الآثار السيئة للوضع في الحديث

عبد الله بن ناصر الشقاري

مقدمة

المقدّمة الحمد لله رب العالمين، أنزل كتابه الكريم، وتكفل بحفظه ورعايته على مر السنين، فقال عز من قائل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1 والصلاة والسلام على رسوله الأمين، محمد سيد الأولين والآخرين، أرسله ليبلغ الناس هذا الذكر ويبينه للعالمين، فقال سبحانه وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 2 فكان حفظ القرآن يتضمن حفظ سنة نبيه الأمين وحمايتها من كيد الواضعين وعبث العابثين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فالقرآن والسنة هما مصدران أساسيان لمعرفة العقيدة والشريعة، لا يستغني أحدهما عن الثاني، فإن السنة هي المبينة لمبهم القرآن والمفصلة لمجمله، بل هي في حقيقة الأمر وواقعه تطبيق عملي للقرآن الكريم على يد رسول الإنسانية عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. ولما كانت السنة النبوية قد وصلت إلى درجة عالية في الكمال والشمول وخلت أقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله من كل ما يكدر الرسالة أو يشوه الصورة الصافية لمكانة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم, فقد أغاظ هذا أعداء الدين من أولئك الذين آمنوا باللسان وكفروا بالقلوب.. فدسوا في الخفاء أحاديث مكذوبة وضعوها على النبي صلى الله عليه وسلم, آملين أن تختلط بالثابت عنه، وساعدتهم على الوضع ظروف أحاطت بالأمة الإسلامية في بعض فتراتها, من خلافات سياسية وجهل بالدين وأهدافه ومراميه إلى غير ذلك من الظروف التي تراكمت فأوجدت ركاماً من نزيف

_ 1 سورة الحجر آية 9. 2 سورة النحل آية 44.

الأفكار وقيحها, وألصقت بالرسول صلى الله عليه وسلم زوراً وبهتاناً, فأوجدت رد فعل من جانب العلماء المسلمين, لكن.. بعد أن خلَّفت آثاراً سلبية في الأمة, ولا زالت تعاني من مخلفاتها في العصر الحديث! نعم ... في العصر الحديث, وفي هذه الفترة العصيبة والمنعطف التاريخي في حياة الأمة الإسلامية, نادى بعض من يعيش على أنقاض مخلفات ماضية, تدفعه خلفيات معينة إلى ترك السنة والاحتجاج بها, مدعياً أن فيها الكثير من المصنوع والموضوع, محاولاً التشكيك في سلامتها, وزاد الطين بلّة, وضغثاً على إبّالة ما مني به المسلمون في هذا العصر من ضعف في الثقافة الدينية الصحيحة عامة وعلم أصول الحديث ومصطلحه خاصة, فاستولت الخرافة الكاذبة والمذاهب الفكرية المنحرفة على عقول الكثير, فلو علم المنادي والمنادون ما قام به علماء الأمة من أدوار خالدة وجهود جبارة في مقاومة الوضع وتعريف الأمة به وتحذيرها منه لهان المصاب، ولكنهم جهلوا أو تجاهلوا هذه الجهود وحاولوا طمسها والقضاء عليها. لهذا كله, ولما رأيته من انتشار الأحاديث الموضوعة بين الناس, والأخذ بها على أنها قضايا مسلمة وأحاديث ثابتة, مع أنها في أصلها موضوعة مكذوبة بل ومدونة بهذه الصفة في كتب الأحاديث الموضوعة. فلما تهيأت هذه الأسباب رأيت أن أدلي بدلوي في هذا الموضوع رغم علمي بكثرة الأبحاث والدراسات التي كتبت في هذا المجال. ومعلوم لدى القارئ كثرة عناصر الموضوع (الوضع في الحديث النبوي) وكثرة المسائل والفصول التي يمكن أن يتطرق إليها الباحث فيه، لكني رأيت أن أقصر بحثي في هذا المقام على موضوعين، لأنهما في نظري حديث الساعة والمجال

