اعتقاد أهل السنة

ابن جبرين

شرح اعتقاد أهل السنة [1]

شرح اعتقاد أهل السنة [1] ما زالت العقائد في كل وقت وحين هي التي تبني الرجال وتعدُّ الأمم والأجيال، ولما كان لها أثرها القوي على الصحابة رضوان الله عليهم، فلقد كان لهم في التاريخ من الأحداث ما ملأ سمع العالم وبصره، وهذه العقائد لابد لحاملها من ابتلاء وامتحان لتمحيص الخبيث من الطيب، وممن ابتلي فصبر ومضى قدماً على هذه العقيدة في أمة الإسلام أهل الحديث، فهم أصحاب العقيدة السليمة المبنية على الدليل من الكتاب والسنة النبوية.

فضل طلب العلم

فضل طلب العلم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإني أهنئ طلبة العلم بنيتهم التي رفعتهم إلى هذه المساجد لتلقي العلوم، فإنها خصلة حميدة، وفائدة عظيمة، وحسنة كبيرة اختص بها من اهتم بطلب العلم والفائدة، فما أعظمها من فائدة وما أعظمها من حسنة! أولئك الذين فارقوا بيوتهم وأهليهم وأوطانهم، نهنئهم بأنها خصلة حميدة، وبأن الله تعالى أراد بهم خيراً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) ، ولم يفرق بين الطريق البعيد والطريق القريب، ولا شك أن الطريق البعيد الذي يسلكه ويقطع فيه مئات الأميال أو ألوفها أنه أعظم أجراً؛ حيث إنه عمل على مشقة وصعوبات، والأجر على قدر النصب، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر فضل العلم أنه قال: (إن العالم ليستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر) ، وليس المقصود العالم الرباني، بل كل من علم علماً ولو قليلاً يصدق عليه أنه عالم، ولو بآية أو بآيات أو بأحاديث أو بنوع من العلوم، فالحاملون قليل العلم يصدق عليهم أنهم علماء، فتستغفر لهم الملائكة والدواب وحيتان البحر، وكذلك تتواضع لهم الملائكة، كما في الحديث: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع) يعني: تتواضع لطالب العلم رضاً بالذي يصنعه. وأيضاً: (فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب) ، فالذي يشتغل بالعبادة وبالصلوات وبالتهجد وبالصيام وبالركوع والسجود وبالذكر والدعاء ونحو ذلك، والذي يشتغل بطلب العلم وبتعلمه وبالتفقه في الدين بينهما فرق كبير، وقد أخبر في هذا الحديث بالفرق بينهما، وأن فضل هذا على هذا كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، ولا شك أن هذه خصال حميدة يشجع عليها من تجشم الصعاب وصبر على هذه المشقات وواصل التعلم. وأهنئ طلبة العلم بأنهم -والحمد لله- قد حصلوا على علم كثير وكبير، حتى ولو تعلم الواحد آية أو معرفة يحفظها أو يعقل معناها أو يعرف ما تدل عليه، فإن هذا علم كبير لا يقاس بغيره، ويفوق غيره ممن فاتته هذه الكلمة أو الآية.

مصدر العقائد في الأمم

مصدر العقائد في الأمم الموضوع الذي سوف نتطرق إليه هو موضوع اعتقاد أئمة الحديث واعتقاد أهل السنة جميعاً. ولا شك أن اعتقاد أهل السنة والجماعة هو اعتقاد الرسل جميعاً، فرسل الله تعالى من أولهم إلى آخرهم على عقيدة واحدة، ولم يختلف واحد منهم عن الآخر في أمر العقيدة، بل كلهم عقيدتهم واحدة، وما ذاك إلا أن هذه العقيدة التي يدعون إليها ويؤصلونها هي مما يتعلق بالأمور الغيبية وما ينتج عنها من الآثار الحسنة، والأصل فيها أنها علوم مستوحاة من كتب الله تعالى ومما بلغته رسله، ومأخوذة من الكتاب والسنة ومما جاءت به الرسل، والرسل كلهم على عقيدة واحدة ليس بينهم اختلاف، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نحن -معاشر الأنبياء- أولاد علات، ديننا واحد) ، وأولاد العلات هم الذين أبوهم واحد وأمهاتهم شتى، بمعنى أن أصل الدين الذي هو العقيدة متفق عليه بين أنبياء الله كلهم متقدمهم ومتأخرهم، وأما الشرائع والفروع فيحصل بينها اختلاف بحسب المناسبات: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:48] ، ولكن أمر العقيدة مما هم متفقون فيه. وهكذا جاءت الرسل بأمر هذه العقيدة، وإذا كان كذلك فمن المهم تعلم هذه العقيدة، وأن يتعلمها كل مسلم حتى يكون مصدقاً لما جاءت به الرسل ومؤمناً به إيماناً كاملاً، ويكون متبعاً لهم حقيقة الاتباع، مقتفياً لآثارهم ليحشر في زمرتهم، هذه هي فائدة العقيدة. ولا شك أن عقيدة أهل السنة وأئمة الحديث مأخوذة من الوحيين: من كتاب الله ومن سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ومعلوم أن الأدلة التي تؤخذ من الوحيين أدلة قطعية الثبوت، والدلالة لا يتطرق إليها شك ولا توقف، ومن توقف فيها وشك فيها فهو ضال مضل، من شك في آية من كتاب الله وقال: هذه لم تثبت. أو أنكر ثبوت آية من القرآن اعتبر مكذباً للرسل؛ لأن من كذب رسولاً فقد كذب الرسل كلهم، ومن كذب خصلة يقينية جاء بها الرسول فقد كذب الرسالة كلها. إذاً هذه العقائد مأخوذة من أدلة قطعية، وذلك ليطمئن المسلم على صحة معتقده، ويعرف أنه حقاً على عقيدة ثابتة راسخة، وأنها هي التي تبعث على الأعمال، وتنبع عنها الأعمال الصالحة، ولأجل ذلك نأخذ أمثلة: فالرسل لما تيقنوا أن ما جاءهم وحي من الله تعالى، وأنه حق وصدق حملهم ذلك اليقين على أن صدعوا بالحق، وقابلوا الأمم بما يكرهون، وكلموا أممهم بكلام قوي، وذلك أنهم واثقون بأن ما يدعون إليه كله حق، فنبينا صلى الله عليه وسلم لما تيقن أن الوحي الذي جاءه من الله تعالى، وأنه شرع الله ودينه، وأنه مرسل به ليبلغه صدع بالحق وأظهره وأعلنه، ولقي من ذلك ما لقي، ولكنه صبر وصابر، فلقي الأذى والسفه والمقاطعة، وآذاه من آذاه بأنواع من الأذى كما هو معروف في سيرته، ولكن ذلك لم يزده إلا تصلباً إلى أن أظهر الله دينه، واشتهر عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك ما جئت به لن أتركه حتى يظهره الله أو أهلك دونه) ولا شك أن الذي حمله على ذلك هو يقينه بأنه على حق. كذلك أيضاً صحابته رضي الله عنهم لما تلقوا منه العقيدة ورسخت في قلوبهم أرسى من الجبال كان من آثارها أنهم صمدوا بها على هذا الإيمان، وثبتوا ثبوتاً يقينياً، وصبروا على فراق الأهل والمال، وصبروا على الأذى الذي لاقوه -كما هو مشهور في تراجمهم- من تعذيب وضرب، ووضع الصخور على صدورهم، وإلقائهم في الشمس مكتفين، وفي النهاية طردهم وإخراجهم من بلادهم أموالهم، فما الذي حملهم على تجشم هذه المشقات؟ إنها العقيدة الراسخة في قلوبهم. ومن آثارها أنهم اندفعوا يدعون إليها بكل ما يستطيعونه، اندفعوا يدعون إلى هذه العقيدة وهذا الدين حتى وصلوا البلاد البعيدة، وصبروا على الجهاد، وقاتلوا المشركين، وقتلوا من قتلوا وقتل منهم من قتل، فما الذي حملهم على أن قطعوا المسافات البعيدة للغزو؟ وما الذي حملهم على أن قابلوا جيوش الروم والفرس والترك والصقالبة والزنوج وغيرهم من المشركين الذين هم على أهبة القتال ومعهم القوة والكثرة والصحابة في قلة ضعف؟ إن معهم قوة الإيمان والعقيدة، فهذا دفعهم إلى أن أفنوا ما يملكونه من الأموال وأنفقوه، وتعرضوا للقتل ولسفك الدماء، ولا شك أن الذي حملهم على ذلك هو العقيدة التي رسخت ورست في جلودهم وقلوبهم، في الجلود والقلوب والدماء والعروق، فكانت مشربة بلحومهم ودمائهم، فهذا أثر هذه العقيدة في أولئك الصحابة. ويقال مثل ذلك أيضاً فيمن كان على هذه العقيدة في قديم الزمان وحديثه.

حال ضعاف العقيدة

حال ضعاف العقيدة إذا ضعفت هذه العقيدة في القلب كانت عرضة للزوال وللتزعزع؛ ولأجل ذلك كثير من الناس الذين لم ترسخ العقيدة في قلوبهم ينحرفون بسرعة ويرجعون القهقرى ويكفرون بعد إيمانهم؛ حيث إنهم لم يصلوا إلى اليقين الذي هو اليقين الحقيقي؛ لأن اليقين هو الإيمان كله كما ورد عن بعض السلف أنهم قالوا: الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله. فاليقين هو الاعتقاد الصادق. وقد ذكر الله تعالى بعض الذين لم ترسخ العقيدة في قلوبهم، وذكر أنهم يتزعزعون وينحرفون، قال الله تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج:11] ، هكذا حال بعض الذين لم ترسخ العقيدة في قلوبهم، دخلوا في الإيمان ولكن دخولهم كان كتجربة، ينظرون في هذا الدين فإن جاء بما يوافق أهواءهم وما يحبونه ساروا مع أهله وإلا رجعوا إلى ما كانوا عليه، فإن أصابهم خير من نصر ورزق وفتح ومال وإقبال الدنيا عليهم وما يسرهم من زهرة الدنيا وزينتها اطمأنوا وساروا على ما هم عليه من معتقدهم ولو كان ضعيفاً. أما إذا ابتلوا وأصيبوا في أموالهم وأبدانهم بشيء من المصائب فما أسرع رجوعهم وما أسرع انقلابهم على أعقابهم، فأحدهم إذا أصابته فتنة أو أوذي أو اضطهد أو نحو ذلك انقلب على عقبيه.

ابتلاء الله لأصحاب الإيمان

ابتلاء الله لأصحاب الإيمان إن الله تعالى يبتلي العباد حتى يظهر منهم من هو راسخ العقيدة حقيقة ومن هو غير صحيح المعتقد. فمثلاً: بعض الناس يدخل في الإسلام من غير المسلمين، ويجعل ذلك كتجربة، ويقول: ننظر في هذا الإسلام الذي يدعو إليه هؤلاء، فإن جاء بما يوافقنا وإلا رجعنا إلى بلادنا وعشنا فيها على الدين الذي كان عليه أسلافنا. فهؤلاء قد يسلط الله عليهم ابتلاء وامتحاناً من الفقر والمرض والأذى، فإذا جاءتهم هذه المصائب سبوا الدين وسبوا هذا المعتقد، وقالوا: ليس في هذا الدين خير، بل منذ أسلمنا ونحن في هذه المصائب، فإذا شفينا من مرض أتى بدله، وإذا سلط علينا إنسان وتخلصنا منه تسلط علينا آخر. نقول لهم: اصبروا وصابروا، وتحملوا ما تلقونه من الأذى، فإذا كنتم على العقيدة الصحيحة فتحملوا ذلك ولا تتزعزعوا، ولا ترجعوا عما كنتم عليه فتخسروا دينكم وحياتكم؛ فإن البلاء يسلط على الأنبياء وأتباع الأنبياء، كما جاء في الحديث: (لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الدنيا وليس عليه خطيئة) ، وقال: (إن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة شدد عليه وإلا خفف عنه) ، فالله تعالى ابتلى صحابة نبيه صلى الله عليه وسلم عندما أسلموا وأخبرهم بهذا الابتلاء، ولكن أمرهم بالصبر، واقرأ قول الله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران:186] ، فالذين صبروا واتقوا وتحملوا ما حملهم على ذلك إلا بشاشة الإيمان التي باشرت قلوبهم، والعقيدة الصحيحة ملأت أفئدتهم، والإيمان بالله وبدينه وبشريعته باشر أفئدتهم وأشربته لحومهم ودماؤهم، فعند ذلك صبروا وقالوا: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] ، ونقول: إن هذه آثار العقيدة. فإذاً أنت تعرف صادق العقيدة وقوي العقيدة، وتعرف الكاذب وضعيف العقيدة، ولكن لا يعرف ذلك ولا يظهر جلياً إلا عند الامتحان، فعند الامتحان يكرم المرء أو يهان، والامتحان هنا معروف أنه من الله تعالى، وذلك بأن يسلط الله الأذى المؤمن كامل الإيمان وعلى راسخ الإيمان، ويكون هذا التسليط وهذه المصائب التي تصيبه رفعاً لدرجاته وتكريماً له وزيادة في حسناته، كما حصل للأنبياء، وقد تكون في حق المؤمن أيضاً رفعاً لدرجاته ولكنها في الحقيقة اختبار وامتحان لكثير من الناس في أمر إيمانهم هل هم صادقون أم لا؟ ولذلك قال الله تعالى: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت:11] ، وقال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2-3] أي: أتحسبون أن تقولوا: آمنا وتسلمون من الفتنة؟! لابد من الفتنة، ولابد من الابتلاء، فالله تعالى يبتلي من يبتليه لما ذكر من الحكمة في قوله تعالى: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت:11] ، والعلم هنا هو علم الظهور، أن يظهر معلوم الله تعالى في حينه، فيظهر علم الله في هذا الرجل أنه منافق وأنه يعبد الله على حرف، فلما جاءه هذه الابتلاء رجع القهقرى، وأن هذا قوي الإيمان، فما زادته الفتنة إلا ثباتاً ورسوخاً وتقدماً فيما هو عليه وصبرا ًواحتساباً.

حرص الصحابة على تعلم العلم ونشرهم له

حرص الصحابة على تعلم العلم ونشرهم له إن عقيدة أهل السنة وعقيدة أئمة الحديث هي ما كان عليه سلفهم الصالح، وكلمة السلف المراد بها أهل القرون المفضلة الذين زكاهم النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمران: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) ، وفي حديث آخر أنه قال للصحابة: (أنتم خير من أبنائكم، وأبناؤكم خير من أبنائهم) يعني فضل الأقدمين، ولا شك أن هذا هو الواقع، وذلك لأن الصحابة رضي الله عنهم تلقوا هذه العقيدة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، فتلقوا عنه الإيمان بالله تعالى وبوحدانيته، وبعظمة الله وبجلال ربهم وكبريائه على خلقه، ومعرفة حقوقه عليهم وما يجب عليهم، ولم يكن ذلك عن واسطة، بل أخذوه عن نبيهم مباشرة بدون واسطة، فلما كان ذلك كان هذا أكبر سبب في أن قلوبهم تمتلئ بالإيمان، فكان لذلك الأثر البليغ في كونهم كلهم صاروا على هذه العقيدة. وبالتتبع لم يوجد أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دخل في بدعة ولا خالف السنة ولا جماعة المسلمين، ولا خرج على أئمة الدين، ولا انتحل نحلة مخالفة لطريقة أهل السنة والجماعة، بل الصحابة زكاهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولأجل ذلك عدلهم أئمة الحديث، فكلهم عدول، وما ذاك إلا لأنهم تلقوا هذا الوحي من نبيهم صلى الله عليه وسلم، وتعلموا القرآن وفيه أمور العقيدة والشريعة، وتعلموا السنة، وكان تعلمهم من السنة إيضاح لما في القرآن من أمور المعتقد والغيب، ولا شك أن هذا التعلم الذي تلقوه مباشرة دليل واضح على أن الإيمان وصل إلى قلوبهم؛ حيث لم يكن إيمانهم عن تقليد بل عن اتباع، سواء تعلموه من النبي صلى الله عليه وسلم في زمن قليل أو كثير، ومعلوم أن بعضهم منذ أسلم بمكة -كالخلفاء الأربعة- إلى أن توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهم يتعلمون منه العلم والعمل، فكلما نزلت آية أو آيات علمهم، فإما أن يكتبوها وإما أن يحفظوها، ويشرحها لهم ويبين لهم ما تدل عليه، وهكذا الذين أسلموا بمكة من الصحابة الذين هاجروا معه إلى المدينة، والذين هاجروا قبل ذلك إلى الحبشة ثم إلى المدينة كلهم تلقوا علماً جماً في مكة والمدينة. كذلك أيضاً الذين أسلموا من أهل المدينة لا شك أنهم تلقوا عن النبي صلى الله عليه وسلم علوماً جمة فيما يتعلق بالشريعة والعقيدة، ولم يكن ذلك عن واسطة بل مباشرة، وقد يكون بعضهم عن واسطة، وذلك لأن بعضهم قد ينشغل، ولحرصهم على العلم يسألون عنه غيرهم، ذكر ذلك عمر رضي الله عنه لما كان نازلاً في العوالي، فقد كان هو وجار له من الأنصار يتناوبون الدخول، فيدخل أحدهما يوماً فيأتي بما حصل وما حدث، ويأتي الثاني في اليوم الثاني بما حدث وما حصل، ومن حرصهم على تلقي العلم أن أحدهم يكون في تجارته أو بيعه وشرائه يوماً فاليوم الثاني يتفرغ حتى يلازم النبي صلى الله عليه وسلم ويتعلم منه. كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا كان في المدينة يجلس في المسجد ويكون له حلقة أو حلقات ليعلمهم وينبههم ويشرح لهم، ويلقنهم ويقص عليهم، وهم مصغون إليه ويستمعون ما يقول لهم ويعقلونه، وإذا أشكل عليهم شيء استفصلوا واستفسروا عنه، فحياتهم زمن النبي صلى الله عليه وسلم كلها علم، وهكذا إذا سافروا معه لغزو أو لحج أو لعمرة لازموه ملازمة الظل ولم يتخلفوا عنه، وكل ذلك حرصاً على طاعته وتحمل شريعته ليكونوا من أهلها. ولا شك أن هذه الملازمة القوية أثرت في قلوبهم وعقائدهم، فلذلك صارت عقائدهم ثابتة لم تتغير، إلا ما كان من المنافقين الذين ذمهم الله تبارك وتعالى وذكر نفاقهم، فجل هؤلاء المنافقين لم يكونوا من المؤمنين؛ لقول الله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9] ، ومن صفة المنافقين ما وصفهم الله تعالى به في قوله: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] ، لكن الراسخون في العلم -خاصة المهاجرين والأنصار الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه- هؤلاء ثبتهم الله تعالى ولم يتزعزعوا ولم ينقل عنهم مخالفة في أمر هذه العقيدة.

نشر الصحابة لعلم النبوة

نشر الصحابة لعلم النبوة بعد أن رأى الصحابة رضي الله عليهم حاجة الناس إلى هذا العلم الذي هو علم الاعتقاد لم يسكتوا، بل علموه تلامذتهم وأولادهم وأحفادهم، ورسخوه في قلوبهم خوفاً عليهم من الفتن والتغير بالشبهات، فتتلمذ عليهم تلامذة كثر، وتلقوا عنهم هذا العلم الجم في المدينة والكوفة والشام ومكة وغيرها، وتلامذتهم قاموا مقامهم، ومن أشهر التلامذة في المدينة الفقهاء السبعة الذي اشتهروا بهذا الاسم، نظمهم بعض العلماء بقوله: إذا قيل من في العلم سبعة أبحر روايتهم ليست عن العلم خارجه فقل هم عبيد الله عروة قاسم سعيد أبو بكر سليمان خارجه هؤلاء السبعة هم فقهاء المدينة وأكثرهم من قريش، وفيهم من ليس من قريش، وفيهم عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود من هذيل، وعروة بن الزبير وهو من أكابر قريش، وقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وسعيد بن المسيب من بني مخزوم من أكابر قريش، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فجده الحارث بن هشام أخو أبي جهل من بني مخزوم، ومن الموالي سليمان بن يسار، وخارجه بن زيد بن ثابت من الأنصار. هؤلاء تلامذة للصحابة وهم قدوة لمن بعدهم، ولم يدخلوا في شيء من البدع، ولم ينقل عنهم شيء من المخالفات، بل هم من حملة العقيدة، ومن الذين بلغوا العلم ونفع الله تعالى بعلمهم نفعاً كبيراً. وبالكوفة أيضاً تتلمذ على ابن مسعود رضي الله عنه تلامذة أفذاذ علماء أخذوا عنه واختصوا بالعلم به العلم الصحيح، وذلك لأن عمر رضي الله عنه أرسله إلى الكوفة لما رأى الجهل العميق في المسلمين الجدد في العراق، فأرسله وآثرهم به على نفسه، ولا شك أنه رضي الله عنه كان محترماً عندهم موقراً، وذلك لطول صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم، فنفع الله به، وتتلمذ عليه خلق كثير من فقهاء التابعين بالكوفة يعرفون بأصحاب ابن مسعود، وعليهم يعتمد أيضاً الفقهاء هناك أتباع أبي حنيفة، فمن أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه هناك علقمة، والأسود، وعبيدة السلماني، وإبراهيم النخعي، ونحوهم من حملة العلم. وهكذا أيضاً تتلمذ على أنس بن مالك في البصرة علماء أجلاء، ومن أشهرهم الحسن بن أبي الحسن، وهو الحسن البصري رحمه الله، فما أعظم أثره على المسلمين، وما أكثر الذين تأثروا به وانتفعوا، فقد نفع الله تعالى به ورزقه علماً جماً. وكذلك محمد بن سيرين، وسيرين كان مولى لـ أنس أعتقه، ولما أعتقه رزق الله سيرين بأولاد علماء، منهم أنس بن سيرين، سماه باسم مولاه، ومحمد بن سيرين، وحفصة بن سيرين، فهؤلاء أيضاً نبغوا في ذلك الزمان فنفع الله بهم. فنعرف بذلك أن التابعين رحمهم الله قد حفظوا السنة والعقيدة، وتلامذة الصحابة أخذوا عن الصحابة رضي الله عنهم، وكيف لا يكونون أئمة مقتدىً بهم وهم قد تلقوا العلم عن معدنه الأصلي الذي هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وغيرهم كثير، وفي مكة أيضاً علماء أجلاء، كـ عطاء بن أبي رباح تلميذ عبد الله بن مسعود، وفي اليمن طاوس بن كيسان تلميذ ابن عباس قرأ عليه لما كان في اليمن وحفظ عنه كثيراً، وكذلك أيضاً في كثير من البلاد تلامذة للصحابة حفظ الله بهم العلم، ومثل هؤلاء يعتبرون أيضاً قدوة، لذلك كان التابعون في المرتبة الثانية بعد الصحابة.

ظهور البدع

ظهور البدع قد تقول: إنه حدث في التابعين بدع! نقول: صحيح، ولكن أولئك المبتدعة الذين انتحلوا بدعاً من التابعين لم يكونوا من تلامذة الصحابة غالباً، وإنما أخذوا بدعهم هذه عن أفكار سيئة وتأويلات بعيدة. ومعلوم أن الخوارج الذين خرجوا في سنة ست وثلاثين من التابعين؛ لأنهم من جيش علي رضي الله عنه، وأغلبهم من أهل العراق وكان فيها مجموعة كبيرة من الصحابة، ومع ذلك فإنهم خوارج، ولكن ليس فيهم مشهور بالعلم، وليس فيهم من تتلمذ تتلمذاً صحيحاً على الصحابة، وإنما قرؤوا القرآن، ولما قرؤوه ولم يقرؤوا تفسيره ولا معانيه أخذوا الآيات التي فيها عذاب فطبقوها على أهل زمانهم، فكان من عقيدتهم -كما سيأتي- أنهم يجعلون الذنب كفراً والعفو ذنباً، ولن نشتغل بهم، بل نقول: ولو كانوا من التابعين فإنهم ما قرؤوا العلم، ولا قرؤوا العقيدة الصحيحة حتى يكتبوا من حملة العلم، وإنما أخذوها من نظرياتهم ومن أفكارهم. وكذلك أيضاً القدرية الذين حدثوا في آخر عهد الصحابة وأدركهم ابن عمر رضي الله عنه لم يكونوا مشهورين بالتتلمذ على الصحابة، ولكن اعتقادهم إنما هو عن أفكار سيئة، وأغلبها بسبب سوء معرفتهم وسوء نظرهم في الآيات وحملها على محامل بعيدة، فإن من عقيدتهم إنكار علم الله السابق، وأن الله لا يعلم الأشياء حتى تحدث، مثل غيلان القدري، ومعبد الجهني، وعمرو بن عبيد، فما عرف أنهم تتلمذوا على صحابي وأخذوا عنه العلم الصحيح، فعرف بذلك أن تلامذة الصحابة الذين تلقوا عنهم العلم الصحيح أصبحوا ورثة لهم، والعلماء ورثة الأنبياء، فأصبحوا مثالاً لهم، وأن الذين أخذوا العلوم من أفكارهم حصل في قلوبهم زيغ {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] ، نعوذ بالله من زيغ القلوب، فهذا بغير شك دليل على أن العلم الصحيح الذي يؤخذ من معدنه يثبت في القلب، ويكون له آثار حسنة. ولكن معلوم أنه في القرن الثاني بعد انقراض عهد الصحابة دخل في الإسلام بعض من لم يكونوا راغبين فيه، فكان من آثار دخولهم في الإسلام من غير صدق ويقين أن أثاروا كثيراً من الشبه، وأوقعوا كثيراً من الناس في الحيرة وشككوهم في عقائدهم ومبدأ أمرهم ومنتهاه، ونشروا بينهم شبهات الفلاسفة والمنجمين والزنادقة والملاحدة ونحوهم، فكلما أثاروا تلك الشبهات فيما بينهم انخدع بها الكثير، فلما رأى السلف رحمهم الله من تلامذة الصحابة وتلامذة التابعين هذه الآثار في هؤلاء المنحرفين لم يجدوا بداً من أن يصدعوا بالسنة ويظهروا أمر العقيدة ويصرحوا للناس بما هم عليه حتى يعرف جماهير الناس العقيدة السليمة فيتمسكوا بها، ويعلموا أن ما خالفها بدعة ونحلة سيئة.

محاربة السلف للبدع

محاربة السلف للبدع كان أبو عمرو عبد الرحمن الأوزاعي إمام المسلمين في عهد تابعي التابعين في الشام، يقول رضي الله عنه: كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى فوق عرشه فوق سماواته، ونؤمن بما جاء في كتاب الله من الصفات. فما الذي حمله على أن يصدع بهذا، ويذكر الإيمان بأن الله فوق عرشه والإيمان بما جاءت به النصوص والآيات؟ حمله على ذلك ما فشا في زمانه من هذه البدع التي خشي منها على تلامذته وعلى زملائه أن يقعوا فيها فيكونوا منحرفين مخالفين للمعتقد السليم، والأوزاعي توفي سنة سبع وخمسين ومائة، أي: في وسط القرن الثاني. وهو من كبار تابعي التابعين، ومثله أيضاً الإمام مالك بن أنس عالم المدينة، فإنه اشتهر عنه من الإيمان بالصفات الشيء الكثير، مثل تفسيره للاستواء بقوله: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. ومثلما صرح به من قوله: إن الله تعالى على عرشه، إن الله في السماء فوق عباده، وعلمه مع جميع العباد. فإنه ما صرح بذلك إلا لما اشتهرت البدع في ذلك الزمان وكثر الذين يتحدثون بها، فكان ذلك سبباً في أن السلف رحمهم الله أوضحوا ما يعتقدونه ليكون تلامذتهم على بصيرة، وذلك لأن المبتدعة ما سكتوا بل أخذوا ينشرون عقيدتهم، فالجهمية -مثلاً- صرحوا بأن القرآن مخلوق، وأن الله تعالى لا يتكلم، ولا يحب ولا يبغض، وأن الله ليس على عرشه، وليس فوق السماء ولا فوق العرش إله يعبد، إلى غير ذلك من تصريحاتهم التي تقشعر منها الجلود، فلما سمع السلف رحمهم الله ذلك أفصحوا بما أفصحوا به. وذكروا بأن بعض السلف رحمهم الله حبس جهمياً أو زنديقاً على هذه الزندقة، وبقي أياماً في السجن يمتحنه، فقيل له: إنه قد تاب. فقال: ائتونا به لنسأله ونعلم هل صحت توبته أم لا. فاختبره فقال: أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه؟ فقال: أشهد أن الله على عرشه، ولا أدري أبائن من خلقه أم لا؟ فقال: ردوه إلى السجن فإنه لم يتب. وذلك لأنه لابد من الإيمان بهذا الاعتقاد كله، وهو أن الله تعالى على عرشه وأنه بائن من خلقه، أي: أنه ليس مختلطاً بهم كما يقوله كثير من الجهمية والحلولية ونحوهم، تعالى الله عما يقولون، لذلك اهتم السلف رحمهم الله بأمر العقيدة. وقد نقل شيخ الإسلام في الحموية قصة في ثلاث أو أربع صفحات عن عالم من علماء المدينة في زمن الإمام مالك، وهو عبد العزيز بن الماجشون، وإذا قرأت هذه الرسالة عرفت بذلك أن السلف رحمهم الله كانوا أولاً وقبل كل شيء يحبون العمل بالدليل ويتقيدون به، وأنهم يصرحون بما يعتقدونه ويذكرون ذلك ذكراً صريحاً، وأنهم ينكرون على المبتدعة ويضللونهم ويسفهون أحلامهم، وينكرون إنكاراً بليغاً على من رد شيئاً من أمر الله تعالى أو أمر رسوله أو خالف المعتقد السليم، ففي القرن الثاني عاش ابن الماجشون في زمن الإمام مالك، وفي ذلك دليل على أن البدع بدأت تظهر أعناقها، وبدأ أهلها يتمكنون، ولكن الحق حق، والحق وأهله أقوى وأكثر وأقوى حجة، وهذا في ذلك الزمان. أما في آخر القرن الثاني فقد قويت بدعة الجهمية، وذلك لأنهم صاروا يقتنصون الجهلة فيلقون عليهم تلك الشبهات، فيشبهون بها على طوائف كثيرة من الجهلة وضعفاء الإيمان فيشككونهم في أمور المعتقد، فظهر في ذلك الزمان كثير من الزنادقة الذين هم منافقون وإيمانهم متزعزع، ولكن انتبه لهم الولاة والأئمة وصاروا يحذرون منهم فيقولون: فلان متهم. فلان زنديق. ذكروا في التاريخ أن الخليفة المهدي أحضر واحداً من أولئك الزنادقة، ولما استفصل منه وجدت قرائن ونقول كثيرة تدل على أنه منافق وليس بمؤمن، ويقول بلسانه ما ليس في قلبه، وشاك في أمر الله تعالى وأمر البعث، فعند ذلك أمر بقتله، فلما تحقق أنه مقتول قال: أيها الخليفة! كيف تفعل بأربعة آلاف حديث كذبتها ونسبتها إلى نبيكم وبثثتها في الناس؟ أي: أنا قد أفسدت عليكم دينكم وعقائدكم بهذه الأحاديث التي بثثتها. فماذا قال الخليفة رحمه الله؟ قال: تعيش لها نقادها. أي: إن الله تعالى وفق هذه الأمة أن جعل فيها علماء يميزون الأحاديث ويعرفون الصحيح من السقيم، ويميزون المكذوب من الصادق، وذلك لمعرفتهم بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ولمعرفتهم بما كان يدعو إليه وبما تهدف إليه شريعته. فهذا دليل على أن هناك من استفحل منه الشر وشكك الناس في أمر العقيدة، وبالأخص في الإيمان بالله، حيث كثر في ذلك الزمان الزنادقة الذين ينكرون وجود الله تعالى أو ينكرون البعث أو ينكرون حشر الأجساد، كالفلاسفة الذين ينكرون البعث الحقيقي، ولما كثروا اهتم بهم السلف رحمهم الله تعالى وبالغوا في الرد عليهم إلى أن قمعوا وظهر أمر الله.

أهل العقيدة الصحيحة هم أهل الحديث

أهل العقيدة الصحيحة هم أهل الحديث قدمنا بهذه المقدمة لنستدل بها على أثر العقيدة، ونستدل بها على أن العقيدة الصحيحة التي تلقاها الصحابة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم وتلقاها تلامذتهم عنهم وتابع التابعين عن التابعين هي التي بقيت، وهي العقيدة الصحيحة، وأن العقائد المنحرفة الزائغة لم تؤخذ من كتاب الله حتى لو استدلوا ببعض الآيات على غير مدلولها، ولا من السنة، ولا من الصحابة، ولا من تلامذة الصحابة، ولا من تلامذة تلامذتهم، وإنما أخذت من أفكار وقلوب زائغة منحرفة. فهذا يستدل به على أن العقيدة ما كان عليه السلف رحمهم الله، وهم في الحقيقة أئمة الحديث، كما هو عنوان هذه الرسالة: (اعتقاد أئمة الحديث) ، وذلك لأن الصحابة تلقوها أحاديث، والتابعون أيضاً تلقوها عن الصحابة ونقلوها أحاديث، وكذلك تابعوهم تلقوها ونقلوها وحدثوا بها، فكانوا ينقلونها أحاديث، فيقول أحدهم -مثلاً-: حدثنا محمد بن رافع قال: حدثنا عبد الرزاق قال: حدثنا معمر قال: حدثنا ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة. ويذكر حديثاً كحديث النزول أو الرؤية، فإذاً هي أحاديث ثم أصبحت عقيدة أهل الحديث. فأصبح أهل الحديث هم القدوة الذين يقتدى بهم، وذلك لأن المبتدعة لم يكونوا من أهل الحديث، وإذا نظرنا في سيرة عمرو بن عبيد وبشر بن غياث المريسي والجهم بن صفوان وابن أبي دؤاد ونحوهم من الجهمية أو المعتزلة لم نجدهم ممن رووا الأحاديث، بل لا يروون إلا ما يوافق أهواءهم أو يناسب بدعتهم، ولأجل ذلك لا تقبل أحاديثهم، والغالب أن الأحاديث التي يروونها لم تثبت، بل إنها مكذوبة أو موضوعة أو ضعيفة لأجل من فيها من المبتدعة، فأصبح أهل الحديث هم أهل العقيدة السلفية والفرقة الناجية المنصورة، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة، أو حتى يأتي أمر الله) . سئل الإمام أحمد: من هم هذه الطائفة؟ قال: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم. وهذا صحيح، فإلم يكن أهل الحديث هم الفرقة الناجية فمن هم؟ أهل الحديث هم صحب النبي وإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا فكأنهم صحابة؛ لأنهم صحبوا أنفاسه، والكلام الذي يروونه ويتناقلونه هو الكلام الذي نطق به، وبين كلماته أنفاسه التي تنفس بها وهو يتكلم، فيعتبرون كأنهم الصحابة على حد كلام هذا الشاعر. ولذلك يعرف أهل الحديث حقاً بأنهم هم الذين انتحلوا هذه النحلة واعتقدوا هذه العقيدة.

الأسئلة

الأسئلة

تفنيد ما قيل عن الجيلاني من خرافات

تفنيد ما قيل عن الجيلاني من خرافات Q ذكرت بعض الكتاب التي تتحدث عن الفرق أن عبد القادر الجيلاني الإمام السلفي هو أول من أنشأ طريقة صوفية، فهل هذا صحيح؟ A عبد القادر الجيلاني عالم من علماء الحنابلة، ويذكر في تراجم الحنابلة، ولكن انشغاله بالطرق حال بينه وبين انشغاله بالحديث، فهو من أهل الطرق وأهل العبادات القلبية، انشغل بالعبادات القلبية وبالزهد وبالتصوف، أي: عبادات الصوفية، لذلك لما اشتهر بأنه من الصوفية تعلق به المتصوفة، وصاروا يتوافدون إليه من أماكن بعيدة، ثم أعجبوا بعبادته وبزهده وبتقشفه مما كان سبباً في أن علقوا عليه تعليقات، وتلك التعليقات لا صحة لها، وحكوا عنه حكايات ليست واقعية بل هي مكذوبة، ولما اشتهرت تلك الحكايات وتلك الطرق وتلك القصص التي كتبت عنه وتناقلتها الصوفية كثر الذين يعتقدون فيه أنه ولي وأنه من سادات الأولياء، مما حمل كثيراً من الجهلة على أن عبدوه مع الله واعتقدوا فيه اعتقادات سيئة. وأذكر أني كنت في يوم عرفة عند جبل الرحمة، وكان هناك واحد من السودان ويظهر أنه من علمائهم، وكان ديدنه أن يقول: يا عبد القادر! أنجنا. يا عبد القادر! خذ بأيدينا. يا عبد القادر! أنت ملاذنا. فتكلمت معه فقابلني بقوله: أنا أقول: إنه لا تنزل قطرة من السماء إلا إذا أمر بها عبد القادر، ولا تنبت حبة في الأرض إلا بعدما يأذن فيها عبد القادر. سبحان الله! هذا -بغير شك- من آثار تلك الحكايات التي نشرها هؤلاء الجهلة. عبد القادر لا شك أنه دخل في الصوفية، وأنه وقع منه شيء من الحكايات، لكن لم يصل إلى تلك المرتبة، وعبد القادر عبد من العبيد ولد كما ولد غيره ومات كما مات غيره.

حكم بناء المساجد على القبور

حكم بناء المساجد على القبور Q أشكل علي كون دعوة الرسل في العقائد واحدة مع قول الله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} [الكهف:21] ، وقد قال بعض أهل العلم: كان ذلك في شريعة من قبلنا جائزاً. كما يشكل ذلك مع سجود إخوة يوسف له؟ A صاحب هذا القول جاهل، والذين اتخذوا المسجد على أهل الكهف ليسوا من الرسل، وليسوا من أتباع الرسل، بل هم مشركون، كما صرح الله بذلك عنهم في سورة الكهف، يقول الله تعالى عنهم: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} [الكهف:10] {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً * هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} [الكهف:13-15] ، ثم يقول: {وَإِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ} ، أي: اعتزلتموهم واعتزلتوا معبوداتهم إلا الله {وَإِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً} [الكهف:16] ، ثم يقول عنهم: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} [الكهف:20] إذاً فهم كفار، ولا غرابة أن هؤلاء بنوا مسجداً على هؤلاء الذين اعتقدوا أنهم أولياء، فبناء المساجد على القبور ليس من شرائع الأنبياء، وإنما فعل ذلك هؤلاء المشركون. أما سجود إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام فيظهر أنه سجود تحية، وليس هو السجود الذي يكون بوضع الوجه على الأرض، ويمكن أن هذا كان جائزاً، وأنه ليس سجود تعظيم وإنما هو احترام.

الفرق بين البدعة وغير المشروع

الفرق بين البدعة وغير المشروع Q ما الفرق بين قولنا للعمل المخالف: إنه بدعة، أو: مخالف للسنة. أو: غير مشروع. وما الضابط في ذلك؟ A البدعة هي المحدثة في الدين، فإذا قيل: هذا بدعة فالغالب أنها من القربات التي يتقرب بها وليس لها أصل في الدليل ولا في الشريعة، وإنما هي من المحدثات، سواءٌ أكان في العقائد كالتكفير بالذنوب، مثل اعتقاد الخوارج، وكذلك اعتقاد الخروج على الأئمة كقول المعتزلة، وكذلك اعتقاد التكفير بالذنب ونحو ذلك، أم في الفروع، كبدعة الموالد ممن يحيون المولد النبوي، أو يصلون أول ليلة جمعة من رجب ويسمونها صلاة الرغائب، أو يحيون ليلة خمس وعشرين منه ويسمونها ليلة الإسراء، كل هذه يقال لها: بدع. أما غير المشروع فيراد به أنه لم يأت به دليل واضح وإن لم يكن منهياً عنه نهياً صريحاً، وإن وجد ما يدل على مشروعيته، لكنه ليس دليلاً قوياً، فيقال -مثلاً-: رفع اليدين بعد الفريضة مباشرة غير مشروع. ولو وجدت أدلة تدل على رفع اليدين عند الدعاء، ويقال: صلاة أربع ركعات بسلام واحد غير مشروع؛ لأن الأصل السلام من كل ركعتين. وأشباه ذلك. فتعبيرات السلف والعلماء بحسب قوة الدليل أو عدمه.

إلصاق بدعة الخروج بالصحابة

إلصاق بدعة الخروج بالصحابة Q يذكر بعض العلماء أن عبد الله بن أبي معيط كان من الصحابة، وأنه كان من كبار الخوارج، فهل هذا صحيح؟ وكيف يعتذر عنه؟ A لا أذكر أن لـ أبي معيط ابناً اسمه عبد الله، إنما له ولد اسمه عقبة بن أبي معيط، وعتبة ولد عقبة بن أبي معيط، فـ عقبة قتل في غزوة بدر، أما ولده فلم يكن من الصحابة فيما يظهر، ويظهر أنه كان صغيراً، ولم يذكر أنه من قريش، لكن لكونه من قريش تولى الإمارة في خلافة عثمان على بعض بلاد العراق، وذكر عنه أنه شرب الخمر، ثم إن عثمان رضي الله عنه أقام عليه الحد، فأمر علياً فجلده أربعين جلدة لشربه الخمر ولثبوت ذلك عليه، ولم يذكر عنه أنه من الخوارج، ولعله من الأئمة أو غير ذلك.

حكم قبول رواية المبتدع

حكم قبول رواية المبتدع Q تذكر كتب المصطلح رواية المبتدع وهل هي مقبولة أم لا والخلاف فيها وشروط قبول هذه الرواية، فما توجيه ذلك؟ A البدع إما أن تكون مكفرة أو مفسقة، فالبدعة المكفرة لا يقبلون رواية صاحبها ولا كرامة، وذلك لأنهم يعتقدون أنه ليس من المسلمين، فكيف يكون عدلاً؟ أما البدع المفسقة فيقولون: ننظر في ذلك المبتدع، فإذا كان داعية من الدعاة إلى الرفض أو الاعتزال أو الجبر أو التعطيل أو التجهم أو الإرجاء أو نحو ذلك لم تقبل ولا كرامة، ولو كان حافظاً متقناً، وإذا روى حديثاً يقوي بدعته أو نحلته التي ينتحلها لم نقبله؛ لأن العادة أنه يتساهل بما يتعلق بمذهبه وبمعتقده. أما إذا عرف منه الصدق ولم يكن من الدعاة إلى بدعته، وروى ما لا يقوي بدعته ولا صلة له بذلك فيروى عنه من باب الحرص على إثبات العلم. ففي صحيح البخاري روايات كثيرة عن شيخ له اسمه عبيد الله بن موسى القواريري، وقد رمي بالتشيع، ولكن التشيع في ذلك الزمان ليس أهله هم الرافضة في هذا الزمان الذين يعبدون أهل البيت ويكفرون الصحابة ويطعنون في القرآن ويطعنون في السنة، بل هو يروي أحاديث في السنة وفي فضائل الصحابة، فروى عنه البخاري، وسبب ذلك علو السند؛ لأنه من المعمرين، فيروي عنه إيثاراً لعلو السند.

حكم أكل ذبائح أهل الكتاب المعاصرين

حكم أكل ذبائح أهل الكتاب المعاصرين Q أحل الله لنا ذبائح أهل الكتاب، ولكن من المعلوم أن بعضهم يعتقد أن عيسى عليه السلام ابن الله، فهل تؤكل ذبيحة مثل هؤلاء؟ A أحل الله الذبائح، ولكن بشروط، منها: أن يكونوا كتابيين حقيقة، ففي زماننا هذا يتسمون بأنهم كتابيون وليسوا كذلك، والله قال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة:5] ، فدل ذلك على اشتراط كونهم كتابيين حقيقة، ومنها: أن يذبحوا ذبحاً شرعياً بالسكين الحادة في موضع الذبح، وهذا ما كانوا عليه. ومنها: أن يذكروا اسم الله عند الذبح، وهذا من شريعتهم، والمتمسكون بشريعتهم النصرانية الأصلية أو باليهودية الأصلية من عقيدتهم أو من دينهم عدم حلهم لما مات حتف أنفه، وعدم حل ما لم يذبح في الحلق، فهم لا يأكلون إلا ما ذكر اسم الله عليه، وكذلك أيضاً لا يأكلون -كما في شريعتهم- إلا ما ذبح ذبحاً شرعياً. فإذا وجد في هذه الأزمنة من يذبح ذبحاً غير شرعي ولو قال: إنه كتابي -بل لو قال: إنه مسلم- فلا تؤكل ذبيحته، كالذين يذبحون بالصعق الكهربائي مثلاً، أو بالغمس في الماء الحار ثم بقطع الرأس بعد الموت، أو الذين يضغطونها إلى أن تموت ويحافظون على أن يبقى دمها فيها حتى يزيد في وزنها، لا شك أن هؤلاء ليسوا كتابيين حقيقة، أما لو كانوا كتابيين متمسكين -حتى لو قالوا: عيسى ابن الله- فإن العبرة بالذبح، أما عقائدهم فلهم.

حكم بيع الدم

حكم بيع الدم Q ما حكم بيع الدم؟ وما الحكم لو ذهب إنسان إلى مركز التبرع بالدم وهو يعلم أنهم يعطونه هدية عينية مقابل ذلك؟ وما الحكم لو كانت الهدية دراهم بدلاً من الهدية، فهل يعتبر بيعاً أم يعتبر عطية وهدية مقابل ذلك الدم؟ A نعتقد أن هذا من الضروريات، فقد أصبح كثير من المرضى يعوقه المرض حتى ينشف دمه، فيكون من آثار ضعف الدم ضعف البنية وضعف تركيبه وحالته، وازدياد مرضه، فلا جرم في الطب الحديث أن يؤخذ له دم من آخر ويغذى به إلى أن يعيش، ولما كان كذلك كان هذا الدم يمكن أن يقال: إن له قيمة. وذلك لأن صاحبه قد يصيبه شيء من الضعف والوهن بعد إخراجه منه، فنقول: على مقتضى هذه القاعدة لا بأس بأخذ الهدية، ولكن يكره أن يبيعه، وأن يقول: خذوا مني بكذا وكذا. أما إذا أعطوه من دون فرض فلا مانع من أخذ ذلك إن شاء الله، والله أعلم.

شرح اعتقاد أهل السنة [2]

شرح اعتقاد أهل السنة [2] كانت بدعة الخوارج أول البدع ظهوراً في الإسلام، وقد ظهرت في عهد الصحابة، فحاربوها وحاربوا أهلها، ثم توالت البدع وتوالى معها دفاع أهل السنة عن الحق يزيد تارة وينقص أخرى، إلا أن القرون الأربعة التي تلت القرون الثلاثة المفضلة شهدت غموضاً للحق وإجباراً لأهله على السكوت إلا قلة من العلماء، حتى ظهر ابن تيمية رحمه الله فصدع بالحق، وتجرأ على أهل البدع وفضحهم، وأنشأ مدرسته التي ما زالت تنضح بالخير إلى اليوم.

البدع منشؤها وانتشارها بين أهل الإسلام

البدع منشؤها وانتشارها بين أهل الإسلام

بدعة الخوارج منشؤها ومعتقداتها

بدعة الخوارج منشؤها ومعتقداتها بدعة الخوارج أول البدع التي وجدت، وقد وجدت في سنة ست وثلاثين للهجرة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخروجهم، وأخبر بأن الصحابة يحقرون صلاتهم مع صلاتهم وصيامهم مع صيامهم، وأنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وأنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، وأمر بقتالهم وقال: (أينما رأيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم) ، وقال: (لئن لقيتهم لأقتلنهم قتل عاد وإرم) ، وقاتلهم الصحابة رضي الله عنهم الذين كانوا مع علي رضي الله عنه. وعقيدتهم إنما هي في التكفير فقط، وقد بالغوا في أخذ آيات الوعيد وتمسكوا بها، فصاروا يطبقونها على كل من فعل ذنباً فيخرجونه من الإسلام، ولم يذكر عنهم خلاف في الأسماء والصفات، ولا في البعث والنشور، ولا في أسماء الإمام والدين. ومن جملة من كفروه علي وأصحابه الذين معه، وادعوا أنه بالتحكيم ارتد عن الإسلام، فهذه أول بدعة، ولا شك أنهم بعد ذلك تغيرت عقائدهم وأخذوا من عقائد المبتدعة الآخرين.

بدعة الجهمية منشؤها ومحنة الناس فيها

بدعة الجهمية منشؤها ومحنة الناس فيها حدثت بعد ذلك بدعة القدرية الذين ينكرون العلم السابق، ثم حدثت بعدهم بدعة التعطيل أو الاعتزال، وهي بدعة إنكار الصفات، وكان حدوثها في أول القرن الثاني، ولما انتشرت هذه البدعة وانتشر أهلها الذين يعطلون الله تعالى عن صفات الكمال وينكرون أن يوصف بما وصف به نفسه ويبالغون في إنكار الصفات أنكر عليهم السلف إنكاراً بليغاً وبدعوهم، وشنعوا عليهم وحذروا منهم، وصار كلام الصحابة والتابعين وتابعي التابعين في التحذير من هذه البدعة التي سموا أهلها جهميةً، وذلك لأن أول من انتشرت عنه الجهم بن صفوان فهو الذي نشر بدعة إنكار الصفات، ولا شك أن كتب السلف رحمهم الله تعالج هذه البدع كلها، فمنهم من كتب في ذلك ويذكر العقيدة مجردة ويقول: نعتقد كذا ونعتقد كذا وكذا كذا. ولا مناقشة، ولا يذكر أقوال المبتدعة، ومنهم من يذكر البدع ويذكر الرد عليها، سواءٌ أكانت تلك البدع شبهات أم نحلاً، فيناقشونها ويبالغون في الرد على أهلها، ومنهم من يقتصر على الأدلة والآثار المنقولة عن السلف والأحاديث المأثورة المرفوعة أو الموقوفة، فباقتصارهم عليها يظهر الحق ويستبين ويعرف الباطل، وبضدها تتبين الأشياء. ولا شك أن كلامهم رحمهم الله كله في نصر الحق وإظهاره، ومعلوم أن بدعة الجهمية تمكنت في أول القرن الثالث، حيث إن الجهمية انضموا إلى بعض الخلفاء، كالخليفة المأمون بن الرشيد، فإنه انضم إليه بعض المبتدعة وقربهم، وذلك لأنه أحسن الظن بهم، ورأى فيهم بلاغة وفصاحة وقوة أسلوب وحسن تعبير، فظن أنهم على الحق، ومن أشهر الذين قربهم: ابن أبي دؤاد المبتدع الضال الذي أفسد عقيدة المسلمين في زمانه، ومال إليه الخليفة المأمون. وفي خلافة المأمون بالغ في تعذيب أهل السنة وتهديدهم في مسألة أن القرآن مخلوق، وكذلك تبعه أخوه المعتصم، ومشهور بأنه امتحن العلماء وضربهم وحبس من حبس منهم، وأوذي من أوذي من أهل السنة، وأجاب كثير معهم إلى ما طلب منهم، وادعوا بعد ذلك أنهم مكرهون، وتمسك من تمسك منهم. وكان من الذين تمسكوا بعقيدة أهل السنة الإمام أحمد، ولهذا يسمى (ناصر السنة) ، ويسمى (إمام أهل السنة) ، وقصته طويلة تجدوها في تاريخه، وذكر في ترجمته -عند ابن كثير في البداية والنهاية- قصة ضربه بين يدي المعتصم وصبره على ذلك، وكذلك ذكرها ابن الجوزي في ترجمته، وقد ألف ابن الجوزي كتاباً كله في ترجمة الإمام أحمد، وهو كتاب كبير. ومن كتب التاريخ تاريخ الذهبي، وهو مطبوع أيضاً، ونقل ترجمته أحمد محمد جعكر في أول كتاب (تحقيق المسند) من تاريخ الذهبي وفيها قصة تعذيبه، وأشار إلى ذلك كثير من الذين ترجموا له، ومنهم صاحب المنظومة التي يمدحه ويقول فيها: ومذهب الإمام أحمد بن محمد أعني ابن حنبل الفتى الشيباني ثم يقول فيها: ويقول عند الضرب لست بتابع يا ويحكم لكم بلا برهان أترون أني خائف من ضربكم لا والإله الواحد المنان كن حنبلياً ما حييت فإنني أوصيك خير وصية الإخوان ولقد نصحتك فإن قبلت فأحمد زين الثقات وسيد الفتيان إلى أن قال: حمداً لربي أن هداني لدينه وعلى طريقة أحمد أنشاني واختار مذهب أحمد لي مذهباً ومن الهوى والغي قد أنجاني فالحاصل أنه من الذين صبروا على هذه الفتنة وصابروا فيها إلى أن أظهره الله تعالى، ففي عهد المعتصم لقي أذى وعذاباً وضرباً وحبساً وبقي في الحبس مدة طويلة، وكان يتورع أن يأكل شيئاً من طعامهم، ويبقى اليومين والثلاثة لا يطعم لهم طعاماً حتى يأتيه أحد أولاده بشيء من الخبز من بيته الذي عرف مدخله، وبعد موت المعتصم بثمان سنين وانتقال الخلافة إلى ابنه الواثق خفف الابتلاء، ولكن لم يزل أهل السنة يخافون من إظهارها ويستخفون في معتقدهم. ثم بعد موته تولى ولده المتوكل، ولما تولى نَصَر السنة وقرب الإمام أحمد ورخص له أن يصدع بمذهبه، وأفصح بما كان يعتقده أهل السنة من أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وبقي الأمر كذلك إلى أن توفي الإمام أحمد رحمه الله في سنة إحدى وأربعين ومائتين والأمر هادئ، واستمرت بقية القرن والسنة فيها ظاهرة، ولكن لأهل البدع قوة وتمكن، وبالأخص المعتزلة، فقد كانوا من أقوى أهل البدع من ناحية الحجج العقلية، فكانوا يأتون بالشبهات العقلية ويشوهون بها على الناس ويشوشون بها، وغسلوا أدمغة كثير من المسلمين العوام، وملؤوا تلك الأدمغة بتلك البدع، وبالأخص بدعة إنكار الصفات الذاتية والصفات الفعلية. ثم انتشرت في آخر القرن الثالث والرابع وما بعده اصطلاحات يرددها المبتدعة في الصفات وفي إنكارها، كنفي التجسيم، ونفي الحيز والجهة والأبعاض والأجزاء والأعراض والتركيب والحوادث وحلولها وما أشبه ذلك، فصاروا يلقنون هذا تلامذتهم، ويذكرون أن نفيها إنما هو من باب التنزيه لله تعالى، فتمكنت هذه الكلمات في أهل ذلك الزمان واعتقدوا صحتها وسلامتها، وهي في الحقيقة أمور لم يرد فيها دليل، والمسلمون من أهل السنة لم يستعملوها نفياً ولا إثباتاً. وبعد انقضاء القرن الثالث كادت السنة أن تضيع، وكاد المحدثون أن لا يبقوا على المعتقد، وتمكن مذهب النفاة والمعطلة، واضمحل مذهب الإمام أحمد أو كاد أن يضمحل، ولم يبق عليه إلا أفراد يتسترون لا يعرفون إلا أنهم من أتباعه، ويستخفون بما هم عليه، وبقوا كذلك طوال هذه القرون ولا يعرف من ينصر السنة إلا أفراد قلة. وممن كان على مذهب الإمام أحمد في العقيدة عالم في أول القرن الرابع، وهو الإمام البربهاري، فقد أظهر عقيدة أهل السنة، وأظهر بأن القرآن كلام الله حروفه ومعانيه، وبأن الله مستو على عرشه بائن من خلقه، وأن الله تعالى موصوف بصفات الكمال، وقام يفصلها، فقامت عليه الدنيا ولم تقعد، وحاربوه، وبدعوه وضللوه وهددوه بالقتل وبالسجن، واستخفى منهم استخفاء كثيراً، وصار مهدداً، هذا وهو فرد واحد بين أهل زمانه الذين هم أمم كثيرون، ولكن نصره الله كما نصر إمامه أحمد بن حنبل، وله كتاب مطبوع في العقيدة اسمه: (شرح السنة) ، إذا قرأته تعرف أنه متأثر بالسنة، وأنه على هذه العقيدة الراسخة وهي عقيدة أهل السنة، أما بقية أهل زمانه فمن كان منهم من أهل السنة فإنه متستر، وإلا فالبقية قد تركوا السنة الصحيحة.

بدعة الاعتزال والأشعرية

بدعة الاعتزال والأشعرية ظهر مذهب الاعتزال في القرن الرابع وتمكن، ثم ظهر عالم في القرن الثالث يقال له: عبد الله بن سعيد بن كلاب، وكان شديد الجدل قوي الحجة، حتى شبهوه بالكلاب، وهي الحديدة التي يستعملها الحداد عندما يلقي الحديدة في النار حتى تحمر وتلين فيمسكها بحديدة لها أطراف يقال لها: الكلاب فسموه بذلك لقوة جدله. ثم إن أبا الحسن الأشعري وافقه على معتقده، وكان أبو الحسن الأشعري في أول أمره معتزلياً تتلمذ على أبي علي الجبائي وعلى ابنه وهما من المعتزلة، وأبي الهذيل العلاف وهو من علماء المعتزلة، والجاحظ وهو معتزلي، فلما تتلمذ عليهم انتحل نحلتهم وأخذ الاعتزال، وبقي على ذلك في أول عمره، ثم إنه اقترن بـ ابن كلاب فتتلمذ عليه وقرأ عليه، ثم سار على عقيدته وبقي عليها نحواً من أربعين سنة على ذلك، وألف كتباً كثيرة على عقيدة ابن كلاب، ونسبت بعد ذلك للأشعري، وصار أتباعه عليها يسمون الأشاعرة أو الأشعرية. ثم إن الأشعري في آخر حياته رجع لما قرأ كتب أهل السنة وكتب أهل الحديث، فاهتدى ورجع عن هذه العقيدة إلى عقيدة أهل الحديث وألف على ذلك رسالته المطبوعة باسم (الإبانة في أصول الديانة) ، وألف كتابه الذي سماه (مقالات الإسلاميين) ذكر فيه مقالات المعتزلة والكلابية والوعيدية والجبرية والمرجئة ونحوهم، وبالغ في ذكر مقالات الجهمية والمعتزلة وما ينتقد عليهم، ثم بعدما انتهى من هذه المقالات ذكر مقال أهل السنة، وسرد عقيدتهم سرداً محكماً، وبينها بياناً وافياً كافياً، ولما انتهى منها قال: وبكل ما قالوه نقول، وبكل ما ذهبوا إليه نذهب. فعرف بذلك أن الأشعري أصبح من أهل السنة في آخر أمره، وتجد هذا الفصل الذي ذكره قد نقله ابن القيم في أول كتابه (حادي الأرواح) وفي آخر الكتاب نفسه أيضاً، وكأنه يقول: هذا الكتاب الذي كتبته في ذكر الجنة أهله الذين يستحقونه هم أهل هذه العقيدة الذين اعتقدوها. ونقل منها شيئاً كثيراً في كتابه الذي سماه (اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية) ، ونقل منه أيضاً شيخه ابن تيمية رحمه الله تعالى في (الحموية) ، ونقله تلميذه الإمام الذهبي في كتاب (العلو) ، مما يدل على أنهم تيقنوا أن الأشعري رحمه الله كان على هذه العقيدة التي هي عقيدة السلف الصالح. ولكن مع الأسف فإن أهل زمانه وبعدهم إلى يومنا هذا تمسكوا بعقيدته التي في وسط حياته، والتي ألف عليها كتبه، والتي هي عقيدة ابن كلاب، تمسكوا بها، وسموا أنفسهم أشعرية وأشاعرة، واشتهروا بهذه النسبة، ولم يزالوا على ذلك ينتحلون هذه العقيدة، فهم يقولون: نحن في الفروع شوافع وفي المعتقد أشاعرة. هكذا يقولون، ولم لا تتبعون الشافعية في الأمرين: العقيدة والمذهب؟ وكذلك يقول الحنفية: نحن حنفية في الفروع وأشعرية في الأصول. فمذهب الأشاعرة هو الذي انتشر انتشاراً كثيراً، وما يزال ينتحله كثيرون ويفضلونه على غيره، ويناضلون ويجادلون في نصره، وينصرونه بكل ما يستطيعون، وفيه ألفوا كتباً كثيرة، فمن كتب المتقدمين كتاب (الإرشاد) للإمام الجويني الذي هو إمام الحرمين فيما يتعلق بهذه العقيدة، ولكنه شحنه بأصول المتكلمين الذين يتكلمون في العقائد ويجعلون تلك البراهين أو القواعد التي يقعدونها أدلة على ما يذهبون إليه، فهذه عقيدتهم، وكتاب الإرشاد مطبوع، ومنهم الرازي المشهور الذي يسمى الفخر الرازي صاحب التفسير الكبير، أبو عبد الله بن عمر الرازي، ألف كتاباً سماه (تأسيس التقديس) ، وجعله في عقيدة الأشاعرة، وأهداه إلى سلطان ذلك الزمان، وانتشر هذا الكتاب وهو ما يزال مطبوعاً منتشراً.

ظهور ابن تيمية وأثره في أهل السنة

ظهور ابن تيمية وأثره في أهل السنة لما كان آخر القرن السابع وأهل السنة طوال هذه القرون يتسترون أخرج الله لهم عالماً من أهل السنة صدع بالحق، وهو ابن تيمية رحمه الله، فلم يبال بمخالفة أهل زمانه، بل تعلق بالحق واعتقده، وأحيا مذهب السلف رحمهم الله، وناقش أهل زمانه في العقيدة، فثار عليه أهل زمانه في دمشق، فقد كان هناك علماء أجلاء، مثل ابن الزملكاني والسبكي المشهور، وهؤلاء أشاعرة، وقد تمكن مذهب الأشعرية منهم، وتلقوه عن مشائخهم، وصار مذهباً راسخاً عندهم، فجاء شيخ الإسلام وصرح بمذهب أهل السنة، وبالاستواء، وبالعلو، وبالصفات الفعلية والذاتية، فكان هذا مما كدر صفوهم، وقالوا: هذا سوف يخالفنا ويفسد علينا عقائدنا. فرفعوا أمره إلى والي دمشق، فجمعهم السلطان وقال لهم: ناظروه. فناظروه، وأحضر العقيدة الواسطية وقال لهم: هذه كتبتها من زمان كذا وكذا وأنا الآن على ما أقول وأعتقد. فقرؤوها فإذا هي آيات وأحاديث وأدلة وأقوال موافقة للحق، ولكنهم مع ذلك أخذوا ينكرون عليه التصاريح التي صرح بها، وظهرت حجته عليهم ولم يقدروا على مقاومته، ولكنهم مع الأسف لم يرجع منهم إلا القليل، بل بقوا على معتقدهم. وانتشرت عنه هذه العقيدة، فسمع به علماء في مصر من الحنفية ومن الشافعية الذين هم على مذهب الأشعري فرفعوا به إلى السلطان في مصر، وقالوا: نريد أن يأتينا حتى نناظره، وحتى لا يفسد علينا عقيدتنا ولا يفسد علينا جماهير الأمة فإنهم على هذا المعتقد. فكتب إليه السلطان أن يأتي إليهم، فذهب إليهم وأقام هناك سبع أو ست سنين في مصر كلها في جدال، وتصدى لمناظرته أو مجادلته عالم شافعي يدعى ابن عدوان، ونصبوا قاضياً لهم حنفياً يقال له: ابن مخلوف فحضروا عنده، فقال له ابن عدوان: أنا أشتكي وأنكر على هذا الرجل؛ فإنه يقول: إن الله في السماء بذاته، وإن الله يتكلم بحرف وصوت، وإن القرآن حروفه ومعانيه من كلام الله تعالى. ونحن نقول: إن كلام الله تعالى معنى قائم بذاته، وإن القرآن ليس كلام الله وإنما هو حكاية أو عبارة، ونحن لا نقول: إن الله ليس على عرشه. وأخذ يدلي عليهم الحجج، فعند ذلك قال ابن مخلوف: ما تقول يا فقيه؟ فابتدأ رحمه الله تعالى بمقدمة الحمد والثناء على الله تعالى، فقطعوا عليه حمده وقالوا: ما جئنا بك لتخطب، إنما جئنا بك لتحتج. فعند ذلك قال: فمن الحكم؟ فقالوا: قاضي القضاة ابن مخلوف. فقال: كيف تحكم علي وأنت خصمي؟ فعند ذلك غضب هذا القاضي المعترف بفضله وبسيادته، فلم يجد بداً من أن كتب: يسجن ابن تيمية. فوافق على أنه يسجن، وسجن لمدة سنتين أو أكثر، ولكن لم يتوقف عن الكتابة، بل كان يأتي تلامذة له ويلقون عليه الأسئلة ويملي عليهم أجوبتها، فكتب في تلك المدة كلها كتباً كثيرة، حتى جمع منها أكثر من عشرة مجلدات تسمى (الفتاوى المصرية) ، ثم جمعت وصار ينقل منها كثيراً. ثم أخرج، وحصلت بينه مناظرة وبين عدي بن مسافر وبعض الصوفية، فأنكروا عليه تشدده عليهم، وذلك لأنه ينكر على الصوفية أحوالهم الباطنة، فالحاصل أنه أعيد إلى السجن مرة ثانية وبقي فيه سنتين أو ثلاثاً، وبقي هناك إلى أن تخلص بعد ست سنين فرجع إلى دمشق. وبعد رجوعه إلى دمشق بقي يدرس ويعلم، وتتلمذ عليه بعد رجوعه التلميذ الخاص ابن القيم، وما رآه إلا بعدما رجع سنة إحدى عشرة وسبعمائة، فتتلمذ عليه ابن القيم وابن كثير والذهبي وابن عبد الهادي ونحوهم، وقبلوا ما قال، وأظهر هؤلاء بالعقيدة، والشافعي منهم بقي على مذهبه ولكنه انتحل مذهب أهل السنة، فـ ابن كثير والذهبي كلاهما شافعي، ومع ذلك أخذا مذهب أهل السنة مع بقائهما على المذهب الشافعي، وأما ابن عبد الهادي وابن القيم فهما حنبليان، وكل منهم بقي على مذهبه في الفروع، وتغيروا عما كانوا عليه أو تلقوه من قبل، فـ ابن القيم يقول: إنه قبل أن يأتيه ابن تيمية قرأ على بعض المتكلمين وتلقى منهم بعض العقائد التي هي عقائد أشعرية أو نحوها، ولكن أنقذه الله بـ ابن تيمية لما جاء، كما أشار إلى ذلك في نونيته. فالحاصل أن هؤلاء في هذا القرن جددوا مذهب أهل السنة، فتجد كتب ابن القيم تعالج وتجادل في مذهب أهل السنة وفي إحياء هذا المذهب، مثل كتابه الذي سماه (الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة) ، وهو مطبوع أكثره ومفقود بعضه، ومطبوع مختصره، وكتابه الذي سماه (اجتماع الجيوش الإسلامية) كلها تتعلق بالعقيدة. وابن تيمية رحمه الله له كتب موسعة أوضح فيها مذهب أهل السنة، ورد على تأسيس التقديس للرازي، بكتاب موسع اسمه (نقض التأسيس) ، هذا النقض أتى عليه من الأساس، وفند حججه مما يدل على أنها إن كانت مشتهرة إلا أنها كبيت العنكبوت لا تقوم لمن كان ذا بصيرة. ورد على الرافضي ابن المطهر الذي ألف كتاباً سماه (منهاج الكرامة في منصب الإمامة) ، ولما جيء بهذا الكتاب إلى الإمام ابن تيمية إذا أوله يتعلق بالصفات، فنقضه نقضاً كاملاً ورد عليه رداً وافياً فيما يتعلق بالصفات، كذلك فيما يتعلق بالمذهب الرافضي في حججهم وشبهاتهم، والكتاب طبع أولاً في أربعة أجزاء ثم طبع أخيراً في عشرة أجزاء والحادي عشر فهارس، وهو ميسر لمن أراد اقتناءه والاطلاع عليه ليعرف أن هذا الإمام رحمه الله قد بذل جهداً في نصر السنة، وأيضاً كتابه الثالث الذي سماه (العقل والنقل) ، وقد طبع في طبعته الأولى باسم (موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول) ، ثم طبع طبعة أخيرة باسم (درء تعارض العقل والنقل) ، وذلك لأن أكثر ما يحتج به هؤلاء الأشاعرة العقل، فيقولون: العقل ينكر كذا. العقل لا يقر بكذا وكذا. فأولاً أقنعهم بأن العقل ليس مرجعاً، بل المرجع الأساسي هو الشرع والسمع والنقل. وثانياً: بين لهم أن العقول الصحيحة توافق المنقولات الصريحة ولا يحصل بينها أي تفاوت، فليرجعوا إلى عقولهم وليحققوها. وبين لهم أيضاً أنهم متناقضون، فأحدهم يثبت صفة مثلاً ثم ينفيها، ففي نفيه يقول: نفاها العقل وفي إثباته يقول: أثبتها العقل عجباً لك فهل عقلك تغير، كيف تغير بين عشية وضحاها؟! عقل واحد ينفي ثم يثبت، ويأتيك عاقلان كل منهما يدعي كمال العقل، فهذا يثبت هذه الصفة وهذا ينفيها، أليس هذا دليلاً على أن هذه العقول ليست مرجعاً؟ فكيف يحكمونها ويجعلونها المرجع في هذه السنة أو هذا المعتقد. ولا شك أنه لما جادلهم بمثل هذه المجادلات انقطعت شبهاتهم، فالحاصل أنه رحمه الله هو الذي أحيا هذه السنة بعدما كادت أن تضمحل. والعلماء الذين في تلك الفترة ما فتئوا يكتبون، ولكنهم لا يقدرون على أن يواجهوا العالم ولا أن يصرحوا، بل يكتبون كتابات يعطونها لتلامذتهم، ففي القرن الخامس ظهر عالم حنبلي يقال له: القاضي أبو يعلى بن الفراء، وكان قد قرأ على المتكلمين، وعلق بذهنه شيء من علم الكلام، ولكن لما كان منتحلاً لمذهب أحمد لم يجد بداً من أن يقتني كتب أحمد، واقتني الكتب التي ألفها الحنابلة، ولا شك أن منها ما يتعلق بالعقيدة، فلأجل ذلك صار على هذه العقيدة، وألف رسالة صغيرة تتعلق بصفة العلو، ولما ألفها قامت عليه الدنيا وأنكروا عليه وشنعوا، وقالوا: أبو يعلى مجسم أبو يعلى مشبه. مع أنه قاض معترف به وعالم جليل، وله كتاب مطبوع اسمه (إبطال التأويلات) ، يدل أيضاً على أنه مظهر للحق، وأنه على العقيدة السليمة، ولكنه لم يجرؤ مثلما تجرأ ابن تيمية في مناظرة أهل زمانه والإنكار عليهم إنكاراً بليغاً. ومثله الإمام ابن قدامة، له أيضاً كتب تتعلق بالعقيدة، وهو حنبلي المذهب، ومن مؤلفاته في العقيدة (لمعة الاعتقاد) ، ومنها كتب في إبطال التأويل وفي صفة العلو ونحو ذلك، ولكن لم يكن جريئاً على أن يظهر للعالم ويجادل ويناظر ويخاصم، وذلك لأن جل اهتمامه بتلامذته الذين يتتلمذون عليه، ولم ير أن يجادل أهل زمانه. ولا شك أن هناك أئمة وعلماء قد خالفوا في هذه العقائد التي هي عقيدة الأسماء والصفات، وذهبوا إلى كثير من التأويلات، ومنهم -مثلاً- الإمام النووي صاحب كتاب (رياض الصالحين) وصاحب (شرح مسلم) ، وله كتاب (الأذكار) ، و (المجموع شرح المهذب) ، وله كتب كثيرة، ولكن مشايخه الذين قرأ وتتلمذ عليهم طوال حياته في باب العقيدة أشاعرة؛ لأن المذهب الأشعري هو الذي عم في تلك البلاد، فلم يكن له من يلقنه مذهب أهل السنة، وكأنه لم يشتغل إلا بمذهب الشافعي، ولم يشتغل إلا بكتب مشايخه القديمين، وقراءته لكتب الحديث إنما هي قراءة عابرة، وقد تأثر بأهل زمانه، فلما تأثر بهم اعتقد ما هم عليه، فذهب إلى تأويل آيات الصفات وأحاديثها، فتجد أنه في شرح صحيح مسلم أتى على حديث النزول فأخذ يتأوله تأويلات بعيدة وينكر أن يكون نزولاً حقيقياً يليق بالله، وتمر به أيضاً أحاديث فيها صفات فعلية فيتأولها، حتى في رياض الصالحين يتأول كثيراً من الأحاديث التي فيها بعض الصفات إذا صارت مخالفة له. نقول: إن هذا بسبب تأثرهم بعلماء أهل زمانهم، ولا شك أن أهل الزمان لهم تأثير على غيرهم؛ فلذلك نقول: إن الإنسان عليه أن يختار من مشايخه أهل الثقة ممن يثق بعقيدتهم حتى يكونوا قدوة له، فإذا أخذ من هؤلاء المبتدعة تأثر بهم كما هو طريقة هؤلاء العلماء الذين منَّ الله عليهم بهذه المنزلة. ومنهم الحافظ ابن حجر، شافعي المذهب، شرح صحيح البخاري فمرت به الأدلة التي في أول كتاب الإيمان والتي في آخر كتاب التوحيد في صحيح البخاري، ومع ذلك نجد أنه كثيراً ما يسلط عليها التأويلات، وينقل تأويلات مشايخه والعلماء الذين قرأ عليهم، مع أنه قرأ أيضاً لـ ابن تيمية، وقرأ لـ

الأسئلة

الأسئلة

حكم الخوارج من بين أهل الإسلام

حكم الخوارج من بين أهل الإسلام Q هل الخوارج كفار؟ وكيف يوجه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) ، وحديث: (لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) ؟ A وردت هذه الأحاديث في مسلم، وفي البخاري بعضها، فمن العلماء من طبقها عليهم وقال: إنهم المرادون بهذه الأحاديث. ومنهم من قال: إنها صفات لآخرين لم يخرجوا بعد، أو يخرجون في آخر الزمان، أو ليسوا هم الذين خرجوا في عهد الصحابة. ولا شك أن كثيراً من الصفات تنطبق عليهم، مثل قوله: (إنهم يخرجون على حين فرقة من الناس، يقتلهم أولى الطائفتين بالحق) ، وإن كان هذا قد ضعفه بعضهم، وعلى هذا فالصحيح أن الذين قاتلهم علي رضي الله عنه لا يحكم بكفرهم، ولو كانوا يكفروننا فإننا لا نكفرهم، ولذلك سئل علي رضي الله عنه: أكفارٌ هم؟ فقال: من الكفر فروا. فقيل: أمنافقون؟ فقال: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً، وهؤلاء يذكرون الله كثيراً. قيل: ماذا نقول فيهم؟ قال: (هم إخواننا بالأمس بغوا علينا) فأطلق عليهم اسم البغاة، وهذا هو القول الصحيح، أنهم بغاة، وأنهم يقاتلون لكف شرهم، فإن البغاة هم الذين ينقمون على إمام المسلمين وينكرون عليه ويخرجون ولهم قوة وشوكة وشبهة يتشبثون بها، فتزال شبهتهم، كما بعث إليهم علي ابن عباس رضي الله عنهم وناقشهم حتى رجع منهم نحو الثلث، فإذا بقوا فإنهم يقاتلون قبل أن يرجعوا أو يكف شرهم، هذا في الخوارج، والآثار التي وردت فيهم إن كانت فيهم فهي من باب نصوص الوعيد، وإن كانت في غيرهم فينطبق عليهم بعضها لا كلها.

الحكم المترتب على من يقول بخلق القرآن

الحكم المترتب على من يقول بخلق القرآن Q ماذا يترتب على قول من يقول: إن القرآن مخلوق؟ A يترتب عليه إنكار أن الله تعالى متكلم، وهو إنكار صفة كمال، ثم أيضاً يترتب عليه إنكار الأدلة التي دلت على ذلك، فالله أضافه إلى نفسه فقال: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ، وقال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح:15] ، وقال تعالى: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ} [البقرة:75] ، فالذين يقولون: إنه مخلوق ينكرون نزول هذه الآيات، ثم نقول: ما الذي حملهم على اعتقاد عقيدتهم؟ نقول: ذلك أنه خيل إليهم أن الكلام إنما يصدر من متكلم له لسان وشفتان ونحو ذلك، فقالوا: لو أثبتنا الكلام لله لأثبتنا هذه الصفات، وإذا أثبتناها أثبتنا تجسيماً وتشبيهاً ونحو ذلك. فهكذا اعتقدوا، ولا شك أن من أنكر أن الله متكلم فقد وصفه بالنقص، ولعله يأتينا في صفة الكلام الأدلة على ذلك.

توجيه قول البخاري: لفظي بالقرآن مخلوق

توجيه قول البخاري: لفظي بالقرآن مخلوق Q يروى عن البخاري رحمه الله أنه كان يقول: لفظي بالقرآن مخلوق. فما توضيح هذه العبارة؟ A رويت عنه هذه المقولة، وبعضهم أنكرها، وبعضهم اعتذر عنه، البخاري رحمه الله ألف كتابه الذي هو صحيح البخاري، وفي كتاب التوحيد ذكر الأدلة على إثبات أن الله متكلم وأن القرآن كلام الله، أوضح ذلك أتم إيضاح، ثم ألف كتابه (خلق أفعال العباد) يرد به على المعتزلة الذين يقولون: إن الله لا يقدر على خلق أفعال العباد، وإن العباد هم الذين يخلقون أفعالهم. وينكرون أن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ويعطي ويمنع، فأثبت بهذا الكتاب خلق أفعال العباد. ولا شك أن كلمة (لفظي بالقرآن مخلوق) فيها احتمالان: احتمال صحيح واحتمال غير صحيح، فالصحيح إذا أريد بها: حركة لساني وشفتي ولهواتي. فهذه مخلوقة، فإن الله هو الذي خلق الإنسان وخلق أفعال الإنسان، فكونك تحرك شفتيك أنت الذي حركتها، ولكن الذي أقدرك على ذلك هو خالق العبد وخالق أفعاله، فإذا أريد باللفظ حركات الإنسان وحركات لهواته فهذا معنى صحيح. وأما المعنى الذي ليس بصحيح فهو أن يراد باللفظ الملفوظ، (لفظي) يعني: ما أتلفظ به وما يخرج مني عند التلفظ بالقرآن، فإذا قرأت -مثلاً-: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فهذه الألفاظ التي تلفظت بها إن كان يريد أنها مخلوقة فهذا ليس بصحيح، بل هو قول بعيد باطل يتنزه عنه البخاري وغيره. والحاصل أنها إن ثبتت عن البخاري فهو يريد بذلك حركات العبد، وإن لم تثبت فهو الأولى، والذين نهوا عن ذلك أرادوا بذلك النهي عن يعتقد أن اللفظ هو الملفوظ، كأنهم يقولون: إننا إذا سهلنا لهم أن يقولوا: اللفظ بالقرآن مخلوق دعاهم ذلك إلى أن يقولوا: إن لفظي بالقرآن مخلوق.

ضابط وصف الشخص بالبدعة

ضابط وصف الشخص بالبدعة Q متى يقال عن الشخص: إنه مبتدع؟ ومن الذي يحكم عليه؟ A معلوم أن البدع إما أن يبتدعها الإنسان وإما أن يتبع فيها غيره، فإذا ابتدعها قيل: هذا مبتدع. أي أنه منتحل ببدعة لم يسبق إليها. فيقال مثلاً: إن معبداً الجهني ابتدع هذه البدعة التي هي إنكار علم الله السابق. ويقال: إن عمرو بن عبيد ابتدع بدعة كذا وكذا. ويقال: إن واصل بن عطاء ابتدع بدعة كذا وكذا. فمثل هذه البدع لا شك أنها بدع عميقة عريقة، وأن أصحابها يقال لهم: مبتدعون. أما الأتباع فيحكم عليهم أنهم أتباع المبتدعة، ولا شك أن متبع المبتدع مبتدع؛ لأنه عرف بأنها بدعة فاتبعه عليها، فهو مبتدع حقاً، لكن البدع تختلف، فمنها بدع مكفرة ومنها بدع مفسقة، وهذا فيما يتعلق بالعقائد. فالبدع المكفرة مثل بدعة غلاة الجهمية، يقول ابن القيم: ولقد تقلد كفرهم خمسون في عشر من العلماء في البلدان يعني خمسمائة عالم. هؤلاء كفروهم، وهناك كذلك بدعة غلاة الرافضة وهي مكفرة، وهم الذين يطعنون في القرآن ويردون أحاديث الصحيحين ويكفرون الصحابة الذين نقلوها، فهذه لا شك أنها بدعة مكفرة؛ لأنهم طعنوا في الأصلين: الكتاب والسنة، أما البدع الأخرى كبدعة المرجئة والجبرية والأشاعرة فإنها بدع مفسقة ولا تصل إلى حد الكفر. وكذلك البدع في الفروع يقال لها: بدعة ولو لم تكن مكفرة ولا مفسقة، لكنها نقص في الدين تقدح في كمال التوحيد، مثل الذين يحتفلون بليلة الميلاد والمولد النبوي أو بليلة الإسراء، أو يحيون أول جمعة من رجب ويسمونها صلاة الرغائب أو ما أشبه ذلك، هذه البدع لا شك أنها بدع عملية وليست بدعاً اعتقادية، وإن كانوا يعتقدون أنها من السنة ولكنها ليست معتقداً. والحاصل أن المبتدع الذي يتبع البدعة وهو يعرف أنها بدعة وتقوم عليه الحجة يسمى مبتدعاً شاء أم أبى.

موقف الأشاعرة من أهل السنة في هذا الزمان

موقف الأشاعرة من أهل السنة في هذا الزمان Q هل للأشاعرة تمكن في هذا الزمان وأين؟ وهل صحيح أن كثيراً من الناس يعتقدون أن مذهب أهل السنة والجماعة هو مذهب الأشاعرة؟ A لهم تمكن في هذا الزمان، وقد قامت عليهم الحجة بعد طبع الكتب، وبالأخص كتب السلف، وقد امتعضوا امتعاضاً شديداً لما طبعت، فقد طبع كتاب (السنة) لـ عبد الله بن الإمام أحمد، وطبع كتاب (الرد على بشر المريسي) لـ عثمان بن سعيد الدارمي، ولما طبع امتعض أحد الأشاعرة، وهو زاهد الكوثري المشهور، عالم محدث مشهور له تحقيقات، وطبعت له مؤلفات، ولكنه متعصب لمعتقد الأشاعرة، فله تعليقات ينكر بها على أهل السنة، وله مقدمة كتاب (الأسماء والصفات) للبيهقي قدم فيه مقدمة حمل فيها على ابن تيمية وأخرجه من الإسلام وكذلك تلميذه ابن القيم، وله كتاب أيضاً في الرد على ابن القيم وغير ذلك، لقبهم فيها بألقاب شنيعة، حتى إنه استباح لعنهم وتضليلهم، فدل على أن لهم بقايا. وهذا العالم الكوثري له تلامذة جاءوا إلينا في كثير من الأوقات ودرسونا، ولما أفصحنا بتضليل الكوثري أخذوا يجادلوننا وقالوا: كيف تضللونه وهو العالم الجليل الكبير الزاهد، فيه كذا وكذا. وكثير من الذين جاءوا من مصر علماء مشهورين، ولكن على معتقد الأشعري، إلا أنهم يأخذون حذرهم، فلا يفصحون بمعتقدهم إذا كانوا يدرسون من يخشون أن ينكر عليهم، فإذا أنكر عليهم بعض التلاميذ قالوا: ننتقل إلى موضوع آخر. نقطع الكلام في هذا. وهكذا، ومنهم من اهتدى ورجع إلى الحق وقامت عليه الحجة، ومنهم من رجع إلى ما كان عليه، وهكذا أيضاً علماء في كثير من البلاد العربية والإسلامية ما يزالون يدرسون المذهب الأشعري، وكتبهم عليها شروح، أي: الكتب التي ألفت في العقائد الأشعرية، مثل (العقائد النسفية) للنسفي، وهو عالم أشعري مشهور، ومثل (بدء الأمالي) ، ومثل عقيدة اسمها (الخريدة) ، و (الجوهرة) ، و (الشيبانية) ولو كانت أخف، لكن الذين شرحوها غلاة في المذهب الأشعري، ينكر أحدهم على الشيباني، مثل قوله في قصيدته المشهورة: فلا حل في شيء تعالى ذو العلا ينكر بذلك أن الله في السماء أو نحو ذلك، وعلى كل حال ما يزال هناك من هو على هذا المذهب. والذين يقولون: إن أهل السنة هم الأشاعرة أنفسهم أقول لهم: أتذكر قبل ثلاثين سنة أو نحوها أنَّا كنا ندرس على بعض الأشاعرة، فأتى بمسألة التحسين والتقبيح، وأتى بمسألة في الإيمان فقال: هذا مذهب الأشاعرة، هذا مذهب أهل السنة. وهو مذهب الأشاعرة ومذهب المعتزلة، فقلنا: فأين مذهب أهل السنة؟ قال: هو مذهب الأشاعرة. وذلك لأنه أشعري، فالأشاعرة عندهم أهل السنة.

حكم أكل ذبائح الرافضة

حكم أكل ذبائح الرافضة السؤال: هل يجوز أكل ذبائح الرافضة؟ A الصحيح أنها لا تؤكل، خصوصاً غلاتهم الذين ينتحلون هذه النحلة، فهم يجمعون بين ثلاثة أشياء: الأول: الشرك الصحيح. فإنهم دائماً في الملمات لا يدعون إلا بـ (يا علي) أو (يا حسين) أو نحو ذلك. ثانياً: طعنهم في القرآن، ولو أظهروا أنهم لا يطعنون فيه، ولكنهم على معتقد خبيث. ثالثاً: تكفيرهم للصحابة، وردهم لكتب أهل السنة، فمثل هؤلاء لا تؤكل ذبائحهم.

حكم اقتسام التركة على غير القسمة الشرعية

حكم اقتسام التركة على غير القسمة الشرعية Q هل يجوز التقسيم بين الورثة إذا اصطلحوا على ذلك؟ A الورثة إذا عرف أن التركة منحصرة فيهم فيصطلحون كما يريدون، ولكن الأولى أن يقسموا على كتاب الله حتى يقنع كل بحصته، والله تعالى أعلم، وصلى الله على محمد.

شرح اعتقاد أهل السنة [3]

شرح اعتقاد أهل السنة [3] جرى أهل العلم من أصحاب العقيدة السليمة على نسبة اعتقادهم إلى أهل الحديث باعتبارهم أهل السنة والجماعة: ومن عقيدة أهل السنة والجماعة الإيمان بوجود الله تعالى والإقرار بذلك، وأنه الخالق لكل شيء المبدع له عز وجل. ومن عقيدتهم: الإيمان بالملائكة وما لهم من وظائف، وما ذكر من صفاتهم، والإيمان برسل الله كلهم من دون استثناء، كما أنهم يقبلون كل ما نطق به الكتاب والسنة على أنهما الأدلة التي يجب الأخذ بها.

مذهب أهل السنة والجماعة في العقيدة

مذهب أهل السنة والجماعة في العقيدة قال الشيخ الحافظ أبو بكر الإسماعيلي رحمه الله تعالى في بيان اعتقاد أهل السنة: [بسم الله الرحمن الرحيم، اعلموا -رحمنا الله وإياكم- أن مذهب أهل الحديث -أهل السنة والجماعة- الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وقبول ما نطق به كتاب الله تعالى وما صحت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نعدل عما ورد به ولا سبيل إلى رده؛ إذ كانوا مأمورين باتباع الكتاب والسنة مضموناً لهم الهدى فيهما، مشهوداً لهم بأن نبيهم صلى الله عليه وسلم يهدي إلى صراط مستقيم، محذرين في مخالفته الفتنة والعذاب الأليم. ويعتقدون أن الله تعالى مدعو بأسمائه الحسنى، موصوف بصفاته التي سمى ووصف بها نفسه ووصفه بها نبيه صلى الله عليه وسلم، خلق آدم بيده، ويداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء بلا اعتقاد الكيف. وأنه جل وعلا استوى على العرش بلا كيف، فإن الله تعالى أنهى إلى أنه استوى على العرش، ولم يذكر كيف كان استواؤه. وأنه مالك خلقه، وأنشأهم لا عن حاجة إلى ما خلق، ولا لمعنى دعاه إلى أن خلقهم، لكنه فعال لما يشاء ويحكم ما يريد، لا يسأل عما يفعل والخلق مسئولون عما يفعلون، وأنه مدعو بأسمائه الحسنى، وموصوف بأسمائه التي سمى ووصف بها نفسه وسماه ووصفه بها نبيه عليه السلام، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يوصف بما فيه نقص أو عيب أو آفة؛ فإنه عز وجل تعالى عن ذلك، وخلق آدم عليه السلام بيده، ويداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء بلا اعتقاد كيف يداه؛ إذ لم ينطق كتاب الله تعالى فيه بكيف] . هكذا ابتدأ رحمه الله، وكأن الراوي حذف المقدمة؛ لأن عادة المؤلفين البدء بمقدمة فيها حمد الله والثناء عليه والشهادتان، والدوافع التي تدفع إلى ذلك الموضوع، وبيان الموضوع، ولم يذكر في هذه الرسالة، فإما أن يكون المؤلف اقتصر على العقيدة بنفسها ولم يذكر المقدمة، وإما أن يكون بعضهم اختصر المقدمة وترك ما لا حاجة إليه وذكر ما إليه حاجة. والخطاب بقوله: [اعلموا] عام للمسلمين الذين يقبلون الإرشادات والتعليمات والنصائح التي توجه إليهم؛ فإنهم هم الذين ينتفعون بما أمروا به، فالأمر بقوله: [اعلموا] أمر إرشاد وتوجيه ونصيحة، ومعناه أنه يأمركم، فإذا أردتم الخير وامتثلتم فإنكم مفلحون، ومن خالف ذلك وصد عنه فإنه يعتبر مخالفاً للنصيحة راداً لها. دعا المصنف في أول هذه العقيدة بالرحمة، فقال: [رحمنا الله وإياكم] ، وبدأ لنفسه فدعا بالرحمة ثم دعا بعد ذلك للمخاطبين بالرحمة، وهو دليل أيضاً على أنه يعترف بصفة الرحمة، أن الله تعالى واسع الرحمة، وأنه رحيم بعباده، والرحمة صفة فعلية يرحم الله بها من يشاء من خلقه، وقد اشتق منها لله سبحانه وتعالى أسماء كالرحمن والرحيم، وهما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر، فالرحمة صفة لله تعالى ثابتة يرحم بها من يشاء من خلقه، وكذلك وضع الرحمة في قلوب عباده، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله جعل الرحمة مائة جزء، وأنه وضع حزءاً منها بين العالمين يتراحمون به حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، وتلك الرحمة وضعها الله تعالى في قلبي الأبوين ونحوهما. والرحمة في حق المخلوق رقة وشفقة على من يرحمه، فهو يرق قلبه أيضاً، أشفق عليه حتى حرص على إيصال الخير إليه ودفع الشر عنه، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من لا يَرحم لا يُرحم) ، وقال لمن رأى قلبه قاسياً: (أو أملك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟!) ، فأفاد بأن الله يضع الرحمة في القلوب، والكلام هنا في أن الله رحيم بالعباد وأنه يرحم من يشاء، كما في قوله تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} [العنكبوت:21] ، وأن من رحمه فقد سعد، كما في قوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54] ، وقال: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [الأعراف:156] .

معنى المذهب لغة واصطلاحا

معنى المذهب لغة واصطلاحاً قول المصنف رحمه الله: [أن مذهب] . المذهب هو المسلك الذي يسلك، يقال: هذا مذهب فلان. أي: طريقه الذي ذهب منه وسلكه. ويقال: فلان ذهب في مذهب فلان. بمعنى: في طريقه الذي سلكه. ولكن اصطلح على أن المراد بالمذهب القول الذي يقتدى به بعده، أو الذي يختاره ويرجحه، ويسمى مذهباً له، أي: مسلكاً سلكه وقولاً رجحه على غيره بدليل اقترن به. أما المذاهب فيراد بها الأقوال التي تنسب إلى أربابها، ويطلق المذهب على كل قول قاله إمام مجتهد مات وهو مجتهد ومتمسك به، سواءٌ اقتدي به فيه أو لم يقتد به، وهو هنا أضاف المذهب إلى أهل الحديث.

أهل الحديث وسبب تسميتهم بذلك

أهل الحديث وسبب تسميتهم بذلك قوله: [مذهب أهل الحديث أهل السنة والجماعة] ، وخصهم لأنهم القدوة، فمن يريد أن يقتدي بهم ويسير على نهجهم فليسلك هذا الطريق وليتمسك بهذا المذهب، ولأنهم أقرب إلى الصواب والنجاة والفلاح، ومعلوم أن أهل الحديث هم الذين تمسكوا به؛ لأن الأصل أنهم رووا الأحاديث ودونوها واشتغلوا بها وفتشوا في صحيحها وضعيفها، ونقبوا فيما يصلح أن يقبل وما لا يصلح أن يقبل، فصار ديدنهم وشغلهم الشاغل هو الاشتغال بالحديث. وما المراد بالحديث؟ لا شك أنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يتناقلونه. وكان الصحابة رضي الله عنهم في أول أمرهم يقبلون الحديث ممن رواه وممن نقله، ولكن بعدما دخل في الإسلام من ليس بمسلم إسلاماً صحيحاً وأخذ يختلق أحاديث وأقوالاً وينسبها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فعند ذلك اهتم المسلمون بهذه الأحاديث، فألزموا كل من روى حديثاً أن يذكر من حدثه به. قال مسلم في مقدمة صحيحه: كانوا لا يسألون عن الإسناد، فلما ركب الناس الصعب والذلول قالوا: سموا لنا رجالكم. أي: حتى نعلم من يقبل ومن لا يقبل. فصاروا لا يأخذون الحديث ولا يتقبلونه إلا إذا عرفوا سنده، فصاروا يروونها بالأسانيد، فعند ذلك بحثوا في رجالها الذين نقلوها وترجموهم، وذكروا ما يقال فيهم، ومن هو أهل أن يكون محدثاً حافظاً، ومن ليس كذلك، فاشتغلوا بهذا، مثل الإمام البخاري، فقد كان شغله بالحديث طوال حياته ومثل الإمام أحمد ويحيى بن معين وهو رفيق للإمام أحمد وله تاريخ وتراجم مطبوعة، وعلي بن المديني وله كتب مطبوعة، والإمام مسلم، وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم، وكذلك مَنْ قبلهم اشتغلوا بالأحاديث وبنقلها وبتتبعها، ورد ما ليس بثابت منها وما ليس بصحيح، وتثبيت الثابت الصحيح، وقبول رواية هذا وقبول رواية هذا، فصار شغلهم الشاغل دائماً في الأحاديث، فإذا جلسوا في مجلس إنسان فليس لهم إلا أن يقولوا: ماذا تحفظ -يا فلان- من الأحاديث؟ ما عندك من الأحاديث؟ هذا الحديث رواه فلان عن فلان، فماذا تعرفون عن الراوي الفلاني؟ وماذا تعرفون عن شيخه وشيخ شيخه؟ وهكذا يكون دائماً شغلهم في التنقيب عن الأحاديث، فلذلك سموا أهل الحديث وكفى بهذا الاسم شرفاً، وذلك لأنه الحديث الذي أضيف إليه صلى الله عليه وسلم.

