اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم
ابن تيمية
تقديم بقلم معالي الدكتور الوزير عبد الله بن عبد المحسن التركي
[تقديم بقلم معالي الدكتور الوزير عبد الله بن عبد المحسن التركي] اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم بسم الله الرحمن الرحيم تقديم بقلم معالي الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والصلاة والسلام على رسوله النبي الأمي، الذي أرسله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، وعلى آله وصحابته، ومن سلك سبيلهم إلى يوم الدين. أما بعد: فإن من أعظم مقاصد الدين وأصوله، تمييز الحق وأهله عن الباطل وأهله، وبيان سبيل الهدى والسنة، والدعوة إليه، وكشف سبل الضلالة والبدعة، والتحذير منها. وقد اشتملت نصوص القرآن والسنة، على كثير من القواعد والأحكام التي تبين هذا الأصل العظيم والمقصد الجليل. ومن ذلك، أن قواعد الشرع ونصوصه اقتضت وجوب مخالفة المسلمين للكافرين، في عقائدهم وعباداتهم وأعيادهم وشرائعهم، وأخلاقهم الفاسدة، وكل ما هو من خصائصهم وسماتهم التي جانبوا فيها الحق والفضيلة. وقد عني سلفنا الصالح- رحمهم الله- ببيان هذا الأمر، وكان من أبرز من صنف فيه، شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية المتوفى سنة 728هـ رحمه الله.
وذلك في كثير من مصنفاته، لاسيما كتابه الشهير: "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم". وقد عالج هذا الكتاب مسائل كثيرة تهم المسلمين اليوم، كما كان الحال في زمانه. ومن جملة هذه المسائل، بيان أن الأدلة القطعية من الكتاب والسنة والإجماع، توافرت على الأمر بمخالفة غير المسلمين، والنهي عن موافقتهم، وأن في مخالفتهم مصالح ظاهرة، كما أن في موافقتهم مفاسد ظاهرة كذلك، وأن النصوص وآثار السلف بينت أصناف الذين أمرنا بمخالفتهم، ونهينا عن التشبه بهم، كأهل الكتاب والمشركين والمنافقين وأهل الجاهلية، والأعراب الجفاة الذين لم يتفقهوا في الدين، والأعاجم من الفرس والروم، الذين لم يدخلوا الإسلام، ولم يلتزموا شرائعه، وأهل الفسق والفجور والفساد ونحوهم؛ لأن هؤلاء كلهم في سبيل الضلالة والغواية. وقد فصل شيخ الإسلام- رحمه الله- في هذا الكتاب القيم جملة من الأمور التي جاء النهي الشديد عن التشبه بغير المسلمين فيها، وعن متابعتهم في شيء منها، وبخاصة مسألة الأعياد حيث بيّن أن الإسلام شرع للمسلمين عيدين في السنة، هما عيد الفطر وعيد الأضحى فحسب، ونهى أشد النهي عن متابعة الكافرين وأهل البدع في أعيادهم. وعرض كذلك مسائل أخرى جاءت النصوص الشرعية وآثار السلف الصالح بالنهي عن متابعة غير المسلمين فيها، كالبناء على القبور واتخاذها مساجد، وكالغلو في الصالحين، واتخاذ المشاهد والمزارات، وسائر البدع والمحدثات في الدين، وكالافتتان بالنساء، والتفرق في
الدين، والعصبيات والتحزبات والشعارات، والطرق والمناهج المحدثة في الدين، المستمدة من أعداء الإسلام والمسلمين، وغير ذلك من المسائل المهمة التي عرضها المؤلف، والتي تعالج الكثير من الأمراض التي ابتليت بها بعض المجتمعات الإسلامية المعاصرة، ويعد منهج شيخ الإسلام في عرض هذه المسائل أنموذجًا لمنهج السلف في العرض والاستدلال والمناقشة والرد. وبالجملة: فإن هذا الكتاب "اقتضاء الصراط المستقيم" يعد بحق من أجود الكتب التي صنفها السلف في هذا الباب. لذا فقد حرصت وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد على طبعه ونشره وتوزيعه، مشاركة منها في معالجة مشكلات المسلمين اليوم، وانطلاقًا من رسالتها التي أوجبها الله عليها، ثم ناطتها بها حكومة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود التي ما فتئت- بحمد الله- تحرص على نشر العلم والدعوة إلى السنة، والإسهام في معالجة أحوال الأمة الإسلامية، وحل مشكلاتها في ضوء العقيدة السليمة، ونهج السلف القويم، وتخليصها من البدع والمحدثات، وجمع كلمتها على الحق والهدى. نسأل الله أن يحفظ خادم الحرمين الشريفين، وسمو ولي عهده، وسمو النائب الثاني، ويجزيهم خيرًا على جهودهم في سبيل جمع المسلمين على الحق، وهدايتهم إلى صراط الله المستقيم، وأن ينصر بهم دينه، ويعلي كلمته، ويعز بهم السنة وأهلها، ويقمع البدعة وأنصارها. وإني لأشكر للأخ الفاضل الأستاذ الدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل، محقق هذا الكتاب، جهده الذي بذله في خدمته، وحرصه على
أن ينتفع الناس به، وإذنه للوزارة في نشره وتوزيعه، سائلًا الله تعالى أن يوفقه إلى مزيد من العلم النافع والعمل الصالح، وأن يثيبه ويجازيه أحسن الجزاء. كما أسأله سبحانه أن يوفق طلاب العلم، والحريصين على معرفة الحق بدليله من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبخاصة من يتصدى لدعوة الناس إلى دين الله المستقيم، للاستفادة من هذا الكتاب القيم، وغيره من مؤلفات العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرًا. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. د. عبد الله بن عبد المحسن التركي وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
مقدمة
[مقدمة] مقدمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، القائل في كتابه الكريم: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] (¬1) . والقائل: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ - قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 161 - 163] (¬2) . ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة ونصح الأمة، وحذرها من التشبه بالكفار، فقال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم» (¬3) وبشَّر ببقاء هذا الدين وبقاء أهل السنة على الحق، فقال: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس» (¬4) . صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم، ومن اهتدى بهديه واقتفى أثره إلى يوم الدين. ¬
وبعد: فإنه من أوجب الواجبات على العلماء وطلاب العلم، العناية بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، دراسة، وحفظًا، واستنباطًا، وتحليلًا، وتعليمًا، وتطبيقًا، جمعًا بين العلم والعمل؛ لأنهم مؤتمنون على ذلك كله، وقد وضعت فيهم الأمة ثقتها وائتمنتهم على دينها، وقبل ذلك كله وبعده، هم مسؤولون أمام الله تعالى عن هذه الأمانة: أمانة العلم والعمل به، وتبليغه، وحفظه، والدعوة إليه، حتى تتم بهم القدوة والأسوة إلى الخير. وإن مما ائتمنوا عليه هذا التراث العلمي الثمين، الذي تركه أئمة الإسلام، أسلافنا الأماجد في شتى صنوف العلم، وإن الكثير من هذا التراث لا يزال مخطوطًا، ومكنوزًا في زوايا المكتبات في شتى بقاع العالم، رغم شدة حاجة المسلمين إليه، وإني لأرى أنه من أول واجبات طالب العلم في هذا العصر العناية بهذه الكنوز، وخدمتها، بإخراجها للناس، محققة صافية يانعة، لتكون نبراسًا لكل مسلم في خضم الثقافات الغازية والأفكار الهدامة التي روجها أعداء الإسلام بين المسلمين اليوم. وإن من أجدر تلك المخطوطات بالعناية، وأجودها وأنفعهما للمسلمين اليوم: كتب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله، وإن كانت بحمد الله لقي الكثير منها شيئًا من العناية من المحققين وطلاب العلم، لكن بقي الأكثر يحتاج إلى عناية وإخراج وإعداد وتحقيق ودراسة. وانطلاقًا من هذا الواجب، وقع اختياري على كتاب من كتب الشيخ وهو:
"اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم" للعناية به تحقيقًا وتعليقًا، وإخراجه للناس موثقًا قدر الاستطاعة، وذلك في أطروحة الدكتوراه (¬1) . هذا مع العلم أن هذا الكتاب سبق أن طُبع عدة طبعات، من أمثلها تلكم التي أخرجها الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله، الذي كان له الجهد المشكور في خدمة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وكتب الإمام أحمد بن حنبل، وسواهما من السلف. لكن الكتاب لا يزال بحاجة إلى مزيد من الخدمة: من تحقيق، ودراسة، وتخريج لأحاديثه، وآثاره التي لم تخرَّج، وإلى توثيق لنصوصه، وترجمة لأعلامه. وهذا لا يعني أن أدَّعي بأني سأقوم بأفضل من عمل الشيخ حامد الفقي رحمه الله، لكني سأشاركه بجهد المقل، وأعتذر سلفًا عن التقصير، وأسال الله العفو والمغفرة. والله هو وحده المعين والهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. ¬
[القسم الأول: الدراسة]
[القسم الأول: الدراسة] القسم الأول ويشمل: * ترجمة موجزة للمؤلف. * وصف النسخ المخطوطة. * الكتاب المحقَّق: اسمه وتاريخ تأليفه. * منهج تحقيق الكتاب والتعليق عليه. * دراسة تحليلية لبعض موضوعات الكتاب.
ترجمة موجزة للمؤلف
[ترجمة موجزة للمؤلف] ترجمة موجزة للمؤلف 1 - نسبه: هو شيخ الإسلام الإمام: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن محمد بن الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية، الحراني، ثم الدمشقي. كنيته: أبو العباس. 2 - مولده ونشأته: وُلد يوم الاثنين العاشر من ربيع الأول بحران سنة (661هـ) ، ولما بلغ من العمر سبع سنين انتقل مع والده إلى دمشق هربًا من وجه الغزاة التتار، وقد نشأ في بيت علم وفقه ودين، فأبوه وأجداده وإخوته وكثير من أعمامه كانوا من العلماء المشاهير، منهم جده الأعلى (الرابع) محمد بن الخضر، ومنهم عبد الحليم بن محمد بن تيمية، وعبد الغني بن محمد بن تيمية، وجده الأدنى عبد السلام بن عبد الله بن تيمية مجد الدين أبو البركات صاحب التصانيف التي منها: المنتقى من أحاديث الأحكام، والمحرر في الفقه، والمسودة في الأصول وغيرها، وكذلك أبوه عبد الحليم بن عبد السلام الحراني، وأخوه عبد الرحمن وغيرهم. ففي هذه البيئة العلمية الصالحة كانت نشأة صاحب الترجمة، وقد بدأ بطلب العلم أولًا على أبيه وعلماء دمشق، فحفظ القرآن وهو صغير، ودرس
الحديث والفقه والأصول والتفسير، وعُرف بالذكاء وقوة الحفظ والنجابة منذ صغره، ثم توسع في دراسة العلوم وتبحر فيها، واجتمعت فيه صفات المجتهد منذ شبابه، فلم يلبث أن صار إمامًا يعترف له الجهابذة بالعلم والفضل والإمامة، قبل بلوغ الثلاثين من عمره. 3 - إنتاجه العلمي: وفي مجال التأليف والإنتاج العلمي، فقد ترك الشيخ للأمة تراثًا ضخمًا ثمينًا، لا يزال العلماء والباحثون ينهلون منه معينًا صافيًا، توفرت منه الآن المجلدات الكثيرة، من المؤلفات والرسائل والفتاوى والمسائل وغيرها، هذا من المطبوع، وما بقي مجهولًا أو مكنوزًا في عالم المخطوطات كثير. ولم يترك الشيخ مجالًا من مجالات العلم والمعرفة التي تنفع الأمة، وتخدم الإسلام، إلا كتب فيه وأسهم بجدارة وإتقان، وتلك خصلة قلما توجد إلا عند العباقرة النوادر في التاريخ. فلقد شهد له أقرانه وأساتذته وتلاميذه وخصومه بسعة الاطلاع، وغزارة العلم، فإذا تكلم في علم من العلوم أو فن من الفنون ظن السامع أنه لا يتقن غيره، وذلك لإحكامه له وتبحره فيه، وإن المطلع على مؤلفاته وإنتاجه، والعارف بما كان يعمله في حياته من الجهاد باليد واللسان، والذب عن الدين، والعبادة والذكر، ليعجب كل العجب من بركة وقته، وقوة تحمله وجلده، فسبحان من منحه تلك المواهب. 4 - جهاده ودفاعه عن الإسلام: الكثير من الناس يجهل الجوانب العملية من حياة الشيخ، فإنهم عرفوه عالمًا ومؤلفًا ومفتيًا، من خلال مؤلفاته المنتشرة، مع أن له مواقف مشهودة في مجالات أخرى عديدة أسهم فيها إسهامًا قويًّا في نصرة الإسلام وعزة
المسلمين، فمن ذلك: جهاده بالسيف وتحريضه المسلمين على القتال، بالقول والعمل، فقد كان يجول بسيفه في ساحات الوغى مع أعظم الفرسان الشجعان، والذين شاهدوه في القتال أثناء فتح عكا عجبوا من شجاعته وفتكه بالعدو (¬1) . أما جهاده بالقلم واللسان، فإنه رحمه الله وقف أمام أعداء الإسلام من أصحاب الملل والنحل والفرق والمذاهب الباطلة والبدع كالطود الشامخ، بالمناظرات حينًا وبالردود أحيانًا، حتى فند شبهاتهم ورد الكثير من كيدهم بحمد الله، فقد تصدى للفلاسفة، والباطنية، من صوفية وإسماعيلية ونصيرية وسواهم، كما تصدى للروافض والملاحدة، وفند شبهات أهل البدع التي تقام حول المشاهد والقبور ونحوها، كما تصدى للجهمية والمعتزلة وناقش المتكلمين والأشاعرة. والمطلع على هذا الجانب من حياة الشيخ يكاد يجزم بأنه لم يبق له من وقته فضلة، فقد حورب وطورد وأُوذي وسُجن مرات في سبيل الله، وقد وافته منيته مسجونًا في سجن القلعة بدمشق. ولا تزال بحمد الله ردود الشيخ سلاحًا فعَّالًا ضد أعداء الحق والمبطلين، لأنها إنما تستند إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهدي السلف الصالح، مع قوة الاستنباط، وقوة الاستدلال والاحتجاج الشرعي والعقلي، وسعة العلم، التي وهبها الله له. وأكثر المذاهب الهدامة التي راجت اليوم بين المسلمين هي امتداد لتلك الفرق والمذاهب التي تصدى لها الشيخ وأمثاله من سلفنا الصالح، لذلك ينبغي للدعاة المصلحين أن لا يغفلوا هذه الناحية، ليستفيدوا مما سبقهم به سلفنا الصالح. ¬
ولست مبالغًا حينما أقول: إنه لا تزال كتب الشيخ وردوده هي أقوى سلاح للتصدي لهذه الفرق الضالة والمذاهب الهدامة التي راجت وبدأت تخرج أعناقها اليوم من جديد، والتي هي امتداد للماضي، لكن منها تلك التي تزينت بأزياء العصر، وغيرّت أسماءها فقط، مثل البعثية، والاشتراكية، والقومية، والقاديانية، والبهائية، وسواها من الفرق والمذاهب، ومنها ما بقي على شعاره القديم كالشيعة، والرافضة، والنصيرية، والإسماعيلية، والخوارج ونحو ذلك. 5 - خصاله: بالإضافة إلى ما اشتهر به هذا الإمام من العلم والفقه في الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد وهبه الله خصالًا حميدة، اشتهر بها وشهد له بها الناس، فكان سخيًّا كريمًا يؤثر المحتاجين على نفسه في الطعام واللباس وغيرهما، وكان كثير العبادة والذكر وقراءة القرآن، وكان ورعًا زاهدًا لا يكاد يملك شيئًا من متاع الدنيا سوى الضروريات، وهذا مشهور عنه عند أهل زمانه حتى بين عامة الناس، وكان متواضعًا في هيئته ولباسه ومعاملته مع الآخرين، فما كان يلبس الفاخر ولا الرديء من اللباس، ولا يتكلف لأحد يلقاه، واشتهر أيضًا بالمهابة والقوة في الحق، فكانت له هيبة عظيمة عند السلاطين والعلماء وعامة الناس، فكل من رآه أحبه وهابه واحترمه، إلا من سيطر عليهم الحسد من أصحاب الأهواء ونحوهم. كما عرف بالصبر وقوة الاحتمال في سبيل الله، وكان ذا فراسة، وكان مستجاب الدعوة، وله كرامات مشهودة. رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.
6 - عصره: لقد عاش المؤلف رحمه الله في عصر كثرت فيه البدع والضلالات، وسادت كثير من المذاهب الباطلة، واستفحلت الشبهات، وانتشر الجهل والتعصب والتقليد الأعمى، وغزيت بلاد المسلمين من قبل التتار والصليبيين (الإفرنج) . ونجد صورة عصره جلية واضحة من خلال مؤلفاته التي بين أيدينا؛ لأنه اهتم بأجلِّ أمور المسلمين وأخطرها، وساهم في علاجها بقلمه ولسانه ويده، فالمتأمل في مؤلفات الشيخ يجد الصورة التالية لعصره: - كثرة البدع والشركيات خاصة حول القبور والمشاهد والمزارات المزعومة، والاعتقادات الباطلة في الأحياء والموتى، وأنهم ينفعون ويضرون، ويُدعون من دون الله. - انتشار الفلسفات والإلحاد والجدل. - هيمنة التصوف والطرق الصوفية الضالة على العامة من الناس، ومن ثم انتشار المذاهب والآراء الباطنية. - توغل الروافض في أمور المسلمين، ونشرهم للبدع والشركيات، وتثبيطهم للناس عن الجهاد، ومساعدتهم للتتار، أعداء المسلمين. - وأخيرًا نلاحظ تَقَوِّي أهل السنة والجماعة بالشيخ وحفزه لعزائمهم، مما كان له الأثر الحميد على المسلمين إلى اليوم، في التصدي للبدع والمنكرات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصح لأئمة المسلمين وعامتهم. وقد وقف الشيخ رحمه الله في عصره إزاء هذه الانحرافات موقفًا مشهودًا، آمرًا وناهيًا، وناصحًا، ومبينًا، حتى أصلح الله على يديه الكثير من أوضاع المسلمين، ونصر به السنة وأهلها، والحمد لله.
7 - وفاته: إن من علامات الخير للرجل الصالح، وقبوله لدى المسلمين: إحساسهم بفقده حين يموت، لذلك كان السلف يعدون كثرة المصلين على جنازة الرجل من علامات الخير والقبول له، لذلك قال الإمام أحمد: "قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم يوم الجنائز" (¬1) أي أن أئمة السنة يفقدهم الناس إذا ماتوا ويكونون أكثر مشيعين يوم يموتون، ولقد شهد الواقع بذلك، فما سمع الناس بمثل جنازتي الإمامين: أحمد بن حنبل، وأحمد بن تيمية، حين ماتا، من كثرة من شيعهما وخرج مع جنازة كل منهما، وصلى عليهما، فالمسلمون هم شهداء الله في أرضه. هذا وقد توفي الشيخ رحمه الله، وهو مسجون بسجن القلعة بدمشق، ليلة الاثنين 20 من شهر ذي القعدة سنة (728هـ) ، فهبَّ كل أهل دمشق ومن حولها للصلاة عليه وتشييع جنازته، وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر جنازته جمهور كبير جدًّا يفوق الوصف. رحمه الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء (¬2) . ¬
وصف النسخ المخطوطة للكتاب
[وصف النسخ المخطوطة للكتاب] وصف النسخ المخطوطة للكتاب تم تحقيق هذا الكتاب من خمس نسخ مخطوطة، منها نسختان قديمتان إحداهما كتبت سنة (715هـ) أي قبل وفاة المؤلف بثلاث عشرة سنة، والثانية سنة (781هـ) أي بعد وفاة المؤلف، أما الثلاث النسخ الباقية فهي متأخرة على ما سأبينه إن شاء الله. وقد رمزتُ لكل نسخة برمز، وسميتها برموزها في الهامش وهي: (أ) و (ب) و (ج) و (د) و (ط) ، وأردفتها بالمطبوعة التي أخرجها الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله، وقد لاحظت كثرة الفروق بينها وبين المخطوطات المتوفرة لدي، مما جعلني أرجح بأنها نسخت عن مخطوطة لم ترد إليَّ. وعلى هذا جعلتها بمثابة النسخة السادسة. 1 - النسخة الأولى، ورمزها (أ) : وجدتها ضمن مخطوطات مكتبة (شستربتي) التي ابتاعتها جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وتوجد الآن بمكتبتها المركزية بالرياض، برقم (4160) (¬1) وهي نسخة قديمة يرجع تاريخها إلى ما قبل وفاة المؤلف بثلاثة عشر عامًا فقد كتبت سنة (715هـ) ، كما هو منصوص في آخرها، وناسخها هو: هلال بن علي بن هلال بن زامل الجعفري، وهي نسخة مقابلة بالأصل كما أشار ناسخها في آخرها. ¬
وعدد أوراقها (246) ورقة (492) صفحة، في كل صفحة (19) سطرًا من القطع المتوسط. وخطها متوسط، وتكثر فيها الأغلاط الإملائية، ويوجد فيها سقط أحيانًا، وطمس لكنه قليل. 2 - النسخة الثانية، ورمزها (ط) : صورتها عن نسخة موجودة في المكتبة الظاهرية بدمشق، تحت رقم (2982) عام، ورقم (86) في التوحيد وعلم الكلام. وقد كتبت أيضًا قديمًا (781هـ) أي بعد وفاة المؤلف بثلاث وخمسين سنة فقط، وناسخها محمد بن محمد بن علي بن أحمد بن محمد اليونيني الحنبلي. وعدد أوراقها (208) ورقة، أي (416) صفحة، في كل صفحة (19) سطرًا من القطع المتوسط، وهي نسخة أيضًا مقابلة، وفيها شبه كبير بالنسخة الأولى (أ) مما يرجح أنهما قوبلتا على نسخة واحدة، فهما كثيرًا ما تتفقان في الأخطاء والسقط، إلَّا أن الثانية (ط) أجود من الأولى (أ) في الخط والإملاء، أما ما عدا ذلك فهما تتفقان في الغالب. 3 - النسخة الثالثة، ورمزها (ب) : وقد صورتها من قسم المخطوطات بجامعة الملك سعود بالرياض برقم (27) ، وقد صورتها جامعة الملك سعود عن نسخة موجودة بالمكتبة السعودية التابعة لرئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، تحت رقم (564 / 86) . وقد كتبت سنة (1223) ، وناسخها اسمه مصطفى المدعو بالشوراني، وهي نسخة واضحة وجيدة الحفظ، وفيها بعض التعليقات الهامشية، وحرفها صغير، وعدد أوراقها (216) ورقة (432) صفحة من القطع المتوسط في كل صفحة (15) سطرًا.
وهي أجود النسخ إتقانًا، وأقلها أخطاء، ويندر فيه السقط، وقد قوبلت بأصول كما هو منصوص في آخرها وفي أثنائها. 4 - النسخة الرابعة، ورمزها (ج) : وقد وصلتني من دار الكتب بالقاهرة مصورة بالميكروفلم، وهي بدار الكتب المصرية تحت رقم (4155) تصوف. وهي مجهولة التاريخ، ولم يكتب عليها اسم الناسخ، ولكن يظهر لي من شكلها أنها متأخرة النسخ. عدد أوراقها (270) ورقة (540) صفحة من القطع المتوسط، كل صفحة تتكون من (23) سطرًا، وحرفها كبير، وخطها جميل وواضح، وهي قليلة الأخطاء والسقط، كما أنها نسخة مقابلة أيضًا. 5 - النسخة الخامسة، ورمزها (د) : وقد وصلتني أيضًا مصورة بالميكروفلم من دار الكتب المصرية بالقاهرة تحت الرقم (2540) تصوف وأخلاق. وهي مجهولة الناسخ وتاريخ النسخ، لكن يظهر لي أنها حديثة النسخ كسابقتها، وعدد أوراقها (240) ورقم (480) صفحة من القطع المتوسط في كل صفحة (23) سطرًا، وحرفها متوسط وخطها جميل وواضح جدًّا، وقليلة الأخطاء والسقط وهي مقابلة أيضًا، وكثيرًا ما تتفق مع النسخة (ج) ، بل يقل الاختلاف بينهما مما جعلني أرجح أنهما كُتبتا عن أصل واحد. * كما توجد لدي نسختان أخريان كنت أستأنس بهما عند اختلاف النسخ، لكني لم أعتمدهما؛ لأن الأولى- وهي نسخة وصلتني من مكتبة برلين بألمانيا- كانت ناقصة ولا يوجد منها إلا أقل من النصف الأخير منها، ونصفها الأول وجزء من آخرها مفقود، ويظهر أنها كتبت في حدود سنة (800هـ) ، وهي في مكتبة برلين تحت رقم (2086) .
والثانية يكثر فيها التحريف والتصحيف، وهي مصورة بقسم المخطوطات بجامعة الملك سعود، تحت رقم (1203) وترجَّح لدي أنها مصورة عن مخطوطة توجد بمكتبات الأوقاف ببغداد، وهي متأخرة النسخ فقد كتبت سنة (1304هـ) . * أما المطبوعة- فهي تلك التي أخرجها الشيخ محمد حامد الفقي - طبعت بمطبعة السنة المحمدية- وهي الطبعة الثانية سنة (1369هـ) علمًا بأن الكتاب طبع مرات، لكن هذه الطبعة من أجودها وأكثرها تداولًا في الأسواق وبين الناس، ولم تخرّج أحاديثها وآثارها، ولم يترجم أعلامها، إنما كتب عليها بعض التعليقات، كما أن الشيخ محمد حامد رحمه الله لم يشر إلى النسخة المخطوطة التي استنسخ عنها الكتاب. وقد قابلتها مع النسخ المخطوطة، تتميمًا للفائدة، وخدمة للقارئ والكتاب؛ لأنها نسخة متداولة ومشهورة وستبقى كذلك، لذلك رأيت أنه لزامًا عليَّ أن أنبه على فروقها في ضوء المخطوطات.
الكتاب المحقق اسمه وتاريخ تأليفه
[الكتاب المحقق اسمه وتاريخ تأليفه] الكتاب المحقق اسمه وتاريخ تأليفه 1 - اسمه وعنوانه: اختلفت النسخ في اسم الكتاب اختلافًا طفيفًا: ففي النسخ: (ب ج د) : (اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم) . وفي (أ) : لم أستطع أن أتبين العنوان كله؛ لأن آخره مطموس، فالواضح منه (كتاب اقتضاء) فقط. وفي (ط) : (اقتضاء الصراط المستقيم في الرد على أصحاب الجحيم) . وفي نسخة برلين: (اقتضاء الصراط المستقيم ومجانبة أصحاب الجحيم) . وفي نسخة جامعة الملك سعود رقم (1203) : (اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أهل الجحيم) . وفي المطبوعة: (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) . كما أن المؤلف رحمه الله قد أشار إلى الكتاب في كتبه الأخرى، ففي المجلد الثاني والعشرين (ص154) من مجموع الفتاوى أشار إلى الكتاب وسماه: (اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم) ، ولذلك رجحت هذا العنوان للكتاب، ولأن أكثر النسخ المخطوطة اتفقت عليه.
كما أشار المؤلف إلى الكتاب مرة أخرى في مجموع الفتاوى (10 / 371) لكنه ذكر صدر العنوان (اقتضاء الصراط المستقيم) فقط، وهذا قد أجمعت عليه جميع النسخ. 2 - تاريخ تأليفه: أما عن تاريخ تأليف الكتاب، فإن هناك ما يدل على أن الكتاب ألف قبل سنة (715هـ) ، وهذا هو تاريخ نسخ المخطوطة (أ) التي أشرت إليها آنفًا. ولم يتبين لي بالتحديد في أي سنة تم تأليف الكتاب، إنما في الكتاب وأثنائه ما يدل على أنه لم يكن من أقدم كتب الشيخ؛ لأن كثيرًا ما يحيل أثناء عرضه لموضوعات الكتاب على كتاباته وبحوثه السابقة، وذلك في مواضع كثيرة جدًّا خاصة في آخر الكتاب، مما يشير إلى أنه سبقته للمؤلف بحوث ومؤلفات كثيرة، والله أعلم.
منهج تحقيق الكتاب والتعليق عليه
[منهج تحقيق الكتاب والتعليق عليه] منهج تحقيق الكتاب والتعليق عليه سلكت في تحقيق الكتاب والتعليق عليه المنهج التالي: 1 - تحقيق نص الكتاب: سلكت في تحقيق النص مسلك انتخاب النص الأصح عندي، وذلك بعد إجراء المقابلة بين جميع النسخ، فإذا اختلفت النسخ فإني في الغالب أختار النص الذي يقتضيه السياق، فإن لم يظهر لي مرجح من السياق اخترت ما تتفق عليه غالب النسخ، وأشير إلى النص المرجوح في الهامش، وإذا كان الاختلاف بين النسخ له تأثير في المعنى فإني أعلل وأفسر الاختلاف والترجيح إذا اتضح لي ذلك. أما المطبوعة فإنها إذا انفردت بعبارة أو اختلاف فإني لا أثبت ما انفردت به في صلب الكتاب، وإنما أشير إليه في الهامش، وذلك لأمرين: 1 - كثرة أخطائها وزياداتها والتصرف فيها، وأظن ذلك راجع للنسخة التي طبعت عنها. 2 - أن النسخة التي كتبت عنها غير معروفة لدي. 2 - تخريج الأحاديث والآثار، وإثبات النصوص: في تخريج الأحاديث حاولت- بقدر الإمكان- أن أختصر وأقتصر على القدر الضروري في تخريج الحديث تفاديًا لتطويل الكتاب وإثقاله بالحواشي.
فالأحاديث الموجودة في الصحيحين، أو أحدهما، فإني في الغالب أكتفي ببيان مكانها منهما أو من أحدهما؛ لأن المقصود هو الاطمئنان على درجة الحديث، وذلك حاصل بعزوه للصحيحين أو أحدهما. وكذلك إذا أشار المؤلف إلى درجة الحديث، فإني قد أكتفي بذلك، بعد ما أشير إلى مكانه في كتب الحديث. وأما ما سوى ذلك من الأحاديث التي ليست في الصحيحين، ولم يشر المؤلف إلى درجتها من الصحة والضعف، فإني اجتهدت قدر استطاعتي ببيان درجتها، إما بالإشارة إلى ما قاله بعض العلماء المعتبرين فيها، وإحالة القارئ على المراجع، أو- إذا لم أجد في الحديث كلامًا لأحد الأئمة- أجتهد في دراسة سنده بنفسي، ثم أذكر ما توصلت إليه، وهذا قليل جدًّا. أما الآثار والنصوص الأخرى التي ينقلها المؤلف، فإني بذلت ما أستطيعه في تخريجها وعزوها إلى مصادرها الموجودة، أما إذا نقل المؤلف من مصدر أو كتاب لم أجده، كالجامع للخلال، وأكثر سنن سعيد بن منصور، والمستخرج للحافظ المقدسي، وغيرها، فإني حاولت البحث عن تلك النصوص في المراجع المشابهة لها، كالسنن الكبرى للبيهقي، ومستدرك الحاكم، ومصنف عبد الرزاق ونحوها، فأخرجها منها؛ لأن المقصود التوثق من النص من المصادر المعتبرة، وهذا حاصل بذلك إن شاء الله. أما الآراء الفقهية والأحكام، ونحوها مما نسبه المؤلف إلى العلماء والأئمة، فإنها لكثرتها وتكررها، اكتفيت بتوثيق القدر الذي أراه أهم من مراجعه. ومع ذلك كله، فإن هناك مسائل لم أجد لها مراجع، من نصوص ونقول، أو آراء ونحوها، وحسبي أني بحثت وبذلك الجهد في البحث والاستقصاء. والله الموفق.
3 - تنبيهات مهمة للقارئ: * فيما يتعلق بالمراجع حرصت كل الحرص على أن أوحد النسخة والطبعة لكل مرجع، ليسهل على القارئ والباحث الرجوع إلى المراجع التي عزوت إليها عند الحاجة، لذلك لم أشر إلى الطبعات في الهامش تفاديًا للتطويل، واكتفاء بفهرس المراجع. وفي حالات نادرة جدًّا اضطررت إلى الرجوع إلى غير الطبعة المعتادة، فأشرت إلى الطبعة المغايرة في الهامش. * أما عن التراجم، فإني أترجم لكل علم في أول مرة يذكر المؤلف اسمه إلا في حالات نادرة، وعندها أشير إلى مكان الترجمة- فإذا أراد القارئ التعرف على علم من الأعلام ولم يجد ترجمته أمامه، فعليه الرجوع إلى فهرس الأعلام ليتعرف على موقع الترجمة من الكتاب. * عند الإشارة إلى أرقام الأحاديث في صحيح مسلم، فالمقصود الرقم العام لأحاديث صحيح مسلم، لا الرقم الخاص بكل كتاب، وذلك حسب ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي. * عند الإحالة إلى بعض كتب الأعلام والرجال أضع رمز (ت) ثم يأتي بعده رقم، والمقصود- كما هو معروف في اصطلاح الباحثين وكتب التراجم- رقم الترجمة للعلم المذكور في المصدر المشار إليه عنده. * أحيانًا أكرر التخريج للحديث الواحد في أكثر من موضع، إذا رأيت أن للاستدلال به أهمية، وكان تخريجه في موضع بعيد من الكتاب، وذلك تتميمًا للفائدة.
دراسة تحليلية لبعض موضوعات الكتاب
[دراسة تحليلية لبعض موضوعات الكتاب] [أولا الموضوع الرئيس للكتاب] دراسة تحليلية لبعض موضوعات الكتاب أولًا الموضوع الرئيس للكتاب الموضوع الرئيس للكتاب يتضح للقارئ من عنوانه، وقد أشار المؤلف رحمه الله في مستهل الكتاب إلى أنه أراد التنبيه على قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام وأصوله، وهي: النهي عن التشبه بالكفار، والأمر بمجانبة هديهم على العموم، وأعيادهم على الخصوص، وبيان حكمة ذلك، وما جاءت به الشريعة من مخالفة أهل الكتاب والأعاجم (¬1) ونحوهم، وأصل هذه المسألة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهدي السلف الصالح، واستقراء الآثار في ذلك. وقبل أن أدخل في دراسة موضوعاته أحب أن أنبه القارئ على ثلاثة أمور مهمة عن هذا الكتاب: الأمر الأول: أن هذا الكتاب بجملته يعتبر دراسة تفصيلية فريدة لهذا الموضوع المهم والخطير في حياة المسلمين- الذي يعتبر أصلًا من أصول العقيدة الإسلامية- فإن المؤلف رحمه الله استوفى مسألة النهي عن مشابهة ¬
الكفار، من أصولها وفروعها، وأدلتها العقلية والنقلية، وما ورد فيها من آثار ومواقف عن سلف الأمة، بأسلوب علمي رصين، يشبع القارئ ويجعله يشعر أنه أمام قضية واضحة المعالم، بينة المسالك، جلية الدليل والحكم، فلا يخرج من مسألة بحثها المؤلف إلا وقد فهمها واقتنع بأدلتها وما توصل فيها من حكم. الأمر الثاني: أن هذا القاعدة التي أصَّلها المؤلف، رغم أنها من أهم أصول عقيدة السلف الصالح في القرون الثلاثة الفاضلة، وأن الصحابة والتابعين وتابعيهم، يحذرون الأمة من التهاون بها، والوقوع فيما نهى عنه الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من مشابهة الكفار والأعاجم ونحوهم، وبرغم وضوح أدلة هذا الأصل في الكتاب والسنة وتحذير الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمته من الوقوع في ذلك، رغم هذا كله كاد هذا الأصل العظيم أن يمَّحي من أذهان أكثر المسلمين، بعد القرون الثلاثة الفاضلة، فوقعوا في المحذور، وأخذوا بسنن الأمم حذو القذة بالقذة. فمما وقعوا فيه- على سبيل المثال- البناء على القبور واتخاذ المساجد عليها، وهذه مسألة واضحة في السنة، فقد حذر الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمته من الوقوع فيها أشد التحذير- كما سيأتي بيانه أثناء الكتاب- ومع ذلك وقعت فيه طوائف من الأمة. فجاء المؤلف رحمه الله فجلَّى هذا الأمر وبيَّنه، وأعلنه على الملأ بلسانه وقلمه، فكتب وناظر وأمر ونهى، وأثمرت دعوته بحمد الله. وكتابه هذا جزء مما قام به في بيان الحق في ذلك. الأمر الثالث: أني وجدت الكتاب من خلال دراستي له، كأنما أُلِّف للمسلمين في هذا العصر، سواء في موضوعاته، وطريقة بحثها وعلاجها، أو في أسلوبه، وذلك يرجع في نظري لأسباب منها:
* تشابه عصرنا بعصر المؤلف، في كثرة البدع وظهورها، وفي ضعف المسلمين وقوة الكفار، وانتشار عقائدهم وأفكارهم وأخلاقهم وعاداتهم وأزيائهم بين المسلمين، بالإضافة إلى ظهور الفرق الضالة، واستعلائها بين المسلمين، خاصة الروافض، والباطنية، والصوفية. . ففي عصر المؤلف تغلب الكفار: من الفرنجة، والتتار على أكثر بلاد المسلمين، وفي هذا العصر كذلك تغلب الفرنج سياسيًّا وفكريًّا أيضًا على أكثر بلاد المسلمين، رغم رحيل عسكرهم عنها. * ومنها أيضًا بُعد نظر المؤلف رحمه الله، وسعة علمه وإدراكه، مما جعله يعالج هذه الأمور بأسلوب عام، يناسب المسلمين في كل مكان وكل زمان. ويتضح لنا ذلك لو استعرضنا أهم الموضوعات التي بحثها المؤلف وهي موجودة في زمنه، وتجدها أيضًا بين المسلمين اليوم: من التشبه بالكفار والأعاجم- غير المسلمين- في الزي واللباس، والعادات، والتقاليد، واللغة، والأعياد، والاحتفالات ونحوها. انتشار البدع الاعتقادية والعملية، من التعلق بالمقبورين ودعائهم من دون الله، وما تروِّجه الطرق الصوفية بين مريديها وغيرهم من البدع والخرافات. إحياء شعائر الجاهلية وعاداتها وآثارها ومآثرها التي محاها الإسلام. هيمنة الأفكار والمفاهيم والثقافات غير الإسلامية على أذهان الكثير من المسلمين، وانتشار الفلسفة والإلحاد ونحو ذلك. وهذا عن الكتاب في عمومه، والآن سأعرض بالدراسة والتحليل لبعض موضوعات الكتاب.
ثانيا دراسة لبعض موضوعات الكتاب
[ثانيا دراسة لبعض موضوعات الكتاب] [الموضوع الأول تنبيه المؤلف على أصلين مهمين] ثانيًا دراسة لبعض موضوعات الكتاب الموضوع الأول تنبيه المؤلف على أصلين مهمين استهل المؤلف كتاب (اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم) بمدخل مهم، وجدير بالتأمل والدراسة؛ لأنه يشكل الأساس لفهم مشكلة تشبُّه المسلمين بغيرهم، ثم علاجها، وتجنب أخطارها على بصيرة وهدى. وذلك: أنه نبه على أصلين من أصول الدين، لا غنى للمسلم عن فهمها، ولكل واحد منهما علاقة بالآخر. الأصل الأول: إخبار الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم القاطع الأكيد، بأن أمته ستتبع سنن الأمم التي سبقتها من اليهود والنصارى، وفارس والروم، ونحوهم، شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، وهذا يعني أن طوائف من هذه الأمة سوف تتشبه بالكفار قطعًا. الأصل الثاني: إخباره صلى الله عليه وعلى آله وسلم القاطع والأكيد أيضًا، بأن الله تعالى تكفل بحفظ الدين، وأنه لا تزال طائفة من المسلمين على الحق ظاهرين حتى تقوم الساعة، وأن الأمة لا تجتمع على ضلالة.
ثم يوازن بين هذين الأصلين بعد أن أورد الأحاديث الواردة عن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم في اتباع المسلمين سنن من كان قبلهم، فيقول: "فأخبر أنه سيكون في أمته مضاهاة لليهود والنصارى وهم أهل الكتاب، ومضاهاة لفارس والروم، وهم الأعاجم". وقد كان صلى الله عليه وعلى آله وسلم ينهى عن التشبه بهؤلاء وهؤلاء، وليس هذا إخبارًا عن جميع الأمة، بل قد تواتر عنه أنه: «لا تزال طائفة من أمته ظاهرة على الحق حتى تقوم الساعة» (¬1) وأخبر صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة (¬2) وأن الله لا يزال يغرس في هذا الدين غرسًا يستعملهم فيه بطاعته» (¬3) . فعُلم بخبره الصدق: "أنه في أمته قوم مستمسكون بهديه الذي هو دين الإسلام محضًا، وقوم منحرفون إلى شُعبة من شُعب اليهود، أو إلى شُعبة من شُعب النصارى، وإن كان الرجل لا يكفر بكل انحراف، بل وقد لا يفسق أيضًا، بل قد يكون الانحراف كفرًا، وقد يكون فسقًا، وقد يكون معصية، وقد يكون خطيئة" (¬4) . وعليه: فإنه بالرغم من أن ما وقعت فيه الأمة، وما ستقع فيه، من التشبه بالأمم الأخرى، إنما هو قدر من أقدار الله وقضائه الذي لا يرد، فإن هذا لا يعني أن المسلم سيستسلم لهذا القدر، بل إنه مطالب بفعل الأسباب الواقية، فإن الله تعالى حذَّرنا سبيل الكافرين، وأمرنا بالاستمساك بالعروة الوثقى، وبالإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أن وقوع فئة من ¬
المسلمين، أو حتى أكثرهم- لا قدَّر الله ذلك- في التشبه بالكافرين، فإن هذا لا يعني أن الأمة هلكت كلها، فإن الله تعالى وعد المؤمنين بالنصر والتثبيت، والظهور على الحق إلى قيام الساعة، فوعده تعالى صادق نافذ، كما أن قضاءه في وقوع بعض المسلمين في اتباع سنن غيرهم نافذ أيضًا. كما أن إخبار الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بأن أمته ستتبع سنن الذين من قبلها، جاء بمعرض النهي والتحذير، واتخاذ أسباب الوقاية، وذلك بالتمسك بكتاب الله تعالى، واتباع سنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، واقتفاء أثر السلف الصالح، والحذر من الابتداع في الدين، واتقاء أسباب الضلالة والغواية. وهكذا نجد المؤلف رحمه الله، بأسلوبه العلمي الرصين، واستدلاله القوي الواضح، استطاع أن يستجلي هذين الأصلين، ثم يوفق بينهما، مما يجعل القارئ على بينة ووضوح، وهذا مدخل أساسي ومهم لفهم واستيعاب بقية مباحث الكتاب التي تدور كلها حول موضوع تشبُّه المسلمين بغيرهم، وما ورد فيه جملةً وتفصيلًا، وبيان آثاره ونتائجه، وطرق الوقاية منه.
الموضوع الثاني بعض أنواع البدع والشركيات التي ابتليت بها الأمة
[الموضوع الثاني بعض أنواع البدع والشركيات التي ابتُليت بها الأمة] الموضوع الثاني بعض أنواع البدع والشركيات التي ابتُليت بها الأمة لقد شخَّص المؤلف رحمه الله، أكثر الأمراض وأنواع التشبه والتقليد للكافرين التي وقع فيها المسلمون، حين تساهل كثير منهم بدينهم، وغفلوا عن تحذير الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمته من الوقوع فيما وقعت فيه الأمم قبلهم من البدع والضلال. فذكر طائفة من ذلك في العبادات. وأخرى في السلوك والأخلاق والعادات. وثالثة في الاعتقادات والإرادات. فمن البدع في العبادات: إحداث أعياد واحتفالات لم يشرعها الله ولا رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إنما فعلتها الأمم الأخرى كاليهود والنصارى، أو فارس والروم، ونحوهم، كالاحتفال بيوم عاشوراء، وبالمولد النبوي، وبليلة الإسراء والمعراج، وليلة النصف من شعبان، وإحداث صلوات لم يشرعها الله، كصلاة الرغائب، وتخصيص ليالٍ وأيام بعينها بعبادة معتادة، كأول خميس من رجب، وليلة أول جمعة وليلة النصف منه، وكالرهبنة، والسياحة لغير قصد مشروع أو مباح، والغلو في الدين.
ومما وقع فيه المسلمون في السلوك والأخلاق والعادات: الحسد، والبغي، والبخل بالمال والعلم، وجحود ما مع الآخرين من الحق عند الخصومات، والتشبه بالكافرين باللباس، والرطانة بلغاتهم لغير ضرورة. وما وقعوا فيه من الاعتقادات والإرادات: كالغلو في الأنبياء والصالحين، وتحريف الكلم عن مواضعه، كما فعلت الفرق، كالجهمية، والمعتزلة، والخوارج، والروافض، وبعض الأشاعرة، ونحوهم. وكبناء المساجد على القبور، والطواف بها، ودعاء أهلها من دون الله، والتمسح والتبرك بها، ونحو ذلك من البدع والشركيات، التي وقع فيها كثير من الجهال والمبتدعين، وأصحاب الطرق الصوفية، والشيعة، وغيرهم. وكالتعبد بالأصوات والسماع، والطرب والرقص، والصور الجميلة بما يسمونه بإصلاح الأحوال، كما تفعل الطرق الصوفية التي ابتلي المسلمون بها. وكالتفرق والاختلاف في الدين، وقسوة القلوب. وقد استقصى المؤلف هذه الأمور وفصلها، على نحو لا يدع لأحد يطلع على هذا الكتاب عذرًا في جهلها، أو جهل أحكامها. كل هذه الأشياء وغيرها كثير مما ذكره المؤلف، وقعت فيها الأمة من جراء تشبهها بالأمم الأخرى. ومن الجدير بالذكر أن هذه الأمور، لا تزال توجد بين المسلمين، وربما زادوا عليها عما عهده المؤلف في عصره، فالصوفية بطرقها الكثيرة، وطقوسها المبتدعة، وشركياتها وأساليبها الشيطانية لا تزال تؤتي ثمارها النكدة، من التفريق بين المسلمين، وجعلهم طرائق قددًا، وأحزابًا متنافرة، وتضلل العامة،
وتستجهل أهل العلم، وتبدع أهل السنة، وتؤذي موتى المسلمين وسلفهم الصالح، ببناء المساجد والقباب على قبورهم، وممارسة الشركيات والبدع والخرافات عندها، من طواف وتمسح وتبرك، ودعاء من دون الله، وغير ذلك مما يتفطر له قلب كل مؤمن مشفق على دينه وأمته، ولست أتجنى أو أبالغ فيما ذكرته، فالواقع يشهد وينطق بحالهم. ثم الشيعة الروافض كذلك لا يزالون يفسدون رقعة كبيرة من بلاد المسلمين، ببناء المشاهد والقباب، وتقديس القبور، وأهلها، ونشر البدع في الدين. ثم النصيرية، والقرامطة (الإسماعيلية) هاهم لهم وجود وأثر، كما كانوا يفعلون في عصر المؤلف وقبله، فهذه أوجه شبه كبيرة بين عصرنا وعصر المؤلف.
الموضوع الثالث أثر التشبه على الأمة
[الموضوع الثالث أثر التشبُّه على الأمة] الموضوع الثالث أثر التشبُّه على الأمة لقد حلَّل المؤلف رحمه الله، أثر التشبه والتقليد، بين المتشبِّه، والمتشبَّه به، والمقلِّد والمقلَّد، تحليلًا علميًا رائعًا، ينبغي أن يكون قاعدة من قواعد علم النفس والاجتماع، وقد ثبت ذلك بقول الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم» (¬1) . حيث بيَّن وأكَّد أن المشاركة بين المتشابهين في الهدي والظاهر- وهو المظهر والسلوك- لا بد أن تورث بينهما شعورًا واضحًا بالتقارب، والتعاطف، والتوادّ. فإذا حدث أن مسلمًا تشبه بكافر، في مظهره وعاداته، وسلوكه، ولغته، أو شيء من ذلك، فإنه لا بد أن يورث بينهما شعورًا بالتقارب، والمودة، وهذا ما شهد به الواقع، فضلًا عن بيان الشرع، وموافقة العقل. وقديمًا قالوا: "إن الطيور على أشباهها تقع" وهذا مثل صحيح، يوافق سنة الله في خلقه. وبعد أن قرَّر المؤلف هذه القاعدة- قاعدة تأثر المقلِّد بالمقلَّد- ليبين أثر التشبه على عقيدة المسلمين ودينهم، ضرب لذلك أمثلة واقعية، يدركها كل ¬
عاقل بصير. فيقول: "إن المشاركة في الهدي الظاهر، تورث تناسبًا وتشاكلًا بين المتشابهين، يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس، فإن اللابس لثياب أهل العلم- مثلًا- يجد في نفسه نوع انضمام إليهم، واللابس لثياب الجند المقاتلة- مثلًا- يجد في نفسه نوع تخلق بأخلاقهم، ويصير طبعه متقاضيًا لذلك" (¬1) ومن ناحية أخرى، يشير المؤلف مرة ثانية إلى أن التشابه الظاهر، في الزي والشكل والسلوك والعادات، لا بد أن يورث نوع مودةٍ ومحبةٍ، وموالاة بين المتشابهين في الباطن، منه ما يسمى عند علماء النفس (اللاشعور) ، كما أن المحبة أيضًا في الباطن، قد تورث تناسبًا وتشاكلًا في الظاهر. فالمسلم الذي يتشبه بالكفار، بأي نوع من أنواع التشبه الظاهر، في لباسه، أو عاداته، أو حركاته، فإن ذلك في الغالب يدل على أنه لديه شعور باطني- إن لم يجاهر به- بمودة من يتشبه بهم، فإن التشبه إنما يصدر عن إعجاب، وإحساس بتفوق الآخرين عليه. ثم يضرب المؤلف لما ذكره مثلًا آخر من واقع الناس فيقول: "لو اجتمع رجلان في سفر، أو بلد غريب، وكانت بينهما مشابهة في العمامة أو الثياب، أو الشعر، أو المركوب، ونحو ذلك، لكان بينهما من الائتلاف أكثر مما بين غيرهما، وكذلك تجد أرباب الصناعات الدنيوية، يألف بعضهم بعضًا، ما لا يألفون غيرهم، حتى إن ذلك يكون مع المعاداة والمحاربة" (¬2) . ثم يقول: "فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية، تورث المحبة والموالاة، فكيف بالمشابهة في أمور دينية؟ فإن إفضاءها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد، ¬
والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان" (¬1) . وعليه، فمشابهة أهل الكتاب والأعاجم ونحوهم، لا بد أن تورث عند المسلم نوعَ مودة لهم، أو هي على الأقل مظنة المودة، فتكون محرمة من هذا الوجه سدًّا للذريعة، وحسمًا لعادة حب الكافرين والولاء لهم، فضلًا عن كونها محرمة من وجوه أخرى بالنصوص الواردة وغيرها. وليس هذا من خصائص عصر المؤلف، كما يتوهمه بعض الناس، بل هو سنة الله في خلقه في كل زمان، وكل مكان. وعلى أي حال، فإننا في عصرنا الحاضر، رغم اختلاط الأمم، وتقارب المسافات وطغيان الحضارة والمدنية الغربية على الناس، وما يحدثه ذلك من تقليل التميز بين الأمم والشعوب، إلا أننا ندرك بوضوح، أن تلك الفئات- من المسلمين- التي تتشبه بالإفرنج في لباسهم، أو سلوكهم وعاداتهم، والتي تعتاد التكلم بلغتهم وتتخاطب بها باستمرار، أنها تميل إلى حبهم، وتقديرهم، والإعجاب بهم، وتستأنس بهم، وتزدري المسلمين المتمسكين بما هم عليه من لباس وسلوك وعادات. وذلك أن الله تعالى "جبل بني آدم- بل سائر المخلوقات- على التفاعل بين الشيئين المتشابهين، وكلما كانت المشابهة أكثر، كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتم، حتى يؤول الأمر إلى أن لا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالعين فقط" (¬2) . وكذلك العكس أيضًا، فإن المسلمين المتمسكين بهدي الإسلام، والبعيدين عن مشابهة الأمم الأخرى، هم أكثر نفرة وأقل مودة لغير المسلمين. وأمر آخر خطير أيضًا على المسلمين، وهو أنه لا يقتصر التشابه بين ¬
المسلم والكافر على المودة الظاهرة بينهما، بل قد يصل إلى الأمور الاعتقادية والفكرية الباطنة، فإن المسلم الذي يقلد الكفار في الهدي الظاهر، يقوده ذلك على وجه المساوقة والتدرج الخفي إلى التأثر باعتقاداتهم الباطلة. وهذا الأمر كذلك ندركه الآن بين المتفرنجين، الذين يعشقون الحياة الغربية، فأكثرهم يحمل أفكارًا واعتقادات غريبة عن الإسلام، بل قد تكون هدامة تنافي العقيدة الإسلامية الصحيحة. فاعتقادهم أن القوانين الغربية متفوقة على الشريعة الإسلامية، ثم تطبيقهم لهذا، واعتقادهم أن الإسلام دين عبادة فحسب، ولا صلة له بحياة الناس وعلاقاتهم، وازدراؤهم للمتمسكين بالإسلام، وغير ذلك مما يدركه المسلمون اليوم وما يعانونه من هذه الفئة التي تسيطر على أغلب بلاد المسلمين، كل ذلك إنما هو نتيجة لما سبق أن قرَّره المؤلف مما يحدثه التشابه بين المسلمين والكفار، من آثار في الظاهر والباطن.
الموضوع الرابع قواعد أساسية في التشبه
[الموضوع الرابع قواعد أساسية في التشبه] الموضوع الرابع قواعد أساسية في التشبه استطاع المؤلف من خلال استعراض الأدلة من القرآن الكريم، ثم من السنة المطهرة، الواردة في النهي عن تشبه المسلمين بالكفار، وإجماع المسلمين في العصور الفاضلة على ذلك، أن يوصلنا إلى النتائج التالية: * أن جنس المخالفة للكافرين والأعاجم ونحوهم، أمر مقصود للشارع، وأن التشبه بهم منهي عنه في الجملة، في عامة أمورهم الدينية والدنيوية. * أن هناك أمورًا خصت بالنهي، ووردت بها السنة بعينها، كالبناء على القبور، واتخاذها مساجد، وحلق اللحى وإعفاء الشوارب، والأكل والشرب بالشمال، ونحو ذلك. * أن مخالفتهم في عامة أمورهم أصلح لنا- نحن المسلمين- في دنيانا وآخرتنا. * أن تشبه فئة من المسلمين بالكفار، أمر لا بد أن يقع، مصداقًا لإخبار الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك، وأن الله تعالى حذَّر من ذلك، وأمر المسلمين بالاستمساك بالحق، والثبات والصبر رغم وقوع طوائف منهم بالمحذور. * أنه ليس شيء من أمور الكفار، في دينهم ودنياهم، إلا وهو: إما فاسد وإما ناقص في عاقبته، حتى ما هم عليه من إتقان أمور دنياهم، قد يكون اتباعنا لهم فيه مُضِرًّا: إما بدنيانا وآخرتنا، أو أحدهما، وإن لم ندرك ذلك.
* أن سلفنا في القرون الفاضلة، كانوا قد فهموا هذه القاعدة، فهمًا جليًّا وعملوا بها، واستدل المؤلف على ذلك بإجماعهم على تحذير المسلمين من ذلك، وعلى سدهم الذريعة إليه، ما أُثر عنهم من أقوال وأفعال ومواقف لا تكاد تُحصى، وقد أورد من ذلك الكثير. ويجب على المسلمين اليوم، أن يدركوا هذا، ويعملوا به، وأن يكونوا حذرين من كل ما يصدر عن الكفار، من اعتقادات، وأفكار، وثقافات، وعادات، وأزياء، وغيرها. فإن الكفار اليوم، رغم ما هم عليه من تفوق في أمور دنياهم، ليس لديهم ما يرشد المسلمين إلى الحق، أو يهديهم لأسباب العزة، والنصر والسعادة، فإن ذلك إنما يكون بالرجوع لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والتمسك بالإسلام حقًّا. أما الإفادة مما عند الكفار اليوم، من صناعات، وعلوم تطبيقية ونحوها، فهذا أمر آخر، لا علاقة له بموضوع التشبه؛ لأن هذه العلوم والصناعات ليست من خصوصيات الكفار- وإن احتكروها- لأنها إمكانات بشرية لا بد أن تتوفر عند من يحرص عليها وينميها ويجد في تحصيلها، سواء كان مسلمًا أو كافرًا. كما أن استيراد الصناعات وعلومها لا يعد من قبيل التشبه والتقليد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يستعمل ما يصنعه الكفار من لباس وآنية ونحو ذلك. إنما طريقة الإفادة من الصناعات إذا صاحبها نقل عاداتهم وتقاليدهم ونظمهم وكل ما هو من خصائصهم؛ فإن هذا هو المحذور.
الموضوع الخامس فئات من الناس نهينا عن التشبه بها
[الموضوع الخامس فئات من الناس نهينا عن التشبه بها] الموضوع الخامس فئات من الناس نهينا عن التشبه بها نبه المؤلف إلى أن التشبه المنهي عنه، لم يكن قاصرًا على التشبه بأهل الكتاب من اليهود والنصارى، والأعاجم من الروم والفرس، والمجوس، بل النهي عن التشبه شمل أمورًا أخرى: فقد ورد النهي عن التشبه بالشيطان وأحواله وأعماله، مثل الأكل بالشمال، والشرب بها، فإن هذا من عمل الشيطان، ونحن منهيون عن كل ما هو من عمل الشيطان، فإن التشيطن مذموم شرعًا وعقلًا. ولنا عند هذا المعنى وقفة اعتبار وتأمل: فإن كل ما هو من خصال المتبعين للشيطان والغاوين، من الفساق والعصاة والمجرمين والظلمة، والزنادقة ونحوهم، يكون منهيًّا عنه، وذلك بحكم اتباعهم للشيطان، ونحن نهينا عما هو من سبيل الشيطان وعمله. فيجب على المسلم المتمسك بدينه، أن يتجنب كل ما هو من شعارات هؤلاء، أتباع الشيطان وحزبه، وأن يحذر معاشرتهم، ويبعد عن أماكن تجمعاتهم، لأنها مواطن شبهة، قربها يزري بالمسلم. ومن شعارات هذه الأصناف في عصرنا، الألبسة الضيقة، والتختم بالذهب، وحلق اللحى، وإسبال الثياب، وحمل الصور، واصطحاب الكلاب،
والتدخين، والتعلق بالرياضة المفسدة والفن الساقط والطرب، وغير ذلك مما هو معروف في كل بلد من بلاد المسلمين. كما أن لهم سمات، وملابس، ومراكب، وتجمعات، يعرفها الناس في كل بيئة بحسب ما فيها من أعراف وعادات، فيلزم كل مسلم أن يتجنب كل ما هو من خصائص هؤلاء الفساق والمجرمين، وأن تكون له شخصيته المميزة التي تلتزم بالآداب الشرعية، وأن لا يختلط بهذه الأصناف إلا بقدر الضرورة، كأن يريد دعوتهم للحق، أو إنكار ما هم عليه من منكر، وأمرهم بالمعروف، واستصلاحهم، أو تضطره المصلحة المعاشية لبيع وشراء ونحوه، بشرط أن لا يكون له معهم عِشْرة ووُدّ، وأن يأمن على عقيدته وخلقه وعرضه منهم. كما نبه المؤلف كذلك على صنف آخر وَرَدَ النهي في السنة عن بعض خصاله، وهم الأعراب الذين لم يكمل دينهم. فإن الأعراب- في الغالب- يتميزون بالجفاء والغلظة، والجهل بأحكام الله وحدوده، لذلك يكون فيهم الكفر والنفاق أشد من غيرهم. فمن جهلهم- مثلًا- تسميتهم العشاء بالعتمة، كما ورد في السنة (¬1) وفعل المعاقرة خيلاء وفخرًا، وهم أسرع من غيرهم إلى العصبية الجاهلية والفخر بالأحساب، والطعن بالأنساب، كما أنهم أبعد عن الجمعة والجماعات، ونحو ذلك مما هو معروف عنهم، فكل هذه الصفات، التي توجد لدى الأعراب في الغالب، ولا تزال توجد لديهم غالبًا حتى الآن، يجب على المسلم أن يحذرها، ويحذر منها؛ لأن أغلبها صفات جاهلية، أو هي من سمات الجاهلية. وما هو من سمات الجاهلية وصفاتها التي محاها الإسلام فهو منهي عنه أيضًا. ¬
الموضوع السادس النهي يعم كل ما هو من سمات الكفار قديما وحديثا
[الموضوع السادس النهي يعم كل ما هو من سمات الكفار قديمًا وحديثًا] الموضوع السادس النهي يعم كل ما هو من سمات الكفار قديمًا وحديثًا من المفيد الإشارة إلى ما ذكره المؤلف في معرض حديثه عن التشبه بالعجم ونحوهم، من أنه إذا نهت الشريعة عن مشابهة الأعاجم، دخل في النهي ما عليه الأعاجم الكفار قديمًا وحديثًا، حتى وإن كان عليه الأعاجم المسلمون، إذا كان يخالف السنة، أو الآداب الشرعية. كذلك يدخل في مسمى الجاهلية، ما كان عليه أهل الجاهلية قبل الإسلام، وما عاد إليه كثير من العرب اليوم، من صفات وأعمال وعادات الجاهلية. وبهذا نعلم، أن المسلمين اليوم، منهيون عما عليه الأمم الأخرى من حولهم، من عبادات، وأعمال، وعادات ضارة، وأخلاق فاسدة، وإن لم يكن ذلك موجودًا في القديم أصلًا، لا سيما وأن الكثير من مظاهر الحياة وأشكالها، تبدلت تبدلًا كبيرًا في عصرنا الحاضر، عن العصور الماضية. وما يتشدق به بعض المعجبين بالكفار، وبعض الجاهلين، من أن الكفار يحملون بعض الصفات الحميدة، كالصدق، والوفاء، والأمانة، فهذا- وإن كان يوجد في بعضهم، ويفقده بعض المسلمين المتساهلين- فلا يعني أن الكفار أزكى من المسلمين على الإطلاق، ولا أنهم خير منهم على العموم، كما لا يعني، أن ما عليه الكفار من اعتقادات، وأفكار، وأخلاق، وعادات، سليم وصحيح، كما أنه إذا وجدت في بعضهم تلك الخصال الإنسانية الحميدة، فلا
يعني أنهم كلهم كذلك، ولا أن قلوبهم سليمة، وكيف تكون سليمة وهي خالية من الإيمان؟ لأن هذه الأخلاق الحميدة هي من أصول الإسلام، التي أُمر بها المسلمون، هذا بالإضافة إلى أننا لا نسلم بأن تلك الأخلاق الحميدة توجد فعلًا بين الكفار كما يصورها المعجبون، لكنها مظاهر توجد في حالات، وفي أفراد، وما يشهد به الواقع أن الكفار الآن عامة أخلاقهم فاسدة وخبيثة، ويكثر بينهم الحسد والغدر والخيانة، والبغي والفساد، والكذب والفجور، وغيرها من الرذائل والفساد الأخلاقي، الذي يتذمرون منه هم، ويقلق مفكريهم وعقلاءهم، ومصلحيهم، إن كان فيهم مصلحون. فينبغي للمسلمين اليوم، أن تكون لهم شخصيتهم المميزة، وأخلاقهم وعاداتهم الطيبة الكريمة، ولغتهم العربية الشريفة، وأن يستمدوا ذلك كله من شريعتهم الإسلامية، وهدي نبيهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وسلفهم الصالح. وما كان من سمات الكفار اليوم، من عادات، وتقاليد، وأزياء، وأنماط سلوك، فعلى المسلم أن يتجنبه قدر الإمكان. وكذلك ما جدده الناس اليوم، وأحدثوه، من أخلاق الجاهلية المذمومة، وسماتها، وأعرافها وتقاليدها، وآثارها، ونحو ذلك مما يحاول القوميون والوطنيون (الذين يقدسون الأوطان) ، والبعثيون ونحوهم إحياءه، ونشره بين المسلمين، تحت شعارات الأصالة، والقومية، والوطنية، وإحياء التراث، والتغني بالأمجاد، والفخر بالآثار، ونحو ذلك من الشعارات التي لا مستند لها من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. كل هذا يدخل في النهي عن سنن الجاهلية المذمومة شرعًا، وإن ألبسوه لباس التقدم والمدنية.
الموضوع السابع متى يباح التشبه بغير المسلمين
[الموضوع السابع متى يباح التشبه بغير المسلمين] الموضوع السابع متى يباح التشبه بغير المسلمين؟ بما أن الشريعة الإسلامية جاءت بما فيه صلاح الناس وإصلاحهم وتميزت باليسر والسماحة، وتقدير المصالح، ودفع المضار، فإن فيها للضرورات أحكامًا، تخرج المسلم من الحرج حينما يقع فيه، فإن المؤلف أشار إلى أمر مهم فيما يتعلق بمسألة النهي عن التشبه بالكفار والأعاجم ونحوهم، فهو بعد أن أصّل القاعدة، ذكر أن لها استثناء، فهو يذكر أن المسلم إذا واجهته حالة يضطر معها إلى التشبه بالكفار، فإنه يجوز له ذلك في حدود الضرورة، ويضرب لذلك مثلًا فيقول: "ومثل ذلك اليوم، لو أن المسلم بدار حرب، أو دار كفر غير حرب، لم يكن مأمورًا بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر، لما عليه في ذلك من الضرر، بل قد يستحب للرجل، أو يجب عليه أن يشاركهم أحيانًا في هديهم الظاهر، إذا كان في ذلك مصلحة دينية: من دعوتهم إلى الدين، والاطلاع إلى باطن أمورهم؛ لإخبار المسلمين بذلك، أو دفع ضرر عن المسلمين، وغير ذلك من المقاصد الصالحة" (¬1) . ثم يشير إلى أنه في دار الإسلام لا يجوز شيء من ذلك؛ لأنها شرعت فيها المخالفة (¬2) . ¬
وعليه: فبهذه الشروط والمحترزات والمصالح التي ذكرها المؤلف، يمكن للمسلم أن يتشبه بغير المسلمين؛ لتحقيق مصلحة كبرى، أو دفع مضرة عظمى، وأضيف إلى ذلك: أن لا يصاحب فعله هذا: استحلال محرم، أو ترك واجب، أو إخلال بعقيدة. كما أنه ينبغي للمسلم أن لا يسافر إلى بلاد غير إسلامية لغير ضرورة، ومصلحة كبرى؛ لأن ذلك يوقعه في مخالفات شرعية كثيرة، عند تعامله مع الكفار.
الموضوع الثامن في الأعياد والاحتفالات البدعية
[الموضوع الثامن في الأعياد والاحتفالات البدعية] الموضوع الثامن في الأعياد والاحتفالات البدعية إن مسألة الأعياد، والاحتفالات البدعية، من أشد وأخطر ما تساهل فيه المسلمون، بعد القرون الفاضلة، فقد سارع كثير منهم إلى التشبه بالأمم الأخرى، في أعيادها، واحتفالاتها. فأحدث بعضهم بدعة الاحتفال بالمولد النبوي، والاحتفال بليلة الإسراء والمعراج. وهذه الأعياد الوطنية والقومية- التي تزداد يومًا بعد يوم بين المسلمين- وغيرها إنما هي من الأغلال والآصار التي ابتليت بها الأمة الإسلامية، وما أنزل الله بها من سلطان. لذلك نجد أن المؤلف رحمه الله أطال في مسألة الأعياد البدعية، بل إنه أشار في أول الكتاب- كما ذكرت- أنها هي سبب تأليف الكتاب، وغيرها جاء تابعًا لها. فقد بيَّن أن الله تعالى لم يشرع للمسلمين إلا عيدين، هما عيد الأضحى، وعيد الفطر، وأن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن اتخاذ الأعياد سواء كانت أعيادًا جديدة، أو أعيادًا قديمة تُحيا. كما بيَّن أن مسألة الأعياد من المسائل الشرعية التعبدية، التي لا يجوز الابتداع فيها، ولا الزيادة ولا النقص، فلا يجوز إحداث أعياد غير ما شرعه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
كما بيَّن أن كل اجتماع عام يحدثه الناس، ويعتادونه، في زمان معين أو مكان معين، أو هما معًا، فإنه عيد، كما أن كل أثر من الآثار القديمة أو الجديدة، يحييه الناس، ويرتادونه؛ فإنه يكون عيدًا؛ وذلك كأسواق الجاهلية، وآثارها، وأوثانها. فقد كان للناس قبل الإسلام أعياد زمانية ومكانية كثيرة، وكلها حرّمها الإسلام وأماتها، وشرع للمسلمين عيدين فقط. فقد دلت السنة على ذلك بوضوح وصراحة، كما دل عليه فعل المسلمين في صدر الإسلام، وإجماعهم، وما أُثر عنهم من النهي عن ذلك والتحذير منه أكثر من أن يحصى، وقد ذكر المؤلف الكثير منه. فإذا عرفنا ذلك، وعرفنا أن ما شاع بين المسلمين من أعياد واحتفالات لم يكن يفعله الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بل نهى عنه، ولم يكن الصحابة ولا التابعون خلال القرون الفاضلة يفعلون ذلك، بل كانوا ينهون عنه ويحذرون من الوقوع فيه؛ فهذا يكفي للحكم على هذه الأعياد والاحتفالات المحدثة بأنها دسيسة من دسائس المبطلين، وغفلة وجهل من أكثر المسلمين، مهما بررها الناس ورضوها، والتمسوا لها الفتاوى والتأويلات التي لا تستند إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فأي عيد أو احتفال ليس له في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أصل، ولم يعهد في عصر الصحابة، والقرون الفاضلة، فإنما قام على الباطل، ويقال لمن فعله أو أحله: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111] (¬1) ولن يجدوا إلا قول من سبقوهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22] (¬2) . ¬
وإن أقوى حجة يستند إليها المتشبثون بهذه الأعياد والاحتفالات المبتدعة، قولهم بأن ذلك- خاصة الاحتفال بالمولد- مما تعارف عليه المسلمون، وعلمه ورضيه كثير من علماء المسلمين المعتبرين، واجتمعت عليه الأمة، وهي لا تجتمع على ضلالة. فيقال لهم: هذه دعوى واهية؛ لأنها: أولًا: لا تستند إلى دليل شرعي من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وثانيًا: لم يتعارف على ذلك جميع المسلمين، ولم يرضه جميع العلماء، بل ولا المعتبرون منهم، ولم تجتمع عليه الأمة، فإنه منذ أن استحدثت هذه المبتدعات إلى اليوم لا تزال طائفة من الأمة تنكرها وتبين للمسلمين الحق، وتنصح للأمة وترشدها إلى الطريق المستقيم، الذي سنَّه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وسلكه الصحابة والسلف الصالح. وما دعوة الإمام أحمد بن حنبل، ثم الإمام أحمد بن تيمية، ثم دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب، وسائر أئمة أهل السنة والجماعة- بخافية على أحد-، ولم يفعل ذلك الصحابة ولا التابعون، ولا الأئمة في القرون الفاضلة كالأئمة الأربعة وسائر أئمة الهدى المهتدين. وبالرغم من أن عصرنا هذا، من أسوأ عصور المسلمين، وأكثرها انحرافًا، إلا أننا نجد طائفة منهم لا تزال- بحمد الله- تنكر هذه المبتدعات، وتصدع بالحق، وتحذر المسلمين من الوقوع في البدع، فإن أكثر بلاد المسلمين ابتلاء بالبدع والخرافات والشركيات- خاصة الأعياد والاحتفالات البدعية، وبدع الصوفية، والبدع التي تقام حول القبور- توجد فيها طائفة تنكر هذه البدع، وتحاربها، وترشد المسلمين وتناصحهم بعدم الوقوع فيها، بصراحة وجرأة
وشجاعة، كجماعة أنصار السنة المحمدية في السودان، وفي مصر، وغيرها من الأفراد والجمعيات في كل مكان. وبهذا تبطل دعوى اجتماع الأمة، وحاشاها أن تجتمع على ضلالة. هذا بالإضافة إلى ما فصله المؤلف من وجوه أخرى في تحريم الأعياد المبتدعة والنهي عنها، وضررها على المسلمين، منها: * أن الأعياد من جملة الشرائع والمناسك، كالقبلة، والصلاة، والصيام، وليست مجرد عادات، وهنا يكون أمر التشبه والتقليد فيها للكافرين أشد وأخطر، وكذلك تشريع أعياد لم يشرعها الله يكون حكمًا بغير ما أنزل الله، وقولًا على الله بغير علم، وافتراء عليه، وابتداعًا في دينه. * أن الأعياد والاحتفالات البدعية، من شرائع الكفار، ومن شعائر أديانهم الباطلة المحرفة، فلا يجوز للمسلمين أن يتشبهوا بما هو من خصائص الكفار وشعائرهم الباطلة. * أن أعياد الكفار، وما يفعلونه فيها، معصية؛ لأنه: إما مبتدع في دينهم أصلًا، وإما منسوخ بالإسلام، فهو بمنزلة صلاة المسلم لبيت المقدس. * إذا فعل المسلمون القليل من الأعياد المبتدعة، فسيؤدي ذلك إلى فعل الكثير؛ لأن هذا أمر لا ضابط له إلا الشرع، ومن ثم تكثر الأعياد، وتشغل المسلمين عن عبادتهم، وعن أمور معاشهم ومصالحهم. وهذا ما حدث فعلًا الآن، فكل بلد من بلاد المسلمين اليوم له أعياد واحتفالات، فعيد لميلاد الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وآخر لميلاد الرئيس، وثالث للوطن، ورابع للاستقلال، وخامس للاعتلاء، وسادس للمرأة، وسابع للطفل، وثامن للأم، وتاسع للربيع. وعاشر للنصر! إلخ مما لا يحصى من الأعياد التي أولها قَطْر، وآخرها طوفان، بل لقد وصلت قائمة الأعياد المبتدعة في بعض بلاد المسلمين إلى أكثر من ذلك، وفي ذلك مضاهاة لدين الله.
* ويضاف إلى ذلك ما تستنزفه هذه الأعياد من الأموال والجهود، والطاقات والأوقات، التي تضيع هدرًا على المسلمين في سبيل الشيطان، وتشغلهم عن ذكر الله وعن الصلاة، وعن كثير من الفروض والواجبات التي شرعها الله، وسنها رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما أنها مفتاح اللهو والعبث والمجون والانحلال في حياة الفرد والمجتمع. فهل يفطن أولئك الذين لا يزالون يبيحون للمسلمين مثل هذه الأعياد والاحتفالات، ويشرعونها لهم، ويزعمون أن الإسلام لم يحرم هذا؟ فإذا كانت عميت بصائرهم عن الدليل، فهل عميت أبصارهم عن الواقع؟ لكن من لم يجعل الله له نورًا، فما له من نور. والجدير بالتنبيه هنا، التنويه بما أنعم الله تعالى به على المسلمين في هذه البلاد- البلاد السعودية- حيث طهر أرضها وأهلها بحمد الله من هذه الأعياد، وغيرها من البدع التي تقام حول القبور، ونحوها، ولا تزال البدع فيها بحمد الله مكبوتة، بقوة العقيدة، وقوة الحجة، وقوة السلطة، وذلك من آثار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب المباركة، وهذه نعمة من نعم الله عليها وعلى جميع المسلمين، يجب أن تشكرها وترعاها، وتحافظ عليها، وتعض عليها بالنواجذ، ونسأل الله تعالى أن يوفق أولي الأمر بهذه البلاد للمحافظة على هذه النعمة، ليرعوها حق رعايتها، ويأخذوا على أيدي السفهاء الذين يحاولون إيقاع المسلمين في هذه البلاد بما ابتُلي به غيرهم من البدع والمخالفات والانحرافات.
الموضوع التاسع في الرطانة
[الموضوع التاسع في الرطانة] الموضوع التاسع في الرطانة لنا وقفة عند ما يسميه المؤلف "الرطانة"، وهو تعلم المسلمين وتكلمهم بغير اللغة العربية، وهذه المسألة من القضايا الملحة التي تواجه المسلمين في هذا العصر، والتي تحتاج إلى بحث طويل، واستجلاء للحكم الشرعي المفصل فيها، ولست هنا أنتزع ولا أصدر أحكامًا، بقدر ما أستخلص فوائد وتوجيهات من كلام المؤلف في هذا الموضوع، الذي يبين لنا الحكم العام، ومواقف السلف نحو اللغات الأخرى، وآثارها على دين المسلمين ومعتقدهم. فقد بيَّن لنا أن للصحابة مواقف معروفة نحو ذلك، تتمثل بقول عمر: "إياكم ورطانة الأعاجم" فكانوا يكرهون أن يتكلم المسلم بغير العربية على وجه الاعتياد والدوام، ولغير ضرورة. أما عند الحاجة والضرورة، وما تقتضيه مصلحة المسلمين العامة، فإن ذلك جائز، وقد جاءت السنة به، فقد «أمر الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم زيد بن ثابت أن يتعلم السريانية» ، لغة يهود، ليقرأ في كتبهم، ويكتب بها إليهم، ويترجم كلامهم، ويأمن مكرهم. كما كان الخلفاء الراشدون يفعلون ذلك، وكتبوا الدواوين بغير العربية، إلى أن صارت القدرة على تعريبها، وكان المسلمون مضطرين لمخاطبة الشعوب التي دخلت الإسلام بعد الفتوح بلغاتها كذلك.
أما التكلم بغير العربية لغير ضرورة، فإن السلف كانوا يكرهونه أشد الكراهية، وينهون عنه، ولهم في ذلك أقوال معروفة سرد المؤلف الكثير منها. وكانوا يرون أن العربية من مستلزمات الدين، وغيرها شعار النفاق، لذلك لما فتحوا الأمصار، سارعوا إلى تعليم أهلها العربية حتى سرت سريان النور في الظلام، رغم صعوبة ذلك ومشقته. فالعربية هي لغة الإسلام، ولغة القرآن، ولا يتأتى فهم الكتاب والسنة فهمًا صحيحًا سليمًا إلا بها، فهي من مستلزمات الإسلام وضرورياته، وإهمالها والتساهل بها لا بد أن يضعف من فهم الدين، ويساعد على الجهل به. وأرى أنه من الخطأ الفادح: مزاحمة اللغة العربية باللغات الأخرى في مناهج التعليم في البلاد الإسلامية (¬1) على العموم، والعربية على الخصوص. فليس هناك أي مبرر يجعل اللغات الأخرى تفرض في المدارس على جميع الطلبة، ولا على غالبهم، وفي كل المستويات، والواقع يثبت ما أقوله، فإن طلاب المدارس التي تفرض فيها اللغات الأجنبية اليوم، هم أضعف في اللغة العربية، في حين أنهم لم يكتسبوا من اللغات الأخرى شيئًا يذكر، فهم كالمنبت: لا ظهرًا أبقى، ولا أرضًا قطع، كما أنها تشكل عبئًا ثقيلًا، وشبحًا مخيفًا أمام أغلب الطلبة. نعم، قد تكون هناك ضرورة للدول لتعلم بعض اللغات الأجنبية، وحينئذ يجب أن يتعلمها من يقع الاختيار عليه لحاجة الأمة، أو تفرض ذلك عليه طبيعة ¬
عمله أو دراسته، فتتعلم طائفة من أبناء الأمة لغات الأمم الأخرى بقدر الحاجة، أما أن تكون اللغة الدخيلة مفروضة على كل ناشئة المسلمين، فهذا ما أرى أنه خطأ، ويخالف حكم الإسلام، ولم يأت إلا عن جهل، أو إعجاب بالأعاجم، أو قصد إفساد شباب المسلمين والتضييق على لغتهم العربية، أو عن قصور في التفكير يكون سببه حب التقليد والشعور بالنقص.
الموضوع العاشر حول مفهوم البدعة
[الموضوع العاشر حول مفهوم البدعة] الموضوع العاشر حول مفهوم البدعة لقد أخطأ كثير من الناس في العصور المتأخرة في مفهوم البدعة وأحكامها، فقالوا بأن البدعة تنقسم إلى: حسنة، وقبيحة، وأنه ليست كل بدعة ضلالة، وأنا ما ارتضاه المسلمون وتعارفوا عليه لا يكون بدعة، وهذه المفاهيم كلها إنما حدثت بعد القرون الثلاثة الفاضلة. فاستطاع المؤلف رحمه الله، أن يؤصل لهذه المسألة، ويستقرئ أدلتها، ويبين أحكامها، ووجه الخطأ فيها، على النحو التالي: * بيَّن أن كل بدعة ضلالة بصريح السنة ومنطوقها، حيث ذكر الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن «كل بدعة ضلالة» (¬1) وأن «شر الأمور محدثاتها» (¬2) وأن «كل محدثة بدعة» (¬3) وما زعمه بعض الناس من أنه ليس كل بدعة ضلالة، فهو مصادم لقول الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومشاقَّة له. * أن البدع التي هي محل الكلام هنا هي ما أحدثه الناس في العبادات ¬
وشعائر الدين، وشرائعه، كالأعياد المحدثة، والبدع التي أحدثها الناس حول القبور والمزارات والمشاهد، وكالصلوات المحدثة، مثل صلاة الرغائب، والصلاة الألفية، والصيام المحدث، مثل صيام أول خميس من رجب، ونحو ذلك من المبتدعات التي يتعبد الناس بها، أو تصير من شعائرهم وسماتهم الدينية، فهذه الأصل فيها أن لا يشرع منها إلا ما شرعه الله. أما العادات فالأصل فيها الإباحة، إلا ما حرمه الله. * مسألة أن كل بدعة في الدين ضلالة محرمة، هذا مما أجمع عليه الصحابة والسلف الصالح، ولم تنتشر البدع إلا بعد القرون الثلاثة الفاضلة حين صارت للروافض والقرامطة دولة، وكثرت الطرق الصوفية النكدة. * أن ما اعتاده بعض الناس، أو حتى أكثرهم، في بلاد المسلمين، من الإقرار ببعض البدع، وعملهم لها، وسكوت بعض العلماء عنها، وعمل بعضهم لها، ودعوة آخرين إليها؛ كل هذا لا يصلح دليلًا على أنها بدع حسنة ومقبولة، ومرضية في دين الله؛ لأن الدليل المجمع عليه إنما هو كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وسنة الخلفاء الراشدين والإجماع، وهذه الأصول كلها تبطل البدع، أما مجرد أعمال وأقوال تصدر من بعض المسلمين أو أكثرهم- وإن سموا علماء- فهذا لا يصير دليلًا بالإجماع. * استدل بعضهم على أن بعض البدع حسنة في الدين بقول عمر رضي الله عنه في صلاة التراويح: "نعمت البدعة" وأنه سنها وأقره الصحابة على ذلك، لكن المؤلف يرد هذا بأن صلاة التراويح لها أصل في السنة، وأن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلاها، وصلاها الصحابة خلفه، وأنه تركها خشية أن تفرض، فبقيت مسنونة بعد توقف الوحي وانقطاع احتمال فرضها. ثم إن قول عمر لا يُرد به قول الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم:
«كل بدعة ضلالة» ، كما أن تسمية عمر لها: "بدعة" تسمية لغوية؛ إذ مفهوم البدعة في اللغة أوسع منه في الشرع، فلا تعني تسمية عمر لها: "بدعة" أنها بدعة في الدين، ثم إن عمر قال: "نعمت البدعة" من باب الرد والتنزل في الحجة على من قال: إنها بدعة، فالإلزام بأنه رضي الله عنه يقصد أنها بدعة حسنة، أو أن البدع منها ما هو حسن من حيث المبدأ؛ إنما هو تحكُّم وافتراء على عمر، وافتراء على الدين.
الموضوع الحادي عشر حول بدع القبور والمزارات والمشاهد والآثار ونحوها
[الموضوع الحادي عشر حول بدع القبور والمزارات والمشاهد والآثار ونحوها] الموضوع الحادي عشر حول بدع القبور والمزارات والمشاهد والآثار ونحوها من أكثر المبتدعات الشركية، وأخطرها على المسلمين، وأكثرها انتشارًا: تقديس الموتى، وقبورهم، والبناء عليها، وتخصيص النذور إليها، والذبح عندها، ودعاء أصحابها، من دون الله، والتمسح بها، وشد الرحال إليها، والعكوف والمجاورة عندها، والصلاة عندها، وفيها، واتخاذ الآثار- آثار الأنبياء والصالحين ونحوها- مزارات ومشاهد، والتبرك بها، واتخاذها أعيادًا، ونحو ذلك مما هو معروف ومنتشر بين المسلمين، منذ القرن الرابع الهجري. فالمؤلف يشير إلى أن أول مَنْ فَتَن المسلمين وأحدث فيهم هذه البدع: الروافض، وما تفرع عنهم من فرق الباطنية، التي انتشرت بين المسلمين، والطرق الصوفية، ثم الفرق الحاقدة، كالإسماعيلية، والقرامطة، والنصيرية، والاتحادية، والحلولية (¬1) فهؤلاء هم الذين أشاعوا هذه البدع حينما كانت لهم دولة- بعد قيام الدولة الفاطمية، ودولة القرامطة- في القرن الرابع وما بعده، ونشروا هذه الشركيات وأقاموها في بلاد المسلمين. وهذه البدع لا تزال جاثمة في أكثر بلاد المسلمين- ما عدا البلاد السعودية وبعض دول الخليج- وهي تزداد وتنتشر، خاصة عند الشيعة ¬
وأصحاب الطرق الصوفية، والتي ابتُلي بها أغلب المسلمين. وما تكلم عنه المؤلف بهذا الصدد من مظاهر البدع والشركيات ينطبق على عصرنا، وإن اختلفت بعض الشكليات والمظاهر لعامل الزمن. وأمر آخر كذلك بحثه المؤلف، وهو مما نلاحظه الآن ينمو ويسري في بلاد المسلمين كلها، وهو: العناية بالآثار، وعمل المزارات لها وارتيادها، والاهتمام بها والحفاظ عليها، بل هذا من أبرز اهتمامات وزارات السياحة، وإدارات الآثار. وسواء كانت تلك الآثار: آثار الأنبياء والصالحين، كغار حراء، وغار ثور، وأماكن صلاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومكان الشجرة التي تمت تحتها بيعة الرضوان، ونحو ذلك، أو كانت آثار الأمم والشعوب، كآثار الفراعنة، والآشوريين، والكنعانيين، والجاهليين، وسواهم، أو آثار المسلمين. فإن تقديس هذه الآثار، وإعطاءها اهتمامًا وعناية خاصة، مما لا يجوز في الإسلام؛ لأنه: إما شرك أو ذريعة إلى الشرك؛ لأن هذا الاهتمام هو مبدأ التقديس وأساسه، وبداية الفتنة، لذلك حسم الإسلام هذه المادة، ومن هذا القبيل ما يسميه بعض الناس اليوم: (الاهتمام بالآثار والمحافظة عليها) ، وهذه هي جرثومة الشرك، ويجب على المسلمين- خاصة في البلاد السعودية حيث لا توجد فيها هذه المظاهر بحمد الله- أن يحذروا من هذه الفكرة كل الحذر، وأن يقطعوا دابرها، قبل أن تستفحل، فإنها بدأت تخرج أعناقها، فإن وجدت غفلة من الرقيب فلربما يقع المحذور. وما ذكرته لا يتعارض مع ما أمر الله به من السير في الأرض، والنظر في خلق الله، والاعتبار بمصائر الأمم السابقة؛ لأن الأمر بالنظر والاعتبار لا يعني المحافظة والتقديس لآثار السابقين، ومما يوضح ذلك أننا نهينا عن البقاء بديار
الأمم الغابرة التي هلكت، وأُمرنا إذا مررنا بآثارها أن نكون مسرعين باكين، فكيف نعدها من التراث الثمين، والأمجاد. أما آثار الصالحين، فالأمر فيها أخطر؛ لأنها مظنة التقديس، ومن ثم: العبادة والشرك؛ والإسلام نهى عن ذلك أشد النهي وحذر منه. فهذه الأماكن والآثار والمشاهد، والأبنية على القبور، وما يجري فيها وحولها، إنما هي أماكن ضرار، تضاهي بيوت الله التي أمر أن ترفع ويذكر فيها اسمه، واتخاذ تلك المبتدعات إنما هو سعي في خراب بيوت الله، وصرف للناس عن ذكر الله وعن الصلاة، إنها معابد الشيطان، وبيوته، نسأل الله تعالى أن يطهر أرضه منها، وأن يحمينا من الزيغ والزلل، إنه نعم المولى المجيب وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
[القسم الثاني: الكتاب محققا مع التعليق عليه]
[القسم الثاني: الكتاب محققا مع التعليق عليه] اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم تأليف شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية المتوفى سنة 728 هـ تحقيق وتعليق د. ناصر بن عبد الكريم العقل طبعة جديدة مصححة ومنقحة
خطبة الحاجة من كتاب المحقق
[خطبة الحاجة من كتاب المحقق] [سبب تأليف الكتاب] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أكمل لنا ديننا، وأتم علينا نعمته، ورضي لنا الإسلام دينا، وأمرنا (¬1) أن نستهديه صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم (¬2) غير المغضوب عليهم: اليهود، ولا الضالين: النصارى. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالدين القيّم، والملة الحنيفية (¬3) وجعله على شريعة من الأمر، أمر باتباعها، وأمره بأن يقول: {هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ (¬4) أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108] (¬5) صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما. وبعد: فإني كنت (¬6) قد نهيت: إما مبتدئا أو مجيبا (¬7) عن التشبه بالكفار ¬
في أعيادهم، وأخبرت ببعض ما في ذلك: من الأثر القديم، والدلالة الشرعية، وبيَّنت بعض حكمة الشرع (¬1) في مجانبة الكفار، من الكتابيين والأميين، وما جاءت به الشريعة من (¬2) مخالفة أهل الكتاب والأعاجم (¬3) . وإن كانت هذه قاعدة (¬4) عظيمة من قواعد الشريعة، كثيرة الشّعَب، واصطلاحا جامعا من أصولها كثير (¬5) الفروع، لكني (¬6) نبهت على ذلك بما يسر الله تعالى (¬7) وكتبت جوابا في ذلك لم يحضرني الساعة، وحصل بسبب ذلك من الخير (¬8) ما قدّره الله سبحانه، ثم بلغني بأخرة (¬9) أن من الناس من استغرب ذلك واستبعده؛ لمخالفة عادة قد نشؤوا عليها، وتمسكوا في ذلك بعمومات وإطلاقات اعتمدوا عليها، فاقتضاني (¬10) بعض الأصحاب أن أعلق في ذلك ما يكون فيه ¬
إشارة إلى (¬1) أصل هذه المسألة؛ لكثرة فائدتها، وعموم المنفعة بها، ولما قد عمَّ كثيرا من الناس من الابتلاء بذلك، حتى صاروا في نوع جاهلية، فكتبت ما حضرني الساعة، مع أنه (¬2) لو استُوفي ما في ذلك من الدلائل، وكلام العلماء، واستُقريت الآثار في ذلك، لوُجد (¬3) فيه أكثر مما كتبته. ولم أكن أظن أن من خاض في الفقه، ورأى إيماءات الشرع ومقاصده، وعلل الفقهاء ومسائلهم، يشك في ذلك، بل لم أكن أظن أن من وقر الإيمان في قلبه، وخلص إليه حقيقة الإسلام، وأنه دين الله، الذي لا يقبل من أحد سواه - إذا نبَّه على هذه النكتة (¬4) - إلا كانت حياة قلبه، وصحة إيمانه، توجب استيقاظه بأسرع تنبيه، ولكن نعوذ بالله من رين (¬5) القلوب، وهوى النفوس، اللذَيْن يصدان عن معرفة الحق واتباعه. ¬
فصل في حال الناس قبل الإسلام
[فصل في حال الناس قبل الإسلام] فصل حال الناس قبل الإسلام اعلم أن الله سبحانه وتعالى بعث (¬1) محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الخلق على فترة من الرسل (¬2) وقد مقت أهل الأرض: عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب (¬3) ماتوا - أو أكثرهم - قبل مبعثه. والناس إذ ذاك أحد رجلين: إما كتابي معتصم (¬4) بكتاب: إما مبدل، وإما مبدل منسوخ (¬5) ودين (¬6) دارس، بعضه مجهول، وبعضه متروك، وإمّا أميّ من عربي وعجمي، مقبل على عبادة ما استحسنه، وظن أنه ينفعه: من نجم، أو وثن، أو قبر، أو تمثال، أو غير ذلك. ¬
والناس في جاهلية جهلاء، من مقالات يظنونها علما وهي جهل، وأعمال يحسبونها صلاحا وهي فساد. وغاية البارع منهم علما وعملا، أن يحصل قليلا من العلم الموروث عن الأنبياء المتقدمين، قد اشتبه عليهم حقه بباطله. أو يشتغل بعمل القليل منه مشروع، وأكثره مبتدع لا يكاد يؤثر في صلاحه إلا قليلا، أو أن يكدح بنظره كدح المتفلسفة، فتذوب مهجته في الأمور الطبيعية والرياضية (¬1) وإصلاح الأخلاق، حتى يصل - إن وصل - بعد الجهد الذي لا يوصف، إلى نزر (¬2) قليل مضطرب، لا يروي ولا يشفي (¬3) من العلم الإلهي، باطله أضعاف حقه - إن حصل - وأنَّى له ذلك مع كثرة الاختلاف بين أهله، والاضطراب وتعذر الأدلة عليه، والأسباب؟ فهدى الله الناس ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من البينات والهدى، هداية جلت عن وصف الواصفين، وفاقت معرفة العارفين، حتى حصل لأمته المؤمنين (¬4) عموما، ولأولي العلم منهم خصوصا، من العلم النافع، والعمل الصالح، والأخلاق العظيمة، والسنن المستقيمة، ما لو جمعت حكمة سائر الأمم، علما وعملا، الخالصة من كل شوب، إلى الحكمة التي بعث بها، لتفاوتا تفاوتا يمنع معرفة قدر النسبة بينهما، فلله الحمد كما يحب ربنا ويرضى (¬5) ودلائل (¬6) هذا وشواهده ليس هذا موضعها. ¬
ثم إنه سبحانه بعثه بدين الإسلام، الذي هو الصراط المستقيم، وفرض على الخلق أن يسألوه هدايته كل يوم (¬1) في صلاتهم (¬2) ووصفه بأنه صراط الذين أنعم (¬3) عليهم، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، غير المغضوب عليهم ولا الضالين (¬4) . قال عدي بن حاتم (¬5) رضي الله عنه: «أتيت رسول (¬6) الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد، فقال القوم: هذا عدي بن حاتم. وجئت بغير أمان ولا كتاب، فلما دفعت إليه أخذ بيدي، وقد كان (¬7) قال قبل ذلك: " إني لأرجو أن يجعل الله يده بيدي " قال: فلقيته امرأة وصبي معها فقالا: إن لنا إليك حاجة. فقام معهما حتى قضى حاجتهما، ثم أخذ بيدي، حتى أتى بي داره، فألقت له الوليدة (¬8) وسادة، فجلس عليها، وجلست بين يديه. فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " ما يفرّك (¬9) . أيفرّك (¬10) أن تقول لا إله إلا الله؟ فهل تعلم من إله سوى الله؟ قال: ¬
قلت: لا. ثم تكلم ساعة (¬1) ثم قال: " إنما يفرّك (¬2) أن تقول: الله أكبر، وتعلم (¬3) شيئا أكبر من الله؟ " قال: قلت: لا. قال: " فإن اليهود مغضوب عليهم، وإن النصارى (¬4) ضلّال "، قال: فقلت: فإني حنيف (¬5) مسلم. قال: فرأيت وجهه ينبسط (¬6) فرحا» وذكر حديثا طويلا. رواه الترمذي وقال: " هذا حديث حسن غريب " (¬7) . وقد دل كتاب الله على معنى هذا الحديث، قال الله سبحانه: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة: 60] (¬8) والضمير عائد إلى اليهود، والخطاب معهم كما دل عليه سياق الكلام. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ} [المجادلة: 14] (¬9) وهم المنافقون الذين تولوا اليهود (¬10) باتفاق ¬
أهل التفسير، وسياق الآية يدل عليه. وقال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 112] (¬1) وذكر في آل عمران (¬2) قوله تعالى: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 112] (¬3) وهذا بيان أن اليهود مغضوب عليهم. وقال في النصارى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73] إلى قوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ (¬4) وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77] (¬5) . وهذا خطاب للنصارى كما دل عليه السياق، ولهذا نهاهم عن الغلو، وهو مجاوزة الحد، كما نهاهم عنه في قوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [المائدة: 77] (¬6) {وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ} [النساء: 171] (¬7) الآية. واليهود مقصرون عن الحق، والنصارى غالون فيه، فأما وسم (¬8) اليهود بالغضب، والنصارى بالضلال، فله أسباب ظاهرة وباطنة، ليس هذا موضعها. ¬
وجماع ذلك: أن كفر اليهود أصله من جهة عدم العمل بعلمهم فهم يعلمون الحق ولا يتبعونه عملا أو لا قولا ولا عملا (¬1) وكفر النصارى من جهة عملهم بلا علم، فهم يجتهدون في أصناف العبادات بلا شريعة من الله، ويقولون على الله ما لا يعلمون. ولهذا كان (¬2) السلف (¬3) سفيان بن عيينة (¬4) وغيره، يقولون: إن (¬5) من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود! ومن فسد من عبّادنا ففيه شبه من النصارى. وليس هذا موضع شرح ذلك. ومع أن (¬6) الله قد حذرنا سبيلهم، فقضاؤه نافذ بما أخبر به رسوله، مما سبق في علمه، حيث قال فيما خرجاه في الصحيحين: عن أبي سعيد الخدري (¬7) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنن من كان (¬8) ¬
قبلكم حذو القذة (¬1) بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ". قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: " فمن» (¬2) . وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة (¬3) رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (¬4) «لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون، شبرا بشبر، وذراعا بذراع ". فقيل: يا رسول الله، كفارس والروم؟ قال: ومَن الناس إلا ¬
أولئك؟» (¬1) . فأخبر أنه سيكون في أمته مضاهاة لليهود والنصارى، وهم أهل الكتاب، ومضاهاة لفارس والروم، وهم الأعاجم. وقد كان صلى الله عليه وسلم ينهى عن التشبه بهؤلاء وهؤلاء، وليس هذا إخبارا عن جميع الأمة، بل قد تواتر عنه: " أنه قال «لا تزال (¬2) طائفة من أمته (¬3) ظاهرة على الحق حتى تقوم الساعة» (¬4) . وأخبر صلى الله عليه وسلم: «أن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة (¬5) وأن الله لا يزال ¬
يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم فيه بطاعته» (¬1) " (¬2) . فعلم بخبره الصدق أنه (¬3) في أمته قوم متمسكون بهديه، الذي هو دين الإسلام محضا، وقوم منحرفون (¬4) إلى شعبة من شعب (¬5) اليهود، أو إلى شعبة من شعب (¬6) النصارى، وإن كان الرجل لا يكفر بكل (¬7) انحراف، بل وقد لا يفسق أيضا، بل قد يكون الانحراف كفرا، وقد يكون فسقا، وقد يكون معصية (¬8) وقد يكون خطأ. ¬
بعض أمور أهل الكتاب والأعاجم التي ابتلي بها بعض المسلمين
وهذا الانحراف أمر تتقاضاه الطباع ويزينه الشيطان، فلذلك أمر العبد بدوام دعاء الله سبحانه بالهداية إلى الاستقامة التي لا يهودية فيها ولا نصرانية أصلا. [بعض أمور أهل الكتاب والأعاجم التي ابتلي بها بعض المسلمين] وأنا أشير (¬1) إلى بعض أمور أهل الكتاب والأعاجم، التي ابتليت بها هذه الأمة، ليجتنب المسلم الحنيف الانحراف عن الصراط المستقيم، إلى صراط المغضوب عليهم، أو (¬2) الضالين. قال الله سبحانه: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا (¬3) مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109] (¬4) . فذم اليهود على ما حسدوا المؤمنين على الهدى والعلم. وقد يبتلى بعض المنتسبين إلى (¬5) العلم وغيرهم بنوع من الحسد لمن هداه الله بعلم (¬6) نافع أو عمل صالح، وهو خلق مذموم مطلقا، وهو في هذا الموضع من أخلاق المغضوب عليهم. وقال الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا - الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 36 - 37] (¬7) . فوصفهم بالبخل الذي هو البخل بالعلم والبخل بالمال، وإن كان ¬
السياق يدل على أن البخل بالعلم هو المقصود الأكبر، وكذلك (¬1) وصفهم بكتمان العلم في غير آية، مثل قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] (¬2) الآية، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ (¬3) أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ - إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [البقرة: 159 - 160] (¬4) الآية، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} [البقرة: 174] (¬5) الآية، وقال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 76] (¬6) . فوصف المغضوب عليهم بأنهم يكتمون العلم: تارة بخلا به (¬7) وتارة اعتياضا عن إظهاره بالدنيا، وتارة خوفا في (¬8) أن يُحتج عليهم بما أظهروه منه. ¬
وهذا قد يبتلى (¬1) به طوائف من المنتسبين إلى العلم (¬2) فإنهم تارة يكتمون العلم بخلا به، وكراهة لأن (¬3) ينال غيرهم من الفضل ما نالوه، وتارة اعتياضا عنه (¬4) برئاسة أو مال، فيخاف من إظهاره انتقاص رئاسته أو نقص ماله، وتارة يكون قد خالف غيره في مسألة، أو اعتزى (¬5) إلى طائفة قد خولفت في مسألة، فيكتم من العلم ما فيه حجة لمخالفه وإن لم يتيقن أن مخالفه مبطل. ولهذا قال عبد الرحمن بن مهدي (¬6) وغيره: أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم، وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم. وليس الغرض تفصيل ما يجب أو يحتسب (¬7) في ذلك (¬8) بل الغرض التنبيه على مجامع يتفطن اللبيب بها لما ينفعه الله به. وقال تعالى: ¬
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 91] (¬1) بعد (¬2) أن قال: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89] (¬3) . فوصف اليهود: بأنهم كانوا يعرفون الحق قبل ظهور (¬4) الناطق به، والداعي إليه. فلما جاءهم (¬5) الناطق به من غير طائفة يهوونها لم ينقادوا له. وأنهم لا يقبلون الحق إلا من الطائفة التي هم منتسبون إليها، مع أنهم لا يتبعون ما لزمهم في (¬6) اعتقادهم. وهذا يبتلى به كثير من المنتسبين إلى طائفة معينة في العلم، أو (¬7) الدين، من المتفقهة، أو المتصوفة (¬8) . . . . . . . . . . . . . . ¬
أو غيرهم (¬1) . أو إلى رئيس معظم عندهم (¬2) في الدين - غير النبي صلى الله عليه وسلم - فإنهم لا يقبلون من الدين رأيا (¬3) ورواية إلا ما جاءت به طائفتهم، ثم إنهم لا يعلمون ما توجبه طائفتهم، مع أن دين الإسلام يوجب اتباع الحق مطلقا: رواية ورأيا (¬4) من غير تعيين شخص أو طائفة - غير الرسول صلى الله عليه وسلم -. وقال تعالى في صفة المغضوب عليهم: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46] (¬5) . ووصفهم بأنهم (¬6) ¬
{يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 78] (¬1) والتحريف قد فسر بتحريف التنزيل، وبتحريف التأويل. فأما تحريف التأويل فكثير جدا، وقد ابتليت به طوائف من هذه الأمة، وأما تحريف التنزيل فقد وقع في (¬2) كثير من الناس، يحرفون ألفاظ الرسول، ويروون الحديث بروايات منكرة. وإن كان الجهابذة يدفعون ذلك، وربما يطاول بعضهم إلى تحريف التنزيل، وإن لم يمكنه ذلك، كما قرأ بعضهم وَكَلَّمَ اللَّهُ (¬3) مُوسَى تَكْلِيمًا (¬4) . وأمّا ليّ (¬5) الألسنة (¬6) بما يُظَن أنه من عند الله فكوضع الوضاعين الأحاديث (¬7) على (¬8) رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو إقامة ما يظن أنه حجة في الدين، وليس بحجة، وهذا الضرب من أنواع أخلاق اليهود، وذمها (¬9) كثير لمن تدبره في كتاب الله وسنة رسوله، ثم نظر بنور الإيمان إلى ما وقع في الأمة من الأحداث (¬10) . ¬
وقال سبحانه عن النصارى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} [النساء: 171] (¬1) وقال تعالى (¬2) {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17] (¬3) إلى غير ذلك من المواضع. ثم إن الغلو في الأنبياء والصالحين قد وقع في طوائف من ضلّال المتعبدة والمتصوفة (¬4) حتى خالط كثيرا (¬5) منهم من مذهب الحلول والاتحاد ما هو أقبح من قول النصارى أو مثله أو دونه. وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة: 31] (¬6) وفسره النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم رضي الله عنه بأنهم: «أحلّوا الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم» (¬7) . ¬
وكثير من أتباع المتعبدة يطيع بعض المعظمين عنده في كل ما يأمر به وإن تضمن تحليل حرام أو تحريم (¬1) حلال، وقال سبحانه عن الضالين: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد: 27] (¬2) . وقد ابتلي طوائف (¬3) من المسلمين من الرهبانية المبتدعة بما الله به عليم. وقال الله سبحانه: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف: 21] (¬4) فكان الضالون - بل والمغضوب عليهم - يبنون المساجد على قبور الأنبياء والصالحين، وقد نهى رسول (¬5) الله صلى الله عليه وسلم أمته عن ذلك في غير موطن (¬6) حتى في وقت مفارقته الدنيا - بأبي هو وأمي -. ثم إن هذا قد ابتلي به كثير من هذه الأمة. ثم إن الضالين تجد عامة دينهم إنما يقوم بالأصوات المطربة، والصور الجميلة، فلا يهتمون بأمر دينهم بأكثر من تلحين الأصوات، ثم تجد (¬7) قد ابتليت هذه الأمة (¬8) من اتخاذ السماع المطرب، بسماع (¬9) القصائد (¬10) ¬
وإصلاح القلوب والأحوال به (¬1) ما فيه مضاهاة لبعض حال الضالين، وقال سبحانه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة: 113] (¬2) فأخبر أن كل واحدة من الأمتين تجحد كل ما الأخرى عليه. وأنت تجد كثيرا من المتفقهة، إذا رأى المتصوفة والمتعبدة لا يراهم شيئا ولا يعدهم إلا جهالا ضلالا، ولا يعتقد في طريقهم (¬3) من العلم والهدى شيئا، وترى كثيرا من المتصوفة، والمتفقرة (¬4) لا يرى الشريعة والعلم شيئا، بل يرى أن المتمسك (¬5) بها منقطعا عن الله وأنه ليس عند أهلها مما ينفع عند الله شيئا (¬6) . وإنما الصواب (¬7) أن ما جاء به الكتاب والسنة من هذا وهذا حق، وما خالف الكتاب والسنة من هذا وهذا: باطل. وأما مشابهة فارس والروم، فقد دخل (¬8) في هذه الأمة من الآثار الرومية، قولا وعملا، والآثار الفارسية، قولا وعملا، ما لا خفاء به (¬9) على مؤمن عليم ¬
الأمر بمخالفة المغضوب عليهم والضالين في الهدي الظاهر
بدين الإسلام، وبما حدث فيه، وليس الغرض هنا تفصيل الأمور التي وقعت في الأمة، مما تضارع (¬1) طريق المغضوب عليهم أو الضالين، وإن كان بعض ذلك قد يقع مغفورا لصاحبه: إما لاجتهاد أخطأ فيه، وإما لحسنات محت السيئات، أو غير ذلك. وإنما الغرض أن نبين ضرورة العبد وفاقته إلى هداية الصراط المستقيم، وأن ينفتح (¬2) باب إلى معرفة الانحراف. ثم إن الصراط المستقيم هو أمور باطنة في القلب: من اعتقادات، وإرادات، وغير ذلك، وأمور ظاهرة: من أقوال، أو أفعال قد تكون عبادات، وقد تكون أيضا عادات في الطعام واللباس، والنكاح والمسكن، والاجتماع والافتراق، والسفر والإقامة، والركوب وغير ذلك. وهذه الأمور الباطنة والظاهرة بينهما ارتباط ومناسبة، فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أمورا ظاهرة، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال، يوجب للقلب شعورا وأحوالا. [الأمر بمخالفة المغضوب عليهم والضالين في الهدي الظاهر] وقد بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالحكمة التي هي سنته، وهي الشرعة والمنهاج الذي شرعه له، فكان من هذه الحكمة أن شرع له من الأعمال والأقوال ما يباين سبيل المغضوب عليهم والضالين، فأمر بمخالفتهم في الهدي الظاهر (¬3) وإن ¬
لم يظهر لكثير من الخلق في ذلك مفسدة لأمور: منها: أن المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسبا وتشاكلا بين المتشابهين، يقود (¬1) إلى موافقة ما (¬2) في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس؛ فإن اللابس ثياب أهل العلم يجد من نفسه نوع انضمام إليهم، واللابس لثياب (¬3) الجند المقاتلة - مثلا - يجد من نفسه نوع (¬4) تخلق بأخلاقهم، ويصير طبعه متقاضيا (¬5) لذلك، إلا أن يمنعه (¬6) مانع (¬7) . ومنها: أن المخالفة في الهدي الظاهر توجب مباينة ومفارقة توجب الانقطاع عن موجبات الغضب وأسباب الضلال، والانعطاف على أهل الهدى والرضوان، وتحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين. ¬
وكلما كان القلب أتم حياة، وأعرف بالإسلام - الذي هو الإسلام، لست أعني مجرد التوسم (¬1) به ظاهرا (¬2) أو باطنا بمجرد الاعتقادات (¬3) (¬4) من حيث الجملة - كان إحساسه بمفارقة (¬5) اليهود والنصارى باطنا وظاهرا (¬6) أتم، وبعده عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشد. ومنها: أن مشاركتهم في الهدي الظاهر، توجب (¬7) الاختلاط الظاهر، حتى يرتفع التميز ظاهرا، بين المهديين (¬8) المرضيين، وبين المغضوب عليهم والضالين (¬9) إلى غير ذلك من الأسباب الحكمية. هذا إذا لم يكن ذلك الهدي الظاهر إلا مباحا محضا لو تجرد عن مشابهتهم، فأما إن كان من موجبات كفرهم؛ كان (¬10) شعبة من شعب الكفر؛ فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع معاصيهم (¬11) . فهذا أصل ينبغي أن يتفطن له (¬12) . ¬
فصل في ذكر الأدلة على الأمر بمخالفة الكفار عموما وفي أعيادهم خصوصا
[فصل في ذكر الأدلة على الأمر بمخالفة الكفار عموما وفي أعيادهم خصوصا] [بيان المصلحة في مخالفة الكفار والتضرر والمفسدة من متابعتهم] فصل لما كان الكلام في المسألة الخاصة (¬1) قد يكون مندرجا (¬2) في قاعدة عامة؛ بدأنا بذكر بعض ما دل (¬3) من الكتاب والسنة والإجماع على الأمر (¬4) بمخالفة الكفار، والنهي عن مشابهتهم في الجملة، سواء كان ذلك عاما في جميع أنواع المخالفات (¬5) أو خاصا ببعضها، وسواء كان أمر إيجاب، أو أمر استحباب. ثم أتبعنا ذلك بما يدل على النهي عن مشابهتهم في أعيادهم خصوصا. وهنا نكتة قد نبهت عليها في هذا الكتاب، وهي (¬6) أن الأمر بموافقة قوم أو بمخالفتهم (¬7) قد يكون لأن نفس (¬8) قصد موافقتهم، أو نفس موافقتهم مصلحة، وكذلك نفس قصد مخالفتهم، أو نفس مخالفتهم (¬9) مصلحة، بمعنى: ¬
أن ذلك الفعل يتضمن مصلحة للعبد، أو مفسدة؛ وإن كان ذلك الفعل الذي حصلت به الموافقة، أو المخالفة، لو تجرد عن الموافقة والمخالفة، لم يكن فيه تلك المصلحة أو المفسدة، ولهذا نحن ننتفع بنفس (¬1) متابعتنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم والسابقين (¬2) في أعمال لولا أنهم فعلوها لربما قد كان لا يكون لنا مصلحة؛ لما يورث ذلك من محبتهم وائتلاف قلوبنا بقلوبهم، وأن ذلك يدعونا إلى موافقتهم في أمور أخرى، إلى غير ذلك من الفوائد. كذلك: قد نتضرر بمتابعتنا (¬3) الكافرين في أعمال لولا أنهم يفعلونها لم نتضرر بفعلها، وقد يكون الأمر بالموافقة والمخالفة لأن ذلك الفعل الذي يوافق فيه (¬4) أو يخالف، متضمن للمصلحة أو المفسدة ولو لم يفعلوه، لكن عبر عن (¬5) ذلك بالموافقة والمخالفة، على سبيل الدلالة والتعريف؛ فتكون (¬6) موافقتهم دليلا على المفسدة، ومخالفتهم دليلا على المصلحة، واعتبار الموافقة والمخالفة على هذا التقدير: من باب قياس الدلالة (¬7) وعلى الأول: من باب قياس العلة، وقد يجتمع الأمران، أعني: الحكمة الناشئة من نفس الفعل الذي ¬
الاستدلال من القرآن على النهي عن اتباع الكافرين
وافقناهم أو خالفناهم فيه، ومن نفس مشاركتهم فيه، وهذا هو الغالب على الموافقة والمخالفة المأمور بهما (¬1) والمنهي عنهما (¬2) فلا بد من التفطن لهذا المعنى، فإنه به يعرف معنى نَهْي الله لنا عن اتباعهم وموافقتهم، مطلقا ومقيدا. واعلم: أن دلالة الكتاب على خصوص الأعمال وتفاصيلها، إنما يقع بطريق الإجمال (¬3) والعموم (¬4) أو الاستلزام (¬5) وإنما السنة هي التي تفسر الكتاب (¬6) وتبينه وتدل عليه، وتعبر عنه. [الاستدلال من القرآن على النهي عن اتباع الكافرين] فنحن نذكر من آيات الكتاب ما يدل على أصل هذه القاعدة - في الجملة - ثم نتبع ذلك الأحاديث المفسرة في أثناء الآيات وبعدها (¬7) قال الله سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ - وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ - ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 16 - 18] ¬
{إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 19] (¬1) أخبر سبحانه أنه أنعم على بني إسرائيل بنعم الدين والدنيا، وأنهم اختلفوا بعد مجيء العلم بغيا من بعضهم على (¬2) بعض. ثم جعل محمدا صلى الله عليه وسلم على شريعة شرعها له (¬3) وأمره باتباعها، ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وقد دخل في الذين لا يعلمون: كل من خالف شريعته. وأهواؤهم: هو (¬4) ما يهوونه، وما عليه المشركون من هديهم الظاهر، الذي هو من موجبات دينهم الباطل، وتوابع ذلك، فهم (¬5) يهوونه، وموافقتهم فيه اتباع لما (¬6) يهوونه، ولهذا: يفرح الكافرون (¬7) بموافقة المسلمين في بعض أمورهم ويسرون به، ويودون أن لو بذلوا (¬8) عظيما ليحصل ذلك، ولو فرض أن ليس الفعل من اتباع أهوائهم فلا ريب أن مخالفتهم في ذلك أحسم لمادة متابعتهم، وأعون على حصول مرضاة الله في تركها، وأن موافقتهم في ذلك قد تكون (¬9) ذريعة إلى موافقتهم في غيره، فإن من حام حول الحمى أوشك أن يواقعه، وأي الأمرين كان؛ حصل المقصود في الجملة؛ وإن كان الأول أظهر. ¬
وفي هذا الباب قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ - وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ} [الرعد: 36 - 37] (¬1) فالضمير (¬2) في (أهوائهم) ، يعود - والله أعلم - إلى ما تقدم ذكره، وهم الأحزاب الذين ينكرون بعضه (¬3) فدخل في ذلك كل من أنكر شيئا من القرآن: من يهودي أو نصراني أو غيرهما (¬4) وقد قال: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [الرعد: 37] (¬5) ومتابعتهم فيما يختصون به من دينهم وتوابع دينهم اتباع لأهوائهم، بل يحصل اتباع أهوائهم بما هو دون ذلك. ومن هذا أيضا قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120] (¬6) . فانظر كيف قال في الخبر: (مِلَّتَهُمْ) ، وقال في النهي (¬7) (أَهْوَاءَهُمْ) ، لأن القوم لا يرضون إلا باتباع الملة مطلقا، والزجر وقع عن اتباع أهوائهم في قليل أو كثير، ومن المعلوم أن متابعتهم في بعض ما هم عليه من الدين نوع متابعة لهم في بعض ما يهوونه، أو مظنة (¬8) لمتابعتهم فيما يهوونه، كما تقدم. ¬
ومن هذا الباب قوله سبحانه: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 145] (¬1) {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ - الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ - وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ - وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 146 - 150] (¬2) . قال غير واحد من السلف (¬3) " معناه: لئلا يحتج اليهود عليكم بالموافقة في القبلة، فيقولون: قد وافقونا في قبلتنا، فيوشك أن يوافقونا في ديننا، فقطع الله بمخالفتهم في القبلة هذه الحجة، إذ الحجة: اسم لكل ما يحتج به من حق وباطل، {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150] (¬4) وهم قريش، فإنهم يقولون: عادوا إلى قبلتنا، فيوشك أن يعودوا إلى ديننا ". فبين (¬5) سبحانه أن من حكمة نسخ القبلة وتغييرها مخالفة الناس (¬6) ¬
الكافرين في قبلتهم، ليكون ذلك أقطع لما يطمعون فيه من الباطل، ومعلوم أن هذا المعنى ثابت في كل مخالفة وموافقة، فإن الكافر إذا اتُّبع في شيء من أمره كان له في الحجة مثل ما كان أو قريب مما كان لليهود من الحجة في القبلة. وقال سبحانه: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105] (¬1) وهم: اليهود والنصارى، الذين افترقوا على أكثر من سبعين فرقة، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن متابعتهم (¬2) في نفس التفرق والاختلاف، مع أنه صلى الله عليه وسلم قد أخبر (¬3) أن أمته: ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة (¬4) مع أن قوله: لا تكن مثل فلان، قد يعم مماثلته بطريق اللفظ أو المعنى، وإن لم يعم دل على أن جنس مخالفتهم وترك مشابهتهم أمر مشروع، ودل على أنه (¬5) كلما بعد الرجل عن مشابهتهم فيما لم يشرع لنا كان أبعد عن الوقوع في نفس المشابهة المنهي عنها، وهذه مصلحة جليلة. وقال سبحانه لموسى وهارون: {فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [يونس: 89] (¬6) وقال سبحانه (¬7) {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142] (¬8) وقال تعالى: ¬
{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ (¬1) نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} [النساء: 115] (¬2) إلى غير ذلك من الآيات. وما هم (¬3) عليه من الهدي والعمل، هو من سبيل غير المؤمنين، بل ومن سبيل المفسدين، والذين لا يعلمون، وما يقدر عدم اندراجه في العموم، فالنهي ثابت عن جنسه، فيكون مفارقة الجنس بالكلية أقرب إلى ترك المنهي (¬4) ومقاربته مظنة وقوع المنهي عنه، قال سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا (¬5) فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48] إلى قوله (¬6) {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49] (¬7) ومتابعتهم في هديهم: هي (¬8) من اتباع ما يهوَوْنه، أو مظنة لاتباع ما يهوونه، وتركها معونة على ترك ذلك، وحسم لمادة متابعتهم فيما يهوونه. واعلم: أن في كتاب الله من النهي عن مشابهة الأمم الكافرة وقصصهم التي فيها عبرة لنا بترك ما فعلوه كثيرًا، مثل قوله لما ذكر ما فعله بأهل الكتاب ¬
من المثلات (¬1) {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] (¬2) وقوله: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111] (¬3) وأمثال ذلك، ومنه ما يدل على مقصودنا، ومنه ما فيه إشارة وتتميم للمقصود. ثم متى كان المقصود بيان أن مخالفتهم في عامة أمورهم أصلح لنا؛ فجميع الآيات دالة على ذلك وإن كان المقصود أن مخالفتهم واجبة علينا، فهذا إنما يدل عليه بعض الآيات دون بعض، ونحن ذكرنا ما يدل على أن مخالفتهم مشروعة في الجملة، إذ كان (¬4) هو المقصود هنا. وأما تمييز دلالة الوجوب، أو الواجب (¬5) عن غيرها (¬6) وتمييز (¬7) الواجب عن غيره، فليس هو المقصود هنا. وسنذكر إن شاء الله أن مشابهتهم في أعيادهم من الأمور المحرمة، فإنه هو المسألة المقصودة (¬8) بعينها، وسائر المسائل (¬9) إنما جلبها (¬10) تقرير القاعدة الكلية العظيمة المنفعة. وقال الله عز وجل: ¬
{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ - وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ - كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ - أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ - وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ - وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة: 67 - 73] (¬1) بين الله سبحانه وتعالى - في هذه الآيات - أخلاق المنافقين وصفاتهم، وأخلاق المؤمنين وصفاتهم - وكلا الفريقين مُظهِر للإسلام ووعد المنافقين المظهرين للإسلام مع هذه الأخلاق، والكافرين المظهرين للكفر نار جهنم، وأمر نبيه (¬2) بجهاد الطائفتين. ومنذ بعث الله (¬3) محمدا صلى الله عليه وسلم، وهاجر إلى المدينة، صار الناس (¬4) ثلاثة أصناف: ¬
مؤمن، ومنافق، وكافر. فأما الكافر - وهو المظهر للكفر - فأمره بَيِّن، وإنما الغرض هنا متعلق بصفات المنافقين المذكورة في الكتاب والسنة، فإنها هي التي تخاف (¬1) على أهل القبلة (¬2) فوصف الله سبحانه المنافقين بأن بعضهم من بعض، وقال في المؤمنين: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] (¬3) وذلك لأن المنافقين تشابهت قلوبهم وأعمالهم وهم مع ذلك {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: 14] (¬4) فليست قلوبهم متوادة متوالية إلا ما دام الغرض الذي يؤمونه مشتركا بينهم، ثم يتخلى بعضهم عن بعض، بخلاف المؤمن؛ فإنه يحب المؤمن، وينصره بظهر الغيب، وإن تناءت بهم الديار وتباعد الزمان. ثم وصف سبحانه كل واحدة من الطائفتين بأعمالهم في أنفسهم (¬5) وفي غيرهم، وكلمات الله جوامع، وذلك أنه لما (¬6) كانت أعمال المرء المتعلقة بدينه قسمين: أحدهما: أن يعمل ويترك. والثاني: أن (¬7) يأمر غيره بالفعل والترك. ¬
ثم فعله: إما أن (¬1) يختص هو بنفعه أو ينفع به غيره؛ فصارت الأقسام ثلاثة ليس لها رابع: أحدها: ما يقوم بالعامل (¬2) ولا يتعلق بغيره كالصلاة مثلا. والثاني: ما يعمله لنفع غيره كالزكاة. والثالث: ما يأمر غيره أن يفعله، فيكون الغير هو العامل، وحظه هو الأمر به. فقال سبحانه في صفة المنافقين: {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [التوبة: 67] (¬3) وبإزائه في صفة المؤمنين: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71] (¬4) . والمعروف: اسم جامع لكل ما يحبه الله من الإيمان والعمل (¬5) الصالح. والمنكر: اسم جامع لكل ما نهى (¬6) الله عنه. ثم قال: {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} [التوبة: 67] (¬7) قال مجاهد: (¬8) " يقبضونها عن ¬
