اتجاهات الشعر العربي المعاصر

إحسان عباس

اتجاهات الشعر العربي المعاصر

اتجاهات الشعر العربي المعاصر تمهيد كانت النية تتجه؟ حين أخذت في رسم حدود هذا البحث - أن يكون دراسة مبسطة موجزة، ولكن المطلبين: التبسيط والإيجاز قد يقعان في تعارض أحيانا، فالتبسيط مثلا يتطلب القدر اليسير من الأحكام النظرية والقواعد الفكرية، والإكثار من الأمثلة والمقارنات، والإيجاز يعني الاكتفاء بأمثلة قليلة. ثم أن التبسيط في ميدان الشعر المعاصر ناشب؟ طواعية - في أنواع مختلفة من الصعوبات، قد يكون غاية في ذاته، حين يراد تقريب هذا الشعر للقراء، ولكن هذا لا يعني أن " عملية " التبسيط سهلة، أو أنها ممكنة في بعض المواقف. ثم أن من يريد أن يكتب بحثا في " اتجاهات " الشعر المعاصر، يحتاج إلى أن تكون بين يديه دراسات عن أفراد الشعراء، وإلا ذهب؟ كما ذهبت - يدرس كل شاعر على حدة، ليتخلص من تلك الدراسة المطولة بعض الظواهر التي يدرجها تحت عنوان " الاتجاهات "، وهذا يعني أن البحث المبسط قد استغرق جميع الجهد المبذول؟ والوقت الطويل - في عدد كبير من دراسات غير مبسطة. ثم أن تقريب بحث ما إلى أكبر عدد ممكن من القراء يعتمد على المنهج نفسه الذي اختاره المؤلف، وقد اخترت منهجا لا يعد في نظري ابسط المناهج في العرض والتوضيح، وان حاولت أن اجعل المحتوى واضحا بقدر الإمكان، ذلك أني وجدتني أقف بين أمرين: بين أن اختار طريقة مألوفة في دراسة الشعر: من خلال الاتجاه السياسي، أو الاتجاه القومي، أو الاتجاه؟ الخ، وبين أن أكون أقرب

إلى روح الشعر الحديث من حيث اعتماده العمق النفسي والفكري، فاخترت الثاني، لأن النوع الأول من الدراسة يحيل الشعر إلى وثائق، دون أن يركز البحث حول فكرة؟ أو أفكار - معينة، فيغدو أشبه شيء بالعرض التاريخي والوصف السطحي، لمظاهر، لا يعد الشعر أهم شواهدها أو وثائقها، وقد يكون المنهج الذي اخترته وثائقيا إلى حد، ولكنه متصل بحقيقة الشعر، لا بحقيقة التاريخ، ومحمله الفكري أعمق، والقدرة فيه على اكتشاف الفعاليات الفكرية والنفسية أرحب مجالا، ورغبة في تجنب " الوثائقية " المحض، وجدتني في الغالب - أقف عند النماذج التي أجدها ذات قيمة فنية في ذاتها إلى جانب ما قد يكون لها من قيمة " وثائقية "، وكل باحث يعرف أن الشعر حين يستخدم وثيقة يستوي فيه الجيد والرديء، بل كثيرا ما تكون النماذج الرديئة اكثر دلالة حين يستشهد بها، لأنها أكثر طواعية وأبعد عن " حذاقة " الفن ودقته. وقد كان هذا النهج الذي أخذت به نفسي، مصدرا لصعوبة جديدة، لا أعني بذل الوقت الطويل في الانتقاء، وأنما أعني الصعوبة التي تقف عائقا دون التبسيط المراد. وقد كان من حسنات هذا المنهج أنه يمكن القارئ من إدراك " الركائز " الهامة في مواقف الشاعر، وفي شعره، ولكن من سيئاته أنه يحجب تطور هذا الشعر، كما يحجب التفاوت في مدى التطور، فهنا شعراء يؤخذون معا في نطاق واحد، دون إبراز شمولي للدور الحقيقي لكل شاعر، ولمكانته الصحيحة في تيار الشعر الحديث، كذلك كان في إخضاع هذا المنهج للإيجاز مأخذ آخر وهو الاكتفاء بذكر عدد محدود من الشعراء والإعراض عن ذكر آخرين، والشعراء العاصرين كثيرون، وإنتاجهم غزير، لهذا أجد أنه لا بد من القول بأن إغفال شاعر لا يعني عدم الاهتمام بشعره

أو الجهل بمكانته، ولكني إنما أقدم نموذجا وحسب، وأنا وإن كنت لم أحط بكل الشعر المعاصر؟ على وجه الشمول - فإني درست أضعاف أضعاف العدد الذي ذكرته من الشعراء. وحين ترد كلمة " المعاصر " في عنوان هذا البحث، فإنها قد تتسع لتشمل الشعر منذ مطلع هذا القرن، وقد تضيق فتقتصر على شعراء الحقبة الأخيرة، ففي هذه اللفظة من الخداع الزمني ما في لفظة " الحديث "؟ على تفاوت في ذلك الخداع - وقد أثرت أن أقصر هذا البحث على الثلاثين سنة الأخيرة، لعدة عوامل: منها أن ما قبل هذه الفترة قد دارت حوله دراسات كثيرة، بينا لا تزال هذه الفترة بحاجة إلى مزيد من الدراسات، ومنها أن شعر ما قبل هذه الفترة لا يمثل مشكلة تحتاج تبسيطا، لأنه مباشر متصل بأسباب التراث على نحو وثيق، ومن تلك العوامل أيضا أن الإيجاز لن ينصف هذه الفترة لأنه؟ في أكبر تقدير - سيمنحها إلى جانب غيرها فصلا واحدا، وهذا مجال محدود لا يكاد يتسع لحركة شعرية مديدة الأبعاد كثيرة المظاهر. وحين آخذت في هذه الدراسة كنت أعلم يقينا؟ سواء اعتمدت التبسيط أو لم أعتمده - أنني رضيت بالحد الأدنى من دور الناقد التحليلي التشريحي، وكنت كذلك أعلم علما ليس بالظن، أن هذا الناقد يعاني أزمة بالنسبة للشعر الحديث، ذلك لأنه يحاول ويفسر، وقسم كبير من هذا الشعر يستعصي على التحليل والتفسير، وأن هذا الناقد يتقدم من الشعر مزودا بقيم ومعايير ومقاييس آلفها، ودرج على استعمالها، وأنه لا يستطيع أن يتخلى

عنها، لا لجمود فيه، أو انغلاق في نظرته، بل لأنه يعجز أن يطور كل يوم قيمة جديدة، لو كان تقييم الشعر الحديث أو ذلك الجانب منه؟ يعتمد فيها جديدة - ثم أنه لا يستطيع أن يعمل دون قيم في ميدان يرفض كل تقييم " من الخارج ". ذلك أنه بتأثر من السريالية قد جدت أشياء كثيرة في النظر إلى الشعر ومهمته: إذ لم يعد الشعر صورة من صور الأدب بل أصبح شيئا مستقلا، والفرق بينهما أن الأدب نتاج فعل الموهبة داخل حدود مرسومة، وأن الشعر كشف ذو مهمتين، تحويل العالم وتفسير العالم، أو كما يقول بريتون: " أن دور الشعر أن يظل يتقدم دون توقف، أن يكتشف مجال الإمكانات في كل وجهة، وأن يبدو دائما؟ مهما يحدث من أمر - قوة تحريرية ورصدية ". وعلى هذا الأساس يصبح انفتاح الشعر للفهم هو الدور الأكبر للكشف، لآن مهمة الشاعر الأولى هي إخراج اللفظة من الحيز العقلي، حتى تصبح الكلمة قادرة على أن تعبر " عن فعالية الروح وحاجتها " أي تصبح ثورة، وتصبح " لعبة الكلمات "، بما فيها من إيحاءات صوتية، أهم بكثير من قيمتها السمانتية (الدلالية) . ولهذا يتسم جانب كبير من الشعر الحديث بالغموض لأن الشعر لا يخضع للمواصفات العقلية، أي لا يقصد فيه التوصيل المباشر بين الشاعر والجمهور، وإنما يكون هذا التوصيل بمقدار ما تتمتع به لغة الشاعر من نزعة ثورية، بل أن هذا التوصيل غير وارد إذا لم يكن هنالك جمهور يستطيع ذلك، لأن هذا الجمهور سيتكون مع الزمن. مثل هذا الموقف يحدد دور الناقد التحليلي، فيكون ما يقوله في تحليل هذا الشعر تسورا منه على حمى ذلك الفن، أو شيئا لا يثير الاهتمام، لأنه مرتبط بمعايير لا يقرها

أصحاب هذا الشعر. غاية ما يمكن هذا الناقد أن يقوله هو أن يبين ميزة الشعر بخروجه على المألوف، أو يصوغ نقده في شكل شعري، فيصبح النقد لونا من الشعر، يتحدث فيه الناقد بلغة شبه خاصة، خارجة عن حدود الفهم أو الحيز العقلي أيضا. وقد شاع هذا اللون من النقد، في الأيام الأخيرة، حتى كاد يحجب ما عداه. وهو لا يلغي دور الناقد وحسب، بل يوقع الدراسات الجامعية للشعر، في ظل الاستخفاف والاستهانة. غير أن مما يشفع لهذه الدراسة ويسوغ وجودها أن هذا التيار لا يمثل كل الشعر الحديث، حتى اليوم، وأن كان يبدو تيارا قويا، يضم عددا كبيرا من الشعراء، ولقوته استطاع أن يستميل إليه بعض الذين كانوا يسيرون في تيار الوضوح، ويتجهون بالشعر نحو غايات أخرى، ويقيمون جسورا متينة بينهم وبين الجمهور المتلقي للشعر. ومهما يكن من شيء فإن الدارس الذي يقدم لهذا الجمهور نفسه كتابا مبسطا، لا بد من أن يدرك حدود مهمته، وهو إذ لم يكن مؤرخا متزمتا - يستطيع أن يجعل " قيمه ومعاييره " مرنة "، فيعالج التيارات والاتجاهات بقبول " فكري "، متخطيا بذلك كل الأغلال " المعيارية " التي قد تحول دون ذلك. ذلك ما حاولته هذه الدراسة، في مجملها، دون أن ندعي نجاحا كاملا، في تلك المحاولة. وقد كان من المتوقع أن أخصص فيها فصلا للحديث عن الاتجاهات التي سلكها الشعر المعاصر في الشكل، ولكن حال دون ذلك أمور منها أن هذه الدراسة تعز على التبسيط

جملة، وتدخل في التفصيلات الدقيقة لطبيعة الكلمة والصورة والوان المبنى؟ الخ، كما أن تفاوت هذه الوسائل وأهدافها في الشعر المعاصر يكاد لا ينضبط، وهو حقل جدير بدراسة مستقلة أو بعدد من الدراسات. بعد أن بسطت الموقف، بصراحة، أرجو أن يعذرني القارئ، إذا لم يجد هذا الكتيب المتواضع إجابة عن كل توقعاته، واستفساراته، وأني لأرجو أن أوفق إلى وضع دراسة شاملة، يكون هذا البحث نواة صغيرة فيها، والله الموفق (1) . برنستون في2 حزيران (يونيه) 1977 إحسان عباس

_ (1) إن طبيعة هذه الدراسة، قد حتمت علي أن أوجز في الإشارة إلى المصادر المعتمدة، وأكثرها دواوين الشعراء، وأن أقلل الاعتماد على الدراسات النقدية التي صدرت حول الشعر الحديث، لأجعل من هذا البحث نظرة مستأنفة، وتصورا ذاتيا، يتحمل حظه من الخطأ والصواب.

نظرة تاريخية موجزة

" 1 " نظرة تاريخية موجزة كان ذلك في سنوات الحرب، وكنا يومئذ ما نزال نستقبل أنباء المعارك الأدبية بشيء من المتعة التي تستقبل بها أفلام العنف في هذه الأيام، وقد استوقف انتباهنا خبر نشرته مجلة الرسالة المصرية في عددها (568) ، توقعناه بداية لمعركة تستشري، ويملأ الآفاق غبارها، وكان عنصر التحدي يلتمع في هذه الكلمات القليلة: " وأتعهد بجائزة مالية قدرها خمسة جنيهات مصرية أدفعها إلى من يستطيع فهم معاني تلك القصيدة وشرحها "، وأعجبنا التحدي، دون أن يكون لنا مطمع في الجائزة، وكانت يومئذ مغرية، وأغرب كثيرون منا في الضحك، وهم يقرأون القصيدة التي يدور حولها التحدي، بعنوان " إلى زائرة ": لو كنت ناصعة الجبين ... هيهات تنفضني الزياره ما روعة اللفظ المبين ... السحر من وحي العباره ظل على وهج الحنين ... رسمته معجزة الإشاره خط تساقط كالحزين ... أرخى على العزم انكساره ماذا بوجد المحصنين ... صوت شبح خلف الستاره غيبت في العجب الدفين ... معنى براعته البكاره درا يقوت الناظمين ... ونهضت تهديني بحاره خطوات وسواس حزين ... وهب تعميه الطهاره

وحين استحال رنين الضحكات إلى صدى باهت، بدأ صوت النقد محتجا، مجلجلا، فتسمع واحدا يقول: مشكلتي في هذه الأبيات أنني لا أستطيع أن استكشف العلاقة بين واحدها والآخر، وثانيا يقول، ما العلاقة بين نصاعة الجبين والزيارة التي تنفض، (وكيف تفعل الزيارة ذلك، أتراها تيارا كهربائيا؟!) وثالثا يقول: كيف يكون الظل على الوهج، وكيف يتساقط الخط، ورابعا يقول: ربما كان في هذه الأبيات إشارات غريبة إلى البكارة المطلقة في الكون والأشياء، ومن ثم يكون وجد المحصنين، ويكون الدر المغلق في بحار لا نهائية، وتكون الطهارة هي الهدية الكبرى من هذه البكارة الكلية، ولكن؟ لا أدري، ثمة علاقات بين الألفاظ والجمل والصور لا أستطيع أقامتها على نحو مقنع. وخاب فألنا، لا لأن أحدا منا لم يستطع أن يحظى بالجائزة المرصودة، بل لأن ذلك التحدي لم يجر إلى معركة، تتناثر فيها الأشلاء يمينا وشمالا، إلا أن ذلك التحدي، فتح الباب واسعا، للتذمر مما كان يحاول الشعر أن يروده وأن يحققه، ذلك أن مجلة الرسالة نفسها نشرت؟ بعد عددين - تحديا آخر ممهورا بإمضاء (أ. ع) حول قصيدة بعنوان " من خريف الربيع " لمحمود حسن إسماعيل، يقول كاتبه: " فليتفضل منهم متفضل فيشرح لي هذه القصيدة شرحا تلتئم به أجزاؤها وتجتمع أوصالها، وتتكشف به غرائب مجازاتها وعجائب استعاراتها وبدائع أسرارها "، وكانت مجلة الرسالة قد نشرت هذه القصيدة نفسها في عدد سابق، وفي ما يلي مقطعان منها:

ذهبت للروض في الصباح ... مقيد اللحن والجناح وفيه ما من أغان ... مطولة الشدو بالجراح أوتار أطياره سكارى ... يعزفن وجد الخميل نارا ... سعيرها خمرة الحيارى ... حثت إليه الرؤى خطاها ... وخلفها انسابت الدموع سيان في قبضة الرياح ... شوك الجلاميد والأقاحي فكم رحيق بلا دنان ... وكم دنان بغير راح وكم ربيع لنا توارى ... تود لو كانت العذارى ... لسحره الغائب انتظارا ... ماتت لياليه في صباها ... (1) فهل لأحلامها رجوع بين الاحتجاجين؟ رغم تفترتهما - علاقة اساسية، فكلاهما يلح على إيجاد شرح يجعل القصيدة مفهومة، أي يوضح الصلات المعنوية بين أجزائها، من خلال تبيان العلاقات اللغوية والنحوية والمنطقية، وبالتالي العلاقات الفكرية، وتلك ظلت تلازم الشعر العربي في جميع عصوره، وتخضع البيت أو القطعة أو القصيدة لهذا السؤال الخالد: ما معنى هذا البيت أو هذه القطوعة؟ وماذا يعني الشاعر حين يقول كذا وكذا؟ ورغم شيوع الحديث في أوساط النقد الرومنطقي يومئذ عن تأثير الشعر في

_ (1) أعاد الشاعر نشرها في ديوانه " ابن المغر " (الطبعة الثانية) : 156 - 157.

