهِ] فَصْلٌ قَالَ فِي اقْتِضَاءِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ) قَالَ أَصْحَابُ أَحْمَدَ وَغَيْرُهُمْ مِنْهُمْ أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ وَأَظُنُّهُ نَقَلَهُ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ وَلَا يُكْرَهُ غَسْلُ الْيَدَيْنِ فِي الْإِنَاءِ الَّذِي أُكِلَ فِيهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهُ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ قَالَ: وَلَمْ يَزَلْ الْعُلَمَاءُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَنَحْنُ نَفْعَلُهُ وَإِنَّمَا يُنْكِرُهُ الْعَامَّةُ وَغَسْلُ الْيَدَيْنِ بَعْدَ الطَّعَامِ مَسْنُونٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَإِذَا قُدِّمَ مَا يُغْسَلُ فِيهِ الْيَدُ فَلَا يُرْفَعُ حَتَّى يَغْسِلَ الْجَمَاعَةُ أَيْدِيَهُمْ؛ لِأَنَّ الرَّفْعَ مِنْ زِيِّ الْأَعَاجِمِ. [فَصْلٌ لَا يُؤْكَلُ طَعَامٌ حَتَّى يَذْهَبَ بُخَارُهُ] فَصْلٌ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّهَا كَانَتْ إذَا ثَرَدَتْ شَيْئًا غَطَّتْهُ حَتَّى يَذْهَبَ فَوْرُهُ ثُمَّ تَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ إنَّهُ أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ قُرَّةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقُرَّةُ فِيهِ ضَعْفٌ وَقَدْ وُثِّقَ وَهُوَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِالزُّهْرِيِّ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا بِطَعَامٍ سُخْنٍ فَقَالَ مَا دَخَلَ بَطْنِي طَعَامٌ سُخْنٌ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا قَبْلَ الْيَوْمِ» رَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَا يُؤْكَلُ طَعَامٌ حَتَّى يَذْهَبَ بُخَارُهُ.

فصل في انتظار الآكلين بعضهم بعضا حتى ترفع المائدة

[فَصْلٌ فِي انْتِظَارِ الْآكِلِينَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا حَتَّى تُرْفَعَ الْمَائِدَةُ] ُ) عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى أَنْ يُقَامَ عَنْ الطَّعَامِ حَتَّى يُرْفَعَ» . وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «إذَا وُضِعَتْ الْمَائِدَةُ فَلَا يَقُمْ أَحَدُكُمْ حَتَّى تُرْفَعَ الْمَائِدَةُ، وَلَا يَرْفَعُ يَدًا وَإِنْ شَبِعَ حَتَّى يَفْرُغَ الْقَوْمُ، وَلْيُعْذِرْ فَإِنَّ الرَّجُلَ يُخْجِلُ جَلِيسَهُ فَيَقْبِضُ يَدَهُ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْ الطَّعَامِ حَاجَةٌ» وَعَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «إنَّ مِنْ السَّرَفِ أَنْ تَأْكُلَ كُلَّ مَا اشْتَهَيْت» رَوَاهُنَّ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ وَفِيهِنَّ ضَعْفٌ.

فصل في آداب أكل التمر ومنها تفتيشه لتنقيته

[فَصْلٌ فِي آدَابِ أَكْلِ التَّمْرِ وَمِنْهَا تَفْتِيشُهُ لِتَنْقِيَتِهِ] ِ) عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَمْرٍ عَتِيقٍ فَجَعَلَ يُفَتِّشُهُ يُخْرِجُ السُّوسَ مِنْهُ» إسْنَادُهُ ثِقَاتٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ: وَرُوِيَ عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّهْيِ عَنْ شَقِّ التَّمْرِ عَمَّا فِي جَوْفِهَا» فَإِنْ صَحَّ فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إذَا كَانَ التَّمْرُ جَدِيدًا وَاَلَّذِي رَوَيْنَاهُ فِي الْعَتِيقِ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ وَلَا بَأْسَ بِتَفْتِيشِ التَّمْرِ وَتَنْقِيَتِهِ وَكَلَامُهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مَا فِيهِ شَيْءٌ وَهُوَ الْعَتِيقُ مَعَ أَنَّهُ صَادِقٌ عَلَى مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ مَعَهُ شَرْعًا وَعُرْفًا. وَمِثْلُهُ فِي الْحُكْمِ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ فَاكِهَةٍ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ دَلَّ الْخَبَرَانِ الْمَذْكُورَانِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يُتَحَرَّى، وَيُقْصَدُ غَالِبًا بَلْ إنْ ظَهَرَ شَيْءٌ أَوْ ظَنَّهُ أَزَالَهُ، وَإِلَّا بُنِيَ الْأَمْرُ عَلَى الْأَصْلِ وَالسَّلَامَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَضَعَ النَّوَى مَعَ التَّمْرِ عَلَى الطَّبَقِ ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيّ وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي آدَابِ الْأَكْلِ: وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ النَّوَى وَالتَّمْرِ فِي طَبَقٍ وَلَا يَجْمَعُهُ فِي كَفِّهِ بَلْ يَضَعُهُ مِنْ فِيهِ عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ ثُمَّ يُلْقِيهِ وَكَذَا كُلُّ مَا لَهُ عَجَمٌ وَثُفْلٌ، وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِ الْآمِدِيِّ وَالْعَجَمُ بِالتَّحْرِيكِ النَّوَى وَكُلُّ مَا كَانَ فِي جَوْفِ مَأْكُولٍ كَالزَّبِيبِ وَمَا أَشْبَهَهُ وَالْوَاحِدَةُ عَجَمَةٌ مِثْلُ قَصَبَةٍ وَقَصَبٍ، يُقَالُ لَيْسَ لِهَذَا الرُّمَّانِ عَجَمٌ قَالَ يَعْقُوبُ وَالْعَامَّةُ يَقُولُونَ عَجْمُ بِالتَّسْكِينِ وَالثُّفْلُ بِضَمِّ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ مَا يَثْقُلُ مَنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَقَوْلُهُمْ: تَرَكْتُ بَنِي فُلَانٍ مُثَافِلِينَ أَيْ يَأْكُلُونَ الثُّفْلَ يَعْنُونَ الْحَبَّ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ لَبَنٌ وَكَانَ طَعَامُهُمْ الْحَبَّ وَذَلِكَ أَشَدُّ مَا يَكُونُ حَالُ الْبَدْوِيِّ. وَهَذَا الْأَدَبُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأَخِيرَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِسَبَبِ مُبَاشَرَةِ الرُّطُوبَةِ الْمُنْفَصِلَةِ وَالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ بِخِلَافِ ذَلِكَ لَكِنَّ الْحُكْمَ لِلشَّرْعِ لَا لِعُرْفٍ حَادِثٍ.

وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَمَّادٍ وَعَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ الْهَيْثَمِ لَا أَعْلَمُ بِتَفْتِيشِ التَّمْرِ إذَا كَانَ فِيهِ الدُّودُ بَأْسًا قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ حَمَّادٍ رَأَيْتُ أَحْمَدَ يَأْكُلُ التَّمْرَ وَيَأْخُذُ النَّوَى عَلَى ظَهْرِ إصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَرَأَيْتُهُ يَكْرَهُ أَنْ يَجْعَلَ النَّوَى مَعَ التَّمْرِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ فِي جَامِعِهِ وَصَاحِبُهُ أَبُو بَكْرٍ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ قَالَ «نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَبِي فَقَرَّبْنَا إلَيْهِ طَعَامًا وَوَطْبَةً فَأَكَلَ مِنْهَا ثُمَّ أُتِيَ بِتَمْرٍ فَكَانَ يَأْكُلُهُ وَيُلْقِي النَّوَى بَيْنَ إصْبَعَيْهِ وَيَجْمَعُ السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى ثُمَّ أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَهُ ثُمَّ نَاوَلَهُ الَّذِي عَنْ يَمِينِهِ قَالَ فَقَالَ أَبِي وَأَخَذَ بِلِجَامِ دَابَّتَهُ: اُدْعُ اللَّهَ لَنَا فَقَالَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِيمَا رَزَقَتْهُمْ وَاغْفِرْ لَهُمْ وَارْحَمْهُمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. الْوَطْبَةُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبَعْدَهَا بَاءٌ مَفْتُوحَةٌ وَهِيَ الْحَيْسُ، يَجْمَعُ التَّمْرَ الْبَرْنِيَّ وَالْأَقِطَ الْمَدْقُوقَ وَالسَّمْنَ، وَضَبَطَهَا بَعْضُهُمْ وَطِئَةٌ بِفَتْحِ الْوَاو وَكَسْرِ الطَّاء وَبَعْدهَا هَمْزَةٌ قِيلَ كَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُلْقِي النَّوَى بَيْنَ إصْبَعَيْهِ أَيْ: يَجْعَلُهُ بَيْنَهُمَا لِقِلَّتِهِ وَقِيلَ كَانَ يَجْمَعُهُ عَلَى ظَهْرِ إصْبَعَيْهِ ثُمَّ يُرْمَى بِهِ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَعِنْدَهُ فَكَانَ يَأْكُلُ التَّمْرَ وَيُلْقِي النَّوَى، وَصَفَ يَعْنِي شُعْبَةً بِأُصْبُعَيْهِ الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ بِظَهْرِهِمَا مِنْ فِيهِ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَعِنْدَهُ فَجَعَلَ يُلْقِي النَّوَى عَلَى ظَهْرِ إصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى. وَفِيهِ طَلَبُ الدُّعَاءِ مِنْ الضَّيْفِ وَإِجَابَتُهُ إلَى ذَلِكَ. وَيُبَاحُ أَكْلُ فَاكِهَةٍ مُسَوَّسَةٍ وَمُدَوِّدَةً بِدُودِهَا أَوْ بَاقِلَّا بِذُبَابِهِ وَخِيَارٍ

وَقِثَّاءٍ وَحُبُوبٍ وَخَلٍّ ذَكَرَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِهِ فِي التَّلْخِيصِ، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يُبَاحُ أَكْلُهُ مُنْفَرِدًا، وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ فِيهِ وَجْهَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلِ الْإِبَاحَةِ وَعَدَمِهَا، وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي بَحْثِ مَسْأَلَةِ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ.

فصل في استحباب دعاء المرء لمن يأكل طعامه

[فَصْلٌ فِي اسْتِحْبَابِ دُعَاءِ الْمَرْءِ لِمَنْ يَأْكُلُ طَعَامَهُ] عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَ إلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَجَاءَ بِخُبْزٍ وَزَيْتٍ فَأَكَلَ ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَفْطَرَ عِنْدَكُمْ الصَّائِمُونَ وَأَكَلَ طَعَامَكُمْ الْأَبْرَارُ، وَصَلَّتْ عَلَيْكُمْ الْمَلَائِكَةُ» . وَكَلَامُهُ فِي التَّرْغِيبِ يَقْتَضِي أَنَّهُ جَعَلَ هَذَا الْكَلَامَ دُعَاءً وَاسْتُحِبَّ الدُّعَاءُ بِهِ لِكُلِّ مَنْ أُكِلَ طَعَامُهُ وَعَلَى قَوْلِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ إنَّمَا يُقَالُ هَذَا إذَا أَفْطَرَ عِنْدَهُ فَيَكُونُ خَبَرًا قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ انْتَهَى كَلَامُهُ وَكَلَامُ غَيْرِ وَاحِدٍ يُوَافِقُ مَا فِي التَّرْغِيبِ. وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «صَنَعَ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيْهَانِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَعَامًا فَدَعَا النَّبِيَّ وَأَصْحَابَهُ فَلَمَّا فَرَغُوا قَالَ أَثِيبُوا أَخَاكُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَمَا إثَابَتُهُ قَالَ إنَّ الرَّجُلَ إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ وَأَكْلَ طَعَامَهُ وَشَرِبَ شَرَابَهُ فَدَعَوْا لَهُ فَذَلِكَ إثَابَتُهُ» . رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد: الْأَوَّلُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَالثَّانِي مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ عَنْ يَزِيدَ الدَّالَانِيِّ عَنْ رَجُلٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ الْآمِدِيُّ وَجَمَاعَةٌ: يُسْتَحَبُّ إذَا أَكَلَ عِنْدَ الرَّجُلِ طَعَامًا أَنْ يَدْعُوَ لَهُ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ الْخَبَرُ الْمَشْهُورُ «مَنْ أَسْدَى إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَادْعُوا لَهُ» . فَأَمَّا الدُّعَاءُ لِلْآكِلِ وَالشَّارِبِ فَلَمْ أَجِدْ الْأَصْحَابَ ذَكَرُوهُ، وَلَا ذِكْرَ لَهُ فِي الْأَخْبَارِ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ. وَقَدْ سَبَقَ عِنْدَ إجَابَةِ الْعَاطِسِ أَنَّ الْمُتَجَشِّئُ لَا يُجَابُ بِشَيْءٍ فَإِنْ حَمِدَ اللَّهَ دَعَا لَهُ، وَقَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ لَا يُعْرَفُ فِيهِ سُنَّةٌ بَلْ هُوَ عَادَةٌ مَوْضُوعَةٌ وَهَذَا أَيْضًا يُوَافِقُ مَا سَبَقَ فِي أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ، لَكِنَّ ذِكْرَهُمْ أَنَّ الْحَامِدَ يُدْعَى لَهُ مَعَ قَوْلِ ابْنِ عَقِيلٍ لَا نَعْرِفُ، فِيهِ سُنَّةً بَلْ هُوَ عَادَةٌ مَوْضُوعَةٌ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ يُدْعَى لِلْآكِلِ وَالشَّارِبِ بِمَا يُنَاسِبُ الْحَالَ لَكِنْ إذَا حَمِدَ اللَّهَ، وَمُقْتَضَى الِاعْتِمَادِ عَلَى الْعَادَةِ أَنَّهُ يُقَالُ لِلشَّارِبِ مُطْلَقًا، وَعَكْسُهُ الْآكِلُ وَيُتَوَجَّهُ فِيهِ مِثْلُ الشَّارِبِ؛ لِعَدَمِ الْفَرْقِ فَظَهَرَ أَنَّهُ هَلْ يُدْعَى

لِلْآكِلِ وَالشَّارِبِ أَمْ لَا إنْ حَمِدَ اللَّهَ أَمْ لِلشَّارِبِ؟ فِيهِ أَقْوَالٌ مُتَوَجَّهَةٌ كَمَا يُتَوَجَّهُ فِي الْمُتَجَشِّئُ مِثْلُهُمَا. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ تَحَرِّيَ طَرِيقَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - هُوَ الصَّوَابُ. وَالْقَوْلُ بِالِاسْتِحْبَابِ مُطْلَقًا مُقْتَضَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الْقِيَامِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ تَرْكَ الْقِيَامِ كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ ثُمَّ لَمَّا صَارَ تَرْكُ الْقِيَامِ كَالْإِهْوَانِ بِالشَّخْصِ اُسْتُحِبَّ لِمَنْ يَصْلُحُ لَهُ الْقِيَامُ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ هُنَا، فَأَمَّا إنْ أَفْضَى ذَلِكَ إلَى عَدَاوَةٍ وَغِشٍّ وَحِقْدٍ أَوْ وَحْشَةٍ وَشَنَآنٍ فَيُتَوَجَّهُ حِينَئِذٍ الِائْتِلَافُ وَعَمَلُ مَا يَقْتَضِيهِ بِحَسَبِ الْحَالِ. وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي قَوْلِهِ لِغَيْرِ يَوْمِ الْعِيدِ تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْك، فَعَنْهُ لَا بَأْسَ وَهِيَ أَشْهَرُ كَالْجَوَابِ: وَاحْتَجَّ بِأَبِي أُمَامَةَ قِيلَ لَهُ وَوَائِلَةَ؟ قَالَ نَعَمْ. وَقَالَ: لَا أَبْتَدِي بِهِ، وَعَنْهُ يُكْرَهُ وَعَنْهُ الْكُلُّ حَسَنٌ، وَعَنْهُ مَا أَحْسَنَهُ إلَّا أَنْ يَخَافَ الشُّهْرَةَ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الْخِلَافُ مَعَ الْأَثَرِ فِيهِ لَكِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ ذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ فَمَا ظَنُّكَ بِمَسْأَلَتِنَا عِنْدَ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَنَظِيرُ ذَلِكَ الدُّعَاءُ لِمَنْ خَرَجَ مِنْ حَمَّامٍ بِمَا يُنَاسِبُ الْحَالَ. وَرَدُّ الْجَوَابِ فِي كُلِّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى حُكْمِ الِابْتِدَاءِ وَإِنَّهُ أَسْهَلُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رَدِّ الْجَوَابِ لَلدَّاعِي يَوْمَ الْعِيدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا الْخِلَافُ يُتَوَجَّهُ فِي التَّهْنِئَةِ بِالْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَفِي كِتَابِ الْهَدْيِ لِبَعْضِ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا يَجُوزُ، فَأَمَّا التَّهْنِئَةُ بِنِعَمٍ دِينِيَّةٍ تَجَدَّدَتْ فَتُسْتَحَبُّ لِقِصَّةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ لَمَّا أُنْزِلَ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] قَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَنِيئًا مَرِيئًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل إطعام المرء غيره من طعام مضيفه إذا علم رضاه وهل تقاس الدراهم على الطعام

[فَصْلٌ إطْعَامِ الْمَرْءِ غَيْرَهُ مِنْ طَعَامِ مُضِيفِهِ إذَا عَلِمَ رِضَاهُ وَهَلْ تُقَاسُ الدَّرَاهِمُ عَلَى الطَّعَامِ] فَصْلٌ (فِي إطْعَامِ الْمَرْءِ غَيْرَهُ مِنْ طَعَامِ مُضِيفِهِ إذَا عَلِمَ رِضَاهُ وَهَلْ تُقَاسُ الدَّرَاهِمُ عَلَى الطَّعَامِ) قَالَ فِي الرِّعَايَةِ: وَمَنْ قَدَّمَ طَعَامَهُ لِزَيْدٍ فَلَهُ أَخْذُ مَا عَلِمَ رِضَاءَ صَاحِبِهِ بِهِ قَالَ ابْنُ حَمْدَانَ وَإِطْعَامُ الْحَاضِرِينَ مَعَهُ وَإِلَّا فَلَا، وَيُتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ: فَلَهُ أَخْذُ مَا ظَنَّ رِضَاءَ رَبِّهِ بِهِ وَيَكْتَفِي بِالظَّنِّ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمِ: وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَصَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُنَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَجَاوَزُ الطَّعَامَ وَأَشْبَاهَهُ إلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَأَشْبَاهِهِمَا. قَالَ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَاوِيُّ وَفِي ثُبُوتِ الْإِجْمَاعِ فِي حَقِّ مَنْ يَقْطَعُ بِطِيبِ نَفْسِ صَاحِبِهِ بِذَلِكَ نَظَرٌ، وَلَعَلَّ هَذَا يَكُونُ عَنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي لَا شَكَّ فِي رِضَاهُ بِهَا فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا تَشَكَّكَ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ مُطْلَقًا فِيمَا تَشَكَّكَ فِي رِضَاهُ انْتَهَى كَلَامُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِذْنُ فِي الطَّعَامِ وَشَبَهِهِ لَا يَكُون إذْنًا فِيمَا هُوَ أَعْلَى مِنْ الدَّنَانِيرِ وَشَبَهِهَا وَيَكُونُ إذْنًا فِيمَا هُوَ أَدْنَى مِنْهُ؛ لِحُصُولِ الظَّنِّ الْمُسْتَنِدِ إلَى إذْنِهِ فِيمَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ.

فصل في استحباب إكرام الخبز دون تقبيله وشكر النعم

[فَصْلٌ فِي اسْتِحْبَابِ إكْرَامِ الْخُبْزِ دُونَ تَقْبِيلِهِ وَشُكْرُ النِّعَمِ] هَلْ يُسْتَحَبُّ تَقْبِيلُ الْخُبْزِ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ كَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَسْأَلَةِ تَقْبِيلِ الْمُصْحَفِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّقْبِيلِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ تَقْبِيلُ الْجَمَادَاتِ، إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ أَنَّهُ هَلْ يُسْتَحَبُّ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْقَبْرِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مُصَافَحَةِ الْحَيِّ صَحَّحَهُمَا أَبُو الْحُسَيْنِ أَوْ لَا يُسْتَحَبُّ؛ لِأَنَّ مَا طَرِيقُهُ الْقُرْبَةُ يَقِفُ عَلَى التَّوْقِيفِ بِدَلِيلِ قَوْلِ عُمَرَ فِي الْحَجَر الْأَسْوَدِ «لَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ» ، وَلَيْسَ فِي هَذَا تَوْقِيفٌ؟ فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلَامُ وَالِدِهِ فِي تَقْبِيلِ الْمُصْحَفِ بِهَذَا الْمَعْنَى وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الشُّكْرِ لَهُ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَأَى كِسْرَةً مُلْقَاةً فَقَالَ «يَا عَائِشَةُ أَحْسَنِي جِوَارَ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْكَ فَإِنَّهَا قَلَّ إنْ نَفَرَتْ عَنْ قَوْمٍ فَكَادَتْ تَرْجِعُ إلَيْهِمْ» وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَلَفْظُهُ فَدَخَلَ عَلَيَّ، فَرَأَى كِسْرَةً مُلْقَاةً فَأَخَذَهَا فَمَسَحَهَا ثُمَّ أَكَلَهَا وَقَالَ «يَا عَائِشَةُ أَكْرَمِي كَرِيمَكَ فَإِنَّهَا مَا نَفَرَتْ عَنْ قَوْمٍ فَعَادَتْ إلَيْهِمْ» فَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّقْبِيلِ؛ لِأَنَّ هَذَا مَحَلُّهُ كَمَا يُفْعَلُ فِي هَذَا الزَّمَانِ. وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الِاعْتِرَافَ بِالنِّعَمِ وَمَنْ أَنْعَمَ بِهَا وَشُكْرَهُ سَبَبٌ لِبَقَائِهَا وَزِيَادَتِهَا كَمَا قَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: قَيِّدُوا النِّعَمَ بِالشُّكْرِ فَإِنَّهَا كَالنَّعَمِ لَهَا أَوَابِدُ، أَيْ تَشْرُدُ وَتَنْفِرُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ «أَنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ» ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152] .

وَقَدْ قَالَ أَبُو حَازِمٍ الْأَعْرَجُ التَّابِعِيُّ الْجَلِيلُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كُلُّ نِعْمَةٍ لَمْ يُشْكَرْ اللَّهُ عَلَيْهَا فَهِيَ بَلِيَّةٌ وَقَالَ أَيْضًا: إذَا رَأَيْت اللَّهَ يُتَابِعُ نِعَمَهُ عَلَيْكِ وَأَنْتَ تَعْصِيهِ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاج فَاحْذَرْهُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182] وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] . وَقَدْ سَبَقَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا قَرِيبًا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ} [سبأ: 15] وَقَالَ تَعَالَى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ: 13] . قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ الْمَعْنَى وَقُلْنَا: اعْمَلُوا بِطَاعَةِ اللَّهِ شُكْرًا عَلَى مَا آتَاكُمْ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ بَعْضُهُمْ الطَّاعَاتُ كُلُّهَا شُكْرٌ وَأَفْضَلُ الشُّكْرِ الْحَمْدُ وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ بَهْجَةُ الْمَجَالِسِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فَعَلِمَ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إلَّا كَتَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ شُكْرَهَا وَمَا عَلِمَ اللَّهُ مِنْ عَبْدٍ نَدَامَةً عَلَى ذَنْبٍ إلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَلْبَسُ الثَّوْبَ فَيَحْمَدُ اللَّهِ فَمَا يَبْلُغُ رُكْبَتَيْهِ حَتَّى يُغْفَرَ لَهُ» وَمَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ اُشْكُرْ لِمَنْ أَنْعَمَ عَلَيْك وَأَنْعِمْ عَلَى مَنْ شَكَرَكَ فَإِنَّهُ لَا زَوَالَ لِلنِّعَمِ إذَا شُكِرَتْ، وَلَا مُقَامَ لَهَا إذَا كُفِرَتْ وَالشُّكْرُ زِيَادَةٌ فِي النِّعَمِ وَأَمَانٌ مِنْ الْغِيَر قَالَ أَبُو بُجَيْلَةَ: شَكَرْتُك إنَّ الشُّكْرَ حَبْلٌ مِنْ التُّقَى ... وَمَا كُلُّ مَنْ أَوَلَيْتَهُ نِعْمَةً يَقْضِي وَأَحْيَيْت مِنْ ذِكْرِي وَمَا كُنْت خَامِلًا ... وَلَكِنَّ بَعْضَ الذِّكْرِ أَنْبَهُ مِنْ بَعْضِ

وَقَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ مَا عَظُمَتْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَى حَدٍّ إلَّا زَادَ حَقُّ اللَّهِ عِظَمًا قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ سُوءَ مَا يُبْلَى، لَمْ يَعْرِفْ خَيْرَ مَا يُولَى وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فَعَرَفَهَا بِقَلْبِهِ وَشَكَرَهَا بِلِسَانِهِ فَيَبْرَحُ حَتَّى يَزْدَادَ.

فصل في الانتشار في الأرض بعد الطعام

[فَصْلٌ فِي الِانْتِشَارِ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ الطَّعَامِ] ِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} [الأحزاب: 53] أَيْ فَاخْرُجُوا {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ} [الأحزاب: 53] أَيْ طَالِبِينَ الْأُنْسَ لِحَدِيثٍ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مَا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ كَانُوا يَجْلِسُونَ بَعْدَ الْأَكْلِ فَيَتَحَدَّثُونَ طَوِيلًا وَكَانَ ذَلِكَ يُؤْذِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَسْتَحْيِ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: قُومُوا فَعَلَّمَهُمْ اللَّهُ الْأَدَبَ {وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب: 53] . أَيْ لَا يَتْرُكُ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا هُوَ الْحَقُّ فَأَمَّا إنْ دَلَّتْ قَرِينَةٌ عَلَى الْإِذْنِ فِي الْجُلُوسِ جَازَ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا لِمَيْلِ صَاحِبِ الطَّعَامِ إلَى ذَلِكَ وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الثُّقَلَاءِ وَقَالَ السُّدِّيُّ ذَكَرَ اللَّهُ الثُّقَلَاءَ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} [الأحزاب: 53] . وَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَنْ لَا يَسْتَثْقِلَ فَإِنَّ ذَلِكَ أَذًى لَهُ وَلِغَيْرِهِ وَالْمُؤْمِنُ سَهْلٌ لَيِّنٌ هَيِّنٌ كَمَا سَبَقَ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ سُئِلَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ الْمُؤْمِنِ يَكُونُ بَغِيضًا قَالَ لَا يَكُونُ بَغِيضًا وَلَكِنْ يَكُونُ ثَقِيلًا. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قُلْت لِأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ مَا لَكَ لَمْ تَكْتُبْ عَنْ طَاوُوسَ قَالَ أَتَيْتُهُ فَوَجَدْتُهُ بَيْنَ ثَقِيلَيْنِ وَسَمَّاهُمَا كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ إذَا اسْتَثْقَلَ

رَجُلًا قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلَهُ وَأَرِحْنَا مِنْهُ وَكَانَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ إذَا رَأَى مَنْ يَسْتَثْقِلُهُ قَالَ {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان: 12] . وَعَنْ حَمَّادِ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ فِي الصَّوْمِ فِي الْبُسْتَانِ مِنْ الثِّقَلِ كَذَا قَالَ وَلَيْسَ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ بَلْ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْحَالِ كَانَ يُقَالُ: مُجَالَسَةُ الثَّقِيلِ حُمَّى الرُّوحِ قِيلَ لِأَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ لِأَيِّ شَيْءٍ يَكُونُ الثَّقِيلُ أَثْقَلَ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ الْحِمْلِ الثَّقِيلِ فَقَالَ: لِأَنَّ الثَّقِيلَ يَعْقِدُ عَلَى الْقَلْبِ، وَالْقَلْبُ لَا يَحْتَمِلُ مَا يَحْتَمِلُ الرَّأْسُ وَالْبَدَنُ مِنْ الثِّقَلِ كَانَ فَلَاسِفَةُ الْهِنْدِ يَقُولُونَ: النَّظَرُ إلَى الثَّقِيلِ يُورِثُ مَوْتَ الْفَجْأَةِ قَالَ ثَقِيلٌ لِمَرِيضٍ مَا تَشْتَهِي قَالَ أَشْتَهِي أَنْ لَا أَرَاك. وَقَالَ مَعْمَرٌ مَا بَقِيَ مِنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا إلَّا ثَلَاثٌ مُحَادَثَةُ الْإِخْوَانِ وَحَكُّ الْجَرَبِ وَالْوَقِيعَةُ فِي الثُّقَلَاءِ وَهِيَ أَفْضَلُ الثَّلَاثِ وَقَالَ آخَرُ: إذَا جَلَسَ الثَّقِيلُ إلَيْك يَوْمًا ... أَتَتْكَ عُقُوبَةٌ مِنْ كُلِّ بَابِ فَهَلْ لَك يَا ثَقِيلُ إلَى خِصَالٍ ... تَنَالُ بِبَعْضِهَا كَرْمَ الْمَآبِ إلَى مَالِي فَتَأْخُذَهُ جَمِيعًا ... أَحَلُّ لَدَيْكَ مِنْ مَاءِ السَّحَابِ وَتَنْتِفُ لِحْيَتِي وَتَدُقُّ أَنْفِي ... وَمَا فِي فِي مِنْ ضِرْسٍ وَنَابِ عَلَى أَنْ لَا أَرَاك وَلَا تَرَانِي ... مُقَاطَعَةً إلَى يَوْمِ الْحِسَابِ وَكَانَ يُقَالُ مُجَالَسَةُ الثَّقِيلِ، عَذَابٌ وَبِيلٌ، وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ: لَيْتَنِي كُنْتُ سَاعَةً مَلَكَ الْمَوْتِ ... فَأُفْنِيَ الثِّقَالَ حَتَّى يَبِيدُوا سَلَّمَ ثَقِيلٌ عَلَى إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَارِيّ صَاحِبِ هَارُونَ فَقَالَ لَهُ يَا هَذَا: قَدْ وَاَللَّهِ بَلَغْتُ مِنْكَ غَايَةَ الْأَذَى أَسْلِفْنِي سَلَامَ شَهْرٍ وَأَرِحْنِي مِنْك. قَالَ الشَّاعِرُ: أَنْتَ يَا هَذَا ثَقِيلٌ وَثَقِيلٌ وَثَقِيلُ ... أَنْتَ فِي الْمَنْظَرِ إنْسَانٌ وَفِي الْمِيزَانِ فِيلُ قَالَ أَبُو حَازِمٍ عَوِّدْ نَفْسَك الصَّبْرَ عَلَى السُّوءِ فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ يُخْطِئُك.

فصل في تمسك الناس بالخرافات وتهاونهم بالشرعيات

[فَصْلٌ فِي تَمَسُّكِ النَّاسِ بِالْخُرَافَاتِ وَتَهَاوُنِهِمْ بِالشَّرْعِيَّاتِ] ِ) قَالَ أَبُو الْوَفَاءِ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ لَوْ تَمَسَّكَ النَّاسُ بِالشَّرْعِيَّاتِ تَمَسُّكَهُمْ بِالْخُرَافَاتِ لَاسْتَقَامَتْ أُمُورُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُقَدِّمُونَ إدْخَالَ مُسَافِرٍ عَلَى مَرِيضٍ، وَلَا يُنَقَّبُ الرَّغِيفَ مِنْ غَيْرِ قَطْعِ حَرْفِهِ، وَلَا يُكَبُّ الرَّغِيفَ عَلَى وَجْهِهِ، وَلَا يُتَزَوَّجُ فِي صَفَرٍ، وَلَا يَتْرُكُ يَدَيْهِ مُشَبَّكَةً فِي رُكْنَيْ الْبَابِ وَلَا يَخِيطُ قَمِيصَهُ عَلَيْهِ إلَّا وَيَضَعُ فِيهِ لِيطَةً، وَلَعَلَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ لَوْ عُوتِبَ عَلَى تَرْكِ الْجُمُعَةِ أَوْ الْجَمَاعَاتِ أَوْ لُبْسِ الْحَرِيرِ لَأَهْوَنُ بِالْعُتْبَةِ. فَهَذَا قَدْرُ الْإِسْلَامِ عِنْدَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِهِ وَلَعَلَّ أَحَدَهُمْ يَقُولُ: لَا يَحِلُّ طَرْحُ الرَّغِيفِ عَلَى وَجْهِهِ ثِقَةً بِمَا يَسْمَعُ مِنْ النِّسَاءِ الْبُلْهِ وَالسَّفْسَافِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمِنْ هَذَا تَرْكُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ يَوْمَ السَّبْتِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ وَمِنْهُ تَخْصِيصُ بَعْضِ الْأَيَّامِ بِشَيْءٍ كَتَخْصِيصِ بَعْضِهِمْ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ بِدُخُولِ الْحَمَّامِ وَالِاسْتِرَاحَةِ، وَبَعْضِهِمْ لَهُ بِالدُّعَاءِ وَزِيَارَةِ الْقُبُورِ. وَقَدْ قَالَ فِي الْفُنُونِ: كُنْت أَرَى النَّاسَ يُكْثِرُونَ الدُّعَاءَ وَزِيَارَةَ الْقُبُورِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَلَا أَعْلَمُ هَلْ يَرْجِعُونَ إلَى شَيْءٍ فَوَجَدْتُ فِي سَمَاعِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ عَنْ الْغِطْرِيفِيِّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «دَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَسْجِدِ الْأَحْزَابِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ فَاسْتُجِيبَ لَهُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فَعَرَفْنَا السُّرُورَ فِي وَجْهِهِ» قَالَ جَابِرٌ فَمَا نَزَلَ بِي أَمْرٌ مُهِمٌّ عَارِضٌ إلَّا تَوَخَّيْتُ تِلْكَ السَّاعَةَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَدَعَوْتُ فَعَرَفْتُ الْإِجَابَةَ.

فصل باب ما يكره أن تطعم البهائم الخبز

[فَصْلٌ بَابُ مَا يُكْرَهُ أَنْ تُطْعَمَ الْبَهَائِمُ الْخُبْزَ] فَصْلٌ قَالَ الْخَلَّالُ فِي الْجَامِعِ (بَابُ مَا يُكْرَهُ أَنْ تُطْعَمَ الْبَهَائِمُ الْخُبْزَ) ثَنَا حَرْبٌ قُلْتُ لِإِسْحَاقَ نُطْعِمُ الْبَهِيمَةَ الْخُبْزَ قَالَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَإِذَا أَمَرْت بِذَلِكَ فَلَا بَأْسَ، فَأَمَّا أَنْ يُتَّخَذَ طَعَامَ الْبَهِيمَةِ فَلَا خَيْرَ فِيهِ انْتَهَى كَلَامُهُ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا وَعَدَمُ اعْتِيَادِهِ وَفِعْلِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي تَكَلُّفِ الْإِحَاطَةِ بِأَسْرَارِ حِكَمِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ] فَصْلٌ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ أُمَّ مَالِكٍ كَانَتْ تُهْدِي لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عُكَّةٍ لَهَا فَيَأْتِيهَا بَنُو عَمِّهَا فَيَسْأَلُونَ الْأُدْمَ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ فَتَعْمِدُ إلَى الَّذِي كَانَتْ تُهْدِي فِيهِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَجِدُ فِيهِ سَمْنًا قَالَ فَمَا زَالَ يُقِيمُ لَهَا أُدْمَ بَيْتِهَا حَتَّى عَصَرَتْهُ فَأَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ عَصَرْتِهَا؟ فَقَالَتْ نَعَمْ فَقَالَ لَوْ تَرَكْتِهَا مَا زَالَ قَائِمًا» . وَعَنْهُ أَيْضًا «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَطْعِمُهُ فَأَطْعَمَهُ وَسْقًا مِنْ شَعِيرٍ فَمَا زَالَ الرَّجُلُ يَأْكُلُ مِنْهُ وَامْرَأَتُهُ وَضَيْفُهُمَا حَتَّى كَالَهُ فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَوْ لَمْ تَكِلْهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ وَلَقَامَ لَكُمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَمِثْلُهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ حِينَ كَالَتْ الشَّعِيرَ فَفَنِيَ. قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْعُلَمَاءُ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ عَصْرَهَا وَكَيْلَهُ مُضَادٌّ لِلتَّسْلِيمِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى رِزْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَتَضَمَّنُ التَّدْبِيرَ وَالْأَخْذَ بِالْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ وَتَكَلُّفِ الْإِحَاطَةِ بِأَسْرَارِ حِكَمِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ فَعُوقِبَ فَاعِلُهُ بِزَوَالِهِ.

فصل في الخروج مع الضيف إلى باب الدار والأخذ بركابه

[فَصْلٌ فِي الْخُرُوجِ مَعَ الضَّيْفِ إلَى بَابِ الدَّارِ وَالْأَخَذِ بِرِكَابِهِ] ِ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يَخْرُجَ الرَّجُلُ مَعَ ضَيْفِهِ إلَى بَابِ الدَّارِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ " إنَّ مِنْ السُّنَّةِ إذَا دَعَوْتَ أَحَدًا إلَى مَنْزِلِكَ أَنْ تَخْرُجَ مَعَهُ حَتَّى يَخْرُجَ " ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا قَالَ: قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ زُرْتَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَيْهِ بَيْتَهُ قَامَ فَاعْتَنَقَنِي وَأَجْلَسَنِي فِي صَدْرِ مَجْلِسِهِ فَقُلْتُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَلَيْسَ يُقَالُ صَاحِبُ الْبَيْتِ وَالْمَجْلِسِ أَحَقُّ بِصَدْرِ بَيْتِهِ أَوْ مَجْلِسِهِ قَالَ نَعَمْ يَقْعُدُ، وَيُقْعِدُ مَنْ يُرِيدُ قَالَ قُلْتُ فِي نَفْسِي خُذْ يَا أَبَا عُبَيْدٍ إلَيْكَ فَائِدَةً. ثُمَّ قُلْتُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَوْ كُنْتُ آتِيكَ عَلَى حَقِّ مَا تَسْتَحِقُّ لَأَتَيْتُكَ كُلَّ يَوْمٍ، فَقَالَ لَا تَقُلْ ذَلِكَ فَإِنَّ لِي إخْوَانًا مَا أَلْقَاهُمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ إلَّا مَرَّةً أَنَا أَوْثَقُ فِي مَوَدَّتِهِمْ مِمَّنْ أَلْقَى كُلَّ يَوْمٍ قُلْتُ هَذِهِ أُخْرَى يَا أَبَا عُبَيْدٍ فَلَمَّا أَرَدْت الْقِيَامَ قَامَ مَعِي قُلْتُ: لَا تَفْعَلْ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: فَقَالَ قَالَ الشَّعْبِيُّ مِنْ تَمَامِ زِيَارَةِ الزَّائِرِ أَنْ تَمْشِيَ مَعَهُ إلَى بَابِ الدَّارِ وَتَأْخُذَ بِرِكَابِهِ قَالَ قُلْتُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَنْ عَنْ الشَّعْبِيِّ؟ قَالَ ابْنُ زَائِدَةَ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ قُلْتُ يَا أَبَا عُبَيْدٍ هَذِهِ ثَالِثَةٌ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «أَنَّ مَنْ أَخَذَ بِرِكَابِ رَجُلٍ لَا يَرْجُوهُ وَلَا يَخَافُهُ غُفِرَ لَهُ» وَمَسَكَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِرِكَابِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَ أَتَمْسِكُ لِي وَأَنْتَ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَ إنَّا هَكَذَا نَصْنَعُ بِالْعُلَمَاءِ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَاضَعَ فِي مَجْلِسِهِ إذَا حَضَرَ، وَأَنْ لَا يَتَصَدَّرَ، وَإِنْ عَيَّنَ لَهُ صَاحِبُ الدَّارِ مَكَانًا لَمْ يَتَعَدَّهُ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّهُ طَرَحَ لِحُلَيْسٍ لَهُ وِسَادَةً فَرَدَّهَا فَقَالَ أَمَا سَمِعْتَ الْحَدِيثَ «لَا تَرُدَّنَّ عَلَى أَخِيك كَرَامَتَهُ.»

فصل في استحباب الانبساط والمداعبة والمزاح مع الزوجة والولد

[فَصْلٌ فِي اسْتِحْبَابِ الِانْبِسَاطِ وَالْمُدَاعَبَةِ وَالْمُزَاحِ مَعَ الزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ] ِ) قَالَ فِي الْفُنُونِ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ يَعْنِي نَفْسَهُ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ فِي هَؤُلَاءِ الْمُتَشَدِّقِينَ فِي شَرِيعَةٍ بِمَا لَا يَقْتَضِيه شَرْعٌ وَلَا عَقْلٌ يُقَبِّحُونَ أَكْثَرَ الْمُبَاحَاتِ وَيُبَجِّلُونَ تَارِكَهَا حَتَّى تَارِكَ التَّأَهُّلِ وَالنِّكَاحِ، وَالْعِبْرَةُ فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ إعْطَاءُ الْعَقْلِ حَقَّهُ مِنْ التَّدَبُّرِ، وَالتَّفَكُّرِ، وَالِاسْتِدْلَالِ، وَالنَّظَرِ، وَالْوَقَارِ، وَالتَّمَسُّكِ، وَبِالْإِعْدَادِ لِلْعَوَاقِبِ: وَالِاحْتِيَاطِ بِطَرِيقَةٍ هِيَ الْعُلْيَا يَخُصُّ بِهَا الْأَعْلَى الْأَعَزَّ الْأَكْرَمَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ قَالَ «مَنْ كَانَ لَهُ صَبِيٌّ فَلْيَتَصَابَ لَهُ» . وَكَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُرْقِصُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَيُدَاعِبُهُمَا وَسَابَقَ عَائِشَةَ، وَيُدَارِي زَوْجَاتِهِ إلَى أَنْ قَالَ وَالْعَاقِلُ إذَا خَلَا بِزَوْجَاتِهِ وَإِمَائِهِ تَرَكَ الْعَقْلَ فِي زَاوِيَةٍ كَالشَّيْخِ الْمُوَقَّرِ وَدَاعَبَ وَمَازَحَ وَهَازَلَ لِيُعْطِيَ الزَّوْجَةَ وَالنَّفْسَ حَقَّهُمَا، وَإِنْ خَلَا بِأَطْفَالِهِ خَرَجَ فِي صُورَةِ طِفْلٍ، وَيُهْجِرُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالْخَبَرُ الْأَوَّلُ لَا يَصِحُّ وَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَكُونُ فِي بَيْتِهِ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ تَوَاضُعِهِ وَمَكَارِمِ أَخْلَاقِهِ وَسِيرَتِهِ الْعَالِيَةِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّوَامِيسِ وَالْحَمْقَى وَالْمُتَكَبِّرِينَ مَعَ اشْتِمَالِ بَعْضِهِمْ مَعَ ذَلِكَ عَلَى سُوءِ قَصْدٍ وَجَهْلٍ مُفْرِطٍ، فَيَتَكَبَّرُ عَلَى مَنْ خَالَفَ طَرِيقَتَهُ، وَيَصِيرُ عِنْدَهُ الْمَعْرُوفُ مُنْكَرًا، وَالْمُنْكَرُ مَعْرُوفًا، فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَهْدِيَنَا وَالْمُسْلِمِينَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ غَيْرَ الْمَغْصُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ.

فصل في تحسر الناس على ما فات من الدنيا دون ما حل بالدين

[فَصْلٌ فِي تَحَسُّرِ النَّاسِ عَلَى مَا فَاتَ مِنْ الدُّنْيَا دُونَ مَا حَلَّ بِالدِّينِ] ِ) قَالَ فِي الْفُنُونِ مِنْ عَجِيبِ مَا نَقَدْت مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ كَثْرَةُ مَا نَاحُوا عَلَى خَرَابِ الدِّيَارِ، وَمَوْتِ الْأَقَارِبِ وَالْأَسْلَافِ، وَالتَّحَسُّر عَلَى الْأَرْزَاقِ بِذَمِّ الزَّمَانِ وَأَهْلِهِ وَذِكْرِ نَكَدِ الْعَيْشِ فِيهِ، وَقَدْ رَأَوْا مِنْ انْهِدَامِ الْإِسْلَامِ، وَشَعَثِ الْأَدْيَانِ، وَمَوْتِ السُّنَنِ، وَظُهُورِ الْبِدَعِ، وَارْتِكَابِ الْمَعَاصِي وَقَضٍّ فِي الْفَارِغِ الَّذِي لَا يُجْدِي، وَالْقَبِيحِ الَّذِي يُوبِقُ وَيُؤْذِي، فَلَا أَجِدُ مِنْهُمْ مَنْ نَاحَ عَلَى دِينِهِ، وَلَا بَكَى عَلَى فَارِطِ عُمْرِهِ، وَلَا آسَى عَلَى فَائِتِ دَهْرِهِ وَمَا أَرَى لِذَلِكَ سَبَبًا إلَّا قِلَّةَ مُبَالَاتِهِمْ بِالْأَدْيَانِ وَعِظَمَ الدُّنْيَا فِي عُيُونِهِمْ ضِدَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَرْضَوْنَ بِالْبَلَاغِ وَيَنُوحُونَ عَلَى الدِّينِ.

فصل فيما يسن من الذكر عند النوم والاستيقاظ

[فَصْلٌ فِيمَا يُسَنُّ مِنْ الذِّكْرِ عِنْدَ النَّوْمِ وَالِاسْتِيقَاظِ] ِ) وَيَقُولُ عِنْدَ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ وَالنَّوْمِ وَالِانْتِبَاهِ مَا وَرَدَ فَمِنْ ذَلِكَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَوَى إلَى فِرَاشِهِ نَامَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْلَمْتُ نَفْسِي إلَيْكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَى مِنْكَ إلَّا إلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ وَقُلْ وَذَكَرَ نَحْوَهُ وَفِيهِ وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَقُولُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنْ النَّوْمِ وَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ خَدِّهِ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا وَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَعَنْ حَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَرْقُدَ وَضْعَ يَدَهُ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ» . حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ وَالْبَرَاءِ مَعْنَاهُ وَكَذَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُود. وَرَوَى حَدِيثَ حَفْصَةَ وَعِنْدَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَلِلتِّرْمِذِيِّ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ وَيَضَعُ يَدَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ. وَقَالَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ: كَانَ يَتَوَسَّدُ يَمِينَهُ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا «مَنْ قَالَ حِينَ يَأْوِي إلَى فِرَاشِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ الَّذِي لَا إلَه إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ وَرَقِ الشَّجَرِ، وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ رَمْلٍ عَالِجٍ، وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ أَيَّامِ الدُّنْيَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: غَرِيبٌ. وَعَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُنَا كَلِمَاتٍ نَقُولُهُنَّ عِنْدَ النَّوْمِ مِنْ الْفَزَعِ بِاسْمِ اللَّهِ أَعُوذُ

بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونَ» وَكَانَ عَبْد اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو يُعَلِّمُهَا مَنْ بَلَغَ مِنْ وَلَدِهِ، وَمَنْ كَانَ صَغِيرًا لَا يَعْقِلُ أَنْ يَحْفَظَهَا كَتَبَهَا لَهُ فَعَلَّقَهَا عَلَيْهِ فِي عُنُقِهِ. رَوَاهُ أَحْمَد وَالتِّرْمِذِيُّ، وَعِنْدَهُ " إذَا فَزِعَ أَحَدُكُمْ مِنْ النَّوْمِ فَلْيَقُلْ " وَذَكَرَهُ. وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَأَبُو دَاوُد لَمْ يَذْكُرْ " النَّوْمَ " وَعِنْدَهُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُهُمْ مِنْ الْفَزَعِ وَذَكَرَهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَجِدُ وَحْشَةً فَقَالَ: " إذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ فَقُلْ أَعُوذُ " وَذَكَرَهُ كَمَا تَقَدَّمَ وَفِي آخِرِهِ " فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّك " وَبِالْحَرِيِّ أَنْ لَا يَقْرَبَكَ، الْوَلِيدُ هُوَ ابْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ، إسْنَادُهُ ثِقَاتٌ وَمُحَمَّدٌ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ الْوَلِيدِ. وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: شَكَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَنَامُ اللَّيْلَ مِنْ الْأَرَقِ قَالَ «إذَا أَوَيْتَ إلَى فِرَاشِكَ فَقُلْ: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ وَمَا أَظَلَّتْ، وَرَبَّ الْأَرَضِينَ وَمَا أَقَلَّتْ، وَرَبَّ الشَّيَاطِينِ وَمَا أَضَلَّتْ، كُنْ لِي جَارًا مِنْ خَلْقِكَ كُلِّهِمْ جَمِيعًا أَنْ يَفْرُطَ عَلَيَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَوْ يَبْغِيَ عَلَيَّ، عَزَّ جَارُكَ وَجَلَّ ثَنَاؤُكَ وَلَا إلَهَ غَيْرُكَ وَلَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ» فِيهِ الْحَكَمُ بْنُ ظُهَيْرٍ وَلَيْسَ بِثِقَةٍ عِنْدَهُمْ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ تَرَكُوهُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: لَيْسَ إسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ وَيُرْوَى مُرْسَلًا، الْأَرَقُ السَّهَرُ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْ الْجَانِّ وَعَيْنِ الْإِنْسَانِ حَتَّى أُنْزِلَتْ الْمُعَوِّذَتَانِ، فَلَمَّا أُنْزِلَتْ أَخَذَ بِهِمَا وَتَرَكَ مَا سِوَاهُمَا» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتْ اللَّيْلَةَ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ؟ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» يُرَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ. وَعَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: «كُنْتُ

أَقُودُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَاقَتَهُ فِي السَّفَرِ فَقَالَ لِي يَا عُقْبَةُ أَلَا أُعَلِّمُكَ خَيْرَ سُورَتَيْنِ قُرِئَتَا؟ فَعَلَّمَنِي قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ قَالَ فَلَمْ يَرَنِي سُرِرْتُ بِهِمَا جِدًّا، فَلَمَّا نَزَلَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ صَلَّى بِهِمَا صَلَاةَ الصُّبْحِ لِلنَّاسِ فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الصَّلَاةِ الْتَفَتَ إلَيَّ فَقَالَ يَا عُقْبَةُ رَأَيْتَ» إسْنَادُهُ جَيِّدٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اقْرَأْ يَا جَابِرُ فَقُلْتُ وَمَا أَقْرَأُ بِأَبِي وَأُمِّي قَالَ: اقْرَأْ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ فَقَرَأْتُهُمَا فَقَالَ اقْرَأْ بِهِمَا فَإِنَّكَ لَمْ تَقْرَأْ بِمِثْلِهِمَا» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. وَعَنْ عُقْبَةَ قَالَ «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْرَأُ مِنْ سُورَةِ يُوسُفَ وَمِنْ سُورَةِ هُودٍ قَالَ يَا عُقْبَةُ اقْرَأْ بِ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ فَإِنَّكَ لَنْ تَقْرَأَ بِسُورَةٍ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ مِنْهَا، وَأَبْلَغَ عِنْدَهُ مِنْهَا فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا تَفُوتَكَ فَافْعَلْ» رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ وَأَظُنُّ فِي النَّسَائِيّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ. وَعَنْ عُقْبَةَ مَرْفُوعًا «مَا سَأَلَ سَائِلٌ بِمِثْلِهِمَا وَلَا اسْتَعَاذَ مُسْتَعِيذٌ بِمِثْلِهِمَا» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنْ اللَّيْثِ عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ عُقْبَةَ، إسْنَادٌ جَيِّدٌ وَابْنُ عَجْلَانَ حَدِيثُهُ حَسَنٌ. وَقَالَ عُقْبَةُ «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَقْرَأَ الْمُعَوِّذَاتِ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ» حَدِيثٌ حَسَنٌ لَهُ طُرُقٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: غَرِيبٌ وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَفِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ. وَعَنْ عُقْبَةَ قَالَ «بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ الْجُحْفَةِ وَالْأَبْوَاءِ إذْ غَشِيَتْنَا رِيحٌ وَظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَعَوَّذُ بِ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَأَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس وَيَقُولُ: يَا عُقْبَةُ تَعَوَّذْ بِهِمَا فَمَا تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بِمِثْلِهِمَا قَالَ وَسَمِعْتُهُ يَؤُمُّنَا بِهِمَا فِي الصَّلَاةِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ. وَعَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «إذَا هَاجَتْ رِيحٌ مُظْلِمَةٌ فَعَلَيْكُمْ بِالتَّكْبِيرِ فَإِنَّهُ يُجْلِي الْعَجَاجَ الْأَسْوَدَ» رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ رِوَايَةٍ عَنْبَسَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَهُوَ مَتْرُوكٌ، وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبِيبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ

«خَرَجْنَا فِي لَيْلَةِ مَطَرٍ وَظُلْمَةٍ شَدِيدَةٍ فَطَلَبْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُصَلِّيَ لَنَا فَأَدْرَكْنَاهُ فَقَالَ: قُلْ فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا ثُمَّ قَالَ: قُلْ فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا فَقَالَ قُلْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَقُولُ قَالَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدُ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ حِينَ تُمْسِي وَحِينَ تُصْبِحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَعَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ قَالَ كَانَ أَبُو صَالِحٍ يَأْمُرُنَا إذَا أَرَادَ أَحَدُنَا أَنْ يَنَامَ أَنْ يَضْطَجِعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ يَقُولُ «اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ وَرَبَّ الْأَرْضِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَأَغْنِنَا مِنْ الْفَقْرِ» وَكَانَ يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُنَا إذَا أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا أَنْ نَقُولَ بِمِثْلِهِ وَقَالَ مِنْ شَرِّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا» وَعَنْهُ قَالَ «أَتَتْ فَاطِمَةُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَسْأَلُهُ خَادِمًا فَقَالَ: قُولِي اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَمَا أَظْلَلْنَ» بِمِثْلِ حَدِيثِ سَهْلٍ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إلَى فِرَاشِهِ فَلْيَأْخُذْ دَاخِلَةَ إزَارِهِ فَلْيَنْفُضْ بِهَا فِرَاشَهُ وَلِيُسَمِّ اللَّهَ تَعَالَى فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ بَعْدَهُ عَلَى فِرَاشِهِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَضْطَجِعَ فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ وَلْيَقُلْ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ إنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَاغْفِرْ لَهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ وَفِي رِوَايَةٍ فَلْيَقُلْ بِاسْمِكَ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبِي فَإِنْ أَحْيَيْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا» . وَعَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا أَوَى إلَى فِرَاشِهِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَكَفَانَا وَآوَانَا فَكَمْ مِمَّنْ لَا كَافِيَ لَهُ وَلَا مُؤْوِيَ» رَوَى ذَلِكَ مُسْلِمٌ وَرَوَى الْبُخَارِيُّ

خَبَرَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْأَخِيرَ وَعِنْدَهُ " فَلْيُنْفِضْهُ بِضِفَّةِ ثَوْبِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَلْيَقُلْ بِاسْمِكَ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبِي " وَلَمْ يَقُلْ " سُبْحَانَكَ " وَلَا قَالَ " وَلْيُسَمِّ اللَّهَ ". وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ «الْآيَتَانِ مِنْ آخِرِ الْبَقَرَةِ مَنْ قَرَأَهُمَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ» قِيلَ: مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ وَقِيلَ: مِنْ الطَّوَارِقِ وَقِيلَ: مِنْهُمَا. وَعَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ فِي صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ بِاسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَيَضُرُّهُ شَيْءٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ. وَعَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «مَنْ قَالَ إذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى رَضِيتُ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبِيًّا إلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُرْضِيَهُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَزَادَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ كَرِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَلَفْظُهُ: " مَنْ قَالَ حِينَ يُمْسِي رَضِيتُ بِاَللَّهِ رَبًّا " وَذَكَرَهُ وَلِأَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيدٍ مَنْ قَالَ رَضِيتُ " وَذَكَرَهُ وَفِيهِ " وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَقَالَ " رَسُولًا " بَدَلَ " نَبِيًّا ". وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَنَّامٍ الْبَيَاضِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ اللَّهُمَّ مَا أَصْبَحَ بِي مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْكَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ فَلَكَ الْحَمْدُ، وَلَكَ الشُّكْرُ فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ يَوْمِهِ وَمَنْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ حِينَ يُمْسِي فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ لَيْلَتِهِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُيَيْنَةَ قِيلَ رَوَى عَنْهُ أَيْضًا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ الطَّائِفِيُّ فَزَالَتْ الْجَهَالَةُ وَلَيْسَ بِذَاكَ الْمَشْهُورِ وَلَمْ أَجِدْ فِيهِ كَلَامًا، وَحَدِيثُهُ حَسَنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَرَوَى حَدِيثَهُ هَذَا النَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرَهُمَا، وَذَكَرُوا أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بَعْضُهُمْ وَأَخْطَأَ، رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ وَاخْتَلَفَ عَلَيْهِ فَرَوَاهُ عَنْهُ يَحْيَى بْنُ نَافِعٍ الْمِصْرِيِّ. وَقَالَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْهُ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ الْعَلَّافُ عَنْ ابْن أَبِي مَرْيَمَ. وَقَالَ ابْنُ غَنَّامٍ وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ وَاخْتَلَفَ عَلَيْهِ فَرَوَاهُ عَنْهُ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ وَقَالَ عَنْ ابْنِ غَنَّامٍ وَرَوَاهُ

الطَّبَرَانِيُّ عَنْ رَجُلٍ عِنْدَهُ. وَرَوَاهُ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْهُ. وَقَالَ عَنْ ابْن عَبَّاسٍ وَمِنْ طَرِيقِهِ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَيْضًا فِي الْمُخْتَارَةِ وَلَفْظُهُ " اللَّهُمَّ مَا أَصْبَحَ بِي مِنْ نِعْمَةٍ أَوْ بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ فَمِنْكَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، لَك الْحَمْدُ، وَلَك الشُّكْرُ فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ " وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ عَنْ ابْنِ قُتَيْبَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ أَوْ يُمْسِي: اللَّهُمَّ إنِّي أَصْبَحْتُ أُشْهِدُكَ وَأُشْهِدُ حَمَلَةَ عَرْشِكَ وَمَلَائِكَتَكَ وَجَمِيعَ خَلْقِكَ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ مَرَّةً أَعْتَقَ اللَّهُ رُبْعَهُ مِنْ النَّارِ، وَمَنْ قَالَهَا مَرَّتَيْنِ أَعْتَقَ اللَّهُ نِصْفَهُ مِنْ النَّارِ، وَمَنْ قَالَهَا ثَلَاثًا أَعْتَقَ اللَّهُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ مِنْ النَّارِ، وَمَنْ قَالَهَا أَرْبَعًا أَعْتَقَهُ اللَّهُ مِنْ النَّارِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْهُ أَيْضًا مَرْفُوعًا «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ: اللَّهُمَّ أَصْبَحْنَا نُشْهِدُكَ وَنُشْهِدُ حَمَلَةَ عَرْشِكَ وَمَلَائِكَتَكَ وَجَمِيعَ خَلْقِكَ أَنَّك أَنْتَ اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، إلَّا غُفِرَ لَهُ مَا أَصَابَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ مِنْ ذَنْبٍ» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ غَرِيبٌ. «وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا مُضْطَجِعًا فِي الْمَسْجِدِ عَلَى بَطْنِهِ فَقَالَ هَذِهِ ضِجْعَةٌ يُبْغِضُهَا اللَّهُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي الْأَدَبِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ كَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ، وَفِي اسْمِ هَذَا الصَّحَابِيِّ وَاسْمِ أَبِيهِ وَحَدِيثِهِ اخْتِلَافٌ وَاضْطِرَابٌ، وَلَعَلَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَهُوَ فِي الْأَطْرَافِ فِي حَرْفِ الطَّاءِ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَرَوَى ابْن مَاجَهْ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَهُوَ وَهْمٌ، وَمِنْ رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ جَمِيلٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَفِيهِ ضَعْفٌ. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ «رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَّكِئًا عَلَى وِسَادَةٍ عَلَى يَسَارِهِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ وَاحِدٍ عَنْ يَسَارِهِ وَلِأَبِي دَاوُد عَنْ بَعْضِ آلِ أَمْ سَلَمَةَ قَالَ: «كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوًا مِمَّا يُوضَعُ لِلْإِنْسَانِ فِي قَبْرِهِ وَكَانَ الْمَسْجِدُ عِنْدَ رَأْسِهِ» .

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ قَعَدَ مَقْعَدًا لَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ فِيهِ كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ اللَّهَ تِرَةٌ، وَمَنْ اضْطَجَعَ مُضْطَجَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهِ كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ اللَّهِ تِرَةٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ. التِّرَةُ بِكَسْرِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقَ وَهِيَ النَّقْصُ وَقِيلَ التَّبَعَةُ. وَيُزِيلُ غَمَرَ يَدَيْهِ وَيَغْسِلُهُمَا مِنْ دُهْنٍ وَدَسَمٍ وَلَزَجٍ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ بَاتَ وَفِي يَدِهِ غَمَرٌ وَلَمْ يَغْسِلْهُ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ» إسْنَادٌ جَيِّدٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: الْغَمَرُ بِالتَّحْرِيكِ الدَّسَمُ وَالزُّهُومَةُ مِنْ اللَّحْمِ كَالْوَضَرِ مِنْ السَّمْنِ. وَيَكْتَحِلُ قَبْلَ النَّوْمِ بِإِثْمِدٍ مُرَوِّحٍ وَيُوكِي السِّقَاءَ وَيُغَطِّي الْإِنَاءَ أَوْ يَعْرِضُ عَلَيْهِ عُودًا أَوْ نَحْوَهُ وَيُغْلِقَ الْبَابَ وَيُطْفِئَ السِّرَاجَ وَالْخَمِيرَ لِلْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ وَمِنْهَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «غَطُّوا الْإِنَاءَ وَأَوْكِئُوا السِّقَاءَ فَإِنَّ فِي السَّنَةِ لَيْلَةً يَنْزِلُ فِيهَا وَبَاءٌ لَا يَمُرُّ بِإِنَاءٍ لَمْ يُغَطَّ وَلَا سِقَاءٍ لَمْ يُوكَ إلَّا وَقَعَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَبَاءِ» . وَفِي لَفْظٍ «أَغْلِقُوا أَبْوَابَكُمْ وَخَمِّرُوا آنِيَتِكُمْ، وَأَطْفِئُوا سُرُجَكُمْ، وَأَوْكِئُوا أَسْقِيَتَكُمْ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا وَلَا يَكْشِفُ غِطَاءً، وَلَا يَحِلُّ وِعَاءً، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إلَّا أَنْ يَعْرِضَ عَلَى إنَائِهِ عُودًا وَيَذْكُرُ اسْمَ اللَّهِ فَلْيَفْعَلْ فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ تُضْرِمُ الْبَيْتَ عَلَى أَهْلِهِ» . وَفِي لَفْظٍ «لَا تُرْسِلُوا فَوَاشِيَكُمْ وَصِبْيَانَكُمْ حَتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْبَعِثُ إذَا غَابَتْ الشَّمْسُ حَتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ.

وَلِأَحْمَدَ «أَقِلُّوا الْخُرُوجَ إذَا هَدَأَتْ الرِّجْلُ فَإِنَّ اللَّهَ يَبُثُّ فِي لَيْلِهِ مِنْ خَلْقِهِ مَا شَاءَ وَأَجِيفُوا الْأَبْوَابَ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا أُجِيفَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «فَإِذَا ذَهَبَتْ سَاعَةٌ مِنْ الْعِشَاءِ فَخَلُّوهُمْ وَأَغْلِقْ بَابَكَ وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ وَأَطْفِ مِصْبَاحَكَ وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ وَأَوْكِ سِقَاءَكَ وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ. وَخَمِّرْ إنَاءَكَ وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ، وَلَوْ أَنْ تَعْرِضَ عَلَيْهِ شَيْئًا» . وَفِي رِوَايَةٍ «وَأَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ رُبَّمَا جَرَّتْ الْفَتِيلَةَ فَأَحْرَقَتْ أَهْلَ الْبَيْتِ» وَلِأَبِي دَاوُد مَعْنَاهُ وَلَهُ أَيْضًا «وَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ عِنْدَ الْعِشَاءِ وَفِي رِوَايَةِ عِنْدَ الْمَسَاءِ فَإِنَّ لِلْجِنِّ انْتِشَارًا وَخَطْفَةً» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَلَفْظُهُ " عِنْدَ الْمَسَاءِ " وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَفَحْمَةُ الْعِشَاءِ هِيَ إقْبَالُ اللَّيْلِ وَأَوَّل سَوَادِهِ يُقَالُ لِلظُّلْمَةِ الَّتِي بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ الْفَحْمَةُ شَبَّهَ سَوَادَهُ بِالْفَحْمَةِ وَالْفَوَاشِي جَمْعٌ لِلْفَاشِيَةِ وَهِيَ مَا يُرْسَلُ مِنْ الدَّوَابِّ فِي الرَّعْي فَتَنْتَشِرُ وَتَفْشُو. وَلِأَبِي دَاوُد عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا، وَمِنْ غَيْرِ حَدِيثِ جَابِر مُرْسَلًا «أَقِلُّوا الْخُرُوجَ بَعْدَ هَدْءِ الرِّجْلِ فَإِنَّ لِلَّهِ دَوَابّ يَبُثُّهُنَّ فِي الْأَرْضِ» وَفِي لَفْظٍ «فَإِنَّ لِلَّهِ خَلْقًا يَبُثُّهُنَّ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: احْتَرَقَ بَيْتٌ عَلَى أَهْلِهِ فِي الْمَدِينَةِ مِنْ اللَّيْلِ فَلَمَّا حَدَّثَ عَلِيٌّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ هَذِهِ النَّارَ عَدُوٌّ لَكُمْ فَإِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ» وَجَاءَتْ فَأْرَةٌ تَجُرُّ فَتِيلَةً فَأَلْقَتْهَا عَلَى الْخُمْرَةِ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَاعِدًا عَلَيْهَا فَأَحْرَقَتْ مِثْلَ مَوْضِعِ الدِّرْهَمِ فَقَالَ «إذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوا سُرُجَكُمْ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدُلُّ مِثْلَ هَذِهِ عَلَى هَذَا فَتَحْرِقُكُمْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ثَنَا عَمْرٍو بْنُ طَلْحَةَ ثَنَا أَسْبَاطُ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَسْبَاطُ هُوَ ابْنُ نَصْرٍ رَوَى لَهُ وَلِسِمَاكٍ مُسْلِمٌ وَتَكَلَّمَ فِيهِمَا. فَإِنْ خَالَفَ وَلَمْ يُطْفِئْ النَّارَ فَهَلْ يَضْمَنُ؟ لَمْ أَجِدْ تَصْرِيحًا بِهَا، وَيُتَوَجَّهُ أَنْ يَضْمَنَ لِتَعَدِّيهِ بِارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَقَدْ يُتَوَجَّهُ احْتِمَالُ " لَا يُضْمَنُ "؛ لِأَنَّهَا فِي مِلْكِهِ

وَعَادَةُ أَكْثَرِ النَّاسِ أَوْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ بَقَاؤُهَا وَالْغَالِبُ السَّلَامَةُ، لِهَذَا لَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِي إنَاءٍ لَمْ يُغَطَّ مَعَ احْتِمَالِ التَّضَرُّرِ بِالْوَاقِعِ فِيهِ لِنُدْرَةِ ذَلِكَ وَقِلَّتِهِ وَلِهَذَا لَا يَحْرُمُ سُلُوكُ بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ مَعَ احْتِمَالِ التَّضَرُّرِ وَلَا يُعَدُّ مُفْرِطًا. وَفِي مُسْلِمِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسْتَسْقَى فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَسْقِيكَ نَبِيذًا فَقَالَ بَلَى فَخَرَجَ الرَّجُلُ يَسْعَى فَجَاءَ بِقَدَحِ نَبِيذٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلَا خَمَّرْتَهُ وَلَوْ تَعْرُضُ عَلَيْهِ عُودًا قَالَ فَشَرِبَ» وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ، وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّ الْمَذْهَبَ لَا يُكْرَهُ الْوُضُوءُ مِنْهُ. ثُمَّ ذَكَرَ خَبَرَ نُزُولِ الْوَبَاءِ فِيهِ قَالَ: فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَنْزِلُ الْوَبَاءُ وَلَا نَعْلَمُ هَلْ يَخْتَصُّ الشُّرْبُ أَوْ يَعُمُّ الِاسْتِعْمَالُ وَالشُّرْبُ فَكَانَ تَجَنُّبُهُ أَوْلَى فَهَذَا مِنْ ابْنِ عَقِيلٍ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ شُرْبِهِ أَوْ تَحْرِيمِهِ. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ مَنْ أَوْقَدَ نَارًا يَصْطَلِي أَوْ يَطْبُخُ أَوْ تَرَكَ سِرَاجًا وَنَامَ فَوَقَعَ حَرِيقٌ أَتْلَفَ نَاسًا وَأَمْوَالًا لَمْ يَضْمَنْ وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ الْمَلِكِ الصَّنْعَانِيُّ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «النَّارُ جُبَارٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَزَادَ «الْبِئْرُ جُبَارٌ» . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فَوَجَبَ أَنَّ كُلَّ مَا تَلِفَ بِالنَّارِ هَذِهِ إلَّا نَارٌ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى تَضْمِينِ طَارِحِهَا، فَإِنْ تَعَمَّدَ طَرْحَهَا لِلْإِتْلَافِ فَتَعَمُّدٌ، وَإِلَّا فَلَا فَقَاتِلٌ خَطَأً، وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْمُغْنِي أَنَّهُ إذَا اقْتَنَى طَيْرًا فَأَرْسَلَهُ نَهَارًا فَلَقَطَ حَبًّا لَمْ يَضْمَنْهُ لِأَنَّ الْعَادَةَ إرْسَالُهُ وَيَأْتِي ذَلِكَ بَعْدَ نَحْوِ كَرَاسِينَ فِي اقْتِنَاءِ الْحَيَوَانِ وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الضَّمَانُ هُنَا فَقَالَ مَنْ أَطْلَقَ كَلْبًا عَقُورًا أَوْ دَابَّةً رَفُوسًا أَوْ عَضُوضًا فَأَتْلَفَ شَيْئًا ضَمِنَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ

لَهُ طَائِرٌ جَارِحٌ كَالصَّقْرِ وَالْبَازِي فَأَفْسَدَ طُيُورَ النَّاسِ وَحَيَوَانَاتِهِمْ ضَمِنَ. وَيُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْحَرِيقِ دُعَاءُ الْكَرْبِ وَمَا كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَقُولُهُ إذَا جَذَبَهُ أَمْرٌ «يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ» وَدَعْوَةُ ذِي النُّونِ {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] وَنَحْوَ ذَلِكَ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالتَّكْبِيرُ يُطْفِئُ الْحَرِيقَ وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ الْمُثَنَّى وَجَمَاعَةٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنْ النَّارِ، وَطَبْعُهَا طَيْشٌ وَفَسَادٌ وَكِبْرِيَاءُ لِلَّهِ لَا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ، فَالتَّكْبِيرُ يَهْرُبُ مِنْهُ الشَّيْطَانُ وَيَقْمَعُهُ وَفِعْلَهُ فَكَذَا النَّارُ وَهَذَا مُجَرِّبٌ شَاهِدٌ وَمَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ «خَمِّرْ إنَاءَكَ، وَلَوْ أَنْ تَعْرُضَ عَلَيْهِ شَيْئًا» ظَاهِرُهُ التَّخْيِيرُ وَقَدْ سَبَقَ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ وَيُتَوَجَّهُ أَنَّ ذَلِكَ عِنْد عَدَمِ مَا يُخَمِّرهُ بِهِ لِرِوَايَةِ مُسْلِم السَّابِقَةِ «فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إلَّا أَنْ يَعْرُضَ عَلَى إنَائِهِ عُودًا» . وَحِكْمَةُ وَضْعِ الْعُودِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِيَعْتَادَ تَخْمِيرَهُ وَلَا يَنْسَاهُ وَرُبَّمَا كَانَ سَبَبًا لِمَنْعِ دَبِيبٍ بِحِيَالِهِ أَوْ بِمُرُورِهِ عَلَيْهِ وَسِيَاقُ مَا سَبَقَ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ ذَلِكَ يَخُصُّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالْمُرَادُ الْغَفْلَةُ عَنْهَا بِنَوْمٍ أَوْ غَيْرِهِ وَالْمُرَادُ أَيْضًا إنْ خِيفَ مِنْ بَقَائِهَا، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ فِي خَبَرِ أَبِي مُوسَى إنَّ النَّارَ يُسْتَحَبُّ إطْفَاؤُهَا عِنْدَ النَّوْمِ؛ لِأَنَّهَا عَدُوٌّ غَيْرُ مَزْمُومٍ بِزِمَامٍ لَا يُؤْمَنُ لَهَبُهَا فِي حَالَةِ نَوْمِ الْإِنْسَانِ، قَالَ فَأَمَّا إنْ جَعَلَ الْمِصْبَاحَ فِي شَيْءٍ مُعَلَّقٍ أَوْ عَلَى شَيْءٍ لَا يُمَكِّنُ الْفَوَاسِقَ وَالْهَوَامَّ التَّسَلُّقَ إلَيْهِ فَلَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ مِنْ النَّقِيعِ لَيْسَ مُخَمَّرًا فَقَالَ «أَلَا خَمَّرْتَهُ وَلَوْ أَنْ تَعْرُضَ عَلَيْهِ عُودًا» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَزَادَ قَالَ أَبُو حُمَيْدٍ إنَّمَا أُمِرْنَا بِالْأَسْقِيَةِ أَنْ تُوكَأَ لَيْلًا وَبِالْأَبْوَابِ. أَنْ تُغْلَقَ لَيْلًا، وَالصَّحَابِيُّ أَعْلَمُ بِمَا رَوَى، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَوِيُّ وَادَّعَى أَنَّ قَوْلَ أَبِي حُمَيْدٍ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، كَذَا قَالَ

لَكِنْ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ " فَإِنَّ فِي السَّنَةِ يَوْمًا " وَاللَّفْظُ السَّابِقُ " فَإِنَّ فِي السَّنَةِ لَيْلَةً " فَيُعْمَلُ بِهِمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَالنَّقِيعُ بِالنُّونِ لَا بِالْبَاءِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ بِوَادِي الْعَقِيقِ الَّذِي حَمَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ قَالَ الْأَصْحَابُ: وَيُرْخِي السِّتْرَ وَيَنْظُرُ فِي وَصِيَّتِهِ وَيَنْفُضُ فِرَاشَهُ وَيَنَامُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ وَيُمْنَاهُ تَحْتَ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ، كَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَجْعَلُ وَجْهَهُ نَحْو الْقِبْلَةِ وَيَقُولُ مَا وَرَدَ وَقَدْ سَبَقَ. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي حَلَفَ عَلَيْهَا أَحْمَدُ قَالَ وَسُئِلَ عَنْ الْمَرْأَةِ تَسْتَلْقِي عَلَى قَفَاهَا وَتَنَامُ تَكْرَهُ ذَلِكَ؟ قَالَ إي وَاَللَّهِ، فَقَالَ لَهُ مُهَنَّا فَإِذَا مَاتَتْ فَكَيْفَ تَصْنَعُونَ فِي غُسْلِهَا قَالَ إنَّمَا كُرِهَ أَنْ تَنَامَ عَلَى قَفَاهَا فِي حَيَاتِهَا وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْمَوْتِ قَالَ جَعْفَرُ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَقِيلَ لَهُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَنَامَ حَتَّى يَقْرَأَ {الم - تَنْزِيلُ} [السجدة: 1 - 2] السَّجْدَةَ وَ {تَبَارَكَ} [الملك: 1] قَالَ يُسْتَحَبُّ وَرَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْخَلَّالُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مِنْ رِوَايَةِ لَيْثٍ. وَعَنْ أَبِي الْعَلَاءِ بْن الشِّخِّيرِ عَنْ الْحَنْظَلِيِّ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَا مِنْ رَجُلٍ يَأْوِي إلَى فِرَاشِهِ فَيَقْرَأُ سُورَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إلَّا بَعَثَ اللَّهُ إلَيْهِ مَلَكًا يَحْفَظُهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيهِ حَتَّى يَهِبَّ مَتَى هَبَّ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَقَالَ عَنْ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي حَنْظَلَةَ وَقَدْ اُشْتُهِرَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ وَيَقُومُ أَوَّلَ النِّصْفِ الثَّانِي يَسْتَاكُ وَيَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي وَيَدْعُو، فَيَسْتَرِيحُ الْبَدَنُ بِذَلِكَ النَّوْمِ وَالرِّيَاضَةِ وَالصَّلَاةِ مَعَ حُصُولِ الْأَجْرِ الْوَافِرِ، فَالنَّوْمُ الْمُعْتَدِلُ مُمْكِنٌ لِتَقْوَى الطَّبِيعَةُ مِنْ أَفْعَالِهَا، مُرِيحٌ لِلْقُوَى النَّفْسَانِيَّةِ مُكْثِرٌ مِنْ جَوْهَرِ حَامِلِهَا، وَيَنَامُ عَلَى صِفَةِ مَا سَبَقَ، وَلَا يُبَاشِرُ بِجَنْبِهِ الْأَرْضَ وَلَا يَتَّخِذُ الْفُرُشَ الْمُرْتَفِعَةَ. قَالَ بَعْضُهُمْ النَّوْمُ حَالَةٌ لِلْبَدَنِ يَتْبَعُهَا غَوْرُ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ وَالْقُوَى إلَى بَاطِنِ الْبَدَنِ لِطَلَبِ الرَّاحَةِ، وَالنَّوْمُ الطَّبِيعِيُّ إمْسَاكُ الْقُوَى النَّفْسَانِيَّةِ عَنْ أَفْعَالِهَا

وَهِيَ قُوَى الْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ الْإِرَادِيَّةِ، وَمَتَى أَمْسَكَتْ هَذِهِ الْقُوَى عَنْ تَحْرِيكِ الْبَدَنِ اسْتَرْخَى وَاجْتَمَعَتْ الرُّطُوبَاتُ وَالْأَبْخِرَةُ الَّتِي كَانَتْ تَتَحَلَّلُ وَتَتَفَرَّقُ بِالْحَرَكَةِ وَالْيَقَظَةِ فِي الدِّمَاغِ الَّذِي هُوَ مَبْدَأُ هَذِهِ الْقُوَى فَيَنْحَدِرُ وَيَسْتَرْخِي. وَالنَّوْمُ غَيْرُ الطَّبِيعِيِّ يَكُونُ لِعَرَضٍ أَوْ مَرَضٍ بِأَنْ تَسْتَوْلِيَ الرُّطُوبَاتُ عَلَى الدِّمَاغِ اسْتِيلَاءً لَا تَقْدِرُ الْيَقَظَةُ عَلَى تَفْرِيقِهَا أَوْ تَصْمُدُ أَبْخِرَةٌ كَثِيرَةٌ رَطْبَةٌ كَمَا يَكُونُ عَقِبَ الِامْتِلَاءِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَتُثْقِلُ الدِّمَاغَ وَتُرْخِيهِ فَيَنْحَدِرُ وَيَقَعُ إمْسَاكُ الْقُوَى النَّفْسَانِيَّةِ عَنْ أَفْعَالِهَا فَيَكُونُ النَّوْمُ، وَمِنْ فَائِدَتِهِ أَيْضًا هَضْمُ الْغِذَاءِ وَنَضْجُ الْأَخْلَاطِ لِغَوْرِ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ إلَى بَاطِنِ الْبَدَنِ وَلِهَذَا يَبْرُدُ ظَاهِرُهُ وَيَحْتَاجُ إلَى غِطَاءٍ، وَإِنَّمَا كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَنَامُ عَلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ لِئَلَّا يَسْتَغْرِقَ فِي النَّوْمِ لِأَنَّ الْقَلْبَ فِي جِهَةِ الْيَسَارِ فَيُعَلَّقُ حِينَئِذٍ فَلَا يَسْتَغْرِقُ، وَإِذَا نَامَ عَلَى الْيَسَارِ اسْتَرَاحَ وَاسْتَغْرَقَ. وَقَدْ ذَكَرَ الْأَطِبَّاءُ أَنَّهُ يُحِيطُ بِالْمَعِدَةِ مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ الْكَبِدُ وَمِنْ الْأَيْسَرِ الطِّحَالُ، وَأَنَّ الْمَعِدَةَ أَمْيَلُ إلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ قَلِيلًا، وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ يَعْتَمِدُ فِي قَضَاءِ حَاجَتِهِ عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى؛ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ لِخُرُوجِ الْخَارِجِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنْفَعُ النَّوْمِ عَلَى الشِّقِّ الْأَيْمَنِ لِيَسْتَقِرَّ الطَّعَامُ فِي الْمَعِدَةِ لِمَيْلِ الْمَعِدَةِ إلَى الشِّقِّ الْأَيْسَرِ ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إلَى الشِّقِّ الْأَيْسَرِ قَلِيلًا يُسْرِعُ الْهَضْمُ بِذَلِكَ لِاشْتِمَالِ الْكَبِدِ عَلَى الْمَعِدَةِ، ثُمَّ يَسْتَقِرُّ نَوْمُهُ عَلَى الشِّقِّ الْأَيْمَنِ لِيَكُونَ الْغِذَاءُ أَسْرَعَ انْحِدَارًا عَنْ الْمَعِدَةِ. وَكَثْرَةُ النَّوْمِ عَلَى الشِّقِّ الْأَيْسَرِ مُضِرٌّ بِالْقَلْبِ بِسَبَبِ مَيْلِ الْأَعْضَاءِ إلَيْهِ فَتُصَبُّ إلَيْهِ الْمَوَادُّ، وَالنَّوْمُ عَلَى الْقَفَا رَدِيءٌ يَضُرُّ الْإِكْثَارُ مِنْهُ بِالْبَصَرِ وَبِالْمَنِيِّ وَإِنْ اسْتَلْقَى لِلرَّاحَةِ بِلَا نَوْمٍ لَمْ يَضُرَّ. وَأَرْدَأُ مِنْ ذَلِكَ النَّوْمُ مُنْبَطِحًا عَلَى وَجْهِهِ. وَسِيقَتْ الْأَخْبَارُ فِي ذَلِكَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ فِيهَا كَثْرَةٌ فَيَحْرُمُ ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: يُكْرَهُ لِلْكَلَامِ فِيهَا. قَالَ أَبُقْرَاطُ: نَوْمُ الْمَرِيضِ عَلَى بَطْنِهِ مِنْ غَيْرِ عَادَةٍ فِي صِحَّتِهِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَاطِ عَقْلٍ أَوْ عَلَى أَلَمٍ فِي نَوَاحِي الْبَطْنِ قَالَ بَعْضُهُمْ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ الْعَادَةَ إلَى هَيْئَةٍ رَدِيئَةٍ بِلَا سَبَبٍ، وَقَدْ سَبَقَ حُكْمُ نَوْمِ النَّهَارِ قَبْلَ آدَابِ الْأَكْلِ

بَعْدَ فُصُولِ الطِّبِّ. وَقَالَ مُهَنَّا قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: مَا تَقُولُ فِي الرَّجُلِ يَنَامُ عَلَى سَطْحٍ لَيْسَ بِمُحَجَّرٍ قَالَ مَكْرُوهٌ، وَيُجْزِئُهُ الذِّرَاعُ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ وَعْلَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَثَّابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ شَيْبَانَ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا «مَنْ بَاتَ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَيْسَ بِهِ حِجَارٌ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ» وَعْلَةُ تَفَرَّدَ عَنْ عُمَرَ بْنِ جَابِرِ الْحَنَفِيِّ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ الْحِجَارُ جَمْعُ حُجْرٍ بِالْكَسْرِ وَهُوَ الْحَائِطُ أَوْ مِنْ الْحُجْرَةِ وَهِيَ حَظِيرَةُ الْإِبِلِ وَحُجْرَةُ الدَّارِ أَيْ: أَنَّهُ يَحْجُرُ الْإِنْسَانَ النَّائِمَ وَيَمْنَعُهُ عَنْ الْوُقُوعِ، وَيُرْوَى حِجَابٌ بِالْبَاءِ وَهُوَ كُلُّ مَانِعٍ مِنْ السُّقُوطِ وَرَوَاهُ الْخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ حِجَا وَقَالَ وَيُرْوَى بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِهَا وَمَعْنَاهُ فِيهِمَا مَعْنَى السِّتْرِ فَمَنْ قَالَ بِالْكَسْرِ شَبَّهَ السِّتْرَ عَلَى السَّطْحِ الْمَانِعِ مِنْ السُّقُوطِ بِالْعَقْلِ الْمَانِعِ مِنْ التَّعَرُّضِ فِي الْهَلَاكِ. وَمَنْ رَوَاهُ بِالْفَتْحِ فَقَدْ ذَهَبَ إلَى النَّاحِيَةِ وَالطَّرَفِ وَأَحْجَاءُ الشَّيْءِ نَوَاحِيهِ وَاحِدُهَا حَجَا. قَالَ فِي النِّهَايَةِ إنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ اللَّهِ عَهْدًا بِالْحِفْظِ وَالْكَلَاءَةِ فَإِذَا أَلْقَى بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ أَوْ فَعَلَ مَا حَرُمَ عَلَيْهِ أَوْ خِلَافَ مَا أَمَرَ بِهِ خَذَلَتْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ. وَسَبَقَ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَرِهَ النَّوْمَ عَلَى سَطْحٍ لَيْسَ بِمُحَجَّرٍ وَلِلْأَصْحَابِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - خِلَافٌ فِي كَرَاهَتِهِ الْمُطْلَقَةِ هَلْ هِيَ لِلتَّحْرِيمِ أَوْ لِلتَّنْزِيهِ، وَقَدْ يُقَالُ هَذِهِ الْكَرَاهَةُ لِلتَّنْزِيهِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي هَذَا السَّلَامَةُ وَمَا غَلَبَتْ السَّلَامَةُ فِيهِ لَا يَحْرُمُ فِعْلُهُ وَكَوْنُ النَّهْي عَنْهُ لِلْأَدَبِ وَاحْتِمَالِ الْأَذَى، وَيَتَوَجَّهُ قَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَعَادَاتِهِمْ، وَصِغَرِ الْأَسْطِحَةِ، وَوُسْعِهَا نَظَرًا إلَى الْمَعْنَى وَعَمَلًا بِهِ، وَقَدْ يُحْتَجُّ لِلتَّحْرِيمِ فِي الْجُمْلَةِ بِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِ ثِقَاتٍ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ حَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَزَوْنَا نَحْوَ فَارِسٍ فَقَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ بَاتَ فَوْقَ بَيْتٍ لَيْسَ لَهُ إجَّارٌ فَوَقَعَ فَمَاتَ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ، وَمَنْ رَكِبَ الْبَحْرَ عِنْدَ ارْتِجَاجِهِ فَمَاتَ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ» .

وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ هَذَا الْخَبَرَ فِي تَارِيخِهِ مِنْ طُرُقٍ فِي تَرْجَمَةِ زُهَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ رَكُوبَ الْبَحْرِ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا يَجُوزُ، وَقَدْ قَرَنَ الشَّارِعُ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ وَبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنْ فَاعِلِهِمَا، وَفِي رَكُوبِ الْبَحْرِ وَسُلُوكِ الطَّرِيقِ كَلَامٌ فِي الْفِقْهِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ وَغَيْرِهِ فَلْيُطْلَبْ هُنَاكَ وَقَدْ سَبَقَ كَلَامُ ابْنِ هُبَيْرَةَ فِي الْأَكْلِ فَوْقَ الشِّبَعِ.

فصل في آداب المشي مع الناس وآداب الصغير مع الكبير فيه وفي غيره

[فَصْلٌ فِي آدَابِ الْمَشْيِ مَعَ النَّاسِ وَآدَابِ الصَّغِيرِ مَعَ الْكَبِيرِ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ] ِ) قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمَنْ مَشَى مَعَ إنْسَانٍ فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ مِنْهُ وَأَعْلَمُ مَشَى عَنْ يَمِينِهِ يُقِيمُهُ مَقَامَ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ وَإِذَا كَانَا سَوَاءً اُسْتُحِبَّ أَنْ يُخَلِّي لَهُ عَنْ يَسَارِهِ حَتَّى لَا يُضَيِّقُ عَلَيْهِ جِهَةَ الْبُصَاقِ وَالِامْتِخَاطِ وَمُقْتَضَى كَلَامِهِ اسْتِحْبَابُ مَشْيِ الْجَمَاعَةِ خَلْفَ الْكَبِيرِ، وَإِنْ مَشَوْا عَنْ جَانِبَيْهِ فَلَا بَأْسَ كَالْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ. وَفِي مُسْلِمٍ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْإِيمَانِ قَوْلُ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ أَنَّهُ هُوَ وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَشَيَا عَنْ جَانِبَيْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى مَشْيِ الْجَمَاعَةِ مَعَ فَاضِلِهِمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَكْتَنِفُونَهُ وَيَحُفُّونَ بِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي إذَا مَشَيْتَ مَعَ مَنْ تُعَظِّمُهُ أَيْنَ تَمْشِي مِنْهُ قَالَ لَا أَدْرِي فَقَالَ عَنْ يَمِينِهِ تُقِيمُهُ مَقَامَ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ وَتُخَلِّي لَهُ الْجَانِبَ الْأَيْسَرَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَنْثِرَ أَوْ يُزِيلَ أَذًى جَعَلَهُ فِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ. وَقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِنْ كَانَ دُونَهُ فِي الْمَنْزِلَةِ يَجْعَلُهُ عَنْ يَمِينِهِ وَيَمْشِي عَنْ يَسَارِهِ، وَقَدْ قِيلَ الْمُسْتَحَبُّ الْمَشْيُ عَنْ الْيَمِينِ فِي الْجُمْلَةِ لِيُخَلِّيَ الْيَسَارَ لِلْبُصَاقِ وَغَيْرِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَحَكَى عَنْ الْخَلَّالِ أَنَّهُ حَكَى فِي الْأَدَبِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ التَّابِعَ يَمْشِي عَنْ يَمِينِ الْمَتْبُوعِ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي مَسَائِلِهِ (بَابٌ فِي الْأَدَبِ) قَالَ رَأَيْتُ أَحْمَدَ جَاءَهُ ابْنٌ لِمُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ فَأَرَادَ أَحْمَدُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَقَالَ لِابْنِ مُصْعَبٍ تَقَدَّمْ، فَأَبَى وَحَلَفَ ابْنُ مُصْعَبٍ فَتَقَدَّمَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي الْمَشْيِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْكَبِيرَ إذَا رَاعَى الصَّغِيرَ، وَتَأَدَّبَ مَعَهُ يَحْسُنُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَأَنَّ الصَّغِيرَ إنْ شَاءَ قَبِلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ امْتِثَالٌ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ لِأَنَّهُ وُقُوفٌ مَعَ الْأَدَبِ.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَرَضِهِ أَرْسَلَ إلَى أَبِي بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: يَا عُمَرُ صَلِّ بِالنَّاسِ، فَقَالَ عُمَرُ، أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الْأَيَّامَ وَفِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ ذَهَبَ لَيَتَأَخَّرَ فَأَوْمَأَ إلَيْهِ أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ» ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَلَمْ يَتَأَخَّرْ؟ وَفِي لَفْظٍ «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَا يَمْلِكُ دَمْعَهُ فَلَوْ أَمَرْت غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: وَاَللَّه مَا بِي إلَّا كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَشَاءَمَ النَّاسُ بِأَوَّلِ مَنْ يَقُومُ فِي مَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: فَرَاجَعْتُهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَقَالَ: لِيُصَلِّ بِالنَّاسِ أَبُو بَكْرٍ فَإِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ» . وَفِي لَفْظٍ «فَلَوْ أَمَرْت عُمَرَ فَقَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ لِحَفْصَةَ: قُولِي لَهُ. فَقَالَتْ لَهُ. فَقَالَ: إنَّكُنَّ لِأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَهَبَ لِيُصْلِحَ بَيْنَ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فَجَاءَ وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَأَشَارَ إلَيْهِ أَنْ اُمْكُثْ مَكَانَكَ فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ذَلِكَ ثُمَّ اسْتَأْخَرَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى اسْتَوَى فِي الصَّفِّ وَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَلَّى ثُمَّ انْصَرَفَ فَقَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ: مَا مَنَعَك أَنْ تَثْبُتَ إذْ أَمَرْتُكَ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا كَانَ لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَفِي ذَلِكَ فَوَائِدٌ جَلِيلَةٌ مِنْهَا قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَنْ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ، فِيهِ أَنَّ الْمَفْضُولَ إذَا عَرَضَ عَلَيْهِ الْفَاضِلُ مَرْتَبَةً لَا يَقْبَلُهَا بَلْ يَدْعُهَا لِلْفَاضِلِ إذَا لَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ. وَقَالَ عَنْ الْخَبَرِ الثَّانِي فِيهِ أَنَّ التَّابِعَ إذَا أَمَرَهُ الْمَتْبُوعُ بِشَيْءِ وَفَهِمَ مِنْهُ إكْرَامَهُ بِذَلِكَ الشَّيْءِ لَا يَتَحَتَّمُ الْفِعْلُ وَلَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ، وَلَا يَكُونُ هَذَا مُخَالَفَةً لِلْأَمْرِ بَلْ يَكُونُ أَدَبًا وَتَوَاضُعًا وَتَحَذُّقًا فِي فَهْمِ الْمَقَاصِدِ. وَفِيهِ مُلَازَمَةُ الْأَدَبِ مَعَ الْكِبَارِ. وَقَالَ الْخَلَّالُ فِي تَقْدِمَةِ الصَّغِيرِ بَيْنَ يَدَيْ الْكَبِيرِ فِي الْمَشْي: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْ عَمِّهِ فَرُبَّمَا

تَقَدَّمَ فَيَكُونُ أَمَامَهُ. أَخْبَرنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَبِي: مَا كَانَ أَعْقَلَ بِشْرَ بْنِ الْمُفَضَّلِ؟ كَانَ بِشْرٌ أَسَنَّ مِنْ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ وَكَانَ بِشْرُ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَخْرُجَ مُعَاذٌ، إكْرَامًا مِنْهُ لِمُعَاذٍ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا أَذِنَ لَهُ وَمَعَهُ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ قَدَّمَ الْأَكْبَرَ فَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَمَرَنِي. جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ أُكْبِرَ» وَقَالَ: «قَدِّمُوا الْكَبِيرَ» . وَقَالَ مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ: كُنْت أَمْشِي مَعَ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ فَصِرْنَا إلَى مَضِيقٍ فَتَقَدَّمَنِي ثُمَّ قَالَ: لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّكَ أَكْبَرُ مِنِّي بِيَوْمٍ مَا تَقَدَّمْتُكَ وَرَأَى إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ الشَّبَابَ قَدْ تَقَدَّمُوا عَلَى الْمَشَايِخِ فَقَالَ مَا أَسْوَأ أَدَبَكُمْ لَا أُحَدِّثُكُمْ سَنَةً. فَإِنْ كَانَ الْأَصْغَرُ أَعْلَمَ فَتَقْدِيمُهُ أَوْلَى. ثُمَّ رُوِيَ بِإِسْنَادٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ: كُنْت مَعَ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ يَوْمًا نَعُودُ مَرِيضًا فَلَمَّا حَاذَيْنَا الْبَابَ تَأَخَّرَ إِسْحَاقُ وَقَالَ لِيَحْيَى تَقَدَّمْ أَنْتَ قَالَ يَا أَبَا زَكَرِيَّا أَنْتَ أَكْبَرُ مِنِّي قَالَ نَعَمْ أَنَا أَكْبَرُ مِنْك، وَأَنْتَ أَعْلَمُ فَتَقَدَّمَ إِسْحَاقُ انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ. وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ لَهُ التَّقْدِيمُ يَتَقَدَّمُ عَمَلًا بِالسُّنَّةِ وَإِنَّ ذَلِكَ يَحْسُنُ مِنْهُ، وَإِنَّ الْأَعْلَمَ يُقَدَّمُ مُطْلَقًا وَلَا اعْتِبَارَ مَعَهُ إلَى سِنٍّ وَلَا صَلَاحٍ وَلَا شَيْءٍ، وَإِنَّ الْأَسَنَّ يُقَدَّمُ عَلَى الْأَدْيَنِ وَالْأَوْرَعِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَغَيْرِهِ فِي الْوَلِيَّيْنِ فِي النِّكَاحِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ فِي الدَّرَجَةِ، وَقَطَعَ فِي الرِّعَايَةِ فِي النِّكَاحِ بِتَقْدِيمِ الْأَدْيَنِ وَالْأَوْرَعِ عَلَى الْأَسَنِّ، وَهَذَا مِثْلُهُ فَإِنْ اسْتَوَى اثْنَانِ فِي الْعِلْمِ وَالسِّنِّ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ مَنْ لَهُ مَزِيَّةٌ بِدِينٍ أَوْ وَرَعٍ أَوْ نَسَبٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ فِي تَقْدِيمِ الْأَدْيَنِ ثُمَّ الْأَعْلَمِ الطَّرِيقَةُ الْحَسَنَةُ وَالسِّيرَةُ الْجَمِيلَةُ، وَقَدْ يَتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ يُقَدَّمُ بَعْدَ الْأَعْلَمِ مَنْ يُقَدَّمُ فِي إمَامَةِ الصَّلَاةِ عَلَى مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْفِقْهِ. وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنْ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «قَدِّمُوا قُرَيْشًا وَلَا تَقَدَّمُوهَا وَتَعَلَّمُوا مِنْهَا

وَلَا تُعَالِمُوهَا أَوْ تُعَلِّمُوهَا» شَكُّ ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ مُرْسَلٌ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الْمُرَادُ بِهِ الْخِلَافَةُ وَلِهَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «وَالنَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي هَذَا الشَّأْنِ مُسْلِمُهُمْ تَبَعٌ لِمُسْلِمِهِمْ وَكَافِرُهُمْ تَبَعٌ لِكَافِرِهِمْ» وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيّ لِلْخَبَرِ الْأَوَّلِ شَوَاهِدَ مِنْ طُرُقٍ. وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بَعْدَ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا» وَسَبَقَ هَذَا الْخَبَرُ فِي فَصْلِ الْقِيَامِ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ نُبَيْحٍ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْشُونَ أَمَامَهُ إذَا خَرَجَ وَيَدَعُونَ ظَهْرَهُ لِلْمَلَائِكَةِ» إسْنَادُهُ حَسَنٌ وَرُوِيَ أَيْضًا مَعْنَاهُ. وَرَوَى أَحْمَدُ خَبَرَ جَابِرٍ الْمَذْكُورَ أَظُنُّهُ عَنْ وَكِيعٍ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: «مَا رُئِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ مُتَّكِئًا وَلَا يَطَأُ عَقِبَهُ رَجُلَانِ» إسْنَادُهُ جَيِّدٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ «مَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْحَرِّ نَحْوَ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، وَكَانَ النَّاسُ يَمْشُونَ خَلْفَهُ فَلَمَّا سَمِعَ صَوْتَ النِّعَالِ جَلَسَ حَتَّى قَدَّمَهُمْ أَمَامَهُ لِئَلَّا يَقَعَ فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ مِنْ الْكِبْرِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي الْجَوَابِ عَمَّا ادَّعَاهُ الرَّافِضِيُّ مِنْ أَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَدَّبَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ: وَلِيُّ اللَّهِ قَدْ يَصْدُرُ مِنْهُ مَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ الشَّرْعِيَّةَ فَيُكَفُّ بِالتَّعْزِيرِ وَقَدْ ضَرَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِالدِّرَّةِ لَمَّا رَأَى النَّاسَ يَمْشُونَ خَلْفَهُ فَقَالَ: مَا هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ هَذَا ذِلَّةٌ لِلتَّابِعِ فِتْنَةٌ لِلْمَتْبُوعِ. وَهَذَا الْأَثَرُ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: رَأَى عُمَرُ مَعَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ جَمَاعَةً فَعَلَاهُ بِالدِّرَّةِ فَقَالَ: إنِّي أَعْلَمُ مَا تَصْنَعُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَقَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهَا فِتْنَةٌ لِلْمَتْبُوعِ مَذَلَّةٌ لِلتَّابِعِ

وَقَالَ حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ ثَنَا قَبِيصَةُ ثَنَا حَسَنُ بْنُ صَالِحٍ ثَنَا أَصْحَابُنَا عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: إذَا تَعَلَّمْتُمْ الْعِلْمَ فَاكْظِمُوا عَلَيْهِ وَلَا تَخْلِطُوهُ بِضَحِكٍ وَلَا بَاطِلٍ فَتَمُجُّهُ الْقُلُوبُ وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَلِيٍّ وَزَادَ قَالَ عَلِيٌّ أَخِّرُوا عَنِّي خَفْقَ نِعَالِكُمْ فَإِنَّهَا مَفْسَدَةٌ لِقُلُوبِ الرِّجَالِ. وَقِيلَ لِلْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فِي الْخِلَافِ فِي الْمَشْي أَمَامَ الْجِنَازَةِ كَالشَّفِيعِ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ هَذَا بِالشَّفِيعِ؛ لِأَنَّ تَقَدُّمَ الشَّفِيعِ وَتَأَخُّرَهُ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ لَيْسَ بَعْضُهُ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ وَلَا كَذَلِكَ الْمَشْي، أَمَامَ الْجِنَازَةِ وَخَلْفَهَا لِأَنَّهُمْ اتَّفَقُوا أَنَّ أَحَدَهُمَا أَفْضَلُ مِنْ الْآخَرِ فَقَالَ: لَا نُسَلِّمُ هَذَا بَلْ التَّقْدِيمُ بِالْخِطَابِ فِي الشُّفَعَاءِ، وَإِظْهَارُ نَفْسِهِ وَالْمُبَالَغَةُ فِي ذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ التَّأْخِيرِ فِيهَا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا قَالَ: وَالْجِنَازَةُ مَتْبُوعَةٌ مَعْنَاهُ مَقْصُودَةٌ فَإِنَّ النَّاسَ يَمْشُونَ لِأَجْلِهَا وَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ مَقْصُودًا ثُمَّ يَتَأَخَّرُ عَنْ تَابِعِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّاسَ إذَا شَفَعُوا لِلرَّجُلِ تَقَدَّمُوا عَلَيْهِ؟ وَكَذَلِكَ جُنْدُ السُّلْطَانِ يَتَقَدَّمُونَهُ، وَهُمْ تَبَعٌ، وَسَبَقَ كَلَامُ صَاحِبِ النَّظْمِ فِي فُصُولِ الْقِيَامِ. وَلِمُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ابْنِ الدَّحْدَاحِ ثُمَّ أُتِيَ بِفَرَسٍ عَرِيٍّ فَعَقَلَهُ رَجُلٌ فَرَكِبَهُ فَجَعَلَ يَتَوَقَّصُ بِهِ وَنَحْنُ نَتَّبِعُهُ نَسْعَى خَلْفَهُ» . وَيُقَالُ أَبُو الدَّحْدَاحِ أَيْضًا يَتَوَقَّصُ بِهِ يَتَوَثَّبُ بِهِ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَوْلُهُ. وَنَحْنُ نَمْشِي حَوْلَهُ فِيهِ جَوَازُ مَشْيِ الْجَمَاعَةِ مَعَ كَبِيرِهِمْ الرَّاكِبِ، وَإِنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ فِي حَقِّهِمْ وَلَا فِي حَقِّهِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَفْسَدَة، وَإِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ إذَا حَصَلَ فِيهِ انْتِهَاكٌ لِلتَّابِعِينَ أَوْ خِيفَ إعْجَابٌ وَنَحْوُهُ فِي حَقِّ الْمَتْبُوعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ. وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ بْنَ دَاوُد الظَّاهِرِيَّ وَأَبَا الْعَبَّاسِ بْنَ شُرَيْحٍ وَالْمُبَرِّدَ اجْتَمَعُوا فِي مَوْضِعٍ فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاوُد وَقَالَ: الْعِلْمُ قَدَّمَنِي، وَتَأَخَّرَ ابْنُ شُرَيْحٍ وَقَالَ: الْأَدَبُ أَخَّرَنِي، فَنَسَبَهُمَا الْمُبَرِّدُ إلَى الْخَطَإِ وَقَالَ: إذَا صَحَّتْ الْمَوَدَّةُ سَقَطَ التَّكَلُّفُ.

فصل في التجارة إلى بلاد الأعداء ومعاملة الكفار

[فَصْلٌ فِي التِّجَارَةِ إلَى بِلَادِ الْأَعْدَاءِ وَمُعَامَلَةِ الْكُفَّارِ] تُكْرَهُ التِّجَارَةُ وَالسَّفَرُ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ وَبِلَادِ الْكُفْرِ مُطْلَقًا قَالَ ابْنُ حَمْدَانَ وَالْخَوَارِجِ وَالْبُغَاةِ وَالرَّوَافِضِ وَالْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ إظْهَارِ دِينِهِ فِيهَا حَرُمَ سَفَرُهُ إلَيْهَا. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي اقْتِضَاءِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ: وَعَنْ أَحْمَدَ فِي جَوَازِ حَمْلِ التِّجَارَةِ إلَى أَرْضِ الْحَرْبِ رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ فَقَدْ يُقَالُ: إنَّ بَيْعَ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ فِي أَعْيَادِهِمْ مَا يَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى عِيدِهِمْ مِنْ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ، وَنِحْوِ ذَلِكَ كَحَمْلِهَا إلَى أَرْضِ الْحَرْبِ فِيهِ إعَانَةٌ عَلَى دِينِهِمْ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِذَا مَنَعْنَا مِنْهَا إلَى أَرْضِ الْحَرْبِ فَهُنَا أَوْلَى. وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِيهِ احْتِمَالَيْنِ وَأَنَّ الْأَقْوَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَذَكَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ فِي الْوَاضِحَةِ أَنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَكَذَلِكَ مُهَادَاتُهُمْ مَا يَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى أَعْيَادِهِمْ، أَمَّا بَيْعُ السِّلَاحِ لِأَهْلِ الْحَرْبِ فَلَا يَجُوزُ، وَالْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ فِي الْفِقْهِ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد (بَابُ حَمْلِ السِّلَاحِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ) ثَنَا مُسَدِّدٌ ثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ أَخْبَرَنِي أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ ذِي الْجَوْشَنِ رَجُلٌ مِنْ الضِّبَابِ قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ أَنْ فَرَغَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ بِابْنِ فَرَسٍ لِي يُقَالُ لَهُ الْقَرْحَا فَقُلْت يَا مُحَمَّدُ إنِّي جِئْتُكَ بِابْنِ الْقَرْحَا، لِتَتَّخِذَهُ قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ أَقْضِيَكَ بِهِ الْمُخْتَارَةَ مِنْ دُرُوعِ بَدْرٍ فَعَلْتُ. قُلْت: مَا كُنْتُ أَقْبِضُهُ الْيَوْمَ بِغُرَّةٍ قَالَ: فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهِ» يُونُسُ قَوَّاهُ جَمَاعَةٌ. وَرَوَى لَهُ مُسْلِمٌ وَضَعَّفَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَقَالَ: مُضْطَرِبُ الْحَدِيثِ وَفِيهِ أَنَّهُ سَمَّى الْفَرَسَ غُرَّةً وَأَكْثَرُ مَا جَاءَ ذِكْرُ الْغُرَّةِ.

(فَصْلٌ) قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ نَصَارَى وَقَفُوا ضَيْعَةً لِلْبِيعَةِ أَيَسْتَأْجِرُهَا الْمُسْلِمُ مِنْهُمْ قَالَ: لَا يَأْخُذُهَا بِشَيْءٍ، وَلَا يُعِينُهُمْ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ. وَقَالَ أَيْضًا: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ بَنَّاءٌ أَبْنِي لِلْمَجُوسِ نَاوُوسًا قَالَ لَا تَبْنِ لَهُمْ، وَلَا تُعِنْهُمْ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ، وَقَدْ نَقَلَ عَنْهُ مُحَمَّدٌ بْنُ الْحَكَمِ وَسَأَلَهُ عَنْ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ يَحْفِرُ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ قَبْرًا بِكِرَاءٍ قَالَ لَا بَأْسَ بِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّاوُوسَ مِنْ خَصَائِصِ دِينِهِمْ الْبَاطِلِ كَالْكَنِيسَةِ بِخِلَافِ الْقَبْرِ الْمُطْلَقِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي نَفْسِهِ مَعْصِيَةٌ وَلَا مِنْ خَصَائِصِ دِينِهِمْ قَالَهُ فِي اقْتِضَاءِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيم. وَذَكَرَ أَنَّ أَحْمَدَ أَطْلَقَ الْمَنْعَ قَالَ: وَكَذَا أَطْلَقَهُ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ وَمِثْلُ هَذَا مَا لَوْ اشْتَرَى مِنْ الْمَالِ الْمَوْقُوفِ لِلْكَنِيسَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْمَنْعُ هُنَا أَشَدُّ؛ لِأَنَّ نَفْسَ هَذَا الْمَالِ الَّذِي يَبْذُلُهُ يُصْرَفُ فِي الْمَعْصِيَةِ فَهُوَ كَبَيْعِ الْعَصِيرِ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا، وَذَكَرَ كَلَامًا كَثِيرًا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأُمِّ وَأَكْرَهَ لِلْمُسْلِمِ بِنَاءً أَوْ تِجَارَةً أَوْ غَيْرَهُ فِي كَنَائِسِهِمْ الَّتِي لِصَلَاتِهِمْ.

فصل في كراهة بيع الدار وإجارتها لمن يتخذها للكفر أو الفسق

[فَصْلٌ فِي كَرَاهَةِ بَيْعِ الدَّارِ وَإِجَارَتِهَا لِمَنْ يَتَّخِذُهَا لِلْكُفْرِ أَوْ الْفِسْقِ] قَالَ الْخَلَّالُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَابُ الرَّجُلِ يُؤَاجِرُ دَارِهِ لِلذِّمِّيِّ أَوْ يَبِيعُهَا مِنْهُ ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ الْمَرْوَزِيِّ سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ رَجُلٍ بَاعَ دَارِهِ مِنْ ذِمِّيٍّ فَقَالَ نَصْرَانِيٌّ؟ وَاسْتَعْظَمَ ذَلِكَ وَقَالَ: لَا تُبَاعُ لِيُضْرَبَ فِيهَا بِالنَّاقُوسِ وَيُنْصَبَ فِيهَا الصُّلْبَانُ وَقَالَ: لَا تُبَاعُ مِنْ الْكُفَّارِ وَشَدَّدَ فِي ذَلِكَ. وَعَنْ أَبِي الْحَارِثِ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَبِيعُ دَارِهِ وَقَدْ جَاءَهُ نَصْرَانِيٌّ فَأَرْغَبَهُ وَزَادَهُ فِي ثَمَنِ الدَّارِ تُرَى لَهُ أَنْ يَبِيعَ دَارِهِ مِنْهُ وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ أَوْ يَهُودِيٌّ أَوْ مَجُوسِيٌّ؟ قَالَ: لَا أَرَى لَهُ ذَلِكَ يَبِيعُ دَارِهِ مِنْ كَافِرٍ يَكْفُرُ بِاَللَّهِ فِيهَا، يَبِيعُهَا مِنْ مُسْلِمٍ أَحَبُّ إلَيَّ: وَعَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الرَّجُل يُكْرِي مَنْزِلَهُ مِنْ الذِّمِّيِّ يَنْزِلُ فِيهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَشْرَبُ فِيهِ الْخَمْرَ وَيُشْرِكُ فِيهِ. قَالَ ابْنُ عَوْنٍ كَانَ لَا يُكْرِي إلَّا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ يَقُولُ: نُرَغِّبُهُمْ قِيلَ لَهُ كَأَنَّهُ أَرَادَ إدْلَالَ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِهَذَا؟ قَالَ لَا، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُرَغِّبَ الْمُسْلِمِينَ، يَقُولُ: إذَا جِئْتُ أَطْلُبُ الْكِرَاءَ مِنْ الْمُسْلِمِ أَرَغْبَتُهُ فَإِذَا كَانَ ذِمِّيًّا كَانَ أَهْوَنَ عِنْدَهُ وَجَعَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَعْجَبُ مِنْ ابْنِ عَوْنٍ فِيمَا رَأَيْتُ وَهَكَذَا نَقَلَ الْأَثْرَمُ وَلَفْظُهُ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ. وَعَنْ مُهَنَّا قَالَ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يُكْرِي الْمَجُوسِيَّ دَارِهِ أَوْ دُكَّانَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَزْنُونَ فَقَالَ: كَانَ ابْنُ عَوْنٍ لَا يَرَى أَنْ يُكْرِيَ الْمُسْلِم يَقُولُ: أُرَغِّبُهُمْ فِي أَخْذِ الْغَلَّةِ وَكَانَ يَرَى أَنْ يُكْرِيَ غَيْرَ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ الْخَلَّالُ كُلُّ مَنْ حَكَى عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي الرَّجُلِ يُكْرِي دَارِهِ مِنْ ذِمِّيٍّ فَإِنَّمَا أَجَابَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَى فِعْلِ ابْنِ عَوْنٍ وَلَمْ يَنْفُذْ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِيهِ قَوْلٌ. وَقَدْ حَكَى عَنْهُ إبْرَاهِيمُ أَنَّهُ رَآهُ مُعْجَبًا بِقَوْلِ ابْنِ عَوْنٍ وَاَلَّذِي رَوَاهُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي الْمُسْلِمِ يَبِيعُ دَارِهِ مِنْ الذِّمِّيِّ أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ كَرَاهِيَةً شَدِيدَةً فَلَوْ نَفَذَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَوْلٌ فِي السُّكْنَى كَانَ السُّكْنَى وَالْبَيْعُ عِنْدِي وَاحِدًا. وَالْأَمْرُ فِي ظَاهِرِ قَوْلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَكْفُرُ فِيهَا

بِنَصْبِ الصُّلْبَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَالْأَمْرُ عِنْدِي أَنْ لَا يُبَاعَ مِنْهُ وَلَا يُكْرَى؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَالَ الْخَلَّالُ: قَدْ أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ حَسَّانَ قَالَ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ حُصَيْنٍ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ رَوَى عَنْهُ حَفْصٌ لَا أَعْرِفُهُ قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا مِنْ النُّسَّاكِ حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ سَمِعْتُ أَبَا خَالِدٍ الْأَحْمَرَ يَقُولُ حَفْصٌ هَذَا بَاعَ دَارَ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَابِدِ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْ عَوْنِ الْبَصْرِيِّ فَقَالَ لَهُ أَحْمَدُ حَفْصٌ قَالَ نَعَمْ، فَعَجِبَ أَحْمَدُ يَعْنِي مِنْ حَفْصٍ بْنِ غِيَاثٍ. قَالَ الْخَلَّالُ وَهَذَا تَقْوِيَةٌ لِمَذْهَبِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَإِذَا كَانَ يُكْرَهُ بَيْعُهَا مِنْ فَاسِقٍ فَكَذَلِكَ مِنْ كَافِرٍ وَإِنَّ الذِّمِّيَّ يُقِرُّ وَإِنَّ الْفَاسِقَ لَا يُقِرُّ لَكِنْ مَا يَفْعَلُهُ الذِّمِّيُّ فِيهَا أَعْظَمُ. انْتَهَى كَلَامُهُ عَوْنٌ هَذَا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ أَوْ مِنْ الْفُسَّاقِ بِالْعَمَلِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِيمَا ذَكَرَهُ عَنْ الْقَاضِي لَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ عِنْدَهُ فَإِذَا أَجَازَ الْبَيْعَ أَجَازَ الْإِجَارَةَ وَإِذَا مَنَعَ الْإِجَارَةَ وَوَافَقَهُ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ عَلَى ذَلِكَ. وَعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ يَعْنِي الْأَوْزَاعِيَّ عَنْ الرَّجُلِ يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ لِنِظَارَةِ كَرْمِ النَّصْرَانِيِّ فَكَرِهَ ذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ مَا أَحْسَنَ مَا قَالَ؛ لِأَنَّ أَصْلَ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى الْخَمْرِ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ يُبَاعُ لِغَيْرِ الْخَمْرِ فَلَا بَأْسَ قَالَ الشَّرِيفُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي مُوسَى كَرِهَ أَحْمَدُ أَنْ يَبِيعَ دَارِهِ مِنْ ذِمِّيٍّ يَكْفُرُ فِيهَا بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَسْتَبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَبْطُلْ الْبَيْعُ وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ أَطْلَقَ الْكَرَاهَةَ مُقْتَصِرًا عَلَيْهَا، وَأَمَّا الْخَلَّالُ وَصَاحِبُهُ. وَالْقَاضِي فَمُقْتَضَى كَلَامِهِمْ تَحْرِيمُ ذَلِكَ وَقَدْ سَبَقَ كَلَامُ الْخَلَّالِ وَصَاحِبِهِ وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَجِّرَ دَارِهِ أَوْ بَيْتَهُ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ بَيْتَ نَارٍ أَوْ كَنِيسَةً أَوْ يَبِيعُ فِيهِ لِلْخَمْرِ سَوَاءٌ شَرَطَ أَنَّهُ يَبِيعُ فِيهِ الْخَمْرَ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَكِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَبِيعُ فِيهِ الْخَمْرَ، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: لَا أَرَى أَنْ يَبِيعَ دَارِهِ مِنْ كَافِرٍ يَكْفُرُ بِاَللَّهِ فِيهَا يَبِيعُهَا مِنْ مُسْلِمٍ أَحَبُّ إلَيَّ.

وَقَالَ أَيْضًا فِي نَصَارَى وَقَفُوا ضَيْعَةً لَهُمْ لِلْبِيعَةِ: لَا يَسْتَأْجِرُهَا الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ مِنْهُمْ يُعِينُهُمْ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ قَالَ: وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فَقَدْ حَرَّمَ الْقَاضِي إجَارَتَهَا لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَبِيعُ فِيهَا الْخَمْرَ مُسْتَشْهِدًا عَلَى ذَلِكَ بِنَصِّ أَحْمَدَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَبِيعُهَا لِكَافِرٍ وَلَا يَسْتَكْرِي وَقْفَ الْكَنِيسَةِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَنْعَ عِنْدَهُ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ مَنْعَ تَحْرِيمٍ قَالَ: قَالَ الْقَاضِي فِي أَثْنَاءِ الْمَسْأَلَةِ: فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ قَدْ أَجَازَ أَحْمَدُ إجَارَتَهَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِيهَا قِيلَ الْمَنْقُولُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ حَكَى قَوْلَ ابْنِ عَوْنٍ وَعَجِبَ مِنْهُ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْقَاضِي لَا يُجَوِّزُ إجَارَتَهَا مِنْ ذِمِّيٍّ، وَظَاهِرُ رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ جَوَازُ ذَلِكَ فَإِنَّ إعْجَابَهُ بِالْفِعْلِ دَلِيلُ جَوَازِهِ عِنْدَهُ وَاقْتِصَارُهُ عَلَى الْجَوَابِ بِفِعْلِ رَجُلٍ يَقْتَضِي أَنَّهُ مَذْهَبُهُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ أَنَّ مَا فِي الْإِجَارَةِ مِنْ مَفْسَدَةِ الْأَمَانَةِ فَقَدْ عَارَضَهُ مَصْلَحَةٌ أُخْرَى وَهُوَ مَصْرِفُ إرْغَابِ الْمُطَالَبَةِ بِالْكِرَاءِ عَنْ الْمُسْلِمِ وَأَنْزَلَ ذَلِكَ بِالْكُفَّارِ، وَصَارَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ إقْرَارًا لِكَافِرٍ لَكِنْ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ جَازَ، وَلِذَلِكَ جَازَتْ مُهَادَنَةُ الْكُفَّارِ فِي الْجُمْلَةِ. فَأَمَّا الْبَيْعُ فَهَذِهِ الْمَصْلَحَةُ مُنْتَفِيَةٌ فِيهِ فَيَصِيرُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ ذَكَرَ هَذَا كُلَّهُ الشَّيْخُ تَقِي الدِّينِ، وَأَكْثَرُ الْأَصْحَابِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عَلَى أَنَّهُمْ إنْ مَلَكُوا دَارًا عَالِيَةً مِنْ مُسْلِمٍ لَمْ يَجُزْ نَقْضُهَا وَهَدْمُهَا وَهُوَ يَقْتَضِي عَدَمَ تَحْرِيمِ الْبَيْعِ وَإِبْطَالِهِ وَالْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا لَمْ يَعْقِدْ الْإِجَارَةَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ الْمُحَرَّمَةِ، فَأَمَّا إنْ آجَرَهُ إيَّاهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ، وَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ عِنْدَنَا قَوْلًا وَاحِدًا كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُكْرِيَ أَمَتَهُ أَوْ عَبْدَهُ لِلْفُجُورِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل الاتساع في الكسب الحلال والمباني مشروع ولو بقصد الترفه والكسب واجب للنفقة الواجبة

[فَصْلٌ الِاتِّسَاعُ فِي الْكَسْبِ الْحَلَالِ وَالْمَبَانِي مَشْرُوعٌ وَلَوْ بِقَصْدِ التَّرَفُّهِ وَالْكَسْبُ وَاجِبٌ لِلنَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ] فَصْلٌ (الِاتِّسَاعُ فِي الْكَسْبِ الْحَلَالِ وَالْمَبَانِي مَشْرُوعٌ وَلَوْ بِقَصْدِ التَّرَفُّهِ وَالْجَاهِ) (وَالْكَسْبُ وَاجِبٌ لِلنَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ) يُسَنُّ التَّكَسُّبُ وَمَعْرِفَةُ أَحْكَامِهِ حَتَّى مَعَ الْكِفَايَةِ نَصَّ عَلَيْهِ قَالَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَقَالَ أَيْضًا فِيهَا يُبَاحُ كَسْبُ الْحَلَالِ لِزِيَادَةِ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالتَّرَفُّهِ وَالتَّنَعُّمِ وَالتَّوْسِعَةِ عَلَى الْعِيَالِ مَعَ سَلَامَةِ الدِّينِ وَالْعِرْضِ وَالْمُرُوءَةِ وَبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الِاتِّسَاعَ فِي الْمَكَاسِبِ وَالْمَبَانِي مِنْ حِلٍّ إذَا أَدَّى جَمِيعَ حُقُوقِ اللَّهِ قِبَلَهُ مُبَاحٌ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَمِنْ كَارِهٍ وَغَيْرِ كَارِهٍ وَقَالَ مَعْرُوفٌ الْكَرْخِيُّ مَنْ اشْتَرَى وَبَاعَ، وَلَوْ بِرَأْسِ الْمَالِ بُورِكَ فِيهِ كَمَا يُبَارَكُ فِي الزَّرْعِ بِمَاءِ الْمَطَرِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَيَجِبُ عَلَى مَنْ لَا قُوتَ لَهُ، وَلِمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ وَيُقَدِّمُ الْكَسْبَ لِعِيَالِهِ عَلَى كُلِّ نَفْلٍ وَقَدْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ» كَذَا فِي الرِّعَايَةِ وَهَذَا الْخَبَرُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَفِي مُسْلِمٍ مَعْنَاهُ وَلَهُ التَّكَسُّبُ لِحَاجَةٍ قَدْ تَعْرِضُ لَهُ أَوْ لَهُمْ. وَتُسَنُّ الصَّدَقَةُ بِمَا فَضَلَ عَنْهُ وَعَنْهُمْ فِي أَبْوَابِ الْبِرِّ، وَيُكْرَهُ تَرْكُ التَّكَسُّبِ مَعَ الِاتِّكَالِ عَلَى النَّاسِ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَيَجِبُ التَّكَسُّبُ وَلَوْ بِإِيجَارِ نَفْسِهِ لِوَفَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ وَنَذْرٍ وَطَاعَةٍ وَكَفَّارَةٍ وَمُؤْنَةٍ تَلْزَمُهُ ذَكَرَهُ كُلَّهُ فِي الرِّعَايَةِ وَهُوَ بِمَعْنَاهُ فِي كَلَامِ غَيْرِهِ أَنْشَدَ بَعْضُهُمْ: إذَا الْمَرْءُ لَمْ يَطْلُبْ مَعَاشًا لِنَفْسِهِ ... شَكَا الْفَقْرَ أَوْ لَامَ الصَّدِيقَ فَأَكْثَرَا وَصَارَ عَلَى الْأَدْنَيْنِ كَلًّا وَأَوْشَكَتْ ... صِلَاتُ ذَوِي الْقُرْبَى لَهُ أَنْ تَنَكَّرَا وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي بَعْضِ كَلَامِهِ مَا مَعْنَاهُ أَقْسِمُ بِاَللَّهِ لَوْ عَبَسَ الزَّمَانُ

فِي وَجْهِكَ مَرَّةً لَعَبَسَ فِي وَجْهِكَ أَهْلُكَ وَجِيرَانُكَ، ثُمَّ حَثَّ عَلَى الْإِمْسَاكِ. وَسَبَقَ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ فِي فَضْلِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ كَلَامُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ وَسَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ بَعْدَهُ مَا يُوَافِقُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْ شِعْرٍ لِعَمَّارٍ الْكَلْبِيِّ: وَالْفَقْرُ يُزْرِي بِأَقْوَامٍ ذَوِي حَسَبٍ ... وَرُبَّمَا سَادَ نَذْلُ الْقَوْمِ بِالْمَالِ أَصُونُ عِرْضِي بِمَالِي لَا أُدَنِّسُهُ ... لَا بَارَكَ اللَّهُ بَعْدَ الْعِرْضِ فِي الْمَالِ وَقَالَ آخَر: إذَا قَلَّ مَالُ الْمَرْءِ قَلَّ صَفَاؤُهُ ... وَضَاقَتْ عَلَيْهِ أَرْضُهُ وَسَمَاؤُهُ وَأَصْبَحَ لَا يَدْرِي وَإِنْ كَانَ حَازِمًا ... أَقُدَّامُهُ خَيْرٌ لَهُ أَمْ وَرَاؤُهُ إذَا قَلَّ مَالُ الْمَرْءِ لَمْ يَرْضَ عَقْلَهُ ... بَنُوهُ وَلَمْ يَغْضَبْ لَهُ أَوْلِيَاؤُهُ وَإِنْ مَاتَ لَمْ يُفْقَدْ وَلَمْ يَحْزَنُوا لَهُ ... وَإِنْ عَاشَ لَمْ يَسْرُرْ صَدِيقًا بَقَاؤُهُ وَقَالَ آخَر: الْفَقْرُ يُزْرِي بِأَقْوَامٍ ذَوِي حَسَبٍ ... وَقَدْ يُسَوِّدُ غَيْرَ السَّيِّدِ الْمَالُ وَقَالَ آخَر: أَرَى دَهْرَنَا فِيهِ عَجَائِبُ جَمَّةٌ ... إذَا اُسْتُعْرِضَتْ بِالْعَقْلِ ضَلَّ بِهَا الْعَقْلُ أَرَى كُلَّ ذِي مَالٍ يَسُودُ بِمَالِهِ ... وَإِنْ كَانَ لَا أَصْلٌ هُنَاكَ وَلَا فَضْلُ فَشَرِّفْ ذَوِي الْأَمْوَالِ حَيْثُ لَقِيتَهُمْ ... فَقَوْلُهُمْ قَوْلٌ وَفِعْلُهُمْ فِعْلُ وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ: وَالنَّاسُ حَيْثُ يَكُونُ الْمَالُ وَالْجَاهُ وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ «أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ لَهُ يَا عَمْرُو نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ مَعَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَسَبَقَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا وَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا وَذَمِّهَا قَبْلَ فَصْلِ آدَابِ الْمُصَافَحَةِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ لِبَنِيهِ حِينَ

حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ يَا بَنِيَّ عَلَيْكُمْ بِالْمَالِ وَاصْطِنَاعِهِ فَإِنَّهُ يُنَبِّهُ الْكَرِيمَ، وَيَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ اللَّئِيمِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَالْكَسْبُ قَدْ يُفْتَرَضُ فِي نَفَقَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ إذَا لَمْ تُوجَدْ مِنْهُ حَقِيقَةُ التَّوَكُّل، فَأَمَّا إذَا وُجِدَ مِنْهُ حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ وَهُوَ أَنْ لَا تَسْتَشْرِفَ نَفْسُهُ إلَى أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ لَمْ يُفْتَرَضْ عَلَيْهِ الْكَسْبُ لِنَفْسِهِ. وَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ بَعْدَهُ قَالَ وَالْكَسْبُ الَّذِي لَا يُقْصَدُ بِهِ التَّكَاثُرُ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ التَّوَصُّلُ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ صِلَةِ الْإِخْوَانِ أَوْ يَسْتَعِفُّ عَنْ وُجُوهِ النَّاسِ فَهُوَ أَفْضَلُ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَنْفَعَةِ غَيْرِهِ وَمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ التَّفَرُّغِ إلَى طَلَبِ الْعِبَادَةِ مِنْ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَتَعَلُّمِ الْعِلْمِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنَافِعِ لِلنَّاسِ، وَخَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَنَا خِلَافٌ هَلْ مَا تَعَدَّى نَفْعُهُ مِنْ تَطَوُّعِ الْبَدَنِ أَفْضَلُ لَهُ أَمْ الصَّلَاةُ وَنَحْوهَا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ تَخْرُجُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ. وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْخَلْقُ عِيَالُ اللَّهِ، وَأَحَبُّ الْخَلْقِ إلَيْهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ» إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدُوَيْهِ وَغَيْرُهُمَا. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ ثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الرَّقِّيُّ ثَنَا قَبِيصَةُ أَنَا سُفْيَانُ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ فُرَافِصَةَ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا حَلَالًا اسْتِعْفَافًا عَنْ الْمَسْأَلَةِ وَسَعْيًا عَلَى أَهْلِهِ وَتَعَطُّفًا عَلَى جَارِهِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَوَجْهُهُ هـ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا حَلَالًا مُكَاثِرًا لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» حَدِيثٌ حَسَنٌ وَمَكْحُولٌ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَطْلَقَ أَصْحَابُنَا إبَاحَةَ التِّجَارَةِ وَلَعَلَّ الْمُرَادَ غَيْرُ مُكَاثِرٍ وَأَنَّهُ يُكْرَهُ، وَحَرَّمَ أَبُو الْفَرَجِ الشِّيرَازِيُّ مِنْ أَصْحَابنَا الْمُكَاثَرَةَ بِذَلِكَ قَالَ ابْنُ تَمِيمٍ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَيَأْتِي كَلَام ابْنِ حَزْمٍ فِي آدَابِ الْمَسَاجِدِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ

فِي الْفِقْهِ فِي الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ وَسَبَقَ كَلَامُ ابْنِ حَزْمٍ أَيْضًا أَوَّلَ الْفَصْلِ وَيَجِبُ النُّصْحُ فِي الْمُعَامَلَةِ وَكَذَا فِي غَيْرِهَا وَتَرْكُ الْغِشِّ قَالَ الْمَرْوَزِيُّ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَا أَكْتَسِبُ حَتَّى تَصِحَّ لِي النِّيَّةُ وَلَهُ عِيَالٌ قَالَ إذَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعِفَّهُمْ فَمِنْ النِّيَّةِ صِيَانَتُهُمْ.

