استدراك وتعقيب على الشيخ شعيب الأرنؤوط في تأويله بعض أحاديث الصفات

استِدرَاك وَتَعقِيب عَلى الشَّيخ شُعَيب الأَرنَؤُوط في تَأوِيلِهِ بَعض أحَادِيثِ الصِّفَاتِ بقلم خالد بن عبد الرحمن بن حمد الشّايع قَرَأه وَعَلّقَ عَليه سَمَاحَة الشيخ العَلّامَة عبد العزيز بن عبد الله بن باز المفتي العَام للمملكةِ العَرَبيَّةِ السُّعودِيَّة دار بلنسية

استِدرَاك وَتَعقِيب عَلى الشَّيخ شُعَيب الأَرنَؤُوط في تَأوِيلِهِ بَعض أحَادِيثِ الصِّفَاتِ في تعليقه على "صحيح ابن حبان" و"رياض الصالحين" و"زاد المعاد" و"مسند الإمام أحمد" و"شرح السُّنَّة" بقلم خالد بن عبد الرحمن بن حمد الشّايع قَرَأه وَعَلّقَ عَليه سَمَاحَة الشيخ العَلّامَة عبد العزيز بن عبد الله بن باز المفتي العَام للمملكةِ العَرَبيَّةِ السُّعودِيَّة دار بلنسية

بسم الله الرحمن الرحيم استِدرَاك وَتَعقِيب عَلى الشَّيخ شُعَيب الأَرنَؤُوط في تَأوِيلِهِ بَعض أحَادِيثِ الصِّفَاتِ

الحقوق جميعها محفوظة للمؤلف - الطبعة الأولى 1419 هـ الصف والإخراج بقسم الصف بدار بلنسية دار بلنسية دار بلنسية للنشر والتوزيع - المملكة العربية السعودية - الرياض ص. ب 57242 - الرمز البريدي 11574 - هاتف وفاكس: 4821776 (01)

مقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته ولا في إلهيته ولا في أسمائه وصفاته، تعالى عن مماثلة المخلوقات، وتقدَّس عن النقائص والعيوب، هو -سبحانه- كما وَصَفَ نفسَهُ، وفوق ما يصفه خلقه. وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، بَعَثَه الله على حين فترةٍ من الرُّسل، ففتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غُلفًا، بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حقَّ جهاده حتى أكمل الله به الدين وأتمَّ به النعمة. فجزاه الله خير ما جزى نبيًّا عن أمته، وآتاه الوسيلة والفضيلة، وبعثه مقامًا محمودًا الذي وعده. ورضي الله عن آله وأصحابه الذين بلَّغوا للأمة عن نبيها

دينها، فما توانوا في ذلك وما بدَّلوا ولا غيروا، فكانوا على طريقة نبيهم ومنهجه، قال تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} [سورة البقرة الآية: 137]، فهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم -رضي الله عنهم وأرضاهم- وعمَّن سار على نهجهم واقتفى آثارهم إلى يوم الدين. أما بعد: فإنه لمَّا كانت معرفة الله سبحانه وتعالى بأفعاله وأسمائه وصفاته سببًا لحياة القلوب وطمأنينة النفوس وانشراح الصدور، وحيث أن ذلك لا يتأتى إلَّا بالوحيين وفهمهما على طريقة السلف الصالح الذين اقتفوا آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - وآثار صحابته وتابعيهم بإحسان، فإن مما ينبغي على الناصح لنفسه المريد لسعادتها ونجاتها في الدارين أن يقتفي تلك الآثار وأن يحذر مما يخالفها. ولمَّا كان من مقتضيات ذلك: تعلُّم العلم الصحيح وبثه في الأُمَّة، وتحذيرها مما يخالفه، ورأس ذلك: العلم بأسماء الله وصفاته على ما يليق بكمال ذاته العليَّة وجلال سلطانه العظيم سبحانه.

فقد رأيت أن أُنَبِّه إلى بعض الأخطاء العقدية التي وقع فيها أحد علماء عصرنا الفضلاء، والذي له من العناية بتحقيق الكتب القيِّمة ونشرها والتسبب في ذلك ما ينبغي أن يشهد له به كل منصف. أعني العالم الفاضل والشيخ الجليل شعيب الأرنؤوط -نفع الله به-. وليعلم أنني ما كتبت هذه الورقات إلا نُصحًا لله ولكتابه ولرسوله وللمسلمين -هذا ما أبتغيه وأرجوه- ولم أقصد بذلك حطًّا من شأن هذا العالم الفاضل، فإنني على علم وتقدير لجهوده في نشر كثير من تراث السلف وآثارهم، هو بنفسه مباشرة أو مشاركة أو إشرافًا على غيره، ولعلَّ ما أمضاه من سنوات في البحث والتحقيق تزيد على سنيِّ عمري منذ وُلِدت. ولكن لمَّا كانت الأخطاء الواقعة من الشيخ شعيب الأرنؤوط متعلقة بأمرٍ عظيم هو أغلى وأهم وأعظم ما لدى المكلف في هذه الحياة أَلَا وهو العقيدة، فقد رأيت أن الواجب بيانُ تلك الأخطاء والتحذيرُ من الوقوع فيها، خاصة وأنها مدونة في حواشي كتب عدد من الأئمة الأعلام الذين لا يرتضون هذا النهج بل ويحذرون منه في حياتهم، وفيما دَوَّنوه من مصنفات.

ثم إن هذه التحقيقات للشيخ شعيب الأرنؤوط يطَّلع عليها فِئام من الناس، فمنهم المميز لها العارف بعوارها، ومنهم من تنطلي عليه من غير تمييز، وقد سمعت أكثر من شخص يخبر أنه لم يميز ذلك الخطأ العقدي إلا بعد زمن، مع أنهم درسوا العقيدة الصحيحة وتَشَرَّبوها وفقهوها، فكيف بغيرهم! وقد يقول قائل: ألم يكن من الأنسب أن تكتب هذه الملحوظات إلى الشيخ شعيب الأرنؤوط لتنصح له سرًّا بينك وبينه؟ وجواب ذلك أن يُقال: إنَّ هذا أمرٌ حسن لو أن تلك الأخطاء العقدية كانت لدى الشيخ شعيب في نفسه، من غير أن يكتبها وينشرها على الملأ، أمَّا وقد نُشرت وهي مدونة منذ عشرات السنين ولم تصحح، فإن الواجب بيانها على الملأ، ليحذرها المسلمون ويتنبهوا لها. وإنني لا أُخفي استغرابي الشديد من تلك الأخطاء العقدية في باب الأسماء والصفات التي وقع فيها الشيخ شعيب الأرنؤوط، فقد جاء بيانها وتجليتها على نهج أهل السُّنَّة والجماعة في كتب قام الشيخ شعيب الأرنؤوط بتحقيقها

والتعليق عليها والتقديم لها. كما كتب على طُرَرِ تلك الكتب، ومنها: "شرح العقيدة الطحاوية" (¬1) للإمام ابنِ أبي العز الحنفي - رحمه الله - و"شرح السنة" (¬2) للإمام البغوي - رحمه الله - وغيرهما. وفي ختام هذه المقدمة أُنَبِّه لأمور: أولًا: أن الشيخ شعيب الأرنؤوط قد قرر في بعض تعليقاته عقيدة الأشاعرة في باب الأسماء والصفات بكلام من إنشائه هو، وفي البعض الآخر -وهو الأكثر- قرر تلك العقيدة بنقولات عن بعض العلماء المتقدمين ممن كانت له بعض الهفوات في هذا الجانب -رحمهم الله وعفا عنهم- أو ينقل كلامًا موهمًا عن بعض العلماء المحققين من أهل السُّنَّة، أو يكون مما استدرك عليهم وخولفوا فيه. وعلى كل هذه الأحوال فَتَبِعَةُ هذا الكلام مُنشأً أو منقولًا تكون على ناقله، ولو لم يكن يرتضيه ويذهب إليه، لنقل كلام أهل السُّنَّة والجماعة. ¬

_ (¬1) طبع مؤسسة الرسالة، بيروت. (¬2) طبع المكتب الإِسلامي، بيروت.

ثانيًا: أنني في هذه الرسالة لم أُرد الاستقصاء بذكر جميع تلك الأخطاء، ولكن أوردت أمثلة ونماذج تدل على نظائرها، بحيث أنه إذا وجد تعليق على مسألة من مسائل العقيدة -وخاصة في باب الأسماء والصفات- يلتزم القارئ الحذر ولا يأخذ ما يقرأه بالتسليم إلا بعد التحري والسؤال. وقد أَتْبَعْتُ تلك النماذج ببعض النقول عن بعض علماء أهل السنة والجماعة في تقرير بعض الصفات والرد على من تأولوها. وفيما ذكرته تنبيهٌ على ما تركته. ولا ريب أن مما يُحزن المرء أن كثيرًا من كتب أئمة السلف قام على طبعها ونشرها بعض من ليسوا على طريقتهم ومنهاجهم وخاصة في باب الأسماء والصفات، سواء كانوا محققين أم أصحاب دور نشر أو غيرهم، نسأل الله أن يُصلح المقاصد والنِيَّات. وأخيرًا: فإنني أُكرر ما ذكرته آنفًا بأنني لا أُريد بما كتبت تشهيرًا بالشيخ الأرنؤوط ولا تهوينًا بجهوده، ولا تَنَقُصًا له ولا إزراءً عليه ولا اتهامًا في الدين، معاذ الله، وما حال الشيخ شعيب الأرنؤوط إلَّا كحال علماء سبقوا تأولوا وأخطأوا، وكم

من مريدٍ للخير لم يُصِبْه، وما أحسن ما قال شيخ الإِسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " ... ثم إنَّه ما مِنْ هؤلاء إلَّا مَنْ له في الإِسلام مساعٍ مشكورة، وحسناتٍ مبرورة ... ما لا يخفى على مَنْ عَرَفَ أحوالهم، وتكلم فيهم بعلمٍ وصدقٍ وعدلٍ وإنصاف ... " (¬1). ولمَّا كانت الهفوات المستدركة متعلقة بأصل الدين ورأس ذلك صفات الرب تعالى وتقدَّس؛ فقد تعين الإنكار والبيان، وقد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" رواه الإِمام مسلم (¬2). ثم إن تقريرَ الحق وبيانَهُ مقدم على كل أحد مهما كان مقامه، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)} [سورة التوبة، الآية: 62]. ولو كان الخلاف في أمور فرعية واختيارات فقهية لكان المجال أوسع وأرحب. ¬

_ (¬1) ينظر: "العقل والنقل" (2/ 102). (¬2) "صحيح مسلم"، (49). كتاب الإيمان: باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان.

وما أحسنَ ما قاله الإِمام الحافظ الحسين بن مسعود البغوي لَمَّا أورد أَحَدَ أحاديث الصفات، قال: "وكذلك كُلُّ ما جاء به الكتاب أو السُّنَّة من هذا القبيل في صفات الله -تعالى- كالنَّفْسِ، والوجه، والعين، واليد، والرِّجْل، والإتيان، والمجيء، والنزول إلى السماء الدنيا، والاستواء على العرش، والضحك، والفرح. فهذه ونظائرها صفاتٌ لله -تعالى- وَرَدَ بها السمع يجب الإيمان بها، وإمرارها على ظاهرها، مُعْرِضًا فيها عن التأويل، مجتنبًا عن التشبيه، معتقدًا أنَّ الباري -سبحانه وتعالى- لا يشبه شيءٌ من صفاته صفات الخَلْق، كما لا تشبه ذاتُه ذواتِ الخلق، قال الله -سبحانه وتعالى-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [سورة الشورى، الآية: 11]. وعلى هذا مضى سلف الأمة، وعلماء السنة، تلقوها جميعًا بالإيمان والقبول، وتجنبوا فيها عن التمثيل والتأويل، ووكلوا العلم فيها إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- كما أخبر الله -سبحانه وتعالى- عن الراسخين في العلم، فقال -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)} [سورة آل عمران، الآية: 7].

قال سفيان بن عُيينة: كُلُّ ما وصف الله -تعالى- به نفسه في كتابه، فتفسيرُه قراءته، والسكوت عليه، ليس لأحدٍ أن يفسره إلا الله -عَزَّ وَجَلَّ- ورسلُه. وسأل رجلٌ مالكَ بن أنس عن قوله -سبحانه وتعالى-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [سورة طه، الآية: 5] كيف استوى؟ فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا ضالًا. وأمر به أن يُخرج من المجلس. وقال الوليد بن مسلم: سألتُ الأوزاعيَّ، وسُفيانَ بن عُيينة، ومالكَ بن أنس عن هذه الأحاديث في الصفات والرؤية، فقال: أَمِرُّوها كما جاءت بلا كيف. وقال الزُّهريُّ: على الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم. وقال بعض السلف: قَدَمُ الإِسلام لا تثبت إلا على قنطرة التسليم" ا. هـ (¬1). ¬

_ (¬1) "شرح السُّنَّة" (1/ 168 - 171) ط المكتب الإِسلامي، 1403هـ، بتحقيق الشيخين: زهير الشاويش، وشعيب الأرنؤوط.