الشعور وعن قدرة الشعر على الإيحاء الذي يعز على الفهم أحيانا ظل المقياس الأول في النظرة إلى الشعر هو مدى قابليته للفهم وقبوله للتفسير. ويزيد الاحتجاج الثاني على الأول أمرين آخرين، فهو يتطلب إلى جانب الفهم وحدة في القصيدة من نوع ما يسميها " التئام الأجزاء " ويضيف كلاما مبهما عن " غرابة المجازات والاستعارات "، وكلا الأمرين يرتدان إلى قضية الفهم أيضا، فأما التئام الأجزاء فأنه يعبر عن ضيق بما يمكن أن يسمى التفكك الظاهري ي قصيدة محمود حسن أسماعيل، وعن حيرة إزاء الوثبات التخيلية فيها، دون أن يعني الناقد نفسه بالبحث عن استمرارية السياق. ا، أن يفتش فيها عن روابط داخلية، أو لعلع بحث وفتش أدركه الإعياء والعجز. وأما غرابة المجازات والاستعارات فأنها هي التي ألقت القصيدة؟ في نظر ذلك القارئ - بين ضباب الغموض، ولعله تساءل: كيف تكون الأغاني مطولة الشدو بالجراح؟ وكيف يكون للرؤى خطى؟ وكيف يكون للخميل وجد، وإذا كان ذلك جائزا فكيف يعزف ذلك الوجد نارا؟ ونتذكر في هذا المقام تلك الأسطورة الجميلة التي تقول أن رجلا بعث إلى أبي تمام يسأله زجاجة مملوءة بماء الملام فأجابه الشاعر أنه لا يرى بأسا بذلك على شرط أن يبعث إليه ذلك الرجل بريشة من جناح الذل: قضية أخرى كبيرة واكبت الشعر العربي في جميع عصوره، ولعلها أن تكون أرسخ القواعد التي أسست عليها فكرة عمود الشعر، أعني: المقاربة في التشبيه ومناسبة المستعار منه للمستعار له، وكأني بالاحتجاجين يقولان: حذار! أن الشعر المعاصر يومئذ قد أخذ يخرج على عمود الشعر حين جنح إلى مبارحة دائرة الفهم فإن القصيدتين ممعنتان في المحافظة: إحداهما

تجري على قافية في الصدر وقافية في العجز، وهو أمر يوحي بالتزمت في التزام نغمتين على طول المقطوعة، وأما الثانية فإنها رغم إفساح القافية في كل مقطوعة منها؟ على حدة - ترسف قس قيود التكرار بحيث تجيء كل مقطوعة مشابهة للأخرى في ما التزمته من تقفية (1) . ومن الغريب أن ريح الثورة لم تهب من هذا المنطلق، أعني منطلق الصراع بين الفهم والإيحاء، وبين بعد الاستعارات أو قربها، وإنما انبعثت لتحطم تلك الإنضباطية في الشكل، سواء أكان ذلك الشكل قائما على شطرين أو على أساس توشيحي متنوع متكرر، كالذي تمثله القصيدتان، وكأنما كان الشعر يفتش عن طريقة تخلصه من الشكل الصارم، في القصيدة والموشح على السواء، وتمنح العبارة امتدادا والتصوير استقصاء دون التخلي عن نوع الإيقاع المنظم بادئ ذي بدء -. وقد أصبح من المعروف أن الرواد العراقيين: نازك والسياب والبياتي كانوا هم رسل هذه الثورة بتأثير من الشعر الإنكليزي، وكانت ثورتهم في شكلها الأولي تمثل تخلصا من رتابة القافية الواحدة (دون الاستغناء عن القافية تماما) وتنويعا في عدد التفعيلات في السطر الواحد (دون مبارحة الإيقاع المنظم) ، وليس من هم هذا البحث الموجز رصد المحاولات السابقة في تاريخ الشعر العربي للتخلص من أسر الشكل الصارم، وإنما الذي يميز هذه الحركة عن كل ما سبقها أن اعتمادها للشكل الشعري الجديد أصح مذهبا لا استطرافا، وأن إيمانها بقيمة هذا التحول كان شموليا لا محدودا، وأن أفرادها في حماستهم لهذا الكشف الجديد رأوا وما زالوا يرون؟ عدا استثناءات قليلة - أن هذا الشكل يصلح دون ما عداه وعاء لجمع أنواع التجربة الإنسانية إذا أريد التعبير عنها بالشعر.

_ (1) كل مقطوعة تجيء قوافيها على النحو التالي أأ ب أج ج ج د هـ؟.

وكثيرا ما تساءل الدارسون: من هو الرائد الأول في هذا المضمار، إذ كانت الأسبقية للاهتداء إلى الشكل الجديد متنازعة بين نازك والسياب (1) ، وأرى أن هذه المسألة؟ على هذا النحو - طفيفة القيمة، لأن محاولات كثيرة تمت قبل ذلك، وكان أكثرها؟ كما قلت فيما تقدم - استطرافا أو تجربة عابرة، ولعل نازك أول من شمل هذا الكشف بالإيمان العميق والوعي النقدي الدقيق، في مقدمتها على ديوان شظايا ورماد (1949) ، ويبدو أن هذه المقدمة هي التي أوجدت للتيار الشعري الجديد مسوغاته الفكرية، وقرنت بين التجربة العملية والسند النظري، ومن اللافت للنظر أن نازك حين شاءت أن تعلل ضرورة شيء من التحرر من قيود الشكل القديم ربطت ذلك بفكرتي الإيحاء والإبهام اللتين تحدثت عنهما في مطلع هذا الفصل، فاتهمت اللغة العربية بأنها لم تكسب بعد قوة الإيحاء، ودافعت عن الإبهام لأنه " جزء أساسي من حياة النفس البشرية، لا مفر لنا من مواجهته أن نحن أردنا فنا يصف النفس ويلمس حياتها لمسا دقيقا "، فكانت بهذا الموقف تجمع بين طرفي الثورة، والتقرر نهجا شعريا يتجاوز التغييرات الشكلية الخالصة ليتبنى؟ في تسامح - المؤثرات الرمزية التي تمثلها قصيدة " إلى زائرة " والإيحاءات السريالية التي تبشر بها قصيدة محمود حسن إسماعيل، وحين ربطت بين الحلم والشعر فتحت باب اللاوعي على مصراعيه دون احتراس. وفي تلك المقدمة نفسها عبرت نازك؟ دون تحفظ أيضا - عن إيمانها المطلق بضرورة الشورة الشعرية، وبالتغيرات التي ستحدثها، وكانت تبدو في ذلك على استعداد لتقبل تلك النتائج أيا كان لونها حين تقول: " والذي أعتقده أن الشعر

_ (1) انظر قضايا الشعر المعاصر (ط1974) 35 - 37.

العربي، يقف اليوم على حافة تطور جارف عاصف لن يبقي من الأساليب القديمة شيئا فالأوزان والقوافي والأساليب والمذاهب ستتزعزع قواعدها جميعا، والألفاظ ستتسع حتى تشمل آفاقا جديدة واسعة من قوة التعبير، والتجارب الشعرية " الموضوعات " ستتجه أتجاها سريعا إلى داخل النفس بعد أن بقيت تحوم حولها من بعيد ". ومن طبيعة التطور " الجارف العاصف " أن يتدفق دون كبح، وأن يسترسل دون توقف، وأن تضعف فيه المراجعة والنقد الذاتي، لأنه في سرعته لا يدع وقتا أو مجالا لذلك، وهو حقيق أن يحتقب كثيرا من الزيف، وأن يفسح المجال للنهازين، وأن يفاجئ بالتحولات المستمرة، وأن يصبح الجديد فيه بعد وقت قديما يتطلب تجديدا وهلم جرا، وأن يسخر بالحدود والقواعد وأدوات اللجم والترويض، وحين شاءت نازك أن تضع في كتابها " قضايا الشعر المعاصر " (1) بعض القواعد النقدية، وأن تفرز الصالح من غير الصالح في ذلك الشعر، كانت الموجة أقوى من أن أصدها أناة النقد، ورزانة الفكر التنظيمي. غير أن ظهور بدايات هذه الانطلاقة الشعرية وسندها بالقواعد المؤيدة على يد شاعرة؟ لا شاعر - تتقن العروض وتحسن التمرس بتغيراته المختلفة وتستمد بعض الإيحاءات من إطلاعها على أدب أجنبي، كل ذلك يشير إلى أمور يحسن أن نتنبه لها: فمن الواضح أن الدافع إلى ارتياد تجربة جديدة إنما كان هو محاولة التغلغل إلى أعمق أعماق النفس - في مجتمع لم يتعود صراحة في التعبير عن مشاعرها - ووضع ذلك التعبير على نحو تلويحي تقريبي، خاص بالأنثى حين تريد أن تحلل مشاعر خاصة بها،

_ (1) صدرت الطبعة الأولى منه سنة 1962.

طالما ظن الرجل أنه يحسن التعبير عنها أو التغلغل إلى إدراكها وللمرأة في تقبل البدعة حظ كبير، أضف إلى ذلك أن البدعة الجديدة تبعث لديها شعورا بالتفوق بسبب الاهتداء إلى كشف جديد، ثم أن هذه البدعة في شكلها الجديد تخلصها من إيقاعات البطولة الرجولية في شعر الرجال، تلك الإيقاعات التي تصبح زورا على الواقع إذا لم يكن لها في حاضر الأمة أعمال توازيها، وقد انسحب زمان طويل وإيقاعات البطولة تردد فيما ينظمه الرجال من شعر، ومن ثم تحول كثير من ذلك الشعر كلام أجوف، ومن الطبيعي أن يتوجه الشعر إلى منطقة أخرى وإيقاعات مختلفة، ويصبح حديث نفس لذاتها، وظهوره على أثر الإعجاب بما سمي " الشعر المهموس " دليل على أن حديث النفس، أصبح من مستلزمات التصور لحقيقة الشعر، ولا ريب في أن توجه " عاشقة الليل " أعني الفتاة المتوحدة التي اختارت العزلة والصمت نحو الإحساس بضرورة التنويع في حديث النفس أمر طبيعي. ولا بد هنا من استدراك صغير: فإن قولي بحاجة المرأة إلى التعبير عن مشاعر خاصة بها على نحو تلويحي إنما يتناول البداية فقط وظروفا خاصة في حياة الشاعرة التي ابتدأت الانطلاقة الجديدة، أما بعد البداية فقد أصبحت المرأة في بعض المواقف أجرأ من الرجل وأقدر على تحليل دقائق الرغبات، وذلك أمر إنما أشير إليه وحسب، وربما لم يتح لهذه الدراسة الموجة أن تتناوله بوجه ما (1) .

_ (1) لا أعني هنا إلا ما يدخل في نطاق الإبداع الفني، أما غير ذلك فهو يقع خارج حدود أي بحث نقدي سليم، ويستطيع القارئ أن يجد شواهد على الصراحة في التحليل الدقيق في ميادين اخرى عدا الشعر مثل القصة الطويلة والقصيرة. وفي سبيل التمثيل العابر دعني اذكر هنا مثلا بعيدا هو شعر جويس منصور بالفرنسية.

ثم أن إتقان هذه الشاعرة للعروض وتمرسها بالتغيرات المختلفة في البحور والأوزان كان يعد ضرورة لسببين: أولهما أن التمرس بالعروض يجعل " لعبة الشكل " جزءا من هواية ممتعة، وثانيهما أن إتقانه كفيل بالتأييد النظري للتجربة، ولعل هذه هي الرابطة الممتدة؟ في نظري - بين الانطلاقة الشعرية والموشح، فقد بينت عند الحديث عن العوامل التي ساعدت على نشأة الموشح شغف الأندلسيين بالعروض، تعلما وتجربة، وتباري الأساتذة والطلاب في ميدان النظم على ما يسمى " الاعاريض المهملة " أي التفعيلات التي قدر الخليل جواز وجودها، ولكن العرب لم ينظموا عليها (1) ، والحق أن الشعر الحديث لم يحاول أن يستمد في بناء القصيدة من الأعاريض المهملة وإنما أعتمد التنويع في بعض الأبحر المستعملة، فهو من هذه الناحية أشد محافظة من الموشح، وما ذلك إلا لضيق الشعراء المعاصرين بالعروض وتشقيقاته الكثيرة وتفريعاته، واستسهالهم لركوب ما يركب من بحوره، دون أن يسلموا في ذلك من كسر الوزن جهلا به، لا تحديا له (2) .

_ (1) انظر تفصيل ذلك في تاريخ الأدب الأندلسي - عصر الطوائف والمرابطين (بيروت 1963) وذلك في الفصل الخاص بالموشح. (2) الفرق بين الجهل والتحدي مما يعسر تمييزه، وفي هذا المقام تحضرني قصة صغيرة، فقد كان أحد الناشئين في الشعر - منذ سنوات - يقرأ علي قصيدة ليست من الشكل الجديد، وإنما تجري على الشطرين، ولاحظت أن أحد الأبيات فيها مكسور، فلما نبهته إلى ذلك قال: أعلم أنه مكسور وإنما تعمدت ذلك لاهز انتباه القارئ، قلت: لم أكن أدري أنك تجري على قرائك تجربة بافلوف على الحيوانات، ومع ذلك فما يزال عليك أن تفسر لم أخترت أن تنبهه في هذا الموضع، لا قبل ذلك ولا بعد ذلك.

وبسبب التحولات السريعة المفاجئة، والشغف بالتجديد المستمر، ضربت الحركة الشعرية رواقا من الحيرة حول النقد والناقد، وكانت أكثر الدراسات النقدية التي واكبت هذه الحركة على نوعين: نوع وصفي نير المحتوى، ونوع شعري مبهم لا تتحدد فيه غاية ولا يتضح حكم، وهذه الحال تغري بأن يطرح المرء هذا السؤال: كيف استطاعت هذه الحركة ان تقوي وتشتد دون أن يكون لها سند كبير من نقد أصيل؟ أن مثل هذا السؤال يفترض أن دعم النقد لازم لكل حركة أدبية تحتاج أن تستمر وتنمو، وهو افتراض ليس من الضروري أن يكون دائما صحيحا، ولكن هبنا أخذنا به في هذا المقام، فإننا سنجد عوامل أخرى ساعدت تلك الحركة الشعرية على الثبات البقاء منها: روعة الجدة، والملاءمة لروح العصر، وصدق كثير من التجارب، والمثابرة على تحدي الصعوبات، وسرعة العدوى و؟ إلى عوامل أخرى تستحق ثلاثة منها بسطا، لأنها تمثل ثلاث مراحل في تاريخ تلك الحركة: الأول: التضامن الصامت، ذلك أن حركة الشعر الحديث ظلت بمنحى من الانقسامات الداخلية الصارخة، وإذا استثنينا بعض المواقف الفردية كوقفة السياب ضد صلاح عبد الصبور أو وقفته ضد البياتي، وموقف نازك من العيوب التي لابست هذا الشعر، وما أشبع ذلك، وجدنا أن كل من مارس النظم على النحو الجديد، قد انظم إلى الحظيرة، وأصبح عضوا في " مدرسة المحافظة "، حتى وأن كان حظه من التجديد نزورا يسيرا، وهكذا استطاع هذا التضامن الصامت أن يحتضن مختلف الانتماءات والنظرات والمواقف، التي كان من الممكن أن تجر إلى انقسامات وتراشق بالاتهامات مثلما تفعل على الصعيد السياسي، وكان مما

ساعد على ذلك؟ في المرحلة الأولى - عدم وضوح تلك الانتماءات والمواقف، على نحو ساطع، إذ كان الرواد الأول لا يبغون من انتحال شكل جديد تعبيرا عن موقف فكري أو انتماء سياسي أو عقائدي وإنما كانوا يبحثون عن شكل يفرغون فيه مشاعرهم الرومنطقية، على نحو تحليلي، لم يعد يسعف عليه الشكل القديم، وإذا أنت قارنت بين ديوان عاشقة الليل وشظايا ورماد لنازك أو أزهار ذابلة وأساطير للسياب أو ملائكة وشياطين وأباريق مهشمة للبياتي، أو بين قصائد صلاح عبد الصبور ذات الشطرين وقصائده المتفاوتة في تفعيلاتها، لم تجد تغيرا كثيرا إلا في السمة التحليلية، والتطور القصصي، وإذا كانت الانتماءات والمواقف غير واضحة حينئذ، فإن الاتجاهات الشعرية نفسها كانت أيضا. ولا نجد خروجا عنيفا على منطق هذا التضامن الصامت مثل نقد أدونيس لشعر المقاومة. ولكن يجب أن نذكر أن ذلك النقد قد كتب بعد أن أصبحت الحركة الشعرية قليلة الحاجة إلى الإغضاء والمجاملة (1) ، وبعد إذ أصبح شعر المقاومة نفسه " ظاهرة شعبية " تهدد كثيرا من شعر " الصفوة المثقفة " بالحجب والانكماش. يقول أدونيس " إن شعرنا في الأرض المحتلة هو أولا رافد صغير في الشعر العربي المعاصر، بل رافد ثانوي، وهو ثانيا، امتداد لا بداية، امتداد لشعر التحرر الوطني الذي عرفه العرب طيلة النصف الماضي من هذا القرن وليس شعرا ثوريا " (2) ويؤيد أدونيس رأيه هذا بعدة ملاحظات منها أن هذا الشعر ضمن الأطر الموروثة، وانه خارج الثورة لأنه يعتبرها حدثا خارجيا قابلا للوصف والهتاف والغناء فهو من ثم محض حماسة لا تفعل شيئا، ومنها أنه مشبع المبالغة، والمبالغة تفرغ الوعي

_ (1) كتب هذا النقد سنة 1969، انظر زمن الشعر: 148. (2) المصدر نفسه: 169.