فصل في فضل التجارة والكسب على تركه توكلا وتعبدا

[فَصْلٌ فِي فَضْلِ التِّجَارَةِ وَالْكَسْبِ عَلَى تَرْكِهِ تَوَكُّلًا وَتَعَبُّدًا] ) سَأَلَ رَجُلٌ الْإِمَامَ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ: أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ دِرْهَمٌ مِنْ تِجَارَةٍ وَدِرْهَمٌ مِنْ صِلَةِ الْإِخْوَانِ وَدِرْهَمٌ مِنْ أَجْرِ التَّعْلِيمِ وَدِرْهَمٌ مِنْ غَلَّةِ بَغْدَادَ؟ فَقَالَ: أَحَبُّهُ إلَيَّ مِنْ تِجَارَةِ بَزِّهِ، وَأَكْرَهُهَا عِنْدِي الَّذِي مِنْ صِلَةِ الْإِخْوَانِ، وَأَمَّا أَجْرُ التَّعْلِيمِ فَإِنْ احْتَاجَ فَلْيَأْخُذْهُ، وَأَمَّا غَلَّةُ بَغْدَادَ فَأَنْتَ تَعْرِفُهَا فَأَيُّ شَيْءٍ تَسْأَلُنِي عَنْهَا وَقَالَ رَجُلٌ لِأَحْمَدَ التَّعْلِيمُ أَحَبُّ إلَيْك أَمْ الْمَسْأَلَةُ قَالَ التَّعْلِيمُ أَحَبُّ إلَيَّ. وَقَالَ الْمَرْوَزِيُّ: سَمِعْت رَجُلًا يَقُولُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ إنِّي فِي كِفَايَةٍ قَالَ الْزَمْ السُّوقَ تَصِلُ بِهِ الرَّحِمَ وَتَعُودُ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ. وَقَالَ أَحْمَدُ لِلْمَيْمُونِيِّ اسْتَغْنِ عَنْ النَّاسِ فَلَمْ أَرَ مِثْلَ الْغَنِيِّ عَنْ النَّاسِ وَقَالَ رَجُلٌ لِلْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَعَدَ فِي بَيْتِهِ وَزَعَمَ أَنَّهُ يَثِقُ بِاَللَّهِ فَيَأْتِيه بِرِزْقِهِ قَالَ: إذَا وَثِقَ بِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنْ قَدْ وَثِقَ بِهِ لَمْ يَمْنَعْهُ شَيْء أَرَادَهُ وَلَكِنْ لَمْ يَفْعَلْ هَذَا الْأَنْبِيَاءُ وَلَا غَيْرُهُمْ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] . وَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِ الْمَعِيشَةِ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَسُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَتْرُكُ التِّجَارَةَ وَيُقْبِلُ عَلَى الصَّلَاةِ يَعْنِي وَرَجُلٌ يَشْتَغِلُ بِالتِّجَارَةِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ قَالَ التَّاجِرُ الْأَمِينُ. وَتَرَكَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ دَنَانِيرَ فَقَالَ اللَّهُمَّ إنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَجْمَعْهَا إلَّا لِأَصُونَ بِهَا دِينِي وَحَسَبِي، لَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَجْمَعُ الْمَال فَيَقْضِي دَيْنَهُ وَيَصِلُ رَحِمَهُ وَيَكُفُّ بِهِ وَجْهَهُ

وَقَالَ سُفْيَانُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ مِنْ حُبِّكَ الدُّنْيَا أَنْ تَطْلُبَ فِيهَا مَا يُصْلِحُكَ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ إنَّمَا أَهْلَكَ النَّاسَ فُضُولُ الْكَلَامِ وَفُضُولُ الْمَالِ. وَقِيلَ لِأَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنْ أَطْعَمَ عِيَالَهُ حَرَامًا يَكُون ضَيْعَةً لَهُمْ قَالَ شَدِيدًا قَالَ الْمَرْوَزِيُّ وَقَدْ أَنْكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَى الْمُتَوَكِّلِينَ فِي ذَلِكَ إنْكَارًا شَدِيدًا وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ يَنْبَغِي لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَكِنْ يُعَوِّدُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْكَسْبِ فَمَنْ قَالَ بِخِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ فَهَذَا قَوْلُ إنْسَانٍ أَحْمَقَ قَالَ وَسَمِعْت أَبِي يَقُولُ: الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ النَّاسِ بِطَلَبِ الْعَمَلِ أَعْجَبُ إلَيْنَا مِنْ الْجُلُوسِ وَانْتِظَارِ مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ. وَقَالَ صَالِحٌ سُئِلَ وَأَنَا شَاهِدٌ عَنْ قَوْمٍ لَا يَعْمَلُونَ، وَيَقُولُونَ نَحْنُ مُتَوَكِّلُونَ، فَقَالَ هَؤُلَاءِ مُبْتَدِعَةٌ قَالَ الْمَرْوَزِيُّ قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ إنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ كَانَ يَقُولُ: هُمْ مُبْتَدِعَةٌ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ هَؤُلَاءِ قَوْمُ سَوْءٍ يُرِيدُونَ تَعْطِيلَ الدُّنْيَا. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ إذَا جَلَسَ الرَّجُلُ وَلَمْ يَحْتَرِفْ دَعَتْهُ نَفْسُهُ إلَى أَنْ يَأْخُذَ مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ فَإِذَا شَغَلَ نَفْسَهُ بِالْعَمَلِ وَالِاكْتِسَابِ تَرَكَ الطَّمَعَ. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَيُّ شَيْءٍ صَدَقَ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالَ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَلَا يَكُونُ فِي قَلْبِهِ أَحَدٌ مِنْ الْآدَمِيِّينَ يَطْمَعُ أَنْ يَجِيئَهُ بِشَيْءٍ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ اللَّهُ يَرْزُقُهُ وَكَانَ مُتَوَكِّلًا. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ ذَكَرْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ التَّوَكُّلَ فَأَجَازَهُ لِمَنْ اسْتَعْمَلَ فِيهِ الصِّدْقَ وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ خَشْرَمٍ عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ زَائِدَةَ بْنِ نَشِيطٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْوَالِبِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى وَأَسُدَّ فَقْرَكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ مَلَأْتُ صَدْرَكَ شُغْلًا وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ» رَوَاهُ ابْن مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ زَائِدَةَ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَهُوَ حَدِيثٌ جَيِّدٌ قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرَوَى أَيْضًا وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا «لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا» . وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مَرْفُوعًا «مَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتْ

الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ» إسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَرْفُوعًا «إنَّ لِقَلْبِ ابْنِ آدَمَ بِكُلِّ وَادٍ شُعْبَةً فَمَنْ أَتْبَعَ قَلْبَهُ الشُّعَبَ كُلَّهَا لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِي أَيِّ وَادٍ أَهْلَكَهُ وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ كَفَاهُ الشُّعَبَ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ زُرَيْقٍ الْعَطَّارِ تَفَرَّدَ عَنْهُ الْكَوْسَجُ وَبَاقِيهِ جَيِّدٌ وَلِابْنِ مَاجَهْ هَذَا الْمَعْنَى بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَدْ سَبَقَ فِي فُصُولِ الْعِلْمِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ بَهْجَةِ الْمُجَالِسِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «لَا تُكْثِرْ هَمَّكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ وَمَا يُقَدَّرُ يَكُونُ وَمَا تُرْزَقُ يَأْتِيكَ» وَقَالَ غَيْرُهُ قَالَ الْأَطِبَّاءُ فِي تَدْبِيرِ الْمَشَايِخِ وَلْيَحْذَرُوا الْهَمَّ فَإِنَّهُ يُصَيِّرُ الشَّبَابَ شُيُوخًا فَمَا ظَنُّك بِالْمَشَايِخِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَيُرْوَى لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَفِيهَا نَظَرٌ لَوْ أَنَّ فِي صَخْرَةٍ فِي الْبَحْرِ رَاسِيَةٍ ... صَمًّا مُلَمْلَمَةً مَلْسٌ نَوَاحِيهَا رِزْقًا لِعَبْدٍ بَرَاهُ اللَّهُ لَانْفَلَقَتْ ... حَتَّى تُؤَدِّي إلَيْهِ كُلَّ مَا فِيهَا أَوْ كَانَ تَحْتَ طِبَاقِ الْأَرْضِ مَطْلَبُهَا ... لَسَهَّلَ اللَّهُ فِي الْمَرْقَى مَرَاقِيهَا حَتَّى تُؤَدِّي الَّذِي فِي اللَّوْحِ خُطَّ لَهُ ... إنْ هِيَ أَتَتْهُ وَإِلَّا سَوْفَ يَأْتِيهَا قَالَ وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ لَيْسَ الرِّزْقُ بِالطَّلَبِ ... وَلَا الْعَطَايَا عَلَى عَقْلٍ وَلَا أَدَبِ إنْ قَدَّرَ اللَّهُ شَيْئًا أَنْتَ طَالِبُهُ ... يَوْمًا وَجَدْتَ إلَيْهِ أَقْرَبَ السَّبَبِ وَإِنْ أَبَى اللَّهُ مَا تَهْوَى فَلَا طَلَبٌ ... يُجْدِي عَلَيْك وَلَوْ حَاوَلْت مِنْ كَثَبِ وَقَدْ أَقُولُ لِنَفْسِي وَهْيَ ضَيِّقَةٌ ... وَقَدْ أَنَاخَ عَلَيْهَا الدَّهْرُ بِالْعَجَبِ صَبْرًا عَلَى ضِيقَةِ الْأَيَّامِ إنَّ لَهَا ... فَتْحًا وَمَا الصَّبْرُ إلَّا عِنْدَ ذِي الْأَدَبِ

سَيَفْتَحُ اللَّهُ أَبْوَابَ الْعَطَاءِ بِمَا ... فِيهِ لِنَفْسِكَ رَاحَاتٌ مِنْ التَّعَبِ وَلَوْ يَكُونُ كَلَامِي حِينَ أُنْشِدُهُ ... مِنْ اللُّجَيْنِ لَكَانَ الصَّمْتُ مِنْ ذَهَبِ وَلِآخَرَ: إنِّي لَأَعْلَمُ وَالْأَقْدَارُ غَالِبَةٌ ... أَنَّ الَّذِي هُوَ رِزْقِي سَوْفَ يَأْتِينِي أَسْعَى إلَيْهِ فَيُعْنِينِي تَطَلُّبُهُ ... وَلَوْ قَعَدْتُ أَتَانِي لَا يُعَنِّينِي وَقَالَ آخَرُ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِمَرْيَمَ ... وَهُزِّي إلَيْكِ الْجِذْعَ يَسْقُطْ لَكِ الرُّطَبُ وَلَوْ شَاءَ أَنْ تَجْنِيهِ مِنْ غَيْرِ هَزِّهَا ... جَنَتْهُ وَلَكِنْ كُلُّ شَيْءٍ لَهُ سَبَبُ وَقَالَ بَكْرُ بْنُ حَمَّادٍ: لِلنَّاسِ حِرْصٌ عَلَى الدُّنْيَا وَقَدْ فَسَدَتْ ... فَصَفْوُهَا لَك مَمْزُوجٌ بِتَكْدِيرِ فَمَنْ يُكِبُّ عَلَيْهَا لَا تُسَاعِدُهُ ... وَعَاجِزٌ نَالَ دُنْيَاهُ بِتَقْصِيرِ لَمْ يُدْرِكُوهَا بِعَقْلٍ عِنْدَمَا قُسِمَتْ ... وَإِنَّمَا أَدْرَكُوهَا بِالْمَقَادِيرِ لَوْ كَانَ عَنْ قُدْرَةٍ أَوْ عَنْ مُغَالَبَةٍ ... طَارَ الْبُزَاةُ بِأَرْزَاقِ الْعَصَافِيرِ وَلِشُرَيْحِ بْنِ يُونُسِ الْمُحَدِّثُ يَا طَالِبَ الرِّزْقِ يَسْعَى وَهْوَ مُجْتَهِدُ ... أَتْعَبْتَ نَفْسَك حَتَّى شَفَّك التَّعَبُ تَسْعَى لِرِزْقٍ كَفَاك اللَّهُ مُؤْنَتَهُ ... أَقْصِرْ فَرِزْقُك لَا يَأْتِي بِهِ الطَّلَبُ كَمْ مِنْ سَخِيفٍ ضَعِيفِ الْعَقْلِ تَعْرِفُهُ ... لَهُ الْوِلَايَةُ وَالْأَرْزَاقُ وَالذَّهَبُ وَمِنْ حَصِيفٍ لَهُ عَقْلٌ وَمَعْرِفَةٌ ... بَادِي الْخَصَاصَةِ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ نَسَبُ فَاسْتَرْزِقْ اللَّهَ مِمَّا فِي خَزَائِنِهِ ... فَاَللَّهُ يَرْزُقُ لَا عَقْلٌ وَلَا حَسَبُ وَقَالَ آخَر: كَمْ مِنْ قَوِيٍّ قَوِيٍّ فِي تَقَلُّبِهِ ... مُهَذَّبِ الرَّأْيِ عَنْهُ الرِّزْقُ مُنْحَرِفُ وَمِنْ ضَعِيفٍ ضَعِيفِ الرَّأْيِ تُبْصِرُهُ ... كَأَنَّهُ مِنْ خَلِيجِ الْبَحْرِ يَغْتَرِفُ

وَقَالَ آخَرُ يَا رَاكِبَ الْهَوْلِ وَالْآفَاتِ وَالْهَلَكَهْ ... لَا تَعْجَلَنَّ فَلَيْسَ الرِّزْقُ بِالْحَرَكَهْ مَنْ غَيْرُ رَبِّكَ فِي السَّبْعِ الْعُلَى مَلَكَ ... وَمَنْ أَدَارَ عَلَى أَرْجَائِهَا فَلَكَهْ أَمَا تَرَى الْبَحْرَ وَالصَّيَّادَ تَضْرِبُهُ ... أَمْوَاجُهُ وَنُجُومُ اللَّيْلِ مُشْتَبِكَهْ يَجُرُّ أَذْيَالَهُ وَالْمَوْجُ يَلْطِمُهُ ... وَعَقْلُهُ بَيِّنٌ فِي كَلْكَلِ الشَّبَكَهْ حَتَّى إذَا رَاحَ مَسْرُورًا بِهَا فَرِحًا ... وَالْحُوتُ قَدْ شَكَّ مَنْقُودُ الرَّدَى حَنَكَهْ أَتَى إلَيْك بِرِزْقٍ مَا بِهِ تَعَبٌ ... فَصِرْت تَمْلِكُ مِنْهُ مِثْلَ مَا مَلَكَهْ لُطْفًا مِنْ اللَّهِ يُعْطَى ذَا بِحِيلَتِهِ ... هَذَا يَصِيدُ وَهَذَا يَأْكُلُ السَّمَكَهْ وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الْحَلَالُ يَقْطُرُ قَطْرًا، وَالْحَرَامُ يَسِيلُ سَيْلًا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ قَالَ أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيٍّ جَدُّك لَا كَدُّك. وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ: الْمَرْءُ يُحْمَدُ سَعْيُهُ مِنْ جَدِّهِ ... حَتَّى يُزَيَّنَ بِاَلَّذِي لَمْ يَعْمَلْ وَتَرَى الشَّقِيَّ إذَا تَكَامَلَ عَيْبُهُ ... يُرْمَى وَيُقْذَفُ بِاَلَّذِي لَمْ يَفْعَلْ وَقَالَ حَسَّانُ أَوْ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: وَإِنَّ امْرَأً يُمْسِي وَيُصْبِحُ سَالِمًا ... مِنْ النَّاسِ إلَّا مَا جَنَى لَسَعِيدُ وَإِنَّ الَّذِي يَنْجُو مِنْ النَّارِ بَعْدَمَا ... تَزَوَّدَ مِنْ أَعْمَالِهَا لَسَعِيدُ وَلِصَالِحِ بْنِ عَبْدِ الْقُدُّوسِ: وَلَيْسَ رِزْقُ الْفَتَى مِنْ حُسْنِ حِيلَتِهِ ... لَكِنْ جُدُودٌ بِأَرْزَاقٍ وَأَقْسَامِ كَالصَّيْدِ يُحْرَمُهُ الرَّامِي الْمَجِيدُ وَقَدْ ... يَرْمِي فَيُرْزَقُهُ مَنْ لَيْسَ بِالرَّامِي طَلَبَ أَبُو الْأَسْوَد الدُّؤَلِيُّ مَالًا مِنْ جَارٍ يَسْتَقْرِضُهُ مِنْهُ وَكَانَ حَسَنُ الظَّنِّ بِهِ فَاعْتَلَّ عَلَيْهِ وَدَفَعَهُ فَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ:

فَلَا تَطْمَعَنَّ فِي مَالِ جَارٍ لِقُرْبِهِ ... فَكُلُّ قَرِيبٍ لَا يُنَالُ بَعِيدُ وَفَوِّضْ إلَى اللَّهِ الْأُمُورَ فَإِنَّمَا ... تَرُوحُ بِأَرْزَاقٍ عَلَيْك جُدُودُ وَلَا تُشْعِرَنَّ النَّفْسَ يَأْسًا فَإِنَّمَا ... يَعِيش بِجِدٍّ عَاجِزٌ وَبَلِيدُ وَأَنْشَدَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْكَاتِبُ لِنَفْسِهِ: لَا تَشْرَهَنَّ إلَى دُنْيَا تَمَلَّكَهَا ... قَوْمٌ كَثِيرٌ بِلَا عَقْلٍ وَلَا أَدَبِ وَلَا تَقُلْ إنَّنِي أَبْصَرْت مَا جَهِلُوا ... مِنْ الْإِدَارَةِ فِي مَرْأًى وَمُنْقَلَبِ بِالْجَدِّ وَالْجِدِّ قَدْ نَالُوا الَّذِي مَلَكُوا ... لَا بِالْعُقُولِ وَلَا بِالْعِلْمِ وَالْحَسَبِ وَأَيْسَرُ الْجَدِّ يُجْرِي كُلَّ مُمْتَنِعٍ ... عَلَى التَّمَكُّنِ عِنْدَ الْبَغْيِ وَالطَّلَبِ وَإِنْ تَأَمَّلْت أَحْوَالَ الَّذِينَ مَضَوْا ... رَأَيْت مِنْ ذَا وَهَذَا أَعْجَبَ الْعَجَبِ وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ فَإِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلْ الرُّجُوعَ إلَى أَهْلِهِ» وَقَدْ سَبَقَ بَعْدَ آدَابِ السَّفَرِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سَافِرُوا تَصِحُّوا وَتَغْنَمُوا» وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمِنْهُمْ مِنْ يَرْفَعُهُ أَنَّهُ قَالَ مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ أَوْ مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ أَنْ تَكُونَ زَوْجَتُهُ صَالِحَةً، وَأَوْلَادُهُ أَبْرَارًا وَإِخْوَانُهُ صَالِحِينَ وَرِزْقُهُ فِي بَلَدِهِ الَّذِي فِيهِ أَهْلُهُ وَفِي التَّوْرَاةِ ابْنَ آدَمَ أُحْدِثْ سَفَرًا أُحْدِثْ لَك رِزْقًا. وَمِنْ أَمْثَالِ الْعَامَّةِ: الْبَرَكَاتُ مَعَ الْحَرَكَاتِ وَقَالُوا: رُبَّمَا أَسْفَرَ السَّفَرُ عَنْ الظَّفَرِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَإِذَا الزَّمَانُ كَسَاك حُلَّةَ مُعْدَمٍ ... فَالْبَسْ لَهُ حُلَلَ النَّوَى وَتَغَرَّبْ وَقَالَ آخَر: وَمَنْ يَغْتَرِبْ يَحْسِبْ عَدُوًّا صَدِيقَهُ ... وَمَنْ لَا يُكْرِمُ نَفْسَهُ لَا يُكْرَمُ

وَقَالَ آخَر: إنَّ الْغَرِيبَ بِأَرْضٍ لَا عَشِيرَ لَهُ ... كَبَائِعِ الرِّيحِ لَا يُعْطَى بِهِ ثَمَنَا وَقَالَ آخَر: تَغَرَّبْتُ عَنْ أَهْلِي أُؤَمِّلُ ثَرْوَةً ... فَلَمْ أُعْطَ آمَالِي وَطَالَ التَّغَرُّبُ فَمَا لِلْفَتَى الْمُحْتَالِ فِي الرِّزْقِ حِيلَةٌ ... وَلَا لِحُدُودٍ حَدَّهَا اللَّهُ مَذْهَبُ وَقَالَ آخَر: لَقُرْبُ الدَّارِ فِي الْإِقْتَارِ خَيْرٌ ... مِنْ الْعَيْشِ الْمُوَسَّعِ فِي اغْتِرَابِ وَقَالَ آخَرُ: إنَّ الْغَرِيبَ وَإِنْ أَقَامَ بِبَلْدَةٍ ... يُهْدَى إلَيْهِ خَرَاجُهَا لَغَرِيبُ وَقَالَ آخَرُ: غَرِيبٌ يُقَاسِي الْهَمَّ فِي أَرْضِ غُرْبَةٍ ... فَيَا رَبِّ قَرِّبْ دَارَ كُلِّ غَرِيبِ وَقَالَ آخَرُ: إنَّ الْغَرِيبَ وَإِنْ أَلَمَّ بِبَلْدَةٍ ... كَتَبَتْ أَنَامِلُهُ عَلَى الْحِيطَانِ فَتَرَاهُ يَكْتُبُ وَالْغَرَامُ يَسُوقُهُ ... وَالشَّوْقُ قَائِدُهُ إلَى الْأَوْطَانِ وَقَالَ آخَرُ: سَلْ اللَّهَ الْأَمَانَ مِنْ الْمَغِيبِ ... فَكَمْ قَدْ رُدَّ مِثْلُك مِنْ غَرِيبِ وَسَلِّ الْهَمَّ عَنْك بِحُسْنِ الظَّنِّ ... وَلَا تَيْأَسْ مِنْ الْفَرَجِ الْقَرِيبِ قِيلَ: إنَّ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ لِلرُّشْدِ: حَتَّى مَتَى أَنَا فِي حَطٍّ وَتَرْحَالِ ... وَطُولِ سَعْيٍ وَإِدْبَارٍ وَإِقْبَالِ وَنَازِحُ الدَّارِ لَا يَنْفَكُّ مُغْتَرِبًا ... عَنْ الْأَحِبَّةِ لَا يَدْرُونَ مَا حَالِي

فِي مَشْرِقِ الْأَرْضِ طُرًّا ثُمَّ مَغْرِبِهَا ... لَا يَخْطِرُ الْمَوْتُ مِنْ حِرْصٍ عَلَى بَالِي وَلَوْ قَعَدْتُ أَتَانِي الرِّزْقُ فِي دَعَةٍ ... إنَّ الْقُنُوعَ الْغِنَى لَا كَثْرَةُ الْمَالِ خَرَجَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فَضَمَّهُ اللَّيْلُ إلَى مَسْجِدٍ فَبَاتَ فِيهِ وَإِذَا فِي الْمَسْجِدِ أَقْوَامٌ عَوَامُّ يَتَحَدَّثُونَ بِضُرُوبِ مِنْ الْخَنَا وَهَجْرِ الْمَنْطِقِ فَتَمَثَّلَ فَقَالَ: وَأَنْزَلَنِي طُولُ النَّوَى دَارَ غُرْبَةٍ ... إذَا شِئْت لَاقَيْتُ امْرَأً لَا أُشَاكِلُهُ وَقَالَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ كَانَ يُقَال أَنْجَى النَّاسِ مِنْ الْبَلَايَا وَالْفِتَنِ مَنْ انْتَقَلَ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ. وَقَالَ يَعْقُوبُ سَمِعْت أَحْمَدَ وَسُئِلَ عَنْ التَّوَكُّلِ فَقَالَ هُوَ قَطْعُ الِاسْتِشْرَافِ بِالْإِيَاسِ مِنْ الْخَلْقِ، فَقِيلَ لَهُ مَا الْحُجَّةُ قَالَ إبْرَاهِيمُ لَمَّا وُضِعَ فِي الْمَنْجَنِيقِ ثُمَّ طُرِحَ إلَى النَّارِ فَاعْتَرَضَهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - فَقَالَ يَا إبْرَاهِيمُ لَك حَاجَةٌ قَالَ أَمَّا إلَيْك فَلَا، فَقَالَ لَهُ سَلْ مَنْ لَك إلَيْهِ حَاجَة، فَقَالَ أَحَبُّ الْأَمْرَيْنِ إلَيْهِ أَحَبُّهُمَا إلَيَّ وَمُرَادُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ هَذَا وَإِنْ قَدَحَ فِي التَّوَكُّلِ الْكَامِلِ فَلَا يَقْدَحُ فِي التَّوَكُّلِ الْوَاجِبِ وَلِهَذَا قَالَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ السَّابِقَةِ: الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ النَّاسِ بِطَلَبِ الْعَمَلِ أَعْجَبُ إلَيْنَا مِنْ الْجُلُوسِ وَانْتِظَارِ مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَلِهَذَا يَذْكُرُ الْأَصْحَابُ كَرَاهَةَ الْحَجِّ لِمَنْ حَجَّ بِلَا زَادٍ وَلَا رَاحِلَةٍ يَسْأَلُ النَّاسَ. وَذَكَرُوا قَوْلَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَسُئِلَ عَمَّنْ يَدْخُلُ الْبَادِيَةَ بِلَا زَادٍ وَلَا رَاحِلَةٍ فَقَالَ لَا أُحِبُّ لَهُ ذَلِكَ هَذَا يَتَوَكَّلُ عَلَى أَزْوَادِ النَّاسِ. وَظَهَرَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ مَنْ تَوَكَّلَ تَوَكُّلًا صَادِقًا فَلَمْ تَسْتَشْرِفْ نَفْسُهُ إلَى مَخْلُوقٍ وَتَرَكَ السَّبَبَ وَاثِقًا بِوَعْدِ اللَّهِ أَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ وَهَلْ يَأْثَمُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَبَقَ فِي الْفَصْلِ قَبْلَهُ كَلَامُ الْقَاضِي

وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قِيلَ لِأَحْمَدَ: مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ جَلَسَ فِي بَيْتِهِ أَوْ مَسْجِدِهِ وَقَالَ: لَا أَعْمَلُ شَيْئًا حَتَّى يَأْتِي رِزْقِي؟ فَقَالَ أَحْمَدُ هَذَا رَجُلٌ جَهِلَ الْعِلْمَ أَمَا سَمِعَ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ جَعَلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي» وَقَالَ حِينَ ذَكَرَ الطَّيْرَ «تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا» وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَّجِرُونَ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَيَعْمَلُونَ فِي نَخْلِهِمْ، وَالْقُدْوَةُ بِهِمْ وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ الْعِبَادَةُ عِنْدَنَا أَنْ تَصُفَّ قَدَمَيْك وَغَيْرُك يَتْعَبُ لَك وَلَكِنْ ابْدَأْ بِرَغِيفِك فَاحْرُزْهُمَا ثُمَّ تَعَبَّدْ. وَرُوِيَ أَنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ اسْتَعِنْ بِالْكَسْبِ الْحَلَالِ فَإِنَّهُ مَا افْتَقَرَ أَحَدٌ قَطُّ إلَّا أَصَابَهُ ثَلَاثُ خِصَالٍ: رِقَّةٌ فِي دِينِهِ وَضَعْفٌ فِي عَقْلِهِ وَذَهَابُ مُرُوءَتِهِ، وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ اسْتِخْفَافُ النَّاسِ بِهِ، وَسُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مَا يُلَيِّنُ الْقَلْبَ؟ فَقَالَ أَكْلُ الْحَلَالِ، فَسَأَلَ السَّائِلُ بِشْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَعَبْدَ الْوَهَّابِ الْوَرَّاقَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَقَالَا يَذْكُرُ اللَّهَ، فَذَكَرَ لَهُمَا أَحْمَد فَقَالَا جَاءَ بِالْأَصْلِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَرْبَهَارِيُّ الْحَنْبَلِيُّ الْإِمَامُ فِي كِتَابِهِ شَرْحِ السُّنَّةِ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ وَلَا تَقُلْ أَتْرُك الْمَكَاسِبَ وَآخُذُ مَا أَعْطَوْنِي لَمْ يَقُلْ هَذَا الصَّحَابَةُ وَلَا الْعُلَمَاءُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إلَى زَمَانِنَا هَذَا وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَسْبٌ فِيهِ بَعْضُ الدَّنِيَّةِ خَيْرٌ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى النَّاسِ انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ الْمَرْوَزِيُّ سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ شَيْءٍ قَالَ لَا تَبْحَثْ عَمَّا لَا تَعْلَمُ فَهُوَ خَيْرٌ. وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ سُفْيَانَ أَنَّهُ قَالَ أَمَّا بَيْعٌ فِي السُّوقِ فَهُوَ مُوَسِّعٌ لَك إلَّا أَنْ تَعْلَمَ شَيْئًا حَرَامًا بِعَيْنِهِ، وَلَا أَرَى التَّفْتِيشَ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَإِسْنَادُهُ ثِقَاتٌ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ» قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ الْحَسَنُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ وَكَذَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ رَوَى عَنْهُ حَدِيثَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ. وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيْهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ الْمُحْتَرِفَ» وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ إصْلَاحِ الْمَالِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «طَلَبُ الْحَلَالِ جِهَادٌ وَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ الْمُحْتَرِفَ» . وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ

أَنَسٍ قَالَ «ذُكِرَ شَابٌّ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِزُهْدٍ وَوَرَعٍ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ كَانَتْ لَهُ حِرْفَةٌ» وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ الْحَسَنِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ «أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ قَالَ كَسْبُ الْحَلَالِ وَأَنْ تَمُوتَ وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَرْفُوعًا «تِسْعَةُ أَعْشَارِ الرِّزْقِ فِي التِّجَارَةِ» . وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ قَالَ مَا خَلَقَ اللَّهُ مَوْتَةً أَمُوتُهَا بَعْدَ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَمُوتَ بَيْنَ شُعْبَتَيْ رَحْلٍ أَضْرِبُ فِي الْأَرْضِ أَبْتَغِي مِنْ فَضْلِ اللَّهِ. وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ ارْفَعُوا رُءُوسَكُمْ فَقَدْ وَضَحَ الطَّرِيقُ وَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ وَلَا تَكُونُوا عِيَالًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَّجِرُونَ فِي بَحْرِ الرُّومِ. وَسَبَقَ الْكَلَامُ فِي الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَذَمِّهَا قَبْلَ فَصْلِ آدَابِ الْمُصَافَحَةِ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ تَكَفَّلَ اللَّهُ بِرِزْقِهِ وَإِنَّمَا يُذْهِبُ الدِّينَ الشَّرَهُ وَقِلَّةُ الْقَنَاعَةِ» . وَقَالَ الثَّوْرِيُّ لَأَنْ أَخْلُفَ عَشْرَةَ آلَاف دِرْهَمٍ يُحَاسِبُنِي اللَّهُ عَلَيْهَا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْتَاجَ إلَى النَّاسِ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَقَدْ أَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى الشَّاعِرُ فَنَظَمَهُ: لَأَنْ أَمْضِي وَأَتْرُكَ بَعْضَ مَالِي ... يُحَاسِبُنِي بِهِ رَبُّ الْبَرِيَّهْ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ وَقْعِ احْتِيَاجِي ... إلَى نَذْلٍ شَحِيحٍ بِالْعَطِيَّهْ وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ لَا تَكُونَنَّ إنْ اسْتَطَعْت أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ السُّوقَ وَلَا آخِرَ مَنْ يَخْرُجُ مِنْهَا فَإِنَّهَا مَعْرَكَةُ الشَّيْطَانِ وَبِهَا يَنْصِبُ رَايَتَهُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي فَضْلِ أُمِّ سَلَمَةَ وَهُوَ عَكْسُ مَا رَأَيْتُهُ فِي التَّارِيخِ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ عَنْ سَلْمَانَ مَرْفُوعًا وَرَوَى أَيْضًا هَذَا الْمَعْنَى عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا. وَرَوَى أَبُو بَكْرِ الْبَرْقَانِيُّ فِي صَحِيحِهِ حَدِيثَ سَلْمَانَ مَرْفُوعًا وَلَفْظُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: يَخْرُجُ مِنْهَا فِيهَا بَاضَ الشَّيْطَانُ وَفَرَّخَ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ ثَنَا هَنَّادٌ ثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تَسْتَقْبِلُوا السُّوقَ

وَلَا تُحَفِّلُوا وَلَا يُنَفِّقْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَالْمُحَفَّلَةُ الْمُصَرَّاةُ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: لَا يُنْفِقُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ أَيْ لَا يَقْصِدُ أَنْ يُنْفِقَ سِلْعَتَهُ عَلَى جِهَةِ النَّجْشِ فَإِنَّهُ بِزِيَادَتِهِ فِيهَا يَرِيبُ السَّامِعَ فَيَكُونُ قَوْلُهُ سَبَبًا لِابْتِيَاعِهَا وَمَنْفَقًا لَهَا. وَالسُّوقُ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِقِيَامِ النَّاسِ فِيهَا عَلَى سُوقِهِمْ.

فصل في تحريم السؤال حتى على من له أخذ الصدقة وذمه وتقبيحه

[فَصْلٌ فِي تَحْرِيمِ السُّؤَالِ حَتَّى عَلَى مَنْ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ وَذَمِّهِ وَتَقْبِيحِهِ] ِ) مَنْ أُبِيحَ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ قَالَ ابْنُ حَمْدَانَ مِنْ زَكَاةٍ وَصَدَقَةِ تَطَوُّعٍ وَكَفَّارَةٍ وَنَذْرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَهُ طَلَبُهُ وَعَنْهُ يَحْرُمُ الطَّلَبُ دُونَ الْأَخْذِ عَلَى مَنْ لَهُ غَدَاءٌ أَوْ عَشَاءٌ نَقَلَهَا الْأَثْرَمُ وَابْنُ مَنْصُورٍ، وَعَنْهُ بَلَى عَلَى مَنْ لَهُ غَدَاءٌ أَوْ عَشَاءٌ، نَقَلَهُ عَنْهُ صَالِحٌ وَجَعْفَرٌ، وَعَنْهُ يَحْرُمُ الطَّلَبُ عَلَى مَنْ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا وَإِنْ جَازَ لَهُ الْأَخْذُ نَقَلَهُ مُهَنَّا، وَعَنْهُ تَحْرُمُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى مَنْ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ مُطْلَقًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَفِي ذَمِّ السُّؤَالِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ وَأَنَّ الْمَسْأَلَةَ تَجِيءُ فِي وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُدُوشٌ وَأَنَّهُ يَسْتَكْثِرُ مِنْ جَمْرِ جَهَنَّمَ وَنَحْو ذَلِكَ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ. وَقَالَ مُؤْنِسٌ: إنَّ الْوُقُوفَ عَلَى الْأَبْوَابِ حِرْمَانٌ ... وَالْعَجْزُ أَنْ يَرْجُوَ الْإِنْسَانَ إنْسَانُ مَتَى تُؤَمِّلُ مَخْلُوقًا وَتَقْصِدُهُ ... إنْ كَانَ عِنْدَكَ بِالرَّحْمَنِ إيمَانُ ثِقْ بِاَلَّذِي هُوَ يُعْطِي ذَا وَيَمْنَعُ ذَا ... فِي كُلِّ يَوْمٍ لَهُ فِي خَلْقِهِ شَانُ وَقَالَ آخَرُ مَنْ يَسْأَلْ النَّاسَ يَحْرِمُوهُ ... وَسَائِلُ اللَّهِ لَا يَخِيبُ قَالَ آخَرُ: وَمَتَى تُصِبْكَ خَصَاصَةٌ فَارْجُ الْغِنَى ... وَإِلَى الَّذِي يَهَبُ الرَّغَائِبَ فَارْغَبْ وَقَالَ آخَرُ: لَا تَحْسَبَنَّ الْمَوْتَ مَوْتَ الْبِلَى ... فَإِنَّمَا الْمَوْتُ سُؤَالُ الرِّجَالِ كِلَاهُمَا مَوْتٌ وَلَكِنَّ ذَا ... أَشَدُّ مِنْ ذَاكَ لِذُلِّ السُّؤَالِ

وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ سَعْدَ اللَّهِ بْنَ نَصْرِ الدَّجَاجِيَّ الْحَنْبَلِيَّ يُكَنَّى أَبَا الْحَسَنِ تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ أَرْبَع وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ تَفَقَّهَ وَنَاظَرَ وَوَعَظَ قَالَ كُنْت خَائِفًا مِنْ الْخَلِيفَةِ لِحَادِثٍ نَزَلَ فَاخْتَفَيْت فَرَأَيْت فِي الْمَنَامِ كَأَنِّي فِي غُرْفَةٍ أَكْتُبُ شَيْئًا، فَجَاءَ رَجُلٌ فَوَقَفَ بِإِزَائِي وَقَالَ اُكْتُبْ مَا أُمْلِي عَلَيْك: ادْفَعْ بِصَبْرِكَ حَادِثَ الْأَيَّامِ ... وَتَرَجَّ لُطْفَ الْوَاحِدِ الْعَلَّامِ لَا تَيْأَسَنَّ وَإِنْ تَضَايَقَ كَرْبُهَا ... وَرَمَاك رَيْبُ صُرُوفِهَا بِسِهَامِ فَلَهُ تَعَالَى بَيْنَ ذَلِكَ فُرْجَةٌ ... تَخْفَى عَلَى الْأَبْصَارِ وَالْأَفْهَامِ كَمْ مَنْ نَجَا مِنْ بَيْنِ أَطْرَافِ الْقَنَا ... وَفَرِيسَةٍ سَلِمَتْ مِنْ الضِّرْغَامِ وَقَالَ مَحْمُودُ الْوَرَّاقُ: وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الذُّلِّ بُدٌّ ... فَالْقَ بِالذُّلِّ إنْ لَقِيت الْكِبَارَا لَيْسَ إجْلَالُك الْكَبِير بِذُلٍّ ... إنَّمَا الذُّلُّ أَنْ تُجِلَّ الصِّغَارَا وَقَالَ أَيْضًا: بَخِلْت وَلَيْسَ الْبُخْلُ مِنِّي سَجِيَّةً ... وَلَكِنْ رَأَيْت الْفَقْرَ شَرُّ سَبِيلِ لَمَوْتُ الْفَتَى خَيْرٌ مِنْ الْبُخْلِ لِلْفَتَى ... وَلَلْبُخْلُ خَيْرٌ مِنْ سُؤَالِ بَخِيلِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «انْتِظَارُ الْفَرَجِ عِبَادَةٌ» . وَيُرْوَى لِأَبِي مِحْجَنٍ الثَّقَفِيِّ: عَسَى فَرَجٌ يَأْتِي مِنْ اللَّهِ إنَّهُ ... لَهُ كُلُّ يَوْمٍ فِي خَلِيقَتِهِ أَمْرُ عَسَى مَا تَرَى أَنْ لَا يَدُومَ وَأَنْ تَرَى ... لَهُ فَرَجًا مِمَّا أَلَحَّ بِهِ الدَّهْرُ إذَا اشْتَدَّ عُسْرٌ فَارْجُ يُسْرًا فَإِنَّهُ ... قَضَى اللَّهُ إنَّ الْعُسْرَ يَتْبَعُهُ الْيُسْرُ وَقَالَ آخَرُ: لَعَمْرُكَ مَا كُلُّ التَّعَطُّلِ ضَائِرٌ ... وَلَا كُلُّ شُغْلٍ فِيهِ لِلْمَرْءِ مَنْفَعَهْ إذَا كَانَتْ الْأَرْزَاقُ فِي الْقُرْبِ وَالنَّوَى ... عَلَيْك سَوَاءٌ فَاغْتَنِمْ لَذَّةَ الدَّعَهْ

وَإِنْ ضِقْت يَوْمًا يُفْرِجُ اللَّهُ مَا تَرَى ... أَلَا رُبَّ ضِيقٍ فِي عَوَاقِبِهِ سَعَهْ وَقَالَ آخَرُ: اصْبِرْ عَلَى الدَّهْرِ إنْ أَصْبَحْت مُنْغَمِسًا ... بِالضِّيقِ فِي لُجَجٍ تَهْوِي إلَى لُجَجِ فَمَا تَجَرَّعَ كَأْسَ الصَّبْرِ مُعْتَصِمٌ ... بِاَللَّهِ إلَّا آتَاهُ اللَّهُ بِالْفَرَجِ وَقَالَ آخَرُ: هَوِّنْ عَلَيْك فَكُلُّ الْأَمْرِ مُنْقَطِعٌ ... وَخَلِّ عَنْك عَنَانَ الْهَمِّ يَنْدَفِعُ فَكُلُّ هَمٍّ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ فَرَجٌ ... وَكُلُّ أَمْرٍ إذَا مَا ضَاقَ يَتَّسِعُ إنَّ الْبَلَاءَ وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ بِهِ ... فَالْمَوْتُ يَقْطَعُهُ أَوْ سَوْفَ يَنْقَطِعُ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ خَرَجْت حَاجًّا فَضَاقَ صَدْرِي فَجَعَلْت أَقُولُ: أَرَى الْمَوْتَ لِمَنْ أَمْسَى ... عَلَى الذُّلِّ لَهُ أَصْلَحُ فَإِذَا بِهَاتِفٍ مِنْ وَرَائِي يَقُولُ: أَلَا أَيُّهَا الْمَرْءُ الَّذِي ... الْهَمُّ بِهِ بَرَّحْ إذَا ضَاقَ بِك الصَّدْرُ ... تَفَكَّرْ فِي أَلَمْ نَشْرَحْ.

في حكم ما يأتي المرء الصلات والهبات من أخذ ورد

[فِي حُكْمِ مَا يَأْتِي الْمَرْءَ الصِّلَاتِ وَالْهِبَاتِ مِنْ أَخْذٍ وَرَدٍّ] فَصْلٌ (فِي حُكْمِ مَا يَأْتِي الْمَرْءَ الصِّلَاتِ وَالْهِبَاتِ مِنْ أَخْذٍ وَرَدٍّ) وَمَا جَاءَهُ مِنْ مَالٍ بِلَا إشْرَافِ نَفْسٍ وَلَا مَسْأَلَةٍ وَجَبَ أَخْذُهُ نَقَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْأَثْرَمُ وَالْمَرُّوذِيُّ قَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَم «إذَا جَاءَهُ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا إشْرَافٍ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُذْ» ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ ثُمَّ قَالَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيُضَيِّق عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَشْرَاف أَنْ يَرُدَّهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْكَحَّالُ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ الرَّجُل يَأْتِيه الشَّيْءُ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَة وَلَا اسْتِشْرَاف أَيُّمَا أَفْضَلُ يَأْخُذُهُ أَوْ يَرُدُّهُ قَالَ إذَا لَمْ يَكُنْ اسْتِشْرَافٌ أَخَافُ أَنْ يَضِيقَ عَلَيْهِ رَدُّهُ وَكَذَا نَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ حَبِيبٍ وَيُوسُفُ بْنُ مُوسَى وَنَقَلَ عَنْهُ ابْنُ مُشَيْشٍ أَخَافُ إذَا جَاءَهُ فَجْأَة فَرَدَّهُ أَنْ يُحْرَجَ. وَقَطَعَ بِهِ فِي الْمُسْتَوْعِبِ، وَاخْتَارَ ابْنُ حَمْدَانَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ وَرَأَيْت بِخَطِّ الْقَاضِي تَقِي الدِّينِ الزرباني الْبَغْدَادِيِّ الْحَنْبَلِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَة إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ، وَاَلَّذِي وَجَدْت إِسْحَاقَ نَقَلَهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَا بَأْسَ إذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ اسْتِشْرَافٍ أَنْ يَرُدَّ أَوْ يَأْخُذَ هُوَ بِالْخِيَارِ، وَهَذِهِ رِوَايَةٌ بِإِبَاحَةِ الْأَخْذِ وَهُوَ الَّذِي تَرْجَمَ الْخَلَّالُ أَنَّ الْقَبُولَ مُبَاحٌ مِنْ غَيْرِ اسْتِشْرَافٍ. وَأَمَرَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ مُوسَى بِالْأَخْذِ وَقَالَ لِلسَّائِلِ أَرْجُو أَنْ يَطْلُبَ لَك وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُهُ إلَّا مَعَ حَاجَتِهِ إلَيْهِ وَإِذَا سَلِمَ مِنْ الشُّبْهَةِ وَالْآفَاتِ فَإِنَّ الْأَفْضَلَ آخِذُهُ، وَنَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ أَنَّ أَحْمَدَ جَاءَتْهُ هَدِيَّةٌ أَثْوَابٌ مِنْ خُرَاسَانَ فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ قَالَ لِلْمَرُّوذِيِّ اذْهَبْ رُدَّهُ قَالَ فَقُلْت لَهُ أَيُّ شَيْءٍ تَكُونُ الْحُجَّةُ فِي رَدِّهِ؟ أَوْ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُرَدَّ مِثْل هَذَا قَالَ لَيْسَ أَعْلَمُ فِيهِ شَيْئًا إلَّا أَنَّ الرَّجُلَ إذَا تَعَوَّدَ لَمْ يَصْبِرْ عَنْهُ، وَاتَّجَرَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ السَّرَخْسِيُّ

بِدَرَاهِمَ جَعَلَ رِبْحَهَا لِأَحْمَدَ فَرَبِحَتْ عَشْرَةَ آلَافٍ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِأَحْمَدَ. فَقَالَ: جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا لَكِنَّا فِي كِفَايَةٍ فَرَدَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ دَعْنَا نَكُونُ أَعِزَّةً وَأَبَى أَنْ يَأْخُذَهَا. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ فِي كَرَاهَةِ الرَّدِّ رِوَايَتَيْنِ وَعَلَّلَ رِوَايَةَ عَدَمِ الْكَرَاهَةِ بِكَلَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ وَكَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ يَقُولُ لِأَصْحَابِ الْحَدِيثِ: أَعَلِمْتُمْ أَنِّي كُنْت قَدْ أُوتِيتُ فَهْمَ الْقُرْآنِ فَلَمَّا قَبِلْت مِنْ أَبِي جَعْفَرٍ يَعْنِي مِنْ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ الْبَرْمَكِيِّ سُلِبْتُهُ وَكَانَ سُفْيَانُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنَّهُ كَفَانِي أَمْرَ دُنْيَايَ فَاكْفِهِ أَمْرَ آخِرَتِهِ، فَرُئِيَ الْبَرْمَكِيُّ فِي النَّوْمِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَقَالَ مَا نَفَعَنِي شَيْءٌ مَا نَفَعَتْنِي دَعْوَةُ سُفْيَانَ أَوْ نَحْو ذَلِكَ. فَإِنْ اسْتَشْرَفَتْ نَفْسُهُ إلَيْهِ فَنَقَلَ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ لَا بَأْسَ أَنْ يَرُدَّهَا وَكَذَا نَقَلَ الْكَحَّالُ عَنْهُ إنْ شَاءَ رَدَّهُ وَكَذَا نَقَلَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا، وَنَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ فَإِنْ اسْتَشْرَفَتْ نَفْسُهُ رَدَّهَا. وَقَالَ لَهُ الْأَثْرَمُ: فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ كَمَا يَرُدّ الْمَسْأَلَةَ قَالَ لَيْسَ عَلَيْهِ، وَنَقَلَ عَنْهُ أَبُو دَاوُد وَلَا بَأْسَ أَنْ يَرُدَّهَا قَالَ أَبُو دَاوُد وَكَأَنَّهُ اخْتَارَ الرَّدَّ وَنَقَلَ عَنْهُ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ لَا يَأْخُذُهُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ أَنَّهُ لَا تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ؛ لِعَدَمِ الْمَسْأَلَةِ وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ كُرِهَ لَهُ أَخْذُهُ وَلَمْ يَحْرُمْ، وَقِيلَ: لَهُ أَخْذُهُ وَرَدُّهُ أَوْلَى. وَقَدْ عُرِفَ مِنْ نُصُوصِ أَحْمَدَ أَنَّهُ هَلْ يَحْرُمُ أَوْ يُخَيَّرُ أَوْ الرَّدُّ أَوْلَى أَوْ يُكْرَهُ الْأَخْذُ فِيهِ رِوَايَاتٌ مَعَ أَنَّ رِوَايَةَ إِسْحَاقَ فِيهَا النَّهْي عَنْ الْأَخْذِ وَظَاهِرُ النَّهْي التَّحْرِيمُ وَاسْتِشْرَافُ النَّفْسِ أَنْ تَقُولَ سَيَبْعَثُ لِي فُلَانٌ أَوْ لَعَلَّهُ يَبْعَثُ لِي وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ أَوْ يَعْرِضْ بِقَلْبِك عَسَى أَنْ يَفْعَلَ نَصَّ عَلَيْهِ. وَذَكَرَ أَحْمَدُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ «إذَا أَتَاكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا اسْتِشْرَافِ نَفْسٍ فَخُذْهُ وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعُهُ نَفْسَك» فَقَالَ هَذَا إذَا كَانَ مِنْ مَالٍ طَيِّبٍ.

فصل في سؤال الشيء التافه كشسع النعل روايات

[فَصْلٌ فِي سُؤَالِ الشَّيْءِ التَّافِهِ كَشِسْعِ النَّعْلِ رِوَايَات] ) نَقَلَ أَبُو طَالِبٍ عَنْ أَحْمَدَ فِي الرَّجُلِ يَسْأَلُ الرَّجُلَ الْحَذَّاءَ أَوْ الْإِسْكَافَ الشِّسْعَ قَالَ لَقَدْ شَدَّدْتَ وَقَالَ عَبْدُ اللَّه كَأَنَّهُ لَمْ يَرَهُ مَسْأَلَةً، وَنَقَلَ حَرْبٌ وَيَعْقُوبُ عَنْهُ فِي الرَّجُلِ يَمُرُّ بِالرَّجُلِ فَيَسْأَلُهُ الشِّسْعَ لِنَعْلِهِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُرَخِّصْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ قَالَ يَعْقُوبُ فَكَأَنَّهُ كَرِهَهُ فَلَمْ يُرَخِّصْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ. وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ هَانِئٍ كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَا يُرَخِّصُ فِي مَسْأَلَةِ الشِّسْعِ، فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَسْأَلَةَ الشَّيْءِ الْيَسِيرِ كَالشِّسْعِ وَشِبْهِهِ هَلْ يَجُوزُ أَوْ يُكْرَهُ أَوْ يَحْرُمُ؟ فِيهِ رِوَايَاتٌ. وَلَا بَأْسَ بِمَسْأَلَةِ الْمَاءِ نَصَّ عَلَيْهِ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِقِرْبَةٍ مُعَلَّقَةٍ فَاسْتَسْقَى فَشَرِبَ» . وَنَقَلَ أَبُو دَاوُد عَنْهُ وَسُئِلَ الرَّجُلُ يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ عَطْشَانَا فَلَا يَسْتَسْقِي وَأَظُنُّهُ قَالَ فِي الْوَرَعِ مَا يَكُونُ قَالَ أَحْمَقُ، نَقَلَ جَعْفَرٌ عَنْ أَحْمَدَ فِي الرَّجُلِ يَسْتَعِيرُ الشَّيْءَ لَا يَكُونُ مَسْأَلَةً.

فصل في سؤال الأخ والوالد والولد والأخذ ممن أعطى حياء

[فَصْلٌ فِي سُؤَالِ الْأَخِ وَالْوَالِدِ وَالْوَلَدِ وَالْأَخْذِ مِمَّنْ أَعْطَى حَيَاءً] ً) قَالَ حَرْبٌ لِأَحْمَدَ الرَّجُلُ يَكُونُ لَهُ الْأَخُ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَيَرَى عِنْدَهُ الشَّيْءَ يُعْجِبُهُ، الدَّابَّةَ وَنَحْوه ذَلِكَ فَيَقُولُ هَبْ هَذَا لِي وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ يَجْرِي بَيْنَهُمَا وَلَعَلَّ الْمَسْئُولَ يُحِبُّ أَنْ يَسْأَلَهُ أَخُوهُ ذَلِكَ قَالَ أَكْرَهُ الْمَسْأَلَةَ كُلَّهَا وَلَمْ يُرَخِّصْ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ بَيْنَ الْأَبِ وَالْوَلَدِ أَيْسَرُ، وَذَلِكَ أَنَّ فَاطِمَةَ قَدْ أَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَأَلَتْهُ وَنَقَلَ عَنْهُ يَعْقُوبُ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ هَانِئٍ وَالْفَضْلُ نَحْوَ ذَلِكَ. وَمِنْ الْمَسْأَلَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَهِيَ وَاقِعَةٌ كَثِيرًا سُؤَال رَبِّ الدَّيْنِ وَضْعَ شَيْءٍ مِنْ دَيْنِهِ نَصَّ عَلَيْهِ قَالَ فِي رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ لَا تُعْجِبُنِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَحِلُّ الْمَسْأَلَةُ إلَّا لِثَلَاثٍ» قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَإِنْ أَخَذَ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ إنَّمَا أَعْطَاهُ حَيَاءً لَمْ يَجُزْ لَهُ الْأَخْذُ وَيَجِبُ رَدُّهُ إلَى صَاحِبِهِ وَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا صَرَّحَ بِهَذَا غَيْرُهُ وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ؛ لِأَنَّ الْمَقَاصِدَ عِنْدَنَا فِي الْعُقُودِ مُعْتَبَرَةٌ. وَعُمُومُ كَلَامِ غَيْرِهِ يُخَالِفُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ أَحْمَدُ ثَنَا إسْمَاعِيلُ ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ وَأَبِي الدَّهْمَاءِ وَكَانَا يُكْثِرَانِ السَّفَرَ نَحْوَ الْبَيْتِ قَالَا: أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْل الْبَادِيَةِ فَقَالَ الْبَدَوِيُّ أَخَذَ بِيَدِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَعَلَ يُعَلِّمُنِي مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ وَقَالَ «إنَّك لَنْ تَدَعَ شَيْئًا اتِّقَاءَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إلَّا أَعَطَاك اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ» . وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ سُوَيْد بْنِ نَصْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ قَالَ ثَنَا أَبُو قَتَادَةَ وَأَبُو الدَّهْمَاءِ وَذَكَرَهُ، إسْنَادٌ جَيِّدٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «اُنْظُرُوا إلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَا تَنْظُرُوا إلَى مَنْ فَوْقَكُمْ فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو «خَصْلَتَانِ مَنْ كَانَتَا فِيهِ كَتَبَهُ اللَّهُ شَاكِرًا صَابِرًا» الْحَدِيثُ وَفِيهِ الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ وَهُوَ ضَعِيفٌ.

فصل في سؤال المرء لمنفعة غيره وعدم استحسان أحمد له

[فَصْلٌ فِي سُؤَالِ الْمَرْءِ لِمَنْفَعَةِ غَيْرِهِ وَعَدَمِ اسْتِحْسَانِ أَحْمَدَ لَهُ] ُ) وَأَمَّا مَسْأَلَةُ غَيْرِهِ لِغَيْرِهِ لَا لِنَفْسِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَنَقَلَ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُد عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَسُئِلَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ كَلِّمْ لِي فُلَانًا فِي صَدَقَةٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ غَزْوٍ قَالَ: لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَتَكَلَّمَ لِنَفْسِهِ فَكَيْفَ لِغَيْرِهِ؟ ثُمَّ قَالَ التَّعْرِيضُ أَعْجَبُ إلَيَّ. وَنَقَلَ غَيْرُهُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ رُبَّمَا يُكَلِّفُهُ قَوْمٌ أَنْ يَجْمَعَ أَمْوَالًا فَيَشْتَرِي أُسَارَى أَوْ يَصْرِفُهُ فِي أَشْبَاهِ ذَلِكَ قَالَ نَفْسُهُ أَوْلَى بِهِ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَهُ: وَنَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ امْرَأَةٍ مَاتَ زَوْجُهَا بِالثَّغْرِ وَلَيْسَ لَهَا ثَمَّ أَحَدٌ فَتَرَى أَنْ أُكَلِّمَ قَوْمًا يُعِينُونِي حَتَّى أُجْهِزَ عَلَيْهَا وَأَجِيءَ بِهَا قَالَ لَيْسَ هَذَا عَلَيْكَ وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ. وَنَقَلَ حَرْبٌ عَنْهُ فِي الرَّجُلِ يَقُومُ فِي الْمَسْجِدِ فَيَسْأَلْ الرَّجُلَ فَيَجْمَعُ لَهُ دَرَاهِمَ فَرَخَّصَ فِيهِ، وَنَقَلَ أَنَّ شُعْبَةَ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَكَذَا نَقَلَ عَنْهُ إبْرَاهِيمُ وَيَعْقُوبُ. وَنَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَسْأَلُ لِلرَّجُلِ الْمُحْتَاجِ قَالَ لَا وَلَكِنْ يُعَرِّضُ. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ «الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَثَّ الصَّدَقَةَ وَلَمْ يَسْأَلْ» وَهَذَا مَعْنَى مَا نَقَلَ الْأَثْرَمُ وَابْنُ مَنْصُورٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَرْبٍ. وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ رُبَّمَا سَأَلَ رَجُلًا فَمَنَعَهُ فَيَكُونُ فِي نَفْسِهِ عَلَيْهِ

وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَاَلَّذِي تَحَصَّلَ مِنْ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَوَازُ التَّعْرِيضِ وَفِي جَوَازِ السُّؤَالِ رِوَايَتَانِ فَإِنْ أَعْطَاهُ غَيْرُهُ شَيْئًا لِيُفَرِّقَهُ، فَهَلْ الْأَوْلَى أَخْذُهُ أَوْ عَدَمُهُ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ تَقَدَّمَتَا حَسَّنَ عَدَمَ الْأَخْذِ فِي رِوَايَةٍ وَأَخَذَ هُوَ وَفَرَّقَ فِي رِوَايَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل في أفضل المعاش والتجارة وأحسن الحرف والصناعات

[فَصْلٌ فِي أَفْضَلِ الْمَعَاشِ وَالتِّجَارَةِ وَأَحْسَنِ الْحِرَفِ وَالصِّنَاعَاتِ] ِ) أَفْضَلُ الْمَعَاشِ التِّجَارَةُ وَأَفْضَلُهَا فِي الْبَزِّ وَالْعِطْرِ وَالزَّرْعِ وَالْغَرْسِ وَالْمَاشِيَةِ وَأَنْقَصُهَا فِي الصَّرْفِ ذَكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى وَقَالَ فِيهَا فِي مَوْضُوعٍ آخَرُ: أَفْضَلُ الصَّنَائِعِ الْخِيَاطَةُ وَأَدْنَاهَا الْحِيَاكَةُ وَالْحِجَامَةُ وَنَحْوُهُمَا وَأَشَدُّهَا كَرَاهَةُ الصَّبْغِ وَالصِّيَاغَةِ وَالْحِدَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الصَّنَائِعِ الدَّنِيَّةِ وَقَالَ فِيهَا أَيْضًا وَيُكْرَهُ كَسْبُ الْحَجَّامِ وَالْفَاصِدِ وَنَحْوُهُ وَعَسْبُ الْفَحْلِ وَالْمَاشِطَةُ وَنَحْوُهُ النَّائِحَةُ وَالْبَلَّانُ وَالْمُزَيِّنُ وَالْجَرَائِحِيُّ وَالصَّائِغُ وَالصَّبَّاغُ وَالْحَدَّادُ وَقِيلَ وَالْبَيْطَارُ وَنَحْوُهُ ذَلِكَ وَرَوَى الْخَلَّالُ أَنَّ امْرَأَةً مَاشِطَةً جَمَعَتْ مَالًا مِنْ ذَلِكَ فَجَاءَتْ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَتْ أُرِيدُ أَنْ أَحُجَّ؟ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَا تَحُجِّي بِهِ، لَيْسَ هَهُنَا أَحَلّ مِنْ الْغَزْلِ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ كَسْبِ الْمَاشِطَةِ أَتَحُجُّ مِنْهُ قَالَ لَا غَيْرُهُ أَطْيَبُ مِنْهُ وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ سَمِعْت امْرَأَةً تَقُولُ جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُمَشِّطُونَ فَقَالَتْ إنِّي أَصِلُ رَأْسَ الْمَرْأَةِ بِقَرَامِلَ وَأُمَشِّطُهَا أَتَرَى أَنْ أَحُجَّ مِمَّا أَكْتَسِبُ؟ فَقَالَ لَا وَكَرِهَ كَسْبَهَا لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ تَكُونُ مِنْ مَالٍ أَطْيَبَ مِنْهُ، وَكَلَامُهُ فِي الْمُغْنِي يَقْتَضِي أَنَّ الْفَصْدَ وَنَحْوَهُ لَا كَرَاهِيَةَ فِيهِ وَأَنَّ الْحُكْمَ يَخْتَصُّ بِالْحِجَامَةِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي الصَّيْدِ اتَّفَقُوا أَنَّ مَكَاسِبَ الصُّنَّاعِ مِنْ الصِّنَاعَاتِ الْمُبَاحَةِ حَلَالٌ وَاخْتَلَفُوا فِي كَسْبِ الْحَجَّامِ وَذَكَرَ فِي الرِّعَايَةِ وَغَيْرِهَا أَنَّهُ يُكْرَهُ كَسْبُ الْحَمَّامِيُّ قَالَ وَحَمَّامِيَّةُ النِّسَاءِ أَشَدُّ كَرَاهَةً وَذَكَرَ الْأَزَجِيُّ فِي نِهَايَتِهِ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الْحَمَّامِيَّ لَا يُكْرَهُ كَسْبُهُ

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ أَشْرَفَ الْكَسْبِ الْغَنَائِمُ وَمَا أُوجِفَ عَلَيْهِ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ إذَا سَلِمَ مِنْ الْغُلُولِ وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الْجِهَادَ تِجَارَةً مُنْجِيَةً مِنْ عَذَابِ اللَّهِ الْأَلِيمِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَفْضَلُ الْكَسْبِ عَمَلُ الْيَدِ وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ» وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «أَفْضَلُ الْكَسْبِ كَسْبُ الصَّانِعِ بِيَدِهِ إذَا صَحَّ» . وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ «مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَعْرَابِيٍّ وَهُوَ يَبِيعُ شَيْئًا فَقَالَ عَلَيْك بِأَوَّلِ سَوْمَةٍ أَوْ قَالَ أَوَّلَ السَّوْمِ فَإِنَّ الرِّبْحَ مَعَ السَّمَاحِ» وَقِيلَ لِلزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِمَ بَلَغْتَ هَذَا الْمَالَ قَالَ إنِّي لَمْ أَرُدُّ رِبْحًا وَلَمْ أَسْتُرْ عَيْبًا. وَقَالَ مُعَاوِيَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِقَوْمٍ مَا تِجَارَتُكُمْ؟ قَالُوا بَيْعُ الرَّقِيقِ قَالَ بِئْسَ التِّجَارَةُ، ضَمَانُ نَفْسٍ، وَمُؤْنَةُ ضِرْسٍ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَحْسَن مَا يَكُونُ فِي عَيْنِك وَقَالَ أَيْضًا إذَا اشْتَرَيْت بَعِيرًا فَاشْتَرِهِ ضَخْمًا فَإِنْ لَمْ تُوَافِقْ كَرَمًا وَافَقْت لَحْمًا، وَأَنْشَدَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَلَا كُلُّ مَنْ يُهْدَى لَهُ الْبَيْعُ يُرْزَقُ ... وَقَدْ يُصْلِحُ الْمَالَ الْقَلِيلَ التَّرَفُّقُ وَلِمَنْصُورٍ الْفَقِيهِ: بُنَيَّةُ لَا تَجْزَعِي وَاصْبِرِي ... عَسَاك بِصَبْرِك أَنْ تَظْفَرِي فَلَوْ نَالَ يَوْمًا أَبُوكِ الْغِنَى ... كَسَاكِ الدِّبَيْقَى وَالتُّسْتَرِيّ وَلَكِنْ أَبُوك اُبْتُلِيَ بِالْعُلُومِ ... فَمَا أَنْ يَبِيعَ وَلَا يَشْتَرِي وَرَوَى أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ عُمَرَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «قَدْ أَعْطَيْت خَالَتِي غُلَامًا وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يُبَارِكَ اللَّهُ لَهَا فِيهِ، وَقَدْ نَهَيْتهَا أَنْ تَجْعَلَهُ حَجَّامًا أَوْ قَصَّابًا أَوْ صَائِغًا» . قَالَ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ ثَنَا هَمَّامٌ عَنْ فَرْقَدٍ السَّبَخِيِّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أَكْذَبُ النَّاسِ الصَّبَّاغُونَ وَالصَّوَّاغُونَ» فِيهِ ضَعْفٌ، وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي الضُّعَفَاءِ وَابْنُ عَدِيٍّ وَغَيْرُهُمْ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ

- رَحِمَهُ اللَّهُ - بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمْ يَعِدُ وَيُخْلِفُ قَالَ وَقِيلَ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ مِنْ الْأَصْبَاغِ مَا لَا يُمْكِنُهُ صَبْغُهُ فَإِذَا تَحَرَّى الْوَاحِدُ مِنْهُمْ الصِّدْقَ وَالثِّقَةَ فَلَا طَعْنَ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَيُكْرَهُ تَعَمُّدُ الصَّنَائِعِ الرَّدِيئَةِ مَعَ إمْكَانِ مَا هُوَ أَصْلَحُ مِنْهَا وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ جَزَّارًا؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ قَسَاوَةَ الْقَلْبِ أَوْ حَجَّامًا أَوْ كَنَّاسًا لِمَا فِيهِ مِنْ مُبَاشَرَةِ النَّجَاسَةِ، وَفِي مَعْنَاهُ الدَّبَّاغُ انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ الْمَرْوَزِيُّ سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ كَسْبِ الْحَجَّامِ فَكَرِهَهُ وَقَالَ لَوْلَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهُ مَا أَعْطَيْنَاهُ قَالَ ابْنُ حَمْدَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ بَلَدٍ طَبِيبٌ وَكَحَّالٌ وَجَرَائِحِيٌّ وَطَحَّانٌ وَخَبَّازٌ وَلَحَّامٌ وَطَبَّاخٌ وَشَوَّاءٌ وَبَيْطَارٌ وَإِسْكَافٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الصَّنَائِعِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهَا غَالِبًا كَتِجَارَةٍ وَقَصَّارَةٍ وَمُكَارَاةٍ وَوَارِقَةٍ. قَالَ الْقَاضِي يُسْتَحَبُّ إذَا وَجَدَ الْخَيْرَ فِي نَوْعٍ مِنْ التِّجَارَةِ أَنْ يَلْزَمَهُ وَإِنْ قَصَدَ إلَى جِهَةٍ مِنْ التِّجَارَةِ فَلَمْ يُقْسَمْ لَهُ فِيهِ رِزْقٌ عَدَلَ إلَى غَيْرِهِ لِمَا رَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ مَرْفُوعًا «إذَا رُزِقَ أَحَدُكُمْ فِي الْوَجْهِ مِنْ التِّجَارَةِ فَلْيَلْزَمْهُ» . وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ مَنْ اتَّجَرَ فِي شَيْءٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمْ يُصِبْ مِنْهُ شَيْئًا فَلْيَتَحَوَّلْ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كَانَ يُقَالُ إذَا لَمْ يُرْزَقْ الْإِنْسَانُ بِبَلْدَةٍ فَلْيَتَحَوَّلْ إلَى أُخْرَى قَالَ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ مَنْ كَانَ لَهُ رِزْقٌ فِي شَيْءٍ فَلْيَلْزَمْهُ قَالَ وَقَالَ مَالِكٌ سَمِعْت أَهْلَ مَكَّةَ يَقُولُونَ مَا مِنْ أَهْل بَيْتٍ فِيهِمْ مَنْ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ إلَّا رُزِقُوا وَرُزِقَ خَيْرًا.

قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَالْمُسْتَحَبُّ مِنْهَا الْبَزُّ لِمَا رَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَشَارَهُ رَجُلٌ فِي الْبُيُوعِ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالْبَزِّ وَقَالَ إنَّك إذَا عَالَجْت الْبَزَّ أَحْبَبْت الْخِصْبَ لِلْمُسْلِمِينَ وَكَذَا وَكَذَا» وَعَدَّ أَشْيَاء وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَوْ تَبَايَعُوا وَلَا يَتَبَايَعُونَ مَا تَبَايَعُوا إلَّا الْبَزَّ» قَالَ وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لَوْ كُنْت تَاجِرًا مَا اخْتَرْت غَيْرَ الْعِطْرِ إنْ فَأْتِنِي رِبْحُهُ لَمْ يَفُتْنِي رِيحُهُ. وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ مَرْفُوعًا «أَجْمِلُوا فِي طَلَبِ الدُّنْيَا فَإِنَّ كُلًّا مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ الْمَدَنِيِّ وَهُوَ عَنْ غَيْرِ الشَّامِيِّينَ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِ وَلِابْنِ مَاجَهْ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا «اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ» . وَرَوَى ابْن حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ عَنْ خَالِد بْنِ يَزِيدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ عَنْ يُونُسَ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيْسَ مِنْ عَمَلٍ يُقَرِّبُكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ إلَّا قَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَلَا عَمَلٍ يُقَرِّبُ مِنْ النَّارِ إلَّا قَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، وَلَا يَسْتَبْطِئَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَلْقَى فِي رَوْعِي أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يَخْرُجَ مِنْ الدُّنْيَا حَتَّى يَسْتَكْمِلَ رِزْقَهُ، فَاتَّقُوا اللَّهَ أَيُّهَا النَّاس وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ فَإِنْ اسْتَبْطَأَ أَحَدُكُمْ رِزْقَهُ فَلَا يَطْلُبُهُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُنَالُ فَضْلُهُ بِمَعْصِيَتِهِ» . وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو عَنْ الْمُطَّلِبِ بْنِ حَنْطَبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلًا وَأَظُنُّ ابْنَ مَاجَهْ رَوَى مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَمِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ بُورِكَ لَهُ فِي شَيْءٍ فَلْيَلْزَمْهُ» أَوْ هَذَا الْمَعْنَى. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا «لَا تَتَّخِذُوا الضَّيْعَةَ فَتَرْغَبُوا فِي الدُّنْيَا» . إسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ قَالَ فِي النِّهَايَةِ الضَّيْعَةُ فِي الْأَصْلِ الْمَرَّةُ مِنْ الضَّيَاعِ وَضَيْعَةُ الرَّجُلِ فِي هَذَا مَا يَكُونُ مِنْهُ مَعَاشُهُ كَالصَّنْعَةِ

وَالتِّجَارَةِ وَالزِّرَاعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «أَفْشَى اللَّهُ ضَيْعَتَهُ» أَيْ أَكْثَرَ عَلَيْهِ مَعَاشَهُ. وَمِنْهُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ «لَا تَتَّخِذُوا الضَّيْعَةَ فَتَرْغَبُوا فِي الدُّنْيَا» . وَقَالَ الشَّيْخُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى الْأَزَجِيُّ الْحَنْبَلِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ النِّهَايَةِ لَهُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَطْيَبِ الِاكْتِسَابِ فَقَالَ قَوْمٌ الزِّرَاعَةُ وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَهُوَ الْأَشْبَهُ عِنْدِي لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِسْلَامِ لِقَضَاءِ اللَّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَهُوَ خَارِجٌ مِنْ بَرَكَةِ الْأَرْضِ فَهُوَ أَبْعَدُ مِنْ الشُّبْهَةِ وَقَالَ قَوْمٌ التِّجَارَةُ أَطْيَبُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَرَّحَ بِإِحْلَالِ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ، وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا يَتَعَاطَوْنَ التَّكَسُّبَ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ غَالِبًا وَقَالَ قَوْمٌ الْكَسْبُ بِالصِّنَاعَةِ أَطْيَبُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَحَلُّ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ» وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُبَاشِرُ الْعَمَلَ فِيهَا بِكَدِّ يَدِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ عَبَّاسُ الدَّوْرِيُّ سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَل - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ وَسُئِلَ عَنْ الدَّقَّاقِينَ فَقَالَ: إنَّ أَمْوَالًا جُمِعَتْ مِنْ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ إنَّهَا لَأَمْوَالُ سَوْءٍ، وَالظَّاهِر أَنَّ الْمُرَادَ بِالدَّقَّاقِينَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الَّذِينَ يَتَّجِرُونَ فِي الدَّقِيقِ وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ احْتِكَارِ الْأَقْوَاتِ وَإِرَادَةِ غَلَائِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ سَبَبٌ فِي إضْرَارِ الْمَعْصُومِينَ وَهُوَ ضَرَرٌ عَامٌّ فَالْأَمْوَالُ الْمَجْمُوعَةُ مِنْ التِّجَارَةِ فِي ذَلِكَ أَمْوَالُ سَوْءٍ وَاحْتَجَّ بِهِ الْقَاضِي عَلَى كَرَاهَةِ التِّجَارَةِ فِي الْقُوتِ وَالطَّعَامِ. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِي الدِّين يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُحِبَّ غُلُوَّ أَسْعَارِ الْمُسْلِمِينَ وَيُكْرَهُ الرُّخْصُ وَيُكْرَهُ الْمَالُ الْمَكْسُوبُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الْأَئِمَّةِ إنَّ مَالًا جُمِعَ مِنْ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ لَمَالُ سَوْءٍ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ جُنْدَبٍ مَرْفُوعًا «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يُشَاقِقْ يُشْقِقْ اللَّهُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالُوا أَوْصِنَا قَالَ إنَّ أَوَّلَ مَا يُنْتِنُ مِنْ الْإِنْسَانِ بَطْنُهُ فَمَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَأْكُل إلَّا طَيِّبًا فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِلْءَ كَفٍّ مِنْ دَمٍ أَهْرَاقَهُ فَلْيَفْعَلْ» .

فصل إشارات نبوية إلى ما يقع من شرق المدينة ويمنها ونجدها

[فَصْلٌ إشَارَاتٌ نَبَوِيَّةٌ إلَى مَا يَقَعُ مِنْ شَرْقِ الْمَدِينَةِ وَيُمْنِهَا وَنَجْدِهَا] ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «رَأْسُ الْكَفْرِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي أَهْلِ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَالْفَدَّادِينَ مِنْ أَهْلِ الْوَبَرِ، وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ» . وَفِي رِوَايَةِ «الْإِيمَانُ يَمَانِي» وَلِلْبُخَارِيِّ «وَالْفِتْنَةُ مِنْ هَهُنَا حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ» وَلِمُسْلِمٍ «وَالْفَخْرُ وَالرِّيَاءُ فِي الْفَدَّادِينَ أَهْلِ الْخَيْلِ وَالْوَبَرِ» . وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ مُسْتَقْبِلُ الْمَشْرِقِ «هَا إنَّ الْفِتْنَةَ هُنَا ثَلَاثًا» وَلِلْبُخَارِيِّ «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي يَمَنِنَا قَالُوا وَفِي نَجْدِنَا قَالَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي يَمَنِنَا قَالُوا وَفِي نَجْدِنَا فَأَظُنُّهُ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ هُنَاكَ الزَّلَازِلُ وَالْفِتَنُ وَمِنْهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ» رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمُ. وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، وَفِي صَاعِنَا، وَفِي مُدِّنَا وَيَمَنِنَا وِشَامِنَا ثُمَّ اسْتَقْبَلَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ فَقَالَ مِنْ هَهُنَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ وَقَالَ وَمِنْ هَهُنَا الزَّلَازِلُ وَالْفِتَنُ» . الْفَدَّادُونَ بِالتَّشْدِيدِ الَّذِينَ تَعْلُوا أَصْوَاتُهُمْ فِي حُرُوبِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ وَاحِدُهُمْ فَدَّادٌ يُقَالُ فَدَّ الرَّجُلُ يَفِدُّ فَدِيدًا إذَا اشْتَدَّ صَوْتُهُ. وَقِيلَ بِالتَّخْفِيفِ وَهِيَ الْبَقَرُ الَّتِي تَحْرُثُ وَاحِدُهَا فَدَّانٌ بِالتَّشْدِيدِ وَإِنَّمَا أَضَافَ الْيَمَان إلَى الْيَمِينِ لِأَنَّهُ ظَهَرَ مِنْ مَكَّةَ وَهِيَ تُسَمَّى الْكَعْبَةَ الْيَمَانِيَّةَ.

فصل حديث الحث على تعليم المرأة الكتابة وحديث النهي عنه موضوع

[فَصْلٌ حَدِيثُ الْحَثِّ عَلَى تَعْلِيمِ الْمَرْأَةِ الْكِتَابَةَ وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْهُ مَوْضُوعٌ] ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ أَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ كَالرَّجُلِ وَذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَنْقُولِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ فِي مُسْنَدِهِ ثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مَهْدِيٍّ ثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ عَنْ الشِّفَاءِ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا عِنْدَ حَفْصَةَ فَقَالَ أَلَا تُعَلِّمِينَ هَذِهِ رُقْيَةَ النَّمْلَةِ كَمَا عَلَّمْتهَا الْكِتَابَةَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِهَذَا الْإِسْنَادِ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ، وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ حَفْصَةَ مِنْ مُسْنَدِهَا وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ قَالَ إبْرَاهِيمُ بِهَذَا حَدَّثَ أَوْ حَدَّثَتْ بِهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فَقَالَ: هَذَا رُخْصَةٌ فِي تَعْلِيمِ النِّسَاءِ الْكِتَابَةَ ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ فِي الْأَدَبِ. وَقَالَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ فِي الْمُنْتَقَى وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَعَلُّمِ النِّسَاءِ الْكِتَابَةَ، وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ الشَّامِيِّ ثَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ هِشَامِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُسْكِنُوهُنَّ الْغُرَفَ وَلَا تُعَلِّمُونَهُنَّ الْكِتَابَةَ وَعَلِمُوهُنَّ الْغَزْلَ وَسُورَةَ النُّورِ» وَهُوَ خَبَرٌ ضَعِيفٌ فَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إبْرَاهِيمَ كَذَّبَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ عَامَّةُ أَحَادِيثِهِ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ يَضَع الْحَدِيثَ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «لَا تُعَلِّمُوا نِسَاءَكُمْ الْكِتَابَةَ وَلَا تُسْكِنُوهُنَّ الْعَلَالِيَّ» وَقَالَ «خَيْرُ لَهْوِ الْمُؤْمِنِ النِّسَاجَةُ، وَخَيْرُ لَهْوِ الْمَرْأَةِ الْغَزْلُ» فِي سَنَدِهِ جَعْفَرُ بْنُ نَصْرٍ وَهُوَ مُتَّهَمٌ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ فِي الْمَوْضُوعَاتِ، وَذَكَرَ خَبَرَ عَائِشَةَ فِي تَفْسِيرِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النُّورِ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَا تُسْكِنُوا نِسَاءَكُمْ الْغُرَفَ وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ الْكِتَابَةَ وَاسْتَعِينُوا عَلَيْهِنَّ بِالْعُرَى وَقَالَ أَيْضًا، اسْتَعِيذُوا بِاَللَّهِ مِنْ شِرَارِ النِّسَاءِ وَكُونُوا مِنْ خِيَارِهِنَّ عَلَى حَذَرٍ.

فصل رجل اكتسب مالا من شبهة

[فَصْلٌ رَجُلٌ اكْتَسَبَ مَالًا مِنْ شُبْهَةٍ] (فَصْلٌ) قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَد رَحِمَهُمَا اللَّهُ سَأَلْت أَبِي عَنْ رَجُلٍ اكْتَسَبَ مَالًا مِنْ شُبْهَةٍ: صَلَاتُهُ وَتَسْبِيحُهُ تَحُطُّ عَنْهُ مِنْ مَأْثَمِ ذَلِكَ؟ فَقَالَ إنْ صَلَّى وَسَبَّحَ يُرِيدُهُ بِذَلِكَ، فَأَرْجُو، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102] . [فَصْلٌ فِتَنِ الْمَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْبَدَاوَةِ وَالْأُمَرَاءِ الْمُضِلِّينَ وَالْعُلَمَاءِ الْمُنَافِقِينَ] (فِي فِتَنِ الْمَالِ وَالثَّرَاءِ وَالنِّسَاءِ وَالْبَدَاوَةِ وَالْأُمَرَاءِ الْمُضِلِّينَ وَالْعُلَمَاءِ الْمُنَافِقِينَ) قَدْ صَحَّ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةٌ، وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ» وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ الدِّينَارَ وَالدِّرْهَمَ أَهْلَكَا مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَإِنَّهُمَا مُهْلِكَاكُمْ» . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لِكُلِّ أُمَّةٍ صَنَمٌ يَعْبُدُونَهُ وَصَنَمُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الدِّينَارُ وَالدِّرْهَمُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عُقْبَةَ مَرْفُوعًا «وَاَللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي، وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا فَتَهْلِكُوا كَمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ» . وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا «إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا قَالُوا وَمَا زَهْرَةُ الدُّنْيَا قَالَ بَرَكَاتُ الْأَرْضِ فَقَالَ رَجُلٌ أَوَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ قَالَ أَوَخَيْرٌ هُوَ؟ ثَلَاثًا إنَّ الْخَيْرَ لَا يَأْتِي إلَّا بِالْخَيْرِ وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ إلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ فَإِنَّهَا أَكَلَتْ حَتَّى إذَا امْتَلَأَتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ ثُمَّ اجْتَرَّتْ فَعَادَتْ فَأَكَلَتْ، وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ وَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ هُوَ لِمَنْ أَعْطَى مِنْهُ الْمِسْكِينَ وَالْيَتِيمَ

وَابْنَ السَّبِيلِ أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَاَلَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ وَيَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . قَوْلُهُ اجْتَرَّتْ أَيْ مَضَغَتْ جِرَّتَهَا بِكَسْرِ الْجِيمِ مَا يُخْرِجُهُ الْبَعِيرُ مِنْ بَطْنِهِ فَيَمْضُغُهُ ثُمَّ يَبْلَعُهُ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ «فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ» . وَرَوَى أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَقِيلٍ وَحَدِيثُهُ حَسَنٌ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي عَمَلُ قَوْمِ لُوطٍ» : وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ إنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَصَحَّ أَيْضًا عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا تَرَكْت فِتْنَةً أَضُرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ. وَعَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا «لَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي إلَّا اللَّبَنَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ بَيْنَ الرَّغْوَةِ وَالصَّرِيحِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ الصَّرِيحُ الْخَالِصُ مِنْ اللَّبَنِ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَالْمُرَادُ أَنَّ الشَّيْطَانَ يُحَبِّبُ إلَيْهِمْ اللَّبَنَ فَيَخْرُجُونَ إلَى الْبَادِيَةِ وَيَتْرُكُونَ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ مُحْتَجًّا بِهِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي قُنْبُلٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا «هَلَاكُ أُمَّتِي فِي الْكِتَابِ وَاللَّبَنِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْكِتَابُ وَاللَّبَنُ قَالَ يَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ وَيَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَيُحِبُّونَ اللَّبَنَ وَيَتْرُكُونَ الْجَمَاعَاتِ وَالْجُمَعَ وَيَبْدُونَ» احْتَجَّ بِهِ الْبَيْهَقِيّ فِي كِتَابِ الْمَدْخَلِ لِكِتَابِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّ الْعَامَّ عَلَى عُمُومِهِ وَالظَّاهِرَ عَلَى ظَاهِرِهِ حَتَّى يَرِدَ دَلِيلٌ. وَاحْتَجَّ أَيْضًا بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَرَوَى أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الشِّرْكَ الْأَصْغَرَ قَالُوا وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ قَالَ: الرِّيَاءُ» . وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ شَيْءٍ أَخْوَفُ عَلَى أُمَّتِك مِنْ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ قَالَ: الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ لَهَيْعَةَ. وَرَوَى أَيْضًا ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: قَالَ مَعْمَرٌ أَخْبَرَنِي أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيِّ عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ

الرَّحَبِيِّ عَنْ شَدَّادٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنِّي لَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي إلَّا الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ فَإِذَا وُضِعَ السَّيْفُ فِي أُمَّتِي لَمْ يُرْفَعْ عَنْهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» إسْنَادٌ جَيِّدٌ، وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ. وَلِأَحْمَدَ عَنْ يَزِيدَ وَأَبِي سَعِيدٍ عَنْ دَيْلَمِ بْنِ غَزْوَانَ ثَنَا مَيْمُونُ الْكُرْدِيُّ حَدَّثَنِي أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ عَنْ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ» حَدِيثٌ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ مَوْقُوفٌ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ وَزَادَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ " يَتَكَلَّمُ بِالْحِكْمَةِ وَيَعْمَلُ بِالْجَوْرِ ". وَعَنْ عُمَرَ أَيْضًا قَالَ كُنَّا نَتَحَدَّثُ إنَّمَا يُهْلِكُ هَذِهِ الْأُمَّةَ كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمُ اللِّسَانِ. رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ رِوَايَةِ مُؤَمَّلِ بْنِ إسْمَاعِيلَ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَلِأَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنْ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ؟ قُلْنَا بَلَى قَالَ: الشِّرْكُ الْخَفِيُّ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ فَيُصَلِّي فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ» . وَعَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ الْعَرْزَمِيِّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي كَاهِلٍ عَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا «أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا هَذَا الشِّرْكَ فَإِنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ فَقَالَ لَهُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ فَكَيْفَ نَتَّقِيهِ وَهُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ قَالَ فَقُولُوا اللَّهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِك أَنْ نُشْرِكَ بِك شَيْئًا نَعْلَمُهُ، وَنَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا نَعْلَمُ» رَوَاهُ أَحْمَد.

فصل التعامل فيما يختلف الاعتقاد فيه من حلال المال وحرامه كالنجاسات

[فَصْلٌ التَّعَامُلُ فِيمَا يَخْتَلِفُ الِاعْتِقَادُ فِيهِ مِنْ حَلَالِ الْمَالِ وَحَرَامِهِ كَالنَّجَاسَاتِ] ِ) إذَا اكْتَسَبَ الرَّجُلُ مَالًا بِوَجْهٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ مِثْلِ بَعْضِ الْبُيُوعِ وَالْإِجَارَاتِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا فَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ أَنْ يُعَامِلَهُ بِذَلِكَ الْمَالِ؟ الْأَشْبَهُ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ فِيمَا لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَهُ إذْ هَذِهِ الْعُقُودُ لَيْسَتْ بِدُونِ بَيْعِ الْكُفَّارِ لِلْخَمْرِ وَقَدْ جَازَ لَنَا مُعَامَلَتُهُمْ بِأَثْمَانِهَا لِلْإِقْرَارِ عَلَيْهَا، فَإِقْرَارُ الْمُسْلِمِ عَلَى اجْتِهَادِهِ أَوْ تَقْلِيدِهِ أَجْوَزُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا اعْتَقَدَ الْجَوَازَ وَاشْتَرَى فَالْمَالُ فِي حَقِّهِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ انْتَقَلَ هَذَا الْمَالُ إلَى غَيْرِهِ بِإِرْثٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ هَدِيَّةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَك مَهْنَؤُهُ وَعَلَيْهِ مَأْثَمُهُ، وَبِذَلِكَ أَفْتَيْتُ فِي الْمَالِ الْمَوْرُوثِ، وَكَذَلِكَ قَبُولُ الْعَطَاءِ الْمَوْرُوثِ إذَا كَانَ الْمَيِّتُ يُعَامِلُ الْمُعَامَلَاتِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا، وَكَذَلِكَ قَبُولُ الْعَطَاءِ مِنْ السُّلْطَانِ الْمُتَأَوِّلِ فِي بَعْضِ مَجْنَاهُ وَآخِذُهُ الْمُكْتَسِبُ إذَا قَبَضَ يَبِيعُ تِجَارَةً بِاجْتِهَادٍ أَوْ تَقْلِيدٍ ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ التَّحْرِيمُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ قَبْلَ بُلُوغِ الْخِطَابِ. وَعَلَى إعَادَةِ مَنْ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ أَوْ صَلَّى فِي أَعْطَانِهَا وَرَجَّحْت فِي هَذَا كُلِّهِ وُجُوبَ الْإِعَادَةِ وَعَدَمِ التَّحْرِيمِ فَقَدْ يُقَالُ إقْرَارُ مَا اكْتَسَبَهُ لَهُ كَأَخْذِهِ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا أَنَّ إقْرَارَ الْحَاكِمِ لِحُكْمِ نَفْسِهِ كَإِقْرَارِهِ لِحُكْمِ غَيْرِهِ وَنَقْضِهِ كَنَقْضِهِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا يَتَبَيَّنُ لَهُ مِنْ فِعْلِ نَفْسِهِ وَفِعْلِ غَيْرِهِ فَيُخَرَّجُ فِي الْجَمِيعِ رِوَايَتَانِ وَيُشْبِهُ هَذَا مِنْ وَجْهٍ إذَا ائْتَمَّ الْمَأْمُومُ بِإِمَامٍ أَخَلَّ بِرُكْنٍ أَوْ فَعَلَ مُبْطِلًا فِي مَذْهَبِ الْمَأْمُومِ دُونَ الْإِمَامِ وَأَصْحَابُنَا مِنْهُمْ مِنْ يَحْكِي رِوَايَتَيْنِ وَمِنْهُمْ مِنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا لَمْ يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِيهِ. وَالصَّوَابُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ فَإِنَّ بِنَاءَ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ عَلَى صَلَاةِ الْإِمَامِ كَبِنَاءِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ، هَذَا كُلُّهُ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: وَمِنْ ذَلِكَ مَا اسْتَحَلَّهُ الْإِنْسَانُ مِمَّا يَعْتَقِدُهُ غَيْرُهُ

خَبِيثًا مِنْ النَّجَاسَاتِ وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي مَائِعٍ مِثْلُ أَنْ يَغْمِسَ الْمَالِكِيُّ يَدَهُ فِي مَائِعٍ وَلَغَ فِيهِ كَلْبٌ، ثُمَّ يَضَعهَا فِي مَائِعِ الْإِنْسَانِ، أَوْ يَضَعَ يَدَهُ الرَّطْبَةَ عَلَى فَرْوَةٍ مَدْبُوغَةٍ، ثُمَّ يَضَعَهَا فِي مَائِعٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِحَيْثُ تَكُونُ يَدُ الْإِنْسَانِ، أَوْ ثَوْبُهُ وَإِنَاؤُهُ طَاهِرًا فِي اعْتِقَادِهِ فَيُلَاقِي مَائِعًا لِغَيْرِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل في الكذب في المال والسن وافتخار الضرة ونحوه

[فَصْلٌ فِي الْكَذِبِ فِي الْمَالِ وَالسِّنِّ وَافْتِخَارِ الضَّرَّةِ وَنَحْوِهِ] ِ) وَمِنْ النَّاسِ مَنْ إذَا سُئِلَ عَنْ مِقْدَارِ مَا يَمْلِكُ مِنْ الْمَالِ يُخْبِرُ بِخِلَافِ الْوَاقِعِ وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّهُ كَذِبٌ، وَقَدْ (قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بَابُ الْمُتَشَبِّعِ، بِمَا لَمْ يَنَلْ وَمَا يُنْهَى مِنْ افْتِخَارِ الضَّرَّةِ) ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي ضَرَّةً فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ إنْ تَشَبَّعْتُ مِنْ زَوْجِي غَيْرَ الَّذِي يُعْطِينِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ» وَلِمَا فِيهِ مِنْ جَحْدِ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ إنْ كَانَ إخْبَارُهُ بِأَنْقَصَ وَالْأَوْلَى أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ فِي الْإِخْبَارِ وَعَدَمِهِ وَالْإِخْبَارِ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ وَالتَّوْرِيَةِ فَيَعْمَلُ بِذَلِكَ. وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْد الْبَاقِي الْحَنْبَلِيُّ الْإِمَامُ يَقُولُ مَا مِنْ عِلْمٍ إلَّا وَقَدْ نَظَرْت فِيهِ وَحَصَّلْت مِنْهُ الْكُلَّ أَوْ الْبَعْضَ وَمَا أَعْرِفُ أَنِّي ضَيَّعْت سَاعَةً مِنْ عُمْرَى فِي لَهْوٍ أَوْ لَعِبٍ، وَانْفَرَدَ بِعِلْمِ الْحِسَابِ وَالْفَرَائِضِ وَتَفَقَّهَ عَلَى الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَتُوُفِّيَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائَةِ وَقَدْ تَمَّ لَهُ ثَلَاثٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً وَلَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْ حَوَاسِّهِ شَيْءٌ وَيَقْرَأُ الْخَطَّ الدَّقِيقَ مِنْ بُعْدٍ سُئِلَ مَرَّةً عَنْ عُمْرِهِ فَأَنْشَدَ: احْفَظْ لِسَانَك لَا تَبُحْ بِثَلَاثَةٍ ... سِنٍّ وَمَالٍ مَا عَلِمْت وَمَذْهَبِ فَعَلَى الثَّلَاثَةِ تُبْتَلَى بِثَلَاثَةٍ ... بِمُكَفِّرٍ وَبِحَاسِدٍ وَمُكَذِّبِ وَمِنْ كَلَامِهِ قَالَ يَجِبُ عَلَى الْمُعَلِّمِ أَنْ لَا يُعَنِّفَ، وَعَلَى الْمُتَعَلِّمِ أَنْ لَا يَأْنَفَ وَقَالَ مَنْ خَدَمَ الْمَحَابِرَ، خَدَمَتْهُ الْمَنَابِرُ.

فصل في حد البخل والشح والسخاء

[فَصْلٌ فِي حَدِّ الْبُخْلِ وَالشُّحِّ وَالسَّخَاءِ] ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي حَدِّ الْبُخْلِ أَقْوَالًا وَذَكَرَ الْقَاضِي أَيْضًا فِي كِتَابِهِ الْمُعْتَمَدِ فِي حَدِّ الْبُخْلِ أَقْوَالًا: (أَحَدُهَا) مَنْعُ الزَّكَاةِ فَمَنْ أَدَّاهَا خَرَجَ مِنْ جَوَازِ إطْلَاقِ الْبُخْلِ عَلَيْهِ وَرُوِيَ عَنْ ابْن عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ مَنْ أَدَّى زَكَاةَ مَالِهِ فَلَيْسَ بِبَخِيلِ قَالَهُ رَدًّا عَلَى الْحَجَّاجِ حِينَ نَسَبَهُ إلَى ذَلِكَ (وَالثَّانِي) مَنْعُ الْوَاجِبَاتِ مِنْ الزَّكَاةِ، وَالنَّفَقَةِ فَعَلَى هَذَا لَوْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ وَمَنَعَ غَيْرَهَا مِنْ الْوَاجِبَات عُدَّ بَخِيلًا (وَالثَّالِثُ) فِعْلُ الْوَاجِبَات، وَالْمَكْرُمَاتِ فَلَوْ أَخَلَّ بِالثَّانِي وَحْدَهُ كَانَ بَخِيلًا وَهَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا حَكَاهُ عَنْهُ الْقَاضِي وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «بَرِئَ مِنْ الشُّحِّ مَنْ أَدَّى الزَّكَاةَ وَقَرَى الضَّيْفَ وَأَعْطَى فِي النَّائِبَةِ» فَلَمْ يَنْفِ عَنْهُ وَصْفَ الشُّحِّ إلَّا عِنْدَ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ. وَقَدْ رَوَى هَذَا الْخَبَرَ أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَافِظُ ضِيَاءُ الدِّينِ فِي الْمُخْتَارَةِ مِنْ طَرِيقِهِمَا مِنْ حَدِيثِ مُجَمِّعِ بْنِ يَحْيَى عَنْ عُمَيْرٍ أَيْ: الْأَنْصَارِيِّ مَرْفُوعًا. قَالَ الْقَاضِي وَلِأَنَّ هَذَا حَدُّهُ فِي اللُّغَةِ قَالَ وَقِيلَ هُوَ مَعْنًى فِي النَّفْسِ وَهُوَ خَشْيَةُ الْفَقْرِ، وَالْحَاجَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ الْبُخْلُ يُورِثُ التَّمَسُّكَ بِالْمَوْجُودِ، وَالْمَنْعَ مِنْ إخْرَاجِهِ لِأَلَمٍ يَجِدُهُ عِنْدَ تَصَوُّرِ قِلَّةِ مَا حَصَلَ وَعَدَمِ الظَّفَرِ بِخَلَفِهِ، وَالشُّحُّ يُفَوِّتُ النَّفْسَ كُلَّ لَذَّةٍ، وَيُجَرِّعُهَا كُلَّ غُصَّةٍ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي بَكْرٍ، وَالْقَاضِي أَنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الشُّحَّ يَحْمِلُ عَلَى الْبُخْلِ فَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ إيَّاكُمْ، وَالشُّحَّ إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالشُّحِّ، أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الشُّحُّ مِنْ الْبُخْلِ، وَكَأَنَّ الشُّحَّ

جِنْسٌ، وَالْبُخْلَ نَوْعٌ، وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ الْبُخْلُ فِي أَفْرَادِ الْأُمُورِ، وَالشُّحُّ عَامٌ كَالْوَصْفِ اللَّازِمِ وَمَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الطَّبْعِ وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي بَابِ تَحْرِيمِ الظُّلْمِ قَالَ جَمَاعَةٌ الشُّحُّ أَشَدُّ الْبُخْلِ وَأَبْلَغُ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْبُخْلِ، وَقِيلَ هُوَ الْبُخْلُ مَعَ الْحِرْصِ وَقِيلَ: الْبُخْلُ فِي أَفْرَادِ الْأُمُورِ، وَالشُّحُّ عَامٌّ، وَقِيلَ الْبُخْلُ بِالْمَالِ خَاصَّةً، وَالشُّحُّ بِالْمَالِ، وَالْمَعْرُوفِ، وَقِيلَ: الشُّحُّ الْحِرْصُ عَلَى مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، وَالْبُخْلُ بِمَا عِنْدَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قِيلَ: لِلْأَحْنَفِ مَا الْجُودُ قَالَ: بَذْلُ النَّدَى وَكَفُّ الْأَذَى قِيلَ: فَمَا الْبُخْلُ قَالَ: طَلَبُ الْيَسِيرِ وَمَنْعُ الْحَقِيرِ. وَقِيلَ: إنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ أَكْثَمَ بْنِ صَيْفِيٍّ وَقَالَ شُعَيْبُ بْنُ حَرْبٍ لَيْسَ السَّخِيُّ مَنْ أَخَذَ الْمَالَ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ فَبَذَرَهُ وَإِنَّمَا السَّخِيُّ مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْمَالُ فَتَرَكَهُ، أَوْ جُمِعَ مِنْ حَقٍّ وَوُضِعَ فِي حَقٍّ. سُئِلَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ الْبُخْلِ فَقَالَ: هُوَ أَنْ يَرَى الرَّجُلُ مَا يُنْفِقُهُ تَلَفًا وَمَا يُمْسِكُهُ شَرَفًا وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ: وَإِنَّ امْرَأً لَمْ يَرْتَجِ النَّاسُ نَفْعَهُ ... وَلَمْ يَأْمَنُوا مِنْهُ الْأَذَى لَلَئِيمُ وَإِنْ امْرَأً لَمْ يَجْعَلْ الْبِرَّ كَنْزَهُ ... وَلَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا لَهُ لَعَدِيمُ.

فصل أحاديث في ذم البخل والشح والحرص ومدح الإنفاق في سبيل الله

[فَصْلٌ أَحَادِيثُ فِي ذَمِّ الْبُخْلِ وَالشُّحِّ وَالْحِرْصِ وَمَدْحِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ِ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا وَيَقُولُ الْآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا» وَعَنْهُ أَيْضًا يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَا بْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْك» وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي أُحُدًا ذَهَبًا يَأْتِي عَلَيَّ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ إلَّا دِينَارًا أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ عَلَيَّ» رَوَاهُنَّ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي قِصَّةِ الْبَحْرَيْنِ حَدِيثُ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَدَهُ لَيُعْطِيَهُ مِنْ مَالِ الْبَحْرَيْنِ فَلَمْ يَخْرُجْ حَتَّى مَاتَ فَذَكَرَ لِأَبِي بَكْرٍ ثَلَاثًا فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ فَقَالَ إمَّا أَنْ تُعْطِيَنِي وَإِمَّا أَنْ تَبْخَلَ عَنِّي، فَقَالَ: قُلْتَ تَبْخَلَ عَنِّي وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَأُ مِنْ الْبُخْلِ؟ قَالَهَا ثَلَاثًا مَا مَنَعْتُك مِنْ مَرَّةٍ إلَّا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُعْطِيَك» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَقَالَ عُمَرُ «قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسْمًا فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَغَيْرُ هَؤُلَاءِ أَحَقُّ بِهِ مِنْهُمْ قَالَ اللَّهُمَّ خَيَّرُونِي بَيْنَ أَنْ يَسْأَلُونِي بِالْفُحْشِ أَوْ يُبْخِلُونِي وَلَسْت بِبَاخِلٍ» . وَقَالَ أَنَسٌ «مَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى الْإِسْلَامِ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ» وَقَالَ جَابِرٌ «مَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا قَطُّ فَقَالَ لَا» ، رَوَاهُنَّ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. وَرَوَى الثَّالِثَ الْبُخَارِيُّ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «السَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنْ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ النَّاسِ قَرِيبٌ مِنْ الْجَنَّةِ بَعِيدٌ مِنْ النَّارِ، وَلَجَاهِلٌ سَخِيٌّ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ عَالِمٍ بَخِيلٍ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: غَرِيبٌ. وَرَوَى أَيْضًا وَقَالَ: غَرِيبٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا «خَصْلَتَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ مُؤْمِنٍ الْبُخْلُ وَسُوءُ الْخُلُقِ» وَرَوَى أَيْضًا وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مَرْفُوعًا «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ خِبٌّ وَلَا بَخِيلٌ وَلَا مَنَّانٌ» وَأَسَانِيدُ الثَّلَاثَةِ ضَعِيفَةٌ. وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ «انْتَهَيْت إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَلَمَّا رَآنِي

قَالَ هُمْ الْأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ قَالَ: فَجِئْت حَتَّى جَلَسْت فَلَمْ أَتَقَارَّ أَنْ قُمْت فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي مَنْ هُمْ قَالَ: الْأَكْثَرُونَ أَمْوَالًا إلَّا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمْ. وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي زَرِيبَةِ غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ، وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ» وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَعَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَيَشِيبُ فِيهِ اثْنَتَانِ الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ، وَالْحِرْصُ عَلَى الْعُمْرِ» وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «قَلْبُ الشَّيْخِ شَابٌّ فِي حُبِّ اثْنَيْنِ» وَذَكَرَ مَعْنَاهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ هَذَا مَجَازٌ وَمَعْنَاهُ أَنَّ قَلْبَ الشَّيْخِ كَامِلُ الْحُبِّ لِلْمَالِ مُحْتَكِمٌ فِي ذَلِكَ كَاحْتِكَامِ قُوَّةِ الشَّابِّ فِي شَبَابِهِ هَذَا صَوَابُهُ قَالَ وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ غَيْرُ هَذَا مِمَّا لَا يُرْتَضَى. وَرَوَى أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْجَرَّاحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ مُوسَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «شَرُّ مَا فِي الرَّجُلِ شُحٌّ هَالِعٌ وَجُبْنٌ خَالِعٌ» إسْنَادُهُ جَيِّدٌ أَصْلُ الْهَلَعِ الْجَزَعُ، وَالْهَالِعُ هُنَا ذُو الْهَلَعِ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا اُسْتُخْرِجَ مِنْهُ الْحَقُّ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ هَلِعَ وَجَزِعَ مِنْهُ،، وَالْجُبْنُ الْخَالِعُ هُوَ الشَّدِيدُ الَّذِي يَخْلَعُ فُؤَادَهُ مِنْ شِدَّتِهِ. وَرَوَى: ثَنَا يُونُسُ ثَنَا لَيْثٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «وَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ الْإِيمَانُ، وَالشُّحُّ» حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ الْخَبَرَ الْمَرْوِيَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثٌ مُنْجِيَاتٌ، وَثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ فَأَمَّا الْمُنْجِيَاتُ فَالْعَدْلُ فِي الرِّضَا، وَالْغَضَبِ وَخَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ، وَالْعَلَانِيَةِ، وَالْقَصْدُ فِي الْغِنَى، وَالْفَقْرِ وَأَمَّا الْمُهْلِكَاتُ فَشُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ» قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَانَ يُقَالُ شِدَّةُ الْحِرْصِ مِنْ سُبُلِ الْمَتَالِفِ. وَقَالَ الْأَحْنَفُ: آفَةُ الْحِرْصِ الْحِرْمَانُ وَلَا يَنَالُ الْحَرِيصُ إلَّا حَظَّهُ، كَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ

يَقُولُ: مَا بَعُدَ أَمَلٌ إلَّا سَاءَ عَمَلٌ. وَمِنْ كَلَامِ الْحُكَمَاءِ: الرِّزْقُ مَقْسُومٌ، وَالْحَرِيصُ مَحْرُومٌ، وَالْحَسُودُ مَغْمُومٌ، وَالْبَخِيلُ مَذْمُومٌ وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدُ: الْحِرْصُ مِنْ شَرِّ أَدَاةِ الْفَتَى ... لَا خَيْرَ فِي الْحِرْصِ عَلَى حَالِ مَنْ بَاتَ مُحْتَاجًا إلَى أَهْلِهِ ... هَانَ عَلَى ابْنِ الْعَمِّ وَالْخَالِ وَقَالَ آخَرُ: لَا تَحْسُدَنَّ أَخَا حِرْصٍ عَلَى سَعَةٍ ... وَانْظُرْ إلَيْهِ بِعَيْنِ الْمَاقِتِ الْقَالِي إنَّ الْحَرِيصَ لَمَشْغُولٌ بِشِقْوَتِهِ ... عَلَى السُّرُورِ بِمَا يَحْوِي مِنْ الْمَالِ قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ يُخَاطِبُ سَلْمَ بْنَ عَمْرٍو: نَعَى نَفْسِي إلَيَّ مِنْ اللَّيَالِي ... تَصَرُّفُهُنَّ حَالًا بَعْدَ حَالِ فَمَا لِي لَسْت مَشْغُولًا بِنَفْسِي ... وَمَا لِي لَا أَخَافُ الْمَوْتَ مَا لِي لَقَدْ أَيْقَنْت أَنِّي غَيْرُ بَاقٍ ... وَلَكِنِّي أَرَانِي لَا أُبَالِي تَعَالَى اللَّهُ يَا سَلْمُ بْنَ عَمْرٍو ... أَذَلَّ الْحِرْصُ أَعْنَاقَ الرِّجَالِ هَبْ الدُّنْيَا تُسَاقُ إلَيْك عَفْوًا ... أَلَيْسَ مَصِيرُ ذَاكَ إلَى زَوَالِ فَمَا تَرْجُو بِشَيْءٍ لَيْسَ يَبْقَى ... وَشِيكًا مَا تُغَيِّرُهُ اللَّيَالِي فَلَمَّا أُبْلِغَ سَلْمُ بْنُ عَمْرٍو وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِسَلْمٍ الْخَاسِرِ كَتَبَ إلَيْهِ: مَا أَقْبَحَ التَّزْهِيدَ مِنْ وَاعِظٍ ... يُزَهِّدُ النَّاسَ وَلَا يَزْهَدُ لَوْ كَانَ فِي تَزْهِيدِهِ صَادِقًا ... أَضْحَى وَأَمْسَى بَيْتُهُ الْمَسْجِدُ إنْ رَفَضَ الدُّنْيَا فَمَا بَالُهُ ... يَكْتَنِزُ الْمَالَ وَيَسْتَرْفِدُ يَخَافُ أَنْ تَنْفَدَ أَرْزَاقُهُ ... وَالرِّزْقُ عِنْدَ اللَّهِ لَا يَنْفَدُ الرِّزْقُ مَقْسُومٌ عَلَى مَنْ تَرَى ... يَسْعَى لَهُ الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ قَالَ زِيَادُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ اثْنَانِ يَتَعَجَّلَانِ النَّصَبَ وَلَا يَظْفَرَانِ بِالْبُغْيَةِ، الْحَرِيصُ فِي حِرْصِهِ، وَمُعَلِّمُ الْبَلِيدِ مَا يَنْبُو عَنْهُ فَهْمُهُ. وَأَنْشَدَ مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ:

أَرَاك يَزِيدُك الْإِثْرَاءُ حِرْصًا ... عَلَى الدُّنْيَا كَأَنَّك لَا تَمُوتُ فَهَلْ لَك غَايَةٌ إنْ صِرْت يَوْمًا ... إلَيْهَا قُلْت حَسْبِي قَدْ رَضِيتُ وَقَالَ آخَرُ: الْحِرْصُ دَاءٌ قَدْ أَضَرَّ ... بِمَنْ تَرَى إلَّا قَلِيلَا كَمْ مِنْ عَزِيزٍ قَدْ رَأَيْتَ ... الْحِرْصَ صَيَّرَهُ ذَلِيلَا فَتَجَنَّبْ الشَّهَوَاتِ وَاحْذَرْ ... أَنْ تَكُونَ لَهُ قَتِيلَا فَلَرُبَّ شَهْوَةِ سَاعَةٍ ... قَدْ أَوْرَثَتْ حُزْنًا طَوِيلَا وَقَالَ آخَرُ: الْحِرْصُ عَوْنٌ لِلزَّمَانِ عَلَى الْفَتَى ... وَالصَّبْرُ نِعْمَ الْعَوْنُ لِلْأَزْمَانِ لَا تَخْضَعَنَّ فَإِنَّ دَهْرَك إنْ يَرَى ... مِنْك الْخُضُوعَ أَمَدَّهُ بِهَوَانِ وَلِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصُّورِيِّ: لَمَّا رَأَيْت النَّاسَ قَدْ أَصْبَحُوا ... وَهِمَّةُ الْإِنْسَانِ مَا يَجْمَعُ قَنَعْت بِالْقُوتِ فَنِلْت الْمُنَى ... وَالْفَاضِلُ الْعَاقِلُ مَنْ يَقْنَعُ وَلَمْ أُنَافِسْ فِي طِلَابِ الْغِنَى ... عِلْمًا بِأَنَّ الْحِرْصَ لَا يَنْفَعُ وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْخَبَرَ الْمَشْهُورَ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ فَإِنْ غَلَبَك أَمْرٌ فَقُلْ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، وَلَا تَقُلْ لَوْ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» وَلِلنَّسَائِيِّ فِي رِوَايَةٍ " فَإِنَّ اللَّوَّ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ " قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ مِنْ طَمَعٍ فِي غَيْرِ مَطْمَعٍ وَمِنْ طَمَعٍ يَقُودُ إلَى طَمَعٍ» وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَا شَيْءٌ أَذْهَبُ لِعُقُولِ الرِّجَالِ مِنْ الطَّمَعِ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ لِكَعْبٍ مَا يُذْهِبُ الْعِلْمَ مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ بَعْدَ أَنْ عَلِمُوهُ قَالَ: الطَّمَعُ وَطَلَبُ الْحَاجَاتِ إلَى النَّاسِ. وَقَالَ كَعْبٌ أَيْضًا الصَّفَا الزُّلْزُلُ الَّذِي لَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ أَقْدَامُ الْعُلَمَاءِ الطَّمَعُ

وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: فِي الْيَأْسِ غِنًى، وَفِي الطَّمَعِ الْفَقْرُ، وَفِي الْعُزْلَةِ رَاحَةٌ مِنْ خُلَطَاءِ السُّوءِ. وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ: أَطَعْت مَطَامِعِي فَاسْتَعْبَدَتْنِي ... وَلَوْ أَنِّي قَنَعْت لَصِرْت حُرَّا وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: مَا الذُّلُّ إلَّا فِي الطَّمَعِ. وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الْمَطَامِعَ مَا عَلِمْت مَذَلَّةٌ ... لِلطَّامِعِينَ وَأَيْنَ مَنْ لَا يَطْمَعُ وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: قُلُوبُ الْجُهَّالِ تُسْتَعْبَدُ بِالْأَطْمَاعِ وَتُسْتَرَقُّ بِالْمُنَى وَتُعَلَّلُ بِالْخَدَائِعِ. وَقَالَ آخَرُ: لَا تَجْزَعَنَّ عَلَى مَا فَاتَ مَطْلَبُهُ ... هَا قَدْ جَزِعْت فَمَاذَا يَنْفَعُ الْجَزَعُ إنَّ السَّعَادَةَ يَأْسٌ إنْ ظَفِرْت بِهِ ... بَعْضُ الْمِرَارِ وَإِنَّ الشِّقْوَةَ الطَّمَعُ وَقَالَ آخَرُ: اللَّهَ أَحْمَدُ شَاكِرًا ... فَبَلَاؤُهُ حَسَنٌ جَمِيلُ أَصْبَحْت مَسْرُورًا مُعَافًى ... بَيْنَ أَنْعُمِهِ أَجُولُ خَلْوًا مِنْ الْأَحْزَانِ خِفَّ ... الظَّهْرِ يُغْنِينِي الْقَلِيلُ وَنَفَيْتُ بِالْيَأْسِ الْمُنَى ... عَنِّي فَطَابَ لِي الْمَقِيلُ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ لِمَنْ ... خَفَّتْ مَئُونَتُهُ خَلِيلُ قَالُوا لِلْمَسِيحِ يَا رُوحَ اللَّهِ أَخْبِرْنَا عَنْ الْمَالِ فَقَالَ: الْمَالُ لَا يَخْلُو صَاحِبُهُ مِنْ ثَلَاثِ خِلَالٍ، إمَّا أَنْ يَكْسِبَهُ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، وَإِمَّا أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ حَقِّهِ، وَإِمَّا أَنْ يَشْغَلَهُ إصْلَاحُهُ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ. قَالَ الْحُطَيْئَةُ: وَلَسْت أَرَى السَّعَادَةَ جَمْعَ مَالٍ ... وَلَكِنَّ التَّقِيَّ هُوَ السَّعِيدُ

وَقَالَ آخَرُ: إذَا مَا الْفَتَى لَمْ يَنْعَ إلَّا لِبَاسَهُ ... وَمَطْعَمَهُ فَالْخَيْرُ مِنْهُ بَعِيدُ يُذَكِّرُنِي صَرْفُ الزَّمَانِ وَلَمْ أَكُنْ ... لِأَهْرُبَ مِمَّا لَيْسَ مِنْهُ مَحِيدُ فَلَوْ كُنْت ذَا مَالٍ لَقُرِّبَ مَجْلِسِي ... وَقِيلَ إذَا أَخْطَأْت أَنْتَ رَشِيدُ وَقَالَ آخَرُ: ذَهَابُ الْمَالِ فِي أَجْرٍ وَحَمْدٍ ... ذَهَابٌ لَا يُقَالُ لَهُ ذَهَابُ قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَنْ نَقَلَهُ اللَّهُ مِنْ ذُلِّ الْمَعَاصِي إلَى عِزِّ الطَّاعَةِ أَغْنَاهُ بِلَا مَالٍ وَآنَسَهُ بِلَا مُؤْنِسٍ، وَأَعَزَّهُ بِلَا عَشِيرَةٍ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ إنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» . وَعَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «ارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَك تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَاعْمَلْ بِمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْك تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَاجْتَنِبْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْك تَكُنْ أَوْرَعَ النَّاسِ» ، وَعَنْهُ أَيْضًا «الْفَقْرُ أَزْيَنُ بِالْمُؤْمِنِ مِنْ الْعِذَارِ عَلَى خَدِّ الْفَرَسِ» . وَقَالَ أَوْسُ بْنُ حَارِثَةَ خَيْرُ الْغِنَى الْقَنَاعَةُ، وَشَرُّ الْفَقْرِ الْخُضُوعُ. وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ إنَّمَا الْفَقْرُ، وَالْغِنَى بَعْدَ الْعَرْضِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: مَا شِقْوَةُ الْمَرْءِ بِالْإِقْتَارِ مَقْتَرَةً ... وَلَا سَعَادَتُهُ يَوْمًا بِإِيسَارِ إنَّ الشَّقِيَّ الَّذِي فِي النَّارِ مَنْزِلُهُ ... وَالْفَوْزُ فَوْزُ الَّذِي يَنْجُو مِنْ النَّارِ كَانَ يُقَالُ الشُّكْرُ زِينَةُ الْغِنَى، وَالْعَفَافُ زِينَةُ الْفَقْرِ، وَقَالُوا: حَقُّ اللَّهِ وَاجِبٌ فِي الْغِنَى، وَالْفَقْرِ، فَفِي الْغِنَى الْعَطْفُ، وَالشُّكْرُ، وَفِي الْفَقْرِ الْعَفَافُ، وَالصَّبْرُ وَكَانَ يُقَالُ: الْغِنَى فِي النَّفْسِ، وَالشَّرَفُ فِي التَّوَاضُعِ، وَالْكَرَمُ فِي التَّقْوَى. وَقَالَ حَمَّادٌ الرَّاوِيَةُ: أَفْضَلُ بَيْتٍ فِي الشِّعْرِ قِيلَ: فِي الْأَمْثَال: يَقُولُونَ يَسْتَغْنِي وَوَاللَّهِ مَا الْغِنَى ... مِنْ الْمَالِ إلَّا مَا يُعِفُّ وَمَا يَكْفِي وَكَانَ يُقَالُ: خَصْلَتَانِ مَذْمُومَتَانِ الِاسْتِطَالَةُ مَعَ السَّخَاءِ، وَالْبَطَرُ مَعَ الْغِنَى.

وَقَالَ آخَرُ: تَقَنَّعْ بِمَا يَكْفِيك وَالْتَمِسْ الرِّضَا ... فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَتُصْبِحُ أَمْ تُمْسِي فَلَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْمَالِ إنَّمَا ... يَكُونُ الْغِنَى وَالْفَقْرُ مِنْ قِبَلِ النَّفْسِ وَقَالَ آخَرُ: وَلَا تَعِدِينِي الْفَقْرَ يَا أُمَّ مَالِكٍ ... فَإِنَّ الْغِنَى لِلْمُنْفِقِينَ قَرِيبُ وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ابْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْك» وَقَالَ آخَرُ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفَقْرَ يُزْرِي بِأَهْلِهِ ... وَأَنَّ الْغِنَى فِيهِ الْعُلَى وَالتَّجَمُّلُ وَقَالَ آخَرُ: اسْتَغْنِ عَنْ كُلِّ ذِي قُرْبَى وَذِي رَحِمٍ ... إنَّ الْغَنِيَّ مَنْ اسْتَغْنَى عَنْ النَّاسِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَكَانَ يُقَالُ: لَا تَدْعُ عَلَى وَلَدِك الْمَوْتَ فَإِنَّهُ يُورِثُ الْفَقْرَ. قَالَ الشَّاعِرُ: لَعَمْرُك إنَّ الْقَبْرَ خَيْرٌ لِمَنْ ... كَانَ ذَا يُسْرٍ وَعَادَ إلَى عُسْرِ وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَوْلَا ثَلَاثٌ صَلُحَ النَّاسُ شُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ» وَخَطَبَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَامّ بِالْبَصْرَةِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ «إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَا زُبَيْرُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْك، وَلَا تُوكِي فَيُوكَى عَلَيْك، وَأَوْسِعْ يُوَسِّعْ اللَّهُ عَلَيْك، وَلَا تُضَيِّقْ فَيُضَيَّقْ عَلَيْك، وَاعْلَمْ يَا زُبَيْرُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْإِنْفَاقَ وَلَا يُحِبُّ الْقَتَارَ وَيُحِبُّ السَّمَاحَ وَلَوْ عَلَى تَمْرَةٍ، وَيُحِبُّ الشَّجَاعَةَ وَلَوْ عَلَى قَتْلِ حَيَّةٍ، أَوْ عَقْرَبٍ، وَاعْلَمْ يَا زُبَيْرُ أَنَّ لِلَّهِ فُضُولُ أَمْوَالٍ سِوَى الْأَرْزَاقِ الَّتِي قَسَمَهَا بَيْنَ الْعِبَادِ

مُحْتَبَسَةٌ عِنْدَهُ لَا يُعْطِي أَحَدًا مِنْهَا شَيْئًا إلَّا مَنْ سَأَلَهُ مِنْ فَضْلِهِ، فَسَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ» . وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْبُخْلُ جِلْبَابُ الْمَسْكَنَةِ، وَرُبَّمَا دَخَلَ السَّخِيُّ بِسَخَائِهِ الْجَنَّةَ. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَا جَوَادٌ كَرِيمٌ، لَا يُجَاوِرُنِي فِي جَنَّتِي لَئِيمٌ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي عَبْلَةَ: سَمِعْت أُمَّ الْبَنِينَ أُخْتَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ تَقُولُ أُفٍّ لِلْبُخْلِ، وَاَللَّهِ لَوْ كَانَ طَرِيقًا مَا سَلَكْته، وَلَوْ ثَوْبًا مَا لَبِسْته. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَا اسْتَقْصَى كَرِيمٌ قَطُّ. أَلَمْ تَسْمَعْ إلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم: 3] التَّحْرِيمَ قَالَ بَعْضُهُمْ: وَإِنِّي لَأَرْثِي لِلْكَرِيمِ إذَا غَدَا ... عَلَى طَمَعٍ عِنْدَ اللَّئِيمِ يُطَالِبُهْ وَقَالَ مَنْصُورٌ الْفَقِيهُ: مَا بِالْبَخِيلِ انْتِفَاعٌ ... وَالْكَلْبُ يَنْفَعُ أَهْلَهُ فَنَزِّهْ الْكَلْبَ عَنْ أَنْ ... تَرَى أَخَا الْبُخْلِ مِثْلَهُ وَقَالَ ابْنُ طَاهِرٍ الْمَقْدِسِيُّ الْحَافِظُ: دَخَلْت عَلَى الشَّيْخِ أَبِي الْقَاسِمِ سَعْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَنَا ضَيِّقُ الصَّدْرِ مِنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ شِيرَازَ لَا أَذْكُرُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَأَخَذْت يَدَهُ فَقَبَّلْتهَا فَقَالَ لِي ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَنْ أُعْلِمَهُ بِمَا أَنَا فِيهِ يَا أَبَا الْفَضْلِ: لَا يَضِيقُ صَدْرُك عِنْدَنَا، فِي بِلَادِ الْعَجَمِ مَثَلٌ يُضْرَبُ يُقَالُ: نَخْلُ أَهْوَازِيٍّ، وَحَمَاقَةُ شِيرَازِيٍّ، وَكَثْرَةُ كَلَامِ رَازِيٍّ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أُصُولُ الشَّرِّ ثَلَاثَةٌ: الْحِرْصُ، وَالْحَسَدُ، وَالْكِبْرُ، فَالْكِبْرُ مَنَعَ إبْلِيسَ مِنْ السُّجُودِ لِآدَمَ، وَبِالْحِرْصِ أُخْرِجَ آدَم مِنْ الْجَنَّةِ، وَالْحَسَدُ حَمَلَ ابْنَ آدَمَ عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ. وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ الشَّافِعِيِّ قَالَ:

السَّخَاءُ، وَالْكَرَمُ يُغَطِّي عُيُوبَ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ بَعْدَ أَنْ لَا يَلْحَقَهُ بِدْعَةٌ قَالَ حُبَيْشُ بْنُ مُبَشِّرٍ الثَّقَفِيُّ الْفَقِيهُ وَهُوَ أَخُو جَعْفَرِ بْنِ مُبَشِّرٍ الْمُتَكَلِّمِ فَعُدْت مَعَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، وَالنَّاسُ مُتَوَافِرُونَ فَأَجْمَعُوا أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ رَجُلًا صَالِحًا بَخِيلًا. وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ الْحَافِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا تُزَوِّجْ الْبَخِيلَ وَلَا تُعَامِلُهُ مَا أَقْبَحَ الْقَارِئَ أَنْ يَكُونَ بَخِيلًا، رَوَاهُ الْخَلَّالُ فِي الْأَخْلَاقِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ: كَانَ ذَا عَقْلٍ وَدِينٍ وَلِسَانٍ وَبَيَانٍ وَفَهْمٍ وَذَكَاءٍ وَحَزْمٍ غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ يُنْسَبُ إلَى الْبُخْلِ وَهُوَ دَاءٌ دَوِيٌّ يَقْدَحُ فِي الْمُرُوءَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ ". وَقَالَ حَاتِمٌ الطَّائِيُّ لَمَّا بَلَغَهُ قَوْلُ الْمُتَلَمِّسِ: قَلِيلُ الْمَالِ تُصْلِحُهُ فَيَبْقَى ... وَلَا يَبْقَى الْكَثِيرُ عَلَى الْفَسَادِ وَحِفْظُ الْمَالِ خَيْرٌ مِنْ نَفَادٍ ... وَعَسْفٍ فِي الْبِلَادِ بِغَيْرِ زَادِ قَالَ قَطَعَ اللَّهُ لِسَانَهُ حَمَلَ النَّاسَ عَلَى الْبُخْلِ فَهَلَّا قَالَ: فَلَا الْجُودُ يُفْنِي الْمَالَ قَبْلَ فَنَائِهِ ... وَلَا الْبُخْلُ فِي مَالِ الْبَخِيلِ يَزِيدُ فَلَا تَلْتَمِسْ مَا لَا يَعِيشُ مُقَتِّرًا ... لِكُلِّ غَدٍ رِزْقٌ يَعُودُ جَدِيدُ وَقَالَ حَاتِمٌ أَيْضًا: لَعَمْرُك مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنْ الْفَتَى ... إذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْمَالَ غَادٍ وَرَائِحٌ ... وَيَبْقَى مِنْ الْمَالِ الْأَحَادِيثُ وَالذِّكْرُ وَرَوَى أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيِّ عَنْ هِلَالِ بْنِ سُوَيْدٍ أَبِي الْمُعَلَّى عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أُهْدِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَوَائِرُ ثَلَاثٌ فَأَكَلَ طَائِرًا وَأَعْطَى خَادِمَهُ طَائِرَيْنِ فَرَدَّهُمَا عَلَيْهِ مِنْ الْغَدِ فَقَالَ

لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلَمْ أَنْهَك أَنْ تَرْفَعَ شَيْئًا لِغَدٍ؟ إنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِرِزْقِ كُلِّ غَدٍ» . وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ الْحُسَيْنِ الرَّازِيّ الزَّاهِدُ الصُّوفِيُّ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ حَدِّثْنِي فَقَالَ: مَا تَصْنَعُ بِالْحَدِيثِ يَا صُوفِيُّ؟ فَقُلْت: لَا بُدَّ حَدِّثْنِي فَحَدَّثَهُ هَذَا الْحَدِيثَ وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الضُّعَفَاءِ فِي تَرْجَمَة هِلَالٍ حَرَّمَ أَنْ يَدَّخِرَ رِزْقَ غَدٍ وَقَالَ: لَا يُتَابَعُ عَلَى حَدِيثِهِ. وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَدَّخِرُ شَيْئًا لِغَدٍ إسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْهُ وَقَالَ: غَرِيبٌ وَذَكَرَ أَنَّهُ رُوِيَ مُرْسَلًا قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كَشْفِ الْمُشْكِلِ فِيمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيث عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْخُذُ نَفَقَةَ سَنَةٍ» قَالَ فِيهِ جَوَازُ ادِّخَارِ قُوتِ سَنَةٍ وَلَا يُقَالُ هَذَا مِنْ طُولِ الْأَمَلِ لِأَنَّ الْإِعْدَادَ لِلْحَاجَةِ مُسْتَحْسَنٌ شَرْعًا وَعَقْلًا، وَقَدْ اسْتَأْجَرَ شُعَيْبُ مُوسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى جَهَلَةِ الْمُتَزَهِّدِينَ فِي إخْرَاجِهِمْ مَنْ يَفْعَلُ هَذَا عَنْ التَّوَكُّلِ، فَإِنْ احْتَجُّوا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَدَّخِرُ لَغَدٍ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ خَلْقٌ مِنْ الْفُقَرَاءِ فَكَانَ يُؤْثِرُهُمْ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ إِسْحَاق بْنُ هَانِئٍ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: قَلِيلُ الْمَالِ تُصْلِحُهُ الْبَيْتَ الْمُتَقَدِّمَ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَا يَقِلُّ مَعَ الْإِصْلَاحِ شَيْءٌ، وَلَا يَبْقَى مَعَ الْفَسَادِ شَيْءٌ. وَقَالَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ الصَّحَابِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْجَوَادُ سَيِّدُ قَوْمِهِ بَنِي تَمِيمٍ الْحَلِيمُ الَّذِي قَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ التَّمِيمِيُّ مِنْهُ تَعَلَّمْت الْحِلْمَ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَقَدْ تَزَوَّجَهَا جَدِيدًا وَأَحْضَرَتْ لَهُ طَعَامًا قَالَ لَهَا: أَيْنَ أَكِيلِي فَلَمْ تَدْرِ مَا يَقُولُ لَهَا فَأَنْشَأَ يَقُولُ: إذَا مَا صَنَعْت الزَّادَ فَالْتَمِسِي لَهُ ... أَكِيلًا فَإِنِّي لَسْت آكِلَهُ وَحْدِي أَخًا طَارِقًا أَوْ جَارَ بَيْتٍ فَإِنَّنِي ... أَخَافُ مَلَامَاتِ الْأَحَادِيثِ مِنْ بَعْدِي وَإِنِّي لَعَبْدُ الضَّيْفِ مِنْ غَيْرِ ذِلَّةٍ ... وَمَا فِي إلَّا ذَاكَ مِنْ شِيمَةِ الْعَبْدِ فَسَمِعَهُ جَارٌ لَهُ وَكَانَ بَخِيلًا فَقَالَ: لَبَيْنِي وَبَيْنَ الْمَرْءِ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ ... بِمَا قَالَ بَوْنٌ فِي الْفِعَالِ بَعِيدُ وَإِنَّا لَنَجْفُو الضَّيْفَ مِنْ غَيْرِ قِلَّةٍ ... مَخَافَةَ أَنْ يُغْرَى بِنَا فَيَعُودُ

وَأَنْشَدَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّاشِيُّ: كُلُّ الْأُمُورِ تَزُولُ عَنْك وَتَنْقَضِي ... إلَّا الثَّنَاءَ فَإِنَّهُ لَك بَاقِ لَوْ أَنَّنِي خُيِّرْت كُلَّ فَضِيلَةٍ ... مَا اخْتَرْت غَيْرَ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَدَخَلَ جَرِيرٌ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَأَنْشَدَهُ: رَأَيْتُك أَمْسِ خَيْرَ بَنِي مَعْدِ ... وَأَنْتَ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِنْك أَمْسِ وَنَبْتُكَ فِي الْمَنَابِتِ خَيْرُ نَبْتِ ... وَغَرْسُكَ فِي الْمَغَارِسِ خَيْرُ غَرْسِ أَنْتَ غَدًا تَزِيدُ الضِّعْفَ ضِعْفًا ... كَذَاك تَزِيدُ سَادَةَ عَبْدِ شَمْسِ فَأَمَرَ لَهُ بِثَلَاثِينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَأَنْشَدَ يَحْيَى بْنُ مَعْبَدٍ بَيْتًا فَأَمَرَ لَهُ بِعَشْرَةِ آلَافِ دِرْهَمَ وَهُوَ: إذَا قِيلَ مَنْ لِلْجُودِ وَالْمَجْدِ وَالنَّدَى ... فَنَادِ بِأَعْلَى الصَّوْتِ يَحْيَى بْنُ مَعْبَدِ وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ:

إذَا مَا الْمَرْءُ صِرْت إلَى سُؤَالِهْ ... فَمَا تُعْطِيهِ أَكْثَرُ مِنْ نَوَالِهْ وَمَنْ عَرَفَ الْمَكَارِمَ جَدَّ فِيهَا ... وَحَنَّ إلَى الْمَكَارِمِ بِاحْتِيَالِهْ وَلَمْ يَسْتَغْلِ مَحْمَدَةً بِمَالٍ ... وَإِنْ كَانَتْ تُحِيطُ بِكُلِّ مَالِهْ وَلَمَّا وَلَّى الْمَنْصُورُ مَعْنَ بْنَ زَائِدَةَ أَذْرَبِيجَانَ قَصَدَهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَنَظَرَ إلَيْهِمْ وَهُمْ فِي هَيْئَةٍ رَدِيئَةٍ وَأَنْشَأَ يَقُولُ: إذَا نَوْبَةٌ نَابَتْ صَدِيقَك فَاغْتَنِمْ ... مَرَمَّتَهَا فَالدَّهْرُ فِي النَّاسِ قُلَّبُ فَأَحْسَنُ ثَوْبَيْك الَّذِي هُوَ لَابِسٌ ... وَأَفْرَهُ مُهْرَيْك الَّذِي هُوَ يَرْكَبُ وَبَادِرْ بِمَعْرُوفٍ إذَا كُنْت قَادِرًا ... زَوَالَ اقْتِدَارٍ فَالْغِنَى عَنْك يَذْهَبُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ أَلَا أُنْشِدُكَ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا لِابْنِ هَرِمَةَ قَالَ هَاتِ فَأَنْشَأَ يَقُولُ: وَلِلنَّفْسِ تَارَاتٌ يَحِلُّ بِهَا الْعَزَاءُ ... وَتَسْخُو عَنْ الْمَالِ النُّفُوسُ الشَّحَائِحُ إذَا الْمَرْءُ لَمْ يَنْفَعْك حَيًّا فَنَفْعُهُ ... أَقَلُّ إذَا ضُمَّتْ عَلَيْهِ الصَّفَائِحُ لِأَيَّةِ حَالٍ يَمْنَعُ الْمَرْءُ مَالَهُ ... غَدًا فَغَدًا وَالْمَوْتُ غَادٍ وَرَائِحُ فَقَالَ لَهُ مَعْنُ أَحْسَنْت، وَاَللَّهِ وَإِنْ كَانَ الشِّعْرُ لِغَيْرِك يَا غُلَامُ أَعْطِهِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ فَقَالَ الْغُلَامُ اجْعَلْهَا دَنَانِيرَ وَدَرَاهِمَ. فَقَالَ مَعْنُ، وَاَللَّهِ لَا تَكُونُ هِمَّتُك أَرْفَعَ مِنْ هِمَّتِي يَا غُلَامُ صَفِّرْهَا لَهُ. وَقَالَ هَارُونُ الرَّشِيدُ لِلْأَصْمَعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَا أَغْفَلَك عَنَّا وَأَجْفَاكَ بِحَضْرَتِنَا. فَقَالَ: وَاَللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا أَلَاقَتْنِي بِلَادٌ بَعْدَك حَتَّى آتِيك فَقَالَ لِلْأَصْمَعِيِّ: مَا أَلَاقَتْنِي قَالَ: أَمْسَكَتْنِي وَأَنْشَدَ: كَفَّاك كَفٌّ لَا تَلِيقُ دَرَاهِمًا ... جُودًا وَأُخْرَى تَمُطُّ بِالسَّيْفِ الدَّمَا أَيْ: مَا تُمْسِكُ دِرْهَمًا. فَقَالَ أَحْسَنْت وَهَكَذَا كُنَّ وُقِّرْنَا فِي الْمَلَا، وَعَلِمْنَا فِي الْخَلَا. وَأَمَرَ لِي بِخَمْسَةِ آلَافِ دِينَارٍ. دَخَلَ الْعَتَّابِي عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ فَأَنْشَدَهُ: حُسْنُ ظَنِّي حُسْنُ مَا عَوَّدَ اللَّهُ ... سِوَايَ بِك الْغَدَاةَ أَتَا بِي أَيُّ شَيْءٍ يَكُونُ أَحْسَنَ مِنْ حُسْنِ ... يَقِينٍ حَدَا إلَيْك رِكَابِي فَأَمَرَ لَهُ بِجَائِزَةٍ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى فَأَنْشَدَهُ: جُودُك يَكْفِيك فِي حَاجَتِي ... وَرُؤْيَتِي تَكْفِيك مِنِّي سُؤَالِي فَكَيْفَ أَخْشَى الْفَقْرَ مَا عِشْتَ لِي ... وَإِنَّمَا كَفَّاكَ لِي بَيْتُ مَالِي فَأَجَازَهُ أَيْضًا، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ الْيَوْمَ الثَّالِثَ فَأَنْشَدَهُ: اُكْسُنِي مَا يَبِيدُ أَصْلَحَكَ اللَّهُ ... فَإِنِّي أَكْسُوكَ مَا لَا يَبِيدُ فَأَجَازَهُ وَكَسَاهُ وَحَمَّلَهُ. وَجَاءَ أَبُو الدِّئْلِ الْمَعْتُوهُ إلَى حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ وَهُوَ قَاضٍ فَكَسَاهُ فَطَلَب مِنْهُ نَفَقَةً فَحَلَفَ حَفْصٌ مَا فِي بَيْتِي ذَهَبٌ وَلَا

فِضَّةٌ، ثُمَّ اسْتَقْرَضَ لَهُ دِينَارًا فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ فَقَالَ أَبُو الدِّئْلِ أَيّهَا الْقَاضِي، وَاَللَّهِ مَا أَجِدُ لَك مِثْلًا إلَّا قَوْلَ الشَّاعِرِ: يُعَيِّرُنِي بِالدَّيْنِ قَوْمِي وَإِنَّمَا ... تَقَرَّضْتُ فِي أَشْيَاءَ تُورِثُهُمْ مَجْدَا وَقَوْلُ صَاحِبِهِ: وَمَا كُنْت إلَّا كَالْأَصَمِّ بْنِ جَعْفَرٍ ... رَأَى الْمَالَ لَا يَبْقَى فَأَبْقَى بِهِ حَمْدَا وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ فَقَالَ أَصَلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ إنِّي قَدْ امْتَدَحْتُك بِبَيْتَيْنِ وَلَسْت أُنْشِدُهَا إلَّا بِعَشْرَةِ آلَافٍ وَخَادِمٍ فَقَالَ لَهُ خَالِدُ قُلْ فَأَنْشَأَ يَقُولُ: لَزِمْت نَعَمْ حَتَّى كَأَنَّك لَمْ تَكُنْ ... سَمِعْتَ مِنْ الْأَشْيَاءِ شَيْئًا سِوَى نَعَمِ وَأَنْكَرْتَ لَا حَتَّى كَأَنَّكَ لَمْ تَكُنْ ... سَمِعْتَ بِهَا فِي سَائِرِ الدَّهْرِ وَالْأُمَمِ قَالَ وَدَخَلَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى خَالِدٍ فِي يَوْمِ مَجْلِسِ الشُّعَرَاءِ عِنْدَهُ وَقَدْ كَانَ قَالَ فِيهِ بَيْتَيْ شِعْرٍ امْتَدَحَهُ فَلَمَّا سَمِعَ قَوْلَ الشُّعَرَاءِ صَغُرَ عِنْدَهُ مَا قَالَ فَلَمَّا انْصَرَفَ الشُّعَرَاءُ بِجَوَائِزِهِمْ بَقِيَ الْأَعْرَابِيُّ فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟ فَأَنْشَدَهُ الْبَيْتَيْنِ وَهُمَا: تَعَرَّضْتَ لِي بِالْجُودِ حَتَّى نَعَشْتَنِي ... وَأَعْطَيْتَنِي حَتَّى ظَنَنْتُكَ تَلْعَبُ فَأَنْتَ النَّدَى وَابْنُ النَّدَى وَأَخُو النَّدَى ... حَلِيفُ النَّدَى مَا لِلنَّدَى عَنْكَ مَذْهَبُ فَقَالَ سَلْ حَاجَتَك فَقَالَ عَلَيَّ مِنْ الدَّيْنِ خَمْسُونَ أَلْفًا، فَقَالَ: قَدْ أَمَرْتُ لَك بِهَا وَشَفَعْتُهَا بِمِثْلِهَا، فَأَمَرَ لَهُ بِمِائَةِ أَلْفٍ وَهَذَا الْعَطَاءُ وَشِبْهُهُ مِنْ الْمُلُوكِ إنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الشَّرْعِ وَإِلَّا فَصَاحِبُهُ مَمْدُوحٌ عُرْفًا. وَقَدْ قَالَ أَبُو الْفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ الْجَوْزِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ الْأَغْلَاطِ، وَالْأَوْهَامِ الْقَبِيحَةِ الْمَدْحُ بِمَا يُوجِبُ الذَّمَّ فَإِنَّهُمْ إذَا سَمِعُوا عَنْ السَّلَاطِينِ، وَالْوُلَاةِ بِالْعَطَاءِ الْمُسْرِفِ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ مَدَحُوهُمْ بِالْكَرَمِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ أَعْطَى حَمَّادًا الرَّاوِيَةَ لِإِنْشَادِ بَيْتٍ جَارِيَتَيْنِ وَعَشْرَ بُدَرٍ، وَقَالَ لَوْ كَانَ مَا أَعْطَاهُ

مِنْ مَالِ نَفْسِهِ كَانَ تَبْذِيرًا وَتَفْرِيطًا فَكَيْفَ وَلَيْسَ مِنْ مَالِهِ؟ فَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَرْوِي هَذَا عَنْ الْمُلُوكِ فَيُخْرِجُهُ مَخْرَجَ الْمَدْحِ، وَالْكَرَمِ وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي التَّبْذِيرِ، وَالْإِسْرَافِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 265] أَيْ: يَنْظُرُونَ أَيْنَ يَضَعُونَ الْأَمْوَالَ وَأَيْنَ الْفُقَرَاءُ عَنْهَا وَإِذَا تَأَمَّلْتَ الْحَالَ وَجَدْت الْأَمْوَالَ أُخِذَتْ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا وَصُرِفَتْ فِي غَيْرِ حَقِّهَا، وَخَرَجَتْ عَنْ نِيَّاتٍ فَاسِدَةٍ انْتَهَى كَلَامُهُ وَسَبَقَ فِي الْفَصْلِ قَبْلَهُ كَلَامُ شُعَيْبِ بْنِ حَرْبٍ. وَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: عَجَبًا لِلْبَخِيلِ الْمُتَعَجِّلِ لِلْفَقْرِ الَّذِي مِنْهُ هَرَبَ، وَالْمُؤَخِّرِ لِلسَّعَةِ الَّتِي إيَّاهَا طَلَبَ، وَلَعَلَّهُ يَمُوتُ بَيْنَ هَرَبِهِ وَطَلَبِهِ، فَيَكُونُ عَيْشُهُ فِي الدُّنْيَا عَيْشَ الْفُقَرَاءِ، وَحِسَابُهُ فِي الْآخِرَةِ حِسَابَ الْأَغْنِيَاءِ، مَعَ أَنَّك لَمْ تَرَ بَخِيلًا إلَّا غَيْرُهُ أَسْعَدُ بِمَالِهِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ فِي الدُّنْيَا مُهْتَمٌّ بِجَمْعِهِ وَفِي الْآخِرَةِ آثِمٌ بِمَنْعِهِ وَغَيْرُهُ آمِنٌ فِي الدُّنْيَا مِنْ هَمِّهِ، وَنَاجٍ فِي الْآخِرَةِ مِنْ إثْمِهِ. وَمِنْ مَنْثُورِ كَلَامِ ابْنِ الْمُعْتَزِّ بَشِّرْ مَالَ الْبَخِيلِ بِحَادِثٍ أَوْ وَارِثٍ. وَمِنْ مَنْظُومِهِ: يَا مَالَ كُلِّ جَامِعٍ وَحَارِثِ ... أَبْشِرْ بِرَيْبٍ حَادِثٍ أَوْ وَارِثِ وَقَالَ غَيْرُهُ: كَدُودَةِ الْقَزِّ مَا تَبْنِيهِ يَهْدِمُهَا ... وَغَيْرُهَا بِاَلَّذِي تَبْنِيهِ يَنْتَفِعُ وَأَيْنَ هَذَا مِنْ كَلَامِ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ فِي أَبْيَاتِهِ الَّتِي يَحُثُّ فِيهَا عَلَى جَمْعِ الْمَالِ وَلَا يُضَيِّعُهُ يَوْمًا عَلَى حَالٍ، مِنْهَا: إنِّي مُقِيمٌ عَلَى الزَّوْرَاءِ أَعْمُرُهَا ... إنَّ الْكَرِيم عَلَى الْأَقْوَامِ ذُو الْمَالِ كُلُّ النِّدَاءِ إذَا نَادَيْتُ يَخْذُلُنِي ... إلَّا نِدَائِي إذَا نَادَيْتُ يَا مَالِي

وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَإِنِّي لَأَجْتَازُ الْقُرَى طَاوِيَ الْحَشَا ... مُحَاذَرَةً مِنْ أَنْ يُقَالَ لَئِيمُ الرِّوَايَةُ بِضَمِّ لَامِ يُقَالُ. وَمَدْحُ الْكَرَمِ وَذَمُّ الْبُخْلِ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَيْحَكَ مَا تَصْنَعُ بِادِّخَارِ مَالٍ لَا يُؤَثِّرُ حَسَنَةً فِي صَحِيفَةٍ، وَلَا مَكْرُمَةً فِي تَارِيخٍ؟ أَمَا سَمِعْت بِإِنْفَاقِ أَبِي بَكْرٍ وَبُخْلِ ثَعْلَبَةَ أَمَا رَأَيْتَ مَآثِرَ مَدْحِ حَاتِمٍ وَبُخْلَ الْحَبَابِ وَيْحَك لَوْ ابْتَلَاكَ فِي مَالِكَ بِقِلَّةٍ اسْتَغَثْتَ، أَوْ فِي بَدَنِكَ لَيْلَةً بِمَرَضٍ شَكَوْتَ. إنَّمَا نُرِيدُ كَمَالَ مُرَادِك فَأَنْتَ تَسْتَوْفِي مَطْلُوبَاتِك مِنْهُ وَلَا يَسْتَوْفِي حَقَّهُ عَلَيْك. {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1] انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ قِيلَ: مَاتَ الْكِرَامُ وَمَرُّوا وَانْقَضَوْا وَمَضَوْا ... وَمَاتَتْ مِنْ بَعْدِهِمْ تِلْكَ الْكَرَامَاتُ وَخَلَّفُونِي فِي قَوْمٍ ذَوِي سَفَهٍ ... لَوْ أَبْصَرُوا طَيْفَ ضَيْفٍ فِي الْكَرَى مَاتُوا وَقَدْ سَبَقَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ قَبْلَ هَذَا بِنَحْوِ خَمْسِ كَرَارِيسَ أَوْ سِتَّةٍ وَقَبْلَهُ بِيَسِيرٍ طَلَبُ الْحَاجَاتِ مِنْ النَّاسِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَتْ الْحُكَمَاءُ عَلَى أَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: وَهِيَ لَا تُحَمِّلْ قَلْبَكَ مَا لَا يُطِيقُ وَلَا تَعْمَلْ عَمَلًا لَيْسَ لَك فِيهِ مَنْفَعَةٌ، وَلَا تَثِقَنَّ بِامْرَأَةٍ، وَلَا تَغْتَرَّ بِمَالٍ وَإِنْ كَثُرَ.

قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ تَمَامُ الْمُرُوءَةِ أَنْ تُرَاعِيَ وَرَثَةَ مَنْ كُنْتَ تُرَاعِيهِ وَتَخْلُفُهُ بِزِيَادَةٍ عَلَى مَا كُنْت تُرَاعِيهِمْ حَالَ حَيَاتِهِ لِتَكُونَ الزِّيَادَةُ بِإِزَاءِ إرْعَائِهِ وَلَا تُوهِمْهُمْ أَنَّ الْمَنْزِلَةَ سَقَطَتْ بِمَوْتِ كَاسِبِهِمْ، وَفِّرْ الْإِكْرَامَ عَلَى الْأَيْتَامِ لِتَشُوبَ مَرَارَةَ يُتْمِهِمْ حَلَاوَةُ التَّحَنُّنِ. كَانَ السَّلَفُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يُذْهِبُونَ حُزْنَ الْأَيْتَامِ، وَالْأَرَامِلِ وَيُزِيلُونَ ذُلَّ الْيَتِيمِ بِأَنْوَاعِ الْبِرِّ حَتَّى صَارُوا كَالْآبَاءِ، وَالْأُمَّهَاتِ لِلْيَتِيمِ لَا يَتْرُكُونَهُ يُضَامُ وَيَتَنَاضَلُونَ عَنْهُ، وَفِي الْجُمْلَةِ الْكِرَامُ لَا يَبِينُ بَيْنَهُمْ يُتْمُ أَوْلَادِ الْجِيرَانِ وَلَا النَّازِلُ مِنْ الْقَاطِنِينَ.

فصل في أحكام وآداب تتعلق بالحمام

[فَصْلٌ فِي أَحْكَامٍ وَآدَابٍ تَتَعَلَّقُ بِالْحَمَّامِ] [فَصْلٌ فِي بَيْعُ الْحَمَّامِ وَشِرَاؤُهُ وَإِجَارَتُهُ وَبِنَاؤُهُ] فَصْلٌ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي كَسْبِ الْحَمَّامِيِّ وَلْنَذْكُرْ الْآنَ حُكْمَ الْحَمَّامِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فَنَقُولُ بَيْعُ الْحَمَّامِ وَشِرَاؤُهُ وَإِجَارَتُهُ وَبِنَاؤُهُ مَكْرُوهٌ نَصَّ عَلَيْهِ وَقَالَ الَّذِي يَبْنِي حَمَّامًا لِلنِّسَاءِ لَيْسَ بِعَدْلٍ لِأَنَّهُ غَالِبًا يَشْتَمِلُ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ مِنْ كَشْفِ الْعَوْرَاتِ وَنَظَرِهَا وَدُخُولِهَا النِّسَاءَ. وَفِي مَجْمُوعِ أَبِي حَفْصٍ فِي الْإِجَارَةِ نَقَلَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْكَحَّالُ سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ رَجُلٍ لَهُ حَمَّامٌ تُقِيمُهُ غَلَّتُهُ يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَهُ قَالَ لَا يَبِيعُهُ عَلَى أَنَّهُ حَمَّامٌ يَبِيعُهُ عَلَى أَنَّهُ عَقَارٌ وَيَهْدِمُ الْحَمَّامَ، ذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَقَالَ: وَكَذَلِكَ الْأَبْنِيَةُ الْمُصَوَّرَةُ كَنَائِسَ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَبْنِيٌّ لِلْمَنْفَعَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَمَا هُوَ مُصَوَّرٌ عَلَى صُورَةِ الْمَنْفَعَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَيُمْكِنُ تَصْوِيرُهُ عَلَى مَنْفَعَةٍ مُبَاحَةٍ مِثْلُ الْحَرِيرِ الْمُفَصَّلِ لِلرِّجَالِ، وَخَاتَمِ الذَّهَبِ لِلرَّجُلِ وَآنِيَةِ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلِلرَّجُلِ دُخُولُهُ بِإِزَارٍ إذَا أَمِنَ النَّظَرَ الْمُحَرَّمَ ذَكَرَهُ أَبُو الْبَرَكَاتِ وَابْنُ تَمِيمٍ. وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى مَعَ ظَنِّ السَّلَامَةِ غَالِبًا، وَإِنْ خَافَ ذَلِكَ كُرِهَ لِأَنَّ مَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ وَإِنْ عَلِمَ وُقُوعَهُ حَرُمَ عَلَيْهِ انْتَهَى كَلَامُهُ وَيَتَوَجَّهُ التَّحْرِيمُ إنْ ظَنَّ الْوُقُوعَ فِي الْمَحْذُورِ، وَقَدْ قَالَ فِي الشَّرْعِ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ عَلِمْت أَنَّ كُلَّ مَنْ فِي الْحَمَّامِ عَلَيْهِ إزَارٌ فَادْخُلْهُ وَإِلَّا فَلَا تَدْخُلْ وَكَذَا أَحْوَالُ الْمَرْأَةِ إنْ دَخَلَتْهُ لِحَيْضٍ، أَوْ نِفَاسٍ أَوْ مَرَضٍ، أَوْ جَنَابَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَوْ لِخَوْفِ تَغَسُّلِهَا فِي الْبَيْتِ، أَوْ تَعَذُّرِهِ فِيهِ وَإِلَّا حَرُمَ عَلَيْهَا دُخُولُهُ، وَاخْتَارَ أَبُو الْفَرَجِ الْجَوْزِيُّ، وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا اعْتَادَتْ الْحَمَّامَ وَشَقَّ عَلَيْهَا تَرْكُ دُخُولِهِ إلَّا لِعُذْرٍ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهَا دُخُولُهُ، وَلَا تَتَعَرَّى مُسْلِمَةٌ بِحَضْرَةِ ذِمِّيَّةٍ فِيهِ وَلَا فِي غَيْرِهِ، وَقِيلَ: لِلْمَرْأَةِ دُخُولُهُ فِي قَمِيصٍ. خَفِيفٍ تَصُبُّ الْمَاءَ فَوْقَهُ وَقِيلَ: هَذَا فِي حَمَّامِ الزَّبُونِ لَا فِي حَمَّامِ بَيْتِهَا.

فَصْلٌ فِي أَحْكَامٍ وَآدَابٍ تَتَعَلَّقُ بِالْحَمَّامِ) وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ اللَّهِ فِي الْحَمَّامِ نَصَّ عَلَيْهِ وَقَطَعَ بِهِ جَمَاعَةٌ وَعَنْهُ التَّوَقُّفُ وَقِيلَ: يُكْرَهُ قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيُكْرَهُ لَهُ الْكَلَامُ فِي مَوَاضِعِ الْمِهَنِ الْمُسْتَقْذَرَةِ كَالْحَمَّامِ وَالْخَلَاءِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَا يُسَلِّمُ وَلَا يَرُدُّ عَلَى مُسْلِمٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُ الْقِرَاءَةِ فِيهِ، وَيُجْزِئُ الْغُسْلُ وَالْوُضُوءُ بِمَاءِ الْحَمَّامِ نَصَّ عَلَيْهِ وَقَالَ تَارَةً يَغْتَسِلُ مِنْ الْأُنْبُوبِ، فَإِنْ كَانَتْ يَدُهُ نَجِسَةٌ وَلَا إنَاءَ مَعَهُ أَخَذَ الْمَاءَ بِفِيهِ وَغَسَلَهَا. وَقَالَ فِي الشَّرْحِ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ لَا بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْأُنْبُوبَةِ وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ عِنْدِي مَاءُ الْحَمَّامِ طَاهِرٌ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْجَارِي وَهَلْ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يُكْرَهُ لِأَنَّهُ يُبَاشِرُهُ مَنْ يَتَحَرَّى وَمَنْ لَا يَتَحَرَّى وَحَكَاهُ ابْنُ عَقِيلٍ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ (وَالثَّانِي) لَا يُكْرَهُ لِكَوْنِ الْأَصْلُ طَهَارَتُهُ فَهُوَ كَالْمَاءِ الَّذِي شَكَكْنَا فِي نَجَاسَتِهِ كَذَا. قَالَ بَعْضُهُمْ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ هَذَا مَاءٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ فَمُقْتَضَى الْخِلَافِ فِيهِ أَنْ يَجْرِيَ فِي كُلِّ مَاءٍ مَشْكُوكٍ فِي نَجَاسَتِهِ. وَيُكْرَهُ الِاغْتِسَالُ فِي الْمُسْتَحَمِّ وَدُخُولُ الْمَاءِ بِلَا مِئْزَرٍ وَعَنْهُ لَا يُكْرَهُ. وَهَلْ يَحْرُمُ كَشْفُ عَوْرَتِهِ خَلْوَةً لِغَيْرِ حَاجَةٍ أَوْ يُكْرَهُ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ قَدَّمَ ابْنُ تَمِيمٍ عَدَمَ الْكَرَاهَةِ، وَيُبَاحُ كَشْفُهَا لِخِتَانٍ وَتَدَاوٍ وَمَعْرِفَةِ بُلُوغٍ وَبَكَارَةٍ وَوِلَادَةٍ وَعَيْبٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَالَ ابْن الْجَوْزِيِّ فِي مِنْهَاجِ الْقَاصِدِينَ وَيُكْرَهُ دُخُولُ الْحَمَّامِ قَرِيبًا مِنْ الْغُرُوبِ وَبَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ فَإِنَّهُ وَقْتُ انْتِشَارِ الشَّيَاطِينِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِهِ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ قَالَ صَالِحٌ كَانَ أَبِي يَتَنَوَّرُ فِي الْبَيْتِ إلَّا أَنَّهُ قَالَ لِي يَوْمًا أُرِيدُ أَنْ أَدْخُلَ الْحَمَّامَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَكَانَ يَوْمًا شَتْوِيًّا قُلْ لِصَاحِبِ الْحَمَّامِ فَقُلْت لَهُ فَلَمَّا كَانَ الْمَغْرِبُ قَالَ: ابْعَثْ إلَيْهِ فَقَالَ لَهُ إنِّي قَدْ صُرِفَتْ عَنْ الدُّخُولِ، وَتَنَوَّرَ فِي الْبَيْتِ.

فصل دخول الحمام والخروج منه والطلاء بالنورة فيه وفي البيت

[فَصْلٌ دُخُولُ الْحَمَّامِ وَالْخُرُوجُ مِنْهُ وَالطِّلَاءُ بِالنُّورَةِ فِيهِ وَفِي الْبَيْتِ] ِ) يُسَنُّ فِي الْجَنَابَةِ وَقِيلَ فِي الْوُضُوءِ كَذَا فِي الرِّعَايَةِ تَقْدِيمُ يُسْرَاهُ فِي دُخُولِ الْحَمَّامِ وَالْمُغْتَسَلِ وَنَحْوِهِمَا، وَالْأَوْلَى فِي الْحَمَّامِ أَنْ يَغْسِلَ إبِطَيْهِ وَقَدَمَيْهِ بِمَاءٍ بَارِدٍ عِنْدَ دُخُولِهِ، وَيَلْزَمَ الْحَائِطَ وَيَقْصِدَ مَوْضِعًا خَالِيًا وَلَا يَدْخُلَ فِي الْبَيْتِ الْحَارِّ حَتَّى يَعْرَقَ فِي الْبَيْتِ الْأَوَّلِ وَيُقَلِّلَ الِالْتِفَاتَ. وَلَا يُطِيلَ الْمُقَامَ إلَّا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَيَغْسِلَ قَدَمَيْهِ عِنْدَ خُرُوجِهِ بِمَاءٍ بَارِدٍ قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ فَإِنَّهُ يُذْهِبُ الصُّدَاعَ. وَلِلرَّجُلِ أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَ زَوْجَتِهِ وَأَمَتِهِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَحْلِقَ عَانَتَهُ وَيَنْتِفَ إبِطَيْهِ، وَإِنْ اسْتَعْمَلَ النُّورَةَ فِي ذَلِكَ فَحَسَنٌ قَدْ رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَأَنَسٌ وَغَيْرُهُمَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَنَوَّرُ وَكَانَ إذَا بَلَغَ عَانَتَهُ نَوَّرَهَا بِنَفْسِهِ» . وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ إذَا بَلَغَ مُرَاقَهُ وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَنَوَّرَ فِي الْعَوْرَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ بَدَنِهِ قَمِيصًا، أَوْ دُونَهُ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَطْلِيَهُ غَيْرَهُ فِيمَا عَدَا الْعَوْرَةِ. وَقَدْ عَمِلَ أَحْمَدُ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ، نَوَّرْنَا أَبَا عَبْدَ اللَّهِ فَلَمَّا بَلَغَ عَانَتَهُ نَوَّرَهَا بِنَفْسِهِ. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: أَصْلَحْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ النُّورَةَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَاشْتَرَيْت لَهُ جِلْدًا لِيَدِهِ فَكَانَ يَدْخُلُ فِيهِ وَيُنَوِّرُ نَفْسَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَنَوَّرُونَ فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَطْلِي جَمِيعَ جَسَدِهِ قَمِيصًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَسَرْوَلُ، وَأَوَّلُ مَنْ صُنِعَتْ لَهُ النُّورَةُ وَدَخَلَ الْحَمَّامَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا تَزَوَّجَ بِلْقِيسَ قَالَتْ: لَهُ لَمْ يَمَسَّنِي حَدِيدٌ قَطُّ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ لِلشَّيَاطِينِ اُنْظُرُوا إلَى شَيْءٍ يُذْهِبُ الشَّعْرَ فَقَالُوا: النُّورَةُ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صُنِعَتْ لَهُ. وَذَكَرَ عُلَمَاءُ الطِّبِّ أَنَّ فِي الِاطِّلَاءِ بِالنُّورَةِ فَوَائِدَ مِنْهَا أَنَّهَا تَثُورُ الْأَخْلَاطَ وَتَجْذِبُهَا وَذَكَرُوا أَيْضًا أَنَّ مَنْ أُطْلِيَ بِهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي إزَارٍ فِي كُلِّ

أُسْبُوعٍ مَرَّةً اسْتَغْنَى بِذَلِكَ عَنْ الْفَصْدِ، وَالْحِجَامَةِ وَشُرْبِ الْمُسَهِّلِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُخْلَطَ بِالنُّورَةِ يَسِيرٌ مِنْ شَحْمِ الْحَنْظَلِ لِيَأْمَنَ الْحَكَّةَ فِي مَوَاضِعِهَا وَيَطْلِيَ بَعْدَهَا بِالْحِنَّاءِ، وَالْعُصْفُرِ لِتَبْرِيدِ الْبَدَنِ وَإِذْهَابِ الْكَلَفِ الْحَادِثِ بِإِبْرَازِهَا الْأَخْلَاطَ إلَى ظَاهِرِ الْجِلْدِ وَذَكَرَ هَذَا كُلَّهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَذَكَرَ بَعْضَهُ غَيْرُهُ. وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الْخَلَّالُ فِي الْعِلَلِ قَالَ مُهَنَّا سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حَدِيثِ كَامِلِ بْنِ الْعَلَاءِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ الْحَدِيثَ فَقَالَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ قَتَادَةَ قَالَ «مَا أَطْلَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَطْلِي وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ وَلَا عُثْمَانُ.» رَوَاهُ الْخَلَّالُ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَسْنَدَهُ كَامِلُ بْنُ الْعَلَاءِ وَأَرْسَلَهُ مِنْ نَاسٍ أَوْثَقَ مِنْهُ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيَّ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ الْأَلْهَانِيِّ عَنْ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْخُلُ الْحَمَّامَ وَيَتَنَوَّرُ» قَالَ وَلَيْسَ بِالْمَعْرُوفِ بَعْضُ رِجَالِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُصُولِ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ النُّورَةِ، وَالْمُوسَى فِي حَلْقِ الشَّعْرِ، فَأَمَّا أَحْمَدُ فَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَتَنَوَّرُ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْأَثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَنَسٌ «لَمْ يَتَنَوَّرْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَطُّ وَكَانَ إذَا كَثُرَ عَلَيْهِ الشَّعْرُ حَلَقَهُ» . وَقَدْ رَوَى مَنْصُورٌ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَطْلَى وَوَلِيَ عَانَتَهُ بِيَدِهِ» كَذَا قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي النُّورَةِ فِي الْمُفْرَدَاتِ فِي فُصُولِ الطِّبِّ.

فصل في أقوال الأطباء في الحمام

[فَصْلٌ فِي أَقْوَالِ الْأَطِبَّاءِ فِي الْحَمَّامِ] قَالَ الْأَطِبَّاءُ الْحَمَّامُ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ أَهْوِيَتِهِ وَمَبَانِيهِ وَمَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ مِنْ الدُّهْنِ والنمريخ. وَسَبَقَ فِي فُصُولِ الطِّبِّ الْكَلَامُ فِي الدُّهْنِ، وَالْمَاءِ وَأَمَّا الدَّلْكُ فِي الْحَمَّامِ فَإِنَّهُ يَفْتَحُ الْمَسَامَّ وَيُحَلِّلُ الْبُخَارَ وَيُذَوِّبُ الْخَلْطَ فَإِنْ أَفْرَطَ أَحْدَثَ الْبُثُورَ. قَالَهُ ابْنُ جَزْلَةَ وَقَالَ ابْنُ جُمَيْعٍ الصَّيْدَاوِيُّ يُصَلِّبُ الْأَعْضَاءَ وَيُحَلِّلُ الرُّطُوبَةَ، وَالْمُعْتَدِلُ يَجْلِبُ الدَّمَ ظَاهِرَ الْجَسَدِ قَالَ والنمريخ بِالدُّهْنِ يَسُدُّ الْمَسَامَّ قَالَ ابْنُ جَزْلَةَ فَإِنَّ بَعْدَ الِاسْتِحْمَامِ بِالْمَاءِ الْحَارِّ حِفْظُ الْحَرَارَةِ، وَالرُّطُوبَةِ، وَأَجْوَدُ الْحَمَّامَاتِ مَا كَانَ شَاهِقًا عَذْبَ الْمَاءِ مُعْتَدِلَ الْحَرَارَةِ مُعْتَدِلَ الْبُيُوتِ. وَالْحَمَّامُ قَدْ جَمَعَ الْكَيْفِيَّاتِ الْأَرْبَعَةِ وَهُوَ يُوَسِّعُ الْمَسَامَّ وَيَسْتَفْرِغُ الْفَضَلَاتِ وَيُحَلِّلُ الرِّيَاحَ وَيَحْبِسُ الطَّبْعَ إذَا كَانَتْ سُهُولَتُهُ عَنْ هَيْضَةٍ وَيُنَظِّفُ الْوَسَخَ، وَالْعُرُوقَ وَيُذْهِبُ الْحَكَّةَ، وَالْجَرَبَ، وَيُذْهِبُ الْإِعْيَاءَ وَيُرَطِّبُ الْبَدَنَ وَيُجَوِّدُ الْهَضْمَ وَيُنْضِجُ النَّزَلَاتِ، وَالزُّكَامَ، وَيَنْفَعُ مِنْ حُمَّى يَوْمٍ، وَالدَّقِّ، وَالرَّبْعِ، وَيُسَمِّنُ الْمَهْزُولَ وَيُهَزِّلُ السَّمِينَ، وَيَنْفَعُ جَمِيعَ الْأَمْزِجَةِ. وَفِيهِ مَضَارُّ، يُسَهِّلُ انْصِبَابَ الْفَضَلَاتِ إلَى الْأَعْضَاءِ الضَّعِيفَةِ وَيُرْخِي الْجَسَدَ وَيُضَعِّفُ الْحَرَارَةَ عِنْدَ طُولِ الْمُقَامِ فِيهِ، وَيُسْقِطُ شَهْوَةَ الطَّعَامِ وَيُضْعِفُ الْبَاهَ، وَالْعَصَبَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَمْتَشِطَ فِيهِ فَإِنَّهُ يُقَوِّي الْبَصَرَ، وَمَنْ قَصَدَ تَسْمِينَ بَدَنِهِ دَخَلَ عَلَى الِامْتِلَاءِ وَلَا يُطِيلُ اللُّبْثَ وَبِالضِّدِّ، وَمَنْ قَصَدَ حِفْظَ الصِّحَّةِ دَخَلَ عِنْدَ آخِرِ الْهَضْمِ بِحَيْثُ إذَا خَرَجَ يَأْكُلُ، وَيَجْتَنِبُ الْجِمَاعَ فِي الْحَمَّامِ وَأَنْ يَسْتَعْمِلَ بَعْدَهُ الْأَشْيَاءَ الْبَارِدَةَ بِالْفِعْلِ، وَالْحَارَّةَ بِالْفِعْلِ فَفِي ذَلِكَ خَطَرٌ، وَالْمُقَامُ الْكَثِيرُ فِي الْحَمَّامِ يُجَفِّفُ وَرُبَّمَا بَرَّدَ، وَالْقَلِيلُ يُسَخِّنُ وَيُرَطِّبُ. قَالَ ابْنُ سِينَا: لَا يُطِيلُ فِيهِ فَإِنَّهُ يُخَافُ مِنْهُ الدَّقُّ، وَالِاسْتِسْقَاءُ، أَمَّا الدَّقُّ فَلِاشْتِدَادِ سُخُونَةِ الْقَلْبِ وَأَمَّا الِاسْتِسْقَاءُ فَلِكَثْرَةِ تَحَلُّلِ الْحَارِّ الْغَرِيزِيِّ فَيُبَرَّدُ مِزَاجُ الْأَعْضَاءِ، وَكَذَلِكَ شُرْبُ الْأَشْيَاءِ الْبَارِدَةِ فِيهِ مِثْلُ النُّقَاعِ، وَالْمَاءُ الْبَارِدُ فِيهِ خَطَرٌ عَظِيمٌ جِدًّا لِأَنَّهُ قَدْ يُبَرِّدُ الْكَبِدَ، وَالْقَلْبَ بِهُجُومِهِ عَلَيْهِمَا، وَيُبَرِّدُ

الْأَحْشَاءَ وَيُضْعِفُهَا وَيُهَيِّئُهَا لِلِاسْتِسْقَاءِ، وَصَبُّ الْمَاءِ الْبَارِدِ عَلَى الرِّجْلَيْنِ بَعْدَ الْحَمَّامِ يُنْعِشُ الْقُوَّةَ الْمُسْتَرْخِيَةَ مِنْ الْكَرْبِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْبَارِدِ بَعْدَ الْحَارِّ مَنَافِعُ عَظِيمَةٌ فِي تَقْوِيَةِ الْأَعْضَاءِ وَلَكِنْ لَا تَكُونُ بَغْتَةً بَلْ يَنْتَقِلُ إلَى الْفَاتِرِ، ثُمَّ إلَى الْبَارِدِ قَالَ ابْنُ ماسويه مَنْ دَخَلَ الْحَمَّامَ وَهُوَ مُمْتَلِئٌ فَأَصَابَهُ الْفَالِجُ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ شَمْسُ الْمَعَالِي: أَنْتَ فِي الْحَمَّامِ مَوْقُوفٌ ... عَلَى بَصَرِي وَسَمْعِي فَتَأَمَّلْهَا تَجِدْهَا ... كُوِّنَتْ مِنْ بَعْضِ طَبْعِي حَرُّهَا مِنْ حَرِّ أَنْفَاسِي ... وَفَيْضُ الْمَاءِ دَمْعِي وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنَ رَاهْوَيْهِ قَالَ: أَدْخُلُ الْحَمَّامَ وَأَنَا شَيْخٌ وَأَخْرُجُ وَأَنَا شَابٌّ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ كَانَ إذَا دَخَلَ الْحَمَّامَ، ثُمَّ خَرَجَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَاسْتَغْفَرَ لِمَا رُئِيَ مِنْهُ، أَوْ رَأَى مِنْ نَفْسِهِ.

فصل الأخبار والآثار في دخول الحمام ومنها نهي النساء عنه

[فَصْلٌ الْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ فِي دُخُولِ الْحَمَّامِ وَمِنْهَا نَهْيُ النِّسَاءِ عَنْهُ] ُ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مِنْ ذُكُورِ أُمَّتِي فَلَا يَدْخُلْ الْحَمَّامَ إلَّا بِمِئْزَرٍ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مِنْ إنَاثِ أُمَّتِي فَلَا يَدْخُلْ الْحَمَّامَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى الرِّجَالَ، وَالنِّسَاءَ عَنْ الْحَمَّامَاتِ، ثُمَّ رَخَّصَ لِلرِّجَالِ أَنْ يَدْخُلُوهَا فِي الْمِئْزَرِ وَلَمْ يُرَخِّصْ لِلنِّسَاءِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ لَيْسَ إسْنَادُهُ بِالْقَائِمِ. وَعَنْهَا أَيْضًا مَرْفُوعًا «أَيُّمَا امْرَأَةٍ تَضَعُ ثِيَابَهَا فِي غَيْرِ بَيْتِ زَوْجِهَا إلَّا هَتَكَتْ السِّتْرَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَبِّهَا» إسْنَادُهُ جَيِّدٌ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ أَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَدْخُلْ الْحَمَّامَ إلَّا بِمِئْزَرٍ» حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَالَ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ ثَنَا سُفْيَانُ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «احْذَرُوا بَيْتًا يُقَالُ لَهُ الْحَمَّامُ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّهُ يُنَقِّي مِنْ الْوَسَخِ، وَالْأَذَى قَالَ: فَمَنْ دَخَلَهُ مِنْكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ» وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ مَوْصُولًا يَذْكُرُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيهِ قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ هَذَا أَصَحُّ إسْنَادِ حَدِيثٍ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى أَنَّ النَّاسَ يُرْسِلُونَهُ عَنْ طَاوُسٍ وَأَمَّا مَا خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد فِي هَذَا مِنْ الْحَظْرِ، وَالْإِبَاحَةِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ شَيْءٌ لِضَعْفِ الْأَسَانِيدِ وَكَذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَرَوَى حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ مُسْنَدًا وَمُرْسَلًا. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ نِعْمَ الْبَيْتُ الْحَمَّامُ يُنَقِّي مِنْ الدَّرَنِ وَيُذَكِّرُ بِالنَّارِ، وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَعْنَاهُ وَكَانَ يَدْخُلُهُ. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ بِئْسَ الْبَيْتُ الْحَمَّامُ نَزَعَ مِنْ أَهْلِهِ الْحَيَاءَ، وَلَا يُقْرَأُ فِيهِ الْقُرْآنُ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ لَا تَدْخُلُوا هَذِهِ الْحَمَّامَاتِ فَإِنَّهَا مِمَّا أَحْدَثُوا مِنْ النَّعِيمِ

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَدْخُلُهُ وَعَنْهُ أَيْضًا قَالَ: لَا تَدْخُلْ الْحَمَّامَ إلَّا أَنْ تَشْتَكِيَ. وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَا يَدْخُلَنَّ أَحَدٌ الْحَمَّامَ إلَّا بِمِئْزَرٍ وَلَا يَذْكُرْ اللَّهَ فِيهِ حَتَّى يَخْرُجَ وَلَا يَغْتَسِلْ اثْنَانِ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ رَوَى هَذِهِ الْآثَارَ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: بِئْسَ الْبَيْتُ الْحَمَّامُ يَكْشِفُ الْعَوْرَةَ وَيُذْهِبُ الْحَيَاءَ. وَعَنْهُ أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نِعْمَ الْبَيْتُ الْحَمَّامُ يَدْخُلُهُ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهِ الْجَنَّةَ وَيَسْتَعِيذُ بِهِ مِنْ النَّارِ» قَالَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ فَيَقُولُ: نِعْمَ الْبَيْتُ الْحَمَّامُ يُذْهِبُ الْوَسَخَ وَيُذَكِّرُ النَّارَ، وَيَقُولُ: بِئْسَ الْبَيْتُ الْحَمَّامُ إنَّهُ يَكْشِفُ عَنْ أَهْلِهِ الْحَيَاءَ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ قَدْ رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ نِعْمَ الْبَيْتُ الْحَمَّامُ يَذْهَبُ بِالْوَسَخِ وَيُذَكِّرُ بِالنَّارِ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «إنَّهَا سَتُفْتَحُ لَكُمْ أَرْضُ الْعَجَمِ وَسَتَجِدُونَ فِيهَا بُيُوتًا يُقَالُ لَهَا الْحَمَّامَاتُ فَلَا يَدْخُلْهَا الرِّجَالُ إلَّا بِإِزَارٍ وَامْنَعُوا النِّسَاءَ إلَّا مَرِيضَةً أَوْ نُفَسَاءَ» إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ فِيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ الْإِفْرِيقِيُّ وَغَيْرُهُ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ قَالَ مَا رَأَيْت أَبِي دَخَلَ الْحَمَّامَ قَطُّ وَذَكَرَ أَيْضًا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ دَخَلَ الْحَمَّامَ فَقَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ.

فصل فيما يسن من اتخاذ الشعر وتسريحه وفرقه ومن إعفاء اللحية

[فَصْلٌ فِيمَا يُسَنُّ مِنْ اتِّخَاذِ الشَّعْرِ وَتَسْرِيحِهِ وَفَرْقِهِ وَمِنْ إعْفَاءِ اللِّحْيَةِ] ِ) يُسَنُّ أَنْ يَغْسِلَ شَعْرَهُ وَيُسَرِّحَهُ وَيَفْرُقَهُ وَيَجْعَلَهُ الرَّجُلُ إلَى مَنْكِبَيْهِ، أَوْ إلَى فُرُوعِ أُذُنَيْهِ، أَوْ شَحْمَتَيْهِمَا وَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْعَلَهُ ذُؤَابَةً وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ إنْ لَمْ يَخْرُجْ إلَى شُهْرَةٍ، أَوْ نَقْصِ مُرُوءَةٍ، أَوْ إزْرَاءٍ بِصَاحِبِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا قَالُوا: فِي اللِّبَاسِ وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ أَحْمَدَ فَإِنَّهُ لَمَّا قِيلَ: لَهُ إنَّ فِي فَرْقِ الشَّعْرِ شُهْرَةٌ أَجَابَ بِأَنَّهُ سُنَّةٌ وَبِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ. وَيُسَنُّ أَنْ يُعْفِيَ لِحْيَتَهُ وَقِيلَ: قَدْرَ قَبْضَةٍ وَلَهُ أَخْذُ مَا زَادَ عَنْهَا وَتَرْكُهُ نَصَّ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: تَرْكُهُ أَوْلَى. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ وَفِّرُوا اللِّحَى وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ زَادَ الْبُخَارِيُّ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا حَجَّ وَاعْتَمَرَ قَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ فَمَا فَضَلَ أَخَذَهُ. وَيُسَنُّ أَنْ يَنْتِفَ إبِطَيْهِ فَإِنْ شَقَّ؛ حَلَقَهُمَا أَوْ نَوَّرَهُمَا وَقِيلَ: يُكْرَهُ إكْثَارُ التَّنْوِيرِ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَسُئِلَ عَنْ اتِّخَاذِ الشَّعْرِ قَالَ: سُنَّةٌ حَسَنَةٌ وَلَوْ أَمْكَنَنَا اتَّخَذْنَاهُ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَوْ كُنَّا نَقْوَى عَلَيْهِ لَاتَّخَذْنَاهُ وَلَكِنْ لَهُ كُلْفَةٌ وَمُؤْنَةٌ. وَسَأَلَهُ أَبُو الْحَارِثِ عَنْ الرَّجُلِ يَتَّخِذُ الشَّعْرَ وَيُطَوِّلُهُ فَقَالَ فِي الْفَرْقِ سُنَّةٌ، فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُشَهِّرُ نَفْسَهُ فَقَالَ «إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَقَ شَعْرَهُ وَأَمَرَ بِالْفَرْقِ،» وَرَوَى أَبُو دَاوُد أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ كَانَ لَهُ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ» .

فصل في تقليم الأظافر وسائر خصال الفطرة

[فَصْلٌ فِي تَقْلِيمِ الْأَظَافِرِ وَسَائِرِ خِصَالِ الْفِطْرَةِ] ِ) وَيُسَنُّ أَنْ يُقَلِّمَ أَظَافِرَهُ مُخَالِفًا كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ زَادَ بَعْضُهُمْ قَبْلَ الزَّوَالِ لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «إنَّ مَنْ قَصَّ أَظَافِرَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ دَخَلَ فِيهِ شِفَاءٌ وَخَرَجَ مِنْهُ دَاءٌ» رَوَاهُ ابْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْفَضِيلَةُ، وَالِاسْتِحْبَابُ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَهُوَ قَوْلٌ فِي الرِّعَايَةِ وَاَلَّذِي فِي الشَّرْحِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَلِّمَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ لِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمْرِهِ عَلِيًّا بِذَلِكَ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يُقَلِّمَ أَظْفَارَهُ عِنْدَ سُفْيَانَ وَكَانَ يَوْمَ الْخَمِيسِ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ لَوْ تَرَكْته إلَى غَدٍ الْجُمُعَةِ فَقَالَ سُفْيَانُ لَا تُؤَخِّرْ السُّنَّةُ لِشَيْءٍ، وَيُسَنُّ أَنْ يُقَلِّمَهَا كُلَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَأَقَلَّ لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ وَقِيلَ: الْمُقِيمُ كُلَّ عِشْرِينَ يَوْمًا، وَالْمُسَافِرُ كُلَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَقِيلَ: عَكْسُهُ وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ وَهُوَ أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ يُسْتَحَبُّ كَذَلِكَ كُلَّ أُسْبُوعٍ إنْ شَاءَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَإِنْ شَاءَ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَرَوَى ابْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنُ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ وَيَقُصُّ شَارِبَهُ كُلَّ جُمُعَةٍ. وَيُسَنُّ أَنْ يُقَلِّمَهَا مُخَالِفًا. وَصِفَتُهُ عَلَى مَا فَسَّرَهُ ابْنُ بَطَّةَ أَنْ يَبْدَأَ بِخِنْصَرِ الْيُمْنَى، ثُمَّ الْوُسْطَى، ثُمَّ الْإِبْهَامِ، ثُمَّ الْبِنْصِرِ، ثُمَّ السَّبَّابَةِ، ثُمَّ إبْهَامِ الْيُسْرَى، ثُمَّ الْوُسْطَى، ثُمَّ الْخِنْصَرِ، ثُمَّ السَّبَّاحَةِ، ثُمَّ الْبِنْصِرِ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ يَبْدَأُ بِإِبْهَامِ الْيُمْنَى، ثُمَّ الْوُسْطَى، ثُمَّ الْخِنْصَرِ، ثُمَّ السَّبَّاحَةِ، ثُمَّ الْبِنْصِرِ، ثُمَّ الْيُسْرَى كَذَلِكَ، وَقِيلَ: يَبْدَأُ بِالسَّبَّاحَةِ مِنْ يَدِهِ الْيُمْنَى مِنْ غَيْرِ مُخَالَفَةٍ إلَى خِنْصَرِهَا، ثُمَّ بِخِنْصَرِ الْيُسْرَى وَيَخْتِمُ بِإِبْهَامِ الْيُمْنَى قَالَ الْقَاضِي. وَقَدْ رَوَى وَكِيعٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا أَنْتِ قَلَّمْت أَظْفَارَكِ فَابْدَئِي بِالْخِنْصَرِ، ثُمَّ الْوُسْطَى، ثُمَّ الْإِبْهَامِ، ثُمَّ الْبِنْصِرِ، ثُمَّ السَّبَّابَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُورِثُ الْغِنَى» وَهَذَا قَوْلٌ فِي الرِّعَايَةِ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «مَنْ قَصَّ أَظْفَارَهُ مُخَالِفًا لَمْ يَرَ فِي عَيْنَيْهِ رَمَدًا

» رَوَاهُ ابْنُ بَطَّةَ وَيُجْتَنَبُ الِاسْتِقْصَاءُ فِي الظُّفْرِ فِي الْغَزْوِ. وَيُسْتَحَبُّ غَسْلُ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ بَعْدَ التَّقْلِيمِ، وَيَدْفِنُ الْقُلَامَةَ نَصَّ عَلَيْهِ لِفِعْلِ ابْنِ عُمَرَ وَكَذَا الشَّعْرُ وَدَمُ الْحِجَامَةِ، وَالْفَصْدُ، وَالتَّشْرِيطُ. وَيُسْتَحَبُّ نَتْفُ الْإِبِطِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ فِي الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِنْ أَزَالَ بِمِقْرَاضٍ، أَوْ نُورَةٍ وَنَحْوِهِ فَلَا بَأْسَ. قَالَ أَحْمَدُ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات: 25] {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 26] . قَالَ يُلْقُونَ الْأَحْيَاءُ فِيهَا الدَّمَ، وَالشَّعْرَ، وَالْأَظَافِيرَ وَتَدْفِنُونَ فِيهَا مَوْتَاكُمْ، وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ، ثُمَّ قَالَ لِرَجُلٍ ادْفِنْهُ لَا يَبْحَثُ عَلَيْهِ كَلْبٌ» وَرَوَى الْخَلَّالُ وَابْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادِهِمَا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ وَيَدْفِنُهَا» وَرَوَى وَكِيعٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ كَانَ يَسْتَحِبُّ دَفْنَهَا وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ أَمَرَ بِدَفْنِ الدَّمِ، وَالشَّعْرِ» قَالَ مُهَنَّا سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يَأْخُذُ مِنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ أَيَدْفِنُهُ أَمْ يُلْقِيهِ؟ قَالَ يَدْفِنُهُ قُلْت بَلَغَك فِيهِ شَيْءٌ قَالَ ابْنُ عُمَرَ يَدْفِنُهُ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ تَنْظِيفَ الْعَانَةِ، وَالْإِبِطِ وَحَفَّ الشَّارِبِ أَكْثَرَ مِنْ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «خَمْسٌ مِنْ الْفِطْرَةِ الْخِتَانُ، وَالِاسْتِحْدَادُ وَقَصُّ الشَّارِبِ وَنَتْفُ الْإِبِطِ وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ

وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَنَتْفِ الْإِبِطِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ أَنْ لَا نَتْرُكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَقَالُوا وَقَّتَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي الْغُنْيَةِ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي تَصْحِيحِ هَذَا الْحَدِيثِ فَرُوِيَ عَنْهُ إنْكَارُهُ، وَرُوِيَ عَنْهُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي التَّوْقِيتِ بِهَذَا الْمِقْدَارِ. وَقَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ، وَالتَّلْخِيصِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْمِرْآةِ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ حَاجِبَيْهِ إذَا طَالَا بِالْمِقْرَاضِ، وَيَتَطَيَّبَ فِي بَدَنِهِ وَثِيَابِهِ بِمَا لَا لَوْنَ فِيهِ، وَالْمَرْأَةُ قِيلَ: الْبَرْزَةُ بِمَا لَهُ لَوْنٌ لَا رَائِحَةَ مِنْ بَعِيدٍ نَصَّ عَلَيْهِ كَذَا فِي الرِّعَايَةِ وَغَيْرِهَا.

فصل الأخبار والآثار في الحجامة واختيار يوم لها

[فَصْلٌ الْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ فِي الْحِجَامَةِ وَاخْتِيَارِ يَوْمٍ لَهَا] ) رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «اسْتَعِينُوا بِالْحِجَامَةِ عَلَى شِدَّةِ الْحَرِّ» قَالَ مُهَنَّا لِأَحْمَدَ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ عَنْ عَوْفٍ إلَّا مُرْسَلًا وَتُكْرَهُ الْحِجَامَةِ فِي يَوْمِ السَّبْتِ وَيَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَجَمَاعَةٍ وَزَادَ أَحْمَدُ رِوَايَةَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ حَسَّانَ وَيَقُولُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهَذَا الَّذِي قَطَعَ بِهِ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَحْتَجِمُ يَوْمَ الْأَحَدِ وَيَوْمَ الثُّلَاثَاءِ قَالَ الْقَاضِي فَقَدْ بَيَّنَ اخْتِيَارَ يَوْمِ الْأَحَدِ، وَالثُّلَاثَاءِ وَكَرِهَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَالْأَرْبِعَاءِ وَتَوَقَّفَ فِي الْجُمُعَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّهُ إذَا تَوَقَّفَ فِي شَيْءٍ خَرَجَ فِيهِ وَجْهَانِ. وَعَنْ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا «مَنْ احْتَجَمَ يَوْمَ السَّبْتِ، أَوْ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ فَأَصَابَهُ وَضَحٌ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ.» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ وَاحْتَجَّ بِهِ قَالَ أَبُو دَاوُد وَقَدْ أُسْنِدَ وَلَا يَصِحُّ. وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيّ أَنَّهُ وَصَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَضَعَّفَ ذَلِكَ، وَالْمَحْفُوظُ مُنْقَطِعٌ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مَكْحُولٍ مُرْسَلًا.، وَالْوَضَحُ الْبَرَصُ وَحُكِيَ لِأَحْمَدَ أَنَّ رَجُلًا احْتَجَمَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَاسْتَخَفَّ بِالْحَدِيثِ وَقَالَ مَا هَذَا الْحَدِيثُ؟ فَأَصَابَهُ وَضَحٌ، فَقَالَ أَحْمَدُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَخِفَّ بِالْحَدِيثِ رَوَاهُ الْخَلَّالُ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «أَنَّ فِي الْجُمُعَةِ سَاعَةٌ لَا يَحْتَجِمُ فِيهَا مُحْتَجِمٌ إلَّا عَرَضَ لَهُ دَاءٌ لَا يُشْفَى مِنْهُ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَفِيهِ عَطَّافُ بْنُ خَالِدٍ وَفِيهِ ضَعْفٌ قَالَ الْعُلَمَاءُ بِالطِّبِّ يَنْبَغِي أَنْ يَجْتَنِبَ الْمُحْتَجِمُ أَكْلَ الْمِلْحِ، وَالْمَمْلُوحِ ثَلَاثِينَ سَاعَةً لِأَنَّهُ يُورِثُ الْجَرَبَ، قَالُوا وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْكُلَ فِي الشِّتَاءِ الطباهجات وَفِي الصَّيْفِ السِّكْبَاجَ، ذَكَرَهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ. الْبَاهَجُ بِفَتْحِ الْهَاءِ طَعَامٌ مِنْ بَيْضٍ وَلَحْمٍ.

فصل في كراهة حلق الرأس في غير النسك وكراهة القزع في الحلق

[فَصْلٌ فِي كَرَاهَةِ حَلْقِ الرَّأْسِ فِي غَيْرِ النُّسُكِ وَكَرَاهَةِ الْقَزَعِ فِي الْحَلْقِ] ِ) وَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ حَلْقُ رَأْسِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ نَصَّ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ الْمَرُّوذِيُّ تَكْرَهُهُ قَالَ أَشَدَّ الْكَرَاهَةِ، ثُمَّ قَالَ كَانَ مَعْمَرٌ يَكْرَهُ الْحَلْقَ وَأَنَا أَكْرَهُهُ وَاحْتَجَّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ لَوْ وَجَدْتُك مَحْلُوقًا لَضَرَبْت الَّذِي فِيهِ عَيْنَاك، وَالرَّجُلُ هُوَ صَبِيغٌ السَّائِلُ لَهُ عَنْ الذَّارِيَاتِ وَصَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي الْخَوَارِجِ «سِيمَاهُمْ التَّحْلِيقُ» . وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْإِفْرَادِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تُوضَحُ النَّوَاصِي إلَّا فِي حَجٍّ، أَوْ عُمْرَةٍ» ، وَالْمُبَالَغَةُ فِي الْحَلْقِ مَكْرُوهَةٌ. قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّيَالِسِيُّ ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ خَالِدٍ فَذَكَرَ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْخَوَارِجِ «سِيمَاهُمْ التَّحَلُّقُ، وَالتَّسْبِيتُ» قَالَ جَعْفَرٌ قُلْت لِأَحْمَدَ مَا التَّسْبِيتُ قَالَ الْحَلْقُ الشَّدِيدُ لِيُشْبِهَ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ. وَعَنْ أَحْمَدَ لَا يُكْرَهُ الْحَلْقُ زَادَ فِي الشَّرْحِ لَكِنَّ تَرْكَهُ أَفْضَلُ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ الْقَزَعِ وَقَالَ احْلِقْهُ كُلَّهُ، أَوْ دَعْهُ كُلَّهُ» إسْنَادُهُ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ، وَعَزَاهُ بَعْضُهُمْ إلَى مُسْلِمٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ عَلَى إبَاحَةِ الْحَلْقِ فَأَمَّا أَخْذُهُ بِالْمِقْرَاضِ وَاسْتِئْصَالُهُ فَلَا يُكْرَهُ رِوَايَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ دَلَالَةَ الْكَرَاهَةِ تَخْتَصُّ بِالْحَلْقِ، وَيُكْرَهُ، لِلْمَرْأَةِ حَلْقُ رَأْسِهَا زَادَ غَيْرُ وَاحِدٍ وَقَصَّهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ رِوَايَةً وَاحِدَةً وَقِيلَ يَحْرُمَانِ عَلَيْهَا.

وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ خَلَاصٍ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَحْلِقَ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا» وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ فِيهِ اضْطِرَابٌ، وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَيُكْرَهُ حَلْقُ الْقَفَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ نَصَّ عَلَيْهِ وَقَالَ أَيْضًا هُوَ مِنْ فِعْلِ الْمَجُوسِ «وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» وَهَذَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَقَيَّدَ فِي الشَّرْحِ كَرَاهِيَةَ حَلْقِهِ لِمَنْ لَمْ يَحْلِقْ رَأْسَهُ وَهُوَ قَوْلٌ فِي الرِّعَايَةِ.

فصل في كون تغيير الشيب بصبغه سنة

[فَصْلٌ فِي كَوْنِ تَغْيِيرِ الشَّيْبِ بِصَبْغِهِ سُنَّةً] ً) وَيُسَنُّ تَغْيِيرُ الشَّيْبِ نَصَّ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: مَا يَسْتَحْيِي أَنْ يُخَضِّبَ؟ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنِّي لَأَرَى الشَّيْخَ الْمَخْضُوبَ فَأَفْرَحُ بِهِ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «إنَّ الْيَهُودَ، وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَيُسْتَحَبُّ بِحِنَّاءٍ وَكَتَمٍ لِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَإِسْنَادُهُ ثِقَاتٌ، وَلِفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، وَلَا بَأْسَ بِالْوَرْسِ، وَالزَّعْفَرَانِ قَالَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ وَفِي التَّلْخِيصِ، وَالشَّرْحِ وَقَدَّمَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ أَنَّ خِضَابَهُ بِغَيْرِ السَّوَادِ سُنَّةٌ وَقَالَ نَصَّ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو دَاوُد ثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُطَرِّفٍ ثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي رَوَّادٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ وَيُصَفِّرُ لِحْيَتَهُ بِالْوَرْسِ، وَالزَّعْفَرَانِ» . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ عَنْ أَبِيهِ «كَانَ خِضَابُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْوَرْسِ، وَالزَّعْفَرَانِ.» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَيُكْرَهُ بِالسَّوَادِ نَصَّ عَلَيْهِ قِيلَ: لَهُ تَكْرَهُ الْخِضَابَ بِالسَّوَادِ قَالَ إي وَاَللَّهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ وَالِدِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «وَجَنِّبُوهُ السَّوَادَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا أَبُو ثَوْبَةَ ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

«يَكُونُ قَوْمٌ يَخْضِبُونَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ بِالسَّوَادِ كَحَوَاصِلِ الْحَمَامِ لَا يَرِيحُونَ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ» إسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَعَبْدُ الْكَرِيمِ هُوَ ابْنُ مَالِكٍ الْجَزَرِيُّ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَالْكَرَاهَةُ فِي كَلَامِ أَحْمَدَ هَلْ هِيَ لِلتَّحْرِيمِ، أَوْ التَّنْزِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ وَرَخَّصَ فِيهِ إِسْحَاقُ بْن رَاهْوَيْهِ لِلْمَرْأَةِ تَتَزَيَّنُ بِهِ لِزَوْجِهَا. وَذَكَرَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِلْحَرْبِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اخْضِبُوا بِالسَّوَادِ فَإِنَّهُ آنَسُ لِلزَّوْجَةِ وَمَكِيدَةٌ لِلْعَدُوِّ» وَهَذَا خَبَرٌ لَا يَصِحُّ. وَفِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ أَنَّ الْمُحْتَسِبَ يَمْنَعُ مَنْ يَخْضِبُ بِهِ فِي الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُسْتَحَبُّ خِضَابُ الشَّيْبِ لِلرَّجُلِ، وَالْمَرْأَةِ بِصُفْرَةٍ، أَوْ حُمْرَةٍ وَيَحْرُمُ بِالسَّوَادِ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ، وَالْخَلَفِ تَرْكُ الْخِضَابِ أَفْضَلُ رُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَآخَرِينَ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَآخَرُونَ يَخْضِبُونَ بِالصُّفْرَةِ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَخَضَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ بِالْحِنَّاءِ، وَالْكَتَمِ وَبَعْضُهُمْ بِالزَّعْفَرَانِ، وَخَضَبَ جَمَاعَةٌ بِالسَّوَادِ. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ، وَالْحَسَنِ ابْنَيْ عَلِيٍّ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَابْن سِيرِينَ وَأَبِي بُرْدَةَ وَآخَرِينَ وَيُقَالُ: صَبَغَ يَصْبُغُ بِضَمِّ الْبَاءِ وَفَتْحِهَا وَكَانَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَخْضِبُ لِحْيَتَهُ وَيَقُولُ: نُسَوِّدُ أَعْلَاهَا وَتَأْبَى أُصُولُهَا ... وَلَا خَيْرَ فِي الْأَعْلَى إذَا فَسَدَ الْأَصْلُ. وَكَانَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَخْضِبُ بِالسَّوَادِ وَيَتَمَثَّلُ: نُسَوِّدُ أَعْلَاهَا وَتَأْبَى أُصُولُهَا ... فَيَا لَيْتَ مَا يُسَوَّدُ مِنْهَا هُوَ الْأَصْلُ

وَقَالَ آخَرُ يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُسَوِّدُ شَيْبَهُ ... كَيْمَا يُعَدَّ بِهِ مِنْ الشُّبَّانِ أَقْصِرْ فَلَوْ سَوَّدْتَ كُلَّ حَمَامَةٍ ... بَيْضَاءَ مَا عُدَّتْ مِنْ الْغِرْبَانِ وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «رَأَيْتُك تَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ وَرَأَيْتُك تَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ فَقَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْبَسُ النِّعَالَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَعَرٌ وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا. وَأَمَّا الصُّفْرَةُ فَإِنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصْبُغُ بِهَا فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَصْبُغَ بِهَا.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَيُكْرَهُ نَتْفُ الشَّيْبِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ وَقَالَ «إنَّهُ نُورُ الْمُسْلِمِ» رَوَى ذَلِكَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ نَظَرَ كِسْرَى إلَى رَجُلَيْنِ مِنْ مَرَازِبَتِهِ شَابَ رَأْسُ أَحَدِهِمَا قَبْلَ لِحْيَتِهِ، وَالْآخَرُ لِحْيَتُهُ قَبْلَ رَأْسِهِ فَسَأَلَهُمَا فَقَالَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ شَعْرَ رَأْسِي خُلِقَ قَبْلَ شَعْرِ لِحْيَتِي، وَالْكَبِيرُ يَشِيبُ قَبْلَ الصَّغِيرِ وَقَالَ الْآخَرُ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إلَى الصَّدْرِ مَوْضِعَ الْهَمِّ، وَالْغَمِّ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ شَيْبُ النَّاصِيَةِ مِنْ الْكَرَمِ وَشَيْبُ الصُّدْغَيْنِ مِنْ الْوَرَعِ، وَشَيْبُ الشَّارِبَيْنِ مِنْ الْفُحْشِ، وَشَيْبُ الْقَفَا مِنْ اللُّؤْمِ.

فصل في نتف الشعر وحفه وتخفيفه ووصله والوشم

[فَصْلٌ فِي نَتْفِ الشَّعْرِ وَحَفِّهِ وَتَخْفِيفِهِ وَوَصْلِهِ وَالْوَشْمِ] ِ) وَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ نَتْفُ شَعْرِ وَجْهِهِ وَلَوْ بِمِنْقَاشٍ وَنَحْوِهِ وَحَفُّهُ، وَالتَّخْفِيفُ قَالَ أَحْمَدُ فِي الْحَفِّ: أَكْرَهُهُ لِلرِّجَالِ، وَلِلْمَرْأَةِ حَلْقُهُ وَحَفُّهُ، وَالتَّخْفِيفُ نَصَّ عَلَى الثَّلَاثَةِ وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهَا حَفُّهُ، وَيُكْرَهُ نَتْفُهُ سَوَاءٌ كَانَ لَهَا زَوْجٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ قَالَ أَحْمَدُ أَكْرَهُ النَّتْفَ وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ وَكَرِهَ يَعْنِي أَحْمَدَ أَنْ يُؤْخَذَ الشَّعْرُ بِمِنْقَاشٍ مِنْ الْوَجْهِ وَقَالَ «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُتَنَمِّصَاتِ» . وَقَطَعَ غَيْرُ وَاحِدٍ بِالْكَرَاهَةِ، وَمَنْصُوصُ أَحْمَدَ التَّحْرِيمُ، وَهَلْ تُعَدُّ الْكَرَاهَةُ رِوَايَةً عَنْهُ؟ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ فَمَنْ أَثْبَتَ رِوَايَةً فِي نَقْلِ الْمِلْكِ فِي أُمِّ الْوَلَدِ، وَالْمُتْعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهُنَا مِثْلُهُ، أَوْ أَوْلَى وَقَطَعَ فِي الشَّرْحِ وَغَيْرِهِ بِأَنَّ نَتْفَ الشَّعْرِ مِنْ الْوَجْهِ لَا يَجُوزُ. وَيُكْرَهُ لَهَا وَصْلُ شَعْرِهَا بِشَعْرٍ آخَرَ ذَكَرَهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ، وَالتَّلْخِيصِ وَقَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَعَنْهُ يَحْرُمُ قَطَعَ بِهِ فِي الشَّرْحِ وَقَدَّمَهُ ابْنُ تَمِيمٍ. وَلَا بَأْسَ بِالْقَرَامِلِ وَنَحْوِهَا زَادَ بَعْضُهُمْ لَكِنَّ تَرْكَهُ أَفْضَلُ، وَعَنْهُ هِيَ كَالْوَصْلِ بِالشَّعْرِ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْمَرْأَةِ تَصِلُ رَأْسَهَا بِقَرَامِلَ فَكَرِهَهُ وَقَالَ لَهُ أَيْضًا فَالْمَرْأَةُ الْكَبِيرَةُ تَصِلُ رَأْسَهَا بِقَرَامِلَ؟ فَلَمْ يُرَخِّصْ لَهَا، وَيُبَاحُ مَا تَشُدُّ بِهِ شَعْرَهَا لِلْحَاجَةِ. وَيُكْرَهُ غَرْزُ جِلْدِهَا بِإِبْرَةٍ وَحَشْوُهُ كُحْلًا وَتَحْسِينُ أَسْنَانِهَا وَتَفْلِيجُهَا وَتَحْدِيدُهَا، وَذَكَرَ فِي الشَّرْحِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ يَحْرُمُ وَهُوَ أَوْلَى. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَة، وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَة، وَالْمُتَنَمِّصَةَ وَالْمُتَفَلِّجَات لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ» . وَرَوَى أَيْضًا أَنَّ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

تَنَاوَلَ قُصَّةً مِنْ شَعْرٍ وَقَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذِهِ وَيَقُولُ: «إنَّمَا هَلَكَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذَهَا نِسَاؤُهُمْ» وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ جَابِرٍ قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَصِلَ الْمَرْأَةُ بِرَأْسِهَا شَيْئًا» قَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي، وَالظَّاهِرُ إنَّمَا الْمُحَرَّمُ وَصْلُ الشَّعْرِ بِالشَّعْرِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّدْلِيسِ وَاسْتِعْمَالِ الشَّعْرِ الْمُخْتَلَفِ فِي نَجَاسَتِهِ.

فصل في جواز ثقب آذان البنات

[فَصْلٌ فِي جَوَازِ ثَقْبِ آذَانِ الْبَنَاتِ] ِ) وَيَجُوزُ ثَقْبُ أُذُنِ الْبِنْتِ لِلزِّينَةِ وَيُكْرَهُ ثَقْبُ أُذُنِ الصَّبِيِّ نَصَّ عَلَيْهِمَا قَالَ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا أَكْرَهُ ذَلِكَ لِلْغُلَامِ إنَّمَا هُوَ لِلْبَنَاتِ قَالَ مُهَنَّا قُلْت مَنْ كَرِهَهُ قَالَ جَرِيرُ بْنُ عُثْمَانَ وَقَطَعَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مِنْهَاجِ الْقَاصِدِينَ وَغَيْرِهِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ ثَقْبُ أُذُنِ الْبِنْتِ لِأَنَّهُ جَرْحٌ مُؤْلِمٌ وَفِي الْمَخَانِقِ، وَالْأَسْوِرَةِ كِفَايَةٌ، وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَالْأُجْرَةُ الْمَأْخُوذَةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ: وَأَفْضَلُ الْأَدْهَانِ لِلرَّأْسِ دُهْنُ الْبَنَفْسَجِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَضْلُ دُهْنِ الْبَنَفْسَجِ عَلَى سَائِرِ الْأَدْهَانِ كَفَضْلِي عَلَى سَائِرِ النَّاسِ» وَضَعَّفَ غَيْرُ وَاحِدٍ هَذَا الْخَبَرَ وَهُوَ كَمَا قَالُوا.

فصل ما يقال عند سماع نهيق ونباح وصياح ديك وكراهة التحريش

[فَصْلٌ مَا يُقَالُ عِنْدَ سَمَاعِ نَهِيقٍ وَنُبَاحٍ وَصِيَاحِ دِيكٍ وَكَرَاهَةِ التَّحْرِيشِ] ِ) مَنْ سَمِعَ نَهِيقَ حِمَارٍ، أَوْ نُبَاحَ كَلْبٍ اسْتَعَاذَ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا سَمِعْتُمْ نَهَاقَ الْحَمِيرِ فَتَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهَا رَأَتْ شَيْطَانًا، وَإِذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ فَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنَّهَا رَأَتْ مَلَكًا» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا سَمِعْتُمْ نُبَاحَ الْكَلْبِ وَنَهِيقَ الْحَمِيرِ بِاللَّيْلِ فَتَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْهُنَّ فَإِنَّهُنَّ يَرَوْنَ مَا لَا تَرَوْنَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَعِنْدَهُ «فَتَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ مِنْهُنَّ» وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَيُسْتَحَبُّ قَطْعُ الْقِرَاءَةِ لِذَلِكَ كَمَا ذَكَرُوا أَنَّهُ يَقْطَعُهَا لِلْأَذَانِ وَظَاهِرُهُ وَلَوْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ وَلِلنَّسَائِيِّ رِوَايَةُ «إذَا سَمِعْتُمْ الدِّيَكَةَ بِاللَّيْلِ» وَذَكَرَهُ. وَيُكْرَهُ التَّحْرِيشُ بَيْنَ النَّاسِ وَكُلِّ حَيَوَانٍ بَهِيمٍ كَكِبَاشٍ وَدِيَكَةٍ وَغَيْرِهِمَا ذَكَرَهُ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى، وَذَكَرَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّحْرِيشُ بَيْنَ الْبَهَائِمِ انْتَهَى كَلَامُهُ فَهَذَانِ وَجْهَانِ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَ الْبَهَائِمِ انْتَهَى كَلَامُهُ وَكَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ يَحْتَمِلُهُمَا قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ يُكْرَهُ التَّحْرِيشُ بَيْنَ الْبَهَائِمِ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ إي لَعَمْرِي، وَالْأَوْلَى الْقَطْعُ بِتَحْرِيمِ التَّحْرِيشِ بَيْنَ النَّاسِ. وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ التَّحْرِيشِ بَيْنَ الْبَهَائِمِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي يَحْيَى الْقَتَّاتِ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَبَاقِيهِ ثِقَاتٌ.

فصل في اتخاذ الطيور

[فَصْلٌ فِي اتِّخَاذِ الطُّيُورِ] ِ) قَالَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى يُكْرَهُ اتِّخَاذُ طُيُورٍ طَيَّارَةٍ تَأْكُلُ زُرُوعَ النَّاسِ وَتُكْرَهُ فِرَاخُهَا وَبَيْضُهَا، وَلَا تُكْرَهُ الْمُتَّخَذَةُ لِتَبْلِيغِ الْأَخْبَارِ فَقَطْ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مَا تَقُولُ فِي طَيْرِ أُنْثَى جَاءَتْ إلَى قَوْمٍ فَأَزْوَجَتْ عِنْدَهُمْ وَفَرَّخَتْ لِمَنْ الْفِرَاخُ قَالَ: يَتْبَعُونَ الْأُمَّ، وَأَظُنُّ أَنِّي سَمِعْته يَقُولُ فِي الْحَمَامِ الَّذِي يَرْعَى الصَّحْرَاءَ أَكْرَهُ أَكْلَ فِرَاخِهَا، وَكَرِهَ أَنْ تَرْعَى فِي الصَّحْرَاءِ وَقَالَ تَأْكُلُ طَعَامَ النَّاسِ. وَقَالَ حَرْبٌ: سَمِعْت أَحْمَدَ قَالَ لَا بَأْسَ أَنْ يَتَّخِذَ الرَّجُلُ الطَّيْرَ فِي مَنْزِلِهِ إذَا كَانَتْ مَقْصُوصَةً لِيَسْتَأْنِسَ إلَيْهَا فَإِنْ تَلَهَّى بِهَا فَإِنِّي أَكْرَهُهُ قُلْت لِأَحْمَدَ إنْ اتَّخَذَ قَطِيعًا مِنْ الْحَمَامِ تَطِيرُ؟ فَكَرِهَ ذَلِكَ كَرَاهَةً شَدِيدَةً وَلَمْ يُرَخِّصْ فِيهِ إذَا كَانَتْ تَطِيرُ، وَذَلِكَ أَنَّهَا تَأْكُلُ أَمْوَالَ النَّاسِ وَزُرُوعَهُمْ. وَقَالَ مُهَنَّا سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ بُرُوجِ الْحَمَامِ الَّتِي تَكُونُ بِالشَّامِّ؟ فَكَرِهَهَا وَقَالَ تَأْكُلُ زُرُوعَ النَّاسِ. فَقُلْت لَهُ وَإِنَّمَا كَرِهْتهَا لِأَجْلِ أَنَّهَا تَأْكُلُ زُرُوعَ النَّاسِ؟ فَقَالَ أَكْرَهُهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَمَرَ بِقَتْلِ الْحَمَامِ فَقُلْت لَهُ تُقْتَلَ قَالَ: تُذْبَحُ. وَرَوَى مُهَنَّا وَغَيْرُهُ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ خَطَبَ وَأَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ، وَالْحَمَامِ وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْحَمَامِ الْمَقْصُوصِ قَالَ: عُثْمَانُ أَمَرَ بِقَتْلِ الْحَمَامِ، وَالْكِلَابِ قُلْت الْمَقَاصِيصُ هِيَ أَهْوَنُ عِنْدَك مِنْ الطَّيَّارَةِ قَالَ نَعَمْ وَقَدْ أَمَرَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِتَرْكِ الْمَقَاصِيصِ وَأَمَرَ بِقَتْلِ الطَّيَّارَةِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَ بِالْمُقَصَّصَةِ الَّتِي فِي الْبُيُوتِ بَأْسًا فَقَدْ كَرِهَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ اتِّخَاذَ الْحَمَامِ لِلتَّلَهِّي بِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ لِلْأَصْحَابِ فِي كَرَاهَتِهِ لِشَيْءٍ هَلْ يُحْمَلُ عَلَى التَّحْرِيمِ أَوْ التَّنْزِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ قَالَ الْأَصْحَابُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ اتَّخَذَ الْحَمَامَ لَعِبًا وَلَهْوًا فَهُوَ دَنَاءَةٌ وَسَفَهٌ قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَنْ لَعِبَ بِالْحَمَامِ الطَّيَّارَةِ يُرَاهِنُ عَلَيْهَا وَيُسَرِّحهُنَّ مِنْ الْمَوَاضِعِ لَعِبًا لَمْ يَكُنْ عَدْلًا. وَقَدْ «رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا يَتْبَعُ حَمَامَةً فَقَالَ شَيْطَانٌ يَتْبَعُ شَيْطَانَةً»

رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ وَأَنَسٍ. وَأَمَّا اتِّخَاذُ حَمَامٍ طَيَّارَةٍ لِأَجْلِ فِرَاخِهَا فَنَقَلَ حَرْبٌ عَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً وَلَمْ يُرَخِّصْ فِيهِ لِأَجْلِ أَكْلِهَا أَمْوَالَ النَّاسِ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي التَّحْرِيمِ إنْ لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا، وَنَقَلَ غَيْرُهُ عَنْهُ الْكَرَاهِيَةَ وَهَلْ يُعَدُّ هَذَا رِوَايَةً بِالتَّنْزِيهِ؟ فِيهِ نَظَرٌ تَقَدَّمَ مَا يُشْبِهُهُ فَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى يَضْمَنُ وَعَلَى الثَّانِيَةِ فِيهِ نَظَرٌ يُتَوَجَّهُ فِيهِ الرِّوَايَتَانِ فِي الْكَلْبِ الْعَقُورِ وَقَدْ يُتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ الْكَلْبُ الْعَقُورُ يَحْرُمُ اقْتِنَاؤُهُ وَفِي تَضْمِينِ مُقْتَنِيهِ مَا أَتْلَفَهُ رِوَايَتَانِ وَجَّهَ الْقَاضِي التَّضْمِينَ كَإِمْسَاكِ الْحَيَّاتِ، وَالسِّبَاعِ، وَوَجَّهَ عَدَمَهُ كَمَا لَوْ شَدَّ حَرْثَهُ عَقُورًا فِي مِلْكِهِ فَعَطِبَ بِهَا إنْسَانٌ وَوَجَّهَ فِي الْمُغْنِي التَّضْمِينَ بِأَنَّ اقْتِنَاءَهُ سَبَبٌ لِلْعَقْرِ، وَالْأَذَى كَمَنْ رَبَطَ دَابَّةً فِي طَرِيقٍ ضَيِّقٍ، وَوَجَّهَ عَدَمَهُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ» وَكَسَائِرِ الْبَهَائِمِ فَقَدْ يُتَوَجَّهُ عَلَى هَذَا أَنَّ اقْتِنَاءَ طَيْرٍ يَأْكُلُ زُرُوعَ النَّاسِ وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا هَلْ يَضْمَنُ مُقْتَنِيهِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ كَهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَنَّهُ هَلْ يَضْمَنُ مَقَتَنِي الْكَلْبِ مَا أَتْلَفَهُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ فِي تَحْرِيمِ الِاقْتِنَاءِ فَكَذَا مَقَتَنِي الطَّيْرَ فَهَذِهِ مَسَالِكُ مُحْتَمَلَةٌ، أَمَّا الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا ضَمَانَ فَبَعِيدٌ كَمَا جَزَمَ بِهِ فِي الْمُغْنِي، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَبَاحَ أَحْمَدُ اتِّخَاذَ الْحَمَامِ لِلْأُنْسِ وَاعْتَبَرَ أَنْ تَكُونَ مَقْصُوصَةً لِئَلَّا تَطِيرَ فَتَأْكُلَ زُرُوعَ النَّاسِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ اعْتَمَدَ فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ احْتَجَّ بِالْخَبَرِ فِي ذَلِكَ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ السُّنِّيُّ مِنْ رِوَايَةِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلْوَانَ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَكَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَحْشَةَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَّخِذَ زَوْجَ حَمَامٍ وَيَذْكُرَ اللَّهَ عِنْدَ هَدِيرِهِ» . وَهَذَا الْخَبَرُ

ضَعِيفٌ أَوْ مَوْضُوعٌ وَهُوَ الظَّاهِرُ فَإِنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلْوَانَ كَذَّابٌ قَالَهُ ابْنُ مَعِينٍ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ يَضَعُ الْحَدِيثَ وَخَالِدٌ لَمْ يُدْرِكْ مُعَاذًا. قَالَ فِي الْمُغْنِي: وَقَدْ رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَشَكَا إلَيْهِ الْوَحْشَةَ فَقَالَ اتَّخِذْ زَوْجًا مِنْ حَمَامٍ» . وَلَمْ أَجِدْ فِي كَلَامِهِ اتِّخَاذَ الْحَمَامِ لِتَبْلِيغِ الْأَخْبَارِ وَقَدْ ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ، وَالْحَاجَةِ إلَيْهِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَطِيرَ فَيَأْكُلَ طَعَامَ النَّاسِ وَيَتَعَدَّى الضَّرَرُ إلَى النَّاسِ، وَأَبَاحُوا أَيْضًا اتِّخَاذَهَا لِاسْتِفْرَاخِهَا بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، وَرِوَايَةُ مُهَنَّا السَّابِقَةُ تَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ اتِّخَاذِ الْحَمَامِ مُطْلَقًا لِلْأَمْرِ بِقَتْلِهِ، وَأَمَّا إنْ قَصَدَ بِاِتِّخَاذِ الْحَمَامِ الْقِمَارَ، أَوْ أَنْ يَصِيدَ بِهِ حَمَامَ غَيْرِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ حَرُمَ وَتَقَدَّمَ فَمَا يَنْبَغِي عِنْدَ الصَّبَاحِ، وَالْمَسَاءِ كَلَامُهُ فِي الْمُغْنِي فِيهِ، فَأَمَّا إنْ كَانَتْ مَحْفُوظَةً لَا تَأْكُلُ زُرُوعَ النَّاسِ فَقَدْ كَرِهَهُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا وَاحْتَجَّ بِالْأَمْرِ بِقَتْلِهِ وَرِوَايَةِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَنَقَلَ عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُد أَنَّهُ قِيلَ: لَهُ الرَّجُلُ يَدْخُلُ بَيْتَهُ حَمَامُ غَيْرِهِ فَيُفْرِخُ يَأْكُلُ مِنْ فِرَاخِهِ قَالَ: لَا يُعْجِبُنِي هَذَا طَيْرُ جَارِهِ.

فصل اتخاذ الأطيار في الأقفاص للتسلي بأصواتها

[فَصْلٌ اتِّخَاذُ الْأَطْيَارِ فِي الْأَقْفَاصِ لِلتَّسَلِّي بِأَصْوَاتِهَا] ) فَأَمَّا حَبْسُ الْمُتَرَنِّمَاتِ مِنْ الْأَطْيَارِ كَالْقَمَارِيِّ، وَالْبَلَابِلِ لِتَرَنُّمِهَا فِي الْأَقْفَاصِ فَقَدْ كَرِهَهُ أَصْحَابُنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْحَاجَاتِ لَكِنَّهُ مِنْ الْبَطَرِ، وَالْأَشَرِ وَرَقِيقِ الْعَيْشِ وَحَبْسُهَا تَعْذِيبٌ فَيُحْتَمَلُ أَنْ تُرَدَّ الشَّهَادَةُ بِاسْتِدَامَتِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا تُرَدَّ ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُصُولِ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَقَدْ مَنَعَ مِنْ هَذَا أَصْحَابُنَا وَسَمَّوْهُ سَفَهًا.

فصل في جواز اتخاذ الكلب للصيد والماشية والزرع

[فَصْلٌ فِي جَوَازِ اتِّخَاذِ الْكَلْبِ لِلصَّيْدِ وَالْمَاشِيَةِ وَالزَّرْعِ] ِ) يَجُوزُ اقْتِنَاءُ كَلْبٍ لِصَيْدٍ يَعِيشُ بِهِ، أَوْ حِفْظِ مَاشِيَةٍ يَرُوحُ مَعَهَا إلَى الْمَرْعَى وَيَتْبَعُهَا، أَوْ لِحِفْظِ زَرْعٍ وَلَا يَجُوزُ اتِّخَاذُهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ اتَّخَذَ كَلْبًا إلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ، أَوْ صَيْدٍ أَوْ زَرْعٍ نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَقِيلَ: يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ لِحِفْظِ الْبُيُوتِ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ قَالَ فِي الرِّعَايَةِ وَقِيلَ: وَلِبُسْتَانٍ. فَإِنْ اقْتَنَى كَلْبَ الصَّيْدِ مَنْ لَا يَصِيدُ بِهِ اُحْتُمِلَ الْجَوَازُ، وَالْمَنْعُ، وَهَكَذَا الِاحْتِمَالَانِ فِيمَنْ اقْتَنَى كَلْبًا لِيَحْفَظَ لَهُ حَرْثًا، أَوْ مَاشِيَةً إنْ حَصَلَتْ، أَوْ يَصِيدَ بِهِ إنْ احْتَاجَ إلَى الصَّيْدِ وَيَجُوزُ تَرْبِيَةُ الْجَرْوِ الصَّغِيرِ لِأَحَدِ الثَّلَاثَةِ فِي أَقْوَى الْوَجْهَيْنِ، وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ لَا يُكْرَهُ فِي الْأَصَحِّ اقْتِنَاءُ جَرْوٍ صَغِيرٍ حَيْثُ يُقْتَنَى الْكَبِيرُ.

فصل فيما يباح أو يستحب قتله من البهائم والحشرات الضارة

[فَصْلٌ فِيمَا يُبَاحُ أَوْ يُسْتَحَبُّ قَتْلُهُ مِنْ الْبَهَائِمِ وَالْحَشَرَاتِ الضَّارَّةِ] ِ) وَيُبَاحُ قَتْلُ الْكَلْبِ الْعَقُورِ، وَالْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ، وَالْوَزَغِ كَذَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ وَلَيْسَ مُرَادُهُمْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ حَقِيقَةَ الْإِبَاحَةِ، وَالتَّعْبِيرُ بِالِاسْتِحْبَابِ أَوْلَى وَقَطَعَ بِهِ فِي الْمُسْتَوْعِبِ فِي مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَكَذَا قَالَ فِي كُلِّ مَا فِيهِ أَذًى وَكَذَا فِي الْفُصُولِ وَغَيْرِهِ قَالَتْ: عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَتْلِ خَمْسِ فَوَاسِقَ فِي الْحِلِّ، وَالْحَرَمِ: الْغُرَابِ، وَالْحِدَأَةِ، وَالْعَقْرَبِ، وَالْفَأْرَةِ، وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ،» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «لَا جُنَاحَ عَلَى قَتْلِهِنَّ فِي الْحَرَمِ، وَالْإِحْرَامِ» . وَرَوَى عَنْهُ أَيْضًا عَنْ إحْدَى نِسْوَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَأْمُرُ بِقَتْلِهِنَّ وَفِيهِ، وَالْحَيَّةِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ شَرِيكٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِقَتْلِ الْأَوْزَاغِ» وَفِيهِمَا، أَوْ فِي مُسْلِمٍ وَسَمَّاهُ فُوَيْسِقًا وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَنْ قَتَلَ وَزَغًا فِي أَوَّلِ ضَرْبَةٍ كُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ وَفِي الثَّانِيَةَ دُونَ ذَلِكَ، وَفِي الثَّالِثَةِ دُونَ ذَلِكَ» . وَعَبَّرَ بِالِاسْتِحْبَابِ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ تَكَلَّمَ عَلَى الْأَحَادِيثِ وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ إبَاحَةِ قَتْلِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ، وَالْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَصَرَّحَ الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ وَغَيْرُهُ وَإِنْ كَانَا مُعَلَّمَيْنِ فَإِنَّهُ قَالَ: وَأَمَّا قَتْلُ مَا لَا يُبَاحُ إمْسَاكُهُ مِنْ الْكِلَابِ فَإِنْ كَانَ أَسْوَدَ بَهِيمًا، أَوْ عَقُورًا أُبِيحَ قَتْلُهُ وَإِنْ كَانَا مُعَلَّمَيْنِ قَالَ وَعَلَى قِيَاسِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ كُلُّ مَا أَذَى النَّاسَ وَضَرَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يُبَاحُ قَتْلُهُ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ سَعِيدٍ فِي الْكَلْبِ سِتُّ خِصَالٍ: ثَمَنُهُ وَسُؤْرُهُ وَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَتْلِهَا وَتَقْطَعُ الصَّلَاةَ، وَيُقْتَلُ الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ الْبَهِيمُ وَإِنْ كَانَ لِصَاحِبِ مَاشِيَةٍ فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ لَا يُبَاحُ صَيْدُ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ وَعَلَّلَهُ الْأَصْحَابُ أَوْ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ اقْتِنَاءَهُ مُحَرَّمٌ وَذَلِكَ لِلْأَمْرِ

بِقَتْلِهِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْأَمْرَ بِقَتْلِهِ لِلْوُجُوبِ وَإِلَّا لَمَا لَزِمَ مِنْهُ تَحْرِيمُ الِاقْتِنَاءِ. وَقَدْ صَرَّحَ الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ وَحْدَهُ فِيمَا وَجَدْت فِي بَحْثِ الْمَسْأَلَةِ فِي وُجُوبِ قَتْلِهِ، وَقَدْ قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ الْأَمْرُ بِالْقَتْلِ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ إمْسَاكِهِ وَتَعْلِيمِهِ، وَالِاصْطِيَادِ بِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَعَلَى مُقْتَضَى هَذَا إلْحَاقُ الْكَلْبِ الْعَقُورِ بِالْكَلْبِ الْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ أَكَّدَ قَتْلَهُ فَأَبَاحَهُ فِي الْحَرَمِ وَعَلَى قِيَاسِ وُجُوبِ قَتْلِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ مَا نَصَّ الشَّارِع عَلَى قَتْلِهِ فِي الْحَرَمِ وَكَذَا مَا كَانَ فِيهِ أَذًى وَمَضَرَّةٌ. قَالَ فِي الْغُنْيَةِ الْكَلْبُ الْعَقُورُ يَحْرُمُ اقْتِنَاؤُهُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَيَجِبُ قَتْلُهُ لِيُدْفَعَ شَرُّهُ عَنْ النَّاسِ وَقَالَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ الْبَهِيمُ يَتَمَيَّزُ عَنْ سَائِرَ الْكِلَابِ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ: (أَحَدُهَا) قَطْعُ الصَّلَاةِ بِمُرُورِهِ. (وَالثَّانِي) تَحْرِيمُ صَيْدِهِ وَاقْتِنَائِهِ. (وَالثَّالِثُ) جَوَازُ قَتْلِهِ. وَالْبَهِيمُ هُوَ الَّذِي لَا يُخَالِطُ سَوَادَهُ شَيْءٌ مِنْ الْبَيَاضِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ حَتَّى لَوْ كَانَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ بَيَاضٌ فَلَيْسَ بِبَهِيمٍ وَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ هَذِهِ الْأَحْكَامُ وَهَذَا قَوْلُ ثَعْلَبٍ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى أَنَّهُ بَهِيمٌ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ بَيَاضٌ فَيَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ وَهُوَ صَحِيحٌ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ ذِي الطُّفْيَتَيْنِ فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ» ، وَالطُّفْيَةُ خُوصُ الْمُقْلِ شَبَّهَ الْخَطَّيْنِ الْأَبْيَضَيْنِ مِنْهُ بِالْخُوصَتَيْنِ فَإِنْ كَانَ الْبَيَاضُ مِنْهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْوَضْعِ فَلَيْسَ بِبَهِيمٍ رِوَايَةً وَاحِدَةً لِأَنَّهُ مُقْتَضَى الِاشْتِقَاقِ اللُّغَوِيِّ وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ بِخِلَافِهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ إذَا أَسْلَمَ وَلَهُ خَمْرٌ، أَوْ خَنَازِيرُ يُصَبُّ الْخَمْرُ وَتُسَرَّحُ الْخَنَازِيرُ قَدْ حَرُمَا عَلَيْهِ وَإِنْ قَتَلَهَا فَلَا بَأْسَ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ قَتْلُهَا وَلَعَلَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي تَسْرِيحِهِنَّ ضَرَرٌ عَلَى النَّاسِ وَأَمْوَالِهِمْ فَإِنْ كَانَ وَجَبَ قَتْلُهَا.

فصل كراهة اقتناء كلب الصيد للهو وإتيان أبواب السلاطين

[فَصْلٌ كَرَاهَةُ اقْتِنَاءِ كَلْبِ الصَّيْدِ لِلَّهْوِ وَإِتْيَانِ أَبْوَابِ السَّلَاطِينِ] وَيُكْرَهُ اقْتِنَاءُ كَلْبِ صَيْدٍ لَهْوًا وَلَعِبًا، وَيُبَاحُ لِغَيْرِ لَهْوٍ وَلَعِبٍ وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ مُبَاحٌ مُسْتَحَبٌّ، وَأَطْلَقَ جَمَاعَةٌ إبَاحَةَ اقْتِنَاءِ كَلْبِ الصَّيْدِ، وَالِاصْطِيَادَ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ. وَرَوَى، التِّرْمِذِيُّ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ أَبِي مُوسَى عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ سَكَنَ الْبَادِيَةَ جَفَا، وَمَنْ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ، وَمَنْ أَتَى أَبْوَابَ السَّلَاطِينِ اُفْتُتِنَ» وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَأَبُو مُوسَى هُوَ إسْرَائِيلُ بْنُ مُوسَى ثِقَةٌ مِنْ رِجَالِ الْبُخَارِيِّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ. وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَنْ أَبِي دَاوُد قَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً لَا أَعْلَمُهُ إلَّا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَرَوَى أَبُو دَاوُد حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَكَمِ النَّخَعِيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ شَيْخٍ مِنْ الْأَنْصَارِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَعْنَاهُ وَقَالَ: «مَنْ لَزِمَ السُّلْطَانَ اُفْتُتِنَ وَزَادَ وَمَا ازْدَادَ عَبْدٌ مِنْ السُّلْطَانِ دُنُوًّا إلَّا زَادَ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بُعْدًا» . وَيُكْرَهُ اقْتِنَاءُ الْقِرْدِ لَهْوًا وَلَعِبًا، وَفِي إبَاحَتِهِ فِي غَيْرِ لَهْوٍ وَلَعِبٍ لِلْحِفْظِ وَجْهَانِ، هَذَا مَعْنَى كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ، وَاسْتَدَلَّ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْقِرْدِ بِأَنَّهُ فِي الْغَالِبِ يُبَاعُ لِلتَّلَهِّي بِهِ وَهَذِهِ صِفَةٌ مَحْظُورَةٌ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ كَالْخَمْرِ.

فصل فيما يقال لحيات البيوت قبل قتلها

[فَصْلٌ فِيمَا يُقَالُ لِحَيَّاتِ الْبُيُوتِ قَبْلَ قَتْلِهَا] ) يُسَنُّ أَنْ يُقَالَ لِلْحَيَّةِ الَّتِي فِي الْبُيُوتُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَلَفْظُهُ فِي الْفُصُولِ ثَلَاثًا وَلَفْظُهُ فِي الْمُجَرَّدِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ اذْهَبْ بِسَلَامٍ لَا تُؤْذُونَا فَإِنْ ذَهَبَ وَإِلَّا قَتَلَهُ إنْ شَاءَ، وَإِنْ رَآهُ ذَاهِبًا كُرِهَ قَتْلُهُ وَقِيلَ: لَا يُكْرَهُ. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ الْإِيذَانُ فِي حَقِّ غَيْرِ ذِي الطُّفْيَتَيْنِ وَهُوَ الَّذِي بِظَهْرِهِ خَطٌّ أَسْوَدُ، وَالْأَبْتَرُ وَهُوَ الْغَلِيظُ الذَّنَبِ كَأَنَّهُ قَدْ قُطِعَ ذَنَبُهُ فَإِنَّهُمَا يُقْتَلَانِ مِنْ غَيْر إيذَانٍ. وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ مِثْلَ هَذَا الدَّقِيقِ الذَّنَبِ فَهُوَ حَيَّاتُ الْبُيُوتِ يُؤْذِنُهُ ثَلَاثًا يَقُولُ: لَا تُؤْذُونَا اذْهَبْ بِسَلَامٍ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي فِي الرِّعَايَةِ. وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قَتْلِ دَوَابِّ الْبُيُوتِ قَالَ لَا يُقْتَلُ مِنْهُنَّ إلَّا ذُو الطُّفْيَتَيْنِ، وَالْأَبْتَرُ وَذُو الطُّفْيَتَيْنِ خَطَّيْنِ فِي ظَهْرِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي لُبَابَةَ قِيلَ: لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَمَا تَقْتُلُ مِنْ الْحَيَّاتِ قَالَ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِ دَوَابِّ الْبُيُوتِ إلَّا ذِي الطُّفْيَتَيْنِ، وَالْأَبْتَرَ فَقُلْنَا لَهُ إنَّهُ رُبَّمَا كَانَ فِي الْبُيُوتِ مِنْهُنَّ شَيْءٌ الْهَائِلُ مِنْهُنَّ غِلَظًا وَطُولًا حَتَّى يُفْزِعْنَ فَقَالَ إذَا كَانَ هَذَا فَأَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ فِي قَتْلِهِ أَيُّ حَرَجٍ» قَالَ فَكَانَ الْأَمْرُ عِنْدَهُ فِيهِ سُهُولَةٌ إذَا كُنَّ يُخِفْنَ. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّه عَنْ الْحَيَّةِ تَظْهَرُ قَالَ تُؤْذَنُ ثَلَاثَةً قُلْت ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ ثَلَاثَ مِرَارٍ قَالَ ثَلَاثٌ مِرَارًا إلَّا أَنْ يَكُونَ ذُو الطُّفْيَتَيْنِ وَهِيَ الَّتِي عَلَيْهَا خَطَّانِ، وَالْأَبْتَرُ هُوَ الَّذِي كَانَ مَقْطُوعَ الذَّنَبِ يُقْتَلُ وَلَا يُؤْذَنُ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ وَكُنْت أَحْفِرُ بِئْرًا بَيْنَ يَدَيْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَخَرَجَتْ حَيَّةٌ حَمْرَاءُ

فَقُلْت يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَقْتُلُهَا؟ فَنَظَرَ إلَيْهَا فَقَالَ لِي لَا تَعْرِضْ لَهَا دَعْهَا. وَجَوَابُ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِالنَّهْيِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عِنْدَهُ الْقَتْلُ قَبْلَ الْإِيذَانِ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ النَّهْي عِنْدَهُ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ حَيَّاتُ مَدِينَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تُقْتَلُ إلَّا بَعْدَ الْإِنْذَارِ لِلْأَخْبَارِ وَيُسْتَحَبُّ قَتْلُ حَيَّاتِ غَيْرِهَا، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْتَلَ الْحَيَّةُ الْبَيْضَاءُ لِأَنَّهَا مِنْ الْجَانِّ وَقَالَ الطَّحَاوِيَّ لَا بَأْسَ بِقَتْلِ الْكُلِّ، وَالْأَوْلَى هُوَ الْإِنْذَارُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي لُبَابَةَ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَنْهَى عَنْ قَتْلِ الْحَيَّاتِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْبُيُوتِ إلَّا الْأَبْتَرَ وَذَا الطُّفْيَتَيْنِ فَإِنَّهُمَا اللَّذَانِ يَخْطِفَانِ الْبَصَرَ وَيَتَتَبَّعَانِ مَا فِي بُطُونِ النِّسَاءِ.» الطُّفْيَتَانِ بِضَمِّ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الْفَاءِ الْخَطَّانِ الْأَبْيَضَانِ عَلَى ظَهْرِ الْحَيَّةِ، وَأَصْلُ الطُّفْيَةِ خُوصَةُ الْمُقْلِ وَجَمْعُهَا طُفًى. شَبَّهَ الْخَطَّيْنِ عَلَى ظَهْرِهَا بِخُوصَتَيْ الْمُقْلِ، وَالْمَعْنَى يَخْطَفَانِ الْبَصَرَ وَيَطْمِسَانِهِ بِمُجَرَّدِ نَظَرِهِمَا إلَيْهِ لِخَاصَّةٍ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي بَصَرِهِمَا إذَا وَقَعَ عَلَى بَصَرِ الْإِنْسَانِ. وَقِيلَ: يَقْصِدَانِ الْبَصَرَ بِاللَّسْعِ، وَالنَّهْشِ، وَفِي الْحَيَّاتِ نَوْعٌ يُسَمَّى النَّاظِرَ إذَا وَقَعَ نَظَرُهُ عَلَى عَيْنِ إنْسَانٍ مَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا «إنَّ لِبُيُوتِكُمْ عُمَّارًا فَحَرِّجُوا عَلَيْهِنَّ ثَلَاثًا فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ فَاقْتُلُوهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي لَفْظٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ " فَاقْتُلُوهُ فَإِنَّهُ كَافِرٌ " فِي لَفْظٍ لَهُ " فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ " وَلِأَبِي دَاوُد " ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَيْضًا " وَرَوَى هُوَ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادَيْنِ جَيِّدَيْنِ " ثَلَاثَ مَرَّاتٍ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ. وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ حَيَّاتِ الْبُيُوتِ فَقَالَ إذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُنَّ شَيْئًا فِي مَسَاكِنِكُمْ فَقُولُوا أَنْشُدُكُنَّ الْعَهْدَ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْكُنَّ نُوحٌ، أَنْشُدُكُنَّ الْعَهْدَ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْكُنَّ سُلَيْمَانُ أَلَّا تُؤْذُونَنَا، فَإِنْ عُدْنَ فَاقْتُلُوهُنَّ» . ابْنُ أَبِي لَيْلَى مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ ثَابِتٍ إلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى. وَالْعُمَّارُ الْحَيَّاتُ الَّتِي تَكُونُ فِي الْبُيُوتِ وَكَذَا الْعَوَامِرُ جَمْعُ عَامِرٍ وَعَامِرَةٍ قِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِطُولِ أَعْمَارِهَا وَاَلَّتِي فِي الصَّحْرَاءِ يَجُوزُ قَتْلُهَا بِدُونِ إنْذَارِهَا. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ

قَتَلَ حَيَّةً فَكَأَنَّمَا قَتَلَ رَجُلًا مُشْرِكًا وَمَنْ تَرَكَ حَيَّةً مَخَافَةَ عَاقِبَتِهَا فَلَيْسَ مِنَّا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَلِأَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ الْمَعْنَى الْآخَرُ مِنْ حَدِيثِهِ. وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، رُوِيَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُثْمَانَ عَنْ ابْنِ نُمَيْرٍ عَنْ مُوسَى بْنِ سَالِمٍ سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يَرْفَعُ الْحَدِيثَ فِيمَا أَرَى إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَهُ، كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْن عَبَّاسٍ قَالَ لَا أَعْلَمُهُ إلَّا رَفَعَ الْحَدِيثَ قَالَ «كَانَ يَأْمُرُنَا بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ وَيَقُولُ: مَنْ تَرَكَهُنَّ خَشْيَةَ، أَوْ مَخَافَةَ ثَائِرٍ فَلَيْسَ مِنَّا» . قَالَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إنَّ الْحَيَّاتِ مَسْخُ الْجِنِّ كَمَا مُسِخَتْ الْقِرَدَةُ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَفِي رِوَايَةٍ رَفَعَ الْحَدِيثَ «أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ وَقَالَ مَنْ تَرَكَهُنَّ خَشْيَةَ، أَوْ مَخَافَةَ ثَائِرٍ» وَبَاقِيهِ مِثْلُهُ ". وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَجَّاجِ الشَّامِيُّ ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْحَيَّاتُ مَسْخُ الْجِنِّ كَمَا مُسِخَتْ الْقِرَدَةُ، وَالْخَنَازِيرُ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ» وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُخْتَارِ وَرَوَاهُ فِي الْمُخْتَارَةِ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ.

فصل أحكام قتل الحشرات وإحراقها وتعذيبها

[فَصْلٌ أَحْكَامُ قَتْلِ الْحَشَرَاتِ وَإِحْرَاقِهَا وَتَعْذِيبِهَا] ) وَيُكْرَهُ قَتْلُ النَّمْلِ إلَّا مِنْ أَذِيَّةٍ شَدِيدَةٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهُنَّ وَقَتْلُ الْقُمَّلِ بِغَيْرِ النَّارِ وَيُكْرَهُ قَتْلُهُمَا بِالنَّارِ وَيُكْرَهُ قَتْلُ الضَّفَادِعِ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ. وَقَالَ فِي الْغُنْيَةِ كَذَلِكَ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ سَقْيُ حَيَوَانٍ مُؤْذٍ وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ يُكْرَهُ قَتْلُ مَا لَا يَضُرُّ مِنْ نَمْلٍ وَنَحْلٍ وَهُدْهُدٍ وَصُرَدٍ وَيَجُوزُ تَدْخِينُ الزَّنَابِيرِ وَتَشْمِيسُ الْقَزِّ، وَلَا يُقْتَلُ بِنَارٍ نَمْلٌ وَلَا قُمَّلٌ وَلَا بُرْغُوثٌ وَلَا غَيْرُهَا وَلَا يُقْتَلُ ضُفْدَعٌ بِحَالٍ وَظَاهِرُهُ التَّحْرِيمُ وَمَالَ صَاحِبُ النَّظْمِ إلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ إحْرَاقُ كُلِّ ذِي رُوحٍ بِالنَّارِ وَأَنَّهُ يَجُوزُ إحْرَاقُ مَا يُؤْذِي بِلَا كَرَاهَةٍ إذَا لَمْ يَزُلْ ضَرَرُهُ دُونَ مَشَقَّةٍ غَالِبَةٍ إلَّا بِالنَّارِ وَقَالَ إنَّهُ سُئِلَ عَمَّا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ صَاحِبُ الشَّرْحِ فَقَالَ مَا هُوَ بَعِيدٌ. وَاسْتَدَلَّ صَاحِبُ الشَّرْحِ بِالْخَبَرِ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ، أَوْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ «أَنَّ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ نَزَلَ عَلَى قَرْيَةِ نَمْلٍ فَآذَتْهُ نَمْلَةٌ فَأَحْرَقَ الْقَرْيَةَ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ فَهَلَّا نَمْلَةً وَاحِدَةً» وَيُجَابُ مِنْ أَوْجُهٍ: (أَحَدُهَا) أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّوْبِيخِ لَا لِلْإِبَاحَةِ بِدَلِيلِ إبْهَامِ النَّمْلَةِ الْمُؤْذِيَةِ وَهُوَ مَانِعٌ بِدَلِيلِ إبْهَامِ حَرْبِيٍّ مُسْتَأْمَنٍ فِي جَمَاعَةٍ يَحْرُمُ قَتْلُ الْكُلِّ. (الثَّانِي) أَنَّهُ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا وَقَدْ وَرَدَ شَرْعُنَا بِخِلَافِهِ. (الثَّالِثُ) أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ وَلَا يَنْفِي الْكَرَاهَةَ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّهْيِ. (الرَّابِعُ) أَنَّهُ إنْ جُعِلَ دَلِيلًا لِلْجَوَازِ دَلَّ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ مَشَقَّةٌ غَالِبَةٌ فَاعْتِبَارُهَا يُخَالِفُ الْخَبَرَ. وَاحْتَجَّ صَاحِبُ النَّظْمِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ شَيِّ الْجَرَادِ، وَالسَّمَكِ كَذَا قَالَ، وَالْخِلَافُ عِنْدَنَا مَعَ التَّفْرِيقِ الْمَذْكُورِ لَيْسَ فِي السَّمَكِ، وَالْجَرَادِ قَالَ وَقَدْ جَوَّزَ الْأَصْحَابُ إحْرَاقَ نَخْلِ الْكُفَّارِ إذَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ فِي بِلَادِنَا لِيَنْتَهُوا فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ

دَفْعًا لِضَرَرِ غَيْرِهِ الْمُتَوَقَّعِ فَجَوَازُهُ دَفْعًا لِضَرَرِهِ الْوَاقِعِ أَوْلَى كَذَا قَالَ فَانْتَقَلَ مِنْ نَخْلِ الْكُفَّارِ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ إلَى الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ وَاضِحٌ قَالَ وَأَجَازُوا أَيْضًا تَدْخِينَ الزَّنَابِيرِ وَتَشْمِيسَ الْقَزِّ وَيُجَاب بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ تَحْرِيقًا بِالنَّارِ إنَّمَا هُوَ تَعْذِيبٌ بِغَيْرِهَا وَلِهَذَا فَرَّقَ أَحْمَدُ بَيْنَ التَّدْخِينِ، وَالتَّحْرِيقِ عَلَى مَا يَأْتِي وَفِي تَرْكِ التَّشْمِيسِ إفْسَادٌ لِلْمَالِ فَاحْتُمِلَ بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَظَاهِرُ كَلَامِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا فِي مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ أَنَّ قَتْلَ النَّمْلِ، وَالنَّحْلِ، وَالضُّفْدَعِ لَا يَجُوزُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَاحْتَجَّ جَمَاعَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِهَا وَأَكْلِ الْهُدْهُدِ، وَالصُّرَدِ بِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِهَا. وَقَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ فِي مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ فَأَمَّا النَّمْلُ وَكُلُّ مَا لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ كَالْخَنَافِسِ، وَالْجُعْلَانِ، وَالدِّيدَانِ، وَالذُّبَابِ، وَالنَّمْلِ غَيْرِ الَّتِي تَلْسَعُ فَقَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا آذَتْهُ يَعْنِي هَذِهِ الْأَشْيَاءَ قَتَلَهَا وَيُكْرَهُ قَتْلُهَا مِنْ غَيْرِ أَذِيَّةٍ فَإِنْ فَعَلَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي آخِرِ الْفُصُولِ وَلَا يَجُوزُ قَتْلُ النَّمْلِ وَلَا تَخْرِيبُ أَجْحُرِهِنَّ وَلَا قَصْدُهُنَّ بِمَا يَضُرُّهُنَّ وَلَا يَحِلُّ قَتْلُ الضُّفْدَعِ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ إذَا آذَاكَ النَّمْلُ فَاقْتُلْهُ وَرَأَى أَبُو الْعَتَاهِيَةِ نَمْلًا عَلَى بِسَاطٍ فَقَتَلَهُنَّ. وَعَنْ طَاوُسٍ قَالَ إنَّا لَنُغْرِقُ النَّمْلَ بِالْمَاءِ يَعْنِي إذَا آذَتْنَا رَوَى ذَلِكَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ وَسُئِلَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ هَلْ يَجُوزُ إحْرَاقُ بُيُوتِ النَّمْلِ بِالنَّارِ؟ فَقَالَ يُدْفَعُ ضَرَرُهُ بِغَيْرِ التَّحْرِيقِ وَذَكَرَ فِي الْمُغْنِي فِي مَسْأَلَةِ قَتْلِ الْكَلْبِ أَنَّ مَا لَا مَضَرَّةَ فِيهِ لَا يُبَاحُ قَتْلُهُ وَاسْتَدَلَّ بِالنَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الْكِلَابِ فَدَلَّ كَلَامُهُ هَذَا عَلَى التَّسْوِيَةِ، وَأَنَّهُ إنْ أُبِيحَ قَتْلُ مَا لَا مَضَرَّةَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ الْكِلَابِ أُبِيحَ قَتْلُ الْكِلَابِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ جَمَاعَةٍ وَهُوَ مُتَّجَهٌ وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ تَخْصِيصُ جَوَازِ قَتْلِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ، وَالْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَحْ قَتْلُ مَا لَا مَضَرَّةَ فِيهِ وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ كَلَامُ مَنْ خَصَّهُمَا مِنْ أَصْحَابِنَا وَإِلَّا فَلَا يُتَّجَهُ جَوَازُ

قَتْلِ مَا لَا مَضَرَّةَ فِيهِ غَيْرُ الْكِلَابِ وَمُنِعَ قَتْلُ الْكِلَابِ وَهَذَا وَاضِحٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلَى هَذَا الْمُرَادُ بِالْكِلَابِ غَيْرِ الْمَأْذُونِ فِي اقْتِنَائِهَا وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَيُحْمَلُ نَهْيُ الشَّارِعِ عَنْ قَتْلِ الْكِلَابِ عَلَى الْكَرَاهَةِ تَخْصِيصًا لَهُ بِرَأْيِ عُثْمَانَ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ رَأَى قَتْلَهُنَّ وَلِأَنَّ مُقْتَضَاهُ الْكَرَاهَةُ وَهُوَ وَجْهٌ لَنَا، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا النَّهْيِ أَخَصُّ فَإِنَّهُ نَهْيٌ بَعْدَ وُجُوبٍ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِيهِ هَلْ هُوَ لِلتَّحْرِيمِ، أَوْ لِلْكَرَاهَةِ أَوْ لِإِبَاحَةِ التَّرْكِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ وَعَلَى قَوْلِنَا يُمْنَعُ قَتْلُهَا أَنَّهَا إذَا آذَتْ بِكَثْرَةِ نَجَاسَتِهَا وَأَكْلِهَا مَا غَفَلَ عَنْهُ النَّاسُ جَازَ قَتْلُهَا عَلَى مَا يَأْتِي نَصَّ أَحْمَدُ فِي النَّمْلِ يَقْتُلهُ إذَا آذَاهُ مَعَ أَنَّ الشَّارِعَ نَهَى عَنْ قَتْلِهَا فَمَا جَازَ فِي أَحَدِهِمَا جَازَ فِي الْآخَرِ بَلْ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِ النَّمْلِ وَنَحْوِهِ آكَدُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ أَمْرٌ بِقَتْلِهِ وَلَمْ يُرَ صَحَابِيٌّ قَتَلَهُ كَمَا فِي الْكِلَابِ وَهَذَا أَيْضًا دَالٌّ وَلَا بُدَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَحْرُمْ قَتْلُ النَّمْلِ وَنَحْوِهِ بَلْ يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْكِلَابِ كَذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى فَقَدْ ظَهَرَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ حُكْمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبًا وَدَلِيلًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي كَلَامُ صَاحِبِ الْمُسْتَوْعِبِ، وَالْمُغْنِي، وَالْكَلَامُ فِي قَتْلِ الْهِرِّ وَقَدَّمَ فِي الرِّعَايَةِ الْإِبَاحَةَ فَصَارَتْ الْأَقْوَالُ فِي قَتْلِ مَا لَا مَضَرَّةَ فِيهِ ثَلَاثَةً: الْإِبَاحَةُ، وَالْكَرَاهَةُ، وَالتَّحْرِيمُ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ تَشْمِيسِ الْقَزِّ يَمُوتُ الدُّودُ فِيهِ قَالَ وَلِمَ يُفْعَلُ ذَلِكَ قُلْتُ يَجِفُّ الْقَزَّ وَإِنْ تَرَكَهُ كَانَ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ كَثِيرٌ قَالَ إذَا لَمْ يَجِدُوا مِنْهُ بُدًّا وَلَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ أَنْ يُعَذِّبُوا بِالشَّمْسِ فَلَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، وَسُئِلَ أَحْمَدُ فِيمَا نَقَلَ الْمَرْوَزِيُّ يُدَخِّنُ الزَّنَابِيرَ؟ قَالَ إذَا خَشِيَ أَذَاهُمْ فَلَا بَأْسَ هُوَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ تَحْرِيقِهِ، وَالنَّمْلُ إذَا آذَاهُ يَقْتُلُهُ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. وَقَالَ الْخَلَّالُ أَخْبَرْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ حَدَّثَنِي أَبِي ثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ ثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْكَوَّازُ حَدَّثَتْنِي حَبِيبَةُ مَوْلَاةُ الْأَحْنَفِ أَنَّهَا رَأَتْ الْأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَرَآهَا تَقْتُلُ قَمْلَةً فَقَالَ لَا تَقْتُلِيهَا، ثُمَّ دَعَا بِكُرْسِيٍّ فَجَلَسَ عَلَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ إنِّي أُحَرِّجُ عَلَيْكُنَّ إلَّا خَرَجْتُنَّ مِنْ دَارِي فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ تُقْتَلْنَ فِي دَارِي قَالَ فَخَرَجْنَ فَمَا رُئِيَ مِنْهُنَّ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَاحِدَةٌ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ رَأَيْت أَبِي فَعَلَ ذَلِكَ خَرَجَ

عَلَى النَّمْلِ، وَأَكْبَرُ عِلْمِي أَنَّهُ جَلَسَ عَلَى كُرْسِيٍّ كَانَ يَجْلِسُ عَلَيْهِ لِوُضُوءِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ رَأَيْت النَّمْلَ قَدْ خَرَجْنَ بَعْد ذَلِكَ نَمْلٌ كِبَارٌ سُودٌ فَلَمْ أَرَهُنَّ بَعْدَ ذَلِكَ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِ أَرْبَعٍ مِنْ الدَّوَابِّ النَّمْلَةِ، وَالنَّحْلَةِ، وَالْهُدْهُدِ، وَالصُّرَدِ» إسْنَادُهُ جَيِّدٌ لَهُ غَيْرَ طَرِيقٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِ الضُّفْدَعِ» إسْنَادُهُ حَسَنٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَطَعَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ بِتَحْرِيمِ تَعْذِيبِ كُلِّ حَيَوَانٍ بِالنَّارِ حَتَّى الْقَمْلَةِ وَنَحْوِهَا. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «إنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إلَّا اللَّهُ» . وَرَوَى أَبُو دَاوُد ثَنَا أَبُو صَالِحٍ مَحْبُوبُ بْنُ مُوسَى ثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ ابْنِ سَعْدٍ وَهُوَ الْحَسَنُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ فَرَأَيْنَا حُمَّرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا فَجَاءَتْ الْحُمَّرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ فَجَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا؟ رُدُّوا وَلَدَهَا إلَيْهَا وَرَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا فَقَالَ مَنْ حَرَقَ هَذِهِ؟ قُلْنَا نَحْنُ فَقَالَ إنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إلَّا رَبُّ النَّارِ» إسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ عَنْ الْأَكْثَرِ. فَأَمَّا مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مِنْ وَجْهٍ وَمَضَرَّةٌ مِنْ وَجْهٍ كَالْبَازِي، وَالصَّقْرِ، وَالشَّاهِينِ، وَالْبَاشِقِ فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ فِي قَتْلِهَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَكَذَا فِي الْفُصُولِ لَمَّا اسْتَوَتْ حَالَتَاهُ اسْتَوَى الْحَالُ فِي قَتْلِهِ وَتَرْكِهِ فَمَضَرَّتُهُ فِي اصْطِيَادِهِ لِطُيُورِ

النَّاسِ، وَمَنْفَعَتُهُ كَوْنُهُ يَصْطَادُ لِلنَّاسِ قَالَ وَكَذَا الْفَهْدُ وَكُلُّ كَلْبٍ مُعَلَّمٍ لِلصَّيْدِ. وَذَكَرَ فِي الْمُغْنِي أَنَّ الْكَلْبَ الْمُعَلَّمَ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ مُنْتَفَعٌ بِهِ يُبَاحُ اقْتِنَاؤُهُ فَحَرُمَ إتْلَافُهُ كَالشَّاةِ قَالَ لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَقَالَ أَيْضًا إنَّمَا حَرُمَ إتْلَافُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَذَكَرَ أَيْضًا أَنَّهُ يُبَاحُ قَتْلُ الْكَلْبِ الْعَقُورِ، وَالْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ وَإِنْ كَانَ مُعَلَّمًا وَمُقْتَضَى كَلَامِهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ قَتْلُ الْبَازِي وَنَحْوِهِ كَالْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ وَأَوْلَى وَقَدْ يُقَالُ: بِكَرَاهَةِ الْقَتْلِ فَتَصِيرُ الْأَقْوَالُ ثَلَاثَةً وَجَزَمَ صَاحِبُ النَّظْمِ بِخَبَرِ إلَّا إذَا مُلِكَتْ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ إلَّا إذَا عَدَتْ عَلَى مَعْصُومِ آدَمِيٍّ أَوْ مَالٍ. وَيَحْرُمُ قَتْلُ الْهِرِّ وَجَزَمَ بَعْضُهُمْ يُكْرَهُ، وَإِنْ مُلِكَتْ حَرُمَ وَكَذَا جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ النَّظْمِ، وَإِنْ كُرِهَ فَقَطْ فَقَتْلُ الْكَلْبِ أَوْلَى. وَيَجُوزُ قَتْلُهَا بِأَكْلِهَا لَحْمًا، أَوْ غَيْرَهُ نَحْوَهُ قَالَ صَاحِبُ النَّظْمِ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَفِي الْفُصُولِ حِينَ أَكْلِهِ لِأَنَّهُ لَا يَرْدَعُهُ إلَّا الدَّفْعُ فِي حَالِ صِيَالِهِ، وَالْقَتْلُ شُرِعَ فِي حَقِّ الْآدَمِيِّ وَإِنْ فَارَقَ الْفِعْلَ لِيَرْتَدِعَ الْجِنْسُ. وَفِي التَّرْغِيبِ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا لَمْ يَنْدَفِعْ إلَّا بِهِ كَصَائِلٍ. وَقَالَ صَاحِبُ النَّظْمِ وَكَذَا لَوْ كَانَ يَبُولُ عَلَى الْأَمْتِعَةِ أَوْ يَكْسِرُ الْآنِيَةَ وَيَخْطَفُ الْأَشْيَاءَ غَالِبًا إلَّا قَلِيلًا لِمَضَرَّتِهِ، وَمَنْ تَعَدَّى بِقَتْلِهَا فَضَمَانُهَا يُخَرَّجُ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهَا وَإِلَّا فَلَا ضَمَانَ وَيَضْمَنُ صَاحِبُهَا مَا أَتْلَفَهُ إنْ لَمْ يَحْفَظْهَا جَزَمَ بِهِ فِي الْفُصُولِ زَادَ فِي الرِّعَايَةِ فِي الْأَقْيَسِ قَالَ جَمَاعَةٌ بِأَكْلِهَا فِرَاخًا عَادَةً قَالَ جَمَاعَةٌ مَعَ عِلْمِهِ.

فصل كراهة إطالة وقوف البهائم المركوبة والمحملة فوق الحاجة وآداب أخرى

[فَصْلٌ كَرَاهَةُ إطَالَةِ وُقُوفِ الْبَهَائِمِ الْمَرْكُوبَةِ وَالْمُحَمَّلَةِ فَوْقَ الْحَاجَةِ وَآدَابٌ أُخْرَى] ) يُكْرَهُ أَنْ يُطَالَ وُقُوفُ الْبَهِيمَةِ الْمَرْكُوبَةِ، وَالْمُحَمَّلَةِ، وَالْحَدِيثُ عَلَيْهَا قَالَ فِي الرِّعَايَةِ وَقِيلَ: وَالْخَطَابَةُ، وَالْوَعْظُ كَذَا قَالَ وَهُوَ مَعْنَى الْأَوَّلِ، وَالْمُرَاد إذَا طَالَ ذَلِكَ كَمَا سَبَقَ فَلَا يَرِدُ كَوْنُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةٍ لَا تَحْصُلُ مَعَ النُّزُولِ بِفَوْتِ وَقْتِهَا فَيَجُوزُ مِثْلُ هَذَا وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ مَرَّ عَلَى قَوْمٍ وَهُمْ وُقُوفٌ عَلَى دَوَابَّ لَهُمْ وَرَوَاحِلَ فَقَالَ لَهُمْ ارْكَبُوهَا سَالِمَةً وَدَعُوهَا سَالِمَةً وَلَا تَتَّخِذُوهَا كَرَاسِيَّ لَأَحَادِيثِكُمْ فِي الطُّرُقِ،، وَالْأَسْوَاقِ فَرُبَّ مَرْكُوبَةٍ خَيْرٌ مِنْ رَاكِبِهَا وَأَكْثَرُ ذِكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى مِنْهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «إيَّاكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا ظُهُورَ دَوَابِّكُمْ مَنَابِرَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُبَلِّغَكُمْ إلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ، وَجَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ فَعَلَيْهَا فَاقْضُوا حَوَائِجَكُمْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَلِأَبِي دَاوُد بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ أَنَسٍ كُنَّا إذَا نَزَلْنَا مَنْزِلًا لَا نُسَبِّحُ حَتَّى نَحُطَّ الرِّحَالَ قَالَ الْخَطَّابِيُّ يُرِيدُ لَا نُصَلِّي سُبْحَةَ الضُّحَى قَالَ وَكَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَسْتَحِبُّ أَنْ لَا يَطْعَمَ الرَّاكِبُ إذَا نَزَلَ الْمَنْزِلَ حَتَّى يَعْلِفَ الدَّابَّةَ. وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ فِيمَا يُشْبِهُ هَذَا الْمَعْنَى حَقُّ الْمَطِيَّةِ أَنْ تَبْدَا بِحَاجَتِهَا ... لَا أُطْعِمُ الضَّيْفَ حَتَّى أَعْلِفَ الْفَرَسَا. وَيُكْرَهُ النَّوْمُ بَيْنَ الْمُسْتَيْقِظِينَ وَجُلُوسُ الْيَقِظَانِ بَيْنَ النِّيَامِ وَمَدُّ الرِّجْلِ وَالتَّمَطِّي وَإِظْهَارُ التَّثَاؤُبِ بَيْنَ النَّاسِ بِلَا حَاجَةٍ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زُرْعَةَ قَالَ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَضْحَكَ الرَّجُلُ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْ الْأَنْفُسِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا شَبَّهَ خُرُوجَ الرِّيحِ مِنْ الدُّبُرِ بِخُرُوجِ النَّفَسِ مِنْ الْفَمِ، وَعَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: " دَخَلَ شَبَابٌ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى عَائِشَةَ وَهِيَ بِمِنًى وَهُمْ يَضْحَكُونَ فَقَالَتْ: مَا يُضْحِكُكُمْ؟ قَالُوا: فُلَانٌ خَرَّ عَلَى طُنُبِ فُسْطَاطٍ فَكَادَتْ عُنُقَهُ، أَوْ عَيْنُهُ أَنْ تَذْهَبَ فَقَالَتْ: لَا تَضْحَكُوا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ:

«مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُشَاكُ بِشَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا دَرَجَةً وَمُحِيَتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ ". وَالضَّحِكُ مِنْ مِثْلِ هَذَا كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إنْ أَمْكَنَ تَرْكُهُ، وَظَاهِرُ النَّهْيِ التَّحْرِيمُ وَهَذَا الْخَبَرُ صَرِيحٌ فِي رَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَمَحْوِ السَّيِّئَاتِ بِالْمَصَائِبِ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ هُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا تُكَفِّرُ الْخَطَايَا فَقَطْ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: الْوَجَعُ لَا يُكْتَبُ بِهِ أَجْرٌ لَكِنْ تُكَفَّرُ بِهِ الْخَطَايَا لِلْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا تُكَفِّرُ الْخَطَايَا فَقَطْ.