ثم إني أشكر سماحة والدنا وشيخنا العلَّامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز -المفتي العام في المملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء- لاستجابته النظر في هذه الرسالة وقراءتي لها بين يديه، وتفضله بالمراجعة والتعليق في مجالس متعددة برغم كثرة مشاغله العامة في العمل الرسمي والدروس العلمية وغير ذلك، فجزاه الله خيرًا وجعله مباركًا أينما كان، وأعلى درجاته في العالمين، آمين (¬1). هذا، والله المسئول أن يُصلح أحوال المسلمين ويلزمهم كتابه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وأن يُصلح ولاة أمورهم من الحكام والعلماء ويوفقهم للاهتداء بالوحيين والعمل بهما، وأسأله سبحانه أن يتجاوز عن زللي وخطأي ويهديني للتي هي أقوم، وأن يجزي الشيخ شعيب الأرنؤوط خيرًا على تسببه في نشر الكتب النافعة للأمة، ويعظم ثوابه ويوفقنا وإياه للتي هي أقوم، وأن يغفر لي ولوالدي وللمسلمين والمسلمات يوم يقوم الحساب. ¬

_ (¬1) ملحوظة: تعليقات سماحة الشيخ عبد العزيز ختمتها بكتابة اسمه -حفظه الله ومتعه ومتَّع به-.

والحمد لله أولًا وآخرًا. والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد ولد عدنان وعلى آله وأصحابه الأطهار وتابعيهم بإحسان. {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [سورة الصافات، الآيات: 180 - 182]. وكتب: خالد بن عبد الرحمن بن حمد الشايع الرياض. ص. ب: 57242 تحريرًا في 15/ 1 / 1418هـ

الموضع الأول تأويل صفة اليد لله -سبحانه- في التعليق على "رياض الصالحين" للإمام النووي - رحمه الله -

الموضع الأول تأويل صفة اليد لله -سبحانه-

الموضع الأول تأويل صفة اليد لله -سبحانه- في التعليق على "رياض الصالحين" للإمام النووي - رحمه الله - * لمَّا أورد المؤلف الإِمام النووي (¬1) - رحمه الله - حديث أبي هريرة -رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تمرةٍ مِنْ كَسْبٍ طيِّبٍ، ولا يَقْبَلُ اللهُ إلَّا الطَّيِّبَ، فإنَّ اللهَ يَقْلُهَا بِيَمِينِهِ، ثم يُرَبِّيها لصاحِبِهَا، كما يُرَبِّي أَحَدُكُم فَلُوَّهُ، حتَّى تكونَ مثلَ الجَبَل" متفق عليه (¬2). ¬

_ (¬1) "رياض الصالحين" (ص 276). رقم الحديث (561) ط مؤسسة الرسالة، بيروت 1408 هـ. (¬2) "صحيح البخاري" (1410) كتاب الزكاة: باب لا يقبل الله صدقة من غُلول، ولا يقبل إلَّا من كسب طيب، و (7430) في كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [سورة المعارج، الآية: 4]، وقوله -جلَّ ذكره-: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [سورة فاطر، الآية:10]. و"صحيح مسلم" (1014) كتاب الزكاة: باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها.

• قال الشيخ شعيب الأرنؤوط في الحاشية: قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (3/ 222): قال المازري: هذا الحديث وشبهه إنما عبَّر به النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما اعتادوا في خطابهم، ليفهموا عنه، فكنَّى عن قبول الصدقة باليمين، وعن تضعيف أجرها بالتربية، وقال الترمذي: قال أهل العلم من أهل السنة والجماعة: نؤمن بهذه الأحاديث، ولا نتوهم فيها تشبيهًا، ولا نقول: كيف؟ انتهى ما نقله الشيخ شعيب الأرنؤوط. * قلت: وكلام الترمذي - رحمه الله - فيه إثبات صفات الله التي وصفَ بها نفسه أو وصفه بها نبيه - صلى الله عليه وسلم - من غير أن يشبَّه الله فيها بأحد من خلقه، وتنزيهه عما لا يليق به تعالى من غير تعطيل، وكلام الترمذي ذلك هو في "جامعه" وله تتمة وسأنقله بتمامه بعد قليل -إن شاء الله تعالى-. أما ما نقله الشيخ شعيب الأرنؤوط عن الحافظ ابن حجر عن المازري فلا يتفق مع ما قرره السلف، فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - خاطبهم بلسانٍ عربي مبين، ودلَّ بوضوح كما

دلَّت نصوص أخرى على إثبات صفة اليد لله تعالى. وسياق الحديث دلَّ -أيضًا- على أن الله تعالى يقبل تلك الصدقة قبولًا حسنًا، ويجزل العطاء لصاحبها ويضاعف مثوبته، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} الآية [سورة البقرة، الآية: 245]. ولسماحة الشيخ العلاَّمة عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله ونفع به- حاشية نفيسة عَقَّب بها على ما نقله الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في "فتح الباري" من نقولات في معنى "فإن الله يقبلها بيمينه" بأن ذلك كناية عن الرضى والقبول أو سرعة القبول، وليس المراد بقوله: "بيمينه" الجارحة، قال الشيخ ابن باز معقبًا على ذلك: "هذه التأويلات ليس لها وجه، والصواب إجراء الحديث على ظاهره، وليس في ذلك -بحمد الله- محذورٌ عند أهل السنة والجماعة، لأن عقيدتهم الإيمان بما جاء في الكتاب والسنة الصحيحة من أسماء الله -سبحانه- وصفاته وإثبات ذلك على وجه الكمال، مع تنزيهه -تعالى- عن مشابهة المخلوقات، وهذا هو الحق الذي لا يجوز العدول عنه، وفي هذا الحديث دلالة على إثبات اليمين لله -سبحانه وتعالى-

وعلى أنه يقبل الصدقة من الكسب الطيب ويضاعفها، وانظر ما يأتي من كلام الإِمام الترمذي يتضح لك ما ذكرته آنفًا، والله الموفق". ا. هـ (¬1). وكلام الترمذي الذي يقصده الشيخ ذكره الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في شرح الحديث المذكور ولكن باختصار، ونقله الشيخ شعيب الأرنؤوط على اختصاره، ويا ليته اقتصر على ذلك فإنه وافٍ بالمقصود، وأنا أنقله لك هنا بتمامة كما ذكره الترمذي - رحمه الله - في جامعه كاملًا. قال - رحمه الله - معقبًا على الحديث المذكور آنفًا: "وقد قال غير واحدٍ من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبه هذا من الروايات من الصفات، ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، قالوا: قد ثبتت الروايات في هذا، ويُؤْمَنُ بها، ولا يُتَوَهَّمُ ولا يُقَال: كيف، هكذا روي عن مالك وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث: أَمِرُّوها بلا كيف، وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات، وقالوا: ¬

_ (¬1) حاشية "فتح الباري" (3/ 280) ط السلفية الأولى.

هذا التشبيه، وقد ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ في غير موضع من كتابه اليد والسمع والبصر، فتأولت الجهمية هذه الآيات، وفسروها على غير ما فسَّر أهل العلم، وقالوا: إن الله لم يخلق آدم بيده! وقالوا: إن معنى اليد هنا القوة! وقال إسحاق بن إبراهيم: إنما يكون التشبيه إذا كان يَدٌ كَيَدٍ، أو مِثْلُ يَدٍ، أو سَمْعٌ كَسَمْعٍ، أو مِثْلُ سَمْعٍ، فإذا قال: سمع كسمع أو مثل سمع فهذا التشبيه، وأما إذا قال كما قال الله تعالى: يَدٌ وسَمْعٌ وبَصَرٌ، ولا يقول كيف، ولا يقول: مثل سمعٍ ولا كسمعٍ، فهذا لا يكون تشبيهًا، وهو كما قال الله تعالى في كتابه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [سورة الشورى، الآية: 11]. ا. هـ (¬1). ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي- مع شرحه الأحوذي لابن العربي" (3/ 165 - 166). ط بيروت. وينظر -أيضًا- "كتاب التوحيد" (1/ 118 وما بعدها) للإمام أبو بكر بن خزيمة - رحمه الله - و"مختصر الصواعق المرسلة" (ص 370) للعلَّامة ابن القيم - رحمه الله - ط دار الحديث بالقاهرة، تحقيق: سيد إبراهيم.

الموضع الثاني تأويل صفة الغضب والرضا والرحمة في التعليق على "رياض الصالحين" للإمام النووي - رحمه الله -

الموضع الثاني تأويل صفة الغضب والرضا والرحمة

الموضع الثاني تأويل صفة الغضب والرضا والرحمة في التعليق على "رياض الصالحين" للإمام النووي - رحمه الله - * لمَّا أورد المؤلف النووي (¬1) - رحمه الله - حديث أبي هريرة -رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لمَّا خَلَقَ الله الخَلْقَ، كتب في كتاب، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي" وفي رواية: "غَلَبَتْ غضبي" وفي رواية: "سبقت غضبي" متفق عليه (¬2). ¬

_ (¬1) (ص 220) الحديث رقم (419). ط مؤسسة الرسالة، بيروت، 1408هـ. (¬2) "صحيح البخاري" (3194) كتاب بدء الخلق: باب ما جاء في قول الله تعالى {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [سورة الروم، الآية: 27]، -وفي مواضع أخرى- "صحيح مسلم" (2751) كتاب التوبة: باب سعة رحمة الله تعالى، وأنها سبقت غضبه.

• علَّق المحقق الشيخ شعيب الأرنؤوط على قوله: "سبقت غضبي" بما يلي: "غضب الله ورضاه يرجعان إلى معنى الإرادة، فإرادته الإثابة للمطيع تسمى رضي ورحمة، وإرادته عقاب العاصي وخذلانه يسمى غضبًا، والمراد بالسبق هنا: كثرة الرحمة وشمولها" ا. هـ (¬1). * قلت: وهذا الكلام من المحقق الشيخ شعيب الأرنؤوط خلاف ما قرره أهل السنة والجماعة، فإنه قد أوَّل هنا صفة الغضب وصفة الرضا وهكذا صفة الرحمة، وأهل السنة والجماعة يثبتون هذه الصفات وغيرها مما جاء به الكتاب العزيز والسنة الصحيحة الشريفة بما يليق بكمال ذات الله تعالى وعظيم سلطانه سبحانه وتعالى. ففي الغضب لم يقل أهل السنة والجماعة إن معناه إرادة عقاب الله للعاصي وخذلانه، بل هذه طريقة الأشاعرة ¬

_ (¬1) وأورد نحو هذا التأويل -أيضًا- في تعليقه على "المسند" (12/ 248) رقم (7299) ط الرسالة الأولى.

والماتريدية، أما قول أهل السنة والجماعة في هذه الصفة فهو: أن الغضب صفة من صفات الله الفعلية الاختيارية يفعله متى شاء إذا شاء سبحانه وتعالى، وهكذا قولهم في صفة الرضا، لا كما قال الأستاذ شعيب الأرنؤوط بأن الرضا هو إرادة الله الثواب للمطيع. قال الله -تعالى-: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [سورة النساء، الآية: 93]، وقال - تعالي-: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [سورة المائدة، الآية: 119]، وقال -سبحانه-: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [سورة الفتح، الآية: 18]. "فدلَّت هذه الآيات وما ماثلها على إثبات غضب الله ورضاه، والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين إنما جاؤوا بإثبات هذا الأصل، وهو أنَّ الله يحب بعض الأمور المخلوقة ويرضاها، ويسخط بعض الأمور ويمقتها، وأنَّ أعمال العباد ترضيه تارة وتسخطه أخرى" (¬1). ¬

_ (¬1) ينظر: "منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية" (3/ 82) لشيخ الإِسلام ابن تيمية - رحمه الله - ط مكتبة الرياض. =

"ومذهب السلف وسائر الأئمة إثبات صفة الغضب والرضا، والعداوة والولاية، والحب والبغض، ونحو ذلك من الصفات التي ورد بها الكتاب والسنة، ومنع التأويل الذي يصرفها عن حقائقها اللائقة بالله تعالى، كما يقولون مثل ذلك في السمع والبصر والكلام وسائر الصفات، ولا يقال: إن الرضا إرادة الإحسان، والغضب إرادة الانتقام، فإن هذا نفيٌ للصفة، وقد اتفق أهل السنة على أنَّ الله يأمر بما يحبه ويرضاه -وإن كان لا يريده ولا يشاؤه- وينهى عمَّا يسخطه ويكرهه ويبغضه، ويغضب على فاعله -وإن كان قد شاءه وأراده- فقد يحب عندهم ويرضى ما لا يريده، ويكره ويسخط ويغضب لما أراده" (¬1). ويقال لمن تأوَّل الغضب والرضا: لِمَ تأولتَ ذلك؟ فلابد أن يقول: لأن الغضب غليان دم القلب، والرضا: الميل والشهوة، وذلك لا يليق بالله تعالى. ¬

_ = وفي طبعة جامعة الإِمام محمَّد بن سعود الإِسلامية بالرياض، بتحقيق د. محمَّد رشاد سالم - رحمه الله - (ج5 ص 322). (¬1) والمراد بالإرادة في هذا الموضع: الإرادة الكونية القدرية، لا الشرعية.

فيقال له: غليان دم القلب في الآدمي أمرٌ ينشأ عن صفة الغضب. ويقال له -أيضًا-: وكذلك الإرادة والمشيئة فينا هي: ميل الحي إلى الشيء أو إلى ما يلائمه ويناسبه. فالمعنى الذي صرفت إليه اللفظ كالمعنى الذي صرفته عنه سواء، فإن جاز هذا جاز ذاك، وإن امتنع هذا امتنع ذاك. فإن قالوا: الإرادة التي يوصف الله بها مخالفة للإرادة التي يوصف بها العبد، وإن كان كلٌّ منها حقيقة. قيل له: فقل: إن الغضب والرضا الذي يوصف الله به مخالف لما يوصف به العبد، وإن كان كلٌّ منها حقيقة. فإذا كان ما يقوله في الإرادة يمكن أن يُقال في هذه الصفات لم يتعين التأويل، بل يجب تركه، وصفات الله تليق به، وصفات العبد تليق به" (¬1). ¬

_ (¬1) "الروضة الندية شرح العقيدة الواسطية" (ص 95 - 96) لشيخنا العلَّامة زيد بن عبد العزيز الفيَّاض - رحمه الله - ط دار الوطن، الرياض، 1414هـ. وينظر -أيضًا- "مجموع الفتاوى" (6/ 117 - 120). و"دفع إيهام التشبيه عن أحاديث الصفات" لشيخنا العلَّامة د. محمَّد بن عبد الله السمهري أستاذ العقيدة بجامعة الإِمام محمَّد بن سعود الإِسلامية بالرياض.