الإنفاق في سبيل الله " (¬1) وقال قتادة: " يقبضون أيديهم عن كل خير " (¬2) فمجاهد أشار إلى النفع بالمال، وقتادة أشار إلى النفع بالمال والبدن. وقبض اليد: عبارة عن الإمساك (¬3) كما في قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] (¬4) . وفي قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64] (¬5) وهي (¬6) حقيقة عرفية (¬7) ظاهرة من اللفظ، أو هي مجاز مشهور (¬8) ¬
وبإزاء قبض أيديهم قوله في المؤمنين: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [التوبة: 71] (¬1) فإن الزكاة - وإن كانت قد صارت حقيقة عرفية (¬2) في الزكاة المفروضة - فإنها اسم لكل نفع للخلق: من نفع بدني، أو مالي. فالوجهان هنا كالوجهين في قبض اليد. ثم قال: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] (¬3) ونسيان الله ترك ذكره، وبإزاء ذلك (¬4) في صفة المؤمنين: {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} [التوبة: 71] فإن الصلاة أيضا تعم الصلاة (¬5) المفروضة، والتطوع، وقد يدخل فيها كل ذكر الله: إما لفظا وإما (¬6) معنى، قال ابن مسعود (¬7) رضي الله عنه: " ما دمت تذكر الله فأنت في صلاة وإن كنت في ¬
السوق " (¬1) وقال معاذ بن جبل (¬2) " مدارسة العلم التسبيح". ثم ذكر (¬3) ما وعد الله به المنافقين والكفار: من النار (¬4) ومن اللعنة، ومن العذاب المقيم (¬5) وبإزائه ما وعد (¬6) المؤمنين: من الجنة والرضوان، ومن الرحمة. ¬
ثم في ترتيب الكلمات وألفاظها أسرار كثيرة، ليس هذا موضعها، وإنما الغرض تمهيد قاعدة لما سنذكره إن شاء الله (¬1) . وقد قيل: إن قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [التوبة: 68] (¬2) إشارة إلى ما هو لازم لهم في الدنيا والآخرة من الآلام النفسية: غمّا وحزنا، وقسوة وظلمة قلب (¬3) وجهلا، فإن للكفر والمعاصي من الآلام العاجلة الدائمة ما الله به عليم، ولهذا تجد غالب هؤلاء لا يطيّبون عيشهم إلا بما يزيل العقل، ويلهي (¬4) القلب (¬5) ومن تناول مسكر، أو رؤية مُلْهٍ، أو سماع مطرب، ونحو ذلك (¬6) وبإزاء (¬7) ذلك قوله في المؤمنين: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة: 71] (¬8) فإن الله ¬
يعجل للمؤمنين من الرحمة في قلوبهم، وغيرها بما (¬1) يجدونه من حلاوة الإيمان ويذوقونه من طعمه، وانشراح صدورهم للإسلام، إلى غير ذلك من السرور بالإيمان، والعلم (¬2) والعمل الصالح، بما لا يمكن وصفه. وقال سبحانه في تمام خبر المنافقين: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا} [التوبة: 69] (¬3) وهذه الكاف قد قيل: إنها رفع (¬4) خبر مبتدأ محذوف، تقديره: أنتم كالذين من قبلكم. وقيل: إنها (¬5) نصب بفعل محذوف تقديره: فعلتم كالذين من قبلكم، كما قال النمر بن تولب: (¬6) " كاليوم مطلوبا ولا طالبا " أي: لم أر كاليوم، والتشبيه - على هذين القولين - في أعمال الذين من قبل، وقيل: إن التشبيه في العذاب ثم قيل: العامل محذوف، أي: لعنهم وعذبهم كما لعن (¬7) الذين من قبلكم، ¬
وقيل (¬1) - وهو أجود -: بل العامل ما تقدم، أي: وعد الله المنافقين كوعد الذين من قبلكم، ولعنهم كلعن الذين من قبلكم، ولهم عذاب مقيم كالذين من قبلكم أو (¬2) محلها نصب، ويجوز أن يكون رفعا، أي: عذاب كعذاب الذين من قبلكم. وحقيقة الأمر على هذا القول: أن الكاف تناولها (¬3) عاملان ناصبان، أو ناصب ورافع، من جنس قولهم: أكرمت وأكرمني زيد (¬4) والنحويون لهم فيما إذا لم يختلف العامل، كقولك (¬5) أكرمت وأعطيت زيدا - قولان: أحدهما: وهو قول سيبويه (¬6) وأصحابه: أن العامل في الاسم هو أحدهما وأن الآخر حذف معموله؛ لأنه لا يرى اجتماع عاملين على معمول واحد. والثاني: قول الفراء وغيره من الكوفيين: أن الفعلين عملا في هذا الاسم، وهو يرى أن العاملين يعملان في المعمول الواحد. ¬
وعلى هذا اختلافهم في نحو قوله: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق: 17] (¬1) . وأمثاله. فعلى قول الأولين يكون التقدير: وعد الله المنافقين النار، كوعد الذين من قبلكم ولهم عذاب مقيم، كالذين من قبلكم، أو كعذاب الذين (¬2) . من قبلكم ثم حُذف اثنان من هذه المعمولات؛ لدلالة الآخر عليهما (¬3) وهم يستحسنون حذف الأولين (¬4) . وعلى القول الثاني يمكن أن يقال: الكاف المذكورة بعينها هي المتعلقة بقوله: (وعد) وبقوله: (ولعن) وبقوله (¬5) {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [التوبة: 68] لأن الكاف لا يظهر فيها إعراب، وهذا على القول بأن عمل الثلاثة النصب ظاهر. وإذا قيل: إن الثالث يعمل الرفع؛ فوجهه: أن العمل واحد في اللفظ، إذ التعلق تعلق معنوي لا لفظي. وإذا عرفت أن من الناس من يجعل التشبيه في العمل، ومنهم من يجعل التشبيه في العذاب، فالقولان متلازمان إذ المشابهة في الموجب تقتضي المشابهة في الموجَب، وبالعكس فلا خلاف معنوي بين القولين. وكذلك ما ذكرناه من اختلاف النحويين في وجوب في (¬6) الحذف وعدمه - إنما هو اختلاف في تعليلات ومآخذ، لا تقتضي (¬7) اختلافا لا في إعراب، ¬
ولا في معنى؛ فإذن: الأحسن أن تتعلق الكاف بمجموع ما تقدم: من العمل والجزاء، فيكون التشبيه فيهما لفظا (¬1) . وعلى القولين الأولين: يكون قد دل على أحدهما لفظا، على الآخر لزوما (¬2) . وإن سلكت طريقة الكوفيين - على هذا - كان أبلغ وأحسن؛ فإن لفظ الآية يكون قد دل على المشابهة في الأمرين من غير حذف، وإلا فيضمر (¬3) حالكم كحال الذين من قبلكم، ونحو ذلك، وهو قول من قدره: أنتم كالذين من قبلكم. ولا يسع هذا المكان بسطا أكثر من هذا (¬4) فإن الغرض متعلق بغيره. وهذه المشابهة في هؤلاء (¬5) بإزاء ما وصف الله به المؤمنين من قوله: {وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة: 71] (¬6) فإن طاعة الله ورسوله تنافي مشابهة الذين من قبل (¬7) قال سبحانه: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة: 69] (¬8) . فالخطاب في قوله: {كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً} [التوبة: 69] وقوله: {فَاسْتَمْتَعْتُمْ} [التوبة: 69] ¬
إن كان للمنافقين، كان من باب خطاب التلوين والالتفات، وهذا انتقال من المغيَّب (¬1) إلى الحضور، كما في قوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ - إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 3 - 5] ثم حصل الانتقال من الخطاب إلى المغيب (¬2) في قوله: {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [التوبة: 69] (¬3) وكما (¬4) في قوله: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا} [يونس: 22] (¬5) وقوله: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7] (¬6) فإن الضمير في قوله: {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [التوبة: 69] الأظهر أنه عائد إلى المستمتعين الخائضين من هذه الأمة كقوله (¬7) - فيما بعد -: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [التوبة: 70] (¬8) وإن كان الخطاب لمجموع الأمة المبعوث إليها، فلا يكون الالتفات إلا في الموضع الثاني. وأما قوله: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ} [التوبة: 69] ففي تفسير عبد الرزاق (¬9) عن ¬
معمر (¬1) عن الحسن (¬2) في قوله: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ} [التوبة: 69] قال: بدينهم (¬3) ويروى ذلك عن أبي هريرة (¬4) رضي الله عنه وروي عن ابن عباس (¬5) بنصيبهم من الآخرة في الدنيا (¬6) وقال آخرون: بنصيبهم من ¬
الدنيا (¬1) . قال أهل اللغة: الخلاق: هو النصيب والحظ، كأنه ما خلق للإنسان، أي ما قدر له، كما يقال: (القسم) لما قسم له، و (النصيب) لما نصب له، أي أثبت. ومنه قوله تعالى: {مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة: 102] (¬2) أي: من نصيب، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما يلبس الحرير من لا خلاق له في الآخرة» (¬3) . والآية تعم ما ذكره العلماء جميعهم، فإنه سبحانه قال: {كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا} [التوبة: 69] فتلك القوة التي كانت فيهم كانوا يستطيعون أن يعملوا بها للدنيا والآخرة، وكذلك أموالهم وأولادهم، وتلك القوة والأموال والأولاد: هو الخلاق، فاستمتعوا بقوتهم وأموالهم وأولادهم في الدنيا، ونفس الأعمال التي عملوها بهذه القوة والأموال: هي دينهم، وتلك الأعمال، لو أرادوا بها الله، والدار الآخرة؛ لكان لهم ثواب في الآخرة عليها، فتمتعهم بها أخذ حظوظهم العاجلة بها، فدخل في هذا من لم يعمل إلا لدنياه، سواء كان جنس العمل من العبادات، أو غيرها (¬4) . ¬
ثم قال سبحانه: {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة: 69] (¬1) . وفي (الذي) وجهان: أحسنهما أنها صفة المصدر، أي كالخوض الذي خاضوه (¬2) فيكون العائد محذوفا كما في قوله (¬3) {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71] (¬4) وهو كثير فاش في اللغة، والثاني: أنه صفة الفاعل، أي: كالفريق (¬5) أو الصنف أو الجيل الذي خاضوه، كما لو قيل: كالذين خاضوا. وجمع سبحانه بين الاستمتاع بالخلاق، وبين الخوض، لأن فساد الدين (¬6) إما أن يقع بالاعتقاد الباطل، والتكلم به، أو يقع في العمل بخلاف الاعتقاد الحق. والأول: هو البدع (¬7) ونحوها. والثاني: (¬8) فسق الأعمال ونحوها (¬9) . ¬
والأول: من جهة الشبهات. والثاني: من جهة الشهوات. ولهذا كان السلف يقولون: احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا أعمته دنياه. وكانوا يقولون: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون (¬1) فهذا (¬2) يشبه المغضوب عليهم، الذين يعلمون الحق ولا يتبعونه وهذا (¬3) يشبه الضالين الذين يعملون بغير علم. ووصف بعضهم أحمد بن حنبل (¬4) فقال: " رحمه الله، عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، أتته البدع ¬
فنفاها (¬1) والدنيا فأباها " (¬2) . وقد وصف الله أئمة المتقين فقال: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] (¬3) فبالصبر تُترك الشهوات وباليقين تُدفع الشبهات. ومنه قوله: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3] (¬4) وقوله: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45] (¬5) . ومنه الحديث المرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب البصر (¬6) الناقد عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات» (¬7) . ¬
فقوله سبحانه: {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ} [التوبة: 69] إشارة إلى اتباع الشهوات، وهو داء العصاة، وقوله: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة: 69] إشارة إلى اتباع الشبهات، وهو داء المبتدعة وأهل الأهواء والخصومات، وكثيرا ما يجتمعان، فقلّ من تجد (¬1) في اعتقاده فسادا إلا وهو يظهر (¬2) في عمله. وقد دلت الآية على أن الذين كانوا من (¬3) قبل استمتعوا وخاضوا، وهؤلاء فعلوا مثل أولئك. ثم قوله: {فَاسْتَمْتَعْتُمْ} [التوبة: 69] و {وَخُضْتُمْ} [التوبة: 69] خبر عن وقوع ذلك في الماضي وهو ذم لمن يفعله، إلى يوم القيامة، كسائر ما أخبر الله به عن الكفار (¬4) والمنافقين، عند مبعث (¬5) محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه ذم لمن (¬6) حاله كحالهم إلى يوم القيامة، وقد يكون خبرا عن أمر دائم (¬7) مستمر؛ لأنه - وإن كان بضمير الخطاب - فهو كالضمائر (¬8) في نحو قوله: (اعْبُدُوا) (¬9) و (اغْسِلُوا) (¬10) و ¬
{ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] (¬1) و (آمنوا) (¬2) كما أن جميع الموجودين في وقت النبي صلى الله عليه وسلم وبعده إلى يوم القيامة (¬3) مخاطبون بهذا الكلام؛ لأنه كلام الله، وإنما الرسول مبلغ له (¬4) . وهذا مذهب عامة المسلمين - وإن كان بعض من تكلم في أصول الفقه، اعتمد أن الضمير (¬5) إنما يتناول الموجودين حين (¬6) تبليغ الرسول وأن سائر الموجودين دخلوا: إما بما علمناه بالاضطرار من استواء الحكم، كما لو خاطب النبي صلى الله عليه وسلم واحدا من الأمة، وإما بالسنة، وإما بالاجماع، وإما بالقياس، فيكون: كل من حصل منه هذا الاستمتاع والخوض مخاطبا بقوله: {فَاسْتَمْتَعْتُمْ} [التوبة: 69] و {وَخُضْتُمْ} [التوبة: 69] وهذا أحسن القولين (¬7) . ¬
وقد توعد الله سبحانه هؤلاء المستمتعين الخائضين بقوله (¬1) {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [التوبة: 69] (¬2) وهذا هو المقصود هنا من هذه الآية، وهو أن الله قد أخبر أن (¬3) في هذه الأمة من استمتع بخلاقه، كما استمتعت الأمم قبلهم، وخاض كالذي خاضوا وذمهم على ذلك، وتوعدهم على ذلك (¬4) ثم حضهم على الاعتبار بمن قبلهم فقال: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ (¬5) وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [التوبة: 70] (¬6) الآية. وقد قدمنا: أن طاعة الله ورسوله في وصف المؤمنين بإزاء ما وصف به هؤلاء (¬7) من مشابهة القرون المتقدمة، وذم من يفعل ذلك (¬8) وأمره (¬9) بجهاد الكفار والمنافقين - بعد هذه الآية - دليل على جهاد هؤلاء المستمتعين الخائضين. ¬
الاستدلال من السنة على النهي عن اتباع الكافرين
[الاستدلال من السنة على النهي عن اتباع الكافرين] ثم هذا الذي دل عليه الكتاب (¬1) من مشابهة بعض هذه الأمة للقرون الماضية في الدنيا وفي الدين، وذم من يفعل ذلك، دلت عليه - أيضا - سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأول الآية - على ذلك (¬2) - أصحابه رضي الله عنهم. فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لتأخذن كما أخذت الأمم من قبلكم: ذراعا بذراع، وشبرا بشبر، وباعا بباع، حتى لو أن أحدا من أولئك دخل حجر ضب لدخلتموه - قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً} [التوبة: 69] الآية - قالوا: يا رسول الله كما صنعت فارس والروم وأهل الكتاب؟ قال: فهل الناس إلا هم؟» (¬3) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية أنه قال: ما أشبه الليلة بالبارحة، هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا (¬4) بهم؟ (¬5) . ¬
وعن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه قال: " أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتا وهديا تتبعون عملهم حذو القذة بالقذة غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا؟ ". وعن حذيفة بن اليمان (¬1) رضي الله عنه قال: " المنافقون الذين منكم اليوم شر من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلنا: وكيف؟ قال: أولئك كانوا يخفون نفاقهم وهؤلاء أعلنوه (¬2) " (¬3) . وأما السنة: فجاءت بالإخبار بمشابهتهم في الدنيا، وذم ذلك، والنهي عن ذلك (¬4) وكذلك في الدين. فأما (¬5) الأول: الذي هو الاستمتاع بالخلاق (¬6) ¬
ففي الصحيحين عن عمرو بن عوف (¬1) «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح (¬2) إلى البحرين يأتي بجزيتها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صالَح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي (¬3) فقدم أبو عبيدة (¬4) بمال من البحرين (¬5) فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع ¬
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف، فتعرضوا له في (¬1) فتبسم (¬2) رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم، ثم (¬3) قال: " أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين فقالوا: أجل يا رسول الله فقال: أبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها، كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم» (¬4) . فقد أخبر (¬5) صلى الله عليه وسلم أنه لا يخاف (¬6) فتنة الفقر، وإنما يخاف بسط الدنيا وتنافسها، وإهلاكها، وهذا هو الاستمتاع بالخلاق المذكور في الآية. وفي الصحيحين عن عقبة بن عامر (¬7) (¬8) «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوما، ¬
فصلى على أهل أحد صلاته على (¬1) الميت، ثم انصرف إلى المنبر فقال: " إني فرط لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض - أو مفاتيح الأرض - وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تتنافسوا (¬2) فيها» (¬3) . وفي رواية: «ولكني (¬4) أخشى عليكم الدنيا (¬5) أن تنافسوا فيها وتقتتلوا، فتهلكوا (¬6) كما هلك من كان قبلكم» قال عقبة: فكان آخر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر " (¬7) . ¬
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن (¬1) عمرو (¬2) رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم أي قوم أنتم؟ " قال عبد الرحمن بن عوف (¬3) نكون كما أمرنا الله عز وجل (¬4) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (¬5) تنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون أو (¬6) تتباغضون، أو غير ذلك - ثم تنطلقون إلى مساكين (¬7) ¬
المهاجرين فتحملون (¬1) بعضهم على (¬2) رقاب بعض» (¬3) وفي الصحيحين عن أبي سعيد رضي الله عنه (¬4) قال: «جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وجلسنا حوله فقال: " إن مما أخاف عليكم بعدي: ما يفتح من زهرة الدنيا وزينتها، فقال رجل: أو يأتي الخير بالشر يا رسول الله؟ فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل: ما شأنك تكلم رسول الله ولا يكلمك؟ قال: ورأينا (¬5) أنه ينزل عليه (¬6) فأفاق يمسح عنه الرحضاء (¬7) وقال: أين هذا السائل؟ وكأنه حمده، فقال: إنه لا يأتي الخير بالشر» وفي رواية: فقال: «أين السائل آنفا؟ أو خير هو؟ - ثلاثا - إن الخير لا يأتي إلا بالخير وإن مما ينبت الربيع: ما (¬8) يقتل حبطا (¬9) ¬
أو يلمّ (¬1) إلا آكلة الخضر (¬2) فإنها أكلت حتى إذا امتدت خاصرتها (¬3) استقبلت عين الشمس فثلطت (¬4) وبالت، ثم رتعت (¬5) وإن هذا المال خضر حلو، ونعم صاحب المسلم هو، لمن أعطى منه المسكين واليتيم، وابن السبيل - أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وإنه من يأخذه (¬6) بغير حقه كالذي (¬7) ¬
يأكل ولا يشبع، ويكون عليه شاهدا (¬1) يوم القيامة» (¬2) . وروى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدنيا حلوة (¬3) خضرة، وإن الله سبحانه مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون؟ فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء (¬4) فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء» (¬5) . فحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة النساء، معللا بأن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء. وهذا نظير ما سنذكره من حديث معاوية (¬6) عنه صلى الله عليه وسلم ¬
أنه (¬1) قال: «إنما هلك (¬2) بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم» (¬3) - يعني وصل الشعر -. وكثير من مشابهات أهل الكتاب في أعيادهم، وغيرها، إنما يدعو إليها النساء (¬4) وأما الخوض كالذي خاضوا (¬5) (¬6) فروينا من حديث الثوري (¬7) عن ¬
عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي (¬1) عن عبد الله بن يزيد (¬2) عن عبد الله بن عمرو (¬3) رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إذا (¬4) كان منهم من أتى أمه علانية كان (¬5) في (¬6) أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة (¬7) وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة " قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: "ما أنا عليه اليوم (¬8) وأصحابي» رواه أبو عيسى (¬9) ¬
الترمذي (¬1) وقال: " هذا حديث غريب مفسر (¬2) لا نعرفه (¬3) إلا من هذا الوجه (¬4) . وهذا الافتراق مشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة، وسعد (¬5) ومعاوية، وعمرو (¬6) بن عوف، وغيرهم، وإنما ذكرت حديث (¬7) ابن عمرو؛ لما فيه من ذكر (¬8) المشابهة. ¬
فعن محمد بن عمرو (¬1) عن أبي سلمة (¬2) عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تفترق اليهود على إحدى وسبعين فرقة، أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق (¬3) أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» . رواه أبو داود (¬4) وابن ماجه (¬5) والترمذي وقال: " هذا حديث (¬6) حسن صحيح " (¬7) . ¬
وعن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة - يعني الأهواء - كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة» . وقال: «إنه سيخرج من أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، فلا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله، والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به محمد لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به» (¬1) . هذا حديث محفوظ من حديث صفوان بن عمرو (¬2) عن الأزهر بن عبد الله الحرازي (¬3) (¬4) عن أبي عامر عبد الله بن لحي (¬5) عن معاوية. رواه ¬
الاختلاف الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم
عنه غير واحد، منهم: أبو اليمان (¬1) وبقية (¬2) وأبو المغيرة (¬3) . رواه أحمد وأبو داود في سننه. وقد روى ابن ماجه هذا المعنى (¬4) من حديث صفوان بن عمرو، عن راشد بن سعد (¬5) عن عوف بن مالك الأشجعي (¬6) ويروى من وجوه أخرى، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بافتراق أمته على ثلاث وسبعين فرقة، واثنتان (¬7) وسبعون؛ لا ريب أنهم الذين خاضوا كخوض الذين من قبلهم. [الاختلاف الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم] ثم هذا الاختلاف الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم إما في الدين فقط، وإما في ¬
الدين والدنيا ثم قد يؤول إلى الدماء (¬1) وقد يكون الاختلاف في الدنيا فقط (¬2) . وهذا الاختلاف الذي دلت عليه هذه الأحاديث، هو مما نهي (¬3) عنه في قوله سبحانه: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران: 105] (¬4) (¬5) . وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] (¬6) وقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام: 153] (¬7) (¬8) وهو موافق لما رواه (¬9) مسلم (¬10) في صحيحه، عن عامر بن ¬
سعد (¬1) بن أبي وقاص عن أبيه (¬2) «أنه أقبل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه، من العالية (¬3) حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين وصلينا معه ودعا ربه طويلا، ثم انصرف إلينا فقال: " سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة: (¬4) سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنَة (¬5) فأعطانيها وسألت ربي أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها» (¬6) . وروى (¬7) أيضا في صحيحه عن ثوبان (¬8) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ¬
«إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى (¬1) لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض (¬2) وإني سألت ربي لأمتي: أن لا يهلكها بسنة (¬3) بعامة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم (¬4) وإن ربي قال: يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن (¬5) لا أهلكهم بسنة بعامة (¬6) وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى (¬7) أنفسهم، فيستبيح (¬8) بيضتهم، ولو اجتمع عليهم (¬9) من بأقطارها ¬
- أو قال: من بين أقطارها - حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي (¬1) بعضهم بعضا» (¬2) . ورواه البرقاني (¬3) في صحيحه وزاد: «وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى يعبد (¬4) فئام (¬5) من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال (¬6) طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى» (¬7) . ¬
وهذا المعنى محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه، يشير إلى أن التفرقة والاختلاف لا بد من وقوعهما (¬1) في الأمة، وكان يحذر أمته (¬2) ؛ لينجو منه (¬3) من شاء الله له السلامة، كما روى النزال بن سبرة (¬4) عن عبد الله بن مسعود قال: «سمعت رجلا قرأ آية سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها، فأخذت بيده، فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فعرفت في وجهه الكراهية، وقال: " كلاكما محسن، ولا تختلفوا؛ فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا» رواه مسلم (¬5) . نهى النبي (¬6) صلى الله عليه وسلم عن الاختلاف الذي فيه جحد (¬7) كل واحد من المختلفين ما مع الآخر من الحق؛ لأن كلا القارئين كان محسنا فيما قرأه، ¬
وعلل ذلك: بأن من كان قبلنا اختلفوا فهلكوا. ولهذا قال حذيفة لعثمان (¬1) " أدرك هذه الأمة، لا تختلف في الكتاب كما اختلف (¬2) فيه الأمم (¬3) قبلهم " (¬4) لما رأى أهل الشام والعراق (¬5) يختلفون في حروف القرآن، الاختلاف الذي نهى عنه النبي (¬6) صلى الله عليه وسلم. ¬
فأفاد ذلك بشيئين: أحدهما: تحريم الاختلاف في مثل هذا. والثاني: الاعتبار بمن كان قبلنا، والحذر من مشابهتهم. واعلم أن أكثر الاختلاف بين الأمة الذي يورث الأهواء؛ تجده من هذا الضرب، وهو: أن يكون كل واحد من المختلفين مصيبا فيما يثبته، أو في بعضه مخطئا في نفي ما عليه الآخر، كما أن القارئين كل منهما كان مصيبا في القراءة بالحرف الذي علمه، مخطئا في نفي حرف غيره؛ فإن أكثر الجهل إنما يقع في النفي الذي هو الجحود والتكذيب، لا في الإثبات، لأن إحاطة الإنسان بما يثبته أيسر من إحاطته بما ينفيه ولهذا نهيت هذه (¬1) الأمة أن تضرب آيات الله بعضها ببعض؛ لأن مضمون الضرب: الإيمان بإحدى الآيتين والكفر بالأخرى - إذا اعتقد أن بينهما تضادا - إذ الضدان لا يجتمعان. ومثل ذلك: ما رواه مسلم - أيضا - عن عبد الله بن رباح الأنصاري (¬2) أن عبد الله بن عمرو (¬3) قال: «هجرت (¬4) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فسمع (¬5) أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه ¬
الغضب، فقال: " إنما هلك من كان قبلكم من الأمم (¬1) باختلافهم في الكتاب» (¬2) . فعلل غضبه صلى الله عليه وسلم (¬3) بأن الاختلاف في الكتاب سبب (¬4) هلاك من كان قبلنا، وذلك يوجب مجانبة طريقهم في هذا عينا، وفي غيره نوعا (¬5) . والاختلاف على ما ذكره الله في القرآن قسمان: أحدهما: يذم (¬6) الطائفتين جميعا، كما في قوله: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ - إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود: 118 - 119] (¬7) فجعل أهل الرحمة مستثنين من الاختلاف، وكذلك قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة: 176] (¬8) وكذلك قوله: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران: 19] (¬9) وقوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105] (¬10) ¬
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] (¬1) . وكذلك وصف (¬2) اختلاف النصارى بقوله: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 14] (¬3) . ووصف (¬4) اختلاف اليهود بقوله: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائدة: 64] (¬5) وقال: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] (¬6) . وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما وصف أن الأمة تفترق (¬7) على ثلاث وسبعين فرقة؛ قال: «كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة» (¬8) وفي الرواية الأخرى: «من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي» (¬9) . ¬
أنواع الاختلاف
فبين: أن عامة المختلفين هالكون من الجانبين، إلا فرقة واحدة، وهم أهل السنة والجماعة. وهذا الاختلاف المذموم من الطرفين يكون سببه تارة: فساد النية؛ لما في النفوس من البغي والحسد وإرادة العلو في الأرض (¬1) ونحو ذلك، فيجب (¬2) لذلك ذم قول غيرها، أو فعله، أو غلبته ليتميز (¬3) عليه، أو يحب قول من يوافقه في نسب أو مذهب (¬4) أو بلد أو صداقة، ونحو ذلك، لما في قيام قوله من حصول الشرف والرئاسة (¬5) وما أكثر هذا من بني آدم، وهذا ظلم. ويكون سببه - تارة - (¬6) جهل المختلفين بحقيقة الأمر الذي يتنازعان فيه، أو الجهل بالدليل الذي يرشد به أحدهما الآخر، أو جهل (¬7) أحدهما بما مع الآخر من الحق: في الحكم، أو في الدليل، وإن كان عالما بما مع نفسه من الحق حكما ودليلا. والجهل والظلم: هما أصل كل شر، كما قال سبحانه: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72] (¬8) . [أنواع الاختلاف] أما أنواعه: فهو (¬9) في الأصل قسمان: ¬
اختلاف تنوع (¬1) واختلاف تضاد. واختلاف التنوع على وجوه: منه: ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقا مشروعا، كما في القراءات التي اختلف فيها الصحابة، حتى زجرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬2) وقال: «كلاكما محسن» (¬3) . ومثله اختلاف الأنواع في صفة الأذان، والإقامة، والاستفتاح، والتشهدات، وصلاة الخوف، وتكبيرات العيد، وتكبيرات الجنازة (¬4) إلى غير ذلك مما قد (¬5) شرع (¬6) جميعه، وإن كان قد يقال إن بعض أنواعه أفضل. ثم نجد لكثير من الأمة في ذلك من الاختلاف؛ ما أوجب اقتتال طوائف منهم (¬7) على شفع الإقامة وإيثارها، ونحو ذلك، وهذا عين المحرم ومن لم يبلغ هذا المبلغ؛ فتجد كثيرا منهم في قلبه من (¬8) الهوى لأحد (¬9) هذه الأنواع والإعراض عن الآخر (¬10) أو النهي عنه، ما دخل (¬11) به فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم. ¬
ومنه: ما يكون كل من القولين هو في (¬1) معنى قول الآخر؛ لكن العبارتان مختلفتان، كما قد يختلف كثير من الناس في ألفاظ الحدود (¬2) وصيغ (¬3) الأدلة، والتعبير عن المسميات، وتقسيم الأحكام، وغير ذلك ثم الجهل أو الظلم (¬4) يحمل على حمد (¬5) إحدى المقالتين وذم الأخرى. ومنه ما يكون المعنيان غيرين (¬6) لكن لا يتنافيان؛ فهذا قول صحيح، وهذا (¬7) قول صحيح (¬8) وإن لم يكن معنى أحدهما هو معنى الآخر، وهذا كثير في المنازعات جدا (¬9) . ومنه ما يكون طريقتان مشروعتان، ورجل (¬10) أو قوم قد سلكوا هذه الطريق، وآخرون قد سلكوا الأخرى، وكلاهما حسن في الدين. ¬
ثم الجهل أو الظلم: يحمل على ذم (¬1) إحدهما (¬2) أو تفضيلها بلا قصد صالح، أو بلا علم، أو بلا نية وبلا علم (¬3) . وأما اختلاف التضاد فهو: القولان المتنافيان: إما في الأصول وإما في الفروع، عند الجمهور الذين يقولون: " المصيب واحد "، وإلا فمن قال: " كل مجتهد مصيب " فعنده: هو (¬4) من باب اختلاف التنوع، لا اختلاف التضاد فهذا الخطب فيه أشد؛ لأن القولين يتنافيان؛ لكن نجد كثيرا من هؤلاء قد يكون القول الباطل الذي مع منازعه فيه (¬5) حق ما، أو معه دليل يقتضي حقا ما، فيرد الحق في الأصل هذا (¬6) كله، حتى يبقى هذا مبطلا في البعض (¬7) كما كان الأول مبطلا في الأصل (¬8) كما رأيته لكثير من أهل السنة في مسائل القدر والصفات والصحابة، وغيرهم. وأما أهل البدعة: فالأمر فيهم ظاهر (¬9) وكما (¬10) رأيته لكثير من ¬
الفقهاء، أو لأكثر المتأخرين في مسائل الفقه، وكذلك (¬1) رأيت الاختلاف كثيرا بين بعض المتفقهة، وبعض المتصوفة، وبين فرق (¬2) المتصوفة، ونظائره كثيرة. ومن جعل الله له هداية ونورا رأى من هذا ما يتبين له (¬3) به منفعة ما جاء في الكتاب والسنة: من النهي عن هذا وأشباهه، وإن كانت القلوب الصحيحه تنكر هذا (¬4) ابتداء، لكن نور على نور (¬5) . وهذا القسم - الذي سميناه: اختلاف التنوع - كل واحد من المختلفين مصيب فيه بلا تردد، لكن الذم واقع على من بغى على الآخر فيه، وقد دل القرآن على حمد كل واحد من الطائفتين في مثل ذلك (¬6) إذا لم يحصل (¬7) بغي كما في قوله: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر: 5] (¬8) . وقد كانوا (¬9) اختلفوا في قطع الأشجار فقطع قوم وترك آخرون. وكما في قوله: ¬
{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ - فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78 - 79] (¬1) فخص سليمان بالفهم وأثنى عليهما بالعلم والحكم. وكما في إقرار النبي صلى الله عليه وسلم - يوم بني قريظة (¬2) - (¬3) لمن صلى العصر في وقتها، ولمن أخرها إلى أن وصل إلى بني قريظة (¬4) . ¬
وكما في قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ (¬1) فله أجر» (¬2) . . ونظائره كثيرة. وإذا جعلت هذا (¬3) قسما آخر صار الاختلاف ثلاثة أقسام (¬4) . وأما القسم الثاني من الاختلاف المذكور في كتاب الله: فهو ما حمد فيه إحدى الطائفتين، وهم المؤمنون، وذم فيه الأخرى (¬5) كما في قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253] (¬6) إلى قوله: ¬
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} [البقرة: 253] (¬1) . فقوله: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} [البقرة: 253] حمد لإحدى الطائفتين - وهم المؤمنون - وذم للآخرى، وكذلك قوله: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [الحج: 19] إلى قوله (¬2) {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الحج: 23] (¬3) مع ما ثبت في الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه: " أنها نزلت في المقتتلين (¬4) يوم بدر: علي (¬5) وحمزة (¬6) ¬
وعبيدة (¬1) والذين بارزوهم من قريش وهم: عتبة وشيبة والوليد (¬2) . وأكثر الاختلاف الذي يؤول إلى الأهواء بين الأمة من القسم الأول (¬3) وكذلك آل إلى سفك الدماء، واستباحة الأموال، والعداوة والبغضاء؛ لأن (¬4) إحدى الطائفتين لا تعترف للأخرى بما معها من الحق ولا تنصفها بل تزيد على ما مع نفسها (¬5) من الحق زيادات من الباطل والأخرى كذلك. وكذلك (¬6) جعل الله مصدره (¬7) البغي في قوله: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [البقرة: 213] ؛ (¬8) لأن البغي: مجاوزة الحد. وذكر هذا في غير موضع من القرآن ليكون عبرة لهذه الأمة. ¬
وقريب من هذا الباب: ما خرجاه في الصحيحين عن أبي الزناد (¬1) عن الأعرج (¬2) عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ذروني (¬3) ما تركتكم فإنما هلك (¬4) من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر (¬5) فائتوا منه ما استطعتم» (¬6) فأمرهم بالإمساك عما لم يؤمروا به (¬7) معللا (¬8) بأن سبب هلاك الأولين إنما كان كثرة السؤال، ¬
ثم الاختلاف على الرسل بالمعصية، كما أخبرنا الله عن بني إسرائيل من مخالفتهم أمر موسى في الجهاد وغيره، وفي كثرة سؤالهم عن صفات البقرة (¬1) . لكن هذا الاختلاف (¬2) على الأنبياء: هو (¬3) - والله أعلم - مخالفة الأنبياء (¬4) كما يقول: اختلف الناس على الأمير إذا خالفوه. والاختلاف الأول: مخالفة (¬5) بعضهم بعضا (¬6) وإن كان الأمران متلازمين أو أن الاختلاف عليه (¬7) هو الاختلاف فيما بينهم، فإن اللفظ يحتمله. ثم الاختلاف كله (¬8) قد يكون في التنزيل والحروف، كما في حديث ابن مسعود (¬9) وقد يكون في التأويل كما يحتمله حديث عبد الله بن عمرو، فإن حديث عمرو بن شعيب (¬10) يدل على ذلك، إن كانت هذه القصة (¬11) ¬
قال أحمد في المسند: حدثنا إسماعيل (¬1) حدثنا داود بن أبي هند (¬2) عن عمرو بن شعيب عن أبيه (¬3) عن جده (¬4) «أن نفرا كانوا جلوسا بباب النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟ وقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟ فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان (¬5) ! فقال: " أبهذا أمرتم؟ أو بهذا بعثتم: أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ إنما ضلت الأمم قبلكم في (¬6) مثل هذا؛ إنكم لستم مما ههنا في شيء، انظروا الذي أمرتم (¬7) به فاعملوا به، والذي ¬
نهيتم (¬1) عنه فانتهوا عنه» (¬2) وقال (¬3) (حدثنا يونس (¬4) حدثنا حماد بن سلمة (¬5) عن حميد (¬6) ومطر (¬7) الوراق. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وداود بن أبي هند (¬1) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه، وهم يتنازعون في القدر (¬2) - فذكر الحديث) (¬3) وقال أحمد (¬4) . حدثنا أنس (¬5) بن عياض، حدثنا أبو حازم (¬6) عن عمرو بن شعيب، عن ¬
أبيه، عن جده قال: «لقد جلست أنا وأخي (¬1) مجلسا ما أحب أن لي به حمر النعم: أقبلت أنا وأخي، وإذا مشيخة (¬2) من صحابة (¬3) رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس عند باب من أبوابه، فكرهنا أن نفرق بينهم فجلسنا حجرة (¬4) إذ ذكروا آية من القرآن فتماروا (¬5) فيها حتى ارتفعت أصواتهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضبا، قد احمر وجهه يرميهم بالتراب، ويقول: " مهلا يا قوم، بهذا أهلكت الأمم من قبلكم: باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتب بعضها ببعض، إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضا، وإنما (¬6) أنزل (¬7) يصدق بعضه بعضا، فما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه» (¬8) . وقال أحمد حدثنا أبو معاوية (¬9) حدثنا داود بن أبي هند، عن ¬
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم، والناس يتكلمون في القدر قال: فكأنما تفقأ (¬1) في وجهه حب الرمان من الغضب قال: فقال لهم: " ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم» ، قال (¬2) فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم أشهده ما غبطت نفسي بذلك المجلس أني (¬3) لم أشهده (¬4) . هذا حديث محفوظ عن عمرو بن شعيب رواه عنه الناس، ورواه ابن ماجه (¬5) في سننه من حديث أبي معاوية، كما سقناه. ¬
وقد كتب أحمد في رسالته (¬1) إلى المتوكل (¬2) هذا الحديث، وجعل يقول لهم في مناظرته يوم الدار (¬3) " إنا قد نهينا أن نضرب كتاب الله بعضه ببعض " وهذا لعلمه - رحمه الله - بما في خلاف هذا الحديث من الفساد العظيم. وقد روى هذا المعنى الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقال: " حديث حسن غريب " وقال: " وفي الباب عن عمر (¬4) وعائشة (¬5) ¬
وأنس (¬1) " (¬2) . وهذا باب واسع لم نقصد (¬3) له ههنا، وإنما الغرض التنبيه على ما يخاف على الأمة من موافقة الأمم قبلها؛ إذ الأمر في هذا الحديث - كما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم - (¬4) أصل هلاك بني آدم: " إنما كان التنازع في القدر "، وعنه نشأ ¬
مذهب المجوس (¬1) القائلين بالأصلين: النور والظلمة، ومذهب (¬2) الصابئة (¬3) وغيرهم القائلين بقدم العالم، ومذاهب كثير من مجوس هذه الأمة (¬4) وغيرهم. وهذا مذهب (¬5) كثير ممن عطل الشرائع. ¬
فإن القوم تنازعوا في علة فعل الله سبحانه وتعالى لما فعله، فأرادوا أن يثبتوا شيئا يستقيم لهم به تعليل فعله (¬1) بمقتضى قياسه سبحانه على المخلوقات، فوقعوا في غاية (¬2) الضلال؛ إما بأن (¬3) فعله ما زال لازما له، وإما بأن (¬4) الفاعل اثنان؛ وإما بأنه (¬5) يفعل البعض، والخلق (¬6) يفعلون البعض، وإما بأن ما فعله لم يأمر بخلافه، وما أمر به لم يقدر خلافه وذلك حين عارضوا بين فعله وأمره، حتى أقر فريق بالقدر وكذبوا بالأمر، وأقر فريق بالأمر وكذبوا بالقدر، حين (¬7) اعتقدوا جميعا أن اجتماعهما محال، وكل منهما مبطل بالتكذيب بما صدق به الآخر. وأكثر ما يكون ذلك لوقوع المنازعة في الشيء القليل قبل إحكامه وجمع حواشيه وأطرافه ولهذا قال: «ما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه» (¬8) . والغرض (¬9) بذكر هذه الأحاديث: (¬10) التنبيه من الحديث (¬11) على مثل ما في القرآن من قوله تعالى: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة: 69] (¬12) . ¬
ومن ذلك: ما روى الزهري (¬1) عن سنان بن أبي سنان الدؤلي (¬2) عن أبي واقد الليثي (¬3) أنه قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء (¬4) عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينيطون (¬5) بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر! إنها السنن (¬6) قلتم - والذي نفسي بيده - كما قالت بنو (¬7) إسرائيل لموسى (¬8) ¬
{اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138] لتركبن سنن من كان قبلكم» رواه مالك (¬1) والنسائي (¬2) والترمذي وقال: (هذا حديث حسن صحيح) (¬3) ولفظه «لتركبن سنة من كان قبلكم» (¬4) . وقد قدمت ما خرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى ¬
لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " قالوا يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟» (¬1) . وما رواه البخاري (¬2) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لتأخذن أمتي مأخذ القرون قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع "، قالوا: فارس والروم؟ قال: " فمن الناس إلا أولئك؟» (¬3) . وهذا كله خرج منه مخرج الخبر عن وقوع ذلك، والذم لمن يفعله، كما كان يخبر عما يفعله الناس بين يدي الساعة من الأشراط والأمور المحرمات. فعلم أن مشابهتها (¬4) اليهود والنصارى، وفارس والروم، مما ذمه الله ورسوله، وهو المطلوب ولا يقال: فإذا كان الكتاب والسنة قد دلا على وقوع (¬5) ذلك، فما فائدة النهي عنه؟ لأن الكتاب والسنة أيضا (¬6) قد (¬7) دلا ¬
على أنه لا يزال في هذه الأمة طائفة متمسكة بالحق الذي بعث (¬1) به محمد (¬2) صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة (¬3) وأنها لا تجتمع على ضلالة (¬4) ففي النهي عن ذلك تكثير لهذه الطائفة المنصورة، وتثبيتها، وزيادة إيمانها، فنسأل الله المجيب أن يجعلنا منها (¬5) . وأيضا: لو فرض أن الناس لا يترك أحد منهم هذه المشابهة المنكرة؛ لكان في العلم بها معرفة القبيح، والإيمان بذلك؛ فإن (¬6) نفس العلم والإيمان بما كرهه الله خير، وإن لم يعمل به، بل فائدة العلم والإيمان أعظم من فائدة مجرد العمل الذي لم يقترن به علم، فإن الإنسان إذا عرف المعروف وأنكر المنكر كان خيرا من أن يكون ميت القلب لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه؛ فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان» (¬7) رواه مسلم. وفي لفظ: «ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» (¬8) . ¬
عود إلى الاستدلال من القرآن على النهي عن مشابهة الكفار
وإنكار القلب هو: الإيمان بأن هذا منكر، وكراهته لذلك (¬1) . فإذا حصل هذا، كان في القلب (¬2) إيمان وإذا فقد (¬3) القلب معرفة هذا المعروف وإنكار هذا المنكر؛ ارتفع هذا الإيمان من القلب. وأيضا فقد يستغفر الرجل من الذنب مع إصراره عليه أو يأتي بحسنات تمحوه، أو تمحو بعضه، وقد يقلل منه، وقد تضعف همته في طلبه إذا علم أنه منكر، ثم لو فرض أنا علمنا أن الناس لا يتركون المنكر، ولا يعترفون بأنه منكر لم يكن ذلك مانعا من إبلاغ الرسالة وبيان العلم، بل ذلك لا يسقط وجوب الإبلاغ ولا وجوب الأمر والنهي في إحدى الروايتين عن أحمد - وقول كثير من أهل العلم. على أن هذا ليس موضع استقصاء (¬4) ذلك، ولله الحمد على ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أنه: «لا تزال (¬5) من أمته طائفة ظاهرة على الحق حتى يأتي أمر الله» . وليس هذا الكلام من خصائص هذه المسألة، بل هو وارد في كل منكر قد أخبر الصادق بوقوعه. [عود إلى الاستدلال من القرآن على النهي عن مشابهة الكفار] ومما يدل من القرآن على النهي عن مشابهة الكفار قوله سبحانه: ¬
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 104] (¬1) قال قتادة (¬2) وغيره (¬3) " كانت اليهود تقوله استهزاء، فكره (¬4) الله للمؤمنين أن يقولوا مثل قولهم " (¬5) ؛ وقال أيضا: " كانت اليهود تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: راعنا سمعك، يستهزءون بذلك (¬6) وكانت (¬7) في اليهود قبيحة ". وروى أحمد (¬8) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
عن عطية (¬1) قال (¬2) " كان يأتي ناس من اليهود فيقولون: راعنا سمعك، حتى قالها ناس من المسلمين، فكره الله لهم ما قالت اليهود ". وقال عطاء (¬3) " كانت لغة في الأنصار في الجاهلية " (¬4) . وقال أبو العالية (¬5) " إن مشركي العرب كانوا إذا حدث بعضهم بعضا يقول أحدهم (¬6) لصاحبه: أرعني (¬7) سمعك؛ فنهوا عن ذلك " (¬8) وكذلك قال الضحاك (¬9) . ¬
فهذا كله يبين أن هذه الكلمة نُهي المسلمون عن قولها؛ لأن اليهود كانوا يقولونها - وإن كانت من اليهود قبيحة ومن المسلمين لم تكن قبيحة - لما كان (¬1) في مشابهتهم فيها من مشابهة الكفار، وتطريقهم (¬2) إلى بلوغ غرضهم. وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159] (¬3) . ومعلوم أن الكفار فرقوا دينهم، وكانوا شيعا (¬4) كما قال سبحانه: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105] (¬5) . وقال: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 4] (¬6) . وقال: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة: 14] (¬7) . ¬
وقال عن اليهود: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة: 64] (¬1) . وقد قال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] وذلك يقتضي تبرؤه منهم في جميع الأشياء. ومن تابع غيره في بعض أموره فهو منه في ذلك الأمر؛ لأن قول القائل: أنا من هذا، وهذا مني - أي أنا من نوعه، وهو من نوعي - لأن الشخصين لا يتحدان إلا بالنوع، كما في قوله تعالى: {بَعْضُكُمْ (¬2) مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 195] (¬3) وقوله عليه الصلاة والسلام لعلي: «أنت مني وأنا منك» (¬4) فقول القائل: لست من هذا في شيء، أي لست مشاركا له في شيء، بل أنا متبرئ من جميع أموره. وإذا كان الله قد برأ (¬5) الله رسوله صلى الله عليه وسلم (¬6) من جميع أمورهم؛ فمن كان متبعا للرسول صلى الله عليه وسلم حقيقة كان متبرئا كتبرئه، ومن كان (¬7) موافقا لهم كان مخالفا ¬
للرسول بقدر موافقته لهم، فإن الشخصين المختلفين من كل وجه في دينهما، كلما شابهت أحدهما؛ خالفت الآخر (¬1) . وقال سبحانه وتعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] (¬2) إلى آخر السورة (¬3) . وقد روى مسلم في صحيحه عن العلاء بن عبد الرحمن (¬4) عن أبيه (¬5) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] (¬6) . الآية، اشتد (¬7) ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بركوا على الركب، فقالوا: " أي رسول الله، كلفنا ما نطيق: (¬8) الصلاة والصيام والجهاد ¬
والصدقة، وقد نزلت عليك هذه الآية، (¬1) ولا نطيقها " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين (¬2) من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير "، فلما اقترأها القوم، وذلت (¬3) بها ألسنتهم، أنزل (¬4) الله تعالى في إثرها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285] فلما فعلوا ذلك نسخها الله؛ فأنزل الله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] قال: نعم {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286] قال: نعم {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286] قال: نعم {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286] قال: نعم» (¬5) (¬6) . فحذرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يتلقوا أمر الله بما تلقاه (¬7) . أهل الكتابين (¬8) وأمرهم بالسمع والطاعة؛ فشكر الله لهم ذلك، حتى رفع الله عنهم ¬
الآصار والأغلال (¬1) التي كانت على من كان (¬2) قبلنا (¬3) . وقال الله في صفته صلى الله عليه وسلم: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] (¬4) فأخبر الله سبحانه أن رسوله عليه الصلاة والسلام يضع الآصار والأغلال التي كانت على أهل الكتاب. ولما دعا المؤمنون بذلك أخبر (¬5) الرسول أنه (¬6) قد استجاب دعاءهم. وهذا وإن كان رفعا للإيجاب والتحريم فإن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته (¬7) قد صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم (¬8) . ¬
كما (¬1) كان النبي عليه الصلاة والسلام يكره مشابهة أهل الكتابين في هذه الآصار والأغلال، وزجر أصحابه عن التبتل (¬2) وقال: «لا رهبانية (¬3) في الإسلام» (¬4) وأمر بالسحور (¬5) ونهى عن المواصلة (¬6) (¬7) وقال فيما ¬
النهي عن موالاة الكفار ومودتهم
يعيب (¬1) أهل الكتابين ويحذر موافقتهم (¬2) «فتلك بقاياهم في الصوامع» (¬3) (¬4) وهذا باب واسع جدا. [النهي عن موالاة الكفار ومودتهم] وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] (¬5) وقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ} [المجادلة: 14] (¬6) يعيب بذلك المنافقين الذين تولوا اليهود. . . إلى قوله: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22] إلى قوله: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ} [المجادلة: 22] (¬7) . وقال تعالى: ¬
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا (¬1) بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (¬2) وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 72] إلى قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] إلى قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} [الأنفال: 75] (¬3) . فعقد سبحانه الموالاة بين المهاجرين والأنصار، وبين من آمن (¬4) بعدهم وهاجر (¬5) وجاهد إلى يوم القيامة. والمهاجر: من هجر ما نهى الله عنه (¬6) والجهاد باق إلى يوم القيامة (¬7) . ¬
فكل شخص يمكن أن يقوم به هذان الوصفان، إذ كان كثير (¬1) من النفوس اللينة تميل إلى هجر السيئات دون الجهاد، والنفوس القوية قد تميل إلى الجهاد دون هجر السيئات، وإنما عقد (¬2) الموالاة لمن جمع (¬3) الوصفين، وهم أمة محمد (¬4) حقيقة. وقال: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ - وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 55 - 56] (¬5) ونظائر هذا في غير موضع من القرآن: يأمر سبحانه بموالاة المؤمنين حقا - الذين هم حزبه وجنده - ويخبر أن هؤلاء لا يوالون الكافرين ولا يوادونهم. والموالاة (¬6) والموادة: وإن كانت متعلقة بالقلب، لكن المخالفة في الظاهر (¬7) أعون (¬8) على مقاطعة الكافرين ومباينتهم. ¬
ومشاركتهم في الظاهر: إن لم تكن (¬1) ذريعة أو سببا قريبا أو بعيدا إلى نوع ما من الموالاة (¬2) والموادة، فليس فيها مصلحة المقاطعة والمباينة، مع أنها تدعو إلى نوع ما من المواصلة - كما توجبه الطبيعة (¬3) وتدل عليه العادة - ولهذا كان السلف رضي الله عنهم يستدلون بهذه الآيات على ترك الاستعانة بهم في الولايات. فروى الإمام أحمد بإسناد صحيح، عن أبي موسى (¬4) رضي الله عنه قال: " قلت لعمر رضي الله عنه: إن لي كاتبا نصرانيا قال: ما لك؟ قاتلك الله، أما سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51] (¬5) ألا اتخذت حنيفا؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين، لي كتابته وله دينه. قال: ¬
لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله " (¬1) ولما دل عليه معنى الكتاب: وجاءت (¬2) سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة خلفائه الراشدين، التي أجمع الفقهاء عليها بمخالفتهم وترك التشبه بهم. ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم» (¬3) أمر بمخالفتهم؛ وذلك يقتضي أن يكون جنس (¬4) مخالفتهم أمرا مقصودا للشارع؛ لأنه: إن كان الأمر بجنس المخالفة حصل المقصود، وإن كان الأمر بالمخالفة في تغيير الشعر فقط، فهو لأجل ما فيه من المخالفة فالمخالفة: إما علة مفردة (¬5) أو علة (¬6) أخرى، أو بعض علة، وعلى (¬7) التقديرات (¬8) تكون مأمورا بها مطلوبة ¬
وجوه الأمر بمخالفة الكفار
من (¬1) الشارع؛ لأن الفعل المأمور به إذا عبر عنه (¬2) . بلفظ مشتق من معنى أعم من ذلك الفعل؛ فلا بد أن يكون ما منه الاشتقاق أمرا مطلوبا، لا سيما إن ظهر لنا أن (¬3) المعنى المشتق منه معنى مناسب للحكمة، كما لو قيل للضيف: أكرمه، بمعنى أطعمه، أو (¬4) للشيخ الكبير: وقره، بمعنى اخفض صوتك له، أو نحو (¬5) ذلك. [وجوه الأمر بمخالفة الكفار] وذلك لوجوه: * أحدها (¬6) أن الأمر إذا تعلق باسم مفعول مشتق من معنى كان المعنى (¬7) علة للحكم، كما في قوله عز وجل: {فَاقْتُلُوا (¬8) الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] (¬9) ¬
وقوله (¬1) {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] (¬2) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عودوا المريض وأطعموا الجائع وفكوا العاني» (¬3) وهذا كثير معلوم. فإذا (¬4) كان نفس الفعل المأمور به مشتقا من معنى أعم منه؛ كان نفس الطلب والاقتضاء قد علق بذلك المعنى الأعم، فيكون مطلوبا بطريق الأولى. * الوجه الثاني: أن جميع الأفعال مشتقة، سواء كانت (¬5) مشتقة من المصدر، أو كان المصدر مشتقا منها، أو كان كل (¬6) منهما (¬7) مشتقا من الآخر، بمعنى: أن بينهما مناسبة في اللفظ والمعنى، لا بمعنى: أن أحدهما أصل والآخر فرع، بمنزلة المعاني المتضايفة (¬8) كالأبوة والبنوة أو كالأخوة من الجانبين، ونحو ذلك. ¬
فعلى كل حال: إذا أمر بفعل كان نفس مصدر الفعل أمرا مطلوبا للآمر، مقصودا له كما في قوله: اتَّقُوا اللَّهَ (¬1) و (¬2) {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] (¬3) و {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 136] (¬4) و {اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 72] (¬5) و {فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا} [يونس: 84] (¬6) . فإن نفس التقوى، والإحسان، والإيمان، والعبادة (¬7) أمور مطلوبة مقصودة، بل هي نفس المأمور به. ثم المأمور به أجناس لا يمكن أن (¬8) تقع إلا معينة، وبالتعيين تقترن (¬9) بها أمور غير مقصودة (¬10) للآمر، لكن لا يمكن العبد إيقاع الفعل المأمور به؛ إلا مع أمور معينة له، فإنه إذا قال: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] (¬11) فلا بد إذا أعتق العبد رقبة أن يقترن بهذا المطلق تعيين: من سواد، أو بياض، أو طول، أو قصر، ¬
أو عربية، أو عجمية، أو غير ذلك من الصفات، لكن المقصود: هو المطلق المشترك بين (¬1) هذه المعينات. وكذلك (¬2) إذا قيل: اتقوا الله (¬3) وخالفوا اليهود؛ فإن التقوى تارة تكون بفعل واجب: من صلاة، أو صيام، وتارة تكون بترك محرم: من كفر أو زنا، أو نحو ذلك، فخصوص ذلك الفعل إذا دخل في التقوى لم يمنع دخول غيره، فإذا رئي رجل على (¬4) زنا فقيل: له اتق الله؛ كان أمرا له (¬5) بعموم التقوى، داخلا فيه خصوص (¬6) ترك ذلك الزنا؛ لأن سبب اللفظ العام لا بد أن يدخل فيه. كذلك إذا قيل: " إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم " (¬7) كان أمرا بعموم المخالفة، داخلا فيه المخالفة بصبغ اللحية؛، لأنه سبب اللفظ العام. وسببه: أن الفعل (¬8) فيه عموم وإطلاق لفظي ومعنوي فيجب الوفاء به، وخروجه على سبب يوجب (¬9) أن يكون داخلا فيه لا يمنع أن يكون غيره داخلا فيه - (¬10) وإن قيل: إن اللفظ العام يقصر (¬11) على سببه - لأن العموم هاهنا من جهة المعنى - فلا يقبل من التخصيص ما يقبله العموم اللفظي. ¬
فإن قيل: الأمر بالمخالفة أمر بالحقيقة المطلقة وذلك (¬1) لا عموم فيه بل يكفي فيه المخالفة في (¬2) أمر ما، وكذلك سائر ما يذكرونه فمن أين اقتضى ذلك المخالفة في غير ذلك الفعل المعين؟ . قلت: هذا سؤال قد يورده بعض المتكلمين في عامة الأفعال المأمور بها ويلبسون به على الفقهاء وجوابه من وجهين (¬3) . أحدهما: أن التقوى والمخالفة ونحو ذلك من الأسماء والأفعال المطلقة قد يكون العموم فيها من جهة عموم الكل لأجزائه (¬4) لا من جهة عموم الجنس لأنواعه؛ فإن العموم ثلاثة أقسام: 1 - عموم الكل لأجزائه: وهو ما لا يصدق فيه الاسم العام، ولا أفراده (¬5) على جزئه. 2 - عموم الجميع (¬6) لأفراده: وهو ما يصدق فيه أفراد الاسم العام على آحاده. 3 - عموم الجنس لأنواعه وأعيانه: وهو ما يصدق فيه نفس الاسم العام على أفراده. ¬
فالأول: عموم الكل لأجزائه في الأعيان والأفعال والصفات كما في قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] (¬1) فإن اسم الوجه يعم الخد والجبين (¬2) والجبهة ونحو ذلك وكل واحد من هذه الأجزاء ليس هو الوجه فإذا غسل بعض هذه الأجزاء لم يكن غاسلا للوجه لانتفاء (¬3) المسمى بانتفاء جزئه. وكذلك في الصفات والأفعال إذا قيل: صل فصلى ركعة وخرج بغير سلام أو قيل: صم فصام بعض يوم لم يكن ممتثلا لانتفاء معنى الصلاة المطلقة والصوم (¬4) المطلق وكذلك إذا قيل: أكرم (¬5) هذا الرجل. فأطعمه وضربه لم يكن ممتثلا؛ لأن الإكرام المطلق يقتضي فعل ما يسره وترك ما يسوءه. فلما (¬6) قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» (¬7) فلو أطعمه بعض كفايته وتركه جائعا لم يكن مكرما له؛ لانتفاء أجزاء (¬8) الإكرام، ولا يقال: الإكرام حقيقة مطلقة ¬
وذلك يحصل بإطعام (¬1) لقمة كذلك (¬2) إذا قال: خالفوهم. فالمخالفة (¬3) المطلقة تنافي الموافقة في بعض الأشياء، أو في أكثرها على طريق التساوي؛ لأن المخالفة المطلقة ضد (¬4) الموافقة المطلقة فيكون الأمر بأحدهما نهيا عن الآخر، ولا يقال: إذا خالف (¬5) في شيء ما فقد حصلت المخالفة، كما لا يقال: إذا وافقه في شيء ما فقد حصلت الموافقة. وسر ذلك الفرق بين مفهوم اللفظ المطلق وبين المفهوم المطلق من اللفظ، فإن اللفظ يستعمل مطلقا ومقيدا. فإذا أخذت المعنى المشترك بين جميع (¬6) موارده مطلقها ومقيدها؛ كان أعم من المعنى المفهوم منه عند إطلاقه وذلك المعنى المطلق يحصل بحصول بعض مسميات اللفظ في أي استعمال حصل من استعمالاته المطلقة والمقيدة. وأما معناه في حال إطلاقه فلا يحصل بعض معانيه عند التقييد بل يقتضي أمورا كثيرة لا يقتضيها اللفظ المقيد. فكثيرا ما يغلط الغالطون هنا. ألا ترى أن الفقهاء يفرقون بين الماء المطلق وبين المائية المطلقة الثابتة في المني والمتغيرات وسائر المائعات، فأنت تقول عند التقييد: أكرم الضيف بإعطاء (¬7) هذا الدرهم. فهذا إكرام مقيد، فإذا قلت: أكرم الضيف. كنت آمرا بمفهوم اللفظ المطلق وذلك يقتضي أمورا ¬
لا تحصل بحصول إعطاء (¬1) درهم فقط (¬2) . ، وأما القسم الثاني من (¬3) العموم فهو عموم الجميع (¬4) لأفراده كما يعم قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] (¬5) كل مشرك. والقسم (¬6) الثالث من أقسام العموم: عموم الجنس لأعيانه كما يعم قوله: «لا يقتل مسلم بكافر» (¬7) جميع أنواع القتل والمسلم (¬8) والكافر. إذا تبين هذا فالمخالفة المطلقة لا تحصل بالمخالفة في شيء ما إذا كانت الموافقة قد حصلت في أكثر منه (¬9) وإنما تحصل بالمخالفة في جميع الأشياء أو في غالبها، إذ المخالفة المطلقة ضد الموافقة المطلقة فلا يجتمعان، بل الحكم للغالب وهذا تحقيق جيد، لكنه (¬10) مبني على مقدمة وهو (¬11) أن المفهوم من لفظ المخالفة عند الإطلاق، يعم المخالفة في عامة ¬
الأمور الظاهرة، فإن خفي هذا (¬1) في هذا الموضع المعين فخذ في: الوجه الثاني (¬2) وهو العموم المعنوي وهو أن المخالفة مشتقة، فإنما أمر بها لمعنى كونها مخالفة، كما تقدم تقريره (¬3) وذلك ثابت في كل فرد من أفراد (¬4) المخالفة فيكون العموم ثابتا من جهة المعنى المعقول، وبهذين الطريقين يتقرر العموم في قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] (¬5) وغير ذلك من الأفعال. وإن كان أكثر الناس إنما يفزعون إلى الطريق الثاني وقل منهم من يتفطن (¬6) للطريق الأول وهو (¬7) أبلغ إذا صح. ثم نقول: (¬8) هب أن الإجزاء يحصل بما (¬9) يسمى مخالفة، لكن الزيادة على القدر المجزئ مشروعة؛ إذا كان الأمر مطلقا كما في قوله: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] (¬10) ونحو ذلك من الأوامر المطلقة. ¬
الوجه الثالث (¬1) في أصل التقرير (¬2) أن عدول (¬3) الأمر عن لفظ الفعل الخاص به إلى لفظ أعم منه معنى كعدوله (¬4) عن لفظ: أطعمه. إلى لفظ: أكرمه. وعن لفظ: فاصبغوا (¬5) إلى لفظ: (¬6) فخالفوهم (¬7) لا بد له من فائدة، وإلا فمطابقة اللفظ للمعنى أولى من إطلاق اللفظ العام وإرادة الخاص، وليست هنا فائدة تظهر إلا تعلق القصد بذلك المعنى العام المشتمل على هذا الخاص (¬8) وهذا بين عند التأمل. الوجه الرابع: أن العلم بالعام عاما يقتضي العلم بالخاص، والقصد العام (¬9) عاما يوجب القصد للمعنى الخاص، فإنك إذا علمت أن كل مسكر خمر، وعلمت أن النبيذ مسكر، كان علمك بذلك الأمر العام وبحصوله في الخاص موجبا لعلمك (¬10) بوصف الخاص كذلك إذا كان قصدك طعاما مطلقا، أو مالا مطلقا، وعلمت وجود طعام معين أو مال معين في مكان حصل قصدك له إذ العلم والقصد يتطابقان في مثل هذا والكلام يبين مراد المتكلم ومقصوده. ¬
فإذا أمر بفعل باسم دال على معنى عام مريدا به فعلا خاصا كان ما ذكرناه من الترتيب الحكمي يقتضي أنه قاصد بالأول (¬1) لذلك المعنى العام وأنه إنما قصد ذلك الفعل الخاص لحصوله به. ففي قوله: أكرمه. طلبان طلب (¬2) للإكرام المطلق وطلب لهذا الفعل الذي يحصل به الفعل (¬3) المطلق؛ وذلك؛ لأن حصول المعين مقتض (¬4) لحصول المطلق، وهذا معنى صحيح، إذا صادف فطنة من الإنسان وذكاء؛ انتفع به في كثير من المواضع وعلم به طريق البيان والدلالة. بقي (¬5) أن يقال هذا يدل على أن (¬6) جنس المخالفة أمر مقصود للشارع وهذا صحيح لكن قصد الجنس قد يحصل الاكتفاء فيه (¬7) بالمخالفة في بعض الأمور، فما زاد على ذلك لا حاجة إليه. قلت: إذا ثبت أن الجنس مقصود في الجملة (¬8) كان ذلك حاصلا في كل فرد من أفراده ولو فرض أن الوجوب سقط بالبعض؛ لم يرفع (¬9) حكم الاستحباب عن الباقي. وأيضا فإن ذلك يقتضي النهي عن موافقتهم؛ لأن (¬10) من قصد ¬
مخالفتهم (¬1) بحيث (¬2) أمر (¬3) بإحداث فعل يقتضي مخالفتهم فيما لم تكن الموافقة فيه من فعلنا، ولا قصدنا كيف (¬4) لا ينهانا عن أن نفعل فعلا فيه موافقتهم سواء قصدنا موافقتهم أو لم نقصدها. الوجه الخامس: أنه رتب الحكم على الوصف بحرف الفاء فيدل هذا (¬5) على أنه علة له من غير وجه حيث قال: إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم. فإنه يقتضي أن علة (¬6) الأمر بهذه المخالفة كونهم لا يصبغون فالتقدير: اصبغوا؛ لأنهم لا يصبغون وإذا كان علة الأمر بالفعل عدم فعلهم له دل على أن قصد المخالفة لهم ثابت بالشرع، وهو المطلوب يوضح ذلك أنه لو لم يكن لقصد مخالفتهم تأثير في الأمر بالصبغ لم يكن لذكرهم فائدة، ولا حسن تعقيبه به، وهذا وإن دل على أن (¬7) مخالفتهم أمر مقصود للشرع فذلك لا ينفي أن يكون (¬8) في نفس الفعل الذي خولفوا فيه مصلحة مقصودة مع قطع النظر عن مخالفتهم فإن هنا شيئين: أحدهما: أن نفس المخالفة لهم في الهدى الظاهر مصلحة ومنفعة لعباد الله المؤمنين لما في مخالفتهم من المجانبة والمباينة التي توجب ¬
المباعدة عن أعمال أهل الجحيم، وإنما يظهر بعض المصلحة في ذلك لمن تنور قلبه حتى رأى ما اتصف به المغضوب عليهم والضالون من المرض (¬1) الذي ضرره أشد من ضرر أمراض الأبدان. والثاني: أن نفس ما هم عليه من الهدى والخلق قد يكون مضرا أو منقصا فينهى عنه، ويؤمر بضده (¬2) لما فيه من المنفعة والكمال، وليس شيء من أمورهم إلا (¬3) وهو إما مضر أو ناقص (¬4) ؛ لأن ما بأيديهم من الأعمال المبتدعة والمنسوخة ونحوها مضرة، وما بأيديهم مما لم ينسخ أصله فهو يقبل الزيادة والنقص، فمخالفتهم فيه بأن يشرع ما يحصله على وجه الكمال، ولا يتصور أن يكون شيء من أمورهم كاملا قط، فإذا المخالفة فيها منفعة وصلاح لنا في كل أمورهم (¬5) حتى ما هم عليه من إتقان بعض (¬6) أمور دنياهم قد يكون مضرا بأمر (¬7) الآخرة أو بما هو أهم منه من أمر الدنيا (¬8) لمخالفة فيه صلاح لنا. وبالجملة فالكفر بمنزلة مرض القلب (¬9) وأشد ومتى كان القلب مريضا لم يصح شيء من الأعضاء صحة مطلقة، وإنما الصلاح أن لا تشبه (¬10) ¬
مريض القلب في شيء من أموره، وإن (¬1) خفي عليك مرض ذلك العضو لكن يكفيك أن فساد الأصل لا بد أن يؤثر في الفرع، ومن انتبه لهذا قد يعلم بعض الحكمة التي أنزلها الله (¬2) فإن من في قلبه مرض قد يرتاب (¬3) في الأمر بنفس المخالفة لعدم استبانته لفائدته، أو يتوهم أن هذا من جنس أمر الملوك والرؤساء القاصدين للعلو في الأرض، ولعمري إن النبوة غاية الملك الذي يؤتيه الله من يشاء وينزعه ممن يشاء، ولكن ملك (¬4) هو غاية صلاح من أطاعه (¬5) من العباد في معاشهم ومعادهم (¬6) . وحقيقة الأمر: أن جميع أعمال الكافر وأموره لا بد فيها من خلل يمنعها أن تتم (¬7) منفعة بها. ولو فرض صلاح شيء من أموره على التمام، لاستحق (¬8) بذلك ثواب الآخرة، ولكن كل أموره إما فاسدة وإما ناقصة، فالحمد لله على نعمة الإسلام التي هي أعظم النعم، وأم كل خير كما يحب ربنا ويرضى. فقد تبين أن نفس مخالفتهم أمر مقصود للشارع في الجملة، ولهذا كان الإمام أحمد بن حنبل (¬9) وغيره من الأئمة (¬10) يعللون (¬11) الأمر ¬
بالصبغ (¬1) بعلة المخالفة قال حنبل (¬2) سمعت أبا عبد الله يقول: ما أحب لأحد إلا أن يغير الشيب، لا يتشبه بأهل الكتاب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «غيروا الشيب، ولا تشبهوا بأهل الكتاب» (¬3) . وقال إسحاق بن إبراهيم (¬4) سمعت أبا عبد الله يقول لأبي (¬5) ¬
: يا أبا هاشم (¬1) اخضب ولو مرة واحدة، أحب لك (¬2) أن تخضب، ولا تشبه باليهود. وهذا اللفظ الذي احتج به أحمد قد رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غيروا الشيب، ولا تشبهوا باليهود.» (¬3) . قال الترمذي: حديث حسن صحيح (¬4) . وقد رواه النسائي من حديث محمد بن كناسة (¬5) عن هشام بن (¬6) عروة (¬7) عن عثمان بن ¬
عروة (¬1) عن أبيه (¬2) عن الزبير (¬3) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «غيروا الشيب، ولا تشبهوا باليهود» (¬4) ورواه أيضا من حديث عروة عن عبد الله بن عمر لكن قال النسائي: كلاهما ليس بمحفوظ (¬5) . وقال الدارقطني (¬6) المشهور عن عروة مرسلا (¬7) . ¬
وهذا اللفظ دل (¬1) على الأمر بمخالفتهم (¬2) والنهي عن مشابهتهم فإنه إذا نهى عن التشبه بهم في بقاء بيض الشيب الذي ليس من فعلنا، فلأن ينهى عن إحداث التشبه بهم أولى، ولهذا كان هذا (¬3) التشبه (¬4) يكون محرما بخلاف الأول. وأيضا ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خالفوا المشركين، أحفوا (¬5) الشوارب، وأوفوا (¬6) اللحى» . رواه البخاري ومسلم (¬7) وهذا لفظه فأمر بمخالفة المشركين مطلقا ثم قال: «أحفوا الشوارب (¬8) وأوفوا (¬9) اللحى» . وهذه الجملة الثانية بدل من الأولى، فإن ¬
الإبدال يقع في الجمل كما يقع في المفردات كقوله تعالى: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [البقرة: 49] (¬1) فهذا الذبح والاستحياء هو سوء العذاب كذلك هنا هذا (¬2) هو المخالفة للمشركين المأمور بها هنا (¬3) لكن الأمر بها أولا بلفظ مخالفة (¬4) المشركين دليل على أن جنس المخالفة أمر مقصود للشارع وإن عينت هنا في هذا الفعل فإن تقديم المخالفة (¬5) علة (¬6) تقدم العام على الخاص كما يقال: أكرم ضيفك: أطعمه، وحادثه. فأمرك بالإكرام أولا دليل على أن إكرام الضيف مقصود، ثم عينت (¬7) الفعل الذي يكون إكراما (¬8) في ذلك الوقت. والتقرير من هذا الحديث شبيه بالتقرير من قوله: لا يصبغون فخالفوهم. وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جزوا الشوارب، وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس» (¬9) . فعقب الأمر بالوصف المشتق المناسب، وذلك دليل على أن مخالفة المجوس (¬10) أمر مقصود للشارع، وهو العلة في هذا الحكم، أو علة أخرى، ¬
أو بعض علة، وإن كان الأظهر عند الإطلاق: أنه علة تامة؛ ولهذا لما فهم السلف كراهة التشبه بالمجوس، في هذا وغيره، كرهوا أشياء غير منصوصة بعينها عن النبي صلى الله عليه وسلم من هدى المجوس. وقال المروذي (¬1) سألت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - عن حلق القفا (¬2) فقال: هو من فعل المجوس، ومن تشبه بقوم فهو منهم (¬3) . وقال أيضا: قيل لأبي عبد الله: يكره (¬4) للرجل أن يحلق قفاه، أو وجهه. فقال: أما أنا فلا أحلق قفاي. وقد روي فيه (¬5) حديث مرسل عن (¬6) قتادة ¬
كراهيته (¬1) وقال: إن حلق القفا من فعل المجوس (¬2) . قال (¬3) وكان (¬4) أبو عبد الله يحلق قفاه وقت الحجامة. وقال أحمد (¬5) أيضا: لا بأس أن يحلق قفاه وقت (¬6) الحجامة (¬7) . وقد روى عنه ابن منصور (¬8) قال: سألت أحمد عن حلق القفا (¬9) فقال: لا أعلم فيه حديثا إلا ما يروى عن إبراهيم (¬10) أنه كره قردا يرقوس (¬11) وذكر الخلال (¬12) هذا وغيره. ¬
وذكره أيضا بإسناده عن الهيثم بن حميد (¬1) قال: حف القفا من شكل المجوس. وعن المعتمر بن سليمان التيمي (¬2) قال: كان أبي إذا جز شعره لم (¬3) يحلق قفاه. قيل له: لم؟ قال: كان يكره أن يتشبه بالعجم (¬4) . والسلف تارة (¬5) يعللون الكراهة بالتشبه بأهل الكتاب، وتارة بالتشبيه بالأعاجم، وكلا العلتين منصوصة (¬6) في السنة مع أن الصادق صلى الله عليه وسلم قد أخبر بوقوع المشابهة لهؤلاء وهؤلاء كما (¬7) قدمنا بيانه. وعن شداد بن أوس (¬8) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خالفوا ¬
اليهود، فإنهم لا يصلون في نعالهم، ولا خفافهم» (¬1) رواه أبو داود (¬2) . وهذا مع أن نزع اليهود نعالهم مأخوذ عن موسى عليه السلام لما قيل له: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه: 12] (¬3) . عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر» (¬4) رواه مسلم في صحيحه (¬5) . وهذا يدل على أن الفصل بين العبادتين (¬6) أمر مقصود للشارع وقد صرح بذلك فيما رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه عن ¬
النبي صلى الله عليه وسلم (¬1) قال: «لا يزال الدين ظاهرا ما عجل الناس الفطر؛ لأن اليهود والنصارى يؤخرون» (¬2) . وهذا نص في أن ظهور الدين الحاصل بتعجيل الفطر (¬3) لأجل مخالفة اليهود والنصارى. وإذا كان (¬4) مخالفتهم سببا لظهور الدين فإنما (¬5) المقصود بإرسال الرسل أن يظهر دين الله على الدين كله، فيكون (¬6) نفس مخالفتهم من أكبر مقاصد البعثة. وهكذا روى أبو داود من حديث أبي أيوب (¬7) الأنصاري (¬8) رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال (¬9) أمتي بخير أو (¬10) على الفطرة ما لم يؤخروا ¬
المغرب إلى أن تشتبك النجوم» (¬1) ورواه ابن ماجه (¬2) من حديث العباس (¬3) ورواه الإمام أحمد من (¬4) حديث السائب بن يزيد (¬5) . وقد جاء مفسرا تعليله: لا يزالون بخير ما لم يؤخروا المغرب إلى طلوع النجم (¬6) مضاهاة لليهودية، (¬7) ويؤخروا (¬8) الفجر إلى ¬
محاق (¬1) النجوم مضاهاة للنصرانية (¬2) . قال (¬3) سعيد بن منصور (¬4) حدثنا أبو معاوية (¬5) حدثنا الصلت بن بهرام (¬6) عن الحارث (¬7) بن وهب عن أبي (¬8) عبد الرحمن الصنابحي (¬9) ¬
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال أمتي على مسكة ما لم ينتظروا بالمغرب اشتباك النجوم مضاهاة لليهودية (¬1) ولم ينتظروا بالفجر محاق النجوم مضاهاة (¬2) للنصرانية (¬3) ولم (¬4) يكلوا الجنائز إلى أهلها» (¬5) . وقال سعيد بن منصور: حدثنا عبيد الله (¬6) بن إياد (¬7) بن لقيط (¬8) عن أبيه (¬9) عن ليلى (¬10) ¬
امرأة بشير (¬1) بن الخصاصية (¬2) قالت: أردت أن أصوم يومين مواصلة (¬3) فنهاني عنه بشير (¬4) وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاني عن ذلك وقال: «إنما يفعل ذلك النصارى، صوموا كما أمركم الله (¬5) وأتموا الصوم كما أمركم الله ثم أتموا الصيام إلى الليل، فإذا كان الليل فأفطروا» . وقد رواه أحمد في المسند (¬6) . فعلل النهي عن الوصال بأنه صوم النصارى وهو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬7) ويشبه (¬8) أن يكون من رهبانيتهم التي ابتدعوها. وعن حماد (¬9) عن ثابت (¬10) عن أنس رضي الله عنه: «أن اليهود كانوا إذا ¬
حاضت (¬1) المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوها في البيوت فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم (¬2) فأنزل الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ (¬3) قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] (¬4) إلى آخر الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اصنعوا كل شيء إلا النكاح. فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير (¬5) وعباد بن بشر (¬6) فقالا: يا رسول الله، إن اليهود تقول كذا وكذا، أفلا نجامعهن. فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أن (¬7) قد وجد (¬8) عليهما فخرجا ¬
فاستقبلهما (¬1) هدية من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل في آثارهما (¬2) فسقاهما، فعرفنا أنه لم يجد عليهما» رواه مسلم (¬3) . فهذا الحديث يدل على كثرة ما شرعه الله لنبيه من مخالفة اليهود بل على أنه خالفهم في عامة أمورهم حتى قالوا: ما يريد أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه. ثم إن المخالفة كما سنبينه (¬4) تارة تكون في أصل الحكم وتارة في وصفه (¬5) . ومجانبة الحائض: لم يخالفوا في أصله (¬6) بل خولفوا (¬7) في وصفه (¬8) حيث شرع الله مقاربة الحائض في غير محل الأذى، فلما أراد بعض الصحابة أن يعتدي (¬9) في المخالفة إلى ترك ما شرعه الله، تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الباب - باب الطهارة - كان على اليهود (¬10) فيه أغلال (¬11) عظيمة فابتدع النصارى ترك ذلك كله حتى ¬
إنهم لا ينجسون شيئا، بلا شرع من الله (¬1) فهدى الله الأمة الوسط بما شرعه لها إلى وسط (¬2) من ذلك وإن كان ما كان عليه اليهود كان أيضا مشروعا، فاجتناب ما لم يشرع الله اجتنابه مقاربة لليهود (¬3) وملابسة ما شرع الله اجتنابه مقاربة للنصارى وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم. وعن أبي أمامة (¬4) عن «عمرو بن عبسة (¬5) قال: كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة فإنهم (¬6) ليسوا على شيء، وهم يعبدون الأوثان، قال: فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارا، فقعدت على راحلتي فقدمت عليه فإذا (¬7) رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفيا جرآء عليه (¬8) قومه، فتلطفت (¬9) حتى دخلت ¬
عليه بمكة، فقلت له: ما أنت؟ قال (¬1) أنا نبي. فقلت: وما نبي؟ قال (¬2) أرسلني الله. فقلت: بأي شيء أرسلك؟ قال: أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء. فقلت (¬3) له: من معك على هذا؟ قال: حر وعبد. قال: ومعه يومئذ أبو بكر وبلال فقلت: إني متبعك. قال: إنك لا (¬4) تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى (¬5) حالي وحال الناس، ولكن ارجع إلى أهلك، فإذا سمعت بي قد ظهرت فائتني. قال (¬6) فذهبت إلى أهلي، وقدم (¬7) رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكنت في أهلي فجعلت أتخبر (¬8) الأخبار وأسأل الناس حين (¬9) قدم نفر من أهل (¬10) يثرب (¬11) من أهل المدينة. فقلت: ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة؟ فقالوا: الناس إليه سراع، وقد أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك. فقدمت المدينة، فدخلت عليه، فقلت (¬12) يا رسول الله، أتعرفني قال: نعم، أنت الذي لقيتني بمكة. قال: فقلت: يا نبي الله، أخبرني عما علمك الله وأجهله، أخبرني عن الصلاة قال: صل ¬
صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع (¬1) فإنها تطلع حين (¬2) تطلع بين قرني (¬3) شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صل فإن الصلاة مشهودة (¬4) محضورة (¬5) حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة فإن (¬6) حينئذ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفيء فصل، فإن الصلاة مشهودة محضورة، حتى تصلي العصر، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس، فإنها تغرب بين قرني شيطان (¬7) وحينئذ يسجد لها الكفار» وذكر الحديث (¬8) رواه مسلم. فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت الغروب، معللا (¬9) بأنها تطلع وتغرب بين قرني شيطان (¬10) وأنه حينئذ يسجد لها الكفار. ومعلوم أن المؤمن لا يقصد السجود إلا لله تعالى، وأكثر الناس قد لا يعلمون أن طلوعها وغروبها بين قرني شيطان (¬11) ولا أن الكفار يسجدون ¬
لها، ثم إنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في هذا الوقت حسما لمادة المشابهة بكل طريق، ويظهر بعض فائدة ذلك بأن من الصابئة المشركين اليوم (¬1) ممن يظهر الإسلام ويعظم الكواكب، ويزعم أنه يخاطبها بحوائجه، ويسجد لها وينحر ويذبح. وقد صنف (¬2) بعض المنتسبين إلى الإسلام في مذهب المشركين من الصابئة والبراهمة كتبا في عبادة الكواكب توسلا بذلك زعموا إلى مقاصد دنيوية من الرئاسة (¬3) وغيرها وهي من السحر الذي كان (¬4) عليه الكنعانيون (¬5) الذين (¬6) ملوكهم النماردة (¬7) الذين بعث الله (¬8) الخليل صلوات الله وسلامه عليه بالحنيفية وإخلاص الدين كله لله إلى هؤلاء المشركين. فإذا كان في هذه الأزمنة من يفعل مثل هذا، تحققت حكمة الشارع ¬
صلوات الله وسلامه عليه (¬1) في النهي عن الصلاة في هذه الأوقات، سدا للذريعة وكان فيه تنبيه على أن كل ما يفعله المشركون من العبادات ونحوها، مما يكون كفرا أو معصية بالنية، ينهى المؤمنون عن ظاهره وإن لم يقصدوا به قصد المشركين سدا للذريعة وحسما للمادة. ومن هذا الباب أنه صلى الله عليه وسلم، كان إذا صلى إلى عود أو عمود جعله على (¬2) حاجبه الأيمن أو الأيسر ولم يصمد (¬3) له صمدا (¬4) . ولهذا نهى عن الصلاة إلى ما عبد من دون الله في الجملة، وإن لم يكن العابد يقصد ذلك، ولهذا ينهى (¬5) عن السجود لله بين يدي الرجل وإن لم يقصد الساجد ذلك لما فيه من مشابهة السجود لغير الله، فانظر كيف قطعت الشريعة المشابهة في الجهات وفي الأوقات وكما لا يصلى إلى القبلة التي يصلون إليها كذلك لا يصلى إلى ما يصلون له بل هذا أشد فسادا، فإن القبلة ¬
شريعة من الشرائع (¬1) قد تختلف باختلاف شرائع الأنبياء، أما السجود لغير الله وعبادته فهو محرم في الدين الذي اتفقت عليه رسل الله كما قال سبحانه وتعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45] (¬2) . وأيضا (¬3) عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه رأى رجلا يتكئ على يده اليسرى وهو قاعد في الصلاة فقال له: لا تجلس هكذا، فإن هكذا يجلس الذين يعذبون (¬4) وفي رواية تلك (¬5) صلاة المغضوب عليهم (¬6) وفي رواية «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد (¬7) على يده» (¬8) . رواهن (¬9) أبو داود. ففي هذا الحديث النهي عن هذه الجلسة معللا بأنها جلسة المعذبين، وهذه مبالغة في مجانبة هديهم. وأيضا فروى (¬10) البخاري عن مسروق (¬11) عن عائشة أنها كانت تكره ¬
أن يجعل (¬1) يده في خاصرته، وتقول: إن اليهود تفعله (¬2) ورواه أيضا من حديث أبي هريرة قال: «نهى عن الخصر (¬3) في الصلاة» (¬4) وفي لفظ: «نهى أن يصلي الرجل مختصرا.» (¬5) قال (¬6) وقال هشام (¬7) وأبو هلال (¬8) عن ابن سيرين (¬9) ¬
عن أبي هريرة (¬1) نهى النبي صلى الله عليه وسلم (¬2) وهكذا رواه مسلم في صحيحه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬3) . وعن زياد بن (¬4) صبيح (¬5) قال: «صليت إلى جنب ابن عمر فوضعت يدي على خاصرتي، فلما صلى قال: هذا الصلب في الصلاة، وكان (¬6) رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنه.» رواه أحمد (¬7) وأبو داود (¬8) والنسائي (¬9) . ¬
وأيضا عن جابر (¬1) بن عبد الله رضي الله عنهما (¬2) أنه قال: «اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر (¬3) يسمع الناس تكبيره، فالتفت إلينا فرآنا قياما، فأشار إلينا فقعدنا، فصلينا بصلاته قعودا، فلما سلم قال: إن كدتم آنفا (¬4) تفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم إن صلى قائما فصلوا قياما وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا» . رواه مسلم (¬5) وأبو داود (¬6) من حديث الليث (¬7) ¬
عن أبي الزبير (¬1) عن جابر. . ورواه (¬2) أبو داود وغيره (¬3) من حديث الأعمش (¬4) عن أبي (¬5) سفيان (¬6) عن جابر قال: «ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا بالمدينة فصرعه على ¬
جذم (¬1) نخلة فانقطعت (¬2) قدمه، فأتيناه نعوده، فوجدناه في مشربة (¬3) لعائشة يسبح جالسا. قال: فقمنا خلفه، فسكت عنا، ثم أتيناه مرة أخرى نعوده فصلى المكتوبة جالسا، فقمنا خلفه، فأشار إلينا فقعدنا. قال: (¬4) فلما قضى الصلاة. قال: إذا صلى الإمام جالسا فصلوا جلوسا وإذا صلى الإمام (¬5) قائما فصلوا قياما، ولا تفعلوا كما يفعل أهل فارس بعظمائها» (¬6) وأظن في غير رواية أبي داود «ولا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضا» (¬7) . ففي هذا الحديث أنه أمرهم بترك القيام الذي هو فرض في الصلاة، وعلل ذلك بأن قيام المأمومين مع قعود الإمام يشبه فعل فارس والروم بعظمائهم، في قيامهم وهم قعود. ومعلوم أن المأموم إنما نوى أن يقوم (¬8) لله (¬9) لا (¬10) لإمامه وهذا ¬
تشديد (¬1) عظيم في النهي عن القيام للرجل القاعد، ونهى أيضا عما (¬2) يشبه ذلك، وإن لم يقصد به ذلك، ولهذا نهى عن السجود لله بين يدي الرجل، وعن الصلاة إلى ما قد (¬3) عبد من دون الله، كالنار ونحوها. وفي هذا الحديث أيضا نهى عما يشبه (¬4) فعل (¬5) فارس والروم وإن كانت (¬6) نيتنا غير نيتهم (¬7) لقوله (¬8) فلا تفعلوا. فهل بعد هذا في النهي عن مشابهتهم في مجرد الصورة غاية. ثم هذا الحديث سواء كان محكما في قعود الإمام أو منسوخا فإن الحجة منه قائمة؛ لأن نسخ القعود لا يدل على فساد تلك العلة وإنما يقتضي أنه قد عارضها ما ترجح عليها مثل كون القيام فرضا في الصلاة فلا يسقط الفرض بمجرد المشابهة الصورية، وهذا محل اجتهاد، وأما المشابهة الصورية إذا (¬9) لم تسقط فرضا كانت (¬10) تلك العلة التي علل بها رسول (¬11) الله صلى الله عليه وسلم سليمة (¬12) ¬
عن معارض أو (¬1) نسخ؛ لأن القيام في الصلاة ليس بمشابهة في الحقيقة فلا يكون محذورا فالحكم إذا علل بعلة، ثم نسخ مع بقاء العلة، فلا بد من أن (¬2) يكون غيرها ترجح (¬3) عليها وقت الناسخ (¬4) أو ضعف تأثيرها أما أن تكون (¬5) في نفسها باطلة فهذا محال هذا كله لو كان الحكم هنا منسوخا فكيف، والصحيح أن هذا الحديث محكم قد عمل به غير واحد من الصحابة بعد وفاة رسول (¬6) الله صلى الله عليه وسلم مع كونهم علموا صلاته (¬7) في (¬8) مرضه (¬9) . وقد استفاض عنه صلى الله عليه وسلم الأمر به استفاضة صحيحة صريحة يمتنع معها أن يكون حديث المرض (¬10) ناسخا له على ما هو مقرر في غير هذا الموضع إما (¬11) بجواز الأمرين إذ فعل القيام لا ينافي فعل القعود، وإما بالفرق بين المبتدئ (¬12) للصلاة قاعدا و (¬13) الصلاة التي ابتدأها الإمام قائما لعدم دخول ¬
هذه الصلاة (¬1) في قوله. وإذا صلى قاعدا ولعدم المفسدة التي علل بها، ولأن بناء فعل آخر الصلاة على أولها أولى من بنائها على صلاة الإمام ونحو ذلك من الأمور المذكورة في غير هذا الموضع. وأيضا فعن عبادة بن الصامت (¬2) رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اتبع جنازة لم يقعد حتى توضع في اللحد، فعرض (¬3) له حبر (¬4) فقال: هكذا نصنع يا محمد. قال: فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: خالفوهم. رواه أبو (¬5) داود وابن (¬6) ¬
ماجه والترمذي (¬1) وقال: بشر بن رافع (¬2) ليس بالقوي في الحديث (¬3) . قلت: قد اختلف العلماء في القيام للجنازة إذا مرت ومعها إذا شيعت، وأحاديث الأمر بذلك كثيرة مستفيضة ومن اعتقد نسخها أو نسخ القيام للمارة (¬4) فعمدته حديث علي (¬5) وحديث عبادة هذا. وإن كان القول بهما (¬6) ممكنا؛ لأن المشيع يقوم لها حتى توضع عن أعناق الرجال لا في اللحد فهذا الحديث إما أن يقال به جمعا بينه وبين غيره، أو (¬7) ناسخا لغيره وقد علل المخالفة ومن لا يقول به يضعفه، وذلك لا يقدح في الاستشهاد والاعتضاد به على جنس المخالفة. ¬
وقد روى البخاري عن عبد الرحمن بن القاسم (¬1) أن القاسم (¬2) كان يمشي بين يدي الجنازة، ولا يقوم لها ويخبر عن عائشة (¬3) قالت: كان أهل الجاهلية يقومون لها، يقولون (¬4) إذا رأوها: كنت في أهلك ما كنت. مرتين (¬5) فقد استدل من كره القيام (¬6) بأنه كان من (¬7) فعل الجاهلية وليس ال غرض هنا الكلام في عين هذه المسألة. ¬
وأيضا عن (¬1) ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللحد لنا والشق لغيرنا رواه أهل السنن الأربعة» (¬2) وعن جرير بن عبد (¬3) الله (¬4) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللحد لنا والشق لغيرنا» رواه أحمد (¬5) وابن ماجه (¬6) وفي رواية لأحمد: «والشق لأهل ¬
ذم بعض خصال الجاهلية
الكتاب.» (¬1) وهو مروي من طرق (¬2) فيها لين لكن يصدق (¬3) بعضها بعضا (¬4) . وفيه التنبيه على مخالفتنا لأهل الكتاب حتى في وضع الميت في أسفل القبر. [ذم بعض خصال الجاهلية] وأيضا عن عبد الله بن مسعود (¬5) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية» متفق عليه (¬6) ودعوى الجاهلية ندب الميت، وتكون دعوى الجاهلية في العصبية. ¬
ومنه قوله فيما رواه أحمد عن أبي بن كعب (¬1) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تعزى بعزاء (¬2) الجاهلية، فأعضوه (¬3) بهن (¬4) أبيه، ولا تكنوا» (¬5) . وأيضا عن أبي مالك الأشعري (¬6) رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن (¬7) الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة وقال: النائحة إذا لم تتب قبل ¬
موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب» (¬1) رواه مسلم. ذم في (¬2) الحديث من دعا (¬3) بدعوى الجاهلية، وأخبر أن بعض أمر الجاهلية لا يتركه الناس كلهم ذما لمن لم يتركه، وهذا كله يقتضي أن ما كان من أمر الجاهلية وفعلهم فهو مذموم في دين الإسلام، وإلا لم يكن في إضافة هذه المنكرات إلى الجاهلية ذم لها، ومعلوم أن إضافتها إلى الجاهلية خرج مخرج الذم (¬4) وهذا كقوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33] (¬5) فإن في (¬6) ذلك ذما للتبرج وذما لحال الجاهلية الأولى، وذلك يقتضي المنع من مشابهتهم في الجملة. ومنه قوله لأبي ذر (¬7) رضي الله عنه لما عير رجلا بأمه: «إنك امرؤ ¬
فيك جاهلية» (¬1) . فإنه ذم لذلك الخلق ولأخلاق الجاهلية التي لم يجئ بها الإسلام. ومنه قوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 26] (¬2) فإن إضافة الحمية إلى الجاهلية اقتضى (¬3) ذمها فما كان من (¬4) أخلاقهم وأفعالهم، فهو كذلك. ومن هذا ما رواه البخاري في صحيحه، عن عبيد الله (¬5) بن أبي يزيد (¬6) ¬
أنه سمع ابن عباس قال: ثلاث (¬1) خلال من خلال الجاهلية الطعن في الأنساب والنياحة، ونسيت الثالثة قال سفيان (¬2) ويقولون: إنها الاستسقاء (¬3) بالأنواء" (¬4) . وروى مسلم في صحيحه، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت» (¬5) فقوله: هما بهم كفر (¬6) . أي هاتان الخصلتان هما كفر قائم بالناس فنفس الخصلتين كفر حيث (¬7) كانتا من أعمال الكفار (¬8) وهما قائمتان بالناس لكن ليس كل من قام به شعبة من شعب الكفر يصير (¬9) كافرا الكفر المطلق حتى تقوم به حقيقة الكفر كما أنه ليس كل من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير مؤمنا (¬10) حتى يقوم به أصل الإيمان (¬11) وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس بين العبد وبين الكفر - أو الشرك - إلا ترك الصلاة» (¬12) وبين كفر منكر في الإثبات. ¬
وفرق أيضا بين معنى الاسم المطلق إذا قيل: كافر أو مؤمن. وبين المعنى المطلق للاسم في جميع موارده كما في قوله: لا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض (¬1) . فقوله: (¬2) «يضرب بعضكم رقاب (¬3) بعض» تفسير الكفار في هذا الموضع، وهؤلاء يسمون كفارا تسمية مقيدة، ولا يدخلون في الاسم المطلق إذا قيل: كافر ومؤمن. (¬4) كما أن قوله تعالى: {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] (¬5) سمى المني ماء تسمية مقيدة ولم يدخل في الاسم المطلق حيث قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] (¬6) . ¬
ومن هذا الباب ما أخرجاه في الصحيحين عن عمرو بن دينار (¬1) عن جابر بن عبد الله قال: «غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ثاب (¬2) معه ناس من المهاجرين حتى كثروا، وكان من المهاجرين رجل لعاب (¬3) فكسع (¬4) أنصاريا، فغضب الأنصاري غضبا شديدا حتى تداعوا وقال الأنصاري: يا للأنصار. وقال المهاجري: يا للمهاجرين. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال دعوى الجاهلية، ثم قال: ما شأنهم؟ فأخبر (¬5) بكسعة المهاجري للأنصاري قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوها فإنها خبيثة (¬6) وقال عبد الله (¬7) بن أبي ¬
ابن (¬1) سلول: أوقد (¬2) تداعوا علينا، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال (¬3) عمر: ألا تقتل (¬4) يا نبي (¬5) الله هذا الخبيث - لعبد الله - (¬6) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يتحدث الناس أنه كان (¬7) يقتل أصحابه» (¬8) . ورواه مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر (¬9) قال: «اقتتل غلامان غلام من المهاجرين وغلام من الأنصار فنادى المهاجر (¬10) يا للمهاجرين ونادى الأنصاري: يا للأنصار فخرج رسول (¬11) الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ أدعوى الجاهلية؟ قالوا: لا يا رسول الله، إلا أن غلامين اقتتلا فكسع أحدهما الآخر فقال: لا بأس ولينصر (¬12) الرجل أخاه ظالما أو مظلوما، إن كان ظالما فلينهه فإنه له نصر وإن كان مظلوما ¬
فلينصره» (¬1) فهذان الاسمان (¬2) المهاجرون والأنصار اسمان شرعيان جاء بهما الكتاب والسنة وسماهما الله بهما كما سمانا المسلمين (¬3) من قبل وفي هذا، وانتساب الرجل إلى المهاجرين (¬4) أو الأنصار انتساب حسن محمود عند الله وعند رسوله، ليس من المباح الذي يقصد به التعريف فقط، كالانتساب إلى القبائل والأمصار، ولا من المكروه أو المحرم، كالانتساب إلى ما يفضي (¬5) إلى بدعة أو معصية أخرى. ثم مع هذا لما دعا كل (¬6) منهما طائفة منتصرا بها أنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وسماها دعوى الجاهلية حتى قيل له: إن الداعي بها إنما هما غلامان لم يصدر ذلك من الجماعة فأمر بمنع الظالم، وإعانة المظلوم ليبين النبي (¬7) صلى الله عليه وسلم أن المحذور (¬8) إنما هو تعصب الرجل لطائفته مطلقا فعل أهل (¬9) الجاهلية، فأما نصرها بالحق من غير عدوان فحسن واجب أو مستحب. ومثل هذا ما روى أبو داود وابن ماجه عن واثلة بن ¬
الأسقع (¬1) رضي الله عنه قال: قلت: «يا رسول الله ما العصبية قال: أن تعين قومك على الظلم» (¬2) . وعن سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي (¬3) قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ¬
فقال: «خيركم المدافع عن عشيرته ما لم يأثم» رواه أبو داود (¬1) . وروى (¬2) أيضا عن جبير بن (¬3) مطعم (¬4) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية» (¬5) . وروى (¬6) أيضا عن ابن مسعود (¬7) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من نصر قومه ¬
على غير الحق فهو كالبعير الذي ردي (¬1) فهو ينزع بذنبه» (¬2) . فإذا كان هذا (¬3) التداعي في هذه (¬4) الأسماء و (¬5) هذا الانتساب (¬6) الذي يحبه الله ورسوله فكيف بالتعصب مطلقا، والتداعي للنسب والإضافات التي هي: إما مباحة، أو مكروهة. وذلك أن الانتساب إلى الاسم الشرعي أحسن من الانتساب إلى غيره، ألا ترى إلى ما رواه أبو داود من حديث محمد بن إسحاق (¬7) عن داود بن ¬
الحصين (¬1) عن عبد الرحمن بن أبي عقبة (¬2) عن أبي عقبة (¬3) وكان مولى من أهل فارس قال: «شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا فضربت رجلا من المشركين فقلت: خذها (¬4) وأنا الغلام الفارسي، فالتفت إلي (¬5) فقال: هلا قلت: خذها مني وأنا الغلام الأنصاري» (¬6) . ¬
حضه (¬1) رسول الله صلى الله عليه وسلم على الانتساب إلى الأنصار، وإن كان بالولاء، وكان إظهار هذا أحب إليه من الانتساب إلى فارس بالصراحة، وهي نسبة حق، ليست محرمة. ويشبه -والله أعلم- أن يكون من حكمة ذلك: أن النفس تحامي عن الجهة التي تنتسب (¬2) إليها فإذا (¬3) كان ذلك لله كان خيرا للمرء. فقد دلت هذه الأحاديث على أن إضافة الأمر إلى الجاهلية يقتضي ذمه، والنهي عنه، وذلك يقتضي المنع من (¬4) أمور الجاهلية مطلقا، وهو المطلوب في هذا الكتاب (¬5) . ومثل هذا ما روى (¬6) سعيد بن أبي سعيد (¬7) عن أبيه (¬8) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد أذهب ¬
عنكم (¬1) عبية (¬2) الجاهلية وفخرها بالآباء: مؤمن تقي أو فاجر شقي، أنتم بنو آدم وآدم من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها (¬3) النتن» (¬4) رواه أبو داود وغيره (¬5) وهو صحيح. فأضاف العبية (¬6) والفخر إلى الجاهلية يذمها (¬7) بذلك وذلك يقتضي ذمها بكونها مضافة (¬8) إلى الجاهلية وذلك يقتضي ذم (¬9) الأمور المضافة إلى الجاهلية. ¬
ومثله ما روى مسلم في صحيحه عن أبي قيس زياد بن رباح (¬1) عن أبي هريرة رضي الله عنه (¬2) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية (¬3) يغضب لعصبية، أو يدعو إلى عصبية، أو ينصر عصبية فقتل فقتله (¬4) جاهلية (¬5) ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده (¬6) فليس مني ولست منه» (¬7) . ذكر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الأقسام الثلاثة التي يعقد لها الفقهاء باب قتال أهل القبلة من البغاة (¬8) والعداة وأهل العصبية. ¬
فالقسم الأول الخارجون عن طاعة السلطان، فنهى عن نفس الخروج عن الطاعة والجماعة وبين أنه إن (¬1) مات، ولا طاعة عليه (¬2) مات ميتة جاهلية، فإن أهل الجاهلية من العرب ونحوهم لم يكونوا يطيعون أميرا عاما على ما هو (¬3) معروف من سيرتهم. ثم ذكر (¬4) الذي يقاتل تعصبا لقومه، أو أهل بلده ونحو ذلك وسمى الراية عمية (¬5) لأنه الأمر الأعمى الذي لا يدرى وجهه فكذلك قتال العصبية يكون عن غير علم بجواز قتال هذا. وجعل قتلة المقتول قتلة جاهلية سواء غضب بقلبه، أو دعا بلسانه، أو (¬6) ضرب بيده وقد فسر ذلك فيما رواه مسلم أيضا (¬7) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول (¬8) الله صلى الله عليه وسلم: «ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قتل، ولا يدري المقتول على أي شيء قتل فقيل: كيف يكون ذلك؟ قال: الهرج (¬9) القاتل والمقتول في ¬
النار» (¬1) والقسم الثالث: الخوارج (¬2) على الأمة (¬3) إما من العداة الذين غرضهم الأموال كقطاع الطريق ونحوهم، أو غرضهم الرياسة كمن يقتل أهل المصر (¬4) الذين هم (¬5) تحت حكم غيره مطلقا، وإن لم يكونوا مقاتلة، أو من الخارجين عن السنة الذين يستحلون دماء أهل القبلة مطلقا كالحرورية (¬6) الذين قتلهم علي رضي الله عنه. ثم إنه صلى الله عليه وسلم سمى الميتة والقتلة ميتة جاهلية وقتلة جاهلية على وجه الذم لها والنهي عنها وإلا لم يكن قد زجر عن ذلك. ¬
فعلم أنه كان قد قرر (¬1) عند أصحابه أن ما أضيف إلى الجاهلية من ميتة، أو قتلة ونحو ذلك فهو مذموم منهي عنه وذلك يقتضي ذم كل ما كان من أمور (¬2) الجاهلية وهو المطلوب. ومن هذا ما أخرجاه في الصحيحين عن المعرور بن سويد (¬3) قال «رأيت أبا ذر عليه حلة وعلى غلامه مثلها، فسألته عن ذلك فذكر أنه ساب رجلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعيره بأمه فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنك امرؤ فيك جاهلية وفي رواية قلت: على ساعتي هذه من كبر السن قال: نعم هم إخوانكم وخولكم (¬4) جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه (¬5) مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه» (¬6) . ¬
ففي هذا الحديث أن كل ما كان من الجاهلية فهو مذموم؛ لأن قوله: فيك جاهلية. ذم لتلك الخصلة، فلولا أن هذا الوصف يقتضي ذم ما اشتمل عليه لما حصل به المقصود. وفيه أن التعيير بالأنساب من أخلاق الجاهلية. وفيه أن الرجل (¬1) مع فضله وعلمه ودينه قد يكون فيه بعض هذه الخصال المسماة بجاهلية وبيهودية (¬2) ونصرانية (¬3) ولا يوجب ذلك كفره، ولا فسقه. وأيضا ما رواه مسلم في صحيحه عن نافع (¬4) بن جبير بن مطعم (¬5) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، (¬6) ومبتغ (¬7) في الإسلام سنة ¬
الفساد وأنواعه
جاهلية، (¬1) ومطلب (¬2) دم امرئ بغير حق ليريق دمه» (¬3) . [الفساد وأنواعه] أخبر صلى الله عليه وسلم أن أبغض الناس إلى الله هؤلاء الثلاثة وذلك؛ لأن الفساد إما في الدين وإما في الدنيا فأعظم فساد الدنيا قتل النفوس بغير الحق، ولهذا كان أكبر الكبائر بعد أعظم فساد الدين الذي هو الكفر. وأما فساد الدين فنوعان: نوع يتعلق بالعمل، ونوع يتعلق بمحل (¬4) العمل. فأما المتعلق بالعمل فهو ابتغاء سنة الجاهلية (¬5) . وأما ما يتعلق بمحل العمل فالإلحاد في الحرم؛ لأن أعظم محال العمل الحرم (¬6) وانتهاك حرمة المحل المكاني أعظم من انتهاك حرمة المحل الزماني ولهذا حرم من تناول المباحات ومن الصيد والنبات في البلد الحرام ما لم يحرم مثله في الشهر الحرام. ولهذا كان الصحيح أن حرمة القتال في البلد الحرام باقية كما دلت عليه النصوص الصحيحة بخلاف الشهر الحرام فلهذا والله أعلم ذكر صلى الله عليه وسلم الإلحاد في الحرم وابتغاء سنة جاهلية (¬7) . ¬
والمقصود (¬1) أن من هؤلاء الثلاثة من ابتغى في الإسلام سنة جاهلية فسواء قيل: متبع (¬2) أو مبتغ، فإن الابتغاء هو الطلب (¬3) والإرادة فكل من أراد في الإسلام أن يعمل بشيء من سنن الجاهلية دخل في هذا الحديث. والسنة الجاهلية كل عادة كانوا عليها فإن السنة هي العادة وهي الطريق التي تتكرر لنوع الناس (¬4) مما يعدونه عبادة، أو لا يعدونه عبادة قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [آل عمران: 137] (¬5) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنن من كان قبلكم» (¬6) والاتباع هو الاقتفاء والاستنان، فمن عمل بشيء من سننهم فقد اتبع (¬7) سنة جاهلية، وهذا نص عام يوجب تحريم متابعة كل شيء من سنن الجاهلية في أعيادهم وغير أعيادهم (¬8) ولفظ الجاهلية قد يكون اسما للحال وهو الغالب في الكتاب والسنة، وقد يكون اسما لذي الحال. فمن الأول قول (¬9) النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه: «إنك امرؤ فيك جاهلية» (¬10) . ¬
وقول عمر: إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة (¬1) وقول عائشة: كان النكاح في الجاهلية على أربعة أنحاء (¬2) وقولهم: يا رسول الله، كنا في جاهلية (¬3) وشر (¬4) أي في حال جاهلية، أو طريقة جاهلية، أو عادة جاهلية ونحو ذلك. ¬
فإن (¬1) الجاهلية وإن كانت (¬2) في الأصل صفة، لكنه غلب عليه الاستعمال حتى صار اسما، ومعناه قريب من معنى المصدر، وأما الثاني فتقول طائفة جاهلية وشاعر جاهلي، وذلك نسبة إلى الجهل الذي هو عدم العلم، أو عدم اتباع العلم فإن من لم يعلم الحق، فهو جاهل جهلا بسيطا، فإن اعتقد خلافه، فهو جاهل جهلا مركبا، فإن قال خلاف الحق عالما بالحق، أو غير عالم فهو جاهل أيضا كما قال تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63] (¬3) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا كان أحدكم صائما فلا يرفث (¬4) ولا يجهل» (¬5) . ومن هذا قول بعض شعراء (¬6) العرب. ¬
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا (¬1) وهذا كثير وكذلك من عمل بخلاف الحق فهو جاهل وإن علم أنه مخالف للحق كما قال سبحانه: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء: 17] (¬2) قال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: كل من عمل سوءا فهو جاهل (¬3) . وسبب ذلك أن العلم الحقيقي الراسخ في القلب يمتنع أن يصدر معه ما يخالفه من قول، أو فعل فمتى صدر خلافه فلا بد من غفلة القلب عنه، أو ضعفه في القلب بمقاومة (¬4) ما يعارضه وتلك أحوال تناقض حقيقة العلم فيصير جهلا بهذا الاعتبار. ومن هنا (¬5) تعرف دخول الأعمال في مستحق (¬6) الإيمان حقيقة لا مجازا وإن لم يكن كل من ترك شيئا من الأعمال كافرا، ولا (¬7) خارجا عن أصل مسمى الإيمان وكذلك اسم العقل ونحو ذلك من الأسماء. ¬
ولهذا (¬1) يسمي الله تعالى أصحاب هذه الأحوال موتى وعميا وصما (¬2) وبكما وضالين وجاهلين، ويصفهم بأنهم لا يعقلون، ولا يسمعون. ويصف المؤمنين بأولي الألباب وأولي (¬3) النهى، وأنهم مهتدون، وأن لهم نورا، وأنهم يسمعون ويعقلون. فإذا تبين ذلك فالناس قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا في حال جاهلية (¬4) منسوبة إلى الجهل، (¬5) فإن ما كانوا عليه من الأقوال والأعمال إنما أحدثه لهم جاهل (¬6) وإنما يفعله جاهل. وكذلك كل ما يخالف ما جاءت (¬7) به المرسلون من يهودية ونصرانية فهي جاهلية وتلك كانت الجاهلية العامة فأما بعد مبعث (¬8) الرسول صلى الله عليه وسلم (¬9) قد تكون في مصر دون مصر كما هي في دار الكفار وقد تكون في شخص دون شخص كالرجل قبل أن يسلم فإنه (¬10) في جاهلية وإن كان في دار الإسلام. ¬
فأما في زمان مطلق فلا جاهلية بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم (¬1) فإنه لا تزال (¬2) من أمته طائفة ظاهرين (¬3) على الحق إلى قيام الساعة. والجاهلية المقيدة قد تقوم في بعض ديار المسلمين وفي كثير من الأشخاص (¬4) المسلمين كما قال صلى الله عليه وسلم: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية» (¬5) وقال لأبي ذر: «إنك امرؤ فيك جاهلية» (¬6) ونحو ذلك. فقوله في هذا الحديث: ومبتغ (¬7) الإسلام سنة جاهلية. يندرج (¬8) فيه كل جاهلية مطلقة، أو (¬9) مقيدة يهودية، أو نصرانية، أو مجوسية، أو صابئة (¬10) أو وثنية، أو مركبة (¬11) من ذلك، أو بعضه، أو منتزعة من بعض ¬
هذه الملل الجاهلية فإنها جميعها (¬1) مبتدعها (¬2) ومنسوخها صارت جاهلية بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم وإن كان لفظ الجاهلية لا يقال غالبا إلا على حال العرب التي كانوا عليها فإن المعنى واحد. وفي الصحيحين عن نافع (¬3) عن ابن عمر (¬4) «أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر أرض ثمود فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا ويعلفوا الإبل العجين وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة» (¬5) . ورواه البخاري من حديث عبد الله بن دينار (¬6) عن ابن عمر: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من ¬
بئآرها (¬1) ولا يستقوا منها فقالوا: قد عجنا منها واستقينا، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرحوا ذلك العجين، ويهريقوا ذلك الماء» (¬2) . وفي حديث جابر (¬3) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لما مر بالحجر: «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين، إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم ما أصابهم» (¬4) . فنهى رسول (¬5) الله صلى الله عليه وسلم عن الدخول إلى أماكن المعذبين إلا مع البكاء، خشية أن يصيب الداخل ما أصابهم ونهى عن الانتفاع بمياههم حتى أمرهم مع حاجتهم في تلك الغزوة (¬6) وهي أشد غزوة كانت على المسلمين أن يعلفوا النواضح (¬7) بعجين مائهم. وكذلك أيضا روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه «نهى عن الصلاة في أماكن العذاب» ¬
فروى أبو داود عن سليمان بن داود (¬1) أخبرنا (¬2) ابن وهب (¬3) حدثني ابن لهيعة (¬4) ويحيى بن أزهر (¬5) عن عمار بن سعد (¬6) المرادي عن ¬
أبي صالح الغفاري (¬1) أن عليا رضي الله عنه مر ببابل وهو يسير، فجاءه المؤذن يؤذنه بصلاة العصر فلما برز منها، أمر المؤذن فأقام الصلاة فلما فرغ قال: «إن حبي (¬2) النبي (¬3) صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي في المقبرة، ونهاني أن أصلي في أرض بابل؛ فإنها ملعونة» (¬4) . ورواه أيضا عن أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أيضا أخبرني يحيى بن أزهر وابن لهيعة عن الحجاج بن شداد (¬5) عن أبي صالح ¬
الغفاري عن علي (¬1) بمعناه ولفظه: "فلما خرج منها" مكان "برز" (¬2) . وقد روى الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله (¬3) بإسناد أوضح (¬4) من هذا عن علي رضي الله عنه (¬5) نحوا من هذا: أنه كره الصلاة بأرض بابل (¬6) أو أرض الخسف، أو نحو ذلك (¬7) . وكره الإمام (¬8) أحمد الصلاة في هذه الأمكنة اتباعا لعلي رضي الله عنه وقوله: نهاني أن أصلي في أرض بابل؛ فإنها ملعونة. يقتضي أن لا يصلي في أرض ملعونة. ¬
والحديث المشهور في الحجر يوافق هذا، فإنه إذا كان قد نهى عن الدخول إلى أرض العذاب: دخل في ذلك الصلاة، وغيرها (¬1) . ويوافق ذلك قوله سبحانه عن مسجد الضرار: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة: 108] (¬2) فإنه كان من أمكنة العذاب قال سبحانه: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة: 109] (¬3) وقد روى أنه لما هدم خرج منه دخان (¬4) وهذا كما أنه ندب إلى الصلاة في أمكنة الرحمة كالمساجد الثلاثة (¬5) ومسجد قباء (¬6) فكذلك نهي عن الصلاة في ¬