فيهما واسع يمكن لطالب العلم أن يبحر فيه وأن يأتي بالجديد والمفيد، وهما: أولاً: بيان الآثار السيئة للوضع: فقد حاولت - قدر المستطاع - الإتيان بأسلوب جديد في هذا المضمار وبجهد ذاتي عن طريق استقراء النصوص الموضوعة وتطبيقها على الواقع المحسوس في عالمنا الإسلامي على مر العصور مع الحرص على الاستشهاد بأقوال أهل العلم من السلف والخلف كأدلة على ما أقول. ثانياً: جهود علماء الأمة من سلفها الصالح وخلفها الوفيّ في مقاومة الوضع ومحاربته على شتى الجبهات واستماتتهم في القضاء عليه، فكلما فتح الوضاعون وأعداء الدين باباً لهذه الفتنة سددوا إليه سهامهم وأغلقوه مما سنراه جلياً في موضعه إن شاء الله. ولأجل الوصول إلى هذين الموضوعين وتجليتهما قدر المستطاع وبما يناسب المقام وضعت خطة بين يدي البحث أوضح فيها السبيل وأحدد معالم الطريق، وتتلخص فيما يأتي: مقدمة البحث: وهي ما نعيش فيه الآن من فاتحة للبحث وبيان لأسباب اختيار الموضوع والخطة التي سأسير عليها في هذا البحث. التمهيد: وأتحدث فيه بشكل مختصر عن تعريف الحديث الموضوع وعن حكم وضعه وحكم روايته وحكم العمل به. الباب الأول: الآثار السيئة للوضع: وفيه خمسة فصول: الفصل الأول: الآثار الدينية. الفصل الثاني: الآثار الاجتماعية. الفصل الثالث: الآثار الاقتصادية.

الفصل الرابع: الآثار النفسية. الفصل الخامس: ظاهرة القصاص. الباب الثاني: جهود العلماء في مقاومة الوضع: وفيه ستة فصول: الفصل الأول: جمع الأحاديث الثابتة. الفصل الثاني: الاهتمام بالإسناد. الفصل الثالث: مضاعفة النشاط العلمي في قواعد الحديث. الفصل الرابع: نقد الرواة وتتبع الكذبة. الفصل الخامس: التأليف في الوضاعين. الفصل السادس: التأليف في الموضوعات. ثم بعد ذلك ذيلت للبحث بخاتمة جامعة لنتائج البحث, تحدثت فيها عن ضرورة الحذر من الوضع والوضاعين في المجالات المختلفة, ثم عن واجب المسلمين تجاه سنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم وبها ختمت البحث. وأخيراً: لا يسعني إلا أن أقدم شكري وامتناني لكل من ساعدني في إخراج هذا البحث منذ كونه فكرة تعتلج في الصدر وتختمر في الذهن إلى كونه حقيقة واقعة ماثلة للعيان. كما أسأل الله عزّ وجلّ أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم وأن يثقل به موازين حسناتي يوم ألقاه, يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

التمهيد: الحديث الموضوع تعريفه: أ- لغة: سم مفعول من وضع الشيء يضعه - بالفتح - وضعاً، وتأتي مادة (وضع) في اللغة لمعاني عدة منها: الإسقاط، الترك، الافتراء والإلصاق1. ب- أما في اصطلاح المحدثين: فقد عرفه ابن الصلاح (ت643) بقوله: هو المختلق المصنوع2، وعرفه غيره بأنه هو: ما نسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم اختلاقا وكذباً مما لم يقله أو يفعله أو يقره3. التعريف به: الموضوع شر الحديث الضعيف جملة وتفصيلاً، وقد جعله العلماء آخر درجات الحديث الضعيف، وإنما جعلوه من درجاته لأجل التقسيم المعرفي وبحسب إدعاء واضعه، وإلا فهو ليس من أنواع الحديث أصلاً. وللعلماء عبارات متعددة للتعريف به والإشارة إليه ومنها: 1- التصريح بوضعه فيقولون: موضوع، باطل، كذب. 2- قولهم في الحديث: لا أصل له، لا أصل له بهذا اللفظ، ليس له أصل، أو نحو هذه الألفاظ. 3- قولهم في الحديث: لا يصح, لا يثبت, لم يصح في هذا الباب شيء. أصله ومصدره: الحديث الموضوع يكون مصدره من عدة طرق، أهمها: أ - قد يخترعه الواضع من نفسه ابتداءً, وينسبه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم, ويعرف