الموضع الثالث تأويل صفة اليد وبَسْطِها في التعليق على "رياض الصالحين" للإمام النووي - رحمه الله -

الموضع الثالث تأويل صفة اليد وبسطها

الموضع الثالث تأويل صفة اليد وبَسْطِها في التعليق على "رياض الصالحين" للإمام النووي - رحمه الله - * لمَّا أورد المؤلف الإِمام النووي (¬1) - رحمه الله - حديث أبي موسى -رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله تعالى يَبْسُطُ يَدَهُ بالليل ليتوب مسيءُ النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تَطْلُعَ الشمسُ من مغربها" رواه مسلم (¬2). • علَّق المحقق الشيخ شعيب الأرنؤوط على قوله: "يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار" بما يلي: "أي: يقبل التوبة من التائبين ليلًا ونهارًا، وإنما ورد لفظ ¬

_ (¬1) (ص 227) حديث رقم (437). ط مؤسسة الرسالة، بيروت، 1408 هـ. (¬2) "صحيح مسلم" (2759) كتاب التوبة: باب قبول التوبة من الذنوب، وإن تكررت الذنوب والتوبة.

بسط اليد لأن العرب إذا أخذ أحدُهم الشيء بسط يده لقبوله، وإذا كرهه قبضها عنه، فخوطبوا بما يفهمونه" ا. هـ. * قلت: وهذا الذي ذكره الشيخ شعيب الأرنؤوط صرفٌ للفظ عن ظاهره، ومقتضاه نفي ما دلَّ عليه الحديث من بسط الله ليده، وهذا على غير طريقة السلف، لأنهم يثبتون لله يدين، على ما يليق بذاته سبحانه وتعالى. "وقد وَرَدَ لفظ اليد في القرآن والسنة وكلام الصحابة والتابعين في أكثر من مائة موضع ورودًا متنوعًا، متصرفًا فيه، مقرونًا بما يدل على أنها يَدٌ حقيقة من الإمساك، والطيّ، والقبض، والبسط، والمصافحة، والحَثَيَات، والنضح باليد، والخلق باليدين، والمباشرة بهما، وكتب التوراة بيده، وغرس جنة عدن بيده، وكون المقسطين عن يمينه، وأخذ الصدقة بيمينه يربيها لصاحبها، وأنه مسح ظهر آدم بيده، وأن يمينه ملأى لا يغيضها نفقة سَحَّاءَ الليل والنهار، وأنه يطوي السموات يوم القيامة ... " إلخ (¬1). ¬

_ (¬1) ينظر: "مختصر الصواعق المرسلة" (2/ 171) للعلَّامة ابن القيم -رحمه الله تعالى-.

والمقصود أن صفة اليدين لله تعالى قد دلَّ عليها الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة خلافًا للجهمية والمعتزلة، قال الله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص، الآية: 75]، وقال سبحانه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [سورة المائدة، الآية: 64]. وانظر ما تقدم نقله آنفًا من كلام الإِمام الترمذي -رحمه الله- فإنه نافعٌ ومفيد (¬1). ¬

_ (¬1) ينظر: (ص 22 - 23) من هذه الرسالة.

الموضع الرابع تأويل صفة العجب لله -تعالى- في التعليق على "رياض الصالحين" للإمام النووي - رحمه الله -

الموضع الرابع تأويل صفة العجب لله -تعالى-

الموضع الرابع تأويل صفة العجب لله -تعالى- في التعليق على "رياض الصالحين" للإمام النووي - رحمه الله - * لمَّا أورد المؤلف الإِمام النووي (¬1) - رحمه الله - حديث أبي هريرة -رضي الله عنه - قال: جاء رجلٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني مجهود، فأرسلَ إلى بعض نسائه، فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، ثم أرسلَ إلى أخرى فقالت مثل ذلك، حتى قُلنَ كلُّهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من يُضَيِّفُ هذا الليلة"؟ فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله، فانطلق به إلى رَحْلِهِ، فقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وفي رواية قال لامرأته: هل عندك شيء؟ فقالت: لا، إلَّا ¬

_ (¬1) "رياض الصالحين" (ص 278 - 279)، الحديث رقم (564). ط مؤسسة الرسالة، بيروت، 1408 هـ.

قوت صبياني، قال: عَلِّلِيهم بشيء، وإذا أرادوا العَشَاءِ فنوِّميهم، وإذا دخل ضيفُنا فأطفئي السراج، وأَرِيهِ أَنَّا نأكل، فقعدوا وأكل الضيف، وباتا طاويين، فلما أصبح، غدا على النبي- صلى الله عليه وسلم - فقال: "لقد عَجِبَ الله من صنيعِكُمَا بضيفِكمَا الليلة" متفق عليه (¬1). • ثم أورد الشيخ شعيب الأرنؤوط في الحاشية نقلًا عن الخطابي - رحمه الله - فقال: قال أبو سليمان الخطابي: المراد بالعجب الرضا، فكأنه قال: إن ذلك الصنيع قد حلَّ من الرضى عند الله حلول العجب عندكم، وقد يكون المراد بالعجب هنا أنَّ الله يُعَجِّب ملائكته من صنيعهما لندور ما وقع منهما في العادة. ا. هـ. * قلت: وهذا الذي نقله الشيخ الأرنؤوط عن الخطابي - رحمه الله ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (3798) كتاب مناقب الأنصار: باب قول الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [سورة الحشر، الآية: 9]،. و (4889) في كتاب التفسير: باب {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآية. و"صحيح مسلم" (2054) كتاب الأشربة: باب إكرام الضيف وفضل إيثاره.

تعالى- تأويل للصفة عن ظاهرها، وهو خلاف ما قرره أهل السنة والجماعة، حيث يثبتون لله -عزَّ وجل- صفة العجب، على ما يليق بجلاله -سبحانه-، وأنها من صفاته الاختيارية سبحانه وأنه عجب حقيقي يليق به -تعالى- (¬1). قال شيخ الإِسلام ابن تيمية - رحمه الله - كما في "مجموع الفتاوى" (¬2): أما قوله: "التعجب استعظام للمتعجب منه": فيقال: نعم، وقد يكون مقرونًا بجهل سبب التعجب، وقد يكون لما خرج عن نظائره، والله تعالى بكل شيء عليم، فلا يجوز عليه أن لا يعلم سبب ما تعجب منه؛ بل يتعجب لخروجه عن نظائره تعظيمًا له، والله تعالى يعظم ما هو عظيم، إمَّا لعظمة سببه أو لعظمته. فإنه وصف بعض الخير بأنه عظيم، ووصف بعض الشر بأنه عظيم، فقال تعالى: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [سورة التوبة، الآية: 129]، ¬

_ (¬1) كالرضا والغضب وغيرهما من صفاته -سبحانه- (عبد العزيز بن عبد الله بن باز). (¬2) (6/ 123 - 124).

وقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)} [سورة الحجر، الآية: 87]، وقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67)} [سورة النساء، الآيتان: 66، 67]، وقال: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)} [سورة النور، الآية: 16]، وقال: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [سورة لقمان، الآية: 13]. ولهذا قال تعالى: {بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ} [سورة الصافات، الآية: 12] على قراءة الضم (¬1)، فهنا هو عجب من كفرهم مع وضوح الأدلة. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للذي آثر هو وامرأته ضيفهما: "لقد عجب الله" وفي لفظ في "الصحيح": "لقد ضحك الله الليلة من صُنعكما البارحة" (¬2)، وقال: "إن الرَّبَّ ليعجب من عبده إذا قال: رب اغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلَّا أنت، يقول: عَلِمَ عبدي أنه لا يغفر الذنوب إلا ¬

_ (¬1) وهي قراءة صحيحة متواترة، قرأ بها الأئمة حمزة والكسائي وخلف. ينظر: "المبسوط في القراءات العشر" (ص 375) لابن مهران الأصفهاني. (¬2) هو الحديث المذكور في صدر هذا التعقيب وهو من المتفق عليه.

أنا" (¬1)، وقال: "عَجِبَ رَبُّكَ من شابٍّ ليست له صَبْوَة" (¬2)، وقال: "عَجِبَ رَبُّك من راعي غنم على رأس شَظِيَّة يؤذن ويقيم، فيقول الله: انظروا إلى عبدي" (¬3) أو كما قال، ونحو ذلك. ا. هـ. ¬

_ (¬1) جزء من حديث رواه أبو داود (2602) في الجهاد: باب ما يقول الرجل إذا ركب، والترمذي (3443) في الدعوات: باب ما جاء ما يقول إذا ركب دابة، وأحمد في "المسند" (1/ 97 و 115 و 128) من حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه - وفيه قصة. وهو حديث صحيح. (¬2) رواه الإِمام أحمد في "المسند" (4/ 151)، وأبو يعلى الموصلي في "مسنده" (3/ 288) رقم (1749)، والطبراني في "الكبير" (17/ 309) رقم (853)، ورواه أيضًا ابن أبي عاصم في "السُّنة" (ص 250) رقم (571) من حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه - وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 270): "إسناده حسن"، مع أن في إسناده عبد الله بن لهيعة - رحمه الله -. (¬3) رواه أبو داود (1203) في الصلاة: باب الأذان في السفر. والنسائي (2/ 20) في الأذان: باب الأذان لمن يصلي وحده. وأحمد في "المسند" (4/ 145 و 157) من حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه -.

الموضع الخامس تأويل إدناء المؤمن من ربه يوم القيامة في التعليق على "رياض الصالحين" للإمام النووي - رحمه الله -

الموضع الخامس تأويل إدناء المؤمن من ربه يوم القيامة

الموضع الخامس تأويل إدناء المؤمن من ربه يوم القيامة في التعليق على "رياض الصالحين" للإمام النووي - رحمه الله - * لمَّا أورد الإِمام النووي (¬1) - رحمه الله - حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقول: "يُدْنَى المؤمنُ يوم القيامة من رَبِّه، حتى يضع كَنَفَهُ عليه، فيقَرِّرُهُ بِذُنُوبه، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: ربِّ أعرف، قال: فإني قد سَتَرْتُها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فَيُعطى صحيفة حسناته" متفق عليه (¬2). ¬

_ (¬1) "رياض الصالحين" (ص 225) حديث رقم (433). (¬2) "صحيح البخاري" (2441) كتاب المظالم: باب قول الله تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [سورة هود، الآية: 18]؛ وفي (7514) كتاب التوحيد: باب كلام الرب تعالى يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم، وفي موضعين آخرين. "صحيح مسلم" (2768) =

• علَّق الشيخ شعيب الأرنؤوط على قوله: "يُدْنَى المؤمن يوم القيامة من ربِّه" فقال: يدنى: أي: يقرب المؤمن يوم القيامة من ربه، دنو كرامة وإحسان، لا دنو مسافة، فإنه سبحانه منزَّهٌ عن المسافة. ا. هـ. * قلت: وتفسير إدناء المؤمن من ربه يوم القيامة بأنه دنو كرامة وإحسان وتنزيه الله سبحانه عن المسافة، هذا التفسير لم يقل به السلف - رحمهم الله- والحديث واضح وهو على ظاهره، وهو أن المؤمن يُدنى ويقرب من خالقه سبحانه، وهذا معلوم في لغة العرب، أما الكيفية فلم يطلعنا الله عليها وهو سبحانه أعلم بها. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "والذين يثبتون تقريبه العباد إلى ذاته هو القول المعروف للسلف والأئمة، وهو قول الأشعري وغيره من الكُلَّابية، فإنهم يثبتون قرب العباد إلى ذاته، وكذلك يثبتون استواءه على العرش بذاته" (¬1). ¬

_ = كتاب التوبة: باب قبول توبة القاتل، وإن كثر قتله. (¬1) "مجموع الفتاوى" (5/ 466).

وقال - رحمه الله -أيضًا: "ومَنْ جعل قرب عباده المقربين ليس إليه، وإنما هو إلى ثوابه وإحسانه، فهو مُعَطِّلٌ مبطل" (¬1). وتقرب العبد إلى الله وتقريبه له نطقت به نصوص متعددة، مثل قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [سورة الإسراء، الآية: 57]، وقوله سبحانه: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)} [سورة المطففين، الآية: 28]، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "أقربُ ما يكون العبدُ من رَبِّه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء" (¬2) وما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - من نزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل، ودنوه جلَّ وعلا من أهل الموقف عشية عرفة (¬3). ¬

_ (¬1) المرجع السابق (6/ 12). (¬2) رواه مسلم في "صحيحه" (482) في الصلاة: باب ما يقال في الركوع والسجود، وأبو داود (875) في الصلاة: باب في الدعاء في الركوع والسجود، والنسائي (2/ 226) في الصلاة: باب أقرب ما يكون العبد من الله -عَزَّ وَجَلَّ-. (¬3) بسط هذه المسألة شيخ الإِسلام ابن تيمية في أكثر من موضع. =

وأما قول الشيخ الأرنؤوط: "فإنه سبحانه منزه عن المسافة" فهذه عبارة لم يوردها السلف ولم تعرف عنهم، وإنما ذكرها غيرهم ليتوصلوا بها إلى نفي بعض صفات الله تعالى الفعلية مثل الاستواء والنزول والمجيء ونحو ذلك (¬1)، والله تعالى أعلم. ¬

_ = انظر: "مجموع الفتاوى" (5/ 226 وما بعدها). (¬1) فالواجب تركها. (عبد العزيز بن عبد الله بن باز).