تعريف السنة وسبب تسمية أهل السنة بذلك الاسم

تعريف السنة وسبب تسمية أهل السنة بذلك الاسم تطلق السنة على أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وتقابل القرآن، فأنت تقول: أعطني دليلاً من الكتاب ومن السنة ومرادك بالسنة الأحاديث، فجعلت الأحاديث هي السنة؛ لأنها الطريقة التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم، والسنة: اسم للطريقة التي يسار عليها كما روي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه قال: سَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم، وسَنَّ الخلفاء الراشدون بعده سنناً إلى آخره. ومراده بالسنن الطرق التي سنوها وشرعوها لمن بعدهم. فالنبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته هذه الطرق التي يسيرون عليها، ألا وهي الأوامر والنواهي والأقوال والإرشادات، فسميت سنة لأنه بينها ووضحها، فكأنهم يسيرون عليها، فالسَنَن هي الطرق، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سَنَنِ من كان قبلكم) يعني: طرقهم. ولما قال له أصحابه: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. قال: (الله أكبر! إنها السنن) يعني: الطرق المسلوكة قبلكم. فسماها سنناً، يعني: طرقاً ومماهد يسار عليها. ثم أطلقت السنة على العقيدة السليمة، فيقال: السنة جاءت بكذا وكذا وكثيرٌ من العلماء سموا كتبهم بالسنة، فللإمام أحمد كتاب اسمه (السنة) ، ولولده عبد الله كتاب اسمه (السنة) ، ولتلميذه أبي بكر الخلال (السنة) ، ولـ ابن أبي عاصم كتاب (السنة) ، والمراد بالسنة هنا ما يعتقد، فلا تدخل في سنن الأفعال، أما كتاب المروزي -واسمه محمد بن نصر المروزي - فهو يتعلق بالأحاديث والذب عنها وتصحيحها وما يقال فيها، ولا يتعلق بالعقيدة، بخلاف كتاب (السنة) لـ عبد الله ولأبيه ولتلميذه فإنها تتعلق بالعقيدة، ولبعض المتأخرين -وهو عالم يماني اسمه: ابن الوزير - كتاب مطبوع اسمه (الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم) ، فيراد بالسنة هنا الأحاديث، وكذلك أيضاً الأعمال. والحاصل أن أهل العقيدة السلفية يسمون (أهل الحديث) ، و (أهل السنة) ، و (أهل الجماعة) ، ويراد بالجماعة: المجتمعون على الحق والخير، والذين تجمعهم عقيدة سليمة ولو كان غيرهم أكثر منهم. ولقد جاءت أحاديث كثيرة تدل على لزوم الجماعة، ففي حديث أبي ذر المشهور قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم) ، وفي أحاديث كثيرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بالجماعة) ، فهو يحث على لزوم جماعة المسلمين؛ فإن دعوتهم تحيط بهم من ورائهم.

المراد بالجماعة وعلى من تطلق

المراد بالجماعة وعلى من تطلق أطلقت الجماعة على أهل العقيدة السليمة ولو قلوا في بعض الأزمنة، والأصل أنهم السواد الأعظم والأكثرية، ولكن قد يقلون في بعض الأزمنة، ولـ ابن الجوزي كتاب اسمه (تلبيس إبليس) ، وفي بعض الطبعات (نقد العلم والعلماء) ، بدأه بمقدمة على الحث بلزوم الجماعة، وكأنه يشير إلى أن الأكثرين غالباً الأقرب إلى الصواب، ولكن لو قدر أن الصواب صار مع غيرهم فإنا نأخذ بمن معه الصواب ولو كانوا قليلاً، فالحق حق وإن قل أهله، والباطل باطل وإن كثر أهله. ثم قد يراد بالجماعة أهل القرون المفضلة وبالأخص الصحابة، فكلهم على الحق لم يذكر فيهم مبتدع، والقرن الثاني وهم التابعون- الأصل فيهم أنهم على الحق؛ لأن فيهم الذين قرؤوا العلم وأخذوه عن الصحابة، وتلامذتهم تابعوا التابعين الأصل فيهم أنهم على الصواب والحق، وأما القرن الرابع وما بعده فهو الذي كثرت فيه البدع وكادت السنة أن تختفي. إذاً فقد يقال: إن الجماعة هم السلف الصالح، والجماعة هم أهل القرون الثلاثة المفضلة الذين زكاهم النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه عقيدتهم.

الإقرار بالله أصل من أصول عقيدة أهل السنة والجماعة

الإقرار بالله أصل من أصول عقيدة أهل السنة والجماعة قال المصنف رحمه الله تعالى: [الإقرار بالله] . هكذا عبر بالإقرار، والمراد الاعتراف، تقول: أقر بالشيء: أي: اعترف به. وقد تقول: لماذا لم يعبر بالإيمان كما ورد في حديث جبريل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له (الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وأن تؤمن باليوم الآخر وتؤمن بالقدر) فقال: (تؤمن) ولم يقل: تقر؟ وA كأن المؤلف هنا اختار لفظ الإقرار؛ لأنه يريد به الاعتراف الظاهر الذي يسمع من المعترف بذلك على رؤوس الأشهاد، والإيمان كأنه خفي؛ لأنه تصديق القلب ويقينه وعقيدته، والإقرار: إظهار للشيء الذي أقر به وإعلان له على رؤوس الأشهاد وتمسك به ولا شك أن من أظهر هذا الاعتراف وقال: أنا أقر وأعترف بأن الله هو إلهنا، وأنه أنزل الكتب وأرسل الرسل وخلق الخلق، وله ملائكة كرام كاتبون. ويعترف بذلك نقبل ذلك منه.

لوازم الإقرار بالله

لوازم الإقرار بالله لم يذكر المصنف هنا إلا أربعة أركان: الإقرار بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، ولم يذكر اليوم الآخر ولا القدر، ولكنه سيذكر ذلك فيما بعد وإن لم يفصل فيه تفصيلاً. ولا شك أن الإقرار بهذه الأربعة يستلزم الإقرار بغيرها، فمن أقر بالله لزمه أن يقر بوجوده وبقدرته وبتصرفه وبتدبيره وبخلقه وبعلمه وبسائر صفاته التي وصف بها نفسه، وهذا هو الأصل، ولأجل ذلك تجد كثيراً من الأحاديث ذكر فيها الإقرار أو الإيمان بالله واليوم الآخر دون بقية أركان الإيمان، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) ، وكقوله: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تَحدَّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج) ؛ اقتصر على ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر، فالإيمان بالله يدخل فيه التوحيد بأنواعه وأخبار الله تعالى والإيمان برسله؛ لأنهم جاؤوا بما أرسلهم به، ويدخل فيه الإيمان بكتبه؛ لأنها اشتملت على كلامه ووحيه وإرشاده، ويدخل فيه الإيمان بوعده وبوعيده ونحو ذلك، فهو الأصل، فمن آمن بالله أتبع إيمانه كل ما أخبر الله به وكل ما جاء عن الله تعالى.

الإيمان بوجود الله فرع عن الإيمان به

الإيمان بوجود الله فرع عن الإيمان به معلوم أن الإنسان إذا آمن بالله فأولاً يؤمن بوجود الله تعالى، ويرد بذلك على الشيوعيين والفلاسفة الدهريين والطبائعيين، وذلك لأن هؤلاء جميعاً لا يعترفون بخالق بل الأمر عندهم مسند إلى الطبائع، والطبائع هي التي تؤثر في هذا الكون، وفي منظومة لبعض المتأخرين يقول فيها: ولا نصغي لعصري يفوه بما يناقض الشرع أو إياه يعتقد يرى الطبيعة في الأشياء مؤثرة أين الطبيعة يا مخذول إذ وجدوا؟! فأين الطبيعة قبل أن يوجدوا؟ وأين الطبيعة بعدما وجدوا؟ فهؤلاء الطبائعيون لا يؤمنون بوجود الله تعالى، والمسلم الذي يعتقد وجود الله تعالى يعترف بوجوده، وفي ثلاثة الأصول قال الشيخ رحمه الله: (إذا قيل لك: بم عرفت ربك فقل: بآياته ومخلوقاته) ، يعني: عرفته بآياته التي منها الليل والنهار والشمس والقمر، وبمخلوقاته التي منها السموات والأرض وسائر المخلوقات، وهذه المخلوقات دالة على أن لها خالقاً. ولقد تكلم ابن كثير رحمه الله على أول آية فيها أمر في تفسيره، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ} [البقرة:21-22] فقال: هذه ست دلالات نصبها الرب تعالى ليعرفه العباد ويعترفون أنه ربهم الذي خلقهم، أي: أوجدهم وقد كانوا معدومين: {وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة:28] ، (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) : الآباء والأجداد والأسلاف؛ فإن النعمة على الوالدين نعمة على الأولاد. (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً) أي: غطاء وبساطاً ليناً تجلسون وتتقلبون عليه كما تشاؤون، وكما فيها من آيات عظيمة، (وَالسَّمَاءَ بِنَاءً) وجعلها سقفاً محفوظاً وبناء فوقكم (وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً) لا يقدر الخلق على أن ينزلوه، (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ) جعل هذه الأرض لينة تقبل أن تنبت النبات الذي يكون به غذاؤكم وبه تتم حياتكم. ثم إنه -رحمه الله- ذكر أقوالاً ونقولاً عن السلف رحمهم الله يستدلون بها على وجود الخالق، فذكر أن أبا حنيفة جاءه قوم من الدهريين وسألوه عن وجود الله -يريدون أن يشككوه في وجود الرب تعالى- فقال لهم: إني منشغل بأمر رهيب. قالوا: وما هو؟ قال: ذكر لي أن هاهنا سفينة ليس فيها أحد، وأنها تسير وحدها في البحر، وترسي على الساحل، وتحمل نفسها أمتعة حتى تمتلئ، ثم تسير سيراً مستقيماً حتى تصل إلى بلاد أخرى، ثم تنزل ما فيها من الأمتعة مع اختلافها، وتعزل التمر والأكسية وغيرها كل بمفرده، ولا يختلط هذا بهذا، ومع ذلك ليس فيها أحد، وليس فيها من يسيرها ولا من يرسلها. فقالوا: وهل تصدق بهذا؟ لا يصدق بهذا إلا مجنون! السفينة خشبة، وكيف تحرك الخشبة نفسها؟ وكيف تسير بنفسها؟ وكيف تحمل نفسها وهي خشبة؟ فعند ذلك قال لهم: خصمتم، فأنتم تشاهدون هذا الكون، فهذه النجوم التي تسير من الذي خلقها وأوجدها؟ وهذان النيران -الشمس والقمر- من الذي سيرهما هذا السير المحكم؟ وهؤلاء الخلق من الذي بثهم في هذه الأرض؟ وهذه الأفلاك التي تسير في هذا الكون، وهذه الرياح من يصرفها كما يشاء، وهذه السحب من ينشئها؟! فعند ذلك انقطعوا وتابوا على يديه، فهذه حجة قوية. وسئل الإمام أحمد رحمه الله عن هذا السؤال فقال: ها هنا قصر مشيد محكم ليس له منفذ ولو كان رأس الإبرة، ظاهره فضة بيضاء وباطنه ذهب أصفر، محكم البناء، لا يصل إليه تصرف، ولا يصل إليه أدنى تدبير، بقي هذا القصر على ما هو عليه، وبينما هو كذلك إذ انكسر جداره فخرج من وسطه حيوان حي سميع بصير يأكل ويشرب ويتقلب ويتصرف لنفسه فيه جميع الحركات، كيف ولد في وسط هذا القصر؟ يشير بذلك إلى بيض الطير، هذا البيض يخرج ميتاً ليس فيه أدنى علامة للحياة، ومع ذلك يتكون فيها هذا الفرخ، ويتغذى من وسط، ثم بعد ذلك يخرج بإذن الله، فالله تعالى هو الذي كونه حيواناً صغيراً، ثم بعد ذلك أكل ونما إلى أن خرج وهو حيوان كبير يستطيع أن يطير ويتقلب، أليست عناية الله تعالى بهذا الطائر في هذه البيضة تدل على أنه كونه وقدره كما يشاء؟ والآيات والعلامات كثيرة، وقد تكلم ابن القيم رحمه الله في أول كتابه الذي سماه (مفتاح دار السعادة) بنحو أكثر من ستين صفحة كلها في التفكر والتأمل في المخلوقات والاستدلال بها على قدرة الخالق، فجعل ذلك في فصول. فهو يقول -مثلاً-: فصل: تأمل خلق الإنسان كيف خلق من كذا وركب فيه كذا وكذا، ثم تأمل خلق هذا الحيوان -وأخذ يفصل في الحيوانات-، ثم تأمل خلق الأرض وفيها كذا وكذا، وتأمل خلق كذا. نحو ستين صفحة كلها في الأدلة، وفي أثناء كلامه يقول: فسل المعطل: من الذي جعل النور في هاتين العينين، هذا النور الذي يمتد ويبصر القريب والبعيد؟ سل المعطل: من الذي فتح هاتين الأذنين وجعلها مدخلاً للصوت حيث إن الصوت يصل إلى الدماغ ويتصور السامع ما يقول من إنسان وحيوان وطير؟ سل المعطل: من الذي ركب هذا الفؤاد وجعل فيه هذا العقل الذي يميز بين الأشياء وفرق به بين الإنسان وبين غيره من الدواب؟ سل المعطل: من الذي ركب لهذا الطير هذه الأجنحة حتى يطير بها ويتصرف بها كما يريد؟ وتكلم في كتاب له آخر اسمه (التبيان) -أكثره من القرآن- عندما أتى على تفسير سورة الذاريات في قوله تعالى: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:20-21] فأطال في قوله: (وَفِي أَنفُسِكُمْ) حيث شرح ما في الإنسان من العجائب حتى كأنه أعلم من المشرحين الذين يشرحون المخلوقات، ويصف الإنسان من رأسه إلى إبهامه، يصف كل عضو ويقول: مادته من كذا وكذا. لا شك أنها آيات بينات عظيمة.

الإقرار بأن الله الخالق

الإقرار بأن الله الخالق إذا آمنا بالله تعالى أنه موجود آمنا أيضاً أنه الخالق الذي تفرد بالخلق فلا خالق غيره، {ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام:102] ، فهو الذي انفرد بخلق المخلوقات، ولا يكون في الوجود إلا ما يريد، {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] ، {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:21] . ولا شك أن الاعتراف لله سبحانه وتعالى بأنه الخالق يفيد الإنسان عظمة الله تعالى؛ وذلك إذا اعترف بأن الخلق كله خلق الله، وأن كل ما في الوجود بإيجاده، وأنه ليس فيه ذرة من خلق أحد، وأن الإنسان مهما اخترع وخلق لا يقدر على خلق مثل ما خلق الله، قال الله: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان:11] ، فلو حاول الإنسان -مثلاً- أن يخلق ذباباً أو ذرة يجعلها متحركة بطبعها ويركب فيها عينيها وأذنيها وأقدامها ومفاصلها ونحو ذلك لا يستطيع، ولو اجتمع الخلق على أن يخلقوا ذرة أو بعوضة فيها نفس وروح وحركة طبعية اختيارية لم يقدروا على ذلك، أما التصوير فإنه يسمى تصويراً، وقد توعد الله أيضاً الذين يصورون، كما في الحديث القدسي: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا برة، أو ليخلقوا شعيرة) . قد تقول: إنهم الآن يصنعون حب الأرز الصناعي وما أشبهه؟! لكنه ليس مثل البر الذي هو خلق الله تعالى، حيث إنه ينبت إذا بذر، فالبر الطبيعي أو نحوه إذا دفن في الأرض وسقي نبت فوق الأرض وأزهر، وأما هذا فإنهم يأخذون شيئاً من الأرز ثم يطبخونه، ثم بعد ذلك يدخلونه في ماكينات ويقسمونه إلى حبات يسيرة، ثم يجعلونه طعاماً، فما أخذوا إلا من كخلق الله تعالى، أما خلق الله فلا يستطيعون أن يخلقوا ذرة كما هي أو برة أو شعيرة طبيعية بطعمها وبطبعها. وكذلك أيضاً إذا عرفنا أن الله تعالى هو الخالق فإننا نؤمن بأنه المعبود، وذلك كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة:21] كأنه قال: أذكركم بأني خلقتكم، وإذا كنتم خلقي فأنتم عبيدي وملكي، والعبيد يطيعون خالقهم ومالكهم، ولا يخرجون عن طواعيته، ولا يتعبدون لغيره، بل يعبدونه وحده، فكيف تتعبدون لمن لم يخلقكم وتتركون الذي خلقكم؟ فالكلام الذي يتعلق بالإيمان بالله يدخل فيه جميع ما يأتي من الإيمان بالصفات ونحوها.

الإيمان بالملائكة

الإيمان بالملائكة أما الإيمان بالملائكة فإنه ركن من أركان الإيمان الستة، فنؤمن بأن الله تعالى خلق الملائكة، وأنهم كما وصفهم الله تعالى: {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء:19] أي: لا يتعبون، بل يسبحون الليل والنهار لا يصيبهم الفتور. {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:26-28] ، {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] ، {يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [فصلت:38] ، {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:206] ، والآيات في صفاتهم كثيرة، فلا بد أن نؤمن بأن الملائكة خلق لله تعالى، وذكر العلماء أنهم أرواح مستغنية عن أجساد تقوم بها، كما ذكر ذلك ابن القيم في كتاب (الروح) ، ولأجل ذلك لا نراهم، وكان ينزل الملك على النبي صلى الله عليه وسلم ولا يراه من حوله، وذلك لأنهم أرواح لا يطالها البصر، ولكن لهم القدرة على التشكل والظهور بصور مختلفة. وقد ورد ذكر كثرتهم، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أطت السماء وحق لها أن تئط؛ ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك قائم أو راكع أو ساجد) ، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم دائماً يسجدون لله ويعبدونه، ففي حديث النواس رضي الله عنه: (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك) فهذا خضوعهم لله تعالى، وتواضعهم لله، (إذا أراد الله أن يوحي بالأمر -تكلم بالوحي- أخذت السموات منه رجفة أو رعدة شديدة، فإذا سمع ذلك أهل السماء صعقوا وخروا لله سجداً) كل ذلك دليل على أنهم خلقوا للعبادة، ولذلك يقولون: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30] . وذكر أن منهم خزنة النار وخزنة الجنة، ففي قوله: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} [الزمر:71] يعني: الذين يحمونها أو يحفظونها أو نحو ذلك. وقد ذكر أن الإنسان موكل به ملائكة؛ لقوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] ، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار) .

الإيمان بالكتب والرسل

الإيمان بالكتب والرسل وأما الإيمان بكتبه فهو بأن نؤمن بأن لله تعالى كتباً أنزلها على أنبيائه، والكتب هي التي تكتب في صحف، سواءٌ أنزلها مكتوبة، أو مقروءة ثم كانت نهايتها أن كتبت وضبطت، وورد في بعض الأحاديث: (أن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب، ثم إنه ضمن هذه المائة في الأربعة: التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، ثم إن معاني هذه الأربعة ضمنها القرآن) ، فأصبح القرآن متضمناً لمائة كتاب وأربعة كتب، ولهذا وصفه الله تعالى بقوله: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة:48] يعني: محتوياً على الكتب التي قبله. أي: على معانيها ومفادها ومدلولها. فكتاب الله الذي أنزله هو خاتمة كتبه التي أنزلها على أنبيائه وهو أفضلها؛ حيث إنه وصفه بقوله: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] ، ولعله يأتينا كلام في الكتب. أما الإيمان بالرسل أو الإقرار بهم فهو اعتقاد أن الله تعالى أرسل رسلاً من البشر ورسلاً من الملائكة، كما في قول الله تعالى: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر:1] ، فالملائكة رسل إلى الأنبياء، يرسل الله الرسول الملكي إلى الرسول البشري بالوحي الذي يأمره أن يبلغه، فمن الملائكة رسل ومن البشر رسل، فالرسل من البشر واسطة بين الله تعالى وبين البشر {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لئلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء:165] ، وهناك حديث طويل ذكره ابن كثير عند قوله تعالى: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء:164] ، وهو حديث أبي ذر أنه قال: (يا رسول الله! كم الأنبياء؟ فقال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً جم غفير) جم غفير، فالرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر، والأنبياء هذا عددهم، وإذا لم يصح هذا الحديث فإن الآية تصرح بكثرتهم {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء:164] . وإيماننا بالرسل إيمان مجمل، فنصدق بأنهم صادقون مصدَّقون، وأنهم لا يقولون إلا بما أوحي إليهم، ولا يبلغون إلا ما أرسلوا به، ولا يقولون شيئاً من قبل أنفسهم.

عقيدة أهل السنة فيما نطق به القرآن

عقيدة أهل السنة فيما نطق به القرآن قال المصنف رحمه الله: [من عقيدة أهل السنة والجماعة قبول ما نطق به كتاب الله تعالى] . قوله: [قبول] دل على أن كتاب الله تعالى هو حجتنا وهو دليلنا، فكتاب الله هو الذي أورثناه الله تعالى، كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32] ، فالذين ورثوه هم المصطفون، وهم خيرة الله من خلقه، وصفوته، فمن عقيدتهم أنهم يقبلون كل ما نطق به، وأنهم لا يردون شيئاً، سواءٌ أكان رداً صريحاً بالتكذيب به بأن يقولوا: هذه السورة ليست من القرآن، وهذه لم يتكلم بها الله، وهذه مكذوبة، وهذه الآية زائدة ليست من القرآن بل أضافها إليه الكتاب أم نحو ذلك؛ فإن من كذب بكلمة من القرآن فقد كذب به كله، أي: حكمه حكم من كذب به؛ لأن كل كلمة متحققة الثبوت، والقرآن كله نقل نقلاً متواتراً، فلا يحق لأحد أن يرد منه كلمة، كما لا يحق لأحد أن يزيد فيه حرفاً أو يضيف إليه كلمة، وقد تكفل الله تعالى بحفظه فقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] ، فمن عقيدة أهل السنة الإقرار والاعتراف والقبول بكل ما جاء في كتاب الله تعالى. وعبر بالنطق وكأن القرآن ينطق، فهم يقولون بأن كتاب الله ينطق بكذا وكذا وقد تقول: إننا نمسك القرآن الذي هو المصحف ومع ذلك لا يتكلم! ولكن الموجود في داخله مكتوب بالحروف العربية الواضحة، فإذا قرأتها فكأنه نطق لك القرآن وأوضح لك، فيقال: نطق القرآن بكذا. أي: احتوى على كذا واشتمل على كذا وكذا. فذكر -مثلاً- أركان الإسلام، وذكر في القرآن الحدود، والبعث والنشور، والأسماء والصفات، هذا كله مما نطق به القرآن، ووظيفتنا أن نقبل ذلك. قال رحمه الله تعالى: [وما صحت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم] . خص ما صحت به لأن هناك أحاديث لم تصح ولا رويت بأسانيد ولكن فيها ضعف فلا ندخلها في العقيدة، ولا ندخلها في الشريعة إذا كانت غير صحيحة أو غير مقبولة، إنما نقبل ما صحت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يشترط الإسماعيلي رحمه الله أن تكون متواترة بل أجمل ذلك، وإن لم تبلغ حد التواتر، فلو صحت وكانت من الآحاد فإنها مقبولة ونقول بها إذا ثبتت وصحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم يقول: [ولا نعدل عما ورد به، ولا سبيل إلى رده] . قوله: [لا نعدل] ضبط بلفظ [لا معدل] يعني: لا عدول. أي: لا يجوز لك أن تعدل عما ورد في القرآن والسنة، ولا يحق لك أن تتركه جانباً، بل إذا عرفت أنه ثابت في كتاب الله تعالى وصحيح في سنة رسوله فإن عليك أن تقول به وأن تنطق به وأن تعتقده ولو خالفك من خالفك، ولو كثر الذين ينكرون عليك، فإن دليلك دليل قوي، دليلك كتاب الله الذي هو أصح ما جاء عن الله تعالى فيما بين أيدينا، ودليلك أيضاً سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة القوية، فلا تعدل عما ورد به ولا سبيل لك إلى رده. قوله: [لا سبيل إلى رده] بمعنى أنه ليس لأحد مسلك أو سبيل إلى أن يرد شيئاً مما جاء في هذه السنة أو الآيات، بل من رد شيئاً منها فكأنه رد الجميع. قال: [إذ كانوا مأمورين باتباع الكتاب والسنة] في قوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف:3] ، والسنة منزلة كما أن القرآن منزل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) يعني السنة. فهم مأمورون باتباع الدليلين: الكتاب والسنة. والأمر من الله، فإذا كان الأمر من الله تعالى فإنه يجب امتثاله.

الأمر باتباع الكتاب والسنة ونبذ ما خالفهما

الأمر باتباع الكتاب والسنة ونبذ ما خالفهما قال المصنف رحمه الله تعالى: [إذ كانوا مأمورين باتباع الكتاب والسنة] . نعرف أن الله تعالى يأمرنا دائماً باتباع كتابه، ويحثنا على اتباع سنة نبيه، ويذكر عاقبة من اتبع هذا النبي وحسن العاقبة له، مثل قول الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:3] . والاتباع هو السير على نهجه، أي: سيروا على منهجه وطبقوه واعملوا به. والأصل في الاتباع أنه اتباع الآثار، فإذا سار رجل على طريق ثم سرت عليه تقول: اتبعت أثر فلان. واتبعت فلاناً في مذهبه أي: ذهبت إلى ما ذهب إليه. ثم أطلق الاتباع على التطبيق للأعمال، فالله تعالى أمرنا باتباع الكتاب والسنة، وأمرنا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن الاتباع هنا هو الاتباع بالأعمال الصالحة، بمعنى: السير على نهجه وتطبيق سنته والعمل بما أمر به. هذا معنى قوله: [إذ كانوا مأمورين باتباع الكتاب والسنة] . وقد وردت الأدلة باتباع الكتاب والسنة في آيات كثيرة، مثل قول الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ} [آل عمران:31] ، (اتبعوني) بمعنى: أطيعوني. والاتباع معناه: الاقتداء به. وهو أيضاً التأسي، كما هو في قول الله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] ، وكذلك قال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158] ، فرتب الاهتداء على الاتباع، ويفهم منه أن ترك الاتباع له ضلال، فالاهتداء ضده الضلال، فمن اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم اهتدى، ومن ترك اتباعه واتبع هواه ضل. وكثيراً ما يذكر الله تعالى ضلال من اتبع هواه، كما في قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:14] أي: اتبعوا ما تهواه أنفسهم، {أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43] أي أنه لا يهوى شيئاً إلا ركبه. فالذين يتبعون أهواءهم هم الضالون، والذين يتبعون السنة والكتاب هم المهتدون، وهذا معنى قوله: [مضموناً لهم الهدى فيهما] . يعني: ضمن الله الهدى لمن اتبع كتابه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، كما قال تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158] ، والأدلة كثيرة في ذلك. قال المصنف رحمه الله: [مشهوداً لهم بأن نبيهم صلى الله عليه وسلم يهدي إلى صراط مستقيم] . يعني: يدل على الصراط ويحث على سلوكه، قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [الشورى:52-53] ، وصراط الله الذي أمر بسلوكه بينه النبي صلى الله عليه وسلم، فصراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض بينه النبي صلى الله عليه وسلم وهدى إليه، فمن سار عليه فإنه من المهتدين، ومن أخطأه فإنه من الضالين. والأصل أن الصراط هو الطريق الواسع الذي يسلكه الناس ولا يضيق بهم، ومنه سميت السبل طرقاً وسبلاً يسار عليها، فسبيل الله واحد، وهو الذي بينته الرسل وبينه النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] ، وفي الحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خط خطاً مستقيماً، ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك الخط منحرفة يميناً ويساراً، فأشار إلى الخط المستقيم ثم قال: هذا صراط الله -يعني الصراط المستقيم- وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، وقرأ هذه الآية من سورة الأنعام: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام:153] ) . والصراط الذي يهدي إليه النبي صلى الله عليه وسلم هو دين الله الذي جاء به وبلغه، فمن سار عليه فإنه على الهدى المستقيم، ومن اتبع بنيات الطريق هلك وضل. وقوله صلى الله عليه وسلم: (على كل سبيل منها شيطان) هذه السبل هي البدع والمحدثات التي أحدثت بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الذين يدعون إليها إما شياطين الجن وإما شياطين الإنس، فهؤلاء شياطين يدعون إلى طريق الروافض، أو المعطلة، أو الجبرية، أو الخوارج، أو المرجئة، وهكذا. وكذلك أيضاً الطرق والمناهج المحدثة، فهؤلاء يدعون إلى الكفر، وهؤلاء إلى النفاق، وهؤلاء إلى الشيوعية، وهؤلاء إلى البعثية، وهؤلاء إلى العلمانية، وهكذا. قال المصنف رحمه الله: [محذرين في مخالفته الفتنة والعذاب الأليم] أخذ هذا من الآية التي في آخر سورة النور: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] بعد أن أمر الله تعالى بطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم وبعدم الخروج إلى شيء إلا بإذنه، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ} [النور:62] ، ثم قال: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] ، وقد يكون سبب النزول خاصاً، وهو أنه ينهاهم فيقول: اجلسوا هاهنا فيخالفونه ويجلسون في غيره، يقول لهم: الزموا هذا المكان، واحفروا هنا في الخندق فيتركون أمره ويخالفونه، ولكن الآية عامة يدخل فيها كل من خالف سنة جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومما هو مشهور عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله قوله: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك) . وهكذا يمثل رحمه الله في زمانه أناساً يقلدون سفيان الثوري ويتبعون رأيه -مع أنه مجتهد ومحدث- وهم يعرفون الأحاديث، فيتعجب منهم الإمام أحمد: كيف تعرفون الأحاديث وتقلدون الرجال؟ ألستم بذلك مخالفين للنبي صلى الله عليه وسلم؟! تعرفون أمره ثم تتركونه لرأي فلان وفلان، هذه هي المخالفة، وإذا خالفتموه فلا تأمنوا أن تصيبكم فتنة أو يصيبكم عذاب أليم.

الأسئلة

الأسئلة

كيفية زكاة مشاغل الخياطة

كيفية زكاة مشاغل الخياطة Q مشاغل الخياطة كيف تكون زكاتها؟ وهل تزكى بما فيها من مواد خياطة، وكذلك لوازم مستخدم الخياطة وماكينة الخياطة وغيرها؟ A لا زكاة فيما يستعمل، فالماكنة التي يخيط عليها لا تقدر؛ لأنها ليست للبيع وإنما هي للاستعمال، وكذا جميع ما يشترى للاستعمال، إنما الزكاة في الأجرة التي يأخذها ويحصل عليها إذا حال عليها الحول، فالخياط إذا كان يخيط بالأجرة فإنه يجمع الأجرة، فإذا تم نصابها وحال عليها الحول زكاها. أما إذا كان عنده أقمشة يبيع ويخيط فإنه إذا حال عليها الحول يقدر ما عنده من الأقمشة التي يبيع منها ويضيفها إلى ما عنده من النقود ويزكي الجميع. والغسال -مثلاً- عنده مكائن التغسيل وما أشبهها لا زكاة فيها، والأجرة التي يجمعها من هذا ومن هذا إذا حال عليها الحول فإنه يزكيها، وهكذا أهل الحرف والصناعات، فالأدوات التي يستعملونها للصناعة لا تقدر، وهكذا أيضاً ما ليس معدوداً للبيع، فصاحب البقالة -مثلاً- عنده ثلاجات تحفظ الفواكه والأشربة وما أشبهها، وعنده صناديق تحفظ الأمتعة، فهذه لا تقدر ولا تزكى إنما يزكي الشيء الذي للبيع.

الجمع بين تصور الملائكة بالأجساد وحقيقة شكلها

الجمع بين تصور الملائكة بالأجساد وحقيقة شكلها Q أشكل القول بأن الملائكة أرواح بغير أجساد، فكيف الجمع بين ذلك وبين ما ورد أن جبريل عليه السلام رآه النبي صلى الله عليه وسلم وله ستمائة جناح، وأن صاحب الصور قد التقم الصور؟ A لا منافاة بين ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم يراه وغيره من الحاضرين لا يرونه، جعل الله في النبي صلى الله عليه وسلم قوة إبصار يبصره وإن لم يكن له شبه ظاهر، ولهذا في حديث جبريل أنه لما تصور بصورة رجل ثم سأل عن تلك الأسئلة ثم قام قال لهم: (ردوه) ، فذهبوا فلم يروا شيئاً مع أنه قريب عهد بهم، مما يدل على أن الله أعطاهم قدرة على التشكل، والله تعالى خلق الجن أرواحاً بلا أجساد، وكذلك الشياطين أرواح بلا أجساد، وخلق البشر أرواحاً وأجساداً، فالروح التي في الإنسان هي التي بها حياته، فإذا نزعت الروح من الإنسان مات وبقي جسداً بلا روح، والروح إذا خرجت من هذا الجسد لا نبصرها ولا نراها، وورد في الأحاديث أن الملائكة يحضرون عنده، كما في قوله تعالى: (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61] ، فهل نحن نراهم إذا حضروا عند الميت؟ وورد في الحديث حديث البراء المشهور: (إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا نزلت إليه ملائكة بيض الوجوه، معهم أكفان من الجنة، وحنوط من الجنة، فيجلسون منه مد البصر، ويأتيه ملك الموت، فيقول: أيتها الروح الطيبة كانت في الجسد الطيب! اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان. فتخرج منه تسيل كما تسيل القطرة من السقاء، أو يسلها منه كما تسل الشعرة من العجين) . فنحن لا نرى ملك الموت ولا نرى الملائكة، إذاً فهذا دليل على أنهم خلق من غير جنس هذا الخلق.

الجمع بين سبق القدر ورد الدعاء له

الجمع بين سبق القدر ورد الدعاء له Q كيف نجمع بين قولي النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب مقادير العباد قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة) ، وقوله صلى الله عليه وسلم (لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر) ؟ A لا منافاة بينهما، فالله تعالى كتب مقادير الخلائق ولا يتغير شيء عما خلقه، ولكنه جعل أسباباً أزلية في هذا الكون، كما أن الأعمال الصالحة أسباب أزلية في السعادة والأعمال السيئة أسباب أزلية في الشقاوة، فكذلك من جملة الأسباب الأزلية البر وحسن الخلق وصلة الرحم وما أشبه ذلك، فقال: (من أحب أن يزاد له في أجله، وأن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره، فليصل رحمه) جعل ذلك سبباً، ولكن ليس مغيراً لقدر الله الذي كتبه قبل أن تخلق المخلوقات، ولكنه مكتوب في الأزل أن هذا يزاد عمره بسبب الصلة، ولو كان عاقاً لكان عمره ناقصاً، وهذا يزاد في رزقه بسبب الدعاء، ولو لم يدع لكان رزقه ناقصاً، فكتب الله أن هذا يدعو، وهذا يعصي، وهذا يطيع، وهذا يعمل صالحاً فيسعد، فكل ذلك مكتوب في الأزل وليس أمراً حادثاً، بل هو أمر أزلي يصدق بذلك كله، ولذلك الصحابة لما قالوا: (يا رسول الله! أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: اعملوا، فكل ميسر لما خلق له) . الله تعالى يسر الإنسان وهداه: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل:36] ، والكل يحيا موافقاً للقضاء والقدر، لكن الإنسان مأمور بأن يعمل ويجتهد في العمل، ويعرف أن هذا لا يخالف القضاء والقدر.

أقل ما يكون زمنا للاعتكاف

أقل ما يكون زمناً للاعتكاف Q من دخل المسجد لطلب العلم ومكث فيه من بعد صلاة العصر ولم يخرج إلا بعد العشاء هل له أن ينوي الاعتكاف في ذلك الوقت؟ A له أجر على هذه المراقبة وهذه الملازمة إن شاء الله، أما الاعتكاف فالذي نعرف أن أقله يوم كامل أو ليلة كاملة، أي: من طلوع الشمس إلى غروبها نهاراً كاملاً، أو من غروبها إلى طلوعها ليلاً كاملاً؛ لأن أقل ما ورد فيه يوم أو ليلة. ولكن الذي يلازم المسجد ويجلس فيه بالنية له أجر الملازمة، وله أجر النية الصادقة وأجر انتظار الصلاة، كما في الحديث: (فإن أحدكم في صلاة مادامت الصلاة تحبسه) أو (هو في صلاة ما انتظر الصلاة، والملائكة تستغفر له) ، فله أجر إن شاء الله.

الفرق بين رحمة المخلوق ورحمة الخالق

الفرق بين رحمة المخلوق ورحمة الخالق Q في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق مائة رحمة) ، فهل الرحمة التي هي صفة من صفات الله مخلوقة؟ A الرحمة التي قذفها الله في قلوب العباد لا شك أنها مخلوقة، فقد جعل الله لقلب الإنسان رقة يرحم بها ولده أو يرحم بها من يستحق أن يرحم، وأما وصف الله بأنه رحيم وبأنه يرحم العباد فهذا صفة من صفاته، فالرحمة التي خلقها هي التي يرحم بها عباده، وأما الرحمة التي في مثل قوله: (خلقت الرحم، وشققت لها اسماً من اسمي) فهذه صفة من صفاته، وصفات الله ليست مخلوقة.

موقف طالب العلم من اختلاف أهل السنة في المسائل

موقف طالب العلم من اختلاف أهل السنة في المسائل Q ما هو الموقف حين يختلف علماء السنة في مسألة من المسائل؟ A إذا كان الاختلاف في الفروع فالأمر يسير، مثلاً: اختلفوا في الجهر بالبسملة في الصلاة الجهرية، ولك أن تنظر في أدلتهم وتفعل بما يترجح عندك، واختلفوا في وجوب القراءة خلف الإمام في الصلاة الجهرية والأمر في ذلك أيضاً يسير، واختلفوا في وضع اليدين في الصلاة على الصدر بعد الرفع من الركوع، فمنهم من يسدل ومنهم من يرفع، والأمر في ذلك يسير ولك أن تختار ما يوافق الدليل، فهذا الاختلاف في الفروع، وإن عرف الإنسان الدليل فإنه يتبعه. أما في مسائل العقيدة فالأصل أنك تختار ما كان عليه الصدر الأول الذين هم سلف الأمة وأئمتها وأهل الحديث، هؤلاء هم الذين يقدمون، فإذا وجدت أقوال مخالفة لأقوالهم كأقوال الكرامية والكلابية والجاحظية والهذلية مثلاً، فنقول: هذه أقوال حادثة بعد الصحابة والتابعين وتابعيهم وبعد سلف الأمة، وهذه أقوال لا مستند لها وليس عليها دليل من الكتاب أوالسنة، فلا نقبلها، وفي الأقوال الصحيحة غنية عنها.

حكم الجمع بعد دخول المدينة

حكم الجمع بعد دخول المدينة Q مجموعة من المدرسين يذهبون من بلدتهم إلى قرية تبعد مائة كيلو، فيخرجون بعد صلاة الفجر ويرجعون بعد الدوام، فلا يصلون إلا قبيل العصر بربع أو بثلث ساعة، وعندئذٍ يكونون مجهدين تماماً، فإذا ناموا لا يستطيعون القيام للصلاة، فهل لهم أن يجمعوا الظهر مع العصر؟ A ليس لهم ذلك مادام أنهم يصلون قبل العصر، وننصحهم بأن يُصلوا في الطريق وأن لا يُسرعوا في السير، فيصلون بالطريق، وبعدما يُصلون لهم أن يناموا لراحة أجسامهم، فمادام أنهم يُصلون قرب الوقت فليس لهم ذلك.

شرح اعتقاد أهل السنة [4]

شرح اعتقاد أهل السنة [4] من توفيق الله تعالى لأهل السنة أن منَّ عليهم باتباع أوامر الكتاب والسنة، وبهذا هدوا إلى صراط الله المستقيم، ومن ذلك الاتباع: إثبات الأسماء والصفات لله تعالى كما وردت بلا تكييف أو تمثيل أو تعطيل؛ كإثبات صفة اليد، وصفة الاستواء كما يليق به عز وجل، وما زلت قدم من زل إلا بسلوك غير هذا الصراط، ومما يثبتونه لله أنه خالق الخلق ومالكهم، ولم يخلقهم إلا لابتلائهم لا عن حاجة إليهم.

عقيدة أهل السنة في أسماء الله وصفاته

عقيدة أهل السنة في أسماء الله وصفاته قال المصنف رحمه الله: [يعتقدون -يعني أهل السنة أهل الحديث- أن الله تعالى مدعو بأسمائه الحسنى، وموصوف بصفاته التي سمى ووصف بها نفسه ووصفه بها نبيه صلى الله عليه وسلم] . هذه الجملة كررها كما سيأتي، وعقيدة أهل السنة إثبات أسماء الله تعالى، وكذلك دعاؤه بها، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180] ، والأسماء الحسنى هي التي سمى الله بها نفسه، وهي التي بلغت النهاية في الحسن، فهي حسنة كلها ليس فيها ما هو غير حسن وما هو موصوف بالقبح. ووردت أحاديث كثيرة في ذكر بعض الأسماء الحسنى، مثل التسعة والتسعين التي ذكرت في بعض الأحاديث، روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله تسعة وتسعين اسماً -مائة إلا واحداً- من أحصاها دخل الجنة) ، فلما روى هذا الحديث عمد بعض الرواة وجمعوها من القرآن، فبلغت تسعة وتسعين اسماً، وأخذوا الأسماء التي في آخر سورة الحشر {هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر:22-24] ، ثم جمعوا من مواضع من القرآن الغفار، والقهار، والوهاب، والعليم، والقابض، والباسط، والرزاق، والفتاح، والعليم إلى آخرها. ولكن الصحيح أن أسماء الله تعالى لا تحصر في هذه التسعة والتسعين، بل أسماء الله كثيرة وليست بهذا المقدار، والدليل على هذا ما رواه أحمد رحمه الله، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أصاب أحدكم هم أو غم فليقل: اللهم! إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحاً) ، فذكر في هذا الحديث قوله: (أو استأثرت به في علم الغيب عندك) فدل على أن الله سبحانه له أسماء استأثر بها في علم الغيب عنده ولم يطلع عليها أحداً. أما الدعاء بها فهو فهم سؤال الله بأسمائه، وجعل الأسماء وسيلة، إذا أردت أن تدعو الله فإنك تقدم بين يدي الدعاء ذكراً للأسماء، فتقول: يا رحيم! يا رحمن! ارحمنا برحمتك. يا عزيز! يا غفور! اغفر لنا بواسع رحمتك. وهكذا تدعوه بأسمائه، فتقول في كل اسم: يا عزيز. يا رحمن. يا ملك. يا قدوس. فهذا معنى (فادعوها بها) ، ويمكن أن يكون الدعاء هو أن يقدم بين يديه الثناء على الله تعالى بها، وأفضل ما يثنى به عليه ذكره بأسمائه الحسنى. وقد أكثر العلماء من الكلام في أسماء الله، فتكلم عليها الإمام البيهقي رحمه الله تعالى في كتابه المطبوع: (الأسماء والصفات) ، وقد طبع هذا الكتاب قديماً بتحقيق زاهد الكوثري، ولكنه أفسده وحرفه وحمله محامل بعيدة. ثم أعيد طبعه بتحقيق بعض العلماء المخلصين من أهل السنة، وسلم من تلك التعليقات التي أفسدته، ونبه المحقق على الأخطاء التي وقع فيها البيهقي والتأويلات، وعلى تحريف ذلك المعلق الأول الكوثري. وكذلك نظمها كثير من العلماء، مثل قول بعضهم: أيا طيب الأسماء يا من هو الله ومن لا يسمى بذلك الاسم إلا هو ونظم التسعة والتسعين في أبيات على هذا النمط، وكذلك سردها كثير من العلماء، ومنهم ابن القيم في كتابه (الصواعق) ، ومن المتأخرين حافظ الحكمي في (معارج القبول شرح سلم الأصول) ، وغيرهم ممن تكلم على أسماء الله تعالى وسردوا ما وقفوا عليه. وبعضهم أخذ أسماء وردت في بعض الأحاديث وإن لم يصدق أنه يسمى بها، كـ ابن حزم في (المحلى) ، فإنه تتبع الأسماء التي وردت في الأحاديث، وذكر أسماء لا يليق أن يتسمى الله بها؛ لكونها وردت في الأحاديث، مثل قوله في الحديث القدسي: (يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر) ، فجعل الدهر من أسماء الله مع أن الدهر هو الزمان، قالوا في معنى (وأنا الدهر) : أي: وأنا المتصرف في الدهر. أمَّا الصفات التي ذكرها الله أو وصف بها نفسه على وجه المقابلة فلا يجوز أن يشتق لله منها اسم كما اعتقد ذلك بعضهم، مثل قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] ، فلا يقال: من أسمائه المخادع. ومنه قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة:15] ، فلا يقال: من أسمائه المستهزئ. ومثل قوله: {وَأَكِيدُ كَيْداً} [الطارق:16] ، فلا يجعل من أسمائه الكائد، وكذلك الأفعال التي ذكرها عن نفسه، مثل قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] فلا يقال: من أسمائه الجائي. أو: {أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ} [البقرة:210] فلا يقال: من أسمائه الآتي. أو في قوله: {لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} [الحشر:3] فلا يقال: من أسمائه المعذب وما أشبه ذلك. ثم من أسمائه ما لا يجوز ذكره مفرداً إلا مع المقابل له، وهي الأسماء المزدوجة، مثل الخافض الرافع، المعز المذل، فلا يقتصر على واحد؛ لأنهما متقابلان، وكذلك المعطي المانع، وأشباه ذلك، نبه على هذا كثير من العلماء، ومنهم الشيخ آل سلمان في كتابه: (الكواشف الجلية في شرح العقيدة الواسطية) وغيره. أما كلامه عن صفات الله بأنها هي التي [سمى ووصف بها نفسه ووصفه بها نبيه صلى الله عليه وسلم] ، فهذه العبارة يذكرها جميع أهل السنة في مؤلفاتهم، فيقولون: لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم. ويعللون ذلك بقولهم: إنه تعالى أعلم بنفسه وأعلم بغيره، فإذا كان أعلم بنفسه وأثبت لنفسه صفاتاً فإنا نثبتها ولا نتحاشى من إثباتها، بل نؤمن بها حقاً ونعتقد صحتها وموافقتها لعقيدة المسلمين مهما شنع المشنعون أو أنكر المنكرون، وسيأتي لنا أمثلة لها، وكذلك ما وصف به النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لأنه أعلم بربه، وبمن أرسله، فالله تعالى خصه بالرسالة وأطلعه على ما أطلعه من العلم، وكلفه بالبيان وبالبلاغ، فلابد من أنه عالم بربه وعالم بما يجوز على الله تعالى، فإذا أثبت لله تعالى صفة أو صفات فإنا نتقبلها ولا نردها؛ لأننا إذا رددناها فقد رددنا ما بلغه أو جاء به، فنكون من الذين لم يتبعوه ولم يتقبلوا سنته، فلا يتحقق لنا الاتباع في قوله: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158] . وقد سرد شيخ الإسلام ابن تيمية في أول كتابه (العقيدة الواسطية) في ثلاث ورقات آيات فيها الصفات، والأسماء، فيسرد مثلاً آيات العزة، ثم يأتي بآيات الحكمة، ثم الرحمة، ثم الأفعال، كآيات المكر والكيد والأسف في قوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا} [الزخرف:55] ، وكذلك آيات الكلام، والمجيء، والاستواء، والعلو، والمعية، وما أشبهها، وكذلك الأحاديث التي ورد فيها شيء من الصفات، مثل أحاديث النزول، والضحك، والعجب، والفرح، والأسماء، والأفعال، والرؤية، وما أشبهها، وكلها نتقبلها، وذلك لأن الذي بلغها هو الذي بلغ الرسالة كلها، فإذا قبلنا الأحكام أو الصلاة والصيام والحج والجهاد ونحوها فإننا نقبل العقيدة التي هي أساس الأعمال، والتي صحتها شرط لقبول الأعمال، فنقبل ما جاءنا من الآيات والأحاديث في أمر صفات الله تعالى حتى تصح عقيدتنا ثم تصح أعمالنا وتتقبل.

إثبات أهل السنة صفة اليد لله بغير كيفية

إثبات أهل السنة صفة اليد لله بغير كيفية المصنف رحمه الله كرر قوله موصوف بما وصف به نفسه وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم كذلك قوله: [خلق آدم بيده] كررها أيضاً. قال الله تعالى مخاطباً إبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ، أثبت الله سبحانه وتعالى لنفسه اليدين، وكذلك قال الله تعالى: {وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64] استدل بهذه الآيات على إثبات اليدين، وقد ذكرهما الله تعالى بلفظ التثنية فقال: ((بيدي)) ، وكذلك: ((بل يداه)) ، وقد ورد ذكر اليد بلفظ المفرد: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] ، وكذلك قال: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26] ، والمقصود بالإفراد هنا الجنس، أي: جنس اليد، فنثبت لله تعالى اليد. وقوله: [بلا اعتقاد كيف يداه] يعني: لا نكيفها. وقد ذكر ابن كثير رحمه الله في تفسيره قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] ، فسرد الأحاديث التي فيها ذكر اليد، والتي فيها قبض المخلوقات، وقبل أن يسردها قال: وقد وردت أحاديث في معنى هذه الآية الطريقة فيها طريقة أهل السنة، وهو إمرارها كما جاءت بلا كيف. يعني أنهم يمرونها كما جاءت ويقرونها ولا يكيفون، فلا يقولون: كيفية اليد كذا وكذا. ولا يقولون: إنها مركبة كيد الإنسان التي هي مركبة من عظام وعصب وجلود وشعر وأنامل ومفاصل وأظفار وسواعد وعضد وكوع ورسغ ونحو ذلك. بل يقولون: أثبت الله تعالى لنفسه اليد، ونعلم أنها يد حقيقية ولكن لا ندري ما كيفيتها. والمراد بالبسط هنا البسط بالعطاء، أي: بالعطاء ينفق كيف يشاء. وذلك لأن اليهود وصفوا الله بالبخل، فقالوا: ((يد الله مغلولة)) أي: عن النفقة والعطاء والكرم فهو بخيل. هكذا أرادوا، فرد الله عليهم وكذبهم وأخبر بأنه واسع العطاء، وأن يداه مبسوطتان بالعطاء يعطي كما يشاء، فيطلق غل اليد على البخل، ويطلق البسط على النفقة وكثرة العطاء، قال الله تعالى في سورة الإسراء: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء:29] ، فليس معناه أنه يربط يده إلى عنقه، بل المراد أنه يمتنع عن العطاء، كأنه هو البخيل الذي لا ينفق شيئاً، والذي يبسط يده كل البسط هو الذي يبذر ويفسد المال ويكثر من إعطائه فوق الحاجة، ((ولا تبسطها كل البسط)) يعني: ولا تبسطها في العطاء كل البسط، بل الوسط خير. والحاصل أن الله تعالى أخبر بأن له يدين، وأنهما مبسوطتان ينفق كيف يشاء بلا اعتقاد كيف.

عقيدة أهل السنة في استواء الله على العرش

عقيدة أهل السنة في استواء الله على العرش قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأنه عز وجل استوى على العرش بلا كيف، فإن الله انتهى من ذلك إلى أنه استوى على العرش، ولم يذكر كيف كان استواؤه] . هذه صفة أيضاً، والصحيح أن الاستواء صفة فعلية، وذلك لأننا نعتقد أن العرش مخلوق، وإذا كان العرش مخلوقاً فإن الله تعالى استوى عليه بعدما خلقه، ونعتقد أن العرش سرير لا يعلم قدره إلا الله، كما ورد فيما رواه ابن جرير في تفسير آية الكرسي عن زيد بن أسلم وأبي ذر، في تفسير قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] قال: (ما السموات السبع والأرضون السبع إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس) السموات مع عظمها والأرضون مع عظمها كدراهم -والدراهم هي قطع صغيرة من الفضة- ألقيت في ترس، والترس هو المجن الذي يوضع على الرأس. فماذا تشغل الدراهم من هذا الترس؟ ثم قال: (والكرسي في العرش كحلقة ألقيت في أرض فلاة) ، والحلقة هي القطعة من الحديد المتلاقية الطرفين، فإذا ألقيت في أرض فلاة فماذا تشغل من الأرض؟ إذا كان هذا مقدار الكرسي بالنسبة إلى العرش فماذا يكون مقدار العرش؟ ثم الله تعالى الذي استوى على العرش أعظم من أن يوصف وأن يحدد بكيفية أو نحو ذلك. فنحن نقول: استوى على العرش كما أخبر ولا نكيف الاستواء، ولا نكيف سائر الصفات كاليد ونحوها. ومشهور عن الإمام مالك رحمه الله أنه جاءه قائل فقال: أرأيت قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علته الرحضاء -أي: العرق-، ثم رفع رأسه وقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ولا أراك يا هذا إلا مبتدعاً. ثم أمر به فأخرج. وفي رواية: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول. وروي مثل هذا أيضاً عن شيخه ربيعة أنه قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم. وكأن مالكاً أخذ هذا الأثر من شيخه الذي تعلم عليه الكثير من العلوم، وشيخه ربيعة بن أبي عبد الرحمن من كبار التابعين. وقد روي هذا الأثر أيضاً عن أم سلمة، والصحيح أنه موقوف عليها وإن روي مرفوعاً، ومعناه أن الاستواء معلوم معناه وظاهر، ولأجل ذلك فسره العلماء، فهو معروف يفسر ويوضح ويترجم من لغة إلى لغة، ولكن للاستواء كيفية، وهذه الكيفية هي التي نقول: إنها مجهولة. فنتوقف عن الكيفية ونفسر اللفظ بما يليق بالله تعالى. وهكذا بعضهم يقول: استوى استواء يليق به. ويتركون الإيضاحات، وأكثرهم يفسرونه، فـ ابن جرير كلما مر بآية من آيات الاستواء يفسرها بالعلو والارتفاع، ((استوى على العرش)) أي: علا وارتفع، وذلك استناداً منه إلى المعنى المعروف في اللغة، وأن هذا هو التي تدل عليه هذه اللفظة. وكذلك تفسر بالاستقرار، ((استوى على العرش)) يعني: استقر عليه. وقد تكلم المبتدعة على قوله: ((ثم استوى على العرش)) وبالغوا في ذكر إيرادات وشبهات يموهون بها على من يفسر هذا الاستواء بالاستقرار، وتجد ممن يبالغ في سردها الخطيب الرازي صاحب التفسير الكبير، ويقال له: ابن خطيب الري. فإنه لما تلكم عليها في سورة الأعراف أورد عليها شبهات يموه بها، ثم يقول يرد عليها: زيفت بوجوه منها كذا وكذا، ومنها كذا وكذا. ومنها كذا وكذا، ولما انتهى من ذكر الوجوه التي أوردها على تفسير الاستواء بالاستقرار بعد ذلك ذكر التفسير الذي يختاره، ثم ذكر أن السلف كانوا يفوضونها ويسكتون ولا يتكلمون، وهذا ليس بصحيح، ثم ذكر أن الخلف كانوا يفسرونها، وتفسيرهم لها في الحقيقة تأويل، يعني: صرف لها عن ظاهرها. فذكر أن بعضهم فسر الاستواء بالاستيلاء، فمعنى (استوى) أي: استولى. وبعضهم فسر العرش بأنه الملك، وأطالوا في ذلك، ولا حاجة بنا إلى مناقشتهم، وقد رد عليهم العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية، وكذلك ابن القيم في (الصواعق) ، وكذلك ابن أبي العز في (شرح الطحاوية) ، ردوا عليهم وبينوا شبههم. والحاصل أن الله تعالى ذكر الاستواء وقال: ((استوى على العرش)) .

عقيدة أهل السنة في المخلوقات

عقيدة أهل السنة في المخلوقات قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأنه مالكُ خلقه، وأنشأهم لا عن حاجة إلى ما خلق، ولا لمعنىً دعاه إلى أن خلقهم؛ لكنه فعَّال لما يشاء ولا يُسأل عما يفعل، والخلق مسئولون عما يفعلون] . نعتقد أن الله تعالى هو الذي خلق الخلق، وما في الوجود مخلوق إلا والله خالقه؛ إذ ليس لأحد قدرة على أن يخلق أيَّ حيوان، ولو اجتمع الخلق كلهم على أن يخلقوا بعوضة يركبوا فيها أجنحتها وأيديها ومفاصلها وما أشبه ذلك، وينفخوا فيها الروح حتى تطير لن يقدروا، إلا ما ذكر الله تعالى عن عيسى عليه السلام في قوله: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي} [المائدة:110] ، فهذا إذن من الله تعالى أن أقدر عيسى على أن يصور صورة طير من الطين ثم ينفخ فيها فتطير، وذكروا أنه كان يطير حتى إذا اختفى عن الأعين سقط ميتاً، ليُعرف بذلك الفرق بين ما خلقه الله وما خلقه عيسى بإذن الله تعالى. أما بقية الخلق فلن يستطيعوا أن يخلقوا أصغر مخلوق، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج:73] ، والذباب من أحقر المخلوقات ولو اجتمعوا على أن يخلقوا مثل هذا الذباب وأن يركبوا فيه مفاصله وأوصاله وسمعه وبصره وشمَّه وأسنانه وأمعاءه وأجنحته، لن يستطيعوا، بل الخلق خلق الله. وإذا قيل: أليس الإنسان يتسبب في خلق الولد؟ نقول: إن الله تعالى هو الذي يخلق الأولاد، فهو الذي قدَّر أن هذا الاتصال بين الذكر والأنثى يسبب خلق المولود وتولُّدَه بين اثنين، فهو الذي قدَّره وهو الذي يخلقه، فليس الإنسان هو الذي يخلق أولاده، ولو كان كذلك لاختار -مثلاً- أن يكون أولاده ذكوراً، وأن يكون خلقهم حسناً تاماً، فلا يكون هناك معاق، ولا ناقص في الخلق، ولا سيئ الخلقة، وما أشبه ذلك. فدل على أن الله تعالى هو الذي يخلقهم وهو الذي فاوت بينهم. فمالكهم هو الذي يملكهم، {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} [آل عمران:26] ، فالخلق كلهم ملكه وتحت تصرفه وتقديره. خلقهم وأنشأهم، وليس لحاجة أوجدهم وأنشأهم، بل هو الغني عنهم وهم الفقراء إليه، ففي الحديث القدسي الذي في صحيح مسلم يقول الله تعالى: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالَموا، يا عبادي! كلكم ضالٌّ إلا من هديته) ، ثم قال: (يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته) (كلكم عارٍِ إلا من كسوته) (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم) ، إلى آخر الحديث، فيخبر بأنه غني عنهم، وأنهم لو اجتمعوا كلهم على أتقى قلب رجل ما زاد ذلك في ملكه شيئاً، وإن اجتمعوا على أشقى قلب رجل وأفجر قلب رجل منهم ما نقص ذلك من ملكه شيئاً، وأنهم لن يبلغوا نفعه ولن يبلغوا ضره. قوله: [لا عن حاجة إلى ما خلق] أي: لم يكن بحاجة إليهم، ولكن خلق الخلق وأوجدهم للابتلاء والامتحان، أوجد هذا المخلوق حتى يبلوه، قال الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف:7] ، وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] . خلق الموت والحياة وخلق هؤلاء المخلوقين وأوجدهم وقدَّر أنهم يحيَون الحياة التي يعيشونها، وقدَّر أرزاقهم، وكذلك أمرهم ونهاهم، فكل ذلك بقضاء الله تعالى وقدره. قوله: [ولا لمعنىً دعاه إلى أن خلقهم] أي: ليس هناك دافع دفعه إلى خلقهم كما في قوله: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني) . فليس هو بحاجة إليهم، ولا تنفعه طاعة المطيع، ولا تضره معصية العاصي، بل هو النافع الضار. قال رحمه الله تعالى: [فعَّال لما يشاء ويحكم ما يريد] فما شاءه كان، وما لم يشأ لم يكن، أراد إيجاد هذه المخلوقات، وكذلك أوجد جميع الحيوانات صغيرها وكبيرها، أوجد الدواب والحشرات والطيور والوحوش والسباع والهوام وغيرها، فهو الذي أوجدها وجعلها آية على قدرته؛ حيث خلق هذه المتضادات وأنشأها مع اختلافها، أليس ذلك دليلاً على كمال قدرته حيث خلق هذه المخلوقات وجعلها تتوالد كما يشاء؟! فمن مُشاهَد آيات الله تعالى: أن كل مخلوق إنما يلد من جنسه، فمثلاً السبع يلد سبعاً مهما كانت أحواله، ولو رُبِّي ثم رُبِّي، وقد ذكر بعض أهل القصص أن امرأة أخذت جرو ذئب فربَّته في بيتها وأرضعته من شاتها ولما كبر بدأ فعقر شاتها، مع أنه أليف لهم، فأنشأت تقول: عقرتَ شُوَيهتي وفجعتَ قلبي وأنت لشاتنا ولد ربيبُ فديت بدرنا ونشأت فينا فمن أدراك أن أباك ذيبُ إذا كان الطباع طباع سوء فليس بنافع فيها الأديب فلو غُيِّر في طباعه لا تتغير، فهو هكذا طُبع، فولد السبع يكون سبعاً، وولد بهيمة الأنعام يكون تابعاً لها، وأولاد الطيور لو جمعت منها -مثلاً- بيضة حمامة ودجاجة وعصفور وحُبارى ونعامة وجعلتها في مكان لفقَّست وصارت كل واحدة مثل أمها التي باضتها، ولا يمكن أن تتغير، هكذا خلق الله، فكل شيء يكون ولده مثله، لا شك أن هذا دليل على قدرة الله، {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان:11] . ثم يقول: [لا يُسأل عما يفعل] أخذ ذلك من الآية في سورة الأنبياء: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] أي أنه يفعل ما يشاء، ولا يجوز أن يقال: لماذا فعل الله كذا؟ بل أفعال الله تعالى لا تعلل؛ لأن الله تعالى حكيم في أفعاله. فلا يجوز أن تسأل وتقول: لماذا خلق الله هذه الحشرة؟! وما فائدة خلق هذه السباع؟! وما فائدة خلق هذه الدواب؟! وهذه ضارة ومؤذية! وما فائدة خلق هذا الذباب؟! وما أشبه ذلك؛ فإن الله حكيم في أمره، لا يجوز أن يُسأل عن الحكمة في خلقه؛ لأنه حكيم يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد [والخلق مسئولون عما يفعلون] . يقول: [وأنه مَدْعُوٌّ بأسمائه الحسنى] . تقدم قريباً أنه أمرنا بأن ندعوه بأسمائه، كما قال: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] . قال المصنف رحمه الله: [وموصوف بصفاته التي سمَّى ووصف بها نفسه] . تقدم قريباً أيضاً أنه موصوف بصفاته التي سمى ووصف بها نفسه، وسماه ووصفه بها نبيه صلى الله عليه وسلم. قال المصنف رحمه الله: [لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يوصف بما فيه نقص أو عيب أو آفة، فإنه عز وجل تعالى عن ذلك] قوله: [لا يعجزه شيء] هذه من الصفات السلبية، نقول: إنه تعالى أخبر بأنه لا يعجزه شيء، وذلك في عدة آيات، وذلك دليل على كمال قدرته، وإذا وصفناه وقلنا: لا يعجزه شيء فهذا سلب؛ لأن الصفات السلبية إنما يوصف بها إذا كانت تدل على إثبات، فهو لا يوصف بما فيه نقص أو عيب، فالصفات التي فيها نقص أو عيب لا يوصف بها، بل نزَّه الله تعالى نفسه عنها في قوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] ، وقوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] ، وقوله تعالى: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] وأشباه ذلك.

الأسئلة

الأسئلة

حكم إجبار الورثة مورثهم على طلاق زوجته

حكم إجبار الورثة مورثهم على طلاق زوجته Q ما حكم إجبار ورثة الأب أو الجد مورثهم على طلاق زوجته عند مرضه؟ A ذلك حرام، ثم لو طلق لم ينفذ طلاقه، وذلك لأن الأولاد الذين يجبرون أباهم على أن يطلق امرأته يريدون بذلك حرمانها من الإرث، والإجبار لا ينفذ، وكذلك أيضاً لو طلق بدون إجبار ولكنه في مرض الموت فإنه لا يسقط نصيبها من الإرث؛ لأن من تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه. فالذي يطلق امرأته في مرض الموت أو هو مريض ترث منه امرأته شاء أم أبى، حتى ولو انتهت العدة، إلا إذا تزوجت قبل موته.

الكيفية في صفات الله

الكيفية في صفات الله Q في قول المؤلف: [بلا اعتقاد كيف] ما الفرق بين أن يعتقد المسلم أن صفات الله لا كيف لها، وأن يعتقد أن صفات الله لها كيف لكن لا نعلمه؟ A قولهم: (بلا كيف) يعني: لا تسألوا عن الكيفية ولا تكيفوها. ويذكرون في العقيدة قولهم: (من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه ولا تأويل) . فقولهم: (ولا تكييف) يحتمل أمرين: الأول: السؤال عن الكيفية. والثاني: الإخبار بالكيفية. وكلاهما مراد، أي: لا تسألوا وتساءلوا فيما بينكم فتقولون: ما كيفية استواء الله تعالى؟ ما كيفية يد الله؟ ما كيفية نزوله؟ لا تسألوا عن ذلك فإن ذلك محجوب عنكم. وكذلك أيضاً لا تكيفوا، فلا تقولوا: كيفية النزول كذا وكذا، وكيفية الرؤية كذا وكذا، وكيفية الاستواء كذا وكذا. فإن ذلك تكييف ليس عليه دليل.

معنى المقام المحمود

معنى المقام المحمود Q ما هو تفسير المقام المحمود، وما المراد بأحد القولين أنه أجلسه -أي: محمد- على العرش معه؟ A هكذا روي عن مجاهد في تفسير المقام المحمود، في قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء:79] أنه يجلسه على العرش. ولكن ليس بتأدية جلوس الله تعالى، أو كيفية استواء الله، إنما فيه أن الله يجلس محمداً صلى الله عليه وسلم على العرش معه. والجواب على هذا هو أن هذا الأثر ضعيف؛ لأنه من رواية ليث بن أبي سليم، ولكن مع ذلك قد صححه وبالغ في تصحيحه كثير من العلماء، ورووا هذا الأثر أيضاً عن غير مجاهد، أي: أن جماعة من المفسرين من السلف فسروا المقام المحمود بالجلوس على العرش. ثانياً: أن المقام المحمود هو الشفاعة، فقوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء:79] يعني: يجعل لك الشفاعة في يوم القيامة، وسيكون ذلك سبباً في رفع مقامك وشهرتك عند الناس واعتراف الأمم السابقة بفضلك وبميزتك التي فضلك الله بها. هذا هو المشهور في تفسير المقام المحمود. وعلى كل حال فلا مانع من أن يجلسه الله على العرش، وليس في ذلك تكييف لجلوس الله تعالى أو لاستوائه على العرش.

كيفية استعمال النفي والإثبات في صفات الله

كيفية استعمال النفي والإثبات في صفات الله Q سلب الصفة فقط انتقاص في حق الله عزَّ وجلَّ، فلا بد من إثبات، لكن كطككيشكل عليَّ هذا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً} [البقرة:26] الآية؟ A لا إشكال في ذلك، فهنا نفي الاستحياء: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً} [البقرة:26] ، وكذلك أيضاً قول الله تعالى: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب:53] فهنا نفي الاستحياء، وذلك لأن الاستحياء هنا يراد به الخوف والخجل ونحو ذلك، فالله تعالى نفى عن نفسه هذا الأمر، وأخبر بأنه يخبِر بما عليكم فيه حق ولو كان النبي يستحيي منكم، أن ينهركم وأن يقِيْمكم والله تعالى لا يستحيي من الحق. فالحاصل: أن نفي الاستحياء نفيٌ لهذه الصفة التي قد يكون فيها شيء من النقض، أو التنقص، وليس في ذلك نفي لبقية الصفات.

الجمع بين نصوص الإفراد والجمع في إثبات اليد لله

الجمع بين نصوص الإفراد والجمع في إثبات اليد لله Q وردت صفة اليد بصيغة الإفراد والتثنية والجمع، فكيف نجمع بينها؟ A أما الإفراد في قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] فالمراد باليد هنا جنس اليد، وذلك لأنه لا يُستغرب أن يقال -مثلاً-: فلان يده ندية. أي: بالعطاء. فيراد جنس اليد، ولا يُفهم منه أنه ليس لله إلا يداً واحدة. وأما الجمع فالجمع للتعظيم، كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً} [يس:71] الجمع هنا للتعظيم، وذلك لأن الله تعالى ذكر الضمير بلفظ الجمع في قوله: (أَيْدِينَا) ولم يقل: (أيديَّ) ، بل أضاف الضمير إلى الجمع، كما أنه يصف نفسه بضمير الجمع مثل قوله: {نَحْنُ قَسَمْنَا} [الزخرف:32] ، فهذا للتعظيم، وكقوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ} [الكوثر:1] ، {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [النساء:163] ، {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} [الفتح:1] الضمائر التي تُجمع هنا للتعظيم. فالإفراد يُراد به الجنس، والتثنية يُراد بها الحقيقة، أي: أن لله تعالى يدين، والجمع يُراد به التعظيم.

الحكمة من خلق الخلق

الحكمة من خلق الخلق Q كيف نجمع بين قول المؤلف: [ولا معنىً دعاه إلى خلقهم] وقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] ؟ A الحكمة في خلق الجن والإنس هي الأمر بالعبادة، ولكن ليس فيها دليل على أنه محتاج إلى عبادتهم، ولا أن عبادتهم تنفعه أو تزيد في ملكه أو نحو ذلك، بل هو الغني وهم الفقراء، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] . فالله تعالى أخبر بأنه خلق الخلق ليعبدوه، والمعنى: خلقهم ليأمرهم وينهاهم وليمتحنهم وليكلفهم، فمنهم من عَبَدَ ومنهم من لم يعبد، فـ (اللام) هنا يقال لها: لام التعليل. فالعلة في خلقهم هو الأمر بعبادتهم، فليس فيها دليل على أنه ينتفع بعبادتهم، وأن ترك العبادة تضره، كما ذُكر في الآيات.

حكم تنبيه الخطيب على الخطأ حال الخطبة

حكم تنبيه الخطيب على الخطأ حال الخطبة Q إذا أخطأ الخطيب في آية، فهل لي أن أرد عليه؟ A إذا تلعثم الخطيب في حالة الخطبة يجوز أن يُنبَّه حتى يستمر في خطبته، لكن الأصل أن الخطيب إذا كان يخطب ارتجالاً فإنه إذا غلط في آية تجاوزها وقرأ ما بعدها، ولا يحتاج إلى أنه يُتَكلم معه؛ لأن الكلام معه قد يشوش على الحاضرين. وعلى كل حال لا مانع إذا احتاج إلى من يردُّ عليه ويفتح عليه حتى يستمر في خطبته، وأنه إذا غلط وقدَّم كلمة أو أخَّرها فيُنبه على ذلك بعد الصلاة.

مجالسة أهل المعاصي من الأقارب

مجالسة أهل المعاصي من الأقارب Q عندي أخ لا يصلي وهو منهمك في المعاصي، فهل يجوز لي أن آكل معه وأن أجالسه وأن أضاحكه تأليفاً لقلبه؟ A عليك بالإكثار من نصحه وتخويفه وتهديده وتحذيره، وعليك أيضاً بتأليفه وترقيق قلبه والتقرب إليه، وإرسال من ينصحه ويرشده لعله يتقبل وينيب، لكن إذا رأيت منه إصراراً واستكباراً وعدم التقبل فليس لك في هذه الحالة أن تبقى معه، بل أظهِر له الكراهية والمقت والبغض لعله يكون ذلك سبباً رادعاً له عن هذه المعاصي، ونشير عليك أن ترفع بأمره إلى من يعاقبه حتى ينزجر وينزجر أمثاله.

حكم الخطبة على خطبة المسلم

حكم الخِطبة على خِطبة المسلم Q أنا شاب أريد أن أخطب إحدى النساء مع علمي أن أحد إخواني خطبها ولم يُرَد عليه بالإيجاب أو الرفض، فهل لي ذلك؟ A ليس لك ذلك حتى يظهر الرد؛ لعموم الحديث: (لا يخطب على خطبة أخيه) ، فما دام أنه خطب وتقدم وسكت أهلها ولم يخبروه بأنه مقبول أو مردود فإنك تتوقف حتى يظهر الرد، وفي النساء كثرة.

حكم عرض الرجل قريبته على الرجل الصالح ليتزوجها

حكم عرض الرجل قريبته على الرجل الصالح ليتزوجها Q هل من السنة عرض الرجل وليته على الرجل الصالح؟ A لا مانع من ذلك إذا رأى رجلاً صالحاً وكان عنده مولية يحب أن يجد لها كفؤاً كريماً أن يعرضها، كما عرض عمر رضي الله عنه ابنته على عثمان وأبي بكر قبل أن يخطبها النبي صلى الله عليه وسلم، فلا مانع من ذلك.

شبهة تخلق أطفال الأنابيب والرد عليها

شبهة تخلق أطفال الأنابيب والرد عليها Q بعض المشركين يدَّعي أنه يخلق خلقاً كخلق الله، وذلك بعملية طفل الأنابيب، فبماذا يُجاب عليهم؟ A ليس هذا مثل خلق الله، وليس هذا خلق لهم، فكونهم يعملون فهذا لا يستطيعون أن يخلقوه بغير الرحم، ولا من غير المنِي، فالمنِي هو خلق الله تعالى، والرحم والبويضة التي في المرأة هي خلق الله، فلا يقدرون على أن يستقلوا به بأن يخلقوا إنساناً من غير رحم ومن غير منِي ونحو ذلك، فهذا الذي أرادوا، أما إجراء هذه العملية فليس في ذلك غرابة.

زيارة المؤمنين لربهم في الجنة

زيارة المؤمنين لربهم في الجنة Q هل ورد في زيارة المؤمنين لربهم حديث صحيح؟ A أحاديث الرؤية ذكرها ابن القيم في (حادي الأرواح) ، وأنهم يزورون ربهم كل جمعة، ومنهم من ينظر إلى ربه بكرةً وعشياً، ومجموع الأحاديث تدل على أنها صحيحة ومشهورة.

الإخبار عن الله باسم الهادي والمقصود

الإخبار عن الله باسم الهادي والمقصود Q هل (الهادي) و (المقصود) من أسماء الله الحسنى؟ A اشتهرت التسمية بها أو التعبيد لها، فيقال: عبد المقصود وعبد الهادي وأنا أقول: عند الإطلاق الله تعالى هو الهادي، الذي لا يصلح إطلاق الاسم إلا له، وإن كان يُطلق على الإنسان: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي} [الشورى:52] ، وكذلك قوله: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد:33] ، وكذلك قوله: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:7] ، ولكن هناك فرق بين (الهادي) معرفاً وبين (هادٍ) منكَّراً. فعند الإطلاق يصح أن يقال: الله هو الهادي. وكذلك المقصود، بمعنى أنه الذي تقصده القلوب وتتوجه إليه الرغبات.

تسمية الله بالستير

تسمية الله بالستير Q هل (الساتر) من أسماء الله؛ إذ يقول بعضهم: يا ساتر؟ A نسمع هذه الكلمة، فمنهم من يقول: نقتصر على الوارد؛ لحديث: (إن الله سِتِّير يحب الستر) ، فيقولون: نسميه بالسِّتِّير ولا نسميه بالساتر؛ لأنه لم يَرِد. ولكن الأقرب أنه عند الإطلاق الله هو الستار وهو الساتر وهو السِّتِّير، فيصلح أن يسمى الله تعالى بذلك، وإن المخلوق يوصف بذلك من باب الفعل، أي: أن الإنسان يستر أخاه، كما في حديث: (من ستر مسلماً ستره الله) .

تفسير الاستواء المعدى بـ (إلى) بالقصد

تفسير الاستواء المعدى بـ (إلى) بالقصد Q هل يُفسر الاستواء المعدَّى بـ (إلى) بالقصد؟ A قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة:29] ، فسره بعضهم -كما نقل ابن كثير في سورة البقرة في قوله تعالى: {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة:29]-بأن معناه: قصد إلى السماء، ولكن الأولى أن يُفسر بالعلو، أي: ارتفع إلى السماء {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} [البقرة:29] . وأنكر ابن جرير في التفسير على من قال: {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة:29] أي: أقبل، فقال: وهل كان معرضاً قبل ذلك؟! وهل كان صادَّاً حتى أقبل؟! وابن كثير ذكر الإقبال وأقرَّه، ولكن لا يستلزم أنه كان معرضاً.

حكم جلوس الرجل بجوار النساء مع وجود عازل

حكم جلوس الرجل بجوار النساء مع وجود عازل وQ ما حكم جلوس الولد غير المتزوج مع زوجة أخيه عندما يكون في عمله، مع العلم أنها تكون في داخل المنزل ويكون هو في الملحق الخارجي؟ A يُفضل البُعد عن الأماكن التي فيها ريبة وفيها محذور؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم والدخول على النساء! قالوا: يا رسول الله! أرأيت الحمو؟! قال: الحمو الموت!) ، ولكن إذا كان النساء لا يختلطن بالرجال، بل كنَّ في مكان ناءٍِ بعيد منعزلات عن الرجل والرجل بعيد عنهن وبينه وبينهن أبواب مغلقة فلعل ذلك يُرخَّص فيه للحاجة.

شرح اعتقاد أهل السنة [5]

شرح اعتقاد أهل السنة [5] من عقيدة أهل السنة والجماعة أهل الحديث: أنهم يثبتون لله تعالى كل ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات الذاتية والفعلية، ويثبتون ذلك إثباتاً مفصلاً، وينفون عنه النقائض نفياً مجملاً، وينكرون على المتكلمة وغيرهم من أهل البدع ما يذكرونه من النفي المفصل المشتمل على التنقص من الله سبحانه وتعالى.

قاعدة فيما يذكر من صفات السلب لله تعالى

قاعدة فيما يذكر من صفات السلب لله تعالى ذكر المؤلف رحمه الله أن الله تعالى موصوف بما وصف به نفسه وبما وصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم -وهذه العبارة يكررها أهل السنة في عقائدهم- ثم بعد ذلك يفصلون، فإنه هنا ذكر بعض الصفات الفعلية وبعض الصفات الذاتية، فذكر صفة اليد وهي من الصفات الذاتية، وصفة الاستواء وهي من الصفات الفعلية. كذلك أيضاً ذكر بعض الصفات السلبية، مثل قوله: [ولا يعجزه شيء] ، فهذه من الصفات السلبية، وقوله: [ولا يوصف بما فيه نقص أو عيب أو آفة] هذا من الصفات السلبية. وقد ذكر العلماء أن الله تعالى بعث رسله بإثبات مفصَّل ونفي مجمل، وذلك لأن الإثبات مقصود لذاته، فلأجل ذلك فُصِّل في الإثبات، وقد أثبت الله تعالى لنفسه النفس في قوله: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:12] ، وأثبت صفة اليد في قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] ، وصفة الوجه في قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] ، وأثبت العزة والحكمة والرحمة، وأثبت صفات الفعل (الفعلية) كالمجيء والإتيان، وأثبت العلم والقدرة والسمع والبصر، وأثبت الصفات الفعلية أيضاً كالمكر والكيد والعَجَب وما أشبهها، وكذلك أيضاً في الأحاديث. ويسمى هذا تفصيلاً، أي أن الله تعالى فصَّل في الإثبات حيث ذكر الصفات المثبتة كلها على وجه التفصيل. وأما صفات السلب فإنه ذكرها على وجه الإجمال، كقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65] ، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4] ، وكقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ} [فاطر:44] ، وكقوله: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] ، وكقوله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74] . {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً} [البقرة:22] . وأشباه ذلك من الصفات السلبية التي نفى الله تعالى بها عن نفسه النقائص. وقد ذكر أيضاً شيخ الإسلام أن الله تعالى لا يوصف بالصفات السلبية إلا إذا تضمنت إثباتاً، فإن الله نفى عن نفسه الكفؤ والند والمثل والسَّمي، فذلك دليل إثبات الأَحَدية والتفرد، يعني: إذا نفينا هذه الأشياء فقد أثبتنا أنه واحدٌ أحد وفردٌ صمد، وكذلك إذا نفينا العجز، كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ} [فاطر:44] ، كان ذلك دليلاً على إثبات كمال القدرة، وكذلك بقية الصفات السلبية. ثم نقول بعد ذلك: إن المبتدعة عكسوا الأمر كالمعتزلة، فهم يفصِّلون في النفي ويجملون في الإثبات، كما هو مذكور في معتقداتهم، فيقولون: ننزِّه الله -في زعمهم أنهم ينزِّهون الله- عن أن يكون فوق أو تحت أو يمين أو يسار أو أمام أو خلف، وننزِّهه عن الحدود والأعراض والأبعاض والأجسام والحيِّز والجهة، وننزِّهه عن الجهل وعن كذا وكذا. فيفصِّلون في النفي، ولا يثبتون إلا إثباتاً مجملاً مطلقاً وبشرط الإطلاق، فيثبتون الوجود مثلاً وبشرط الإطلاق، ولا شك أن هذا التفصيل لا دليل لهم عليه، وهو من جملة ما ابتدعه المبتدعه كما سيأتي.

عقيدة أهل السنة في الصفات الذاتية والفعلية لله تعالى

عقيدة أهل السنة في الصفات الذاتية والفعلية لله تعالى قال الشيخ الحافظ أبو بكر الإسماعيلي رحمه الله تعالى في بيان اعتقاد أهل السنة: [ولا يُعتقد فيه الأعضاء والجوارح، ولا الطول والعرض، والغِلَظ والدقة، ونحو هذا مما يكون مثله في الخلق، فإنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] تبارك وجه ربنا ذي الجلال والإكرام، ولا يقولون: إن أسماءَ الله غيرُ الله كما يقوله المعتزلة والخوارج وطوائف من أهل الأهواء، ويثبتون له وجهاً وسمعاً وبصراً وعلماً وقدرةً وقوةً وعزةً وكلاماً، لا على ما يقوله أهل الزيغ من المعتزلة وغيرهم، ولكن كما قال تبارك وتعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27] ، وقال: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء:166] ، وقال: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] ، وقال: {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} [فاطر:10] ، وقال: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ} [الذاريات:47] ، وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت:15] ، وقال: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58] . فهو تعالى ذو العلم والقوة والقدرة والسمع والبصر والكلام، كما قال تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] ، {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود:37] ، وقال: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ، وقال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] ، وقال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40] . ويقولون ما يقوله المسلمون بأسرهم: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لا يكون، كما قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] ، ويقولون: لا سبيل لأحد أن يخرج عن علم الله، ولا أن يغلب فعلُه وإرادتُه مشيئةَ الله، ولا أن يبدل علم الله، فإنه العالم لا يجهل ولا يسهو، والقادر لا يُغلب] .

مذهب أهل السنة في إطلاقات المتكلمين في الصفات

مذهب أهل السنة في إطلاقات المتكلمين في الصفات قال المعلِّق جزاه الله خيراً على قول المؤلف: [ولا يعتقد فيه الأعضاء والجوارح إلخ] قال: هذه عبارات لم ترد في الكتاب والسنة، ولم تؤثر عن السلف الصالح، بل هي من عبارات المتكلمين، فكان الأولى بالمصنف رحمه الله الاستغناء عنها. وقال المعلِّق على النسخة الأخرى على قول المؤلف السابق: هذه الكلمات ليست من الألفاظ المعروفة عند أهل السنة والجماعة من سلف هذه الأمة، بل هي من الكلمات المخترَعة المبتدَعة، والتعبير عن الحق بالألفاظ الشرعية هو سبيل أهل السنة والجماعة، فلا ينبغي لطالب الحق الالتفات إلى مثل هذه الألفاظ ولا التعويل عليها، وما كان أغنى الإمام المصنف رحمه الله تعالى عن مثل هذه الكلمات المبتدَعة! فإن الله سبحانه وتعالى موصوف بصفات الكمال، منعوت بنعوت العظمة والجلال. وعلى كل حال فالباطل مردود على قائله كائناً من كان، والقاعدة السلفية في مثل هذه الكلمات أنه لا يجوز نفيها ولا إثباتها إلا بعد التفصيل. وتبيُّن مراد قائلها. وكان على المؤلف أن يجمل في النفي، غير أنه أراد بهذا النفي أن يسد الطريق على المعطلة لئلا يكون لهم مدخل في رمي أهل الحديث بالتشبيه، ولكنه بهذه العبارات فتح الباب لهم ليُذِمُّوا من أطلقها بموافقتهم على نفي بعض الصفات الذاتية كالوجه واليدين، فلو أمسك رحمه الله عن هذه العبارات لكان أجدى. انتهى. قوله: [ولا يُعتقد فيه الأعضاء والجوارح، ولا الطول والعرض، والغِلَظ والدقة، ونحو هذا مما يكون مثله في الخلق، وأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] تبارك وجه ربنا ذي الجلال والإكرام] . إنه في القرن الرابع تمكنت مذاهب المعتزلة وأقوالهم، وكذلك من قاربهم كالكرَّامية والكُلَّابية والأشعرية ونحوهم، ولما كان لهم تمكُّن صار الذين يتتلمذون عليهم يولدون مثل هذه العبارات، فيرون أننا إذا أثبتنا الصفات استلزم من إثباتها هذه الأشياء، فلذلك قالوا: لا بد أن نصرح بنفيها، وأن نتبرأ ممن ينفيها حتى لا يرمينا النفاة أو المعتزلة ونحوهم بأننا مجسِّمة أو مشبِّهة أو نحو ذلك، فالتزموا بنفي هذه الأشياء، وإلا فهي عبارات لم يرد لها دليل ولم يستعملها السلف نفياً ولا إثباتاً. فالسلف ما كانوا يدخلون في هذه الأمور، فلا يقولون: ننزِّه الله تعالى عن الحدود والأعراض والأبعاض والأجزاء والجهات والجسم والحيز. بل كانوا يقتصرون على الوارد في نصوص الكتاب والسنة، ويقولون: الصفات التي ورد دليلها نقول بها ونثبتها لفظاً ومعنىً، ونتوقف عن الكيفية التي هي عليها، وكذلك أيضاً نتوقف عن التعليل الذي تُعَلَّل به أفعال الله تعالى، ونقول: هكذا وردت فنثبتها ونثبت لفظها ومعناها، ونتوقف عن تكييفها وتعليلها، ولا نقول: لماذا وُصف بكذا دون كذا؟ ولا لماذا فعل كذا دون كذا؟ فالتعليلات مرجعها إلى الله، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] . وكذلك الصفات والكلمات المبتدعة التي لم يتكلم بها السلف نقول: إنها بدعة إثباتاً ونفياً. فمن قال: إن الله جسم. قلنا: أنت مبتدع. ومن قال: إن الله ليس بجسم. قلنا: أنت مبتدع. ومن قال: لله أعضاء وأجزاء. قلنا: هذا بدعة. ومن قال: ليس لله أجزاء ولا أعضاء ولا أبعاض. قلنا: هذه بدعة، فلا تقل هذا ولا تتكلم فيه؛ لأن هذا لم يرد، فما دليلك على النفي؟! وما دليلك على الإثبات؟! قف حيث وقف القوم، وتوقف عن التكلفات، فإن الله تعالى يقول لنبيه: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86] ، فالتكلف هو أن يكلف الإنسان نفسه فيقول بما ليس له به علم، ويتخرص في الاعتقاد، ويتخرص في الأسماء والصفات، ويقول شيئاً من قبل نفسه.

سبب استخدام أهل السنة لبعض كلمات المتكلمين

سبب استخدام أهل السنة لبعض كلمات المتكلمين إن بعضاً من أهل الحديث والعقيدة لما ظنوا أن إثبات هذه الأشياء يستلزم أن المعتزلة يعيبون مَن أثبت الصفات في كذا وكذا صرَّحوا بمثل هذا النفي، كأنهم يقولون: إذا أثبتم لله تعالى الاستواء والمجيء والنزول فإن هذا إثبات أجسام؛ لأنَّا لا نعرف من ينتقل من فوق إلى تحت، أو من يجيء أو من يستوي ويرتفع إلا الأجسام والأعراض، فقد أثبتم جسماً، أو عَرَضاً، أو أجزاءً وأبعاضاً أو نحو ذلك. هكذا يقولون. فهم إذا قيل لهم: إن الله تعالى مستوٍ على عرشه قالوا: هذا يستلزم أن يكون جسماً؛ لأن الاستواء الذي هو الاستقرار على العرش لا بد أن يكون جسماً، فقد جسَّمتم وأثبتم لله تعالى جسماً. فنقول: لا ترمونا بإثبات شيء لم نقله، نحن لا نقول: إن الله جسم أو غير جسم، بل الله تعالى وصف نفسه بهذه الصفات، ونتوقف عما زاد عليها. كذلك إذا قدَّروا التقديرات وقالوا: إذا استوى على العرش فإما أن يكون مثل العرش أو دون العرش أو فوق العرش أو أكثر أو أوسع منه فإنا نقول: هذا هو التكلف، فلا تدخلوا في هذا، وأثبتوا ما أثبته الله ووكِّلوا الكيفية إليه سبحانه، كما قال السلف: الكيف مجهول. وإذا قالوا -مثلاً-: إن مجيئه ونزوله من شأن المحدثات والمركبات، ويلزم من هذا أن يكون حادثاً مركباً من أعضاء وأجزاء وما أشبه ذلك. -تعالى الله عن ذلك- قلنا: هذا أيضاً من التكلف، ولا حاجة بنا إلى أن نخوض في مثل هذا. إن الله تعالى ربنا نؤمن به وأنه خالق الخلق وهو مدبِّرهم، وأما الخوض في تكييف صفاته وتنزيهه عن أشياء قد سكت عنها وسكت عنها السلف وأئمة الصحابة والتابعين لهم بإحسان فإن الدخول فيها تكلُّف. فـ شيخ الإسلام لما ناظرهم في دمشق في الصفات وأثبتها، عند ذلك كان يقول: لله تعالى وجه ولا يشبه خلقه، ولله يدان من غير تشبيه ليست كيد المخلوق، والله تعالى يضحك ويعجب لا كعجب المخلوق، والله تعالى يرحم لا كرحمة المخلوق. فعند ذلك قال بعض الحاضرين: إذاً سنقول: إن لله تعالى جسماً لا كأجسام المخلوقين! فقال شيخ الإسلام: كلا. لا نقول هذا؛ لأن هذا لم يرد، ونحن إنما نقول بما ورد، وأنتم توافقون على أن الله لا يوصف إلا بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله، فأين في الصفات إثبات الجسم أو نفيه؟! وأين في صفات الله أو الآيات والأحاديث إثبات العَرَض أونفيه؟! أو إثبات الأبعاض والأجزاء أو نفيها؟! أو إثبات التركيب وحلول الحوادث أو نفيها؟! أو إثبات المقدار -أو ما يقولونه من الغِلَظ والدقة- وما أشبه ذلك أو نفيه؟! ولَمَّا لَمْ ترد مثل هذه لم يَجُزِ استعمالها نفياً ولا إثباتاً، فهذا هو حقاً القول الصحيح الثابت، أن الله لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، وأن مثل هذه الأعراض والكلمات التي توسع فيها هؤلاء إنما هي مبتدَعة. ثم ذكر المعلِّق عذر المؤلف في ذكره مثل هذه الكلمات، يقول: غير أنه أراد بهذا النفي أن يسد الطريق على المعطلة لئلا يكون لهم مدخل في رمي أهل الحديث بالتشبيه. هكذا استعمل هذه الكلمات حتى يسد الباب على المعطلة الذين هم المعتزلة، فإنهم إذا قلنا: إن لله وجهاً قالوا: الوجه موجود في المخلوقين فقد شبَّهتم. وإذا قلنا: إن لله يداً قالوا: قد شبَّهتم. وإذا أثبتنا هذه الصفات قالوا: قد جعلتم الله تعالى أعراضاً وجعلتم له أبعاضاً وأجزاءً وجعلتم وجعلتم. فلأجل ذلك رأى بعض أهل السنة من المتأخرين في القرن الرابع وما بعده استخدامها، أمثال المؤلف والطحاوي في عقيدته أيضاً فإنه استعمل مثل هذه الكلمات وناقشه الشارح وبين أيضاً أنها مما لم يرد، وكان عذره أن يسد الباب على المعطلة والمعتزلة ونحوهم، لكن ذكر أنه فتح الباب لهم؛ إذ قد يلزم من أطلقها بموافقتهم على نفي بعض الصفات الذاتية، كأنهم يقولون: ما دام أنكم تنفونها وتقولون: ليس لله أعراضٌ وأجزاءٌ فعليكم أن تنفوا صفة الوجه والرجل واليدين وما أشبه ذلك مما ورد دليله. فيقول: إن استعمال هذه الكلمات فتح لهم الباب، وكان الأولى الإمساك عنها، والاقتصار على الوارد. فنحن نعتقد وننفي النفي المجمل، كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ، فيكفينا فيها النفي، ويكون هذا عاماً في الذات والفعل، فإذا أثبتنا لله الصفات الذاتية كالسمع والبصر والكلام والوجه وما أشبهها قلنا: ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته. وإذا أثبتنا له الأفعال أنه يشاء ويريد ويحكم ويرحم ويحب ويكره ويبغض قلنا: ليس كمثله شيء في هذه الأفعال. وهكذا طريقة أهل السنة في مثل ذلك.

اختلاف العلماء في الاسم والمسمى

اختلاف العلماء في الاسم والمسمى قال رحمه الله تعالى: [ولا يقولون: إن أسماء الله عزَّ وجلَّ -كما تقوله المعتزلة والخوارج وطوائفهم من أهل الأهواء- مخلوقةٌ] . وفي نسخة: [ولا يقولون: إن أسماءَ الله غيرُ الله] . ولعل الصواب: [ولا يقولون: إن أسماءَ الله غيرُ الله] ، وذلك لأن المبتدعة زعموا أن أسماءَ الله غيرُه، ولا شك أن الاسم يدل على المسمى، ولأجل ذلك يأمر الله تعالى بذكره بأسمائه، فقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] المعنى: سبح ربك. فالاسم دليل على المسمى، وليس الاسم زائداً عليه، وإن كان يمكن أن يقال: إن الاسم كلمة تدل على المسمى. وذلك في حق المخلوق ممكن، فالإنسان قد يتسمى باسم ثم يتسمى باسم آخر. ثم أيضاً اسمه قد لا يكون ظاهراً أثرُه في حق المخلوقين، فليس كل من سمِّي صالحاً يكون من أهل الصلاح، ولا من سمي صادقاً يكون من أهل الصدق دائماً، ولا من سمي طاهراً يكون مطهراً، ولا من سمي راشداً يكون من أهل الرشد. فدل ذلك على أن الاسم ليس هو عين المسمى. والكلمة أو الجملة قد توسع فيها العلماء واختلفوا في ذلك: فمنهم من يقول: الاسم عين المسمى. ومنهم من يقول: الاسم غير المسمى. ومنهم من يتوقف فيقول: لا نقول الاسم عين المسمى ولا الاسم غير المسمى. والصحيح من حيث الواقع أن الاسم دليل على المسمى وليس هو عين المسمى، ولأجل ذلك قد يُسمى الإنسان باسم ثم يغيَّر اسمُه، وكثير من الصحابة مضى عليهم قبل أن يسلموا أربعون أو خمسون سنة ثم غيِّرت أسماؤهم بعدما أسلموا، فـ عبد الرحمن بن عوف كان اسمه: عبد عمرو، ولما أسلم تسمى بـ عبد الرحمن، وأبو هريرة كان اسمه عبد شمس -على الصحيح-، ولما أسلم تسمى بـ عبد الرحمن، وكذا كثير من الصحابة غير النبي صلى الله عليه وسلم أسماءهم، فذلك دليل على أن الاسم ليس هو عين المسمى.