أماكن (¬1) العذاب. فأما أماكن الكفر والمعاصي، التي لم يكن فيها عذاب إذا جعلت مكانا للإيمان، أو الطاعة: فهذا حسن، كما «أمر النبي صلى الله عليه وسلم أهل الطائف أن يجعلوا المسجد مكان طواغيتهم» (¬2) . «وأمر أهل اليمامة أن يتخذوا المسجد مكان بيعة كانت عندهم» (¬3) . ¬
وكان (¬1) مسجده صلى الله عليه وسلم مقبرة، (¬2) فجعله صلى الله عليه وسلم مسجدا بعد نبش القبور (¬3) . فإذا كانت الشريعة قد جاءت بالنهي عن مشاركة الكفار في المكان الذي حل بهم فيه العذاب، فكيف بمشاركتهم في الأعمال التي يعملونها (¬4) . فإنه إذا قيل: هذا العمل (¬5) الذي يعملونه لو تجرد عن مشابهتهم لم يكن محرما، ونحن لا نقصد التشبه بهم فيه، (¬6) فنفس الدخول إلى المكان ليس بمعصية لو تجرد عن كونه أثرهم ونحن لا نقصد التشبه بهم، بل المشاركة في العمل أقرب إلى اقتضاء العذاب من الدخول إلى الديار فإن جميع ما يعملونه مما ليس من أعمال المسلمين السابقين، إما كفر، وإما معصية، وإما شعار كفر، أو معصية (¬7) وإما مظنة للكفر والمعصية، وإما أن يخاف أن يجر إلى معصية (¬8) وما أحسب أحدا ينازع في جميع هذا ولئن نازع فيه فلا يمكنه أن ينازع في أن المخالفة فيه أقرب إلى المخالفة في الكفر والمعصية ¬
التشبه مفهومه ومقتضاه
وأن حصول هذه المصلحة في الأعمال أقرب من حصولها في المكان. ألا ترى أن متابعة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في أعمالهم أنفع وأولى من متابعتهم في مساكنهم ورؤية آثارهم (¬1) . [التشبه مفهومه ومقتضاه] وأيضا ما (¬2) هو صريح في الدلالة ما روى أبو داود في سننه حدثنا عثمان بن أبي شيبة (¬3) حدثنا أبو النضر (¬4) يعني هاشم بن القاسم حدثنا عبد الرحمن بن ثابت (¬5) حدثنا حسان بن عطية (¬6) عن أبي منيب ¬
الجرشي (¬1) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم» (¬2) وهذا إسناد جيد فإن ابن أبي شيبة وأبا النضر وحسان بن عطية ثقات مشاهير أجلاء من رجال الصحيحين وهم أجل من أن يحتاجوا إلى أن يقال: هم من رجال الصحيحين. وأما عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان فقال يحيى بن معين (¬3) وأبو زرعة (¬4) وأحمد بن عبد الله (¬5) ليس به ¬
بأس (¬1) . وقال عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم (¬2) هو ثقة وقال أبو حاتم (¬3) هو مستقيم الحديث (¬4) . وأما أبو (¬5) منيب (¬6) الجرشي فقال: فيه أحمد بن عبد الله العجلي هو ثقة وما علمت أحدا ذكره بسوء وقد سمع منه حسان بن عطية وقد احتج الإمام أحمد (¬7) وغيره بهذا الحديث. وهذا الحديث أقل أحواله (¬8) أن (¬9) يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] (¬10) ¬
وهو نظير ما سنذكره عن عبد الله بن عمرو (¬1) أنه قال (¬2) من بنى بأرض المشركين وصنع نيروزهم ومهرجانهم (¬3) وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم يوم القيامة (¬4) . فقد يحمل هذا على التشبه المطلق فإنه يوجب الكفر، ويقتضي تحريم أبعاض ذلك وقد يحمل على أنه (¬5) منهم في القدر المشترك الذي (¬6) شابههم فيه فإن كان كفرا، أو معصية، أو شعارا لها (¬7) كان حكمه كذلك. وبكل حال يقتضي تحريم التشبه (¬8) بعلة كونه تشبها، والتشبه يعم من فعل الشيء لأجل أنهم فعلوه وهو نادر ومن تبع (¬9) غيره في فعل لغرض له في ذلك إذا كان أصل الفعل مأخوذا عن ذلك الغير، فأما من فعل الشيء واتفق أن الغير فعله أيضا ولم يأخذه أحدهما عن صاحبه، ففي كون هذا تشبها نظر لكن قد ينهى عن هذا لئلا يكون ذريعة إلى التشبه، ولما فيه من المخالفة، كما أمر بصبغ اللحى (¬10) وإحفاء الشوارب، مع أن قوله صلى الله عليه وسلم: «غيروا ¬
الشيب، ولا تشبهوا باليهود.» (¬1) دليل على أن التشبه بهم يحصل بغير قصد منا، ولا فعل بل بمجرد ترك تغيير ما خلق فينا وهذا أبلغ من الموافقة الفعلية الاتفاقية. وقد روى في هذا الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن التشبه بالأعاجم وقال: «من تشبه بقوم فهو منهم» (¬2) ذكره القاضي أبو يعلى (¬3) . وبهذا احتج غير واحد من العلماء على كراهة أشياء من زي غير ¬
المسلمين قال محمد بن أبي حرب (¬1) سئل أحمد عن نعل سندي (¬2) يخرج فيه. فكرهه للرجل والمرأة وقال: إن كان للكنيف (¬3) والوضوء (¬4) وأكره الصرار (¬5) وقال: هو من زي العجم. وقد سئل سعيد بن عامر (¬6) عنه فقال: سنة نبينا أحب إلينا من سنة باكهن (¬7) . وقال في رواية المروذي وقد سأله عن النعل السندي فقال: أما أنا فلا أستعملها، ولكن إن (¬8) كان للطين، أو المخرج (¬9) فأرجو، وأما من أراد الزينة فلا (¬10) ورأى على باب المخرج نعلا سنديا فقال: يتشبه (¬11) بأولاد الملوك. ¬
وقال (¬1) حرب الكرماني (¬2) قلت لأحمد: فهذه النعال الغلاظ قال: هذه السندية قال: إذا كان للوضوء (¬3) أو للكنيف، أو لموضع ضرورة فلا بأس (¬4) وكأنه كره أن يمشي فيها (¬5) في الأزقة قيل: فالنعل من الخشب. قال: لا بأس بها أيضا (¬6) إذا كان موضع ضرورة. قال حرب حدثنا أحمد بن نصر (¬7) حدثنا حبان بن موسى، (¬8) قال: ¬
سئل ابن المبارك (¬1) عن هذه النعال الكرمانية (¬2) فلم تعجبه وقال: أما في هذه غنية عن تلك؟ . وروى الخلال (¬3) عن أحمد بن إبراهيم الدورقي (¬4) قال: سألت سعيد بن عامر عن لباس النعال السبتية (¬5) فقال: زي نبينا أحب إلينا من زي باكهن ملك الهند، ولو كان في مسجد المدينة لأخرجوه من المدينة. سعيد بن عامر الضبعي إمام أهل البصرة علما ودينا، من شيوخ الإمام ¬
أحمد قال يحيى بن سعيد القطان وذكر عنده سعيد بن عامر (¬1) فقال: هو شيخ المصر (¬2) منذ أربعين سنة (¬3) وقال أبو مسعود بن الفرات (¬4) ما رأيت بالبصرة مثل سعيد بن عامر (¬5) . وقال الميموني (¬6) رأيت أبا عبد الله عمامته تحت ذقنه، ويكره غير ذلك وقال: العرب عمائمها (¬7) تحت أذقانها (¬8) وقال أحمد في رواية الحسن بن محمد (¬9) يكره أن ¬
لا (¬1) تكون العمامة تحت الحنك كراهية شديدة، وقال: إنما يتعمم (¬2) بمثل ذلك اليهود والنصارى والمجوس (¬3) . ولهذا أيضا كره أحمد لباس أشياء كانت شعار الظلمة في وقته من السواد (¬4) ونحوه وكره هو وغيره (¬5) تغميض العين (¬6) في الصلاة وقال: هو من فعل اليهود (¬7) . وقد (¬8) روى أبو (¬9) حفص العكبري (¬10) بإسناده عن بلال بن أبي ¬
حدرد (¬1) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تمعددوا، واخشوشنوا، وانتعلوا، وامشوا حفاة.» (¬2) . وهذا مشهور محفوظ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى المسلمين، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في كلام الخلفاء الراشدين. وقال الترمذي: حدثنا (¬3) قتيبة (¬4) . . . . . . . . . . ¬
حدثنا ابن (¬1) لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود، ولا بالنصارى؛ فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع، وتسليم النصارى الإشارة بالأكف» (¬2) قال (¬3) وروى ابن المبارك هذا الحديث عن ابن لهيعة ولم يرفعه (¬4) . وهذا وإن كان فيه ضعيف فقد تقدم الحديث المرفوع من تشبه بقوم فهو منهم (¬5) وهو محفوظ عن حذيفة بن اليمان أيضا من قوله وحديث ابن لهيعة يصلح للاعتضاد كذا كان يقول أحمد وغيره (¬6) . وأيضا ما روى أبو داود (¬7) حدثنا قتيبة بن سعيد الثقفي (¬8) حدثنا محمد بن ربيعة (¬9) حدثنا أبو الحسن ¬
العسقلاني (¬1) عن أبي جعفر بن محمد بن (¬2) علي بن ركانة، أو محمد بن علي بن ركانة (¬3) عن أبيه أن ركانة (¬4) صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم قال ركانة: وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم (¬5) على القلانس» (¬6) . وهذا يقتضي أنه حسن عند أبي داود ورواه الترمذي أيضا عن قتيبة وقال: غريب وليس إسناده بالقائم، ولا نعرف أبا الحسن، (¬7) ¬
ولا ابن ركانة (¬1) . وهذا القدر لا يمنع أن يعتضد بهذا الحديث ويستشهد به، وهذا بين في أن مفارقة المسلم المشرك في اللباس أمر مطلوب للشارع (¬2) كقوله: «فرق (¬3) ما بين الحلال والحرام الدف والصوت» (¬4) فإن التفريق بينهما مطلوب في الظاهر، إذ الفرق بالاعتقاد والعمل بدون العمامة (¬5) حاصل فلولا أنه مطلوب بالظاهر أيضا لم يكن فيه فائدة. وهذا كما أن الفرق بين (¬6) الرجال والنساء لما (¬7) كان مطلوبا ظاهرا ¬
وباطنا «لعن (¬1) المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء وقال: أخرجوهم من بيوتكم» (¬2) ونفى المخنث (¬3) لما كان رجلا متشبها في الظاهر بغير (¬4) جنسه وأيضا عن أبي غطفان المري (¬5) قال (¬6) سمعت عبد الله بن عباس رضي الله (¬7) عنهما يقول: حين «صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا ¬
كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع. قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم» رواه مسلم في صحيحه (¬1) . وروى الإمام (¬2) أحمد عن ابن عباس (¬3) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صوموا يوم عاشوراء وخالفوا فيه (¬4) اليهود وصوموا قبله يوما (¬5) أو بعده يوما» . ورواه سعيد (¬6) بالإسناد ولفظه: «صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود وصوموا يوما قبله، أو يوما بعده» والحديث (¬7) رواه ابن أبي ليلى (¬8) عن داود بن علي (¬9) عن أبيه عن ¬
جده ابن عباس (¬1) . فتدبر هذا يوم عاشوراء يوم فاضل يكفر (¬2) سنة ماضية (¬3) صامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه ورغب فيه، ثم لما قيل له قبيل وفاته: إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى. أمر بمخالفتهم بضم يوم آخر إليه، وعزم على ذلك (¬4) . ولهذا استحب العلماء منهم الإمام أحمد أن يصوم تاسوعاء وعاشوراء، وبذلك عللت الصحابة رضي الله عنهم. قال سعيد بن منصور: حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار، سمع عطاء سمع (¬5) ابن عباس رضي الله عنهما (¬6) يقول: صوموا التاسع والعاشر، خالفوا اليهود (¬7) . ¬
وأيضا عن ابن (¬1) عمر رضي الله عنهما (¬2) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّا أمة أمية؛ لا نكتب ولا نحسب، الشهر: هكذا وهكذا» . يعني مرة: تسعة وعشرين، ومرة: ثلاثين. رواه البخاري ومسلم (¬3) . فوصف هذه الأمة بترك الكتاب (¬4) والحساب الذي يفعله غيرها من الأمم في أوقات عبادتهم وأعيادهم، وأحالها على الرؤية حيث قال- في غير حديث-: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» (¬5) وفي رواية: «صوموا من الوضح إلى الوضح» (¬6) أي من الهلال إلى الهلال (¬7) . ¬
وهذا: دليل على ما أجمع عليه المسلمون- إلا من شذ من بعض المتأخرين المخالفين (¬1) المسبوقين بالإجماع- من أن مواقيت الصوم والفطر والنسك إنما تقام بالرؤية عند إمكانها، لا بالكتاب والحساب، الذي تسلكه الأعاجم من الروم والفرس، والقبط، والهند، وأهل الكتاب من اليهود والنصارى. وقد روي عن (¬2) غير واحد من أهل العلم: أن أهل الكتابين قبلنا إنما أمروا بالرؤية - أيضا - في صومهم وعباداتهم، وتأولوا على ذلك قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] (¬3) ولكن أهل الكتابين بدّلوا. ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تقدم رمضان باليوم واليومين (¬4) وعلل الفقهاء ذلك بما يخاف من أن يزاد في الصوم المفروض ما ليس منه (¬5) كما زاده أهل الكتاب، من النصارى، فإنهم زادوا في صومهم، وجعلوه فيما بين الشتاء ¬
والصيف، وجعلوا له طريقة من الحساب يتعرفونه (¬1) بها. وقد يستدل بهذا الحديث، على خصوص النهي عن أعيادهم، فإن أعيادهم معلومة بالكتاب والحساب، والحديث فيه عموم. أو يقال: إذا نهينا عن ذلك في عيد الله ورسوله، ففي غيرها (¬2) من الأعياد والمواسم أولى وأحرى، ولما (¬3) في ذلك من مضارعة الأمة الأمية سائر الأمم. وبالجملة فالحديث يقتضي اختصاص هذه الأمة بالوصف الذي فارقت به غيرها، وذلك يقتضي أن ترك المشابهة للأمم (¬4) أقرب إلى حصول الوفاء بالاختصاص. وأيضا ففي الصحيحين عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف (¬5) أنه سمع معاوية (¬6) عام حج على المنبر، وتناول قُصة (¬7) من شَعر كانت في يد حرسي (¬8) فقال: " يا أهل المدينة، أين علماؤكم؟ سمعت ¬
رسول (¬1) الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذه ويقول: «إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذها نساؤهم» (¬2) وفي رواية سعيد بن المسيب - في الصحيح - أن معاوية قال ذات يوم: " إنكم أحدثتم (¬3) زي سوء، وإن نبي الله (¬4) صلى الله عليه وسلم نهى عن الزور "، قال: وجاء رجل بعصا على رأسها خرقة. قال معاوية: " ألا وهذا الزور ". قال قتادة: " يعني ما يكثر به النساء أشعارهن من الخرق " (¬5) . وفي رواية عن ابن المسيب - في الصحيح - قال: " قدم معاوية المدينة، فخطبنا، وأخرج كبة من شعر، فقال: ما كنت أرى أن أحدا يفعله إلا اليهود، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه، فسماه الزور ". فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم (¬6) عن وصل الشعر: " أن بني إسرائيل هلكوا حين أحدثه نساؤهم " يحذر أمته مثل ذلك، ولهذا قال معاوية: " ما كنت أرى أن أحدا يفعله إلا اليهود ". ¬
فما كان من زي اليهود، الذي لم يكن عليه المسلمون: إما أن يكون مما يعذبون عليه، أو مظنة لذلك، أو يكون تركه حسما لمادة ما عذبوا عليه، لا سيما إذا لم يتميز ما هو الذي عذبوا عليه من غيره، فإنه يكون قد اشتبه المحظور بغيره، فيترك الجميع كما أن ما يخبرونا (¬1) به (¬2) لَمَّا اشتبه صدقه بكذبه: ترك الجميع. وأيضا ما (¬3) روى نافع عن ابن عمر (¬4) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - أو قال: قال عمر -: «إذا كان لأحدكم ثوبان فليصل فيهما، فإن لم يكن (¬5) له إلا ثوب فليتزر به (¬6) ولا يشتمل اشتمال اليهود» رواه أبو داود وغيره، بإسناد صحيح (¬7) . وهذا المعنى صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، من رواية جابر وغيره أنه: «أمر في الثوب الضيق، بالاتزار دون الاشتمال» (¬8) وهو قول جمهور أهل العلم، وفي ¬
مذهب أحمد قولان (¬1) . وإنما الغرض: أنه قال: «لا يشتمل اشتمال اليهود» فإن إضافة (¬2) المنهي عنه إلى اليهود، دليل على أن لهذه الإضافة تأثيرا في النهي، كما تقدم التنبيه عليه. وأيضا فمما (¬3) نهانا الله سبحانه فيه (¬4) عن مشابهة أهل الكتاب، وكان حقه أن يقدم في دلائل (¬5) الكتاب: قوله سبحانه: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد: 16] (¬6) . فقوله: ولا يكونوا مثلهم (¬7) نهي مطلق عن مشابهتهم (¬8) وهو خاص أيضا في النهي عن مشابهتهم في قسوة قلوبهم، وقسوة القلوب من ثمرات المعاصي. ¬
وقد وصف الله سبحانه بها اليهود في غير موضع، فقال تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ - ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً (¬1) وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 73 - 74] (¬2) وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [المائدة: 12] (¬3) إلى قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 13] (¬4) . وإن قوما من هذه الأمة، ممن ينسب إلى علم أو دين (¬5) قد (¬6) أخذوا من هذه الصفات (¬7) بنصيب، يرى ذلك من له بصيرة، فنعوذ بالله من كل ما يكرهه الله ورسوله، ولهذا: كان السلف يحذرونهم (¬8) هذا. ¬
فروى البخاري - في صحيحه - عن أبي الأسود (¬1) قال: " بعث أبو موسى إلى قراء البصرة، فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرءوا القرآن، فقال: أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم، فاتلوه، ولا يطولن عليكم الأمد، فتقسو قلوبكم، كما قست قلوب من كان قبلكم، وإنا كنا نقرأ سورة كنا (¬2) نشبهها في الطول والشدة ببراءة، فأنسيتها، غير أني حفظت منها: (لو كان لابن آدم واديان من مال (¬3) لابتغى (¬4) واديا ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب) . وكنا نقرأ سورة كنا (¬5) نشبهها بإحدى المسبحات، فأنسيتها، غير أني حفظت منها: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة) (¬6) ". ¬
فحذر أبو موسى القراء عن (¬1) أن يطول عليهم الأمد، فتقسو قلوبهم. ثم لما كان نقض الميثاق يدخل فيه نقض ما عهد إليهم من الأمر والنهي، وتحريف الكلم عن مواضعه، بتبديل (¬2) وتأويل كتاب الله أخبر ابن مسعود (¬3) بما يشبه ذلك. فروى الأعمش، عن عمارة بن عمير (¬4) عن الربيع بن (¬5) عميلة الفزاري (¬6) حدثنا عبد الله (¬7) حديثا ما سمعت حديثا هو أحسن منه إلا كتاب الله، أو رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (¬8) «إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد قست قلوبهم، فاخترعوا كتابا من عند أنفسهم، اشتهته قلوبهم، ¬
واستحلته (¬1) أنفسهم، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم، حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، كأنهم لا يعلمون، فقالوا اعرضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل فإن تابعوكم فاتركوهم، وإن خالفوكم فاقتلوهم، ثم قالوا: لا، بل أرسلوا إلى فلان رجل من علمائهم، فاعرضوا عليه هذا الكتاب، فإن تابعكم فلن يخالفكم أحد بعده (¬2) وإن خالفكم فاقتلوه، فلن يختلف عليكم بعده (¬3) أحد، فأرسلوا إليه، فأخذ ورقة فكتب فيها كتاب الله، ثم جعلها في قرن، ثم علقها في عنقه، ثم لبس عليها الثياب، ثم أتاهم فعرضوا عليه الكتاب، فقالوا: أتؤمن بهذا؟ فأوما إلى صدره فقال: آمنت بهذا، ومالي لا أومن بهذا؟ - يعني الكتاب الذي في القرن- فخلوا سبيله وكان له أصحاب يغشونه، فلما مات نبشوه فوجدوا القرن، فوجدوا (¬4) فيه الكتاب، فقالوا: ألا ترون قوله: آمنت بهذا، وما لي (¬5) لا أومن بهذا؟ إنما عنى هذا الكتاب، فاختلف بنو إسرائيل على بضع وسبعين ملة، وخير مللهم: أصحاب ذي القرن،» قال عبد الله: " وإن من بقي منكم سيرى منكرا، وبحسب امرئ يرى (¬6) منكرا لا يستطيع أن يغيره، أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره " (¬7) . ¬
ولما نهى (¬1) الله عن التشبه بهؤلاء الذين قست قلوبهم، ذكر أيضا في آخر السورة حال الذين ابتدعوا الرهبانية، فما رعوها حق رعايتها فعقبها بقوله: (¬2) {اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ - لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ (¬3) وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 28 - 29] (¬4) فإن الإيمان بالرسول: (¬5) تصديقه وطاعته (¬6) واتباع شريعته، وفي ذلك مخالفة للرهبانية؛ لأنه لم يبعث بها، بل نهى عنها، وأخبر: أن من اتبعه (¬7) كان له أجران، وبذلك جاءت (¬8) الأحاديث الصحيحة، من طريق ابن عمر وغيره، في مثلنا ومثل أهل الكتاب. وقد صرح صلى الله عليه وسلم بذلك (¬9) فيما رواه أبو داود في سننه، من حديث ابن وهب (¬10) أخبرني سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء (¬11) أن سهل بن ¬
أبي أمامة (¬1) حدثه أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات (¬2) رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم» (¬3) . هذا (¬4) الذي في رواية اللؤلؤي (¬5) عن أبي داود، وفي رواية ابن داسة (¬6) عنه: " أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة، في زمان عمر بن عبد العزيز (¬7) وهو أمير بالمدينة، فإذا هو يصلي صلاة خفيفة، كأنها صلاة ¬
المسافر (¬1) أو قريبا منها، فلما سلم قال: يرحمك الله، أرأيت هذه الصلاة المكتوبة أم شيء تنفلته؟ قال: إنها (¬2) للمكتوبة، وإنها لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يقول: «لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله (¬3) عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله (¬4) عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات (¬5) رهبانية ابتدعوها، ما كتبناها عليهم» . ثم غدا من الغد، فقال: ألا تركب لتنظر ولتعتبر (¬6) ؟ قال: نعم، فركبوا (¬7) جميعا، فإذا بديارٍ بادَ أهلها وانقضوا وفنوا، خاوية على عروشها، قال: أتعرف هذه الديار؟ فقال: نعم، ما (¬8) أعرفني بها وبأهلها، هؤلاء أهل ديار ¬
أهلكهم الله (¬1) ببغيهم وحسدهم؛ إن الحسد يطفئ نور الحسنات، والبغي يصدق ذلك أو يكذبه، والعين تزني والكف، والقدم، والجسد، واللسان، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه (¬2) . فأما سهل بن أبي أمامة، فقد وثقه يحيى بن معين وغيره، وروى له (¬3) مسلم وغيره. أما ابن أبي العمياء، فمن أهل بيت المقدس ما أعرف حاله (¬4) لكن رواية أبي داود للحديث، وسكوته عنه: يقتضي أنه حسن عنده، وله شواهد في الصحيح (¬5) . فأما ما فيه من وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالتخفيف: ففي الصحيحين عنه - أعني: أنس بن مالك - قال: " كان النبي (¬6) صلى الله عليه وسلم يوجز الصلاة ويكملها " (¬7) . وفي الصحيحين أيضا عنه قال: " ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة، ¬
ولا أتم من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ". زاد البخاري: " وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف، مخافة أن تفتتن أمه " (¬1) . وما ذكره أنس بن مالك من التخفيف: هو (¬2) بالنسبة إلى ما كان يفعله بعض الأمراء وغيرهم في قيام الصلاة، فإن منهم من كان يطيل القيام (¬3) زيادة على ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله في غالب الأوقات، ويخفف (¬4) الركوع والسجود والاعتدال فيهما (¬5) عما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله في غالب الأوقات، ولعل أكثر الأئمة، أو كثيرا منهم، كانوا قد صاروا يصلون كذلك، ومنهم من كان (¬6) يقرأ في الأخيرتين (¬7) مع الفاتحة، سورة، وهذا كله قد صار مذاهب لبعض الفقهاء، وكان الخوارج أيضا قد تعمقوا وتنطعوا كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم» (¬8) . ¬
ولهذا لما صلى علي (¬1) رضي الله عنه بالبصرة قال عمران (¬2) " لقد أذكرني (¬3) هذا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم " (¬4) . وكانت صلاة رسول (¬5) الله صلى الله عليه وسلم معتدلة: كان يخفف القيام والقعود، ويطيل الركوع والسجود. وقد جاء هذا مفسرا، عن أنس بن مالك نفسه، فروى النسائي عن قتيبة (¬6) عن العطاف بن خالد (¬7) عن زيد بن ¬
أسلم (¬1) قال: " دخلنا على أنس بن مالك، فقال: صليتم؟ قلنا: نعم. قال: يا جارية، هلمي لي وضوءا، ما صليت وراء إمام أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من إمامكم هذا - قال زيد - وكان عمر بن عبد العزيز يتم الركوع والسجود، ويخفف القيام والقعود (¬2) . وهذا حديث صحيح، فإن العطاف بن خالد المخزومي قال فيه يحيى بن معين - غير مرة -: " هو ثقة " (¬3) . وقال أحمد بن حنبل: " هو من أهل مكة، ثقة صحيح الحديث، روى عنه نحو مائة حديث " (¬4) . وقال ابن عدي: " يروي قريبا من مائة حديث، ولم أر بحديثه بأسا إذا حدث عنه ثقة " (¬5) . وروى أبو داود والنسائي من حديث عبد الله بن إبراهيم بن عمر بن كيسان (¬6) حدثني أبي عن وهب بن مانوس (¬7) سمعت سعيد بن جبير (¬8) ¬
يقول: " سمعت أنس بن مالك يقول: ما صليت وراء أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم، من هذا الفتى - يعني عمر بن عبد العزيز - قال: فحزرنا (¬1) في ركوعه عشر تسبيحات، وفي سجوده عشر تسبيحات " (¬2) . وقال (¬3) يحيى بن معين: " إبراهيم بن عمر بن كيسان: يماني ثقة " (¬4) . وقال هشام بن يوسف: " أخبرني إبراهيم بن عمر، وكان من أحسن الناس صلاة " (¬5) ؛ وابنه عبد الله قال فيه أبو حاتم: " صالح الحديث " (¬6) . ووهب بن مانوس - بالنون - يقوله (¬7) عبد الله هذا (¬8) وكان عبد الرزاق (¬9) يقوله: بالباء المنقوطة بواحدة (¬10) من أسفل. وهو شيخ ¬
كبير (¬1) قديم، قد أخذ عنه إبراهيم هذا، واتبع ما حدثه (¬2) به، ولولا ثقته عنده لما عمل بما حدثه (¬3) به، وحديثه موافق لرواية زيد بن أسلم، وما أعلم فيه قدحا. وروى مسلم في صحيحه، من حديث حماد بن سلمة، أخبرنا (¬4) ثابت (¬5) عن أنس (¬6) قال: " ما صليت خلف أحد أوجز صلاة من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تمام، كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم متقاربة، وكانت صلاة أبي بكر رضي الله عنه (¬7) متقاربة، فلما كان عمر (¬8) رضي الله عنه، مد في صلاة الفجر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا قال: سمع الله لمن حمده، قام حتى نقول: (¬9) قد أوهم، ثم يسجد ويقعد بين السجدتين، حتى نقول: (¬10) قد أوهم " (¬11) . ورواه أبو داود، من حديث حماد بن سلمة، أنبأنا (¬12) ثابت وحميد، عن ¬
أنس بن مالك، قال: " ما صليت خلف رجل أوجز صلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في تمام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: " سمع الله لمن حمده قام " حتى نقول (¬1) قد أوهم. ثم يكبر ثم يسجد. وكان يقعد بين السجدتين حتى نقول قد أوهم " (¬2) . فجمع أنس رضي (¬3) الله عنه في هذا الحديث الصحيح، بين الإخبار بإيجاز النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الصلاة وإتمامها، وبيّن أن من إتمامها الذي أخبر به: إطالة الاعتدالين، وأخبر في الحديث المتقدم: أنه ما رأى (¬4) أوجز من صلاته، ولا أتم. فيشبه - والله أعلم - أن يكون الإيجاز عاد إلى القيام، والإتمام إلى الركوع والسجود؛ لأن القيام، لا يكاد يفعل إلا تاما، فلا يحتاج إلى الوصف بالإتمام، بخلاف الركوع والسجود والاعتدالين. وأيضا، فإنه بإيجاز القيام، وإطالة الركوع والسجود تصير الصلاة تامة، لاعتدالها وتقاربها، فيصدق قوله: " ما رأيت أوجز ولا أتم ". فأما إن أعيد الإيجاز إلى نفس ما أتم (¬5) والإتمام إلى نفس ما أوجز (¬6) ؛ فإنه يصير في الكلام تناقضا، لأن من طول القيام على قيامه (¬7) لم يكن دونه في إتمام ¬
القيام، إلا أن يقال: الزيادة في الصورة تصير (¬1) نقصا في المعنى، وهذا خلاف ظاهر اللفظ، فإن الأصل: أن يكون معنى الإيجاز والتخفيف غير معنى الإتمام والإكمال؛ ولأن زيد بن أسلم قال: " كان عمر يخفف القيام والقعود، ويتم الركوع والسجود " فعلم أن لفظ الإتمام عندهم، هو إتمام الفعل الظاهر. وأحاديث أنس كلها تدل (¬2) على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطيل الركوع والسجود والاعتدالين، زيادة على ما يفعله (¬3) أكثر الأئمة. وسائر (¬4) روايات الصحيح تدل على ذلك. ففي الصحيحين: عن حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: " إني لا آلو أن أصلي بكم (¬5) كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا ". قال ثابت: " فكان أنس يصنع شيئا لا أراكم تصنعونه: وإذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائما، حتى يقول القائل: قد نسي، وإذا رفع رأسه من السجدة (¬6) مكث، حتى يقول القائل (¬7) قد نسي " (¬8) . ¬
وفي رواية - في الصحيح -: " وإذا رفع رأسه بين السجدتين " (¬1) . وفي (¬2) رواية للبخاري، من حديث شعبة، عن ثابت: " كان أنس ينعت لنا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يصلي، (¬3) وإذا رفع رأسه من الركوع قام حتى نقول (¬4) قد نسي (¬5) فهذا يبين لك أن أنسا أراد بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إطالة الركوع والسجود، والرفع فيهما، على ما كان الناس يفعلونه، وتقصير القيام عما كان الناس يفعلونه (¬6) . وروى مسلم في صحيحه، من حديث جعفر بن سليمان (¬7) عن ثابت، عن أنس قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع بكاء الصبي مع أمه، وهو في الصلاة، فيقرأ بالسورة الخفيفة أو بالسورة القصيرة " (¬8) . فبين أن التخفيف الذي كان يفعله (¬9) هو تخفيف القراءة، وإن كان ذلك ¬
يقتضي (¬1) ركوعا وسجودا يناسب القراءة، ولهذا قال: " كانت صلاته متقاربة "، أي يقرب بعضها من بعض. وصدق أنس (¬2) فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر بنحو الستين إلى المائة (¬3) يقرأ في الركعتين بطول المفصل بـ: الم. تنزيل، وهل أتى، وبالصافات، وبقاف؛ وربما قرأ أحيانا بما هو أطول من ذلك، وأحيانا بما هو أخف (¬4) . فأما عمر رضي الله عنه، فكان يقرأ في الفجر بيونس، وهود، ويوسف، ولعله (¬5) علم أن الناس خلفه يؤثرون ذلك. وكان معاذ رضي الله عنه: قد صلى خلفه (¬6) الآخرة ثم ذهب إلى بني عمرو بن عوف بقباء، فقرأ فيها بسورة البقرة (¬7) فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم (¬8) ذلك. وقال: «أفتان أنت يا معاذ، إذا أممت الناس فخفف، فإن من ورائك الكبير والضعيف وذا الحاجة. هلا قرأت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، ¬
ونحوها (¬1) من السور؟» (¬2) . فالتخفيف الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم معاذا، وغيره من الأئمة، هو ما كان يفعله - بأبي هو (¬3) وأمي - صلى الله عليه وسلم، فإنه (¬4) كما قال أنس: " كان أخف الناس صلاة في تمام ". وقد (¬5) قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (¬6) . ثم إن عرض حال عرف منها إيثار المأمومين للزيادة على ذلك فحسن، فإنه صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب: بطولى الطوليين (¬7) وقرأ فيها بالطور. وإن عرض ما يقتضي التخفيف عن ذلك فعل، كما قال في بكاء الصبي ونحوه. ¬
فقد تبين (¬1) أن حديث أنس تضمن مخالفة من خفف الركوع والسجود، تخفيفا كثيرا، ومن طول القيام تطويلا كثيرا. وهذا الذي وصفه أنس، (¬2) ووصفه سائر الصحابة. فروى (¬3) مسلم في صحيحه، وأبو داود في سننه (¬4) عن هلال بن أبي حميد (¬5) عن عبد الرحمن بن أبي ليلى (¬6) عن البراء بن عازب (¬7) قال: " رمقت الصلاة مع محمد صلى الله عليه وسلم فوجدت قيامه، فركعته، فاعتداله بعد ركوعه، فسجدته، فجلسته بين السجدتين، فجلسته ما بين التسليم والانصراف: قريبا من السواء " (¬8) . ¬
وروى مسلم أيضا في صحيحه، عن شعبة (¬1) عن الحكم (¬2) قال: " غلب على الكوفة رجل - قد سماه - زمن ابن الأشعث (¬3) قال: فأمر أبا عبيدة بن عبد الله (¬4) أن يصلي بالناس، فكان يصلي، فإذا رفع رأسه من الركوع قام قدر ما أقول: اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ". قال الحكم: " فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن أبي ليلى، فقال: " سمعت البراء بن عازب يقول: كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وركوعه، وإذا رفع رأسه من ¬
الركوع (¬1) وسجوده، وما بين السجدتين، قريبا من السواء ". قال شعبة: " فذكرته لعمرو بن مرة (¬2) . فقال: قد رأيت عبد الرحمن بن أبي ليلى، فلم تكن صلاته هكذا (¬3) . وروى البخاري (¬4) هذا الحديث - ما خلا القيام والقعود - قريبا من السواء (¬5) . وذلك لأنه (¬6) لا شك أن القيام - قيام القراءة - وقعود التشهد يزيد على بقية الأركان، لكن لما كان صلى الله عليه وسلم يوجز القيام، ويتم بقية الأركان، صارت قريبا من السواء. فكل واحدة من الروايتين تصدق الأخرى، وإنما البراء: تارة قرب ولم يحدد، وتارة استثنى وحدد، وإنما جاز أن يقال في القيام مع بقية الأركان: قريبا، بالنسبة إلى الأمراء الذين (¬7) يطيلون القيام، ويخففون الركوع والسجود، حتى يعظم التفاوت. ¬
ومثل هذا: " أنه صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الكسوف، فقرأ في الركعة (¬1) بنحو من سورة البقرة وركع. فكان ركوعه نحوا من قيامه، وكذلك سجوده " (¬2) . ولهذا نقول في أصح القولين: إن ركوع صلاة الكسوف وسجودها يكون قريبا من قيامه بقدر معظمه، أكثر من النصف. ومن أصحابنا وغيرهم من قال: إذا قرأ البقرة، يسبح في الركوع والسجود، بقدر قراءة مائة آية (¬3) . وهو ضعيف مخالف للسنة. وكذلك (¬4) روى مسلم في صحيحه، عن أبي سعيد (¬5) وغيره (¬6) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: بعد الرفع من الركوع من الذكر (¬7) ما يصدق حديث أنس والبراء (¬8) . وكذلك صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم التطوع: فإنه كان إذا صلى بالليل (¬9) ¬
وحده طول لنفسه ما شاء، وكان (¬1) يقرأ في الركعة بالبقرة وآل عمران والنساء، ويركع (¬2) نحوا من قيامه، ويرفع نحوا من ركوعه، ويسجد نحوا من قيامه، ويجلس نحوا من سجوده (¬3) . ثم هذا القيام الذي وصفه أنس وغيره بالخفة، والتخفيف الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم قد فسره النبي (¬4) صلى الله عليه وسلم بفعله وأمره وبلغ ذلك أصحابه فإنه لما صلى على المنبر قال: «إنما فعلت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي» (¬5) وقال لمالك بن الحويرث (¬6) وصاحبه (¬7) «صلوا كما رأيتموني أصلي» (¬8) . وذلك: أنه ما من فعل في الغالب إلا وقد يسمى خفيفا بالنسبة إلى ما هو أطول منه، ويسمى طويلا بالنسبة إلى ما هو أخف منه، فلا حد له في اللغة، وليس الفعل (¬9) من العادات: كالإحراز، والقبض، والاصطياد، وإحياء الموات، حتى ¬
يرجع في حده إلى عرف اللفظ، بل هو من العبادات، والعبادات (¬1) يرجع (¬2) في صفاتها ومقاديرها إلى الشارع، كما يرجع في أصلها إلى الشارع. ولأنه لو جاز الرجوع فيه إلى عرف الناس في الفعل، أو في مسمى التخفيف، لاختلفت الصلاة الشرعية الراتبة، التي يؤمر (¬3) بها في غالب الأوقات، عند عدم المعارضات المقتضية للطول أو للقصر، اختلافا متباينا (¬4) لا ضبط له، ولكان لكل أهل عصر ومصر، ولكان لكل أهل حي وسكة، بل لأهل كل مسجد عرف في معنى اللفظ، وفي عادة الفعل، مخالفا لعرف الآخرين، وهذا مخالف لأمر الله ورسوله حيث قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (¬5) ولم يقل: كما يسميه أهل أرضكم خفيفا، أو كما يعتادونه، وما أعلم أحدا من العلماء يقول ذلك فإنه؛ يفضي إلى تغيير الشريعة، وموت السنن، إما بزيادة وإما بنقص، وعلى هذا دلت سائر روايات الصحابة. فروى مسلم في صحيحه عن زهير (¬6) عن سماك بن حرب (¬7) قال: ¬
" سألت جابر بن سمرة عن صلاة النبي (¬1) فقال: كان يخفف الصلاة، ولا يصلي صلاة هؤلاء "، قال: " وأنبأني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر بقاف والقرآن المجيد، ونحوها " (¬2) . وروى أيضا عن شعبة، عن سماك، عن جابر بن سمرة (¬3) قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر بالليل إذا يغشى، وفي العصر بنحو ذلك، وفي الصبح أطول من ذلك " (¬4) . وهذا يبين ما رواه مسلم أيضا، عن زائدة (¬5) حدثنا سماك، عن جابر بن سمرة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر بقاف والقرآن المجيد وكانت (¬6) صلاته بعد تخفيفا " (¬7) أنه أراد - والله أعلم - بقوله: " وكانت صلاته بعد "، أي بعد الفجر، أي أنه يخفف الصلوات التي بعد الفجر، عن الفجر (¬8) . ¬
فإنه في الرواية الأولى جمع بين وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتخفيف، وأنه كان يقرأ في الفجر بقاف (¬1) . وقد ثبت في الصحيح عن أم سلمة (¬2) «أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر بالطور في حجة الوداع، وهي طائفة من حول الناس تسمع قراءته» (¬3) وما عاش بعد حجة الوداع إلا قليلا، والطور من نحو (¬4) سورة قاف. وثبت في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما (¬5) أنه قال: " إن أم الفضل (¬6) . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
سمعته وهو يقرأ {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} [المرسلات: 1] (¬1) فقالت: يا بني، لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة، إنها لآخر ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقرأ بها في المغرب (¬2) . فقد أخبرت أم الفضل: أن ذلك آخر ما سمعته يقرأ بها في المغرب، وأم الفضل لم تكن من المهاجرات، بل هي من المستضعفين، كما قال ابن عباس: (¬3) كنت أنا وأمي (¬4) من المستضعفين، الذين عذرهم الله " (¬5) . فهذا السماع كان متأخرا. وكذلك في الصحيح عن زيد بن ثابت (¬6) " أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بطولى الطوليين (¬7) . وزيد من صغار الصحابة. ¬
وكذلك (¬1) صلى بالمؤمنين (¬2) في الفجر بمكة، وأدركته سعلة عند ذكر موسى وهارون (¬3) فهذه الأحاديث وأمثالها، تبين أنه صلى الله عليه وسلم كان في آخر حياته يصلي في الفجر بطوال المفصل، وشواهد هذا كثيرة (¬4) ؛ ولأن سائر الصحابة اتفقوا على أن هذه كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ما زال يصليها، ولم يذكر أحد أنه نقص (¬5) صلاته في آخر عمره عما (¬6) كان يصليها، وأجمع (¬7) الفقهاء على أن السنة أن يقرأ في الفجر بطوال المفصل. وقوله: " ولا يصلي صلاة هؤلاء " إما أن يريد به: من كان يطيل الصلاة على (¬8) هذا أو (¬9) من كان ينقصها عن ذلك، أي إنه كان صلى الله عليه وسلم يخففها، ومع ذلك: فلا يحذفها حذف هؤلاء الذين يحذفون الركوع والسجود، والاعتدالين، كما دل عليه حديث أنس والبراء، أو كان أولئك الأمراء ينقصون القراءة، أو القراءة وبقية الأركان، عما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله. كما روى أبو قزعة (¬10) قال: ¬
" أتيت أبا سعيد الخدري (¬1) وهو مكثور (¬2) عليه، فلما تفرق الناس عنه، قلت: إني لا أسألك عما سألك هؤلاء عنه، قلت: أسألك عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما لك في ذلك من خير فأعادها عليه، فقال: كانت صلاة الظهر تقام، فينظلق أحدنا إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يأتي أهله فيتوضأ، ثم يرجع إلى المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى ". وفي رواية " مما يطولها " (¬3) رواه مسلم في صحيحه (¬4) . فهذا يبين لك أن أبا سعيد رأى صلاة الناس أنقص من هذا. وفي الصحيحين عن أبي برزة (¬5) قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصبح فينصرف الرجل، فيعرف جليسه، وكان يقرأ في الركعتين، أو إحداهما ما بين الستين إلى المائة " هذا لفظ البخاري (¬6) . وعن عبد الله (¬7) بن عمر رضي الله عنهما قال: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأمرنا بالتخفيف، وإن كان ليؤمنا بالصافات، رواه أحمد ¬
والنسائي (¬1) . وعن الضحاك بن عثمان (¬2) عن بكير بن عبد الله (¬3) عن سليمان بن يسار (¬4) عن أبي هريرة قال: " ما صليت وراء أحد أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من فلان " قال سليمان: " كان يطيل الركعتين الأوليين من الظهر، ويخفف الأخيرتين، ويخفف العصر، ويقرأ في المغرب بقصار المفصل، ويقرأ في العشاء بوسط المفصل ويقرأ في الصبح بطوال المفصل (¬5) "، رواه النسائي وابن ماجه، وهذا إسناد على شرط مسلم. والضحاك بن عثمان قال فيه أحمد ويحيى (¬6) " هو ثقة " (¬7) وقال فيه ¬
ابن سعد: " كان ثبتا " (¬1) . ويدل على ما ذكرناه: ما روى مسلم في صحيحه عن عمار بن ياسر (¬2) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته، مئنة (¬3) من فقهه، فأطيلوا الصلاة، وأقصروا الخطبة (¬4) وإن من البيان لسحرا» (¬5) . فقد جعل طول الصلاة علامة على فقه الرجل، وأمر بإطالتها، وهذا الأمر إما أن يكون عاما في جميع الصلوات، وإما أن يكون المراد به صلاة الجمعة. فإن كان اللفظ (¬6) عاما فظاهر، وإن كان المراد (¬7) صلاة الجمعة (¬8) فإذا أمر بإطالتها، مع كون الجَمْع فيها يكون (¬9) عظيما، فيه من الضعفاء والكبار وذوي ¬
التشديد على النفس أنواعه وآثاره
الحاجات ما ليس في غيره (¬1) ومع كونها تفعل في شدة الحر، مسبوقة بخطبتين: فالفجر ونحوها التي تفعل وقت البرد، مع قلة الجمع: أولى وأحرى. والأحاديث في هذا كثيرة. وإنما ذكرنا هذا تفسيرا (¬2) لما في حديث أنس، من تقدير صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ قد يحسب من يسمع هذه الأحاديث: أن فيها نوع تناقض، أو يستمسك (¬3) بعض الناس ببعضها دون بعض، ويجهل معنى ما تمسك به. [التشديد على النفس أنواعه وآثاره] وأما في حديث أنس المتقدم من قول (¬4) النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشددوا على أنفسكم، فيشدد الله عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات (¬5) رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم» (¬6) . ففيه نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التشدد في الدين بالزيادة على المشروع. والتشديد: تارة يكون باتخاذ ما ليس بواجب، ولا مستحب: بمنزلة الواجب والمستحب في العبادات (¬7) وتارة باتخاذ ما ليس بمحرم، ولا مكروه بمنزلة المحرم والمكروه، في الطيبات. وعلل ذلك بأن الذين شددوا على أنفسهم من النصارى، شدد الله عليهم لذلك، حتى آل الأمر إلى ما هم عليه من الرهبانية المبتدعة. وفي هذا تنبيه على كراهة النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما عليه النصارى من الرهبانية ¬
المبتدعة، وإن كان كثير من عبادنا، قد وقعوا في بعض ذلك متأولين معذورين، أو غير متأولين (¬1) . وفيه أيضا تنبيه على أن التشديد على النفس ابتداء، يكون سببا لتشديد آخر، يفعله الله: إما بالشرع وإما بالقدر. فأما بالشرع: فمثل ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخافه في زمانه من زيادة إيجاب أو تحريم، كنحو ما خافه لما اجتمعوا لصلاة (¬2) التراويح معه (¬3) ولما كانوا يسألون عن أشياء لم تحرم، ومثل: أن من نذر شيئا من الطاعات وجب عليه فعله، وهو منهي عن نفس عقد النذر، وكذلك الكفارات الواجبة بأسباب. وأما بالقدر: فكثير (¬4) قد رأينا وسمعنا من كان يتنطع في أشياء، فيبتلى أيضا بأسباب تشدد الأمور (¬5) عليه، في الإيجاب والتحريم، مثل كثير من الموسوسين في الطهارة (¬6) إذا زادوا على المشروع، ابتلوا بأسباب توجب حقيقة عليهم أشياء (¬7) مشقة ومضرة. ¬
وهذا المعنى الذي دل عليه الحديث، موافق لما قدمناه في قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] (¬1) من أن ذلك يقتضي كراهة موافقتهم في الآصار والأغلال. والآصار: ترجع إلى الإيجابات الشديدة. والأغلال: هي التحريمات الشديدة. فان الإصر: هو الثقل والشدة، وهذا شأن ما وجب. والغل: يمنع المغلول من الانطلاق، وهذا شأن المحظور. وعلى هذا دل قوله سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87] (¬2) . وسبب نزولها مشهور. وعلى هذا ما في الصحيحين عن أنس بن مالك قال: «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي (¬3) صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا (¬4) كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم (¬5) وقد غفر له الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فقال أحدهم (¬6) أما أنا فأصلي الليل أبدا. وقال (¬7) الآخر: أنا أصوم الدهر أبدا. ¬
وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: " أنتم الذين (¬1) قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» ، رواه البخاري، وهذا لفظه (¬2) ومسلم، ولفظه: عن أنس: «أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر فقال بعضهم: لا أتزوج النساء. وقال بعضهم: لا آكل اللحم. وقال بعضهم: لا أنام على فراش (¬3) . فحمد الله وأثنى فقال: " ما بال أقوام قالوا كذا وكذا (¬4) ؟ لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (¬5) . والأحاديث الموافقة لهذا كثيرة في بيان أن سنته التي هي الاقتصاد: في العبادة، وفي ترك الشهوات؛ خير من رهبانية النصارى، التي هي: ترك عامة الشهوات من النكاح وغيره، والغلو في العبادات صوما وصلاة. وقد خالف هذا - بالتأويل ولعدم العلم - طائفة من الفقهاء والعباد، ومثل هذا ما رواه أبو داود في سننه، عن العلاء بن عبد الرحمن (¬6) عن ¬
القاسم بن عبد الرحمن (¬1) عن أبي أمامة: «أن رجلا قال: يا رسول الله ائذن لي بالسياحة (¬2) قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله» (¬3) فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن أمته (¬4) سياحتهم الجهاد في سبيل الله. وفي حديث آخر: «إن السياحة هي الصيام» (¬5) أو «السائحون هم الصائمون» (¬6) أو نحو ذلك (¬7) . وذلك تفسير لما ذكره الله تعالى في القرآن (¬8) ¬
من قوله: {السَّائِحُونَ} [التوبة: 112] (¬1) . وقوله {سَائِحَاتٍ} [التحريم: 5] (¬2) . وأما السياحة التي هي الخروج في البرية لغير (¬3) مقصد معين فليست من عمل هذه الأمة. ولهذا قال الإمام أحمد: " ليست السياحة من الإسلام في شيء، ولا من فعل النبيين ولا الصالحين " (¬4) مع أن جماعة من إخواننا قد ساحوا السياحة المنهي عنها (¬5) متأولين في ذلك، أو غير عالمين بالنهي عنه، وهي من الرهبانية المبتدعة التي قيل فيها (¬6) «لا رهبانية في الإسلام» (¬7) . والغرض هنا: بيان ما جاءت به الحنيفية: من مخالفة (¬8) اليهود فيما أصابهم من القسوة عن ذكر الله، وعما أنزل (¬9) ومخالفة النصارى فيما هم عليه من الرهبانية المبتدعة، وإن كان قد ابتلي بعض المنتسبين منا إلى علم أو دين بنصيب من هذا، أو من هذا (¬10) . ومثل هذا ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما (¬11) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ¬
غداة (¬1) العقبة وهو على ناقته: «القط لي حصى» فلقطت له سبع حصيات، من (¬2) حصى الخذف، فجعل ينفضهن في كفه ويقول: «أمثال هؤلاء فارموا» ، ثم قال: «أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» ، رواه أحمد والنسائي وابن ماجه (¬3) من حديث عوف بن أبي جميلة (¬4) عن زياد بن حصين (¬5) عن أبي العالية عنه (¬6) وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم. وقوله: «إياكم (¬7) والغلو في الدين» عام في جميع أنواع الغلو، في الاعتقاد والأعمال. والغلو: مجاوزة الحد بأن يزاد الشيء في حمده (¬8) أو ذمه على ما يستحق، ونحو ذلك. ¬
والنصارى أكثر غلوا في الاعتقادات والأعمال (¬1) من سائر الطوائف، وإياهم نهى الله عن الغلو في القرآن، في قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171] (¬2) . وسبب هذا اللفظ العام: رمي الجمار، وهو داخل فيه، فالغلو فيه: مثل الرمي بالحجارة (¬3) الكبار، ونحو ذلك. بناء على أنه قد أبلغ من الحصى الصغار (¬4) . ثم علل ذلك: بأن ما أهلك من (¬5) قبلنا إلا (¬6) الغلو في الدين، كما تراه في النصارى، وذلك يقتضي: أن مجانبة هديهم مطلقا أبعد عن (¬7) الوقوع فيما به هلكوا، وأن المشارك لهم في بعض هديهم، يخاف عليه أن يكون هالكا. ومن ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم حذرنا من مشابهة من قبلنا، في أنهم كانوا يفرقون في الحدود بين الأشراف والضعفاء، وأمر أن يسوى (¬8) بين الناس في ذلك، وإن كان كثير من ذوي الرأي والسياسة قد يظن أن إعفاء الرؤساء أجود في السياسة. ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، في شأن المخزومية التي سرقت (¬9) لما كلم أسامة (¬10) . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
فيها (¬1) رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله؟ ! إنما هلك بنو إسرائيل أنهم كانوا: إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» (¬2) . وكان بنو مجزوم من أشرف (¬3) بطون قريش، واشتد عليهم أن تقطع يد امرأة منهم، فبين النبي صلى الله عليه وسلم: أن هلاك بني إسرائيل، إنما كان في تخصيص رؤساء الناس بالعفو عن العقوبات، وأخبر أن فاطمة ابنته - التي هي أشرف النساء - لو سرقت، وقد أعاذها الله من ذلك، لقطع يدها؛ ليبين: أن وجوب العدل والتعميم في الحدود، لا يستثنى منه بنت (¬4) الرسول، فضلا عن بنت غيره. وهذا يوافق ما في الصحيحين، عن عبد الله بن مرة (¬5) عن البراء بن عازب قال: «مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي، محمم مجلود، فدعاهم، فقال: ¬
" هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ " قالوا: نعم. فدعا رجلا من علمائهم قال: " أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ " قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده: الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا فلنجتمع (¬1) على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان (¬2) الرجم فقال صلى الله عليه وسلم: " اللهم إني أول من أحيا أمرك، إذ (¬3) أماتوه» فأمر به فرجم، فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة: 41] إلى قوله (¬4) {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} [المائدة: 41] (¬5) . يقول: ائتوا محمدا فإن أمركم بالتحميم (¬6) والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] (¬7) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] (¬8) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] (¬9) في الكفار كلها " (¬10) . ¬
وأيضا ما روى مسلم في صحيحه عن جندب بن عبد الله البجلي (¬1) قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس، وهو يقول: «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي (¬2) منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلا، كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني (¬3) أنهاكم عن ذلك» (¬4) . وصف صلى الله عليه وسلم أن الذين كانوا قبلنا كانوا يتخذون قبور الأنبياء (¬5) والصالحين مساجد وعقّب (¬6) هذا الوصف بالأمر بحرف الفاء، أن لا يتخذوا القبور مساجد، وقال إنه صلى الله عليه وسلم ينهانا (¬7) عن ذلك. ففيه دلالة على أن اتخاذ من قبلنا سبب لنهينا؛ إما مظهر للنهي، وإما (¬8) موجب للنهي، وذلك يقتضي: أن أعمالهم دلالة (¬9) وعلامة على أن الله ينهانا (¬10) عنها، أو أنها علة مقتضية للنهي. ¬
وعلى التقديرين: يعلم أن مخالفتهم أمر مطلوب للشارع في الجملة، والنهي عن هذا العمل بلعنة اليهود والنصارى مستفيض عنه صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قاتل الله اليهود (¬1) ؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (¬2) . وفي لفظ (¬3) لمسلم: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (¬4) . وفي الصحيحين عن عائشة، وابن عباس (¬5) قالا: " لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: «لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر ما صنعوا " (¬6) . وفي الصحيحين أيضا عن عائشة: " أن أم سلمة وأم حبيبة (¬7) ذكرتا ¬
لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأينها (¬1) بأرض الحبشة، يقال لها: مارية. وذكرتا (¬2) من حسنها (¬3) وتصاوير فيها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح، أو الرجل الصالح، بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور (¬4) أولئك شرار الخلق عند الله عز وجل» (¬5) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج» رواه أهل السنن الأربعة (¬6) وقال الترمذي: " حديث حسن " (¬7) وفي بعض نسخه: " صحيح " (¬8) . ¬
فهذا التحذير منه واللعن عن مشابهة أهل الكتاب في بناء المسجد على قبر الرجل الصالح (¬1) صريح في النهي عن المشابهة في هذا (¬2) ودليل على الحذر من (¬3) جنس أعمالهم، حيث لا يؤمن في سائر أعمالهم أن تكون من (¬4) هذا الجنس. ثم من المعلوم ما قد ابتلي به كثير من هذه الأمة، من بناء المساجد على القبور (¬5) واتخاذ القبور مساجد بلا بناء، وكلا الأمرين محرم ملعون فاعله بالمستفيض من السنة، وليس هذا موضع استقصاء ما في ذلك من سائر الأحاديث والآثار؛ إذ الغرض القاعدة الكلية، وإن كان تحريم ذلك قد ذكره غير واحد من علماء الطوائف من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم؛ ولهذا كان السلف من الصحابة والتابعين يبالغون في المنع مما يجر إلى مثل هذا. ¬
وفيه من الآثار ما لا يليق (¬1) ذكره هنا، حتى روى أبو يعلى الموصلي (¬2) في مسنده: (¬3) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة (¬4) حدثنا زيد (¬5) بن الحباب (¬6) حدثنا جعفر بن إبراهيم (¬7) - من ولد ذي الجناحين - حدثنا علي بن عمر (¬8) ¬
عن أبيه (¬1) عن علي بن حسين (¬2) أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها، فيدعو، فنهاه، فقال: " ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي (¬3) عن النبي (¬4) صلى الله عليه وسلم؟ قال: «لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم» . وأخرجه محمد بن عبد الواحد المقدسي الحافظ (¬5) في مستخرجه (¬6) . ¬
وروى سعيد بن منصور في سننه: حدثنا عبد العزيز بن محمد (¬1) أخبرني سهيل بن أبي سهيل (¬2) قال: " رآني الحسن بن الحسن (¬3) بن علي بن أبي طالب (¬4) رضي الله عنه عند القبر فناداني، وهو في بيت ¬
فاطمة (¬1) يتعشى، فقال: هلم إلى العشاء، فقلت: لا أريده، فقال: مالي رأيتك عند القبر؟ قلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " إذا دخلت المسجد فسلم. ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تتخذوا قبري عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم» ، ما أنت ومن بالأندلس إلا سواء " (¬2) . ولهذا ذكر الأئمة - أحمد وغيره، من أصحاب مالك وغيرهم -: إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وقال ما ينبغي له أن يقول، ثم أراد أن يدعو، فإنه يستقبل القبلة (¬3) ويجعل الحجرة عن يساره. ¬
فصل في ذكر فوائد خطبته صلى الله عليه وعلى آله وسلم العظيمة في يوم عرفة
[فصل في ذكر فوائد خطبته صلى الله عليه وعلى آله وسلم العظيمة في يوم عرفة] فصل (¬1) روى مسلم في صحيحه، عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين (¬2) عن أبيه (¬3) عن جابر في حديث حجة الوداع، قال: " حتى إذا زالت الشمس - يعني يوم عرفة - أمر بالقصواء (¬4) فرحلت له (¬5) فأتى بطن الوادي (¬6) فخطب الناس وقال: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم (¬7) ¬
هذا، في شهركم هذا (¬1) في بلدكم هذا (¬2) ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي (¬3) موضوع (¬4) ودماء الجاهلية موضوعة (¬5) وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث - كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل-، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من (¬6) ربانا ربا العباس بن عبد المطلب (¬7) فإنه موضوع كله. فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله؛ ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح؛ ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تسألون عني (¬8) فماذا أنتم قائلون؟ ". قالوا: نحن نشهد أنك قد بلغت، وأديت ونصحت. فقال - بإصبعه السبابة (¬9) يرفعها إلى السماء وينكبها (¬10) إلى الناس-: " اللهم اشهد (¬11) - ثلاث مرات - "، ثم أذن، ¬
فأقام (¬1) فصلى الظهر؛ ثم أقام، فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئا، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف» وذكر تمام الحديث (¬2) . فقال (¬3) صلى الله عليه وسلم: «كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع» (¬4) . وهذا يدخل فيه ما كانوا عليه من العادات والعبادات، مثل دعواهم: يا لفلان (¬5) ويا لفلان، ومثل أعيادهم، وغير ذلك من أمورهم. ثم خص - بعد ذلك - الدماء والأموال التي كانت تستباح باعتقادات جاهلية، من الربا الذي كان في ذمم أقوام، ومن قتيل قتل في الجاهلية قبل إسلام القاتل وعهده، أو قبل إسلام المقتول وعهده: إما لتخصيصها بالذكر بعد العام، وإما لأن (¬6) هذا إسقاط لأمور معينة، يعتقد (¬7) أنها حقوق، لا لسنن عامة لهم، فلا تدخل في الأول، كما لم تدخل الديون التي ثبتت ببيع صحيح، أو قرض، ونحو ذلك. ولا يدخل في هذا اللفظ: ما كانوا عليه في الجاهلية، وأقره الله في الإسلام، كالمناسك، وكدية المقتول بمائة (¬8) وكالقسامة، ونحو ذلك؛ لأن أمر الجاهلية معناه المفهوم منه: ما كانوا عليه مما لم يقره الإسلام، فيدخل في ¬
ذلك: ما كانوا عليه وإن لم (¬1) ينه في الإسلام عنه بعينه. وأيضا ما روى أبو داود والنسائي وابن ماجه، من حديث عياش (¬2) بن عباس (¬3) عن أبي الحصين (¬4) - يعني الهيثم بن شفي (¬5) - قال: " خرجت أنا وصاحب لي يُكنى أبا عامر - رجل من المعافر (¬6) - لنصلي (¬7) بإيلياء (¬8) وكان قاصهم رجل (¬9) من الأزد يقال له: أبو ريحانة (¬10) من الصحابة. قال أبو الحصين: فسبقني صاحبي إلى المسجد، ثم ردفته فجلست إلى جنبه، فسألني: هل أدركت قصص أبي ريحانة؟ قلت: لا. قال: سمعته يقول: نهى ¬
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عشر: عن الوشر (¬1) ؛ والوشم (¬2) ؛ والنتف (¬3) ؛ وعن مكامعة (¬4) الرجل الرجل بغير شعار؛ ومكامعة المرأة المرأة بغير شعار؛ وأن يجعل الرجل بأسفل ثيابه حريرا، مثل الأعاجم؛ أو يجعل على منكبيه حريرا، مثل الأعاجم؛ وعن النهبى (¬5) ؛ وركوب النمور (¬6) ؛ ولبوس الخاتم إلا لذي سلطان " (¬7) . وفي رواية عن أبي ريحانة قال: " بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . " (¬8) هذا الحديث محفوظ من حديث عياش بن عباس. رواه عنه ¬
المفضل (¬1) بن فضالة، وحيوة بن شريح المصري (¬2) ويحيى بن أيوب (¬3) . وكل منهم ثقة، وعياش بن عباس روى له مسلم، وقال يحيى بن معين: " ثقة " (¬4) . وقال أبو حاتم: " صالح " (¬5) . وأما أبو الحصين - الهيثم بن شَفِيّ - قال الدارقطني: شَفِيّ بفتح الشين وتخفيف الفاء، وأكثر المحدثين يقولون: شُفَيّ، وهو غلط. وأبو عامر الحجري (¬6) فشيخان، قد روى عن كل واحد (¬7) منهما أكثر من واحد. وهما من الشيوخ القدماء. وهذا الحديث قد أشكل على أكثر الفقهاء، من جهة أن يسير الحرير قد دل على جوازه نصوص متعددة، ويتوجه تحريمه على الأصل، وهو: أن يكون صلى الله عليه وعلى آله وسلم إنما كره أن يجعل الرجل على أسفل ثيابه، أو على منكبيه حريرا، مثل الأعاجم، فيكون المنهي عنه نوعا كان (¬8) شعارا ¬
للأعاجم. فنهى عنه (¬1) لذلك، لا لكونه حريرا؛ فإنه لو كان النهي (¬2) عنه لكونه حريرا لعم الثوب كله، ولم يخص هذين الموضعين، ولهذا قال فيه: " مثل الأعاجم ". والأصل في الصفة: أن تكون لتقييد الموصوف، لا لتوضيحه. وعلى هذا يمكن تخريج ما رواه أبو داود بإسناد صحيح عن سعيد بن أبي عروبة (¬3) عن قتادة، عن الحسن، عن (¬4) عمران بن حصين، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا أركب الأرجوان (¬5) ولا ألبس المعصفر، ولا ألبس القميص المكفف بالحرير ". قال (¬6) فأومأ الحسن إلى جيب قميصه، قال: وقال: " ألا (¬7) وطيب الرجال ريح لا لون له، ألا وطيب النساء لون لا ريح له» . قال سعيد: " أراه قال: إنما حملوا قوله في طيب النساء: على أنها إذا خرجت، ¬
فأما إذا كانت عند زوجها فلتطيب بما شاءت " (¬1) . أو يخرج هذا الحديث على الكراهية فقط. وكذلك قد يقال في الحديث الأول (¬2) لكن في ذلك نظر. وأيضا، ففي الصحيحين عن رافع بن خديج (¬3) قال: «قلت: يا رسول الله! إنا لاقو العدو غدا، وليس معنا مدى (¬4) أفنذبح بالقصب (¬5) ؟ فقال: ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه، فكل، ليس السن والظفر، وسأحدثكم عن ذلك، أما السن: فعظم، وأما الظفر: فمدى الحبشة» (¬6) . ¬
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الذبح بالظفر، معللا بأنها (¬1) مدى الحبشة، كما علل السن: بأنه عظم. وقد اختلف الفقهاء في هذا، فذهب أهل الرأي: إلى أن علة النهي كون الذبح بالسن والظفر يشبه الخنق، أو هو مظنة الخنق، والمنخنقة محرمة، وسوغوا على هذا: الذبح بالسن والظفر المنزوعين؛ لأن التذكية بالآلات المنفصلة المحددة (¬2) لا خنق فيه. والجمهور منعوا من ذلك مطلقا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استثنى السن والظفر مما أنهر الدم (¬3) فعلم أنه من المحدد الذي لا يجوز التذكية به، ولو كان لكونه خنقا، لم يستثنه، والمظنة إنما تقام مقام الحقيقة إذا كانت الحكمة خفية أو غير منضبطة، فأما مع ظهورها وانضباطها فلا. وأيضا، فإنه مخالف لتعليل رسول الله صلى الله عليه وسلم المنصوص في الحديث، ثم اختلف هؤلاء: هل يمنع من التذكية بسائر (¬4) العظام، عملا بعموم العلة؟ على قولين، في مذهب أحمد وغيره. وعلى الأقوال الثلاثة (¬5) فقوله صلى الله عليه وسلم: «وأما الظفر، فمدى الحبشة» بعد ¬
قوله: «سأحدثكم عن ذلك» يقتضي أن هذا الوصف - وهو كونه مدى الحبشة - له تأثير في المنع: إما أن يكون علة، أو دليلا على العلة؛ أو وصفا من أوصاف العلة، أو دليلها (¬1) والحبشة في أظفارهم طول، فيذكون بها دون سائر الأمم، فيجوز أن يكون نهى (¬2) عن ذلك؛ لما فيه من مشابهتهم فيما يختصون به. وأما العظم: فيجوز أن يكون نهيه عن التذكية به (¬3) كنهيه عن الاستنجاء به؛ لما فيه من تنجيسه على الجن، إذ الدم نجس، وليس الغرض هنا ذكر مسألة الذكاة بخصوصها (¬4) فإن فيها كلاما ليس هذا موضعه. وأيضا، في الصحيحين عن الزهري (¬5) عن سعيد بن المسيب (¬6) قال: " البحيرة التي يمنح (¬7) درها للطواغيت، فلا يحلبها أحد من الناس، والسائبة: كانوا يسيبونها لآلهتهم، لا يحمل عليها شيء "، وقال: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت عمرو بن عامر الخزاعي (¬8) يجر قصبه ¬
في النار، كان أول من سيب السوائب» (¬1) . وروى مسلم، من حديث سهيل (¬2) بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف، أخا (¬3) بني كعب، وهو يجر قصبه في النار» (¬4) . وللبخاري، من حديث أبي صالح (¬5) عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف، أبو خزاعة» (¬6) . هذا من العلم المشهور: أن عمرو بن لحي هو (¬7) أول من نصب الأنصاب ¬
حول البيت، ويقال: إنه جلبها من البلقاء (¬1) من (¬2) أرض الشام، متشبها بأهل البلقاء، وهو أول من سيب السائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحام، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه رآه «يجر قصبه في النار» وهي الأمعاء ومنه سمي القصاب بذلك؛ لأنها تشبه القصب، ومعلوم أن العرب قبله كانوا على ملة أبيهم إبراهيم على شريعة التوحيد، والحنيفية السمحة، دين أبيهم (¬3) إبراهيم. فتشبه عمرو بن لحي - وكان عظيم أهل مكة يومئذ؛ لأن خزاعة كانوا ولاة البيت قبل قريش، وكان سائر العرب متشبهين بأهل مكة؛ لأن فيها بيت الله، وإليها الحج، ما زالوا معظمين من زمن إبراهيم عليه السلام -، فتشبه عمرو بمن رآه في الشام، واستحسن بعقله ما كانوا عليه، ورأى أن في تحريم ما حرمه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، تعظيما لله ودينا، فكان ما فعله أصل الشرك في العرب، أهل دين إبراهيم، وأصل تحريم الحلال، وإنما فعله متشبها فيه بغيره من أهل الأرض، فلم يزل الأمر يتزايد ويتفاقم حتى غلب على أفضل الأرض الشرك بالله عز وجل، وتغيير دينه (¬4) إلى أن بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم، فأحيا ملة إبراهيم عليه السلام وأقام التوحيد، وحلل ما كانوا يحرمونه. وفي سورة الأنعام، من عند قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} [الأنعام: 136] إلى قوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} [الأنعام: 140] (¬5) إلى آخر السورة، خطاب مع هؤلاء الضرب؛ ولهذا ¬
يقول تعالى في أثنائها: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148] (¬1) . ومعلوم أن مبدأ هذا التحريم: ترك الأمور المباحة تدينا، وأصل هذا التدين: هو من التشبه بالكفار، وإن لم يقصد (¬2) التشبه بهم. فقد تبين لك: أن من أصل دروس دين الله وشرائعه، وظهور الكفر والمعاصي: التشبه بالكافرين، كما أن من أصل كل خير: المحافظة على سنن الأنبياء وشرائعهم، ولهذا عظم وقع البدع في الدين، وإن لم يكن فيها تشبه بالكفار، فكيف إذا جمعت الوصفين؟ ولهذا جاء في الحديث: «ما ابتدع قوم بدعة إلا نزع عنهم من السنة مثلها» (¬3) . وأيضا، فقد (¬4) روى أبو داود في سننه، وغيره من حديث هشيم (¬5) أخبرنا أبو بشر (¬6) عن أبي عمير بن. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
أنس (¬1) عن عمومة له من الأنصار، قال: «اهتم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة، كيف يجمع الناس لها؟ فقيل له: انصب راية عند حضور الصلاة، فإذا رأوها آذن (¬2) بعضهم بعضا، فلم يعجبه ذلك، قال: فذكروا له القُنْع (¬3) شبور اليهود، فلم يعجبه ذلك، وقال: " هو من أمر اليهود "، قال: فذكروا (¬4) له الناقوس، فقال: " هو من فعل (¬5) النصارى "، فانصرف عبد الله بن زيد بن عبد ربه (¬6) وهو مهتم لِهَمِّ النبي صلى الله عليه وسلم، فأري الأذان في منامه، قال: فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال: يا رسول الله! إني لبين نائم ويقظان، إذ أتاني آت، فأراني الأذان، قال: وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد رآه قبل ذلك، فكتمه عشرين يوما قال: ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " له ما منعك أن تخبرنا؟ "، فقال: سبقني عبد الله بن زيد، فاستحييت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا بلال قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فافعله " قال: " فأذن بلال "، قال: أبو بشر: " فحدثني أبو عمير: أن الأنصار ¬
تزعم أن عبد الله بن زيد، لولا أنه كان يومئذ مريضا، لجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنا» (¬1) . وروى سعيد بن منصور في سننه: حدثنا أبو عوانة (¬2) عن مغيرة (¬3) عن عامر الشعبي (¬4) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، اهتم (¬5) بالصلاة اهتماما شديدا، تبين (¬6) ذلك فيه، وكان فيما اهتم به من أمر الصلاة (¬7) أن ذكر الناقوس، ثم قال: " هو من أمر (¬8) النصارى ". ثم أراد أن يبعث رجالا يؤذنون الناس بالصلاة، في الطرق، ثم قال: " أكره أن أشغل رجالا عن صلاتهم بأذان غيرهم " (¬9) وذكر رؤيا عبد الله بن زيد. ¬
ويشهد لهذا ما أخرجاه في الصحيحين، عن أبي قلابة (¬1) عن أنس قال: «لما كثر الناس، ذكروا أن يعلموا (¬2) وقت الصلاة بشيء يعرفونه، فذكروا أن ينوروا نارا، ويضربوا ناقوسا، فأمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة» (¬3) . وفي الصحيحين، عن ابن جريج (¬4) عن نافع عن ابن عمر قال: «كان المسلمون حين قدموا المدينة، يجتمعون فيتحينون الصلاة (¬5) وليس ينادي بهم أحد، فتكلموا يوما في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوسا مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: قرنا مثل قرن اليهود، فقال عمر: أَوَلا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا بلال قم فناد بالصلاة» (¬6) . ¬
ما يتعلق بهذا الحديث: من شرع (¬1) الأذان، ورؤيا عبد الله بن زيد وعمر، وأمر عمر أيضا بذلك، وما روي من أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان قد سمع الأذان ليلة أسري (¬2) به. إلى غير ذلك، ليس هذا موضع ذكره، وذكر الجواب عما قد يستشكل منه. وإنما الغرض هنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كره بوق اليهود المنفوخ بالفم، وناقوس النصارى المضروب باليد، علل هذا بأنه من أمر اليهود، وعلل هذا بأنه من أمر النصارى؛ لأن ذكر الوصف عقيب الحكم، يدل على أنه علة له، وهذا يقتضي نهيه عن كل ما هو من أمر اليهود والنصارى. هذا مع أن قرن اليهود يقال: إن أصله مأخوذ عن موسى عليه السلام، وأنه كان يضرب بالبوق في عهده، وأما ناقوس النصارى فمبتدع، إذ عامة شرائع النصارى أحدثها أحبارهم ورهبانهم. وهذا (¬3) يقتضي كراهة هذا النوع من الأصوات مطلقا في غير الصلاة (¬4) أيضا؛ لأنه من أمر اليهود والنصارى، فإن النصارى يضربون بالنواقيس في أوقات متعددة غير أوقات عباداتهم. وإنما شعار الدين الحنيف: الأذان المتضمن للإعلان بذكر الله، الذي به تفتح أبواب السماء، فتهرب (¬5) الشياطين، وتنزل الرحمة. وقد ابتلي كثير من هذه الأمة، من الملوك وغيرهم، بهذا الشعار اليهودي والنصراني (¬6) حتى إنا رأيناهم في هذا الخميس ¬
الحقير (¬1) الصغير (¬2) يزفون (¬3) البخور، ويضربون له بنواقيس صغار، حتى إن من الملوك من كان يضرب بالأبواق، والدبادب (¬4) في أوقات الصلوات الخمس، وهو (¬5) نفس ما كرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من كان يضرب بها طرفي النهار، تشبها منه - زعم (¬6) - بذي القرنين، ووكل ما دون ذلك إلى ملوك الأطراف. وهذه المشابهة لليهود والنصارى، وللأعاجم (¬7) من الروم والفرس، لما غلبت على ملوك المشرق (¬8) هي وأمثالها، مما خالفوا به هدي المسلمين، ودخلوا فيما كرهه الله ورسوله؛ سُلِّط عليهم الترك الكافرون (¬9) الموعود ¬
بقتالهم، حتى فعلوا في العباد والبلاد ما لم يجر في دولة الإسلام مثله، وذلك تصديق قوله صلى الله عليه وسلم: «لتركبن سنن من كان قبلكم» (¬1) كما تقدم. وكان المسلمون على عهد نبيهم، وبعده، لا يعرفون وقت الحرب إلا السكينة وذكر (¬2) الله سبحانه، قال قيس بن عباد: (¬3) - وهو من كبار التابعين (¬4) -: " كانوا يستحبون خفض الصوت: عند الذكر، وعند القتال، وعند الجنائز " (¬5) . وكذلك سائر الآثار تقتضي أنهم كانت عليهم السكينة، في هذه المواطن، مع امتلاء القلوب بذكر الله، وإجلاله وإكرامه. كما أن حالهم في الصلاة كذلك. وكان رفع الصوت في هذه المواطن الثلاثة (¬6) من عادة أهل الكتاب والأعاجم، ثم قد ابتلى بها كثير من هذه الأمة. وليس هذا موضع استقصاء ذلك. ¬
وأيضا، فعن عمرو بن ميمون الأودي (¬1) قال: «قال عمر رضي الله عنه: كان أهل الجاهلية، لا يفيضون من جمع حتى تطلع الشمس، ويقولون: أشرق ثبير، كيما نغير، قال: فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأفاض قبل طلوع الشمس» (¬2) . وقد روي في هذا الحديث - فيما أظنه - أنه قال: «خالف هدينا هدي المشركين» (¬3) وكذلك (¬4) كانوا يفيضون من عرفات قبل الغروب (¬5) فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإفاضة بعد الغروب، ولهذا: صار الوقوف إلى ما بعد الغروب واجبا عند جماهير العلماء، وركنا ¬
عند بعضهم، وكرهوا شدة الإسفار (¬1) صبيحة جمع. ثم الحديث قد ذكر فيه قصد المخالفة للمشركين. وأيضا فعن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة» متفق عليه (¬2) . وعن جبير بن نفير (¬3) عن عبد الله بن عمرو قال: «رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم علي ثوبين معصفرين فقال: " إن هذه من ثياب الكفار، فلا (¬4) تلبسها» رواه مسلم (¬5) . علل النهي عن لبسها بأنها: من ثياب الكفار، وسواء أراد أنها مما يستحله الكفار بأنهم (¬6) يستمتعون بخلاقهم في الدنيا، أو مما يعتاده الكفار لذلك. كما أنه في الحديث قال: (¬7) إنهم يستمتعون بآنية الذهب والفضة في ¬
الدنيا، وهي للمؤمنين في الآخرة، ولهذا كان العلماء يجعلون اتخاذ الحرير وأواني الذهب والفضة تشبها بالكفار. ففي الصحيحين عن أبي عثمان النهدي (¬1) قال: «كتب إلينا عمر رضي الله عنه ونحن بأذربيجان، مع عتبة بن فرقد: يا عتبة إنه ليس من كد أبيك، ولا من كد أمك، فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك، وإياكم (¬2) والتنعم، وزي أهل الشرك، ولبوس الحرير، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبوس الحرير، وقال: " إلا هكذا " - ورفع لنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأصبعيه (¬3) الوسطى والسبابة وضمهما» (¬4) . وروى أبو بكر الخلال، بإسناد عن محمد بن سيرين، أن حذيفة بن اليمان أتى بيتا، فرأى فيه حارستان (¬5) فيه أباريق الصفر والرصاص، فلم يدخله، وقال: " من تشبه بقوم فهو منهم " (¬6) . وفي لفظ آخر: (فرأى شيئا من زي العجم ¬
فخرج وقال: من تشبه بقوم فهو منهم) . وقال علي بن أبي صالح (¬1) السواق (¬2) " كنا في وليمة، فجاء أحمد بن حنبل، فلما دخل نظر إلى كرسي في الدار عليه فضة، فخرج فلحقه صاحب الدار، فنفض يده في وجهه وقال: زي المجوس! زي المجوس! " (¬3) . وقال في رواية صالح (¬4) (إذا كان في (¬5) الدعوة مسكر، أو شيء من منكر آنية المجوس: الذهب والفضة، أو ستر الجدران بالثياب، خرج ولم يطعم) . ولو تتبعنا ما في هذا الباب (¬6) عن النبي صلى الله عليه وسلم، مع ما دل عليه كتاب الله لطال (¬7) . ¬
فصل في الإجماع على الأمر بمخالفة الكفار والنهي عن مشابهتهم
[فصل في الإجماع على الأمر بمخالفة الكفار والنهي عن مشابهتهم] [الوجه الأول من دلائل الإجماع] فصل وأما الإجماع (¬1) فمن وجوه من ذلك: أن أمير المؤمنين عمر، في الصحابة رضي الله عنهم، ثم عامة الأئمة بعده، وسائر الفقهاء، جعلوا في الشروط المشروطة (¬2) على أهل الذمة من النصارى وغيرهم، فيما شرطوه على أنفسهم: " أن نوقر المسلمين، ونقوم لهم من مجالسنا، إذا (¬3) أرادوا الجلوس، ولا نتشبه بهم في شيء من لباسهم (¬4) قلنسوة، أو عمامة، أو نعلين، أو فرق شعر، ولا نتكلم بكلامهم، ولا نكتنى بكناهم، ولا نركب السروج، ولا نتقلد السيوف، ولا نتخذ شيئا من السلاح، ولا نحمله، ولا ننقش خواتيمنا بالعربية، ولا نبيع الخمور، وأن نجز مقادم رءوسنا، وأن نلزم زينا حيثما كان، وأن نشد الزنانير (¬5) على أوساطنا، وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا، ولا نظهر ¬
صليبا (¬1) ولا كتبا، (¬2) في شيء من طرق المسلمين، ولا أسواقهم، ولا نضرب بنواقيسنا في كنائسنا إلا ضربا خفيا (¬3) ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين " رواه حرب (¬4) بإسناد جيد (¬5) . وفي رواية أخرى رواها الخلال: " وأن لا نضرب بنواقيسنا إلا ضربا خفيا (¬6) في جوف كنائسنا ولا نظهر عليها صليبا ولا نرفع أصواتنا في الصلاة ولا القراءة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون، وأن لا نخرج صليبا ولا كتابا (¬7) في سوق المسلمين، ولا نخرج باعوثا - والباعوث: يخرجون يجتمعون كما يخرج (¬8) يوم الأضحى والفطر - ولا شعانينا ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين، وأن لا نجاورهم بالخنازير (¬9) ولا نبيع الخمور. . . " إلى أن قال: " وأن نلزم زينا حيثما كنا، وأن لا نتشبه بالمسليمن في لبس قلنسوة (¬10) ولا عمامة، ولا نعلين، ولا فرق ¬
شعر، ولا في مراكبهم، ولا نتكلم بكلامهم، ولا نكتني بكناهم، وأن نجز مقادم رءوسنا، ولا نفرق نواصينا، وأن نشد الزنانير على أوساطنا " (¬1) . وهذه الشروط أشهر شيء في كتب الفقه والعلم، وهي مجمع عليها في الجملة، بين العلماء من الأئمة المتبوعين، وأصحابهم، وسائر الأئمة، ولولا شهرتها عند الفقهاء لذكرنا ألفاظ كل طائفة فيها. وهي أصناف: الصنف الأول: ما مقصوده: التمييز عن المسلمين، في الشعور واللباس والأسماء والمراكب والكلام، ونحوها؛ ليتميز المسلم عن الكافر، ولا يتشبه أحدهما بالآخر (¬2) في الظاهر، ولم يرض عمر رضي الله عنه والمسلمون بأصل التمييز، بل بالتميز (¬3) في عامة الهدي، على تفاصيل معروفة في غير هذا الموضع. وذلك يقتضي: إجماع المسلمين على التمييز (¬4) عن الكفار ظاهرا، وترك التشبه بهم ولقد كان أمراء الهدى، مثل العمرين (¬5) وغيرهما، يبالغون في تحقيق ذلك بما يتم به المقصود. ¬
ومقصودهم من هذا التميز: كما روى الحافظ أبو الشيخ الأصبهاني (¬1) بإسناده في شروط أهل الذمة، عن خالد بن عرفطة (¬2) قال: " كتب عمر رضي الله عنه إلى الأمصار: أن تجز (¬3) نواصيهم - يعني النصارى - ولا يلبسوا لبسة (¬4) المسلمين؛ حتى يعرفوا " (¬5) . وقال القاضي أبو يعلى في مسألة حدثت في وقته: " أهل الذمة مأمورون بلبس الغيار، فإن امتنعوا؛ لم يجز لأحد من المسلمين صبغ (¬6) ثوب من ثيابهم؛ لأنه لم يتعين عليهم صبغ ثوب بعينه ". قلت: وهذا فيه خلاف: هل يلزمون (¬7) بالتغيير أم (¬8) الواجب (¬9) إذا امتنعوا أن نغير نحن؟ وأما وجوب أصل المغايرة: فما علمت فيه خلافا. وقد روى أبو الشيخ الأصبهاني، في شروط أهل الذمة بإسناده، أن عمر بن ¬
الخطاب كتب: " أن لا تكاتبوا أهل الذمة، فتجري بينكم وبينهم المودة، ولا تكنوهم، وأذلوهم ولا تظلموهم، ومروا نساء أهل الذمة: أن (¬1) يعقدن زناراتهن، ويرخين نواصيهن، ويرفعن عن سوقهن؛ حتى يعرف زيهن من المسلمات، فإن رغبن (¬2) عن ذلك، فليدخلن في (¬3) الإسلام طوعا أو كرها ". وروى أيضا أبو الشيخ (¬4) بإسناده، عن محمد بن قيس (¬5) وسعد (¬6) بن عبد الرحمن بن حبان، قالا: " دخل ناس من بني تغلب على عمر بن عبد العزيز وعليهم العمائم كهيئة العرب، فقالوا يا أمير المؤمنين ألحقنا بالعرب، قال: فمن أنتم؟ قالوا نحن بنو تغلب، قال: أولستم من أوسط العرب؟ قالوا: نحن نصارى، قال: عليّ بجلم (¬7) فأخذ من نواصيهم، وألقى العمائم، وشق رداء كل واحد شبرا، يحتزم به، وقال: لا تركبوا السروج، واركبوا على الأكف، ودلوا رجليكم (¬8) من شق واحد " (¬9) . ¬
وعن مجاهد أبي (¬1) الأسود قال: " كتب عمر بن عبد العزيز: أن لا يضرب الناقوس خارجا من الكنيسة (¬2) ". وعن معمر (¬3) " أن عمر بن عبد العزيز كتب: أن امنع من قِبَلك، فلا يلبس نصراني قباء، ولا ثوب خز، ولا عصب، وتقدم في ذلك أشد التقدم، واكتب فيه حتى لا يخفى على أحد نهي عنه، وقد ذكر لي أن كثيرا ممن قبلك من النصارى قد راجعوا لبس العمائم، وتركوا لبس (¬4) المناطق على أوساطهم واتخذوا الوفر (¬5) والجمام (¬6) وتركوا التقصيص، ولعمري إن كان يصنع ذلك فيما قبلك، إن ذلك بك ضعف وعجز، فانظر كل شيء كنت نهيت عنه، وتقدمت فيه، إلا تعاهدته وأحكمته ولا ترخص فيه، ولا تعد عنه شيئا " (¬7) . ولم أكتب سائر ما كانوا يأمرون به في أهل الكتاب؛ إذ الغرض هنا: التمييز. وكذلك فعل جعفر بن محمد بن هارون المتوكل (¬8) بأهل الذمة في خلافته، واستشار (¬9) في ذلك الإمام (¬10) أحمد بن (¬11) حنبل، وغيره، ¬
وعهوده في ذلك، وجوابات أحمد بن حنبل له معروفة. ومن جملة الشروط (¬1) . * ما يعود بإخفاء منكرات دينهم، وترك إظهارها (¬2) كمنعهم من إظهار الخمر والناقوس، والنيران والأعياد، ونحو ذلك. * ومنها: ما يعود بإخفاء شعار دينهم (¬3) كأصواتهم بكتابهم. فاتفق عمر رضي الله عنه، والمسلمون معه وسائر العلماء بعدهم (¬4) ومن وفقه الله تعالى من ولاة الأمور (¬5) على منعهم من أن يظهروا في دار الإسلام شيئا مما يختصون به، مبالغة في أن لا يظهروا في دار الإسلام خصائص المشركين، فكيف إذا عملها المسلمون وأظهروها (¬6) . * ومنها: ما يعود بترك إكرامهم وإلزامهم الصغار (¬7) الذي شرعه الله تعالى. ومن المعلوم: أن تعظيم أعيادهم، ونحوها، بالموافقة، فيها (¬8) نوع من إكرامهم (¬9) فإنهم يفرحون بذلك، ويسرون به، كما يغتمون بإهمال أمر دينهم الباطل. ¬
الوجه الثاني من دلائل الإجماع
[الوجه الثاني من دلائل الإجماع] الوجه الثاني من دلائل الإجماع (¬1) أن هذه القاعدة، قد أمر بها غير واحد، من الصحابة والتابعين، في أوقات متفرقة، وقضايا متعددة، وانتشرت ولم ينكرها منكر. فعن قيس بن أبي حازم (¬2) قال: " دخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه، على امرأة من أحمس (¬3) يقال لها: زينب (¬4) فرآها لا تتكلم، فقال: ما لها لا تتكلم؟ قالوا: حجت مصمتة، فقال لها: تكلمي! فإن هذا لا يحل، هذا عمل الجاهلية، فتكلمت فقالت: من أنت؟ قال: امرؤ من المهاجرين، قالت: أي المهاجرين؟ قال: من قريش. قالت: من أي قريش؟ قال: إنك لسؤول! وقال: أنا أبو بكر، قالت: ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ قال: بقاؤكم عليه ما استقامت لكم أئمتكم، قالت: وما الأئمة؟ قال: أما كان لقومكم رءوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم؟ ! قالت: بلى، قال: فهم أولئك على الناس " رواه البخاري في صحيحه (¬5) . ¬
فأخبر أبو بكر: أن الصمت المطلق لا يحل، وعقب ذلك بقوله: هذا من عمل الجاهلية، قاصدا بذلك عيب هذا العمل، وذمه (¬1) . وتعقيب الحكم بالوصف: دليل على أن الوصف علة، ولم يشرع في الإسلام. فيدخل في هذا: كل ما اتخذ من عبادة، مما كان أهل الجاهلية يتعبدون به، ولم يشرع الله التعبد به في الإسلام، وإن لم ينوه عنه بعينه، كالمكاء والتصدية، فإن الله تعالى قال عن الكافرين: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35] (¬2) . والمكاء: الصفير ونحوه. والتصدية: التصفيق. فاتخاذ هذا قربة وطاعة من عمل الجاهلية، الذي لم يشرع في الإسلام. وكذلك: بروز المحرم وغيره للشمس، حتى لا يستظل بظل، أو ترك الطواف بالثياب المتقدمة (¬3) أو ترك كل (¬4) ما عمل في غير الحرم، ونحو ذلك من أمور الجاهلية التي كانوا يتخذونها عبادات، وإن كان قد جاء نهي خاص في ¬
عامة هذه الأمور، بخلاف السعي بين الصفا والمروة، وغيره من شعائر الحج، فإن ذلك من شعائر الله، وإن كان أهل الجاهلية قد كانوا يفعلون ذلك في الجملة. وقد قدمنا ما رواه البخاري في صحيحه، عن عمر بن الخطاب: أنه كتب إلى المسلمين المقيمين ببلاد فارس: " إياكم وزي أهل الشرك " (¬1) . وهذا نهي منه للمسلمين عن كل ما كان من زي المشركين. وقال الإمام أحمد في المسند: حدثنا يزيد (¬2) حدثنا عاصم (¬3) عن أبي عثمان النهدي، عن عمر أنه قال: " اتزروا، وارتدوا، وانتعلوا، والبسوا الخفاف، والسراويلات، والقوا الركب، وانزوا نزوا، وعليكم بالمعدية، وارموا الأغراض، وذروا التنعم وزي العجم، وإياكم والحرير، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عنه، وقال: «لا تلبسوا من الحرير، إلا ما كان هكذا "، وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بإصبعيه» (¬4) . ¬
وقال أحمد: حدثنا حسن بن موسى (¬1) حدثنا زهير، حدثنا عاصم الأحول، عن أبي عثمان قال: " جاءنا كتاب عمر رضي الله عنه، ونحن بأذربيجان: يا عتبة بن فرقد (¬2) إياكم والتنعم، وزي أهل الشرك، ولبوس الحرير، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهانا عن لبوس الحرير وقال: " إلا هكذا " ورفع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أصبعيه» (¬3) وهذا ثابت على شرط الصحيحين (¬4) . وفيه: أن عمر رضي الله عنه أمر بالمعدية، وهي زي (¬5) بني معد بن عدنان، وهم العرب، فالمعدية نسبة إلى معد، ونهى عن زي العجم وزي المشركين، وهذا عام كما لا يخفى، وقد تقدم هذا مرفوعا. والله أعلم به. وروى الإمام أحمد في المسند: حدثنا أسود بن عامر (¬6) حدثنا حماد بن ¬
سلمة عن أبي سنان (¬1) عن عبيد بن آدم (¬2) وأبي مريم (¬3) وأبي (¬4) شعيب (¬5) أن عمر كان بالجابية - فذكر فتح بيت المقدس - قال حماد بن سلمة: فحدثني أبو سنان عن عبيد بن آدم قال: " سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول لكعب: أين ترى أن أصلي، فقال: إن أخذت عني صليت خلف الصخرة، فكانت القدس كلها بين يديك، فقال: عمر ضاهيت اليهودية، لا، ولكن أصلي حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقدم إلى القبلة فصلى، ثم جاء فبسط رداءه فكنس الكناسة في ردائه، وكنس الناس (¬6) . ¬
قلت: صلاة النبي الله صلى الله عليه وسلم في مسجد بيت المقدس في ليلة الإسراء: قد رواها مسلم في صحيحه، من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت (¬1) عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتيت بالبراق، وهو دابة أبيض طويل، فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه، قال-: فركبته حتى أتيت المقدس. قال: فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء. قال: ثم دخلت المسجد، فصليت فيه ركعتين ثم خرجت، فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر، وإناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال: جبريل عليه السلام: اخترت الفطرة. قال: ثم عرج بنا إلى السماء» (¬2) وذكر الحديث. وقد كان حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ينكر أن يكون صلى فيه؛ لأنه لم يبلغه ذلك، واعتقد أنه لو صلى فيه لوجب على الأمة الصلاة فيه. فعمر رضي الله عنه عاب على كعب (¬3) مضاهاة اليهودية، أي مشابهتها في مجرد استقبال الصخرة؛ لما فيه من مشابهة من يعتقدها قبلة باقية، وإن كان المسلم لا يقصد أن يصلي إليها. وقد كان لعمر رضي الله عنه في هذا الباب من السياسات المحكمة، ما هي مناسبة لسائر سيرته المرضية، فإنه رضي الله عنه هو الذي استحالت ذنوب الإسلام بيده غربا، فلم يفر عبقري فريه، حتى صدر الناس ¬
بعطن (¬1) فأعز (¬2) الإسلام، وأذل الكفر وأهله، وأقام شعار (¬3) الدين الحنيف، ومنع من كل أمر فيه تذرع (¬4) إلى نقض عرى الإسلام، مطيعا في ذلك لله ورسوله، وقافا عند كتاب الله، ممتثلا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، محتذيا حذو صاحبيه، مشاورا في أموره للسابقين الأولين، مثل: عثمان وعلي وطلحة (¬5) والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، وغيرهم، ممن له علم، أو فقه، أو رأي، أو نصيحة للإسلام وأهله. ¬
حتى إن العمدة في الشروط على أهل الكتاب على شروطه، وحتى منع من (¬1) استعمال كافر أو ائتمانه على أمر الأمة، وإعزازه بعد إذ أذله الله، حتى روي عنه أنه حرق الكتب العجمية وغيرها. وهو الذي منع أهل البدع من أن ينبغوا، وألزمهم (¬2) ثوب الصغار، حيث فعل بصبيغ بن عسل التميمي ما فعل في قصته المشهورة (¬3) . وسيأتي عنه (¬4) إن شاء الله تعالى، في خصوص أعياد الكفار، من النهي عن الدخول عليهم فيها، ومن النهي عن تعلم رطانة الأعاجم، ما يبين (¬5) به (¬6) قوة شكيمته، في النهي عن مشابهة الكفار والأعاجم، ثم ما كان عمر قد قرره من السنن والأحكام والحدود. فعثمان رضي الله عنه، أقر ما فعله عمر، وجرى على سنته في ذلك، فقد علم موافقة عثمان لعمر في هذا الباب. ¬
وروى سعيد (¬1) في سننه: حدثنا هشيم، عن خالد الحذاء (¬2) عن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب (¬3) عن أبيه (¬4) قال: " خرج علي رضي (¬5) الله عنه، فرأى قوما قد سدلوا، فقال: ما لهم؟ كأنهم اليهود خرجوا من فهرهم " (¬6) . ورواه ابن المبارك وحفص بن غياث (¬7) عن خالد. وفيه: " أنه رأى قوما قد سدلوا في الصلاة، فقال: كأنهم اليهود خرجوا من فهورهم (¬8) " (¬9) . ¬
وقد روينا عن ابن عمر وأبي هريرة: " أنهما كانا يكرهان السدل في الصلاة (¬1) . وقد روى أبو داود، عن سليمان الأحول (¬2) وعسل (¬3) بن سفيان (¬4) عن عطاء، عن أبي هريرة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن السدل في الصلاة، وأن يغطي الرجل فاه» (¬5) . ومنهم من رواه عن عطاء، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، لكن قال هشيم: حدثنا عامر الأحول (¬6) قال: " سألت عطاء عن السدل في الصلاة، ¬
فكرهه. فقلت: عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم " (¬1) والتابعي إذا أفتى (¬2) بما رواه دل على ثبوته عنده. لكن قد روي عن عطاء، من وجوه جيدة: أنه كان لا يرى بالسدل بأسا، وأنه كان يصلي سادلا (¬3) فلعل هذا كان قبل أن يبلغه الحديث، ثم لما بلغه رجع، أو لعله نسي الحديث، والمسألة مشهورة، وهو: عمل الراوي بخلاف روايته، هل يقدح فيها؟ (¬4) . والمشهور عن أحمد وأكثر العلماء: أنه (¬5) لا يقدح فيها؛ لما تحتمله المخالفة من وجوه غير ضعف الحديث. وقد روى عبد الرزاق عن، بشر بن رافع، عن يحيى بن ¬
أبي (¬1) كثير (¬2) عن أبي عبيدة بن عبد الله (¬3) " أن أباه كره السدل في الصلاة " (¬4) . قال أبو عبيدة: «وكان أبي يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه» (¬5) . وأكثر العلماء يكرهون السدل مطلقا. وهو مذهب أبي حنيفة (¬6) والشافعي (¬7) والمشهور عن أحمد (¬8) . وعنه أنه (¬9) إنما (¬10) ¬
يكرهه (¬1) فوق الإزار دون القميص؛ توفيقا بين الآثار في ذلك، وحملا للنهي على (¬2) لباسهم المعتاد. ثم اختلف: هل السدل محرم يبطل الصلاة؟ . فقال ابن أبي موسى (¬3) فإن صلى سادلا، ففي الإعادة روايتان، أظهرهما: لا يعيد. وقال أبو بكر عبد العزيز (¬4) " إن لم تبد عورته؛ فلا (¬5) يعيد باتفاق. ومنهم من لم يكره السدل، وهو قول مالك (¬6) وغيره. والسدل المذكور هو أن يطرح الثوب على أحد كتفيه، ولا يرد أحد طرفيه على كتفه الآخر (¬7) هذا هو المنصوص عن أحمد، وعلله: بأنه فعل اليهود، وقال حنبل (¬8) " قال أبو عبد الله: والسدل أن يسدل (¬9) أحد طرفي الإزار ولا ينعطف به عليه، وهو لبس اليهود، وهو على الثوب ¬
وغيره (¬1) مكروه السدل (¬2) في الصلاة " (¬3) . وقال صالح بن أحمد: " سألت أبي عن السدل في الصلاة؟ فقال: يلبس الثوب، فإذا لم يطرح أحد طرفيه على الآخر، فهو السدل " (¬4) . وهذا هو الذي (¬5) عليه عامة العلماء. وأما ما ذكره أبو الحسن الآمدي (¬6) وابن عقيل (¬7) من أن السدل هو إسبال الثوب بحيث ينزل عن (¬8) قدميه ويجره، فيكون هو إسبال الثوب، وجره المنهي عنه؛ فغلط مخالف لعامة العلماء وإن كان الإسبال والجر منهيا عنه بالاتفاق والأحاديث فيه أكثر، وهو محرم على الصحيح، لكن ليس هو السدل. ¬
وليس الغرض (¬1) عين هذه المسألة، وإنما الغرض أن عليا رضي الله عنه شبه السادلين باليهود، مبينا بذلك كراهة فعلهم، فعلم أن مشابهة اليهود: أمر كان قد استقر عندهم كراهته. وفُهر اليهود - بضم الفاء -: مدارسهم. وأصلها: بهر (¬2) وهي عبرانية فعربت، هكذا ذكره الجوهري (¬3) وكذلك ذكر ابن فارس (¬4) وغيره: أن فهر اليهود: مدارسهم. وفي (العين) عن الخليل بن أحمد (¬5) أن (¬6) فهر اليهود: مدارسهم. وسنذكر عن علي رضي الله عنه، من كراهة التكلم بكلامهم، ما يؤيد (¬7) هذا، وما (¬8) في الحديث المذكور من النهي عن تغطية الفم، فقد علله بعضهم ¬
بأنه فعل المجوس عند نيرانهم التي يعبدونها، فعلى هذا: تظهر (¬1) مناسبة الجمع بين النهي عن السدل، وعن تغطية الفم، بما في كلاهما (¬2) من مشابهة الكفار، مع أن في كل منهما معنى آخر يوجب الكراهة، ولا محذور في تعليل الحكم بعلتين. فهذا عن الخلفاء الراشدين، وأما سائر الصحابة رضي الله عنهم فكثير، مثل: ما قدمناه عن حذيفة بن اليمان: أنه لما دعي إلى وليمة فرأى شيئا من زي العجم خرج وقال: " من تشبه بقوم فهو منهم " (¬3) . وروى أبو محمد الخلال (¬4) بإسناده عن عكرمة (¬5) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " سأله رجل: أحتقن؟ قال: لا تبد (¬6) العورة، ولا تستن بسنة المشركين ". فقوله: " لا تستن بسنة المشركين " (¬7) عام. ¬
وقال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي (¬1) حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا الحجاج بن حسان (¬2) قال: " دخلنا على أنس بن مالك فحدثني أخي (¬3) المغيرة (¬4) قال: وأنت يومئذ غلام، ولك قرنان، أو قصتان، فمسح رأسك وبرك عليك وقال: احلقوا هذين، أو قصوهما (¬5) فإن هذا زي اليهود (¬6) " (¬7) علل النهي عنهما بأن ذلك زي اليهود، وتعليل النهي بعلة يوجب أن تكون العلة مكروهة (¬8) مطلوب عدمها، فعلم أن زي اليهود - حتى في الشعر - مما يطلب عدمه، وهو المقصود. ¬
وروى ابن أبي عاصم (¬1) حدثنا وهب بن بقية (¬2) حدثنا خالد الواسطي (¬3) عن عمران بن حدير (¬4) عن أبي مجلز (¬5) أن معاوية قال: " إن تسوية القبور من السنة، وقد رفعت اليهود والنصارى، فلا تشبهوا بهم " (¬6) . يشير معاوية إلى ما رواه مسلم في صحيحه، عن فضالة بن عبيد (¬7) «أنه ¬
أمر بقبر فسوي، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها» (¬1) . رواه مسلم (¬2) . وعن (¬3) علي أيضا قال: «أمرني النبي (¬4) صلى الله عليه وسلم أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته، ولا تمثالا إلا طمسته» (¬5) . رواه مسلم. وسنذكر - إن شاء الله تعالى - عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: " من بنى ببلاد المشركين، وصنع نيروزهم، ومهرجانهم، حتى يموت: حشر معهم يوم القيامة " (¬6) . وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها: أنها كرهت الاختصار في الصلاة، وقالت (¬7) " لا تشبهوا باليهود ". هكذا رواه بهذا اللفظ (¬8) سعيد بن منصور، ¬
حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن مسلم (¬1) عن مسروق، عن عائشة، وقد تقدم من رواية البخاري في المرفوعات (¬2) . وروى سعيد، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح (¬3) عن إسماعيل بن عبد الرحمن بن ذؤيب (¬4) قال: " دخلت مع ابن عمر مسجدا بالجحفة، فنظر إلى شرافات، فخرج إلى موضع فصلى فيه، ثم قال لصاحب المسجد: إني رأيت في مسجدك هذا - يعني الشرافات (¬5) - شبهتها بأنصاب الجاهلية، فمر (¬6) بها أن تكسر " (¬7) . وروى سعيد أيضا عن ابن مسعود: أنه كان يكره الصلاة في ¬
الطاق (¬1) وقال: " إنه في (¬2) الكنائس، فلا تشبهوا بأهل الكتاب " (¬3) . وعن عبيد بن أبي الجعد (¬4) قال: " كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يقولون: إن من أشراط الساعة أن تتخذ المذابح في المسجد " (¬5) . يعني الطاقات. وهذا الباب فيه كثرة عن الصحابة. وهذه القضايا التي ذكرناها: بعضها في مظنة الاشتهار، وما علمنا أحدا خالف ما ذكرناه عن الصحابة رضي الله عنهم، من كراهة التشبه بالكفار والأعاجم في الجملة، وإن كان بعض هذه المسائل المعينة فيها خلاف وتأويل ليس هذا موضعه. وهذا كما أنهم مجمعون على اتباع الكتاب والسنة (¬6) وإن كان قد يختلف في بعض أعيان المسائل لتأويل (¬7) . فعلم اتفاقهم على كراهة التشبه بالكفار والأعاجم. ¬
الوجه الثالث في تقرير الإجماع
[الوجه الثالث في تقرير الإجماع] الوجه الثالث في تقرير الإجماع ما ذكره عامة علماء الإسلام من المتقدمين، والأئمة المتبوعين وأصحابهم، في تعليل النهي عن أشياء بمخالفة الكفار، أو مخالفة النصارى (¬1) أو مخالفة الأعاجم، وهو أكثر من أن يمكن استقصاؤه، وما من أحد له أدنى نظر في الفقه إلا وقد بلغه من ذلك طائفة، وهذا بعد التأمل والنظر، يورث علما ضروريا، باتفاق الأئمة، على النهي عن موافقة الكفار والأعاجم، والأمر بمخالفتهم. وأنا أذكر من ذلك (¬2) نكتا في مذاهب الأئمة المتبوعين اليوم، مع ما تقدم في أثناء الكلام عن غير واحد من العلماء. فمن ذلك أن الأصل المستقر عليه (¬3) في مذهب أبي حنيفة أن تأخير الصلاة أفضل من تعجيلها، إلا في مواضع يستثنونها، كاستثناء يوم الغيم، وكتعجيل الظهر في الشتاء - وإن كان غيرهم من العلماء يقول (¬4) الأصل أن التعجيل أفضل - فيستحبون تأخير الفجر (¬5) والعصر، والعشاء والظهر، إلا في الشتاء في غير الغيم (¬6) . ثم قالوا: يستحب تعجيل المغرب؛ لأن تأخيرها مكروه لما فيه من التشبه باليهود، وهذا أيضا قول سائر الأئمة (¬7) وهذه العلة منصوصة (¬8) كما تقدم. ¬
وقالوا أيضا: يكره السجود في الطاق؛ لأنه يشبه صنيع أهل الكتاب، من حيث تخصيص الإمام بالمكان، بخلاف ما إذا كان سجوده في الطاق، وهذا أيضا ظاهر مذهب أحمد وغيره (¬1) وفيه آثار صحيحة عن الصحابة: ابن مسعود، وغيره (¬2) . وقالوا: لا بأس أن يصلي وبين يديه مصحف معلق، أو سيف معلق؛ لأنهما لا يعبدان؛ وباعتباره: تثبت (¬3) الكراهة (¬4) ولا بأس أن يصلي على بساط فيه تصاوير؛ لأن فيه استهانة بالصورة، ولا يسجد على التصاوير (¬5) ؛ لأنه يشبه عبادة الصور، وأطلق الكراهة في الأصل؛ لأن المصلي معظم (¬6) . قالوا: ولو لبس ثوبا فيه تصاوير كره (¬7) ؛ لأنه يشبه (¬8) حامل الصنم، ولا يكره تماثيل (¬9) غير ذوي الروح؛ لأنه لا يعبد (¬10) . ¬
وقالوا (¬1) أيضا: إن صام يوم الشك ينوى أنه من رمضان، كره؛ لأنه تشبه بأهل الكتاب؛ لأنهم زادوا في مدة صومهم. وقالوا: فإذا غربت الشمس، أفاض الإمام والناس معه على هيئتهم حتى يأتوا مزدلفة؛ لأن فيه إظهار مخالفة المشركين. وقالوا أيضا لا يجوز الأكل والشرب والإدهان والتطيب في آنية الذهب والفضة، للرجال والنساء؛ للنصوص، ولأنه تشبه بزي المشركين، وتنعم بتنعم المترفين والمسرفين (¬2) . وقالوا في تعليل المنع من لباس الحرير في حجة أبي يوسف (¬3) ومحمد (¬4) على أبي حنيفة، في المنع من افتراشه وتعليقه والستر به؛ لأنه من زي الأكاسرة، والجبابرة، والتشبه بهم حرام. قال عمر: " إياكم وزي الأعاجم " (¬5) وقال محمد في الجامع الصغير: ¬
" ولا يتختم إلا بالفضة " (¬1) . قالوا: وهذا نص على أن التختم بالحجر والحديد والصفر، حرام؛ للحديث المأثور: «أن (¬2) النبي صلى الله عليه وسلم رأى على رجل خاتم صفر (¬3) فقال: " مالي أجد منك ريح الأصنام؟» (¬4) «ورأى على آخر خاتم حديد فقال: " ما لي أرى عليك حلية أهل النار؟» (¬5) . ومثل هذا كثير في مذهب أبي حنيفة وأصحابه. وأما مذهب مالك وأصحابه، ففيه ما هو أكثر من ذلك، حتى قال مالك فيما رواه ابن القاسم (¬6) في المدونة: " لا يحرم بالأعجمية، ولا يدعو بها، ¬
ولا يحلف " (¬1) . قال: " ونهى عمر رضي الله عنه عن رطانة الأعاجم وقال: " إنها خب " (¬2) . قال: " وأكره الصلاة إلى حجر منفرد في الطريق وأما أحجار (¬3) كثيرة فجائز " (¬4) . قال: " ويكره ترك العمل يوم الجمعة كفعل أهل الكتاب يوم (¬5) السبت والأحد " (¬6) . قال: " ويقال: من تعظيم الله تعظيم ذي الشيبة المسلم (¬7) قيل: " فالرجل يقوم للرجل له الفضل والفقه؟ قال: أكره ذلك، ولا بأس بأن (¬8) يوسع له في مجلسه ". قال: " وقيام المرأة لزوجها حتى يجلس من فعل الجبابرة، وربما يكون الناس ينتظرونه فإذا طلع قاموا، فليس هذا من فعل الإسلام، وهو فيما ينهى عنه ¬
من التشبه بأهل الكتاب والأعاجم "، وفيما ليس من عمل المسلمين، أشد من (¬1) عمل الكوفيين وأبلغ، (¬2) مع (¬3) أن الكوفيين يبالغون في هذا الباب، حتى تكلم أصحاب أبي حنيفة في تكفير من تشبه بالكفار في لباسهم وأعيادهم. وقال بعض أصحاب مالك: من ذبح بطيخة في أعيادهم (¬4) فكأنما ذبح خنزيرا. وكذلك أصحاب الشافعي ذكروا هذا الأصل في غير موضع من مسائلهم، مما (¬5) جاءت به الآثار، كما ذكر غيرهم من العلماء، مثل ما ذكروه في النهي عن الصلوات في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها - مثل طلوع الشمس وغروبها - ذكروا تعليل ذلك بأن (¬6) المشركين يسجدون للشمس حينئذ، كما في الحديث: «إنها ساعة يسجد لها الكفار» (¬7) . وذكروا في السحور وتأخيره: أن ذلك فرق بين صيامنا وصيام أهل الكتاب. وذكروا في اللباس: النهي عما فيه تشبه الرجال بالنساء وتشبه النساء بالرجال. وذكروا أيضا: ما جاء من أن المشركين كانوا يقفون بعرفات إلى اصفرار الشمس، ويفيضون من جمع بعد طلوع الشمس، وأن السنة جاءت بمخالفة ¬
المشركين في ذلك بالتعريف إلى الغروب، والوقوف بجمع إلى قبيل طلوع الشمس، كما جاء في الحديث: «خالفوا المشركين» (¬1) و «خالف هدينا هدي المشركين» (¬2) . وذكروا أيضا: الشروط (¬3) على أهل الذمة، منعهم (¬4) عن التشبه بالمسلمين في لباسهم وغيره (¬5) مما يتضمن منع المسلمين أيضا من مشابهتهم في ذلك تفريقا بين علامة المسلمين وعلامة الكفار. وبالغ طائفة منهم، فنهوا عن التشبه بأهل البدع، فيما (¬6) كان شعارا لهم، وإن كان (¬7) مسنونا، كما ذكره طائفة منهم في تسنيم القبور، فإن مذهب الشافعي: أن الأفضل تسطيحها (¬8) . ومذهب أحمد وأبي حنيفة: أن الأفضل تسنيمها (¬9) . ثم قال طائفة من أصحاب الشافعي: بل ينبغي تسنيمها في هذه الأوقات؛ لأن الرافضة تسطحها (¬10) ففي تسطيحها تشبه بهم فيما (¬11) هو شعار لهم. ¬
وقالت طائفة: بل نحن نسطحها، فإذا سطحناها لم يكن تسطيحها شعارا لهم. فاتفقت الطائفتان على (¬1) النهي عن التشبه بأهل البدع فيما هو شعار لهم، وإنما تنازعوا (¬2) في أن التسطيح: هل يحصل به ذلك أم لا؟ فإن كان هذا في التشبه بأهل البدع، فكيف بالكفار؟ وأما كلام أحمد وأصحابه في ذلك فكثير جدا، أكثر من أن يحصر، قد قدمنا منه طائفة من كلامه عند ذكر النصوص، عند قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم» (¬3) وقوله: «أحفوا الشوارب، وأعفوا اللحى؛ لا تشبهوا بالمشركين» (¬4) وقوله: «إنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة» (¬5) . مثل قول أحمد: " ما أحب لأحد إلا أن (¬6) يغير الشيب ولا يتشبه بأهل الكتاب " (¬7) وقال لبعض أصحابه: " أحب لك أن تخضب ولا تشبه باليهود " (¬8) وكره حلق القفا. وقال: " هو من فعل المجوس (¬9) ومن تشبه بقوم فهو منهم ". وقال: " أكره النعل الصرار، وهو من زي العجم " (¬10) . ¬
وكره تسمية الشهور بالعجمية (¬1) والأشخاص بالأسماء الفارسية، مثل: آذرماه. وقال للذي دعاه: زي المجوس، زي المجوس؟ ونفض يده في وجهه (¬2) وهذا كثير في نصوصه (¬3) لا يحصر. وقال حرب الكرماني: " قلت لأحمد: الرجل يشد وسطه بحبل ويصلي؟ قال: على القباء لا بأس به. وكرهه على القميص، وذهب إلى أنه من زي (¬4) اليهود، فذكرت له السفر، وأنا نشد ذلك على أوساطنا، فرخص فيه قليلا، وأما المنطقة والعمامة ونحو ذلك، فلم يكرهه، إنما كره الخيط، وقال: هو أشنع " (¬5) . قلت: وكذلك كره أصحابه أن يشد وسطه على الوجه الذي يشبه فعل أهل الكتاب. فأما ما سوى ذلك: فإنه لا يكره في الصلاة على الصحيح المنصوص، بل يؤمر من صلى في قميص واسع الجيب أن يحتزم، كما جاء في الحديث (¬6) ؛ لئلا يرى عورة نفسه. وقال الفقهاء من أصحاب الإمام (¬7) أحمد وغيره، منهم: القاضي أبو يعلى، وابن عقيل، والشيخ أبو محمد عبد القادر ¬
الجيلي (¬1) وغيرهم؛ في أصناف اللباس وأقسامه: ومن اللباس المكروه: ما خالف زي العرب، وأشبه زي الأعاجم وعادتهم. ولفظ عبد القادر: " ويكره كل ما خالف زي العرب، وشابه زي الأعاجم " (¬2) . وقال أيضا أصحاب أحمد وغيرهم منهم أبو الحسن الآمدي، المعروف بابن البغدادي - وأظنه نقله أيضا عن أبي عبد الله بن حامد -: " ولا يكره غسل اليدين في الإناء الذي أكل فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، وقد نص أحمد على ذلك، وقال: لم يزل العلماء يفعلون ذلك ونحن نفعله، وإنما تنكره العامة "، وغسل اليدين بعد الطعام مسنون، رواية واحدة (¬3) . وإذا قدم ما يغسل فيه اليد، فلا يرفع حتى يغسل الجماعة أيديها (¬4) ؛ لأن الرفع من زي الأعاجم، وكذلك قال (¬5) الشيخ أبو محمد عبد القادر الجيلي: " ويستحب أن يجعل ماء اليد (¬6) في طست (¬7) ¬
واحد (¬1) لما روي في الخبر: " لا تبددوا يبدد الله شملكم " (¬2) . وروي أنه صلى الله عليه وسلم: «نهى أن يرفع الطست (¬3) حتى يطف» يعني يمتلئ. وقالوا أيضا - ومنهم أبو محمد (¬4) عبد القادر - في تعليل كراهة حلق الرأس، على إحدى الروايتين: لأن في ذلك تشبها بالأعاجم (¬5) وقال صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم» (¬6) . بل قد ذكر طوائف من الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما: كراهة أشياء؛ لما فيها من التشبه بأهل البدع، مثل ما قال غير واحد من الطائفتين - ومنهم عبد القادر -: " ويستحب أن يتختم في يساره؛ للآثار، ولأن خلاف ذلك عادة وشعار للمبتدعة " (¬7) . وحتى إن طوائف من أصحاب الشافعي، استحبوا تسنيم القبور، وإن كانت السنة عندهم تسطيحها؛ قالوا: لأن ذلك صار شعارا للمبتدعة. وليس الغرض هنا (¬8) تقرير أعيان هذه المسائل، ولا الكلام على ما قيل فيها بنفي ولا إثبات، وإنما الغرض بيان ما اتفق عليه العلماء من كراهة التشبه بغير أهل الإسلام. ¬
وقد يتردد العلماء في بعض فروع هذه القاعدة؛ لتعارض الأدلة فيها، أو لعدم اعتقاد بعضهم اندراجه في هذه القاعدة، مثل ما نقله الأثرم (¬1) قال: سمعت أبا عبد الله يسأل عن لبس الحرير في الحرب؟ فقال: " أرجو أن لا يكون به بأس " (¬2) . قال: وسمعت أبا عبد الله يسأل عن المنطقة والحلية فيها؟ فقال: " أما المنطقة فقد كرهها قوم، يقولون: من (¬3) زي العجم (¬4) وكانوا يحتجزون العمائم ". وهذا إنما علق القول فيه؛ لأن في المنطقة منفعة عارضت ما فيها من التشبه، ونقل عن بعض السلف أنه كان يتمنطق (¬5) فلهذا حكى الكلام عن غيره وأمسك. ومثل هذا: هل يجعل قولا له إذا سئل عن مسألة فحكى فيها جواب غيره ولم يردفه بموافقة ولا مخالفة؟ فيه لأصحابه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنه لولا موافقته له (¬6) لما لكان قد أجاب السائل (¬7) لأنه إنما سأله عن قوله، ولم يسأله أن يحكي له مذاهب (¬8) الناس. ¬
والثاني: لا يجعل بمجرد ذلك قولا له؛ لأنه إنما حكاه فقط، ومجرد الحكاية لا يدل على الموافقة. وفي لبس المنطقة أثر (¬1) وكلام ليس هذا موضعه. ولمثل هذا تردد كلامه في القوس الفارسية، فقال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن القوس الفارسية؟ فقال: " إنما كانت قسي الناس العربية ". ثم قال: " إن بعض الناس احتج بحديث عمر رضي الله عنه: (جعاب وأدم) (¬2) ". قلت: حديث أبي عمرو بن حماس (¬3) ؟ قال: " نعم " (¬4) . قال: أبو عبد الله يقول: " فلا تكون جعبة إلا للفارسية (¬5) والنبل فإنما هو قرن ". قال الأثرم، قلت لأبي عبد الله: في تفسير مجاهد: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ} [فصلت: 5] (¬6) قال: " كالجعبة للنبل " (¬7) قال: " فإن كان يسمي جعبة للنبل، فليس ما احتج به الذي قال هذا بشيء "، ثم قال: " ينبغي أن يسأل عن هذا أهل العربية ". ¬
قال أبو بكر: قيل لأبي عبد الله: الدراعة يكون (¬1) لها فرج؟ فقال: " كان لخالد (¬2) بن معدان دراعة لها فرج من بين يديها قدر ذراع " قيل لأبي عبد الله: فيكون لها فرج من خلفها؟ قال: " ما أدري، أما من بين يديها فقد سمعت، وأما من خلفها فلم أسمع " قال: إلا أن في ذلك سعة له عند الركوب (¬3) ومنفعة ". قال: " وقد احتج بعض الناس في هذا بقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] (¬4) قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: واحتج بهذه الآية بعض الناس في القوس الفارسية، ثم قلت: إن أهل خراسان يزعمون أنه لا منفعة لهم في القوس العربية، وإنما النكاية عندهم للفارسية (¬5) قال: " كيف؟ ! وإنما فتحت الدنيا بالعربية ". قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: ورأيتهم بالثغر لا يكادون يعدلون بالفارسية، قال: " إنما رأيت الرجل بالشام متنكبا قوسا عربية " (¬6) . وروى الأثرم، عن حفص بن عمر (¬7) حدثنا رجاء بن مرجى (¬8) ¬