وتجعله خاويا، وهو نتاج غنائي بأبسط مستوى للغنائية، وهو محافظ منطقي مباشر ينطق بالقيم التقليدية. ولا ريب في أن هذا الرأي يتفق ومفهوم أدونيس للشعر، والعلاقة بينه وبين الثورة، ولم أورده لاناقشه، فذلك يتطلب خروجا عن مقتضى هذا السياق، وإنما أوردته لاشير إلى أول انقسام جذري في " معسكر " التضامن الصامت، بعد إذ توضحت معالم التباين في الانتماءات والاتجاهات. الثاني: المجلة، لقد أثبتت مجلة " أبولو "؟ قبل ظهور الحركة لشعرية الأخيرة بكثير - أن كل اتجاه شعري يريد أن يفرض وجوده في التاريخ الأدبي لا يجد لذلك وسيلة خيرا من المجلة. ودور المجلات في الحركة الشعرية - موضوع هذه الدراسة - يتطلب بحثا تاريخيا تقييميا موضوعيا، يتعذر الوفاء به في هذا المقام. وبحسبي هنا أن أشير إلى دور مجلتي " الآداب " و " شعر " البيروتيتين في إفساح المجال لهذا الشعر يوم كان المؤمنون به قلة، ولما كانت مجلة " شعر " وقفا على الحركة الشعرية الجديدة، فأنها استطاعت أن تكون أبلغ أثرا من سواها في تاريخ تلك الحركة أيا كانت طبيعة ذلك الأثر ونوعيته؟ لأنها جعلت من نفسها منبرا لاتجاهات متفاوتة في داخل الحركة نفسها، وتبنت قصيدة النثر القصيدة ذات الإيقاع المنظم والتفعيلات المتفاوتة، وككل مجلة أخرى، شجعت بواكير شعرية لم تثبت طويلا في المجال الشعري، وأطلعت الشعراء والقراء على نماذج مترجمة من الشعر الغربي، وأيدت الاتجاه بأصوات نقدية متعددة، وحين توقفت عن الصدور خلفتها في هذا المضمار مجلات أخرى مثل " حوار " و " مواقف " ثم فاض فيض المجلات التي تعنى بهذا اللون من الشعر في كل الأقطار العربية. وقد استقطبت هذه المجلات من حولها " أسرا أدبية " و " اتحادات كتاب "، كما نشأت أسر

واتحادات مستقلة، أخذت تقوم بدور المجلة في تشجيع شتى فنون الأدب الحديث، ولا تقتصر في ذلك على الشعر. الثالث: دور النشر، وهذا العامل ذو صلة وثيقة بالعامل السابق، ولهذا تقف دار الآداب ودار شعر في طليعة الدور التي أخذت على عاتقها تقديم الديوان الشعري الحديث بصورة منظمة وعلى نحو يغري القارئ باقتنائه. ثم تجاوزت " دار العودة " مدى كل دار أخرى في هذا السبيل، حين اعتمدت نشر " الأعمال الكاملة " لكل شاعر، بحيث أتاحت لقراء الشعر مكتبة كاملة ذات " قطع " موحد. ولوزارة الأعلام في العراق دور هام في هذا أيضا بما نشرته وتنشره من دواوين. ولما لم يكن الاستقصاء مطلبا لي في هذه الدراسة، أجدني اكتفي بهذه الأمثلة التي تدل دلالة واضحة على أن الحركة الشعرية الحديثة؟ في المرحلة الراهنة - قد أصبحت تتنفس في جو أكثر حرية، وتجد لها قبولا واسعا ومؤيدين كثيرين، مهما تختلف أهدافهم وتتعدد الحوافز من وراء تحمسهم لهذا الشعر. غير أن هذه الحركة الشعرية؟ مثل كل حركة تتسم بشيء من الخروج على العرف - لم تصل إلى هذه المرحلة على بساط، من الورد، فقد واجهت كثيرا من العواصف، ومشت على الشوك طويلا، وتعرضت لحملات كثيرة من التشكيك والشجب والمعارضة، فصورت على أنها مؤامرة لهدم اللغة العربية، وأتهم أصحابها بأنهم إنما لجأوا إلى هذا اللون " الممزق " من الشعر لأنهم عاجزون عن الشعر الجزل ذي الشطرين، وهب أن هذه الهمة كانت صحيحة فأنها لا تضير الشاعر الحديث، ونحن نرى أن كثيرا من شعراء الأندلس؟ مثلا - كانوا يعجزون عن نظم الموشح، كما أن كثيرا من الوشاحين لم يكن لهم حظ كبير في القصيد، وقياسا على ذلك يمكننا أن نقول أن الشاعر الحديث ليس من

الضروري أن يحسن " القصيد " لأن القصيد له شروطه وظروفه وقواعده وأساليبه وبيئته. وها هنا طرفة تصلح للاعتبار، فقد استشارت هذه التهمة أحمد عبد المعطي حجازي حين أعترض الأستاذ عباس محمود العقاد على اشتراك بعض الشعراء المجددين في مهرجان الشعر بدمشق (1959) لأنهم لا يعرفون أصول الشعر العربي وهدد العقاد يومئذ بالانسحاب من المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب احتجاجا، فما كان من حجازي إلا أن نظم قصيدة ذات شطرين ليثبت للعقاد أنه لا يجهل أصول الشعر العربي، وكانت تلك الهفوة؟ فيما أعتقده - سقطة العارف، لأنها أثبتت حقا أن حجازي لو مضى يقول الشعر ذا الشطرين لما ثبت طويلا في حلبة الشعر (1) . وخير ما يمكن أن يصور جانبا من طبيعة الحركة المناوئة للشعر الحديث مذكرة تقدمت بها لجنة الشعر المصرية إلى نائب رئيس الوزارة وزير الثقافة والإرشاد القومي سنة 1964 وقد عبرت تلك المذكرة عن أن حركة الشعر الجديد قد جعلت اللغة الفصحى موضوعا للمناقشة، ومكنت لفريق أن يدعو إلى تبني اللغة العامية لأنها هي لغة الشعب، والتهاون بأمر اللغة أنما هو تهاون بالقضية القومية العربية، مع أن الشعر كان دائما؟ من بين جميع الفنون وعند جميع الأمم - هو الفن الذي يحرص كل الحرص على صيانة اللغة. وأخطر ما في ذلك الشعر أنه يعكس روحا منافية لروح الثقافة الإسلامية العربية لأن بعض صور التعبير فيه مستمدة من ديانات أخرى غير العقيدة الإسلامية كفكرة الخطيئة والصلب والخلاص، كما أن فيه تهاونا كبيرا في استعمال لفظة " الإله " كأنها لا تزال تحمل دلالتها عند

_ (1) انظر هذه القصيدة في ديوانه أوراس: 434 - 435 (ط. دار العودة) .

الوثنيين، وخلاصة ذلك كله أن الحركة الشعرية هذه حركة هدامة تعادي التراث في صورة لغة ورباط قومي وتحاول تحطيم الشوامخ من شعراء العربية. ولست أسمي هذه اتهامات، فإن جانبا منها لا يعتمد افتراء في الجملة، ولكنها من حيث صدورها عن حركة مناوئة إنما تستعمل منظورا مختلفا عن ذلك الذي يستعمله أصحاب الشعر الحديث، وكأن المسافة بين المنظورين هي مسافة الخلف بين لونين متباعدين بل متصارعين من الفكر والثقافة والمنحى. ولهذا فإذا كان الاتجاه الشعري الحديث ظاهرة حتمية، فإن الثورة عليه ظاهرة طبيعية كذلك. ولقد مات كثير من أعداء الحركة الشعرية الجديدة مثل العقاد وعزيز أباظة وصالح جودت؟ تغمدهم الله برحمته، وأتيح لها من المؤيدين والأنصار أكثر مما كانت تتوقع، وقيض لها من سبيل الانتشار والذيوع ما لعلها لم تكن تنتظره، ولكن بقي لها أعداد كثيرون، بعضهم من داخلها، وبعضهم من خارجها، وهذا الفريق الثاني يصنف في ثلاثة أنواع: الأول: الأغنية: فأنها أشد شيء محافظة في عالمنا العربي، ذلك أنها أن كانت شعبية، فأنها ما تزال تعتمد الجناس وغيره من المحسنات البديعية، وأن كانت غير شعبية فأنها ما تزال تتحدث عن العذول والرقيب والسهر والعذاب والدموع، وتبدو منقطعة الصلة بالتحول الذي طرأ على المجتمع في النظرة إلى العلاقات العاطفية، وكأنما هي تدور حول نفسها في استلهام مواقف رو منطقية كاذبة، حتى أن مد جسر بينها وبين القصيدة الحديثة ليبدو أمرا متعذرا، وبما أن الأغنية تجد قبولا لدى قطاع ضخم من الناس، فأنها ستظل تربي الذوق العام على غير ما يريده الشعر الحديث

وستظل تقيم من نفسها شاهدا على أنه شعر غريب المنحى، ينتمي إلى فئة الأقلية (1) . الثاني: المدرسة، وبطلها السمح البري هو المعلم، وهو معذور لأنه لا يجد لديه عملا نقديا يفك له مغلقات الشعر الحديث، وهو في الوقت نفسه لا يستطيع أن يدرس لطلابه شيئا تكون أجوبته جميعا على محتواه: لا أدري.. لا أدري، ولهذا فإنه يرتاح إلى النماذج الكلاسيكية للإلقاء. فإذا لم تصبح مادة الشعر الحديث جزءا من الثقافة المدرسية، فإنه من الصعب أن يجد الناشئة في هذا الشعر تعبيرا عن وجودهم. الثالث: الملتقيات الشعرية أو الأسواق العكاظية: وهي تحني الشعر الحديث عن وجهته، ليجد قبولا لدى الالتقاء، ومعنى ذلك أن يبقى في الشعر الحديث أوتار خطابية، لأنه في صورته الحقيقية غير قابل للإلقاء في ملقيات عامة. ولعل الاقتصار على الندوات الصغيرة ذات الجمهور المتقارب في ذوقه، أجدى على هذا الشعر أن كان صاحبه ممن يحسن تأديته، فإن في بعضه من الشجن الدفين على الوضع الإنساني ما يعوض عن الخطابية التي يتمتع بها الشعر الكلاسيكي. حتى هذا الحد تجنبت استعمال مصطلحين شاعا كثيرا على الأقلام والألسنة، لأولهما مصطلح " الشعر الحر " في الدلالة على هذا اللون من الشعر الحديث الذي خفف من قيود

_ (1) في سبيل مزيد من الإدراك لدور الأغنية انظر كتاب خطوات في النقد للأستاذ يحيى حقي (257 - 263) ومما قاله هنالك أنها " ضحلة رتيبة غارقة في السجع مجنونة بالتكرار عمياء عن وجود شيء فظيع اسمه الملل والزهق وطلوع الروح؟ " بل أن ما عده الأستاذ حقي أغنية متطورة ما يزال يشكو كثيرا من حمى الدوران حول الموقف الغارقة في الابتذال العاطفي.

القافية وصرامة الشطرين، والثاني مصطلح " الشعر العمودي " في الدلالة على كل ما عداه، وأنا أرى أن كلا المصطلحين قاصران، فأما الشعر الحر؟ وهو المصطلح الذي قبلته نازك في كتابها " قضايا الشعر المعاصر " وهو أيضا الترجمة العربية للمصطلح الفرنسي vers libres (1) فليس حرا؟ بالمعنى المطلق - لأنه ما يزال يراعي رويا معينا وما يزال يخضع للإيقاع المنظم، خصوصا إذا شئنا أن نفصل بينه وبين ما يسمى " الشعر المنثور "، وهو فصل ضروري، فيما أرى، رغم إنكار الكثيرين لهذا الفصل (2) . على أن إيجاد تسمية شاملة لهذا اللون من الشعر ليس بالأمر السهل، ذلك أنني كلما قرأت شعر شاعر وجدتني أشتق للحركة الشعرية تسمية مستوحاة مما قرأته: حين أقرأ أدونيس يلوح لي أن هذا الشعر؟ وأرجو أن يؤمن القارئ بأني جاد كل الجد - يسمى " المرايا الحارقة " وحين أقرأ بلند الحيدري يصبح اسم هذا الشعر " الحارس المتعب "، وإذا قرأت البياتي وجدت أن هذا الشعر اسمه " الأقنعة السبعة "، وعندما أنتهي من قراءة خليل حاوي أجد أوفق اسم لذلك الشعر: " عرس قانا الجليل فوق بيادر الجوع "، وتلم بي تهويمة وأنا أقرأ شعر محمود درويش فأظن ما قرأته يسمى " كيف تتحدث الريح الشمالية إلى البرتقال

_ (1) يميز الفرنسيون بين الشعر متحرر وشعر حر وقصيدة نثرية أو شعر منثور، ولكن الفصل الدقيق بين هذه الأشكال - بسبب طبيعة الأوزان في تلك اللغة ليس متيسرا دائما. (2) أن هذا الموقف، يعني تمييزا في التحليل النقدي بين الشعر الذي يعتمد إيقاعاً منتظما والشعر المنثور، وقد حاولت في هذا الكتاب أن اقصر شواهدي على النوع الأول، ما عدا استثناءات قليلة - ميزتها في مواضيعها - لأن الشاهد فيها قوي الدلالة على الفكرة التي أعالجها لا على المستوى الشعري الفني.

والأرض "، واجنح إلى شعر سلمى الخضرا، فأجد أن ما اقرؤه يقال له: " نشيد الأرض حين ينضب النبع الحالم "، وأقرأ، وأقرأ؟ هل أمضي في العد؟ لو أنني مضيت في القراءة، لوضعت أسماء للشعر بعدد الشعراء. ولست أعني من كل ذلك أنني عجزت عن أن أجد في هذا الشعر عناصر مشتركة، ولكن تباعد الإيحاءات التي يستمدها الدارس من شعر كل شعر على حدة، دليل على حيوية خاصة وتفرد في العناصر المميزة لدى كل فرد؛؟ دون انعدام صفة التواتر والتشابه أحيانا - ويكاد أن يكون الشكل الخارجي هو أقوى رابط يربط بين المسارب المتعددة في هذا الشعر، وأن لم يكن الرابط الوحيد، ولهذا ستظل كل محاولة لإيجاد اسم لهذا الشعر تحوم حول الشكل (حين يصبح العامل الزمني في التسمية مثل " الشعر الحديث " و " الشعر المعاصر " ضعيفا بمرور الزمن) ، ولهذا يستسهل الدارسون أن يسموه الشعر الحر (أو المتحرر أو المنطلق أو المسترسل) ؛ وقد خطر لي قياسا على وفرة المصطلح الدال على الأشكال الشعرية عند العرب (مثل الموشح والزجل والمسمط والمعلقة والملعبة والكان وكان والقوما و؟. الخ) أن أسمي هذا اللون الجديد من الشعر باسم " المغصن " مستوحيا هذه التسمية من عالم الطبيعة لا من الفن الزخرفي، لأن هذا الشعر يحوي في ذاته تفاوتا في الطول طبيعيا كما هي الحال في أغصان الشجرة، خصوصا وأن للشجرة دورا هاما في الرموز والطقوس والمواقف الانسيابية والمشابه الفنية، ثم لأن هذه التسمية تشير من وجه خفي إلى كتاب " الغصن الذهبي " الذي كتبه جيمس فريرز، وما أثار من تنبه إلى الرموز والأساطير، وما كان له من أثر عميق في هذا الشعر نفسه.