_ 1 القاموس المحيط, مادة (وضع) 694, 695. 2 علوم الحديث: لابن الصلاح ص 89. 3 توضيح الأفكار: للصنعاني (الحاشية) ج2 ص 68.

ذلك: إما بإقراره أو ما ينزل منزلة الإقرار: كأن يدعو الحديث إلى مبدأ يدعو إليه الوضاع، أو تدل على ذلك قرائن الأحوال. ب- قد يأخذ الواضع كلام غيره فينسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم, ويكون الموضوع إما من كلام الصحابة أو من كلام التابعين أو بعض قدماء الحكماء.. ونحو ذلك1. ج- قد يهم الراوي فينسب كلام الغير إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن غير قصد وتعمد للوضع مثل "ومن كثرت صلاته في الليل حسن وجهه في النهار"2، ولذا عده

_ 1 انظر لأمثلة ذلك: الفوائد الموضوعة: للكرمي ص101، الأسرار المرفوعة: للقاري ص 179، المصنوع ص 138. (2) هذا الحديث رواه عدد من أهل العلم, فقد رواه ابن ماجه في سننه في كتاب إقامة الصلاة, باب ما جاء في قيام الليل ج 1 ص 422 رقم 1333 بسنده إلى ثابت بن موسى عن شريك عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فذكره. ورواه العقيلي في الضعفاء ج 1 ص 176 في ترجمة ثابت بن موسى, ثم قال: "عن الأعمش, حديثه باطل ليس له أصل" ثم ذكر هذا الحديث بإسناده إلى ثابت.. به, ورواه بن عدي في الكامل ج 2 ص 525 – 526 في ترجمة ثابت بن موسى, فقال: روى عن شريك حديثين منكرين بإسناد واحد ولا يعرف الحديثان إلا به, ثم ذكر هذا الحديث. وذكره ابن حبان في المجروحين ج 1 ص 207 في ترجمة ثابت بن موسى فقال: "وهو الذي روى عن شريك عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه في النهار", وهذا قول شريك قاله عقب حديث الأعمش عن أبي سفيان عن جابر: "يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم ثلاث عقد" فأدرج ثابت بن موسى في الخبر وجعل قول شريك كلام النبي صلى الله عليه وسلم ثم سرق هذا من ثابت بن موسى جماعة ضعفاء وحدثوا به عن شريك".ولمزيد البحث هنا انظر الموضوعات لابن الجوزي ج 2 ص 109 - 111, المقاصد الحسنة للسخاوي ص 666 رقم 1169.

بعضهم في حكم المدرج1. حكم وضعه: قال النووي (ت 676) في شرحه على صحيح مسلم: "وقد أجمع أهل الحل والعقد على تحريم الكذب على آحاد الناس, فكيف بمن قوله شرع وكلامه وحي والكذب عليه كذب على الله تعالى, قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} 2"3. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم حكم وضعه, وتوعد بالعقاب الشديد والعذاب الأليم لمن فعل ذلك, حيث قال صلى الله عليه وسلم: "حدثوا عني ولا حرج, بلغوا عني ولو آية, إن كذباً علي ليس ككذب على أحد, - روايات متعددة جاء في نهايتها كلها - ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" 4 وقد حكي عن بعض الحفاظ أنه قال: "لا يعرف حديث اجتمع على روايته العشرة المبشرون بالجنة إلا هذا, ولا حديث يروى عن أكثر من ستين صحابيا إلا هذا"5 وقد رواه ابن الجوزي (ت 597) عن واحد وستين صحابيا, وسرد تلك الروايات في مقدمة موضوعاته6،