ما يلزم منه إثبات أسماء الله

ما يلزم منه إثبات أسماء الله أسماء الله تعالى دالة عليه، ولا نقول: إن أسماءَ الله غيرُ الله. بل نقول: أسماءُ الله دالةٌ عليه، ثم أيضاً أسماؤه دالة على صفاته، فاسمه (الرحمن) دليل على الرحمة، واسمه (العزيز) دليل على العزة، وهكذا بقية الأسماء. يقول العلماء: إن كل اسم من أسماء الله تعالى له ثلاث دلالات: دلالة على الذات، ودلالة على الصفة المشتقة من ذلك الاسم، ودلالة على بقية الصفات. فدلالته على الذات تسمى دلالة المطابقة. ودلالته على الصفة المشتقة منه تسمى دلالة تضمُّن. ودلالته على بقية الأسماء تسمى دلالة التزام. فإذا ذُكر اسم الرحمن قلنا: هذا الاسم (الرحمن) ينطبق على الله تعالى، ولا يسمى به إلا الله على الإطلاق، فهو يدل كلَّ مَن سمعه على ذات الله تعالى. ثم نقول: هذا الاسم يدل على إثبات الرحمة، ويتضمن إثبات الرحمة لأنه مشتق منها، فهو دليل على إثبات الرحمة دلالة تضمُّن. كذلك إذا أثبتنا الرحمن وأثبتنا الرحمة قلنا: إثبات الرحمة يستلزم بقية الصفات، فيستلزم إثبات المحبة، والغنى، والقوة والقدرة، والسمع، والبصر، والعلم، والإرادة، والغنى، وكمال التصرف، والقوة، والقدرة؛ لأن الرحمن واسع الرحمة، فلابد أن يكون غنياً سميعاً بصيراً مريداً ونحو ذلك، فنسمي دلالتَه على بقية الصفات دلالةَ استلزام أو التزام، أي: يلزم من إثبات هذه الصفة إثبات بقية صفات الكمال. فالحاصل أن هناك من يقول: إن أسماء الله غير الله وهناك من يقول: إن أسماء الله مخلوقة. ولعل هؤلاء ما حملهم على ذلك إلا اعتقاد أن الأسماء إذا تعددت تعددت الموجودات -كما يعبرون بذلك-، وهذا قول خاطئ، فلا يلزم إثبات تعدد القدماء كما يقولون، فالصفة الخاصة عند المعتزلة هي صفة القِدَم، أي أن الله قديم لم يُسبَق بعَدَم، فهم يقولون: إن أسماء الله حادثة، وإذا كانت حادثة فإنها ليست قديمة ويقولون: لو أثبتنا أنه موصوف بها أزلاً لأثبتنا تعدُّد القدماء، فيلزم بذلك إثبات التعدُّد. هكذا عللوا، وهو تعليل ضعيف، فإنا إذا قلنا: إن الله تعالى قديم بصفاته لم يلزم تعدد، وذلك لأن الصفات تابعة للذات، ولا يلزم من إثبات الصفات للذات أن يكون هناك عدد، كما في المخلوق، فإذا قلت -مثلاً-: جاءنا زيدٌ فلا حاجة إلى أن تقول: جاءنا زيدٌ وسمعُه وبصره وأذناه ويداه ورجلاه وبطنه وظهره ورأسه ولسانه وشفتاه. يكفي أن تقول: جاء زيد. فهو واحد. فإثبات المسمى يتبعه إثبات الصفات وإثبات الذات. فإذا قلنا: إن الله تعالى قديم. فلا حاجة إلى أن نقول: الله قديم وعلمُه وقدرته ويداه ووجهه وإرادته قديمة. بل الله قديم بصفاته، فلا يحتاج إلى تعدد القدماء كما يقولون.

المعتزلة رموزهم وعقيدتهم

المعتزلة رموزهم وعقيدتهم المعتزلة يعرفون بأنهم ينكرون الصفات، وكان أول خروجهم في عهد الحسن البصري، وذلك لما جاءه رجل يسأله عن رجل عمل ذنوباً وارتكب خطايا هل يُكفَّر أو يفسق؟ وهل يسمَّى مؤمناً أو كافراً، وكان في مجلس الحسن رجل من تلامذته، ولكنه لسِنٌ جريء بليغ فصيح، فنطق وقال: أنا أقول: إن العاصي ليس بمؤمن ولا كافر، بل هو بمنزلة بين المنزلتين، فلا نخرجه من الإسلام ولا ندخله في الكفر، بل هو بينهما. فأراد أن يقنعه الحسن فأصر على كلامه، ولما أصر على ذلك اعتزل مجلس الحسن وانفرد في حلقة من زاوية المسجد، وصار يقرر على تلامذة له أُعجِبوا بفصاحته هذه العقيدة، فعند ذلك قال الحسن رحمه الله: اعتزلنا واصل. ثم كان بعد ذلك كلما أحس من إنسان شيئاً من البدعة قال: هذا قول أولئك المعتزلة، إن كنت كذلك فاذهب إلى أولئك المعتزلة. فلُقِّبوا بالمعتزلة، واستمروا على هذا اللقب، وصاروا يعترفون بذلك ويفتخرون بأنهم بهذا الاسم، ولكنهم مع ذلك يدَّعون أنهم على حق وصواب. ومبنى مذهبهم على خمسة أصول يسمونها بأسماء حسنة، وهي: العدل، وإنفاذ الوعيد، والتوحيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمنزلة بين المنزلتين. هذه أصولهم الخمسة، ولها أسماءٌ حسنة، ولكن إذا شرحتَها أو طلبتَ شرحَها وجدتَ فيها مخالفات. فمرادهم بالعدل عدم قدرة الله على أفعال العباد، وينكرون أن يكون الله تعالى قد خلق أفعال العباد، ويقولون: إذا خلق الله المعصية في العاصي وعذَّبه فهذا جَور وظلم، وليس عدلاً فيجعلون العباد هم الذين يخلقون أفعالهم مستقلين بها، وينكرون قدرة الله على أن يهدي أو يضل، ويقولون: لو أراد الإنسان أمراً وأراد الله غيره لغلبت قدرة العبد على قدرة الخالق. وهذا بغير شك تنقُّصٌ لله، فهذا مرادهم بالعدل، ولعله يأتينا ما يبينه أكثر. وأما مرادهم بالتوحيد فهو في الصفات، فهم يقولون: إن الله تعالى واحد. وينكرون أن يكون معه صفات، فيقولون: إذا أثبتنا الذات والعلم والقدرة والرحمة والكلام والوجه واليد والمشيئة فما أثبتنا واحداً بل أثبتنا عدداً، فلا نكون موحِّدين، ولا نكون موحِّدين إلا إذا أثبتنا ذاتاً مجردةً عن الصفات. هذا مذهبهم ومرادهم بالتوحيد. أما المنزلة بين المنزلتين فمرادهم أن العاصي لا مؤمن ولا كافر، بل بينهما، فهم لا يقاتلون العصاة في الدنيا كالخوارج، ولا يعاملونهم معاملة المسلمين. ومرادهم بإنفاذ الوعيد أن آيات وأحاديث الوعيد التي وردت في حق العصاة لا بد من إنفاذها، فلأجل ذلك يحكمون بخلودهم في النار، وينكرون شفاعة الشافعين، وينكرون أن يُخرَج أحد ممن دخل في النار. ومرادهم بالأمر والنهي جواز الخروج على الأئمة إذا أظهروا معصية، ويستبيحون ذلك. وذكر المعلِّق أن مِن أشهر رجالهم: واصل بن عطاء، وهو الذي ذكرنا أنه أول من اعتزل مجلس الحسن، وعمرو بن عبيد، وهو عالم ولكنه ضال، كما أن واصل بن عطاء عالم وفصيح، حتى ذكروا أنه كان ألثغ بـ (الراء) ، فكان إذا خطب يتجنبها في كلامه حتى لا يُعاب؛ لأنه كان يقلبها (غيناً) ، حتى في القرآن، فإذا قرأ -مثلاً-: {الصِّرَاطَ} [الفاتحة:6] يقول: الصغاط. كاللكنة التي تكون في بعض الناس. أما عمرو بن عبيد فكان عالماً ولكنه مبتدع ضال، ومع ذلك فقد انخدع به بعض الولاة، مثل الخليفة المنصور، فقد كان يقرِّبه، وذلك لأنه يرى أنه زاهد في العطاء لا يطلب شيئاً من المال ولا يرغب في شيء لنفسه، حتى إنه كان يقول للذين يأتون إليه: كلكم يمشي رويد، كلكم يطلب صيد، غير عمرو بن عبيد يريد: كلكم يطلب شيئاً من المال إلا عمرو بن عبيد. وبيَّن ابن كثير في ترجمته في البداية والنهاية أنه وإن اشتهر بالزهد فإنه مبتدع. وأما أبو الهذيل العلاف فهو أيضاً مشهور بأنه من جهابذتهم وأكابرهم، ولكنه من المنهمكين في هذه العقيدة ومن الغلاة فيها. وإبراهيم النظام كذلك أيضاً اشتهر بمخالفاتٍ عجيبة، وكذلك الجاحظ. والحاصل أن هؤلاء من مشاهيرهم. وكذلك أيضاً ما ذكر عن: بشر بن المعتمر، والمردار، وثمامة بن أشرس، وابن أبي دؤاد وأشباههم. أما الخوارج فهم الذين خرجوا على علي رضي الله عنه، والذين وردت فيهم الأحاديث. ثم هم يُطلقون على كل فرقة تخرج عن طاعة الأمير أو الخليفة ويكون عندهم نفوذ ولهم قوة، فيسمَّون خوارج لخروجهم عن ولاية الولاة، وأول ما خرجوا كانوا في عهد علي رضي الله عنه، ثم استمر خروجهم في عهد بني أمية، ولما استُخلِف عمر بن عبد العزيز وسار سيرة حسنة أرادوا أن يدخلوا في ولايته، فجاؤوا إليه وبحثوا معه فلم يجدوا عنده شيئاً من المخالفات فقالوا: ما ننقم عليك إلا واحدة، وهي أنك استخلفت بعدك أحد بني أمية. ولم يستخلفه ولكن استخلفه غيرُه، وهو سليمان بن عبد الملك، فقد استخلف بعد عمر أحد بني أمية، فعند ذلك أراد أن يعزله، فخاف بنو أمية أن يعزله من الولاية، قيل: إنه أُرْسل إليه مَن سقاه سُماً حتى مات. والله أعلم. فالحاصل أن الخوارج كل من خرج عن طاعة الولاة. ولا شك أن القول بأن أسماء الله تعالى مخلوقةٌ قولٌ مبتدَع، وذلك لأن الله تعالى بذاته وبصفاته ليس منه شيء مخلوق. وقد تكلفوا في تصوير هذا الشيء الذي ادعوا أنه مخلوق وأطالوا في ذلك، ولكن لم يأتوا بحاصل، وعباراته التي ولَّدوها لم تدل على شيء.

الأدلة على صفات الله الفعلية والذاتية

الأدلة على صفات الله الفعلية والذاتية قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويثبتون له وجهاً وسمعاً وبصراً وعلماً وقدرةً وقوةً وعزةً وكلاماً] : هذه الصفات التي ذكَرَ منها: الوج والسمع والبصر والكلام صفات ذاتية. والعلم والقدرة والقوة والعزة صفات فعلية. ولا شك أن أهل السنة يثبتون كل ما أثبته الله تعالى لنفسه، ولكن هذه الأشياء ذُكرت على وجه التمثيل، ولعله خصها للرد على أهل الزيغ من المعتزلة ونحوهم، فإن المعتزلة ينكرون مثل هذه الصفات، الوجه والسمع والبصر.

أدلة إثبات الوجه لله تعالى

أدلة إثبات الوجه لله تعالى مما دل على إثبات الوجه من القرآن والسنة: قول الله تعالى: [ {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27]] ، وقال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] ، وقال تعالى: {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل:20] ، وقال تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان:9] ، وقال تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52] والآيات كثيرة في إثبات الوجه. وكذلك الأحاديث، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سُبُحاتُ وجهه ما انتهى إليه بصرُه من خلقه) ، وقوله: (وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن) ، وقوله في الدعاء المشهور: (أسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة) ، وغير ذلك من الأحاديث الواضحة الدلالة في إثبات صفة الوجه. والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب (التوحيد) في (باب: لا يُسأل بوجه الله إلا الجنة) ، قال في المسائل: المسألة الأولى: أنه لا يُسأل بوجه الله إلا الجنة لشرفها. المسألة الثانية: إثبات صفة الوجه. فيثبتها لله تعالى. وإذا أثبتنا فإننا ننزه الله تعالى عن أن يكون كالمخلوق، أما الذين نفوا هذه الصفات فما موقفهم من هذه الآيات والأحاديث؟ إنهم يتأولونها فيقولون: المراد بـ (الوجه) ما يقابل النظر أو نحوه فيقولون: إنه يُطلق الوجه على ما لا وجه له. فيقولون -مثلاً-: إن العالم إذا أشكلت عليه مسألة قال: وجه هذه المسألة كذا وكذا. فوجهُها معناه ما يُنظر فيه إليها. فيصرفون هذه الأدلة مصارف بعيدة.

أدلة إثبات السمع والبصر لله تعالى

أدلة إثبات السمع والبصر لله تعالى أهل السنة يثبتون لله عز وجل السمع والبصر، ويفسرونهما. ويعرفون باللغة أن السمع هو إدراك الأصوات، وأن البصر هو إدراك المرئيات، ويقولون: نثبت لله تعالى سمعاً. ونقول: إنه يسمع كل شيء من جهر القول وخفي الخطاب، ولا تشتبه عليه اللغات، ولا تغلطه كثرة المسائل مع اختلاف اللغات وتفنن المسئولات، فلا يشغله سمع عن سمع، لا يشغله سمع هذا الداعي عن هذا الداعي، يسمع الجميع ولا يشغله صوت هذا عن هذا، أما المخلوق فإذا تكلم عنده اثنان اشتبه عليه كلام هذا بهذا، فلا يزال يسكِّت أحدَهما حتى يسمع الآخرَ، أما الرب تعالى فإنه يسأله الملائكة والمخلوقات كلها بآن واحد، ومع ذلك يسمع أصواتهم جميعاً ويجيب من يستحق الإجابة. أما البصر فورد إثباته في آيات كثيرة لا تُحصى، كقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء:134] . والبصر هو إدراك المبصَرات، ويُطلق عليه أيضاً: الرؤية في قول الله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] ، فأثبت لنفسه أنه يرى، وذلك هو إثبات الرؤية. وقد وصف نفسه بالسمع والبصر في مثل قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1] ، فجمع بين السمع والبصر في عدة آيات. فنصف الله تعالى بأنه يبصر، وأنه لا يستر بصرَه حجاب، ولا يحجزه مخلوق عن أن يبصر ما وراءه، فينفذ بصره في جميع المبصَرات، ولا يحتجب شيء عنه من المخلوقات. وقد ورد في تفسير قول الله تعالى في سورة الملك: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك:13] ورد أن ثلاثة من المشركين اجتمعوا فقالوا: أتظنون أن الله يسمع كلامنا ويرانا؟! فقال بعضهم: يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إذا أخفينا. وقال آخر: إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا. فنزلت الآية: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك:13] .

أدلة إثبات العلم لله تعالى

أدلة إثبات العلم لله تعالى صفة العلم أثبتها الله تعالى بقوله: [ {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء:166] ، فأثبت لنفسه أنه أنزل القرآن بعلمه، وذلك -بغير شك- دليل على إثبات هذه الصفة، وهي أنه عالم، أما المعتزلة ونحوهم فلا يثبتونها، وإنما يصفونه بالصفات السلبية. فإذا جادلتَ بعضَهم يقول: نحن نقول: إن الله لا يجهل. فإذا قلتَ: أثبتْ أن الله يعلم. يقول: ما أثبتُ أن الله يعلم، ولكن أقول: لا يجهل. ولا يكفي هذا. يقول الله تعالى: [ {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] . فقد أثبت لنفسه أنه له علم، وأنهم لا يحيطون بعلمه إلا بما شاء. كذلك قوله: [ {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} [فاطر:10] ، فأثبت لنفسه صفة العزة، والعزة هي القدرة والقوة على كل شيء، فهو دليل على إثبات صفة القوة.

أدلة إثبات اليد والكلام لله تعالى

أدلة إثبات اليد والكلام لله تعالى قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ} [الذاريات:47] فسر الأيدي بالقوة، وليس هو جمع يد، قال تعالى عن داود عليه السلام: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ} [ص:17] أي: صاحب القوة. فكذلك {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ} أي: بقوة. وأثبت الله أيضاً صفة القوة في قوله تعالى: {مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً} [القصص:78] ، والقوة هي القدرة التامة على كل شيء وأثبتها أيضاً في قوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ} [الذاريات:58] أي: القوة التامة. ولهذا قال: {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58] ، فهو تعالى موصوف بالعلم والقدرة والقوة والسمع والبصر والكلام، فكل هذه صفات ثابتة لله تعالى. وأثبت لنفسه صفة العين فقال: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] {وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود:37] ، ولا شك أن هذا أيضاً دليل على أنه موصوف بهذه الصفات، وصفة العين أثبتها بلفظ مفرد، وأثبتها بلفظ جمع، فيراد بالمفرد الجنس، كما يقال في صفة اليد، ويقال في الجمع (بأعيننا) : يراد به التعظيم. كما قلنا في قوله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] : إن المراد التعظيم، وصف نفسه بالجمع. ووصف نفسه بالكلام فقال تعالى: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ، {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] . ووصف نفسه بالقول فقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] والقول هو: كلام. إذاً: فهذه صفات أثبتها الله تعالى، فنثبتها له كما يشاء، ونتوقف عن تكييفها، ونعلم أنها صفات حقيقة.

الأسئلة

الأسئلة

حكم حضور المآتم واجتماعات العزاء

حكم حضور المآتم واجتماعات العزاء Q ما حكم حضور المآتم واجتماعات القراء أو واجتماعات العزاء، وكيف يكون موقف طالب العلم مع أهله عند وفاة أحد أفراد الأسرة، وهم يعملون له اجتماعاً لأيام في مسجد أو بيت معد لذلك؟ A بعض الأمور يكون فيها محذور في بعض الأحيان، فمعلوم أنه إذا توفي والد عائلة كبيرة وكانوا متفرقين في المدينة، فأحد الأولاد يسكن في شرقها والآخر في غربها والثالث في شمالها والرابع في جنوبها فمن المشقة أنك تذهب إلى كل واحد منهم تعزيه في الجهة التي هو فيها؛ لأن لكل منهم حقاً في التعزية، وفي الحديث: (من عزى مصاباً فله مثل أجره) ، والتعزية تسلية للمصابين، وحث لهم على الصبر، ودعاء لميتهم، فلأجل ذلك قالوا: لا بأس أن يجتمع أهل الميت -أولاده وإخوته_ في بيت أحدهم حتى يقصدهم المعزي ويعزيهم جميعاً، ولكن اجتماعهم يكون جلوساً عادياً، فلا يكون هناك نياحة، ولا صياح، ولا بدع محدثة، ولا اختلاط رجال ونساء، ولا غير ذلك، وإذا لم يكن عندهم منزل يكفيهم ويكفي من يجتمع إليهم أو من يزورهم فلا بأس أن يستأجروا بيت أحد أقاربهم، أو إذا كانوا في بادية مثلاً فلا بأس أن يبنوا لهم خيمة أو خدراً يجتمعون فيه للعزاء. أما المحدثات التي تفعل من كون أهل القرى النائية إذا مات لهم ميت في القرية اجتمع أهل الميت كلهم، وهذا الاجتماع قد يكون فيه شيء من النياحة، ولابد أنه يصدر منهم بعض الأشياء التي فيها شيء من الصياح أو النياحة أو ضرب الخدود أو شق الجيوب أو دعوى الجاهلية أو رفع الأصوات بالنياحة أو ما أشبه ذلك. كذلك أيضاً مما أنكر أنهم إذا جاؤوا واجتمعوا عند أولاد الميت كلفوا أولاد الميت بالأغذية، فيتكلفون لهم بأن يصلحوا لهم طعاماً في عدة أيام وهم أعداد كثيرة، وذلك مما يكلفهم، وربما يكون في الأولاد أيتامٌ، واليتيم لا يحل أن ينفق من ماله، وذلك لقصوره، والأمر جاء بحفظ ماله له، فهذه من المنكرات، فمثل هذه المآتم ننصح بعدم حضورها؛ لأن الاجتماع الكبير الذي يطول ويكلف أولاد الميت، أو الذي يكون فيه شيء من الصياح والنياحة وتعداد المحاسن لا يجوز حضوره.

حكم توزيع المورث التركة قبل موته

حكم توزيع المورث التركة قبل موته Q بعض الناس يقوم بتوزيع تركته على أولاده قبل موته، فهل له ذلك؟ A ننصح بأن لا يفعل، والغالب أن هؤلاء الذين يوزعون أموالهم قبل موتهم منهم من يريد بذلك حرمان بعض الورثة كالزوجات أو أحد الوالدين إن كان له أبوان، أو نحو ذلك، فيوزعها بين أولاده، وربما يحرم البنات، فمثل هذا أرى أنه لا يجوز. وقد ورد في قصة غيلان - رجل أسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان تحته عشر نسوة؛ فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يمسك أربعاً ويفارق سائرهن -أنه لما كان في عهد عمر طلق نساءه الأربع، وفرق أمواله بين أولاده الذكور، فسمع بذلك عمر وقال له: (إني أظن الشيطان فيما يسترق من السمع أوحى إليك قرب أجلك, والله لتراجعن نساءك ولتستعيدن أموالك أو لآمرن بقبرك أن يرجم كما رجم قبر أبي رغال) ، فحكم عليه أن يسترجع أمواله التي كان قسمها حتى يحرم نساءه، فهذا دليل على أن هذا الفعل لا يجوز. أما إذا احتاج بعض الأولاد إلى مال فإنه يعطيهم بقدر حاجتهم، وأما إذا كان عنده فائض مال فله أن يوزعه عليهم على السواء بقدر إرثهم للذكر مثل حظ الأنثيين، فإذا وزع عليهم قطع أراضٍ أعطى الرجل مثلي المرأة، وإذا وزع عليهم نقوداً فكذلك، وإذا أعطى المرأة ألفاً أعطى الابن ألفين؛ لقول بعض الصحابة: (كانوا يقسمون على كتاب الله تعالى) .

حكم من فرط في ذبح الهدي

حكم من فرط في ذبح الهدي Q ذهبت مع أهلي إلى الحج، وأبلغ من العمر خمسة عشر عاماً، فذهبت مع أخي الكبير لنحر الهدي، وكان معي دراهم، فلما أتينا المكان الذي يباع فيه الهدي ضعت من يد أخي قبل شراء الهدي، فرجعت إلى أهلي في المكان الذي في منى، فخفت من أهلي فقلت لهم: إني نحرت الهدي. فماذا يجب علي؟ A الظاهر أنه يبقى الهدي في ذمتك؛ فإن من لم يذبح في الأربعة الأيام مفرطاً لزمه أن يذبح كالذبيحة التي تركها، وأن يذبح أخرى عن التأخير لكونه ترك نسكاً، ولقول ابن عباس (من ترك نسكاً فعليه دم) . ويكون الجميع بمكة.

حكم استخدام العطور المحتوية على الكحول

حكم استخدام العطور المحتوية على الكحول Q ما حكم العطورات التي يخالطها شيء من الكحول؟ A الأصل أن هذه العطورات أطياب تستعمل لتطييب الرائحة ونحوها، ثم تحتاج إلى أن يجعل معها شيء من الكحول- المادة المعروفة- لكي تحفظها من التعفن وانقلاب الروائح، ثم أيضاً الأصل أنها نسبة قليلة، فعلى هذا لا بأس باستعمالها، مع أن في استعمال الكحول خلاف بين العلماء هل هو نجس أم لا، وأكثرهم على أنه ليس بنجس، وأنه لا يطلق عليه أنه خمر ولو كان مسكراً؛ لأنه ليس من المشروبات، وليس مما يتلذذ به. وعلى كل حال فالعطورات التي صنعت للطيب لا بأس بها، ولكن هناك أنواع من الأطياب كمية الكحول التي فيها كبيرة، فما كانت الكمية التي فيها من الكحول أكثر من الحاجة فإنا ننصح بتجنبها.

الفرق بين النفس والذات

الفرق بين النفس والذات Q ما الفرق بين النفس والذات؟ A الظاهر أنه لا فرق بينهما، وإن كانت النفس قد تطلق على الروح، وذلك لما ذكر في الحديث: (اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب) فأطلق على الروح نفساً. أما الذات فهي ماهية الشيء التي يتكون منها، فنقول مثلاً: ذات هذا المسجد ماهيته التي هي العمد والجدران وما فيها، وذات الإنسان ماهيته التي هي الجسد الذي يتكون منه، كما أننا نقول: ذات السيارة هي ماهيتها التي تركبت من الحديد ومن الأدوات، والقطع التي اجتمعت حتى أصبحت بهذه الصفة. وهكذا. وعلى كل حال الفرق بينهما يسير.

التعريف بالإباضية ومعتقداتهم

التعريف بالإباضية ومعتقداتهم Q ما حكم الإباضية، ومن أي طائفة هم؟ A الأصل أن الإباضية كانوا طائفة قديمة منذ عهد الصحابة، وهم منسوبون إلى رجل من الخوارج، وكانوا في ذلك العهد لا ينقم عليهم إلا أنهم من الخوارج يكفرون بالذنوب ويقاتلون من وجدوه من غيرهم وممن ليس على معتقدهم، وهذه عقيدة الخوارج وإن اختلفت وجهاتهم، وكان لهم رئيس يقال له: ابن إباض. وكانت هذه الطائفة تنتمي إليه وتسير على طريقته ومنهجه، ولم يزالوا كذلك، ومع تطاول القرون خفت حدتهم في التكفير بالذنوب، وخفت ثوراتهم على أهل السنة وقتلهم وقتالهم، وذلك لأنهم داخلوا الناس، ولابد أنهم تأثروا بما تأثروا به، ورأوا أن قتالهم ليس فيه مصلحة، وأنهم يتعرضون للأخطار، ولكن مع تداخلهم مع أهل البدع الأخرى دخلت عليهم أنواع من البدع زيادة على بدعة التكفير، وربما تكون بدعة التكفير قد خَفَّتْ، لكن دخلت عليهم بدع المعتزلة، فمنها -مثلاً- إنكار كثير من الصفات الفعلية والذاتية، كما يعتقد ذلك المعتزلة ويسمونه تنزيهاً أو توحيداً. ومنها أنهم لما أنكروا أن الله تعالى متكلم اعتقدوا أن القرآن مخلوق، وأصبح ذلك ديدنهم وعقيدتهم. ومنها أنهم اعتقدوا أن الله تعالى ليس فوق العرش، وليس هو في جهة العلو. وأنكروا رؤية الله تعالى في الآخرة، فدخلت عليهم هذه الأمور من المعتزلة. وعلى كل حال فالأصوب في الإباضية أنهم فرقة من الخوارج يكفرون بالذنوب، وآل بهم الأمر إلى أن صاروا من المعتزلة، وبقي أصل معتقدهم الذي هو معتقد الخوارج، ولكنهم لا يعملون به ولا ينفذونه في هذه الأزمنة، ولهم أقوال ومؤلفات يستندون إليها، ولهم كتب يرجعون إليها. ولا شك أن كل من اعتقد معتقداً وتلقاه عن مشايخ يثق بهم فإنه يصد عن غيره، ولا ينيب ولو أتي بكل دليل، ولا يتقبل إلا ما يوافق معتقده.

حكم وصف الله تعالى بصفة القديم

حكم وصف الله تعالى بصفة القديم Q هل لنا أن نصف الله عز وجل بصفة القديم؟ A الأولى أن يوصف بما وصف به نفسه، فالله تعالى وصف نفسه بالأول، قال تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد:3] ، وفسر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء) ، فنصف الله بما وصف به نفسه. أما كلمة (القديم) فإنها لا تدل على الأزل، ولكن اصطلح المعتزلة على أنها أخص أوصاف الله تعالى، والصحيح أن يوصف بالأول، أي: الذي لم يسبق بعدم.

مدى صحة القول بفناء النار عن ابن تيمية

مدى صحة القول بفناء النار عن ابن تيمية Q شيخ الإسلام لم يعرف عنه قول خطأ في العقيدة، فما صحة ما نسب إليه من أنه قال بفناء النار؟ A الظاهر أن الذين قالوا ذلك عنه هم أعداؤه، ويمكن أنه قال ذلك في كلمة أو محاضرة ظهر له بعض الأدلة فيها، ولكن إذا نظرنا في كتبه لم نجد تصريحاً له بهذه المقالة، ولا اشتهرت عند أعدائه وعند المخالفين له. وأما تلميذه ابن القيم فقد تكلم عن المسألة في كتابه (حادي الأرواح) ، وذكر أدلة هؤلاء وأدلة هؤلاء، ولم يظهر منه ترجيح ولا اختيار، ولو أنه مثلاً أورد أدلة هؤلاء وبالغ فيها فإن ذلك لا يدل على الاختيار.

تعريف الصفات الفعلية وأمثلة لها

تعريف الصفات الفعلية وأمثلة لها Q هل القدرة والقوة والعلم صفات فعلية، وما تعريف الصفات الفعلية؟ A لا شك أنه يصح أن تكون القدرة صفة ذاتية، أي أن الله تعالى موصوف بصفة القدرة دائماً، ولذلك وصف نفسه بأنه لا يعجزه شيء، فالقدرة هي كمال القوة والاستطاعة، حيث لا يخرج شيء عن قدرته، كما يخبر في قوله تعالى: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26] ، فيدخل في ذلك كل الأشياء، فالقوة هي الاستطاعة، فهو قوي على كل شيء، ولا يخرج شيء عن قوته، فالقوة والقدرة يصلح أن تكونا من الصفات الذاتية ومن الصفات الفعلية، ولكن الأصل أنها ذاتية. كذلك أيضاً صفة العلم، الصحيح أنها صفة ذاتية، ولذلك فإن الله تعالى لا يتصف بغير العلم في وقت من الأوقات، بل هو موصوف بالعلم في كل الأزمنة، ولا يكون في حالة من الحالات غير عالم، بل هو عالم بكل شيء في كل الحالات. فالصفات الذاتية هي التي لا تنفك عن الموصوف. والصفات الفعلية هي التي يفعلها إذا شاء، مثل صفة الغضب والرضا صفتان فعليتان، فليس هو غضبان دائماً، وليس الله عز وجل دائماً راض عن كل أحد، ولكن يرضى عن هؤلاء ويغضب على هؤلاء، فهي صفة فعلية.

حكم التمثيل بالأنعام

حكم التمثيل بالأنعام Q ما حكم قطع آذان الغنم وكي القرون، علماً بأن الهدف من ذلك تزيينها لرفع سعرها؟ A نرى كراهة ذلك إذا كانت مؤذية لها، ويعلل بعضهم ذلك بأن في الأغنام أنواعاً آذانها طويلة، حيث إنها تعترض لها في الشرب، وإذا رعت فإنها تجرها لطولها على الأرض، وربما كانت هذه الآذان لطولها تتعرض للشوك، وللحجارة الحامية إذا أخذت ترعى، فيمكن أن يرخص في قطع جزء منها بقدر ما ينقطع الذي تتأذى بطوله؛ فأما قطعها القطع الكثير للزينة فأرى أن ذلك ليس يسوغ.

الدراسة في الجامعات المختلطة

الدراسة في الجامعات المختلطة Q نحن ندرس في بلد الطالبات فيه في الجامعات متبرجات ومختلطات بالرجال، والحجاب راجع إلى الطالبة نفسها، إن شاءت لبسته وإلا فلا، وهو غير مفروض بالأنظمة، فما موقفي من قريباتي، هل أنصحهن بعدم دخولهن، أم بالالتزام بالحجاب الساتر وعدم التطيب ونحو هذا من الواجبات، علماً أن هذا الأخير هو الأقرب أن أُجَاب إليه؟ A يفعل هذا الأقرب، ما دام أنك تقدر عليه، فتلزمها بأنها تدخل متحجبة وتستر وجهها وزينتها، وتتجنب الطيب وإظهار الجمال، وتبتعد ما استطاعت عن مخاطبة الرجال أو مقابلتهم، وتكون في أطراف الفصول مختفية ما استطاعت، ولاشك أن الطالبات أصبحن يزاحمن أو يسابقن إخوانهن من الطلاب، ويصير بينهم منافسة، فما دام أنها أصبحت الدراسة شبه ضرورية فلا تمنعها إذا لم تجد جامعة سالمة من الاختلاط، فلا أقل من التحفظ والتحجب.

حكم رفع اليدين عند القيام من التشهد الأوسط

حكم رفع اليدين عند القيام من التشهد الأوسط Q يلاحظ على بعض الإخوة أنه يرفع يديه بعد التشهد الأول للقيام وهو جالس، فما حكم هذا العمل؟ A الأصوب في الرفع أنه عند الحركة للقيام، أو إذا تم قائماً رفع يديه، والأولى أن يكون عند نهوضه وقيامه يرفع يديه ويتم رفعه إذا استتم قائماً، فأما رفعها قبل الحركة وقبل الرفع من الجلوس فلا يسمى رفعاً، ولا يأتي بالسنة؛ لأن الحديث: (إذا قام من الركعتين رفع يديه) ، فلم يقل: إذا أراد القيام.

كيفية التخلص من الأموال الربوية

كيفية التخلص من الأموال الربوية Q رجل لديه مال ربوي ويريد أن يتخلص منه، فهل له أن يعطيه لرجل عليه دين أو رجل فقير وصاحب حاجة؟ A أرى أن ذلك جائز، وذلك لأن المال في نفسه طاهر، وإنما إثمه على المكتسب، فإذا تخلص منه وسلم منه فإنه إذا صرفه على هذا الفقير فهو مال طيب في حقه إن شاء الله.

إثبات صفة البصر لله

إثبات صفة البصر لله Q في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره) هل نثبت صفة انتهاء البصر لله عز وجل؟ A إن الله تعالى لا يستر بصره شيء، فمعنى هذا أنه تحرق السبحات كل شيء من المخلوقات التي يبصرها بصره ولا يستر بصره حجاب، فنثبت ذلك على ما ورد في الحديث.

حكم تسمية الله بالنور

حكم تسمية الله بالنور Q في قول الله عز وجل: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35] هل نقول: إن (النور) اسم من أسماء الله؟ A ذكر اسم النور في الأسماء التسعة والتسعين، وأخذ من الآية الكريمة: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَات وَالأَرْضِ} [النور:35] ، وكذلك من قوله: (حجابه النور) ، وحديث: (نور أنى أراه) ، وحديث: (رأيت نوراً) ، فإذا سمي بالنور فإن هذا الاسم كأنه أشبه بالصفة، فنقول: من صفات الله أنه النور، وأنه ذو النور الذي خلق الأنوار، وكل ما في الوجود فهو من نوره.

إثبات صفة الوجه لله من قوله تعالى: (إنما نطعمكم لوجه الله)

إثبات صفة الوجه لله من قوله تعالى: (إنما نطعمكم لوجه الله) Q في قوله جل وعلا: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان:9] ألا نستطيع أن نقول: إن المقصود بالوجه هاهنا ابتغاء مرضاة الله، مع إيماننا بأن لله عز وجل وجهاً يليق بجلاله؟ A وكذلك قوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52] ، فهي عبارة عن إخلاص العمل، فإذا قلت: إن فلاناً يريد بعمله وجه الله فالمعنى: يلتمس رضاه، ولا يريد غيره. ففيها دلالة على إثبات صفة الوجه، وحث على إخلاص العمل لله، وأن لا يخالطه شيء من الرياء والسمعة، فإذا كان العمل خالصاً لله فإنه مما أريد به وجه الله، كأنه يقول: أريد به الله تعالى، أو: أريد به رضا الله. وأطلق الوجه لأنه الذي تحصل به المواجهة، أو لأنه أطلق على الذات، وعلى الإخلاص في العمل.

الرد على منكري الجهاد بعد الرسول

الرد على منكري الجهاد بعد الرسول Q بماذا نرد على من ينكر الجهاد في سبيل الله ويقول: إن الجهاد خاص بزمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويقول: إن جميع آيات الجهاد منسوخة خصوصاً آية السيف. ويستدل بقول الله عز وجل: {وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] ، ويقول: لم يقل الله تعالى: أن أكرهوهم وارفعوا عليهم السلاح؟ A هذا السؤال قد يستدعي شرحاً طويلاً، ولكن نقول له: تأمل فعل الصحابة، فهل توقفوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم أم استمروا على الجهاد والقتال؟ بل ما فتحوا الفتوح إلا بعده صلى الله عليه وسلم، مثل العراق، ومصر، وخراسان، والهند والسند، وما وراء النهر، وأفريقيا بأكملها، ووصلوا إلى الأندلس، كل ذلك بعده صلى الله عليه وسلم، هذا من جهة. من جهة ثانية: الأدلة من السنة على عموم الجهاد، ولم يذكر أنه خاص، فإنه صلى الله عليه وسلم لما سئل: (أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها، قيل: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قيل: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله) ، وكذلك قوله: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم) ،وكذلك عموم الآيات التي فيها الأمر بالجهاد، والتي فيها ثوابهم، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] ، وقوله: {وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} [آل عمران:195] ، وكذلك قوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:111] ، وقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ} [التوبة:123] ، والآيات والأحاديث في ذلك معلومة.

قضاء الصيام لمن تأخر فيه

قضاء الصيام لمن تأخر فيه Q امرأة كان عليها قضاء بعض الأيام منذ اثني عشر عاماً مضت، فكيف تقضي ذلك؟ A لابد مع القضاء من كفارة، وتقضي ولو متفرقاً، ثم عن التفريط والتأخير كفارة إطعام مسكين عن كل يوم.

تعلم معتقدات الفرق الأخرى

تعلم معتقدات الفرق الأخرى Q لماذا نتعلم أقوال الفرق ومعتقداتهم، ولماذا لا نكتفي بتعلم عقيدة أهل السنة؟ A الإنسان يبتلى غالباً بمجالسة أولئك المعتزلة والضلال والمبتدعة، وإذا ابتلي بمجالستهم فالغالب أنهم يلقون شيئاً من شبهاتهم وأدلتهم التي يشوهون بها ويموهون، فإذا كان الإنسان عنده أسلحة قوية وأدلة متمكنة استطاع أن يرد عليهم أقوالهم، فمعرفتها لأجل الحذر منها، ولذلك يقول حذيفة: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه) ، فأنت عليك بمعرفة مذهب أهل السنة ومعتقدهم، وإذا كنت تخشى أنك تبتلى بمجالسة أولئك المبتدعة فإن عليك أن تسأل عن مذهبهم وشبهاتهم، حتى إذا عرفتها وعرفت كيف تردها استطعت إبطالها والرد عليهم حتى لا تصل إلى فكرك ويصعب بعد ذلك تخليصها من ذاكرتك.

شرح اعتقاد أهل السنة [6]

شرح اعتقاد أهل السنة [6] عقيدة أهل السنة والجماعة هي وسط بين عقائد الفرق في كل شيء، فهم يثبتون عقيدتهم دون أي تناقض أو زيادة أو نقص، أو خضوع لآراء الرجال على مر الأزمان، ومن ذلك أنهم يثبتون لله عز وجل مشيئة كما يليق به سبحانه وتعالى، وكذلك يثبتون للعبد مشيئة ولكنها تعمل تحت مشيئة الرب تعالى العامة، وتحت تصرفاته الكونية، ولهم في ذلك أدلتهم الواضحة من الكتاب والسنة، كما أنهم يعتقدون أن القرآن كلام الله ليس بمخلوق، لفظه ومعناه من الله تعالى.

مشيئة الله ومشيئة العبد عند أهل السنة

مشيئة الله ومشيئة العبد عند أهل السنة إن من أهم أمور العقيدة معرفة الله تعالى والإيمان به، وذلك يستدعي الإيمان بوجود الله وبكمال قدرته، وبكمال تصرفه في خلقه، وكذلك الإيمان بأسمائه وصفاته التي هي أسماء حسنى وصفات علا، والتي هي صفات كمال ونعوت جلال، وما سوى ذلك فإنه يعتبر تابعاً لبقية أركان الإيمان، وكذلك أمور العقيدة تابعة للإيمان بالله، وذلك لأن من آمن بالله تعالى وبصفاته وبوحدانيته وبكماله استدعى ذلك عبادته، واستدعى ذلك طاعته وحده، وتصديق رسله الذين بلغوا عنه، واستدعى ذلك وحدانيته وتوحيده، وإخلاص العبادة له، وما يتفرع عن ذلك من الأعمال تابع لهذا الاعتقاد. قال الشيخ الحافظ أبو بكر الإسماعيلي رحمه الله تعالى في بيان اعتقاد أهل السنة: [ويقولون ما يقوله المسلمون بأسرهم: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لا يكون، كما قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:29] . ويقولون: لا سبيل لأحد أن يخرج عن علم الله، ولا أن يغلب فعله وإرادته مشيئة الله، ولا أن يبدل علم الله، فإنه العالم لا يجهل ولا يسهو، والقادر لا يغلب. ويقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق، وإنه كيفما تصرف بقراءة القراء له وبلفظه فإنه كلام الله، وأنه محفوظ في الصدور، متلو بالألسن، مكتوب في المصاحف غير مخلوق، ومن قال بخلق اللفظ في القرآن يريد به القرآن فقد قال بخلق القرآن] . قال المعلق جزاه الله خيراً: مسألة اللفظ في القرآن اضطرب فيها أقوام من أهل الحديث والسنة، قال ابن قتيبة في كتاب (الاختلاف في اللفظ) : ثم انتهى بنا القول إلى ذكر غرضنا من هذا الكتاب وغايتنا من اختلاف أهل الحديث في اللفظ بالقرآن وتشانئهم وإكفار بعضهم بعضاً، وليس مما اختلفوا فيه مما يقطع الألفة، ولا مما يوجب الوحشة؛ لأنهم مجموعون على أصل واحد وهو: القرآن كلام الله غير مخلوق. وقال ابن القيم: وأئمة السنة والحديث يميزون بين ما قام بالعبد وما قام بالرب، والقرآن عندهم جميعه كلام الله؛ حروفه ومعانيه، وأصوات العباد وحركاتهم وأداؤهم وتلفظهم كل ذلك مخلوق بائن عن الله. إلى أن قال: البخاري أعلم بهذه المسألة، وأولاه بالصواب فيها من جميع من خالفه، وكلامه أوضح وأمتن من كلام أبي عبد الله، فإن الإمام أحمد سد الذريعة حيث منع إطلاق لفظ المخلوق نفياً وإثباتاً على اللفظ إلى أن قال: والذي قصده أحمد أن اللفظ يراد به أمران: أحدهما: الملفوظ نفسه، وهو غير مقدور للعبد ولا فعل له. الثاني: التلفظ به والأداء له فعل العبد. فإطلاق الخلق على اللفظ قد يوهم المعنى الأول، وهو خطأ، وإطلاق نفي الخلق عليه قد يوهم المعنى الثاني، فمنع الإطلاقين، وأبو عبد الله البخاري ميز وفصل، وأشبع الكلام في ذلك، وفرق بين ما قام في الرب وبين ما قام في العبد، وأوقع المخلوق على تلفظ العباد وأصواتهم وحركاتهم وأكسابهم، ونفى اسم الخلق عن الملفوظ، وهو القرآن الذي سمعه جبرائيل من الله، وسمعه محمد من جبرائيل. تنبيه: لقد زعم كثير من أهل الأهواء أن الإمام البخاري قال: لفظي بالقرآن مخلوق. ولكن بعد التحقيق تبين أن نسبة هذا القول للإمام البخاري رحمه الله من قبل شهادة الزور عليه، وأنه براء من هذه المقالة، ولقد صرح الإمام البخاري نفسه أن من قال: إني قلت: لفظي بالقرآن مخلوق فقد كذب عليَّ. قال محمد بن نصر: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: من زعم أني قلت: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب، فإني لم أقله. فقلت له: يا أبا عبد الله! قد خاض الناس في هذا وأكثروا فيه! فقال: ليس إلا ما أقول. وقال أبو عمرو الخفاف: أتيت البخاري فناظرته في الأحاديث حتى طابت نفسه، فقلت: يا أبا عبد الله! هاهنا أحد يحكي عنك أنك قلت هذه المقالة. فقال: يا أبا عمرو! احفظ ما أقول لك: من زعم من أهل نيسابور وقومك والري وهمذان وحلوان وبغداد والكوفة والبصرة ومكة والمدينة أني قلت: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب، فإني لم أقله، إلا أني قلت: أفعال العباد مخلوقة. فالثابت عنه أنه قال: أفعالنا مخلوقة. فيدخل في هذا تلفظ القارئ بالقرآن، وكتابة الكاتب لألفاظ القرآن، وحفظ الحافظ للقرآن، وجهر القارئ بالقرآن، وحسن صوته وتغنيه بالقرآن، فهي أمور مخلوقة؛ لأنها من أفعال العباد، فهذا ما ذهب إليه رحمه الله، وهذا تفصيله في المسألة فتأمل.

أدلة أهل السنة في إثبات الصفات الذاتية والفعلية

أدلة أهل السنة في إثبات الصفات الذاتية والفعلية ذكرنا أن صفات الله تعالى تنقسم إلى قسمين: صفات ذاتية، وصفات فعلية. فصفة الوجه في قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27] ، وقوله تعالى: {إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل:20] ونحوه صفة ذات؛ لأن الوجه بعض من الذات. وصفة السمع والبصر في قوله: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء:134] ، وقوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} [المجادلة:1] ، وقوله: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} [الشعراء:218] هاتان صفتان ذاتيتان. وصفة العلم والقدرة صفات ذاتية أيضاً ولا شك أنه دائماً متصف بالعلم وبالقدرة، وما ذاك إلا أنها صفات كمال، وإذا فقدت حل بدلها نقص، فلذلك نقول: إنها صفات ذاتية. وكذلك صفة القوة والعزة صفات ذاتية أيضاً، وذلك لأنها ملازمة للموصوف، فهو تعالى قوي، ولا يكون في وقت من الأوقات مخالفاً للقوة، وكذلك عزيز لا تنتفي عنه العزة في وقت من الأوقات. فلذلك يثبت أهل السنة هذه الصفات ويجعلونها صفات ذاتية، ويوافقهم الأشاعرة على إثبات السمع والبصر والقدرة والإرادة والحياة والعلم والكلام، وذلك لأنهم أثبتوها بالعقل، ولم يستندوا في إثباتها إلى النقل، فلما رأوا أن العقل يثبتها أثبتوها، ولكن ألزموا بالبقية كالقوة والعزة والحكمة، وبإثبات صفات الذات كالوجه واليد وما أشبه ذلك، فيلزمهم إثبات ذلك. وقد ذكرنا أن الله تعالى وصف نفسه بأنه بصير، كما في قوله: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء:134] ، والبصر هو إدراك الأشياء. ويقول العلماء: إن الله تعالى سمى نفسه بصيراً، فيلزم إثبات كمال البصر. ويقولون أيضاً: إنه سبحانه كما أثبت الاسم-بصيراً- فقد أثبت الفعل، كما في قوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] ، (أسمع وأرى) هذان فعلان، وكذلك في قوله: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} [الشعراء:218] (يراك) فعل مضارع، فيدل على إثبات أن الله تعالى يرى العباد، وأنه لا يخفى عليه منهم خافية. وكذلك أيضاً أثبت لنفسه صفة العين في قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] ، وأثبت الأعين: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] {وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود:37] والعين هي آلة البصر، فأثبت لنفسه هذه الصفات -البصر والعين والرؤية- أي أنه يرى، وكل ذلك أدلة واضحة في إثبات هذه الصفات، فيثبتها أهل السنة كما جاءت. وقد ورد في آية طه: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] ، فهذا فيه إثبات العين مفرد، ولكن يراد بها الجنس، كما أثبت اليد في قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] أي: جنس اليد. وورد في آية القمر: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] بلفظ الجمع، والجمع هاهنا مضاف إلى ضمير الجمع (أعيننا) ، وقد ذكرنا أن هذا الجمع لأجل التعظيم، فالله تعالى يذكر نفسه بلفظ الجمع، كما في قوله: {نَحْنُ قَسَمْنَا} [الزخرف:32] والجمع يذكره من يعظم نفسه، قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا} [الزخرف:32] ، {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] {بِأَعْيُنِنَا} [هود:37] ، فقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] {وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود:37] من باب ذكر الجمع لمناسبة ضمير الجمع. فهذا هو دليل إثبات هذه الصفات.

مشيئة العبد تحت مشيئة الله

مشيئة العبد تحت مشيئة الله يتكرر إسناد المشيئة إلى الله تعالى في الآيات والأحاديث، وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قال في الدعاء: (ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن) . ودليل ذلك من القرآن قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:29] ، وقوله: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر:56] ، ولا شك أن الله تعالى قد أعطى العباد مشيئة تناسبهم، ولكن مشيئتهم مرتبطة بمشيئة الله، فلا يشاؤون إلا ما شاءه الله، فهو أولاً أثبت لهم المشيئة: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28] ، ثم ربط مشيئتهم بمشيئته: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:29] ، ومن هنا نعرف أن مشيئة الله تعالى غالبة لمشيئة العبد، وأن العبد له مشيئة تناسبه. ذلك أن الله أعطاه قوة يزاول بها الأعمال وتنسب إليه، سواءٌ أكانت أعمالاً بدنية، أم قلبية، أم قولية، فإنها تنسب إليه، كما نسب الله تعالى بعض الأقوال إلى أصحابها، فنسب الله إلى فرعون قوله: {أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى} [النازعات:24] ، وقوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] ، ولو شاء الله تعالى لأخرس لسانه ولم ينطق بهذه الكلمة، وكذلك النمرود الذي قال: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258] لو شاء الله لأعجمه وحال بينه وبين أن ينطق بهذه الكلمة الكفرية، ولكن الله تعالى مكنه منها، فالكلمة تنسب إليه، ويعاقب عليها ويحاسب، وهي داخلة تحت مشيئة الله تعالى، فهو الذي مكنه وأقدره على ذلك، وتنسب الأفعال إلى العباد لأنهم مصدرها. وكذلك الأعمال الصالحة تنسب إليهم لأنهم الذين باشروها ولو كان وجودها متوقفاً على إرادة الله تعالى وقدرته ومشيئته، يقول الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} [يونس:99] ،يعني: لو شاء مشيئة قدرية لآمنوا، ولو شاء الله لهدى الناس جميعاً واهتدوا كلهم، ولكن حكمته اقتضت أن يكون منهم بر وفاجر، ومؤمن وكافر، وذلك كله خاضع لإرادة الله تعالى، حيث خلق دارين الجنة والنار، وجعل لكل منهما أهلاً. ولو أنه أعطى كل نفس هداها وهدى الناس كلهم لما كان هناك فرق بين المؤمن والكافر، ولما كان هناك جنة ونار، لكن جعل من حكمته أنه هذا ميله إلى الكفر، وهذا ميله إلى الإسلام، فمكن لهؤلاء ومكن لهؤلاء، قال تعالى: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء:4] ، فإذا شاء الله تعالى خضعوا وأقبلوا كلهم وأنابوا إلى ربهم، ولكن حكمة الله تعالى اقتضت أن يكونوا قسمين, وأن يكونوا في الآخرة فريقين فريق في الجنة وفريق في السعير، مع أن الحجة لله عليهم، فإذا قالوا: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس:47] ف A إن الله أعطاكم قدرة ومشيئة تناسبكم تقدرون بها على أن تطعموا من تريدون إطعامه. وإذا قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا} [النحل:35] فالجواب أن نقول: مشيئة الله نافذة، ولكنه سبحانه قد مكنكم وأعطاكم هذه المشيئة التي تناسبكم وتستطيعون بها مزاولة الأعمال والبقاء عليها، فأنتم قد مكنكم الله، وأعطاكم السمع والبصر والأفئدة، وفتح لكم أبواب المعرفة، وأقام عليكم الحجة، وأزال عنكم الأعذار، وبين لكم طرق الخير وطرق الشر، وهدى من شاء فضلاً منه، وأضل من شاء عدلاً منه، وجعل هناك وسائل تجذب هؤلاء إلى الخير ووسائل تصد هؤلاء عن الشر، فسلط على الإنسان أعداءه من الشياطين، كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} [مريم:83] هي فتنة وابتلاء من الله، وخص الكفار بالشياطين، قال الله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} ، يعني: الكفار. (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:100] ولهذا يعترف الشيطان فيقول: {وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم:22] .

الأدلة العقلية على وجود مشيئة للعبد

الأدلة العقلية على وجود مشيئة للعبد إن الله سبحانه قد أقام الحجج, وقطع الأعذار، وبين الخير والشر، وهدى من هدى فضلاً منه، وأعطى الجميع قدرة تناسبهم ومكنهم، وأعطاهم السمع والبصر والفؤاد والقوة والأيدي والأرجل يعملون ويتمكنون، وهكذا، فأمرهم بأن يعملوا، فمنهم من عمل ومنهم من لم يعمل. وهذا فيما يتعلق بالأعمال الصالحة وغيرها، وهذا أيضاً يطرد على الأعمال الدنيوية، وذلك لأن الله تعالى أعطى الإنسان القدرة على مزاولة الأعمال والتكسب وتحصيل الأرزاق، فليس قوت الإنسان ينزل عليه من السماء طعاماً ناضجاً، ولكن يؤمر بأن يتكسب ويتسبب ويحترف ويحرث ويستعمل ما أعطاه الله من القوة، فهو بهذا يستطيع مزاولة الأعمال الدنيوية، وهذه القدرة التي مكنه الله تعالى منها هي خاضعة لقدرة الله، ولو شاء لشل حركته كما يفعل بالمعوقين، أو لأقعده فلم يستطع القيام، ولشل يديه فلم يستطع العمل، ولأخرس لسانه فلا يستطيع النطق، ولأعمى بصره وأصم سمعه فلم يستطع السمع والبصر، كما فعل ذلك بمن شاء من خلقه، ولكن أعطاه هذه الأمور حتى يعمل لدنياه ولآخرته. ومن طبع الإنسان أنه ينبعث لطلب المكاسب والرزق، كما أن من طبع الحيوان والبهائم أنها تنتشر في الأرض وتطلب الرزق، ولا تجلس في أوكارها ولا بيوتها، والطيور أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تتقلب: (تغدو خماصاً وتروح بطاناً) ، والبهائم إذا أطلقت فإنها تنتشر في الأرض وترعى بأفواهها، والإنسان كذلك ينتشر في الأرض ويطلب الرزق {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15] يمشي في مناكبها فيحرث إذا كان يستطيع، ويحفر إذا كان يحفر، ويتكسب بأنواع المكاسب، ويتعاطى حرفة وصناعة أو ما أشبه ذلك ليحصل منها على قوته الذي يقتات به، فكما أنه لا يجلس في منزله ويطلب الرزق أن ينزل عليه من السماء نقول له: فكذلك الآخرة اعمل لها كما تعمل للدنيا، ولا تعتمد على القضاء والقدر وتقول: ما هداني الله، ولو هداني الله لفعلت كذا وكذا. وقد عاب الله تعالى على الذين يقولون هذا، كما في قوله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:56-57] كأنهم يحتجون بالقدر، وأن الله ما هداهم، فإذا رأيت الذين يقولون هذا فقل: إن الله أعطاك ما تقدر به. وكثيراً ما ننصح بعض الجهلة ونقول لهم: استقيموا على طاعة الله، وأقيموا عبادة الله، وأنقذوا أنفسكم من عذاب الله فيحتجون بالقدر، ويقول أحدهم: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:57] ، وما علم أن الله تعالى قد أعطاه أسباب الهداية، كما في قول الله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:7-8] . والكلام على هذه المسألة -مسألة الاحتجاج بالقدر- طويل فكثيراً ما نلقى منهم عنتاً وتعنتاً وصعوبة رد، حيث إن هؤلاء العصاة يتمادون في معصيتهم ولا يرجعون إلى رشدهم ولا إلى الحق، فيقال لهم: أربعوا على أنفسكم، فأنتم الآن لا توافقون على الاعتداء عليكم، فكيف نجمع بين هذين النقيضين؟ ولعله يأتينا زيادة بحث في هذا.

علم الله قائم لا يتبدل

علم الله قائم لا يتبدل قال المصنف رحمه الله: [ويقولون: لا سبيل لأحد أن يخرج عن علم الله، ولا أن يغلب فعله وإرادته مشيئة الله، ولا أن يبدل علم الله، فإنه العالم لا يجهل ولا يسهو، والقادر لا يغلب] . لا سبيل لأحد أن يخرج عن الملة، فالله تعالى عالم بنا وبأحوالنا، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] ، فإذا كان يعلم وساوس النفس وخطرات القلب فإنه لا تخفى عليه أعمال العباد كلهم، يعلم السر وأخفى، ويعلم الجهر وما يخفى، ويعلم ما كان وما لم يكن وما سوف يكون، فلا يخرج عن علم الله تعالى شيء. وكذلك أيضاً أفعال العباد وقدرتهم لا تخرج عن مشيئة الله، ولا قدرة لهم على أن يخالفوا مشيئة الله تعالى، فمشيئة الله غالبة، ولهذا قال: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر:56] {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] في موضعين، وكثيراً ما يذكر أن مشيئة الله تعالى غالبة على كل شيء، ولكن المشيئة والقدرة التي منحها العباد تناسبهم، إذا ليس لأحد أن يبدل علم الله تعالى. فالله تعالى هو العالم، فمتى علم في هذا الإنسان شيئاً فلابد أن يحصل ما علمه الله فيه، سواءٌ أكان قريباً أم بعيداً، فإذا علم الله تعالى في هذا الإنسان أنه يموت سعيداً فلو حاول الناس كلهم أن يردوه عن السعاة لم يستطيعوا، ولو شقي وعصى في وقت من الأوقات لرد الله له رشده إلى أن يموت وهو على السعادة، وكذلك العكس، فإذا علم الله شقاوة عبد وحاول الناس كلهم أن يهدوه لم يستطيعوا، ولو اهتدى في زمان من الأزمنة فإن الله تعالى إذا قدر أنه يموت على الشقاوة لابد وأن يموت عليها مهما كانت الحال.

أدلة أهل السنة على أن القرآن كلام الله

أدلة أهل السنة على أن القرآن كلام الله يقول المؤلف: [ويقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق، وإنه كيفما تصرف بقراءة القراء له وبلفظه فإنه كلام الله، وأنه محفوظ في الصدور، متلو بالألسن، مكتوب في المصاحف غير مخلوق، ومن قال بخلق اللفظ في القرآن يريد به القرآن فقد قال بخلق القرآن] . مسألة خلق القرآن من أقدم المسائل خلافاً بين أهل السنة وبين المعتزلة، وما ذاك إلا أن المعتزلة أنكروا صفة الكلام، وينكرون أن يكون الله تعالى متكلماً، ويرمون من أثبت الكلام بأنه مشبه وممثل، وذلك لأنهم يعتقدون أن الكلام لا يخرج إلا من بين الشفتين، ومن اللسان واللهوات والحنجرة التي تدفعه بالنفس وبالهواء، وأن هذه إنما هي في المخلوق، فإذا قلنا: إن الله متكلم فلابد أن يكون كلام الله مثلما نعقله، أي أنه يخرج من هذه المخارج التي يخرج منها كلام البشر، فيكون ذلك تشبيهاً، هذا هو الذي دفعهم إلى إنكار صفة الكلام، فأنكروا ما أخبر الله تعالى به من أنه كلم موسى عليه الصلاة والسلام.

الأدلة من القرآن الكريم

الأدلة من القرآن الكريم الآيات الواردة في إثبات صفة الكلام مثل قوله تعالى: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ، وقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] وما أشبه ذلك، فكثيراً ما يذكر الله تعالى أنه كلم موسى، قال تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة:253] يعني: موسى، وقال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] ، ولاشك أن هذا كلام صريح على أنه كلم موسى. ذكروا أن بعض المعتزلة جاء إلى أبي عمرو بن العلاء -أحد القراء السبعة- وطلب منه أن يقرأ هذه الآية بنصب الاسم الشريف، فقال اقرأها: (وكلم الله موسى تكليماً) وقصده بذلك أن يكون موسى هو الذي كلم الله، وأن لا يكون الله مكلماً له، ولكن أبا عمرو بن العلاء كان ذا فطنة وفهم، فقال: هب أني قرأت هذه الآية كذلك، كيف تصنع بقول الله تعالى في سورة الأعراف: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] ؟ فبهت ذلك المعتزلي، وعرف أن هذه الآية لا حيلة له في تحريفها. ثم ذكر شيخ الإسلام أن المعتزلة حرفوا قوله: {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] وقالوا: التكليم: هو التجريح، فـ (كلمه) أي: جرحه بأظافر الحكمة، ويريدون بذلك نفي أنه كلمه بكلام سمعه. والتكليم الأصل أنه المخاطبة، والعرب إذا أرادوا التجريح فلابد أن يكون هناك قرينة تدل عليه، وليس في القرآن هذه اللفظة وإن كانت في اللغة، وفي الحديث: (ما من مكلوم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمي اللون لون دم والريح ريح المسك) ، ولكن بعيد أن يفسر التكليم بأنه التجريح، وذلك لأن المتبادر أنه الكلام. ثم إن تفسيرهم للتكليم بأنه التجريح يرده التصريح بالكلام، قال الله تعالى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144] فصرح بالكلام، ولم يقل: بتجريحي. فلا حيلة لهم في أن يردوا هذه اللفظة. كذلك آيات النداء: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} [الشعراء:10] ، {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} [النازعات:16] ، {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ} [مريم:52] ولاشك أن النداء لا يكون إلا بكلام مسموع، فهو يرد تأويلهم التكليم بأنه التجريح، والنداء صوت يسمع ويظهر. كذلك أيضاً الكلام الذي حكاه الله تعالى عن نفسه لموسى وخاطبه به كلام صريح في قوله تعالى: {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} [النازعات:16] (اذْهَبْ) هذا هو الكلام الذي ناداه به: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [النازعات:17] ، كذلك أيضاً قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] هذا أيضاً كلام صريح، وهكذا قوله تعالى: {إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} [طه:10-13] إلى آخر الكلام، هذا هو الذي سمعه من ربه، أنه ناداه بهذا الكلام: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} ، وكذلك قوله تعالى لما ذكر أنه نودي في الوداي المقدس من الشجرة {أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} [القصص:30-31] لاشك أن هذا هو الكلام. فهل يقال: إن هذا تجريح؟ لاشك أن المعتزلة في تأولهم وفي تكلفهم قد وقعوا في تحريفهم للكلم عن مواضعه، وأشبهوا في ذلك اليهود الذين يحرفون الكلم عن مواضعه. وأول من أظهر ذلك القول هو الجهم بن صفوان، وكان قد أخذه عن شيمته الجعد بن درهم الذي لما قرأ في القرآن أن الله كلم موسى أنكر ذلك وقال: ما كلم الله موسى، وما اتخذ الله اتخذ إبراهيم خليلاً -والخليل هو الحبيب- أنكر ذلك وقال: لم يكن الله ليحب أحداً، ولا ليتخذ أحداً خليلاً. فاشتهرت هذه المقالة عنه فقتل في القصة المشهورة التي ذكرها البخاري بسنده في خلق أفعال العباد، وهي أنه أوثقه أمير الكوفة- خالد القسري، ثم خطب الناس في يوم العيد، ولما انتهى من خطبته قال لهم: أيها الناس! ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍ بـ الجعد بن درهم؛ فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولا كلم موسى تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً. ثم نزل فقتله، فجعله بمنزلة الأضحية التي تذبح في يوم العيد، وكان أضحيته، أي: تقرب بها إلى الله تعالى. وذكر ذلك ابن القيم في أول النونية في قوله: ولأجل ذا ضحى بجعد خالد القسري يوم ذبائح القربان إذا قال إبراهيم ليس خليله كلا ولا موسى الكليم الداني شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان فذكر السبب أنه قال: ليس إبراهيم خليل الرحمن، وليس موسى كليم الرحمن، ولم يكلم الله أحداً من خلقه.

الأدلة من السنة النبوية

الأدلة من السنة النبوية الأدلة من السنة واضحة أيضاً، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم القيامة نادى الله تعالى آدم، فينادي بصوت: يا آدم! إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار) وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان) يكلمه ربه بدون مترجم، يسمع كلام الله ويكلمه، ولاشك أن هذه أدلة واضحة. كذلك أيضاً من القرآن يذكر الله تعالى كلماته، كما في قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ} [هود:119] ، وقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} [الأنعام:115] (تمت) أي: أنها وصفت بالتمام وبالكمال، وكذلك قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف:109] ، وكذلك قوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27] تكلم العلماء على مثل هذه الآيات وقالوا: كيف ينفد كلام الله؟ ليس لكلماته نهاية وليس لها بداية، والمخلوق له بداية ونهاية، وذلك لأن الله تعالى أخبر بأنه لو أن بحار الدنيا صارت مداداً -يعني: حبراً- وأن أشجار الدنيا من أولها إلى آخرها صارت أقلاماً، فكتب بتلك الأقلام وكتب بذلك المداد، وجعل مع البحار مثلها سبع مرات لنفد البحر وكتب به حتى ينفد. مع غزارة البحر، ولتكسرت الأقلام دون أن ينفد كلام الله. فهذه أدلة واضحة في إثبات صفة الكلام لله تعالى.

الرد على شبهة المعتزلة بخلق القرآن

الرد على شبهة المعتزلة بخلق القرآن لما أنكر المعتزلة صفة الكلام وقالوا: إن ذلك يستدعي تشبيهاً بين لهم أهل السنة أنه لا يستدعي تشبيهاً، فالله تعالى يتكلم كما يشاء، ولا يلزم أن يكون كلامه يخرج من المخارج التي يخرج منها كلام الآدمي، فلا يلزم أن يكون هناك قصبة هوائية، ولا أن يكون هناك لهاة أو أسنان أو شفتان أو لسان أو نحو ذلك، فإن الله تعالى قادر على أن يتكلم كما يشاء، ونحن الآن نشاهد الأدوات التي يخرج منها الكلام، وليس لها هذه الأدوات التي لدينا، فعندنا -مثلاً- هذه الأشرطة التي هي جماد، ومع ذلك تسجل الكلام وتحفظه، ثم بعد ذلك يخرج كما هو، ولا نقول: إن هذا الحديد أو إن هذه الأشرطة لها ألسنة وقصبات وشفاه وما أشبه ذلك، بل يخرج منها الكلام كما دخل، فلا يلزم أن يكون هناك ما التزموه. إذاً فالله تعالى قادر على أن يتكلم كما يشاء، وأن يسمع كلامه من شاء من عباده كما أسمعه موسى، وكما كلم نبينا صلى الله عليهما وسلم ليلة الإسراء. وبعد أن أنكر المعتزلة هذه الصفة احتج عليهم أهل السنة بالقرآن، وقيل: إذا قلتم: إن الله تعالى لا يتكلم نخصمكم بالقرآن؛ لأن القرآن من الله تعالى فهو كلامه. فعند ذلك انتقلوا إلى حجة أخرى، ألا وهي أنه مخلوق، سبحان الله! أليس من الأعراض؟ فكيف يكون العرض مخلوقاً؟ فقالوا: مخلوق. قيل لهم: كيف خلقه؟ قالوا: خلقه كما خلق الأرض والشجر والبشر والأعراض والجواهر وما أشبهها. فقيل لهم: كيف خلقه؟ قالوا: مخلوق فقط. يحاول خصومهم أن يجدوا جواباً واضحاً يتضح به أنهم يقولون بأنه مخلوق بصفة كذا وكذا، ولكنهم يتوقفون عند كلمة (مخلوق) . فلما تمكنت هذه الشبهة عند ذلك أوضح العلماء رحمهم الله ما عندهم من العلم وما يعتقدونه، فأوضحوا بأن القرآن كلام الله تكلم به كما شاء، وأنه من جملة كلام الله، وكلام الله تعالى ليس بمحصور، بل لا يمكن حصره، كذلك أيضاً الكتب التي أنزلها على الأنبياء كلها كلامه، فالتوراة والإنجيل والزبور كلامه، والصحف التي أنزلها على موسى وعلى إبراهيم كما قال تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:36-37] هي كلام الله، والألواح التي أعطاها الله موسى هي كلامه، كما في قوله تعالى: {وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ} [الأعراف:150] ، وقوله تعالى: {أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ} [الأعراف:154] ، وكذلك: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف:145] لا شك أن هذه كلها كلام الله تكلم بها كما يشاء. وإذا اعتقدنا أنها كلام الله فإننا نعتقد أنه تكلم بها حقيقة، وأنه أوحاها إلى أنبيائه من البشر بواسطة رسله من الملائكة، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:192-195] يعني: جعله الله تعالى بهذا اللسان العربي الواضح الذي يكون مفهوماً للمخاطبين. إذاً فهو كلام الله أنزله على أنبيائه، وكل من أنزل عليه وحي فإنه كلامه، ينزل عليهم كلامه الذي تكلم به كما يشاء، فالقرآن كيفما تلي وكيفما قرأ فهو كلام الله لا يخرج عن ذلك، إذا كتب في المصاحف فهو كلام الله، وإذا سمعنا القارئ يقرؤه فهو كلام الله تعالى، وإذا حفظه الحافظ في صدره قلنا: هذا يحفظ كلام الله تعالى. وإذا رتله قلنا: هذا يرتل كلام الله. وإذا لحنه فإنا نقول: هذا يلحن كلام الله. فالكلام في الأصل هو الكلام الذي يتكلم به الله تعالى كيفما قرئ وتلي وتصرف في قراءة القارئ وبألفاظ القراء، فهو كلام الله يحفظونه في صدورهم، وهو كلام الله يكتبونه في مصاحفهم، وهو كلام الله تعالى لا شيء منه مخلوق، ابتدأ الله تعالى كلامه وإليه يعود، كما ورد في الأحاديث أنه في آخر الزمان يمسح من المصاحف والصدور، عندما لا يعمل به، فهو كلام الله تعالى منزل غير مخلوق. وإذا قرأه القارئ فإننا نقول: حركات القارئ مخلوقة، وأما نفس الحروف التي يقرأها والكلام الذي ينطق به فإنه غير مخلوق، بل هو كلام الله، وكلام الله تعالى من علمه، وعلمه ليس بمخلوق؛ لكونه صفة من صفاته، ومن ادعى أن علم الله تعالى أو شيئاً من صفاته الذاتية مخلوقة فقد كفر؛ حيث جعل ربه الذي هو خالق كل شيء محلاً للحوادث.

فتنة القول بخلق القرآن وصمود أحمد بن حنبل

فتنة القول بخلق القرآن وصمود أحمد بن حنبل لما وقعت فتنة القول بخلق القرآن تمكنت في آخر القرن الثاني، ولكن ما اشتهر الإلزام بها إلا في أول القرن الثالث، وذلك لأن الخليفة المأمون انخدع ببعض المعتزلة فقربهم، ومن أشهر من قربه أحمد بن أبي دؤاد، وكان لسناً جريئاً في الكلام قوي الحجة، عنده من الجرأة والفصاحة والبلاغة ما جعله يكون محلاً للثقة، فوثق به الخليفة المأمون، ولما وثق به قربه وولاه القضاء، وصار وزيراً له وجليساً، فكان من جملة ما دعا الخليفة إليه أن يبين له أن هذا القول من واجب المسلمين ومن عقيدتهم، وأن الذي يقول: إن الله متكلم فقد شبه الله تعالى بالمحدثات، ويكون بذلك كافراً. حتى أدى الأمر إلى أن قتل كثير من أهل السنة بسبب تصلبهم في هذا الأمر وعدم امتناعهم من القول بخلق القرآن، وكان من جملة الذين تصلبوا وصبروا إمام أهل السنة الإمام أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله تعالى، فأصر على أن يصبر على الحبس والضرب، فضرب وجلد جلدات، ولما استدعاه المأمون دعا الله ألا يريه وجهه، فمات المأمون قبل أن يصل إليه، ولكنه أوصى أخاه المعتصم بأن يستمر في هذه الفتنة، فاستمر فيها، وحبس الإمام أحمد وبقي سجيناً مدة طويلة، وجلد جلدات كثيرة، ولكنه تصلب وصبر. ثم جاءه بعض المعتزلة وقال: يا أحمد! قل في أذني إن القرآن مخلوق وأنا أخلصك من هذه الأنكال وهذه الأغلال ومن هذا العذاب. فقال له أحمد: قل في أذني: إن الله متكلم، وإن القرآن كلام الله وأنا أشفع لك عند الله وأشهد لك بأنك من المؤمنين بكلام الله. ومن جملة ما احتج به عليهم من الأدلة أن كلام الله تعالى لا يمكن أن يتغير، فقرأت في بعض التراجم أنه جيء به وقيل له: هل رأيت رؤيا؟ فقال: نعم، رأيت رؤيا. قالوا: ما هي؟ قال: رأيت كأني قمت لأصلي، فقرأت في الركعة الأولى بـ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] ، فلما قمت للركعة الثانية أردت أن أقرأ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] فلم أقدر، فالتفت فوقي وإذا القرآن ميت، فعند ذلك أخذته وغسلته وكفنته. فقال المعتصم ومن حوله: وهل القرآن يموت؟! فقال: أنتم تقولون: إن القرآن مخلوق، وكل مخلوق يموت. فعرفوا أن هذه حجة عليهم، يقول: لو كان القرآن مخلوقاً فالمخلوق يموت ويأتي عليه العدم، فإذا أنكرتم هذه الرؤيا فأنكروا قولكم: إن القرآن مخلوق. والرؤيا التي ذكرها رأيتها مكتوبة، فيمكن أنها أيضاً مطبوعة في بعض الكتب المطولة كترجمة الإمام أحمد المطولة لـ ابن الجوزي وغيرها. فعلى كل حال القرآن كلام الله تعالى حروفه ومعانيه، ليس كلام الله الحروف دون المعاني ولا المعاني دون الحروف.

مناقشة المبتدعة في قولهم بخلق القرآن

مناقشة المبتدعة في قولهم بخلق القرآن مسألة الكلام هي من أقدم المسائل الخلافية بين أهل السنة والمبتدعة، حيث أنكر المبتدعة أن الله تعالى متكلم، ثم احتج عليهم بالقرآن فادعوا أنه مخلوق، فعند ذلك طال الخصام والنزاع بينهم وبين أهل السنة في تفنيد شبهاتهم والرد عليهم، واتفقت كلمة المسلمين من أهل السنة والجماعة على أن القرآن كلام الله، وصرحوا بأنه غير مخلوق، بل إنه عين الكلام الذي أتى به جبريل ينسخ حكم كل كتاب، وهو عين كلام الله الذي تكلم به وحياً وسمعه منه رسوله الملكي وبلغه إلى رسوله البشري، وهو على ما هو فيه حكم وأحكام، وأوامر ونواهٍ، وقصص وأمثال، وعبر ومواعظ، ووعد ووعيد، ومحكم ومتشابه، ومطلق ومقيد، كل ذلك كلام الله تعالى. ثم معلوم أن الله تعالى تكفل بحفظه وتولى ذلك، حفظه الله حتى وصل إلينا كما هو، نحفظه في الصدور، ونكتبه في السطور، ولا يخرج بذلك عن كونه كلام الله حروفه ومعانيه، فنرد على المعتزلة الذين قالوا: إنه مخلوق بأن الله تعالى سماه كلامه في قوله تعالى: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ} [البقرة:75] ، ومعلوم أنهم يسمعونه من القراء، يسمعونه من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وقراءة الصحابة، ومع ذلك لم يخرج عن كونه كلام الله، وكذلك قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ، ومعلوم أنه لا يسمعه إلا من القراء، لا يسمعه من الملك ولا من الرب تعالى، بل بواسطة القراء، وكذلك قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ} [الفتح:15] . وقد أثبت الله تعالى لنفسه القول في عدة آيات، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} [الأحزاب:4] ، {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة:119] ، {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} [المائدة:115] فالقول لا شك أنه هو الكلام. كذلك يرد على الأشاعرة الذين يدعون أن هذا القرآن عبارة أو حكاية عن كلام الله، وأنه ليس هو كلام الله عيناً، وذلك لأنهم اعتقدوا أن الله تعالى لا يتكلم بمثل هذه الحروف، وقالوا: كلام الله هو المعاني دون الألفاظ. وشبهتهم بيت ينشدونه كثيراً، وهو قول القائل: إن الكلام لفي الفوائد وإنما جعل اللسان على الفوائد دليلاً يرددون هذا البيت ويقولون: هذا قول الشاعر العربي، والشاعر العربي يجعل الكلام هو المعنى لا أنه هو اللفظ. وقد بحث العلماء عن هذا الشاعر فقالوا: إنه الأخطل فنظرنا فإذا البيت لم يوجد في ديوانه المشهور، ثم رواه بعضهم: (إن البيان لفي الفؤاد) ، وهذا أقرب على تقدير ثبوته عن الأخطل، ثم نظرنا فإذا هذا الشاعر نصراني لم يدخل في الإسلام، تمسك بنصرانيته ولو كان من العرب من بني تغلب، والنصارى قد ضلوا في معنى الكلام، حيث اعتقدوا أن عيسى هو نفس الكلمة، فعلى هذا يكون هذا الشاعر تكلم به على معتقده الباطل، فلا يكون حجة. هذا هو دليل هؤلاء الأشاعرة، يقبلون هذا البيت ويعتمدونه في الكلام الذي هو أوضح شيء، فيقولون: إن الكلام هو المعاني، وأما الحروف التي تسمع فليست كلاماً. وهذا مخالفة للحس ومخالفة للظاهر؛ إذ العرب لا يسمون الساكت متكلماً، وما دام ساكتاً فلا ينسب إليه كلام ولو حدث نفسه، ولو تصور في قلبه أشياء. فالكلام هو ما ينطق به، هذا هو الصحيح، وعلى هذا فالقرآن الذي هو كلام الله هو عين الحروف والكلمات الموجودة، والآيات والسور هي عين كلام الله، وهي التي ذكرها الله تعالى للمشركين وتحداهم بها في قوله: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} [الطور:34] ، ومعلوم أن المراد بـ (مثله) هي هذه الحروف، وفي قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء:88] ، فليس المراد المعاني بل الألفاظ والحروف، وهو الذي قال المشركون فيه: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] يريدون به هذا القرآن الذي هو حروف وكلمات، فبطل بذلك دعوى هؤلاء الذين يقولون: إن الكلام هو المعنى دون اللفظ. والسلف رحمهم الله بدعوا وشنعوا على من يقول: إنه مخلوق. وجعلوهم جهمية معتزلة مبتدعة منكرين لصفة من صفات الله تعالى. ثم جاءتنا -أيضاً- عبارة قد ترد في بعض كلامهم، وهي قولهم: لفظي بالقرآن مخلوق. وهذه العبارة محتملة، فلأجل ذلك نهى عنها السلف رحمهم الله، وشددوا في النهي عن استعمالها، وبدعوا من يقول: لفظي بالقرآن مخلوق. لأنه إذا قال: لفظي بالقرآن مخلوق فإنه يحتمل معنيين: يحتمل أن يريد باللفظ الملفوظ، ويحتمل: أن يريد باللفظ الحركات، فمعلوم أن حركات الإنسان مخلوقة، حركات فمه، وحركات شفتيه، وحركات لسانه، وحركات قصبته الهوائية، وحركات نفسه مخلوقة، فالإنسان بحركاته وبأفعاله مخلوق، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] . فإذا قصد الإنسان أن حركاته مخلوقة فإنه صحيح، وعلى هذا بين العلماء أن أفعال العباد مخلوقة. أما إذا كان يريد باللفظ الملفوظ فإن القرآن كلام الله ولو تلفظ به من تلفظ به، فهو كلام الله أينما قرئ وأينما تلي وأينما نسخ، عبر شيخ الإسلام ابن تيمية في الواسطية بقوله: إن الكلام إنما ينسب إلى من قاله مبتدئاً لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً. عبارة واضحة، ولأجل ذلك نقول: إذا سمعنا من يقول مثلاً: (إنما الأعمال بالنيات) قلنا: هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا سمعنا من يتكلم بقوله: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) قلنا: هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الذي ابتدأه. فكذلك إذا سمعنا من يقول -مثلاً-: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة:142] قلنا: هذا كلام الله. فهو الذي تكلم به ابتداءً، وإذا جاء في القرآن حكاية لكلام غير الله فإننا ننسبه إلى أنه كلام الله، فنقول مثلاً: قال الله تعالى عن فرعون: {فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] ، وقال الله عن إبليس: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82] ، وقال الله عن نوح: {رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا} [نوح:21] ، وقال الله عن موسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص:16] ، أي: حكى الله تعالى قول موسى، فيكون القول لموسى ولكن بعدما حكاه الله تعالى في القرآن أصبح من كلام الله. فعبارة السلف رحمهم الله إذا أرادوا التعبير الواضح يقولون: القول قول الباري والصوت صوت القاري. فيقال: استمعوا للقرآن بصوت القارئ فلان بن فلان. فصوت القارئ وحركاته لا شك أنه مخلوق، وأما نفس المقروء الذي هو كلام الله فإنه ليس بمخلوق.

الأسئلة

الأسئلة

رد الاستدلال بقوله: (إنا جعلناه قرآنا عربيا) على خلق القرآن

رد الاستدلال بقوله: (إنا جعلناه قرآناً عربياً) على خلق القرآن Q إذا قال قائل: إن القرآن مخلوق، واستدل بقول الله جل وعلا: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:3] فبماذا نجيبه؟ A ذكر هذا ابن أبي العز في شرح الطحاوية في مناقشة أدلة المعتزلة، فإنهم استدلوا بعمومات، فاستدلوا بآيات الجعل في مثل قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:3] ، وكان قد استدل بها بشر المريسي في مجادلته مع عبد العزيز الكناني كما ذكر ذلك في رسالته التي تسمى (الحيدة) ، فخاصمه الكناني وقال له: الجعل ليس هو الخلق، بل الجعل هو التصيير، فإنا نخصمكم بقول الله تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر:91] فهل المراد أنهم خلقوا القرآن عضين؟ وقول الله تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} [الزخرف:15] فهل المراد: خلقوا له من عباده جزءاً؟ وأشباه ذلك، فكذلك الجعل في هذه الآية بمعنى التصيير، (جعلناه) أي: صيرناه عربياً. أي: أنزلناه بهذا اللسان العربي. وقد تقرأ في القرآن من أوله إلى آخره فلا تجد لفظاً صريحاً يفهم منه أن القرآن وصف بأنه مخلوق، بينما سائر المخلوقات يصرح بها بذلك، قال بعض العلماء: إن الله ذكر القرآن في أكثر من خمسين موضعاً، ولم يصرح في موضع واحد بالخلق، وذكر الإنسان في سبعة عشر موضعاً وصرح فيها كلها بالخلق، ومن أقرب ذلك أول سورة الرحمن {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ} [الرحمن:1-3] انظر كيف فرق: (عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ) . ويستدل المعتزلة بعموم قوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] ، وأجاب أيضاً عن هذه الآية الكناني في رسالته الحيدة، وذلك أن بشراً قال له: أتقر بأن الله خالق كل شيء؟ فإن قلت: إنه خالق كل شيء وإن القرآن شيء خوصمت؛ لأنه مخلوق، وإن قلت: إنه ليس بشيء كفرت؛ لأنه مشاهد أنه من الأشياء. فأجابه بأنه شيء لا كالأشياء، وأن الآية ليست على عمومها، ويستثنى منها صفات الله، فالله تعالى بصفاته ليس شيء منه مخلوق.

حكم قول: اللفظ بالقرآن مخلوق

حكم قول: اللفظ بالقرآن مخلوق Q ورد أن من قال: اللفظ بالقرآن مخلوق هو الذهلي شيخ البخاري، فهل هذا الكلام صحيح؟ A محمد بن يحيى الذهلي هو الذي اتهم البخاري بأنه يقول: إن اللفظ بالقرآن مخلوق، وهو الذي شنع على البخاري وقال: إن البخاري يقول: إن اللفظ بالقرآن مخلوق. فلأجل ذلك وقعت بينه وبين البخاري وحشة، فامتنع من أن يصادق البخاري حتى اضطر البخاري أن خرج من بلده نيسابور التي هي بلاد الذهلي. ثم حقق العلماء أن البخاري لم يقل هذه المقالة، كما في النقول التي وردت في التعليق، وإنما قال: إن حركاتنا بالقرآن مخلوقة. وعبارة أهل السنة أنهم يقولون: القول قول الباري واللفظ لفظ القاري. اللفظ والحركات التي يتحرك بها اللسان هذه مخلوقة، فحركات الإنسان بيده وبلسانه مخلوقة؛ لأن الله خالق كل شيء، ومن جملة مخلوقاته حركات وأفعال العباد، لكن الملفوظ الذي يتلفظ به إذا كان هو القرآن فإنه ليس بمخلوق؛ لأنه كلام الله.

القراءات السبع عين كلام الله

القراءات السبع عين كلام الله Q هل القراءات المختلفة أو الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن من كلام الله، أو أن كلام الله واحد ولكن رخص في قراءته على سبعة أحرف؟ A الأحرف السبعة التي أنزل عليها القرآن كلها كلام الله، أي أن الله تعالى تكلم بها على أية لغة وكذلك على أية قراءة، فكلها كلام الله، فعلى أي قراءة قرأتها فإن ذلك عين كلام الله، نشهد بذلك ونقر أن هذا القرآن كلام الله الذي بلغه جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم.

شمول الفعل الماضي للمتصف به مستقبلا

شمول الفعل الماضي للمتصف به مستقبلاً Q قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] ، وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:134] فقوله: (كنتم) و (كان) إنما هي لمن كان في الماضي فقط، فكيف نرد على من يقول ذلك؟ A لو كان بلفظ الماضي فلا يمنع أن يكون ذلك في المستقبل، فقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:134] يعني: كان في الماضي وهو كذلك في المستقبل. فالله تعالى موصوف بأنه سميع بصير في الأزل وفي الحال وفي المستقبل، فلا يلزم من قوله: (كنتم) أن الخيرية خاصة بالذين مضوا، بل الخيرية للذين مضوا وللحاليين الذين نزلت الآية وهم مخاطبون بها، ولمن سار على نهجهم ممن أتى بعدهم، فإن لفظ الماضي المراد به المتصف بهذا الصفة يبقى على صفته في مستقبل حياته.

حكم الصلاة خلف من يقول بخلق القرآن

حكم الصلاة خلف من يقول بخلق القرآن Q ما حكم السلام على من يعتقد أن القرآن مخلوق، وما حكم الصلاة خلفه؟ A قد صرح العلماء الأولون بأنه كافر إذا كان يعتقد ذلك؛ فإنه يصف الله تعالى بصفات العدم، فما دام أن التصريحات المنقولة عن السلف رحمهم الله تقتضي كفره فنقول: يجب البراءة منه والبعد منه، وإعادة الصلاة إذا صليت خلفه وعلمت أنه من المعتزلة الذين يقولون بأن القرآن مخلوق، ويجب عدم الإقرار له حتى يسلم للإنسان دينه. لكن إذا اضطررت إلى أن تصلي خلفه فنرى أن تعيد الصلاة فيما بعد.

كثرة من يقول بخلق القرآن في الوقت الحاضر

كثرة من يقول بخلق القرآن في الوقت الحاضر Q هل لا زال أحد في هذا الزمان يقول بخلق القرآن؟ A المعتزلة لم ينقطعوا، فالرافضة بأسرهم على طريقة المعتزلة، وكذلك كثير من الذين يقولون: إنهم على مذهب زيد؛ فإنهم على طريقة المعتزلة، والمعتزلة معلوم أنهم يقولون بخلق القرآن، وكذلك بقايا من المعتزلة موجودون في كثير من البلاد الأفريقية، وفي كثير أيضاً من سوريا وغيرها، والطائفة الإباضية الذين في عمان وأفريقيا ونحوهم يقولون بهذه المقالة، والغالب أن الرافضة هم الذين بالغوا في ذلك وجعلوه دينهم وديدنهم، واعتقادهم أن القرآن مخلوق.

ضرورة الجمع بين الأسماء المتقابلة لله تعالى

ضرورة الجمع بين الأسماء المتقابلة لله تعالى Q لماذا يقال: إن أسماء الله المتقابلة لا تذكر إلا مع بعضها مثل: المعز المذل، والمعطي المانع؟ A قد تكلم العلماء عليها، فذكر ذلك ابن القيم في (الصواعق) ، وكذلك حافظ الحكمي في (شرح السلم) ، والشيخ ابن سلمان في (الكواشف شرح الواسطية) ، وذلك لأن في ذكر واحد منها نقص، والكمال إنما يكون بالاثنين، فإذا دعوت الله وقلت: (يا مذل) فإن هذا وصف مدح، أما إذا قلت: (يا معز يا مذل) فإنك وصفته بالكمال؛ لأنه يعز من يشاء ويذل من يشاء، وكذلك إذا وصفته بأن قلت: (يا خافض) فإن في هذا شيئاً من النقص؛ لأن الخفض كأنه وصف فيه شيء من الإهانة، فإذا قلت: (يا خافض يا رافع) فقد أتيت بالوصفين المتقابلين، فالحاصل أن هذه أسماء مزدوجة: المعطي المانع، الخافض الرافع، المعز المذل، المحي المييت، وأشباهها.

حكم استخدام المساجد للدعاية غير المباشرة

حكم استخدام المساجد للدعاية غير المباشرة Q توجد شركة تصنع مناديل وتضعها في المساجد وتكتب عليها اسم الشركة وأرقام هواتفها والخدمات التي تقدمها، وهذا من باب الدعاية لها، فهل يجوز وضع هذه المناديل في المساجد؟ A يجوز ذلك للحاجة، والناس لا يكون فيهم اهتمام بقراءة الكتابة عليها، إنما يأخذون المناديل للاستعمال والتمسح بها، ولا يضر كونها مكتوباً عليها اسم الشركة التي تنتجها أو غيره. ومعلوم أن الكتابة التي على كرتون المناديل لا يتلفت إليها ولا يؤبه لها.

أهم المتون التي يحفظها طالب العلم

أهم المتون التي يحفظها طالب العلم Q يسر الله لي بحمده حفظ كتاب التوحيد، فماذا أحفظ بعده من كتب العقيدة؟ A هذا خير كثير، فحفظ هذا الكتاب نعمة عظيمة؛ لأن فيه مجامع توحيد العبادة، ونوصيك أن تحفظ العقيدة الواسطية لـ ابن تيمية، فإنها مهمة في باب المعتقد مع اختصارها، ومحتوية على جل ما يعتقد، فهذا في باب العقيدة، وبعد ذلك أقبل على حفظ ما تيسر من الكتب الأخرى، مثل عمدة الأحكام، والأربعين النووية، وعمدة الفقه فيما يتعلق بالفقه، وحفظ بلوغ المرام فيما يتعلق بالأحاديث، وكلها -إن شاء الله- لها أهميتها.

القصر مع التردد الدائم على سكن بعيد للمكلف

القصر مع التردد الدائم على سكن بعيد للمكلف Q يوجد لدينا مزرعة تبعد عن الرياض حوالي خمسين كيلو متر، ويوجد فيها مسكن، وأذهب إليها دائماً، فهل يجوز لي القصر إذا ذهبت إليها؟ A إذا كان فيها مسكن لكم وتعتبرون أنفسكم ساكنين في بلدتكم ومستقركم فليس لك القصر في هذا.

نصيحة أصحاب الدشات

نصيحة أصحاب الدشات Q نرى في الآونة الأخيرة أنه قد قل من ينصح أصحاب الدشات، وذلك بأن بعضاً من أصحاب هذه الأجهزة يقول: إني لا أستخدمه إلا لرؤية الأخبار فقط، وبعض البرامج التي ليس فيها مخالفات كبيرة. فما حكم من يستخدم هذه الدشات فيما ذكر؟ ومن يستخدمها في جميع ما تبث من البرامج؟ وهل يجوز على الجار الاستمرار في نصح جاره الذي يمتلك هذا الجهاز؟ وإذا ظهر منه عدم تقبل النصيحة فماذا يعمل معه؟ A هذه الدشات مصيبة كبيرة، ولا شك أنها بلية عظيمة في هذه الأزمنة، ولكن إذا كثرت وتمكنت تهاون الناس بها وعدوها أمراً عادياً، وننصح من عنده مثل هذه الأجهزة أن يطهر منزله منها، فإنها مفتاح كل شر، تجلب إليه الشرور شاء أم أبى، ولو تحفظ هو لا يستطيع أن يحفظ أولاده وهم شباب فارغون ذكوراً وإناثاً، لا يستطيع أن يتحكم فيهم، ونقول أيضاً للجيران: عليكم بالتناصح وتبادل النصيحة رجاء أن ينفع الله تعالى بها.

كيفية قضاء المفرط للصيام

كيفية قضاء المفرط للصيام Q امرأة كان عليها قضاء بعض الأيام منذ اثني عشر عاماً مضت، فكيف تقضي ذلك؟ A لابد مع القضاء من الكفارة، وتقضيه ولو متفرقاً، ثم عن التفريط والتأخير كفارة إطعام مسكين عن كل يوم.

سبب تعلم أهل السنة لمعتقدات غيرهم

سبب تعلم أهل السنة لمعتقدات غيرهم Q لماذا نتعلم أقوال الفرق ومعتقداتهم؟ ولماذا لا نكتفي بتعلم عقيدة أهل السنة؟ A إن الإنسان يبتلى غالباً بمجالسة أولئك المعتزلة والضلال والمبتدعة، وإذا ابتلي بمجالستهم فالغالب أنهم يلقون شيئاً من شبهاتهم وأدلتهم التي يشوهون بها ويموهون بها، فإذا كان الإنسان عنده أسلحة قوية وأدلة متمكنة استطاع حينها أن يرد عليهم أقوالهم، فمعرفتها لأجل الحذر منها، ولذلك يقول حذيفة: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه) . فأنت عليك بمعرفة مذهب أهل السنة ومعتقدهم، وإذا كنت تخشى أنك تبتلى بمجالسة أولئك المبتدعة فإن عليك أن تسأل عن مذهبهم وشبهاتهم، حتى إذا عرفتها وعرفت كيف تردها استطعت إبطالها والرد عليهم حتى لا تصل إلى فكرك، ويصعب بعد ذلك تخليصها من ذاكرتك.

حكم من اقترض من البنك بالتزوير

حكم من اقترض من البنك بالتزوير Q حصلت على قرض من بنك التسليف منذ سنتين عن طريق التزوير، والآن أنا تبت إلى الله عز وجل وأحس بهذا الذنب، فماذا علي؟ A ننصحك أن ترد هذا القرض دفعة واحدة إذا استطعت أن تقترض من هنا ومن هنا حتى تسلم من هذا الإثم.