ولكني أعلم أن هذه التسمية لن تروق كثيرين، لأنها قد توحي بشيء من التنظيم المصطنع، لأنها اقتراح فردي لم يعمل فيه " الإحساس الجماعي " قريحته، ثم لأنها توحي بشيء من التراثية أي محاولة لربط هذا الشعر بالتراث، وهو شيء قد أنقذته منه لفظة " حر " إنقاذا يزيد على ما تستحقه طبيعته بكثير، وأعتقد أن كل محاولة من هذا القبيل لن تستطيع أن تطمس مصطلح " الشعر الحر " لسهولته وشيوعه والابتهاج بإيحاءات الحرية فيه. وأما مصطلح الشعر العمودي فإنه أيضا مصطلح قاصر، لأن كل شعر عمودي إذا اعتبرنا " نظرية عمود الشعر " في أوسع مدلولاتها، وأبسط مثل على ذلك أن هذا الشعر الجديد المغصن لا يزال يجري على الأوزان القديمة، فهو من ناحية الوزن عمودي. ثم أن هذه التسمية أن أريد بها الاستخفاف بالشعر القديم أو الغمز من قيمته فهي تسمية ماجنة تنطوي على حمق كثير وجهل أكثر. ولهذا يمكننا أن نسميه الشعر المشطر، فهذه التسمية تشمل القصيد والموشح والمسمط والدوبيت وكل ما جرى على سياق الأشطار المتساوية. ومن الطبيعي أن نسأل؟ في هذا الصدد - أين يقف هذا الشعر اليوم؟ ومن أجل أن نتصور ذلك على نحو مقارب نستشهد برأيين متباعدين عن هذا الشعر نفسه، أولهما رأي لنازك الملائكة التي كانت من أول رواد هذه الحركة وأشدهم في البداية تحمسا لها، ورأي نازك ذو طرفين أولهما يمثل موقفا من ذلك الشعر عام 1962 حيث تقول " مؤدى القول في الشعر الحر أنه ينبغي إلا يطغي على شعرنا المعاصر كل الطغيان، لأن أوزانه لا تصلح للموضوعات كلها، بسبب القيود التي تفرضها عليه وحدة التفعيلة وانعدام الوقفات وقابلية التدفق والموسيقية، ولسنا ندعو بهذا إلى نكس

الحركة، وإنما نحب أن نحذر من الاستسلام المطلق لها؟ " (1) والطرف الثاني وهو أشد اتصالاً بمستقبل ذلك الشعر جملة يمثل عام 1967، وفيه تقول نازك: " وأني لعلى يقين من أن تيار الشعر الحر سيتوقف في يوم غير بعيد وسيرجع الشعراء إلى الأوزان الشطرية بعد أن خاضوا في الخروج عليها والاستهانة بها، وليس معنى هذا أن الشعر الحر سيموت وإنما سيبقى قائما يستعمله الشاعر لبعض أغراضه ومقاصده دون أن يتعصب له ويترك الأوزان العربية الجميلة " (2) . ورغم انتقال نازك في طرفي هذا الرأي من النصيحة إلى التنبؤ، فإن ثمة شبها قويا بين الموقفين وهو إيمانها بأن هذا اللون من الشعر سيتحدد وجوده ويتعايش مع ألوان من الشعر المشطر، كل ذلك يصدر عن شاعر واحد في آن معا، ولا يعني تعايشا بين تيارين أو مدرستين، لأن الشاعر الواحد بحاجة إلى أن ينوع في شعره بين الشعر الحر والمشطر بحسب تنوع الموضوعات، وصلاحية شكل لموضوع دون آخر، وربما كان هذا هو معنى قولها " سيتوقف " ثم قولها بأنه " لن يموت "، فإن بين التوقف وعدم الموت، مرحلة وجود أشبه بالموت لأنها حال من " التجمد " أو " التجميد "، ولو قالت " سيتحدد " لكان ذلك أقرب إلى الدقة فيما تحاول أن تصدره من نبوءة أو حكم. أما الرأي الثاني فإنه لأدونيس، ورأيه هذا منبعث في مختلف كتاباته، غير أنه قلما يصدر على ما هو موجود، وإنما يحاول في الأغلب أن يتصور كيف يجب أن

_ (1) قضايا الشعر المعاصر: 48. (2) مقدمة " شجرة القمر " (ديوان نازك 2: 422) وتاريخ المقدمة 28 - 3 - 1967.

يكون الشعر، كيف تكون علاقته بالثورة، بالتراث، ما معنى التجديد، ما دور اللغة، كل ذلك في إطار التصور لما يجب أن يكون عليه " التكامل " الكلي، من خلال عمليتي الرفض والتجدد المستمرين. ومع إيمان أدونيس بالمرحلية في العلاقة الجدلية بين الشعر والجمهور، فإن تصوراته مجتمعة قد تفسر على أن هذا الشعر الجديد لم يبلغ شوطا يحقق به حتى ما يريده له أدونيس في هذه المرحلة الراهنة، فكيف بالمراحل التالية التي تتطلب تنويعا في الإبداع ورفضا لما يعد مقبولا لهذه المرحلة. وأذن فإن أدونيس يقف موقفا مناقضا لموقف نازك، فبينما ترى هي أن الشعر قد فقد الأسباب الداعية لشمولية جوانب الحياة المعاصرة/ كما فقد دواعي الحماسة المتطرفة من أجله، يرى أدونيس أن هذا الشعر لم يستطع بعد أن يحقق الدور الشعري الصحيح في التحرر التام من السلفية والنموذجية والشكلية والتجزئية والغنائية الفردية والتكرار، ذلك أمر قد يستخلص من مجمل آراء أدونيس، ولكنه في أحد المواقف يصرح بهذه الاتهامات أو ببعضها حين يقول: " المشكلة الآن في الشعر العربي الجديد لم تعد في النزاع بينه وبين القديم، وإنما أصبحت في معرفة الجديد حقا وتمييزه، فالواقع أن في النتاج الشعري الجديد اختلاطا وفوضى وغرورا تافها وشبه أمية. وبين الشعراء " الجدد " من يجهل حتى ابسط ما يتطلبه الشعر من أدراك لإسرار اللغة والسيطرة عليها، ومن لا يعرف من الشعر غير ترتيب التفاعيل في سياق ما، ومع ذلك يملأ كل منهم الجرائد والمجلات بتفوقه وأسبقيته على غيره وبمزاعمه أنه نبي الشعر الجديد ورائده. بل أننا مع القائلين أن الشعر الجديد مليء بالحواة والمهرجين ". (1)

_ (1) زمن الشعر: 236 - 237.

أن في حدة هذه الصراحة ما يسوغ ذلك التضايق الذي شعرت به نازك إزاء كثير من المحاولات الشعرية المعاصرة، ولكن الفرق بين الموقفين هو الفرق بين إحساس بشيء من التشاؤم تجاه إمكان خلوص هذا الشعر من زيف كثير علق به، وبين إيمان متفائل بأن الشعر؟ الرؤيا - قد يتحقق، بل لعل جانبا منه قد تحقق على يد قلة؟ أو على يد واحد - من الشعراء. وهما يكن من تقارب بين بعض جوانب هذين الرأيين فإني أرى أن الحقيقة تقع في مكان ما بينهما: ذلك أن هذا الشعر الذي تسميه نازك شعرا حرا لم يعد تلبيه لرغبة في التجديد الشكلي؟ كما بدأ - وإنما أصبح مع الزمن طريقة من التعبير عن نفسية الإنسان المعاصر وقضاياه ونزعاته فهو يتطور في ذاته كلما تطورت المداخل لفهم تلك النفسية، والمبادئ المطروحة لحل تلك القضايا، والوسائل الجديدة للكشف عن ضروب اللقاء والصراع في تلك النزعات، ويجب أن نتوقع استمرارية في هذا التطور، لا عودة إلى الوسائل السابقة، حتى أمد غير قصير، خصوصا إذا صورنا ملازمة هذا التطور لأمرين هامين، أولهما: أن الزمن سيخلق أجيالا لا تعرف من صور شعرنا القديم وضروبه إلا أصداء يسيرة تفرضها النظرة التاريخية، وإنما هي أجيال قد تغذت بهذا الضرب الجديد من الشعر، ووجدت فيه صورة لما تبحث عنه في الحاضر وبعض اسقاطات على ما ترغب تحقيقه في المستقبل، وثانيهما: أن الشعر غير منفصل ولا منعزل عن ضروب التعبير الأخرى في القصص والمسرح والسينما والرسم والموسيقى، وإذا كان التغير في هذه الضروب شاملا، متطورا، (وكان ذلك كله بسبب التغير المستمر السريع في منطلقات العلم والتقنية والكشوف المتتابعة) فليس من الطبيعي أن يستقل الشعر بالارتداد إلى صور التعبير

القديمة. نعم أن شيئا من الماضي قد يمكن بعثه في سياق هذا التطور؟ أو على الأصح قد يمكن استخدامه وتحديثه، لا لقيمته للحاضر، ولكنه بهذا نفسه لن يظل ماضيا. ثم أن هناك حقيقة تتصل بما سبق، ويجب ألا نغفل عنها، وهي أن هذا الشعر يمثل جزءا من موجة عالمية طاغية، فإذا لم تكن هذه الوحدة الكبيرة هي التي تمده بالقوة والاستمرار، فإن طغيان الموجة وحده كفيل بأن يدفعه شوطا طويلا. ولدينا في طغيان الموجة المحلية أمثلة كثيرة من شعراء تحولوا بقوتها نحو الشكل الجديد، فكيف إذا كانت الموجة عالمية تغري الشاعر بأن يرتبط بما وراء حدود البلد أو الإقليم ويترجم شعره إلى عدة لغات، ويجد الاعتراف بشاعريته على نحو يتجاوز الرقعة الضيقة؟ وإذا كان لا بد من التمثيل فلنأخذ مثالين بارزين هما الفيتوري وبلند الحيدري بين الشعراء المعاصرين، فقد أصدر الفيتوري ديوانه " أغاني أفريقيا " و " أذكريني يا أفريقيا " وفي الثاني منهما أخذ يتجه نحو الشكل الشعري الجديد، (ليس قبل 1964) مع أن الشكل القديم في ديوانه الأول لم يكن يشكو ضعفا أو قصورا، بل كان يعد من حيث تعبيره عن المشكلات الإفريقية من استعمار وعبودية وتمييز وعنصرية غاية في الاداء، ولكنه تحول؟ ولم يضعف في تحوله، رغم صعوبة ذلك، أما بلند الحيدري فقد كان أول ديوان له هو " خفقة الطين " (1944 (؟)) وهو يمثل طاقة شعرية فائقة، استعاض عنها بلند حين تحول إلى الشكل الجديد بالعمق الفكري، ولكن ذلك العمق لم يستطع؟ فيما أرى - أن يكون بديلا لتلك الطاقة الشعرية. ورأي أدونيس؟ وأن كان أقرب إلى فهم طبيعة التطور ومتطلباتها - لا يزال يشكو من الطموح المثالي، ذلك أنه إذا كانت " الوحدة المنتظرة هي التي يجب أن تتم بين فن

ثوري يرفض البنية الثقافية القديمة في الحياة العربية، ونظام ثوري يرفض بنيتها الاقتصادية - الاجتماعية " (1) فإن عدم تحقق أحد طرفي المعادلة يشل من قدرة الطرف الثاني على أن يتحقق كاملا مثلما يعوق ظهور الوحدة المنتظرة وفي هذا المجال علينا أن نقر بالمرحلية عمليا لا نظريا وحسب، ومعنى ذلك أن نربط بين الواقع والنموذج الفني، فلا نتحدث عن النموذج بحسب ما يجب أن يكون، وإنما بمعيار صلته بالواقع. وهذا أمر قد يقلل من شغفنا بالتنظير المسبق، ويوجه أكثر جهودنا إلى أن ندرس وندقق ونتفحص، ونعلل من خلال الوقائع المعطاة، والحدود والأبعاد التي أبرزها الإمكان. ألم يقل أدونيس نفسه في مراجعة له على مجموعة قصائد نثرية لانسي الحاج: " في مجموعتك صراخ يفتح باب الرعب.. صحيح أن الصراخ قلما يكون وسيلة للشعر، لكنه في هذه اللحظة من تاريخنا قدر نفسي يحكمنا " (2) ، أن الصراخ؟ لن يكون بأي منطق - وسيلة للشعر، ومع ذلك فقد قلبه أدونيس لأنه " قدر نفسي " لبعض الناس في مرحلة تاريخية، وهناك مستويات أخرى كثيرة يحاكمها أدونيس بمنطق " المثل الأعلى "، ولابد هنا، من موقف موحد، لا يتطرف إلى هذه الناحية أو تلك بحسب المزاج أو إيحاءات اللحظة العابرة.

_ (1) زمن الشعر: 183. (2) المصدر السابق: 268.

2 - دلالة البواكير الأولى القصيدتان اللتان وصفتا بأنهما بداية الانطلاقة الجديدة في الشعر، وهما قصيدة " الكوليرا " لنازك، وقصيدة " هل كان حبا " للسياب (1) ، لا يصلح اتخاذها مؤشرا قويا على شيء سوى تغيير جزئي في البنية، فأما الأولى فأنها خبب مسيقي لذلك الموكب المخيف الذي يمثله الموت، ووصف خارجي للوصول إلى إثارة الرعب؟ دون القدرة على إثارته - باختيار مناظر يراد بها أن تصور هول الفجيعة، وأما الثانية فإنها تنطلق من محاولة لتحديد معنى الحب هل هو نوح وابتسام أو خفوق الأضلع عند اللقاء، ثم تتردد فيها المشاعر بين تصوير للغيرة والشك والحسد للضوء الذي يقبل شعر المحبوبة، ولولا تفاوت ضئيل في بعض الأشطار دون بعض، لما ذكرت هذه القصيدة أبدا في تاريخ الشعر الحديث. أذن فإن اختيار هاتين القصيدتين لدراسة معالم الاتجاهات لهذا الشعر في البداية لن يؤتي نتيجة تلفت الأنظار، ولهذا كان لابد من تجاوزهما، زمنيا، إلى نماذج مما جد بعدهما، وبين العمد والعفوية، أراني أختار لهذه الغاية ثلاث قصائد للرواد الثلاثة الأوائل، وهي: قصيدة " الخيط المشدود في شجرة السرو "

_ (1) القصيدة الأولى في ديوان نازك 2: 136 والثانية في أزهار وأساطير (منشورات دار الحياة - بيروت) : 139 وتبدو القصيدة الثانية - في هذه الطبعة - ناقصة قد سقطت منها بعض المقاطع.

لنازك (1948) و " في السوق القديم " للسياب (غير مؤرخة ولكنها ربما لم تتجاوز 1948) و " سوق القرية " للبياتي (حوالي سنة 1954) مع الاستعانة في تحليل القصيدة الثالثة، بقصيدة رابعة للبياتي عنوانها " مسافة بلا حقائب " وكلتاهما من ديوانه " أباريق مهشمة ". (1) ومن أجل أن أضع القارئ في جو قصيدة نازك " الخيط المشدود " أقول أنها قصة محب كان يظن واهما أن الحب في قلبه قد مات، ولكنه عاد إلى المعاهد الأولى لذلك الحب، وأقترب من " البيت " والهواجس تقول له لأن صاحبته ما تزال على عهده وأنه سيلقاها ولا بد، وبعد أحجام يدق الباب، فلما لم يجبه صوت، يفتحه فيرى في ظلمة الدهليز وجها شاحبا، هو وجه الأخت (أخت المحبوبة) ، ويقف السؤال في فمه وهو يحاول أن يقول: هل؟. ويجيئه الجواب، أنها " ماتت "، وفيما هو يسمع هذه الكلمة الرهيبة وهي تتردد في أذنيه كالمطرقة، يتعلق طرفه بخيط مشدود في شجرة سرو قائمة في باحة البيت، وبين رنين اللفظة الداوي يملأ الليل صراخا: " ماتت. ماتت " وبين الخيط المشدود تتوزع نفسه متقسما، ويطول به الوقوف، وهو غائب عما حوله، تتجاذبه القوتان الطاغيتان، ثم يعود؟ وهو ما يزال يسمع الصوت - والخيط في يده يعبث به ويلفه حول إبهامه. على هذا الوجه تبدو القصيدة تصورا ذاتيا لما سيحدث في المستقبل، فهي حلم أو نبوءة أو أمنية تصور العودة ومد العواطف المستشرقة للقاء حتى الذروة، ثم الصدمة النفسية ثم التمزق ثم العودة الثانية (عودة المحب أدراجه مضطربا آيسا) ، فهي أذن وجدانية ذاتية، ومن

_ (1) هذه القصائد الأربع ترد في الملحق.