_ 1 انظر: توضيح الأفكار: للصنعاني ج 2 ص 88-89. 2 سورة النجم الآيتان 3, 4. 3 صحيح مسلم بشرح النووي ج1 ص 70. 4 هذا الحديث رواه البخاري في صحيحه في مواضع متعددة منها كتاب العلم باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم (1/199-202 رقم 106-110) وغير ذلك من المواضع، ورواه مسلم في صحيحه في كتاب الزهد باب التثبت في الحديث (4/2298 - 2299 حديث رقم 72/3004) . كما رواه بهذه الألفاظ وغيرها عدد كثير من الصحابة، وقد يبلغ حد التواتر. 5 علوم الحديث: لابن الصلاح ص 242-243. 6 انظر: الموضوعات: لابن الجوزي ح1 ص 56-94.

بل قال ابن دحيه (ت 633) "قد أخرج من أربعمائة طريق"1، ولهذا قال ابن الصلاح (ت 643) : "وليس في الأحاديث ما في مرتبته من التواتر "2 فيكون ما دل عليه من حكم الوضع والكذب ضروري العلم قطعي الثبوت. عقوبة الواضع: أما عقوبة الواضع في الدنيا, فقد قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بها, حيث روي عنه أنه قال فيمن كذب عليه: "اذهبا فإن أدركتماه فاقتلاه" لكنها رواية ضعيفة وفيها مقال3، أما حكمها فليس فيه مقال، ويعضده ويقويه ما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن التيمي عن أبيه أن عليا رضي الله عنه قال في من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم: "تضرب عنقه"4 وجدير بمن كذب على رسول الله أن يلقى ذلك المصير الدنيوي, فقد أخبر الصادق المصدوق أن مصيره في الآخرة إلى النار.

_ 1 فيض القدير: للمناوي ج6 ص 216. 2 الأسرار المرفوعة (مقدمة المحقق ص 16) وانظر: علوم الحديث ص 242. 3 الحديث ورد بعدة طرق.. وكلها ضعيف جدا لا تقوم به حجة، فرواه الطبراني في المعجم الأوسط (3/59 حديث رقم 2112) بالسند إلى عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله ابن عمرو.. فذكر قصة لرجل كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأبى بكر وعمر: انطلقا إليه فإن وجدتماه حيا فاقتلاه ... الحديث. ثم قال الطبراني: لم يروه عن عطاء إلا وهيب.. قلت: وفي إسناده عطاء وقد اختلط في آخر عمره، ووهيب روى عنه بعد الاختلاط (انظر الكواكب النيرات ص 327) كما روى هذا الحديث ابن الجوزي في مقدمة كتابه الموضوعات من طرق أخرى وكلها ضعيفة (انظر الموضوعات (1/55-56) . 4 رواه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الجهاد باب من سب النبي صلى الله عليه وسلم. كيف يصنع به، وعقوبة من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم ج5 ص 308 رقم 9708، وإسناده منقطع فإبن التيمي هو معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي، ووالده لم يدرك علياً رضي الله عنه.