الموضع السادس تأويل صفة الفرح لله -تعالى- في التعليق على مسند الإِمام أحمد - رحمه الله -

الموضع السادس تأويل صفة الفرح لله -تعالى-

الموضع السادس تأويل صفة الفرح لله -تعالى- في التعليق على مسند الإِمام أحمد - رحمه الله - * في تحقيق "المسند" (¬1) للإمام أحمد - رحمه الله - والذي أشرف عليه الشيخ شعيب الأرنؤوط، لمَّا أسند الإِمام أحمد عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله: "للهُ أَفْرَحُ بتوبة أَحَدِكُم، مِنْ رَجُلٍ خرج بأرضٍ دويَّةٍ مَهْلَكَةٍ، معه راحِلَتُه عليها طعامه وشَرَابُهُ وزادُهُ وما يُصْلِحُه، فأضلَّها، فَخَرَج في طَلَبِها، حتى إذا أدركه الموتُ فلم يَجِدْها، قال: أَرْجِعُ إلى مكاني الذي أَضْلَلْتُهَا فيه، فأموت فيه، قال: فأتى مكانه، فغَلَبَتْهُ عَينُه، فاستيقظَ، فإذا راحلتُهُ عند رأسِه، عليها طعامُهُ وشرابُه وزادُه وما يصلحُه" (¬2) إلخ. ¬

_ (¬1) (6/ 131 - 133) رقم الحديث (3627). ط الأولى 1416هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت. (¬2) ورواه البخاري (6308) كتاب الدعوات: باب التوبة. ومسلم (2744) كتاب التوبة: باب في الحضِّ على التوبة والفرح بها. والترمذي في "جامعه" (2499) و (2500) كتاب صفة القيامة: باب المؤمن يرى ذنبه كالجبل فوقه.

• جاء في التعليق عليه: قوله: "أفرح بتوبة أحدكم" أي إنه يحب توبة أحدكم ويرضى بها فوق ما يحب أحدكم ضالته ويرضى بها، والمقصود الحث على التوبة لكونها محبوبة مرضية عنده تعالى والله تعالى أعلم. قاله السندي. ا. هـ. * قلت: والصواب في هذا إثبات صفة الفرح على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى، ففرحه -جلَّ شأنه- من صفات كماله، ولا يلزم منه نقصٌ ولا مشابهة لكون المخلوق يفرح (¬1)، فله فرحٌ يناسبه تعالى، وللمخلوق ما يناسبه (¬2). قال العلَّامة ابن القيم - رحمه الله تعالى- عن صفة الضحك لله -جلَّ شأنه-: إنها من صفات أفعاله -سبحانه ¬

_ (¬1) كسائر صفاته -سبحانه- عند أهل السُّنَّة والجماعة. (عبد العزيز بن عبد الله بن باز). (¬2) وهكذا الرضا الغضب وغير ذلك من صفاته، لقوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [سورة هود، الآية: 11]. (عبد العزيز بن عبد الله بن باز).

وتعالى- التي لا يُشبهه فيها شيءٌ من مخلوقاته، كصفات ذاته، وقد وردت هذه الصفة في أحاديث كثيرة لا سبيلَ إلى رَدِّها، كما لا سبيل إلى تشبيهها وتحريفها (¬1). ¬

_ (¬1) ينظر: "زاد المعاد" (3/ 679) ط 13، 1406 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، بتحقيق الشيخين شعيب وعبد القادر الأرنؤوط.

الموضع السابع تفويض صفة الضحك في التعليق على "مسند الإِمام أحمد" - رحمه الله -

الموضع السابع تفويض صفة الضحك

الموضع السابع تفويض صفة الضحك في التعليق على "مسند الإِمام أحمد" - رحمه الله - * في تحقيق "المسند" للإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- والذي أشرف عليه الشيخ شعيب الأرنؤوط، عندما أسند الإِمام أحمد عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ آخر من يدخل الجنة رجل يمشي على الصراط، فينكَبُّ مرة، ويمشي مرة، وتسفعه النار مرة، فإذا جاوز الصراط، التفت إليها فقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله ما لم يعط أحدًا من الأولين والآخرين، قال: فترفع له شجرة، فينظر إليها، فيقول: يا رب أدنني من هذه الشجرة، فأستظلَّ بظلها، وأشرب من مائها، فيقول: أي عبدي، فلعلي إن أدنيتك منها سألتني غيرها، فيقول: لا يا رب، ويعاهد الله أن لا يسألَهُ غيرها، والرب -عَزَّ وَجَلَّ- يعلم أنه سيسأله، لأنه يرى ما لا صبر له -يعني عليه- فيدنيه منها، ثم ترفع له شجرة، وهي أحسن منها، فيقول: يا رب أدنني من

هذه الشجرة، فأستظلَّ بظلها، وأشربَ من مائها، فيقول: أي عبدي ألم تعاهدني، -يعني أنك لا تسألني غيرها- فيقول: هذه لا أسألك غيرها، فيعاهده، والرب يعلم أنه سيسأله غيرها، فيدنيه منها، فترفع له شجرة عند باب الجنة، هي أحسن منها، فيقول: رب أدنني من هذه الشجرة أستظلَّ بظلها، وأشربَ من مائها، فيقول: أي عبدي ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها، فيقول: يا رب هذه الشجرة، لا أسألك غيرها، ويعاهده، والرب يعلم أنَّه سيسأله غيرها، لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فيسمع أصوات أهل الجنة، فيقول: يا رب الجنة، الجنة، فيقول: أي عبدي ألم تعاهدني أنك لا تسألني غيرها، فيقول: يا رب أدخلني الجنة، قال: فيقول -عَزَّ وَجَلَّ-: ما يصريني منك (¬1)، أي عبدي، أيرضيك أن أعطيك من الجنة الدنيا ومثلها معها، قال: فيقول: أتهزأ بي أي ربِّ وأنت ربُّ العِزَّة، قال: فضحك عبد الله حتى بدت نواجده، ثم قال: ألا تسألوني لِمَ ضحكت؟ قالوا له: لِمَ ضحكت؟ قال: لضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال لنا رسول الله -صلى الله عليه ¬

_ (¬1) والمعنى: أيُّ شيء يرضيك ويقطع السؤال بيني وبينك. أفاده النووي - رحمه الله -.

وسلم-: "ألا تسألوني لِمَ ضحكت"؟! قالوا: لِمَ ضحكت يا رسول الله؟ قال: "لضحك الرب حين قال: أتهزأ بي وأنت رب العزة" (¬1). • جاء في حاشية التحقيق عند هذا الموضع: "لضحك الرب تعالى: قال النووي: الضحك من الله تعالى هو الرضى والرحمة، وإرادة الخير لمن يشاء رحمته من عباده. انتهى. قلت: -القائل هو الشيخ شعيب الأرنؤوط وزميلاه محمَّد نعيم العرقسوسي وإبراهيم الزيبق-: ظاهر الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- ضحك موافقة لربه تعالى، والحمل على ما ذكر يفوِّت الموافقة، فالوجه في مثله التفويض. والله تعالى ولي التوفيق" ا. هـ (¬2). علق على هذا الموضع سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز فأَمْلَى عليَّ ما يلي: ¬

_ (¬1) المسند (6/ 255) ط الرسالة. وأصله في "صحيح مسلم" (186) و (187) كتاب الإيمان: باب آخر أهل النار خروجًا. (¬2) وانظر أيضًا تعليقًا مقاربًا لهذا في حاشية "المسند" (12/ 279 - 280). ط الرسالة.

هذا من الشيخ شُعيب موافقة على رأي المفوضة، وهو مذهب باطل مخالف لما عليه أهل السنة والجماعة. والصواب: إثبات الضحك لله -سبحانه- وسائر الصفات على الوجه اللائق بالله من غير تحريف ولا تمثيل ولا تكييف ولا تفويض ولا تعطيل. هذا هو قول أهل الحق من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأتباعهم من أهل السنة والجماعة، وهو الحق الذي لا يجوز العدول عنه. والله ولي التوفيق.

الموضع الثامن تأويل صفة الساق في التعليق على "صحيح ابن حبان" و"رياض الصالحين" و"شرح السُّنَّة"

الموضع الثامن تأويل صفة الساق

الموضع الثامن تأويل صفة الساق في التعليق على "صحيح ابن حبان" و"رياض الصالحين" و"شرح السُّنَّة" * لمَّا أسند ابن حبان في "صحيحه" عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه - قال: قلنا يا رسول الله، أنرى ربَّنا؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هل تُضَارُّونَ في رؤية الشمس إذا كان يومَ صحوٍ"؟ قلنا: لا، قال: "هل تُضَارُّون في رؤية القمر ليلة البدر إذا كان صحوًا"؟ قلنا: لا، قال: "فإنكم لا ئضَارُّون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤيتهما، ينادي منادٍ فيقول: "ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، قال: فيذهب أهل الصليب مع صليبهم، وأهل الأوثان مع أوثانهم، وأصحاب كل آلهةٍ مع آلهتهم، ويبقى من يعبد الله من بَرٍّ وفاجر، وغُبَّرَاتٌ (¬1) من أهل الكتاب. ¬

_ (¬1) أي بقايا من أهل الكتاب. ينظر: "المفهم" (1/ 445) للقرطبي - رحمه الله -. ط دار ابن كثير ودار الكلم الطيب، الأولى =

ثم يؤتى بجهنم تعرض كأنها سراب فيقال لليهود: ما كنت تعبدون؟ فيقولون: كُنَّا نعبد عزيرًا ابنَ الله، فيقال: كذبتم ما اتخذ الله صاحبةً ولا ولدًا، ما تريدون؟ قالوا: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون في جهنم، ثم يقال للنصارى: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال: كذبتم، لم يكن له صاحبةٌ ولا ولد، ماذا تريدون؟ قالوا: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون في جهنم، حتى يبقى من يعبد الله من بَرٍّ وفاجر، فيقال لهم: ما يحبسكم وقد ذهب الناس؟ فيقولون: قد فارقناهم، وإنما سمعنا مناديًا ينادي: ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، وإنا ننتظر ربَّنا. قال: فيأتيهم الجبار لا إله إلا هو، فيقول أنا ربكم، فلا يكلمه إلا نبي، فيقال: هي بينكم وبينه آية تعرفونها؟ فيقولون: الساق، فيُكْشَف عن ساق، فيسجد له كل مؤمن، ويبقى من كان يسجد له رياءً وسمعة، فيذهب فيسجد، فيعود ظهره طبقًا واحدًا، ثم يؤتى بالجِسْر، فيجعل بين ظهراني جهنم". ¬

_ = 1417هـ، بيروت، بتحقيق: محيي الدين مستو ويوسف علي بديوي وأحمد محمَّد السيد ومحمود إبراهيم بَزَّال.

فقلنا: يا رسول الله، وما الجسر؟ قال: "مدحضة مزلة، عليه خطاطيف وكلاليب وحسكة مفلطحة لها شوك عقيفاء، تكون بنجدٍ يقال لها: السعدان، يجوز المؤمن كالطَّرْف، وكالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل، وكالركاب، فناجٍ مُسَلَّم، ومخدوش مُسَلَّم، ومكدوس في جهنم حتى يمر آخرهم يسحب سحبًا، والحق قد تبين من المؤمنين إذا رأوا أنهم قد نجوا، وبقي إخوانهم، يقولون: يا ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، فيقول الرب -جل وعلا-: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه، ويحرم الله صورهم على النار، فيأتونهم وبعضهم قد غاب في النار إلى قدميه، وإلى أنصاف ساقيه، فيخرجون من النار، ثم يعودون ثانية، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من إيمان فأخرجوه، فيخرجون من النار، ثم يعودون الثالثة، فيقال: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه حبَّة إيمان، فأخرجوه، فيخرجون. قال أبو سعيد: وإن لم تصدقوني فاقرأوا قول الله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} [سورة النساء، الآية: 40]. "فتشفع الملائكة والنبيون والصديقون، فيقول الجبار

-تبارك وتعالى لا إله إلا هو-: بقيت شفاعتي، فيقبض الجبار قبضة من النار، فيخرج أقوامًا، قد امتحشوا، فيلقون في نهر، يقال له: الحياة، فينبتون فيه كما تنبت الحبة في حَمِيلِ السَّيل، هل رأيتموها إلى جانب الصخرة، أو جانب الشجرة، فما كان إلى الشمس منها كان أخضر، وما كان إلى الظل كان أبيض، فيخرجون مثل اللؤلؤ، فيجعل في رقابهم الخواتيم، فيدخلون الجنة، فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن، أدخلهم الله بغير عمل عملوه ولا قَدَمٍ قَدَّموه، فيقال لهم: لكم ما رأيتموه ومثله معه". قال أبو سعيد: بلغني أن الجسر أَدَقَّ من الشَّعر، وأَحَدُّ من السيف (¬1). قال أبو حاتم: الساق: الشدة. • علَّق على هذا الشيخ شعيب الأرنؤوط فقال: قلت: وقد جاء عن ابن عباس في قوله تعالى: ¬

_ (¬1) "الإحسان" (7377). ورواه البخاري (7439) في التوحيد: باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [سورة القيامة، الآيتان: 22، 23]. ورواه مسلم (183) في الإيمان: باب معرفة طريق الرؤية.