حكم ما ورد من أقوال البشر في القرآن

حكم ما ورد من أقوال البشر في القرآن Q قوله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} [نوح:21] ، فكلام نوح مخلوق، وكلام الله عز وجل ليس مخلوقاً، كيف يجمع بين هذا وهذا؟ A كلام الله تعالى ليس بمخلوق، ولكن الله تعالى يحكي عن أنبيائه أنهم قالوا كذا، وأنهم سيقولون كذا وكذا، فالله تعالى تكلم في الأزل بما سيكون من كلام المخلوقين الذين ذكر الله عنهم أنهم سيقولون كذا وكذا.

شرح اعتقاد أهل السنة [7]

شرح اعتقاد أهل السنة [7] من عقائد أهل السنة والجماعة القائمة على الدليل من الكتاب والسنة: أن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق، وينبذون كل الأقوال سوى ذلك، ويردون على أهل البدع قولهم، كما أنهم يثبتون لله عز وجل علمه الأزلي المسبق بكل شيء، وأنه يقدر الأمور على ما يريد عز وجل، ولا يخوضون في علم القدر؛ إذ ذلك غيب لا يعلمه إلا الله عز وجل.

اعتقاد أهل السنة بعلم الله الأزلي

اعتقاد أهل السنة بعلم الله الأزلي قال الشيخ الحافظ أبو بكر الإسماعيلي رحمه الله تعالى في بيان اعتقاد أهل السنة: [ويقولون: إنه لا خالق على الحقيقة إلا الله عز وجل، وإن أكساب العباد كلها مخلوقة لله، وإن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، لا حجة لمن أضله الله عز وجل ولا عذر، كما قال الله عز وجل: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149] ، وقال: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} [الأعراف:29-30] ، وقال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الأعراف:179] ، وقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22] ، ومعنى (نبرأها) : نخلقها. بلا خلاف في اللغة، وقال مخبراً عن أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] ، وقال: {لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد:31] ، وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود:118-119] . ويقولون: إن الخير والشر والحلو والمر بقضاء من الله عز وجل أمضاه وقدره، لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله، وإنهم فقراء إلى الله عز وجل لا غنى لهم عنه في كل وقت] . سبق الحديث عن أفعال العباد، وقد أورد في هذه الفقرة ما يتعلق بخلق أفعال العباد، وبكمال قدرة الله تعالى وبعلمه السابق، ففي هذه الفقرة الكلام على القدرة والإرادة والمشيئة والعلم السابق، وكل ذلك موضح في كتب العقائد. فنعتقد أولاً أن الله تعالى بكل شيء عليم، وأنه علم الأشياء قبل أن توجد وتتحقق وقبل أن تظهر، علم ذلك بعلمه الأزلي القديم، فهو يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، هذه عقيدة أهل السنة. وأنكروا بذلك على غلاة المعتزلة الذين يدعون أن الله لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها، وقد جاء في القرآن أن الله تعالى أنكر على المشركين ذلك، كما في القصة التي رواها عبد الله بن عمرو وغيره أن ثلاثة من المشركين بمكة كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم اجتمعوا، فقال أحدهم: هل ترون أن الله يسمع كلامنا؟ فقال أحدهم: يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إذا أخفينا. فقال الآخر: إذا كان يسمع ما جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا. فأنزل الله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك:13] هكذا ظنهم. ثم إن الغلاة كـ معبد الجهني وغيلان القدري بالغوا وقالوا: إن الأمر أُنُف، وإن الله لا يعلم الأشياء حتى تحدث. فرد عليهم الأئمة رداً واضحاً، ولا شك أن القرآن فيه الرد الواضح عليهم، مثل قول الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22] يعني: معرفة الأمور المستقبلة يسير على الله تعالى، فلا يصيب أحداً مصيبة إلا وهي مكتوبة قبل أن يخلق، بل قبل أن تخلق المخلوقات كلها كما قال في الحديث: (أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة) ، وفي حديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان الله ولم يكن شيء قبله، وكتب في الذكر -يريد بـ (الذكر) اللوح المحفوظ- كل شيء كائن إلى يوم القيامة) ، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70] ، كل ما هو كائن فإنه في اللوح المحفوظ، لا يتغير ولا يتبدل عما هو عليه. كذلك يقول الله تعالى: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59] أي: مكتوب قبل أن توجد هذه المخلوقات كلها. فيسمى هذا النوع: العلم السابق. أي: علم الله بالأشياء قبل حدوثها، وذكر أن غلاة القدرية هم الذين أنكروه، فقال الشافعي رحمه الله في حقهم: ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوه كفروا. أي: سلوهم: هل الله بكل شيء عليم؟ فإذا اعترفوا بأن الله بكل شيء عليم كما جاء في القرآن فقل: ما الفرق بين الماضي وبين المستقبل؟ إذا كان عليماً بالأشياء التي حدثت. فإنه عليم بالأشياء التي لم تحدث، فكلها شيء، وكل شيء حادث فإنه لابد أنه معلوم لله، وكل ما يحدث مكتوب قبل أن يحدث. ومع ذلك لا ينافي أنك مأمور بأن تعمل وبأن تبذل العمل، ولهذا لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الكتاب السابق وقال: (ما منكم من أحد إلا وقد عُلم مقعده من الجنة ومقعده من النار. فقال بعضهم: أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، وقرأ قول الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5-10] ) ، فجعل التيسير له أسباب، وهو هذا العمل.

القدر أنواعه واعتقاد أهل السنة فيه

القدر أنواعه واعتقاد أهل السنة فيه الإيمان بالقدر السابق وبعلم الله القدير واجب على كل مسلم، وقد ذكروا أن هذا النوع على أربعة أقسام: التقدير العام، والتقدير العمري، والتقدير السنوي، والتقدير اليومي، فالتقدير العام هو الذي كتبه الله في اللوح المحفوظ لكل ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة. وأما التقدير العمري فهو الذي يكتب والإنسان في رحم أمه، يبعث إليه الملك فيؤمر بكتب أربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، يكتب ذلك وهو في الرحم مع أنه مكتوب في اللوح المحفوظ، وهذا لكل إنسان، ولهذا قال في الحديث: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) . وهكذا أيضاً أخبر بأن الله تعالى كتب على الإنسان كل شيء، وبأنه لا يتغير: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) ، وهذا علم الله تعالى السابق، استدل عليه بهذه الآية من سورة الحديد: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22] أي: من قبل أن نخلقها. أما القدر الذي أنكرته المعتزلة فهو قدرة الله تعالى على كل شيء، حيث إن المعتزلة يجعلون قدرة العبد أقوى من قدرة الرب، فيقولون: إن العباد مستقلون بأفعالهم، وليس لله قدرة على هداية أو إضلال، بل العباد هم الذين يهدون أنفسهم أو يضلون. ويقولون: لو أراد العبد أن يفعل شيئاً وأراد الله أن لا يفعله غلبت قدرة العبد قدرة الرب. فالعبد عندهم هو الذي يهدي نفسه أو يضلها، وأنكروا قول الله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد:33] ، وأنكروا قول الله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل:37] ، فمن يضله الله فلا يهديه أحد. وتكاثر في القرآن إسناد الإضلال والهداية إلى الله، كقوله تعالى: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل:93] . ويؤمن أهل السنة بأن قدرة الله تعالى عامة لكل شيء، لعموم قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:284] ، ويدخل في ذلك أفعال العباد وحركاتهم، فهي لا تحصل إلا إذا شاءها الله تعالى وأرادها، قال تعالى: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء:4] ، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس:99] ، وقال تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149] . فمشيئة الله تعالى وقدرته داخل فيها كل أفعال العباد، لا يكون في الوجود إلا ما يريد.

أفعال العباد وأكسابهم مخلوقة لله تعالى

أفعال العباد وأكسابهم مخلوقة لله تعالى قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويقولون: إنه لا خالق على الحقيقة إلا الله تعالى، وإن أكساب العباد كلها مخلوقة لله] . قوله: [أكسابهم] يعني: أعمالهم. فالأشاعرة يقولون: إن أفعال العباد خلق الله وكسب العباد. فيثبتون للعبد كسباً، وكأنهم يبالغون في إثبات خلق الله تعالى للفعل، ولا يثبتون للعبد إلا كسباً، ولكن ذلك الكسب قد لا يكون له حقيقة. فمن الأشياء التي لا حقيقة لها الكسب عند الأشعري، ولهذا يقول بعض الشعراء: مما يقال ولا حقيقة تحته معلومة تدنوا من الأفهام الكسب عند الأشعري والحال عند البهشمي وطفرة النظام يعني أنها تقال وليس لها حقيقة. ومع ذلك فكسب العبد نفسه وعمله مخلوقان لله تعالى، وهذه المسألة هي التي ألف فيها البخاري كتاب (خلق أفعال العباد) ، وأورد الأدلة على أن أفعال العباد كلها خلق الله، فحركاتهم لا تكون إلا بإرادة الله تعالى وبمشيئته، وأن الله يهدي من يشاء فضلاً منه ويضل من يشاء عدلاً منه، وإذا كان هو الذي يهدي ويضل فإنه مع ذلك لا حجة لمن أضله الله عز وجل، ولا حجة له في ارتكاب المعاصي ولا عذر له، لقوله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149] أخبر بأن حجة الله أقوى من حجتهم، ورد على المشركين احتجاجهم بقدرة الله وبقولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام:148] ، ثم مع ذلك قال: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149] ، وقال تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} [الأعراف:29-30] ، فالذين مَنَّ الله عليهم بالهداية ووفقهم وأعانهم حتى صاروا مهتدين: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} ، أما الذين حق عليهم الضلال فهم الأشقياء، وهم الكفرة، وهم المحرومون الذين حقت عليهم الضلالة، والله تعالى هو الذي أضلهم وصرف قلوبهم وحال بينهم وبين الهداية عدلاً منه وحكمة. وكذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الأعراف:179] أخبر بأنه ذرأهم يعني خلقهم لها. وورد أيضاً في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق للجنة أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وإن الله خلق للنار أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم) ، وفي الحديث القدسي: (إن الله قبض قبضة فقال: هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي. وقبض قبضة أخرى وقال: هؤلاء إلى النار ولا أبالي) ، حكمة من الله تعالى أنه قسم خلقه إلى قسمين، فالحاصل أن هداية الله تعالى فضل منه، وإضلاله عدل منه، ولهذا حكى الله تعالى عن أهل الجنة أنهم يقولون بعدما دخلوا الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] يعني: يعترفون بفضل الله تعالى عليهم، وبأنه هو الذي وفقهم وسددهم وأعانهم وأعطاهم ما يتميزون به عن أهل النار فضلاً منه {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] . وكذلك عموم مشيئة الله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود:118-119] ، فلو شاء لجعلهم أمة واحدة كما في قول الله تعالى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ * وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [الشورى:7-8] ، فلو شاء لجعلهم أمة واحدة كلهم مهتدون، ولكن صرف قلوب هؤلاء عدلاً منه، وهدى قلوب هؤلاء فضلاً منه.

القضاء والقدر في عقيدة أهل السنة

القضاء والقدر في عقيدة أهل السنة قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويقولون: إن الخير والشر والحلو والمر بقضاء من الله عز وجل أمضاه وقدره] . ورد ذلك أيضاً في الحديث: (أن تؤمن بالقدر خيره وشره حلوه ومره) أي: تؤمن بأن ما يحدث في الكون كله من الله مقدر، خيره وشره، حلوه ومره، ما يلائمك وما لا يلائمك، وتؤمن بأنه مكتوب عند الله تعالى، فإذا حصل لك رزق، ونعمة وصحة ورفاهية وراحة طيبة وسعة بال فاعلم أنه بقدر من الله وأن الله الذي قدره، وإذا أصبت بهم أو غم أو حزن أو فقر أو مرض أو مصيبة في مال أو بدن أو ولد أو أمر من الأمور التي تجلب لك السوء وتحزنك، فاعلم أنها مكتوبة وأنها مقدرة، وكذلك كل ما يحلو لك أو لا يحلو اعلم أنه من الله وأنه بقضاء من الله تعالى قدره وأمضاه. قال رحمه الله تعالى: [لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله تعالى] أي: الخلق. فالله تعالى هو الذي يعطي هؤلاء النفع وهؤلاء الضر، ويقدر عليهم ما قدره. قال رحمه الله تعالى: [وإنهم فقراء إلى الله عز وجل، لا غنى لهم عنه في كل وقت] . قال الله تعالى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد:38] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] ، وفقر الإنسان فقر لازم ذاتي لا يمكن أن يتغير ولا أن يتحول، يقول شيخ الإسلام: فالفقر لي وصف ذات لازم أبداً كما الغنى أبداً وصف له ذاتي فالفقر للإنسان وصف ذاتي، والغنى للرب تعالى وصف ذاتي. وهذا الكلام الذي ذكره المؤلف في هذه الفقرة يتعلق بالقضاء والقدر، وقد ذكر العلماء أن للقدر درجتين: الدرجة الأولى: أن الله تعالى علم الأشياء قبل وجودها، ثم كتبها في اللوح المحفوظ. والدرجة الثانية: أن الله تعالى أراد الأشياء الموجودة ثم خلقها. فالدرجة الأولى تتضمن العلم والكتابة، والدرجة الثانية تتضمن الإرادة والخلق، ولهذا يقولون: لا يكون في الوجود إلا ما يريد، ولا يمكن أن يحدث شيء في الوجود إلا بعد إرادة الله تعالى. ثم إن هذه الدرجة انقسم الناس فيها إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: قوم أنكروها وقالوا: ليس لله قدرة على أفعال العباد. وهؤلاء هم المعتزلة، ولهذا يسمون مجوس هذه الأمة، حيث جعلوا مع الله خالقاً، فقالوا: كل أحد يخلق أفعاله، وليس لله قدرة على أفعال العباد. فجعلوا قدرة العباد أقوى من قدرة الله. القسم الثاني: طائفة غلت في هذه الدرجة وبالغت فيها، وهم الجبرية الذين جعلوا العبد كالأداة ليس له أي اختيار وليس له أي عمل، ولا تنسب إليه أية حركة، وجعلوا حركة العباد كحركة من ترتعش يده ولا يقدر على إمساكها، وجعلوا حركاته كحركات الشجر الذي تحركه الرياح بغير اختياره، ويسمون الجبرية؛ لأنهم يدعون أن العبد مجبور على أفعاله، وقد رد عليهم أهل السنة وقالوا: إن في هذا القول إبطالاً للشريعة وسلباً للحكمة، وذلك لأن الله تعالى يوجه الأوامر إلى الناس، ويأمر وينهى، ولولا أن للعباد قدرة على أفعالهم لما أمرهم بها، فكيف يقول لهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج:77] ، وهم مع ذلك لا يقدرون على شيء؟! وكيف يقول لهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا} [البقرة:104] وهم لا يقدرون على شيء؟! وكيف يقول لهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة:278] وهم لا يقدرون على شيء؟! وأيضاً فإن في الغلو في هذه الدرجة مخالفة للعقل، فالذين يدعون أنهم مجبورون على هذه الأفعال مضطربون في ذلك ومخالفون لعقولهم، ثم هم أيضاً مخالفون لواقعهم. والحاصل أن مثل هؤلاء يحتجون بالقدر على المعاصي، ولكن عندما يعاقبون لا يحتجون به، وفي أبيات لـ ابن القيم في الميمية يقول فيها: وعند مراد الله تفنى كَمَيِّت وعند مراد النفس تسدي وتلحم وعند خلاف الأمر تحتج بالقضا ظهيراً على الرحمن للجبر تزعم فجعلهم إذا جاء للناس حظ اهتموا بالأمر وعملوا لأجل حظ النفس، وإذا جاء أمر الله يفنى أحدهم كأنه ميت، وإذا وقع في معصية احتج بالقضاء وبالقدر، ومشهور أن بعض أولئك الزنادقة دخل على شيخ الإسلام ابن تيمية فأنشده أبياتاً يحتج فيها بالقدر أولها: أيا علماء الدين ذمي دينكم تحير دلوه بأوضح حجة وفيها قوله: دعاني وسد الباب دوني فهل إلى دخولي سبيل. بينوا لي قضيتي قضى بضلالي ثم قال أرض بالقضا فهل أنا راض بالذي فيه شقوتي ولما قرأها شيخ الإسلام وهو جالس عنده بعض تلاميذه أخذ يكتب رداً عليه، فكانوا يحسبون أنه يرد عليه نثراً وإذا هو يرد عليه نظماً، فرد عليه بأبيات زادت على المائة، وأولها: سؤالك يا هذا سؤال معاند مخاصم رب العرش باري البرية إلى أن قال: وتدعى خصوم الله يوم معادهم إلى النار طراً معشر القدرية سواء نفوه أو سعوا ليخاصموا به الله أو ما رأوا به في الشريعة. ونحن نقول لهؤلاء الذين يحتجون بالقدر: نعاملكم بما تحتجون به. ولكنهم لا يقنعون. ذكر أن رجلاً سرق فجيء به إلى عمر، فقال: أتعاقبني على أمر مقدر ومكتوب علي؟ فقال عمر: أنت سرقت بقدر الله وأنا أقطع يدك بقدر الله. ولما سافر إلى الشام وذكر له أن الوباء قد وقع في الشام فرجع بأصحابه إلى المدينة قال أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله؟! فقال: نفر من قدر الله إلى قدر الله. فالله تعالى قدر لنا أننا نذهب ونرجع، فهذا قدر الله. وفي مثل هذا يقال لهم: نعاقبكم بذلك. وقد ذكروا أن بعض الخدم كان يقود رجلاً أعمى، فكان يتعثر به في الحفر، فلامه فقال: هذا قدر الله. فعند ذلك ضربه بعصاه حتى سقط، فقال: كيف تضربني؟ قال: هذا قدر الله. قدر الله تحتج به فنحن نحتج بالقدر. مع أنهم لا يحتجون به أيضاً في مصالح أهوائهم، كما ذكر ذلك ابن القيم: وعند مراد الناس تسدي وتلحم. والحاصل: أن هاتين الفرقتين متضادتان، فرقة المعتزلة الذين أنكروا قدرة الله وفرقة الجبرية الذين أنكروا قدرة العبد. القسم الثالث: وهم أهل السنة الذين أثبتوا لله تعالى قدرة عامة، وأثبتوا للعبد قدرة تناسبه وهي القدرة الخاصة، وجعلوها مرتبطة بقدرة الله تعالى، ولا تحصل إلا بعد قدرة الله ومشيئته، واستدلوا عليها بالآيات، مثل قوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:28-29] ، وقوله: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر:55-56] ، وقوله: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [المزمل:19] ، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] وأشباه ذلك، حيث جعل لهم مشيئة، وجعلوا مشيئتهم مرتبطة بمشيئة الله تعالى، فلذلك نقول: إن مشيئة العباد يتمكنون بها من مزاولة أعمالهم الدينية والدنيوية، فالله تعالى أعطى الإنسان هذه القوة فيحمل الأثقال، ويحرث ويحفر ويغرس، ويتمكن من الأشياء التي تناسبه، فهذه القوة التي أعطاه الله هي التي كلفه لأجلها، ولو كانت قدرة الله محيطة به، فهو أعطاه وأمره أن يمتثل ما أمره به، ولم يأمره إلا وعنده استطاعة، ولهذا يذكر أنه مكلف بقدر الاستطاعة، كقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) ، فأوامر الله تعالى ونواهيه لابد أن تكون مقدورة للعبد، وأن العبد يستطيع أن يفعلها وتنسب إليه لأنه الذي باشرها. فنقول: هذا مصلٍ، وهذا صائم، وهذا تقي، وهذا نقي، وهذا قارئ، وهذا بر بأبويه، وهذا محسن إلى إخوته، وهذا صدوق اللسان، وهذا طاهر القلب، وهذا طاهر الجنان. وبضد ذلك نقول: هذا فاجر، وشقي، وبعيد عن الخير، ومعاند، وخارج عن طاعة الله تعالى، وكذاب، وفاجر. فننسب إليه أفعاله التي فعلها ولو كانت بمشيئة الله، فالله تعالى لو شاء لرده عن هواه، ولكن لما كان مزاجه وهواه وطبعه سيئاً خلَّى بينه وبين هواه وخلَّى بينه وبين شيطانه، ولو هداه لاهتدى، ولكن لله الحكمة في أن هدى قوماً وأضل آخرين، فالخلق الذين في المنزل الواحد نشاهد أنهم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: قسم مهتدون متمسكون غاية التمسك صالحون في كل أعمالهم، وقسم منحرفون فسقة فجرة ليس معهم من الخير شيء، وقسم متوسطون معهم خير ومعهم شر، فالله تعالى أعطى هذا وأعطى هذا، ومَنَّ على هذا، وخذل هذا. إذاً فنؤمن بهذا كله، ونعلم أن هذا كله قضاء الله تعالى وقدره، لا رادَّ لما قضى ولا مغير لما أمر به.

مذاهب أهل القبلة في أفعال العباد

مذاهب أهل القبلة في أفعال العباد أهل القبلة في أفعال العباد ثلاثة مذاهب: مذهب المعتزلة الذين ينكرون قدرة الله على أفعال العباد. ومذهب الجبرية الذين ينكرون قدرة العبد على فعله ويسلبونه أية حركة. ومذهب أهل السنة الذين يثبتون القوة والقدرة العامة لله تعالى، ويثبتون للعبد قدرة تناسبه مسبوقة بقدرة الله تعالى. وقول المعتزلة يسمونه عدلاً، وذلك لأنهم توهموا أن الله إذا خلق المعصية في العبد ثم عاقبه عليها صار ظلماً، فلأجل ذلك قالوا: العبد هو الذي يهدي نفسه أو يضل نفسه، والله لا يقدر على أن يهدي ولا يضل. فكانوا بذلك مفضلين قوة العبد على قوة الرب، وعندهم أن العبد يعصي ربه قسراً عليه وقهراً، وأن الله يُعصى قسراً، هذا قول المعتزلة. وأما الجبرية فهم الذين سلبوا العبد قدرته واستطاعته، ولم يثبتوا له أية قدرة. وقول أهل السنة وسط بينهما، أن للعباد قدرة على أفعالهم، وأن لهم إرادة، والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم، وبهذه القدرة التي أعطاهم الله كلّفهم وأمرهم ونهاهم، وما كلفهم إلا وهم قادرون، وما أمرهم إلا وهم مستطيعون. وفي المسألة بغير شك شيءٌ من الخفاء، ولأجل ذلك يقول الطحاوي في عقيدته: (القدر سر الله في خلقه) ، بمعنى أن هذه القدرة التي مكّن الله بها العبد وكلّفه بها خفيَّة، فلأجل ذلك صار القدر سراً، أي: سر الله في خلقه. وقد تكلّم العلماء على هذه المسألة، ولشيخ الإسلام ابن تيمية رسائل في هذا الباب مطبوعة في الجزء الثامن من مجموع فتاويه، ومنها رسالة بعنوان (أقوم ما قيل في القضاء والقدر والتعليل) . ولتلميذه ابن القيم كتاب كبير اسمه (شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل) ، وهو أوسع من تكلم في هذه المسألة، وبيّن القول الفصل فيها، وجمع بين الأدلة، وذلك لأنه قد يتوهم في الأدلة شيءٌ من المخالفة؛ لأن المشركين يحتجون بالقدر على المعاصي، فيقولون {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148] ، {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا} [النحل:35] ، {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس:47] ، فأنكر الله تعالى عليهم هذا الاحتجاج، ومع ذلك يقول: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149] ، ويقول: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء:4] ، ويقول: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس:99] ، فكل ذلك دليل على أنهم لا يخرجون عن مشيئته ولا إرادته، ثم ذكر العلماء أن الإرادة في كتاب الله على نوعين: إرادة قدرية، وإرادة شرعية. وأن الإرادة القدرية هي التي يلزم وقوع المراد بها، ولكن قد يكون المراد بها محبوباً وقد يكون غير محبوب، فنقول: كل ما يحصل في الوجود فإنه مراد لله كوناً وقدراً، الطاعة والمعاصي، والخلق والرزق، والتدبيرات والحوادث التي تحدث في الدنيا كلها قد أرادها الله كوناً وقدراً، ولو شاء لم تحصل، ولهذا قال عن عمل السحرة: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102] يعني: بإذن الله الكوني القدري، ليس الديني الشرعي. لأن الله تعالى حرّم عمل السحر وتوعّد عليه، ومع ذلك السحرة لا يفعلون شيئاً من قبل أنفسهم ولو أضروا من أضروا وحصل من الإضرار ما يحصل به، فإن ذلك مراد لله لا يخرج عن إرادته، فنقول: لا يحصل قتل في الدنيا إلا بإرادة الله الكونية، ولا تحصل معصية من زنا أو سرقة أو أكل مال حرام أو كسب حرام لا يحصل شيءٌ من ذلك إلا وقد أراد الله وجوده إرادة كونية قدرية، ولكن لا يلزم أن يكون محبوباً لله تعالى، وكذلك كل ما يحصل في الوجود، ومن تعبيراتهم أن يقولوا: لا يكون في الوجود إلا ما يريد. أي: إرادة كونية قدرية، أن قدر الله أنه سيحصل كذا وكذا، وكل ما قدره كوناً فإنه -ولا بد- حاصل، وهو مراد لله كوناً وقدراً. أما الإرادة الدينية الشرعية فهي التي تستلزم محبة المراد، ولكن لا تستلزم وقوعه، فنقول: الله أراد من الخلق كلهم أن يسلموا، فهل أسلموا كلهم؟ أسلم من هداه الله وسدده، ولم يسلم من خذله وحرمه، والله أراد من الجميع أن يدخلوا في الإسلام، هذه إرادة دينية شرعية، لكن المراد ديناً وشرعاً محبوب إلى الله، فنقول: الله يريد منا الإسلام ويحبه، يريد منا الصلاة ويحبها، ويريد منا أن نذكره ويحب ذلك، ويريد منا أن نتلو كتابه ويحب ذلك، ويريد منا أن نطيعه ونطيع رسله ونتبعهم، ويريد منا أن نؤمن به ونؤمن برسله، ويريد منا أن نذكره ونسبحه وندعوه ونخلص له الدين وحده، ويريد منا أن نتصدق ونزكي ونصوم ونجاهد ونصبر ونصدق ونحو ذلك، يريد ذلك منا إرادة دينية شرعية، يريدها من الجميع، ولكن قد تحصل من هذا ولا تحصل من هذا، مع أنه أراد من الجميع أن يكونوا صادقين وصابرين وقانتين مخبتين منيبين تائبين عابدين، يريد منهم ذلك كلهم، ولكن منهم من تتحقق منه هذه الإرادة فتجتمع فيه الإرادتان الدينية الشرعية والكونية القدرية، فنقول: إيمانك -أيها العبد الصالح- وصلواتك وعباداتك التي حصلت اجتمعت فيها الإرادتان: الإرادة الدينية والإرادة الكونية. وكفر هذا الكافر ومعصيته انفردت فيه الإرادة الكونية، وإيمان الكافر وطاعته انفردت فيه الإرادة الدينية ولم تحصل له الإرادة الكونية، فلو أراد الله إيمان الكافر كوناً وقدراً حصل، لكنه أراده ديناً وشرعاً ولم يرده كوناً وقدراً، فنتفطن للفرق بين الإرادتين، فهذا المراد بأفعال العباد.

الأسئلة

الأسئلة

رد الاستدلال بقوله تعالى: (ولكن الله رمى) على الجبر

رد الاستدلال بقوله تعالى: (ولكن الله رمى) على الجبر Q لو قال قائل: إن العبد كأداة لا يفعل أي شيء ولكن الله يفعل. واستدل بقول الله جل وعلا: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] ؟ فما جوابه؟ A العبد بغير شك مخلوق وأفعاله مخلوقة لله تعالى، ولكن الله تعالى أعطاه قوة، ولهذا أثبت في هذه الآية أنه رمى، وذلك دليل على أنه وقع منه الرمي، والآية نزلت في قصة بدر، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبض قبضة من الحصباء ملء كفه ثم رمى بها في وجوه المشركين، وقال: (شاهت الوجوه) ، هذه القبضة لو كانت بقوته لما تجاوزت عشرين متراً أو نحوها، ولكن الله تعالى هو الذي دفعها فوصلت إلى أقاصي المشركين وهم نحو الألف، ولم يبق أحد منهم غالباً إلا ووصلت إلى وجهه أو ضربته في وجهه أو نحو ذلك، فأخبر بأنه هو الذي دفع الرمية حتى وصلت إلى أقاصيهم، ولم يكن ذلك كله بقوته عليه الصلاة والسلام، فلا حجة في الآية على سلب العبد قدرته وإرادته كقول الجبرية.

حكم حجز الأمكنة في المساجد

حكم حجز الأمكنة في المساجد السائل: نرى بعض الإخوة يحجزون الأماكن في المسجد لأغراض متعددة، فمنهم من يخرج للوضوء، ومنهم من يذهب إلى البيت، فما الحكم في ذلك؟ A لا بأس إذا خرج لتجديد الوضوء أن يحجز مكانه حتى يرجع إليه، فقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به) ، أو كما قال. أما الذي يذهب ويطيل الغيبة ويبقى المكان محجوزاً ساعة أو ساعات فمثل هذا لا حق له فيه؛ لأن هذا تحجر لا يجوز.

توجيه حديث احتجاج آدم

توجيه حديث احتجاج آدم Q كيف يتم الجمع بين حديث احتجاج آدم وموسى عليهما السلام حين قال آدم: (أفتلومني على أن عملت عملاً كتبه الله عليَّ أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة) ، وحديث: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة) ؟ A كتبه الله قبل أربعين سنة وهو في الطين؛ لأن كل إنسان يكتب عليه وهو في طينته أو وهو في بطن أمه، ويسمى هذا التقدير العمري، فآدم احتج بأن الله تعالى كتبه عليه قبل أن يخلقه بأربعين سنة، أي أن الله كتب عليه أنه يقع في المعصية التي يكون من آثارها خروجهما من الجنة. واحتجاجه ليس هو احتجاجاً على المعصية، ولكن احتجاجاً على المصيبة، وموسى إنما لامه على المصيبة التي حصل ضررها على أولاده، وآدم احتج بالقدر على المصيبة، والاحتجاج بالقدر على المصيبة جائز؛ لقوله تعالى: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:23] ، فبكل حال فكتابته في اللوح المحفوظ هذه أزلية قبل أن تخلق السماوات والأرض بألفي عام أو أكثر، وكتابته في صحيفة آدم قبل أن يخلق بأربعين سنة.

الفرق بين أنواع التقديرات

الفرق بين أنواع التقديرات Q ما الفرق بين التقدير العام والعمري والسنوي واليومي؟ A التقدير العام هو الذي كتب قبل أن تخلق المخلوقات، وهو الذي كُتِب في اللوح المحفوظ، والتقدير العمري هو الذي يكتب والإنسان في الرحم، وهو موجود في اللوح المحفوظ ولكن يكتب في صحيفة الإنسان أنه يعمل كذا وكذا، ويكتب ورزقه وأجله وشقاوته وسعادته، فهذا يكتب وهو في الرحم، والتقدير السنوي هو أن يكتب في صحف الملائكة ما يكون في ذلك العام في ليلة القدر، كما قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4] ، ولهذا تسمى ليلة القدر، أي أنها تقدر فيها الموجودات التي تحدث في ذلك العام إلى مثلها. وأما التقدير اليومي فهو المذكور في قول الله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] ، والمراد حدوث الأفعال التي سبق تقديرها، أي: كل يوم يحدث أشياء سابق العلم بها، وإنما حدوثها وظهورها هو إظهار القدر، فيسمى تقديراً يومياً.

العرش أول المخلوقات

العرش أول المخلوقات Q كيف يجمع بين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أول ما خلق الله القلم) ، وما ثبت أن العرش قبل القلم في الخلق؟ A في ذلك خلاف، هل القلم قبل العرش أو العرش قبل القلم، والصحيح أن العرش قبل القلم، نظم ذلك ابن القيم رحمه الله في النونية فقال: والناس مختلفون في القلم الذي كتب القضاء به من الرحمن هل كان قبل العرش أو هو بعده قولان عند أبي العلا الحمداني والحق أن العرش قبل لأنه وقت الكتابة كان ذا أركان فرجّح أن العرش قبل ذلك، فقوله: (أول ما خلق الله) أي: أولية نسبية. يعني أول شيء من هذه الموجودات الظاهرة، فأوليته نسبية، أي بالنسبة إلى المخلوقات الموجودة الآن، فيستثنى منها العرش، ورواه بعضهم بنصب (أول) وبنصب (القلم) (أولَ ما خلق الله القلمَ قال له) ، أي: أمره أول ما خلقه بالكتابة. ولكن الرواية المشهورة أن (أول) مبتدأ (أولُ ما خلق الله القلمُ) .

حكم أكل طعام النصيرية

حكم أكل طعام النصيرية Q ما حكم أكل طعام النصيرية المنتشرين في المطاعم حالياً؟ A يظهر أنهم مسلمون، ولكن عقيدتهم عقيدة سيئة، ولأجل سوء العقيدة التي بينها العلماء -ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة له اسمها (الرد على النصِيرية) - يقال: إنهم ليسوا مسلمين حقاً، فلا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم، ويلحقون بالمشركين ولو كان شركهم خفياً؛ لأن هناك قبائل يظهرون أنهم مع المسلمين ولا يحققون الإسلام حقاً، فلا يؤدون الصلوات مع المسلمين، ولا يدينون بدين الإسلام، ولا يعترفون بالقرآن كتاباً ولا بالسنة، ولا يعترفون بشرع الله، ولا يحرمون المحرمات التي حرم الله من الربا والزنا والخمور، فلا يعترفون بتحريمها بل يعتقدون حلها، فمثل هؤلاء كيف يكونون مسلمين؟!

حكم الصلاة خلف المبتدعة والفسقة

حكم الصلاة خلف المبتدعة والفسقة Q ما حكم الصلاة خلف الإمام المسبل أو الحالق لحيته، وما حكم الصلاة خلف الإمام الصوفي حيث إننا في بلد تكثر فيه الأئمة الصوفية؟ A الفاسق وحالق لحيته يعتبران من العصاة، والصحابة كانوا يصلون خلف العصاة، فهؤلاء العصاة -وبالإخص المسلم الحالق وما أشبه ذلك- إذا كانوا كثيرين ومتمكنين فلا خيرة لأحد إلا أن يصلي خلفهم؛ حيث لا يجد غيرهم إذا كانوا أئمة معينين من قبل الدولة. أما الصوفي فإن كان يعرف بأنه قبوري يغلو في الأموات ويدعوهم ونحو ذلك فهو مشرك فلا يصلى خلفه، وأما إذا كان معه شيء من عقيدة الصوفية فإن عقائد الصوفية تختلف، والغالب أيضاً أنهم يخفون معتقداتهم، وأن أكثر عقائدهم لا تخرج من الملة، وإن كان بعضها قد يقود إلى الكفر، فالشيء الخفي لا يوجب الكفر.

حكم التصرف في مال الوديعة

حكم التصرف في مال الوديعة Q هل يجوز لي أن أتصرف بمال عندي أمانة إذا دعتني الحاجة الماسة إلى صرفه مع تكفلي بضمان إعادة المال لصاحبه في أي وقت يطلبه؟ A الأمانات حقها أن تحفظ، ولكن إذا وثقت بأن صاحبها لا يحتاج إليها، وأنه أيضاً لا يلومك على تصرفك فيها عند الحاجة، ثم اقترضت منه شيئاً وعرفت أنك سترده قبل أن يحتاج إليه صاحبه فلعل ذلك جائز عند الحاجة.

حكم المسبوق بفرض ودخل وقت الفرض الثاني

حكم المسبوق بفرض ودخل وقت الفرض الثاني Q إذا دخلت المسجد وأنا لم أصلِّ المغرب وأقيمت صلاة العشاء، فهل أدخل مع الجماعة وأصلي العشاء أم يجب عليَّ أن أصلي المغرب أولاً؟ وهل يجوز لي أن أدخل مع الجماعة بنية المغرب، وكيف يكون ذلك؟ A هذه مسألة اختلف فيها مشايخنا الأولون، أما الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، والشيخ عبد الله بن حميد فيتمسكون بما ورد في كتب المذاهب، ويقولون: لا يجوز أن تدخل مع من يصلي العشاء ونيتك المغرب، بل انفرد وحدك وصل المغرب، ثم بعد ذلك ادخل معهم في بقية العشاء. هكذا اختاروا، واستدلوا على قولهم بالأحاديث التي فيها النهي عن الاختلاف، لحديث: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه) ، واستدلوا أيضاً بأن هذا اختلاف ظاهر في العدد، فهذه ثلاث ركعات وهذه أربع، حتى ولو كانت العشاء مقصورة، فهذه ركعتان وهذه ثلاث؛ فيكون هذا من الاختلاف. وأما مشايخنا المعاصرون، كالشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله فكأنه يقول: نرخص لهم في ذلك حفاظاً على صلاة الجماعة حتى لا تتعدد الجماعة، فيدخل معهم بنية المغرب، فإذا صلى ثلاث ركعات انتظرهم حتى يصلوا الرابعة ثم سلم معهم أو نوى الانفراد وتشهد لنفسه وسلم. هكذا يرخص في ذلك، ولكل مجتهد نصيب.

شرح اعتقاد أهل السنة [8]

شرح اعتقاد أهل السنة [8] من عقائد أهل السنة أهل الحق: أنهم يثبتون للمولى سبحانه وتعالى كل ما أثبته لنفسه من أسماء وصفات من غير خوض في كيفية هذه الصفة أو مدلول هذا الاسم، ويقفون حيث وقف الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه رضوان الله عليهم، وينكرون على أهل البدع إنكارهم لبعض الصفات بحجة أن العقل لم يثبتها. ومن أعظم المسائل خلافاً بينهم وبين أهل البدع: مسألة النزول، ومسألة المجيء والإتيان، ومسألة الرؤية للرب عز وجل، وإثبات هذه المسائل على ما يثبته أهل السنة هو قول الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى، ومنهم الشافعي الذي ينتسب إليه الأشاعرة المنكرون لها.

إثبات صفة النزول لله تعالى ورد تأويلها

إثبات صفة النزول لله تعالى ورد تأويلها قال الشيخ الحافظ أبو بكر الإسماعيلي رحمه الله تعالى في بيان اعتقاد أهل السنة: [وإنه عز وجل ينزل إلى السماء على ما صح به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا اعتقاد كيف فيه. ويعتقدون جواز الرؤية من العباد المتقين لله عز وجل في القيامة دون الدنيا، ووجوبها لمن جعل الله ذلك ثواباً له في الآخرة، كما قال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ، وقال في الكفار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] ، فلو كان المؤمنون كلهم والكافرون كلهم لا يرونه كانوا بأجمعهم عنه محجوبين، وذلك من غير اعتقاد التجسيم في الله عز وجل، ولا التحديد له، ولكن يرونه جل وعز بأعينهم على ما يشاء هو بلا كيف. ]

النصوص المثبتة لصفتي النزول والإتيان

النصوص المثبتة لصفتي النزول والإتيان مسألة النزول من الصفات التي يفعلها الله تعالى إذا يشاء، ومثلها مسألة المجيء والإتيان، وقد دل القرآن على الإتيان والمجيء، قال الله تعالى في سورة البقرة: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة:210] ، وقال في سورة الأنعام: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:158] ، وقال في سورة الفجر: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22] ، وكل ذلك إنما يكون في يوم القيامة. ووردت الأحاديث في مجيء الله تعالى كما يشاء في يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده، وتكاثرت الأدلة عليه، واتفق سلف الأمة على إثبات هذه الصفة.

تأويلات المبتدعة لصفتي النزول والإتيان

تأويلات المبتدعة لصفتي النزول والإتيان ولما كان هذا المجيء وكذلك النزول الذي أثبته الله ورسوله في الأحاديث مخالفاً لما يعتقده المعتزلة ونحوهم أنكروا هذه الصفات، وقد قرأت في بعض التفاسير لبعض الأشاعرة لما أتى على الآية في سورة البقرة قال: وأما إتيان الله فقد أجمع المسلمون على أن الله منزهٌ عن المجيء والذهاب؛ لأن هذا من شأن المحدثات والمركبات. ثم ذكر أن في هذه الآية قولين: القول الأول: قول السلف، وهو إمرارها وتفويضها وعدم الخوض فيها -يزعم أن هذا قول السلف مع أن السلف قد صرحوا بالإيمان بهذه الصفات والاعتراف بمعانيها-، والقول الثاني: هو تحريفها الذي يسمى تأويلاً. وقد سلطوا عليها التأويلات وتكلّفوا في صرفها، فآية سورة البقرة: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} [البقرة:210] لا شك أن هذا عند قيام الساعة، يعني: أن يأتيهم الله تعالى لفصل القضاء بينهم ولعقاب من يعاقب. والمتأولون قالوا: المجيء هنا لأمر الله. أو قالوا: المأتي به محذوف تقديره: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بعذاب في ظلل من الغمام، أو: أن يأتيهم عذاب الله في ظلل من الغمام. وقرأنا في كتب التفسير عن بعض السلف أنهم قالوا: تأتي الملائكة في ظلل أو كالظلل من الغمام، ويأتي الله فيما يشاء، وهذا مذكور في تفسير ابن جرير وفي غيره من تفاسير السلف، اعترافٌ بأن الله تعالى يأتي كما يشاء. وتأويلهم أيضاً لآية الأنعام: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:158] . فالإتيان هنا لثلاثة أشياء: الملائكة والرب وآيات الرب، فتسلطوا على (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) فقالوا: أمره. ولا شك أن ذلك يتعارض مع الجملة التي بعدها (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ) ، لأن هذه تغني عنها إذا قالوا (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) يعني أمره. فقوله تعالى: (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ) بعض آياته من أمره، فيكون هذا تكرار غير مستساغ، وينزه كلام الله تعالى أن يكون فيه هذا التكرار الذي لا فائدة فيه. فلا بد أن يكون أمر الله تعالى يأتي في كل حين، وهذه الآية فيها تخويف لهم أن يأتيهم أمر الله تعالى، وأن يأتيهم الله، وأن تأتيهم بعض آياته، وأن تأتيهم الملائكة ونحو ذلك. وكذلك قوله في سورة الفجر: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22] لا شك أيضاً أنها صريحة في إثبات مجيء الله كما يشاء، (جَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ) يعني: وجاء جنس الملائكة، (صَفًّا) صفوفاً متتابعة صفاً وراء صف. فهذه أدلة من القرآن. وقد ذكرنا أن الأشاعرة والمعتزلة سلطوا عليها التأويلات لأنهم ينكرون صفات الأفعال، ويقولون: إن المجيء والذهاب من شأن المحدثات والمركبات. ولا ندري ماذا يريدون بالمحدثات؟! فمعلوم أن إتيان ومجيء كل شيءٍ بحسبه، فلا يجوز أن نحكم فيها الآراء ونسلط عليها التقديرات ونتخرص بها تخرصاً لا موقع له ولا مستند، بل نعترف ونتحقق بأن كل ما ذكره الله عن نفسه فإنه حق ويقين. فنقول: يأتي الله تعالى لفصل القضاء بين عباده، ولكن لا ندري ما كيفية إتيانه، كما أننا لا نكيف ذاته. وأما النزول فهو وارد في الأحاديث مشهور، ذكر ابن كثير وغيره أنه مروي عن عشرة من الصحابة، وقد يكون لأكثر من العشرة، وحديث النزول روي بلفظ (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا) ، وبلفظ: (إذا كان في آخر الليل) ، أو: (نصف الليل) ، أو: (إذا كان ثلث الليل) ، أو: (يهبط الله عز وجل إلى السماء الدنيا) ، أو ما أشبه ذلك من العبارات والألفاظ، وقد أورد الأحاديث ابن القيم رحمه الله في كتابه (الصواعق) واستوفى ما ورد فيها مع الاقتصار على بعضها لا كلها، وتبعه حافظ الحكمي في (معارج القبول) فأورد الأحاديث التي وردت في النزول في آخر الليل بلفظ: (ينزل) أو (نزل) أو (يهبط) أو (هبط) أو ما أشبه ذلك، وهي أحاديث كثيرة يدل مجموعها على أنه مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه حق ويقين. ولما كان هذا مما يخالف معتقد المعتزلة والأشعرية ونحوهم الذين ينكرون صفات الأفعال كثُر خوضهم في ذلك فقدروا فيه التقديرات، فمنهم من قال: ينزل أمره. تفسيراً بالتحريف. ومنهم من قال: لا نقبل هذه الأحاديث ولو كانت صحيحة لأنها تخالف المعقول، فعقولنا تنزه الله عن مثل هذه التقديرات. فردوها وسلطوا عليها التأويلات أو كذبوا بها.

رد أهل السنة على منكري النزول والمجيء

رد أهل السنة على منكري النزول والمجيء ولما اشتهر ذلك عندهم صرّح أهل السنة بمدلولها، وقالوا: نقول بها لأنا إذا رددناها لزمنا أن نرد شطر الدين؛ لأن الذين جاؤوا بهذه الأحاديث هم الذين جاؤوا بأحاديث الصلاة والصوم والصدقات والجهاد والمحرمات والمحللات. فكيف نرد بعض حديثهم ونقبل بعض حديثهم، لا شك أن في هذا طعناً فيهم أنهم ليسوا بثقات؛ حيث إنه رُدّ قولهم، فإما أن نقبل أقوالهم كلها وإما أن نردها كلها. ولهذا يقول الكلوذاني في عقيدته: قالوا النزول فقلت ناقله لنا قوم هم نقلوا شريعة أحمد قالوا فكيف نزوله فأجبتهم لم ينقل التكييف لي في مسند وهكذا أخبر بأنه نقلة لنا من نقل الشريعة، وأننا نقبله ولا نكيفه فقال: لم ينقل التكييف لي في مسند. وهذا معنى ما ذكره الإسماعيلي: أنه ينزل إلى سماء الدنيا على ما صح به الخبر بلا اعتقاد كيف، يعني: لا نكيف النزول. وذلك لأن الذين أنكروا ذلك أخذوا يكيفون: كيف ينزل؟ وهل يخلو منه العرش؟ وهل ينزل بعرشه؟ وهل تكون السماوات فوقه؟ وهل يحصل كذا وكذا؟ ولا دخل لنا في ذلك، ينزل كما يشاء، ونؤمن بذلك، ونعرف أن النزول حق يستدل به على صفة العلو، وذكر ذلك ابن عبد البر في (التوحيد) وقال: هذا دليل على إثبات صفة العلو لله؛ لأن النزول لا يكون إلا من أعلى. ورُفع إلى شيخ الإسلام ابن تيمية سؤال عن هذا النزول فأنكره أحد السائلين، وادعى أن الليل يختلف باختلاف البلاد، فإذا كان الليل عندنا كان النهار في البلاد الأخرى وإذا كان الليل في البلاد الأخرى كان الليل عندنا، يقول: على هذا يستلزم أن الله تعالى دائماً ينزل! فأجاب على هذا السؤال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، والجواب مطبوع في رسالة بعنوان شرح حديث النزول، فتوسع في أحاديث النزول وفي أدلتها وفي ألفاظها، ثم بيّن حقيقة النزول وتوقف عن الكيفية، ثم أجاب عما ذكروه من أن الليل يختلف باختلاف البلاد، واعترف بذلك وقال: نحن نقول: ينزل ولا يشغله شأن عن شأن، فإذا نزل على هؤلاء فلا يشغله شأنه ألا ينزل على الآخرين، ثم ينزل على الآخرين كما يشاء فالحاصل أنه لا مانع من أن ينزل على كل قوم في ثلث ليلهم الأخير كما يشاء، هذا جواب. وجواب ثان أنه يمكن أن يخص النزول بالجزيرة التي نزل فيها الوحي، والتي هي منبع الرسالة، أي: يكون النزول خاصاً بهم، وأن أولئك إذا نزل في هذا الوقت فلهم أن يجتهدوا في ذلك الوقت ولو كان عندهم نهاراً. هذا ونحوه قول أهل السنة في إثبات هذه الصفة، وأنها من صفات الأفعال.

إثبات رؤية المؤمنين لله في الآخرة والرد على من أنكرها

إثبات رؤية المؤمنين لله في الآخرة والرد على من أنكرها قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويعتقدون جواز الرؤية من العباد المتقين لله عز وجل في القيامة دون الدنيا، ووجوبها لمن جعل الله ذلك ثواباً له في الآخرة] . فرّق في أول الأمر بقوله (جواز الرؤية) ثم بعد ذلك قال: (ووجوبها) ، فيعتقدون الجواز ويعتقدون الوجوب، فالوجوب هو أن الله تعالى وعد المتقين بأنهم يلقون ربهم، وبأنهم يرونه ويكون ذلك من ثوابهم، ولا بد أن يحصل ذلك كما أخبر الله به وكما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم. ومسألة الرؤية هي أيضاً من المسائل التي عظم فيها الخلاف فأنكرها المعتزلة إنكاراً بليغاً وشددوا في إنكارها، وقالوا: لأنها -أولاً- تستلزم المقابلة، وثانياً تستلزم الجهة، وثالثاً تستلزم التجسيم -على حد تعبيرهم-. وغير ذلك من التقديرات، فلذلك أنكروها. وهذا مبني على معتقدهم الضال الذي يدينون به أن الله تعالى ليس في جهة، لا فوق، ولا تحت، ولا يمين، ولا يسار، ولا أمام، ولا خلف، ومعتقدهم أيضاً أن الله ليس بعرض ولا بجوهر. وإذا نظرنا في معتقدهم في ذات الله تعالى رأينا أن حقيقة قولهم أنهم لا يثبتون ذاته، فلا جرم كان قولهم في هذا الباب مبنياً على عقيدتهم، وهي اعتقاد أن الله ليس في جهة، فإذا لم يكن في جهة فكيف يتمثل أمام الرائين، الرؤية لا بد أن تكون أمام الرائي، وأن تكون عن مقابلة ونظر، فأنكروها إنكاراً بليغاً. ثم جاء الأشاعرة وهم أكثر وجوداً وأشد تكاثراً في البلاد، ومذهبهم هو المذهب المنتشر والمتمكن في كثير من البلاد الإسلامية، ولما كان أكثرهم على مذهب الشافعي في الفقه والأحكام، وكان الشافعي رحمه الله يصرح بإثبات رؤية الله تعالى ويستدل بقوله للكفار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] ، ويقول: إن هذا من عقيدة المسلمين. حينها لم يتجرؤوا على إنكار الرؤية إنكاراً واضحاً، بل أقروا بها إقراراً ظاهراً، ولكن في الحقيقة لا يثبتونها، فيقولون: نثبت رؤية الله، ولكن الرؤية التي نثبتها هي مكاشفات للقلوب وتخيلات ليست حقيقة. فينكرون أن تكون الأحداق تقابل ذات الرب تعالى، ويقولون: ليس المراد من تلك الرؤية تقليب الأحداق نحو ذات الرب تعالى؛ فإن هذا محال -في زعمهم- لأنه يستلزم إثبات الجهة. هذا هو معتقدهم. فنقول: نحن نثبت الرؤية الحقيقية، ونثبت أن الله تعالى في جهة العلو فوق عباده، ونثبت أنه يتجلى لعباده كما يشاء، كما أننا وأنتم نثبت لله تعالى ذاتاً حقيقية، وإذا كان كذلك فلا بد أن تكون الذات تُرى، يراها عباده كما يشاء ويتجلى لعباده، وكما أنه تعالى يُسمع كلامه فلا بد أيضاً أن يكون يُرى كما يشاء ويتجلى لعباده، وهذا هو القول الذي تؤيده الأدلة. وقد استُدِل على ذلك بأن موسى عليه السلام سأل الرؤية بقوله: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] ، ولا بد أن موسى عالم بأنه يمكن أن يرى ربه، ولكن الله تعالى أخبر موسى بأنه لا يستطيع أن يتماثل وأن يثبت أمام عظمة الرب تعالى، ولهذا قال: {وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:143] . يقول أهل السنة: إن الله تعالى علّق رؤيته على ثبات الجبل واستقراره، ولا شك أنه ممكن، والتعليق على الممكن ممكن، وأيضاً فإن الله تجلّى للجبل والجبل جماد، فإذا جاز أن يتجلى للجبل فكيف لا يتجلى لعباده؟! ولكن عباده في الدنيا خلقتهم ضعيفة لا يمثلون ولا يثبتون أمام رؤية الله تعالى الذي هذه عظمته؛ لأنه ورد في الحديث: (حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) ، فقد أخبر في هذا الحديث بأنه احتجب بالنور، وأن هذا النور لو كشفه لاحترق ما انتهى إليه من الخلق من جماد أو من حيوان أو نحو ذلك، فإذا كان في يوم القيامة أمد عباده المؤمنين في الجنة بقوة في أجسادهم وأنظارهم يثبتون بها لرؤية الله إذا تجلى لهم، ويكون ذلك من أعظم ثوابهم وأجرهم عند ربهم. فنعتقد أن رؤية الله تعالى في الآخرة ممكنة، وأنها واقعة في الجنة، وقد ورد في حديث الشفاعة أن الله تعالى ينزل لفصل القضاء بين عباده كما يشاء، وأنه يقول: (لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ومن كان يعبد القمر القمر، ومن كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الرب تعالى في صورة غير التي يعرفونها، فيقول: ماذا تنتظرون؟ فيقولون: فارقنا الناس أحوج ما كنا إليهم، فلا نزال هاهنا حتى يأتينا ربنا، فإذا أتانا ربنا عرفناه. فعند ذلك يكشف عن ساق فيسجد من كان يسجد لله تعالى في الدنيا اختياراً، ويتعذر السجود على من كان لا يسجد في الدنيا، وذلك معنى قوله: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:42] ) ، فالحاصل أن في هذا دليلاً على أنه يتجلى لعباده في يوم القيامة ويرونه ويعرفونه، هذا في يوم القيامة، وأما في الجنة فالأحاديث صريحة في إثبات أن الله تعالى يتجلى لعباده، وأنهم يزورون ربهم إما في كل أسبوع وإما في كل يوم مرة أو مرتين. وفُسِّر قول الله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:62] قالوا: ليس في الجنة شمس ولا ليل ولا نهار، بل كل وقتهم ضياء، ولذلك فلا بد أن يكون قوله (بُكْرَةً وَعَشِيًّا) له معنى. ففسِّر بأن ثوابهم الذي منه رؤية الله تعالى يكون بمقدار الغدو في الدنيا والعشي فيها. ويدل أيضاً على ذلك حديث جرير في الصحيحين عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا) ، ويريد بهاتين الصلاتين العصر والفجر. فقيل: الحكمة في ذلك أن الذين يواظبون على هذه الصلوات يكون من ثوابهم أن الله تعالى يتجلى لهم ويرونه بكرة وعشياً، أي: في وقت صلاة العصر والفجر. فهؤلاء هم أعظم أهل الجنة ثواباً، وأما البقية من أهل الجنة فإنهم يرون ربهم بمقدار يوم الجمعة، ويسمى يوم المزيد، وبذلك فُسِّر قوله تعالى: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] أن المزيد هو النظر إلى رؤية الله تعالى، وأن ذلك يكون بمقدار يوم الجمعة، أي: بعدما يمضي عليهم قدر سبعة الأيام، ففي يوم الجمعة يزورون ربهم، فقد ورد في الأحاديث أنهم ينصب لهم منابر من نور -أي: كراسي- ومنابر من لؤلؤ وذهب وفضة، ويجلس أدناهم -وما فيهم دني- على كثُب من اللؤلؤ لا يرون أن أهل المنابر أفضل منهم، لا يحصيهم إلا الله تعالى، يجلسون كما يشاء، ثم يتجلى لهم، فإذا تجلى لهم الرب تعالى لم يلتفتوا إلى غيره ماداموا مقابلين له، ويخاطبهم ويخاطبونه كما يشاء كذلك حتى يحتجب عنهم، فإذا رجعوا إلى أهليهم وزوجاتهم من الحور العين قالوا: لقد ازددتم بعدنا نعيماً. فيقولون: وكيف لا وقد لقينا ربنا أو رأينا ربنا. وفسِّر بذلك قول الله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ} [يونس:26] ، فالزيادة فسِّرت بأنها النظر إلى الله تعالى، (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى) يعني الجنة، (وَزِيَادَةٌ) يعني النظر إلى وجه الله تعالى، فسّرها بذلك كثير من السلف، وروي ذلك مرفوعاً، وفسّرها بذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه وغيرهم. ثم قال: (وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ) ، يعني: ومتى نظروا إلى ربهم فلا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة. والقتر: هو الغبرة التي تكون على الوجوه، لقوله تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس:40-41] ، فالحاصل أن هذا أكمل وأشرف نعيم أهل الجنة. والذين أنكروا ذلك كأنهم حرموا أنفسهم أعظم لذة وأعظم نعيم يتنعم به أهل الجنة، وادعوا أن ذلك يكون تنقصاً لله تعالى، وأنه وصف له بوصف الحوادث أو المركبات أو ما أشبه ذلك، فالحاصل أنا نؤمن بجواز الرؤية من العباد لله تعالى في يوم القيامة، يرونه إذا نزل لفصل القضاء، ووجوبها لمن جعل الله ذلك لهم ثواباً في الآخرة، على أن ذلك من نعيم أهل الجنة، واستدل بهاتين الآيتين، الأولى: قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ، فاللفظة الأولى كُتبت بالضاد (نَاضِرَةٌ) من النضارة التي هي البهاء والسرور، كما في قوله تعالى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان:11] أي: بهاءً وزينة وجمالاً، لماذا؟ لأن تلك الوجوه نظرت إلى ربها فازدادت نضارة وحسناً، ولهذا قال: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} وهذه الأخيرة كتبت بالظاء أخت الطاء من النظر الذي هو المعاينة، أي: تنظر إلى ربها. فهي دليل واضح، فالله تعالى ذكر الوجوه لأن أثر النضارة يظهر على الوجه من إشراق الوجه وسروره، فإذا لقي ما يسره أشرق الوجه وأسفر، والأعين لا شك أنها في الوجه، أي: بالوجه حقاً، لهذا وصف الله تعالى وجوههم بأنها ناضرة إلى ربها ناظرة. ثم استدل أيضاً بالآية الأخرى {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] ، وعيد للكفار أنهم يوم القيامة وفي النار محجوبون عن ربهم، والحجاب عذاب لهم، ولا شك أن هذا دليل على أن المؤمنين ليسوا بمحجوبين، فلو كانوا لا يرون الله تعالى لكان كل الخلق محجوبين عن ربهم، فلما حجب الكفار لكونه غضب عليهم دلّ على أن المؤمنين لا يحجبون عنه لكونه رضي عنهم. قال المصنف رحمه الله: [فلو كان المؤمنون كلهم والكاف

حكم استخدام لفظ التجسيم ونحوه في العقيد

حكم استخدام لفظ التجسيم ونحوه في العقيد قال المصنف رحمه الله تعالى: [وذلك من غير اعتقاد التجسيم في الله عز وجل، ولا التحديد له، ولكن يرونه جل وعز بأعينهم على ما يشاء هو بلا كيف] . كلمة (التجسيم) من الألفاظ المبتدعة التي لم ترد في الشرع إثباتاً ولا نفياً، وكان الأولى بالمؤلف أن لا يذكرها لأنها من جملة ما يحتجون به، حيث إنهم يقولون: إن الله تعالى ليس بجسم، وإذا لم يكن جسماً فكيف يُرى. ويقولون: إن إثبات الرؤية يلزم منه أن يكون جسماً. ويقسمون الموجودات إلى جواهر أو أعراض، والعرض هو ما ليس له جُرْم، والجسم ما له جُرْم، ونحو ذلك. والصحيح أن كلمة التجسيم لا يجوز استعمالها، فمن قال: إن الله جسم فهو مبتدع، ومن قال: إن الله ليس بجسم فهو مبتدع. يقول المعلق هنا: (التجسيم من الألفاظ المجملة المحدثة التي أحدثها أهل الكلام لم ترد في الكتاب والسنة، ولم تعرف عن أحد من الصحابة والتابعين وأئمة الدين، وما كان أغنى المؤلف رحمه الله عن مثل هذه الكلمات المبتدعة، لذلك لا يجوز إطلاقها لا نفياً ولا إثباتاً، فإن الله لا يوصف إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله نفياً أو إثباتاً) . يُنكر على من استعمل لفظة التجسيم إثباتاً أو نفياً. وقد تكلم على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في (المنهاج) وفي غير ذلك من كتبه، وأنكر على من يستعمل هذه الكلمات، ولما جادله بعض الأشاعرة قالوا له: يلزمك إذا قلت: إن الله يسمع لا كسمع المخلوق، وأن لله حياة لا كحياة المخلوقين، وإن لله علماً لا كعلم المخلوقين، وإن لله وجهاً لا كوجوه المخلوقين يلزمك أن تقول: إن لله جسماً لا كأجسام المخلوقين. فاعتَرضَ على ذلك وقال: لفظة التجسيم ليس عليها دليل في الكتاب ولا في السنة، فلأجل ذلك ننكرها ولا نقول: إن الله جسم ولا إنه غير جسم، كما لا نقول: عرض ولا غير عرض، وكما لا نقول: جوهر ولا غير جوهر. وكذلك كلمة (الحد) فالتحديد من العلماء من أطلقه وقال: إن لله تعالى حَداً. ومنهم من قال: ليس لله حد. والأولى التوقف في الأشياء التي لم يرد عليها دليل، والذين أثبتوا الحد لله أرادوا بذلك الرد على من ادعى أن الله تعالى في كل مكان وقالوا: ليس لله حد ولا منتهى. فمن أجل أن يبطلوا قول هؤلاء الملاحدة الذين يدعون أو يصفون الله تعالى بأنه في كل مكان، أو بأنه عين وجود الموجودات صرّح أهل السنة أو بعضهم بأن الله تعالى له حد، أي: له منتهى، ولكن الكلمات التي لم يرد عليها دليل الأولى عدم إطلاقها. وعلى كل حال فهذه المسائل -أي: مسألة النزول والرؤية- من المسائل الاعتقادية التي يدين بها أهل السنة، ويعتقدون أنها على الحقيقة وإن لم يكيفوها، فيتوقفون عن التكييف ويثبتون المعاني ويثبتون الدلالات.

ملخص اعتقاد أهل السنة في الرؤية

ملخص اعتقاد أهل السنة في الرؤية مسألة رؤية المؤمنين لربهم في القيامة وفي الجنة من المسائل التي طال الجدال فيها والنزاع مع المعتزلة ومن على طريقتهم، وذلك لأن سلف الأمة وأئمتها عملوا بالسنة وبالأحاديث التي ثبتت عندهم في رؤية الله تعالى في الدار الآخرة، واعتقدوا ذلك اعتقاداً صحيحاً، واعتقدوه ديناً، واستدلوا عليه بالآيات وبالأحاديث الصريحة، وبالنقول عن السلف الصالح، وذكروا ذلك في معتقداتهم. فذكره الإمام الشافعي واستدل له بقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] ، وذكر الرؤية الإمام أحمد واستدل له بقوله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] ، وبالأحاديث، وذكرها الطحاوي في عقيدته، والإسماعيلي في هذه العقيدة، والدارمي في مقدمة سننه، وعثمان بن سعيد في رده على الجهمية، وأكثر أئمة السلف الذين لهم مؤلفات نصوا على الرؤية وأثبتوها، وخالفهم في ذلك المعتزلة ومن على شاكلتهم. وكان من جملة ما استدلوا به قول الله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] ، فيرددون هذه الآية دليلاً على أنه لا يُرى، وقد استدل بها أهل السنة على أنه يُرى، حتى الأشاعرة جعلوها دليلاً على إثبات الرؤية، وقالوا: إن الإدراك شيء زائد على الرؤية، فإنه لم يقل: لا تراه. بل قال: (لا تدركه) ، والإدراك هو إدراك الماهية وليس هو الرؤية. وذكر عن ابن عباس أنه سُئل عن هذه الآية فقال: ألست ترى القمر؟ قال: بلى. قال: أكله؟ قال: لا. قال: فذلك الإدراك. فنحن نرى القمر ولكنا نرى ما يقابلنا منه، ونراه أيضاً صغيراً مع أنه كبير، ومع ذلك لا ندرك ماهيته، ولا ندرك من أي شيء هو، هل هو تراب أو حجارة؟ لا ندري ما هيته، فذلك هو الإدراك. والمعنى أن الأبصار إذا رأته فإنها لا تحيط به. الحاصل أن الآية دليل على إثبات الرؤية، كأنه يقول: متى رأته الأبصار فإنها لا تحيط به، وذلك دليل على عظمته وكبريائه، فأصبحت الآية دليلاً لأهل السنة لا دليلاً عليهم. وأكثر ما يتشبث به المعتزلة ونحوهم دليل العقل، حيث جعلوا العقل دليلاً، وقالوا: إن إثبات الرؤية يستلزم المقابلة، ويستلزم تحديق الأبصار وتقليبها نحو الخالق، أن يكون في جهة مقابلاً للناظرين، وهذا -في زعمهم- من المحال. وليس فيما أخبر الله شيء تحيله العقول، بل كل ما أخبر الله به فإنه تقره العقول السليمة. فالحاصل أن إثبات رؤية الله تعالى في الدار الآخرة هو قول أهل السنة ولا عبرة بقول أهل البدع.

الأسئلة

الأسئلة

عقيدة أهل السنة في رؤية النبي لربه

عقيدة أهل السنة في رؤية النبي لربه Q هل رأى الرسول صلى الله عليه وسلم ربه أم لم يره؟ A هذه من المسائل التي اختلف فيها السلف؛ فروي عن ابن عباس إثبات الرؤية، وروي عن عائشة إنكارها بشدة، ولما سألها بعض التابعين: هل رأى محمد ربّه قالت: (لقد وقف شعري مما قلت) ، ثم ذكرت أنه ما رأى ربه في الدنيا، ثم استدل عليها بآية في سورة النجم {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:13] ، وآية في سورة التكوير {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير:23] فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين) ، فالضمير في {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير:23] يعود إلى ملك الوحي، وهذا هو القول الصحيح أنه ما رآه في الدنيا، وذلك لأن الله تعالى منع موسى من الرؤية، وأخبر أنه لا يثبت أمام رؤيته كما لم يثبت الجبل، وأن خِلقة الإنسان في الدنيا لا تمكنه من الثبوت لجلال الله تعالى وعظمته. وورد أيضاً في صحيح مسلم حديث أبي ذر: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ فقال: نور أنى أراه) ، وفي رواية: (رأيت نوراً) . فأثبت أن هناك نوراً يمنع أن يتمثّل الإنسان أمام هذا النور، وقد ذكرنا قوله عليه الصلاة والسلام: (حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) . فالراجح أنه ما رأى ربه، والأحاديث التي فيها أنه رآه محمولة على أنها رؤيا منامية، والرؤيا المنامية لا تدل على أنها رؤيا حقيقية.

رؤية الله في المنام

رؤية الله في المنام Q هل من الممكن رؤية الله في المنام، وهل ثبت أن أحداً السلف رأى الله؟ A الرؤية في المنام واقعة، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر بقوله: (رأيت ربي في أحسن صورة) ، وذكر أنه وضع يده على صدره وقال: (حتى وجدت برد أنامله بين صدري) ، وهذا تمثيل، والرؤيا المنامية إنما هي خيال، ولا يلزم منها أن يكون ذلك الذي رؤي مشابهاً لله تعالى، فالإنسان يتخيل أنه رأى في المنام ربه وأنه تهيأ له بكذا وكذا، ولكن لا يلزم أن يكون الرب مماثلاً لتلك الرؤيا أو لذلك الشيء الذي تمثّل أمام ذلك الرائي.

رد الاستدلال بحديث: (رداء الكبرياء على وجهه) على منع الرؤية

رد الاستدلال بحديث: (رداء الكبرياء على وجهه) على منع الرؤية Q يستدل منكروا الرؤية بهذا الحديث: (جنتان من فضة) إلى أن قال: (وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه) . A الحديث صحيح، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن) . فما بينهم وبين أن ينظروا إليه إلا هذا الرداء، ولكن لا شك أنه يكشف هذا الرداء إذا شاء لعباده ويتجلى لهم كما يشاء فينظرون إليه. وجاء في الأحاديث أنه يتجلى لهم وأنه يكشف عنه الحجب، فهذا دليل واضح، وفيه أنه يتجلى لهم، وأن هذا الحجاب الذي هو رداء الكبرياء يكشفه إذا شاء.

رؤية الرجال والنساء لله في الجنة

رؤية الرجال والنساء لله في الجنة Q ذكر في الحديث أن أهل الجنة يرون الله تعالى، ثم يرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا جمالاً، فهل معنى هذا أن أهليهم لا يرون الله تعالى؟ وهل يعني هذا أن الرؤية خاصة بالرجال دون النساء؟ A الحديث ورد في ذكر الحور العين اللاتي خلقن في الجنة، ولكن نساء الجنة لهن أيضاً حظ من النعيم، فلا بد أن يكون لهن رؤية كما يشاء الله، وإن لم تكن محددة، وعلى كل حال فأهل الجنة رجالهم ونساؤهم لا بد أنهم يتنعمون بما يكون لذة لهم كما يشاء الله.

الجمع بين حجب الله للكافرين وبين حسابه لكل الخلق

الجمع بين حجب الله للكافرين وبين حسابه لكل الخلق Q كيف نجمع بين قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) ؟ A الخطاب للمؤمنين، أخبر -أنكم أيها المؤمنون الذين يخاطبهم- سيحاسبكم ربكم ويكلمكم ولا يحتجب عنكم، فإما أن يكون المراد أنه يخاطب العباد ويكلمهم دون أن يحتاج إلى مترجم يترجم كلامه بل يكلمهم بما يفهمونه، وإما أنه يكلم كلاً منهم، فإن كان عاماً بمعنى: ما منكم من أحد -أيها الخلق- إلا سيكلمه فلا يلزم أن يكون متجلياً لهم، بل يكلمهم ولو كان محتجباً عنهم، وإن كان الخطاب للمؤمنين فلا يبعد أنه يكشف الحجاب لهم ويخاطبهم، ويراهم ويرونه كما يشاء.

أجر احتساب الولد الواحد عند الله تعالى

أجر احتساب الولد الواحد عند الله تعالى Q من مات له ولد هل يدخل تحت حديث جابر رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من مات له ثلاثة من الولد فاحتسبهم دخل الجنة. قال: قلنا: يا رسول الله! واثنان؟ قال: واثنان) ، قال أحد رواة الحديث لـ جابر: أراكم لو قلتم: وواحد لقال: وواحد. قال: (وأنا والله أظن ذاك) ، فهل يدخل ذلك في هذا الحديث؟ A لا شك -إن شاء الله- أن من ولد له أولاد ذكور أو إناث ثم ماتوا أن الله تعالى يجزيه على صبره واحتسابه، حيث إن الله ركز حب الولد ذكوراً وإناثاً في قلوب الأبوين، فإذا مات وأحس بالمصيبة وصبر واحتسب أجره الله تعالى على قدر ما أصابه، ولو كان واحداً؛ لقولهم في الحديث: (ثم لم نسأله عن الواحد) . فليصبر المصاب وليحتسب فيجد أجر المصيبة عند الله تعالى.

موقف أهل السنة من بدعة المولد

موقف أهل السنة من بدعة المولد Q نحن أهل بلد يكثر فيه بدعة الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم وإلقاء القصائد مع ذلك، ونحن نعلم قبح هذا العمل، ولكن لا نستطيع فعل شيء، فما موقفنا من هذا؟ A لا شك أنها بدعة منكرة ابتدعت في القرن الرابع، والذين ابتدعوها هم الرافضة، ثم استمر العمل بها في الجهلة من غير الرافضة ممن يتسمون بالسنة، وسبب ذلك الجهل بالسنة الحقيقية، حتى استحسنها كثير ممن ينتمي إلى العلم، ولكن في القرون المتأخرة في القرن التاسع وما بعده تمكنت، ولا تزال متمكنة في كثير من البلاد، يحتفلون في ليلة الثاني عشر من شهر ربيع الأول، ويجتمعون ويقرؤون سيرة الرسول، ويدعي بعضهم أنه يحضرهم ويسمع كلامهم ويقرهم على ذلك، ثم ربما فعلوا شيئاً من المنكرات كالاختلاط بين الرجال والنساء، أو شيئاً من الأشعار واللهو الذي قد يكون فيه مبالغة في المدح والإطراء والغلو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم. فنقول: عليكم أن تنكروا على هؤلاء بحسب ما تستطيعون، فتسألونهم: هل هذا الاجتماع وإحياء هذه الليلة فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم يفعله؟ فلا بد أن يقولوا: ما فعله فهل فعله الخلفاء الراشدون الذين أُمرنا بالاقتداء بهم؟ فلا بد أن يقولوا: ما فعلوه فهل فعله السلف الصالح من أهل القرون المفضلة؟ فلا بد أن يقولوا: ما فعلوه. فإذاً لا بد أن يكون بدعة؛ حيث إنه ما فعل إلا بعد القرون المفضلة. ثم لا شك أنه ولو كان عملاً صالحاً، ولو كانوا يقرؤون القرآن والسيرة النبوية ويصلون على النبي ونحو ذلك فإنهم إما أن يقولوا: إنهم خير من السلف. أو: إن السلف خير منهم. فإذا اعترفوا بأن السلف خير منهم فكيف فاتتهم هذه العبادة التي جئتم بها بعدهم بعدة قرون، لعلكم بذلك تخالفونهم. وإذا لم تقدروا على نصحهم فعليكم أن تعتزلوهم في تلك الليلة وتشتغلوا بشيءٍ ينفعكم إما بتعلم علم أو نحو ذلك، أو تتفرقوا وتتركوهم حتى يشعروا بذلك، ولعلكم أيضاً تقرؤون عليهم بعض ما كُتِب في هذا الموضوع.

حكم دخول المقبرة بالنعال

حكم دخول المقبرة بالنعال Q هل يجوز دخول المقبرة بالنعال، وكيف نوفق بين ذلك وحديث: (إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم) ؟ A ورد فيه حديث بشير بن الخصاصية يقول: إنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يمشي وعليه سبتيتان -نوع من النعال- فقال: (يا صاحب السبتيتين اخلع سبتيتيك) ، رواه أبو داود وغيره. فاستُدل بهذا على أنه لا يجوز المشي بالنعال بين المقابر، ولكن يظهر أن تلك النعال السبتية لها خصوصية، وهي نوع من النعال، وأنه ما أمره بخلعها إلا لشيءٍ خاص، إما أن فيها نجاسة، وإما أنها صنعت من جلد ميتة أو نحو ذلك، فالحاصل أن هذا وإن أخذه بعض العلماء على ظاهره فالأظهر أنه لا يدل على المنع، والدليل الحديث المشهور عن البراء في قوله صلى الله عليه وسلم لما ذكر الميت وأنه يعذب وأنه يأتيه الملكان ونحو ذلك قال: (فإذا انصرفوا عنه وإنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان) ، فذكر أنه يسمع قرع نعالهم، فدل على أنهم يلبسون النعال، وهذا هو المشهور، أنه لا بأس بلبس النعال والأحذية ما عدا الأحذية التي فيها نجاسة أو ما أشبه ذلك مما يشبه السبتية.

حكم اختلاء عدة نساء بسائق السيارة

حكم اختلاء عدة نساء بسائق السيارة Q ما حكم ذهاب المرأة لوحدها مع سائق أجنبي داخل المدينة؟ وما الحكم إذا كان عدد النساء اثنتين فما فوق، وما حكم ذهاب النساء إلى الحفلات التي تقام في الفنادق؟ A يكاد يستدعي هذا توسعاً، ولكن نقول: على المرأة أن تتحفظ وتتثبت وتعمل بما أمرها الله، قال الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] ، فلا تذهب إلا لأمر ضروري، وكونها -مثلاً- تضطر وتذهب إلى الأسواق إذا كان هناك ضرورة ولم تجد من يقوم مقامها ولا من تبعثه لقضاء أو لشراء غرض تحتاجه فلا بأس بدخولها الأسواق، أما ركوبها مع السائق فلا يجوز ذلك على الإطلاق؛ لحديث النهي عن الخلوة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان) ، فإن كان هناك ضرورة كذهابها إلى المستشفى لمرض أو نحو ذلك فيكون بقدر الحاجة، والأولى أن تركب معها امرأة أخرى، ولو إحدى جيرانها أو قريباتها، فإذا ذهبت إلى السوق أو المستشفى ولم تجد محرماً وكان ذلك لضرورة تستصحب معها امرأة أخرى حتى لا يحصل الانفراد ولا تحصل الخلوة، ولأنه إذا كانتا اثنتين أو ثلاثاً كان ذلك أبعد عن الريبة والتحدث مع السائق أو تحدث السائق معها أو نحو ذلك. وأما ذهابها إلى بيوت الحفلات فلا يجوز إذا كان فيها منكر، وأما إذا لم يكن فيها منكر فلعل ذلك مباح وجائز، وهو مما اعتيد عليه إذا كانت بيوت الحفلات والأعراس ونحوها فيها اجتماع نساء وليس فيها رجال، والأغاني التي فيها ليست أغاني تشبيب ونحو ذلك، وليس فيها طبول وإنما فيها الدف الذي أمر بضربه، فلعل ذلك مما يتسامح فيه.

شرح اعتقاد أهل السنة [9]

شرح اعتقاد أهل السنة [9] مما يميز عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يجمعون بين الأدلة، ويأخذون بها كلها، وهذا ما ينتج لهم القول الحق، وأما أهل البدع فإنهم يأخذون بجهة واحدة من الأدلة، مما ينتج عنه الابتداع في الدين والخطأ في كلام رب العالمين، ومن زللهم في المسائل: تعريفهم للإيمان بالتصديق، فأخذوا جانب اللغة وتركوا جانب الشرع، ثم تتابعت على هذا التعريف أخطاؤهم، ثم أتى من أخرج العصاة من الإيمان إلى الكفر، وأما أهل السنة فهم عندهم مؤمنون بإيمانهم فاسقون بعصيانهم.

حقيقة الإيمان عند أهل السنة وغيرهم

حقيقة الإيمان عند أهل السنة وغيرهم قال الشيخ الحافظ أبو بكر الإسماعيلي رحمه الله تعالى في بيان اعتقاد أهل السنة: [ويقولون: إن الإيمان قول وعمل ومعرفة، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ومن كثرت طاعته أزيد إيماناً ممن هو دونه في الطاعة. ويقولون: إن أحداً من أهل التوحيد ومن يصلي إلى قبلة المسلمين لو ارتكب ذنباً أو ذنوباً كثيرة صغائر أو كبائر مع الإقامة على التوحيد لله والإقرار بما التزمه وقبله عن الله فإنه لا يكفر به، ويرجون له المغفرة، {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] . واختلفوا في متعمد ترك الصلاة المفروضة حتى يذهب وقتها من غير عذر، فكفره جماعة؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة) ، وقوله: (من ترك الصلاة فقد كفر) ، و (من ترك الصلاة فقد برئت منه ذمة الله) ، وتأول جماعة منهم أنه يريد بذلك من تركها جاحداً لها، كما قال يوسف عليه السلام: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [يوسف:37] ترك جحود الكفر، وقال كثير منهم: إن الإيمان قول وعمل] .

تعريف الإيمان عند أهل السنة

تعريف الإيمان عند أهل السنة هاهنا ذكر تعريف الإيمان، حيث اختلف الناس في تعريفه، فذهبت المرجئة إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب فقط، وغلاتهم قالوا: إن الإيمان هو المعرفة. وذهب أهل السنة إلى أن الإيمان قول وعمل ومعرفة يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهناك مذاهب أخرى لا دليل عليها. ومما هو معلوم أن الإيمان من الألفاظ الشرعية التي استعملها الشرع ونقلها من معناها اللغوي إلى معنىً اصطلاحي شرعي، فأصبحت من الألفاظ الشرعية التي جاءت في لسان الشرع لمعنىً زائد عن المعنى اللغوي، وصحيح أن معناه في اللغة التصديق، مثل قوله تعالى عن إخوة يوسف: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف:17] ، أي: بمصدق لنا. ومنه أيضاً تفسير الإيمان في حديث جبريل المشهور: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر) فالإيمان هنا هو التصديق بهذه الأشياء. فإذاً الإيمان في اللغة هو التصديق، ولكن الشرع الشريف أضاف إليه الأعمال والأقوال فجعلها إيماناً، فأصبح الإيمان عاماً للأعمال، فالأعمال البدنية والقولية والعقلية القلبية والمالية كلها داخلة في مسمى الإيمان شرعاً، هذا هو قول أهل السنة.

تعريف الإيمان عند المخالفين لأهل السنة

تعريف الإيمان عند المخالفين لأهل السنة الذين قالوا: إن الإيمان هو التصديق يسمون (مرجئة الفقهاء) ، وأكثرهم من الحنفية، حيث يذكرون أن الإيمان عندهم هو ما كان عليه في اللغة من أنه التصديق، ويقولون: إن اللسان العربي يدل على هذا. ولكن يلزم من هذا محاذير وذلك أنه يلزم منه تسوية الناس في الإيمان، فما دام أن كلهم مؤمنون فلا يكون بينهم فرق في الإيمان، فيكون إيمان أجلاء الصحابة كإيمان أطرف الناس، وهذا فيه تسوية بين المتفاوتات، ومعلوم أن إيمان الصديق والفاروق وعثمان وعلي وسائر الصحابة رضي الله عنهم أقوى من إيمان غيرهم ممن جاء بعدهم ومن إيمان أهل هذا الزمان الذين في إيمانهم تزعزع وضعف، والدليل عليه أن إيمانهم الذي هو إيمان راسخ حَمَلَهم على الأعمال، والهجرة، والصبر على الأذى في ذات الله، والجهاد في سبيل الله، والإنفاق في مرضات الله تعالى، والاجتهاد في سبل الخير والأعمال الخيرية، فذلك دليل على أنه أقوى من إيمان غيرهم من سائر الناس، فهذا من حيث الإيمان الذي في القلب.

أدلة دخول العمل في مسمى الإيمان

أدلة دخول العمل في مسمى الإيمان إذا نظرنا في الأدلة وجدنا أن الله تعالى سمى كثيراً من الأعمال البدنية والمالية إيماناً، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:2-4] ، فهذه خمس خصال: منها ثلاث من الأعمال القلبية، وهي قوله تعالى: (إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) ، وواحدة مِن أعمال البدن وهي إقام الصلاة، وواحدة عبادة مالية وهي: النفقة (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) ، فهذه كلها جعلها الله تعالى من الإيمان. ومثل ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:15-16] ، فهذه كلها جعلها الله علامة على الإيمان، يعني: إنما المؤمنون حقاً هم الذين يفعلون هذه الأشياء. فهذا كله دليل على أن هذه الأعمال من الإيمان. ومثلها قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15] ، جعل هذه كلها من الإيمان، وأشباه ذلك من الآيات، ولا شك أن هذه أدلة على أن الأعمال من مسمى الإيمان. وقد وردت السنة بذلك، ففي الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول (لا إله إلا الله) ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) ، فانظر كيف ذكر ثلاث خصال: خصلة قولية: (قول لا إله إلا الله) ، وخصلة فعلية: (إماطة الأذى عن الطريق) ، وخصلة قلبية: (والحياء من الإيمان) . هذه أدلة على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، ولذلك اتفق السلف من أهل السنة على تعريف الإيمان بمثل ما ذكر الإسماعيلي، فقالوا: الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان. فالقول الذي باللسان يدخل فيه الذكر، والدعاء، والقراءة، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويدخل فيه كل الأعمال القولية التي باللسان. والاعتقاد بالجنان يدخل فيه الأعمال القلبية، فيدخل فيه الخوف والرجاء والتوكل والرغبة والرهبة والخشوع والخشية والإنابة والحياء إلى آخر أعمال القلوب، وهي كثيرة وكلها من الإيمان. وكذلك أيضاً الأعمال البدنية كالركوع والسجود، والقيام والقعود، والجهاد والقتال في سبيل الله تعالى، وكذلك الصيام، والطواف بالبيت والوقوف بشعائره، وما أشبه ذلك من الأعمال البدنية كلها داخلة في مسمى الإيمان؛ لأنها من الأعمال المندوبة المأمور بها. وكذلك أيضاً الأعمال المالية، وإن لم يذكروها في التعريف لدخولها في الأعمال البدنية؛ لأن المال يكتسب غالباً بالبدن، فإذا أنفق في سبيل الله فإن ذلك عمل صالح، فالزكوات والصدقات من الإيمان، والتوسعة على ذوي الحاجات وكفالة الأيتام من الإيمان، والنفقة في وجوه البر كعمارة المساجد ونشر العلم وكل ما يصرف فيه المال بما هو قربة إلى الله تعالى فإنه من الإيمان؛ لكونها أعمالاً صالحةً يحبها الله تعالى. فلا شك أن الإيمان أصبح بذلك مسمىً شرعياً بعد أن نقله الشرع إلى هذا المسمى، كما أن الشرع نقل الإسلام، فالإسلام في اللغة: الإذعان والانقياد والاستسلام لمن يقود الإنسان. فنقله الشرع إلى أن أصبح اسماً لأركان الإسلام الظاهرة، وهي الشهادتان والصلاة والزكاة والصوم والحج وما يلحق بها. وهكذا نقل الإحسان؛ إذ الإحسان في اللغة: اسم لإيصال الخير إلى الغير. ولكن نقله الشرع وجعله عبادة الله وحده وإصلاح العمل له، (أن تعبد الله كأنك تراه) ، فتصدق الشرع في هذه الكلمات، فيقال -مثلاً-: هذه الكلمات لها تعريف في اللغة وتعريف في الشرع، كما أن أضدادها أيضاً لها تعريف في اللغة وتعريف في الشرع، فالشرك تعريفه في اللغة: الاشتراك بين اثنين في استحقاق. وتعريفه في الشرع: دعوة غير الله مع الله. والتوحيد له تعريف في اللغة، وهو: الفرد الواحد. أي: ذكر شخص واحد مفرد. وتعريفه في الشرع: إفراد الله تعالى بالعبادة. وكذلك الفسوق أصله في اللغة: الخروج. ويطلق في الشرع على العصيان، أي: الخروج عن طاعة الله تعالى. وكذلك النفاق تعريفه في اللغة: الإخفاء وتعريفه في الشرع: إظهار الإيمان وإخفاء الكفر. فكذلك نقول: إن هذه اللفظة: -الإيمان- نقلها الشرع وسماها بهذا الاسم.

بيان مفاسد مذهب مرجئة الفقهاء في الإيمان

بيان مفاسد مذهب مرجئة الفقهاء في الإيمان إن الذين قالوا: إن الإيمان هو التصديق، يسوون بين الناس فيه، فيقولون: إيمان أفسق الناس كإيمان الملائكة وأكابر الصحابة. فعلى هذا لا فرق عندهم في الإيمان بين هذا وبين هذا، والناس كلهم سواء في هذا الإيمان، ولا شك أن في هذا تسهيلاً في المعاصي؛ لأنه إذا عرف أن المعاصي لا تضره وأن إيمانه كامل فإنه -ولابد- سوف يتساهل بأمر الله، فيفعل ما يستطيعه من الذنوب، فيشرب الخمور، ويسمع الأغاني، ويأكل الربا، ويقتل، ويفسق، ويزني، ويفجر، ويكذب، ويفعل كل المعاصي ويقول: إيماني كامل ما دام أن هذه ليست من الإيمان، فالإيمان الذي في القلب موجود. ويقولون: إن أهله في أصله سواء، فيعتقد أن إيمانه كامل، وهذا ما حمل كثيراً منهم على الانهماك في المعاصي، وهم الذين يسمون (المرجئة) ، وما أكثر الذين أنكروا عليهم وردوا عليهم قولهم حيث اعتقدوا أن الإيمان شيء واحد وأن أهله فيه سواء، فعند ذلك صاروا يعتمدون على واسع الرحمة وكرم الله، حتى قال قائلهم: فكثر ما استطعت من المعاصي إذا كان القدوم على كريم كأنه يبيح لهم المعاصي، بل يأمرهم بتكثيرها.

سبب تسمية المرجئة

سبب تسمية المرجئة قيل: إنهم سموا (مرجئة) لأنهم أرجأوا الأعمال عن مسمى الإيمان. أي: أخروها. قال تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} [الأحزاب:51] يعني: تؤخر. فسموا (مرجئةً) ؛ لأنهم أرجأوا -أي: أخروا الأعمال- عن مسمى الإيمان، ولا شك أن هذا تهاون بالأسماء الشرعية. وقيل: إنهم سموا (مرجئة) ؛ لأنهم غلبوا باب الرجاء. أي: أنهم اعتمدوا على أحاديث الرجاء، حيث جاء في القرآن آيات في تغليب الرجاء، وجاء فيه آيات في تغليب الخوف أو في الأمر بالخوف، وقد تكلم العلماء على آيات الرجاء وآيات الخوف وقالوا: ينبغي للإنسان في حالة النشاط والقوة أن يغلب جانب الخوف وأن يكثر من الأعمال الصالحة، ويهرب من السيئات، ويخاف من التفريط والإهمال، ويكون دائماً خائفاً فزعاً يحذر عذاب الله ويخشى نقمته وعقوبته، أما إذا نزل به الأمر وحضره الأجل فيفضل أن يغلب جانب الرجاء حتى يقدم على ربه تعالى وهو يحسن الظن به، كما ورد في الحديث: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه) . وذهب بعضهم إلى أنك في حالة الدنيا تعمل بهما جميعاً، أي: تعمل بالخوف وبالرجاء، فلا تغلب الرجاء فتكون من المرجئة، ولا تغلب الخوف فتكون من الوعيدية كالخوارج والمعتزلة، بل تتوسط، والتوسط بينهما أن يكون دائماً خائفاً راجياً، واستدل على ذلك بالآيات التي فيها الجمع بينهما، كقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57] فجمع بينهما (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ) ، هذا في جانب الرجاء، فقال: (وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ) ، هذا في جانب الخوف. وهكذا أيضاً يذكر الله آية الرجاء ثم آية الخوف، قال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد:6] انظر كيف جمع بينهما، وقال تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر:3] أتبع العقاب بالمغفرة، وقال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49-50] ، فجمع بينهما في آيتين متتابعتين. والحكمة في ذلك أن يكون المؤمن في حياته جامعاً بينهما، فإذا تذكر عذاب الله تعالى خاف خوفاً شديداً وأكثر من الأعمال الصالحة، وإذا تذكر سعة رحمة الله تعالى رجاها وعمل الأعمال الصالحة التي تدفعه إلى رضى الله تعالى وتؤهله لأن يكون من أوليائه. وقد ورد في الأثر أن من كبائر الذنوب الأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله، وكلها مأخوذة من القرآن، فالقنوط في قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] ، وفي قوله تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87] ، فاليأس هو قطع الرجاء، وكذلك القنوط هو قطع الرجاء بالكلية من رحمة الله تعالى، فلو قدر -مثلاً- أن إنساناً شب على الذنوب وأكثر منها وحمل نفسه ما لا تطيق من السيئات فإنه مع ذلك لا يقنط ولا يقل: أنا قد عملت سيئة كبيرة فلا يمكن أن تنالني الرحمة، وأنا مقدم على النار، وأنا سأصبر على النار حيث إني عملت كذا وكذا من السيئات وعملت من الكفر والتكذيب كذا وكذا. فيقطع الرجاء ولا يجوز له ذلك، بل عليه أن يستحضر رحمة الله تعالى ويرجوه حتى يرحمه ربه. وكذلك أيضاً قسم آخر ذكروه في قول الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] ، فالأمن من مكر الله أيضاً من كبائر الذنوب، وذلك لأن هؤلاء الذين ينهمكون في المعاصي ويكثرون منها ولا يخافون نقمة الله ولا بطشه ولا عذابه يعتبرون كأنهم آمنين، كأن عندهم صك أمان أنهم لا يدخلون النار، أو صك أمان أنهم لا يعذبون وأنهم آمنون من غضب الله تعالى ونقمته.

أدلة زيادة الإيمان ونقصانه

أدلة زيادة الإيمان ونقصانه ذكر أهل السنة في تعريف الإيمان أنه يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وقد جاءت الأدلة على زيادة الإيمان، قال الله تعالى: {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] ، ولا شك أن هذا دليل صريح على أن هذه المقالة زادت إيمانهم، وكذلك قوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2] ، وقوله تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المدثر:31] ، وهذا صريح في أنه يزيد إيمانهم، وكذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] ، صريح في أن السكنية زادت إيمانهم، وقوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [التوبة:124] . يقول العلماء: كل شيء يقبل الزيادة فإنه يقبل النقصان. فإذا كان الإيمان يزيد فإنه ينقص، فالطاعات تزيده والمعاصي تنقصه، فالركعات النوافل يزيد بها الإيمان، والصدقة ولو بقليل يزيد بها الإيمان، والكلمة الطيبة يزيد بها الإيمان، والدعوات التي يدعو بها العبد ربه يزيد بها إيمانه، والاعتكاف ولو ليلة -مثلاً- في مسجد، وكذلك حج أو عمرة أو تقرب إلى الله بطواف أو جهاد في سبيل الله أو نفقة في وجوه الخير يزيد به الإيمان، وبضد ذلك ينقص الإيمان، فالرجل -مثلاً-: إذا مشى إلى المساجد زاد إيمانه، وإذا مشى إلى أماكن الرقص واللعب نقص إيمانه، وإذا أنفق في سبيل الله أو في وجوه الخير زاد إيمانه، وإذا أنفق في الباطل والملاهي والأغاني ونحوها نقص إيمانه، وإذا تكلم بدعاء أو بدعوة إلى الله تعالى زاد إيمانه، وإذا تكلم بسباب أو بلعن أو شتم أو عيب أو نحو ذلك نقص إيمانه، وإذا نظر في كتاب الله تعالى للاعتبار زاد إيمانه، وإذا نظر في الأفلام وفي الصور الخليعة ونحوها نقص إيمانه، وإذا استمع إلى الذكر وخشع قلبه زاد إيمانه، وإذا استمع إلى الغناء والملاهي وما أشبهها نقص إيمانه، وهكذا الضد بالضد. ولهذا ذكر البخاري في (كتاب الإيمان) من صحيحه عن معاذ أنه قال: (اجلس بنا نؤمن ساعة) ، فجعل ذكره وفكره وتعلمه إيماناً، فدل على أن هذا يضاف إلى الإيمان فيزداد به. وقد أخذوا النقص من الحديث المشهور الذي في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبِّ الرجل العاقل من إحداكن) ، فوصف النساء بنقص الدين، والدين هو الإيمان، فمن كثرت طاعته لا شك أنه أزيد ممن نقصت طاعته. فالطاعات التي هي العبادات يكون صاحبها أكثر إيماناً من صاحب المعاصي، فمن يصلي النوافل ويحافظ على الرواتب لا شك أنه أزيد إيماناً من الذي يقتصر على الفرائض، والذي يسبح الله تعالى بعد كل صلاة ثلاثاً وثلاثين ويحمده ثلاثاً وثلاثين ويكبره ثلاثاً وثلاثين أفضل وأكمل إيماناً من الذي يسبح عشراً عشراً وأشباه ذلك، فكلما زادت الأعمال زاد بها الإيمان. ومسألة الإيمان مسألة طويلة، ولعله يأتينا فيها أيضاً زيادة كلام عند قوله: [إن الإيمان قول وعمل، والإسلام فعل] إلى آخره.

قول أهل السنة في أصحاب الكبائر

قول أهل السنة في أصحاب الكبائر أصحاب الكبائر هم أهل الذنوب الذين عملوا سيئات وذنوباً دون الكفر، كالذين يأكلون الربا، أو يزنون، أو يشربون الخمر، أو يقتلون النفس التي حرم الله، أو يأكلون أموال اليتامى، أي أنهم من يفعلون شيئاً من المعاصي، هؤلاء للناس فيهم ثلاثة مذاهب: ومذهب الخوارج: أنهم كفار. ومذهب المعتزلة: أنهم ليسوا مؤمنين ولا كفاراً، بل في منزلة بينهما. ومذهب أهل السنة: أنهم مؤمنون إيماناً ناقصاً.