حدثني عبد الله بن بشر (¬1) عن أبي راشد الحبراني (¬2) وأبي الحجاج السكسكي (¬3) عن علي قال: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوكأ على قوس له عربية، إذ رأى رجلا معه قوس فارسية، فقال: " ألقها، فإنها (¬4) ملعونة، ولكن عليكم بالقسي (¬5) العربية، وبرماح القنا، فبها يؤيد الله الدين، وبها يمكن لكم في الأرض» (¬6) . ولأصحابنا في القوس الفارسية ونحوها كلام طويل، ليس هذا موضعه، وإنما نبهت بذلك على أن ما لم يكن من هدي المسلمين، بل هو (¬7) من هدي العجم أو نحوهم، وإن ظهرت فائدته، ووضحت منفعته، تراهم يترددون فيه، ويختلفون؛ لتعارض الدليلين: دليل ملازمة الهدي الأول، ودليل ¬
استعمال هذا الذي فيه منفعة بلا مضرة، مع أنه ليس من العبادات (¬1) وتوابعها، وإنما هو من الأمور الدنيوية، وأنت ترى عامة كلام أحمد إنما يثبت الرخصة بالأثر عن عمر، أو بفعل خالد بن معدان (¬2) ليثبت بذلك أن ذلك كان يفعل على عهد السلف، ويقرون عليه، فيكون من هدي المسلمين، لا من هدي الأعاجم وأهل الكتاب، فهذا هو وجه الحجة، لا أن مجرد فعل خالد بن معدان حجة. وأما ما في هذا الباب عن سائر أئمة المسلمين، من الصحابة والتابعين وسائر الفقهاء، فأكثر من أن يمكن ذكر عشره، وقد قدمنا في أثناء الأحاديث كلام بعضهم الذي يدل على كلام الباقين، وبدون ما ذكرناه يعلم إجماع الأمة على كراهة التشبه بأهل الكتاب والأعاجم في الجملة، وإن كانوا قد يختلفون في بعض الفروع، إما لاعتقاد بعضهم أنه ليس من هدي الكفار، أو لاعتقاد أن فيه دليلا راجحا، أو لغير ذلك، كما أنهم مجمعون على اتباع الكتاب والسنة، وإن كان قد يخالف بعضهم شيئا من ذلك لنوع تأويل. والله سبحانه أعلم. ¬
فصل في الأمر بمخالفة الشياطين
[فصل في الأمر بمخالفة الشياطين] فصل ومما يشبه الأمر بمخالفة الكفار: الأمر بمخالفة الشياطين، كما رواه مسلم في صحيحه، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يأكلن أحدكم بشماله، ولا يشربن بها، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بها» (¬1) . وفي لفظ: «إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله» (¬2) ورواه مسلم أيضا عن الليث عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تأكلوا بالشمال، فإن الشيطان يأكل بالشمال» (¬3) فإنه علل النهي عن الأكل والشرب بالشمال: بأن الشيطان يفعل ذلك؛ فعلم أن مخالفة الشيطان أمر مقصود مأمور به، ونظائره كثيرة. وقريب من هذا: مخالفة من لم يكمل دينه من الأعراب ونحوهم؛ لأن كمال الدين: الهجرة (¬4) فكان من آمن ولم يهاجر من الأعراب ونحوهم - ناقصا، قال الله سبحانه وتعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: 97] (¬5) . ¬
وذلك مثل (¬1) ما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تغلبنكم (¬2) الأعراب على اسم صلاتكم، ألا إنها العشاء، وهم يعتمون بالإبل» . وفي لفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء، فإنها في كتاب الله: العشاء، فإنها تعتم بحلاب الإبل» (¬3) . وروى البخاري، عن عبد الله بن مغفل (¬4) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم المغرب " قال (¬5) " والأعراب تقول: هي: العشاء» (¬6) . فقد كره موافقة الأعراب في اسم (¬7) المغرب والعشاء، بالعشاء والعتمة، وهذه الكراهة عند بعض علمائنا تقتضي كراهة هذا الاسم مطلقا، وعند بعضهم ¬
إنما تقتضي (¬1) كراهة الإكثار منه، حتى يغلب على الاسم الآخر، وهو المشهور عندنا. وعلى التقديرين: ففي الحديث النهي عن موافقة الأعراب في ذلك، كما نهى عن موافقة الأعاجم. ¬
فصل في الفرق بين التشبه بالكفار والشياطين وبين التشبه بالأعراب والأعاجم
[فصل في الفرق بين التشبه بالكفار والشياطين وبين التشبه بالأعراب والأعاجم] [الناس ينقسمون إلى بر وفاجر ومؤمن وكافر ولا عبرة بالنسب] فصل واعلم أن بين التشبه بالكفار والشياطين، وبين التشبه بالأعراب والأعاجم فرقا يجب اعتباره، وإجمالا يحتاج إلى تفسير، وذلك: أن نفس الكفر والتشيطن مذموم في حكم الله ورسوله وعباده المؤمنين، ونفس الأعرابية والأعجمية ليست مذمومة في نفسها عند الله تعالى وعند رسوله وعند عباده المؤمنين، بل الأعراب منقسمون: إلى أهل جفاء، قال الله فيهم: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ - وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 97 - 98] (¬1) . وقال تعالى فيهم: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا - بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح: 11 - 12] (¬2) . وإلى أهل إيمان وبر، قال الله فيهم: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 99] (¬3) . ¬
وقد كان في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن وفد عليه ومن غيرهم من الأعراب، من هو أفضل من كثير من القرويين (¬1) . فهذا كتاب الله يحمد بعض الأعراب، ويذم بعضهم، وكذلك فعل بأهل الأمصار، فقال سبحانه: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة: 101] (¬2) فبين أن المنافقين في الأعراب وذوي القرى، وعامة سورة التوبة فيها الذم للمنافقين من أهل المدينة ومن الأعراب، كما فيها الثناء على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وعلى الأعراب الذين يتخذون ما ينفقون قربات عند الله وصلوات الرسول. وكذلك العجم وهم من سوى العرب من الفرس والروم والترك والبربر والحبشة وغيرهم ينقسمون إلى المؤمن والكافر، والبر والفاجر، كانقسام الأعراب (¬3) قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13] (¬4) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إن الله قد أذهب عنكم عبية (¬5) الجاهلية، وفخرها بالآباء، مؤمن تقي وفاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب» (¬6) . ¬
وفي حديث آخر رويناه بإسناد صحيح من حديث سعيد الجريري (¬1) عن أبي نضرة (¬2) حدثني - أو قال حدثنا - من شهد خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بمنى في وسط أيام التشريق، وهو على بعير، فقال: «يا أيها الناس، ألا إن ربكم عز وجل واحد، ألا وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ألا لا فضل لأسود على أحمر إلا بالتقوى، ألا قد بلغت؟ "، قالوا: نعم. قال: " ليبلغ الشاهد الغائب» (¬3) . وروي هذا الحديث عن أبي نضرة عن جابر. وفي الصحيحين عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن آل فلان ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالحو المؤمنين» (¬4) . ¬
فأخبر صلى الله عليه وسلم عن بطن قريب النسب: أنهم ليسوا بمجرد النسب أولياءه، إنما وليه الله وصالحو المؤمنين من جميع الأصناف. ومثل ذلك كثير بين في الكتاب والسنة، أن العبرة بالأسماء التي (¬1) حمدها الله وذمها، كالمؤمن والكافر، والبر والفاجر، والعالم والجاهل. ثم قد جاء الكتاب والسنة بمدح بعض الأعاجم، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ - وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجمعة: 2 - 3] (¬2) . وفي الصحيحين، عن (¬3) أبي الغيث (¬4) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزلت عليه سورة الجمعة {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 3] قال قائل: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثا، وفينا سلمان الفارسي (¬5) فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان ثم قال: " لو كان ¬
الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء» (¬1) . وفي صحيح مسلم، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجل من فارس - أو قال: من أبناء فارس - حتى يتناوله» (¬2) . وفي رواية ثالثة: «لو كان العلم عند الثريا لتناوله رجال من أبناء فارس» (¬3) " (¬4) . وقد روى الترمذي عن أبي هريرة، «عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [محمد: 38] " أنهم من أبناء فارس» (¬5) إلى غير ذلك من آثار رويت في فضل رجال من أبناء فارس. ومصداق ذلك ما وجد في التابعين ومن بعدهم، من أبناء فارس الأحرار والموالي، مثل الحسن (¬6) وابن سيرين وعكرمة مولى ابن عباس، وغيرهم، إلى من وجد بعد ذلك فيهم من المبرزين في الإيمان والدين والعلم، حتى صار هؤلاء المبرزون (¬7) أفضل من أكثر العرب. ¬
وكذلك في سائر أصناف العجم من الحبشة والروم والترك، وبينهم (¬1) سابقون في الإيمان والدين (¬2) لا يحصون كثرة، على ما هو معروف عند العلماء؛ إذ (¬3) الفضل الحقيقي: هو اتباع ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من الإيمان والعلم باطنا وظاهرا، فكل من كان فيه أمكن: كان أفضل. والفضل إنما هو بالأسماء المحمودة في الكتاب والسنة مثل: الإسلام، والإيمان، والبر، والتقوى، والعلم، والعمل الصالح، والإحسان، ونحو ذلك، لا بمجرد كون الإنسان عربيا، أو عجميا، أو أسود، أو أبيض، ولا بكونه قرويا، أو بدويا. وإنما وجه النهي عن مشابهة الأعراب والأعاجم مع ما ذكرناه من الفضل فيهم، وعدم العبرة بالنسب والمكان مبني على أصل، وذلك: أن الله سبحانه وتعالى جعل سكنى القرى يقتضي من كمال الإنسان في العلم والدين، ورقة القلوب، ما لا يقتضيه سكنى البادية، كما أن البادية توجب من صلابة البدن والخلق، ومتانة الكلام مالا يكون في القرى، هذا هو الأصل. وإن جاز تخلف هذا المقتضى لمانع، وكانت البادية أحيانا أنفع من القرى، وكذلك (¬4) جعل الله الرسل من أهل القرى، فقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف: 109] (¬5) وذلك لأن الرسل لهم الكمال في عامة الأمور، حتى في النسب، ولهذا قال الله سبحانه: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: 97] (¬6) ذكر هذا بعد ¬
قوله: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ - يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ - سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ - يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ - الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 93 - 97] (¬1) . فلما ذكر الله المنافقين الذين استأذنوه في (¬2) التخلف عن الجهاد في غزوة تبوك، وذمهم وهؤلاء كانوا من أهل المدينة، قال سبحانه: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: 97] (¬3) فإن الخير كله - أصله وفصله (¬4) - منحصر في العلم والإيمان كما قال سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] (¬5) وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ} [الروم: 56] (¬6) . وضد الإيمان: إما الكفر الظاهر، أو النفاق الباطن، ونقيض العلم: عدمه. فقال سبحانه عن الأعراب: إنهم (¬7) أشد كفرا ونفاقا من أهل المدينة ¬
وأحرى منهم أن لا يعلموا حدود الكتاب والسنة، والحدود: هي حدود الأسماء المذكورة، فيما أنزل (¬1) الله من الكتاب والحكمة، مثل: حدود الصلاة والزكاة والصوم والحج، والمؤمن والكافر، والزاني والسارق والشارب، وغير ذلك حتى يعرف من الذي يستحق ذلك الاسم الشرعي ممن لا يستحقه، وما تستحقه مسميات تلك الأسماء: من الأحكام. ولهذا: روى أبو داود وغيره من حديث الثوري (¬2) حدثني أبو موسى (¬3) عن وهب بن منبه، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال سفيان مرة: ولا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال: «من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن» (¬4) . ورواه أبو داود أيضا من حديث الحسن بن الحكم النخعي (¬5) عن ¬
عدي بن ثابت (¬1) عن شيخ من الأنصار، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم - بمعناه - وقال «ومن لزم السلطان افتتن» ، وزاد «وما ازداد عبد من السلطان دنوا إلا ازداد من الله عز وجل بعدا» (¬2) ولهذا: كانوا يقولون لمن يستغلظونه: إنك لأعرابي جاف، إنك لجلف جاف، يشيرون إلى غلظ عقله وخلقه. ثم لفظ: (الأعراب) هو في الأصل: اسم لبادية العرب، فإن كل أمة (¬3) لها حاضرة وبادية، فبادية العرب: الأعراب، ويقال: إن (¬4) بادية الروم: الأرمن ونحوهم (¬5) وبادية الفرس: الأكراد ونحوهم (¬6) وبادية الترك (¬7) التتار. وهذا - والله أعلم - هو الأصل، وإن كان قد يقع فيه زيادة ونقصان. ¬
التفاضل بين جنس العرب وجنس العجم
والتحقيق: أن سائر (¬1) سكان البوادي لهم (¬2) حكم الأعراب، سواء دخلوا في لفظ الأعراب أو لم يدخلوا، فهذا الأصل يوجب أن يكون جنس الحاضرة أفضل من جنس البادية، وإن كان بعض أعيان البادية أفضل من أكثر الحاضرة، مثلا. ويقتضي: أن ما انفرد به (¬3) البادية عن جميع جنس الحاضرة - أعني في زمن السلف من الصحابة والتابعين - فهو ناقص عن فضل الحاضرة، أو مكروه. فإذا وقع التشبه بهم فيما ليس من فعل الحاضرة المهاجرين، كان ذلك إما مكروها، أو مفضيا إلى مكروه (¬4) وهكذا العرب (¬5) والعجم. [التفاضل بين جنس العرب وجنس العجم] فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة: اعتقاد أن جنس العرب أفضل من جنس العجم، عبرانيهم (¬6) وسريانيهم (¬7) روميهم وفرسيهم (¬8) وغيرهم. ¬
وأن قريشا أفضل العرب، وأن بني هاشم: أفضل قريش، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل بني هاشم. فهو: أفضل الخلق نفسا، وأفضلهم نسبا. وليس فضل العرب، ثم قريش، ثم بني هاشم، لمجرد كون النبي صلى الله عليه وسلم منهم، وإن كان هذا من الفضل، بل هم في أنفسهم أفضل، وبذلك يثبت (¬1) لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه أفضل نفسا ونسبا، وإلا لزم الدور. ولهذا ذكر أبو محمد حرب بن إسماعيل (¬2) الكرماني، صاحب الإمام أحمد، في وصفه للسنة التي قال فيها: " هذا مذهب أئمة العلم وأصحاب الأثر، وأهل السنة المعروفين بها، المقتدى بهم فيها، وأدركت من أدركت من علماء أهل العراق، والحجاز والشام وغيرهم عليها، فمن خالف شيئا من هذه المذاهب، أو طعن فيها، أو عاب قائلها - فهو مبتدع خارج (¬3) من الجماعة، زائل عن منهج السنة، وسبيل الحق، وهو مذهب أحمد، وإسحاق بن إبراهيم بن مخلد (¬4) وعبد الله بن الزبير الحميدي (¬5) وسعيد بن منصور، وغيرهم ممن جالسنا، وأخذنا عنهم العلم، وكان من قولهم أن الإيمان قول وعمل ونية "، وساق كلاما طويلا. . . . إلى أن قال: " ونعرف للعرب حقها وفضلها وسابقتها ونحبهم؛ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «حب العرب إيمان وبغضهم نفاق» (¬6) ولا ¬
نقول بقول الشعوبية (¬1) وأراذل الموالي الذين لا يحبون العرب، ولا يقرون بفضلهم، فإن قولهم بدعة وخلاف ". ويروى هذا الكلام عن أحمد نفسه (¬2) في رسالة أحمد بن سعيد الإصطخري (¬3) عنه - إن صحت - وهو قوله، وقول عامة أهل العلم. وذهبت فرقة من الناس إلى (¬4) أن لا فضل لجنس العرب على جنس العجم. وهؤلاء يسمون الشعوبية، لانتصارهم للشعوب، التي هي مغايرة للقبائل، كما قيل: القبائل: للعرب، والشعوب: للعجم. ومن الناس من قد يفضل بعض أنواع العجم على العرب. والغالب أن مثل هذا الكلام لا يصدر إلا عن نوع نفاق: إما في الاعتقاد، ¬
وإما في العمل المنبعث عن هوى النفس، مع شبهات اقتضت ذلك، ولهذا جاء في الحديث: «حب العرب إيمان وبغضهم نفاق» (¬1) مع أن الكلام في هذه المسائل لا يكاد يخلو عن هوى (¬2) للنفس، ونصيب للشيطان من الطرفين، وهذا محرم في جميع المسائل. فإن الله قد أمر المؤمنين بالاعتصام بحبل الله جميعا، ونهاهم عن التفرق والاختلاف، وأمرهم (¬3) بإصلاح ذات البين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» (¬4) . وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا، كما أمركم الله» (¬5) وهذان حديثان صحيحان. وفي الباب من نصوص الكتاب والسنة ما لا يحصى. والدليل على فضل جنس العرب، ثم جنس قريش، ثم جنس بني هاشم: ما رواه الترمذي، من حديث إسماعيل بن أبي خالد (¬6) عن يزيد بن ¬
أبي زياد (¬1) عن عبد الله بن الحارث (¬2) عن العباس بن عبد المطلب، رضي الله عنه قال، قلت «يا رسول الله، إن قريشا جلسوا فتذاكروا أحسابهم بينهم، فجعلوا مثلك كمثل نخلة في كبوة (¬3) من الأرض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله خلق الخلق فجعلني من خير فرقهم، ثم خير القبائل، فجعلني في خير قبيلة، ثم خير البيوت، فجعلني في خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسا، وخيرهم بيتا» (¬4) قال الترمذي: هذا حديث حسن، وعبد الله بن الحارث هو ابن نوفل " (¬5) . الكبى بالكسر والقصر، والكبة: الكناسة (¬6) . وفي الحديث: " الكبوة " وهي مثل: الكبة (¬7) . ¬
والمعنى: أن النخلة طيبة في نفسها، وإن كان أصلها ليس بذاك (¬1) فأخبر صلى الله عليه وسلم: أنه خير الناس نفسا ونسبا. وروى الترمذي أيضا من حديث الثوري (¬2) عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن المطلب بن أبي وداعة (¬3) قال: «جاء العباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأنه سمع شيئا، فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: " من أنا؟ " قالوا: أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬4) . قال: " أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب "، ثم قال: " إن الله خلق الخلق، فجعلني في خيرهم، ثم جعلهم فرقتين فجعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتا، فجعلني في خيرهم بيتا وخيرهم نفسا» (¬5) قال الترمذي: " هذا (¬6) حديث حسن " (¬7) كذا وجدته في الكتاب، وصوابه: «فأنا خيرهم بيتا وخيرهم نفسا» (¬8) . وقد روى أحمد هذا الحديث في المسند، من حديث الثوري، عن ¬
يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن المطلب بن أبي وداعة، قال: قال العباس رضي الله عنه: «بلغه صلى الله عليه وسلم بعض ما يقول الناس، قال: فصعد المنبر فقال: " من أنا؟ " قالوا: أنت رسول الله؟ قال: " أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقهم (¬1) وجعلهم فرقتين، فجعلني في خير فرقة، وخلق القبائل، فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتا، فجعلني في خيرهم بيتا، فأنا خيركم بيتا، وخيركم نفسا» (¬2) . أخبر صلى الله عليه وسلم: أنه ما انقسم الخلق فريقين (¬3) إلا كان هو في خير الفريقين، وكذلك جاء حديث بهذا اللفظ. وقوله في الحديث: «خلق الخلق فجعلني في خيرهم، ثم خيرهم فرقتين فجعلني في خير فرقة» يحتمل شيئين: أحدهما: أن الخلق هم الثقلان، أو هم جميع ما خلق في الأرض وبنو آدم خيرهم، وإن قيل بعموم الخلق حتى يدخل فيه الملائكة؛ كان فيه تفضيل جنس بني آدم على جنس الملائكة، وله وجه صحيح (¬4) . ثم جعل بني آدم فرقتين، والفرقتان: العرب والعجم. ثم جعل العرب قبائل، فكانت قريش أفضل قبائل العرب، ثم جعل قريشا بيوتا، فكانت بنو هاشم أفضل البيوت. ¬
ويحتمل أنه أراد بالخلق (¬1) بني آدم، فكان في خيرهم، أي في ولد إبراهيم (¬2) أو في العرب، ثم جعل بني إبراهيم فرقتين: بني إسماعيل، وبني إسحاق، أو جعل العرب عدنان وقحطان، فجعلني في بني إسماعيل، أو بني عدنان. ثم جعل بني إسماعيل - أو بني عدنان - قبائل، فجعلني في خيرهم قبيلة: وهم قريش. وعلى كل تقدير، فالحديث صريح بتفضيل العرب على غيرهم (¬3) . وقد بين صلى الله عليه وسلم أن هذا التفضيل يوجب المحبة لبني هاشم، ثم لقريش، ثم للعرب. فروى الترمذي من حديث أبي عوانة (¬4) عن يزيد بن أبي زياد - أيضا - (¬5) عن عبد الله بن الحارث، حدثني (¬6) المطلب بن أبي (¬7) ربيعة (¬8) بن الحارث بن عبد المطلب: «أن العباس بن عبد المطلب، دخل على ¬
رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضبا، وأنا عنده، فقال: " ما أغضبك؟ " قال: يا رسول الله، ما لنا ولقريش: إذا تلاقوا بينهم تلاقوا بوجوه مبشرة، وإذا لقونا لقونا بغير ذلك، قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمر وجهه، ثم قال: " والذي نفسي بيده، لا يدخل قلب رجل الإيمان، حتى يحبكم لله ولرسوله - ثم قال -: أيها الناس، من آذى عمي فقد آذاني، فإنما عم الرجل صنو (¬1) أبيه» (¬2) قال الترمذي: " هذا حديث حسن صحيح " (¬3) . ورواه أحمد في المسند مثل هذا من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن يزيد (¬4) . هذا ورواه أيضا من حديث جرير (¬5) عن يزيد بن أبي زياد، عن ¬
عبد الله بن الحارث، عن (¬1) عبد المطلب بن ربيعة قال: «دخل العباس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إنا لنخرج فنرى قريشا تتحدث، فإذا رأونا سكتوا، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودر عرق بين عينيه، ثم قال: " والله لا يدخل قلب امرئ إيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي» (¬2) . فقد كان عند يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث، هذان الحديثان: أحدهما: في فضل القبيل الذي منه النبي صلى الله عليه وسلم، والثاني: في محبتهم، وكلاهما رواه عنه إسماعيل بن أبي خالد. وما فيه من كون عبد الله بن الحارث يروي الأول: تارة عن العباس، وتارة عن المطلب بن أبي وداعة، والثاني عن عبد المطلب بن ربيعة، وهو ابن الحارث بن عبد المطلب، وهو من الصحابة، قد يظن أن هذا اضطراب في الأسماء من جهة يزيد، وليس هذا موضع الكلام فيه، فإن الحجة قائمة بالحديث على كل تقدير، لا سيما وله شواهد تؤيد معناه. ومثله أيضا في المسألة: ما رواه أحمد ومسلم والترمذي، من حديث الأوزاعي، عن شداد بن أبي (¬3) عمار (¬4) عن ¬
واثلة (¬1) بن الأسقع، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» (¬2) هكذا رواه الوليد (¬3) وأبو (¬4) المغيرة (¬5) عن الأوزاعي (¬6) . ورواه أحمد والترمذي، من حديث محمد بن مصعب (¬7) عن الأوزاعي (¬8) ولفظه: «إن الله اصطفى من ولد إبراهيم: إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل: بني كنانة» . . (¬9) الحديث، قال الترمذي: " هذا حديث حسن ¬
صحيح " (¬1) . وهذا يقتضي أن إسماعيل وذريته صفوة ولد إبراهيم، فيقتضي أنهم أفضل من ولد إسحاق، ومعلوم أن ولد إسحاق الذين هم بنو إسرائيل أفضل العجم؛ لما فيهم من النبوة والكتاب، فمتى ثبت الفضل على هؤلاء، فعلى غيرهم بطريق الأولى، وهذا جيد، إلا أن يقال: الحديث يقتضي: أن (¬2) إسماعيل هو المصطفى من ولد إبراهيم، وأن بني كنانة هم المصطفون من ولد إسماعيل، وليس فيه ما يقتضي أن ولد إسماعيل أيضا مصطفون على غيرهم، إذا كان أبوهم مصطفى، وبعضهم مصطفى على بعض. فيقال: لو لم يكن هذا مقصودا في الحديث؛ لم يكن لذكر اصطفاء إسماعيل فائدة إذا كان اصطفاؤه (¬3) لم يدل على اصطفاء (¬4) ذريته، إذ يكون على هذا التقدير (¬5) لا فرق بين ذكر إسماعيل وذكر إسحاق. ثم هذا - منضما إلى بقية الأحاديث - دليل على أن المعنى في جميعها واحد. واعلم أن الأحاديث في فضل قريش، ثم في فضل بني هاشم فيها كثرة، وليس هذا موضعها، وهي تدل أيضا على ذلك، إذ نسبة قريش إلى العرب كنسبة العرب إلى الناس، وهكذا جاءت الشريعة كما سنومئ إلى بعضه (¬6) . ¬
النهي عن بغض العرب
فإن الله تعالى خص العرب ولسانهم بأحكام تميزوا بها، ثم خص قريشا على سائر العرب، بما جعل فيهم من خلافة النبوة، وغير ذلك من الخصائص. ثم خص بني هاشم بتحريم الصدقة، واستحقاق قسط من الفيء، إلى غير ذلك من الخصائص، فأعطى الله سبحانه كل درجة من الفضل (¬1) بحسبها، والله عليم حكيم {اللَّهُ يَصْطَفِي (¬2) مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75] (¬3) و {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] (¬4) " (¬5) . وقد قال الناس في قوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] (¬6) وفي قوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] (¬7) أشياء ليس (¬8) هذا موضعها. [النهي عن بغض العرب] ومن (¬9) الأحاديث التي تذكر في هذا (¬10) ما رويناه من طرق معروفة إلى محمد بن إسحاق (¬11) الصغاني (¬12) حدثنا عبد الله بن ¬
بكر (¬1) السهمي (¬2) حدثنا يزيد بن عوانة (¬3) عن محمد بن ذكوان (¬4) - خال ولد (¬5) حماد بن زيد - (¬6) عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «إنا لقعود بفناء النبي صلى الله عليه وسلم إذ مرت بنا (¬7) امرأة، فقال بعض القوم: هذه ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال أبو سفيان: مثل محمد في بني هاشم، مثل الريحانة في وسط النتن، فانطلقت المرأة فأخبرت (¬8) النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب فقال: " ما بال أقوال تبلغني عن أقوام، إن الله خلق السموات سبعا فاختار العلى (¬9) منها، وأسكنها من شاء من خلقه، ثم خلق الخلق، فاختار ¬
من الخلق بني آدم، واختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مضر، واختار من مضر قريشا، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم، فأنا من خيار إلى خيار، فمن أحب العرب، فبحبي أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم» (¬1) . وأيضا في المسألة (¬2) ما رواه الترمذي وغيره من حديث أبي بدر شجاع بن الوليد (¬3) عن قابوس بن أبي ظبيان (¬4) عن أبيه (¬5) عن سلمان رضي الله عنه. قال: قال لي (¬6) رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا سلمان لا تبغضني فتفارق ¬
دينك " قلت: يا رسول الله، كيف أبغضك وبك هداني الله؟ قال: " تبغض العرب فتبغضني» . قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه (¬1) إلا من حديث أبي بدر شجاع بن الوليد (¬2) . فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم: بغض العرب سببا لفراق الدين، وجعل بغضهم مقتضيا لبغضه. ويشبه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم خاطب بهذا سلمان - وهو سابق (¬3) الفرس ذو الفضائل المأثورة - تنبيها لغيره من سائر الفرس؛ لما علمه الله من أن الشيطان قد يدعو بعض (¬4) النفوس إلى شيء من هذا. كما أنه صلى الله عليه وسلم لما قال: «يا فاطمة (¬5) بنت محمد، لا أغني عنك من الله شيئا، ¬
يا عباس عم رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية (¬1) عمة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئا، سلوني من مالي ما شئتم» (¬2) كان في هذا تنبيه لمن انتسب لهؤلاء الثلاثة أن لا يغتروا (¬3) بالنسب ويتركوا (¬4) الكلم الطيب والعمل الصالح. وهذا دليل على أن بغض جنس العرب، ومعاداتهم: كفر أو سبب للكفر، ومقتضاه: أنهم أفضل من غيرهم، وأن محبتهم سبب قوة الإيمان؛ لأنه لو كان تحريم بغضهم كتحريم بغض سائر الطوائف، لم يكن سببا لفراق الدين، ولا لبغض (¬5) الرسول، بل كان يكون نوع عدوان، فلما جعله سببا لفراق الدين وبغض الرسول دل على أن بغضهم أعظم من بغض غيرهم، وذلك (¬6) دليل على أنهم أفضل؛ لأن الحب والبغض يتبع (¬7) الفضل، فمن كان بغضه أعظم، دل على أنه أفضل، ودل حينئذ على أن محبته دين؛ لأجل ما فيه من زيادة الفضل، ¬
ولأن ذلك ضد البغض، ومن كان بغضه سببا للعذاب بخصوصه، كان حبه سببا للثواب، وذلك دليل على الفضل. وقد جاء ذلك مصرحا به في حديث آخر، رواه أبو طاهر السلفي (¬1) في فضل العرب، من حديث أبي بكر بن أبي داود (¬2) حدثنا عيسى (¬3) بن حماد زغبة، حدثنا علي بن الحسن الشامي (¬4) حدثنا خليد بن دعلج (¬5) عن ¬
يونس بن عبيد (¬1) عن الحسن، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حب أبي بكر وعمر من الإيمان، وبغضهما من الكفر، وحب العرب من الإيمان، وبغضهم من الكفر» (¬2) . وقد احتج حرب الكرماني وغيره بهذا الحديث، وذكروا لفظه: «حب العرب إيمان، وبغضهم نفاق وكفر» (¬3) . وهذا الإسناد وحده فيه نظر، لكن لعله روي من وجه آخر، وإنما كتبته لموافقته معنى حديث سلمان، فإنه قد صرح في حديث سلمان: بأن بغضهم نوع كفر، ومقتضى ذلك: أن حبهم نوع إيمان، فكان هذا موافقا له. وكذلك قد رويت أحاديث، النكرة ظاهرة عليها، مثل ما رواه الترمذي من حديث حصين (¬4) بن عمر، عن مخارق بن ¬
عبد الله (¬1) عن طارق بن شهاب (¬2) عن عثمان بن عفان (¬3) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من غش العرب لم يدخل في شفاعتي، ولم تنله مودتي» (¬4) قال الترمذي: " هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حصين بن عمر الأحمسي، عن مخارق. وليس حصين عند أهل الحديث بذاك القوي " (¬5) . قلت: هذا الحديث معناه قريب من معنى حديث سلمان، فإن الغش للنوع لا يكون مع محبتهم، بل لا يكون إلا مع استخفاف (¬6) أو مع بغض (¬7) فليس معناه بعيدا، لكن حصين هذا الذي رواه، قد أنكر أكثر الحفاظ أحاديثه، ¬
قال يحيى بن معين: " ليس بشيء " (¬1) وقال ابن المديني: " ليس بالقوي، روى عن مخارق عن طارق أحاديث منكرة " (¬2) وقال البخاري وأبو زرعة: " منكر الحديث " (¬3) وقال يعقوب بن شيبة (¬4) " ضعيف جدا، ومنهم من يجاوز به الضعف إلى الكذب " (¬5) وقال ابن عدي (¬6) " عامة أحاديثه معاضيل، ينفرد عن كل من روى عنه " (¬7) . قلت: ولذلك لم يحدث أحمد ابنه بهذا الحديث، في الحديث المسند، فإنه قد كان كتبه عن محمد بن بشر (¬8) عن عبد الله بن عبد الله بن ¬
الأسود (¬1) عن حصين - كما رواه الترمذي - فلم يحدثه به، وإنما رواه عبد الله (¬2) عنه في المسند، وجادة (¬3) قال: " وجدت في كتاب أبي، حدثنا محمد بن بشر. . . وذكره. . . " (¬4) . وكان أحمد رحمه الله (¬5) - على ما تدل (¬6) عليه طريقته في المسند - إذا رأى أن الحديث موضوع، أو قريب من الموضوع (¬7) لم يحدث به، ولذلك (¬8) ضرب على أحاديث رجال فلم يحدث بها في المسند؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب: فهو أحد الكاذبين» (¬9) . ¬
وكذلك روى عبد الله بن أحمد في مسند أبيه، حدثنا إسماعيل أبو (¬1) معمر (¬2) حدثنا إسماعيل بن عياش، عن زيد بن جبيرة (¬3) عن داود بن حصين، عن عبيد الله بن أبي رافع (¬4) عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يبغض العرب إلا منافق» (¬5) وزيد بن جبيرة عندهم منكر الحديث، وهو مدني، ورواية إسماعيل بن عياش عن غير الشاميين مضطربة. وكذلك (¬6) روى أبو جعفر محمد بن عبد الله الحافظ الكوفي المعروف ¬
بمطين (¬1) حدثنا (¬2) العلاء بن عمرو الحنفي (¬3) حدثنا (¬4) يحيى بن يزيد الأشعري (¬5) حدثنا (¬6) ابن جريج (¬7) عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحبوا العرب لثلاث: لأني عربي، والقرآن عربي، ولسان أهل الجنة عربي» (¬8) . ¬
قال الحافظ السلفي: " هذا حديث حسن ". فما أدري: أراد حسن إسناده على طريقة المحدثين، أو حسن متنه على الاصطلاح العام؟ وأبو الفرج بن الجوزي (¬1) ذكر هذا الحديث في الموضوعات، وقال: قال العقيلي (¬2) " لا أصل له " (¬3) وقال ابن حبان: " يحيى بن يزيد (¬4) يروي المقلوبات عن الأثبات فبطل الاحتجاج به " (¬5) والله أعلم. وأيضا في المسألة: ما روى أبو بكر البزار (¬6) حدثنا إبراهيم بن سعيد ¬
الجوهري (¬1) حدثنا أبو أحمد (¬2) حدثنا عبد الجبار بن العباس (¬3) وكان رجلا من أهل الكوفة، يميل إلى الشيعة، وهو صحيح الحديث مستقيمه، وهذا - والله أعلم - كلام البزار، عن أبي إسحاق، عن أوس بن ضمعج (¬4) قال: قال سلمان: " نفضلكم يا معاشر العرب لتفضيل رسول الله صلى الله عليه وسلم إياكم، لا ننكح نساءكم، ولا نؤمكم في الصلاة ". وهذا إسناد جيد، وأبو أحمد هو - والله أعلم - محمد بن عبد الله الزبيري (¬5) من أعيان العلماء الثقات، وقد أثنى ¬
عليه (¬1) شيخه، والجوهري وأبو إسحاق السبيعي أشهر من أن يثنى عليهما، وأوس بن ضمعج ثقة روى له مسلم. وقد أخبر سلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل العرب، فإما إنشاء وإما إخبارا، فإنشاؤه صلى الله عليه وسلم: حكم لازم، وخبره: حديث صادق. وتمام الحديث قد روي عن سلمان من غير هذا الوجه، رواه الثوري عن أبي إسحاق، عن أبي ليلى الكندي (¬2) عن سلمان الفارسي أنه قال: " فضلتمونا يا معاشر (¬3) العرب باثنتين، لا نؤمكم (¬4) ولا ننكح نساءكم " رواه محمد بن أبي عمر العدني (¬5) وسعيد (¬6) في سننه، وغيرهما. وهذا مما احتج به أكثر الفقهاء الذين جعلوا العربية من الكفاءة بالنسبة إلى العجمي، واحتج به أحمد في إحدى الروايتين على أن الكفاءة ليست حقا لواحد معين، بل هي من الحقوق المطلقة في النكاح، حتى إنه يفرق بينهما عند عدمها. ¬
واحتج أصحاب الشافعي وأحمد بهذا على أن الشرف مما يستحق به التقديم في الصلاة. ومثل ذلك ما رواه محمد بن أبي عمر العدني (¬1) حدثنا سعيد بن عبيد (¬2) أنبأنا علي بن ربيعة (¬3) عن ربيع بن فضلة (¬4) أنه خرج في اثني عشر راكبا كلهم قد صحب محمدا صلى الله عليه وسلم غيرة، وفيهم سلمان الفارسي، وهم في سفر، فحضرت الصلاة، فتدافع القوم، أيهم يصلي بهم، فصلى بهم رجل منهم أربعا، فلما انصرف قال سلمان: ما هذا؟ ما هذا؟ مرارا، نصف المربوعة - قال مروان (¬5) يعني نصف الأربع - نحن إلى التخفيف أفقر، فقال له القوم: " صل بنا يا أبا عبد الله؛ أنت أحقنا بذلك، فقال: لا، أنتم بنو إسماعيل الأئمة، ونحن الوزراء ". وفي المسألة آثار غير ما ذكرته، في بعضها نظر، وبعضها موضوع، وأيضا فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما وضع ديوان العطاء، كتب الناس على قدر أنسابهم فبدأ بأقربهم فأقربهم نسبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انقضت العرب ذكر العجم، هكذا كان الديوان على عهد الخلفاء الراشدين، وسائر الخلفاء من بني أمية وولد العباس، إلى أن تغير الأمر بعد ذلك. ¬
أسباب تفضيل العرب
[أسباب تفضيل العرب] وسبب هذا الفضل - والله أعلم - ما اختصوا به في عقولهم وألسنتهم وأخلاقهم وأعمالهم، وذلك أن الفضل: إما بالعلم النافع، وإما بالعمل الصالح. والعلم له مبدأ، وهو: قوة العقل الذي هو الفهم والحفظ، وتمام، وهو: قوة المنطق، الذي هو البيان والعبارة. والعرب هم أفهم من غيرهم، وأحفظ وأقدر على البيان والعبارة، ولسانهم أتم الألسنة بيانا وتمييزا للمعاني، جمعا وفرقا، يجمع المعاني الكثيرة في اللفظ القليل، إذا شاء المتكلم الجمع (¬1) ثم يميز بين كل شيئين مشتبهين بلفظ آخر مميز مختصر، كما تجده من لغتهم في (¬2) جنس الحيوان، فهم - مثلا - يعبرون عن القدر المشترك بين الحيوان بعبارات جامعة، ثم يميزون بين أنواعه في أسماء كل أمر من أموره: من الأصوات، والأولاد، والمساكن، والأطفال (¬3) إلى غير ذلك من خصائص اللسان العربي، التي لا (¬4) يستراب فيها. وأما العمل: فإن مبناه على الأخلاق وهي الغرائز المخلوقة في النفس، وغرائزهم أطوع للخير من غيرهم، فهم أقرب للسخاء، والحلم، والشجاعة، والوفاء، وغير ذلك من الأخلاق المحمودة، لكن كانوا قبل الإسلام طبيعة قابلة للخير، معطلة عن فعله، ليس عندهم علم منزل من السماء، ولا شريعة موروثة عن نبي، ولا هم أيضا مشتغلين ببعض العلوم العقلية المحضة، كالطب والحساب، ونحوها، إنما علمهم ما سمحت به قرائحهم: من الشعر والخطب، وما حفظوه من أنسابهم وأيامهم، وما احتاجوا إليه في دنياهم من الأنواء والنجوم، أو من الحروب. ¬
فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى: الذي (¬1) ما جعل الله في الأرض - ولا يجعل - أمرا أجل منه وأعظم قدرا، وتلقوه عنه بعد مجاهدته الشديدة لهم، ومعالجتهم على نقلهم عن تلك العادات الجاهلية، والظلمات الكفرية، التي كانت قد أحالت قلوبهم عن فطرتها، فلما تلقوا عنه ذلك الهدى العظيم (¬2) زالت تلك الريون (¬3) عن قلوبهم، واستنارت بهدى الله الذي أنزل على عبده ورسوله. فأخذوا هذا الهدى العظيم، بتلك الفطرة الجيدة (¬4) فاجتمع لهم الكمال بالقوة المخلوقة فيهم، والكمال الذي أنزل الله إليهم: بمنزلة أرض جيدة (¬5) في نفسها، لكن هي معطلة عن الحرث، أو قد نبت فيها شجر العضاة (¬6) والعوسج (¬7) وصارت مأوى الخنازير والسباع، فإذا طهرت عن المؤذي من الشجر والدواب، وازدرع فيها أفضل الحبوب والثمار، جاء فيها من الحرث ما لا يوصف مثله، فصار السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار أفضل خلق الله بعد الأنبياء، وصار أفضل الناس بعدهم: من اتبعهم بإحسان إلى يوم القيامة: من العرب والعجم. ¬
وكان الناس إذ ذاك الخارجون عن هذا الكمال قسمين: إما كافر: من اليهود والنصارى، لم يقبل هدى الله. وإما غيرهم: من العجم، الذين لم يشركوهم فيما فطروا عليه، وكان (¬1) عامة العجم حينئذ (¬2) كفارا من: الفرس والروم، فجاءت الشريعة باتباع أولئك السابقين على الهدى الذي رضيه الله لهم، وبمخالفة من سواهم، إما لمعصيته وإما لنقيصته، وإما لأنه مظنة النقيصة. فإذا نهت الشريعة عن مشابهة الأعاجم؛ دخل في ذلك ما عليه الأعاجم الكفار، قديما وحديثا، ودخل فيه (¬3) ما عليه الأعاجم المسلمون، مما لم يكن عليه السابقون الأولون، كما يدخل في مسمى الجاهلية العربية ما كان عليه أهل الجاهلية قبل الإسلام، وما عاد إليه كثير من العرب من الجاهلية التي كانوا عليها. ومن تشبه من العرب بالعجم لحق بهم، ومن تشبه من العجم بالعرب لحق بهم، ولهذا كان الذين تناولوا العلم والإيمان من أبناء فارس، إنما حصل ذلك بمتابعتهم للدين الحنيف، بلوازمه من العربية وغيرها. ومن نقص (¬4) من العرب إنما هو بتخلفهم عن هذا، وإما بموافقتهم للعجم، فيما السنة أن يخالفوا فيه، فهذا وجه (¬5) . وأيضا فإن الله تعالى لما أنزل كتابه باللسان العربي، وجعل رسوله مبلغا ¬
عنه للكتاب (¬1) والحكمة بلسانه العربي، وجعل السابقين إلى هذا الدين متكلمين به؛ لم يكن سبيل إلى ضبط الدين ومعرفته إلا بضبط اللسان، وصارت معرفته من الدين، وصار اعتبار التكلم به أسهل على أهل الدين في معرفة دين الله، وأقرب إلى إقامة شعائر الدين، وأقرب إلى مشابهتهم (¬2) للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، في جميع أمورهم. وسنذكر إن شاء الله تعالى بعض ما قاله العلماء، من الأمر بالخطاب العربي، وكراهة مداومة غيره لغير حاجة، واللسان تقارنه (¬3) أمور أخرى: من العلوم والأخلاق، فإن العادات لها تأثير عظيم فيما يحبه الله وفيما يكرهه، فلهذا أيضا جاءت الشريعة بلزوم عادات السابقين الأولين، في أقوالهم وأعمالهم، وكراهة الخروج عنها إلى غيرها من غير حاجة. فحاصله: أن النهي عن التشبيه بهم؛ لما يفضي إليه من فوت الفضائل، التي جعلها الله للسابقين الأولين، أو حصول النقائص التي كانت في غيرهم. ولهذا: لما علم المؤمنون من أبناء فارس، وغيرهم، هذا الأمر، أخذ من وفقه الله منهم نفسه بالاجتهاد في تحقيق المشابهة بالسابقين، فصار أولئك من أفضل التابعين بإحسان إلى يوم القيامة، وصار كثير منهم أئمة لكثير من غيرهم، ولهذا كانوا يفضلون من الفرس من رأوه أقرب إلى متابعة السابقين، حتى قال الأصمعي (¬4) فيما رواه عنه أبو طاهر السلفي في كتاب (فضل الفرس) ¬
قال: " عجم أصبهان قريش العجم " (¬1) . وروى أيضا السلفي بإسناد معروف عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون (¬2) عن أسامة بن زيد (¬3) عن سعيد بن المسيب قال: " لو أني لم أكن من قريش لأحببت أن أكون من فارس، ثم أحببت أن أكون من أصبهان " (¬4) . وروي بإسناد آخر، عن سعيد بن المسيب قال: لولا أني رجل من قريش لتمنيت أن أكون من أصبهان؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لو كان الدين معلقا بالثريا لتناوله ناس من فارس من أبناء (¬5) العجم، أسعد الناس بها فارس وأصبهان» (¬6) . قالوا: وكان سلمان الفارسي من أهل أصبهان، وكذلك عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما، وغيرهما، فإن آثار الإسلام كانت بأصبهان أظهر منها بغيرها، حتى قال الحافظ عبد القادر الرهاوي (¬7) " ما رأيت بلدا بعد بغداد، أكثر حديثا من أصبهان ". ¬
وكان (¬1) أئمة السنة علما وفقها، والعارفون بالحديث وسائر أمور الإسلام المحض، فيهم أكثر من غيرهم، حتى إنه قيل: إن قضاتهم كانوا من فقهاء الحديث، مثل: صالح بن أحمد بن حنبل، ومثل: أبي بكر بن أبي عاصم، ومن بعدهم، وأنا لا أعلم حالهم بآخرة (¬2) . وكذلك كل مكان أو شخص من أهل فارس، يمدح المدح الحقيقي: إنما يمدح لمشابهته السابقين، حتى قد يختلف في (¬3) فضل شخص على شخص، أو قول على قول، أو فعل على فعل؛ لأجل اعتقاد كل من المختلفين أن هذا أقرب إلى طريق السابقين الأولين، فإن الأمة مجمعة على هذه القاعدة وهي: فضل طريقة العرب السابقين، وأن الفاضل من تبعهم، وهو المطلوب هنا. وإنما يتم الكلام بأمرين: أحدهما: أن الذي يجب على المسلم إذا نظر في الفضائل، أو تكلم فيها، أن يسلك سبيل العاقل الدين، الذي غرضه أن يعرف الخير، ويتحراه جهده، وليس غرضه الفخر على أحد، ولا الغمص (¬4) من أحد، فقد روى مسلم في صحيحه عن عياض بن حمار المجاشعي (¬5) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه أوحي إلي أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد» (¬6) . ¬
فنهى سبحانه على لسان رسوله عن نوعي الاستطالة على الخلق، وهي: الفخر والبغي؛ لأن المستطيل إن استطال بحق فقد افتخر، وإن كان بغير حق فقد بغى، فلا يحل لا هذا ولا هذا، فإن كان الرجل من الطائفة الفاضلة، مثل: أن يذكر فضل بني هاشم أو قريش أو العرب أو بعضهم، فلا يكن حظه استشعار فضل نفسه، والنظر إلى ذلك، فإنه مخطئ في هذا؛ لأن فضل الجنس لا يستلزم فضل الشخص كما قدمناه، فرب حبشي أفضل عند الله من جمهور قريش، ثم هذا النظر يوجب نقصه وخروجه عن الفضل، فضلا عن أن يستعلي بهذا، أو يستطيل. وإن كان من الطائفة الأخرى، مثل العجم، أو غير قريش، أو غير بني هاشم، فليعلم أن تصديقه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر وطاعته فيما أمر، ومحبة من أحبه الله، والتشبه بمن فضل الله، والقيام بالدين الحق، الذي بعث الله به محمدا؛ يوجب له أن يكون أفضل من جمهور الطائفة المفضلة، وهذا هو الفضل الحقيقي. وانظر إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حين وضع الديوان، وقالوا له: يبدأ أمير المؤمنين بنفسه فقال: لا (¬1) ولكن ضعوا عمر حيث وضعه الله. فبدأ بأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم (¬2) من يليهم، حتى جاءت نوبته في بني عدي وهم متأخرون عن أكثر بطون قريش. ثم هذا الاتباع للحق ونحوه، قدمه على عامة بني هاشم، فضلا عن غيرهم من قريش. ¬
الثاني أن اسم العرب والعجم قد صار فيه اشتباه، فإنا قدمنا أن اسم العجم يعم في اللغة: كل من ليس من العرب، ثم لما كان العلم والإيمان في أبناء فارس أكثر منه في غيرهم من العجم؛ كانوا هم أفضل الأعاجم، فغلب لفظ العجم في عرف العامة المتأخرين عليهم، فصار حقيقة عرفية عامية فيهم. واسم العرب في الأصل كان اسما لقوم جمعوا ثلاثة أوصاف (¬1) . أحدها: أن لسانهم كان باللغة العربية. الثاني: أنهم كانوا من أولاد العرب. الثالث: أن مساكنهم كانت أرض العرب وهي: جزيرة العرب، التي هي من بحر القلزم (¬2) إلى بحر البصرة (¬3) ومن أقصى حجر باليمن، إلى أوائل الشام، بحيث كانت تدخل اليمن في دارهم، ولا تدخل (¬4) فيها الشام، وفي هذه الأرض كانت العرب، حين المبعث وقبله. فلما جاء الإسلام وفتحت الأمصار سكنوا سائر البلاد، من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، وإلى سواحل الشام وأرمينية (¬5) وهذه كانت مساكن فارس والروم والبربر، وغيرهم. ¬
ثم انقسمت هذه البلاد قسمين: منها: ما غلب على أهله (¬1) لسان العرب حتى لا يعرف عامتهم غيره، أو يعرفونه وغيره، مع ما دخل على لسان العرب من اللحن، وهذه غالب مساكن الشام، والعراق، ومصر، والأندلس، ونحو ذلك، وأظن أرض فارس وخراسان كانت هكذا قديما. ومنها: ما العجمية كثيرة فيهم، أو غالبة عليهم، كبلاد الترك، وخراسان (¬2) وأرمينية، وأذربيجان (¬3) ونحو ذلك. فهذه البقاع انقسمت: إلى ما هو عربي ابتداء، وإلى ما هو عربي انتقالا، وإلى ما هو عجمي. وكذلك الأنساب (¬4) ثلاثة أقسام: قوم من نسل العرب، وهم باقون على العربية لسانا ودارا، أو لسانا (5) (¬5) لا دارا، أو دارا لا لسانا (¬6) . وقوم من نسل العرب، بل من نسل بني هاشم، صارت العجمية لسانهم ودارهم، أو أحدهما. وقوم (¬7) مجهولو الأصل، لا يدرى: أمن نسل العرب هم، أم من نسل ¬
العجم؟ وهم أكثر (¬1) الناس اليوم، سواء كانوا عرب الدار واللسان، أو عجما في أحدهما. وكذلك انقسموا في اللسان ثلاثة أقسام: قوم يتكلمون بالعربية لفظا ونغمة (¬2) . وقوم يتكلمون بها لفظا لا نغمة، وهم المتعربون الذين ما تعلموا اللغة ابتداء من العرب، وإنما اعتادوا غيرها، ثم تعلموها، كغالب أهل العلم، ممن تعلم العربية. وقوم لا يتكلمون بها إلا قليلا. وهذان القسمان، منهم من تغلب عليه العربية، ومنهم من تغلب عليه العجمية، ومنهم من قد يتكافأ في حقه الأمران: إما قدرة، وإما عادة. فإذا كانت العربية قد انقسمت: نسبا ولسانا ودارا؛ فإن الأحكام تختلف باختلاف هذه الأقسام (¬3) خصوصا النسب واللسان. فإن ما ذكرناه من تحريم الصدقة على بني هاشم، واستحقاق نصيب من الخمس؛ ثبت لهم باعتبار النسب، وإن صارت ألسنتهم أعجمية. وما ذكرناه من حكم اللسان العربي وأخلاق العرب: يثبت لمن كان كذلك، وإن كان أصله فارسيا، وينتفي عمن لم يكن كذلك وإن كان أصله هاشميا. والمقصود هنا: أن (¬4) ما ذكرته من النهي عن التشبه بالأعاجم: إنما العبرة (¬5) بما كان عليه صدر الإسلام، من السابقين الأولين، فكل ما كان إلى ¬
هداهم أقرب فهو المفضل، وكل ما خالف ذلك فهو المخالف، سواء كان المخالف لذلك اليوم عربي النسب، أو عربي اللسان، وهكذا جاء عن السلف: فروى الحافظ أبو طاهر السلفي - في فضل العرب - بإسناده عن أبي شهاب الحناط (¬1) حدثنا حبان (¬2) بن موسى، عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي (¬3) قال: " من ولد في الإسلام فهو عربي ". وهذا الذي يروى عن أبي جعفر: لأن من ولد في الإسلام، فقد ولد في دار العرب، واعتاد خطابها، وهكذا كان الأمر. وروى (¬4) السلفي عن المؤتمن (¬5) الساجي (¬6) عن أبي القاسم الخلال (¬7) أنبأنا أبو محمد الحسن بن الحسين النوبختي (¬8) حدثنا علي بن عبد الله بن ¬
مبشر (¬1) (¬2) حدثنا محمد بن حرب النشائي (¬3) حدثنا إسحاق الأزرق (¬4) عن هشام بن حسان، عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه قال: «من تكلم بالعربية فهو عربي، ومن أدرك له اثنان (¬5) في الإسلام فهو عربي» (¬6) . هكذا فيه. وأظنه: «ومن أدرك له أبوان» . فهنا - إن صح هذا الحديث - فقد علقت العربية فيه بمجرد اللسان، وعلقت في النسب بأن يدرك له أبوان في الدولة الإسلامية العربية، وقد يحتج بهذا القول (¬7) أبو حنيفة (¬8) أن من ليس له أبوان في الإسلام أو في الحرية، ¬
ليس كفؤا لمن له أبوان في ذلك، وإن اشتركا (¬1) في العجمية والعتاقة. ومذهب أبي يوسف: ذو الأب الواحد كذي الأبوين (¬2) ومذهب الشافعي وأحمد (¬3) لا عبرة بذلك، نص عليه أحمد (¬4) . وقد روى السلفي، من حديث الحسن بن رشيق (¬5) حدثنا أحمد بن الحسن بن هارون (¬6) حدثنا العلاء بن سالم (¬7) حدثنا قرة بن عيسى الواسطي (¬8) . ¬
حدثنا أبو بكر الهذلي (¬1) عن مالك بن أنس، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: «جاء قيس بن حطاطة (¬2) إلى حلقة فيها صهيب الرومي (¬3) وسلمان الفارسي، وبلال الحبشي، فقال: هذا الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذا الرجل فما بال هؤلاء؟ فقام معاذ بن جبل فأخذ بتلابيبه، ثم أتى به النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بمقالته، فقام النبي صلى الله عليه وسلم مغضبا يجر رداءه حتى دخل المسجد، ثم نودي: أن (¬4) الصلاة جامعة، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " أما بعد: أيها الناس، فإن الرب رب واحد، والأب أب واحد، والدين دين واحد، وإن العربية ليست لأحدكم بأب ولا أم، إنما هي لسان، فمن تكلم بالعربية فهو عربي "، فقام معاذ بن جبل فقال: بم تأمرنا في هذا المنافق؟ فقال: " دعه إلى النار» . فكان قيس ممن ارتد فقتل في الردة (¬5) . ¬
هذا الحديث ضعيف، وكأنه مركب على مالك (¬1) لكن معناه ليس ببعيد، بل هو صحيح من بعض الوجوه كما قدمناه. ومن تأمل ما ذكرناه في هذا الباب؛ عرف مقصود الشريعة فيما ذكرناه من الموافقة المأمور بها، والمخالفة المنهي عنها، كما تقدمت الدلالات عليه، وعرف بعض وجوه ذلك وأسبابه، وبعض ما فيه من الحكمة. ¬
فصل في أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه
[فصل في أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه] فصل فإن قيل: ما ذكرتموه من الأدلة معارض بما يدل على خلافه، وذلك: أن شرع من قبلنا شرع لنا، ما لم يرد شرعنا بخلافه، وقوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] (¬1) وقوله: {اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل: 123] (¬2) وقوله: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة: 44] (¬3) وغير ذلك من الدلائل المذكورة في غير هذا الموضع، مع أنكم مسلمون لهذه القاعدة، وهي قول عامة السلف وجمهور الفقهاء. ومعارض بما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: " ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ " قالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق (¬4) فيه فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا لله (¬5) فنحن نصومه تعظيما له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فنحن أحق وأولى بموسى منكم " فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بصيامه» متفق عليه (¬6) . ¬
وعن أبي موسى رضي الله عنه، قال: «كان يوم عاشوراء تعده اليهود عيدا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فصوموه أنتم» (¬1) متفق عليه، وهذا اللفظ للبخاري، ولفظ مسلم (¬2) «تعظمه اليهود وتتخذه عيدا» (¬3) وفي لفظ له: " كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء ويتخذونه عيدا، ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشاراتهم " (¬4) . وعن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة (¬5) عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «كان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم، وكان المشركون يفرقون رؤوسهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، فسدل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصيته، ثم فرق بعد» ، متفق عليه (¬6) . ¬
قيل: أما المعارضة بكون شرع (¬1) من قبلنا شرع لنا، ما لم يرد شرعنا بخلافه، فذاك مبني على مقدمتين، كلتاهما منفية في مسألة التشبه بهم: إحداهما: أن يثبت أن ذلك شرع لهم، بنقل موثوق به، مثل أن يخبرنا الله في كتابه، أو على لسان رسوله، أو ينقل بالتواتر، ونحو ذلك، فأما مجرد الرجوع إلى قولهم، أو إلى ما في كتبهم، فلا يجوز بالاتفاق، والنبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان قد استخبرهم فأخبروه، ووقف على ما في التوراة؛ فإنما ذلك لأنه لا يروج عليه باطلهم، بل الله سبحانه يعرفه ما يكذبون مما يصدقون، كما قد أخبره بكذبهم غير مرة. وأما نحن فلا نأمن أن يحدثونا بالكذب، فيكون فاسق، بل كافر قد جاءنا بنبأ فاتبعناه، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم، ولا تكذبوهم» (¬2) . المقدمة الثانية: أن لا يكون في شرعنا بيان خاص لذلك، فأما إذا كان فيه بيان خاص: إما بالموافقة، أو بالمخالفة، استغني عن ذلك فيما ينهى عنه من موافقته، ولم (¬3) يثبت أنه شرع لمن كان قبلنا، وإن ثبت فقد كان هدي نبينا صلى الله عليه وسلم بخلافه، وبهم أمرنا نحن أن نتبع ونقتدي، وقد أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم: أن يكون هدينا مخالفا لهدي اليهود والنصارى، وإنما تجيء الموافقة في بعض الأحكام العارضة، لا في الهدي الراتب، والشعار الدائم. ثم ذلك بشرط: أن لا يكون قد جاء عن نبينا وأصحابه خلافه، أو ثبت أصل شرعه في ديننا، وقد ثبت عن نبي من الأنبياء ¬
أصله، أو وصفه (¬1) مثل: فداء من نذر أو يذبح ولده بشاة، ومثل: الختان المأمور به في ملة إبراهيم عليه السلام، ونحو ذلك. وليس الكلام فيه. وأما حديث عاشوراء: فقد ثبت (¬2) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصومه قبل استخباره لليهود (¬3) وكانت قريش تصومه، ففي الصحيحين، من حديث الزهري عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كانت قريش تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه (¬4) فلما هاجر إلى المدينة صامه، وأمر بصيامه، فلما فرض (¬5) شهر رمضان قال: " من شاء صامه، ومن شاء تركه» (¬6) وفي رواية: " وكان يوما تستر فيه الكعبة " (¬7) . وأخرجاه من حديث هشام عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان (¬8) رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية، فلما قدم المدينة صامه، وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك ¬
يوم عاشوراء (¬1) " فمن شاء صامه، ومن شاء تركه» (¬2) . وفيهما عن عبد الله (¬3) بن عمر رضي الله عنهما: «أن أهل الجاهلية كانوا يصومون عاشوراء، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صامه والمسلمون قبل أن يفترض رمضان، فلما افترض رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن عاشوراء يوم من أيام الله، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه» (¬4) . فإذا كان أصل صومه لم يكن موافقا لأهل الكتاب، فيكون قوله: «فنحن أحق بموسى منكم» توكيدا لصومه، وبيانا لليهود: أن الذي يفعلونه من موافقة موسى نحن أيضا نفعله، فنكون أولى بموسى منكم. ثم الجواب عن هذا، وعن قوله: «كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء» من وجوه: أحدها: أن هذا كان متقدما، ثم نسخ الله ذلك، وشرع له مخالفة أهل الكتاب، وأمره بذلك، وفي متن الحديث: " أنه سدل شعره موافقة لهم، ثم فرق شعره بعد " ولهذا صار الفرق شعار المسلمين، وكان من الشروط على أهل الذمة " أن لا يفرقوا شعورهم " وهذا كما أن الله شرع له في أول الأمر استقبال بيت المقدس موافقة لأهل الكتاب، ثم نسخ ذلك، وأمر باستقبال الكعبة، وأخبر عن اليهود وغيرهم من السفهاء أنهم سيقولون: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142] (¬5) . ¬
وأخبر أنهم لا يرضون عنه حتى يتبع قبلتهم، وأخبره أنه: إن اتبع أهواءهم (¬1) من بعد ما جاءه من العلم ما له من الله من ولي، ولا نصير، وأخبره (¬2) أن: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148] (¬3) وكذلك أخبره في موضع آخر (¬4) أنه جعل لكل شرعة ومنهاجا (¬5) فالشعار من جملة الشرعة. والذي يوضح ذلك: أن هذا اليوم - عاشوراء - الذي صامه وقال: «نحن أحق بموسى منكم» قد شرع - قبيل موته - مخالفة اليهود في صومه، وأمر صلى الله عليه وسلم بذلك (¬6) ولهذا كان ابن عباس رضي الله عنهما، وهو الذي يقول: «وكان يعجبه موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء» ، وهو الذي روى قوله: «نحن أحق بموسى منكم» أشد الصحابة رضي الله عنهم أمرا بمخالفة اليهود في صوم يوم عاشوراء، وقد ذكرنا أنه هو الذي روى شرع المخالفة. وروى - أيضا - مسلم في صحيحه عن الحكم بن الأعرج (¬7) قال: «انتهيت إلى ابن عباس، وهو متوسد رداءه في زمزم، فقلت له: أخبرني عن صوم يوم عاشوراء؟ فقال: " إذا رأيت هلال المحرم فاعدد، وأصبح يوم التاسع ¬
صائما. قلت: هكذا كان (¬1) محمد صلى الله عليه وسلم يصومه؟ قال: نعم» (¬2) . وروى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع» ، يعني (¬3) يوم عاشوراء (¬4) . ومعنى (¬5) قول ابن عباس: " صم التاسع "، يعني: والعاشر (¬6) . هكذا ثبت عنه، وعلله بمخالفة اليهود، قال سعيد (¬7) بن منصور: حدثنا سفيان بن عمرو بن دينار أنه سمع عطاء، سمع ابن عباس رضي الله عنهما، يقول: " صوموا التاسع والعاشر، خالفوا اليهود " (¬8) . وروينا في فوائد داود بن عمرو (¬9) عن إسماعيل بن علية قال: ذكروا عند ابن أبي نجيح، أن ابن عباس كان يقول " يوم عاشوراء يوم التاسع "، فقال ابن ¬
أبي نجيح: إنما قال ابن عباس: " أكره أن أصوم فاردا، ولكن صوموا قبله يوما، أو بعده يوما " (¬1) . 50 ويحقق ذلك: ما رواه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم يوم عاشوراء العاشر من المحرم» ، قال الترمذي: " هذا حديث (¬2) حسن صحيح " (¬3) . وروى سعيد في سننه عن هشيم، عن ابن أبي ليلى (¬4) عن داود بن علي، عن أبيه، عن جده ابن (¬5) عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا فيه اليهود، صوموا يوما قبله، أو (¬6) يوما بعده» (¬7) . ورواه أحمد، ولفظه: «صوموا قبله يوما، أو (¬8) بعده يوما» (¬9) . ¬
ولهذا نص أحمد على مثل ما رواه ابن عباس وأفتى به، فقال في رواية الأثرم (¬1) " أنا أذهب في عاشوراء: إلى أن يصام يوم التاسع والعاشر؛ لحديث (¬2) ابن عباس: «صوموا التاسع والعاشر» (¬3) . وقال حرب: سألت أحمد عن صوم يوم عاشوراء، فقال: " يصوم التاسع والعاشر " (¬4) . وقال في رواية الميموني (¬5) وأبي الحارث (¬6) " من أراد أن يصوم عاشوراء صام التاسع والعاشر، إلا أن تشكل الشهور فيصوم ثلاثة أيام؛ ابن سيرين يقول ذلك " (¬7) . وقد قال بعض أصحابنا: إن الأفضل: صوم التاسع والعاشر، وإن اقتصر على العاشر لم يكره. ومقتضى كلام أحمد: أنه يكره الاقتصار على العاشر؛ لأنه سئل عنه فأفتى بصوم اليومين، وأمر بذلك، وجعل هذا هو السنة لمن أراد صوم (¬8) عاشوراء، ¬
واتبع في ذلك حديث ابن عباس، وابن عباس كان يكره إفراد العاشر على ما هو مشهور عنه. ومما يوضح ذلك: أن كل ما جاء من التشبه بهم، إنما كان في صدر الهجرة، ثم نسخ؛ ذلك أن (¬1) اليهود إذ ذاك، كانوا لا يتميزون عن المسلمين لا في شعور، ولا في لباس، لا بعلامة، ولا غيرها. ثم إنه ثبت بعد ذلك في الكتاب والسنة والإجماع، الذي كمل ظهوره في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ما شرعه الله من مخالفة الكافرين ومفارقتهم في الشعار والهدي. وسبب ذلك: أن المخالفة لهم لا تكون إلا مع ظهور الدين وعلوه كالجهاد، وإلزامهم بالجزية (¬2) والصغار، فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء؛ لم تشرع المخالفة لهم، فلما كمل الدين وظهر وعلا؛ شرع بذلك. ومثل ذلك اليوم: لو أن المسلم بدار حرب، أو دار كفر غير حرب؛ لم يكن مأمورا بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر، لما عليه في ذلك من الضرر (¬3) بل قد يستحب للرجل، أو يجب عليه، أن يشاركهم أحيانا في هديهم الظاهر، إذا كان في ذلك مصلحة دينية: من (¬4) دعوتهم إلى الدين، والاطلاع على باطن أمرهم لإخبار المسلمين بذلك، أو دفع ضررهم عن المسلمين، ونحو ذلك من المقاصد الصالحة. ¬
فأما في دار الإسلام والهجرة، التي أعز الله فيها دينه، وجعل على الكافرين بها الصغار والجزية، ففيها شرعت المخالفة. وإذا ظهر أن (¬1) الموافقة والمخالفة تختلف لهم (¬2) باختلاف الزمان والمكان (¬3) ؛ ظهرت حقيقية الأحاديث في هذا. الوجه الثاني: لو فرضنا أن ذلك لم ينسخ، فالنبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي كان له أن يوافقهم؛ لأنه يعلم حقهم من باطلهم؛ بما يعلمه الله إياه، ونحن نتبعه، فأما نحن فلا يجوز لنا أن نأخذ شيئا من الدين عنهم: لا من أقوالهم، ولا من أفعالهم، بإجماع المسلمين المعلوم بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو قال رجل: يستحب لنا موافقة أهل الكتاب، الموجودين في زماننا؛ لكان قد خرج عن دين الأمة. الثالث (¬4) أن نقول بموجبه: كان يعجبه موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ثم إنه أمر بمخالفتهم، وأمرنا نحن أن نتبع هديه وهدي أصحابه السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار. والكلام إنما هو في أنا منهيون عن التشبه بهم فيما لم يكن سلف الأمة عليه، فأما ما كان سلف الأمة عليه، فلا ريب فيه؛ سواء فعلوه، أو تركوه؛ فإنا لا نترك ما أمر الله به لأجل أن الكفار تفعله مع أن الله لم يأمرنا بشيء يوافقونا عليه إلا ولا بد فيه من نوع مغايرة يتميز بها دين الله المحكم مما قد نسخ، أو بدل. ¬
فصل في أقسام أعمال الكفار
[فصل في أقسام أعمال الكفار] فصل قد ذكرنا من دلائل الكتاب والسنة والإجماع والآثار والاعتبار، ما دل على أن التشبه بهم (¬1) في الجملة منهي عنه، وأن مخالفتهم في هديهم مشروع، إما إيجابا، وإما استحبابا بحسب المواضع. وقد تقدم بيان: أن ما أمر (¬2) به من مخالفتهم: مشروع، سواء كان ذلك الفعل مما قصد فاعله التشبه بهم، أو لم يقصد، وكذلك ما نهي عنه من مشابهتهم: يعم ما إذا قصدت مشابهتهم، أو لم تقصد؛ فإن عامة هذه الأعمال لم يكن المسلمون يقصدون المشابهة فيها، وفيها ما لا يتصور قصد المشابهة فيه، كبياض الشعر، وطول الشارب، ونحو ذلك. ثم اعلم أن أعمالهم ثلاثة أقسام: - قسم مشروع في ديننا، مع كونه كان مشروعا لهم، أو لا يعلم أنه كان مشروعا لهم (¬3) لكنهم يفعلونه الآن. - وقسم كان مشروعا ثم نسخه شرع القرآن. - وقسم لم يكن مشروعا بحال، وإنما هم أحدثوه. ¬
وهذه الأقسام الثلاثة: إما أن تكون (¬1) في العبادات المحضة، وإما أن تكون (¬2) في العادات المحضة، وهي الآداب، وإما أن تجمع العبادات والعادات، فهذه تسعة أقسام (¬3) -. فأما القسم الأول: وهو ما كان مشروعا في الشريعتين، أو ما كان مشروعا لنا وهم يفعلونه، فهذا كصوم عاشوراء، أو كأصل الصلاة والصيام، فهنا تقع (¬4) - المخالفة في صفة ذلك العمل، كما سن لنا صوم تاسوعاء وعاشوراء، كما أمرنا بتعجيل الفطور والمغرب مخالفة لأهل الكتاب، وبتأخير السحور مخالفة لأهل الكتاب. وكما أمرنا بالصلاة في النعلين مخالفة لليهود، وهذا كثير في العبادات، ¬
وكذلك في العادات، قال صلى الله عليه وسلم: «اللحد لنا والشق لغيرنا» (¬1) وسن توجيه قبور المسلمين إلى الكعبة؛ تمييزا لها عن مقابر الكافرين، فإن أصل الدفن من الأمور المشروعة، في الأمور العادية، ثم قد اختلفت (¬2) الشرائع في صفته، وهو أيضا فيه عبادات، ولباس النعل (¬3) في الصلاة فيه عبادة وعادة، ونزع النعل (¬4) في الصلاة شريعة كانت لموسى عليه السلام، وكذلك اعتزال الحيض (¬5) ونحو ذلك من الشرائع التي جامعناهم في أصلها، وخالفناهم في وصفها. القسم الثاني: ما كان مشروعا ثم نسخ بالكلية: كالسبت (¬6) أو إيجاب صلاة، أو صوم، ولا يخفى النهي عن موافقتهم في هذا، سواء كان واجبا عليهم فيكون عبادة، أو محرما عليهم فيتعلق بالعادات، فليس للرجل أن يمتنع من أكل الشحوم وكل ذي ظفر على وجه التدين بذلك، وكذلك ما كان مركبا منهما، وهي الأعياد التي كانت مشروعة لهم، فإن العيد المشروع يجمع عبادة. وهو ما فيه من صلاة، أو ذكر، أو صدقة، أو نسك، ويجمع عادة، وهو ما يفعل فيه ¬
من التوسع في الطعام واللباس، أو ما يتبع ذلك من ترك الأعمال الواضبة (¬1) واللعب المأذون فيه في الأعياد لمن ينتفع باللعب، ونحو ذلك. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم - لما زجر أبو بكر رضي الله عنه الجويريتين عن الغناء في بيته -: «دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا، وإن هذا عيدنا» (¬2) وكان الحبشة يلعبون بالحراب يوم العيد، والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليهم. فالأعياد المشروعة يشرع فيها - وجوبا، أو استحبابا -: من العبادات ما لا يشرع في غيرها، ويباح فيها، أو يستحب، أو يجب من العادات التي للنفوس فيها حظ، ما لا يكون في غيرها كذلك. ولهذا وجب فطر العيدين، وقرن بالصلاة في أحدهما الصدقة، وقرن بها في الآخر الذبح. وكلاهما من أسباب الطعام. فموافقتهم في هذا القسم المنسوخ من العبادات، أو العادات، أو كلاهما: أقبح من موافقتهم فيما هو مشروع الأصل، ولهذا كانت الموافقة في هذا محرمة، كما سنذكره، وفي الأول قد لا تكون إلا مكروهة. وأما القسم الثالث: وهو ما أحدثوه من العبادات، أو العادات، ¬
أو كليهما (¬1) فهو (¬2) أقبح وأقبح؛ فإنه لو أحدثه المسلمون لقد كان يكون قبيحا، فكيف إذا كان مما لم يشرعه نبي قط؟ بل أحدثه الكافرون، فالموافقة فيه ظاهرة القبح، فهذا أصل. وأصل آخر وهو: أن كل ما يشابهون فيه: من عبادة، أو عادة، أو كليهما (¬3) هو: من المحدثات في هذه الأمة، ومن البدع، إذ الكلام في ما كان من خصائصهم، وأما ما كان مشروعا لنا، وقد فعله سلفنا السابقون: فلا كلام فيه. فجميع الأدلة الدالة من الكتاب والسنة والإجماع على قبح البدع، وكراهتها تحريما أو تنزيها، تندرج هذه المشابهات فيها، فيجتمع فيها أنها بدع محدثة، وأنها مشابهة للكافرين، وكل واحد من الوصفين موجب للنهي؛ إذ المشابهة منهي عنها في الجملة ولو كانت في السلف (¬4) ! والبدع منهي عنها في الجملة، ولو لم يفعلها الكفار، فإذا اجتمع الوصفان صارا علتين مستقلتين في القبح والنهي. ¬
فصل في الأعياد
[فصل في الأعياد] [طرق عدم جواز موافقتهم في أعيادهم] [الطريق الأول أنه موافقة لأهل الكتاب فيما ليس في ديننا] فصل [في الأعياد] (¬1) إذا تقرر هذا الأصل في مشابهتهم فنقول: موافقتهم في أعيادهم لا تجوز من طريقين: الطريق الأول: هو ما تقدم من أن هذا موافقة لأهل الكتاب فيما ليس في ديننا، ولا عادة سلفنا، فيكون فيه مفسدة موافقتهم، وفي تركه مصلحة مخالفتهم، حتى لو كان موافقتهم في ذلك أمرا اتفاقيا، ليس مأخوذا عنهم، لكان المشروع لنا مخالفتهم؛ لما في مخالفتهم من المصلحة - كما تقدمت الإشارة إليه - فمن وافقهم فوّت على نفسه هذه المصلحة، وإن لم يكن قد أتى بمفسدة، فكيف إذا جمعهما؟ ومن جهة أنه من البدع المحدثة، وهذه الطريق لا ريب أنها تدل على كراهة التشبه بهم في ذلك، فإن أقل أحوال التشبه بهم: أن يكون مكروها، وكذلك أقل أحوال البدع: أن تكون مكروهة، ويدل كثير منها على تحريم التشبه بهم في العيد، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم» (¬2) فإن موجب هذا: تحريم التشبه بهم مطلقا. وكذلك قوله: «خالفوا المشركين» ونحو ذلك، ومثل ما ذكرنا من دلالة الكتاب والسنة على تحريم سبيل المغضوب عليهم والضالين، وأعيادهم من ¬
الطريق الثاني الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار
سبيلهم، إلى غير ذلك من الدلائل. فمن انعطف (¬1) على ما تقدم من الدلائل العامة: نصا وإجماعا وقياسا، تبين له دخول هذه المسألة في كثير مما تقدم من الدلائل، وتبين له أن هذا من جنس أعمالهم، التي هي دينهم، أو شعار دينهم الباطل، وأن هذا محرم كله بخلاف ما لم يكن من خصائص دينهم، ولا شعارا له (¬2) مثل نزع النعلين في الصلاة فإنه جائز، كما أن لبسهما جائز، وتبين له أيضا: الفرق بين ما بقينا فيه على عادتنا، لم نحدث شيئا نكون به موافقين لهم فيه، وبين أن نحدث أعمالا أصلها مأخوذ عنهم، قصدنا موافقتهم، أو لم نقصد. [الطريق الثاني الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار] [النهي عن موافقتهم في أعيادهم بالكتاب] وأما الطريق الثاني (¬3) الخاص في نفس أعياد الكفار: فالكتاب والسنة والإجماع والاعتبار (¬4) . أما الكتاب: فمما تأوله غير واحد من التابعين وغيرهم، في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72] (¬5) فروى أبو بكر الخلال في "الجامع" (¬6) بإسناده عن محمد بن سيرين في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72] قال: " هو الشعانين " (¬7) . ¬
وكذلك ذكر عن مجاهد قال: " هو (¬1) أعياد المشركين " وكذلك عن الربيع بن أنس (¬2) قال: أعياد المشركين (¬3) . وفي معنى هذا: ما روي عن عكرمة قال: " لعب كان لهم في الجاهلية (¬4) . وقال القاضي أبو يعلى: مسألة: في النهي عن حضور أعياد المشركين: روى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده في شروط أهل الذمة، عن الضحاك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72] قال: " عيد المشركين " (¬5) . وبإسناده عن أبي سنان عن الضحاك ": {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72] كلام الشرك " (¬6) . وبإسناده عن جويبر (¬7) عن الضحاك {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72] ¬
قال: " أعياد المشركين " وروى بإسناده، عن عمرو بن مرة: {لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72] " لا يمالئون (¬1) أهل الشرك على شركهم ولا يخالطونهم " (¬2) . وبإسناده عن عطاء بن يسار (¬3) قال: قال عمر: " إياكم ورطانة الأعاجم، وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم " (¬4) . وقول هؤلاء التابعين: " إنه أعياد الكفار " ليس مخالفا لقول بعضهم: " إنه الشرك "، أو صنم (¬5) كان في الجاهلية، ولقول بعضهم: إنه مجالس الخنا، وقول بعضهم: إنه الغناء؛ لأن عادة السلف في تفسيرهم هكذا: يذكر الرجل نوعا من أنواع المسمى لحاجة المستمع إليه، أو لينبه به على الجنس، كما لو قال العجمي: ما الخبز؟ فيعطى رغيفا ويقال له: هذا، بالإشارة إلى الجنس، لا إلى عين الرغيف. ¬
لكن قد قال قوم: إن المراد: شهادة الزور التي هي الكذب، وهذا فيه نظر، فإنه تعالى قال: {لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72] ولم يقل: لا يشهدون بالزور. والعرب تقول: شهدت كذا: إذا حضرته، كقول ابن عباس: " شهدت العيد (¬1) مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم " (¬2) وقول عمر: " الغنيمة لمن شهد الوقعة " (¬3) وهذا كثير في كلامهم، وأما: شهدت بكذا، فمعناه: أخبرت به. ووجه تفسير التابعين المذكورين: أن الزور هو المحَسَّن المموه، حتى يظهر بخلاف ما هو عليه في الحقيقة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «المتشبع (¬4) بما لم يعط كلابس ثوبي زور» (¬5) لما كان يظهر مما يعظم به مما ليس عنده، فالشاهد بالزور (¬6) يظهر كلاما يخالف الباطن، ولهذا فسره السلف تارة بما يظهر حسنه لشبهة، أو لشهوة، وهو قبيح في الباطن، فالشرك ونحوه: يظهر حسنه للشبهة، والغناء ونحوه: يظهر حسنه للشهوة. ¬
وأما أعياد المشركين: فجمعت الشبهة والشهوة، وهي باطل (¬1) ؛ إذ لا منفعة فيها في الدين، وما فيها من اللذة العاجلة: فعاقبتها إلى ألم، فصارت زورا، وحضورها: شهودها، وإذا كان الله قد مدح ترك شهودها، الذي هو مجرد الحضور برؤية أو سماع، فكيف بالموافقة بما يزيد على ذلك، من العمل الذي هو عمل الزور، لا مجرد شهوده؟ ثم (¬2) مجرد هذه الآية، فيها الحمد لهؤلاء والثناء عليهم، وذلك وحده يفيد الترغيب في ترك شهود أعيادهم، وغيرها من الزور، ويقتضي الندب إلى ترك حضورها وقد يفيد كراهية حضورها لتسمية الله لها زورا. فأما تحريم شهودها من هذه الآية ففيه نظر، ودلالتها على تحريم فعلها أوجه؛ لأن الله تعالى سماها زورا، وقد ذم من يقول الزور، وإن لم (¬3) يضر غيره لقوله في المتظاهرين (¬4) {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2] (¬5) وقال تعالى: (¬6) {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] (¬7) ففاعل الزور كذلك. وقد يقال: قول الزور أبلغ من فعله، ولأنهم إذا مدحهم على مجرد تركهم شهوده، دل على أن فعله مذموم عنده معيب؛ إذ لو كان فعله جائزا والأفضل تركه: لم يكن في مجرد شهوده أو ترك شهوده كبير مدح، إذ شهود المباحات التي (¬8) لا منفعة فيها، وعدم شهودها، قليل التأثير. ¬
وقد (¬1) يقال: هذا مبالغة في مدحهم؛ إذ كانوا لا يحضرون مجالس البطالة، وإن كانوا لا يفعلون الباطل، ولأن (¬2) الله تعالى قال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] (¬3) . فجعل هؤلاء المنعوتين هم عباد الرحمن، وعبودية الرحمن واجبة، فتكون هذه الصفات واجبة. وفيه نظر؛ إذ قد يقال: في هذه الصفات ما لا يجب، ولأن المنعوتين هم المستحقون لهذا الوصف على وجه الحقيقة والكمال، كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] (¬4) وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] (¬5) . وقال صلى الله عليه وسلم: «ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان» . . (¬6) الحديث. وقال: «ما تعدون (¬7) المفلس فيكم (¬8) » (¬9) «ما تعدون ¬
النهي عن موافقتهم في أعيادهم بالسنة
الرقوب» (¬1) ونظائره كثيرة. فسواء كانت الآية دالة على تحريم ذلك، أو كراهته أو استحباب تركه: حصل أصل المقصود؛ إذ من المقصود: بيان استحباب ترك موافقتهم أيضا؛ فإن بعض الناس قد يظن استحباب فعل ما فيه موافقة لهم؛ لما فيه من التوسيع على العيال، أو من إقرار الناس على اكتسابهم، ومصالح دنياهم، فإذا علم استحباب ترك ذلك: كان أول (¬2) المقصود. [النهي عن موافقتهم في أعيادهم بالسنة] وأما السنة (¬3) فروى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: " ما هذان اليومان؟ "، قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر» رواه أبو داود بهذا اللفظ (¬4) . ¬
" حدثنا موسى بن إسماعيل (¬1) حدثنا حماد عن (¬2) حميد، عن أنس " ورواه أحمد (¬3) والنسائي (¬4) وهذا إسناد على شرط مسلم. فوجه الدلالة: أن العيدين (¬5) الجاهليين (¬6) لم يقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة، بل قال: «إن الله قد أبدلكم بهما يومين آخرين،» والإبدال من الشيء يقتضي ترك المبدل منه؛ إذ لا يجمع بين البدل والمبدل منه (¬7) ولهذا لا تستعمل هذه العبارة إلا فيما ترك اجتماعهما، كقوله سبحانه: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50] (¬8) وقوله: {وَبَدَّلْنَاهُمْ (¬9) بِجَنَّتَيْهِمْ (¬10) جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ: 16] (¬11) وقوله: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة: 59] (¬12) ¬
وقوله: {وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} [النساء: 2] (¬1) . ومنه الحديث في المقبور (¬2) فيقال له: «انظر إلى مقعدك من النار، أبدلك الله به خيرا منه مقعدا في الجنة» ، ويقال للآخر: «انظر إلى مقعدك في الجنة، أبدلك الله به مقعدا من النار» (¬3) . وقول عمر رضي الله عنه للبيد (¬4) " ما فعل شِعرك؟ قال: أبدلني الله به البقرة وآل عمران " (¬5) . وهذا كثير في الكلام. فقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما» (¬6) يقتضي ترك الجمع بينهما، لا سيما وقوله: (¬7) «خيرا منهما» يقتضي الاعتياض بما شرع لنا، عما كان في الجاهلية. ¬
وأيضا فقوله لهم: «إن الله قد أبدلكم» لما سألهم عن اليومين فأجابوه: " بأنهما يومان كانوا يلعبون فيهما في الجاهلية " دليل على أنه نهاهم عنهما اعتياضا بيومي الإسلام؛ إذ لو لم يقصد النهي لم يكن ذكر هذا الإبدال مناسبا؛ إذ أصل شرع اليومين (¬1) الإسلاميين كانوا يعلمونه (¬2) ولم يكونوا ليتركوه لأجل يومي الجاهلية. وفي قول أنس: " ولهم يومان يلعبون فيهما "، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد أبدلكم بهما يومين خيرا منهما» دليل على أن أنسا رضي الله عنه فهم من قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أبدلكم بهما» تعويضا باليومين المبدلين. وأيضا فإن ذينك اليومين الجاهليين قد ماتا في الإسلام، فلم يبق لهما أثر على (¬3) عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا (¬4) عهد خلفائه، ولو لم يكن قد نهى الناس عن اللعب فيهما ونحوه مما كانوا يفعلونه، لكانوا قد بقوا على العادة؛ إذ العادات لا تغير إلا بمغير يزيلها، لا سيما وطباع النساء والصبيان وكثير من الناس متشوفة (¬5) إلى اليوم الذي يتخذونه عيدا للبطالة واللعب. ولهذا قد يعجز كثير من الملوك والرؤساء عن نقل الناس عن عاداتهم في أعيادهم؛ لقوة مقتضيها من نفوسهم، وتوفر همم الجماهير على اتخاذها، فلولا قوة المانع من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكانت باقية، ولو على وجه ضعيف، فعلم أن المانع القوي منه كان ثابتا، وكل ما منع منه الرسول منعا قويا كان محرما؛ إذ لا يعني بالمحرم إلا هذا. ¬
وهذا أمر بين (¬1) لا شبهة فيه، فإن مثل ذينك العيدين، لو عاد الناس إليهما بنوع مما كان يفعل فيهما - إن رخص فيه - كان مراغمة بينه وبين ما نهى عنه، فهو المطلوب. والمحذور في أعياد أهل الكتابين التي نقرهم عليها، أشد من المحذور في أعياد الجاهلية التي لا نقرهم عليها؛ فإن الأمة قد حذروا مشابهة اليهود والنصارى، وأخبروا أن سيفعل قوم منهم هذا المحذور، بخلاف دين الجاهلية، فإنه لا يعود إلا في آخر الدهر، عند اخترام أنفس المؤمنين عموما، ولو لم يكن أشد منه، فإنه مثله على ما لا يخفى؛ إذ الشر الذي له فاعل موجود، يخاف على الناس منه أكثر من شر لا مقتضى له قوي. الحديث الثاني: (¬2) ما رواه أبو داود، حدثنا داود (¬3) بن رشيد (¬4) حدثنا شعيب بن إسحاق (¬5) عن الأوزاعي، حدثني يحيى بن أبي كثير، حدثني ¬
أبو قلابة، حدثني ثابت بن الضحاك (¬1) قال: «نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلا ببوانة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " هل كان فيها وثن (¬2) من أوثان الجاهلية يعبد؟ "، قالوا (¬3) لا، قال: " فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ " قالوا (¬4) لا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أوف بنذرك؛ فإنه لا وفاء لنذر (¬5) في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم» (¬6) أصل هذا الحديث في الصحيحين (¬7) وهذا الإسناد على شرط الصحيحين، وإسناده كلهم ثقات مشاهير، وهو متصل بلا عنعنة. ¬
وبوانة: بضم الباء الموحدة من أسفل (¬1) فيه يقول وضاح اليمن (¬2) . أيا نخلتي وادي بوانة , حبذا ... إذا نام حراس النخيل - جناكما (¬3) وسيأتي وجه الدلالة منه. وقال أبو داود في سننه: حدثنا الحسن بن علي (¬4) حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا عبد الله بن يزيد بن مقسم الثقفي (¬5) -من أهل الطائف - حدثتني سارة بنت مقسم (¬6) أنها سمعت ميمونة بنت ¬
كردم (¬1) قالت: «خرجت مع أبي في حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعت الناس يقولون: رسول الله (¬2) صلى الله عليه وسلم، فجعلت أبدّه بصري (¬3) فدنا إليه أبي وهو على ناقة له معه درة كدرة الكتّاب، فسمعت الأعراب والناس يقولون: الطبطبية، الطبطبية (¬4) فدنا إليه أبي، فأخذ بقدمه، قالت: فأقر له، ووقف، فاستمع منه، فقال: يا رسول الله، إني نذرت إن ولد لي ولد (¬5) ذكر أن أنحر على رأس بوانة، في عقبة (¬6) من الثنايا، عدة من الغنم (¬7) -قال: لا أعلم إلا أنها قالت: خمسين - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هل بها من هذه (¬8) الأوثان شيء؟ " قال: لا، قال: " فأوف ¬
بما (¬1) نذرت به لله " قال: فجمعها فجعل يذبحها، فانفلتت منه شاة، فطلبها وهو يقول: اللهم أوف (¬2) بنذري، فظفر بها فذبحها» (¬3) . قال أبو داود: حدثنا محمد بن بشار (¬4) حدثنا أبو بكر الحنفي (¬5) حدثنا عبد الحميد بن جعفر (¬6) عن عمرو بن شعيب، عن ميمونة بنت كردم (¬7) بن سفيان، عن أبيها. . نحوه (¬8) مختَصَرا شيء منه (¬9) قال: «هل بها ¬
وثن (¬1) أو عيد من أعياد الجاهلية؟ " قال: لا، قال: قلت: إن أمي (¬2) هذه عليها نذر (¬3) مشي، أفأقضيه عنها؟ وربما قال ابن بشار: أنقضيه عنها؟ قال: " نعم» (¬4) . وقال: حدثنا مسدد (¬5) حدثنا الحارث بن عبيد (¬6) أبو قدامة (¬7) عن عبيد (¬8) الله الأخنس (¬9) عن عمرو بن شعيب، عن أبيه (¬10) عن جده، «أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: " يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك ¬
بالدف"، قال: " أوفي بنذرك "، قالت: " إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا - مكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية - " قال: " لصنم؟ " قالت: لا، قال: " لوثن؟ " قالت: لا، قال: " أوفي بنذرك» (¬1) . فوجه الدلالة: أن هذا الناذر كان قد نذر أن يذبح نعما: إما إبلا، وإما غنما، وإما كانت قضيتين، بمكان سماه، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: «هل كان بها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قال: لا، قال: " فهل كان بها عيد من أعيادهم؟ " قال: لا، قال: " أوف بنذرك " ثم قال: " لا وفاء لنذر في معصية الله» . وهذا يدل على أن الذبح بمكان عيدهم ومحل أوثانهم معصية لله، من وجوه: أحدها: أن قوله: «فأوف بنذرك» (¬2) تعقيب للوصف بالحكم بحرف الفاء، وذلك يدل على أن الوصف هو سبب الحكم؛ فيكون سبب الأمر بالوفاء: وجود النذر خاليا من هذين الوصفين، فيكون الوصفان مانعين (¬3) من الوفاء، ولو لم يكن معصية لجاز الوفاء به. الثاني: أنه عقب ذلك بقوله: «لا وفاء لنذر في معصية الله» ولولا (¬4) اندراج الصورة المسئول عنها في هذا اللفظ العام، وإلا لم يكن في الكلام ارتباط، والمنذور في نفسه - وإن لم يكن معصية - لكن لما سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن الصورتين قال له: «فأوف بنذرك» ، يعني: حيث ليس هناك ما يوجب تحريم الذبح هناك، فكان جوابه صلى الله عليه وسلم فيه أمرا بالوفاء عند الخلو من هذا، ونهى عنه عند وجود هذا، وأصل الوفاء بالنذر معلوم، فبين ما لا وفاء فيه. ¬
واللفظ العام إذا ورد على سبب، فلا بد أن يكون السبب مندرجا فيه. الثالث: أنه لو كان الذبح في موضع العيد جائزا لسوغ (¬1) صلى الله عليه وسلم للناذر الوفاء به، كما سوغ لمن نذرت الضرب بالدف (¬2) أن تضرب به، بل لأوجب الوفاء به؛ إذ كان الذبح بالمكان المنذور واجبا، وإذا كان الذبح بمكان عيدهم منهيا عنه، فكيف الموافقة في نفس العيد بفعل بعض الأعمال التي تعمل بسبب عيدهم؟ يوضح ذلك: أن العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد، عائد: إما بعود السنة، أو بعود الأسبوع، أو الشهر، أو نحو ذلك. فالعيد: يجمع (¬3) أمورا: منها: يوم عائد (¬4) كيوم (¬5) الفطر، ويوم الجمعة. ومنها: اجتماع فيه. ومنها: أعمال تتبع (¬6) ذلك: من العبادات، والعادات، وقد يختص العيد بمكان بعينه، وقد يكون مطلقا، وكل هذه الأمور قد تسمى عيدا. فالزمان، كقوله صلى الله عليه وسلم ليوم الجمعة: «إن هذا يوم جعله الله للمسلمين عيدا» . والاجتماع والأعمال، كقول ابن عباس: «شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم» . ¬
والمكان، كقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تتخذوا قبري عيدا» . وقد يكون لفظ: (العيد) اسما لمجموع اليوم والعمل فيه، وهو الغالب، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «دعهما يا أبا بكر، فإن لكل قوم عيدا، وإن هذا عيدنا» فقول النبي صلى الله عليه وسلم: «هل بها (¬1) عيد من أعيادهم؟» يريد اجتماعا معتادا من اجتماعاتهم التي كانت (¬2) عيدا، فلما قال: لا، قال له: «أوف بنذرك» وهذا يقتضي أن كون البقعة مكانا لعيدهم: مانع من الذبح بها - وإن نذر -، كما أن كونها موضع أوثانهم كذلك، وإلا (¬3) لما انتظم الكلام، ولا حسن الاستفصال. ومعلوم أن ذلك إنما هو لتعظيم البقعة التي يعظمونها بالتعييد فيها، أو لمشاركتهم في التعييد فيها، أو لإحياء شعار عيدهم فيها، ونحو ذلك؛ إذ ليس إلا مكان الفعل، أو نفس الفعل، أو زمانه. فإن كان من أجل تخصيص البقعة - وهو الظاهر - فإنما نهى عن تخصيص البقعة لأجل كونها موضع عيدهم، ولهذا لمّا خلت من (¬4) ذلك أذن في الذبح فيها، وقصد التخصيص باق، فعلم: أن المحذور تخصيص بقعة عيدهم، وإذا كان تخصيص بقعة عيدهم محذورا، فكيف بنفس عيدهم؟ هذا كما أنه لما كرهها لكونها موضع شركهم بعبادة الأوثان، كان ذلك (¬5) أدل على النهي عن الشرك وعبادة الأوثان. ¬
وإن كان (¬1) النهي لأن في الذبح هناك موافقة لهم في عمل عيدهم، فهو عين مسألتنا؛ إذ مجرد الذبح هناك لم يكره على هذا التقدير إلا لموافقتهم في العيد؛ إذ ليس فيه محذور آخر، وإنما كان الاحتمال الأول أظهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأله إلا عن كونها مكان عيدهم، ولم يسأله: هل يذبح وقت عيدهم؟ ولأنه قال: «هل كان بها (¬2) عيد من أعيادهم» فعلم أنه وقت السؤال لم يكن العيد موجودا، وهذا ظاهر، فإن في الحديث الآخر: أن القصة كانت في حجة الوداع؛ وحينئذ لم يكن قد بقي عيد للمشركين. فإذا كان صلى الله عليه وسلم قد نهى أن يذبح في مكان كان الكفار يعملون فيه عيدا (¬3) وإن كان أولئك الكفار قد أسلموا وتركوا ذلك العيد، والسائل لا يتخذ المكان عيدا، بل يذبح فيه فقط: فقد ظهر أن ذلك سد للذريعة إلى بقاء شيء من أعيادهم، خشية أن يكون الذبح هناك سببا لإحياء أمر تلك البقعة، وذريعة إلى اتخاذها عيدا، مع أن ذلك العيد إنما كان يكون - والله أعلم - سوقا يتبايعون فيها، ويلعبون، كما قالت له الأنصار: " يومان كنا نلعب فيهما في الجاهلية " لم تكن أعياد الجاهلية عبادة لهم، ولهذا فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين كونها مكان وثن، وكونها مكان عيد. وهذا نهي شديد عن أن يُفعل شيء من أعياد الجاهلية على أي وجه كان. وأعياد الكفار: من الكتابيين والأميين، في دين الإسلام، من جنس واحد، كما أن كفر الطائفتين سواء في التحريم، وإن كان بعضه أشد تحريما (¬4) من بعض، ولا يختلف حكمهما في حق المسلم، لكن أهل الكتابين أقروا على ¬
دينهم، مع ما فيه من أعيادهم، بشرط: أن لا يظهروها، ولا شيئا من دينهم، وأولئك لم يقرّوا، بل أعياد الكتابيين التي تتخذ دينا وعبادة: أعظم تحريما من عيد يتخذ لهوا ولعبا؛ لأن التعبد بما يسخطه الله ويكرهه أعظم من اقتضاء الشهوات بما حرمه؛ ولهذا كان الشرك أعظم إثما من الزنا، ولهذا كان جهاد أهل الكتاب أفضل من جهاد الوثنيين، وكان من قتلوه من المسلمين له أجر شهيدين. وإذا كان الشارع قد حسم مادة أعياد أهل الأوثان خشية أن يتدنس المسلم بشيء من أمر الكفار، الذين قد يئس الشيطان أن يقيم أمرهم في جزيرة العرب؛ فالخشية من تدنسه بأوضار (¬1) الكتابيين الباقين أشد، والنهي عنه أوكد، كيف وقد تقدم الخبر الصادق بسلوك طائفة من هذه الأمة سبيلهم؟ الوجه الثالث من السنة (¬2) أن هذا الحديث وغيره، قد دل على أنه كان للناس في الجاهلية أعياد يجتمعون فيها، ومعلوم أنه (¬3) بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ محى الله ذلك عنهم، فلم يبق شيء من ذلك. ومعلوم أنه لولا نهيه ومنعه لما ترك الناس تلك الأعياد؛ لأن المقتضي لها قائم من جهة الطبيعة التي تحب ما يصنع في الأعياد - خصوصا أعياد الباطل - من اللعب واللذات، ومن جهة العادة التي ألفت ما يعود من العيد، فإن العادة طبيعة ثانية، وإذا كان المقتضي قائما قويا، فلولا المانع القوي؛ لما درست تلك الأعياد. ¬
وهذا يوجب العلم اليقيني، بأن إمام المتقين صلى الله عليه وسلم كان يمنع أمته منعا قويا عن أعياد (¬1) الكفار، ويسعى في دروسها (¬2) وطمسها (¬3) بكل سبيل، وليس (¬4) في إقرار أهل الكتاب على دينهم، إبقاء لشيء من أعيادهم في حق أمته، كما أنه ليس في ذلك إبقاء في حق أمته؛ لما هم عليه في سائر أعمالهم (¬5) من سائر كفرهم ومعاصيهم، بل قد بالغ صلى الله عليه وسلم في أمر أمته بمخالفتهم في كثير من المباحات، وصفات الطاعات؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى موافقتهم في غير ذلك من أمورهم، ولتكون المخالفة في ذلك حاجزا ومانعا عن سائر أمورهم، فإنه كلما كثرت المخالفة بينك وبين أصحاب (¬6) الجحيم، كان أبعد لك عن أعمال أهل الجحيم. فليس بعد حرصه على أمته ونصحه لهم غاية (¬7) - بأبي هو وأمي - وكل ذلك من فضل الله عليه وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لا يعلمون (¬8) . الوجه الرابع من السنة: ما خرّجاه في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: «دخل عليّ أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث، قالت: وليستا بمغنيتين (¬9) فقال أبو بكر رضي الله عنه: أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وذلك يوم عيد، فقال ¬
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أبا بكر: إن لكل قوم عيدا، وهذا عيدنا» (¬1) . وفي رواية: «يا أبا بكر: إن لكل قوم عيدا، وإن عيدنا هذا اليوم» (¬2) وفي الصحيحين أيضا أنه قال: «دعهما يا أبا بكر؛ فإنها أيام عيد» ، وتلك الأيام أيام منى (¬3) . فالدلالة من وجوه: أحدها: قوله: «إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا» فإن هذا يوجب اختصاص كل قوم بعيدهم، كما أن الله سبحانه لما قال: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148] (¬4) وقال: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] (¬5) أوجب ذلك اختصاص كل قوم بوجهتهم وبشرعتهم، وذلك أن اللام تورث الاختصاص، فإذا كان لليهود عيد وللنصارى عيد؛ كانوا مختصين به فلا نشركهم (¬6) فيه، كما لا نشركهم (¬7) في قبلتهم وشرعتهم. وكذلك أيضا، على هذا: لا ندعهم يشركوننا في عيدنا. ¬
الثاني (¬1) قوله: «وهذا عيدنا» ، فإنه يقتضي حصر عيدنا في هذا، فليس لنا عيد سواه، وكذلك قوله: «وإن عيدنا هذا اليوم» فإن التعريف باللام والإضافة يقتضي الاستغراق، فيقتضي أن يكون جنس عيدنا منحصرا في جنس ذلك اليوم، كما في قوله (¬2) " تحريمها التكبير وتحليلها التسليم " (¬3) . وليس غرضه صلى الله عليه وسلم الحصر في عين ذلك العيد، أو عين ذلك اليوم، بل الإشارة إلى جنس المشروع، كما تقول الفقهاء: باب صلاة العيد، وصلاة العيد كذا وكذا، ويندرج فيها صلاة العيدين، وكما يقال: لا يجوز صوم يوم العيد. وكذا قوله: «وإن هذا اليوم» أي جنس هذا اليوم، كما يقول القائل لما يعاينه (¬4) من الصلاة: هذه صلاة المسلمين، ويقال لمخرج الناس (¬5) إلى الصحراء (¬6) وما يفعلونه من التكبير والصلاة ونحو ذلك (¬7) هذا عيد المسلمين، ونحو ذلك (¬8) . ¬
ومن هذا الباب: حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يوم عرفة ويوم النحر، وأيام منى عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب» . رواه أبو داود (¬1) والنسائي (¬2) والترمذي وقال: حديث حسن صحيح (¬3) . فإنه دليل مفارقتنا (¬4) لغيرنا في العيد، والتخصيص بهذه الأيام الخمسة؛ لأنه يجتمع فيها العيدان: المكاني والزماني، ويطول زمنه، وبهذا يسمى العيد الكبير، فلما كملت فيه صفات التعييد: حصر الحكم فيه لكماله، أو لأنه هو عد أياما (¬5) وليس لنا عيد هو أيام إلا هذه الخمسة. الوجه الثالث: أنه رخص في لعب الجواري بالدف، وتغنيهن، معللا بأن لكل قوم عيدا، وأن هذا عيدنا، وذلك يقتضي أن الرخصة معللة بكونه عيد المسلمين، وأنها لا تتعدى إلى أعياد الكفار، وأنه لا يرخص (¬6) في اللعب في أعياد الكفار، كما يرخص (¬7) فيه في أعياد المسلمين؛ إذ لو كان ما فعل في عيدنا من ذلك (¬8) اللعب يسوغ (¬9) مثله في أعياد الكفار أيضا لما قال: «فإن لكل ¬
قوم عيدا، وإن هذا عيدنا» لأن تعقيب الحكم بالوصف بحرف الفاء دليل على أنه علة، فيكون علة الرخصة: أن كل أمة مختصة بعيد، وهذا عيدنا، وهذه العلة مختصة (¬1) بالمسلمين. فلو كانت الرخصة معلقة باسم (عيد) لكان الأعم مستقلا بالحكم، فيكون الأخص عدم التأثير، فلما علل بالأخص علم أن الحكم لا يثبت بالوصف الأعم، وهو مسمى: عيد، فلا يجوز لنا أن نفعل في كل عيد للناس من اللعب ما نفعل في عيد المسلمين، وهذا (¬2) هو المطلوب، وهذا فيه دلالة على النهي عن التشبه بهم في اللعب ونحوه. الوجه الخامس (¬3) من السنة: أن أرض العرب ما زال فيها يهود ونصارى، حتى أجلاهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته، وكان اليهود بالمدينة كثيرا (¬4) في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد هادنهم حتى نقضوا العهد طائفة بعد طائفة، وما زال بالمدينة يهود، وإن لم يكونوا كثيرا، فإنه صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند يهودي، وكان في اليمن يهود كثير، والنصارى بنجران وغيرها، والفرس بالبحرين. ومن المعلوم أن هؤلاء كانت لهم أعياد يتخذونها، ومن المعلوم أيضا أن المقتضي لما يفعل في العيد: من الأكل، والشرب، واللباس، والزينة، واللعب، والراحة، ونحو ذلك: قائم في النفوس كلها إذا ¬
لم يوجد مانع، خصوصا في نفوس الصبيان والنساء، وأكثر الفارغين من الناس. ثم من كانت له خبرة بالسيرة، علم يقينا أن المسلمين على عهده صلى الله عليه وسلم ما كانوا يشركونهم في شيء من أمرهم، ولا يغيرون لهم عادة في أعياد الكافرين (¬1) بل ذلك اليوم عند (¬2) رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر المسلمين يوم من الأيام لا يخصونه بشيء أصلا إلا ما قد اختلف فيه من مخالفتهم فيه، كصومه. على ما سيأتي إن شاء الله تعالى. فلولا أن المسلمين كان (¬3) دينهم الذي تلقوه عن نبيهم منع (¬4) من ذلك وكف (¬5) عنه، لوجب أن يوجد من بعضهم فعل بعض ذلك؛ لأن المقتضي إلى ذلك قائم، كما تدل عليه الطبيعة والعادة، فلولا المانع الشرعي لوجد مقتضاه، ثم على هذا جرى عمل المسلمين على عهد الخلفاء الراشدين. غاية ما كان يوجد من بعض الناس: ذهاب إليهم يوم العيد للتنزه بالنظر إلى عيدهم، ونحو ذلك، فنهى عمر رضي الله عنه وغيره من الصحابة عن ذلك، كما سنذكره، فكيف لو كان بعض الناس يفعل ما يفعلونه، أو ما هو بسبب عيدهم؟ بل لما ظهر من بعض المسلمين اختصاص يوم عيدهم بصوم؛ مخالفة لهم، نهاه الفقهاء، أو كثير منهم، عن ذلك؛ لأجل ما فيه من تعظيم ما لعيدهم، أفلا يستدل بهذا على أن المسلمين تلقوا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم المنع عن مشاركتهم في أعيادهم؟ وهذا بعد التأمل بين جدا. ¬
الوجه السادس (¬1) من السنة: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم، فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع: اليهود غدا والنصارى بعد غد» متفق عليه (¬2) . وفي لفظ صحيح: «بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله له» (¬3) . وعن أبي هريرة، وحذيفة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان (¬4) للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة المقضي لهم - وفي رواية بينهم - قبل الخلائق» رواه مسلم (¬5) . وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة: (عيدا) في غير موضع، ونهى عن إفراده بالصوم؛ لما فيه من معنى العيد. ¬
ثم إن في هذا الحديث ذكر أن الجمعة لنا، كما أن السبت لليهود، والأحد للنصارى، واللام تقتضي الاختصاص. ثم هذا الكلام: يقتضي الاقتسام، إذا قيل: هذه ثلاثة أثواب (¬1) أو ثلاثة غلمان: هذا لي، وهذا لزيد، وهذا لعمرو (¬2) أوجب ذلك أن يكون كل واحد مختصا بما جعل له، ولا يشرك فيه غيره، فإذا نحن شاركناهم (¬3) في عيدهم يوم السبت، أو عيد (¬4) يوم الأحد؛ خالفنا هذا الحديث، وإذا كان هذا في العيد الأسبوعي، فكذلك في العيد الحولي، إذ لا فرق، بل إذا كان هذا في عيد يعرف بالحساب العربي، فكيف بأعياد الكافرين العجمية التي لا تعرف إلا بالحساب الرومي القبطي، أو الفارسي أو العبري، ونحو ذلك؟ . وقوله صلى الله عليه وسلم: «بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله» أي: من أجل، كما يروى أنه قال: «أنا أفصح العرب بيد أني من قريش، واسترضعت في بني سعد بن بكر» (¬5) . والمعنى والله أعلم: أي نحن الآخرون في الخلق السابقون في ¬
الحساب والدخول إلى الجنة، كما قد جاء في الصحيح: أن هذه الأمة أول (¬1) من يدخل الجنة من الأمم (¬2) وأن محمدا صلى الله عليه وسلم أول من يفتح له باب الجنة (¬3) وذلك لأنا أوتينا الكتاب من بعدهم، فهدينا لما اختلفوا فيه من العيد السابق للعيدين الآخرين، وصار عملنا (¬4) الصالح قبل عملهم، فلما سبقناهم إلى الهدى والعمل الصالح جعلنا سابقين لهم في ثواب العمل الصالح. ومن قال: (بيد) ، هنا (¬5) بمعنى: غير، فقد أبعد. الوجه السابع (¬6) من السنة: ما روى كريب (¬7) مولى ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أرسلني ابن عباس وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أم سلمة رضي الله عنها، أسألها: أي الأيام كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثرها صياما؟ قالت: كان يصوم يوم السبت، ويوم الأحد أكثر ما يصوم من الأيام، ويقول: " إنهما يوما عيد للمشركين، فأنا أحب أن أخالفهم» . ¬
النهي عن موافقتهم في أعيادهم بالإجماع والآثار
رواه أحمد والنسائي وابن أبي عاصم (¬1) وهو محفوظ من حديث عبد الله بن المبارك، عن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي (¬2) عن أبيه، عن كريب. وصححه بعض الحفاظ. وهذا نص في شرع مخالفتهم في عيدهم، وإن كان على طريق الاستحباب، وسنذكر حديث نهيه عن صوم يوم السبت، وتعليل ذلك أيضا بمخالفتهم، ونذكر حكم صومه مفردا عند العلماء، وأنهم متفقون على شرع مخالفتهم في عيدهم وإنما (¬3) اختلفوا: هل مخالفتهم يوم عيدهم (¬4) بالصوم لمخالفة فعلهم فيه، أو بالإهمال حتى لا يقصد بصوم ولا بفطر، أو يفرق بين العيد العربي والعيد العجمي؟ على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. [النهي عن موافقتهم في أعيادهم بالإجماع والآثار] وأما الإجماع والآثار فمن وجوه: أحدها: ما قدمت التنبيه عليه، من أن اليهود والنصارى والمجوس ما زالوا في أمصار المسلمين بالجزية، يفعلون أعيادهم التي لهم، والمقتضي لبعض ما يفعلونه قائم في كثير من النفوس، ثم لم يكن على عهد السابقين (¬5) من المسلمين، من يشركهم في شيء من ذلك، فلولا قيام المانع في نفوس ¬
الأمة، كراهة ونهيا عن (¬1) ذلك، وإلا لوقع ذلك كثيرا؛ إذ الفعل مع وجود مقتضيه، وعدم منافيه: واقع لا محالة، والمقتضى واقع؛ فعلم وجود المانع، والمانع هنا هو: الدين، فعلم أن الدين دين الإسلام هو المانع من الموافقة، وهو المطلوب. الثاني: أنه قد تقدم في شروط عمر رضي الله عنه، التي اتفقت عليها الصحابة، وسائر الفقهاء بعدهم: أن أهل الذمة من أهل الكتاب لا يظهرون أعيادهم في دار الإسلام، وسموا: الشعانين والباعوث (¬2) فإذا كان المسلمون قد اتفقوا على منعهم من إظهارها، فكيف يسوغ للمسلمين (¬3) فعلها؟ أو ليس فعل المسلم لها أشد من فعل الكافر لها، مظهرا لها؟ وذلك: أنا إنما (¬4) منعناهم من إظهارها؛ لما فيه من الفساد: إما لأنها معصية، أو شعار المعصية، وعلى التقديرين: فالمسلم ممنوع من المعصية، ومن شعار (¬5) المعصية، ولو لم يكن في فعل المسلم لها من الشر إلا تجرئة الكافر على إظهارها لقوة قلبه بالمسلم (¬6) إذا فعلها، فكيف وفيها من الشر ما سننبه (¬7) على بعضه؟ الثالث: ما تقدم من رواية أبي الشيخ الأصبهاني، عن عطاء بن يسار ¬
- هكذا رأيته (¬1) ولعله ابن (¬2) دينار (¬3) - قال: قال عمر: " إياكم ورطانة الأعاجم، وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم " (¬4) . وروى البيهقي بإسناد صحيح في باب كراهة (¬5) الدخول على أهل الذمة في كنائسهم (¬6) والتشبه بهم يوم نيروزهم ومهرجانهم: عن سفيان الثوري، عن ثور بن يزيد (¬7) عن عطاء بن دينار قال: قال عمر: " لا تعلّموا رطانة الأعاجم، ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم؛ فإن السخطة تنزل عليهم " (¬8) . وبالإسناد (¬9) عن الثوري، عن عوف (¬10) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
عن الوليد (¬1) - أو أبي الوليد -، عن عبد الله بن عمرو (¬2) قال: " من بنى ببلاد الأعاجم فصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك، حُشر معهم يوم القيامة " (¬3) . وروى بإسناده عن البخاري صاحب الصحيح قال: قال لي ابن أبي مريم (¬4) أنبأنا (¬5) نافع بن يزيد (¬6) سمع سلمان بن أبي زينب (¬7) وعمرو بن الحارث (¬8) . . . . . . . . ¬
سمع (¬1) سعيد بن سلمة (¬2) سمع أبان، سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: " اجتنبوا أعداء الله في عيدهم " (¬3) . وروى بإسناد صحيح عن أبي أسامة (¬4) حدثنا عوف، عن أبي المغيرة، عن عبد الله بن عمرو قال: " من بنى ببلاد الأعاجم (¬5) فصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك؛ حُشر معهم يوم القيامة " (¬6) وقال: هكذا رواه يحيى بن سعيد، وابن أبي عدي (¬7) ¬
وغندر (¬1) وعبد الوهاب (¬2) عن عوف، عن (¬3) أبي المغيرة، عن عبد الله بن عمرو من قوله (¬4) . وبالإسناد إلى أبي أسامة، عن حماد بن زيد، (¬5) عن هشام (¬6) عن (¬7) محمد بن سيرين قال: " أُتِي علي رضي الله عنه بهدية (¬8) النيروز، فقال: ما هذه؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، هذا يوم النيروز، قال: فاصنعوا كل يوم نيروزا (¬9) قال أبو أسامة: كره رضي الله عنه أن يقول: نيروزا " (¬10) . قال البيهقي: وفي هذا: الكراهة لتخصيص يوم بذلك لم يجعله الشرع مخصوصا به. ¬
وهذا عمر نهى عن تعلم (¬1) لسانهم، وعن مجرد دخول الكنيسة (¬2) عليهم يوم عيدهم، فكيف بفعل بعض أفعالهم؟ أو بفعل ما هو من مقتضيات دينهم؟ . أليست موافقتهم في العمل أعظم من الموافقة في اللغة؟ أو (¬3) ليس عمل (¬4) بعض أعمال عيدهم (¬5) أعظم من مجرد الدخول عليهم في عيدهم؟ وإذا كان السخط ينزل عليهم يوم عيدهم بسبب عملهم؛ فمن يشركهم في العمل أو بعضه: أليس قد يعرض لعقوبة ذلك؟ ثم قوله: " واجتنبوا أعداء الله في عيدهم " أليس نهيا عن لقائهم والاجتماع بهم فيه؟ فكيف بمن عمل عيدهم؟ وأما عبد الله بن عمرو (¬6) فصرح أنه: " من بنى ببلادهم، وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت؛ حشر معهم " (¬7) وهذا يقتضي أنه جعله كافرا بمشاركتهم في مجموع هذه الأمور، أو جعل ذلك من الكبائر الموجبة للنار، وإن كان الأول ظاهر لفظه، فتكون المشاركة في بعض ذلك معصية؛ لأنه لو لم يكن مؤثرا في استحقاق العقوبة لم يجز جعله جزءا (¬8) من المقتضى، إذ المباح لا يعاقب عليه، وليس الذم على بعض ذلك مشروطا ببعض؛ لأن أبعاض (¬9) ما ¬
ذكره يقتضي الذم مفردا. وإنما ذكر (¬1) - والله أعلم - من بنى ببلادهم؛ لأنهم على عهد عبد الله بن عمرو (¬2) وغيرهم من الصحابة كانوا ممنوعين من إظهار أعيادهم بدار الإسلام، وما كان أحد من المسلمين يتشبه بهم في عيدهم (¬3) وإنما كان يتمكن من ذلك بكونه في أرضهم. وأما علي رضي الله عنه، فكره موافقتهم في اسم يوم العيد الذي ينفردون به، فكيف بموافقتهم في العمل؟ وقد نص أحمد على معنى ما جاء عن عمر وعلي رضي الله عنهما في ذلك، وذكر أصحابه مسأله العيد. وقد تقدم قول القاضي أبي يعلى: مسألة في المنع من حضور أعيادهم. وقال الإمام أبو الحسن الآمدي - المعروف بابن البغدادي (¬4) - في كتابه: عمدة الحاضر وكفاية المسافر: " فصل: لا يجوز شهود أعياد النصارى (¬5) واليهود، نص عليه أحمد في رواية مهنا (¬6) واحتج بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72] ¬
، قال: الشعانين وأعيادهم، فأما ما يبيعون في الأسواق في أعيادهم فلا بأس بحضوره، نص عليه أحمد في رواية مهنا، وقال: إنما يمنعون أن يدخلوا عليهم بيعهم وكنائسهم، فأما ما يباع في الأسواق من المأكل فلا، وإن قصد إلى توفير ذلك وتحسينه لأجلهم ". وقال الخلال في جامعه: " باب في كراهية (¬1) خروج المسلمين في أعياد المشركين " وذكر عن مهنا قال: " سألت أحمد عن شهود هذه الأعياد التي تكون عندنا بالشام، مثل: طور يانور (¬2) ودير أيوب (¬3) وأشباهه، يشهده المسلمون، يشهدون الأسواق، ويجلبون (¬4) الغنم فيه، والبقر، والدقيق (¬5) والبر، والشعير، (¬6) وغير ذلك، إلا أنه إنما يكون (¬7) في الأسواق يشترون، ولا يدخلون عليهم بيعهم؟ قال: إذا لم يدخلوا عليهم بيعهم، وإنما يشهدون السوق فلا بأس ". فإنما رخص أحمد رحمه الله في شهود السوق بشرط: أن لا يدخلوا عليهم بيعهم؛ فعلم منعه من دخول بيعهم. وكذلك أخذ الخلال من ذلك: المنع من خروج المسلمين في أعيادهم، فقد نص أحمد على مثل ما جاء عن عمر رضي الله عنه من المنع من دخول ¬
كنائسهم في أعيادهم، وهو كما ذكرنا من باب التنبيه عن المنع عن (¬1) أن يفعل (¬2) كفعلهم. وأما الرطانة (¬3) وتسمية شهورهم بالأسماء العجمية، فقال أبو محمد الكرماني - المسمى بحرب -: باب تسمية الشهور بالفارسية: قلت لأحمد: فإن للفرس أياما وشهورا يسمونها بأسماء لا تعرف؟ فكره ذلك أشد الكراهة، وروى فيه عن مجاهد حديثا (¬4) أنه كره أن يقال: آذرماه (¬5) وذي ماه (¬6) قلت: فإن كان اسم رجل أسميه به؟ فكرهه. قال: وسألت إسحاق قلت: تاريخ الكتاب يكتب بالشهور الفارسية مثل: آذرماه، وذي ماه؟ قال: إن لم يكن في تلك الأسامي اسم يكره، فأرجو. قال: وكان ابن المبارك يكره إيزدان (¬7) يحلف به، وقال: لا آمن أن يكون أضيف إلى شيء يعبد، وكذلك الأسماء الفارسية قال: وكذلك أسماء العرب، كل شيء (¬8) مضاف. قال: وسألت إسحاق مرة أخرى قلت: الرجل يتعلم شهور الروم والفرس؟ قال: كل اسم معروف في كلامهم فلا بأس (¬9) . ¬
فما قاله أحمد من كراهة هذه الأسماء له وجهان: أحدهما: إذا لم يعرف معنى الاسم، جاز أن يكون معنى محرما، فلا ينطق المسلم بما لا يعرف معناه، ولهذا كرهت الرقى العجمية، كالعبرانية (¬1) أو السريانية، أو غيرها؛ خوفا أن يكون فيها معان لا تجوز. وهذا المعنى هو الذي اعتبره إسحاق، لكن إن (¬2) علم أن المعنى مكروه فلا ريب في كراهته، وإن جهل معناه فأحمد كرهه، وكلام إسحاق يحتمل أنه لم يكرهه. الوجه الثاني (¬3) كراهته أن يتعود الرجل النطق بغير العربية، فإن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر (¬4) الأمم التي بها يتميزون، ولهذا كان كثير من الفقهاء أو أكثرهم يكرهون في الأدعية التي في الصلاة والذكر: أن يُدعى الله أو يذكر بغير العربية. وقد اختلف الفقهاء في أذكار الصلوات (¬5) هل تقال بغير العربية؟ وهي ثلاث درجات: أعلاها القرآن، ثم الذكر الواجب غير القرآن، كالتحريمة بالإجماع (¬6) وكالتحليل والتشهد عند من أوجبهما (¬7) ثم الذكر غير الواجب، من دعاء أو تسبيح أو تكبير أو غير ذلك. فأما القرآن: فلا يقرؤه (¬8) بغير العربية، سواء قدر عليها أو لم يقدر عند ¬