{يَومَ يُكشَفُ عَن سَاقٍ} [سورة القلم، الآية: 42]، قال: عن شدة في الأمر، والعرب تقول: قامت الحرب على ساق، إذا اشتدت، ومنه: قد سَنَّ أصحابُك ضَرْبَ الأعناق وقَامَتِ الحربُ بِنَا على سَاق وأسند البيهقي في "الأسماء والصفات" (ص 345) الأثر المذكور عن ابن عباس بسندين كُلٌّ منهما حسن، وزاد: إذا خفي عليكم شيء من القرآن، فابتغوه من الشعر فإنه ديوان العرب، ثم أنشد الرجز المتقدم. وأسند البيهقي (ص 346) من وجه آخر صحيح عن ابن عباس قال: يريد القيامة والساعة لشدتها. وأنشد الإِمام الخطابي في "الأسماء والصفات" في إطلاق الساعة (¬1) على الأمر الشديد: عجبت من نفسي ومن إشفاقها ومن طرادي الطير عن أرزاقها في سَنَةٍ قد كشفت عن ساقها ¬

_ (¬1) كذا قال. ولعله يريد (الساق).

وفي "جامع البيان" (29/ 38) للطبري: قال جماعة من الصحابة والتابعين من أهل التأويل: يبدو عن أمرٍ شديد. وقال الألوسي في "تفسيره" (29/ 34 - 35): المراد بذلك اليوم عند الجمهور يوم القيامة، والساق: ما فوق القدم، وكشفها والتشمير عنها مَثَلٌ في شدة الأمر، وصعوبة الخطب، حتى إنه يستعمل بحيث لا يتصور ساق بوجه، كما في قول حاتم: أخو الحرب إن عَضَّتْ به الحربُ عضَّها وإن شَمَّرَتْ عن ساقها الحربُ شَمَّرَا وقال الراجز: عجبتُ من نفسي وإشفاقها .......................... وأصله تشمير المُخَدَّرات عن سوقهن في الهرب، فإنهن لا يفعلن ذلك إلاَّ إذا عَظُمَ الخطب، واشتدَّ الأمر، فيذهلن عن الستر بذيل الصيانة، وإلى نحو هذا ذهب مجاهد وإبراهيم النخعي وعكرمة وجماعة، وقد روي -أيضًا- عن ابن عباس أخرج عَبْدُ بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم

وصححه، والبيهقي في "الأسماء والصفات" من طريق عكرمة عنه أنه سئل عن ذلك فقال: إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر فإنه ديوان العرب، أَمَا سمعتم قول الشاعر: صبرًا عناق إنه شرّ باق قد سَنَّ لي قومُك ضرب الأعناق وقامت الحربُ بنا على ساق انتهى تعليق الشيخ شعيب الأرنؤوط. وقال في حاشية "رياض الصالحين" (¬1) عن قوله- صلى الله عليه وسلم -: "وذلك يوم يكشف عن ساق" قال: "أي يكشف عن شدة وهول عظيم" ا. هـ. وفي تعليق الشيخ شعيب الأرنؤوط على "شرح السنة" (¬2) للإمام البغوي - رحمه الله - جنح أيضًا إلى تأويل صفة الساق لله -تعالى وتقدس- وأورد بعض النقول في ذلك بنحو ما تقدم. ¬

_ (¬1) (ص 677)، حديث رقم (1809). ط مؤسسة الرسالة، بيروت، 1408 هـ. (¬2) (15/ 141 - 142) حديث رقم (4326). ط المكتب الإِسلامي، بيروت، 1403 هـ.

*قلت: وهذا الذي جنح له الشيخ الأرنؤوط موافق لعقيدة الأشاعرة، والصواب ما قرره السلف - رحمهم الله - كما قال الترمذي في صفة القدم لله تعالى ونحوها من الصفات قال: "والمذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة مثل سفيان الثوري ومالك ابن أنس وابن المبارك وابن عيينة ووكيع وغيرهم أنهم رووا هذه الأشياء، ثم قالوا: نروي هذه الأحاديث ونؤمن بها، ولا يقال: كيف، وهذا الذي اختاره أهل الحديث أن تُروى هذه الأشياء كما جاءت ويُؤمن بها ولا تفسر ولا تتوهم ولا يقال كيف وهذا أمر أهل العلم الذي اختاروه وذهبوا إليه" (¬1) ا. هـ. وقرر العلامة ابن القيم - رحمه الله - أن صفة الساق لله تعالى ثابتة بالكتاب والسنة أما الآية فهي قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} [القلم الآية: 42]، وأما السُّنَّة فحديث أبي سعيد المخرج في "الصحيحين" وغيرهما (¬2). ¬

_ (¬1) "جامع الترمذي" (4/ 692). (¬2) ينظر: "مختصر الصواعق" (1/ 38). والحديث هو ما صدَّرنا به =

نعم الآية لم تُضفْ الساق فيها إليه تعالى وإنما ذُكرتْ مجردةً عن الإضافة مُنكَّرة فصار فيها احتمال الوجهين، وهذا هو الموضع الوحيد من آيات الصفات الذي تنازع فيه الصحابة وفي إثبات الصفة بظاهر القرآن (¬1). لكن ذلك فصَّله حديث أبي سعيد المذكور ودلَّ على الصفة لله -تعالى- بما يليق به -سبحانه- ولذا قال العلامة الشوكاني في تمام بحثه عند هذه الآية في "تفسيره" (¬2): "وقد أغنانا الله -سبحانه- في تفسير هذه الآية بما صح عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - كما عرفت، وذلك لا يستلزم تجسيمًا ولا تشبيهًا، فليس كمثله شيء. دعوا كل قول عند قول محمَّد فما آمِنٌ في دينه كمخاطر" (¬3) ¬

_ = هذا الاستدراك. (¬1) ينظر: "مجموع الفتاوى" (6/ 394). (¬2) "فتح القدير" (5/ 278). (¬3) وبما ذكره العلاَّمة ابن القيم والشوكاني - رحمهما الله - يتضح للقاريء أن الحق في تفسير الآية المذكورة: أن الله -سبحانه- =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = يكشف عن ساقه يوم القيامة، فيعرفه المؤمنون بذلك، كما صرَّح ذلك الحديث المذكور، أعني حديث أبي سعيد وما جاء في معناه. فالواجب إثبات ذلك لله -سبحانه- على الوجه اللائق بجلاله، بلا كيف، كسائر الصفات. وهو قول أهل السنة والجماعة من الصحابة -رضي الله عنهم- وأتباعهم بإحسان. والله الموفق. (عبد العزيز بن عبد الله بن باز).

الموضع التاسع تأويل بعض صفات الأفعال الاختيارية في التعليق على "رياض الصالحين" و"المسند"

الموضع التاسع تأويل بعض صفات الأفعال الاختيارية

الموضع التاسع تأويل بعض صفات الأفعال الاختيارية في التعليق على "رياض الصالحين" و"المسند" * في "رياض الصالحين" (¬1) لما أورد المؤلِّف النوويُّ - رحمه الله - الحديث الذي رواه أنس بن مالك -رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه عَزَّ وَجَلَّ قال: "إذا تقربَ العبدُ إليَّ شبرًا تقرَّبت إليه ذراعًا، وإذا تقرَّب إلي ذراعًا تقربت منه باعًا، وإذا أتاني يمشي أتيتة هرولة" رواه البخاري (¬2). • عقَّبَ عليه المحقق الشيخ شعيب الأرنؤوط في الحاشية بقوله: "هذا من باب التمثيل في الجانبين. والمعنى من أتى شيئًا من الطاعات ولو قليلاً، قابلته عليه بأضعاف من الإثابة ¬

_ (¬1) (ص 87) رقم الحديث (96). ط مؤسسة الرسالة، بيروت، 1408هـ. (¬2) "صحيح البخاري" (7536) كتاب التوحيد: باب ذكر النبيِّ- صلى الله عليه وسلم - وروايتهِ عن ربِّه.

والإكرام، وكلما زاد في الطاعة زدته في الثواب، وإن كان إتيانه بالطاعة على التأني تكون كيفية إتياني بالثواب على السرعة، وأحال على "فتح الباري" (¬1). ونحو هذا أيضًا نقله وزميله المحقق الآخر في حاشية "المسند" (¬2) عند قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يقول الله -عز وجل-: أنا مع عبدي حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإٍ ذكرته في ملإٍ خيرٍ منهم، وإن اقترب إليَّ شبرًا، اقتربت إليه ذراعًا، فإن اقترب إليَّ ذراعًا اقتربت إليه باعًا، فإن أتاني يمشي أتيته هرولة". نقل عن النووي - رحمه الله - قوله: "هذا الحديث من أحاديث الصفات، ويستحيل إرادة ظاهره، ومعناه: من تقرب إليَّ بطاعتي، تقرَّبت إليه برحمتي والتوفيق والإعانة، وإن زاد زدتُ، فإن أتاني يمشي وأسرع في طاعتي أتيتُه هرولة، أي: ¬

_ (¬1) انظر: (13/ 514) ط السلفية الأولى. (¬2) (12/ 387) رقم الحديث (7422) ط مؤسسة الرسالة. والحديث مخرج في "الصحيحين" وغيرهما من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه -.

صببت عليه الرحمة وسبقتُه بها، ولم أُحْوِجْهُ إلى المشي الكثير في الوصول إلى المقصود، والمراد أن جزاءه يكون تضعيفه على حسب قربه. ا. هـ. *قلت: وهذه النقولات في شأن تلك الصفات مخالفة لما قرره أهل السنة والجماعة في هذا الباب، بل كل تلك الصفات صفات اختيارية لائقة بجلاله سبحانه وعظمته وهو -جل وعلا- الفعَّال لما يريد، ولا يعلم كيفيتها إلا هو سبحانه (¬1). وأورد الإِمام أبو إسماعيل الهروي - رحمه الله - هذا الحديث في كتابه: "الأربعين في دلائل التوحيد" (¬2) وبَوَّب عليه فقال: باب الهرولة لله -عَزَّ وَجَلَّ -. وقد وُجَّه استفتاء للجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية برئاسة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز وعضوية كل من الشيخ عبد الرزاق عفيفي ¬

_ (¬1) ينظر: "شرح حديث النزول" (ص 328) لشيخ الإِسلام ابن تيمية، تحقيق: د. محمَّد الخميِّس. (¬2) (2/ 79) بتحقيق الشيخ علي الفقيهي.

- رحمه الله - والشيخ عبد الله بن غديان والشيخ عبد الله بن قعود ونصُّه: هل لله صفة الهرولة. وجاء في الجواب (¬1): نعم صفة الهرولة على نحو ما جاء في الحديث القدسي الشريف على ما يليق به، قال تعالى: "إذا تقرَّب إليَّ العبد شبرًا تقربت إليه ذراعًا وإذا تقرَّب إليَّ ذراعًا تقرَّبت منه باعًا، وإذا أتاني ماشيًا أتيته هرولة" رواه البخاري ومسلم (¬2). ا. هـ. ¬

_ (¬1) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" (3/ 142). ترتيب الشيخ أحمد بن عبد الرزاق الدويش، ط رئاسة البحوث العلمية والإفتاء، 1411 هـ - الرياض. (¬2) "صحيح البخاري" (7405) كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [سورة آل عمران، الآية: 28]، وقول الله تعالى {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [سورة المائدة، الآية: 116]، "صحيح مسلم" (2675) كتاب الذكر: باب الحث على ذكر الله تعالى.

الموضع العاشر تأويل صفة المَحَبَّة في التعليق على "المسند"

الموضع العاشر تأويل صفة المحبة

الموضع العاشر تأويل صفة المَحَبَّة في التعليق على "المسند" * في "المسند" (¬1) عند قول النبي - صلى الله عليه وسلم: "كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان" حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم". • جاء في الحاشية قولُ المحققين الشيخ شعيب الأرنؤوط وعادل مرشد: "وقوله: "حبيبتان إلى الرحمن" قال (¬2): تثنية حبيبة، ¬

_ (¬1) (12/ 86/87). رقم (7167)، والحديث مخرج في "الصحيحين": "صحيح البخاري" (6406) كتاب الدعوات: باب فضل التسبيح، و (6682) في كتاب الأيمان والنذور، و (7563) في خاتمة "الصحيح" في كتاب التوحيد. و"صحيح مسلم" (2694) كتاب: الذكر والدعاء: باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء. (¬2) يعنيان الحافظ ابن حجر - رحمه الله - حيث نقلا عنه ذلك من "فتح الباري" (13/ 540).

وهي المحبوبة، والمراد أن قائلها محبوب لله، ومحبة الله للعبد إرادة إيصال الخير له والتكريم، وخصَّ الرحمن من الأسماء الحسنى للتنبيه على سعة رحمة الله، حيث يجازي على العمل القليل بالثواب الجزيل، ولما فيه من التنزيه والتحميد والتعظيم " ا. هـ. * قلت: وهذا النقل في معنى محبة الله للعبد تأويل غير صحيح لصفة المحبة، إذ الواجب إثبات صفة المحبة لله -تعالى- على ما يليق بجلاله سبحانه، من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه ولا تعطيل، كما يقال في سائر الصفات، "وصفة المحبة قد دلَّ عليها الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة" (¬1) قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} [سورة البقرة، الآية: 222]، وقال: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [سورة المائدة، الآية: 54]. ¬

_ (¬1) ينظر: "الروضة الندية شرح العقيدة الواسطية" (ص 83) لشيخنا العلاَّمة زيد بن عبد العزيز الفياض - رحمه الله -. و"شرح العقيدة الطحاوية" (ص 396) لابن أبي العز الحنفي - رحمه الله - ط مؤسسة الرسالة، بتحقيق الشيخ عبد الله بن عبد المحسن التركي، والشيخ شعيب الأرنؤوط.