أوصاف أهل القبلة

أوصاف أهل القبلة أهل التوحيد الذين يستقبلون القبلة ويتوجهون إليها ويعترفون بقبلة المسلمين وكل من كان من الأمة المحمدية الذين استجابوا لله تعالى لرسوله يسمون أهل القبلة، أي: أنهم في صلاتهم وذبائحهم يستقبلون القبلة، وأنهم يحنون إلى القبلة ويذهبون إليها حجاجاً وعماراً، فلذلك يسمون أهل القبلة، فهم يؤمنون بالله تعالى إلهاً ورباً وخالقاً، ويعبدونه ولا يعبدون غيره، ولا يصرفون شيئاً من عبادته ولا من حقه لمخلوق سواه، فهم أهل التوحيد، يقولون: (لا إله إلا الله) ويعملون بها. فلا يدخل في ذلك الذين يعبدون القبور -ويسمون القبوريين- فإنهم ليسوا من أهل التوحيد؛ لأنهم شابهوا قوم نوح الذين عبدوا وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً، وشابهوا قوم إبراهيم الذين كانوا يعبدون التماثيل ويعكفون لها، وكذلك الذين يعبدون الأشجار والأحجار، يتبركون بهذه الشجرة ويعتقدون فيها، أو يتبركون بهذا الغار أو بهذه الصخرة أو القبة أو العين أو ما أشبه ذلك ويعتقدون أنها تنفع وتشفع وتدفع وتفيدهم، فلأجل ذلك يتمسحون بها ويعكفون عندها ويأخذون تربتها، وربما أيضاً دعوها كدعاء المشركون العزى: يا عزى. يا عزى. فمثل هؤلاء ليسوا من أهل القبلة ولو صلوا وصاموا، وليسوا من أهل التوحيد؛ فلا يدخلون في هذا الباب، إنما الكلام في المسلمين من أهل التوحيد، ومن أهل القبلة وارتكبوا الكبائر.

قول الخوارج في أصحاب الكبائر والرد عليهم

قول الخوارج في أصحاب الكبائر والرد عليهم أصحاب الكبائر عند أهل السنة هم من فعلوا من الذنوب ما دون الشرك، فإننا لا نخرجهم من الإسلام ولا من الإيمان، بل نقول: إنهم مؤمنون ولكن إيمانهم ناقص. فنقول: مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ويسمى فاسقاً -أي: عاصياً- لأجل الكبيرة التي اقترفها، ويسمى ناقص الإيمان؛ لأن نقص إيمانه حمله على أن يفعل المعاصي ويترك الطاعات، فلذلك نقول: إنه لا يخرج بذلك من مسمى الإيمان. هذا هو قول أهل السنة. أما الخوارج فإنهم يكفرون العاصي أياً كانت معصيته، فيكفرون الذين يأكلون أموال اليتامى ويخلدونهم في النار، ويستبيحون قتلهم وسفك دماءهم ونهب أموالهم وسبي نسائهم، ويقولون: إن الله توعدهم بالنار، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء:10] . ومثل ذلك قذف المحصنات، فقد توعد الله عليه بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور:23-25] ، فيكفرونه إذا رمى محصناً أو محصنة، وأخرجوه من الإيمان وأدخلوه الكفر واستباحوا قتله. يقول العلماء عن الخوارج: إنهم يجعلون الذنب كفراً والعفو ذنباً، فمثل هؤلاء قد قاتلهم الصحابة وبدعوهم وشنعوا عليهم. ثم جاء المعتزلة فوافقوا الخوارج في بعض الأشياء، منها أن أهل الذنوب الذين يموتون عليها يخلدون في النار ولا يخرجون منها، فإذا مات وهو يأكل الربا، أو مات وهو يزني أو يسرق، أو يأكل مال يتيم من غير توبة، أو مات وقد قذف محصناً، أو تولى يوم الزحف، أو نحو ذلك من المعاصي فعند المعتزلة أنه خالد في النار لا يخرج منها، ولكنهم في الدنيا لا يعاملونه معاملة الكافر ولا معاملة المسلم بل هو في منزلة بينهما، هذه حالة المعتزلة. ونحن نقول: إن أحداً من أهل التوحيد وممن يصلي إلى القبلة لو ارتكب ذنوباً كبيرة مع الإقامة على التوحيد لله والإقرار بما التزمه وقبله عن الله فإنه لا يكفر، ولا نخرجه من الإيمان ولا ندخله في الكفر، ولا نقول: إنه يخلد في النار. بل: أمرهم في الآخرة إلى الله تعالى، إن شاء غفر لهم وأدخلهم الجنة، وإن شاء أدخلهم النار بحسب سيئاتهم وذنوبهم، ثم مآلهم بعد تكفير الذنوب إلى أن يخرجوا إما بشفاعة الشافعين وإما برحمة الله تعالى، وذلك إذا عُذبوا العذاب الذي يتحملونه بقدر ذنوبهم، ومن الأدلة على ذلك هذه الآية التي ذكرها الإسماعيلي: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] يغفر ما دون الشرك لمن يشاء، فقد جاءت هذه الآية في موضعين في سورة النساء، (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ) ، يعني: ما دون الشرك (لِمَنْ يَشَاءُ) ، إن شاء غفر لهم رحمة منه وفضلاً. وأدخلهم الجنة أول وهلة، وإن شاء أدخلهم دار العذاب للتطهير والتمحيص، كإدخال الحديد في كير الحداد حتى يصفيه مما فيه من الأدران والصدأ، فيدخلهم النار بقدر ذنوبهم ثم يخرجهم منها.

خلاف أهل السنة في تارك الصلاة

خلاف أهل السنة في تارك الصلاة

القائلون بكفر تارك الصلاة وأدلتهم

القائلون بكفر تارك الصلاة وأدلتهم قال المصنف رحمه الله: [واختلفوا في متعمد ترك الصلاة المفروضة حتى يذهب وقتها من غير عذر فكفّره جماعة] . منهم: عمر ومعاوية وابن مسعود وابن عباس وجابر وأبو الدرداء، ومن التابعيين: إبراهيم النخعي وابن المبارك والسختياني وابن راهويه وابن حنبل وابن أبي شيبة وغيرهم. وكذلك أيضاً من مشايخنا الذين أدركناهم: محمد بن إبراهيم وعبد الله بن حميد رحمهما الله يريان أنه يكفر، وكذلك شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز وابن عثيمين يريان أنه يكفر، وتجد فتاويهما، ولا شك أن هذا القول هو الذي تؤيده الأدلة، والأدلة عليه كثيرة. فمن القرآن قول الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59] قيل: إن (غيّا) ما ذكر من سيئاتهم أنهم اتبعوا الشهوات وأضاعوا الصلاة، وتوعدهم بغي، وكذلك قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:4-7] ، فتوعدهم بويل، قيل: إنه شدة العذاب وذكر من أعمالهم أنهم يصلون ولكن يؤخرون الصلاة عن وقتها ويراؤون بها. ومن الأدلة أيضاً أن الله حكى عن أهل النار حين قيل لهم: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر:42-46] ، فبدأوا أعمالهم بترك الصلاة. ومن الأدلة أيضاً قوله تعالى: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:43] يعني: في الدنيا. فيمتنعون مع قدرتهم، فهذا دليل على أنهم توعدوا في الآخرة بالعذاب. ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر المشهور: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) ، ولا شك أنه حديث صحيح مشهور، وكذلك أيضاً حديث بريدة في صحيح مسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر) ، وحديث: (من ترك الصلاة فقد برئت منه ذمة الله) . وفي صحيح البخاري: (من ترك العصر حتى يخرج وقتها فقد برئت منه الذمة) ، وفي رواية: (من ترك العصر حبط عمله) يعني: تركاً كلياً. وفي حديث آخر: (من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله ماله) ، وثبت في الصحيح عن عبد الله بن شقيق قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة. ولا شك أن هذه أدلة واضحة في أن من ترك الصلاة متعمداً وهو موقن بأنها فريضة الله ومعترف بذلك فإنه يعامل معاملة الكفر.

القائلون بعدم كفر تارك الصلاة وأدلتهم

القائلون بعدم كفر تارك الصلاة وأدلتهم هناك آخرون لا يكفرون تارك الصلاة، كـ الشافعي وجماعة من أصحابه لا يرون أنه كافر، ويقولون: إن الترك ليس هو الجحد ولكنه التهاون، أو أن المراد بتركها جحدها، وهناك فرق بين الترك والجحود. وقالوا: إن من جحد وجوبها فإنه يكفر ولو صلى، فلو رأينا إنساناً يصلي ولكنه يطعن في الصلاة ويقول: هذه الصلاة عبث، وهذه الصلاة مشغلة ولا فائدة فيها، ولا أهمية لها، وأنتم تصلون بدون فائدة، ولا حاجة إلى هذه الصلاة ويسب الصلاة ويتمنى أنها ما فرضت فنقول: إن هذا كافر ولو أنه يصلي، ما دام أنه ينكر فرضيتها وجوبها. فالحاصل أن هنا قولين: قول لأكثر العلماء المتقدمين والمتأخرين أن الصلاة تركها كفر. وقول أنه ليس بكفر ولكنه فسوق. والقول الراجح أنه إذا أصر على الترك، واستمر على ذلك، ثم صبر على القتل حتى قتل فإنه يحكم بكفره ويقتل كافراً. أما إذا تاب وأناب ودعي إلى الصلاة فاستجاب لها ولو كان قد تركها مدة فإننا لا نحكم بكفره.

قتل تارك الصلاة

قتل تارك الصلاة مذهب أهل السنة عدم التكفير بالذنوب ما لم تبلغ تلك الذنوب درجة الشرك، وأن الذنوب التي هي دون الشرك لا يكفرون بها ولا يخرجون صاحبها من الملة إذا كان من أهل القبلة، والمذاهب المخالفة مذهبان: الأول: مذهب الخوارج، وهم يكفرون أصحاب الذنوب ويخرجونهم من الإسلام ويدخلونهم في الكفر، ويستحلون دماءهم وأموالهم، ويحكمون بأنهم في النار مخلدين فيها. الثاني: مذهب المعتزلة، وهم يجعلونهم في منزلة بين المنزلتين في الدنيا، فلا يجعلونهم مؤمنين مسلمين يوالون أو يناصرون، ولا يجعلونهم كفاراً يقاتلون وتستحل دماؤهم، بل هم في منزلة بين المنزلتين، وأما في الآخرة فإنهم يحكمون بخلودهم في النار. أما نحن -أهل السنة- فإننا لا نكفرهم، ولكن نقول للعاصي: مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته. هكذا عبر شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية. واختلفوا في ترك الصلاة: هل يكفر به أم لا يكفر به على قولين، وتعرض المؤلف الإسماعيلي للقولين، فذكر قول من كفروه وأخرجوه من الإسلام، والذين لم يكفروه، وحكى أن الذين لم يكفروه حملوا قوله صلى الله عليه وسلم: (بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة) على أن المراد بالترك هنا: التبري منها والتبري من أهلها وجحدها، واستدل لهذا الاستنباط بقوله تعالى حكاية عن يوسف: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [يوسف:37] ، فإنه هاهنا عبر بالترك والمراد به الجحود والإنكار. ولكن ظاهر الأحاديث إطلاق الكفر على تارك الصلاة، وقد اتفقوا -عدا الحنفية- على أنه يقتل، ولكن اختلفوا هل يقتل حداً أو ردة؟ فالذين قالوا: يقتل حداً قالوا: يكون ذنبه كذنب الزاني الذي يقتل لأجل الزنا، والقاتل الذي يقتل قصاصاً، فيعامل بعد القتل معاملة المسلمين بأن يصلى عليه ويدفن مع المسلمين. والذين قالوا: يقتل قتل ردة قالوا: يحكم بكفره قبل قتله، ويمنع أن يرث أقاربه من المسلمين ولا يرثونه، ويفرق بينه وبين امرأته إذا كانت تصلي، وإذا مات فلا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، بل يوارى كما يوارى الكفار. هذا هو الذي يترتب على هذا الخلاف. ولكن المسألة قد فرضوا فيها فرضاً شبه مستحيل، وهو أنهم يقولون: إننا إذا علمنا أنه تارك للصلاة أحضرناه ثم وعظناه وخوفناه، فإذا أصر وقال: لا أصلي هددناه بالقتل، فإذا امتنع وقال: لو قطعتموني قطعة قطعة فإني لا أصلي. وأصر على ترك الصلاة حتى قتل، فالذي يفعل هذا لا شك أنه ليس مقراً بالصلاة، ولا يمكن أن يقول: أنا أقر بالصلاة، وأشهد أنها فريضة الله وعمود الإسلام وركن من أركانه، وأن الله قد فرضها على نبيه ليلة الإسراء فوق السماء السابعة، وأنه قال: (أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي) ، وأنه جعلها آخر ما يفقد من الدين وأول ما يحاسب عليه العباد، وجعلها أظهر العبادات البدنية، أقر بذلك كله وأقر بأنها فريضة الله، ولكني مع ذلك لا أصلي ولو قطعتموني قطعة قطعة فهل يمكن أن يكون هذا صادقاً في أنه مقر بذلك؟ يتضح أنه كاذب في قوله: إنه مقر بها وإنها عبادة وفريضة الله. يستحيل أو يستبعد أن يقر ويعترف بها ومع ذلك يصر على تركها ويصر على القتل ويصبر عليه وهو مع ذلك مقر بها. فعرف بذلك أن مثل هؤلاء الذين لا يصلون لو عرضوا على السيف فإنهم لا يصبرون، بل يقولون: لا تقتلونا ونحن سنصلي. ولا يمكن أن أحداً منهم يقر بالصلاة ويعترف بها ويصبر على القتل، فالذي يصبر على القتل نقول له: أنت كاذب في قولك: إنك تقر، فإذاً نعاملك معاملة الكفار الكاذبين. والمسألة قد بحثها ابن القيم رحمه الله وأطال فيها في كتاب الصلاة، فابتدأ الكتاب بقول من يقول: إنه يقتل. ثم في أثناء الكتاب ذكر أدلة من يقول: إنه كافر وإنه خارج من الإسلام. وأورد على ذلك الأدلة من الكتاب والسنة، ثم ذكر أدلة من لا يكفره وبين دلالتها، ثم حكم بينهما وبين القول المختار، وبين أنه لا يمكن أن يصبر على القتل وهو مع ذلك معترف بأنها فريضة الله.

الأسئلة

الأسئلة

كيفية التعامل مع رؤساء العمل من أصحاب البدع

كيفية التعامل مع رؤساء العمل من أصحاب البدع Q إذا ابتلي إنسان بصاحب عقيدة إسماعيلية في عمله رئيس عليه، فكيف يتعامل معه خاصة وهو يظهر أخلاقاً عالية واحتراماً كبيراً؟ A إذا ابتلي بمبتدع وصار هذا المبتدع رئيساً عليه فإننا نقول له: بالنسبة إلى عملك الذي أسند إليك فإنك ستؤديه كما ينبغي، وأما موافقة هذا المبتدع على شيء من بدعته فإن ذلك لا يجوز، ولا شك أن المبتدع لا يستطيع أن يلزم من تحت ولايته بشيء من البدعة، وذلك لأن هذه البدعة عقائدية، فلا يقول لهم: ألزمكم بأن تعتقدوا كذا، أو تعتقدوا كذا وكذا، أو تنكروا كذا وكذا. لا يستطيع أن يلزمهم، ولا أن يقول لهم: ألزمكم -مثلاً- بأن تشتموا الخلفاء الراشدين أو تسبوهم، أو تدعو أهل البيت أو تعبدوهم من دون الله. كما يصنع هو، ولا يقول: ألزمكم بأن تعتقدوا في الأولياء أنهم أفضل من الأنبياء. كقول الصوفية أو ما أشبه ذلك، أما الأعمال الإدارية الفنية فإنه يتحمل ذلك إلى أن يجد رئيساً أفضل منه.

حكم الأعمال والأقوال الكفرية من غير اعتقاد

حكم الأعمال والأقوال الكفرية من غير اعتقاد Q ما حكم من عمل عملاً كفرياً أو تكلم بكلمات كفرية، وهل يشترط في ذلك الاعتقاد، وهل يحكم عليه بالكفر؟ A ليس من تكلم بكلمة كفرية يحكم بكفره مطلقاً؛ لأنها قد تجري على لسانه من غير اعتقاد، وقد يكون متأولاً أو نحو ذلك، ولكن يستفصل بعد ذلك، فإذا رؤي من عقيدته الاعتراف بما قاله فإنه يحكم بكفره، ويدعى إلى التوبة ويهدد إذا لم يتب، وقد كفر الله تعالى المستهزئين بقوله تعالى: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66] لما قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء. واعتذروا بقولهم: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة:65] فقال تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65] . فالحاصل أن من أتى بكلمة كفر ناطقاً بها من غير اعتقاد فإنه يستفصل منه، فإذا رؤي أنه مصر عليها حكم بكفره، وإذا ادعى أنه متأول أو جاهل قبل عذره وقبلت توبته.

شمول التركة لكل أموال المورث

شمول التركة لكل أموال المورث Q بعد وفاة والدي صرف مبلغ معين له مما يسمى مكافأة نهاية الخدمة، ووزع للأولاد ما عدا اثنين منهم لم يبلغوا بعد وأربعاً من البنات، فهل هذا المبلغ يعتبر إرثاً ويوزع من التركة؟ A أرى أنه ما دام خرج باسمه فإنه يلحق بالتركة، ويقسم بين الورثة الذين يرثونه من أولاده ذكوراً وإناثاً على حسب ميراثهم للذكر مثل حظ الأنثيين.

حكم إسبال الثياب

حكم إسبال الثياب Q نلاحظ على بعض الإخوة إسبال الثياب، وهو لا يليق بالمسلم فضلاً عن طالب العلم، فنرجوا التوجيه وبيان الموضع المحرم والمكروه والمباح؟ A لا يخفى على طالب العلم ما ورد من الوعيد في إسبال الثياب، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب) ، فبدأ بالمسبل، وهو الذي يرخي ثيابه إلى ما تحت الكعب، وورد الحديث بلفظ: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار) ، وهذا أيضاً وعيد شديد، وكأنه يقول: إن هذا الموضع الذي ستره وهو لا يجوز ستره -وهو ما تحت الكعب- يعذب بالنار. وإذا عذب به فإنه تعذب بقية البدن، أو يكون سبباً في تعذيب الإنسان كله، والأحاديث في ذلك كثيرة، وفي الحديث المشهور في صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: (أزرة المؤمن إلى نصف الساق، ولا حرج فيما بينه وبين الكعب) أباح له ما بينه وبين الكعب، ولكنه فضل أن تكون أزرته -يعني: إزاره أو قميصه أو عباءته- إلى نصف الساق، والمستحب أن تكون بين ذلك، أي: مستدق الساق، وهو أدق ما تصير إليه. فهذا هو الأفضل، أن تكون الأزرة واللباس إلى هذا الحد، وذلك لأنه منتهى الكعب، والكعب ينتهي بمستدق الساق، فيكون هذا المقدر هو الذي يجعل اللباس إليه، فلينتبه طالب العلم ولينبه إخوانه وأقاربه على هذا الذنب الذي تهاون به الكثير.

رد الاستدلال بحديث البطاقة على عدم كفر تارك الصلاة

رد الاستدلال بحديث البطاقة على عدم كفر تارك الصلاة Q يحتج الذين لا يقولون بكفر تارك الصلاة بحديث البطاقة، فكيف نرد عليهم؟ A لم يذكر أنه تارك للصلاة، إنما ذكر أن هذه البطاقة رجحت بالسيئات، ولا يمنع أن توجد أعمال كثيرة من الصالحات ومن جملتها الصلاة، إنما ذكر أن له تسعة وتسعين سجلاً كل سجل منها مد البصر، وأن فيها سيئات، وأنه لما قيل له: ألك عذر، ألك حسنة لم يتذكر شيئاً، فأخرجت له تلك البطاقة ووضعت في كفة الميزان، ولكن لا يجزم أن لا يكون هناك في الكفة غيرها، والصحيح أن هذه الكلمة إذا كانت عن يقين وعقيدة وإيمان قوي وتصديق بمدلولها فإن صاحبها يحافظ على الصلوات ويداوم عليها، ولا يليق أن يقولها وهو موقن بها ثم مع ذلك يترك الصلوات ويتساهل بها، فلا شك أن ترك الصلاة يعتبر تهاوناً بالشهادتين.

وجوب تشمير الأكمام الطويلة في الصلاة وخارجها

وجوب تشمير الأكمام الطويلة في الصلاة وخارجها Q من طبيعة عملنا لبس (البدلة) ، و (البدلة) لها أكمام طويلة، وفي النظام لابد من التشمير إلى المرفق، فهل يلزم فك أو إزالة هذا التشمير إذا جاءت الصلاة؟ وأيضاً في الثوب إذا توضأت ودخلت في الصلاة قبل أن تنزل الأكمام، فهل في هذا نهي؟ A لا فرق في وجوب الرفع إلى مستدق الساق بين هذه الأكسية البدلات أو البنطلونات أو الأزر أو السراويلات أو العباءات، فالكل يكون إلى مستدق الساق، فإذا كانت البدلة لها أكمام تصل إلى الأرض فإنه يشمرها ويرفعها إلى أن تكون إلى مستدق الساق ويربطها بإبرة أو نحو ذلك، أو يرفعها حتى لا يكون مسبلاً، والإسبال عام في الصلاة وفي غير الصلاة. أما أكمام اليدين فعليه أن يستر بها الذراعين، ولكن إذا احتاج إلى أن يشمرها عن الذراعين فلا بأس، والأفضل أن يستر الذراعين، وكذلك أكمام الرجلين إذا كان في الصلاة وكانت مسبلة فإنه يشمرها إلى مستدق الساق، والأولى أنه يقصها أو يرفعها إلى أن تصل إلى مستدق الساق. وإذا عمل ذلك -أي: التشمير- قبل أن يدخل في الصلاة فلا حرج، ولا يدخل في حديث: (ولا نكف شعراً ولا ثوباً) .

نصيحة للموسوس في صلاته

نصيحة للموسوس في صلاته Q أحياناً أشك في الوضوء، وأحياناً في الصلاة: هل كبرت تكبيرة الإحرام أم لا، وهل قرأت الفاتحة أم لا، وأحياناً: هل قرأت التشهد الأخير أم لا، وأحياناً: هل سلمت أم لم أسلم، فما التوجيه في ذلك؟ A يبتلى بهذا كثير من الموسوسين الذين يتغلب عليهم الشيطان ويلقي في أنفسهم هذه الوسوسة، فيتردد أحدهم كثيراً ويتألم ويتعذب ويلقى عنتاً ومشقة وصعوبة، فنقول: مثل هؤلاء عليهم الاستعاذة من الشيطان والإكثار من الذكر والدعاء، وننصحهم بأن لا يلتفتوا إلى هذه التوهمات، فإن الأصل أنك توضأت، فإذا جاءك الشيطان وقال: قد بقي من أعضائك كذا وكذا وأنت قد فرغت فلا تلتفت إلى ذلك، وإذا جاءك في الصلاة بعدما تكبر فقال: إنك ما كبرت فلا تلتفت إلى ذلك، وإذا جاءك في الصلاة بعدما فرغت من القراءة وشككك هل قرأت أم لا فالأصل أنك قرأت؛ لأنك متعود لذلك فلا تُعِد القراءة، وكذلك لا تعد شيئاً من ركعات الصلاة ولا من أركانها، واستعذ بالله من الشيطان حتى تريح نفسك من هذه التوهمات.

الأعمال من مسمى الإيمان

الأعمال من مسمى الإيمان Q هل جنس العمل ركن في الإيمان ومن لم يأت به كفر؟ A لا شك أن الأعمال من مسمى الإيمان، وأن العمل نفسه جزء من الإيمان، وقد سمى الله تعالى الصلاة إيماناً فقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] يعني: صلاتكم قبل صرف القبلة. فجعل ذلك إيماناً، فمن لم يعمل لا يكون مؤمناً حقاً، أي أن تركه للعمل دليل على أنه لم يكمل إيمانه، فترك الصلاة نقص في الإيمان، وكذلك ترك الزكوات نقص في الإيمان وثلم فيه، فمن لم يأت بالأعمال الصالحة فإن إيمانه ناقص.

حكم الصلاة في المقابر

حكم الصلاة في المقابر Q كنا نحفر قبراً فأدركتنا صلاة العصر فأديناها جماعةً في المقبرة، فما الحكم في ذلك؟ A ورد النهي عن الصلاة في المقابر، ولكن ما دام أن هذا العمل صدر منكم عن جهل وعدم استحضار للدليل فيعفى عن ذلك ولا تعاد، وإذا حضرت الصلاة في مثل هذا فإنهم يخرجون عن المقبرة ويصلون في المساجد التي في داخل البلد.

حكم إعطاء الزكاة لمدين بدين ربوي

حكم إعطاء الزكاة لمدين بدين ربوي Q لي قريب عليه ديون كثيرة من ضمنها دين ربوي، وهو مسجون على هذا الدين الربوي، فهل أعطيه من الزكاة؟ A تحل له الزكاة ما دام أنه سجين لأجل الدين، ولو كان أصحابها عصاة فالإثم عليهم، وقد يكون مضطراً. وعلى كل حال إذا وجد شيء من الزكاة فإنها تحل له.

رد الاعتذار بالإرهاق عن صلاة الجماعة

رد الاعتذار بالإرهاق عن صلاة الجماعة Q رجل إذا عاد من العمل يتكاسل عن أداء الصلاة مع الجماعة، وعندما ينصح ويحث على أدائها مع الجماعة يعتذر بأنه مرهق ومتعب من العمل، فهل يعد هذا عذراً للتخلف عن صلاة الجماعة؟ A لا يعد هذا عذراً، والصلاة ليس فيها صعوبة ولا مشقة، فواجب أن يخبر بأنه لا عذر له، وليس العمل والإرهاق عذراً في ترك الصلاة؛ لأن المساجد قريبة، وقد يكون أيضاً عنده سيارة توصله إلى المسجد بلا كلفة ولا مشقة. ويقال له أيضاً: إن الصلاة أولى من العمل الذي أنت تشتغل فيه، سواءٌ أكان عملاً حكومياً أم فردياً، فالصلاة أولى بأن يهتم لها، وأن يترك لها من الوقت ما يكفي، فعلى كل حال لا عذر له في ذلك، وفي إمكانه أن يريح بدنه بعد الصلاة.

شرح اعتقاد أهل السنة [10]

شرح اعتقاد أهل السنة [10] من عقائد أهل السنة والجماعة: إثبات الشفاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنبيائه والمؤمنين، وإثبات حوض النبي صلى الله عليه وسلم، والحساب، وأننا لا نشهد لأحد أنه من أهل الجنة أو النار إلا بدليل من الكتاب والسنة.

الفرق بين الإسلام والإيمان

الفرق بين الإسلام والإيمان قال الشيخ الحافظ أبو بكر الإسماعيلي رحمه الله تعالى في بيان اعتقاد أهل السنة في بحثه في مسائل الإيمان: [وقال كثير منهم: إن الإيمان قول وعمل، والإسلام فعل ما فرض على الإنسان أن يفعله إذا ذكر كل اسم على حدته مضموماً إلى الآخر فقيل: المؤمنون والمسلمون جميعاً. أو مفردين أريد بأحدهما معنىً لم يرد بالآخر، وإن ذكر أحد الاسمين شمل الكل وعمهم. وكثير منهم قالوا: الإسلام والإيمان واحد، فقال الله عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] ، فلو أن الإيمان غيره لم يقبل، وقال: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35-36] . ومنهم من ذهب إلى أن الإسلام مختص بالاستسلام لله والخضوع له والانقياد لحكمه فيما هو مؤمن به، كما قال: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] ، وقال: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ} [الحجرات:17] ، وهذا أيضاً دليل لمن قال: هما واحد. ويقولون: إن الله يخرج من النار قوماً من أهل التوحيد بشفاعة الشافعين برحمته، وإن الشفاعة حق، وإن الحوض حق، والميزان حق. والحساب حق، ولا يقطعون على أحد من أهل الملة أنه من أهل الجنة أو أنه من أهل النار؛ لأن علم ذلك مغيب عنهم لا يدرون على ماذا يموت: أعلى الإسلام أم على الكفر؟ ولكن يقولون: إن من مات على الإسلام مجتنباً للكبائر والأهواء والآثام فهو من أهل الجنة؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة:7] ، ولم يذكر عنهم ذنباً، {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} [البينة:8] . ومن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بعينه بأنه من أهل الجنة وصح له ذلك عنه فإنهم يشهدون له بذلك اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتصديقاً لقوله] . تكلم هنا على الفرق بين الإسلام والإيمان، وقد تقدم قول أهل السنة أن الإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، وعلى هذا اتفق سلف الأمة، ولما ابتدأ البخاري كتابه بعد المقدمة بالإيمان قال: وهو قول وفعل. ويريد بالفعل فعل القلب وفعل الجوارح، جاء بهذه العبارة من نفسه، ونقل عنه أنه لما ذكر مشايخه الذين ذكرهم في صحيحه قال: إني خرجت هذه الأحاديث عن أكثر من ثلاثمائة شيخ كلهم يقولون: الإيمان قول وعمل. ولكن اختلفوا هل الإسلام والإيمان بمعنى واحد أو بينهما فرق. على أقوال. فذهب كثير من العلماء إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد، وأن من أطلق عليه مسلم فإنه يصدق عليه أنه مؤمن وبالعكس، ويميل إلى هذا ابن رجب في شرح الأربعين النووية في شرح حديث جبريل الذي فيه تفسير الإسلام والإيمان، أن أحدهما يفسر بما يفسر به الآخر، سواء اجتمعا أو افترقا. وذهب آخرون إلى أنهما إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، ومعنى ذلك أنهما إذا ذكرا جميعاً فلكل واحد منهما تفسير، وإذا ذكر أحدهما أغنى عن الآخر، فيفسر الإيمان بأنه الأعمال الباطنة والإسلام بأنه الأعمال الظاهرة، وذلك بناء على الأصل، فإن أصل الإيمان هو التصديق بالقلب الذي هو يقينه وتصديقه، وأصل الإسلام هو الإذعان والانقياد، يقال: استسلم فلان للأمير وبمعنى: انقاد له وأذعن ولم يعص ولم يتخلف ولم يتبرم. فلذلك يقال: المسلم هو الذي استسلم لأمر الله وانقاد له، وأذعن وخضع له وتواضع، وأطاعه طوعاً وكرهاً، أطاع الله تعالى مختاراً دون أن يتردد في أمر من أمور الدين، إذا أمر بأمر بادر إليه، وإذا نهي عن شيء في الإسلام تركه وابتعد عنه، يعتقد أن ما أمر الله به فإنه عين المصلحة، وما نهى عنه فإنه عين المفسدة، متى سمع بأن لله طاعة في كذا سارع إليها وأتى إليها محباً لها مندفعاً إليها اندفاعاً قوياً كأنه يقاد باختياره دون أن يكون مكرهاً، فمثل هذا يسمى مسلماً، ويقال مثلاً في الإبل: استسلم البعير لقائده. أي: أذعن وانقاد له. فمثلاً: إذا رأيت اثنان يقودان جملين، أحد الجملين مطاوع لمن يقوده، عندما يقوده يتبع قائده ولا يتردد ولا يستعصي ولا يعاند، بل هو مذعن منقاد لا يلتوي ولا يمتنع، فيسمى هذا مستسلماً، بينما الجمل الثاني دائماً ينفر ممن يقوده ويستعصي عليه ويجر رأسه إذا قاده بخطامه، وربما تفلت من الذي يقوده وشرد وهرب منه، فيقال: هذا الجمل غير مستسلم. وورد في ذلك حديث ولو كان ضعيفاً لكنه يستشهد به: (مثل المؤمن كمثل الجمل الأنف إن قيد انقاد، وإن أنيخ ولو على صخرة استناخ) ، هكذا مثل المسلم بأنه كالجمل الأنف، أي: الجمل المذلل الذي يكون بيد من يقوده، إن قاده إلى مرتفع، وإن قاده إلى منخفض، وإن قاده إلى مكان مظلم، وإن قاده إلى مكان فيه حجارة أو نحو ذلك فإنه ينقاد مع من يقوده ويستسلم ولا يستعصي أبداً، هذا حقاً هو الذي يصير مثل المؤمن، إن قيد انقاد، وإن أنيخ ولو على صخرة ولو على رأس جبل استناخ، هذا تعريف الإسلام. وفسره الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بأنه الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله. فالاستسلام هو ما ذكرنا، يقول الله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران:83] يعني: له أسلموا واستسلموا، وأنابوا وأذعنوا، فجميع المخلوقات مستسلمة له تحت تصرفه وتقديره. فهذه حقيقة الإسلام، فعرفنا أن كلاً من الإسلام والإيمان له معنى في اللغة وله معنى في الشرع، ولكن يظهر أن الشرع يستعمل الإسلام فيما يستعمل فيه الإيمان، ففي حديث جبريل المشهور فرق بينهما، قال: (فأخبرني عن الإيمان. قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره) ، ففسر الإيمان بالأعمال الباطنة، وذلك دليل على أنه هو في الأصل اليقين أو عمل القلب، وفي تعريف الإسلام (وقال: أخبرني عن الإسلام. قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً) ، ففسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، فالشهادتان ولو كانتا قولاً لكنها ظاهرتان، فيظهر أثرهما بأن يعبد الله وحده ويطيعه، والصلاة أمر ظاهر مشاهد، والصوم كذلك أيضاً أمر ظاهر مشاهد، والزكاة إيتاؤها أيضاً أمر ظاهر، والحج أمر ظاهر، فهذه هي الأعمال الظاهرة، لكن جاء في حديث ابن عباس في وفد عبد القيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آمركم بأربع: آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتؤدوا الخمس من المغنم) ، فجعل هذا هو الإيمان، فذكر فيه الشهادتين والصلاة والزكاة، فدل على أنه قد يفسر الإسلام بما يفسر به الإيمان، وبالعكس فإن كلاً منهما يدخل في الآخر، فإذا ذكرا جميعاً فالإسلام هو الأعمال الظاهرة والإيمان هو أعمال القلب، وإذا اقتصر على الإسلام فإنه يستلزم دخول أعمال القلب فيه، وإن اقتصر على الإيمان كذلك دخلت فيه الأعمال الظاهرة لأنها من تعريفه، وقد كتب فيه شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية رحمه الله، وهو أوسع من كتب فيه، فكتب فيه كتاب الإيمان الكبير، وكتاب الإيمان الأوسط، وكتاب الإيمان الصغير، ولكن كتاب الإيمان الصغير يظهر أنه ليس من كتابته، وإنما هو من كتابة بعض أصحابه اختصره من كتبه، وإذا تأملنا كتاب الإيمان الكبير ظهر لنا أنه رحمه الله كأنه لا يوافق على أن الإسلام يدخل فيه الإيمان، بل يرى أن الإسلام يختص بالأعمال الظاهرة، وأن من وصف بأنه مسلم لا يوصف بالإيمان، فهذا هو الذي يميل إليه، وقد سبقه إلى الكتابة في الإيمان علماء كثر، فمنهم: ابن أبي شيبة صاحب المصنف له رسالة في الإيمان مطبوعة، ومنهم أبو عبيد القاسم بن سلام، وإن كان من علماء اللغة لكنه أيضاً من علماء الشرع، له رسالة أيضاً مطبوعة في الإيمان، ومنهم الإمام ابن منده واسمه: محمد بن إسحاق، عالم مشهور، له كتاب مطبوع في ثلاثة أجزاء اسمه أيضاً (الإيمان) ، مما يدل على أن السلف رحمهم الله اهتموا بهذه المسألة، فكتبوا فيها وتوسعوا، فالحاصل أن الإسلام يفسر عند الإطلاق بالأعمال الظاهرة، وهي الشهادتان، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وتدخل فيه بقية الأعمال الظاهرة، وتكون الأركان الخمسة بمنزلة الدعائم التي يقوم عليها ولا يتم إلا بها، كما إذا فرضنا مثلاً أن بيتاً قائماً على أربعة أركان فإننا نسمي كل ركن دعيمة، وجمعها دعائم، أي: أسس يقوم عليها ولا يتم إلا بها، فلو انهد جانب من جوانبه أصبح مفتوحاً تدخله السباع والدواب، ويدخله اللصوص، ولا يصلح أن يسكن، سواء انهد الجانب الأيمن أو الأيسر أو الأمامي أو الخلفي فلا يصلح للسكنى، فيقولون: كذلك الإسلام إذا ترك ركن من أركانه فإنه لا يتم ولا ينتفع به صاحبه، وجعلوا الركن الأساسي عمديته اللتين يعتمد عليهما، فقالوا: الشهادتان بمنزلة الأساس أو بمنزلة الأرض التي يعتمد عليها والسقف الذي يظله، فإذا عدمت الشهادتان أو إحداهما فإنه لا ينتفع به، ولا يمكن أن يكون، فالإنسان لا يبني بيتاً في الهواء، لابد أن يكون البيت على قرار، ثم لو بناه ولم يسقفه بل تركه مفتوح السقف لم ينتفع به، فلابد أن يكون له أساس وهو الأرض وسقف وهو أعلاه، فجعل الشهادتين بمنزلة الأساس والسقف، وجعلت

إثبات الشفاعة

إثبات الشفاعة قال المصنف رحمه الله تعالى: [إن الله يخرج من النار قوماً من أهل التوحيد بشفاعة الشافعين، وإن الشفاعة حق، والحوض حق، والمعاد حق، -وفي نسخة: والميزان حق- والحساب حق] . هذه الفقرة تتعلق بالإيمان بما بعد الموت، تتعلق بالإيمان بالبعث وما يكون فيه، وفيها رد على المعتزلة والخوارج، فإنهم ينكرون شفاعة الشافعين، وقد ذكر العلماء أن طوائف المسلمين في الشفاعة على ثلاثة أقوال: قوم أثبتوها مطلقاً، وقوم أثبتوها بشروط، وقوم نفوها. فالذين نفوا الشفاعة هم الخوارج والمعتزلة، وذلك لأنهم يكفرون الناس بالمعاصي، وعندهم أن من دخل النار من أصحاب الذنوب فإنه يخلد فيها، فالخوارج يكفرونه في الدنيا والآخرة، والمعتزلة يفسقونه في الدنيا ويحكمون بتخليده في الآخرة في النار، وينكرون على هذا شفاعة الشافعين، وينكرون أيضاً الأحاديث التي وردت في الشفاعة مع كثرتها، ويستدلون بمثل قول الله تعالى: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة:123] ، وقول الله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:254] ، فمثل هذه الآيات فيها نفي الشفاعة، فلذلك قالوا: ليس في الآخرة شفاعة، بل من دخل النار فهو مخلد فيها. وقد يستدلون بقوله تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج:22] ، وقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة:37] على أن من دخل النار فإنه لا يخرج منها، ولا دلالة في الآية، بل الآية فيها نفي الشفاعة التي هي بدون إذن الله، ولأجل ذلك أثبت الله تعالى الشفاعة بشرطين -وعليه قول أهل السنة-: الشرط الأول: الإذن للشافع. الشرط الثاني: الرضا عن المشفوع. كما في سورة النجم: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26] يأذن للشافع ويرضى عن المشفوع، وذكر الرضا في سورة طه وفي سورة الأنبياء، قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] ، وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه:109] ، فهذه الآية ذكر فيها الشرطين: {أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه:109] ، وذكر الإذن في آية الكرسي: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ} [البقرة:255] ، وفي آية سورة سبأ: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23] ، فكل هذه أدلة على أن هناك شفاعة، ولكنها لا تكون إلا بعد إذن الله للشافع ورضاه عن المشفوع له، وعلى هذا فإن العبد لا يطلبها إلا من الله، فيقول: يا رب! اجعلني ممن تنفعه شفاعة الشافعين، أسألك أن تُشَفِّع فيِّ أنبياءك ورسلك وملائكتك، أسألك عملاً صالحاً أكون به أهلاً أن يشفع فيّ الشافعون. وما أشبه ذلك. ولا تطلب الشفاعة من الإنسان، فلا يقال: يا رسول الله! اشفع لنا. لا تطلب الشفاعة إلا من الله تعالى؛ لأنه هو الذي يملكها، قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:44] أي: هو الذي يملكها. وأخبر بأنهم لا تنفعهم الشفاعة يوم القيامة، كما في قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:42-48] . فالحاصل أن قول أهل السنة: [أن الله يخرج من النار قوماً من أهل التوحيد بشفاعة الشافعين، وإن الشفاعة حق] رد على المعتزلة الذين أنكروها. كذلك الاعتراف بأن الحوض حق، وقد ورد فيه أكثر من أربعين حديثاً، منها ما جاء في وصفه أنه: (طوله مسيرة شهر، وعرضه مسيرة شهر، آنيته عدد نجوم السماء، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، من شرب منه لم يظمأ بعده أبداً) يرده المؤمنون، ويذاد عنه الكفار، والمعاد يراد به البعث بعد الموت، وسمي معاداً لأن الناس عادوا إليه، كأنهم كانوا في الدنيا ثم عادوا من الدنيا إلى الدار الأخرى.

إثبات الميزان

إثبات الميزان والإيمان بالميزان أيضا حق، والميزان هو الذي ينصب وتوزن فيه أعمال العباد، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} [الأنبياء:47] . وذكر الله تعالى أن الموازين تخف وترجح، فمن خفت موازينه فأولئك هم الخاسرون، ومن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة:6-9] . وورد في الأحاديث أنه ميزان له كفتان، وله لسان، وأنه توضع فيه الأعمال، وأنه يرجح أو يخف بحسب ما يوزن فيه.

إثبات الحساب

إثبات الحساب وكذلك الحساب حق، قال الله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:8] ، ويقول تعالى عن المؤمن: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:20] ، وكذلك الكافر يقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} [الحاقة:25-26] ، ويقول تعالى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14] ، ويخبر الله عن سرعة الحساب فيقول: {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة:202] ، فالحساب على الأعمال حق، ويقول في الحديث: (من نوقش الحساب عذب) ، فكل ذلك دليل على إثبات هذه الأشياء.

لا نقطع لأحد من أهل الملة أنه في الجنة أو في النار

لا نقطع لأحد من أهل الملة أنه في الجنة أو في النار قال المصنف رحمه الله تعالى في بيان عقيدة أهل السنة: [ولا يقطعون لأحد من أهل الملة بأنه من أهل الجنة أو أنه من أهل النار] ، فلا نشهد لمعين بأنه من أهل الجنة أو أنه من أهل النار، وذلك لأنا لا نعلم ما يموت عليه، هل يموت على الإسلام أو على الكفر؟ لا نعلم الخواتيم ولا ندري ما مات عليه، بل نعتقد أن من مات على الإسلام حقاً مجتنباً للكبائر والأهواء والآثام فهو من أهل الجنة، واستدل بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} [البينة:7-8] ، ولكن هذا مجمل، وكذلك من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة سواء في الكتاب أو السنة فإننا نقر بأن ذلك حق ونشهد له، فلا نشهد لأحد بالجنة ولا بالنار إلا لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقف عند هذا، والله أعلم.

من يشهد له بالجنة أو بالنار

من يشهد له بالجنة أو بالنار الشهادة بالجنة أو النار للمكلف مسألة من مسائل العقيدة، وعقيدة أهل السنة أنا لا نشهد بالجنة ولا بالنار إلا لمن ورد فيه نص صريح محدد أنه من أهل الجنة أو من أهل النار، وإلا فإنا نتوقف ولا نجزم بالجنة ولا بالنار لمعين، وذكروا ذلك في كتب العقائد وقالوا: إنا لا ندري ما عاقبتهم، فهذا الإنسان الذي رأيناه مسلماً ومؤمناً وتقياً ونقياً لا ندري ما عاقبة أمره، ولا بماذا ختم له، فقد يختم له بعمل سيء، وكذلك هذا الكافر أو الفاسق أو المعاند الذي نراه سيء الديانة والمعتقد والأعمال ربما يتوب الله تعالى عليه قبل موته، فيختم له بخاتمة طيبة فيكون سعيداً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) ؛ لأن الأعمال بالخواتيم، فقد نرى إنساناً تقياً نقياً ولكن يختم له بخاتمة سيئة تكون هي آخر حياته، فيكون شقياً وتحبط أعماله، فيحكم له بأنه من أهل النار، وبالعكس، فقد نرى إنساناً طوال حياته وهو سيء الأعمال والأخلاق والمعتقد، وبعيد عن الله، فيختم له عند آخر أجله بعمل أهل السعادة فيكون من أهل الجنة، هذا من حيث العموم. أما من حيث الخصوص فيشهد لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك يشهد لعموم المؤمنين بالجنة، واستدل المؤلف بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} [البينة:7-8] ، والآيات كثيرة، وفيها أن أهل الأعمال الصالحة وأهل الإيمان من أهل الجنة، وأن أهل السيئات وأهل الكفر من أهل النار، مثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:82] ، وكذلك قوله: {فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [البينة:6] ، فمن حيث العموم نقول: أهل الإيمان والعمل الصالح عموماً نشهد لهم بالجنة إذا كانت أعمالهم صالحة وكان إيمانهم حقيقياً ولم يكونوا مشركين ولا مبتدعين، نشهد لهم بالإيمان عموماً، إلا أننا لا نخصص فلاناً وفلاناً. وكذلك أهل الكفر والبدع المكفرة نشهد لهم بالنار عموماً فنقول: من مات وهو على الكفر أو من مات وهو على البدع المكفرة فإنه من أهل النار، ولكن لا نخصص فلاناً وفلاناً.

من شهد لهم بالجنة في الكتاب والسنة

من شهد لهم بالجنة في الكتاب والسنة ورد النص بتعيين بعض الأشخاص فيقتصر عليهم، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم ذكر أن العشرة من أهل الجنة الخلفاء الأربعة والستة الباقون من العشرة، والستة هم سعيد بن زيد، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، مع الخلفاء الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، فنشهد لمن شهد له، وكذلك قوله: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة) ، وكذلك شهد لـ بلال بأنه سمع خفق أو خشخشة نعليه في الجنة، وشهد لـ ثابت بن قيس، فلما نزلت الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} [الحجرات:3] خاف ثابت أنه من أهل النار؛ لأنه من الذين يرفعون أصواتهم عند رسول الله، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم يبشره بالجنة. وكذلك بشر عكاشة بن محصن بالجنة، وغيرهم كثير، وقد ذكر كثير من العلماء عدداً منهم، مثل ما ذكره الشيخ عبد العزيز بن محمد السلمان في (الكواشف الجلية شرح العقيدة الواسطية) وغيره، فهؤلاء الذين ورد النص بأنهم من أهل الجنة، فنشهد لهم بها، وأما الباقون فإننا نرجو لهم كما سيأتينا في الصحابة، وكذلك بقية المؤمنين.

من شهد لهم بالنار في الكتاب والسنة

من شهد لهم بالنار في الكتاب والسنة أما الشهادة بالنار فمثل أبي لهب، قال الله عنه: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3] ، فهذا متحقق أنه من أهل النار، ومثل أبي طالب أخبر النبي عليه السلام أنه جعل في ضحضاح من نار، ومثل أبي جهل الذي قال فيه: (إنه فرعون هذه الأمة) ، وقتل على كفره، وكذلك من الأمم السابقة الأمم الذين أهلكهم الله تعالى كفرعون وجنوده، وقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، ونحوهم ممن كذبوا رسلهم وأتاهم العذاب وهم على كفرهم، فهؤلاء يشهد لهم بالنار من حيث العموم كقوم نوح، ومن حيث الخصوص كـ فرعون وهامان وقارون ونحوهم. وعلى كل حال: فالشهادة تحتاج إلى أدلة، وحيث إن الدليل إنما هو دليل العموم فإننا نقره على عمومه.

الأسئلة

الأسئلة

حكم من صدم فمات من بجواره

حكم من صدم فمات من بجواره Q شخص معه زوجته في سيارته، فصدم فماتت الزوجة، هل على الزوج صيام شهرين، مع العلم أنه هو المصدوم؟ A الكفارة والدية على من كان منه الخطأ، فإذا كان الخطأ كله على الذي صدمهم فهو الذي يدفع الدية ويكفر بالصيام أو بالعتق، فإن كان عليه خطأ أو نسبة من الخطأ فعليه جزء من الدية وعليه الكفارة، فالحاصل أن الكفارة على من هو مخطئ سواء خطأً كلياً أو خطأً جزئياً، وتكون عليه الدية حسب النسبة من الخطأ، فمثلاً خطؤه عشرون في المائة عليه خمس الدية، أو خطؤه خمسة وعشرون في المائة فعليه ربع الدية، والكفارة تجب كاملة على الجميع، فعلى الطرفين كفارتان، هذا يصوم وهذا يصوم.

كيفية زكاة إيجار العمارة

كيفية زكاة إيجار العمارة Q رجل اشترى عمارة فأجرها فكيف يزكي عنها، مع العلم أنه إذا جاءه مبلغ مناسب سيبيعها، فكيف تكون الزكاة؟ A نفس العمارة لا زكاة فيها بقيمتها، وإنما الزكاة في الأجرة، فإذا أجرها وحال الحول فعلى الإيجار زكاةٌ، فإن لم يحل عليه الحول وأنفقه في حينه فلا زكاة فيه، وإن أنفق بعضه فالزكاة فيما بقي، فمثلاً إذا أجرها بعشرين ألفاً وبدأت من شهر محرم فهذه العشرون ألفاً إذا جاء شهر اثني عشر وهي عنده زكاها، وإن أنفق منها وبقي نصفها زكى النصف.

حكم الانتساب إلى مذهب من المذاهب

حكم الانتساب إلى مذهب من المذاهب Q أنا شاب هداني الله إلى طريق أهل السنة والجماعة، فهل يجب عليّ أن أختار مذهباً من المذاهب الأربعة أنتسب إليه، أم يكفيني الأخذ بالأرجح من أقوال الأئمة وأعمل به دون أن أنتسب لمذهب معين؟ A لا يلزم الانتساب إلى مذهب معين، بل الذي عنده قدرة على الترجيح يعمل بما يتيسر له من أقوال العلماء، فلا يلزم أن يقول أنا شافعي أو أنا حنفي بل يتبع ما عليه جماهير المشايخ وعلماؤه الذين تعلم عليهم، فإن اختار مذهباً من المذاهب وترجحت له مسألة في مذهب آخر وعرف قوة الدليل فإنه يتبع الدليل ولو خالف المذهب الذي انتحله، فالعبرة بالدليل مع من كان.

حكم الصلاة خلف من يعتقد معتقد المعتزلة

حكم الصلاة خلف من يعتقد معتقد المعتزلة Q إنني أعيش بين قومي وهم يقولون بخلق القرآن وخلود أصحاب الكبائر في النار وعدم رؤية الله في الآخرة، فما حكم صلاتي خلفهم؟ مع العلم أني أصلي جميع الصلوات خلفهم، وإعادة جميع الصلوات فيه مشقة كما ترون من حالي هذه، فبماذا تنصحونني؟ A ننصحك بالدعوة إلى الله، وهؤلاء الذين تصفهم بهذا هم المعتزلة، فهم الذين ينكرون رؤية الله تعالى، وهم الذين يقولون بخلق القرآن، وهم الذين ينكرون قدرة الله تعالى على أفعال العباد، وهم الذين يخلدون أصحاب الكبائر في النار، فالمعتزلة الذين يغلون في إنكار صفات الله تعالى قد ذهب قوم إلى تكفيرهم، وقرأنا في كتاب (شرح اعتقاد أصول أهل السنة) للالكائي عدد من كفر المعتزلة والجهمية، حيث عد منهم خمسمائة من العلماء، ولكن مع ذلك إذا لم تجد إلا إماماً يعتقد هذا الاعتقاد فنرى أنك تصلي خلفه ولا نلزمك بالإعادة؛ وذلك لما سيأتي أن الصحابة كانوا يصلون خلف أئمة الجور ولا يؤمرون بالإعادة، وصل على معتقدك وديانتك. كذلك أيضاً تأتي بما تعتقده في صلاتك ولو كانت صلاتهم فيها شيء من المخالفة؛ لأنه قد يكون بين أهل السنة وبين المبتدعة خلاف في بعض أركان الصلاة أو شروطها أو واجباتها فتأتي بما تستطيعه.

واجبنا نحو العوام الذين يقلدون أصحاب المذاهب المنحرفة

واجبنا نحو العوام الذين يقلدون أصحاب المذاهب المنحرفة Q ما هو الحكم في العوام الذين يتبعون أصحاب المذاهب المنحرفة عن طريق أهل السنة والجماعة، لكن هؤلاء العوام لا يعرفون عن عقائد تلك المذاهب شيئاً، فهل هم على الفطرة؟ A لاشك أن العوام لا يدرون ما هو الصواب، ولكن في العادة أنهم يقلدون من يرونه عالماً ويحسنون الظن به، فإذا رأوا عالماً جهبذاً نحريراً بليغاً فصيحاً كثير المعلومات والمحاضرات اعتقدوا أنه بحر لا ساحل له، وأن الصواب في جانبه، وأن من خالفه فإنه مخطئ، ولم يكونوا يعرفون غيره، فينخدعون به ويتبعونه، ولاشك أنهم مخطئون، وأن الواجب عليهم البحث واتباع الصواب، فيدخلون في قول الله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا} [البقرة:166-167] ، فهم لابد أنهم يتبرءون منهم في الآخرة، وكل منهم يدعي أنه هو الذي أضل صاحبه أو أنه ضل بسببه. فعلى كل حال عليك أن تنصح العوام وتبين لهم الخطأ الذي وقعوا فيه، وأن الصواب هو قول أهل السنة، وتطلعهم على كتب سلف الأمة أهل القرون المفضلة، فإنه لا يوجد فيهم -والحمد لله- من هو على مذهب المعتزلة، ثم أيضاً هم المعترف بفضلهم وبحفظهم للسنة، فإذا أصروا على ذلك فإنك قد سلمت من الإثم وأقمت عليهم الحجة.

حكم إعادة الجماعة لاختلاف المذاهب

حكم إعادة الجماعة لاختلاف المذاهب Q ما قول السادة العلماء في حكم إعادة الجماعة في المسجد الواحد عدة مرات، وهل يوجد فرق في إعادة الجماعة في المسجد كأن يكون مفترض؟ A قد يكون قصده إعادة الجماعة لاختلاف المذاهب كما كان ذلك في الحرم المكي قبل ستين أو سبعين سنة، أي: قبل أن تستولي عليه المملكة، فقد كان الحرم يصلي فيه أربع جماعات، جماعة الحنابلة ومحرابهم في شرق الكعبة، وجماعة الحنفية ومحرابهم في شمال الكعبة، وجماعة المالكية ومحرابهم في غرب الكعبة، وجماعة الشافعية ومحرابهم في جنوب الكعبة بين الركنين، أربع جماعات كل منهم يعتقد أن صلاته لا تصح مع صلاة الآخر، فلما فتحت مكة ودخلت تحت هذه الدولة أقيمت عليهم الحجة وقيل لهم: هل الأئمة أنفسهم يكفر بعضهم بعضاً؟ أليس الشافعي كان يصلي خلف مالك ومالك يصلي خلف أبي حنيفة؟ وكذلك أيضاً الإمام أحمد كان يصلي خلف الشافعي، وكلهم يأخذ بعضهم عن بعض، فما هذا الاختلاف؟ فهداهم الله وصاروا جماعة واحدة. نقول: لا يجوز تعدد الجماعات لاختلاف المذاهب إذا كان هذا قصد السائل. وأما إن كان قصده إقامة جماعة ثانية بعد الجماعة الأولى فهذا جائز بل ومسنون، فإذا صلى أصحاب الجماعة الذين أذن في المسجد لهم ثم جاء المتخلفون من هنا ومن هنا فلا يصلون فرادى، بل يصلون جماعة، يقدمون أحدهم يصلي بهم ويكون لهم فضل الجماعة، وإن لم يكن لهم فضل الذين في الجماعة الأولى، وهكذا لو قدر أنهم انتهوا من الصلاة وجاءت جماعة ثالثة فإنهم يصلون أيضاً جماعة ولا يصلون متفرقين، خلافاً لما اشتهر عن الشافعية والحنفية أنهم يصلون فرادى، وهذا قول مرضي عن الشافعي، ولكنه لم يكن معمولاً به في زمانه كالعمل به في هذا الزمان، والصحيح أنهم يصلون جماعة. ولو قدر أنه دخل واحد وأنت قد صليت وأحببت أن تصلي معه حتى تحصل له فضيلة الجماعة فإن ذلك جائز، ودليله ما ثبت في الحديث أن رجلاً دخل بعدما صلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (من يتصدق على هذا -يعني يصلي معه-؟ فقام أبو بكر فصلى معه) ، فهذا دليل على جواز إعادة الجماعة وأنه يجوز أن يكون المتنفل أحد المعيدين، وسواءٌ أكان هو الإمام أم المأموم.

حكم قراءة صحيح البخاري بنية الشفاء ونحو ذلك

حكم قراءة صحيح البخاري بنية الشفاء ونحو ذلك Q قرأت في مقدمة شرح الترمذي (تحفة الأحوذي) للمباركفوري كلاماً يقول فيه: إن قراءة صحيح البخاري بنية كشف الكربة وشفاء المرضى وقضاء الحاجات جائز، حيث قرأت ذلك عن بعض علماء الهند وذكر أن هذا مجرب، وقد بلغ عند علماء الحديث مرتبة الشهرة، فهل يصح ذلك؟ A يمكن أنهم جربوا ذلك، ولكن لا ينطبق على كل فرد، ولاشك في أهمية صحيح البخاري، وأنه أصح الأحاديث، وأنه مشتمل على الأحاديث الصحيحة، ولكن وصوله إلى هذا الحد وقراءته لأجل الشفاء، أو قراءته لأجل إزالة الكروب ولأجل تفريج الهموم وما أشبه ذلك يختلف باختلاف الأحوال، ونحن نقول: الذي تقع فيه هذه الهموم والكروب والشدائد عليه أن يدعو الله تعالى بالأدعية الواردة والله تعالى يفرجها.

حكم تارك الصلاة معترفا بوجوبها

حكم تارك الصلاة معترفاً بوجوبها Q رجل لا يصلي، فإذا قيل له لماذا لا تصلي قال: لم يحن الوقت لكي أصلي، وأنا أقر بالصلاة وأعترف بها، ولكن أشعر أنه ما آن الوقت بعد لتأديتها. ثم يختم قائلاً: الهداية من الله. فكيف نرد عليه؟ A قوله: لم يحن الوقت يكذبه الواقع، فالمعلوم أن مواقيت الصلاة محددة معروفة الأول والآخر، فوقت الظهر يدخل بالزوال، ووقت المغرب يدخل بالغروب، ووقت الفجر يدخل بطلوع الفجر، فكيف يقول: ما آن أو ما حان الوقت؟ ولكن قد يكون قصده ما أتى الوقت الذي أصلي فيه، فمثل هذا كأنه يمتنع من الصلاة إلى أن يأتي وقت يصلي فيه، ومعناه أنه يقول: لا أصلي إلا إذا أردت الصلاة. فالجواب أن نقول له: إذا كنت معترفاً بالصلاة ومقراً بأنها فريضة الله تعالى وأنها عمود الدين ثم مع ذلك بالغت في تركها وامتنعت منها وادعيت بأن الله ما أمرك بها أو ما هداك، أو قلت -مثلاً-: الله الهادي، والهداية بيد الله فمعناه أنك معاند ومصر على تركها. فالحاصل أن مثل هذا لابد أن يعاقب، فمن العلماء من قال: يدعى إلى الصلاة ثلاثة أيام فإن امتنع فإنه يقتل، وكيفية قتله أن يضرب بالسيف. ومنهم من قال: يضرب بالعصي إلى أن يموت أو يتوب ويصلي. ومعلوم أنه إذا هدد بالضرب فلابد أن يرجع ويلتزم بأداء الصلاة.

حكم جعل الطوب الأحمر في القبور

حكم جعل الطوب الأحمر في القبور Q إنني أعيش في بلدة يوجد فيها المقابر مبنية بالطوب الأحمر الذي دخل النار، فهل يجوز لي أن أقوم بدفن الموتى، مع العلم أنه إذا تركنا هذا الأمر يقوم به آخرون يفعلون البدع المحرمة؟ A لم يكن هناك دليل واضح على المنع من أن يجعل اللبن الأحمر أو اللبن الأسود في القبور، وإنما ذلك من اجتهاد كثير من العلماء تفاؤلاً فقالوا: لا يدفن في القبر شيء مسته النار. فقالوا: هذا الإسمنت قد مسته النار، وكذلك ما يصنع منه من البلك الأحمر أو الأسود أو ما أشبه ذلك. ومادام أن المسألة اجتهادية وأنه ليس هناك نص قاطع، وأنه يترتب على تركك لهذا العمل أن يتولاه المبتدعة فننصحك بأن تتولاه ولو جعل فيه هذا اللبن.

بيان الذين ارتدوا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم

بيان الذين ارتدوا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم Q يستدل بعض الرافضة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فأقول: أصحابي أصحابي. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) يستدلون بهذا على ردة الصحابة، فكيف الرد عليهم؟ A نعوذ بالله، معلوم أن أصحابه الذين صحبوه صحبة طويلة هم الذين قاتلوا المرتدين، والذين أحدثوا بعده هم قوم من الأعراب ارتدوا بعدما توفي، خلق كثير كانوا دخلوا في الإسلام في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فلما توفي ارتدوا وكفروا بعد إسلامهم، فمن الذي قاتلهم؟ قاتلهم الخلفاء الراشدون، وقاتلهم الصحابة، فمنهم من قتل على كفره، ومنهم من هرب ولم يقتل، ومنهم من رجع إلى عبادة الأوثان، ومنهم من منع الزكاة، ثم لما قاتلوهم هدى الله تعالى من اهتدى منهم ورجع إلى الإسلام، ومن لم يرد الله هدايته فإنه بقي على ضلاله، هؤلاء هم الذين أراد بقوله: (لا تدري ما أحدثوا بعدك) ، فالذين يذادون عن الحوض هم أولئك المرتدون، ويمكن أيضاً أنه يذاد عنه أيضاً المنافقون، ويمكن أن يذاد عنه المكذبون من الأمة من متأخريهم إلى يوم القيامة، ولو كانوا يصلون ويتوضئون فإنهم يذادون عنه؛ لأنهم ليسوا من الصادقين.

نصيحة للذين يأتون متأخرين ويزاحمون أصحاب الصفوف الأولى

نصيحة للذين يأتون متأخرين ويزاحمون أصحاب الصفوف الأولى Q هل من كلمة للإخوة الذين لا يأتون للمسجد إلا متأخرين، ويصرون على أن يكونوا في الصفوف الأولى غير مبالين بما يسببونه من زحام ومضايقة لإخوانهم الذين سبقوهم، ولما يحصل من عدم الخشوع في الصلاة للسابق والمسبوق؟ A على الذين يأتون المسجد أن يسارعوا ويسابقوا إلى الصفوف الأولى، والصفوف الأولى الأحق بها من سبق، فمن سبق فهو أحق، فالمتأخر يصف حيث يجد مكاناً، وليس له الحق في أن يزاحم حتى يتقدم في الصفوف فيضر بالمصلين فيزاحمهم ويضايقهم، ليس له حق في ذلك، بل عليه أن يصف حيث وجد مكاناً، فالمتقدمون هم الأحق بالصف الأول، ثم الذين يلونهم أحق بالثاني، وهكذا الثالث والرابع إلى أن يصير المتأخرون في آخر صف، هذا هو ترتيبهم، ويمكن أن يكون الشخص في الصف الأول ثم ينتقض وضوؤه أو يحتاج إلى تجديد وضوء، ففي هذه الحال له أن يلقي كتابه مثلاً في مكانه ويذهب ويتوضأ، ثم يرجع وهو أحق بمكانه.

شرح اعتقاد أهل السنة [11]

شرح اعتقاد أهل السنة [11] مما يؤمن به أهل السنة والجماعة ويعتقدونه: أن الناس في قبورهم على قسمين: إما منعمون وإما معذبون، وقد تواترت الأدلة على هذا الأمر من الكتاب والسنة، وأما المنكرون له فهم جماعة من الفلاسفة يقحمون العقل فيما لا يمكن له أن يدركه، وقد أجيب عنهم بأجوبة كثيرة مفحمة. ومن عقائد أهل السنة والجماعة أيضاً أنهم يكرهون الخصومات في الدين، وضرب الآيات والأحاديث بعضها ببعض.

عذاب القبر ونعيمه في عقيدة أهل السنة

عذاب القبر ونعيمه في عقيدة أهل السنة قال الشيخ الحافظ أبو بكر الإسماعيلي رحمه الله تعالى في بيان اعتقاد أهل السنة: [ويقولون: إن عذاب القبر حق يعذب الله من استحقه إن شاء، وإن شاء عفا عنه؛ لقوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] ، فأثبت لهم ما بقيت الدنيا عذاباً بالغدو والعشي دون ما بينهما، حتى إذا قامت القيامة عذبوا أشد العذاب بلا تخفيف عنهم كما كان في الدنيا، وقال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124] يعني: قبل فناء الدنيا؛ لقوله تعالى قبل ذلك: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] بين أن المعيشة الضنك قبل يوم القيامة، وفي معاينة اليهود والنصارى والمشركين في العيش الرغد والرفاهية والرفاهة في المعيشة ما يعلم به أنه لم يرد به ضيق الرزق في الحياة الدنيا؛ حيث إن المشركين في سعة من أرزاقهم، وإنما أراد به قبل الموت بعد الحشر. ويؤمنون بمسألة منكر ونكير على ما ثبت به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قول الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] ، وما ورد تفسيره عن النبي صلى الله عليه وسلم. ويرون ترك الخصومات والمراء في القرآن وغيره، كقول الله عز وجل: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر:4] يعني: يجادل فيها تكذيباً بها. والله أعلم. ويثبتون خلافة أبي بكر رضي الله عنه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم باختيار الصحابة إياه. ثم خلافة عمر بعد أبي بكر رضي الله عنه باستخلاف أبي بكر إياه. ثم خلافة عثمان رضي الله عنه باجتماع أهل الشورى وسائر المسلمين عليها عن أمر عمر. ثم خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه ببيعة من بايع من البدريين عمار بن ياسر وسهل بن حنيف ومن تبعهما من سائر الصحابة مع سابقته وفضله. ويقولون بتفضيل الصحابة الذين رضي الله عنهم] . من الإيمان بالغيب الإيمان بعذاب القبر ونعيمه، وهذا داخل في قول الله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:2-3] أي: يؤمنون بكل ما غاب عنهم من أمر الآخرة ومقدماتها. فعذاب القبر ونعيمه أمر غيبي؛ لأنا لا نشاهده، ولذلك جعل من أمر الآخرة، ولو كنا نحن الذين نواري الأموات وندفنهم ونجهزهم، ولكن نعرف أنهم قد خرجوا من الدنيا ودخلوا في حيز الآخرة، فهم في عداد أهل الآخرة، وأمر الآخرة محجوب عنا لا نطلع على تفاصيله، فلذلك صار من الإيمان بالغيب، ودخل في الإيمان باليوم الآخر، فمن أركان الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، والقدر، فنقول: إن الإيمان بعذاب القبر ونعيمه وما يكون في البرزخ داخل في اليوم الآخر. يقول العلماء: (من مات فقد قامت قيامته) إذا مات الإنسان وخرج من الدنيا فقد قامت عليه القيامة؛ حيث إنه أصبح من أهل الآخرة، وطويت أعماله وختم عليها، لا يستطيعون نقصاً من السيئات ولا زيادة في الحسنات، علم مقعده من الجنة أو مقعده من النار، فدخل في عالم الآخرة وعرف مآله وحالته فيكون من أهل الآخرة. ثم عذاب القبر ونعيمه هو أنه يعذب في البرزخ بحيث يصل العذاب إليه، أو ينعم بحيث يصل النعيم إليه، ومعلوم أن العذاب: هو الآلام التي تؤلم الإنسان ويتضرر بها، فالعذاب في الدنيا مثل الضرب والجلد والتجريح والطعن فهذا عذاب حسي، ومثل السب والثلب والعيب والقدح والقذف والإيذاء باللسان هذا يسمى عذاباً معنوياً، ولكن العذاب الذي ذكر في البرزخ هو عذاب حسي، والنعيم الذي ذكر في البرزخ هو نعيم حسي، ولكنه على الأرواح، فنقول: دلت على هذا العذاب مفصلاً الأحاديث الكثيرة، فمنها حديث البراء المشهور الذي روي في السنن والمسند وغيره، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال إلى الآخرة وانقطاع من الدنيا نزلت عليه ملائكة بيض الوجوه، معهم أكفان من الجنة وحنوط من الجنة، فيجلسون منه مد البصر، فيأتيه ملك الموت ويجلس عند رأسه فيقول: أيتها الروح الطيبة كانت في الجسد الطيب! اخرجي إلى روح وريحان، ورب غير غضبان. فيسلها من بدنه كما تسل الشعرة من العجين، فإذا أخذها لم يتركوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك الأكفان وذلك الحنوط، فيصعدون بها إلى السماء، ويخرج منها كأطيب ريح وجدت في الدنيا، ثم يمرون بها على الملائكة كلما مروا على ملأ من الملائكة سألوهم: ماهذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فلان. بأحسن أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، فإذا صعدوا بها إلى السماء يقول الله تعالى: ردوا عبدي إلى الدنيا؛ فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى. فتعاد روحه إلى جسده، ويأتيه ملكان فيجلسان عند رأسه فيقولان: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد. فيقولان: قد عرفنا ذلك، نم هنيئاً. فينام كنومة العروس لا يوقظه إلا أحب الخلق إليه، فيفتح له باب إلى الجنة فيأتيه من روحها وريحانها، فإذا رأى ذلك قال: رب! أقم الساعة) ، وفي رواية: (فيأتيه رجل طيب الريح، حسن الوجه، فيقول: أبشر باليوم الذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح) ، والحديث طويل، وفيه أيضاً أحاديث أخرى، وهذا بالنسبة إلى أهل السعادة، وذكر بضد ذلك أهل الشقاوة فيقول: (إن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزلت عليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم حنوط من نار، وأكفان من النار، فيجلسون منه مد البصر، فيأتيه ملك الموت فيقول: أيتها الروح الخبيثة كانت في الجسد الخبيث! اخرجي إلى سخط من الله وغضب. فتتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك الأكفان من النار، فيصعدون بها إلى السماء، فيخرج منها كأنتن ريح كانت في الدنيا، وكلما مروا على ملأ من الملائكة قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان بن فلان. بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، فإذا وصلت إلى السماء أغلقت دونها أبواب السماء؛ لقوله تعالى: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} [الأعراف:40] فتطرح روحه طرحاً، وتعاد روحه في الجسد فيأتيه ملكان إلى آخره) .

أدلة عذاب القبر ونعيمة

أدلة عذاب القبر ونعيمة تكلم العلماء على عذاب القبر ونعيمه، وأوردوا في ذلك الأحاديث الكثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار) ، والروضة معلوم أنها التي فيها الرياحين والأزهار والبهجة والسرور، والحفرة معلوم أنها إذا كانت من النار أن فيها حراً ووقوداً وجمراً وحرارة، ذُكر في الأحاديث أنه إذا كان مؤمناً فإنه يفسح له في قبره مد البصر، وإذا كان كافراً يضيق عليه حتى تختلف أضلاعه، وأنه إذا كان مؤمناً يفتح له باب إلى الجنة، وإذا كان كافراً يفتح له باب إلى النار، ويأتيه من حرها وسمومها. وقد أطال العلماء في ذكر عذاب القبر ونعيمه، وأورد ابن كثير رحمه الله الأحاديث التي وردت في ذلك عند قوله تعالى في سورة إبراهيم: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] ، وإن كان لم يستوفها، ولكنه أورد جملة كبيرة من الأحاديث.

قصص في عذاب القبر ونعيمة

قصص في عذاب القبر ونعيمة ألف العلماء تأليفات واسعة فيما يتعلق بعذاب القبر ونعيمه، وكذلك أيضاً في الحكايات التي وقعت لبعض المعذبين أو لبعض المنعمين، وإن كذبها بعض من لم يتسع ذهنه لها، فقد ذكر الذهبي في بعض كتبه أن إنساناً مات أخوه، فجيء إليه يعزى وإذا به يبكي بكاءً شديداً، فقيل له: أما علمت أن الموت حق؟! فقال: بلى. ولكني أبكي على ما كان فيه أخي من العذاب. فسُئل: ما سبب ذلك؟ قال: سقطت لبنة فأدخلت يدي بين اللبن وإذا بالقبر يتلظى. يقول: فاحترقت يدي. وأراهم يده فيها حرق، فسألوه عن أخيه: ما عمله؟ فقال: كان لا يؤدي الزكاة. فقالوا: لعل ذلك مأخوذ من قوله تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ} [آل عمران:180] . وكذلك ذكر بعضهم أنهم دفنوا إنساناً، ولما دفنوه في قبره نسوا فأساً كانت معهم، فحفروا القبر، فلما حفروه وجدوا ذلك الميت قد أدخلت يداه ورقبته في حلقة الفأس، وقد أوثق عليها، فردوا عليه التراب ودفنوه، فوجدوا له عملاً سيئاً. وذكر بعضهم أنه رأى قبراً كلما جاء الليل خرج صاحب القبر وعليه نار تشتعل ويشتعل قبره وهو فيه، فإذا طلع الصبح دخل في قبره، وأمثلة ذلك كثيرة. وذكر ابن رجب أنه رؤي بعض أهل العلم بعد موته في المنام، وإذا في وجهه سفعة من حرق، فسُئل: ما سبب ذلك؟ فقال: دفن عندنا فلان بن فلان فلفحتنا النار لفحةً نالنا منها هذا الأثر. يعني الذي هو أثر في وجهه. وأشباه ذلك. وهذه قصص تجدها في كتاب ابن رجب الذي يسمى (أهوال القبور في أحوال أهلها إلى النشور) ، طبع طبعة قديمة، ثم طبع -مع الأسف- طبعة أخيرة مغلوطة وفيها سقط وأخطاء كثير، فالطبعة الأولى هي المضبوطة. وتجدها أيضاً في كتاب (الروح) لـ ابن القيم، فإنه استوفى ما يتعلق بعذاب القبر وتكلم عليه كلام علم لا كلام حكايات وخرافات، كعادته رحمه الله. ولـ ابن أبي الدنيا مؤلفات صغيرة مطبوعة فيما يتعلق بعذاب القبر وحكايات وردت عنهم، وابن أبي الدنيا من علماء القرن الثالث رحمه الله، كان اهتمامه بهذه الحكايات والزهديات وما أشبهها. وبالجملة فإن عذاب القبر ونعيمه ورد في السنة يقيناً، حتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتعوذ منه في الصلاة، قال: (إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، وعذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال) ، فأمرنا أن نستعيذ في صلاتنا من عذاب القبر، وكان دائماً يستعيذ بالله من عذاب القبر ويأمر بذلك أصحابه.

دحض شبه منكري عذاب القبر ونعيمه

دحض شبه منكري عذاب القبر ونعيمه ذكر ابن القيم أن كثيراً من الفلاسفة الذين لا يؤمنون بالغيب أنكروا عذاب القبر، وادعوا أنه كذب، وقالوا: إننا بحثنا عن الميت بعد دفنه بثلاث فوجدناه على هيئته، ووضعنا على صدره الزئبق الذي هو أخف شيء حركةً فوجدناه لم يتغير، فكيف تقولون: إنه يجلس، وإنه يخاطب ويضرب بمرزبة من حديد، وإنه يصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلان؟ أين هذا ونحن لم نجد فيه أي تغير عن حالته التي مات عليها؟ فأجابهم: إنكم في عالم والموتى في عالم آخر، فإن أهل الدنيا في عالم الدنيا والأموات في عالم البرزخ، وأهل الدار الآخرة في عالم الآخرة ولكل منهما حكم، فأهل الدنيا معروف أنهم يحس بعضهم ببعض وينظر بعضهم إلى بعض، ونسمع كلام أحدنا ونرى شخصه ونلمسه ونعرف شخصيته، وأما الذي من أهل البرزخ فإن روحه قد خرجت من بدنه، ونحن لا نعلم ماهية تلك الروح ولا كيفيتها، فالعذاب الذي تلاقيه لا ندري ما كيفيته، لكنا نتحقق أن الروح هي التي تتعذب وتتألم، أما الجسد الذي هو هذا اللحم والعظم ونحوه فإنه بعد الموت يفنى ويصير تراباً كما هو مشاهد، وكما ذكر الله ذلك عن الكفار في قولهم: {أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الإسراء:49] ، ينقلب تراباً كما في قوله: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} [طه:55] أي: نعيدكم فيها إلى أن تصيروا تراباً. فالأحكام في البرزخ على هذه الروح، والروح بعد خروجها من الجسد تبقى إما منعمة وإما معذبة، ونحن لا نتصور ماهيتها، إن الأرواح التي تعمر هذه الأجساد عجز الخلق عن أن يتصوروا ماهيتها وأن يدركوا مما هي وأن يصلوا إلى تكييفها، فلذلك اقتصروا على قول الله تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85] ، اقتصروا على هذا فقالوا: هذه الروح نسلم أنها مخلوقة تبقى بعد خروجها من البدن، وإما أن تنعم وإما أن تعذب، وأن الحساب والعذاب في البرزخ على الأرواح. والله تعالى قادر على أن يوصل الألم إلى الأجساد ولو كانت رماداً في التراب، ولكن العذاب الحقيقي والنعيم الحقيقي على هذه الروح مشاهد. فالجن خلق ولكنا لا نراهم؛ لأنهم أروح ليس لهم أجساد، وإن كان لهم قدرة على أن يتشكلوا ويظهروا بمظاهر جسدية، ولكن الأصل أنهم أرواح، ولذلك لا نراهم، ولهم قدرة على ملابسة الإنس وأن يخالطوا الإنسي وينتشروا في جسده ويلاطفوه حتى تغلب روح الجني على روح الإنسي، فلذلك الذي معه مس من الجن تغلب روح الجني عليه، وذكر شيخ الإسلام أن الذي يصاب بهذا الجنون تتغلب عليه تلك الروح الجنية، وأنه إذا ضرب فإن الضرب يقع على الجني، ولهذا كان رحمه الله إذا جيء بمن هو مصروع من الجن يضربه ضرباً شديداً، فيصيح ذلك الجني ويتألم، وإذا خرج سأل الإنسي: هل أحسست بضرب؟ فيقول: ما أحسست بشيء ولا شعرت أنني ضربت. لأن الضرب يقع على ذلك الجني. فنقول: هذه الروح التي فيك -أيها الإنسان- هي التي يحيا بها الجسد، فإذا نزعت من الجسد بقي الجسد جثة ليس فيه حياة، لا يتألم ولا يحس بضرب ولا بغيره، أين ذهبت تلك الروح؟ الله أعلم، تذهب إلى عالم الأرواح، يصيبها عذاب أو نعيم، وتلقى ما تلاقيه إن كانت سعيدة من السرور، وتلقى ما تلاقيه إن كانت شقية من العذاب والآلام، فهي في عالم ونحن في عالم. وقد اختلفوا: أين تكون أرواح المؤمنين وأرواح الكافرين؟ فذكر بعضهم أن أرواح المؤمنين في بئر زمزم -وقيل: إنها في السماء- وأن أرواح الكفار في بئر بحضرموت، ولكن هذا قول من الأقوال، والله تعالى قد ذكر شيئاً من ذلك في قوله: {إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين:18] ، قيل: المراد به أرواحهم، {وإِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين:7] قيل: إنه أسفل سافلين. فالله أعلم بمقر هذه الأرواح، ولكن هي التي في هذه الدنيا تتألم وتتعذب. فلا يلتفت إلى أقوال الفلاسفة الذين يقولون: إن الجسد لم يتغير، وإنا وجدناه على هيئته عندما وضعناه، وإنه لم يتحرك بأدنى حركة. نقول: صدقتم، فالجسد لا يتغير؛ لأنه جثة، ولكن الحساب والعقاب على الروح، وما ذكر من إجلاسه وسؤاله إنما يتوجه على الروح.

جواب مجمل ومفصل على منكري عذاب القبر

جواب مجمل ومفصل على منكري عذاب القبر أنكر بعضهم أيضاً عذاب القبر، وقالوا: كيف لم يذكر في القرآن مع أنه من أركان الإيمان ومن أصوله؟ فأجاب عن ذلك ابن القيم بجوابين: مجمل ومفصل. فالمجمل يقول فيه: ثبت بالسنة وفي السنة كفاية؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بالكتاب والسنة، فإذا بينه في سنته وبين أسبابه وبين العذاب الذي يحصل به وبين نوعه وذكر بعض الأعمال التي يعذب بها، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (تنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه) ، وفي الحديث: (أنه مَرَّ باثنين يعذبان في قبريهما فقال: أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول، وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة) ، ثم ذكر أيضاً أن هذين من أسباب العذاب في القبر، ومر على مقبرة وسمع فيها صياحاً فقال: (يهود تعذب في قبورها) . لا شك أن مثل هذا أدلة واضحة، وكذلك الأمر بالاستعاذة من عذاب القبر في أحاديث كثيرة قد تبلغ حد التواتر، قد تكون -مثلاً- مائة حديث كلها في عذاب القبر، ألا يكون ذلك دليلاً؟! ألا يكون ذلك كافياً؟! يكفي أن نعتقد أن عذاب القبر ثابت، وأنه دلت عليه السنة النبوية فنقبلها ونتقبلها. هذا جواب. والجواب الثاني جواب مفصل، ذكر فيه بعض الأدلة -وقد أشار إلى بعضها الإسماعيلي - يقول: إن عذاب القبر حق، يعذب الله من استحقه إن شاء وإن شاء عفا عنه. ثم ذكر أدلة، فالدليل الأول هذه الآية في سورة غافر: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] أثبت لهم ما بقوا في الدنيا عذاباً بالغدو والعشي دون ما بينهما، فإذا قامت القيامة عذبوا أشد العذاب. ذكر بعضهم أنهم كشف لهم ورأوا في الصباح طيوراً تذهب إلى جهة وهي بيض، ثم ترجع في المساء وهي سود، فسألوا عن ذلك فقال بعضهم: هذه أرواح آل فرعون تذهب في الصباح وهي منعمة -يعني: بيضاء- فتلقى في النار وتحترق فيها وتعذب وترجع في العشي وقد انقلبت إلى السواد من الحرق يعني أن الله تعالى قادر على أن يجعلها في أجساد هذه الطيور كما فعل ذلك بالشهداء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله جعل أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تعلق في شجر الجنة) أرواحهم فارقت أجسادهم، والله تعالى ذكر أنهم: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] ، فعلى هذا جعلت أرواحهم في أجواف الطير حتى يكون لها إحساس، واختير أن يكون الطير أخضر تدخل في الجنة وتعلق في شجر الجنة وتأكل من ثمارها وأزهارها حتى ترد إلى أجسادها. فعلى هذا أرواح المؤمنين تنعم، سواء جعلت في أجواف الطير أو مستقلة، وأرواح الكافرين كآل فرعون تعذب فتحرق في النار وتلقى فيها وتتألم بهذا التألم الذي ذكره الله إلى أن تنقضي الدنيا، ويأتي يوم القيامة فيقال: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] .

معنى المعيشة الضنك الحاصلة للكافرين

معنى المعيشة الضنك الحاصلة للكافرين ذكر المؤلف آية أخرى في سورة طه هي قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] ، المعيشة الضنك قيل: إنها عذاب القبر. وقيل: إنها في الدنيا. ولكن هل كل من أعرض عن ذكر الله تعالى في الدنيا تكون معيشته ضنكاً؟ ليس كذلك، نشاهد ويشاهد من قبلنا أن كثيراً من المعرضين والكفار يعطون نعيماً في الدنيا ويتوسعون في المآكل والمشارب والمساكن والملابس والمراكب والفرش، ويؤتى عليهم بما يتمنونه من الأغذية والمشتهيات والفواكه والمستلذات والمآكل بأنواعها من اللحوم والخبز وما أشبهها، فأين المعيشة الضنك والله تعالى يقول: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124] ؟! إذاًَ هي في البرزخ، يلقى ضنكاً في البرزخ ولو لم يكن محتاجاً إلى المعيشة؛ لأن الأرواح في البرزخ لا تحتاج إلى غذاء ولا إلى أكل فالأكل خاص بالبدن، فتكون المعيشة هنا معناها اللذة والسرور، أو الهم والغم والتضييق والأذى والعذاب الذي تلاقيه تلك الأرواح، وهكذا اختار المؤلف أنه قبل فناء الدنيا لهم معيشة ضنك ثم يقول الله تعالى بعد ذلك: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] ، فذكر أنهم يحشرون في الآخرة على هذه الحال، يعني: قد فقدوا بصائرهم، فبين أن المعيشة الضنك التي قال الله: إنها لهم جزاء إعراضهم تكون قبل يوم القيامة؛ لأنه قال: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [طه:124] ، فتبين أن المعيشة إما في الدنيا وإما في البرزخ. ونحن نعاين اليهود والنصارى والمشركين في الدنيا في عيش رغيد ورفاهية في المعيشة وسعة في الرزق، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) بمعنى أن الكافر يعطى فيها ما يتمناه فكأنه في جنة، وأما المؤمن فإنه لا يأخذ منها إلا ما يقوته وما يعبر به حياته، فكأنه في سجن. ويقول الله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ} [الزخرف:33] ، والسقف: ما يسقف به البيت من فضة، {وَمَعَارِجَ} [الزخرف:33] ، يعني: السلم من فضة، {عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا} [الزخرف:33-34] يعني: من فضة {وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} [الزخرف:34] جمع سرير، {وَزُخْرُفًا} [الزخرف:35] يعني: ذهباً، {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:35] ، فالحاصل أن هذه الآية دليل على أن المراد بالمعيشة الضنك عذاب القبر. فإذا نظرنا إلى معيشتهم وما هم فيه من السعة علمنا أنه لم يرد ضيق الرزق في الحياة الدنيا؛ لوجود كثير من المشركين في سعة من أرزاقهم، وإنما أراد بعد الموت وقبل الحشر، أي: عذاب القبر. فتكون هذه الآية دليلاً على إثبات عذاب القبر. ومن الأدلة التي ذكرها ابن القيم قول الله تعالى في سورة السجدة، {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ} [السجدة:21] ، فالعذاب الأدنى فسر بأنه عذاب القبر. ومن الأدلة قوله تعالى في سورة التوبة: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة:101] ، (مرتين) قيل: مرة في الدنيا ومرة في البرزخ، ثم يكون العذاب في الآخرة. وآيات أخرى استند إليها ابن القيم وبين أنها دالة عليه وإن لم تكن صريحة.

الإيمان بفتنة منكر ونكير

الإيمان بفتنة منكر ونكير ثم يقول: [ويؤمنون بمسألة منكر ونكير، على ما ثبت به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم] . ورد في أحاديث -وإن لم تكن في الصحيح- أن فتاني القبر اسمهما منكر ونكير، يقال لأحدهما: منكر، وللآخر نكير. وإن أنكر بعضهم صحة الأحاديث في ذلك، ولكنها مع كثرتها قد يشهد بعضها لبعض، والفتانان في القبر ثبت في الخبر أنهما اللذان يفتنان الناس. ومما يدل على ذلك الآية في سورة إبراهيم، فلما سئل النبي صلى الله عليه وسلم وقيل له: إن الإنسان في الدنيا إذا جاءه من يفزعه ويسأله هذه المسائل المفزعة قد يتلعثم ويتحير؛ لأنه ذكر أن الملائكة الذين يعذبون أصواتهم مثل الرعد، وأبصارهم مثل البرق الخاطف، فكيف يثبت الإنسان أمام هؤلاء؟! فقرأ هذه الآية: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] ، فتثبيتهم في الدنيا هو تثبيتهم على العقيدة والشهادة والإيمان {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، والقول الثابت منه الشهادتان، وأركان الإيمان، ومعرفة الله تعالى، ووصفه بصفات الكمال، وتنزيهه عن صفات النقص وما أشبهه ذلك. وبقي التثبيت في البرزخ {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} ، ومن الآخرة البرزخ، فيثبتهم الله في البرزخ عندما تأتيهم الملائكة الذين رؤيتهم وأصواتهم وأبصارهم مفزعة، فإن الله يثبتهم ويربط على قلوبهم فلا يفزعون، بل يثبت أحدهم فيقول: ربي الله، ديني الإسلام، نبيي محمد. كما ذكر ذلك في حديث كسوف الشمس لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم: فقد ذكر أنه رأى في صلاته أنكم تفتنون في قبوركم مثل فتنة المسيح الدجال، وذكر أنه يقال لأحدنا: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وكل ذلك دليل على أن هذه الآية -كما فسرها النبي صلى الله عليه وسلم- دالة على عذاب القبر. وقد ذكرنا أن ابن كثير وابن جرير سردا عندها أحاديث كثيرة تتعلق بعذاب القبر.

كراهية أهل السنة للنزاع والاختلاف في الدين

كراهية أهل السنة للنزاع والاختلاف في الدين قال المؤلف رحمه الله: [ويرون ترك الخصومات والمراء في القرآن وغيره؛ لقوله عز وجل: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر:4] يعني: يجادل فيها تكذيباً بها] . كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره الخصومات والمنازعات، ويحث على أن يتقبل الإنسان كل ما جاءه من الآيات، وما عرف منها فإنه يعمل به ويقول به، وما التبس عليه فإنه يؤمن به ويعرف أنه حق وعلى حقيقته، ولا يتقعر في البحث عنه، ولا يضرب كتاب الله بعضه ببعض، ففي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه جاء مرة هو وأخوه إلى المسجد النبوي، فوجدا في المسجد حلقة من الصحابة، وإذا هم يتنازعون في القدر، يعني: كأنهم يتنازعون في إثبات قدرة الله تعالى، فهذا ينزع بآية وهذا ينزع بآية فيتجادلون، وقد أدى بهم ذلك إلى الاختلاف وإلى أن ادعوا أن القرآن يخالف بعضه بعضاً، هذا يستدل بآيات على ما يقوله، وهذا يستدل بآيات على ما يقوله، وارتفعت أصواتهم حتى سمعها النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج عليهم مغضباً قد احمر وجهه وكأنما فقئ في وجهه حب الرمان، فوقف عليهم وقال: (يا عباد الله! أبهذا أمرتم؟ أم بهذا كلفتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟! ما عرفتم منه فقولوا به واعملوا به، وما لم تعلموا فكلوه إلى عالمه ولا تضربوا بعضه ببعض) ، فنهاهم عن هذا الجدال وهذه المنازعات. فنحن نقول: إن كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم نزلت ليصدق بعضها بعضاً، فهكذا علينا أن نعمل بها، وأن نقول بها ولا نجادل ولا نخاصم ولا نضرب بعض الآيات ببعض، بل نعمل بما ظهر لنا منها، وما أشكل علينا نكله إلى عالمه، ونعلم حقاً أن كله حق، وأن كتاب الله تعالى محكم لا يمكن أن يكون فيه اختلاف، كما قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82] ، فهو يصدق بعضه بعضاًَ، فليس فيه اختلاف، هذا هو الذي يعتقده أهل السنة، وإذا استدل بعضهم بآيات وادعى أن فيها دلالة على مذهبه نرد عليه بأنها في الحقيقة ليست على ما يقوله المبطلون والمضلون ولو فهم منها ما فهم، فالعيب من سوء الفهم. ثم تكلم بعد ذلك الإسماعيلي على الخلفاء الراشدين، فذكر أنهم يثبتون خلافتهم، فأولهم الخليفة الراشد أبو بكر رضي الله عنه، اختاره الصحابة ورضوا بخلافته، ثم إنه رضي الله عنه عند موته استخلف عمر وأقره الصحابة على خلافته، وبقي خليفة إلى أن قتل رضي الله عنه، ثم استخلف بعده الصحابة عثمان رضي الله عنه، حيث اجتمع عليه أهل الشورى ورضوا بخلافته وبايعوه، ثم لما قتل عثمان رضي الله عنه اتفق الصحابة الباقون على تولية علي رضي الله عنه ومبايعته، فبايعه بقية الصحابة، وإنما لم يبايعه بعض الصحابة لا لأهليته ولكن لأمر عرض لهم، فأهل مكة الذين خرجوا إلى الشام بقيادة عائشة ومن معها لم يدعوا أنه ليس أهلاً، ولكن أرادوا بذلك المطالبة بدم عثمان، وكذلك أهل الشام الذين جاؤوا بقيادة معاوية لم يطعنوا في خلافة علي، ولكنهم كانوا يطالبون بدم عثمان.

الأسئلة

الأسئلة

حكم زيادة الثمن في البيع الآجل

حكم زيادة الثمن في البيع الآجل Q إذا أراد شخص شراء سيارة، وكانت قيمتها بالدينار البحريني عشرة آلاف دينار، وأراد الدفع بالتقسيط فإن المعرض يحسب له سعرها بأحد عشر ألف دينار، فهل هذا جائز؟ A جائز إن شاء الله، وتكون الزيادة مقابل الأجل، وذلك لوجود الخلاف أو التفاوت بين الثمن المنقود والثمن الغائب، فمثلاً: إذا أتيت لتشتري سيارتين من إنسان فقلت له: إحداهما ثمنها نقد والأخرى ثمنها مؤجل لمدة سنة. فإنه لا يساوي بين الثمنين، بل الثمن المنقود يجعله رخيصاً كعشرة آلاف، والثمن المؤجل يزيد فيه مقابل الأجل، فهو يقول: هذه العشرة التي تنقدها أنتفع بها هذه السنة وأكتسب بها أرباحاً، فتكون الزيادة التي أزيدها مقابل الأجل؛ لأني لا أنتفع بها بل أنت الذي سوف تنتفع بها طوال هذه السنة وهذا عليه عمل الناس. ومعروف أنه لو دخل السوق اثنان لشراء سلعة أرز أو نحوه، وكلاهما يريد أن يشتري، وأحدهما بيده دراهمه والآخر ليست معه دراهم، وإنما يشتري ديناً لمدة نصف سنة أو سنة، فجاءا إلى صاحب الأرز، فمعلوم أنه لا يبيعهما سواء، فالذي معه نقوده يبيعه بمائة، والذي ليس معه نقود يبيعه بمائة وعشرة أو مائة وعشرين؛ لأن هذا هو الذي يناسبه، وكلاهما يشتري باختياره.