الجمهور، وهو الصواب الذي لا ريب فيه، بل قد قال غير واحد: إنه يمتنع أن يترجم سورة، أو ما يقوم به الإعجاز. واختلف أبو حنيفة وأصحابه في القادر على العربية. وأما الأذكار الواجبة: فاختلف في منع ترجمة القرآن (¬1) هل يترجمها (¬2) العاجز عن العربية، وعن تعلمها؟ وفيه لأصحاب أحمد وجهان، أشبهها بكلام أحمد: أنه لا يترجم، وهو قول مالك وإسحاق، والثاني: يترجم، وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي. وأما سائر الأذكار فالمنصوص من الوجهين، أنه لا يترجمها (¬3) ومتى فعل بطلت صلاته، وهو قول مالك وإسحاق وبعض أصحاب الشافعي. والمنصوص عن الشافعي: أنه يكره ذلك بغير العربية ولا تبطل، ومن أصحابنا من قال: له ذلك، إذا لم يحسن العربية. وحكم النطق بالعجمية في العبادات: من الصلاة والقراءة والذكر، كالتلبية والتسمية على الذبيحة، وفي العقود والفسوخ، كالنكاح واللعان وغير ذلك: معروف في كتب الفقه. وأما الخطاب بها من غير حاجة في أسماء الناس والشهور (¬4) - كالتواريخ ونحو ذلك - فهو منهي عنه، مع الجهل بالمعنى، بلا ريب، وأما مع العلم به فكلام أحمد بين في كراهته أيضا، فإنه (¬5) كره: آذرماه، ونحوه، ومعناه ليس محرما. وأظنه سئل عن الدعاء في الصلاة بالفارسية فكرهه وقال: لسان سوء! ¬
وهو أيضا قد أخذ بحديث عمر رضي الله عنه الذي فيه النهي عن رطانتهم، وعن شهود أعيادهم، وهذا (¬1) قول مالك أيضا؛ فإنه قال: لا يُحرم بالعجمية، ولا يدعو بها ولا يحلف بها، وقال: نهى عمر عن رطانة الأعاجم وقال: " إنها خب " (¬2) فقد استدل بنهي عمر عن الرطانة مطلقا. وقال الشافعي فيما رواه السلفي (¬3) بإسناد معروف إلى محمد بن عبد الله بن (¬4) عبد الحكم (¬5) قال: سمعت محمد بن إدريس الشافعي يقول: " سمى الله الطالبين من فضله في الشراء والبيع: تجارا، ولم تزل العرب تسميهم التجار، ثم سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما سمى الله به من التجارة بلسان العرب، والسماسرة اسم من أسماء العجم، فلا نحب أن يسمي رجل يعرف العربية تاجرا، إلا تاجرا، ولا ينطق بالعربية فيسمى شيئا بأعجمية، وذلك أن اللسان الذي اختاره الله عز وجل لسان العرب، فأنزل (¬6) به كتابه العزيز، وجعله لسان خاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم: ولهذا نقول: ينبغي لكل أحد يقدر على تعلم العربية أن يتعلمها (¬7) ؛ لأنه اللسان الأولى بأن يكون مرغوبا فيه من غير أن يحرم على أحد أن ينطق بأعجمية ". ¬
فقد كره الشافعي لمن يعرف العربية، أن يسمي بغيرها، وأن يتكلم بها خالطا لها بالعجمية، وهذا الذي (¬1) قاله الأئمة مأثور عن الصحابة والتابعين. وقد قدمنا عن عمر (¬2) وعلي رضي الله عنهما ما ذكره. وروى أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف، حدثنا وكيع (¬3) عن أبي هلال (¬4) عن ابن (¬5) بريدة (¬6) قال: قال عمر: " ما تكلم الرجل الفارسية إلا خَبّ (¬7) ولا خَبّ رجل إلا نقصت مروءته ". وقال: حدثنا وكيع، عن ثور، عن عطاء قال: " لا تعلموا رطانة الأعاجم، ولا تدخلوا عليهم كنائسهم، فإن السخط ينزل عليهم " (¬8) . ¬
وهذا هو (¬1) الذي روينا فيما تقدم عن عمر رضي الله عنه. وقال: حدثنا إسماعيل بن علية، عن داود بن أبي هند، أن محمد بن سعد بن أبي وقاص (¬2) سمع قوما يتكلمون بالفارسية فقال: " ما بال المجوسية بعد الحنيفية؟ (¬3) . وقد روى السلفي من حديث سعيد بن العلاء البرذعي (¬4) حدثنا إسحاق بن إبراهيم البلخي (¬5) حدثنا عمر بن هارون البلخي (¬6) حدثنا (¬7) أسامة بن زيد (¬8) عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ¬
«من يحسن أن يتكلم بالعربية فلا يتكلم بالعجمية فإنه يورث النفاق» (¬1) . ورواه أيضا بإسناد معروف، إلى أبي سهل (¬2) محمود بن عمر العكبري (¬3) حدثنا محمد بن الحسن بن محمد المقري (¬4) حدثنا أحمد بن الخليل (¬5) - ببلخ - حدثنا إسحاق بن ابراهيم الحريري (¬6) حدثنا عمر بن هارون، عن أسامة بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان يحسن أن يتكلم بالعربية فلا يتكلم بالفارسية فإنه يورث النفاق» (¬7) . وهذا الكلام يشبه كلام عمر بن الخطاب، وأما رفعه فموضع تبين. ونقل عن طائفة منهم، أنهم كانوا يتكلمون بالكلمة بعد الكلمة من العجمية، قال أبو خلدة (¬8) كلمني أبو العالية بالفارسية (¬9) وقال منذر ¬
الثوري (¬1) سأل رجل محمد بن الحنفية (¬2) عن الجبن، فقال: يا جارية اذهبي بهذا الدرهم فاشتري به نبيزا (¬3) فاشترت به نبيزا (¬4) ثم جاءت به، يعني الجبن (¬5) . وفي الجملة: فالكلمة بعد الكلمة من العجمية، أمرها قريب، وأكثر ما يفعلون ذلك (¬6) إما لكون المخاطب أعجميا، أو قد اعتاد العجمية، يريدون تقريب الأفهام عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأم خالد بنت خالد بن سعيد بن (¬7) العاص (¬8) - وكانت صغيرة قد ولدت بأرض الحبشة لما هاجر أبوها، فكساها النبي صلى الله عليه وسلم خميصة (¬9) وقال: «يا أم خالد، هذا سنا» والسنا بلغة الحبشة: الحسن (¬10) . ¬
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال لمن أوجعه بطنه: " أشكم بدرد " (¬1) وبعضهم يرويه مرفوعا، ولا يصح. وأما اعتياد الخطاب بغير اللغة العربية - التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن - حتى يصير ذلك عادة للمصر وأهله، أو لأهل الدار، أو للرجل مع صاحبه، أو لأهل السوق، أو للأمراء، أو لأهل الديوان، أو لأهل الفقه، فلا ريب أن هذا مكروه فإنه من التشبه بالأعاجم، وهو مكروه كما تقدم. ولهذا كان المسلمون المتقدمون لما سكنوا أرض الشام ومصر، ولغة أهلهما رومية، وأرض العراق وخراسان ولغة أهلهما فارسية، وأهل (¬2) المغرب، ولغة أهلها بربرية (¬3) عوّدوا أهل هذه البلاد العربية، حتى غلبت على أهل هذه الأمصار: مسلمهم وكافرهم، وهكذا كانت خراسان قديما. ثم (¬4) إنهم تساهلوا في أمر اللغة، واعتادوا الخطاب بالفارسية، حتى غلبت عليهم وصارت العربية مهجورة (¬5) عند كثير منهم، ولا ريب أن هذا مكروه، وإنما الطريق الحسن اعتياد الخطاب بالعربية، حتى يتلقنها الصغار في المكاتب وفي الدور (¬6) فيظهر شعار الإسلام وأهله، ويكون ذلك أسهل على أهل الإسلام في فقه معاني الكتاب والسنة وكلام السلف، بخلاف من اعتاد لغة، ثم أراد أن ينتقل إلى أخرى فإنه يصعب. ¬
واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل، والخلق، والدين تأثيرا قويا بينا، ويؤثر أيضا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق. وأيضا فإن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب (¬1) والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ثم منها ما هو واجب على الأعيان، ومنها ما هو واجب على الكفاية، وهذا معنى ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا عيسى بن يونس (¬2) عن ثور (¬3) عن عمر بن زيد (¬4) قال: كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: " أما بعد: فتفقهوا في السنة (¬5) وتفقهوا في العربية وأعربوا القرآن، فإنه عربي ". وفي حديث (¬6) آخر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: " تعلموا ¬
النهي عن موافقتهم في أعيادهم بالاعتبار
العربية (¬1) فإنها من دينكم، وتعلموا (¬2) الفرائض فإنها من دينكم " وهذا الذي أمر به عمر رضي الله عنه من فقه العربية وفقه الشريعة، يجمع ما يحتاج إليه؛ لأن الدين فيه أقوال وأعمال، ففقه العربية هو الطريق إلى فقه أقواله، وفقه السنة هو (¬3) فقه أعماله. [النهي عن موافقتهم في أعيادهم بالاعتبار] وأما الاعتبار في مسألة العيد فمن وجوه: أحدها: أن الأعياد من جملة الشرع والمناهج والمناسك، التي قال الله سبحانه (¬4) {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج: 67] (¬5) كالقبلة والصلاة والصيام، فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبين مشاركتهم (¬6) في سائر المناهج، فإن الموافقة في جميع العيد، موافقة في الكفر. والموافقة في بعض فروعه: موافقة في بعض شعب الكفر، بل الأعياد هي (¬7) من أخص ما تتميز به (¬8) الشرائع، ومن أظهر ما لها من الشعائر، فالموافقة فيها موافقة (¬9) في أخص شرائع الكفر، وأظهر شعائره (¬10) ولا ريب أن الموافقة في هذا قد تنتهي إلى الكفر في الجملة بشروطه. ¬
وأما مبدؤها فأقل أحواله: أن تكون معصية، وإلى هذا الاختصاص أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «إن لكل قوم عيدا، وإن هذا عيدنا» وهذا أقبح من مشاركتهم في لبس الزنار (¬1) ونحوه من علاماتهم؛ لأن تلك علامة وضعية (¬2) ليست من الدين، وإنما الغرض منها مجرد التمييز (¬3) بين المسلم والكافر، وأما العيد وتوابعه، فإنه من الدين الملعون هو وأهله، فالموافقة فيه موافقة فيما يتميزون به من أسباب سخط الله وعقابه. وإن شئت أن تنظم هذا قياسا تمثيليا (¬4) قلت: (¬5) شريعة من شرائع الكفر، أو شعيرة من شعائره، فحرمت موافقتهم فيها كسائر شعائر الكفر وشرائعه، وإن كان هذا أبين من القياس الجزئي (¬6) . ثم كل ما يختص به ذلك من عبادة وعادة، فإنما سببه هو كونه يوما مخصوصا، وإلا فلو كان كسائر الأيام لم يختص بشيء، وتخصيصه ليس من دين الإسلام في شيء، بل هو كفر به. الوجه الثاني (¬7) أن ما يفعلونه في أعيادهم معصية لله؛ لأنه إما محدث ¬
مبتدع، وإما منسوخ، وأحسن أحواله - ولا حسن فيه - أن يكون بمنزلة صلاة المسلم إلى بيت المقدس. هذا إذا كان المفعول مما يتدين به، وأما ما يتبع ذلك من التوسع في العادات من الطعام واللباس، واللعب والراحة، فهو تابع لذلك العيد الديني، كما أن ذلك تابع له (¬1) في دين الله: (¬2) الإسلام، فيكون بمنزلة أن يتخذ بعض المسلمين عيدا مبتدعا يخرج (¬3) فيه إلى الصحراء، ويفعل (¬4) فيه من (¬5) العبادات والعادات من جنس المشروع في يومي الفطر والنحر، أو مثل أن ينصب بنية يطاف بها وتُحج (¬6) ويُصنع لمن يفعل ذلك طعاما ونحو ذلك. فلو كره المسلم ذلك، لكن (¬7) غير عادته ذلك اليوم، كما يغير أهل البدع عادتهم في الأمور العادية أو في بعضها؛ بصنعة (¬8) طعام وزينة ولباس وتوسيع (¬9) في نفقة، ونحو ذلك، من غير أن يتعبد (¬10) بتلك العادة المحدثة: ألم يكن (¬11) هذا من أقبح المنكرات؟ فكذلك موافقة هؤلاء (¬12) المغضوب عليهم والضالين وأشد. ¬
نعم، هؤلاء يقرون على دينهم المبتدع، والمنسوخ، (¬1) مستسرين به، والمسلم لا يقر على (¬2) مبتدع ولا منسوخ، لا سرا ولا علانية، وأما مشابهة الكفار فكمشابهة أهل البدع وأشد. الوجه الثالث: (¬3) أنه إذا سوغ فعل القليل من ذلك أدى إلى فعل الكثير، ثم إذا اشتهر الشيء دخل فيه عوام الناس، وتناسوا أصله حتى يصير عادة للناس، بل عيدا، حتى يضاهى بعيد الله، بل قد يزيد عليه، حتى يكاد أن يفضي إلى موت الإسلام وحياة الكفر. كما قد سوله الشيطان لكثير ممن يدعي الإسلام فيما يفعلونه في أواخر (¬4) صوم النصارى، من الهدايا والأفراح، والنفقات، وكسوة الأولاد، وغير ذلك، مما يصير به مثل عيد المسلمين، بل البلاد المصاقبة للنصارى، التي قل علم أهلها وإيمانهم، قد صار ذلك أغلب عندهم وأبهى في نفوسهم من عيد الله ورسوله، على ما حدثني به الثقات. وأما (¬5) ما رأيته بدمشق، وما حولها من أرض الشام، مع أنها أقرب إلى العلم والإيمان، فهذا الخميس الذي يكون في آخر صوم النصارى (¬6) يدور بدوران صومهم، الذي هو سبعة أسابيع، وصومهم؛ وإن كان في أوائل الفصل الذي تسميه العرب: الصيف، وتسميه العامة: الربيع، فإنه يتقدم ويتأخر ليس له حد واحد من السنة الشمسية، كالخميس الذي هو (¬7) في أول نيسان، بل يدور في ¬
نحو ثلاثة وثلاثين يوما، لا يتقدم أوله عن (¬1) ثاني شباط، ولا يتأخر أوله عن ثامن (¬2) آذار، بل يبتدئون بالاثنين الذي هو أقرب إلى اجتماع الشمس والقمر في هذه المدة، ليراعوا - كما زعموا (¬3) - التوقيت الشمسي والهلالي. وكل ذلك بدع أحدثوها باتفاق منهم، خالفوا بها الشريعة التي جاءت بها الأنبياء، فإن الأنبياء ما وقتوا العبادات إلا بالهلال، وإنما اليهود والنصارى حرفوا الشرائع تحريفا ليس هذا موضع ذكره. ويلي هذا الخميس يوم الجمعة، الذي جعلوه بإزاء يوم الجمعة التي صلب فيها المسيح على زعمهم الكاذب، يسمونها: جمعة الصلبوت، ويليه ليلة السبت التي يزعمون أن المسيح كان فيها في القبر، وأظنهم يسمونها: ليلة النور، وسبت النور، ويصطنعون (¬4) مخرقة (¬5) يروّجونها على عامتهم، لغلبة الضلال عليهم، يخيلون إليهم أن النور ينزل من السماء في كنيسة القمامة (¬6) التي ببيت المقدس، حتى يحملوا ما يوقد (¬7) من ذلك الضوء إلى بلادهم متبركين به، وقد علم كل ذي (¬8) عقل أنه مصنوع مفتعل، ثم يوم السبت يتطلبون (¬9) اليهود، ويوم ¬
الأحد يكون العيد الكبير عندهم، الذي يزعمون أن المسيح قام فيه. ثم الأحد الذي يلي هذا يسمونه الأحد الحديث، يلبسون فيه الجديد من ثيابهم ويفعلون فيه أشياء. وكل هذه الأيام عندهم أيام العيد، كما أن يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام، وهم يصومون عن الدسم (¬1) . ثم في مقدم فطرهم يفطرون، أو بعضهم، على ما يخرج من الحيوان، من لبن وبيض ولحم، وربما كان أول فطرهم على البيض، ويفعلون في أعيادهم وغيرها من أمور دينهم: أقوالا وأعمالا لا تنضبط. ولهذا تجد نقل العلماء لمقالاتهم وشرائعهم تختلف، وعامته صحيح، وذلك أن القوم يزعمون أن ما وضعه رؤساء دينهم من الأحبار والرهبان من الدين، فقد لزمهم حكمه، وصار شرعا شرعه المسيح في السماء، فهم في كل مدة ينسخون أشياء، ويشرعون (¬2) أشياء من الإيجابات والتحريمات، وتأليف الاعتقادات، وغير ذلك، مخالفا لما كانوا عليه قبل ذلك، زعما منهم أن هذا بمنزلة نسخ الله شريعة بشريعة أخرى. فهم واليهود في هذا الباب وغيره على طرفي نقيض: اليهود تمنع أن ينسخ الله الشرائع، أو يبعث رسولا بشريعة تخالف ما قبلها، كما أخبر الله عنهم بقوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142] (¬3) والنصارى تجيز لأحبارهم ورهبانهم شرع الشرائع ونسخها، فلذلك (¬4) لا ينضبط للنصارى شريعة تحكى (¬5) مستمرة على الأزمان. وغرضنا لا يتوقف على معرفة تفاصيل باطلهم، ولكن يكفينا أن نعرف ¬
المنكر معرفة تميز بينه وبين المباح والمعروف، والمستحب والواجب، حتى نتمكن بهذه المعرفة من اتقائه واجتنابه كما نعرف سائر المحرمات؛ إذ الفرض علينا تركها، ومن لم يعرف المنكر - (¬1) جملة ولا تفصيلا - لم يتمكن من قصد اجتنابه، والمعرفة الجملية كافية، بخلاف الواجبات: فإن الغرض (¬2) لما كان فعلها، والفعل لا يتأتى (¬3) إلا مفصلا، وجبت معرفتها على سبيل التفصيل. وإنما عددت أشياء من منكرات دينهم، لما رأيت طوائف المسلمين قد ابتلي ببعضها، وجهل كثير منهم أنها من دين النصارى الملعون هو وأهله، وقد بلغني أيضا أنهم يخرجون في الخميس الذي قبل ذلك، أو يوم السبت، أو غير ذلك، إلى القبور؛ يبخرونها، وكذلك ينحرون (¬4) في هذه الأوقات وهم يعتقدون أن في البخور بركة، ودفع أذى - وراء (¬5) كونه طيبا - ويعدونه من القرابين مثل الذبائح، ويزفونه (¬6) بنحاس، يضربونه كأنه ناقوس صغير، وبكلام مصنف، ويصلبون على أبواب بيوتهم، إلى غير ذلك من الأمور المنكرة. ولست أعلم جميع ما يفعلونه، وإنما ذكرت (¬7) ما رأيت كثيرا من المسلمين يفعلونه، وأصله مأخوذ عنهم، حتى إنه (¬8) كان في مدة الخميس، تبقى الأسواق مملوءة من أصوات هذه النواقيس الصغار، وكلام الرقائين، من المنجمين وغيرهم، بكلام أكثره باطل، وفيه ما هو محرم أو كفر، وقد ألقي إلى ¬
جماهير العامة أو جميعهم إلا من شاء الله. وأعني بالعامة هنا: كل من لا يعلم حقيقة الإسلام، فإن كثيرا ممن ينتسب (¬1) إلى فقه أو دين قد شارك في ذلك، ألقي إليهم هذا البخور المرقي ينتفع (¬2) ببركته، من العين والسحر والأدواء والهوام، ويصورون في أوراق صور الحيات والعقارب، ويلصقونها في بيوتهم زعما منهم أن تلك الصور - الملعون فاعلها التي لا تدخل الملائكة بيتا هي فيه -: تمنع الهوام، وهو ضرب من طلاسم الصابئة. ثم كثير منهم - على ما بلغني - يصلب (¬3) باب البيت، ويخرج خلق عظيم في الخميس المتقدم على هذا الخميس، يبخرون المقابر، ويسمون هذا المتأخر: الخميس الكبير، وهو عند الله الخميس المهين الحقير؛ هو وأهله ومن يعظمه (¬4) فإن كل ما عظم بالباطل من مكان زمان، أو حجر أو شجر أو بنية: يجب قصد إهانته، كما تهان الأوثان المعبودة، وإن كانت لولا عبادتها لكانت كسائر الأحجار. ومما يفعله الناس من المنكرات: أنهم يوظفون على الأكرة (¬5) وظائف أكثرها كرها، من الغنم والدجاج واللبن والبيض، فيجتمع فيها تحريمان: أكل مال المسلم، أو المعاهد بغير حق، وإقامة شعار النصارى، ويجعلونه ميقاتا ¬
لإخراج الوكلاء، على المزارع، ويطبخون (¬1) فيه، ويصبغون (¬2) فيه البيض، وينفقون فيه النفقات الواسعة، ويزينون أولادهم، إلى غير ذلك من الأمور التي يقشعر منها قلب المؤمن الذي لم يمت قلبه، بل يعرف المعروف وينكر المنكر. وخلق كثير منهم يضعون ثيابهم تحت السماء رجاء لبركة مرور مريم عليها (¬3) فهل يستريب من في قلبه أدنى حياة من الإيمان أن شريعة جاءت بما قدمنا بعضه من مخالفة اليهود والنصارى، لا يرضى من شرعها ببعض هذه القبائح؟ ويفعلون ما هو أعظم من ذلك: يطلون أبواب بيوتهم ودوابهم بالخلوق والمغرة (¬4) وغير ذلك، وذلك من أعظم المنكرات عند الله تعالى، فالله تعالى يكفينا شر المبتدعة، وبالله التوفيق (¬5) . وأصل ذلك كله: إنما هو اختصاص أعياد الكفار بأمر جديد، أو مشابهتهم في بعض أمورهم، يوضح ذلك: أن الأسبوع الذي يقع في آخر صومهم يعظمونه جدا ويسمون خميسه: (¬6) الخميس الكبير، وجمعته: الجمعة الكبيرة، ويجتهدون في التعبد فيه ما لا يجتهدون في غيره، بمنزلة العشر الأواخر من رمضان في دين الله ورسوله، والأحد الذي هو أول الأسبوع ¬
يصطنعون (¬1) فيه عيدا يسمونه: الشعانين، هكذا نقل بعضهم عنهم، ونقل بعضهم عنهم (¬2) أن الشعانين هو أول أحد في صومهم، يخرجون فيه بورق الزيتون ونحوه، ويزعمون أن ذلك مشابهة لما جرى للمسيح عليه السلام، حين دخل إلى بيت المقدس راكبا أتانا مع جحشها، فأمر بالمعروف ونهى (¬3) عن المنكر، فثار عليه غوغاء الناس، وكان اليهود قد وكلوا قوما معهم عصي يضربونه بها، فأورقت تلك العصي وسجد أولئك (¬4) للمسيح. فعيد الشعانين مشابهة لذلك الأمر، وهو الذي سمي في شروط عمر وكتب الفقه: " أن لا يظهروه في دار الإسلام " ويسمون هذا العيد وكل مخرج يخرجونه إلى الصحراء: باعوثا، (¬5) فالباعوث (¬6) اسم جنس لما يظهر به الدين، كعيد الفطر والنحر (¬7) . فما يحكونه عن المسيح عليه صلوات الله عليه وسلامه من المعجزات هو في حيز الإمكان، لا نكذبهم فيه؛ لإمكانه، ولا نصدقهم؛ لجهلهم وفسقهم، وأما موافقتهم في التعييد فإحياء دين أحدثوه، أو دين نسخه الله (¬8) . ثم يوم الخميس الذي يسمونه الخميس الكبير، يزعمون أن في مثله نزلت المائدة التي ذكرها الله في القرآن، حيث. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
قال (¬1) {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا (¬2) وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ} [المائدة: 114] (¬3) فيوم الخميس هو يوم عيد المائدة، ويوم الأحد يسمونه عيد الفصح (¬4) وعيد النور، والعيد الكبير. ولما كان عيدا صاروا يصنعون (¬5) لأولادهم البيض المصبوغ ونحوه؛ لأنهم فيه (¬6) يأكلون ما يخرج من الحيوان من لحم ولبن وبيض؛ إذ صومهم هو عن الحيوان وما يخرج منه، وإنما يأكلون في صومهم الحب وما يصنع منه: من زيت (¬7) وشيرج (¬8) ونحو ذلك. وعامة هذه الأعمال المحكية عن النصارى، وغيرها مما لم يحك، قد زينها الشيطان لكثير ممن يدعي الإسلام، وجعل لها في قلوبهم مكانة وحسن ظن، وزادوا في بعض ذلك ونقصوا، وقدموا وأخروا؛ إما لأن بعض ما يفعلونه قد كان يفعله بعض النصارى، أو غيروه هم من عند أنفسهم، كما قد يغيرون بعض أمر الدين الحق. لكن كلما خصت (¬9) به هذه الأيام ونحوها، من الأيام التي ليس لها خصوص (¬10) في دين الله، وإنما ¬
خصوصها (¬1) في الدين الباطل: إنما أصل تخصيصها من دين الكافرين، وتخصيصها بذلك فيه مشابهة لهم، وليس لجاهل (¬2) أن يعتقد أن بهذا تحصل المخالفة لهم، كما في صوم يوم عاشوراء؛ لأن ذلك فيما (¬3) كان أصله مشروعا لنا، وهم يفعلونه، فإنا نخالفهم في وصفه، فأما ما لم يكن في ديننا بحال، بل هو من دينهم، المبتدع أو المنسوخ، فليس لنا أن نشابههم لا في أصله، ولا في وصفه، كما قدمنا قاعدة ذلك فيما مضى. فإحداث ما في هذه الأيام التي يتعلق تخصيصها بهم لا بنا، هو مشابهة لهم في أصل تخصيص هذه الأيام بشيء فيه تعظيم، وهذا بين على قول من يكره صوم يوم النيروز والمهرجان، لا سيما إذا كانوا يعظمون (¬4) اليوم الذي أحدث فيه ذلك. ويزيد ذلك وضوحا أن الأمر قد آل إلى أن كثيرا من الناس صاروا في مثل هذا الخميس الذي هو عيد (¬5) الكفار - عيد المائدة - آخر خميس في صوم النصارى الذي يسمونه الخميس الكبير - وهو الخميس الحقير - يجتمعون في أماكن اجتماعات عظيمة، ويصبغون البيض ويطبخون باللبن، وينكتون (¬6) بالحمرة دوابهم، ويصنعون (¬7) الأطعمة التي لا تكاد تفعل في عيد الله ورسوله، ويتهادون الهدايا التي تكون في مثل مواسم الحج، وعامتهم قد نسوا أصل ذلك وعلته، وبقي عادة مطردة كاعتيادهم بعيدي الفطر والنحر وأشد. ¬
واستعان الشيطان في إغوائهم بذلك أن الزمان زمان ربيع، وهو مبدأ العام الشمسي، فيكون قد كثر فيه اللحم واللبن والبيض ونحو ذلك، مع أن عيد النصارى ليس هو يوما محدودا من السنة الشمسية، وإنما يتقدم فيها ويتأخر، في نحو ثلاثة وثلاثين يوما كما قدمناه. وهذا كله تصديق قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنن من كان قبلكم» (¬1) وسببه (¬2) مشابهة الكفار في القليل من أمر عيدهم، وعدم النهي عن ذلك، وإذا كانت المشابهة في القليل ذريعة ووسيلة إلى بعض هذه القبائح؛ كانت محرمة، فكيف إذا أفضت إلى ما هو كفر بالله، من التبرك بالصليب والتعميد في المعمودية (¬3) أو قول (¬4) القائل: المعبود واحد وإن كانت الطرق مختلفة، ونحو ذلك من الأقوال والأفعال التي تتضمن: إما كون الشريعة النصرانية واليهودية، المبدلتين المنسوختين، موصلة إلى الله؛ وإما استحسان بعض ما فيها، مما يخالف دين الله، أو التدين (¬5) بذلك، أو غير ذلك، مما هو كفر بالله وبرسوله، وبالقرآن وبالإسلام، بلا خلاف بين الأمة الوسط في ذلك، وأصل ذلك المشابهة والمشاركة. وبهذا يتبين لك كمال موقع الشريعة الحنيفية، وبعض حكمة ما شرعه الله لرسوله من مباينة الكفار ومخالفتهم في عامة أمورهم؛ لتكون المخالفة أحسم لمادة الشر (¬6) وأبعد عن الوقوع فيما وقع فيه الناس. ¬
واعلم أنا لو لم نر موافقتهم قد أفضت إلى هذه القبائح لكان علمنا بما الطباع عليه (¬1) واستدلالنا بأصول الشريعة يوجب النهي عن هذه الذريعة، فكيف وقد رأينا من المنكرات التي أفضت إليها المشابهة ما قد يوجب الخروج من الإسلام بالكلية؟ . وسر هذا الوجه: أن المشابهة تفضي إلى كفر، أو معصية غالبا، أو تفضي إليهما (¬2) في الجملة، وليس في هذا المفضي مصلحة، وما أفضى إلى ذلك كان محرما: فالمشابهة محرمة. والمقدمة الثانية لا ريب فيها، فإن استقراء الشريعة في مواردها ومصادرها دال (¬3) على أن ما أفضى إلى الكفر - غالبا - حرم (¬4) وما أفضى إليه على وجه خفي حرم (¬5) وما أفضى إليه في الجملة ولا حاجة تدعو إليه، حرم (¬6) كما قد تكلمنا على قاعدة الذرائع، في غير هذا الكتاب. والمقدمة الأولى قد شهد بها الواقع شهادة لا تخفى على بصير ولا أعمى، مع أن الإفضاء أمر طبيعي، قد اعتبره الشارع في عامة الذرائع التي سدها كما قد ذكرنا من الشواهد على ذلك: نحوا من ثلاثين أصلا منصوصة، أو مجمعا عليها في كتاب: (بطلان التحليل) (¬7) . ¬
الوجه الرابع (¬1) أن الأعياد والمواسم في الجملة، لها منفعة عظيمة في دين الخلق ودنياهم، كانتفاعهم بالصلاة والزكاة والحج، ولهذا جاءت بها كل شريعة، كما قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 34] (¬2) وقال: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ} [الحج: 67] (¬3) . ثم إن الله شرع على لسان خاتم النبيين من الأعمال ما فيه صلاح الخلق على أتم الوجوه، وهو الكمال المذكور في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] (¬4) ولهذا أنزل الله هذه الآية في أعظم أعياد الأمة الحنيفية؛ فإنه لا عيد في النوع أعظم من العيد الذي يجتمع فيه المكان والزمان، وهو عيد النحر، ولا عين من أعيان هذا النوع أعظم من يوم كان قد (¬5) أقامه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعامة المسلمين، وقد نفى الله تعالى الكفر وأهله. والشرائع هي غذاء القلوب وقوتها كما قال ابن مسعود رضي الله عنه -ويروى مرفوعا -: «إن كل آدب يحب أن تؤتى مأدبته وإن مأدبة الله هي القرآن» (¬6) . ومن شأن الجسد إذا كان جائعا فأخذ من طعام حاجته؛ استغنى عن طعام ¬
آخر، حتى لا يأكله إن أكل منه إلا بكراهة، وتجشم، وربما ضره أكله، أو لم ينتفع به، ولم يكن هو المغذي له الذي يقيم بدنه، فالعبد إذا أخذ من غير الأعمال المشروعة بعض حاجته، قلّت رغبته في المشروع وانتفاعه به، بقدر ما اعتاض من غيره، بخلاف من صرف نهمته وهمته إلى المشروع، فإنه تعظم (¬1) محبته له ومنفعته به، ويتم دينه (¬2) ويكمل إسلامه. ولذا تجد (¬3) من أكثر من (¬4) سماع القصائد لطلب صلاح قلبه؛ تنقص رغبته في سماع القرآن، حتى ربما كرهه، ومن أكثر من السفر إلى زيارات المشاهد ونحوها؛ لا (¬5) يبقى لحج البيت الحرام (¬6) في قلبه من المحبة والتعظيم ما يكون في قلب من وسعته السنة، ومن أدمن على أخذ الحكمة والآداب من كلام حكماء فارس والروم، لا يبقى لحكمة (¬7) الإسلام وآدابه في قلبه ذاك الموقع، ومن أدمن (¬8) قصص الملوك وسيرهم؛ لا يبقى لقصص الأنبياء وسيرهم في قلبه ذاك الاهتمام، ونظير (¬9) هذا كثير (¬10) . ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما ابتدع قوم بدعة إلا نزع الله ¬
عنهم من السنة مثلها» (¬1) رواه الإمام أحمد. وهذا أمر يجده من نفسه من نظر في حاله من العلماء، والعباد، والأمراء، والعامة وغيرهم، ولهذا عظمت الشريعة النكير على من أحدث البدع، وكرهتها (¬2) ؛ لأن البدع لو خرج الرجل منها كفافا لا عليه ولا له لكان الأمر خفيفا، بل لا بد أن يوجب له فسادا، منه (¬3) نقص منفعة الشريعة في حقه، إذ القلب لا يتسع للعوض والمعوض منه (¬4) . ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في العيدين الجاهليين: «إن الله قد أبدلكم بهما يومين خيرا منهما» (¬5) فيبقى اغتذاء قلبه من هذه الأعمال المبتدعة مانعا عن الاغتذاء، - أو من كمال الاغتذاء - بتلك الأعمال الصالحة (¬6) النافعة الشرعية، فيفسد عليه حاله من حيث لا يشعر (¬7) كما يفسد جسد المغتذي بالأغذية الخبيثة من حيث لا يشعر، وبهذا يتبين (¬8) لك بعض ضرر البدع. إذا تبين هذا فلا يخفى ما جعل الله في القلوب من التشوق إلى العيد والسرور به والاهتمام بأمره، اتفاقا (¬9) واجتماعات وراحة، ولذة وسرورا، وكل ذلك يوجب تعظيمه لتعلق الأغراض به، فلهذا جاءت الشريعة في العيد، بإعلان ¬
ذكر الله تعالى فيه، حتى جعل فيه من التكبير في صلاته وخطبته وغير ذلك: ما ليس في سائر الصلوات، وأقامت (¬1) فيه من تعظيم الله وتنزيل الرحمة فيه - خصوصا العيد الأكبر - ما فيه صلاح الخلق، كما دل عليه (¬2) قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ - لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 27 - 28] (¬3) . فصار ما وُسِّع على النفوس فيه من العادات الطبيعية عونا على انتفاعها بما خص به من العبادات الشرعية؛ فإذا أعطيت النفوس في غير ذلك اليوم حظها، أو بعضه الذي يكون في عيد الله؛ فترت عن الرغبة في عيد الله (¬4) وزال ما كان له عندها من المحبة والتعظيم، فنقص بسبب ذلك تأثير العمل الصالح فيه (¬5) فخسرت النفوس (¬6) خسرانا مبينا. وأقل الدرجات: أنك لو فرضت رجلين: أحدهما قد اجتمع اهتمامه بأمر العيد على (¬7) المشروع، والآخر مهتم بهذا وبهذا، فإنك بالضرورة تجد المتجرد للمشروع، أعظم اهتماما به من المشرك بينه وبين غيره، ومن لم يدرك هذا فلغفلته أو إعراضه، وهذا أمر يعلمه من يعرف بعض أسرار الشرائع. وأما الإحساس بفتور الرغبة، فيجده كل أحد، فإنا نجد الرجل ¬
إذا كسا أولاده، أو وسع عليهم في بعض الأعياد المسخوطة، فلا بد أن تنقص (¬1) حرمة العيد المرضي من قلوبهم، حتى لو قيل: بل في القلوب ما يسع هذين، قيل: لو تجردت لأحدهما لكان أكمل. الوجه الخامس (¬2) . أن مشابهتهم في بعض أعيادهم يوجب سرور قلوبهم بما هم عليه من الباطل، خصوصا إذا كانوا مقهورين تحت ذل الجزية والصغار، فرأوا (¬3) المسلمين قد صاروا فرعا لهم في خصائص دينهم، فإن ذلك يوجب قوة قلوبهم وانشراح صدورهم، وربما أطمعهم ذلك في انتهاز الفرص، واستذلال (¬4) الضعفاء، وهذا أيضا أمر محسوس، لا يستريب فيه عاقل، فكيف يجتمع ما يقتضي إكرامهم بلا موجب مع شرع الصغار في حقهم؟ . الوجه السادس (¬5) . أن مما يفعلونه في عيدهم (¬6) ما هو كفر، وما هو (¬7) حرام وما هو (¬8) مباح لو تجرد عن مفسدة المشابهة، ثم التمييز بين هذا وهذا يظهر غالبا، وقد يخفى على كثير من العامة؛ فالمشابهة فيما لم يظهر تحريمه للعالم، يوقع العامي في أن يشابههم فيما هو حرام، وهذا هو الواقع. ¬
والفرق بين هذا الوجه ووجه الذريعة أنا هناك (¬1) قلنا: الموافقة في القليل (¬2) تدعو إلى الموافقة (¬3) في الكثير، وهنا جنس الموافقة يلبس على العامة دينهم، حتى لا يميزوا بين المعروف والمنكر، فذاك بيان للاقتضاء (¬4) من جهة تقاضي الطباع بإرادتها، وهذا من جهة جهل القلوب باعتقاداتها. الوجه السابع (¬5) . ما قررته في وجه (¬6) أصل المشابهة: وذلك أن الله تعالى جبل بني آدم بل سائر المخلوقات، على التفاعل بين الشيئين المتشابهين، وكلما كانت المشابهة أكثر؛ كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتم، حتى يؤول الأمر إلى أن لا يتميز أحدهما عن (¬7) الآخر إلا بالعين فقط، ولما كان بين الإنسان وبين الإنسان (¬8) مشاركة في الجنس الخاص، كان التفاعل فيه أشد، ثم بينه وبين سائر الحيوان مشاركة في الجنس المتوسط، فلا بد من نوع تفاعل بقدره، ثم بينه وبين النبات مشاركة في الجنس البعيد مثلا، فلا بد من نوع ما من المفاعلة. ولأجل هذا الأصل: وقع التأثر والتأثير في بني آدم، واكتساب (¬9) بعضهم أخلاق بعض بالمعاشرة والمشاكلة (¬10) . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وكذلك (¬1) الآدمي إذا عاشر نوعا من الحيوان اكتسب بعض أخلاقه، ولهذا صار الخيلاء والفخر في أهل الإبل، وصارت السكينة في أهل الغنم، وصار الجمالون والبغالون فيهم أخلاق مذمومة، من أخلاق الجمال والبغال، وكذلك الكلابون، وصار الحيوان الإنسي، فيه بعض أخلاق الناس (¬2) من المعاشرة والمؤالفة وقلة النفرة. فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة، توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي. وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين، هم أقل كفرا من غيرهم، كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة (¬3) اليهود والنصارى، هم أقل إيمانا من غيرهم ممن جرد الإسلام، والمشاركة (¬4) في الهدي الظاهر توجب أيضا مناسبة وائتلافا، وإن بعد المكان والزمان، فهذا أيضا أمر محسوس، فمشابهتهم في أعيادهم -ولو بالقليل- هو سبب لنوع ما من اكتساب أخلاقهم التي هي ملعونة، وما كان مظنة لفساد خفي غير منضبط؛ علق الحكم به، وأدير (¬5) التحريم عليه، فنقول: مشابهتهم في الظاهر سبب ومظنة لمشابهتهم في عين الأخلاق والأفعال المذمومة. بل في نفس الاعتقادات، وتأثير ذلك لا يظهر ولا ينضبط، ونفس الفساد الحاصل من المشابهة قد لا يظهر ولا ينضبط، وقد يتعسر أو يتعذر زواله بعد حصوله، ولو تفطن له، وكل ما كان سببا إلى مثل هذا الفساد فإن الشارع يحرمه، كما دلت عليه الأصول المقررة. ¬
الوجه الثامن (¬1) أن المشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة (¬2) وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر، وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة، حتى إن الرجلين إذا كانا من بلد واحد، ثم اجتمعا في دار غربة، كان بينهما من المودة (¬3) والائتلاف أمر عظيم، وإن كانا في مصرهما لم يكونا متعارفين، أو كانا متهاجرين، وذلك لأن الاشتراك في البلد نوع وصف اختصا به عن بلد الغربة. بل لو (¬4) اجتمع رجلان في سفر، أو بلد غريب، وكانت بينهما مشابهة في العمامة أو الثياب، أو الشعر، أو المركوب (¬5) ونحو ذلك؛ لكان بينهما من الائتلاف أكثر مما بين غيرهما، وكذلك تجد (¬6) أرباب الصناعات (¬7) الدنيوية يألف بعضهم بعضا (¬8) ما لا يألفون (¬9) غيرهم، حتى إن ذلك يكون مع المعاداة والمحاربة: إما على الملك، وإما على الدين (¬10) . وتجد الملوك ونحوهم من الرؤساء، وإن تباعدت ديارهم وممالكهم بينهم مناسبة تورث مشابهة ورعاية من بعضهم لبعض، وهذا كله موجب الطباع ومقتضاه. إلا أن يمنع من ذلك دين أو غرض خاص. ¬
فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية، تورث المحبة والموالاة لهم؛ فكيف بالمشابهة في أمور دينية؟ فإن إفضاءها (¬1) إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد، والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ - فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ - وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 51 - 53] (¬2) . وقال تعالى فيما يذم بها أهل الكتاب: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ - كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ - تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ - وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 78 - 81] (¬3) . فبين سبحانه وتعالى أن الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه مستلزم لعدم ولايتهم، فثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان؛ لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم. وقال سبحانه: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22] (¬4) . ¬
فأخبر سبحانه أنه لا يوجد مؤمن يواد كافرا؛ فمن واد الكفار فليس بمؤمن، والمشابهة الظاهرة مظنة الموادة، فتكون محرمة، كما تقدم تقرير مثل ذلك. واعلم أن وجوه الفساد في مشابهتهم كثيرة، فلنقتصر على ما نبهنا عليه (¬1) . ¬
فصل في مشابهتهم فيما ليس من شرعنا
[فصل في مشابهتهم فيما ليس من شرعنا] فصل مشابهتهم فيما ليس من شرعنا قسمان: أحدهما (¬1) مع العلم بأن هذا العمل هو من خصائص دينهم؛ فهذا العمل الذي هو من خصائص دينهم (¬2) إما أن يفعل لمجرد (¬3) موافقتهم -وهو قليل- وإما لشهوة تتعلق بذلك العمل، وإما لشبهة فيه تخيل أنه نافع في الدنيا أو الآخرة، وكل هذا لا شك في تحريمه، لكن يبلغ التحريم في بعضه إلى أن يكون من الكبائر، وقد يصير كفرا بحسب الأدلة الشرعية. وأما عمل لم يعلم الفاعل أنه من عملهم (¬4) فهو نوعان: أحدهما: ما كان في الأصل مأخوذا عنهم، إما على الوجه الذي يفعلونه، وإما مع نوع تغيير في الزمان أو المكان أو الفعل ونحو ذلك، فهذا (¬5) غالب ما يبتلى به العامة: في مثل ما يصنعونه في الخميس الحقير والميلاد ¬
ونحوهما، فإنهم قد نشئوا على اعتياد ذلك، وتلقاه الأبناء عن الآباء، وأكثرهم لا يعلمون مبدأ ذلك، فهذا يعرف صاحبه حكمه، فإن لم ينته وإلا صار من القسم الأول. النوع الثاني: ما ليس في الأصل مأخوذا عنهم، لكنهم يفعلونه أيضا، فهذا ليس فيه محذور المشابهة، ولكن قد يفوت فيه منفعة المخالفة، فتتوقف كراهة (¬1) ذلك وتحريمه على دليل شرعي وراء كونه من مشابهتهم، إذ (¬2) ليس كوننا (¬3) تشبهنا بهم بأولى من كونهم تشبهوا بنا، فأما استحباب تركه لمصلحة المخالفة إذا لم يكن في تركه ضرر؛ فظاهر لما تقدم من المخالفة، وهذا قد توجب الشريعة مخالفتهم فيه. وقد توجب عليهم مخالفتنا: كما في الزي ونحوه، وقد يقتصر على الاستحباب، كما في صبغ اللحية والصلاة في النعلين، والسجود، وقد تبلغ (¬4) الكراهة، كما في تأخير المغرب والفطور (¬5) بخلاف مشابهتهم فيما كان مأخوذا عنهم، فإن الأصل فيه التحريم كما قدمناه. تم المجلد الأول بحمد الله ويليه المجلد الثاني ¬
فصل في مفهوم العيد والحذر من التشبه بالكفار في أعيادهم
[فصل في مفهوم العيد والحذر من التشبه بالكفار في أعيادهم] فصل العيد: اسم جنس يدخل فيه كل يوم أو مكان لهم (¬1) فيه اجتماع، وكل عمل يحدثونه في هذه الأمكنة والأزمنة، فليس النهي عن خصوص أعيادهم، بل كل ما يعظمونه من الأوقات والأمكنة التي لا أصل لها في دين الإسلام، وما يحدثونه فيها من الأعمال يدخل في ذلك. وكذلك حريم (¬2) العيد: هو وما قبله وما بعده من الأيام التي يحدثون (¬3) فيها أشياء لأجله، (¬4) (4) أو ما حوله من الأمكنة التي يحدث فيها أشياء لأجله (5) (¬5) أو ما يحدث بسبب أعماله من الأعمال حكمها حكمه فلا يفعل شيء من ذلك، فإن بعض الناس قد يمتنع من إحداث أشياء في أيام (¬6) عيدهم، كيوم الخميس والميلاد، ويقول لعياله: إنما أصنع لكم هذا في الأسبوع (¬7) أو الشهر الآخر. وإنما المحرك له على إحداث ذلك وجود عيدهم ولولا ¬
هو (¬1) لم يقتضوا ذلك، فهذا من مقتضيات المشابهة. لكن يحال الأهل على عيد الله ورسوله ويقضي لهم فيه من الحقوق ما يقطع استشرافهم إلى غيره، فإن لم يرضوا فلا حول ولا قوة إلا بالله، ومن أغضب (¬2) أهله لله أرضاه الله وأرضاهم. وليحذر العاقل من طاعة النساء في ذلك، ففي الصحيحين عن أسامة بن زيد قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما تركت بعدي (¬3) فتنة أضر على الرجال من النساء» (¬4) . وأكثر ما يفسد الملك والدول (¬5) طاعة النساء وفي صحيح البخاري عن أبي بكرة (¬6) رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لن (¬7) يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» (¬8) . ¬
وروي أيضا: «هلكت الرجال حين أطاعت النساء» (¬1) . وقد قال صلى الله عليه وسلم (¬2) لأمهات المؤمنين، لما راجعنه في تقديم أبي بكر: «إنكن صواحب يوسف» (¬3) . يريد أن النساء من شأنهن مراجعة ذي اللب، كما قال في الحديث الآخر: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب للب ذي اللب من إحداكن» (¬4) . «ولما أنشده الأعشى - أعشى باهلة - (¬5) أبياته التي يقول فيها: (. . . . . . . . . . . . . . . . . وهن شر غالب لمن غلب ) ¬
جعل النبي صلى الله عليه وسلم يرددها ويقول: " وهن شر غالب لمن غلب » (¬1) . ولذلك امتن الله على زكريا عليه السلام حيث قال: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90] (¬2) وقال بعض العلماء: " ينبغي للرجل أن يجتهد (¬3) إلى الله في إصلاح زوجه له ". ¬
فصل في أعياد الكفار
[فصل في أعياد الكفار] [بعض ما يفعله الناس من المسلمين من البدع في ذلك] فصل أعياد الكفار كثيرة مختلفة، وليس على المسلم أن يبحث عنها، ولا يعرفها، بل يكفيه أن يعرف في أي فعل من الأفعال أو يوم أو مكان، أن سبب هذا الفعل أو تعظيم هذا المكان والزمان من جهتهم، ولو لم يعرف أن سببه من جهتهم، فيكفيه أن يعلم أنه لا أصل له في دين الإسلام، فإنه إذا لم يكن له أصل فإما أن يكون قد أحدثه بعض الناس من تلقاء نفسه، أو يكون مأخوذا عنهم، فأقل أحواله: أن يكون من البدع، ونحن ننبه على ما رأينا كثيرا من الناس قد وقعوا فيه: فمن ذلك الخميس الحقير، الذي في آخر صومهم، فإنه يوم عيد المائدة فيما يزعمون ويسمونه عيد العشاء (¬1) وهو الأسبوع الذي يكون فيه من الأحد إلى الأحد؛ هو عيدهم الأكبر، فجميع ما يحدثه الإنسان فيه من (¬2) المنكرات. فمنه: خروج النساء، وتبخير القبور، ووضع الثياب على السطح، وكتابة الورق وإلصاقها بالأبواب، واتخاذه (¬3) موسما لبيع البخور وشرائه، وكذلك شراء البخور في ذلك الوقت إذ اتخذ وقتا للبيع، ورقي البخور (¬4) مطلقا في ¬
ذلك الوقت أو في غيره، أو قصد شراء البخور المرقي (¬1) فإن رقي البخور واتخاذه (¬2) قربانا هو دين النصارى والصابئين، وإنما البخور طيب يتطيب بدخانه كما يتطيب بسائر الطيب من المسك وغيره مما له أجزاء بخارية وإن لطفت، أو له رائحة محضة، (¬3) ويستحب التبخر حيث يستحب التطيب. وكذلك اختصاصه بطبخ رز بلبن، أو بسيسة، (¬4) أو عدس، أو صبغ، أو بيض، أو مقر (¬5) . . ونحو ذلك؛ فأما القمار بالبيض، أو بيع البيض لمن يقامر به، أو شراؤه من المقامرين (¬6) فحكمه ظاهر. ومن ذلك: ما يفعله الأكارون، من نكت (¬7) البقر بالنقط (¬8) الحمر أو نكت الشجر أيضا، أو جمع أنواع من النبات (¬9) والتبرك بها، والاغتسال بمائها، ومن ذلك: ما قد يفعله النساء من أخذ ورق الزيتون، (¬10) والاغتسال بمائه، أو قصد الاغتسال بشيء من ذلك، فإن أصل ذلك ماء المعمودية. ¬
ومن ذلك: ترك الوظائف الراتبة من الصنائع، والتجارات، أو حلق العلم، أو غير ذلك، واتخاذه يوم راحة وفرح، واللعب فيه بالخيل أو غيرها على وجه يخالف ما قبله وما بعده من الأيام. والضابط: أنه لا يحدث فيه أمر أصلا، بل يجعل يوما كسائر الأيام، فإنا قد قدمنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهاهم عن اليومين اللذين كانا لهم يلعبون فيهما في الجاهلية (¬1) وأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الذبح بالمكان إذا كان المشركون يعيدون (¬2) فيه. ومن ذلك: ما يفعله كثير من الناس في أثناء الشتاء في أثناء كانون الأول لأربع وعشرين خلت منه، ويزعمون أنه ميلاد عيسى عليه السلام، فجميع ما يحدث فيه هو من المنكرات، مثل: إيقاد النيران، وإحداث طعام، واصطناع شمع وغير ذلك. فإن اتخاذ هذا الميلاد عيدا هو دين النصارى، ليس لذلك أصل في دين الإسلام، ولم يكن لهذا الميلاد ذكر أصلا على عهد السلف الماضين، بل أصله مأخوذ عن النصارى، وانضم إليه سبب طبيعي (¬3) وهو كونه في الشتاء المناسب لإيقاد النيران، ولأنواع مخصوصة من الأطعمة. ثم إن النصارى تزعم أنه بعد الميلاد بأيام -أظنها أحد عشر يوما- عمد (¬4) يحيى لعيسى عليهما السلام في ماء (¬5) المعمودية فهم يتعمدون (¬6) في هذا الوقت، ويسمونه عيد الغطاس، وقد صار كثير من جهال النساء يدخلن ¬
النهي عن فعل ما يعين الكفار في أعيادهم
أولادهن إلى الحمام في هذا الوقت، ويزعمن أن هذا ينفع الولد، وهذا من دين النصارى، وهو من أقبح المنكرات المحرمة. وكذلك أعياد الفرس مثل: النيروز والمهرجان، وأعياد اليهود أو غيرهم من أنواع الكفار أو الأعاجم أو الأعراب، حكمها كلها على ما ذكرناه من قبل (¬1) . [النهي عن فعل ما يعين الكفار في أعيادهم] وكما لا نتشبه بهم في الأعياد فلا يعان المسلم المتشبه بهم في ذلك، بل ينهى عن ذلك فمن (¬2) صنع دعوة مخالفة للعادة في أعيادهم لم تجب (¬3) دعوته، ومن أهدى من المسلمين هدية في هذه الأعياد، مخالفة للعادة في سائر الأوقات غير هذا العيد، لم تقبل هديته، خصوصا إن كانت الهدية مما يستعان بها على التشبه بهم، مثل: إهداء الشمع ونحوه في الميلاد أو إهداء البيض واللبن والغنم في الخميس الصغير الذي في آخر صومهم، وكذلك أيضا لا يهدى لأحد من المسلمين في هذه الأعياد هدية لأجل العيد، لا سيما إذا كان مما يستعان بها على التشبه بهم (¬4) كما ذكرناه. ولا يبيع (¬5) المسلم ما يستعين به المسلمون على مشابهتهم في العيد، من الطعام واللباس ونحو ذلك؛ لأن في ذلك إعانة على المنكر، فأما مبايعتهم ما يستعينون هم به على عيدهم أو شهود أعيادهم للشراء فيها، فقد قدمنا أنه قيل للإمام أحمد: (¬6) هذه الأعياد التي تكون عندنا بالشام مثل طور ¬
يانور (¬1) ودير أيوب، وأشباهه يشهده المسلمون، يشهدون الأسواق، ويجلبون فيه الغنم والبقر والدقيق والبر، وغير ذلك؛ إلا أنه إنما يكون في الأسواق يشترون، ولا يدخلون عليهم بيعهم، وإنما يشهدون الأسواق (¬2) قال: إذا لم يدخلوا عليهم بيعهم، وإنما يشهدون السوق (¬3) فلا بأس. وقال أبو الحسن الآمدي: " فأما ما يبيعون (¬4) في الأسواق في أعيادهم فلا بأس بحضوره ". نص عليه أحمد في رواية مهنا، وقال: " إنما يمنعون أن يدخلوا عليهم بيعهم وكنائسهم، فأما ما يباع في الأسواق من المأكل فلا، وإن قصد إلى توفير ذلك وتحسينه لأجلهم " فهذا الكلام محتمل؛ لأنه أجاز شهود السوق مطلقا بائعا، ومشتريا؛ لأنه قال: " إذا لم يدخلوا عليهم كنائسهم، وإنما يشهدون السوق فلا بأس " هذا يعم البائع، والمشتري، لا سيما إن كان الضمير في قوله: " يجلبون " عائدا إلى المسلمين، فيكون قد نص على جواز كونهم جالبين إلى السوق. ويحتمل -وهو أقوى- أنه إنما أرخص في شهود السوق فقط، ورخص في الشراء منهم، ولم يتعرض للبيع منهم؛ لأن السائل إنما سأله عن شهود السوق التي يقيمها الكفار لعيدهم، وقال في آخر مسألته: " يشترون، ولا يدخلون عليهم بيعهم " وذلك؛ لأن السائل مهنا بن يحيى الشامي، وهو فقيه عالم، وكان (¬5) -والله أعلم- قد سمع ما جاء في النهي عن شهود أعيادهم، فسأل أحمد: هل شهود أسواقهم بمنزلة شهود أعيادهم؟ فأجاب أحمد بالرخصة ¬
في شهود السوق، ولم يسأل عن بيع المسلم لهم إما لظهور الحكم عنده، وإما لعدم الحاجة إليه إذ ذاك، وكلام الآمدي أيضا محتمل (¬1) للوجهين. لكن الأظهر فيه الرخصة في البيع أيضا؛ لقوله: " إنما يمنعون أن يدخلوا عليهم بيعهم وكنائسهم "، وقوله: " وإن قصد إلى توفير (¬2) ذلك وتحسينه لأجلهم ". فما أجاب به أحمد من جواز شهود السوق فقط للشراء منها، من غير دخول الكنيسة فيجوز؛ لأن ذلك ليس فيه (¬3) شهود منكر، ولا إعانة على معصية؛ لأن نفس الابتياع منهم جائز، ولا إعانة فيه على المعصية، بل فيه صرف لما لعلهم يبتاعونه (¬4) لعيدهم عنهم (¬5) فيكون فيه تقليل الشر، وقد كانت أسواق في الجاهلية، كان المسلمون يشهدونها، وشهد بعضها النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هذه الأسواق ما كان يكون في مواسم الحج، ومنها ما كان يكون (¬6) لأعياد باطلة. وأيضا، فإن أكثر ما في السوق، أن يباع فيها ما يستعان به على المعصية، فهو كما لو حضر الرجل (¬7) سوقا يباع (¬8) فيها السلاح لمن يقتل به معصوما، أو العصير لمن يخمره، فحضرها الرجل (¬9) ليشتري منها، بل هذا أجود؛ لأن ¬
البائع في هذا السوق ذمي، وقد أقروا (¬1) على هذه المبايعة. ثم إن الرجل لو سافر إلى دار الحرب ليشتري منها، جاز عندنا، كما دل عليه حديث تجارة أبي بكر -رضي الله عنه- في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الشام، وهي (¬2) دار حرب، وحديث عمر -رضي الله عنه- وأحاديث أخر بسطت القول فيها (¬3) في غير هذا الموضع (¬4) مع أنه لا بد أن تشتمل أسواقهم على بيع ما يستعان به على المعصية. فأما بيع المسلمين لهم في أعيادهم، ما يستعينون به على عيدهم، من الطعام واللباس والريحان ونحو ذلك، أو إهداء ذلك لهم، فهذا فيه نوع إعانة على إقامة عيدهم المحرم، وهو مبني على أصل وهو: (¬5) أن بيع الكفار عنبا أو عصيرا يتخذونه خمرا لا يجوز (¬6) وكذلك لا يجوز بيعهم سلاحا يقاتلون به مسلما. وقد دل حديث عمر -رضي الله عنه- في إهداء الحلة السيراء (¬7) إلى أخ له بمكة مشرك (¬8) على جواز بيعهم الحرير، لكن الحرير مباح في الجملة، وإنما يحرم الكثير منه على بعض الآدميين، ولهذا جاز التداوي به في أصح ¬
الروايتين (¬1) ولم يجز بالخمر بحال، وجازت صنعته في الأصل والتجارة فيه. فهذا الأصل فيه اشتباه، فإن قيل بالاحتمال الأول في كلام أحمد جوز ذلك، وعن أحمد في جواز حمل التجارة إلى أرض الحرب روايتان منصوصتان، فقد يقال: (¬2) بيعها لهم في العيد كحملها إلى دار الحرب، فإن حمل الثياب والطعام إلى أرض الحرب فيه إعانة على دينهم في الجملة، وإذا منعنا منها إلى أرض الحرب فهنا أولى، وأكثر أصوله ونصوصه تقتضي المنع من ذلك، لكن هل هو منع تحريم؟ أو تنزيه؟ مبني على ما سيأتي. وقد ذكر عبد الملك بن حبيب (¬3) أن هذا مما اجتمع (¬4) على كراهته، وصرح بأن مذهب مالك أن ذلك حرام. قال عبد الملك بن حبيب في (الواضحة) (¬5) كره مالك أكل ما ذبح النصارى لكنائسهم، ونهى عنه من غير تحريم، قال: وكذلك ما ذبحوا على اسم المسيح، أو الصليب، أو أسماء من مضى (¬6) من أحبارهم ورهبانهم الذين يعظمون، فقد كان مالك وغيره ممن يقتدى به يكره أكل هذا كله من ¬
ذبائحهم، وبه نأخذ، وهو يضاهي قول الله تعالى {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 173] (¬1) وهي ذبائحهم (¬2) التي كانوا يذبحون لأصنامهم التي كانوا يعبدون. قال: وقد كان رجال من العلماء يستخفون ذلك (¬3) ويقولون: (قد أحل الله لنا ذبائحهم، وهو يعلم ما يقولون، وما يريدون بها، وروى ذلك ابن وهب (¬4) عن ابن عباس، وعبادة بن الصامت، وأبي الدرداء (¬5) وسليمان بن يسار (¬6) وعمر بن عبد العزيز، وابن شهاب (¬7) وربيعة (¬8) ويحيى بن سعيد (¬9) ¬
ومكحول (¬1) وعطاء (¬2) . قال عبد الملك: وترك ما ذبحوا لأعيادهم وأقستهم (¬3) وموتاهم، وكنائسهم أفضل. قال: وإن فيه عيبا آخر: أن أكله (¬4) من تعظيم شركهم. ولقد سأل سعد المعافري (¬5) مالكا عن الطعام الذي تصنعه النصارى لموتاهم يتصدقون به عنهم: أيأكل منه المسلم؟ فقال: " لا ينبغي (¬6) لا يأخذه منهم "؛ لأنه إنما يعمل تعظيما للشرك فهو كالذبائح (¬7) للأعياد والكنائس. وسئل ابن القاسم عن النصراني يوصي بشيء يباع من ملكه للكنيسة: (¬8) هل يجوز (¬9) لمسلم شراؤه؟ فقال: " لا يحل ذلك له؛ لأنه تعظيم ¬
لشعائرهم (¬1) وشرائعهم ومشتريه مسلم سوء " (¬2) . وقال ابن القاسم في أرض الكنيسة يبيع الأسقف منها شيئا في مرمتها (¬3) وربما حبست تلك (¬4) الأرض على الكنيسة لمصلحتها: إنه لا يجوز للمسلمين أن يشتروها (¬5) من وجهين: الواحد: (¬6) من العون على تعظيم الكنيسة. والآخر: من جهة (¬7) بيع الحبس (¬8) ولا يجوز لهم في أحباسهم إلا ما يجوز للمسلمين، ولا أرى لحاكم المسلمين أن يتعرض (¬9) فيها بمنع ولا تنفيذ ولا بشيء. قال: وسئل ابن القاسم عن الركوب في السفن التي تركب فيها النصارى إلى أعيادهم، فكره ذلك مخافة نزول السخطة (¬10) عليهم بشركهم الذي اجتمعوا عليه، وكره ابن القاسم للمسلم يهدي (¬11) للنصارى شيئا في عيدهم (¬12) مكافأة لهم (¬13) ورآه من تعظيم عيدهم (¬14) ¬
وعونا لهم (¬1) على مصلحة (¬2) كفرهم (¬3) ألا ترى أنه لا يحل للمسلمين أن يبيعوا من النصارى شيئا من مصلحة عيدهم؟ لا لحما، ولا إداما (¬4) ولا ثوبا، ولا يعارون دابة، ولا يعاونون على شيء من عيدهم؛ لأن ذلك من تعظيم شركهم، ومن عونهم على كفرهم، وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين عن ذلك، وهو قول مالك وغيره، لم أعلمه اختلف فيه. فأكل ذبائح أعيادهم داخل في هذا الذي اجتمع (¬5) على كراهيته، بل هو عندي أشد، فهذا كله كلام ابن حبيب. وقد ذكر أنه قد اجتمع على كراهة مبايعتهم (¬6) ومهاداتهم ما يستعينون به على أعيادهم، وقد صرح بأن مذهب مالك: أنه لا يحل ذلك. وأما نصوص أحمد على مسائل هذا الباب: فقال إسحاق بن إبراهيم (¬7) سئل أبو عبد الله -رحمه الله- عن نصارى، وقفوا ضيعة للبيعة: أيستأجرها الرجل (¬8) المسلم منهم؟ فقال: لا يأخذها بشيء، لا يعينهم (¬9) على ما هم فيه، وقال أيضا: سمعت أبا عبد الله، وسأله رجل بناء: أبني للمجوس ناووسا (¬10) قال: لا تبن ¬
بيع الدار ونحوها للذمي وإجارتها له
لهم، ولا تعنهم على ما هم فيه (¬1) . وقد نقل عن محمد بن الحكم (¬2) وسأله عن الرجل المسلم يحفر لأهل الذمة قبرا بكراء؟ قال: لا بأس به، والفرق بينهما أن الناووس من خصائص دينهم الباطل كالكنيسة، بخلاف القبر المطلق، فإنه ليس في نفسه معصية، ولا من خصائص دينهم. [بيع الدار ونحوها للذمي وإجارتها له] وقال الخلال: " باب الرجل يؤاجر داره للذمي أو يبيعها منه " وذكر عن المروزي أن أبا عبد الله سئل عن رجل باع داره من ذمي، وفيها محاريبه: (¬3) فقال: " نصراني (¬4) ! " واستعظم ذلك، وقال: " لا تباع يضرب فيها بالناقوس (¬5) وينصب (¬6) فيها الصلبان، وقال: لا تباع من الكفار "، وشدد في ذلك. وعن أبي الحارث (¬7) أن أبا عبد الله سئل عن الرجل يبيع داره، وقد جاء ¬
نصراني فأرغبه، وزاده في ثمن الدار، ترى (¬1) له أن يبيع داره منه وهو نصراني أو يهودي أو مجوسي؟ قال: " لا أرى له ذلك، يبيع داره من كافر يكفر (¬2) بالله فيها! يبيعها من مسلم أحب إلي " فهذا نص على المنع. ونقل عنه إبراهيم بن الحارث (¬3) قيل لأبي عبد الله: الرجل يكري منزله من الذمي ينزل فيه، وهو يعلم أنه يشرب فيه الخمر، ويشرك فيها؟ قال: " ابن عون (¬4) كان لا يكري إلا من أهل الذمة يقول: يرعبهم " (¬5) ". قيل له: كأنه أراد إذلال أهل الذمة بهذا. قال: " لا، ولكنه أراد: أنه كره أن يرعب (¬6) المسلمين، يقول: إذا جئت أطلب الكراء من المسلم أرعبته. فإذا كان ذميا كان (¬7) أهون عنده " وجعل أبو عبد الله يعجب لهذا من ابن عون، فيما رأيت. وهكذا نقل الأثرم سواء، ولفظه: قلت لأبي عبد الله. ¬
ومسائل الأثرم وإبراهيم بن الحارث يشتركان فيها. ونقل عنه مهنا قال: سألت أحمد عن الرجل يكري المجوس داره، أو دكانه، وهو يعلم أنهم يزنون، فقال: " كان ابن عون (¬1) لا يرى أن يكري المسلمين، يقول: أرعبهم (¬2) في أخذ الغلة، وكان يرى أن يكري غير المسلمين ". قال أبو بكر الخلال: كل من حكى عن أبي عبد الله في رجل يكري داره من ذمي، فإنما أجابه أبو عبد الله على فعل ابن عون، ولم ينفذ (¬3) لأبي عبد الله فيه قول. وقد حكى عنه إبراهيم أنه رآه معجبا بقول ابن عون، والذين رووا عن أبي عبد الله في المسلم يبيع داره من الذمي (¬4) أنه كره ذلك كراهة شديدة، فلو نفذ (¬5) لأبي عبد الله (¬6) قول في السكنى؛ لكان (¬7) السكنى والبيع عندي واحدا، والأمر في ظاهر قول أبي عبد الله أنه لا يباع منه؛ (8) (¬8) لأنه يكفر فيها، وينصب الصلبان، وغير ذلك، والأمر عندي: أنه لا يباع منه ولا يكرى (9) (¬9) ؛ لأنه معنى واحد. ¬
قال: وقد أخبرني أحمد بن الحسين بن حسان (¬1) قال: سئل أبو عبد الله عن حصين بن عبد الرحمن (¬2) فقال: " روى عنه (¬3) حفص (¬4) لا أعرفه " قال أبو بكر: هذا من النساك حدثني أبو سعيد الأشج (¬5) سمعت أبا خالد الأحمر (¬6) يقول: حفص هذا العدوي نفسه باع دار حصين بن عبد الرحمن عابد أهل الكوفة، من عون البصري (¬7) فقال له أحمد: " حفص "؟ قال: نعم. ¬
فعجب أحمد، يعني من حفص بن غياث، قال الخلال: وهذا أيضا تقوية لمذهب أبي عبد الله. قلت: عون هذا كأنه من أهل البدع، أو من الفساق بالعمل، فقد أنكر أبو خالد الأحمر على حفص بن غياث قاضي الكوفة، أنه باع دار الرجل الصالح من مبتدع، وعجب أحمد (¬1) أيضا من فعل القاضي. قال الخلال: " فإذا كان يكره بيعها من فاسق، فكذلك من كافر، وإن كان الذمي يقر، والفاسق لا يقر، لكن ما يفعله الكافر فيها أعظم "، وهكذا ذكر القاضي عن أبي بكر عبد العزيز (¬2) أنه ذكر قوله في رواية أبي الحارث: لا أرى أن يبيع داره من كافر يكفر بالله فيها، يبيعها من مسلم أحب إلي، فقال أبو بكر: " لا فرق بين الإجارة والبيع عنده، فإذا أجاز البيع أجاز الإجارة، وإذا منع البيع منع الإجارة" ووافقه القاضي (¬3) وأصحابه على ذلك. وعن إسحاق بن منصور (¬4) أنه قال لأبي عبد الله: سئل -يعني الأوزاعي - عن الرجل يؤاجر نفسه لنظارة كرم النصراني، فكره ذلك، وقال أحمد: " ما أحسن ما قال؛ لأن أصل ذلك يرجع إلى الخمر، إلا أن يعلم أنه يباع لغير الخمر فلا بأس به (¬5) ". ¬
وعن أبي النضر العجلي (¬1) قال: قال أبو عبد الله فيمن يحمل خمرا أو خنزيرا أو ميتة لنصراني، فهو يكره أكل كرائه، ولكنه يقضي للحمال (¬2) بالكراء، وإذا كان للمسلم فهو أشد كراهية ". وتلخيص الكلام في ذلك: أما بيع داره من كافر، فقد ذكرنا منع أحمد منه. ثم اختلف أصحابه: هل هذا تنزيه أو تحريم؟ فقال الشريف أبو علي بن أبي موسى: (¬3) " كره أحمد أن يبيع مسلم داره من ذمي يكفر فيها بالله تعالى، ويستبيح فيها (¬4) المحظورات، فإن فعل أساء، ولم يبطل البيع " وكذلك أبو الحسن الآمدي أطلق الكراهة مقتصرا عليها، وأما الخلال وصاحبه (¬5) والقاضي فمقتضى كلامهم تحريم ذلك، وقد ذكر كلام الخلال وصاحبه، وقال القاضي: " لا يجوز أن يؤاجر داره أو بيته ممن يتخذه بيت نار، أو كنيسة، أو يبيع فيه الخمر، سواء شرط أنه يبيع فيه الخمر، أو لم يشرط لكنه يعلم أنه يبيع فيه الخمر ". ¬
وقد قال أحمد في رواية أبي الحارث: " لا أرى أن يبيع داره من كافر يكفر بالله فيها (¬1) يبيعها من مسلم أحب إلي ". قال أبو بكر: " لا فرق بين الإجارة والبيع عنده، فإذا أجاز (¬2) البيع أجاز الإجارة، وإذا منع البيع منع الإجارة ". وقال أيضا في نصارى أوقفوا ضيعة لهم للبيعة: " لا يستأجرها الرجل المسلم منهم، يعينهم على ما هم فيه ". قال: وبهذا قال الشافعي " (¬3) . فقد حرم القاضي إجارتها لمن يعلم أنه يبيع فيها الخمر، مستشهدا على ذلك بنص أحمد على أنه لا يبيعها لكافر، ولا يستكري وقف الكنيسة، وذلك يقتضي أن المنع في هاتين الصورتين عنده منع تحريم، ثم قال القاضي في أثناء المسألة: فإن قيل أليس قد أجاز أحمد إجارتها من أهل الذمة، مع علمه بأنهم يفعلون فيها ذلك؟ قيل: " المنقول عن أحمد أنه حكى قول ابن عون (¬4) وعجب منه، وذكر القاضي رواية الأثرم، وهذا يقتضي أن القاضي لا يجوز إجارتها من ذمي. وكذلك أبو بكر قال: إذا أجاز أجاز (¬5) وإذا منع منع (¬6) وما لا يجوز فهو محرم "، وكلام أحمد رحمه الله (¬7) محتمل الأمرين، فإن قوله في رواية ¬
أبي الحارث " يبيعها من مسلم أحب إلي " يقتضي أنه منع تنزيه. واستعظامه لذلك (¬1) في رواية المروذي (¬2) وقوله: " لا تباع من الكفار " (¬3) -وشدد في ذلك- يقتضي التحريم. وأما الإجارة فقد سوى الأصحاب بينها وبين البيع، وأن ما حكاه عن ابن عون ليس بقول له، وإن إعجابه بفعل ابن عون إنما كان لحسن مقصد ابن عون، ونيته الصالحة، ويمكن أن يقال: بل ظاهر الرواية أنه أجاز ذلك، فإن إعجابه بالفعل دليل على (¬4) جوازه عنده، واقتصاره على (¬5) الجواب بفعل رجل يقتضي أنه مذهبه في أحد الوجهين. والفرق بين الإجارة والبيع: أن ما في الإجارة من مفسدة الإعانة قد عارضه مصلحة أخرى، وهو صرف إرعاب المطالبة بالكراء عن المسلم، وإنزال ذلك بالكفار، وصار ذلك بمنزلة إقرارهم بالجزية، فإنه وإن كان إقرارا لكافر (¬6) لكن لما تضمنه (¬7) من المصلحة جاز، وكذلك جازت مهادنة الكفار في الجملة. فأما البيع: فهذه المصلحة منتفية فيه، وهذا ظاهر على قول ابن أبي موسى (¬8) وغيره أن البيع مكروه غير محرم، فإن الكراهة في الإجارة تزول ¬
بهذه المصلحة الراجحة كما في نظائره فيصير في المسألة أربعة أقوال (¬1) . وهذا الخلاف عندنا، والتردد في الكراهة، هو (¬2) إذا لم يعقد الإجارة على المنفعة المحرمة، فأما إن آجره إياه لأجل بيع الخمر، أو اتخاذها كنيسة أو بيعة؛ لم يجز قولا واحدا، وبه قال الشافعي وغيره، كما لا يجوز أن يكري أمته أو عبده للفجور. وقال أبو حنيفة: " يجوز أن يؤجرها لذلك " (¬3) . قال أبو بكر الرازي: لا فرق عند أبي حنيفة بين أن يشترط (¬4) أن يبيع فيه الخمر، وبين أن (¬5) لا يشترط لكنه يعلم أنه يبيع فيه الخمر، أن الإجارة تصح". ومأخذه في ذلك أنه لا يستحق عليه بعقد الإجارة فعل هذه الأشياء، وإن شرط؛ لأن له أن لا يبيع فيها الخمر ولا يتخذها كنيسة، وتستحق عليه الأجرة بالتسليم في المدة، فإذا لم يستحق عليه فعل هذه الأشياء، كان ذكرها وترك ذكرها سواء، كما لو اكترى دارا لينام فيها أو يسكنها، فإن الأجرة تستحق عليه، وإن لم يفعل ذلك، وكذا يقول (¬6) فيما إذا استأجر رجلا يحمل (¬7) خمرا، أو ميتة، أو خنزيرا: أنه يصح؛ لأنه لا يتعين حمل الخمر، بل لو حمل عليه ¬
بدله عصيرا استحق الأجرة، فهذا التقييد عنده لغو، فهو بمنزلة الإجارة المطلقة، والمطلقة عنده جائزة، وإن غلب على ظنه أن المستأجر يعصي فيها، كما يجوز بيع العصير لمن يتخذه خمرا، ثم إنه كره بيع السلاح في الفتنة، قال: لأن السلاح معمول للقتال لا يصلح لغيره. وعامة الفقهاء خالفوه في المقدمة الأولى، وقالوا: " ليس المقيد كالمطلق، بل المنفعة المعقود عليها هي المستحقة، فتكون هي المقابلة بالعوض، وهي منفعة (¬1) محرمة، وإن جاز للمستأجر أن يقيم غيرها مقامها، وألزموه ما لو اكترى دارا يتخذها مسجدا، فإنه لا يستحق عليه فعل المعقود عليه، ومع هذا فإنه أبطل هذه الإجارة بناء على أنها اقتضت فعل الصلاة، وهي لا تستحق بعقد إجارة. ونازعه أصحابنا وكثير من الفقهاء في المقدمة الثانية وقالوا: " إذا غلب على ظنه أن المستأجر ينتفع بها في محرم حرمت الإجارة له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن عاصر الخمر ومعتصرها، والعاصر إنما يعصر عصيرا لكن إذا رأى أن المعتصر (¬2) يريد أن يتخذه خمرا، وعصره (¬3) استحق اللعنة، وهذا أصل مقرر في غير هذا الموضع. لكن معاصي الذمي (¬4) قسمان: أحدهما: ما اقتضى عقد الذمة إقراره عليها. والثاني: ما اقتضى عقد الذمة منعه منها، أو من (¬5) إظهارها. ¬
ابتياع الذمي أرض العشر من مسلم
فأما القسم الثاني: فلا ريب أنه لا يجوز (¬1) على أصلنا أن يؤاجر أو يبايع (¬2) إذا غلب على الظن أن يفعل ذلك كالمسلم وأولى. وأما القسم الأول: فعلى ما قاله ابن أبي موسى: " يكره ولا يحرم "؛ لأنا قد أقررناه (¬3) على ذلك، وإعانته على سكنى هذه (¬4) الدار كإعانته على سكنى دار الإسلام، فلو كان هذا من الإعانة المحرمة لما جاز إقرارهم بالجزية، وإنما كره ذلك لأنه إعانة من غير مصلحة، لإمكان بيعها من مسلم، بخلاف الإقرار (¬5) بالجزية، فإنه جاز (¬6) لأجل المصلحة ". وعلى ما قاله القاضي لا يجوز؛ لأنه إعانة على ما يستعين به على المعصية، من غير مصلحة تقابل (¬7) هذه المفسدة فلم يجز، بخلاف إسكانهم دار الإسلام، فإن فيه من المصالح ما هو مذكور في فوائد إقرارهم بالجزية. [ابتياع الذمي أرض العشر من مسلم] ومما يشبه ذلك: أنه قد اختلف قول أحمد إذا ابتاع الذمي أرض عشر من مسلم، على روايتين، منع من (¬8) ذلك في إحداهما، قال: " لأنه لا زكاة على الذمي، وفيه إبطال العشر (¬9) وهذا ضرر على المسلمين " قال: " وكذلك لا يمكنون (¬10) ¬
من استئجار أرض العشر لهذه العلة (¬1) . وقال في الرواية الأخرى: " لا بأس أن يشتري الذمي أرض العشر من مسلم ". واختلف قوله إذا جاز ذلك فيما على الذمي فيما تخرج هذه الأرض على روايتين: قال في إحداهما: " لا عشر عليه، ولا شيء سوى الجزية ". وقال في الرواية الأخرى: " عليه فيما يخرج من هذه الأرض (¬2) الخمس ضعف ما كان على المسلم " ومن أصحابنا من حكى رواية أنهم ينهون عن شرائها، فإن اشتروها أضعف (¬3) عليهم العشر (¬4) . وفي كلام أحمد ما يدل على هذا (¬5) فإذا كان قد اختلف قوله في جواز تمليكهم عامر (¬6) الأرض العشرية؛ لما فيه من رفع العشر، فالمفسدة الدينية الحاصلة بكفرهم وفسقهم -في دار كانت للمسلمين (¬7) يعبد الله فيها ويطاع- أعظم من منع العشر. ولهذا تردد: " هل يرفع الضرر بمنع التملك بالكلية؟ " إذ مع تجويز البيع: إما أن يعطل حق المسلمين، أو تؤخذ الزكاة من الكفار، وكلاهما غير ممكن، فكان منع التملك أسهل، كما منعناه من تملك العبد المسلم والمصحف، لما فيه من تمكين عدو الله من أولياء الله (¬8) وكلام الله. وكذلك نمنعهم -على ظاهر المذهب- من شراء السبي الذي جرى عليه ¬
سهام المسلمين (¬1) كما شرط عليهم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أو يرفع الضرر بإبقاء حق الأرض عليه، كما يؤخذ ممن اتجر منهم في أرض المسلمين (¬2) ضعف ما يؤخذ من المسلمين من الزكاة. ويتخرج: أنه لا يؤخذ منه إلا عشر واحد كالمسألة الآتية، وهذا في العشرية التي ليست خراجية. فأما الخراجية فقالوا: ليس لذمي (¬3) أن يبتاع أرضا فتحها المسلمون عنوة، وإذا جوزنا بيع أرض العنوة كان حكم الذمي في ابتياعها كحكمه في ابتياع أرض العشر المحض، إذ جميع الأرض عشرية عندنا وعند الجمهور، بمعنى (¬4) أن العشر يجب فيما أخرجت. وكذلك أرض الموات من أرض الإسلام التي ليست خراجية، هل للذمي أن يتملكها بالإحياء (¬5) ؟ قال طائفة من العلماء: ليس (¬6) له ذلك، وهو قول الشافعي (¬7) وابن حامد (¬8) وهذا قياس إحدى الروايتين عن أحمد في ¬
منعه ابتياعها (¬1) فإنها إذا لم يجوِّز تملكها بالابتياع فبالإحياء أولى، لكن قد يفرق بينهما بأن (¬2) المبتاعة أرض عامرة، ففيه ضرر محقق بخلاف إحياء الميتة فإنه لا يقطع حقا، والمنصوص عن أحمد - وعليه الجمهور من أصحابه (¬3) - أنه يملكها بالإحياء، وهو قول أبي حنيفة، واختلف فيه عن مالك (¬4) . متسوى3 أخذ العشر على أرض أهل الذمة ثم هل عليه (¬5) العشر؟ فيه روايتان: قال ابن أبي موسى: " ومن أحيا من أهل الذمة أرضا مواتا فهي له، ولا زكاة عليه فيها، ولا عشر فيما أخرجت " وقد روي عنه رواية أخرى: " أنه لا خراج على أهل الذمة في أرضهم، ويؤخذ منهم العشر مما يخرج، يضاعف عليهم " والأول عنه أظهر. فهذا الذي حكاه ابن أبي موسى، من تضعيف العشر فيما يملكه بالإحياء، هو قياس تضعيفه فيما ملكه بالابتياع. لكن نقل حرب عنه في رجل من أهل الذمة أحيا مواتا. قال: " هو عشر " (¬6) ففهم القاضي وغيره من الأصحاب أن الواجب هو العشر المأخوذ من المسلم من غير تضعيف (¬7) فحكوا في وجوب العشر فيها روايتين، وابن أبي موسى نقل الروايتين في وجوب عشر مضعف (¬8) . ¬
وعلى طريقة القاضي يخرج في مسألة الابتياع كذلك. وهذا الذي نقله ابن أبي موسى أصح؛ فإن (¬1) الكرماني (¬2) ومحمد بن أبي (¬3) حرب (¬4) وإبراهيم بن هانئ (¬5) ويعقوب بن بختان (¬6) نقلوا: أن أحمد سئل- وقال حرب: سألت أحمد (¬7) قلت-: " إن أحيا رجل من أهل الذمة مواتا ماذا عليه؟ " قال: " أما أنا فأقول: ليس عليه شيء " قال: " وأهل المدينة يقولون في هذا قولا حسنا، يقولون: لا يترك الذمي أن يشتري أرض العشر ". قال: " وأهل البصرة يقولون قولا عجبا! يقولون: يضاعف عليه العشر " (¬8) قال: وسألت أحمد مرة أخرى، فقلت: إن أحيا رجل من أهل الذمة مواتا؟ قال: " هو عشر ". وقال مرة أخرى: " ليس عليه شيء ". وروى حرب عن عبيد الله بن الحسن العنبري (¬9) أنه قيل له: أخذكم ¬
الخمس من أرض أهل (¬1) الذمة، التي في أرض العرب، أبأثر عندكم، أم بغير أثر؟ قال: " ليس عندنا فيه أثر، ولكن قسناه بما (¬2) أمر به عمر -رضي الله عنه- أن يؤخذ من أموالهم إذا اتجروا بها، ومروا بها على عشار ". فهذا أحمد -رضي الله عنه- سئل عن إحياء الذمي (¬3) الأرض، فأجاب: بأنه ليس عليه شيء، وذكر اختلاف الفقهاء في مسألة اشترائه الأرض: هل يمنع، أو يضعف عليه العشر؟ وهذا يبين لك أن المسألتين عنده واحدة، وهو تملك الذمي الأرض العشرية، سواء كان بابتياع أو إحياء أو غير ذلك. وكذلك ذكر العنبري قاضي أهل البصرة: أنهم يأخذون الخمس (¬4) من جميع أرض أهل (¬5) الذمة العشرية، وذلك يعم ما ملك (¬6) انتقالا، أو ابتداء (¬7) . وهذا يفيدك أن أحمد إذا منع الذمي أن يبتاع الأرض العشرية، فكذلك يمنعه من إحيائها، وأنه إذا أخذ منه فيما ابتاعه الخمس، فكذلك فيما أحياه، وأن من نقل عنه عشرا مفردا في الأرض المحياة دون المبتاعة (¬8) فليس بمستقيم، وإنما سببه قوله (¬9) في الرواية الأخرى التي نقلها الكرماني: هي أرض ¬
عشر (¬1) . ولكن هذا كلام مجمل قد فسره (¬2) أبو عبد الله في موضع آخر، وبين مأخذه. ونقل الفقه: إن لم يعرف الناقل مأخذ الفقيه، وإلا فقد يقع فيه الغلط كثيرا. وقد أفصح أرباب هذا القول بأن مأخذهم قياس الحراثة على التجارة، فإن الذمي إذا (¬3) اتجر في غير أرضه (¬4) فإنه يؤخذ منه ضعف ما يؤخذ من المسلمين، وهو نصف العشر، فكذلك إذا استحدث أرضا غير أرضه (¬5) ؛ لأنه في كلا الموضعين قد أخذ يكتسب في غير مكانه الأصلي، وحق الحرث والتجارة قرينان، كما في قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267] (¬6) . وكذلك قال أحمد في رواية الميموني: يؤخذ من أموال أهل الذمة، إذا اتجروا فيها قومت، ثم أخذ منهم زكاتها مرتين، تضعف عليهم؛ لقول (¬7) عمر -رضي الله عنه-: " أضعفها عليهم ". فمن الناس من شبه (¬8) الزرع (¬9) على ذلك. ¬
قال الميموني: " والذي لا شك (¬1) فيه من قول أبي عبد الله -غير مرة-: أن أرض أهل الذمة التي في الصلح ليس عليها خراج، إنما ينظر إلى ما أخرجت، يؤخذ منهم العشر مرتين ". قال الميموني: " قلت لأبي عبد الله: فالذي يشتري أرض العشر ما عليه؟ " قال لي: " الناس كلهم يختلفون في هذا: منهم من لا يرى عليه شيئا، ويشبهه بماله ليس عليه فيه زكاة إذا كان مقيما ما كان بين أظهرنا، وبماشيته " فيقول (¬2) " هذه أموال، وليس عليه فيها صدقة ". ومنهم من يقول: " هذه حقوق لقوم، ولا يكون شراؤه الأرض يذهب بحقوق هؤلاء منهم "، والحسن يقول: " إذا اشتراها ضوعف عليه ". قلت: " كيف يضعف عليه؟ " قال: " لأن عليه العشر، فيؤخذ منه الخمس " قلت: " يذهب إلى أن يضعف عليه الخمس فيؤخذ منه الخمس (¬3) فالتفت إلي، فقال: " نعم يضعف عليهم ". قال: وذاكرنا أبا عبد الله: أن مالكا كان يرى أن لا يؤخذ منهم شيء، وكان يحول بينهم وبين الشراء لشيء منها، وهذه الرواية اختيار الخلال، وهي مسألة كبيرة، ليس هذا موضع استقصائها. والفقهاء أيضا مختلفون في هذه المسألة، كما ذكره أبو عبد الله. فمن نقل عنه تضعيف العشر: عمر بن عبد العزيز، والحسن البصري، وغيره من أهل البصرة، وبعضهم يرويه عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وهو قول أبي يوسف (¬4) . ¬
ومنهم من قال: " بل يؤخذ العشر على ما كان عليه، كالقول الذي ذكره بعض أصحابنا ". ويروى هذا عن (¬1) الثوري، ومحمد بن الحسن. وحكي عن الثوري: لا شيء عليه كالرواية الأخرى عن أحمد. ويروى هذا عن مالك أيضا، وعن مالك: أنه يؤمر ببيعها. وحكي ذلك عن الحسن بن صالح (¬2) وشريك (¬3) وهو قول الشافعي. وقال أبو ثور (¬4) يجبر على بيعها. وقياس قول من يضعف العشر: أن المستأمن لو زرع في دار الإسلام لكان الواجب عليه خُمْسَيْن (¬5) ضعفا ما يؤخذ من الذمي، كما أنه إذا اتجر في دار الإسلام (¬6) يؤخذ منه العشر، ضعفا ما يؤخذ من الذمي. فقد ظهر ¬
أنا (¬1) -على إحدى الروايتين، وقول طوائف من أهل العلم -نمنعهم من (¬2) أن يستولوا على عقار في دار الإسلام للمسلمين فيه حق من المساكن والمزارع، كما نمنعهم أن يحدثوا في دار الإسلام (¬3) بناء لعباداتهم من كنيسة أو بيعة أو صومعة؛ لأن عقد الذمة اقتضى إقرارهم على ما كانوا عليه (¬4) من غير تعد منهم إلى الاستيلاء فيما ثبت للمسلمين فيه حق من عقار أو رقيق. وهذا لأن مقصود الدعوة: أن تكون كلمة الله هي العليا، وإنما أقروا بالجزية للضرورة العارضة، والحكم المقيد بالضرورة مقدر بقدرها، ولهذا لم يثبت عن (¬5) واحد من السلف حق شفعة على مسلم، وأخذ بذلك أحمد رحمه الله وغيره؛ لأن الشقص الذي يملكه مسلم، إذا أوجبنا فيه شفعة لذمي، كنا قد أوجبنا على المسلم أن ينقل الملك في عقاره إلى ذمي بطريق القهر للمسلم، وهذا خلاف الأصول (¬6) . ولهذا نص أحمد على أن البائع للشقص إذا كان مسلما وشريكه ذمي، لم يجب (¬7) له شفعة؛ لأن الشفعة في الأصل إنما هي من حقوق أحد الشريكين على الآخر، بمنزلة الحقوق التي تجب على المسلم للمسلم: كإجابة الدعوة، وعيادة المريض، وكمنعه (¬8) أن يبيع على بيعه أو يخطب على خطبته، وهذا كله عند أحمد مخصوص بالمسلمين، وفي البيع والخطبة خلاف بين الفقهاء. ¬
استئجار الأرض الموقوفة على الكنيسة وشراء ما يباع للكنيسة
[استئجار الأرض الموقوفة على الكنيسة وشراء ما يباع للكنيسة] وأما استئجاره الأرض الموقوفة على الكنيسة، وشراؤه ما يباع (¬1) للكنيسة: فقد أطلق (¬2) أحمد المنع أنه لا يستأجرها، لا يعينهم على ما هم فيه، وكذلك أطلقه (¬3) الآمدي وغيره. ومثل هذا ما لو اشترى من المال الموقوف للكنيسة أو الموصى (¬4) لها به، أو باع آلات يبنون بها كنيسة ونحو ذلك، والمنع هنا أشد؛ لأن نفس هذا المال الذي يبذله يصرف في المعصية، فهو كبيع العصير لمن يتخذه خمرا بخلاف نفس السكنى، فإنها ليست محرمة، ولكنهم يعصون في المنزل، فقد يشبه ما لو قد باعهم الخبز واللحم والثياب، فإنهم قد يستعينون بذلك على الكفر، وإن كان الإسكان فوق هذا؛ لأن نفس الأكل والشرب ليس بمحرم، ونفس المنفعة المعقود عليها في الإجارة -وهو اللبث- قد يكون محرما، ألا ترى أن الرجل لا ينهى أن (¬5) يتصدق على الكفار والفساق في الجملة، وينهى أن يقعد في منزله من يكفر أو يفسق؟ وقد تقدم تصريح ابن القاسم أن هذا الشراء لا يحل، وأطلق الشافعي المنع من معاونتهم على بناء الكنيسة، ونحو ذلك، فقال في كتاب الجزية من الأم (¬6) " ولو أوصى -يعني الذمي- بثلث ماله أو شيء منه يبني به كنيسة لصلوات (¬7) النصارى (¬8) أو يستأجر به خدما للكنيسة، أو تعمر به الكنيسة، ¬
أو يستصبح به فيها، أو يشتري به أرضا (¬1) فتكون صدقة على الكنيسة، أو تعمر به (¬2) أو ما في هذا المعنى؛ كانت الوصية باطلة (¬3) ولو أوصى أن يبني كنيسة (¬4) ينزلها مار الطريق، أو وقفها على قوم يسكنونها (¬5) جازت الوصية، وليس في بنيان الكنيسة معصية، إلا أن تتخذ لمصلى النصارى الذي اجتماعهم فيها على الشرك"، قال: وأكره للمسلم أن يعمل بناء أو نجارا، أو غير (¬6) ذلك في كنائسهم التي لصلاتهم (¬7) . وأما مذهب أحمد في الإجارة لعمل ناووس ونحوه، فقال الآمدي: لا يجوز رواية واحدة؛ لأن المنفعة المعقود عليها محرمة، وكذلك الإجارة لبناء كنيسة أو بيعة، أو صومعة، كالإجارة لكتبهم (¬8) المحرفة. وأما مسألة حمل الخمر والميتة والخنزير للنصراني أو للمسلم فقد تقدم لفظ أحمد أنه قال فيمن حمل (¬9) خمرا أو خنزيرا أو ميتة لنصراني: فهو يكره أكل كرائه، ولكن يقضي للحمال بالكراء، وإذا كان للمسلم فهو أشد. زاد بعضهم فيها: ويكره أن يحمل الميتة بكراء، أو يخرج دابة ميتة، ونحو هذا. ثم اختلف أصحابنا في هذا الجواب على ثلاث طرق: ¬
أحدها: إجراؤه على ظاهره، وأن المسألة رواية واحدة، قال ابن أبي موسى: وكره أحمد أن يؤجر المسلم نفسه لحمل ميتة أو خنزير لنصراني. قال: فإن فعل قضي له بالكراء، وإن آجر (¬1) نفسه لحمل محرم لمسلم (¬2) كانت الكراهة أشد، ويأخذ الكراء. وهل يطيب له أم لا (¬3) على وجهين، أوجههما: أنه لا يطيب له، وليتصدق (¬4) به. وهكذا ذكر أبو الحسن الآمدي، قال: وإذا آجر (¬5) نفسه من رجل في حمل خمر أو خنزير أو ميتة؛ كره. نص عليه. وهذه كراهة تحريم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن حاملها. إذا ثبت هذا فيقضى (¬6) له بالكراء، وغير ممتنع أن يقضى بالكراء وإن كان محرما، كإجارة الحجام، فقد صرح هؤلاء بأنه يستحق الأجرة مع كونها محرمة عليه على الصحيح. الطريقة الثانية: تأويل هذه الرواية بما يخالف ظاهرها، وجعل المسألة رواية واحدة: أن هذه الإجارة لا تصح، وهي طريقة القاضي في المجرد (¬7) وهي طريقة ضعيفة، رجع عنها القاضي في كتبه المتأخرة، فإنه صنف المجرد قديما. الطريقة الثالثة: تخرج هذه المسألة على روايتين: إحداهما: أن هذه الإجارة صحيحة يستحق بها الأجرة مع الكراهة للفعل وللأجرة. ¬
والثانية (¬1) لا تصح الإجارة، ولا يستحق بها أجرة، وإن حمل. وذلك (¬2) على قياس قوله في أن الخمر (¬3) لا يجوز إمساكها، وتجب إراقتها. قال في رواية أبي طالب (¬4) إذا أسلم، وله خمر أو خنازير، تصب الخمر وتسرح الخنازير، وقد حرما عليه، وإن قتلها (¬5) فلا بأس، فقد نص على أنه لا يجوز إمساكها، ولأنه قد نص في رواية ابن منصور: أنه يكره أن يؤاجر نفسه لنظارة كرم النصراني؛ لأن أصل ذلك يرجع إلى الخمر إلا أن يعلم أنه يباع لغير الخمر. فقد منع من إجارة نفسه على حفظ الكرم الذي يتخذ للخمر، فأولى أن يمنع من إجارة نفسه على حمل الخمر. فهذه طريقة القاضي في التعليق وتصرفه، وعليها أكثر أصحابه، مثل أبي الخطاب، وهي طريقة من احتذى حذوه من المتأخرين. والمنصور عندهم الرواية المخرجة، وهي مذهب مالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد، وهذا عند أصحابنا فيما إذا استأجر على حمل الخمر إلى بيته، أو حانوته، أو حيث لا يجوز إقرارها، سواء كان حملها للشرب أو مطلقا: فأما إن كان (¬6) يحملها ليريقها، أو يحمل ¬
الميتة (¬1) لينقلها إلى الصحراء؛ لئلا يتأذى بنتن ريحها، فإنه يجوز الإجارة على ذلك؛ لأنه عمل مباح، لكن إن كانت الأجرة جلد الميتة لم تصح، واستحق أجرة المثل، وإن كان قد سلخ الجلد وأخذه رده على صاحبه، وهذا مذهب مالك، وأظنه مذهب الشافعي أيضا. ومذهب أبي حنيفة كالرواية الأولى، ومأخذه في ذلك: أن الحمل إذا كان مطلقا لم يكن المستحق عين (¬2) حمل الخمر، وأيضا فإن مجرد حملها ليس معصية؛ لجواز أن تحمل لتراق، أو تخلل عنده، ولهذا إذا كان الحمل للشرب لم يصح، ومع هذا فإنه يكره الحمل. والأشبه -والله أعلم- طريقة ابن أبي موسى، فإنها أقرب إلى مقصود أحمد، وأقرب إلى القياس، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن عاصر الخمر ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه، فالعاصر والحامل قد عاوضا على منفعة تستحق عوضا، وهي ليست محرمة في نفسها، وإنما حرمت لقصد المعتصر، والمستحمل فهو كما لو باع عنبا أو عصيرا لمن يتخذه خمرا، وفات العصير والخمر في يد المشتري، فإن مال البائع لا يذهب مجانا، بل يقضي له بعوضه، كذلك هاهنا المنفعة التي وفاها المؤجر لا تذهب مجانا، بل يعطى بدلها، فإن تحريم الانتفاع بها إنما كان من جهة المستأجر لا من جهته. ثم نحن نحرم الأجرة عليه، لحق الله سبحانه لا لحق المستأجر، والمشتري بخلاف من استأجر للزنا أو التلوط أو القتل أو الغصب أو السرقة، فإن نفس هذا العمل محرم لا (¬3) لأجل قصد المشتري، فهو كما لو باعه ميتة أو خمرا، فإنه لا يقضي له (¬4) بثمنها؛ لأن نفس هذه العين محرمة. ¬
ومثل هذه الإجارة والجعالة لا توصف بالصحة مطلقا، ولا بالفساد مطلقا، بل هي صحيحة بالنسبة إلى المستأجر، بمعنى أنه يجب عليه مال (¬1) الجعل والأجرة (¬2) وهي فاسدة (¬3) بالنسبة إلى الأجير، بمعنى أنه يحرم عليه الانتفاع بالأجرة والجعل، ولهذا في الشريعة نظائر. وعلى هذا فنص أحمد على كراهة نظارة كرم النصراني لا ينافي هذا، فإنا ننهاه عن هذا الفعل وعن ثمنه، ثم نقضي له (¬4) بكرائه، ولو لم نفعل هذا لكان (¬5) في هذا منفعة عظيمة للعصاة، فإن كل من استأجروه على عمل يستعينون به على المعصية قد حصلوا غرضهم منه، ثم لا يعطونه شيئا، وما هم بأهل أن يعاونوا على ذلك. بخلاف من سلم إليهم عملا لا قيمة له بحال. نعم: البغي والمغني والنائحة، ونحوهم؛ إذا أعطوا أجورهم ثم تابوا: هل يتصدقون بها، أو يجب أن يردوها على من أعطاهموها؟ فيها (¬6) قولان أصحهما: أنا لا نردها على الفساق الذين بذلوها في المنفعة المحرمة (¬7) ولا يباح الأخذ (¬8) بل يتصدق بها، وتصرف في مصالح المسلمين، كما نص عليه أحمد في أجرة حمال الخمر. ¬
ومن ظن (¬1) أنها ترد على الباذل المستأجر؛ لأنها مقبوضة بعقد فاسد، فيجب (¬2) ردها عليه كالمقبوض بالربا، أو نحوه من العقود الفاسدة. فيقال له: المقبوض بالعقد الفاسد يجب فيه التراد من الجانبين، فيرد كل منهما على الآخر ما قبضه منه، كما في تقابض الربا عند (¬3) من يقول: المقبوض بالعقد الفاسد لا يملك (¬4) كما هو المعروف من مذهب الشافعي وأحمد. فأما إذا تلف المقبوض عند القابض، فإنه لا يستحق استرجاع عوضه مطلقا، وحينئذ فيقال: وإن كان ظاهر القياس يوجب ردها بناء على أنها مقبوضة بعقد فاسد، فإن الزاني ومستمع الغناء والنوح قد بذلوا هذا المال عن طيب نفوسهم، واستوفوا العوض (¬5) المحرم، والتحريم الذي فيه ليس لحقهم، وإنما هو لحق الله تعالى، وقد فاتت هذه المنفعة (¬6) بالقبض، والأصول تقتضي: أنه إذا رد أحد العوضين يرد الآخر، فإذا تعذر (¬7) على المستأجر رد المنفعة لم يرد عليه المال. وأيضا، (¬8) فإن هذا الذي استوفيت منفعته عليه ضرر في أخذ منفعته (¬9) وعوضها جميعا منه، بخلاف ما لو كان العوض خمرا أو ميتة، فإن تلك لا ضرر عليه في فواتها، فإنها لو كانت باقية أتلفناها عليه، ومنفعة الغناء والنوح ¬
لو لم تفت لتوفرت عليه، بحيث كان يتمكن من صرف تلك المنفعة في أمر آخر، أعني من صرف القوة التي عمل بها. فيقال على هذا: فينبغي أن يقضوا بها إذا طالب بقبضها. قيل: نحن لا نأمر بدفعها ولا بردها كعقود الكفار المحرمة، فإنهم إذا أسلموا قبل (¬1) القبض لم نحكم بالقبض، ولو أسلموا بعد القبض لم نحكم بالرد، ولكن في حق (¬2) المسلم تحرم (¬3) هذه الأجرة (¬4) عليه؛ لأنه كان معتقدا لتحريمها بخلاف الكافر، وذلك لأنه إذا طلب الأجرة قلنا له: أنت فرطت، حيث صرفت قوتك في عمل محرم، فلا يقضى لك بأجرة. فإذا قبضها ثم قال الدافع: هذا المال اقضوا لي برده، فإنما (¬5) أقبضته إياه عوضا عن منفعة محرمة. قلنا له: دفعته بمعاوضة رضيت بها، فإذا طلبت استرجاع ما أخذ (¬6) فاردد إليه ما أخذت إذا كان له في بقائه معه منفعة، فهذا ومثل هذا (¬7) يتوجه فيما يقبض من ثمن الميتة والخمر، وأيضا فمشتري الخمر إذا أقبض (¬8) ثمنها وقبضها وشراها، ثم طلب أن يعاد إليه الثمن كان الأوجه أن يرد إليه الثمن ولا يباح للبائع، ولا سيما ونحن نعاقب الخمار -بياع الخمر- بأن نحرق الحانوت التي تباع فيها الخمر، نص على ذلك أحمد وغيره من العلماء؛ (¬9) فإن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ¬
حرق حانوتا يباع فيها الخمر (¬1) وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- حرق قرية يباع فيها الخمر (¬2) وهي آثار معروفة، وهذه المسألة مبسوطة في غير هذا الموضع (¬3) ؛ وذلك لأن (¬4) العقوبات المالية (¬5) عندنا باقية غير منسوخة (¬6) . فإذا عرف أصل أحمد في هذه المسائل، فمعلوم أن بيعهم ما يقيمون به أعيادهم المحرمة، مثل بيعهم العقار للسكنى وأشد، بل هو إلى بيعهم العصير أقرب منه إلى بيعهم العقار؛ لأن ما يبتاعونه من الطعام واللباس ونحو ذلك يستعينون به على العيد، إذ العيد كما قدمنا اسم لما يفعل من العبادات والعادات، وهذه إعانة على ما يقام من العادات، لكن لما كان جنس الأكل والشرب واللباس ليس محرما في نفسه، بخلاف شرب الخمر؛ فإنه محرم في نفسه. فإن كان ما يبتاعونه يفعلون به نفس المحرم: مثل صليب، أو شعانين، أو معمودية، أو تبخير، أو ذبح لغير الله، أو صورة ونحو ذلك؛ فهذا لا ريب في تحريمه، كبيعهم العصير ليتخذوه خمرا، وبناء الكنيسة لهم، وأما ما ينتفعون به في أعيادهم (¬7) للأكل والشرب واللباس، فأصول أحمد وغيره تقتضي كراهته. لكن: كراهة تحريم كمذهب مالك، أو كراهة تنزيه؟ والأشبه: أنه كراهة ¬
تحريم كسائر النظائر عنده، فإنه لا يجوز بيع الخبز واللحم والرياحين للفساق الذين يشربون عليها (¬1) الخمر، ولأن هذه الإعانة قد تفضي إلى إظهار الدين (¬2) وكثرة اجتماع الناس لعيدهم وظهوره، وهذا أعظم من إعانة شخص معين. لكن من يقول: هذا مكروه كراهة تنزيه يقول: هذا متردد بين بيع العصير وبيع الخنزير، وليس هذا مثل بيعهم العصير الذي يتخذونه خمرا؛ لأنا إنما يحرم علينا أن نبيع الكفار ما كان محرم الجنس: كالخمر، والخنزير. فأما ما (¬3) يباح في حال دون حال كالحرير ونحوه فيجوز بيعه لهم. وأيضا، فإن الطعام واللباس الذي يباعونه (¬4) في عيدهم ليس محرما في نفسه، وإنما الأعمال التي يعملونها (¬5) به لما كانت شعار الكفر (¬6) نهي عنها المسلم لما فيها من مفسدة انجراره إلى بعض فروع الكفر (¬7) . فأما الكافر فهي لا تزيده من الفساد أكثر مما هو فيه؛ لأن نفس حقيقة الكفر قائمة به؛ فدلالة الكفر وعلامته إذا كانت مباحة (¬8) لم يكن فيها كفر زائد (¬9) كما لو باعهم المسلم ثياب الغيار (¬10) التي يتميزون بها عن المسلمين، بخلاف شرب الخمر وأكل الخنزير فإنه زيادة في الكفر. ¬
قبول الهدية من أهل الذمة يوم عيدهم
نعم: لو باعهم المسلم ما يتخذونه صليبا، أو شعانين ونحو ذلك (¬1) فهنا قد باعهم ما يستعينون به على نفس المعصية (¬2) ومن نصر التحريم يجيب عن هذا بأن شعار الكفر وعلامته ودلالته على وجهين: وجه نؤمر به في دين (¬3) الإسلام، وهو (¬4) ما فيه إذلال للكفر وصغار، فهذا إذا اتبعوه (¬5) كان ذلك إعانة على ما يأمر الله به ورسوله، فإنا نحن نأمرهم بلباس (¬6) الغيار. ووجه ننهى عنه وهو ما فيه إعلاء للكفر وإظهار له، كرفع أصواتهم بكتابهم، وإظهار الشعانين، وبيع النواقيس لهم، وبيع الرايات والألوية لهم، ونحو ذلك، فهذا من شعائر الكفر التي نحن مأمورون (¬7) بإزالتها، والمنع منها في (¬8) ديار الإسلام، فلا يجوز إعانتهم عليها. [قبول الهدية من أهل الذمة يوم عيدهم] وأما قبول الهدية منهم يوم عيدهم، فقد قدمنا عن علي -رضي الله عنه- أنه أتي بهدية النيروز فقبلها (¬9) . وروى ابن أبي شيبة في المصنف: حدثنا جرير (¬10) عن قابوس (¬11) عن أبيه (¬12) أن امرأة سألت عائشة، قالت: إن لنا ¬
أظآرا (¬1) من المجوس، وإنه يكون لهم العيد فيهدون لنا. فقالت: "أما ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا (¬2) ولكن كلوا من أشجارهم " (¬3) وقال حدثنا وكيع عن الحسن (¬4) بن حكيم، عن أمة (¬5) عن أبي برزة: أنه كان له سكان مجوس، فكانوا يهدون له في النيروز والمهرجان، فكان يقول لأهله: " ما كان من فاكهة فكلوه (¬6) وما كان من غير ذلك فردوه " (¬7) . فهذا كله يدل على أنه لا تأثير للعيد في المنع من قبول هديتهم، بل حكمها في العيد وغيره سواء؛ لأنه ليس في ذلك إعانة لهم على شعائر (¬8) كفرهم. لكن قبول هدية الكفار من أهل الحرب وأهل الذمة مسألة مستقلة بنفسها؛ فيها خلاف وتفصيل ليس هذا موضعه، وإنما يجوز أن يؤكل من طعام أهل الكتاب في عيدهم، بابتياع أو هدية، أو غير ذلك مما (¬9) لم يذبحوه للعيد، فأما ذبائح المجوس، فالحكم فيها معلوم، فإنها حرام عند العامة (¬10) . ¬
ذبيحتهم يوم عيدهم وأنواع ذبائح أهل الكتاب
[ذبيحتهم يوم عيدهم وأنواع ذبائح أهل الكتاب] فأما ما ذبحه أهل الكتاب لأعيادهم، وما يتقربون بذبحه إلى غير الله، نظير ما يذبح المسلمون هداياهم وضحاياهم متقربين بها إلى الله تعالى، وذلك مثل ما يذبحون للمسيح والزهرة، فعن أحمد روايتان: أشهرهما في نصوصه أنه لا يباح أكله، وإن لم يسم عليه غير الله تعالى، ونقل النهي عن ذلك، عن عائشة وعبد الله (¬1) بن عمر. قال الميموني: سألت أبا عبد الله عن ذبائح أهل الكتاب فقال: إن كان (¬2) مما يذبحون لكنائسهم (¬3) . فقال: يدعون التسمية على عمد، إنما يذبحون للمسيح (¬4) . وذكر أيضا: أنه سأل أبا (¬5) عبد الله عمن ذبح من أهل الكتاب ولم يسم، فقال: إن كان مما يذبحون لكنائسهم. فقال ابن عمر (¬6) يترك التسمية فيه على عمد؛ إنما يذبح للمسيح، وقد كرهه ابن عمر، إلا أن أبا الدرداء يتأول أن طعامهم حل، وأكثر ما رأيت منه (¬7) الكراهية لأكل ما ذبحوا لكنائسهم. وقال أيضا: سألت أبا عبد الله عن ذبيحة المرأة من أهل الكتاب، ولم تسم. قال: " إن كانت ناسية فلا بأس، وإن كان مما يذبحون لكنائسهم قد يدعون التسمية فيه على عمد " وقال المروزي: قرئ على أبي عبد الله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] (¬8) قال: " على الأصنام " وقال: " كل شيء ذبح على الأصنام لا يؤكل ". ¬
وقال حنبل: قال عمي (¬1) " أكره كل ما ذبح لغير الله، والكنائس إذا ذبح لها، وما ذبح أهل الكتاب على معنى الذكاة فلا بأس به (¬2) وما ذبح يريد به غير الله فلا آكله، وما ذبحوا في أعيادهم أكرهه ". وروى أحمد عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي: سألت ميمونا (¬3) عما ذبحت النصارى لأعيادهم وكنائسهم، فكره أكله. قال حنبل: سمعت أبا عبد الله قال: " لا يؤكل؛ لأنه أهل لغير الله به (¬4) ويؤكل كل ما سوى ذلك، وإنما أحل الله عز وجل من طعامهم ما ذكر اسم الله عليه، قال الله عز وجل {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] (¬5) وقال: (¬6) {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 173] (¬7) فكل ما ذبح لغير الله فلا يؤكل لحمه ". وروى حنبل عن عطاء في ذبيحة النصراني (¬8) يقول: اسم المسيح، قال: كل، قال حنبل: سمعت أبا عبد الله يسأل عن ذلك قال: لا تأكل، قال الله تعالى {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] (¬9) فلا أرى هذا ذكاة {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] (¬10) . فاحتجاج أبي عبد الله بالآية دليل على أن الكراهة عنده كراهة تحريم، ¬
وهذا قول عامة قدماء الأصحاب، قال الخلال في باب التوقي لأكل ما ذبحت النصارى وأهل الكتاب لأعيادهم وذبائح أهل الكتاب لكنائسهم: " كل من روى عن أبي عبد الله روى الكراهة (¬1) فيه، وهي متفرقة في هذه الأبواب. وما قاله حنبل في هاتين المسألتين ذكر عن أبي عبد الله: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] (¬2) {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] (¬3) فإنما الجواب من أبي عبد الله فيما أهل لغير الله به، وأما التسمية وتركها، فقد روى عنه جميع أصحابه: أنه لا بأس بأكل ما لم يسموا عليه، إلا في وقت ما يذبحون لأعيادهم وكنائسهم، فإنه معنى قوله تعالى {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] (¬4) وعند أبي عبد الله أن تفسير {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] (¬5) إنما عنى به (¬6) الميتة. وقد أخرجته (¬7) في موضعه. ومقصود الخلال: أن نهي أحمد لم يكن لأجل ترك التسمية فقط؛ فإن ذلك عنده لا يحرم، وإنما كان لأنهم ذبحوا لغير الله، سواء كانوا يسمون غير الله أو لا يسمون الله ولا غيره، ولكن قصدهم الذبح لغيره (¬8) وقال ابن أبي موسى: ويجتنب أكل كل ما ذبحه اليهود والنصارى لكنائسهم وأعيادهم، ولا يؤكل ما ذبح للزهرة (¬9) . ¬
والرواية الثانية: أن ذلك مكروه غير محرم، وهذه التي ذكرها القاضي وغيره. وأخذوا ذلك -فيما أظنه- مما نقله عبد الله بن أحمد، قال: سألت أبي عمن ذبح للزهرة، قال: لا يعجبني. قلت: أحرام أكله؟ قال: لا أقول حراما، ولكن لا يعجبني (¬1) . وذلك أنه أثبت الكراهة دون التحريم. ويمكن أن يقال: إنما توقف عن تسميته محرما؛ لأن ما اختلف في تحريمه وتعارضت فيه الأدلة، كالجمع بين الأختين المملوكتين (¬2) ونحوه، هل يسمى حراما؟ على روايتين، كالروايتين عنه في أن ما اختلف في وجوبه، هل يسمى فرضا؟ على روايتين. ومن أصحابنا من أطلق الكراهة، ولم يفسر: هل أراد التحريم أو التنزيه؟ قال أبو الحسن الآمدي: ما ذبح لغير الله مثل الكنائس والزهرة والشمس والقمر. فقال أحمد: مما أهل لغير الله به (¬3) أكرهه، كل ذبح لغير الله، والكنائس، وما ذبحوا في أعيادهم، أكرهه؛ فأما ما ذبح أهل الكتاب على معنى الذكاة فلا بأس به. وكذلك مذهب مالك، يكره ما ذبحه النصارى لكنائسهم، أو ذبحوا على اسم المسيح، أو الصليب، أو أسماء من مضى من أحبارهم ورهبانهم (¬4) . وفي المدونة: " وكره مالك أكل ما ذبحه أهل الكتاب لكنائسهم، أو لأعيادهم، من غير تحريم، وتأول قول الله تعالى {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145] (¬5) قال ¬
ابن القاسم: وكذلك ما ذبحوا وسموا عليه اسم المسيح، وهو بمنزلة ما ذبحوا لكنائسهم، ولا أرى أن يؤكل. ونقلت الرخصة في ذبائح الأعياد ونحوها، عن طائفة من الصحابة رضي الله عنهم، وهذا فيما لم يسموا (¬1) غير الله. فإن سموا غير الله في عيدهم، أو غير عيدهم: حرم في أشهر الروايتين، وهو مذهب الجمهور، وهو مذهب الفقهاء الثلاثة فيما نقله غير واحد، وهو قول علي بن أبي طالب، وغيره من الصحابة، منهم أبو الدرداء (¬2) وأبو أمامة، والعرباض بن سارية، وعبادة بن الصامت، وهو قول أكثر فقهاء الشام وغيرهم. والثانية: لا يحرم، وإن سموا غير الله، وهذا قول عطاء ومجاهد ومكحول والأوزاعي والليث. نقل ابن (¬3) منصور: أنه قيل لأبي عبد الله: سئل سفيان عن رجل ذبح ولم يذكر اسم (¬4) الله متعمدا، قال: أرى أن لا يؤكل، قيل له: أرأيت إن كان يرى أنه يجزي عنه فلم يذكر؟ قال: أرى أن لا يؤكل. قال أحمد: المسلم (¬5) فيه اسم الله، يؤكل. ولكن قد أساء في ترك التسمية؛ النصارى: أليس يذكرون غير (¬6) اسم الله. ¬
ووجه الاختلاف أن هذا قد دخل في عموم قوله عز وجل {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] (¬1) وفي عموم قوله {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] (¬2) ؛ لأن هذه الآية تعم كل ما نطق به لغير الله. يقال: أهللت بكذا، إذا تكلمت به (¬3) وإن كان أصله الكلام الرفيع، فإن الحكم لا يختلف برفع الصوت وخفضه، وإنما لما كانت عادتهم رفع الصوت في الأصل، خرج الكلام على ذلك، فيكون المعنى: وما تكلم به لغير الله وما نطق به لغير الله، ومعلوم أن ما حرم: أن يجعل غير (¬4) الله مسمى، فكذلك منويا، إذ هذا مثل النيات في العبادات، فإن اللفظ بها وإن كان أبلغ، لكن الأصل القصد، ألا ترى أن المتقرب بالهدايا والضحايا سواء قال: أذبحه لله، أو سكت، فإن العبرة بالنية؟ وتسمية (¬5) الله على الذبيحة، غير ذبحها لله، فإنه يسمى على ما يقصد به اللحم، وأما القربان فيذبح لله سبحانه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في قربانه: (¬6) " اللهم (¬7) منك ولك " بعد قوله: " بسم الله والله أكبر " (¬8) ¬
ما ذبح على النصب
اتباعا لقوله تعالى {إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162] (¬1) . والكافرون يصنعون بآلهتهم كذلك فتارة يسمون آلهتهم على الذبائح، وتارة (2) (¬2) يذبحونها قربانا إليهم، وتارة (3) (¬3) يجمعون بينهما، وكل ذلك -والله أعلم- يدخل فيما أهل لغير الله به، فإن من سمى غير الله فقد أهل به لغير الله، فقوله: (باسم كذا) استعانة به، وقوله (لكذا) (¬4) عبادة له؛ ولهذا جمع الله بينهما في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] [ما ذبح على النصب] وأيضا، فإنه سبحانه حرم (¬5) ما ذبح على النصب، وهي كل ما ينصب ليعبد من دون الله تعالى. وأما احتجاج أحمد على هذه المسألة بقوله تعالى {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] (¬6) فحيث اشترطت التسمية في ذبيحة المسلم؛ هل تشترط في ذبيحة الكتابي؟ على روايتين: وإن كان الخلال هنا قد ذكر عدم الاشتراط، فاحتجاجه بهذه الآية يخرج على إحدى الروايتين. فلما تعارض العموم الحاظر، وهو قول (¬7) الله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 173] (¬8) والعموم المبيح، وهو قوله: ¬
{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] (¬1) اختلف العلماء في ذلك. والأشبه بالكتاب والسنة: ما دل عليه أكثر كلام أحمد من الحظر، وإن كان من متأخري أصحابنا من لم يذكر هذه الرواية بحال؛ وذلك لأن عموم قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] (¬2) عموم محفوظ لم تخص منه صورة، بخلاف طعام الذين أوتوا الكتاب، فإنه يشترط له الذكاة المبيحة (¬3) فلو ذكى الكتابي في غير المحل المشروع لم تبح ذكاته، ولأن غاية الكتابي: أن تكون ذكاته كالمسلم، والمسلم لو ذبح لغير الله، أو ذبح باسم غير الله (¬4) لم يبح، وإن كان يكفر بذلك، فكذلك الذمي؛ لأن قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5] (¬5) سواء، وهم وإن كانوا يستحلون هذا، ونحن لا نستحله فليس كل ما استحلوه حل (¬6) ولأنه قد تعارض دليلان، حاظر ومبيح، فالحاظر: أولى (¬7) . ولأن الذبح لغير الله، وباسم غيره، قد علمنا يقينا أنه ليس من دين الأنبياء عليهم السلام، فهو من الشرك الذي أحدثوه، فالمعنى الذي لأجله حلت ذبائحهم، منتف في هذا. والله أعلم. فإن قيل: أما إذا سموا عليه غير الله بأن يقولوا: باسم المسيح ونحوه، فتحريمه ظاهر، أما إذا لم يسموا أحدا، ولكن قصدوا الذبح للمسيح، ¬
أو للكوكب (¬1) ونحوها، فما وجه تحريمه؟ قيل: قد (¬2) تقدمت الإشارة إلى ذلك. وهو أن الله سبحانه قد حرم ما ذبح على النصب، وذلك يقتضي تحريمه، وإن كان ذابحه كتابيا، لأنه لو كان التحريم لكونه وثنيا، لم يكن فرق بين ذبحه على النصب وغيرها، ولأنه لما أباح لنا طعام أهل الكتاب، دل على أن طعام المشركين حرام، فتخصيص ما ذبح على الوثن يقتضي فائدة جديدة. وأيضا: فإنه ذكر تحريم ما ذبح على النصب، وما أهل به لغير الله؛ وقد دخل فيما أهل به لغير الله ما (¬3) أهل به أهل الكتاب لغير الله فكذلك كل ما ذبح على النصب، فإذا ذبح الكتابي على ما قد نصبوه من التماثيل في الكنائس، فهو مذبوح على النصب، ومعلوم أن حكم ذلك لا يختلف بحضور الوثن وغيبته، فإنما حرم لأنه قصد بذبحه عبادة الوثن وتعظيمه، وهذه الأنصاب قد قيل: هي من الأصنام، وقيل: هي غير الأصنام. قالوا: كان حول البيت ثلاثمائة وستون حجرا، كان أهل الجاهلية يذبحون عليها، ويشرحون اللحم عليها، وكانوا يعظمون هذه الحجارة، ويعبدونها، ويذبحون عليها، وكانوا إذا شاءوا بدلوا هذه الحجارة بحجارة هي أعجب إليهم منها. ويدل على ذلك قول أبي ذر في حديث إسلامه: "حتى صرت كالنصب الأحمر " (¬4) يريد أنه كان يصير أحمر من تلوثه بالدم. ¬
وفي قوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] قولان: أحدهما: أن نفس الذبح كان يكون عليها، كما ذكرناه، فيكون ذبحهم عليها تقربا إلى الأصنام، وهذا على قول من يجعلها غير الأصنام، فيكون الذبح عليها لأجل أن المذبوح عليها مذبوح للأصنام، أو مذبوح لها، وذلك يقتضي تحريم كل ما ذبح لغير الله، ولأن الذبح في البقعة لا تأثير له إلا من جهة الذبح لغير الله، كما كرهه النبي صلى الله عليه وسلم من الذبح في مواضع أصنام المشركين، وموضع أعيادهم، وإنما يكره المذبوح في البقعة المعينة؛ لكونها محل شرك، فإذا وقع الذبح حقيقة لغير الله؛ كانت حقيقة التحريم قد وجدت فيه. والقول الثاني: أن الذبح على النصب، أي: لأجل النصب، كما قيل: أولم (¬1) على زينب بخبز ولحم (¬2) وأطعم فلان على ولده، وذبح فلان على ولده، ونحو ذلك، ومنه قوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] (¬3) وهذا ظاهر على قول من يجعل النصب نفس الأصنام، ولا منافاة بين كون الذبح لها، وبين كونها كانت تلوث بالدم، وعلى هذا القول فالدلالة ظاهرة. واختلاف هذين القولين في قوله تعالى {عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] (¬4) نظير ¬
الاختلاف في قوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 34] (¬1) وقوله تعالى {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28] (¬2) . فإنه قد قيل: المراد بذكر اسم الله عليها، إذا كانت حاضرة. وقيل: بل يعم ذكره لأجلها في مغيبها وشهودها، بمنزلة قوله تعالى {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] (¬3) . وفي الحقيقة: مآل القولين إلى شيء واحد في قوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] كما قد أومأنا إليه. وفيها قول ثالث ضعيف: أن المعنى على اسم النصب. وهذا ضعيف؛ لأن هذا المعنى حاصل من قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] فيكون تكريرا. لكن اللفظ يحتمله، كما روى البخاري في صحيحه عن موسى بن عقبة (¬4) عن سالم (¬5) «عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه كان يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لقي زيد بن عمرو بن نفيل (¬6) بأسفل ¬
بلدح (¬1) وذلك (¬2) قبل أن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فقدم (¬3) إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرة في لحم. فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إني لا (¬4) آكل مما تذبحون على أنصابكم (¬5) ولا آكل إلا مما ذكر اسم الله عليه» (¬6) . وفي رواية له: " وإن زيد بن عمرو بن نفيل كان يعيب على قريش ذبائحهم، ويقول: " الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض الكلأ، ثم أنتم تذبحونها على غير اسم الله؟! (¬7) إنكارا لذلك وإعظاما له. وأيضا فإن قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] ظاهره: أنه ما ذبح لغير الله، مثل أن يقال: هذا ذبيحة لكذا، وإذا كان هذا هو المقصود: فسواء لفظ به أو لم يلفظ. وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم، وقال فيه: باسم المسيح، ونحوه، كما أن ما ذبحناه نحن متقربين به إلى الله سبحانه كان أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم، وقلنا عليه: باسم الله، فإن عبادة الله سبحانه بالصلاة له والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور، فكذلك الشرك بالصلاة لغيره والنسك لغيره أعظم (¬8) من الاستعانة ¬
ذبائح الجن المزعزمة
باسمه (¬1) في فواتح الأمور. فإذا حرم ما قيل فيه: باسم المسيح، أو الزهرة؛ فلأن يحرم ما قيل فيه: لأجل المسيح والزهرة (¬2) أو قصد به ذلك، أولى. وهذا يبين لك ضعف قول من حرم ما ذبح باسم غير الله، ولم يحرم ما ذبح لغير الله، كما قاله طائفة من أصحابنا وغيرهم، بل لو قيل بالعكس لكان أوجه، فإن العبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله. وعلى هذا: فلو ذبح لغير الله متقربا به (¬3) إليه لحرم (¬4) وإن قال فيه: (¬5) بسم الله، كما يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة الذين يتقربون إلى (¬6) والكواكب بالذبح والبخور ونحو ذلك، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان. [ذبائح الجن المزعزمة] ومن هذا الباب: ما قد يفعله الجاهلون بمكة -شرفها الله- (¬7) وغيرها من الذبح للجن (¬8) ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ذبائح الجن (¬9) ويدل على المسألة ما قدمناه من أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الذبح في مواضع ¬
الأصنام، ومواضع أعياد الكفار. ويدل على ذلك أيضا: ما رواه أبو داود في سننه، حدثنا هارون بن عبد الله (¬1) حدثنا حماد بن مسعدة (¬2) عن عوف (¬3) عن أبي ريحانة (¬4) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معاقرة الأعراب (¬5) " قال أبو داود: غندر أوقفه على ابن عباس (¬6) . وروى أبو بكر بن أبي شيبة في تفسيره: حدثنا وكيع، عن أصحابه، عن عوف الأعرابي (¬7) عن أبي ريحانة قال: سئل ابن عباس، عن معاقرة الأعراب بينها، فقال: " إني أخاف أن تكون مما أهل لغير الله به " (¬8) . ¬
وروى أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن (¬1) دحيم في تفسيره، حدثنا أبي، حدثنا سعيد بن منصور، عن ربعي بن (¬2) عبد الله بن الجارود (¬3) قال: سمعت الجارود (¬4) قال: كان (¬5) من بني رياح (¬6) رجل يقال له: ابن وثيل (¬7) شاعر، نافر أبا الفرزدق غالبا (¬8) الشاعر، بماء بظهر الكوفة، على أن يعقر هذا مائة من إبله، وهذا مائة من إبله إذا وردت الماء، فلما وردت الإبل الماء قاما إليها بأسيافهما فجعلا ينسفان عراقيبها، فخرج الناس على الحمرات (¬9) والبغال، يريدون الحمل (¬10) وعلي -رضي الله عنه- بالكوفة فخرج على بغلة ¬
عودة إلى تفصيل القول فيما ذبح على النصب
رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، وهو ينادي: " يا أيها الناس لا تأكلوا من لحومها، فإنها أهل بها لغير الله " (¬1) . فهؤلاء الصحابة قد فسروا ما قصد (¬2) بذبحه غير الله، داخلا فيما أهل به لغير الله؛ فعلمت (¬3) أن الآية لم يقتصر بها على اللفظ باسم غير الله، بل ما قصد به التقرب إلى غير الله فهو كذلك، وكذلك (¬4) تفاسير التابعين على أن ما ذبح على النصب هو ما ذبح لغير الله. [عودة إلى تفصيل القول فيما ذبح على النصب] وروينا في تفسير مجاهد المشهور عنه الصحيح من رواية ابن أبي نجيح في قوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] (¬5) قال: " كانت حجارة حول الكعبة يذبح لها أهل الجاهلية، ويبدلونها إذا شاءوا بحجارة أعجب إليهم منها " (¬6) . وروى ابن أبي شيبة، حدثنا محمد بن فضيل، عن أشعث، عن الحسن، في قوله تعالى {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] (¬7) قال: " هو بمنزلة (¬8) ما ذبح لغير الله ". وفي تفسير قتادة المشهور عنه: " وأما ما ذبح على النصب: فالنصب حجارة كان أهل الجاهلية يعبدونها ويذبحون لها، فنهى الله عن ذلك " (¬9) . ¬
وفي تفسير علي بن أبي طلحة (¬1) عن ابن عباس: " النصب أصنام كانوا يذبحون ويهلون عليها " (¬2) . فإن قيل: فقد نقل إسماعيل بن سعيد (¬3) قال: سألت أحمد عما يقرب لآلهتهم يذبحه رجل مسلم. قال: " لا بأس به " (¬4) . قيل: إنما قال أحمد ذلك؛ لأن المسلم إذا ذبحه سمى الله عليه، ولم يقصد ذبحه لغير الله، ولا يسمي غيره، بل يقصد ضد (¬5) ما قصده صاحب الشاة، فتصير نية صاحب الشاة لا أثر لها، والذابح هو المؤثر في الذبح، بدليل أن المسلم لو وكل كتابيا في ذبيحة، فسمى عليها غير الله (¬6) لم تبح. ولهذا لما كان الذبح عبادة في نفسه كره علي -رضي الله عنه- (¬7) وغير واحد من أهل العلم -منهم أحمد في إحدى الروايتين عنه- أن يوكل المسلم في ذبح ¬
نسيكته كتابيا؛ لأن نفس الذبح عبادة بدنية، مثل الصلاة، ولهذا تختص بمكان وزمان ونحو ذلك، بخلاف تفرقة اللحم، فإنه عبادة مالية، ولهذا اختلف العلماء في وجوب تخصيص أهل الحرم بلحوم الهدايا المذبوحة في الحرم، وإن كان الصحيح تخصيصهم بها، وهذا بخلاف الصدقة، فإنها عبادة مالية محضة، فلهذا قد لا يؤثر فيها نية الوكيل، على أن هذه المسألة منصوصة عن أحمد محتملة. فهذا تمام الكلام في ذبائحهم لأعيادهم.