فصل في الطيرة والشؤم والتطير والتشاؤم والتفاؤل

[فَصْلٌ فِي الطِّيَرَةِ وَالشُّؤْمِ وَالتَّطَيُّرِ وَالتَّشَاؤُمِ وَالتَّفَاؤُلِ] ِ) قَالَ فِي الرِّعَايَةِ وَتُكْرَهُ الطِّيَرَةُ وَهُوَ التَّشَاؤُمُ دُونَ التَّفَاؤُلِ وَهُوَ الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ لِحَدِيثِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَغَيْرِهِ وَصَحَّ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا طِيَرَةَ وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ الطَّيِّبَةُ» وَصَحَّ عَنْهُ أَيْضًا «لَا طِيَرَةَ وَأُحِبُّ الْفَأْلَ الصَّالِحَ» رَوَى ذَلِكَ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمْ، وَفِي الطِّيَرَةِ تَوَقُّعُ الْبَلَاءِ وَسُوءُ الظَّنِّ، وَالْفَأْلُ رَجَاءُ خَيْرٍ. وَعَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُعْجِبُهُ إذَا خَرَجَ لِحَاجَةٍ أَنْ يَسْمَعَ يَا رَاشِدُ يَا نَجِيحُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا «الطِّيَرَةُ شِرْكٌ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَعِنْدَهُمْ " وَمَا مِنَّا إلَّا " وَجَعَلَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ عَنْ حَاجَتِهِ فَقَدْ أَشْرَكَ قَالُوا: وَمَا كَفَّارَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إلَّا خَيْرُك وَلَا طَيْرَ إلَّا طَيْرُك، وَلَا إلَهَ غَيْرُكَ» وَعَنْ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا فَبَرِحَ بِي ظَبْيٌ فَمَالَ فِي شِقِّهِ فَاحْتَضَنْتُهُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَطَيَّرْت قَالَ إنَّمَا الطِّيَرَةُ مَا أَمْضَاك أَوْ رَدَّك» رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُلَاثَةَ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَفِيهِ انْقِطَاعٌ. قَوْلُهُ «بَرِحَ بِي أَيْ: طَارَ عَنْ الْيَسَارِ، وَالْبَارِحُ مَا جَرَى مِنْ الْيَسَارِ، وَالسَّانِحُ مَا جَرَى مِنْ الْيَمِينِ» . «وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ الْحَكَمِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَّا رِجَالٌ يَتَطَيَّرُونَ قَالَ ذَاكَ شَيْءٌ يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ فَلَا يَصُدُّهُمْ» وَفِي رِوَايَةٍ فَلَا يَصُدُّكُمْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الطِّيَرَةَ شَيْءٌ تَجِدُونَهُ فِي نُفُوسِكُمْ ضَرُورَةً وَلَا تَكْلِيفَ بِهِ لَكِنْ لَا تُمْنَعُوا بِسَبَبِهِ مِنْ التَّصَرُّفِ لِأَنَّهُ مُكْتَسَبٌ فَيَقَعُ بِهِ التَّكْلِيفُ قَالَ فِي النِّهَايَةِ الطِّيَرَةُ هِيَ التَّشَاؤُمُ بِالشَّيْءِ يُقَالُ تَطَيَّرَ طِيَرَةً وَتَخَيَّرَ خِيرَةً وَلَمْ يَجِئْ مِنْ الْمَصَادِرِ

هَكَذَا غَيْرُهُمَا وَأَصْلُهُ فِيمَا يُقَالُ: التَّطَيُّرُ بِالسَّوَانِحِ وَالْبَوَارِحِ وَكَانَ ذَلِكَ يَصُدُّهُمْ عَنْ مَقَاصِدِهِمْ فَنَفَاهُ الشَّرْعُ وَأَبْطَلَهُ وَنَهَى عَنْهُ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي جَلْبِ نَفْعٍ وَلَا دَفْعِ ضَرَرٍ. وَفِي الْمُسْنَدِ، وَالصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا «الشُّؤْمُ فِي الْمَرْأَةِ، وَالدَّارِ، وَالدَّابَّةِ» زَادَ مُسْلِمٌ «، وَالْخَادِمِ» وَرَوَوْا أَيْضًا «إنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ» فَيَكُونُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَاخْتَارَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ مِنْ النَّهْي عَنْ الطِّيَرَةِ وَرَوَوْا أَيْضًا «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَإِنَّمَا الشُّؤْمُ» . وَذَكَرُوهُ عَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ مَرْفُوعًا «لَا شُؤْمَ وَقَدْ يَكُونُ الْيُمْنُ فِي الدَّارِ، وَالْمَرْأَةِ، وَالْفَرَسِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَفِيهِمَا مُعَاوِيَةُ بْنُ حَكِيمٍ تَفَرَّدَ عَنْهُ يَحْيَى بْنُ جَابِرٍ الطَّائِيُّ وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ سَعْدٍ «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَإِنْ يَكُ فَفِي الْمَرْأَةِ، وَالْفَرَسِ، وَالدَّارِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَفِيهِ «إنْ تَكُنْ الطِّيَرَةُ فِي شَيْءٍ» فَذَكَرَهُ وَهُوَ حَدِيثٌ جَيِّدٌ وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ الْخَبَرَ الْمَرْوِيَّ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «ثَلَاثَةٌ مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، وَالْمَسْكَنُ الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ الصَّالِحُ، وَثَلَاثَةٌ مِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ الْمَرْأَةُ السُّوءُ، وَالْمَسْكَنُ السُّوءُ، وَالْمَرْكَبُ السُّوءُ» . وَرَوَى أَحْمَدُ ثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ ثَنَا هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَتَطَيَّرُ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَرْضًا سَأَلَ عَنْ اسْمِهَا فَإِنْ كَانَ حَسَنًا رُئِيَ الْبِشْرُ فِي وَجْهِهِ وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا رُئِيَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ وَكَانَ إذَا بَعَثَ رَجُلًا سَأَلَ عَنْ اسْمِهِ فَإِنْ كَانَ حَسَنَ الِاسْمِ رُئِيَ الْبِشْرُ فِي وَجْهِهِ وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا رُئِيَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ هِشَامٍ وَفِيهِ فَإِذَا دَخَلَ قَرْيَةً وَذَكَرَ مَعْنَاهُ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ ابْنِ مُثَنَّى عَنْ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ وَلِأَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «لَا تُدِيمُوا إلَى الْمَجْذُومِينَ النَّظَرَ» زَادَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ «وَإِذَا كَلَّمْتُمُوهُمْ فَلْيَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ قَدْرُ رُمْحٍ» . وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الطِّيَرَةَ مِنْ الْكَبَائِرِ وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَصْحَابِ، وَالْأَوْلَى الْقَطْعُ بِتَحْرِيمِهَا، وَلَعَلَّ مُرَادَهُمْ بِالْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمُ وَظَاهِرُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ حَدِيثَ «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ عَلَى

ظَاهِرِهِ» فَيُحْتَمَلُ أَنَّ حَدِيثَ «لَا يُورِدْ بِكَسْرِ الرَّاءِ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ» وَهُوَ فِي الْمُسْنَدِ، وَالصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَيْسَ لِلْعَدْوَى بَلْ لِلتَّأَذِّي بِقُبْحِ صُورَةٍ وَرَائِحَةٍ كَرِيهَةٍ. وَالْأَوْلَى أَنَّ حَدِيثَ «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ» نَفْيٌ لِاعْتِقَادِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ يُعْدِي بِطَبْعِهِ وَلَمْ يَنْفِ حُصُولَ الضَّرَرِ عِنْدَ ذَلِكَ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ، فَيَكُون قَوْلُهُ «لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ» إرْشَادًا مِنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَى الِاحْتِرَازِ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّ هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَزَعَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْخَبَرَ الثَّانِيَ مَنْسُوخٌ بِخَبَرِ " لَا عَدْوَى " وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ. وَقَدْ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بُهْلُولٍ وَذَكَرْت لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ هَذَا الْحَدِيثَ يَعْنِي حَدِيثَ جَابِرٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ بِيَدِ مَجْذُومٍ فَوَضَعَ يَدَهُ مَعَهُ فِي الْقَصْعَةِ فَقَالَ بِاسْمِ اللَّهِ ثِقَةً بِاَللَّهِ» فَقَالَ أَذْهَبُ إلَيْهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ عُمَرُ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ إلَى الْأَكْلِ مَعَهُ. وَخَبَرُ جَابِرٍ هَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ يُونُسَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُفَضَّلِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ مُفَضَّلٌ هُوَ الْبَصْرِيُّ لَا الْمِصْرِيُّ قَالَ ابْنُ مَعِينٍ لَيْسَ بِذَاكَ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ يَكْتُبُ حَدِيثَهُ وَقَالَ النَّسَائِيُّ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ لَمْ أَرَ لَهُ أَنْكَرَ مِنْ هَذَا. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ غَرِيبٌ. وَرَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ حَبِيبِ بْنِ بُرَيْدَةَ أَنَّ عُمَرَ أَخَذَ بِيَدِ مَجْذُومٍ وَقَالَ وَحَدِيثُ شُعْبَةَ عِنْدِي أَشْهَرُ وَأَصَحُّ. وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «وَفِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنْ الْأَسَدِ» وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ عَنْ الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: «كَانَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ رَجُلٌ مَجْذُومٌ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ» وَعِنْد هَؤُلَاءِ أَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مُرَادَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ اجْتِنَابُهُ وَإِنْ اُسْتُحِبَّ احْتِيَاطًا وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ وَهُوَ أَوْلَى إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلِهَذَا يَقُولُ: الْأَطِبَّاءُ: إنَّ الْجُذَامَ وَالسُّلَّ مِنْ الْأَمْرَاض الْمُعْدِيَةِ الْمُتَوَارَثَةِ وَإِنَّ كُلَّ مَرَضٍ لَهُ نَتْنٌ وَرِيحٌ يُعْدِي كَالْجُذَامِ، وَالسُّلِّ، وَالْجَرَبِ، وَالْحُمَّى الْوَبَائِيَّةِ

وَالرَّمَدِ وَإِنَّهُ أَعْدَى بِالنَّظَرِ إلَيْهِ، وَالْقُرُوحِ الرَّدِيئَةِ، وَالْوَبَاءِ وَهُوَ يَحْدُثُ فِي آخِرِ الصَّيْفِ وَلَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ مَعْنَى الْعَدْوَى بَلْ لِأَجْلِ الرَّائِحَةِ وَهُمْ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنْ الْإِيمَانِ بِيُمْنٍ وَشُؤْمٍ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ يَكُونُ فِي بَدَنِ الصَّحِيحِ قَبُولٌ وَاسْتِعْدَادٌ لِذَلِكَ الدَّاءِ، وَالطَّبِيعَةُ سَرِيعَةُ الِانْفِعَالِ نَقَّالَةٌ لَا سِيَّمَا مَعَ الْخَوْفِ، وَالْوَهْمِ فَإِنَّهُ مَسْئُولٌ عَلَى الْقُوَى، وَالطَّبَائِعِ، وَيُتَوَجَّهُ احْتِمَالٌ يَجِبُ ذَلِكَ هُنَا. وَفِي قَوْلِهِ «لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ» عَمَلًا بِظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَالنَّهْيِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَأَظُنُّهُ قَوْلَ ابْنِ قُتَيْبَةَ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ. وَاخْتَارَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ النَّهْيَ، وَالْأَمْرَ احْتِيَاطًا لِلْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ ضَعِيفِ الْإِيمَانِ، وَالتَّوَكُّلِ وَيُحْمَلُ مَا خَالَفَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِ الْقَوِيِّ، قَوِيِّ الْإِيمَانِ، وَالتَّوَكُّلِ فَيَدْفَعُ قُوَّةُ ذَلِكَ قُوَّةَ الْعَدْوَى كَمَا تَدْفَعُ قُوَّةُ الطَّبِيعَةِ قُوَّةَ الْعِلَّةِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اخْتَلَفَ لِاخْتِلَافِ قُوَى النَّاسِ وَطِبَاعِهِمْ وَحَمَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَكْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَعَ الْمَجْذُومِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْجُذَامَ كَانَ يَسِيرًا لَا يُعْدِي مِثْلُهُ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ حَدِيثُ «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ» رَجَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ التَّحَدُّثِ بِهِ وَتَرَكَهُ وَقَالَ الرَّاوِي فَلَا أَدْرِي أَنَسِيَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَمْ نَسَخَ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ الْآخَرَ وَحَدِيثُ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكَلَ مَعَ مَجْذُومٍ» لَا يَصِحُّ، وَقَدْ قَالَ شُعْبَةُ غَيْرَهُ اتَّقُوا هَذِهِ الْغَرَائِبَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ فِي قَوْلِهِ " إنَّا قَدْ بَايَعْنَاك فَارْجِعْ " قَالَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ " إنَّا قَدْ بَايَعْنَاك فَارْجِعْ " إلَّا وَبَايَعَهُ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى قَدْ حَصَلَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ

فَلَا يَقْدَمُ مَعَ الْوَفْدِ خَوْفًا عَلَى النَّاسِ أَنْ يَظُنُّوا إنْ أَصَابَهُمْ أَمْرٌ أَنَّهُ تَعَدَّى مِنْهُ وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمهُ التَّنَحِّي وَتَوَجَّهَ أَنَّهُمْ إذَا كَثُرُوا لَزِمَهُ وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّهُ قَوْلُ الْأَكْثَرِ وَقَدْ سَبَقَ فِي التَّدَاوِي فِي الْعَائِنِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي الْمُعْتَمَدِ فِي إبْطَالِ الْقَوْلِ بِالْعَدْوَى وَالطِّيَرَةِ فِي الْأَمْرَاضِ وَأَصْحَابِ الْعَاهَاتِ رِوَايَتَيْنِ ذَكَرَ رِوَايَةَ إِسْحَاقَ بْنِ بُهْلُولٍ الْمَذْكُورَةَ وَقَالَ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي إبْطَالِ الْقَوْلِ بِالْعَدْوَى وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ الطِّيَرَةُ كَذَلِكَ؛ إذْ لَا فَرْقَ اخْتَارَهَا الْقَاضِي، وَالثَّانِيَةُ إثْبَاتُ الطِّيَرَةِ. قَالَ أَبُو النَّضْرِ إسْمَاعِيلُ بْنُ مَيْمُونٍ الْعَسْكَرِيُّ كَتَبْت إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ دَارٍ أَرَدْت شِرَاءَهَا فَقَالَ النَّاسُ إنَّهَا مَشْئُومَةٌ فَوَقَعَ فِي قَلْبِي مِنْ قَوْلِهِمْ فَكَتَبَ إلَيَّ: اعْلَمْ أَنِّي نَظَرْتُ فِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثَةٍ الْفَرَسِ، وَالْمَرْأَةِ، وَالدَّارِ» هَكَذَا قَالَ سُفْيَانُ وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ أَخَذَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ فِي الطِّيَرَةِ وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْعَدْوَى كَذَلِكَ لِأَنَّهَا أَبْلَغُ مِنْ الطِّيَرَةِ، ثُمَّ احْتَجَّ لِلْأَوَّلِ بِحَدِيثِ «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ؟» وَهُوَ فِي الْمَسْنَدِ، وَالصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «وَمَنْ أَرْجَعَتْهُ الطِّيَرَةُ مِنْ حَاجَةٍ فَقَدْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ» وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهَا فِعْلٌ فَثَبَتَ أَنَّهُ فِعْلُ اللَّهِ إنْ شَاءَ فَعَلَهُ مَعَ مُلَابَسَةِ ذِي الدَّاءِ، وَالْعَاهَةِ وَإِنْ شَاءَ فَعَلَهُ مُنْفَرِدًا عَنْهُ وَاحْتُجَّ لِلثَّانِيَةِ بِقَوْلِهِ «فِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ» وَحَدِيثِ الطَّاعُونِ وَبِقَوْلِهِ «الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثَةٍ» . وَبِمَا رَوَى أَنَسٌ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نَزَلْنَا دَارًا كَثُرَ فِيهَا عَدَدُنَا وَكَثُرَتْ فِيهَا أَمْوَالُنَا، ثُمَّ تَحَوَّلْنَا عَنْهَا إلَى أُخْرَى فَقَلَّتْ فِيهَا أَمْوَالُنَا وَقَلَّ فِيهَا عَدَدُنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَرُوهَا ذَمِيمَةً» انْتَهَى كَلَامُهُ

وَالْخَبَرُ الْأَخِيرُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي بَاب الطِّيَرَةِ ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى ثَنَا بِشْرُ بْنُ عِمَادٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسٍ إسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ مُرْسَلًا مَعْنَاهُ. وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ أَيْ: اُتْرُكُوهَا مَذْمُومَةً فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالتَّحَوُّلِ عَنْهَا إبْطَالًا لِمَا وَقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ أَنَّ الْمَكْرُوهَ إنَّمَا أَصَابَهُمْ بِسَبَبِ سُكْنَى الدَّارِ فَإِذَا تَحَوَّلُوا عَنْهَا انْقَطَعَتْ مَادَّةُ ذَلِكَ الْوَهْمِ وَزَالَ مَا خَامَرَهُمْ مِنْ الشُّبْهَةِ. وَفِي مَعْنَى الْحَدِيثِ الْأَخِيرِ مَا قَالَ أَحْمَدُ ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأْنَا مَعْمَرٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُحَيْرٍ أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ فَرْوَةَ بْنَ مُسَيْكٍ الْمُرَادِيَّ قَالَ «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ عِنْدَنَا أَرْضًا يُقَال لَهَا أَرْضُ أَبَيْنَ هِيَ أَرْضُ رِيفِنَا وَمِيرَتِنَا وَإِنَّهَا وَبِيئَةٌ، أَوْ قَالَ إنَّ بِهَا لَوَبَاءً شَدِيدًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعْهَا عَنْك فَإِنَّ مِنْ الْقَرَفِ التَّلَفَ» يَحْيَى تَفَرَّدَ عَنْهُ مَعْمَرٌ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الصَّنْعَانِيُّ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ يَحْيَى عَنْ فَرْوَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ هَذَا ثِقَةٌ عِنْدَهُمْ وَكَانَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ يُكَذِّبُهُ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ هُوَ أَوْثَقُ مِنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي الطِّبِّ حَدِيثَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَمُرَادُهُ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الطِّبِّ فَلَا مُعَارَضَةَ لَكِنَّهُ جَعَلَ بَابَ الطِّيَرَةِ فِي كِتَابِ الطِّبِّ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ الْقَرَفُ مُدَانَاةُ الْمَرَضِ وَكُلُّ شَيْءٍ قَارَبْتَهُ فَقَدْ قَارَفْته وَكَذَا فِي النِّهَايَةِ: الْقَرَفُ مُلَابَسَةُ الدَّاءِ وَمُدَانَاةُ الْمَرَضِ، وَالتَّلَفُ الْهَلَاكُ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْعَدْوَى وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الطِّبِّ فَإِنَّ اسْتِصْلَاحَ الْهَوَاءِ مِنْ أَعْوَنِ الْأَشْيَاءِ عَلَى صِحَّةِ الْأَبَدَانِ، وَفَسَادُ الْهَوَاءِ مِنْ أَسْرَعِ الْأَشْيَاءِ إلَى الْأَسْقَامِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «مَا طَلَعَ النَّجْمُ صَبَاحًا قَطُّ وَبِقَوْمٍ عَاهَةٌ إلَّا رُفِعَتْ عَنْهُمْ أَوْ خَفَّتْ» رَوَاهُ أَحْمَدُ قَالُوا: الْمُرَادُ بِالنَّجْمِ الثُّرَيَّا وَرَوَى أَحْمَدُ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ثَنَا عَوْفٌ عَنْ حِبَّانَ أَبِي الْعَلَاءِ ثَنَا قَطَنُ بْنُ قَبِيصَةَ عَنْ أَبِيهِ.

أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إنَّ الْعِيَافَةَ، وَالطَّرْقَ، وَالطِّيَرَةَ مِنْ الْجِبْتِ» قَالَ عَوْفٌ الْعِيَافَةُ زَجْرُ الطَّيْرِ، وَالطَّرْقُ الْخَطُّ يُخَطُّ فِي الْأَرْضِ، وَالْجِبْتُ قَالَ الْحَسَنُ رَنَّةُ الشَّيْطَانِ إسْنَادٌ جَيِّدٌ وَلِأَبِي دَاوُد، وَالنَّسَائِيِّ فِي الْمُسْنَدِ مِنْهُ وَقِيلَ: الْجِبْتُ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَقِيلَ: السِّحْرُ وَقِيلَ: الْكَاهِنُ.

فصل لا هامة ولا صفر ولا نوء ولا غول

[فَصْلٌ لَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ وَلَا نَوْءَ وَلَا غُولَ] فَصْلٌ فِي الْمُسْنَدِ، وَالصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهَا عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: «لَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ» زَادَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ «وَلَا نَوْءَ وَلَا غُولَ» فَالْهَامَةُ مُفْرَدُ الْهَامِ وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ لَيْسَ أَحَدٌ يَمُوتُ فَيُدْفَنُ إلَّا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ هَامَةٌ وَكَانَتْ الْعَرَبُ تَزْعُمُ أَنَّ عِظَامَ الْمَيِّتِ تَصِيرُ هَامَةً فَتَطِيرُ وَكَانُوا يَقُولُونَ إنَّ الْقَتِيلَ يَخْرُجُ مِنْ هَامَتِهِ أَيْ مِنْ رَأْسِهِ هَامَةٌ فَلَا تَزَالُ تَقُولُ اسْقُونِي اسْقُونِي حَتَّى يُؤْخَذَ بِثَأْرِهِ وَيُقْتَلَ قَاتِلُهُ. وَقَوْلُهُ " لَا صَفَرَ " قِيلَ: كَانُوا يَتَشَاءَمُونَ بِدُخُولِ صَفَرَ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا صَفَرَ» وَقِيلَ: كَانَتْ الْعَرَبُ تَزْعُمُ أَنَّ فِي الْبَطْنِ حَيَّةً تُصِيبُ الْإِنْسَانَ إذَا جَامَعَ وَتُؤْذِيهِ وَإِنَّمَا تُعْدِي فَأَبْطَلَهُ الشَّارِعُ. وَقَالَ مَالِكٌ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُحِلُّونَ صَفَرَ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا. وَالنَّوْءُ وَاحِدُ الْأَنْوَاءِ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ مَنْزِلَةً وَهِيَ مَنَازِلُ الْقَمَرِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس: 39] . وَيَسْقُطُ فِي الْغَرْبِ كُلَّ ثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَنْزِلَةً مَعَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَيَطْلُعُ أُخْرَى مُقَابِلَهَا ذَلِكَ الْوَقْتَ فِي الشَّرْقِ فَتَنْقَضِي جَمِيعُهَا مَعَ انْقِضَاءِ السَّنَةِ وَكَانَتْ الْعَرَبُ تَزْعُمُ أَنَّ مَعَ سُقُوطِ الْمَنْزِلَةِ وَطُلُوعِ نَظِيرِهَا يَكُونُ مَطَرٌ فَيَنْسُبُونَهُ إلَيْهَا فَيَقُولُونَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، وَإِنَّمَا سُمِّيَ نَوْءًا لِأَنَّهُ إذَا سَقَطَ السَّاقِطُ مِنْهَا بِالْغَرْبِ نَاءَ الطَّالِعُ بِالشَّرْقِ يَنُوءُ نَوْءًا أَيْ: نَهَضَ وَطَلَعَ وَقِيلَ: أَرَادَ بِالنَّوْءِ الْغُرُوبَ وَهُوَ مِنْ الْأَضْدَادِ. فَأَمَّا مَنْ جَعَلَ الْمَطَرَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا أَيْ: فِي نَوْءِ كَذَا أَيْ: إنَّ اللَّهَ أَجْرَى الْعَادَةَ بِالْمَطَرِ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَلَنَا خِلَافٌ فِي تَحْرِيمِهِ وَكَرَاهَتِهِ. وَالْغُولُ أَحَدُ الْغِيلَانِ وَهِيَ جِنْسٌ مِنْ الْجِنِّ، وَالشَّيَاطِينِ. كَانَتْ الْعَرَبُ تَزْعُمُ أَنَّ الْغُولَ فِي الْفَلَاةِ يَتَرَاءَى لِلنَّاسِ فَيَتَغَوَّلُ تَغَوُّلًا أَيْ: يَتَلَوَّنُ تَلَوُّنًا فِي صُوَرٍ شَتَّى وَيَغُولُهُمْ أَيْ: يُضِلُّهُمْ عَنْ الطَّرِيقِ وَيُهْلِكُهُمْ، فَنَفَاهُ الشَّارِعُ وَأَبْطَلَهُ قِيلَ هَذَا وَقِيلَ لَيْسَ نَفْيًا لِعَيْنِ الْغُولِ وَوُجُودِهِ وَإِنَّمَا فِيهِ إبْطَالُ زَعْمِ الْعَرَبِ وَتَلَوُّنِهِ بِالصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ وَاغْتِيَالِهِ فَيَكُونُ مَعْنَى " لَا غُولَ " لِأَنَّهَا لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُضِلَّ أَحَدًا وَيَشْهَدُ لَهُ الْحَدِيثُ الْأَخِيرُ «لَا غُولَ وَلَكِنْ السَّعَالِي» . وَهُوَ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، وَالسَّعَالِي سَحَرَةُ الْجِنِّ لَكِنْ فِي الْجِنِّ سَحَرَةٌ لَهُمْ تَلْبِيسٌ وَتَخْيِيلٌ

وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «إذَا تَغَوَّلَتْ الْغِيلَانُ فَبَادِرُوا بِالْأَذَانِ» أَيْ: ادْفَعُوا شَرَّهَا بِذِكْرِ اللَّهِ وَمِنْهُ حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فَجَاءَتْ الْغُولُ فَكَانَتْ تَأْخُذُ التَّمْرَ وَهُوَ مَشْهُورٌ. وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّ رَجُلًا صَحِبَهُ فَصَاحَ غُرَابٌ فَقَالَ خَيْرٌ خَيْرٌ، فَقَالَ لَهُ طَاوُسٌ وَأَيُّ خَيْرٍ عِنْدَ هَذَا وَأَيُّ شَرٍّ؟ لَا تَصْحَبُنِي.

فصل فيما ورد من الأخبار والآثار في الطاعون

[فَصْلٌ فِيمَا وَرَدَ مِنْ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ فِي الطَّاعُونِ] ِ) وَإِذَا وَقَعَ الطَّاعُونُ بِبَلَدٍ وَلَسْت فِيهِ فَلَا تُقْدِمْ عَلَيْهِ وَإِنْ كُنْت فِيهِ فَلَا تَخْرُجْ مِنْهُ لِلْخَبَرِ الْمَشْهُورِ الصَّحِيحِ فِي ذَلِكَ، وَمُرَادُهُمْ فِي دُخُولِهِ، وَالْخُرُوجِ مِنْهُ لِغَيْرِ سَبَبٍ بَلْ فِرَارًا وَإِلَّا لَمْ يَحْرُمْ، وَجَوَّزَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْقُدُومَ عَلَيْهِ، وَالْخُرُوجَ مِنْهُ فِرَارًا، وَقَالُوا: لَمْ يَنْهَ عَنْ ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَهُ غَيْرُ الْمُقَدَّرِ لَكِنْ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ عَلَى النَّاسِ لِئَلَّا يَظُنُّوا أَنَّ هَلَاكَ الْقَادِمِ بِقُدُومِهِ وَسَلَامَةُ الْفَارِّ بِفِرَارِهِ وَأَنَّ هَذَا مِنْ نَحْوِ النَّهْي عَنْ الطِّيَرَةِ، وَالْقُرْبِ مِنْ الْمَجْذُومِ. وَذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ إجْمَاعًا وَلِهَذَا رَوَى أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «إذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تُقْدِمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ» وَرَوَوْهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ وَفِي أَوَّلِهِ فَقَالَ «رِجْسٌ أَوْ عَذَابٌ عُذِّبَ بِهِ بَعْضُ الْأُمَمِ بَقِيَ مِنْهُ بَقِيَّةٌ يَذْهَبُ الْمَرَّةَ وَيَأْتِي الْأُخْرَى» . وَلِأَحْمَدَ، وَالْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ «إنَّهُ عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ» وَلِأَحْمَدَ «لَا تَفْنَى أُمَّتِي إلَّا بِالطَّعْنِ، وَالطَّاعُونِ قُلْنَا: فَمَا الطَّاعُونُ قَالَ غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَعِيرِ، وَالْفَارُّ مِنْهُ كَالْفَارِّ مِنْ الزَّحْفِ» وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى «قِيلَ: فَمَا الطَّاعُونُ قَالَ: وَخْزُ أَعْدَائِكُمْ مِنْ الْجِنِّ» . الْوَخْزُ طَعْنٌ لَيْسَ بِنَافِذٍ. وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ «الْفَارُّ مِنْهُ كَالْفَارِّ مِنْ الزَّحْفِ، وَالصَّابِرُ

فِيهِ كَالصَّابِرِ فِي الزَّحْفِ» وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ «الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ» . وَلَمَّا وَقَعَ الطَّاعُونُ بِالشَّامِّ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إنَّهُ رِجْزٌ، وَفِي رِوَايَةٍ رِجْسٌ فَفِرُّوا مِنْهُ فِي الشِّعَابِ، وَالْأَوْدِيَةِ، فَقَالَ شُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ وَلَكِنَّهُ رَحْمَةُ رَبِّكُمْ وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ وَوَفَاةُ الصَّالِحِينَ فَاجْتَمِعُوا وَلَا تَتَفَرَّقُوا عَنْهُ، فَقَالَ عَمْرٌو صَدَقَ، وَبَلَغَ مُعَاذًا قَوْلُ عَمْرٍو فَلَمْ يُصَدِّقْهُ وَقَالَ: بَلْ هُوَ شَهَادَةٌ وَرَحْمَةٌ وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ، اللَّهُمَّ أَعْطِ مُعَاذًا وَأَهْلَهُ نَصِيبَهُمْ مِنْ رَحْمَتِك. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَامَ خَطِيبًا فَقَالَ أَيّهَا النَّاسُ إنَّ هَذَا الْوَجَعَ رَحْمَةُ رَبِّكُمْ، وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ، وَمَوْتُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَإِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَقْسِمَ لَهُ مِنْهُ حَظَّهُ، وَمَاتَا فِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. قَالَ أَبُو قِلَابَةَ فَعَرَفْت الشَّهَادَةَ وَعَرَفْت الرَّحْمَةَ وَلَمْ أَدْرِ مَا دَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ حَتَّى «أُنْبِئْت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ لَيْلَةٍ يُصَلِّي؛ إذْ قَالَ فِي دُعَائِهِ فَحُمَّى إذًا، أَوْ طَاعُونًا فَقِيلَ: لَهُ فَقَالَ: سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَلْبِسَهُمْ شِيَعًا وَلَا يُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَأَبَى عَلَيَّ أَوْ قَالَ مُنِعْت فَقُلْتُ حُمَّى إذًا، أَوْ طَاعُونًا» . وَعَنْ عَامِرِ بْنِ قَيْسٍ أَخِي أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا «اللَّهُمَّ اجْعَلْ فَنَاءَ أُمَّتِي قَتْلًا فِي سَبِيلِك بِالطَّعْنِ، وَالطَّاعُونِ» رَوَى ذَلِكَ أَحْمَدُ.

فصل في شعور الأنفس بالبسط والقبض وتعليل ذلك وحكمته

[فَصْلٌ فِي شُعُورِ الْأَنْفُسِ بِالْبَسْطِ وَالْقَبْضِ وَتَعْلِيلِ ذَلِكَ وَحِكْمَتِهِ] ِ) قَالَ فِي الْفُنُونِ جَرَى فِي مَجْلِسٍ مُذَاكَرَةٌ فَقَالَ قَائِلٌ: إنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي ضِيقًا وَإِنْ قَصُرَتْ يَدَيَّ بَلْ طِيبَ النَّفْسِ كَأَنِّي صَاحِبُ ذَخِيرَةٍ، فَقَالَ رَئِيسٌ فَاضِلٌ قَدْ جَرَّبَ الدَّهْرَ وَحَنَّكَتْهُ التَّجَارِبُ: هَذِهِ صِفَةٌ إمَّا رَجُلٌ قَدْ أَعَدَّتْ لَهُ الْأَيَّامُ سَعَادَةً شَعَرَتْ نَفْسُهُ بِهَا لِأَنَّ فِي النُّفُوسِ الشَّرِيفَةِ مَا يُشْعِرُ بِالْأَمْرِ قَبْلَ كَوْنِهِ، أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ ثِقَةً بِاَللَّهِ لِكُلِّ حَادِثٍ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ حَكِيمٍ لَا يَضَعُ الشَّيْءَ إلَّا فِي مَوْضِعِهِ، فَيَسْتَرِيحُ مِنْ تَعَبِ الِاعْتِرَاضِ وَعَذَابِ التَّمَنِّي قَالَ وَبِالضِّدِّ مِنْ هَذَا إذَا كَانَ بَاكِيًا شَاكِيًا حَزِينًا لَا لِسَبَبٍ، بَلْ نِعَمُ اللَّهِ عَلَيْهِ جَمَّةٌ. فَذَلِكَ شُعُورُ النُّفُوسِ بِمَا يَئُولُ حَالُهُ إلَيْهِ، وَهَذَا مِنْ جِنْسِ الْفَأْلِ، وَالطِّيَرَةِ، وَالزَّجْرِ، وَالْهَاتِفِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ إنَّمَا هُوَ اطِّلَاعُ اللَّهِ تَعَالَى لِلنُّفُوسِ عَلَى عُقْبَاهَا، وَمِنْ ذَلِكَ الْمَنَامَاتُ، فَهَذِهِ شَوَاهِدُ الْخَيْرِ، وَالشَّرِّ، وَقَدِيمًا رَأَيْنَا الْمَشَايِخَ يَقُولُونَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُقَدِّمَةُ النَّحْسِ وَزَوَالَ السَّعَادَةِ كُسُوفَ الْبَالِ، وَتَكَاثُفَ الْهَمِّ وَضِيقَ الصَّدْرِ وَتَغَيُّرَ الْأَخْلَاقِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 53] . فَجَعَلَ عِنْوَانَ تَغَيُّرِ النِّعَمِ تَغَيُّرَ النُّفُوسِ لِعَادَتِهِمْ مِنْ تَنَكُّدِهَا. كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَلَيْسَ بِمُتَّجَهٍ، وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ قَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِزَوَالِ النِّعَمِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل في كراهة مجالسة المتلبسين بالمنكرات والسلام عليهم

[فَصْلٌ فِي كَرَاهَةِ مُجَالَسَةِ الْمُتَلَبِّسِينَ بِالْمُنْكَرَاتِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِمْ] ْ) يُكْرَهُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ أَنْ يُجَالِسَ مَنْ يَلْعَبُ بِشِطْرَنْجٍ أَوْ نَرْدٍ وَأَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ بَلْ يُنْكِرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَيَهْجُرُهُ إنْ لَمْ يَنْزَجِرْ عَنْهُمَا. وَحَكَى الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَغَيْرَهُمَا قَالُوا إنَّهُ لَا يُسَلِّمُ عَلَى لَاعِبِ الشِّطْرَنْجِ لِأَنَّهُ مُظْهِرٌ لِلْمَعْصِيَةِ وَقَالَ مَالِكٌ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ فِيمَنْ يَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ: مَا هُوَ أَهْلٌ أَنْ يُسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ وَغَيْرِهِ وَأَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ عَلَى الْمُتَلَبِّسِينَ بِالْمَعَاصِي قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ وَإِنْ سَلَّمُوا هُمْ عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِمْ إلَّا أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ انْزِجَارُهُمْ بِتَرْكِهِ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ فَإِذًا لَا يَرُدُّ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد قُلْتُ لِأَحْمَدَ أَمُرُّ بِالْقَوْمِ يَتَقَاذَفُونَ أُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ قَالَ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ سُفَهَاءُ، وَالسَّلَامُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى قُلْتُ لِأَحْمَدَ أُسَلِّمُ عَلَى الْمُخَنَّثِ قَالَ: لَا أَدْرِي السَّلَامُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فَقَدْ تَوَقَّفَ فِي السَّلَامِ عَلَى الْمُخَنَّثِ. قَالَ فِي الرِّعَايَةِ وَغَيْرِهَا وَيُكْرَهُ أَنْ يُجَالِسَ دَنِيئًا، أَوْ سَخِيفًا، أَوْ فَاسِقًا، أَوْ مُرَائِيًا أَوْ مُتَّهَمًا فِي دِينِهِ أَوْ عِرْضِهِ. وَيُكْرَهُ أَنْ يَبِيتَ أَحَدٌ عَلَى سَطْحٍ غَيْرِ مُحَجَّرٍ أَوْ مَحُوطٍ أَوْ فِي بَيْتٍ بِلَا بَابٍ وَتَقَدَّمَ فِيمَا يَقُولُهُ عِنْدَ الصَّبَاحِ قَوْلُ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَكْفِي مِنْهُ كَمُؤَخَّرَةِ الرَّحْلِ.

فصل في مكروهات مختلفة لا يجمعها جنس ولا نوع

[فَصْلٌ فِي مَكْرُوهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ لَا يَجْمَعُهَا جِنْسٌ وَلَا نَوْعٌ] ٌ يُكْرَهُ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمًا نِيئًا أَوْ غَيْرَ نَضِيجٍ أَوْ طِينًا أَوْ تُرَابًا ذَكَرَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَغَيْرِهَا قَالَ أَحْمَدُ أَكْرَهُ أَكْلَ الطِّينِ وَلَا يَصِحُّ فِيهِ حَدِيثٌ إلَّا أَنَّهُ يَضُرُّ بِالْبَدَنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ لِلْأَصْحَابِ فِي الْكَرَاهَةِ فِي كَلَامِ أَحْمَدَ هَلْ تُحْمَلُ عَلَى التَّحْرِيمِ، أَوْ التَّنْزِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَقَطَعَ ابْنُ عَقِيلٍ بِكَرَاهَةِ أَكْلِ الطِّينِ إذَا تَحَقَّقْنَا ضَرَرَهُ وَلَا يُكْرَهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَطَعَ فِي الْمُغْنِي بِأَكْلِ مَا كَانَ يُتَدَاوَى بِهِ مِنْهُ كَالطِّينِ الْأَرْمَنِيِّ، أَوْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا لَا مَضَرَّةَ فِيهِ وَلَا نَفْعَ لَا يُكْرَهُ. وَيُكْرَهُ أَنْ يُحَدِّثَ بِمُبَاضَعَةِ أَهْلِهِ وَأَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ بِنْتَيْ عَمَّيْنِ أَوْ بَيْنَ بِنْتَيْ خَالَيْنِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَعَنْهُ لَا يُكْرَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. وَيَحْرُمُ خُرُوجُ الْمَرْأَةِ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا بِلَا إذْنِهِ إلَّا لِضَرُورَةٍ، أَوْ وَاجِبٍ شَرْعِيٍّ وَأَنْ تَمْنَعَهُ نَفْسَهَا مَعَ الْقُدْرَةِ بِلَا عُذْرٍ قَالَ فِي الرِّعَايَةِ وَأَنْ تَتَزَيَّنَ لِمَحْرَمٍ غَيْرِهِ، وَيُكْرَهُ تَطَيُّبُهَا لِحُضُورِ مَسْجِدٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَكَلَامُ بَعْضِهِمْ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ. وَيُكْرَهُ الْخُيَلَاءُ وَالزَّهْوُ فِي الْمَشْيِ بَلْ يَمْشِي قَصْدًا كَذَا ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ ابْنُ تَمِيمٍ وَابْنُ حَمْدَانَ، وَظَاهِرُ الْأَخْبَارِ تَحْرِيمُ ذَلِكَ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ وَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَى قَاعِدَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَرَوَى هُوَ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إزَارِي فَمِنْ نَازَعَنِي فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي نَارِي» وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ «الْعِزُّ إزَارُهُ، وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَاؤُهُ فَمَنْ نَازَعَنِي

شَيْئًا مِنْهُمَا عَذَّبْتُهُ» وَيَأْتِي فِي اللِّبَاسِ أَخْبَارٌ فِي الْكِبْرِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ يُكْرَهُ إلَّا بَيْنَ الصَّفَّيْنِ. وَقَالَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ فِي أَحْكَامِهِ (بَابُ اسْتِحْبَابِ الْخُيَلَاءِ فِي الْحَرْبِ) ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْخُيَلَاءُ الَّتِي يُحِبُّ اللَّهُ اخْتِيَالُ الرَّجُلُ بِنَفْسِهِ عِنْدَ الْقِتَالِ وَاخْتِيَالُهُ عِنْدَ الصَّدَقَةِ، وَالْخُيَلَاءُ الَّتِي يَبْغَضُ اللَّهُ اخْتِيَالُ الرَّجُلِ فِي الْفَخْرِ، وَالْبَغْيِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا مَشَيْت فَلَا تَلْتَفِتْ فَإِنَّهُ يُنْسَبُ فَاعِلُ ذَلِكَ إلَى الْحُمْقِ قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُكْرَهُ الصَّفِيرُ وَالتَّصْفِيقُ. وَيُكْرَهُ الِاتِّكَاءُ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ عَنْ مُسْتَوَى الْجُلُوسِ لِأَنَّهُ تَجَبُّرٌ وَإِهْوَانٌ بِالْجُلَسَاءِ إلَّا مَعَ الْعُذْرِ، وَيُكْرَهُ مَضْغُ الْعَلَقِ لِأَنَّهُ دَنَاءَةٌ. وَيُكْرَهُ التَّشَدُّقُ بِالضَّحِكِ وَالْقَهْقَهَةُ وَرَفْعُ الصَّوْتِ فِي غَيْرِ حَاجَةٍ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَشْيُهُ مُعْتَدِلًا لَا يُسَارِعُ إلَى حَدٍّ يَصْدِمُ النَّاسَ وَيُتْعِبُ نَفْسَهُ وَلَا يَخْطِرُ بِحَيْثُ يُورِثُهُ الْعُجْبَ، وَيُكْرَهُ فِي الْبُكَاءِ النَّحِيبُ وَالتَّعْدَادُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالنَّدَمِ عَلَى مَا فَاتَ مِنْ أَوْقَاتِهِ بِبَطَالَاتِهِ، وَيُكْرَهُ لَهُ كَشْفُ رَأْسِهِ بَيْنَ النَّاسِ وَمَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَة بِسَتْرِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ.

فصل ما يجب من الكف عن مساوي الناس وما ورد في حقوق الطريق

[فَصْلٌ مَا يَجِبُ مِنْ الْكَفِّ عَنْ مَسَاوِي النَّاسِ وَمَا وَرَدَ فِي حُقُوقِ الطَّرِيقِ] ِ) يُسْتَحَبُّ الْكَفُّ عَنْ مَسَاوِئِ النَّاسِ وَعُيُوبِهِمْ كَذَا قَالُوا: وَالْأَوْلَى يَجِبُ زَادَ فِي الرِّعَايَةِ الَّتِي يَسْتُرُونَهَا وَعَمَّا يَبْدُو مِنْهُمْ غَفْلَةً، أَوْ غَلَبَةً مِنْ كَشْفِ عَوْرَةٍ، أَوْ خُرُوجِ رِيحٍ، أَوْ صَوْتٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي جَمَاعَةٍ فَالْأَوْلَى لِلسَّامِعِ أَنْ يُظْهِرَ طَرَشًا أَوْ غَفْلَةً، أَوْ نَوْمًا، أَوْ يَتَوَضَّأَ هُوَ وَغَيْرُهُ سَتْرًا لِذَلِكَ. وَيُكْرَهُ الْجُلُوسُ عَلَى الطُّرُقَاتِ لِلْحَدِيثِ وَنَحْوِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعَرُّضِ لِلْفِتَنِ، وَالْأَذَى وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «اجْتَنِبُوا مَجَالِسَ الصُّعُدَاتِ فَقُلْنَا إنَّمَا قَعَدْنَا لِغَيْرِ مَا بَأْسٍ قَعَدْنَا نَتَذَاكَرُ وَنَتَحَدَّثُ قَالَ أَمَّا لَا فَأَدُّوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ قَالُوا: وَمَا حَقُّهَا قَالَ: غُضُّوا الْبَصَرَ، وَرُدُّوا السَّلَامَ، وَحَسِّنُوا الْكَلَامَ» . وَفِي رِوَايَةٍ «غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ» وَفِي لَفْظٍ لِأَبِي دَاوُد «وَإِرْشَادُ السَّبِيلِ» . وَفِي لَفْظٍ لَهُ أَيْضًا «وَتُغِيثُوا الْمَلْهُوفَ وَتَهْدُوا الضَّالَّ» وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ مَعْنَى ذَلِكَ، وَصَحَّ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «خَيْرُ الْمَجَالِسِ أَوْسَعُهَا» وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي هَذَا الْبَابِ. وَفِي الْفُنُونِ أَمَّا الطَّرِيقُ الْوَاسِعُ فَالْمُرُوءَةُ، وَالنَّزَاهَةُ اجْتِنَابُ الْجُلُوسِ فِيهِ فَإِنْ

جَلَسَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ حَقَّ الطَّرِيقَ، غَضُّ الْبَصَرِ، وَإِرْشَادُ الضَّالِّ وَرَدُّ السَّلَامِ وَجَمْعُ اللُّقَطَةِ لِلتَّعْرِيفِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَمَنْ جَلَسَ وَلَمْ يُعْطِ الطَّرِيقَ حَقَّهَا فَقَدْ اسْتَهْدَفَ لِأَذِيَّةِ النَّاسِ قَالَ وَهَذِهِ الْحُقُوقُ رَأَيْتُهَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

فصل في صيانة المساجد وآدابها وكراهة زخرفتها

[فَصْلٌ فِي صِيَانَةِ الْمَسَاجِدِ وَآدَابِهَا وَكَرَاهَةِ زَخْرَفَتِهَا] ) يُسَنُّ أَنْ يُصَانَ كُلُّ مَسْجِدٍ عَنْ كُلِّ وَسَخٍ وَقَذَرٍ وَقَذَاةٍ وَمُخَاطٍ وَبُصَاقٍ فَإِنْ بَدَرَهُ فِيهِ أَخَذَهُ بِثَوْبِهِ ذَكَرَهُ فِي الرِّعَايَةِ، وَذَكَرَ أَيْضًا أَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يُصَانَ عَنْ تَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَيُكْرَهُ إزَالَةُ الْأَوْسَاخِ فِي الْمَسَاجِدِ كَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَقَصِّ الشَّارِبِ وَنَتْفِ الْإِبِطِ. وَقَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَغَيْرِهِ يُسْتَحَبُّ تَنْزِيهُ الْمَسْجِدِ عَنْ الْقَذَاةِ، وَالْبَصْقَةُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا فَإِنْ كَانَتْ عَلَى حَائِطِهِ وَجَبَ إزَالَتُهَا وَيُسْتَحَبُّ تَخْلِيقُ مَوْضِعِهَا لِفِعْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَتُكْرَهُ زَخْرَفَتُهُ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، أَوْ نَقْشٍ، أَوْ صَبْغٍ أَوْ كِتَابَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُلْهِي الْمُصَلِّيَ عَنْ صَلَاتِهِ غَالِبًا وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ إنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ حَرُمَ وَوَجَبَ الضَّمَانُ. وَذَكَرَ فِي الرِّعَايَةِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ سَيَأْتِي فِي اللِّبَاسِ أَنَّهُ هَلْ يَحْرُمُ تَحْلِيَةُ الْمَسْجِدِ بِذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ وَتَجِبُ إزَالَتُهُ وَزَكَاتُهُ بِشَرْطِهَا أَوْ يُكْرَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ وَقُدِّمَ الْأَوَّلُ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا بَأْسَ بِتَحْلِيَةِ الْمَسْجِدِ بِذَهَبٍ وَنَحْوِهِ لِأَنَّهُ تَعْظِيمٌ لَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَحَبَّهُ لِذَلِكَ، وَعِنْد الْمَالِكِيَّةِ يُكْرَهُ ذَلِكَ وَيُصَانُ الْمَسْجِدُ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُفِيدِ مِنْهُمْ وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي تَحْرِيمِهِ وَجْهَانِ. وَأَوَّلُ مَنْ ذَهَّبَ الْكَعْبَةَ فِي الْإِسْلَامِ وَزَخْرَفَ الْمَسَاجِدَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ لَمَّا بَعَثَ إلَى خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ، وَالِي مَكَّةَ حِينَئِذٍ فَيُضَعِّفُ قَوْلَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ عَمَّنْ قَالَ بِالْكَرَاهَةِ هُمْ مَحْجُوجُونَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْكَعْبَةِ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَالْمُتَوَلِّي عَلَى الْمَسْجِدِ إذَا فَعَلَ مَا يَرْجِعُ إلَى النَّقْشِ، وَالزِّينَةِ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ ضَمِنَ وَيُصَانُ عَنْ تَعْلِيقِ مُصْحَفٍ، أَوْ غَيْرِهِ فِي قِبْلَتِهِ دُونَ وَضْعِهِ بِالْأَرْضِ. قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْكُوفِيُّ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ يَقُولُ: يُكْرَهُ أَنْ يُعَلَّقَ

فِي الْقِبْلَةِ شَيْءٌ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ وَلَمْ يُكْرَهْ أَنْ يُوضَعَ فِي الْمَسْجِدِ الْمُصْحَفُ، أَوْ نَحْوُهُ. وَيُسَنُّ أَنْ يُصَانَ عَنْ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ فِيهِ نَصَّ عَلَيْهِمَا. وَيَحْرُمَانِ قَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ، وَقَطَعَ بِهِ فِي الشَّرْحِ فِي آخِر كِتَابِ الِاعْتِكَافِ وَقِيلَ: بَلْ يُكْرَهَانِ قَطَعَ بِهِ فِي الْفُصُولِ، وَالْمُسْتَوْعِبِ وَقَطَعَ بِهِ فِي الشَّرْحِ فِي آخِرِ كِتَابِ الْبَيْعِ وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ فَعَلَى التَّحْرِيمِ فِي الصِّحَّةِ وَجْهَانِ وَقَطَعَ فِي الْوَسِيلَةِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَقَالَ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ فَقَالَ: لَا أَرَى لِلرَّجُلِ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ إلَّا أَنْ يُلْزِمَ نَفْسَهُ الذِّكْرَ، وَالتَّسْبِيحَ فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ إنَّمَا بُنِيَتْ لِذَلِكَ، وَالصَّلَاةِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ خَرَجَ إلَى مَعَاشِهِ وَإِنَّمَا هَذِهِ بُيُوتُ اللَّهِ لَا يُبَاعُ فِيهَا وَلَا يُشْتَرَى، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَابْنُهُ أَبُو الْحُسَيْنِ وَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ مَنَعَ مِنْ صِحَّتِهِ وَجَوَازِهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الْبَيْعُ جَائِزٌ وَيُكْرَهُ إحْضَارُ السِّلَعِ فِي الْمَسْجِدِ وَقْتَ الْبَيْعِ وَيَنْعَقِدُ مَعَ ذَلِكَ، وَأَجَازَهُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَا عُقِدَ مِنْ الْبَيْعِ فِي الْمَسْجِدِ لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ، كَذَا قَالَ.

فصل في صيانة المسجد من الحرف والتكسب والترخص في الكتابة والتعليم

[فَصْلٌ فِي صِيَانَةِ الْمَسْجِدِ مِنْ الْحِرَفِ وَالتَّكَسُّبِ وَالتَّرَخُّصِ فِي الْكِتَابَةِ وَالتَّعْلِيمِ] ِ) وَيُسَنُّ أَنْ يُصَانَ عَنْ عَمَلِ صَنْعَةٍ نَصَّ عَلَيْهِ قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ الصَّانِعُ يُرَاعِي الْمَسْجِدَ بِكَنْسٍ أَوْ رَشٍّ وَنَحْوِهِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ انْتَهَى كَلَامُهُ قَالَ حَرْبٌ سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الْعَمَلِ فِي الْمَسْجِدِ نَحْوُ الْخَيَّاطِ وَغَيْرِهِ يَعْمَلُ؟ فَكَأَنَّهُ كَرِهَهُ لَيْسَ بِذَاكَ الشَّدِيدِ. وَقَالَ الْمَرْوَزِيُّ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يَكْتُبُ بِالْأَجْرِ فَيَجْلِسُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَمَّا الْخَيَّاطُ وَأَشْبَاهُهُ فَمَا يُعْجِبُنِي إنَّمَا بُنِيَ الْمَسْجِدُ لِيُذْكَرَ اللَّهُ فِيهِ وَكَرِهَ الْبَيْعَ، وَالشِّرَاءَ فِيهِ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ مَا يُعْجِبُنِي مِثْلُ الْخَيَّاطِ، وَالْإِسْكَافِ وَمَا أَشْبَهَهُ وَسَهَّلَ فِي الْكِتَابَةِ فِيهِ وَقَالَ وَإِنْ كَانَ مِنْ غَدْوَةٍ إلَى اللَّيْلِ، فَلَيْسَ هُوَ كُلَّ يَوْمٍ. وَقَالَ الْقَاضِي سَعْدُ الدِّينِ الْحَرَّانِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا خَصَّ الْكِتَابَةَ لِأَنَّهَا نَوْعُ تَحْصِيلٍ لِلْعِلْمِ فِي مَعْنَى الدِّرَاسَةِ وَهَذَا يُوجِبُ التَّقْيِيدَ بِمَا لَا يَكُونُ تَكَسُّبًا وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ كُلَّ يَوْمٍ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَظَاهِرُ مَا نَقَلَ الْأَثْرَمُ التَّسْهِيلُ فِي الْكِتَابَةِ فِيهِ مُطْلَقًا لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ وَتَكْثِيرِ كُتُبِهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُخَرَّجَ عَلَى هَذَا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ تَعْلِيمُ الصِّبْيَانِ الْكِتَابَةَ فِي الْمَسْجِدِ بِالْأُجْرَةِ وَتَعْلِيمُهُمْ تَبَرُّعًا جَائِزٌ كَتَلْقِينِ الْقُرْآنِ وَتَعْلِيمِ الْعِلْمِ وَهَذَا كُلُّهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَحْصُلَ ضَرَرٌ بِحِبْرٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ الصَّيْرَفِيِّ لَا يَجُوزُ التَّعْلِيمُ فِي الْمَسَاجِدِ. وَقَالَ صَالِحٌ لِأَبِيهِ تَكْرَهُ الْخَيَّاطِينَ فِي الْمَسَاجِدِ قَالَ إي لَعَمْرِي شَدِيدًا، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَنْصُورٍ، وَهَذَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَرِوَايَةُ حَرْبٍ الْكَرَاهَةُ فَهَاتَانِ رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي تَحْرِيمِ الصَّنَائِعِ وَكَرَاهَتِهَا فِي الْمَسَاجِدِ وَسَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ تَحْرِيمُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ لَا يَنْبَغِي أَنْ تُتَّخَذَ الْمَسَاجِدُ حَوَانِيتَ وَلَا مَقِيلًا وَلَا مَبِيتًا

إنَّمَا بُنِيَتْ لِلصَّلَاةِ وَلِذِكْرِ اللَّهِ وَبِالْمَنْعِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَيَقْتَضِيهِ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ يُكْرَهُ فِي الْمَسَاجِدِ الْعَمَلُ، وَالصَّنَائِعُ كَالْخِيَاطَةِ، وَالْخَرْزِ، وَالْحَلْجِ، وَالتِّجَارَةِ وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ إذَا كَثُرَ، وَلَا يُكْرَهُ ذَلِكَ إذَا قَلَّ مِثْلُ رَقْعِ ثَوْبِهِ أَوْ خَصْفِ نَعْلِهِ. وَحَكَى صَاحِبُ الشِّفَاءِ الْمَالِكِيُّ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ إنَّمَا يُمْنَعُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ عَمَلِ الصَّنَائِعِ الَّتِي يَخْتَصُّ بِنَفْعِهَا آحَادُ النَّاسِ وَلَا يُكْتَسَبُ فِيهِ وَلَا يُتَّخَذُ الْمَسْجِدُ، مَتْجَرًا فَأَمَّا الصَّنَائِعُ الَّتِي يَشْمَلُ نَفْعُهَا الْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ مِمَّا لَا امْتِهَانَ لِلْمَسْجِدِ فِي عَمَلِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَقَدْ مَنَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ تَعْلِيمِ الصِّبْيَانِ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ وَحَكَى بَعَضُهُمْ خِلَافًا فِي تَعْلِيمِ الصِّبْيَانِ فِيهَا وَيُسَنُّ أَنْ يُصَانَ عَنْ صَغِيرٍ، أَطْلَقُوا الْعِبَارَةَ، وَالْمُرَادُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إذَا كَانَ صَغِيرًا لَا يُمَيِّزُ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ وَلَا فَائِدَةٍ، وَعَنْ مَجْنُونٍ حَالَ جُنُونِهِ.

فصل صيانة المسجد عن اللغط ورفع الصوت قيل إلا بعلم لا مراء فيه

[فَصْلٌ صِيَانَةُ الْمَسْجِدِ عَنْ اللَّغَطِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ قِيلَ إلَّا بِعِلْمٍ لَا مِرَاءَ فِيهِ] ِ) وَيُسَنُّ أَنْ يُصَانَ عَنْ لَغَطٍ وَكَثْرَةِ حَدِيثٍ لَاغٍ وَرَفْعِ صَوْتٍ بِمَكْرُوهٍ وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ مُبَاحًا، أَوْ مُسْتَحَبًّا وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَالَ فِي الْغُنْيَةِ يُكْرَهُ إلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ. قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ مَرَرْت بِأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ مَعَ أَصْحَابِهِ فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمْ فَقُلْتُ يَا أَبَا حَنِيفَةَ هَذَا فِي الْمَسْجِدِ، وَالصَّوْتُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ فِيهِ فَقَالَ: دَعْهُمْ لِأَنَّهُمْ لَا يَفْقَهُونَ إلَّا بِهَذَا، وَقِيلَ: لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي مَسْجِدِ كَذَا حَلَقَةٌ يَتَنَاظَرُونَ فِي الْفِقْهِ، فَقَالَ: لَهُمْ رَأْسٌ فَقَالُوا: لَا قَالَ: لَا يَفْقَهُونَ أَبَدًا. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ كَرَاهَةُ ذَلِكَ قَالَ أَشْهَبُ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ قَالَ: لَا خَيْرَ فِي ذَلِكَ فِي الْعِلْمِ وَلَا فِي غَيْرِهِ وَلَقَدْ أَدْرَكْت النَّاسَ قَدِيمًا يَعِيبُونَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَكُونُ فِي مَجْلِسِهِ وَمَنْ كَانَ يَكُونُ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِهِ كَانَ يَعْتَذِرُ مِنْهُ، وَأَنَا أَكْرَهُ ذَلِكَ وَلَا أَرَى فِيهِ خَيْرًا رَوَى ذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَقَالَ صَاحِبُ الشِّفَا الْمَالِكِيُّ قَالَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ يُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ بِالْعِلْمِ وَغَيْرِهِ وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ رَفْعَ الصَّوْتِ فِيهِ فِي الْعِلْمِ، وَالْخُصُومَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاسُ لِأَنَّهُ مَجْمَعُهُمْ وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُصُولِ آخِرَ بَابِ الْجُمُعَةِ وَلَا بَأْسَ بِالْمُنَاظَرَةِ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ، وَالِاجْتِهَادِ فِي الْمَسَاجِدِ إذَا كَانَ الْقَصْدُ طَلَبَ الْحَقِّ فَإِنْ كَانَ مُغَالَبَةً وَمُنَافَرَةً دَخَلَ فِي حَيِّزِ الْمُلَاحَاةِ، وَالْجِدَالِ فِيمَا لَا يَعْنِي وَلَمْ يَجُزْ فِي الْمَسْجِدِ وَأَمَّا الْمُلَاحَاةُ فِي غَيْرِ الْعُلُومِ فَلَا تَجُوزُ فِي الْمَسْجِدِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَخَرَجَ لَيُعْلِمَ النَّاسَ فَتَلَاحَى رَجُلَانِ فِي الْمَسْجِدِ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا

فَأُنْسِيَهَا فَلَوْ كَانَ فِي الْمُلَاحَاةِ خَيْرٌ لَمَا كَانَتْ سَبَبًا لِنِسْيَانِهَا وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَانَ الْإِحْرَامَ عَنْ الْجِدَالِ فَقَالَ {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] . وَعَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِ «لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا» انْتَهَى كَلَامُهُ. وَسَبَقَ هَذَا الْمَعْنَى فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، وَفِي فَصْلِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَالْحَثِّ عَلَى الْعِلْمِ مِنْ فُصُولِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَفِي حُسْنِ الْخُلُقِ نَحْوَ نِصْفِ الْكِتَابِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ أَيْضًا: " وَيُكْرَهُ كَثْرَةُ الْحَدِيثِ، وَاللَّغَطِ فِي الْمَسَاجِدِ ". وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ وَغَيْرِهَا: وَيُبَاح عَقْدُ النِّكَاحِ فِيهِ، وَالْقَضَاءُ، وَالْحُكْمُ فِيهِ نَصَّ عَلَيْهِ، وَالْمُنَاظَرَةُ فِي الْفِقْهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَتَعْلِيمُ الْعِلْمِ وَإِنْشَادُ شِعْرٍ مُبَاحٍ فِيهِ.

فصل صيانة المسجد عن الروائح الكريهة ومكث الجنب والحائض

[فَصْلٌ صِيَانَةُ الْمَسْجِدِ عَنْ الرَّوَائِحِ الْكَرِيهَةِ وَمُكْثِ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ] ِ) وَيُسَنُّ أَنْ يُصَانَ عَنْ رَائِحَةٍ كَرِيهَةٍ مِنْ بَصَلٍ وَثُومٍ وَكُرَّاثٍ وَنَحْوِهَا وَفِي تَحْرِيمِهِ وَجْهَانِ فَإِنْ دَخَلَهُ أُخْرِجَ. ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَهَلْ يَخْرُجُ وُجُوبًا، أَوْ اسْتِحْبَابًا؟ يُخَرَّجُ عَلَى وَجْهَيْنِ وَعَلَى قِيَاسِهِ إخْرَاجُ الرِّيحِ مِنْ دُبُرِهِ فِيهِ وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا يَحْرُمُ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ مَكْرُوهٌ. وَيُسَنُّ أَنْ يُصَانَ عَنْ حَائِضٍ وَنُفَسَاءَ مُطْلَقًا، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ يَجِبُ صَوْنُهُ عَنْ جُلُوسِهِمَا فِيهِ وَيُسَنُّ صَوْنُهُ عَنْ الْمُرُورِ وَكَذَا الْجُنُبُ بِلَا وُضُوءٍ وَفِي جَوَازِ مَبِيتِ الْجُنُبِ فِيهِ مُطْلَقًا بِلَا ضَرُورَةٍ رِوَايَتَانِ وَقِيلَ: يَجُوزُ إنْ كَانَ مُسَافِرًا، أَوْ مُجْتَازًا وَإِلَّا فَلَا كَذَا فِي الرِّعَايَةِ. وَيُسَنُّ صَوْنُهُ عَنْ نَوْمٍ وَعَنْهُ كَثِيرٍ وَعَنْهُ إنْ اتَّخَذَهُ مَبِيتًا، أَوْ مَقِيلًا كُرِهَ مُطْلَقًا وَإِلَّا فَلَا يُكْرَهُ مُطْلَقًا، كَذَا أَطْلَقُوا الْعِبَارَةَ وَيَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ مِنْ هَذَا نَوْمُ الْمُعْتَكِفِ وَاسْتَثْنَاهُ فِي الْغُنْيَةِ وَاسْتَثْنَى الْغَرِيبَ أَيْضًا وَذَكَرَ فِي الشَّرْحِ فِي أَوَاخِرِ بَابِ الْآذَانِ أَنَّهُ يُبَاحُ النَّوْمُ فِي الْمَسْجِدِ وَلَمْ يُفَصِّلْ. وَقَالَ الْقَاضِي سَعْدُ الدِّينِ الْحَرَّانِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا لَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ لِلْمُعْتَكِفِ وَكَذَا مَا لَا يُسْتَدَامُ كَبَيْتُوتَةِ الضَّيْفِ، وَالْمَرِيضِ، وَالْمُسَافِرِ وَقَيْلُولَةِ الْمُجْتَازِ وَنَحْوِ ذَلِكَ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ غَيْرِ وَاحِدٍ وَمَا يُسْتَدَامُ مِنْ النَّوْمِ كَنَوْمِ الْمُقِيمِ بِهِ فَعَنْ أَحْمَدَ الْمَنْعُ مِنْهُ كَمَا مَرَّ مِنْ رِوَايَةِ صَالِحٍ وَابْنِ مَنْصُورٍ وَأَبِي دَاوُد وَحَكَى الْقَاضِي رِوَايَةً بِالْجَوَازِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ قَالَ وَبِهَذَا أَقُولُ.

فصل يصان المسجد عن كلام وشعر قبيح وغناء وصبي ومجنون ويباح فيه اللعب بالسلاح

[فَصْلٌ يُصَانُ الْمَسْجِدُ عَنْ كَلَامٍ وَشِعْرٍ قَبِيحٍ وَغِنَاءٍ وَصَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ وَيُبَاحُ فِيهِ اللَّعِبُ بِالسِّلَاحِ] ِ) وَيُسَنُّ صَوْنُهُ عَنْ إنْشَادِ شِعْرٍ قَبِيحٍ وَمُحَرَّمٍ وَغِنَاءٍ وَعَمَلِ سَمَاعٍ وَإِنْشَادِ ضَالَّةٍ وَنِشْدَانِهَا وَيَقُولُ لَهُ سَامِعُهُ: وَلَا وَجَدْتهَا وَلَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْك ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الرِّعَايَةِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْك فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا كَمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ يَقُولَ: لَا وُجِدَتْ، إنَّمَا بُنِيَتْ الْمَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُتَوَجَّهُ فِي نَشْدِ الضَّالَّةِ وَهُوَ طَلَبُهَا وَإِنْشَادُهَا وَهُوَ تَعْرِيفُهَا مَا فِي الْعُقُودِ مِنْ التَّحْرِيمِ. وَلِهَذَا قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ إنَّ النَّهْيَ عَنْهَا يَلْحَقُ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْعُقُودِ فَدَلَّ عَلَى التَّسْوِيَةِ لَكِنَّ مَذْهَبَهُ الْكَرَاهَةُ وَإِذَا حَرُمَ وَجَبَ إنْكَارُهُ قَالَ فِي الْغُنْيَةِ لَا بَأْسَ بِإِنْشَادِ شِعْرٍ خَالٍ مِنْ سُخْفِ وَهِجَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْأَوْلَى صِيَانَتُهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الزُّهْدِيَّاتِ فَيَجُوزُ الْإِكْثَارُ إلَّا أَنَّ الْمَسَاجِدَ وُضِعَتْ لِذِكْرِ اللَّهِ فَيَنْبَغِي أَنْ تُجَلَّ عَنْ ذَلِكَ وَفِي الشَّرْحِ يُكْرَهُ إنْشَادُ الضَّالَّةِ فِي الْمَسْجِدِ. قَالَ فِي الرِّعَايَةِ وَعَنْ نَظَرِ حُرُمِ النَّاسِ وَعَنْ إقَامَةِ حَدٍّ وَسَلِّ سَيْفٍ وَنَحْوِهِ وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُصُولِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إقَامَةُ الْحُدُودِ فِي الْمَسَاجِدِ وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمِنْ السُّنَّةِ ذِكْرُ اللَّهِ وَذِكْرُ الْعِلْمِ فِي الْمَسْجِدِ وَتَرْكُ الْخَوْضِ، وَالْفُضُولِ وَحَدِيثِ الدُّنْيَا فِيهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ وَقَدْ رُوِيَتْ فِيهِ أَحَادِيثُ غَلِيظَةٌ صَعْبَةٌ بِطُرُقٍ جِيَادٍ صِحَاحٍ وَرِجَالٍ ثِقَاتٍ مِنْهَا مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ يَجْلِسُونَ فِي الْمَسَاجِدِ إمَامُهُمْ الدُّنْيَا لَا تُجَالِسُوهُمْ فَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهِمْ حَاجَةٌ» . وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَجْلِسَ النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ لَيْسَ فِيهِمْ مُؤْمِنٌ حَدِيثُهُمْ فِيهَا الدُّنْيَا.»

وَمِنْهَا مَا قَالَهُ الْحَسَنُ: سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَجْلِسُونَ فِي الْمَسَاجِدِ حِلَقًا حِلَقًا حَدِيثُهُمْ الدُّنْيَا لَا تُجَالِسُوهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ تَرَكَهُمْ مِنْ يَدِهِ. فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ حَدِيثِ الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَالْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ بِالْجِدَالِ، وَالْخُصُومَةِ وَإِنْشَادِ الضَّوَالِّ وَإِنْشَادِ الشِّعْرِ الْغَزَلِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ وَسَلِّ السُّيُوفِ وَكَثْرَةِ اللَّغَطِ وَدُخُولِ الصِّبْيَانِ، وَالنِّسَاءِ، وَالْمَجَانِينِ، وَالْجُنُبِ، وَالِارْتِقَاءُ بِالْمَسْجِدِ وَاِتِّخَاذَهُ لِلصَّنْعَةِ، وَالتِّجَارَةِ كَالْحَانُوتِ مَكْرُوهٌ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَالْفَاعِلُ لَهُ آثِمٌ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ وَتَغْلِيظِهِ عَلَى فَاعِلِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ وَابْنِ مَنْصُورٍ وَقَدْ سُئِلَ يُكْرَهُ الْكَلَامُ بَعْدَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ قَالَ: يُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَرِهَهُ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ يُكْرَهُ الْكَلَامُ قَبْلَ الصَّلَاةِ إنَّمَا هِيَ سَاعَةُ تَسْبِيحٍ. وَقَالَ مُهَنَّا سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْكَلَامِ، وَالْحَدِيثِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ فَكَرِهَهُ وَقَالَ عُمَرُ: نَنْهَى عَنْهُ، وَنَقَلَ عَنْهُ الْمَيْمُونِيُّ قَالَ كُنَّا نَتَنَاظَرُ فِي الْمَسَائِلِ أَنَا وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَنَقَلَ عَنْهُ صَالِحٌ أَنَّهُ أَجَازَ الْكَلَامَ فِي قَضَاءِ الْحَاجَةِ لَيْسَ الْكَلَامَ الْكَثِيرَ قَالَ الْقَاضِي فَقَدْ أَجَازَ الْكَلَامَ فِي الْفِقْهِ وَأَجَازَ الْيَسِيرَ عِنْدَ الْحَاجَةِ. «وَلَعِبَ الْحَبَشَةُ بِدَرَقِهِمْ وَحِرَابِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمَ عِيدٍ وَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتُرُ عَائِشَةَ وَهِيَ تَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَقَالَ دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمْ وَبَنُو أَرِفْدَةَ جِنْسٌ مِنْ الْحَبَشَةِ يَرْقُصُونَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَيُقَالُ: بِفَتْحِ الْفَاءِ وَكَسْرُهَا أَشْهَرُ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِيهِ جَوَازُ اللَّعِبِ بِالسِّلَاحِ وَنَحْوِهِ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ فِي الْمَسْجِدِ وَيُلْحَقُ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُعِينَةِ عَلَى الْجِهَادِ وَفِيهِ بَيَانُ مَا كَانَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الرَّأْفَةِ، وَالرَّحْمَةِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ، وَالْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ. وَلِمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ «جَاءَ جَيْشٌ يَزْفِنُونَ فِي يَوْمِ عِيدٍ فِي الْمَسْجِدِ.» يَزْفِنُونَ أَيْ: يَرْقُصُونَ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ حَمَلَهُ الْعُلَمَاءُ عَلَى التَّوَثُّبِ بِسِلَاحِهِمْ وَلَعِبِهِمْ بِحِرَابِهِمْ عَلَى قَرِيبٍ مِنْ هَيْئَةِ الرَّاقِصِ لِأَنَّ مُعْظَمَ الرِّوَايَاتِ إنَّمَا فِيهَا لَعِبُهُمْ بِحِرَابِهِمْ فَتَنَاوَلَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَزَادَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَئِذٍ «لِتَعْلَمَ يَهُودُ أَنَّ فِي دِينِنَا

فُسْحَةً، أُرْسِلْتُ بِحَنِيفِيَّةٍ سَمْحَةٍ» وَلِأَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ «لَمَّا كَانَتْ الْحَبَشَةُ يَزْفِنُونَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَرْقُصُونَ وَيَقُولُونَ مُحَمَّدٌ عَبْدٌ صَالِحٌ فَقَالَ مَا يَقُولُونَ؟ قَالُوا: يَقُولُونَ مُحَمَّدٌ عَبْدٌ صَالِحٌ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ «بَيْنَا الْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحِرَابِهِمْ إذْ دَخَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَهْوَى إلَى الْحَصْبَاءِ يَحْصِبُهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعْهُمْ يَا عُمَرُ» قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ هَذَا لَا يَلِيقُ بِالْمَسْجِدِ وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَعْلَمْ بِهِ.

فصل إنكار ما يعمل في المساجد والمقابر في إحياء ليالي المواسم والموالد

[فَصْلٌ إنْكَارِ مَا يُعْمَلُ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْمَقَابِرِ فِي إحْيَاءِ لَيَالِي الْمَوَاسِمِ وَالْمَوَالِدِ] فَصْلٌ (فِي إنْكَارِ مَا يُعْمَلُ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْمَقَابِرِ فِي إحْيَاءِ لَيَالِي الْمَوَاسِمِ وَالْمَوَالِدِ) قَالَ أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَا أَبْرَأُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ جُمُوعِ أَهْلِ وَقْتِنَا، فِي الْمَسَاجِدِ، وَالْمَشَاهِدِ لَيَالِي يُسَمُّونَهَا إحْيَاءً. لَعَمْرِي إنَّهَا لِإِحْيَاءِ أَهْوَائِهِمْ، وَإِيقَاظِ شَهَوَاتِهِمْ، جُمُوعُ الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ مَخَارِجُ، الْأَمْوَالِ فِيهَا مِنْ أَفْسَدِ الْمَقَاصِدِ وَهُوَ الرِّيَاءُ، وَالسُّمْعَةُ وَمَا فِي خِلَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ اللَّعِبِ، وَالْكَذِبِ، وَالْغَفْلَةِ، مَا كَانَ أَحْوَجَ الْجَوَامِعِ أَنْ تَكُون مُظْلِمَةً مِنْ سُرُجِهِمْ، مُنَزَّهَةً عَنْ مَعَاصِيهمْ وَفِسْقِهِمْ، مُرْدَانٍ وَنِسْوَةٍ، وَفِسْقُ الرَّجُلِ عِنْدِي مَنْ وَزَنَ فِي نَفْسِهِ ثَمَنَ الشَّمْعَةِ فَأَخْرَجَ بِهِ دُهْنًا وَحَطَبًا إلَى بُيُوتِ الْفُقَرَاءِ وَوَقَفَ فِي زَاوِيَةِ بَيْتٍ بَعْدَ إرْضَاءِ عَائِلَتِهِ بِالْحُقُوقِ فَكُتِبَ فِي الْمُتَهَجِّدِينَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بِحُزْنٍ وَدَعَا لِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَبَكَّرَ إلَى مَعَاشِهِ لَا إلَى الْمَقَابِرِ فَتَرْكُ الْمَقَابِرِ فِي ذَلِكَ عِبَادَةٌ. يَا هَذَا اُنْظُرْ إلَى خُرُوجِك إلَى الْمَقَابِرِ كَمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا وُضِعَتْ لَهُ. قَالَ «تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ» فَأَشْغَلَكَ بِتَلَمُّحِ الْوُجُوهِ النَّاضِرَةِ فِي تِلْكَ الْجُمُوعِ لِزَرْعِ اللَّذَّةِ فِي قَلْبِكَ، وَالشَّهْوَةِ فِي نَفْسِكَ مِنْ مُطَالَعَةِ الْعِظَامِ النَّاخِرَةِ يُسْتَدْعَى بِهَا ذِكْرُ الْآخِرَةِ كَلًّا مَا خَرَجْت إلَّا مُتَنَزِّهًا، وَلَا عُدْت إلَّا مُتَأَثِّمًا، وَلَا فَرْقَ عِنْدَك بَيْنَ الْقُبُورِ، وَالْمَسَاكِنِ مَعَ الْفُرْجَةِ لَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمَعَاصِي بَيْنَ الْجُدْرَانِ فَأَمَّا أَنْ تُجْعَلَ الْمَقَابِرُ، وَالْمَشَاهِدُ عِلَّةً فِي الِاشْتِهَارِ فَلَا فَعَلَى مَنْ فَطِنَ لِقَوْلِي فِي رَجَبٍ وَأَمْثَالِهِ

{فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36] . عَزَّ عَلَيَّ بِقَوْمٍ فَأَتَتْهُمْ أَيَّامُ الْمَوَاسِمِ الَّتِي يَحْظَى فِيهَا قَوْمٌ بِأَنْوَاعِ الْأَرْبَاحِ، وَلَيْتَهُمْ خَرَجُوا مِنْهَا بِالْبَطَالَةِ رَأْسًا بِرَأْسٍ مَا قَنَعُوا حَتَّى جَعَلُوهَا مِنْ السَّنَةِ إلَى السَّنَةِ خَلْسًا لِاسْتِيفَاءِ اللَّذَّاتِ وَاسْتِلَامِ الشَّهَوَاتِ الْمَحْظُورَاتِ مَا بَالُ الْوُجُوهِ الْمَصُونَةِ فِي جُمَادَى هُتِكَتْ فِي رَجَبٍ بِحُجَّةِ الزِّيَارَاتِ {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة: 50] {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] نُوحَ. وَقَالَ أَتَرَى بِمَاذَا تَتَحَدَّثُ عَنْك سَوَارِي الْمَسْجِدِ فِي الظُّلَمِ، وَأَفْنِيَةُ الْقُبُورِ، وَالْقِبَابِ، بِالْبُكَاءِ مِنْ خَوْفِ الْوَعِيدِ، وَالتَّذْكِرَةِ لِلْآخِرَةِ؟ بِنَظَرِ الْعِبْرَةِ إذَا تَحَدَّثَتْ عَنْ أَقْوَامٍ خَتَمُوا فِي بُيُوتِهِمْ الْخَتْمَاتِ وَصَانُوا الْأَهْلَ اتِّبَاعًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ «انْسَلَّ مِنْ فِرَاشِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إلَى الْمَسْجِدِ لَا جُمُوعَ وَلَا شُمُوعَ؟ طُوبَى لِمَنْ سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ فَانْزَوَى إلَى زَاوِيَةِ بَيْتِهِ فَانْتَصَبَ لِقِرَاءَةِ جُزْءٍ فِي رَكْعَتَيْنِ بِتَدَبُّرٍ وَتَفَكُّرٍ» فَيَالَهَا مِنْ لَحْظَةٍ مَا أَصْفَاهَا مِنْ أَكْدَارِ الْمُخَالَطَاتِ وَأَقْذَارِ الرِّيَاءِ، غَدًا يَرَى أَهْلُ الْجُمُوعِ أَنَّ الْمَسَاجِدَ تَلْعَنُهُمْ، وَالْمَشَاهِدَ، وَالْمَقَابِرَ تَسْتَغِيثُ مِنْهُمْ. يُبَكِّرُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: أَنَا صَائِمٌ، مَتَى أَفْلَحَ عُرْسُك حَتَّى يَكُونَ لَهُ صُبْحَةٌ؟ قُلْ لِي يَا مَنْ أَحْيَا فِي الْجَامِعِ بِأَيِّ قَلْبٍ رَجَعْت؟ مَاتَ وَاَللَّهِ قَلْبُك، وَعَابَتْ نَفْسُك، مَا أَخْوَفَنِي عَلَى مَنْ فَعَلَ هَذَا الْفِعْلَ فِي هَذِهِ اللَّيَالِي أَنْ يَخَافَ فِي مَوَاطِنِ الْأَمْنِ، وَيَظْمَأَ فِي مَقَامَاتِ الرِّيِّ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي زَمَنِهِ فَمَا ظَنُّك بِزَمَنِنَا هَذَا الَّذِي بَيْنَهُمَا نَحْوُ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ وَمَا يَجْرِي بِالشَّامِّ وَمِصْرَ، وَالْعِرَاقِ وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ فِي أَيَّامِ الْمَوَاسِمِ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثُ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «لَا يَأْتِي عَامٌ إلَّا وَاَلَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ» سَمِعْته مِنْ نَبِيِّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ إنْ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ فِي حُصُولِ الْمُحَرَّمِ، وَالْمُنْكَرِ وَلَا بُدَّ حَرُمَ تَعَاطِيهِ وَدُخُولُهُ وَإِنْ ظَنَّ ذَلِكَ كُرِهَ، وَقَدْ يُقَالُ يَحْرُمُ فَإِنْ ظَنَّ مَعَ ذَلِكَ اشْتِمَالَهُ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْخَيْرِ

تَزِيدُ عَلَى نَوْعِ الْمَكْرُوهِ، أَوْ تُسَاوِيهِ فَلَا كَرَاهَةَ وَبِكُلِّ حَالٍ فَالنَّوَافِلُ، وَالتَّطَوُّعَاتُ خُفْيَةً أَوْلَى فِي الْجُمْلَةِ بِلَا إشْكَالٍ وَأَسْلَمُ مِنْ الرِّيَاءِ، وَالسُّمْعَةِ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَفْوَ، وَالْمُسَامَحَةَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

فصل إخراج حصاه وترابه للتبرك

[فَصْلٌ إخْرَاجُ حَصَاهُ وَتُرَابِهِ لِلتَّبَرُّكِ] فَصْلٌ وَيُكْرَهُ إخْرَاجُ حَصَاهُ وَتُرَابُهُ لِلتَّبَرُّكِ وَغَيْرِهِ كَذَا قَالُوا: وَفِيهِ نَظَرٌ، وَيُتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ، إمَّا مُرَادُهُمْ بِالْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمُ، وَإِمَّا مُرَادُهُمْ إخْرَاجُ الشَّيْءِ الْيَسِيرِ لَا الْكَثِيرِ، قَالُوا: وَيُبَاحُ وَضْعُ حَصًى مَكَانَ غَيْرِهِ فِيهِ. [فَصْلٌ فِي صِيَانَةِ الْمَسْجِدِ عَنْ كُلِّ حَدَثٍ وَنَجِسٍ وَإِغْلَاقِ أَبْوَابِهِ لِمَنْعِ الْمُنْكَرِ فِيهِ] قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَغَيْرِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُغْرَسَ فِي الْمَسْجِدِ شَيْءٌ وَلِلْإِمَامِ قَلْعُ مَا غُرِسَ فِيهِ بَعْدَ إيقَافِهِ وَهَذَا كُلُّهُ مَعْنَى كَلَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الْفَرَجِ بْنِ الصَّبَّاحِ، وَقَطَعَ فِي التَّلْخِيصِ بِأَنَّهَا تُقْلَعُ كَمَا لَوْ غُرِسَتْ فِي أَرْضِ غَصْبٍ وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِهِ فِي الْمُحَرَّرِ. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَأَبُو الْفَرَجِ فِي الْمُبْهِجِ أَنَّهُ يُكْرَهُ غَرْسُهَا وَلَفْظُ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الْفَرَجِ بْنِ الصَّبَّاحِ: هَذِهِ غُرِسَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ وَاَلَّذِي غَرَسَهَا ظَالِمٌ غَرَسَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ. وَسَأَلَهُ مُثَنَّى عَنْ هَذَا قَالَ مُثَنَّى: فَلَمْ يُعْجِبْهُ. وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى يُسَنُّ أَنْ يُصَانَ عَنْ الزَّرْعِ فِيهِ، وَالْغَرْسِ وَأَكْلِ ثَمَرِهِ مَجَّانًا فِي الْأَشْهَرِ، وَعَنْ الْجِمَاعِ فِيهِ، أَوْ فَوْقَهُ. وَقَالَ ابْنُ تَمِيمٍ يُكْرَهُ الْجِمَاعُ فَوْقَ الْمَسْجِدِ وَالتَّمَسُّحُ بِحَائِطِهِ وَالْبَوْلُ عَلَيْهِ نَصَّ عَلَيْهِ. وَهَذَا النَّصُّ فِي مَسَائِلِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ، وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي آخِرِ الْإِجَارَةِ مِنْ الْفُصُولِ أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ أَكْرَهُ لِمَنْ بَالَ أَنْ يَمْسَحَ ذَكَرَهُ بِجِدَارِ الْمَسْجِدِ قَالَ، وَالْمُرَاد بِهِ الْحَظْرُ وَيَحْرُمُ الْبَوْلُ فِيهِ، وَالْقَيْءُ وَنَحْوُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يُبَاحَ الْفَصْدُ فِي الْمَسْجِدِ فِي طَسْتٍ لِحَدِيثِ

الْمُعْتَكِفَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ وَعَلَى قِيَاسِهِ إخْرَاجُ كُلِّ نَجَاسَةٍ فِي إنَاءٍ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِنْ بَالَ خَارِجًا عَنْهُ وَجَسَدُهُ فِيهِ دُونَ ذَكَرِهِ كُرِهَ وَعَنْهُ يَحْرُمُ. وَيُبَاحُ غَلْقُ أَبْوَابِهِ لِئَلَّا يَدْخُلَهُ مَنْ يُكْرَهُ دُخُولُهُ إلَيْهِ نَصَّ عَلَيْهِ وَقَتْلُ الْبَرَاغِيثِ، وَالْقُمَّلِ فِيهِ نَصَّ عَلَيْهِ وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى طَهَارَتِهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ بِإِخْرَاجِهِ لِأَنَّ إلْقَاءَ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ وَبَقَاءَهُ لَا يَجُوزُ. وَفِي الْمُفِيدِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ وَيُكْرَهُ إغْلَاقُ بَابِ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَنْعًا عَنْ الصَّلَاةِ وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْآيَةِ قَالَ وَقَالَ مَشَايِخُنَا لَا بَأْسَ بِهِ فِي زَمَانِنَا فِي غَيْرِ أَوَانِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ يُخَافُ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ السَّرِقَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِي كَرَاهَةِ الْوُضُوءِ فِيهِ، وَالْغُسْلِ رِوَايَتَانِ. وَحَكَى بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَلَعَلَّهُ عَلَى رِوَايَةِ أَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ نَجِسٌ، فَإِنْ كَانَ فَهُوَ وَاضِحٌ.

فصل في الخلاف في دخول الكافر مساجد الحل والتفصيل فيه

[فَصْلٌ فِي الْخِلَافِ فِي دُخُولِ الْكَافِرِ مَسَاجِدَ الْحِلِّ وَالتَّفْصِيلِ فِيهِ] ِ) وَفِي جَوَازِ دُخُولِ الْكَافِرِ مَسَاجِدَ الْحِلِّ بِإِذْنِ مُسْلِمٍ لِمَصْلَحَةٍ رِوَايَتَانِ قَالَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى، وَالْمَنْعُ مُطْلَقًا أَظْهَرُ فَإِنْ جَازَ فَفِي جَوَازِ جُلُوسِهِ فِيهِ جُنُبًا وَجْهَانِ، وَحَكَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا رِوَايَةَ الْجَوَازِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ إذْنٍ. وَقَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ هَلْ يَجُوزُ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ دُخُولُ مَسَاجِدِ الْحِلِّ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَذَكَرَ فِي الشَّرْحِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ دُخُولُهَا بِإِذْنِ مُسْلِمٍ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَأَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ الْمَذْهَبِ الْجَوَازُ فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ لِكَافِرٍ دُخُولَ مَسَاجِدِ الْحِلِّ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ، ثُمَّ هَلْ الْخِلَافُ فِي كُلِّ كَافِرٍ أَمْ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ فَقَطْ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. وَهَلْ مَحَلُّ الْخِلَافِ مَعَ إذْنِ مُسْلِمٍ لِمَصْلَحَةٍ أَوْ لَا يُعْتَبَرُ، أَوْ يُعْتَبَرُ إذْنُ الْمُسْلِمِ فَقَطْ؟ فِيهِ ثَلَاثُ طُرُقٍ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ جَوَازُ دُخُولِهِ بِإِذْنِ مُسْلِمٍ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْكِتَابِيِّ دُونَ غَيْرِهِ وَلَيْسَ لِكَافِرٍ دُخُولُ الْحَرَمَيْنِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ قَطَعَ بِهِ ابْنُ حَامِدٍ وَقَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى وَقِيلَ يَجُوزُ. قَالَ الْقَاضِي فِي شَرْحِ الْمَذْهَبِ وَقَدْ أَوْمَأَ إلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ قَالَ ابْنُ تَمِيمٍ وَحَكَى أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا الْمَنْعَ مِنْ حَرَمِ مَكَّةَ دُونَ الْمَدِينَةِ وَقَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ لَا يَجُوزُ لِكَافِرٍ دُخُولُ الْحَرَمِ وَكَذَا ذَكَرَ فِي الشَّرْحِ وَغَيْرِهِ.

فصل في الاجتماع والاستلقاء والأكل وإعطاء السائل في المسجد

[فَصْلٌ فِي الِاجْتِمَاعِ وَالِاسْتِلْقَاءِ وَالْأَكْلِ وَإِعْطَاءِ السَّائِلِ فِي الْمَسْجِدِ] ِ) وَلَا يَجُوزُ دُخُولُ مَسْجِدٍ لِلْأَكْلِ وَنَحْوِهِ ذَكَرَهُ ابْنُ تَمِيمٍ وَابْنُ حَمْدَانَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَسْجِدُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُنْشَدُ فِيهِ شِعْرٌ وَلَا يُمَرَّ فِيهِ بِلَحْمٍ. وَذُكِرَ فِي الشَّرْحِ، وَالرِّعَايَةِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ لِلْمُعْتَكِفِ الْأَكْلَ فِي الْمَسْجِدِ وَغَسْلَ يَدِهِ فِي طَسْتٍ. وَذُكِرَ فِي الشَّرْحِ فِي آخِرِ بَابِ الْأَذَانِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالِاجْتِمَاعِ فِي الْمَسْجِدِ، وَالْأَكْلِ فِيهِ، وَالِاسْتِلْقَاءِ فِيهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُكْرَهُ السُّؤَالُ، وَالتَّصَدُّقُ فِي الْمَسَاجِدِ وَمُرَادُهُمْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ التَّصَدُّقُ عَلَى السُّؤَالِ لَا مُطْلَقًا وَقَطَعَ بِهِ ابْنُ عَقِيلٍ وَأَكْثَرُهُمْ لَمْ يَذْكُرْ الْكَرَاهَةَ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى أَنَّ مَنْ سَأَلَ قَبْلَ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ ثُمَّ جَلَسَ لَهَا تَجُوزُ الصَّدَقَةُ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ إنْ تَصَدَّقَ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْأَلْ أَوْ سَأَلَ الْخَاطِبُ الصَّدَقَةَ عَلَى إنْسَانٍ جَازَ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ فِي الْمَنَاقِبِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بَدْرٍ قَالَ صَلَّيْتُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَإِذَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَقْرُبُ مِنِّي فَقَامَ سَائِلٌ فَسَأَلَ فَأَعْطَاهُ أَحْمَدُ قِطْعَةً فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ الصَّلَاةِ قَامَ رَجُلٌ إلَى ذَلِكَ السَّائِلِ فَقَالَ أَعْطِنِي تِلْكَ الْقِطْعَةَ فَأَبَى فَقَالَ أَعْطِنِي وَأُعْطِيكَ دِرْهَمًا فَلَمْ يَفْعَلْ فَمَا زَالَ يَزِيدُهُ حَتَّى بَلَغَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا فَقَالَ لَا أَفْعَلُ فَإِنِّي أَرْجُو مِنْ بَرَكَةِ هَذِهِ الْقِطْعَةِ مَا تَرْجُوهُ أَنْتَ وَقَالَ أَبُو مُطِيعٍ الْبَلْخِيُّ الْحَنَفِيُّ لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُعْطِيَ سُؤَالَ الْمَسْجِدِ. قَالَ خَلَفُ بْنُ أَيُّوبَ لَوْ كُنْت قَاضِيًا لَمْ أَقْبَلْ شَهَادَةَ مَنْ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ وَاخْتَارَ صَاحِبُ الْمُحِيطِ مِنْهُمْ أَنَّهُ إنْ سَأَلَ لِأَمْرٍ لَا بُدَّ مِنْهُ وَلَا ضَرَرَ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَلَا كُرْهًا.

فصل في آداب دخول المسجد

[فَصْلٌ فِي آدَاب دُخُول الْمَسْجِد] فَصْلٌ تَقْدِيمُ الرِّجْلِ الْيُمْنَى فِي دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْيُسْرَى فِي الْخُرُوجِ مِنْهُ وَجَوَازُ الصَّلَاةِ فِيهِ بِالنَّعْلَيْنِ وَأَيْنَ يَضَعُهُمَا إذَا خَلَعَهُمَا؟) وَيُقَدِّمُ الْمُسْلِمُ يُمْنَاهُ فِي دُخُولِهِ وَيُسْرَاهُ فِي خُرُوجِهِ وَيَقُولُ مَا وَرَدَ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَنْتَعِلَ قَائِمًا، وَعَنْهُ يُبَاحُ، وَيُسَنُّ أَنْ يَبْدَأَ بِخَلْعِ الْيُسْرَى وَلُبْسِ الْيُمْنَى بِيَسَارِهِ فِيهَا، وَالْمَسْجِدُ وَنَحْوُهُ فِيهِمَا سَوَاءٌ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ رَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِد خَلَعَ نَعْلَيْهِ وَهُوَ قَائِمٌ. وَلَهُ الصَّلَاةُ فِي نَعْلِهِ وَتَرْكُهُ أَمَامَهُ، وَعَنْهُ بَلْ عَنْ يَسَارِهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا خَلَعَ نَعْلَيْهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ جَعَلَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَلِأَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَلَا يُؤْذِ بِهِمَا أَحَدًا لِيَجْعَلْهُمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَوْ لِيُصَلِّ فِيهِمَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَفِي خَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِيَجْعَلْهُمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ» رَوَى ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ حَكَاهُ الْقَاضِي قَالَ وَقِيلَ: إنْ كَانَ مَأْمُومًا جَعَلَهُمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ لِئَلَّا يُؤْذِيَ مَنْ عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ شِمَالِهِ، وَإِنْ كَانَ إمَامًا، أَوْ مُنْفَرِدًا جَعَلَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ لِئَلَّا يُؤْذِيَ أَحَدًا قَالَ الْقَاضِي وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا جَانِبَ الْيَسَارِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ. وَرَوَاهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ، وَلِأَنَّ الْيَسَارَ جُعِلَتْ لِلْأَشْيَاءِ الْمُسْتَقْذَرَةِ مِنْ الْأَفْعَالِ قَالَ الْقَاضِي: فَأَمَّا مَوْضِعُهَا مِنْ غَيْرِ

الْمُصَلَّى فَإِلَى جَنْبِهِ. كَذَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْن عَبَّاسٍ قَالَ مِنْ السُّنَّةِ إذَا جَلَسَ أَنْ يَخْلَعَ نَعْلَيْهِ فَيَضَعَهُمَا بِجَنْبِهِ. وَيُمْنَعُ السَّكْرَانُ مِنْ دُخُولِهِ وَيُمْنَعُ نَجِسُ الْبَدَنِ مِنْ اللُّبْثِ فِيهِ بِلَا تَيَمُّمٍ ذَكَرَهُ ابْنُ تَمِيمٍ وَغَيْرُهُ.

فصل فيمن سبق إلى مكان من المسجد وفي كنسه وتنظيفه وتطييبه ولقطته

[فَصْلٌ فِيمَنْ سَبَقَ إلَى مَكَان مِنْ الْمَسْجِدِ وَفِي كَنْسِهِ وَتَنْظِيفِهِ وَتَطْيِيبِهِ وَلُقَطَتِهِ] ِ) وَإِنْ جَلَسَ غَيْرُ الْإِمَامِ فِي مَكَان مِنْ الْمَسْجِدِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَقَالَ ابْنُ حَمْدَانَ يُكْرَهُ دَوَامُهُ فِي مَوْضِعٍ مِنْهُ فَإِنْ دَامَ فَلَيْسَ هُوَ بِهِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ فَإِنْ قَامَ مِنْهُ فَلِغَيْرِهِ الْجُلُوسُ فِيهِ. وَيُسَنُّ كَنْسُ الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَإِخْرَاجُ كُنَاسَتِهِ وَتَنْظِيفُهُ وَتَطْيِيبُهُ فِيهِ وَشَعْلُ الْقَنَادِيلِ فِيهِ كُلَّ لَيْلَةٍ، وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُتَفَطَّنَ لَهُ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ شَيْءٍ، أَخَذَ مُلْقًى فِي الْمَسْجِدِ يُصَانُ عَنْهُ، ثُمَّ يَضَعَهُ فِيهِ فَإِنَّهُ يُتَوَجَّهُ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ يُلْزَمُ بِالْأَخْذِ لِأَنَّ خَلَاءَ الْمَسْجِدِ مِنْهُ فَإِذَا أُلْقِيَ فِيهِ فَهُوَ كَنُخَامَةٍ وَنَحْوِهَا أُلْقِيَتْ فِيهِ. وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي اللُّقَطَةِ يُلْزَمُ بِأَخْذِهَا وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْمَوْجُودُ مَقْصُودًا وَضْعُهُ فِي الْمَسْجِدِ كَالْحَصْبَاءِ، أَوْ لَمْ يُقْصَدْ وَضْعُهُ لَكِنَّهُ أَرْضُ الْمَسْجِدِ وَلَمَّا أَرْسَلَ ابْنُ عُمَرَ إلَى عَائِشَةَ يَسْأَلُهَا عَنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِيرَاطَيْ الْجِنَازَةِ أَخَذَ قَبْضَةً مِنْ حَصْبَاءَ يُقَلِّبُهَا فِي يَدِهِ حَتَّى رَجَعَ إلَيْهِ الرَّسُولُ فَقَالَ: قَالَتْ: عَائِشَةُ: صَدَقَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَضَرَبَ ابْنُ عُمَرَ بِالْحَصْبَاءِ الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ الْأَرْضَ، ثُمَّ قَالَ لَقَدْ فَرَّطْنَا فِي قَرَارِيطَ كَثِيرَةٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَصْلُهُ فِي الْبُخَارِيِّ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِيهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِمِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ أَنَّ حُذَيْفَةَ رَمَى الْأَسْوَدَ بْنَ يَزِيدَ فِي الْمَسْجِدِ بِالْحَصْبَاءِ لِيَأْتِيَهُ فَأَتَاهُ. قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ رَمْيِ الرَّجُلِ صَاحِبَهُ فِي الْمَسْجِد بِالْحَصْبَاءِ وَلِمُسْلِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَزَالُونَ يَسْأَلُونَك يَا أَبَا هُرَيْرَةَ حَتَّى يَقُولُوا هَذَا اللَّهُ فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ قَالَ فَبَيْنَا أَنَا فِي الْمَسْجِدِ إذْ جَاءَنِي نَاسٌ مِنْ الْأَعْرَابِ فَقَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ هَذَا اللَّهُ

فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ قَالَ فَأَخَذَ حَصًا بِكَفِّهِ فَرَمَاهُمْ، ثُمَّ قَالَ قُومُوا صَدَقَ خَلِيلِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَلِمُسْلِمٍ عَنْهُ مَرْفُوعًا «لَيَسْأَلَنَّكُمْ النَّاسُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَقُولُوا اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَمَنْ خَلَقَهُ» وَفِي هَذَا تَأْدِيبُ مَنْ يَسْأَلُ عَمَّا لَا يَنْبَغِي بِالْقَوْلِ، وَالْفِعْلِ.

فصل في الصلاة بالنعلين وكون طهارتهما بمسحهما بالأرض

[فَصْلٌ فِي الصَّلَاةِ بِالنَّعْلَيْنِ وَكَوْنِ طَهَارَتِهِمَا بِمَسْحِهِمَا بِالْأَرْضِ] فَصْلٌ (فِي الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ بِالنَّعْلَيْنِ وَكَوْنِ طَهَارَتِهِمَا بِمَسْحِهِمَا بِالْأَرْضِ غَيْرَ أَرْضِ الْمَسْجِدِ) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَقْلِبْ نَعْلَيْهِ، ثُمَّ لِيَنْظُر فِيهِمَا فَإِنْ رَأَى خَبَثًا فَلْيَمْسَحْهُ بِالْأَرْضِ، ثُمَّ لِيُصَلِّ فِيهِمَا» إسْنَادٌ جَيِّدٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. وَمُرَادُهُ أَنْ يَمْسَحَ الْخَبَثَ بِغَيْرِ أَرْضِ الْمَسْجِدِ، وَإِنْ لَمْ يُصَلِّ فِي نَعْلَيْهِ وَوَضَعَهُمَا فِي الْمَسْجِدِ فَلَا يَرْمِ بِهِمَا فِيهِ فَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْكِبْرِ، وَالتَّعَاظُمِ أَوْ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِتْلَافِ شَيْءٍ مِنْ أَرْضِ الْمَسْجِدِ، أَوْ فِي أَذَى أَحَدٍ فَلَا خَفَاءَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَيَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِسَبَبِهِ وَإِلَّا فَالْأَدَبُ أَلَّا يَفْعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ خِلَافُ التَّعْظِيمِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَحَبِّ الْبِقَاع إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيُشْبِهُ هَذَا رَمْيَ الْكِتَابِ بِالْأَرْضِ وَقَدْ فَعَلَهُ رَجُلٌ عِنْدَ أَحْمَدَ فَغَضِبَ وَقَالَ هَكَذَا يُفْعَلُ بِكَلَامِ الْأَبْرَارِ؟ وَفِي الْمُحِيطِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ لَوْ مَشَى فِي الطِّينِ كُرِهَ لَهُ أَنْ يَمْسَحَهُ بِحَائِطِ الْمَسْجِدِ، وَإِنْ مَسَحَهُ بِتُرَابِ الْمَسْجِدِ وَكَانَ مَجْمُوعًا فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُنْبَسِطًا يُكْرَهُ.

فصل النعش يوضع في المسجد

[فَصْلٌ النَّعْشُ يُوضَعُ فِي الْمَسْجِدِ] فَصْلٌ وَسَهَّلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي النَّسْخِ فِيهِ دُونَ وَضْعِ النَّعْشِ. وَقَالَ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَسُئِلَ عَنْ النَّعْشِ يُوضَعُ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَوَقَّاهُ، وَكَرِهَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ اتِّخَاذَهُ طَرِيقًا. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ وَسُئِلَ عَنْ الْمَشْيِ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ لَا تَتَّخِذُوا الْمَسْجِدَ طَرِيقًا فَإِنْ كَانَتْ عِلَّةٌ فَلَا بَأْسَ.

فصل جلوس العلماء والفقهاء في الجوامع والمساجد والتصدي للتدريس والفتوى

[فَصْلٌ جُلُوسُ الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ فِي الْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ وَالتَّصَدِّي لِلتَّدْرِيسِ وَالْفَتْوَى] فَصْلٌ قَالَ الْقَاضِي: فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ: فَأَمَّا جُلُوسُ الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ فِي الْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ وَالتَّصَدِّي لِلتَّدْرِيسِ وَالْفَتْوَى فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَاجِرٌ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ لَا يَتَصَدَّى لِمَا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ إلَى أَنْ قَالَ وَلِلسُّلْطَانِ فِيهِمْ مِنْ النَّظَرِ مَا يُوجِبهُ الِاحْتِيَاطُ مِنْ إنْكَارٍ وَإِقْرَارٍ، وَإِذَا أَرَادَ مَنْ هُوَ لِذَلِكَ أَهْلٌ أَنْ يَتَرَتَّبَ فِي أَحَدِ الْمَسَاجِدِ لِتَدْرِيسٍ أَوْ فُتْيَا نُظِرَ فِي حَالِ الْمَسْجِدِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ مَسَاجِدِ الْمَحَالِّ الَّتِي لَا تَتَرَتَّبُ الْأَئِمَّةُ فِيهَا مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ لَمْ يَلْزَمْ مَنْ يَتَرَتَّبُ فِيهَا لِذَلِكَ اسْتِئْذَانُ السُّلْطَانِ فِي جُلُوسِهِ كَمَا لَا يَلْزَمُ أَنْ يَسْتَأْذِنَ مَنْ يَتَرَتَّبُ فِيهَا لِلْإِمَامَةِ. وَإِنْ كَانَ مِنْ الْجَوَامِعِ وَكِبَارِ الْمَسَاجِدِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ الْأَئِمَّةُ فِيهَا بِتَقْلِيدِ السُّلْطَانِ رُوعِيَ فِي ذَلِكَ عُرْفُ الْبَلَدِ وَعَادَتُهُ فِي جُلُوسِ أَمْثَالِهِ، فَإِنْ كَانَ لِلسُّلْطَانِ فِي جُلُوسِ مِثْلِهِ نَظَرٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَرَتَّبَ لِلْجُلُوسِ فِيهِ إلَّا عَنْ إذْنِهِ كَمَا لَا يَتَرَتَّبُ لِلْإِمَامَةِ فِيهِ إلَّا عَنْ إذْنِهِ؛ لِأَنَّهُ افْتِئَاتٌ عَلَيْهِ فِي وِلَايَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلسُّلْطَانِ فِي مِثْلِهِ نَظَرٌ مَعْهُودٌ لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِئْذَانُهُ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمَسَاجِدِ. قَالَ الْقَاضِي سَعْدُ الدِّينِ الْحَارِثِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: وَالصَّحِيحُ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْإِذْنِ؛ لِأَنَّ الطَّاعَاتِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَدَّى إلَى التَّعْطِيلِ وَلِفِعْلِ السَّلَفِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ الِافْتِئَاتِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ الْقَاضِي: وَيُمْنَعُ النَّاسُ فِي الْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ مِنْ اسْتِطْرَاقِ حِلَقِ الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ صِيَانَةً لِحُرْمَتِهَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا حِمَى إلَّا فِي ثَلَاثَةٍ الْبِئْرِ وَطُولِ الْفَرَسِ وَحَلْقَةِ الْقَوْمِ.» فَأَمَّا الْبِئْرُ فَهِيَ مُنْتَهَى حَرِيمِهَا، وَأَمَّا طُولُ الْفَرَسِ فَهُوَ مَا دَارَ فِيهِ بِمَقُودِهِ إذَا كَانَ مَرْبُوطًا، وَأَمَّا حَلْقَةُ الْقَوْمِ فَهِيَ اسْتِدَارَتُهُمْ فِي الْجُلُوسِ لِلتَّشَاوُرِ وَالْحَدِيثِ. وَهَذَا الْخَبَرُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي إسْنَادُهُ جَيِّدٌ مِنْ حَدِيثِ سَعْدٍ الْكَاتِبِ عَنْ بِلَالٍ الْعَنْبَسِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلًا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَإِذَا تَنَازَعَ أَهْلُ الْمَذَاهِبِ الْمُخْتَلِفَةِ فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ

لَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِمْ فِيهِ إلَّا أَنْ يَحْدُثَ بَيْنَهُمْ تَنَافُرٌ فَيَكُفُّوا عَنْهُ، وَإِنْ حَدَثَ مُنَازِعٌ ارْتَكَبَ مَا لَا يَسُوغُ فِي الِاجْتِهَادِ كَفَّ عَنْهُ وَمُنِعَ مِنْهُ، فَإِنْ أَقَامَ عَلَيْهِ وَتَظَاهَرَ بِاسْتْغْوَاءِ مَنْ يَدْعُو إلَيْهِ لَزِمَ السُّلْطَانَ أَنْ يَحْسِمَهُ بِزَوَاجِرِ السَّلْطَنَةِ، لِيَتَبَيَّنَ ظُهُورَ بِدْعَتِهِ، وَيُوَضِّحَ بِدَلَائِلِ الشَّرْعِ فَسَادَ مَقَالَتِهِ، فَإِنَّ لِكُلِّ بِدْعَةٍ مُسْتَمِعًا، وَلِكُلِّ مُسْتَغْوٍ مُتَّبِعًا.

فصل في كراهة إسناد الظهر إلى القبلة في المسجد واستحباب جلوس القرفصاء

[فَصْلٌ فِي كَرَاهَةِ إسْنَادِ الظَّهْرِ إلَى الْقِبْلَةِ فِي الْمَسْجِدِ وَاسْتِحْبَابِ جُلُوسِ الْقُرْفُصَاءِ] ِ) يُسَنُّ أَنْ يَشْتَغِلَ فِي الْمَسْجِدِ بِالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَيَجْلِسَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُسْنِدَ ظَهْرَهُ إلَى الْقِبْلَةِ قَالَ أَحْمَدُ: هَذَا مَكْرُوهٌ وَصَرَّحَ الْقَاضِي بِالْكَرَاهَةِ قَالَ إبْرَاهِيمُ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَتَسَانَدُوا إلَى الْقِبْلَةِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْبُوشَنْجِيِّ: مَا رَأَيْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ جَالِسًا إلَّا الْقُرْفُصَاءَ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الصَّلَاةِ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَنَاقِبِ: وَهَذِهِ الْجِلْسَةُ تَحْكِيهَا قَيْلَةُ فِي حَدِيثِهَا «إنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسًا جِلْسَةَ الْمُتَخَشِّعِ الْقُرْفُصَاءَ» وَكَانَ أَحْمَدُ يَتَيَمَّمُ فِي جُلُوسِهِ هَذِهِ الْجِلْسَةَ، وَهِيَ أَوْلَى الْجِلْسَاتِ بِالْخُشُوعِ. وَالْقُرْفُصَاءُ أَنْ يَجْلِسَ الرَّجُلُ عَلَى أَلْيَتَيْهِ رَافِعًا رُكْبَتَيْهِ إلَى صَدْرِهِ بِأَخْمَصِ قَدَمَيْهِ إلَى الْأَرْضِ، وَرُبَّمَا احْتَبَى بِيَدِهِ، وَلَا جِلْسَةَ أَخْشَعُ مِنْهَا انْتَهَى كَلَامُهُ. وَحَدِيثُ قَيْلَةَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَّانَ الْعَنْبَرِيِّ حَدَّثَنِي جَدَّتَايَ صَفِيَّةُ وَدُحَيْبَةُ ابْنَتَا عُلَيَّةَ وَكَانَتَا رَبِيبَتَيْ قَيْلَةَ بِنْتِ مَخْرَمَةَ، وَكَانَتْ جَدَّةَ أَبِيهِمَا أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُمَا أَنَّهَا «رَأَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ قَاعِدٌ الْقُرْفُصَاءَ فَلَمَّا رَأَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُتَخَشِّعَ وَفِي لَفْظٍ الْمُتَخَشِّعَ فِي الْجِلْسَةِ أَرْعَدَتْ مِنْ الْفَرَقِ.» صَفِيَّةُ وَدُحَيْبَةُ تَفَرَّدَ عَنْهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَّانَ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِهِ. وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ عَنْ قَوْلِهَا «رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ الْقُرْفُصَاءَ» قَالَ: هِيَ جِلْسَةُ الْمُحْتَبِي بِيَدَيْهِ وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ مُحْتَبِيًا بِيَدَيْهِ هَكَذَا وَصَفَ بِيَدَيْهِ الِاحْتِبَاءَ وَهُوَ الْقُرْفُصَاءُ.»

وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا جَلَسَ احْتَبَى بِيَدَيْهِ،» وَصَحَّ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ وَهُوَ فِي مُسْلِمٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا صَلَّى الْفَجْرَ تَرَبَّعَ فِي مَجْلِسِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَسْنَاءَ» قَالَ فِي الشَّرْحِ فِي آخِرِ بَابِ النِّيَّةِ: وَلَا يُشَبِّكُ أَصَابِعَهُ، وَكَذَا فِي الرِّعَايَةِ وَزَادَ عَلَى خِلَافِ صِفَةِ مَا شَبَّكَهُمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يُكْثِرُ فِيهِ مِنْ حَدِيثِ الدُّنْيَا أَوْ سُكُوتِهِ وَعَنْهُ لَا يُسَنُّ النَّفَلُ الْمُطْلَقُ فِيهِ قَبْلَ الْفَرْضِ وَسُنَنِهِ.

فصل في عمارة المساجد ومراعاة أبنيتها ووضع المحاريب فيها

[فَصْلٌ فِي عِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ وَمُرَاعَاةِ أَبْنِيَتِهَا وَوَضْعِ الْمَحَارِيبِ فِيهَا] قَالَ فِي الْفُصُولِ وَالْمُسْتَوْعِبِ عِمَارَةُ الْمَسَاجِدِ وَمُرَاعَاةُ أَبْنِيَتِهَا مُسْتَحَبَّةٌ. وَقَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: بِنَاءُ الْمَسْجِدِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَيُسْتَحَبُّ اتِّخَاذُ الْمِحْرَابِ فِيهِ وَفِي الْمَنْزِلِ وَقَالَ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ بْنُ الْمُنْجِي فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ: بِنَاءُ الْمَسْجِدِ مُسْتَحَبٌّ وَرَدَتْ الْأَخْبَارُ بِالْحَثِّ عَلَيْهِ وَسَيَأْتِي كَلَامُهُ فِي الرِّعَايَةِ فِي أَوَاخِرِ الْكِتَابِ أَنَّ الْمَسَاجِدَ وَالْجَوَامِعَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَنْبَغِي اتِّخَاذُ الْمِحْرَابِ فِيهِ لِيَسْتَدِلَّ بِهِ الْجَاهِلُ، وَقَطَعَ بِهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَيُبَاحُ اتِّخَاذُ الْمِحْرَابِ نَصَّ عَلَيْهِ وَقِيلَ: يُسْتَحَبُّ أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ وَتَجُوزُ عِمَارَةُ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكِسْوَتُهُ وَإِشْعَالُهُ بِمَالِ كُلِّ كَافِرٍ وَأَنْ يَبْنِيَهُ بِيَدِهِ، فَظَاهِرُ هَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَغَيْرِهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِعِمَارَتِهِ فِي الْآيَةِ دُخُولَهُ وَالْجُلُوسُ فِيهِ كَقَوْلِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ. يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ دَرَّاجٍ أَبِي السَّمْحِ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا «إذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ» . فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 18] دَرَّاجٌ ضَعِيفٌ لَا سِيَّمَا عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ وَجَوَّزَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ وَقَالَ: لِمَنْ احْتَجَّ بِالْآيَةِ: الْآيَةُ وَارِدَةٌ عَلَى سَبَبٍ، وَهِيَ عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ

لِكَافِرٍ عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَطْ لِشَرَفِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّ الْعِمَارَةَ لَهُ هَلْ هِيَ دُخُولُهُ وَالْجُلُوسُ فِيهِ أَمْ الْبِنَاءُ لَهُ وَإِصْلَاحُهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ قَالَ: وَكِلَاهُمَا مَحْظُورٌ عَلَى الْكَافِرِ وَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَنْعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَذَكَرَ الْبَغَوِيّ أَنَّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ ذَهَبَ إلَيْهِ جَمَاعَةٌ.

فصل في التغلب على المسجد وغصبه وحكم الصلاة فيه والضمان له

[فَصْلٌ فِي التَّغَلُّبِ عَلَى الْمَسْجِدِ وَغَصْبِهِ وَحُكْمِ الصَّلَاةِ فِيهِ وَالضَّمَانِ لَهُ] ُ) قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَإِنْ تَغَلَّبَ مُتَغَلِّبٌ عَلَى مَسْجِدٍ وَمَنَعَ دُخُولَ النَّاسِ إلَيْهِ نَظَرْتَ إلَيْهِ فَإِنْ أَزَالَ الْآلَةَ الدَّالَّةَ عَلَى كَوْنِهِ مَسْجِدًا وَادَّعَاهُ مِلْكًا كَانَ كَسَائِرِ الْمَغْصُوبِ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِيهِ رِوَايَتَانِ، فَإِنْ مَنَعَ النَّاسَ عَنْهُ وَانْفَرَدَ بِهِ دُونَهُمْ مِنْ غَيْرِ تَخْرِيبٍ لَمْ يَصِحَّ غَصْبُهُ حُكْمًا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ تَلِفَ الْمَسْجِدُ فِي مُدَّةِ مَنْعِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهُ كَالْحُرِّ إذَا غَصَبَهُ غَاصِبٌ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَصِحَّ غَصْبُهُ أَنْ تَصِحَّ الصَّلَاةُ فِيهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا تَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ تَغَلَّبَ عَلَى أَرْضٍ لَا يَمْلِكُهَا عَلَى سَبِيلِ التَّعَدِّي أَشْبَهَ مَا إذَا تَغَلَّبَ عَلَى أَمْلَاكِ النَّاسِ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ إذَا لَمْ يُمْلَكْ لَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الصَّلَاةِ غَصْبُهُ كَمَا لَوْ غَصَبَ سِتَارَةَ الْكَعْبَةِ وَصَلَّى فِيهَا مُسْتَتِرًا بِهَا انْتَهَى كَلَامُهُ. فَقَدْ اعْتَبَرَ الْمَسْأَلَةَ بِغَصْبِ الْحُرِّ، وَفِيهِ خِلَافٌ فِي ضَمَانِهِ بِالْغَصْبِ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ إنْ اتَّخَذَهُ مَسْكَنًا أَوْ مَخْزَنًا وَنَحْوَ ذَلِكَ أَنَّهُ يَضْمَنُ كَمَا نَقُولُ فِي الْحُرِّ: إذَا اسْتَعْمَلَهُ كُرْهًا، وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْمُغْنِي وَغَيْرِهِ أَنَّهُ مَنْ اُسْتُؤْجِرَ لِحِفْظِ الْغَنِيمَةِ وَرَكِبَ دَابَّةً مِنْهَا أَوْ دَابَّةً مِنْ الْجَيْشِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أُجْرَتُهَا. وَذَكَرَ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ أَنَّهُ: لَوْ غَصَبَهُ وَاِتَّخَذَهُ مَسْكَنًا وَانْهَدَمَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ كَالْحُرِّ، وَاخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ الْقَوْلَ بِعَدَمِ صِحَّةِ صَلَاتِهِ قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ: إنَّ الْمَسْجِدَ لَوْ تَلِفَ فِي مُدَّةِ مَنْعِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهُ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ الْمَسْجِدُ عَقَارٌ مِنْ الْعَقَارِ يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ إجْمَاعًا وَيُضْمَنُ بِالْغَصْبِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْعَقَارَ يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ وَمَنْ لَمْ يُضَمِّنْهُ بِالْغَصْبِ

لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ مُتَقَوِّمٌ تَقَوُّمَ الْأَمْوَالِ بِخِلَافِ الْحُرِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ نَعَمْ يُشْبِهُ الْعَبْدَ الْمَوْقُوفَ عَلَى خِدْمَةِ الْكَعْبَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَالِكٌ مُعَيَّنٌ، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْغَصْبِ بِلَا تَرَدُّدٍ انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْتُ أَحْمَدَ سُئِلَ يَجِيءُ الرَّجُلُ بِزَكَاتِهِ يَعْنِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ إلَى الْمَسْجِدِ أَوْ يُطْعِمُهُ قَالَ: يُطْعِمُهُ وَقَالَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ زَكَاةِ الْفِطْرِ تُجْمَعُ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ: أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ انْتَهَى كَلَامُهُ، وَقَدْ وُضِعَ تَمْرُ الصَّدَقَةِ فِي الْمَسْجِدِ وَبَاتَ عِنْدَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَجَاءَتْ الْغُولُ وَأَخْبَرَ بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخَبَرُ مَشْهُورٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا.

فصل فروع في رحبة المسجد وبنائه في الطريق ومتى يجوز هدمه؟

[فَصْلٌ فُرُوعٌ فِي رَحْبَةِ الْمَسْجِدِ وَبِنَائِهِ فِي الطَّرِيقِ وَمَتَى يَجُوزُ هَدْمُهُ؟] ُ رَحْبَةُ الْمَسْجِدِ إنْ كَانَتْ مُحَوَّطَةً فَلَهَا حُكْمُهُ، وَإِلَّا فَلَا. قَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى وَالْمُسْتَوْعِبِ. وَذَكَرَ أَنَّ هَذَا رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ وَأَنَّهُ الصَّحِيحُ، وَعَنْهُ لَيْسَتْ مِنْ الْمَسْجِدِ مُطْلَقًا. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ وَعَنْهُ لَهَا حُكْمُهُ مُطْلَقًا، وَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْذَنَ فِي بِنَاءِ مَسْجِدٍ فِي طَرِيقٍ وَاسِعٍ وَعَلَيْهِ مَا لَمْ يَضُرَّ بِالنَّاسِ، وَعَنْهُ الْمَنْعُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ بُنِيَ عَلَى سَابَاطٍ أَوْ قَنْطَرَةِ جِسْرٍ وَقَالَ: أَيْضًا حُكْمُ الْمَسَاجِدِ الَّتِي بُنِيَتْ فِي الطُّرُقِ أَنْ تُهْدَمَ. وَقَالَ أَيْضًا: هَذِهِ الْمَسَاجِدُ أَعْظَمُ جُرْمًا يَخْرُجُونَ عَلَى أَثَرِهِ، وَعَنْهُ يَجُوزُ الْبِنَاءُ بِلَا إذْنِهِ وَحَيْثُ جَازَ صَحَّتْ الصَّلَاةُ فِيهِ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، وَتَصِحُّ فِيمَا بُنِيَ عَلَى دَرْبٍ مُشْتَرَكٍ بِإِذْنِ أَهْلِهِ، وَفِيهِ وَجْهٌ لَا تَصِحُّ وَإِنْ جُدِّدَ الطَّرِيقُ وَنَحْوُهُ بَعْدَ الْمَسْجِدِ فَوَجْهَانِ. وَقَالَ الْقَاضِي: إذَا أُحْدِثَ الطَّرِيقُ بَعْدَ مَا بُنِيَ الْمَسْجِدُ فَقَدْ يَتَوَجَّهُ كُرْهُ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَمَنْ جَعَلَ عُلْوِيَّتَهُ أَوْ أَسْفَلَهُ مَسْجِدًا صَحَّ وَانْتَفَعَ بِالْآخَرِ قَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى، وَقَالَ: فِي الْمُسْتَوْعِبِ إنْ جَعَلَ أَسْفَلَ بَيْتِهِ مَسْجِدًا لَمْ يَنْتَفِعْ بِسَطْحِهِ، وَإِنْ جَعَلَ سَطْحَهُ مَسْجِدًا انْتَفَعَ بِأَسْفَلِهِ نَصَّ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ السَّطْحَ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَسْفَلَ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُهْدَمَ الْمَسْجِدُ وَيُبْنَى تَحْتَهُ حَوَانِيتُ تَنْفَعُهُ أَوْ سِقَايَةٌ خَاصَّةٌ أَوْ عَامَّةٌ فَإِنْ انْهَدَمَ الْمَسْجِدُ فَكَذَلِكَ، وَقِيلَ: يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْحَالَيْنِ أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ قَالَ بَعْضُهُمْ: وَهُوَ بَعِيدٌ، وَقِيلَ يُنْظَرُ إلَى قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِهِ وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يُهْدَمَ الْمَسْجِدُ وَيُجَدَّدَ بِنَاؤُهُ لِمَصْلَحَةٍ نَصَّ عَلَيْهِ وَقَالَ تَارَةً فِي مَسْجِدٍ لَهُ حَائِطٌ قَصِيرٌ غَيْرُ حَصِينٍ، وَلَهُ مَنَارَةٌ: لَا بَأْسَ أَنْ تُهْدَمَ وَتُجْعَلَ فِي الْحَائِطِ؛ لِئَلَّا تَدْخُلَهُ الْكِلَابُ وَقَالَ: لَا يَبْنِي مَسْجِدًا إلَى جَنْبِ مَسْجِدٍ آخَرَ إلَّا لِحَاجَةٍ كَضِيقِ الْأَوَّلِ وَنَحْوِهِ.

فصل كراهة مد الرجلين إلى القبلة أو في المسجد

[فَصْلٌ كَرَاهَةُ مَدِّ الرِّجْلَيْنِ إلَى الْقِبْلَةِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ] ِ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُكْرَهُ مَدُّ الرِّجْلَيْنِ إلَى الْقِبْلَةِ فِي النَّوْمِ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا إنْ أَرَادُوا بِهِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ زَادَهَا اللَّهُ شَرَفًا فَمُسَلَّمٌ، وَإِنْ أَرَادُوا مُطْلَقًا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، فَالْكَرَاهَةُ تَسْتَدْعِي دَلِيلًا شَرْعِيًّا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْجُمْلَةِ اسْتِحْبَابُهُ أَوْ جَوَازُهُ كَمَا هُوَ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ. قَالَ فِي الْمُفِيدِ مِنْ كُتُبِهِمْ: وَلَا يَمُدُّ رِجْلَيْهِ يَعْنِي فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إهَانَةً بِهِ، وَلَمْ أَجِدْ أَصْحَابَنَا ذَكَرُوا هَذَا، وَلَعَلَّ تَرْكَهُ أَوْلَى، وَلَعَلَّ مَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مِنْ حُكْمِ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ قِيَاسُ كَرَاهَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الِاسْتِنَادَ إلَى الْقِبْلَةِ كَمَا سَبَقَ فَإِنَّ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ. وَيَنْبَغِي لِمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ لِلصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا أَنْ يَنْوِيَ الِاعْتِكَافَ مُدَّةَ لُبْثِهِ فِيهِ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ صَائِمًا ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْمِنْهَاجِ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ قَصْدُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ.

فصل في حفر البئر في المسجد

[فَصْلٌ فِي حَفْرِ الْبِئْرِ فِي الْمَسْجِدِ] ِ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حَفْرِ الْبِئْرِ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ: لَا قُلْتُ: فَإِنْ حَفَرْتَ بِئْرًا تَرَى أَنْ يُؤْخَذَ الْمُغْتَسَلُ فَيُعْطَى بِهِ الْبِئْرُ قَالَ: لَا إنَّمَا ذَلِكَ لِلْمَوْتَى وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ فِي إحْيَاءِ الْمَوَاتِ: إنَّ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يَكْرَهْ حَفْرَهَا فِيهِ وَقَالَ ابْنُ حَمْدَانَ: إنْ كُرِهَ الْوُضُوءُ فِيهِ كُرِهَ حَفْرُهَا فِيهِ، وَإِلَّا فَلَا. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْهَا الْجُسُورُ وَالْقَنَاطِرُ وَأَرَاهُ ذَكَرَ الْمَصَانِعَ وَالْمَسَاجِدَ، وَقَالَ: قَدْ كَانَ هَهُنَا قَوْمٌ أَخْرَجَهُمْ هَذَا الْأَمْرُ إلَى أَنْ أَبَاحُوا السَّرِقَةَ فَقَالُوا: لَوْ سَرَقَ هَذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَطْعٌ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَانُوا قَدْ مَرَقُوا مِنْ الْإِسْلَامِ قَالَ: نَعَمْ وَقَالَ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ: قَدْ دَخَلْتُ إلَى دَاخِلِ الْمَسْجِدِ فَصَلَّيْتُ عَلَى الْحُصْرِ، ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: هَذَا الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ يُنْفِقُونَ عَلَيْهِ وَيَعْمُرُونَهُ.

فصل في ذكر أخبار تتعلق بأحكام المساجد

[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ أَخْبَارٍ تَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الْمَسَاجِدِ] ِ) عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ لِبَيْضِهَا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ.» رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْهُ أَيْضًا مَرْفُوعًا قَالَ: «مَا أُمِرْتُ بِتَشْيِيدِ الْمَسَاجِدِ» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ قُلْتُ: لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ إنَّ ابْنَ أَسْلَمَ الطُّوسِيَّ لَا يُجَصِّصُ مَسْجِدَهُ وَلَا يَرَى بِطَرَسُوسَ مَسْجِدًا مُجَصَّصًا إلَّا قَلَعَ جِصَّهُ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: هُوَ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا. وَذَكَرْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مَسْجِدًا قَدْ بُنِيَ وَأُنْفِقَ عَلَيْهِ مَالٌ كَثِيرٌ فَاسْتَرْجَعَ وَأَنْكَرَ مَا قُلْتُ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَدْ سَأَلُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَكْحَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ: «لَا عَرِيشٌ كَعَرِيشِ مُوسَى.» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إنَّمَا هُوَ شَيْءٌ مِثْلُ الْكُحْلِ يُطْلَى بِهِ. أَيْ فَلَمْ يُرَخِّصْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْتَهَى كَلَامُهُ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ الْمَسْجِدَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَبْنِيًّا بِاللَّبِنِ وَسَقْفُهُ بِالْجَرِيدِ وَعُمُدُهُ خَشَبُ النَّخْلِ فَلَمْ يَزِدْ أَبُو بَكْرٍ فِيهِ شَيْئًا، وَزَادَ فِيهِ عُمَرُ وَبَنَاهُ عَلَيَّ بُنْيَانِهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاللَّبِنِ وَالْجَرِيدِ وَأَعَادَ عُمُدَهُ خَشَبًا ثُمَّ غَيَّرَهُ عُثْمَانُ وَزَادَ فِيهِ زِيَادَةً كَثِيرَةً وَبَنَى جِدَارَهُ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ بِالْقَصَّةِ وَجَعَلَ عُمُدَهُ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ وَسَقَفَهُ بِالسَّاجِ. الْقَصَّةُ الْجِصُّ. وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ» إسْنَادُهُ ثِقَاتٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «أُرَاكُمْ سَتُشَرِّفُونَ مَسَاجِدَكُمْ كَمَا شَرَّفَتْ الْيَهُودُ كَنَائِسَهَا وَكَمَا شَرَّفَتْ النَّصَارَى بِيَعَهَا» . وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَا سَاءَ عَمَلُ قَوْمٍ قَطُّ إلَّا زَخْرَفُوا مَسَاجِدَهُمْ» رَوَاهُمَا ابْن مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْمُغَلِّسِ، وَقَدْ كَذَّبَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: صَدُوقٌ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ هُوَ عِنْدِي عَدْلٌ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدِيثُهُ مُضْطَرِبٌ. وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ أَنْ تُنَظَّفَ وَتُطَيَّبَ» إسْنَادُهُ حَسَنٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ مُرْسَلًا وَأَنَّ الْمُرْسَلَ أَصَحُّ. وَعَنْ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَتَّخِذَ الْمَسَاجِدَ فِي دِيَارِنَا وَأَمَرَنَا أَنْ نُنَظِّفَهَا.» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلَفْظُهُ «كَانَ يَأْمُرُنَا بِالْمَسَاجِدِ أَنْ نَصْنَعَهَا فِي دِيَارِنَا وَنُصْلِحَ صَنْعَتَهَا وَنُطَهِّرَهَا» . وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ أَكَلَ الثُّومَ وَالْبَصَلَ وَالْكُرَّاثَ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «أَحَبُّ الْبِلَادِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مَسَاجِدُهَا وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَثَبَتَ فِي الْخَبَرِ ضَرْبُ الْخِبَاءِ وَاحْتِجَازُ الْحَظِيرَةِ فِي الْمَسْجِدِ. وَعَنْ أَحْمَدَ فِي مَسَائِلِ صَالِحٍ وَابْنِ مَنْصُورٍ تَقْيِيدُ الْإِبَاحَةِ بِوُجُودِ الْبَرْدِ قَالَ الْقَاضِي سَعْدُ الدِّينِ الْحَارِثِيُّ: مِنْ أَصْحَابِنَا وَالصَّوَابُ عَدَمِ اعْتِبَارِ هَذَا الْقَيْدِ. وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ وَأَبِي أَسِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَقَالَا عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ أَوْ عَنْ أَبِي أَسِيدٍ بِالشَّكِّ. وَعَنْ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -

قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ وَإِذَا خَرَجَ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِكَ» فِي إسْنَادِهِ ضَعْفٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ آخَرَ بِنَحْوِهِ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ وَلَيْسَ إسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ إلَّا أَنَّهُ قَالَ «إذَا خَرَجَ فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ اعْصِمْنِي مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ فِي الْمَسْجِدِ ضَالَّةً فَلْيَقُلْ: لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا» . وَعَنْ بُرَيْدَةَ أَنَّ رَجُلًا نَشَدَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا وَجَدْتَ إنَّمَا بُنِيَتْ الْمَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ» رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ وَلَا يُسْتَقَادُ فِيهَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَإِسْنَادُهُ ثِقَاتٌ، وَفِيهِ انْقِطَاعٌ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ فِي الْمَسْجِدِ وَأَنْ يُنْشَدَ فِيهِ الْأَشْعَارُ وَأَنْ يُنْشَدَ فِيهِ الضَّالَّةُ.» إسْنَادُهُ ثِقَاتٌ وَعَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ تَكَلَّمَ فِيهِ، وَحَدِيثُهُ حَسَنٌ. وَرَوَى حَدِيثَهُ هَذَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَرَّ عُمَرُ فِي الْمَسْجِدِ وَحَسَّانُ يَنْشُدُ فَلَحَظَ إلَيْهِ فَقَالَ: كُنْتُ أَنْشُدُ فِيهِ، وَفِيهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، ثُمَّ الْتَفَتَ إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: أُنْشِدُكَ اللَّهَ أَسَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «أَجِبْ عَنِّي، اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ قَالَ نَعَمْ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَتَقَدَّمَ عَنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُصَّاصِ وَالْوُعَّاظِ وَأَحَادِيثُ فِي الشِّعْرِ. قَالَ الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ: وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الْفِرْيَابِيُّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ

بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي النُّعْمَانِ قَالَ: حَجَجْتُ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ فَقَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَدَخَلْتُ مَسْجِدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَقَدَّمْتُ إلَى مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ أُصَلِّي إذْ دَخَلَ عُمَرُ فَرَآنِي فَأَخَذَ بِرَأْسِي وَجَعَلَ يَضْرِبُ بِهِ الْحَائِطَ وَيَقُولُ: أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ تَقْدُمُوا فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ بِالسَّحَرِ إنَّ لَهُ عَوَامِرَ. وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: دَخَلَ حَابِسُ بْنُ سَعْدٍ الطَّائِيُّ الْمَسْجِدَ مِنْ السَّحَرِ، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ فَإِذَا نَاسٌ فِي صَدْرِ الْمَسْجِدِ يُصَلُّونَ فَقَالَ: أَرْعِبُوهُمْ فَمَنْ أَرْعَبَهُمْ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ جَرِيرُ بْنُ عُثْمَانَ: كُنَّا نَسْمَعُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَكُونُ قَبْلَ الصُّبْحِ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ التَّقَدُّمِ فِي الْمَسْجِدِ وَقْتَ السَّحَرِ. وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْتَلْقِيًا فِي الْمَسْجِدِ، وَاضِعًا إحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَلِمَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَا يَفْعَلَانِ ذَلِكَ. وَعَنْ جَابِرٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يَرْفَعَ إحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى وَهُوَ مُسْتَلْقٍ عَلَى ظَهْرِهِ.» إسْنَادُهُ ثِقَاتٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ «وَرَأَى قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ أَخَاهُ لِأُمِّهِ أَبَا سَعِيدٍ كَذَلِكَ وَكَانَتْ إحْدَى رِجْلَيْهِ وَجِعَةً فَضَرَبَهُ عَلَيْهَا فَقَالَ: أَوْجَعْتَنِي مَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ قَالَ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ نَهَى عَنْ هَذِهِ.» رَوَاهُ أَحْمَدُ قَالَ الْمَرُّوذِيّ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يَسْتَلْقِي عَلَى قَفَاهُ وَيَضَعُ إحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى قَالَ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ قَدْ رُوِيَ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَا بَأْسَ بِهِ إذَا كَانَ لَهُ سَرَاوِيلُ وَيَتَوَجَّهُ تَخْرِيجُ رِوَايَةِ يُكْرَهُ كَشُرْبِهِ قَائِمًا وَنَهْيِهِ عَنْهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا لَوْ وَضَعَ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى مِنْ غَيْرِ اسْتِلْقَاءٍ احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ نَظَرًا إلَى أَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا هُوَ مَنْعُ الِاسْتِلْقَاءِ، وَالْأَصْلُ اعْتِبَارُ الْوَصْفِ. أَوْ أَنَّ الْمَقْصُودَ وَضْعُ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، وَالِاسْتِلْقَاءُ ذُكِرَ؛ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ لَا أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي الْحُكْمِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ خُولِفَ لِلْخَبَرِ وَهُوَ فِي أَمْرٍ مَخْصُوصٍ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ الْإِجْمَاعِ قَبْلَ السَّبْقِ وَالرَّمْيِ: اتَّفَقُوا عَلَى

إبَاحَةِ جُلُوسِ الْمَرْءِ كَيْفَ أَحَبَّ مَا لَمْ يَضَعْ رِجْلًا عَلَى رِجْلٍ أَوْ يَسْتَلْقِي كَذَلِكَ، وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الِاسْتِلْقَاءِ وَالْقُعُودِ كَمَا قَدَّمْنَا فَمِنْ مَانِعٍ وَمُبِيحٍ. فَسَوَّى ابْنُ حَزْمٍ فِي حِكَايَتِهِ بَيْنَ الْقُعُودِ وَالِاسْتِلْقَاءِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا سَبَقَ وَالْقَوْلُ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ غَيْرُ مُتَّجَهٍ لِفِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالْأَصْلُ التَّسَاوِي فِي الْأَحْكَامِ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، وَقَدْ فَعَلَهُ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَسَبَقَ قَبْلَ فُصُولِ آدَابِ الْأَكْلِ قَبْلَ فَصْلِ اسْتِحْبَابِ الْقَائِلَةِ كَرَاهِيَةُ الِاتِّكَاءِ عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ وَسَبَقَ قَبْلَ فُصُولِ آدَابِ الْمَسْجِدِ قَبْلَ فَصْلِ الْكَفِّ عَنْ مَسَاوِي النَّاسِ كَلَامُ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كَرَاهَةِ الِاتِّكَاءِ، وَسَوَاءٌ وَحْدَهُ أَوْ فِي جَمَاعَةٍ، وَيَقْتَضِيهِ تَعْلِيلُهُ بِأَنَّهُ تَجَبُّرٌ. وَقَوْلُهُ أَهَوَانٌ بِالْجُلَسَاءِ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُ بِالْجَمَاعَةِ بَلْ يُكْرَهُ إنْ كَانَ وَحْدَهُ لِعِلَّةٍ، وَإِنْ كَانَ فِي جَمَاعَةٍ لِعِلَّتَيْنِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: مُرَادُهُ فِي جَمَاعَةٍ وَسَبَقَ بِنَحْوِ نِصْفِ كُرَّاسَةٍ فِي فُصُولِ آدَابِ الْمَسْجِدِ جِلْسَةُ الْمُحْتَبِي وَالْمُتَرَبِّعِ وَتَأْتِي جِلْسَةُ الْمُتَرَبِّعِ فِي اللِّبَاسِ فِي فَصْلِ كَرَاهَةِ النَّظَرِ إلَى مَلَابِسِ الْحَرِيرِ. وَقَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: تَكْرَهُ الْمَرْأَةُ أَنْ تَسْتَلْقِيَ عَلَى قَفَاهَا قَالَ: إي وَاَللَّهِ، يُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَرِهَهُ وَرَوَاهُ الْخَلَّالُ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ وَهُوَ شَابٌّ عَزَبٌ لَا أَهْلَ لَهُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَأَحْمَدُ، وَلَفْظُهُ «كُنَّا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَنَامُ فِي الْمَسْجِدِ وَنَقِيلُ فِيهِ.» وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَلَفْظُهُ «كُنَّا نَنَامُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ شَبَابٌ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ وَلَهُ فِي رِوَايَةٍ أَبِيتُ فِي الْمَسْجِدِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تَتَّخِذُوهُ مَقِيلًا وَمَبِيتًا قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ: عَنْ أَنَسٍ: «قَدِمَ رَهْطٌ مِنْ عُكْلٍ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانُوا فِي الصُّفَّةِ وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: كَانَ أَصْحَابُ الصُّفَّةِ فُقَرَاءَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا بِسَائِلٍ يَسْأَلُ فَوَجَدْتُ كِسْرَةَ خُبْزٍ بَيْنَ يَدَيْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَاِتَّخَذْتُهَا فَدَفَعْتُهَا

إلَيْهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، وَفِيهِ كَلَامٌ وَبَاقِيهِ ثِقَاتٌ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: «كُنَّا نَأْكُلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ.» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ: ثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ كَاسِبٍ وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى قَالَا ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ زِيَادٍ الْحَضْرَمِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ فَذَكَرَهُ، إسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَسُلَيْمَانُ، وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ. وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَاهُ بَعْدَ دُخُولِهِ الْكَعْبَةَ فَقَالَ: إنِّي كُنْتُ رَأَيْتُ قَرْنَيْ الْكَبْشِ حِينَ دَخَلْتُ الْبَيْتَ فَنَسِيتُ أَنْ آمُرَكَ أَنْ تُخَمِّرَهُمَا فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي قُبَّةِ الْبَيْتِ شَيْءٌ يُلْهِي الْمُصَلِّيَ.» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. وَعَنْ وَاثِلَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَشِرَاءَكُمْ وَبَيْعَكُمْ وَخُصُومَاتِكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ وَاِتَّخِذُوا عَلَى أَبْوَابِهَا وَجَمِّرُوهَا فِي الْجُمَعِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ أَيْضًا. وَفِي حَوَاشِي تَعْلِيقِ الْقَاضِي عِنْدَ مَسَائِلِ الْقِسْمَةِ قَالَ: مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْقَاسِمِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ الصَّيْرَفِيِّ خَرَّجَهُ فِي كِتَابِ الْجَمَاعَاتِ وَأَحْكَامِ الْمَسَاجِدِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ وَأَبِي أُمَامَةَ قَالُوا: سَمِعْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ خُصُومَاتِكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَجَمِّرُوهَا فِي الْجُمَعِ، وَلَا تَتَّخِذُوا عَلَى أَبْوَابِ مَسَاجِدِكُمْ مَطَاهِرَ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَرَ مَنْ مَرَّ بِنَبْلٍ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ سُوقٍ أَنْ يُمْسِكَ عَلَى نِصَالِهَا.» وَهَذَا مِنْ شَفَقَتِهِ وَرَحْمَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «لَا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ إلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاحِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ فَيَقَعَ فِي حُفْرَةِ النَّارِ.» يَنْزِعُ مَعْنَاهُ يَرْمِي فِي يَدِهِ وَيُحَقِّقُ ضَرْبَتَهُ. وَرُوِيَ بِالْغَيْنِ

مِنْ الْإِغْرَاءِ أَيْ: يَحْمِلُ عَلَى تَحْقِيقِ الضَّرْبِ وَيُزَيِّنُهُ وَلِمُسْلِمٍ «مَنْ أَشَارَ إلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ حَتَّى وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ.» أَيْ حَتَّى يَدَعَهُ كَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانَ هَازِلًا لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْوِيعِ الْمُسْلِمِ وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا.» وَرَوَوْا أَيْضًا «لَا يَأْخُذْ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ أَخِيهِ جَادًّا وَلَا هَازِلًا.» إسْنَادُهُمَا صَحِيحٌ. وَكَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى أَنْ يُقَدَّ السَّيْرُ بَيْنَ إصْبَعَيْنِ.» وَقَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ: رَوَى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صَنَائِعَكُمْ.»