قال شيخ الإِسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وقد أجمع سلف الأمة وأئمتها على إثبات محبة الله -تعالى- لعباده المؤمنين، ومحبتهم له، وهذا أصل دين الخليل إمام الحنفاء -عليه السلام -" (¬1). وقال أيضًا - رحمه الله -: "وأهل السُّنَّة والجماعة المتبعون لإبراهيم وموسى ومحمد- صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- يثبتون ما أثبتوه من تكليم الله، ومحبته، ورحمته، وسائر ما له من الأسماء الحسنى والمثل الأعلى" (¬2). ¬

_ (¬1) "مجموع الفتاوى" (2/ 354). (¬2) المرجع السابق (16/ 209).

الموضع الحادي عشر تأويل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فوضع يَدَهُ بين كَتِفيَّ ... " في التعليق على "زاد المعاد" للعلاَّمة ابن القيم - رحمه الله -

الموضع الحادي عشر تأويل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فوضع يدة بين كتفي ... "

الموضع الحادي عشر تأويل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فوضع يَدَة بين كَتِفيَّ ... " في التعليق على "زاد المعاد" للعلاَّمة ابن القيم - رحمه الله - * في "زاد المعاد"، للعلاَّمة ابن القيم - رحمه الله: لمَّا أورد المؤلف العلاَّمة ابن القيم (¬1) قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه عن الله تبارك وتعالى أنه قال: "يا مُحَمَّدُ، فيمَ يَخْتَصِمُ المَلأ الأعْلى؟ قلت: لا أدري، فَوَضَعَ يَدَة بَينَ كَتِفَيَّ، فَعَلِمْت ما بين السَّمَاءِ والأرض ... " الحديث (¬2). ا. هـ ¬

_ (¬1) "زاد المعاد" (1/ 136) ط مؤسسة الرسالة ومكتبة المنار الإِسلامية بالكويت ط 13، 1406 هـ. (¬2) رواه الترمذي في "جامعه" (3233) في تفسير سورة {ص} هو من حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - وقال: حسن صحيح. وقال - رحمه الله -: سألت محمَّد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: هذا حديث حسن صحيح. ورواه أيضًا الإِمام أحمد في "المسند" (5/ 243) وغيره. وقد شرح الحافظ ابن رجب الحنبلي - رحمه =

• علَّق المحققان الشيخان: شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط في الحاشية على قوله: "فوضع يده بين كتفيَّ" بما يلي: قال العلاَّمة: علي القاري: وذلك كناية عن تخصيصه إياه بمزيد الفضل عليه، وإيصال الفيض إليه، فإنَّ من شأن المتلطف بمن يحنو عليه أن يضع كفَّه بين كتفيه، تنبيهًا على أنه يريد بذلك تكريمه وتأييده. ا. هـ. * قلت: قوله- صلى الله عليه وسلم -: "فوضع يده بين كلتفيَّ" على ظاهره لا يُمَثَّلُ ولا يُشَبَّهُ ولا يُكَيَّف، وهو على ما يليق به تعالى، فكما أنَّا لا نحيط بكُنْهِ ذاتِهِ -تعالى وتقدس- فكذلك لا نحيط بكيفية ذلك الوضع؛ لأن الكلام في الصفات فرع عن ¬

_ = الله- هذا الحديث في رسالة سمَّاها: "اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى" وهي مطبوعة. ومن أجود طبعاتها التي حققها الشيخ جاسم الفهيد الدوسري، والذي عُني بها وبطرق الحديث عناية بالغة - جزاه الله خيرًا - وقد طبعت في الكويت بمكتبة دار الأقصى عام 1406 هـ.

الكلام في الذات. فما ورد من صفة الفعل في هذا الحديث لا نتأوله بكناية ولا غير ذلك بل هو على ظاهره لكنه على ما يليق بذات الله تعالى وجلاله سبحانه (¬1) {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [سورة الشورى، الآية: 11] (¬2). قال العلاَّمة الحافظ ابن رجب الحنبلي - رحمه الله -: "وأما وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه -عزَّ وجَلَّ- بما وصفه به؛ فكلُّ ما وصفَ النبي - صلى الله عليه وسلم - به ربَهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فهو حقٌّ وصدقٌ يجب الإيمان والتصديق به، كما وصف الله -عزُّ وجلَّ- به نفسه، مع نفي التمثيل عنه، ومَنْ أشكل عليه فَهْمُ شيءٍ من ذلك واشتبه عليه فليقل كما مَدَحَ الله -تعالى- به الراسخين في العلم وأخبر عنهم (أنهم) ¬

_ (¬1) ولا يعلم كيفيته سواه -سبحانه- كالاستواء والنزول وغيرهما. (عبد العزيز بن عبد الله بن باز). (¬2) وقوله سبحانه: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [سورة الإخلاص، الآية: 4]، وقوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)} [سورة النحل، الآية: 74]. (عبد العزيز بن عبد الله بن باز).

يقولون عند المتشابه: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [سورة آل عمران، الآية: 7]، وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في القرآن: "وماجهلتم منه فكِلُوه إلى عالِمِهِ" (¬1) خرجه الإِمام أحمد والنسائي وغيرهما، ولا يتكلف ما لا علم له به، فإنه يُخْشَى عليه من ذلك الهَلَكَةُ" (¬2). ¬

_ (¬1) جزء من حديث أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (11/ 216 - 217) رقم (20367) وأحمد في "المسند" (2/ 181، 185) برقم (6668) و (6741)، والبخاري في "خلق أفعال العباد" (ص 63)، والآجري في "الشريعة" (ص 67 - 68) والبغوي في "شرح السُّنة" (1/ 260) رقم (121) والبيهقي في "شعب الإيمان" (2258)، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جَدِّه. (¬2) "اختيار الأولَى" (ص 40 - 41).

الموضع الثاني عشر تأويل صفة الكلام في التعليق على "المسند"

الموضع الثاني عشر تأويل صفة الكلام

الموضع الثاني عشر تأويل صفة الكلام في التعليق على "المسند" * في "المسند" (¬1) علَّق المحققان الشيخ شعيب الأرنؤوط وعادل مُرشد على الحديث المخرج في الصحيحين وغيرهما وهو قوله - صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يُكَلِّمُهُمُ الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجلٌ على فَضْلِ ماء بالفَلاة يمنعه من ابن السبيل، ورجل بايع الإِمام لا يبايعه إلا ¬

_ (¬1) (12/ 410 - 411) ط الرسالة، وهو في "صحيح البخاري" (7446) كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22، 23] وفي مواضع أخرى بألفاظٍ مقاربة. و"صحيح مسلم" (108) كتاب الإيمان: باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية وتنفيق السلعة بالحلف، وبيان الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذابٌ أليم.

لدنيا، فإن أعطاه منها وفى له، وإن لم يعطه لم يفِ له، قال: ورجل بايع رجلاً سلعة بعد العصر فحلف له بالله لأخَذَها بكذا وكذا، وصدَّقه، وهو على غير ذلك". • جاء في تعليق المحققين: "قوله: "لا يكلمهم الله" إلخ، قال السندي: كناية عن الغضب العظيم عليهم". * قلت: والصواب: أن قوله- صلى الله عليه وسلم -: "لا يكلمهم الله" على ظاهره، فإن الله يكلم من شاء من خلقه، من الأنبياء والملائكة وسائر عباده، وفي الآخرة يكلم من شاء من عباده المؤمنين، وقد يعاقب بعض المسلمين- كهؤلاء المذكورين في الحديث- بأن لا يكلمهم، وهذا من لازمه غضب الله وسخطه عليهم. "فالكلام صفة من صفات الله تعالى اللائقة بجلاله تعالى وهي صفة قائمة به سبحانه لا ابتداء لاتصافه بها ولا انتهاء، ويتكلم بمشيئته واختياره -جل وعلا-، من غير مشابهة في

ذلك لشيء من مخلوقاته" (¬1). ¬

_ (¬1) ينظر: "العقيدة الواسطية" وشرحها: "الروضة الندية" (ص 145 - 159) لشيخنا العلاَّمة زيد بن عبد العزيز الفياض - رحمه الله -، و"العقيدة السلفية في كلام رب البرية" للشيخ عبد الله بن يوسف الجديع. ط الأولى 1408 هـ.

الموضع الثالث عشر تأويل صفة النظر في التعليق على "المسند"

الموضع الثالث عشر تأويل صفة النظر

الموضع الثالث عشر تأويل صفة النظر في التعليق على "المسند" * في تعليق الشيخ شعيب الأرنؤوط وزميله عادل مرشد على "المسند" (¬1). على ما رواه أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن الذي يأتي امرأته في دبرها لا ينظر الله إليه" (¬2). • قال المحققان في الهامش: قوله: "لا ينظر الله إليه" قال السندي: أي نظر رحمة، ¬

_ (¬1) (13/ 111 - 113) رقم (7684) ط الرسالة. (¬2) ورواه -أيضاً- ابن ماجه (1923) كتاب النكاح: باب النهي عن إتيان النساء في أدبارهن. ورواه من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- الترمذي في "جامعه" (1165) كتاب الرضاع: باب ما جاء في كراهية إتيان النساء في أدبارهن. وينظر: "تهذيب السنن" (6/ 140 - 141) للعلاَّمة ابن القيم - رحمه الله -.

فهو كناية عن غضب الله تعالى عليه، وهو كناية عن هوانِه وحقارته عنده تعالى. ا. هـ. * قلت: بل قول المصطفى- صلى الله عليه وسلم -: "ينظر الله إليه" على ظاهره، وليس كنايةً. نعم من مقتضى ذلك غضب الله تعالى على من لم ينظر إليه، وهوانه على ربه (¬1). ¬

_ (¬1) وأما الكيفية فلا يعلمها سواه -سبحانه- (عبد العزيز بن عبد الله بن باز).

الموضع الرابع عشر تأويل قول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله -عز وجل- قِبَلَ وجهِ أحدكم في صلاته ... " في التعليق على "المسند"

الموضع الرابع عشر تأويل قول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله -عز وجل- قبل وجه أحدكم في صلاته ... "

الموضع الرابع عشر تأويل قول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله -عَزَّ وَجَلَّ- قِبَلَ وجهِ أحدكم في صلاته ... " في التعليق على "المسند" * علَّق المحققان الشيخ شعيب الأرنؤوط وعادل مرشد على قول النبي - صلى الله عليه وسلم: "إن الله -عَزَّ وَجَلَّ- قِبَلَ وجه أحدِكم في صلاته، فلا يتنخمن أحد منكم قبل وجهه في صلاته". وهو مخرج في "الصحيحين" (¬1). • جاء في الحاشية لهما على "المسند" (¬2): ""قبل وجه أحدكم" أي هيئةُ إقبالكم عليه تعالى في الصلاة تشبه هيئة الإقبال على من كان قبل وجهكم، فلا يناسب ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" (406) كتاب الصلاة: باب حك البُزَاق باليد من المسجد، وفي مواضع أخرى. و"صحيح مسلم" (547) كتاب المساجد: باب النهي عن البصاق في المسجد، في الصلاة وغيرها. (¬2) (8/ 103) رقم (4509).

هذه الهيئة إلقاء النخامة في جهة القبلة". ا. هـ. * قلت: وهذا تأويل، فالحديث على ظاهره، وهو من أدلة الفوقية وأن الله تعالى في العلو كما قرر ذلك العلاَّمة ابن القيم - رحمه الله- فهو -تعالى وتقدَّس- قِبَلَ وَجْهِ العبد مع علوه سبحانه (¬1)، ولا نشبهه تعالى في هذه الصفة ولا في غيرها بأحدٍ من خلقه ولا نكيف ذلك، كما قال جل شأنه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - (¬2): الحديث حقٌ على ظاهره وهو -سبحانه- فوق العرش وهو قِبَلَ وجه المصلي؛ بل هذا الوصف يثبت للمخلوقات، فإن الإنسان لو أنه يناجي السماء أو يناجي الشمس والقمر لكانت السماء والشمس والقمر فوقه، وكانت أيضًا قِبَلَ وجهه. ولله المثل الأعلى، ولكن المقصود هو بيان جواز هذا وإمكانه، لا تشبيه الخالق بالمخلوق. والله أكبر. ¬

_ (¬1) ينظر: "مختصر الصواعق المرسلة" (ص 395) للعلاَّمة ابن القيم - رحمه الله - ط دار الحديث. (¬2) ينظر: "مجموع الفتاوى" (5/ 107).