خلال هذا التلخيص تبدو عادية في رومنطقيتها. ولكنها ليست كذلك لاحتوائها على عناصر شعرية رفعتها فوق ذلك المستوى. وقبل الحديث عن تلك العناصر لا بد من الإشارة إلى أن الشاعرة اهتمت في فاتحتها بإبراز الجو المكاني والزماني " الشارع المظلم؟ الليل - أشجار الدفلى " وهو جو ذو صلة بالذكريات، غير أن رسم مثل هذا الجو وتحديد معالمه يعد متكأ أثيرا لدى الشاعرة في كثير من قصائدها السابقة واللاحقة، كأن تقول: " في سكون المساء/في ظلام الوجود " أو " كان المغرب لون ذبيح/ والأفق كآبة مجروح " أو " في الكرادة في ليلة أمطار ورياح "؟ الخ، وغالبا ما تكون هذه التوطئة إيذانا بقص حكاية، وقد عمدت في هذه القصيدة إلى هذا الشكل القصصي نفسه، لأنه شكل قابل للنمو الطبيعي بين طرفي " العقد والحل "، ولأنه يتلائم بقوة وتلك الحرية التي اختارتها في سياق التفعيلات المتفاوتة، وقد مكنها الشكل المتحرر والقالب القصصي من إبراز أمر ثالث وهو: التعمق في تحليل نفسية المحب وربط تلك النفسية بمظاهر الطبيعة، وإخراج بعض كوامن تلك النفس على شكل حديث ذاتي أو مونولوج داخلي، يعكس الاستشراف والقلق والتذكر والتردد والحيرة والابلاس والتعب الذي يشرف بصاحبه على الانهيار. ويمثل " البيت " عنصرا هاما في قصيدة نازك، بل في كثير من قصائدها: وترى البيت أخيرا بيتنا، حيث التقينا عندما كان هوانا ذلك الطفل الغريرا وترى البيت فتبقى لحظة دون حراك ها هو البيت كما كان هناك؟.. "

لا لأنه وحسب، موطن اللقاءات والذكريات، بل لأنه أيضا بيت العائلة، وحين يفتح المحب بابه يجد الأخت شاحبة حزينة على فقد أختها، واختيار هذا المكان للقاء يوحي أن هذا الحب كان عفيفا نقيا، يتم تحت سمع العائلة وبصرها، ولا غرابة إذا أصبح البيت في شعر نازك هو نفسه " المعبد "، وانتقل الحب إلى جو ديني من الصفاء والعفة، حتى أن المحب العائد لا يتصور إلا روعة اللقاء، والتحايا التي تعود أن يسمعها: ويتلقاني تحايا كما كنا قديما وستلقاني؟ لا غرابة إذن أن نجد العنصر الأكبر في هذه القصيدة شبه ديني يقف بين مصراعيه التوبة؟ والعقاب، فقد عاد المحب تائبا: ها أنا عدت وقد فارقت أكداس ذنوبي وقد جاء يرجو " التطهر " في معبد الحب، برؤية جميع الرموز التي تربطه بالماضي: الطريق، أشجار الدفلى والتارنج والسرو، السلم، الباب ذو اللون العميق، الممر المظلم الساكن، ولكن التوبة متأخرة، ثم لم تكن مقبولة، وكان لا بد من العقاب، وقد جاء هذا العقاب قاسيا يوحي بالتشفي والشماتة، والمحبوبة تحت الثرى في مكانها " الداكن الساجي البعيد " ترى أية صاعقة عنيفة وقعت على ذلك المحب الذي لم يعد في الوقت المناسب. وكان العقاب ضياعا للماضي كله وانطفاء لرموزه المختلفة؟ عدا رمز واحد - ثم ضياع المحب في الحاضر (والمسستقبل) لأنه أصبح مجردا من ماضيه، ومن الواضح أن هذا العقاب يقف موازيا لتضحية المحبوبة، وموتها، في القصيدة، ولكن

علينا أن نتذكر أن الشاعرة؟ في عدد غير قليل من قصائدها - تلح على هذا اللون من الحب الذي يلتبس حينا بالعداوة: نحن إذن أعداء وإن تكن تجمعنا أحلام من أمسنا أودت بها الأيام كما يلتبس حينا آخر بالبغض: وأبغضك لم يبق سوى مقتي أناجيه وأسقيه دماء غدي وأغرق حاضري فيه وأن هذا البغض يفضي إلى القتل، ولكنه يتمخض عن قتيلين (كما في القصيدة التي أدرسها) : وكنت قتلتك الساعة في ليلي وفي كأسي ؟ فأدركت ولون اليأس في وجهي بأني قط لم أقتل سوى نفسي وليس هذا تصويرا للحظات متفاوتة متقلبة بين الأمل واليأس، وإنما هو هرب من هذا العائد، لأنه لن يكون نفسه، لن يحمل صورته السابقة، وإنما سيكون شخصا آخر مختلفا عن الصورة التي أرتسمت في النفس: ولو جئت يوما؟ وما زالت أوثر إلا تجيء - لجفت عبير الفراغ الملون في ذكرياتي وقص جناح التخيل واكتأبت أغنياتي أنه هرب من المفارقة القائمة بين الواقع والخيال، واقع المحبوب العائد، وصورته المثالية المتخيلة، على ذلك يصبح

موت المحبوبة في القصيدة ضروريا لا لأنه يحقق العقاب وحسب، بل لأنه يبقى على الصورة المثالية دون أن تتشوه أجزاؤها. وتتكئ القصيدة على عنصر آخر متصل بالعنصر السابق شبه الديني، بل هو يوسع من حدوده، لأنه يجعل الإثارة متصلة بالشعائر مطلقا، أعني بذلك ترديد الكلمة السحرية التي تعتبر مفتاح القصيدة وشارة التحول فيها، وهي لفظة " ماتت " لفظة تنبعث من كل النواحي وترددها الظلمات وشجرات السرو والعاصفات وتصل أصداؤها إلى النجوم؛ وإحساس الطبيعة بهذا الموت، دليل على أن المحبوبة قد أصبحت جزءا من تلك الطبيعة كما أنه دليل على فداحة الفاجعة، هذا من ناحية الدلالة المعنوية أما من حيث تأثير اللفظة في بناء القصيدة فإنها حولت حركتها إلى جمود في كل مكان عن نبضات الحياة وعن حيوية التحليل النفسي، ولهذا شغلت من القصيدة أربعة مقاطع (من بين سبعة) . ولولا أن الشاعرة أوجدت في قصيدتها عنصرا ثالثا مهما؟ بل أهم عناصرها؟ لتوقف حركة القصة عند نهاية مألوفة، وذلك العنصر هو الخيط، وهو سر تعلق المحب بتفسير ما يظنه من لغز فيه، وهو تميمته (تعويذته) التي استعان بها على طرد أثر الكلمة السحرية " ماتت "، ووجوده هنالك مشدودا في شجرة السرو جعل المحب يهرب من مجال المسموع إلى مجال المنظور، وبدلا من أن تصعقه اللفظة السحرية، بشدة وقعها الرهيب، تلقى " الخيط " عنه لعنتها حين أمسكه وأخذ يبعث به، فغدا أداة " تسريب " للسموم التي كانت تنفثها في نفسه لفظة " ماتت ". ذلك أن حروف لفظة " ماتت "؟ في رسمها

كانت تبدو كالمشنقة، " كل حرف عصب يلهث في صدرك رعبا " كما أن الخيط كان صورة من المشنقة أيضا، كان " حبالا من جليد "، وقد هرب المحب من مشنقة حقيقية إلى أخرى رمزية، وكانت حياته؟ في نظر الشاعرة - ضرورية ليتعذب ويقاسي أهوال الندم ويغرق في لحج الضياع. وقد كانت الشاعرة قادرة على أن تجعل ذلك الخيط جزءا من الذكريات، فيصير في يد المحب شيء من الماضي، ولكنها أبت حتى ذلك عليه، إذ أنه بعد فراق شهرين، عاد ليرى الخيط وهو لا يدري متى شد في موضعه؟ من شده؟ ولماذا علقوه، أنه شيء لم يكن له في تاريخ الحب علاقة بالمحبوبة، ومع ذلك فقد تعلق به المحب، لعله أن يكون أثرا من آثار تلك التي ماتت، لعله؟ ألم يكن مشدودا إلى شجرة السرو، وهذه الشجرة ترمز إلى المحبوبة، أتراها هي التي وضعته هنالك ليرمز إلى أنها أحكمت ربقة الموت حول نفسها وحول حبها وحول الماضي؟؟ علالة نفس هي كل ما تبقى له من " الحب العميق "، وعدم اتصال الخيط بأي شيء من ذكريات الماضي يعمق مشاعر التشفي والشماتة، ويومئ في سخرية خفية إلى أن المحب حين فقد كل شيء انتحل لنفسه وجود لغز حسبه متصلا بالماضي ليتأمله على البقاء. وقد قسمت الشاعرة قصيدتها في سبعة مقاطع (أو دورات) ، ولكن هذه القسمة لم تكن ذات قيمة في البناء الفني للقصيدة، لأنها لا تمثل مراحل دقيقة في نموها واسترسالها، ولهذا يستطيع الدارس أن يغفل هذا المظهر دون أن يجوز بذلك على المبنى العام للقصيدة، وهو مبنى قائم في جملته على التوازي المستمر بين شيئين أظهرهما: موت " البطلة " وتحولها إلى جزء من الطبيعة الأم المخصبة تلك الطبيعة ترثي المحبوبة إلى الكون بترديد الخبر عن

موتها، كأنه القوة السارية في تلك الطبيعة، وحياة " المحب " والسخرية من تلك الحياة إذ يحاول استمداد البقاء من عنصر مجدب ميت تافه صغير هو " الخيط "، وبين هذين المتوازيين تقع المتوازيات الأخرى من حركة وتوقف، وتوبة وعقاب، ومسموع ومنظور، وراحة أبدية وعذاب مستمر، والتطهر بالموت (دون ذنب) والحرمان من التطهر (وبقاء الذنب) ، إلى غير ذلك من صور التوازي. هذا المبنى المتوازي ليس هو الذي يمنح القصيدة لونا جديدا، لأنه موجود في الشعر الكلاسيكي، كما أن منحاها الرومنطيقي لا يمنحها جدة وإنما يلحقها بتيار عريق في التاريخ الشعري، ومع ذلك يحس القارئ بهذه القصيدة أنها تنفرد بسمات مميزة: ومن أبرز تلك السمات طريقة خلق التوازي، وخلق الجو شبه الديني، والإلتفات إلى العناصر الصغيرة التي بها يكتمل نظام المبنى، فهل هذا كله من أثر انتحال جديد؟ مهما يكن الجواب على ذلك، فإن هذا الشكل قد يسر الجانب التحليلي، وقوى العنصر الدرامي، وجعل للتوازي مجالا واسعا، وسيجد من يدرس شعر نازك أن هذه القصيدة تعد معلما على التيار الكبير في ذلك الشعر، من حيث الاحتفال بالبناء والتحليل والدرامية وبسط التمهيدات المكانية والزمانية، والتمرس بمشكلة الموت وبالزمن، والاغتراف الكبير من الذاتية ذلك الاغتراف الذي يجعل التوجه إلى الخارج أمرا مرهقا غير سهل بل قد يستعصي على الشمولية والاحكام، فليس غريبا إذا وجدنا نازك تستقل بإتجاه خاص في الشعر يصعب التحول عنه. وقد سار بدر شاكر السياب في قصيدته " في السوق القديم " على الطريق الذي سلكته نازك من حيث قسمة

القصيدة في مقطوعات أو دورات (بلغت إحدى عشرة دورة) وهي أيضا في هذه القسمة تشكو ما تشكوه قصيدة نازك، من حيث أن تلك الدورات لا تعبر عن مراحل محددة في بناء القصيدة، ومن ثم فإن إغفالها لا يعد إخلالاً بطبيعة ذلك البناء، غير أن السياب؟ على الضد من نازك - لم يحصر القصيدة في جو البيت أو المعبد، وإنما جعله أرحب من ذلك حين أتخذ السوق مسرحا لقصيدته، غير أن هذا التغيير يجب ألا يخدعنا طويلا، فإن الوحدة مضروبة على هذا السوق نفسه لأن الوقت ليل، وقد خلا من البائعين والمشترين ومن الجالسين والماشين، سوى بعض العابرين الذين لا يتجاوز أصواتهم الغمغمة، وإنما فعل الشاعر ذلك ليتيح لنفسه عمق الإحساس بالغربة في ذلك الجو الليلي الذي بسطه - كما فعلت نازك أيضا - فاتحة لقصيدته، ولأنه يخشى أن تشغله الأصوات عن تأمل أمرين: الأول: البضائع التي يحتويها السوق، والثاني ما تثيره تلك البضائع من ذكريات أو ما تفتحه من كوى على المستقبل، وليس للأمر الأول من قيمة إلا لأنه يؤدي إلى الثاني. ويسير " الغريب " في السوق فيرى الأكواب والمناديل (أدوات حفلة عرس) ولكن الشموع هي أشد ما يجذب انتباهه، لأنها تذكره بقلبه الذي كان حيويا ثم أخذت حيويته في الإطفاء مثلما هو مصير كل شمعة، وفجأة يتذكر كيف عاد النور إلى قلبه بظهورها؟ أعني فتاته - لتنقذه من وحدته، ولكنه كان يحس أنها ليست هي، وأن أحلامه في أخرى سيمضي باحثا عنها، إلا أن الأولى أكدت له إنها هي معقد أمانيه، هي الحبيبة التي طال انتظارها، غير أنها تنبأت له بأنه لن يحقق حلمه ببناء بيت على الربوة مضاءة بالشموع، وتضعه بين " قرني المعضلة " حين تقول له:

أنا أيها النائي الغريب لك أنت وحدك، غير أني لن أكون لك أنت؟ اسمعها، واسمعهم ورائي يلعنون هذا الغرام سيبقى لا ثواء ولا رحيل، سيحاول السير فيجد أن قدميه مسمرتان في مكانهما، وسيستنجد بإرادته، لا بد من المضي للقاء تلك التي تنتظره، لأنه يحس بقسوة الشموع التي ستضاء في عرس تلك المتشبثة به؟ وهي ليست له -، لا بد من المضي، فترتخي يداها عنه، ليجد نفسه واقفا حيث هو لا يستطيع أن ينقل قدما. نحن إذن مرة أخرى في جو رومنطقي: غريب في جو حزين وذكريات حزينة، فالسوق كئيب والحوانيت كأنها أنغام تذوب والأنغام التي تتأدى فيه حزينة والنور شاحب ووجوه العابرين شاحبة وكلامهم غمغمة، والأشياء؟ بسبب الضوء الباهت (أو بسبب نفسية الغريب على الاصح) توحي بتنبؤات كئيبة: فالأكواب تحلم بالشراب والشاربين، وربما حشرجت فيها الحياة وبردت، والمناديل حائرة لأنها تنبئ عما سيحدث في المستقبل من مناظر وداعية، يضوع فيها العطر أو يضرجها الدم الذي يتقطر. مغمغما " مات. مات "؟ تماما كما فعلت الطبيعة في قصيدة نازك، إلا أن الكلمة هنا ليست سحرية، ولا تتردد سوى مرتين، وتنقطع النبوة عند هذا الحد، فيما يتصل بالمناديل، لأن سلعة أخرى شغلت انتباه الغريب وهي الشموع التي يراها؟ بعين بصيرته - وقد أوقدت في المخدع المجهول، في مكان ما في جنوب العراق، وحيث عاش الغريب يحلم " بالصدر والفم والعيون "، وطال به الحلم: بين التمطي والتثاؤب تحت أفياء النخيل

حتى خبت شمعة قلبه وأعادت إيقادها؟ مؤقتا - تلك التي " أتت هي والضياء ". حتى هذا الحد أنهى الشاعر ثماني دورات من قصيدته وهو يصور انعكاس مواجده النفسية على الأشياء، وقدرة تلك الأشياء على الإثارة التنبؤية لما يكنه المستقبل، فهو غارق في حلم أو سائر في النوم، تلوح لعينيه المغمضتين رؤى المستقبل، كما تلوح له؟ في هذا الوضع - نافذة تضاء، والنافذة التي تضاء في شعر السياب تقترن بالطفولة (شناشيل ابنة الجلبي) وبالحب وبالمرأة المتمناة وبالأمل العريض، ولكنها هنا ترد عابرة وكأنها حشو في القصيدة، وهذا السائر في النوم لا يرى إلا بعض الأشياء التي تتخذ في حفلات الزواج، حتى إذا لاحت المنتظرة ظنها الفتاة التي سيقترن بها، ولكن حين وضعته في منطقة " الما بين " (1) ؟ لا يأس ولا رجاء، لا ثواء ولا رحيل - كان أقسى ما تصوره أن يحس بأن الشموع ستوقد في زفافعا لغيره: ليس أحداق الذئاب أقسى علي من الشموع في ليلة العرس التي تترقبين وكما هرب المحب في قصيدة نازك من صعقة الكلمة السحرية إلى الخيط، هرب الغريب في قصيدة السياب إلى إرادته ولاذ بها يستنجدها، مصمما على الرحيل، ليلقى الأخرى، " سوف أمضي، سوف أسير " ثم ليجد نفسه وقد أحاط به العجز من كل ناحية، ذلك لأنه عقد هذه الارادة بلقاء أمرأة متوهمة لا وجود لها، عند طرف السراب، في

_ (1) أعني منطقة واقعة " بين بين "، فأما ما أثبته في المتن، فهو مما يكرره البياتي كثيرا في تصوير هذه المنطقة البرزخية.