فصل في صوم أيام عيد الكفار
[فصل في صوم أيام عيد الكفار] فصل فأما صوم أيام أعياد الكفار مفردة بالصوم، كصوم يوم النيروز والمهرجان، وهما يومان يعظمهما الفرس، فقد اختلف فيها؛ لأجل أن المخالفة (¬1) تحصل بالصوم، أو بترك تخصيصه بعمل أصلا. فنذكر صوم يوم (¬2) السبت أولا: وذلك أنه روى ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن بسر السلمي (¬3) عن أخته الصماء (¬4) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء (¬5) ¬
عنب أو عود شجرة - وفي لفظ: إلا عود عنب أو لحاء (¬1) شجرة - فليمضغه» (¬2) رواه أهل السنن الأربعة، وقال الترمذي: " هذا حديث حسن " (¬3) وقد رواه النسائي من وجوه أخرى عن خالد وعبد الله بن بسر، ورواه أيضا عن الصماء عن عائشة. وقد اختلف الأصحاب وسائر العلماء فيه: قال أبو بكر الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن صيام يوم السبت يفترد (¬4) به فقال أما صيام يوم السبت يفترد (¬5) به فقد جاء في (¬6) ذلك الحديث حديث الصماء (¬7) " يعني حديث ثور عن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن بسر، عن أخته الصماء، عن ¬
النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم» (¬1) ". قال أبو عبد الله: " وكان (¬2) يحيى بن سعيد يتقيه (¬3) وأبى (¬4) أن يحدثني به، وقد كان سمعه من ثور. قال: فسمعته من أبي عاصم (¬5) . قال الأثرم: وحجة أبي عبد الله في الرخصة في صوم يوم السبت: أن الأحاديث كلها مخالفة لحديث عبد الله بن بسر، منها حديث أم سلمة حين سئلت: «أي الأيام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر صياما لها؟ فقالت: " السبت والأحد» (¬6) . ومنها: حديث جويرية (¬7) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها يوم الجمعة: «أصمت ¬
أمس؟ " [قالت: لا، قال] (¬1) " أتريدين أن تصومي غدا؟ " (¬2) فالغد هو يوم السبت» . وحديث أبي هريرة: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة إلا بيوم قبله أو يوم (¬3) بعده» (¬4) . فاليوم الذي بعده هو (¬5) يوم السبت. ومنها: أنه كان يصوم شعبان كله، (¬6) وفيه يوم السبت. ومنها: أنه أمر بصوم المحرم (¬7) وفيه يوم السبت، وقال: «من صام ¬
رمضان، وأتبعه بست من شوال» . . . . " (¬1) وقد يكون فيها السبت. وأمر بصيام أيام البيض (¬2) وقد يكون فيها السبت. ومثل هذا (¬3) كثير (¬4) . فهذا الأثرم، فهم من كلام أبي عبد الله أنه توقف عن الأخذ بالحديث، وأنه رخص في صومه، حيث ذكر الحديث الذي يحتج به في الكراهة، وذكر أن الإمام في (¬5) علل الحديث (يحيى بن سعيد) كان يتقيه، وأبى أن يحدث به، فهذا تضعيف للحديث. واحتج الأثرم بما دل من النصوص المتواترة، على صوم يوم السبت، ولا يقال: يحمل النهي على إفراده؛ لأن لفظه: «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم» والاستثناء دليل التناول، وهذا يقتضي أن الحديث عم صومه على كل وجه، وإلا لو أريد إفراده لما دخل الصوم المفروض ليستثنى فإنه لا إفراد فيه، فاستثناؤه دليل على دخول غيره، بخلاف يوم الجمعة، فإنه بين أنه إنما نهى عن إفراده. وعلى هذا؛ فيكون الحديث: إما شاذا غير محفوظ، وإما منسوخا، وهذه طريقة قدماء أصحاب أحمد الذين صحبوه كالأثرم، وأبي داود. ¬
وقال أبو داود (¬1) "هذا حديث منسوخ " (¬2) . وذكر أبو داود بإسناده (¬3) عن ابن شهاب أنه كان إذا ذكر له أنه نهى عن صيام السبت، يقول ابن شهاب: " هذا حديث حمصي " (¬4) وعن الأوزاعي قال: " ما زلت له كاتما حتى رأيته انتشر بعد " (¬5) يعني حديث (¬6) ابن بسر في صوم يوم السبت. قال أبو داود: قال مالك: " هذا كذب " (¬7) وأكثر أهل العلم على عدم الكراهة. وأما أكثر (¬8) أصحابنا ففهموا (¬9) من كلام أحمد الأخذ بالحديث، وحمله على الإفراد، فإنه سئل عن عين الحكم، فأجاب بالحديث، وجوابه بالحديث (¬10) يقتضي اتباعه. وما ذكره عن يحيى (¬11) إنما هو بيان ما وقع فيه من الشبهة، وهؤلاء يكرهون إفراده بالصوم، عملا بهذا الحديث، لجودة إسناده، وذلك موجب للعمل به، وحملوه على الإفراد كصوم يوم الجمعة، وشهر رجب. ¬
وقد روى أحمد في المسند من حديث ابن لهيعة، حدثنا موسى بن وردان (¬1) «عن عبيد الأعرج (¬2) حدثتني جدتي -يعني الصماء - أنها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السبت هو يتغدى، فقال: " تعالي تغدي " (¬3) فقالت: " إني صائمة " فقال لها: " أصمت أمس؟ " قالت: لا، قال: " كلي فإن صيام يوم السبت لا لك ولا عليك» (¬4) . وهذا وإن كان إسناده ضعيفا لكن تدل عليه سائر الأحاديث، وعلى هذا فيكون قوله: " لا تصوموا يوم السبت " أي: لا تقصدوا صيامه بعينه إلا في الفرض، فإن الرجل يقصد صومه بعينه، بحيث لو لم يجب عليه إلا صوم يوم السبت، كمن أسلم ولم يبق من الشهر إلا يوم السبت فإنه يصومه وحده. وأيضا فقصده بعينه في الفرض لا يكره، بخلاف قصده بعينه في النفل، فإنه يكره، ولا تزول الكراهة إلا بضم غيره إليه أو موافقته عادة، فالمزيل للكراهة في الفرض (¬5) مجرد كونه فرضا، لا للمقارنة بينه وبين غيره، وأما في النفل فالمزيل للكراهة ضم غيره إليه، أو موافقته عادة ونحو ذلك. وقد يقال: الاستثناء أخرج بعض صور (¬6) الرخصة، وأخرج الباقي بالدليل. ¬
ثم اختلف هؤلاء في تعليل الكراهة: فعللها ابن عقيل بأنه يوم تمسك فيه اليهود ويخصونه بالإمساك، وهو ترك العمل فيه، والصائم (¬1) في مظنة ترك العمل، فيصير صومه تشبها بهم، وهذه العلة منتفية في الأحد. وعلله طائفة من الأصحاب: بأنه يوم عيد لأهل الكتاب يعظمونه، فقصده بالصوم دون غيره يكون تعظيما له، فكره ذلك كما كره إفراد عاشوراء بالتعظيم لما عظمه أهل الكتاب، وإفراد رجب أيضا لما عظمه المشركون، وهذا التعليل قد يعارض بيوم (¬2) الأحد، فإنه يوم عيد النصارى، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: " اليوم لنا، وغدا لليهود وبعد غد للنصارى " (¬3) . وقد يقال: إذا كان يوم عيد، فمخالفتهم فيه بالصوم لا بالفطر، ويدل على ذلك ما رواه كريب مولى ابن عباس قال: «أرسلني ابن عباس، وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أم سلمة أسألها: أي الأيام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرها صياما؟ قالت: كان يصوم يوم السبت ويوم الأحد أكثر ما يصوم من الأيام، ويقول: " إنهما يوما (¬4) عيد للمشركين، فأنا أحب أن أخالفهم» رواه أحمد والنسائي، وابن أبي عاصم (¬5) وصححه بعض ¬
الحفاظ (¬1) . وهذا نص في استحباب صوم (¬2) يوم عيدهم لأجل قصد (¬3) مخالفتهم. وقد روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر: السبت والأحد والاثنين، ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس» رواه الترمذي، وقال: " حديث حسن " (¬4) قال: " وقد روى ابن مهدي هذا الحديث عن سفيان ولم يرفعه " (¬5) وهذان الحديثان ليسا بحجة على من كره (¬6) صوم يوم السبت وحده، وعلل ذلك بأنهم يتركون فيه العمل والصوم مظنة ذلك، فإنه إذا صام السبت والأحد زال الإفراد المكروه، وحصلت المخالفة بصوم يوم فطرهم. ¬
فصل في صوم النيروز والمهرجان ونحوهما من أعياد المشركين
[فصل في صوم النيروز والمهرجان ونحوهما من أعياد المشركين] فصل وأما النيروز والمهرجان ونحوهما من أعياد المشركين، فمن لم (¬1) يكره صوم يوم السبت من الأصحاب وغيرهم، قد لا يكره صوم ذلك اليوم؛ (¬2) بل ربما يستحبه لأجل مخالفتهم، وكرههما أكثر الأصحاب (¬3) وقد قال أحمد في رواية عبد الله: حدثنا وكيع (¬4) عن سفيان، عن رجل، عن أنس، والحسن: كرها (¬5) صوم يوم (¬6) النيروز والمهرجان (¬7) . قال: (¬8) أبي: أبان بن أبي (¬9) عياش (¬10) -يعني الرجل-، وقد اختلف الأصحاب: هل يدل مثل ¬
ذلك على مذهبه؟ على وجهين. وعللوا ذلك بأنهما يومان تعظمهما الكفار، فيكون تخصيصهما بالصيام دون غيرهما موافقة لهم في تعظيمهما، فكره، كيوم السبت. قال الإمام أبو محمد المقدسي (¬1) " وعلى قياس هذا؛ كل عيد للكفار، أو يوم يفردونه بالتعظيم (¬2) . وقد يقال: يكره صوم يوم (¬3) النيروز والمهرجان ونحوهما من الأيام (¬4) التي لا تعرف بحساب العرب. بخلاف ما جاء في الحديث من يوم السبت والأحد؛ لأنه إذا قصد صوم مثل هذه الأيام العجمية أو الجاهلية كانت ذريعة إلى إقامة شعار هذه الأيام، وإحياء أمرها، وإظهار حالها، بخلاف السبت والأحد، فإنهما من حساب المسلمين فليس في صومهما مفسدة، فيكون استحباب صوم أعيادهم المعروفة بالحساب العربي الإسلامي، مع كراهة الأعياد المعروفة بالحساب (¬5) الجاهلي العجمي، توفيقا بين الآثار. والله أعلم. ¬
فصل في سائر الأعياد والمواسم المبتدعة
[فصل في سائر الأعياد والمواسم المبتدعة] [ما أحدث من المواسم والأعياد فهو منكر لوجهين] [الأول دخول سائر الأعياد والمواسم المبتدعة في مسمى البدع المحدثات] فصل ومن المنكرات في هذا الباب: سائر الأعياد والمواسم المبتدعة، فإنها من المنكرات (¬1) المكروهات سواء بلغت الكراهة التحريم أو لم تبلغه. وذلك أن أعياد أهل الكتاب والأعاجم نهي عنها لسببين: أحدهما: أن فيها مشابهة الكفار. والثاني: أنها من البدع. فما أحدث من المواسم والأعياد فهو منكر، وإن لم يكن فيه مشابهة لأهل الكتاب، لوجهين: أحدهما: أن ذلك داخل في مسمى البدع المحدثات (¬2) فيدخل فيما رواه مسلم في صحيحه عن جابر قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش، يقول: صبحكم ومساكم، ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين، ويقرن بين أصبعين السبابة والوسطى، ويقول: أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» (¬3) وفي رواية للنسائي (¬4) «وكل ضلالة في ¬
النار» (¬1) . وفيما رواه أيضا في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» (¬2) . وفي لفظ في الصحيحين: «من أحدث في أمرنا (هذا) ما ليس منه فهو رد» (¬3) . وفي الحديث الصحيح الذي رواه أهل السنن عن العرباض بن سارية (¬4) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنه (¬5) من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة» (¬6) . ¬
وهذه قاعدة قد دلت عليها السنة والإجماع، مع ما في كتاب الله من الدلالة عليها أيضا، قال تعالى {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] (¬1) فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله، أو أوجبه بقوله أو بفعله من غير أن يشرعه الله فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذه شريكا لله شرع له من الدين ما لم يأذن به الله. نعم: قد يكون متأولا في هذا الشرع فيغفر له لأجل تأويله، إذا كان مجتهدا الاجتهاد الذي يعفى فيه عن المخطئ ويثاب أيضا على اجتهاده، لكن (¬2) لا يجوز اتباعه في ذلك كما لا يجوز اتباع سائر من قال أو عمل قولا أو عملا قد علم الصواب في خلافه، وإن كان القائل أو الفاعل مأجورا أو معذورا، وقد قال سبحانه {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] (¬3) . قال عدي بن حاتم للنبي صلى الله عليه وسلم: «يا رسول الله ما عبدوهم قال: ما عبدوهم، ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم» (¬4) . فمن أطاع أحدا في دين لم يأذن به الله من تحليل أو تحريم أو استحباب أو إيجاب؛ فقد لحقه من هذا الذم نصيب، كما يلحق الآمر الناهي أيضا نصيب، ثم قد يكون كل منهما معفوا عنه لاجتهاده، ومثابا أيضا على ¬
الاجتهاد (¬1) فيتخلف عنه الذم لفوات شرطه أو لوجود مانعه، وإن كان المقتضي له قائما. ويلحق الذم من تبين له الحق فتركه، أو من قصر في طلبه حتى لم يتبين له، أو عرض عن طلب معرفته لهوى، أو لكسل (¬2) أو نحو ذلك. وأيضا، فإن الله عاب على المشركين شيئين: أحدهما أنهم أشركوا به (¬3) ما لم ينزل به سلطانا. والثاني: تحريمهم ما لم يحرمه الله عليهم. وبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فيما رواه مسلم، عن عياض بن حمار -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى: إني خلقت (¬4) عبادي حنفاء فاجتالتهم (¬5) الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا» (¬6) . قال سبحانه {سَيَقُولُ (¬7) الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148] ¬
(¬1) فجمعوا بين الشرك والتحريم، والشرك يدخل فيه كل عبادة لم يأذن الله بها، فإن (¬2) المشركين يزعمون أن عبادتهم إما واجبة، وإما مستحبة، وأن فعلها خير من تركها. ثم منهم من عبد غير الله ليتقرب بعبادته إلى الله، ومنهم من ابتدع دينا عبدوا به الله في زعمهم كما أحدثته (¬3) النصارى من أنواع العبادات المحدثة. وأصل الضلال في أهل الأرض (¬4) إنما نشأ من هذين: إما اتخاذ دين لم يشرعه الله. أو تحريم ما لم يحرمه الله. ولهذا كان الأصل الذي بنى الإمام أحمد وغيره من الأئمة عليه مذاهبهم أن أعمال الخلق تنقسم إلى: عبادات يتخذونها دينا، ينتفعون بها في الآخرة، أو في الدنيا والآخرة (¬5) . وإلى عادات ينتفعون بها في معايشهم (¬6) . فالأصل في العبادات: أن لا يشرع منها إلا ما شرعه الله. والأصل في العادات: أن لا (¬7) يحظر منها إلا ما حظره الله. وهذه المواسم المحدثة إنما نهى (¬8) عنها لما حدث ¬
فيها (¬1) من الدين الذي يتقرب به المتقربون (¬2) كما سنذكره إن شاء الله. واعلم أن هذه القاعدة، وهي: الاستدلال بكون الشيء بدعة على كراهته، قاعدة عامة عظيمة، وتمامها بالجواب عما يعارضها، وذلك أن من الناس من يقول: البدع تنقسم إلى قسمين: حسنة، وقبيحة؛ بدليل قول عمر -رضي الله عنه- في صلاة التراويح: " نعمت البدعة هذه " (¬3) وبدليل أشياء من الأقوال والأفعال أحدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست بمكروهة، أو هي حسنة؛ للأدلة الدالة على ذلك من الإجماع أو القياس. وربما يضم إلى ذلك مَنْ لم يحكم أصول العلم، ما عليه كثير من الناس من كثير من العادات ونحوها، فيجعل هذا أيضا من الدلائل على حسن بعض البدع، إما بأن يجعل ما اعتاده هو ومن يعرفه إجماعا، وإن لم يعلم قول سائر المسلمين في ذلك، أو يستنكر تركه لما اعتاده (¬4) بمثابة من إذا قيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا: حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا. وما أكثر (¬5) ما قد يحتج بعض من يتميز (¬6) من المنتسبين إلى علم أو عبادة، بحجج ليست من أصول العلم التي يعتمد في الدين عليها. والغرض أن هذه النصوص الدالة على ذم البدع معارضة بما دل على ¬
حسن بعض البدع، إما من الأدلة (¬1) الشرعية الصحيحة، أو من حجج بعض الناس التي يعتمد عليها بعض الجاهلين (¬2) أو المتأولين في الجملة. ثم هؤلاء المعارضون لهم هنا مقامان: أحدهما: أن يقولوا إذا ثبت أن بعض البدع حسن وبعضها قبيح، فالقبيح ما نهى عنه الشارع، وما سكت عنه من البدع فليس بقبيح، بل قد يكون حسنا، فهذا مما قد يقوله بعضهم. المقام الثاني: أن يقال عن بدعة معينة (¬3) هذه بدعة حسنة؛ لأن (¬4) فيها من المصلحة كيت وكيت، وهؤلاء المعارضون يقولون: ليست كل بدعة ضلالة. والجواب: أما القول إن شر الأمور محدثاتها، وإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، والتحذير من الأمور المحدثات: فهذا نص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يحل (¬5) لأحد أن يدفع دلالته على ذم البدع، ومن نازع في دلالته فهو مراغم. وأما المعارضات، فالجواب عنها بأحد جوابين: إما أن يقال: إن ما ثبت حسنه فليس من البدع، فيبقى العموم محفوظا لا خصوص فيه. وإما أن يقال: ما ثبت حسنه فهو مخصوص من العموم، والعام المخصوص دليل فيما عدا صورة التخصيص، فمن اعتقد أن بعض البدع مخصوص من هذا العموم، احتاج إلى دليل يصلح للتخصيص، وإلا كان ذلك ¬
العموم اللفظي المعنوي موجبا للنهي، ثم المخصص هو الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع، نصا واستنباطا، وأما عادة بعض البلاد أو أكثرها، أو قول كثير من العلماء أو العباد أو أكثرهم، ونحو ذلك، فليس مما يصلح أن يكون معارضا لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يعارض به. ومن اعتقد أن أكثر هذه العادات المخالفة للسنن مجمع عليها، بناء على أن الأمة أقرتها، ولم تنكرها (¬1) فهو مخطئ في هذا الاعتقاد، فإنه لم يزل ولا يزال في كل وقت من ينهى عن عامة العادات المحدثة المخالفة للسنة، وما يجوز دعوى الإجماع بعمل بلد أو بلاد من بلاد المسلمين، فكيف بعمل طوائف منهم؟ وإذا كان أكثر أهل العلم لم يعتمدوا على عمل علماء أهل المدينة وإجماعهم في (¬2) عصر مالك، بل رأوا السنة حجة عليهم كما هي حجة على غيرهم مع ما أوتوه من العلم والإيمان، فكيف يعتمد المؤمن العالم على عادات أكثر من اعتادها عامة، أو من قيدته العامة، أو قوم مترئسون بالجهالة، لم يرسخوا في العلم، لا يعدون من أولي الأمر، ولا يصلحون للشورى؟ ولعلهم لم يتم إيمانهم بالله وبرسوله (¬3) أو قد دخل معهم فيها بحكم العادة قوم من أهل الفضل عن غير روية، أو لشبهة أحسن أحوالهم فيها أن يكونوا فيها بمنزلة المجتهدين من الأئمة والصديقين. ¬
والاحتجاج بمثل هذه الحجج، والجواب عنها معلوم: أنه ليس طريقة أهل العلم، لكن لكثرة الجهالة قد يستند إلى مثلها خلق كثير من الناس، حتى من المنتسبين إلى العلم والدين، وقد يبدي ذو العلم و (¬1) الدين له فيها مستندا آخر من الأدلة الشرعية، والله يعلم أن قوله بها وعمله لها (¬2) ليس مستندا (¬3) إلى ما أبداه من الحجة الشرعية، وإن كانت شبهة، وإنما هو مستند إلى أمور ليست مأخوذة عن الله ورسوله، من أنواع المستندات التي يستند إليها غير أولي العلم والإيمان، وإنما يذكر الحجة الشرعية حجة على غيره، ودفعا لمن يناظره. والمجادلة المحمودة إنما هي بإبداء المدارك وإظهار الحجج التي هي مستند الأقوال والأعمال، وأما إظهار الاعتماد على ما ليس هو المعتمد في القول والعمل، فنوع من النفاق في العلم والجدل، والكلام والعمل. وأيضا، فلا يجوز حمل قوله صلى الله عليه وسلم: " كل بدعة ضلالة " على البدعة التي نهى عنها بخصوصها؛ لأن هذا تعطيل لفائدة هذا الحديث، فإن ما نهى عنه من الكفر والفسوق وأنواع المعاصي، قد علم بذلك النهي أنه قبيح (¬4) محرم، سواء كان بدعة، أو لم يكن بدعة، فإذا كان لا منكر في (¬5) الدين إلا ما نهى عنه بخصوصه، سواء كان مفعولا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم يكن، وما نهى عنه فهو منكر، سواء كان بدعة أو لم يكن، صار وصف البدعة عديم التأثير، ¬
لا يدل وجوده على القبح، ولا عدمه على الحسن، بل يكون قوله: «كل بدعة ضلالة» بمنزلة قوله: كل عادة ضلالة. أو: كل ما عليه العرب والعجم فهو ضلالة، ويراد بذلك: أن ما نهى عنه من ذلك فهو الضلالة. . وهذا تعطيل للنصوص من نوع التحريف والإلحاد، وليس من نوع التأويل السائغ، وفيه من المفاسد أشياء: أحدها: سقوط الاعتماد على هذا الحديث، فإنما علم أنه منهي عنه بخصوصه، فقد علم حكمه (¬1) بذلك النهي، وما لم يعلم لا يندرج في هذا الحديث، فلا يبقى في هذا الحديث فائدة! مع كون النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب به في الجمع، ويعده من جوامع الكلم. الثاني: أن لفظ البدعة ومعناها يكون اسما عديم التأثير، فتعليق الحكم بهذا اللفظ أو المعنى، تعليق له بما لا تأثير له، كسائر الصفات العديمة التأثير. الثالث: أن الخطاب بمثل هذا، إذا لم يقصد إلا الوصف الآخر- وهو كونه منهيا عنه- كتمان لما يجب بيانه، وبيان لما لم (¬2) يقصد ظاهره، فإن البدعة والنهي الخاص بينهما عموم وخصوص، إذ ليس كل بدعة عنها (¬3) نهي (¬4) خاص، وليس كل ما فيه (¬5) نهي خاص بدعة، فالتكلم بأحد الاسمين وإرادة الآخر تلبيس محض، لا يسوغ للمتكلم، إلا أن يكون مدلسا، كما لو قال: (الأسود) ، وعنى به الفرس، أو: الفرس، وعنى به الأسود. ¬
الرابع: (¬1) أن قوله «كل بدعة ضلالة» ، وإياكم ومحدثات الأمور، إذا أراد بهذا ما فيه نهي خاص، كان قد أحالهم في معرفة المراد بهذا الحديث على ما لا يكاد يحيط به أحد، ولا يحيط بأكثره إلا خواص الأمة، ومثل هذا لا يجوز بحال. الخامس: أنه إذا أريد به ما فيه النهي الخاص، كان ذلك أقل مما ليس فيه نهي خاص من البدع، فإنك لو (¬2) تأملت البدع التي نهى (¬3) عنها بأعيانها، وما لم ينه (¬4) عنها بأعيانها، وجدت هذا الضرب هو الأكثر، واللفظ العام لا يجوز أن يراد به الصور القليلة أو النادرة. فهذه الوجوه وغيرها: توجب القطع بأن هذا التأويل فاسد، لا يجوز حمل الحديث عليه، سواء أراد المتأول أن (¬5) يعضد التأويل بدليل صارف، أو لم يعضد، فإن على المتأول (¬6) بيان جواز إرادة المعنى الذي حمل الحديث عليه، من ذلك الحديث، ثم بيان الدليل الصارف له إلى ذلك. وهذه الوجوه تمنع جواز إرادة هذا المعنى بالحديث. فهذا الجواب عن مقامهم الأول. وأما مقامهم الثاني فيقال: هب أن البدع تنقسم إلى حسن وقبيح، فهذا القدر لا يمنع أن يكون هذا الحديث دالا على قبح الجميع، لكن أكثر ما يقال: إنه إذا ثبت أن هذا حسن يكون مستثنى من العموم، وإلا فالأصل أن كل بدعة ¬
ضلالة، فقد تبين أن الجواب عن كل ما يعارض به من أنه حسن، وهو بدعة: إما أنه ليس ببدعة، وإما أنه مخصوص، فقد سلمت دلالة الحديث. وهذا الجواب إنما هو عما ثبت حسنه، فأما أمور أخرى قد يظن أنها حسنة وليست بحسنة، أو أمور يجوز أن تكون حسنة، ويجوز أن لا تكون حسنة، فلا تصلح المعارضة بها، بل يجاب عنها بالجواب المركب، وهو: إن ثبت أن هذا حسن فلا يكون بدعة، أو يكون مخصوصا، وإن لم يثبت أنه حسن فهو داخل في العموم. وإذا عرفت أن (¬1) الجواب عن هذه المعارضة بأحد الجوابين، فعلى التقديرين: الدلالة من الحديث باقية، لا ترد بما ذكروه (¬2) ولا يحل لأحد أن يقابل هذه الكلمة الجامعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلية، وهي قوله: «كل بدعة ضلالة» بسلب عمومها، وهو أن يقال ليست كل بدعة ضلالة، فإن هذا إلى مشاقة الرسول (¬3) أقرب منه إلى التأويل، بل الذي يقال فيما يثبت به حسن الأعمال التي قد يقال هي بدعة: إن هذا العمل المعين مثلا ليس ببدعة، فلا يندرج في الحديث، أو إن اندرج لكنه مستثنى من هذا العموم لدليل كذا وكذا، الذي هو أقوى من العموم، مع أن الجواب الأول أجود، وهذا الجواب فيه نظر، فإن قصد التعميم المحيط ظاهر من (¬4) رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة الجامعة، فلا يعدل عن مقصوده (¬5) بأبي هو وأمي -عليه الصلاة والسلام-. فأما صلاة التراويح، فليست بدعة في الشريعة، بل سنة بقول ¬
رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله، فإنه قال: «إن الله فرض عليكم صيام رمضان، وسننت لكم قيامه» (¬1) ولا صلاتها جماعة بدعة، بل هي سنة في الشريعة، بل قد صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجماعة في أول شهر رمضان ليلتين، بل ثلاثا (¬2) وصلاها أيضا في العشر الأواخر في جماعة مرات (¬3) وقال: «إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة» (¬4) كما قام بهم حتى خشوا أن يفوتهم الفلاح (¬5) رواه أهل السنن. وبهذا الحديث احتج أحمد وغيره على أن فعلها في الجماعة أفضل من فعلها في حال (¬6) الانفراد، وفي قوله هذا ترغيب ¬
لقيام شهر رمضان خلف الإمام، وذلك أوكد من أن يكون سنة مطلقة، وكان الناس يصلونها جماعات (¬1) في المسجد على عهده صلى الله عليه وسلم ويقرهم، وإقراره سنة منه صلى الله عليه وسلم. وأما قول عمر: " نعمت البدعة هذه " (¬2) فأكثر المحتجين بهذا لو أردنا أن نثبت حكما بقول عمر الذي لم يخالف فيه؛ لقالوا: قول الصاحب (¬3) ليس بحجة، فكيف يكون حجة لهم في خلاف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ومن اعتقد أن قول الصاحب حجة، فلا يعتقده إذا خالف الحديث. فعلى التقديرين لا تصلح معارضة الحديث بقول الصاحب. نعم، يجوز تخصيص عموم الحديث بقول الصاحب الذي لم يخالف، على إحدى (¬4) الروايتين، فيفيدهم هذا حسن تلك البدعة، أما غيرها فلا. ثم نقول: أكثر ما في هذا تسمية عمر تلك: بدعة، مع حسنها، وهذه تسمية لغوية، لا تسمية شرعية، وذلك أن (¬5) البدعة في اللغة تعم كل ما فعل ابتداء من غير مثال سابق. وأما البدعة الشرعية: فما (¬6) لم يدل عليه دليل شرعي، فإذا كان نص رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دل على استحباب فعل أو إيجابه (¬7) بعد موته أو دل عليه مطلقا، ولم يعمل به إلا بعد موته، ككتاب الصدقة، الذي أخرجه أبو بكر ¬
-رضي الله عنه- فإذا عمل (¬1) ذلك العمل بعد موته صح أن يسمى بدعة في اللغة؛ لأنه عمل مبتدأ (¬2) كما أن نفس الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم يسمى بدعة ويسمى محدثا في اللغة، كما قالت رسل قريش للنجاشي (¬3) عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين إلى الحبشة: " إن هؤلاء خرجوا من دين آبائهم، ولم يدخلوا في دين الملك، وجاءوا بدين محدث لا يعرف " (¬4) . ثم ذلك العمل الذي يدل عليه الكتاب والسنة: ليس بدعة في الشريعة، وإن سمي بدعة في اللغة، فلفظ البدعة في اللغة أعم من لفظ البدعة في الشريعة. وقد علم أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل بدعة ضلالة» (¬5) لم يرد به كل (¬6) عمل مبتدأ، فإن (¬7) دين الإسلام، بل كل دين جاءت به الرسل فهو عمل مبتدأ، وإنما أراد: ما ابتدئ من الأعمال التي لم يشرعها هو صلى الله عليه وسلم. وإذا كان كذلك: فالنبي صلى الله عليه وسلم قد كانوا يصلون قيام رمضان على عهده جماعة وفرادى؛ وقد قال لهم في الليلة الثالثة، ¬
أو الرابعة (¬1) لما اجتمعوا: "إنه لم يمنعني أن أخرج إليكم إلا كراهة أن تفرض عليكم، فصلوا في بيوتكم؛ فإن أفضل صلاة المرء في بيته، إلا المكتوبة" (¬2) فعلّل صلى الله عليه وسلم عدم الخروج بخشية الافتراض، فعلم بذلك أن المقتضي للخروج قائم، وأنه لولا خوف الافتراض لخرج إليهم. فلما كان في عهد عمر رضي الله عنه جمعهم على قارئ واحد، وأسرج المسجد، فصارت هذه الهيئة وهي اجتماعهم في المسجد على إمام واحد مع الإسراج عملا لم يكونوا يعملونه من قبل؛ فسمي بدعة؛ لأنه في اللغة يسمى بذلك، ولم (¬3) يكن بدعة شرعية؛ لأن السنة اقتضت أنه عمل صالح لولا خوف الافتراض، وخوف الافتراض قد زال بموته صلى الله عليه وسلم فانتفى المعارض. وهكذا جمع القرآن، فإن المانع من جمعه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أن الوحي كان لا يزال ينزل، فيغير (¬4) الله ما يشاء ويحكم ما يريد، فلو جمع في مصحف واحد لتعسر أو تعذر تغييره كل وقت، فلما استقر القرآن بموته صلى الله عليه وسلم واستقرت الشريعة بموته صلى الله عليه وسلم أمن الناس من زيادة القرآن ونقصه، وأمنوا من زيادة الإيجاب والتحريم، والمقتضي للعمل قائم بسنته صلى الله عليه وعلى آله ¬
وسلم، فعمل المسلمون (¬1) بمقتضى سنته، وذلك العمل من سنته، وإن كان يسمى في اللغة بدعة. وصار هذا كنفي عمر رضي الله عنه ليهود خيبر ونصارى نجران ونحوهما من أرض العرب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عهد بذلك في مرضه فقال: «أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب» (¬2) وإنما لم ينفذه أبو بكر رضي الله عنه لاشتغاله عنه بقتال أهل الردة وبشروعه في قتال فارس والروم، وكذلك عمر لم يمكنه فعله في أول الأمر لاشتغاله بقتال فارس والروم، فلما تمكن من ذلك فعل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم. وإن كان هذا الفعل قد يسمى بدعة في اللغة كما قال له اليهود (¬3) "كيف تخرجنا وقد أقرنا أبو القاسم". وكما جاءوا إلى علي (¬4) رضي الله عنه في خلافته فأرادوا منه إعادتهم وقالوا: "كتابك بخطك" (¬5) فامتنع من ذلك؛ لأن ¬
ذلك الفعل (¬1) كان بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان محدثا بعده، ومغيرا لما فعله هو صلى الله عليه وسلم. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «خذوا العطاء ما كان عطاء، فإذا كان عوضا عن دين أحدكم فلا تأخذوه» (¬2) فلما صار الأمراء يعطون مال الله لمن (¬3) يعينهم على أهوائهم وإن كانت معصية، كان من امتنع من أخذه متبعا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان ترك قبول العطاء من أولي الأمر محدثا، لكن لما أحدثوا هم (¬4) أُحدث لهم حكم آخر بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك دفعه إلى أهبان بن صيفي (¬5) سيفا وقوله له: «قاتل به المشركين، فإذا رأيت المسلمين قد اقتتلوا فاكسره» (¬6) فإن كسره لسيفه وإن كان محدثا حيث لم يكن المسلمون يكسرون سيوفهم على ¬
عهد (¬1) رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن هو بأمره صلى الله عليه وسلم. ومن هذا الباب قتال أبي بكر لمانعي الزكاة، فإنه وإن كان بدعة لغوية من حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقاتل أحدا على إيتاء الزكاة فقط، لكن لما قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فإذا قالوا (¬2) ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» (¬3) وقد علم أن الزكاة من حقها (¬4) فلم تعصم (¬5) من منع الزكاة كما بينه في الحديث الآخر الصحيح «حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة» (¬6) وهذا باب واسع. والضابط في هذا والله أعلم أن يقال: إن الناس لا يحدثون شيئا إلا لأنهم (¬7) يرونه مصلحة إذ لو (¬8) اعتقدوه مفسدة لم يحدثوه فإنه لا يدعو إليه ¬
عقل ولا دين فما رآه الناس (¬1) مصلحة نظر في السبب المحوج إليه: فإن كان السبب المحوج إليه أمرا حدث (¬2) بعد النبي صلى الله عليه وسلم من (¬3) غير تفريط منا، فهنا قد يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه، وكذلك إن "كان المقتضي لفعله قائما على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن تركه النبي صلى الله عليه وسلم لمعارض زال بموته. وأما ما لم يحدث سبب (¬4) يحوج إليه أو (¬5) كان السبب المحوج إليه بعض ذنوب العباد، فهنا لا يجوز الإحداث، فكل أمر يكون المقتضي لفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم موجودا، لو كان مصلحة ولم يفعل، يعلم أنه ليس بمصلحة. وأما ما حدث المقتضي له بعد موته من غير معصية الخالق فقد يكون مصلحة. ثم هنا للفقهاء طريقان: أحدهما: أن ذلك يفعل ما لم ينه عنه، وهذا قول القائلين بالمصالح المرسلة. والثاني: أن ذلك لا يفعل إن لم (¬6) يؤمر به: وهو قول من لا يرى إثبات الأحكام بالمصالح المرسلة، وهؤلاء ضربان: منهم من لا يثبت الحكم، إن لم يدخل في لفظ (¬7) كلام الشارع، أو فعله، أو إقراره، وهم نفاة القياس. ¬
ومنهم من يثبته بلفظ الشارع أو بمعناه وهم القياسيون (¬1) . فأما ما (¬2) كان المقتضي لفعله موجودا لو كان مصلحة، وهو مع هذا لم يشرعه، فوضعه تغيير لدين الله، وإنما دخل (¬3) فيه من نسب إلى تغيير الدين، من الملوك والعلماء والعباد، أو من زل منهم باجتهاد، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وغير واحد من الصحابة: «إن أخوف ما أخاف عليكم زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون» (¬4) . فمثال هذا القسم: الأذان في العيدين، فإن هذا لما أحدثه بعض الأمراء، أنكره المسلمون لأنه بدعة، فلو لم يكن كونه بدعة دليلا على كراهته، وإلا لقيل: هذا ذكر لله ودعاء للخلق إلى عبادة الله، فيدخل في العمومات. كقوله تعالى: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41] (¬5) وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت: 33] (¬6) ¬
أو يقاس على الأذان في الجمعة، فإن الاستدلال على (¬1) حسن الأذان في العيدين، أقوى من الاستدلال على حسن أكثر البدع. بل يقال: ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع وجود ما يعتقد مقتضيا، وزوال المانع، سنة، كما أن فعله سنة. فلما أمر بالأذان في الجمعة، وصلى العيدين بلا أذان ولا إقامة، كان ترك الأذان فيهما سنة، فليس لأحد أن يزيد في ذلك، بل الزيادة في ذلك كالزيادة في أعداد الصلوات أو أعداد الركعات، أو صيام الشهر، أو الحج، فإن رجلا لو أحب أن يصلي الظهر خمس ركعات وقال: هذا زيادة عمل صالح، لم يكن له ذلك. وكذلك لو أراد أن ينصب مكانًا آخر يقصد لدعاء الله فيه وذكره، لم يكن له ذلك، وليس له أن يقول: هذه بدعة حسنة، بل يقال له كل بدعة ضلالة. ونحن نعلم أن هذا ضلالة قبل أن نعلم نهيا خاصا عنها، أو نعلم ما فيها من المفسدة. فهذا مثال لما حدث، مع قيام المقتضي له، وزوال المانع لو كان خيرا. فإن كل ما يبديه المحدث لهذا من المصلحة، أو يستدل به من الأدلة، قد (¬2) كان ثابتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع هذا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الترك سنة خاصة، مقدمة على كل (¬3) عموم وكل قياس. ومثال ما حدثت الحاجة إليه من البدع بتفريط من الناس: تقديم الخطبة على الصلاة في العيدين، فإنه لما فعله بعض الأمراء (¬4) أنكره المسلمون لأنه ¬
بدعة، واعتذر من أحدثه بأن الناس قد صاروا ينفضون قبل سماع الخطبة، وكانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينفضون حتى يسمعوا، أو أكثرهم. فيقال له: سبب هذا تفريطك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطبهم خطبة يقصد بها نفعهم وتبليغهم وهدايتهم، وأنت قصدك إقامة رياستك، أو إن قصدت صلاح دينهم، فلا (¬1) تعلمهم ما ينفعهم، فهذه المعصية منك لا تبيح لك إحداث معصية أخرى، بل الطريق في (¬2) ذلك أن تتوب إلى الله، وتتبع سنة نبيه، وقد استقام الأمر، وإن لم يستقم فلا يسألك الله إلا عن عملك، لا عن عملهم. وهذان المعنيان من فهمهما انحل عنه كثير من شبه البدع الحادثة، فإنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما أحدث قوم بدعة إلا نزع الله عنهم من السنة مثلها» (¬3) وقد أشرت إلى هذا المعنى فيما تقدم، وبينت أن الشرائع أغذية القلوب، فمتى اغتذت القلوب بالبدع لم يبق فيها فضل (¬4) للسنن، فتكون بمنزلة من اغتذى بالطعام الخبيث. وعامة الأمراء إنما أحدثوا أنواعا من السياسات الجائرة من أخذ أموال لا يجوز أخذها، وعقوبات على الجرائم لا تجوز؛ لأنهم فرطوا في المشروع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلا فلو قبضوا ما يسوغ قبضه، ووضعوه حيث يسوغ وضعه، طالبين بذلك إقامة دين الله، لا رياسة نفوسهم، وأقاموا الحدود المشروعة على الشريف والوضيع، والقريب والبعيد، متحرين في ترغيبهم وترهيبهم للعدل الذي شرعه الله -لما احتاجوا إلى ¬
المكوس (¬1) الموضوعة، ولا إلى العقوبات الجائرة، ولا إلى من يحفظهم من العبيد والمستعبدين، كما كان الخلفاء الراشدون، وعمر بن عبد العزيز وغيرهم من أمراء بعض الأقاليم. وكذلك العلماء: إذا أقاموا كتاب الله وفقهوا ما فيه من البينات التي هي حجج الله، وما فيه من الهدى، الذي هو العلم النافع والعمل الصالح، وأقاموا حكمة الله التي بعث (¬2) بها رسوله صلى الله عليه وسلم -وهي سنته- لوجدوا فيها من أنواع العلوم النافعة ما يحيط بعلم عامة الناس، ولميزوا (¬3) حينئذ بين المحق والمبطل من جميع الخلق، بوصف الشهادة التي (¬4) جعلها الله لهذه الأمة، حيث يقول عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] (¬5) ولاستغنوا بذلك عما ابتدعه المبتدعون، من الحجج الفاسدة، التي يزعم الكلاميون (¬6) أنهم ينصرون بها أصل الدين، ومن الرأي الفاسد الذي يزعم القياسيون (¬7) أنهم يتمون (¬8) به فروع (¬9) الدين، وما كان من الحجج صحيحا ومن الرأي سديدا، فذلك له أصل في كتاب الله ¬
الثاني اشتمالها الفساد في الدين
وسنة رسوله، فهمه من فهمه، وحرمه من حرمه. وكذلك العباد: إذا تعبدوا بما شرع من الأقوال والأعمال ظاهرا وباطنا، وذاقوا طعم الكلم الطيب، والعمل الصالح الذي بعث الله به (¬1) رسوله، وجدوا في ذلك من الأحوال الزكية، والمقامات العلية، والنتائج العظيمة، ما يغنيهم عما قد يحدث في نوعه: كالتغيير ونحوه، من السماعات المبتدعة، الصارفة عن سماع القرآن، وأنواع من الأذكار والأوراد، لفّقها بعض الناس. أو في قدره: كزيادات من التعبدات، أحدثها من أحدثها لنقص تمسكه بالمشروع منها، وإن كان كثير من العلماء والعباد، بل والأمراء (¬2) معذورا فيما أحدثه لنوع اجتهاد. فالغرض أن يعرف الدليل الصحيح، وإن كان التارك له قد يكون معذورا لاجتهاده، بل قد يكون صدّيقا عظيما، فليس من شرط الصديق أن يكون قوله كله صحيحا، وعمله كله سنة، إذ كان يكون بمنزلة النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا باب واسع. والكلام في أنواع البدع وأحكامها وصفاتها، لا يتسع له هذا الكتاب، وإنما الغرض التنبيه على ما يزيل شبهة المعارضة للحديث الصحيح، الذي ذكرناه (¬3) والتعريف بأن النصوص الدالة على ذم البدع، مما يجب العمل بها. [الثاني اشتمالها الفساد في الدين] والوجه الثاني (¬4) في ذم المواسم والأعياد المحدثة: ما تشتمل عليه من الفساد في الدين. واعلم أنه ليس كل أحد، بل ولا أكثر الناس يدرك فساد هذا النوع من البدع، لا سيما إذا كان من جنس العبادات المشروعة، بل أولو الألباب هم الذين يدركون بعض ما فيه من الفساد. ¬
والواجب على الخلق: اتباع الكتاب والسنة، وإن لم يدركوا ما في ذلك من المصلحة والمفسدة، فننبه على بعض مفاسدها، فمن ذلك: أن من أحدث عملا في يوم: كإحداث صوم أول خميس من رجب، والصلاة في ليلة تلك (¬1) الجمعة، التي يسميها الجاهلون: "صلاة الرغائب" (¬2) مثلا. وما يتبع ذلك، من إحداث أطعمة وزينة، وتوسيع في النفقة، ونحو ذلك؛ فلا بد أن يتبع هذا العمل اعتقاد في القلب. وذلك لأنه لا بد (¬3) أن يعتقد أن هذا اليوم أفضل من أمثاله، وأن الصوم فيه مستحب استحبابا زائدا على الخميس الذي قبله وبعده مثلا، وأن هذه الليلة أفضل من غيرها من الجمع، وأن الصلاة فيها أفضل من الصلاة في غيرها من ليالي الجمع خصوصا، وسائر الليالي عموما، إذ لولا قيام هذا الاعتقاد في قلبه، أو في قلب متبوعه لما انبعث القلب لتخصيص هذا اليوم والليلة، فإن الترجيح من غير مرجح ممتنع. وهذا المعنى قد شهد له الشرع بالاعتبار في هذا الحكم، ونص على تأثيره فهو من المعاني المناسبة المؤثرة، فإن مجرد المناسبة مع الاقتران، يدل على العلة عند من يقول بالمناسب القريب وهم (¬4) كثير من الفقهاء، من أصحابنا وغيرهم. ومن لا يقول إلا بالمؤثرة فلا يكتفي بمجرد المناسبة، حتى يدل الشرع على أن مثل ذلك الوصف مؤثر في مثل ذلك الحكم، وهو قول كثير من الفقهاء أيضا، من أصحابنا وغيرهم. وهؤلاء إذا رأوا الحكم المنصوص فيه معنى قد أثر في مثل ذلك الحكم في موضع آخر، عللوا ذلك الحكم المنصوص به. ¬
وهنا قول ثالث قاله كثير من الفقهاء من أصحابنا، وغيرهم أيضا. وهو: أن الحكم المنصوص لا يعلل إلا بوصف دل الشرع على أنه معلل به، ولا يكتفى بكونه علل به (¬1) نظيره أو نوعه. وتلخيص الفرق بين الأقوال الثلاثة: أنا إذا رأينا الشارع قد نص على الحكم، ودل على علته، كما قال (¬2) في الهرة: «إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات» (¬3) فهذه العلة تسمى المنصوصة، أو المومى إليها، علمت مناسبتها أو لم تعلم فيعمل بموجبها باتفاق الطوائف الثلاث، وإن اختلفوا: هل يسمى هذا قياسا أو لا يسمى؟ ومثاله في كلام الناس، ما لو قال السيد لغلامه: لا تدخل داري فلانا، فإنه مبتدع، أو فإنه أسود، ونحو ذلك، فإنه يفهم منه أنه لا يدخل داره من كان مبتدعا، أو من كان أسود، وهو نظير أن يقول: لا تدخل داري مبتدعا ولا أسود. ولهذا نعمل نحن بمثل هذا في باب الأيمان، فلو قال: لا لبست هذا الثوب الذي يمن به علي (¬4) حنث بما كانت منته مثل منته، وهو يمنه (¬5) ونحو ذلك. ¬
وأما إذا رأينا الشارع قد حكم بحكم ولم يذكر علته، لكن قد ذكر علة نظيره، أو نوعه. مثل: أنه جوز للأب أن يزوج ابنته الصغيرة البكر بلا إذنها. وقد رأيناه جوز له الاستيلاء على مالها لكونها صغيرة، فهل (¬1) يعتقد أن علة ولاية النكاح هي الصغر -مثلا-؟ كما أن ولاية المال كذلك، أم نقول: بل قد يكون للنكاح علة أخرى، وهي البكارة، -مثلا-؟ فهذه العلة هي المؤثرة، أي قد بين الشارع تأثيرها في حكم منصوص، وسكت عن بيان تأثيرها في نظير ذلك الحكم. فالفريقان الأولان يقولان بها، وهو في الحقيقة إثبات للعلة (¬2) بالقياس، فإنه يقول كما أن هذا الوصف أثر في الحكم في ذلك المكان، كذلك يؤثر في هذا المكان. والفريق الثالث لا يقول بها، إلا بدلالة خاصة، لجواز أن يكون النوع الواحد من الأحكام له علل مختلفة. ومن هذا النوع: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن أن يبيع الرجل على بيع أخيه، أو يستام (¬3) الرجل على سوم أخيه، أو يخطب الرجل على خطبة أخيه (¬4) . فيعلل ذلك بما فيه من فساد ذات البين، كما علل به في قوله: «لا تنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها، فإنكم إذا فعلتم ذلك ¬
قطعتم أرحامكم» (¬1) وإن كان هذا المثال يظهر التعليل فيه، ما لا يظهر في الأول، فإنما ذاك لأنه لا يظهر فيه وصف مناسب للنهي إلا هذا. والسبر دليل خاص على العلة، ونظيره من كلام الناس أن يقول: لا تعط هذا الفقير؛ فإنه مبتدع، ثم يسأله فقير آخر مبتدع، فيقول: لا تعطه، وقد (¬2) يكون ذلك الفقير عدوًا له (¬3) فهل يحكم بأن العلة هي البدعة، أم يتردد لجواز أن تكون العلة هي العداوة؟ . وأما إذا رأينا الشارع قد حكم بحكم، ورأينا فيه وصفا مناسبا له، لكن الشارع لم يذكر تلك العلة، ولا علل بها نظير ذلك الحكم في موضع آخر، فهذا هو الوصف المناسب الغريب؛ لأنه لا نظير له في الشرع، ولا دل كلام الشارع وإيماؤه عليه. فيجوز اتباعه الفريق الأول. ونفاه الآخران، وهذا إدراك لعلة الشارع بنفس عقولنا من غير دلالة منه، كما أن الذي قبله إدراك لعلته بنفس القياس على كلامه. والأول إدراك لعلته بنفس كلامه. ومع هذا: فقد تعلم علة الحكم المعين بالسبر (¬4) وبدلالات أخرى. ¬
فإذا ثبتت هذه الأقسام فمسألتنا من باب العلة المنصوصة في موضع، المؤثرة في موضع آخر. وذلك: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تخصيص أوقات بصلاة أو بصيام، وأباح ذلك إذا لم يكن على وجه التخصيص". فروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تخصوا (¬1) ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم» (¬2) . وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يصومن أحدكم يوم الجمعة، إلا يومًا قبله أو (¬3) بعده» (¬4) وهذا لفظ البخاري. وروى البخاري عن جويرية بنت الحارث رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال: أصمت أمس؟ قالت: لا. قال: أتريدين أن تصومي غدًا؟ قالت: لا. قال: فأفطري» (¬5) . وفي الصحيحين عن محمد بن عباد بن جعفر (¬6) قال: "سألت جابر بن ¬
عبد الله، وهو يطوف بالبيت: أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الجمعة؟ قال: نعم ورب هذا البيت"؛ وهذا (¬1) لفظ مسلم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصوموا يوم الجمعة وحده» رواه الإمام أحمد (¬2) . ومثل هذا ما (¬3) أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم (¬4) أو يومين، إلا أن يكون رجل كان (¬5) يصوم صومه (¬6) فليصم ذلك اليوم» (¬7) . اللفظ للبخاري (¬8) . أي يصوم عادته. فوجه الدلالة: أن الشارع قسم الأيام باعتبار الصوم ثلاثة أقسام: * قسم شرع تخصيصه بالصيام: إما إيجابًا كرمضان، وإما استحبابًا: كيوم عرفة وعاشوراء. * وقسم نهى عن صومه مطلقًا: كيوم العيدين. ¬
* وقسم إنما نهي عن تخصيصه: كيوم الجمعة، وسرر (¬1) شعبان. فهذا النوع لو صيم مع غيره لم يكره، فإذا خصص بالفعل نهي عن ذلك، سواء قصد الصائم التخصيص أو (¬2) لم يقصده، وسواء اعتقد الرجحان، أو لم يعتقده. ومعلوم أن مفسدة هذا العمل لولا أنها موجودة في التخصيص دون غيره، لكان إما أن ينهى عنه مطلقًا: كيوم العيد، أو لا ينهى عنه كيوم عرفة (¬3) وعاشوراء (¬4) وتلك المفسدة ليست موجودة في سائر الأوقات (¬5) وإلا لم يكن للتخصيص بالنهي فائدة. فظهر أن المفسدة تنشأ من تخصيص ما لا خصيصة له، كما أشعر به لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن نفس الفعل المنهي عنه، أو المأمور به، قد يشتمل على حكمة الأمر أو النهي، كما في قوله: «خالفوا المشركين» (¬6) . فلفظ النهي عن الاختصاص لوقت بصوم أو صلاة يقتضي أن الفساد ناشئ من جهة الاختصاص. فإذا كان يوم الجمعة يومًا فاضلًا، يستحب فيه من الصلاة والدعاء والذكر والقراءة والطهارة والطيب والزينة ما لا يستحب في غيره-كان ذلك في مظنة أن يتوهم أن صومه أفضل من غيره (¬7) ويعتقد أن قيام ليلته كالصيام في نهاره، لها فضيلة على قيام غيرها من الليالي، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التخصيص دفعًا لهذه المفسدة، التي لا تنشأ إلا من التخصيص. ¬
وكذلك تلقي رمضان، قد يتوهم أن فيه فضلًا، لما فيه من الاحتياط للصوم، ولا فضل فيه في الشرع، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تلقيه لذلك. وهذا المعنى موجود في مسألتنا، فإن الناس قد (¬1) يخصون هذه المواسم لاعتقادهم فيها فضيلة. ومتى كان تخصيص الوقت بصوم، أو بصلاة، قد يقترن باعتقاد فضل ذلك، ولا فضل فيه، نهي عن التخصيص، إذ لا ينبعث التخصيص إلا عن اعتقاد الاختصاص. ومن قال: إن الصلاة أو الصوم في هذه الليلة كغيرها، هذا اعتقادي ومع ذلك فأنا (¬2) أخصها، فلا بد أن يكون باعثه: إما موافقة (¬3) غيره، وإما اتباع العادة، وإما خوف اللوم له، ونحو ذلك، وإلا فهو كاذب. فالداعي (¬4) إلى هذا العمل لا يخلو قط من أن يكون ذلك الاعتقاد الفاسد (¬5) أو باعثًا آخر غير ديني، وذلك الاعتقاد ضلال. فإنا قد علمنا يقينًا أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسائر الأئمة، لم يذكروا في فضل هذا اليوم والليلة ولا في فضل صومه بخصوصه، وفضل قيامها بخصوصها حرفًا واحدًا. وأن الحديث المأثور فيها موضوع، وأنها إنما حدثت في الإسلام بعد المائة الرابعة، ولا يجوز -والحال هذه- أن يكون لها فضل، لأن ذلك الفضل إن لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابه ولا التابعون، ولا سائر الأئمة، امتنع أن نعلم نحن من الدين الذي يقرب إلى الله ما لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة، والتابعون وسائر الأئمة. ¬
وإن علموه امتنع، مع توفر دواعيهم على العمل الصالح، وتعليم (¬1) الخلق، والنصيحة لهم-: أن لا يعلموا أحدًا بهذا الفضل ولا يسارع إليه واحد منهم. فإذا كان هذا الفضل المدعى، مستلزمًا لعدم علم الرسول وخير القرون ببعض دين الله، أو لكتمانهم وتركهم ما تقتضي شريعتهم وعاداتهم، أن لا يكتموه ولا يتركوه، وكل واحد من اللازمين منتف: إما بالشرع وإما بالعادة مع الشرع- علم انتفاء الملزوم، وهو الفضل المدعى. العمل المبتدع -كالأعياد المحدثة- يستلزم لاعتقاد ضلال وفعل ما لا يجوز ثم هذا العمل المبتدع مستلزم: إما لاعتقاد هو ضلال في الدين، أو عمل دين لغير الله سبحانه، والتدين بالاعتقادات الفاسدة، أو التدين لغير الله- لا يجوز. فهذه البدع -وأمثالها- مستلزمة قطعًا، أو ظاهرًا لفعل ما لا يجوز. فأقل أحوال المستلزم -إن لم يكن محرمًا- أن يكون مكروهًا، وهذا المعنى سار في سائر البدع المحدثة. ثم هذا الاعتقاد يتبعه أحوال في القلب: من التعظيم، والإجلال، وتلك الأحوال أيضًا باطلة، ليست من دين الله. ولو فرض أن الرجل قد يقول: أنا لا أعتقد الفضل فلا يمكنه مع التعبد أن يزيل الحال الذي في قلبه، من التعظيم والإجلال، والتعظيم والإجلال لا ينشأ إلا بشعور من جنس الاعتقاد، ولو أنه وهم، أو ظن أن هذا أمر ضروري، فإن النفس لو خلت عن الشعور بفضل الشيء امتنع مع ذلك أن تعظمه، ولكن قد تقوم بها خواطر متقابلة. فهو من (¬2) حيث اعتقاده أنه بدعة، يقتضي منه ذلك عدم تعظيمه. ومن حيث شعوره بما روى فيه، أو بفعل الناس له، أو بأن فلانًا وفلانًا (¬3) فعلوه، أو بما يظهر له فيه من المنفعة- يقوم بقلبه ¬
عظمته (¬1) . فعلمت أن فعل هذه البدع يناقض الاعتقادات الواجبة، وينازع الرسل ما جاءوا به عن الله. وأنها تورث القلب نفاقًا، ولو كان نفاقًا خفيفًا. ومثلها مثل أقوام كانوا يعظمون أبا جهل، أو عبد الله بن أبي (¬2) لرياسته وماله ونسبه، وإحسانه إليهم، وسلطانه عليهم، فإذا ذمه الرسول أو بين نقصه، أو أمر بإهانته أو قتله، فمن لم يخلص إيمانه، وإلا يبقى (¬3) في قلبه منازعة بين طاعة الرسول التابعة لاعتقاده الصحيح، واتباع ما في نفسه من الحال التابع لتلك الظنون الكاذبة (¬4) . فمن تدبر هذا، علم يقينًا ما في حشو البدع من السموم المضعفة للإيمان، ولهذا قيل: إن البدع مشتقة من الكفر. وهذا المعنى الذي ذكرته معتبر في كل ما نهى عنه الشارع، من أنواع العبادات التي لا مزية لها في الشرع -إذا جاز أن يتوهم لها مزية- كالصلاة عند القبور، أو الذبح عند الأصنام، ونحو ذلك، وإن لم يكن الفاعل معتقدًا للمزية، لكن نفس الفعل قد يكون مظنة للمزية، فكما أن إثبات الفضيلة الشرعية مقصود، فرفع الفضيلة غير الشرعية مقصود أيضًا. فإن قيل: هذا يعارضه أن هذه المواسم -مثلًا- فعلها قوم من أولي العلم والفضل، الصديقين فمن دونهم، وفيها فوائد يجدها المؤمن في قلبه وغير قلبه: من طهارة قلبه ورقته، وزوال آصار الذنوب عنه، وإجابة دعائه، ونحو ذلك، مع ما ينضم إلى ذلك من العمومات الدالة على فضل الصلاة والصيام، كقوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى - عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 9 - 10] (¬5) ¬
وقوله صلى الله عليه وسلم: «الصلاة نور» (¬1) " (¬2) ونحو ذلك. قلنا: لا ريب أن من فعلها متأولًا مجتهدًا أو مقلدًا كان له أجر على حسن قصده، وعلى عمله، من حيث ما فيه من المشروع، وكان ما فيه من المبتدع مغفورًا له، إذا كان في اجتهاده أو تقليده من المعذورين، وكذلك ما ذكر فيها من الفوائد كلها، إنما حصلت لما اشتملت عليه من المشروع في جنسه: كالصوم والذكر، والقراءة، والركوع، والسجود، وحسن القصد في عبادة الله وطاعته ودعائه، وما اشتملت عليه من المكروه، انتفى موجبه بعفو الله عنه (¬3) لاجتهاد صاحبها (¬4) أو تقليده، وهذا المعنى ثابت في كل ما يذكر في بعض البدع المكروهة من الفائدة. لكن هذا القدر لا يمنع كراهتها والنهي عنها، والاعتياض عنها بالمشروع، الذي لا بدعة فيه، كما أن الذين زادوا الأذان في العيدين هم كذلك، بل اليهود والنصارى يجدون في عباداتهم أيضًا فوائد، وذلك لأنه لا بد أن تشتمل عبادتهم على نوع ما، مشروع في جنسه، كما أن أقوالهم لا بد أن تشتمل على صدق ما، مأثور عن الأنبياء. ثم مع ذلك لا يوجب ذلك أن نفعل عباداتهم، أو نروي كلماتهم، لأن جميع المبتدعات لا بد أن تشتمل على شر راجح على ما فيها من الخير إذ لو كان خيرها راجحًا لما أهملتها الشريعة. فنحن نستدل ¬
بكونها بدعة على أن إثمها أكبر من نفعها، وذلك هو الموجب للنهي. وأقول: إن إثمها قد يزول عن بعض الأشخاص لمعارض (¬1) ؛ لاجتهاد أو غيره، كما يزول إثم النبيذ والربا المختلف فيهما عن المجتهدين من السلف، ثم مع ذلك يجب بيان حالها، وأن لا يقتدى بمن استحلها، وأن لا يقصر في طلب العلم المبين لحقيقتها. وهذا الدليل كاف في بيان أن هذه البدع (¬2) مشتملة على مفاسد اعتقادية، أو حالية مناقضة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن ما فيها من المنفعة مرجوح لا يصلح للمعارضة. ثم يقال على سبيل التفصيل: إذا فعلها قوم ذوو فضل ودين (¬3) فقد تركها في زمان هؤلاء، معتقدًا لكراهتها، وأنكرها قوم (¬4) إن لم يكونوا أفضل ممن فعلها، فليسوا دونهم (¬5) . ولو كانوا دونهم في الفضل فقد تنازع فيها أولو الأمر، فترد إلى الله والرسول وكتاب الله وسنة رسوله مع من كرهها، لا مع من رخص فيها. ثم عامة المتقدمين الذين هم أفضل من المتأخرين مع هؤلاء (¬6) . وأما ما فيها من المنفعة، فيعارضه ما فيها من مفاسد البدع (¬7) الراجحة: ¬
منها: مع ما تقدم من المفسدة الاعتقادية والحالية: أن القلوب تستعذبها (¬1) وتستغني بها عن كثير من السنن، حتى تجد كثيرًا من العامة يحافظ عليها (¬2) ما لا يحافظ على التراويح والصلوات الخمس. ومنها: أن الخاصة والعامة تنقص -بسببها- عنايتهم بالفرائض والسنن، ورغبتهم فيها، فتجد الرجل يجتهد فيها، ويخلص وينيب، ويفعل فيها ما لا يفعله في الفرائض والسنن، حتى كأنه يفعل هذه (¬3) عبادة، ويفعل الفرائض والسنن عادة ووظيفة، وهذا عكس الدين، فيفوته بذلك ما في الفرائض والسنن من المغفرة والرحمة والرقة والطهارة والخشوع، وإجابة الدعوة، وحلاوة المناجاة، إلى غير ذلك من الفوائد. وإن لم يفته هذا كله، فلا بد أن يفوته كماله. ومنها: ما في ذلك من مصير المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا (¬4) . وجهالة أكثر الناس بدين المرسلين، وانتشاء (¬5) زرع الجاهلية. ومنها: اشتمالها على أنواع من المكروهات في الشريعة مثل: تأخير الفطور، وأداء العشاء الآخرة بلا قلوب حاضرة، والمبادرة إلى تعجيلها، والسجود بعد السلام لغير سهو، وأنواع من الأذكار ومقاديرها لا أصل ¬
لها (¬1) إلى غير ذلك من المفاسد التي لا يدركها إلا من استنارت بصيرته، وسلمت سريرته. ومنها: مسارقة (¬2) الطبع إلى الانحلال من ربقة الاتباع وفوات سلوك الصراط المستقيم، وذلك أن النفس فيها نوع من الكبر، فتحب أن تخرج من العبودية والاتباع بحسب الإمكان، كما قال أبو عثمان النيسابوري (¬3) رحمه الله: ما ترك أحد شيئًا من السنة إلا لكبر في نفسه ثم هذا مظنة لغيره، فينسلخ القلب عن حقيقة اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ويصير فيه من الكبر وضعف الإيمان ما يفسد عليه دينه، أو يكاد، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا. ومنها: ما تقدم التنبيه عليه في أعياد أهل الكتاب من المفاسد التي توجد في كلا النوعين المحدثين، النوع الذي فيه مشابهة، والنوع الذي لا مشابهة فيه. والكلام في ذم البدع لما كان مقررًا في هذا الموضع (¬4) لم نطل النفس في تقريره، بل نذكر بعض أعيان هذه المواسم. * * * ¬
فصل في الأعياد الزمانية المبتدعة
[فصل في الأعياد الزمانية المبتدعة] [أنواع الأعياد الزمانية المبتدعة] فصل قد تقدم أن العيد يكون اسمًا لنفس المكان، ولنفس الزمان، ولنفس الاجتماع. وهذه الثلاثة قد أحدث منها أشياء: أما الزمان فثلاثة أنواع، ويدخل فيها بعض بدع أعياد المكان والأفعال: أحدها: يوم لم تعظمه الشريعة أصلًا، ولم يكن له ذكر في السلف، ولا جرى فيه ما يوجب تعظيمه: مثل أول خميس من رجب (¬1) وليلة تلك الجمعة التي تسمى الرغائب (¬2) فإن تعظيم هذا اليوم والليلة، إنما حدث في الإسلام بعد المائة الرابعة، وروي فيه حديث موضوع باتفاق العلماء، مضمونه: فضيلة صيام ذلك اليوم وفعل هذه الصلاة، المسماة عند الجاهلين بصلاة الرغائب (¬3) وقد ذكر ذلك بعض المتأخرين من العلماء من الأصحاب وغيرهم. والصواب الذي عليه المحققون من أهل العلم: النهي عن إفراد هذا اليوم (¬4) بالصوم، وعن هذه الصلاة المحدثة، وعن كل ما فيه تعظيم لهذا اليوم ¬
من صنعة الأطعمة، وإظهار الزينة، ونحو ذلك حتى يكون هذا اليوم بمنزلة غيره من الأيام، وحتى لا يكون له مزية أصلًا. وكذلك يوم آخر في وسط رجب، يصلى فيه صلاة تسمى صلاة أم داود (¬1) فإن تعظيم هذا اليوم لا أصل له في الشريعة أصلًا. النوع الثاني (¬2) ما جرى فيه حادثة كما كان يجري في غيره، من غير أن يوجب ذلك جعله موسمًا، ولا كان السلف يعظمونه: كثامن عشر ذي الحجة الذي خطب النبي صلى الله عليه وسلم فيه بغدير خم مرجعه من حجة الوداع، فإنه صلى الله عليه وسلم خطب فيه خطبة وصى فيها باتباع كتاب الله، ووصى فيها بأهل بيته كما روى ذلك مسلم في صحيحه (¬3) عن زيد بن أرقم رضي الله عنه (¬4) . فزاد بعض أهل الأهواء في ذلك حتى زعموا أنه عهد إلى علي رضي الله عنه بالخلافة بالنص الجلي، بعد أن فرش له، وأقعده على فراش عالية، وذكروا كلامًا وعملًا قد علم بالاضطرار أنه لم يكن من ذلك شيء، وزعموا أن الصحابة تمالئوا على كتمان هذا النص، وغصبوا الوصي حقه، وفسقوا وكفروا، إلا نفرًا قليلًا. ¬
والعادة التي جبل الله عليها بني (¬1) آدم، ثم ما كان القوم عليه من الأمانة (¬2) والديانة، وما أوجبته شريعتهم من بيان الحق يوجب العلم اليقيني بأن مثل هذا ممتنع (¬3) كتمانه. وليس الغرض الكلام في مسألة الإمامة، وإنما الغرض أن اتخاذ هذا اليوم عيدًا محدث لا أصل له، فلم يكن في السلف لا من أهل البيت ولا من غيرهم-من اتخذ ذلك اليوم عيدًا، حتى يحدث فيه أعمالًا. إذ الأعياد شريعة من الشرائع، فيجب فيها الاتباع، لا الابتداع. وللنبي صلى الله عليه وسلم خطب وعهود ووقائع في أيام متعددة: مثل يوم بدر، وحنين، والخندق، وفتح مكة، ووقت هجرته، ودخوله المدينة، وخطب له متعددة يذكر فيها قواعد الدين. ثم لم يوجب ذلك أن يتخذ أمثال تلك الأيام أعيادًا. وإنما يفعل مثل هذا النصارى الذين يتخذون أمثال أيام حوادث عيسى عليه السلام أعيادًا، أو اليهود، وإنما العيد شريعة، فما شرعه الله اتبع. وإلا لم يحدث في الدين ما ليس منه. وكذلك ما يحدثه بعض الناس، إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام، وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وتعظيمًا. والله قد يثيبهم (¬4) على هذه المحبة والاجتهاد، لا على البدع- من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيدًا. مع اختلاف الناس في مولده. فإن هذا لم يفعله السلف، مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه لو كان خيرًا. ولو كان هذا خيرًا (¬5) محضا، أو راجحًا لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمًا له منا، وهم على الخير أحرص. ¬
وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره، وإحياء سنته باطنًا وظاهرًا، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان. فإن هذه (¬1) طريقة السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان. وأكثر هؤلاء الذين تجدهم حراصًا (¬2) على أمثال هذه البدع، مع ما لهم من حسن القصد، والاجتهاد الذين (¬3) يرجى لهم بهما المثوبة، تجدهم فاترين في (¬4) أمر الرسول، عما أمروا بالنشاط فيه، وإنما هم بمنزلة من يحلي المصحف ولا يقرأ فيه، أو يقرأ فيه ولا يتبعه وبمنزلة من يزخرف المسجد، ولا يصلي فيه، أو يصلي فيه قليلًا، وبمنزلة من يتخذ المسابيح (¬5) والسجادات المزخرفة، وأمثال هذه الزخارف الظاهرة التي لم تشرع، ويصحبها من الرياء والكبر، والاشتغال عن المشروع ما يفسد حال صاحبها، كما جاء في الحديث: «ما ساء عمل أمة قط إلا زخرفوا مساجدهم» (¬6) . واعلم أن من الأعمال ما يكون فيه خير، لاشتماله على أنواع من المشروع، وفيه أيضًا شر، من بدعة وغيرها، فيكون ذلك العمل ¬
خيرًا (¬1) بالنسبة إلى [ما اشتمل عليه من أنواع المشروع وشرًا بالنسبة إلى ما اشتمل عليه من] (¬2) الإعراض عن الدين بالكلية كحال المنافقين والفاسقين (¬3) وهذا قد ابتلى به أكثر (¬4) الأمة في الأزمان المتأخرة، فعليك هنا بأدبين: أحدهما: أن يكون حرصك على التمسك بالسنة باطنًا وظاهرًا، في خاصتك وخاصة من يطيعك. وأعرف المعروف وأنكر المنكر. الثاني: أن تدعو الناس إلى السنة بحسب الإمكان فإذا رأيت من يعمل هذا ولا يتركه إلا إلى شر منه، فلا تدعو إلى ترك منكر بفعل ما هو أنكر منه، أو بترك واجب أو مندوب تركه أضر من فعل ذلك المكروه، ولكن إذا كان في البدعة من الخير، فعوض عنه من الخير (¬5) المشروع بحسب الإمكان، إذ النفوس لا تترك شيئًا إلا بشيء، ولا ينبغي لأحد أن يترك خيرًا إلا إلى مثله أو إلى خير منه، فإنه كما أن الفاعلين لهذه البدع معيبون قد أتوا مكروهًا، فالتاركون أيضًا للسنن مذمومون، فإن منها ما يكون واجبًا على الإطلاق، ومنها ما يكون واجبًا على التقييد، كما (¬6) أن الصلاة النافلة لا تجب. ولكن من أراد أن يصليها يجب عليه (¬7) أن يأتي بأركانها، وكما يجب على من أتى الذنوب من الكفارات والقضاء والتوبة والحسنات الماحية، وما يجب على من كان إماما، أو قاضيا، أو مفتيا، أو واليا من الحقوق، وما يجب على طالبي العلم، أو نوافل العبادة من الحقوق. ¬
ومنها: ما يكره المداومة على تركه كراهة شديدة. ومنها: ما يكره تركه أو يجب فعله على الأئمة دون غيرهم وعامتها يجب تعليمها والحض عليها والدعاء إليها. وكثير من المنكرين لبدع العبادات والعادات تجدهم مقصرين في فعل السنن من ذلك، أو الأمر به. ولعل حال كثير منهم يكون أسوأ من حال من يأتي بتلك العبادات المشتملة على نوع من الكراهة. بل الدين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا قوام لأحدهما إلا بصاحبه، فلا ينهى عن منكر إلا ويؤمر بمعروف يغني عنه كما يؤمر بعبادة الله سبحانه، وينهى عن عبادة ما سواه، إذ رأس الأمر شهادة أن لا إله إلا الله، والنفوس خلقت لتعمل، لا لتترك، وإنما الترك مقصود لغيره، فإن لم يشتغل بعمل صالح، وإلا لم يترك العلم السيئ، أو الناقص، لكن لما كان من الأعمال السيئة ما يفسد عليها العمل الصالح، نهيت عنه حفظًا للعمل الصالح. فتعظيم المولد، واتخاذه موسمًا، قد يفعله بعض الناس، ويكون له فيه (¬1) أجر عظيم لحسن قصده، وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قدمته لك أنه يحسن من بعض الناس، ما يستقبح من المؤمن المسدد. ولهذا قيل للإمام أحمد عن بعض الأمراء: إنه أنفق على مصحف ألف دينار، أو نحو ذلك فقال: دعهم، فهذا أفضل ما أنفقوا فيه الذهب، أو كما قال. مع أن مذهبه أن زخرفة المصاحف مكروهة. وقد تأول بعض الأصحاب أنه أنفقها في تجويد (¬2) الورق والخط. وليس مقصود أحمد هذا، إنما قصده أن هذا العمل فيه مصلحة، وفيه أيضًا مفسدة كره لأجلها. فهؤلاء إن لم يفعلوا هذا، وإلا اعتاضوا بفساد (¬3) لا صلاح ¬
فيه، مثل أن ينفقها في كتاب من كتب الفجور: من كتب الأسمار أو الأشعار، أو حكمة فارس والروم. فتفطن لحقيقة الدين، وانظر ما اشتملت عليه الأفعال من المصالح الشرعية، والمفاسد، بحيث تعرف ما مراتب المعروف، ومراتب المنكر، حتى تقدم أهمها عند الازدحام، فإن هذا حقيقة العلم بما جاءت به الرسل، فإن التمييز بين جنس المعروف، وجنس المنكر، أو جنس الدليل، وغير الدليل، يتيسر كثيرًا (¬1) . فأما مراتب المعروف والمنكر، ومراتب الدليل، بحيث يقدم عند التزاحم أعرف المعروفين (¬2) وينكر أنكر المنكرين، ويرجح أقوى الدليلين، فإنه هو خاصة العلماء بهذا الدين. فالمراتب ثلاث: أحدها: العمل الصالح المشروع الذي لا كراهة فيه. والثانية (¬3) العمل الصالح من بعض وجوهه، أو أكثرها إما لحسن القصد، أو لاشتماله مع ذلك على أنواع من المشروع. والثالثة (¬4) ما ليس فيه صلاح أصلًا: إما لكونه تركا للعمل الصالح مطلقًا، أو لكونه عملًا فاسدًا محضًا. ¬
فأما الأولى: فهو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، باطنها وظاهرها، قولها وعملها، في الأمور العلمية والعملية مطلقًا، فهذا هو الذي يجب تعلمه وتعليمه، والأمر به وفعله على حسب مقتضى الشريعة، من إيجاب واستحباب، والغالب على هذا الضرب: هو أعمال السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان. وأما المرتبة الثانية: فهي كثيرة جدًا في طرق المتأخرين من المنتسبين إلى علم أو عبادة، ومن العامة أيضًا، وهؤلاء خير ممن لا يعمل عملًا صالحًا مشروعًا، ولا غير مشروع، أو من يكون عمله من جنس المحرم: كالكفر والكذب والخيانة، والجهل. ويندرج في هذا أنواع كثيرة. فمن تعبد ببعض هذه العبادات المشتملة على نوع من الكراهة: كالوصال في الصيام، وترك جنس الشهوات (¬1) ونحو ذلك، أو قصد إحياء ليال لا خصوص لها: كأول ليلة من رجب، ونحو ذلك، قد يكون حاله خيرًا من حال البطال (¬2) الذي ليس فيه حرص على عبادة الله وطاعته. بل كثير من (¬3) هؤلاء الذين ينكرون هذه الأشياء، زاهدون في جنس عبادة الله: من العلم النافع، والعمل الصالح، أو في أحدهما -لا يحبونها ولا يرغبون فيها، لكن (¬4) لا يمكنهم ذلك في المشروع، فيصرفون قوتهم إلى هذه الأشياء، فهم بأحوالهم منكرون للمشروع وغير المشروع، وبأقوالهم لا يمكنهم إلا إنكار غير المشروع. ¬
ومع هذا: فالمؤمن يعرف المعروف وينكر المنكر، ولا يمنعه من ذلك موافقة بعض المنافقين له، ظاهرًا في الأمر بذلك المعروف، والنهي عن ذلك المنكر، ولا مخالفة بعض علماء المؤمنين. فهذه الأمور وأمثالها مما ينبغي معرفتها، والعمل بها. النوع الثالث (¬1) ما هو معظم في الشريعة: كيوم عاشوراء، ويوم عرفة، ويومي العيدين والعشر (¬2) الأواخر من شهر رمضان والعشر الأول من ذي الحجة، وليلة الجمعة ويومها، والعشر الأول من (¬3) المحرم، ونحو ذلك من الأوقات الفاضلة. فهذا الضرب قد يحدث فيه ما يعتقد أن له فضيلة، وتوابع ذلك، ما يصير منكرًا ينهى عنه. مثل ما أحدث بعض أهل الأهواء، في يوم عاشوراء، من التعطش، والتحزن والتجمع (¬4) وغير ذلك من الأمور المحدثة التي لم يشرعها الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من السلف، لا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من غيرهم (¬5) لكن لما أكرم الله فيه سبط نبيه (¬6) أحد سيدي شباب (¬7) أهل الجنة، وطائفة من أهل بيته، بأيدي الفجرة الذين ¬
أهانهم الله (¬1) وكانت هذه مصيبة عند المسلمين، يجب أن تتلقى بما يتلقى به المصائب، من الاسترجاع المشروع (¬2) فأحدث بعض أهل البدع، في مثل هذا اليوم خلاف ما أمر الله به عند المصائب، وضموا إلى ذلك من الكذب والوقيعة في الصحابة، البرآء من فتنة الحسين رضي الله عنه، وغيرها، أمورًا أخرى، مما يكرهها الله ورسوله، وقد روي عن فاطمة بنت الحسين (¬3) عن أبيها الحسين (¬4) بن علي رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصيب بمصيبة، فذكر مصيبته، فأحدث استرجاعًا، وإن تقادم عهدها، كتب الله له من الأجر مثلها يوم أصيب» رواه أحمد وابن ماجه (¬5) . فتدبر كيف روى مثل هذا الحديث الحسين رضي الله عنه، وعنه (¬6) بنته التي شهدت مصابه! ¬
وأما اتخاذ أمثال أيام المصائب مآتم (¬1) فهذا ليس في دين المسلمين، بل هو إلى دين الجاهلية أقرب. ثم فوتوا (¬2) بذلك ما في صوم هذا اليوم من الفضل، وأحدث بعض الناس فيه أشياء مستندة إلى أحاديث موضوعة، لا أصل لها، مثل: فضل الاغتسال فيه، أو التكحل، أو المصافحة (¬3) وهذه الأشياء ونحوها، من الأمور المبتدعة، كلها مكروهة، وإنما المستحب صومه. وقد روي في التوسيع على العيال في آثار معروفة (¬4) أعلى ما فيها حديث إبراهيم بن محمد بن (¬5) المنتشر (¬6) عن أبيه (¬7) قال: «بلغنا أنه من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته» (¬8) رواه عنه ¬
ابن عيينة (¬1) . وهذا بلاغ منقطع لا يعرف قائله. والأشبه أن هذا وضع لما ظهرت العصبية بين الناصبة (¬2) والرافضة (¬3) فإن هؤلاء اتخذوا يوم عاشوراء مأتمًا (¬4) فوضع أولئك فيه آثارًا تقتضي التوسع فيه، واتخاذه عيدًا، وكلاهما باطل. وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سيكون في ثقيف كذاب ومبير» (¬5) فكان الكذاب المختار بن أبي عبيد (¬6) وكان يتشيع ¬
للحسين، ثم أظهر الكذب والافتراء على الله. وكان فيها الحجاج (¬1) بن يوسف، وكان في انحراف عن علي وشيعته، وكان مبيرًا (¬2) . وهؤلاء فيهم بدع وضلال، وأولئك (¬3) فيهم بدع وضلال وإن كانت الشيعة أكثر كذبًا وأسوأ حالًا. لكن لا يجوز لأحد أن يغير شيئًا من الشريعة لأجل أحد، وإظهار الفرح والسرور يوم عاشوراء، وتوسيع النفقات فيه، هو من البدع المحدثة المقابلة (¬4) للرافضة، وقد وضعت في ذلك أحاديث مكذوبة في فضائل ما يصنع فيه من الاغتسال، والاكتحال وغير ذلك. وصححها بعض الناس: كابن ناصر (¬5) وغيره، وليس فيها ما يصح. لكن رويت لأناس اعتقدوا صحتها، فعملوا بها، ولم يعلموا أنها كذب، فهذا مثل هذا. ¬
وقد يكون سبب الغلو في تعظيمه من بعض المنتسبة (¬1) لمقابلة الروافض، فإن الشيطان قصده أن يحرف الخلق عن الصراط المستقيم، ولا يبالي إلى أي الشقين صاروا. فينبغي أن يجتنب جميع هذه المحدثات. ومن هذا الباب: شهر رجب، فإنه أحد الأشهر الحرم، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه كان إذا دخل شهر رجب قال: اللهم بارك لنا في (¬2) رجب وشعبان، وبلغنا (¬3) رمضان» (¬4) . ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل رجب حديث آخر، بل عامة الأحاديث المأثورة فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم كذب، والحديث إذا لم يعلم أنه كذب، فروايته في الفضائل أمر قريب، أما إذا علم كذبه فلا يجوز روايته إلا مع بيان حاله. لقوله صلى الله عليه وسلم: «من روى عني حديثًا وهو يرى (¬5) أنه كذب، فهو أحد الكاذبين (¬6) » (¬7) . ¬
نعم، روي عن بعض السلف في تفضيل العشر الأول من رجب بعض الأثر، وروي (¬1) غير ذلك، فاتخاذه موسمًا بحيث يفرد بالصوم، مكروه عند الإمام أحمد وغيره، كما روي عن عمر بن الخطاب (¬2) وأبي بكرة (¬3) وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم. وروى ابن ماجه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم رجب" (¬4) رواه عن إبراهيم بن منذر الحزامي (¬5) عن (¬6) داود بن عطاء (¬7) حدثني زيد بن ¬
عبد الحميد بن (¬1) عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب (¬2) . ، عن سليمان بن علي (¬3) عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما. وليس بالقوي (¬4) . وهل الإفراد المكروه أن يصومه كله؟ أو ألا يقرن به شهرا آخر؟ فيه للأصحاب وجهان. ولولا أن هذا موضع الإشارة إلى رؤوس المسائل لأطلنا الكلام في ذلك (¬5) . ومن هذا الباب: ليلة النصف من شعبان، فقد روى في فضلها من الأحاديث المرفوعة والآثار ما يقتضي أنها ليلة مفضلة (¬6) وأن من السلف من ¬
كان يخصها بالصلاة فيها، وصوم شهر شعبان قد جاءت فيه أحاديث صحيحة. ومن العلماء: من السلف (¬1) من أهل المدينة، وغيرهم من الخلف، من أنكر فضلها، وطعن في الأحاديث الواردة فيها، كحديث: «إن الله يغفر فيها لأكثر من عدد شعر غنم كلب» (¬2) ". وقال: لا فرق بينها وبين غيرها. لكن الذي عليه كثير من أهل (¬3) العلم، أو أكثرهم، من أصحابنا وغيرهم -على تفضيلها، وعليه يدل (¬4) نص (¬5) أحمد، لتعدد (¬6) الأحاديث الواردة فيها، وما يصدق ذلك من الآثار السلفية، وقد روي بعض فضائلها في المسانيد والسنن (¬7) . وإن كان قد وضع فيها أشياء أخر. ¬
فأما صوم يوم النصف مفردًا (¬1) فلا أصل له، بل إفراده مكروه، وكذلك اتخاذه موسمًا تصنع فيه الأطعمة، وتظهر فيه الزينة، هو من المواسم المحدثة المبتدعة، التي لا أصل لها. وكذلك ما قد أحدث في ليلة النصف، من الاجتماع العام للصلاة الألفية (¬2) في المساجد الجامعة، ومساجد الأحياء والدروب (¬3) والأسواق. فإن هذا الاجتماع لصلاة نافلة مقيدة بزمان وعدد، وقدر من القراءة لم يشرع، مكروه. فإن الحديث الوارد في الصلاة الألفية (¬4) موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث، وما كان هكذا لا يجوز استحباب صلاة بناء عليه، وإذا لم يستحب فالعمل المقتضي لاستحبابها مكروه. ولو سوغ (¬5) أن كل ليلة لها نوع فضل، تخص بصلاة مبتدعة يجتمع لها، لكان يفعل مثل هذه الصلاة -أو أزيد أو أنقص (¬6) - ليلتي العيدين، وليلة عرفة، كما أن بعض أهل البلاد يقيمون مثلها أول ليلة من رجب. وكما بلغني أنه كان (¬7) في بعض القرى يصلون بعد المغرب صلاة مثل المغرب في جماعة، يسمونها صلاة بر الوالدين. وكما كان بعض الناس يصلي ¬
كل ليلة في جماعة صلاة الجنازة (¬1) على من مات من المسلمين في جميع الأرض، ونحو ذلك من الصلوات الجماعية التي لم تشرع. وعليك أن تعلم: أنه إذا استحب التطوع المطلق في وقت معين، وجوز التطوع في جماعة، لم يلزم من ذلك تسويغ جماعة راتبة غير مشروعة (¬2) ففرق بين البابين، وذلك أن الاجتماع لصلاة تطوع (¬3) أو استماع قرآن، أو ذكر الله، ونحو ذلك، إذا كان يفعل أحيانًا، فهذا حسن. فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه صلى التطوع في جماعة أحيانًا" (¬4) . و"خرج على أصحابه وفيهم من يقرأ وهم يستمعون (¬5) فجلس معهم يستمع" (¬6) . وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحدًا يقرأ وهم يستمعون. وقد ورد في القوم الذين يجلسون يتدارسون كتاب الله ويتلونه، وفي القوم الذين يذكرون الله من الآثار ما هو معروف مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «ما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا غشيتهم ¬
الرحمة ونزلت (¬1) عليهم السكينة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده» (¬2) . وورد أيضًا في الملائكة الذين يلتمسون مجالس الذكر فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله تنادوا: هلموا (¬3) إلى حاجتكم. الحديث (¬4) . فأما اتخاذ اجتماع راتب يتكرر (¬5) بتكرر الأسابيع أو الشهور أو الأعوام، غير الاجتماعات المشروعة، فإن ذلك يضاهي الاجتماع للصلوات الخمس، وللجمعة، وللعيدين وللحج. وذلك هو المبتدع المحدث. ففرق بين ما يتخذ سنة وعادة، فإن ذلك يضاهي المشروع. وهذا الفرق هو المنصوص عن الإمام أحمد، وغيره من الأئمة فروى أبو بكر الخلال، في كتاب الأدب، عن إسحاق بن منصور الكوسج، أنه قال لأبي عبد الله: تكره أن يجتمع القوم يدعون الله ويرفعون أيديهم؟ قال: "ما أكرهه للإخوان إذا لم ¬
يجتمعوا على عمد (¬1) إلا أن يكثروا" (¬2) . قال إسحاق بن راهويه كما قال (¬3) . وإنما معنى أن لا يكثروا: أن لا يتخذوها عادة حتى يكثروا. هذا كلام إسحاق. وقال المروزي: سألت أبا عبد الله عن القوم يبيتون، فيقرأ قارئ ويدعون حتى يصبحوا؟ قال: أرجو أن لا يكون به بأس. وقال أبو السري الحربي (¬4) قال أبو عبد الله: "وأي شيء أحسن من أن يجتمع الناس يصلون، ويذكرون ما أنعم الله عليهم، كما قالت الأنصار؟ " (¬5) وهذا إشارة إلى ما رواه أحمد، حدثنا (¬6) إسماعيل أنبأنا أيوب، عن محمد بن سيرين قال: "نبئت أن الأنصار قبل قدوم رسول (¬7) الله صلى الله عليه وسلم المدينة، قالوا: لو نظرنا يومًا فاجتمعنا فيه، فذكرنا هذا الأمر الذي أنعم الله به علينا، فقالوا: يوم السبت ثم قالوا: لا نجامع اليهود في يومهم. قالوا: فيوم الأحد. قالوا: لا نجامع النصارى في يومهم. قالوا: فيوم العروبة. وكانوا يسموه يوم الجمعة يوم العروبة- فاجتمعوا في بيت أبي أمامة أسعد (¬8) بن زرارة فذبحت لهم شاة ¬
فكفتهم" (¬1) . وقال أبو أمية الطرسوسي (¬2) سألت أحمد بن حنبل عن القوم يجتمعون ويقرأ لهم القارئ قراءة حزينة فيبكون، وربما طفوا (¬3) السراج. فقال لي أحمد: إن كان يقرأ قراءة أبي موسى فلا بأس. وروى الخلال عن الأوزاعي: أنه سئل عن القوم يجتمعون (¬4) فيأمرون رجلا فيقص عليهم. قال: إذا كان ذلك يوما بعد (¬5) الأيام فليس به بأس. فقيد أحمد (¬6) الاجتماع على الدعاء بما إذا لم يتخذ عادة. وكذلك قيد إتيان الأمكنة التي فيها آثار الأنبياء. قال سندي الخواتيمي (¬7) سألنا أبا عبد الله ¬
عن الرجل يأتي هذه المشاهد ويذهب إليها، ترى ذلك؟ قال: أما على حديث " ابن أم مكتوم (¬1) أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته، حتى يتخذ ذلك مصلى". وعلى ما كان يفعل ابن عمر رضي الله عنهما: يتبع مواضع النبي صلى الله عليه وسلم وأثره، فليس بذلك بأس أن يأتي الرجل المشاهد، إلا أن الناس قد أفرطوا في هذا جدا، وأكثروا فيه. وكذلك نقل عنه أحمد بن القاسم (¬2) . ولفظه: سئل عن الرجل يأتي هذه المشاهد التي بالمدينة وغيرها؛ يذهب إليها؟ فقال: أما على حديث ابن أم مكتوم أنه: سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيه فيصلي في بيته، حتى يتخذه مسجدا، وعلى ما كان يفعله (¬3) ابن عمر: يتبع مواضع سير النبي صلى الله عليه وسلم وفعله، حتى رئي يصب في موضع ماء، فسئل عن ذلك، فقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصب هاهنا ماء. قال: أما على هذا فلا بأس قال: ورخص فيه. ثم قال: ولكن قد أفرط الناس جدا، وأكثروا في هذا المعنى، فذكر قبر الحسين وما يفعل الناس عنده. وهذا الذي كرهه أحمد وغيره من اعتياد ذلك مأثور عن ابن مسعود رضي الله عنه وغيره لما اتخذ أصحابه مكانا يجتمعون فيه للذكر، فخرج إليهم (¬4) ¬
قال: "يا قوم لأنتم أهدى من أصحاب (¬1) محمد (¬2) أو لأنتم على شعبة ضلالة" (¬3) . وأصل هذا: أن العبادات المشروعة التي تتكرر بتكرر الأوقات، حتى تصير سننا ومواسم، قد شرع الله منها ما فيه كفاية العباد، فإذا أحدث اجتماع زائد على هذه الاجتماعات معتاد، كان ذلك مضاهاة لما شرعه الله وسنه. وفيه من الفساد ما تقدم التنبيه على بعضه، بخلاف ما يفعله الرجل وحده، أو الجماعة المخصوصة أحيانا، ولهذا كره الصحابة إفراد صوم (¬4) رجب، لما شبه برمضان، وأمر عمر رضي الله عنه بقطع الشجرة التي توهموا أنها الشجرة التي بويع (¬5) الصحابة تحتها بيعة الرضوان. لما رأى الناس ينتابونها (¬6) ويصلون عندها، كأنها المسجد الحرام، أو مسجد المدينة، وكذلك لما رآهم قد عكفوا على مكان قد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم عكوفا عاما نهاهم عن ذلك، وقال: "أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد؟ " (¬7) . أو كما قال رضي الله عنه. فكما أن تطوع الصلاة فرادى وجماعة مشروع، من غير أن يتخذ جماعة ¬
عامة (¬1) متكررة، تشبه المشروع من الجمعة، والعيدين والصلوات الخمس، فكذلك تطوع القراءة والذكر والدعاء، جماعة وفرادى، وتطوع قصد بعض المشاهد، ونحو ذلك، كله من نوع واحد، يفرق بين الكثير الظاهر منه، والقليل الخفي، والمعتاد وغير المعتاد، وكذلك كل مكان مشروع الجنس، لكن البدعة اتخاذه عادة لازمة، حتى يصير كأنه واجب، ويترتب (¬2) على استحبابه وكراهته حكم نذره، واشتراط فعله في الوقف والوصية ونحو ذلك، حيث كان النذر لا يلزم إلا في القرب، وكذلك العمل المشروط في الوقف، لا يجوز أن يكون إلا برا ومعروفا على ظاهر المذهب، وقول جمهور أهل العلم. وسنومئ إلى ذلك إن شاء الله. وهذه المسائل تفتقر إلى بسط أكثر من هذا، لا يحتمله هذا الموضع، وإنما الغرض التنبيه على المواسم المحدثة. وأما ما يفعل في هذه المواسم مما جنسه منهي عنه في الشرع، فهذا لا يحتاج إلى ذكره؛ لأن ذلك لا يحتاج أن يدخل في هذا الباب مثل: رفع الأصوات في المساجد، واختلاط الرجال والنساء، أو كثرة إيقاد المصابيح زيادة على الحاجة، أو إيذاء المصلين أو غيرهم بقول أو فعل، فإن قبح هذا ظاهر لكل مسلم. وإنما هذا من جنس سائر (¬3) الأقوال المحرمة في المساجد، سواء حرمت في المسجد وغيره، كالفواحش والفحش، أو صين (¬4) عنها المسجد: كالبيع (¬5) وإنشاد الضالة، وإقامة الحدود ونحو ذلك. ¬
وقد ذكر بعض المتأخرين، من أصحابنا وغيرهم- أنه يستحب قيام هذه الليلة بالصلاة التي يسمونها الألفية، لأن فيها قراءة " قل هو الله أحد " ألف مرة. وربما استحبوا الصوم أيضا، وعمدتهم في خصوص ذلك: الحديث الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك (¬1) . وقد يعتمدون على العمومات التي تندرج فيها هذه الصلاة، وعلى ما جاء في فضل هذه الليلة بخصوصها، وما جاء من الأثر بإحيائها، وعلى الاعتياد (¬2) حيث فيها من المنافع والفوائد ما يقتضي الاستحباب كجنسها من العبادات. فأما الحديث المرفوع في هذه الصلاة الألفية: فكذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث (¬3) . وأما العمومات الدالة على استحباب الصلاة فحق، لكن العمل المعين إما أن يستحب بخصوصه، أو يستحب لما فيه من المعنى العام. فأما المعنى العام: فلا يوجب جعل خصوصها (¬4) مستحبا ومن استحبها ذكرها في النفل المقيد: كصلاة الضحى والتراويح. وهذا خطأ، ولهذا لم يذكر هذا أحد من الأئمة المعدودين، لا الأولين ولا الآخرين. وإنما كره التخصيص لما صار يخص ما لا خصوص له بالاعتقاد والاقتصاد (¬5) كما كره (¬6) ¬
النبي صلى الله عليه وسلم: إفراد يوم الجمعة وسرر (¬1) شعبان بالصيام، وإفراد ليلة الجمعة بالقيام، وصار نظير هذا: لو (¬2) أحدثت صلاة مقيدة ليالي العشر (¬3) أو بين العشائين، ونحو ذلك. فالعبادات ثلاثة: منها ما هو مستحب بخصوصه: كالنفل المقيد (¬4) من ركعتي الفجر، وقيام رمضان، ونحو ذلك. وهذا منه المؤقت كقيام الليل. ومنه المقيد بسبب: كصلاة الاستسقاء، وصلاة الآيات (¬5) . ثم قد يكون مقدرا (¬6) في الشريعة بعدد: كالوتر. وقد يكون مطلقا مع فضل الوقت: كالصلاة يوم الجمعة قبل الصلاة، فصارت أقسام المقيد أربعة. ومن العبادات ما هو مستحب بعموم معناه، كالنفل المطلق، فإن الشمس إذا طلعت فالصلاة مشهودة محضورة حتى يصلي العصر. ومنها ما هو مكروه تخصيصه لا مع غيره كقيام (¬7) ليلة الجمعة. وقد يكره مطلقا، إلا في أحوال مخصوصة، كالصلاة في أوقات النهي. ولهذا اختلف العلماء في كراهة الصلاة بعد الفجر والعصر، هل هو لئلا يفضي إلى تحري ¬
الصلاة في هذا الوقت، فيرخص في ذوات الأسباب العارضة، أو هو (¬1) نهي مطلق لا يستثنى منه إلا قدر الحاجة؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد، وفيها أقوال أخر للعلماء (¬2) . ¬
فصل في الأعياد المكانية المبتدعة
[فصل في الأعياد المكانية المبتدعة] فصل وقد يحدث في اليوم الفاضل، مع العيد العملي المحدث، العيد المكاني، فيغلظ قبح هذا، ويصير خروجا عن الشريعة. فمن ذلك: ما يفعل يوم عرفة، مما لا أعلم بين المسلمين خلافا في النهي عنه، وهو قصد قبر بعض من يحسن به الظن يوم عرفة، والاجتماع العظيم عند قبره، كما يفعل في بعض أرض المشرق والمغرب، والتعريف هناك، كما يفعل بعرفات فإن هذا نوع من الحج المبتدع الذي لم يشرعه الله، ومضاهاة للحج الذي شرعه الله، واتخاذ القبور أعيادا. وكذلك السفر إلى بيت المقدس، للتعريف فيه، فإن هذا أيضا ضلال بين، فإن زيارة بيت المقدس مستحبة مشروعة للصلاة فيه والاعتكاف، وهو أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، لكن قصد إتيانه في أيام الحج هو المكروه، فإن ذلك تخصيص وقت معين بزيارة بيت المقدس، ولا خصوص لزيارته في هذا الوقت على غيره. ثم فيه أيضا مضاهاة للحج إلى المسجد الحرام، وتشبيه له بالكعبة، ولهذا قد أفضى إلى ما لا يشك مسلم في أنه شريعة أخرى، غير شريعة الإسلام، وهو ما قد يفعله بعض الضلال من الطواف بالصخرة، أو من حلق الرأس هناك، أو من قصد النسك هناك.
وكذلك ما يفعله بعض الضلال (¬1) من الطواف بالقبة التي بجبل الرحمة بعرفة (¬2) كما يطاف بالكعبة. فأما الاجتماع في هذا الموسم لإنشاد الغناء أو الضرب بالدف بالمسجد الأقصى ونحوه، فمن أقبح المنكرات من جهات أخرى. منها: فعل ذلك في المسجد (¬3) فإن ذلك فيه ما نهي عنه خارج المساجد (¬4) فكيف بالمسجد الأقصى؟! ومنها: اتخاذ الباطل دينا. ومنها فعله في الموسم. فأما قصد الرجل (¬5) مسجد بلده يوم عرفة للدعاء والذكر فهذا هو التعريف في الأمصار الذي اختلف العلماء فيه، ففعله ابن عباس، وعمرو بن حريث (¬6) من الصحابة وطائفة من البصريين والمدنيين (¬7) ورخص فيه أحمد، ¬
وإن كان مع ذلك لا يستحبه (¬1) هذا هو المشهور عنه (¬2) . وكرهه طائفة من الكوفيين والمدنيين: كإبراهيم النخعي (¬3) وأبي حنيفة ومالك، وغيرهم. ومن كرهه قال: هو من البدع، فيندرج في العموم لفظا ومعنى. ومن رخص فيه قال: فعله ابن عباس بالبصرة (¬4) حين كان خليفة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، ولم ينكر عليه، وما يفعل في عهد الخلفاء الراشدين من غير إنكار لا يكون بدعة. لكن ما يزاد على ذلك من رفع الأصوات الرفع الشديد في (¬5) المساجد بالدعاء، وأنواع من الخطب والأشعار الباطلة مكروه في هذا اليوم وغيره. قال المروزي: سمعت أبا عبد الله يقول: "ينبغي أن يسر دعاءه؛ لقوله: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] (¬6) . قال: هذا في الدعاء. قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: وكان (¬7) يكره أن يرفعوا أصواتهم بالدعاء. وروى الخلال بإسناد صحيح، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: "أحدث الناس الصوت عند الدعاء" (¬8) . وعن سعيد بن أبي عروبة: أن مجالد بن سعيد (¬9) سمع قوما يعجون في ¬
دعائهم، فمشى إليهم فقال: أيها القوم، إن كنتم أصبتم فضلا على من كان قبلكم لقد ضللتم، قال: فجعلوا يتسللون رجلا رجلا، حتى تركوا بغيتهم التي كانوا فيها (¬1) . وروى أيضا بإسناده عن ابن شوذب (¬2) عن أبي التياح (¬3) قال: قلت للحسن: إمامنا يقص، فيجتمع (¬4) الرجال والنساء، فيرفعون أصواتهم بالدعاء. فقال الحسن (¬5) إن رفع الصوت بالدعاء لبدعة، وإن مد الأيدي بالدعاء لبدعة، وإن اجتماع الرجال والنساء لبدعة (¬6) . فرفع الأيدي فيه خلاف وأحاديث ليس هذا موضعها. والفرق بين هذا التعريف المختلف فيه وتلك التعريفات التي لم يختلف فيها: أن في تلك قصد بقعة (¬7) بعينها للتعريف فيها: كقبر الصالح، أو كالمسجد الأقصى، وهذا تشبيه بعرفات، بخلاف مسجد المصر، فإنه قصد له بنوعه ¬
لا بعينه، ونوع المساجد مما شرع قصدها، فإن الآتي إلى المسجد ليس قصده مكانا معينا لا يتبدل اسمه وحكمه، وإنما الغرض بيت من بيوت الله، بحيث لو حول ذلك المسجد لتحول حكمه، ولهذا لا تتعلق القلوب إلا بنوع المسجد لا بخصوصه. وأيضًا، فإن شد الرحال إلى مكان للتعريف فيه، مثل الحج، بخلاف المصر، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا» (¬1) . هذا مما لا أعلم فيه خلافا. فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السفر إلى غير المساجد الثلاثة، ومعلوم أن إتيان الرجل مسجد مصره: إما واجب كالجمعة، وإما مستحب كالاعتكاف به. وأيضا فإن التعريف عند القبر اتخاذ له عيدا، وهذا بنفسه محرم، سواء كان فيه شد للرحل، أو لم يكن، وسواء كان في يوم عرفة أو في غيره، وهو من الأعياد المكانية مع الزمانية. وأما ما أحدث في الأعياد، من ضرب البوقات والطبول فإن هذا مكروه في العيد وغيره، لا اختصاص للعيد به، وكذلك لبس الحرير، أو غير ذلك من المنهي عنه في الشرع وترك السنن من جنس فعل البدع، فينبغي إقامة المواسم على ما كان (¬2) السابقون الأولون يقيمونها، من الصلاة والخطبة المشروعة، والتكبير والصدقة في الفطر، والذبح في الأضحى. فإن من الناس من يقصر في التكبير المشروع. ومن الأئمة من يترك أن يخطب للرجال والنساء. كما كان ¬
رسول (¬1) الله صلى الله عليه وسلم يخطب الرجال ثم النساء (¬2) . ومنهم من لا يذكر في خطبته (¬3) ما ينبغي ذكره، بل يعدل إلى ما تقل فائدته، ومنهم من لا ينحر بعد الصلاة بالمصلى وهو ترك للسنة، إلى أمور أخرى من السنة (¬4) فإن الدين هو فعل المعروف والأمر به، وترك المنكر والنهي عنه. ¬
فصل في أنواع الأعياد المكانية
[فصل في أنواع الأعياد المكانية] فصل وأما الأعياد المكانية فتنقسم أيضا كالزمانية - (¬1) ثلاثة أقسام: أحدهما: ما لا خصوص (¬2) له في الشريعة. والثاني: ما له خصيصة لا تقتضي قصده للعبادة فيه. والثالث: ما يشرع العبادة فيه، لكن لا يتخذ عيدا. والأقسام الثلاثة جاءت الآثار بها. مثل قوله صلى الله عليه وسلم للذي نذر أن ينحر ببوانة: «أبها وثن من أوثان المشركين، أو عيد من أعيادهم؟ قال: لا. قال: فأوف بنذرك» (¬3) . ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تتخذوا قبري عيدًا» (¬4) . ومثل نهي عمر عن اتخاذ آثار الأنبياء أعيادا. كما سنذكره إن شاء الله. [النوع الأول مكان لا خصوص له في الشريعة] فهذه الأقسام الثلاثة: أحدها مكان لا فضل له في الشريعة أصلا، ولا فيه ما يوجب تفضيله، بل هو كسائر الأمكنة، أو دونها، فقصد ذلك المكان، أو قصد (¬5) الاجتماع فيه لصلاة أو دعاء، أو ذكر، أو غير ذلك- ضلال بين. ثم إن كان به بعض آثار الكفار، من اليهود أو النصارى أو غيرهم، صار أقبح وأقبح، ودخل في هذا الباب وفي الباب قبله، في مشابهة الكفار. ¬
وهذه أنواع لا يمكن ضبطها (¬1) بخلاف الزمان، فإنه محصور. وهذا الضرب أقبح من الذي قبله، فإن هذا يشبه عباده الأوثان أو هو ذريعة إليها، أو نوع من عبادة الأوثان، إذ عباد الأوثان كانوا يقصدون بقعة بعينها لتمثال هناك أو غير تمثال، يعتقدون أن ذلك يقربهم إلى الله تعالى، وكانت الطواغيت الكبار التي تشد إليها الرحال ثلاثة: اللات، والعزى، ومناة الثالثة الأخرى. كما ذكر الله ذلك في كتابه (¬2) حيث يقول: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى - وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى - أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى - تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم: 19 - 22] (¬3) . كل واحد من هذه الثلاثة (¬4) لمصر من أمصار العرب. والأمصار التي كانت من ناحية الحرم، ومواقيت الحج ثلاثة: مكة، والمدينة، والطائف. فكانت اللات: لأهل الطائف، ذكروا أنه كان في الأصل رجلا صالحا، يلت السويق للحجيج، فلما مات عكفوا على قبره مدة، ثم اتخذوا تمثاله (¬5) ثم بنوا عليه بنية سموها: بيت الربة. وقصتها معروفة، لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم لهدمها لما (¬6) افتتحت الطائف (¬7) بعد فتح مكة (¬8) سنة تسع من الهجرة. وأما العزى: فكانت (¬9) لأهل مكة قريبا من عرفات، وكانت هناك شجرة ¬
يذبحون عندها ويدعون. فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليها خالد بن الوليد، عقب فتح مكة فأزالها، وقسم النبي صلى الله عليه وسلم مالها، وخرجت منها (¬1) شيطانة ناشرة شعرها (¬2) فيئست العزى أن تعبد. وأما مناة: فكانت لأهل المدينة، يهلون لها شركا بالله تعالى، وكانت حذو قديد الجبل الذي بين مكة والمدينة من ناحية الساحل. ومن أراد أن يعلم كيف كانت أحوال المشركين في عبادة أوثانهم، ويعرف حقيقة الشرك الذي ذمه الله، وأنواعه، حتى يتبين له تأويل القرآن، ويعرف ما كرهه الله ورسوله، فلينظر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأحوال العرب في زمانه، وما ذكره الأزرقي (¬3) في أخبار مكة، وغيره من العلماء. ولما كان للمشركين شجرة يعلقون عليها أسلحتهم، ويسمونها ذات أنواط، فقال بعض الناس: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط. فقال: «الله أكبر، قلتم كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم» (¬4) . فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم مجرد مشابهتهم للكفار في اتخاذ شجرة يعكفون عليها، معلقين عليها سلاحهم. ¬
فكيف بما هو أعظم من ذلك من مشابهتهم المشركين، أو هو الشرك بعينه؟ . فمن قصد بقعة يرجو الخير بقصدها، ولم تستحب الشريعة ذلك، فهو من المنكرات، وبعضه أشد من بعض، سواء كانت البقعة شجرة أو عين ماء (¬1) أو قناة جارية، أو جبلا، أو مغارة، وسواء قصدها ليصلي عندها، أو ليدعو عندها، أو ليقرأ عندها، أو ليذكر الله سبحانه عندها، أو ليتنسك (¬2) عندها، بحيث يخص تلك البقعة بنوع من العبادة التي لم يشرع تخصيص تلك البقعة به لا عينا ولا نوعا. وأقبح من ذلك أن ينذر لتلك البقعة دهنا لتنور به، ويقال: (¬3) إنها تقبل النذر، كما يقول بعض الضالين. فإن هذا النذر نذر معصية باتفاق العلماء، ولا يجوز الوفاء به، بل عليه كفارة (¬4) عند كثير من أهل العلم، منهم أحمد في المشهور عنه، وعنه رواية هي قول أبي حنيفة والشافعي وغيرهما: أنه يستغفر الله من هذا النذر، ولا شيء عليه، والمسألة معروفة (¬5) . وكذلك إذا نذر طعاما من الخبز أو غيره للحيتان التي في تلك العين، أو البئر (¬6) . وكذلك إذا نذر مالا (¬7) من النقد أو غيره للسدنة، أو المجاورين العاكفين بتلك البقعة، فإن هؤلاء السدنة فيهم شبه من السدنة التي كانت (¬8) ¬
لللات والعزى ومناة، يأكلون أموال الناس بالباطل (¬1) ويصدون عن سبيل الله، والمجاورون هناك فيهم شبه من العاكفين الذين قال لهم إبراهيم الخليل إمام الحنفاء، صلى الله عليه وسلم: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52] (¬2) وقال: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ - أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ - فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75 - 77] (¬3) والذين أتى عليهم موسى عليه السلام وقومه (¬4) كما قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138] (¬5) . فالنذر لأولئك السدنة والمجاورين (¬6) في هذه البقاع التي لا فضل في الشريعة للمجاور بها، نذر معصية، وفيه شبه من النذر لسدنة الصلبان والمجاورين عندها، أو لسدنة الأبداد (¬7) التي بالهند، والمجاورين عندها. ثم هذا (¬8) المال المنذور، إذا صرفه في جنس تلك العبادة من المشروع، مثل أن يصرفه في عمارة المساجد، أو للصالحين من فقراء المسلمين، الذين ¬
بعض الأمكنة والقبور التي ابتدعها الناس
يستعينون بالمال على عبادة الله وحده لا شريك له- كان حسنا. فمن هذه الأمكنة ما يظن أنه قبر نبي، أو رجل صالح، وليس كذلك، أو يظن أنه مقام له، وليس كذلك. فأما ما كان قبرا له أو مقاما، فهذا من النوع الثاني (¬1) . [بعض الأمكنة والقبور التي ابتدعها الناس] وهذا باب واسع أذكر بعض أعيانه: فمن ذلك: عدة أمكنة بدمشق، مثل مشهد لأبي بن كعب خارج الباب الشرقي، ولا خلاف بين أهل العلم، أن أبي بن كعب إنما توفي بالمدينة، لم يمت بدمشق. والله أعلم قبر من هو، لكنه ليس (¬2) بقبر أبي بن كعب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شك. وكذلك مكان بالحائط القبلي، بجامع دمشق (¬3) يقال إن فيه قبر هود عليه السلام، وما عملت أحدا من أهل العلم ذكر أن هودا النبي مات بدمشق، بل قد قيل إنه مات باليمن، وقيل بمكة، فإن مبعثه كان باليمن، ومهاجره بعد هلاك قومه كان إلى مكة، فأما الشام فلا داره (¬4) ولا مهاجره، فموته بها -والحال هذه مع أن أهل العلم لم يذكروه بل ذكروا خلافه- في غاية البعد. وكذلك مشهد خارج الباب الغربي من دمشق، يقال إنه قبر أويس القرني (¬5) وما علمت أن أحدا ذكر أن أويسا مات بدمشق، ولا هو متوجه ¬
أيضا، فإن أويسا قدم من اليمن إلى أرض العراق. وقد قيل: إنه قتل بصفين، وقيل: إنه مات بنواحي أرض فارس، وقيل غير ذلك. فأما الشام فما ذكر أنه قدم إليها فضلا عن الممات بها. ومن ذلك أيضا: قبر يقال له: قبر أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ولا خلاف أنها رضي الله عنها ماتت بالمدينة لا بالشام، ولم تقدم الشام أيضا. فإن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، لم تكن تسافر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. بل لعلها أم سلمة أسماء بنت يزيد بن السكن (¬1) الأنصارية، فإن أهل الشام كشهر بن حوشب (¬2) ونحوه، كانوا إذا حدثوا عنها قالوا: أم سلمة. وهي بنت عم معاذ بن جبل، وهي من أعيان الصحابيات، ومن ذوات الفقه والدين منهن. أو لعلها أم سلمة (¬3) امرأة يزيد بن معاوية (¬4) وهو بعيد، فإن هذه ليست مشهورة بعلم ولا دين. وما أكثر ¬
الغلط في هذه الأشياء وأمثالها من جهة الأسماء المشتركة أو المغيرة. ومن ذلك: مشهد بقاهرة (¬1) مصر يقال: إن فيه رأس الحسين رضي الله عنه، وأصله (¬2) أنه كان بعسقلان مشهد يقال: إن فيه رأس الحسين، فحمل فيما قيل الرأس من هناك إلى مصر، وهو باطل باتفاق أهل العلم، لم يقل أحد من أهل العلم (¬3) إن رأس الحسين كان بعسقلان، بل فيه أقوال ليس هذا منها، فإنه حمل رأسه إلى قدام عبيد الله بن زياد (¬4) بالكوفة، حتى روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يغيظه. وبعض الناس يذكر أن الرواية كانت أمام يزيد بن معاوية بالشام، ولا يثبت ذلك، فإن الصحابة المسمين في الحديث (¬5) إنما كانوا بالعراق. ¬
وكذلك مقابر كثيرة لأسماء (¬1) رجال معروفين، قد علم أنها ليست مقابرهم. فهذه المواضع ليست فيها فضيلة أصلا، وإن اعتقد الجاهلون أن لها فضيلة، اللهم إلا أن يكون قبرا لرجل مسلم فيكون كسائر قبور المسلمين، ليس لها من الخصيصة (¬2) ما يحسبه الجهال، وإن كانت القبور (¬3) الصحيحة لا يجوز اتخاذها أعيادا (¬4) ولا أن يفعل ما يفعل عند هذه القبور المكذوبة، أو تكون قبرا لرجل صالح غير المسمى، فيكون من القسم الثاني. ومن هذا الباب أيضا: مواضع يقال إن فيها أثر النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره، ويضاهي بها مقام إبراهيم الذي بمكة، كما يقول الجهال في الصخرة التي ببيت المقدس، من أن فيها أثرا من وطء رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬5) وبلغني أن بعض الجهال يزعم أنها من وطء الرب سبحانه وتعالى! فيزعمون أن ذلك الأثر موضع القدم. وفي مسجد قبلي دمشق -يسمى مسجد القدم- أثر (¬6) أيضا يقال إن ذلك أثر (¬7) قدم موسى عليه السلام، وهذا باطل لا أصل له. ولم يقدم موسى دمشق ولا ما حولها. وكذلك مشاهد تضاف إلى بعض الأنبياء أو الصالحين بناء على أنه رؤى ¬
في المنام هناك، ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم أو الرجل الصالح في المنام ببقعة لا يوجب لها فضيلة تقصد البقعة لأجلها، وتتخذ مصلى، بإجماع المسلمين. وإنما يفعل هذا وأمثاله أهل الكتاب، وربما صور (¬1) فيها (¬2) صورة النبي أو الرجل الصالح أو بعض أعضائه، مضاهاة لأهل الكتاب، كما كان في بعض مساجد دمشق، مسجد (¬3) يسمى مسجد الكف، فيه تمثال كف يقال: إنه كف علي بن أبي طالب كرم الله وجهه (¬4) حتى هدم الله ذلك الوثن. وهذه الأمكنة كثيرة موجودة في أكثر البلاد. وفي الحجاز مواضع، كغار عن يمين الطريق وأنت ذاهب من بدر إلى مكة يقال: إنه الغار الذي كان فيه (¬5) النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وإنه الغار الذي ذكره الله في قوله (¬6) تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40] (¬7) ولا خلاف بين أهل العلم أن الغار المذكور في القرآن إنما هو غار بجبل ثور، قريب من مكة، معروف عند أهل مكة إلى اليوم. فهذه البقاع التي يعتقد لها خصيصة -كائنة ما كانت- (¬8) فإن تعظيم ¬
مكان لم يعظمه الشرع شر من تعظيم زمان لم يعظمه، فإن تعظيم الأجسام بالعبادة عندها أقرب إلى عبادة الأوثان من تعظيم الزمان، حتى إن الذي ينبغي تجنب الصلاة فيها (¬1) وإن كان المصلي لا يقصد تعظيمها، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى تخصيصها بالصلاة فيها، كما ينهى عن الصلاة عند القبور المحققة، وإن لم يكن المصلي يقصد الصلاة لأجلها. وكما ينهى عن إفراد الجمعة وسرر شعبان بالصوم، وإن كان الصائم لا يقصد التخصيص بذلك الصوم، فإن ما كان مقصودا بالتخصيص، مع النهي عن ذلك، ينهى عن تخصيصه أيضا بالفعل. وما أشبه هذه الأمكنة بمسجد الضرار الذي (¬2) أسس على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم. فإن ذلك المسجد لما بني ضرارا وكفرا، وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل، نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيه، وأمر بهدمه. وهذه المشاهد الباطلة إنما وضعت مضاهاة لبيوت الله، وتعظيما لما لم يعظمه الله، وعكوفا على أشياء لا تنفع ولا تضر، وصدًا للخلق عن سبيل الله، وهي عبادته وحده لا شريك له بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم تسليما، واتخاذها عيدا هو الاجتماع عندها واعتياد قصدها، فإن العيد من المعاودة. ويلتحق بهذا الضرب -لكنه ليس منه- مواضع يدعى لها خصائص لا تثبت، مثل كثير من القبور التي يقال إنها قبر نبي، أو قبر صالح، أو مقام نبي، أو صالح، ونحو ذلك، وقد يكون ذلك صدقا، وقد يكون كذبا. وأكثر المشاهد التي على وجه الأرض من هذا الضرب. فإن القبور الصحيحة والمقامات الصحيحة قليلة جدا. وكان غير واحد من أهل العلم يقول: لا يثبت ¬
من قبور الأنبياء إلا قبر نبينا صلى الله عليه وسلم. وغيره قد يثبت غير هذا أيضا مثل: قبل إبراهيم الخليل عليه السلام، وقد يكون علم أن القبر في تلك الناحية لكن يقع الشك في عينه، ككثير من قبور الصحابة التي بباب الصغير من دمشق، فإن الأرض غيرت مرات، فتعيين قبر أنه قبر بلال أو غيره لا يكاد يثبت، إلا من طريق خاصة، وإن كان لو ثبت ذلك لم يتعلق به حكم شرعي مما قد أحدث عندها. ولكن الغرض أن نبين هذا القسم الأول، وهو تعظيم الأمكنة التي لا خصيصة لها: إما (¬1) مع العلم بأنه (¬2) لا خصيصة لها، أو مع عدم العلم بأن لها خصيصة، إذ العبادة والعمل بغير علم منهي عنه، كما أن العبادة والعمل بما يخالف العلم منهي عنه، ولو كان ضبط هذه الأمور من الدين لما أهمل، ولما ضاع عن الأمة المحفوظ دينها، المعصومة عن الخطأ. وأكثر ما تجد الحكايات المتعلقة بهذا عند السدنة والمجاورين لها (¬3) الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله. وقد يحكي من الحكايات التي فيها تأثير، مثل أن رجلا دعا عندها فاستجيب له، أو نذر لها إن قضى (¬4) الله حاجته فقضيت حاجته، ونحو ذلك. وبمثل هذه الأمور كانت تعبد الأصنام فإن القوم كانوا أحيانا يخاطبون من الأوثان، وربما تقضي حوائجهم إذا قصدوها (¬5) وكذلك ¬
يجري لأهل (¬1) الأبداد (¬2) من أهل الهند وغيرهم. وربما قيست على ما شرع الله تعظيمه من بيته المحجوج، والحجر الأسود الذي شرع الله استلامه وتقبيله، كأنه يمينه، والمساجد التي هي بيوته. وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس (¬3) وبمثل هذه الشبهات حدث الشرك في أهل الأرض. وقد صح "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر وقال: «إنه لا يأتي بخير (¬4) وإنما يستخرج به من البخيل» (¬5) فإذا كان نذر الطاعات المعلقة بشرط لا فائدة فيه، ولا يأتي بخير، فما الظن بالنذر لما (¬6) لا يضر ولا ينفع؟ . وأما إجابة الدعاء، فقد يكون سببه (¬7) اضطرار الداعي وصدقه (¬8) وقد يكون سببه مجرد رحمة الله له، وقد يكون أمرا قضاه (¬9) الله لا لأجل دعائه، وقد ¬
يكون له أسباب أخرى، وإن كانت فتنة (¬1) في حق الداعي، فإنا نعلم أن الكفار قد يستجاب لهم فيسقون، وينصرون ويعانون، ويرزقون (¬2) مع دعائهم عند أوثانهم وتوسلهم بها. وقد قال الله تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20] (¬3) وقال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6] (¬4) . وأسباب المقدورات فيها أمور يطول تعدادها، ليس هذا موضع تفصيلها، وإنما على الخلق اتباع ما بعث الله به المرسلين، والعلم بأن فيه خير الدنيا والآخرة. ولعلي إن شاء الله أبين بعض أسباب هذه التأثيرات في موضع آخر (¬5) . * * * ¬
فصل في النوع الثاني من الأمكنة
[فصل في النوع الثاني من الأمكنة] [النوع الثاني ما له خصيصة لا تقتضي اتخاذه عيدا] فصل النوع الثاني من الأمكنة: ما له خصيصة لكن لا يقتضي اتخاذه عيدا، ولا الصلاة ونحوها من العبادات عنده. فمن هذه الأمكنة: قبور الأنبياء والصالحين، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، والسلف النهي عن اتخاذها عيدا، عموما وخصوصا. وبينوا معنى العيد. فأما العموم: فقال أبو داود في سننه: حدثنا أحمد بن صالح (¬1) قال: قرأت على عبد الله بن نافع (¬2) أخبرني ابن أبي ذئب (¬3) عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجعلوا بيوتكم ¬
قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم» (¬1) " (¬2) وهذا إسناد حسن، فإن رواته كلهم ثقات مشاهير، لكن عبد الله بن نافع الصائغ الفقيه المدني صاحب مالك فيه لين لا يقدح في حديثه. قال يحيى بن معين: هو ثقة. وحسبك بابن معين موثقا. وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال أبو حاتم الرازي: ليس بالحافظ، وهو لين (¬3) تعرف (¬4) حفظه وتنكر (¬5) . فإن هذه العبارات منهم تنزل حديثه من مرتبة الصحيح إلى مرتبة الحسن، إذ لا خلاف في عدالته وفقهه، وأن الغالب عليه الضبط، لكن قد يغلط أحيانا، ثم هذا الحديث مما يعرف من حفظه، ليس مما ينكر، لأنه سنة مدنية (¬6) وهو محتاج إليها في فقهه، ومثل هذا يضبطه الفقيه. وللحديث شواهد من غير طريقه، فإن هذا الحديث روي من جهات أخرى (¬7) فما بقي منكرا. وكل جملة من هذا الحديث رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد معروفة، وإنما الغرض هنا النهي عن اتخاذه عيدا. ¬
فمن ذلك: ما رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا (¬1) زيد بن الحباب، حدثنا جعفر بن إبراهيم -من ولد ذي الجناحين- حدثنا علي بن عمر، عن أبيه، عن علي بن الحسين: أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو. فنهاه، فقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته عن (¬2) أبي عن جدي عن رسول الله (¬3) صلى الله عليه وسلم قال: «لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم» رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي الحافظ، فيما اختاره من الأحاديث الجياد الزائدة على الصحيحين، وشرطه فيه أحسن من شرط الحاكم في صحيحه (¬4) . وروى سعيد في سننه، حدثنا حبان بن علي (¬5) حدثني محمد بن عجلان (¬6) عن أبي سعيد مولى المهري (¬7) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ¬
«لا تتخذوا بيتي عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني» (¬1) . وقال سعيد: حدثنا عبد العزيز بن محمد (¬2) أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر، فناداني، وهو في بيت فاطمة يتعشى. فقال: هلم إلى العشاء؟ فقلت لا أريده. فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إذا دخلت المسجد فسلم. ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تتخذوا بيتي عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم» (¬3) [ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء] (¬4) . فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث، لا سيما وقد احتج من (¬5) أرسله به وذلك يقتضي ثبوته عنده، ولو لم يكن روي من وجوه مسندة غير هذين. فكيف وقد تقدم مسندا؟ . ووجه الدلالة: أن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل قبر على وجه الأرض، وقد نهى عن اتخاذه عيدا. فقبر غيره أولى بالنهي كائنا من كان، ثم إنه قرن ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: «ولا تتخذوا بيوتكم قبورا» أي لا تعطلوها عن الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحري العبادة في البيوت، ونهى عن تحريها عند القبور، (¬6) عكس ما يفعله المشركون من النصارى ومن تشبه بهم. ¬
وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبورا» (¬1) . وروى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإن الشيطان يفر من البيت الذي يسمع سورة البقرة تقرأ فيه» (¬2) ثم إنه صلى الله عليه وسلم أعقب النهي عن اتخاذه عيدًا بقوله: «صلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم» ، (¬3) وفي الحديث الآخر: «فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم» يشير بذلك صلى الله عليه وسلم إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم منه فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيدًا. والأحاديث عنه بأن صلاتنا وسلامنا تعرض عليه كثيرة، مثل ما روى أبو داود من حديث أبي صخر حميد بن زياد (¬4) عن يزيد بن عبد الله بن قسيط (¬5) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أحد يسلم علي ¬
إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام» (¬1) صلى الله عليه وسلم. وهذا الحديث على شرط مسلم. ومثل ما روى أبو داود أيضا عن أوس بن (¬2) أوس (¬3) رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة علي، قالوا: يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ فقال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء» (¬4) . [أرم أي صار رميما، أي عظما باليا، فإذا اتصلت به تاء الضمير فأفصح اللغتين أن يفك الإدغام فيقال: أرمت. وفيه لغة أخرى كما في الرواية: أرمت بتشديد الميم، وقد يخفف، فيقال: أرمت] (¬5) . ¬
وفي (¬1) مسند ابن أبي شيبة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى عند قبري (¬2) سمعته، ومن صلى علي نائيا بلغته» (¬3) . رواه الدارقطني بمعناه. وفي النسائي وغيره عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام» (¬4) إلى أحاديث أخر (¬5) في هذا الباب متعددة. ثم إن أفضل التابعين من أهل بيته علي بن الحسين رضي الله عنه، نهى ذلك (¬6) الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم، واستدل بالحديث، وهو راوي الحديث الذي سمعه من أبيه الحسين، عن جده علي، واعلم بمعناه من غيره (¬7) ؛ فبين أن قصده (¬8) للدعاء ونحوه اتخاذ له عيدًا. وكذلك ابن عمه حسن بن حسن شيخ أهل بيته، كره أن يقصد الرجل القبر للسلام عليه ونحوه عند دخول المسجد، ورأى أن ذلك (¬9) من اتخاذه ¬
إطلاق العيد على المكان الذي يقصد الاجتماع فيه
عيدًا. فانظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت، الذين لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قرب النسب وقرب الدار، لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم فكانوا لها أضبط. [إطلاق العيد على المكان الذي يقصد الاجتماع فيه] والعيد إذا جعل اسمًا للمكان فهو المكان الذي يقصد الاجتماع فيه، وانتيابه (¬1) للعبادة عنده، أو لغير العبادة، كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة، جعلها الله عيدًا، مثابة للناس، يجتمعون فيها، وينتابونها، للدعاء والذكر والنسك، وكان للمشركين أمكنة ينتابونها للاجتماع عندها. فلما جاء الإسلام محا الله ذلك كله. وهذا النوع من الأمكنة يدخل فيه قبور الأنبياء والصالحين والقبور التي يجوز أن تكون قبورًا لهم، بتقدير كونها قبورًا لهم، بل وسائر القبور أيضًا داخلة في هذا. فإن قبر المسلم له من الحرمة ما جاءت به السنة، إذ هو بيت المسلم الميت، فلا يترك عليه شيء من النجاسات بالاتفاق ولا يوطأ ولا يداس، ولا يتكأ عليه عندنا، وعند جمهور العلماء، ولا يجاور بما يؤذي الأموات من الأقوال والأفعال الخبيثة، ويستحب عند إتيانه السلام على صاحبه، والدعاء له، وكلما كان الميت أفضل، كان حقه أوكد. قال بريدة بن الحصيب (¬2) رضي الله عنه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا ¬
خرجوا إلى المقابر، أن يقول قائلهم: "السلام على أهل الديار"، وفي لفظ: "السلام عليكم أهل الديار، من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية» . رواه مسلم (¬1) . وروى أيضًا عن أبي هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» (¬2) . وروي أيضًا عن عائشة في حديث طويل "عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن جبريل أتاني فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع، فتستغفر لهم، قالت: قلت: كيف أقول يا رسول الله؟ قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» (¬3) " (¬4) . وروى ابن ماجه عن عائشة قالت: «فقدته فإذا هو بالبقيع، فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم لنا فرط، ونحن بكم لاحقون، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم» (¬5) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه فقال: "السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، ¬
أنتم سلفنا ونحن بالأثر» رواه أحمد والترمذي وقال: "حديث حسن غريب" (¬1) . وقد ثبت عنه أنه بعد أحد بثمان سنين خرج إلى الشهداء، فصلى عليهم كصلاته على الميت (¬2) . وروى أبو داود، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت، وقف عليه فقال: استغفروا لأخيكم وسلوا (¬3) له التثبيت، فإنه الآن يسأل» (¬4) . / 50 وقد روي حديث صححه ابن عبد البر أنه قال: «ما من رجل يمر بقبر رجل كان يعرفه في الدنيا، فيسلم عليه، إلا رد الله عليه روحه، حتى يرد عليه السلام» (¬5) . ¬
وروى في تلقين الميت (¬1) بعد الدفن حديث فيه نظر، لكن عمل به رجال من أهل الشام الأولين، مع روايتهم له، فلذلك استحبه أكثر أصحابنا وغيرهم (¬2) . فهذا ونحوه مما (¬3) كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله، ويأمر به أمته عند قبور المسلمين، عقب الدفن، (¬4) وعند زيارتهم، والمرور بهم، إنما هو تحية للميت، كما يحي الحي ودعاء له كما يدعى له، إذا صلى عليه قبل الدفن أو بعده، وفي ضمن الدعاء للميت، دعاء الحي لنفسه، ولسائر المسلمين، كما أن الصلاة على الجنازة فيها الدعاء للمصلي، ولسائر المسلمين، وتخصيص الميت بالدعاء له، فهذا كله، وما كان مثله، من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه السابقون الأولون، هو المشروع للمسلمين في ذلك. وهو الذي كانوا يفعلونه عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وغيره. وروى ابن بطة (¬5) في الإبانة، بإسناد صحيح، عن معاذ بن ¬
ما يتصل بالقبور من زيارتها والصلاة عندها واتخاذها مساجد والبناء عليها
معاذ (¬1) حدثنا ابن (¬2) عون (¬3) قال: سأل رجل نافعًا (¬4) فقال: هل كان ابن عمر يسلم على القبر، فقال: نعم، لقد رأيته مائة (¬5) أو أكثر من مائة مرة، كان يأتي القبر، فيقوم عنده فيقول: "السلام على النبي، السلام على أبي بكر، السلام على أبي" (¬6) . وفي رواية أخرى، ذكرها الإمام أحمد محتجًا بها: "ثم ينصرف"، وهذا الأثر رواه مالك في الموطأ (¬7) . [ما يتصل بالقبور من زيارتها والصلاة عندها واتخاذها مساجد والبناء عليها] وزيارة القبور جائزة في الجملة، حتى قبور الكفار، فإن في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم: «استأذنت ربي أن أستغفر لأمي (¬8) فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي» (¬9) ". وفيه أيضًا عنه قال: «زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، فقال: استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور ¬
قبرها فأذن لي فزوروا القبور، فإنها تذكر الموت» (¬1) . وفي صحيح مسلم (¬2) عن بريدة، " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " (¬3) «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها» (¬4) . وفي رواية لأحمد والنسائي: «فمن أراد أن يزور فليزر ولا تقولوا هجرًا» (¬5) . وروى أحمد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة» (¬6) . فقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم في زيارتها بعد النهي، وعلل ذلك بأنها تذكر الموت، والدار الآخرة، وأذن (¬7) إذنًا عامًا، في زيارة قبر المسلم والكافر. والسبب الذي ورد عليه هذا اللفظ يوجب دخول الكافر، والعلة -وهي تذكر الموت والآخرة- موجودة في ذلك كله. وقد كان (¬8) صلى الله عليه وسلم يأتي قبور أهل ¬
البقيع والشهداء للدعاء لهم والاستغفار، فهذا المعنى يختص (¬1) بالمسلمين دون الكافرين. فهذه الزيارة وهي زيارة القبور، لتذكر الآخرة، أو لتحيتهم والدعاء لهم، هو الذي جاءت به السنة، كما تقدم. وقد اختلف أصحابنا وغيرهم، هل يجوز السفر لزيارتها؟ على قولين: أحدهما: لا يجوز، والمسافرة لزيارتها معصية، ولا يجوز قصر الصلاة فيها، وهذا قول ابن بطة وابن عقيل، وغيرهما؛ لأن هذا السفر بدعة، لم يكن في عصر السلف، وهو مشتمل على ما سيأتي من معاني النهي، ولأن في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا» (¬2) . وهذا النهي يعم السفر إلى المساجد والمشاهد، وكل مكان يقصد السفر إلى عينه للتقرب (¬3) بدليل أن بصرة بن أبي بصرة الغفاري (¬4) لما رأى أبا هريرة راجعًا من الطور الذي كلم الله عليه موسى (¬5) قال: لو رأيتك قبل أن تأتيه لم تأته لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» (¬6) . ¬
فقد فهم الصحابي الذي روى الحديث أن الطور وأمثاله من مقامات الأنبياء، مندرجة في العموم، وأنه لا يجوز السفر إليها، كما لا يجوز السفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة. وأيضًا فإذا كان السفر إلى بيت من بيوت الله -غير الثلاثة- لا يجوز، مع أن قصده لأهل مصره يجب تارة، ويستحب أخرى، وقد جاء في قصد المساجد من الفضل ما لا يحصى- فالسفر إلى بيوت (¬1) عباده أولى أن لا يجوز. والوجه الثاني: أنه يجوز السفر إليها، قاله طائفة من المتأخرين، منهم أبو حامد الغزالي (¬2) وأبو الحسن بن عبدوس الحراني (¬3) والشيخ أبو محمد المقدسي (¬4) . وما علمته منقولًا عن أحد من المتقدمين، بناء على أن الحديث ¬
لم يتناول النهي عن ذلك، كما لم يتناول النهي عن السفر إلى الأمكنة التي فيها الوالدان، والعلماء والمشايخ، والإخوان، أو بعض المقاصد، من الأمور الدنيوية المباحة. فأما ما سوى ذلك من المحدثات، فأمور: منها- الصلاة عند القبور مطلقًا، واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها، فقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك، والتغليظ فيه. فأما بناء المساجد على القبور فقد صرح عامة علماء الطوائف بالنهي عنه، متابعة للأحاديث، وصرح أصحابنا وغيرهم، من أصحاب مالك والشافعي وغيرهما، بتحريمه، ومن العلماء من أطلق فيه لفظ الكراهة. فما أدري عنى به التحريم، أو التنزيه؟ ولا ريب في القطع بتحريمه، لما روى مسلم في صحيحه "عن جندب بن عبد الله البجلي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلًا، ولو كنت متخذًا من أمتي (¬1) خليلًا، لاتخذت أبا بكر خليلًا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك» (¬2) . ¬
وعن عائشة رضي الله عنها، وعبد الله بن عباس قالا (¬1) «لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها، فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا» أخرجه البخاري ومسلم (¬2) . وأخرجا جميعًا عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قاتل الله اليهود (¬3) اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (¬4) وفي رواية لمسلم: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (¬5) . / 50 فقد نهى عن اتخاذ القبور مساجد في آخر حياته، ثم إنه لعن -وهو في السياق- من فعل ذلك من أهل الكتاب، ليحذر أمته أن يفعلوا ذلك. قالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا. رواه البخاري ومسلم (¬6) . ¬
وروى الإمام أحمد في مسنده بإسناد جيد عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن من أشرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد» (¬1) رواه أبو حاتم (¬2) في صحيحه (¬3) . وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله اليهود (¬4) اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (¬5) . رواه الإمام أحمد. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج» . رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي (¬6) . ¬
أنواع من المحرمات
وفي الباب أحاديث وآثار (¬1) كثيرة ليس هذا موضع استقصائها (¬2) . فهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين، والملوك وغيرهم- يتعين إزالتها بهدم أو بغيره، هذا مما لا أعلم فيه خلافًا بين العلماء المعروفين، وتكره الصلاة فيها من غير خلاف أعلمه، ولا تصح عندنا في ظاهر المذهب (¬3) لأجل النهي واللعن الوارد في ذلك، ولأحاديث أخر، وليس في هذه المسألة خلاف لكون المدفون فيها (¬4) واحدًا، وإنما اختلف أصحابنا في المقبرة المجردة عن مسجد، هل حدها ثلاثة أقبر، أو ينهى عن الصلاة عند القبر الفذ وإن لم يكن عنده قبر آخر؟ على وجهين (¬5) . [أنواع من المحرمات] ثم يتغلظ النهي إن كانت البقعة مغصوبة، مثل ما بني على (¬6) بعض العلماء، أو الصالحين، أو غيرهم ممن كان مدفونًا في مقبرة مسبلة، فبني على قبره مسجد، أو مدرسة، أو رباط، أو مشهد، وجعل فيه مطهرة، أو لم يجعل فإن هذا مشتمل على أنواع من المحرمات. أحدها: أن المقبرة المسبلة لا يجوز الانتفاع بها في غير الدفن من غير تعويض بالاتفاق، فبناء المسجد أو المدرسة أو الرباط فيها: كدفن الميت في المسجد، أو كبناء الخانات ونحوها في المقبرة، أو كبناء المسجد في الطريق الذي يحتاج الناس إلى المشي فيه. ¬
الثاني: اشتمال غالب ذلك على نبش قبور المسلمين، وإخراج عظام موتاهم، كما قد علم ذلك في كثير من هذه المواضيع. الثالث: أنه قد روى مسلم في صحيحه عن جابر: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى أن يبنى على القبور» (¬1) . الرابع: أن بناء المطاهر (¬2) التي هي محل النجاسات، بين مقابر المسلمين، من أقبح ما تجاور به القبور، لا سيما إن كان محل المطهرة قبر رجل (¬3) مسلم. الخامس: اتخاذ القبور مساجد، وقد تقدم بعض النصوص المحرمة لذلك. السادس: الإسراج على القبور وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من يفعل ذلك (¬4) . السابع: مشابهة أهل الكتاب في كثير من الأقوال والأفعال والسنن بهذا السبب كما هو الواقع. إلى غير ذلك من الوجوه. وقد كانت البنية التي على قبر إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم مسدودة لا يدخل إليها إلى حدود المائة الرابعة، فقيل: إن بعض النسوة المتصلات بالخلفاء رأت في ذلك منامًا فنقبت (¬5) لذلك. وقيل: إن النصارى لما استولوا على هذه النواحي ¬
نقبوا ذلك. ثم ترك ذلك مسجدًا بعد الفتوح المتأخرة. وكان أهل الفضل من شيوخنا لا يصلون في مجموع تلك البنية، وينهون أصحابهم عن الصلاة فيها، اتباعًا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتقاء لمعصيته، كما تقدم. وكذلك إيقاد المصابيح في هذه المشاهد مطلقًا، لا يجوز بلا خلاف أعلمه، للنهي الوارد، ولا يجوز الوفاء بما ينذر لها من دهن وغيره، بل موجبه موجب نذر المعصية. ومن ذلك الصلاة عندها، وإن لم (¬1) يبن هناك مسجد، فإن ذلك أيضًا اتخاذها مسجدًا، كما قالت عائشة: «ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن خشي أن يتخذ مسجدًا» (¬2) ولم تقصد عائشة رضي الله عنها مجرد بناء مسجد، فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدًا، وإنما قصدت أنهم خشوا أن الناس يصلون عند قبره، وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدًا، بل كل موضع يصلى فيه فإنه يسمى مسجدًا (¬3) وإن لم يكن هناك بناء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا» (¬4) . وقد روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الأرض كلها مسجد، إلا المقبرة والحمام» رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه والبزار، وغيرهم بأسانيد جيدة (¬5) ومن تكلم فيه فما استوفى طرقه. ¬
واعلم أن من الفقهاء من اعتقد أن سبب كراهة الصلاة في المقبرة ليس إلا كونها مظنة النجاسة، لما يختلط بالتراب من صديد الموتى، وبنى على هذا الاعتقاد الفرق بين المقبرة الجديدة والعتيقة، وبين أن يكون بينه وبين التراب حائل، أو لا يكون. ونجاسة الأرض مانع من الصلاة عليها، سواء كانت مقبرة أو لم تكن، لكن المقصود الأكبر بالنهي عن الصلاة عند القبور ليس هو هذا. فإنه قد بين أن اليهود والنصارى كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا، وقال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر ما فعلوا (¬1) . وروي عنه صلى الله عليه وسلم (¬2) أنه قال: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (¬3) قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا (¬4) وقال: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد (¬5) فإني أنهى عن ذلك» (¬6) . ¬
فهذا كله يبين لك أن السبب ليس هو مظنة النجاسة وإنما هو مظنة اتخاذها أوثانا. كما قال الشافعي رضي الله عنه: " وأكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدا، مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس " (¬1) وقد ذكر هذا المعنى أبو بكر الأثرم في (ناسخ الحديث ومنسوخه) ، وغيره من أصحاب أحمد وسائر العلماء فإن قبر النبي أو الرجل الصالح، لم يكن ينبش، والقبر الواحد لا نجاسة عليه. وقد نبيه هو صلى الله عليه وسلم على العلة بقوله: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد» وبقوله: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد فلا تتخذوها مساجد» وأولئك إنما كانوا يتخذون قبورا لا نجاسة عندها. ولأنه قد روى مسلم في صحيحه عن أبي مرثد الغنوي (¬2) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها» (¬3) . ولأنه صلى الله عليه وسلم قال: «كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة» (¬4) . فجمع بين التماثيل والقبور. وأيضا فإن اللات كان سبب عبادتها تعظيم قبر رجل صالح كان هناك، وقد ذكروا أن ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا أسماء قوم صالحين كانوا بين ¬
آدم ونوح عليهما السلام. فروى محمد بن جرير بإسناده إلى الثوري عن موسى بن محمد بن قيس: "ويعوق ونسرا" قال: كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح عليهما السلام، وكان لهم اتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم. فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم (¬1) . قال قتادة وغيره: "كانت هذه الآلهة يعبدها قوم نوح، ثم اتخذها العرب بعد ذلك" (¬2) . وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع هي (¬3) أوقعت كثيرا من الأمم، إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك، فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين، وبتماثيل يزعمون أنها طلاسم للكواكب (¬4) ونحو ذلك. فإن (¬5) يشرك بقبر الرجل الذي يعتقد نبوته أو صلاحه، أعظم من أن يشرك بخشبة أو حجر على تمثاله. ولهذا نجد أقواما كثيرين يتضرعون عندها، ويخشعون (¬6) ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها (¬7) في المسجد، بل ولا في السحر، ومنهم من يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد التي تشد إليها الرحال. فهذه المفسدة -التي هي مفسدة الشرك، كبيره وصغيره- هي التي حسم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها، حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقا، وإن لم يقصد ¬