حكم شراء السيارات من المعرض عن طريق البنك بالتقسيط

حكم شراء السيارات من المعرض عن طريق البنك بالتقسيط Q يوجد في بلدنا بنك إسلامي، بحيث إنني إذا رغبت في شراء سيارة ولم يتوافر عندي المال للشراء أذهب إلى البنك الإسلامي، فيشتري لي تلك السيارة التي أحددها ثم يبيعها لي بالتقسيط ويزيد في ثمنها الأصلي، فهل هذه المعاملة جائزة؟ A جائزة إن شاء الله، وذلك لأمور: أولاً: لأنه بنك إسلامي. ثانياً: أن البنك يشتريها لنفسه من المعرض، يتصل بالمعرض فيقول: احجز لنا سيارة صفتها كذا وكذا. فإذا حجزها أرسل إليه ثمنها، فإذا أرسلها أرسل من يستلم مفاتيحها ويفحصها ويكشف عليها، ولابد أن ينقلها من مظلة إلى مظلة، أو يخرج بها من المعرض، ثم بعدما تدخل في ملكية البنك يعرضها عليك -أيها المشتري- فيقول: اشتريناها من المعرض بأربعين ألفاً، وحيث إنك تشتريها لمدة ثلاث سنين فإننا نزيد عليك خمسة آلاف أو عشرة، ولا نكرهك ولا نلزمك، فإذا اخترتها فخذها بما نقول، وإن تركتها بعناها لغيرك. وهذا يجوز أن يفعله غير البنك؛ إذ لو جاءك إنسان وأنت عندك دراهم وقال: إني بحاجة إلى سيارة ولا ثمن معي فقلت له: إني سوف أشتري سيارة وأعرضها عليك للبيع. فاشتريت السيارة وأتيت بها بعدما سلمت ثمنها ودخلت في ملكيتك ولو لم تغير أوراقها ولم تكتبها باسمك؛ لأن الأوراق ليست شرطاً في الملكية، فبعدما تدخل في ملكك وبعدما تحوزها تعرضها عليه، فإن اختار أن يشتريها فهي له، وإن امتنع منها فلا تلزمه بها.

معنى الخشية في الشرع وأقسامها

معنى الخشية في الشرع وأقسامها Q لقد علمنا من نصوص الكتاب والسنة أن الخشية لا تكون إلا لله، فما هو تفسير الآية: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37] ؟ A الخشية هي نوع من الخوف، ومعلوم أن الخوف ينقسم إلى قسمين: خوف سري وخوف طبيعي. فالمراد بالخشية هنا: {وَتَخْشَى النَّاسَ} الخوف الطبيعي والخشية الطبيعية، وذلك لأن الإنسان يخاف -مثلاً-: من الأعداء أن يمكروا به خوفاً طبيعياً، ولذلك يأخذ حذره، ويخاف من الأمراض، ولذلك يبتعد عنها وعن أسبابها، ويخاف من السباع فلذلك يتجنبها، فيقول: تركت دخول هذا الشِعب خوفاً من السباع التي فيه، وتركت المبيت في هذه البقعة خوفاً من الحيات أو الهوام التي فيها. أو: اشتريت هذا اللحاف خوفاً من البعوض الذي يؤذيني. أو: اشتريت هذا السلاح خوفاً من الأعداء حتى أتحصن وأحفظ نفسي. فمثل هذا يسمى خوفاً طبيعياً فلا يدخل في الشرك، وكذلك الخشية الطبيعية. فالآية في سورة الأحزاب يقول الله فيها: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37] ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يتزوج امرأة زيد التي هي زينب لأن أهل الجاهلية يعتقدون أنه لا يجوز أن يتزوج الرجل زوجة ابنه الذي قد تبناه. وهو قد تبنى زيداً؛ لقوله: (هو ابني) ، فأحب أن يتزوجها ولكن خشي أن الناس سيقولون: تزوج زوجة ابنه الذي تبناه، فلما خشي من ذلك عاتبه الله وقال: لا تخش الناس وتزوجها {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب:37] ، {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب:37] . فهذا هو معنى خوفه، ولم يكن خوفاً سرياً، فالخوف السري هو أن يخاف من أشياء غير حسية، كأن يخاف من الأصنام أن تبطش به، أو من الأولياء الذين يدعون من دون الله أنهم يعذبونه، أو من الأنداد أنها تبطش به، أو نحو ذلك، فالخوف في ذلك عبادة سرية.

حكم وضع اللصقة على مواضع الوضوء

حكم وضع اللصقة على مواضع الوضوء Q ما حكم اللصقة التي توضع على الظهر، هل لها حكم الجبيرة في الغسل؟ A يجوز استعمالها، ولها حكم الجبيرة عند الحاجة، أو نقول: لابد أن يغسل مكانها قبل إلصاقها، فإن كانت في موضع من أعضاء الوضوء -كما إذا كانت على الذارع أو القدم أو جزء من الوجه- فإنه ينظف محلها ثم يلصقها، ويسن أن يكون على طهر، أما إن كانت في البطن أو الظهر أو الصدر أو الجنب أو أحد الفخذين أو الساقين -أي: في غير أعضاء الوضوء- فإنه يغسل محلها ثم بعد ذلك يلصقها، فإذا أصابته الجنابة اكتفى بإمرار الماء عليها، وإذا أراد الوضوء وكانت في أعضاء الوضوء اكتفى بغسلها إذا كان الغسل لا يضرها، فإن كانت على جرح ويتألم أن يغسل الجرح اكتفى بإمرار اليد عليها مبلولة بالماء.

الدفن في المدينة النبوية

الدفن في المدينة النبوية Q هل ورد حديث في فضل الدفن في المدينة النبوية؟ A لا أذكر أنه ورد أن الموت في المدينة أو أن الدفن في البقيع أو نحو ذلك فيه فضيلة، ولكن لما كان البقيع قد دفن فيه جُل الصحابة، وكذلك لشرف المكان، وأنها إحدى الحرمين كان هذا مما يبعث الكثير من الناس على أن يستقروا في المدينة وأن يختاروا الإقامة فيها، ولكل اختياره.

حكم الإسبال لغير خيلاء

حكم الإسبال لغير خيلاء Q في بلدي منتشر الإسبال انتشاراً كبيراً، وقد دعمه عالم عندنا لما أفتى بجواز الإسبال من غير خيلاء وتكبر، فهل هذا العالم على حق، وهل يجوز لنا تقليده؟ A ليس على حق، والإسبال محرم ولو اشتهر وانتشر، ولو لم يكن عن خيلاء ونحو ذلك، وقد يتمسك هؤلاء بقصة أبي بكر، ونعتذر عن أبي بكر بأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه. فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله! إن أحد طرفي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إنك لا تفعل ذلك خيلاء) ، انظر أولاً إلى أنه أحد الطرفين ولم يكن الإزار كله، وإنما طرف من أطرافه. ثانياً: أنه كان يتعاهده. أي: إنما يفعل ذلك على حين شغل، فإذا كان -مثلاً- يشتغل في تجارته فإنه يقوم ويقعد، والإزار الذي يلبسه كإزار المحرم، فقد يكون مع الشغل ينحسر طرف الإزار، أو أحد طرفيه ينحسر فيتدلى إلى أن يتجاوز الكعب، فإذا تعاهده رفعه بسرعة، ولذلك قال: (إلا أن أتعاهده) . فأين هذا من فعل الذين يتعمدون إرخاء الإزار كله أو إرخاء القميص كله، أو السراويل إلى أن تصل إلى تحت الكعب أو إلى أن يغطي القدم كلها، وربما يصل أيضاً إلى الأرض؟! لا شك أن هذا ليس كفعل أبي بكر. وأيضاً قد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن الإسبال وهي صحيحة معمول بها، مثل الحديث الذي فيه: (ثلاثة لا يكلمهم الله إلى قوله: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب) ، وحديث: (ما أسفل من الكعبين فهو في النار) ، وأحاديث أخرى توجد في محلاتها.

حكم الشهادة بالجنة لمن اشتهر بالخير

حكم الشهادة بالجنة لمن اشتهر بالخير Q هل من اشتهرت عدالته يشهد له بالجنة، كالإمام أحمد وابن تيمية وغيرهما؟ A يرجى ذلك، ويقال: إن كثرة الثناء عليهم تدل على البشرى، فنرجو للمحسنين ونخاف على المجرمين، والرجاء إنما هو لأجل ما اشتهر عنهم من الخير والفضل، ونترحم عليهم ونثني عليهم، ويكون هذا الثناء عليهم وسيلة أو سبباً من أسباب القبول، ولعل ذلك يكون سبباً في دخولهم الجنة، وثبت في الصحيح: (أنه مُرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة فأثنوا عليها خيراً فقال: وجبت. ثم مر بجنازة فأثنو على صاحبها شراً فقال: وجبت. فسُئل فقال: هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض) فقيل: إن هذا خاص بالصحابة؛ لأنهم أورع من أن يثنوا على من لا يستحق الثناء. وقيل: إنه عام في أن أهل الخير والإيمان إذا أثنوا على إنسان خيراً فإن ذلك مما يرجح أنه من أهل الخير.

حكم الشهادة بالنار لمن اشتهر بمحاربة الإسلام

حكم الشهادة بالنار لمن اشتهر بمحاربة الإسلام Q هل يحكم على أئمة الكفر في هذا الزمان أنهم من أهل النار لما نرى من حربهم للإسلام وموتهم على ذلك؟ A نحكم عليهم من حيث العموم، فنقول: اليهود من أهل النار عموماً، والنصارى من أهل النار عموماً، والمشركون والشيوعيون ونحوهم من أهل النار عموماً. وكذلك أيضاً نحكم على أفعالهم التي يكيدون بها للإسلام، فنقول: إنهم بهذا يستحقون العذاب، وبهذا يحذر من أفعالهم وما أشبه ذلك، ولكن الفرد نقول: أمره إلى الله. ولو تحققنا أنه مات على الكفر فإن أمره إلى الله، لكن من حيث العموم نشهد لهم بالنار.

حكم المتهاون في أداء الصلاة

حكم المتهاون في أداء الصلاة Q ما الحكم في رجل يصلي فترة من الزمن ثم يطرأ عليه كسل فيتركها لفترة أسبوع أو أقل، ثم يرجع إلى أدائها دون قضاء ما فاته، فماذا عليه، وهل تبطل أعماله الصالحة السابقة لتركه للصلاة؟ A لا شك أن هذا فعل مستقبح، وهو تركه للصلاة مدة ولو يوماً فضلاً عن أسبوع، وفضلاً عن شهر متوالٍ، ولو صلاة واحدة يتعمد تركها بدون عذر، فلا شك أن هذا ذنب كبير، فنحن نقول: عليه أن يتوب وأن يرجع عن هذا الترك، وأن يواظب على الصلاة ويحافظ عليها ويستمر على ذلك بقية حياته، وإن مات وهو على هذا التكاسل وعلى هذا التضييع وعدم الانتباه لما مضى فيخشى عليه من عذاب الله، ويخشى عليه من الخاتمة السيئة.

خدمة المرأة لزوجها في بيته

خدمة المرأة لزوجها في بيته Q زوجتي ترفض خدمتي في البيت من إصلاح الطعام وغسل الثياب، وتقول: إن هذا ليس بواجب. وتطالبني بالدليل على الوجوب، كما تطالبني بإحضار خادمة، وتقول: إن هذا واجب ومن الحقوق التي لها كما ذكر في الروض. فما هو الحكم الشرعي في هذا؟ A لك أن تقنعها، وتبين لها أن من حق الزوج على زوجته أن تخدمه الخدمة المعتادة، فإن هذا هو الذي عليه العمل، ودليل ذلك فعل أمهات المؤمنين؛ إذ لم يكن عندهن خادمات، بل كن يعملن، كل واحدة تعمل في بيتها، ودليل ذلك أيضاً فعل فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، ففي بعض الروايات أنها طحنت حتى مجلت يداها، وأنها خبزت وتعبت، ولما جاء خدم وسبي طلبت منه صلى الله عليه وسلم أن يعطيها خادمة تكفيها، فامتنع وقال: (أعطيك وأدع أهل الصفة؟!) ، ولم يعطها خادمة. ومن ذلك أيضاً قصة أسماء أخت عائشة زوجة الزبير، فقد كانت تخدم زوجها، وكان عنده فرس في بستان له مسيرة ميلين -أي: ساعة ونصف-، وتطحن له علفاً، تحمل ذلك العلف -وهو النوى- على رأسها، وتسير مسيرة ساعة ونصف ذهاباً وساعة ونصف إياباً حتى توصله إليه، وزيادة على كونها قد جمعته تكسره ثم تطبخه، زيادة على ما تعمله في البيت، فأين هذا من هؤلاء؟! فما يوجد الآن إلا إصلاح الطعام أو تغسيل الثياب أو إخراج قمامة الدار، أما الطحن فليس مما يفعلنه، وكذلك تكسير النوى وإعلافه للدواب هذا لا يوجد في هذه الأزمنة، فلا تستنكف المرأة أن تخدم زوجها بهذه الخدمة اليسيرة.

حكم الصلاة في مسجد فيه قبر

حكم الصلاة في مسجد فيه قبر Q ما حكم الصلاة في مسجد وضع فيه قبر، أو تم بناء المسجد على القبر، وإذا سافرت إلى قرية ولا يوجد فيها إلا مسجد واحد فقط وفي هذا المسجد قبر هل يجوز لي أن أصلي معهم محافظة على الجماعة أم أصلي في المنزل؟ A يجب أن ينبش هذا القبر إن كان جديداً، وإذا كان قديماً أو هناك قبور كثيرة من قبور المسلمين يجب أن ينقل المسجد إلى مكان آخر، وذلك بأن يهدم ويبنى في مكان آخر ليكون ذلك أبعد عن الصلاة في المساجد التي فيها القبور، وقد تكاثرت الأدلة في النهي عن ذلك، ولكن إذا كنت فرداً واحداً وأهل البلد كلهم مجتمعون في هذا المسجد على هذا القبر أو على هذه القبور ولم تجد مسجداً غيره فلا نأمرك بأن تترك صلاة الجماعة بل صلِّ ونيتك أن صلاتك خالصة لله، وأن صاحب القبر ليس له تأثير في قبول الصلاة ولا في مضاعفتها كما يعتقد ذلك القبوريون، فإن الذين يصلون عند المقابر يقولون: إن هذا الولي يشفع في قبول صلاتنا. أو: إنه يشفع في مضاعفتها فتكون عدة صلوات أو عدة حسنات. ولا شك أن هذا من وساوس الشيطان، فلأجل ذلك إذا سلم الإنسان من هذا الاعتقاد فلا بأس، أما إذا وجدت مسجداً غيره فإياك أن تصلي في هذا المسجد.

حكم إخبار مغسل الأموات عن حالة الميت

حكم إخبار مغسل الأموات عن حالة الميت Q أنا أغسل الأموات في بلادي، وقد يأتي إليَّ أهل الميت بعد أيام ويسألوني عن ميتهم بحجة أنهم قد يجتهدون بالدعاء له والصدقة عنه إذا كانت حالته محزنة، فما حكم ذلك؟ A لا بأس بذلك، وهذا العمل الذي هو تغسيل الأموات عمل فاضل ولك أجر إذا احتسبته عند الله، وأما ما يظهر على الأموات فلا بأس بالإخبار عما تراه حسناً، فلو أنك رأيت وجهه مشرقاً وأنت تغسله، أو جسده يخرج منه نور يتلألأ، أو أصبعه مرتفعة بالشهادة عند موته وبقيت مرتفعة نحو السماء عند تشهده فإنك تحدث بذلك، وأما إذا كان مسرفاً على نفسه كالذي لا يصلي أو نحو ذلك، ورأيت فيه علامة شقاوة، كأن رأيت وجهه أسود، أو جسده له حرارة أو نحو ذلك، وأخبرت بذلك حتى يبتعد عن مثل طريقته، ويكون ذلك سبباً في أن أهله يدعون له أو نحو ذلك فلعل ذلك مما يباح الإخبار به، مع أن الأولى ستر المؤمن إذا كان ظاهره الخير، ونرجو للمؤمنين ونخاف على المذنبين.

شرح اعتقاد أهل السنة [12]

شرح اعتقاد أهل السنة [12] اهتم علماء أهل السنة والجماعة رحمهم الله بذكر خلافة الخلفاء الأربعة وإثباتها لهم، وذلك رداً على ما يذكره الرافضة في عقائدهم من إنكار خلافتهم، ولعنهم وسبهم لكل الصحابة وللخلفاء خاصة، كما أنهم يذكرون تبعاً لذلك شيئاً من فضائلهم وأدلة أحقية خلافتهم من الكتاب والسنة، والنصوص الواردة على فضلهم مشهورة منشورة في الكتاب والسنة، وهي من جهة أخرى تحكم على مبغضهم أو الطاعن فيهم بالكفر والضلال.

عقيدة أهل السنة في الخلفاء الراشدين

عقيدة أهل السنة في الخلفاء الراشدين

سبب ذكر خلافة الخلفاء الراشدين في العقائد

سبب ذكر خلافة الخلفاء الراشدين في العقائد سبب ذكر الخلافة الراشدة في العقيدة مع أنها واقع تاريخي أن الخلاف فيها وقع مع الرافضة الذين ينكرون خلافتهم، بل في الطعن فيهم، أي: في ثلاثة منهم. بل تعدى ذلك إلى تكفيرهم وشتمهم وعيبهم وسبهم من قبل هؤلاء الرافضة، وكان سبب ذلك أن علياً رضي الله عنه لما كان في العراق كان حسن السيرة محبوباً عند أهل البلد بحسن سيرته وبما له من الآثار، حتى حمل ذلك كثيراً منهم على الغلو فيه إلى أن ادعوا أنه إله، كما فعل الذين أحرقهم حينما سجدوا له. ثم زادت محبتهم له لما كان في خلافة بني أمية بعض الأمراء الذين يسبونه ويتبرؤون منه، وذلك في إمارة الحجاج الذي تولى العراق نحو عشرين سنة أو أكثر، وكان مبتلى بالبغض لـ علي رضي الله عنه، فكان في المنبر يعلن سبه أمام الناس، ولا شك أن هذا مما يحزن أولئك المتشيعين له، فكلما سمعوه يشتمه أمام الناس على المنبر فلابد أن يحز في نفوسهم ويقلقهم ويفزعهم ذلك؛ لأنهم يحبونه، فلابد أنهم كانوا يجلسون مجالس خاصة ويتبادلون فيها سيرة علي ويتحدثون فيها عن فضائله، ولابد أنه يدخل بينهم من يريد الغلو فيه حتى يطمئنهم إلى محبته، ويبين لهم خطأ هذا الأمير الذي يسبه ويشتمه. فكان ولابد من وقوع الكذب في فضائله، فكان أولئك المتشيعون له يكذبون ويبالغون في الكذب، ويصفونه بصفات أرفع من صفات الخلفاء كلهم، بل قد تصل إلى صفات الأنبياء، بل قد تصل إلى صفات الرب تعالى، يصفونه بأنه يفعل كذا ويعلم كذا ويتصرف في كذا، وأنه الذي له الولاية وله وله، فإذا سمع هذه الأكاذيب تلامذتهم وصغارهم فلابد أن يستنكروا أو يستغربوا أمرهم ويقولوا لهم: كيف حاز هذه الفضائل؟ وكيف وصل إلى هذه الرتبة؟ وكيف صار أهلاً لهذه الصفات والسمات العالية الرفيعة ومع ذلك تقدم عليه بالخلافة فلان وفلان، أليس هذا تنقصاً له؟ أليس هذا افتراء عليه؟ فلو كان -كما تقولون- بهذه الصفات وهذه الخلال الرفيعة لما كان أحد يتقدمه. فكان هذا مما أحقدهم على الخلفاء الراشدين، فقالوا: لابد أن نسكت جهالنا، ونعتذر لهم فندعي بأن الخلفاء الثلاثة مغتصبون كذبة لا حق لهم في هذه الخلافة، وأنهم احتقروا علياً واغتصبوه حقه الذي هو الولاية الحقة، وأنه هو الوصي والولي والإمام والمقدم، ولكنهم احتقروه واستصغروه، فولوا عليه فلاناً ثم من بعده فلاناً. فلم يجدوا بداً من أن يصفوهم بأنهم مغتصبون، ثم لم يجدوا بداً لتسكيت سفهائهم من أن يطعنوا في أشخاص الخلفاء وخلافتهم وأهليتهم ويدعوا أنهم مرتدون ومغتصبون وكذبة، وأن الصحابة الذين ولوهم وصبروا على ولايتهم خونة وكذبة؛ حيث خانوا الوصية التي أوصاهم بها النبي صلى الله عليه وسلم بأن يولوا علياً. إذاً فجميع الصحابة الذين بايعوا أبا بكر ثم عمر ثم عثمان عند الرافضة خونة، هذه هي فكرتهم. فلما كان كذلك اهتم الأئمة رحمهم الله تعالى بذكر فضائل الخلفاء، وبذكر خلافتهم على أنها من جملة العقيدة، وإلا فالمبتدئ يستغرب أن يذكر أمر الخلافة مع العقيدة؛ لأن العقيدة إيمان بالغيب والخلافة أمر مشاهد ظاهر. وكان أول ما مر بي وأنا مبتدئ الأبيات التي قرأتها في عقيدة أبي الخطاب الكلوذاني لما ذكر عقيدته التي مبدأها قوله: دع عنك تذكار الخليط المنجد والشوق نحو الراميات الآنسات الخرد والنوح في أطلال سعدى إنما تذكار سعدى شغل من لم يسعد ثم ذكر الخلافة في آخرها بقوله: قالوا فمن بعد النبي خليفة قلت الموحد قبل كل موحد حاميه في يوم العريش ومن له في الغار مسعد ياله من مسعد خير الصحابة والقرابة كلهم ذاك المؤيد قبل كل مؤيد قالوا فمن صديق أحمد قلت من تصديقه بين الورى لم يجحد قالوا: فمن تالي أبي بكر الرضا قلت الإمارة في الإمام الأزهد فاروق أحمد والمهذب بعده نصر الشريعة باللسان وباليد قالوا فثالثهم فقلت مسارعاً من بايع المختار عنه باليد صهر النبي على ابنتيه ومن حوى فضلين فضل تلاوة وتهجد أعني ابن عفان الشهيد ومن دعي في الناس ذا النورين صهر محمد إلى آخرها، فاستغربت؛ لأن أمر العقيدة إيمان بالغيب والخلافة تاريخ وحكاية شيء واقع، ولكن لما قرأت بعد ذلك وجدت أن سبب ذكر هذه الخلافة هو طعن الرافضة في هؤلاء الخلفاء الثلاثة وإنكارهم لخلافتهم.

إثبات صحة خلافة أبي بكر رضي الله عنه

إثبات صحة خلافة أبي بكر رضي الله عنه لا شك أن الذي يقرأ التاريخ الواقعي يعلم أولاً أهلية هؤلاء الخلفاء لكونهم خلفاء حقاً، وصحة خلافتهم، ورضى الأمة بهم، وكذلك أيضاً ما حصل بخلافتهم من النصر والتمكين، وإظهار الحق، والسيرة الحسنة، والاقتفاء لسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، لاشك أن هذا أمر واقعي يشهد به التاريخ. فمعلوم أن أبا بكر رضي الله عنه له مزايا وفضائل، فهو أول من أسلم من الرجال، وبإسلامه ثبت النبي صلى الله عليه وسلم على ما يقوله، وبه أيضاً فتح الله على قلوب كثير من الصحابة، فهو الذي دعى عثمان فأسلم، ودعى سعداً وطلحة وابن عوف فأسلموا، أي: أكثر الصحابة -سيما من العشرة- أسلموا بدعوته رضي الله عنه، وذلك لأنه كان شريفاً في قومه، وكان له مكانته، وكان أيضاً يكرم الضيف، ويكسب المعدوم، ويرفع الكل والثقل ويحمله، ويعين على نوائب الحق، فهو جواد ذو مكانة في قومه، فلما أسلم كان هذا مما دفع كثيراً من الصحابة إلى الإسلام. ومعلوم أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذه خليلاً وصديقاً وفضله على غيره، وقال في آخر حياته: (لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً) ، ثم معلوم أيضاً أنه لما مرض المرض الذي مات فيه استخلف أبا بكر يصلي بالناس، فصلى بهم تلك الأيام. هذا هو الذي يشهد به الواقع الحقيقي، حتى إن بعض أمهات المؤمنين وهما عائشة وحفصة رضي الله عنهما قالت له: (لو أمرت عمر أن يصلي بالناس؟ فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، فإنكن صواحب يوسف) ، فأكد أن أبا بكر هو الذي يصلي بالناس، ولما مرض النبي صلى الله عليه وسلم دعا بكتاب يكتبه حتى لا يضل الناس بعده، ولما كثرت عنده الأصوات والكلام قال عند ذلك: (قوموا عني) ، ثم قال في رواية: (يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) . ولما توفي صلى الله عليه وسلم اجتمع الصحابة في سقيفة بني ساعدة وخطبهم عمر، وخطبهم أبو بكر واتفقوا على أن يبايعوا أبا بكر، وقالوا: رضينا لدنيانا من رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، إذا كان رضيه إماماً لنا يتقدم بنا في الصلاة فإن ذلك دليل على أفضليته، فنختاره أميراً لنا يتصرف فينا ويدبر شئون الأمة. فولوه ورضوا به، ونعم الخليفة كان، لقد ثبت ثبوت الجبال الراسية، ولما استخلف ارتد من حولهم من الأعراب وما بقي إلا أهل المدينة ومكة، أما الأعراب الذين حولهم فارتدوا، ولكن ماذا حصل؟ ثبت رضي الله عنه، ثم جهز جيش أسامة الذي كان عليه الصلاة والسلام قد عزم على بعثه، فقالوا له: كيف تجهزه والناس مرتدون؟ فقال: لو جرت السباع بأرجل أمهات المؤمنين لم أترك جيشاً أمر بإنفاذه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذهب ذلك الجيش يشق تلك الفيافي ويمر على أولئك الأعراب، وكلما مر على قوم قالوا: هذا دليل على عزتهم وقوتهم، لو كان فيهم ضعف ما أرسلوا هذا الجيش في هذا الوقت الحرج. فغزوا وأغاروا على بلاد الروم وما حولها، ثم رجعوا سالمين غانمين. وبعد ذلك أغار على المدينة بعض الأعراب يريدون أن يستحلوا المدينة، وكان أبو بكر رضي الله عنه حازماً، فجمع أهل المدينة وقابلوا أولئك الأعراب وهزموهم شر هزيمة وانقلبوا خاسئين، وبعد ذلك رجع من كان أسلم، ثم عند ذلك جهز سبعة عشر جيشاً لغزوا أولئك المرتدين، فلما أن جهز هذه الجيوش علم الناس أنه ذو قوة، فعاد الذين كانوا قد ارتدوا ودخلوا في الإسلام. وكل ذلك بفكرته رضي الله عنه. وبسيرته الحسنة. ثم إنه لم تطل به المدة، إنما استقام في الخلافة سنتين وأشهراً، وحسده بعض الحسدة وسقوه سماً، وقالوا: إنه مات مسموماً. والله أعلم بذلك، وبكل حال فهو الخليفة الراشد رضي الله عنه، ولما علم بأنه سوف يموت رأى أن عمر رضي الله عنه أولى بالخلافة، وذلك لأنه رأى فيه الحزم والعزم والقوة والجد والنشاط في الأمر، فولاه الخلافة بعده.

إثبات صحة خلافة عمر رضي الله عنه

إثبات صحة خلافة عمر رضي الله عنه تولى عمر رضي الله عنه الخلافة، وكان قد سمي قديماً: الفاروق، أي: الذي فرق الله بإسلامه بين الحق والباطل. فنعم ما صار، ولما تولى الخلافة بحزم عند ذلك ضبط الخلافة وضبط البلاد ووالى الجيوش التي يرسلها لغزو الكفار، وفتحت في عهده جميع بلاد الشام ومصر والعراق، وأكثر بلاد إيران، وكثير من بلاد أفريقيا، والكثير من بلاد الهند والسند أو ما حولها، كل ذلك بحزمه رضي الله عنه، وقتل في زمانه خليفة الفرس الذي يقال له: يزدجرد، كل ذلك في ظرف هذه المدة القصيرة التي هي مدة ثلاث عشرة سنة. ثم تسلط عليه أبو لؤلؤة فقتله وهو في المحراب، فجعل رضي الله عنه الخلافة شورى بين ستة من الصحابة، ولم يجعل منهم سعيد بن زيد لكونه ابن عمه.

خلافة عثمان رضي الله عنه

خلافة عثمان رضي الله عنه اتفق الستة على أن يقدموا عثمان، وذلك لقرابته من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكونه قد تزوج اثنتين من بنات النبي صلى الله عليه وسلم، ولكونه أيضاً ذا حزم وعزم وقوة فاتفقوا على خلافته. وتمت له الخلافة، ووالى أيضاً الجيوش، وفتحت في عهده كثير من بلاد الترك والروم وما وراء النهر وما أشبه ذلك، وتسلط عليه بعض الثوار والأعراب في آخر خلافته وقتل رضي الله عنه.

خلافة علي وولده الحسن رضي الله عنهما

خلافة علي وولده الحسن رضي الله عنهما بعدما قتل عثمان رأى الصحابة الذين في المدينة أنه ليس أحق بالخلافة من علي بن أبي طالب فبايعوه، ولكن تفرقت عليه الأمة، فثار بعض الصحابة متوجهين نحو العراق لقتال قتلة عثمان، وحصلت الوقعة المشهورة في العراق المسماة بوقعة الجمل، ثم بعدما انفصلت الحرب وتمت الولاية لـ علي رضي الله عنه على العراق حصلت وقعة أخرى تسمى وقعة صفين بين أهل الشام وبين أهل العراق، وقتل فيها أيضاً خلق كثير، حيث إن أهل العراق جاؤوا مع علي لطلب جمع الكلمة ولطلب المبايعة لأمير المؤمنين، وأهل الشام جاؤوا مع معاوية مطالبين بدم عثمان، وبأخذ الثأر ممن قتله، فـ علي يقول لهم: بايعوني حتى تتم وتجتمع الكلمة ثم بعد ذلك نقاتلهم، ومعاوية يقول: لا نبايعك حتى تسلم إلينا قتلة عثمان وبكل حال حصل ما حصل من الفتن، ثم لم تزل الخلافات في جيش علي إلى أن قتله الخوارج في سنة (40هـ) . وبعد أن قتل تولى ولده الحسن نصف سنة، ثم تنازل عن الخلافة لـ معاوية في سنة إحدى وأربعين من الهجرة، واجتمعت الخلافة لـ معاوية، وسمي ذلك العام عام الجماعة، واستمرت الخلافة في بني أمية في معاوية وابنه، ثم في بني مروان إلى أن انتهت دولتهم في سنة اثنين وثلاثين وما تولى الخلافة بنو العباس، وكل ذلك مذكور في السير وفي كتب التاريخ. قال المؤلف رحمه الله: [نعتقد خلافة الخلفاء الراشدين وأن خلافتهم حق، دل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) ] . هذا هو الحديث المشهور عن العرباض في السنن، وكذلك قوله في حديث رواه سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً) ، وهذه الخلافة التي أخبر بأنها ثلاثون هي مدة خلافة الخلفاء الراشدين الذين آخرهم الحسن بن علي رضي الله عنه، ثم بعد ذلك صارت ملكاً، ومعاوية أول الملوك وهو أحسن وأفضل الملوك الذين هم ملوك الإسلام، وله سيرة حسنة، فيقول الكلوذاني في آخر عقيدته: ولابن هند في القلوب مودة ومحبة فليرغمن المعتدي ذاك الأمين المجتبى لكتابة الـ وحي المنزل ذو التقى والسؤدد

الخلفاء الراشديون وفضائلهم وأدلة استخلافهم

الخلفاء الراشديون وفضائلهم وأدلة استخلافهم أما فضائلهم فهي أشهر من أن تذكر، وقد اهتم بهم العلماء رضي الله عنهم، فقد جعل البخاري في صحيحه كتاب (فضائل الصحابة) ، فبدأ بفضائل أبي بكر، ثم ثنى بفضائل عمر، ثم ثلث بفضائل عثمان، ثم بفضائل علي، وذلك دليل على أنه كان يعتقد خلافتهم، وأن هذا الترتيب ترتيبهم في الفضل وترتيبهم في الخلافة. ومثله أيضاً مسلم في صحيحه، فقد بدأ بفضائل الأربعة الخلفاء على ترتيبهم، وذكر كل فضائلهم التي صحت عنده، وذلك دليل على مزايا لهم، وهي فضائل من قرأها عرف بذلك صحة خلافتهم، وعرف أهليتهم لهذه الولاية. وكذلك الترمذي في سننه، فإنه جعل في آخر سننه كتاب الفضائل، بدأها بفضائل الخلفاء الأربعة، واستوفى ما ثبت عنده أو ما يقرب من الثبوت، وكذلك أيضاً قد أفردت بكتب، فمنها (كتاب فضائل الصحابة) للإمام أحمد، مطبوع في مجلدين بهذا العنوان: (كتاب فضائل الصحابة) ، وهكذا فعل الذين كتبوا في التاريخ. ولا شك أن ذلك دليل على أهمية خلافة هؤلاء وصحتها، وأن من طعن في خلافة أحد منهم فهو أضل من حمار أهله، كما قال ذلك شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية. والكلام في ترتيبهم طويل، وله جانبان: أولاً: ترتيبهم في الخلافة. وثانياً: ترتيبهم في الفضل. فقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن عمر قال: (كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، فيبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره) ، وهذا يعني ترتيبهم في الفضل، يعني أبا بكر أفضلهم، بل أفضل هذه الأمة، ثم يليه بالفضل عمر، ثم يليه بالفضل عثمان، هكذا كانوا يقولون، وهكذا أيضاً أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم. وثبت أيضاً في الصحيح عن علي رضي الله عنه من طرق متواترة أنه كان يخطب على المنبر في الكوفة فيقول على رؤوس الأشهاد: أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر. ولكن الرافضة لا يأخذون من كلامه إلا ما يوافق أهواءهم، ويكذبون عليه ويردون ما ثبت عنه حقاً، وسأله مرة الحسن فقال: يا أبت! من أفضل هذه الأمة؟ فقال: يا بني! أبو بكر، فقال: ثم من؟ قال: عمر. قال الحسن: ثم أنت؟ فقال: ما أبوك إلا واحد من المسلمين. قال ذلك على وجه التواضع. وعلى كل حال هكذا ترتيبهم في الفضل وترتيبهم في الخلافة. قال الشيخ الحافظ أبو بكر الإسماعيلي رحمه الله تعالى في بيان اعتقاد أهل السنة في كلامه على حقوق الصحابة رضي الله عنهم: [ويقولون بتفضيل الصحابة رضي الله عنهم؛ لقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] ، وقوله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [التوبة:100] ، ومن أثبت الله رضاه عنه لم يكن منه بعد ذلك ما يوجب سخط الله عز وجل، ولم يوجب ذلك للتابعين إلا بشرط الإحسان، فمن كان من التابعين من بعدهم لم يأت بشرط الإحسان فلا مدخل له في ذلك. ومن غاظه مكانهم من الله فهو مخوف عليه ما لا شيء أعظم منه؛ لقوله عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] ، فأخبر أنه جعلهم غيظاً للكافرين. وقالوا بخلافتهم؛ لقول الله عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [النور:55] ، فخاطب بقوله: (منكم) من نزلت الآية وهو مع النبي صلى الله عليه وسلم على دينه، فقال بعد ذلك: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55] ، فمكن الله بـ أبي بكر وعمر وعثمان الدين وعد الله آمنين يغزون ولا يُغزون، ويخيفون العدو ولا يخيفهم العدو. وقال عز وجل لقوم تخلفوا عن نبيه عليه السلام في الغزوة التي ندبهم الله عز وجل بقوله: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} [التوبة:83] ، فلما لقوا النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه الإذن في الخروج للغزو فلما يأذن لهم أنزل الله عز وجل: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الفتح:15] وقال لهم: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:16] . والذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحياء خوطبوا بذلك لما تخلفوا عنه، وبقي منهم في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فأوجب لهم بطاعتهم إياهم الأجر وبترك طاعتهم العذاب الأليم إيذاناً من الله عز وجل بخلافتهم رضي الله عنهم، ولا جعل في قلوبنا غلاً لأحد منهم، فإذا ثبتت خلافة واحد منهم انتظم منها خلافة الأربعة] .

أدلة استخلاف الرسول لأبي بكر

أدلة استخلاف الرسول لأبي بكر إن الأمة الإسلامية -ما عدا الرافضة- متفقة على أن الخليفة الحق الذي خلافته حق هو: أبو بكر، واتفقوا على أنه يسمى خليفة رسول الله، فكانوا ينادونه: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم استخلفه في الصلاة فاستخلفناه بعد ذلك في أمرنا وإمارته علينا. واستدلوا أيضاً بأدلة أخرى منها: قوله صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر) ، فجعلهما قدوة، وأخبر بأنهما من بعده، أي: أنهما خليفتان. وثبت أن امرأة جاءت إليه تسأله عن أمر فأمرها أن ترجع إليه، فقالت: أرأيت إن جئت فلم أجدك -كأنها تعني الموت-؟ فقال: (إن لم تجديني فائتي أبا بكر) ، فأخذوا من هذه الإشارات أنه أراد بذلك استخلافه، وأنه رشحه لهذه الولاية، ونعم ما فعل، ونعم الخليفة.

فضائل أبي بكر رضي الله عنه

فضائل أبي بكر رضي الله عنه لا شك في كثرة فضائل أبي بكر رضي الله عنه، فإن الله تعالى مدحه وذكر له فضائل، وأنزل فيه قول الله تعالى في سورة الليل: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:17-21] ، هذه الآيات نزلت في أبي بكر، وذلك لأنه كان ذا مال وتجارة، فإذا أسلم أحد من العبيد الضعفاء اشتراه فأعتقه، فيقول له أبوه: يا بني! لو أنك تشتري وتعتق أُناساً أقوياء يحرسونك ويحفظونك؟ فيقول رضي الله عنه: حمايتي أريد، يعني: ما أريد إلا الحماية، والحماية في هذا من الله تعالى، كأنه يقول: إذا أعتقت هؤلاء فإن الله هو الذي سوف يحرسني ويحفظني وينصرني، فأنزل الله فيه هذه الآية، {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} [الليل:17] شهادة له بأنه الأتقى، وأنه على هذه الصفة: {يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل:18] ، ويخرج ماله لكي يزكي نفسه، وأنه لا يطلب بذلك إلا {ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل:20] . ونزل فيه أيضاً قول الله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33] ، فالذي جاء بالصدق نبينا صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به هو أبو بكر رضي الله عنه، وذلك لأنه لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قريشاً بقصة الإسراء وأنه أسري به إلى بيت المقدس ثم رجع، لما أخبر بذلك قريشاً استغربوا لذلك وقالوا: هذا هو علامة الكذب، كيف ونحن نسافر مسيرة شهر ذهاباً ومسيرة شهر رجوعاً وأنت تقطع ذلك في ليلة واحدة؟! هذا هو عين الكذب. فجاؤوا إلى أبي بكر وقالوا: أدرك صاحبك، فإنه يزعم أنه أسري به البارحة إلى بيت المقدس ثم رجع في ليلة! فقال: لقد صدق، لقد صدق. فقالوا: أتصدقه في هذا؟ فقال: أصدقه في أعجب منه، في خبر السماء. يعني أنه: يصدقه في أن خبر السماء ينزل إليه في لحظة من اللحظات ويرتفع، فنزلت هذه الآية: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33] . مع أنه أيضاً يعتبر صاحب الفضل الكبير في قصة الهجرة، فإنه لما عزم النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة قال: الصحبة يا رسول الله؟ فقال: (الصحبة) ، ثم قال: إن عندي راحلتين كنت أعلفهما أعدهما لهذا السفر فخذ إحدهما، فقال: (نعم ولكن بالثمن) ، فعند ذلك لما عزما على السفر وكانت قريش قد دبرت مكيدة لقتل النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج هو وأبو بكر ليلاً ولجأا إلى غار ثور ومكثا فيه ثلاثة أيام، وصار ولد أبي بكر يأتيهما في الليل بغنمه ويحلب لهما من الغنم، وأعطيا رواحلهما إلى رجل يقال له: ابن أريقط لحيفظها لهما، وجاءت قريش تلتمسه فأعماهم الله تعالى عنه، وأنزل الله تعالى: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] قال له: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!) فالله يحرسهما والله يحفظهما، هذه خصيصة لـ أبي بكر رضي الله عنه. صحب النبي صلى الله عليه وسلم في سفره من مكة إلى المدينة، ولازمه ملازمة تامة إلى أن توفي وهو ملازم له، ولم يتخلف عنه في غزوة من الغزوات. وفي سنة تسع ائتمنه على الحجاج، وأرسله ليحج في ذلك العام وليبلغ الناس ما أنزل الله تعالى، وليقيم للناس حجهم، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً في سنة عشر في حجة الوداع، فكل ذلك دليل على فضله.

قول أهل السنة في الصحابة ورد قول الرافضة

قول أهل السنة في الصحابة ورد قول الرافضة نقول بتفضيل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وكذلك أيضاً بقية الخلفاء، وذلك لأن الرافضة صاروا يطعنون في الصحابة كلهم لا يستثنون منهم إلا عدداً يسيراً كـ عمار وصهيب وسلمان وعدداً يسيراً من الموالي يدعون أن هؤلاء هم الذين بقوا مع علي، وأما البقية فإنهم ارتدوا لما لم يبايعوا علياً، فصاروا يطعنون في الصحابة ويشتمونهم، ويستنكرون جميع ما ورد فيهم من الأدلة التي تدل على فضلهم. وقد استدل الرافضة على قولهم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) ، فالرافضة يقولون: إن الصحابة أحدثوا بعده. أي أن من حدثهم كتمانهم -بزعم الرافضة- الخلافة التي لـ علي أو الوصية التي لـ علي، وبهذا الكتمان صاروا بذلك محدثين مرتدين. مع أنَّا نقول: إن الصحابة رضي الله عنهم هم الذين قاتلوا المرتدين، وأنزل الله تعالى فيهم الآيات، ومنها آية سورة المائدة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] ، هكذا وصفهم بست خصال، من هؤلاء؟ هم الصحابة الذين قاتلوا المرتدين من العرب الذين ارتدوا حول المدينة، ثبت هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم بالمدينة وبمكة وبغيرها من القرى التي حولها، ثبتوا رغم كثرة من انحرف وارتد، فقاتلوا أولئك الذين ارتدوا حتى ردوهم إلى الإسلام. وشهد الله لهم بأنهم: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] ، وأنهم: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:54] متواضعين لبعضهم، و: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54] ، وكذلك قوله: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] ، وهذه الصفات تنطبق على الصحابة رضي الله عنهم، وقد جحدها الرافضة وادعوا أن هذا ليس وصفاً لهم. وأنزل الله فيهم أيضاً آيات في آخر سورة الأنفال، وهي قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:72] ، فمن تنطبق عليه هذه الآيات؟ ذكر الله تعالى فيها الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا، هؤلاء هم المجاهدون، ثم ذكر فيها الأنصار {وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا} [الأنفال:72] ، فالأنصار والمهاجرون هم الذين تضمنتهم هذه الآية {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:72] ، فالذين لم يتولوهم ماذا تقول فيهم؟ تقول: ليسوا منهم، وليسوا من المؤمنين ولا من أولياء المؤمنين، بل هم برآء منهم. فالرافضة الذين يتبرؤون منهم يتصفون بهذه الصفات -أنهم ليسوا منهم- ويدخلون في النص الذي بعده: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:74] ثم قال تعالى في وصف الصحابة مرة أخرى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:74] ، كل هذا وصف للمؤمنين وشهادة لهم. والرافضة يقولون: إن هذه الفضائل التي مدحهم الله بها بطلت بردتهم؟! وهل الله تعالى يمدحهم وهو يعلم أنهم سيرتدون؟! أليس الله عالماً بمن يستحق المدح؟! لو كانوا سيرتدون ما مدحهم الله تعالى ولا أثنى عليهم هذا الثناء، فإن الله عالم بمن يموت على الإسلام ومن يموت مرتداً. فهذه هي القاعدة عند الرافضة، أن فضائل الصحابة بطلت بردتهم، وهذه الحجة واهية؛ فإن الله تعالى لا يمكن أن يمدحهم هذا المدح وهو يعلم أنهم سيرتدون في وقت من الأوقات وستحبط أعمالهم، فالله تعالى عالم بكل شيء. ثم نقول للرافضة: هذا تنقص منكم لله تعالى؛ إذ معناه أن الله لا يعلم الأمور المستقبلة، فيمدحهم وهو لا يعلم أنهم سوف ينقلبون ويرتدون ويكفرون بعد ذلك وسوف ينقضون بيعتهم. واستدل المؤلف بهذه الآية في سورة الفتح: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] رضي الله عن الذين بايعوه تحت الشجرة وهم أكثر من ألف وأربعمائة، ومنهم الخلفاء الراشدون، والعشرة وأجلاء الصحابة رضي الله تعالى عنهم، بايعوه على أن لا يفروا، وقيل: إنهم بايعوه على الموت. والمعنى متقارب، كأنهم يقولون: نبايعك على أن نقاتل فنقتل أو ننتصر ولو أدى ذلك إلى الموت، وعلى أننا لا نفر ولو قتلنا واحداً بعد واحد. هذا الرضا معناه أن الله تعالى رضي أعمالهم وأقوالهم، وعلم سعادتهم وأهليتهم فصرح بأنه رضي عنهم. ومن العجائب أني رأيت لبعض الرافضة في هذا الزمان رسالة بعنوان (المراجعات) ، ومن عجائبها أنه لما ذكر هذه الفضيلة قال: اقرءوا ما قبلها، إن الله تعالى ذكر أنهم سوف يرتدون، فالله تعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:10] ، فيقول: هذا دليل على أن منهم من نكث. فهل هذا صحيح؟! هل في الآية دليل على أن فيهم من ينكث أو من نكث؟! إنما أخبر الله بأن من نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى فإنما يوفي لنفسه، وليس فيها أن أنهم نكثوا كلهم كما تقوله الرافضة، إنما فيها الإخبار بأن الذين يبايعونه فإنهم يبايعون الله، ثم أيضاً ليست هي بيعة الرضوان، بل البيعة العامة؛ إذ كل من جاء مسلماً فإنه يبايع النبي صلى الله عليه وسلم، فالله تعالى يخبرهم ويقول: أيها المؤمنون الأعراب وأهل الحضر والصغار والكبار والنساء والرجال! أنتم تبايعون النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام، ولكن احذروا إذا نكثتم، فإن نكثكم على أنفسكم وضرركم بهذا النكث يعود عليكم فخذوا حذركم. ومعلوم أن هناك من بايع من الأعراب ثم نكث وارتد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم. إذاً فليست الآية يراد بها أهل بيعة الرضوان؛ لأن أهل بيعة الرضوان ثبت رضا الله تعالى عنهم، فلا يمكن أن يسخط عليهم بعده أبداً؛ لأنه إذا حل رضاه على قوم فلا يسخط بعده أبداً. ثبت أيضاً في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة) ، ولما كان في غزوة حنين وتقابلوا مع هوازن، وكانت هوازن معها نبال شديدة انهزم الكثير من الصحابة، فعند ذلك أمر العباس بأن يصيح وينادي: يا أصحاب الشجرة. فلما سمعوا ذلك قالوا: لبيك لبيك. ولووا أعناق رواحلهم وجاؤوا مسرعين نحو الصوت، تذكروا هذه البيعة، ولا شك أن هذا دليل على أنهم أوفياء بما عاهدوا الله تعالى عليه. كذلك هذه الآية في سورة التوبة: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ} [التوبة:100] هذه الآية ذكر الله تعالى فيها نوعين من الصحابة، الأول هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والثاني هم الأتباع من المهاجرين الذين هاجروا من مكة إلى المدينة أو من غير مكة من القرى إلى المدينة، والأنصار هم الذين أسلموا من أهل المدينة ونصروا الله تعالى ورسوله. {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة:100] قيل: إن المراد الذين أسلموا بعد الفتح، وقيل: الذين أسلموا بعد صلح الحديبية. وقيل: المراد الذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم القيامة. أي: ساروا على طريقتهم، وتمسكوا بسنتهم فهؤلاء جميعهم من أتباعهم، فهؤلاء المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم، فما أعظمها من فضيلة أن يرضى الله تعالى عنهم وأن يثبت الله تعالى رضاه عنهم. إذاً من أثبت الله رضاه عنهم لم يكن منهم بعد ذلك ما يوجب سخط الله، ولا يمكن أن يثبت الله أنه رضي عنهم وهو يعلم أنهم سيسخطون ربهم فيما بعد ذلك، ولم يوجب للتابعين ذلك إلا بشرط الإحسان فقال: (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ) ، ولم يقل: اتبعوهمَ فقط، بل: (بِإِحْسَانٍ) ، فأوجب للمحسنين من أتباعهم الرضا، فمن كان من التابعين ومن بعدهم يتنقصهم لم يقم بالإحسان، ولم يكن حرياً بالإحسان، فلا مدخل له في ذلك، فالذين جاؤوا من بعدهم ولكنهم يتنقصونهم ويعيبونهم ويقدحون في خلافتهم لا شك أن مثل هؤلاء لم يتبعوهم بإحسان بل اتبعوهم بإساءة. فأساؤوا صحبتهم، وأساؤوا سمعتهم، وسبوهم وتنقصوهم، فأين هم من الإحسان؟! ليسوا من أهل الرضا. يقول: [ومن غاظه مكانهم من الله فهو مخوف عليه ما لا شيء أعظم منه] . الذي يغيظه مكانهم كافر، دليل ذلك هذه الآية في سورة الفتح: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:29] ، ثم وصفهم بصفات فقال: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح:29] هكذا مثلهم الله، {فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] . فنقول: أي

حكم مبغض الصحابة

حكم مبغض الصحابة إن من يبغض الصحابة يحكم عليه بالكفر؛ لقوله تعالى: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] ، فمن غاظه مكانهم من الله، ومن غاظه سبقهم وفضلهم ومزاياهم خيف عليه أن يدخل في هذه الآية: (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) . فيقال للذين قد غاظهم مكانهم: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل عمران:119] ، فإن الله تعالى قد رفع مكانة صحابة نبيه صلى الله عليه وسلم، وجعل لهم المحبة والمودة في قلوب المؤمنين، وحفظ بهم هذا الدين، وجعلهم خلفاً بعد نبيه صلى الله عليه وسلم، فحفظوا على الأمة الإسلامية الدين، وحفظوا القرآن ودونه من حفظه منهم، وبثوه وكتبوه في المصاحف، وفسروه للأمة وبينوه، وحفظ بهم السنة والشريعة، فحفظها على من بعدهم، وجعل الله في قلوبهم المحبة للإسلام ولأهله، فنصحوا للمسلمين وبلغوهم الشريعة الإسلامية، وحرصوا على أن يكونوا دعاة إلى الله تعالى، فبذلوا في نصحهم لإخوانهم المسلمين النفس والنفيس، وتركوا بلادهم وأولادهم وأموالهم وغزوا في سبيل الله، وتعرضوا للقتل وللأذى وللتعب كل ذلك لنصر الإسلام ولنشره في ربوع البلاد الإسلامية، وللقضاء على الكفر والفسوق والعصيان والبدع. فكيف مع ذلك يطعن فيهم؟! وكيف يدعى بأنهم كفار ومرتدون؟! فإذا كانوا مرتدين وكفاراً ولم يبق على الإسلام منهم إلا أفراد قلة، فمن الذي حفظ لنا الإسلام؟! ومن الذي نقل لنا القرآن؟! ومن الذي نقل لنا السنة؟! ومن الذي نقل لنا العبادات من الصلوات والزكوات والصيام والحج والجهاد والبيع والشراء والتجارة والحلال والحرام والأحوال الشخصية والعقود والجنايات والآداب والأخلاق؟! ما نقلت إلا بواسطتهم، فإذا كانوا كفاراً فإن هذه تكون باطلة ولا نكون على دين، ولا يكون هناك دين إسلامي. فالذين طعنوا في القرآن وادعوا أنهم حذفوا منه الثلثين أو أكثر معناه أن الله ما حفظ على الأمة إسلامها، وما قامت الحجة على المتأخرين، مع أن الله تعالى يقول: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام:149] ، فإذا لم يكونوا ثقات عدولاً فمن الذي حفظ لنا الإسلام؟! إذاً لا نكون على إسلام صحيح. وكذلك حفظوا السنة حتى دونت في الصحيحين والسنن والمسانيد والمجاميع والكتب، حفظوها حتى دونت ورويت عنهم بالأسانيد الصحيحة، فإذا كانوا كفاراً أو مرتدين فمعناه أن هذه الثروات الكبيرة التي هي هذه الأحاديث النبوية غير صحيحة؛ لأنها نقلت عن هؤلاء الذين هم مرتدون على حد تعبير خصومهم، فبطلت بذلك السنة بأكملها، ولاشك أن هذا طعن كبير في هذه الشريعة الإسلامية. ثم إذا اتفقنا على أن الله تعالى حفظ القرآن كما قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] فإن هذا القرآن الذي حفظه إنما جاء بواسطتهم.

الاستدلال بالقرآن على فضل الصحابة

الاستدلال بالقرآن على فضل الصحابة وبما أن هذا القرآن أصبح محفوظاً متعبداً بتلاوته، فلابد أن يكون كله حجة وكله دليلاً، فيستدل به على فضلهم، فقد ذكر الله تعالى فضلهم ونوه بمقامهم في عدة سور قرآنية. ففي سورة المائدة قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54] . وفي آخر سورة الأنفال قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا} [الأنفال:72] إلى آخر السورة، كل ذلك في مدحهم. وفي سورة التوبة قول الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ} [التوبة:100] ، إلى قوله: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة:118] . وكذلك قوله: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة:120] . وهكذا قوله: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة:117] أربعون ألفاً من الصحابة اتبعوه في ساعة العسرة، أي: في غزوته إلى تبوك، هؤلاء قد تاب الله عليهم ورضي عنهم. وكذلك قوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] . وكذلك قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الحشر:8] ، وكذلك قوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} [الحشر:9] ، إلى قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10] . ونحن نقوله ونرجو أن نكون من المعتقدين له: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] ، والغل الحقد والحسد والبغضاء، فمن كان في قلبه غل لهم فإنه شقي ليس من أتباعهم حقاً. وهذه الآيات في سورة الحشر فيمن يستحق الفيء، فإن الآيات في تقسيم الفيء الذمي هو: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر:8] ، {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الحشر:9] ، {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} [الحشر:10] ، فالذين جاؤوا من بعدهم إن كانوا يدعون على الصحابة ويكفرون من آمن قبلهم فليسوا من أهل الفيء ولا يستحقونه، هذا استنباط الإمام أحمد رحمه الله. ثم إن المؤلف استنبط من بعض الآيات خلافة الخلفاء، فمن ذلك الآية التي في سورة النور: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ} [النور:55] فقوله: (منكم) لا شك أن الخطاب واقع للصحابة، وأن الصحابة هم الذين استخلفوا في الأرض، وقوله: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ} [النور:55] شهادة لهم بأنهم آمنوا وعملوا الصالحات. ثم وعدهم بثلاثة أشياء: الأول: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:55] . الثاني: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور:55] ، وهذا قد حصل. الثالث: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:55] ، وهذا أيضاً قد حصل، فإن الله تعالى قد أبدلهم بعد خوفهم أمناً، فأمنوا بعدما نشروا دين الله تعالى وانتشر الإسلام في أطراف البلاد فأمنت البلاد، فأصبح الناس إخواناً لا يعرض أحد لأحد، يسافر الرجل وحده ولا يعرض له أحد، وقد بشرهم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ففي حديث عدي بن حاتم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ليوشكن أن ترى الظعينة ترحل من عدن حتى تطوف بالبيت لا تخاف إلا الله) ، وعدن في أقصى اليمن كما هو معروف، وقد وجد ذلك في عهد الصحابة، والظعينة: هي المرأة تركب على بعير لوحدها. ولو كانت منهية عن السفر، ولكن معناه أنه وجد أمن حتى لو سافرت وحدها لرجعت إلى أهلها دون أن تخاف على شيء أبداً، وهذا واقع أيضاً. وبكل حال فهذا قد تحقق مبدؤه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كان بعد ذلك في عهد الخلفاء رضي الله تعالى عنهم. ثم إن الله تعالى أخبرهم بالمنافقين الذين أسلموا ظاهراً ولم يؤمنوا باطناً، وتخلفوا عن غزوة تبوك، وعاتبهم الله تعالى بقوله: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا} [التوبة:83] . ثم أخبر بأنهم سوف يطلبون الخروج حتى يبدلوا كلام الله: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح:15] يريدون أن يغيروا كلام الله، فقال له في سورة التوبة: {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا} [التوبة:83] ، ثم قال في سورة الفتح: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح:16] ، فمتى دعوا؟ دعوا في عهد الصحابة وعهد الخلفاء الراشدين، {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:16] ، فهذا حصل في عهد الخلفاء، أنهم رضي الله عنهم دعوا هؤلاء الأعراب وغيرهم من المتخلفين، فمنهم من أطاع ومنهم من لم يطع، فوعد الله الذي أطاعوا بأن يثيبهم ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وتوعد الذين تولوا بأن يعذبهم عذاباً أليماً. والذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أحياء خوطبوا بذلك لما تخلفوا عنه، وبقي من هم في خلافة الخلفاء ما أوجب لهم بطاعتهم إياهم الأجر وبترك طاعتهم العذاب إيذاناً من الله بخلافتهم. ولا شك أن هذه أدلة واضحة على خلافتهم، وكذلك على فضلهم، فيعتقد المسلم أنهم خير الأمة، ولا يكون مثلهم بعدهم، فهم خير قرون الأمة، زكاهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (خير الناس قرني -أو: القرن الذين بعثت فيهم- ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) . ولاشك أن هذه التزكية واقعة على الصحابة؛ إذ هم القرن الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، فالصحابة خير من الذين بعدهم من تلامذتهم وأولادهم -من حيث العموم-، ولأجل ذلك اتفق العلماء على عدالتهم، فإذا روى الحديث صحابي لم يسألوا عنه، بل يقولون: الصحابة كلهم عدول لا نتردد في أحد منهم؛ وذلك لأن الله تعالى زكاهم في هذه الآيات: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100] ، فهذه التزكية تسبب قبول رواياتهم، وتسبب أيضاً الترحم عليهم. هذا ما يعتقده كل مسلم، ولا عبرة بمن انحرف عن الصحابة رضي الله عنهم، وقد ذكر شيخ الإسلام: أن أهل السنة وسط في الصحابة بين غلاة وجفاة، ولكن في الحقيقة الغلو والجفاء كله في الرافضة، فإنهم غلوا في حق علي وذريته، وجفوا في حق الباقيين. فغلوهم في علي وذريته الذين يسمونهم أهل البيت هو أن دعوهم من دون الله، وجعلوهم مقبولي الرواية، وعلقوا عليهم ما ليس لهم، وجفاؤهم في حق الباقين التكفير والتضليل والتنديد بهم، مع أن الخوارج أيضاً قد جفوا في حق علي وكفروه، وكذلك كفروا أكثر الصحابة الذين معه بل أكثر المسلمين، وادعوا أنهم مرتدون، وذلك لأن الخوارج يكفرون بارتكاب الذنب، فصار الخوارج جفاة في حق علي وذريته، والرافضة غلاة في حقهم جفاة في حق بقية الصحابة.

الأسئلة

الأسئلة

كيفية التعامل مع الرافضة المظهرين لحسن الخلق

كيفية التعامل مع الرافضة المظهرين لحسن الخلق Q ما الحكم فيمن يقول: إننا لم نر شيئاً يسوؤنا من الرافضة، فهم يظهرون لنا خلقاً حسناً وتعاملاً طيباً، وهم ليسوا كما تقولون وتحذرون، وخصوصاً أن بعضهم إذا سئل عن بعض ما ينسب إلى الرافضة ينكر ذلك، فما نصيحتكم لمثل هؤلاء؟ A معلوم أن الرافضة حدثوا في وسط القرن الأول ولكنهم كانوا قلة، ثم صاروا يتمكنون ويزدادون قوة إلى أن صار لهم مكانة، ولكن طوال هذه القرون كانوا أذلة لم يتمكنوا، ولما رأوا أنهم لابد يختلطوا بالناس رأوا كتمان أمرهم، ورووا عن جعفر الصادق أنه كان يقول: (التقية ديني ودين آبائي) ، فصاروا يتعاملون معنا بالتقية، بمعنى أنهم إذا لقوا أهل السنة أخذوا يمدحون السنة ويترضون عن الصحابة ويمدحونهم، ولكن قلوبهم ممتلئة غيظاً وحقداً عليهم، {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران:167] ، فيتصفون بصفات المنافقين، هذه عقيدتهم، وأدلة ذلك كثيرة والواقع يشهد بذلك. فإذا قرأنا في كتبهم التي فيما بينهم وجدناهم يصرحون بمعتقدهم، فيسبون الصحابة رضي الله عنهم، ويحملون الآيات ما لا تحتمله، فيقولون في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء:51] : الجبت والطاغوت أبو بكر وعمر هكذا يقولون. ويقولون في قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] قالوا: يدا أبي لهب أبو بكر وعمر!! ويقولون في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] البقرة هي عائشة بنت أبي بكر. هكذا يقولون! ثم تأويلاتهم في كتب تفاسيرهم أمرها عجائب، لهم تفاسير ولكن أكثر تفاسيرهم التي في إيران والعراق يخفونها ويكتمونها، ولكن بعد أن طبعت لم تعد خفية. فنحن نقول: إذا رأيتم وعلمتم أن هؤلاء من الرافضة الذين يسمون أنفسهم شيعة فخذوا حذركم منهم، وكونوا على حذر، وذلك لأنهم يضمرون العداوة لكل أهل السنة، ويودون أن يفتكوا بهم بكل ما يستطيعون، وتتقطع قلوبهم حسرة وغيظاً على كل من هو من أهل السنة، ويحبون أن يوصلوا إلى أهل السنة ما يستطيعونه من الأضرار، والشواهد كثيرة، والحكايات عنهم في ذلك مشهورة. حتى إن بعض الإخوان في مكة ذكر أنه كان بجوارهم في الموسم بعض من الجعفرية، يقول: فكنا إذا خرجنا نحو المسجد ولقيناه فصافحناه بأيدينا رجع يغسل يديه؛ لأنه يعتقد أن أيدينا نجسة، فيرجع يغسلها حتى لا يصلي بهذه النجاسة، وفي زعمه أن أيدينا نجسة. والمكائد التي نقلت عنهم كثيرة. وإذا قدر أن فيهم من هم قريبون من الحق فإننا نجادلهم ونبين لهم، فإذا هداهم الله تعالى ورجعوا وتركوا مذهبهم فلا بأس، وقد رجع كثير من شبابهم لما رأوا الأمور التي في مذهبهم والتي تضحك المجانين، وعرفوا بذلك بعدهم عن الصواب.

حقيقة الدعوات المنادية بالتقريب بين الرافضة والسنة

حقيقة الدعوات المنادية بالتقريب بين الرافضة والسنة Q تظهر بين فترة وأخرى صيحات تنادي بالتقريب بين الرافضة والسنة، فما توجيهكم لذلك؟ A هذا كان في أوائل القرن الرابع عشر، أي: في حدود سنة (1310) إلى حدود سنة (1350) ، حين كان الرافضة الذين في إيران والعراق يتصلون بأهل مصر والشام ويحاولون التقريب، ويقولون: نحن مسلمون. ثم يذكرون خصالهم التي يتمدحون بها، فيقولون: لماذا نتفرق؟ ولماذا يحصل هذا التفريق بيننا وبينكم وأنتم مسلمون ونحن مسلمون؟ فما الفرق بيننا؟ هكذا يقولون. ثم انتبه لهم بعض العلماء، وانخدع بهم كثير من علماء مصر وقالوا: إنهم إخواننا وإنهم مسلمون. وممن انتبه لهم: محب الدين الخطيب رحمه الله، وذلك لأنه عندما نظر إلى ما يدعون إليه من التقريب وما هو التقريب الذي يريدونه نظر إلى أنهم يجتذبوننا إلى أن نصير مثلهم، وإلى أن نتبرأ من الشيخين أبي بكر وعمر ونسبهما، وكذلك أيضاً نتبرأ من الصحابة ونطعن فيهم وما أشبه ذلك، ونرد كتب الصحيح ونتبرأ منها، هذا هو التقريب الذي يريدونه، فعند ذلك ألف رسالته المطبوعة التي صارت غيظاً لهم، وسماها (الخطوط العريضة) . ولما فطن لهم قال: هذا التقريب الذي يدعوننا إليه ليس تنازلاً منهم عن شيء من عقيدتهم، فما قالوا: تنازلوا عن شيء من عقيدتكم ونتنازل نحن عن شيء من عقيدتنا. ولا قالوا: اتركوا بعضاً من التشدد ونحن نترك بعضاً من التشدد. بل قالوا: ندعوكم إلى أن تتبرؤوا من الشيخين، وتتبرؤوا من الصحيحين اللذين فيهما أحاديث مكذوبة، وتقولوا كذا وكذا. هذا هو التقريب الذي يزعمونه. وانتبه لهم أيضاً عالم آخر رد عليهم، يقال له: ابن جبهان وله الكتاب المطبوع الذي اسمه (تبديد الظلام وتنبيه النيام) ، وفيه بيان لما يدعون إليه من هذا التقريب، وبيان أن تقريبهم إنما هو دعوة إلى عقيدتهم. هذا هو الصحيح. فنحن نقول: أهل السنة قبلكم، وأنتم ما أحدثتم إلا في آخر القرن الأول وما بعده، فإذا كان أهل السنة قبلكم فلماذا تدعونهم إلى شيء حادث متجدد؟! وإذا كان كذلك فنحن ندعوكم إلى التقريب، نحن نترضى عن أهل البيت الذين تترضون عنهم، فأنتم تقولون: نحن نحب أهل البيت. ونحن كذلك نحب أهل البيت، ولكن لسنا مثلكم نعبد أهل البيت كما تعبدونهم، ونحن نحب بقية الصحابة وأنتم تبغضونهم وتلعنونهم، فأين التقريب؟! ونحن نتمسك بالقرآن وأنتم تطعنون فيه وتدعون التحريف فيه وأن الصحابة خانوه وحذفوا أكثر من ثلثيه مما يتعلق بولاية أهل البيت وبفضائل أهل البيت، حذفوا منه أكثر من عشرة آلاف آية على حد زعمهم. ويقولون: إن جعفر الصادق -وقد كذبوا عليه عشرات الآلاف من الكذب- كان يقول: عندنا مصحف فاطمة مثل مصحفكم هذا ثلاث مرات، والله ما فيه آية من مصحفكم هذا. فأين هذا المصحف الذين يقولونه؟! فعرف بذلك أنهم أعداء ألداء لأهل السنة، فلا يعتبر تقريبهم الذي يدعونه.

شر الرافضة الممتد عبر التاريخ

شر الرافضة الممتد عبر التاريخ Q ما صحة قول من يقول: إن الرافضة أكثر وأبلغ شراً وبغضاً من اليهود والنصارى؟ A يمكن أن يكون هذا صحيحاً، وقد قال ذلك المتقدمون، فـ ابن القيم يقول في النونية: إن الروافض شر من وطئ الحصى من كل إنس ناطق أو جان ويدل على ذلك أفعالهم، وقد طبع كتاب يتحدث عن المقاربة بين اليهود والرافضة يذكر فيه كاتبه أن الرافضة قالوا كذا واليهود سبقوهم، وأن الرافضة قالوا كذا واليهود سبقوهم، وأن الرافضة واليهود اجتمعوا على مقالة كذا وكذا. ثم بتتبع التاريخ يعلم أن كل نكبة حصلت على الإسلام والمسلمين سببها الرافضة، فمن ذلك القضاء على الخلافة في العراق، وقتل الخليفة العباسي المستعصم، وسبب ذلك أن الرافضة تمكنوا وكثروا في العراق وبالأخص في بغداد، وكان وزير الخليفة يقال له: ابن العلقمي وهو رافضي خبيث، كان يحب أن تنتقل الخلافة من آل العباس إلى آل علي، فهو الذي مكن لـ هولاكو رئيس التتار أن يخدع الخليفة فخرج إليهم، فلما خرج إليهم الخليفة قبضوا عليه وجعلوه في كيس وداسوه بالأرجل إلى أن مات، ثم بعد ذلك دخلوا بغداد، وماذا حصل؟ قتل فيها مئات الألوف أو ألوف الألوف، وسفكت فيها الدماء حتى كادوا ألا يبقوا أحداً، هذه المصيبة كلها بواسطة هذا الخبيث الذي هو ابن العلقمي.

الرد على بعض المطاعن على خلافة عثمان

الرد على بعض المطاعن على خلافة عثمان Q ما رأيكم في من يطعن في خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه ويقول: إنها فجوة بين خلافة عمر وعلي، وإنه حملته الحمية على أن ولّى أبناء عمه على المسلمين؟ A لا شك أنه خليفة راشد من الخلفاء الراشدين. فأولاً: رضيه الصحابة وولوه. وثانياً: أنه لم يبطل شيئاً من الجهاد، بل الجهاد مستمر في عهده، والغزو والفتوح تواصلاً في عهده رضي الله عنه. وثالثاً: أن سيرته أتم سيرة، فهو الذي نسخ المصاحف وأرسلها إلى الآفاق، وأمرهم بأن يقتصروا عليها ويقرؤوها، وكان أيضاً في سيرته عابداً أشد العبادة، كما قيل عنه: ضحوا بأشمط عنوان السجود به يقطع الليل تسبيحاً وتحميداً فهذه سيرته في نفسه. أما كونه قرب أقاربه فهذا ليس بعيب عليه، ولا ينكر عليه إذا قرب مثلاً بعض أقاربه كـ معاوية، مع أن معاوية ولاه قبله عمر رضي الله عنه على الشام، وكان حازماً فيه قوة وشجاعة وإقدام، وحصل في زمنه فتوح كثيرة، كذلك أيضاً كونه قرب مروان بن الحكم وجعله كاتباً عنده لا يستنكر ذلك عليه، لكن الثوار من الأعراب هم الذين استنكروا هذا التقريب وقالوا: كيف تقرب ابن عمك هذا؟ فإنك ما قربته إلا لأجل الحمية ونحو ذلك! فهو يقول: النبي صلى الله عليه وسلم كان يخص أقاربه من بني هاشم بسهم ذوي القربى، وأنا رأيت أن هؤلاء هم ذوي القربى. فلا ينكر عليه.

منهج أهل السنة فيما وقع من الخلاف بين الصحابة

منهج أهل السنة فيما وقع من الخلاف بين الصحابة Q هل قراءة قصة الخلاف الذي حصل بين الصحابة في كتب السير مذموم أم لا بأس به؟ وما منهج السلف في ذلك؟ A لا بأس بذلك مع الاعتذار عنهم أنهم مجتهدون، وأن نكف عن كل ما شجر بينهم من الخلاف، ونقول: أمرهم إلى الله تعالى، ونعرف أن الحوادث هذه التي حدثت كثير منها لا صحة له بل هو مكذوب، والذي منه صحيح هم فيه معذورون، إما مجتهدون مصيبون فلهم أجران، وإما مجتهدون مخطئون فلهم أجر واحد وخطؤهم مغفور.

حكم إجابة وليمة العرس

حكم إجابة وليمة العرس Q هل إجابة دعوة وليمة العرس واجبة؟ وهل الوجوب بمجرد الدعوة أم لابد من موافقة المدعو؟ وما حكم الإجابة لمجرد الدعوة بالبطاقات؟ A وردت أدلة في إجابة الدعوة، ولكن ذلك محمول على حالات خاصة، وهي إذا كان التخلف يسيء الظن بالمتخلف فيقال: امتنع عن هذه الدعوة فذلك دليل على أنه حاقد علينا. أو: إنه لم يرض. أو: يبغضنا. أو نحو ذلك، فلذلك قالوا: الوجوب الذي ورد في حديث: (ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله) خاص في بعض الأزمنة وفي بعض الأمكنة. فأما هذه الدعوات التي هي إما بطاقات تفرق أو نشرات أو نحوها فأرى أن الإنسان إذا أجاب فلا بأس حتى يجيب أصحابه وإخوته، وإذا اعتذر أو كان له عذر فلا حرج.

من يقع عليه الصيام في كفارة قتل الخطأ

من يقع عليه الصيام في كفارة قتل الخطأ Q توفي أخ لي غرقاً وعمره أربع سنوات ونصف في بركة لأحد أقاربنا، وكان برفقته والدتي وبعض إخواني أحدهم أكبر مني سناً، والسؤال: هل هناك صيام بسبب موته؟ وعلى من يكون: أعلى والدتي، أم أختي، أم صاحب المزرعة، أم على والدي؟ A معلوم أن الطفل الذي في سن الرابعة لا يملكه أبواه، فهو كثيراً ما يتقلب، وكثيراً ما يذهب ويجيء ويصعد وينزل، ولا يستطع أبوه ولا أمه أن يتحكما فيه أو أن يمسكاه، فأظن أنه لا كفارة على الأم؛ لأنها لا تستطيع أن تملكه، ولا على الأب في كونه أحضرهما إلى هذه المزرعة، ولا على صاحب المزرعة الذي جعل هذه البركة مكشوفة، فكل منهم لم يصدر منه ذنب يستحق به أن يدفع دية أو أن يصوم كفارة.

نصيحة لمن تراوده شكوك في العقيدة

نصيحة لمن تراوده شكوك في العقيدة Q تراودني أحياناً بعض الشكوك في العقيدة، وأنا مقر ومؤمن -ولله الحمد-، ومن الذين يتأثرون ويبكون بقراءة القرآن، فأرجو من فضيلتكم التوجيه والإرشاد؟ A ننصحك بأن تكرر قراءة العقيدة مرة بعد مرة، وكذلك أيضاً تقرأ الأدلة التي ترسخها في القلب وترسيها، وننصحك أن تكثر من قراءة القرآن؛ فإن العقيدة مأخوذة من أدلة القرآن والسنة، وننصحك بكثرة الاستعاذة من الشيطان والبعد عن وساوس الشيطان وأوهامه وتخيلاته، فلعلك إذا ابتعدت عن ذلك كله زالت عنك تلك الشكوك.

كتاب صفوة التفاسير

كتاب صفوة التفاسير Q ما رأيكم في صفوة التفاسير للصابوني؟ A هو كغيره من التفاسير، والصابوني معلوم أنه على عقيدة الأشاعرة، ولكن لكونه في هذه البلاد التي ظهر فيها مذهب أهل السنة لم يستطع أن يفصح بعقيدته كما أفصح الأولون بعقيدتهم من إنكار الاستواء وصفة العلو. والصفات الفعلية، وتأويل الرحمة والمحبة والغضب والرضا وما أشبه ذلك تأويلاً ظاهراً، وتأويل صفات الوجه واليد والساق وما أشبه ذلك، فهو ينكر هذه الصفات، وتأويله لها تأويل خفي لا يتفطن له، أما المتقدمون من الأشاعرة مثل الرازي والبيضاوي والنسفي ونحوهم فإنهم يصرحون بالتأويل، ويردون ذلك رداً واضحاً. وبكل حال ففيه فوائد، ولكن الذي يكون جاهلاً بأمور العقيدة ينبغي أن يتجنب ما فيه من الأمور التي فيها شيء من المخالفة في العقيدة، أو يقرأه على عالم حتى ينبهه على الأخطاء العقدية التي فيه.

فضل صيام الأيام البيض

فضل صيام الأيام البيض Q ما هو الوارد في فضل صيام التطوع خصوصاً الأيام البيض؟ A معلوم أن الصيام عبادة من العبادات التي يحبها الله تعالى، واصطفاها لنفسه في قوله: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به) ، والإنسان ينبغي له أن يعود نفسه على الصوم حتى يحب العبادة التي يحبها الله تعالى، وأقل شيء أن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وأفضلها أيام البيض الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وأخبر بأنها أيام البيض؛ لكون لياليها بيضاً وأيامها بيضاً، فصيامها ورد فيه فضل: (إذا صمت فصم من الشهر ثلاثاً، فصم ثالث عشر، ورابع عشر، وخامس عشر) . وإن صام غيرها أجزأه ذلك، وقد كان ابن عمر رضي الله عنه يصوم ثلاثة من أول الشهر، فإذا قيل له: ألا تصوم أيام البيض يقول: وما يدريني أني أدرك البيض؟ وبعضهم يفضل أن يصوم من كل أسبوع يومي الاثنين والخميس، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحافظ عليهما، ويقول: (إنها تعرض الأعمال فيهما، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم) ، فمن صام الاثنين والخميس، أو أيام البيض، أو ثلاثة أيام من كل شهر، أو ثقل عليه في أيام الحر مثلاً وأجلها إلى الأيام التي يكون فيها الحر خفيفاً كان له بكل ذلك له أجر إن شاء الله.

شروط التوبة

شروط التوبة Q أنا شاب ملتزم وقعت في جريمة من كبائر الذنوب، ولم يعلم بي إلا الله عز وجل، وأنا على ذلك نادم، وأحس بأنني قد هلكت، فهل من نصيحة؟ A ننصحك بأن تتوب فيما بينك وبين الله تعالى؛ فإن التوبة تمحوا الذنب، والندم توبة، فحقق شروط التوبة: أولاً: أنك تظهر الندم والأسف على ما وقع منك من هذه الكبيرة ومن هذا الذنب. ثانياً: عاهد ربك على أن لا تعود ولا يتكرر منك هذا الذنب في بقية حياتك. ثالثاً: أكثر من الاستغفار والأعمال الصالحة، فإن {الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] .

شرح اعتقاد أهل السنة [13]

شرح اعتقاد أهل السنة [13] من محاسن عقيدة أهل السنة والجماعة الدالة على حرصهم على جمع الكلمة: أنهم يرون عدم الخروج على الولاة وإن كانوا ظلمة أو فجرة، ويرون الصلاة خلفهم، والجهاد معهم، ونصحهم والدعاء لهم؛ لأن الخروج عليهم فتنة تسفك فيها الدماء ولا طائل منها، متمثلين في ذلك بهدي السلف من الصحابة ومن بعدهم.

معاملة أهل السنة لأئمة الجور

معاملة أهل السنة لأئمة الجور قال الشيخ الحافظ أبو بكر الإسماعيلي رحمه الله تعالى في بيان اعتقاد أهل السنة: [ويرون الصلاة -الجمعة وغيرها- خلف كل إمام مسلم براً كان أو فاجراً، فإن الله عز وجل فرض الجمعة وأمر بإتيانها فرضاً مطلقاً، مع علمه تعالى بأن القائمين يكون منهم الفاجر والفاسق، فلم يستثن وقتاً دون وقت، ولا أمراً بالنداء للجمعة دون أمر. ويرون جهاد الكافر معهم وإن كانوا جورة، ويرون الدعاء لهم بالإصلاح والعطف إلى العدل. ولا يرون الخروج بالسيف عليهم ولا القتال في الفتنة. ويرون قتال الفئة الباغية مع الإمام العدل إذا كان ووجد على شرطهم في ذلك. ويرون الدار دار إسلام لا دار كفر كما رأتها المعتزلة، مادام النداء بالصلاة والإقامة ظاهرين وأهلها ممكنين منها آمنين. ويرون أن أحداً لا تخلص له الجنة وإن عمل أي عمل إلا بفضل الله ورحمته التي يخص بهما من يشاء؛ فإن عمله للخير وتناوله الطاعات إنما كان عن فضل الله الذي لو لم يتفضل به عليه لم يكن لأحد عليه حجة ولا عتب، كما قال الله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور:21] ، وقوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:83] ، وقال تعالى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:105]] . يقول: [ويرون الصلاة -الجمعة وغيرها- خلف كل إمام مسلم براً كان أو فاجراً] . ورد حديث: (صلوا على من قال: لا إله إلا الله، وصلوا خلف من قال: لا إله إلا الله) ، وذلك لأن هذه الكلمة عنوان الإسلام، فمن قال هذه الشهادة اعتبر داخلاً في الإسلام، ومن أهل الإسلام، ولكنه بعد ذلك يطالب بتكملة الشهادتين. وكان في أول الأمر الذين يتقدمون في الإمامة في صلاة الجمعة أو العيد أو الصلوات المكتوبة قد يكونون هم ولاة الأمر، كأمير البلدة أو نائبه أو نحوه، وهو أيضاً الذي يتولى الخطابة والإمامة، فيتحرج بعض المسلمين عن الصلاة خلفه إذا كان عاصياً. والمعاصي التي كانت في ذلك الزمان معاص عادية أشهرها شرب الخمر، وكان كثير من الأمراء يشربون الخمر، كما أثر ذلك عن بعض خلفاء بني أمية، وكذلك نوابهم، وكذلك كثير من خلفاء بني العباس ونوابهم وأمراؤهم كانوا يتعاطون الخمر ويبيتون عليه، فهذه معصية. وكذلك أيضاً من المعاصي المشتهرة الغناء، حيث كانوا يتخذون الإماء لأجل الغناء، ويشترون التي هي مغنية ويزيدون في ثمنها لأجل الغناء، ويحضرون لها الطبول والأعواد حتى يستمعوا إلى ضربها غنائها ويطربون لذلك، فهذا مشتهر أيضاً في أولئك الأمراء ونحوهم. ومن المعاصي أيضاً تأخير الصلاة عن وقتها، وبالأخص صلاة الظهر والعصر، فيؤخرونها عن وقتها ومع ذلك فإنهم يؤدونها، ولم يكونوا يتكاسلون عنها ويتركونها، وإنما ينشغلون إما بشهواتهم وإما بنوم وراحة إلى أن يتأخر وقت الظهر فلا يصلونه إلى قرب العصر، ووقت العصر فلا يصلونه إلا نصف ما بعد العصر. هذه هي أشهر المعاصي التي اشتهرت عن كثير من أولئك. ومن المعاصي أيضاً الظلم، أنهم كانوا يظلمون كثيراً من الناس بالتهم الباطلة، وأكثر ذلك عن طريق أخذهم للأموال التي يجبونها إلى بيت المال وغالبها ضرائب، فيجعلون على الموالي -ولو كانوا مسلمين- ضرائب سنوية، ومن أسلم من أهل الكتاب لم يسقطوا عنه الجزية بل يأخذوا الجزية منه ولو بعد إسلامه، حتى أسقطها عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وكذلك كثير منهم يأخذون ضرائب على الأموال بغير حق، وربما يستولون على الأموال كالبساتين والمصانع والأراضي ونحوها ويستبدون بها ويأخذونها بغير رضا من أصحابها ويضيفونها إلى أموالهم، فهذا مما يعابون به. فلأجل ذلك يقولون: كيف نصلي خلفهم وهم ظلمة يأخذون الأموال لأنفسهم، أو يؤخرون الصلاة، أو يفعلون هذه المعاصي؟ كيف نؤدي الصلاة خلفهم مع أن الصلاة مكتوبة علينا وفريضة الله تعالى؟ فجاء النص بالصلاة خلفهم، فكان الصحابة يصلون خلفهم، فذكروا أن الوليد بن عقبة بن أبي معيط كان والياً على الكوفة، وكان متهماً بشرب الخمر، فتقدم مرة ليصلي بهم صلاة الفجر وهو سكران فصلى بهم أربعاً، فلما سلم قال: أزيدكم؟ فقال ابن مسعود: ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة. صلى خلفه ابن مسعود وهو عالم الصحابة الذي أرسله عمر إلى الكوفة ليفتي الناس ويعلمهم رضي الله عنهم، ثم لما ثبت ذلك عنه أمر عثمان رضي الله عنه بجلده، فجلده عبد الله بن جعفر بأمر علي رضي الله عنه أربعين جلدة. وكذلك الحجاج بن يوسف والي العراق من قبل بني أمية اشتهر عنه نوع من المعاصي، وأكثرها الصلف والشدة والسجن للأبرياء، وكان سريع القتل فيقتل بالتهمة ويحبس، والسجن في مكان ضيق. فالحاصل أنه اشتهر عنه هذا النوع من الظلم، ويمكن أنه كان يحبس أيضاً بغير ذلك، ولكن هذا الذي اشتهر عنه هو الظلم والحبس والضرب والشدة، ومع ذلك فإن الصحابة الذين في العراق كانوا يصلون خلفه، ولما حج بالناس في حياة ابن عمر كان ابن عمر يصلي خلفه حتى في عرفة، وكان هو الذي يتولى الخطبة والصلاة، فكان الصحابة ومنهم ابن عمر يصلون خلفه. وذلك دليل على أنهم فهموا أن الصلاة خلفهم فيها جمع الكلمة، وأنها لا تعتبر باطلة، وقد ورد أيضاً أحاديث، منها أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يصلون لكم، فإن أحسنوا فلكم ولهم، وإن أساءوا فلكم وعليهم) ، وأخبر بأنه: (يأتي قوم يؤخرون الصلاة عن أوقاتها. قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا -أو ما أقاموا فيكم الصلاة-) ، والأحاديث كثيرة في الأمر بالصلاة خلف الأمراء ولو كانوا عصاة أو نحوهم. فيرى أهل السنة وأهل الحديث الصلاة -جمعة كانت أو غيرها- خلف كل إمام مسلم براً كان أو فاجراً إذا كان الفجور لا يوصل إلى الكفر، فإن الله تعالى أمر بالجمعة وفرضها وأمر بإتيانها: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] ، والله تعالى عالم بأن القائمين عليها قد يكون منهم فاجر وفاسق، وعالم بأنه قد يتولاها غير تقي كما وقع ذلك، فلذلك فرض الإتيان إليها في قوله: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] [ولم يستثن وقتاً دون وقت] ، ولم يقل: إلا إذا كان المقيمون لها عصاة أو فجاراً. بل أطلق ذلك. [ولا أمراً بالنداء للجمعة دون أمر] ، فالنداء للجمعة عام: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] ، ولو كان الذين يقيمونها عصاة أو فجاراً. والحكمة في ذلك جمع الكلمة، وذلك لأننا إذا عصيناهم فلابد أن يحصل ظلم وعسف وجبروت، ونحو ذلك.

إعادة الصلاة خلف أئمة البدع المكفرة

إعادة الصلاة خلف أئمة البدع المكفرة إذا قدر مثلاً أن خطيب الجمعة متهم ببدعة فإن تلك البدعة لا تخول ترك الصلاة خلفه، فلو كان -مثلاً- متصوفاً، ولكن له سلطة وولاية، أو كان معتزلياً -وأهل السنة لا يكفرون المعتزلة مطلقاً-، وكذلك لو كان أشعرياً أو نحو ذلك فلا يكفر، ويصلى خلفه، ومن صلى خلفهم فإنا لا نأمره بإعادة الصلاة. لكن إذا كان مشركاً فإنه يؤمر بإعادة الصلاة، فإذا عرف أنه من أهل وحدة الوجود وممن بدعتهم مكفرة، أو أنه من القبوريين الذين يدعون الأموات ويهتفون بأسمائهم ويدعونهم من دون الله تعالى، فمثل هؤلاء ولو كانوا يتسمون بأنهم مسلمون فإن دعاءهم لغير الله تعالى يحبط أعمالهم، فيصيرون بذلك مشركين. فإذا عرفت -مثلاً- أن هذا الخطيب أو أن هذا الإمام مشرك يعبد أهل البيت - علياً أو ذريته- كالرافضة، أو يعبد عبد القادر، أو ابن علوان، أو البدوي، أو نحوهم من المعبودات، بمعنى أنه يطوف بالقبر، أو يدعو الميت نفسه فيقول: يا معروف! أو: يا جنيد! أو يا ابن علوان! أو: يا عبد القادر! أو: يا كذا وكذا! أنا في حسبك، أو: ما لي إلا الله وأنت. أو نحو ذلك فإن هذا يعتبر مشركاً فلا تصح الصلاة خلفه؛ لأن شركه أخرجه من الإسلام، فإذا اضطر الإنسان إلى أن يصلي خلفهم فإنَّا نأمره بالإعادة، ولكن متى يكون مضطراً؟ موجود في كثير من البلاد الإفريقية أن ولاة الأمر وأئمة وخطباء المساجد من هؤلاء المتصوفة، ومعهم كثير من البدع المكفرة، ومن أشهرها أنهم يدعون الأموات ويعتقدون فيهم، أو أنهم غلاة في التصوف، بمعنى أنهم ملاحدة أو اتحادية، فيقول بعض أهل الخير: إذا لم نصل خلفهم آذونا واتهمونا بأننا نخالفهم أو نكفرهم، فيؤذوننا ويسجنوننا ويقتلوننا ويشردوننا ويطردوننا، فماذا نفعل؟ فنقول: إن وصلت البدعة إلى التكفير فإنك تصلي معهم مداراة لهم وتعيد، وإن لم تصل البدعة إلى التكفير فصلِّ معهم، فصلاتك لك وصلاتهم لهم، وأجاز بعض العلماء أن تدخل معهم وأنت تنوي الانفراد، فتتابع الإمام ولكنك منفرد تصلي لنفسك، فتقرأ ولو كان يقرأ، وتسمع بقولك (سمع الله لمن حمده) ، وتصلي صلاة كاملة بنية أنك منفرد إذا خشيت على نفسك من أن يتهموك بأنك ثوري أو إرهابي أو مخالف أو نحو ذلك فيضروك، فلك أن تتقي شرهم بذلك، وإن تمكنت من أن تصلي وحدك، أو وجدت مسجداً -ولو بعيداً- فيه إمام مستقيم فهو الأولى.

جهاد الكفار والحج مع أئمة الجور

جهاد الكفار والحج مع أئمة الجور يقول: [ويرون جهاد الكفار معهم، وإن كانوا جورة، ويرون الدعاء لهم بالإصلاح والعطف إلى العدل] . الجهاد: هو قتال الكفار. فمن عقيدة أهل السنة أنهم يرون الحج والجهاد مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً، وذلك لأنه في الزمان القديم لا يتيسر الحج إلا مع أمير يحفظ أولئك الحجاج، ويكون معه جيش قوي وأسلحة حتى لا يعترض للحجاج قطاع الطريق من الأعراب ونحوهم الذين يعترضونهم ويأخذون أمتعتهم، فيأمرون على الحج أميراً قوياً، وقد يكون ذلك الأمير متلبساً بشيء من المعاصي، إما بتأخير الصلاة، وإما بشرب المسكرات، وإما باستماع الأغاني ونحوها. فيقولون: الحج معه خير من ترك الحج، والحج معه أولى من الحج منفرداً والتعرض لقطاع الطريق. كذلك أيضاً الجهاد قتال الكفار، وهو الغزو، ولابد أن يكون لهم أمير، فليس شرطاً أن يكون ذلك الأمير مهذباً أو تقياً نقياً، بل يجاهد معه في نصر الإسلام، ويجتمع المجاهدون تحت رايته ويطيعونه، ويسيرون بتدبيره، ولا يجوز الغزو إلا بإذنه، ويلزمهم طاعته والصبر معه والسير بسيره، وعليه أن يرفق بهم ولا يكلفهم ولا يشق عليهم، وعليهم أن يسمعوا له ويطيعوا ولو كان منتقداً أو مرتكباً شيئاً من المعاصي، فإن ذلك لا يخول لهم أن يتركوا الجهاد، فالجهاد عبادة عظيمة وشعيرة من شعائر الإسلام بها أظهر الله تعالى الدين ونصره، وبها انتصر المسلمون وقضوا على كثير من الملل الكفرية، فما دام أن فيه مصلحة فإننا نجاهد كل كافر مع كل أمير ولو كان الأمير من الفجرة أو من الجورة.

الدعاء لهم وعدم الخروج عليهم بالسيف

الدعاء لهم وعدم الخروج عليهم بالسيف موقفنا مع ولاة الأمور أن ندعوا لهم بالصلاح وبالإصلاح، وندعو لهم بالعطف إلى العدل وبأن يردهم الله تعالى إلى العدل، فإن الدعوة لهم فيها خير وفوائد. أولاً: أننا نأمن في ولايتهم، نعرف أن في ولايتهم على البلاد خير كثير حيث تأمن البلاد وتسلم من قطاع الطريق وتسلم من الفتن نحوها. ثانياً: جمع كلمة المسلمين، واتفاقهم على إمام واحد أو ولي واحد، فلذلك إذا رأينا منهم شيئاً من الجور أو ارتكاب شيء من المعاصي، أو نقصاً ننصحهم وندلهم على طرق الخير، ولا ننسى أن ندعوا الله لهم بالإصلاح وأن يردهم إلى العدل. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولا يجوز الخروج عليهم بالسيف] . الخروج عليهم معناه: الخروج على الأئمة. فلا يجوز ولو كانوا عصاة، وما ذاك إلا أن في الخروج عليهم مفاسد كبيرة، وهو سبب للفتن وللقتل ولاستباحة الأموال والبلاد ولتفرق الكلمة، وقد كان السلف رحمهم الله تعالى ينهون عن الخروج على الأئمة بالسيف ولو جاروا وظلموا وبطشوا، ويقولون: ليس في الخروج عليهم مصلحة، بل إن ذلك يؤدي إلى مفاسد كبيرة. وفي عهد الإمام أحمد وجد كثير من الأئمة ممن عليهم مآخذ، من آخرهم الذي أدركه هو المعتصم، وكان قبله المأمون الذي فتن الناس ودعاهم إلى القول بخلق القرآن، ومع ذلك كان يدعو لهم رحمه الله بالصلاح والإصلاح، ويستأذنه بعض أصحابه في أن يثوروا ويخرجوا عليهم ويقاتلوهم فيقول: ماذا تحصلون عليه من قتالهم؟ لا تحصلون إلا على فشل وعلى ذل وهوان. ويضرب لهم أمثلة للذين خرجوا على أئمة الجور أنهم باؤوا بالفشل منذ العهد الأول. فمثلاً: في عهد بني أمية كانت ثورات كثيرة وكلها باءت بالفشل، فمن أشهرها فتنة ابن الأشعث، وذلك لأنه بعثه الحجاج لقتال بعض بلاد الأفغان لما بلغهم أن أمير كابول منع الجزية، فعند ذلك أرسله للغزو وشدد عليه، ولما شدد عليه خلع بيعة الحجاج وطاعته، ثم خلع بيعة عبد الملك وطاعته، ثم كان في النهاية أن بايعه الجيش، ثم أهل العراق، ثم حصل القتال بينه وبين الحجاج، ثم كانت الهزيمة على ابن الأشعث وقتله بعد ذلك، وحصل بذلك أن قتل في هذه الفتنة أكثر من ثمانين ألفاً بسبب هذه الفتنة ولم يحصلوا على نتيجة. ثم بعده: ابن المهلب أراد أن يخلع أيضاً بيعة خلفاء بني أمية لما رأى طاعة الجيش له وباء بالفشل. ثم بعده: قتيبة بن مسلم الذي فتح كثيراً من بلاد الهند وما وراء النهر والسند ورأى طاعة الجيش له وخلع بيعة خليفة بني أمية ولم يحض إلا بالفشل. فيضرب الإمام أحمد مثلاً بهؤلاء، وكذلك في خلافة المنصور لما تمت البيعة لبني العباس ثار عليه اثنان من أولاد الحسن بن علي أحدهما في المدينة والثاني في البصرة، ومع كثرة الجيوش التي بايعتهم ومع ذلك باءا بالفشل. فمن عقيدة أهل السنة عدم الخروج على الأئمة بالسيف، وخالف في ذلك طائفتان: الخوارج والمعتزلة. فالخوارج ثاروا في عهد علي، وقاتلهم علي وشردهم، وبقي منهم بقايا صاروا يثورون كلما تقووا في عهد بني أمية، ولكنهم لا ينتصرون غالباً، ولو حصل لهم شيء من الانتصارات في بعض الأحيان. أما المعتزلة فإن من عقيدتهم جواز الخروج على أئمة الجور، هذا من معتقدهم ولكنهم لم ينفذوا ذلك؛ لأن الغالب عليهم التفرق، فلم يصلوا إلى وقت يثورون فيه ويقاتلون الأئمة ويخرجون عليهم. فالحاصل أن أهل السنة يرون عدم الخروج على الأئمة بالسيف، ويرون عدم القتال في الفتن بين المسلمين، وأن ذلك ضعف للإسلام وللمسلمين، ثم إذا ثارت ثائرة على إمام المسلمين فإن على عموم المسلمين أن يقاتلوهم بأمر ذلك الإمام، وهؤلاء يسمون (البغاة) ، وهم الذين يثورون على إمام المسلمين أو أمير المؤمنين بشبهة تعرض لهم، فإذا كانت لديهم شوكة وقوة فإن الإمام أولاً يزيل الشبهات التي عندهم، بأن يراسلهم وينظر ما هي الشبه التي يتشبثون بها ويتعلقون بها فيزيلها، ثم ثانياً يقاتلهم، ويلزم الجيش طاعته والصبر والقتال معه للفئة الباغية.