الموضع الخامس عشر تأويل صفة اليد والأصابع في التعليق على "صحيح ابن حبان"

الموضع الخامس عشر تأويل صفة اليد والأصابع

الموضع الخامس عشر تأويل صفة اليد والأصابع في التعليق على "صحيح ابن حبان" * علَّق الشيخ شعيب الأرنؤوط في "صحيح ابن حبان" (¬1) على الحديث المخرج في "الصحيحين" (¬2) وغيرهما وهو ما رواه عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه - قال: "جاء حَبْرٌ من اليهود إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله: إذا كان يومُ القيامة جعل الله السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والخلائق كلَّها على ¬

_ (¬1) "الإحسان" (16/ 321) رقم الحديث (7326). (¬2) "صحيح البخاري" (4811) كتاب التفسير: باب قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [من سورة الزمر، الآية: 67]، و (7414) كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص، الآية: 75]، و (7513) باب كلام الرب -عَزَّ وَجَلَّ- يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم. "صحيح مسلم" (2786) كتاب صفة القيامة والجنة والنار.

إصبع، ثم يَهُزُهُنَّ، ثم يقول: أنا المَلِكٌ، فلقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحك حتى بدت نواجذه تعجبًا لما قال اليهودي، تصديقًا له، ثم قرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [سورة الزمر، الآية: 67]. • علَّق الشيخ شعيب الأرنؤوط في الحاشية بما يلي: قال الخطابي - ونقله عنه البيهقي في "الأسماء والصفات" (ص 335 - 338) ولخصه الحافظ في "الفتح" (3/ 398): وذكر الأصابع لم يوجد في شيء من الكتاب ولا من السنة المقطوع بصحتها، وليس معنى اليد في الصفات بمعنى الجارحة حتى يتوهم بثبوتها ثبوت الأصابع، بل هو توقيف شرعي أطلقنا الاسم فيه على ما جاء به الكتاب من غير تكييف ولا تشبيه، ولعل ذكر الأصابع من تخليط اليهود، فإن اليهود مشبهة، وفيما يَدَّعونه من التوراة ألفاظ تدخل في باب التشبيه، ولا تدخل في مذاهب المسلمين، وأما ضحكه - صلى الله عليه وسلم - من قول الحبر، فيحتمل الرضا والإنكار، وأما قول الراوي: "تصديفا له" فظنٌ منه وحسبان، وقد جاء الحديث من عدة طرق ليس فيها هذه الزيادة، وعلى تقدير صحتها، فقد يستدل بحمرة الوجه على الخجل، وبصفرته على الوجل،

ويكون الأمر بخلاف ذلك، فقد تكون الحمرة لأمرٍ حدث في البدن كثوران الدم، والصفرة لثوران خلط ونحوه، فالاستدلال بالتبسم والضحك في مثل هذا الأمر الجسيم قَدْرُه، الجليلِ خَطْرُه، غير سائغ مع تكافؤ وجهي الدلالة المتعارضين فيه. وعلى تقدير أن يكون ذلك محفوظًا، فهو محمول على تأويل قوله تعالى: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [سورة الزمر، الآية: 67]، أي: قدرته على طيها وسهولة الأمر عليه في جمعها، بمنزلة من جمع شيئًا في كفه، واستقلَّ بحمله من غير أن يجمع كفَّه عليه، بل يُقِلُّهُ ببعض أصابعه، وقد جرى في أمثالهم: فلانٌ يُقِلُّ كذا بأصبعه ويعمله بخنصره، ويؤكد ما ذهبنا إليه حديث أبي هريرة رفعه "يقبض الله الأرض، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض" رواه البخاري في "الصحيح"، وهذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ولفظه جاء على وفاق الآية من قوله عَزَّ وَجَلَّ {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} وليس فيه ذكر الأصابع، وتقسيم الخليقة على أعدادها، فدلَّ أن ذلك من تخليط اليهود وتحريفهم وأن ضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان على التعجب منه

والنكير له (¬1)، والله أعلم. * قلت: هذا الكلام ليس على الجادَّة، بل هو تحريفٌ للكلم عن مواضعه، وتأويلٌ قبيح لصفات الربَّ -سبحانه-، فصفة اليد ثابتة لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته -سبحانه- ثبتت بذلك الأدلة من القرآن والسنة "الصحيحة" قال الله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص، الآية: 75]، وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه - أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله -عزَّ وجلَّ- يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها" أخرجه مسلم (¬2). ¬

_ (¬1) قال الإِمام أبو بكر بن خزيمة - رحمه الله -: "قد أَجَلَّ اللهُ قَدْرَ نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن أن يوصف الخالق البارئ بحضرته بما ليس من صفاته، فيسمعه فيضحك عنده، ويجعل بدل وجوب النكير والغضب على المتكلم به ضحكًا تبدو نواجده، تصديقًا وتعجبًا لقائله، لا يصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الصفة مؤمنٌ مصدقٌ برسالته" ا. هـ "كتاب التوحيد" (1/ 178). (¬2) "صحيح مسلم" (2760) كتاب التوبة: باب غيرة الله. ولينظر ما =

وقد أثبت أئمة أهل السُّنَّة من الصحابة وتابعيهم صفة الأصابع لله تعالى، مع تنزيهه عن مشابهة خلقه أو تكييف ذلك، واسترشدوا في هذا بخبر المعصوم - صلى الله عليه وسلم -. فعن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أنه سمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ قُلوبَ بني آدم كُلِّها بين إصْبَعَين من اصابع الرحمن، كقلبٍ واحدٍ، يُصَرِّفُه حيث يشاء" خَرَّجه مسلم (¬1). وعن أنس -رضي الله عنه - أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال: "إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلِّبها كيف يشاء، أخرجه الترمذي وغيره (¬2). ¬

_ = تقدم في صدر هذه الرسالة في بحث إثبات اليد لله -سبحانه-. (¬1) "صحيح مسلم" (2654) كتاب القدر: باب تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء. (¬2) "جامع الترمذي" (2141) كتاب القدر: باب ما جاء أن القلوب بين أصبع الرحمن. ورواه ابن ماجه (3834) كتاب الدعاء: باب دعاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، وأحمد في "المسند" (3/ 112، 257). وهو في "سنن ابن ماجه" أيضًا برقم (199) في =

وإثبات الأصابع لله -سبحانه- لا يقتضي مشابهته في ذلك لخلقه، بل الأمر في هذا وفي سائر صفاته -تعالى- كما قال -جل وعلا- عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [سورة الشورى، الآية: 14]. ولما سُئل سفيان بن عيينة - رحمه الله - عن هذا الحديث -الذي ذكر فيه الأصابع- في عِدَّةٍ من أحاديث الصفات قال رحمه الله: هي كما جاءت، نُقِرُّ بها، ونُحَدَّثُ بها بلا كيف (¬1). ¬

_ = المقدمة: بابٌ فيما أنكرت الجهمية، من حديث النواس بن سمعان الكِلابي -رضي الله عنه -. قال الترمذي - رحمه الله -: "وفي الباب عن النواس بن سمعان وأم سلمة وعبد الله بن عمرو وعائشة -رضي الله عنهم -". (¬1) ينظر: "كتاب الصفات" (ص 38) للدارقطني، ط مكتبة الدار بالمدينة 1402هـ، تحقيق الشيخ عبد الله الغنيمان. وينظر أيضًا: "الأربعين في دلائل التوحيد" (2/ 75) لأبي إسماعيل الهروي، ط الشيخ علي الفقيهي، و"مجموع الفتاوى" (5/ 43) و (4/ 183). و"بيان تلبيس الجهمية" (1/ 423) و"درء التعارض" (3/ 312) و (9/ 34) لشيخ الإِسلام ابن تيمية. و"القصيدة النونية" مع شرحها لابن عيسى (1/ 462 و 474) و (2/ 298) ط المكتب الإِسلامي، =

وقال الإِمام الحافظ البغوي - رحمه الله -: والأصبع المذكورة في الحديث صفةٌ من صفات الله -عَزَّ وَجَلَّ- وكذلك كُلُّ ما جاء به الكتابُ أو السُّنَّةُ من هذا القبيل في صفات الله -تعالي- كالنَّفْسِ، والوجه، والعين، واليد، والرِّجْل، والإتيان، والمجيء، والنزول إلى السماء الدنيا، والاستواء على العرش، والضحك، والفرح، فهذه ونظائرها صفاتٌ لله -تعالى- وَرَدَ بها السمع ويجب الإيمانُ بها، وإمرارُها على ظاهرها، مُعْرِضًا فيها عن التأويل، مجتنبًا عن التشبيه، معتقدًا أنَّ الباري -سبحانه وتعالى- لا يشبهُ شيء من صفاته صفات الخَلْق، كما لا تشبه ذاتُه ذوات الخلق، قال الله -سبحانه وتعالى- {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} سورة الشورى، الآية: 11] ا. هـ (¬1). ¬

_ = وينظر -لزامًا- "كتاب التوحيد" (1/ 187 وما بعدها) للإمام. أبو بكر بن خزيمة - رحمه الله -. (¬1) ينظر: "شرح السُّنَة" (1/ 168 - 170) ط المكتب الإِسلامي، بتحقيق: زهير الشاويش، وشعيب الأرنؤوط.

الموضع السادس عشر تأويل صفة القَدَم لله- تعالى- في التعليق على "المسند"

الموضع السادس عشر تأويل صفة القدم لله -تعالى-

الموضع السادس عشر تأويل صفة القَدَم لله -تعالى- في التعليق على "المسند" * في "المسند" (¬1) عند حديث أبي هريرة المرفوع إليه - صلى الله عليه وسلم - قال: "احتجَّت الجنة والنار، فقالت الجنة: يا رب مالي لا يدخلني إلا فقراء الناس وسقَطُهم؟ وقالت النار: يا رب مالي لا يدخلني إلا الجبارون والمتكبرون؟ فقال للنار: أنتِ عذابي أُصيب بك من أشاء، وقال للجنة: اتتِ رحمتي أُصيب بك من أشاء، ولكل واحدةٍ منكما ملؤها، فأمَّا الجنة، فإن الله ينشيءُ لها ما يشاء، وأما النار فيلقون فيها، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع قدمه فيها، فهنالك تمتليء، ويُزوى بعضها إلى بعض، وتقول: قط، قط، قط" الحديث مخرج في "الصحيحين" (¬2). ¬

_ (¬1) (13/ 150 - 152). (¬2) "صحيح البخاري" (4850) كتاب التفسير: باب قوله: {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [سورة ق، الآية: 30]، "صحيح مسلم" (2846) [35]، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها: باب النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء.

• جاء في حاشية المحققين شعيب الأرنؤوط وعادل مرشد: ""قدمه" وجاء "رجله" هو من المتشابه، وقيل: تأويل الرِّجْل بالجماعة، والقدم: بالذين قدمهم لها من شرار خلقه، كما أن المسلمين قدمه إلى الجنة". وقيل: هو كناية عن الرَّوع والقَمْع، أي: حتى يأتيها أمر الله، فيكفها عن طلب المزيد، وقيل: أراد تسكين فورتها، كما يقال لأمر أراد إبطاله: وضعته تحت قدمي. وقال أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه" (268) بإثر حديث أنس بن مالك رفعه: "يلقى في النار، فتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع الربُّ جل وعلا قدمه فيها فتقول: قط قط": هذا الخبر من الأخبار التي أُطلِقت لتمثيل المجاورة، وذلك أن يوم القيامة يلقى في النار من الأُمم والأمكنة التي عُصِيَ الله عليها، فلا تزال تستزيد حتى يضع الرب -جل وعلا- موضعًا من الكفار والأمكنة في النار فتمتليء فتقول: قط قط، تريد: حسبي حسبي؛ لأن العرب تطلق في لغتها اسم القدم على الموضع، قال الله -جل وعلا-: {لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [سورة يونس، الآية: 2]، يريد: موضع صدق، لا أن الله -جَلَّ

وعلا- يضع قَدَمه في النار، جل رَبُّنا وتعالى عن مثل هذا وأشباهه" ا. هـ. * قلت: وهذا الذي قرره المحققان مجانب للصواب وكذا ما نقلاه عن ابن حبان - رحمه الله -، فصفة القَدِمِ وكذا الرَّجْل ثبت بها الحديث عن المصطفى- صلى الة عليه وسلم - فوجب إثباتها لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته سبحانه وتعالى من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه (¬1). وهذا الحديث أورده الإِمام الحافظ أبو إسماعيل الهروي المتوفى عام (481 هـ) - رحمه الله - في كتابه: "الأربعين في دلائل التوحيد" (¬2) وبوَّب عليه فقال: باب إثبات القدم لله -عز وجل-. ¬

_ (¬1) ينظر: "كتاب التوحيد" (1/ 202 - 231) للإمام ابن خزيمة - رحمه الله - بتحقيق الشيخ عبد العزيز الشهوان. و"الروضة الندية شرح العقيدة الواسطية" (ص 182 - 186) لشيخنا العلاَّمة زيد بن عبد العزيز الفياض - رحمه الله -. (¬2) (2/ 77) بتحقيق الشيخ علي بن محمَّد الفقيهي.

قال الحافظ البغوي - رحمه الله - في "شرح السنة" (¬1): "القدم والرِّجلان (¬2) المذكوران في هذا الحديث من صفات الله -سبحانه وتعالى- المنزَّه عن التكييف والتشبيه، وكذلك كُلُّ ما جاء من هذا القبيل في الكتاب أو السنة كاليد، والإصبع، والعين، والمجيء والإتيان، فالإيمان بها فرض، والامتناع عن الخوض فيها واجب، فالمهتدي من سلك فيها طريق التسليم، والخائض فيها زائغ، والمنكِرُ معطِّل، والمكيف مشبه، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [سورة الشورى، الآية: 11]. اهـ (¬3). ¬

_ (¬1) (15/ 275) ط المكتب الإِسلامي، وهو خاتمة كلامه في "شرح السنة". (¬2) كذا في الأصل (الرِّجلان) بالتثنية، وصححها سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز إلى (الرِّجْل) بالإفراد. (¬3) وهذا الذي قاله الإِمام البغوي - رحمه الله - هو قولُ أهل السُّنَّة والجماعة، كما ذكر ذلك شيخ الإِسلام ابن تيمية - رحمه الله - في كتبه الثلاثة: "الحموية" و"التدمرية" و"الواسطية". والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمَّد. (عبد العزيز بن عبد الله بن باز).