فصل السابق إلى مكان مباح أحق به

[فَصْلٌ السَّابِقُ إلَى مَكَان مُبَاحٍ أَحَقُّ بِهِ] ِ) لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقِيمَ إنْسَانًا وَيَجْلِسَ مَكَانَهُ. مَنْ قَامَ مِنْ مَوْضِعِهِ لِعُذْرٍ ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ سَقَطَ حَقُّهُ بِقِيَامِهِ إلَّا أَنْ يُخَلِّفَ مُصَلًّى أَوْ وَطَاءً فَفِيهِ وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ، وَالْأَخْبَارُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورَةٌ وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ فِي بَابِ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ، وَمَنْ جَلَسَ فِي مَسْجِدٍ أَوْ جَامِعٍ لِفَتْوَى أَوْ لِإِقْرَاءِ النَّاسِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مَا دَامَ فِيهِ أَوْ غَابَ لِعُذْرٍ ثُمَّ عَادَ قَرِيبًا، وَإِنْ جَلَسَ فِيهِ لِصَلَاةٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ فِيهَا فَقَطْ، وَإِنْ غَابَ لِعُذْرٍ ثُمَّ عَادَ قَرِيبًا فَوَجْهَانِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ غَرِيبٌ بَعِيدٌ.

فصل أهل المساجد أحق بحريمها فتمنع مزاحمتهم فيها

[فَصْلٌ أَهْلُ الْمَسَاجِدِ أَحَقُّ بِحَرِيمِهَا فَتُمْنَعُ مُزَاحَمَتُهُمْ فِيهَا] ) قَالَ الْقَاضِي أَمَّا حَرِيمُ الْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ فَإِنْ كَانَ الِارْتِفَاقُ بِهَا مُضِرًّا بِأَهْلِ الْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ مُنِعُوا مِنْهُ وَلَمْ يَجُزْ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَأْذَنَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُصَلِّينَ أَحَقُّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُضِرًّا جَازَ الِارْتِفَاقُ بِحَرِيمِهَا، وَهَلْ يُعْتَبَرُ فِيهِ إذْنُ السُّلْطَانِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي حَرِيمِ الْأَمْلَاكِ؟ وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ فِي الرَّجُلِ يَحْفِرُ فِي فِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَفِي وَسَطِ الْمَسْجِدِ بِئْرًا لِلْمَاءِ: مَا يُعْجِبُنِي أَنْ تُحْفَرَ وَإِنْ حُفِرَتْ تُطَمَّ. وَأَمَّا مَا اخْتَصَّ بِأَفْنِيَةِ الشَّوَارِعِ وَالطُّرُقَاتِ فَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِالْمُجْتَازِينَ يُضَيِّقُ الطَّرِيقَ مُنِعُوا مِنْهُ وَلَمْ يَجُزْ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَأْذَنَ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُضِرًّا لِسَعَةِ الطَّرِيقِ فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ إحْدَاهُمَا الْمَنْعُ أَيْضًا. (وَالثَّانِيَةُ) الْجَوَازُ. قَالَ: وَهَلْ يَفْتَقِرُ ذَلِكَ إلَى إذْنِ السُّلْطَانِ؟ يُخَرَّجُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ إذْنَهُ فَإِنْ اعْتَبَرْنَا إذْنَهُ لَا يَكُونُ السَّابِقُ أَحَقَّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَالَ: وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى الْجُلُوسِ أَجْرًا.

فصل في كراهة أعمال الدنيا في المقابر

[فَصْلٌ فِي كَرَاهَةِ أَعْمَالِ الدُّنْيَا فِي الْمَقَابِرِ] ِ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ فِي كِتَابِ الْوَرَعِ: مَا كُرِهَ مِنْ عَمَلِ الدُّنْيَا فِي الْمَقَابِرِ قُلْتُ وَلِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَتَرَى لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْمَلَ الْمَغَازِلَ وَيَأْتِيَ الْمَقَابِرَ فَرُبَّمَا أَصَابَهُ الْمَطَرُ فَيَدْخُلُ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْقِبَابِ فَيَعْمَلُ فِيهَا؟ فَقَالَ: الْمَقَابِرُ إنَّمَا هِيَ أَمْرُ الْآخِرَةِ، وَكَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ. [فَصْلٌ فِي تَجْصِيصِ الْمَسَاجِدِ وَالْقُبُورِ وَالْبُيُوتِ] ِ) قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ إنَّ قَوْمًا يَحْتَجُّونَ فِي الْجِصِّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ تَجْصِيصِ الْقُبُورِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُجَصَّصَ الْحِيطَانُ فَقَالَ: وَإيش بِهَذَا مِنْ الْحُجَّةِ؟ وَأَنْكَرَهُ وَذَكَرَ الْمَرُّوذِيُّ أَنَّ ابْنَ أَسْلَمَ الطُّوسِيَّ كَانَ لَا يُجَصِّصُ مَسْجِدَهُ، وَأَنَّهُ كَانَ لَا يَدَعُ بِطَرَسُوسَ مَسْجِدًا مُجَصَّصًا إلَّا قَلَعَهُ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: هُوَ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا، وَسَأَلَهُ الْمَرُّوذِيُّ عَنْ الْجِصِّ وَالْآجُرِّ يَفْضُلُ مِنْ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: يَصِيرُ فِي مِثْلِهِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تَكْحِيلِ الْمَسْجِدِ: «فَقَالَ لَا، عَرِيشٌ كَعَرِيشِ مُوسَى، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يُطْلَى بِهِ كَالْكُحْلِ» . أَيْ فَلَمْ يُرَخِّصْ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ فِي الْغَنِيَّةِ لَا بَأْسَ بِتَجْصِيصِ الْمَسَاجِدِ وَتَطْيِيبِهَا، وَسَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يُجَصِّصُ فَقَالَ: أَمَّا أَرْضُ الْبَيْتِ فَيَقِيهِمْ مِنْ التُّرَابِ وَكَرِهَ تَجْصِيصَ الْحِيطَانِ قَالَ وَرَأَيْتُ فِي حُجْرَةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بَيْتًا فِيهِ صُوَرٌ

سَقْفُهُ سَوَادٌ وَبَيَاضٌ فَطَمَسْنَاهُ وَهُوَ مَعَنَا حَتَّى بَيَّضْنَا السَّقْفَ كُلَّهُ. وَذَكَرَ حَدِيثَ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ وَقَدْ حَمَّرُوا سِقَافَ بَيْتِهِ وَلَعَلَّهُ سَقْفُ بَيْتِهِ قَالَ: لَا أَدْخُلُهُ حَتَّى يُغَيَّرَ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُنَاوَلَةً عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ ثَنَا حَمَّادٌ ثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُمْهَانَ عَنْ سَفِينَةَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ رَجُلًا ضَافَ عَلِيًّا فَقَالَتْ لَهُ فَاطِمَةُ: لَوْ دَعَوْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَكَلَ مَعَنَا، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ قَالَ: «لَيْسَ لِي أَوْ لِنَبِيٍّ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتًا مُزَوَّقًا.» إسْنَادٌ حَسَنٌ وَسَعِيدٌ فِيهِ كَلَامٌ وَحَدِيثُهُ حَسَنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيُّ.

فصل إنكاره صلى الله عليه وسلم على المتحلقين في المسجد

[فَصْلٌ إنْكَارُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُتَحَلِّقِينَ فِي الْمَسْجِدِ] ِ لِتَفَرُّقِهِمْ حِلَقًا حِلَقًا) تَقَدَّمَ فِي الِاسْتِئْذَانِ الْجُلُوسُ وَسَطَ الْحَلْقَةِ وَقَالَ أَبُو دَاوُد: (بَابٌ فِي التَّحْلِيقِ) ثَنَا مُسَدِّدٌ ثَنَا يَحْيَى عَنْ الْأَعْمَشِ حَدَّثَنِي الْمُسَيِّبُ بْنُ رَافِعٍ عَنْ تَمِيمِ بْنِ طَرَفَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَسْجِدَ وَهُوَ حِلَقٌ فَقَالَ مَا لِي أَرَاكُمْ عِزِينَ» ؟ ثَنَا وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ فُضَيْلٍ عَنْ الْأَعْمَشِ بِهَذَا قَالَ: كَأَنَّهُ يُحِبُّ الْجَمَاعَةَ (عِزِينَ) جَمْعُ عَزَاةٍ أَيْ حَلْقَةٍ وَجَمَاعَةً جَمَاعَةً وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فصل فيما ورد في العمارة والبناء

[فَصْلٌ فِيمَا وَرَدَ فِي الْعِمَارَةِ وَالْبِنَاءِ] لَمْ أَجِدْ أَصْحَابَنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - ذَكَرُوا النَّفَقَةَ فِي الْعِمَارَةِ وَالْبِنَاءِ، وَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي أَبْوَابِ الْآدَابِ: (بَابُ مَا جَاءَ فِي الْبِنَاءِ) ثُمَّ رَوَى الْخَبَرَ الصَّحِيحَ الْمَشْهُورَ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَرَّ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَأُمِّهِ يُطَيِّنَانِ حَائِطًا، وَفِي لَفْظٍ يُصْلِحَانِ خِصَاصَهُمَا فَقَالَ: الْأَمْرُ أَسْرَعُ مِنْ ذَلِكَ.» حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ ثَنَا زُهَيْرٌ ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ أَخْبَرَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَاطِبٍ الْقُرَشِيُّ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ الْأَسَدِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ فَرَأَى قُبَّةً فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ فَرَجَعَ الرَّجُلُ إلَى قُبَّتِهِ فَهَدَمَهَا فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَرَهَا قَالَ مَا فَعَلَتْ الْقُبَّةُ؟ قَالُوا شَكَا إلَيْنَا صَاحِبُهَا إعْرَاضَكَ عَنْهُ فَأَخْبَرْنَاهُ فَهَدَمَهَا، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: أَمَا إنَّ كُلَّ بِنَاءٍ وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ إلَّا مَا لَا إلَّا مَا لَا.» إسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَأَبُو طَلْحَةَ رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَلَمْ أَجِدْ فِيهِ كَلَامًا. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَأَحْمَدُ، وَلَفْظُهُ «كَلٌّ عَلَى صَاحِبِهِ.» وَعِنْدَهُمَا فِي آخِرِهِ، وَالْكَلُّ الثِّقَلُ قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ} [النحل: 76] قَالَ فِي النِّهَايَةِ:: الْوَبَالُ فِي الْأَصْلِ الثِّقَلُ وَالْمَكْرُوهُ وَيُرِيدُ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ. وَفِي الْمُسْنَدِ وَالصَّحِيحَيْنِ عَنْ خَبَّابٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: وَهُوَ يَبْنِي حَائِطًا لَهُ: إنَّ الْمَرْءَ الْمُسْلِمَ يُؤْجَرُ فِي نَفَقَتِهِ كُلِّهَا إلَّا فِي شَيْءٍ يَجْعَلُهُ فِي التُّرَابِ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُوسَى عَنْ شَرِيكٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ

عَنْ خَبَّابٍ مَرْفُوعًا «إنَّ الْعَبْدَ لَيُؤْجَرُ فِي نَفَقَتِهِ كُلِّهَا إلَّا فِي التُّرَابِ أَوْ قَالَ فِي الْبِنَاءِ.» إسْنَادٌ جَيِّدٌ. وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا إثْمَ لَهُ بِذَلِكَ وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «النَّفَقَةُ كُلُّهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلَّا الْبِنَاءَ فَلَا خَيْرَ فِيهِ.» وَرَوَى أَحْمَدُ ثَنَا حَسَنٌ ثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ ثَنَا زَبَّانُ بْنُ فَائِدٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ بَنَى بُنْيَانًا فِي غَيْرِ ظُلْمٍ وَلَا اعْتِدَاءٍ وَغَرَسَ غَرْسًا فِي غَيْرِ ظُلْمٍ وَلَا اعْتِدَاءٍ كَانَ لَهُ أَجْرًا جَارِيًا مَا انْتَفَعَ بِهِ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ.» إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. اعْلَمْ أَنَّ الْمَسْكَنَ لَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مِنْهُ فِي الْجُمْلَةِ فَيَجِبُ تَحْصِيلُهُ لِنَفْسِهِ وَلِمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، وَمِثْلُ هَذَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ وَيُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ، وَمَوْتُهُ عَنْهُ كَبَقِيَّةِ مَالِهِ الْمُخَلَّفِ عَنْهُ لِوَرَثَتِهِ يُثَابُ عَلَيْهِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «إنَّكَ إنْ تَدَعْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ كَانَتْ يَسِيرَةً لَا تُعَدُّ فِي الْعَادَةِ وَالْعُرْفِ إسْرَافًا وَاعْتِدَاءً وَمُجَاوَزَةً لِلْحَدِّ فَلَا بَأْسَ بِهَا لَا تُكْرَهُ، وَهَلْ يُثَابُ عَلَيْهَا؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ. وَالْأَحَادِيثُ مُحْتَمِلَةٌ وَلَعَلَّ ظَاهِرَهَا مُخْتَلِفٌ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْإِثَابَةِ، وَقَدْ يُحْتَجُّ لِلْإِثَابَةِ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39] . أَيْ: فِي غَيْرِ إسْرَافٍ قَالَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ التَّابِعِينَ وَلَمْ يَذْكُرْ سُبْحَانَهُ الْجِهَةَ الْمُنْفَقَ فِيهَا. وَإِخْرَاجُ مَا جَاوَزَ الْحَدَّ وَأَسْرَفَ فِيهِ لِدَلِيلٍ يَخُصُّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ إخْرَاجُ مَا دُونَهُ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ دَلِيلٍ يُخْرِجُ ذَلِكَ، وَقَدْ قِيلَ: فِي الْآيَةِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَظَاهِرُهَا كَمَا سَبَقَ فِي الْكَرَمِ وَالْبُخْلِ بَعْدَ فُضُولِ الْكَسْبِ بَعْدَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - " أَنْفِقْ يُنْفَقْ عَلَيْكَ "؛ وَلِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَشْرَحُ الصَّدْرَ وَيَسُرُّ النَّفْسَ، وَقَدْ يَحْفَظُ الصِّحَّةَ وَقَدْ يُحْتَاجُ إلَيْهِ، وَمَحْذُورُ الْإِسْرَافِ مُنْتَفٍ فَيُسْتَحَبُّ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْإِسْرَافُ وَالِاعْتِدَاءُ فِي ذَلِكَ فَظَوَاهِرُ الْأَخْبَارِ السَّابِقَةِ تَدُلُّ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَقَدْ رَوَاهَا أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَلَمْ يُخَالِفَاهَا كَمَا أَنَّ ظَاهِرَهَا أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ؛ لِأَنَّ فَاعِلَ الْمُحَرَّمِ لَا يُقَالُ عَادَةً وَغَالِبًا لَا أَجْرَ لَهُ وَلَا تُخْلَفُ نَفَقَتُهُ بَلْ يُقَالُ: يَعْصِي وَيَأْثَمُ وَيُعَاقَبُ فَيُذْكَرُ الْمَعْنَى الْمُخْتَصُّ بِعَمَلِهِ، وَعَلَى هَذَا الْمُرَادُ بِالْوَبَالِ

وَالْكَلِّ فِي الْخَبَرِ الثِّقَلُ فَيُؤْتَى بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ لِكَرَاهَةِ الْفِعْلِ، وَلِهَذَا لَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَدْمِ تِلْكَ الْقُبَّةِ وَلَا طَلَبَ صَاحِبَهَا فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَهَذَا وَاضِحٌ. وَعَلَى هَذَا قَوْلُ ابْنِ الْأَثِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ الْعَذَابُ فِي الْآخِرَةِ غَيْرُ وَاضِحٍ وَلَا مُتَّجَهٍ مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ إنْ لَمْ يَكُنْ صَرِيحُهُ بِأَنَّهُ يُحْجَرُ عَلَى مَنْ بَذَلَهُ فِي مُبَاحٍ زَائِدًا عَلَى الْمَصْلَحَةِ، وَالْمَسْأَلَةُ سَبَقَتْ فِي آدَابِ الْأَكْلِ وَمَذْكُورَةٌ فِي الْفِقْهِ فِي بَابِ الْحَجْرِ. وَحَيْثُ حَرُمَ أَوْ كُرِهَ فَأُجْرَةُ فَاعِلِهِ تَابِعَةٌ لِذَلِكَ كَمَا يَأْتِي فِي خِيَاطَةِ الْمَلْبُوسِ إذَا حَرُمَ حَرُمَتْ الْأُجْرَةُ، وَسَبَقَ الْكَلَامُ فِي الْإِسْرَافِ فِي مَأْكُولٍ وَمَشْرُوبٍ وَمَلْبُوسٍ فِي آدَابِ الْأَكْلِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ الْإِجْمَاعِ قَبْلَ السَّبْقِ وَالرَّمْيِ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ بِنَاءَ مَا يَسْتُرُ بِهِ الْمَرْءُ وَعِيَالَهُ وَمَالَهُ مِنْ الْعُيُونِ وَالْبَرْدِ وَالْحَرِّ أَوْ الْمَطَرِ فَرْضٌ وَاكْتِسَابِ مَنْزِلٍ أَوْ مَسْكَنٍ يَسْتُرُ مَا ذَكَرْنَا، وَاتَّفَقُوا أَنَّ الِاتِّسَاعَ فِي الْمَكَاسِبِ وَالْمَبَانِي مِنْ حِلٍّ إذَا أَدَّى جَمِيعَ حُقُوقِ اللَّهِ قَبْلَهُ مُبَاحٌ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَمِنْ كَارِهٍ وَمِنْ غَيْرِ كَارِهٍ، وَسَبَقَ كَلَامُ ابْنِ حَزْمٍ فِي هَذَا فِي فُصُولِ الْكَسْبِ وَالتِّجَارَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ حَالَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْمَلُ الْأَحْوَالِ وَطَرِيقَهُ خَيْرُ الطُّرُقِ لِمَا عُلِمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ سَفَرٍ لَا دَارُ إقَامَةٍ اتَّخَذَ مَسَاكِنَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ تَسْتُرُ عَنْ الْعُيُونِ وَتَقِي مَضَرَّةَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْمَطَرِ وَالرِّيَاحِ وَتَحْفَظُ مَا وُضِعَ فِيهَا مِنْ دَابَّةٍ وَغَيْرِهَا وَلَمْ يُزَخْرِفْهَا وَلَمْ يُشَيِّدْهَا وَلَمْ تَكُنْ ثَقِيلَةً فَيَخَافَ سُقُوطَهَا وَلَا وَاسِعَةً رَفِيعَةً فَتُعَشِّشَ فِيهَا الْهَوَامُّ وَتَصِيرَ مَهَبًّا لِلرِّيَاحِ الْمُؤْذِيَةِ، وَلَا هِيَ مَسَاكِنُ تَحْتَ الْأَرْضِ فَتُشْبِهَ مَسَاكِنَ الْجَبَابِرَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَرُبَّمَا تَأَذَّى سَاكِنُهَا بِذَلِكَ لِقِلَّةِ الْهَوَاءِ أَوْ الشَّمْسِ أَوْ عَدَمِهِمَا أَوْ بِالظُّلْمَةِ أَوْ بِبَعْضِ الْهَوَامِّ، بَلْ هِيَ مَسَاكِنُ مُتَوَسِّطَةٌ حَسَنَةٌ طَيِّبَةُ الرَّائِحَةِ بِعَرَقِهِ وَرَائِحَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ يُحِبُّ التَّطَيُّبَ وَيَتَّخِذُهُ كَمَا سَبَقَ فِي حِفْظِ الصِّحَّةِ مِنْ فُصُولِ الطِّبِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل مضاعفة الصلاة في المساجد الثلاثة

[فَصْلٌ مُضَاعَفَةُ الصَّلَاةِ فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ] ِ) وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ وَفِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَمْسِينَ أَلْفًا، وَفِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا، فَإِذَا فَضِيلَةُ النَّفْلِ فِيهَا عَلَى النَّفْلِ فِي غَيْرِهَا كَفَضِيلَةِ الْفَرْضِ فِيهَا عَلَى الْفَرْضِ فِي غَيْرِهَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَالرِّعَايَةِ وَزَادَ لِلْأَثَرِ. وَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْقَوِيِّ وَلَمْ أَجِدْ أَثَرًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا حَدِيثَ أَنَسٍ الْآتِيَ وَوَقَعَ لَهُمْ فِيهِ غَلَطٌ، وَكَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمُضَاعَفَةَ لَا تَخْتَصُّ بِالْفَرْضِ وَكَذَا قَالَهُ مُطَرِّفٌ الْمَالِكِيُّ وَخَصَّهَا الطَّحَاوِيَّ الْحَنَفِيُّ بِالْفَرْضِ. وَقَالَ الْقَاضِي السُّرُوجِيُّ الْحَنَفِيُّ: اسْمُ الصَّلَاةِ يَتَنَاوَلُ الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ ثُمَّ قَالَ: وَحَكَى ابْنُ رُشْدٍ الْمَالِكِيُّ فِي الْقَوَاعِدِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ حَمَلَ هَذَا الْخَبَرَ يَعْنِي صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا عَلَى الْفَرْضِ لِيَجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «صَلَاةُ أَحَدِكُمْ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي مَسْجِدِي هَذَا إلَّا الْمَكْتُوبَةَ» وَلَمْ يَزِدْ السُّرُوجِيُّ عَلَى هَذَا. وَحَكَى الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ الْجُمْهُورِ اسْتِحْبَابَ الْمُجَاوَرَةِ بِمَكَّةَ قَالَ: قَالُوا: وَلِأَنَّ الْمُجَاوَرَةَ بِهَا مِنْ تَحْصِيلِ الْعِبَادَاتِ وَتَضْعِيفِهَا مَا لَا يَكُونُ فِي بَلَدٍ آخَرَ؛ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا تَتَضَاعَفُ هِيَ وَغَيْرُهَا مِنْ الْأَعْمَالِ انْتَهَى كَلَامُهُ وَقَطَعَ بِهِ الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي اسْتِدْلَالِهِ لِأَفْضَلِيَّةِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ فِي الْأَوْقَاتِ وَالْأَمَاكِنِ الْمُعَظَّمَةِ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَحْرٍ عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي سَوْدَةَ عَنْ أَخِيهِ عُثْمَانَ عَنْ «مَيْمُونَةَ مَوْلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَفْتِنَا فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالَ: أَرْضُ الْمَحْشَرِ وَالْمَنْشَرِ ائْتُوهُ فَصَلُّوا فِيهِ فَإِنَّ صَلَاةً فِيهِ كَأَلْفِ صَلَاةٍ. قَالَتْ: أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يُطِقْ أَنْ يَتَحَمَّلَ إلَيْهِ أَوْ يَأْتِيَهُ قَالَ فَلْيُهْدِ لَهُ زَيْتًا يُسْرَجُ فِيهِ فَإِنَّ مَنْ أَهْدَى كَانَ كَمَنْ صَلَّى فِيهِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقِّيِّ عَنْ عِيسَى كَذَلِكَ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ مِسْكِينِ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ

عَنْ زِيَادِ بْنِ سَوْدَةَ عَنْهَا فِي حَدِيثٍ حَسَنٍ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ فِيهِ نَكَارَةً مِنْ جِهَةِ أَنَّ الزَّيْتَ يَعِزُّ فِي الْحِجَازِ فَكَيْفَ يَأْمُرُ الشَّارِعُ بِنَقْلِهِ مِنْ هُنَاكَ إلَى مَعْدِنِهِ؟ وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ ثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ ثَنَا أَبُو الْخَطَّابِ الدِّمَشْقِيُّ ثَنَا رُزَيْقُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَلْهَانِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ بِصَلَاةٍ وَصَلَاتُهُ فِي مَسْجِدِ الْقَبَائِلِ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً وَصَلَاتُهُ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يُجْمِعُ فِيهِ بِخَمْسِمِائَةِ صَلَاةٍ وَصَلَاتُهُ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بِخَمْسِينَ أَلْفَ صَلَاةٍ وَصَلَاتُهُ فِي مَسْجِدِي بِخَمْسِينَ أَلْفَ صَلَاةٍ وَصَلَاتُهُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ.» أَبُو الْخَطَّابِ هَذَا لَا يُعْرَفُ وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ. وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ زَيْدٍ الْمَوْصِلِيُّ الْحَنَفِيُّ لَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرُ ثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ: (أَحَدُهَا) «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى» . (وَالْآخَرُ) «أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَوَّلِ بَيْتٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ فَقَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا قَالَ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى قِيلَ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ عَامًا» وَالْآخَرُ «أَنَّ الصَّلَاةَ تَعْدِلُ سَبْعَمِائَةِ صَلَاةٍ.» كَذَا قَالَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ.» وَرَوَى أَحْمَدُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِثْلَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَهُوَ صَحِيحٌ وَزَادُوا «وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ» وَلِأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِثْلُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَادُوا «وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي هَذَا» فَعَلَى هَذَا الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ تَزِيدُ عَلَى أَلْفٍ فِي غَيْرِهِ سِوَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَا أَنَّهَا تُعَادِلُ الْأَلْفَ، وَالصَّلَاةُ فِي

الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ سِوَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، وَالْقَوْلُ بِهَذَا أَوْلَى مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ، وَهُوَ الَّذِي اعْتَمَدَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ فِي أَحْكَامِهِ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَصْحَابِ وَغَيْرِهِمْ. وَظَاهِرُ الْأَخْبَارِ أَنَّ النَّفَلَ فِي الْبَيْتِ أَفْضَلُ قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ إلَّا النِّسَاءَ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ أَفْضَلُ، وَالْأَخْبَارُ مَشْهُورَةٌ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ: ثَنَا هَارُونُ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ ثَنَا دَاوُد بْنُ قَيْسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُوَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ عَمَّتِهِ أُمِّ حُمَيْدٍ امْرَأَةِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهَا «جَاءَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أُحِبُّ الصَّلَاةَ مَعَكَ قَالَ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكِ تُحِبِّينَ الصَّلَاةَ مَعِي، وَصَلَاتُكِ فِي بَيْتِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِكِ فِي حُجْرَتِكِ، وَصَلَاتُكِ فِي حُجْرَتِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِكِ فِي دَارِكِ، وَصَلَاتُكِ فِي دَارِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِكِ فِي مَسْجِدِ قَوْمِكِ، وَصَلَاتُكِ فِي مَسْجِدِ قَوْمِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِكِ فِي مَسْجِدِي قَالَ: فَأَمَرَتْ فَبُنِيَ لَهَا مَسْجِدٌ فِي أَقْصَى بَيْتٍ مِنْ بَيْتِهَا، وَاَللَّهِ كَانَتْ تُصَلِّي فِيهِ حَتَّى لَقِيَتْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ» عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُوَيْدٍ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَقَالَ: رَوَى عَنْهُ دَاوُد بْنُ قَيْسٍ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ فَفِيهِ جَهَالَةٌ لَكِنْ الْمُتَقَدِّمُونَ حَالُهُمْ حَسَنٌ وَبَاقِي رِجَالِهِ ثِقَاتٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذِهِ الْمُضَاعَفَةُ تَخْتَصُّ بِالْمَسْجِدِ عَلَى ظَاهِرِ الْخَبَرِ وَقَوْلِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِمَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا كَانَ فِي زَمَانِهِ لَا مَا زِيدَ فِيهِ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي مَسْجِدِي هَذَا وَاخْتَارَ الشَّيْخُ أَنَّ حُكْمَ الزَّائِدِ حُكْمُ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَأَنْ أُصَلِّيَ عَلَى رَمْلَةٍ حَمْرَاءَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لَوْ سِرْتُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنِي وَبَيْنَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إلَّا فَرْسَخٌ أَوْ فَرْسَخَانِ مَا أَتَيْتُهُ أَوْ مَا أُحِبُّ أَنْ آتِيَهُ رَوَاهُمَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ وَالْإِسْنَادُ صَحِيحٌ وَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمَا الْحَدِيثُ فِي ذَلِكَ.

فصل زيادة الوزر كزيادة الأجر في الأزمنة والأمكنة المعظمة

[فَصْلٌ زِيَادَةُ الْوِزْرِ كَزِيَادَةِ الْأَجْرِ فِي الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ الْمُعَظَّمَةِ] قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: الْمَعَاصِي فِي الْأَيَّامِ الْمُعَظَّمَةِ وَالْأَمْكِنَةِ الْمُعَظَّمَةِ تُغَلَّظُ مَعْصِيَتُهَا وَعِقَابُهَا بِقَدْرِ فَضِيلَةِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ انْتَهَى كَلَامُهُ وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ التَّمِيمِيُّ فِي التَّرْغِيبِ ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ إبْرَاهِيمَ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ ابْنِ حَمْدَيْهِ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إبْرَاهِيمَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْعَوَّامِ ثَنَا أَبُو خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا فَذَكَرَهُ وَفِي آخِرِهِ «فَاتَّقُوا شَهْرَ رَمَضَانَ فَإِنَّ الْحَسَنَاتِ تُضَاعَفُ فِيهِ وَكَذَلِكَ السَّيِّئَاتُ» وَهُوَ خَبَرٌ ضَعِيفٌ.

فصل دخول معابد الكفار والصلاة فيها وشهود أعيادهم

[فَصْلٌ دُخُولُ مَعَابِدِ الْكُفَّارِ وَالصَّلَاةُ فِيهَا وَشُهُودُ أَعْيَادِهِمْ] ْ) وَلَهُ دُخُولُ بِيعَةٍ وَكَنِيسَةٍ وَنَحْوِهِمَا وَالصَّلَاةُ فِي ذَلِكَ وَعَنْهُ، يُكْرَهُ إنْ كَانَ ثَمَّ صُورَةٌ، وَقِيلَ: مُطْلَقًا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الرِّعَايَةِ. وَقَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ: وَتَصِحُّ صَلَاةُ الْفَرْضِ فِي الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَقَالَ ابْنُ تَمِيمٍ لَا بَأْسَ بِدُخُولِ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ الَّتِي لَا صُوَرَ فِيهَا وَالصَّلَاةِ فِيهَا. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يُكْرَهُ كَاَلَّتِي فِيهَا صُوَرٌ، وَحَكَى فِي الْكَرَاهَةِ رِوَايَتَيْنِ. وَقَالَ فِي الشَّرْحِ لَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ فِي الْكَنِيسَةِ النَّظِيفَةِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي مُوسَى وَحَكَاهُ عَنْ جَمَاعَةٍ، وَكَرِهَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَالِكٌ الْكَنَائِسَ لِأَجْلِ الصُّوَرِ وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ كَالتَّعْظِيمِ وَالتَّبْجِيلِ لَهَا وَقِيلَ؛ لِأَنَّهُ يَضُرُّ بِهِمْ. وَلَنَا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فِي الْكَعْبَةِ وَفِيهَا صُوَرٌ» ثُمَّ قَدْ دَخَلَتْ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «فَصَلِّ فَإِنَّهُ مَسْجِدٌ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ دُخُولُ مَسْجِدٍ فِيهِ تَصَاوِيرُ كَذَلِكَ، وَعِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ وَاحْتَجَّ فِي الْمُغْنِي بِدُخُولِ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ، وَيُبَاحُ تَرْكُ الدَّعْوَةِ لِأَجْلِهِ عُقُوبَةً لِلدَّاعِي؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حُرْمَتَهُ بِاِتِّخَاذِهِ ذَلِكَ. وَقَالَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ: إذَا كَانَتْ الصُّورَةُ عَلَى السُّتُورِ وَمَا لَيْسَ بِمَوْطُوءٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ الدُّخُولُ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مِنْهَاجِ الْقَاصِدِينَ قَالَ فِي صُوَرِ الْحَيَوَانَاتِ عَلَى بَابِ الْحَمَّامِ أَوْ دَاخِلِهِ: مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِنْكَارِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الدُّخُولُ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَلْيَعْدِلْ إلَى حَمَّامٍ آخَرَ. وَذَكَرَ أَيْضًا فِي مُنْكَرَاتِ الضِّيَافَةِ أَنَّ تَعْلِيقَ السُّتُورِ وَفِيهَا الصُّوَرُ مُنْكَرٌ يَجِبُ تَغْيِيرُهُ وَمَنْ عَجَزَ لَزِمَهُ الْخُرُوجُ انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ. وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ شُهُودُ أَعْيَادِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ: لَا يَجُوزُ شُهُودُ أَعْيَادِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ

مُهَنَّا وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72] قَالَ الشَّعَانِينُ: وَأَعْيَادُهُمْ فَأَمَّا مَا يَبِيعُونَ فِي الْأَسْوَاقِ فَلَا بَأْسَ بِحُضُورِهِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا فَقَالَ: إنَّمَا يُمْنَعُونَ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ بِيَعَهُمْ وَكَنَائِسَهُمْ، فَأَمَّا مَا يُبَاعُ فِي الْأَسْوَاقِ مِنْ الْمَأْكَلِ فَلَا، وَإِنْ قَصَدَ إلَى تَوْفِيرِ ذَلِكَ وَتَحْسِينِهِ لِأَجْلِهِمْ. وَقَالَ الْخَلَّالُ: فِي جَامِعِهِ (بَابٌ فِي كَرَاهِيَةِ خُرُوجِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَعْيَادِ الْمُشْرِكِينَ) وَذَكَرَ عَنْ مُهَنَّا قَالَ سَأَلْتُ: أَحْمَدَ عَنْ شُهُودِ هَذِهِ الْأَعْيَادِ الَّتِي تَكُونُ عِنْدَنَا بِالشَّامِ مِثْلَ دَيْرِ أَيُّوبَ وَأَشْبَاهِهِ يَشْهَدُهُ الْمُسْلِمُونَ يَشْهَدُونَ الْأَسْوَاقَ وَيَجْلِبُونَ فِيهِ الْغَنَمَ وَالْبَقَرَ وَالدَّقِيقَ وَالْبُرَّ وَغَيْرَ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَسْوَاقِ، يَشْتَرُونَ وَلَا يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ بِيَعَهُمْ قَالَ: إذَا لَمْ يَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ بِيَعَهُمْ وَإِنَّمَا يَشْهَدُونَ السُّوقَ فَلَا بَأْسَ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: فَإِنَّمَا رَخَّصَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي دُخُولِ السُّوقِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ بِيَعَهُمْ فَعُلِمَ مَنْعُهُ مِنْ دُخُولِ بِيَعِهِمْ، وَكَذَلِكَ أَخَذَ الْخَلَّالُ مِنْ ذَلِكَ الْمَنْعَ مِنْ خُرُوجِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَعْيَادِهِمْ فَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى مِثْلِ مَا جَاءَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ الْمَنْعِ مِنْ دُخُولِ كَنَائِسِهِمْ فِي أَعْيَادِهِمْ وَهُوَ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ أَنْ يَفْعَلَ كَفِعْلِهِمْ قَالَ: وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى مَسْأَلَةٌ فِي الْمَنْعِ مِنْ حُضُورِ أَعْيَادِهِمْ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ فِي بَابِ كَرَاهِيَةِ الدُّخُولِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي كَنَائِسِهِمْ وَالتَّشَبُّهِ بِهِمْ يَوْمَ نَيْرُوزِهِمْ وَمِهْرَجَانِهِمْ. عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا تَعَلَّمُوا رَطَانَةَ الْأَعَاجِمِ وَلَا تَدْخُلُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي كَنَائِسِهِمْ يَوْمَ عِيدِهِمْ فَإِنَّ السَّخْطَةَ تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَكَذَلِكَ أَيْضًا عَلَى هَذَا لَا نَدَعُهُمْ يُشْرِكُونَا فِي عِيدِنَا يَعْنِي لِاخْتِصَاصِ كُلِّ قَوْمٍ بِعِيدِهِمْ قَالَ: وَأَمَّا الرَّطَانَةُ وَتَسْمِيَةُ شُهُورِهِمْ بِالْأَسْمَاءِ الْأَعْجَمِيَّةِ فَقَالَ حَرْبٌ: (بَابُ

تَسْمِيَةِ الشُّهُورِ بِالْفَارِسِيَّةِ) قُلْتُ: لِأَحْمَدَ فَإِنَّ لِلْفُرْسِ أَيَّامًا وَشُهُورًا يُسَمُّونَهَا بِأَسْمَاءِ لَا تُعْرَفُ فَكَرِهَ ذَلِكَ أَشَدَّ الْكَرَاهَةِ وَرَوَى فِيهِ عَنْ مُجَاهِدٍ حَدِيثًا أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُقَالَ أذرماه وذماه قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ اسْمَ رَجُلٍ أُسَمِّيهِ بِهِ فَكَرِهَهُ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِنَهْيِ عُمَرَ عَنْ الرَّطَانَةِ مُطْلَقًا. وَقَالَ كَرِهَ الشَّافِعِيُّ لِمَنْ يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ أَنْ يُسَمِّيَ بِغَيْرِهَا أَوْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا خَالِطًا لَهَا بِالْعَجَمِيَّةِ فَذَكَرَ كَلَامَهُ فِي ذَلِكَ وَذَكَرَ آثَارًا.

فصل النظر في النجوم وما يقال عند الرعد ورؤية الهلال

[فَصْلٌ النَّظَرُ فِي النُّجُومِ وَمَا يُقَالُ عِنْدَ الرَّعْدِ وَرُؤْيَةِ الْهِلَالِ] ِ) وَلَا يَنْظُرُ فِي النُّجُومِ إلَّا بِمَا يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى الْقِبْلَةِ عِنْدَ الِالْتِبَاسِ وَآخِرَ اللَّيْلِ وَيَتْرُكُ مَا سِوَى ذَلِكَ ذَكَرَهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ النُّجُومِ فَقَدْ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ السِّحْرِ.» زَادَ مَا زَادَ إسْنَادُهُ جَيِّدٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ فِي اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَفِي بَابِ الْمُرْتَدِّ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ تَعَلَّمُوا مِنْ النُّجُومِ مَا تَهْتَدُونَ بِهِ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ثُمَّ أَمْسِكُوا وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ: عِلْمُ النُّجُومِ عَلَى الْعُقُولِ وَبَالٌ ... وَطِلَابُ شَيْءٍ لَا يُنَالُ ضَلَالٌ هَيْهَاتَ مَا أَحَدٌ مَضَى ذُو فِطْنَةٍ ... يَدْرِي مَتَى الْأَرْزَاقُ وَالْآجَالُ إلَّا الَّذِي هُوَ فَوْقَ سَبْعِ سَمَائِهِ ... وَلِوَجْهِهِ الْإِعْظَامُ وَالْإِجْلَالُ وَقَالَ آخَرُ: لَوْ أَنَّ نَجْمًا تَكَلَّمْ ... لَقَالَ صُكُّوا الْمُنَجِّمْ لِأَنَّهُ قَالَ جَهْلًا ... بِالْغَيْبِ مَا لَيْسَ يَعْلَمْ وَرَوَى أَحْمَدُ ثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ ثَنَا هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ «كُنَّا مَعَ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى ظَهْرِ بَيْتِنَا فَرَأَى كَوْكَبًا انْقَضَّ فَنَظَرُوا إلَيْهِ فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: إنَّا قَدْ نُهِينَا أَنْ نُتْبِعَهُ أَبْصَارَنَا» إسْنَادٌ صَحِيحٌ قَالَ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ بْنُ الْمُنْجِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ: كَانَ السَّلَفُ يَكْرَهُونَ الْإِشَارَةَ إلَى الرَّعْدِ وَالْبَرْقِ وَيَقُولُونَ: عِنْدَ ذَلِكَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، فَيُسْتَحَبُّ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا سَمِعَ الرَّعْدَ

وَالصَّوَاعِقَ قَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَقْتُلْنَا بِغَضَبِكَ، وَلَا تُهْلِكْنَا بِعَذَابِكَ وَعَافِنَا قَبْلَ ذَلِكَ.» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا سَمِعَ الرَّعْدَ تَرَكَ الْحَدِيثَ وَقَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ رَوَاهُ مَالِكٌ. وَإِذَا رَأَى الْهِلَالَ كَبَّرَ ثَلَاثًا وَقَالَ اللَّهُمَّ: أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالْيُمْنِ وَالْإِيمَانِ وَالْأَمْنِ وَالْأَمَانِ رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ وَيَقُولُ: ثَلَاثَ مَرَّاتٍ هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ وَيَقُولُ: آمَنْتُ بِاَلَّذِي خَلَقَكَ ثُمَّ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ذَهَبَ بِشَهْرِ كَذَا وَجَاءَ بِشَهْرِ كَذَا وَرَوَى أَبُو دَاوُد ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ الْحُبَابِ أَخْبَرَهُمْ عَنْ أَبِي هِلَالٍ عَنْ قَتَادَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا رَأَى الْهِلَالَ صَرَفَ وَجْهَهُ عَنْهُ» ، مُرْسَلٌ حَسَنٌ وَأَبُو هِلَالٍ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمٍ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي الْمُسْنَدِ ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ الْحَمْدُ لِلَّهِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ، اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذَا الشَّهْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ الْقَدَرِ، وَمِنْ سُوءِ الْمَحْشَرِ» .

فصل النهي عن سب الريح وما يقال عند هبوبها وعند رؤية السحاب والمطر

[فَصْلٌ النَّهْيُ عَنْ سَبِّ الرِّيحِ وَمَا يُقَالُ عِنْدَ هُبُوبِهَا وَعِنْدَ رُؤْيَةِ السَّحَابِ وَالْمَطَرِ] ِ) عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَسُبُّوا الرِّيحَ فَإِذَا رَأَيْتُمْ مَا تَكْرَهُونَ فَقُولُوا: اللَّهُمَّ إنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ الرِّيحِ وَخَيْرِ مَا فِيهَا وَخَيْرِ مَا أُمِرَتْ بِهِ، وَنَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ هَذِهِ الرِّيحِ وَشَرِّ مَا فِيهَا وَشَرِّ مَا أُمِرَتْ بِهِ.» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «الرِّيحُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ وَتَأْتِي بِالْعَذَابِ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَلَا تَسُبُّوهَا وَاسْأَلُوا مِنْ اللَّهِ خَيْرَهَا وَاسْتَعِيذُوا بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّهَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا رَأَى سَحَابًا مُقْبِلًا مِنْ أُفُقٍ مِنْ الْآفَاقِ تَرَكَ مَا هُوَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ حَتَّى يَسْتَقْبِلَهُ فَيَقُولَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أُرْسِلَ بِهِ فَإِنْ أَمْطَرَ قَالَ اللَّهُمَّ صَيِّبًا نَافِعًا اللَّهُمَّ صَيِّبًا نَافِعًا، وَإِنْ كَشَفَهُ اللَّهُ وَلَمْ يُمْطِرْ حَمِدَ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ. وَاللَّفْظُ لَهُ، وَالصَّيِّبُ الْعَطَاءُ وَهُوَ بِفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتَ.

فصل النهي عن سب الدهر ونسبة الشر إليه وعن قول الرجل هلك الناس

[فَصْلٌ النَّهْيُ عَنْ سَبِّ الدَّهْرِ وَنِسْبَةِ الشَّرِّ إلَيْهِ وَعَنْ قَوْلِ الرَّجُلِ هَلَكَ النَّاسُ] فَصْلٌ (النَّهْيُ عَنْ سَبِّ الدَّهْرِ وَنِسْبَةِ الشَّرِّ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْفَاعِلُ اللَّهُ وَعَنْ قَوْلِ الرَّجُلِ هَلَكَ النَّاسُ) مِنْ النَّاسِ مَنْ يَفْعَلُ عِنْدَ النَّوَازِلِ وَالْمَصَائِبِ مَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ الْعَرَبُ مِنْ سَبِّ الدَّهْرِ وَالزَّمَانِ فَلِهَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ.» وَفِيهِمَا «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ» . وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ «لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ.» أَيْ: إنَّكُمْ إذَا سَبَبْتُمْ فَاعِلَ ذَلِكَ وَقَعَ السَّبُّ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ، وَالدَّهْرُ لَا فِعْلَ لَهُ بَلْ مِنْ جُمْلَةِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا قَالَ الرَّجُلُ هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ» بِرَفْعِ الْكَافِ قَالَ الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ وَهُوَ أَشْهَرُ أَيْ: أَشَدُّهُمْ هَلَاكًا. وَرُوِيَ أَهْلَكَهُمْ بِفَتْحِ الْكَافِ أَيْ جَعَلَهُمْ هَالِكِينَ؛ لِأَنَّهُمْ هَلَكُوا فِي الْحَقِيقَةِ وَهَذَا النَّهْيُ لِمَنْ قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِقَارِ وَالْإِزْرَاءِ عَلَى النَّاسِ وَتَفْضِيلِ نَفْسِهِ عَلَيْهِمْ فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ تَحَزُّنًا لِمَا يَرَى مِنْ النَّقْصِ فِي أَمْرِ الدِّينِ زَادَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي نَفْسِهِ وَفِي النَّاسِ فَلَا بَأْسَ كَمَا قَالَ: يَعْنِي الصَّحَابِيَّ أَظُنُّهُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ لَا أَعْرِفُ مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعًا. هَكَذَا فَسَّرَهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ وَتَابَعَهُ النَّاسُ عَلَيْهِ كَذَا قَالَ، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا قَالَ هَذَا الْمَعْنَى تَحَزُّنًا لِمَا يَرَاهُ فِيهِمْ مِنْ النَّقْصِ فَلَا بَأْسَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرَى ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ لَكِنْ لَا يُزَكِّي نَفْسَهُ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَعِيبُ النَّاسَ وَيَذْكُرُ مَسَاوِيَهُمْ وَيَقُولُ: فَسَدَ النَّاسُ وَهَلَكُوا وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ أَيْ: أَسْوَأُ حَالًا مِنْهُمْ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْإِثْمِ فِي عَيْبِهِمْ وَالْوَقِيعَةِ فِيهِمْ وَرُبَّمَا أَدَّاهُ

ذَلِكَ إلَى الْعَجَبِ بِنَفْسِهِ وَرُؤْيَتِهِ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُمْ. وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ مَنْ فَتَحَهَا كَانَتْ فِعْلًا مَاضِيًا، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِينَ يُؤَيِّسُونَ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ يَقُولُونَ: هَلَكَ النَّاسُ أَيْ: اسْتَوْجَبُوا النَّارَ بِسُوءِ أَعْمَالِهِمْ، فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ ذَلِكَ فَهُوَ الَّذِي أَوْجَبَهُ لَهُمْ لَا اللَّهُ تَعَالَى أَوْ هُوَ الَّذِي لَمَّا قَالَ لَهُمْ وَآيَسَهُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى تَرْكِ الطَّاعَةِ وَالِانْهِمَاكِ فِي الْمَعَاصِي فَهُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِي الْهَلَاكِ، وَأَمَّا الضَّمُّ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ أَيْ أَكْثَرُهُمْ هَلَاكًا، وَهُوَ الرَّجُلُ يُولَعُ بِعَيْبِ النَّاسِ وَيَرَى لَهُ عَلَيْهِمْ فَضْلًا. وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدَّثَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: وَاَللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلَانٍ، وَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لَا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ.» أَوْ كَمَا قَالَ: الْمُرَادُ حَبَطَ بِقَدْرِ هَذِهِ السَّيِّئَةِ لَا كُلُّ عَمَلِهِ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي فُصُولِ التَّوْبَةِ.

فصل في قول حرثت بدل زرعت موافقة للآية

[فَصْلٌ فِي قَوْلِ حَرَثْتُ بَدَلَ زَرَعْتُ مُوَافِقَةً لِلْآيَةِ] ِ) رَوَى أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ ثَنَا مُسْلِمُ بْنُ مُسْلِمٍ الْحَرَمِيُّ ثَنَا مَخْلَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَقُولُ: أَحَدُكُمْ زَرَعْتُ لِيَقُلْ حَرَثْتُ» . قَالَ مُحَمَّدٌ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَلَمْ تَسْمَعُوا إلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 64] قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْأَزْدِيُّ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْخَبَرُ عَنْ أَبِي يَعْلَى تَفَرَّدَ بِهِ مَخْلَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ انْتَهَى كَلَامُهُ وَمَخْلَدٌ مِنْ الثِّقَاتِ الْعُقَلَاءِ قَالَ أَبُو دَاوُد كَانَ أَعْقَلَ أَهْلِ زَمَانِهِ.

فصل النهي عن تسمية العنب كرما لأن الكرم يطلق على الخمر

[فَصْلٌ النَّهْيُ عَنْ تَسْمِيَةِ الْعِنَبِ كَرْمًا لِأَنَّ الْكَرْمَ يُطْلَقُ عَلَى الْخَمْرِ] ِ) فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ لِلْعِنَبِ الْكَرْمَ فَإِنَّ الْكَرْمَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ.» وَفِي لَفْظٍ «فَإِنَّ الْكَرْمَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ.» وَلِأَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ «وَلَكِنْ قُولُوا حَدَائِقَ الْأَعْنَابِ.» وَتُرْجِمَ عَلَيْهِ (بَابٌ فِي حِفْظِ الْمَنْطِقِ) وَلِمُسْلِمٍ عَنْ وَائِلٍ مَرْفُوعًا «لَا تَقُولُوا الْكَرْمَ وَلَكِنْ قُولُوا الْعِنَبَ وَالْحَبْلَةَ» وَالْحَبْلَةُ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِفَتْحِ الْبَاءِ وَإِسْكَانِهَا شَجَرَةُ الْعِنَبِ فَفِي هَذَا كَرَاهِيَةُ تَسْمِيَةِ الْعِنَبِ أَوْ شَجَرَتِهِ كَرْمًا، بَلْ يُقَالُ: عِنَبٌ أَوْ حَبَلَةٌ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تُطْلِقُ الْكَرْمَ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى الْخَمْرِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْهُ فَنَهَى الشَّرْعُ عَنْ إطْلَاقِهَا عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ بِهَا الْخَمْرَ فَيَقَعُونَ فِيهَا، وَقَالَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ هَذَا الِاسْمَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ أَوْ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ؛ لِأَنَّ الْكَرْمَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْكَرَمِ بِفَتْحِ الرَّاءِ فَسُمِّيَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ وَالرَّجُلُ الْمُسْلِمُ كَرْمًا لِمَا فِيهِ مِنْ الْخَيْرِ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُقَالُ: رَجُلٌ كَرْمٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَإِسْكَانِهَا وَكَذَا رَجُلَانِ وَرِجَالٌ وَامْرَأَةٌ وَنِسْوَةٌ وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ كَضِيقٍ وَعَدْلٍ وَسَبَقَ الْمُفْرَدَاتُ مِنْ الطِّبِّ.

فصل ليقل المرء لقست نفسي بدل خبثت

[فَصْلٌ لِيَقُلْ الْمَرْءُ لَقَسَتْ نَفْسِي بَدَلَ خَبُثَتْ] ْ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ وَسَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِي وَلَكِنْ لِيَقُلْ لَقَسَتْ نَفْسِي.» وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا كُرِهَ لَفْظُ الْخُبْثِ وَبَشَاعَةُ الِاسْمِ، وَمَعْنَى لَقَسَتْ عَتَتْ وَقِيلَ: ضَاقَتْ، وَإِنَّمَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الَّذِي يَنَامُ عَنْ الصَّلَاةِ فَأَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ؛ لِأَنَّهُ مُخْبِرٌ عَنْ صِفَةِ غَيْرِهِ وَعَنْ شَخْصٍ مُبْهَمٍ مَذْمُومٍ ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَيَتَوَجَّهُ أَنَّهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ رَوَى أَحْمَدُ خَبَرَ عَائِشَةَ وَرَوَى أَبُو دَاوُد بِلَفْظِ «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ جَاشَتْ نَفْسِي» .

فصل لا تقل تعس الشيطان

[فَصْلٌ لَا تَقُلْ تَعِسَ الشَّيْطَانُ] فَصْلٌ قَالَ أَبُو دَاوُد ثَنَا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ عَنْ خَالِدٍ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ خَالِدٍ يَعْنِي الْحَذَّاءَ عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ قَالَ: «كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَثَرَتْ دَابَّتُهُ فَقُلْتُ: تَعِسَ الشَّيْطَانُ فَقَالَ: لَا تَقُلْ تَعِسَ الشَّيْطَانُ فَإِنَّكَ إذَا قُلْتَ ذَلِكَ تَعَاظَمَ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الْبَيْتِ وَيَقُولُ: بِقُوَّتِي، وَلَكِنْ قُلْ بِسْمِ اللَّهِ فَإِنَّكَ إذَا قُلْتَ ذَلِكَ تَصَاغَرَ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الذُّبَابِ» . وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ عَنْ بُنْدَارٍ عَنْ الثَّقَفِيِّ عَنْ خَالِدٍ عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ فَذَكَرَهُ عَنْ مُحَمَّدٍ بْنِ حَاتِمٍ عَنْ سُوَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ خَالِدٍ عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ رِدْفِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَحْوِهِ. وَرَوَاهُ مُحَمَّدٌ بْنُ حُمْرَانَ الْقَيْسِيُّ عَنْ خَالِدٍ عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ أَبِيهِ هَذَا حَدِيثٌ جَيِّدُ الْإِسْنَادِ وَأَبُو تَمِيمَةَ طَرِيفٌ بْنُ مُجَالِدٍ وَأَبُو الْمَلِيحِ هُوَ ابْنُ أُسَامَةَ وَمُحَمَّدٌ بْنُ حُمْرَانَ لَهُ إفْرَادٌ وَغَرَائِبُ. يُقَالُ: تَعِسَ يَتْعَسُ إذَا عَثَرَ وَانْكَبَّ لِوَجْهِهِ وَقَدْ تُفْتَحُ الْعَيْنُ وَهُوَ دُعَاءٌ عَلَيْهِ بِالْهَلَاكِ.

فصل ما ورد في قطع شجر السدر وسبه

[فَصْلٌ مَا وَرَدَ فِي قَطْعِ شَجَرِ السِّدْرِ وَسَبِّهِ] قَالَ أَبُو دَاوُد: فِي الْأَدَبِ فِي (بَابِ قَطْعِ السِّدْرِ) ثَنَا نَصْرٌ بْنُ عَلِيٍّ أَنْبَأَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبَشِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ. «مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً صَوَّبَ اللَّهُ رَأْسَهُ فِي النَّارِ.» ثَنَا مَخْلَدٌ بْنُ خَالِدٍ وَسَلَمَةُ يَعْنِي ابْنَ شَبِيبٍ قَالَا: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ يَرْفَعُ الْحَدِيثَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوُهُ. ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَيْسَرَةَ وَحُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَا: ثَنَا حَسَّانُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ: سَأَلْتُ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ عَنْ قَطْعِ السِّدْرِ وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إلَى قَصْرِ عُرْوَةَ فَقَالَ: أَتَرَى هَذِهِ الْأَبْوَابَ الْمَصَارِيعَ إنَّمَا هِيَ مِنْ سِدْرٍ عُرْوَةُ يَقْطَعُهُ مِنْ أَرْضِهِ وَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ وَزَادَ أَحْمَدُ فَقَالَ هِيَ يَا عِرَاقِيُّ جِئْتَنِي بِبِدْعَةٍ قَالَ: قُلْتُ إنَّمَا الْبِدْعَةُ مِنْ قِبَلِكُمْ سَمِعْتُ مَنْ يَقُولُ بِمَكَّةَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ قَطَعَ السِّدْرَ» ثُمَّ سَاقَ مَعْنَاهُ. انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد، وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ إسْنَادُهُ جَيِّدٌ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ الثَّانِيَ عِلَّةً لِلْأَوَّلِ، وَلَعَلَّ أَبَا دَاوُد أَرَادَ هَذَا. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْعُقَيْلِيُّ وَغَيْرُهُمَا لَا يَصِحُّ فِيهِ حَدِيثٌ وَقَدْ ذَكَرَ الْأَصْحَابُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَوْ مَنْ ذَكَرَ مِنْهُمْ فِي الْفَضَائِلِ وَالْآدَابِ دُونَ هَذَا. وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: قِيلَ: أَرَادَ سِدْرَ مَكَّةَ وَقِيلَ: الْمَدِينَةِ لِيَكُونَ أُنْسًا وَظِلًّا لِلْمُهَاجِرِينَ إلَيْهَا، وَقِيلَ: أَرَادَ السِّدْرَ فِي الْفَلَاةِ يَسْتَظِلُّ بِهِ أَبْنَاءُ السَّبِيلِ وَالْحَرَّانُ أَوْ فِي مِلْكِ إنْسَانٍ قَالَ: وَمَعَ هَذَا فَالْخَبَرُ مُضْطَرِبُ الرِّوَايَةِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا يُرْوَى عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَكَانَ هُوَ يَقْطَعُهُ قَالَ: وَأَهْلُ الْعِلْمِ مُجْمِعُونَ عَلَى إبَاحَةِ

قَطْعِهِ وَفِي هَذَا الْإِجْمَاعِ مَعَ ذِكْرِهِ الْقَوْلَ الثَّالِثَ نَظَرٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالْإِجْمَاعِ لَا يَحْرُمُ، وَأَرَادَ صَاحِبُ الْقَوْلِ الْكَرَاهَةَ، وَقَوْلُهُ: أَكْثَرُ مَا يُرْوَى عَنْ عُرْوَةَ مُتَوَجَّهٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ فِي الْأَدَبِ مِنْ مَسَائِلِهِ سَأَلْتُهُ يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ عَنْ السِّدْرَةِ تَكُونُ فِي الدَّارِ فَتُؤْذِي أَتُقْطَعُ قَالَ: لَا تُقْطَعُ مِنْ أَصْلِهَا وَلَا بَأْسَ أَنْ تُقْطَعَ شَاخَاتُهَا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا النَّصُّ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الْقَطْعِ، وَتَضْعِيفُهُ لِلْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى إبَاحَتِهِ فَيَكُونُ عَنْهُ رِوَايَتَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَالْخَبَرُ الضَّعِيفُ يَحْتَجُّ بِهِ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ فِي مِثْلِ هَذَا وَقَدْ يُقَالُ: إذَا ضَعَّفَ أَحْمَدُ الْخَبَرَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُخَرَّجَ الْعَمَلُ بِهِ فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى مَا سَبَقَ فِي آدَابِ الْقِرَاءَةِ وَالدُّعَاءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرَ فِي مَقْبُولِ الْمَنْقُولِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ اللَّوَاحِقِ أَنَّ أَبَا دَاوُد سُئِلَ عَنْ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ مُخْتَصَرٌ يَعْنِي «مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً فِي فَلَاةٍ يَسْتَظِلُّ بِهَا ابْنُ السَّبِيلِ وَالْبَهَائِمُ عَبَثًا وَظُلْمًا بِغَيْرِ حَقٍّ يَكُونُ لَهُ فِيهَا صَوَّبَ اللَّهُ رَأْسَهُ فِي النَّارِ» .

فصل في كراهة سب الديك

[فَصْلٌ فِي كَرَاهَةِ سَبِّ الدِّيكِ] ِ) عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَسُبُّوا الدِّيكَ فَإِنَّهُ يُوقِظُ لِلصَّلَاةِ.» إسْنَادٌ جَيِّدٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَلِأَحْمَدَ مَعْنَاهُ. [فَصْلٌ فِي الرُّؤْيَا] قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُفَسِّرَ الرُّؤْيَا مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ فِيهَا وَلَا يَعْبُرَهَا عَلَى الْمَكْرُوهِ، وَهِيَ عِنْدَهُ عَلَى الْخَيْرِ وَلَا عَلَى الْخَيْرِ وَهِيَ عِنْدَهُ عَلَى الْمَكْرُوهِ انْتَهَى كَلَامُهُ وَيَنْبَغِي أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ التَّحْرِيمَ. قَالَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ: وَمَنْ رَأَى فِي مَنَامِهِ بَعْضَ مَا يَكْرَهُهُ تَفَلَ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا وَتَعَوَّذَ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّ مَا رَآهُ انْتَهَى كَلَامُهُ. التَّفْلُ شَبِيهٌ بِالْبَزْقِ وَهُوَ أَقَلُّ مِنْهُ أَوَّلُهُ الْبَزْقُ ثُمَّ التَّفْلُ ثُمَّ النَّفْثُ ثُمَّ النَّفْخُ وَقَدْ تَفَلَ يَتْفُلُ وَيَتْفِلُ وَكَذَا نَفَثَ يَنْفُثُ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ تَكْذِبُ وَرُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ» . وَفِي رِوَايَةٍ «أَصْدَقُكُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا.» قِيلَ " إذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ " أَيْ: اعْتَدَلَ لَيْلُهُ وَنَهَارُهُ وَهُوَ أَشْهَرُ عِنْدَ أَهْلِ الرُّؤْيَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ إذَا قَارَبَ الْقِيَامَةَ وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا «وَالرُّؤْيَا ثَلَاثٌ فَالرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ

بُشْرَى مِنْ اللَّهِ، وَرُؤْيَا تَحْزِينٍ مِنْ الشَّيْطَانِ، وَرُؤْيَا يُحَدِّثُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ، وَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ فَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ» . وَلِمُسْلِمٍ «رُؤْيَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ يَرَاهَا أَوْ تُرَى لَهُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ.» وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنْ الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ.» وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ «الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنْ الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ» . وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَمْ يَبْقَ مِنْ النُّبُوَّةِ إلَّا الْمُبَشِّرَاتُ قِيلَ: وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ قَالَ: الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرُوِيَ مِنْ أَجْزَاءٍ أُخَرَ كَثِيرَةٍ، وَالْأَشْهَرُ «مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ.» قِيلَ: لِأَنَّهُ أَقَامَ يُوحَى إلَيْهِ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَقَبْلَ ذَلِكَ يَرَى فِي الْمَنَامِ الْوَحْيَ وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ لِلْمَنَامَاتِ شَبَهًا مِمَّا حَصَلَ لَهُ وَمَرْتَبَةً مِنْ النُّبُوَّةِ بِجُزْءٍ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: إنَّمَا كَانَتْ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ. قَالَ: وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الرُّؤْيَا تَأْتِي عَلَى مُوَافَقَةِ النُّبُوَّةِ لَا أَنَّهَا جُزْءٌ بَاقٍ مِنْ النُّبُوَّةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ فِي الْمَنَامِ إخْبَارٌ بِالْغَيْبِ وَهُوَ إحْدَى ثَمَرَاتِ النُّبُوَّةِ وَهُوَ يَسِيرٌ فِي جَنْبِ النُّبُوَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا يُشَرِّعُ الشَّرَائِعَ وَيُبَيِّنُ الْأَحْكَامَ وَلَا يُخْبِرُ بِغَيْبٍ أَبَدًا، وَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي نُبُوَّتِهِ، وَهَذَا الْجُزْءُ مِنْ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ الْإِخْبَارُ بِالْغَيْبِ إذَا وَقَعَ لَا يَكُونُ إلَّا صِدْقًا، وَقِيلَ: هَذَا الِاخْتِلَافُ يَرْجِعُ إلَى اخْتِلَافِ حَالِ الرَّائِي، فَالصَّالِحُ رُؤْيَاهُ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا، وَالْفَاسِقُ مِنْ سَبْعِينَ، وَقِيلَ: الْجَلِيُّ مِنْهَا جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ وَالْخَفِيُّ مِنْ سَبْعِينَ وَيَأْتِي كَلَامُ مَالِكٍ. وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «لَيْسَ

يَبْقَى بَعْدِي مِنْ النُّبُوَّةِ إلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ.» وَعَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «لَا رَسُولَ بَعْدِي وَلَا نَبِيَّ قَالَ: فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: لَكِنْ الْمُبَشِّرَاتُ قَالُوا: وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ قَالَ: رُؤْيَا الْمُسْلِمِ، وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ.» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: صَحِيحٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ أَوْ لَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ وَلَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي.» قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَإِنَّ مَنْ رَآهُ فَقَدْ أَدْرَكَهُ وَلَوْ رَآهُ عَلَى خِلَافِ صِفَتِهِ أَوْ رَآهُ جَمَاعَةٌ فِي مَوَاضِعَ وَإِنْ غَلِطَ فِي بَعْضِ صِفَاتِهِ وَتَخَيَّلَ لَهَا عَلَى خِلَافِ مَا هِيَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ فِي الْمَرْئِيِّ كَوْنُهُ مَوْجُودًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ أَنَّ رُؤْيَاهُ صَحِيحَةٌ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ «فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ» وَقَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَهُ فِي مَنَامِهِ أَوْ نَهَاهُ، وَتَلْخِيصُهُ أَنَّهُ لَا يُغَيِّرُ مَا تَقَرَّرَ فِي الْيَقَظَةِ شَرْعًا إجْمَاعًا نَظَرًا إلَى تَرْجِيحِ الدَّلِيلَيْنِ، وَأَمَّا مَا لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْيَقَظَةِ فَهَلْ يَلْزَمُ الْعَمَلُ بِهِ؟ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: فِي أَوَاخِرِ مُقَدِّمَةِ مُسْلِمٍ عَنْ قَوْلِ حَمْزَةَ الزَّيَّاتِ إنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ فَعَرَضَ عَلَيْهِ مَا سَمِعَهُ مِنْ أَبَانَ يَعْنِي ابْنَ عَيَّاشٍ فَمَا عَرَفَ مِنْهُ إلَّا شَيْئًا يَسِيرًا قَالَ: وَهَذَا وَمِثْلُهُ اسْتِئْنَاسٌ وَاسْتِظْهَارٌ عَلَى مَا تَقَرَّرَ مِنْ ضَعْفِ أَبَانَ لَا أَنَّهُ يَقْطَعُ بِأَمْرِ الْمَنَامِ لَا أَنَّهُ يَبْطُلُ بِسَبَبِهِ سُنَّةٌ ثَبَتَتْ وَلَا يَثْبُت بِهِ سُنَّةٌ لَمْ تَثْبُتْ، وَهَذَا بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَاوِيُّ: وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ: مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ فَنَقَلُوا الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُغَيَّرُ بِسَبَبِ مَا يَرَاهُ النَّائِمُ مَا تَقَرَّرَ فِي الشَّرْعِ وَلَا يُخَالِفُ هَذَا قَوْلَهُ: «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي» فَإِنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ رُؤْيَتَهُ صَحِيحَةٌ، وَلَيْسَتْ مِنْ أَضْغَاثِ الْأَحْلَامِ وَتَلَبُّسِ الشَّيْطَانِ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِهِ؛ لِأَنَّ حَالَةَ النَّوْمِ لَيْسَتْ حَالَةَ ضَبْطٍ وَتَحْقِيقٍ

لِمَا يَسْمَعُهُ الرَّائِي. وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَرِوَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ مُتَيَقِّظًا لَا مُغَفَّلًا وَلَا سَيِّئَ الْحِفْظِ وَلَا كَثِيرَ الْخَطَإِ وَلَا مُخْتَلَّ الضَّبْطِ، وَالنَّائِمُ لَيْسَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَمْ تُقْبَلْ رِوَايَتُهُ لِاخْتِلَالِ ضَبْطِهِ، أَمَّا إذَا رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُهُ بِفِعْلٍ مَنْدُوبٍ إلَيْهِ أَوْ يَنْهَاهُ عَنْ مَنْهِيٍّ عَنْهُ أَوْ يُرْشِدُهُ إلَى فِعْلِ مَصْلَحَةٍ فَلَا خِلَافَ فِي اسْتِحْبَابِ الْعَمَلِ عَلَى وَفْقِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ حُكْمًا بِمُجَرَّدِ الْمَنَامِ بَلْ بِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَصْلِ ذَلِكَ الشَّيْءِ انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهَذَا كُلُّهُ مَعْنَى كَلَامِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ تَيْمِيَّةَ. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: أَيْضًا لَا يَلْزَمُ الْعَمَلُ بِهِ وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي قَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ.» : إنَّهُ هَلْ يَلْزَمُ الْعَمَلُ بِهِ؟ فِيهِ خِلَافٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إذَا رَأَى أَحَدُكُمْ رُؤْيَا يُحِبُّهَا فَإِنَّمَا هِيَ مِنْ اللَّهِ فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ عَلَيْهَا وَلْيُحَدِّثْ بِهَا، وَإِذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ فَإِنَّمَا هِيَ مِنْ الشَّيْطَانِ فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهَا وَلَا يَذْكُرْهَا لِأَحَدٍ فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ مَرْفُوعًا «الرُّؤْيَا مِنْ اللَّهِ، وَالْحُلْمُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ حُلْمًا فَلْيَنْفُثْ عَلَى يَسَارِهِ ثَلَاثًا وَلْيَتَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّهَا فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ.» وَفِي رِوَايَةٍ «فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ حِينَ يَهُبُّ مِنْ نَوْمِهِ ثَلَاثًا.» وَفِي رِوَايَةٍ «فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَنْفُثْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا. وَلِمُسْلِمٍ فَلْيَتَحَوَّلْ عَنْ جَنْبِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ.» وَفِي رِوَايَةٍ «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنْ اللَّهِ وَالرُّؤْيَا السُّوءُ مِنْ الشَّيْطَانِ، فَمَنْ رَأَى رُؤْيَا فَكَرِهَ مِنْهَا شَيْئًا فَلْيَنْفُثْ عَنْ يَسَارِهِ وَلْيَتَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ وَلَا يُخْبِرْ بِهَا أَحَدًا، فَإِنْ رَأَى رُؤْيَا حَسَنَةً فَلْيُبَشِّرْ وَلَا يُخْبِرْ بِهَا إلَّا مَنْ يُحِبُّ» . وَفِي رِوَايَةٍ «فَلْيَتْفُلْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا وَلْيَتَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشَرِّهَا وَلَا يُحَدِّثْ بِهَا أَحَدًا فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ.» رَوَى ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. الْحُلْمُ بِضَمِّ الْحَاءِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ وَالْفِعْلُ مِنْهُ حَلَمَ بِفَتْحِ اللَّامِ وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ

فَلْيَنْفُثْ " وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْكُلَّ بِمَعْنًى وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لَعَلَّ الْمُرَادَ بِالْجَمِيعِ النَّفْثُ فَإِنَّهُ نَفْخٌ لَطِيفٌ بِلَا رِيقٍ وَعَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا رَأَى أَحَدُكُمْ الرُّؤْيَا يَكْرَهُهَا فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا وَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ ثَلَاثًا وَلْيَتَحَوَّلْ عَنْ جَنْبِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ وَاثِلَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «إنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْفِرَى أَنْ يَدَّعِيَ الرَّجُلُ إلَى غَيْرِ أَبِيهِ، أَوْ يُرِيَ عَيْنَهُ مَا لَمْ تَرَ، أَوْ يَقُولَ: عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَمْ يَقُلْ.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَلِأَحْمَدَ «أَعْظَمُ الْفِرَى» بِإِسْقَاطِ مِنْ وَلِلْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «مَنْ تَحَلَّمَ بِحُلْمٍ لَمْ يَرَهُ كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ وَلَنْ يَفْعَلَ.» وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ «أَصْدَقُ الرُّؤْيَا بِالْأَسْحَارِ» . وَفِي خَبَرِ أَنَسٍ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يُعْجِبُهُ الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ فَإِذَا رَأَى الرَّجُلُ رُؤْيَا فَإِنْ كَانَ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ كَانَ أَعْجَبَ لِرُؤْيَاهُ إلَيْهِ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَرَأَى خُزَيْمَةُ أَنَّهُ يُقَبِّلُهُ فَتَأَوَّلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَبَّلَ وَجْهَهُ.» . وَفِي رِوَايَةٍ «رَأَى أَنَّهُ يَسْجُدُ عَلَى جَبْهَتِهِ فَوَضَعَ جَبْهَتَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ ثُمَّ قَالَ: صَدِّقْ رُؤْيَاكَ فَسَجَدَ عَلَى جَبْهَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» رَوَى ذَلِكَ أَحْمَدُ. «وَرَأَى الطُّفَيْلُ بْنُ سَخْبَرَةَ رَهْطًا مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ: إنَّكُمْ أَنْتُمْ الْقَوْمُ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَزْعُمُونَ عُزَيْرًا ابْنَ اللَّهِ ثُمَّ رَأَى رَهْطًا مِنْ النَّصَارَى قَالَ: إنَّكُمْ أَنْتُمْ الْقَوْمُ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ. وَكِلَاهُمَا قَالَ لَهُ، وَأَنْتُمْ الْقَوْمُ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ فَلَمَّا أَصْبَحَ أَخْبَرَ مَنْ أَخْبَرَ ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: أَخْبَرْتَ أَحَدًا قَالَ نَعَمْ فَلَمَّا صَلَّوْا خَطَبَهُمْ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إنَّ طُفَيْلًا رَأَى رُؤْيَا فَأَخْبَرَ بِهَا مَنْ أَخْبَرَ مِنْكُمْ وَإِنَّكُمْ تَقُولُونَ كَلِمَةً كَانَ يَمْنَعُنِي الْحَيَاءُ مِنْكُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. ثَنَا عَفَّانَ ثَنَا حَمَّادٌ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ خِرَاشٍ عَنْ طُفَيْلٍ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا تَقُصَّ الرُّؤْيَا إلَّا عَلَى عَالِمٍ

أَوْ نَاصِحٍ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ وَكِيعِ بْنِ عُدُسٍ عَنْ عَمِّهِ أَبِي رَزِينٍ مَرْفُوعًا «الرُّؤْيَا عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ مَا لَمْ تُعْبَرْ فَإِذَا عُبِرَتْ وَقَعَتْ قَالَ وَأَحْسِبُهُ قَالَ وَلَا تَقُصَّهَا إلَّا عَلَى وَادٍّ أَوْ ذِي رَأْيٍ» وَكِيعٌ تَفَرَّدَ عَنْهُ يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ وَفِي لَفْظٍ «مَا لَمْ يُحَدِّثْ بِهَا فَإِذَا حَدَّثَ بِهَا وَقَعَتْ» . وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ. قِيلَ لِمَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيَعْبُرُ الرَّجُلُ الرُّؤْيَا عَلَى الْخَيْرِ، وَهِيَ عِنْدَهُ عَلَى الشَّرِّ قَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَبِالنُّبُوَّةِ تَلْعَبُ؟ هِيَ أَجْزَاءُ النُّبُوَّةِ. قَالَ حَنْبَلٌ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: رَأَيْتُ عَلِيًّا بْنَ عَاصِمٍ فِي الْمَنَامِ قَبْلَ أَنْ يُؤْذَنَ لِي بِالِانْحِدَارِ يَعْنِي مِنْ الْعَسْكَرِ أَيَّامَ الْمُتَوَكِّلِ بِلَيْلَتَيْنِ فَسَأَلْتُهُ عَنْ شَيْءٍ نَسِيتُهُ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: فَأَوَّلْتُهُ: عَلِيٌّ عُلُوٌّ وَعَاصِمٌ عِصْمَةُ اللَّهِ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَأَيْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنَّا فِي دَارِ عُقْبَةَ بْنِ رَافِعٍ فَأُتِينَا بِرُطَبٍ مِنْ رُطَبِ ابْنِ طَابٍ فَأَوَّلْتُ: الرِّفْعَةُ لَنَا فِي الدُّنْيَا، وَالْعَاقِبَةُ لَنَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ دِينَنَا قَدْ طَابَ» . قَوْلُهُ: بِرُطَبٍ مِنْ رُطَبِ ابْنِ طَابٍ وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الرُّطَبِ مَعْرُوفٌ يُقَالُ: لَهُ رُطَبُ ابْنِ طَابٍ وَتَمْرُ ابْنِ طَابٍ وَعِذْقُ ابْنِ طَابٍ وَعُرْجُونُ ابْنِ طَابٍ. وَهُوَ مُضَافٌ إلَى ابْنِ طَابٍ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَقَوْلُهُ: " وَأَنَّ دِينَنَا قَدْ طَابَ " أَيْ: كَمُلَ وَرَأَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةً سَوْدَاءَ الرَّأْسِ خَرَجَتْ مِنْ الْمَدِينَةِ حَتَّى نَزَلَتْ بِمَهْيَعَةَ فَتَأَوَّلْتُهَا أَنَّ وَبَاءَ الْمَدِينَةِ نُقِلَ إلَى مَهْيَعَةَ وَهِيَ الْجُحْفَةُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.

فصل في حقيقة الرؤيا

[فَصْلٌ فِي حَقِيقَةِ الرُّؤْيَا] فَصْلٌ الرُّؤْيَا اعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ) ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى قَالَ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِنِيُّ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي حَقِيقَةِ الرُّؤْيَا أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ فِي قَلْبِ النَّائِمِ اعْتِقَادَاتٍ كَمَا يَخْلُقُهَا فِي قَلْبِ الْيَقْظَانِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لَا يَمْنَعُهُ نَوْمٌ وَلَا يَقَظَةٌ فَإِذَا خَلَقَ هَذِهِ الِاعْتِقَادَاتِ فَكَأَنَّهُ جَعَلَهَا عَلَمًا عَلَى أُمُورٍ أُخَرَ تَلْحَقُهَا فِي ثَانِي الْحَالِ أَوْ كَانَ قَدْ خَلَقَهَا، فَإِذَا خَلَقَ فِي قَلْبِ النَّائِمِ الطَّيَرَانَ وَلَيْسَ بِطَائِرٍ فَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ اعْتَقَدَ أَمْرًا عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ فَيَكُونُ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ عَلَمًا عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا يَكُونُ خَلْقُ اللَّهِ الْغَيْمَ عَلَمًا عَلَى الْمَطَرِ، وَالْجَمِيعُ خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنْ يَخْلُقُ الرُّؤْيَا وَالِاعْتِقَادَاتِ الَّتِي جَعَلَهَا عَلَمًا عَلَى مَا يَسُرُّ بِغَيْرِ حَضْرَةِ الشَّيْطَانِ وَيَخْلُقُ مَا هُوَ عَلَمٌ عَلَى مَا يَضُرُّ بِحَضْرَةِ الشَّيْطَانِ فَتُنْسَبُ إلَى الشَّيْطَانِ مُجَازَاةً لِحُضُورِهِ عِنْدَهَا وَإِنْ كَانَ لَا فِعْلَ لَهُ حَقِيقَةً. وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ «اعْتَبِرُوهَا بِأَسْمَائِهَا وَكَنُّوهَا بِكُنَاهَا وَالرُّؤْيَا لِأَوَّلِ عَابِرٍ.» . وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَا رُؤْيَا لِخَائِفٍ إلَّا إنْ رَأَى مَا يُحِبُّ. وَقَالَ هِشَامٌ بْنُ حَسَّانٍ: كَانَ ابْنُ سِيرِينَ يُسْأَلُ عَنْ مِائَةِ رُؤْيَا فَلَا يُجِيبُ فِيهَا بِشَيْءٍ إلَّا أَنْ يَقُولَ: اتَّقِ اللَّهَ وَأَحْسِنْ فِي الْيَقَظَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّكَ مَا رَأَيْت فِي النَّوْمِ وَكَانَ يُجِيبُ فِي خِلَالِ ذَلِكَ وَيَقُولُ: إنَّمَا أُجِيبُهُ بِالظَّنِّ، وَالظَّنُّ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، قِيلَ لِجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ: كَمْ تَتَأَخَّرُ الرُّؤْيَا؟ قَالَ: «رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَأَنَّ كَلْبًا أَبْقَعَ يَلَغُ فِي دَمِهِ،» فَكَانَ شِمْرَ بْنَ ذِي الْجَوْشَنِ قَاتِلَ الْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَكَانَ أَبْرَصَ أَخْزَاهُ اللَّهُ، وَكَانَ تَأْوِيلُ الرُّؤْيَا بَعْدَ خَمْسِينَ سَنَةً. بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَالِسٌ مَعَ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَالْتَفَتَ إلَيْهِمْ فَقَالَ: إنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ خِصَالٍ فَأَخْبِرُونِي بِهَا: أَخْبِرُونِي عَنْ الرَّجُلِ بَيْنَمَا هُوَ يَذْكُرُ الشَّيْءَ إذْ نَسِيَهُ، وَعَنْ الرَّجُلِ يُحِبُّ الرَّجُلَ وَلَمْ يَلْقَهُ

وَعَنْ الرُّؤْيَتَيْنِ إحْدَاهُمَا حَقٌّ وَالْأُخْرَى أَضْغَاثٌ، وَعَنْ سَاعَةٍ مِنْ اللَّيْلِ لَيْسَ أَحَدٌ إلَّا وَهُوَ فِيهَا مُرَوَّعٌ وَعَنْ الرَّائِحَةِ الطَّيِّبَةِ مَعَ الْفَجْرِ فَسَكَتَ الْقَوْمُ فَقَالَ: وَلَا أَنْتَ يَا أَبَا الْحَسَنِ؟ فَقَالَ بَلَى وَاَللَّهِ إنَّ عِنْدِي مِنْ ذَلِكَ لَعِلْمًا: أَمَّا الرَّجُلُ بَيْنَمَا هُوَ يَذْكُرُ الشَّيْءَ إذْ نَسِيَهُ فَإِنَّ عَلَى الْقَلْبِ طَخَاءً كَطَخَاءِ الْقَمَرِ فَإِذَا سُرِّيَ عَنْهُ ذَكَرَ، وَإِذَا أُعِيدَ عَلَيْهِ نَسِيَ وَغَفَلَ. وَأَمَّا الرَّجُلُ يُحِبُّ الرَّجُلَ وَلَمْ يَلْقَهُ فَإِنَّ الْأَرْوَاحَ أَجْنَادٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ، وَأَمَّا الرُّؤْيَتَانِ إنَّ إحْدَاهُمَا حَقٌّ وَالْأُخْرَى أَضْغَاثٌ، فَإِنَّ فِي ابْنِ آدَمَ رُوحَيْنِ، فَإِذَا نَامَ خَرَجَتْ رُوحٌ فَأَتَتْ الْحَمِيمَ وَالصَّدِيقَ وَالْبَعِيدَ وَالْقَرِيبَ وَالْعَدُوَّ فَمَا كَانَ مِنْهَا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ فَهِيَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ، وَمَا كَانَ مِنْهَا فِي الْهَوَاءِ فَهِيَ الْأَضْغَاثُ، وَأَمَّا الرُّوحُ الْأُخْرَى فَلِلنَّفَسِ وَالْقَلْبِ. وَأَمَّا السَّاعَةُ مِنْ اللَّيْلِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ إلَّا وَهُوَ فِيهَا مُرَوَّعٌ فَإِنَّ تِلْكَ السَّاعَةَ الَّتِي يَرْتَفِعُ فِيهَا الْبَحْرُ يَسْتَأْذِنُ فِي تَغْرِيقِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَتُحِسُّهُ الْأَرْوَاحُ فَتَرْتَاعُ لِذَلِكَ، وَأَمَّا الرِّيحُ الطَّيِّبَةُ مَعَ الْفَجْرِ إذَا طَلَعَ خَرَجَتْ رِيحٌ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ حَرَّكَتْ الْأَشْجَارَ فِي الْجَنَّةِ فَهِيَ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ خُذْهَا يَا عُمَرُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الطَّخَاءُ بِالْمَدِّ السَّحَابُ الْمُرْتَفِعُ يُقَالُ أَيْضًا وَجَدْت عَلَى قَلْبِي طَخَاءً وَهُوَ شِبْهُ الْكَرْبِ. قَالَ اللِّحْيَانِيُّ: مَا فِي السَّمَاءِ طُخْيَةٌ بِالضَّمِّ أَيْ شَيْءٌ مِنْ سَحَابٍ. قَالَ: وَهُوَ مِثْلُ الطُّحْرُورِ وَالطَّخَاءِ، فَمَمْدُودٌ اللَّيْلَةُ الْمُظْلِمَةُ، وَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ طَخْيَاءَ لَا تُفْهَمُ.

فصل الرؤيا تسر المؤمن ولا تغره

[فَصْلٌ الرُّؤْيَا تَسُرُّ الْمُؤْمِنَ وَلَا تَغُرُّهُ] فَصْلٌ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: أَدْخَلْت إبْرَاهِيمَ الْحُمَيْدِيَّ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا فَقَالَ: إنَّ أُمِّيَ رَأَتْ لَك كَذَا وَكَذَا وَذَكَرَتْ الْجَنَّةَ. فَقَالَ: يَا أَخِي إنَّ سَهْلَ بْنَ سَلَامَةَ كَانَ النَّاسُ يُخْبِرُونَهُ بِمِثْلِ هَذَا، وَخَرَجَ سَهْلٌ إلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ وَقَالَ: الرُّؤْيَا تَسُرُّ الْمُؤْمِنَ وَلَا تَغُرُّهُ. [فَصْلٌ مَا وَرَدَ فِي الْمَدْحِ وَالْإِطْرَاءِ وَالْمَدَّاحِينَ] َ) فِي كَرَاهَةِ الْمَدْحِ فِي الْوَجْهِ لِمَنْ خِيفَ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ مِنْ عُجْبٍ وَنَحْوِهِ، وَجَوَازِهِ لِمَنْ أُمِنَ مِنْ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ تَحْرِيمُهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالِ. وَعَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «سَمِعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ وَيُطْرِيهِ فِي الْمِدْحَةِ فَقَالَ: أَهْلَكْتُمْ أَوْ قَطَعْتُمْ ظَهْرَ الرَّجُلِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. الْإِطْرَاءُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْمَدْحِ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا رَأَيْتُمْ الْمَدَّاحِينَ فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمْ التُّرَابَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَادِ. وَجَاءَ فِي الْإِبَاحَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ وَمَا تَقَدَّمَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا بَيْنَهَا، وَاسْتَعْمَلَهُ الْمِقْدَادُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَحَثَى التُّرَابَ فِي الْوَجْهِ، وَقَالَهُ بَعْضُهُمْ: كَذَا فَعَلَ ابْنُ عُمَرَ بِرَجُلٍ أَثْنَى عَلَيْهِ رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَقِيلَ أَرَادَ بِهِ الرَّدَّ وَالْخَيْبَةَ كَمَا يُقَالُ لِلطَّالِبِ الْمَرْدُودِ وَالْخَائِبِ لَمْ يُحَصِّلْ فِي كَفِّهِ غَيْرَ التُّرَابِ. وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَأَرَادَ بِالْمَدَّاحِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَدْحَ النَّاسِ عَادَةً وَجَعَلُوهُ بِضَاعَةً يَسْتَأْكِلُونَ بِهِ الْمَمْدُوحَ، فَأَمَّا مَنْ مَدَحَ عَلَى الْفِعْلِ الْحَسَنِ وَالْأَمْرِ الْمَحْمُودِ تَرْغِيبًا فِي أَمْثَالِهِ وَتَحْرِيضًا لِلنَّاسِ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي أَشْبَاهِهِ

فَلَيْسَ بِمَدَّاحٍ، وَإِنْ كَانَ قَدْ صَارَ مَادِحًا بِمَا تَكَلَّمَ بِهِ مِنْ جَمِيلِ الْقَوْلِ كَذَا قَالَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ «أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: وَيْلَك قَطَعْت عُنُقَ صَاحِبِك ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لَا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أَحْسَبُ فُلَانًا، وَاَللَّهُ حَسِيبُهُ وَلَا يُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا أَحْسَبُ كَذَا وَكَذَا إنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: جَاءَ رَجُلٌ إلَى أَبِي فَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ بِشْرٍ فَذَكَرُوهُ فَأَثْنَى عَلَيْهِ بِشْرٌ، وَقَالَ: لَا يَنْسَى اللَّهُ لِأَحْمَدَ صَنِيعَهُ، ثَبَتَ وَثَبَتْنَا، وَلَوْلَاهُ لَهَلَكْنَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَوَجْهُ أَبِي يَتَهَلَّلُ، فَقُلْت: يَا أَبَتِ أَلَيْسَ تَكْرَهُ الْمَدْحَ فِي الْوَجْهِ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إنَّمَا ذُكِرْت عِنْدَ رَجُلٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، وَمَا كَانَ مِنِّي فَحَمِدَ صَنِيعِي، وَقَدْ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ» . وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يُقَالُ لَهُ فِي وَجْهِهِ: أَحْيَيْت السُّنَّةَ. قَالَ: هَذَا فَسَادٌ لِقَلْبِ الرَّجُلِ. وَقَالَ خَطَّابُ بْنُ بِشْرٍ: قَالَ أَبُو عُثْمَانَ الشَّافِعِيُّ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِبَقَائِك وَكَلَامٌ مِنْ هَذَا النَّحْوِ كَثِيرٌ، فَقَالَ لَهُ: لَا تَقُلْ هَذَا يَا أَبَا عُثْمَانَ. وَمَنْ أَنَا فِي النَّاسِ؟ وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: مَا أَكْثَرَ الدَّاعِينَ لَك فَتَغَرْغَرَتْ عَيْنُهُ، وَقَالَ: أَخَافُ أَنْ يَكُونَ هَذَا اسْتِدْرَاجًا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ: لَوْ أَنَّ لِلذُّنُوبِ رِيحًا مَا جَلَسَ إلَيَّ مِنْكُمْ أَحَدٌ. قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إنَّ بَعْضَ الْمُحَدِّثِينَ قَالَ لِي: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَمْ يَزْهَدْ فِي الدَّرَاهِمِ وَحْدَهَا. قَدْ زَهِدَ فِي النَّاسِ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَمَنْ أَنَا حَتَّى أَزْهَدَ فِي النَّاسِ. النَّاسُ يُرِيدُونَ أَنْ يُزَهِّدُونِي. وَقَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنَا خَيْرًا مِمَّا يَظُنُّونَ، وَيَغْفِرَ لَنَا مَا لَا يَعْلَمُونَ. وَقَالَ رَجُلٌ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَأَيْتُكَ. قَالَ: اُقْعُدْ أَيْشٍ ذَا؟

مَنْ أَنَا؟ وَقَالَ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ حَسَّانَ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، اللَّهَ اللَّهَ، فَإِنَّ النَّاسَ يَحْتَاجُونَ إلَيْكَ، وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ، فَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ لَا يُمْكِنُ فَمَسَائِلُ فَإِنَّ النَّاسَ مُضْطَرُّونَ إلَيْكَ. فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إلَيَّ أَنَا؟ وَاغْتَمَّ مِنْ قَوْلِهِ وَتَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ، وَرَأَيْت فِي وَجْهِهِ أَثَرَ الْغَمِّ. قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: جَزَاكَ اللَّهُ عَنْ الْإِسْلَامِ خَيْرًا. فَقَالَ: قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: جَزَاكَ اللَّهُ عَنْ الْإِسْلَامِ خَيْرًا، فَقَالَ: لَا بَلْ جَزَى اللَّهُ الْإِسْلَامَ عَنِّي خَيْرًا. ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لِلرَّجُلِ أَنَا؟ وَمَنْ أَنَا وَمَا أَنَا؟ وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ قَالَ لِلرَّجُلِ أَنْتَ فِي غَيْرِ حِلٍّ مِنْ جُلُوسِكَ. وَقَدْ سَبَقَ هَذَا النَّصُّ. وَقَالَتْ هِنْدُ أُمُّ ابْنِ قُتَيْبَةَ لِلْمَرُّوذِيِّ: أُخْبِرْت أَنَّ خُرَاسَانِيًّا جَاءَ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَعِنْدَهُ قَوْمٌ جُلُوسٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَنْتَ عِنْدَنَا بِخُرَاسَانَ مِثْلُ الشَّمْسِ، فَتَغَيَّرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَكَرِهَ مَا قَالَ وَأَظْهَرَ الْكَرَاهَةَ، وَقَامَ فَدَخَلَ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ مُعَاوِيَةَ مَرْفُوعًا: «إيَّاكُمْ وَالتَّمَادُحَ فَإِنَّهُ الذَّبْحُ» . وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُد فِي بَابِ (كَرَاهِيَةِ التَّمَادُحِ) : ثَنَا مُسَدَّدٌ ثَنَا بِشْرٌ يَعْنِي ابْنَ الْمُفَضَّلِ ثَنَا أَبُو مَسْلَمَةَ سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ: قَالَ لِي: إنِّي «انْطَلَقْت فِي وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْنَا: أَنْتَ سَيِّدُنَا. فَقَالَ: السَّيِّدُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. قُلْنَا: وَأَفْضَلُنَا فَضْلًا وَأَعْظَمُنَا طُولًا، فَقَالَ: قُولُوا بِقَوْلِكُمْ أَوْ بَعْضِ قَوْلِكُمْ، وَلَا يَسْخَرُ بِكُمْ الشَّيْطَانُ» . إسْنَادٌ جَيِّدٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مِنْ طُرُقٍ. وَرَوَى أَيْضًا فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ بَهْزٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ ثَابِتٍ وَحُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَا خَيْرَنَا وَابْنَ خَيْرِنَا وَسَيِّدَنَا وَابْنَ سَيِّدِنَا، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا: بِقَوْلِكُمْ وَلَا يَسْتَهْوِينَكُمْ الشَّيْطَانُ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادٍ، وَهُوَ حَدِيثٌ جَيِّدُ الْإِسْنَادِ.

وَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّهُ: «جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَنْتَ سَيِّدُ قُرَيْشٍ. فَقَالَ: السَّيِّدُ اللَّهُ» . قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: أَيْ هُوَ الَّذِي يَحِقُّ لَهُ السِّيَادَةُ، كَأَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُحْمَدَ فِي وَجْهِهِ وَأَحَبَّ التَّوَاضُعَ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ لَمَّا قَالُوا: أَنْتَ سَيِّدُنَا، قَالَ: قُولُوا بِقَوْلِكُمْ. أَيْ: اُدْعُونِي نَبِيًّا وَرَسُولًا كَمَا سَمَّانِي اللَّهُ، وَلَا تُسَمُّونِي سَيِّدًا كَمَا تُسَمُّونَ رُؤَسَاءَكُمْ، فَإِنِّي لَسْت كَأَحَدِهِمْ مِمَّنْ يَسُودُكُمْ فِي أَسْبَابِ الدُّنْيَا. وَالسَّيِّدُ يُطْلَقُ عَلَى: الرَّبِّ الْمَالِكِ وَالشَّرِيفِ وَالْفَاضِلِ وَالْحَكِيمِ وَمُتَحَمِّلِ أَذَى قَوْمِهِ وَالزَّوْجِ وَالرَّئِيسِ وَالْمُقَدَّمِ. وَأَصْلُهُ مِنْ سَادَ يَسُودُ، فَقُلِبَتْ الْوَاوُ يَاءً؛ لِأَجْلِ الْيَاءِ السَّاكِنَةِ قَبْلَهَا، ثُمَّ أُدْغِمَتْ. وَوَزْنُ سَيِّدٍ فَيْعِلٌ. وَهُمْ سَادَةٌ وَزْنُهُ فَعَلَةٌ بِالتَّحْرِيكِ، مِثْلُ: سَرِيٍّ وَسَرَاةٍ. وَلَا نَظِيرَ لَهَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ يُجْمَعُ عَلَى سَيَائِدَ بِالْهَمْزِ مِثْلُ تَبِيعٍ وَتَبَائِعَ وَأَقِيلٍ وَأَقَائِلَ. وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ وَزْنُ سَيِّدٍ فَعِيلٌ. وَجُمِعَ عَلَى فَعَلَةٍ كَأَنَّهُمْ جَمَعُوا سَائِدًا مِثْلُ قَائِدٍ وَقَادَةٍ وَذَائِدٍ وَذَادَةٍ. وَقَالُوا: إنَّمَا جَمَعَتْ الْعَرَبُ السَّيِّدَ وَالْجَيِّدَ عَلَى سَيَائِدَ وَجَيَائِدَ بِالْهَمْزِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ؛ لِأَنَّ جَمْعَ فَعِيلٍ فَيَاعِلَ بِلَا هَمْزٍ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ الْقَوَارِيرِيِّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ: سَيِّدٌ فَإِنَّهُ إنْ يَكُ سَيِّدًا فَقَدْ أَسْخَطْتُمْ رَبَّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ.» وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ عَنْ أَبِي قُدَامَةَ عَنْ مُعَاذٍ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ عَفَّانَ بْنِ مُعَاذٍ، وَلَفْظُهُ: «لَا تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ سَيِّدُنَا إنْ يَكُنْ سَيِّدَكُمْ» وَذَكَرَهُ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ: إنَّ رَجُلًا قَالَ لِابْنِ عُمَرَ: يَا خَيْرَ النَّاسِ وَابْنَ خَيْرِهِمْ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا أَنَا بِخَيْرِ النَّاسِ وَلَا ابْنِ خَيْرِهِمْ، وَلَكِنِّي عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ أَرْجُو اللَّهَ وَأَخَافُهُ، وَاَللَّهِ لَنْ تَزَالُوا بِالرَّجُلِ حَتَّى تُهْلِكُوهُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي الْوَازِعِ قُلْت لِابْنِ عُمَرَ: لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا أَبْقَاكَ اللَّهُ لَهُمْ.

قَالَ فَغَضِبَ ثُمَّ قَالَ: إنِّي لَأَحْسَبكَ عِرَاقِيًّا مَا يُغْلِقُ عَلَيْهِ ابْنُ أُمِّكَ بَابَهُ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْمَدْحِ وَالذَّمِّ أَشْيَاءُ كَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ» . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأَنْصَارِ: «إنَّكُمْ لَتَقِلُّونَ عِنْدَ الطَّمَعِ وَتَكْثُرُونَ عِنْدَ الْفَزَعِ» . وَقَالَ: «خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ دَارُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ وَفِي كُلِّ دُورِ الْأَنْصَارِ خَيْرٌ.» وَذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ: كَانَ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الْغَارِ، وَثَانِيَ اثْنَيْنِ فِي الْعَرِيشِ، وَثَانِيَ اثْنَيْنِ فِي الْقَبْرِ. وَقَالَ: الشَّعْبِيُّ لَمَّا مَاتَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَامَ ابْنُهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى قَبْرِهِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسْتَغْفَرَ لِأَبِيهِ ثُمَّ قَالَ: نِعْمَ أَخُو الْإِسْلَامِ كُنْت يَا أَبَتِ جَوَّادًا بِالْحَقِّ بَخِيلًا بِالْبَاطِلِ عَنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ، تَغْضَبُ حِينَ الْغَضَبِ، وَتَرْضَى حِينَ الرِّضَى، عَفِيفَ النَّظَرِ، غَضِيضَ الطَّرْفِ، لَمْ تَكُنْ مَدَّاحًا وَلَا شَتَّامًا، تَجُودُ بِنَفْسِكَ فِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي تَبْخَلُ فِيهَا الرِّجَالُ، صَبُورًا عَلَى الضَّرَّاءِ مُشَارِكًا فِي النَّعْمَاءِ؛ وَلِذَلِكَ ثَقُلْتَ عَلَى أَكْتَافِ قُرَيْشٍ. وَذُكِرَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عِنْدَ صَعْصَعَةَ بْنِ صُوحَانَ فَقَالَ: هُوَ بِاَللَّهِ عَلِيمٌ وَاَللَّهُ فِي عَيْنَيْهِ عَظِيمٌ. وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ عَلِيٍّ فَقَالَ: مَا شِئْتَ مِنْ ضِرْسٍ قَاطِعٍ فِي الْعِلْمِ بِكِتَابٍ فِي الْعِلْمِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَالْفِقْهِ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَتْ لَهُ مُصَاهَرَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالتَّبَطُّنُ فِي الْعَشِيرَةِ، وَالنَّجْدَةُ فِي الْحَرْبِ، وَالْبَذْلُ لِلْمَاعُونِ. وَقِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ الَّذِي إلَى جَانِبِكَ؟ فَقَالَ هَذَا سَيِّدُ الْمُسْلِمِينَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ. وَقَالَ عُمَرُ أَيْضًا: أُبَيٍّ أَقْرَؤُنَا، وَعَلِيٌّ أَقْضَانَا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَقَالَ الشَّاعِرُ

وَإِنِّي مِنْ الْقَوْمِ الَّذِينَ عَرَفْتَهُمْ ... إذَا مَاتَ مِنْهُمْ سَيِّدٌ قَامَ صَاحِبُهْ نُجُومُ سَمَاءٍ كُلَّمَا غَابَ كَوْكَبٌ ... بَدَا كَوْكَبٌ تَأْوِي إلَيْهِ كَوَاكِبُهْ أَضَاءَتْ لَهُ أَحْسَابُهُمْ وَوُجُوهُهُمْ ... دُجَى اللَّيْلِ حَتَّى نَظَّمَ الْجَزْعُ ثَاقِبَهْ وَقَالَ آخَرُ: نُجُومُ ظَلَامٍ كُلَّمَا غَابَ كَوْكَبٌ ... بَدَا سَاطِعًا فِي حِنْدِسِ اللَّيْلِ كَوْكَبُ وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا جَاءَ بَنُو تَمِيمٍ بِخَطِيبِهِمْ عُطَارِدِ بْنِ حَاجِبٍ فَخَطَبَ «، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ فَأَجَابَهُمْ وَشَاعِرَهُمْ الزِّبْرِقَانَ قَالَ ابْنُ بَدْرٍ: فَأَنْشَدَ قَصِيدَةً. فَقَامَ حَسَّانُ فَأَجَابَهُ بِقَصِيدَةٍ يَقُولُ فِيهَا: إنَّ الذَّوَائِبَ مِنْ فِهْرٍ وَإِخْوَتِهِمْ ... قَدْ بَيَّنُوا سُنَّةً لِلنَّاسِ تُتَّبَعُ يَرْضَى بِهِمْ كُلُّ مَنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ ... تَقْوَى الْإِلَهِ وَكُلُّ الْخَيْرِ يُصْطَنَعُ قَوْمٌ إذَا حَارَبُوا ضَرُّوا عَدُوَّهُمْ ... أَوْ حَاوَلُوا النَّفْعَ فِي أَشْيَاعِهِمْ نَفَعُوا لَا يَرْقَعُ النَّاسُ مَا أَوْهَتْ أَكُفُّهُمْ ... عِنْدَ الدِّفَاعِ وَلَا يُوهُونَ مَا رَقَعُوا إنْ سَابَقُوا النَّاسَ يَوْمًا فَازَ سَابِقُهُمْ ... أَوْ وَازَنُوا أَهْلَ مَجْدٍ بِالنَّدَى مَنَعُوا أَعِفَّةٌ ذُكِرَتْ فِي الْوَحْيِ عِفَّتُهُمْ ... لَا يَطْمَعُونَ وَلَا يُرْدِي بِهِمْ طَمَعُ لَا يَبْخَلُونَ عَلَى جَارٍ بِفَضْلِهِمْ ... وَلَا يَمَسُّهُمْ مِنْ مَطْمَعٍ طَبَعُ لَا يَفْخَرُونَ إذَا نَالُوا عَدُوَّهُمْ ... وَإِنْ أُصِيبُوا فَلَا خَوْرٌ وَلَا هَلَعُ أَكْرِمْ بِقَوْمٍ رَسُولُ اللَّهِ شِيعَتُهُمْ ... إذَا تَفَاوَتَتْ الْأَهْوَاءُ وَالشِّيَعُ فَلَمَّا فَرَغَ حَسَّانُ قَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ: لَخَطِيبُهُمْ أَخْطَبُ مِنْ خَطِيبِنَا، وَلَشَاعِرُهُمْ أَشْعَرُ مِنْ شَاعِرِنَا، ثُمَّ أَسْلَمُوا وَأَحْسَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَوَائِزَهُمْ، وَكَانَ بَعَثَ إلَيْهِمْ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ تِسْعٍ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ الْفَزَارِيَّ فِي خَمْسِينَ فَارِسًا لَيْسَ فِيهِمْ مُهَاجِرِيٌّ وَلَا أَنْصَارِيٌّ لِيَغْزُوَهُمْ، فَلَمَّا رَأَوْا الْجَمْعَ وَلَّوْا؛ فَأَخَذَ مِنْهُمْ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ امْرَأَةً وَثَلَاثِينَ صَبِيًّا فَجَاءُوا لِذَلِكَ.»

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْخَوَرُ بِالتَّحْرِيكِ الضَّعْفُ. يُقَالُ: رَجُلٌ خَوَّارٌ، وَرُمْحٌ خَوَّارٌ، وَأَرْضٌ خَوَّارَةٌ، وَالْجَمْعُ: خُورٌ. وَقَالَ: الْهَلَعُ أَفْحَشُ الْجَزَعِ. وَقَدْ هَلِعَ بِالْكَسْرِ فَهُوَ هَلِعٌ وَهَلُوعٌ، وَحَكَى يَعْقُوبُ: رَجُلٌ هُلَعَةٌ كَهُمَزَةٍ إذَا كَانَ يَهْلَعُ وَيَحْزَنُ وَيَسْتَجِيعُ سَرِيعًا. «وَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الطَّائِفِ كَتَبَ بُجَيْرُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سَلْمَى إلَى أَخِيهِ كَعْبٍ الشَّاعِرِ يُخْبِرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتَلَ رَجُلًا بِمَكَّةَ مِمَّنْ كَانَ يَهْجُوهُ وَيُؤْذِيهِ، وَأَنَّ مَنْ بَقِيَ مِنْ شُعَرَاءِ قُرَيْشٍ ابْنُ الزِّبَعْرَى وَهُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ قَدْ هَرَبَا، فَإِنْ كَانَتْ لَكَ فِي نَفْسِكَ حَاجَةٌ فَطِرْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ لَا يَقْتُلُ أَحَدًا جَاءَهُ تَائِبًا مُسْلِمًا، وَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَانْحُ إلَى نَجَاتِكَ، وَكَانَ كَعْبٌ قَدْ قَالَ: أَلَا أَخْبِرَا عَنِّي بُجَيْرًا رِسَالَةً ... فَهَلْ لَك فِيمَا قُلْتَ وَيْحَكَ هَلْ لَكَا فَبَيِّنْ لَنَا إنْ كُنْتَ لَسْتَ بِفَاعِلٍ ... عَلَى أَيِّ شَيْءٍ غَيْرِ ذَلِكَ دَلَّكَا عَلَى خُلُقٍ لَمْ تُلْفِ أُمًّا وَلَا أَبًا ... عَلَيْهِ وَلَا تُلْفِي عَلَيْهِ أَخًا لَكَا فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَلَسْت بِآسِفٍ ... وَلَا قَائِلٍ إمَّا عَثَرْت لَعًا لَكَا سَقَاكَ بِهَا الْمَأْمُونُ كَأْسًا رَوِيَّةً ... فَانْهَلَكَ الْمَأْمُونُ مِنْهَا وَعَلَّكَا فَكَرِهَ بُجَيْرٌ أَنْ يَكْتُمَهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَنْشَدَهُ إيَّاهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سَقَاكَ بِهَا الْمَأْمُونُ، صَدَقَ وَإِنَّهُ لَكَذُوبٌ، وَأَنَا الْمَأْمُونُ» وَلَمَّا سَمِعَ: عَلَى خُلُقٍ لَمْ تُلْفِ أُمًّا لَا عَلَيْهِ قَالَ: «أَجَلْ لَمْ يُلْفِ عَلَيْهِ أَبَاهُ وَلَا أُمَّهُ ثُمَّ كَتَبَ بُجَيْرٌ لِكَعْبٍ أَرْبَعَةَ أَبْيَاتٍ، فَلَمَّا بَلَغَهُ الْكِتَابُ ضَاقَتْ بِهِ الْأَرْضُ وَأَشْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ فَقَالَ قَصِيدَتَهُ الَّتِي يَمْدَحُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِرْجَافُ الْوُشَاةِ بِهِ مِنْ عَدُوِّهِ ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَنَزَلَ عَلَى رَجُلٍ يَعْرِفُهُ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَغَدَا بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ، فَصَلَّى مَعَهُ ثُمَّ قَامَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

فَوَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَعْرِفُهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ كَعْبَ بْنَ زُهَيْرٍ جَاءَ لِيَسْتَأْمِنكَ تَائِبًا مُسْلِمًا فَهَلْ أَنْتَ قَابِلٌ مِنْهُ إنْ أَنَا جِئْتُكَ بِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي وَعَدُوَّ اللَّهِ؛ أَضْرِبْ عُنُقَهُ، فَقَالَ: دَعْهُ عَنْكَ فَقَدْ جَاءَ تَائِبًا؛» فَغَضِبَ كَعْبٌ عَلَى هَذَا الْحَيِّ مِنْ الْأَنْصَارِ لِذَلِكَ؛ فَقَالَ قَصِيدَتَهُ اللَّامِيَّةَ يَصِفُ فِيهَا مَحْبُوبَتَهُ وَنَاقَتَهُ الَّتِي أَوَّلَهَا: بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ ... مُتَيَّمٌ إثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ إلَى أَنْ قَالَ: يَمْشِي الْغُوَاةُ بِجَنْبَيْهَا وَقَوْلُهُمْ ... إنَّكَ ابْنَ أَبِي سُلْمَى لَمَقْتُولُ وَقَالَ كُلُّ صَدِيقٍ كُنْتُ آمُلُهُ ... لَا أُلْهِيَنَّكَ إنِّي عَنْكَ مَشْغُولُ إلَى أَنْ قَالَ: نُبِّئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَوْعَدَنِي ... وَالْعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مَأْمُولُ مَهْلًا هَدَاكَ الَّذِي أَعْطَاكَ نَافِلَةَ ... الْقُرْآنِ فِيهَا مَوَاعِيظٌ وَتَفْصِيلُ لَا تَأْخُذَنِّي بِأَقْوَالِ الْوُشَاةِ وَلَمْ ... أُذْنِبْ وَلَوْ كَثُرَتْ فِي الْأَقَاوِيلُ إلَى أَنْ قَالَ: إنَّ الرَّسُولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ ... مُهَنَّدٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ مَسْلُولُ فِي عُصْبَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ قَائِلُهُمْ ... بِبَطْنِ مَكَّةَ لَمَّا أَسْلَمُوا زُولُوا يَمْشُونَ مَشْيَ الْجِمَالِ الزُّهْرِ يَعْصِمُهُمْ ... ضَرْبٌ إذَا عَرَّدَ السُّودُ التَّنَابِيلُ شُمُّ الْعَرَانِينِ أَبْطَالٌ لَبُوسُهُمْ ... مِنْ نَسْجِ دَاوُد فِي الْهَيْجَا سَرَابِيلُ إلَى أَنْ قَالَ:

لَيْسُوا مَفَارِيحَ إنْ نَالَتْ رِمَاحُهُمْ ... قَوْمًا وَلَيْسُوا مَجَازِيعًا إذَا نِيلُوا لَا يَقَعُ الطَّعْنُ إلَّا فِي نُحُورِهِمْ ... وَمَا لَهُمْ عَنْ حِيَاضِ الْمَوْتِ تَهْلِيلُ عَرَّدَ الرَّجُلُ تَعْرِيدًا إذَا فَرَّ، وَعِرْنِينُ كُلِّ شَيْءٍ أَوَّلُهُ، وَعَرَانِينُ الْقَوْمِ سَادَاتُهُمْ وَعِرْنِينُ الْأَنْفِ مُجْتَمَعُ الْحَاجِبَيْنِ وَهُوَ أَوَّلُ الْأَنْفِ حَيْثُ يَكُونُ فِيهِ الشَّمَمُ يُقَال: هُمْ شُمُّ الْعَرَانِينِ، وَإِنَّمَا عَنَى كَعْبٌ بِقَوْلِهِ إذَا عَرَّدَ السُّودُ التَّنَابِيلُ الْأَنْصَارَ لَمَّا صَنَعَ الْأَنْصَارِيُّ مَا صَنَعَ وَخَصَّ الْمُهَاجِرِينَ بِمِدْحَتِهِ وَغَضِبَ عَلَيْهِ الْأَنْصَارُ فَقَالَ: بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ يَمْدَحُ الْأَنْصَارَ قَصِيدَتَهُ الَّتِي قَالَ فِيهَا: مَنْ سَرَّهُ كَرَمُ الْحَيَاةِ فَلَا يَزَلْ ... فِي مِقْنَبٍ مِنْ صَالِحِ الْأَنْصَارِ وَرِثُوا الْمَكَارِمَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ ... إنَّ الْخِيَارَ هُمْ بَنُو الْأَخْيَارِ وَالذَّائِدِينَ النَّاسَ عَنْ أَدْيَانِهِمْ ... بِالْمَشْرَفِيِّ وَبِالْقَنَا الْخَطَّارِ الْمَشْرَفِيَّةُ سُيُوفٌ نُسِبَتْ إلَى مَشَارِفَ قُرًى مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ يُقَالُ: سَيْفٌ مَشْرَفِيٌّ وَلَا يُقَالُ: مَشَارِفِيٌّ لِأَنَّ الْجَمْعَ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ إذَا كَانَ عَلَى هَذَا الْوَزْنِ وَخَطَرَ الرُّمْحُ يَخْطِرُ أَيْ: اهْتَزَّ، وَرُمْحٌ خَطَّارٌ أَيْ ذُو اهْتِزَازٍ، وَيُقَالُ خَطَرَانُ الرُّمْحِ ارْتِفَاعُهُ وَانْخِفَاضُهُ لِلطَّعْنِ وَرَجُلٌ خَطَّارٌ بِالرُّمْحِ. وَالْبَائِعِينَ نُفُوسَهُمْ لِنَبِيِّهِمْ ... لِلْمَوْتِ يَوْمَ تَعَانُقٍ وَكِرَارِ وَإِذَا حَلَلْتَ لِيَمْنَعُوكَ إلَيْهِمْ ... أَصْبَحْتَ عِنْدَ مَعَاقِلِ الْأَعْقَارِ الْمُرَادُ بِالْمَعْقِلِ الْمَلْجَأُ وَالْأَعْقَارُ الْأُسْدُ. إلَى أَنْ قَالَ: قَوْمٌ إذَا خَوَتْ النُّجُومُ فَإِنَّهُمْ ... لِلطَّارِقِينَ النَّازِلِينَ مَقَارِي

وَكَعْبٌ مِنْ فُحُولِ الشُّعَرَاءِ هُوَ وَأَبُوهُ وَابْنُهُ عُقْبَةُ وَابْنُ ابْنِهِ الْعَوَامُّ بْنُ عُقْبَةَ وَمِمَّا يُسْتَحْسَنُ لِكَعْبٍ قَوْلُهُ: لَوْ كُنْتُ أَعْجَبُ مِنْ شَيْءٍ لَأَعْجَبَنِي ... سَعْيُ الْفَتَى وَهْوَ مَخْبُوءٌ لَهُ الْقَدَرُ يَسْعَى الْفَتَى لِأُمُورٍ لَيْسَ يُدْرِكُهَا ... كَالنَّفْسِ وَاحِدَةً وَالْهَمُّ مُنْتَشِرُ وَالْمَرْءُ مَا عَاشَ مَمْدُودٌ لَهُ أَمَلٌ ... لَا تَنْتَهِي الْعَيْنُ حَتَّى يَنْتَهِي الْأَثَرُ وَقَوْلُهُ فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تَحْدِي بِهِ النَّاقَةُ الْأَدْمَاءُ مُعْتَجِرًا ... بِالْبُرْدِ جَلِيٌّ عَلَيْهِ لَيْلَةَ الظُّلَمِ فَفِي عِطَافَيْهِ أَوْ أَثْنَاءِ بُرْدَتِهِ ... مَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْ دِينٍ وَمِنْ كَرَمِ ذُكِرَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ فَقَالَ: مَا بَعَثْتُهُ فِي سَوَادٍ إلَّا جَلَاهُ وَمَحَاهُ، وَلَا فِي بَيَاضٍ إلَّا أَزْكَاهُ وَأَرْضَاهُ وَمَدَحَ أَعْرَابِيٌّ رَجُلًا فَقَالَ: كَالْمِسْكِ إنْ تَرَكْتَهُ عَبِقَ، وَإِنْ خَبَّأْتَهُ عَبِقَ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا مَاتَ مَنْ تَرَكَ مِثْلَكَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِابْنِ مَسْعُودٍ عَبْدَ اللَّهِ بِلَا شَكٍّ فَإِنَّهُ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا تُعَجِّلَنَّ بِمَدْحِ أَحَدٍ وَلَا بِذَمِّهِ فَإِنَّهُ رُبَّ مَنْ يَسُرُّك الْيَوْمَ يَسُوءُك غَدًا. وَقَالَ النَّجَاشِيُّ لِلشَّاعِرِ: إنِّي امْرُؤٌ قَلَّمَا أُثْنِي عَلَى أَحَدٍ ... حَتَّى أَرَى بَعْضَ مَا يَأْتِي وَمَا يَذَرُ لَا تَحْمَدَنَّ امْرَأً حَتَّى تُجَرِّبَهُ ... وَلَا تَذُمَّنَّ مَنْ لَمْ يُبْلِهِ الْخَبَرُ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: إذَا قَالَ رَجُلٌ مَا لَا يَعْلَمُ فِيكَ مِنْ الْخَيْرِ أَوْشَكَ أَنْ يَقُولَ فِيك مَا لَمْ يَعْلَمْ مِنْ الشَّرِّ. وَسَبَقَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ ذَمُّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرِجَالٍ مُعَيَّنِينَ قَالَ الْحَسَنُ: ذَمُّ الرَّجُلِ نَفْسَهُ فِي الْعَلَانِيَةِ مَدْحٌ لَهَا فِي السِّرِّ، كَانَ يُقَالُ: مَنْ أَظْهَرَ عَيْبَ نَفْسِهِ فَقَدْ زَكَّاهَا. ذَمَّ أَعْرَابِيٌّ رَجُلًا فَقَالَ: أَنْتَ وَاَللَّهِ مِمَّنْ إذَا سَأَلَ أَلْحَفَ، وَإِذَا سُئِلَ سَوَّفَ، وَإِذَا حَدَّثَ حَلَفَ، وَإِذَا وَعَدَ خَلَفَ يَنْظُرُ نَظَرَ حَسُودٍ، وَيُعْرِضُ إعْرَاضَ حَقُودٍ. قَالَ الشَّاعِرُ:

فَإِنْ تُصِبْكَ مِنْ الْأَيَّامِ دَاهِيَةٌ ... لَمْ تَبْكِ مِنْهَا عَلَى دُنْيَا وَلَا دِينِ وَقَالَ آخَرُ: خَنَازِيرُ نَامُوا عَنْ الْمَكْرُمَاتِ ... فَنَبَّهَهُمْ قَدَرٌ لَمْ يَنَمِ فَيَا قُبْحَهُمْ فِي الَّذِي خُوِّلُوا ... وَيَا حُسْنَهُمْ فِي زَوَالِ النِّعَمِ وَقَالَ آخَرُ: كَأَنَّ رِيحَهُمْ فِي خُبْثِ فِعْلِهِمْ ... رِيحُ الْكِلَابِ إذَا مَا مَسَّهَا الْمَطَرُ وَقَالَ آخَرُ: لَوْ كُنْتَ مَاءً كُنْتَ غَيْرَ عَذْبِ ... أَوْ كُنْتَ سَيْفًا كُنْتَ غَيْرَ عَضْبِ وَقَالَ آخَرُ: لَوْ كُنْتَ بَرْدًا كُنْتَ زَمْهَرِيرَا ... أَوْ كُنْتَ رِيحًا كَانَتْ الدَّبُّورَا أَوْ كُنْتَ غَيْمًا لَمْ يَكُنْ مَطُورَا ... أَوْ كُنْتَ مَاءً لَمْ يَكُنْ طَهُورَا وَمَدَحَ الْوَزِيرُ ابْنُ هُبَيْرَةَ الْخَلِيفَةَ الْمُسْتَنْجِدَ بِاَللَّهِ وَبَالَغَ وَفِي آخِرِهِ: وَمِنْ عَجَبٍ أَنَّنِي جَالِبٌ ... مِنْ الشِّعْرِ تَمْرًا إلَى أَهْلِهِ وَقَالَ لَهُ يَوْمًا الْمُسْتَنْجِدُ بِاَللَّهِ لِمَ لَا يَكُونُ رِيحُ التُّفَّاحِ الْأَصْفَهَانِيِّ بِهَا كَمَا نَجِدُهُ عِنْدَنَا؟ فَأَنْشَدَهُ: يَكُونُ أُجَاجًا دُونَكُمْ فَإِذَا انْتَهَى ... إلَيْكُمْ يَلْقَى طِيبَكُمْ فَيَطِيبُ فَأَنْشَدَهُ الْمُسْتَنْجِدُ بِاَللَّهِ يَمْدَحُهُ: فَلَوْ رَامَ يَا يَحْيَى مَكَانَكَ جَعْفَرُ ... وَيَحْيَى لَكَفَى عَنْهُ يَحْيَى وَجَعْفَرُ وَلَوْ قِسْتَ يَا يَحْيَى بِيَحْيَى بْنِ بَرْمَكٍ ... لَكُنْتَ لَدَى الْأَقْوَامِ أَعْلَى وَأَفْخَرُ.

فصل في تزكية النفس المذمومة ومدحها بالحق للمصلحة أو شكر النعمة

[فَصْلٌ فِي تَزْكِيَةِ النَّفْسِ الْمَذْمُومَةِ وَمَدْحِهَا بِالْحَقِّ لِلْمَصْلَحَةِ أَوْ شُكْرِ النِّعْمَةِ] قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي قِصَّةِ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَعْنِي قَوْلَهُ: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَصِفَ نَفْسَهُ بِالْفَضْلِ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمَحْظُورِ. {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32] . وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: فِي الْفُنُونِ سُؤَالٌ عَنْ قَوْلِهِ: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32] . كَيْفَ سَاغَ لِعُمَرَ أَنْ يُزَكِّيَ نَفْسَهُ حِينَ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ صَيْدٍ قَتَلَهُ فَقَالَ: اصْبِرْ حَتَّى يَأْتِ حَكَمٌ آخَرُ فَيَحْكُمَ لِنَفْسِهِ إنَّهُ أَحَدُ الْعَدْلَيْنِ قِيلَ: إنَّمَا نَهَى عَنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِالْمَدْحِ وَالْإِطْرَاءِ الْمُورِثِ عُجْبًا وَتِيهًا وَمَرَحًا وَمَا قَصَدَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذَلِكَ إنَّمَا قَصَدَ فَصْلَ حُكْمٍ وَهُوَ مِنْ نَفْسِهِ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ ذَلِكَ فَصَارَ كَقَوْلِهِ عَنْ الْمَلَائِكَةِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} [الصافات: 165] {وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات: 166] فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا مَنْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الِافْتِخَارِ. وَلِذَلِكَ قَالَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» فَنَفَى الْفَخْرَ الَّذِي هُوَ الْإِعْجَابُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: عَنْ قِصَّةِ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ مَدَحَ نَفْسَهُ بِهَذَا الْقَوْلِ وَمِنْ شَأْنِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ التَّوَاضُعُ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَمَّا خَلَا

مَدْحُهُ لِنَفْسِهِ مِنْ بَغْيٍ وَتَكَبُّرٍ وَكَانَ مُرَادُهُ بِهِ الْوُصُولَ إلَى حَقٍّ يُقِيمُهُ، وَعَدْلٍ يُحْيِيه وَجَوْرٍ يُبْطِلُهُ، كَانَ ذَلِكَ جَمِيلًا جَائِزًا. وَقَدْ قَالَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلَى رَبِّهِ» . وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَاَللَّهِ مَا آيَةٌ إلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ بِلَيْلٍ نَزَلَتْ أَمْ بِنَهَارٍ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي تَبْلُغُهُ الْإِبِلُ لَأَتَيْتُهُ فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ خَرَجَتْ مَخْرَجَ الشُّكْرِ لِلَّهِ وَتَعْرِيفِ الْمُسْتَفِيدِ مَا عِنْدَ الْمُفِيدِ. ذَكَرَ هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: وَاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ مَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ سُورَةٌ إلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ حَيْثُ أُنْزِلَتْ وَمَا مِنْ آيَةٍ إلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ فِيمَا أُنْزِلَتْ وَلَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا هُوَ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي تَبْلُغُهُ الْإِبِلُ لَرَكِبْتُ إلَيْهِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنِّي أَعْلَمُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا أَعْلَمَ بِهِ مِنِّي لَرَحَلْتُ إلَيْهِ قَالَ شَقِيقٌ: فَجَلَسْت فِي حِلَقِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا يَرُدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَلَا يَعِيبُهُ زَادَ الْبُخَارِيُّ بَعْدَ قَوْلِهِ: بِكِتَابِ اللَّهِ وَمَا أَنَا بِخَيْرِهِمْ. وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ مِنْ أَعْلَمِهِمْ وَفِي تَرْجَمَةِ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَلُونِي فَوَاَللَّهِ لَئِنْ فَقَدْتُمُونِي لَتَفْقِدُنَّ رَجُلًا عَظِيمًا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ بْنُ عَيَّاشٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ وَبَكَتْ ابْنَتُهُ: يَا بُنَيَّةُ لَا تَبْكِي أَتَخَافِينَ أَنْ يُعَذِّبَنِي اللَّهُ وَقَدْ خَتَمْت فِي هَذِهِ الزَّاوِيَةِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ خَتْمَةٍ وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ نَظَرْت إلَى أَقْرَأِ النَّاسِ فَلَزِمْته عَاصِمًا ثُمَّ نَظَرْت إلَى أَفْقَهِ النَّاسِ فَلَزِمْته مُغِيرَةً فَأَيْنَ تَجِدُ مِثْلِي؟ وَقَالَ ابْنُ طَاهِرٍ الْمَقْدِسِيُّ الْحَافِظُ: سَمِعْت أَصْحَابَنَا بِهَرَاةَ يَحْكُونَ أَنَّ

أَبَا مُحَمَّدٍ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي شُرَيْحٍ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ: كُنْت أَقْرَأُ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ بِبَغْدَادَ فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ وَكُنْت أَقْرَأُ عَلَيْهِ جُزْءًا وَقَدْ وَضَعَ رَأْسَهُ بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ: كَأَنِّي بِهِمْ إذَا مِتُّ يَقُولُونَ: مَاتَ الْبَغَوِيّ وَلَا يَقُولُونَ: مَاتَ جَبَلُ الْعِلْمِ، ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ وَاسْتَنَدَ فَلَمَّا فَرَغْت مِنْ قِرَاءَةِ الْجُزْءِ قُلْت: كَمْ قَرَأْت عَلَيْك؟ فَلَمْ يُجِبْنِي فَحَرَّكْته فَإِذَا بِهِ قَدْ مَاتَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.

فصل في المفاضلة بين العزلة والمخالطة.