وقد تواترت الأخبار من التابعين على هذا الحكم, فهذا يحي بن معين (ت 233) لما ذكر له حديث "من عشق وعف وكتم فمات مات شهيداً"1 وهو من رواية سويد الأنباري, قال: لو كان لي فرس ورمح غزوت سويداً 2 وقال الشعبي (ت 104) وهو يخاطب كاذبين: "لو كان لي عليكم سبيل ولم أجد إلا تبراً لسبكته ثم غللتكما به"3. توبة الواضع وحكم روايته بعدها: لا خلاف بين العلماء أن توبة الواضع مقبولة, فمن تاب تاب الله عليه {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً} 4 ولكن مع قبول توبته هل تقبل روايته أم لا؟ يرى الإمام أحمد (ت 241) وأبوبكر الحميدي (ت 219) شيخ البخاري وغيرهم أنه لا تقبل روايته أبدا, قال أبو بكر الصيرفي (ت 466) : "كل من أسقطنا خبره من أهل النقل بكذب وجدناه عليه لم نعد لقبوله بتوبة تظهر"5, واختار النووي (ت 676) القطع بصحة توبته وقبول روايته كشهادته، وحاله كحال الكافر إذا أسلم6. وذهب أبو المظفر السمعاني (ت 489) إلى أن من كذب في خبر واحد وجب إسقاط ما تقدم من روايته7.

_ 1 الميزان ج2 ص 250. 2 أنظر المجروحين ج3 ص 352. 3 الكامل لأبن عدي ج3 ص 948. 4 سورة الفرقان آية 7. 5 صحيح مسلم بشرح النووي ج1 ص 69. 6 صحيح مسلم بشرح النووي ج1 ص70. 7 نفس المصدر السابق ج1 ص 70.

حكم روايته: اتفق العلماء على تحريم رواية الحديث الموضوع, فلا تحل روايته لأحد علم حاله وعرف أنه موضوع، إلا مبينا حاله ومصرحاً بأنه موضوع، يقول الإمام مسلم (ت 261) : "إن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها, وثقات الناقلين لها من المتهمين, أن لا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه.. وأن يتقي منها ما كان عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع, والدليل على أن الذي قلناه هو اللازم دون غيره, قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} 1 وقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} 2 فدل بما ذكر من الآيتين أن خبر الفاسق ساقط غير مقبول, وأن شهادة غير العدل مردودة"3ا?. أما من السنة فها هو صلى الله عليه وسلم يصرح بذلك في حديثه المشهور: "من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين" 4، وكفى بهذا الوعيد الشديد في حق

_ 1 سورة الحجرات آية 6. 2 سورة البقرة آية 282. 3 صحيح مسلم شرح النووي ج1 ص 60-61. 4 رواه مسلم في صحيحه في المقدمة باب وجوب الرواية عن الثقات وترك الكذابين (1/9) بإسنادين مختلفين إلى كل من سمرة بن جندب والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما قالا.. فذكره. ورواه الترمذي في سننه في كتاب العلم باب ما جاء فيمن روى حديثا وهو يرى أنه كذب (5/36 حديث رقم 2662) بالسند إلى المغيرة بن شعبة - وحده -.. فذكره ثم قال: هذا حديث حسن صحيح. كما رواه ابن ماجة في سننه في المقدمة باب من حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا وهو يرى أنه كذب (1/14-15 حديث رقم 38-40) عن علي وسمرة بن جندب والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم.. به مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

من روى حديثاً يظن أنه كذب، فضلاً عن أن يروي ما يعلم كذبه ولا يبينه. ولاشك أن من روى حديثاً موضوعاً فلا يخلو من أحد أمور ثلاثة: إما أن يجهل أنه موضوع, وإما أن يعلم بوضعه بواحد من طرق العلم به, وهذا إما أن يقرن مع روايته تبيان حاله, وإما أن يرويه من غير بيان لها. فأما الأول: وهو من يجهل أنه موضوع, فلا إثم عليه إن شاء الله1, وإن كنا نعتقد أنه مقصر في البحث عنه, لكن لا يؤمن عليه العقاب في تركه البحث عن حال ما يحدث به, لاسيما وقد قال صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع" 2. وأما الثاني: وهو من يعلم وضعه ويبين حاله فلاشيء عليه، إذ قد أمن ما كان يخشى منه وهو علوقه في الأذهان منسوباً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أما إذا كانت روايته له قاصداً بها إبانة حاله, فهذا مأجور لنفيه الدخيل عن الحديث الشريف وتنبيه الناس عليه, فهو من عدول خلف الأمة ومن خيارها الذين امتازوا عمن سواهم بأنهم ينفون عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين. وأما الثالث: وهو من رواه من غير بيان لحاله مع علمه بأنه موضوع فهو