المصلي بركة البقعة بصلاته كما يقصد بصلاته بركة المساجد الثلاثة، ونحو ذلك كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس واستوائها وغروبها؛ لأنها الأوقات التي يقصد المشركون بركة الصلاة للشمس فيها فينهى المسلم عن الصلاة حينئذ - وإن لم يقصد ذلك - سدا للذريعة. فأما إذا قصد الرجل الصلاة عند بعض قبور الأنبياء والصالحين، متبركا بالصلاة في تلك البقعة، فهذا عين المحادة لله ورسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله، فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أن الصلاة عند القبر - أي قبر كان - لا فضل فيها لذلك، ولا للصلاة في تلك البقعة مزية خير أصلا، بل مزية شر. واعلم أن تلك البقعة وإن كان قد تنزل عندها الملائكة والرحمة، ولها شرف وفضل، لكن دين الله تعالى بين الغالي فيه والجافي عنه. فإن النصارى عظموا الأنبياء حتى عبدوهم، وعبدوا تماثيلهم، واليهود استخفوا بهم حتى قتلوهم، والأمة الوسط عرفوا مقاديرهم؛ فلم يغلوا فيهم غلو النصارى، ولم يجفوا عنهم جفاء اليهود، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله» (¬1) . فإذا قدر أن الصلاة هناك توجب من الرحمة أكثر من الصلاة في غير تلك البقعة كانت المفسدة الناشئة من الصلاة هناك تربي (¬2) . على هذه (¬3) . ¬
المصلحة حتى تغمرها أو تزيد عليها، بحيث تصير الصلاة هناك مذهبة لتلك الرحمة، ومثبتة لما يوجب (¬1) العذاب، ومن لم تكن له بصيرة يدرك بها الفساد الناشئ من الصلاة عندها فيكفيه أن يقلد الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لولا أن الصلاة عندها مما غلبت مفسدته على مصلحته لما نهى عنه، كما نهى عن الصلاة في الأوقات الثلاثة وعن صوم يومي العيدين بل كما حرم الخمر، فإنه لولا أن فسادها غالب على ما فيها من المنفعة لما حرمها، وكذلك تحريم القطرة منها، ولولا غلبة الفساد فيها على الصلاح لما حرمها. وليس على المؤمن ولا له أن يطالب الرسل بتبيين وجوه المصالح والمفاسد وإنما عليه طاعتهم. قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64] (¬2) وقال (¬3) {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] (¬4) وإنما حقوق الأنبياء في تعزيرهم وتوقيرهم، ومحبتهم محبة مقدمة على النفس والأهل والمال (¬5) وإيثار طاعتهم ومتابعة سنتهم، ونحو ذلك من الحقوق التي من قام بها لم يقم (¬6) بعبادتهم والإشراك بهم، كما أن عامة من يشرك بهم شركا أكبر أو أصغر يترك ما يجب عليه من طاعتهم، بقدر ما ابتدعه من الإشراك بهم. وكذلك حقوق الصديقين المحبة والإجلال ونحو ذلك من الحقوق التي جاء بها الكتاب والسنة وكان عليها سلف الأمة. وقد اختلف الفقهاء في الصلاة في المقبرة: هل هي محرمة أو مكروهة؟ ¬
الدعاء عند القبور
وإذا قيل: هي محرمة، (¬1) فهل تصح مع التحريم أم لا؟ المشهور عندنا أنها محرمة لا تصح (¬2) ومن تأمل النصوص المتقدمة تبين له أنها محرمة بلا شك، وأن صلاته لا تصح (¬3) . [الدعاء عند القبور] وليس الغرض هنا تقرير المسائل المشهورة فإنها معروفة، إنما الغرض التنبيه على ما يخفى من غيرها. فمما (¬4) يدخل في هذا: قصد القبور للدعاء عندها أو بها. فإن الدعاء عند القبور وغيرها من الأماكن ينقسم إلى نوعين: أحدهما: أن يحصل الدعاء في البقعة بحكم الاتفاق، لا لقصد الدعاء فيها، كمن يدعو الله في طريقه، ويتفق أن يمر بالقبور أو كمن يزورها فيسلم عليها، ويسأل الله العافية له وللموتى، كما جاءت به السنة، فهذا ونحوه لا بأس به. الثاني: أن يتحرى الدعاء عندها بحيث يستشعر أن الدعاء هناك (¬5) أجوب منه في غيره فهذا النوع منهي عنه إما نهي تحريم أو تنزيه وهو إلى تحريم أقرب، والفرق بين البابين ظاهر فإن الرجل لو كان يدعو الله، واجتاز في ممره بصنم أو صليب أو كنيسة، أو كان يدعو في بقعة (¬6) وهناك (¬7) صليب هو عنه ذاهل، أو دخل كنيسة (¬8) ليبيت فيها مبيتا جائزا، ودعا الله في ¬
الليل، أو بات في بيت بعض أصدقائه ودعا الله، لم يكن بهذا بأس. ولو تحرى الدعاء عند صنم أو صليب، أو كنيسة (¬1) يرجو الإجابة بالدعاء في تلك البقعة، لكان هذا من العظائم. بل لو قصد بيتا أو حانوتا في السوق، أو بعض عواميد الطرقات يدعو عندها، يرجو الإجابة بالدعاء عندها لكان هذا من المنكرات المحرمة؛ إذ ليس للدعاء عندها فضل. فقصد القبور للدعاء عندها من هذا الباب بل هو (¬2) أشد من بعضه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذها مساجد، واتخاذها عيدا، وعن الصلاة عندها، بخلاف كثير من هذه المواضع. وما يرويه بعض الناس من أنه قال: " إذا تحيرتم في الأمور فاستعينوا (¬3) بأهل القبور "، أو نحو هذا، فهو كلام موضوع مكذوب باتفاق العلماء (¬4) والذي يبين ذلك أمور: أحدها: أنه قد تبين أن العلة التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم لأجلها عن الصلاة عندها إنما هو لئلا تتخذ ذريعة إلى نوع من الشرك (¬5) بالعكوف عليها وتعلق القلوب بها رغبة ورهبة. ومن المعلوم أن المضطر في الدعاء الذي قد نزلت به نازلة فيدعو لاستجلاب خير كالاستسقاء، أو لرفع شر كالاستنصار (¬6) حاله في افتتانه بالقبور - إذا رجا الإجابة عندها - أعظم من حال من يؤدي الفرض عندها في حال العافية، فإن أكثر المصلين - في حال العافية - لا تكاد قلوبهم تفتن بذلك ¬
إلا قليلا، أما الداعون المضطرون ففتنتهم بذلك عظيمة جدا، فإذا كانت المفسدة والفتنة التي لأجلها نهي عن الصلاة (¬1) متحققة في حال (¬2) هؤلاء، كان نهيهم عن ذلك (¬3) أوكد وأوكد. وهذا واضح لمن فقه في دين الله، وتبين له (¬4) ما جاءت به الحنفية من الدين الخالص لله، وعلم كمال (¬5) سنة إمام المتقين في تجريد التوحيد، ونفي الشرك بكل طريق. الثاني: أن قصد القبور للدعاء عندها، ورجاء الإجابة بالدعاء هنالك رجاء أكثر من رجائها بالدعاء في غير ذلك الموطن، أمر لم يشرعه الله ولا رسوله ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا أئمة المسلمين ولا ذكره أحد من العلماء ولا الصالحين المتقدمين، بل أكثر ما ينقل من ذلك عن بعض المتأخرين بعد المائة الثانية. وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجدبوا مرات، ودهمتهم نوائب غير ذلك، فهلا جاءوا فاستسقوا واستغاثوا، عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟ بل خرج عمر بالعباس فاستسقى به (¬6) ولم يستسق عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم. بل قد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها كشفت عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم لينزل المطر، فإنه رحمة تنزل على قبره ولم تستسق عنده ولا استغاثت هناك. ولهذا لما بنيت حجرته (¬7) على عهد التابعين - بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم تركوا في أعلاها كوة إلى السماء وهي إلى الآن باقية فيها، موضوع عليها ¬
مشمع (¬1) على أطرافه حجارة تمسكه، وكان السقف بارزا إلى السماء وبني كذلك لما احترق المسجد والمنبر سنة بضع وخمسين وستمائة (¬2) وظهرت النار بأرض الحجاز، التي أضاءت لها أعناق الإبل ببصرى (¬3) وجرت بعدها فتنة الترك (¬4) ببغداد وغيرها (¬5) . ثم عمر المسجد والسقف كما كان، وأحدث حول الحجرة الحائط الخشبي، ثم بعد ذلك بسنين متعددة بنيت القبة على السقف، وأنكره من كرهه (¬6) . ¬
على أنا قد روينا في مغازي محمد بن إسحاق من زيادات يونس بن بكير (¬1) عن أبي خلدة خالد بن دينار، حدثنا أبو العالية (¬2) قال: " لما فتحنا تستر (¬3) وجدنا في بيت مال (¬4) الهرمزان (¬5) سريرا عليه رجل ميت، عند رأسه مصحف له، فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر رضي الله عنه فدعا له كعبا (¬6) فنسخه بالعربية، فأنا أول رجل من العرب قرأه قراءة مثلما أقرأ القرآن هذا، فقلت لأبي العالية: ما كان فيه؟ ، قال: " سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم، وما هو كائن بعد " قلت: فما صنعتم بالرجل؟ قال: " حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبرا متفرقة، فلما كان بالليل دفناه، وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس لا ينبشونه " فقلت: ما يرجون (¬7) منه؟ قال: " كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا ¬
بسريره (¬1) فيمطرون ". فقلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: " رجل يقال له دانيال " (¬2) فقلت: منذ كم وجدتموه مات؟ قال: " منذ ثلاثمائة سنة ". قلت: ما كان تغير منه شيء؟ قال: " لا، إلا شعيرات من قفاه، إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض، ولا تأكلها السباع " (¬3) . ففي هذه القصة (¬4) ما فعله المهاجرون والأنصار من تعمية (¬5) قبره، لئلا يفتتن به الناس، وهو إنكار منهم لذلك. ويذكر (¬6) أن قبر أبي أيوب الأنصاري عند أهل القسطنطينية كذلك، ولا قدوة بهم (¬7) فقد كان من قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمصار عدد كثير، وعندهم التابعون، ومن بعدهم من الأئمة، وما استغاثوا عند قبر صاحب قط، ولا استسقوا عند قبره (¬8) ولا به، ولا استنصروا عنده ولا به. ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، بل على نقل ما هو دونه. ومن تأمل كتب الآثار، وعرف حال السلف، تيقن قطعا أن القوم ما كانوا يستغيثون ¬
عند القبور، ولا يتحرون الدعاء عندها أصلا، بل كانوا ينهون عن ذلك من كان يفعله من جهالهم. كما قد ذكرنا بعضه. فلا يخلو: إما أن يكون الدعاء عندها أفضل منه في غير تلك البقعة، أو لا يكون. فإن كان أفضل لم يجز أن يخفى علم هذا عن الصحابة والتابعين وتابعيهم؛ فتكون القرون الثلاثة الفاضلة جاهلة بهذا الفضل العظيم، ويعلمه من بعدهم. ولم يجز أن يعلموا ما فيه من الفضل العظيم (¬1) ويزهدوا فيه، مع حرصهم على كل خير، لا سيما الدعاء، فإن المضطر يتشبث بكل سبب، وإن كان فيه نوع كراهة، فكيف يكونون مضطرين في كثير من الدعاء، وهم يعلمون فضل الدعاء عند القبور، ثم لا يقصدونه (¬2) ؟ هذا محال طبعا وشرعا. وإن لم يكن الدعاء عندها أفضل، كان قصد الدعاء عندها ضلالة ومعصية، كما لو تحرى الدعاء وقصده عند سائر البقاع التي لا فضيلة للدعاء عندها، من شطوط الأنهار، ومغارس الأشجار وحوانيت الأسواق، وجوانب الطرقات، وما لا يحصي عدده إلا الله. وهذا الدليل قد دل عليه كتاب الله في غير موضع، مثل قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] (¬3) فإذا لم يشرع الله استحباب الدعاء عند المقابر ولا وجوبه؛ فمن شرعه فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] (¬4) ¬
وهذه العبادة عند المقابر نوع من أن يشرك بالله ما لم ينزل به سلطانًا، لأن الله لم ينزل حجة تتضمن استحباب قصد الدعاء عند القبور وفضله على غيره. ومن جعل ذلك من دين الله فقد قال على الله ما لا يعلم (¬1) . وما أحسن قوله تعالى: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [الأعراف: 33] لئلا يحتج بالمقاييس والحكايات. ومثل هذا قوله تعالى في حكايته عن الخليل: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ - وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ - وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 80 - 83] (¬2) . فإن هؤلاء المشركين الشرك الأكبر والأصغر يخوفون المخلصين بشفعائهم (¬3) فيقال لهم (¬4) نحن لا نخاف هؤلاء الشفعاء الذين لكم، فإنهم خلق من خلق الله، لا يضرون إلا بعد مشيئة الله، فمن مسه بضر فلا كاشف له إلا هو، ومن أصابه برحمة فلا راد لفضله وكيف نخاف هؤلاء المخلوقين الذين جعلتموهم شفعاء وأنتم لا تخافون الله، وقد أحدثتم (¬5) في دينه من الشرك ما لم ¬
ينزل به وحيا من السماء؟! فأي الفريقين أحق بالأمن؟ من كان لا يخاف إلا الله، ولم يبتدع في دينه شركاء، أم من ابتدع في دينه شركا بغير إذنه؟ بل من آمن ولم يخلط إيمانه بشرك فهؤلاء من (¬1) المهتدين. وهذه الحجة المستقيمة التي يرفع الله بها وبأمثالها أهل العلم. فإن قيل: فقد نقل عن بعضهم أنه قال: " قبر معروف (¬2) الترياق المجرب (¬3) وروي عن معروف أنه أوصى ابن أخيه أن يدعو عند قبره. وذكر أبو علي الخرقي (¬4) في قصص مَنْ هجره أحمد، أن بعض هؤلاء المهجورين كان يجيء عند قبر أحمد، ويتوخى الدعاء عنده، وأظنه ذكر ذلك للمروذي (¬5) ونقل عن جماعات أنهم دعوا عند قبور جماعات من الأنبياء والصالحين، من أهل البيت وغيرهم، فاستجيب لهم الدعاء، وعلى هذا عمل كثير من الناس. وقد ذكر العلماء (¬6) المصنفون في مناسك الحج إذا زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم ¬
رد القول بأن الأمة أجمعت على استحسان الدعاء عند القبور
فإنه يدعو عنده، وذكر بعضهم أنه من صلى عليه سبعين مرة عند قبره ودعا استجيب له. وذكر بعض الفقهاء في حجة من يجوز القراءة على القبر: أنها بقعة يجوز السلام والذكر والدعاء عندها، فجازت القراءة (¬1) كغيرها. وقد رأى بعضهم منامات في الدعاء عند قبر بعض الأشياخ، وجرب أقوام استجابة الدعاء عند قبور معروفة، كقبر الشيخ أبي الفرج الشيرازي المقدسي (¬2) وغيره. وقد أدركنا في أزماننا وما قاربها من ذوي الفضل (¬3) علما وعملا من كان يتحرى الدعاء عندها أو العكوف عليها، وفيهم من كان بارعا في العلم، وفيهم من كان له (¬4) كرامات، فكيف يخالف هؤلاء؟ وإنما ذكرت هذا السؤال مع بعده عن طريق (¬5) العلم والدين، لأنه غاية ما يتمسك به المقبريون (¬6) . [رد القول بأن الأمة أجمعت على استحسان الدعاء عند القبور] قلنا: الذي ذكرنا كراهته، لا ينقل في استحبابه - فيما علمناه - شيء ¬
ثابت، عن القرون الثلاثة التي أثنى النبي صلى الله عليه وسلم (¬1) عليها حيث قال: «خير أمتي القرن الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (¬2) مع شدة المقتضي فيهم (¬3) لذلك (¬4) لو كان فيه فضيلة، فعدم (¬5) أمرهم وفعلهم لذلك مع قوة المقتضي لو كان فيه فضل يوجب (¬6) القطع بأن لا فضل فيه. وأما من بعد هؤلاء، فأكثر ما يفرض: أن الأمة اختلفت، فصار كثير من العلماء أو الصديقين إلى فعل (¬7) ذلك، وصار بعضهم إلى النهي عن ذلك، فإنه لا يمكن أن يقال: قد أجمعت الأمة على استحسان ذلك لوجهين: أحدهما: أن كثيرا من الأمة كره ذلك وأنكره، قديما وحديثا. الثاني: أنه من الممتنع أن تتفق الأمة على استحسان فعل لو كان حسنا لفعله المتقدمون، ولم يفعلوه، فإن هذا من باب تناقض الإجماعات، وهي لا تتناقض، وإذا اختلف فيه المتأخرون فالفاصل بينهم: هو الكتاب والسنة، ¬
وإجماع المتقدمين نصا واستنباطا، فكيف (¬1) - والحمد لله - لا ينقل هذا عن إمام معروف، ولا عالم متبع؟ بل المنقول في ذلك إما أن يكون كذبا على صاحبه، مثل ما حكى بعضهم عن الشافعي أنه قال: " إني إذا نزلت بي شدة أجيء فأدعو عند قبر أبي حنيفة فأجاب " أو كلاما هذا معناه. وهذا كذلك معلوم كذبه بالاضطرار عند من له (¬2) معرفة بالنقل، فإن الشافعي لما قدم بغداد لم يكن ببغداد قبر ينتاب للدعاء عنده البتة، بل ولم يكن هذا على عهد الشافعي معروفا، وقد رأى الشافعي بالحجاز واليمن والشام والعراق ومصر من قبور الأنبياء والصحابة والتابعين، من كان أصحابها عنده وعند المسلمين، أفضل من أبي حنيفة، وأمثاله من العلماء. فما باله لم يتوخَّ الدعاء إلا عنده (¬3) ؟ ثم أصحاب أبي حنيفة الذين أدركوه، مثل أبي يوسف ومحمد (¬4) وزفر (¬5) والحسن بن زياد (¬6) وطبقتهم، لم يكونوا يتحرون الدعاء، لا عند قبر أبي حنيفة ولا غيره. ¬
ثم قد تقدم عند الشافعي ما هو ثابت في كتابه من كراهة تعظيم قبور المخلوقين (¬1) خشية الفتنة بها، وإنما يضع مثل هذه الحكايات من يقل علمه ودينه. وإما أن يكون المنقول من هذه الحكايات عن مجهول لا يعرف، ونحن لو روي لنا مثل هذه الحكايات المسيبة (¬2) أحاديث عمن لا ينطق عن الهوى، لما جاز التمسك بها حتى تثبت. فكيف بالمنقول عن غيره؟ ومنها ما قد يكون صاحبه قاله أو فعله، باجتهاد يخطئ ويصيب، أو قاله بقيود وشروط كثيرة على وجه لا محذور فيه، فحرف النقل عنه، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أذن في زيارة القبور بعد النهي (¬3) فهم المبطلون أن ذلك هو الزيارة (¬4) التي يفعلونها، من حجها للصلاة عندها، والاستغاثة (¬5) بها. ثم سائر هذه الحجج دائرة بين نقل لا يجوز إثبات الشرع به، أو قياس لا يجوز استحباب العبادات بمثله، مع العلم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشرعها، وتركه (¬6) مع قيام المقتضي للفعل بمنزلة فعله، وإنما يثبت العبادات بمثل هذه الحكايات والمقاييس - من غير نقل عن الأنبياء - (¬7) النصارى وأمثالهم. وإنما المتبع في إثبات أحكام الله (¬8) كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسبيل ¬
السابقين أو الأولين، لا يجوز إثبات حكم شرعي بدون هذه الأصول الثلاثة، نصا واستنباطا بحال. والجواب عنها من وجهين: مجمل ومفصل. * أما المجمل: فالنقض: فإن اليهود والنصارى عندهم من الحكايات والقياسات من هذا النمط كثير، بل المشركون الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يدعون عند أوثانهم فيستجاب لهم أحيانا، كما قد يستجاب لهؤلاء أحيانا، وفي وقتنا هذا عند النصارى من هذا طائفة، فإن كان هذا وحده دليلا على أن الله يرضى ذلك ويحبه، فليطرد الدليل (¬1) . وذلك (¬2) كفر متناقض. ثم إنك تجد كثيرا من هؤلاء الذين يستغيثون، عند قبر أو غيره، كل منهم قد اتخذ وثنا أحسن به الظن، وأساء الظن بآخر، وكل منهم يزعم أن وثنه يستجاب عنده، ولا يستجاب عند غيره، فمن المحال إصابتهم جميعا، وموافقة بعضهم دون بعض تحكم، وترجيح بلا مرجح، والتدين بدينهم جميعا جمع بين الأضداد. فإن أكثر هؤلاء إنما يكون تأثرهم - فيما يزعمون - بقدر إقبالهم على وثنهم، وانصرافهم عن غيره، وموافقتهم جميعا فيما يثبتونه - دون ما ينفونه -، بضعف التأثير على زعمهم، فإن الواحد (¬3) إذا أحسن الظن بالإجابة عند هذا وهذا، لم يكن تأثره مثل تأثر الحسن (¬4) ¬
الظن بواحد دون آخر. وهذه كلها من خصائص الأوثان. ثم قد استجيب لبلعم بن باعور (¬1) في قوم موسى المؤمنين وسلبه الله الإيمان. والمشركون قد يستسقون فيسقون، ويستنصرون فينصرون. وأما الجواب المفصل فنقول: مدار هذه الشبه على أصلين: منقول: وهو ما يحكى من فعل هذا الدعاء عن (¬2) بعض الأعيان. ومعقول: وهو ما يعتقد من منفعته بالتجارب والأقيسة. فأما النقل في ذلك: فإما كذب، أو غلط، أو ليس بحجة، بل قد ذكرنا النقل عمن يقتدى به بخلاف ذلك. وأما المعقول فنقول: عامة المذكور من المنافع كذب، فإن هؤلاء الذين يتحرون الدعاء عند القبور وأمثالهم - إنما يستجاب لهم في النادر. ويدعو الرجل منهم ما شاء الله من دعوات، فيستجاب له في واحدة، ويدعو خلق كثير منهم، فيستجاب للواحد بعد الواحد وأين هذا من الذين يتحرون الدعاء أوقات الأسحار، ويدعون الله في سجودهم وأدبار صلاتهم، وفي بيوت الله؟ فإن هؤلاء إذا ابتهلوا (¬3) من جنس ابتهال المقابريين (¬4) لم تكد تسقط لهم دعوة إلا لمانع. ¬
بل الواقع أن الابتهال الذي يفعله المقابريون (¬1) إذا فعله المخلصون، لم يرد المخلصون إلا نادرا، ولم يستجب للمقابريين (¬2) إلا نادرا، والمخلصون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث: إما أن يعجل الله له دعوته، أو يدخر (¬3) له من الخير مثلها، أو يصرف عنه من الشر مثلها، قالوا: يا رسول الله، إذن نكثر. قال: الله أكثر» (¬4) . فهم في دعائهم لا يزالون بخير. وأما المقبريون: فإنهم إذا استجيب لهم نادرا، فإن أحدهم يضعف توحيده، ويقل نصيبه من ربه، ولا يجد في قلبه من ذوق الإيمان وحلاوته ما كان يجده السابقون الأولون. ولعله لا يكاد يبارك له (¬5) في حاجته، اللهم إلا أن يعفو الله عنهم لعدم علمهم بأن ذلك بدعة، فإن المجتهد إذا أخطأ أثابه الله على اجتهاده، وغفر له خطأه. وجميع الأمور التي يظن أن لها تأثيرا في العالم وهي محرمة في الشرع، كالتمريجات (¬6) الفلكية، والتوجهات النفسانية. كالعين، والدعاء المحرم، ¬
والرقى المحرمة، أو التمريجات الطبيعية. ونحو ذلك، فإن مضرتها أكثر من منفعتها حتى في نفس ذلك المطلوب، فإن هذه الأمور لا يطلب بها غالبا إلا أمور دنيوية، فقل أن يحصل (¬1) لأحد بسببها أمر دنيوي إلا كانت عاقبته فيه في الدنيا عاقبة خبيثة. دع الآخرة. والمخفق (¬2) من أهل هذه الأسباب أضعاف أضعاف المنجح، ثم إن فيها من النكد (¬3) والضرر ما الله به عليم. فهي في نفسها مضرة ولا يكاد يحصل الغرض بها إلا نادرا وإذا حصل فضرره أكثر من نفعه (¬4) . والأسباب المشروعة في حصول هذه المطالب، المباحة أو المستحبة سواء كانت طبيعية: كالتجارة والحراثة، أو كانت دينية: كالتوكل على الله والثقة به، وكدعاء الله سبحانه على الوجه المشروع، في الأمكنة والأزمنة التي فضلها الله ورسوله، بالكلمات المأثورة عن إمام المتقين صلى الله عليه وسلم، وكالصدقة، وفعل المعروف (¬5) يحصل بها الخير المحض أو الغالب. وما يحصل من ضرر بفعل مشروع، أو ترك غير مشروع (¬6) مما نهي عنه، فإن ذلك الضرر مكثور في جانب ما يحصل من المنفعة. ¬
وهذا الأمر، كما أنه قد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، فهو أيضا معقول بالتجارب المشهورة والأقيسة الصحيحة، فإن الصلاة والزكاة يحصل بهما خير الدنيا والآخرة، ويجلبان كل خير، ويدفعان كل شر. فهذا الكلام في بيان أنه لا يحصل بتلك الأسباب المحرمة لا خير محض، ولا غالب، ومن كان له خبرة بأحوال العالم (¬1) وعقل، تيقن ذلك يقينا لا شك فيه. وإذا ثبت ذلك: فليس علينا من سبب (¬2) التأثير أحيانا، فإن الأسباب التي يخلق الله بها الحوادث في الأرض والسماء، لا يحصيها على الحقيقة إلا هو، أما أعيانها فبلا ريب - وكذلك أنواعها أيضا - لا يضبطها المخلوق (¬3) لسعة ملكوت الله سبحانه وتعالى، ولهذا كانت طريقة الأنبياء عليهم السلام، أنهم يأمرون الخلق بما فيه صلاحهم، وينهونهم عما فيه فسادهم، ولا يشغلونهم بالكلام في أسباب الكائنات كما تفعل المتفلسفة، فإن ذلك كثير التعب، قليل الفائدة، أو موجب للضرر. ومثال النبي صلى الله عليه وسلم مثال طبيب دخل على مريض، فرأى مرضه فعلمه، فقال له: اشرب كذا، واجتنب كذا. ففعل ذلك، فحصل غرضه من الشفاء. والمتفلسف قد يطول معه الكلام في سبب ذلك المرض، وصفته، وذمه وذم ما أوجبه. ولو قال له المريض: فما الذي يشفيني منه؟ لم يكن له بذلك علم تام. والكلام (¬4) في بيان تأثير بعض هذه الأسباب قد يكون فيه فتنة لمن ضعف ¬
عقله ودينه، بحيث تختطف (¬1) عقله فيتأله (¬2) إذا لم يرزق من العلم والإيمان ما يوجب له الهدى واليقين. ويكفي العاقل أن يعلم أن ما سوى المشروع لا يؤثر بحال، فلا منفعة فيه، أو أنه وإن أثر فضرره أكثر من نفعه. ثم سبب قضاء حاجة بعض هؤلاء الداعين الأدعية المحرمة: أن الرجل منهم قد يكون مضطرًّا ضرورة لو دعا الله بها مشرك عند وثن لاستجيب له، لصدق توجهه إلى الله، وإن كان تحري الدعاء عند الوثن شركا. ولو (¬3) استجيب له على يد المتوسل به، صاحب القبر أو غيره لاستغاثته، فإنه يعاقب على ذلك ويهوي به في النار إذا لم يعف الله عنه، كما لو طلب من الله ما يكون فتنة له. كما أن ثعلبة (¬4) لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بكثرة المال، ونهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك مرة بعد مرة فلم ينته حتى دعا له، وكان ذلك سبب شقائه في الدنيا والآخرة. وقد " قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليسألني المسألة فأعطيه إياها، فيخرج بها يتأبطها نارا "، فقالوا: يا رسول الله فلم تعطيهم؟ قال: " يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل» (¬5) . ¬
فكم من عبد دعا دعاء غير مباح، فقضيت حاجته في ذلك الدعاء، وكان سبب هلاكه في الدنيا والآخرة، تارة بأن يسأل ما لا تصلح له مسألته، كما فعل بلعام وثعلبة، وكخلق كثير دعوا بأشياء فحصلت لهم، وكان فيها هلاكهم. وتارة بأن يسأل على الوجه الذي لا يحبه الله كما قال سبحانه: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55] (¬1) فهو سبحانه لا يحب المعتدين في صفة (¬2) الدعاء، ولا في المسؤول، وإن كانت حاجتهم قد تقضى، كأقوام ناجوا الله في دعواتهم بمناجاة فيها جرأة على الله، واعتداء لحدوده، وأعطوا طلبتهم فتنة، ولما يشاء سبحانه، بل أشد من ذلك. ألست ترى السحر والطلسمات (¬3) والعين وغير ذلك، من المؤثرات في العالم بإذن الله، قد يقضى (¬4) بها كثير من أغراض النفوس (¬5) ومع هذا فقد قال سبحانه: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ - وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102 - 103] (¬6) . فإنهم معترفون بأنه لا ينفع في الآخرة، وأن صاحبه خاسر في الآخرة، وإنما يتشبثون بمنفعته في الدنيا. وقد قال تعالى: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} [البقرة: 102] (¬7) . وكذلك أنواع من الداعين والسائلين قد يدعون دعاء محرما، يحصل معه ¬
أثر العبادة والدعاء عند القبور ليس دليلا على استحسانها
ذلك الغرض، ويورثهم ضررا أعظم منه، وقد يكون الدعاء مكروها ويستجاب له أيضا. ثم هذا التحريم والكراهة قد يعلمه الداعي، وقد لا يعلمه، على وجه لا يعذر فيه بتقصير في طلب العلم، أو ترك للحق، وقد لا يعلمه على وجه يعذر فيه، بأن يكون فيه مجتهدًا، أو مقلدا، كالمجتهد والمقلد اللذين يعذران في سائر الأعمال، وغير المعذور قد يتجاوز عنه في ذلك الدعاء؛ لكثرة حسناته وصدق قصده، أو لمحض رحمة الله به، أو نحو ذلك من الأسباب. فالحاصل: أن ما يقع من الدعاء المشتمل على كراهة شرعية (¬1) بمنزلة سائر أنواع العبادات. وقد علم (¬2) أن العبادة المشتملة على وصف مكروه قد تغفر تلك الكراهة (¬3) لصاحبها، لاجتهاده أو تقليده، أو حسناته أو غير ذلك. ثم ذلك لا يمنع أن يعلم أن ذلك مكروه ينهى (¬4) عنه، وإن كان هذا الفاعل المعين (¬5) قد زال موجب الكراهة في حقه. [أثر العبادة والدعاء عند القبور ليس دليلا على استحسانها] ومن هنا يغلط كثير من الناس، فإنهم يبلغهم أن بعض الأعيان من الصالحين عبدوا عبادة، أو دعوا دعاء، ووجدوا أثر تلك العبادة وذلك الدعاء، فيجعلون ذلك دليلا على استحسان تلك العبادة والدعاء، ويجعلون ذلك العمل سنة، كأنه قد فعله نبي، وهذا غلط، لما ذكرناه. خصوصا إذا كان ذلك العمل إنما كان أثره بصدق قام بقلب فاعله حين الفعل، ثم يفعله الأتباع صورة لا صدقا، فيضرون به (¬6) لأنه ليس العمل مشروعا فيكون (¬7) لهم ثواب ¬
المتبعين، ولا قام بهم (¬1) صدق ذلك الفاعل الذي (¬2) لعله بصدق الطلب وصحة القصد يكفر عن الفاعل. ومن هذا الباب ما يحكى من آثار لبعض الشيوخ، حصلت في السماع المبتدع، فإن (¬3) تلك الآثار، إنما كانت عن أحوال قامت بقلوب أولئك الرجال، حركها محرك كانوا في سماعه إما مجتهدين، وإما (¬4) مقصرين تقصيرا غمره حسنات قصدهم، فيأخذ الأتباع حضور صورة السماع وليس حضور أولئك الرجال سنة تتبع، ولا مع المقتدين (¬5) من الصدق والقصد ما لأجله عذروا، أو غفر لهم، فيهلكون بذلك. وكما يحكى عن بعض الشيوخ، أنه رئي بعد موته، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: أوقفني بين يديه وقال لي: يا شيخ السوء، أنت الذي كنت تتمثل بسُعدى ولُبنى؟ لولا أني (¬6) أعلم أنك صادق لعذبتك. فإذا سمعت دعاء، أو مناجاة مكروهة في الشرع قد قضيت حاجة صاحبها (¬7) فكثير ما يكون من هذا الباب. ولهذا كان الأئمة، العلماء بشريعة الله، يكرهون هذا من أصحابهم وإن وجد أصحابهم أثره، كما يحكى عن سمنون (¬8) المحب قال: وقع في قلبي شيء من هذه الآيات، إلى دجلة. ¬
فقلت: وعزتك لا أذهب حتى يخرج لي حوت. فخرج حوت عظيم، أو كما قال. قال: فبلغ ذلك الجنيد، فقال: كنت أحب أن تخرج إليه حية فتقتله. وكذلك حكي لنا أن بعض المجاورين بالمدينة، جاء إلى عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فاشتهى عليه نوعا من الأطعمة، فجاء بعض الهاشميين إليه، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لك ذلك (¬1) وقال لك: اخرج من عندنا، فإن من يكون عندنا لا يشتهي مثل هذا. وآخرون قضيت حوائجهم، ولم يقل لهم مثل (¬2) هذا، لاجتهادهم أو تقليدهم، أو قصورهم في العلم، فإنه يغفر للجاهل ما لا يغفر لغيره، كما يحكى عن برخ العابد (¬3) الذي استسقى في بني إسرائيل. ولهذا عامة ما يحكى في هذا الباب، إنما هو عن قاصري المعرفة، ولو كان هذا شرعا ودينا لكان أهل المعرفة أولى به. ولا يقال: هؤلاء لما نقصت معرفتهم ساغ لهم ذلك، فإن الله لم يسوغ هذا لأحد، لكن قصور المعرفة قد يرجى معه العفو والمغفرة. أما استحباب المكروهات، أو إباحة المحرمات، فلا نفرق بين العفو عن ¬
الفاعل والمغفرة له، وبين إباحة فعله أو المحبة له (¬1) سواء كان ذلك متعلقا بنفس الفعل، أو ببعض صفاته. وقد علمت جماعة ممن سأل حاجته من بعض المقبورين (¬2) من الأنبياء والصالحين. فقضيت حاجته، وهو لا يخرج عما ذكرته، وليس ذلك بشرع (¬3) فيتبع (¬4) ولا سنة وإنما يثبت استحباب الأفعال واتخاذها دينا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه السابقون الأولون، وما سوى هذه (¬5) من الأمور المحدثة فلا يستحب، وإن اشتملت أحيانا على فوائد، لأنا نعلم أن مفاسدها راجحة على فوائدها. ثم هذا التحريم أو الكراهة المقترنة بالأدعية المكروهة، إما من جهة المطلوب، وإما من جهة نفس الطلب، وكذلك الاستعاذة المحرمة أو المكروهة فكراهتها: إما من جهة المستعاذ منه، وإما من جهة نفس الاستعاذة، فينجون من ذلك (¬6) الشر، ويقعون فيما هو أعظم منه. أما المطلوب المحرم، فمثل أن يسأل ما يضره في (¬7) دنياه أو آخرته، وإن كان لا يعلم أنه يضره، فيستجاب له، «كالرجل الذي عاده (¬8) النبي صلى الله عليه وسلم، فوجده مثل الفرخ فقال: " هل كنت تدعو الله بشيء؟ " قال: كنت أقول: اللهم ¬
ما كنت معاقبني به في الآخرة فعجله لي (¬1) في الدنيا. قال: " سبحان الله إنك لا تسطيعه - أو لا تطيقه - هلا قلت: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار؟» (¬2) وكأهل جابر بن عتيك (¬3) لما مات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون» (¬4) . وقد عاب الله على من يقتصر على طلب الدنيا بقوله: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة: 200] (¬5) فأخبر أن من لم يطلب إلا الدنيا لم يكن له في الآخرة من (¬6) نصيب. ¬
ومثل أن يدعو على غيره دعاء منهيا عنه، كدعاء بلعم بن باعور على قوم موسى عليه السلام، وهذا قد يبتلى به كثير من العباد أرباب القلوب، فإنه قد يغلب على أحدهم ما يجده من حب أو بغض لأشخاص، فيدعو لأقوام وعلى أقوام بما لا يصلح، فيستجاب له، ويستحق العقوبة على ذلك الدعاء، كما يستحقها على سائر الذنوب، فإن لم يحصل له ما يمحوه، من توبة أو حسنات ماحية، أو شفاعة غيره، أو غير ذلك، وإلا فقد يعاقب، إما بأن يسلب ما كان عنده من ذوق طعم الإيمان ووجود حلاوته، فينزل عن درجته، وإما أن يسلب عمل الإيمان، فيصير فاسقا، وإما بأن يسلب أصل الإيمان، فيصير كافرا منافقا، أو غير (¬1) منافق. وما أكثر ما يبتلى بمثل هذا (¬2) المتأخرون من أرباب الأحوال القلبية، بسبب عدم فقههم في أحوال قلوبهم، وعدم معرفة شريعة الله في أعمال القلوب، وربما غلب على أحدهم حال قلبه، حتى لا يمكنه صرفه عما توجه إليه، فيبقى ما يخرج منه مثل السهم الخارج من القوس. وهذه الغلبة إنما تقع غالبا بسبب التقصير في الأعمال المشروعة، التي تحفظ حال (¬3) القلب، فيؤاخذ على ذلك، وقد تقع بسبب اجتهاد يخطئ صاحبه، فتقع معفوا عنها. ثم من غرور هؤلاء وأشباههم، اعتقادهم أن استجابة مثل هذا الدعاء كرامة من الله تعالى لعبده، وليس في الحقيقة كرامة، وإنما تشبه الكرامة من جهة أنها دعوة نافذة، وسلطان قاهر (¬4) . وإنما الكرامة في الحقيقة: ما نفعت في الآخرة، أو نفعت في الدنيا ولم تضر في الآخرة، وإنما هذا ¬
بمنزلة ما ينعم به (¬1) الكفار والفساق، من الرياسات والأموال في الدنيا، فإنها إنما تصير نعمة حقيقية، إذا لم تضر صاحبها في الآخرة، ولهذا اختلف أصحابنا وغيرهم من العلماء: هل ما ينعم به الكافر، نعمة أو ليس (¬2) بنعمة؟ وإن كان الخلاف لفظيا. قال الله تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ - نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55 - 56] (¬3) وقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] (¬4) . وفي الحديث: «إذا رأيت الله ينعم على العبد مع إقامته على معصيته، فإنما هو استدراج يستدرجه» (¬5) " (¬6) . ومثال هذا في الاستعاذة: «قول المرأة التي جاء (¬7) النبي صلى الله عليه وسلم ليخطبها فقالت: أعوذ بالله منك، فقال: " لقد عذت بمعاذ ". ثم انصرف عنها، فقيل ¬
لها: إن هذا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: أنا كنت أشقى من ذلك» (¬1) ". وأما التحريم من جهة الطلب: فيكون تارة لأنه دعاء لغير الله، مثل ما يفعله السحرة من مخاطبة الكواكب، وعبادتها ونحو ذلك، فإنه قد يقتضي عقب ذلك أنواعا من القضاء، إذا لم يعارضه معارض، من دعاء أهل الإيمان وعبادتهم، أو غير ذلك ولهذا تنفذ هذه الأمور في أزمان فترة الرسل، وفي بلاد الكفر والنفاق، ما لا تنفذ في دار الإيمان (¬2) وزمانه. ومن هذا: أني أعرف رجالا يستغيثون ببعض الأحياء في شدائد (¬3) تنزل بهم، فيفرج عنهم، وربما يعاينون أمورا، وذلك الحي المستغاث به لم يشعر بذلك، ولا علم به البتة، وفيهم من يدعو على أقوام، أو يتوجه في إيذائهم، فيرى بعض الأحياء (¬4) أو بعض الأموات يحول بينه وبين إيذاء أولئك، وربما رآه ضاربا له بسيف، وإن كان الحايل (¬5) لا شعور له بذلك، وإنما ذلك من فعل الله سبحانه، بسبب يكون بين المقصود وبين الرجل الدافع، من اتباع له، وطاعته فيما يأمره من طاعة الله، ونحو ذلك. فهذا قريب. وقد يجري لعباد الأصنام أحيانا من الجنس المحرم، (¬6) محنة من الله، بما تفعله الشياطين لأعوانهم، فإذا كان الأثر قد يحصل عقب دعاء من قد (¬7) تيقن أنه لم يسمع الدعاء، فكيف يتوهم أنه هو الذي تسبب في ذلك، أو أن له فيه فعلا؟ . ¬
وإذا قيل: إن الله يفعله بذلك السبب، فإذا كان السبب محرما لم يجز، كالأمراض التي يحدثها الله عقب أكل السموم، وقد يكون الدعاء المحرم في نفسه دعاء لغير الله، وأن يدعو الله (¬1) كما تقول النصارى: يا والدة الإله اشفعي لنا إلى الإله. وقد يكون دعاء لله (¬2) لكنه توسل إليه بما لا يُحب أن يتوسل به، كالمشركين (¬3) الذين يتوسلون إلى الله بأوثانهم، وقد يكون دعاء لله (¬4) بكلمات لا تصلح أن يناجى بها الله، ويدعى بها، لما في ذلك من الاعتداء. فهذه الأدعية ونحوها، وإن كان قد يحصل لصاحبها أحيانا غرضه، لكنها محرمة، لما فيها من الفساد الذي يربي (¬5) على منفعتها، كما تقدم. ولهذا كانت هذه فتنة في حق من لم يهده (¬6) الله، وينور قلبه، ويفرق بين أمر (¬7) التكوين وأمر التشريع، ويفرق بين القدر والشرع (¬8) ويعلم أن الأقسام ثلاثة: * أمور قدرها الله، وهو لا يحبها ولا (¬9) يرضاها، فإن الأسباب المحصلة لهذه تكون محرمة موجبة لعقابه. * وأمور شرعها فهو يحبها من العبد ويرضاها، لكن لم يعنه على ¬
حصولها، فهذه محمودة عنده (¬1) مرضية، وإن لم توجد. * والقسم الثالث: أن يعين الله العبد على ما يحبه منه. فالأول: إعانة الله. والثاني: عبادة الله. والثالث: جمع له بين العبادة والإعانة. كما قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] فما كان من الدعاء غير المباح إذا أثر: فهو من باب الإعانة لا العبادة (¬2) كسائر الكفار والمنافقين والفساق. ولهذا قال تعالى في مريم: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} [التحريم: 12] (¬3) «وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ " بكلمات الله التامات التي لا يجاوزها بر ولا فاجر» (¬4) . ومن رحمة الله تعالى، أن الدعاء المتضمن شركًا، كدعاء غيره أن يفعل، أو دعائه أن يدعو، ونحو ذلك - لا يحصل غرض صاحبه، ولا يورث حصول الغرض شبهة (¬5) إلا في الأمور الحقيرة، فأما الأمور العظيمة، كإنزال الغيث عند القحوط، أو كشف العذاب النازل، فلا ينفع فيه هذا الشرك. كما قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 40 - 41] (¬6) . ¬
وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67] (¬1) . وقال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل: 62] (¬2) . وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا - أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 56 - 57] (¬3) . وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ - قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 43 - 44] (¬4) . فكون (¬5) هذه المطالب العظيمة لا يستجيب فيها إلا هو سبحانه، دل على توحيده، وقطع شبهة من أشرك به، وعلم بذلك أن ما دون هذا أيضًا من الإجابات إنما فعلها هو سبحانه (¬6) وحده لا شريك له، وإن كانت تجري بأسباب محرمة أو مباحة، كما أن خلقه السماوات والأرض والرياح والسحاب، وغير ذلك من الأجسام العظيمة، دل على وحدانيته، وأنه خالق لكل شيء، وأن ¬
أنواع الشرك
ما دون هذا بأن يكون خلقًا له أولى، إذ هو منفعل (¬1) عن مخلوقاته العظيمة، فخالق السبب التام، خالق للمسبب لا محالة. [أنواع الشرك] وجماع الأمر: أن الشرك نوعان: * شرك في ربوبيته: بأن يجعل لغيره معه تدبيرًا ما، كما قال سبحانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ: 22] (¬2) فبين سبحانه أنهم لا يملكون ذرة (¬3) استقلالا، ولا يشركونه في شيء من ذلك. ولا يعينونه على ملكه، ومن لم يكن مالكًا ولا شريكًا ولا عونًا، فقد انقطعت علاقته (¬4) . * وشرك في الألوهية: بأن يدعى غيره دعاء عبادة، أو دعاء مسألة كما قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] فكما أن إثبات المخلوقات أسبابًا لا يقدح في توحيد الربوبية، ولا يمنع أن يكون الله خالق كل شيء، ولا يوجب أن يدعى المخلوق دعاء عبادة أو دعاء استغاثة. كذلك إثبات بعض الأفعال المحرمة، من شرك أو غيره أسبابا، لا يقدح في توحيد الألوهية، ولا يمنع أن يكون الله هو الذي يستحق الدين الخالص، ولا يوجب أن نستعمل الكلمات والأفعال التي فيها شرك، إذا كان الله يسخط ذلك، ويعاقب العبد عليه، وتكون مضرة ذلك على العبد أكثر من منفعته، إذ قد جعل الخير كله في أنا لا نعبد إلا إياه، ولا نسعتين إلا إياه. وعامة آيات القرآن تثبت (¬5) هذا الأصل (¬6) حتى إنه سبحانه قطع أثر ¬
الشفاعة بدون إذنه، كقوله سبحانه: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] (¬1) وكقوله سبحانه: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} [الأنعام: 51] (¬2) وقوله تعالى: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} [الأنعام: 70] (¬3) وقوله تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا} [الأنعام: 71] الآية (¬4) . وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 94] (¬5) وسورة الأنعام سورة عظيمة مشتملة على أصول الإيمان (¬6) . وكذلك قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} [السجدة: 4] (¬7) وقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] (¬8) وقوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ - قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 43 - 44] (¬9) . وسورة الزمر أصل عظيم في هذا. ¬
ومن هذا قوله سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ - يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ - يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج: 11 - 13] (¬1) . وكذلك قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41] (¬2) . والقرآن عامته إنما هو في تقرير هذا الأصل العظيم الذي هو أصل الأصول. وهذا الذي ذكرناه كله من تحريم هذا الدعاء، مع كونه قد يؤثر، إذا قدر أن هذا الدعاء كان سببًا أو جزءًا من السبب، في حصول طلبته. والناس قد اختلفوا في الدعاء المستعقب لقضاء الحاجات فزعم (¬3) قوم من المبطلين، متفلسفة ومتصوفة، أنه لا فائدة فيه أصلًا، فإن المشيئة الإلهية والأسباب العلوية، إما أن تكون قد اقتضت وجود المطلوب، وحينئذ فلا (¬4) حاجة إلى الدعاء، أو لا تكون اقتضته، وحينئذ فلا (¬5) ينفع الدعاء. وقال قوم ممن تكلم (¬6) في العلم: بل الدعاء علامة ودلالة على حصول المطلوب، وجعلوا ارتباطه بالمطلوب ارتباط الدليل بالمدلول، لا ارتباط السبب بالمسبب بمنزلة الخبر الصادق والعلم السابق. ¬
والصواب: ما عليه الجمهور - من أن الدعاء سبب لحصول الخير المطلوب، أو غيره، كسائر الأسباب المقدرة والمشروعة. وسواء سمي سببًا أو جزءًا من السبب أو شرطًا، فالمقصود هنا واحد، فإذا (¬1) أراد الله بعبد خيرًا ألهمه دعاءه والاستعانة به، وجعل استعانته ودعاءه سببًا للخير الذي قضاه له، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " إني لا أحمل هم الإجابة، وإنما أحمل (¬2) هم الدعاء، فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه " (¬3) . كما أن الله تعالى إذا أراد أن يشبع عبدًا، أو يرويه ألهمه أن يأكل أو يشرب، وإذا أراد الله أن يتوب على عبد ألهمه أن يتوب، فيتوب عليه، وإذا أراد أن يرحمه ويدخله الجنة يسره لعمل أهل الجنة، والمشيئة الإلهية اقتضت وجود هذه الخيرات، بأسبابها المقدرة لها، كما اقتضت وجود دخول الجنة بالعمل الصالح، ووجود الولد بالوطء، والعلم بالتعليم. فمبدأ الأمور من الله، وتمامها على الله، لا أن العبد نفسه هو المؤثر في الرب، أو في ملكوت الرب، بل الرب سبحانه هو المؤثر في ملكوته وجاعل دعاء عبده سببًا لما يريده سبحانه من القضاء، كما «قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله (¬4) أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقي بها وتقى نتقيها (¬5) هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: هي من قدر الله» (¬6) . ¬
وعنه صلى الله عليه وسلم قال (¬1) «إن الدعاء والبلاء ليلتقيان (¬2) فيعتلجان بين السماء والأرض» (¬3) فهذا في الدعاء الذي يكون سببًا في حصول المطلوب (¬4) (¬5) . وأعلى من هذا ما جاء به الكتاب والسنة، أن رضا الله وفرحه، وضحكه بسبب أعمال عباده الصالحة، كما جاءت به النصوص، وكذلك غضبه ومقته. وقد بسطنا الكلام في (¬6) هذا الباب، وما للناس فيه من المقالات والاضطراب (¬7) . فما فرض من الأدعية المنهي عنها سببًا، فقد تقدم الكلام عليه. فأما غالب الأدعية التي ليست مشروعة لا تكون هي السبب في ¬
حصول المطلوب، ولا جزءًا منه، ولا يعلم ذلك، بل يتوهم وهما كاذبًا (¬1) كالنذر سواء. فإن في الصحيح عن ابن عمر " عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن النذر وقال: «إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل» (¬2) وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن النذر لا يقرب من ابن آدم شيئًا لم يكن الله قدره له، ولكن النذر يوافق القدر فيخرج بذلك (¬3) من البخيل، ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج» (¬4) . فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن النذر لا يأتي بخير، وأنه ليس من الأسباب الجالبة للخير، أو الدافعة لشر أصلًا، وإنما يوافق القدر موافقة كما توافقه سائر الأسباب فيخرج من البخيل حينئذ ما لم يكن يخرجه من قبل ذلك. ومع هذا فأنت ترى الذين يحكون أنهم وقعوا في شدائد، فنذروا نذورًا (¬5) تكشف شدائدهم، أكثر - أو قريبًا - من الذين يزعمون أنهم دعوا عند القبور، أو غيرها، فقضيت حوائجهم، بل من كثرة اغترار المضلين (¬6) بذلك؛ صارت النذور المحرمة في الشرع مآكل لكثير من السدنة والمجاورين، والعاكفين عند (¬7) بعض المساجد أو غيرها، ويأخذون من الأموال شيئًا كثيرًا، وأولئك الناذرون يقول أحدهم: مرضت فنذرت. ويقول آخر: خرج علي المحاربون فنذرت (¬8) ويقول الآخر: ¬
ركبت البحر فنذرت (¬1) . ويقول الآخر: حبست فنذرت. ويقول الآخر: أصابتني فاقة فنذرت. وقد قام بنفوسهم، أن هذه النذور هي السبب في حصول مطلوبهم، ودفع مرهوبهم. وقد أخبر الصادق المصدوق أن نذر طاعة الله - فضلًا عن معصيته - ليس سببًا لحصول الخير (¬2) وإنما الخير الذي يحصل للناذر يوافقه (¬3) موافقة كما يوافق سائر الأسباب، فما هذه الأدعية غير المشروعة، في حصول المطلوب (¬4) بأكثر من هذه النذور في حصول المطلوب. بل تجد كثيرًا من الناس يقول: إن المكان الفلاني، أو المشهد الفلاني، أو القبر (¬5) الفلاني، يقبل النذر، بمعنى أنهم نذروا له نذرًا إن قضيت حاجتهم، وقضيت (¬6) . كما يقول القائلون: الدعاء عند المشهد الفلاني، أو القبر الفلاني، مستجاب، بمعنى أنهم دعوا هناك مرة، فرأوا أثر الإجابة. بل إذا كان المبطلون يضيفون (¬7) قضاء حوائجهم (¬8) إلى خصوص نذر المعصية (¬9) مع أن جنس النذر لا أثر له في ذلك، لم يبعد منهم إذا أضافوا ¬
حصول غرضهم إلى خصوص الدعاء بمكان لا خصوص له في الشرع، لأن جنس الدعاء هنا مؤثر، فالإضافة إليه ممكنة، بخلاف جنس النذر فإنه لا يؤثر. والغرض أن يعرف أن الشيطان إذا زين لهم نسبة الأثر إلى ما لا يؤثر نوعًا ولا وصفًا، فنسبته إلى وصف قد ثبت تأثير نوعه أولى أن يزين لهم. ثم كما لم يكن ذلك الاعتقاد منهم صحيحًا، فكذلك هذا، إذ كلاهما مخالف للشرع. ومما يوضح ذلك: أن اعتقاد المعتقد أن هذا الدعاء أو هذا النذر كان هو السبب، أو بعض السبب في حصول المطلوب لا بد له من دلالة، ولا دليل على ذلك في الغالب إلا الاقتران أحيانًا، أعني: وجودهما جميعًا، وإن تراخي أحدهما عن الآخر مكانًا أو زمانًا مع الانتقاض (¬1) (¬2) أضعاف أضعاف الاقتران، ومجرد اقتران الشيء بالشيء بعض الأوقات مع انتقاضه، ليس دليلًا على الغلبة (¬3) باتفاق العقلاء، إذا كان هناك سبب آخر صالح، إذ تخلف الأثر عنه يدل على عدم الغلبة (¬4) . فإن قيل: إن التخلف بفوات شرط، أو لوجود مانع. قيل: بل الاقتران لوجود سبب آخر، وهذا هو الراجح، فإنا نرى الله في كل وقت يقضي الحاجات ويفرج الكربات، بأنواع من الأسباب، لا يحصيها ¬
إلا هو، وما رأيناه يحدث المطلوب مع وجود هذا الدعاء المبتدع، إلا نادرًا، فإذا رأيناه قد أحدث (¬1) شيئًا وكان الدعاء المبتدع قد وجد، كان إحالة حدوث الحادث على ما علم من الأسباب التي لا يحصيها إلا الله، أولى من إحالته على ما لم يثبت كونه سببًا. ثم الاقتران: إن كان دليلًا على العلة، فالانتقاض دليل على عدمها. وهنا افترق الناس ثلاث فرق: مغضوب عليهم، وضالون، والذين أنعم الله عليهم. فالمغضوب عليهم، يطعنون في عامة الأسباب المشروعة وغير المشروعة، ويقولون: الدعاء المشروع قد يؤثر، وقد (¬2) لا يؤثر ويتصل بذلك الكلام في دلالة الآيات على تصديق الأنبياء عليهم السلام. والضالون: يتوهمون من كل ما يتخيل سببًا، وإن كان يدخل في دين اليهود والنصارى والمجوس، وغيرهم. والمتكايسون (¬3) من المتفلسفة يحيلون ذلك على أمور فلكية، وقوى نفسانية، وأسباب طبيعية، يدورون حولها، لا يعدلون عنها. فأما المهتدون، فهم لا ينكرون ما خلقه (¬4) الله من القوى والطبائع في جميع الأجسام والأرواح، إذ الجميع خلق الله، لكنهم يؤمنون بما وراء ذلك من ¬
قدرة الله التي هو بها على كل شيء قدير، ومن أنه كل يوم هو في شأن، ومن أن إجابته لعبده المؤمن (¬1) خارجة عن قوة نفسه، وتصرف جسمه وروحه (¬2) وبأن الله يخرق العادات لأنبيائه، لإظهار صدقهم، (¬3) ولإكرامهم بذلك. ونحو ذلك من حكمه. وكذلك يخرقها لأوليائه: تارة لتأييد دينه بذلك، وتارة تعجيلًا لبعض ثوابهم في الدنيا، وتارة إنعامًا عليهم بجلب نعمة، أو دفع نقمة، ولغير ذلك، ويؤمنون بأن الله يرد بما أمرهم (¬4) به، من الأعمال الصالحة، والدعوات المشروعة - (¬5) ما جعله في قوى الأجسام والأنفس (¬6) ولا يلتفتون إلى الأوهام التي دلت الأدلة العقلية، أو الشرعية على فسادها، ولا يعملون بما حرمته الشريعة، (¬7) وإن ظن أن له تأثيرًا (¬8) . ¬
وأما العلم بغلبة (¬1) السبب: فله طرق في الأمور الشرعية، كما له طرق في الأمور الطبيعية منها: الاضطرار (¬2) «فإن الناس لما عطشوا وجاعوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ غير مرة ماء قليلًا، فوضع يده الكريمة (¬3) فيه حتى فار الماء من بين أصابعه (¬4) ووضع يده الكريمة في الطعام، وبرك فيه حتى كثر كثرة خارجة عن العادة» (¬5) فإن العلم بهذا الاقتران المعين، يوجب العلم بأن كثرة الماء والطعام كانت بسببه صلى الله عليه وسلم، علمًا ضروريًّا، كما يعلم أن الرجل إذا ضُرب بالسيف ضربة شديدة صرعته فمات، أن الموت كان منها، بل (¬6) أوكد، فإن العلم بأن كثرة الماء والطعام ليس له سبب معتاد في مثل ذلك أصلًا، مع أن (¬7) العلم بهذه المقارنة، يوجب علمًا ضروريًا بذلك. وكذلك لما «دعا صلى الله عليه وسلم لأنس بن مالك أن يكثر الله ماله وولده» ، فكان نخله يحمل في السنة مرتين، خلاف عادة بلده، ورأى من ولده وولد ولده أكثر من مائة (¬8) فإن مثل هذا الحادث يعلم أنه كان بسبب ذلك الدعاء. ¬
ومن رأى طفلًا يبكي بكاء شديدًا، فألقمته أمه الثدي فسكن، علم يقينًا أن سكونه (¬1) كان لأجل اللبن (¬2) . والاحتمالات، وإن تطرقت إلى النوع، فإنها قد لا تتطرق إلى الشخص المعين. وكذلك الأدعية، فإن المؤمن يدعو بدعاء فيرى المدعو بعينه مع عدم الأسباب المقتضية له، أو يفعل فعلًا كذلك فيجده كذلك (¬3) كالعلاء بن الحضرمي رضي الله عنه لما قال: يا عليم، يا حليم، يا علي، يا عظيم، اسقنا، فمطروا في يوم شديد الحر، مطرًا لم يجاوز عسكرهم (¬4) . وقال: احملنا فمشوا على النهر الكبير مشيًا لم يبل أسافل أقدام دوابهم (¬5) وأيوب السختياني (¬6) لما ركض الجبل لصاحبه ركضة، نبعت له عين ماء فشرب، ثم غارت (¬7) . فدعاء الله وحده لا شريك له، دل الوحي المنزل، والعقول الصحيحة على فائدته ومنفعته، ثم التجارب التي لا يحصي عددها إلا الله. فتجد أكثر المؤمنين قد دعوا الله وسألوه أشياء أسبابها منتفية (¬8) في حقهم، فأحدث الله لهم ¬
تلك المطالب على الوجه الذي طلبوه، على وجه يوجب العلم تارة، والظن الغالب أخرى - أن الدعاء كان هو السبب في هذا، وتجد هذا ثابتًا عند ذوي (¬1) العقول والبصائر، الذين يعرفون جنس الأدلة، وشروطها، واطرادها. وأما اعتقاد تأثير الأدعية المحرمة، فعامته إنما نجد اعتقاده، عند أهل الجهل الذين لا يميزون بين الدليل وغيره، ولا يفهمون ما يشترط للدليل من الاطراد، وإنما يتفق (¬2) في أهل الظلمات، من الكفار والمنافقين، أو ذوي (¬3) الكبائر الذين أظلمت قلوبهم بالمعاصي حتى لا يميزوا بين الحق والباطل. وبالجملة: فالعلم بأن هذا كان هو السبب أو بعض (¬4) السبب، أو شرط السبب، في هذا الأمر الحادث، قد يعلم كثيرًا، وقد يظن كثيرًا، وقد يتوهم كثيرًا وهمًا ليس له مستند صحيح، إلا ضعف العقل. ويكفيك أن كل ما يظن أنه سبب لحصول المطالب (¬5) مما حرمته الشريعة من دعاء أو غيره، لا بد فيه من أحد أمرين: إما أن لا (¬6) يكون سببًا صحيحًا، كدعاء من لا يسمع ولا يبصر، ولا يغني عنك شيئًا. وإما أن يكون ضرره أكثر من نفعه. فأما ما كان سببًا صحيحًا منفعته أكثر من مضرته، فلا ينهى عنه الشرع (¬7) بحال. وكل ما لم يشرع من العبادات مع قيام المقتضي لفعله من غير مانع فإنه ¬
الدعاء بعد تحية النبي صلى الله عليه وسلم عند القبر
من باب المنهي عنه. كما تقدم. [الدعاء بعد تحية النبي صلى الله عليه وسلم عند القبر] وأما ما ذكر في المناسك، أنه بعد تحية النبي صلى الله عليه وسلم، وصاحبيه، والصلاة والسلام يدعو، فقد ذكر الإمام أحمد وغيره: أنه يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره لئلا يستدبره، وذلك بعد تحيته والصلاة والسلام، ثم يدعو لنفسه. وذكر أنه إذا حياه وصلى عليه يستقبل وجهه (¬1) - بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم، فإذا أراد الدعاء جعل الحجرة عن يساره واستقبل القبلة ودعا، وهذا مراعاة منهم لذلك، فإن الدعاء عند القبر لا يكره مطلقًا، بل يؤمر به (¬2) كما جاءت به السنة فيما تقدم ضمنًا وتبعًا، وإنما المكروه أن يتحرى المجيء إلى القبر للدعاء عنده. وكذلك ذكر أصحاب مالك قالوا (¬3) يدنو من القبر، فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو مستقبل القبلة، يوليه ظهره، وقيل: لا يوليه ظهره، وإنما (¬4) اختلفوا لما فيه من استدباره، فأما (¬5) إذا جعل الحجرة عن يساره، فقد زال المحذور بلا خلاف وصار في الروضة، أو أمامها. ولعل هذا الذي ذكره الأئمة، أخذوه من كراهة الصلاة إلى القبر، فإن ذلك قد ثبت النهي فيه (¬6) عن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم (¬7) فلما نهي أن يتخذ القبر مسجدًا أو قبلة، أمروا بأن لا يتحرى الدعاء إليه، كما لا يصلى إليه. ¬
وقال (¬1) مالك في المبسوط: لا أرى أن يقف (¬2) عند (¬3) قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، لكن يسلم ويمضي " (¬4) . ولهذا - والله أعلم - حرفت الحجرة وثلثت (¬5) لما بنيت، فلم يجعل حائطها الشمالي على سمت القبلة، ولا جعل مسطحًا (¬6) . وكذلك (¬7) قصدوا قبل أن تدخل الحجرة في المسجد. فروى ابن بطة، بإسناد معروف عن هشام بن عروة، حدثني أبي، وقال: " كان الناس يصلون إلى القبر، فأمر عمر بن عبد العزيز، فرفع حتى لا يصلي إليه الناس، فلما هدم بدت قدم بساق وركبة، قال: ففزع من ذلك عمر بن عبد العزيز، فأتاه عروة فقال له: هذه ساق عمر وركبته. فسري عن عمر بن عبد العزيز (¬8) . وهذا أصل مستمر، فإنه لا يستحب للداعي أن يستقبل إلا ما يستحب أن يصلى إليه، ألا ترى أن الرجل (¬9) لما نهي عن الصلاة إلى جهة المشرق وغيرها، فإنه ينهى أن يتحرى استقبالها وقت الدعاء، ومن الناس من يتحرى وقت دعائه استقبال الجهة التي يكون فيها الرجل (¬10) الصالح، سواء كانت في المشرق ¬
أو غيره، وهذا ضلال بين، وشرك واضح، كما أن بعض الناس يمتنع من استدبار الجهة التي فيها بعض (¬1) الصالحين، وهو يستدبر الجهة التي فيها بيت الله وقبر رسوله صلى الله عليه وسلم وكل هذه الأشياء من البدع التي تضارع دين النصارى. ومما يبين لك ذلك، أن نفس السلام على النبي صلى الله عليه وسلم قد راعوا فيه السنة، حتى لا يخرج إلى الوجه المكروه الذي قد يجر إلى إطراء النصارى عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تتخذوا قبري عيدا» (¬2) . وبقوله: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله» (¬3) فكان (¬4) بعضهم يسأل عن السلام على القبر خشية أن يكون من هذا الباب، حتى قيل له: إن ابن عمر كان يفعل ذلك. ولهذا كره مالك رضي الله عنه (¬5) وغيره من أهل العلم، لأهل المدينة كلما دخل أحدهم المسجد، أن يجيء فيسلم (¬6) على قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه. وقال: " وإنما يكون ذلك لأحدهم إذا قدم من سفر، أو أراد سفرًا ونحو ذلك (¬7) . ورخص بعضهم في السلام عليه إذا دخل المسجد للصلاة ونحوها، وأما قصده دائمًا للصلاة والسلام، فما علمت أحدًا رخص فيه، لأن ذلك النوع من ¬
اتخاذه عيدًا، مع أنا قد شرع لنا إذا دخلنا المسجد أن نقول: " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته " (¬1) كما نقول ذلك في آخر صلاتنا. بل قد استحب ذلك لكل من دخل مكانًا ليس فيه أحد: أن يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، لما تقدم من أن السلام عليه يبلغه من كل موضع. فخاف مالك وغيره، أن يكون فعل ذلك عند القبر كل ساعة، نوعًا من اتخاذ القبر عيدًا. وأيضًا فإن ذلك بدعة، فقد كان المهاجرون والأنصار على عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم (¬2) يجيئون إلى المسجد الحرام كل يوم خمس مرات يصلون، ولم يكونوا يأتون مع ذلك إلى القبر يسلمون (¬3) عليه، لعلمهم رضي الله عنهم بما (¬4) كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرهه من ذلك، وما نهاهم عنه، وأنهم يسلمون عليه حين دخول المسجد والخروج منه، وفي التشهد، كما كانوا يسلمون عليه كذلك في حياته. والمأثور عن ابن عمر يدل على ذلك. قال سعيد (¬5) في سننه: حدثنا عبد الرحمن بن زيد (¬6) حدثني ¬
أبي (¬1) عن ابن عمر: أنه كان إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال: السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبتاه (¬2) . وعبد الرحمن بن زيد وإن كان يضعف، لكن الحديث المتقدم عن نافع - الصحيح (¬3) - يدل على أن ابن عمر ما كان يفعل ذلك دائمًا ولا غالبًا. وما أحسن ما قال مالك: " لن يصلح آخرَ هذه الأمة إلا ما أصلح أولها " (¬4) ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم، ونقص إيمانهم، عوضوا ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك وغيره. ولهذا كرهت الأئمة (¬5) استلام القبر وتقبيله، وبنوه بناء منعوا الناس أن يصلوا إليه. فكانت حجرة عائشة التي دفنوه فيها منفصلة عن مسجده (¬6) وكان ما بين منبره وبيته هو الروضة، ومضى الأمر على ذلك في عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، وزيد في المسجد زيادات وغُيِّرَ، والحجرة على حالها (¬7) هي وغيرها من الحجر المطيفة بالمسجد من شرقيه وقبليه، حتى بناه الوليد بن عبد الملك (¬8) وكان عمر بن عبد العزيز عامله على ¬
المدينة، فابتاع هذه الحجر وغيرها وهدمهن وأدخلهن في المسجد، فمن أهل العلم من كره ذلك، كسعيد بن المسيب، ومنهم من لم يكرهه. قال أبو بكر الأثرم: قلت لأبي عبد الله - يعني أحمد بن حنبل -: قبر النبي صلى الله عليه وسلم يمس ويتمسح به؟ فقال: ما أعرف هذا. قلت له: فالمنبر؟ فقال: أما المنبر فنعم قد جاء فيه. قال أبو عبد الله: شيء يروونه (¬1) عن ابن أبي فديك (¬2) عن ابن أبي ذئب عن ابن عمر: أنه مسح على المنبر. قال: ويروونه (¬3) عن سعيد بن المسيب في الرمانة (¬4) . قلت: ويروون عن يحيى بن سعيد، أنه حين أراد الخروج إلى العراق، جاء إلى المنبر فمسحه ودعا، فرأيته استحسنه ثم قال: لعله عند الضرورة والشيء. قيل لأبي عبد الله: إنهم يلصقون بطونهم بجدار القبر. وقلت له: رأيت أهل العلم من أهل المدينة لا يمسونه ويقومون ناحية فيسلمون. فقال أبو عبد الله: نعم، وهكذا كان ابن عمر يفعل. ثم قال أبو عبد الله: بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم. فقد رخص أحمد وغيره في التمسح بالمنبر والرمانة، التي هي (¬5) موضع ¬
مقعد النبي صلى الله عليه وسلم ويده، ولم يرخصوا في التمسح بقبره. وقد حكى بعض أصحابنا رواية في مسح قبره، لأن أحمد شيع بعض الموتى، فوضع يده على قبره يدعو له. والفرق بين الموضعين (¬1) ظاهر. وكره مالك التمسح بالمنبر. كما كرهوا التمسح بالقبر. فأما اليوم فقد احترق المنبر، وما بقيت الرمانة، وإنما بقي من المنبر خشبة صغيرة، فقد زال ما رخص فيه، لأن الأثر (¬2) المنقول عن ابن عمر وغيره، إنما هو التمسح بمقعده. وروى الأثرم بإسناده، عن القعنبي (¬3) عن مالك، عن عبد الله بن دينار (¬4) قال: رأيت ابن عمر يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر. (¬5) . الوجه الثالث: في كراهة قصدها للدعاء: أن السلف رضي الله عنهم كرهوا ذلك، متأولين في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تتخذوا قبري عيدًا» كما ذكرنا ذلك عن علي بن الحسين والحسن بن الحسن، ابن عمه، وهما أفضل أهل البيت من التابعين، وأعلم بهذا الشأن من غيرهما، لمجاورتهما الحجرة النبوية نسبًا ومكانًا. ¬
وذكرنا عن أحمد وغيره، أنه أمر من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم، وصاحبيه، ثم أراد أن يدعو: أن ينصرف (¬1) فيستقبل القبلة. وكذلك أنكر ذلك غير واحد من العلماء المتقدمين، كمالك وغيره. ومن المتأخرين: مثل أبي الوفاء (¬2) ابن عقيل، وأبي الفرج بن الجوزي. وما أحفظ - لا عن صاحب ولا تابع، ولا عن إمام معروف - أنه استحب قصد شيء من القبور للدعاء عنده، ولا روى أحد في ذلك شيئًا، لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن أحد من الأئمة المعروفين. وقد صنف الناس في الدعاء وأوقاته وأمكنته، وذكروا فيه الآثار، فما ذكر أحد منهم في فضل الدعاء عند شيء من القبور حرفًا واحدًا - فيما أعلم -، فكيف يجوز - والحال (¬3) هذه - أن يكون الدعاء (¬4) عندها أجوب وأفضل، والسلف تنكره ولا تعرفه، وتنهى عنه (¬5) ولا تأمر به. نعم صار من نحو المائة الثالثة يوجد متفرقًا في كلام بعض الناس: فلان ترجى الإجابة عند قبره (¬6) . وفلان يدعى عند قبره، ونحو ذلك. والإنكار (¬7) على من يقول ويأمر به، كائنًا من كان، فإن أحسن أحواله أن يكون مجتهدًا في هذه (¬8) المسألة أو مقلدًا، فيعفو الله عنه. ¬
تفنيد ما ورد في استحباب الدعاء عند القبر
[تفنيد ما ورد في استحباب الدعاء عند القبر] أما أن هذا الذي قاله يقتضي استحباب ذلك فلا. بل قد يقال: هذا من جنس قول بعض الناس: المكان الفلاني يقبل النذر، والموضع الفلاني ينذر له. ويعينون (¬1) عينًا أو بئرًا أو شجرة، أو مغارة، أو حجرًا، أو غير ذلك من الأوثان، فكما لا يكون مثل هذا القول عمدة في الدين، فكذلك القول الأول. ولم يبلغني - إلى الساعة - عن أحد من السلف رخصة في ذلك، إلا ما روى ابن أبي الدنيا (¬2) في كتاب القبور بإسناده عن محمد بن إسماعيل بن أبي فديك قال: أخبرني سليمان بن يزيد الكعبي (¬3) عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من زارني بالمدينة محتسبًا كنت له شفيعًا وشهيدًا يوم القيامة» (¬4) . قال ابن أبي فديك: وأخبرني عمر بن حفص (¬5) أن ¬
ابن أبي مليكة (¬1) كان يقول: من أحب أن يقوم وجاءه النبي صلى الله عليه وسلم فليجعل القنديل الذي في القبلة عند رأس القبر على رأسه (¬2) . قال ابن أبي فديك: وسمعت بعض من أدركت يقول: بلغنا أنه من وقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فتلا هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] (¬3) فقال: " صلى الله عليك يا محمد " حتى (¬4) يقولها سبعين مرة - ناداه ملك: صلى الله عليك يا فلان، ولم تسقط له حاجة (¬5) . فهذا الأثر من ابن أبي فديك قد يقال: فيه استحباب قصد (¬6) الدعاء عند القبر. ولا حجة فيه لوجوه: أحدها: أن ابن أبي فديك روى هذا عن مجهول، وذكر ذلك المجهول أنه بلاغ عمن لا يعرف، ومثل هذا لا يثبت به شيء أصلا، وابن أبي فديك متأخر في حدود المائة الثانية، ليس هو من التابعين، ولا من تابعيهم المشاهير حتى يقال قد كان هذا معروفا في القرون الثلاثة، وحسبك أن أهل العلم بالمدينة المعتمدين، لم ينقلوا شيئا من ذلك. ومما يضعفه: أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من (¬7) صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا» (¬8) فكيف يكون من صلى ¬
عليه سبعين مرة جزاؤه (¬1) أن يصلي عليه ملك من الملائكة؟ وأحاديثه المتقدمة تبين أن الصلاة والسلام عليه تبلغه عن البعيد والقريب. والثاني: أن هذا إنما يقتضي استحباب الدعاء للزائر في ضمن الزيارة، كما ذكر العلماء ذلك في مناسك الحج. وليس هذا مسألتنا، فإنا قد قدمنا أن من زار زيارة مشروعة، ودعا في ضمنها لم يكره هذا، كما ذكره بعض العلماء، مع ما في ذلك من النزاع، مع أن المنقول عن السلف كراهة الوقوف عنده للدعاء، وهو أصح. وإنما المكروه الذي ذكرناه (¬2) قصد الدعاء عنده ابتداء، كما أن من دخل المسجد، فصلى تحية المسجد، ودعا في ضمنها، لم يكره ذلك، أو توضأ في مكان وصلى هنالك ودعا في ضمن صلاته لم يكره ذلك، ولو تحرى الدعاء في تلك البقعة، أو في مسجد لا خصيصة له في الشرع دون غيره من المساجد، فنهي عن (¬3) هذا التخصيص. الثالث: أن الاستجابة هنا لعلها لكثرة صلاته (¬4) على النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الصلاة عليه قبل الدعاء، وفي وسطه وآخره، من أقوى الأسباب التي يرجى بها إجابة سائر الدعاء، كما جاءت به الآثار، مثل قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه، الذي يروى موقوفا ومرفوعا: «الدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى تصلي على نبيك» رواه الترمذي (¬5) . ¬
وذكر محمد بن الحسن بن زبالة (¬1) في كتاب (أخبار (¬2) المدينة) ، فيما رواه عنه الزبير بن بكار (¬3) روى (¬4) عنه عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي (¬5) قال: رأيت رجلا من أهل المدينة يقال له: محمد بن كيسان، يأتي إذا صلى العصر من يوم الجمعة، ونحن جلوس مع ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فيقوم عند القبر، فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو حتى يمسي (¬6) . فيقول جلساء ربيعة: انظروا (¬7) إلى ما يصنع (¬8) هذا؟ فيقول: " دعوه، فإنما للمرء ما نوى "، ومحمد بن الحسن هذا صاحب أخبار، وهو مضعف عند أهل الحديث، كالواقدي ونحوه. لكن يستأنس بما يرويه ويعتبر به. وهذه الحكاية قد يتمسك بها على الطرفين، فإنها تتضمن أن الذي فعله هذا الرجل أمر مبتدع عندهم، لم يكن من فعل الصحابة وغيرهم من علماء أهل ¬
المدينة، وإلا لو كان هذا أمرا (¬1) معروفا من عمل أهل المدينة لما استغربه جلساء ربيعة وأنكروه. بل ذكر محمد بن الحسن لها في كتابه مع رواية الزبير بن بكار ذلك عنه، يدل على أنهم على عهد مالك وذويه، ما كانوا يعرفون هذا العمل، وإلا لو كان هذا شائعا بينهم لما ذكر في كتاب مصنف، ما يتضمن استغراب ذلك. ثم إن جلساء ربيعة - وهم قوم فقهاء علماء - أنكروا ذلك، وربيعة أقره. فغايته: أن يكون في ذلك خلاف ولكن تعليل ربيعة له بأن لكل امرئ ما نوى، لا يقتضي إلا الإقرار على ما يكره، فإنه لو أراد الصلاة هناك لنهاه، وكذلك لو أراد الصلاة في وقت نهي. وإنما الذي أراده (¬2) - والله أعلم - أن من كان له نية صالحة أثيب على نيته، وإن كان الفعل الذي فعله ليس بمشروع، إذا لم يتعمد مخالفة الشرع - يعني فهذا الدعاء، وإن لم يكن مشروعا، لكن لصاحبه نية صالحة يثاب على نيته. فيستفاد من ذلك: أنهم مجمعون على أنه (¬3) غير مستحب، ولا خصيصة في تلك (¬4) البقعة، وإنما الخير يحصل من جهة نية الداعي، ثم إن ربيعة لم ينكر عليه متابعة لجلسائه: إما لأنه لم يبلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ قبره عيدا، وعن الصلاة عنده. فإن ربيعة - كما قال أحمد - كان قليل العلم بالآثار. أو بلغه (¬5) ذلك لكن (¬6) لم ير مثل هذا داخلا في معنى النهي، أو لأنه لم ير هذا محرما، وإنما غايته أن يكون مكروها، وإنكار المكروه ليس بفرض. أو أنه رأى ¬
أن ذلك الرجل إنما قصد السلام، والدعاء جاء ضمنا وتبعا. وفي هذا نظر. ولا ريب أن العلماء قد يختلفون في مثل هذا كما اختلفوا (¬1) في صحة الصلاة عند القبر، ومن لم يبطلها قد لا ينهى من فعل ذلك. والعمدة على الكتاب والسنة، وما كان عليه السابقون، مع أن محمد بن الحسن هذا قد روى أخبارا عن السلف تؤيد ما ذكرناه. فقال: حدثني عمر بن هارون، عن سلمة بن وردان (¬2) قال: رأيت أنس بن مالك يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسند ظهره إلى جدار القبر، ثم يدعو " (¬3) فهذا إن كان ثابتا عن أنس فهو مؤيد لما ذكرناه، فإن أنسا لم يكن ساكنا بالمدينة، وإنما كان يقدم من البصرة، إما مع الحجيج أو نحوهم، فيسلم (¬4) على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إذا أراد الدعاء الذي (¬5) في حق مثله إنما يكون ضمنا وتبعا، استدبر القبر. وذكر محمد بن الحسن، عن عبد العزيز محمد (¬6) ومحمد بن إسماعيل (¬7) وغيرهما، عن محمد بن هلال (¬8) وعن غير واحد من ¬
أهل العلم: أن بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم - الذي فيه قبره - هو بيت عائشة الذي كانت تسكن، وأنه مربع مبني بحجارة سود وقصة (¬1) والذي يلي القبلة منه أطوله، والشرقي والغربي سواء، والشامي أنقصها، وباب البيت مما يلي الشام، وهو (¬2) مسدود بحجارة سود وقصة. ثم بنى عمر بن عبد العزيز على ذلك البيت هذا البناء الظاهر، وعمر بن عبد العزيز زوَّاه (¬3) لئلا يتخذه الناس قبلة تخص فيها الصلاة من بين مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - كما حدثني عبد العزيز بن محمد (¬4) عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر (¬5) عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: «قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (¬6) . وحدثني (¬7) مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (¬8) . ¬
فهذه الآثار، إذا ضمت إلى ما قدمنا من الآثار، علم كيف كان حال السلف في هذا الباب. وأن ما عليه كثير من الخلف في ذلك (¬1) من المنكرات عندهم. ولا يدخل في هذا الباب: ما يروى من أن قوما سمعوا رد السلام من قبر النبي صلى الله عليه وسلم، أو قبور غيره من الصالحين. وأن سعيد بن المسيب كان يسمع الأذان من القبر ليالي الحرة (¬2) . ونحو ذلك. فهذا كله حق ليس مما نحن فيه، والأمر أجل من ذلك وأعظم. وكذلك أيضا ما يروى: " أن رجلا جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فشكا إليه الجدب عام الرمادة (¬3) فرآه وهو يأمره أن يأتي عمر، فيأمره أن يخرج يستسقي بالناس " (¬4) فإن هذا ليس من هذا الباب. ومثل هذا يقع كثيرا لمن هو دون النبي صلى الله عليه وسلم، وأعرف من هذا وقائع. وكذلك سؤال بعضهم للنبي صلى الله عليه وسلم، أو لغيره من أمته حاجة فتقضى له، فإن هذا قد وقع كثيرا، وليس هو مما نحن فيه. وعليك أن تعلم: أن إجابة النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره لهؤلاء السائلين، ليس مما يدل على استحباب السؤال، فإنه هو " القائل صلى الله عليه وسلم: «إن أحدهم ليسألني المسألة فأعطيه إياها، فيخرج بها يتأبطها نارا "، ¬
فقالوا: يا رسول الله، فلم تعطيهم؟ قال: " يأبون إلا أن يسألوني، ويأبى الله لي البخل» (¬1) . وأكثر هؤلاء السائلين الملحين لما هم فيه من الحال، لو لم يجابوا لاضطرب إيمانهم، كما أن السائلين به في الحياة كانوا كذلك، وفيهم من أجيب وأمر بالخروج من المدينة. فهذا القدر (¬2) إذا وقع يكون كرامة لصاحب القبر، أما أن يدل على حسن حال السائل، فلا فرق (¬3) بين هذا وهذا. فإن الخلق لم ينهوا عن الصلاة عند القبور (¬4) واتخاذها مساجد استهانة بأهلها، بل لما يخاف عليهم من الفتنة، وإنما تكون الفتنة إذا انعقد سببها، فلولا أنه قد يحصل عند القبور ما يخاف الافتتان به لما نهي الناس عن ذلك. وكذلك ما يذكر من الكرامات، وخوارق العادات، التي توجد عند قبور الأنبياء والصالحين مثل نزول الأنوار والملائكة عندها وتوقي الشياطين والبهائم لها، واندفاع النار عنها وعمن جاورها، وشفاعة بعضهم في جيرانه من الموتى، واستحباب الاندفان عند بعضهم، وحصول الأنس والسكينة عندها، ونزول العذاب بمن استهانها - فجنس هذا حق، ليس مما نحن فيه. وما في قبور الأنبياء والصالحين، من كرامة الله ورحمته، وما لها عند الله من الحرمة والكرامة فوق ما يتوهمه أكثر الخلق، لكن ليس هذا موضع تفصيل ذلك. ¬
بعض بدع القبور
وكل هذا لا يقتضي استحباب الصلاة، أو قصد الدعاء أو النسك عندها، لما في قصد العبادات عندها من المفاسد التي علمها الشارع (¬1) كما تقدم. فذكرت هذه الأمور لأنها مما يتوهم معارضته لما قدمناه، وليس كذلك. الوجه الرابع (¬2) أن اعتقاد استجابة الدعاء عندها وفضله، قد أوجب أن تنتاب لذلك وتقصد، وربما اجتمع عندها (¬3) اجتماعات كثيرة، في مواسم معينة، وهذا بعينه هو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «لا تتخذوا قبري عيدا» وبقوله: «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» وبقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تتخذوا القبور مساجد، فإن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك» (¬4) . [بعض بدع القبور] حتى إن بعض القبور يجتمع عندها (¬5) في يوم من السنة ويسافر إليها (¬6) إما في المحرم، أو رجب، أو شعبان، أو ذي الحجة، أو غيرها. وبعضها يجتمع عنده في يوم عاشوراء! ، وبعضها في يوم عرفة، وبعضها ¬
في (¬1) النصف من شعبان، وبعضها في وقت آخر، بحيث يكون لها يوم من السنة تقصد فيه، ويجتمع عندها فيه كما تقصد عرفة ومزدلفة ومنى، في أيام معلومة (¬2) من السنة، أو كما يقصد مصلى المصر يوم العيدين، بل ربما كان الاهتمام بهذه الاجتماعات في الدين والدنيا أهم (¬3) وأشد. ومنها: ما يسافر إليه من الأمصار، في وقت معين أو في وقت غير معين (¬4) لقصد الدعاء عنده، والعبادة هناك، كما يقصد بيت الله لذلك، وهذا السفر لا أعلم بين المسلمين خلافا في النهي (¬5) عنه، إلا أن يكون خلافا حادثا. وإنما ذكرت الوجهين المتقدمين في السفر المجرد لزيارة القبور. فأما إذا كان السفر للعبادة عندها بالدعاء أو الصلاة (¬6) أو نحو ذلك: فهذا لا ريب فيه. حتى إن بعضهم يسميه الحج ويقول: نريد الحج إلى قبر فلان وفلان (¬7) . ومنها ما يقصد الاجتماع عنده في يوم معين من الأسبوع. وفي الجملة: هذا الذي يفعل عند هذه القبور هو بعينه الذي نهى عنه ¬
رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «لا تتخذوا قبري عيدًا» فإن اعتياد قصد المكان المعين، وفي وقت معين، عائد بعود السنة أو الشهر أو الأسبوع، هو بعينه معنى العيد. ثم ينهى عن دِقِّ ذلك وجله، وهذا هو الذي تقدم عن الإمام أحمد إنكاره، لما قال: " قد أفرط الناس في هذا جدا وأكثروا " وذكر ما يفعل عند قبر الحسين. وقد ذكرت (¬1) فيما تقدم: أنه يكره اعتياد عبادة في وقت إذا لم تجئ بها السنة. فكيف اعتياد مكان معين في وقت معين؟ . ويدخل في هذا: ما يفعل بمصر، عند قبر نفيسة (¬2) وغيرها. وما يفعل بالعراق عند القبر الذي يقال إنه قبر علي رضي الله عنه، وقبر الحسين، وحذيفة بن اليمان، وسلمان الفارسي. وقبر موسى بن جعفر (¬3) ومحمد بن علي الجواد (¬4) ببغداد. ¬
وعند قبر أحمد بن حنبل، ومعروف الكرخي. وغيرهما وما يفعل عند قبر أبي يزيد البسطامي (¬1) . وكان يفعل نحو ذلك بحران، عند قبر يسمى قبر الأنصاري (¬2) إلى قبور كثيرة، في أكثر بلاد الإسلام لا يمكن حصرها. كما أنهم بنوا على كثير منها مساجد وبعضها مغصوب، كما بنوا على قبر أبي حنيفة والشافعي وغيرهم. وهؤلاء الفضلاء من الأئمة، إنما ينبغي محبتهم واتباعهم، وإحياء ما أحيوه من الدين، والدعاء لهم بالمغفرة والرحمة والرضوان، ونحو ذلك. فأما اتخاذ قبورهم أعيادا، فهو مما حرمه الله ورسوله واعتياد قصد هذه القبور في وقت معين، أو الاجتماع العام عندها في وقت معين، هو اتخاذها عيدا، كما تقدم. ولا أعلم بين المسلمين (¬3) أهل العلم في ذلك خلافا. ولا يغتر بكثرة العادات الفاسدة، فإن هذا من التشبه بأهل الكتابين، الذين أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه كائن في هذه الأمة. وأصل ذلك: إنما هو اعتقاد فضل الدعاء (¬4) عندها، وإلا فلو لم (¬5) يقم ¬
هذا الاعتقاد بالقلوب انمحى (¬1) ذلك كله، فإذا كان قصدها للدعاء (¬2) يجر هذه المفاسد كان حراما، كالصلاة عندها وأولى، وكان ذلك فتنة للخلق، وفتحا لباب الشرك، وإغلاقا لباب الإيمان. ¬
فصل في عدم جواز سائر العبادات عند القبور
[فصل في عدم جواز سائر العبادات عند القبور] فصل قد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذها (¬1) مساجد وعن الصلاة عندها، وعن اتخاذها عيدا، وأنه دعا الله أن لا يتخذ قبره وثنا يعبد. وقد تقدم أن اتخاذ المكان عيدا هو: اعتياد إتيانه للعبادة عنده أو غير ذلك، وقد تقدم النهي الخاص عن الصلاة عندها أو إليها، والأمر بالسلام عليها والدعاء لها. وذكرنا ما في دعاء المرء لنفسه عندها، من الفرق بين قصدها لأجل الدعاء، أو الدعاء ضمنا وتبعا. وتمام الكلام في ذلك، بذكر سائر العبادات، فالقول فيها جميعا (¬2) كالقول في الدعاء، فليس في ذكر الله هناك، أو القراءة عند القبر، أو الصيام عنده، أو الذبح عنده، فضل على غيره من البقاع، ولا قصد ذلك عند القبور مستحبا. وما علمت أحدا من علماء المسلمين يقول إن الذكر هناك، أو الصيام أو القراءة، أفضل منه في غير تلك البقعة. فأما ما يذكره بعض الناس، من أنه ينتفع الميت بسماع القرآن (¬3) بخلاف ما إذا قرئ في مكان آخر - فهذا (¬4) إذا عني به أن يصل الثواب إليه، إذا قرئ ¬
عند القبر خاصة، فليس عليه أحد من أهل العلم المعروفين، بل الناس على قولين: أحدهما: أن ثواب العبادات البدنية: من الصلاة والقراءة وغيرهما، يصل إلى الميت، كما يصل إليه ثواب العبادات المالية (¬1) بالإجماع (¬2) . وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد وغيرهما، وقول طائفة من أصحاب الشافعي، ومالك (¬3) . وهو الصواب لأدلة كثيرة، ذكرناها في غير هذا الموضع (¬4) . والثاني: أن ثواب البدنية لا يصل إليه بحال، وهو المشهور عند أصحاب الشافعي (¬5) ومالك. وما من أحد من هؤلاء (¬6) يخص مكانا بالوصول (¬7) أو عدمه، فأما استماع الميت للأصوات، من القراءة أو غيرها - فحق. لكن الميت ما بقي يثاب بعد الموت على عمل يعمله (¬8) هو بعد الموت من استماع أو غيره، وإنما ينعم أو يعذب بما كان عمله (¬9) هو، أو بما يُعمل عليه (¬10) بعد الموت من أثره، أو بما يعامل به. كما قد اختلف في تعذيبه بالنياحة عليه، ¬
وكما ينعم بما يهدى إليه، وكما ينعم بالدعاء له وإهداء العبادات المالية بالإجماع (¬1) . وكذلك ذكر طائفة من العلماء، من أصحاب أحمد وغيرهم، ونقلوه عن أحمد، وذكروا فيه آثارا أن الميت يتألم بما يفعل عنده من المعاصي، فقد يقال أيضا: إنه ينعم بما يسمعه من قراءة وذكر. وهذا - لو صح - لم يوجب استحباب القراءة عنده، فإن ذلك لو كان مشروعا لسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وذلك لأن هذا، وإن كان من نوع مصلحة، ففيه مفسدة راجحة، كما في الصلاة عنده، وتنعم الميت بالدعاء له، والاستغفار والصدقة عنه (¬2) وغير ذلك من العبادات (¬3) يحصل له به (¬4) من النفع أعظم من ذلك، وهو مشروع ولا مفسدة فيه، ولهذا لم يقل أحد من العلماء بأنه يستحب قصد القبر دائما للقراءة عنده، إذ قد علم بالاضطرار من دين الإسلام، أن ذلك ليس مما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته. لكن اختلفوا في القراءة عند القبور: هل تكره، أم لا تكره؟ والمسألة مشهورة، وفيها ثلاث روايات عن أحمد: إحداها أن ذلك لا بأس به. وهي اختيار الخلال وصاحبه، وأكثر المتأخرين من أصحابه. وقالوا: هي الرواية المتأخرة عن أحمد، وقول جماعة من أصحاب أبي حنيفة، واعتمدوا على ما نقل عن ابن عمر (¬5) رضي الله ¬
عنهما، أنه أوصى أن يقرأ على قبره وقت الدفن بفواتيح (¬1) البقرة، وخواتيمها. ونقل أيضا عن بعض المهاجرين قراءة سورة البقرة. والثانية: أن ذلك مكروه. حتى اختلف هؤلاء: هل تقرأ الفاتحة في صلاة الجنازة إذا صُلِّيَ عليها في المقبرة؟ وفيه عن أحمد روايتان، وهذه الرواية هي التي رواها أكثر أصحابه عنه، وعليها قدماء أصحابه الذين صحبوه، كعبد الوهاب الوراق (¬2) وأبي بكر المروزي، ونحوهما، وهي (¬3) مذهب جمهور السلف، كأبي حنيفة ومالك وهشيم بن بشير وغيرهم، ولا يحفظ عن الشافعي نفسه في هذه المسألة كلام، وذلك لأن ذلك كان عنده بدعة. وقال مالك: " ما علمت أحدًا يفعل ذلك "، فعلم أن الصحابة والتابعين ما كانوا يفعلونه. والثالثة: أن القراءة عنده وقت الدفن لا بأس بها، كما نقل عن ابن عمر (¬4) رضي الله عنهما، وبعض المهاجرين، وأما القراءة بعد ذلك - مثل الذين ينتابون (¬5) القبر للقراءة عنده - فهذا مكروه، فإنه لم ينقل عن أحد من السلف مثل ذلك أصلا. وهذه الرواية لعلها أقوى من غيرها، لما فيها من التوفيق بين الدلائل. ¬
والذين كرهوا القراءة عند القبر، كرهها بعضهم، وإن لم يقصد القراءة هناك، كما تكره الصلاة، فإن أحمد نهى عن القراءة في صلاة الجنازة هناك. ومعلوم أن القراءة في الصلاة ليس المقصود بها القراءة عند القبر، ومع هذا فالفرق بين ما يفعل ضمنا وتبعا، وما (¬1) يفعل لأجل القبر، بُيِّنَ كما تقدم. والوقوف (¬2) التي وقفها الناس على القراءة عند قبورهم، فيها من الفائدة أنها تعين على حفظ القرآن، وأنها رزق لحفاظ القرآن، وباعثة لهم على حفظه ودرسه وملازمته، وإن قدر أن القارئ لا يثاب على قراءته فهو مما يحفظ به الدين، كما يحفظ بقراءة الفاجر (¬3) وجهاد الفاجر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» (¬4) . وبسط الكلام في الوقوف وشروطها، قد ذكر في موضع آخر (¬5) وليس هو المقصود هنا. فأما ذكر الله هناك فلا يكره، لكن قصد البقعة للذكر هناك بدعة مكروهة، فإنه نوع من اتخاذها (¬6) عيدا، وكذلك قصدها للصيام عندها. ¬
ومن رخص في القراءة فإنه لا يرخص في اتخاذها عيدا، مثل أن يجعل له وقت معلوم، يعتاد فيه القراءة هناك، أو يجتمع عنده للقراءة ونحو ذلك، كما أن من يرخص في الذكر والدعاء هناك، لا يرخص في اتخاذه عيدا كذلك (¬1) كما تقدم. وأما الذبح (¬2) هناك فمنهي عنه مطلقا، ذكره أصحابنا وغيرهم. لما روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا عقر في (¬3) الإسلام» . رواه أحمد (¬4) وأبو داود، وزاد: قال عبد الرزاق: " كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة " (¬5) قال أحمد في رواية المروزي: " قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا عقر في الإسلام» كانوا إذا مات لهم الميت نحروا جزورا على قبره، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وكره أبو عبد الله أكل لحمه. قال أصحابنا: وفي معنى هذا ما يفعله كثير من أهل زماننا في التصدق عند القبر بخبز أو نحوه. فهذه أنواع العبادات البدنية، أو المالية، أو المركبة (¬6) منهما. ¬
فصل في العكوف عند القبور ومجاورتها وسدانتها
[فصل في العكوف عند القبور ومجاورتها وسدانتها] فصل ومن المحرمات: العكوف عند القبر (¬1) والمجاورة عنده، وسدانته، وتعليق الستور عليه، كأنه بيت الله الكعبة. فإنا قد بينا أن نفس بناء المسجد عليه منهي عنه باتفاق الأمة، محرم بدلالة السنة، فكيف إذا ضم إلى ذلك المجاورة في ذلك المسجد، والعكوف فيه كأنه المسجد الحرام؟ بل عند بعضهم أن العكوف فيه أحب إليه من العكوف في المسجد الحرام، إذ من الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله، والذين آمنوا أشد حبا لله. بل حرمة ذلك المسجد المبني على القبر الذي حرمه الله ورسوله، أعظم عند المقابريين (¬2) من حرمة بيوت الله التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وقد أسست على تقوى من الله (¬3) ورضوان (¬4) . وقد بلغ الشيطان بهذه البدع إلى الشرك العظيم في كثير من الناس، حتى إن منهم من يعتقد أن زيارة المشاهد التي (¬5) على القبور - إما قبر لنبي، ¬
أو شيخ، أو بعض أهل (¬1) البيت - أفضل من حج البيت الحرام، ويسمي زيارتها: الحج الأكبر، ومن هؤلاء من يرى أن السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من حج البيت. وبعضهم إذا وصل المدينة رجع (¬2) وظن أنه حصل له المقصود (¬3) . وهذا لأنهم ظنوا أن زيارة القبور (¬4) لأجل الدعاء عندها والتوسل بها، وسؤال الميت ودعائه. ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الكعبة، ولو علموا أن المقصود إنما هو عبادة الله وحده لا شريك له وسؤاله ودعاؤه، والمقصود بزيارة القبور الدعاء لها، كما يقصد بالصلاة على الميت؛ لزال هذا عن قلوبهم. ولهذا، كثير من هؤلاء يسأل الميت والغائب، كما يسأل ربه، فيقول: اغفر لي وارحمني، وتب علي، ونحو ذلك. وكثير من الناس تمثل له صورة الشيخ المستغاث به، ويكون ذلك شيطانا قد خاطبه، كما تفعل الشياطين بعبدة الأصنام (¬5) وأعظم من ذلك (¬6) قصد الدعاء عنده والنذر له، أو للسدنة العاكفين عليه، أو المجاورين عنده، من أقاربه أو غيرهم، واعتقاد أنه بالنذر له قضيت الحاجة، أو كشف البلاء. فإنا قد بينا بقول الصادق المصدوق: أن نذر العمل المشروع لا يأتي بخير، وأن الله لم يجعله سببا لدرك الحاجة، كما جعل الدعاء سببا لذلك، فكيف نذر المعصية، الذي لا يجوز الوفاء به؟ ¬
واعلم أن أهل القبور (¬1) من الأنبياء والصالحين، المدفونين، يكرهون ما يفعل عندهم كل الكراهة، كما أن المسيح عليه السلام يكره ما يفعل النصارى به، وكما كان أنبياء بني إسرائيل يكرهون ما يفعله الأتباع، فلا يحسب المرء المسلم أن النهي عن اتخاذ القبور أعيادا وأوثانا فيه غض من (¬2) أصحابها، بل هو من باب إكرامهم، وذلك أن القلوب إذا اشتغلت بالبدع أعرضت عن السنن، فتجد أكثر هؤلاء العاكفين على القبور معرضين عن سنة ذلك المقبور وطريقته، مشتغلين بقبره عما أمر به ودعا إليه. ومن كرامة الأنبياء والصالحين، أن يتبع ما دعوا إليه من العمل الصالح، ليكثر أجرهم بكثرة أجور من اتبعهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيء» (¬3) . وإنما اشتغلت قلوب طوائف من الناس، بأنواع من العبادات المبتدعة: إما من الأدعية، وإما من الأشعار (¬4) وإما من السماعات، ونحو ذلك لإعراضهم عن المشروع، أو بعضه - أعني لإعراض قلوبهم - وإن قاموا بصورة المشروع، وإلا فمن أقبل على الصلوات الخمس بوجهه وقلبه، عاقلا لما اشتملت عليه من الكلم الطيب، والعمل الصالح مهتما بها كل الاهتمام - أغنته عن كل ما يتوهم فيه خير من جنسها. ¬
ومن أصغى إلى كلام الله وكلام رسوله بعقله، وتدبره بقلبه، وجد فيه من الفهم والحلاوة (¬1) والبركة والمنفعة ما لا يجده في شيء من الكلام لا منظومه ولا منثوره. ومن اعتاد الدعاء المشروع في أوقاته، كالأسحار، وأدبار الصلوات والسجود، ونحو ذلك، أغناه عن كل دعاء مبتدع، في ذاته أو بعض صفاته. فعلى العاقل أن يجتهد في اتباع السنة في كل شيء من ذلك، ويعتاض عن كل ما يظن (¬2) من البدع أنه خير بنوعه من السنن، فإنه من يَتَحَرَّ الخيرَ يُعْطَهُ، ومن يتوقَّ الشرَّ يُوقَهُ. ¬
فصل في مقامات الأنبياء وحكم قصدها
[فصل في مقامات الأنبياء وحكم قصدها] [أقوال العلماء وبيان القول الصحيح وأدلته] فصل فأما مقامات الأنبياء والصالحين، وهي الأمكنة التي (¬1) قاموا فيها، أو أقاموا، أو عبدوا الله سبحانه، لكنهم لم يتخذوها مساجد؛ (¬2) فالذي بلغني في ذلك قولان عن العلماء المشهورين: أحدهما: النهي عن ذلك وكراهته، وأنه لا يستحب قصد بقعة للعبادة، إلا أن يكون قصدها للعبادة مما جاء به الشرع، مثل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قصدها للعبادة كما قصد الصلاة في مقام إبراهيم، وكما كان يتحرى الصلاة عند الأصطوانة (¬3) وكما يقصد المساجد للصلاة، ويقصد الصف الأول ونحو ذلك. والقول الثاني: أنه لا بأس باليسير (¬4) من ذلك، كما نقل عن ابن عمر: أنه كان يتحرى قصد المواضع التي سلكها النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد سلكها اتفاقا لا قصدا. قال (¬5) سندي الخواتيمي: سألنا أبا عبد الله عن الرجل ¬
يأتي هذه المشاهد، ويذهب إليها، ترى ذلك؟ قال: أما على حديث ابن أم مكتوم: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته حتى يتخذ ذلك مصلى. وعلى ما كان يفعله ابن عمر، يتتبع مواضع النبي صلى الله عليه وسلم وأثره، فليس بذلك بأس، أن يأتي الرجل المشاهد، إلا أن الناس قد أفرطوا في هذا جدا، وأكثروا فيه ". وكذلك نقل عنه (¬1) أحمد بن القاسم: أنه سئل عن الرجل يأتي هذه المشاهد التي بالمدينة، وغيرها، يذهب إليها؟ فقال: " أما على «حديث ابن أم مكتوم: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيه فيصلي في بيته حتى يتخذه مسجدا» ، وعلى ما كان يفعل ابن عمر رضي الله عنه: كان (¬2) يتتبع مواضع سير النبي صلى الله عليه وسلم، حتى رئي أنه يصب في موضع ماء، فيسأل عن ذلك. فقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصب هاهنا ماء، قال: أما على هذا فلا بأس ". قال: ورخص فيه، ثم قال: " ولكن قد أفرط الناس جدا، وأكثروا (¬3) في هذا المعنى، فذكر قبر الحسين وما يفعل الناس عنده. رواهما الخلال في كتاب الأدب (¬4) . فقد فصل أبو عبد الله رحمه الله في المشاهد، وهي الأمكنة التي فيها آثار الأنبياء والصالحين، من غير أن تكون مساجد لهم، كمواضع بالمدينة (¬5) بين القليل الذي لا يتخذونه عيدا، والكثير الذي يتخذونه عيدا، كما تقدم. وهذا التفصيل جمع فيه بين الآثار وأقوال الصحابة، فإنه قد روى البخاري في صحيحه، عن موسى بن عقبة قال: " رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أماكن من الطريق، ويصلي فيها، ويحدث أن أباه كان يصلي فيها، وأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم ¬
يصلي في تلك الأمكنة " قال موسى: " وحدثني نافع أن ابن عمر كان يصلي في تلك الأمكنة " (¬1) فهذا كما رخص فيه أحمد رضي الله عنه. وأما ما كرهه: فروى سعيد بن منصور في سننه، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن معرور بن سويد، " عن عمر رضي الله عنه قال: خرجنا معه في حجة حجها فقرأ بنا في الفجر بـ {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] و {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1] في الثانية، فلما رجع من حجته رأى الناس ابتدروا المسجد فقال: ما هذا؟ قالوا: مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هكذا (¬2) هلك أهل الكتاب قبلكم: اتخذوا آثار أنبيائهم بيعا، من عرضت له منكم فيه الصلاة فليصل، ومن لم تعرض له الصلاة فليمض " (¬3) فقد كره عمر رضي الله عنه اتخاذ مصلى النبي صلى الله عليه وسلم عيدا، وبين أن أهل الكتاب إنما هلكوا بمثل هذا. وفي رواية عنه: " أنه رأى الناس يذهبون مذاهب فقال: أين يذهب هؤلاء؟ فقيل: يا أمير المؤمنين، مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فهم يصلون فيه فقال: إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا، كانوا يتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعا، فمن أدركته الصلاة منكم في هذه المساجد فليصل، ¬
ومن لا فليمض ولا يتعمدها " (¬1) . وروى محمد بن وضاح (¬2) وغيره: أن عمر بن الخطاب أمر بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم (¬3) لأن الناس كانوا يذهبون تحتها. فخاف عمر الفتنة عليهم (¬4) . وقد اختلف العلماء رضي الله عنهم في إتيان المشاهد - فقال محمد بن وضاح: كان مالك وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار التي بالمدينة، ما عدا قباء وأحدا. ودخل سفيان الثوري بيت المقدس وصلى فيه ولم يتبع تلك الآثار، ولا الصلاة فيها. فهؤلاء كرهوها مطلقا، لحديث عمر رضي الله عنه هذا، ولأن ذلك يشبه الصلاة عند المقابر إذ هو ذريعة إلى اتخاذها أعيادا، وإلى التشبه بأهل الكتاب، (¬5) ولأن ما فعله ابن عمر لم يوافقه عليه أحد من الصحابة، فلم ينقل عن الخلفاء الراشدين ولا غيرهم، من المهاجرين والأنصار، أنه (¬6) كان يتحرى قصد الأمكنة التي نزلها النبي صلى الله عليه وسلم. ¬
والصواب مع جمهور الصحابة؛ لأن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم تكون بطاعة أمره، وتكون في فعله، بأن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعله، فإذا قصد العبادة في مكان كان قصد العبادة فيه متابعة له، كقصد المشاعر والمساجد. وأما إذا نزل في مكان بحكم الاتفاق لكونه صادف وقت النزول، أو غير ذلك، مما يعلم أنه لم يتحر ذلك المكان، فإذا تحرينا ذلك المكان لم نكن متبعين له، فإن الأعمال بالنيات. واستحب آخرون من العلماء المتأخرين إتيانها، وذكر طائفة من المصنفين من أصحابنا وغيرهم في المناسك، استحباب زيارة هذه المساجد وعدوا منها مواضع وسموها. وأما أحمد فرخص منها فيما جاء به الأثر من ذلك إلا إذا اتخذت عيدا، مثل أن تنتاب لذلك، ويجتمع عندها في وقت معلوم، كما يرخص في صلاة النساء في المساجد جماعات، وإن كانت بيوتهن خيرا لهن، إلا إذا تبرجن وجمع بذلك بين الآثار، واحتج بحديث ابن أم مكتوم. ومثله: ما خرجاه في الصحيحين، «عن عتبان بن مالك (¬1) قال: كنت أصلي لقومي بني سالم، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: إني أنكرت بصري، وإن السيول تحول بيني وبين مسجد قومي، فلوددت أنك جئت فصليت في بيتي مكانا حتى أتخذه مسجدا. فقال: " أفعل إن شاء الله " فغدا علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر معه، بعدما اشتد النهار، فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فأذنت له، فلم يجلس حتى قال: " أين تحب أن أصلي من بيتكم (¬2) " فأشرت له إلى المكان الذي أحب ¬
الأمكنة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصد الصلاة أو الدعاء عندها
أن يصلي فيه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر، وصففنا (¬1) وراءه، فصلى ركعتين، ثم سلم وسلمنا حين سلم» (¬2) ". ففي هذا الحديث دلالة على أن من قصد أن يبني مسجده في موضع صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بأس به، وكذلك قصد الصلاة في موضع صلاته، لكن هذا كان أصل قصده بناء مسجد، فأحب أن يكون موضعا يصلي له فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ليكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي رسم المسجد، بخلاف مكان صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم اتفاقا فاتخذ مسجدا لا لحاجة إلى المسجد، لكن (¬3) لأجل صلاته فيه. [الأمكنة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصد الصلاة أو الدعاء عندها] فأما الأمكنة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصد الصلاة أو الدعاء عندها، فقصد الصلاة فيها أو الدعاء سنة، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعا له، كما إذا تحرى الصلاة أو الدعاء في وقت من الأوقات فإن قصد الصلاة أو الدعاء في ذلك الوقت سنة كسائر عباداته، وسائر الأفعال التي فعلها على وجه التقرب ومثل هذا: ما خرجاه في الصحيحين عن يزيد بن أبي عبيد (¬4) قال: " كان سلمة بن الأكوع (¬5) يتحرى الصلاة عند الأصطوانة التي عند المصحف. فقلت له: يا أبا مسلم، أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأصطوانة، ¬
قال (¬1) «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى الصلاة عندها» (¬2) وفي رواية لمسلم عن سلمة بن الأكوع: أنه كان يتحرى الصلاة موضع المصحف، يسبح فيه، وذكر أن «رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتحرى ذلك المكان، وكان بين المنبر والقبلة قدر ممر الشاة» (¬3) . وقد ظن بعض المصنفين أن هذا مما اختلف فيه وجعله والقسم الأول سواء، وليس بجيد. فإنه هنا أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرى البقعة. . فكيف لا يكون هذا القصد مستحبا؟ نعم: إيطان (¬4) بقعة في المسجد لا يصلى إلا فيها منهي عنه كما جاءت به السنة، والإيطان ليس هو التحري من غير إيطان (¬5) . فيجب الفرق بين اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، والاستنان به فيما فعله، وبين ابتداع بدعة لم يسنها لأجل تعلقها به. ¬
وقد تنازع العلماء فيما إذا فعل (¬1) فعلا من المباحات لسبب، وفعلناه نحن تشبها به، مع انتفاء ذلك السبب، فمنهم من يستحب ذلك ومنهم من لا يستحبه، وعلى هذا يخرج فعل ابن عمر رضي الله عنهما، بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في تلك البقاع التي في طريقه، لأنها كانت منزله، لم يتحر الصلاة فيها لمعنى في البقعة. فنظير هذا: أن يصلي المسافر في منزله، وهذا سنة. فأما قصد الصلاة في تلك البقاع التي صلى فيها (¬2) اتفاقا، فهذا لم ينقل عن غير ابن عمر من الصحابة، بل كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وسائر السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار (¬3) يذهبون من المدينة إلى مكة حجاجا وعمارا ومسافرين، ولم ينقل عن أحد منهم أنه تحرى الصلاة في مصليات النبي صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أن هذا لو كان عندهم مستحبا لكانوا إليه أسبق، فإنهم أعلم بسنته وأتبع لها من غيرهم. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة (¬4) وكل بدعة ضلالة» (¬5) . ¬
وتحري هذا ليس من سنة الخلفاء الراشدين، بل هو مما ابتدع، وقول الصحابي (¬1) إذا خالفه نظيره، ليس بحجة، فكيف إذا انفرد به عن جماهير الصحابة؟ أيضا: فإن تحري الصلاة فيها ذريعة إلى اتخاذها مساجد والتشبه بأهل الكتاب مما نهينا عن التشبه بهم فيه وذلك ذريعة إلى الشرك بالله، والشارع قد حسم هذه المادة بالنهي عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها، وبالنهي عن اتخاذ القبور مساجد، فإذا كان قد نهى عن الصلاة المشروعة في هذا المكان وهذا الزمان، سدا للذريعة. فكيف يستحب قصد الصلاة والدعاء في مكان اتفق قيامهم فيه، أو صلاتهم فيه، من غير أن يكونوا (¬2) قد قصدوه للصلاة فيه والدعاء فيه؟ . ولو ساغ هذا لاستحب قصد جبل حراء والصلاة فيه، وقصد جبل ثور والصلاة فيه، وقصد الأماكن التي يقال إن الأنبياء قاموا فيها، كالمقامين اللذين بطريق جبل قاسيون بدمشق، اللذين يقال إنهما مقام إبراهيم وعيسى، والمقام الذي يقال إنه مغارة دم قابيل، وأمثال ذلك، من البقاع التي بالحجاز والشام وغيرهما. ثم ذلك يفضي إلى ما أفضت إليه مفاسد القبور، فإنه يقال: إن هذا مقام نبي، أو قبر نبي، أو ولي، بخبر لا يعرف قائله، أو بمنام لا تعرف حقيقته، ثم يترتب على ذلك اتخاذه مسجدا، فيصير وثنا يعبد من دون الله تعالى. شرك مبني على إفك! والله سبحانه يقرن في كتابه بين الشرك والكذب، كما يقرن بين الصدق والإخلاص. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله» - ثلاثا - ثم قرأ قوله تعالى: ¬
{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج: 30] (¬1)) (¬2) . وقال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ - وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [القصص: 74 - 75] (¬3) وقال تعالى عن الخليل: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ - أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} [الصافات: 85 - 86] (¬4) وقال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 94] (¬5) . وقال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ - إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ - أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 1 - 3] (¬6) . وقال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ - فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ - هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس: 28 - 30] (¬7) . ¬
وقال تعالى: {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [يونس: 66] (¬1) . وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف: 152] (¬2) . قال أبو قلابة: " هي لكل مبتدع من هذه الأمة إلى يوم القيامة " (¬3) . وهو (¬4) كما قال: فإن أهل الكذب والفرية عليهم من الغضب والذلة ما أوعدهم الله به. والشرك وسائر البدع مبناها على الكذب والافتراء، ولهذا: كل من كان عن التوحيد والسنة أبعد، كان إلى الشرك والابتداع والافتراء أقرب (¬5) كالرافضة الذين هم أكذب طوائف أهل الأهواء، وأعظمهم شركا، فلا يوجد في أهل ¬
الأهواء أكذب منهم، ولا أبعد عن التوحيد منهم، حتى إنهم يخربون (¬1) مساجد الله التي يذكر فيها اسمه فيعطلونها عن الجماعات والجمعات، ويعمرون المشاهد التي على القبور، التي نهى الله ورسوله عن اتخاذها، والله سبحانه في كتابه إنما أمر بعمارة المساجد لا المشاهد، فقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة: 114] (¬2) ولم يقل: مشاهد الله. وقال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 29] (¬3) ولم يقل: عند كل مشهد. وقال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة: 17] إلى قوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18] (¬4) ولم يقل: مشاهد الله. بل المشاهد إنما يعمرها من يخشى غير الله ويرجو غير الله لا يعمرها إلا من فيه نوع من الشرك. وقال الله تعالى: {وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج: 40] (¬5) وقال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ - رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ - لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور: 36 - 38] (¬6) وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] (¬7) ¬
ولم يقل: وأن المشاهد لله. وكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة كقوله في الحديث الصحيح: «من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة» (¬1) ولم يقل: مشهدا. وقال أيضا في الحديث: «صلاة الرجل في المسجد تفضل عن صلاته في بيته وسوقه بخمس وعشرين صلاة» (¬2) وقال في الحديث الصحيح: «من تطهر في بيته فأحسن الطهور، ثم خرج إلى المسجد لا تنهزه (¬3) إلا الصلاة، كانت خطواته إحداهما ترفع درجة والأخرى تحط خطيئة. فإذا جلس ينتظر الصلاة فالعبد في صلاة ما دام ينتظر الصلاة، والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه، اللهم اغفر له اللهم ارحمه ما لم يحدث» (¬4) . ¬
وهذا مما علم (¬1) بالتواتر والضرورة من دين الرسول (¬2) صلى الله عليه وسلم، فإنه أمر بعمارة المساجد والصلاة فيها، ولم يأمر ببناء مشهد، لا على قبر نبي، ولا غير قبر نبي (¬3) ولا على مقام نبي، ولم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم في بلاد الإسلام، لا الحجاز ولا الشام ولا اليمن ولا العراق ولا خراسان ولا مصر ولا المغرب مسجد مبني (¬4) على قبر، ولا مشهد يقصد للزيارة أصلا، ولم يكن أحد من السلف يأتي إلى قبر نبي أو غير نبي (¬5) لأجل الدعاء عنده، ولا كان الصحابة يقصدون الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عند قبر غيره من الأنبياء، وإنما كانوا يصلون ويسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه. واتفق الأئمة على أنه إذا دعا بمسجد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يستقبل قبره، وتنازعوا عند السلام عليه فقال مالك وأحمد وغيرهما: يستقبل قبره ويسلم عليه (¬6) وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي، وأظنه منصوصًا عنه. وقال أبو حنيفة: بل يستقبل القبلة ويسلم عليه، هكذا في كتب أصحابه (¬7) . ¬
وقال مالك فيما ذكره إسماعيل بن إسحاق (¬1) في المبسوط، والقاضي عياض (¬2) وغيرهما: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو، ولكن يسلم ويمضي (¬3) . وقال أيضًا في المبسوط: لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج، أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي عليه (¬4) ويدعو لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما. فقيل له: فإن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه (¬5) يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر عند القبر، فيسلمون ويدعون ساعة، فقال: لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه (¬6) ببلدنا، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك. ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده (¬7) . وقد تقدم في ذلك من الآثار عن السلف والأئمة، ما يوافق هذا ويؤيده من ¬
أنهم كانوا إنما يستحبون عند قبره ما هو من جنس الدعاء له والتحية: كالصلاة والسلام. ويكرهون قصده للدعاء، والوقوف عنده للدعاء (¬1) ومن يرخص منهم في شيء من ذلك فإنه إنما يرخص فيما إذا سلم عليه ثم أراد الدعاء، أن يدعو مستقبلًا القبلة إما مستدبر القبر وإما منحرفًا عنه، وهو أن يستقبل القبلة ويدعو، ولا يدعو مستقبل القبر، وهكذا المنقول عن سائر الأئمة. ليس في أئمة المسلمين من استحب للمرء (¬2) أن يستقبل قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعو عنده، وهذا الذي ذكرناه عن مالك والسلف، يبين حقيقية الحكاية المأثورة عنه، وهي الحكاية التي ذكرها القاضي عياض عن محمد بن حميد (¬3) قال: " ناظر أبو جعفر (¬4) أمير المؤمنين مالكًا في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال له (¬5) مالك: يا أمير المؤمنين، لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله تعالى أدب قوما فقال: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] الآية (¬6) ومدح قومًا (¬7) فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} [الحجرات: 3] الآية (¬8) وذم قومًا فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4] الآية (¬9) . ¬
وإن حرمته ميتًا كحرمته حيًا، فاستكان أبو جعفر، وقال: يا أبا عبد الله، أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعه (¬1) الله (¬2) . وقال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ} [النساء: 64] (¬3) الآية (¬4) . فهذه الحكاية على هذا الوجه إما أن تكون ضعيفة، أو مغيرة، وإما أن تفسر بما يوافق مذهبه إذ قد (¬5) يفهم منها ما هو خلاف مذهبه المعروف بنقل الثقات من أصحابه، فإنه لا يختلف مذهبه أنه لا يستقبل القبر عند الدعاء، (¬6) وقد نص على أنه لا يقف عند الدعاء مطلقًا، وذكر طائفة من أصحابه أنه يدنو من القبر، ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو مستقبل القبلة، ويوليه ظهره، وقيل: لا يوليه ظهره. فاتفقوا في استقبال القبلة وتنازعوا في تولية القبر ظهره، وقت الدعاء. ويشبه - والله أعلم - أن يكون مالك رحمه الله سئل عن استقبال القبر عند السلام عليه، وهو يسمي ذلك دعاء، فإنه قد كان من فقهاء العراق من يرى أنه عند السلام عليه يستقبل القبلة أيضًا، ومالك يرى استقبال القبر في هذه الحال كما تقدم. ¬
وكما قال في رواية ابن وهب عنه: " إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة، ويدنو ويسلم ويدعو، ولا يمس القبر بيده (¬1) وقد تقدم قوله: إنه يصلي عليه ويدعو له ". ومعلوم أن الصلاة عليه والدعاء له يوجب شفاعته للعبد يوم القيامة، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول: ثم صلوا علي فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة (¬2) حلت عليه شفاعتي يوم القيامة» (¬3) . فقول مالك في هذه الحكاية - إن كان ثابتًا عنه - (¬4) معناه: إنك إذا استقبلته وصليت عليه وسلمت عليه، وسألت الله له الوسيلة، يشفع فيك يوم القيامة فإن الأمم يوم القيامة يتوسلون (¬5) بشفاعته واستشفاع العبد به في الدنيا هو (¬6) فعل ما يشفع به له يوم القيامة، كسؤال الله له الوسيلة ونحو ذلك. وكذلك ما نقل عنه من رواية ابن وهب: إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ودعا، يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة، ويدعو (¬7) ويسلم، يعني دعاءه للنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه. ¬
فهذا الدعاء هو المشروع هناك، كالدعاء عند زيارة قبور سائر المؤمنين، وهو الدعاء لهم، فإنه أحق الناس أن يُصلى عليه ويسلم عليه (¬1) ويُدعى له - بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم. وبها تتفق أقوال مالك، ويفرق بين الدعاء (¬2) الذي أحبه، والدعاء الذي كرهه وذكر أنه بدعة. وأما الحكاية في تلاوة مالك هذه الآية: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ} [النساء: 64] (¬3) الآية، فهي - والله أعلم - باطلة، فإن هذا لم يذكره أحد من الأئمة فيما أعلمه، ولم يذكر أحد منهم أنه استحب أن يسأل (¬4) بعد الموت لا استغفارا ولا غيره، وكلامه المنصوص عنه وعن أمثاله ينافي هذا، وإنما يعرف مثل هذا في حكاية ذكرها طائفة من متأخري الفقهاء، عن أعرابي أنه أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وتلا هذه الآية، وأنشد بيتين: يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهن القاع والأكم نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم (¬5) ولهذا استحب طائفة من متأخري الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد، مثل ذلك، واحتجوا بهذه الحكاية التي لا يثبت بها حكم شرعي، لا سيما في مثل هذا الأمر الذي لو كان مشروعا مندوبا؛ لكان الصحابة والتابعون أعلم به وأعمل به من غيرهم، بل قضاء حاجة مثل هذا الأعرابي وأمثاله لها أسباب ¬
قد بسطت في غير هذا الموضع (¬1) . وليس كل من قضيت حاجته بسبب يقتضي أن يكون السبب مشروعًا مأمورًا به، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل في حياته المسألة فيعطيها لا يرد سائلا، وتكون المسألة محرمة في حق السائل: حتى (¬2) قال «إني لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها نارا " قالوا يا رسول الله فلم تعطيهم؟ قال: " يأبون إلا أن يسألوني، ويأبى الله لي البخل» (¬3) . وقد يفعل الرجل العمل (¬4) الذي يعتقده صالحًا، ولا يكون عالمًا أنه (¬5) منهي عنه، فيثاب على حسن قصده، ويُعفى عنه لعدم علمه. وهذا باب واسع. وعامة العبادات المبتدعة المنهي عنها، قد يفعلها بعض الناس، ويحل له بها نوع من الفائدة، وذلك لا يدل على أنها مشروعة بل (¬6) لو لم تكن مفسدتها أغلب من مصلحتها لما نهي عنها. ثم الفاعل قد يكون متأولا، أو مخطئا مجتهدا أو مقلدا، فيغفر له خطؤه ويثاب على ما فعله من الخير المشروع المقرون بغير المشروع، كالمجتهد المخطئ، وقد بسط (¬7) هذا في غير هذا الموضع (¬8) . ¬
الاستسقاء بأهل الخير الأحياء إنما يكون بدعائهم
[الاستسقاء بأهل الخير الأحياء إنما يكون بدعائهم] والمقصود هنا أنه قد علم أن مالكًا من أعلم الناس بمثل هذه الأمور، فإنه مقيم بالمدينة، يرى ما يفعله التابعون وتابعوهم، ويسمع ما ينقلونه عن الصحابة وأكابر التابعين، وهو ينهى عن الوقوف عند القبر للدعاء، ويذكر أنه لم يفعله السلف. وقد أجدب الناس على عهد عمر (¬1) رضي الله عنه، فاستسقى بالعباس. ففي صحيح البخاري، عن أنس: " أن عمر استسقى بالعباس، وقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقِنا، فيُسقون (¬2) . فاستسقوا به كما كانوا يستسقون بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وهو أنهم يتوسلون بدعائه وشفاعته لهم، فيدعو لهم ويدعون معه كالإمام والمأمومين، من غير أن يكونوا يقسمون على الله بمخلوق، كما ليس لهم أن يقسم بعضهم على بعض بمخلوق، ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم توسلوا بدعاء العباس واستسقوا به. ولهذا (¬3) قال الفقهاء: يستحب الاستسقاء بأهل الخير والدين، والأفضل أن يكون من أهل (¬4) بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استسقى معاوية بيزيد بن الأسود الجرشي (¬5) وقال اللهم إنا (¬6) نستسقي بيزيد بن الأسود، يا يزيد ارفع (¬7) ¬
يدك فرفع (¬1) يديه ودعا، ودعا الناس حتى أمطروا (¬2) . ولم يذهب أحد من الصحابة إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره يستسقي (¬3) عنده ولا به، والعلماء استحبوا السلام على النبي صلى الله عليه وسلم؛ للحديث الذي في سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من رجل يسلم علي إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام» (¬4) هذا مع ما في النسائي وغيره، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله وكّل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام» (¬5) . وفي سنن أبي داود وغيره عنه، أنه قال «أكثروا من الصلاة علي ليلة الجمعة ويوم الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي "، فقالوا يا رسول الله، كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ -أي بليت -فقال: " إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء» (¬6) . فالصلاة عليه -بأبي هو وأمي- والسلام عليه مما أمر الله به ورسوله، وقد ثبت في الصحيح (¬7) أنه قال «من صلى علي مرة صلى الله عليه بها (¬8) عشرا» (¬9) . ¬
والمشروع لنا عند زيارة قبور (¬1) الأنبياء والصالحين وسائر المؤمنين، هو من جنس المشروع عند جنائزهم. فكما أن المقصود بالصلاة على الميت الدعاء له؛ (¬2) فالمقصود بزيارة قبره الدعاء له (¬3) كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح والسنن والمسند (¬4) " أنه كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور، أن يقول قائلهم: «السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. ويرحم الله المستقدمين منا (¬5) ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم» (¬6) . فهذا دعاء خاص للميت، كما في دعاء الصلاة على الجنازة الدعاء العام والخاص (¬7) «اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، إنك (¬8) تعلم متقلبنا ¬
ومثوانا» (¬1) أي (¬2) ثم يخص الميت بالدعاء. قال الله تعالى في حق المنافقين: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 84] (¬3) الآية. فلما نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عليهم والقيام على قبورهم - لأجل كفرهم - دل ذلك بطريق التعليل والمفهوم على أن المؤمن يصلى عليه ويقام على قبره. ولهذا في السنن: أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان إذا دفن الرجل من أصحابه يقوم على قبره، ثم يقول: " سلوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل» (¬4) . فأما أن (¬5) يقصد بالزيارة: سؤال الميت، أو الإقسام به على الله، أو استجابة الدعاء عند تلك البقعة، فهذا لم يكن من فعل أحد من سلف الأمة، لا الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، وإنما حدث ذلك بعد ذلك. بل قد كره مالك وغيره من العلماء أن يقول القائل: زرنا قبر النبي صلى الله عليه وسلم. ¬
وقال القاضي عياض: (كره مالك أن يقال: زرنا قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر عن بعضهم أنه علله بلعنه صلى الله عليه وسلم زوارات القبور، قال (¬1) وهذا يرده قوله (¬2) «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها» (¬3) . وعن بعضهم أن (¬4) الزائر أفضل من المزور، قال: وهذا مردود بما جاء من زيارة أهل الجنة لربهم (¬5) . قال: والأولى أن يقال في ذلك: إنه إنما كرهه مالك لإضافة الزيارة إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لو قال: زرنا النبي صلى الله عليه وسلم لم يكرهه، لقوله «اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (¬6) فحمى إضافة هذا اللفظ إلى القبر والتشبه بأولئك؛ قطعًا للذريعة وحسمًا للباب (¬7) كتاب (الشفا) للقاضي عياض (2 / 82، 83) ، وقد ذكره المؤلف مختصرا. . قلت (¬8) غلب في عرف كثير من الناس استعمال لفظ: (زرنا) في زيارة قبور الأنبياء والصالحين على (¬9) استعمال لفظ زيارة القبور في (¬10) الزيارة ¬
البدعية الشركية لا في الزيارة الشرعية، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث واحد في زيارة قبر مخصوص، ولا روى أحد في ذلك شيئًا، لا أهل الصحيح ولا السنن، ولا الأئمة المصنفون في المسند (¬1) كالإمام أحمد وغيره. وإنما روى ذلك من جمع الموضوع وغيره، وأَجَلُّ حديث روي في ذلك ما رواه الدارقطني، وهو ضعيف باتفاق أهل العلم بل الأحاديث المروية في زيارة قبره، كقوله: «من زارني وزار أبي إبراهيم الخليل في عام واحد ضمنت له على الله الجنة» (¬2) و «من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي» (¬3) و «من حج ولم يزرني فقد جفاني» (¬4) ونحو هذه الأحاديث، كلها مكذوبة موضوعة. لكن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في زيارة القبور مطلقا، بعد أن كان قد نهى عنها، كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها» (¬5) وفي الصحيح عنه أنه قال: «استأذنت ربي في أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة» (¬6) فهذه زيارة لأجل (¬7) تذكرة الآخرة، ولهذا يجوز زيارة قبر الكافر لأجل ذلك. ¬
وكان صلى الله عليه وسلم يخرج إلى البقيع فيسلم على موتى المسلمين ويدعو لهم، فهذه زيارة مختصة بالمسلمين، كما أن الصلاة على الجنازة تختص بالمؤمنين. وقد استفاض عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر ما فعلوا، قالت عائشة: " ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدًا " (¬1) . وفي الصحيح أنه ذكر له كنيسة بأرض الحبشة، وذكر من حسنها وتصاوير فيها، فقال: «أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح (¬2) بنوا على قبره مسجدا، وصوّروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة» وهذه في الصحيح (¬3) . وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس، وهو يقول «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ ابراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك» (¬4) . وفي السنن عنه أنه قال: «لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني» (¬5) وفي الموطأ وغيره عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (¬6) . ¬
وفي المسند، وصحيح أبي حاتم، عن ابن مسعود عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد» (¬1) . ومعنى هذه الأحاديث متواتر عنه صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وأمي - وكذلك عن أصحابه. فهذا الذي ينهى (¬2) عنه: من اتخاذ القبور مساجد، مفارق لما أمر به وشرعه من السلام على الموتى، والدعاء لهم، فالزيارة المشروعة من جنس الثاني (¬3) . والزيارة المبتدعة من جنس الأول (¬4) فإن نهيه عن اتخاذ القبور مساجد يتضمن النهي عن بناء المساجد عليها، وعن قصد الصلاة عندها، وكلاهما منهي عنه باتفاق العلماء، فإنهم قد نهوا عن بناء المساجد على القبور، بل صرحوا بتحريم ذلك، كما دل عليه النص. واتفقوا أيضا على أنه لا يشرع قصد الصلاة والدعاء عند القبور، ولم يقل أحد من أئمة المسلمين إن الصلاة عندها والدعاء عندها أفضل منه في المساجد الخالية عن القبور، بل (¬5) اتفق علماء المسلمين على أن الصلاة والدعاء في المساجد التي لم تبن على القبور، أفضل من الصلاة والدعاء في المساجد التي بنيت على القبور، بل الصلاة والدعاء في هذه منهي عنه مكروه باتفاقهم، وقد (¬6) ¬
صرح كثير منهم بتحريم ذلك بل (¬1) وبإبطال الصلاة فيها، وإن كان في هذا نزاع. والمقصود هنا: أن هذا ليس بواجب ولا مستحب، باتفاقهم، بل هو (¬2) مكروه باتفاقهم. والفقهاء قد ذكروا في تعليل كراهة الصلاة في المقبرة علتين: إحداهما: نجاسة التراب باختلاطه بصديد الموتى، وهذه علة من يفرق بين القديمة والحديثة، وهذه العلة في صحتها نزاع، لاختلاف العلماء في نجاسة تراب القبور، وهي من مسائل الاستحالة (¬3) وأكثر علماء المسلمين يقولون إن النجاسة تطهر بالاستحالة، وهو مذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر (¬4) وأحد القولين في مذهب مالك وأحمد. وقد ثبت في الصحيح: أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كان حائطًا لبني النجار، وكان (¬5) قبورًا من قبور المشركين، ونخلا وخربًا (¬6) فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنخيل فقطعت، وبالخرب فسويت، وبالقبور فنبشت (¬7) وجعل النخل في صف القبلة (¬8) . ¬
فلو كان (¬1) تراب قبور المشركين نجسا (¬2) ؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بنقل ذلك التراب، فإنه لا بد أن يختلط ذلك التراب بغيره، والعلة الثانية ما في ذلك من مشابهة الكفار بالصلاة عند القبور؛ لما يفضي إليه ذلك من الشرك وهذه العلة صحيحة باتفاقهم. والمعللون بالأولى، كالشافعي وغيره، عللوا بهذه أيضًا، وكرهوا ذلك لما فيه من الفتنة، وكذلك الأئمة: من أصحاب أحمد ومالك، كأبي بكر الأثرم صاحب أحمد، وغيره وعللوا بهذه الثانية أيضًا، وإن كان منهم من قد يعلل بالأولى. وقد قال تعالى {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] (¬3) ذكر ابن عباس وغيره من السلف: " أن هذه أسماء قوم صالحين، كانوا في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، وصوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم " قد ذكر هذا البخاري في صحيحه (¬4) وأهل التفسير: كابن جرير وغيره (¬5) وأصحاب قصص الأنبياء كوثيمة (¬6) وغيره. ويبين صحة هذه العلة أنه صلى الله عليه وسلم لعن من يتخذ قبور الأنبياء مساجد، ومعلوم ¬
أن قبور الأنبياء لا تنبش ولا يكون ترابها نجسا، وقد قال صلى الله عليه وسلم عن نفسه: «اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد» (¬1) . وقال: «لا تتخذوا قبري عيدا» (¬2) فعلم أن نهيه عن ذلك من جنس نهيه عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها؛ لأن الكفار يسجدون للشمس حينئذ، فسد الذريعة، وحسم المادة، بأن لا يصلى في هذه الساعة، وإن كان المصلي لا يصلي إلا لله، ولا يدعو إلا الله (¬3) . وكذلك نهى عن اتخاذ القبور مساجد، وإن كان المصلي عندها لا يصلي إلا لله، ولا يدعو إلا الله (¬4) ؛ لئلا يفضي ذلك إلى دعائها والصلاة لها (¬5) . وكلا الأمرين قد وقع، فإن من الناس من يسجد للشمس وغيرها من الكواكب ويدعو لها بأنواع (¬6) الأدعية والتسبيحات (¬7) ويلبس لها من اللباس والخواتم ما يظن مناسبته لها، ويتحرى الأوقات والأمكنة والأبخرة المناسبة لها في زعمه. وهذا من أعظم أسباب الشرك الذي ضل به كثير من الأولين والآخرين؛ حتى شاع ذلك في كثير ممن ينتسب إلى الإسلام، وصنف فيه بعض المشهورين كتابا سماه: " السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم " (¬8) على مذهب المشركين من الهند والصابئة، والمشركين من العرب وغيرهم، مثل طمطم (¬9) ¬
الهندي، وملكوشا (¬1) البابلي (¬2) وابن وحشية (¬3) وأبي معشر البلخي (¬4) وثابت بن قرة (¬5) وأمثالهم ممن دخل في هذا (¬6) الشرك، وآمن بالجبت والطاغوت، وهم ينتسبون إلى أهل (¬7) الكتاب. كما قال تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا - أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء: 51 - 52] (¬8) وقد قال غير واحد من السلف: " الجبت: السحر، والطاغوت: الأوثان "، وبعضهم قال: "الشيطان" وكلاهما حق (¬9) . هؤلاء يجمعون بين الجبت الذي هو السحر (¬10) والشرك الذي هو عبادة ¬
الطاغوت، كما يجمعون بين السحر ودعوة الكواكب، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام - بل ودين جميع الرسل - أنه شرك محرم، بل هذا من أعظم أنواع الشرك الذي بعثت الرسل بالنهي عنه، ومخاطبة إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم لقومه كانت في نحو هذا الشرك. وكذلك قوله تعالى {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ - فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ - فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ - فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ - إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ - وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ - وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ - وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 75 - 83] (¬1) . فإن إبراهيم عليه السلام سلك هذه السبيل لأن قومه كانوا يتخذون الكواكب أربابا، يدعونها ويسألونها، ولم يكونوا هم ولا أحد من العقلاء يعتقد (¬2) أن كوكبا من الكواكب خلق السماوات والأرض، وإنما كانوا يدعونها من دون الله على مذهب ¬
هؤلاء المشركين، ولهذا قال الخليل عليه السلام {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ - أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ - فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75 - 77] (¬1) وقال الخليل (¬2) {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ - إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 26 - 27] (¬3) . والخليل صلوات الله عليه، أنكر شركهم بالكواكب (¬4) العلوية، وشركهم (¬5) بالأوثان، التي هي تماثيل وطلاسم لتلك (¬6) أو هي أمثال (¬7) لمن مات من الأنبياء والصالحين وغيرهم، وكسر (¬8) الأصنام، كما قال تعالى عنه: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 58] (¬9) . والمقصود هنا: أن الشرك (¬10) وقع كثيرا، وكذلك الشرك بأهل القبور بمثل (¬11) دعائهم، والتضرع إليهم، والرغبة إليهم، ونحو ذلك. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن الصلاة التي تتضمن (¬12) الدعاء لله وحده خالصا عند القبور؛ لئلا يفضي ذلك إلى نوع من الشرك بربهم، فكيف إذا وجد ما هو نوع (¬13) الشرك من الرغبة إليهم، سواء طلب منهم قضاء الحاجات، وتفريج ¬
الكربات، أو طلب منهم أن يطلبوا ذلك من الله تعالى؟ بل لو أقسم على الله ببعض خلقه من الأنبياء والملائكة وغيرهم؛ لنهي عن ذلك ولو لم يكن عند قبره (¬1) كما لا يقسم بمخلوق مطلقا، وهذا القسم منهي عنه، غير منعقد (¬2) باتفاق الأئمة. وهل هو نهي تحريم أو تنزيه؟ على قولين: أصحهما: أنه نهي تحريم (¬3) . ولم يتنازع العلماء إلا في الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فإن فيه قولين في مذهب أحمد (¬4) وبعض أصحابه، كابن عقيل طرد الخلاف (¬5) في الحلف بسائر الأنبياء، لكن القول الذي عليه جمهور الأئمة، كمالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم: أنه لا ينعقد اليمين بمخلوق البته، ولا يقسم بمخلوق البته، وهذا هو الصواب (¬6) . والإقسام على الله بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم مبني على هذا الأصل، ففيه هذا النزاع، وقد نقل عن أحمد في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في (منسك المروزي) ما يناسب قوله بانعقاد اليمين به، لكن الصحيح أنه لا تنعقد اليمين به. فكذلك هذا (¬7) . وأما غيره: فما علمت بين الأئمة (¬8) فيه نزاعا بل قد صرح العلماء بالنهي ¬