[فَصْلٌ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْعُزْلَةِ وَالْمُخَالَطَةِ.] ِ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْأَفْضَلِ مِنْ الْخِلْطَةِ وَالْعُزْلَةِ عَلَى مَذْهَبَيْنِ وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْهُ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ: قَالَ: فِي رِوَايَةِ أَبِي الصَّقْرِ وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْهَا إذَا كَانَتْ الْفِتْنَةُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَعْتَزِلَهَا الرَّجُلُ حَيْثُ شَاءَ فَأَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ فِتْنَةٌ، فَالْأَمْصَارُ خَيْرٌ. قَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا حَجَّاجٌ ثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ عَنْ شَيْخٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ الْأَعْمَشُ: هُوَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنْ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُمْ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ» كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ الْمُثَنَّى عَنْ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ وَقَالَ: قَالَ ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ: كَانَ شُعْبَةُ يَرَى أَنَّهُ ابْنُ عُمَرَ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَارِثِ: قُلْتُ: لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: التَّخَلِّي أَعْجَبُ إلَيْك؟ فَقَالَ التَّخَلِّي عَلَى عِلْمٍ وَقَالَ: يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ» ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: رِوَايَةُ شُعْبَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ ثُمَّ قَالَ: «مَنْ يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ» . وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ: فِي الْأَدَبِ مِنْ مَسَائِلِهِ عَنْ أَحْمَدَ قَالَ: قَالَ أَبُو سِنَانٍ: «وَجَاءَهُ رَجُلَانِ فَقَالَ: تَفَرَّقَا فَإِنَّكُمَا إذَا كُنْتُمَا جَمِيعًا تَحَدَّثْتُمَا، وَإِذَا كُنْتُمَا وُحْدَانًا ذَكَرْتُمَا اللَّهَ تَعَالَى» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: رَوَاهُ وَكِيعٌ عَنْ أَبِي سِنَانٍ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ: إنَّهُ نَقَلَ مِنْ الْجُزْءِ الثَّالِثِ مِنْ الْأَدَبِ تَأْلِيفَ الْمَرُّوذِيِّ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: كَفَى بِالْعُزْلَةِ عِلْمًا، وَإِنَّمَا الْفَقِيهُ الَّذِي يَخْشَى اللَّهَ. وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ. وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ السَّلَفِ يُؤْثِرُونَ الْعُزْلَةَ عَلَى الْخِلْطَةِ وَقَالَ أَيْضًا: إنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى نَفْعِ النَّاسِ بِمَالِهِ أَوْ بَدَنِهِ لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ مَعَ الْقِيَامِ بِحُدُودِ الشَّرْعِ إنَّهُ

أَفْضَلُ مِنْ الْعُزْلَةِ إنْ كَانَ لَا يَشْتَغِلُ فِي عُزْلَتِهِ إلَّا بِنَوَافِلِ الصَّلَاةِ وَالْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ انْفَتَحَ لَهُ طَرِيقُ عَمَلٍ بِالْقَلْبِ بِدَوَامِ ذِكْرٍ أَوْ فِكْرٍ فَذَلِكَ الَّذِي لَا يُعْدَلُ بِهِ أَلْبَتَّةَ. وَقَالَ أَيْضًا: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا أَطْيَبُ مِنْ تَنَزُّهِ الْعَالِمِ بِالْعِلْمِ فَهُوَ أَنِيسُهُ وَجَلِيسُهُ، وَقَدْ قَنِعَ بِمَا يَسْلَمُ بِهِ دِينُهُ مِنْ الْمُبَاحَاتِ الْحَاصِلَةِ لَا عَنْ تَكَلُّفٍ وَلَا عَنْ تَضْيِيعِ دِينٍ، وَارْتَدَى بِالْعُزْلَةِ عَنْ الذُّلِّ لِلدُّنْيَا وَأَهْلِهَا، وَالْتَحَفَ بِالْقَنَاعَةِ بِالْيَسِيرِ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْكَثِيرِ فَيَسْلَمُ دِينُهُ وَدُنْيَاهُ، وَاشْتِغَالُهُ بِالْعِلْمِ يَدُلُّهُ عَلَى الْفَضَائِلِ وَيُفَرِّجُهُ فِي الْبَسَاتِينِ، فَهُوَ يَسْلَمُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالسُّلْطَانِ وَالْعَوَامِّ بِالْعُزْلَةِ، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ هَذَا إلَّا لِلْعَالِمِ، فَإِنَّهُ إذَا اعْتَزَلَ الْجَاهِلُ فَاتَهُ الْعِلْمُ فَتَخَبَّطَ. وَقَالَ أَيْضًا: فَإِذَا عَرَفْت فَوَائِدَ الْعُزْلَةِ وَغَوَائِلِهَا تَحَقَّقْت أَنَّ الْحُكْمَ عَلَيْهَا مُطْلَقًا خَطَأٌ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ إلَى الشَّخْصِ وَحَالِهِ وَإِلَى الْخَلْطِ وَحَالِهِ وَإِلَى الْبَاعِثِ عَلَى مُخَالَطَتِهِ وَإِلَى الْفَائِتِ بِسَبَبِ مُخَالَطَتِهِ مِنْ الْفَوَائِدِ، وَيُقَاسُ الْفَائِتُ بِالْحَاصِلِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَبَيَّنُ الْحَقُّ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الِانْقِبَاضُ عَنْ النَّاسِ مَكْسَبَةُ الْعَدَاوَةِ، وَالِانْبِسَاطُ لَهُمْ مَجْلَبَةٌ لِقُرَنَاءِ السُّوءِ، فَكُنْ بَيْنَ الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ، وَمَنْ ذَكَرَ سِوَى هَذَا فَهُوَ قَاصِرٌ، وَإِنَّمَا هُوَ إخْبَارٌ عَنْ حَالِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ الْمُخَالِفِ لَهُ فِي الْحَالِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الِاخْتِلَاطَ أَفْضَلُ بِشَرْطِ رَجَاءِ السَّلَامَةِ مِنْ الْفِتَنِ، وَقَطَعَ بِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَقَدْ صَنَّفَ الْخَطَّابِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كِتَابًا فِي الْعُزْلَةِ، وَفِيهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: خَالِطْ النَّاسَ وَزَايِلْهُمْ وَدِينَك لَا تُكَلِّمَنَّهُ قَالَ: الْخَطَّابِيُّ يُرِيدُ خَالِطْهُمْ بِبَدَنِك وَزَايِلْهُمْ بِقَلْبِك، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ النِّفَاقِ، وَلَكِنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُدَارَاةِ وَقَدْ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مُدَارَاةُ النَّاسِ صَدَقَةٌ» وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ كَانُوا يَقُولُونَ: الْمُدَارَاةُ نِصْفُ الْعَقْلِ، وَأَنَا أَقُولُ: هِيَ الْعَقْلُ كُلُّهُ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: لَيْسَ بِحَكِيمٍ مَنْ لَا يُعَاشِرُ بِالْمَعْرُوفِ مَنْ

لَا يَجِدُ مِنْ مُعَاشَرَتِهِ بُدًّا حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ فَرَجًا أَوْ قَالَ مَخْرَجًا وَأَنْشَدَ الْمُتَنَبِّي: وَمِنْ نَكَدِ الدُّنْيَا عَلَى الْحُرِّ أَنْ يَرَى ... عَدُوًّا لَهُ مَا مِنْ صَدَاقَتِهِ بُدُّ وَالْخَبَرُ الْمَرْفُوعُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ سَبَقَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي أَوَائِلِ الْكِتَابِ قَبْلَ فُصُولِ التَّوْبَةِ وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَمَاعَةٍ عَنْ الْمُسَيِّبِ بْنِ وَاضِحٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ أَسْبَاطٍ عَنْ الثَّوْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا فَذَكَرَهُ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: وَالْمُدْرَاةُ الَّتِي تَكُونُ صَدَقَةَ الْمُدَارِي. هُوَ تَخَلُّقُ الْإِنْسَانِ بِالْأَشْيَاءِ الْمُسْتَحْسَنَةِ مَعَ مَنْ يُدْفَعُ إلَى عِشْرَتِهِ مَا لَمْ يُشِبْهَا مَعْصِيَةَ اللَّهِ. وَالْمُدَاهَنَةُ هِيَ اسْتِعْمَالُ الْمَرْءِ الْخِصَالَ الَّتِي تُسْتَحْسَنُ مِنْهُ فِي الْعِشْرَةِ، وَقَدْ يَشُوبُهُ مَا يَكْرَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ شَاهِينِ الْوَاعِظُ فِي آخِرِ جُزْءٍ جَمَعَهُ فِي فَضَائِلِ فَاطِمَةَ بِنْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ثَنَا يَحْيَى بْنُ صَاعِدٍ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَزِيدَ الْمَدَنِيُّ ثَنَا هَارُونُ بْنُ يَحْيَى الْحَاطِبِيُّ ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خَالِدِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «التَّوَدُّدُ نِصْفُ الدِّينِ» هَارُونُ بْنُ يَحْيَى وَعُثْمَانُ لَمْ أَجِدْ لَهُمَا تَرْجَمَةً، وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مُدَارَاةُ النَّاسِ صَدَقَةٌ» وَقَوْلُهُ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَمَرَنِي رَبِّي بِمُدَارَاةِ النَّاسِ وَنَهَانِي عَنْ مُدَاجَاتِهِمْ» . وَقَوْلُهُ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «رَأْسُ الْعَقْلِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ التَّوَدُّدُ إلَى النَّاسِ» قَالَ عُمَرُ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّ مِمَّا يُصَفِّي لَك وُدَّ أَخِيك أَنْ تَبْدَأَهُ بِالسَّلَامِ إذَا لَقِيته وَأَنْ تَدْعُوَهُ بِأَحَبِّ الْأَسْمَاءِ إلَيْهِ وَأَنْ تُوسِعَ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: رَأْسُ الْمُدَارَاةِ تَرْكُ الْمُمَارَاةِ، وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ «إذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدَهُ أَلْقَى عَلَيْهِ مَحَبَّةَ النَّاسِ» . أَخَذَهُ الشَّاعِرُ:

وَإِذَا أَحَبَّ اللَّهُ يَوْمًا عَبْدَهُ ... أَلْقَى عَلَيْهِ مَحَبَّةً فِي النَّاسِ وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشِرَارِكُمْ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: مَنْ لَا يَقْبَلُ عَثْرَةً، وَلَا يَقْبَلُ مَعْذِرَةً، أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمْ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: مَنْ يُبْغِضُ النَّاسَ وَيُبْغِضُونَهُ» . وَرُوِيَ أَنَّ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جَلَسَ كَئِيبًا خَالِيًا فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ يَا دَاوُد مَا لِي أَرَاك خَالِيًا قَالَ: هَجَرْت النَّاسَ فِيك قَالَ: أَفَلَا أَدُلُّك عَلَى شَيْءٍ تَبْلُغُ بِهِ رِضَائِي؟ خَالِقْ النَّاسَ بِأَخْلَاقِهِمْ وَاحْتَجِرْ الْإِيمَانَ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَك قَالَ أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيٍّ: مَنْ شَدَّدَ نَفَّرَ، وَمَنْ تَرَاخَى تَأَلَّفَ، وَالسُّرُورُ فِي التَّغَافُلِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: شَرْطُ الصُّحْبَةِ إقَالَةُ الْعَثْرَةِ، وَمُسَامَحَةُ الْعِشْرَةِ، وَالْمُوَاسَاةُ فِي الْعُسْرَةِ قِيلَ لِلْعَتَّابِيِّ: إنَّك تَلْقَى النَّاسَ كُلَّهُمْ بِالْبِشْرِ قَالَ: دَفْعُ ضَغِينَةٍ بِأَيْسَرِ مُؤْنَةٍ، وَاكْتِسَابُ إخْوَانٍ بِأَيْسَرِ مَبْذُولٍ قَالَ مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ: أَخُو الْبِشْرِ مَحْمُودٌ عَلَى كُلِّ حَالَةٍ ... وَلَمْ يَعْدِمْ الْبَغْضَاءَ مَنْ كَانَ عَابِسَا وَيُسْرِعُ بُخْلُ الْمَرْءِ فِي هَتْكِ عِرْضِهِ ... وَلَمْ أَرَ مِثْلَ الْجُودِ لِلْعِرْضِ حَارِسَا وَقَالَ آخَرُ: وَكَمْ مِنْ أَخٍ لَا تُحْتَمَلْ مِنْهُ عِلَّةٌ ... قَطَعْت وَلَمْ يُمْكِنْك مِنْهُ بَدِيلُ وَمَنْ لَمْ يُرِدْ إلَّا خَلِيلًا مُهَذَّبًا ... فَلَيْسَ لَهُ فِي الْعَالَمِينَ خَلِيلُ وَقَالَ آخَرُ: وَأَحْبِبْ إذَا أَحْبَبْتَ حُبًّا مُقَارِبًا ... فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي مَتَى أَنْتَ نَازِعُ وَأَبْغِضْ إذَا أَبْغَضْتَ بُغْضًا مُقَارِبًا ... فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي مَتَى أَنْتَ رَاجِعُ هَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ الْحَدِيثِ وَرُوِيَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا وَهُوَ فِي التِّرْمِذِيِّ «أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا، فَعَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا، وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا، فَعَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْمًا مَا»

قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ: قُلْ لِمَنْ يَعْجَبُ مِنْ حُسْنِ ... رُجُوعِي وَمَقَالِي رُبَّ صَدٍّ بَعْدَ وُدٍّ ... وَهَوًى بَعْدَ تَقَالِي قَدْ رَأَيْنَا ذَا كَثِيرًا ... جَارِيًا بَيْنَ الرِّجَالِ قَالُوا: لَا خَيْرَ فِي النَّاسِ وَلَا بُدَّ مِنْ النَّاسِ، وَسَبَقَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا بَعْدَ فُصُولِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ فِيمَا لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَفِي أَوَائِلِ الْكِتَابِ بَعْدَ فُصُولِ التَّوْبَةِ وَيَأْتِي أَيْضًا فِي آخِرِ الْكِتَابِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «وَسُئِلَ أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ قَالَ رَجُلٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ يَتَّقِي رَبَّهُ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ» . وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الطَّمَعُ فَقْرٌ وَالْيَأْسُ غِنًى، وَالْعُزْلَةُ رَاحَةٌ مِنْ جَلِيسِ السُّوءِ، وَقَرِينُ الصِّدْقِ خَيْرٌ مِنْ الْوَحْدَةِ. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نِعْمَ صَوْمَعَةُ الرَّجُلِ بَيْتُهُ يَصُونُ دِينَهُ وَعِرْضَهُ، وَإِيَّاكُمْ وَالْأَسْوَاقَ فَإِنَّهَا تُلْغِي وَتُلْهِي وَقَالَ مَكْحُولٌ إنْ كَانَ فِي الْجَمَاعَةِ فَضْلٌ فَإِنَّ فِي الْعُزْلَةِ سَلَامَةً وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَالِطُوا النَّاسَ فِي مَعَايِشِكُمْ وَزَائِلُوهُمْ بِأَعْمَالِكُمْ. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ كَانَ النَّاسُ وَرَقًا لَا شَوْكَ فِيهِ وَهُمْ الْيَوْمَ شَوْكٌ لَا وَرَقَ فِيهِ، يُقَالُ: إنَّ فِي الْإِنْجِيلِ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كُنْ وَسَطًا وَامْشِ جَانِبًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَا حَبَّذَا الْوَحْدَةُ مِنْ أَنِيسِ ... إذَا خَشِيت مِنْ أَذَى الْجَلِيسِ وَقَالَ سُفْيَانُ: مَا وَجَدْتُ مَنْ يَغْفِرُ لِي ذَنْبًا وَلَا يَسْتُرُ عَلَيَّ زَلَّةً فَرَأَيْتُ فِي الْهَرَبِ مِنْ النَّاسِ سَلَامَةً. وَقِيلَ: لِلْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ دُلَّنِي عَلَى رَجُلٍ أَجْلِسْ إلَيْهِ قَالَ: تِلْكَ ضَالَّةٌ لَا تُوجَدُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَعْرِفَنَّ أَحَدًا فَلَسْتَ بِوَاجِدٍ ... أَحَدًا أَضَرَّ عَلَيْكَ مِمَّنْ تَعْرِفُ أَمَّا نَظِيرُكَ فَهْوَ حَاسِدُ نِعْمَةٍ ... أَوْ دُونَ ذَاكَ فَذُو سُؤَالٍ مُلْحِفُ أَوْ فَوْقَ ذَلِكَ حَالَ دُونَ لِقَائِهِ ... بَوَّابُ سُوءٍ وَالْيَفَاعُ الْمُشْرِفُ وَلِلشَّافِعِيِّ أَوْ لِمَنْصُورٍ الْفَقِيهِ. وَقِيلَ: إنَّهُ تَمْثِيلٌ بِهِ:

لَيْتَ السِّبَاعَ لَنَا كَانَتْ مُجَاوِرَةً ... وَلَيْتَنَا لَا نَرَى مِمَّنْ نَرَى أَحَدَا إنَّ السِّبَاعَ لَتَهْدَا فِي مَرَابِضِهَا ... وَالنَّاسُ لَيْسَ بِهَادٍ شَرُّهُمْ أَبَدَا فَاهْرَبْ بِنَفْسِكَ وَاسْتَأْنِسْ بِوَحْدَتِهَا ... تَعِشْ سَلِيمًا إذَا مَا كُنْتَ مُنْفَرِدَا وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ: يَا رَبِّ إنَّ النَّاسَ لَا يُنْصِفُونَنِي ... وَإِنْ أَنَا لَمْ أُنْصِفْهُمْ ظَلَمُونِي وَإِنْ كَانَ لِي شَيْءٌ تَصَدَّوْا لِأَخْذِهِ ... وَإِنْ جِئْتُ أَبْغِي شَيْئَهُمْ مَنَعُونِي وَإِنْ نَالَهُمْ بَذْلِي فَلَا شُكْرَ عِنْدَهُمْ ... وَإِنْ أَنَا لَمْ أَبْذُلْ لَهُمْ شَتَمُونِي وَإِنْ طَرَقَتْنِي نَكْبَةٌ فَكِهُوا بِهَا ... وَإِنْ صَحِبَتْنِي نِعْمَةٌ حَسَدُونِي سَأَمْنَعُ قَلْبِي أَنْ يَحِنَّ إلَيْهِمْ ... وَأَحْجُبُ عَنْهُمْ نَاظِرِي وَجُفُونِي وَقَالَ آخَرُ: قَدْ كُنْتُ عَبْدًا وَالْهَوَى مَالِكِي ... فَصِرْتُ حُرًّا وَالْهَوَى خَادِمِي وَصِرْتُ بِالْوَحْدَةِ مُسْتَأْنِسًا ... مِنْ شَرِّ أَوْلَادِ بَنِي آدَمَ مَا فِي اخْتِلَاطِي بِهِمْ خَيْرٌ وَلَا ... ذُو الْجَهْلِ بِالْأَشْيَاءِ كَالْعَالِمِ يَا عَاذِلِي فِي تَرْكِهِمْ جَاهِلًا ... عُذْرِي مَنْقُوشًا عَلَى خَاتَمِي وَكَانَ عَلَى خَاتِمِهِ مَنْقُوشٌ {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} [الأعراف: 102] وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَأَنْشَدَ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّاوُدِيُّ رَاوِي الْبُخَارِيِّ يَتَوَشَّحُ لِنَفْسِهِ: كَانَ فِي الِاجْتِمَاعِ لِلنَّاسِ نُورٌ ... فَمَضَى النُّورُ وَادْلَهَمَّ الظَّلَامُ فَسَدَ النَّاسُ وَالزَّمَانُ جَمِيعًا ... فَعَلَى النَّاسِ وَالزَّمَانِ السَّلَامُ وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ قَوْله تَعَالَى:

{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38] قَالَ: وَكَانَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا مِنْ جِهَةِ الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ، وَعَدَمًا مِنْ جِهَةِ الْمَنْطِقِ وَالْمَعْرِفَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُنْصَرِفًا إلَى الْمُمَاثَلَةِ فِي الطِّبَاعِ وَالْأَخْلَاقِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّك إنَّمَا تُعَاشِرُ الْبَهَائِمَ فَخُذْ حِذْرَكَ قَالَ: وَلِذَلِكَ رَأَى الْحُكَمَاءُ أَنَّ السَّلَامَةَ مِنْ آفَاتِ السِّبَاعِ الضَّارِيَةِ أَمْكَنُ مِنْ السَّلَامَةِ مِنْ شَرِّ النَّاسِ انْتَهَى كَلَامُهُ وَقَدْ قِيلَ: لِقَاءُ النَّاسِ لَيْسَ يُفِيدُ شَيْئًا ... سِوَى الْهَذَيَانِ مِنْ قِيلٍ وَقَالَ فَأَقْلِلْ مِنْ لِقَاءِ النَّاسِ إلَّا ... لِكَسْبِ مَعِيشَةٍ وَصَلَاحِ حَالٍ وَقِيلَ أَيْضًا: وَاَللَّهِ لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا ... تَبْقَى عَلَيْنَا وَيَأْتِي رِزْقُهَا رَغَدَا مَا كَانَ مِنْ حَقِّ حُرٍّ أَنْ يَذِلَّ لَهَا ... فَكَيْفَ وَهْيَ مَتَاعٌ يَسْتَحِيلُ غَدَا.

فصل في العناية بحفظ الزمان واتقاء إضاعته

[فَصْلٌ فِي الْعِنَايَةِ بِحِفْظِ الزَّمَانِ وَاتِّقَاءِ إضَاعَتِهِ] ِ فِيمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ مِنْ الزِّيَارَاتِ وَغَيْرِهَا) قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَأَيْت الْعَادَاتِ قَدْ غَلَبَتْ عَلَى النَّاسِ فِي تَضْيِيعِ الزَّمَانِ فَهُمْ يَتَزَاوَرُونَ فَلَا يَنْفَكُّونَ عَنْ كَلَامٍ لَا يَنْفَعُ وَغِيبَةٍ، وَأَقَلُّهُ ضَيَاعُ الزَّمَانِ، وَقَدْ كَانَ الْقُدَمَاءُ يُحَذِّرُونَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ الْفُضَيْلُ: أَعْرِفُ مَنْ يَعُدُّ كَلَامَهُ مِنْ الْجُمُعَةِ إلَى الْجُمُعَةِ وَدَخَلُوا عَلَى رَجُلٍ مِنْ السَّلَفِ فَقَالُوا لَعَلَّنَا شَغَلْنَاك فَقَالَ: أُصْدِقُكُمْ كُنْت أَقْرَأُ فَتَرَكْت الْقِرَاءَةَ لِأَجْلِكُمْ، وَجَاءَ عَابِدٌ إلَى سَرِيٍّ السَّقَطِيِّ فَرَأَى عِنْدَهُ جَمَاعَةً فَقَالَ صِرْت مُنَاخَ الْبَطَّالِينَ، ثُمَّ مَضَى وَلَمْ يَجْلِسْ، وَمَتَى لَانَ الْمَزُورُ طَمِعَ فِيهِ الزَّائِرُ فَأَطَالَ الْجُلُوسَ فَلَمْ يَسْلَمْ مِنْ أَذًى. وَقَدْ كَانَ جَمَاعَةٌ قَدْ قَعَدُوا عِنْدَ مَعْرُوفٍ وَأَطَالُوا فَقَالَ: إنَّ مَلِكَ الشَّمْسِ لَا يَفْتُرُ عَنْ سَوْقِهَا فَمَتَى تُرِيدُونَ الْقِيَامَ؟ وَمِمَّنْ كَانَ يَحْفَظُ اللَّحَظَاتِ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَيْسِيُّ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: أُكَلِّمُك فَقَالَ أَمْسِكْ الشَّمْسَ وَكَانَ دَاوُد الطَّائِيُّ يَسْتَفُّ الْفَتِيتَ وَيَقُولُ بَيْنَ سَفِّ الْفَتِيتِ وَأَكْلِ الْخُبْزِ: قِرَاءَةُ خَمْسِينَ آيَةً. وَأَوْصَى بَعْضُ السَّلَفِ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: إذَا خَرَجْتُمْ مِنْ عِنْدِي فَتَفَرَّقُوا لَعَلَّ أَحَدَكُمْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي طَرِيقِهِ، وَمَتَى اجْتَمَعْتُمْ تَحَدَّثْتُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ الزَّمَانَ أَشْرَفُ مِنْ أَنْ يَضِيعَ مِنْهُ لَحْظَةٌ فَكَمْ يَضِيعُ لِلْآدَمِيِّ مِنْ سَاعَاتٍ يَفُوتُهُ فِيهَا الثَّوَابُ الْجَزِيلُ، وَهَذِهِ الْأَيَّامُ مِثْلُ الْمَزْرَعَةِ، وَكَأَنَّهُ قَدْ قِيلَ: لِلْإِنْسَانِ كُلَّمَا بَذَرْت حَبَّةً أَخْرَجْنَا لَك أَلْفًا، هَلْ تَرَى يَجُوزُ لِلْعَاقِلِ أَنْ يَتَوَقَّفَ عَنْ الْبَذْرِ أَوْ يَتَوَانَى؟ وَاَلَّذِي يُعِينُ عَلَى اغْتِنَامِ الزَّمَانِ الِانْفِرَادُ وَالْعُزْلَةُ مَهْمَا أَمْكَنَ وَالِاخْتِصَارُ عَلَى السَّلَامِ أَوْ حَاجَةٍ مُهِمَّةٍ لِمَنْ يَلْقَى، وَقِلَّةُ الْأَكْلِ فَإِنَّ كَثْرَتَهُ سَبَبُ النَّوْمِ الطَّوِيلِ وَضَيَاعِ اللَّيْلِ، وَمَنْ نَظَرَ فِي سِيَرِ السَّلَفِ وَآمَنَ بِالْجَزَاءِ بَانَ لَهُ مَا ذَكَرْته.

فصل التفقه بالتوسع في المعارف قبل طلب السيادة والمناصب

[فَصْلٌ التَّفَقُّهُ بِالتَّوَسُّعِ فِي الْمَعَارِفِ قَبْلَ طَلَبِ السِّيَادَةِ وَالْمَنَاصِبِ] ِ) عَنْ عُمَرَ قَالَ: تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تَسُودُوا قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُرِيدُ مَنْ لَمْ يَخْدُمْ الْعِلْمَ فِي صِغَرِهِ اسْتَحْيَا أَنْ يَخْدِمَهُ بَعْدَ كِبَرِ السِّنِّ وَإِدْرَاكِ السُّؤْدُدِ قَالَ: وَبَلَغَنِي عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ: مَنْ تَرَأَّسَ فِي حَدَاثَتِهِ كَانَ أَدْنَى عُقُوبَتِهِ أَنْ يَفُوتَهُ حَظٌّ كَبِيرٌ مِنْ الْعِلْمِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: مَنْ طَلَبَ الرِّيَاسَةَ بِالْعِلْمِ قَبْلَ أَوَانِهِ لَمْ يَزَلْ فِي ذُلٍّ مَا بَقِيَ. وَقِيلَ: لِلْمُبَرِّدِ لِمَ صَارَ أَبُو الْعَبَّاسِ يَعْنِي ثَعْلَبَ أَحْفَظَ مِنْكَ لِلْغَرِيبِ وَالشِّعْرِ؟ قَالَ: لِأَنِّي تَرَأَّسْت وَأَنَا حَدَثٌ، وَتَرَأَّسَ وَهُوَ شَيْخٌ. وَسَبَقَ ذَلِكَ فِي الْفُصُولِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعِلْمِ بِالْقُرْبِ مِنْ ثُلُثِ الْكِتَابِ ذَكَرْته هُنَا لِأَجْلِ الْعُزْلَةِ وَالتَّرَؤُّسِ بِهَا.

فصل انقباض العلماء المتقين من إتيان الأمراء والسلاطين

[فَصْلٌ انْقِبَاضُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَّقِينَ مِنْ إتْيَانِ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ] ِ) كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَأْتِي الْخُلَفَاءَ وَلَا الْوُلَاةَ وَالْأُمَرَاءَ وَيَمْتَنِعُ مِنْ الْكِتَابَةِ إلَيْهِمْ، وَيَنْهَى أَصْحَابَهُ عَنْ ذَلِكَ مُطْلَقًا نَقَلَهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَكَلَامُهُ فِيهِ مَشْهُورٌ وَقَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْهَرَوِيِّ فَقَالَ: رَجُلٌ وَسِخٌ، فَقُلْت مَا قَوْلُك إنَّهُ وَسِخٌ قَالَ: مَنْ يَتْبَعُ الْوُلَاةَ وَالْقُضَاةَ فَهُوَ وَسِخٌ وَكَانَ هَذَا رَأْيَ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ، وَكَلَامُهُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورٌ مِنْهُمْ سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ وَطَاوُسٌ وَالنَّخَعِيُّ وَأَبُو حَازِمٍ الْأَعْرَجُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَدَاوُد الطَّائِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ وَبِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ الْحَافِي وَغَيْرُهُمْ. وَقَدْ سَبَقَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ أَتَى أَبْوَابَ السُّلْطَانِ اُفْتُتِنَ» ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ أَتَاهُ لِطَلَبِ الدُّنْيَا، لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ ظَالِمًا جَائِرًا، أَوْ عَلَى مَنْ اعْتَادَ ذَلِكَ وَلَزِمَهُ فَإِنَّهُ يُخَافُ عَلَيْهِ الِافْتِتَانُ وَالْعُجْبُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي اللَّفْظِ الْآخَرِ «وَمَنْ لَزِمَ السُّلْطَانَ اُفْتُتِنَ» . وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُمْ. وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ الْعُقَيْلِيَّ ذَكَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى فِي كِتَابِهِ فِي الضُّعَفَاءِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ إلَّا قَوْلَ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ كَانَ صَاحِبَ أُمَرَاءَ، وَعَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا مَعْنَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ. وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْأَخْبَارِ الَّتِي جَاءَتْ فِي أَبْوَابِ هَؤُلَاءِ السَّلَاطِينِ إذَا كَانَ لِلرَّجُلِ مَظْلِمَةٌ فَلَمْ يَرَ أَنَّ هَذَا دَاخِلٌ فِي ذَلِكَ إذَا كَانَ مَظْلُومًا فَذَكَرَ لَهُ تَعْظِيمَهُمْ فَكَأَنَّهُ هَابَ ذَلِكَ.

وَقَدْ قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَسَأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ يُسَلِّمُ عَلَى السُّلْطَانِ وَيَقْضِي حَوَائِجَهُ: يُسَلِّمُ عَلَيْهِ قَالَ: نَعَمْ لَعَلَّهُ يَخَافُهُ، يُدَارِيه وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَرْبٍ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرُّسُلِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ يَأْتِيه السُّلْطَانُ وَصَاحِبُ الْبَرِيدِ قَالَ: يُمْكِنُهُ مُعَانَدَةُ السُّلْطَانِ قُلْتُ: رُبَّمَا بَعَثَهُ إلَيْهِ فِي الْحَاجَةِ مِنْ الْخَرَاجِ أَوْ فِي رَجُلٍ فِي السِّجْنِ قَالَ: هَذَا يَكُونُ مَظْلُومًا فَيُفْرِجُ عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنْ أَبِيهِ: سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ الْقَاضِيَ يَقُولُ: خَمْسَةٌ تَجِبُ عَلَى النَّاسِ مُدَارَاتُهُمْ الْمَلِكُ الْمُسَلَّطُ وَالْقَاضِي الْمُتَأَوِّلُ وَالْمَرِيضُ وَالْمَرْأَةُ وَالْعَالِمُ لِيُقْتَبَسَ مِنْ عِلْمِهِ. فَاسْتَحْسَنْت ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: وَمِنْ صِفَاتِ عُلَمَاءِ الْآخِرَةِ أَنْ يَكُونُوا مُنْقَبِضِينَ عَنْ السَّلَاطِينِ، مُحْتَرِزِينَ عَنْ مُخَالَطَتِهِمْ قَالَ حُذَيْفَةُ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إيَّاكُمْ وَمَوَاقِفَ الْفِتَنِ قِيلَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: أَبْوَابُ الْأُمَرَاءِ يَدْخُلُ أَحَدُكُمْ عَلَى الْأَمِيرِ فَيُصَدِّقُهُ بِالْكَذِبِ وَيَقُولُ: مَا لَيْسَ فِيهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: إذَا رَأَيْتُمْ الْعَالِمَ يَغْشَى الْأُمَرَاءَ فَاحْذَرُوا مِنْهُ فَإِنَّهُ لِصٌّ وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إنَّك لَنْ تُصِيبَ مِنْ دُنْيَاهُمْ شَيْئًا إلَّا أَصَابُوا مِنْ دِينِك أَفْضَلَ مِنْهُ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الْوَرَعِ وَقَدْ سَبَقَ عَنْ بَعْضِهِمْ فِعْلُ ذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ كَرَاهَتُهُ إنْ خِيفَ مِنْهُ الْوُقُوعُ فِي مَحْظُورٍ، وَعَدَمُهَا إنْ أَمِنَ ذَلِكَ فَإِنْ عَرِيَ عَنْ الْمَفْسَدَةِ وَاقْتَرَنَتْ بِهِ مَصْلَحَةٌ مِنْ تَخْوِيفِهِ لَهُمْ وَوَعْظِهِ إيَّاهُمْ وَقَضَاءِ حَاجَتِهِ كَانَ مُسْتَحَبًّا وَعَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ يُنَزَّلُ كَلَامُ السَّلَفِ وَأَفْعَالُهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِ ابْنِ الْبَنَّا مِنْ أَصْحَابِنَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْقَوِيِّ فِي بَابِ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فَإِنَّهُ قَالَ: إنَّمَا الْمَذْكُورُ بِالذَّمِّ مَنْ خَالَطَهُمْ فَسَعَى بِمُسْلِمٍ أَوْ أَقْرَأ وَسَاعَدَ عَلَى مُنْكَرٍ، فَيَجِبُ حَمْلُ أَحَادِيثِ التَّغْلِيظِ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ.

وَأَمَّا السُّلْطَانُ الْعَادِلُ فَالدُّخُولُ عَلَيْهِ وَمُسَاعَدَتُهُ عَلَى عَدْلِهِ مِنْ أَجَلِّ الْقُرَبِ فَقَدْ كَانَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ شِهَابٍ وَطَبَقَتُهُمَا مِنْ خِيَارِ الْعُلَمَاءِ يَصْحَبُونَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَكَانَ الشَّعْبِيُّ وَقَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ وَالْحَسَنُ وَأَبُو الزِّنَادِ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ يَدْخُلُونَ عَلَى السُّلْطَانِ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالسَّلَامَةُ الِانْقِطَاعُ عَنْهُمْ كَمَا اخْتَارَهُ أَحْمَدُ وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ. قَالَ ابْنُ الْبَنَّا: لَا يَغْتَرُّ مَنْ هُوَ دَاخِلٌ فِي الْعِبَادَةِ بِمَا وَرَدَ فِي التَّغْلِيظِ عَلَى الْعُلَمَاءِ بِمَا يَرَاهُ مِنْ فِعْلِهِمْ الَّذِي رُبَّمَا خَفِيَ عَلَيْهِ وَجْهُ حِلِّهِ وَتَأْوِيلِهِ فَيَتْرُك مُجَالَسَةَ الْعُلَمَاءِ وَيَهْجُرُهُمْ فَيُفْضِي بِهِ حَالُهُ إلَى اسْتِمْرَارِ جَهْلِهِ، وَلَعَلَّهُ يُفْضِي إلَى أَنْ لَا تَصِحَّ عِبَادَتُهُ لِعَارِضٍ لَا يَعْلَمُهُ، فَإِذَا بَدَا لَك مِنْ عَالِمٍ زَلَّةٌ فَاسْأَلْهُ عَنْ حُكْمِ مَا فَعَلَ كَذَا فَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ أَبْدَاهُ فَتَخَلَّصْت مِنْ إثْمِ غَيْبَتِهِ أَوْ خَطَرِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا عَرَفَ الْحَقَّ عَلَى نَفْسِهِ وَعَرَفَ مَغْزَى كَلَامِك وَأَنَّك تُنْكِرُ عَلَيْهِ وَبِهَذِهِ الطَّرَائِقِ أَدَّبَ اللَّهُ تَعَالَى عَبْدَهُ دَاوُد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي النَّعْجَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزَ الدُّخُولُ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَالْعُمَّالِ وَالظَّلَمَةِ وَاسْتَدَلَّ بِالْخَبَرِ وَالْأَثَرِ وَالْمَعْنَى قَالَ: إلَّا بِعُذْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا إلْزَامٌ مِنْ جِهَتِهِمْ يُخَافُ الْخِلَافُ فِيهِ الْأَذَى الثَّانِي أَنْ يَدْخُلَ لِيَرْفَعَ ظُلْمًا عَنْ مُسْلِمٍ فَيَجُوزُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكْذِبَ وَلَا يُثْنِي وَلَا يَدَعُ نَصِيحَةً يَتَوَقَّعُ لَهَا قَبُولًا انْتَهَى كَلَامُهُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ يَكُونُ فِيهِ كَفُّ ظُلْمٍ عَظِيمٍ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ سُلُوكِ أَدْنَى الْمَفْسَدَتَيْنِ وَالْتِزَامُهَا بِكَفِّ أَعْلَاهُمَا وَرَفْعِهَا. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فَإِنْ دَخَلَ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ زَائِرًا فَجَوَابُ السَّلَامِ لَا بُدَّ مِنْهُ كَذَا قَالَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَجْرِ الْمُبْتَدِعِ وَالْمُجَاهِرِ بِالْمَعَاصِي قَالَ: وَأَمَّا الْقِيَامُ وَالْإِكْرَامُ فَلَا تَحْرُمُ مُقَابَلَةٌ لَهُ عَلَى إكْرَامِهِ فَإِنَّهُ بِإِكْرَامِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ

مُسْتَحِقٌّ الْحَمْدَ، كَمَا أَنَّهُ بِالظُّلْمِ مُسْتَحِقٌّ لِلذَّمِّ إلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْصَحَهُ وَيُعَرِّفَهُ تَحْرِيمَ مَا يَفْعَلُهُ مِمَّا لَا يَدْرِي أَنَّهُ مُحَرَّمٌ، فَأَمَّا إعْلَامُهُ بِتَحْرِيمِ الظُّلْمِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُخَوِّفَهُ مِنْ رُكُوبِ الْمَعَاصِي مَهْمَا ظَنَّ أَنَّ التَّخْوِيفَ يُؤَثِّرُ فِي قَلْبِهِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُرْشِدَهُ إلَى الْمَصَالِحِ، وَمَتَى عَرَفَ طَرِيقًا لِلشَّرْعِ يَحْصُلُ بِهِ غَرَضُ الظَّالِمِ عَرَّفَهُ إيَّاهُ. (الْحَالُ الثَّالِثُ) أَنْ يَعْتَزِلَ عَنْهُمْ فَلَا يَرَاهُمْ وَلَا يَرَوْنَهُ وَالسَّلَامَةُ فِي ذَلِكَ ثُمَّ يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَقِدَ بُغْضَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَلَا يُحِبُّ بَقَاءَهُمْ وَلَا يُثْنِي عَلَيْهِمْ وَلَا يَسْتَخْبِرُ عَنْ أَحْوَالِهِمْ وَيَتَقَرَّبُ إلَى الْمُتَّصِلِينَ بِهِمْ وَلَا يَتَأَسَّفُ عَلَى مَا يَفُوتُهُ بِسَبَبِ مُفَارَقَتِهِمْ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّمَا بَيْنِي وَبَيْنَ الْمُلُوكِ يَوْمٌ وَاحِدٌ: إمَّا يَوْمٌ مَضَى فَلَا يَجِدُونَ لَذَّتَهُ، وَأَنَا وَإِيَّاهُمْ فِي غَدٍ عَلَى وَجَلٍ، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمُ فَمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ فِي الْيَوْمِ. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: الْعَدْلُ تَحْصِيلُ مَنْفَعَتِهِ وَدَفْعُ مَضَرَّتِهِ، وَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ يُقَدَّمُ أَرْجَحُهُمَا لِتَحْصِيلِ أَعْظَمِ الْمَصْلَحَتَيْنِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا وَدَفْعِ أَعْظَمِ الْمَفْسَدَتَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بَعْد أَنْ ذَكَرَ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: ثَلَاثَةٌ لَا تَبْلُوَنَّ نَفْسَك بِهِمْ: لَا تَدْخُلَنَّ عَلَى ذِي سُلْطَانٍ وَإِنْ قُلْتَ: آمُرُهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَلَا تَخْلُوَنَّ بِامْرَأَةٍ وَإِنْ قُلْتَ: أُعَلِّمُهَا كِتَابَ اللَّهِ، وَلَا تُصْغِيَنَّ بِسَمْعِك لِذِي هَوًى فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَا يَعْلَقُ بِقَلْبِك مِنْهُ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: فَالِاجْتِمَاعُ بِالسُّلْطَانِ مِنْ جِنْسِ الْإِمَارَةِ وَالْوِلَايَةِ، وَفِعْلُ ذَلِكَ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوِلَايَةِ بِنِيَّةِ الْعَدْلِ وَإِقَامَةِ الْحَقِّ، وَاسْتِمَاعُ كَلَامِ الْمُبْتَدِعِ لِلرَّدِّ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ، وَأَمَّا الْخَلْوَةُ بِالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ فَمُحَرَّمٌ فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ دُخُولُ الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ

فِيمَا يُوجِبُ عَلَيْهِ أُمُورًا أَوْ يُحَرِّمُ عَلَيْهِ أُمُورًا لَا سِيَّمَا إنْ كَانَتْ تِلْكَ الْأُمُورُ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِتَرْكِ وَاجِبِهَا وَفِعْلِ مَحْظُورِهَا. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الدَّجَّالِ: «فَمَنْ سَمِعَ بِهِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ فَإِنَّ الرَّجُلَ يَأْتِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ الدَّجَّالُ فَلَا يَزَالُ بِهِ مَا يَرَاهُ مِنْ الشُّبُهَاتِ حَتَّى يَفْتِنَهُ ذَلِكَ» . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مِمَّا يُذْكَرُ عَنْ طَوَائِفَ مِنْ السَّلَفِ مِنْ امْتِنَاعِهِمْ وَمَنْعِهِمْ مِنْ اسْتِمَاعِ كَلَامِ الْمُبْتَدِعَةِ خَشْيَةَ الْفِتْنَةِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ، وَأَمَّا مَنْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِلْهَجْرِ أَوْ لِلْعُقُوبَةِ عَلَى فِعْلِهِ فَذَلِكَ نَوْعٌ آخَرُ إلَى أَنْ قَالَ: فَهَذِهِ الْأُمُورُ الْعَدْلُ فِيهِ أَنْ لَا يَطْلُبَ الْعَبْدُ أَنْ يُبْتَلَى بِهَا، وَإِذَا اُبْتُلِيَ بِهَا فَلْيَتَّقِ اللَّهَ وَلْيَصْبِرْ، وَالِاسْتِعْدَادُ لَهَا أَنْ تُصِيبَهُ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ الِابْتِلَاءِ بِهَا، فَهَذِهِ الْمِحَنُ وَالْفِتَنُ إذَا لَمْ يَطْلُبْهَا الْمَرْءُ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا بَلْ اُبْتُلِيَ بِهَا ابْتِدَاءً أَعَانَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا بِحَسَبِ حَالِ ذَلِكَ الْعَبْدِ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ فِي طَلَبِهَا فِعْلٌ وَلَا قَصْدٌ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ ذَنْبًا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ، وَلَا كَانَ مِنْهُ كِبْرٌ وَاحْتِيَالٌ مِثْلُ دَعْوَى قُوَّةٍ أَوْ ظَنِّ كِفَايَةٍ بِنَفْسِهِ حَتَّى يُخْذَلَ بِتَرْكِ تَوَكُّلِهِ وَيُوكَلَ إلَى نَفْسِهِ فَإِنَّ الْعَبْدَ يُؤْتَى مِنْ تَرْكِ مَا أُمِرَ بِهِ. وَسَوَاءٌ كَانَ مُرَادُهُ بِهَا مُحَرَّمًا أَوْ مُبَاحًا أَوْ مُسْتَحَبًّا، وَإِرَادَتُهُ بِهَا الْمُحَرَّمَ زِيَادَةُ ذَنْبٍ، وَإِنْ أَرَادَ بِهَا الْمُسْتَحَبَّ فَقَدْ فَعَلَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ. وَهَذَا مِمَّا يُذَمُّ عَلَيْهِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا «مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ إلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَنْصَارٌ يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِهِ وَيَهْتَدُونَ بِهَدْيِهِ ثُمَّ إنَّهُ يَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِ خُلُوفٌ يَقُولُونَ: مَا لَا يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ» . وَالتَّعَرُّضُ لِلْفِتْنَةِ هُوَ مِنْ الذُّنُوبِ، فَالْمُؤْمِنُ الصَّادِقُ لَا يَفْعَلُ إلَّا مَا أُمِرَ بِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ عِبَادَةٌ وَلَا يَسْتَعِينُ إلَّا بِاَللَّهِ، فَإِذَا أَوْجَبَ هُوَ بِنَفْسِهِ أَوْ حَرَّمَ هُوَ بِنَفْسِهِ خَرَجَ عَنْ الْأَوَّلِ، فَإِنْ وَثِقَ بِنَفْسِهِ خَرَجَ عَنْ الثَّانِي، فَإِذَا أَذْنَبَ بِذَلِكَ فَقَدْ يَتُوبُ بَعْدَ الذَّنْبِ فَيُعِينُهُ حِينَئِذٍ، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ حَسَنَاتٌ رَاجِحَةٌ يَسْتَحِقُّ بِهَا الْإِعَانَةَ، وَقَدْ يَتَدَارَكُهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ فَيَسْلَمُ أَوْ يُخَفِّفُ عَلَيْهِ وَالتَّوْبَةُ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ فِي كُلِّ حَالٍ بِحَبْسِهِ لَيْسَتْ تَرْكَ مَا دَخَلَ فِيهِ فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ لَا يُمْكِنُهُ إلَّا بِذُنُوبٍ هِيَ أَعْظَمُ مِنْ ذُنُوبِهِ مَعَ مَقَامِهِ

فَتَدَبَّرْ هَذَا. وَالْمُبْتَلَى مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ قَدْ يُفَرِّطُ بِتَرْكِ الْمَأْمُورِ وَفِعْلِ الْمَحْظُورِ حَتَّى يُخْذَلَ وَلَا يُعَانَ فَيُؤْتَى مِنْ ذُنُوبِهِ لَا مِنْ نَفْسِ مَا اُبْتُلِيَ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [آل عمران: 155] الْآيَةُ وَهَذَا كَثِيرٌ أَكْثَرُ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ تَفْرِيطٌ وَلَا عُدْوَانٌ فَإِذَا اُبْتُلُوا أُعِينُوا قَالَ: وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ التَّعَرُّضَ لِلْفِتَنِ بِالْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ بِالْعُهُودِ وَالنُّذُورِ وَطَلَبِ الْوِلَايَةِ وَتَمَنِّي لِقَاءِ الْعَدُوِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ هُوَ مِنْ الذُّنُوبِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَعَنْ دَاوُد الطَّائِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقِيلَ: لَهُ أَرَأَيْت مَنْ يَدْخُلُ عَلَى هَؤُلَاءِ فَيَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ قَالَ: أَخَافُ عَلَيْهِ السَّوْطَ قِيلَ: إنَّهُ يَقْوَى قَالَ: أَخَافُ عَلَيْهِ السَّيْفَ قِيلَ: إنَّهُ يَقْوَى قَالَ أَخَافُ عَلَيْهِ الدَّاءَ الدَّفِينَ الْعُجْبَ. وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: إذَا رَأَيْتَ الْقَارِئَ يَلُوذُ بِالسُّلْطَانِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لِصٌّ، وَإِنْ لَاذَ بِالْأَغْنِيَاءِ فَمُرَاءٍ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَخْدَعَ فَيُقَالُ: لَعَلَّك تَرُدُّ عَنْ مَظْلِمَةٍ أَوْ تَدْفَعُ عَنْ مَظْلُومٍ، فَإِنَّ هَذِهِ خَدْعَةٌ مِنْ إبْلِيسَ اتَّخَذَهَا فَجَازَ الْقُرَّاءُ سُلَّمًا. وَقَالَ الْخَلَّالُ: أَنْبَأْنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْهَمْدَانِيُّ سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ شَبَّوَيْهِ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: قَدِمْتُ بَغْدَادَ عَلَى أَنْ أَدْخُلَ عَلَى الْخَلِيفَةِ فَآمُرُهُ وَأَنْهَاهُ فَدَخَلْتُ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فَاسْتَشَرْتُهُ فِي ذَلِكَ قَالَ: أَخَافُ عَلَيْك أَنْ لَا تَقُومَ بِذَلِكَ قُلْتُ: لَهُ فَقَدْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ وَقَدْ قَبِلْت ذَلِكَ قَالَ: فَقَالَ: لِي اسْتَشِرْ فِي هَذَا بَشَرًا وَأَخْبِرْنِي بِمَا يَقُولُ لَك فَأَتَيْتُ بَشَرًا، فَأَخْبَرْته بِذَلِكَ فَقَالَ: لَا أَرَى لَك، أَخَافُ أَنْ تَخُونَك نَفْسُك قُلْتُ: فَإِنِّي أَصْبِرُ عَلَى ذَلِكَ قَالَ: لَا أَرَى لَك ذَلِكَ قُلْتُ: لِمَ؟ قَالَ: إنِّي أَخَافُ عَلَيْك أَنْ يَقْدُمَ عَلَيْك بِقَتْلٍ فَتَكُونَ سَبَبَ دُخُولِهِ إلَى النَّارِ قَالَ: فَأَتَيْتُ أَحْمَدَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ مَا قَالَ لَك، قَالَ: وَأَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي هَارُونَ أَنَّ مُثَنَّى الْأَنْبَارِيَّ حَدَّثَهُمْ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: مَا تَقُولُ فِي السُّلْطَانِ إنْ أَرْسَلَ إلَيَّ يَسْأَلَنِي عَنْ الْعُمَّالِ أُخْبِرُ بِمَا فِيهِمْ قَالَ: تُدَارِي السُّلْطَانَ قُلْتُ: فَالْحَدِيثُ

الَّذِي جَاءَ «كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ إمَامٍ جَائِرٍ» فَقَدِّمْ هَذَا وَكَانَ عِنْدَهُ أَنَّ هَذَا أَفْضَلُ. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَمِعْت إِسْحَاقَ بْنَ إبْرَاهِيمَ وَنَحْنُ بِالْعَسْكَرِ يُنَاشِدُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَيَسْأَلُهُ الدُّخُولَ عَلَى الْخَلِيفَةِ لِيَأْمُرَهُ وَيَنْهَاهُ وَقَالَ لَهُ: إنَّهُ يَقْبَلُ مِثْلَ هَذَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ يَدْخُلُ عَلَى ابْنِ طَاهِرٍ فَيَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ، فَقَالَ لَهُ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ تَحْتَجُّ عَلَيَّ بِإِسْحَاقَ فَأَنَا غَيْرُ رَاضٍ بِفِعْلِهِ، مَا لَهُ فِي رُؤْيَتِي خَيْرٌ، وَلَا لِي فِي رُؤْيَتِهِ خَيْرٌ، يَجِبُ عَلَيَّ إذَا رَأَيْتُهُ أَنْ آمُرَهُ وَأَنْهَاهُ، الدُّنُوُّ مِنْهُمْ فِتْنَةٌ، وَالْجُلُوسُ مَعَهُمْ فِتْنَةٌ، نَحْنُ مُتَبَاعِدُونَ مِنْهُمْ مَا أَرَانَا نَسْلَمُ فَكَيْفَ لَوْ قَرُبْنَا مِنْهُمْ؟ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ وَسَمِعْت إسْمَاعِيلَ ابْنَ أُخْتِ ابْنِ الْمُبَارَكِ يُنَاظِرُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَيُكَلِّمُهُ فِي الدُّخُولِ عَلَى الْخَلِيفَةِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَدْ قَالَ خَالُك يَعْنِي ابْنَ الْمُبَارَكِ: لَا تَأْتِهِمْ، فَإِنْ أَتَيْتَهُمْ فَاصْدُقْهُمْ وَأَنَا أَخَافُ أَنْ لَا أَصْدُقَهُمْ. وَقَالَ فِي الْفُنُونِ أَكْثَرُ مَنْ يُخَالِطُ السُّلْطَانَ لِشِدَّةِ حِرْصِهِمْ عَلَى تَنْفِيقِ نُفُوسِهِمْ عَلَيْهِ بِإِظْهَارِ الْفَضَائِلِ وَتَدْقِيقِ الْمَذَاهِبِ، فِي دَرَكِ الْمَبَاغِي وَالْمَطَالِبِ يَبْلُغُونَ مَبْلَغًا يَغْفُلُونَ بِهِ عَنْ الصَّوَابِ؛ لِأَنَّ السَّلَاطِينَ دَأْبُهُمْ الِاسْتِشْعَارُ، وَالْخَوْفُ مِنْ دَوَاهِي الْأَعْدَاءِ فَإِذَا أَحَسُّوا مِنْ إنْسَانٍ تَنَغُّرًا وَلَمْحًا تَحَرَّزُوا مِنْهُ بِعَاجِلِ أَحْوَالِهِمْ، وَالتَّحَرُّزُ نَوْعُ إقْصَاءٍ فَإِنَّهُ لَا قُرْبَةَ لِمَنْ لَا تُؤْمَنُ مَكَايِدُهُ وَعَنْهُمْ يَفْتَعِلُونَ الدَّوَاهِيَ لِمَا عَسَاهُ يُلِمُّ بِجَانِبِهِمْ، فَإِنَّ التَّغَافُلَ أَصْلَحُ لِمُخَالَطَتِهِمْ مِنْ التَّجَالُدِ وَإِظْهَارِ اللَّمْحِ، فَإِنَّ لِلسُّلْطَانِ كَنْزًا لَا يَجِبُ ظُهُورُهُ إلَى كُلِّ أَحَدٍ وَيَخَافُ مِنْ تَكَشُّفِ أَحْوَالِهِ الدُّخُولَ عَلَيْهِ مِنْ بَابِ الْخِبْرَةِ بِهِ، وَالْأَوْلَى فِي الْحِكْمَةِ أَنْ لَا يَنْكَشِفَ الْإِنْسَانُ بِخُلُقٍ فِي مَحْبُوبِهِ وَلَا مَكْرُوهِهِ فَيَدْخُلُ عَلَيْهِ الْخَوْفُ مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فِي كِتَابِ بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ يُقَالُ: شَرُّ الْأُمَرَاءِ أَبْعَدُهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَشَرُّ الْعُلَمَاءِ أَقْرَبُهُمْ مِنْ الْأُمَرَاءِ.

وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ السِّرِّ الْمَصُونِ: أَمَّا السَّلَاطِينُ فَإِيَّاكَ إيَّاكَ وَمُعَاشَرَتَهُمْ فَإِنَّهَا تُفْسِدُك أَوْ تُفْسِدُهُمْ وَتُفْسِدُ مَنْ يَقْتَدِي بِك، وَسَلَامَتُك مِنْ مُخَالَطَتِهِمْ أَبْعَدُ مِنْ الْعَيُّوقِ، وَأَقَلُّ الْأَحْوَالِ فِي ذَلِكَ أَنْ تَمِيلَ نَفْسُك إلَى حُبِّ الدُّنْيَا قَالَ الْمَأْمُونُ: لَوْ كُنْت عَامِّيًّا مَا خَالَطْت السَّلَاطِينَ، وَمَتَى اُضْطُرِرْت إلَى مُخَالَطَتِهِمْ فَبِالْأَدَبِ وَالصَّمْتِ وَكَتْمِ الْأَسْرَارِ وَحِفْظِ الْهَيْبَةِ، وَلَا يُسْأَلُونَ عَنْ شَيْءٍ مَهْمَا أَمْكَنَ. وَقَدْ سَأَلَ الرَّشِيدُ الْأَصْمَعِيَّ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْت قَالَ لَهُ الرَّبِيعُ: أَسْقَطَ اللَّهُ أَضْرَاسَك أَبِهَذَا تُخَاطِبُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: دَخَلْت عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَصَادَفْته فِي سِرَارٍ مَعَ شَخْصٍ فَوَقَفْت سَاعَةً لَا يَرْفَعُ إلَيَّ طَرْفَهُ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ، فَقَالَ لَمْ نَأْذَنْ لَك حَتَّى عَرَفْنَا اسْمَك فَقُلْتُ: نَقْدَةٌ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ رَأَيْتُ رَجُلًا فِي النَّاسِ ذَا هَيْبَةٍ وَرُوَاءٍ وَلَمْ أَعْرِفْهُ فَقُلْت: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ الْخُلَفَاءُ: تَسْأَلُ وَلَا تُسْأَلُ هَذَا الْأَخْطَلُ الشَّاعِرُ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي هَذِهِ أُخْرَى قَالَ: وَخُضْنَا فِي الْحَدِيثِ فَمَرَّ لَهُ شَيْءٌ لَمْ أَعْرِفْهُ فَقُلْت: اكْتُبْنِيهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ الْخُلَفَاءُ: تُسْتَكْتَبُ. فَقُلْت: هَذِهِ ثَالِثَةٌ، وَذَهَبْتُ لِأَقُومَ فَأَشَارَ إلَيَّ بِالْقُعُودِ فَقَعَدْت حَتَّى خَفَّ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ. ثُمَّ دَعَا بِالطَّعَامِ فَقُدِّمَتْ إلَيْهِ الْمَائِدَةُ فَرَأَيْت عَلَيْهَا صُحُفًا فِيهَا مُخٌّ وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يُقَدَّمَ إلَيْهِ الْمُخُّ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، فَقُلْت: هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13] ، فَقَالَ: يَا شَعْبِيُّ مَازَحْت مَنْ لَمْ يُمَازِحْك، فَقُلْت: هَذِهِ رَابِعَةٌ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الطَّعَامِ وَقَعَدَ فِي مَجْلِسِهِ وَانْدَفَعْنَا فِي الْحَدِيثِ وَذَهَبْتُ لِأَتَكَلَّمَ فَمَا ابْتَدَأْت بِشَيْءٍ مِنْ الْحَدِيثِ إلَّا اسْتَلَّهُ مِنِّي فَحَدَّثَ النَّاسَ وَرُبَّمَا زَادَ فِيهِ عَلَى مَا عِنْدِي وَلَا أُنْشِدُهُ شِعْرًا إلَّا فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَغَمَّنِي وَانْكَسَرَ بَالِي. فَمَا زِلْنَا عَلَى ذَلِكَ بَقِيَّةَ نَهَارِنَا، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ وَقْتٍ الْتَفَتَ إلَيَّ. وَقَالَ لِي يَا شَعْبِيُّ قَدْ وَاَللَّهِ تَبَيَّنَتْ الْكَرَاهَةُ فِي وَجْهِك لِمَا فَعَلْت وَتَدْرِي أَيَّ شَيْءٍ حَمَلَنِي عَلَى ذَلِكَ قُلْتُ: لَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: لِئَلَّا تَقُولَ: إنْ فَازَ هَؤُلَاءِ بِالْمُلْكِ لَقَدْ فُزْنَا نَحْنُ بِالْعِلْمِ، فَأَرَدْت أَنْ أُعَرِّفَك أَنَّا

فُزْنَا بِالْمُلْكِ وَشَارَكْنَاك فِيمَا أَنْتَ فِيهِ، ثُمَّ أَمَرَ لِي بِمَالٍ فَقُمْتُ مِنْ عِنْدِهِ وَقَدْ زَلَلْتُ أَرْبَعَ زَلَّاتٍ وَقَالَ: حَدَّثَ بَعْضُهُمْ الْمَأْمُونَ فَقَالَ: اسْمَعْ أَيُّهَا الْأَمِيرُ فَقَالَ الْمَأْمُونُ: أَخْرِجُوهُ. فَلَيْسَ هَذَا مِنْ سُمَّارِ الْمُلُوكِ وَحَدَّثَهُ الْحَسَنُ اللُّؤْلُؤِيُّ وَهُوَ خَلِيفَةٌ فَنَامَ فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ وَقَالَ: يَا غُلَامُ خُذْ بِيَدِهِ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ سُمَّارِ الْمُلُوكِ وَإِنَّمَا يَصْلُحُ أَنْ يُفْتِي فِي مُحْرِمٍ صَادَ ظَبْيًا. وَقَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ: أَشْقَى النَّاسِ بِالسُّلْطَانِ صَاحِبُهُ، كَمَا أَنَّ أَقْرَبَ الْأَشْيَاءِ إلَى النَّارِ أَسْرَعُهَا احْتِرَاقًا قَالَ الشَّاعِرُ: إنَّ الْمُلُوكَ بَلَاءٌ حَيْثُمَا حَلُّوا ... فَلَا يَكُنْ لَكَ فِي أَفْنَائِهِمْ ظِلُّ وَمَا تُرِيدُ بِقَوْمٍ إنْ هُمْ سَخِطُوا ... جَارُوا عَلَيْكَ وَإِنْ أَرْضَيْتَهُمْ مَلُّوا وَإِنْ مَدَحْتَهُمْ ظَنُّوكَ تَخْدَعُهُمْ ... وَاسْتَثْقَلُوكَ كَمَا يُسْتَثْقَلُ الْكَلُّ فَاسْتَغْنِ بِاَللَّهِ عَنْ أَبْوَابِهِمْ أَبَدًا ... إنَّ الْوُقُوفَ عَلَى أَبْوَابِهِمْ ذُلُّ وَيُقَالُ: لَا تَغْتَرِرْ بِالْأَمِيرِ، إذَا غَشَّك الْوَزِيرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا تَثِقْ بِالْأَمِيرِ، إذَا خَانَك الْوَزِيرُ. جَلَسَ مُعَاوِيَةُ يَأْخُذُ الْبَيْعَةَ عَلَى النَّاسِ بِالْبَرَاءِ مِنْ عَلِيٍّ. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّا نُطِيعُ أَحْيَاءَكُمْ وَلَا نَبْرَأُ مِنْ أَمْوَاتِكُمْ فَالْتَفَتَ مُعَاوِيَةُ إلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فَقَالَ: يَا رَجُلُ فَاسْتَوْصِ بِهِ خَيْرًا. وَكَانَ يُقَالُ: إذَا نَزَلْت مِنْ الْوَلِيِّ بِمَنْزِلَةِ الثِّقَةِ فَاعْزِلْ عَنْهُ كَلَامَ الْخَنَا وَالْمَلَقِ، وَلَا تُكْثِرَن لَهُ الدُّعَاءَ فِي كُلِّ كَلِمَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يُشْبِهُ الْوَحْشَةَ. وَعَظِّمْهُ وَقَرِّرْهُ فِي النَّاسِ. قَالَ الْفَرَزْدَقُ: قُلْ لِمُبْصِرٍ وَالْمَرْءُ فِي دَوْلَةِ السُّلْطَانِ ... ؛ أَعْمَى مَادَامَ يُدْعَى أَمِيرَا فَإِذَا زَالَتْ الْوِلَايَةُ عَنْهُ ... وَاسْتَوَى بِالرِّجَالِ كَانَ بَصِيرًا كَانَ يُقَالُ: ثَلَاثَةٌ مَنْ عَازَّهُمْ رَجَعَتْ عِزَّتُهُ ذُلًّا، السُّلْطَانُ وَالْعَالِمُ وَالْوَالِدُ وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ: فِي أَثْنَاءِ كَلَامٍ لَهُ أَرْبَعَةٌ لَا يُسْتَحْيَا مِنْ خِدْمَتِهِمْ السُّلْطَانُ وَالْوَالِدُ وَالضَّيْفُ وَالدَّابَّةُ، وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي مَكَان آخَرَ

وَلَمْ يَعْزُ إلَى أَحَدٍ خَمْسَةٌ لَا يُسْتَحْيَ مِنْ خِدْمَتِهِمْ السُّلْطَانُ وَالْوَالِدُ وَالْعَالِمُ وَالضَّعِيفُ وَالدَّابَّةُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَالُوا تَقَرَّبْ مِنْ السُّلْطَانِ قُلْتُ لَهُمْ ... يُعِيذُنِي اللَّهُ مِنْ قُرْبِ السَّلَاطِينِ إنْ قُلْتُ دُنْيَا فَلَا دُنْيَا لِمُمْتَحَنٍ ... أَوْ قُلْتُ دِينًا فَلَا دِينَ لِمَفْتُونِ وَمِنْ الْأَمْثَالِ فِي صُحْبَةِ السُّلْطَانِ: السُّلْطَانُ كَالنَّارِ إنْ بَاعَدْتَهَا بَطَلَ نَفْعُهَا، وَإِنْ قَارَبْتَهَا عَظُمَ ضَرَرُهَا صَاحِبُ السُّلْطَانِ كَرَاكِبِ الْأَسَدِ يَهَابُهُ النَّاسُ، وَهُوَ لِمَرْكَبِهِ أَهْيَبُ، أَجْرَأُ النَّاسِ عَلَى الْأَسَدِ أَكْثَرُهُمْ لَهُ رُؤْيَةً، إذَا قَالَ السُّلْطَانُ لِعُمَّالِهِ هَاتُوا فَقَدْ قَالَ خُذُوا مَنْ خَدَمَ السُّلْطَانَ خَدَمَتْهُ الْإِخْوَانُ ثَلَاثَةٌ لَا أَمَانَ لَهُمْ: السُّلْطَانُ وَالْبَحْرُ وَالزَّمَانُ، مِثْلُ أَصْحَابِ السُّلْطَانِ كَقَوْمٍ رَقُوا جَبَلًا ثُمَّ وَقَعُوا مِنْهُ فَكَانَ أَبْعَدُهُمْ مِنْ الْمُرْتَقَى أَقْرَبَهُمْ إلَى التَّلَفِ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ لِي أَبِي إنِّي أَرَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَعْنِي عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُدْنِيك وَيُقَرِّبُك فَاحْفَظْ عَنِّي ثَلَاثًا: إيَّاكَ أَنْ يُجَرِّبَ عَلَيْك كَذْبَةً، وَإِيَّاكَ أَنْ تَغْتَابَ عِنْدَهُ أَحَدًا، وَإِيَّاكَ أَنْ تُفْشِيَ لَهُ سِرًّا. ثُمَّ قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ ثَلَاثٌ وَأَيُّ ثَلَاثٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ قَالَ: بَلْ كُلُّ وَاحِدَةٍ خَيْرٌ مِنْ عَشْرَةِ آلَافٍ.

فصل ينبغي للعالم التوسط في كل شؤونه للتأسي به

[فَصْلٌ يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ التَّوَسُّطُ فِي كُلِّ شُؤُونِهِ لِلتَّأَسِّي بِهِ] ِ) قَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَتَوَسَّطَ فِي مَلْبَسِهِ وَنَفَقَتِهِ وَلْيَكُنْ إلَى التَّقَلُّلِ أَمْيَلَ فَإِنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ إلَيْهِ، وَيَنْبَغِي لَهُ الِاحْتِرَازُ مِمَّا يُقْتَدَى بِهِ فِيهِ فَإِنَّهُ مَتَى تَرَخَّصَ فِي الدُّخُولِ عَلَى السَّلَاطِينِ وَجَمْعِ الْحُطَامِ فَاقْتَدَى بِهِ غَيْرُهُ كَانَ الْإِثْمُ عَلَيْهِ وَرُبَّمَا سَلِمَ هُوَ فِي دُخُولِهِ فَلَمْ يَفْقَهُوا كَيْفِيَّةَ سَلَامَتِهِ، وَكَلَامُ ابْنُ الْبَنَّا: فِي الْفَصْلِ قَبْلَهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا إثْمَ عَلَيْهِ وَأَنْشَدَ: إذَا قَنَعْتَ بِمَيْسُورٍ مِنْ الْقُوتِ ... أَصْبَحْتَ فِي النَّاسِ حُرًّا غَيْرَ مَمْقُوتِ يَا قُوتَ نَفْسِي إذَا مَا دَرَّ خَلْفَكَ لِي ... فَلَسْتُ آسَى عَلَى دُرٍّ وَيَاقُوتِ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «مَا عَالَ مَنْ اقْتَصَدَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَقَالَ أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ يَا عُلَمَاءُ مَا نَقْنَعُ مِنْكُمْ بِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ زِيِّ تَصَارِيفِكُمْ، فَإِنَّ طَبِيبًا بِهِ مِثْلُ مَرَضِي فَضَيَّقَ عَلَيَّ الْأَغْذِيَةَ وَلَا يَحْتَمِي مَشْكُوكٌ فِي صِدْقِهِ عِنْدِي، فَالْحَظُوا حَالَ مَنْ أَنْتُمْ مِنْ وَرَثَتِهِ كَيْفَ غُفِرَ لَهُ. ثُمَّ قَامَ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ يَا سِبَاعُ يَا قُطَّاعَ الطَّرِيقِ لَا تُرَوْنَ إلَّا عَلَى مَطَارِحِ الْجِيَفِ: نَبِيُّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَنَعَ مِنْ الْمَرْأَةِ بِإِشَارَتِهَا إلَى السَّمَاءِ وَأَنْتُمْ تُشَكِّكُونَ النَّاسَ فِي الْعَقَائِدِ، انْفَتَحَ بِكَلَامِكُمْ الْبَثْقُ الْعَظِيمُ وَهُوَ كَلَامُ الدَّهْرِيَّةِ وَالْمُلْحِدَةِ.

فصل في المفاضلة بين الفقير الصابر والغني الشاكر

[فَصْلٌ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْفَقِيرِ الصَّابِرِ وَالْغَنِيِّ الشَّاكِرِ] ِ) هَلْ الْفَقِيرُ الصَّابِرُ أَفْضَلُ مِنْ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ أَمْ الْعَكْسُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ أَنَّ أَصَحَّهُمَا أَنَّ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ أَفْضَلُ وَقَالَ: اخْتَارَهَا أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَاقِلَا وَالْوَالِدُ السَّعِيدُ وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَالصَّوَابُ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] . فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي الْفَتْوَى اسْتَوَيَا فِي الدَّرَجَةِ كَذَا قَالَ وَقَالَ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَافِعِ بْنِ مُكْرَمٍ الزَّاهِدُ أَبُو عَبَّاسٍ الْعَابِدُ كَانَ مِنْ الْأَبْدَالِ، تُوُفِّيَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَثِمِائَةٍ، سَمِعْتُ الْأُسْتَاذَ " أَبُو الْوَلِيدِ " يَقُولُ لَوْ أَنَّ التَّابِعِينَ وَالسَّلَفَ رَأَوْا عُبَيْدَ اللَّهِ الزَّاهِدَ لَفَرِحُوا بِهِ سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرٍ الْمُزَكَّى سَمِعْت أَبَا عَلِيٍّ الثَّقَفِيَّ يَقُولُ: عُبَيْدُ اللَّهِ الزَّاهِدُ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ قَالَ الْحَاكِمُ: قُلْتُ لِعُبَيْدِ اللَّهِ قَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ قَالَ: لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فَضْلٌ إنَّمَا يَتَفَاضَلُ النَّاسُ بِإِيمَانِهِمْ ثُمَّ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: كَلَّمَنِي أَبُو الْوَلِيدِ فِي فَضْلِ الْغَنِيِّ. وَاحْتَجَّ عَلِيٌّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غَنِيٍّ» قُلْتُ: يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ جُهْدُ الْمُقِلِّ» قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذَكَرْت أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاضَلُونَ بِإِيمَانِهِمْ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحَارِثَةَ: «إنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً فَمَا حَقِيقَةُ إيمَانِكَ قَالَ: عَزَفَتْ نَفْسِي عَنْ الدُّنْيَا» . جَعَلَ اخْتِيَارَ الْفَقْرِ عَلَى الْغِنَى حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ وَهُوَ غَرِيبٌ ضَعِيفٌ انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَأَمَّا التَّفْضِيلُ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ فَظَاهِرُ النَّقْلِ يَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِ الْفَقِيرِ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ تَفْضِيلٍ فَنَقُولُ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ الشَّكُّ وَالْخِلَافُ فِي

فَقِيرٍ صَابِرٍ لَيْسَ بِحَرِيصٍ بِالْإِضَافَةِ إلَى غَنِيٍّ شَاكِرٍ يُنْفِقُ مَالَهُ فِي الْخَيْرَاتِ، أَوْ فَقِيرٍ حَرِيصٍ مَعَ غَنِيٍّ حَرِيصٍ، فَلَا يَخْفَى أَنَّ الْفَقِيرَ الْقَانِعَ أَفْضَلُ مِنْ الْغَنِيِّ الْحَرِيصِ، فَإِنْ كَانَ الْغَنِيُّ مُتَمَتِّعًا بِالْمَالِ فِي الْمُبَاحَاتِ، فَالْفَقِيرُ الْقَنُوعُ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَكَشْفُ الْغِطَاءِ فِي هَذَا إنَّمَا يُرَادُ لِغَيْرِهِ وَلَا يُرَادُ لِعَيْنِهِ، يَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ إلَى مَقْصُودِهِ إذْ بِهِ يَظْهَرُ فَضْلُهُ، وَالدُّنْيَا لَيْسَتْ مَحْذُورَةً لِعَيْنِهَا بَلْ لِكَوْنِهَا عَائِقَةً عَنْ الْوُصُولِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالْفَقْرُ لَيْسَ مَطْلُوبًا لِعَيْنِهِ لَكِنْ؛ لِأَنَّ فِيهِ فَقْدَ الْعَائِقِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَعَدَمَ التَّشَاغُلِ عَنْهُ. وَكَمْ مِنْ غَنِيٍّ لَا يَشْغَلُهُ الْغِنَى عَنْ اللَّهِ تَعَالَى كَسُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَكَذَلِكَ عُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَكَمْ مِنْ فَقِيرٍ شَغَلَهُ فَقْرُهُ عَنْ الْمَقْصُودِ وَصَرَفَهُ عَنْ حُبِّ اللَّهِ تَعَالَى وَالْأُنْسِ بِهِ، وَإِنَّمَا الشَّاغِلُ لَهُ حُبُّ الدُّنْيَا إذْ لَا يَجْتَمِعُ مَعَهُ حُبُّ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ الْمُحِبَّ لِشَيْءٍ مَشْغُولٌ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي فِرَاقِهِ أَوْ فِي وِصَالِهِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ شُغْلُهُ فِي فِرَاقِهِ أَكْثَرَ. وَالدُّنْيَا مَشُوقَةُ الْغَافِلِينَ فَالْمَحْرُومُ مِنْهَا مَشْغُولٌ بِطَلَبِهَا، وَالْقَادِرُ عَلَيْهَا مَشْغُولٌ بِحِفْظِهَا، وَالتَّمَتُّعِ بِهَا، وَإِنْ أَخَذْت الْأَمْرَ بِاعْتِبَارِ الْأَكْثَرِ، فَالْفَقِيرُ عَنْ الْخَطَرِ أَبْعَدُ؛ لِأَنَّ فِتْنَةَ السَّرَّاءِ أَشَدُّ مِنْ فِتْنَةِ الضَّرَّاءِ، وَمِنْ الْعِصْمَةِ أَنْ لَا تَجِدَ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ فِي الْآدَمِيِّينَ إلَّا الْقَلِيلَ مِنْهُمْ جَاءَ الشَّرْعُ بِذَمِّ الْغِنَى وَفَضْلِ الْفَقْرِ، وَذَكَرَ كَلَامًا كَثِيرًا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى تَفْضِيلِ الْغَنِيِّ؛ لِأَنَّ الْغَنِيَّ مُقْتَدِرٌ وَالْفَقِيرَ عَاجِزٌ وَالْقُدْرَةُ أَفْضَلُ مِنْ الْعَجْزِ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ النَّبَاهَةِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى تَفْضِيلِ الْفَقِيرِ؛ لِأَنَّ الْفَقِيرَ تَارِكٌ وَالْغَنِيَّ مُلَابِسٌ، وَتَرْكُ الدُّنْيَا أَفْضَلُ مِنْ مُلَابَسَتِهَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ السَّلَامَةِ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى تَفْضِيلِ التَّوَسُّطِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ بِأَنْ يَخْرُجَ مِنْ حَدِّ الْفَقْرِ إلَى أَدْنَى مَرَاتِبِ الْغِنَى لِيَصِلَ إلَى فَضِيلَةِ الْأَمْرَيْنِ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ يَرَى تَفْضِيلَ الِاعْتِدَالِ، وَأَنَّ خِيَارَ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا.

قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ الْوَزِيرُ الْحَنْبَلِيُّ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْفَقْرِ إلَّا أَنَّهُ بَابُ رِضَاءِ اللَّهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْغِنَى إلَّا أَنَّهُ بَابُ سَخَطِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا رَأَى الْفَقِيرَ رَضِيَ عَنْ اللَّهِ فِي تَقْدِيرِهِ، وَإِذَا رَأَى الْغَنِيَّ تَسَخَّطَ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ يَكْفِي فِي فَضْلِ الْفَقِيرِ عَلَى الْغَنِيِّ.

فصل في لبس الحرير

[فَصْلٌ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ] فَصْلٌ (فِي تَحْرِيمِ لُبْسِ الْحَرِيرِ عَلَى الرِّجَالِ بِلَا ضَرُورَةٍ) فِي اللِّبَاسِ يَحْرُمُ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ حُرٍّ وَعَبْدٍ اسْتِعْمَالُ ثَوْبٍ وَعِمَامَةٍ وَتِكَّةٍ وَسَرَاوِيلَ وَشَرَابَةٍ مِنْ الْحَرِيرِ بِلَا ضَرُورَةٍ نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِشَرَابَةِ الْحَرِيرِ الْمُنْفَصِلَةُ كَشَرَابَةِ الْبَرِيدِ فَأَمَّا الْمُتَّصِلَةُ فَمُبَاحَةٌ كَزِرِّ حَرِيرٍ وَنَحْوِهِ، وَكَلَامُهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ يَقْتَضِي هَذَا فَإِنْ قَالَ: إنَّ التَّقْلِيدَ بِشَرَارِيبِهِ يَحْرُمُ وَهُوَ مَا أَكْثَرَهُ وَزْنًا فِي وَجْهٍ قَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى، وَقِيلَ: بَلْ ظُهُورًا فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ قَدَّمَهُ فِي التَّلْخِيصِ، وَكَذَلِكَ الْمُلْحَمُ وَهُوَ مَا سَدَاهُ حَرِيرٌ وَاللُّحْمَةُ غَزْلٌ وَلُبْسُ الْحَرِيرِ وَافْتِرَاشُهُ وَالِاسْتِنَادُ إلَيْهِ وَالِاتِّكَاءُ عَلَيْهِ وَالتَّقْلِيدُ بِشَرَارِيبِهِ وَسَتْرُ الْجُدُرِ بِهِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ذَكَرَهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَابْنِ تَمِيمٍ وَالرِّعَايَةِ وَغَيْرِهِمْ وَالْبِطَانَةُ كَالظِّهَارَةِ فِي ذَلِكَ.

فصل الخلاف في استعمال الحرير بغير اللبس

[فَصْلٌ الْخِلَافُ فِي اسْتِعْمَالِ الْحَرِيرِ بِغَيْرِ اللُّبْسِ] ذَكَرَ الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كُلِّ كُتُبِهِ أَنَّ لُبْسَ الْحَرِيرِ وَافْتِرَاشَهُ مُحَرَّمٌ وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ بْنُ الْمُنَجَّى فِي الْخُلَاصَةِ قَالَ يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ الْحَرِيرِ لِبَاسًا وَافْتِرَاشًا قَالَ هَذَا مَعَ كَوْنِهِ هَذَّبَ كَلَامَ أَبِي الْخَطَّابِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَذَا غَيْرُهُمَا مِنْ الْأَصْحَابِ وَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى ذَلِكَ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ سَتْرَ الْجُدُرِ وَالْحِيطَانِ بِهِ كَغَيْرِهِ مِنْ السَّاتِرِ فِيهِ الرِّوَايَتَانِ الْمَشْهُورَتَانِ، وَإِنَّهُ لَا أَثَرَ لِكَوْنِهِ حَرِيرًا وَإِنَّ اسْتِعْمَالَ البقج وَأَكْيَاسِ الْحَرِيرِ الَّتِي تُوضَعُ الْأَثْمَان أَوْ غَيْرُهَا فِيهَا، والبقج الَّتِي تُوضَعُ فِيهَا الثِّيَابُ وَاِتِّخَاذُ مِخَدَّةِ الْحَرِيرِ لِلزِّينَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَاسْتِعْمَالُهُ مِنْ غَيْرِ جُلُوسٍ عَلَى ذَلِكَ وَالِاسْتِنَادُ إلَيْهِ وَلَا لُبْسَ لَهُ وَلَا تَدَثُّرَ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُحَرَّمً. وَقَطَعَ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ وَالْأَزَجِيُّ فِي النِّهَايَةِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِجْمَارُ بِمَا لَا يُنَقَّى كَالْحَرِيرِ النَّاعِمِ وَظَاهِرُهُ الْقَطْعُ بِجَوَازِ الِاسْتِجْمَارِ بِهِ إذَا نُقِّيَ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ بِالنَّصِّ اللُّبْسُ، وَهَذَا لَيْسَ بِلُبْسٍ بَلْ اسْتِعْمَالٌ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِ الِاسْتِعْمَالِ؛ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ وَأَخَفُّ. وَقَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ «هَذَانِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا» لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إضْمَارٍ وَإِضْمَارُ اللُّبْسِ أَوْلَى عَنْ لَفْظِهِ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَبَاحَ لِبَاسَ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ لِلنِّسَاءِ، وَحَرَّمَ ذَلِكَ عَلَى الرِّجَالِ إسْنَادُهُ ثِقَاتٌ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي جُمْلَةِ الْآثَارِ الصِّحَاحِ الْمَرْوِيَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ قَالَ: وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْخِطَابِ لِبَاسُ الْحَرِيرِ وَلِبَاسُ الذَّهَبِ دُونَ الْمِلْكِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفِ وَبِدَلِيلِ سَائِرِ الْأَحَادِيثِ الْمُصَرِّحَةِ بِاللُّبْسِ؛ وَلِأَنَّهُ الْمَعْهُودُ الْمَعْرُوفُ

فِي اسْتِعْمَالُ الشَّارِعِ، وَالتَّعْلِيلُ بِالسَّرَفِ وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ، وَكَسْرِ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ تَعْلِيلٌ بِالْحِكْمَةِ وَفِي جَوَازِهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ عَلَى أَنَّهُ مُنْكَسِرٌ بِلُبْسِ الدَّوَابِّ وَالْحَرِيرِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ الْحَرِيرِ فِي اللُّبْسِ وَالِافْتِرَاشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَقَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ، فَأَمَّا الْإِبْرَيْسَمُ فَاسْتِعْمَالُهُ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ أَحْرَارًا كَانُوا أَوْ عَبِيدًا، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ لُبْسُهُ وَافْتِرَاشُهُ وَالِاسْتِنَادُ إلَيْهِ وَالتَّقْلِيدُ بِشَرَارِيبِهِ وَجَعْلُهُ تِكَكًا فِي السَّرَاوِيلَاتِ وَتَعْلِيقُهُ سُتُورًا وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَقَالَ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ فَتَمَسَّكَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي اخْتِصَاصِ التَّحْرِيمِ بِاللِّبَاسِ بِهَذَا الْحَدِيثِ يَعْنِي قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا يَلْبَسُ هَذَا مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ» قَالَ: وَلَمْ يَقِسْ عَلَيْهِ التَّوَسُّدَ وَالنَّوْمَ عَلَيْهِ وَالِادِّثَارَ بِهِ وَالسُّتُورَ الْمُعَلَّقَةَ؛ لِأَنَّهَا دُونَهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ ثُمَّ اسْتَدَلَّ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ عَلَى التَّحْرِيمِ بِالْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ، وَقَالَ: فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ قَدْ دَلَّتْ بِعُمُومِهَا وَخُصُوصِهَا عَلَى التَّحْرِيمِ مُطْلَقًا وَلَمْ يُعَيِّنْ اسْتِعْمَالًا مَخْصُوصًا فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِهِ، وَإِنَّمَا حُرِّمَتْ؛ لِأَنَّهَا أَنْفَسُ مَالٍ لِأَهْلِ الدُّنْيَا فَلُبْسُهَا وَاسْتِعْمَالُهَا يُكْسِبُ الْعُجْبَ وَالْفَخْرَ وَالْخُيَلَاءَ، وَفِيهِ كَسْرُ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ وَالتَّشَبُّهُ بِالْأَعَاجِمِ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، إلَى أَنْ قَالَ: وَسَوَاءٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ بَيْنَ اللُّبْسِ وَالسُّتُورِ الْمُعَلَّقَةِ وَالتِّكَكِ فِي السَّرَاوِيلَاتِ والكمراناب وَمَيَاثِرِ السُّرُوجِ وَالشَّرَارِيبِ فِي الشَّعْرِ لِعُمُومِ التَّحْرِيمِ؛ وَلِأَنَّهُ نَوْعُ اسْتِعْمَالٍ وَاسْتِخْدَامٍ فَيَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمُخْتَارِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الِافْتِرَاشَ وَنَحْوَهُ لَا يُكْرَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يُكْرَهُ انْتَهَى كَلَامُهُ وَإِبَاحَةُ الِافْتِرَاشِ وَنَحْوِهِ مِنْ مُفْرَدَاتِ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَذَكَرَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ أَنَّهُ يَحْرُمُ غَيْرُ اللُّبْسِ كَافْتِرَاشِهِ وَالِاسْتِنَادِ إلَيْهِ وَنَحْوِهِ وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِالْأَحَادِيثِ مِنْهَا قَالَ: وَدَخَلَ أَبُو أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ فَأَلْقَى لَهُ وِسَادَةً فَظَنَّ أَنَّهَا حَرِيرٌ فَتَنَحَّى وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَسْتَمْتِعُ بِالْحَرِيرِ مَنْ يَرْجُو أَيَّامَ اللَّهِ» . وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ قَالَ فَفَهِمَ أَبُو أُمَامَةَ دُخُولَ الِافْتِرَاشِ فِي عُمُومِهِ وَقَالَ أَيْضًا لَا يُبَاحُ يَسِيرُ الْحَرِيرِ مُفْرَدًا كَالتِّكَّةِ وَالشَّرَابَةِ وَنَحْوِهِمَا نَصَّ عَلَيْهِ خِلَافًا لِإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَفَهِمَ ابْنُ عَبْدِ الْقَوِيِّ مِنْ كَلَامِهِ هَذَا الْعُمُومَ فَقَالَ: وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ ذَلِكَ شَرَابَةُ الدَّوَاةِ وَسِلْكُ السُّبْحَةِ كَمَا يَفْعَلُهُ جَهَلَةُ الْمُتَعَبِّدَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالتَّمَتُّعُ وَالِاسْتِمْتَاعُ بِالشَّيْءِ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَالْمَتَاعُ وَالْمُتْعَةُ لِمَا يُنْتَفَعُ بِهِ. لَكِنْ خَبَرُ أَبِي أُمَامَةَ الْمَذْكُورُ مِنْ رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ الشَّامِيِّ وَأَبُو بَكْرٍ ضَعِيفٌ بِالِاتِّفَاقِ ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ وَأَبُو زُرْعَةَ وَأَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُمْ، وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَصَّ عَلَى إبَاحَةَ جَعْلِ الْمُصْحَفِ فِي كِيسٍ حَرِيرٍ وَاتِّخَاذِهِ لَهُ وَلَوْ أُبِيحَ جَعْلُ غَيْرِ الْمُصْحَفِ فِيهِ وَاِتِّخَاذُهُ لَهُ لَمَا خَصَّ الْمُصْحَفَ بِالذِّكْرِ. وَعَلَّلَ الْآمِدِيُّ مَسْأَلَةَ الْمُصْحَفِ بِأَنَّهُ يَسِيرٌ وَفِي ذَلِكَ تَعْظِيمٌ لَهُ وَهَذَا مِنْ الْآمِدِيِّ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْكَثِيرِ لِغَيْرِ الْمُصْحَفِ، وَتَعْلِيلُهُ صَرِيحٌ فِي إبَاحَةِ الْيَسِيرِ الْمُفْرَدِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ إِسْحَاقَ. وَمَسْأَلَةُ كِتَابِ الصَّدَاقِ فِي الْحَرِيرِ مَنْ حَرَّمَهُ يُوَافِقُ هَذَا الْقَوْلَ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَوْ اخْتَصَّ بِجِنْسِ اللُّبْسِ لَمْ يَحْرُمْ، وَمَنْ لَمْ يُحَرِّمْهُ قَدْ يُوَجِّهُهُ بِأَنَّهُ بِسَبَبِ الْمَرْأَةِ، وَالْحَرِيرُ مُبَاحٌ لَهَا فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ مُوَافَقَةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ يُقَالُ: يَلْزَمُ مِنْهُ الْمُوَافَقَةُ. وَقَدْ بَحَثَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي مَسْأَلَةِ اتِّخَاذِ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ اتِّخَاذَهَا يَدْعُو إلَى اسْتِعْمَالِهَا وَيُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا فَحُرِّمَ كَالْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَاقْتِنَاءِ الْخَمْرِ؛ وَلِأَنَّ مَا حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ مُطْلَقًا حَرُمَ اتِّخَاذُهُ عَلَى هَيْئَةِ الِاسْتِعْمَالِ كَالْمَلَاهِي قَالُوا وَتَحْرِيمُ الِاسْتِعْمَالِ عَلَيْهِ عِلَّتُهُ السَّرَفُ وَالْخُيَلَاءُ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الِاتِّخَاذِ، وَهَذَا جَارٍ بِظَاهِرٍ فِي مَسْأَلَتِنَا. وَمِنْ

أَصْحَابِنَا مَنْ ذَكَرَ هَذَا الْبَحْثَ وَلَمْ يَزِدْ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَهُ وَذَكَرَ فِي حُجَّةِ الْمُخَالِفِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِ الِاسْتِعْمَالِ تَحْرِيمُ الِاتِّخَاذِ كَمَا لَوْ اتَّخَذَ الرَّجُلُ ثِيَابَ الْحَرِيرِ، وَفَرَّقَ بِأَنَّ ثِيَابَ الْحَرِيرِ تُبَاحُ لِلنِّسَاءِ وَتُبَاحُ لِلتِّجَارَةِ فِيهَا. فَقَدْ ظَهَرَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ لِأَصْحَابِنَا فِي اسْتِعْمَالِ الْحَرِيرِ فِي غَيْرِ جِنْسِ اللُّبْسِ اللُّغَوِيِّ وَجْهَيْنِ، وَأَنَّ فِي تَحْرِيمِ اتِّخَاذِ مَا حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ لِلزِّينَةِ وَنَحْوِهَا وَجْهَيْنِ، فَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ إبَاحَةِ اتِّخَاذِ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَهَذَا أَوْلَى، وَإِنَّ اخْتِيَارَ الْآمِدِيِّ إبَاحَةَ يَسِيرِ الْحَرِيرِ مُفْرَدًا وَقَدْ أَطْلَقَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إبَاحَةَ يَسِيرِ الْحَرِيرِ وَظَاهِرُهُ كَقَوْلِ الْآمِدِيِّ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ ذَكَرَ تَحْرِيمَ اللُّبْسِ وَالِافْتِرَاشِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ أَنْوَاعِ اللُّبْسِ اللُّغَوِيِّ وَسَتْرِ الْجُدُرِ بِهِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ عُرِفَ مِنْ ذَلِكَ حُكْمُ حَرَكَاتِ الْحَرِيرِ والبشخانة وَالْخَيْمَةِ وَالِاسْتِنْجَاءِ بِالْحَرِيرِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

فَصْلٌ فَإِنْ جَلَسَ عَلَى شَيْءٍ طَرَفُهُ أَوْ وَسَطُهُ حَرِيرٌ لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ التَّحْرِيمَ يَخْتَصُّ بِجِنْسِ اللُّبْسِ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَحْرُمَ اعْتِبَارًا بِمَا إذَا صَلَّى عَلَى مَكَان طَاهِرٍ مِنْ بِسَاطِ طَرَفُهُ نَجِسٌ صَحَّتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَامِلٍ لِلنَّجَاسَةِ وَلَا مُصَلٍّ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا اتَّصَلَتْ بِمُصَلَّاهُ كَذَا هَهُنَا. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْجُلُوسَ عَلَى بَعْضِهِ اسْتِعْمَالٌ مِثْلُهُ دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ، بَلْ اسْتِعْمَالُ مِثْلِهِ الْجُلُوسُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْعَيْنِ هُوَ التَّصَرُّفُ فِيهَا حَسَبَ مَا أُعِدَّتْ لَهُ وَهَذِهِ الْعَيْنُ لَا يُجْلَسُ عَلَى الْحَرِيرِ مِنْهَا فَلَا يَكُونُ، مُسْتَعْمِلًا لَهُ، بَلْ وَلَمْ تُعَدَّ جَمِيعُهَا لِلْجُلُوسِ بَلْ بَعْضُهَا مُعَدٌّ لِلْجُلُوسِ وَبَعْضُهَا لِلزِّينَةِ فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا حُكْمُ نَفْسِهِ كَمَا لَوْ انْفَصَلَا وَمُجَرَّدُ الِاتِّصَالِ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِتَسَاوِي حُكْمَيْهِمَا لَكِنْ يَجِيءُ فِي تَحْرِيمِ اتِّخَاذِهِ مَا سَبَقَ وَيُفَارِقُ الْإِنَاءَ إذَا كَانَ بَعْضُهُ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً حَيْثُ تَقُولُ: يَحْرُمُ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا أَغْلَظُ وَأَشَدُّ فَلَا يَلْزَمُ مِثْلُهُ هُنَا؛ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ وَأَخَفُّ عَلَى مَا لَا يَخْفَى فِيهَا، وَتَحْتَمِلُ أَنْ يَحْرُمَ؛ لِأَنَّ اتِّصَالَ مَا لَمْ يَحْرُمْ اسْتِعْمَالُهُ بِمَا حُرِّمَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ اسْتِعْمَالِهِ لِكَوْنِهِ اسْتِعْمَالًا مِثْلَهُ. وَدَلِيلُهُ مَسْأَلَةُ الْإِنَاءِ إذَا كَانَ بَعْضُهُ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً وَتُفَارِقُ مَسْأَلَتُنَا مَسْأَلَةَ الْبِسَاطِ إذَا كَانَ بَعْضُهُ طَاهِرًا وَبَعْضُهُ نَجِسًا أَنَّ ذَلِكَ الْبَابَ الْحُكْمُ مُعَلَّقٌ فِيهِ بِقُرْبَانِ النَّجَاسَةِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَهَذَا الْحُكْمُ مُعَلَّقٌ بِالِاسْتِعْمَالِ وَقَدْ وُجِدَ وَيُقَوِّي الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ مِنْ جِهَةِ الْمَنْقُولِ كَلَامُ الشَّيْخِ وَجِيهِ الدِّينِ فِي الْمَسْأَلَةِ بَعْدَهَا.

فصل في الجلوس على الحرير بحائل فوقه وفي بطانته

[فَصْلٌ فِي الْجُلُوسِ عَلَى الْحَرِيرِ بِحَائِلٍ فَوْقَهُ وَفِي بِطَانَتِهِ] ِ) فَإِنْ وَضَعَ عَلَى الْحَرِيرِ شَيْئًا وَجَلَسَ عَلَيْهِ فَهَلْ يَحْرُمُ؟ جَعَلَ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ حُكْمَهَا حُكْمَ مَا لَوْ بَسَطَ شَيْئًا وَجَلَسَ عَلَيْهِ طَاهِرًا عَلَى نَجِسٍ وَفِيهَا رِوَايَتَانِ وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْضُوعُ عَلَى الْحَرِيرِ مُتَّصِلًا بِهِ أَوْ لَا كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَسْأَلَةِ الطَّاهِرِ عَلَى النَّجِسِ وَلَعَلَّهُ ظَاهِرُ قَوْلِ مَنْ قَاسَ مِنْ أَصْحَابِنَا تَحْرِيمَ حَشْوِ الْجِبَابِ وَالْفُرُشِ عَلَى الْبِطَانَةِ. وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا تَحْرِيمَ بِطَانَةِ الْحَرِيرِ وَظِهَارَتِهِ،، وَظَاهِرُهُ أَنَّ ذَلِكَ فِي الْفِرَاشِ وَغِشَاءِ الْمِخَدَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ فِي الْمَلْبُوسِ الْعُرْفِيِّ وَعَلَى الْأَوَّلِ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا كَمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي مَسْأَلَةِ الطَّاهِرِ وَالنَّجِسِ وَكَمَا فَرَّقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ أَحَدُ جَانِبَيْ الْفِرَاشِ حَرِيرًا وَالْآخَرُ غَيْرَ حَرِيرٍ عَلَى مَا سَبَقَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَأَمَّا سَتْرُ الْكَعْبَةِ شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْحَرِيرِ مَعْرُوفٌ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَظَاهِرُ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ أَنَّ إبَاحَتَهُ وِفَاقٌ.

فصل في إباحة الحرير والذهب للنساء وحكمة تحريم الحرير على الرجال

[فَصْلٌ فِي إبَاحَةِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ لِلنِّسَاءِ وَحِكْمَةِ تَحْرِيمِ الْحَرِيرِ عَلَى الرِّجَالِ] فَصْلٌ (فِي إبَاحَةِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ لِلنِّسَاءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لَا إجْمَاعًا، وَالْأَقْوَالُ فِي حِكْمَةِ تَحْرِيمِ الْحَرِيرِ عَلَى الرِّجَالِ) وَيُبَاحُ كُلُّ ذَلِكَ لِلنِّسَاءِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالظَّاهِرِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ وَكَذَا إبَاحَةُ الذَّهَبِ لَهُنَّ. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ خَطَبَ وَقَالَ: لَا تُلْبِسُوا نِسَاءَكُمْ الْحَرِيرَ فَإِنَّهُ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ مِثْلُهُ وَعَنْهُ أَيْضًا الْإِبَاحَةُ. وَرَوَى أَيُّوبُ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَقُولُ لِابْنَتِهِ لَا تَلْبَسِي الذَّهَبَ، فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْك مِنْ حَرِّ اللَّهَبِ، وَرَوَى مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَرِهَ الذَّهَبَ لِلنِّسَاءِ وَمَا يَدُلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ مِنْ الْأَخْبَارِ يُحْمَلُ بِتَقْدِيرِ صِحَّتِهَا عَلَى تَحْرِيمٍ سَابِقٍ لِصِحَّةِ أَحَادِيثِ الْإِبَاحَةِ وَتَأَخُّرِهَا. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ عُرِفَ مِمَّا سَبَقَ فِي فُصُولِ الطِّبِّ فِي التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمَاتِ أَنَّ لِبَاسَ الْحَرِيرِ أَعْدَلُ اللِّبَاسِ وَأَوْفَقُهُ لِلْبَدَنِ فَلِمَ حَرَّمَهُ الشَّرْعُ؟ قِيلَ: لِتَصْبِرَ النَّفْسُ عَنْهُ فَتُثَابَ وَلَهَا عِوَضٌ عَنْهُ، وَقِيلَ: فِي إبَاحَتِهِ مَفْسَدَةُ تَشَبُّهِ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَقِيلَ: لِمَا يُورِثُ لُبْسُهُ مِنْ الْأُنُوثَةِ وَالتَّخَنُّثِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ ضِدُّ الشَّهَامَةِ وَالرُّجُولِيَّةِ، وَقِيلَ: لِمَا يُورِثُهُ لُبْسُهُ مِنْ الْفَخْرِ وَالْعُجْبِ، وَمَنْ لَمْ يَرَ الْحِكَمَ وَالتَّعْلِيلَ لِلْأَحْكَامِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى جَوَابٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل فيما يباح للرجال من الحرير والذهب كالعلم والزر

[فَصْلٌ فِيمَا يُبَاحُ لِلرِّجَالِ مِنْ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ كَالْعَلَمِ وَالزِّرِّ] ِّ) وَيُبَاحُ مِنْ ذَلِكَ لِلرَّجُلِ عَلَمُ الثَّوْبِ وَرُقْعَتُهُ وَلَبِنَةُ جَيْبِهِ وَسَجْفُ الْفِرَاءِ وَنَحْوُهَا قَدْرُ كَفٍّ حَرِيرٍ عَرْضًا قَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى وَقِيلَ: بَلْ أَرْبَعَةُ أَصَابِعَ مَضْمُومَةٌ فَأَقَلُّ نَصَّ عَلَيْهِ وَقَطَعَ بِهِ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَالتَّلْخِيصِ وَالشَّرْحِ وَابْنِ تَمِيمٍ وَغَيْرِهِمْ، وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ بِمُخَالِفٍ لِمَا قَبْلَهُ، بَلْ هُمَا سَوَاءٌ وَفِي الْعَلَمِ الْمُذَهَّبِ قَدْرُ كَفٍّ أَوْ أَقَلُّ وَالزِّرُّ الذَّهَبِيُّ وَنَحْوُهُمَا وَجْهَانِ. وَذَكَرَ ابْنُ تَمِيمٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْعَلَمِ الدَّقِيقِ دُونَ الْعَرِيضِ وَذَكَرَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ عَنْ ابْنِ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ قَالَ فِي الْعَلَمِ إنْ كَانَ عَرِيضًا كُرِهَ وَلَا بَأْسَ بِالدَّقِيقِ، وَمَنْ لَبِسَ ثِيَابًا فِي كُلِّ ثَوْبٍ قَدْرٌ يُعْفَى عَنْهُ وَلَوْ جُمِعَ صَارَ ثَوْبًا فَذَكَرَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَابْنِ تَمِيمٍ أَنْ لَا بَأْسَ بِهِ، وَذَكَرَ فِي الرِّعَايَةِ أَنْ لَا يَحْرُمُ بَلْ يُكْرَهُ. وَتُبَاحُ الْخِيَاطَةُ بِحَرِيرٍ وَمَا تُلَفُّ بِهِ رُءُوسُ الْأَكْمَامِ وَفُرُوجُ الثِّيَابِ وَالرَّقْمِ فَوْقَ ثَوْبِ قُطْنٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا: وَيُبَاحُ الْخَزُّ نَصَّ عَلَيْهِ وَهُوَ حَرِيرٌ، وَوَبَرٌ طَاهِرٌ مِنْ أَرْنَبٍ أَوْ غَيْرِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْخَزِّ نَصَّ عَلَيْهِ وَجَعَلَهُ ابْنُ عَقِيلٍ كَغَيْرِهِ مِنْ الثِّيَابِ الْمَنْسُوجَةِ مِنْ الْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ، وَفَرَّقَ أَحْمَدُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ هَذَا لَبِسَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَاكَ مُحْدَثٌ بِأَنَّ الْخَزَّ لَا سَرَفَ فِيهِ وَلَا خُيَلَاءَ بِخِلَافِ ذَاكَ فَهَذَا الْفَرْقُ أَوْمَأَ إلَيْهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ، وَالْفَرْقُ الْأَوَّلُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ وَغَيْرِهِ وَمَا عُمِلَ مِنْ سَقَطِ حَرِيرٍ وَمُشَاقَتِهِ وَمَا يُلْقِيه الصَّانِعُ مِنْ فَمِهِ مِنْ تَقْطِيعِ الطَّاقَاتِ وَدَقٍّ وَغَزْلٍ وَنَسْجٍ فَهُوَ كَحَرِيرٍ خَالِصٍ فِي ذَلِكَ وَإِنْ سُمِّيَ الْآنَ خَزًّا وَيُبَاحُ الْكَتَّانُ قَالَ ابْنُ حَمْدَانَ: لَا الْقَزُّ، وَهَذَا الْكَلَامُ عَجِيبٌ؛ لِأَنَّ الْقَزَّ حَرِيرٌ.

فصل في ما نسج بذهب أو فضة

[فَصْلٌ فِي مَا نُسِجَ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ] فَصْلٌ وَمَا نُسِجَ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ: وَقِيلَ: أَوْ فِضَّةٍ أَوْ مُمَوَّهٍ أَوْ طَلْيٍ أَوْ كُفِّتَ أَوْ طُعِّمَ بِأَحَدِهِمَا حَرُمَ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: بَلْ يُكْرَهُ إلَّا فِي مِغْفَرٍ وَجَوْشَنٍ وَخُوذَةٍ أَوْ فِي سِلَاحٍ لِضَرُورَةٍ كَذَا فِي الرِّعَايَةِ، وَفِيمَا اسْتَحَالَ لَوْنُهُ مِنْ الْمُمَوَّهِ بِذَهَبٍ، وَقِيلَ: وَلَا يَجْتَمِعُ مِنْهُ شَيْءٌ إذَا حُكَّ وَمَا نِصْفُهُ حَرِيرٌ وَزْنًا فِي مُلَحَّمٍ وَخَزٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَحَشْوُ الْحَرِيرِ فِي جُبَّةٍ أَوْ فِرَاشٍ وَجْهَانِ فِي الْكُلِّ جَوَازٌ وَعَدَمُهُ، وَقِيلَ بِالْكَرَاهَةِ فَقَطْ كَمَا لَوْ شَكَّ فِي كَثْرَةِ الْحَرِيرِ أَوْ مَسَارَاتِهِ غَيْرِهِ مَعَ إبَاحَةِ النِّصْفِ، وَقِيلَ: الْمَنْسُوجُ بِالذَّهَبِ وَالْمُمَوَّهُ بِهِ كَالْحَرِيرِ فِيمَا ذُكِرَ كُلِّهِ. وَقَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: إنْ كَانَ بَعْدَ اسْتِحَالَتِهِ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ شَيْءٌ فَهُوَ مُبَاحٌ وَجْهًا وَاحِدًا قَالَ الْمَرُّوذِيُّ سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ خِيَاطَةِ الْمُلَحَّمِ فَقَالَ: مَا كَانَ لِلرَّجُلِ فَلَا وَمَا كَانَ لِلنِّسَاءِ فَلَيْسَ بِهِ بَأْسٌ. وَقَالَ فِي التَّلْخِيصِ: يُبَاحُ حَشْوُ الْجِبَابِ الْإِبْرَيْسَمَ عَلَى الْأَظْهَرِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَدَّمَهُ وَرَجَّحَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي تَحْرِيمِهِ رِوَايَتَيْنِ وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ تَمْوِيهُ حَائِطٍ وَسَقْفٍ وَسَرِيرٍ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَتَجِبُ إزَالَتُهُ وَزَكَاتُهُ بِشَرْطِهَا وَلَوْ كَانَ فِي مَسْجِدٍ. وَقِيلَ: وَقَلَنْسُوَةٍ كَذَا قَالَ، وَقِيلَ: إنْ اُسْتُهْلِكَ فَلَمْ يَجْتَمِعْ مِنْهُ شَيْءٌ إذَا سُبِكَ فَلَهُ اسْتِدَامَتُهُ مَجَّانًا وَإِلَّا فَلَا، وَكَذَا الْخِلَافُ فِي تَحْلِيَةِ سَرْجٍ أَوْ لِجَامٍ وَمَرْكَبٍ وَقِلَادَةِ فَهْدٍ وَكَلْبٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَيَحْرُمُ تَحْلِيَةُ فِرَاشِهِ وَلِبَاسِهِ بِذَهَبٍ فَيُزَكَّى إذًا، وَيُبَاحُ بِفِضَّةٍ فَلَا يُزَكَّى وَقِيلَ: بَلْ يَحْرُمُ فَيُزَكَّى، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمَا تَحْلِيَةُ دَوَاةٍ وَمِحْبَرَةٍ وَمِقْلَمَةٍ وَمِرْآةٍ وَمُشْطٍ وَمُكْحُلَةٍ وَشَرْبَةٍ وَمِرْوَدٍ وَكُرْسِيٍّ وَآنِيَةٍ وَسُبْحَةٍ وَمِحْرَابٍ وَكُتُبِ عِلْمٍ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَكَذَا قِنْدِيلٌ وَمِجْمَرَةٌ وَمِدْخَنَةٌ وَمِلْعَقَةٌ وَقِيلَ: يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي الْكُلِّ، وَعَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَرَاهَةُ رَأْسِ الْمُكْحُلَةِ وَحِلْيَةُ الْمِرْآةِ فِضَّةً.

قَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ وَأَلْحَقَ بِذَلِكَ حِلْيَةَ جَمِيعِ الْأَوَانِي بِالْفِضَّةِ وَالْمُصْمَتُ مِنْ ذَلِكَ أَوْلَى بِالْمَنْعِ، وَذَكَرَ التَّمِيمِيُّ أَنَّهُ إنْ اتَّخَذَ قِنْدِيلًا أَوْ نَعْلَيْنِ أَوْ مِجْمَرَةً أَنَّ ذَلِكَ يُكْرَهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ قَالَ وَلَوْ اتَّخَذَ سَرِيرًا أَوْ كُرْسِيًّا لَمْ يَجُزْ قَالَ وَيُكْرَهُ عَمَلُ خُفَّيْنِ مِنْ فِضَّةٍ وَلَا يَحْرُمُ كَالنَّعْلَيْنِ وَمُنِعَ مِنْ الشَّرَابَةِ وَالْمِلْعَقَةِ. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَالرَّجُلُ يُدْعَى فَيَرَى مُكْحُلَةً رَأْسُهَا مُفَضَّضٌ قَالَ: هَذَا يُسْتَعْمَلُ وَكُلُّ مَا اُسْتُعْمِلَ فَأُخْرِجَ مِنْهُ إنَّمَا رُخِّصَ فِي الضَّبَّةِ أَوْ نَحْوِهَا قُلْت: لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ إنِّي دَخَلْتُ: عَلَى رَجُلٍ وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بَعَثَ بِي إلَيْهِ فِي شَيْءٍ فَأُتِيَ بِمُكْحُلَةٍ رَأْسُهَا مُفَضَّضٌ فَقَطَعَهَا فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ فَتَبَسَّمَ وَأَنْكَرَ عَلَى صَاحِبُهَا.

فصل بيع الحرير والمنسوج بالذهب والفضة وصنعه تابع لاستعماله

[فَصْلٌ بَيْعُ الْحَرِيرِ وَالْمَنْسُوجِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَصُنْعُهُ تَابِعٌ لِاسْتِعْمَالِهِ] ِ) فَصْلٌ: وَيَحْرُمُ بَيْعُ الْحَرِيرِ وَالْمَنْسُوجِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِلرَّجُلِ، وَكَذَلِكَ خِيَاطَتُهُ وَأُجْرَتُهَا. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بَيْعُ الْحَرِيرِ لِلْكُفَّارِ حَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقْتَضِي جَوَازَهُ بِخِلَافِ بَيْعِ الْخَمْرِ فَإِنَّ الْحَرِيرَ لَيْسَ حَرَامًا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَعَلَى قِيَاسِهِ بَيْعُ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَهُمْ، وَإِذَا جَازَ بَيْعُهَا لَهُمْ جَازَ صَنْعَتُهَا لِبَيْعِهَا مِنْهُمْ، وَجَازَ عَمَلُهَا لَهُمْ بِالْأُجْرَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ بَابِ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ تَعْلِيقِهِ عَلَى الْمُحَرَّرِ.

فصل في التحلي باللآلئ والجواهر

[فَصْلٌ فِي التَّحَلِّي بِاللَّآلِئِ وَالْجَوَاهِرِ] ِ) وَلَا تَحْرُمُ اللَّآلِئُ وَلَا الْجَوَاهِرُ الثَّمِينَةُ، وَظَاهِرُ مَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُكْرَهُ قَالَ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالنِّسَاءِ، فَعَلَى قَوْلِهِ يَكُونُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي تَشَبُّهِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةِ بِالرَّجُلِ فِي اللِّبَاسِ وَغَيْرِهِ هَلْ هُوَ مُحَرَّمٌ أَوْ مَكْرُوهٌ؟ وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ إبَاحَةَ ذَلِكَ فِي أَبْوَابِ الزَّكَاةِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي بَحْثِ مَسْأَلَةِ إنَاءِ ذَاكَ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: التَّحْرِيمُ، وَالْكَرَاهَةُ وَالْإِبَاحَةُ، وَلَعَلَّ مُرَادَ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ غَيْرُ خَاتَمِ الرَّجُلِ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْإِجْمَاعِ بَعْدَ الذَّبَائِحِ: اتَّفَقُوا عَلَى إبَاحَةِ تَحَلِّي النِّسَاءَ بِالْجَوَاهِرِ وَالْيَاقُوتِ وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ لِلرَّجُلِ إلَّا فِي الْخَاتِمِ، فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ التَّخَتُّمَ لَهُمْ بِجَمِيعِ الْأَحْجَارِ مُبَاحٌ مِنْ الْيَاقُوتِ وَغَيْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي كِتَابَةِ صَدَاقِ الْمَرْأَةِ فِي حَرِيرٍ] فَصْلٌ يُكْرَهُ كِتَابَةُ صَدَاقِ الْمَرْأَةِ فِي حَرِيرٍ، وَقِيلَ: يَحْرُمُ فِي الْأَقْيَسِ وَلَا يَبْطُلُ الْمَهْرُ بِذَلِكَ فَإِنْ حَرُمَ عَلَيْهَا اقْتِنَاؤُهُ حَرُمَ شِرَاؤُهُ لَهَا وَإِلَّا فَلَا.

فصل في إباحة لبس الحرير والذهب في الحرب أو لفائدة صحية

[فَصْلٌ فِي إبَاحَةِ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ فِي الْحَرْبِ أَوْ لِفَائِدَةٍ صِحِّيَّةٍ] وَيُبَاحُ لُبْسُ الْحَرِيرِ فِي الْحَرْبِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فِي أَرْجَحِ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْمَذْهَبِ وَعَنْهُ يُبَاحُ مَعَ نِكَايَةِ الْعَدُوِّ بِهِ، وَقِيلَ يُبَاحُ عِنْدَ الْقِتَالِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَكَذَلِكَ افْتِرَاشُهُ، وَقَالَ فِي آخِرِ بَابٍ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَيُكْرَهُ لُبْسُ الْحَرِيرِ فِي الْحَرْبِ وَفِي جَوَازِ لُبْسِهِ أَيْضًا لِحِكَّةٍ، زَادَ غَيْرُ وَاحِدٍ يُؤَثِّرُ فِي زَوَالِهَا أَوْ لِقَمْلٍ وَمَرَضٍ قَالَ بَعْضُهُمْ: وَبَرْدٍ رِوَايَتَانِ وَسَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمَاتِ. قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: وَمَنْ احْتَاجَ إلَى لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ لِحَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ تَحَصُّنٍ مِنْ عَدُوٍّ وَنَحْوِهِ أُبِيحَ وَهَلْ يَجُوزُ لِوَلِيِّ الصَّبِيِّ أَنْ يُلْبِسَهُ الْحَرِيرَ؟ زَادَ غَيْرُ وَاحِدٍ: وَالْمَذْهَبُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ أَشْهُرُهُمَا التَّحْرِيمُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ، وَالثَّانِيَةُ الْجَوَازُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ فِي آخِرِ بَابٍ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَيُكْرَهُ لُبْسُ الْحَرِيرِ وَالْمُذْهَبُ لَلصِّبْيَانِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَالْأُخْرَى لَا يُكْرَهُ.

فصل حكم الصور والصلبان في الثياب ونحوها وصنعها واتخاذها

[فَصْلُ حُكْمِ الصُّوَرِ وَالصُّلْبَانِ فِي الثِّيَابِ وَنَحْوِهَا وَصُنْعِهَا وَاِتِّخَاذِهَا] يُكْرَهُ الصَّلِيبُ فِي الثَّوْبِ وَنَحْوِهِ قَالَ ابْنُ حَمْدَانَ: وَيُحْتَمَلُ التَّحْرِيمُ قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ فِي الْخَوَاتِيمِ الَّتِي عَلَيْهَا الصُّوَرُ كَانَتْ نُقِشَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَنْبَغِي لُبْسُهَا لِمَا فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مِنْ صَوَّرَ صُورَةً كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ وَعُذِّبَ» وَقَدْ قَالَ إبْرَاهِيمُ: أَصَابَ أَصْحَابُنَا خَمَائِصَ فِيهَا صُلُبٌ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهَا بِالسُّلُوكِ يَمْحُونَهَا بِذَلِكَ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ» انْتَهَى كَلَامُهُ وَيَحْرُمُ تَصْوِيرُ حَيَوَانٍ بِرَأْسٍ وَلَوْ فِي سَرِيرٍ أَوْ حَائِطٍ، أَوْ سَقْفٍ، أَوْ بَيْتٍ أَوْ قُبَّةٍ وَاسْتِعْمَالُ مَا هُوَ فِيهِ بِلَا ضَرُورَةٍ وَجَعْلُهُ سِتْرًا مُطْلَقًا. وَذُكِرَ فِي الرِّعَايَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَقَالَ فِي الشَّرْحِ فِي بَابِ الْوَلِيمَةِ: وَصَنْعَةُ التَّصَاوِيرِ مُحَرَّمَةٌ عَلَى فَاعِلِهَا وَلَمْ يُفَرِّقْ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ السَّلَفِ قَالَ: وَالْأَمْرُ بِعَمَلِهِ مُحَرَّمٌ كَعَمَلِهِ. وَقَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ تُكْرَهُ التَّصَاوِيرُ فِي السُّقُوفِ وَالسُّتُورِ وَالْحِيطَانِ وَالْأَسِرَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ تَمِيمٍ وَيُنْهَى عَنْ التَّصَاوِيرِ فِي السُّقُوفِ، وَالْحِيطَانِ، وَالْأَسِرَّةِ وَنَحْوِهِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: الصُّوَرُ وَالتَّمَاثِيلُ مَكْرُوهَةٌ عِنْدَهُ فِي الْأَسِرَّةِ وَالْجُدْرَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهَا فِي الرَّقْمِ أَيْسَرُ وَتَرْكُهُ أَفْضَلُ، فَإِنْ أُزِيلَ رَأْسُ الصُّورَةِ أَوْ كَانَتْ بِلَا رَأْسٍ جَازَ نَصَّ عَلَيْهِ، وَفِيهِ وَجْهٌ يُكْرَهُ وَقَطَعَ بِهِ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَيُبَاحُ بَسْطُهُ مُطْلَقًا. قَالَ فِي الرِّعَايَةِ وَغَيْرِهَا: وَصُورَةُ غَيْرِهَا مُطْلَقًا كَشَجَرٍ وَغَيْرِهِ مِنْ التَّمَاثِيلِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهَا وَيُكْرَهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَابْنِ تَمِيمٍ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِمَا فِيهِ تَمَاثِيلُ غَيْرِ الْحَيَوَانِ، وَهَلْ يُكْرَهُ لُبْسُ مَا فِيهِ صُورَةُ حَيَوَانٍ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ أَوْ يَحْرُمُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَلَا بَأْسَ بِافْتِرَاشِهِ

وَقَالَ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ ابْنُ الْمُنَجَّى: فَأَمَّا صُوَرُ الْأَشْجَارِ وَالتَّزْوِيقَاتِ وَالتَّمَاثِيلِ فَمُبَاحٌ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: يُكْرَهُ أَيْضًا، فَإِنْ قُطِعَ رَأْسُ الصُّورَةِ أَوْ صُوِّرَ جَسَدُهَا دُونَهَا جَازَ مَعَ الْكَرَاهَةِ، فَإِنْ كَانَتْ الصُّوَرُ فِي الْحِيطَانِ، وَالسُّتُورِ الْمُعَلَّقَةِ وَالْأَسِرَّةِ، وَالسُّقُوفِ كُرِهَتْ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْبُسُطِ وَمَا يُدَاسُ وَيُمْتَهَنُ فَغَيْرُ مَكْرُوهَةٍ، ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ فِي التَّلْخِيصِ يَحْرُمُ لُبْسُ الثِّيَابِ الَّتِي فِيهَا التَّصَاوِيرُ وَتَعْلِيقُهَا سُتُورًا عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ وَلَا بَأْسَ بِمَا فِيهِ مِنْ التَّمَاثِيلِ غَيْرِ الْمُصَوَّرَةِ أَوْ الصُّوَرِ الَّتِي لَا رُءُوسَ لَهَا نَصَّ عَلَيْهِ، وَيُكْرَهُ سَتْرُ الْجُدُرِ بِمَا لَا صُورَةَ فِيهِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَالنَّهْيُ الْمُطْلَقُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا فِيهِ الصُّوَرُ. وَقَالَ فِي بَابٍ آخَرَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَيُكْرَهُ تَعْلِيقُ السُّتُورِ الَّتِي فِيهَا التَّصَاوِيرُ وَاَلَّتِي لَا تَصَاوِيرَ فِيهَا عَلَى الْحِيطَانِ، قَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: وَهَلْ يُمْنَعُ مِنْ سَتْرِ الْجُدُرِ بِمَا لَا صُورَةَ فِيهِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَقَالَ فِي الْمُحَرَّرِ: يَجُوزُ افْتِرَاشُ مَا فِيهِ صُورَةُ حَيَوَانٍ وَجَعْلُهُ وَسَائِدَ وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ وَسَتْرُ الْحِيطَانِ بِهِ، وَفِي جَوَازِ ذَلِكَ بِسُتُورٍ خَالِيَةٍ مِنْ صُوَرِ الْحَيَوَانِ رِوَايَتَانِ. وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ: وَهَلْ يُكْرَهُ جَعْلُ مَا لَا صُورَةَ حَيَوَانٍ فِيهِ سِتْرًا أَوْ يَحْرُمُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَقِيلَ وَلَا يَجْعَلُهُ فِي سَرِيرٍ وَحَائِطٍ وَسَقْفٍ.

فصل في كراهة أحمد للكلة حيث لا حاجة إليها

[فَصْلٌ فِي كَرَاهَةِ أَحْمَدَ لِلْكِلَّةِ حَيْثُ لَا حَاجَةَ إلَيْهَا] وَتُبَاحُ الْخَيْمَةُ وَالْقُبَّةُ فَأَمَّا الْكِلَّةُ وَهِيَ قُبَّةٌ لَهَا بَكَرٌ يُجَرُّ بِهَا فَقَدْ كَرِهَهَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ هِيَ مِنْ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ لَا تَرُدُّ حَرًّا وَلَا بَرْدًا وَصَدَقَ؛ لِأَنَّهَا فِي الْعَادَةِ تَكُونُ مِنْ الْخَفِيفِ مِنْ الثِّيَابِ، وَسَأَلَهُ الْمَرُّوذِيُّ عَنْ الرَّجُلِ يُدْعَى فَيَرَى الْكِلَّةَ فَكَرِهَهَا، وَقَالَ هِيَ مِنْ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ. وَلَا يَجُوزُ تَحْرِيقُ الثِّيَابِ الَّتِي عَلَيْهَا الصُّوَرُ وَلَا الْمَرْقُومَةِ الَّتِي تَصْلُحُ بُسُطًا، أَوْ مَطَارِحَ تُبْسَطُ وَتُدَاسُ، وَلَا كَسْرُ الْحُلِيِّ الْمُحَرَّمِ عَلَى الرِّجَالِ إنْ صَلَحَ لِلنِّسَاءِ.

فصل فيما يحرم وما يكره وما يباح من حلية الذهب والفضة

[فَصْلٌ فِيمَا يَحْرُمُ وَمَا يُكْرَهُ وَمَا يُبَاحُ مِنْ حِلْيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ] ِ) يَحْرُمُ يَسِيرُ الذَّهَبِ مُفْرَدًا كَخَاتَمٍ وَنَحْوِهِ، وَيُكْرَهُ تَبَعًا وَقِيلَ: لَا يُكْرَهُ إلَّا مَا ذُكِرَ، كَذَا فِي الرِّعَايَةِ وَقَالَ فِي التَّلْخِيصِ: يُبَاحُ يَسِيرُ الذَّهَبِ لِلضَّرُورَةِ وَلِغَيْرِ ضَرُورَةٍ يَحْرُمُ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ. وَقَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ: يَحْرُمُ عَلَى الرِّجَالِ لُبْسُ الذَّهَبِ إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ، وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ أَنَّ يَسِيرَ الذَّهَبِ مُبَاحٌ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ لُبْسِ الذَّهَبِ إلَّا مُقَطَّعًا» قَالَ: وَتَفْسِيرُهُ الشَّيْءَ الْيَسِيرَ مِنْهُ فَعَلَى هَذَا لَا يُبَاحُ إلَّا أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِغَيْرِهِ، فَأَمَّا أَنْ يَلْبَسَهُ مُفْرَدًا فَلَا لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُقَطَّعًا. قَالَ فِي الرِّعَايَةِ: وَفِي قَبِيعَةِ سَيْفِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ ذَهَبٍ وَجْهَانِ، وَقِيلَ يُبَاحُ يَسِيرُهُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ، وَقِيلَ مُطْلَقًا، وَقِيلَ ضَرُورَةً. وَقَالَ ابْنُ حَمْدَانَ أَوْ حَاجَةً لَا ضَرُورَةً وَقِيلَ بَلْ كُلُّ مَا يُبَاحُ تَحْلِيَتُهُ بِفِضَّةٍ يُبَاحُ بِذَهَبٍ، وَقِيلَ بِيَسِيرٍ، كَذَا ذَكَرَهُ. وَقَالَ ابْن تَمِيمٍ فِي إبَاحَةِ تَحْلِيَتِهِ: كُلُّ مَا يُبَاحُ تَحْلِيَتُهُ بِفِضَّةٍ يُبَاحُ بِيَسِيرِ الذَّهَبِ وَجْهَانِ، وَاخْتَلَفَ تَرْجِيحُ الْأَصْحَابِ فِي تَحْلِيَةِ قَبِيعَةِ السَّيْفِ وَالْمِنْطَقَةِ بِذَهَبٍ وَفِي الْمِنْطَقَةِ رِوَايَتَانِ، وَكَذَا تَحْلِيَةُ خَاتَمِ الْفِضَّةِ وَقَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: وَعَنْهُ تَحْرُمُ قَبِيعَةُ السَّيْفِ مِنْ الذَّهَبِ فَيَحْرُمُ فِي غَيْرِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ وَجْهًا وَاحِدًا. وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ فِي الزَّكَاةِ: وَتُبَاحُ قَبِيعَةُ سَيْفِهِ وَشَعِيرَةُ سِكِّينِهِ وَقِيلَ لَا يُبَاحَانِ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَقِيلَ يُبَاحُ يَسِيرُهُ فِي السَّيْفِ لَا فِي السِّكِّينِ، وَيَحْرُمُ تَحْلِيَةُ كَمَرَاتِهِ، وَخَرِيطَتِهِ، وَدُرْجِهِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَيُحْتَمَلُ الْإِبَاحَةُ، وَفِي جَوَازِ تَحَلِّي جَوْشَنِهِ، وَمِغْفَرِهِ وَخُوذَتِهِ وَنَعْلِهِ، وَخُفِّهِ وَحَمَائِلِ سَيْفِهِ، وَنَحْوِهَا وَرَأْسِ رُمْحِهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ وَمَا اتَّخَذَهُ مِنْ ذَلِكَ وَنَحْوِهِ لِتِجَارَةٍ أَوْ كِرَاءٍ أَوْ سَرَفٍ أَوْ مُبَاهَاةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ كُرِهَ وَزُكِّيَ وَلَمْ يَذْكُرْ بَعْضُهُمْ السَّرَفَ وَالْمُبَاهَاةَ.

فصل في إباحة التحلي بالذهب والفضة للمرأة

فَصْلٌ قَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - دُعِيَ الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَى عُرْسٍ فَجِيءَ بِجَامٍ مِنْ فِضَّةٍ فِيهِ خَبِيصٌ فَتَنَاوَلَهُ فَقَلَبَهُ عَلَى رَغِيفٍ وَأَصَابَ مِنْهُ، فَقَالَ رَجُلٌ هَذَا نَهْيٌ فِي سُكُونٍ انْتَهَى كَلَامُهُ، وَكَذَا ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُصَبُّ مَا فِي إنَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي إنَاءٍ مُبَاحٍ أَوْ عَلَى رَغِيفٍ فَيُصَبُّ مِنْهُ. [فَصْلٌ فِي إبَاحَة التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِلْمَرْأَةِ] ِ) وَيُبَاحُ لِلْمَرْأَةِ التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مُطْلَقًا وَعَنْهُ أَنَّهُ إنْ بَلَغَ أَلْفًا فَهُوَ كَثِيرٌ فَيَحْرُمُ لِلسَّرَفِ ذَكَرَهَا فِي التَّلْخِيصِ. وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى: وَعَنْهُ أَنَّهُ إنْ بَلَغَ الذَّهَبُ أَلْفَ مِثْقَالٍ حَرُمَ وَزُكِّيَ. وَقَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: وَعَنْهُ إنْ بَلَغَ أَلْفَ مِثْقَالٍ فَهُوَ كَثِيرٌ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: إنْ بَلَغَهَا حَرُمَ وَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَعَنْهُ إنْ بَلَغَ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَهُوَ كَثِيرٌ. وَقَالَ الْقَاضِي: يُبَاحُ مِنْ ذَلِكَ أَلْفُ مِثْقَالٍ فَمَا دُونَ، وَلَا يُزَادُ عَلَيْهَا. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يُبَاحُ مِنْ ذَلِكَ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ لَكِنْ إذَا بَلَغَ الْخَلْخَالُ، وَنَحْوُهُ خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ الْعَادَةِ. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: لِبَاسُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ يُبَاحُ لِلنِّسَاءِ بِالِاتِّفَاقِ.

فصل في إباحة اللعب للبنات ومن قيدها بغير المصورة

[فَصْلٌ فِي إبَاحَةِ اللُّعَبِ لِلْبَنَاتِ وَمَنْ قَيَّدَهَا بِغَيْرِ الْمُصَوَّرَةِ] فَصْلٌ فِي إبَاحَةِ اللُّعَبِ لِلْبَنَاتِ وَمَنْ قَيَّدَهَا بِغَيْرِ الْمُصَوَّرَةِ لِوَلِيِّ الصَّغِيرَةِ الْإِذْنُ لَهَا فِي اللَّعِبِ بِلُعَبٍ غَيْرِ مُصَوَّرَةٍ نَصَّ عَلَيْهِ، قَالَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى: وَلَهُ شِرَاؤُهَا بِمَالِهَا نَصَّ عَلَيْهِ وَقِيلَ بَلْ بِمَالِهِ. وَقَالَ فِي التَّلْخِيصِ: هَلْ يَشْتَرِيهَا مِنْ مَالِهَا أَوْ مِنْ مَالِهِ؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ قَالَ ابْن حَمْدَانَ: الْمُرَادُ بِالْمُصَوَّرَةِ مَا لَهَا جِسْمٌ مَصْنُوعٌ لَهُ طُولٌ وَعَرْضٌ وَعُمْقٌ. قَالَ الْقَاضِي: فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ فِي فَصْلِ وَالِي الْحِسْبَةِ: وَأَمَّا اللُّعَبُ فَلَيْسَ يُقْصَدُ بِهَا الْمَعَاصِي، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهَا إلْفُ الْبَنَاتِ لِتَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ فَفِيهَا وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ التَّدْبِيرِ يُقَارِبُهُ مَعْصِيَةٌ بِتَصَوُّرِ ذَاتِ الْأَرْوَاحِ، وَمُشَابَهَةِ الْأَصْنَامِ فَلِلتَّمْكِينِ مِنْهَا وَجْهٌ وَبِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ شَوَاهِدُ الْأَحْوَالِ يَكُونُ إنْكَارُهُ وَإِقْرَارُهُ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ الْمَنْعَ مِنْهَا وَإِنْكَارَهَا إذَا كَانَتْ عَلَى صُورَةِ ذَوَاتِ الْأَرْوَاحِ. قَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الْوَصِيِّ يَشْتَرِي لِلصَّبِيَّةِ لُعْبَةً إذَا طَلَبَتْ؟ فَقَالَ إنْ كَانَتْ صُورَةً فَلَا. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ كُنْت أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ، قَالَ لَا بَأْسَ بِلَعِبِ اللُّعَبِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ صُورَةٌ فَإِذَا كَانَ فِيهِ صُورَةٌ فَلَا، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ مَنَعَ مِنْ اللَّعِبِ بِهَا إذَا كَانَتْ صُورَةً. وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ وَهِيَ تَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ وَمَعَهَا جَوَارٍ فَقَالَ مَا هَذِهِ يَا عَائِشَةُ؟ فَقَالَتْ هَذَا خَيْلُ سُلَيْمَانَ فَجَعَلَ يَضْحَكُ مِنْ قَوْلِهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . قَالَ أَحْمَدُ وَهُوَ

غَرِيبٌ لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ غَيْرِهِمْ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ انْتَهَى كَلَامُ الْقَاضِي وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي مَتَاعِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَمَّا تَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَعَلَهُ مَخْصُوصًا مِنْ عُمُومِ الصُّوَرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ قَبْلَ النَّهْيِ عَنْ الصُّوَرِ ثُمَّ نُسِخَ وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّهُ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.

فصل في استعمال الجلود النجسة في اللبس وغيره مدبوغة وغير مدبوغة

[فَصْلٌ فِي اسْتِعْمَالِ الْجُلُودِ النَّجِسَةِ فِي اللُّبْسِ وَغَيْرِهِ مَدْبُوغَةً وَغَيْرَ مَدْبُوغَةٍ] ٍ) لَهُ أَنْ يُلْبِسَ دَابَّتَهُ جِلْدًا نَجِسًا ذَكَرَهُ فِي الْمُسْتَوْعِب وَقَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَقِيلَ: إنْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِي نَجَاسَتِهِ وَإِلَّا حَرُمَ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي التَّلْخِيصِ وَقِيلَ يُكْرَهُ، وَقِيلَ: إنْ دُبِغَ الْجِلْدُ وَقُلْنَا لَا يَطْهُرُ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يُدْبَغْ كُرِهَ وَيُكْرَهُ لَهُ هُوَ إذًا لُبْسُهُ وَافْتِرَاشُهُ، وَقِيلَ لَا يُكْرَهَانِ. وَيُبَاحُ لَهُ فِي الْحَرْبِ قَالَ فِي الرِّعَايَةِ: وَقِيلَ وَغَيْرُهُ بِدُونِ صُورَةٍ وَقَوْلُهُ فِي الرِّعَايَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ فِي كَلَامِ الْأَصْحَابِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقِيلَ يُبَاحُ فِيهِ جِلْدُ كَلْبٍ لَا جِلْدُ خِنْزِيرٍ. قَالَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى: وَيُبَاحُ اسْتِعْمَالُ كُلِّ جِلْدٍ نَجِسٍ قَبْلَ دَبْغِهِ فِيمَا لَا يُنَجَّسُ بِهِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَقِيلَ بَلْ بَعْدَ دَبْغِهِ، وَقِيلَ يُكْرَهُ مُطْلَقًا. وَقَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: إذَا دُبِغَ جِلْدُ الْمَيْتَةِ وَقُلْنَا لَا يَطْهُرُ جَازَ أَنْ يُلْبِسَهُ دَابَّتَهُ وَيُكْرَهُ لَهُ لُبْسُهُ وَافْتِرَاشُهُ عَلَى الْأَظْهَرِ، فَإِنْ كَانَ جِلْدَ خِنْزِيرٍ لَمْ يُبَحْ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَفِي الْكَلْبِ وَجْهَانِ، وَعَنْهُ لَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مُطْلَقًا وَلَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِجِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدَّبْغِ فِي اللِّبَاسِ وَغَيْرِهِ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ آخِرَ كَلَامِ ابْنِ تَمِيمٍ. وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِ الشَّيْخِ مَجْدِ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ لَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ عَلَى الْأَظْهَرِ لَكِنَّهُ قَطَعَ بِذَلِكَ. وَلَهُ أَنْ يُلْبِسَ دَابَّتَهُ الْحَرِيرَ قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ، وَخَالَفَ فِيهِ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ.