_ 1 انظر: توضيح الأفكار: (الحاشية) ج2 ص 73، المصباح: للاندجاني ص 96. 2 رواه مسلم في صحيحه في المقدمة باب النهي عن الحديث بكل ما سمع (1/10) وأبو داود في سننه في كتاب الأدب باب في التشديد في الكذب (5/265-266 حديث رقم 4992) عن أبي هريرة رضي الله عنه.. به مرفوعا، واللفظ لآبي داود.

مأزور وآثم, سواء ذكر إسناد الموضوع أم لا، إذ لا يكتفى بإيراد الإسناد في هذا الزمان, بل لابد من التصريح بأنه موضوع وكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم, فذكر الإسناد وعدمه سواء, يقول السخاوي (ت 902) : "ولا تبرأ العهدة في هذه الأعصار بالاقتصار على إيراد إسناده - أي الموضوع - لعدم الأمن من المحذور به, وإن كان صنعة أكثر المحدثين في الأعصار الماضية"1 وهذا في عصر السخاوي في القرن التاسع فما بالك بعصرنا الحاضر؟! فقد كانت طريقة الاكتفاء بالإسناد معروفة لدى القدماء، لأن علماء عصرهم يعرفون الإسناد, فتبرأ ذمتهم من العهدة بذكر السند، أما عصرنا هذا فقد سرت العدوى فيه من إضاعة الإسناد إلى إضاعة المتون، ولا حول ولا قوة إلا بالله. عقوبة من روى الحديث الموضوع في الدنيا: أما عقوبة من روى الحديث الموضوع في الدنيا فقد أجاب ابن حجر الهيتمي المكي (ت 974) على سؤال ورد إليه ونصه كالتالي: لنا إمام يروي أحاديث لا يبين مخرجيها ولا رواتها فما الذي يجب عليه؟ فأجاب: "من فعله وهو ليس من أهل المعرفة بالحديث, ولم ينقلها عن عالم بذلك, فلايحل له ومن فعله عزر عليه التعزيز الشديد.. ويجب على حكام بلد هذا الخطيب منعه من ذلك إن ارتكبه"2 هذا فيمن روى حديثاً مجهول الحال فضلاً عن أن يكون موضوعاً, أما عن الموضوع بالذات: فقد كتب البخاري (ت 256) على ظهر كتاب ورده فيه سؤال عن حديث مرفوع وهو موضوع, فكتب "من حدث بهذا استوجب الضرب الشديد والحبس الطويل" 3.

_ 1 فتح المغيث.. للسخاوي 1/175. 2 الفتاوى الحديثية: لابن حجر ص 32. 3 الأباطيل والمناكير ج1 ص19-20.

حكم العمل به: العمل بالحديث الموضوع حرام بالإجماع، لأنه ابتداع في الدين بما لم يأذن به الله, يقول صلى الله عليه وسلم: "وشر الأمور محدثاتها, وكل بدعة ضلالة" 1 ويقول: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" 2 هذا في الأمور الدينية التعبدية, أما في الأمور الدنيوية: فالعمل به على أنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم حرام أيضاً, أما على غير ذلك فحكمه يختلف باختلاف تلك الأعمال، وتنطبق عليه الأحكام الشرعية والقواعد المرعية. ومما يزيدنا يقيناً بحرمة العمل بالأحاديث الموضوعة ووجوب محاربتها ببيان حالها وتطهير الأمة - ما أمكن - من أدرانها، ما سنعرفه في هذا البحث - إن شاء الله - من آثارها السيئة على الأمة الإسلامية في شتى الأصعدة.. وهذا ما سنعرفه بالتفصيل في الباب الأول من هذا البحث إن شاء الله تعالى.