ضوابط دار الإسلام عند أهل السنة

ضوابط دار الإسلام عند أهل السنة قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويرون الدار دار الإسلام لا دار الكفر كما رأتها المعتزلة، مادام النداء بالصلاة والإقامة ظاهرين وأهلها ممكنين منها آمنين] . أهل السنة يعتبرون أن البلاد بلاد إسلام مادام أن فيها المساجد والمؤذنين، ومن يقيمون الصلاة، ولو كان فيها معاصٍ كخمور ومزامير وأغانٍ وملاهٍ وتماثيل وما أشبه ذلك، فإنهم يحكمون بأن البلاد بلاد إسلام، فلا يجوز استحلالها، ولا استباحة محارمها، ولا قتال أهلها ولو غلب أو كثر فيهم الفسوق والفساد، وإنما يقتصرون على الدعوة والسعي في الإصلاح، وتسمى (دار إسلام) . أما المعتزلة فإنهم يكفرونها، ويرون أنها دار كفر إذا ظهر فيها عندهم شيء من الكفر، هكذا يدعون، إذا ظهر فيها شيء من المعاصي اعتبروها دار كفر، واعتبروا أهلها كفاراً، وحكموا بالأكثرية أو بالأمكنية، وهذا خلاف معتقد أهل السنة أن الدار دار الإسلام ولو حصل فيها ما حصل من الخلل. وإذا اعتبرت دار كفر فمعناه أنه يقضى على المساجد التي فيها وعلى الكتب؛ إذ قد يكون فيها كتب إسلامية ومصاحف وما أشبه ذلك، وكثير الآن من البلاد يظهر فيها شيء من شعائر الكفر، وإن لم تكن تتصور فيما سبق، وذلك مثل أن يرخص في الزنا مادام أن المرأة حرة في نفسها وموافقة، فيقولون: لها الحرية أن تبذل نفسها ولا شك أن هذا مخالف للشرائع الإسلامية، ولكن لا تصل البلاد التي يظهر فيها ذلك إلى أنها بلاد كفر تغزى وتقاتل. وكذلك إظهار بيع الخمور، حيث يوجد في كثير من البلاد أنهم يذيعون بيع الخمور علناً، فضلاً عن شربها، فهذه البلاد أيضاً لا تصل إلى كونها بلاد كفر، ما دام أن فيها مصلين ومساجد ومؤذنين، وأنهم يتسمون بالإسلام، وأن في مساجدهم مصاحف وكتب إسلامية وما أشبه ذلك. وكذلك لو وجد فيهم محاكم غير شرعية يحكمون بالقوانين الوضعية ونحوها، فنقول: الحكم بالكفر على ذلك الشخص الذي يتولى هذا الحكم ولا نحكم على البلاد كلها، بل نقول: البلاد بلاد إسلام. ونعتبرها دار إسلام لا دار كفر خلافاً للمعتزلة، إذا كان فيها نداء بالصلاة والإقامة لها إذا كان ذلك ظاهراً وأهل الصلاة يتمكنون، أما لو عدمت هذه الأشياء فإنها تصبح دار كفر إذا رأينا أن هذه البلاد هدمت فيها المساجد، وأحرقت فيها المصاحف وكتب الإسلام، ومنع الذي يرفع صوته بالإسلام، ومنع الذي يصلي، ومن رأوه يصلي قتلوه أو سجنوه، وأبيح فيها الكفر، وعبدت فيها الأوثان، وأظهر فيها الشرك، وحكم فيها بغير شرع الله تعالى، ومنع فيها من يظهر الإسلام أو يتكلم به، فإنها تصبح دار كفر.

سعة فضل الله على العباد

سعة فضل الله على العباد قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويرون أن أحداً لا تخلص له الجنة وإن عمل أي عمل إلا بفضل الله ورحمته التي يختص بهما من يشاء] . هذه مسألة جديدة، وهي اعتقادنا أن الإنسان لا يكون من أهل الجنة بمجرد عمله، بل بفضل الله تعالى وبرحمته، وإن كانت الأعمال من جملة الأسباب لدخول الجنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد منكم عمله الجنة. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) . فنعتقد أنه لا يخلص له الجنة وإن عمل عملاً كثيراً إلا بفضل الله وبرحمته التي يختص بهما من يشاء، وعمله للخير وتناوله الطاعات إنما كان عن فضل الله، ونقول: إن الله تعالى هو الذي مّنَّ عليك وهو الذي هداك، فله النعمة علينا، وله الفضل أن هدانا للإسلام وأقبل بقلوبنا على طاعته وأعاننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، فلو لم يتفضل علينا لم يكن لأحد منا حجة على الله تعالى، ولو خذل عباده فإنه لا عذر لهم ولا حجة. والله تعالى يذكر عباده دائماً بفضله فيقول: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور:21] أي: تذكروا أنكم تحت فضل الله تعالى ونعمته فهو المتفضل عليكم، وهو الذي وفقكم وهداكم للإسلام، ولو شاء لخذلكم ولسلط عليكم الأعداء، فاشكروه على فضله تعالى ونعمته {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور:21] ، ويقول تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} [النساء:83] فلولا أنه تفضل عليكم وهداكم وخصكم بواسع فضله -فهو يختص برحمته من يشاء- لولا ذلك لكنتم أشقياء، ولكنه يختص بفضله من يشاء، فاشكروه على ذلك. فنحن نعترف بفضل الله تعالى علينا، ونحمده على أن هدانا للإسلام، ونسأله أن يَمُنَّ علينا بتكميل هذا الإسلام، ومع ذلك نرغب إليه أن يعمنا بواسع رحمته وبفضله، وأن يتجاوز عن أخطائنا ونقصنا وتقصيرنا، فنحن كلنا أخطاء إلا أن يتجاوز الله عنا، وأعمالنا قليلة ولو عملنا أي عمل.

أثر العمل الصالح في دخول صاحبه الجنة

أثر العمل الصالح في دخول صاحبه الجنة مما يتعلق بالأعمال كون العمل لا يستقل بإدخال صاحبه الجنة، ودليل ذلك قول الله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور:21] ، فقد أخبر الله تعالى بأنه المتفضل على عباده، وأنه لولا تفضله عليهم ما زكوا ولا تزكوا ولا عملوا، ولكنه تعالى تفضل على هؤلاء فهداهم، وله النعمة والفضل عليهم، ومن الذكر الذي ورد بعد دبر كل صلاة أن يقول العبد: (لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل، وله الثناء الحسن) ، فله المن على عباده والفضل عليهم. ولما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يعدد على الأنصار خصالهم التي تميزوا بها كان يذكرهم ويقول: (ألا تقولون: جئتنا وحيداً فنصرناك، وجئتنا طريداً فآويناك؟) فأخذوا يقولون: الله ورسله أمنَّ، المنة لله ولرسوله. فحقاً لله المنة على عباده، وله الفضل عليهم، فإذا أنعم على بعض العباد فهداهم وأقبل بقلوبهم على طاعته فإنه المتفضل وله الفضل في ذلك، وإذا خذل بعض العباد وحال بينهم وبين رشدهم، وأضلهم على علم فله الحكمة في ذلك، يقول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية:23] ، فالله تعالى هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، فمن هداه الله فقد تفضل عليه، ومن خذله وأضله فقد عامله بعدله. ولا ينسب إلى الله تعالى ظلم ولا جور، بل هو العادل في عباده، فأعمالهم التي عملوها فضل من الله تعالى، وقد ورد في حديث أنه: (يجاء برجل قد عمل من الحسنات أمثال الجبال، فيقول الله تعالى: أدخلوه الجنة برحمتي، فيقول: يا رب! ألست أدخلها بأعمالي؟ فعند ذلك يقول الله: حاسبوا عبدي -أي: على نعمي عليه-. فإذا بدأوا في الحساب يقول الله لنعمة البصر: خذي حقكِ من أعماله. فتأخذ من أعماله، ثم يقول لنعمة السمع: خذي حقكِ. فلا تكاد أن تترك من أعماله شيئاً، فعند ذلك يقول الله: ادخلوه النار. فيقول: يا ربي! بل برحمتك أدخلني الجنة) ، فعند ذلك يدخله الله الجنة ويعترف بأن أعماله التي عمل لا تستقل بإدخاله الجنة مهما كثرت ومهما عظمت. والأكثر تصريحاً من ذلك الحديث الذي هو قوله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحداً منكم الجنة عمله -أو: فلن يدخل أحد منكم الجنة بعمله- قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) ، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم مع جده في العمل واجتهاده ونشاطه وجهاده وصلاته وذكره وأعماله وأدعيته، ومع ما حباه الله تعالى به وعصمه من الخطايا والزلات مع ذلك يقول: (ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) ، فكيف بمن دونه؟ لا شك أن الأعمال سبب، ولذلك يعلق الله تعالى بها الجزاء على الأعمال سيئها وحسنها، وكثيراً ما يقول: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] ، {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [آل عمران:182] ، ويقول: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24] ، فيجعل العمل هو السبب الذي حصلوا به على ذلك الجزاء. فالأعمال الصالحة هي أسباب للجزاء بالجنة وبالثواب وبرضا الله تعالى، ولكن تلك الأعمال الصالحة أليست فضلاً من الله تعالى؟ هو الذي تفضل على عباده فهداهم، وأقبل بقلوبهم على طاعته، وبصرهم بالحق وهداهم، وأرشدهم وسددهم، وربط على قلبوهم وثبتهم، ولو شاء لأضلهم سيما مع كثرة المضلات، فإنه قد سلط عليهم أنواعاً من المضلات، فإذا أعانهم على تلك الأعداء فثبتوا كان ذلك فضلاً منه ورحمة، فإنه سلط عليهم الأبالسة والشياطين، وحمى أولياءه من الشياطين فضلاً منه، قال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:99-100] ، أخبر بأنه ليس له سلطان إلا على من خذلهم الله تعالى وسلطه عليهم. فأخبر بأنه حمى أولياءه المؤمنين وحال بينه وبينهم، فأعطاهم من الأسلحة ما يقهرونه ويذلونه ويتغلبون به على وساوسه وخطراته، فأمرهم بالاستعاذة منه، وإذا استعاذوا بالله تعالى أعاذهم، وكذلك أمرهم بذكر الله وذكر الله يطرد الشياطين، وأمرهم أن يدعوه حتى يحول بينهم وبين أعدائهم ويحميهم ويعصمهم، وأمرهم بقراءة كلامه أو ما تيسر منه، وقراءته أيضاً سلاح يحول بينهم وبين أعدائهم، فإذا وفقهم وأعانهم على هذه القراءة والأذكار والأدعية والاستعاذة ونحوها صارت معهم أسلحة يفتكون بها في أعدائهم من الشياطين، وتعينهم على قهرهم وقمعهم وإذلالهم. وسلط عليهم أيضاً أعداء آخرين، كما يقول بعض الشعراء: إبليس والدنيا ونفسي والهوى كيف الخلاص وكلهم أعدائي فهؤلاء الأعداء إنما يتغلب عليهم بتوفيق من الله تعالى ونصر منه وتأييد، فإذا أيده الله تعالى وقواه تقوى على هؤلاء الأعداء وانتصر عليهم، وقوي على أن يمسك نفسه ويقهرها ويقودها إلى طاعة ربه تعالى، وإذا تسلطت عليه نفسه ولم يكن معه ما يقهرها انقاد لشهواته ولهوه وأصبح غير مستقل بأمر الله تعالى ولا قادر على أمر الله تعالى.

الأسئلة

الأسئلة

سبب ذكر طاعة ولاة الأمر في العقائد

سبب ذكر طاعة ولاة الأمر في العقائد Q لماذا أدخل باب طاعة ولاة الأمور في كتب العقائد؟ A السمع والطاعة لله تعالى، ومن طاعة الله وطاعة رسوله طاعة من ولاه الله، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقط أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني) ، وكان إذا أَمَّر أميراً أمر من كان معه بأن يطيعه، على أن تكون الطاعة في المعروف (إنما الطاعة في المعروف) ، وبكل حال لا شك أن طاعة الله وطاعة رسوله من العقيدة، فيدخل في العقيدة طاعة ولاة الأمر الذين أمرنا بطاعتهم.

حكم تكفير من يخالف حكم الله

حكم تكفير من يخالف حكم الله Q يستدل بعضهم بقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] على كفر ولاة الأمور في الدول التي يوجد بها بنوك ربوية أو مخالفات في وسائل الإعلام أو غيرها، فكيف يرد عليهم؟ A أولاً: الكفر هنا قد اختلف فيه: هل هو كفر عملي أو كفر اعتقادي؟ فيرى كثير من العلماء أنه كفر عملي وهو لا يخرج من الملة، ويرى بعضهم أنه كفر دون كفر. ثانياً: أن الآية فيمن لم يحكم بشيء مما أنزل الله؛ لأن الله يقول: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة:44] ، فمعناها: أنهم لا يحكم بكفرهم إلا إذا لم يحكموا بشيء مما أنزل الله ولو بآية، أو بحديث من كتاب الله ولا من سنة رسوله، {لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة:44] أي: لم يحكم بشيء مما أنزل الله. ثالثاً: لا شك أن تغيير شرع الله تعالى تغييراً جذرياً يعتبر اعتراضاً على الله تعالى، والاعتراض على الله والانتقاد له يعتبر كفراً، ولكن إذا اعتبرناه كفراً عملياً رأينا أن الخروج على أهله من الخروج على الأئمة، ولا شك أن فيه فتنة ومضرة على الذين يخرجون، وذلك لأن هؤلاء الأئمة الأمراء بأيديهم القوة والأسلحة الفتاكة، فالذين يخرجون عليهم لا يقدرون على مقاومتهم ولو خرجوا بحق. فلأجل ذلك يقول الشافعي في الأبيات المشهورة: لك العقل الذي زين الفتى إذا أنت لم تقو عدوك داره وقبّل يد الجاني التي لست قادراً على قطعها وارقب سقوط جداره ترقب إلى أن يظهر الله القوة للإسلام والمسلمين.

موقف المؤمن من البلاد التي انتشرت فيها المنكرات

موقف المؤمن من البلاد التي انتشرت فيها المنكرات Q إذا كثرت المنكرات في مجتمع من المجتمعات وفشت وطمت، ثم نصح ولاة أمورها سراً ومع ذلك لم يستجيبوا، فما هو العمل؟ A ليس لك إلا أن تكرر النصيحة، وأن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وأن تحرص على الدلالة على الخير، وأن تنجو بنفسك وبمن تستطيع النجاة به من أهل الخير مع أهل الخير المستجيبين لك، وحينئذٍ تكون معذوراً، وقد ورد في تفسير قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] يقول: (إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنياً مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك، ودع عنك العوام، فإن من ورائكم أياماً الصابر فيها على دينه كالقابض على الجمر من قلة الموافق وكثرة المخالف) ، ففي تلك الحال يكون الإنسان مهتماً بصلاح نفسه.

كيفية نصح ولاة الأمر

كيفية نصح ولاة الأمر Q إذا لم نستطع الوصول إلى ولاة الأمر لنصحهم، فكيف ننصحهم؟ A أولاً: تدعو لهم. ثانياً: تنصح جلساءهم الذين تستطيع أن تصل إليهم، أو جلساء جلسائهم لعلهم ينصحونهم أو يؤثرون فيهم. ثالثاً: تحرص على إصلاح من تقدر عليه من المسلمين بما تستطيعه من وجوه الإصلاح، وفي إصلاح بعض من المسلمين خير كثير، فهو أولى من ترك الإصلاح حتى يكون الشعب كله منحرفاً أو فاسداً، فبعض الشر أهون من بعض، فإذا رأينا -مثلاً- أن الأشرار لهم الغلبة والتمكن، وأنهم ينفذون كلماتهم ويبطشون بأهل الخير ويذلونهم ويهينونهم، ورأيناهم يزيدون ويفشون ويتمكنون، ورأينا الشر يستطير، ورأينا المصلين في قلة وذلة، وحملة القرآن ونحوهم، ورأينا العصاة أهل الخمور والفجور والفساد وما أشبه ذلك لهم التمكن فلابد أن نتصل بأهل الخير من إخواننا، ونتمسك بطاعة الله، ونتواصى بالحق ونتواصى بالصبر، وكل من رأيناه محباً للخير أو قريباً منه نصحناه سراً وبينا له، (والحق ضالة المؤمن) ، فبذلك يظهر الخير ولو قليلاً قليلاً إلى أن يظهر أهله ولو بعد حين.

أنواع الخوارج وصور خروجهم

أنواع الخوارج وصور خروجهم Q هل الخروج يكون بالسيف فقط أم باللسان أيضاً؟ A لا شك أن أصل الخروج هو منابذتهم، فيقال: خرج على الأئمة بمعنى: نابذهم، وكفرهم، واستباح قتالهم، واستباح محارمهم. فهذا هو الأصل في الخروج. ولكن القسم الثاني يسمى تكفيراً وتضليلاً، وهو أيضاً قد يكون سبباً في وصول الأذى إلى ذلك المكفر، فإنَّا إذا رأينا مجموعتين: مجموعة يقاتلون الأئمة، وعندهم من القوة والذخائر ما يتمكنون به من أن يقاتلوا الإمام وأتباع الإمام والمسلمين الذين في طواعية ذلك الإمام سميناهم خوارج وسميناهم أهل خروج عن الطاعة. ورأينا آخرين على معتقدهم ولكنهم لا يخرجون ولا يقاتلون ويسمون القعد، نقول هؤلاء: أيضاً لهم حكم الأولين، وقد يكون الأولون هم الذين يتأثرون بهم، وذلك لأن كثيراً من الخوارج في العهد الأول لا يرون القتال، ولكنهم يسمون القعد من القعود، ويقال: أنهم قاعدون، ولكنهم يحثون الآخرين الذين عندهم قوة وجرأة على القتال، يقولون: قاتلوهم فإن لكم أجراً، ولكم ولكم. ذكروا ذلك في ترجمة عمران بن حطان، وكان أولاً من أهل السنة، وروى أحاديث عن عائشة وغيرها من الصحابة، وحدث عنه بعض العلماء، وله أحاديث في صحيح البخاري إلا أنه في آخر عمره تزوج امرأة من الخوارج يظن أنه سيؤثر فيها وأنه سيصلحها ولكنها أفسدته، فغيرت عقيدته فأصبح خارجياً، ولكنه من الخوارج القعد وليس من الذين يقاتلون، وهو الذي مدح ابن ملجم الذي قتل علياً بالأبيات المشهورة التي يقول فيها: يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضواناً إني لأذكره يوماً فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزاناً فرد عليه بعضهم بقوله: يا ضربة من شقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش سخطاناً إني لأذكره يوماً فألعنه جهراً وألعن عمران بن حطانا فالحاصل أن مثل هؤلاء يقال لهم: القُعَّد، فيعتبرون الحكام مثل غيرهم أنهم داخلون في الكفر.

حكم القتال مع إمام الجور

حكم القتال مع إمام الجور Q هل يجب قتال الفئة الباغية مع السلطان الجائر أم أنها لا تجب إلا مع الإمام العادل؟ A ذكروا في قتال البغاة أموراً. أولاً: أنهم لابد أن يكون لهم شبهة، وتلك الشبهة تخول لهم أن يخرجوا، فإذا لم يكن لهم شبهة فإنهم قطاع طريق فيقاتلون بكل حال؛ لأنهم يقتلون المسلمين، أما إذا كانت لهم شبهة وعندهم شوكة ولهم قوة فقالوا: يلزم الإمام أن يراسلهم قبل البدء بقتالهم، ويسألهم: ماذا تنقمون؟ فإذا ذكروا له ماذا ينقمون أصلح الأحوال التي يدعونها إن كانت صدقاً، أو اعتذر عنهم وبين خطأهم في هذا الاجتهاد. ثانياً: بعدما يصرون على القتال ويمتنعون من الرجوع ففي هذه الحال يقاتلهم، وإذا كان كذلك فإننا نقاتل معه حتى ولو كان معه شيء من الجور أو المعاصي أو النقص أو التقصير، وذلك حفاظاً على بيضة الإسلام، وعلى جمعية المسلمين.

الضابط في تقسيم البلاد إلى بلاد كفر وبلاد إسلام

الضابط في تقسيم البلاد إلى بلاد كفر وبلاد إسلام Q ما الضابط في الحكم على البلاد بأنها بلاد إسلام، علماً بأن بعض دول الغرب تترك المسلمين يؤدون شعائر إسلامهم؟ A إذا كان الحكم للكفر فإنها تعتبر بلاد كفر، لكن إذا كان بيننا وبينهم عهد فإننا لا نغزوهم ولا نقاتلهم، أما إذا كان الحكم للإسلام والمسلمين فإننا نحكم بأنها بلاد إسلام؛ لأن الأصل أنها بلاد إسلام، فمثلاً: أكثر بلاد أمريكا ونحوها بلاد كفر ولكن فيها مراكز إسلامية ودعاة مسلمون، وقد يقام فيها مساجد، فنقول: البلاد بلاد كفر وفيها مسلمون، وإذا انتقضت العهود التي بيننا وبينهم حل غزوهم وقتالهم، وما دام أنهم مسالمون ولهم عهود فإنهم لا يقاتلون. أما البلاد الإسلامية أصلاً -ولو كان فيها شيء من شعائر الكفر- فإن الحكم للبلاد التي فيها أصل الإسلام، فنقول مثلاً: بلاد تركيا بلاد إسلام، ولو أن فيها الآن اختلاطاً وقبوريين ومعاصي وخموراً، لكن الأصل أنها بلاد إسلام، وفيها المساجد والمكتبات والكتب ونحو ذلك فلا تكفر ولا تبدع، وكذلك كثير من البلاد الإفريقية لاشك أنها بلاد إسلام ولو ظهر فيها شيء من شعائر الكفر.

حكم من يكفر كل المجتمعات الإسلامية

حكم من يكفر كل المجتمعات الإسلامية Q ما رأيكم فيمن يكفر المجتمعات الإسلامية قاطبة ويقول: إنها ارتدت بالكلية؟ A هذا قول خاطئ، وذلك لأن المجتمعات الإسلامية لا شك أنها تهدف إلى الحق ولو كان فيها شيء من النقص أو الخلل، ومعلوم أنهم ما قصدوا إلا الحق والخير، فهم مسلمون موحدون يشهدون الشهادتين ويدعون إلى الصلاة وإلى أركان الإسلام، ويدعون إلى تحقيق الإيمان والاتصاف بالإيمان، فنقول: إنهم من أهل الإسلام ولا يجوز تكفيرهم. ونقول بعد ذلك: لا يضر اختلافهم في الأسماء، فالأسماء عادية، يرضى هؤلاء -مثلاً- أن يسموا أنصار السنة، فنقول: نتفقد أحوالكم، فإذا كنتم على العقيدة فإننا نقركم ونسميكم بما تريدون. وإذا قال هؤلاء: نحن نتسمى بأهل التوحيد قلنا: لكم اسمكم ولكن ننظر في أعمالكم. وإذا تسمى هؤلاء بالسلفيين نقول: لكم ما تسميتم به ولكن حققوا أعمالكم. وإذا تسمى هؤلاء بأهل الدعوة. قلنا: نوافقكم على ذلك ولكم اجتهادكم ونظركم. وإذا تسمى هؤلاء -مثلاً- بأهل الدعوة أو بأهل التوحيد أو بغير ذلك من الأحزاب التي أسماؤها حسنة نقرهم على تسميتهم، ولكن نتفقد أحوالهم. ثم هذه الأحزاب الأصل فيهم والغالب أنهم يدعون إلى الخير ويحبونه، والله تعالى يتولى أمورهم وشئونهم، ولا نقرهم على ما فيهم من الأخطاء التي يخطئون فيها بل ننتقدهم في ذلك الخطأ، ولا يصل الخطأ إلى التكفير، فإن التكفير أمره كبير.

شرح اعتقاد أهل السنة [14]

شرح اعتقاد أهل السنة [14] يؤمن أهل السنة والجماعة أهل الحديث بأن الله تعالى قد جعل لكل حي مخلوق أجلاً هو بالغه بالموت، ورزقاً هو مستكمله إلى أن يموت من حلال أو حرام، ويؤمنون بالشيطان ووسوسته، وملابسته لبني آدم، وجريانه من ابن آدم مجرى الدم، وتسلطه عليه، وأن الاستعاذة بالله منه طريق النجاة والخلاص.

تقدير الله تعالى للآجال

تقدير الله تعالى للآجال قال الشيخ الحافظ أبو بكر الإسماعيلي رحمه الله تعالى في بيان اعتقاد أهل السنة: [ويقولون: إن الله عز وجل أجَّل لكل حي مخلوق أجلاً هو بالغه: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] ، وإن مات أو قتل فهو عند انتهاء أجله المسمى له، كما قال الله عز وجل: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:154] ، وإن الله تعالى يرزق كل حي مخلوق رزق الغذاء الذي به قوام الحياة، وهو ما يضمنه الله لمن أبقاهم لخلقه، وهو الذي رزقه من حلال أو من حرام، وكذلك رزق الزينة الفاضل عما يحيا به. ويؤمنون بأن الله تعالى خلق شياطين توسوس للآدميين ويخدعونهم ويغرونهم، وأن الشيطان يتخبط الإنسان، وأن في الدنيا سحر وسحرة، وأن السحر استعماله كفر من فاعله معتقداً له نافعاً ضاراً بغير إذن الله] . البحث الأول يتعلق بالآجال، وهو أن الله تعالى قدر الآجال وحدد الأعمار، وجعل لكل نفس عمراً محدداً لا يمكن أن تتجاوزه، ولا يمكن أن يزاد في عمره ولا أن ينقص، والعمر الذي كتبه الله له قبل أن يخلقه بل قبل أن يخلق الدنيا لابد أنه يصل إليه ولا يتجاوزه. ومعلوم أن ربنا سبحانه علم عدد الخلق قبل أن يخلقوا، علمهم بعددهم وبأوقات وجودهم وبأعمارهم وبأعمالهم ونحو ذلك، ففي الحديث: (إن الله تعالى قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة) ، وفي حديث آخر: (إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب. فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة) جرى القلم بما هو كائن وحادث إلى يوم القيامة، ولا يزاد عما جرى، وذلك في اللوح المحفوظ الذي لا يعلمه إلا الله تعالى.

أنواع التقدير

أنواع التقدير التقدير أربعة أنواع: تقدير عام وهو الذي في اللوح المحفوظ. وتقدير عمري، وهو الذي يكتب إذا كان الإنسان في الرحم، فيرسل الله الملك فيأمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، يكتب ذلك وهو في الرحم. وتقدير سنوي وهو ما يقدره الله في ليلة القدر إلى مثلها من الأعمال والآجال والوفيات والحوادث وما أشبهها. وتقدير يومي، وهو ما يحدث في ذلك اليوم نفسه، ودليله قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] . وأما قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] فالمراد المحو والإثبات لما في صحف الملائكة الموكلون بحفظ أعمال بني آدم وبكتابتها، فهم يكتبون الأعمال التي يعملها الإنسان والتي يقولها، ثم يأمرهم الله تعالى أن يمحوا ما لا ثواب فيه ولا عقاب، وما لا يترتب عليه جزاء، أو يمحوا السيئات التي تاب العبد منها وبدلها بحسنات، وأما ما في أم الكتاب -اللوح المحفوظ- فإنه لا يتغير: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] .

علم الله المسبق بقدر كل نفس

علم الله المسبق بقدر كل نفس لكل أجل كتاب، ولكل إنسان أجل، فما من نفس منفوسة إلا وقد علم الله تعالى قبل خلقها أجلها وعملها. وسعادتها أو شقاوتها، وحياة عاجلة أو آجلة، وحياة سعيدة أو تعيسة، قد علم الله ذلك كله، ولأجل ذلك أخبر تعالى بأنه كتب الآجال والأعمار ولا يتغير ما كتبه. يقول الله تعالى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:154] ، نزلت هذه الآية في غزوة أحد، وذكر الله تعالى عن المنافقين بعض الكلمات التي قالوها، كقولهم: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران:154] يتلومون لما رأوا أنه قتل بعض منهم في غزوة أحد، وقالوا: لو أخذوا رأينا لجلسنا في بيوتنا ولتحصنا في دورنا ولم نتعرض للقتل، فنحن الذين فرطنا فخرجنا ولاقينا هذا العدو فقتلوا منا من قتلوا، وسفكوا دماءنا، ولو أننا امتنعنا من الخروج لسلمنا من هذا القتل. هكذا حكى الله عنهم. ثم قال: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:154] ، فالله تعالى قد كتب القتل على هؤلاء الذين قتلوا، فلو تحصنوا ثم تحصنوا فإنه لابد أن يخرجوا ويقتلوا في المكان الذي حدد الله وعلم بأنهم سيقتلون فيه ولا يتجاوزنه. ومثله قوله تعالى في سورة النساء لما كتب الله عليهم القتال حكى الله عنهم أنهم قالوا: {رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:77] ، ثم قال: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78] ولو تحصنتم بما تحصنتم به، فمن كتب الله عليه الموت في الوقت المحدد فإنه سيموت فيه، ومن كتب موته بشيء فإنه يموت به، ومن كتب الله أن موته يصير بقتل أو بضرب فلابد أن يحصل، أو بمرض كذا وكذا فلابد أن يحصل، فلابد أن يتحقق الموت الذي حقق الله تعالى وحدد أجله، يقول الله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] .

أمر الله للإنسان بالأخذ بالأسباب

أمر الله للإنسان بالأخذ بالأسباب إن الإنسان مأمور بأن يتحصن ويحتفظ من أسباب الردى ومن أسباب الهلاك، وهذا التحصن والتحفظ مكتوب أيضاً قبل أن يخلق، مكتوب أنه سوف يعمل كذا وكذا من أسباب الحفظ والتحصن، وأنه يصاب بمرض كذا وكذا فيتعالج بالعلاج الذي يبرأ به ويزول عنه هذا المرض، ومكتوب -أيضاً- أنه سوف يتحفظ ويتحصن إذا دخل ميدان القتال أو دخل المعارك، ويكون تحصنه سبباً في وقايته، وهو مأمور بأن يأخذ حذره، ولأجل ذلك يكرر الله الأمر بالتحفظ فيقول تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ} [النساء:102] . يعني: احتياطاً ويقول تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:102] ، أمرهم بأن يأخذوا أسلحتهم وأن يكونوا حذرين، ولو كان الله قد قدر أنهم يصابون بكذا وكذا فإن هذا مأمور به وهو من الأسباب. وكذلك يقول تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] ، فالإعداد مأمور به ولو كان قد قدر الله تعالى انهزاماً أو موتاً أو غلبة، والله تعالى قادر على أن يقتل المشركين بدون جهاد أو قتال، ولكن من حكمته أنه شرع لنا الجهاد حتى يكون ذلك سبباً من أسباب الانتصار، مع أنه قادر على أن ينصر عباده بدون قتال، وأن يخذل أعداءه بدون أن يقاتلهم المسلمون، يقول تعالى: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:4] ، فهو قادر على ذلك، ولكن من حكمته أنه شرع هذه الشرائع وقدر فيها هذه الآجال. فالحاصل أنَّا إذا قلنا: إن عمرك -أيها الإنسان- مكتوب فلا تقل: ما دام كذلك فإنني لا أفعل شيئاً، بل أستسلم لأمر الله تعالى. نقول: أنت مستسلم لأمر الله، وأمر الله نافذ فيك ولو فعلت ما فعلت، ولكن أنت مأمور بهذه الأسباب التي تكون سبباً من أسباب حياتك ووقايتك، ومعلوم أنك مأمور بأن تأكل وتشرب، وأن تركك لذلك إضرار بنفسك، وأنه سبب من أسباب الموت، ولكن مكتوب عليك أنك تأكل وتشرب. ومأمور أيضاً بأن تتوقى الحر والبرد، ولا تعرض نفسك لشدة الحر الذي يكون سبباً في الموت، ولا لشدة البرد الذي يكون سبباً في القتل ونحوه، ومنهي أن تفعل سبباً يودي بحياتك، فلا يجوز لك أن تلقي بنفسك من شاهق، ولا أن تطرح نفسك في بئر، كما لا يجوز لك أن تطعن نفسك وأن تقتلها وتقول: هذا مكتوب عليَّ وهذا عمري. بل أنت مأمور بأن تتوقى الأسباب التي فيها ضرر على نفسك، وفعلك لها وتوقيك لها مكتوب أيضاً وهو مقدر. وقد ورد في الحديث أن رجلاً قال: (يا رسول الله! أرأيت رقىً نسترقي بها وأدوية نتداوى بها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟ فقال: هي من قدر الله) يعني: هذه الأدوية التي تتداوى بها وتتعالج بها هي مقدرة، ومكتوب أنك سوف تصاب بمرض كذا وأنك تتعالج بالعلاج الفلاني ويكون سبباً في شفائك ولذلك ورد في الحديث الأمر بالتداوي: (تداووا عباد الله؛ فإن الله ما أنزل داءً إلا أنزل له دواء) . فنحن مأمورون بالتداوي والمرض والعلاج مكتوب، ومكتوب أن هذا يتداوى بكذا حتى يسلم، وهذا يصاب بكذا ولا يؤثر فيه العلاج وما أشبه ذلك، كل هذا داخل في تقدير الآجال، وأن الله تعالى أجل لكل حي ومخلوق أجلاً فهو بالغه، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] ، فإذا مات أو قتل فإنه مات عند انتهاء أجله، فالمقتول ميت بأجله، سواء قتل في الجهاد، أو ظلماً، أو بحادث أو نحو ذلك، كل ذلك مكتوب، وليس له أن يتجاوزه، وهو مع ذلك مأمور بالتحفظ وبالتحصن حتى لا يلقي بنفسه إلى التهلكة.

تقدير الله لأرزاق العباد

تقدير الله لأرزاق العباد قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأن الله تعالى يرزق كل حي مخلوق رزق الغذاء الذي به قوام الحياة، وهو يضمنه الله لمن أبقاهم من خلقه، وهو الذي رزقه من حلال أو من حرام، وكذلك رزق الزينة الفاضل عما يحيا به] .

تيسير الله الرزق لعباده

تيسير الله الرزق لعباده الرزق من الله تعالى، فهو الذي يسر أسبابه وجعلها في متناول الأيدي، وهو الذي سهلها ويسرها ولو شاء لما قدر العباد عليها، ولكن العبد أعطاه الله تعالى قوة وفكراً وعقلاً وذهناً، ثم أمره بأن يستعمل هذه القوة حتى يتكسب بها، ونهاه عن الإخلاد إلى الأرض، وأمره بأن يطلب المعيشة والرزق ويحرص على الرزق الحلال، فإذا أصابه فليعتقد أنه من الله تعالى، فهو الذي يسر أسباب هذا الرزق وسهلها. فالرزق من الله تعالى، والحلال والحرام كله رزق، ولكن معلوم أنه إذا اكتسب حراماً متعمداً ولو كان بتقدير من الله تعالى فإنه يعاقب على ذلك، وإذا تغذى بهذا الرزق الحرام فإنه يعاقب على ذلك (فكل لحم نبت على سحت فالنار أولى به) كما ورد، ولو كان مقدراً، فلو قال الإنسان: والله قدر أني آكل الربا، الله قدر أني أتغذى بهذا السحت أو بهذه السرقة أو بهذا المال المختلس أو ما أشبه ذلك نقول: نعم. هو تقدير من الله تعالى، ولكن الله تعالى أعطاك قوة وقدرة تتمكن بها من أن تكتسب الحلال، وبين لك الحلال وفصل ما حرمه وفصل ما أحله، فقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:29] يعني: كل ما في الأرض خلقه لكم. وقال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119] ، فصل لكم المحرمات وبينها فما بقي فإنه حلال. فعلينا أن نعتقد أن الرزق من الله تعالى، ومن أسماء الله الرزاق، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58] يرزق عباده، ويقول الله تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] ، ويقول الله تعالى بعدما أمر عباده ببعض الأوامر: {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:11] ، فالله هو الرازق وحده، ولكن العباد قد يكون على أيديهم أو بواسطتهم شيء من الرزق يسخره الله تعالى، فيسخر هذا لهذا حتى يعطيه ويمد له ما يقتات به وما يتغذى به، فيقال: هذا رزق من فلان. أو تقول: هذا رزق رزقنيه الله بواسطة فلان. فالله تعالى خير الرزاقين، فهو الذي يرزق وحده، وهو الذي يسخر قلوب هؤلاء لأن يعطفوا على الفقراء فيرزقوهم ويعطوهم ويكسوهم ويتصدقوا عليهم، فالرزق أصلاً من الله تعالى وحده، ولكن يجعله على أيدي بعض الناس ويجعلهم سبباً فيه. ولهذا ذكروا عن بعض الصالحين أنه اشتكى إليه أحد تلامذته الفقر والجوع، فكتب له أبياتاً وقال: اعرضها على أول من تجده. البيت الأول يقول فيه: أنا حامد أنا شاكر أنا ذاكر أنا جائع أنا حاسر أنا عاري ثم قال: هي ستة وأنا الضمين بنصفها فكن الضمين بنصفها يا باري فلما خرج بهذه الورقة رأى فارساً مقبلاً فمدها إليه، فبمجرد ما قرأها استتبعه وعطف الله قلبه عليه وأعطاه ما يقتات به، ولا شك أن هذا وسيلة من الوسائل، أن الإنسان يطلب الرزق ولو بواسطة بعض الخلق الذين جعل الله تعالى على أيديهم شيئاً من المال، وليس في ذلك غضاضة. وعلى كل حال فالرزق أصله من الله تعالى، وهو المسبب له، سواءً فعل العبد الأسباب فنجحت أو فعلها ولم تنجح، فعليه أن يفعل الأسباب، ثم بعد ذلك يثق بأن الله تعالى هو المسبب. قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} [الواقعة:63-65] ، فلو شاء الله تعالى لجعل هذه الزروع حطاماً، فقد أخبر بأنهم يحرثون الأرض وينثرون فيها هذه البذور، ثم يسقونه بالماء، ثم ينبت، ثم يصير زرعاً، ثم يحصدونه ويجمعون منه هذا القمح وهذه الأقوات، فلو شاء الله تعالى لما أنبتت هذه الأرض، ولو شاء لسلط عليه ريحاً أو مرضاً أو ظمأً فأصبح حطاماً، {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} . إذاً فالأصل أن الله تعالى هو الذي يرزق من يشاء بغير حساب، فنؤمن بأن الله يرزق كل حي مخلوق رزق الغذاء الذي يقتات به، وهو مع ذلك مأمور بأن يبذل السبب، ويطلب الرزق، فيبذل الأسباب، فإذا بذلها فالله تعالى يتكفل له بالرزق.

الأمر بالاكتساب مقيد بالأخذ بالأسباب

الأمر بالاكتساب مقيد بالأخذ بالأسباب الآيات التي فيها الأمر بالاكتساب مقيدة بالآيات التي فيها أن الله تعالى هو مسبب الأسباب، فإذا قرأت قول الله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل:20] فهذا مدح لهم، أو إقرار لهم أنهم يسافرون في الأرض (يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) يتطلبون الرزق. وكذلك إذا قرأت قول الله تعالى: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:20] ، فلماذا يمشون في الأسواق؟ يطلبون الرزق يقتاتون به، فالله تعالى هو الذي أباح ذلك لهم وأمرهم به. وإذا قرأت قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:15] امشوا واطلبوا الرزق بما أقدركم الله تعالى، فهو سبحانه أعطاكم الأيدي والأرجل، فتتمكنون من المسير والتنقل من بلد إلى بلد، وكذلك أيضاً الأيدي تتمكنون بها من الصناعة والحرفة والعمل اليدوي الذي تحصلون منه على رزق تقتاتون به وتقوتون به من تحت أيديكم، فالإنسان ما دام طفلاً صغيراً فإن الله يحنن عليه قلبي أبويه حتى يعطفان عليه ويعطيانه ويغذيانه، فإذا ترعرع وكبر وقوي عند ذلك هو مأمور بأن يتطلب لنفسه ويتكسب، والله تعالى يعينه إن استعان به. وهكذا الآيات التي فيها الإخبار بأن الرزق من الله مقيدة بالآيات الأخرى، فمثل قوله تعالى: {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [العنكبوت:60] يعني: الله يرزقها ويؤتيها رزقها. فما رأينا دابة ماتت من الجوع إلا أن تحبس، فالدواب والحشرات والطيور كلها تعيش، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنها سيأتيها رزقها، يقول في الحديث: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً) ، فالطيور لا تجلس في أوكارها، بل تذهب وتطلب الرزق وتقع عليه، ولكن جعل الله تعالى لها رزقاً يناسبها تجده، والوحوش ما رأينا شيئاً منها ولا من السباع ولا الحشرات يموت جوعاً، بل يسهل الله تعالى له رزقه ويرزقه إلى أن يتغذى ويقتات، كلها جعل الله من طبعها أنها تطلب الرزق، والله تعالى هو الذي يرزقها: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6] يعني أن الله خلق لها رزقاً وأوجده، ولكن من طبعها أنها تذهب وتأكل ما تجده، وتتقلب في الأرض، ويسهل الله لها الرزق الذي ييسره وتتقوت به وتتغذى. فعرف بذلك أن رزق الله تعالى الذي فيه قوام الحياة ميسر لكل مخلوق، وهو الذي يضمنه الله لمن أبقاه الله من خلقه، كما قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6] تضمن الله أنه يرزق الدواب كلها، وكلمة (دابة) تعني كل ما يدب على الأرض، ويدخل فيه الطيور، ولو كانت قد تسمى طيوراً في الآيات الأخرى، كما قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام:38] ، فقد قسمهم إلى قسمين: دابة، وطير، ولكن معلوم أن الطير لا يستغني عن الوقوع على الأرض؛ لأن رزقه يكون في الأرض أصلاً، فهو يدب على الأرض فيدخل في الآية: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6] ، إذاً تضمن الله تعالى بالرزق لمن أبقاه. وقد اختلف هل يسمى الحرام رزقاً؟ والصحيح أنه رزق؛ لأن الله هو الذي يسره، ولكن حرم تعاطيه، وحرم التعاطي والتكسب بالحرام، ومع ذلك هو رزق من تغذى به فقد تغذى بما وصل إليه، ولكنه منهي عن أن يتعاطاه، وهو الذي رزقه من حلال أو حرام. وقوله: [وكذلك رزق الزينة الفاضل عما يحيا به] يعني الزائد عن حاجته، يقول الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32] ، فهذه الطيبات للذين آمنوا في الحياة الدنيا ولكنها مشتركة بينهم وبين غيرهم، وأما في الآخرة فإنها خاصة بأهل الإيمان {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32] . ويدخل في الزينة الأكسية والألبسة والكماليات التي تكمل بها الحياة من المساكن والمراكب والفرش والأواني والأدوات التي تستعمل كلها من زينة الدنيا التي زينها الله تعالى للناس، كما قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران:14] ، كل هذه من زينة الدنيا التي زينها الله تعالى للناس وأباح لهم أن يستعملوا منها ما هو حلال، ولكن هذا كله متاع يأخذون منه ما يتمتعون في هذه الحياة ويعبرونها إلى أن تنتهي أعمارهم.

وسوسة الشياطين لبني آدم وملابستهم

وسوسة الشياطين لبني آدم وملابستهم قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويؤمنون بأن الله تعالى خلق الشياطين توسوس للآدميين ويخدعونهم ويغرونهم، وأن الشيطان يتخبط الإنسان] . أي: يؤمن أهل الحديث بأن الشياطين مسلطون على الإنسان، وأن الله تعالى هو الذي سلطهم ولو شاء لأهلك الشياطين، فأولهم إبليس اللعين الذي امتنع عن السجود لآدم وتكبر، قال الله: {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34] . ولما طرده الله ورجمه وقال: {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [الحجر:34-35] ، سأل النظرة فقال: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر:36] (أنظرني) يعني: أخرني وأمهلني فأمهله الله وأنظره {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [الحجر:37-38] ، فبقي معمراً هو وذريته، فصاروا يتسلطون على نوع الإنسان، وأقسم إبليس بأن يضل نوع هذا الإنسان وأن يخرجهم من النور إلى الظلمات، أقسم على ذلك كما قال تعالى: {وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء:118-119] ، هكذا التزم بأنه يتسلط عليهم ويوسوس لهم ويحاول إغواءهم وإغراءهم، قال الله تعالى له: {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [ص:77-78] ، ومع ذلك التزم بأنه سيغويهم حتى إنه لما قال الله تعالى له: {إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ} [الأعراف:15] ، قال: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17] . سلطه الله تعالى على نوع هذا الإنسان، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ:20] ، فالله تعالى هو الذي سلط على الإنسان هذا العدو من الشياطين الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يجري من الإنسان مجرى الدم: (إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم) ، ينفذ في جسد الإنسان مع العروق، ويصل إلى ما يصل إليه الدم، والدم معروف أنه في كل جزء من أجزاء البدن، فمعناه أنه يلابس الإنسان. ولكن يقول العلماء: إن الله تعالى أعطى الإنسان سلاحاً يتقوى به، فالأمور التي تحرز من الشيطان عشرة ذكرها ابن القيم في تفسير سورة الناس في بدائع الفوائد عند قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:4] فبدأها بالاستعاذة، أن تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. كما أمرنا الله تعالى بذلك. ثم منها الذكر؛ لأن ذكر الله تعالى يطرد الشياطين، وذكر العمل الصالح أنه يطرد الشياطين، ودعاء الله تعالى وسؤاله سبب لطرد الشياطين. ومنها القراءة، وبالأخص قراءة آية الكرسي؛ فإنها وسيلة من وسائل طرد الشيطان كما ورد ذلك في الحديث. وكذلك مجالس العلم والخير سبب لطرد الشياطين، وسبب لنزول الملائكة. وكذلك حماية الإنسان نفسه من المعاصي سبب لطرد الشياطين، ذلك لأن المعاصي يتسلط بواسطتها الشيطان على الإنسان. وهكذا ختم اليوم أو الليل بخاتمة حسنة بذكر أو بدعاء سبب أيضاً لطرد الشياطين. فالشيطان عدو للإنسان، قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6] ، فإذا عرفنا أنه عدو لنا فإن علينا أن نتحصن منه حتى لا يتسلط علينا، وقد أخبر الله تعالى بأنه يوسوس في صدور الناس فقال: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس:5] ، وأخبرنا باسمه: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:4] فالوسواس: هو الذي يقذف الوسوسة في القلب. والخناس: هو الذي ينخنس ويصغر وينقبض. يعني: إنه وسواس عند الغفلة وخناس عند الذكر. فإذا ذكر العبد ربه واستعاذ به خنس الشيطان وهرب وذل وهان وابتعد عنه، وإذا غفل العبد وسوس إليه وألقى في صدره الوساوس والأوهام. فأخبر الله بأنهم يخدعونهم ويغرونهم، كما في قوله تعالى عن الشيطان أنه قال لما قال الله له: {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء:63-64] قيل: إن من أصواته الغناء {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء:64] ، يعني: بقواتك وبما تملكه {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء:64] ، {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء:120] ، فهذه المواعيد تكون في قلب الإنسان، بأن يلقي في قلبه أنك إذا فعلت كذا حصل لك وحصل لك. وأول ذلك وسوسته للأبوين، قال الله تعالى عنه: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120] هذه حيلة من الشيطان {وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120] ، الشجرة التي نهيا عنها، {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف:21-22] ، فهذه حيل الشيطان. وذكر الله أيضاً أنه يتخبط الإنسان، فقال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275] ، كأنه يتسلط عليه حتى يغلب عليه فيقوم ويسقط ويقوم ويسقط، مثل الذي تسلط عليه جني فصار يصرعه، فالشيطان يتسلط علي الإنسان ويلابسه ويصرعه ويتقوى عليه، ولكن عليه أن يستعيذ بالله من شره، وأن يتحفظ بالله تعالى منه حتى يحفظه، ومن اعتصم بالله تعالى عصمه وأعانه. كذلك أيضاً من عقيدة أهل السنة وأهل الحديث أن في الدنيا سحراً وسحرة، وأن السحر واستعماله كفر من فاعله إذا كان معتقداً له نافعاً ضاراً بغير إذن الله. وعمل السحرة معلوم أنه قد سماه الله تعالى كفراً، ووصف أهله بما يقرب من الكفر؛ فلأجل ذلك يحذر منه العلماء، ثم يعتقدون أن الضرر الذي يصير بسببه إنما هو بقدر الله تعالى وبقضائه. والله أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

الجمع بين كون الأجل محدود وتزيده الأعمال الصالحة

الجمع بين كون الأجل محدود وتزيده الأعمال الصالحة Q كيف نجمع بين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه) ، وكون الآجال محددة لا يزاد فيها ولا ينقص؟ A الله تعالى جعل أسباباً، وتلك الأسباب مقدرة في الأزل، فصلة الرحم من الأسباب التي يطول بها العمر، فأنت مأمور بأن تصل رحمك، وصلة الرحم تزيد في العمر: (من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه) ، ولكن مع ذلك فإن هذه الزيادة التي في الرزق والأجل مكتوبة في الأزل قبل أن تخلق السماوات والأرض، وقبل أن يخلق الخلق مكتوب أن هذا يوفق بصلة الرحم فيزاد في رزقه ويبسط له فيه، ويكون سبباً في زيادة وطول عمره وحياته، إذاً فهذا من الله تعالى أزلاً، فأنت مأمور ولك قدرة على ذلك، أعطاك الله تعالى هذه القدرة على أن تصل رحمك وتحسن إلى أقاربك ونحو ذلك، ووعدك بأن هذا سبب أزلي في زيادة الأعمار.

الجمع بين ضمان الله لرزق العباد وبين حصول المجاعات

الجمع بين ضمان الله لرزق العباد وبين حصول المجاعات Q كيف نجمع بين قول الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6] وما نراه اليوم في بعض الدول من المجاعات وغيرها؟ A لا شك أن الله تعالى يسلط على من يشاء ما يشاء، هذا تصرفه في عباده، فإذا سلط على بعض منهم الجوع والجهد الذي يموت به خلق كثير فذلك من تصرفه في خلقه، وإذا وسع على آخرين وبسط لهم الرزق فذلك من تصرفه في خلقه، فرزق الدواب والمخلوقات ونحوها من الله تعالى، ولكن إذا حبس الرزق فلحكمة يريدها الله تعالى، فأحياناً يحبس المطر من السماء وذلك يكون سبباً في جفاف الأرض ويبسها، ولعلهم يعتبرون ويعرفون أن المسبب هو الله تعالى فيقبلون على العبادة ويعرفون حق الله تعالى عليهم، ويعتبرون بما يحدث لهم في هذه الأرض، كذلك أيضاً قد ينزل مطراً وماء من السماء ولكن ينزع منه البركة التي يكون من أثارها كثرة النباتات والخير ونحو ذلك فلا يستفيدون منه شيئاً، فليعتبروا وليعرفوا أن قدرة الله فوق كل شيء، هذا هو الأصل. فالحاصل أن ما يحدث من العقوبات هو بتقدير من الله تعالى ليعتبر الآخرون وليأخذوا حذرهم.

حكم فك السحر بالسحر

حكم فك السحر بالسحر Q ابتليت عائلة كاملة بالسحر على يد أحد المقيمين، فقد سلط عليهم الجن بسبب حب الساحر لإحدى الفتيات، ولقد جربت الرقية الشرعية ولكن لم يكتب الله لهم الشفاء، وأخيراً عرض على هذه العائلة الذهاب إلى إحدى البلاد لفك هذا السحر على يد ساحر عظيم في تلك البلاد، فهل يجوز فك السحر بالسحر إذا كان في مثل هذه الحالة، ولقد مضى على هذه العائلة أكثر من ست سنوات وهم في معاناة؟ A لا يسلط على أحد عقوبة أو شيء من هذه الأمور إلا بذنب، كما ورد في الحديث: (ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة) ، وقد يكون التسليط من الله تعالى ابتلاء وامتحاناً، وقد يكون التسليط لرفع المقام ولرفع الدرجات، فنقول لهؤلاء: لابد من أحد ثلاثة أمور: الأول: إما أنكم قصرتم في أمر الله وارتكبتم معاصي وسيئات، فكانت هذه العقوبة عقوبة عاجلة على ما اقترفتم من السوء والذنوب، فتفقدوا أنفسكم وأصلحوها وتوبوا إلى ربكم، وبدلوا السيئات بالحسنات، وأصلحوا أعمالكم إصلاحاً جذرياً حتى يشفيكم الله تعالى ويزيل ما بكم من بأس. الثاني: وإما أن تعتقدوا أن هذا ابتلاء من الله وامتحان، فإن الله قد يبتلي بعض عباده الصالحين، ويكون من آثار هذا الابتلاء ابتلاؤهم في الصبر أو عدمه، فالله تعالى يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج:11] ، فإذا أصبتم بهذا وعرفتم أنه ابتلاء لضعف الإيمان أو لقوة الإيمان فصبرتم وصابرتم واحتسبتم، ولم يكن في ذلك شيء من الجزع ولا التشكي ولا إظهار شكاية الله على عباده أو خلقه فإن هذا دليل على الصبر، و (من تصبر يصبره الله تعالى) . الثالث: أن يكون لرفع الدرجات، فإذا قلتم: نحن مستقيمون، وليس عندنا معاصٍ، وبيوتنا مطهرة، وليس فيها آلات لهو، ولم يكن عندنا في بيوتنا من يعصي الله تعالى طرفة عين، ونحن من أفضل الناس وأشدهم طواعية وأكثرهم أعمالاً حسنة، ومع ذلك كيف يسلط علينا ذلك؟! فنقول: هذا لرفع درجاتكم، فاصبروا واحتسبوا إلى أن يجعل الله لكم مخرجاً. ثم نقول بعد ذلك: عليكم بفعل الأسباب المباحة، وهي كثيرة، فإذا لجئوا إلى كثرة الذكر قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم. فهذا من أساب إزالة هذا البأس وإبطال هذا العمل، كذلك أيضاً إذا أكثروا من قراءة كتاب الله تعالى ولهجوا بقراءته كان هذا من الأسباب في إبطال هذه الأعمال الشيطانية، كذلك أيضاً إذا أكثروا من دعاء الله تعالى في ليل ونهار، ورفعوا أكف الضراعة إلى الله تعالى كان هذا من أساب الشفاء وإزالة هذه الأشياء، وأما أنهم يلجئون إلى السحرة ويقولون: نريد أن نذهب إلى ساحر حتى يبطل عمل هذا السحر فإن هذا مما لا تقره الشريعة، وإنما لم يحصل الشفاء لبعض الموانع.

كيفية الجمع بين السعي في طلب الرزق وطلب العلم

كيفية الجمع بين السعي في طلب الرزق وطلب العلم Q عندما أسمع الكلام حول فعل أسباب جلب الرزق أتمنى أن أشرع في العمل لاكتساب الرزق، ثم أشعر أن هذا سيشغلني عن طلب العلم والدعوة وأنني سأتعلق بالدنيا، فما نصيحتكم لي حفظكم الله؟ A لا تنقطع من طلب الرزق ولا تنقطع من العمل ولا من التعلم، ففي الإمكان الجمع بينهما؛ فطلب الرزق له وقت وطلب العلم له وقت، والليل والنهار فيهما وقت واسع، فبإمكانك أن تجعل وقتاً لطلب العلم كالليل مثلاً في مثل هذا الوقت ونحوه، ووقتاً لطلب الرزق بقدر ما تيسر.

عدم منافاة التداوي لكمال التوحيد

عدم منافاة التداوي لكمال التوحيد Q ما صحة قول من يقول: إن التداوي والعلاج ينافي كمال التوحيد؟ A لا ينافي ذلك إذا عرف أنها أسباب، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تداووا عباد الله ولا تداووا بحرام) ، وقال: (كل داء له شفاء إلا داء السام) يعني: إلا داء الموت، فإذا عرفنا أن كل الأمراض لها علاج وعالجناها واعتمدنا على الله، وعرفنا أنه الذي يسهل ويسبب الشفاء؛ فلا يكون ذلك منافياً لكمال التوحيد لاعتقاد المتداوي بأن الله هو الذي أمر بهذا، وهو الذي أنزل هذا.

حكم تقليد النساء الكافرات في قصات الشعر

حكم تقليد النساء الكافرات في قصات الشعر Q انتشرت في هذا الزمان قصات الشعر بين أوساط النساء مما يقلدون فيه أعداء الله وأعداء رسوله من الكافرات بموضات تأتي من الشرق أو الغرب، ويدعين أن هذا من باب التجمل لأزواجهن؛ فهل هذا صحيح؟ A ليس بصحيح بل هذا من التقليد لنساء الغرب، وهذا مما يشوه بالمنظر والخلقة ولو ادعت النساء أنه جمال وزينة، ويحسن المظاهر ويجملها فإن هذا ليس بصحيح، ولو زين إلى بعض الأزواج أنه جمال فلا يجوز أن يتجاوب على هذا، فنحن نقول: إن الجمال الحقيقي هو في بقاء المرأة على هيئتها وخلقتها دون أن تغير شيئاً من خلق الله تعالى، كذلك أيضاً في تربية شعر رأسها على هيئته، وتظفيره ظفائر دون أن تقص منه أو أن تجعله قصاصات متفاوتة، أو أن تغيره بأصباغ ملونة متعددة، أو نحو ذلك من التقليد فكل ذلك تقليد للغرب وتغيير للخلقة، ولا يغتر بمن يطلب ذلك من امرأته؛ فإن هؤلاء ممن انخدعوا بتقليد الغربيين. فالمرأة عليها أن ترضى بما كان عليه أسلافها، وما عرفت هذه الأشياء إلا بعدما ابتلوا بالاختلاطات الغربية التي جاءت من قبل أناس يريدون بذلك الفتنة، ولا شك أن النساء إذا تعاطين ذلك فإنهن لابد أن يندفعن ويخرجن إلى الأسواق ويتحلين بهذه الحلي حتى يلفتن الأنظار، ويكون ذلك سبباً لفتنة كثير من الناس.

حكم تحويل الأرض الزراعية إلى مساكن

حكم تحويل الأرض الزراعية إلى مساكن Q لدي أرض زراعية يوجد بها عدد كبير من النخيل المثمر، فهل لي أن أزيل النخيل وأجعلها استثماراً، أي: أرضاً سكنية، علماً بأن المجاورة لها أصبحت أراضي سكنية الآن؟ A لك ذلك مادام أنها ملكك، فلك أن تبيع أرضها وتبيعها مساكن مثلاً، أو تبيعها على من يعمرها، أو تعمرها بنفسك مساكن إذا رأيت أن المساكن أكثر غلة من النخيل، ولا شك أن النخل فيه فائدة حيث هذه التمرة التي هي من أحسن الأغذية، ولكن إذا قلت الثمرة أو رؤي أن غيرها أكثر منها منفعة جاز استبدالها. ولا عبرة بما اشتهر عند العوام من أن قطع النخل لا يجوز، والأصل أن الإنسان يتصرف في ماله بما يراه الأصلح.

حكم من صلى على غير طهارة

حكم من صلى على غير طهارة Q أحياناً ينتقض وضوئي وتأتي الصلاة وأصلي على غير طهارة، فإذا سلمت من الصلاة تذكرت أني لم أتوضأ وأنني صليت على غير طهارة فماذا عليّ؟ A من صلى على غير طهارة فعليه الإعادة إذا كان متحققاً أنه صلى وهو لم يتوضأ، أو انتقض وضوؤه بعدما توضأ ولم يجدد الوضوء، فلابد أن يعيد ذلك الوضوء وأن يصلي وهو على طهارة.

ساكني الجنة ممن مات في الدنيا

ساكني الجنة ممن مات في الدنيا Q هل يدخل الله أحداً الجنة قبل يوم القيامة، وما حقيقة الحساب الوارد في الحديث للرجل الذي قال (إنه يدخل الجنة بعمله) هل وقع أم أن الله أطلع نبيه على الغيب؟ A الجنة علمها عند الله تعالى، والذين يستحقونها هم أولياء الله الذين خصهم بكرامته وبفضله، وأما الآن فإنها حيث لا يعلم مكانها إلا الله تعالى، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (بأن أرواح الشهداء في الجنة في أجواف طير خضر تعلق في شجر الجنة) ، وكذلك أيضاً أطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على أفراد من أهل الجنة، ومنهم بعض الصحابة الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة كالعشرة ونحوهم؛ لأن الله تعالى جعلهم مستحقين لدخول الجنة.

شرح اعتقاد أهل السنة [15]

شرح اعتقاد أهل السنة [15] اتفق أهل السنة والجماعة على وجود السحر، وأنه حقيقة تؤثر في الأشياء وتؤذي الإنسان، وأن كل ذلك بإذن الله عز وجل. والساحر عمله كفر؛ لأن الشياطين لا تلبي له ما يريد إلا بعدما يكفر بالله رب العالمين، وحينها تخدمه ويخدمها، لذا كان حكمه القتل، ولا يحل السحر عن المسحور إلا بالرقى الشرعية وبصالح الأعمال، ولا يجوز أن يحل بسحر مثله. ومما يراه أهل السنة والجماعة البعد عن البدع والمعاصي وأهلهما ونصحهم، ويحثون الناس على طلب العلم؛ لأنه يعلم المسلم ما يجب عليه وما يلزمه من أمور دينه.

السحر حقيقته وأدلة ثبوته

السحر حقيقته وأدلة ثبوته في الدنيا سحر وسحرة، والسحرة محكوم بكفرهم، ومن اعتقد أن السحر يكون بغير قدرة الله أو بغير إذنه فقد كفر. وسبب ذكر السحر في هذه العقيدة أن المعتزلة أنكروا وجوده إنكاراً عجيباً وعناداً منهم، وإلا فإنه مشاهد وجود السحرة ووجود أعمالهم السحرية، ولذلك فأهل السنة يقرون بوجود السحر، ويقولون: إنه لا يكون إلا بإذن الله الكوني القدري. وقد دل على وجوده وتأثيره الكتاب والسنة، فقد ذكر الله تعالى ما يحصل من الشياطين وتعليمهم السحر في قوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102] ، فلا شك أن هذه الآية صريحة في أن هناك سحراً، وأنه يؤثر ويضر، وأن منه ما يقتل ويمرض ويفرق بين المرء وزوجه، ولكن الجميع بإذن الله تعالى الكوني القدري لا الشرعي الديني. فإن الله تعالى حرم الإضرار بالمسلمين ديناً وشرعاً، ولكن أعطى هؤلاء السحرة قدرة خاضعة لقدرته تعالى يؤثرون بها في هؤلاء المسحورين، فمن السحر ما يحصل به الموت، ومنه ما يمرض، أو يحصل به الانصراف الكلي عن الزوجة أو الأهل أو المال أو ما أشبه ذلك. ومن الأدلة أيضاً أمر الله تعالى بالاستعاذة من السحرة في قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4] ، وهن السواحر، فلولا أن لهن شراً يضر ويؤثر لما أمر بالاستعاذة من شرهن. والذين قالوا: إنه ليس له حقيقة استدلوا بما حكى الله تعالى عن سحرة فرعون قال تعالى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:66-69] . ذكروا أن السحر كان منتشراً وفاشياً في عهد فرعون، وأن هناك سحرة مشهورين بتعلم السحر، فلما أخبرهم فرعون بأن موسى قلب عصاه حية تسعى عند ذلك جاؤوا بحبال وبعصي فألقوها في الوادي، وإذا بالوادي كله كأنه حيات تضطرب وتسعى، فعند ذلك أوجس في نفسه خيفة موسى، فذكر العلماء أن هذا خيال، ولذلك قال: (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ) ، يعني: ليس له حقيقة وإنما هو خيال. وذلك لأن السحرة قد يلبسون على أعين الناظرين فيوهمونهم بما لا حقيقة له، ويخيلون إليهم أشياء يعتقدون أنها حقيقة وهي خيالات، هذا معنى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66] . وعلى كل حال فالوجود ظاهر في أن السحر له حقيقة.

أدلة وجود السحر حقيقة

أدلة وجود السحر حقيقة من الأدلة ما ثبت في صحيح البخاري عن عائشة أن يهودياً سحر النبي صلى الله عليه وسلم، تقول عائشة: (حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله) . وفي رواية: (أنه يأتي النساء وما يأتيهن) . وهذا العمل الذي عمله هذا اليهودي الذي يقال له: لبيد بن الأعصم لم يكن في جسم النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في عقله؛ فإن الله تعالى قد عصمه وحفظه، ولكنه فيما يتعلق بالنساء، عمل عملاً كأنه صار حائلاً بين المرء وبين نسائه بأن يخيل إليه أنه يأتيهن وما يأتيهن، أو حال بينه وبين القدرة الجنسية، والله أعلم. فالحاصل أن هذا مما أثر فيه هذا السحر، فلما دله الله تعالى على موضع ذلك السحر وأخرجه بطل عمله وقام كأنما نشط من عقال، وقال: (إن الله تعالى قد شفاني) ، فلذلك استدل به على أنه قدر يؤثر في هذا النوع، وهذا أيضاً مشاهد أن السحرة يعملون من السحر ما يبطلون به شهوة الرجل حتى لا يستطيع أن يأتي امرأته، وإذا قرب منها بطلت شهوته. ومن ذلك أيضاً الحديث الذي أورده ابن كثير ورواه ابن جرير عن عائشة أن امرأة جاءتها بعدما توفى النبي صلى الله عليه وسلم وذكرت لها أن زوجها غاب عنها، فجاءتها عجوز فقالت لها: أتحبين أن يرجع زوجكِ؟ قالت: نعم. تقول: فجاءتني بالليل وأركبتني، وركبت وإياها على كلبين أسودين، فلم يكن إلا قليل حتى كنا ببابل، فأتينا إلى إنسانين في ذلك المكان، وقلت: إني أريد أن أتعلم السحر. فقالا: إنما نحن فتنه فلا تكفري. فقلت: إني أريد أن أتعلم. فقال لها: اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه. تقول: ففعلت. فخرج منها شيء أسود فصعد في السماء، فقالوا: صدقتِ، هذا هو الإيمان خرج منكِ. ثم إنهم علموها. تقول: فأعطتني حباً أو قمحاً فقالت: ابذريه في الأرض. فقلت: انبت فنبت، فقلت: انضج. فنضج، فقلت: انطحن فانطحن. فلما رأيت أني لا آمر بشيء إلا حصل سقط في يدي. فهذه المرأة تعلمت من هذين هذا الأمر، وهو أنها لا تأمر بشيء إلا حصل، وهذا نوع مما يدل على أن للسحر حقيقة. وأما وقائع الناس فهي شيء كثير وهو أمر مشاهد.

كيفية قلب الساحر للحقائق

كيفية قلب الساحر للحقائق إذا قلت: كيف يتمكن الساحر -وهو إنسان بشر مثلنا- من أن يقلب الإنسان إلى فرس -مثلاً- أو قط. أو وعل؟! أو كيف يقلب قلبه من مستقيم إلى منحرف؟! أو كيف يؤلف بين الاثنين أو يفرق بينهما ويوقع بينهما هذه الوحشة مع كونهما متحابين أو نحو ذلك؟ فكيف يتمكن الإنسان من هذا العمل الذي فيه قلب للحقائق وتغيير لها؟! أجاب العلماء بأن الإنسان لا يفعل شيئاً، ولا يقدر على فعل شيء يخالف الطبائع الأصلية، وإنما تفعل ذلك الشياطين، ذلك لأن الشيطان له قدرة على ملابسة الإنسان ومماسته، وكذلك الساحر قد يكون عنده قدرة على تسخير قوم من الجن ثم تسليطهم على من يريد، فإذا سلط هذا الجني الذي هو من جنوده على فلان لابسه ذلك الجني أو ذلك الشيطان، فإذا لابسه فإنه قد يغير هيكله ويقلب صورته، وقد يحوله إلى حيوان بهيم كما يذكر ذلك في الحكايات ونحوها، يذكر أن ساحراً أو ساحرةً قلبت إنساناً إلى حصان أو فرس، وأن ساحراً قلب إنساناً إلى وعل له قرون، والحكايات في ذلك مشاهدة وكثيرة. فالشيطان هو الذي يلابس ذلك الإنسان الذي عمل له، فيستطيع بإذن الله أن يغير هيكله، وأن يقلب صورته ومودته، ويغير محبته إلى بغض أو بغضه إلى محبة، أو ما أشبه ذلك، فهذا من الشيطان لا من ذلك الإنسان الذي هو الساحر؛ فإنه ليس عنده هذه القدرة ولا هذا التمكن، فهذا حقيقة السحر، أنه ليس بفعل الإنسان ولكن بفعل الشياطين الذين يسخرهم ذلك الساحر.

كفر الساحر

كفر الساحر قال المصنف رحمه الله: [السحر واستعماله كفر من فاعله] أي أن الساحر كافر. والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102] ، وذلك لأن اليهود اتهموا سليمان عليه السلام بأنه ساحر، فقالوا: كيف يركب على الريح؟! وكيف تحمله الريح وهو على بساطه فيسير مسيرة شهر في نصف يوم؟ كما قال الله تعالى: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ:12] ، فقالوا: هذا دليل على أنه ساحر، وكيف سخرت له الشياطين وسخرت له الجن؟ كما أخبر الله في قوله تعالى: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} [ص:37-38] ، قالوا: فلابد أنه ساحر. فنزهه الله وبين أنه نبي، ولكن هذه كرامة ومعجزة حيث سخر له الريح وسخر له الشياطين. (وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا) ، الشياطين الذين يعلمون الناس السحر كفروا، وهذا دليل على أن من تعلم منهم فإنه تعلم الكفر، ومن الأدلة على كفره أيضاً في نفس الآية قوله: (إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) ، فإذاً كانوا يقولون له: (فَلا تَكْفُرْ) ، أي: فلا تتعلم السحر فإن ذلك كفر، فهذا هو وجه الدلالة. ومعلوم أن هذا الساحر الذي يتعلم السحر وتخدمه هذه الشياطين لا تخدمه إلا بعدما يخدمها، فالساحر يخدم الشياطين ويخدم مردة الجن، فلأجل ذلك يصيرون طوع إشارته ويصيرون تحت إمرته، فيلابسون من يريد ملابستهم، ويضرون من يريد إضرارهم، فهو يخدمهم ويعبدهم، ولا يطيعونه لأول مرة، بل لابد أنهم يطلبون منه أن يتقرب إليهم، فكثيراً ما يذكر أنهم يذبحون للجن أو للشياطين من دون الله، ويرضون منه أن يذبح لهم -مثلاً- ولو عصفوراً أو دجاجةً أو نحو ذلك باسم الشيطان الفلاني أو نحوه، وربما يدعو الشيطان ويسجد له في حالة كفره وندائه له من دون الله، والنداء لا شك أنه شرك وكفر، فإذا ناداه ودعاه واستجاب له ولبى طلبه عند ذلك يسجد له من دون الله تعالى، فيكون أشرك بدعائه مع الله، وأشرك بالسجود له، وأشرك بالذبح له من دون الله تعالى، وهكذا أيضاً قد يحملونه على أن يترك العبادات حتى يكون من أوليائهم، فيترك الصلوات والنفقات الواجبة عليه والصوم، ويأكل في رمضان أو ما أشبه ذلك، كل ذلك ليتحقق أنه أطاعهم طوعاً ظاهراً. ومعروف أيضاً أن الشياطين يألفون النجاسات والقذارات وما أشبهها، فلذلك يطلبون منه إذا أراد أن يستخدمهم أن يستعمل النجاسات، فربما يلطخ بدنه بالدماء أو بالأبوال أو بالعذرة أو ما أشبه ذلك، ولأجل ذلك أمر الإنسان إذا دخل الخلاء أن يستعيذ بالله من شرورهم ويقول: (أعوذ بالله من الخبث والخبائث) أي: ذكران الشياطين وإناثهم. وأمر النبي عليه السلام بالتستر إذا دخل الإنسان الخلاء، قال: (إن الشياطين تلعب بمقاعد بني آدم) ، وأخبر: (إن هذه الحشوش محتضرة) يعني الأماكن التي يتخلى فيها. فإذا خدمهم هذا الخادم وهو الساحر بأن تلبس بهذه النجاسات وتلطخ بها عند ذلك عرفوا أنه صار طوع إشارتهم فأصبح خادماً لهم وأصبحوا خداماً له مسخرين، ولا يستطيعون حينها أن يتخلوا عن أمر يشير به إليهم، ويستطيع أنه يسخر -مثلاً- مائة عفريت أو مئات من العفاريت والجن، فيقول: يا هذا! تسلط على فلان أو على فلانة، لابس فلاناً. فإذا لابسه، فقدر أنه مات سلط آخر وقال: اذهب فحل محله. ونحو ذلك، فما خدموه إلا لأنه خدمهم، ولأنه كفر بالله وآمن بهم، ولأجل ذلك نعتقد أنه كافر.

عقوبة الساحر

عقوبة الساحر اتفق جمهور العلماء على أنه يقتل، واستدلوا بالحديث الذي في السنن عن جندب الخير بلفظ (حد الساحر ضربة بالسيف -وفي رواية: ضربه بالسيف-) ، وقالوا في سبب روايته: إن جندباً دخل على بعض الأمراء في عهد بني أمية وإذا عنده ساحر، وإذا ذلك الساحر يفعل أشياء مستغربة، حتى إنه يمسك رجلاً فيقطع رأسه فيبقى رأسه في يده، ثم بعد ذلك يرده مكانه وهم ينظرون، فيقولون: سبحان الله! يحيي الموتى، ويميت فيحيي. فعند ذلك في اليوم الثاني اشتمل جندب على سيف، واستعاذ بالله من الشيطان، وقرأ بعض الآيات، فلما قرب من الساحر ضربه بالسيف حتى قطع رأسه، وقال: أحيِ نفسك -يعني: إن كنت صادقاً-. ثم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (حد الساحر ضربه بالسيف) ؛ فإذا حكمنا بأنه كافر فإنه يقتل. وكذلك ما روي عن عمر، ففي صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة أنه قال: كتب إلينا عمر رضي الله عنه أن: (اقتلوا كل ساحر وساحرة) ، قال: فقتلنا ثلاث سواحر. فهذا أمر من عمر -وهو أحد الخلفاء الراشدين- بقتل السحرة، وكذلك ذكروا أن حفصة بنت عمر -وهي إحدى أمهات المؤمنين- كان لها جارية، وكانت قد دبرتها -أي: أعتقتها عن دبر، فعند ذلك عملت تلك الجارية لها سحراً، ثم اعترفت، فقالت لها: لماذا؟ قالت: أردت أن تموتي حتى أعتق. فأمرت بها أن تقتل لما أنها اعترفت بذلك، والوقائع في ذلك كثيرة تدل على أن هذا حده. أما الإمام الشافعي فلم ير أنه يقتل ولا أنه يكفر، ولكنه يقول: نأتي بالساحر ونقول له: صف لنا سحرك، فإذا وصفه بشيء فيه كفر أو شرك فإننا عند ذلك نكفره ونقتله، وإن وصفه بشيء دون ذلك فلا، ومعلوم أنه إذا أحضر وهدد بالقتل فسوف ينكر ذلك. والحاصل أن السحر موجود، وأن السحرة يستخدمون الشياطين، وأن الشياطين لا تخدمهم إلا بعدما يكفرون بالله ويتقربون إليها بما تحبه منهم، وأنهم بذلك يصبحون كفاراً، وأن حد الساحر القتل، وأنه على الصحيح يقتل حداً ولا يستتاب، هذا هو الذي مشى عليه العلماء. كذلك أيضاً من اعتقد أن السحر يكون بغير إذن الله، وأنه ينفع ويضر بغير إذن الله، والله تعالى يقول: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102] ، وذلك لأنه لا يكون في الوجود إلا ما يريد، فالله تعالى هو الذي يسلط هؤلاء ويعطيهم من هذه القوة ما يكون مخالفاً للعادة {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام:137] ، ولكن الله أعطاهم وسلطهم حتى يكون ذلك علامة على أنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

علاج السحر

علاج السحر أما علاجه فقد ذكر العلماء أن علاجه الناجح بالإيمان بالله تعالى وبالعمل الصالح، وبالقراءات والأدعية والأوراد ونحوها، ولذلك يقول ابن القيم في كلام له: النشرة التي هي حل السحر عن المسحور نوعان: حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، فيتقرب الناشر والمنشر إلى الشيطان بما يحبه فيبطل عمله عن المسحور. وهذا لا يجوز. يعني: لا يجوز أن تذهب إلى ساحر وتقول له: حُلَّ السحر عن فلان. سواءٌ أكان هو الذي عمل السحر أم غيره؛ فإن هذا إقرار للسحرة واستخدام لهم، وإذا عرفنا أن حد الساحر القتل فكيف مع ذلك نقره ونقول له: حُلَّ السحر أو حُلَّ سحرك؟! بل إذا عرفنا أنه ساحر فإننا نبادر فنقتله. إذاً فلا يجوز حل السحر إلا بالرقية وبالقراءة وبالأدعية النافعة وبالأدوية المفيدة وما أشبه ذلك، هذا هو الذي يحل به، ومعلوم أن كثيراً ممن يبتلون ويصابون بهذا العمل الشيطاني يقولون: إننا قرأنا عند فلان وقرأنا عند القراء ولم نر فائدة! فنقول لهم: أتيتم من قبل أنفسكم، فإذا أردت أن تنفعك الرقية فنأمرك أولاً بأن تصحح عقيدتك، وتؤمن إيماناً يقينياً بأركان الإيمان وبأمور الغيب كلها. ثانياً: لابد أن تحافظ على الأعمال الصالحة وتتقرب إلى الله تعالى بها. ثالثاً: لابد أن تتنزه عن المحرمات والشركيات والبدع والمعاصي والملاهي وآلات الشيطان وما يحبه، وتنزه نفسك ومنزلك عن كل ما يألفه الشيطان ويتشجع به. رابعاً: لابد أن تعتقد يقيناً أن هذه القراءة النافعة تؤثر، فلا تجعلها كتجربة، لا كما يقول أحدهم: أنا أفعل أو أرقي أو أسترقي تجربة، فإن شفيت وإلا فما ضرت. بل إنها لا تفيد إلا مع اليقين بها، وأن توقن يقيناً كالشمس أنها نافعة وأنها هي الشفاء النافع إذا تمت الشروط. خامساً: حال الراقي، أن يكون الراقي من أهل الإيمان والتقى والورع، ومن المستقيمين على طاعة الله تعالى، فمثل هؤلاء بإذن الله رقيتهم تفيد، ومن أسباب ذلك أيضاً كون الراقي مقتصراً على الأكل الحلال، ولا يطعم إلا شيئاً حلالاً ليس فيه شبهة، وقد تأيد ذلك بوقائع كثيرة: ذكروا أن رجلاً كان -بإذن الله- إذا أُعطي الإناء ليقرأ فيه نفث فيه نفثتين أو ثلاثاً، وصار بإذن الله شفاءً لمن استعمله إذا تمت الشروط وسبب ذلك تنزهه عن الحرام وتقيده بالعبادات وبالطاعات وما أشبهها، وكذلك أيضاً كان رجل مجرب بالشفاء بإذن الله إذا رقى أحداً، فسُئل عن ذلك فأخبر: أن أباه عندما حضره الموت قال له: يا بني! لا تأكل إلا من هذا البستان، إياك أن تأكل من غيره فإنه رزق حلال. فاقتصر على بستان فيه نخلات وشجرات يسقيها ويشتري من ثمرتها ما يصلحها به ويتقوت بها ولا يدخل في بطنه شيئاً من غيرها تحقيقاً أنها حلال، فكان ذلك سبب إجابة دعوته وشفاء من يرقيهم من المرضى ونحوهم. فلذلك نقول: لابد من هذه الشروط في الرقية: أولها: إصلاح العمل، أن يصلح ذلك المريض عمله. ثانياً: أن ينزه نفسه عن المعاصي والسيئات. ثالثاً: أن يصلح منزله ويبعد عنه الملاهي وما أشبهها. رابعاً: أن يعتقد يقيناً أن الرقية نافعة ومؤثرة. خامساً: أن يكون الراقي من أهل الورع والزهد. سادسها: أن يستعمل في الرقى الآيات التي وردت الرقية بها وعرف تأثيرها، مثل آية الكرسي، وآيات السحر الثلاث في سورة الأعراف، وهن قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف:118-119] ، وفي سورة يونس قوله تعالى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [يونس:81-82] ، وفي سورة طه قوله تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:67-69] ، فيقرأ هذه الآيات، ويقرأ آية الكرسي وآيتين من آخر سورة البقرة: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ} [البقرة:285] ، وسورة الفاتحة، وأول سورة البقرة، وأول سورة آل عمران، وآخرها، وآيات من سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأعراف:54] إلى ثلاث آيات، وأول سورة يونس، وأول سورة طه، وأول سورة النحل، وآيتين من آخر سورة الإسراء، وعشر آيات من أول سورة الصافات، وأربع من آخر سورة: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] ، وسورتي المعوذتين، وسورة الإخلاص، وكذلك الأدعية التي وردت، مثل قوله: (باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم) ، وقوله: (أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر) ، وأدعية مأثورة في ذلك بإذن الله يكون من آثارها إبطال عمل هؤلاء السحرة.

عقيدة أهل السنة في التعامل مع البدع والمبتدعة والعصاة

عقيدة أهل السنة في التعامل مع البدع والمبتدعة والعصاة قال الشيخ الحافظ أبو بكر الإسماعيلي رحمه الله تعالى في بيان اعتقاد أهل السنة: [ويرون مجانبة البدعة والآثام والفخر والتكبر والعجب والخيانة والدغل والاغتيال والسعاية. ويرون كف الأذى، وترك الغيبة إلا لمن أظهر بدعة وهوىً ويدعو إليهما، فالقول فيه ليس بغيبة عندهم، ويرون تعلم العلم وطلبه من أهله، والجد في تعلم القرآن وعلومه وتفسيره، وسماع سنن الرسول صلى الله عليه وسلم وجمعها والتفقه فيها، وطلب آثار أصحابه، والكف عن الوقيعة فيهم، وتأول القبيح عليهم، ويكلونهم فيما جرى بينهم على التأويل إلى الله عز وجل مع لزوم الجماعة والتعفف في المأكل] . من الخصال التي يرونها ويدعون إليها ويعتقدونها مجانبة البدعة أياً كانت، سواءٌ عملية أو عقدية، ومجانبة أهلها والدعاة إليها. فمن البدع الاعتقادية بدعة الجهمية، والخوارج، والمعتزلة، والأشاعرة، والجبرية، والرافضة، والمرجئة، والمتصوفة، وكذلك البدع الجديدة، كبدعة القبوريين ونحوهم، وبدعة ما يسمى بالبعثيين والعلمانيين وما أشبهها، فإن مجانبتها ومجانبة أهلها من واجبات الإسلام، وذلك لئلا يستحسن ما هو قبيح. أما البدع العملية فالمراد بها المحدثات في الدين، ولو لم تصل إلى الكفر ولكنها زيادة في الدين، فلا يشاركون أهلها فيها، ولو عرف أن أهلها قد يستحسنونها. وذلك مثل إحياء ليلة المولد، قد يقولون: ما نحييها إلا بذكر وبقراءة وبصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم! نقول: إنها بدعة، ولو قلتم ما قلتم. وكذلك أيضاً الذين يحيون أول ليلة جمعة من رجب بصلاة يسمونها صلاة الرغائب، لا شك أن هذه بدعة لم يكن لها أصل في العهد القديم في الإسلام، وإنما حدثت في القرن الرابع وما بعده. كذلك أيضاً إحياء ليلة الخامس والعشرين من رجب ويسمونها ليلة الإسراء والمعراج، ولا حقيقة لها، ولم يرد ما يدل على إحيائها ولا تخصيصها، وهكذا الاجتماعات التي لا مبرر لها، فهناك بدع كثيرة في الصلوات، والأذكار، والأذان، والجنائز وما أشبهها مذكورة في الكثير من الكتب، ككتاب (السنن والمبتدعات) ، وكتاب (الباعث على إنكار البدع والحوادث) ، وكتاب ابن وضاح (البدع والنهي عنها) ، وما أشبه ذلك. أما الآثام فالمراد بها المعاصي التي يكون صاحبها آثماً، فكأنه يقول: يحثون على التوبة، ويبعدون صاحبهم ممن يكون منهم عن الذنب الذي يسبب له إثماً وجرماً ووزراً. والأصل في الإثم أنه يؤثم صاحبه، وقد سمى الله تعالى الميسر والخمر إثماً، أو جعل فيهما إثماً فقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219] ، وقد حرم الله تعالى الإثم، أي: الذنب الذي يؤثم صاحبه، فاقرأ قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ} [الأعراف:33] يعني: والذنب الذي يحصل صاحبه على إثم. أي: على جرم وعقوبة وأوزار. والآثام هي الذنوب والأوزار.

معاملتهم لأصحاب المعاصي

معاملتهم لأصحاب المعاصي أما الفخر والتكبر والعجب فهذه معاصٍ يتصف بها بعض الناس فتوقعه في الترفع، فالفخر محرم، وهو فعل من أفعال الجاهلية، ورد في الحديث قوله: (إن الله حرم عليكم عُبية الجاهلية وفخرها بالأباء) ، كانوا يتفاخرون بأفعال الأباء، يقول أحدهم: آباؤنا الذين فعلوا، وآباؤنا الذين قتلوا وسلبوا وصبروا. فيفتخرون بمآثر آبائهم مع أن آبائهم قد ماتوا وصاروا إلى ما صاروا إليه. كذلك أيضاً في الإسلام لا يفتخر الإنسان بأفعال من سبقه، حتى يقول بعضهم: إذا افتخرت بآباء لهم شرف قلنا صدقت ولكن بئس ما ولد أي أنك لا ينفعك إلا أن تعتز بأفعالك أنت لا بأفعال من سبقك، مع أن الإنسان عليه أن يتواضع، وأن يتذلل، وأن يصغر نفسه، وأن لا يفتخر على الناس. والتكبر قريب من الافتخار، وهو الإعجاب بالنفس والترفع عن الناس واحتقار الآخرين وازدراؤهم، وقد فسره الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (الكبر بطر الحق وغمط الناس) ، (بطر الحق) يعني: رده (غمط الناس) يعني: احتقارهم. بأن يرى الناس كأنهم صغار بالنسبة إليه، ويرى نفسه أرفع منهم رتبة وأعلى منهم منزلةً، ويفرض عليهم -مثلاً- أن يقوموا له وهو جالس، وأن يحترموه ويقدروه ويوقروه ولو لم يكن أهلاً، ويسخط على من لم يفعل ذلك، ويفرض نفسه أكبر من غيره، ولا شك أنه يتكبر على الله، والمتكبر يتكبر على الله تعالى، لذا نقول للمتكبر: تذكر عظمة الله تعالى وتذكر حقارة الإنسان. ذكروا أن بعض المتكبرين حضر عند أحد العلماء الذين في مجلس يذكر فيه ويعظ، وقد عرفه ذلك العالم، فقال له ذلك المتكبر: وحيك أما تحترمني؟ أما تعرف من أنا؟ فقال: نعم أعرفك، أنت الذي أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفه قذرة، وحشوك بين ذلك بول وعذرة. يعني: لا ترفع نفسك فإن هذه صفتك، هذا مبدؤك وهذا منتهاك، فكيف تتكبر؟! أما العجب فالمراد به الإعجاب بالنفس، وذلك بأن تعجبه أفعاله، فعند ذلك يرى أن هذا الإعجاب سبب في نجاته وفلاحه وفوزه، ولا يجوز للإنسان أن يعجب بنفسه، بل عليه أن يحقر نفسه ولو بلغ ما بلغ، ولو كان عالماً جليلاً، أو عابداً كبيراً، بل يتصاغر ويتواضع ويتذلل لله تعالى، ولا تعجبه أعماله ولا يفتخر بها، ولا يقول: أنا الذي عملت كذا وكذا. فيمدح نفسه بصلاته وبتهجده وبقراءته، فيكون إعجابه هذا سبباً في إحباط أعماله. أما الخيانة فهي خصلة ذميمة، وهي من خصال المنافقين، وصف النبي صلى الله عليه وسلم المنافق بقوله: (وإذا اؤتمن خان) ، وقد تكون الخيانة عامةً في الودائع والأمانات، وكذلك في الأعمال التي يؤتمن عليها الإنسان، والتوسع فيها لا يحتاج إليه. والدغل فسره بأنه الشر، وهو كون الإنسان في قلبه غل على إخوانه وحقد عليهم وبغضاء، فينهى عن ذلك، ويؤمر الإنسان بأن يكون سليم الصدر محباً لإخوته ولو فعلوا ما فعلوا، فلا يكون في قلبه غل ولا حقد ولا شنآن ولا بغضاء، قال الله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة:2] . أي: لا يحملنكم بغضهم على أن لا تعدلوا. والسعاية فسرها بأنها النميمة، ويسمى النمام ساعياً، وهو الذي يسعى بين الناس بالنميمة ليفسد بينهم، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنها من أسباب عذاب القبر في قصة ذلك الذي يعذب في قبره، قال: (كان يمشي بالنميمة) ، وورد فهيا أيضاً أحاديث كثيرة تدل على عظم الذنب بها، حتى قال: (يفسد النمام في الساعة أكثر مما يفسد الساحر في السنة) . قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويرون كف الأذى وترك الغيبة] . كف الأذى عن الناس يعني أن تكف عنهم أذاك. حتى قال النبي عليه السلام في حديث أبي ذر لما قال له: فإن لم أجد؟ قال: (تكف أذاك عن الناس فإنه صدقة منك على نفسك) ، والغيبة تفسيرها بأنها ذكرك أخاك بما يكره. أي: أن تذكره في حال غيبته بشيء لو كان حاضراً لما ذكرته به، فبذلك تكون مغتاباً له، وقد عَدَّ الله تعالى الغيبة ذنباً كبيراً، حتى قال: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} [الحجرات:12] يعني أن المغتاب كأنه يأكل لحم أخيه ميتاً. ويرخص في غيبة من أظهر بدعة وهو يدعو إليها، فالقول فيه ليس بغيبة، ولذلك يقولون: لا غيبة لفاسق، ولا لمعلن ومجاهر، فإذا جاهر إنسان بمعاصٍ أو ببدع فإن ذكره ليس بغيبة، وكذلك ذكر معايبه، وقد تكلم علماء الحديث في الرواة الذين رووا الحديث، فذكروا أن فلاناً غير ثقة، وأن فلاناً كذاب، وأن فلاناً سيئ الحفظ، مع كونهم قد ماتوا، ولم يعدوا ذلك من الغيبة بل جعلوه من النصيحة، وذلك لأنهم حملوا هذا العلم وليسوا أهلاً له، فلا بد أن نبين مراتبهم حتى يعرف من يكون أهلاً لحمل العلم وقبول الرواية ومن ليس كذلك، ذكروا ذلك في علم الجرح والتعديل.

نصحهم بطلب العلم

نصحهم بطلب العلم قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويرون تعلم العلم وطلبه من مظانه، والجد في تعلم القرآن وعلومه وتفسيره، وسماع سنن الرسول صلى الله عليه وسلم وجمعها والتفقه فيها، وطلب آثار أصحابه] . لا شك أن تعلم العلم من الواجبات، وذلك لأن العمل لا بد أن يكون على بصيرة، فلا بد أن يكون العامل على علم، فمن عمل بغير علم فإنه يفسد أكثر مما يصلح، فنقول للإنسان: تعلم قبل أن تعمل. فإذا قيل لإنسان يتوضأ: كيف تتوضأ؟ وكان لا يعلم فلابد أن يتعلم كيفية الوضوء، وإذا قيل له: هل انتقض وضوؤك قال: لا أدري تعلم نواقض الوضوء، ويتعلم موجبات الغسل، ويتعلم كيفية الصلاة حتى يصلي صلاة تحزنه، ويتعلم هذا العلم من مظانه، ومظانه هي الجد في تعلم القرآن وعلومه وتفسيره، فيتعلم القرآن وعلوم القرآن، وقد ألفت فيها مؤلفات، وكذلك أيضاً يتعلم تفاسير القرآن وما ورد فيه حتى يكون على علم وبصيرة وبرهان، وكذلك أيضاً يتعلم سنن النبي صلى الله عليه وسلم، والسنن هي الأحاديث التي رويت عنه من أقواله أو أفعاله أو تقريراته، لابد من تعلمها حتى يعرف الإنسان كيف يعمل؛ فإنها هي الموضحة والمبينة لكتاب الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم بعثه الله تعالى معلماً للأمة حتى يعملوا على بصيرة، فهو أمرهم بالعمل، ثم بين لهم كيفية العمل، وبين ذلك بأقواله وبينه بأفعاله، فلابد أن المتعلم يرجع إلى هذين المرجعين: الكتاب والسنة، فيجد فيهما ما يحتاج إليه من هذه الأعمال، يجد فيهما الواجبات، ويتعلم الفرائض التي أوجبها الله تعالى كأركان الإسلام وكيف يؤديها ويعمل بها، وكذلك أيضاً يجد فيها العقائد وما يجب اعتقاده. وما يلزمه، ويجد ذلك أيضاً ظاهراً في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وغيره، وآثار الصحابة رضي الله عنهم؛ فهم الذين نقلوا لنا السنة. كذلك الكف عن الوقيعة في الصحابة أو سبهم أو ذكر شيء من مساوئهم، وتأول القبيح عليهم فيما جرى بينهم، ونكلهم فيه على التأويل إلى الله عز وجل، وبذلك نسلم من أن نقع فيهم بما لا يأمر الله به أو لم يبحه، والله أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم أخذ الأجر على الرقى الشرعية

حكم أخذ الأجر على الرقى الشرعية Q يلاحظ اليوم كثرة القراء الذين يدعون أنهم يرقون بالرقى الشرعية، ويؤخذ على هؤلاء القراء تفرغ بعضهم لهذا العمل، ثم أخذهم أجراً بعده على القراءة، وقراءة بعضهم على مجمع من الناس وغير ذلك، فما هو التوجيه في مثل هذا؟ A القراءة المفيدة لابد أن يكون القارئ فيها أولاً من أهل التوحيد والعقيدة الصحيحة، ثانياً: أن يكون مستقيماً في دينه وأخلاقه، ثالثاً: البعد عن الملاحظات التي تقدح في عدالته، فيبتعد عن الظنون السيئة والمحرمات والمعاصي وما أشبهها؛ إذ يوجد كثير من هؤلاء القراء يظهر أن غرضهم مادي ودنيوي، فلأجل ذلك يقل الانتفاع بقراءتهم والتأثر بها، ولكن لما كان قصدهم المال، وربما يأخذون أموالاً زائدة على عملهم كان النفع بهم قليلاً. فنصيحتنا لمن أراد أن يعمل بهذه الرقية ونحوها أن يكون قصده وجه الله تعالى، ونفع المسلمين، ومحاربة السحرة والمشعوذين والكهنة والمنجمين ونحوهم وإبطال مكايدهم، وكذلك أن يلتزم بالقراءة الشرعية، فيتعلم الرقى والآيات والأحاديث التي يرقى بها، ويعلم كيفية الرقية وكيفية تأثيرها وما أشبه ذلك، ويتبرع بعمله فلا يأخذ إلا شيئاً يسيراً مقابل تفرغه وتكلفته وما أشبه ذلك حتى لا يضر الناس وينفع الله تعالى به.