فصل في ثوب من شعر ما لا يؤكل مع نجاسته غير جلد كلب وخنزير

[فَصْلٌ فِي ثَوْبٍ مِنْ شَعْرٍ مَا لَا يُؤْكَلُ مَعَ نَجَاسَتِهِ غَيْرَ جِلْدِ كَلْبٍ وَخِنْزِيرٍ] فَصْلٌ قِيلَ: يُبَاحُ ثَوْبٌ مِنْ شَعْرٍ مَا لَا يُؤْكَلُ مَعَ نَجَاسَتِهِ غَيْرَ جِلْدِ كَلْبٍ وَخِنْزِيرٍ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَقِيلَ هُمَا بِنَاءً عَلَى طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ، قَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الثَّوْبِ مِنْ شَعْرِ حَيَوَانٍ لَا يُؤْكَلُ فَعَنْهُ هُوَ طَاهِرٌ مُبَاحٌ وَعَنْهُ هُوَ نَجِسٌ فِي اسْتِعْمَالِهِ فِي الْيَابِسِ وَلُبْسُهُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ رِوَايَتَانِ، وَعَنْهُ هُوَ مُبَاحٌ مِنْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ نَجِسٍ بِمَوْتِهِ فَقَطْ لَا مِنْ حَيَوَانٍ نَجِسٍ حَيًّا.

فصل في لبس الجلود الطاهرة والصلاة فيها

[فَصْلٌ فِي لُبْسِ الْجُلُودِ الطَّاهِرَةِ وَالصَّلَاةِ فِيهَا] ) وَيَجُوزُ لُبْسُ كُلِّ جِلْدٍ طَاهِرٍ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي جِلْدِ الثَّعْلَبِ فَعَنْهُ يُبَاحُ لُبْسُهُ، وَالصَّلَاةُ فِيهِ اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ وَقَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَعَنْهُ تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِيهِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَعَنْهُ يَحْرُمُ لُبْسُهُ وَالصَّلَاةُ فِيهِ اخْتَارَهُ الْخَلَّالُ وَعَنْهُ يُبَاحُ لُبْسُهُ دُونَ الصَّلَاةِ فِيهِ. قَالَ ابْنُ تَمِيمٍ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُهُ أَنَّهُ يُلْبَسُ إذَا دُبِغَ بَعْدَ تَذْكِيَتِهِ لَكِنْ اُخْتُلِفَ فِي كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ فِيهِ. وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى: وَإِنْ ذُكِّيَ وَدُبِغَ جِلْدُهُ أُبِيحَ مُطْلَقًا ثُمَّ ذَكَرَ مَعْنَى كَلَامِ أَبِي بَكْرٍ وَيَجُوزُ لُبْسُ الْفِرَاءِ مِنْ جِلْدِ مَأْكُولٍ مُذَكًّى، وَجِلْدِ طَاهِرٍ لَا يُؤْكَلُ إنْ قُلْنَا يَطْهُرُ بِدَبْغِهِ وَإِلَّا فَلَا. وَمَا حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ مِنْ ذَلِكَ حَرُمَ بَيْعُهُ، وَعَمَلُهُ لِمَنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَأَخْذُ أُجْرَتِهِ.

فصل في لبس السواد لذاته وتشديد أحمد فيه إذا كان لباس الظلمة

[فَصْلٌ فِي لُبْسِ السَّوَادِ لِذَاتِهِ وَتَشْدِيدِ أَحْمَدَ فِيهِ إذَا كَانَ لِبَاسَ الظَّلَمَةِ] ِ) يُبَاحُ لُبْسُ السَّوَادِ مِنْ عِمَامَةٍ نَصَّ عَلَيْهِ، وَثَوْبٍ وَقَبَاءٍ وَهَذَا مَعْنَى مَا فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَالتَّلْخِيصِ وَالشَّرْحِ وَقِيلَ إلَّا لِمُصَابٍ أَوْ جُنْدِيٍّ فِي غَيْرِ حَرْبٍ: وَعَنْهُ يُكْرَهُ لِلْجُنْدِيِّ مُطْلَقًا وَخِيَاطَتُهُ إذَا رَوَّعَ بِهِ مُسْلِمًا، وَأَجَازَهُ لِلْمَرْأَةِ نَقَلَهُ عَنْهُ الْمَرُّوذِيُّ، وَقِيلَ فَمَنْ تَرَكَ ثِيَابًا سَوْدَاءَ يُحَرِّقُهَا الْوَصِيُّ، قِيلَ لَهُ فَالْوَرَثَةُ صِبْيَانٌ تَرَى أَنْ يُحْرَقُ؟ قَالَ نَعَمْ يُحَرِّقُهُ الْوَصِيُّ. قَالَ الْخَلَّالُ عَنْ الْمَرُّوذِيِّ عَنْهُ وَهَذَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ، وَعَلَّلَ أَحْمَدُ بِأَنَّهُ لِبَاسُ الْجُنْدِ أَصْحَابِ السُّلْطَانِ، وَالظَّلَمَةِ، وَسَأَلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ الْمُتَوَكِّلَ أَنْ يُعْفِيَهُ مِنْ لُبْسِ السَّوَادِ فَأَعْفَاهُ، وَسَلَّمَ رَجُلٌ عَلَى أَحْمَدَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ وَكَانَ عَلَيْهِ جُبَّةٌ سَوْدَاءُ رَوَاهُ الْخَلَّالُ.

فصل في كراهة لبس الأحمر المصمت للرجل

[فَصْلٌ فِي كَرَاهَةِ لُبْسِ الْأَحْمَرِ الْمُصْمَتِ لِلرَّجُلِ] ِ) وَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ لُبْسُ أَحْمَرَ مُصْمَتٍ نَصَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ: لَا يُكْرَهُ، وَعَنْهُ يُكْرَهُ شَدِيدُ الْحُمْرَةِ دُونَ خَفِيفِهَا، قَالَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى: وَكَذَا الْخِلَافُ فِي الْبِطَانَةِ الْحَمْرَاءِ. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْمَرْأَةِ تَلْبَسُ الْمَصْبُوغَ الْأَحْمَرَ فَكَرِهَهُ كَرَاهِيَةً شَدِيدَةً، وَقَالَ أَمَّا أَنْ تُرِيدُ الزِّينَةَ فَلَا، وَيُقَالُ إنَّ أَوَّلَ مَنْ لَبِسَ الثِّيَابَ الْحُمْرَ آلُ قَارُونَ أَوْ آلُ فِرْعَوْنَ ثُمَّ قَرَأَ: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص: 79] . قَالَ فِي ثِيَابٍ حُمْرٍ وَانْصَرَفْت مِنْ عِنْدِ أَبِي هَمَّامٍ وَدَخَلْت عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَأَخْرَجْت الْكِتَابَ فَدَفَعْته إلَيْهِ فَإِذَا فِيهِ أَحَادِيثُ مَنْ كَانَ يَرْكَبُ بِالْأُرْجُوَانِ، فَقَالَ هَذَا زَمَانٌ لَا يُحَدِّثُ بِمِثْلِ هَذِهِ، وَكَرِهَهَا، وَرَأَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بِطَانَةَ جُبَّتِي حَمْرَاءَ فَقَالَ: لِمَ صَنَعْتهَا حَمْرَاءَ؟ قُلْت: لِلرِّقَاعِ الَّتِي فِيهَا قَالَ وَإِيشِ تُبَالِي أَنْ تَكُونَ فِيهَا رِقَاعٌ قُلْت: تَكْرَهُهُ؟ قَالَ نَعَمْ. وَأَمَرَنِي أَنْ أَشْتَرِيَ لَهُ مُدًّا قَالَ لَا يَكُونُ فِيهِ حُمْرَةٌ ثُمَّ قَالَ هُوَ شَيْءٌ لَيْسَ يُنْتَفَعُ بِهِ إنَّمَا هُوَ طَاهِرٌ وَإِنَّمَا كَرِهْته مِنْ أَجْلِ هَذَا، قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الثَّوْبُ الْأَحْمَرُ تُغَطَّى بِهِ الْجِنَازَةُ فَكَرِهَهُ قُلْت تَرَى أَنْ أَجْذِبَهُ قَالَ نَعَمْ.

فصل في إباحة لبس الممسك والمورد والمعصفر والمزعفر

[فَصْلٌ فِي إبَاحَةِ لُبْسِ الْمُمَسَّكِ وَالْمُوَرَّدِ وَالْمُعَصْفَرِ وَالْمُزَعْفَرِ] ِ) وَيُبَاحُ الْمُمَسَّكُ وَالْمُوَرَّدُ وَيُكْرَهُ الْمُعَصْفَرُ زَادَ فِي الرِّعَايَةِ فِي الْأَصَحِّ وَكَذَا الْمُزَعْفَرُ عَلَى الْأَظْهَرِ وَفِيهِ وَجْهٌ تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِيهِ فَقَطْ وَهُوَ ظَاهِرُ مَا فِي التَّلْخِيصِ، وَالنَّصُّ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ وَقَطَعَ فِي الشَّرْحِ بِالْكَرَاهَةِ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ تَحْرِيمُ لُبْسِ الثَّوْبِ الْمُزَعْفَرِ عَلَى الرَّجُلِ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ جَوَازُهُ وَحَكَاهُ مَالِكٌ عَنْ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ وَلَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْمُزَعْفَرِ وَالْمُعَصْفَرِ، وَالْأَحْمَرِ لِلنِّسَاءِ. وَمَنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ نُهِيَ عَنْهُ غَيْرِ الْعَصْبِ وَالْحَرِيرِ وَنَحْوِهِ كَالْأَحْمَرِ وَالْمُعَصْفَرِ فَفِي الْإِعَادَةِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُعَصْفَرِ وَعَنْهُ وَغَيْرِهِ وَيُلْزِمُ الْقَائِلَ بِوُجُوبِ الْإِعَادَةِ أَنْ يَكُونَ لُبْسُهُ عِنْدَهُ مُحَرَّمًا وَإِنْ قَالَ مَنْهِيٌّ عَنْ لُبْسِهِ فَلَمْ تَصِحَّ الصَّلَاةُ فِيهِ كَالْمَغْصُوبِ فَالْفَرْقُ وَاضِحٌ مَعَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ بِهِ فِي كُلِّ مَكْرُوهٍ فِي بَدَنِ الْمُصَلِّي وَسُتْرَتِهِ وَمَوْضِعِ صَلَاتِهِ. وَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ التَّزَعْفُرُ وَجْهًا وَاحِدًا وَلَا يُبْطِلُ ذَلِكَ صَلَاتَهُ. وَتُكْرَهُ الْمِيثَرَةُ الْحَمْرَاءُ ذَكَرَهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَغَيْرِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فِيهَا الْخِلَافُ فِي لُبْسِ الْأَحْمَرِ.

فصل في كراهة لبس الشفوف والحاكية التي تصف البدن

[فَصْلٌ فِي كَرَاهَةِ لُبْسِ الشُّفُوفِ وَالْحَاكِيَةِ الَّتِي تَصِفُ الْبَدَنَ] َ) يُكْرَهُ لُبْسُ ثَوْبٍ رَقِيقٍ يَصِفُ الْبَشَرَةَ وَيُكْرَهُ لِلْأُنْثَى فِي بَيْتِهَا نَصَّ عَلَيْهِ وَقِيلَ يَحْرُمُ مَعَ غَيْرِ مَحْرَمٍ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهَا وَقِيلَ زَوْجٌ وَسَيِّدٌ وَهُوَ أَصَحُّ ذَكَرَهُ كُلَّهُ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى، وَقَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: يُكْرَهُ الثَّوْبُ الرَّقِيقُ إذَا وَصَفَ الْبَدَنَ قَالَ أَصْحَابُنَا: لِلرِّجَالِ. وَقَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ: يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ لُبْسُ الرَّقِيقِ مِنْ الثِّيَابِ وَهُوَ مَا يَصِفُ الْبَشَرَةَ غَيْرَ الْعَوْرَةِ وَلَا يُكْرَهُ ذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ إذَا كَانَ لَا يَرَاهَا إلَّا زَوْجُهَا أَوْ مَالِكُهَا. وَقَالَ فِي الشَّرْحِ: إذَا كَانَ خَفِيفًا يَصِفُ لَوْنَ الْبَشَرَةَ فَيُبَيِّنُ مِنْ وَرَائِهِ بَيَاضَ الْجِلْدِ وَحُمْرَتَهُ لَمْ تَجُزْ الصَّلَاةُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْتُرُ اللَّوْنَ وَيَصِفُ الْخِلْقَةَ جَازَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْبَشَرَةَ مَسْتُورَةٌ وَهَذَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّرُ مِنْهُ انْتَهَى كَلَامُهُ، قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: وَأَمَرُونِي فِي مَنْزِلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنْ أَشْتَرِيَ لَهُمْ ثَوْبًا فَقَالَ لِي لَا يَكُونُ رَقِيقًا أَكْرَهُ الرَّقِيقَ لِلْحَيِّ وَالْمَيِّتِ. قُلْت وَقَدْ سَأَلُونِي أَنْ أَشْتَرِيَ لَهُمْ ثَوْبًا عَلَيْهِ كِتَابٌ فَقَالَ: قُلْ لَهُمْ إنْ أَرَدْتُمْ أَنْ أَشْتَرِيَهُ وَنُقْلِعَ الْكِتَابَ، قُلْت فَإِنَّهُمْ إنَّمَا يُرِيدُونَ ذَلِكَ لِلْكِتَابِ فَقَالَ لَا تَشْتَرِهِ.

فصل في كراهة لبس ما يظن نجاسته

[فَصْلٌ فِي كَرَاهَةِ لُبْسِ مَا يُظَنُّ نَجَاسَتُهُ] ُ) يُكْرَهُ مِنْ الثِّيَابِ مَا يُظَنُّ نَجَاسَتُهُ لِتَرْبِيَةٍ، وَرِضَاعٍ، وَحَيْضٍ وَصِغَرٍ وَلِكَثْرَةِ مُلَابَسَتِهَا وَمُبَاشَرَتِهَا وَقِلَّةِ التَّحَرُّزِ مِنْهَا فِي صَنْعَةٍ وَغَيْرِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: وَفِي كَرَاهَةِ ثَوْبِ الْمُرْضِعِ، وَالْحَائِضِ، وَالصَّبِيِّ رِوَايَتَانِ وَأَلْحَقَ ابْنُ أَبِي مُوسَى ثَوْبَ الصَّبِيِّ بِثَوْبِ الْمَجُوسِيِّ فِي مَنْعِ الصَّلَاةِ فِيهِ قَبْلَ غَسْلِهِ. قَالَ فِي التَّلْخِيصِ فَيَخْرُجُ مِثْلُهُ فِي ثَوْبِ مَنْ لَا يَتَنَزَّهُ مِنْ النَّجَاسَةِ. وَمَا حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ مِنْ حَرِيرٍ وَمُذْهَبٍ وَمُصَوَّرٍ وَنَحْوِهَا حَرُمَ تَمَلُّكُهُ، وَتَمْلِيكُهُ كَذَلِكَ وَعَمَلُهُ، وَخِيَاطَتُهُ لِمَنْ حَرُمَ عَلَيْهِ، وَأُجْرَتُهُ نَصَّ عَلَيْهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ.

فصل كراهة النظر إلى ما يحرم والتفكر فيه

[فَصْلٌ كَرَاهَةُ النَّظَرِ إلَى مَا يَحْرُمُ وَالتَّفَكُّرِ فِيهِ] ِ وَمَنْ حَرَّمَهُ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ) يُكْرَهُ النَّظَرُ إلَى مَلَابِسِ الْحَرِيرِ، وَأَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَنَحْوِهَا إنْ رَغَّبَهُ نَظَرُهَا فِي التَّزَيُّنِ وَالتَّجَمُّلِ، وَالْمُفَاخَرَةِ ذَكَرَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَغَيْرِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: رِيحُ الْخَمْرِ كَصَوْتِ الْمَلَاهِي حَتَّى إذَا شَمَّ رِيحَهَا فَاسْتَدَامَ شَمَّهَا كَانَ بِمَثَابَةِ مَنْ سَمِعَ صَوْتَ الْمَلَاهِي وَأَصْغَى إلَيْهَا، وَيَجِبُ سَتْرُ الْمَنْخِرَيْنِ وَالْإِسْرَاعُ كَوُجُوبِ سَدِّ الْأُذُنَيْنِ عِنْدَ الِاسْتِمَاعِ، وَعَلَى هَذَا يَحْرُمُ النَّظَرُ إلَى الْحَرِيرِ، وَأَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إنْ دَعَتْ إلَى حُبِّ التَّزَيُّنِ بِهَا وَالْمُفَاخَرَةِ، وَيُحْجَبُ ذَلِكَ عَنْهُ وَنَزِيدُ فَنَقُولُ: التَّفَكُّرُ الدَّاعِي إلَى اسْتِحْضَارِ صُوَرِ الْمَحْظُورِ مَحْظُورٌ، حَتَّى لَوْ فَكَّرَ الصَّائِمُ فَأَنْزَلَ أَثِمَ وَقَضَى، وَكَانَ عِنْدِي كَالْعَابِثِ بِذَكَرِهِ فَيُمْنِي، وَأَدَقُّ مِنْ هَذَا لَوْ اسْتَحْضَرَ صُورَةَ الْمَعْشُوقِ وَقْتَ جِمَاعِهِ أَهْلَهُ. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: كُنْت مَعَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بِالْعَسْكَرِ فِي قَصْرِ إتْيَاحَ فَأَشَرْت إلَى شَيْءٍ عَلَى الْجِدَارِ قَدْ نُصِبَ فَقَالَ لِي: لَا تَنْظُرْ إلَيْهِ. قُلْت: فَقَدْ نَظَرْتُ إلَيْهِ. قَالَ لِي: فَلَا تَفْعَلْ لَا تَنْظُرْ إلَيْهِ. قَالَ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ: وَيُكْرَهُ أَنْ يَتَّخِذَ خِرْقَةً لِمَسْحِ الْعَرَقِ لِأَنَّهُ مِنْ التَّكَبُّرِ وَالتَّجَبُّرِ، وَكَذَا يُكْرَهُ أَنْ يَتَّخِذَ خِرْقَةً لِلِامْتِخَاطِ كَذَا قَالَ وَالْأَوْلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّكَبُّرِ وَالتَّجَبُّرِ تَوَجَّهَ التَّحْرِيمُ وَإِنَّمَا يُفْعَلُ كَثِيرًا لِلتَّرَفُّهِ وَالنَّظَافَةِ، قَالَ: فَإِنْ كَانَتْ لِإِمَاطَةِ الْأَذَى وَإِزَالَةِ الْقَذَرَ وَالْحَاجَةِ لَمْ تُكْرَهْ. وَقَالَ فِي الْغُنْيَةِ: يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُخْلِيَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ حَضَرًا وَسَفَرًا مِنْ

سَبْعَةِ أَشْيَاءَ بَعْدَ تَقْوَى اللَّهِ وَالثِّقَةِ بِهِ: التَّنْظِيفِ، وَالتَّزْيِينِ، وَالْمُكْحُلَةِ، وَالْمُشْطِ، وَالسِّوَاكِ، وَالْمِقَصِّ، وَالْمُدَارَةِ وَهِيَ خَشَبَةٌ مُدَوَّرَةُ الرَّأْسِ أَوْفَى مِنْ شِبْرٍ تَتَّخِذُهَا الْعَرَبُ وَالصُّوفِيَّةُ يَدْرَءُونَ بِهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ الْأَذَى كَالْقَمْلِ وَغَيْرِهِ، وَيَحُكُّونَ بِهَا الْجَسَدَ وَيَقْتُلُونَ الدَّبِيبَ حَتَّى لَا يُبَاشِرُوا كُلَّ شَيْءٍ بِأَيْدِيهِمْ وَالسَّابِعُ قَارُورَةٌ مِنْ الدُّهْنِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا كَانَ يَفُوتُهُ ذَلِكَ حَضَرًا وَلَا سَفَرًا. قَالَ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ: وَالتَّرَبُّعُ فِي الْجُلُوسِ إنْ كَانَ لِحَاجَةٍ لَمْ يُكْرَهْ وَإِنْ كَانَ لِلتَّكَبُّرِ وَالتَّجَبُّرِ كُرِهَ كَذَا قَالَ، وَيُتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ لَا كَرَاهَةَ فِي التَّرَبُّعِ فِي الْجُلُوسِ كَغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِهِ وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ مَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ التَّكَبُّرِ وَالتَّجَبُّرِ فَيَتَوَجَّهُ التَّحْرِيمُ وَسَبَقَ ذَلِكَ فِي آدَابِ الْمَسْجِدِ وَصِفَةِ الْجُلُوسِ لِلْأَكْلِ. قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا بَأْسَ بِرَبْطِ الْخَيْطِ فِي الْإِصْبَعِ لِلْحِفْظِ، وَالذِّكْرِ انْتَهَى كَلَامُهُ وَهَذَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ. وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: إذَا لَمْ تَكُنْ حَاجَاتُنَا فِي صُدُورِكُمْ ... فَلَيْسَ بِمُغْنٍ عَنْك عَقْدُ الرَّتَائِمِ وَقَالَ أَيْضًا: إذَا لَمْ تَكُ الْحَاجَاتُ مِنْ هِمَّةِ الْفَتَى ... فَلَيْسَ بِمُغْنٍ عَنْكَ عَقْدُ الرَّتَائِمِ وَالرَّتَائِمُ جَمْعُ رَتِيمَةٍ وَرَتَمَةٍ وَهُوَ خَيْطٌ يُشَدُّ فِي الْإِصْبَعِ لِيَتَذَكَّرَ بِهِ الْحَاجَةَ تَقُولُ مِنْهُ أَرْتَمْت الرَّجُلَ إرْتَامًا: وَالرَّتَمَةُ بِالتَّحْرِيكِ ضَرْبٌ مِنْ الشَّجَرِ وَالْجَمْعُ رَتَمٌ. وَفِي مَسَائِلِ أَبِي دَاوُد قُبَيْلَ بَابِ التَّشَهُّدِ فِي الصَّلَاةِ سَمِعْت أَحْمَدَ يَقُولُ كَانَ يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ يَحْضُرُ سُفْيَانُ وَمَعَهُ خَيْطٌ فَكُلَّمَا حَدَّثَ سُفْيَانُ بِحَدِيثٍ عَقَدَ عُقْدَةً فَإِذَا رَجَعَ إلَى الْبَيْتِ كَتَبَ حَدِيثًا وَحَلَّ عُقْدَةً.

فصل في مقدار طول الثوب للرجل والمرأة وجر الذيول

[فَصْلٌ فِي مِقْدَارِ طُولِ الثَّوْبِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَجَرِّ الذُّيُولِ] ِ) يُبَاحُ إزَارُ الرَّجُلِ وَقَمِيصُهُ وَنَحْوُهُ مِنْ نِصْفِ سَاقَيْهِ إلَى كَعْبَيْهِ نَصَّ عَلَيْهِ قَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: السُّنَّةُ فِي الْإِزَارِ وَالْقَمِيصِ وَنَحْوِهِ مِنْ نِصْفِ السَّاقَيْنِ إلَى الْكَعْبَيْنِ فَلَا يَتَأَذَّى السَّاقُ بِحَرٍّ وَبَرْدٍ وَلَا يَتَأَذَّى الْمَاشِي وَيَجْعَلُهُ كَالْمُقَيَّدِ وَيُكْرَهُ مَا نَزَلَ عَنْ ذَلِكَ أَوْ ارْتَفَعَ عَنْهُ نَصَّ عَلَيْهِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: جَرُّ الْإِزَارِ إذَا لَمْ يُرِدْ الْخُيَلَاءَ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْأَصْحَابِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَالَ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَيْضًا «مَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ فِي النَّارِ» لَا يَجُرُّ شَيْئًا مِنْ ثِيَابِهِ وَظَاهِرُ هَذَا التَّحْرِيمُ، فَهَذِهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ وَرِوَايَةُ الْكَرَاهِيَةِ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. قَالَ صَاحِبُ الْمُحِيطِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ارْتَدَى بِرِدَاءٍ ثَمِينٍ قِيمَتُهُ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ وَكَانَ يَجُرُّهُ عَلَى الْأَرْضِ فَقِيلَ لَهُ أَوَلَسْنَا نُهِينَا عَنْ هَذَا؟ فَقَالَ إنَّمَا ذَلِكَ لِذَوِي الْخُيَلَاءِ وَلَسْنَا مِنْهُمْ، وَاخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَدَمَ تَحْرِيمِهِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِكَرَاهَةٍ وَلَا عَدَمِهَا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ:

يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ طُولُ قَمِيصِ الرَّجُلِ إلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِلَى شِرَاكِ النَّعْلِ وَهُوَ الَّذِي فِي الْمُسْتَوْعِبِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَطُولُ الْإِزَارِ إلَى مَدِّ السَّاقَيْنِ، قَالَ وَقِيلَ إلَى الْكَعْبَيْنِ وَيَزِيدُ ذَيْلُ الْمَرْأَةِ عَلَى ذَيْلِهِ مَا بَيْنَ الشِّبْرِ إلَى الذِّرَاعِ قَدَّمَهُ ابْنُ تَمِيمٍ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمُسْتَوْعِبِ: هَذَا فِي حَقِّ مَنْ يَمْشِي بَيْنَ الرِّجَالِ كَنِسَاءِ الْعَرَبِ فَأَمَّا نِسَاءُ الْمُدُنِ فِي الْبُيُوتِ فَذَيْلُهَا كَذَيْلِ الرَّجُلِ وَذَكَرَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى أَنَّ ذَيْلَ نِسَاءِ الْمُدُنِ فِي الْبُيُوتِ كَذَيْلِ الرَّجُلِ، ثُمَّ قَالَ وَتُرْخِيهِ الْبَرْزَةُ وَنِسَاءُ الْبَرِّ عَلَى الْأَرْضِ دُونَ ذِرَاعٍ. وَقِيلَ مِنْ شِبْرٍ إلَى ذِرَاعٍ وَقِيلَ يُكْرَهُ مَا نَزَلَ عَنْهُ نَصَّ عَلَيْهِ وَقَالَ فِي التَّلْخِيصِ: يُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ إطَالَةُ ذَيْلِهَا وَإِنْ جَاوَزَتْ الْكَعْبَيْنِ.

فصل في أنواع اللباس من إزار ورداء وقميص وسراويل إلخ

[فَصْلٌ فِي أَنْوَاعِ اللِّبَاسِ مِنْ إزَارٍ وَرِدَاءٍ وَقَمِيصٍ وَسَرَاوِيلَ إلَخْ] ْ) وَيُسَنُّ أَنْ يَأْتَزِرَ فَوْقَ سُرَّتِهِ وَعَنْهُ تَحْتَهَا وَيَشُدُّ سَرَاوِيلَهُ فَوْقَهَا، وَاخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَلْبَسَ مَعَ الْقَمِيصِ السَّرَاوِيلَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى الْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ وَهَذَا مِنْ جِنْسِ اخْتِيَارِهِ أَنَّ الْفِصَادَ فِي الْبِلَادِ الرَّطْبَةِ أَوْلَى، وَأَنَّ الِاغْتِسَالَ بِالْمَاءِ الْحَارِّ فِي الْبِلَادِ الرَّطْبَةِ أَوْلَى مِنْ الِادِّهَانِ اعْتِبَارًا فِي كُلِّ بَلَدٍ بِعَادَتِهِمْ وَمَصْلَحَتِهِمْ، وَيُبَاحُ التُّبَّانُ وَتُسَنُّ السَّرَاوِيلُ وَالْأَوْلَى قَوْلُ صَاحِبِ النَّظْمِ التُّبَّانُ فِي مَعْنَى السَّرَاوِيلِ. وَرَوَى وَكِيعٌ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَتْ تَأْمُرُ غِلْمَانَهَا بِالتُّبَّانِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ. وَسِعَةُ كُمِّ قَمِيصِ الْمَرْأَةِ شِبْرٌ وَقِصَرُهُ، قَالَ ابْنُ حَمْدَانَ: دُونَ رُءُوسِ أَصَابِعِهَا، وَطُولُ كُمِّ قَمِيصِ الرَّجُلِ عَنْ أَصَابِعِهِ قَلِيلًا دُونَ سِعَتِهِ كَثِيرًا فَلَا تَتَأَذَّى الْيَدُ بِحَرٍّ وَلَا بَرْدٍ وَلَا يَمْنَعُهَا خِفَّةَ الْحَرَكَةِ وَالْبَطْشَ. وَقَالَ فِي التَّلْخِيصِ: تَوْسِيعُ الْكُمِّ مِنْ غَيْرِ إفْرَاطٍ حَسَنٌ فِي حَقِّ الرِّجَالِ بِخِلَافِ النِّسَاءِ، وَلَا بَأْسَ بِلُبْسِ السَّرَاوِيلِ وَالتُّبَّانِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ لُبْسِ السَّرَاوِيلِ ذُكِرَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَالرِّعَايَةِ وَغَيْرِهِمَا سُئِلَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ لُبْسِهِ فَقَالَ: هُوَ أَسْتَرُ مِنْ الْأُزُرِ، وَلِبَاسُ الْقَوْمِ كَانَ الْأُزُرَ. قَالَ صَاحِبُ النَّظْمِ: فَتَعَارَضَ عِنْدَهُ دَلِيلَانِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَكَلَامُ أَحْمَدَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي اللُّبْسِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - أَنَّهُمَا لَبِسَاهُ وَلَبِسَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَسَلْمَانَ وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ

النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ بِعَرَفَاتٍ مَنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ لِلْمُحْرِمِ» وَبِهَذَا اسْتَدَلَّ أَحْمَدُ أَنَّهَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً عِنْدَهُمْ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَتَبَ إلَى جَيْشِهِ بِأَذْرَبِيجَانَ إذَا قَدِمْتُمْ مِنْ غَزَاتِكُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَأَلْقُوا السَّرَاوِيلَاتِ وَالْأَقْبِيَةَ وَالْبَسُوا الْأُزُرَ، وَالْأَرْدِيَةَ، قَالَ صَاحِبُ النَّظْمِ: فَدَلَّ عَلَى كَرَاهِيَتِهِ لَهَا وَأَنَّهَا غَيْرُ زِيِّهِمْ وَقَالَ ذَكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ الْقَاضِي فِي اللِّبَاسِ وَفِي الْمُسْتَوْعِبِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَغَيْرِهَا أَخْبَارٌ ضَعِيفَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ زَيْدٍ حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ يَقُولُ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَشْيَخَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَتَسَرْوَلَونَ وَلَا يَأْتَزِرُونَ قَالَ «تَسَرْوَلُوا وَاتَّزِرُوا وَخَالِفُوا أَهْلَ الْكِتَابِ» إسْنَادٌ جَيِّدٌ وَالْقَاسِمُ وَثَّقَهُ الْأَكْثَرُونَ وَحَدِيثُهُ حَسَنٌ وَقَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: وَتَوْسِيعُ كُمِّ الْمَرْأَةِ، وَتَطْوِيلُ كُمِّ الرَّجُلِ قَصْدٌ حَسَنٌ. وَيُبَاحُ الْقَبَاءُ زَادَ فِي الرِّعَايَةِ لِلرَّجُلِ، وَيُبَاحُ الرِّدَاءُ، وَفَتْلُ أَطْرَافِهِ نَصَّ عَلَيْهِ وَكَذَا الطَّيْلَسَانُ قَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَقِيلَ يُكْرَهُ الْمُقَوَّرُ وَالْمُدَوَّرُ وَقِيلَ وَغَيْرُهُمَا غَيْرَ الْمُرَبَّعِ، وَقِيلَ وَيُكْرَهُ مُطْلَقًا وَيَجُوزُ فَتْلُ الْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ وَهُدْبُ الثَّوْبِ وَقِيلَ يُسَنُّ الرِّدَاءُ لِلرَّجُلِ قَطَعَ بِهِ ابْنُ تَمِيمٍ وَهُوَ مَعْنَى مَا فِي التَّلْخِيصِ فَإِنَّهُ قَالَ الرِّدَاءُ مِنْ لُبْسِ السَّلَفِ وَقَالَ هُوَ وَابْنُ تَمِيمٍ كَرِهَ السَّلَفُ الطَّيْلَسَانَ زَادَ فِي التَّلْخِيصِ وَهُوَ الْمُقَوَّرُ. وَسُئِلَ الشَّيْخُ تَقِي الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَلْ طَرْحُ الْقَبَاءِ عَلَى الْكَتِفَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُدْخِلَ يَدَيْهِ فِي أَكْمَامِهِ مَكْرُوهٌ؟ فَأَجَابَ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ وَقَدْ ذَكَرُوا جَوَازَ ذَلِكَ. قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا مِنْ السَّدْلِ الْمَكْرُوهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ اللُّبْسَةَ لَيْسَتْ لُبْسَةَ الْيَهُودِ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَاعْتِيَادُ لُبْسِ الطَّيَالِسَةِ عَلَى

الْعَمَائِمِ لَا أَصْل لَهُ فِي السُّنَّةِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ فِي حَدِيثِ الدَّجَّالِ «أَنَّهُ يَخْرُجُ مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مطيلسين مِنْ يَهُودِ أَصْبَهَانَ» وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ «أَنَّ الطَّيَالِسَةَ مِنْ شِعَارِ الْيَهُودِ» وَلِهَذَا كَرِهَ مَنْ كَرِهَ لُبْسَهَا لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا» انْتَهَى كَلَامُهُ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعَرَابِيٌّ عَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ طَيَالِسَةٍ مَكْفُوفَةٌ بِدِيبَاجٍ أَوْ مُزَرَّرَةٌ بِدِيبَاجٍ فَقَالَ: إنَّ صَاحِبَكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَرْفَعَ كُلَّ رَاعِ بْنِ رَاعٍ وَيَضَعَ كُلَّ ذِي فَارِسٍ رَأْسٍ فَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُغْضَبًا فَأَخَذَ بِمَجَامِعِ جُبَّتِهِ فَاجْتَذَبَهُ وَقَالَ أَلَا أَرَى عَلَيْكَ ثِيَابَ مَنْ لَا يَعْقِلُ؟ ، ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَلَسَ،» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ رَوَاهُ أَحْمَدُ قَالَ الْأَثْرَمُ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الدُّرَّاعَةُ يَكُونُ لَهَا فَرْجٌ فَقَالَ: كَانَ لِخَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ دُرَّاعَةٌ لَهَا فَرْجٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهَا قَدْرَ ذِرَاعٍ. قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَيَكُونُ لَهَا فَرْجٌ مِنْ خَلْفِهَا؟ فَقَالَ مَا أَدْرِي وَأَمَّا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهَا فَقَدْ سَمِعْت، وَأَمَّا مِنْ خَلْفِهَا فَلَمْ أَسْمَعْ، قَالَ إلَّا أَنَّ فِي ذَلِكَ سَعَةً لَهُ عِنْدَ الرُّكُوبِ وَمَنْفَعَةً.

فصل في الحبرة والصوف

[فَصْلٌ فِي الْحَبَرَةِ وَالصُّوفِ] فَصْلٌ تُبَاحُ الْحَبَرَةُ وَالصُّوفُ نَصَّ عَلَيْهِ وَالْوَبَرُ وَالْكَتَّانُ وَالشَّعْرُ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ. قَالَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى يُكْرَهُ فِي غَيْرِ حَرْبٍ إسْبَالُ بَعْضِ لِبَاسِهِ فَخْرًا وَخُيَلَاءَ وَبَطَرًا وَشُهْرَةً، وَخِلَافُ زِيِّ بَلَدِهِ بِلَا عُذْرٍ، وَقِيلَ يَحْرُمُ ذَلِكَ وَهُوَ أَظْهَرُ وَقِيلَ ثَوْبُ الشُّهْرَةِ مَا خَالَفَ زِيَّ بَلَدِهِ وَأَزْرَى بِهِ وَنَقَصَ مُرُوءَتَهُ انْتَهَى كَلَامُهُ، وَالْقَوْلُ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ خُيَلَاءَ هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَقَطَعَ بِهِ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَالشَّرْحِ وَهُوَ الَّذِي وَجَدْته فِي كَلَامِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ. وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ ثَوْبُ الشُّهْرَةِ فَصَارَتْ الْأَقْوَالُ ثَلَاثَةً فَإِنَّ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَأَى عَلَى رَجُلٍ بُرْدًا مُخَلَّطًا بَيَاضًا وَسَوَادًا فَقَالَ ضَعْ عَنْك هَذَا وَالْبَسْ لِبَاسَ أَهْلِ بَلَدِك. وَقَالَ لَيْسَ هُوَ بِحَرَامٍ وَلَوْ كُنْت بِمَكَّةَ أَوْ بِالْمَدِينَةِ لَمْ أَعِبْ عَلَيْك قَالَ صَاحِبُ النَّظْمِ؛ لِأَنَّهُ لِبَاسُهُمْ هُنَاكَ. وَقَالَ فِي التَّلْخِيصِ وَابْنُ تَمِيمٍ: يَكْرَهُ ثَوْبَ الشُّهْرَةِ وَهُوَ مَا خَالَفَ ثِيَابَ بَلَدِهِ قَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: وَيُكْرَهُ لُبْسُ مَا يَخْرُجُ بِلَابِسِهِ إلَى الْخُيَلَاءِ. وَقَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ يُكْرَهُ مِنْ اللِّبَاسِ مَا يُشْتَهَرُ بِهِ عِنْدَ النَّاسِ وَيُزْرِي بِصَاحِبِهِ وَيُنْقِصُ مُرُوءَتَهُ وَفِي الْغُنْيَةِ مِنْ اللِّبَاسِ الْمُتَنَزَّهِ عَنْهُ كُلُّ لُبْسَةٍ يَكُونُ بِهَا مُشْتَهِرًا بَيْنَ النَّاسِ كَالْخُرُوجِ عَنْ عَادَةِ أَهْلِ بَلَدِهِ وَعَشِيرَتِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْبَسَ مَا يَلْبَسُونَ لِئَلَّا يُشَارَ إلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ، وَيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى حَمْلِهِمْ عَلَى غِيبَتِهِ فَيُشَارِكُهُمْ فِي إثْمِ الْغِيبَةِ لَهُ. وَفِي كِتَابِ التَّوَاضُعِ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا، وَكِتَابِ اللِّبَاسِ لِلْقَاضِي أَبِي يَعْلَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «أَنَّهُ نَهَى عَنْ الشُّهْرَتَيْنِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الشُّهْرَتَانِ قَالَ رِقَّةُ الثِّيَابِ وَغِلَظُهَا وَلِينُهَا وَخُشُونَتُهَا وَطُولُهَا وَقِصَرُهَا وَلَكِنْ سَدَادًا بَيْنَ ذَلِكَ وَاقْتِصَادًا وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ

أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. وَيَدْخُلُ فِي الشُّهْرَةِ وَخِلَافِ الْمُعْتَادِ مَنْ لَبِسَ شَيْئًا مَقْلُوبًا وَمُحَوَّلًا كَجُبَّةٍ وَقَبَاءٍ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ أَهْلِ الْجَفَاءِ، وَالسَّخَافَةِ وَالِانْخِلَاعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ عُمَرَ مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ أَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً وَلِيًّا. . قَالَ ابْنُ عَبْدُ الْبَرِّ كَانَ يُقَالُ كُلْ مِنْ الطَّعَامِ مَا اشْتَهَيْت وَالْبَسْ مِنْ اللِّبَاسِ مَا اشْتَهَاهُ النَّاسُ نَظَمَهُ الشَّاعِرُ فَقَالَ: إنَّ الْعُيُونَ رَمَتْك مُذْ فَاجَأْتَهَا ... وَعَلَيْك مِنْ شَهْرِ اللِّبَاسِ لِبَاسُ أَمَّا الطَّعَامُ فَكُلْ لِنَفْسِك مَا اشْتَهَتْ ... وَاجْعَلْ لِبَاسَكَ مَا اشْتَهَاهُ النَّاسُ كَانَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ يَقُول: الْبَسُوا ثِيَابَ الْمُلُوكِ، وَأَمِيتُوا قُلُوبَكُمْ بِالْخَشْيَةِ، وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ إنَّ أَقْوَامًا جَعَلُوا خُشُوعَهُمْ فِي لِبَاسِهِمْ، وَكِبْرَهُمْ فِي صُدُورِهِمْ وَشَهَّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِلِبَاسِ الصُّوفِ حَتَّى إنَّ أَحَدَهُمْ بِمَا يَلْبَسُ مِنْ الصُّوفِ أَعْظَمُ كِبْرًا مِنْ صَاحِبِ الطَّرَفِ بِمُطَرَّفِهِ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ قُلْت لِإِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ مَا الْمُرُوءَةُ؟ قَالَ أَمَّا فِي بَلَدِك فَالتَّقْوَى وَأَمَّا حَيْثُ لَا تُعْرَفُ فَاللِّبَاسُ. وَرَوَى بَقِيَّةُ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ بَلَغَنِي أَنَّ لِبَاسَ الصُّوفِ فِي السَّفَرِ سُنَّةٌ وَفِي الْحَضَرِ بِدْعَةٌ. وَقَالَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَالشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ وَغَيْرُهُمْ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَمِنْ اللِّبَاسِ الْمَكْرُوهِ مَا خَالَفَ زِيَّ الْعَرَبِ وَأَشْبَهَ زِيَّ الْأَعَاجِمِ وَعَادَتَهُمْ وَمِنْ هَذَا الْعِمَامَةُ الصَّمَّاءُ وَهِيَ مَكْرُوهَةٌ نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ وَالْأَصْحَابُ وَهَلْ هِيَ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ أَوْ تَنْزِيهٍ؟ فِيهِ خِلَافٌ، وَقَدْ كَرِهَ أَحْمَدُ النَّعْلَ الصَّرَّارَةَ وَقَالَ مِنْ زِيِّ الْعَجَمِ قَالَ الْمَيْمُونِيُّ مَا رَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَطُّ مُرْخِي الْكُمَّيْنِ يَعْنِي فِي الْمَشْيِ.

قَالَ فِي الرِّعَايَةِ: يُسَنُّ التَّوَاضُعُ فِي اللِّبَاسِ وَلُبْسُ الْبَيَاضِ وَالنَّظَافَةُ فِي بَدَنِهِ وَثَوْبِهِ، قَالَ ابْنُ حَمْدَانَ وَمَجْلِسِهِ وَالطِّيبُ فِي بَدَنِهِ وَثَوْبِهِ، وَالتَّحَنُّكُ وَالذُّؤَابَةُ مَعَهُ وَإِسْبَالُهَا خَلْفَهُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالْمُرَادُ بِالْعِمَامَةِ أَنْ تَكُونَ بِذُؤَابَةٍ مُتَوَسِّطَةٍ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَتَقِي الرَّأْسَ مِمَّا يُؤْذِيهِ مِنْ حَرٍّ وَبَرْدٍ وَلَا يَتَأَذَّى بِهَا، وَالتَّحْنِيكُ يَدْفَعُ عَنْ الْعُنُقِ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ وَهُوَ أَثْبَتُ لِلْعِمَامَةِ وَلَا سِيَّمَا لِلرُّكُوبِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّ مِنْ الْأَلْوَانِ الْخَضِرَةَ وَيَكْرَهُ الْحُمْرَةَ وَيَقُولُ هِيَ زِينَةُ الشَّيْطَانِ» . وَقَالَ مَالِكٌ الْأَشْتَرُ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَيُّ الْأَلْوَانِ أَحْسَنُ؟ قَالَ الْخُضْرَةُ؛ لِأَنَّهَا لَوْنُ ثِيَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَالَ وَأَنْشَدَ غَيْرُ وَاحِدٍ لِلشَّافِعِيِّ: عَلَيَّ ثِيَابٌ لَوْ تُبَاعُ جَمِيعُهَا ... بِفَلْسٍ لَكَانَ الْفَلْسُ مِنْهُنَّ أَكْثَرَا وَفِيهِنَّ نَفْسٌ لَوْ يُقَاسُ بِبَعْضِهَا ... نُفُوسُ الْوَرَى كَانَتْ أَجَلَّ وَأَكْبَرَا أَخَذَهُ الْمُتَنَبِّي فَقَالَ: لَئِنْ كَانَ ثَوْبِي فَوْقَ قِيمَتِهِ الْفَلْسُ ... فَلِي فِيهِ نَفْسٌ دُونَ قِيمَتِهَا الْإِنْسُ فَثَوْبُك بَدْرٌ تَحْتَ أَنْوَارِهِ دُجًى ... وَثَوْبِي لَيْلٌ تَحْتَ أَطْمَارِهِ شَمْسُ وَقَالَ آخَرُ: لَا تَنْظُرَنَّ إلَى الثِّيَابِ فَإِنَّنِي ... خَلِقُ الثِّيَابِ مِنْ الْمُرُوءَةِ كَاسِ وَقَالَ مَحْمُودُ الْوَرَّاقُ: تَصَوَّفَ فَازْدَهَى بِالصُّوفِ جَهْلًا ... وَبَعْضُ النَّاسِ يَلْبَسُهُ مَجَانَهْ يُرِيك مَجَانَةً وَيُجَنُّ كِبْرًا ... وَلَيْسَ الْكِبْرُ مِنْ شَكْلِ الْمَهَانَهْ تَصَنَّعَ كَيْ يُقَالَ لَهُ أَمِينٌ ... وَمَا مَعْنَى التَّصَنُّعِ لِلْأَمَانَهْ وَلَمْ يُرِدْ الْإِلَهُ بِهِ وَلَكِنْ ... أَرَادَ بِهِ الطَّرِيقَ إلَى الْخِيَانَهْ

وَقَالَ آخَرُ: لَا يُعْجِبَنَّكَ مَنْ يَصُونُ ثِيَابَهُ ... حَذَرَ الْغُبَارِ وَعِرْضُهُ مَبْذُولُ وَلَرُبَّمَا افْتَقَرَ الْفَتَى فَرَأَيْتَهُ ... دَنِسَ الثِّيَابِ وَعِرْضُهُ مَغْسُولُ وَرُوِيَ عَنْ لُقْمَانَ الْحَكِيمِ أَنَّهُ قَالَ: التَّقَنُّعُ بِاللَّيْلِ رِيبَةٌ وَبِالنَّهَارِ مَذَلَّةٌ، قَالَ رَجُلٌ لِإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: مَا أَلْبَسُ مِنْ الثِّيَابِ؟ قَالَ: مَا لَا يُشْهِرُك عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَلَا يُحَقِّرُك عِنْدَ السُّفَهَاءِ. قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ: يُسْتَحَبُّ غَسْلُ الثَّوْبِ مِنْ الْعَرَقِ وَالْوَسَخِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ وَغَيْرِهِ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أَمَا يَجِدُ هَذَا مَا يَغْسِلُ بِهِ ثَوْبَهُ» «وَرَأَى رَجُلًا شَعِثًا فَقَالَ أَمَا كَانَ يَجِدُ هَذَا مَا يُسَكِّنُ بِهِ رَأْسَهُ» وَهَذَا الْخَبَرُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْخَلَّالُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَعَلَّلَهُ أَحْمَدُ بِأَنَّ الثَّوْبَ إذَا اتَّسَخَ تَقَطَّعَ وَرَوَى وَكِيعٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يُعْجِبُهُ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ الرِّيحُ الطَّيِّبَةُ، وَالثِّيَابُ النَّقِيَّةُ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ مُرُوءَةُ الرَّجُلِ نَقَاءُ ثَوْبِهِ وَعَلَى ظَاهِرِ تَعْلِيلِ أَحْمَدَ يَجِبُ غَسْلُهُ لِمَا فِي تَرْكِهِ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَفِي الْخَبَرِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «الْبَذَاذَةُ مِنْ الْإِيمَانِ» قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيّ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: الْبَذَاذَةُ التَّوَاضُعُ فِي اللِّبَاسِ. ذَكَرَهُ الْحَافِظُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ الْأَخْضَرِ فِي تَسْمِيَتِهِ مَنْ رَوَى عَنْ أَحْمَدَ فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْجُوزَجَانِيِّ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ يَنْبَغِي أَنْ يُرْخِيَ خَلْفَهُ مِنْ عِمَامَتِهِ كَمَا جَاءَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَإِرْخَاءُ الذُّؤَابَةِ بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ مَعْرُوفٌ فِي السُّنَّةِ وَإِطَالَةُ الذُّؤَابَةِ كَثِيرًا مِنْ الْإِسْبَالِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمُقْتَضَى كَلَامِهِ فِي الرِّعَايَةِ اسْتِحْبَابُ الذُّؤَابَةِ لِكُلِّ أَحَدٍ كَالتَّحَنُّكِ وَمُقْتَضَى ذِكْرِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مَا جَاءَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَ ذَلِكَ بِالْعَالِمِ فَإِنْ فَعَلَهَا غَيْرُهُ فَيَتَوَجَّهُ دُخُولُهَا فِي لُبْسِ الشُّهْرَةِ وَلَا اعْتِبَارَ بِعُرْفٍ حَادِثٍ بَلْ بِعُرْفٍ قَدِيمٍ وَلِهَذَا لَا خِلَافَ فِي اسْتِحْبَابِ الْعِمَامَةِ الْمُحَنَّكَةِ، وَكَرَاهَةِ الصَّمَّاءِ. قَالَ صَاحِبُ

النَّظْمِ يَحْسُنُ أَنْ يُرْخِيَ الذُّؤَابَةَ خَلْفَهُ وَلَوْ شِبْرًا أَوْ أَدْنَى عَلَى نَصِّ أَحْمَدَ وَمُرَادُهُ بِنَصِّ أَحْمَدَ فِي إرْخَاءِ الذُّؤَابَةِ خَلْفَهُ فِي الْجُمْلَةِ لَا فِي التَّقْدِيرِ، مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّمَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ بِعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ وَأَرْخَاهَا مِنْ خَلْفِهِ قَدْرَ أَرْبَعِ أَصَابِعَ. وَقَالَ هَكَذَا فَاعْتَمَّ فَإِنَّهُ أَعْرَفُ وَأَجْمَلُ» وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ اعْتَمَّ بِعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ وَأَرْخَاهَا مِنْ خَلْفِهِ شِبْرًا وَأَرْخَاهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ خَلْفِهِ قَدْرَ ذِرَاعٍ وَعَنْ أَنَسٍ نَحْوُهُ. وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يُسْتَحَبُّ إرْخَاءُ طَرَفِ الْعِمَامَةِ بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ، مِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَ ذَلِكَ بِشِبْرٍ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إلَى وَسَطِ الظَّهْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إلَى مَوْضِعِ الْجُلُوسِ انْتَهَى كَلَامُهُمْ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُجَدِّدَ لَفَّ الْعِمَامَةَ فَعَلَ كَيْفَ أَحَبَّ. وَفِي كَلَامِ الْحَنَفِيَّةِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْفَعَهَا عَنْ رَأْسِهِ وَيُلْقِيَهَا عَلَى الْأَرْضِ دَفْعَةً وَاحِدَةً لَكِنْ يَنْقُضُهَا كَمَا لَفَّهَا؛ لِأَنَّهُ هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعِمَامَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلِمَا فِيهِ مِنْ إهَانَتِهَا كَذَا ذَكَرُوا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَمَامُ جَمَالِ الْمَرْأَةِ فِي خُفِّهَا، وَتَمَامُ جَمَالِ الرَّجُلِ فِي عِمَّتِهِ كَذَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.

فصل في استحباب التختم وما قيل في جنسه وموضعه

[فَصْلٌ فِي اسْتِحْبَابِ التَّخَتُّمِ وَمَا قِيلَ فِي جِنْسِهِ وَمَوْضِعِهِ] يُسْتَحَبُّ التَّخَتُّمُ بِعَقِيقٍ أَوْ فِضَّةٍ دُونَ مِثْقَالٍ فِي خِنْصَرِ يَدٍ مِنْهُمَا وَقِيلَ يُمْنَى وَقِيلَ فِي الْيُسْرَى أَفْضَلُ نَصَّ عَلَيْهِ وَضَعَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدِيثَ التَّخَتُّمِ فِي الْيُمْنَى فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ وَعَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ وَغَيْرِهِمَا وَقِيلَ لَا فَضْلَ فِيهِ مُطْلَقًا وَقِيلَ يُكْرَهُ لِقَصْدِ الزِّينَةِ، وَقَطَعَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَالتَّلْخِيصِ وَابْنِ تَمِيمٍ اسْتِحْبَابَ التَّخَتُّمِ بِالْعَقِيقِ وَالْأَوَّلُ فِي الرِّعَايَةِ، قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «تَخَتَّمُوا بِالْعَقِيقِ فَإِنَّهُ مُبَارَكٌ» كَذَا ذَكَرَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْعُقَيْلِيُّ الْحَافِظُ لَا يَثْبُتُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا شَيْءٌ. وَذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ، وَذَكَرَ ابْنُ تَمِيمٍ أَنَّ خَاتَمَ الْفِضَّةِ مُبَاحٌ وَأَنَّهُ لَا فَضْلَ فِيهِ عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ وَقَطَعَ بِهِ فِي التَّلْخِيصِ وَغَيْرِهِ. قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَصَالِحٍ وَعَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ فِي خَاتَمِ الْفِضَّةِ لِلرَّجُلِ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لَهُ خَاتَمٌ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ إنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يَرْوِيهِ أَهْلُ الشَّامِ وَحَدَّثَ بِحَدِيثِ أَبِي رَيْحَانَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَرِهَ عَشْرَ خِلَالٍ وَفِيهَا الْخَاتَمُ إلَّا لِذِي سُلْطَانٍ فَلَمَّا بَلَغَ هَذَا الْمَوْضِعَ تَبَسَّمَ كَالْمُتَعَجِّبِ، وَقَطَعَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَالتَّلْخِيصِ: اسْتِحْبَابَ التَّخَتُّمِ فِي الْيَسَارِ. قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ وَالْفَضْلِ وَسُئِلَ عَنْ التَّخَتُّمِ فِي الْيُمْنَى أَحَبُّ إلَيْكَ أَمْ الْيُسْرَى؟ فَقَالَ فِي الْيَسَارِ أَقَرُّ وَأَثْبَتُ وَمَا ذُكِرَ مِنْ التَّخْيِيرِ قَدَّمَهُ ابْنُ تَمِيمٍ وَابْنُ حَمْدَانَ وَقَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ لَمْ يَصِحَّ فِي التَّخَتُّمِ فِي الْيُمْنَى شَيْءٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ عَنْ أَنَسٍ وَالْمَحْفُوظُ «أَنَّهُ كَانَ يَتَخَتَّمُ فِي يَسَارِهِ. وَيُكْرَهُ التَّخَتُّمُ فِي السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى» نَصَّ عَلَيْهِ. وَزَادَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَالرِّعَايَةِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَى الْخَاتَمِ ذِكْرُ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ حَمْدَانَ أَوْ رَسُولِهِ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ لَا يُكْتَبُ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ.

قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ لَا يَدْخُلُ الْخَلَاءَ فِيهِ، وَيُسَنُّ أَنْ يَجْعَلَ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي بَاطِنَ كَفِّهِ كَفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ خَاتَمُ حَدِيدٍ وَصُفْرٍ وَنُحَاسٍ وَرَصَاصٍ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ وَجَمَاعَةٍ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا أَكْرَهُ خَاتَمَ الْحَدِيدِ؛ لِأَنَّهُ حِلْيَةُ أَهْلِ النَّارِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ «كَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ عَلَيْهِ فِضَّةٌ فَرَمَى بِهِ فَلَا يُصَلَّى فِي الْحَدِيدِ وَالصُّفْرِ» . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ خَاتَمِ الْحَدِيدِ مَا تَرَى فِيهِ؟ فَذَكَرَ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِرَجُلٍ «هَذِهِ حِلْيَةُ أَهْلِ النَّارِ» وَابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: لُبْسَةُ أَهْلِ النَّارِ وَابْنُ عُمَرَ قَالَ مَا طَهُرَتْ كَفٌّ فِيهَا خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ لِرَجُلٍ لَبِسَ خَاتَمًا مِنْ صُفْرٍ أَجِدُ مِنْك رِيحَ الْأَصْنَامِ قَالَ فَمَا أَتَّخِذُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِضَّةً» انْتَهَى كَلَامُهُ إسْنَادُ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ ضَعِيفٌ وَقَدْ ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ. وَقَالَ فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَأَلْقَاهُ وَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَقَالَ هَذَا أَشَرُّ، هَذَا حِلْيَةُ أَهْلِ النَّارِ فَأَلْقَاهُ وَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ فَسَكَتَ عَنْهُ» حَدِيثٌ حَسَنٌ وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ يَحْرُمُ ذَلِكَ وَيَحْتَمِلُهُ كَلَامُ أَحْمَدَ.

(فَصْلٌ) ظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِ الشَّيْخِ مُوَفَّقِ الدِّينِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ إبَاحَةُ خَاتَمِ الْفِضَّةِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ لِاعْتِيَادِ لُبْسِهِ كُلًّا مِنْهُمَا فَلَا اخْتِصَاصَ وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَكَرِهَهُ الْخَطَّابِيُّ لِلْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ لِلرَّجُلِ.

فصل في لبس الفضة ومن قال بإباحته

[فَصْلٌ فِي لُبْسِ الْفِضَّةِ وَمَنْ قَالَ بِإِبَاحَتِهِ] يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ لُبْسُ الْفِضَّةِ إلَّا مَا تَقَدَّمَ. وَاخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّ كَلَالِيبَ الْفِضَّةِ كَخَاتَمِ الْفِضَّةِ فِي الْإِبَاحَةِ وَأَوْلَى؛ لِأَنَّهَا تُتَّخَذُ غَالِبًا لِلْحَاجَةِ وَكَلَامُهُ يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ لُبْسِ الْفِضَّةِ إلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ بِخِلَافِ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ وَقَدْ أَشَرْت إلَى دَلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَذِكْرِ كَلَامِهِ فِيمَا عَلَّقَهُ عَلَى الْمُحَرَّرِ.

فصل في كراهة تشبه الرجال بالنساء وعكسه ومن حرمه

[فَصْلٌ فِي كَرَاهَةِ تَشَبُّهِ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَعَكْسِهِ وَمَنْ حَرَّمَهُ] يُكْرَهُ تَشَبُّهُ رَجُلٍ بِامْرَأَةٍ وَامْرَأَةٍ بِرَجُلٍ فِي لِبَاسٍ أَوْ غَيْرِهِ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُسْتَوْعِبِ وَابْنُ تَمِيمٍ وَقَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى، وَعَنْهُ يَحْرُمُ ذَلِكَ وَقَطَعَ بِهِ الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ وَهُوَ أَوْلَى، وَقَطَعَ بِهِ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْأَوَّلُ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُحِيطِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُخَاطُ لِلنِّسَاءِ هَذِهِ الزِّيقَاتُ الْعِرَاضُ فَقَالَ إنْ كَانَ شَيْءٌ عَرِيضٌ فَأَكْرَهُهُ هُوَ مُحْدَثٌ وَإِنْ كَانَ شَيْءٌ وَسَطٌ لَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا. وَكَرِهَ أَنْ يَصِيرَ لِلْمَرْأَةِ مِثْلُ جَيْبِ الرِّجَالِ، وَقَطَعَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لِابْنَتِهِ قَمِيصًا وَأَنَا حَاضِرٌ فَقَالَ لِلْخَيَّاطِ، صَيِّرْ جَيْبَهَا برشكاب، يَعْنِي مِنْ قُدَّامَ: وَقَطَعَ لِوَلَدِهِ الصِّغَارِ قُمُصًا فَقَالَ لِلْخَيَّاطِ صَيِّرْ زِيقَاتِهَا دِقَاقًا وَكَرِهَ أَنْ يَصِيرَ عَرِيضًا. وَكُنْت يَوْمًا عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَمَرَّتْ بِهِ جَارِيَةٌ عَلَيْهَا قَبَاءٌ فَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ فَقُلْت تَكْرَهُهُ؟ قَالَ كَيْفَ لَا أَكْرَهُهُ جِدًّا؟ «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ» وَقَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قُلْ لِلْخَيَّاطِ يُصَيِّرْ عُرَى الْقَمِيصِ عِرَاضٌ فَإِنَّهُ رُبَّمَا صَيَّرَهَا دِقَاقًا فَتَنْقَطِع سَرِيعًا. وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حُكْمُ الْخُفِّ فَيُنْهَى عَنْ لُبْسِ خُفٍّ يُشْبِهُ خُفَّ الرِّجَالِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ نَصِّ الْإِمَامِ وَالْأَصْحَابِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى إبَاحَةِ لُبْسِ الْخُفِّ لِلْمَرْأَةِ، وَيَدْخُلُ

فِيهَا أَيْضًا حُكْمُ الْعِمَامَةِ لَهَا وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الْأَصْحَابُ وَالْمَرْجِعُ فِي اللِّبَاسِ إلَى حُكْمِ عُرْفِ الْبَلَدِ ذَكَرَهُ فِي التَّلْخِيصِ. وَلَا تَخْتَمِرُ الْمَرْأَةُ كَخِمَارِ الرَّجُلِ بَلْ يَكُونُ خِمَارُهَا عَلَى رَأْسِهَا لَيَّةً وَلَيَّتَيْنِ، وَيُكْرَهُ النِّقَابُ لِلْأَمَةِ وَعَنْهُ يَحْرُمُ، وَعَنْهُ يُبَاحُ إنْ كَانَتْ جَمِيلَةً وَيُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ النِّقَابُ وَالْبُرْقُعُ فِي الصَّلَاةِ نَصَّ عَلَيْهِ وَقَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ وَذَكَرَ فِي الْمُغْنِي قَوْلَ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَكْشِفَ وَجْهَهَا فِي الصَّلَاةِ وَالْإِحْرَامِ. وَمُقْتَضَى قَوْلِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ تَحْرِيمُهُ عَلَيْهَا، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ رِوَايَةً بِأَنَّهُ عَوْرَةٌ فِي الصَّلَاةِ يَجِبُ سَتْرُهُ.

فصل النقش في الخضاب

[فَصْلُ النَّقْشِ فِي الْخِضَابِ] فَصْلُ (وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ الْمُزَوَّجَةِ الْخِضَابُ مَعَ حُضُورِ زَوْجِهَا) وَيُكْرَهُ النَّقْشُ قَالَ ابْنُ حَمْدَانَ: وَالتَّكْتِيبُ وَنَحْوُهُ وَالتَّطَارِيفُ انْتَهَى كَلَامُهُ. فَأَمَّا الْخِضَابُ لِلرَّجُلِ فَيَتَوَجَّهُ إبَاحَتُهُ مَعَ الْحَاجَةِ وَمَعَ عَدَمِهَا يَخْرُجُ عَلَى مَسْأَلَةِ تَشَبُّهِ رَجُلٍ بِامْرَأَةٍ فِي لِبَاسٍ وَغَيْرِهِ: وَيُبَاحُ مَا صُبِغَ مِنْ الثِّيَابِ بَعْدَ نَسْجِهِ وَقَالَ الْقَاضِي يُكْرَهُ، قَالَ ابْنُ حَمْدَانَ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَمَسَائِلُ هَذَا الْفَصْلِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مَذْكُورَةٌ فِي التَّعْلِيقِ الْكَبِيرِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى الْمَرُّوذِيُّ فِي الْوَرَعِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ النَّقْشِ وَالتَّطَارِيفِ زَادَ فِي رِوَايَةٍ وَيَخْتَضِبْنَ غَمْسًا، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ الْخِضَابِ فَقَالَتْ لَا بَأْسَ مَا لَمْ يَكُنْ نَقْشٌ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ يُكْرَهُ النَّقْشُ وَرَخَّصَ فِي الْغَمْسَةِ. وَرَوَى أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ «أَنَّهُ أَمَرَ فِي الْخِضَابِ أَنْ تُغْمَسَ الْيَدُ كُلُّهَا» . وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: وَأَخْبَرَتْنِي امْرَأَةٌ قَالَتْ: نَهَانِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّقْشِ فِي الْخِضَابِ وَقَالَ: اغْمِسِي الْيَدَ كُلَّهَا. [فَصْلٌ فِي مَنْ جَعَلَ عَلَى رَأْسِهِ عَلَامَةً وَقْتَ الْحَرْبِ] مَنْ جَعَلَ عَلَى رَأْسِهِ عَلَامَةً وَقْتَ الْحَرْبِ مِنْ رِيشِ نَعَامٍ وَغَيْرِهِ جَازَ وَعَنْهُ يُسْتَحَبُّ إنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ شَجَاعَةً وَإِلَّا كُرِهَ، وَقِيلَ لَا يُكْرَهُ.

فصل حكم تجرد ذكرين أو أنثيين واجتماعهما بغير حائل

[فَصْلٌ حُكْمُ تَجَرُّدِ ذَكَرَيْنِ أَوْ أُنْثَيَيْنِ وَاجْتِمَاعِهِمَا بِغَيْرِ حَائِلٍ] فَصْلٌ (كَرَاهَةُ تَجَرُّدِ ذَكَرَيْنِ أَوْ أُنْثَيَيْنِ وَاجْتِمَاعِهِمَا بِغَيْرِ حَائِلٍ وَمَتَى يُفَرَّقُ بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي الْمَضَاجِعِ) يُكْرَهُ أَنْ يَتَجَرَّدَ ذَكَرَانِ أَوْ أُنْثَيَانِ فِي إزَارٍ أَوْ لِحَافٍ وَلَا ثَوْبَ يَحْجِزُ بَيْنَهُمَا، ذَكَرَهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَالرِّعَايَةِ. وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مُبَاشَرَةِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَالْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ» وَذَكَرَ فِي الرِّعَايَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي النِّكَاحِ وَقَالَ مُمَيِّزَانِ، ثُمَّ قَالَ مِنْ عِنْدِهِ فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا غَيْرَ زَوْجٍ وَسَيِّدٍ وَمَحْرَمٍ اُحْتُمِلَ التَّحْرِيمُ. وَمَنْ بَلَغَ مِنْ الصِّبْيَانِ عَشْرًا مُنِعَ مِنْ النَّوْمِ مَعَ أُخْتِهِ وَمَعَ مَحْرَمٍ غَيْرِهَا مُتَجَرِّدَيْنِ ذَكَرَهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَالرِّعَايَةِ وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عَلَى رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ وَاخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ وَالْمَنْصُوصُ وَاخْتَارَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا. وُجُوبُ التَّفْرِيقِ فِي ابْنِ سَبْعٍ فَأَكْثَرَ وَإِنَّ لَهُ عَوْرَةً يَجِبُ حِفْظُهَا وَالْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ. وَيُتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ يَجُوزُ تَجَرُّدُ مَنْ لَا حُكْمَ لِعَوْرَتِهِ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ مَعَ مُبَاشَرَةِ الْعَوْرَةِ لِوُجُوبِ حِفْظِهَا إذًا، وَمَعَ عَدَمِ مُبَاشَرَتِهَا فَإِنْ كَانَا ذَكَرَيْنِ أَوْ أُنْثَيَيْنِ فَإِنْ أَمِنَا ثَوَرَانَ الشَّهْوَةِ جَازَ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ الْكَرَاهَةُ لِاحْتِمَالِ حُدُوثِهَا، وَإِنْ خِيفَ ثَوَرَانُهَا حَرُمَ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ لِمَنْعِ النَّظَرِ حَيْثُ أُبِيحَ مَعَ خَوْفِ ثَوَرَانِهَا نَصَّ عَلَيْهِ، وَاخْتَلَفَ فِيهِ الْأَصْحَابُ، وَإِنْ كَانَ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَحْرَمًا فَكَذَلِكَ وَإِلَّا فَالتَّحْرِيمُ وَاضِحٌ لِمَعْنَى الْخَلْوَةِ وَمَظِنَّةِ الشَّهْوَةِ وَحُصُولِ الْفِتْنَةِ. وَعَنْ سَوَّارِ بْنِ دَاوُد وَيُقَالُ دَاوُد بْنُ سَوَّارٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ

أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا «مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ لَفْظُ أَحْمَدَ وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَى تَرْكِهَا لِعَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» مُخْتَلَفٌ فِي سِوَارٍ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فَإِنْ صَحَّ فَالْمُرَادُ بِهِ الْمُعْتَادُ مَعَ اجْتِمَاعِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ لِقَوْلِهِ «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ» فَأَمَّا إنْ كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا تَوَجَّهَ مَا سَبَقَ فَإِنْ جَهِلَ الْحَالَ فَقَدْ يَحْتَمِلُ الْمَنْعَ فَأَمَّا الْمَحَارِمُ فَلَا مَنْعَ إلَّا ذُكُورًا أَوْ إنَاثًا فَإِنْ كَانُوا ذُكُورًا أَوْ إنَاثًا فَالْمَنْعُ وَالْكَرَاهَةُ مَعَ التَّجَرُّدِ مُحْتَمَلَةٌ لَا الْمَنْعُ مُطْلَقًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل فيما يتعلق بالنعال

[فَصْلٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالنِّعَالِ] يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ لِبَاسُ النِّعَالِ الصَّرَّارَةِ نَصَّ عَلَيْهِ وَقَالَ لَا بَأْسَ أَنْ تُلْبَسَ لِلْوُضُوءِ. وَقَالَ لَهُ الْمَرُّوذِيُّ أَمَرُونِي فِي الْمَنْزِلِ أَنْ أَشْتَرِيَ نَعْلًا سِنْدِيًّا لِصَبِيَّةٍ فَقَالَ لَا تَشْتَرِ فَقُلْت تَكْرَهُهُ لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ أَكْرَهُهُ وَقَالَ: إنْ كَانَ لِلْمَخْرَجِ وَالطِّينِ فَأَرْجُو، أَمَّا مَنْ أَرَادَ الزِّينَةَ فَلَا. وَقَالَ عَنْ شَخْصٍ لَبِسَهَا يَتَشَبَّهُ بِأَوْلَادِ الْمُلُوكِ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ إذَا كَانَ الْوُضُوءُ فَأَرْجُو، وَأَمَّا لِلزِّينَةِ فَأَكْرَهُهُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَكَرِهَهُ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْبٍ وَقَالَ إنْ كَانَ لِلْكَنِيفِ وَالْوُضُوءِ وَأَكْرَهُ الصَّرَّارَ وَقَالَ مِنْ زِيِّ الْعَجَمِ وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا وَيَذْكُرُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَأَظُنُّهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا قَالَ وَكِيعٌ السِّبْتِيَّةُ الَّتِي لَا شَعْرَ فِيهَا. وَحَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ ابْنِ عَقِيلٍ تَحْرِيمَ الصَّرِيرِ فِي الْمَدَاسِ وَيَحْتَمِلُهُ كَلَامَ أَحْمَدَ. وَيُسَنُّ أَنْ يَكُونَ الْخُفُّ أَحْمَرَ وَيَجُوزُ أَسْوَدَ. وَيُرْوَى عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ أَنَّهُ قَالَ النَّعْلُ السَّوْدَاءُ تُورِثُ الْهَمَّ وَأَظُنُّ الْقَاضِيَ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْكَرَاهَةُ وَيُسَنُّ أَنْ يَكُونَ النَّعْلُ سِبْتِيًّا أَصْفَرَ وَهُوَ مَا لَيْسَ عَلَيْهِ شَعْرٌ. وَرَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ مَنْ لَبِسَ نَعْلًا صَفْرَاءَ لَمْ يَزَلْ يَنْظُرُ فِي سُرُورٍ، ثُمَّ قَرَأَ

{صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة: 69] قَالَ فِي الرِّعَايَةِ وَيُبَاحُ الْمَشْيُ فِي قَبْقَابِ خَشَبٍ وَقِيلَ مَعَ الْحَاجَةِ. وَذَكَرَ ابْنُ تَمِيمٍ أَنَّ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: لَا بَأْسَ بِالْخَشَبِ أَنْ يُمْشَى فِيهِ إنْ كَانَ حَاجَةً وَنَقَلْتُ مِنْ مَسَائِلِ حَرْبٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ فَالنَّعْلُ مِنْ الْخَشَبِ قَالَ لَا بَأْسَ بِهَا إذَا كَانَ مَوْضِعَ ضَرُورَةٍ.

فصل في ترغيب اللبس للنعال

[فَصْلٌ فِي تَرْغِيبِ اللُّبْسِ لِلنِّعَالِ] فَصْلٌ رَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «اسْتَكْثِرُوا مِنْ النِّعَالِ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَزَالُ رَاكِبًا مَا انْتَعَلَ» وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَرْغِيبِ اللُّبْسِ لِلنِّعَالِ؛ وَلِأَنَّهَا قَدْ تَقِيهِ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ وَالنَّجَاسَاتِ وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا «لِيُوَسِّعْ الْمُنْتَعِلُ لِلِحَافِي عَنْ جُدُدِ الطَّرِيقِ فَإِنَّ الْمُنْتَعِلَ بِمَنْزِلَةِ الرَّاكِبِ» . وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا انْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِ أَحَدِكُمْ فَلْيَسْتَرْجِعْ فَإِنَّهَا مُصِيبَةٌ» وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَعَاهَدُوا نِعَالَكُمْ عِنْدَ أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ» وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهَا نَجَاسَةٌ فَتُنَجِّسُ الْمَسْجِدَ قَالَهُ الْقَاضِي وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ «لِيَسْأَلَ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا حَتَّى يَسْأَلَهُ شِسْعَ نَعْلِهِ إذَا انْقَطَعَ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ عَنْ ثَابِتٍ مُرْسَلَةٍ «حَتَّى يَسْأَلَهُ الْمِلْحَ، وَحَتَّى يَسْأَلَهُ شِسْعَهُ إذَا انْقَطَعَ» . وَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ قَالَ لَهُ بِمِصْرَ مَا لِي أَرَاك شَعِثًا وَأَنْتَ أَمِيرُ الْأَرْضِ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَانَا عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْإِرْفَاهِ» قَالَ فَمَا لِي لَا أَرَى عَلَيْك حِذَاءً قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُنَا أَنْ نَحْتَفِي أَحْيَانًا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُفْيَانَ قَالَ كَانَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامِلًا بِمِصْرَ فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَإِذَا هُوَ شَعِثُ الرَّأْسِ مِشْعَارٌ فَقُلْت مَا لِي أَرَاك شَعِثًا وَأَنْتَ أَمِيرٌ قَالَ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَانَا عَنْ الْإِرْفَاهِ،» قُلْت وَمَا الْإِرْفَاهُ؟ قَالَ الرَّجُلُ كَانَ يَوْمَ الْإِرْفَاهِ الِاسْتِكْثَارُ مِنْ الزِّينَةِ وَالتَّنَعُّمِ وَالْمِشْعَارُ هُوَ الْبَعِيدُ الْعَهْدُ عَنْ الْحَمَّامِ، يُقَالُ رَجُلٌ مِشْعَارٌ إذَا كَانَ مُنْتَفِشَ الشَّعْرِ ثَائِرَ الرَّأْسِ بَعِيدَ الْعَهْدِ عَنْ الْحَمَّامِ بِالتَّسْرِيحِ وَالدَّهْنِ. قَالَ صَاحِبُ النَّظْمِ:

وَسِرْ حَافِيًا أَوْ حَاذِيًا وَامْشِ وَارْكَبَنْ ... وَتَمَعْدَدْ وَاخْشَوْشِنْ وَلَا تَتَعَوَّدْ وَيُكْرَهُ الْمَشْيُ فِي فَرْدَةِ نَعْلٍ وَاحِدَةٍ سَوَاءٌ كَانَ فِي إصْلَاحِ الْأُخْرَى أَوْ لَمْ يَكُنْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَالْأَثْرَمِ وَجَمَاعَةٍ زَادَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى وَقِيلَ: كَثِيرًا وَيُكْرَهُ الْمَشْيُ فِي نَعْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ذَكَرَهُ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ وَابْنُ تَمِيمٍ وَابْنُ حَمْدَانَ وَالْأَوْلَى أَنْ يَبْدَأَ بِلُبْسِ حَائِلِ الْيُمْنَى بِيُمْنَاهُ وَخَلْعِ حَائِلِ الْيُسْرَى بِيُسْرَاهُ وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ وَقَدْ سُئِلَ يَنْتَعِلُ قَبْلَ الْيُمْنَى أَوْ يَنْزِعُ الْيُمْنَى قَبْلَ الْيُسْرَى قَالَ أَكْرَهُ هَذَا كُلَّهُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَابِلَ بَيْنَ نَعْلَيْهِ وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ نَعْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَهَا قِبَالَانِ» قِبَالُ النَّعْلِ بِكَسْرِ الْقَافِ الزِّمَامُ وَهُوَ السَّيْرُ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الْإِصْبَعِ الْوُسْطَى وَاَلَّتِي تَلِيهَا وَقَدْ أَقْبَلَ نَعْلَهُ وَقَابَلَهَا وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «قَابِلُوا النِّعَالَ» أَيْ اعْمَلُوا لَهَا قِبَالًا، وَنَعْلٌ مُقْبَلَةٌ إذَا جَعَلْت لَهَا قِبَالًا، وَمَقْبُولَةٌ إذَا شَدَدْت قِبَالَهَا قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ: وَهَلْ يُكْرَهُ أَنْ يَنْتَعِلَ قَائِمًا عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَقَدَّمَ ابْنُ تَمِيمٍ الْكَرَاهَةَ، قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ لَا يَنْتَعِلُ قَائِمًا وَزَادَ فِي رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ وَالْأَثْرَمِ الْأَحَادِيثُ فِيهِ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ اعْتَمَدَ عَلَى الْأَحَادِيثِ فِي كَرَاهَةِ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ كَتَبَ إلَيَّ يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الِانْتِعَالِ قَائِمًا قَالَ لَا يَثْبُتُ فِيهِ شَيْءٌ قَالَ الْقَاضِي وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ ضَعَّفَ الْأَحَادِيثَ فِي النَّهْيِ وَالصَّحِيحُ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَاهُ.

فصل استحباب الصلاة في النعال

[فَصْلُ اسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ فِي النِّعَالِ] رَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «خُذُوا زِينَةَ الصَّلَاةِ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا زِينَةُ الصَّلَاةِ؟ قَالَ الْبَسُوا نِعَالَكُمْ وَصَلُّوا فِيهَا» . قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الصَّلَاةُ فِي النِّعَالِ وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي النَّعْلِ وَنَحْوِهِ مُسْتَحَبٌّ قَالَ وَإِذَا شَكَّ فِي نَجَاسَةٍ أَسْفَلَ الْخُفِّ لَمْ تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِيهِ. وَرَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «إذَا خَلَعَ أَحَدُكُمْ نَعْلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ خَلَّصَهُ اللَّهُ مِنْ ذُنُوبِهِ حَتَّى يَلْقَاهُ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ خَلْعِ النَّعْلِ إذَا كَانَ فِيهَا أَذًى انْتَهَى كَلَامُهُ. فَصْلٌ قَدْ سَبَقَ بَيَانُ آدَابِ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْمَلْبُوسِ، وَسَبَقَ بَيَانُ حُكْمِ الِامْتِنَاعِ مِنْهُ، وَالْإِسْرَافِ فِيهِ فِي آدَابِ الْأَكْلِ، وَسَبَقَ بَيَانُ حُكْمِ الْبِنَاءِ وَالْعِمَارَةِ فِي آدَابِ الْمَسَاجِدِ.

فصل في ذكر أحاديث تتعلق بالفصول السالفة في اللباس

[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ أَحَادِيثَ تَتَعَلَّقُ بِالْفُصُولِ السَّالِفَةِ فِي اللِّبَاسِ] ِ) عَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أُحِلَّ الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ لِلْإِنَاثِ مِنْ أُمَّتِي، وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِهَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ مَعَ أَنَّ فِيهِ انْقِطَاعًا وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمَا مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ رِجَالُهُ مَعْرُوفُونَ. وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ «نَهَانَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ، وَالدِّيبَاجِ وَأَنْ يُجْلَسَ عَلَيْهِ،» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ إلَّا مَوْضِعَ إصْبَعَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ «وَكَانَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جُبَّةٌ عَلَيْهَا لَبِنَةٌ شِبْرٌ مِنْ دِيبَاجٍ كِسْرَوَانِيِّ، وَفَرْجَاهَا مَكْفُوفَانِ بِهِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ عَنْ أَسْمَاءَ الْحَدِيثَ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَلَمْ يَذْكُرْ لَفْظَةَ الشِّبْرِ. وَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لُبْسِ الذَّهَبِ إلَّا مُقَطَّعًا» إسْنَادُهُ جَيِّدٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» إسْنَادُهُ جَيِّدٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَى مَنْ جَرَّ إزَارَهُ بَطَرًا» وَقَالَ أَيْضًا «مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَقَالَ أَيْضًا: «مَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ مِنْ الْإِزَارِ فِي النَّارِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «لَا حَقَّ لِلْإِزَارِ فِي الْكَعْبَيْنِ» إسْنَادُهُ حَسَنٌ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ «وَلَعَنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُتَشَبِّهِينَ مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالْمُتَشَبِّهَات مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ «وَلَعَنَ أَيْضًا الرَّجُلَ يَلْبَسُ لُبْسَ الْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةَ تَلْبَسُ لُبْسَ الرَّجُلِ» إسْنَادُهُ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد.

وَرَوَى سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ الْعَوَّامِ عَنْ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ قَالَ كَانُوا يُرَخِّصُونَ لِلصَّبِيِّ فِي الْخَاتَمِ الذَّهَبِ فَإِذَا بَلَغَ أَلْقَاهُ «وَأَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا يُصَلِّي وَهُوَ مُسْبِلٌ إزَارَهُ بِالْوُضُوءِ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ أَمَرْته أَنْ يَتَوَضَّأَ، ثُمَّ سَكَتَّ عَنْهُ فَقَالَ إنَّهُ كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ مُسْبِلٌ إزَارَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ صَلَاةَ رَجُلٍ مُسْبِلٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْيَمِينِ، وَإِذَا نَزَعَ فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَالِ» وَعَنْهُ مَرْفُوعًا «لَا يَمْشِي أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَفِي رِوَايَةٍ «إذَا انْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَمْشِ فِي الْأُخْرَى حَتَّى يُصْلِحَهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَفِيهِ «وَلَا تَمْشِ فِي خُفٍّ وَاحِدٍ» وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا مَشَتْ فِي خُفٍّ وَاحِدٍ وَقَالَتْ لَأُحَنِّثَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ إنَّهُ يَقُولُ لَا تَمْشِي فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ وَلَا خُفٍّ وَاحِدٍ رَوَاهُ سَعِيدٌ. حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَائِشَةَ وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ مَشَى فِي نَعْلٍ. وَاحِدَةٍ رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يَنْتَعِلَ الرَّجُلُ قَائِمًا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي يَحْيَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَحْمَدَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ وَعَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ فَذَكَرَهُ إسْنَادُهُ جَيِّدٌ. وَأَبُو الزُّبَيْرِ إسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَقَالَ سَعِيدٌ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَنْتَعِلَ الرَّجُلُ قَائِمًا مَوْقُوفٌ. وَرَوَاهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ وَالْآجُرِّيُّ مَرْفُوعًا. وَرَوَى أَحْمَدُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَرَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْتَعِلُ قَائِمًا وَقَاعِدًا» . وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَخَّصَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ لِحِكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَلَفْظُهُ «أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرَ شَكَوَا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَمْلَ فَرَخَّصَ لَهُمَا فِي قُمُصِ الْحَرِيرِ لِحِكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا» ، وَسَبَقَ فِي التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمَاتِ.

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أَبِيهِ سَعْدٍ قَالَ «رَأَيْت رَجُلًا بِبُخَارَى عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ عَلَيْهِ عِمَامَةُ خَزٍّ سَوْدَاءُ فَقَالَ كَسَانِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» سَعْدٌ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ ابْنِهِ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَأَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيُّ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لُبْسُ الْخَزِّ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «إنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الثَّوْبِ الْمُسَمَّطِ مِنْ قَزٍّ» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَمَّا السَّدَى وَالْعَلَمُ فَلَا نَرَى بِهِ بَأْسًا. فِيهِ خُصَيْفُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَهُوَ مُتَكَلَّمٌ فِيهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيُّ وَعَنْ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «لَا تَرْكَبُوا الْخَزَّ وَلَا النِّمَارَ» إسْنَادٌ حَسَنٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْخَزَّ وَالْحَرِيرَ إلَى أَنْ قَالَ يَمْسَخُ مِنْهُمْ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» إسْنَادُهُ ثِقَاتٌ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيُّ وَالْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ فَقَالَ إنَّ هَذِهِ مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ فَلَا تَلْبَسْهَا.» وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ عَنْ التَّخَتُّمِ بِالذَّهَبِ وَعَنْ لِبَاسِ الْقِسِيِّ وَالْمُعَصْفَرِ» رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ «وَنَهَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ التَّزَعْفُرِ لِلرِّجَالِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ الْبَرَاءُ «رَأَيْته فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ يَعْنِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ «خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَحْمَرَانِ فَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَفِي إسْنَادِهِ أَبُو يَحْيَى الْقَتَّاتُ وَفِيهِ ضَعْفٌ وَبَاقِي إسْنَادِهِ ثِقَاتٌ. وَعَنْ سَمُرَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «الْبَسُوا ثِيَابَ الْبَيَاضِ فَإِنَّهَا أَطْهَرُ وَأَطْيَبُ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «دَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ» . وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ غَدَاةٍ وَعَلَيْهِ

مِرْطٌ مُرَحَّلٌ مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدَ» رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ «وَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَّ خَالِدٍ خَمِيصَةً سَوْدَاءَ وَقَالَ أَبْلِي وَأَخْلِقِي يَا أُمَّ خَالِدٍ هَذَا سَنَا» قَالَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ وَالسَّنَا بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ حَسَنٌ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ يُرْوَى " أَخَلْقِي " بِالْقَافِ مِنْ إخْلَاقِ الثَّوْبِ تَقْطِيعُهُ وَقَدْ خَلُقَ الثَّوْبُ وَأَخْلَقَ وَيُرْوَى بِالْفَاءِ بِمَعْنَى الْعِوَضِ وَالْبَدَلِ قَالَ وَهُوَ الْأَشْبَهُ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا اسْتَجَدَّ ثَوْبًا سَمَّاهُ بِاسْمِهِ عِمَامَةً أَوْ قَمِيصًا أَوْ رِدَاءً، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ أَنْتَ كَسَوْتنِيهِ أَسْأَلُك خَيْرَهُ وَخَيْرَ مَا صُنِعَ لَهُ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ» إسْنَادُهُ جَيِّدٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ قَدْ أَرْخَى طَرَفَيْهَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَلَمْ يَقُلْ سَوْدَاءَ وَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَإِسْنَادُهُ ثِقَاتٌ سِوَى يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَدِينِيِّ فَإِنَّ فِيهِ ضَعْفًا. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ إلَى عَمْرٍو وَحَدِيثُهُ حَسَنٌ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا «كُلُوا وَاشْرَبُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا غَيْرَ مَخْيَلَةٍ وَلَا سَرَفٍ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَحْمَدُ «فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْهُنُ بِالزَّعْفَرَانِ وَيَصْبُغُ بِهِ ثِيَابَهُ كُلَّهَا حَتَّى عِمَامَتِهِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. «وَقَدْ اتَّكَأَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مِخَدَّةٍ فِيهَا صُورَةٌ» رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ الْبُخَارِيِّ «أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ عَلَى الْبَابِ فَلَمْ يَدْخُلْ قَالَتْ فَعَرَفْت فِي وَجْهِهِ

الْكَرَاهِيَةَ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُوبُ إلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ مَاذَا أَذْنَبْت قَالَ فَمَا بَالُ هَذِهِ النُّمْرُقَةِ؟ فَقَالَتْ اشْتَرَيْتهَا لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَوَسُّدِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّورَةِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ» . وَقَالَ «إنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ لَا تَدْخُلُهُ الْمَلَائِكَةُ» وَالْقَوْلُ بِهَذَا الْخَبَرِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الَّذِي قَبْلَهُ أَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَانْفِرَادُ أَحْمَدَ بِالزِّيَادَةِ فَإِنْ صَحَّتْ فَلَا تَحْرُمُ وَفِي الْكَرَاهَةِ نَظَرٌ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ عَنْ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصُّوَرِ فِي الْبَيْتِ وَنَهَى أَنْ يُصْنَعَ ذَلِكَ» إسْنَادٌ جَيِّدٌ قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ إنِّي أُصَوِّرُ هَذِهِ التَّصَاوِيرَ فَأَفْتِنِي فِيهَا قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ يَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسًا تُعَذِّبُهُ فِي جَهَنَّمَ، فَإِنْ كُنْت لَا بُدَّ فَاعِلًا فَاجْعَلْ الشَّجَرَ وَمَا لَا نَفْسَ لَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ أَحَبُّ الثِّيَابِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَمِيصَ» . وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ كُمُّ يَدِ قَمِيصِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الرُّسْغِ» رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُمَا. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ فَقَالَ رَجُلٌ: إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنًا قَالَ إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْصُ النَّاسِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَلِأَحْمَدَ مَعْنَاهُ «وَلَكِنَّ الْكِبْرَ مَنْ سَفِهَ النَّاسَ وَأَزْرَى النَّاسَ» سَفِهَ الْحَقَّ أَيْ: جَهِلَهُ وَقِيلَ جَهِلَ نَفْسَهُ وَلَمْ يُفَكِّرْ فِيهَا، وَقِيلَ سَفَّهَ بِالتَّشْدِيدِ أَيْ سَفَّهَ الْحَقَّ، وَبَطَرُ الْحَقِّ قِيلَ تَرْكُهُ، وَقِيلَ يَجْعَلُ الْحَقَّ بَاطِلًا

وَغَمْصُ النَّاسِ احْتِقَارُهُمْ، وَزَادَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ " وَغَمْصُ النَّاسِ بِعَيْنَيْهِ ". وَصَحَّ عَنْ عَمْرِو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا «يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَعْلُوهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ الصَّغَارِ، حَتَّى يَدْخُلُوا سِجْنًا فِي جَهَنَّمَ يُقَالُ لَهُ بُولَسُ، تَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ وَيُسْقَوْنَ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ. جَمَعَ النَّارَ عَلَى أَنْيَارٍ وَأَصْلُهَا أَنْوَارٌ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْوَاوِ، «وَقَدْ خَسَفَ اللَّهُ بِالرَّجُلِ الَّذِي جَعَلَ يَتَبَخْتَرُ فِي حُلَّتِهِ وَيَخْتَالُ فِي مِشْيَتِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَلِأَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا جَمِيلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ حُبِّبَ إلَيَّ الْجَمَالُ وَأُعْطِيتُ مِنْهُ مَا تَرَى حَتَّى مَا أُحِبُّ أَنْ يَفُوقَنِي أَحَدٌ إمَّا بِشِرَاكِ نَعْلٍ أَوْ شِسْعِ نَعْلٍ أَفَمِنْ الْكِبْرِ ذَلِكَ؟ قَالَ لَا، وَلَكِنَّ الْكِبْرَ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْصُ النَّاسِ.» وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ يَقُولُونَ فِي التِّيهِ وَقَدْ رَكِبْت الْحِمَارَ وَلَبِسْت الشَّمْلَةَ وَقَدْ حَلَبْت الشَّاةَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ فَعَلَ هَذَا فَلَيْسَ فِيهِ مِنْ الْكِبْرِ شَيْءٌ» إسْنَادٌ جَيِّدٌ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَعَنْ أَبِي مَرْحُومٍ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا «مَنْ تَرَكَ أَنْ يَلْبَسَ صَالِحَ الثِّيَابِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ تَوَاضُعًا لِلَّهِ دَعَاهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي حُلَلِ الْإِيمَانِ أَيَّتُهُنَّ شَاءَ» إسْنَادٌ لَيِّنٌ أَوْ ضَعِيفٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «إزْرَةُ الْمُسْلِمِ إلَى نِصْفِ السَّاقِ وَلَا حَرَجَ وَلَا جُنَاحَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَيْنِ، مَا كَانَ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ فَهُوَ فِي النَّارِ، مَنْ جَرَّ إزَارَهُ بَطَرًا لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ «وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْمٍ إنَّكُمْ قَادِمُونَ عَلَى إخْوَانِكُمْ فَأَصْلِحُوا رِحَالَكُمْ

وَأَصْلِحُوا لِبَاسَكُمْ حَتَّى تَكُونُوا كَأَنَّكُمْ شَامَةٌ فِي النَّاسِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَحُّشَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَفِيهِ قَيْسُ بْنُ بِشْرٍ وَقَدْ وُثِّقَ وَضُعِّفَ وَرَوَى لَهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ إيَاسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ «ذَكَرَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا عِنْدَهُ الدُّنْيَا فَقَالَ أَلَا تَسْمَعُونَ؟ أَلَا تَسْمَعُونَ؟ إنَّ الْبَذَاذَةَ مِنْ الْإِيمَانِ» يَعْنِي التَّقَحُّلَ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ، وَفِي لَفْظٍ يَعْنِي التَّقَشُّفَ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي النِّسَاءِ يُرْخِينَ شِبْرًا فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ إذًا تَنْكَشِفُ أَقْدَامُهُنَّ، قَالَ فَيُرْخِينَهُ ذِرَاعًا لَا يَزِدْنَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

فصل في فضل الأدب والتأديب

[فَصْلٌ فِي فَضْلِ الْأَدَبِ وَالتَّأْدِيبِ] ِ) قَالَ فِي الْغُنْيَة بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ جُمْلَةً مِنْ الْآدَابِ يَنْبَغِي لِكُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهَذِهِ الْآدَابِ فِي أَحْوَالِهِ. رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ تَأَدَّبُوا، ثُمَّ تَعَلَّمُوا وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْخِيُّ أَدَبُ الْعِلْمِ أَكْثَرُ مِنْ الْعِلْمِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ إذَا وُصِفَ لِي رَجُلٌ لَهُ عِلْمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَا أَتَأَسَّفُ عَلَى فَوْتِ لِقَائِهِ، وَإِذَا سَمِعْت رَجُلًا لَهُ أَدَبُ الْقَسِّ أَتَمَنَّى لِقَاءَهُ وَأَتَأَسَّفُ عَلَى فَوْتِهِ. وَيُقَالُ مَثَلُ الْإِيمَانِ كَمَثَلِ بَلْدَةٍ لَهَا خَمْسَةُ حُصُونٍ، الْأَوَّلُ مِنْ ذَهَبٍ، وَالثَّانِي مِنْ فِضَّةٍ وَالثَّالِث مِنْ حَدِيدٍ، وَالرَّابِعُ مِنْ آجُرٍّ، وَالْخَامِسُ مِنْ لَبِنٍ فَمَا زَالَ أَهْلُ الْحِصْنِ مُتَعَاهِدِينَ الْحِصْنَ مِنْ اللَّبِنِ لَا يَطْمَعُ الْعَدُوُّ فِي الثَّانِي فَإِذَا أَهْمَلُوا ذَلِكَ طَمِعُوا فِي الْحِصْنِ الثَّانِي، ثُمَّ الثَّالِثِ حَتَّى تَخْرَبَ الْحُصُونُ كُلُّهَا، فَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ فِي خَمْسَةِ حُصُونٍ: الْيَقِينِ. ثُمَّ الْإِخْلَاصِ، ثُمَّ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، ثُمَّ أَدَاءِ السُّنَنِ، ثُمَّ حِفْظِ الْآدَابِ، فَمَا دَامَ الْعَبْدُ يَحْفَظُ الْآدَابَ وَيَتَعَاهَدُهَا فَالشَّيْطَانُ لَا يَطْمَعُ فِيهِ. فَإِذَا تَرَكَ الْآدَابَ طَمِعَ الشَّيْطَانُ فِي السُّنَنِ، ثُمَّ فِي الْفَرَائِضِ، ثُمَّ فِي الْإِخْلَاصِ، ثُمَّ فِي الْيَقِينِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ لَا يَنْبُلُ الرَّجُلُ بِنَوْعٍ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يُزَيِّنْ عَمَلَهُ بِالْأَدَبِ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا طَلَبْت الْعِلْمَ فَأَصَبْت فِيهِ شَيْئًا، وَطَلَبْت الْأَدَبَ فَإِذَا أَهْلُهُ قَدْ مَاتُوا. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ لَا أَدَبَ إلَّا بِعَقْلٍ، وَلَا عَقْلَ إلَّا بِأَدَبٍ، كَانَ يُقَالُ الْعَوْنُ لِمَنْ لَا عَوْنَ لَهُ الْأَدَبُ. وَقَالَ الْأَحْنَفُ الْأَدَبُ نُورُ الْعَقْلِ، كَمَا أَنَّ النَّارَ فِي الظُّلْمَةِ نُورُ الْبَصَرِ. كَانَ يُقَالُ الْأَدَبُ مِنْ الْآبَاءِ، وَالصَّلَاحُ مِنْ اللَّهِ. كَانَ يُقَال مَنْ أَدَّبَ ابْنَهُ صَغِيرًا، قَرَّتْ بِهِ عَيْنُهُ كَبِيرًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَنْ لَمْ يُؤَدِّبْهُ وَالِدَاهُ أَدَّبَهُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْله تَعَالَى

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6] قَالَ أَدِّبُوهُمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ يَنْفَعُ الْأَدَبُ الْأَحْدَاثَ فِي مَهَلٍ ... وَلَيْسَ يَنْفَعُ بَعْدَ الْكِبَرِ الْأَدَبُ إنَّ الْغُصُونَ إذَا قَوَّمْتَهَا اعْتَدَلَتْ ... وَلَا تَلِينُ إذَا قَوَّمْتَهَا الْخُشُبُ قِيلَ لِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَنْ أَدَّبَك؟ قَالَ مَا أَدَّبَنِي أَحَدٌ رَأَيْت جَهْلَ الْجَاهِلِ فَاجْتَنَبْته. وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَنْ أَرَادَ أَنْ يُغِيظَ عَدُوَّهُ فَلَا يَرْفَعْ الْعَصَا عَنْ وَلَدِهِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ كَانُوا يَقُولُونَ أَكْرِمْ وَلَدَكَ وَأَحْسِنْ أَدَبَهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ التَّعَلُّمُ فِي الصِّغَرِ كَالنَّقْشِ فِي الْحَجَرِ وَقَالَ لُقْمَانُ ضَرْبُ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ كَالسَّمَادِ لِلزَّرْعِ ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ لِي مَخْلَدَةُ بْنُ الْحُسَيْنِ نَحْنُ إلَى كَثِيرٍ مِنْ الْأَدَبِ أَحْوَجُ مِنَّا إلَى كَثِيرٍ مِنْ الْحَدِيثِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ مَرْفُوعًا «مَا نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدًا أَفْضَلَ مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ» وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا «لَأَنْ يُؤَدِّبَ الرَّجُلُ وَلَدَهُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ» رَوَاهُمَا التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا غَرِيبٌ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ الشَّاعِرُ: خَيْرُ مَا وَرَّثَ الرِّجَالُ بَنِيهِمْ ... أَدَبٌ صَالِحٌ وَحُسْنُ الثَّنَاءِ هُوَ خَيْرٌ مِنْ الدَّنَانِيرِ وَالْأَوْرَاقِ ... فِي يَوْمِ شِدَّةٍ أَوْ رَخَاءِ تِلْكَ تَفْنَى وَالدِّينُ وَالْأَدَبُ الصَّا ... لِحُ لَا يَفْنَيَانِ حَتَّى اللِّقَاءِ إنْ تَأَدَّبْت يَا بُنَيَّ صَغِيرًا ... كُنْت يَوْمًا تُعَدُّ فِي الْكُبَرَاءِ.

فصل في ذكر فرض الكفايات

[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ فَرْضِ الْكِفَايَاتِ] ِ) (مِنْهَا) دَفْعُ ضَرَرِ الْمُسْلِمِينَ كَسَتْرِ الْعَارِي وَإِشْبَاعِ الْجَائِعِ عَلَى الْقَادِرِينَ إنْ عَجَزَ بَيْتُ الْمَالِ عَنْ ذَلِكَ أَوْ تَعَذَّرَ أَخْذُهُ مِنْهُ (وَمِنْهَا) عِيَادَةُ الْمَرْضَى، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَتَغْسِيلُ الْمَوْتَى وَتَكْفِينُهُمْ، وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ وَدَفْنُهُمْ بِشَرْطِهِ (وَمِنْهُمَا) الصَّنَائِعُ الْمُبَاحَةُ الْمُهِمَّةُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهَا غَالِبًا لِمَصَالِحِ النَّاسِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ (وَمِنْهَا) الزَّرْعُ وَالْغَرْسُ وَنَحْوُهُمَا (وَمِنْهَا) الْإِمَامَةُ الْعُظْمَى وَإِقَامَةُ الدَّعْوَةِ وَدَفْعُ الشُّبْهَةِ بِالْحُجَّةِ وَالسَّيْفِ وَالْجِهَادِ كُلَّ عَامٍ بِشَرْطِهِ (وَمِنْهَا) سَدُّ الْبُثُوقِ وَحَفْرُ الْآبَارِ وَالْأَنْهَارِ وَكَرْيُهَا، وَهُوَ تَنْظِيفُهَا وَعَمَلُ الْقَنَاطِرِ وَالْجُسُورِ وَالْأَسْوَارِ وَإِصْلَاحُهَا وَإِصْلَاحُ الطَّرِيقِ وَالْمَسَاجِدِ وَالْجَوَامِعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (وَمِنْهَا) الْحَجُّ كُلَّ عَامٍ عَلَى مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ عَيْنًا (وَمِنْهَا) الْفَتْوَى وَالْقَضَاءُ بِشُرُوطِهَا (وَمِنْهَا) تَعْلِيمُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَسَائِرِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ حِسَابٍ وَنَحْوِهِ بِشَرْطِهِ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرَ الْأَصْحَابُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ عِيَادَةَ الْمَرْضَى وَاتِّبَاعَ الْجَنَائِزِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُسْتَحَبَّةِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «خَمْسٌ تَجِبُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ رَدُّ السَّلَامِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَعِيَادَةُ

الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ» وَلِمُسْلِمٍ «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ إذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ وَإِذَا دَعَاك فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَك فَانْصَحْ لَهُ وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ» وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ أَنَّ شَهَادَةَ جِنَازَتِهِ آكَدُ فِي الِاسْتِحْبَابِ مِنْ عِيَادَتِهِ. وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ ثَلَاثَةٌ لَا تُعَادُ وَلَا يُسَمَّى صَاحِبُهَا مَرِيضًا وَإِنْ كَانَتْ وَجَعًا وَأَلَمًا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «ثَلَاثَةٌ لَا يُعَادُ صَاحِبُهَا: الضِّرْسُ وَالرَّمَدُ وَالدُّمَّلُ» انْتَهَى كَلَامُهُ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ هَذَا وَكَذَا ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ أَيْضًا وَالْخَبَرُ الْمَذْكُورُ، لَا تُعْرَفُ صِحَّتُهُ بَلْ هُوَ ضَعِيفٌ فِي إسْنَادِهِ مَسْلَمَةُ بْنُ عُلَيٍّ وَهُوَ مَتْرُوكٌ، وَذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ كَثِيرٍ مِنْ قَوْلِهِ وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِعَيْنِي وَمَا ذَكَرَ فِي الرِّعَايَةِ مِنْ وُجُوبِ الْحَجِّ كُلَّ عَامٍ عَلَى مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ عَيْنًا خِلَافُ ظَاهِرِ قَوْلِ الْأَصْحَابِ وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ مَنْعَ الْوَلَدِ مِنْ حَجِّ النَّفْلِ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ لَهُمَا مَنْعَهُ مِنْ الْجِهَادِ مَعَ كَوْنِهِ فَرْضَ كِفَايَةٍ فَالتَّطَوُّعَاتُ أَوْلَى وَذَكَرَ ابْنُ هُبَيْرَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ عِلْمَ الطِّبِّ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَهَذَا غَرِيبٌ فِي الْمَذْهَبِ.

فصل في التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل ومودة الإخوة

[فَصْلٌ فِي التَّحَلِّي بِالْفَضَائِلِ وَالتَّخَلِّي عَنْ الرَّذَائِلِ وَمَوَدَّةِ الْإِخْوَةِ] عَلَيْك رَحِمَك اللَّهُ بِتَقْوَى اللَّهِ وَإِيثَارِ طَاعَتِهِ وَرِضَاهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ سِرًّا وَجَهْرًا مَعَ صَفَاءِ الْقَلْبِ مِنْ كُلِّ كَدَرٍ وَلِكُلِّ أَحَدٍ وَاتْرُكْ حُبَّ الْغَلَبَةِ وَالتَّرَؤُّسِ وَالتَّرَفُّعَ قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: لَا يَنْبَغِي لِرَجُلٍ أَنْ يَضَعَ نَفْسَهُ دُونَ قَدْرِهِ وَلَا يَرْفَعَ نَفْسَهُ فَوْقَ قَدْرِهِ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ، وَكُلُّ وَصْفٍ مَذْمُومٍ شَرْعًا أَوْ عَقْلًا أَوْ عُرْفًا كَغِلٍّ وَحِقْدٍ وَحَسَدٍ وَنَكَدٍ وَغَضَبٍ وَعُجْبٍ وَخُيَلَاءَ وَرِيَاءٍ وَهَوًى وَغَرَضِ سُوءٍ وَقَصْدٍ رَدِيءٍ وَمَكْرٍ وَخَدِيعَةٍ وَمُجَانَبَةِ كُلِّ مَكْرُوهٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَإِذَا جَلَسْت مَجْلِسَ عِلْمٍ أَوْ غَيْرِهِ فَاجْلِسْ بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ وَتَلَقَّ النَّاسَ بِالْبُشْرَى وَالِاسْتِبْشَارِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ الدَّهَاءِ حُسْنُ اللِّقَاءِ رَوَاهُ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا فِي مَجَالِسِهِ بِإِسْنَادِهِ، وَحَادِثْهُمْ بِمَا يَنْفَعُ مِنْ الْأَخْبَارِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَصْحَبْ إلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَك إلَّا تَقِيٌّ» حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ. ثنا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ ثنا حَيَاةُ أَنْبَأَنَا سَالِمُ بْنُ غَيْلَانَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ قَيْسٍ التُّجِيبِيَّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ أَوْ عَنْ الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فَذَكَرَهُ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْن حِبَّانَ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْهُ مَرْفُوعًا «خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد ثنا ابْنُ بَشَّارٍ ثنا أَبُو عَامِرٍ وَأَبُو دَاوُد قَالَا ثنا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ وَرْدَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ» إسْنَادٌ جَيِّدٌ وَمُوسَى حَدِيثُهُ حَسَنٌ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ بَشَّارٍ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الشَّاعِرُ

وَمَا صَاحِبُ الْإِنْسَانِ إلَّا كَرُقْعَةٍ ... عَلَى ثَوْبِهِ فَلْيَتَّخِذْ مَنْ يُشَاكِلُهْ وَلِأَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْمِسْكِ إنْ لَمْ يُصِبْك مِنْهُ شَيْءٌ أَصَابَك مِنْ رِيحِهِ، وَمَثَلُ الْجَلِيسِ السُّوءِ كَمَثَلِ الْكِيرِ إنْ لَمْ يُصِبْك مِنْ سَوَادِهِ أَصَابَك مِنْ دُخَانِهِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَجَلِيسِ السُّوءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، إمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَك وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً» وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ مَرْفُوعًا «الْمُؤْمِنُ مَأْلَفَةٌ وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يُؤْلَفُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَرَوَى أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَقْوَامٌ إخْوَانُ الْعَلَانِيَةِ أَعْدَاءُ السَّرِيرَةِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ قَالَ ذَلِكَ بِرَغْبَةِ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ وَرَهْبَةِ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ.» وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ «الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إذَا فَقِهُوا وَالْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ» وَذَكَرَ كَمَا تَقَدَّمَ وَلِأَحْمَدَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ «مَا أَعْجَبَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْءٌ مِنْ الدُّنْيَا وَلَا أَعْجَبَهُ أَحَدٌ إلَّا ذُو تُقًى» ، وَعَنْ أَبِي السَّلِيلِ وَاسْمُهُ ضُرَيْبٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَلَمْ يُدْرِكْهُ مَرْفُوعًا «إنِّي لَأَعْرِفُ كَلِمَةً. وَقَالَ عُثْمَانُ آيَةً لَوْ أَخَذَ النَّاسُ بِهَا كُلُّهُمْ لَكَفَتْهُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَّةُ آيَةٍ قَالَ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] » إسْنَادُهُ ثِقَاتٌ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَلِلنَّسَائِيِّ مَعْنَاهُ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ إنَّمَا أَرَادَ بِهِ طَعَامَ الدَّعْوَةِ دُونَ طَعَامِ الْحَاجَةِ أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ:

{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] . وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَسْرَاهُمْ الْكُفَّارُ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَدُونَ الْأَتْقِيَاءِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَاكَلَةَ تُوجِبُ الْأُلْفَةَ وَتَجْمَعُ الْقُلُوبَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَتَوَخَّ أَنْ يَكُونَ خُلَطَاؤُك ذَوِي الِاخْتِصَاصِ بِك أَهْلَ التَّقْوَى» وَرَوَى أَحْمَدُ ثنا عَفَّانَ ثنا حَمَّادٌ أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِيطٍ قَالَ أَتَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَهُ وَفِيهِ «مَا تَوَادَّ رَجُلَانِ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا إلَّا حَدَثٌ يُحْدِثُهُ أَحَدُهُمَا وَالْمُحْدِثُ شَرٌّ، وَالْمُحْدِثُ شَرٌّ وَالْمُحْدِثُ شَرٌّ» إسْنَادٌ جَيِّدٌ وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «مَا تَوَادَّ اثْنَانِ فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا إلَّا بِذَنْبٍ يُحْدِثُهُ أَحَدُهُمَا» . وَعَنْ الْمِقْدَامِ مَرْفُوعًا «إذَا أَحَبَّ الرَّجُلُ أَخَاهُ فَلْيُعْلِمْهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَقَالَ لِأَحْمَدَ جَعْفَرٌ الْوَكِيعِيُّ: إنِّي لَأُحِبّكَ، ثُمَّ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ بِإِسْنَادِهِ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ هَنَّادٍ وَقَتَادَةَ عَنْ حَاتِمِ بْنِ إسْمَاعِيلَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ مُسْلِمٍ الْقَصِيرِ عَنْ هَنَّادِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ يَزِيدَ ابْنِ نَعَامَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا آخَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَلْيَسْأَلْهُ عَنْ اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَمِمَّنْ هُوَ؟ فَإِنَّهُ وَاصِلٌ لِلْمَوَدَّةِ.» يَزِيدُ لَا صُحْبَةَ لَهُ عِنْدَهُمْ خِلَافًا لِلْبُخَارِيِّ وَسَعِيدٌ تَفَرَّدَ عَنْهُ عِمْرَانُ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ قَالَ التِّرْمِذِيُّ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: أَحِبَّ فِي اللَّهِ وَأَبْغِضْ فِي اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا تُنَالُ وِلَايَةُ اللَّهِ إلَّا بِذَلِكَ وَلَنْ يَجِدَ عَبْدٌ طَعْمَ الْإِيمَانِ وَإِنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ وَصَوْمُهُ حَتَّى يَكُونَ كَذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَلَقَدْ صَارَ عَامَّةُ مُؤَاخَاةِ النَّاسِ الْيَوْمَ عَلَى أَمْرِ الدُّنْيَا وَذَلِكَ لَا يُجْدِي عَلَى أَهْلِهِ شَيْئًا، ثُمَّ قَرَأَ: {الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67] . وَقَرَأَ {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] .

وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهُمْ أَخِلَّاءُ فِي الْمَعَاصِي وَقَالَ الْبَغَوِيّ فِي تَفْسِيرِهِ كَذَلِكَ وَقَالَ (إلَّا الْمُتَّقِينَ) الْمُتَحَابِّينَ فِي اللَّهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ كَذَا قَالَ وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ الْإِيمَانَ يَفْسُدُ بِمَوَدَّةِ الْكُفَّارِ وَأَنَّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا لَا يُوَالِي كَافِرًا وَلَوْ كَانَ قَرِيبَهُ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بَيَّنَتْ الْآيَةُ أَنَّ ذَلِكَ يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ، كَذَا قَالَ وَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّهُ يَصِيرُ كَافِرًا بِذَلِكَ وَاحْتَجَّ بِهَا مَالِكٌ عَلَى تَرْكِ مُجَالَسَةِ الْقَدَرِيَّةِ وَمُعَادَاتِهِمْ فِي اللَّهِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَفِي مَعْنَى أَهْلِ الْقَدَرِ جَمِيعُ أَهْلِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ كَذَا قَالَ، ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ يَصْحَبُ السُّلْطَانَ. وَعَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ لِفَاجِرٍ عِنْدِي نِعْمَةً فَإِنِّي وَجَدْت فِيمَا أَوْحَيْت إلَيَّ: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [المجادلة: 22] » . وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: التَّارِكُ لِلْإِخْوَانِ مَتْرُوكٌ، كَانَ يُقَالُ أَنْصَحُ النَّاسِ فِيكَ مَنْ خَافَ اللَّهَ فِيكَ. قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ: مَنْ ذَا الَّذِي يَخْفَى عَلَيْ ... كَ إذَا نَظَرْت إلَى حَدِيثِهْ كَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ يَتَمَثَّلُ: لِكُلِّ امْرِئٍ شَكْلٌ يَقَرُّ بِعَيْنِهِ ... وَقُرَّةُ عَيْنِ الْفَسْلِ أَنْ يَصْحَبَ الْفَسْلَا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ الْفَسْلُ مِنْ الرِّجَالِ الرُّذَّلُ وَالْمَفْسُولُ مِثْلُهُ وَقَدْ فَسُلَ بِالضَّمِّ

فَسَالَةً وَفُسُولَةً فَهُوَ فَسْلٌ مِنْ قَوْمٍ فُسَلَاءُ وَأَفْسَالٌ وَفُسُولٌ، وَفُسَالَةُ الْحَدِيدِ سُحَالَتُهُ، وَالْفَسِيلَةُ وَالْفَسِيلُ الْوَدِيُّ وَهُوَ صِغَارُ النَّخْلِ، وَالْجَمْعُ الْفُسْلَانُ، وَالْفِسْكِلُ بِالْكَسْرِ الَّذِي يَجِيءُ فِي الْحَلَبَةِ آخِرَ الْخَيْلِ وَهُوَ السُّكَيْتُ وَالْقَاشُورُ وَمِنْهُ قِيلَ رَجُلٌ فُسْكُلٌ إذَا كَانَ رَذْلًا، وَالْعَامَّةُ تَقُولُ فُسْكُلٌ بِالضَّمِّ وَقَالَ آخَرُ: وَصَاحِبْ إذَا صَاحَبْتَ حُرًّا فَإِنَّمَا ... يَزِينُ وَيُزْرِي بِالْفَتَى قُرَنَاؤُهُ وَقَالَ الْمَأْمُونُ الْإِخْوَانُ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ كَالْغِذَاءِ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُمْ أَبَدًا وَهُمْ إخْوَانُ الصَّفَاءِ، وَإِخْوَانٌ كَالدَّوَاءِ يُحْتَاجُ إلَيْهِمْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَهُمْ الْفُقَهَاءُ وَإِخْوَانٌ كَالدَّاءِ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِمْ أَبَدًا وَهُمْ أَهْلُ الْمَلَقِ وَالنِّفَاقِ لَا خَيْرَ فِيهِمْ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ الْمَلَقُ الْوُدُّ وَاللُّطْفُ الشَّدِيدُ، وَأَصْلُهُ التَّبَيُّنُ وَقَدْ مَلِقَ بِالْكَسْرِ يَمْلَقُ مَلَقًا وَرَجُلٌ مَلِقٌ يُعْطِي بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ، وَالْمَلَقُ أَيْضًا مَا اسْتَوَى مِنْ الْأَرْضِ: وَالْمِلْقُ سَاكِنٌ مِثْلُ الْمِلْحِ السَّيْرُ الشَّدِيدُ وَالْمَيْلَقُ السَّرِيعُ وَانْمَلَقَ الشَّيْءُ وَامَّلَقَ بِالْإِدْغَامِ أَيْ صَارَ أَمْلَسَ وَقِيلَ لِأَعْرَابِيٍّ لِمَ قَطَعْت أَخَاكَ مِنْ أَبِيكَ؟ فَقَالَ إنِّي لَأَقْطَعُ الْفَاسِدَ مِنْ جَسَدِي الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ لِي مِنْ أَبِي وَأُمِّي أَعَزُّ نَقْدًا. وَقَالَ أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِي أَحَقُّ مَنْ شَرَكَكَ فِي النِّعَمِ شُرَكَاؤُك فِي الْمَكَارِهِ. أَخَذَهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: وَإِنَّ أَوْلَى الْبَرَايَا أَنْ تُوَاسِيَهُ ... عِنْدَ السُّرُورِ لَمَنْ وَاسَاك فِي الْحَزَنِ إنَّ الْكِرَامَ إذَا مَا أَسْهَلُوا ذَكَرُوا ... مَنْ كَانَ يَأْلَفُهُمْ فِي الْمَنْزِلِ الْخَشِنِ وَقَالَ الْمُثَقِّبُ الْعَبْدِيُّ:

يُوَاعِدُنِي مَوَاعِدَ كَاذِبَاتٍ ... تَمُرُّ بِهَا رِيَاحُ الصَّيْفِ دُونِي فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ أَخِي بِحَقٍّ ... فَأَعْرِفُ مِنْك غَثِّي مِنْ سَمِينِي وَإِلَّا فَاطَّرِحْنِي وَاِتَّخِذْنِي ... عَدُوًّا أَتَّقِيكَ وَتَتَّقِينِي فَإِنَّك لَوْ تُعَانِدُنِي شِمَالِي ... عِنَادَك مَا وَصَلْتُ بِهَا يَمِينِي إذًا لَقَطَعْتُهَا وَلَقُلْتُ بِينِي ... كَذَلِكَ أَجْتَوِي مَنْ يَجْتَوِينِي وَقَالَ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ: قُلْ لِلَّذِي لَسْتُ أَدْرِي مِنْ تَلَوُّنِهِ ... أَنَاصِحٌ أَمْ عَلَى غِشٍّ يُدَاجِينِي إنِّي لَأُكْثِرُ مِمَّا سُمْتَنِي عَجَبًا ... يَدٌ تَشُجُّ وَأُخْرَى مِنْك تَأْسُونِي تَغْتَابُنِي عِنْدَ أَقْوَامٍ وَتَمْدَحُنِي ... فِي آخَرِينَ وَكُلٌّ عَنْكَ يُنْبِينِي هَذَانِ أَمْرَانِ شَتَّى بَوْنُ بَيْنِهِمَا ... فَاكْفُفْ لِسَانَك عَنْ ذَمِّي وَتَزْيِينِي لَوْ كُنْت أَعْلَمُ مِنْك الْوُدَّ هَانَ عَلَيَّ ... بَعْضُ الَّذِي قَدْ أَصْبَحْت تُولِينِي لَا أَسْأَلُ النَّاسَ عَمَّا فِي ضَمَائِرِهِمْ ... مَا فِي ضَمِيرِي لَهُمْ مِنْ ذَاكَ يَكْفِينِي أَرْضَى عَنْ الْمَرْءِ مَا أَصْفَى مَوَدَّتَهُ ... وَلَيْسَ بِشَيْءٍ مِنْ الْبَغْضَاءِ يُرْضِينِي وَاَللَّهِ لَوْ كَرِهَتْ كَفِّي مُصَاحَبَتِي ... لَقُلْت إذْ كَرِهَتْ يَوْمًا لَهَا بِينِي ثُمَّ انْثَنَيْت عَلَى الْأُخْرَى فَقُلْت لَهَا ... إنْ تُسْعِدِينِي وَإِلَّا مِثْلَهَا كُونِي إنِّي كَذَاك إذَا أَمْرٌ تَعَرَّضَ لِي ... خَشِيت مِنْهُ عَلَى دُنْيَايَ أَوْ دِينِي خَرَجْت مِنْهُ وَعِرْضِي مَا أُدَنِّسُهُ ... وَلَمْ أَقُمْ غَرَضًا لِلنَّذْلِ يَرْمِينِي وَمُلَطِّفٍ بِي مُدَارٍ ذِي مُكَاشَرَةٍ ... مُغْضٍ عَلَى وَغَرٍ فِي الصَّدْرِ مَكْنُونِ لَيْسَ الصَّدِيقُ الَّذِي تُخْشَى بَوَادِرُهُ ... وَلَا الْعَدُوُّ عَلَى حَالٍ بِمَأْمُونِ يَلُومُنِي النَّاسُ فِيمَا لَوْ أُخَبِّرُهُمْ ... بِالْعُذْرِ فِيهِ يَوْمًا لَمْ يَلُومُونِي

وَقَالَ أَيْضًا: مَا يَبْلُغُ الْأَعْدَاءُ مِنْ جَاهِلٍ ... مَا يَبْلُغُ الْجَاهِلُ مِنْ نَفْسِهِ وَالشَّيْخُ لَا يَتْرُكُ أَخْلَاقَهُ ... حَتَّى يُوَارَى فِي ثَرَى رَمْسِهِ إذَا ارْعَوى عَادَ إلَى جَهْلِهِ ... كَذَا الضَّنِيَّ عَادَ إلَى نُكْسِهِ وَإِنَّ مَنْ أَدَّبْتَهُ فِي الصِّبَا ... كَالْعُودِ يُسْقَى الْمَاءَ فِي غَرْسِهِ حَتَّى تَرَاهُ مُورِقًا نَاضِرًا ... بَعْدَ الَّذِي أَبْصَرْت مِنْ يُبْسِهِ وَقَالَ أَيْضًا: الْمَرْءُ يَجْمَعُ وَالزَّمَانُ يُفَرِّقُ ... وَيَظَلُّ يَرْقَعُ وَالْخُطُوبُ تُمَزِّقُ وَلَأَنْ يُعَادِيَ عَاقِلًا خَيْرٌ لَهُ ... مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ صَدِيقٌ أَحْمَقُ فَارْغَبْ بِنَفْسِك لَا تُصَادِقْ أَحْمَقَا ... إنَّ الصَّدِيقَ عَلَى الصَّدُوقِ مُصَدِّقُ وَزِنْ الْكَلَامَ إذَا نَطَقْت فَإِنَّمَا ... يُبْدِي عُقُولَ ذَوِي الْعُقُولِ الْمَنْطِقُ لَا أُلْفِيَنَّكَ ثَاوِيًا فِي غُرْبَةٍ ... إنَّ الْغَرِيبَ بِكُلِّ سَهْمٍ يُرْشَقُ مَا النَّاسُ إلَّا عَامِلَانِ فَعَامِلٌ ... قَدْ مَاتَ مِنْ عَطَشٍ وَآخَرُ يَغْرَقُ وَإِذَا امْرُؤٌ لَسَعَتْهُ أَفْعَى مَرَّةً ... تَرَكَتْهُ حِينَ يُجَرُّ حَبْلٌ يَفْرَقُ بَقِيَ الَّذِينَ إذَا يَقُولُوا يَكْذِبُوا ... وَمَضَى الَّذِينَ إذَا يَقُولُوا يَصْدُقُوا وَصَالِحٌ هَذَا هُوَ صَاحِبُ الْفَلْسَفَةِ قَتَلَهُ الْمَهْدِيُّ عَلَى الزَّنْدَقَةِ كَانَ يَعِظُ وَيَقُصُّ بِالْبَصْرَةِ وَحَدِيثُهُ يَسِيرٌ وَلَيْسَ بِثِقَةٍ وَقِيلَ إنَّهُ رُئِيَ فِي النَّوْمِ فَقَالَ إنِّي وَرَدْت عَلَى رَبٍّ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ فَاسْتَقْبَلَنِي بِرَحْمَتِهِ وَقَالَ قَدْ عَلِمْت بَرَاءَتَك مِمَّا قُذِفْت بِهِ. وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: " يَا بُنَيَّ ثَلَاثَةٌ لَا يُعْرَفُونَ إلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ، لَا يُعْرَفُ الْحَلِيمُ إلَّا عِنْدَ الْغَضَبِ، وَلَا الشُّجَاعُ إلَّا عِنْدَ الْحَرْبِ، وَلَا الْأَخُ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ ". قِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ " بِأَيِّ شَيْءٍ يُعْرَفُ وَفَاءُ الرَّجُلِ دُونَ تَجْرِبَةٍ وَاخْتِبَارٍ؟ قَالَ بِحَنِينِهِ إلَى أَوْطَانِهِ، وَتَلَهُّفِهِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ زَمَانِهِ ". وَعَنْ الْأَصْمَعِيِّ قَالَ: " إذَا أَرَدْت أَنْ تَعْرِفَ وَفَاءَ الرَّجُلِ وَوَفَاءَ عَهْدِهِ

فَانْظُرْ إلَى حَنِينِهِ إلَى أَوْطَانِهِ وَتَشَوُّقِهِ إلَى إخْوَانِهِ وَبُكَائِهِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ زَمَانِهِ ". قَالَ عُتَيْبَةُ الْأَعْوَرُ: ذَهَبَ الَّذِينَ أُحِبُّهُمْ ... وَبَقِيت فِيمَنْ لَا أُحِبُّهْ إذْ لَا يَزَالُ كَرِيمُ قَوْمٍ ... فِيهِمْ كَلْبٌ يَسُبُّهْ وَقَالَ مَنْصُورٌ الْفَقِيهُ: يَا زَمَانًا أَوْرَثَ ... الْأَحْرَارَ ذُلًّا وَمَهَانَهْ لَسْت عِنْدِي بِزَمَانٍ ... إنَّمَا أَنْتَ زَمَانَهْ وَقَالَ آخَرُ: فَسَدَ الزَّمَانُ وَزَالَ فِيهِ الْمُقْرِفُ ... وَجَرَى مَعَ الْفَرَسِ الْحِمَارُ الْمُوكَفُ كَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَقُولُ ذَهَبَ النَّاسُ فَلَا مَرْتَعَ وَلَا مَفْزَعَ وَلِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ: ذَهَبَ الرِّجَالُ الْمُقْتَدَى بِفِعَالِهِمْ ... وَالْمُنْكِرُونَ لِكُلِّ أَمْرٍ مُنْكَرِ وَبَقِيت فِي خَلَفٍ يُزَيِّنُ بَعْضُهُمْ ... بَعْضًا لِيَأْخُذَ مُعْوِرٌ عَنْ مُعْوِرِ وَلِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ ثَعْلَبَةَ: مَضَى زَمَنُ السَّمَاحِ فَلَا سَمَاحُ ... وَلَا يُرْجَى لَدَى أَحَدٍ فَلَاحُ رَأَيْت النَّاسَ قَدْ مُسِخُوا كِلَابًا ... فَلَيْسَ لَدَيْهِمْ إلَّا النُّبَاحُ وَأَضْحَى الظَّرْفُ عِنْدَهُمْ قَبِيحًا ... وَلَا وَاَللَّهِ إنَّهُمْ الْقِبَاحُ نَرُوحُ وَنَسْتَرِيحُ الْيَوْمَ مِنْكُمْ ... وَعَنْ أَمْثَالِكُمْ قَدْ يُسْتَرَاحُ إذَا مَا الْحُرُّ هَانَ بِأَرْضِ قَوْمٍ ... فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي هَرَبٍ جُنَاحُ وَقَالَ آخَرُ: ذَهَبَ الْوَفَاءُ ذَهَابَ أَمْسِ الذَّاهِبِ ... فَالنَّاسُ بَيْنَ مُخَاتِلٍ وَمُوَارِبِ

وَقَالَ آخَرُ: ذَهَبَ التَّكَرُّمُ وَالْوَفَاءُ مِنْ الْوَرَى ... وَتَقَرَّضَا إلَّا مِنْ الْأَشْعَارِ وَفَشَتْ خِيَانَاتُ الثِّقَاتِ وَغَيْرِهِمْ ... حَتَّى اتَّهَمْنَا رُؤْيَةَ الْأَبْصَارِ كَانَ بِلَالٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ يُنْشِدُ تَشَوُّقًا إلَى مَكَّةَ وَيَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ: أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً ... بِوَادٍ وَحَوْلِي إذْخِرٌ وَجَلِيلُ وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ ... وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ وَقَالَ آخَرُ: مَضَى الْجُودُ وَالْإِحْسَانُ وَاجْتُثَّ أَصْلُهُ ... وَأُخْمِدَتْ نِيرَانُ النَّدَى وَالْمَكَارِمِ وَصِرْت إلَى ضَرْبٍ مِنْ النَّاسِ آخَرَ ... يَرَوْنَ الْعُلَا وَالْمَجْدَ جَمْعَ الدَّرَاهِمِ كَأَنَّهُمُو كَانُوا جَمِيعًا تَعَاقَدُوا ... عَلَى اللُّؤْمِ وَالْإِمْسَاكِ فِي صُلْبِ آدَمَ وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ لَا تَتَكَلَّمْ فِيمَا لَا يَعْنِيك وَاعْتَزِلْ عَدُوَّك وَاحْذَرْ صَدِيقَك الْأَمِينَ، إلَّا مَنْ يَخْشَى اللَّهَ وَيُطِيعَهُ وَلَا تَمْشِ مَعَ الْفَاجِرِ فَيُعَلِّمَك مِنْ فُجُورِهِ، وَلَا تُطْلِعْهُ عَلَى سِرِّك وَلَا تُشَاوِرْ فِي أَمْرِك إلَّا الَّذِينَ يَخْشَوْنَ اللَّهَ. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ وَكَرِهَ لَهُ صُحْبَةَ أَحْمَقَ: فَلَا تَصْحَبْ أَخَا الْجَهْلِ ... وَإِيَّاكَ وَإِيَّاهُ يُقَاسُ الْمَرْءُ بِالْمَرْءِ ... إذَا هُوَ مَاشَاهُ قِيَاسُ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ ... إذَا مَا هُوَ حَاذَاهُ وَلِلشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ ... مَقَايِيسُ وَأَشْبَاهُ وَلِلْقَلْبِ عَلَى الْقَلْبِ ... دَلِيلٌ حِينَ يَلْقَاهُ

وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ مَدْخَلُهُ وَمَمْشَاهُ وَإِلْفُهُ قَالَ أَبُو قِلَابَةَ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ الشَّاعِرِ عَنْ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ ... فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِي وَقَدْ قِيلَ: وَمَا يَنْفَعُ الْجَرْبَاءَ قُرْبُ صَحِيحَةٍ ... إلَيْهَا وَلَكِنَّ الصَّحِيحَةَ تَجْرَبُ وَعَنْ ابْنِ عَوْنٍ قَالَ: أَقِلَّ مَعْرِفَةً تَسْلَمْ وَعَنْ يُونُسَ بْنَ عُبَيْدٍ قَالَ إذَا وَثِقْنَا بِمَوَدَّةِ أَخِينَا لَمْ يَضُرَّهُ أَنْ لَا يَأْتِيَنَا. وَعَنْ إِسْحَاقَ قَالَ كَانَ بَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ مَوَدَّةٌ وَإِخَاءٌ فَكَانَتْ السَّنَةُ تَمُرُّ عَلَيْهِمَا لَا يَلْتَقِيَانِ فَقِيلَ لِأَحَدِهِمَا فِي ذَلِكَ فَقَالَ إذَا تَقَارَبَتْ الْقُلُوبُ لَمْ يَضُرَّ تَبَاعُدُ الْأَجْسَامِ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا. وَلَقَدْ أَبْلَغَ الْقَائِلُ فِي هَذَا حَيْثُ يَقُولُ: رَأَيْت تَهَاجُرَ الْإِلْفَيْنِ بِرًّا ... إذَا اصْطَلَحَتْ عَلَى الْوُدِّ الْقُلُوبُ وَلَيْسَ يُوَاظِبُ الْإِلْمَامُ إلَّا ... ظَنِينٌ فِي مَوَدَّتِهِ مُرِيبُ وَعَنْ بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ الْحَافِي قَالَ أَحَبُّ إخْوَانِي إلَيَّ مَنْ لَا يَرَانِي وَلَا أَرَاهُ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ إنَّ الرَّحِمَ تُقْطَعُ وَإِنَّ النِّعَمَ تُكْفَرُ وَلَمْ يُرَ مِثْلُ تَفَاوُتِ الْقُلُوبِ، رَوَى ذَلِكَ الْخَطَّابِيُّ كُلَّهُ فِي كِتَابِ الْعُزْلَةِ إلَّا قَوْلَهُ مَا يَنْفَعَ الْجَرْبَاءَ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: " لَا تُؤَاخِي الْأَحْمَقَ وَلَا الْفَاجِرَ، أَمَّا الْأَحْمَقُ فَمَدْخَلُهُ وَمَخْرَجُهُ شَيْنٌ عَلَيْك، وَأَمَّا الْفَاجِرُ فَيُزَيِّنُ لَك فِعْلَهُ وَيَوَدُّ أَنَّك مِثْلَهُ ". وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " لَا خَيْرَ فِي صُحْبَةِ مَنْ يَجْتَمِعُ فِيهِ هَذِهِ الْخِصَالُ: مَنْ إذَا حَدَّثَك كَذَبَك، وَإِذَا ائْتَمَنْتَهُ خَانَك، وَإِذَا ائْتَمَنَك اتَّهَمَك وَإِذَا أَنْعَمْت عَلَيْهِ كَفَرَك وَإِذَا أَنْعَمَ عَلَيْك مَنَّ عَلَيْك ". وَقَالَ أَيْضًا: " اصْحَبْ مَنْ يَنْسَى مَعْرُوفَهُ عِنْدَك وَيُذَكِّرُك حُقُوقَك عَلَيْهِ ". وَذُكِرَ لِلرِّيَاشِيِّ عَنْ الْأَصْمَعِيِّ قَالَ مَا رَأَيْت شِعْرًا أَشْبَهَ بِالسُّنَّةِ مِنْ قَوْلِ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ

عَنْ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ ... فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِي وَصَاحِبْ أُولِي التَّقْوَى تَنَلْ مِنْ تُقَاهُمْ ... وَلَا تَصْحَبْ الْأَرْدَى فَتَرْدَى مَعَ الرَّدَى قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ الشَّاعِرُ: فَلَا تَصْحَبْ أَخَا الْجَهْلِ ... وَإِيَّاكَ وَإِيَّاهُ فَكَمْ مِنْ جَاهِلٍ أَرْدَى ... حَلِيمًا حِينَ وَاخَاهُ يُقَاسُ الْمَرْءُ بِالْمَرْءِ ... إذَا مَا هُوَ مَاشَاهُ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - النَّاسُ بِأَزْمَانِهِمْ أَشْبَهُ مِنْهُمْ بِآبَائِهِمْ. وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَالِطْ الْمُؤْمِنَ بِقَلْبِك وَخَالِطْ الْفَاجِرَ بِخُلُقِك كَانَ يُقَالُ يُمْتَحَنُ الرَّجُلُ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: عِنْدَ هَوَاهُ إذَا هَوَى وَعِنْدَ غَضَبِهِ إذَا غَضِبَ، وَعِنْدَ طَمَعِهِ إذَا طَمِعَ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ إذَا أَرَدْت أَنْ تَعْرِفَ مَا لَك عِنْدَ صَدِيقِك فَأَغْضِبْهُ فَإِنْ أَنْصَفَك وَإِلَّا فَاجْتَنِبْهُ. كَانَ يُقَالُ لَا تُؤَاخِيَنَّ خَصِيًّا وَلَا ذِمِّيًّا وَلَا نُوبِيًّا، فَإِنَّهُ لَا ثَبَاتَ لِمَوَدَّتِهِمْ قَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ مَا كَشَفْت أَحَدًا قَطُّ إلَّا وَجَدْته دُونَ مَا كُنْت أَظُنُّ، كَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَتَمَثَّلُ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ: اُبْلُ الرِّجَالَ إذَا أَرَدْت إخَاهُمُ ... وَتَوَسَّمَنَّ أُمُورَهُمْ وَتَفَقَّدْ وَإِذَا ظَفِرْت بِذِي الْأَمَانَةِ وَالتُّقَى ... فَبِهِ الْيَدَيْنِ قَرِيرَ عَيْنٍ فَاشْدُدْ وَدَعِ التَّذَلُّلَ وَالتَّخَشُّعَ تَبْتَغِي ... قُرْبَ الَّذِي إنْ تَدْنُ مِنْهُ يَبْعُدْ وَقَالَ آخَرُ: قَدْ كُنْت أَحْمَدُ أَمْرِي فِيك مُبْتَدِئًا ... فَقَدْ ذَمَمْت الَّذِي حَمِدْت فِي الصَّدْرِ

وَقَالَ آخَرُ: وَلَا تَسْمَحْ بِحَظِّك مِنْهُ بَلْ كُنْ ... بِحَظِّك مِنْ مَوَدَّتِهِ ضَنِينَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَجْمَعُوا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَفَرَّدَ بِالْكَمَالِ وَلَمْ يَبْرَأْ أَحَدٌ مِنْ النُّقْصَانِ وَسَبَقَ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ فِيمَنْ يَجِبُ هَجْرُهُ هَلْ يَجُوزُ الْهَجْرُ بِخَبَرٍ وَاحِدٍ؟ وَقَوْلُ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا كَانَ لَك أَخٌ فِي اللَّهِ تَعَالَى فَلَا تُمَارِهِ: وَلَا تَسْمَعْ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ فَرُبَّمَا قَالَ لَك مَا لَيْسَ فِيهِ فَحَالَ بَيْنَك وَبَيْنَهُ وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي مَكَان آخَرَ أَنَّهُ قَالَ وَلَا تَسْأَلْ عَنْهُ أَحَدًا فَلَرُبَّمَا أَخْبَرَك بِمَا لَيْسَ فِيهِ فَحَالَ بَيْنَك وَبَيْنَهُ قَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَدْت لِكَيْمَا أَنْ تَرَى لِي زَلَّةً ... وَمَنْ ذَا الَّذِي يُعْطَى الْكَمَالَ فَيَكْمُلُ. قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ لَقَدْ عَظُمَتْ مَنْزِلَةُ الصَّدِيقِ عِنْدَ أَهْلِ النَّارِ أَلَمْ تَسْمَعْ إلَى قَوْله تَعَالَى حَاكِيًا عَنْهُمْ: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ - وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100 - 101] . وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَكُونُ الصَّدِيقُ صَدِيقًا حَتَّى يَحْفَظَ الصَّدِيقَ فِي غَيْبَتِهِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ السَّفَّاحُ إذَا تَعَادَى اثْنَانِ مِنْ أَهْلِ بِطَانَتِهِ لَا يَسْمَعُ مِنْ أَحَدِهِمَا فِي صَاحِبِهِ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ عَدْلًا وَيَقُولُ الْعَدَاوَةُ تُزِيلُ الْعَدَالَةَ. وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اُبْذُلْ لِصَدِيقِك كُلَّ الْمُرُوءَةِ وَلَا تَبْذُلْ لَهُ كُلَّ الطُّمَأْنِينَةِ وَأَعْطِهِ مِنْ نَفْسِك كُلَّ الْمُوَاسَاةِ وَلَا تُفْضِ إلَيْهِ بِكُلِّ الْأَسْرَارِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ مِنْ عَلَامَةِ الصَّدِيقِ أَنْ يَكُونَ لِصَدِيقِ صَدِيقِهِ صَدِيقًا وَلِعَدُوِّ صَدِيقِهِ عَدُوًّا، أَنْشَدَ بَعْضُهُمْ: عَدُوُّ صَدِيقِي دَاخِلٌ فِي عَدَاوَتِي ... وَإِنِّي لِمَنْ وَدَّ الصَّدِيقَ وَدُودُ فَلَا تَقْتَرِبْ مِنِّي وَأَنْتَ عَدُوُّ مَنْ ... أُصَادِقُهُ فَالْخَيْرُ مِنْك بَعِيدُ

وَأَنْشَدَ الْمُبَرِّدُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ عَلَى مَا رَوَاهُ بَعْضُهُمْ صَدِيقُ عَدُوِّي دَاخِلٌ فِي عَدَاوَتِي ... وَإِنِّي عَلَى وُدِّ الصَّدِيقِ صَدِيقُ أُعَادِي الَّذِي عَادَى وَأَهْوَى لَهُ الْهَوَى ... كَأَنِّي مِنْهُ فِي هَوَاهُ شَقِيقُ قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَنْ ثَقُلَ عَلَى صَدِيقِهِ خَفَّ عَلَى عَدُوِّهِ وَمَنْ أَسْرَعَ إلَى النَّاسِ بِمَا يَكْرَهُونَ: قَالُوا فِيهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ. جَمَعَ كِسْرَى يَوْمًا مَرَازِبَتَهُ وَعُيُونَ أَصْحَابِهِ فَقَالَ لَهُمْ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَنْتُمْ أَشَدُّ حَذَرًا؟ قَالُوا مِنْ الْعَدُوِّ الْفَاجِرِ وَالصَّدِيقِ الْغَادِرِ. وَقَالَ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ اتَّقِ الْعَدُوَّ وَكُنْ مِنْ الصَّدِيقِ عَلَى حَذَرٍ فَإِنَّ الْقُلُوبَ إنَّمَا سُمِّيَتْ قُلُوبًا لِتَقَلُّبِهَا قَالَ مَنْصُورٌ الْفَقِيهُ: احْذَرْ مَوَدَّةَ مَاذِقٍ ... مَزَجَ الْمَرَارَةَ بِالْحَلَاوَهْ يُحْصِي الذُّنُوبَ عَلَيْكَ ... أَيَّامَ الصَّدَاقَةِ لِلْعَدَاوَهْ وَقَالَ صَالِحٌ: إذَا وَتَرْتَ امْرَأً فَاحْذَرْ عَدَاوَتَهُ ... مَنْ يَزْرَعْ الشَّوْكَ لَا يَحْصُدْ بِهِ عِنَبَا إنَّ الْعَدُوَّ وَإِنْ أَبْدَى مُسَالَمَةً ... إذَا رَأَى مِنْك يَوْمًا فُرْصَةً وَثَبَا وَقَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ: عَدُوُّك مِنْ صَدِيقِك مُسْتَفَادٌ ... وَأَقْلِلْ مَا اسْتَطَعْت مِنْ الصِّحَابِ فَإِنَّ الدَّاءَ أَكْثَرُ مَا تَرَاهُ ... يَكُونُ مِنْ الطَّعَامِ أَوْ الشَّرَابِ وَقَالَ آخَرُ: إذَا مَا الْمَرْءُ كَانَ لَهُ صَدِيقٌ ... فَبِرُّ صَدِيقِهِ فَرْضٌ عَلَيْهِ وَإِنْ عَنْهُ الصَّدِيقُ أَقَامَ يَوْمًا ... فَوَجْهُ الْبِرِّ أَنْ يَسْعَى إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الصَّدِيقُ قَلِيلَ مَالٍ ... يَضِيقُ بِذَرْعِهِ مَا فِي يَدَيْهِ فَمِنْ أَسْنَى فِعَالِ الْمَرْءِ أَنْ لَا ... يَضِنَّ عَلَى الصَّدِيقِ بِمَا لَدَيْهِ.

وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ إلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَرَفَيْ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا» تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ هَلْ يَزُورُ صَاحِبَهُ كُلَّ يَوْمٍ أَوْ بُكْرَةً وَعَشِيًّا؟ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ قَوْلُ عَائِشَةَ لِعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ مَا يَمْنَعُك مِنْ زِيَارَتِنَا قَالَ مَا قَالَ الْأَوَّلُ: زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا. وَرُوِيَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ مَرْفُوعًا «زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا» أَخَذَهُ الشَّاعِرُ فَقَالَ: إذَا شِئْت أَنْ تُقْلَى فَزُرْ مُتَوَاتِرَا ... وَإِنْ شِئْت أَنْ تَزْدَادَ حُبًّا فَزُرْ غِبَّا وَلِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْكَاتِبِ: إنِّي رَأَيْتُك لِي مُحِبَّا ... وَلِي حِينَ أَغِيبُ صَبَّا فَهَجَرْت لَا لِمَلَالَةٍ ... حَدَثَتْ وَلَا اسْتَحْدَثْتُ ذَنْبَا إلَّا لِقَوْلِ نَبِيِّنَا ... زُورُوا عَلَى الْأَيَّامِ غِبَّا وَلِقَوْلِهِ مَنْ زَارَ غِبَّا ... مِنْكُمْ يَزْدَادُ حُبَّا وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فَضَعْ الزِّيَارَةَ حَيْثُ لَا يُزْرِي بِنَا ... كَرَمُ الْمَزُورِ وَلَا يُعَابُ الزَّائِرُ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَلِبَعْضِ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ: أَزُورُ خَلِيلِي مَا بَدَا لِي هَشُّهُ ... وَقَابَلَنِي مِنْهُ الْبَشَاشَةُ وَالْبِشْرُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَشٌّ وَبَشٌّ تَرَكْتُهُ ... وَلَوْ كَانَ فِي اللُّقْيَا الْوِلَايَةُ وَالْبِشْرُ وَحَقُّ الَّذِي يَنْتَابُ دَارِي زَائِرًا ... طَعَامٌ وَبِرٌّ قَدْ تَقَدَّمَهُ بِشْرُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا مَرِضْتُمْ أَتَيْنَاكُمْ نَزُوركُمْ ... وَتُذْنِبُونَ فَنَأْتِيكُمْ وَنَعْتَذِرُ وَقَالَ مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ: مَا لِي مَرِضْت فَلَمْ يَعُدْنِي عَائِدٌ ... مِنْكُمْ وَيَمْرَضُ كَلْبُكُمْ فَأَعُودُ

وَأَنْشَدَ الْمُبَرِّدُ: عَلَيْكَ بِإِقْلَالِ الزِّيَارَةِ إنَّهَا ... تَكُونُ إذَا دَامَتْ إلَى الْهَجْرِ مَسْلَكَا فَإِنِّي رَأَيْت الْقَطْرَ يُسْأَمُ دَائِمًا ... وَيُسْأَلُ بِالْأَيْدِي إذَا هُوَ أَمْسَكَا وَادَّعَى أَبُو بِشْرٍ الْبَنْدَنِيجِيُّ أَنَّ الْبَيْتَيْنِ لَهُ فِي شِعْرٍ طَوِيلٍ. وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ: وَطُولُ لِقَاءِ الْمَرْءِ فِي الْحَيِّ مُخْلِقٌ ... لِدِيبَاجَتَيْهِ فَاغْتَرِبْ تَتَجَدَّدْ فَإِنِّي رَأَيْت الشَّمْسَ زِيدَتْ مَحَبَّةً ... عَلَى النَّاسِ أَنْ لَيْسَتْ عَلَيْهِمْ بِسَرْمَدِ وَقَالَ ابْنُ وَكِيعٍ: إنْ كَانَ قَدْ بَعُدَ اللِّقَاءُ فَوُدُّنَا ... بَاقٍ وَنَحْنُ عَلَى النَّوَى أَحْبَابُ كَمْ قَاطِعٍ لِلْوَصْلِ يُؤْمَنُ وُدُّهُ ... وَمُوَاصِلٌ بِوِدَادِهِ مَنْ تَابَ وَقَالَ الطَّائِيُّ: وَلَئِنْ جَفَوْتُك فِي الْعِيَادَةِ إنَّنِي ... لِبَقَاءِ جِسْمِك فِي الدُّعَاءِ لَجَاهِدُ وَلَرُبَّمَا تَرَكَ الْعِيَادَةَ مُشْفِقٌ ... وَطَوَى عَلَى غِلِّ الضَّمِيرِ الْعَائِدُ وَلَهُ أَيْضًا: ذُو الْفَضْلِ لَا يَسْلَمُ مِنْ قَدْحٍ ... وَإِنْ غَدَا أَقْوَمَ مِنْ قَدْحٍ وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ الصَّيْرَفِيِّ الْحَنْبَلِيِّ أَنْشَدُوا: لَا تُضْجِرَنَّ عَلِيلًا فِي مُسَاءَلَةٍ ... إنَّ الْعِيَادَةَ يَوْمًا بَيْنَ يَوْمَيْنِ بَلْ سَلْهُ عَنْ حَالِهِ وَادْعُ الْإِلَهَ لَهُ ... وَاجْلِسْ بِقَدْرِ فُوَاقٍ بَيْنَ حَلْبَيْنِ مَنْ زَارَ غِبًّا أَخًا دَامَتْ مَوَدَّتُهُ ... وَكَانَ ذَاكَ صَلَاحًا لِلْخَلِيلَيْنِ

وَفِيهَا أَيْضًا نُقِلَ عَنْ إمَامِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لَهُ وَلَدُهُ يَا أَبَتِ إنَّ جَارَنَا فُلَانًا مَرِيضٌ فَمَا تَعُودُهُ قَالَ يَا بُنَيَّ مَا عَادَنَا فَنَعُودُهُ. وَرَوَى الْخَطَّابِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ إذَا كَثُرَ الْأَخِلَّاءُ كَثُرَ الْغُرَمَاءُ. وَعَنْ سُفْيَانَ قَالَ كَثْرَةُ أَصْدِقَاءِ الْمَرْءِ مِنْ سَخَافَةِ دِينِهِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ يُرِيدُ أَنَّهُ مَا لَمْ يُدَاهِنْهُمْ وَلَمْ يُجَابِهُّمْ لَمْ يَكْثُرُوا؛ لِأَنَّ الْكَثْرَةَ إنَّمَا هِيَ فِي أَهْلِ الرِّيبَةِ، إذَا كَانَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ لَمْ يَصْحَبْ إلَّا الْأَبْرَارَ وَالْأَتْقِيَاءَ وَفِيهِمْ قِلَّةٌ وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ يَشْهَدُ الْجَنَائِزَ، وَيَعُودُ الْمَرْضَى وَيُعْطِي الْإِخْوَانَ حُقُوقَهُمْ فَتَرَكَ وَاحِدًا وَاحِدًا وَاحِدًا حَتَّى تَرَكَهَا كُلَّهَا وَكَانَ يَقُولُ لَا يَتَهَيَّأُ لِلْمَرْءِ أَنْ يُخْبِرَ بِكُلِّ عُذْرٍ. وَعَنْ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ لَا تَعُدْ إلَّا مَنْ يَعُودُك وَلَا تَشْهَدْ جِنَازَةَ مَنْ لَا يَشْهَدُ جِنَازَتَك، وَلَا تُؤَدِّ حَقَّ مَنْ لَا يُؤَدِّي حَقَّكَ فَإِنْ عَدَلْت عَنْ ذَلِكَ فَأَبْشِرْ بِالْجَوْرِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ يُرَادُ بِهِ التَّأْدِيبُ وَالتَّقْوِيمُ دُونَ الْمُكَافَأَةِ، وَالْمُجَازَاةِ وَبَعْضُ هَذَا مِمَّا يُرَاضُ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ وَقَدْ رُوِيَ فِيمَا يُشْبِهُ هَذَا الْمَعْنَى حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ، ثُمَّ رُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا خَيْرَ فِي صُحْبَةِ مَنْ لَا يَرَى لَك مِثْلَ الَّذِي تَرَى لَهُ» رَوَى ذَلِكَ كُلَّهُ الْخَطَّابِيُّ فِي كِتَابِ الْعُزْلَةِ وَغَيْرُهُ وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ الشَّافِعِيِّ قَالَ رِضَى النَّاسِ غَايَةٌ لَا تُدْرَكُ لَيْسَ إلَى السَّلَامِ مِنْ النَّاسِ سَبِيلٌ فَانْظُرْ مَا فِيهِ صَلَاحُ نَفْسِك فَالْزَمْهُ وَدَعِ النَّاسَ وَمَا هُمْ فِيهِ وَعَنْهُ أَيْضًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: أَصْلُ كُلِّ عَدَاوَةٍ الصَّنِيعَةُ إلَى الْأَنْذَالِ. رَوَى الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ قَالَ إذَا أَخْطَأْتِ الصَّنِيعَةَ إلَى مَنْ يَتَّقِي اللَّهَ فَاصْطَنِعْهَا إلَى مَنْ يَتَّقِي الْعَارَ وَعَنْ لُقْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ لَا تَكُنْ حُلْوًا وَلَا تَكُنْ مُرًّا فَتُلْفَظْ وَلِأَبِي الْعَتَاهِيَةِ مَنْ يَكُنْ لِلنَّاسِ حُلْوًا يَثْبُتُ النَّاسُ عَلَيْهِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

قَالَ: إيَّاكَ وَكُلَّ جَلِيسٍ لَا يُفِيدُك عِلْمًا. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ مَلَأَ اللَّهُ قَلْبَهُ إيمَانًا صُحْبَةُ الْفَقِيهِ، وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ، وَالصِّيَامُ. وَتَبَاعَدَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ يَوْمًا فِي مَجْلِسِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ فِي حِكْمَةِ لُقْمَانَ وَوَصِيَّتِهِ لِابْنِهِ إذَا جَلَسْت إلَى ذِي سُلْطَانٍ فَلْيَكُنْ بَيْنَك وَبَيْنَهُ مَقْعَدُ رَجُلٍ فَلَعَلَّهُ يَأْتِيهِ مَنْ هُوَ آثَرُ عِنْدَهُ مِنْك فَيُنَحِّيكَ فَيَكُونُ نَقْصًا عَلَيْكَ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ رَجُلَانِ ظَالِمَانِ يَأْخُذَانِ غَيْرَ حَقِّهِمَا رَجُلٌ وُسِّعَ لَهُ فِي مَجْلِسٍ ضَيِّقٍ فَتَرَبَّعَ وَانْتَفَخَ، وَرَجُلٌ أُهْدِيَتْ لَهُ نَصِيحَةٌ فَجَعَلَهَا ذَنْبًا وَقَالَ زِيَادٌ يُعْجِبُنِي مِنْ الرِّجَالِ مَنْ إذَا أَتَى مَجْلِسًا يَعْرِفُ أَيْنَ يَكُونُ مَجْلِسُهُ وَإِنِّي لَآتِي الْمَجْلِسَ فَأَدَعُ مَالِي مَخَافَةَ أَنْ أَدْفَعَ عَمَّا لَيْسَ لِي وَكَانَ الْأَحْنَفُ إذَا أَتَاهُ رَجُلٌ أَوْسَعَ لَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَعَةٌ أَرَاهُ كَأَنَّهُ يُوسِعُ لَهُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى لَا تُجَالِسْ عَدُوَّكَ فَإِنَّهُ يَحْفَظُ عَلَيْك سَقَطَاتِك وَيُمَارِيك فِي صَوَابِك وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الْجَلِيسَ يَقُولُ الْقَوْلَ تَحْسَبُهُ خَيْرًا، وَهَيْهَاتَ؛ فَانْظُرْ مَا بِهِ الْتَمَسَ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ. وَقَالَ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ: إذَا أَدْنَاك سُلْطَانٌ فَزِدْهُ ... مِنْ التَّعْظِيمِ وَاحْذَرْهُ وَرَاقِبْ فَمَا السُّلْطَانُ إلَّا الْبَحْرُ عِظَمًا ... وَقُرْبُ الْبَحْرِ مَحْذُورُ الْعَوَاقِبْ وَقِيلَ إذَا زَادَك الْمَلِكُ تَأْنِيسًا فَزِدْهُ إجْلَالًا، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ يُعَظِّمُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَيُحْضِرُهُ مَعَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْجَمِيعِ وَامْتَنَعَ عَنْ الْقَوْلِ بِعَدَمِ الْعَوْلِ زَمَنَ عُمَرَ وَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ كَانَ رَجُلًا مَهِيبًا فَهِبْته وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ مَنْ زَالَ عَنْ أَبْصَارِ الْمُلُوكِ زَالَ عَنْ قُلُوبِهِمْ. وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ مِنْ آدَابِ صُحْبَةِ الْمُلُوكِ أَنْ لَا يُسْأَلَ الْمَلِكُ عَنْ حَالِهِ وَلَا يُشَمَّتْ وَلَا يُعَلَّمْ وَلَا يُسَلَّمْ عَلَيْهِ، كَذَا قَالَ وَالصَّوَابُ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ

وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الزَّمَانِ وَعَادَةِ الْمُلُوكِ وَقَدْ قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ أَخُوك مَنْ ذَكَّرَك الْعُيُوبَ وَصَدِيقُك مَنْ حَذَّرَك الذُّنُوبَ. وَقَالَ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ: لَقَدْ صَدَقُوا وَلِلرَّاقِصَاتِ إلَى مِنًى ... بِأَنَّ مَوَدَّاتِ الْعِدَى لَيْسَ تَنْفَعُ وَلَوْ أَنَّنِي دَارَيْت دَهْرِي حَيَّةً ... إذَا اسْتَمْكَنَتْ يَوْمًا مِنْ اللَّسْعِ تَلْسَعُ وَقَالَ ابْنُ وَكِيعٍ: لَاقِ بِالْبِشْرِ مَنْ لَقِيت مِنْ النَّاسِ ... وَعَاشِرْ بِأَحْسَنِ الْإِنْصَافِ لَا تُخَالِفْ وَإِنْ أَتَوْا بِمُحَالٍ ... تَسْتَفِدْ وُدَّهُمْ بِتَرْكِ الْخِلَافِ وَرَوَى أَحْمَدُ فِي الْوَرَعِ عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ مَا أَعْلَمُ شَيْئًا أَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ طَيِّبٍ يُنْفِقُهُ صَاحِبُهُ فِي حَقِّهِ أَوْ أَخٍ تَسْكُنُ إلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ وَمَا يَزْدَادَانِ إلَّا قِلَّةً وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الْخَبَرِ الْمَرْفُوعِ «شَيْئَانِ لَا يَزْدَادَانِ إلَّا قِلَّةً: دِرْهَمٌ حَلَالٌ، أَوْ أَخٌ فِي اللَّهِ تَسْكُنُ إلَيْهِ» وَقَالَ ابْنُ عَجْلَانَ ثَلَاثَةٌ لَا أَقَلَّ مِنْهُنَّ وَلَا يَزْدَدْنَ إلَّا قِلَّةً: دِرْهَمٌ حَلَالٌ تُنْفِقُهُ فِي حَلَالٍ، وَأَخٌ فِي اللَّهِ تَسْكُنُ إلَيْهِ وَأَمِينٌ تَسْتَرِيحُ إلَى الثِّقَةِ بِهِ. وَرَوَى الْخَلَّالُ فِي الْأَدَبِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَرَضِيَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ لَا يُصَاحِبَ خَمْسَةً: الْمَاجِنَ وَالْكَذَّابَ، وَالْأَحْمَقَ وَالْبَخِيلَ، وَالْجَبَانَ فَأَمَّا الْمَاجِنُ فَعَيْبٌ إنْ دَخَلَ عَلَيْك، وَعَيْبٌ إنْ خَرَجَ مِنْ عِنْدِك، لَا يُعِينُ عَلَى مُعَادٍ وَيَتَمَنَّى أَنَّك مِثْلُهُ، وَأَمَّا الْكَذَّابُ فَإِنَّهُ يَنْقُلُ حَدِيثَ هَؤُلَاءِ إلَى هَؤُلَاءِ، وَيُلْقِي الشِّحْنَةِ فِي الصُّدُورِ وَأَمَّا الْأَحْمَقُ فَإِنَّهُ لَا يُرْشِدُ لِسُوءٍ يَصْرِفُهُ عَنْك، وَرُبَّمَا أَرَادَ أَنْ يَنْفَعَكَ فَيَضُرّكَ فَبُعْدُهُ خَيْرٌ مِنْ قُرْبِهِ وَمَوْتُهُ خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِهِ، وَأَمَّا الْبَخِيلُ فَأَحْوَجُ مَا تَكُونُ إلَيْهِ أَبْعَدَ مَا تَكُونُ مِنْهُ، فَفِي أَشَدِّ حَالَاتِهِ يَهْرُبُ وَيَدَعُك. . وَرَوَاهُ الْقَاضِي الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا وَغَيْرُهُ بِنَحْوِهِ وَمَعْنَاهُ. إلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا الْمَاجِنَ وَالْجَبَانَ

وَذَكَرُوا الْفَاسِقَ قَالَ فَإِنَّهُ بَائِعُك بِأَكْلَةٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا لِلطَّمَعِ فِيهَا، ثُمَّ لَا يَنَالُهَا وَقَاطِعَ رَحِمِهِ؛ لِأَنَّهُ مَلْعُونٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي الْبَقَرَةِ وَالرَّعْدِ وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا. وَقَالَ الرَّبِيعُ سَمِعْت الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ ثَلَاثَةٌ إنْ أَهَنْتهمْ أَكْرَمُوك وَإِنْ أَكْرَمْتهمْ أَهَانُوك الْمَرْأَةُ وَالْمَمْلُوكُ وَالنَّبَطِيُّ وَقَالَ أَيْضًا سَمِعْت الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ مَا رَفَعْت أَحَدًا قَطُّ فَوْقَ قَدْرِهِ إلَّا غَضَّ مِنِّي بِقَدْرِ مَا رَفَعْت مِنْهُ وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كَشْفِ الْمُشْكِلِ فِي الْخَبَرِ الْأَوَّلِ مِنْ مُسْنَدِ عُمَرَ مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ فِي قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ مَا سَمِعْت عُمَرَ يَقُولُ الشَّيْءَ قَطُّ أَظُنُّهُ كَذَا إلَّا كَانَ كَمَا يَظُنُّ: وَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ صِحَّةُ الظَّنِّ مِنْ قُوَّةِ الذَّكَاءِ وَالْفَطِنَةِ فَإِنَّ الْفَطِنَ يَرَى مِنْ السِّمَاتِ وَالْأَمَارَاتِ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى الْخَفِيِّ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ ظَنُّ الْعَاقِلِ كَهَانَةٌ وَقَالَ آخَرُ: إذَا رَأَيْت الرَّجُلَ مُوَلِّيًا عَلِمْت قِيلَ فَإِنْ رَأَيْت وَجْهَهُ قَالَ ذَاكَ حِينَ أَقْرَأُ مَا فِي قَلْبِهِ كَالْخَطِّ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَقَدْ كَانُوا يَعْتَبِرُونَ أَحْوَالَ الرَّجُلِ بِخَلْقِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - احْذَرْ الْأَعْوَرَ وَالْأَحْوَلَ وَالْأَعْرَجَ وَالْأَحْدَبَ وَالْكَوْسَجَ وَكُلَّ مَنْ بِهِ عَاهَةٌ فِي بَدَنِهِ وَكُلَّ نَاقِصِ الْخَلْقِ فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ خُبْثٍ وَقَالَ مَرَرْت فِي طَرِيقِي بِفِنَاءِ دَارِ رَجُلٍ أَزْرَقِ الْعَيْنِ نَاتِئِ الْجَبْهَةِ

سُنَاطَ فَقُلْت هَلْ مِنْ مَنْزِلٍ قَالَ نَعَمْ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَهَذَا النَّعْتُ أَخْبَثُ مَا يَكُونُ فِي الْفِرَاسَةِ فَأَنْزَلَنِي وَأَكْرَمَنِي فَقُلْت أَغْسِلُ كُتُبَ الْفِرَاسَةِ إذَا رَأَيْت هَذَا فَلَمَّا أَصْبَحْت قُلْت لَهُ إذَا قَدِمْت مَكَّةَ فَسَلْ عَنْ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ أَمَوْلًى لِأَبِيكَ كُنْت قُلْت لَا قَالَ أَيْنَ مَا تَكَلَّفْت لَك الْبَارِحَةَ؟ فَوَزَنْت لَهُ مَا تَكَلَّفَ وَقُلْت بَقِيَ شَيْءٌ آخَرُ؟ قَالَ كِرَاءُ الدَّارِ ضَيَّقْت عَلَى نَفْسِي، فَوَزَنْت لَهُ فَقَالَ امْضِ أَخْزَاك اللَّهُ فَمَا رَأَيْت شَرًّا مِنْك. وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ الْمُزَنِيّ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ فُلَانٌ يُبْغِضُك فَقَالَ لَيْسَ فِي قُرْبِهِ أُنْسٌ وَلَا فِي بُعْدِهِ وَحْشَةٌ وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ يَا عَبْدَ الْمَلِكِ كُنْ مِنْ الْكَرِيمِ عَلَى حَذَرٍ إذَا أَهَنْته وَمِنْ اللَّئِيمِ إذَا أَكْرَمْته وَمِنْ الْعَاقِلِ إذَا أَحْرَجْته، وَمِنْ الْأَحْمَقِ إذَا مَازَحْته وَمِنْ الْفَاجِرِ إذَا عَاشَرْته وَلَيْسَ مِنْ الْأَدَبِ أَنْ تُجِيبَ مَنْ لَا يَسْأَلُك أَوْ تَسْأَلَ مَنْ لَا يُجِيبُك أَوْ تُحَدِّثَ مَنْ لَا يُنْصِتُ لَك وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ سَمِعْت أَعَرَابِيًّا يَقُولُ حَمْلُ الْمِنَنِ أَثْقَلُ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى الْعَدَمِ وَقَالَ ابْنُ نَبَاتَةَ: مَا الذُّلُّ إلَّا تَحَمُّلُ الْمِنَنِ ... فَكُنْ عَزِيزًا إنْ شِئْت أَوْ فَهُنْ وَأَنْشَدَ غُلَامٌ هَاشِمِيٌّ لِنِفْطَوَيْهِ: كَمْ صَدِيقٍ مَنَحْته صَفْوَ وُدِّي ... فَجَفَانِي وَمَلَّنِي وَقَلَانِي مَلَّ مَا مَلَّ ثُمَّ عَاوَدَ وَصْلِي ... بَعْدَمَا مَلَّ صُحْبَةَ الْإِخْوَانِ وَفِي هَذَا الْمَعْنَى أَشْعَارٌ كَثِيرَةٌ وَالْبَيْتُ السَّائِرُ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَقَالَ آخَرُ

عَتَبْت عَلَى بِشْرٍ فَلَمَّا جَفَوْته ... وَصَاحَبْت أَقْوَامًا بَكَيْت عَلَى بِشْرِ وَقَالَ آخَرُ: عَتَبْت عَلَى سَعْدٍ فَلَمَّا فَقَدْته ... وَجَرَّبْت أَقْوَامًا بَكَيْت عَلَى سَعْدِ وَقَالَ آخَرُ: وَنَعْتِبُ أَحْيَانًا عَلَيْهِ وَلَوْ مَضَى ... لَكُنَّا عَلَى الْبَاقِي مِنْ النَّاسِ أَعْتَبَا. وَرَوَى الْقَاضِي الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا بِإِسْنَادِهِ وَرَوَاهُ أَيْضًا غَيْرُهُ وَالْإِسْنَادُ ضَعِيفٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ «صَحِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَاحِبًا فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْضَتَهُ فَقَطَعَ غُصْنَيْنِ أَحَدُهُمَا أَعْوَجُ، وَالْآخَرُ مُسْتَقِيمٌ فَدَفَعَ إلَى صَاحِبِهِ الْمُسْتَقِيمَ، وَأَمْسَكَ الْأَعْوَجَ فَقَالَ الرَّجُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْتَ أَحَقُّ بِهَذَا فَقَالَ: كَلًّا، مَا مِنْ صَاحِبٍ يَصْحَبُ صَاحِبًا وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَوْ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ» . وَرَوَوْا أَيْضًا عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ مَرْفُوعًا «الْمَرْءُ كَبِيرٌ بِأَخِيهِ وَلَا خَيْرَ فِي صُحْبَةِ مَنْ لَا يَرَى لَك مِثْلَ مَا تَرَى لَهُ» وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَإِنِّي لَأَسْتَحْيِي أَخِي أَنْ أَرَى لَهُ ... عَلَيَّ مِنْ الْحَقِّ الَّذِي لَا يَرَى لِيَا قِيلَ مَعْنَاهُ أَنْ لَا يَرَى أَنَّ لِي عَلَيْهِ حَقًّا حَسَبَ مَا أَرَى لَهُ مِنْ وُجُوبِ حَقِّهِ عَلَى هَذَا يُوَافِقُ مَعْنَى خَبَرِ سَهْلٍ الْمَذْكُورِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى إنِّي أَسْتَحْيِي أَخِي أَنْ أَرَى لَهُ عِنْدِي مِنْ فَضْلٍ سَابِقٍ مِنْهُ مَا لَا يَرَى لِي عِنْدَهُ مِنْ فَضْلٍ فَيَكُونُ قَدْ أَثْبَتَ عِنْدِي حَقًّا لَمْ أُثْبِتْ لِنَفْسِي عِنْدَهُ مِنْ الْحَقِّ مِثْلَهُ. قَالَ الْقَاضِي الْمُعَافَى وَهَذَا أَصَحُّ وَخَبَرُ سَهْلٍ جَارٍ عَلَى عَكْسِ هَذَا الطَّرِيقِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ لَوْ كَانَ قِيلَ فِيهِ وَلَا خَيْرَ لِمَنْ صُحْبَته فِي صُحْبَتِك إذَا لَمْ تَرَ لَهُ مِنْ الْحَقِّ مِثْلَ الَّذِي يَرَى لَك. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ رَسُولَ

اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا خَيْرَ فِي صُحْبَةِ مَنْ لَا يَرَى لَك كَاَلَّذِي يَرَى لِنَفْسِهِ» قَالَ الشَّاعِرُ: وَإِنِّي لَأَسْتَحْيِي أَخِي أَنْ أَبَرَّهُ ... قَرِيبًا وَأَنْ أَجْفُوهُ وَهْوَ بَعِيدُ وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْخُرَاسَانِيُّ مَنْ اسْتَخَفَّ بِالْعُلَمَاءِ ذَهَبَتْ آخِرَتُهُ وَمَنْ اسْتَخَفَّ بِإِخْوَانِهِ قَلَّتْ مَعُونَتُهُ وَمَنْ اسْتَخَفَّ بِالسُّلْطَانِ ذَهَبَتْ دُنْيَاهُ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَحْنُ الزَّمَانُ مَنْ رَفَعْنَاهُ ارْتَفَعَ وَمَنْ وَضَعْنَاهُ اتَّضَعَ وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ فِي التَّفَرُّحِ بِالْمُفَاوَضَةِ إلَى الْإِخْوَانِ وَالتَّشَكِّي إلَى أَهْلِ الْحِفْظِ وَالْأَقْدَارِ وَذَوِي الرِّعَايَةِ وَالْأَخْطَارِ مِثْلَ قَوْلِ بَشَّارٍ: وَأَبْثَثْتُ عَمْرًا بَعْضَ مَا فِي جَوَانِحِي ... وَجَرَّعْته مِنْ مُرِّ مَا أَتَجَرَّعُ وَلَا بُدَّ مِنْ شَكْوَى إلَى ذِي حَفِيظَةٍ ... إذَا جَعَلْت أَسْرَارَ نَفْسٍ تَطَلَّعُ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَرْبَهَارِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِهِ شَرْحِ السُّنَّةِ: وَإِذَا رَأَيْت الرَّجُلَ رَدِيءَ الطَّرِيقِ وَالْمَذْهَبِ فَاسِقًا فَاجِرًا صَاحِبَ مَعَاصٍ ظَالِمًا وَهُوَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فَاصْحَبْهُ وَاجْلِسْ مَعَهُ فَإِنَّك لَنْ تَضُرَّك مَعْصِيَتُهُ وَإِذَا رَأَيْت عَابِدًا مُجْتَهِدًا مُتَقَشِّفًا مُتَحَرِّفًا بِالْعِبَادَةِ صَاحِبَ هَوًى فَلَا تَجْلِسْ مَعَهُ وَلَا تَسْمَعْ كَلَامَهُ وَلَا تَمْشِ مَعَهُ فِي طَرِيقٍ، فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ تَسْتَحْلِيَ طَرِيقَتَهُ فَتَهْلِكَ مَعَهُ. وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ الشِّيرَازِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ التَّبْصِرَةِ لَهُ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِذَا رَأَيْت الشَّابَّ أَوَّلَ مَا يَنْشَأُ مَعَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَأَرْجِهْ وَإِذَا رَأَيْته مَعَ أَصْحَابِ الْبِدَع فَايئَسْ مِنْهُ فَإِنَّ الشَّابَّ عَلَى أَوَّلِ نُشُوئِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ السِّرِّ الْمَكْتُومِ لَمَّا ذَكَرَ الْمُعْتَزِلَةَ وَغَيْرَهُمْ وَالْفَلَاسِفَةَ قَالَ اللَّهَ اللَّهَ مِنْ مُصَاحَبَةِ هَؤُلَاءِ، وَيَجِبُ مَنْعُ الصِّبْيَانِ مِنْ مُخَالَطَتِهِمْ

لِئَلَّا يَثْبُتَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ وَاشْغَلُوهُمْ بِأَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتُعْجَنَ بِهَا طَبَائِعُهُمْ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِسَالَتِهِ إلَى مُسَدَّدٍ: وَلَا تُشَاوِرْ صَاحِبَ بِدْعَةٍ فِي دِينِك، وَلَا تُرَافِقْهُ فِي سَفَرِك وَكَانَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَنْهَى عَنْ مُخَالَطَةِ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا وَعَنْ النَّظَرِ إلَيْهِمْ وَالِاجْتِمَاعِ بِهِمْ، وَيَأْمُرُ بِالِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ وَمُخَالَطَةِ الصَّالِحِينَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ: أَنْشَدَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى ثَعْلَبٌ وَيُقَالُ إنَّهَا لَهُ: إنْ صَحِبْنَا الْمُلُوكَ تَاهُوا وَعَقُّوا ... وَاسْتَخَفُّوا كِبْرًا بِحَقِّ الْجَلِيسِ أَوْ صَحِبْنَا التُّجَّارَ صِرْنَا إلَى الْبُؤْسِ ... وَعُدْنَا إلَى عَدَّادِ الْفُلُوسِ فَلَزِمْنَا الْبُيُوتَ نَسْتَخْرِجُ الْعِلْمَ ... وَنَمْلَأُ بِهِ بُطُونَ الطُّرُوسِ وَقَالَ الْقَاضِي يَرْوِي عَنْ شَيْخِنَا إبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ اسْتَزَارَهُ الْمُعْتَضِدُ وَقَرَّبَهُ وَأَجَازَهُ فَرَدَّ جَائِزَتَهُ فَقَالَ لَهُ: اُكْتُمْ مَجْلِسَنَا وَلَا تُخْبِرْ بِمَا فَعَلْنَا وَبِمَا قَابَلْتنَا بِهِ فَقَالَ لَهُ الْحَرْبِيُّ لِي إخْوَانٌ لَوْ عَلِمُوا بِاجْتِمَاعِي لَهَجَرُونِي. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْفَضْلِ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ وَتَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَهَذِهِ إشَارَةٌ فِيهَا كِفَايَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ فِي أَثْنَاءِ كَلَامٍ لَهُ أَنَا أَقُولُ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَدُّ الصَّدَاقَةِ اكْتِسَابُ نَفْسٍ إلَى نَفْسِك، وَرُوحٍ إلَى رُوحِك وَهَذَا الْحَدُّ يُرِيحُك عَنْ طَلَبِ مَا لَيْسَ فِي الْوُجُودِ حُصُولُهُ؛ لِأَنَّ نَفْسَك الْأَصْلِيَّةَ لَا تُعْطِيكَ مَحْضَ النَّفْعِ الَّذِي لَا يَشُوبُهُ إضْرَارٌ فَالنَّفْسُ الْمُكْتَسَبَةُ لَا تَطْلُبُ مِنْهَا هَذَا الْعِيَارَ وَقَدْ بَيَّنْت الْعِلَّةَ فِي تَعَذُّرِ الصَّفْوِ الْخَالِصِ وَهِيَ تَغَايُرُ الْأَمْزِجَةِ، وَتَغْلِيبُ الْأَخْلَاطِ، وَاخْتِلَافُ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَغْذِيَةِ فَإِنْ رَطِبَ وَرَاقَ بِالْمَاءِ وَرَقَّ بِالْهَوَاءِ ثَقُلَ وَرَسَبَ بِالتُّرَابِ، وَإِنْ شَفَّ وَصَفَا بِالرُّوحِ كَثُفَ وَكَدُرَ بِالْجَسَدِ، وَإِنْ اسْتَقَامَ بِالْعَقْلِ تَرَنَّحَ بِالْهَوَى وَإِنْ

خَشَعَ بِالْمَوْعِظَةِ قَسَا بِالْغُرُورِ، وَإِنْ لَطُفَ بِالْفِكْرِ غَلُظَ بِالْغَفْلَةِ، وَإِنْ سَخَا بِالرَّجَاءِ بَخِلَ بِالْقُنُوطِ. فَإِذَا كَانَتْ الْخِلَالُ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ بِهَذِهِ الْمُشَاكَلَةِ مِنْ التَّنَافُرِ، كَيْفَ يُطْلَبُ مِنْ الشَّخْصَيْنِ الْمُتَغَايِرَيْنِ بِالْخِلْقَةِ، وَالْأَخْلَاقِ الِاتِّفَاقُ، وَالِائْتِلَافُ؟ فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ أَفَادَتْ شَيْئَيْنِ: إقَامَةَ الْأَعْذَارِ وَحُسْنَ التَّأْوِيلِ الْحَافِظِ لِلْمَوَدَّاتِ وَالدُّخُولَ عَلَى بَصِيرَةٍ بِأَنَّ مَا يَنْدُرُ مِنْ الْأَخْلَاقِ الْمَحْمُودَةِ إذَا غَلَبَ عَلَى أَخْلَاقِ الشَّخْصِ مَعَ الشَّخْصِ فَهُمَا الصَّدِيقَانِ، فَأَمَّا طَلَبُ الدَّوَامِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ الْإِخْلَالِ فِي ذَلِكَ وَالِانْخِرَامُ فَهُوَ الَّذِي أَوْجَبَ الْقَوْلَ لِمَنْ قَالَ إنَّ الصَّدِيقَ اسْمٌ لِمَنْ لَمْ يَخْرُجْ إلَى الْوُجُودِ وَإِنْ تَبِعَ ذَلِكَ فِي الْأَسْمَاءِ كُلِّهَا وَجَبَ إفْلَاسُ الْمُسَمَّيَاتِ. فَأَمَّا تَسْمِيَةُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ عَبْدًا مَعَ ارْتِكَابِ الْمُخَالَفَةِ فَهِيَ بَعِيدَةٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ إنَّمَا أَنْتَ عَبْدٌ مِنْ طَرِيقِ شَوَاهِدِ الصَّنْعَةِ الَّتِي تَنْطِقُ بِوَحْدَتِهِ فِيهَا بِغَيْرِ شَرِيكٍ لَهُ فِي إخْرَاجِهِ إلَى الْوُجُودِ، فَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ إجَابَةِ عَادَةِ الْعَبْدِ الْمَعْبُودِ فَلَا فَمَنْ لَا يَصْفُو لَهُ اسْمُ عَبْدٍ لِرَبٍّ أَبْدَأَهُ وَأَنْشَأَهُ وَلَا يَصْفُو لِنَفْسِهِ فِي اسْمٍ نَاصِحٍ لَهَا بِطَاعَةِ عَقْلِهِ، وَعِصْيَانِ هَوَاهُ يُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَصْفُوَ فِيهِ اسْمُ صَدِيقٍ فَاقْنَعْ مِنْ الصَّدَاقَةِ بِمَا قَنَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْك فِي الْعُبُودِيَّةِ، مَعَ أَنَّك مَا صَفَوْت فِي الِاسْمِ فَأَنْتَ إلَى أَنْ تَكُونَ عَبْدَ هَوَاكَ وَشَيْطَانُك أَقْرَبُ؛ لِأَنَّ مُوَافَقَتَهَا فِيهِ أَكْثَرُ إلَى أَنْ قَالَ وَلَا اقْتَصَرَ فِي ذَاكَ عَلَى الْآدَمِيِّ بَلْ كُلُّ مَوْجُودٍ صَدَرَ عَنْ الْفَاعِلِ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ لَمْ يَصْفُ مِنْ شَوْبٍ حَتَّى الْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ ذَاتِ الْمَضَارِّ وَالْمَنَافِعِ إلَى أَنْ قَالَ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كُلُّهُ كَذَا فَطَلَبُ مَا وَرَاءَ الطِّبَاعِ طَلَبُ مَا لَا يُسْتَطَاعُ، وَذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ الْعَنَتِ، وَالتَّنَطُّعِ وَمَنْ طَلَبَ الْعَزِيزَ الْمُمْتَنِعَ عَذَّبَ نَفْسَهُ وَجَهَّلَ عَقْلَهُ وَضَلَّلَ رَأْيَهُ، وَقَبِيحٌ بِالْعَقْلِ أَنْ يَعْتَمِدَ إضْرَارَ نَفْسِهِ وَإِتْعَابَهَا فِيمَا لَا يُجْدِي نَفْعًا بِتَعْجِيلِ التَّعَبِ ضَرَرًا وَمَعَ كَوْنِ النَّفْسِ تَطْلُبُ الْكَمَالَ فِي

الصَّدَاقَةِ وَفِي الْعَيْشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ ظَهَرَ إلَى الْوُجُودِ نَاقِصًا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي طَيِّ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ ذَلِكَ وَيَسْتَخْرِجُهُ إلَى الْوُجُودِ وَقْتَ الْإِعَادَةِ وَإِرَادَةِ الْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ وَمَنْحِهِ النَّعِيمَ الْبَاقِيَ. ثُمَّ ذَكَرَ صِفَةَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ إلَى أَنْ قَالَ: يَقْطَعُ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنْ يُقَالَ إنْ وَجَدْت مِنْ نَفْسِك خِلَالَ الصَّدَاقَةِ وَشُرُوطَهَا مَعَ النَّقْدِ وَالِاخْتِبَارِ مِنْ الْهَوَى لَمْ تَجِدْ لِنَفْسِك ثَانِيًا فَقُلْ مَا شِئْت مِنْ اللَّوْمِ، وَالْعَذْلِ وَالتَّوْبِيخِ وَنُحْ عَلَى أَبْنَاءِ الزَّمَانِ بِالْوَحْدَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ تَجِدْ ذَاكَ فِي نَفْسِك لِعَجْزِ الْبِنْيَةِ عَنْهُ فَاقْطَعْ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فَلَا مُؤَاخَذَةَ عَلَى مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقُدْرَةِ، وَقَالَ أَيْضًا صَدَاقَةُ الْعُقَلَاءِ قَرَابَةُ الْأَبَدِ، وَمَحَبَّةُ الدُّخَلَاءِ فَرَحُ سَاعَةٍ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي أَثْنَاءِ كَلَامٍ لَهُ: الْعَاقِلُ مَنْ لَمْ يَثِقْ بِأَحَدٍ وَلَمْ يَسْكُنْ إلَى مَخْلُوقٍ، وَمَعَ هَذَا فَالْمُبَايَنَةُ لِلْكُلِّ لَا تَصْلُحُ إذْ لَا بُدَّ مِنْهُمْ وَإِنَّمَا تُبْتَغَى الْمُدَارَاةُ لَا الْمَوَدَّةُ، وَالْمُسَايَرَةُ بِالْأَحْوَالِ لَا الْمُجَاهَرَةُ، وَكِتْمَانُ الْأُمُورِ مِنْ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ مَهْمَا أَمْكَنَ الْأَقَارِبِ وَالْأَبَاعِدِ، وَالنَّظَرُ لِلنَّفْسِ فِي مَصَالِحِهَا إلَى أَنْ قَالَ عَنْ الْفَقِيرِ لَا يُنْفِقُ إلَّا عَلَى الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ فَأَقْبِلْ عَلَيْهِ تَرَى أَعْجَبَ الْعَجَبِ وَإِيَّاكَ أَنْ تَثِقَ بِغَيْرِهِ أَوْ تَمِيلَ إلَى سِوَاهُ فَتَلْقَى الْعَطَبَ وَهُوَ وَعِزَّتُهُ الَّذِي يَجِدُهُ الْمُضْطَرُّ فِي الشَّدَائِدِ وَالْمَحْزُونُ عِنْدَ الْهُمُومِ، وَالْمَكْرُوبُ عِنْدَ الْغُمُومِ احْذَرْ مِنْ مُخَالَفَتِهِ فَإِنَّ عُقُوبَتَهَا دَاءٌ دَفِينٌ لَا يُؤْمَنُ تَحَرُّكُهُ. وَقَالَ أَيْضًا: مَتَى رَأَيْت الشَّخْصَ مُعْتَدِلَ الْخِلْقَةِ حَسَنَ الصُّورَةِ فَهُوَ إلَى الصَّلَاحِ أَقْرَبُ وَمَتَى رَأَيْت ذَا عَيْبٍ فَاحْذَرْهُ مِثْلَ الْكَوْسَجِ، وَالْأَعْوَرِ، وَالْأَعْمَى فَقَلَّ أَنْ تَرَى بِأَحَدٍ آفَةً فِي بَدَنِهِ إلَّا وَفِي بَطْنِهِ مِثْلُهَا، وَإِذَا رَأَيْت عَيْبًا فِي شَخْصٍ فَلَا تُلِحَّنَّ عَلَيْهِ بِالتَّأْدِيبِ، فَالطَّبْعُ عَلَيْهِ أَغْلَبُ وَدَارِهِ فَحَسْبُ. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّأْدِيبَ مَثَلُهُ كَمَثَلِ الْبَذْرِ، وَالْمُؤَدَّبُ كَالْأَرْضِ مَتَى كَانَتْ الْأَرْضُ رَدِيئَةً ضَاعَ الْبَذْرُ فِيهَا وَمَتَى كَانَتْ صَالِحَةً نَشَأَ وَنَمَا فَتَأَمَّلْ بِفِرَاسَتِك مَنْ تُخَاطِبُهُ وَتُؤَدِّبُهُ وَتُعَاشِرُهُ، وَمِلْ إلَيْهِ بِقَدْرِ صَلَاحِ مَا تَرَى مِنْ بَدَنِهِ وَآدَابِهِ

فَانْظُرْ إلَى الصُّنَّاعِ وَلَا تَنْظُرْ إلَى حَائِكٍ أَوْ مُعَلِّمٍ أَوْ صَاحِبِ صِنَاعَةٍ خَسِيسَةٍ فَإِنَّك وَإِنْ رَأَيْت مِنْهُ خُلَّةً جَمِيلَةً فَالْكَدَرُ أَثْبَتُ وَالتَّجْرِبَةُ قَبْلَ الثِّقَةِ، وَالْحَذَرُ بَعْدَ الْمُعَامَلَةِ وَقَلَّ مَنْ يَصْفُو فَإِنْ صَفَا فَقَلَّ أَنْ يَثْبُتَ خُذْ مِنْ النَّاسِ جَانِبًا. وَقَالَ أَيْضًا: يَنْبَغِي لِمَنْ صَحِبَ سُلْطَانًا أَوْ مُحْتَشِمًا أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُهُ مَعَهُ وَبَاطِنُهُ سَوَاءً فَإِنَّهُ قَدْ يَدُسُّ إلَيْهِ مَنْ يَخْتَبِرُهُ فَرُبَّمَا افْتُضِحَ فِي الِابْتِلَاءِ وَأَكْثَرُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَقَالَ أَيْضًا كَانَ لِي أَصْدِقَاءُ وَإِخْوَانٌ فَرَأَيْت مِنْهُمْ الْجَفَاءَ فَأَخَذْت أَعْتِبُ فَقُلْت، وَمَا يَنْفَعُ الْعِتَابُ؟ فَإِنَّهُمْ إنْ صَلَحُوا فَلِلْعِتَابِ لَا لِلصَّفَاءِ فَهَمَمْت بِمُقَاطَعَتِهِمْ فَقُلْت لَا تَصْلُحُ مُقَاطَعَتُهُمْ يَنْبَغِي أَنْ تَنْقُلَهُمْ إلَى دِيوَانِ الصَّدَاقَةِ الظَّاهِرَةِ فَإِنْ لَمْ يَصْلُحُوا لَهَا فَإِلَى جُمْلَةِ الْمَعَارِفِ وَمِنْ الْغَلَطِ أَنْ تُعَاتِبَهُمْ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: بِئْسَ الْأَخُ أَخٌ تَحْتَاجُ أَنْ تَقُولَ لَهُ اُذْكُرْنِي فِي دُعَائِك، وَجُمْهُورُ النَّاسِ الْيَوْمَ مَعَارِفُ وَيَنْدُرُ مِنْهُمْ صَدِيقٌ فِي الظَّاهِرِ، وَأَمَّا الْأُخُوَّةُ وَالْمُصَافَاةُ فَذَلِكَ شَيْءٌ نُسِخَ فَلَا تَطْمَعْ فِيهِ وَمَا أَرَى الْإِنْسَانَ يَصْفُو لَهُ أَخُوهُ مِنْ النَّسَبِ وَلَا وَلَدُهُ وَلَا زَوْجَتُهُ فَدَعْ الطَّمَعَ فِي الصَّفَاءِ وَخُذْ عَنْ الْكُلِّ جَانِبًا وَعَامِلْهُمْ مُعَامَلَةَ الْغُرَبَاءِ وَإِيَّاكَ أَنْ تُخْدَعَ بِمَنْ يُظْهِرُ لَك الْوُدَّ، فَإِنَّهُ مَعَ الزَّمَانِ يُبَيِّنُ لَك الْخَلَلَ فِيمَا أَظْهَرَهُ وَقَدْ قَالَ الْفُضَيْلُ: إذَا أَرَدْت أَنْ تُصَادِقَ صَدِيقًا فَأَغْضِبْهُ فَإِنْ رَأَيْته كَمَا يَنْبَغِي فَصَادِقْهُ وَهَذَا الْيَوْمُ مُخَاطَرَةٌ؛ لِأَنَّك إذَا أَغْضَبْت أَحَدًا صَارَ عَدُوًّا فِي الْحَالِ، وَالسَّبَبُ فِي نَسْخِ حُكْمِ الصَّفَاءِ أَنَّ السَّلَفَ كَانَتْ هِمَّتُهُمْ الْآخِرَةَ وَحْدَهَا فَصَفَتْ نِيَّاتُهُمْ فِي الْأُخُوَّةِ وَالْمُخَالَطَةِ فَكَانَتْ دِينًا لَا دُنْيَا، وَالْآنَ فَقَدْ اسْتَوْلَى حُبُّ الدُّنْيَا عَلَى الْقُلُوبِ فَإِنْ رَأَيْت مُتَعَلِّقًا فِي بَابِ الدِّين فَأَخْبَرْ تَقْلُهُ

وَقَالَ أَيْضًا رَأَيْت نَفْسِي تَأْنَسُ بِخُلَطَاءَ تُسَمِّيهِمْ أَصْدِقَاءَ فَبَحَثْت التَّجَارِبَ فَإِذَا أَكْثَرُهُمْ حُسَّادٌ عَلَى النِّعَمِ، وَأَعْدَاءٌ لَا يَسْتُرُونَ زَلَّةً، وَلَا يَعْرِفُونَ لِجَلِيسٍ حَقًّا وَلَا يُوَاسُونَ مِنْ مَالِهِمْ صَدِيقًا فَتَأَمَّلْت الْأَمْرَ فَإِذَا أَكْثَرُهُمْ حُسَّادٌ عَلَى النِّعَمِ، فَإِذَا الْحَقُّ سُبْحَانَهُ يَغَارُ عَلَى قَلْبِ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَجْعَلَ بِهِ شَيْئًا يَأْنَسُ بِهِ فَهُوَ يَكْدَرُ الدُّنْيَا وَأَهْلَهَا لِيَكُونَ أُنْسَهُ بِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَعُدَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ مَعَارِفَ وَلَا تُظْهِرْ سِرَّكَ لِمَخْلُوقٍ مِنْهُمْ وَلَا تَعُدَّنَّ فِيهِمْ مَنْ لَا يَصْلُحُ لِشِدَّةٍ بَلْ عَامِلْهُمْ بِالظَّاهِرِ وَلَا تُخَالِطْهُمْ إلَّا حَالَةَ الضَّرُورَةِ وَبِالتَّوَقِّي لَحْظَةً، ثُمَّ انْفِرْ عَنْهُمْ وَأَقْبِلْ عَلَى شَأْنِك مُتَوَكِّلًا عَلَى خَالِقِك، فَإِنَّهُ لَا يَجْلِبُ الْخَيْرَ سِوَاهُ وَلَا يَصْرِفُ السُّوءَ إلَّا إيَّاهُ فِي كَلَامٍ كَثِيرٍ. وَقَالَ مِنْ الْغَلَطِ الْعَظِيمِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي حَاكِمٍ مَعْزُولٍ بِمَا لَا يَصْلُحُ فَإِنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَلِيَ فَيَنْتَقِمَ، وَفِي الْجُمْلَةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُظْهِرَ الْعَدَاوَةَ لِأَحَدٍ أَصْلًا وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْسِنَ إلَى كُلِّ أَحَدٍ خُصُوصًا مَنْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَهُ وِلَايَةٌ وَأَنْ يَخْدُمَ الْمَعْزُولَ فَرُبَّمَا نَفَعَ فِي وِلَايَتِهِ إلَى أَنْ قَالَ فَالْعَاقِلُ مَنْ تَأَمَّلَ الْعَوَاقِبَ وَرَاعَاهَا وَصَوَّرَ كُلَّ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ فَعَمِلَ بِمُقْتَضَى الْحَزْمِ، وَأَبْلَغُ مِنْ هَذَا تَصَوُّرُ وُجُودِ الْمَوْتِ عَاجِلًا؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ بَغْتَةً مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ فَالْحَازِمُ مَنْ اسْتَعَدَّ لَهُ وَعَمِلَ عَمَلًا لَا يَنْدَمُ إذَا جَاءَ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ أَيْضًا مَنْ جَرَتْ بَيْنَك وَبَيْنَهُ مُخَاشَنَةٌ فَإِيَّاكَ أَنْ تَطْمَعَ فِي مُصَافَاتِهِ وَأَنْ تَأْمُلَهُ فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ يَرَى مَا فَعَلْت وَالْحِقْدُ كَامِنٌ، وَقَالَ أَمَّا الْعَوَامُّ فَالْبُعْدُ عَنْهُمْ مُتَعَيَّنٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ الْجِنْسِ فَإِذَا اُضْطُرِرْت إلَى مُجَالَسَتِهِمْ فَلَحْظَةً يَسِيرَةً بِالْهَيْبَةِ وَالْحَذَرِ، فَرُبَّمَا قُلْت كَلِمَةً فَشَنَّعُوهَا وَلَا تَلْقَ الْجَاهِلَ بِالْعِلْمِ وَلَا اللَّاهِيَ بِالْفِقْهِ، وَلَا الْغَبِيَّ بِالْبَيَانِ بَلْ مِلْ إلَى مُسَالَمَتِهِمْ بِلُطْفٍ

مَعَ هَيْبَةٍ وَأَمَّا الْأَعْدَاءُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَحْتَقِرَهُمْ، فَإِنَّ لَهُمْ حِيَلًا بَاطِنَةً وَالْوَاجِبُ مُدَارَاتُهُمْ وَمُصَالَحَتُهُمْ فِي الظَّاهِرِ وَمِنْ جِنْسِهِمْ الْحُسَّادُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَطَّلِعُوا عَلَى النِّعَمِ فَإِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ وَمُدَارَاتُهُمْ لَازِمَةٌ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَرْجَانِيُّ: وَلَمَّا بَلَوْت النَّاسَ أَطْلُبُ مِنْهُمْ ... أَخَا ثِقَةٍ عِنْدَ اعْتِرَاضِ الشَّدَائِدِ تَطَمَّعْت فِي حَالِي رَخَاءً وَشِدَّةً ... وَنَادَيْت فِي الْأَحْيَاءِ هَلْ مِنْ مُسَاعِدِ فَلَمْ أَرَ فِيمَا سَاءَنِي غَيْرَ شَامِتٍ ... وَلَمْ أَرَ فِيمَا سَرَّنِي غَيْرَ حَاسِدِ وَقَالَ آخَرُ: مَنْ كَانَ يَأْمُلُ أَنْ يَسُودَ عَشِيرَةً ... فَعَلَيْهِ بِالتَّقْوَى وَلِينِ الْجَانِبِ وَيَغُضُّ طَرْفًا عَنْ مَسَاوِي مَنْ أَسَى ... مِنْهُمْ وَيَحْلُمُ عِنْدَ جَهْلِ الصَّاحِبِ وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ: إنْ حَدَّثَتْك نَفْسُكَ بِوَفَاءِ أَصْحَابِ الزَّمَانِ فَقَدْ كَذَبَتْك الْحَدِيثَ مَا صَدَقَتْك الْخَبَرَ هَذَا سَيِّدُ الْبَشَرِ مَاتَ وَحُقُوقُهُ عَلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ لِحُكْمِ الْبَلَاغِ، وَالشَّفَاعَةِ فِي الْأُخْرَى. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] وَقَدْ شَبِعَ بِهِ الْجَائِعُ، وَعَزَّ بِهِ الذَّلِيلُ فَقَطَعُوا رَحِمَهُ وَضَلَّ أَوْلَادُهُ بَيْنَ أَسِيرٍ، وَقَتِيلٍ، وَأَصْحَابُهُ قَتْلَى: عُمَرُ فِي الْمَسْجِدِ وَعُثْمَانُ فِي دَارِهِ هَذَا مَعَ إسْدَاءِ الْفَضَائِلِ وَإِقَامَةِ الْعَدْلِ وَالزُّهْدِ، اُطْلُبْ لِخَلَفِك مَا كَانَ لِسَلَفِك وَقَالَ لَا يَنْبَغِي لِعَاقِلٍ أَنْ يُعْرَفَ بِعَادَةٍ فَيُدْهَى مِنْهَا مِثْلَ أَنْ يَصْعُبَ عَلَيْهِ أَمْرٌ فَيُقْصَدَ بِهِ وَيُؤْذَى، أَوْ يُعْرَفَ أَنَّهُ يُحِبُّ أَمْرًا فَيُؤَاخَذُ بِهِ وَحُكِيَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ مَعْرُوفًا بِأَخْذِ الْفَأْلِ فَاشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ عَلَى حِيلَةٍ يَأْخُذُونَ بِهَا مَالًا فَقَصَدَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى دَفْعِهِ بِضَاعَةً أَوْ قَرْضًا وَجَلَسَ الشُّرَكَاءُ فِي الْحِيلَةِ عَلَى بُعْدٍ فَنَادَى أَحَدُهُمْ صَاحِبَهُ اسْتَخِرْ اللَّهَ فَهَذِهِ جِهَةٌ مُبَارَكَةٌ وَقَالَ الْآخَرُ نَعَمْ

مَا هُوَ إلَّا صَوَابٌ فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ قَوِيَتْ عَزِيمَتُهُ عَلَى دَفْعِهِ وَكَانَ آخَرُ يَأْكُلُ مَا يَجِدُهُ مِنْ الْفُتَاتِ، فَجُعِلَ لَهُ فِي فُتَاتِهِ سُمٌّ فَأَكَلَهُ فَمَاتَ، فَاحْذَرْ مِنْ اغْتِفَالِ الْأَعْدَاءِ. وَقَالَ أَيْضًا إنَّ أَبْنَاءَ الزَّمَانِ لَا بَقَاءَ لَهُمْ عَلَى حَالٍ بَيْنَمَا نَرَى أَحَدَهُمْ عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالشَّغَفِ، حَتَّى تَرَى أَحَدَهُمْ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ مِنْ الْمَلَلِ وَالضَّجَرِ، فَالْعَاتِبُ لَهُمْ ظَالِمٌ، كَمَا أَنَّ الْوَاثِقَ بِهِمْ خَائِبٌ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا حَقَّقَ النَّظَرَ فِي أَحْوَالِهِمْ يَرَاهُمْ فِي أَسْرِ الْمَقَادِيرِ مُسَلَّطَاتِ الْأَقْضِيَةِ وَالتَّصْرِيفِ، ثُمَّ الدَّهْرُ مَوْصُوفٌ بِالِاسْتِحَالَةِ فَكَيْفَ أَبْنَاؤُهُ فَإِذَا أَوْقَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْوَحْشَةَ بَيْنَك وَبَيْنَ الْخَلْقِ فَإِنَّمَا يَصْرِفُك إلَيْهِ وَيَنْدُبُك إلَى التَّعَلُّقِ بِهِ، فَاحْمَدْ إسَاءَتَهُمْ إلَيْكَ فَإِنَّهُمْ لَوْ أَحْسَنُوا مَعَك الصَّنِيعَ لَقَطَعُوك عَنْهُ؛ لِأَنَّكَ ابْنُ لُقْمَةٍ وَابْنُ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ أَدْنَى شَيْءٍ يَقْتَطِعُك إلَيْهِمْ. وَقَالَ أَيْضًا: لَا تَطْلُبْ مِنْ مُتَجَدِّدِ الرِّيَاسَةِ أَخَلَاقَهُ مَعَك حَالَ الْعُطْلَةِ فَيَرْفُضَك وَيُؤْذِيَك فَتَكُونَ كَالْمُعَلَّمِ يَتَخَلَّقُ مَعَ مَنْ كَانَ يُعَلِّمُهُ بَعْدَ كِبَرِهِ كَتَخَلُّقِهِ مَعَهُ حَالَ كَوْنِهِ فِي الْكُتُبِ، وَذَاكَ بِمَثَابَةِ مَنْ يَطْلُبُ مِنْ السَّكْرَانِ أَخْلَاقَ الصَّحَابِيِّ فَإِنَّ لِلرِّيَاسَةِ سُكْرًا وَلَوْلَا ذَاكَ مَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا} [طه: 44] . وَبَيَّنَهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النازعات: 18] . فَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ السُّؤَالِ لَا الْأَمْرِ لِمَوْضِعِ تَجَبُّرِهِ وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ لَهُ

أَوْ لِسَلَفِهِ وِلَايَةٌ وَمَنْصِبٌ وَدَوْلَةٌ وَقَدْ أَفْضَى بِهِ الدَّهْرُ إلَى الْعُطْلَةِ لَا يَقْتَضِي أَوْ لَا يَنْبَغِي مُعَامَلَتُهُ بِمَاضِي الرِّيَاسَةِ وَقَالَ فِي قَصِيدَةٍ كَبِيرَةٍ: أَخُوك الَّذِي إنْ تَدْعُهُ لِعَظِيمَةٍ ... يُجِبْكَ وَإِنْ تَغْضَبْ إلَى السَّبْقِ يَغْضَبْ. وَقَالَ فِي الْفُنُونِ أَيْضًا مِنْ كَمَالِ الْآدَابِ تَلَمُّحُ النَّفْسِ وَإِزَالَةُ كُلِّ مَا يُكْرَهُ مِنْهَا وَيُؤْذِي عِنْدَ الْمُخَالَطَةِ وَإِنْ أَمْكَنَ ذَاكَ، وَإِلَّا فَإِرَاحَةُ النَّاسِ بِالِانْفِرَادِ وَالِاعْتِزَالِ فَالثَّقِيلُ الْمُخَالِطُ سَقَمٌ فِي الْأَبْدَانِ وَمُؤْنَةٌ عَلَى الْقُلُوبِ، وَتَضْيِيقٌ لِلْأَنْفَاسِ، وَحَصْرٌ لِلْحَوَاسِّ وَالْأَلَمُ يُعَرِّي الْأَرْوَاحَ تَفَضُّلًا عَنْ الْأَشْبَاحِ، وَالْقَذَرُ نَقْضُهُ الْمَجَالِسَ، وَالْمُسْتَعْلِمُ عَمَّا يَسْتُرُهُ النَّاسُ مُكَشِّفٌ لِأَسْتَارِ التَّجَمُّلِ، وَالْأَرْعَنُ مُرْتَعِدُ الطِّبَاعِ الْمَغْلُوبَةِ بِالْحِكْمَةِ، وَالْأَحْمَقُ مُفْسِدٌ لِلْقَوَانِينِ وَمُحْوِجٌ إلَى سُوءِ أَخْلَاقِ الْمُعَلِّمِينَ، وَمُزْرٍ عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَالْمُهَازِلُ مُسْقِطٌ لِوَقَارِ الْمَجَالِسِ مُذْهِبٌ لِحِشْمَةِ الْمَنَازِلِ وَمَا حَطَّ شَرَفًا مِثْلُ هَزْلٍ. وَقَطْعُ الرَّوَائِحِ الْكَرِيهَةِ، وَالْبَعْدُ عَنْ مَجَالِسِ الْأُنْسِ فَكَمْ مِنْ أَنِيسٍ بَيْنَ جُلَسَاءَ أَوْحَشَهُ مُدَاخَلَةُ ثَقِيلٍ يَجْهَلُ ثِقَلَ نَفْسِهِ عَلَى النَّاسِ، وَتَقْلِيلُ الْكَلَامِ مِنْ حُسْنِ الْإِصْغَاءِ وَالْإِنْصَاتِ، وَالْبُعْدُ عَنْ الْعَامِلِينَ ذَوِي النَّشَاطِ إذَا اعْتَرَاك التَّثَاؤُبُ وَالنُّعَاسُ فَذَلِكَ يُكْسِلُ الْعُمَّالَ وَيُفَتِّرُ الصُّنَّاعَ، وَانْتِقَادُ الْأَلْفَاظِ قَبْلَ إخْرَاجِهَا إلَى الْأَسْمَاعِ فَكَمْ مِنْ نَمٍّ أَرَاقَ دِمَاءَكُمْ مِنْ حَرْفٍ جَرَّ حَنَقًا وَإِيَّاكَ وَالْكَلَامَ فِيمَا لَيْسَ مِنْ مَجَارِكَ فَذَاكَ يَحُطُّ قَدْرَك، وَيَكْشِفُ عَنْ مَحَلِّك وَأَنْتَ مَعَ سُكُوتِك مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِك تَتَرَامَى ظُنُونُ

النَّاسِ فِيك بَيْنَ مَنْ يَعْتَقِدُكَ بِذَلِكَ عَالِمًا فَإِذَا ظَهَرَ مِقْدَارُك مِنْ لَفْظِك تَعَجَّلَ سُقُوطُ قَدْرِك. لَا تُوَاكِلَنَّ جَائِعًا إلَّا بِالْإِيثَارِ، وَلَا تُوَاكِلَنَّ غَنِيًّا إلَّا بِالْأَدَبِ، وَلَا تُوَاكِلَنَّ ضَيْفًا إلَّا بِالنَّهْمَةِ وَالِانْبِسَاطِ وَلَا تَلْقَيَنَّ أَحَدًا بِمَا يَكْرَهُ وَإِنْ كُنْت نَاصِحًا فَإِنَّ ذَلِكَ يُنَفِّرُهُ عَنْ الْقَبُولِ لِنُصْحِك وَلَا تَدْعُهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ إلَّا بِأَحَبِّهَا إلَيْهِ، وَتَغَافَلْ عَنْ هَفَوَاتِ النَّاسِ فَذَلِكَ دَاعِيَةٌ لِدَوَامِ الْعِشْرَةِ، وَسَلَامَةِ الْوُدِّ، وَخَفِّفْ مُؤْنَتَك بِتَرْكِ الشَّكْوَى، وَإِذَا كَرِهْت مِنْ غَيْرِك خُلُقًا فَلَا تَأْتِهِ، وَإِذَا حَمِدْتَهُ فَتَخَلَّقْ بِهِ، وَلَا تَسْتَصْغِرْ كَبِيرَ الذَّنْبِ فَتَعْرَى، وَلَا تَسْتَكْبِرْ صَغِيرَهَا فَتَيْأَسْ، وَأَعْطِ كُلَّ ذَنْبٍ حَقَّهُ مِنْ عُقُوبَتِهِ إنْ قَدَرْت، وَمِنْ اللَّائِمَةِ وَالْهِجْرَانِ إنْ عَنْ الْعُقُوبَةِ عَجَزْت وَلَا تَقْتَضِ النَّاسَ بِجَرَّاءِ إحْسَانِكَ اقْتِضَاءَ الْبَائِعِ بِثَمَنِ سِلْعَتِهِ، وَلَا تَمْنُنْ عَلَيْهِمْ فَالْمَنُّ اسْتِيفَاءٌ لِمَعْرُوفِك أَوْ تَكْدِيرٌ لِبِرِّك فَإِنْ قَدَرْت عَلَى هَذِهِ الْخَلَائِقِ فِي مُعَاشَرَتِك وَإِلَّا فَالْعُزْلَةُ خَيْرٌ لَك وَخَيْرٌ لِلنَّاسِ، فَإِنَّك بِسَتْرِ نَفْسِك تَسْتَرِيحُ مِنْ احْتِقَابِ الْآثَامِ بِإِسْقَاطِ جُرْمِ الْأَنَامِ، وَالسَّلَامُ. وَرَوَى ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ هِشَامِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَذِنَ مُعَاوِيَةُ لِلنَّاسِ إذْنًا عَامًّا فَلَمَّا احْتَفَلَ الْمَجْلِسُ قَالَ أَنْشِدُونِي ثَلَاثَةَ أَبْيَاتٍ لِرَجُلٍ مِنْ الْعَرَبِ كُلُّ بَيْتٍ مِنْهَا مُسْتَقِلٌّ بِمَعْنَاهُ، فَسَكَتُوا فَلَمَّا سَكَتُوا عَلِمَ أَنَّهُمْ قَدْ أُعْيُوا إذْ طَلَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَقِيلَ: مِقْوَلُ الْعَرَبِ وَعَلَّامَتُهَا، فَقَالَ أَبَا خُبَيْبٍ فَقَالَ مَهْيَمْ قَالَ أَنْشِدْنِي ثَلَاثَةَ أَبْيَاتٍ لِرَجُلٍ مِنْ الْعَرَبِ كُلُّ بَيْتٍ قَائِمٌ بِمَعْنَاهُ قَالَ بِسِتِّمِائَةِ أَلْفٍ قَالَ وَتُسَاوِي قَالَ فَأَنْتَ بِالْخِيَارِ وَأَنْتَ وَافٍ كَافٍ فَأَنْشَدَهُ لِلْأَفْوَهِ الْأَوْدِيِّ:

بَلَوْتُ النَّاسَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ ... فَلَمْ أَرَ غَيْرَ خَتَّالٍ وَقَالٍ قَالَ: صَدَقْت هِيهِ قُلْ الْبَيْتَ الثَّانِيَ، فَقَالَ: وَذُقْت مَرَارَةَ الْأَشْيَاءِ طُرًّا ... فَمَا طَعْمٌ أَمَرُّ مِنْ السُّؤَالِ قَالَ: صَدَقْت قُلْ الْبَيْتَ الثَّالِثَ فَقَالَ: وَلَمْ أَرَ فِي الْخُطُوبِ أَشَدَّ وَقْعًا ... وَأَصْعَبَ مِنْ مُعَادَاةِ الرِّجَالِ.

فصل في وصايا نافعة وحكم رائعة من الأخبار والآثار والأشعار

[فَصْلٌ فِي وَصَايَا نَافِعَةٍ وَحِكَمٍ رَائِعَةٍ مِنْ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ وَالْأَشْعَارِ] ِ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «لَا تُكْثِرُوا الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ» . وَعَنْ سَعْدٍ «ابْكُوا فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا» رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ خَبَرَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَتْ عَائِشَةُ «مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْتَجْمِعًا ضَاحِكًا حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتِهِ إنَّمَا كَانَ يَبْتَسِمُ» وَعَنْهَا أَيْضًا مَرْفُوعًا «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. نَظَمَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ الْقَوِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَعْضَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ نَثْرًا وَذَكَرَ أَيْضًا أَشْيَاءَ حَسَنَةً يَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِهَا فَقَالَ: فَكَابِدْ إلَى أَنْ تَبْلُغَ النَّفْسُ عُذْرَهَا ... وَكُنْ فِي اقْتِبَاسِ الْعِلْمِ طَلَّاعَ أَنْجُدِ وَلَا يَذْهَبَنَّ الْعُمُرُ مِنْك سَبَهْلَلًا ... وَلَا تَغْبِنَنَّ فِي النِّعْمَتَيْنِ بَلْ اجْهَدْ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنِّي أَكْرَهُ الرَّجُلَ أَنْ أَرَاهُ يَمْشِي سَبَهْلَلًا أَيْ: لَا فِي أَمْرِ الدُّنْيَا، وَلَا فِي أَمْرِ آخِرَةٍ. وَصَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» وَرَأَيْت أَنَا الْإِمَامَ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَوَى فِي الزُّهْدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إنِّي لَأَبْغَضُ الرَّجُلَ فَارِغًا لَا فِي عَمَلِ دُنْيَا وَلَا فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْقَوِيِّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -

فَمَنْ هَجَرَ اللَّذَّاتِ نَالَ الْمُنَى ... وَمَنْ أَكَبَّ عَلَى اللَّذَّاتِ عَضَّ عَلَى الْيَدِ وَفِي قَمْعِ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ اعْتِزَازُهَا ... وَفِي نَيْلِهَا مَا تَشْتَهِي ذُلُّ سَرْمَدِ وَلَا تَشْتَغِلْ إلَّا بِمَا يُكْسِبُ الْعُلَا ... وَلَا تُرْضِ النَّفْسَ النَّفِيسَةَ بِالرَّدِي وَفِي خَلْوَةِ الْإِنْسَانِ بِالْعِلْمِ أُنْسُهُ ... وَيَسْلَمُ دِينُ الْمَرْءِ عِنْدَ التَّوَحُّدِ وَيَسْلَمُ مِنْ قِيلٍ وَقَالَ وَمِنْ أَذَى ... جَلِيسٍ وَمِنْ وَاشٍ بَغِيضٍ وَحُسَّدِ فَكُنْ حِلْسَ بَيْتٍ فَهْوَ سِتْرٌ لِعَوْرَةٍ ... وَحِرْزُ الْفَتَى عَنْ كُلِّ غَاوٍ وَمُفْسِدِ وَخَيْرُ جَلِيسِ الْمَرْءِ كُتْبٌ تُفِيدُهُ ... عُلُومًا وَآدَابًا وَعَقْلًا مُؤَيِّدِ وَخَالِطْ إذَا خَالَطْت كُلَّ مُوَفَّقٍ ... مِنْ الْعُلَمَاءِ أَهْلِ التُّقَى وَالتَّسَدُّدِ يُفِيدُك مِنْ عِلْمٍ وَيَنْهَاكَ عَنْ هَوًى ... فَصَاحِبْهُ تُهْدَ مِنْ هُدَاهُ وَتَرْشُدْ وَإِيَّاكَ وَالْهَمَّازَ إنْ قُمْت عَنْهُ وَاَلْ ... بَذِيِّ فَإِنَّ الْمَرْءَ بِالْمَرْءِ يَقْتَدِي

وَلَا تَصْحَبْ الْحَمْقَى فَذُو الْجَهْلِ إنْ يَرُمْ ... صَلَاحًا لِشَيْءٍ يَا أَخَا الْحَزْمِ يُفْسِدْ وَخَيْرُ مَقَامٍ قُمْت فِيهِ وَخَصْلَةٍ ... تَحَلَّيْتَهَا ذِكْرُ الْإِلَهِ بِمَسْجِدِ وَكُفَّ عَنْ الْعَوْرَا لِسَانَك وَلْيَكُنْ ... دَوَامًا بِذِكْرِ اللَّهِ يَا صَاحِبِي نَدِي وَحَصِّنْ عَنْ الْفَحْشَا الْجَوَارِحَ كُلَّهَا ... تَكُنْ لَك فِي يَوْمِ الْجَزَا خَيْرَ شَاهِدِ وَوَاظِبْ عَلَى دَرْسِ الْقُرَانِ فَإِنَّهُ ... يُلَيِّنُ قَلْبًا قَاسِيًا مِثْلَ جَلْمَدِ وَحَافِظْ عَلَى فِعْلِ الْفُرُوضِ لِوَقْتِهَا ... وَخُذْ بِنَصِيبٍ فِي الدُّجَى مِنْ تَهَجُّدِ وَنَادِ إذَا مَا قُمْت فِي اللَّيْلِ سَامِعًا ... قَرِيبًا مُجِيبًا بِالْفَوَاصِلِ يَبْتَدِي وَمُدَّ إلَيْهِ كَفَّ فَقْرِك ضَارِعًا ... بِقَلْبٍ مُنِيبٍ وَادْعُ تُعْطَ وَتَسْعَدْ وَلَا تَسْأَمَنَّ الْعِلْمَ وَاسْهَرْ لِنَيْلِهِ ... بِلَا ضَجَرٍ تَحْمَدْ سُرَى السَّيْرِ فِي غَدِ وَكُنْ صَابِرًا لِلْفَقْرِ وَادَّرِعْ الرِّضَى ... بِمَا قَدَّرَ الرَّحْمَنُ وَاشْكُرْهُ وَاحْمَدْ

فَمَا الْعِزُّ إلَّا فِي الْقَنَاعَةِ وَالرِّضَى ... بِأَدْنَى كَفَافٍ حَاصِلٍ وَالتَّزَهُّدِ فَمَنْ لَمْ يُقْنِعْهُ الْكَفَافُ فَمَا إلَى ... رِضَاهُ سَبِيلٌ فَاقْتَنِعْ وَتَقَصَّدْ رُوِيَ هَذَا مِنْ كَلَامِ إدْرِيسَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَمَنْ يَتَغَنَّ يُغْنِهِ اللَّهُ وَالْغِنَى ... غِنَى النَّفْسِ لَا عَنْ كَثْرَةِ الْمُتَعَدِّدِ وَلَا تَطْلُبَنَّ الْعِلْمَ لِلْمَالِ وَالرِّيَا ... فَإِنَّ مِلَاكَ الْأَمْرِ فِي حُسْنِ مَقْصِدِ وَكُنْ عَامِلًا بِالْعِلْمِ فِيمَا اسْتَطَعْته ... لِيُهْدَى بِك الْمَرْءُ الَّذِي كَانَ يَقْتَدِي حَرِيصًا عَلَى نَفْعِ الْوَرَى وَهُدَاهُمْ ... تَنَلْ كُلَّ خَيْرٍ فِي نَعِيمٍ مُؤَبَّدِ وَإِيَّاكَ وَالْإِعْجَابَ وَالْكِبْرَ تَحْظَ بِالسَّ ... عَادَةِ فِي الدَّارَيْنِ فَارْشُدْ وَأَرْشِدْ وَهَا قَدْ بَذَلْتُ النُّصْحَ جَهْدِي وَإِنَّنِي ... مُقِرٌّ بِتَقْصِيرِي وَبِاَللَّهِ أَهْتَدِي

انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ نَظَمَ قَبْلَهُ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ يَحْيَى بْنُ يُوسُفَ الصَّرْصَرِيُّ الْحَنْبَلِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَثِيرًا فِي مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ وَغَيْرِهِ فَمِنْ ذَلِكَ نُحْ وَابْكِ فَالْمَعْرُوفُ أَقْفَرَ رَسْمُهُ ... وَالْمُنْكَرُ اسْتَعْلَى وَأَثَّرَ وَسْمُهُ لَمْ يَبْقَ إلَّا بِدْعَةٌ فَتَّانَةٌ ... يَهْوِي مُضِلٌّ مُسْتَطِيرٌ سُمُّهُ وَطَعَامُ سُوءٍ مِنْ مَكَاسِبَ مُرَّةٍ ... يُعْمِي الْفُؤَادَ بِدَائِهِ وَيُصِمُّهُ فَفَشَا الرِّيَاءُ وَغِيبَةٌ وَنَمِيمَةٌ ... وَقَسَاوَةٌ مِنْهُ وَأَثْمَرَ إثْمُهُ لَمْ يَبْقَ زَرْعٌ أَوْ مَبِيعٌ أَوْ شِرًى ... إلَّا أُزِيلَ عَنْ الشَّرِيعَةِ حُكْمُهُ فَلَكَيْفَ يُفْلِحُ عَابِدٌ وَعِظَامُهُ ... نَشَأَتْ عَلَى السُّحْتِ الْحَرَامِ وَلَحْمُهُ هَذَا الَّذِي وَعَدَ النَّبِيُّ الْمُصْطَفَى ... بِظُهُورِهِ وَعْدًا تَوَثَّقَ حَتْمُهُ هَذَا لَعَمْرُ إلَهِك الزَّمَنُ الَّذِي ... تَبْدُو جَهَالَتُهُ وَيُرْفَعُ عِلْمُهُ

هَذَا الزَّمَانُ الْآخِرُ الْكَدِرُ الَّذِي ... تَزْدَادُ شِرَّتُهُ وَيَنْقُصُ حِلْمُهُ وَهَتْ الْأَمَانَةُ فِيهِ وَانْفَصَمَتْ عُرَى التَّ ... قْوَى بِهِ وَالْبِرُّ أَدْبَرَ نَجْمُهُ كَثُرَ الرِّبَا وَفَشَا الزِّنَا وَنَمَا الْخَنَا ... وَرَمَى الْهَوَى فِيهِ فَأَقْصَدَ سَهْمُهُ ذَهَبَ النَّصِيحُ لِرَبِّهِ وَنَبِيِّهِ ... وَإِمَامِهِ نُصْحًا تَحَقَّقَ عَزْمُهُ لَمْ يَبْقَ إلَّا عَالِمٌ هُوَ مُرْتَشٍ ... أَوْ حَاكِمٌ تَخْشَى الرَّعِيَّةُ ظُلْمَهُ وَالصَّالِحُونَ عَلَى الذَّهَابِ تَتَابَعُوا ... فَكَأَنَّهُمْ عِقْدٌ تَنَاثَرَ نَظْمُهُ لَمْ يَبْقَ إلَّا رَاغِبٌ هُوَ مُظْهِرٌ ... لِلزُّهْدِ وَالدُّنْيَا الدَّنِيَّةُ هَمُّهُ لَوْلَا بَقَايَا سُنَّةٍ وَرِجَالُهَا ... لَمْ يَبْقَ نَهْجٌ وَاضِحٌ نَأْتَمُّهُ يَا مُقْبِلًا فِي جَمْعِ دُنْيَا أَدْبَرَتْ ... كَبِنَاءٍ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ هَدْمُهُ

هَذِي أَمَارَاتُ الْقِيَامَةِ قَدْ بَدَتْ ... لِمُبَصَّرٍ سَبَرَ الْعَوَاقِبَ فَهْمُهُ ظَهَرَتْ طُغَاةُ التُّرْكِ وَاجْتَاحُوا الْوَرَى ... وَأَبَادَهُمْ هَرْجٌ شَدِيدٌ حَطْمُهُ وَالشَّمْسُ آنَ طُلُوعُهَا مِنْ غَرْبِهَا ... وَخُرُوجُ دَجَّالٍ فَظِيعٍ غَشْمُهُ وَأَنَّى لِيَأْجُوجَ الْخُرُوجُ عَقِيبَهُ ... مِنْ خَلْفِ سَدٍّ سَوْفَ يُفْتَحُ رَدْمُهُ فَاعْمَلْ لِيَوْمٍ لَا مَرَدَّ لِوَقْعِهِ ... يُقْصِي الْوَلِيدَ بِهِ أَبُوهُ وَأُمُّهُ وَلَهُ أَيْضًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أَنَا الْعَبْدُ الَّذِي كَسَبَ الذُّنُوبَا ... وَصَدَّتْهُ الْأَمَانِي أَنْ يَتُوبَا أَنَا الْعَبْدُ الَّذِي أَضْحَى حَزِينًا ... عَلَى زَلَّاتِهِ قَلِقًا كَئِيبَا أَنَا الْعَبْدُ الَّذِي سُطِرَتْ عَلَيْهِ ... صَحَائِفُ لَمْ يَخَفْ فِيهَا الرَّقِيبَا أَنَا الْعَبْدُ الْمُسِيءُ عَصَيْتُ سِرًّا ... فَمَا لِي الْآنَ لَا أُبْدِي النَّحِيبَا أَنَا الْعَبْدُ الْمُفَرِّطُ ضَاعَ عُمُرِي ... فَلَمْ أَرْعَ الشَّبِيبَةَ وَالْمَشِيبَا أَنَا الْعَبْدُ الْغَرِيقُ بِلُجِّ بَحْرٍ ... أَصِيحُ لَرُبَّمَا أَلْقَى مُجِيبَا أَنَا الْعَبْدُ السَّقِيمُ مِنْ الْخَطَايَا ... وَقَدْ أَقْبَلْتُ أَلْتَمِسُ الطَّبِيبَا أَنَا الْعَبْدُ الْمُخَلَّفُ عَنْ أُنَاسٍ ... حَوَوْا مِنْ كُلِّ مَعْرُوفٍ نَصِيبَا أَنَا الْعَبْدُ الشَّرِيدُ ظَلَمْتُ نَفْسِي ... وَقَدْ وَافَيْتُ بَابَكُمْ مُنِيبَا أَنَا الْعَبْدُ الْفَقِيرُ مَدَدْتُ كَفِّي ... إلَيْكُمْ فَادْفَعُوا عَنِّي الْخُطُوبَا

أَنَا الْغَدَّارُ كَمْ عَاهَدْتُ عَهْدًا ... وَكُنْتُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ كَذُوبَا أَنَا الْمَهْجُورُ هَلْ لِي مِنْ شَفِيعٍ ... يُكَلِّمُ فِي الْوِصَالِ لِي الْحَبِيبَا أَنَا الْمَقْطُوعُ فَارْحَمْنِي وَصِلْنِي ... وَيَسِّرْ مِنْكَ لِي فَرَجًا قَرِيبَا أَنَا الْمُضْطَرُّ أَرْجُو مِنْكَ عَفْوًا ... وَمَنْ يَرْجُو رِضَاكَ فَلَنْ يَخِيبَا فَيَا أَسَفَى عَلَى عُمُرٍ تَقَضَّى ... وَلَمْ أَكْسِبْ بِهِ إلَّا الذُّنُوبَا وَأَحْذَرُ أَنْ يُعَاجِلَنِي مَمَاتٌ ... يُحَيِّرُ هَوْلُ مَصْرَعِهِ اللَّبِيبَا وَيَا حُزْنَاهُ مِنْ نَشْرِي وَحَشْرِي ... بِيَوْمٍ يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبَا تَفَطَّرَتْ السَّمَاءُ بِهِ وَمَارَتْ ... وَأَصْبَحَتْ الْجِبَالُ بِهِ كَثِيبَا إذَا مَا قُمْتُ حَيْرَانًا ظَمِيئَا ... حَسِيرَ الطَّرْفِ عُرْيَانًا سَلِيبَا وَيَا خَجَلَاهُ مِنْ قُبْحِ اكْتِسَابِي ... إذَا مَا أَبْدَتْ الصُّحُفُ الْعُيُوبَا وَذِلَّةِ مَوْقِفٍ وَحِسَابِ عَدْلٍ ... أَكُونُ بِهِ عَلَى نَفْسِي حَسِيبَا وَيَا حَذَرَاهُ مِنْ نَارٍ تَلَظَّى ... إذَا زَفَرَتْ وَأَقْلَقَتْ الْقُلُوبَا تَكَادُ إذَا بَدَتْ تَنْشَقُّ غَيْظًا ... عَلَى مَنْ كَانَ ظَلَّامًا مُرِيبَا فَيَا مَنْ مَدَّ فِي كَسْبِ الْخَطَايَا ... خُطَاهُ أَمَا أَنَى لَكَ أَنْ تَتُوبَا أَلَا فَاقْلِعْ وَتُبْ وَاجْهَدْ فَإِنَّا ... رَأَيْنَا كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبَا وَأَقْبِلْ صَادِقًا فِي الْعَزْمِ وَاقْصِدْ ... جَنَابًا نَاضِرًا عَطِرًا رَحِيبَا وَكُنْ لِلصَّالِحِينَ أَخًا وَخِلًّا ... وَكُنْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا غَرِيبَا وَكُنْ عَنْ كُلِّ فَاحِشَةٍ جَبَانًا ... وَكُنْ فِي الْخَيْرِ مِقْدَامًا نَجِيبَا وَلَاحِظْ زِينَةَ الدُّنْيَا بِبُغْضٍ ... تَكُنْ عَبْدًا إلَى الْمَوْلَى حَبِيبَا

فَمَنْ يَخْبُرْ زَخَارِفَهَا يَجِدْهَا ... مُخَالِبَةً لِطَالِبِهَا خَلُوبَا وَغُضَّ عَنْ الْمَحَارِمِ مِنْك طَرْفًا ... طَمُوحًا يَفْتِنُ الرَّجُلَ الْأَرِيبَا فَخَائِنَةُ الْعُيُونِ كَأُسْدِ غَابٍ ... إذَا مَا أُهْمِلَتْ وَثَبَتْ وُثُوبَا وَمَنْ يَغْضُضْ فُضُولَ الطَّرْفِ عَنْهَا ... يَجِدْ فِي قَلْبِهِ رَوْحًا وَطِيبَا وَلَا تُطْلِقْ لِسَانَكَ فِي كَلَامٍ ... يَجُرُّ عَلَيْكَ أَحْقَادًا وَحُوبَا وَلَا يَبْرَحْ لِسَانُكَ كُلَّ وَقْتٍ ... بِذِكْرِ اللَّهِ رَيَّانًا رَطِيبَا وَصَلِّ إذَا الدُّجَى أَرْخَى سُدُولًا ... وَلَا تَضْجَرْ بِهِ وَتَكُنْ هَيُوبَا تَجِدْ أُنْسًا إذَا أُوعِيتَ قَبْرًا ... وَفَارَقْتَ الْمُعَاشِرَ وَالنَّسِيبَا وَصُمْ مَا اسْتَطَعْت تَجِدْهُ رِيًّا ... إذَا مَا قُمْتَ ظَمْآنًا سَغِيبَا وَكُنْ مُتَصَدِّقًا سِرًّا وَجَهْرًا ... وَلَا تَبْخَلْ وَكُنْ سَمْحًا وَهُوبَا تَجِدْ مَا قَدَّمَتْهُ يَدَاكَ ظِلًّا ... إذَا مَا اشْتَدَّ بِالنَّاسِ الْكُرُوبَا وَكُنْ حَسَنَ السَّجَايَا ذَا حَيَاءٍ ... طَلِيقَ الْوَجْهِ لَا شَكِسًا غَضُوبَا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: رَجُلٌ شَكِسٌ أَيْ صَعْبُ الْخُلُقِ، وَقَوْمٌ شُكْسٌ مِثَالُ رَجُلِ صَدُقٍ وَقَدْ شَكِسَ بِالْكَسْرِ شَكَاسَةً وَحَكَى الْفَرَّاءُ رَجُلٌ شَكِسٌ وَهُوَ الْقِيَاسُ قَالَ الصَّرْصَرِيُّ أَيْضًا: وُصُولًا لِلْخَلِيلِ إذَا تَجَافَى ... عَسَاهُ بِحُسْنِ عَطْفِك أَنْ يَئُوبَا حَفِيظًا لِلْوِدَادِ بِظَهْرِ غَيْبٍ ... فَإِنَّ الْحُرَّ مَنْ حَفِظَ الْمَغِيبَا وَلَا تَمْزَحْ وَكُنْ رَجُلًا وَقُورًا ... كَثِيرَ الصَّمْتِ مُتَّقِيًا أَدِيبَا

وَلَا تَحْسُدْ وَلَا تَحْقِدْ وَطَهِّرْ ... لِسَانَك أَنْ يَنِمَّ وَأَنْ يَغِيبَا فَإِنَّك إنْ نَهَضْت لِفِعْلِ هَذَا ... حَلَلْت مِنْ التُّقَى رَبْعًا خَصِيبَا وَلَهُ أَيْضًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: دَعْ الدُّنْيَا لِطَالِبِهَا ... لِتَسْلَمَ مِنْ مَعَاطِبِهَا وَلَا يَغْرُرْك عَاجِلُهَا ... وَفَكِّرْ فِي عَوَاقِبِهَا فَإِنَّ سِهَامَ آفَتِهَا ... مَشُوبٌ فِي أَطَايِبِهَا وَإِنَّ بَرِيقَ دِرْهَمِهَا ... لَأَفْتَكُ مِنْ عَقَارِبِهَا وَكُنْ مُتَدَرِّعَ التَّقْوَى ... تُحَصَّنْ مِنْ قَوَاضِبِهَا فَإِنَّ سِهَامَ فِتْنَتِهَا ... لَتَرْشُقُ مِنْ جَوَانِبِهَا تُبِيحُكَ فِي مَحَاسِنِهَا ... لِتَذْهَلَ عَنْ مَعَايِبِهَا فَتُبْدِي لِينَهَا خَدْعَا ... لِتَنْشَبَ فِي مَخَالِبِهَا فَكُنْ مِنْ أُسْدِهَا لَيْثًا ... وَلَا تَكُ مِنْ ثَعَالِبِهَا فَإِنَّك إنْ سَلِمْت بِهَا ... فَإِنَّك مِنْ عَجَائِبِهَا وَجَانِبْهَا فَإِنَّ الْبِرَّ ... يَدْنُو مِنْ مُجَانِبِهَا وَكُنْ مِنْهَا عَلَى حَذَرٍ ... فَإِنَّك مِنْ مَطَالِبِهَا فَكَمْ مِنْ صَاحِبٍ صَحِبَتْ ... وَلَمْ تَنْصَحْ لِصَاحِبِهَا وَصَادَقَهَا لِيَنْهَبَهَا ... فَأَصْبَحَ مِنْ مَنَاهِبِهَا فَلَا تَطْمَعْ مِنْ الدُّنْيَا ... بِصَافٍ فِي شَوَائِبِهَا فَإِنَّ مَجَامِعَ الْأَكْدَارِ ... صُبَّتْ فِي مَشَارِبِهَا وَكُنْ رَجُلًا مُنِيبَ الْقَلْبِ ... تَسْلَمْ مِنْ نَوَائِبِهَا وَسَلْ رَبَّ الْعِبَادِ الْعَوْنَ ... مِنْهُ عَلَى مَصَائِبِهَا

وَلَهُ أَيْضًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَرَضِيَ عَنْهُ -: يَا قَسْوَةَ الْقَلْبِ مَا لِي حِيلَةٌ فِيكِ ... مَلَكْتِ قَلْبِي فَأَضْحَى شَرَّ مَمْلُوكِ حَجَبْتِ عَنِّي إفَادَاتِ الْخُشُوعِ فَلَا ... يَشْفِيك ذِكْرٌ وَلَا وَعْظٌ يُدَاوِيك وَمَا تَمَادِيكِ مِنْ كَنْفِ الذُّنُوبِ وَلَ ... كِنَّ الذُّنُوبَ أَرَاهَا مِنْ تَمَادِيكِ لَكِنْ تَمَادِيكِ مِنْ أَصْلٍ نَشَأْتِ بِهِ ... طَعَامُ سُوءٍ عَلَى ضَعْفٍ يُقَوِّيكِ وَأَنْتِ يَا نَفْسُ مَأْوَى كُلِّ مُعْضِلَةٍ ... وَكُلُّ دَاءٍ بِقَلْبِي مِنْ عَوَادِيك أَنْتِ الطَّلِيعَةُ لِلشَّيْطَانِ فِي جَسَدِي ... فَلَيْسَ يَدْخُلُ إلَّا مِنْ نَوَاحِيكِ لَمَّا فَسَحْتِ بِتَوْفِيرِ الْحُظُوظِ لَهُ ... أَضْحَى مَعَ الدَّمِ يَجْرِي فِي مَجَارِيك وَالَيْتِهِ بِقَبُولِ الزُّورِ مِنْكِ فَلَنْ ... يُوَالِيَ اللَّهُ إلَّا مَنْ يُعَادِيكِ مَا زِلْتِ فِي أَسْرِهِ تَهْوِينَ مُوثَقَةً ... حَتَّى تَلِفْت فَأَعْيَانِي تَلَافِيك

يَا نَفْسُ تُوبِي إلَى الرَّحْمَنِ مُخْلِصَةً ... ثُمَّ اسْتَقِيمِي عَلَى عَزْمٍ يُنَجِّيكِ وَاسْتَدْرِكِي فَارِطَ الْأَوْقَاتِ وَاجْتَهِدِي ... عَسَاك بِالصِّدْقِ أَنْ تُمْحَى مَسَاوِيكِ وَاسْعَيْ إلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى مُسَارِعَةً ... فَرُبَّمَا شُكِرَتْ يَوْمًا مَسَاعِيك وَلَنْ تَتِمَّ لَك الْأَعْمَالُ صَالِحَةً ... إلَّا بِتَرْكِك شَيْئًا شَرَّ مَتْرُوكِ حُبُّ التَّكَاثُرِ فِي الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا ... فَهِيَ الَّتِي عَنْ طِلَابِ الْخَيْرِ تُلْهِيك لَا تُكْثِرِي الْحِرْصَ فِي تَطْلَابِهَا فَلَكَمْ ... دَمٍ لَهَا بِسُيُوفِ الْحِرْصِ مَسْفُوكِ بَلْ اقْنَعِي بِكَفَافِ الرِّزْقِ رَاضِيَةً ... فَكُلَّمَا جَازَ مَا يَكْفِيك يُطْغِيك ثُمَّ اُذْكُرِي غُصَصَ الْمَوْتِ الْفَظِيعِ تَهُنْ ... عَلَيْك أَكْدَارُ دُنْيَا لَا تُصَافِيكِ وَظُلْمَةَ الْقَبْرِ لَا تَخْشَيْ وَوَحْشَتَهُ ... عِنْدَ انْفِرَادِك عَنْ خِلٍّ يُوَالِيك

وَالصَّالِحَاتِ لِيَوْمِ الْفَاقَةِ ادَّخِرِي ... فِي مَوْقِفٍ لَيْسَ فِيهِ مَنْ يُوَاسِيك وَأَحْسِنِي الظَّنَّ بِالرَّحْمَنِ مُسْلِمَةً ... فَحُسْنُ ظَنِّك بِالرَّحْمَنِ يَكْفِيك وَلَهُ أَيْضًا فِي مُجَانَسَاتٍ: إنْ كَانَ ذُلُّ مُحِبٍّ جَالِبًا فَرَحَا ... فَهَا مُحِبُّكُمْ الْخَدَّيْنِ قَدْ فَرَشَا أَوْ كَانَ يَنْفَعُهُ بَذْلُ الرُّشَى لَسَخَا ... بِنَفْسِهِ فِي هَوَاكُمْ بَاذِلًا فُرُشًا يَا مَنْ يَزِينُ ثِيَابَ الْوَشْيِ حُسْنُهُمْ ... مَا لَمْ تَزِنْهُ يَدُ الْوَشَّاءِ حِينَ وَشَى وَمَنْ يُقَالُ مُحَالٌ فِي مَحَبَّتِهِمْ ... لَا تَسْمَعُوا قَوْلَ وَاشٍ بِالْمُحَالِ وَشَى وَلَهُ أَيْضًا يُثْنِي عَلَى اللَّهِ وَيَذْكُرُ: يَا مَنْ لَهُ الْفَضْلُ مَحْضًا فِي بَرِيَّتِهِ ... وَهُوَ الْمُؤَمَّلُ فِي الْبَأْسَاءِ وَالْبَاسِ

عَوَّدْتَنِي عَادَةً أَنْتَ الْكَفِيلُ بِهَا ... فَلَا تَكِلْنِي إلَى خَلْقٍ مِنْ النَّاسِ وَلَا تُذِلَّ لَهُمْ مِنْ بَعْدِ عِزَّتِهِ ... وَجْهِي الْمَصُونَ وَلَا تَخْفِضْ لَهُمْ رَاسِي وَابْعَثْ عَلَى يَدِ مَنْ تَرْضَاهُ مِنْ بَشَرٍ ... رِزْقِي وَصُنِّي عَمَّنْ قَلْبُهُ قَاسِي فَإِنَّ حَبْلَ رَجَائِي فِيكَ مُتَّصِلٌ ... بِحُسْنِ صُنْعِكَ مَقْطُوعٌ عَنْ النَّاسِ وَلَهُ أَيْضًا وَهِيَ مِنْ الْحِكَمِ: إذَا انْقَطَعَتْ أَطْمَاعُ عَبْدٍ عَنْ الْوَرَى ... تَعَلَّقَ بِالرَّبِّ الْكَرِيمِ رَجَاؤُهُ فَأَصْبَحَ حُرًّا عِزَّةً وَقَنَاعَةً ... عَلَى وَجْهِهِ أَنْوَارُهُ وَضِيَاؤُهُ وَإِنْ عَلِقَتْ بِالْخَلْقِ أَطْمَاعُ نَفْسِهِ ... تَبَاعَدَ مَا يَرْجُو وَطَالَ عَنَاؤُهُ فَلَا تَرْجُ إلَّا اللَّهَ لِلْخَطْبِ وَحْدَهُ ... وَلَوْ صَحَّ فِي خِلِّ الصَّفَاءِ صَفَاؤُهُ وَلَهُ أَيْضًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:

لَا تَلْقَ حَادِثَةً بِوَجْهٍ عَابِسٍ ... وَاثْبُتْ وَكُنْ فِي الصَّبْرِ خَيْرَ مُنَافِسِ فَلَطَالَمَا قَطَفَ اللَّبِيبُ بِصَبْرِهِ ... ثَمَرَ الْمُنَى وَانْجَابَ ضُرُّ الْبَائِسِ وَعَلَيْك بِالتَّقْوَى وَكُنْ مُتَدَرِّعًا ... بِلِبَاسِهَا فَلَنِعْمَ دِرْعُ اللَّابِسِ وَتَتَبَّعْ السُّنَنَ الْمُنِيرَةَ وَاطَّرِحْ ... مُتَجَنِّبًا إفْكَ الْغَوِيِّ الْيَائِسِ وَاغْرِسْ أُصُولَ الْبِرِّ تَجْنِ ثِمَارَهَا ... فَالْبِرُّ أَزْكَى مَنْبِتًا لِلْغَارِسِ وَاطْلُبْ نَفِيسَ الْعِلْمِ تَسْتَأْنِسْ بِهِ ... فَالْعِلْمُ لِلطُّلَّابِ خَيْرُ مُؤَانِسِ لَا تُكْثِرَنَّ الْخَوْضَ فِي الدُّنْيَا وَكُنْ ... فِي الْعِلْمِ أَحْرَصَ مُسْتَفِيدٍ قَابِسِ فَالْمَالُ يَحْرُسُهُ الْفَتَى حَيْثُ التَّوَى ... وَالْعِلْمُ لِلْإِنْسَانِ أَحْفَظُ حَارِسِ وَإِذَا شَهِدْت مَعَ الْجَمَاعَةِ مَجْلِسًا ... يَوْمًا فَكُنْ لِلْقَوْمِ خَيْرَ مُجَالِسِ أَلِنِ الْكَلَامَ لَهُمْ وَصُنْ أَسْرَارَهُمْ ... وَذَرْ الْمِزَاحَ وَلَا تَكُنْ بِالْعَابِسِ

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَالْمَزْحُ الدُّعَابَةُ وَقَدْ مَزَحَ يَمْزَحُ وَالِاسْمُ الْمُزَاحُ بِالضَّمِّ وَالْمُزَاحَةُ أَيْضًا. وَأَمَّا الْمِزَاحُ فَهُوَ مَصْدَرُ مَازَحَهُ وَهُمَا يَتَمَازَحَانِ. وَلِلصَّرْصَرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَيْضًا مُجَانَسَاتٌ: اصْحَبْ مِنْ النَّاسِ مَنْ صُدُورُهُمْ ... طَاهِرَةٌ لَا تُكِنَّ أَوْغَارَا أَنْوَارُهُمْ فِي الظَّلَامِ مُشْرِقَةٌ ... إنْ لَاحَ نَجْمُ السَّمَاءِ أَوْ غَارَا أَكُفُّهُمْ بِالنَّوَالِ مُطْلَقَةٌ ... إنْ فَاضَ مَاءُ الْعُيُونِ أَوْ غَارَا عِرْضُهُمْ طَيِّبُ الثَّنَاءِ فَلَا ... مِسْكَ يُضَاهَى بِهِ وَلَا غَارَا فَاهْرَبْ مِنْ النَّاسِ مَا اسْتَطَعْت وَلَوْ ... سَكَنْت مِنْ خَوْفِ شَرِّهِمْ غَارَا وَلَا تُطِلْ ذِكْرَ غَادِرٍ مَلِقٍ ... إنْ جَدَّ فِي الْبُعْدِ عَنْك أَوْ غَارَا وَالْخِلَّ صُنْ عِرْضَهُ فَنِعْمَ فَتًى ... حُرٍّ عَلَى عِرْضِ خِلِّهِ غَارَا وَصِلْهُ فِي فَقْرِهِ كَذِي رَحِمٍ ... فَأَكْرَمُ الْوَاصِلِينَ مَنْ غَارَا

وَلَهُ أَيْضًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إذَا الْفَتَى لَمْ يَكُنْ بِالْفِقْهِ مُشْتَغِلًا ... وَلَا الْحَدِيثِ وَلَا يَتْلُو الْكِتَابَ لَغَا وَكُلُّ مَنْ أَهْمَلَ التَّقْوَى فَلَيْسَ لَهُ ... مِنْ حُرْمَةٍ بَالِغًا فِي الْعِلْمِ مَا بَلَغَا وَلَيْسَ يَجْنِي مِنْ الْعِلْمِ الثِّمَارَ سِوَى ... مَنْ أَصْلُهُ فِي بَسَاتِينِ التُّقَى نَبَغَا وَكُلُّ خِلٍّ صَفَا يَوْمٌ وَلِيتَ لَهُ ... يَبْغِي الصَّفَاءَ وَلَمْ يُعْطِ اللِّيَانَ بَغَا وَلَهُ أَيْضًا فِي آدَابِ الْقِرَاءَةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: تَدَبَّرْ كِتَابَ اللَّهِ يَنْفَعْك وَعْظُهُ ... فَإِنَّ كِتَابَ اللَّهِ أَبْلَغُ وَاعِظِ وَبِالْعَيْنِ ثُمَّ الْقَلْبِ لَاحِظْهُ وَاعْتَبِرْ ... مَعَانِيَهُ فَهْوَ الْهُدَى لِلْمُلَاحِظِ وَأَنْتَ إذَا أَتْقَنْت حِفْظَ حُرُوفِهِ ... فَكُنْ لِحُدُودِ اللَّهِ أَقْوَمَ حَافِظِ وَلَا يَنْفَعُ التَّجْوِيدُ لَافِظَ حُكْمِهِ ... وَإِنْ كَانَ بِالْقُرْآنِ أَفْصَحَ لَافِظِ وَيُعْرَفُ أَهْلُوهُ بِإِحْيَاءِ لَيْلِهِمْ ... وَصَوْمِ هَجِيرٍ لَاعِجِ الْحَرِّ قَائِظِ وَغَضِّهِمْ الْأَبْصَارَ عَنْ مَأْثَمٍ ... يَجُرُّ بِتَحْرِيرِ الْعُيُونِ اللَّوَاحِظِ وَكَظْمِهِمُو لِلْغَيْظِ عِنْدَ اسْتِعَارِهِ ... إذَا عَزَّ بَيْنَ النَّاسِ كَظْمُ الْمُغَايِظِ وَأَخْلَاقُهُمْ مَحْمُودَةٌ إنْ خَبَرْتهَا ... فَلَيْسَتْ بِأَخْلَاقٍ فِظَاظٍ غَلَائِظِ تَحَلَّوْا بِآدَابِ الْكِتَابِ وَأَحْسَنُوا ال ... تَفَكُّرَ فِي أَمْثَالِهِ وَالْمَوَاعِظِ فَفَاضَتْ عَلَى الصَّبْرِ الْجَمِيلِ نُفُوسُهُمْ ... سَلَامٌ عَلَى تِلْكَ النُّفُوسِ الْفَوَائِظِ

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي بَابِ مَنْثُورِ الْحِكَمِ وَالْأَمْثَالِ، مُنْتَهِجًا مِنْ نَتَائِجِ عُقُولِ الرِّجَالِ رَأْسُ الدِّينِ صِحَّةُ الْيَقِينِ، امْحَضْ أَخَاكَ النَّصِيحَةَ، وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَهُ قَبِيحَةً، الْأَحْمَقُ لَا يُبَالِي مَا قَالَ، وَالْعَاقِلُ يَتَعَاهَدُ الْمَقَالَ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْعُجْبُ تَرَكَ الْمَشُورَةَ فَهَلَكَ، جَانِبْ مَوَدَّةَ الْحَسُودِ، وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ وَدُودٌ. إذَا جَهِلَ عَلَيْك الْأَحْمَقُ، فَالْبَسْ لَهُ لِبَاسَ الرِّفْقِ مَنْ طَلَبَ إلَى لَئِيمٍ حَاجَةً، فَهُوَ كَمَنْ طَلَبَ صَيْدَ السَّمَكِ فِي الْمَفَازَةِ إذَا صَادَقْت الْوَزِيرَ، فَلَا تَخَفْ الْأَمِيرَ. لَا تَثِقْ بِالْأَمِيرِ، إذَا خَانَك الْوَزِيرُ مَنْ كَانَ

السُّلْطَانُ يَطْلُبُهُ، ضَاقَ عَلَيْهِ بَلَدُهُ. صَدِيقِي دِرْهَمِي، إذَا سَرَّحْته فَرَّجَ هَمِّي وَقَضَى حَاجَتِي. مَنْ جَالَسَ عَدُوَّهُ فَلْيَحْتَرِسْ مِنْ مَنْطِقِهِ. مَنْ قَلَّ خَيْرُهُ عَلَى أَهْلِهِ فَلَا تَرْجُ خَيْرَهُ. عَنَاءٌ فِي غَيْرِ مَنْفَعَةٍ خَسَارَةٌ حَاضِرَةٌ. مَنْ أَلَحَّ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ اسْتَحَقَّ الْحِرْمَانَ. صُحْبَةُ الْفَاسِقِ شَيْنٌ، وَصُحْبَةُ الْفَاضِلِ زَيْنٌ، الْكَرِيمُ يُوَاسِي إخْوَانَهُ فِي دَوْلَتِهِ. مَنْ مَشَى فِي دِيوَانِ أَمَلِهِ عَثَرَ فِي عَنَانِ أَجَلِهِ، مَنْ أَحَبَّكَ نَهَاكَ، وَمَنْ أَبْغَضَك أَغْرَاكَ مَنْ اسْتَهْوَتْهُ الْخَمْرُ وَالنِّسَاءُ، أَسْرَعَ إلَيْهِ الْبَلَاءُ مَنْ نَسِيَ إخْوَانَهُ فِي الْوِلَايَةِ، أَسْلَمُوهُ فِي الْعَزْلِ وَالشِّدَّةِ مَنْ لَمْ يَقْنَعْ بِرِزْقِهِ عَذَّبَ نَفْسَهُ مَنْ اجْتَرَأَ عَلَى السُّلْطَانِ تَعَرَّضَ لِلْهَوَانِ، إذَا لَمْ يُوَاتِك الْبَازِي فِي صَيْدِهِ فَانْتِفْ رِيشَهُ مَنْ مَدَحَك بِمَا لَا يَعْلَمُ مِنْك سِرًّا، ذَمَّك بِمَا يَعْلَمُ مِنْك جَهْرًا أَسْلِمْ لِسَانَك، يَسْلَمْ جَنَانُك، إنْ قَدَرْت أَنْ لَا تُسْمِعَ أُذُنَك شَرَّك فَافْعَلْ، لِقَاءُ الْأَحِبَّةِ مَسْلَاةٌ لِلْهُمُومِ، قَلِيلٌ مُهَنِّي خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ مُكَدِّرٍ كَلْبٌ سَاخِرٌ خَيْرٌ مِنْ صَدِيقٍ غَادِرٍ رَوْضَةُ الْعِلْمِ أَزْيَنُ مِنْ رَوْضَةِ الرَّيَاحِينِ، الْحَسُودُ مُغْتَاظٌ عَلَى مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ عِنْدَهُ الْمَرْأَةُ الْعَفِيفَةُ الْمُوَاتِيَةُ جَنَّةُ الدُّنْيَا. وَمِنْ كَلَامِ أَكْثَمَ بْنِ صَيْفِي: " مِنْ مَأْمَنِهِ يُؤْتَى الْحَذَرُ " " مَنْ جَهِلَ شَيْئًا عَادَاهُ، وَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا اسْتَعْبَدَهُ ". " وَيْلُ عَالِمٍ مِنْ امْرِئٍ جَاهِلٍ ". " إنْ قَدَرْت أَنْ تُرِيَ عَدُوَّكَ أَنَّك صَدِيقُهُ فَافْعَلْ ". " سُوقِيٌّ نَفِيسٌ خَيْرٌ مِنْ قُرَشِيٍّ خَسِيسٍ ". " الْعَقْلُ كَالزُّجَاجِ إنْ تَصَدَّعْ لَمْ يُرَقَّعْ ". " جَاءَ الْقَدَرُ عَمِيَ الْبَصَرُ ". " الثَّقِيلُ عَذَابٌ وَبِيلٌ " " لَا يَضُرُّ السَّحَابَ نُبَاحُ الْكِلَابِ ". " مَنْ تَرَدَّى بِثَوْبِ السَّخَا غَابَ عَنْ النَّاسِ عَيْبُهُ وَاخْتَفَى ". قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قِيلَ لأَرِسْطَاطَاليس مَا الْفَلْسَفَةُ قَالَ فَقْرٌ وَصَبْرٌ، وَعَفَافٌ وَكَفَافٌ، وَهِمَّةٌ وَفِكْرَةٌ قِيلَ لِسُقْرَاطَ بِمَ فَضَلْت أَهْلَ زَمَانِك؟ قَالَ: لِأَنَّ غَرَضِي فِي الْأَكْلِ الْإِحْيَاءُ، وَغَرَضُهُمْ فِي الْحَيَاةِ لِيَأْكُلُوا قِيلَ

لِجَالِينُوسَ بِمَ فُقْتَ أَصْحَابَك فِي عِلْمِ الطِّبِّ قَالَ: لِأَنِّي أَنْفَقْت فِي زَيْتِ السِّرَاجِ لِدَرْسِ الْكُتُبِ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا فِي شُرْبِ الْخَمْرِ. قِيلَ لِرَجُلٍ مِنْ الْحُكَمَاءِ لِمَنْ أَنْتَ أَرْحَمُ قَالَ: لِعَالِمٍ جَارَ عَلَيْهِ جَاهِلٌ. قِيلَ: لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ مَتَى أَثَّرَتْ فِيكَ الْحِكْمَةُ قَالَ: مُذْ بَدَا لِي عَيْبُ نَفْسِي. يُرْوَى عَنْ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ أَمْرٌ لَا تَعْلَمُ مَتَى يَغْشَاكَ فَيَنْبَغِي أَنْ تَسْتَعِدَّ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَفْجَأَكَ. وَقَالَ غَيْرُهُ نِعْمَ الصَّاحِبُ، وَالْجَلِيسُ كِتَابٌ تَلْهُو بِهِ إنْ خَانَكَ الْأَصْحَابُ لَا مُفْشِيًا عِنْدَ الْقَطِيعَةِ سِرَّهُ ... وَتُنَالُ مِنْهُ حِكْمَةٌ وَصَوَابُ وَقَالَ آخَرُ: لَنَا جُلَسَاءُ مَا نَمَلُّ حَدِيثَهُمْ ... أَلِبَّاءُ مَأْمُونُونَ غَيْبًا وَمَشْهَدَا يُفِيدُونَنَا مِنْهُمْ طَرَائِفَ حِكْمَةٍ ... وَلَا نَتَّقِي مِنْهُمْ لِسَانًا وَلَا يَدَا وَقَالَ آخَرُ: مَا تَطَمَّعْت لَذَّةَ الْعَيْشِ حَتَّى ... صِرْت فِي الْبَيْتِ لِلْكِتَابِ جَلِيسَا إنَّمَا الذُّلُّ فِي مُخَالَطَةِ النَّاس ... سِ فَدَعْهُمْ تَعِشْ عَزِيزًا رَئِيسَا وَقِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ كَيْفَ لَا تَسْتَوْحِشُ فِي مَكَانِكَ وَحْدَكَ؟ فَقَالَ كَيْفَ يَسْتَوْحِشُ مَنْ هُوَ مُجَالِسٌ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَعْنِي: الْكُتُبَ الَّتِي فِيهَا الْأَخْبَارُ، وَالسِّيَرُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ذَكَرَهُ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا فِي مَجَالِسِهِ.

وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ وَكَانَ كَثِيرَ الْجُلُوسِ فِي دَارِهِ، فَقِيلَ أَلَا تَسْتَوْحِشُ؟ فَقَالَ كَيْفَ أَسْتَوْحِشُ وَأَنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ وَقَالَ الْمَقْدِسِيُّ الْحَافِظُ: دَخَلَ عَلَيَّ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ السَّاتِرِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ السَّاتِرِ الْعَدْلُ بِتَنِيسَ وَأَنَا جَالِسٌ وَحْدِي أَكْتُبُ وَقَدْ أَغْلَقْت بَابَ الْبَيْتِ فَقَالَ دَخَلْت عَلَى الشَّيْخِ أَبِي نَصْرٍ السِّجْزِيِّ الْحَافِظِ وَهُوَ وَحْدَهُ فَقُلْت لَهُ أَيُّهَا الشَّيْخُ أَنْتَ جَالِسٌ وَحْدَكَ؟ فَقَالَ لَسْت وَحْدِي أَنَا بَيْنَ عِشْرِينَ أَلْفًا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَتَحَدَّثُ مَعَهُمْ وَأَحْكِي عَنْهُمْ. قَالَ ابْنُ طَاهِرٍ: سَمِعْت الْإِمَامَ سَعْدَ بْنَ عَلِيٍّ يَقُولُ: لَمَّا تُوُفِّيَ الشَّيْخُ أَبُو النَّصْرِ السِّجْزِيُّ الْحَافِظُ وَصَّانِي أَنْ أَبْعَثَ بِكُتُبِهِ إلَى مِصْرَ إلَى أَبِي إِسْحَاقَ الْحَبَّالِ أَوْصَى لَهُ بِهَا.

فصل في وصايا ومواعظ وأحاديث كفارة المجلس

[فَصْلٌ فِي وَصَايَا وَمَوَاعِظَ وَأَحَادِيثِ كَفَّارَةِ الْمَجْلِسِ] وَأَقْبِلْ عَلَى مَنْ يُقْبِلُ عَلَيْكَ، وَارْفَعْ مَنْزِلَةَ مَنْ عَظُمَ لَدَيْكَ، وَأَنْصِفْ حَيْثُ يَجِبُ الْإِنْصَافُ، وَاسْتَعِفَّ حَيْثُ يَجِبُ الِاسْتِعْفَافُ، وَلَا تُسْرِفْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْإِسْرَافَ، وَإِنْ رَأَيْت نَفْسَكَ مُقْبِلَةً عَلَى الْخَيْرِ فَاشْكُرْ، وَإِنْ رَأَيْتهَا مُدْبِرَةً عَنْهُ فَازْجُرْ. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا: هَلْ تَنْتَظِرُونَ إلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا، أَوْ غِنًى مُطْغِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفْنِدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا، أَوْ الدَّجَّالَ وَالدَّجَّالُ شَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوْ السَّاعَةَ، وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَإِنْ بُلِيت بِضُرٍّ فَاصْبِرْ وَإِنْ جَنَيْت فَاسْتَغْفِرْ، وَإِنْ هَفَوْت فَاعْتَذِرْ، وَإِنْ ذُكِّرْت بِاَللَّهِ فَاذْكُرْ، وَإِذَا قُمْت مِنْ مَجْلِسِك فَقُلْ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك، فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَك مَا كَانَ فِي مَجْلِسِك. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ «مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ يَكْثُرُ فِيهِ لَغَطُهُ فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَاكَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك، إلَّا غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَاكَ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. ثنا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ أَبِي السَّفَرِ ثنا الْحَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَذَكَرَهُ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: فِي الْبَابِ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -

وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ سُهَيْلٍ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ وَمُوسَى ثِقَةٌ مُحْتَجٌّ بِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ بِالتَّدْلِيسِ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ. وَقَدْ قَالَ الْحَاكِمُ أَيْضًا فِي تَارِيخِهِ ثنا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ سَمِعْت أَبَا حَامِدٍ أَحْمَدَ بْنَ حَمْدُونٍ الْقَصَّارَ يَقُولُ سَمِعْت مُسْلِمَ بْنَ الْحَجَّاجِ وَجَاءَ إلَى مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ فَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَقَالَ دَعْنِي حَتَّى أُقَبِّلَ رِجْلَيْكَ يَا أُسْتَاذَ الْأُسْتَاذِينَ، وَسَيِّدَ الْمُحَدِّثِينَ، وَطَبِيبَ الْحَدِيثِ فِي عِلَلِهِ، ثنا أَحْمَدُ بْنُ سَلَّامٍ ثنا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ الْحَرَّانِيُّ أَنْبَأَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كَفَّارَةِ الْمَجْلِسِ فَمَا عِلَّتُهُ؟ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ هَذَا حَدِيثٌ مَلِيحٌ وَلَا أَعْلَمُ فِي الدُّنْيَا غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ إلَّا أَنَّهُ مَعْلُولٌ ثنا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ ثنا وُهَيْبٌ ثنا سُهَيْلٌ عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ مُحَمَّدٌ وَهَذَا أَوْلَى فَإِنَّهُ لَا يُذْكَرُ لِمُوسَى بْنِ إسْمَاعِيلَ سَمَاعٌ مِنْ سُهَيْلٍ. وَأَوْرَدَ هَذِهِ الْحِكَايَةَ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ فَقَالَ لَهُ مُسْلِمٌ لَا يُبْغِضُكَ إلَّا حَاسِدٌ، وَأَشْهَدُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِثْلُك، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ ذَلِكَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ مِنْ الْمَجْلِسِ وَقَالَ «ذَلِكَ كَفَّارَةٌ لِمَا يَكُونُ فِي الْمَجْلِسِ» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مِنْ حَدِيثِ حَجَّاجِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ هُوَ الرُّمَّانِيُّ الْوَاسِطِيُّ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ مَرْفُوعًا. وَرَوَى الْحَاكِمُ حَدِيثَ رَافِعٍ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثٍ

وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا جَلَسَ مَجْلِسًا أَوْ صَلَّى تَكَلَّمَ بِكَلِمَاتٍ فَسَأَلَتْهُ عَائِشَةُ عَنْ الْكَلِمَاتِ فَقَالَ «إنْ تَكَلَّمَ بِخَيْرٍ كَانَ طَابِعًا عَلَيْهِنَّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ تَكَلَّمَ بِشَرٍّ كَانَ كَفَّارَةً لَهُ: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْك» . وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ الْكَلِمَاتُ لَا يَتَكَلَّمُ بِهِنَّ أَحَدٌ فِي مَجْلِسِهِ عِنْدَ قِيَامِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إلَّا كُفِّرَ بِهِنَّ عَنْهُ، وَلَا يَقُولُهُنَّ فِي مَجْلِسِ خَيْرٍ، وَمَجْلِسِ ذِكْرٍ إلَّا خُتِمَ لَهُ بِهِنَّ عَلَيْهِ كَمَا يُخْتَمُ عَلَى الصَّحِيفَةِ، سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك، لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْك. إسْنَادٌ جَيِّدٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، ثُمَّ قَالَ ثنا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ ثنا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ عَمْرٌو: وَحَدَّثَنِي بِنَحْوِ ذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ رَوَى عَنْهُ الدَّرَاوَرْدِيُّ وَلَمْ أَجِدْ فِيهِ لِلْأَئِمَّةِ كَلَامًا. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ: ثنا يُونُسُ ثنا لَيْثٌ يَعْنِي: ابْنَ يَزِيدَ بْنَ أَبِي الْهَادِي عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «مَا مِنْ إنْسَانٍ يَكُونُ فِي مَجْلِسٍ فَيَقُولُ حِينَ يُرِيدُ أَنْ يَقُومَ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبِّي، وَبِحَمْدِك لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك» قَالَ فَحَدَّثْت بِهَذَا الْحَدِيثِ يَزِيدَ بْنَ خُصَيْفَةَ فَقَالَ هَكَذَا حَدَّثَنِي السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ عَنْ أَبِي الزِّنْبَاعِ رَوْحِ بْنِ الْفَرَجِ عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ اللَّيْثِ هَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ. قَالَ الْأَثْرَمُ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مِرَارًا يَقُولُ إذَا قَامَ مِنْ الْمَجْلِسِ: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك

حَتَّى أَرَى شَفَتَيْهِ تُحَرِّكَانِ فَلَا أَفْهَمُ بَقِيَّةَ كَلَامِهِ كَأَنَّهُ يَذْهَبُ إلَى مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كَفَّارَةِ الْمَجْلِسِ. وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَقُولَ «سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك» انْتَهَى كَلَامُهُ. وَاحْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ فِي كَفَّارَةِ الْمَجْلِسِ بِمَا رَوَاهُ هُوَ وَغَيْرُهُ بِأَسَانِيدِهِمْ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَفَّارَةُ الْمَجْلِسِ أَنْ لَا يَقُومَ أَحَدٌ حَتَّى يَقُولَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ تُبْ عَلَيَّ وَاغْفِرْ لِي «يَقُولُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَإِنْ كَانَ مَجْلِسَ لَغَطٍ كَانَتْ كَفَّارَةً لَهُ، وَإِنْ كَانَ مَجْلِسَ ذِكْرٍ كَانَتْ طَابَعًا عَلَيْهِ» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهِ إلَّا قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ وَكَانَ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا مَرْفُوعًا «مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ، وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ إلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَرَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَلَيْسَ عِنْدَهُ «فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ» وَلِأَبِي دَاوُد «مَا مَشَى قَوْمٌ مَمْشًى لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهِ إلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ مِنْ اللَّهِ تِرَةً» وَتَقَدَّمَ هَذَا الْخَبَرُ فِي آدَابِ النَّوْمِ. رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ

خاتمة الكتاب

{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48] الطُّورَ. مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ وَأَبُو الْأَحْوَصِ وَيَحْيَى بْنُ جَعْدَةَ وَعَطَاءٌ قَالُوا حِينَ تَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ تَقُولُ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أَسْتَغْفِرُك، وَأَتُوبُ إلَيْكَ، وَقَالُوا مَنْ قَالَهَا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا كَانَ فِي الْمَجْلِسِ وَقَالَ عَطَاءٌ إنْ كُنْت أَحْسَنْت ازْدَدْت إحْسَانًا، وَإِنْ كُنْت غَيْرَ ذَلِكَ كَانَ كَفَّارَةً. [خَاتِمَة الْكتاب] آخِرُ مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

§1/1