_ 1 هذا الحديث رواه مسلم في صحيحه في كتاب الجمعة باب تخفيف الصلاة والخطبة (2/592 رقم 43/867) ورواه النسائي في سننه في كتاب صلاة العيدين باب كيف الخطبة (3/188-189 حديث رقم 157) كما رواه الدرامي في سننه في المقدمة باب في كراهية أخذ الرأي (1/69) جميعهم من حديث جابر بن عبد الله.. فذكر خطبة للنبي صلى الله عليه وسلم وفيها هذا اللفظ.. واللفظ لمسلم. 2 الحديث رواه البخاري في صحيحه في كتاب الصلح باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود (5/301 رقم 2697) ورواه مسلم في صحيحه في كتاب الأقضية باب نقض الأحكام الباطلة.. (3/1343 رقم 17/1718) كلاهما عن عائشة رضي الله عنها.. بهذا اللفظ، مرفوعا.

الآثار السيئة للوضع

الآثار السيئة للوضع مدخل ... الباب الأول الآثار السيئة للوضع لقد كان للوضع آثار سيئة على الأمة الإسلامية لبست الطابع العلمي وتغلغلت في التفكير والسلوك وهذا أمر طبيعي, فكل مضر للمجتمع - أياً كان - إذا وجد البيئة التي يرتع فيها والمناخ الذي يتنفس فيه, فإنه يترك آثاراً لا تنمحي وجروحاً لا تندمل على مر الزمان, وكذلك الوضع والتزيد في الحديث النبوي. بل يمكن القول بأن الوضع هو رأس الحربة المسموم الذي طعن الإسلام في الصميم, بواسطة الغزو الفكري الذي لازالت آثاره ومخلفاته باقية إلى الآن. ولم تكن حركة الوضع حركة ارتجالية عفوية في كل الأحيان, بل تطورت إلى حركة مدروسة هادفة, وخطة مدبرة شاملة لها خطرها في جميع الميادين، يروي حماد بن سلمة (ت 167) عن أحد كبار الوضاعين قوله: "كنا إذا اجتمعنا فاستحسنا شيءً جعلناه حديثاً ونحتسب الخير في إضلالكم"1 فقد كان للوضاعين - على اختلاف منطلقاتهم - أبعاد حاولوا الوصول إليها عن طريق الدين, سواء منهم الأعداء الماكرون أو الأتباع الحمقى, فألصقوا فيه ما ليس منه, وأحلوا القشور مواضع اللباب, وألبسوا التفاهات ثوب المهمات, واستبدلوا الشرك بعقيدة التوحيد " فكان من النتائج المباشرة لتلك الحركة المشبوهة على العديد من أجيال المسلمين في العديد من أقطارهم, شيوع ما لا يحصى من الآراء الغريبة والقواعد الفقهية الشاذة والعقائد الزائفة والافتراضات المضحكة التي أيدتها وتعاملت بها وروجت لها فرق وطوائف معينة, لبست مسوح الدروشة والتصوف حينا, والفلسفة حيناً,, والعبادة والزهد حيناً

_ 1 فتح المغيث: للسخاوي ج1 ص 240.

آخر ... "1. ولقد ساعد على بلوغ الوضع مأربه, وبروز آثاره بشكل واضح, ما مني به المسلمون في عصور الانحلال وإلى عصرنا الحاضر من ضعف في الثقافة الدينية الصحيحة, إلى جانب انتشار المذاهب الهدامة, فصارت ظلمات بعضها فوق بعض, بلغت بالأمة إلى ما نراه من جهل وذل وانكسار. وسنتحدث الآن في هذه العجالة عن بعض آثاره التي تتلخص فيما يأتي:

_ 1 الموضوعات: مقدمة المحقق ج1 ص 9.

§1/1