صفة من يرقي الناس

صفة من يرقي الناس Q هل ينصح كل أحد بأن يقرأ على الناس؟ A الرقية ليست موقوفة على شخص معين، ولكنها بإذن الله تكون لمن كان عنده الأهلية، فهي إنما تؤثر بإذن الله، وتنفع إذا تمت الشروط والصفات التي تستدعيها، ومنها الاقتصار على الأكل الحلال، والاستقامة، فإذا كان الإنسان مستقيماً على طاعة الله وعالماً بالأدلة وعارفاً بالآيات والأدعية ونحوها واحتيج إليه فلا يحقر نفسه، ولأجل ذلك قال في الحديث: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه) فهذا فيه نفع، فإذا كان عندك قدرة على ذلك ومعرفة واجتمعت فيك الصفات والمؤهلات واحتيج إليك فلا تمنع نفسك من نفع إخوتك المسلمين، وأما إذا لم يكن كذلك وأنت لست بأهل فلا.

حد الساحر

حَدُّ الساحر Q هناك امرأة ساحرة قريبة لنا تتردد إلى بيتنا، ويطلب منها أهل بيتنا أن ترى لهم بعض الأمور، والسؤال عن بعض الأشياء، ومنهم أمي وأبي، فكيف أتصرف معهم؟ A لا يجوز إقرارها على هذا العمل، والواجب إذا عرف ذلك أن يرفع بأمرها حتى ينفذ بها حكم الله (حد الساحر ضربه بالسيف) ، ولو كانت قريبة لك، ولو كان أهلك ينتفعون بسؤالها ويسألونها عن بعض الأشياء؛ لأن السحرة يستخدمون الشياطين، والشياطين تخبرهم بأمور غيبية تخبر الكهنة والشياطين والسحرة بأن فلاناً سحره بالمكان الفلاني وما أشبه ذلك، فحدها إذا لم تتب القتل، فلا بد من القتل بالسيف حتى ينفذ بها حكم الله.

علامات الساحر

علامات الساحر Q ما هي العلامات التي يعرف بها الساحر؟ A لا شك أن الساحر هو الذي يتعاطى الأمور التي تضر الناس، فإما أن يعمل أعمالاً يصل ضررها إلى فلان أو فلان ويعترف بذلك، أو ينقل ذلك عنه، وإما أن ترى من أعماله أنه يجمع الشعر من فلان وفلان والخرق التي لها اتصال بفلان، ثم يذكر عليها أسماء الشياطين ونحوهم، وكذلك يجمعون كسراً من حديد أو حجارة أو ودع وما أشبه ذلك، فإذا رؤي أنه يعمل مثل هذه الأعمال فإن هذه من أعمال السحرة، فينتبه له ويحذر منه.

حكم الاستعانة بالجن المسلمين

حكم الاستعانة بالجن المسلمين Q هل تجوز الاستعانة بالجن المسلم إذا كان يستطيع أن يساعد؟ A ما أظن ذلك صحيحاً، ولكن ذكر بعض المشايخ أنه لا مانع من ذلك، وأن هناك جناً مسلمين، وأنهم يساعدون المسلم ويدلونه على الخير، فلا بأس بذلك، وبعض الأولين توقظهم الجن للصلوات وللتهجد في آخر الليل، ولم يكن عندهم ساعات تنبههم، يقول أحدهم: فإذا بقي من الليل ساعة أو ساعتان جاء من ينبهني ويقول: يا فلان! قم فقد حان الوقت، حان وقت التهجد. فإذا استيقظ لم ير أحداً، فمثل هؤلاء جن مسلمون يعينون إخوتهم على فعل الخير ونحو ذلك، ولا بأس بمثل هؤلاء ولكن لا يطلبهم ولا يتقرب إليهم، أما إذا تمثلوا له وأخبروه بما يريد ولو لم يرهم أو نحو ذلك فلعل ذلك مما لا بأس به.

حكم إنكار الرقية

حكم إنكار الرقية Q يستدل بعض الذين ينكرون الرقية بالمرأة التي كانت تصرع فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أدعو الله لك بالشفاء أو تصبري؟ فقالت: أصبر) ، ولم يقل لها: أرقيك؟ A قد ورد أيضاً ما يدل على فضل الصبر، فهذه المرأة لما قال لها: (تصبرين ولك الجنة) آثرت الجنة، وقالت: كيف لا أصبر إذا كنت من أهل الجنة، فضمن لها الجنة، حتى قال ابن عباس لأحد تلامذته: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟! هذه المرأة السوداء أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! إني أصرع وأتكشف، فادع الله لي، فقال: إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله لك. فقالت: أصبر. ثم قالت: إني أتكشف فادع الله لي. فدعا لها) ، فالتكشف لا شك أنه شيء تتضرر منه، أن تتكشف أمام الأجانب، فدعا لها وبقي الصرع معها أو صبرت عليه، فلا شك أن من بشر بالجنة على عمل كان به صعوبة آثر الجنة كما آثرت هذه المرأة.

قلب الساحر لحقائق الإنس

قلب الساحر لحقائق الإنس Q هل الساحر يستطيع تحويل صورة الإنسان إلى بهيمة أم أن هذا تخييل فقط؟ A يذكر الذين شاهدوا الوقائع أنه واقع، وأشار إلى ذلك ابن جرير في تفسيره، وكذلك أيضاً بعض الوقائع، وصفة ذلك أن الشيطان يلابس ذلك الإنسان، فمعلوم أن الجن والشياطين لهم قدرة على التشكل الجني، ونحن لا نراه ولكن قد نسمع كلامه ولا نرى شخصه، ولكن له قدرة على التشكل، فتارة يظهر بصفة كلب، وتارة بصورة قط، وتارة بصورة وعل، وتارة بصورة إنسان، وتارة بصورة حية كما ورد ذلك في الحديث الذي فيه قوله (إن في هذه الدور جناً مسلمين يتمثلون بصورة حيات) ، فإذا كان كذلك فلا مانع من أنه إذا لابسه قلب هيكله بإذن الله تعالى إلى صورة حيوان أو نحوه على ما يريد الذي سلطه.

حكم إقامة الحدود الشرعية من قبل الرعية

حكم إقامة الحدود الشرعية من قبل الرعية Q هل يستدل بقصة جندب رضي الله عنه على أنه يمكن إقامة الحدود من آحاد الرعية؟ A قد يستدل بذلك إذا كان ذلك عنده دليل قوي وكان الآخرون جاهلين بذلك، فلعل ذلك الأمير كان جاهلاً بهذا الأمر، وكذلك أيضاً الحاضرون لم يكن لهم علم بهذا، لذا أقدم على إقامة هذا الحد، وأما إذا كان هناك من يأتي للحدود فلا يجوز للأفراد أن ينفذوها، بل يرفعوا بأمرها إلى ولاة الأمور الذين لهم الصلاحية في الحكم، وذلك لأنه ليس كل إنسان له قدرة على معرفة الحكم الشرعي، إنما يعرف ذلك من ولي ذلك من قبل الدولة.

قتل الساحر

قتل الساحر Q هل يقتل الساحر حداً أم ردة؟ الجوب: ظاهر الحديث أنَّه يقتل حداً: (حد الساحر ضربه بالسيف) ، ولكن إذا حكمنا بأنه كافر كما في قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102] ، وأن سحره كفر لكونه يعبد الشياطين ويتقرب إلى الجن ونحو ذلك، فإن هذا العمل يعتبر ردة ولو سمي حداً، كأنه سمي حداً لأنه عقوبة، أي: عقوبة هذا الساحر هذه صفتها.

معنى الاغتيال في كلام المؤلف

معنى الاغتيال في كلام المؤلف Q في قول المصنف: [ويرون مجانبة البدعة] ، إلى قوله: [والاغتيال] ، فما هو الاغتيال، وهل هو المعروف الآن؟ A الاغتيال الظاهر أنه قتل الغيلة، يعني: أن يخلو بإنسان فيخدعه ثم يقتله على حين غفلة أو غرة. يسمى هذا قاتل الغيلة، قيل: إنه لا يحتاج إلى رضا الأولياء بل يقتل عقوبة له على هذه الفعلة.

الجمع بين وعد الله للصحابة وبين قتل الخلفاء

الجمع بين وعد الله للصحابة وبين قتل الخلفاء Q كيف نوفق بين أن الله وعد الصحابة بالأمن وأن بعض الخلفاء قتلوا؟ A لاشك أنهم أخلوا بشيء من أسبابه، أو أن هذا يعتبر كرامة لهم أنهم قتلوا شهداء في سبيل الله تعالى؛ فإن عمر رضي الله عنه دعا الله بأن يرزقه شهادة في بلد نبيه فاستجاب الله دعوته.

شرح اعتقاد أهل السنة [16]

شرح اعتقاد أهل السنة [16] لم يفتأ الرافضة عبر الدهور والأزمان يطعنون في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وخاصة أكابرهم رضي الله عنهم، متعمدين في ذلك الكذب عليهم، وينسبون إليهم ما ليس لهم، ويحملون النصوص ما لا تحتمل تحاملاً عليهم، ويستدلون على أقوالهم بما لا يصدقه أحد، والصحابة رضي الله عنهم هم أهل الفضل، وإليهم ينسب الفضل بإجماع أهل السنة والجماعة أهل الحق، الذين يوصون باحترامهم ومعرفة حقهم، ويوصون كذلك بالجماعة ولزومها، ويحثون على جمع الكلمة ويحذرون من تفرقها، ويوصون بالحق وأهله، وأكل كل ما هو حلال من محله، والسعي فيه وإليه كل على حسب جهده، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.

بعض طعون الرافضة والرد عليها

بعض طعون الرافضة والرد عليها من عقيدة أهل السنة الترضي عن الصحابة والكف عن الوقيعة في الصحابة، وتأول القبيح عليهم، ويكلونهم فيما جرى بينهم على التأويل إلى الله عز وجل، وسبب إدخال هذا في العقيدة أن هناك أعداءً للصحابة أخذوا يولدون عليهم قصصاً ويلصقونها بهم ويعيبونهم بها. إما من الخوارج الذين قاتلهم علي ومن معه من الصحابة، ولا بد أن يكون لهم بقايا، وإما من الرافضة الذين غلوا في علي وذريته وجفو في حق بقية الصحابة، ولما غلب عليهم هذا الجفاء وحقدوا على الصحابة كان من آثار حقدهم أن ولدوا عليهم حكايات لا أصل لها، وتتبعوا عثرات وجدت من بعضهم، فجعلوا من الحبة قبة ومن الصغيرة كبيرة، وحملوا كلامهم على محامل بعيدة عن العقول، ونسوا أو تناسوا فضائل الصحابة وأعمالهم الجليلة التي تميزوا بها عمن سواهم، وأخذوا يكيلون لهم من التهم ويرمونهم بالعظائم ويسبونهم، من أجل ذلك كان من اعتقاد أئمة الحديث الكف عن الوقيعة فيهم، أي: عن السب لهم، وذلك يستلزم ذكر فضائلهم ومحاسنهم، والثناء عليهم والترضي عنهم، واعتقاد أنهم خير قرون هذه الأمة، كما خيرهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) ، كما أن الأمة أفضل الأمم، فإذا كانت الأمة المحمدية أفضل الأمم التي سبقتها فإن هذه الأمة أيضاً تتفاضل، فأفضلهم القرن الذي بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان كذلك فإن ما يرويه أعداؤهم من تلك المثالب والعيوب التي يقدحون بها فيهم أكثره كذب لاشك فيه، وذلك لأن العدو لابد أن يكذب على من عاداه، وما أكثر ما افترى عليهم أعداؤهم وقالوا عليهم ما لم يقولوا، وظنوا بهم ما ليس له أصل ولا حقيقة، ولم يبالوا أنهم يقولون الكذب. فإذا قرأنا في كتب الرد على الرافضة نجد أنهم يتعمدون الكذب عليهم، حتى يقول بعض السلف لما ذكر الرافضة: لو كذبت لهم حديثاً لملئوا جيبي ذهباً. أي: لو كذبت لهم حديثاً يناسبهم لكافئوني وأعطوني ما يقدرون عليه. وهذا يدل على أنهم يتعمدون الكذب. ونقول أيضاً: إذا كان فيها شيءٌ واقع فإن الأعداء يحملونه ما لا يحتمل، وإذا كان فيها شيء صحيح فإنه يغير عن هيئته ويزاد فيه، ويروونه على غير ما هو عليه، فيكونون قد زادوا فيه أو غيروا أسلوبه، ومعلوم أن الأسلوب يغير الحقيقة، فالإنسان قد يحكي قصة يعبر عنها بأسلوب تكون مدحاً، ثم يعبر عنها بأسلوب آخر يكون ذماً، يقول الشاعر: في زخرف القول تزيين لمنهجه والحق قد يعتريه سوء تعبير تقول هذا مجاج النحل تمدحه وإن تشأ قلت ذا قيئ الزنابير إن قلت: هذا مجاج النحل -تعني العسل- فهذه كلمة مدح، وإن قلت: هذا قيئ الزنابير فهذه كلمة ذم، والكل صحيح. فالحاصل أن تلك القصص إذا رويت بأسلوب فيه قدح أصبحت معايب ومثالب، مع أنها في الحقيقة قد تكون مدائح، ولنأت على ذلك بأمثلة مما يذكر عند الرافضة.

قصة صلح الحديبية ورد طعنهم

قصة صلح الحديبية ورد طعنهم لما اصطلح النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش في صلح الحديبية على أن يرجعوا في ذلك العام، وعلى أن من جاءهم مسلماً من أهل مكة يردونه إلى أهل مكة، ومن ارتد من المسلمين فإنه لا يرد على المسلمين كانت هذه الشروط مما ساءت الصحابة جميعاً، وتمنوا أنهم يدخلون مكة ويقاتلون، وقد كانوا بايعوا قبل ذلك بيعة الرضوان، فاستاء لذلك الصحابة، وكان ممن ظهر استياؤه عمر رضي الله عنه، فهو الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى. قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى. قال: ألست تعدنا أننا ندخل مكة ونطوف بالبيت قال: بلى. ولكن هل قلت لك: إنك تدخلها هذا العام؟ قال: لا. قال: فإنك داخل البيت ومطوف به. قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال: إني رسول الله، ولن يضيعني، ولست أعصيه) . هذه قصة عمر في هذه المقالة، فماذا تفهم منها أيها السني؟ أفهم منها أنها دليل على حماسه وغيرته، وأنه يحب أن يتجشم المشقة ويقاتل ولو قتل؛ لأنه إذا قتل فإنه في الجنة، وأنه مع ذلك يحب أن يذل هؤلاء الكفار الذين أخرجوا الرسول من بلده وصدوه عن البيت، وتحمس أيضاً لأن بعضاً من الذين يأتون مسلمين مع ذلك يردون إلى المشركين ويلقون الأذى والعذاب، هذه أفعال تدل على حماسه وغيرته، وتدل على محبته للجهاد وللتفاني في سبيل الله ولنصرة الإسلام. هذا الذي نفهم منها، ولكن الرافضة تحملها ما لا تحتمل، وقالوا: إنه بذلك ينتقد حكم الرسول، ويعترض على حكم الله ورسوله، إنه بذلك يرد تدبير الرسول ويرد أمره، إن ذلك دليل على حقده على دين الإسلام. وغير ذلك، فجعلوها مثالب وحملوها ما لا تحتمل. وعمر رضي الله عنه ندم بعد ذلك، يقول: (فعملت لذلك أعمالاً) يعني: بسبب هذا الاعتراض، فتجرأت وتسرعت ومع ذلك فإني ندمت على ذلك وعملت أعمالاً صالحة أكفر بها مما فعلت. لا شك أنه ما حمله على هذا إلا الحماس، ثم أيضاً ليس هو وحده الذي كره ذلك، كل الصحابة كرهوا هذا الصلح، حتى إنه لما أمرهم بأن يحلقوا وبأن يتحللوا توقفوا، وقالوا: أنحلق قبل أن نكمل عمرتنا؟! فامتنعوا كلهم، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سلمة فأخبرها أنه يأمر ولا ينفذ أمره، فأرشدته إلى أن يخرج ويدعو الحلاق فيحلق رأسه، فلما رأوه بدأ يحلق رأسه أخذ بعضهم يحلق لبعض، فكراهيتهم لذلك كلهم يدل على أنهم يحبون أن يقاتلوا المشركين ولا يرجعوا قبل أن يكملوا عمرتهم، ومنهم عمر، ولكن الرافضة ما توجهوا إلا على عمر.

وفاة النبي وطعنهم في عمر بصرف الخلافة عن علي

وفاة النبي وطعنهم في عمر بصرف الخلافة عن علي لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم زاره بعض أصحابه فأخذ يوصيهم بوصايا قال: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بما كنت أجيزهم، وسكت في الثالثة أو نسيها، وقال في تلك الحال: ائتوني بكتاب أكتب لكم عن كتاب لا تضلوا بعده) ، وكان في البيت أصوات، فقال عمر رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تعب وشق عليه فدعوه وعندنا كتاب الله تعالى لا نضل بعده، فلم يكتب لهم، هكذا ورد الحديث عنه أنه قال: (عندنا كتاب الله) والرافضة قالوا: هذا حقد من عمر، أراد بذلك أن يصرف الإمامة عن علي، وإن الرسول لما طلب كتاباً ما أراد بذلك إلا أن يكتب الخلافة لـ علي، ولكن عمر لما فطن لذلك صرفهم عن الكتاب ومنع الرسول أن يكتب الكتاب، فجعلوا ذلك عيباً لـ عمر، ويذكر أن ذلك يذكره صاحب الكتاب الذي عنوانه (ثم اهتديت) ، وهو مغربي ضل لما زار الرافضة ونصرهم، وصاحب كتاب (المراجعات) ، وكذلك ابن المطهر. فالحاصل أنه في هذه الحال ما أراد إلا الرفق بالنبي صلى الله عليه وسلم لما رآه متعباً مجهداً، وعلم أيضاً أن في الكتاب ما يدل عليه في كتاب الله تعالى، فهل يكون عليه عيب في هذا؟ نقول: لا شك أنه ليس عليه عيب، بل الأصل أنه رضي الله عنه ما أراد إلا خيراً، ولم يرد أن يصرف النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء يريده، ثم أيضاً أهل السنة يقولون: إنه لو استخلف لما استخلف غير أبي بكر، ويدل عليه أنه استخلفه في الصلاة، وأنه قال: (يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر) ، وغير ذلك من الأدلة التي أشار إليها تدل على أن الخليفة بعده أبو بكر، فلو كتب كتاباً في الولاية لما ولى غير أبي بكر. إذاً الرافضة في قولهم: إن عمر أراد بذلك أن يحقد على علي، وإنه أراد بذلك صرفه عن أي وصية لـ علي هذا من بهتانهم وكذبهم. ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وتحقق موته أنكر ذلك كثير من الصحابة، ومنهم عمر، وظنوا أنه إغماء، فكان عمر يقول: لا تقولوا مات، إنه حي، وسيجلد أناساً قالوا ذلك. وما أرد بذلك إلا إحسان الظن، وأن الله تعالى سيمتعه حتى يعيش، وفي نظره أنه مغمى عليه وأنه لم يمت، ولكن الرافضة حملوا فعله هذا على محمل بعيد، فقالوا: ما أراد بذلك إلا أن ينشئ انشغالاً عن استخلاف علي حتى يأتي أبو بكر، وكان أبو بكر غائباً، فأراد بذلك أن ينشغلوا، وإلا فإنه متيقن بأنه قد مات وبأن الموت واقع لا محالة، ولكن لما خاف أنهم يقولون: إنه استخلف علياً، وإنه ولى علياً. أراد بذلك أن يشغلهم. وعلي لم يقل: إني خليفة. ولم يقل أحد: إنه خليفة. ولم يقل أحد: إنه إمام وإنه استخلفه أو ولاه. وأبو بكر أيضاً لم يقل: إني مستخلف. ولم يكن يطلب خلافة، ولكن يظنون الظنون البعيدة، فيحملون الكلام ما لا يطيقه وما لا يتحمله. ثم توفي النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد جهز جيشاً إلى الشام وأمر عليهم أسامة بن زيد، وأمر أن يكون فيهم أبو بكر وعمر، فلما توفي صلى الله عليه وسلم كان أبو بكر قد استخلف وأصبح والياً على المسلمين، فلابد أن يجلس في المدينة، ومن الضروري أن يجلس معه عمر؛ لأنه معه كالوزير، أما الجيش فإنه جهزه أبو بكر وأرسله إلى الشام، فأغار على الدور ورجع سالماً غانماً، فجعلوا هذا أيضاً من المثالب، فقالوا: لماذا تخلفوا عن جيش أسامة؟ ما أردوا بذلك إلا أن يظلموا علياً حقه، وأن يبخسوه ويتولوا الولاية ويأخذوها عنه. ونحو ذلك، وكل هذا أيضاً من البهتان والكذب عليهم. فالحاصل أنهم بذلك وجهوا هذه المثالب إلى الصحابة رضي الله عنهم يريدون بذلك التشفي وتبرير مواقفهم ومعتقداتهم.

مكفرات الذنوب للصحابة

مكفرات الذنوب للصحابة معلوم أن الصحابة كغيرهم بشر ليسوا معصومين، فإذا قدر أن أحداً منهم وقع منه ذنب فنحمله على أنه قد تاب منه، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له. ثانياً: أن يكون عمل أعمالاً صالحة تمحو عنه ذلك الذنب. ثالثاً: أن يكون غفر لهم بفضل سبقهم إلى الإسلام وسابقتهم إليه، فيكونون أحق بأن تغفر لهم تلك الذنوب. رابعاً: أنها تغفر لهم بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم أولى الناس بشفاعته لكونهم أهل صحبته وأهل رفقته والاجتماع معه، فإذا كان هذا في الذنوب الحقيقية أنها تغفر له بالتوبة أو بالأعمال الصالحة، أو لسابق الإسلام، أو بالشفاعة، أو بالابتلاء والامتحان والمصائب التي حصلت عليهم، أو باستغفار السلف لهم ودعاء الأمة لهم -وإلى الآن وهي تترضى عنهم وتترحم عليهم- إذا كان هذا في الذنوب الحقيقية فكيف بتلك الأمور التي وقعت منهم وليست ذنوباً، ولكنها اجتهادات منهم رضي الله عنهم؟! والاجتهاد معروض على النظر، فإن كانوا مصيبين فلهم أجران: أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وإن كانوا مخطئين فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور؛ لأنهم لم يتعمدوه.

موقف أهل السنة من الفتن التي وقعت بين الصحابة

موقف أهل السنة من الفتن التي وقعت بين الصحابة نكف عما شجر بينهم ووقع من الخلاف، ولا نتأوله، ونكف عما حصل بينهم، وكذلك نكلهم فيما جرى بينهم على التأويل، ونلتمس لهم الأعذار، ونعتذر عما حصل بينهم، ولاشك أنه حصل بينهم شيء من الخلافات، ولكنها محمولة على الاجتهاد، فمثلاً الذين ثاروا على عثمان ليسوا من الصحابة، وإنما هم من جفاة الأعراب الذين انتقدوه في نظرهم انتقادات خاطئة، فكان من آثارها أنهم ثاروا عليه إلى أن قتلوه، والله يتولى جزاءهم. فيقال: أمرهم إلى الله تعالى. ورأيت في بعض نشرات الرافضة المعاصرين أنهم يفتخرون بأن شيعتهم الذين ثاروا على عثمان حتى قتلوه، فجعلوا أولئك الأعراب الجفاة شيعتهم، هكذا يدعون. وعثمان لما قتل رضي الله عنه قتل في موسم الحج، وكان كثير من الصحابة بمكة، ومنهم الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وأولاد الزبير وغيرهم، فلما سمعوا بخبر قتله قالوا لا بد أن نذهب حتى نقاتل أولئك الجفاة من الأعراب الذين في حدود العراق، فتوجهوا وذهبوا معهم بـ عائشة أم المؤمنين ومعهم جمع، ولما سمع علي رضي الله عنه بذهابهم أهمه أمرهم، وذلك لأنه أحب أن تجتمع الكلمة ويجتمع المسلمون ويبايعوه جميعاً قبل أن يحصل هذا القتال، فلما بلغه أمرهم لم يجد بداً من أن يذهب في أثرهم إلى العراق، ولما تقابلوا هناك التف مع جيشه كثير من الثوار الذين لهم سبب في قتل عثمان رضي الله عنه، ثم اجتمعوا وتفاوضوا واتفقوا في مساء ذلك اليوم على أنهم سوف يقتلون قتلة عثمان كانوا رؤساء قبائل، فلما سمعوا بذلك قالوا: لابد في آخر الليل أن نوقع قتالاً بيننا وبين جيش طلحة. ودبروا هذه المكيدة في آخر الليل وأوقعوا القتال ونشبت الحرب واستمرت يوماً أو يومين، وكانت عائشة في وسط المعركة على جمل لها، وسميت تلك الواقعة (واقعة الجمل) وقتل فيها طلحة والزبير وخلق كثير، وهي من الفتن، بعد ذلك انصرفوا بعد أن حصل ما حصل. هؤلاء أيضاً معذورون، فـ علي رضي الله عنه في هذا القتال لم يكن متعمداً، وما أراد بذلك إلا جمع الكلمة وردهم حتى يبايعوه، بعد ذلك مناصري عثمان والزبير وطلحة ومن معهم ما أرادوا القتال، لكن الذي دبره هم أولئك الثوار، إذاً فهم محمولون على أنهم مجتهدون فنعذرهم بذلك، ونقول: القاتل منهم والمقتول مجتهد. ولا نعيب أحداً منهم، ونكل أمرهم إلى الله تعالى. وبعد ما استقر أمر علي في العراق وبايعه أهلها واستتب له مر بلغه خبر أهل الشام الذين تحمسوا لقتل عثمان وجاؤوا بحدهم وحديدهم يريدون أن يقاتلوا قتلة عثمان، فالتقوا بموضع يقال له (صفين) ، وقالوا لـ علي: سلم لنا قتلة عثمان فقال: بايعوني، فإذا اجتمعت الكلمة عند ذلك نتمكن نحن وأنتم من أولئك القتلة ونقتلهم واحداً واحداً مهما كانوا. فامتنعوا فوقعت المعركة بين الفريقين أهل العراق وأهل الشام. تلك المعركة أيضاً معركة عظيمة حصل فيها من القتل خلق كثير، فنعذرهم أيضاً لذلك، فنقول: معاوية ومن معه مجتهدون في طلبهم للثأر، وعلي رضي الله عنه ومن معه مجتهدون في طلبهم الأمان والبيعة. ونكل أمرهم إلى الله، فنكف عما شجر بينهم، ولا شك أن هذا من الفتن التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم وبين أنها ستقع، وحث من أدركها على أن يبتعد عنها، وكان ممن اعتزل تلك الفتن: سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فإنه انعزل وصار في البادية وصار يستوحش من الناس، حتى إنه كان ينشد بيتاً يقول فيه: عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصوت إنسان فكدت أطير يعني: إنني أستوحش بصوت الإنسان وأستأنس بالذئاب، وأستوحش من الناس مخافة أن يدخلوني في هذه الفتن. وجاء كثير منهم إلى عبد الله بن عمر واستجاشوه وأثاروه، وقالوا له: ألا تقاتل معنا والله تعالى يقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:193] ؟ فقال عبد الله رضي الله عنه: (قاتلناهم حتى لم تكن فتنة، وأنتم تقاتلون حتى تكون الفتنة) فالذين اعتزلوا الفتنة هم الذين حازوا الصواب، وعلى كل حال نحمل ما وقع منهم على التأويل ونكلهم إلى الله عز وجل.

وصايا المصنف لأهل السنة والجماعة

وصايا المصنف لأهل السنة والجماعة قال الشيخ الحافظ أبو بكر الإسماعيلي رحمه الله تعالى في بيان اعتقاد أهل السنة أثناء كلامه على الصحابة ومحاسنهم وفضائلهم: [مع لزوم الجماعة والتعفف في المأكل والمشرب والملبس، والسعي في عمل الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإعراض عن الجاهلين حتى يعلموهم ويبينوا لهم الحق، ثم الإنكار والعقوبة من بعد البيان، وإقامة العذر بينهم وبينهم. هذا أصل الدين والمذهب، واعتقاد أئمة أهل الحديث الذين لم تشنهم بدعة ولم تلبسهم فتنة، ولم يخفوا إلى مكروه في دين، فتمسكوا معتصمين بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا عنه، واعلموا أن الله تعالى أوجب محبته ومغفرته لمتبعي رسوله صلى الله عليه وسلم في كتابه، وجعلهم الفرقة الناجية والجماعة المتبعة، فقال عز وجل لمن أدعى أنه يحب الله عز وجل {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] ، نفعنا الله وإياكم بالعلم، وعصمنا بالتقوى من الزيغ والضلال بمنه ورحمته] . انتهى ما قاله رحمه الله.

الوصية الأولى: لزوم الجماعة

الوصية الأولى: لزوم الجماعة في هذه الخاتمة وصايا، منها لزوم الجماعة، والمراد بالجماعة هنا جماعة المسلمين، وعبروا بالجماعة عن أهل الحق الذين هم على طريقة السلف وعلى طريقة النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كانوا قلة في بعض الأزمنة، ولو كثر المخالفون لهم فإنهم الجماعة، وهم أهل الحق والصواب، يقول ابن القيم في النونية لما ذكر إجماع أهل الحق: هذا وسادس عشرها إجماع أهل العلم أعني حجةً الأزمان من كل صاحب سنة شهدت له أهل الحديث وعسكر القرآن لا عبرة بمخالف فهم ولو كانوا عديد الشاء والبعران فلا عبرة بمن خالفهم ولو كانوا أكثر من الشاء والإبل، إنما العبرة بمن كان متمسكاً بالحق وكان على السنة والطريقة المحمدية، هؤلاء هم أهل الجماعة ولو قلّوا في بعض الأزمنة، وذلك لأن قدوتهم سلف الأمة وصحابة النبي صلى الله عليه وسلم. ورد في تفسير الفرقة الناجية قوله صلى الله عليه وسلم: (وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: الجماعة) ، وفي رواية: أنهم الجماعة، أي: جماعة المسلمين وسوادهم. وورد أيضاً في تفسيرهم في سنن الترمذي وغيره: (هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) . إن الذين يتمسكون بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم لا شك أن هؤلاء هم أهل السنة وهم أهل الجماعة، فهم الذين يلزم أن نتمسك بسيرتهم ونسير على نهجهم، ولا شك أن منهم أئمة الحديث، فإنهم أولى بأن يكونوا هم الجماعة وهم أهل السنة، وذلك لأنهم اشتغلوا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، واشتغلوا بمتابعة أوامره ونواهيه، فكانوا أولى بأن يتمسكوا بهذه السنة وبهذه الشريعة، لذلك أهل الحديث الذين جعلوه شغلهم لم يوجد فيهم مبتدع إلا ما ندر، وذلك لأن توغلهم في الحديث وسماعهم له يحملهم على أن يعملوا به ويتبعوه، لذلك نقول: الزموا السنة، وعليكم بسنة المسلمين، وعليكم بجماعة المسلمين. فإذا قيل: إن عندنا فرقاً وأحزاباً فأي الأحزاب أولى بأن يكونوا على الصواب قلنا: لا تنظروا إلى تلك الأحزاب، ولكن انظروا إلى أعمال هذه الأحزاب، فإذا كانت موافقة للسنة النبوية وللشريعة الإسلامية فاعملوا بها وكونوا معهم، فإذا كان هذا الحزب باطلاً فخذوا الحق الذي معه ودعوا الباطل. ومعلوم أنه في هذا الأزمنة كثرت الأحزاب حتى وصلت في بعض الدول إلى مائة حزب، أحزاب متعددة، وكل حزب يتسمى باسم، فننظر من هم أهل الجماعة من تلك الأحزاب ونتبعهم ونؤيدهم، ونصوب رأيهم، ونأخذ من كل حزب ما معه من الحق ونصوبه، ونقول: أصبتم في هذا وأخطأتم في هذا، وهذا الخطأ عليكم أن تتركوه. كذلك أيضاً إذا رأينا تلك الأحزاب وعرفنا أن أهدافهم ما هي إلا الحق وقصد الخير ونصر الدين حرصنا على أن نجمعهم ونقرب بينهم، ونبين لهم أنه لا خلاف بينهم ما دام كل منهم قصده الحق والصواب، فإذا رأينا -مثلاً- حزباً من الأحزاب يتسمى بأهل السنة شجعناهم، ولكن نحثهم على أن يتمسكوا بالسنة، وإذا رأينا حزباً آخر يسمى بأهل التوحيد شجعناهم وقلنا لهم: نعم ما تسميتم به، فتسموا بهذا وحققوا الاسم ووحدوا الله تعالى وأطيعوه. وإذا رأينا حزباً آخر يتسمى أنصار الدين. قلنا: هذه تسمية جميلة طيبة تنصر الدين. وإذا رأينا حزباً تسمى بأهل الإصلاح قلنا: نعم ما فعلتم، فاحرصوا على الإصلاح، وحققوا دينكم، وأصلحوا بين إخوتكم. وإذا رأينا جماعة يتسمون بأهل الدعوة قلنا: نعم ما فعلتم، فأنتم أهل دعوة، ولكن تكون دعوتكم إلى حقيقة الإسلام، وإذا رأينا من يتسمى بأئمة السلف أو أهل السلف أو أتباع السلف. قلنا: نعم ما فعلتم من هذا، ولكن عليكم أن تحققوا ذلك الاتباع، وأن تكونوا من السلف حقاً متبعين لهم، وهكذا بقية الفرق. ثم لا شك أنه قد يحصل بين هذه الأحزاب شيء من التفرق ومن الاختلاف، فنحثهم على أن يتقاربوا وأن لا يكون بينهم شيء من الشنآن ولا البغضاء والأحقاد حتى يجتمعوا وتكون كلمتهم واحدة؛ فإن ذلك أهيب لهم، وأقوى لمعنوياتهم، ويكونون مهابين عند الأعداء والمبتدعة. فالمبتدعة إذا رأوا كلمة أهل السنة والجماعة واحدة واتفاقهم ودعوتهم إلى شيء واحد هابوهم، ولم يتجرؤوا على أن يردوا عليهم ولا أن يضللوهم أو يبدعوهم. إذاً فنحن نقول: هنيئاً لكم أيها الجماعة، أنتم أهل السنة وأنتم أهل الجماعة، فاجتمعوا حتى تكونوا إخوة هدفكم واحد، كلكم طلبتم الحديث والعلم، وكلكم على عقيدة أهل السنة في الأسماء والصفات والأفعال وأركان الإسلام وأركان الإيمان وأسماء الإيمان والدين وفي الصحابة والتابعين وتابعيهم، ومتبعون للحق مع من كان لا تقولون ببدعة من البدع، وتتبرؤون من المبتدعة من جبرية وقدرية ومرجئة وأشعرية ومعتزلة ورافضة وصوفية أو قبوريين، تتبرؤن منهم جميعاً وتحقدون عليهم، إذاً فما الفرق بينكم؟ دعوا هذه الفروق اليسيرة التي تدعون أنها مخالفات، وتقاربوا فيما بينكم، واصطلحوا على أن تكون همتكم وأهدافكم واحدة حتى لا يقع التفرق الذي هو تحزب يؤدي إلى الاضطراب، فإن الله تعالى يعيب الذين يتحزبون، ويقول تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ البينات} [آل عمران:105] ، {مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:32] ذم لهم على هذه الأفعال: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [الروم:31] ، فالحاصل أن لزوم الجماعة يستلزم التمسك بالسنة الحقة.

الوصية الثانية: التعفف في المأكل والمشرب

الوصية الثانية: التعفف في المأكل والمشرب في الحقيقة هذه الوصايا عظيمة، ولو أعطيناها حقها لكانت كل وصية تعتبر درساً، وذلك لأنه جمع فيها مثل هذه الإرشادات العظيمة. والتعفف في المأكل والمشرب والملبس يريد به الاقتصار على الحلال والبعد عن الحرام والبعد عن المشتبه، ومعلوم أن التعفف معناه: التورع. وذلك لأن الكسب ينقسم إلى ثلاثة أقسام: حلال صريح، وحرام صريح، ومشتبه، وقد ذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان المشهور: (الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) ، لذلك أمرنا بالتعفف في المأكل والمشرب والملبس، أي أني لا أقدم على الشيء الذي أخشى أن يكون فيه شبهة وأن يكون من الحرام، بل أبتعد عنه حتى يسلم ديني، وذلك لأن التغذي بالحرام يكسب البدن سوء تغذية، فإذا تغذى بهذا الحرام أو بهذا المشتبه تغذى بدنه على شيء محرم مما يكون سبباً في عدم قبوله للنصائح وعدم انصياعه للأوامر والإرشادات وما أشبه ذلك، فيقال: هذا لا تؤثر فيه الموعظة. هذا لا يقبل النصيحة. هذا لا يتأثر بالإرشادات ولا بالنصائح ونحوها. والسبب هو أن لحمه نبت على سحت وتغذى بحرام فأثر ذلك في قسوة قلبه وصدوده عن الخير. إذاً فالتعفف سبب لين القلب، وكذلك الاقتصار على الحلال سبب لرقته ولإقباله على الله ولتقبله النصائح والعظات.

الوصية الثالثة: السعي في عمل الخير

الوصية الثالثة: السعي في عمل الخير الخير هو كل شيء محبوب عند الله تعالى، ولا شك أيضاً أن النفوس المطمئنة والطيبة تعرف الخير والشر بطبعها وإن لم يكن عليه نصٌ، ولكن هناك نفوس منتكسة، وبسبب المعاصي والخلافات انتكست تلك النفوس، فأصبحت ترى الشر خيراً والخير شراً، وترى الطيب خبيثاً والخبيث طيباً، أما النفوس المطمئنة الطيبة فإنها تعرف عمل الخير، ولا حاجة إلى التوسع في ذلك، فالخير هو كل ما يحبه الله تعالى، فالإحسان إلى الناس من الخير، ونصيحتهم من الخير، ودلالتهم على الله تعالى وإرشادهم إلى ما ينفعهم من الخير، وكذلك التوسعة عليهم ونفعهم وإرشادهم وإعانة الضعيف منهم وتجهيز المنقطع والصدقة عليهم، والتوسعة على الفقير والعاجز ونحوه، والشفاعة لمن يستشفع أو يطلب شفاعة، وكذلك أيضاً كف الشر والذب عنهم بدلالتهم على الشر وتحذيرهم منه، كل هذا داخل في السعي في عمل الخير، وعبر بالسعي؛ لأن السعي في الأصل هو شدة المشي وقوة المسير، كما قال الله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] ، ولكن السعي هنا سعي عملي، بمعنى أن الإنسان يسعى في عمل الخير، فإذا سعى في جمع المال الطيب سعى في تفرقته وتوزعته على المستحقين صار في وجه البر والخير، وإذا سعى في إصلاح المسلمين وسعى في التأليف فيما بينهم وإزالة ما عندهم وبينهم من الشحناء والبغضاء ونحو ذلك كل ذلك سعي في عمل الخير.

الوصية الرابعة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الوصية الرابعة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي أيضاً من واجبات الإسلام، والتوسع فيها لا مناسبة له. والمعروف هو ما أمر الله به ورسوله. والمنكر هو ما نهى الله تعالى عنه ورسوله، وسمي هذا معروفاً لأن النفوس الطيبة تعرفه وتألفه، وسمي هذا منكراً لأن النفس الطيبة تنكره وتستقبحه، فكل شيء تستقبحه النفوس الطيبة فإنه من المنكر، فيقال -مثلاً-: المسكرات من المنكرات، والفواحش من المنكرات كالزنا ومقدماته. ويقال: التبرج والاختلاط الذي يؤدي إلى فساد هذا من المنكرات، ويقال أيضاً: إن السباب واللعن والغيبة والنميمة والتنقص والسخرية والاستهزاء بالمسلمين وما أشبه ذلك من المنكرات. كما يقال: إن أضدادها من المعروف، فالإحسان إلى الناس ومدحهم، وإيصال الخير إليهم، والنصيحة لهم ودعوتهم إلى الله في الصلوات والمساجد وعمارتها كل ذلك من عمل الخير والمعروف، وكذلك ذكر الله تعالى، وتلاوة الكتاب، ودعا الله تعالى وإخلاص الدين له، وتعلم العلم وتعليمه والعمل به ونشره وما أشبه ذلك من المعروف. ثم الأمر يستدعي الإلزام، فإنك إذا أمرت فإنك تأمر بإلزام أو بإرشاد، فتارة تقول: أيها الإخوة! أيها المسلمون! أدعوكم إلى كل معروف، أدعوكم إلى أن تكونوا متحابين متوادين في ذات الله تعالى، أدعوكم إلى أن تكثروا من ذكر الله تعالى وتلاوة الكتاب، وأنهاكم عن المنكرات فلا تشربوا دخاناً ولا مسكراً، ولا تسهروا على لعب، ولا تستمعوا إلى غناء وباطل ونحو ذلك، فكل هذا من المنكر.

الوصية الخامسة: الإعراض عن الجاهلين

الوصية الخامسة: الإعراض عن الجاهلين وذلك حتى يعلمهم ويبين لهم الحق، قال الله تعالى: {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] ، فما دام أنهم جاهلون فأعرض عنهم حتى يتبين لهم الحق، ويتبين لهم أنهم على غير الحق، فإذا علمتموهم بعد ذلك فألزموهم، فبين ثم الإنكار والعقوبة يكونان بعد البيان وإقامة الحجة عليهم، ومنهم الجهلة الذين يصدر منه بعض الأشياء التي تدل على جفاء وإعراض ونحو ذلك، فهذه الكلمات تدل على أنهم جهلة، كما في قصة ذلك الأعرابي - عيينة بن حصن - حينما دخل على عمر رضي الله عنه، وكان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من قادة العرب وأشرافهم، وكان يتألفهم ويعطيهم من المال ما يتألفهم به، فلما قوي الإسلام في عهد عمر جعلهم كأفراد الناس، فجاء ودخل على عمر رضي الله عنه وهو خليفة المسلمين فقال له: هيه يا ابن الخطاب، فو الله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل. فـ عمر رضي الله عنه أغضبته هذه الكلمة، وكان عنده الحر بن قيس، وهو ابن أخي عيينة، فقال: يا أمير المؤمنين! إن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] ، وإن هذا من الجاهلين. قال: فو الله ما جاوزها عمر، وكان وقافاً عند كتاب الله تعالى.

معنى الإعراض عن الجاهلين

معنى الإعراض عن الجاهلين ذكر المؤلف في الوصايا التي ختم بها عقيدته الإعراض عن الجاهلين. والمراد بالإعراض عنهم عدم عتابهم وعدم الأخذ عليهم ما داموا جاهلين، ولكن لابد أن نعلمهم حتى يزول الجهل، ولا نتركهم على جهلهم، ولا نعرض عنهم دائماً، بل نبدأ بتعليمهم ونوصيهم بالتعلم، ولكن إذا أصروا وعاندوا ولم يقبلوا فإن الإعراض عنهم أولى حتى يشعروا من أنفسهم بالنقص، قال الله تعالى في صفة بعض أوليائه: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55] ، هكذا حكى الله عن بعض أوليائه، واللغو هو الذي يسمعونه من الكلام الباطل أو السيئ الذي يعمرون به المجالس من خوض فيما لا فائدة فيه ولا أهمية له من صياح ولغط ونحو ذلك، فأولياء الله الصالحون إذا سمعوا هؤلاء اللاغين أعرضوا عنهم، ثم نصحوهم وقالوا: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} ، أي: نحن بريئون منكم ومن أعمالكم التي منها هذا اللغو {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} ، وهذا دليل على أن أولئك الذين يخوضون في اللغو جاهلون. وكذلك أيضاً أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ثم أمر المؤمنين بالإعراض عن مجالس اللهو والباطل والاستهزاء والسخرية وما أشبهها، فأنزل على محمد صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68] . يعني: إذا لم تستطع أن تردهم وترشدهم وتهديهم إلى الصراط السوي وتدلهم عليه وتصرفهم عن هذا الخوض في آيات الله باستهزائهم بها فاجتنبهم ولا تجلس معهم حتى يخوضوا في حديث غيره. وهذه الآية نزلت في مكة خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان الخطاب -بغير شك- يعم جميع المؤمنين، فكأن المؤمنين لم يعملوا بها أو بعضهم، فعاتبهم الله في سورة مدنية فقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء:140] ، فعاتبهم عتاباً أشد من العتاب الأول بقوله: {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} يعني: إذا جلستم معهم وهم يخوضون في آيات الله فإنكم تكونون شركاء لهم في هذا الاسم. فهذه الآية عامة، فإذا جلست مع أناس في مجلس ورأيتهم يستهزئون ويسخرون بالملتزمين وبأهل الدين، أو يسخرون ببعض شعائر الإسلام ويلوكون بها ألسنتهم ويتنقصون بعض الشعائر وبعض أهل الخير ويعيبونهم بكذا وكذا، ويعيبون أهل الدين بجهلهم به كما عابت الكفار من جاء من مضر بأنهم رجعيون لم يتمسكوا بنص من الوحيين جاء به الأثر، فهؤلاء إن قدرت على أنك ترد عليهم وتبطل ما يقولونه وتقنعهم بأنهم على شر وأن عملهم عمل سيئ فإنك تفعل، أما إذا لم تقدر على ذلك فقم عنهم، وقل: إني بريء منكم لي عملي ولكم عملكم، أنتم بريئون مما أعمله وأنا بريء مما تعملون. فقم عنهم واترك مجالستهم حتى تسلم من الإثم ولا تعمك هذه الآية: {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} . فالحاصل أن الله تعالى أمر بالإعراض عن الجاهلين حتى يتعلموا ويُبين لهم الحق، فإذا أصروا على جهلهم وعنادهم فيجب الإنكار عليهم، والعقوبة بعد البيان، وذلك لأنهم بعد البيان إذا أصروا على التجاهل كانوا ليسوا بجهلة ولكنهم مارقين. والناس من حيث العموم أربعة أقسام، كما ذكروا ذلك عن الخليل بن أحمد، ذكروا أنه كان مرة يُقطع أبياتاً من الشعر، فاستهجنه ابنه فقال لتلامذته: إن أبي أصابه هوس أو جنون. فدخلوا عليه فذكروا ذلك له، فقال: الناس أربعة: الأول: عالم ويدري أنه عالم، فهذا كامل فسودوه. الثاني: عالم ولا يدري أنه عالم، فهذا غافل فنبهوه. الثالث: جاهل ويدري أنه جاهل، فهذا مسترشد فأرشدوه. الرابع: جاهل ولا يدري أنه جاهل، فهذا مارق فاتركوه. وهو شر الأقسام، ويسمى الجاهل المركب الذي يكون جاهلاً ويدعي أنه عالم، يقول بعضهم في وصفه: لما جهلت جهلت أنك جاهل جهلاً وجهل الجهل داء معضل ويقول الآخر: ومن أعجب الأشياء أنك لا تدري وأنك لا تدري بأنك لا تدري تعتقد أنك عالم وأنت في الحقيقة جاهل، وبين الجاهلين تقلب. فالحاصل أنا نعرض عن الجاهلين حتى يتعلموا ويبين لهم الحق، فإذا تعلموا وبُين لهم الحق ففي ذلك الوقت لا نتركهم، بل نُنكر عليهم ونعاقبهم ونقيم العذر بينهم، ونأخذ الحق منهم، وما دموا جاهلين فإننا نرشدهم ونعلمهم.

الأسئلة

الأسئلة

رد الاحتجاج بتقديم علي على عمر لأسبقيته بالإسلام

رد الاحتجاج بتقديم علي على عمر لأسبقيته بالإسلام Q إذا احتج الرافضة على تقديم علي على عمر رضي الله تعالى عنهما بأن علياً أسلم قبله بل هو من السابقين إلى الإسلام فكيف نرد عليهم؟ A لا يلزم أن يكون أولى بالخلافة منه؛ لأن الخلافة لها أهل يناسبونها، والإسلام له فضل، فـ علي رضي الله عنه بسبقه هذا له فضيلة السبق، ولكن معلوم أن الخلافه تستدعي حزماً وقوة وأهلية، فإذا رأى أبو بكر رضي الله عنه أن عمر أولى أن يكون هو الخليفة لذلك فإنه رأي له وجهه. ثم أيضاً نقول: لما أسلم عمر رضي الله عنه كان إسلامه فتحاً؛ إذ لما هداه الله تعالى ودخل في الإسلام انتصر المسلمون، أما علي رضي الله عنه فقد أسلم وهو صبي ابن ثمان سنين أو عشر، وأما عمر فأسلم وهو رجل، ولما أسلم كان الصحابة الذين أسلموا قبله نحو الأربعين وكانوا مختفين في دار الأرقم، فقال عمر علاما نختفي؟ ألا نخرج؟ نحن أولى بأن نخرج وبأن نظهر ديننا. فخرجوا في صفين في أحد الصفين حمزة وفي الصف الثاني عمر، فاستاء المشركون لما رأوا قوتهم، ثم لما استخلف رضي الله عنه كانت خلافته نصراً وأدى حزمه وقوته إلى انتصار المسلمين بسبب تجهيزه وتدبيره لهم في تلك المعارك. ثم بعد إسلامه حاز فضلاً، فكان قريناً للنبي صلى الله عليه وسلم لا يفارقه في سفر ولا حضر، حتى شهد له علي لما دفنه بجانب أبي بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم، يقول علي رضي الله عنه: (لقد ظننت أنهما سيدفنان إلى جانبه لأني كثيراً ما أسمع بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر، وذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر) فدائماً كانا مرافقين له وقرينين له. إذاً فهو له هذه المزية، وله هذه الأهلية التي جعلته وزيراً خاصاً للنبي صلى الله عليه وسلم.

رد الاستدلال على كفر الصحابة بحديث: (لا ترجعوا بعدي كفارا)

رد الاستدلال على كفر الصحابة بحديث: (لا ترجعوا بعدي كفاراً) Q يستدل الرافضة على كفر الصحابة -على حد زعمهم- بأدلة، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) . A هذا الحديث قاله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، ومعلوم أن هذا في حق المستحلين، ولو كان على ظاهره لكان أول من قاتل علي، ومعناه أن علياً قد وقع في هذا الوعيد؛ فإنه أول من وقع منه هذا القتال في معركة الجمل، فنحن نحمل الذين تقاتلوا في موقعة الجمل مع علي والصحابة الذين مع الزبير وطلحة من الصحابة والتابعين وغيرهم نحملهم على أنهم متأولون لم يستحلوا ذلك، فالحديث محمول على الاستحلال، وأيضاً فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه) ، فهذا يدل على أنه يقتله لأجل نفس القتل لا لأجل أمر آخر، وعلى كل حال فهذا عليهم لا لهم؛ لأن أول من بدأ بالقتال في هذه المعركة علي ومن معه.

لزوم الحق وترك التفرق

لزوم الحق وترك التفرق Q توجد في بلادنا كثير من الأحزاب، ومعلوم الخلاف بينهم وما هم عليه من التفرق، فهل لا بد لي من الانضمام إلى أحد الأحزاب، أم أعتزلها جميعاً وأحاول أن أنهج منهج النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة؟ A حاول أنت ومن معك أن تزيل ما بينهم من الخلاف وتنظر في مناهجهم وأعمالهم، فالحزب الذي يزين التوسل بالقبور والصلاة في المقابر ونحو ذلك هذا اجتنبوه، والذي يدعو إلى الثورات وإلى الخروج على المسلمين وتكفيرهم كما تفعل الخوارج اجتنبوه أيضاً، والذي يعتقد ما تعتقده المبتدعة كإنكار صفات الله تعالى وصفات الكمال ووصفه بصفات النقائص ونحوها اجتنبوه، والذي ينكر شيئاً من تعاليم الإسلام كمن ينكر الاجتماع على الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو يقول بخلق القرآن، أو ينكر صفة الكلام لله اجتنبوه إذا لم يرجع، وهكذا بقية الأحزاب التي عندها منكر، فإن كانوا كلهم موحدين وكلهم يعتقدون صفات الكمال لله، ومؤمنين باليوم الآخر وبما يكون فيه، وينكرون عبادة الأموات ودعاءهم من دون الله، وينكرون على من يقول بخلق القرآن أو يقول بأن الإيمان مجرد التصديق أو ما أشبه ذلك فلتحرص على أن تجمع بينهم حتى يصيروا جماعة واحدة وينسون ما بينهم من الخلاف، وأما إذا رأيت أنهم متمسكون بمذاهب باطلة فالزم الحق واعمل به ولو كنت وحدك.

مناصحة الرافضة

مناصحة الرافضة Q هل ينصح أهل السنة الرافضة ومجادلتهم أم بتركهم وعدم الالتفات إليهم؟ الجوب: أما كبارهم والمسنون منهم فالعادة أنهم متمسكون بمذهبهم ويصعب ردهم، وأما شبابهم الذين درسوا في المدارس الحكومية واختلطوا بالمدرسين وبزملاء من أهل السنة فهؤلاء يمكن أن يتقبلوا، فلا بأس بعرض الحق عليهم وبيانه، فإن قبلوا وإلا قامت عليهم الحجة، ولو أظهروا القبول ظاهراً نكل أمرهم إلى الله، ثم نعتقد أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.

حكم أخذ ما زاد على القبضة من اللحية

حكم أخذ ما زاد على القبضة من اللحية Q ظهرت في هذه الأيام ظاهرة انتشرت بين بعض الشباب الملتزم، وهي ظاهرة تقصير اللحية، وإذا أنكر عليه أحد قال: إن هذا وارد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما؛ حيث إنه كان يأخذ ما زاد عن القبضة، وابن عمر معروف عنه شدة حرصه على الالتزام بالسنة وفعلها، فما هو التوجيه في هذا؟ A قد قال بذلك كثير من العلماء، وقالوا: يجوز أخذ ما زاد على القبضة، ولكن الصحيح أنه لا يجوز، وابن عمر ما فعل ذلك إلا عند التحلل من عمرته، يقبض على لحيته ويأخذ ما زاد على القبضة، وهو متأول قوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح:27] ، فرأى أن هذا من التقصير الذي أمر الله به أو ندب إليه، ولكن هذا فعل اجتهاد منه. فنقول: أولاً: لم يكن ابن عمر يفعل هذا الفعل دائماً، وإنما يفعله إذا تحلل من عمرة أو حج. ثانياً: ابن عمر متأولٌ الآية، وقد تبين أن الرأس خص بما يستر بالعمامة، وأن اللحية والعارضين من الوجه فلا يدخلان في الرأس، ولو تأول من تأول. ثالثاً: العمل برواية صاحب هذا الرأي، فـ ابن عمر من رواة حديث: (اعفوا اللحى) ، فالعمل بروايته أولى من العمل برأيه، ورأيه محض اجتهاد، وعلى كل حال فهذا هو القول الصواب الذي تؤيده الأدلة.

حكم الذهاب إلى الكهنة والعرافين

حكم الذهاب إلى الكهنة والعرافين Q إن أبي مريض منذ سنوات، وهو يطالبني أن أذهب به إلى الكهنة والعرافين، أو أن أعطيه مبلغاً من المال ليذهب إليهم، وأنا أنهاه ولم أوافقه، فبماذا تنصحونني؟ A ننصحك بأن تقنعه بأن هذا لا يجوز، فقد ورد فيه الوعيد الشديد: (من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد) ، ثم احرص على أن تعالجه بالعلاج النافع عند الأطباء المعتبرين، أو القراء المخلصين الذين يستعملون القراءة النافعة بكتاب الله تعالى، أو بالأدعية النافعة، فإما أن تستعمل الأدوية المباحة عند أهل العلاج، وإما أن تستعمل القراءة المفيدة عند من يعلمها، وأما الكهنة ونحوهم فإياك وإياهم.

كيفية حساب من جمدت أجسامهم في الثلاجات

كيفية حساب من جمدت أجسامهم في الثلاجات Q بعض الأموات يبقى في ثلاجة الأموات سنة أو أقل أو أكثر للتحقيق أو غير ذلك، فهل يحاسب وهو على وجه الأرض، وإذا حوسب فكيف يعذب، وهل يجوز هذا الفعل؟ A لا شك أنه بعد موته وإن لم يدفن ولو بقي في ثلاجة أو نحوها أنه يجري عليه حساب الله، وذلك لأن حساب البرزخ يجري على الأرواح ولو كان الجسد قد فني، ولو كان الجسد مثلجاً أو محفوظاً أو نحو ذلك، والحكم يبقى على أن الروح هي التي تتألم أو تتعذب، وأما الجسد فإنه وإن كان قد تلبس أو صار فيه هذا الأمر الذي هو كونه مثلجاً أو نحو ذلك لا يتأثر ظاهراً ولو تأثر باطناً خفياً، فالله أعلم بكيفية ذلك.

شرح اعتقاد أهل السنة [17]

شرح اعتقاد أهل السنة [17] ختم المؤلف رحمه الله هذه الرسالة بأمور هي كالنصيحة لأهل السنة والجماعة، وهي نصيحة جامعة ووصية فذة مفيدة لمن عمل بها، أولها: أن العقيدة أساس الملة وأصل الدين، وثانيها: أن أهل الحديث كلهم متفقون على عقيدة واحدة، وهي التي تنبع من نصوص الكتاب والسنة، وثالثها: أن أهل السنة لا يسارعون إلى المعاصي، متمسكون بحبل الله المتين الموصل إلى مرضاة الله وجناته جنات النعيم، متبعون في التمسك به هدي نبيهم صلى الله عليه وسلم.

العقيدة أصل الدين وأساس مبناه

العقيدة أصل الدين وأساس مبناه قال المصنف رحمه الله: [هذا أصل الدين والمذهب] . جميع ما تقدم في هذه الرسالة جعله أصلاً، وأنت تعرف أن الأصل هو الأساس؛ لأنه الذي يُبنى عليه غيره كأساس الحائط والعمود، فإنه إذا تأصل وثبت تحمل ما يبنى عليه، وأما إذا كان على شفا جرف هار فإنه يسقط، كما قال تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} [التوبة:109] ، والجرف: هو ما يحفر في السيل، فإذا كان الإنسان بنى جداره قريباً من مجرى السيل، وجاء له السيل فحفر تحته وحمل التراب الذي تحته يبقى الجدار متعلقاً فيسقط، فهذا معنى قوله تعالى: {أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة:109] ، وهو مثال. فيقول: إن هذه القواعد وهذه العقائد هي أصل الدين -يعني: أساسه، ولاشك أن الأصل له فروع، فإذا ثبت الأصل واستقر فإن الأصول لها فروع تكون تابعة لها ومكملة، ولا شك أن من حافظ على الأصول حرص على الفروع، فمن عرف الله تعالى حق المعرفة، وآمن بقدرته وبعلمه وبسمعه وبصره وبعذابه وثوابه وبمنعه وعطائه، وتحقق بأنه قادر على أن يبطش بالعاصي وينزل به عقوبته، وبأنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير، وآمن بالبعث بعد الموت وما يكون فيه لا شك أنه تنبعث جوارحه إلى الطاعات، فهذا معنى كونه على أصل وأساس تنبعث جوارحه، فيبادر إلى الصلوات ويكثر من نوافل العبادات، ويكثر من ذكر الله تعالى في كل الحالات، ويؤدي الصدقات والزكوات وما أشبهها، ويكثر من صيام التطوعات وما أشبهها، ويحج ويعتمر ويجاهد ويذكر الله ويدعوه ويتصدق، ويدعو إلى الله تعالى ويتعلم ما ينفعه ويتدبر كتاب الله، لأن هذا الإيمان والأصل الأصيل الذي امتلأ به قلبه دفعه إلى هذه الأعمال كلها. وكذلك أيضاً لابد أنه يبتعد عن الآثام وأنواع الإجرام إذا علم وتحقق أن ربه شديد العقاب وأنه سريع الحساب وأنه عزيز ذو انتقام وأنه يغضب على من عصاه وينتقم منه حرص على أن يبتعد عن المعاصي. إذاً فالأصل الأصيل هو العقيدة، وإذا ثبتت هذه العقيدة فالفروع التي تتفرع عنها تابعة لها مستلزمة لها. وأما المراد بالمذهب فهو ما قال به إمام مجتهد ومات وهو عليه، فيسمى مذهباً له، ولكن معروف أن أئمة أهل السنة كلهم متفقون على العقيدة، وليس بينهم اختلاف في العقيدة، فمذهبهم في العقيدة واحد، وقد أشرنا إلى ذلك فيما تقدم.

أهل الحديث متفقون على عقيدة واحدة

أهل الحديث متفقون على عقيدة واحدة قال المصنف رحمه الله تعالى: [واعتقاد أئمة أهل الحديث] . أي أن هذا الأصل وهذا المذهب هو معتقد أئمة الحديث، وخاصة أهل الحديث؛ لأنهم أولى بالاتباع، واشتغالهم بالحديث وتكرارهم له وروايتهم له وحفظه وكتابته ونسخه وسفرهم في طلبه وحرصهم على جمعه وتبويبه وترتيبه وتنسيقه وشرح غريبه وصحيحه من سقيمه ونحو ذلك هذا الاجتهاد الذي بذلوه في الحديث مكنهم من أن يعتقدوا الاعتقاد الصحيح، فغيرهم ليس مثلهم، فإذا نظرنا إلى أولئك المبتدعة الذين خالفوا في هذه العقيدة وجدنا سبب ذلك عدم اشتغالهم بالحديث، وإذا اشتغلوا به فإنما هو اشتغال أولي ومُجرد نظر وسماع دون أن يكون ذلك شغلهم الشاغل. فأئمة الحديث كـ البخاري ومسلم والإمام أحمد وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي والإمام مالك، ومن قبلهم كـ شعبة بن الحجاج وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والليث بن سعد وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وعبد الرزاق بن همام ومحمد بن رافع وأشباههم هؤلاء جعلوا الحديث شغلهم الشاغل، صاروا يشتغلون به ليلهم ونهارهم لا يفترون ولا يملون، ويسافرون لأجل أن يتلقوا الأحاديث، ويحرصون على أن يأخذوها عن كبار السن، ويكتبونها ويجمعونها ويؤلفونها. فنقول: إنهم بذلك أهل لأن يكونوا أهل السنة والفرقة الناجية وعلى الطريقة المستقيمة، وعلى مثل ما عليه السلف والأئمة والصحابة والتابعون. قال المصنف رحمه الله: [لم تشنهم بدعة ولم تلبسهم فتنة] . البدع غالباً في غير أهل الحديث؛ لأننا إذا نظرنا إلى أولئك المبتدعة وجدناهم بعيدين عن الحديث، فمثلاً: بدعة التكفير التي هي بدعة الخوارج الذين يكفرون لا يعترفون بالأحاديث إنما يعكفون على القرآن، ومعلوم أن القرآن فيه مجملات، وهذه المجملات تحتاج إلى البيان من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله كلفه بذلك بقوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] ، فلما اقتصروا على القرآن، وأخذوا بمجمله وبظواهره كفّروا بالذنوب، واستباحوا الخروج على المسلمين، وقتلوا الأبرياء، ولو كانوا من أهل الحديث لسمعوا حرمة قتل المسلم والتبديع في ذلك: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث) ، (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) ، (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) لم يسمعوا بهذه، وإذا سمعوا بهذا لا يقبلوه. كذلك أيضاً بدعة القدرية الذين أنكروا علم الله تعالى، لم يسمعوا بالأحاديث التي فيها علم الله السابق، مثل حديث: (أول ما خلق الله القلم) ، وما أشبهه من الأحاديث، ولم يؤمنوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من نفس منفوسة إلا وقد علم مقعدها من الجنة والنار) ، وكذلك الإيمان بقدرة الله تعالى، ما قبلوا ذلك ولم يشتغلوا به. وكذلك أيضاً بدعة المعتزلة الذين أنكروا صفات الله تعالى وسموا ذلك توحيداً، ولو أنهم تأملوا الأحاديث كأحاديث النزول والرؤية، وصفات الأفعال، وصفات العلو التي ذكر فيها أن الله تعالى في السماء وما أشبه ذلك، ولو كانوا يشتغلون بالأحاديث لتقبلوها. كذلك أيضاً يقال في الرافضة: إنهم لم يشتغلوا بالأحاديث، وتسلطوا على الآيات التي فيها فضل الصحابة وانشغلوا بها عن الأحاديث، وأعرضوا عن السنة، وإلا فلو تأملوا الأحاديث التي في فضل الشيخين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وغيرهم لو تأملوا ما فيها لما صدوا عنها، ولعرفوا أنها حق ويقين، وأنها تدل على فضلهم ومزيتهم، ولكن لما لم يشتغلوا بها بقوا على جهلهم واعتقدوا ما اعتقدوه، ولو أن متأخريهم اشتغلوا بها، ولكن بعدما وقرت تلك البدعة في قلوبهم. ويقال كذلك في بقية البدع: إن من شانته البدعة ولبسته الفتنة فإنه ليس من أهل السنة، وليس من المتمسكين بما كانوا عليه، فالبدعة لا شك أنها تلبس أهلها والفتنة كذلك تلبسهم وتعمهم، ولا شك أنها أيضاً تحرفهم وتصرفهم وتصدهم عن الهدى.

أهل السنة لا يسارعون إلى مكروه

أهل السنة لا يسارعون إلى مكروه قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولم يخفوا إلى مكروه في دين] . يقال: خف فلان إلى الذنب. خف فلان إلى الغيبة. وخف فلان إلى النميمة. أي: أسرع إليها، كما يقال: خف إلى سماع الغناء واللهو والباطل وفعل الفواحش والنظر في المنكرات. فهؤلاء الذين وصفهم ما خفوا إلى المكروهات بل حجزوا أنفسهم، ولو كانت تلك المكروهات هي شيء من الدوافع النفسية، ولو كانت تشتهيها الأنفس وتتلذذ بها الأعين، ومعلوم أن الله تعالى حف النار بالشهوات، يقول في الحديث: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات) ، فالذي يندفع مع تلك الشهوات يكون من أهل النار، مثل الزنا المحرم، والغناء الذي يلتذ به، والنظر إلى الأفلام والصور الفاتنة، والنظر إلى النساء المتبرجات، والكبر، والإعجاب، والبطش، وأكل الأموال بغير حق، والسلب والنهب، والقتل، والاستطالة على الناس، وما أشبه ذلك، إذا عرف أن هذه الشهوات تدفعه إلى مكروه وإلى ما لا يحبه الله تعالى فإنه لا يخف إليها، بل يحجز نفسه ويملكها ويمسك بزمامها ويصرفها إلى الحق والخير، ولو كان الخير ثقيلاً على النفس، فمعلوم أن الطاعات تكون ثقيلة على كثير من النفوس وإن كانت خفيفة على أهل الخير، فقد ذكر الله تعالى أن الصلاة ثقيلة في قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] .

وجوب الاعتصام بحبل الله

وجوب الاعتصام بحبل الله قال المصنف رحمه الله تعالى: بعد ذلك يوصيكم فيقول: [فتمسكوا معتصمين بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا عنه] . كأنه يأخذ ذلك من الآية الكريمة في سورة آل عمران: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] إلى قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105] . والتمسك: هو الإمساك بالشيء القوي الذي يكون سبباً في النجاة، والحبل في الأصل: هو الخيط الذي يُدلى به الدلو، ويفتل بليف أو نحوه، ثم يدلى به الدلو في الآبار ويُغترف به الماء ونحوه، وقد يكون هذا الحبل سبباً في الخروج من الأزمات والمهاوي والحفر والدركات النازلة ونحو ذلك. فشبه الله تعالى القرآن والسنة والدين بالحبل الذي دُلي من السماء، وروي في بعض الأحاديث أن رجلاً قال: (يا رسول الله! إني رأيت حبلاً دُلي من السماء فصعدتَ فيه حتى علوت، ثم صعد به رجل بعدك حتى ارتفع عليه، ثم صعد به رجل ثالث فارتفع، ثم صعد به آخر فانقطع، ثم إنه عقد فصعد به حتى ارتفع) ، فأَوّلَ ذلك بالخلفاء الثلاثة بعده، وأنه يأتي عثمان وقد قُطع عليه؛ حيث إنه عاقه هؤلاء الذين عابوه، فجعل هذا الحبل حبلاً واضحاً حسياً وهو في الحقيقة حبل معنوي، أي أنه وسيلة إلى الصعود، كأنه دلي حبل من السماء، وأن الذي يتمسك به يصعد إلى الدرجات العالية، فلذلك يقال: تمسكوا به: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] ، فيأمرنا بالتمسك -أي: إمساكه باليدين بقوة-، والاجتماع على هذا الحبل وعدم التفرق.

وجوب محبة الرسول ومتابعته

وجوب محبة الرسول ومتابعته قال المصنف رحمه الله: [واعلموا أن الله تعالى أوجب محبته ومغفرته لمتبعي رسوله صلى الله عليه وسلم في كتابه] . يعني: أوجب له محبته إذا اتبع رسوله كما ذُكر في الآية الآتية. [وجعلهم الفرقة الناجية والجماعة المتبعة] . يعني: الذين اتبعوا رسوله صلى الله عليه وسلم هم الفرقة الناجية وهم الجماعة المتبعة، الفرقة الناجية من ثلاث وسبعين فرقة التي جاء في وصفها: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) يعني بأصحابه أتباعه وصحابته، فمن كان على مثل ما هو عليه فإنه من الفرقة الناجية، وكذلك الجماعة المتبعة، قد ثبت في بعض الروايات أنه قال: (كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة) ، وفسروا الجماعة بأنهم المجتمعون على الحق والخير، هؤلاء حقاً هم جماعة الإسلام وجماعة المسلمين، وقد سبق أن أشرنا إلى الأدلة على ذلك.

علامة محبة الرسول اتباعه

علامة محبة الرسول اتباعه قال المصنف رحمه الله تعالى: [فقال عز وجل لمن ادعى أنه يُحب الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]] . هذا خطاب لمن ادعى أنه يُحب الله وليس بصادق، ذكروا أن هذه الآية نزلت رداً على اليهود والنصارى الذين يدعون أنهم أحباب الله، حكى الله تعالى ذلك في سورة المائدة، قال تعالى: {وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18] أي: الذي نحبه ويحبنا {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} ، فلما ادعوا هذه الدعوى كان لابد من تضليلهم أو امتحانهم، فامتحنوا بهذه الآية في سورة آل عمران، وهذه الآية تسمى آية المحنة، هذا هو الصحيح، وبعضهم يسميها آية المحبة، والصواب أنها آية المحنة، أي أن الله تعالى امتحن بها من يدعي أنه يحبه، فاختبره وجعل لمحبته علامة فقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] ، إذا كنتم صادقين في أنكم تحبون الله فإن لمحبة الله تعالى علامة، وهي اتباع رسله وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، فحققوا الاتباع حتى تكونوا صادقين في هذا الادعاء. أما مجرد دعوى أنكم تحبون الله ومع ذلك لا تتبعون الرسل، ولا تطيعونهم فإن هذه دعوى. والدعاوي إن لم يقيموا عليها بينات أربابها أدعياء فلابد أن تقيموا عليها بينة، وهذه البينة جعلها الله تعالى اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، والاتباع ليس هو مجرد القول؛ فإن كثيراً من الناس يقولون: نحن نحب الله ونحن نحب الرسول. ثم نقول لهم: لماذا لا تتبعونه؟ فيقولون: نحن متبعون له ونحن مطيعون له. فيقال: قد نقصتم في الاتباع وقصرتم فيه، وقد فاتكم كذا وكذا، وقد ارتكبتم كذا وكذا، فليس هذا هو حقاً الاتباع الواجب، الاتباع الواجب هو أن تتمسكوا بسنته، وأن تطيعوه في كل دقيق وجليل حتى تكونوا صادقين في أنكم من أتباعه حقاً. وقد رتب الله تعالى على اتباعه الهدى، قال تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158] ، فإذا رأيت الذي يسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اعفوا اللحى) ومع ذلك يحلقها فقل له: أين الاتباع؟ لم تكن من المتبعين حقاً. وإذا رأيت الذي يطيل اللباس ويجر لباسه خيلاء فقل له: ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء) ، فأين الاتباع؟ وأين الموافقة؟ وأين الطاعة؟ وهكذا إذا رأيت الذي يتكبر ويفتخر بأعماله أو بجاهه وبمنصبه فقل له: ألست تسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) ، فأين الطاعة؟ وأين الاتباع؟ إذاً لست حقاً من المتبعين له. والأمثلة على ذلك كثيرة. ثم نقول كذلك في جميع الذين يعصون الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك في جميع الذين يتركون الطاعات وهم مع ذلك يقولون: نحن أتباع الرسول، ونحن من أمة محمد ومن أهل شريعته. فنقول: لم تحققوا هذا الانتساب والانتماء، ولم تحققوا ما ادعيتموه من أنكم تحبون الله ورسوله.

علامات صحة دعوى المحبة لله وللرسول

علامات صحة دعوى المحبة لله وللرسول ذكر عن بعض السلف أنه قال: (من ادعى محبة الله ولم يوافقه فدعواه باطلة) ، ومتى تكون دعواه صحيحة؟ إذا وافق أوامر الله وأوامر رسوله، وسأل بعضهم ذا النون المصري -وهو من التابعين-: متى أحب ربي؟ فقال: إذا كان ما يغضبه أمر عندك من الصَبِر. والصَبِر هو هذا النبات مر المذاق، يعني: إذا كانت المعاصي أمرّ عندك من الصَبِر، ولو كانت تشتهيها النفوس وتندفع إليها، ولكنك تكرهها لأن الله تعالى حرمها. ومعلوم أن الإنسان إذا كانت المعاصي عنده كريهة كانت الطاعات عنده لذيذة وسهلة ومحبوبة؛ لأن ربه تعالى أمر بها، ولأن الله تعالى حبب إلى عباده الطاعات وكره إليهم الكفر، كما في قول الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات:7] حببه إليهم فصار لذيذاً عندهم، ولو كانت تلك العبادات ثقيلة، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل لمحبة الله تعالى علامة، وهي مأخوذة من هذه الآية: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] ، ففي الحديث الصحيح يقول: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار) ، فجعل هذه الثلاث علامة على صدق المحبة وعلى صدق الإيمان وحلاوته، ومعلوم أنه إذا أحب الله ورسوله فلابد أن يُطيعه، ولابد أن يمتثل أوامره، فإذا لم يمتثل فدعواه كاذبة، ولذلك يقول بعضهم: تعصي الإله وأنت تزعم حُبه هذا عجيب في الفعال بديع لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع فالمحبة الصادقة تستلزم طاعة المحبوب وموافقته واتباع ما أتى عنه، هذه حقاً هي علامة من يحب الله تعالى ورسوله.

فائدة اتباع الرسول

فائدة اتباع الرسول جعل الله تعالى لاتباع الرسول فائدتين في هذه الآية، فقال تعالى: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] ، ثم قال بعدها: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:32] . فهاتان فائدتان عظيمتان لمحبة الله تعالى ولمحبة رسوله، وهاتان الفائدتان لا يقدر قدرهما إلا الله. الأولى: (يحببكم الله) ، والثانية: (يغفر لكم ذنوبكم) ، فما أعظمها من فائدة! كل منا يود أن الله تعالى يحبه، ويود أن الله يغفر له، فما أسهل ذلك السبب الذي تحصل به على محبة الله تعالى ومحبة رسوله! إنه يسير، وهو في هذه الآية: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} ، ولا شك أن من أحبه الله تعالى فإنه يوفقه لكل خير، ويسدد خطاه، ويرشده ويثبته، فلا يميل إلى معصية ولا يفعل ذنباً، ولا يخل بطاعة بل تكون أفعاله كلها من الطاعات، وقد استدل على ذلك بالحديث القدسي الذي في صحيح البخاري، وهو قوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي بتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها) ، وفي بعض الروايات: (فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله كترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه) . فالشاهد أن الله في هذا الحديث جعل التقرب بالنوافل بعد الفرائض سبباً لمحبة الله تعالى للعبد، فما بينك وبين أن تكون من أحباب الله إلا أن تتقرب إليه بالنوافل بعد الفضائل، فالمحافظة أولاً على الفرائض، كالصلوات والصدقات والزكوات والصوم والحج وما أشبه ذلك، وكذلك التقرب إلى الله بترك المحرمات كلها والابتعاد عنها، هذا هو الأول. وبعد ذلك تتقرب إلى الله تعالى بالنوافل بترك المكروهات وبفعل المستحبات التي رغّب الله تعالى فيها وأحبها، مثل نوافل الصلوات، وهي كثيرة، كصلاة الليل والضحى والرواتب وما أشبهها، ونوافل الأذكار التي تُفعل في خارج الصلاة من الذكر والدعاء والتسبيح والتكبير والتحميد، وما أشبه ذلك بواسطة قراءة القرآن، والقراءة منها واجب كما في الصلاة، ومنها ما هو مسنون وهو ما يكون خارج الصلاة، وكذلك نوافل الصدقات، والصيام، والجهاد، والحج، والقربات وما أشبه ذلك، كل هذه تسمى تطوعات. (وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه) ، وذكر أنه إذا تقرب إليه بهذه القربات فإن الله يحبه، ثم بعد أن يحبه تحصل له هذه الفائدة، وهو أن تكون حركاته كلها فيما يريده الله ويحبه، فلا يتكلم إلا بطاعة، ولا يستمع إلا إلى خير، ولا ينشط إلا إلى حسنات أو فعل طاعات، ولا يعمل بيديه إلا ما يرضي ربه سبحانه، ولا ينظر بعينه إلا إلى شيء يُفيده وينفعه، فيكون الله تعالى قد وفقه لما أحبه.

مكملات محبة الله ورسوله

مكملات محبة الله ورسوله معلوم أن محبة الله تعالى لها مكملات، فمحبة الله لا شك أنها واجبة، وكذلك محبة رسوله عليه الصلاة والسلام، وعلامتها أن يبغض كل ما يشغله عن طاعة الله، ذكروا ذلك في تفسير الآية في سورة التوبة عند قول الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا} [التوبة:24] . يعني: إذا أحببتم شيئاً من هذه الأصناف الثمانية وقدمتموها على محبة الله ومحبة رسوله ومحبة الجهاد في سبيله فتربصوا وانتظروا ما يحل بكم؛ فقد قدمتم ما ليس بمقدم، وفضلتم ما ليس بفاضل، وأحببتم عرض الدنيا وقدمتموه على محبة الله تعالى ومحبة رسوله ومحبة ما يحبه الله تعالى. فعُرف بذلك أن هذه الخصلة التي هي قوله تعالى: {إن كنتم تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] أن فيها أجراً كبيراً، وأن الذي تحصل له محبة الله يحصل له الخير الكثير. وقد ذكروا في الحديث الذي في قصة خيبر عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يده) فقالوا: فيه حث لكل منهم على أن يكون هو الذي يأخذ هذه الراية، وكلهم يقول: نحن نحب الله ورسوله، ولكن نريد الخصلة الثانية، وهي أن الله يُحبنا وأن رسوله يُحبنا، فمن حصلت له هذه فقد حصلت له الرتبة العالية، ولذلك بات الناس يخوضون أيهم يُعطاها، حتى قال عمر: (ما تمنيت الإمارة إلا يومئذ) ، أراد بذلك أن يكون من الذين يحبهم الله ورسوله، فعرفنا بذلك أن من أحبه الله تعالى ورسوله فقد أراد به خيراً. وأما الخصلة الثانية وهي المغفرة في قوله تعالى: {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] فهي أيضاً خصلة عظيمة نافعة، فما ذاك إلا أن الذي يحصل على مغفرة الله تعالى لذنبه يفوز بالدرجات العلى وبالأجر العظيم. وإذا قال قائل: أنا لست مذنباً فكيف تُغفر ذنوبي؟ نقول: (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون) ، فليس أحد منا إلا وعليه ذنب أو ذنوب، وليس أحد يأتي يوم القيامة إلا وعليه ذنوب، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعد من الذنوب الغفلة عن ذكر الله تعالى، فيبادر بعد ذلك بالاستغفار، يقول ابن عمر رضي الله عنه: (كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد يقول: رب اغفر لي وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم مائة مرة) يقول: (رب اغفر لي) ، والله تعالى قد غفر له، فقال تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2] ، ولكن يعد الغفلة ذنباً، فيقول في بعض الأحاديث: (إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة) ، ومعنى قوله: (يغان على قلبي) يعني: يعتري قلبه شيء من الغفلة عن ذكر الله تعالى. فجعل هذه الغفلة ذنباً فبادر بعدها إلى الاستغفار، فنحن أولى بالاستغفار وأولى بطلب المغفرة وبالإتيان بأسبابها، فما أكثر غفلتنا! وما أكثر سهونا ولهونا! وما أكثر الخطايا التي نتحلمها! يتحمل الإنسان خطاياه بلسانه، وبعينه، وبسمعه وببصره وبيديه وبرجليه وبفرجه وبمأكله وبمشربه وبأعماله وغيرها، فهذه الخطايا وهذه الذنوب تحتاج منه إلى طلب المغفرة، إلى أن يطلب الله تعالى وهو صادق في أن يغفر له، وإلى أن يأتي بالأسباب التي تجعله من أهل المغفرة، ومن جملتها: الاتباع {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] . والغفر أصله الستر والمحو، أي: ستر الذنوب وإزالة آثارها، ومنه سمي المغفر الذي يُلبس على الرأس في الحرب؛ لأنه يستر الرأس، ولأنه يكون سبباً في ستر الرأس من السلاح ونحوه، فالحاصل أنا إذا قرأنا هذه الآية عرفنا أهميتها، وعرفنا أن الإنسان عليه أن يحقق الاتباع للرسول صلى الله عليه وسلم حتى يكون من أهلها. فهذا آخر ما يتعلق بهذه الرسالة، والله أعلم، وصلى الله وسلم على محمد.

الأسئلة

الأسئلة

حكم إجابة دعوة من في كسبه شبهة

حكم إجابة دعوة من في كسبه شبهة Q ما حكم إجابة دعوة من دخله حرام خالص، أو مختلط بحرام، أو مشتبه فيه؟ A يفضل للإنسان أن يُنزه نفسه عن الغذاء الذي فيه شبهة ولو كان من غيره، وأن لا يدخل بطنه إلا الشيء الذي يتحقق أنه حلال، فمثل هؤلاء الذين في أكلهم أو كسبهم حرام أو شبه حرام يُفضل عدم إجابة دعوتهم وأكل طعامهم وقبول هداياهم وعطاياهم، نقول: يُفضل، ولا نقول: حرام، بل لا يصل إلى درجة الحرام، والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجيب دعوة اليهود، وكان كثير من اليهود يدعونه ويهدون إليه فيأكل عندهم، مع أن الله ذكر أنهم يأكلون الربا ويأكلون أموال الناس، كما في قوله تعالى: {وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء:161] ، فهذا مما يدل على أنه يجوز؛ فيكون الإثم على المكتسب، وكذلك كان يقبل الهدايا من رؤساء الكفر، فقد قبِلَ الهدايا من المقوقس وغيره من السلاطين، وجعل إثم كسبها عليهم.

نصيحة في سبل طلب العلم ونشره

نصيحة في سبل طلب العلم ونشره Q لا يوجد في بلدنا علماء ولا طلبة علم نتعلم على أيديهم، ونخشى على أنفسنا الضياع، فما هو الإرشاد في مثل هذه الحالة؟ A في هذه الأزمنة -والحمد لله- تيسرت الوسائل التي يحصل بها العلم، فلم تعد مقتصرة على تلقيه عن طلبة العلم والعلماء، بل هناك وسائل كثيرة توصل إلى العلم، مع أننا نقول: لا يخلو -والحمد لله- بلد من علماء، والعلماء الذين في هذا الزمن قد يكونون أكبر رتبة ومنزلة من العلماء الكثيرين في عهد الرسول صلى الله عليهم وسلم الذين أسلموا وتعلموا شيئاً يسيراً من العلم وصاروا علماء. ثم نقول: أولاً: عليكم بإرشادات العلماء في كل زمان ومكان، وعليكم باقتناء كتب السلف والعلماء الربانيين الذين هم الأسوة والقدوة في سلف الأمة، وكتبهم متوفرة والحمد لله، وكذلك عليكم بالاتصال بالعلماء هاتفياً أو مكاتبة، وتسترشدون منهم فيرشدونكم إلى اقتناء ما يزيل عنكم الجهل، وما تتمكنون به من العلم بواسطة الكتب والرسائل أو الأشرطة والنشرات أو ما أشبهها، أو بعضكم من بعض، فأنا أعتقد أنكم إذا سمعتم ما يتعلق بالحديث وبالأصول وبالعقائد وبالتوحيد فهذا الذي استفدتموه تعدونه ذخيرة تتذاكرونها فيما بينكم وتنشرونها مع زملائكم وإخوانكم في بلادكم، ثم تستعينون بما تيسر من الكتب التي تزودتموها وتقرؤونها في مجالسكم وتفيدون بها إخوتكم، وبذلك تحصلون على فائدة كبيرة فتفيدون وتستفيدون.

حكم الاستغفار لمن مات مشركا

حكم الاستغفار لمن مات مشركاً Q هل يجوز للمرء أن يدعو لقريب له مات وهو يدعو الأموات ويطوف بالقبور؟ A يكل أمره إلى الله ما دام أنه مات على هذا الحال ولو كان جاهلاً، فالله تعالى نهى عن الاستغفار للمشركين، ولا شك أن مثل هؤلاء يعتبرون مشركين؛ لأنهم ماتوا وهم على الشرك، فلا يجوز أن يستغفر لهم؛ لقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى} [التوبة:113] .

معنى الاستثناء في قوله: (إلا ما شاء ربك)

معنى الاستثناء في قوله: (إلا ما شاء ربك) Q يقول الله تبارك وتعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:107] ما المقصود بالاستثناء هنا؟ A هذا مما استأثر الله بعلمه، وقد تكلم العلماء فيه، وليس لنا أن نخوض في هذا الشيء بغير بينة، وقد تكلم عليه ابن القيم في (حادي الأرواح) وأطال الكلام عليه، وكذلك غيره من العلماء، وجمهور الأمة على أن الجنة والنار أبديتان لا تنقطعان ولا تفنيان، وهذا هو الذي عليه أهل السنة.

الاستدلال بجواز التوسل بحديث الأعمى

الاستدلال بجواز التوسل بحديث الأعمى Q ما قول السادة العلماء في حديث الأعمى الذي رواه الترمذي في التوسل، وما ردهم على من يقول: إن توجيهه بأن النبي صلى الله عليه وسلم أرشده إلى التوسل بدعائه توجيه لا يستقيم؛ لأنه ورد في روايات هذا الحديث المذكور لفظ: (اللهم! إني أتوسل إليك بنبيك) الحديث؟ A هذا تأويل بعيد، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لابد أنه دعا له بأن يشفى وأن يرد الله تعالى عليه بصره، ثم أمره بأن يدعو أن يتقبل الله تعالى دعوة نبيه، فكونه قال: (اللهم! إني أدعوك وأتوسل إليك بنبيك محمد نبي الرحمة. يا محمد! إني أتوسل بك إلى ربي بحاجتي تقضى) فالمراد: أتوسل بدعائك الذي دعوته، وأرجو الله تعالى أن يقبله حتى تقضى حاجتي. فهذا هو حقاً المعنى الصحيح، ولهذا كان ذلك يوم الخصائص، ولو كان كما يقول هؤلاء القبوريون: إنه يباح دعوة الأموات ودعوة الرسول لاستعمل هذا الدعاء كل من فقد البصر فعاد إليه بصره كما عاد إلى ذلك الأعمى، فلما وجد من استعمله فلم يبصر دلّ على أن استعماله بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز، وأنه خاص بحال حياته.

الرد على منكر علم الله المسبق

الرد على منكر علم الله المسبق Q يستدل من ينكر علم الله بقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد:31] الآية، فكيف نرد عليهم؟ A تفسر هذه الآية بأن المراد ظهور معلومات الله، قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} [البقرة:143] ، فالله تعالى عالم قبل أن يصرف الكعبة من يتبع الرسول ومن لا يتبعه، وكذلك هذه الآية، ولكن المراد: حتى يظهر من علم الله أنه يتبعه أو لا يتبعه. فالله تعالى بكل شيء عليم، ولأجل ذلك يذكر في كثير من الآيات سعة علمه، كما في قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22] . يعني: إن علم ذلك على الله يسير، وقال تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس:61] ، والآيات كثيرة.

شكر النعم لله تعالى

شكر النعم لله تعالى Q هل يشرع لنا أن نصلي صلاة الشكر في جماعة شكراً لله على أن منّ علينا بنعمة طلب العلم؟ وما هي حقيقتها؟ A ما أذكر صلاة الشكر، وإنما وردت سجدة الشكر عند تجدد النعم واندفاع النقم، ولكن إذا أراد الإنسان أن يتعبد ويحمد الله تعالى ويصلي له سواء منفرداً أو مع جماعة شكراً لله على أن وفقه وأعانه وسدده ورزقه علماً وعملاً، فالعمل الصالح ليس له حد محدود.

الفرق بين ذبائح الصدقة واللحم

الفرق بين ذبائح الصدقة واللحم Q درج أهل بلدتنا في شهر رمضان على ذبح الذبائح، كل منهم يذبح ذبيحة أو ذبيحتين صدقة عن والديه، ويدعو جيرانه وأقاربه عليها، ويستمرون على هذا طوال شهر رمضان، كل ليلة عند واحد منهم، فما حكم هذا العمل؟ A نرى أن هذه شاة لحم وليست صدقة ما دام أنه يدعو إليها جيرانه وأقاربه ونحو ذلك، وإنما الصدقة إذا أعطيت للفقراء والمستحقين والمساكين ونحوهم، فإذا ذبح شاة ودعا إليها إخوته وأقاربه وأحبابه وزملاءه وجيرانه -وهؤلاء غالباً ليسوا فقراء- فهو ما أراد بذلك إلا أن يتوسع في الأكل معهم، وأن يجتمعوا على المآكل كل ليلة عند أحدهم أو نحو ذلك، فمثل هذا يعتبر كرامة، ولا يعتبر في الظاهر صدقة.

حكم طبع الكتب بغير إذن المؤلف

حكم طبع الكتب بغير إذن المؤلف Q ما الحكم في رجل طبع كتيباً ونشره بغير إذن المؤلف، علماً أن هذا الرجل ما دفعه لطبع الكتيب ونشره إلا لما أثقلت كاهله الديون؟ A في كل حال ينبغي أنه لا يتجرأ على شيء من كتب الغير إلا بإذنه، فإذا رأى -مثلاً- أن صاحب الكتاب الذي طبعه لا يعتب عليه، وأنه سوف يوافق على طبعه له ونشره له وبيعه وأخذ شيء من قيمته ليوافي بها ديونه فلعله جائز، وعلى كل حال هذه أيضاً تختلف، فإذا كان الكتاب الذي طبعه منع صاحبه طبعه إلا وقفاً لله تعالى فلا يجوز طبعه وبيعه وجعله تجارة، وإذا كان صاحب الكتاب الذي ألفه منع أن يطبع إلا بحقوق الطبع كما يكتب على كثير منها فلا يجوز لأحد طبعه إلا أن يعطيه حق الطبع، وأما إذا رأى أن هذا الكتاب وهذا الكتيب مفيد، وأن الناس بحاجة إليه، وأنه قليل الوجود، وأن صاحبه لم يحتفظ بحق الطبع، وكان له أيضاً قصد أن يحصل على فائدة من طبعه يرد به دينه فلعل ذلك مما يباح.

مسئولية إبلاغ العلم لمن تحمله

مسئولية إبلاغ العلم لمن تحمله Q هل من كلمة لأولئك الذين يحضرون حلقات العلم، ثم ينطلقون بعدها إلى مجالسهم ومنتدياتهم مفتين معلمين؟ A ننصحهم ونقول لهم: إنكم قد حملتم علماً جماً، وقد حصلتم على خير كثير من العلوم التي تلقيتموها، فهذه العلوم التي تحملتموها، وكذلك أيضاً تحملتم غيرها في سابق أعماركم وأيامكم قد أصبحت أمانة في أعناقكم، حملتم هذا العلم فعليكم أن تبلغوه إذا رجعتم إلى البلاد التي تقيمون بها، سواءٌ أكانت تلك البلاد بحاجة إلى تلك العلوم حاجة ماسة أو ليست بحاجة، ولكن قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم حث على البلاغ بقوله: (ليبلغ الشاهد منكم الغائب) ، وحث على أن يُبلغ ما تحمله الإنسان، وقال: (نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً فوعاه وبلغه كما وعاه) ، أو كما في الحديث، فنوصيكم بأن تكونوا معلمين ومرشدين لكل من اتصلتم به واجتمعتم به وعرفتم أنه بحاجة إلى شيء من الفائدة أو شيء من العلوم، وليس ذلك خاصاً بحالة دون حالة، فإذا ركبت -مثلاً- في سيارة وتكلمت بفائدة مما استفدته أو عرفته وأفدت الحاضرين معك كان ذلك من جملة البيان والتبليغ، وإذا جلست في مجلس خاص أو عام فيه كبار السن أو صغارهم أو متوسطوهم فبدأت تحدثهم وتشرح لهم حديثاً أو تفسر لهم آية مما قد تحققت معناه وعرفته معرفة جيدة وعرفت مدلوله كان في ذلك بيان وتبليغ لما تحملته وتعلمته، وإذا رأيت أحداً من السفهاء أو الجهال يفعل منكراً عن جهل وأرشدته وبينت له ونصحته وأقمت عليه الحجة وذكرت له الدليل فرجع إلى نصيحتك كنت على خير، وكان لك أجر في ذلك، وهكذا. فمذاكرة هذه العلوم وتكرارها وتردادها سبب في بقائها وسبب أيضاً في الانتفاع بها، أما الذي يتعلم هذه المعلومات ثم بعد ذلك ينطلق إلى بلاده ويسكت عما تعلمه ولا يذاكر شيئاً، ولا يذكر شيئاً من العلوم، ولا يدع إليها ولا يكررها فإنها سرعان ما تذهب من ذاكرته ويذهب جهده بغير فائدة، فجهدك الذي بذلته وأقمت به في مدة لتتعلم سرعان ما يذهب وتنسى ما تعلمته إذا لم تُردده ولم تتذكره. وعلى كل حال فإن العلوم التي يتعلمها الإنسان أمانة في عنقه عليه أن يعمل بها، وعليه أن يدعو إليها، وعليه أن يزيد في تعلمها وتذكرها؛ فإن ذلك سبب في التوسع، فالعمل بالعلم وتعليمه سبب في توسعه، كما ورد في بعض الآثار أن (من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم) ، ويقول الشاعر في وصف العلم: يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفاً شددتا فاجتهد في البيان والتعليم للعلم الذي حققته، أما الشيء الذي أنت فيه على شك فلا تنشره إلا بعدما تتثبت أنه صحيح، وأنه كما تعلمت؛ فإن الإنسان قد يتوهم شيئاً فيذكره وينقله ويظهر أنه خطأ، أو فيه شيء من الخلل، فقد يكون قد تكلم بغير علم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

§1/1