الجنوب، حيث حدثنا أن حياته هنالك مرت في صورة حلم طويل لم يتحقق منه شيء، ولم تظهر فيه أية امرأة. قصيدة السياب قسمان يكادان يكونان متمايزين: تصورات بين الماضي والمستقبل أو سلسلة من الهواجس الحلمية ثم صراع؟ في الحلم - بين الواقع والمستحيل، والقسم الأول هو الأطول، إذ طال به التلدد في جنبات السوق حتى وقع بصره على الشموع وكانت وقفته عند الكوب والمنديل (رغم صلتها بحفلة الزواج) غير متسقة مع الوقفة الطويلة التي وقفها عند الشموع بل ربما لم يكن ربط الجزءين معا في هذا المبنى إلا بشيء من التجاوز والتقدير. ومع ما في قصيدته من تشابه بقصيدة نازك إلا أن الفروق بينهما واسعة، لا في أن السياب هنا استسلم لروابط واهية في إطالة القصيدة وحسب، بل لأنه ما يزال يعني بالتصوير الخارجي، لا بالتحليل الداخلي، ويذهب مع الاستطراد حيثما أتجه به، وإذا كان للشكل الجديد لديه من أهمية، فإن أهميته تكمن في القسم الثاني حيث استقوت الناحية الحوارية، على حساب التصوير الذي شغل أكثر القسم الأول. أن السياب؟ سيظل مثل نازك - شغوفا بالمشرع التمهيدي الذي يحدد الجو المكاني والزماني، بل سيزيد على نازك في هذا المنحى لأنه سيختلف اختلافاً كبيرا عن نازك في اتجاهه الشعري عامة وهذه القصيدة على دلالتها لا تصلح أن تكون مؤشرا على جميع انعطافات السياب في المستقبل، لأنها تجربة يحسن أن ينتقل عنها إلى غيرها، ولأنه تعرض لمؤثرات كثيرة عنيفة ظلت نازك بمعزل عنها. ولكن مهما يكن من شيء، فإن القصيدة تنبئ أيضا أن

التحول إلى الشكل الجديد لم يبعد بصاحبه كثيرا عن المنحى الرومنطقي الخالص، حتى ذلك الحين (1) ، كما أنها من وجه آخر تدل على شغفه بالإطالة؟ على حساب المبنى - وعلى قوة التداعي، وعلى تعلقه الواقعي بإبراز مشكلة حرمانه من المرأة، ورغبته الواقعية الطاغية العارمة في العثور على زوج وبيت، وعلى حنينه الدائم إلى " الجنوب " حيث القرية؟ (جيكور) - والأم والنخيل والحقل الذي تموج به السنابل تحت أضواء الغروب، وإذا كان السياب في هذه القصيدة لم يلجأ إلى الكلمة؟ التعويذة (جالبة الخير أو طاردة الشر) فإنه لجأ إليها في بعض قصائد هذه المرحلة مثل قصيدته " نهاية " (2) حيث يردد ما قالته له الحبيبة " سأهواك " وسيلجأ إليها من بعد مقترنة بإيحاءات شعائرية خالصة (3) . وقد يمكن أن يقال أن المحب في قصيدة نازك قد انتقل من المجتمع؟ عبر الطريق المألوف - إلى وحدة المعبد، وضاع في وحدته، وأن الغريب في قصيدة السياب قد ضاع في السوق، أي في المجتمع، أو في نوع منه (ولعل السوق هنا يرمز إلى المدينة) ، وأن كلا الضياعين يعبران بقوة عن اتجاهين مختلفين منذ البداية، وستتسع مسافة الخلف بينهما في المستقبل. ويتناول البياتي السوق في قصيدته " سوق القرية "، ويحتفل بالتوطئة المكانية والزمانية مثل زميليه، لكن

_ (1) انظر دراسة لهذه القصيدة في كتابي " بدر شاكر السياب " (1969) : 141 - 144، وقد تغيرت بعض أحكامي على هذه القصيدة بعد أخضعها لتصور جديد وقراءة أدق. (2) أنظرها في ديوانه أساطير (النجف: 1950) : 59 - 62. (3) انظر مثلا قصيدته أنشودة في ديوان له بهذا الاسم (بيروت 1960) : 160.

هذه التوطئة جزء من صلب القصيدة لا يراد منها أن ترسم جوا معينا يصلح لما يليه؟ لأن القصيدة كلها توطئة لشيء لم يقل من بعد - باستثناء لفظة " الشمس " التي تفتتح بها القصيدة، فإنها تصلح أن تكون تحديدا زمنيا كما تصلح أن تشير إلى معاناة المحتشدين في لك السوق من شدة الحرارة. فالمنظر إذن في النهار لا في الليل، وهو بذلك ضئيل الإيحاءات الرومنطقية لأنه ضئيل الصلة بالحلم، والشاعر هنا مشاهد، وقد يبدو أنه مشاهد محايد إلا أنه ليس كذلك، فإنه يعتمد على حاستين؟ متوازيتين توازيا مقصودا في القصيدة - وهما حاسة البصر وحاسة السمع، والأولى تسجل وكأنها آلة فوتغرافية، ولكنها في الوقت نفسه، انتقائية فيما تريد أن تنقله. كل شيء هنا مرتب بالتناوب؟ على نحو عامد - بين المنظور والمسموع: والمنظور نوعان: أشياء ومناظر توحي بالفقر والتخلف " كالحمر الهزيلة والذباب وحذاء قديم، وبنادق سود وأطفال يصطادون الذباب؟ "، وأناس طيبون حالمون: فلاح فقير يحلم بأن يشتري الحذاء القديم وحكيم صغير يبيع حكمته ولا يجد لها من يسومها، وحاصدون متعبون يزرعون صاغرين للإقطاعي ويظلون جائعين، فهم يحلمون يوما أن يزرعوا لأنفسهم، وعائدون من المدينة يصرخون مما شاهدوه من أهوالها ويلوذون بحمى قريتهم، وبائعة أساور وعطور (حيث يسعى الناس إلى العثور على الحاجي والضروري فكيف يجدون ما يعينهم على شراء الكمالي!) وحداد دامي الجفن يستعيض بالحكمة عن كساد سلعته، وبائعات كرم يحلمن بالأزواج: عينا حبيبي كوكبان وصدره ورد ربيع

في القصيدة حلم كثير بل سلسلة من الأحلام، ولكن الشاعر نفسه ليس هو الحالم الرومطيقي، وإنما هو يسقط الحلم على مجتمع هذا السوق (وهو نفسه مجتمع القرية) لأن ذلك الحلم في حياة أولئك الفقراء الكادحين تعويض عن الحرمان، وإذا كان " الغريب " في سوق السياب قضى شطرا طويلا من عمره " بين التمطي والتثاؤب تحت أفياء النخيل " فإن القرية تبدو للواقف في سوق الباتي " أكواخا تتثاءب في غاب النخيل "، وكأن البياتي يقول في قصيدته: لماذا يختار الشاعر أن يمشي في الليل وحيدا في سوق قد خلت من الناس أو كادت ليحلم بالحب والمنتظرة، ولا يحاول أن يرى السوق في واقعها الصحيح، في رائعة النهار، وفي القرية لا في المدينة، ويستمع إلى أحلام الفقراء وتمنيات المعوزين، أنه ليس في حاجة أن يرى السوق حزينا لأنه هو نفسه حزين، شاحبا لأن أحلامه شاحبة، وما عليه إلا أن يجيل بصره وسمعه ليدرك أن السوق بائس حزين، دون استقطاعات ذاتية. ومن اللافت للنظر تلك المفارقة التي يقيمها الشاعر بين القرية والمدينة مستمدا حكمه على المدينة من تصور الفلاحين لها وهم يقولون لدى عودتهم منها: يا لها وحشا ضرير صرعاه موتانا وأجساد النساء والحالمون الطيبون فهذه المفارقة تضيف إلى بؤس الريفيين بؤسا جديدا: أين يذهبون؟ أنهم يفرون من قراهم وبؤسها وتخلفها إلى المدينة فتفترسهم ببراثنها خبط عشواء، فيعودون وقد ضاق عليهم المنقلب والمتردد يرضون بمعايشة الذباب، واجترار الحكم البالية. ويتذكرون أن قريتهم؟ رغم قذارتها

المادية - نظيفة معنويا لأن أجساد النساء لا تباع فيها، وينسون وهم الحاصدون المتعبون " أنهم مسخرون جسديا ومعنويا ليزرعوا صاغرين كي يأكل الإقطاعيون. (وليس من شك في أن هذه القرية وتلك المدينة هما؟ من بعد - قرية السياب ومدينته، إلا أن القرية تتوشح بذكريات الطفولة وظلال النخيل والبراءة كما يكبر الوحش الضرير وتطول أنيابه وتشحذ براثنه، حتى يصبح هولا لا يطاق، ولا نجاة منه إلا بالعودة إلى وداعة القرية وسماحتها، لأن السياب سيظل دائما واحدا من " الحالمين الطيبين ") . وليس في قصيدة البياتي ذلك المبنى الذي يمنح قصيدة نازك ما فيها من روعة في الأحكام، ولا فيها شيء كثير من التحليل، ولا فيها نزوع السياب إلى الافتتان بحشد الصور والتقاطها من كل مكان، وإنما هي محض " صورة " للسوق في فترة زمنية محددة تقع بين حدة النشاط فيه واقفاره، نعم فيها ذلك التوازي الذي لا يختل بين المنظورات والمسموعات، ولكن لا شيء سوى ذلك، وتكاد تعتمد الجانب الإحصائي، دون تدخل مباشر أو تعليق موجه أو إغراق في استعمال الصفات، وتكاد تتجنب الإثارة العاطفية؟ في ظاهرها - وهي بهذا كله اقرب إلى لوحة الرسم منها إلى القصيدة، وهي من ثم غير متطورة من داخل الموجة الرومنطقية في الشعر العربي، كما هي الحال في القصيدتين السابقتين، ولما كانت أقرب إلى الرسم لم تحاول شيئا من الدرامية الحوارية، وكل ما أفادته من الشكل الجديد حرية الاختيار في الإحصاء، وإرسال الأقوال الحكم دون توطئة لها بمثل " قال " أو " يقول ". ومشاعر الشاعر فيها محتبسة وراء سور؟ يكاد يكون مصمتا - من الاقتصاد الدقيق في إسباغ الصفات والصور والاكتفاء

بالتسجيل، فهو رغم حدبه على هؤلاء الكادحين، في تعبيرات خاطفة في إيحاءاتها، لا يبدي شيئا من الرثاء لحالهم، ولا يصرح بشيء من التفجع لهم، ولا يستصرخ أحدا لإنقاذهم. ليس في القصيدة فرد يقع تحت تقلبات العاطفة وتغير العلاقات أسيرا للضياع، هنا مجتمع صغير ضائع، كل فرد فيه ضائع لأنه مرتبط بالمجموعة الضائعة ويحاول أن يتعزى بالحلم. وحضور الشاعر هنا جزئي، لا شخصاني (وليعذرني اللغويون في استعمال هذه الصيغة) ، وهو أمر لم نألفه في الشعر الغنائي الذي يتطلب أن يكون حضور الشاعر كليا. ذلك حضور أقرب إلى تصور اليوت لمهمة الشاعر، في أن يكون حياديا، إلى أقصى ما يستطيع، ولكن رغم أن حيادية اليوت قناع من الأقنعة الذاتية، فإن هذه القصيدة تخرج على ما يريده اليوت نفسه، من حيث أنها صورة مسطحة لا تنقل الرمز وأعماقه، معا في آن واحد، بل هي بعيدة أن تكون رمزا، لأنها تنقل ما تنقل دون أن تقول؟ على المستوى الرمزي - أي شيء. وإذا كانت هذه القصيدة؟ كما قررنا من قبل - غير متطورة من داخل الموجة الرومنطقية، فهل نذهب لنبحث عن منتمى جديد لها؟ لا أجد بأسا في ذلك لأننا نعلم حق العلم أن التجاه إلى التجديد في هذا الشعر إنما كان مستوحى من الإطلاع على الشعر الإنكليزي؟ كما سبق القول - فلا ضير إذا نحن ذهبنا نطلب صلة لهذه القصيدة بمناخ آخر غير مناخ اشعر العربي. إن قصيدة نازك نفسها تذكرنا بقصيدة " سويني بين العنادل " (1) لاليوت، من حيث البناء، فقصيدة اليوت تزاوج بين الرثاء والسخرية؟ رثاء البطل الحقيقي أغاممنون، والسخرية من البطل المزيف

_ (1) العنادل: جمع عندليب.

المضحك " سويني "؟ إلا أننا لا نعتقد أن نازك تأثرت قصيدة اليوت أو أنها كانت قرأتها حين نظمت قصيدتها " الخيط المشدود "، ذلك لأنها اختارت؟ في بناء قصيدتها - منهج التوازي، بينما ذهب اليوت في قصيدته إلى التطابق؟ أو إلى إيهام التطابق - وبين المنزعين فرق كبير. أما قصيدة البياتي فأنها - رغم رفعها للراية الحيادية الاليوتية على نحو ما - لا تصل بمنزع اليوت الشعري ولا تحتذيه، ولعلها؟ من ثم - تنتمي إلى مجال آخر. وفي سبيل أن نهتدي إلى هذا المجال دعنا نحدد مميزاتها الكبرى: أنها قصيدة رغم التوازي فيها بين المسموع والمنظور، شديد الاهتمام - في ذلك الجو النهاري الحار المشمس - بالمنظور نفسه، وليس المسموع فيها إلا نتيجة للعناصر التي يتكون منها ذلك المنظور، فهي بهذا المعنى صورة كاملة واضحة الجوانب مميزة العناصر، وهي من وجه آخر ثورة على القصيدة التي تلتبس بالحلم، صحيح أن الناس في داخل الصورة الكبيرة يحلمون، ولكن الشاعر نفسه ليس حالما، بل هو واقعي إلى حد أن يكون " طبيعيا " في نقل ما يراه، وهي من وجه ثالث ثورة على أن تكون القصيدة اعترافية، إذ لو اعتبرنا القصائد الثلاث، لوجدنا أن ما يقوله كل من نازك والسياب لا يعدو أن يكون فيضا اعترافيا لمواجد ذاتية في لحظة ما، أو جزءا من تاريخ عاطفي، متخيل أو حقيقي، أما قصيدة " سوق القرية " فإنها لا تؤمن بهذا الاعتراف، ولا تقر به، وهي تتجنبه قدر المستطاع، ثم هي من وجه رابع بداية رؤية للحركة الجماعية وابتعاد عن الذات، ترسم دون أن تنتقد، ولكنها قد تتطور في المستقبل فتجمع؟ في صورة أخرى - بين الرسم والنقد معا في آن. هذه المميزات تجعل منها تجربة جريئة، لأنها قد تكون نتاج تيارات مختلفة، فالفصل بين القصيدة والحلم يذكرنا

بموقف الشاعر الفرنسي بول ايلوار الذي يجعل التمييز بينهما ضروريا لأن الحلم يستهلك ويتحول بينما لا يضيع من القصيدة شيء ولا يغير، وكذلك هو الإلحاح على أهمية البصر في الرسم أيضا، فإنه ينتمي إلى ايلوار نفسه، ولكن الناحية الإحصائية في القصيدة ذات منتمى آخر، غير بعيد، فهو منتمى سريالي دون تحديد، إذ نجد بعض قصائد السرياليين لن تكن سوى مجموعة من الأسماء صفت في نطاق واحد، ويتصل هذا؟ من وجه ما - بنصاعة الصورة ووضوحها وصلابة حواشيها، وذلك أمر يلحق بمذهب الصوريين (الإيماجيين) الذين كانوا يرون أن الشعر لا بد أن ينقل الأجزاء والعناصر بدقة تامة، صلبة واضحة، وأن التركيز هو جوهر الشعر وحقيقته، وفي النهاية يتفق هذا اللون من النقل من الحيادية التي يتطلبها اليوت، وذلك يعني تبرئة القصيدة من عناصر الاعترافية الذاتية. فأما العنصر الآخير وهو التنبه للحركة الجماعية فإنه قد أعان الشاعر على مبارحة النطاق الذاتي الاعترافي، ولكنه قد يكون من وجه آخر بداية اليقظة على آلام المجتمع وبؤس الكادحين، بوحي من نظرة يسارية. قد يكون في كل هذا التصور إسراف، لا أريد به وجه التجني، إذ أنا أقول أن البياتي قد خضع لكل هذه المؤثرات حين كتب هذه القصيدة، وإنما نحن إزاء قصيدة نقل لنا صورة للشعر لم نألفها من قبل، ونحن حين نقرؤها نستذكر مظاهر كثيرة كانت تجري في الشعر الأجنبي، الإنكليزي والفرنسي، وأننا إذ ندرس الشعر العربي الحديث، فلا بد أن نكون على وعي بتلك المظاهر وما تمثله من تيارات، فذلك حقيق أن ينير أمامنا جوانب من الطريق ونحن نتحدث عن اتجاهات ذلك الشعر، وإذا كانت القصيدة نفسها تذكر بانتماءات شتى، فليس معنى ذلك أن الشاعر

سيظل قادرا على الإيحاء بهذه الانتماءات جميعا، وفي بعضها أحيانا تضارب، وبعضها قد يقوي حتى يحجب غيره، ولكنه سيختار اتجاها أكثر تلاؤما مع نفسيته وبيئته، ولهذا فإن اتجاهه الكبير لم تتوضح معالمه بعد. وحسبك أن تضع عناصر الثورة على المألوف الشعري في هذه القصيدة إلى جانب ذلك الاتكاء الواضح على التراث في الأقوال والأمثال المرسلة من مثل: ما حك جلدك مقل ظفرك، لن يصلح العطار ما قد افسد الدهر الغشوم، أبدأ على أشكالها تقع الطيور، وهذا الاتكاء وأن كان مستوحى من اليوت؟ على نحو لا يقبل الشك - فإنه من العناصر التي لن يتخلى عنها البياتي، مهما يمتد به حبل التطور، وهو يرينا أهمية تحديد المنطق في تبين العناصر المتحولة؟ أو القابلة للتحول - والعناصر الثابتة في اتجاهات شاعر ما. غير أن مما يحجب المسرب الكبير الذي سيتجه فيه شعر البياتي من بعد أنه كان في هذا الدور من نشاطه الشعري ما يفتأ يجرب، يبحث، يتلمس جاهدا ليستكشف الطريق، ولهذا فإن قصيدة واحدة؟ رغم كل ما تحمله من دلالات - لا تستطيع أن تصور وحجها جميع الروافد التي كانت تعمل معا لتشكل اتجاه التيار الكبير، وحسبنا على ذلك مثل آخر هو قصيدته " مسافر بلا حقائب " (1) ، التي يفتتحها بقوله: من لا مكان لا وجه لا تاريخ لي، من لا مكان تحت السماء وفي عويل الريح اسمعها تناديني " تعال! "

_ (1) أباريق مهشمة: 16 - 20.