عن ذلك، واتفقوا على أن الله يُسأل (¬1) ويقسم عليه بأسمائه وصفاته، كما يقسم على غيره بذلك، كالأدعية المعروفة في السنن: «اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، أنت الله المنان (¬2) بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام» (¬3) . وفي الحديث الآخر (¬4) " (¬5) «اللهم إني أسألك بأنك أنت (¬6) الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد» (¬7) وفي الحديث الآخر (¬8) «أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك» (¬9) فهذه الأدعية ¬
ونحوها مشروعة باتفاق العلماء. وأما إذا قال: " أسألك بمعاقد (¬1) العز من عرشك " فهذا فيه نزاع، رخص فيه غير واحد لمجيء الأثر به. ونقل عن أبي حنيفة كراهته. قال أبو الحسين (¬2) القدوري (¬3) في (شرح الكرخي) : قال بشر بن الوليد (¬4) سمعت أبا يوسف قال: قال أبو حنيفة رحمه الله: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بمعقد العز من عرشك، أو بحق خلقك (¬5) . قال أبو يوسف: بمعقد (¬6) العز من عرشه (¬7) هو الله، فلا أكره هذا، وأكره: بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت والمشعر الحرام، بهذا الحق يكره. قالوا جميعًا: فالمسألة بخلقه لا تجوز؛ لأنه لا حق للخلق على الخالق، فلا يجوز أن يسأل بما ليس مستحقا (¬8) ولكن معقد (¬9) العز من ¬
عرشك (¬1) هل هو سؤال بمخلوق أو خالق؟ فيه نزاع بينهم، فلذلك تنازعوا فيه، وأبو يوسف بلغه الأثر فيه: " أسألك بمعاقد (¬2) العز من عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك، وباسمك الأعظم وجدك الأعلى وكلماتك التامة " فجوزه لذلك. وقد نازع في هذا بعض الناس، وقالوا: في حديث أبي سعيد الذي رواه ابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء الذي يقوله الخارج إلى الصلاة: «اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا، ولا رياء، ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار، وأن تغفر لي» (¬3) . وقد قال تعالى {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1] (¬4) على قراءة حمزة وغيره ممن خفض (الأرحام) ، وقالوا: تفسيرها: أي يتساءلون به وبالأرحام، كما يقال: سألتك بالله وبالرحم. ومن زعم من النحاة أنه لا يجوز العطف على الضمير المجرور إلا باعادة الجار، فإنما قاله لما رأى غالب الكلام بإعادة الجار، وإلا فقد سمع من الكلام العربي - نثره ونظمه - العطف بدون ذلك كما حكى سيبويه: " ما فيها غيره وفرسه " (¬5) ولا ضرورة هنا، كما يدعى مثل ذلك ¬
في الشعر، ولأنه قد ثبت في الصحيح أن عمر قال: " اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا " فيسقون (¬1) . وفي النسائي والترمذي وغيرهما: حديث الأعمى الذي صححه الترمذي وغيرهما: " أنه جاء النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يدعو الله أن يرد بصره فأمره أن يتوضأ فيصلي (¬2) ركعتين ويقول: «اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، يا نبي الله إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضيها (¬3) اللهم فشفعه في» (¬4) فدعا الله، فرد الله (¬5) عليه بصره. والجواب عن هذا أن يقال: أولا: لا ريب أن الله جعل على نفسه حقا لعباده المؤمنين، كما قال تعالى {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] (¬6) وكما قال تعالى {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] (¬7) وفي الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم (¬8) قال لمعاذ بن جبل وهو رديفه: «يا معاذ، أتدري ما حق الله على عباده؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: " حقه عليهم أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئا. أتدري ما حق العباد على الله ¬
إذا فعلوا ذلك؟ " قلت: الله ورسوله أعلم. قال: " حقهم عليه أن لا يعذبهم» (¬1) فهذا حق وجب بكلماته التامة ووعده الصادق (¬2) . وقد اتفق العلماء على وجوب ما يجب بوعده الصادق، وتنازعوا: هل يوجب بنفسه على نفسه؟ على قولين. ومن جوز ذلك احتج بقوله سبحانه: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] وبقوله في الحديث (¬3) الصحيح: «إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما» (¬4) والكلام على هذا مبسوط في موضع آخر. وأما الإيجاب عليه سبحانه وتعالى، والتحريم بالقياس على خلقه، فهذا قول القدرية (¬5) وهو قول مبتدع مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول، وأهل السنة متفقون على أنه سبحانه خالق كل شيء (¬6) ومليكه، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن العباد لا يوجبون عليه شيئا، ولهذا كان من قال من أهل السنة بالوجوب، قال: إنه كتب على نفسه، وحرم على نفسه (¬7) لا أن العبد نفسه يستحق على الله شيئا، كما يكون (¬8) للمخلوق على المخلوق؛ ¬
فإن الله هو المنعم على العباد بكل خير فهو الخالق لهم وهو المرسل إليهم الرسل، وهو الميسر لهم الإيمان، والعمل الصالح. ومن توهم من القدرية والمعتزلة ونحوهم (¬1) أنهم يستحقون عليه من جنس ما يستحقه الأجير على من استأجره؛ فهو جاهل في ذلك. وإذا كان كذلك: لم تكن الوسيلة إليه إلا بما من به من فضله وإحسانه، والحق الذي لعباده هو من فضله وإحسانه، ليس من باب المعاوضة، ولا من باب (¬2) ما أوجبه غيره عليه فإنه سبحانه (¬3) يتعالى عن ذلك. وإذا سئل بما جعله سببا للمطلوب من (¬4) الأعمال الصالحة التي وعد أصحابها بكرامته، وأنه يجعل لهم مخرجا، ويرزقهم من حيث لا يحتسبون، فيستجيب دعاءهم، ومن أدعية عباده الصالحين، وشفاعة ذوي الوجاهة عنده، فهذا سؤال وتسبب بما جعله هو سببا. وأما إذا سئل بشيء ليس سببا للمطلوب: فإما أن يكون إقساما عليه به (¬5) فلا يقسم على الله بمخلوق، وإما أن يكون سؤالا بما لا يقتضي المطلوب فيكون عديم الفائدة، فالأنبياء والمؤمنون لهم حق على الله بوعده الصادق لهم، وبكلماته التامة، ورحمته لهم (¬6) أن يمنعهم، ولا يعذبهم، وهم وجهاء عنده، يقبل من شفاعتهم ودعائهم، ما لا يقبله من دعاء غيرهم. فإذا قال الداعي أسألك بحق فلان، وفلان لم يدع له، وهو لم يسأله باتباعه لذلك الشخص ومحبته وطاعته، ¬
التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة
بل بنفس ذاته، وما جعله له ربه من الكرامة، لم يكن قد سأله بسبب يوجب المطلوب. [التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة] وحينئذ فيقال: أما التوسل والتوجه إلى الله (¬1) وسؤاله بالأعمال الصالحة التي أمر بها، كدعاء الثلاثة الذين آووا إلى الغار بأعمالهم الصالحة، وبدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم (¬2) فهذا مما لا نزاع فيه، بل هذا من الوسيلة التي أمر الله بها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] (¬3) وقوله سبحانه {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57] (¬4) فإن ابتغاء الوسيلة إليه، هو: طلب من يتوسل به، أي يتوصل ويتقرب به إليه سبحانه، سواء كان على وجه العبادة والطاعة وامتثال الأمر، أو كان على وجه السؤال له، والاستعاذة به، رغبة إليه في جلب المنافع ودفع المضار. ولفظ الدعاء في القرآن يتناول هذا وهذا، الدعاء بمعنى العبادة، أو الدعاء بمعنى المسألة، وإن كان كل منهما يستلزم (¬5) الآخر، لكن العبد قد تنزل به النازلة فيكون مقصوده (¬6) طلب حاجته، وتفريج كرباته، فيسعى في ذلك بالسؤال والتضرع، وإن كان ذلك من العبادة والطاعة، ثم يكون في أول الأمر قصده حصول ذلك المطلوب: من الرزق والنصر والعافية مطلقا، ثم الدعاء والتضرع يفتح له من أبواب الإيمان بالله عز وجل ومعرفته ومحبته، والتنعم ¬
بذكره ودعائه، ما يكون هو أحب إليه وأعظم قدرا عنده من تلك الحاجة التي همته. وهذا من رحمة الله بعباده، يسوقهم (¬1) بالحاجات الدنيوية إلى المقاصد العلية الدينية. وقد يفعل العبد ما أمر به ابتداء لأجل العبادة لله، والطاعة له، ولما عنده من محبته والإنابة إليه، وخشيته، وامتثال أمره، وإن كان (¬2) ذلك يتضمن حصول الرزق والنصر والعافية، وقد قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] (¬3) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أهل السنن أبو داود وغيره: «الدعاء هو العبادة» ، ثم قرأ قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] (¬4) . وقد فسر هذا الحديث مع القرآن بكلا النوعين: " ادعوني " أي اعبدوني وأطيعوا أمري؛ أستجيب دعاءكم. وقيل: سلوني أعطكم، وكلا المعنيين (¬5) حق (¬6) . وفي الصحيحين في قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النزول: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له. حتى يطلع ¬
الفجر» (¬1) فذكر أولا: إجابته الدعاء، ثم ذكر: إعطاء السائل، والمغفرة للمستغفر، فهذا جلب المنفعة، وهذا دفع المضرة، وكلاهما مقصود الداعي المجاب. وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186] (¬2) . وقد روي: أن بعض الصحابة قال: يا رسول الله، ربنا قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله هذه الآية (¬3) فأخبر سبحانه أنه قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ثم أمرهم بالاستجابة له وبالإيمان به، كما قال بعضهم: فليستجيبوا لي إذا دعوتهم، وليؤمنوا بي (¬4) إني (¬5) أجيب دعوتهم. قالوا: وبهذين السببين تحصل إجابة الدعوة: بكمال الطاعة لألوهيته، وبصحة الإيمان بربوبيته، فمن استجاب لربه بامتثال أمره ونهيه؛ حصل مقصوده من الدعاء، وأجيب دعاؤه، كما قال تعالى {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الشورى: 26] (¬6) أي: يستجيب لهم، يقال: استجابه واستجاب له. فمن دعاه موقنا أن يجيب دعوة الداعي إذا دعاه أجابه، وقد يكون مشركا وفاسقا، فإنه سبحانه هو القائل: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس: 12] (¬7) وهو القائل سبحانه: ¬
{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67] (¬1) وهو القائل سبحانه {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 40 - 41] (¬2) . ولكن هؤلاء الذين يستجاب لهم لإقرارهم بربوبيته، وأنه يجيب دعاء المضطر، إذا لم يكونوا مخلصين له الدين، في عبادته، ولا مطيعين له ولرسوله، كان ما يعطيهم بدعائهم متاعا في الحياة الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق. وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا - وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا - كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 18 - 20] (¬3) . وقد دعا الخليل عليه الصلاة والسلام بالرزق لأهل الإيمان فقال: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 126] (¬4) . قال الله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 126] (¬5) فليس كل من متعه الله برزق ونصر، إما إجابة لدعائه، وإما بدون ذلك، يكون ممن يحبه الله ويواليه، بل هو سبحانه يرزق المؤمن والكافر، والبر والفاجر، وقد يجيب دعاءهم ويعطيهم سؤلهم في الدنيا، وما لهم في الآخرة من خلاق. وقد ذكروا أن بعض الكفار من (¬6) النصارى حاصروا مدينة للمسلمين فنفد ¬
ماؤهم العذب، فطلبوا من المسلمين أن يزودوهم بماء عذب ليرجعوا عنهم، فاشتور (¬1) ولاة أمر المسلمين، وقالوا: بل ندعهم حتى يضعفهم العطش فنأخذهم، فقام أولئك (¬2) فاستسقوا ودعوا الله فسقاهم، فاضطرب بعض العامة، فقال الملك لبعض العارفين: أدرك الناس فأمر بنصب منبر له وقال: اللهم إنا نعلم أن هؤلاء من الذين تكفلت بأرزاقهم كما قلت في كتابك: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] (¬3) وقد دعوك مضطرين، وأنت تجيب المضطر إذا دعاك، فأسقيتهم؛ لما تكفلت به من رزقهم، ولما دعوك مضطرين لا لأنك تحبهم، ولا تحب دينهم، والآن فنريد أن ترينا آية يثبت بها الإيمان في قلوب عبادك المؤمنين. فأرسل الله عليهم ريحا فأهلكتهم، أو نحو هذا (¬4) . ومن هذا الباب: من قد يدعو دعاء يعتدي (¬5) فيه، إما بطلب ما لا يصلح، أو بالدعاء الذي فيه معصية الله، شرك أو غيره، فإذا حصل بعض غرضه؛ ظن أن ذلك دليل على أن عمله صالح، بمنزلة من أُملي له، وأُمد بالمال والبنين، يظن أن ذلك مسارعة له في الخيرات. قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ - نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55 - 56] (¬6) وقال تعالى {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] (¬7) وقال تعالى {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178] (¬8) ¬
والإملاء: إطالة العمر، وما في ضمنه من رزق ونصر. وقال تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ - وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم: 44 - 45] (¬1) . وهذا باب واسع مبسوط في غير هذا الموضع: وقال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55] (¬2) والمقصود هنا (¬3) أن دعاء الله قد يكون دعاء عبادة لله، فيثاب (¬4) العبد عليه في الآخرة، مع ما يحصل له في الدنيا، وقد يكون دعاء مسألة تقضى به حاجته، ثم قد يثاب عليه إذا كان مما يحبه الله، وقد لا يحصل له إلا تلك الحاجة، وقد يكون سببا لضرر دينه، فيعاقب على ما ضيعه من حقوق الله سبحانه وتعداه من حدوده، فالوسيلة التي أمر الله بابتغائها إليه تعم الوسيلة في عبادته وفي مسألته، فالتوسل إليه بالأعمال الصالحة التي أمر بها، وبدعاء (¬5) الأنبياء والصالحين وشفاعتهم، ليس هو من باب الإقسام عليه بمخلوقاته. ومن هذا (¬6) الباب: استشفاع الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، فإنهم يطلبون منه أن يشفع لهم إلى الله، كما كانوا في الدنيا يطلبون منه أن يدعو لهم، في الاستسقاء وغيره. وقول عمر رضي الله عنه: " إنا كنا إذا أجدبنا (¬7) توسلنا إليك ¬
بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل (¬1) إليك بعم نبينا " (¬2) معناه: نتوسل إليك بدعائه وشفاعته، وسؤاله ونحن نتوسل إليك بدعاء عمه وسؤاله وشفاعته، ليس المراد به أنا نقسم عليك به أو ما يجري هذا المجرى مما يفعله (¬3) بعد موته وفي مغيبه، كما يقول بعض الناس: أسألك بجاه فلان عندك (¬4) (¬5) ويقولون: إنا (¬6) نتوسل إلى الله بأنبيائه وأوليائه، ويروون حديثا موضوعا: «إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي، فإن جاهي عند الله عريض» (¬7) . فإنه لو كان هذا هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه، كما ذكر عمر رضي الله عنه؛ لفعلوا ذلك به بعد موته، ولم يعدلوا عنه إلى العباس مع علمهم بأن السؤال به والإقسام به (¬8) أعظم من العباس، فعلم أن ذلك التوسل الذي ذكروه هو مما يفعله الأحياء دون الأموات، وهو التوسل بدعائهم وشفاعتهم، فإن الحي يطلب منه ذلك، والميت لا يطلب منه شيء، لا دعاء، ولا غيره. وكذلك حديث الأعمى، فإنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له ليرد الله عليه بصره، فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء أمره فيه أن يسأل الله قبول شفاعة نبيه فيه، فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع فيه، وأمره أن يسأل الله قبول الشفاعة، وأن قوله: ¬
" أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد (¬1) نبي الرحمة " أي: بدعائه وشفاعته، كما قال عمر: " كنا نتوسل إليك بنبينا " فلفظ التوسل والتوجه في الحديثين بمعنى واحد، ثم قال: " يا محمد، يا رسول الله، إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها، اللهم فشفعه في (¬2) فطلب (¬3) من الله أن يشفع فيه نبيه، وقوله: " يا محمد يا نبي الله " هذا وأمثاله نداء يطلب به استحضار المنادى في القلب، فيخاطب الشهود (¬4) بالقلب: كما يقول المصلي: " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته " والإنسان يفعل مثل هذا كثيرا، يخاطب من يتصوره في نفسه، وإن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب. فلفظ التوسل بالشخص، والتوجه به، والسؤال به، فيه إجمال واشتراك، غلط بسببه من لم يفهم مقصود الصحابة، يراد به التسبب به لكونه داعيا وشافعا مثلا، أو لكون الداعي مجيبا له، مطيعا لأمره، مقتديا به، فيكون التسبب: إما لمحبة السائل له واتباعه له، وإما بدعاء الوسيلة وشفاعته، ويراد به الإقسام به والتوسل بذاته، فلا يكون التوسل لا لشيء منه، ولا شيء من السائل (¬5) بل بذاته (¬6) أو بمجرد الإقسام به على الله. فهذا الثاني هو الذي كرهوه ونهوا عنه وكذلك لفظ السؤال بشيء (¬7) قد ¬
يراد به المعنى الأول، وهو التسبب به لكونه سببا في حصول المطلوب، وقد يراد به الإقسام. ومن الأول: حديث الثلاثة الذين أووا إلى الغار، وهو حديث مشهور في الصحيحين وغيرهما، فإن الصخرة انطبقت عليهم " فقالوا: ليدع كل رجل منكم بأفضل عمله، فقال أحدهم: اللهم إنه كانت لي ابنة عم فأحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء، وإنها طلبت مني مائة دينار، فلما أتيتها بها قالت: يا عبد الله، اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فتركت الذهب وانصرفت، فإن كنت إنما فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا، فانفرجت لهم فرجة رأوا منها السماء. وقال الآخر: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق (¬1) قبلهما أهلا ولا مالا (¬2) فناء بي (¬3) طلب الشجر يوما، فلم أرح (¬4) عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا (¬5) فلبثت والقدح على يدي، أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج (¬6) عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت الصخرة (¬7) غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها. ¬
وقال الثالث: اللهم إني (¬1) استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم، غير رجل واحد، ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره (¬2) حتى كثرت منه (¬3) الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله، أد لي أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك: من الإبل والبقر والغنم والرقيق. فقال يا عبد الله، لا تستهزئ بي، فقلت (¬4) أنا لا استهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه (¬5) فلم يترك منه شيئا، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون " (¬6) . فهؤلاء دعوا الله سبحانه بصالح الأعمال؛ لأن الأعمال الصالحة هي أعظم ما يتوسل به العبد إلى (¬7) الله تعالى، ويتوجه به إليه ويسأله به؛ لأنه وعد أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات، ويزيدهم من فضله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] (¬8) وهؤلاء دعوه بعبادته وفعل ما أمر به، من العمل الصالح، وسؤاله والتضرع إليه. ومن هذا: يذكر عن الفضيل بن عياض (¬9) أنه أصابه عسر البول فقال: ¬
بحبي (¬1) إياك إلا فرجت عني " ففرج عنه (¬2) . وكذلك دعاء المرأة المهاجرة التي أحيا الله ابنها لما قالت: " اللهم إني آمنت بك وبرسولك، وهاجرت في سبيلك " (¬3) وسألت الله أن يحيي ولدها. وأمثال ذلك. وهذا كما قال المؤمنون: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ - رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 193 - 194] (¬4) . فسؤال الله والتوسل إليه بامتثال أمره، واجتناب نهيه، وفعل ما يحبه، والعبودية والطاعة، هو من جنس فعل ذلك؛ رجاء لرحمة الله، وخوفا من عذابه، وسؤال الله بأسمائه وصفاته كقوله: «أسألك بأن لك الحمد أنت الله المنان بديع السماوات والأرض» ، و «بأنك أنت الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد» (¬5) ونحو ذلك يكون من باب التسبب، فإن كون المحمود المنان يقتضي منته على عباده، وإحسانه الذي يحمده عليه. وكونه (¬6) الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد يقتضي (¬7) توحده في صمديته (¬8) فيكون هو السيد المقصود، الذي يصمد الناس إليه في كل حوائجهم، المستغني عما سواه، وكل ما سواه مفتقرون إليه (¬9) لا غنى بهم عنه، وهذا سبب ¬
لقضاء المطلوبات (¬1) وقد يتضمن معنى ذلك: الإقسام عليه بأسمائه وصفاته. وأما قوله في حديث أبي سعيد: «أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا» (¬2) فهذا الحديث رواه عطية العوفي، وفيه ضعف. لكن بتقدير ثبوته: هو من هذا الباب، فإن حق السائلين عليه سبحانه، أن يجيبهم، وحق المطيعين له أن يثيبهم، فالسؤال له، والطاعة سبب لحصول إجابته وإثابته، فهو من التوسل به، والتوجه به، والتسبب به، ولو قدر أنه قسم لكان قسما بما هو من صفاته؛ لأن إجابته وإثابته من أفعاله وأقواله. فصار هذا كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» (¬3) والاستعاذة لا تصح بمخلوق، كما نص عليه الإمام أحمد وغيره من الأئمة، وذلك مما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق، ولأنه قد ثبت في الصحيح وغيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يقول «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق» (¬4) قالوا: والاستعاذة لا تكون بمخلوق، فأورد بعض الناس لفظ (المعافاة) فقال جمهور أهل السنة: المعافاة من الأفعال، وجمهور المسلمين من أهل السنة وغيرهم يقولون: إن أفعال الله قائمة به، وأن الخالق ليس هو المخلوق، وعلى هذا جمهور أصحاب أحمد (¬5) والشافعي ومالك، ¬
وهو قول أصحاب أبي حنيفة، وقول عامة (¬1) أهل الحديث، والصوفية، وطوائف من أهل الكلام والفلسفة. وبهذا يحصل الجواب عما أوردته المعتزلة ونحوهم من الجهمية (¬2) نقضا. فإن أهل الإثبات، من أهل الحديث وعامة المتكلمة الصفاتية: من الكلابية (¬3) والأشعرية (¬4) والكرامية (¬5) وغيرهم، استدلوا على أن كلام الله غير مخلوق، فإن ¬
الصفة إذا قامت بمحل؛ عاد حكمها على ذلك المحل لا على غيره، واتصف به ذلك المحل لا غيره، فإذا خلق الله لمحل علما أو قدرة أو حركة، أو نحو ذلك؛ كان هو العالم به (¬1) القادر به، المتحرك به، ولم يجز أن يقال: إن الرب المتحرك بتلك الحركة، ولا هو العالم القادر بالعلم والقدرة المخلوقين، بل بما قام به من العلم والقدرة. قالوا: فلو كان قد خلق كلاما في غيره، كالشجرة التي نادى منها (¬2) موسى؛ لكانت الشجرة هي المتصفة بذلك الكلام، فتكون الشجرة هي القائلة لموسى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ} [طه: 14] ولكان ما يخلقه الله من: إنطاق الجلود والأيدي وتسبيح الحصى وتأويب الجبال في (¬3) وغير ذلك، كلاما له كالقرآن والتوراة والإنجيل، بل كان كل كلام في الوجود كلامه؛ لأنه خالق كل شيء، وهذا قد التزمه مثل صاحب (الفصوص) (¬4) وأمثاله من هؤلاء الجهمية الحلولية الاتحادية (¬5) . ¬
فأوردت المعتزلة صفات الأفعال: كالعدل والإحسان، فإنه يقال: إنه عادل محسن بعدل خلقه في غيره، وإحسان خلقه في غيره، فأشكل ذلك على من يقول: ليس لله فعل قائم به، بل فعله هو المفعول المنفصل عنه، وليس خلقه إلا مخلوقه. وأما من طرد القاعدة وقال أيضا: إن الأفعال قائمة به، ولكن المفعولات المخلوقة هي المنفصلة عنه، وفرق بين الخلق والمخلوق، فاطرد دليله واستقام. والمقصود هنا (¬1) أن استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم بعفوه ومعافاته من عقوبته، - مع أنه لا يستعاذ بمخلوق - كسؤال الله بإجابته وإثابته، وإن كان لا يسأل بمخلوق. ومن قال من العلماء: لا يسأل إلا به، لا ينافي السؤال بصفاته، كما أن الحلف لا يشرع إلا بالله، كما ثبت في الحديث الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» (¬2) وفي لفظ للترمذي: «من حلف بغير الله فقد أشرك» قال الترمذي: " حديث حسن " (¬3) ومع هذا، فالحلف (¬4) بعزة الله، ولعمر الله، ونحو ذلك مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الحلف به، لم يدخل في الحلف بغير الله؛ لأن لفظ (الغير) قد يراد به المباين المنفصل، ولهذا لم يطلق السلف وسائر الأئمة على القرآن وسائر صفات الله، أنها غيره، ولم يطلقوا عليه أنها ليست غيره؛ لأن لفظ (¬5) (الغير) فيه إجمال، قد يراد ¬
به: (¬1) المباين المنفصل؛ فلا يكون صفة الموصوف أو بعضه داخلا في لفظ: الغير. وقد يراد به: ما يمكن تصوره، دون تصور ما هو غير له؛ فيكون غيرا بهذا الاصطلاح. ولهذا تنازع أهل النظر في مسمى: (الغير) والنزاع في ذلك لفظي، ولكن بسبب ذلك حصلت في مسائل الصفات من الشبهات ما لا ينجلي إلا بمعرفة ما وقع في الألفاظ من الاشتراك والإبهامات، كما قد بُسط في غير هذا الموضع (¬2) . ولهذا يفرق بين قول القائل: الصفات غير الذات، وبين قوله: صفات الله غير الله، فإن الثاني باطل؛ لأن مسمى اسم (الله) يدخل فيه صفاته، بخلاف مسمى (الذات) فإنه لا يدخل فيه الصفات، ولهذا لا يقال: صفات الله زائدة عليه سبحانه، وإن قيل: الصفات زائدة على الذات؛ لأن المراد أنها هي زائدة على ما أثبته المثبتون من الذات المجردة (¬3) والله تعالى هو الذات الموصوفة بصفاته اللازمة، فليس اسم الله متناولا لذات مجردة عن الصفات أصلا، ولا يمكن وجود ذلك، ولهذا قال أحمد رحمه الله في مناظرته للجهمية: لا نقول: الله وعلمه، والله وقدرته، والله ونوره، ولكن نقول: الله بعلمه وقدرته ونوره: هو إله واحد (¬4) . وقد بُسط هذا في غير هذا الموضع. وأما قول الناس: أسألك بالله وبالرحم، وقراءة من قرأ: (تساءلون به والأرحام) (¬5) فهو من باب التسبب بها، فإن الرحم ¬
توجب الصلة، وتقتضي أن يصل الإنسان قرابته، فسؤال السائل بالرحم لغيره، يتوسل إليه بما يوجب صلته: من القرابة التي بينهما، ليس هو من باب الإقسام، ولا من باب التوسل بما لا يقتضي المطلوب، بل هو توسل بما يقتضي المطلوب، كالتوسل (¬1) بدعاء الأنبياء، وبطاعتهم، والصلاة عليهم. ومن هذا الباب: ما يروى عن عبد الله بن جعفر أنه (¬2) قال: " كنت إذا سألت عليا رضي الله عنه شيئا فلم يعطنيه، قلت له: بحق جعفر إلا ما أعطيتنيه فيعطينيه " (¬3) أو كما قال. فإن بعض الناس ظن أن هذا من باب الإقسام عليه بجعفر، أو من باب قولهم: أسألك بحق أنبيائك، ونحو ذلك وليس كذلك، بل جعفر هو أخو علي، وعبد الله هو ابنه، وله عليه حق الصلة، فصلة عبد الله صلة لأبيه جعفر، كما في الحديث: «إن من أبر البر أن يصل الرجل (¬4) أهل ود أبيه بعد أن يولي» (¬5) وقوله: «إن من برهما بعد موتهما: الدعاء لهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة رحمك التي لا رحم لك إلا من قبلهما» (¬6) . ¬
ولو كان هذا من الباب الذي ظنوه؛ لكان سؤاله لعلي بحق النبي وإبراهيم الخليل ونحوهما، أولى من سؤاله بحق جعفر، فكان علي إلى تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته وإجابة السائل به أسرع منه إلى إجابة السائل بغيره. لكن بين المعنيين فرق، فإن السائل بالنبي، طالب به متسبب به، فإن لم يكن في ذلك السبب (¬1) ما يقتضي حصول مطلوبه، ولا كان يسأل ما به، لكان باطلا (¬2) . وإقسام الإنسان على غيره بشيء يكون من باب تعظيم المقسم (¬3) للمقسم به، وهذا هو الذي جاء به الحديث من الأمر بإبرار القسم، وفي مثل هذا قيل: «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره» ، (¬4) وقد يكون من باب تعظيم المسؤول به. فالأول يشبه ما ذكره الفقهاء في الحلف الذي يقصد به الحض والمنع، والثاني: سؤال للمسؤول بما عنده من محبة المسؤول به وتعظيمه ورعاية حقه. فإن كان (¬5) ذلك مما يقتضي حصول مقصود السائل، حَسُنَ السؤال، كسؤال الإنسان بالرحم وفي هذا سؤال الله بالأعمال الصالحة، وبدعاء أنبيائه وشفاعتهم. وأما بمجرد (¬6) الأنبياء والصالحين، ومحبة الله لهم وتعظيمه لهم، ورعايته لحقوقهم التي أنعم الله بها، فليس فيها ما يوجب حصول مقصود السائل إلا ¬
التوسل بالأنبياء والصالحين يكون بطاعتهم واتباعهم أو بدعائهم وشفاعتهم
بسبب بين السائل وبينهم، إما محبتهم وطاعتهم فيثاب على ذلك، وإما دعاؤهم له فيستجيب الله شفاعتهم فيه (¬1) . [التوسل بالأنبياء والصالحين يكون بطاعتهم واتباعهم أو بدعائهم وشفاعتهم] فالتوسل بالأنبياء والصالحين يكون بأمرين: إما بطاعتهم واتباعهم، وإما بدعائهم وشفاعتهم. فمجرد دعائه بهم من (¬2) غير طاعة منه لهم، ولا شفاعة منهم له، فلا ينفعه، وإن عظم جاه أحدهم عند الله تعالى. وقد بسطت هذه المسائل في غير هذا الموضع (¬3) . والمقصود هنا: أنه إذا كان السلف والأئمة قالوا في سؤاله بالمخلوق ما قد (¬4) ذكر، فكيف بسؤال المخلوق الميت؟ سواء سئل أن يسأل الله أو سئل قضاء الحاجة، ونحو ذلك، مما يفعله بعض الناس، إما عند قبر الميت، وإما مع غيبته، وصاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم حسم المادة وسد الذريعة، بلعنه من يتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، وأن لا يصلى عندها لله، ولا يسأل إلا الله، وحذر أمته ذلك. فكيف إذا وقع نفس المحذور من الشرك، وأسباب الشرك؟ وقد تقدم الكلام على الصلاة عند القبور، واتخاذها مساجد. وقد تبين أن أحدا من السلف لم يكن يفعل ذلك، إلا ما نقل عن ابن عمر " أنه كان يتحرى النزول في المواضع التي نزل فيها النبي صلى الله عليه وسلم والصلاة في المواضع التي صلى فيها، حتى إن «النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وصب فضل وضوئه في أصل شجرة» . ففعل ابن عمر ذلك " وهذا من ابن عمر تحر لمثل فعله، فإنه قصد أن يفعل مثل فعله، في نزوله وصلاته، وصبه للماء وغير ذلك، لم يقصد ابن عمر الصلاة والدعاء في المواضع التي نزلها. ¬
والكلام هنا في ثلاث مسائل: إحداها: أن التأسي (¬1) به في صورة الفعل الذي فعله، من غير أن يعلم قصده فيه، أو مع عدم السبب الذي فعله، فهذا فيه نزاع مشهور، وابن عمر مع طائفة يقولون بأحد القولين، وغيرهم يخالفهم (¬2) في ذلك، والغالب والمعروف عن المهاجرين والأنصار أنهم لم يكونوا يفعلون كفعل ابن عمر رضي الله عنهم وليس هذا مما نحن فيه الآن (¬3) . ومن هذا الباب: أنه لو تحرى رجل في سفره أن يصلي في مكان نزل فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وصلى فيه، إذا جاء وقت الصلاة؛ فهذا من هذا القبيل. المسألة الثانية: أن يتحرى تلك البقعة للصلاة عندها من غير أن يكون ذلك وقتا للصلاة، بل أراد أن (¬4) ينشئ الصلاة والدعاء لأجل البقعة، فهذا لم ينقل عن ابن عمر ولا غيره (¬5) وإن ادعى بعض الناس أن ابن عمر فعله، فقد ثبت عن أبيه عمر أنه نهى عن ذلك (¬6) وتواتر عن المهاجرين والأنصار: أنهم لم يكونوا يفعلون ذلك؛ فيمتنع أن يكون فعل ابن عمر - لو فعل ذلك - حجة على أبيه، وعلى المهاجرين والأنصار. والمسألة الثالثة: أن لا تكون تلك البقعة في طريقه، بل يعدل عن طريقه إليها، أو يسافر إليها سفرا قصيرا أو طويلا، مثل من يذهب إلى حراء ليصلي فيه ويدعو، أو يذهب إلى الطور الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام ليصلي فيه ويدعو، ¬
أو يسافر إلى غير هذه الأمكنة من الجبال وغير الجبال، التي يقال: فيها مقامات الأنبياء أو غيرهم، أو مشهد مبني على أثر نبي من الأنبياء، مثل ما كان مبنيا على نعله (¬1) ومثل ما في (¬2) جبل قاسيون، وجبل الفتح (¬3) وجبل طورزيتا (¬4) الذي ببيت المقدس، ونحو هذه البقاع. فهذا ما يعلم كل من كان عالما بحال رسول الله صلى الله عليه وسلم وحال أصحابه من بعده، أنهم لم يكونوا يقصدون شيئا من هذه الأمكنة، فإن جبل حراء الذي هو أطول جبل بمكة، كانت قريش تنتابه قبل الإسلام وتتعبد هناك، ولهذا قال أبو طالب في شعره: وراق ليرقى في حراء ونازل (¬5) ¬
وقد ثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي: الرؤيا الصادقة (¬1) فكان (¬2) لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يأتي غار حراء، فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد، ثم يرجع فيتزود لذلك، حتى فجأه الوحي، وهو بغار حراء، فأتاه الملك، فقال له: اقرأ، فقال: لست بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، ثم قال: اقرأ، فقال: لست بقارئ، قال: مرتين أو ثلاثا، ثم قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ - خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ - اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ - الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ - عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5] فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره» (¬3) الحديث بطوله. فتحنثه وتعبده بغار حراء كان قبل المبعث، ثم إنه لما أكرمه الله بنبوته ورسالته، وفرض على الخلق الإيمان به وطاعته واتباعه، وأقام بمكة بضع عشرة سنة هو ومن آمن به من المهاجرين الأولين الذين هم أفضل الخلق، ولم يذهب هو ولا أحد من أصحابه (¬4) إلى حراء. ثم هاجر إلى المدينة واعتمر أربع عمر: عمرة الحديبية التي صده فيها المشركون عن البيت - والحديبية عن يمينك وأنت قاصد مكة إذا مررت بالتنعيم، عند المساجد التي يقال: إنها مساجد عائشة، والجبل الذي عن (¬5) يمينك يقال له: جبل (¬6) التنعيم، ¬
والحديبية غربيه -. ثم إنه اعتمر من العام القابل عمرة القضية، ودخل مكة هو وكثير من أصحابه، وأقاموا بها ثلاثا. ثم لما فتح مكة وذهب إلى ناحية حنين والطائف شرقي مكة، فقاتل هوازن بوادي حنين، ثم حاصر أهل الطائف وقسم غنائم حنين بالجعرانة، فأتى بعمرة من الجعرانة إلى مكة. ثم إنه اعتمر عمرته الرابعة مع حجة الوداع، وحج معه جماهير المسلمين، لم يتخلف عن الحج معه إلا من شاء الله. وهو في ذلك كله، لا هو ولا أحد من أصحابه يأتي غار حراء، ولا يزوره، ولا شيئا من البقاع التي حول مكة، ولم يكن هناك عبادة إلا بالمسجد الحرام (¬1) وبين الصفا والمروة، وبمنى والمزدلفة (¬2) وعرفات، وصلى الظهر والعصر ببطن عرنة، وضربت له القبة يوم عرفة بنمرة، المجاورة لعرفة. ثم بعده خلفاؤه الراشدون، وغيرهم من السابقين الأولين، لم يكونوا يسيرون إلى غار حراء ونحوه للصلاة فيه والدعاء. وكذلك الغار المذكور في القرآن في قوله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40] (¬3) وهو غار بجبل ثور، يمان (¬4) مكة، لم يشرع لأمته السفر إليه وزيارته والصلاة فيه والدعاء، ولا بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة مسجدا، غير المسجد الحرام، بل تلك المساجد كلها محدثة، مسجد المولد وغيره، ولا شرع لأمته زيارة موضع المولد، ولا زيارة موضع بيعة العقبة الذي خلف منى، وقد بني هناك له مسجد. ¬
ومعلوم أنه لو كان هذا مشروعا مستحبا يثيب الله عليه؛ لكان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بذلك (¬1) ولكان يعلم أصحابه ذلك، وكان أصحابه أعلم بذلك وأرغب فيه ممن بعدهم، فلما لم يكونوا يلتفتون إلى شيء من ذلك؛ علم أنه من البدع المحدثة، التي لم يكونوا يعدونها عبادة وقربة وطاعة، فمن جعلها عبادة وقربة وطاعة فقد اتبع غير سبيلهم، وشرع من الدين ما لم يأذن به الله. وإذا كان حكم مقام نبينا صلى الله عليه وسلم في مثل غار حراء الذي ابتدي فيه بالإنباء (¬2) والإرسال، وأنزل عليه فيه القرآن، مع أنه (¬3) كان قبل الإسلام يتعبد فيه. وفي مثل الغار المذكور في القرآن الذي أنزل الله فيه سكينته عليه. فمن المعلوم أن مقامات غيره من الأنبياء أبعد عن أن يشرع قصدها والسفر إليها لصلاة أو دعاء أو نحو ذلك، إذا كانت صحيحة ثابتة. فكيف إذا علم أنها كذب، أو لم يعلم صحتها؟ وهذا كما أنه (¬4) قد ثبت باتفاق أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حج البيت لم يستلم من الأركان إلا الركنين اليمانيين، فلم يستلم الركنين الشاميين ولا غيرهما من جوانب البيت، ولا مقام إبراهيم ولا غيره من المشاعر، وأما التقبيل فلم يقبل إلا الحجر الأسود. وقد اختلف في الركن اليماني: فقيل: يقبله. وقيل: يستلمه ويقبل يده، وقيل: لا يقبله ولا يقبل يده. والأقوال الثلاثة مشهورة في مذهب أحمد وغيره. والصواب: أنه لا يقبله ولا يقبل يده، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل هذا ولا ¬
هذا، كما تنطق به الأحاديث الصحيحة، ثم هذه مسألة نزاع، وأما مسائل الإجماع فلا نزاع بين الأئمة الأربعة ونحوهم من أئمة العلم، أنه لا يقبل الركنين الشاميين، ولا شيئا من جوانب البيت، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستلم إلا الركنين اليمانيين، وعلى هذا عامة السلف، وقد روي: «أن ابن عباس ومعاوية طافا بالبيت، فاستلم معاوية الأركان الأربعة. فقال ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستلم إلا الركنين اليمانيين، فقال معاوية: ليس من البيت شيء متروك، فقال ابن عباس: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، فرجع إليه معاوية» (¬1) . وقد اتفق العلماء على ما مضت (¬2) به السنة، من أنه لا يشرع الاستلام والتقبيل لمقام إبراهيم الذي ذكره الله تعالى في القرآن، وقال: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] (¬3) . فإذا كان هذا بالسنة المتواترة وباتفاق الأئمة، لا يشرع (¬4) تقبيله بالفم، ولا مسحه باليد، فغيره من مقامات الأنبياء أولى أن لا يشرع تقبيلها بالفم، ولا مسحها باليد. ¬
وأيضا: فإن المكان الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه بالمدينة النبوية دائما، لم يكن أحد من السلف يستلمه ولا يقبله، ولا المواضع التي صلى فيها بمكة وغيرها. فإذا كان الموضع الذي كان يطؤه بقدميه الكريمتين، ويصلي عليه، لم يشرع لأمته التمسح به ولا تقبيله، فكيف بما يقال: إن غيره صلى فيه أو نام عليه؟ وإذا كان هذا ليس بمشروع في موضع قدميه للصلاة، فكيف بالنعل الذي هو موضع قدميه للمشي وغيره؟ هذا إذا كان النعل (¬1) صحيحا، فكيف بما لا يعلم صحته، أو بما (¬2) يعلم أنه مكذوب: كحجارة كثيرة يأخذها الكذابون وينحتون فيها موضع قدم، ويزعمون عند الجهال أن هذا الموضع قدم النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان هذا غير مشروع في موضع قدميه، وقدمي إبراهيم الخليل، الذي لا شك (¬3) فيه، ونحن مع هذا قد أمرنا أن نتخذه مصلى، فكيف بما يقال: إنه موضع قدميه، كذبا وافتراء عليه، كالموضع الذي بصخرة بيت المقدس، وغير ذلك من المقامات؟ فإن قيل: قد أمر الله أن نتخذ من مقام إبراهيم مصلى فيقاس عليه غيره. قيل له: هذا الحكم خاص بمقام إبراهيم الذي بمكة، سواء أريد به المقام عند الكعبة موضع قيام إبراهيم، أو أريد به المشاعر: عرفة ومزدلفة ومنى، فلا نزاع بين المسلمين أن المشاعر خصت من العبادات (¬4) بما لم يشركها فيه سائر البقاع، كما خص البيت بالطواف، فما خصت به تلك البقاع لا يقاس بها غيرها، وما لم يشرع فيها فأولى أن لا يشرع في غيرها، ونحن استدللنا على أن ما ¬
لم يشرع هناك من التقبيل والاستلام أولى أن لا يشرع في غيرها، ولا يلزم أن يشرع في غير تلك البقاع مثل ما شرع فيها. ومن ذلك القبة (¬1) التي عند باب (¬2) عرفات، التي يقال: إنها قبة (¬3) آدم، فإن هذه لا يشرع قصدها للصلاة والدعاء، باتفاق العلماء، بل نفس رقي الجبل الذي بعرفات الذي يقال له: جبل الرحمة، واسمه: إلال (¬4) على وزن هلال، ليس مشروعا باتفاقهم، وإنما السنة الوقوف بعرفات: إما عند الصخرات حيث وقف النبي صلى الله عليه وسلم، وإما بسائر عرفات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عرفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة» (¬5) . وكذلك سائر المساجد المبنية هناك، كالمساجد المبنية عند الجمرات، وبجنب مسجد الخيف مسجد يقال له: (غار المرسلات) فيه نزلت سورة ¬
المساجد التي تشد إليها الرحال
المرسلات، وفوق الجبل مسجد يقال له (مسجد الكبش) ونحو ذلك. لم يشرع النبي صلى الله عليه وسلم قصد شيء من هذه البقاع لصلاة ولا دعاء ولا غير ذلك. وأما تقبيل شيء من ذلك والتمسح به؛ فالأمر فيه أظهر إذ قد علم العلماء بالاضطرار من دين الإسلام: أن هذا ليس من شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر طائفة من المصنفين في المناسك استحباب زيارة مساجد مكة وما حولها، وكنت قد كتبتها في منسك كتبته قبل أن أحج في أول عمري، لبعض الشيوخ، جمعته من كلام العلماء، ثم تبين لنا أن هذا كله من البدع المحدثة التي لا أصل لها في الشريعة، وأن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، لم يفعلوا شيئا من ذلك، وأن أئمة العلم والهدى ينهون عن ذلك، وأن المسجد الحرام هو المسجد الذي (¬1) شرع لنا قصده للصلاة والدعاء والطواف، وغير ذلك من العبادات، ولم يشرع لنا قصد مسجد بعينه بمكة سواه، ولا يصلح أن يجعل هناك مسجد يزاحمه في شيء من الأحكام، وما يفعله الرجل في مسجد من تلك المساجد، من دعاء وصلاة وغير ذلك، إذا فعله في المسجد الحرام كان خيرا له؛ بل هذا سنة مشروعة، وأما قصد مسجد (¬2) غيره هناك تحريا لفضله، فبدعة غير مشروعة. [المساجد التي تشد إليها الرحال] وأصل هذا: أن المساجد التي تشد إليها الرحال، هي المساجد الثلاثة، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا» (¬3) وقد روي هذا من وجوه أخرى، وهو حديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق أهل العلم، فتُلُقِّي بالقبول عنه. ¬
فالسفر إلى هذه المساجد الثلاثة للصلاة فيها والدعاء والذكر والقراءة والاعتكاف، من الأعمال الصالحة. وما سوى هذه المساجد لا يشرع السفر إليه باتفاق أهل العلم، حتى مسجد قباء يستحب قصده من المكان القريب كالمدينة، ولا يشرع شد الرحال إليه، فإن في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد (¬1) قباء كل سبت ماشيا وراكبا» (¬2) وكان ابن عمر يفعله. وفي لفظ لمسلم: «فيصلي فيه ركعتين» (¬3) وذكره البخاري بغير إسناد (¬4) . وذلك أن الله تعالى نهاه عن القيام في مسجد الضرار فقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ - لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ - أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ - لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 107 - 110] (¬5) . ¬
وكان مسجد الضرار قد بني لأبي عامر الفاسق، الذي كان يقال له: أبو عامر الراهب، وكان قد تنصر في الجاهلية، وكان المشركون يعظمونه، فلما جاء الإسلام حصل له من الحسد ما أوجب مخالفته للنبي صلى الله عليه وسلم (¬1) فقام طائفة من المنافقين يبنون هذا المسجد، وقصدوا أن يبنوه لأبي عامر هذا، والقصة مشهورة في ذلك (¬2) فلم يبنوه لأجل فعل ما أمر الله به ورسوله، بل لغير ذلك. فدخل في معنى ذلك: من بنى أبنية يضاهي بها مساجد المسلمين لغير العبادات المشروعة، من المشاهد وغيرها، لا سيما إذا كان فيها من الضرار والكفر والتفريق بين المؤمنين، والإرصاد لأهل النفاق والبدع المحادين لله ورسوله، ما يقوى بها شبهها، كمسجد (¬3) الضرار، فلما قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة: 108] وكان مسجد قباء أسس على التقوى، ومسجده أعظم في تأسيسه على التقوى من مسجد قباء، كما ثبت في الصحيح عنه: أنه سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال: «مسجدي هذا» (¬4) فكلا المسجدين أسس على التقوى، ولكن اختص (¬5) مسجده بأنه أكمل في هذا الوصف من غيره، فكان يقوم في مسجده يوم الجمعة، ويأتي مسجد قباء (¬6) يوم السبت. ¬
وفي السنن عن أسيد بن ظهير (¬1) الأنصاري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصلاة في مسجد قباء كعمرة» رواه ابن ماجه، والترمذي وقال: " حديث حسن غريب " (¬2) . وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه (¬3) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء، فصلى فيه صلاة، كان له كأجر عمرة» رواه أحمد والنسائي وابن ماجه (¬4) . قال بعض العلماء: قوله: " من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء " تنبيه على أنه لا يشرع قصده بشد الرحال، بل إنما يأتيه الرجل من بيته الذي يصلح أن يتطهر (¬5) فيه، ثم يأتيه فيقصده (¬6) كما يقصد الرجل مسجد مصره دون المساجد التي يسافر إليها. ¬
وأما المساجد الثلاثة: فاتفق العلماء على استحباب إتيانها للصلاة ونحوها، ولكن لو نذر ذلك، هل يجب بالنذر؟ فيه قولان للعلماء: أحدهما (¬1) أنه لا يجب بالنذر إلا إتيان المسجد الحرام خاصة، وهذا أحد قولي الشافعي، وهو مذهب أبي حنيفة، وبناه على أصله في أنه لا يجب بالنذر إلا ما كان من جنسه واجب بالشرع. والقول الثاني: وهو مذهب مالك (¬2) وأحمد وغيرهما (¬3) أنه يجب إتيان المساجد الثلاثة بالنذر، لكن إن أتى الفاضل أغناه عن إتيان المفضول، فإذا نذر إتيان مسجد المدينة، ومسجد إيلياء؛ أغناه إتيان المسجد الحرام. وإن نذر إتيان مسجد إيلياء؛ أغناه إتيان أحد مسجدي الحرمين. وذلك أنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» (¬4) وهذا يعم كل طاعة، سواء كان جنسها واجبا، أو لم يكن (¬5) وإتيان الأفضل إجراء (¬6) للحديث الوارد في ذلك. وليس هذا موضع تفصيل هذه المسائل، بل المقصود: أنه لا يشرع السفر (¬7) إلى مسجد غير الثلاثة، ولو نذر ذلك؛ لم يجب عليه (¬8) فعله بالنذر باتفاق الأئمة. ¬
وهل عليه كفارة يمين؟ على قولين مشهورين. وليس بالمدينة مسجد يشرع إتيانه إلا مسجد قباء، وأما سائر المساجد فلها حكم المساجد (¬1) ولم يخصها النبي صلى الله عليه وسلم بإتيان، ولهذا كان الفقهاء من أهل المدينة لا يقصدون شيئا من تلك الأماكن، إلا قباء خاصة. وفي المسند عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا في مسجد الفتح ثلاثا: يوم الاثنين، ويوم الثلاثاء، ويوم الأربعاء، فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين، فعرف البشر في وجهه» . قال جابر: فلم ينزل بي أمر مهم غليظ، إلا توخيت تلك الساعة فأدعو فيها، فأعرف الإجابة " (¬2) وفي إسناد هذا الحديث: كثير بن زيد (¬3) وفيه كلام، يوثقه ابن معين تارة، ويضعفه أخرى. وهذا الحديث يعمل به طائفة من أصحابنا وغيرهم، فيتحرون الدعاء في هذا، كما نقل عن جابر. ولم ينقل عن جابر رضي الله عنه أنه تحرى الدعاء في المكان، بل تحرى الزمان، فإذا كان هذا في المساجد التي صلى فيها النبي (¬4) صلى الله عليه وسلم وبنيت بإذنه، ليس فيها ما يشرع قصده بخصوصه من غير سفر إليه، إلا مسجد قباء؛ فكيف بما سواها؟ ¬
فصل في المسجد الأقصى
[فصل في المسجد الأقصى] فصل (¬1) وأما المسجد الأقصى: فهو أحد المساجد الثلاثة، التي تشد إليها الرحال، وكان المسلمون لما فتحوا بيت المقدس على عهد عمر بن الخطاب - حين جاء عمر (¬2) إليهم، فسلم النصارى إليه البلد (¬3) - دخل إليه فوجد على الصخرة زبالة عظيمة جدا، كانت النصارى قد ألقتها عليها (¬4) معاندة لليهود الذين يعظمون الصخرة، ويصلون إليها، فأخذ عمر في ثوبه (¬5) منها، واتبعه المسلمون في ذلك. ويقال: إنه سخر لها الأنباط (¬6) حتى نظفها، ثم قال لكعب الأحبار (¬7) " أين ترى أن (¬8) أبني مصلى المسلمين؟ فقال: ابنه (¬9) خلف الصخرة، قال: ¬
يا ابن اليهودية، خالطتك يهودية -أو كما قال-: بل (¬1) أبنيه في صدر المسجد، فإن لنا صدور المساجد. فبنى مصلى المسلمين في قبلي المسجد " (¬2) . وهو الذي يسميه كثير من العامة اليوم: الأقصى. والأقصى: اسم للمسجد كله، ولا يسمى هو ولا غيره حرما، وإنما الحرم بمكة والمدينة خاصة. وفي وادي " وج " (¬3) -الذي بالطائف- نزاع بين العلماء. فبنى عمر المصلى الذي هو في القبلة، ويقال: إن تحته درجا كان يصعد منها إلى ما أمام (¬4) الأقصى، فبناه على الدرج حيث لم يصل أهل الكتاب، ولم يصل عمر ولا المسلمون عند الصخرة، ولا تمسحوا بها، ولا قبلوها، بل يقال: إن عمر صلى عند محراب داود عليه السلام الخارج. وقد ثبت أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: كان إذا أتى بيت المقدس دخل إليه، وصلى فيه، ولا يقرب الصخرة ولا يأتيها، ولا يقرب شيئا من تلك البقاع، وكذلك نقل عن غير واحد من السلف المعتبرين، كعمر بن عبد العزيز، والأوزاعي، وسفيان (¬5) الثوري، وغيرهم. وذلك أن سائر بقاع المسجد لا مزية لبعضها عن بعض، إلا ما بنى عمر رضي الله عنه لمصلى المسلمين. وإذا كان المسجد الحرام، ومسجد المدينة، اللذان هما أفضل من المسجد الأقصى بالإجماع، فأحدهما قد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ¬
«صلاة في مسجدي هذا خير من ألف (¬1) صلاة فيما، سواه إلا المسجد الحرام» (¬2) والآخر هو المسجد الذي أوجب الله حجه والطواف فيه، وجعله قبلة لعباده المؤمنين. ومع هذا، فليس فيهما يقبل بالفم ولا يستلم باليد، إلا ما جعله الله في الأرض بمنزلة اليمين وهو الحجر الأسود، فكيف يكون في المسجد الأقصى (¬3) ما يستلم أو يقبل؟ وكانت الصخرة مكشوفة، ولم يكن (¬4) أحد من الصحابة، لا ولاتهم (¬5) ولا علماؤهم يخصها (¬6) بعبادة، وكانت مكشوفة في خلافة عمر وعثمان رضي الله عنهما، مع حكمهما على الشام. وكذلك في خلافة علي رضي الله عنه، وإن كان لم يحكم عليها ثم كذلك في إمارة معاوية، وابنه، وابن ابنه. فلما كان في زمن عبد الملك وجرى بينه وبين ابن الزبير (¬7) من الفتنة ما جرى، كان هو الذي بنى القبة على الصخرة، وقد قيل: إن الناس كانوا يقصدون الحج فيجتمعون بابن الزبير، أو يقصدونه بحجة الحج، فعظم عبد الملك شأن الصخرة، بما بناه عليها من القبة، وجعل عليها من الكسوة في ¬
الشتاء والصيف، ليكثر قصد الناس للبيت (¬1) المقدس، فيشتغلوا بذلك عن قصد ابن الزبير، (والناس على دين الملك) . وظهر من ذلك الوقت من تعظيم الصخرة وبيت المقدس ما لم يكن المسلمون يعرفونه بمثل هذا، وجاء بعض الناس ينقل الإسرائيليات في تعظيمها، حتى روى بعضهم عن كعب الأحبار، عند عبد الملك بن مروان، وعروة بن الزبير حاضر: " إن الله قال للصخرة: أنت عرشي الأدنى "، فقال عروة: " يقول الله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255] (¬2) وأنت تقول: إن الصخرة عرشه؟ " (¬3) وأمثال هذا. ولا ريب أن الخلفاء الراشدين (¬4) لم يبنوا هذه القبة، ولا كان الصحابة يعظمون الصخرة، ولا يتحرون الصلاة عندها، حتى ابن عمر رضي الله عنهما مع كونه (¬5) كان يأتي من الحجاز إلى المسجد الأقصى، كان لا يأتي الصخرة؛ وذلك أنها كانت قبلة، ثم نسخت. وهي قبلة (¬6) اليهود، فلم يبق في شريعتنا ما يوجب تخصيصها بحكم، كما ليس في شريعتنا ما يوجب تخصيص يوم السبت. وفي تخصيصها بالتعظيم مشابهة لليهود، وقد تقدم كلام العلماء في يوم السبت وعاشوراء ونحو ذلك. وقد ذكر طائفة من متأخري الفقهاء، من أصحابنا وغيرهم: أن اليمين تغلظ ببيت المقدس، بالتحليف (¬7) عند الصخرة، كما تغلظ في المسجد الحرام، ¬
بالتحليف بين الركن (¬1) والمقام، وكما تغلظ في مسجده (¬2) صلى الله عليه وسلم بالتحليف عند قبره، ولكن ليس لهذا أصل في كلام أحمد ونحوه من الأئمة، بل السنة أن تغلظ اليمين فيها كما تغلظ في سائر المساجد عند المنبر، ولا تغلظ اليمين بالتحليف عند ما لم يشرع للمسلمين تعظيمه، كما لا تغلظ بالتحليف عند المشاهد ومقامات الأنبياء، ونحو ذلك. ومن فعل ذلك فهو مبتدع ضال، مخالف للشريعة. وقد صنف طائفة من الناس مصنفات من فضائل بيت المقدس، وغيره من البقاع التي بالشام، وذكروا فيها من الآثار المنقولة عن أهل الكتاب، وعمن أخذ عنهم ما لا يحل للمسلمين أن يبنوا عليه دينهم. وأمثل من ينقل عنه تلك الإسرائيليات: كعب الأحبار، وكان الشاميون قد أخذوا عنه كثيرا من الإسرائيليات، وقد قال معاوية رضي الله عنه: " ما رأينا من هؤلاء المحدثين عن أهل الكتاب أمثل من كعب، وإن كنا لنبلو عليه الكذب أحيانا " (¬3) . وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه، وإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه» (¬4) . ومن العجب أن هذه الشريعة المحفوظة المحروسة مع هذه الأمة ¬
المعصومة التي لا تجتمع (¬1) على ضلالة: إذا حدث بعض (¬2) أعيان التابعين عن النبي صلى الله عليه وسلم بحديث - كعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وأبي العالية، ونحوهم؛ وهم من خيار علماء المسلمين، وأكابر أئمة الدين -توقف أهل العلم في مراسيلهم، فمنهم من يرد المراسيل مطلقا، ومنهم من يتقبلها بشروط، ومنهم من يميز بين من عادته (¬3) لا يرسل إلا عن ثقة، كسعيد بن المسيب، وإبراهيم النخعي، ومحمد (¬4) بن سيرين، وبين من عرف عنه (¬5) أنه قد (¬6) يرسل عن غير ثقة: كأبي العالية، والحسن، وهؤلاء ليس بين أحدهم (¬7) وبين النبي صلى الله عليه وسلم إلا رجل أو رجلان، أو ثلاثة مثلا. وأما ما يوجد في كتب المسلمين في هذه الأوقات من الأحاديث التي يذكرها صاحب الكتاب مرسلة؛ فلا يجوز الحكم بصحتها باتفاق أهل العلم، إلا أن يعرف أن ذلك من نقل أهل العلم بالحديث، الذين لا يحدثون إلا بما صح (¬8) كالبخاري في المعلقات التي يجزم فيها بأنها صحيحة عنده، وما وقفه كقوله: وقد ذكر عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده " ونحو ذلك، فإنه حسن عنده. هذا، وليس تحت أديم السماء بعد القرآن كتاب أصح من البخاري. فكيف بما ينقله كعب الأحبار وأمثاله عن الأنبياء؟ وبين كعب، وبين ¬
النبي الذي ينقل عنه ألف سنة، وأكثر وأقل، وهو لم (¬1) يسند ذلك عن ثقة بعد ثقة، بل غايته أن ينقل عن (¬2) بعض الكتب التي كتبها شيوخ اليهود، وقد أخبر الله عن تبديلهم وتحريفهم، فكيف يحل للمسلم أن يصدق شيئا من ذلك، بمجرد هذا النقل؟ بل الواجب أن لا يصدق ذلك، ولا يكذبه أيضا (¬3) إلا بدليل يدل على كذبه، وهكذا أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم. وفي هذه الإسرائيليات مما هو كذب على الأنبياء، أو ما هو منسوخ في شريعتنا، ما لا يعلمه إلا الله. ومعلوم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من السابقين الأولين، والتابعين لهم بإحسان، قد فتحوا البلاد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وسكنوا بالشام والعراق ومصر، وغير هذه الأمصار، وهم كانوا أعلم بالدين، وأتبع له ممن بعدهم، فليس لأحد أن يخالفهم فيما كانوا عليه. فما كان من هذه البقاع لم يعظموه، أو لم يقصدوا تخصيصه بصلاة أو دعاء، أو نحو ذلك؛ لم يكن لنا أن نخالفهم في ذلك، وإن كان بعض من جاء بعدهم من أهل الفضل والدين فعل ذلك؛ لأن اتباع سبيلهم أولى من (¬4) اتباع سبيل من خالف سبيلهم، وما من أحد نقل عنه ما يخالف سبيلهم إلا وقد نقل عن غيره ممن هو أعلم وأفضل منه، أنه خالف سبيل هذا المخالف. وهذه جملة جامعة (¬5) لا يتسع هذا الموضع لتفصيلها. ¬
وقد ثبت في الصحيح: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى بيت المقدس ليلة الإسراء صلى فيه ركعتين» (¬1) ولم يصل بمكان غيره ولا زاره. وحديث المعراج فيه ما هو في الصحيح، وفيه ما هو في السنن والمسانيد، وفيه ما هو ضعيف، وفيه ما هو من الموضوعات المختلقات، مثل ما يرويه بعضهم فيه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له جبريل: هذا قبر أبيك إبراهيم، انزل فصل فيه، وهذا بيت لحم، مولد أخيك عيسى، انزل فصل فيه» . وأعجب من ذلك، أنه قد روي فيه: " قيل له في المدينة: انزل فصل هنا " (¬2) قبل أن يبني مسجده، وإنما كان المكان مقبرة للمشركين، والنبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة إنما نزل هناك لما بركت ناقته هناك. فهذا ونحوه من الكذب المختلق باتفاق أهل المعرفة، وبيت لحم كنيسة من كنائس النصارى ليس في إتيانها فضيلة عند المسلمين، سواء كان مولد عيسى أو لم يكن، بل قبر إبراهيم الخليل: لم يكن في الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان من يأتيه للصلاة عنده، ولا الدعاء ولا كانوا يقصدونه للزيارة أصلا. وقد قدم المسلمون إلى الشام غير مرة مع عمر بن الخطاب واستوطن الشام خلائق من الصحابة وليس فيهم من فعل شيئا من هذا ولم يبن المسلمون عليه مسجدا أصلا لكن لما استولى النصارى على هذه الأمكنة في أواخر المائة الرابعة، لما أخذوا (¬3) البيت (¬4) المقدس، بسبب استيلاء الرافضة على الشام، لما كانوا ملوك مصر، والرافضة أمة مخذولة، ليس لها عقل ¬
صحيح ولا نقل (¬1) صريح (¬2) ولا دين مقبول، ولا دنيا منصورة (¬3) قويت النصارى، وأخذت السواحل وغيرها من الرافضة؛ وحينئذ نقبت (¬4) النصارى حجرة الخليل صلوات الله عليه، وجعلت لها بابا، وأثر النقب ظاهر في الباب. فكان اتخاذ ذلك معبدا، مما أحدثته النصارى، ليس من عمل سلف الأمة وخيارها. ¬
فصل في عدم اختصاص بقعة بقصد العبادة إلا المساجد
[فصل في عدم اختصاص بقعة بقصد العبادة إلا المساجد] فصل وأصل دين المسلمين: أنه لا تختص بقعة بقصد (¬1) العبادة فيها إلا المساجد خاصة، وما عليه المشركون وأهل الكتاب، من تعظيم بقاع للعبادة غير المساجد -كما كانوا في الجاهلية يعظمون حراء، ونحوه من البقاع- فهو مما جاء الإسلام بمحوه وإزالته ونسخه. ثم المساجد جميعها تشترك في العبادات، فكل ما يفعل في مسجد يفعل في سائر المساجد، إلا ما خص به المسجد الحرام، من الطواف ونحوه، فإن خصائص المسجد الحرام لا يشاركه فيها شيء من المساجد، كما أنه لا يصلى إلى غيره. وأما مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى، فكل ما يشرع فيهما من العبادات، يشرع في سائر المساجد: كالصلاة والدعاء والذكر والقراءة والاعتكاف، ولا يشرع فيهما جنس (¬2) لا يشرع في غيرهما: (¬3) لا تقبيل شيء، ولا استلامه، ولا الطواف به (¬4) ونحو ذلك. لكنهما أفضل من غيرهما، فالصلاة فيهما تضاعف على الصلاة في غيرهما. ¬
أما مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت في الصحيح: أن الصلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وروي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في غيره من المساجد، إلا المسجد الحرام؛ فإني آخر الأنبياء، وإن مسجدي هذا آخر المساجد» (¬1) . وفي صحيح مسلم، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة في مسجدي هذا أفضل (¬2) من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» (¬3) . وفي مسلم أيضا، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال «إن امرأة اشتكت شكوى (¬4) فقالت: إن شفاني الله لأخرجن، فلأصلين في بيت المقدس، فبرأت، ثم تجهزت تريد الخروج، فجاءت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرتها ذلك (¬5) فقالت اجلسي، فكلي ما صنعت، وصلي في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا مسجد الكعبة» (¬6) . وفي المسند، عن ابن الزبير رضي الله تعالى عنهما قال: قال ¬
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل (¬1) من صلاة في مسجدي بمائة صلاة» (¬2) . قال أبو عبد الله (¬3) المقدسي: إسناده على رسم الصحيح. ولهذا جاءت الشريعة بالاعتكاف الشرعي في المساجد، بدل ما كان يفعل قبل الإسلام من المجاورة بغار حراء، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، حتى قبضه الله. والاعتكاف من العبادات المشروعة (¬4) بالمساجد باتفاق الأئمة، كما (¬5) قال تعالى {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] (¬6) أي: في حال عكوفكم في المساجد (¬7) لا تباشروهن، وإن كانت المباشرة خارج (¬8) المسجد. ولهذا قال الفقهاء: إن ركن الاعتكاف: لزوم المسجد لعبادة الله. ومحظوره الذي يبطله: مباشرة النساء. فأما العكوف والمجاورة عند شجرة أو حجر، تمثال أو غير تمثال، أو العكوف والمجاورة عند قبر نبي، أو غير نبي، أو مقام نبي، أو غير نبي، فليس هذا من دين المسلمين، بل هو من جنس دين المشركين، الذين أخبر الله عنهم بما ذكره في كتابه، حيث قال: ¬
{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ - إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ - قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ - قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ - قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ - قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ - وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ - فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 51 - 58] (¬1) الآيات. وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ - إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ - قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ - قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ - أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ - قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ - قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ - أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ - فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ - الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ - وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ - وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ - وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ - وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 69 - 82] (¬2) إلى آخر القصة. وقال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ - إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ - قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 138 - 140] (¬3) . فهذا عكوف المشركين، وذاك (¬4) عكوف المسلمين، فعكوف المؤمنين في المساجد لعبادة الله وحده لا شريك له، وعكوف المشركين على ما يرجونه، ¬
أقوال الناس في الشفاعة والقول الحق في ذلك
ويخافونه من دون الله، وما يتخذونهم شركاء وشفعاء (¬1) فإن المشركين لم يكن أحد منهم يقول: إن العالم له خالقان ولا إن الله له شريك (¬2) يساويه في صفاته، هذا لم يقله أحد من المشركين، بل كانوا يقرون بأن خالق السماوات والأرض واحد، كما أخبر الله عنهم بقوله {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] (¬3) وقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ - قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ - قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84 - 89] (¬4) . [أقوال الناس في الشفاعة والقول الحق في ذلك] وكانوا يقولون في تلبيتهم: " لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك " (¬5) فقال تعالى لهم: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [الروم: 28] (¬6) . وكانوا يتخذون آلهتهم وسائط تقربهم إلى الله زلفى، وتشفع لهم، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] (¬7) وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ - قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الزمر: 43 - 44] (¬8) . ¬
وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 18] (¬1) . وقال تعالى عن صاحب يس: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ - أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ - إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ - إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس: 22 - 25] (¬2) . وقال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 94] (¬3) . وقال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} [السجدة: 4] (¬4) . وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام: 51] (¬5) . وهذا الموضع افترق الناس فيه ثلاث فرق: طرفان، ووسط: فالمشركون ومن وافقهم من مبتدعة أهل الكتاب، كالنصارى، ومبتدعة هذه الأمة: أثبتوا الشفاعة التي نفاها (¬6) القرآن. والخوارج والمعتزلة: أنكروا شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر (¬7) من أمته، ¬
بل أنكر طائفة من أهل البدع انتفاع الإنسان بشفاعة غيره ودعائه، كما أنكروا انتفاعه بصدقة غيره وصيامه عنه. وأنكروا (¬1) الشفاعة بقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254] (¬2) وبقوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18] (¬3) ونحو ذلك. وأما سلف الأمة وأئمتها، ومن تبعهم من أهل السنة والجماعة، فأثبتوا ما جاءت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، من شفاعته لأهل الكبائر من أمته، وغير ذلك من أنواع شفاعاته، وشفاعة غيره من النبيين والملائكة. وقالوا: إنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد، وأقروا بما جاءت به السنة من انتفاع الإنسان بدعاء غيره وشفاعته، والصدقة عنه، بل والصوم عنه في أصح قولي العلماء، كما ثبتت (¬4) به (¬5) السنة الصحيحة الصريحة، وما كان في معنى الصوم. وقالوا: إن الشفيع يطلب من الله ويسأل، ولا تنفع الشفاعة عنده إلا بإذنه. قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] (¬6) (¬7) {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] (¬8) ¬
(¬1) {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26] (¬2) . وقد ثبت في الصحيح: أن سيد الشفعاء صلى الله عليه وسلم إذا طُلبت منه بعد أن تطلب (¬3) من آدم وأولي العزم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى؛ فيردونها إلى محمد صلى الله عليه وسلم، العبد الذي غفر الله (¬4) له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال «فأذهب إلى ربي، فإذا رأيته خررت له (¬5) ساجدا، فأحمد (¬6) ربي بمحامد يفتحها علي، لا أحسنها الآن، فيقول لي: أي محمد، ارفع رأسك، وقل (¬7) يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، قال: فأقول: رب أمتي أمتي (¬8) فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة» (¬9) . وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا - أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 56 - 57] (¬10) . ¬
قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون العزير والمسيح والملائكة، فأنزل الله هذه الآية، وقد أخبر فيها أن هؤلاء المسؤولين (¬1) يتقربون إلى الله، ويرجون رحمته، ويخافون عذابه. وقد ثبت في الصحيح أن أبا هريرة قال: «يا رسول الله، أي الناس أسعد بشفاعتك (¬2) يوم القيامة؟ قال: " يا أبا هريرة، لقد ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أولى منك؛ لما رأيته من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة: من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بها وجه الله» (¬3) . فكلما كان الرجل أتم (¬4) إخلاصا (¬5) لله؛ كان أحق بالشفاعة، وأما من علق قلبه بأحد من المخلوقين، يرجوه ويخافه؛ فهذا من أبعد الناس عن الشفاعة. فشفاعة المخلوق عند المخلوق تكون بإعانة الشافع للمشفوع له، بغير إذن المشفوع عنده، بل يشفع إما لحاجة المشفوع عنده إليه، وإما لخوفه منه، فيحتاج أن يقبل شفاعته. والله تعالى غني عن العالمين، وهو وحده سبحانه يدبر العالمين كلهم، فما من شفيع إلا من بعد إذنه، فهو الذي يأذن للشفيع في الشفاعة، وهو يقبل شفاعته، كما يلهم الداعي الدعاء، ثم يجيب دعاءه، فالأمر كله له. فإذا كان العبد يرجو شفيعا من المخلوقين، فقد لا يختار ذلك الشفيع أن يشفع له، وإن اختار فقد لا يأذن الله له في الشفاعة، ولا يقبل شفاعته. ¬
وأفضل الخلق: محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إبراهيم صلى الله عليه وسلم (¬1) . وقد امتنع (¬2) النبي صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لعمه أبي طالب، بعد أن قال: «لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» (¬3) وقد صلى على المنافقين ودعا لهم، فقيل له: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] (¬4) وقيل له أولا: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] (¬5) . فقال: «لو أعلم أني لو زدت على السبعين يغفر لهم لزدت» (¬6) فأنزل الله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون: 6] (¬7) . وإبراهيم (¬8) وقال تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ - إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ - يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [هود: 74 - 76] (¬9) . ولما استغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه (¬10) بعد وعده بقوله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41] (¬11) . ¬
قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4] (¬1) . وقال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ - وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 113 - 114] (¬2) . والله سبحانه له حقوق (¬3) لا يشركه فيها غيره، وللرسل حقوق لا يشركهم فيها غيرهم، وللمؤمنين بعضهم على بعض (¬4) حقوق مشتركة؛ ففي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت ردف (¬5) النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي: «يا معاذ، أتدري ما حق الله على عباده (¬6) .؟ ". قلت: الله ورسوله أعلم، قال: " حقه عليهم: أن يعبدوه (¬7) لا يشركوا به شيئا. يا معاذ، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ ". قلت: الله ورسوله أعلم، قال: " حقهم عليه أن لا يعذبهم» (¬8) . ¬
أصل التوحيد الذي بعثت به الرسل وأنزلت به الكتب
[أصل التوحيد الذي بعثت به الرسل وأنزلت به الكتب] فالله تعالى مستحق أن نعبده لا نشرك به شيئا، وهذا هو أصل التوحيد الذي بعثت به الرسل، وأنزلت به الكتب، قال الله تعالى {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45] (¬1) . وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] (¬2) وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] (¬3) . ويدخل في ذلك أن لا نخاف إلا إياه، ولا نتقي إلا إياه، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52] (¬4) . فجعل الطاعة لله وللرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده. وكذلك قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59] (¬5) . فجعل الإيتاء لله وللرسول. كما قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] (¬6) فالحلال ما حلله الرسول، والحرام: ما حرمه الرسول، والدين: ما شرعه الرسول. وجعل التحسب بالله وحده، فقال تعالى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} [التوبة: 59] ولم يقل ورسوله. كما قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] (¬7) . ¬
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] (¬1) أي حسبك وحسب من اتبعك: الله، فهو وحده كافيكم (¬2) ومن ظن أن معناها: حسبك الله والمؤمنون، فقد غلط غلطا عظيما من وجوه كثيرة مبسوطة في غير هذا الموضع (¬3) . ثم قال: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 59] (¬4) فجعل الفضل لله، وذكر الرسول في الإيتاء، لأنه لا يباح إلا ما أباحه الرسول، فليس لأحد أن يأخذ ما تيسر له إن لم يكن مباحا في الشريعة. ثم قال: {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59] (¬5) فجعل الرغبة إلى الله وحده، دون ما سواه؛ كما قال (¬6) {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ - وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7 - 8] (¬7) فأمر بالرغبة إليه. ولم يأمر الله قط مخلوقا أن يسأل مخلوقا، وإن كان قد أباح في موضع من المواضع ذلك (¬8) لكنه لم يأمر به، بل الأفضل للعبد أن لا يسأل قط إلا الله. كما ثبت في الصحيح في صفة الذين يدخلون الجنة بغير حساب: «هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون» (¬9) فجعل ¬
من صفاتهم أنهم لا يسترقون: أي لا يطلبون من غيرهم أن يرقيهم، ولم يقل: لا يرقون. وإن كان ذلك قد روي (¬1) في بعض طرق مسلم (¬2) فهو غلط، فإن النبي صلى الله عليه وسلم رقى نفسه وغيره، لكنه لم يسترق، فالمسترقي طالب للدعاء من غيره؛ بخلاف الراقي غيره، فإنه داع له. وقد قال صلى الله عليه وسلم لابن عباس: «إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله» (¬3) فهو الذي يتوكل عليه (¬4) ويُستعان به، ويُستغاث به ويُخاف ويُرجى، ويُعبد وتنيب القلوب إليه، لا حول ولا قوة إلا به، ولا ملجأ (¬5) منه إلا إليه، والقرآن كله يحقق هذا الأصل. والرسول صلى الله عليه وسلم يُطاع ويُحَبُّ ويرضى، ويسلم إليه حكمه، ويعزر، ويوقر، ويتبع، ويؤمن به وبما جاء به، قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] (¬6) . وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64] (¬7) . ¬
وقال تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] (¬1) . وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} [التوبة: 24] إلى قوله: (¬2) {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24] (¬3) . وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث من كن فيه (¬4) وجد (¬5) حلاة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار» (¬6) . وقال: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» (¬7) . «وقال له (¬8) عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، قال: " لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك ". قال: فلأنت (¬9) ¬
أحب إلي من نفسي، قال " الآن يا عمر» (¬1) . وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31] (¬2) وقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا - لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 8 - 9] (¬3) أي: الرسول خاصة {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح: 9] (¬4) أي: تسبحوا الله تعالى. فالإيمان بالله والرسول، والتعزير والتوقير للرسول، والتسبيح لله وحده. وهذا الأصل مبسوط في غير هذا الموضع. وقد بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بتحقيق (¬5) التوحيد وتجريده، ونفي الشرك بكل وجه، حتى في الألفاظ، كقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقولن أحدكم (¬6) ما شاء الله وشاء محمد، بل: ما شاء الله ثم شاء محمد» (¬7) «وقال له رجل: ما شاء الله وشئت، فقال: " أجعلتني لله (¬8) ندا؟ بل (¬9) ما شاء الله ¬
وحده» (¬1) . والعبادات التي شرعها الله كلها تتضمن إخلاص الدين كله لله، تحقيقا لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] (¬2) فالصلاة لله وحده، والصدقة لله (¬3) وحده، والصيام لله وحده، والحج لله وحده، وإلى بيت الله وحده؛ فالمقصود من الحج: عبادة الله وحده في البقاع التي أمر الله بعبادته فيها، ولهذا كان الحج شعار الحنيفية، حتى قال طائفة من السلف: " حنفاء لله، أي حجاجا " (¬4) فإن اليهود والنصارى لا يحجون البيت. قال طائفة من السلف: لما أنزل الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] (¬5) . قالت اليهود والنصارى: نحن مسلمون، فأنزل الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] (¬6) . فقالوا: لا نحج؟ فقال تعالى {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] (¬7) وقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا} [آل عمران: 85] (¬8) عام في الأولين والآخرين، فإن دين الإسلام هو دين الله الذي عليه أنبياؤه، وعباده المؤمنون، كما ذكر الله ذلك في ¬
كتابه من أول رسول بعثه (¬1) إلى أهل الأرض: نوح، وإبراهيم، وإسرائيل، وموسى، وسليمان، وغيرهم من الأنبياء والمؤمنين. قال الله تعالى في حق نوح: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ - فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 71 - 72] (¬2) . وقال تعالى في إبراهيم وإسرائيل: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ - إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 130 - 131] (¬3) . وقال تعالى عن يوسف: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101] (¬4) . وقال تعالى عن موسى وقومه: {وَقَالَ مُوسَى (¬5) يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 84] (¬6) . وقال في أنبياء بني إسرائيل: ¬
{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [المائدة: 44] (¬1) . وقال تعالى عن بلقيس: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44] (¬2) . وقال تعالى عن أمة عيسى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111] (¬3) . وقال تعالى: (¬4) {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 53] (¬5) . وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125] (¬6) . وقال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 111 - 112] (¬7) . وقد فسر إسلام الوجه لله بما يتضمن (¬8) إخلاص قصده (¬9) لله، وهو ¬
محسن بالعمل الصالح (¬1) المأمور به (¬2) وهذان الأصلان جماع الدين: أن لا نعبد (¬3) إلا الله، وأن نعبده بما شرع، لا نعبده بالبدع. وقال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] (¬4) . وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه (¬5) " اللهم اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه (¬6) شيئا " (¬7) . وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] (¬8) . قال: " أخلصه وأصوبه ". قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: " إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا، والخالص (¬9) أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنة " (¬10) . وهذان الأصلان هما تحقيق الشهادتين اللتين هما رأس الإسلام: شهادة ¬
أن لا إله إلا الله، وشهادة (¬1) أن محمدا رسول الله. فإن الشهادة لله بأنه لا إله إلا هو (¬2) تتضمن إخلاص الإلهية له، فلا يجوز أن يتأله القلب غيره، لا بحب ولا خوف ولا رجاء، ولا إجلال ولا إكرام (¬3) ولا رغبة ولا رهبة؛ بل لا بد أن يكون الدين كله لله، كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] (¬4) . فإذا كان بعض الدين لله، وبعضه لغير الله (¬5) كان في ذلك من الشرك بحسب ذلك. وكمال الدين كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره: «من أحب لله وأبغض لله، وأعطى لله ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان» (¬6) . فالمؤمنون يحبون لله، والمشركون يحبون مع الله، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] (¬7) . والشهادة بأن محمدا رسول الله، تتضمن: تصديقه في كل ما أخبر، ¬
وطاعته في كل ما أمر. فما (¬1) أثبته وجب إثباته، وما نفاه وجب نفيه، كما يجب على الخلق أن يثبتوا لله ما أثبته (¬2) من الأسماء والصفات، وينفوا عنه ما نفاه عنه من مماثلة المخلوقات، فيخلصوا من التعطيل والتمثيل، ويكونوا (¬3) في إثبات بلا تشبيه، وتنزيه بلا تعطيل. وعليهم أن يفعلوا ما أمر به وأن ينتهوا (¬4) عما نهى عنه، ويحللوا ما حلله، ويحرموا ما حرمه؛ فلا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا دين إلا ما شرعه الله ورسوله. ولهذا، ذم الله المشركين في سورة الأنعام والأعراف وغيرهما، لكونهم حرموا ما لم يحرمه الله، ولكونهم شرعوا دينا لم يأذن به الله، كما في قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} [الأنعام: 136] (¬5) إلى آخر السورة. وما ذكره في صدر سورة الأعراف، وكذلك قوله تعالى {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] (¬6) . وقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا - وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45 - 46] (¬7) فأخبره (¬8) أنه أرسله داعيا إليه بإذنه (¬9) فمن دعا إلى غير الله فقد أشرك، ومن دعا إليه بغير إذنه فقد ابتدع، والشرك بدعة، والمبتدع يؤول إلى الشرك، ولم يوجد مبتدع إلا وفيه نوع من الشرك، كما قال ¬
تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] (¬1) وكان من إشراكهم بهم: أنهم أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم (¬2) وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم. وقد قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] (¬3) فقرن بعدم إيمانهم بالله واليوم (¬4) الآخر: أنهم لا يحرمون ما حرمه الله (¬5) ورسوله، ولا يدينون دين الحق. والمؤمنون صدقوا الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما أخبر به (¬6) عن الله، وعن اليوم الآخر، فآمنوا بالله واليوم الآخر (¬7) وأطاعوه فيما أمر ونهى، وحلل وحرم، فحرموا ما حرم الله ورسوله، ودانوا دين الحق، فإن الله بعث الرسول يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، فأمرهم بكل معروف، ونهاهم عن كل منكر، وأحل لهم كل طيب، وحرم عليهم كل خبيث. ولفظ الإسلام: يتضمن الاستسلام والانقياد، ويتضمن الإخلاص، (¬8) من ¬
قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} [الزمر: 29] (¬1) . فلا بد في الإسلام من الاستسلام لله وحده، وترك الاستسلام لما سواه، وهذا حقيقة قولنا: " لا إله إلا الله (¬2) " فمن استسلم لله ولغيره فهو (¬3) مشرك، والله لا يغفر أن يشرك به، ومن لم يستسلم له فهو مستكبر عن عبادته، وقد قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] (¬4) . وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر، ولا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان ". فقيل له: يا رسول الله، الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا، ونعله حسنا، أفمن الكبر ذاك؟ فقال: " لا، إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق، وغمط الناس» (¬5) . بطر (¬6) الحق: جحده ودفعه، وغمط الناس: ازدراؤهم واحتقارهم. فاليهود موصوفون بالكبر، والنصارى موصوفون بالشرك، قال تعالى في نعت اليهود: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87] (¬7) . ¬
أصل دين الأنبياء واحد وإنما تنوعت الشرائع
وقال في نعت النصارى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] (¬1) . ولهذا قال الله تعالى في سياق خطاب (¬2) النصارى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] (¬3) . وقال تعالى في سياق تقريره للإسلام (¬4) وخطابه لأهل الكتاب: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] إلى قوله: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 140] (¬5) . [أصل دين الأنبياء واحد وإنما تنوعت الشرائع] ولما كان أصل الدين الذي (¬6) هو دين الإسلام واحدا، وإنما (¬7) تنوعت الشرائع؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد» (¬8) ¬
«الأنبياء إخوة لعلات» (¬1) «وأنا أولى الناس بابن مريم، فإنه ليس بيني وبينه نبي» (¬2) . فدينهم واحد، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وهو (¬3) يعبد في كل وقت بما أمر به (¬4) في ذلك الوقت، وذلك هو دين (¬5) الإسلام في ذلك الوقت. وتنوع الشرائع في الناسخ والمنسوخ من المشروع (¬6) كتنوع الشريعة الواحدة، فكما أن دين الإسلام الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم (¬7) هو دين واحد، مع أنه قد كان في وقت يجب استقبال بيت المقدس في الصلاة، كما أمر المسلمون بذلك بعد الهجرة ببضعة عشر شهرا، وبعد ذلك يجب استقبال الكعبة، ويحرم استقبال الصخرة (¬8) فالدين واحد وإن تنوعت القبلة في وقتين من أوقاته، فهكذا شرع الله تعالى لبني إسرائيل السبت، ثم نسخ ذلك وشرع الجمعة، فكان الاجتماع (¬9) يوم السبت واجبا إذ ذاك، ثم صار الواجب هو الاجتماع (¬10) يوم ¬
الجمعة، وحرم الاجتماع يوم (¬1) السبت. فمن خرج عن شريعة موسى قبل النسخ، لم يكن مسلما (¬2) ومن لم يدخل في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بعد النسخ لم يكن مسلما. ولم يشرع الله لنبي من الأنبياء أن يعبد غير الله البتة، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: 13] (¬3) . فأمر الرسل أن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ - وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 51 - 52] (¬4) . وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30] (¬5) {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ - مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 31 - 32] (¬6) . فأهل الإشراك متفرقون، وأهل الإخلاص متفقون، وقد قال تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ - إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118 - 119] (¬7) فأهل الرحمة متفقون مجتمعون، والمشركون فرقوا دينهم وكانوا شيعا. ¬
ولهذا تجد ما أحدث من الشرك والبدع، يفترق أهله؛ فكان لكل قوم من مشركي العرب طاغوت، يتخذونه ندا من دون الله، فيقربون له ويستشفعون به (¬1) ويشركون به. وهؤلاء ينفرون عن طاغوت هؤلاء، وهؤلاء (¬2) وهؤلاء ينفرون عن طاغوت هؤلاء، بل قد يكون لأهل هذا الطاغوت شريعة ليست للآخرين، كما كان أهل المدينة الذين يهلون (¬3) لمناة الثالثة الأخرى، ويتحرجون من الطواف بين الصفا والمروة، حتى أنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] (¬4) الآية. وهكذا تجد من يتخذ شيئا من نحو (¬5) الشرك، كالذين يتخذون القبور وآثار الأنبياء والصالحين مساجد، تجد كل قوم يقصدون بالدعاء والاستعانة والتوجه من لا تعظمه الطائفة الأخرى. بخلاف أهل التوحيد، فإنهم يعبدون الله لا يشركون به، في بيوته التي قد أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، مع أنه قد جعلت لهم الأرض مسجدا وطهورا. وإن (¬6) حصل بينهم تنازع (¬7) في شيء مما يسوغ فيه الاجتهاد، لم يوجب ذلك تفرقا ولا اختلافا، بل هم يعلمون أن المصيب منهم له أجران، وأن المجتهد المخطئ له أجر على اجتهاده، وخطؤه مغفور له. والله هو معبودهم (¬8) إياه يعبدون وعليه يتوكلون، وله يخشون ويرجون، ¬
وبه يستعينون ويستغيثون، وله يدعون ويسألون، فإن خرجوا إلى الصلاة في المساجد، كانوا مبتغين فضلا منه ورضوانا، كما قال تعالى في نعتهم: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29] (¬1) . وكذلك إذا سافروا إلى أحد (¬2) المساجد الثلاثة، لا سيما المسجد الحرام، الذي أمروا بالحج إليه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا (¬3) تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} [المائدة: 2] (¬4) فهم يؤمون (¬5) بيته ويبتغون فضلا من ربهم (¬6) ورضوانا، لا يرغبون إلى غيره، ولا يرجون سواه، ولا يخافون إلا إياه. وقد زين الشيطان لكثير من الناس سوء عملهم (¬7) واستزلهم عن إخلاص الدين لله (¬8) إلى أنواع من الشرك، فيقصدون بالسفر والزيارة: الرجاء (¬9) لغير الله، والرغبة إليه (¬10) ويشدون الرحال: إما إلى قبر نبي أو صاحب ¬
أو صالح، أو من يظن (¬1) أنه نبي، أو صاحب أو صالح، داعين (¬2) له راغبين إليه. ومنهم: من يظن أن المقصود من الحج هو هذا، فلا يستشعر إلا قصد المخلوق المقبور، ومنه من يرى أن ذلك أنفع له من حج البيت. ومن شيوخهم: من يحج، فإذا دخل المدينة، رجع وظن (¬3) أن هذا أبلغ. ومن جهالهم: من يتوهم أن زيارة القبور واجبة، ومنهم من (¬4) يسأل المقبور الميت، كما يسأل الحي الذي لا يموت! يقول يا سيدي فلان، اغفر لي وارحمني وتب علي. أو يقول: اقض عني الدين، وانصرني على فلان، وأنا في حسبك أو جوارك. وقد ينذرون أولادهم للمقبور، ويسيبون له (¬5) السوائب، من البقر (¬6) وغيرها، كما كان المشركون يسيبون السوائب لطواغيتهم، قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} [المائدة: 103] (¬7) وقال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136] (¬8) . ¬
ومن السدنة: من يضل الجهال، فيقول: أنا أذكر حاجتك (¬1) لصاحب الضريح، وهو يذكرها للنبي صلى الله عليه وسلم، والنبي يذكرها لله (¬2) . ومنهم: من يعلق على القبر المكذوب أو غير المكذوب، من الستور والثياب، ويضع عنده من مصوغ الذهب والفضة، ما قد أجمع المسلمون على أنه (¬3) ليس من دين الإسلام. هذا والمسجد الجامع معطل خراب صورة ومعنى! وما أكثر من يرى (¬4) من (¬5) هؤلاء: أن صلاته عند هذا القبر المضاف إلى بعض المعظمين - مع أنه كذب في نفس الأمر - أعظم من صلاته في المساجد بيوت الله (¬6) فيزدحمون (¬7) للصلاة في مواضع الإشراك المبتدعة، التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذها مساجد، وإن كانت على (¬8) قبور الأنبياء، ويهجرون الصلاة في البيوت التي أذن الله أن ترفع (¬9) ويذكر فيها اسمه، التي قال الله فيها: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18] (¬10) . ¬
غلط طوائف في مسمى التوحيد وبيان الحق في ذلك
[غلط طوائف في مسمى التوحيد وبيان الحق في ذلك] ومن أكابرهم: من (¬1) يقول: " (¬2) الكعبة في الصلاة قبلة العامة، والصلاة إلى قبر الشيخ فلان -مع استدبار الكعبة- قبلة الخاصة "! وهذا وأمثاله من الكفر (¬3) الصريح باتفاق علماء المسلمين، وهذه المسائل (¬4) التي تحتمل من البسط وذكر أقوال العلماء فيها ودلائلها أكثر مما كتبنا في هذا المختصر. وقد كتبنا في (¬5) ذلك في غير هذا الموضع، ما لا يتسع له هذا الموضع، وإنما نبهنا هنا (¬6) على رؤوس المسائل، وجنس الدلائل، والتنبيه على مقاصد الشريعة (¬7) وما فيها من إخلاص الدين لله، وعبادته وحده لا شريك له، وما سدته من الذريعة إلى الشرك، دقه وجله، فإن هذا هو أصل الدين، وحقيقة دين المرسلين (¬8) وتوحيد رب العالمين. وقد غلط في مسمى التوحيد طوائف من أهل النظر والكلام، ومن أهل الإرادة والعبادة، حتى قلبوا حقيقته (¬9) فطائفة: ظنت أن التوحيد هو نفي (¬10) الصفات، بل نفي الأسماء الحسنى أيضا، وسموا أنفسهم: أهل التوحيد (¬11) ¬
وأثبتوا ذاتا مجردة عن الصفات، ووجودا مطلقا بشرط الإطلاق. وقد علم بصريح المعقول المطابق لصحيح المنقول: أن ذلك لا يكون إلا في الأذهان، لا في الأعيان. وزعموا أن إثبات الصفات يستلزم ما سموه (تركيبا) وظنوا أن العقل ينفيه، كما قد كشفنا أسرارهم وبينا فرط جهلهم، وما أضلهم من الألفاظ المجملة المشتركة في غير هذا الموضع (¬1) . وطائفة: ظنوا أن التوحيد ليس إلا الإقرار بتوحيد الربوبية، وأن الله خلق كل شيء، وهو الذي يسمونه توحيد الأفعال (¬2) . ومن أهل الكلام: من أطال نظره في تقرير هذا التوحيد (¬3) إما بدليل أن الاشتراك يوجب نقص (¬4) القدرة وفوات الكمال، وبأن استقلال كل من الفاعلين بالمفعول محال، وإما بغير ذلك من الدلائل، ويظن أنه بذلك قرر الوحدانية وأثبت أنه لا إله إلا هو، (¬5) وأن الإلهية هي: القدرة على الاختراع أو نحو ذلك، فإذا ثبت أنه لا يقدر على الاختراع إلا الله، وأنه لا شريك له في الخلق، كان هذا معنى قولنا: لا إله إلا الله، ولم يعلم أن مشركي العرب كانوا مقرين بهذا التوحيد، كما قال تعالى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [لقمان: 25] ¬
(¬1) وقال تعالى {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون: 84 - 85] (¬2) الآيات، وقال (¬3) تعالى {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] (¬4) . قال ابن عباس وغيره: " تسألهم: من خلق السماوات والأرض؟ فيقولون: الله، وهم مع ذلك (¬5) يعبدون غيره " (¬6) . وهذا التوحيد هو من التوحيد الواجب، لكن لا يحصل به (¬7) الواجب، ولا يخلص بمجرده عن الإشراك الذي هو أكبر الكبائر، الذي لا يغفره الله، بل لا بد أن يخلص لله الدين (¬8) فلا يعبد إلا إياه (¬9) فيكون دينه كله لله. والإله: هو المألوه الذي تألهه القلوب، وكونه يستحق الإلهية مستلزم لصفات الكمال، فلا يستحق أن يكون معبودا محبوبا لذاته إلا هو، وكل عمل لا يراد به وجهه فهو باطل، وعبادة غيره وحب (¬10) غيره يوجب الفساد، كما قال تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] (¬11) . وقد بسطنا (¬12) الكلام على هذا في غير هذا الموضع (¬13) ¬
وبينا أن هذه الآية ليس المقصود بها ما يقوله (¬1) من يقوله من أهل الكلام، من ذكر دليل التمانع (¬2) الدال على وحدانية الرب تعالى، فإن التمانع (¬3) يمنع وجود المفعول، لا يوجب فساده بعد وجوده، وذلك يذكر في الأسباب والبدايات التي تجري مجرى العلل الفاعلات، والثاني يذكر في الحكم والنهايات التي تذكر في العلل التي هي الغايات، كما في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] فقدم الغاية المقصودة على الوسيلة الموصلة، كما قد بسط في غير هذا الموضع (¬4) . ثم إن طائفة ممن تكلم في تحقيق التوحيد على طريق أهل التصوف، ظن أن توحيد الربوبية هو الغاية، والفناء فيه هو النهاية، وأنه إذا شهد ذلك سقط عنه استحسان الحسن واستقباح القبيح، فآل بهم الأمر إلى تعطيل الأمر والنهي، والوعد والوعيد، ولم يفرقوا بين مشيئته الشاملة لجميع المخلوقات، وبين محبته ورضاه المختص بالطاعات، وبين كلماته الكونيات التي لا يجاوزها بر ولا فاجر -لشمول القدر (¬5) لكل مخلوق- وكلماته الدينيات التي اختص (¬6) بموافقتها أنبياؤه وأولياؤه. فالعبد مع شهوده الربوبية العامة الشاملة للمؤمن والكافر، والبر والفاجر، عليه أن يشهد ألوهيته التي اختص بها عباده المؤمنين، الذين عبدوه وأطاعوا أمره، واتبعوا رسله. ¬
قال تعالى {أَمْ (¬1) نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28] (¬2) وقال تعالى {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21] (¬3) وقال تعالى {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ - مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35 - 36] (¬4) . ومن لم يفرق بين أولياء الله وأعدائه، وبين ما أمر به وأحبه (¬5) من الإيمان والأعمال الصالحة (¬6) وما (¬7) كرهه ونهى عنه وأبغضه: من الكفر والفسوق والعصيان مع شمول قدرته، ومشيئته، وخلقه لكل شيء، وإلا وقع في دين المشركين، الذين قالوا {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148] (¬8) . والقدر يؤمن به ولا يحتج به، بل العبد مأمور أن يرجع إلى القدر عند المصائب، ويستغفر الله عند الذنوب والمعايب (¬9) كما قال تعالى {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر: 55] (¬10) ولهذا حج آدم موسى عليهما السلام، لما لام موسى (¬11) آدم لأجل المصيبة التي حصلت لهم بأكله من الشجرة، فذكر ¬
له آدم: «أن هذا كان مكتوبا قبل أن أخلق. فحج آدمُ موسى» (¬1) كما قال تعالى {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22] (¬2) وقال تعالى {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] (¬3) قال بعض السلف: " هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله فيرضى (¬4) ويسلم " (¬5) . فهذا هو جهة (¬6) احتجاج آدم بالقدر، ومعاذ الله أن يحتج آدم - أو من هو دونه من المؤمنين- على المعاصي بالقدر، فإنه لو ساغ هذا لساغ أن يحتج إبليس ومن اتبعه من الجن والإنس بذلك، ويحتج به قوم نوح وعاد وثمود، وسائر أهل الكفر والفسوق والعصيان، ولم يعاقب (¬7) أحد، وهذا مما يعلم فساده بالاضطرار شرعا وعقلا. فإن (¬8) هذا القول لا يطرده أحد من العقلاء، فإن طرده يوجب (¬9) أن لا يلام أحد على شيء، ولا يعاقب عليه. وهذا المحتج بالقدر لو جنى عليه ¬
جان (¬1) لطالبه، فإن كان القدر حجة للجاني عليه، وإلا فليس حجة لا لهذا ولا لهذا. ولو كان الاحتجاج بالقدر مقبولا، لم يمكن للناس (¬2) أن يعيشوا، إذا كان لكل من اعتدى عليهم أن يحتج بذلك، فيقبلوا عذره ولا يعاقبوه، ولا يمكن اثنان (¬3) من أهل هذا القول أن يعيشا (¬4) إذ لكل منهما أن يقتل الآخر، ويفسد (¬5) جميع أموره، محتجا على ذلك بالقدر. ثم إن أولئك المبتدعين، الذين أدخلوا في التوحيد نفي الصفات، وهؤلاء الذين أخرجوا عنه (¬6) متابعة الأمر، إذا حققوا القولين؛ أفضى بهم الأمر إلى أن لا يفرقوا بين الخالق (¬7) والمخلوق، بل يقولون (¬8) بوحدة الوجود كما قاله أهل الإلحاد (¬9) القائلين بالوحدة والحلول والاتحاد (¬10) الذين يعظمون الأصنام وعابديها، وفرعون وهامان وقومهما، ويجعلون وجود خالق الأرض والسماوات هو وجود كل شيء من الموجودات (¬11) ويدعون التوحيد والتحقيق ¬
والعرفان، وهم من أعظم أهل الشرك والتلبيس (¬1) والبهتان. يقول عارفهم: السالك في أول أمره يفرق بين الطاعة والمعصية -أي نظرا إلى الأمر- ثم يرى طاعة بلا معصية- أي نظرا إلى القدر- ثم لا طاعة ولا معصية- أي نظرا إلى أن الوجود واحد -ولا يفرقون (¬2) بين الواحد بالعين والواحد بالنوع، فإن الموجودات مشتركة في مسمى الوجود. والوجود ينقسم إلى: قائم بنفسه. وقائم بغيره، وواجب بنفسه، وممكن بنفسه. كما أن الحيوانات مشتركة في مسمى الحيوان، والأناسي يشتركون في مسمى الإنسان، مع العلم الضروري بأنه ليس عين وجود هذا الإنسان هو عين وجود هذا الفرس، بل ولا عين هذا الحيوان وحيوانيته وإنسانيته هو عين هذا الحيوان وحيوانيته وإنسانيته، لكن بينهما قدر مشترك تشابها (¬3) فيه، قد يسمى كليا (¬4) ومطلقا وقدرا مشتركا، ونحو ذلك، وهذا لا يكون في الخارج عن الأذهان كليا عاما مطلقا، بل لا يوجد إلا معينا مشخصا، فكل موجود فله ما يخصه من حقيقته، مما (¬5) لا يشركه فيه غيره، بل ليس بين موجودين في الخارج شيء بعينه اشتركا فيه، ولكن تشابها؛ ففي هذا نظير ما في هذا، كما أن هذا نظير هذا، وكل منهما متميز (¬6) بذاته وصفاته عما سواه، فكيف الخالق سبحانه وتعالى؟ وهذا كله مبسوط في غير هذا الموضع البسط الذي يليق ¬
به (¬1) فإنه مقام زلت فيه أقدام، وضلت فيه أحلام، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. ومن أحكم الأصلين المتقدمين في الصفات، والخلق والأمر؛ فيميز (¬2) بين المأمور المحبوب (¬3) المرضي لله، وبين غيره، مع شمول القدر لهما، وأثبت للخالق سبحانه الصفات التي توجب مباينته للمخلوقات، وأنه ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، أثبت التوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، كما نبه على ذلك في سورتي الإخلاص {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فإن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] تعدل ثلث القرآن، إذ كان القرآن باعتبار معانيه ثلاث أثلاث: ثلث توحيد، وثلث قصص، وثلث أمر ونهي؛ لأن القرآن كلام الله. والكلام: إما إنشاء، وإما إخبار، والإخبار: إما عن الخالق، وإما عن المخلوق. والإنشاء: أمر ونهي وإباحة. فـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فيها ثلث التوحيد، الذي هو خبر عن الخالق، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «قل هو الله أحد (¬4) تعدل ثلث القرآن» (¬5) ¬
وعدل (¬1) الشيء -بالفتح- يكون: ما سواه، من غير جنسه، كما قال تعالى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] (¬2) وذلك يقتضي: أن له من الثواب ما يساوي الثلث في القدر، ولا يكون مثله في الصفة، كمن معه ألف دينار وآخر معه ما يعدلها من الفضة والنحاس وغيرهما. ولهذا يحتاج إلى سائر القرآن، ولا تغني عنه هذه السورة مطلقا، كما يحتاج من معه نوع من المال إلى سائر الأنواع، إذ كان العبد محتاجا إلى الأمر والنهي والقصص. وسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فيها التوحيد القولي العملي، الذي تدل عليه الأسماء والصفات، ولهذا قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ - اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1 - 2] وقد بسطنا الكلام عليها في غير هذا الموضع (¬3) . وسورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] فيها التوحيد القصدي العملي، كما قال تعالى {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ - لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 1 - 2] وبهذا (¬4) يتميز من يعبد الله ممن يعبد غيره وإن كان كلاهما (¬5) يقر بأن الله رب كل شيء (¬6) ويتميز ¬
عباد الله المخلصون الذين لم يعبدوا إلا إياه، ممن عبد غيره وأشرك به، أو نظر إلى القدر الشامل لكل شيء، فسوى بين المؤمنين والكفار، كما كان يفعل المشركون من العرب. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إنها براءة من الشرك» (¬1) . وسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فيها إثبات الذات، وما لها من الأسماء والصفات التي يتميز بها مثبتو الرب الخالق، الأحد الصمد، عن المعطلين له بالحقيقة، نفاة الأسماء والصفات، المضاهين لفرعون وأمثاله ممن أظهر التعطيل والجحود للإله المعبود، وإن كان في الباطن يقر به، كما قال تعالى {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] (¬2) وقال موسى {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء: 102] (¬3) . والله سبحانه بعث أنبياءه بإثبات مفصل، ونفي مجمل، فأثبتوا له الأسماء والصفات، ونفوا عنه مماثلة المخلوقات. ومن خالفهم من المعطلة المتفلسفة وغيرهم عكسوا القضية، فجاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل، يقولون ليس كذا، ليس كذا، ليس كذا (¬4) . فإذا أرادوا إثباته قالوا: وجود مطلق بشرط النفي، أو بشرط الإطلاق، (¬5) وهم ¬
يقرون في منطقهم اليوناني: أن المطلق بشرط الإطلاق لا يكون في الخارج، فليس في الخارج حيوان مطلق بشرط الإطلاق، ولا إنسان مطلق بشرط الإطلاق، ولا موجود مطلق بشرط الإطلاق، بخلاف المطلق لا بشرط الذي يطلق على هذا وهذا، وينقسم إلى هذا وهذا، فإن هذا يقال: إنه في الخارج لا يكون إلا معينا (¬1) مشخصا (¬2) أو يقولون إنه الوجود المشروط بنفي كل ثبوت عنه (¬3) فيكون مشاركا لسائر الموجودات في مسمى الوجود، متميزا عنها بالعدم. وكل موجود متميز بأمر ثبوتي، والوجود خير من العدم (¬4) فيكون أحقر الموجودات خيرا من هذا (¬5) الذي ظنوه وجودا واجبا، هذا إذا أمكن تحقيقه في الخارج، فكيف (¬6) وذلك ممتنع؛ لأن المتميز بين الموجودين لا يكون عدما محضا، بل لا يكون إلا وجودا؟ فهؤلاء الذين يدعون أنهم أفضل المتأخرين، من الفلاسفة المشائين (¬7) يقولون: في وجود واجب الوجود، ما يعلم بصريح المعقول الموافق لقوانينهم المنطقية: أنه قول بامتناع الوجود الواجب (¬8) وأنه جمع بين النقيضين، وهذا ¬
في غاية الجهل والضلال. وأما الرسل صلوات الله عليهم: فطريقتهم طريقة القرآن، قال سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ - وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182] (¬1) . والله تعالى يخبر في كتابه أنه: حي، قيوم، عليم، حكيم، غفور، رحيم، سميع، بصير، علي، عظيم، خلق (¬2) السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم استوى على العرش، وكلم موسى تكليما، وتجلى للجبل فجعله دكا، يرضى عن المؤمنين، ويغضب على الكافرين (¬3) إلى أمثال ذلك من الأسماء (¬4) والصفات. ويقول في النفي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] (¬5) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] (¬6) {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] (¬7) {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22] (¬8) فنفى بذلك أن تكون صفاته كصفات المخلوقين، وأنه ليس كمثله شيء، لا في نفسه المقدسة، المذكورة بأسمائه وصفاته، ولا في شيء من صفاته ولا أفعاله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا - تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 43 - 44] (¬9) . فالمؤمن يؤمن بالله، وما له من الأسماء الحسنى، ويدعوه بها، ويجتنب ¬
الإلحاد في أسمائه وآياته، قال تعالى {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف: 180] (¬1) وقال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [فصلت: 40] (¬2) وهو يدعو الله وحده، ويعبده وحده (¬3) لا يشرك بعبادة ربه أحدا، ويجتنب طريق المشركين الذين قال الله تعالى فيهم {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا - أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 56 - 57] (¬4) . وقال تعالى {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ - وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 22 - 23] (¬5) . وهذه جمل لها تفاصيل، ونكت تشير إلى خطب جليل. فليجتهد المؤمن في تحقيق العلم والإيمان، وليتخذ الله هاديا ونصيرا، وحاكما (¬6) ووليا، فإنه نعم المولى ونعم النصير، وكفى بربك هاديا ونصيرا. وإن أحب دعا (¬7) بالدعاء الذي رواه مسلم وأبو داود وغيرهما، عن عائشة -رضي الله عنها- «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام يصلي من الليل يقول: " اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق ¬
بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» (¬1) وذلك أن الله تعالى يقول: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة: 213] (¬2) أي: فاختلفوا، كما في سورة يونس (¬3) وقد قيل: إنها كذلك في حرف عبد الله (¬4) {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213] (¬5) ¬
الخاتمة
[الخاتمة] الخاتمة الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأصلي وأسلم على رسوله النبي الأمين، الذي تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك. وبعد: فقد انتهيت -بعون الله وتوفيقه- من تحقيق كتاب: "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم " لشيخ الإسلام الإمام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، وأنا مغتبط بما كسبته من فائدة كبيرة جنيتها من خلال قراءة الكتاب قراءة متأنية، ثم من خلال خدمتي له أثناء تخريج أحاديثه وآثاره، ودراسة موضوعاته، وترجمة أعلامه، وغير ذلك، مما ساقني لقراءة كتب السنة، والتفسير، والرجال، والتاريخ، والفقه، والسيرة، وغيرها، فضلا عن قراءة كتب المؤلف الأخرى. وقد حاولت خلال تحقيق الكتاب ودراسته: أن أخدم القارئ، وأن أخدم الكتاب، قدر استطاعتي، ومع هذا فإني أحس الآن أن هناك جوانب تركتها، وأخرى قصرت فيها، وهكذا عمل البشر لا يخلو من خلل، ومن نقص، إنما المطلوب التسديد والمقاربة، والاجتهاد وبذل الوسع، وهذا ما حاولته إن شاء الله.
ثم إن القارئ لا بد أن يحس بأن هناك جوانب نقص، ولا بد أن يجد أخطاء وقعت فيها، وأن يتمنى أشياء لو أني فعلتها، ولا بد أن يخالفني في بعض ما فعلته، أو قلته، أو توصلت إليه، وهذا راجع لاختلاف وجهات النظر بين الناس، ولأن عين الناقد بصيرة، ولأن من يستعرض العمل وينظر فيه، غير من يمارسه ويعايشه. فآمل من القارئ الكريم إذا وجد خطأ، أو لاحظ خللا أو نقصا، أو لديه ما يفيد ويخدم الكتاب والقراء، أن يرشدني إلى ذلك، ويزودني به؛ لأنه بذلك يخدم، ويشارك في الخير. وأخيرا فإن هذا الكتاب -كما أشرت في الدراسة- من الكتب القيمة التي تحمل العلاج الناجع لكثير من أمراض المسلمين الاعتقادية، والأخلاقية، والسلوكية، ولم يكن علاجا وقتيا لعصر مؤلفه فحسب، بل إنه يعالج الكثير من مشاكل المسلمين اليوم، وكأنه كتب لهذا العصر. فجزى الله مؤلفه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وأسأل الله التوفيق والمثوبة لي ولكل من أسهم في إخراج هذا الكتاب وخدمته، وأخص فضيلة شيخي صالح بن فوزان الفوزان، الذي أشرف على تحقيقه، وأسهم بملاحظاته وتوجيهاته، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه. [تم بحمد الله]
فهرس المراجع (1) المعاجم والموسوعات ونحوها: 1 - أطلس العالم: محمد سيد نصر وجماعة. طبعة جديدة عام 1982 - مكتبة بيروت. 2 - دليل القارئ إلى مواضع الحديث في صحيح البخاري: عبد الله بن محمد الغنيمان. الطبعة الأولى، طبعة الجامعة الإسلامية بالمدينة. 3 - الفهرست: محمد بن إسحاق النديم. طبعة دار المعرفة 1388هـ. 4 - القاموس المحيط: محمد بن يعقوب الفيروزآبادي. المؤسسة العربية للطباعة والنشر- لبنان. 5 - لسان العرب: محمد بن مكرم ابن منظور. طبعة دار صادر ودار بيروت- لبنان، 1388هـ. 6 - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد، الطبعة الأولى. 7 - مختار الصحاح: محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي. دار الكتاب العربي- لبنان 1967م. 8 - معجم البلدان: ياقوت بن عبد الله الحموي. طبعة دار صادر- بيروت.
9 - المعجم الفلسفي: جميل صليبا. الطبعة الأولى 1973م. 10 - المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي: جماعة من المستشرقين. طبعة مكتبة برلين. 11 - المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم: محمد فؤاد عبد الباقي. دار إحياء التراث العربي. 12 - المعجم الوسيط: جماعة من الباحثين: المكتبة العلمية بطهران، أصدره مجمع اللغة العربية بمصر. 13 - مفتاح كنوز السنة: محمد فؤاد عبد الباقي. سهيل كديمي - لاهور 1391هـ. 14 - المنجد في اللغة والأدب والعلوم: لويس معلوف. الطبعة الثامنة عشرة. 15 - الموسوعة العربية الميسرة: بإشراف محمد شفيق غربال. دار الشعب ومؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر. (2) كتب التفسير وعلومه: 16 - التبصرة في القراءات السبع: مكي بن أبي طالب. تعليق محمد غوث الندوي، الدار السلفية بالهند. 17 - تفسير القرآن العظيم: إسماعيل بن كثير الدمشقي. صححها نخبة من العلماء، طبع المكتبة الشعبية. 18 - تفسير مجاهد: مجاهد بن جبر المخزومي. تحقيق عبد الرحمن السورتي. طبعة خليفة بن حمد آل ثاني، مطابع الدوحة. 9 - تنوير المقباس من تفسير ابن عباس: جمع محمد بن يعقوب الفيروزآبادي. نشر المكتبة التجارية الكبرى، مطبعة الاشتقاق- القاهرة 1380هـ. 20 - الجامع لأحكام القرآن: محمد بن أحمد القرطبي. نشر دار الكتاب العربي. 21 - جامع البيان في تفسير القرآن: محمد بن جرير الطبري. صورة الطبعة الأولى 1323- بولاق، نشر دار المعرفة- لبنان.
22 - الدر المنثور في التفسير بالمأثور: جلال الدين السيوطي. نشر محمد أمين دمج - بيروت. 23 - فتح القدير: محمد بن علي الشوكاني. طبعة ثانية 1383هـ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي. (3) كتب الحديث وعلومه: 24 - الأذكار النووية: يحيى بن شرف النووي. تحقيق عبد القادر الأرناؤوط، طبعة الملاح بدمشق 1391هـ. 25- الاستذكار لمذاهب الفقهاء الأمصار: يوسف بن عبد البر. تحقيق علي النجدي ناصف، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بمصر، لجنة إحياء التراث الإسلامي. 26 - تدريب الراوي، شرح تقريب النواوي: عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي. تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، الطبعة الثانية 1399هـ، دار إحياء السنة النبوية. 27 - جامع الأصول في أحاديث الرسول: المبارك بن محمد بن الأثير الجزري. تحقيق عبد القادر الأرناؤوط، طبعة 1389هـ. 28 - الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير: عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي. الطبعة الأولى 1401هـ، دار الفكر. 29 - سلسلة الأحاديث الصحيحة: محمد ناصر الدين الألباني. الطبعة الثانية 1399هـ، المكتب الإسلامي. 30 - سنن ابن ماجه: محمد بن يزيد القزويني (ابن ماجه) . تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. دار إحياء التراث العربي 1395هـ.
32 - سنن أبي داود، وبهامشه (معالم السنن للخطابي) : سليمان بن الأشعث السجستاني (أبو داود) . إعداد وتعليق عزة عيد الدعاس، الطبعة الأولى 1388هـ. 33 - سنن الترمذي (الجامع الصحيح) : محمد بن عيسى بن سورة الترمذي. تحقيق أحمد محمد شاكر، ومحمد فؤاد عبد الباقي، وإبراهيم عطوة عوض. نشر المكتبة الإسلامية للحاج رياض الشيخ. 34 - سنن الدارمي: عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي. بعناية محمد أحمد دهمان. نشر دار إحياء السنة النبوية. 35 - السنن الكبرى، ومعه (الجوهر النقي) لابن التركماني: أحمد بن الحسين البيهقي. طبعة دار الفكر- بيروت. 36- سنن النسائي بشرح السيوطي، وحاشية السندي، أحمد بن شعيب النسائي. الطبعة الأولى 1348هـ، المطبعة المصرية. 37 - شرح السنة: الحسين بن مسعود الفراء البغوي. تحقيق شعيب الأرناؤوط، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى 1396هـ. 38 - شرح النووي على صحيح مسلم: يحيى بن شرف النووي. طبعة دار الفكر- بيروت. 39 - صحيح ابن خزيمة: محمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي. تحقيق د. محمد مصطفى الأعظمي، الطبعة الأولى 1399هـ، المكتب الإسلامي. 40 - صحيح مسلم: مسلم بن الحجاج القشيري. تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه. 41 - عون المعبود (شرح سنن أبي داود) : محمد شمس الحق العظيم آبادي. تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، الطبعة الثانية 1389هـ، المكتبة السلفية بالمدينة.
42 - فتح الباري بشرح صحيح البخاري (صحيح البخاري) : الشرح لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، والأصل لمحمد بن إسماعيل البخاري. نشر رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية. 43 - الفتح الرباني، معه بلوغ الأماني (في مسند أحمد) : أحمد بن عبد الرحمن البنا. الطبعة الثانية، دار إحياء التراث العربي. 44 - الفتوحات الربانية على الأذكار النووية: محمد بن علان الشافعي. المكتبة الإسلامية، الحاج رياض الشيخ. 45- فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إسماعيل بن إسحاق القاضي. تحقيق محمد ناصر الدين الألباني. الطبعة الأولى 1383هـ. 46 - الفوائد المجموعة: محمد بن علي الشوكاني. تحقيق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي، الطبعة الثانية 1392هـ. 47 - فيض القدير شرح الجامع الصغير: عبد الرؤوف المناوي. الطبعة الثانية، دار المعرفة- لبنان. 48 - كتاب السنة: عمرو بن أبي عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني. تخريج محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى 1400هـ، المكتب الإسلامي. 49 - كشف الخفا ومزيل الإلباس: إسماعيل بن محمد العجلوني. صححه أحمد القلاش، نشر مكتبة التراث الإسلامي- حلب، ودار التراث- القاهرة. 50 - كنز العمال في سنن الأقوال والأعمال: علي المتقي بن حسام الدين الهندي. نشر مكتبة التراث الإسلامي- حلب. 51 - اللآلئ المصنوعة: جلال الدين السيوطي - الطبعة الأولى، المكتبة الحسينية المصرية- الأزهر، الطبعة الأولى 1397هـ، مؤسسة الرسالة. 52 - المراسيل: عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي: عناية شكر الله قوجاني، الطبعة الأولى 1397هـ، مؤسسة الرسالة.
53 - المعجم الكبير: سليمان بن أحمد الطبراني. تحقيق حمدي عبد المجيد، نشر وزارة الأوقاف العراقية، طبع الدار العربية للطباعة، بغداد. 54 - المستدرك على الصحيحين، بهامشه (التلخيص) للذهبي: محمد بن عبد الله الحاكم: مكتبة المطبوعات الإسلامية - حلب. 55 - مسند الإمام أحمد (بهامشه منتخب كنز العمال) : أحمد بن حنبل الشيباني. المكتب الإسلامي ودار صادر. 56 - المصنف: عبد الرزاق بن همام الصنعاني. تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، الطبعة الأولى 1392هـ. 57 - المصنف: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة. بعناية عبد الخالق أفغاني، طبعة 1387هـ. 58 - المقاصد الحسنة: محمد بن عبد الرحمن السخاوي. الطبعة الأولى 1399هـ، دار الكتب العلمية- لبنان. 59 - المنار المنيف في الصحيح والضعيف: ابن قيِّم الجوزية. تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، نشر مكتبة المطبوعات الإسلامية- حلب، الطبعة الأولى 1390هـ. 60 - الموطأ: مالك بن أنس، تصحيح وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي. طبعة دار إحياء التراث العربي. (4) كتب الرجال والتراجم والسيرة والتاريخ: 61 - أُسد الغابة في معرفة الصحابة: علي بن أبي الكرم بن الأثير. نشر المكتبة الإسلامية، للحاج رياض الشيخ. 62 - الإصابة في تمييز الصحابة، وبهامشه الاستيعاب لابن عبد البر: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني. صورة الطبعة الأولى 1328هـ، دار صادر. 63 - الأعلام: خير الدين الزركلي. الطبعة الرابعة 1979م، دار العلم للملايين.
64 - الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية: عمر البزار، تحقيق زهير الشاويش، الطبعة الثالثة، 1400هـ. 65 - البداية والنهاية: إسماعيل بن كثير. الطبعة الثانية 1978م، مكتبة المعارف- بيروت، ومكتبة النصر- الرياض. 66 - التاريخ الكبير: محمد بن إسماعيل البخاري. طبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدرآباد- الهند. 67 - تاريخ واسط: أسلم بن سهل الرزاز. تحقيق كوركيس عواد، مطبعة المعارف- بغداد 1387هـ. 68 - تبيين العجب بما ورد في فضل رجب: أحمد بن حجر العسقلاني. بعناية عبد الله الجبرين. طبعة 1400هـ. 69- تذكرة الحفاظ: الحافظ أبو عبد الله الذهبي. دار إحياء التراث العربي عن مطبوعات دائرة المعارف العثمانية. 70- تعجيل المنفعة: أحمد بن حجر العسقلاني. طبعة دار الكتاب العربي- بيروت. 71 - تقريب التهذيب: أحمد بن حجر العسقلاني. تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، الطبعة الثانية 1395هـ، دار المعرفة للطباعة والنشر- بيروت. 72 - تهذيب الأسماء واللغات: يحيى بن شرف النووي. إدارة المطبعة المنيرية- بيروت. 73 - تهذيب التهذيب: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني. صورة الطبعة الأولى 1326هـ، دار صادر. 74 - جامع كرامات الأولياء: يوسف بن إسماعيل النبهاني. تحقيق إبراهيم عطوة عوض، الطبعة الثانية 1394هـ.
75 - الجرح والتعديل: عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي. الطبعة الأولى، مجلس دائرة المعارف العثمانية بالهند 1371هـ. 76 - خلاصة تذهيب تهذيب الكمال: أحمد بن عبد الله الخزرجي الأنصاري. الطبعة الثانية 1391هـ. 77 - ذكر أخبار أصبهان: أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني. طبع في مدينة ليدن، مطبعة بريل 1934م، نشر مؤسسة النصر- طهران. 78 - الذيل على طبقات الحنابلة: أبو الفرج عبد الرحمن شهاب الدين الحنبلي. نشر دار المعرفة. 79 - زاد المعاد: ابن قيِّم الجوزية. تحقيق شعيب وعبد القادر الأرناؤوط، الطبعة الأولى 1399هـ. 80 - السيرة النبوية: إسماعيل بن كثير: تحقيق مصطفى عبد الواحد، طبعة دار المعرفة- بيروت. 81 - سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: عبد الملك بن هشام. تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة المدني 1383هـ. 82 - شذرات الذهب: عبد الحي بن العماد الحنبلي. طبعة المكتبة التجارية الكبرى- بيروت. 83 - الشفا بتعريف حقوق المصطفى: القاضي عياض بن موسى اليحصبي. طبعة مكتبة ومطبعة المشهد الحسيني. 84 - طبقات الحنابلة: القاضي محمد بن أبي يعلى. نشر دار المعرفة للطباعة والنشر. 85 - طبقات الفقهاء: أبو إسحاق الشيرازي الشافعي. تحقيق إحسان عباس، دار الرائد العربي، الطبعة الثانية 1401هـ. 86 - الطبقات الكبرى (لابن سعد) : محمد بن سعد. دار صادر- بيروت.
87 - الطبقات الكبرى (للشعراني) : أحمد بن علي الشعراني. طبعة المكتبة الشعبية بلبنان. 88 - غاية النهاية في طبقات القراء: محمد بن محمد بن الجزري. بعناية برجستراسر، الطبعة الثانية 1400هـ. 89 - الفوائد البهية: محمد عبد الحي اللكنوي. تصحيح أبو فراس النعساني، طبعة دار المعرفة- بيروت. 90 - فوات الوفيات، والذيل عليها: محمد بن شاكر الكتبي. تحقيق إحسان عباس، مطبعة دار صادر- بيروت. 91 - القلائد الجمان، في التعريف بقبائل عرب الزمان: أحمد بن علي القلقشندي. تحقيق إبراهيم الأنباري، الطبعة الأولى 1383هـ، مطبعة السعادة بالقاهرة. 92 - كتاب التوابين: ابن قدامة المقدسي. 93 - اللباب في تهذيب الأنساب: عز الدين بن الأثير الجزري. مكتبة المتنبي- بغداد. 94 - لسان الميزان: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني. الطبعة الثانية 1971م- 1390هـ، نشر مؤسسة الأعلمي. 95 - مناقب الإمام أحمد: أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي. تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي، الطبعة الأولى 1399هـ. 96 - ميزان الاعتدال: محمد بن أحمد الذهبي. تحقيق علي محمد البجاوي، الطبعة الأولى 1382هـ، دار إحياء الكتب العربية. 97 - وفيات الأعيان: أحمد بن محمد بن خلكان: تحقيق إحسان عباس، طبعة دار صادر، بيروت. 98 - يحيى بن معين وكتابه التاريخ: تحقيق د. أحمد محمد نور سيف، الطبعة الأولى 1399هـ.
(5) كتب العقيدة: 99 - الإيمان: شيخ الإسلام ابن تيمية: نشر المكتب الإسلامي عام 1381هـ. 100 - تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد: سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب. نشر رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد- السعودية. 101 - جامع الرسائل والمسائل (المجموعة الأولى) : شيخ الإسلام ابن تيمية. تحقيق د. محمد رشاد سالم، الطبعة الأولى 1389هـ، مطبعة المدني- القاهرة. 102 - الرد على الجهمية والزنادقة: الإمام أحمد بن حنبل. تصحيح إسماعيل الأنصاري. 103 - الرد على المنطقيين: شيخ الإسلام ابن تيمية. الطبعة الثانية 1396هـ، إدارة ترجمان السنة- لاهور. 104 - الرسالة التدمرية: شيخ الإسلام ابن تيمية. طبعة كلية الشريعة بالرياض. 105 - شرح الأصول الخمسة: للقاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني. تحقيق د. عبد الكريم عثمان في مجلد واحد (خمسة أجزاء) ، الطبعة الأولى 1384هـ، مكتبة وهبة. 106 - الغنية: لعبد القادر الجيلاني. الطبعة الثالثة 1375هـ. 107 - الفرق بين الفِرق: عبد القاهر البغدادي. الطبعة الأولى 1393هـ، دار الآفاق الجديدة. 108 - الفصل: علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري. 109 - قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة: شيخ الإسلام ابن تيمية. طبعة المكتب الإسلامي الثانية 1398هـ. 110 - الملل والنحل: محمد بن أبي القاسم الشهرستاني.
(6) كتب الفقه وأصوله: 111 - أحكام أهل الذمة: ابن قيم الجوزية. تحقيق د. صبحي الصالح، الطبعة الأولى 1381هـ. 112 - الآداب الشرعية: محمد بن مفلح المقدسي الحنبلي، نشر مكتبة الرياض الحديثة 1391هـ. 113 - أصول السرخسي: محمد بن أحمد السرخسي. تحقيق أبو الوفاء أفغاني، نشر إحياء المعارف النعمانية بالهند، طبعة 1372هـ. 114 - أصول الفقه: محمد الخضري بك. الطبعة السادسة 1389هـ، المكتبة التجارية الكبرى. 115 - إعانة الطالبين: السيد البكري. طبعة دار الفكر. 116 - الإفصاح عن معاني الصحاح: يحيى بن محمد بن هبيرة الحنبلي. طبع ونشر المؤسسة السعيدية- بالرياض. 117- الأم: محمد بن إدريس الشافعي. بإشراف محمد زهيري النجار، الطبعة الثانية 1393هـ، دار المعرفة- لبنان. 118 - إمتاع العقول، عبد القادر شيبة الحمد. الطبعة الأولى 1381هـ. 119 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: شيخ الإسلام ابن تيمية. تحقيق د. صلاح الدين المنجد، الطبعة الأولى عن دار الكتاب الجديد 1396هـ. 120 - الأموال: أبو عبيد القاسم بن سلام. تصحيح وتعليق محمد حامد الفقي. نشر المكتبة التجارية الكبرى بمصر. 121 - الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف: علي بن سليمان المرداوي. تحقيق محمد حامد الفقي، الطبعة الأولى 1374هـ. 122 - الخراج: للقاضي أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم. طبعة دار المعرفة 1399هـ، ضمن موسوعة الخراج.
123 - الروض المربع (بحاشية العنقري) : منصور البهوتي. 124 - شرح الكوكب المنير: محمد بن أحمد الفتوحي الحنبلي. تحقيق محمد حامد الفقي، الطبعة الأولى 1372هـ. 125 - المدونة: الإمام مالك، برواية سحنون عن ابن القاسم. الطبعة الأولى، مطبعة السعادة بمصر. 126 - مسائل الإمام أحمد: إسحاق بن إبراهيم النيسابوري. تحقيق زهير الشاويش، الطبعة الأولى 1400هـ، المكتب الإسلامي. 127 - مسائل الإمام أحمد: سليمان بن الأشعث أبو داود. تقديم وتصدير محمد رشيد رضا، دار المعرفة للطباعة والنشر. 128 - مسائل الإمام أحمد: عبد الله بن أحمد بن حنبل. تحقيق زهير الشاويش، الطبعة الأولى 1401هـ، المكتب الإسلامي. 129 - المغني (والشرح الكبير) : عبد الله بن أحمد بن قدامة. بعناية جماعة من العلماء، طبعة دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع 1392هـ. 130 - الهداية، شرح بداية المبتدي: علي بن أبي بكر الرشداني. الطبعة الأخيرة، شركة مصطفى البابي الحلبي ومحمود ونصار الحلبي. (7) كتب الأدب واللغة: 131 - أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك: عبد الله بن جمال الدين بن هشام الأنصاري. ومعه إرشاد السالك إلى تحقيق أوضح المسالك: لمحمد محيي الدين عبد الحميد. 132 - السامي في الأسامي: أحمد بن أبي الفضل المدياني النيسابوري. ترتيب د. محمد موسى هنداوي. 133 - شرح القصائد السبع: الحسين بن أحمد الزوزني. تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، نشر مكتبة محمد علي صبيح وأولاده بمصر.