فتوى حول تأويل آيات الصفات وحديث: " ... من تقرَّب إليَّ شبرًا تقرَّبت إليه ذراعًا ... " من إجابات سماحة الشيخ العلاَّمة عبد العزيز بن عبد الله بن باز - نفع الله به-

فتوى حول تأويل آيات الصفات من إجابات سماحة النسخ العلامة عبد العزيز بن باز

فتوى حول تأويل آيات الصفات من إجابات سماحة النسخ العلَّامة عبد العزيز بن باز (¬1) يقول السائل: سمعنا من بعض العلماء أن أهل السُّنَّة والجماعة يتأوَّلون بعض الآيات التي في الصفات، فهل هذا صحيح أن مذهبهم التأويل أم أنهم يضطرون إلى ذلك، أفيدونا أفادكم الله؟ الجواب: الصواب الذي أقرَّه أهل العلم من أهل السُّنَّة والجماعة أنه لا تأويل في آيات الصفات ولا في أحاديثها، وإنما المؤولون هم الجهمية والمعتزلة، والأشاعرة في بعض الصفات، وأما أهل السُّنَّة والجماعة المعروفون بعقيدتهم النقيَّة فإنهم لا يؤولون، وإنما يقرون آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت بغير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، لا استواء، ولا القدم، ولا اليد، ولا الأصابع، ولا الضحك، ولا الرضا، ولا الغضب، كلها يمرونها كما جاءت مع الإيمان بأنها ¬

_ (¬1) "فتاوى نور على الدرب" (1/ 73 - 75). إعداد الشيخ محمَّد بن موسى الموسى، والشيخ عبد الله بق محمَّد الطيار. ط دار الوطن، الرياض 1418 هـ.

حق، وأنها صفات لربنا -سبحانه وتعالى-، يجب إثباتها له -سبحانه وتعالى- على الوجه اللائق به -سبحانه- من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل. وبعض الناس يؤول الضحك بأنه الرضا، ويؤول المحبة بأنها إرادة الثواب، والرحمة كذلك، وهذا كله لا يرضاه أهل السُّنَّة والجماعة، بل الواجب إمرارها كما جاءت، وأنها حق، فهو سبحانه يحب محبة حقيقية تليق به لا يشابهها محبة المخلوقين، ويرضى، ويغضب، ويكره، وهي صفات حقيقية قد اتصف بها ربنا على الوجه اللائق به لا يشابه فيها خلقه، كما قال -عَزَّ وَجَلَّ-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [سورة الشورى، الآية: 11]. وهكذا، يضحك ربنا كما جاء في النصوص ضحكًا يليق بجلاله، لا يشابه خلقه في شيء من صفاته، وهكذا استواؤه على عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته لا يشابه الخلق في شيء من صفاته -سبحانه وتعالى-. والمقصود أن التأويل لا يجوز عند أهل السُّنَّة بل الواجب إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت، لكن مع الإيمان بأنها حق، وأنها صفات الله لائقة به، أما التفويض فلا يجوز،

والمفوضة قال أحمد فيهم: إنهم شر من الجهمية، والتفويض أن يقول القائل: الله أعلم بمعناها فقط وهذا لا يجوز؛ لأن معانيها معلومة عند العلماء. قال مالك - رحمه الله -: الاستواء معلوم والكيف مجهول، وهكذا جاء عن الإِمام ربيعة بن أبي عبد الرحمن وعن غيره من أهل العلم، فمعاني الصفات معلومة، يعلمها أهل السُّنَّة والجماعة؛ كالرضا والغضب والمحبة والاستواء والضحك وغيرها وأنها معاني غير المعاني الأخرى، فالضحك غير الرضا، والرضا غير الغضب، والغضب غير المحبة، والسمع غير البصر، كلها معلومة لله -سبحانه- لكنها لا تشابه صفات المخلوقين، يقول ربنا -سبحانه وتعالى-: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [سورة النحل، الآية: 74]، ويقول -سبحانه-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [سورة الثورى، الآية: 11]. ويقول -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [سورة الإخلاص، الآية: 4]، هذا هو الحق الذي عليه أهل السُّنَّة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم-، وأتباعهم بإحسان، ومن تأوَّل ذلك فقد خالف أهل السُّنَّة في صفة أو في أكثر.

حول حديث: " ... من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ... "

حول حديث: " ... من تقرَّب إليَّ شبراً تقرَّبت إليه ذراعًا ... " سؤال: لقد قرأت في رياض الصالحين بتصحيح (السيد) علوي المالكي، ومحمود أمين النواوي حديثًا قدسيًّا يتطرق إلى هرولة الله -سبحانه وتعالى-، والحديث مروي عن أنس -رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه -عز وجل-، قال: "إذا تقرَّب العبد إليَّ شبرًا تقرَّبت إليه ذراعًا، وإذا تقرَّب إليَّ ذراعًا تقرَّبت منه باعًا، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة" [رواه البخاري]. فقال المعلقان في تعليقهما عليه: إن هذا من التمثيل وتصوير المعقول بالمحسوس لزيادة إيضاحه، فمعناه أن من أتى شيئًا من الطاعات ولو قليلاً أثابه الله بأضعافه، وأحسن إليه بالكثير، وإلاَّ فقد قامت البراهين القطعية على أنه ليس هناك تقربٌ حسيٌّ، ولا مشي، ولا هرولة من الله -سبحانه وتعالى-، عن صفات المحدثين.

فهل ما قالاه في المشي والهرولة موافق لما قاله سلف الأمة على إثبات صفات الله وإمرارها كما جاءت، وإذا كان هناك براهين دالة على أنه ليس هناك مشي ولا هرولة فنرجو منكم إيضاحها والله الموفق؟ الجواب (¬1): الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه. أما بعد: فلا ريب أن الحديث المذكور صحيح، فقد ثبت عن رسول الله -عليه الصلاة والسلام - أنه قال: "يقول الله -عز وجل-: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، ومن تقرَّب إليَّ شبرًا تقرَّبت منه ذراعًا، ومن تقرَّب مني ذراعًا تقرَّبت منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة". وهذا الحديث الصحيح يدل على عظيم فضل الله -عز وجل-، وأنه بالخير إلى عباده أجود، فهو أسرع إليهم بالخير ¬

_ (¬1) إجابة سماحة شيخنا العلاَّمة عبد العزيز بن باز. يُنظر "فتاوى نور على الدرب" (1/ 76 - 80).

والكرم والجود، منهم في أعمالهم، ومسارعتهم إلى الخير والعمل الصالح. ولا مانع من إجراء الحديث على ظاهره على طريق السلف الصالح، فإن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - سمعوا هذا الحديث من رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ولم يعترضوه، ولم يسألوا عنه، ولم يتأولوه، وهم صفوة الأمة وخيرها، وهم أعلم الناس باللغة العربية، وأعلم الناس بما يليق بالله وما يليق نفيه عن الله -سبحانه وتعالى-. فالواجب في مثل هذا أن يُتلقى بالقبول، وأن يحمل على خير المحامل، وأن هذه الصفة تليق بالله لا يشابه فيها خلقه فليس تقرُّبه إلى عبده مثل تقرُّب العبد إلى غيره، وليس مشيه كمشيه، ولا هرولته كهوولته، وهكذا غضبه، وهكذا رضاه، وهكذا مجيئه يوم القيامة وإتيانه يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده وهكذا استواؤه على العرش، وهكذا نزوله في آخر الليل كل ليلة، كلها صفات تليق بالله -جل وعلا- لا يشابه فيها خلقه. فكما أن استواءه على العرش، ونزوله في آخر الليل في الثلث الأخير من الليل، ومجيئه يوم القيامة، لا يشابه استواء

خلقه ولا مجيء خلقه ولا نزول خلقه؛ فهكذا تقرُّبه إلى عباده العابدين له والمسارعين لطاعته، وتقربه إليهم لا يشابه تقربهم، وليس قربه منهم كقربهم منه، وليس مشيه كمشيهم، ولا هرولته كهرولتهم (بل هو شيء) يليق بالله لا يشابه فيه خلقه -سبحانه وتعالى- كسائر الصفات، فهو أعلم بالصفات وأعلم بكيفيتها -عَزَّ وَجَلَّ-. وقد أجمع السلف على أن الواجب في صفات الرب وأسمائه إمرارها كما جاءت، واعتقاد معناها وأنه حق يليق بالله -سبحانه وتعالى-، وأنه لا يعلم كيفية صفاته إلا هو. كما أنه لا يعلم كيفية ذاته إلا هو، فالصفات كالذَّات، فكما أن الذَّات يجب إثباتها لله وأنه سبحانه وتعالى هو الكامل في ذلك، فهكذا صفاته يجب إثباتها له -سبحانه- مع الإيمان والاعتقاد بأنها أكمل الصفات وأعلاها، وأنها لا تشابه صفات الخلق، كما قال -عَزَّ وَجَلَّ-: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [سورة الإخلاص].

وقال عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)} [سورة النحل، الآية: 74]. وقال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى، الآية: 11]. فردَّ على المشبهة بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. وقوله: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ}. وردَّ على المُعطلة بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. وقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2)}. و {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} إلى غير ذلك. فالواجب على المسلمين علماء وعامة إثبات ما أثبته الله لنفسه، إثباتًا بلا تمثيل، ونفي ما نفاه الله عن نفسه، وتنزيه الله عما نزَّه عنه نفسه، تنزيهًا بلا تعطيل، هكذا يقول أهل السُّنَّة

والجماعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأتباعهم من سلف الأمة كالفقهاء السبعة وكمالك بن أنس، والأوزاعي، والثوري، والشافعي، وأحمد، وأبي حنيفة، وغيرهم من أئمة الإِسلام، يقولون: أَمِرُّوهَا كما جاءت، وأَثْبِتُوهَا كما جاءت من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل. وأما ما قاله المعلقان في هذا "علوي وصاحبه محمود" فهو كلام ليس بجيد وليس بصحيح، ولكن مقتضى هذا الحديث أنه -سبحانه- أسرع بالخير إليهم، وأولى بالجود والكرم، ولكن ليس هذا هو معناه، فالمعنى شيء، وهذه الثمرة، وهذا المُقْتَضَى شيء آخر، فهو يدل على أنه أسرع بالخير إلى عباده منهم، ولكنه ليس هذا هو المعنى، بل المعنى يجب إثباته لله من التقرب، والمشي، والهرولة، يجب إثباته لله على الوجه اللائق به -سبحانه وتعالى-، من غير أن. يشابه خلقه في شيء من ذلك، فنثبته لله على الوجه الذي أراده الله من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل. وقولهم: إن هذا من تصوير المعقول بالمحسوس: هذا غلط، وهكذا يقول أهل البدع في أشياء كثيرة، وهم يؤولون، والأصل عدم التأويل، وعدم التكييف، وعدم التمثيلِ

والتحريفِ، فَتُمَرُّ آياتُ الصفات وأحاديثُها كما جاءت، ولا يُتَرَّضُ لها بتأويل ولا بتحريف ولا بتعطيل، بل نثبت معانيها لله كما أثبتها لنفسه، وكما خاطبنا بها، إثباتًا يليق بالله لا يشابه الخلق -سبحانه وتعالى- في شيء منها، كما نقول في الغضب، واليد، والوجه، والأصابع، والكراهة، والنزول، والاستواء، فالباب واحد، وباب الصفات باب واحد.

خاتمة

خاتمة وبعد، فإن ما تقدم التنبيه إليه مما وقع في تحقيقات الشيخ شعيب الأرنؤوط وتعليقاته على بعض الصفات وتأويله لها، وإجرائها على طريقة المبتدعة، ومخالفة منهج السلف أهل السُّنَة والجماعة -ما تقدم- هو أكثر ما وقفت عليه من ذلك، والمقصود هو التنبيه على تلك الأخطاء والحذر منها ومن الاغترار بها. نسأل الله تعالى أن يسلك بنا مسلك الحق والصواب من غير ابتداع، وأن ينظمنا في سلك أتباع نبيه - صلى الله عليه وسلم - المقتفين لأثره المتبعين لسُنَّته، كما أسأله جل وعلا أن يُصلح أحوال المسلمين ويوفقهم للعمل بكتابه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، إنه سبحانه خير مسئول وأكرم مأمول. وصلى الله وسلم على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.

صدر للمؤلف

صدر للمؤلف - شرح ستة مواضع من السيرة: للشيخ محمَّد بن عبد الوهاب "تحقيقاً". - تهذيب السيرة النبوية: للعلامة النووي "تحقيقاً". - مختصر السيرة وسيرة أصحاب العشرة: للحافظ عبد الغني المقدسي "تحقيقاً". - القوادح في العقيدة: ووسائل السلامة منها لسماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز "تحقيقاً". - لطائف وفوائد من الحياة الزوجية في بيت النبوة. - طهارة بيت النبوة: دراسة لحادثة الإفك. - مسائل في عذاب القبر ونعيمه والحياة البرزخية. - أسباب تحقيق العفاف. - أحوال الناس بعد الموت. - الستر على أهل المعاصي.

§1/1