ولست أريد أن أقف عند هذه القصيدة وقفة تحليلية، وإنما أكتفي بملاحظات أراها ضرورية في هذا السياق، فهذه القصيدة تقدم لنا معجما يكاد مستوفى من ألفاظ: العبث والتثاؤب والضجر والسأم والوحل والطين واللاجدوى والجدار والباب المغلق، ومن السهل أن نتصور من خلال هذه الألفاظ جميعا أي جو تريد أن تضعنا فيه وأي جو تستوحيه، فهي تستعيد أكثر ما في قاموس الحركة الوجودية في مرحلة من مراحلها، و " المتكلم " في القصيدة يعاني الانفصال ويشكو اللامكانية واللاتاريخية، وحين يقول " لا وجه لي " فإنه قد يشير إلى أنه بف السمات المميزة أو يفقد الوجهة ولا يعرف إلى أين يسير، وسواء أكان " أنسانا " عاديا أو فنانا فإنه؟ على الحالتين - واحد من بني الإنسان الذين يجدون أنفسهم جميعا معزولين، أو كما يقول سارتر في كتابه " الوجود والعدم ": كل إنسان تفصل بينه وبين الآخرين هوة لا يمكن عبورها، فالتواصل على ذلك مستحيل، وقد رمز الشاعر لهذه الهوة بالتلال وبالصوت الذي يسمعه يناديه " تعال " من وراء تلك التلال، ومع أن الحب قد يصبح قوة موحدة إلا أنه في هذا الوجود يعجز عن أن يقوم بهذا الدور. ومن الأصح أن نسمي هذا الإحساس الذي تنقله القصيدة غربة، وأن نربط بين الغريب فيها وغريب كامو، وحين نبحث عن أسباب هذه الغربة؟ أو التغرب - لا نجدها سارترية بالمعنى الدقيق، لأنها ليست غربة عن الذات بسبب نظرة الآخرين، إنما هي غربة متافيزيقية لانبات الصلة بالمكان والزمان (التاريخ) ؛ وقد يكون أسباب الاغتراب كثيرة؟ حسبما يراها علماء الاجتماع - فمن أسبابها الشعور بالوحدة، وعدم الرضى عن العلاقات الاجتماعية، والسخط على طبيعة الوظيفة، والإحساس بالضعف أو بعدم الثقة؟ الخ، ولكنها عند الشاعر ربما تمت إلى كل هذه

الأسباب، ربما كان فيها شيء من الضيق " بمستنقع التاريخ " أي بالواقع الحضاري وقيمته، إلا أنها في الجملة " غربة وجود "، لأن ذلك الوجود لا يجد ما يسوغه، وهي بهذا المعنى تعود لتلتقي مع تصرفات بعض أبطال سارتر في بعض رواياته لا مع فلسفته النظرية عن الاغتراب، وأيا كانت صلتها ومهما تكن بواعثها، فإنها كانت يومئذ تتصل بما شاع من نظرات وجودية. وخلاصة موقف " المتكلم " فيها أنه إنسان فقد هويته، وأنه لو كان هناك " رجاء " لا حب أن يستعيد تلك الهوية من خلال سيره الدائب بحثا عنها، ولكنه لا يغفل، وحين يعلل نفسه بقوله: " سأكون " يحس بعدم الجدوى وبأنه سيبقى دائما سائرا من لا مكان، ودون وجه ودون تاريخ. ولكنه لن يستطيع أن يتجاوز ذلك الصوت الذي يناديه، والذي سيشكل بحسب التحولات التي توجهه من بعد في كل مرحلة شعرية، وأنه أن كان في هذه القصيدة مؤمنا باستحالة استرداد الهوية التي فقدها، فإن كثيرا من همه في المستقبل سيغدو بحثا عن تلك الهوية رجاء استعادتها. ومهما يكن من شيء فانا نرى البياتي؟ بعيد سنوات قليلة من الانطلاقة التي سار فيها كل من نازك والسياب - قد سخر الشكل الشعري الجديد لمؤثرات خارجية مختلفة، تجاوزت التحوير للمواجد الرومنطقية الذاتية، وأتاح للحركة الجديدة أن تبارح نقطة التحول من داخل الماضي، وأن تعانق وجهة؟ بل وجهات - جديدة، فإذا كان نازك والسياب قد اشتركا في ارتياد شكل جديد، فإن البياتي كان أسبق المجددين إلى تغيير طبيعة المحتوى في ذلك الشكل. لقد ألقى الأولان حجرا في ماء الشعر وسرهما؟ إلى حين - اندياح الدوائر واتساع أقطارها في ذلك الماء، وذهب الثالث يعمل على تحويل مجرى ذلك الماء ليسقي غراسا مختلفة.

3 - العوامل التي تحدد الاتجاهات الشعرية كانت الغاية من التحرم بهيكل التاريخ؟ في الفصل السابق - أن نستجلي " نقطة البداية " لا غير، دون أن يكون ثمة إصرار على الاستمرار في هذا السياق التاريخي، وهو سياق طبيعي ممكن، بل يكون أحيانا ضروريا. ولكن الأخذ فيه هنا تحول دونه أسباب كثيرة، أبسطها أن الدواوين الشعرية التي بين يدي ليست جميعا تحمل تاريخ صدورها الأول أو تواريخ القصائد، ولهذا كان لا بد من العدول عن هذا السياق، والانتقال إلى منطقة التساؤل عن العوامل التي رسمت؟ وما تزال ترسم - المسالك والاتجاهات التي سار فيها الشعر المعاصر، وما يزال يسير. سؤال كبير متعدد الجوانب بسبب طبيعة العصر الذي نعيش فيه: عصر متفجر بشتى الأحداث والمشكلات والمبتكرات والقضايا والنظريات والعلوم، متميز بسرعة التحول والتطور في ما يتصل بهذه الشؤون جميعا. وأحسب أن كثيرين منا حين يلقون هذا السؤال على أنفسهم تتجه بهم خواطرهم؟ أولا وقبل كل شيء - إلى القضية الفلسطينية التي ارتبطت نشأة هذا الشعر زمنيا بها، وإلى ما تمخض عنها من آثار قريبة وبعيدة، من توزيع لأهلها بين من يقطنون خارج الوطن وداخله، وما يواجهه كل فريق منهم من مشكلات، وإيجاد دولة دخيلة تقسم العالم العربي في شطرين، بل تقسم الدول مرة أخرى إلى دول مواجهة ودول بعيدة عن المواجهة، والعواصف الداخلية

التي اجتاحت العالم العربي بعدها، من انقلابات وثورات، والعواصف الخارجية على شكل تدخلات وحروب، وشن الغارات على المخيمات، ثم تجسد الأماني الفلسطينية في حركة فدائية، ومحاولة القضاء على هذه الحركة في مراحل، إلى غير ذلك من شؤون، ولست أعني هنا كيف أصبحت القضية والأحداث المتصلة موضوعا للشعر، وإنما أعني ما الذي خلقته من مواقف وأساليب شعرية ووعي شعري، وإلى أي حد غيرت العطاء الشعري، وبلورت المفهومات والمنطلقات الشعرية، وكيف كان من المحتوم أن تربط هذا الشعر بالحركات التحررية في أرجاء العالم: في فيتنام وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وغيرها، وأن توحد رموز التضحية؟ توحد بين لوركا وغيفارا وغسان كنفاني وكمال ناصر و؟، وحين فعلت ذلك لم يعد هذا الشعر يستطيع الانفصال عن الإحساس بأثر قضايا الحرب والسلام، والتمييز العنصري، والحرب الباردة بين المعسكرين الكبيرين، وظهور المعسكر الثالث، والانقسام بين قوى اليسار، وانحسار الاستعمار القديم، وتغول الاستعمار الجديد، وقضايا البترول وأثرها في داخل البلاد العربية وخارجها، والتنكيل بالأحزاب اليسارية في البلاد العربية نفسها، وتعرض تلك الأحزاب للانقسامات، وظهور حركات " رد فعل " يمينية، وعلى ضوء هذا كله تحددت على نحو حاسم معان كثيرة: معنى الثورة، معنى الشعر الثوري، معنى الشاعر الثوري، مدى العلاقة بين الماضي والحاضر، مدى " الرؤيا " المستقبلية، مدى إيمان الشاعر بوسائل النضال أو بمسارب الهرب، وبرزت من خلال ذلك أسئلة قديمة، ما مهمة الشعر؟ ما وجه الصلة بين الشاعر والمفكر؟ ما اللغة وما اللغة الشعرية؟ وما العلاقة بين الشاعر والجمهور؟ وقد كانت الأجوبة على هذه الأسئلة أيضا محددة للاتجاهات التي سار فيها الشعر.

وحين يخرج المرء من هذه الغابة من الأسئلة (وأنى له أن يخرج) تسلمه قدماه إلى غاية أخرى: ولنسمها " غابة الحقوق ": (يقول مفكر ساخر: هذا عصر يتحدث الناس فيه عن الحقوق، ولم أسمع أحدا يتحدث فيه عن الواجبات) : حقوق العمال، حقوق الفلاحين، حقوق الموظفين، حقوق المرأة، وما آلت إليه هذه الحقوق الأخيرة من مطالبة بالأنصاف إلى مطالبة بالتحرر، واهتزاز وضع العائلة أو تفككها، وضياع سلطة الأب، والعلاقات الجديدة بين الأب والأبناء (أو انعدام العلاقات) ، واستعلاء قضية " الجنس " واحتلالها مقام الأهمية، والاستشفاء بمعالجة الكبت (العفة القديمة) بإشباع الرغبات، كيف فعلت كل هذه في توجيه الشعر، وقبل كل ذلك كيف غيرت مفهوم العصبية العائلية، وحطمت القيم القديمة، وأيدت التساهل في تصوير الشذوذ، وأوجدت معنى جديدا للحب، وفعلت؟ وفعلت؟ مما لا قبل لهذه اللمحة بتصويره. وقبل هذا كله أين يقف الشاعر نفسه من فكر عصره وثقافته وأيديولوجياته: هل هو ماركسي يتحدث؟ دون أدنى تعقيد - عن البروليتاريا والثورة وصراع الطبقات وحتمية التاريخ، أو هو ليبرالي؟ وهل يؤمن بما تدعو إليه الوجودية من مبادئ؟ أتراه يرى أن الإنسان ابن موقفه وأن مطلبه الأول والأخير هو الحرية، وأن حريته بالمعنى الدقيق التزام، وهل توغل في شعاب التحليلات النفسية الفرويدية وآمن بسيطرة اللاوعي وبأهميته في حياة الأفراد، وبالأحلام وما تعنيه من مخزونات جنسية، ولا بد أن يتأثر اتجاهه - بل لعله يتحدد - إذا أعجب بالسريالية وآمن كما يؤمن السرياليون بتعطيل العقل الواعي (automism) ليجد العقل الباطن سبيله إلى الانطلاق دون أن تعوقه أية عوائق، أو إذا عدل في هذا الموقف متابعا فنسنت بونور

في المزاوجة بين فيوض العقلين اللاوعي، لأنه لا جدال " في أن الجهاز النفسي لدى الإنسان كان موحدا، وأن الشعر وسيلة لإيجاد هذه الوحدة المفقودة ". وهل يرى أن " العجيب " هو قلب الشعر وعصبه النابض، وأنه إذا كان المطلب المحوري لدى الوجودي هو " الحرية " فإن المطلب المحوري لدى السريالي هو " الرغبة "، وتجري في هذا النطاق استفسارات كثيرة عن الميدان العالمي المحبب إلى الشاعر، هل هو علم الاجتماع أو الأنثروبولوجيا أو الفلسفة، وأي فروع علم الاجتماع مثلا، ومن هو رفيقه المفضل من الكتاب: أهو ماكس قيبر أم لفي شتراوس أم هيدجرام؟ بل لعل الباحث حاول أن يتعرف إلى اللون الغالب على قراءات الشاعر: أهو ممن يحب قراءة الروايات والقصص أو قراءة الدواوين الشعرية أو قراءة الكتب العلمية أو يفضل أن يبتعد عن سيطرة الكتاب والأفكار ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وإذا كان يجب قراءة الشعر فهل هو يفضل (مثل السياب) الشاعرة الإنكليزية أيدث سيتول أو الشاعر الإنكليزي ت. س. ايليوت، أو لعله لا يقرأ هذه ولا ذاك، وإنما يحب سان جون بيرز أو يعجبه بابلو نيرودا أو ناظم حكمت. ليس هذا كله من قبيل التهويل، بل لعلنا أغفلنا؟ رغبة في الإيجاز - عوامل أخرى تحدد اتجاهات الشعر من مثل دور المجلة والصحيفة والجامعة ومؤسسات الإعلام ووسائله، ومدى الاطلاع على النظريات النقدية الحديثة، ومدى صلة الشاعر بألوان التطور في الإخراج المسرحي، والمنتمى جملة دون تفصيل، ونمو المدن، وتضاؤل شأن الحياة الريفية، والاتجاه نحو التصنيع، وغير ذلك من العوامل التي تقوم بدور كبير في حياة المجتمع الحديث. بل لعلنا أغفلنا أهم عامل بين تلك العوامل جميعا وهو " شخصية الشاعر " نفسه، ومدى استقلالها، ومدى قدرتها على صهر بعض

هذه العوامل القابلة للصهر، أو نبذ ما لا يتفق وطبيعتها، ومدى صلابتها، وقدرتها على خوض التجارب، أو مدى قابليتها للانهيار والضعف والتخاذل. وعلينا أن نتذكر أن ما عددناه من عوامل لم يوضع بحسب قسمة منطقية دقيقة، وإنما هو وليد خواطر مرسلة، وأن بعضه قد يصلح أن يكون نتيجة، وأن كثيرا منه يتفاعل معا، وأن المحك في النهاية هو العلاقة بين العامل الواحد أو العوامل المتكثرة، أو العوامل المتفاعلة المتداخلة وبين نفسية الشاعر وشخصيته. وليس يتم الكشف عن هذه العلاقة أو عن ماها، بطرح بيان من الأسئلة على الشاعر، لأن الشاعر أعطى هذا البيان دون أن يسأل، وشعره هو الذي يتحدث عنه، ومهمة الدارس بعد ذلك هي أن يستنطق هذا البيان ليحدد الاتجاه الواحد أو الاتجاهات المتعددة، وهي مهمة قد تبدو سهلة؟ في الظاهر - ولكنها ليست كذلك في الحقيقة. لقد قلت: أن ما عددته من عوامل باعثة على خلق الاتجاهات أو بلورتها أو تنوعها ليس من قبيل التهويل، وكنت أعني ما أقول، ذلك لأن الفروض؟ أية فروض - لا بد أن تأخذ باعتبارها كل الاحتمالات أو أكثرها أن كان لا بد لها من أن تكون شمولية أو قريبة من الشمول، فإذا قلنا أن قضية تحرر المرأة لا بد أن تكون ذلت أثر في رسم وجهة شعرية ما، فالفرض صحيح، وعجزنا عن اكتشاف ذلك الأثر ليس دليلا على عدم وجوده، بل أن عدم وجوده أن صح دليل على اختلال في العلاقات الضرورية بين الشعر والحياة. وحين نبارح دائرة الفروض إلى دائرة الواقع علينا أن نأخذ في الاعتبار أمرا هاما، وذلك أن تطور هذا الشعر م يكن دائما على نسق أو حسب خطى منتظمة، وقد يبدو

هذا طبيعيا بسبب اختلاف الأجيال والموارد الثقافية وحاجات الوقت، ولكني اعني شيئا آخر، أعني أن هذا الشعر ظل في مراحل مختلفة الابن الوفي لنشأته، وقد رأينا أن نشأته كانت تحولا في الشكل مع التمسك بالرومنطقية وعدم مبارحة مجالها إلا شيء يسير؟ أو غير يسير - من الاستبطان الذاتي، والتحليل النفسي والتحوير القصصي، وفي هذه السمة التي يمكن أن توصف بأنها تحليلية؟ على وجه العموم - يتفاوت الشعراء، دون أن يعني ذلك أن الجيل الذي جاء بعد الرواد الاوائل، أو الجيل الذي بعده، قد استطاع أن يطور في هذا المنحى، أضف إلى ذلك أن الخضوع للرومنطيقية ظل هو الوجه الغالب على هذا الشعر، بحيث تعنف هذه النزعة أو تبهت بحسب حظ الشاعر منها، حتى معالجة القضايا الإنسانية أو القومية أو العقائدية ظلت تتم في هذا الإطار؟ في أكثر الأحيان -. ولست هنا بصدد شجب الرومنطيقية، إذ يبدو أن التخلص منها؟ أن كان لا بد منه - ليس أمرا سهلا، وخاصة إذا تضافرت عوامل عدة في واقع الأمة العربية تغذيها وتنعشها كلما فترت؛ ولكن الذي أقوله أن الرومنطيقية تحدد زاوية الرؤية وتضخم الجانب المأساوي لدى اصطدام النفس الحساسة بالمشكلات، وبهذا لا يستطيع الشعر الحديث أن يصبح " رؤيا " خالصة كما يريد له أصحابه. ومن الواضح أن هذا الاتجاه هو الذي غلب على شعر نازك وصلاح عبد الصبور ومحمد إبراهيم أبو سنة وبلند الحيدري، كما نجده في المراحل الأولى من شعر أمل دنقل وفايز خضور وسعدي يوسف وفدوى طوقان ومحمد عفيفي مطر، وفي مرحلة لاحقة في شعر البياتي، وقد وجد انعطافة قوية نحو مزيد من الرومنطقية في شعر توفيق زياد والمراحل الأولى من شعر سميح القاسم ومحمود درويش

أعني من نسميهم " شعراء الأرض المحتلة "؛ وقد كان لهذه الانعطافة أسبابها القوية، الفردية والجماعية، وكان مما ساعد على استمرارها وإطالة عمرها سهولة الاستجابة لهذا اللون من الشعر، ومحاولة إبقاء جذوة الوعي بالقضية الكبرى حية ملتهبة، إيمانا من الشاعر بأن الإثارة العاطفية هي الجسر المباشر بينه وبين جمهوره، وحسبي أن أورد على ذلك مثالين أثنين، أولهما قصيدة لتوفيق زياد بعنوان " رجوعيات " (1) ، يقول في مطلعها: دموع هذه الريح التي تأتي من الشرق محملة هتاف أحبتي الغياب مذبوحا من الشوق صريحا عاري النبرات ملء الأرض والأفق والقصيدة تضعنا في جو غارق في الحزن، في انتظار العائدين، وهي أحق أن تسمى " بكائيات "، لأنها تستقطب جميع الآلام التي مرت على المنتظر والغائبين خلال أعوام وأعوام، وحين نتذكر أنها نظمت سنة (1966) نجدها نبوءة؟ رغم تشبثها بالأمل واستصراخها لمواطن القوة والصبر والنضال - للهزيمة المروعة التي جاءت بعد أقل من عام، وحين يقول الشاعر: أناديكم أشد على أيديكم أبوس الأرض تحت نعالكم وأقول أفديكم

_ (1) ديوان توفيق زياد: 121 - 134.

وأهديكم ضيا عيني ودفء القلب أعطيكم فمأساتي التي أحيا نصيبي من مآسيكم عندما يقول ذلك نشعر أن هذا الوتر الرومنطيقي الذي يعزف عليه الشاعر قد حشد له كل المعاني التضحية، وأنه ليس شيئا فرديا، وأنه ليس استغراقا في الحلم الذاتي الخالص، وإنما هو العيش في سبيل الجماعة والموت أيضا في سبيلها، وقد اجتمع إلى ذلك، تعبير باللغة البسيطة العادية التي تحبها تلك الجماعة، وتستطيع أن تتجاوب معها. وبين الاعتزاز بالصلابة خلال سنوات طويلة من الظلم والاضطهاد، والفناء في حب الوطن، والذوبان في الجماعة، والتمسك بكل ما يربط الشاعر بالجماعة من مجد تراثي، وفوكلور جميل، نحس أن الرومنطقية لم تعد " مرضا " فرديا، وإنما أصبحت قوة عجيبة في قدرتها على الربط بين الحزن والصلابة، بين الانتظار والاستمرار في النضال، وهي رغم الاستغراق الشديد في بحر الأسى، ترى بوعي شديد أن هذا الأسى يجب ان لا يقف حالا دون الصمود الدائم: أنا ما هنت في وطني ولا صغرت أكتافي وقفت بوجه ظلامي يتيما عاريا حافي حملت دمي على كفي وما نكست أعلامي وصنعت العشب فوق قبور أسلافي أناديكم؟ أشد على أياديكم.

وفي هذا اللون من الشعر تكبر الحقيقة، ويتسع مدى التجربة، وتشتد المعاناة، حتى أنها لتتنفس في أي شكل كان، أو بعبارة أدق: في أشكال متعددة، وإذا كانت وطأة التجربة بهذا العنف، لم نستطع أن نحاسب الشاعر، لأنه أختار لقصيدته شكلا دون آخر. وأما المثال فهي قصيدة " عاشق فلسطين " (1) لمحمود درويش، وهي كالقصيدة السابقة في روحها من حيث الجمع بين الحزن المأساوي والصلابة، ولكنها تختلف عنها في أنها لا تتوجه إلى الجماعة، وأن كانت تنطق بألسنتهم، مع التسليم التام بأننا جميعا " لم نتقن سوى مرثية الوطن " وأن الوطن يتطلب شيئا آخر غير المرثية، وحين تتحد المحبوبة والبلاد في الخطاب نحس بأن " الرومنطقية " في شكلها الجديد، تستطيع أن تغلغل إلى أعماق لم تكن تستطيعها في شكلها القديم: رايتك أمس في الميناء مسافرة بلا أهل؟ بلا زاد ركضت إليك كالأيتام أسأل حكمة الأجداد لماذا نسحب البيارة الخضراء إلى سجن، إلى منفى، إلى ميناء وتبقى رغم رحلتها ورغم روائح الأملاح والأشواق تبقى دائما خضراء! وأكتب في مفكرتي: أحب البرتقال واكره الميناء واردف في مفكرتي

_ (1) الأعمال الكاملة: 105 - 114.

وقفت وكانت الدنيا يون شتاء وقشر البرتقال لنا، وخلفي كانت الصحراء. وأقول: أنني لم أكتب دراسة تحليلية عن القصيدتين، وإنما أوردتهما على سبيل التمثيل، ولو كان المجال يتسع لوقف الدارس عند كل كلمة، فيهما، لأنها لم تأت عبثا. لماذا الحديث عن حكمة الأجداد؟ ما الدلالة الواقعية في سحب " البيادر "؟ رمز الحضارة الفلسطينية المتطورة - إلى سجن أو منفى أو ميناء؟ وما معنى أن يكون قشر البرتقال؟ دون لبه - لنا؟ وما معنى أن تكون الصحراء هي الإطار الممتد خلف ذلك الكيان؟ هذا نفس " رومنطيقي "، لا سبيل إلى جحد ذلك، وهو أشد عنفا من رومنطقية نازك أو السياب أو صلاح عبد الصبور أو أبو سنة، وهو أيضا في الوقت نفسه، حلقة الوصل بين الشاعر والجماعة، وهو إذا اعتبرنا الشعر صورة من الصلابة التي لا تلين، شعر مقاوم، يتشبث بالصمود، ورغم تعلقه بالماضي، فان أيما نه بالمستقبل ركين لا يتزعزع، بحيث نجد أن الوتر الرومنطيقي لم يستعبد الشاعر، وإنما سخره الشاعر نفسه لكي ينقل أنقى مشاعر المناضل في حومة المجموع، وفي الوقت نفسه جاء به على هذا النحو ليعبر عن المجموع في أقصى ما يحس به آمال وآلام. وفي هذا اللون من الشعر - وليعذرني النقاد فيما أقول - يظل كل سؤال عن الطريقة الشعرية والبناء الفني، شيئا تاليا لعمق التجربة، ها هنا معادلة صعبة: تتسلط فيها العفوية، ويتدفق فيها المد العاطفي بحيث يكسر كل الحواجز، ويطغى على كل ما حوله، ومع ذلك فمن ذا الذي يستطيع أن يقول أن الشكل العفوي، لا يخلق إطارا فنيا، على خير ما يجب أن يكون عليه ذلك الإطار؟

ليكن شاهدي على ذلك قصيدة لسميح القاسم بعنوان: " تعالي لنرسم معا قوس قزح " (1) ، وهي قصيدة كتبت بعد هزيمة (1167) ، فهي مرهونة بهول المناسبة وشدة وقعها، وما أعقبها من شعور بالضياع والخيبة والعذاب، والانكماش والتضاؤل على المستوى الفردي والجماعي، ومع أنها تمتلئ بالتفجرات العاطفية، فإنها استطاعت تتحرك ضمن إطار فني متكامل، وتجئ حركتها في ثلاث دورات أو ثلاثة مناظر: (1) شمول الظلام: في هذا المنظر نجد الشاعر نازلا على " سلم أحزان الهزيمة " وهو يحس أن كيانه يتلاشى " يمتصني موت بطيء "، وفي حركة النزول توجه إلى قرارة مظلمة، تسيطر فيها العتمة من كل ناحية، مما يجعل الشاعر غير قادر على أن يميز أن كان وحده، أو كان في الجماعة، ولكنه يدرك - في حالة الجمود بين يدي الموت البطيء - أنه لم يكن وحده، بل معه أيضا " ملايين مائة "، وكان الظلام يلفهم كما يلفه لأن عيونهم كانت مطفأة، وفي هذا الجو من العمى الكلي، الذي رماهم به " العار الجديد " لم يعد ثمة ما يميز القديس بينهم عن المارق، هم جميعا اشباح، فلماذا البحث في الظلام عن أكتاف تتحمل مسؤولية ذلك العار؟! وفي هذا الجو الداجي المطبق يحس الشاعر؟ الذي لم تطفئ عيناه - بحاجة ملحة إلى الضوء، أنه يريد ما ينير له طريقه في تلك الهوة، ولضيقه بالموت البطيء، يريد موتا وحبا، ويقدم نفسه قربانا للحزن، لنار العار كي تحرقه لعله يضيء، فيخرج من حيز الموت البطيء إلى التلاشي المطلق، مقدما نفسه ضوءا أن كانت العيون المطفأة قد تعود إلى الإبصار.

_ (1) ديوان سميح القاسم (في انتظار طائر الرعد: 48 - 54)

(2) هزة التعرف والتذكر: فجأة يسمع صوتا، أو لعله رأى شبحا، ولكن الظلام الذي يحيط به لم يمكنه من التمييز: ترى من تكون تلك التي نادته " يا حبيبي "؟ أهي أخت نسيتها أمه ليلة الهجرة الأولى (قبل عشرين عاما) ثم بيعت سبية، وضاعت " بين آلاف السبايا "؟ ترى من تكون، ليتها تجيب! وتنحسر الأعوام العشرون كأنها لم تكن فاصلا زمنيا، لتغمض عينيها عن " عار الهزيمة " فإن الشقي هو الذي يستطيع أن يحدق في ذلك العار، وليهربا معا إلى الذكريات، إلى الحديث عن " الغربة والسجن الكبير " وعن الأمل بانحسار الليل؟ الذي لم يزدد إلا أمتدادا وظلاما - وبزوغ الفجر، وعن كوخ يتخذانه عشا للحياة الزوجية الهادئة، ويتخذ هذا الهرب من الحاضر شكل حوار تستعاد فيه الذكريات التي زرعتها الأعوام العشرون: قلت لي: في أي أرض حجريه بذرتك الريح من عشرين عام قلت: في ظل دواليك السبيه وعلى أنقاض أبراج الحمام قلت: في صوتك نار وثنية قلت: حتى تلد الريح الغمام جعلوا جرحي دواة، ولذا فأنا أكتب شعري بشظية وأغني للسلام! ويختتم هذا المنظر بالبكاء، الذي قد يطفئ نار الهزيمة في العروق، دون أن يستطيع محو عارها. (3) الدعوة إلى الاتحاد: يحدث تحول شديد في هذا المنظر إذ يتم الانتقال فيه من " أغمضي عينيك " إلى

" ارفعي عينيك "، وتتحول الظلمة التي رانت على المنظر الأول فتصبح مجرد " غيمة " تنثرها هبة ريح. الظلام لا يمكن أن يظل شاملا لأن الشاعر كان قد تعود كلما استبد به الظلام في سجنه (منذ عشرين عاما) أن يرسم وجهها أو يتمثله في خياله فيتبدد كل ظلام. ولكنه لا يزال يحس بالأنفصال، ويتوق بحرقة إلى الاتحاد، أن كلا منهما ينتمي إلى واد بعيد عن وادي الآخر، وكل واد يسيطر فيه شبح، فلم لا يتحد الشبحان في غيمة واحدة يشربها قوس قزح؟ أنه ليس فجرا صادقا، ولا يمكن أن يكون كذلك، ولكنه عزاء ما يكشف شيئا من أسداف الظلام، ويتكرر الوعد الذي طالما ردداه، في تصوراتهما السابقة: وسآتيك بطفلة ونسميها " طلل " وسآتيك بدوري وفله وبديوان غزل. وللقارئ بعد ذلك أن يتأمل قيمة أشياء صغيرة في هذا البناء الكلي، مثل تحديد الفترة الزمنية (عشرين عاما) بين الهجرة الأولى والهزيمة، فهو تحديد يرمز إلى الضد، أي أن الزمن طال وطال حتى أصبح يتجاوز؟ في أحساس المسجونين والمسبيين - مئات السنين، وهذا يتمشى مع التعبير عن الواقع باسم " المنفى الكبير " و " السجن الكبير " بينما حصاد السلم الذي أصبحت تتوق له نفس الشاعر يتمثل في " الكوخ الصغير "، ولا بد كذلك من الوقوف عند أهم ثلاث صور في القصيدة وهي الطفولة الطيور، الغيمة؛ فالهرب إلى الذكريات بدأ بالعودة إلى الطفولة، وبكاء الحبيبين كان كبكاء " طفلين غريبين "، والفجر الذي يحلمان به سيكون منه " طفلة " تسمى " طلل "، أما

لماذا كان المرجو طفلة لا طفلا، فإن ذلك يتمشى مع الوداعة المنتظرة التي سيحققها الفجر المرتقب، ومع جو " الطيور " أجمالا، فهذه الطيور التي فارقت " الأبراج " منذ عشرين عاما إنما كانت حمائم، وهذه الحمائم؟ في ظل الهزيمة - تبكي " الحمام الزاجل الناطر في الأقفاص يبكي /والحمام الزاجل العائد في الأقفاص يبكي "، وسيكون " الطائر الدوري " الصغير من هدايا ذلك الاتحاد؟ مع زهرة رقيقة وديوان شعر رقيق؛ أن كل شيء يوحي بالجنوح إلى الرقة، والسكينة. ومع أن " الغيمة " تضيف إلى صورة هذه الوداعة الشاملة فإن لشاعر قد أستغلها في عدة مواقف، منها أن يظل في صورة نار وثنية " حتى تلد الريح الغمام "، والتعبير هنا غامض، لأنه قد يدل على الاستحالة، كما قد يدل على انتظار أن تلد الحرب سلما، ثم أنه يصدر أحزان الهزيمة في صورة " غيمة " تبددها الريح بسهولة، ثم أنه يحاول أن يجمع شبحي الواديين في " غيمة " واحدة ليشربها قوي قزح، فالغيمة بهذا المعنى الثالث ترمز إلى بقية الظلام العالق بالنفوس، وعلى هذا يبدو أن صورة " الغيمة " تخدم أغراضا متعددة عند الشاعر. وفي سياق هذا التأمل يجدر بنا أن نقف عند استعمال الشاعر للفظة " الريح "، فالطفلة القديمة بيعت لريح حملتها عبر باب الليل للمنفى الكبير، والشاعر بذرته الريح، وللهزيمة ريح يبست حنجرته، وغيمة الهزيمة لا تحتاج حتى تنقشع إلا إلى هبة ريح، وهكذا تكون " الريح " أداة تغريب وتشتيت ونشر، ويقابل هذه الحركة العنيفة، حركتان متوازيتان هما: حركة التشرب والاكتنان وحركة الميلاد والعطاء؟ فالموت البطيء " يمتص " الشاعر، والملايين المائة تستكن في صدره، والمنفى الكبير والسجن الكبير

يحيطان بالآلاف، وحين يلتقي الشاعر بصاحبته يطلب إليها أن " تحضنه "، والكوخ الصغير " مختبئ " بين أحراج الجبل، والحمام " رابض " في الأقفاص؟ ناظرا كان أو عائدا - وقوس قزح " يمتص " الغيمة، ومن ناحية أخرى " تلد " الريح الغمام والام الرحيمة ما تزال " تنجب "، وزوجة المستقبل ستلد " طلل " وموهبة الشاعر " ستلد " ديوان غزل، ووجه الوطن " ينكشف " عند أنحسار الليل. وبعبارة ثانية نجد أن القصيدة تخضع لإيقاع النشر والطي (أو ما سميته الاكتنان) والولادة. ولعل الشاعر لم يفكر أن يبني قصيدته على أساس أسطوري، ولكن من السهل أن نجد فيها توافقا مع أسطورة أورفيوس الذي نزل إلى العالم السفلي ليجد حبيبته يورديسه، ويستعيدها. ولنا بعد ذلك أن نأخذ على الشاعر شيئا من التناقض الظاهري حين يقول في قصيدته " صاروخا في وجه أحزاني القديمة " ثم يقول في موضع آخر " يبست حنجرتي ريح الهزيمة "، ولكن هذا التناقض لا يلبث أن يزول حين نتذكر أن تيبس الحنجرة يعني اليأس من الوسيلة الفنية وليس العجز عن الصراخ، كذلك يمكن أن نحاسبه على سرعة التحول من عالم الظلام الكثيف والضياع والتخاذل إلى عالم التشدد والتهوين من شأن الهزيمة، وعلى انصياعه لجوانب الرقة والوداعة دفعة واحدة، وكأنه يئس من النضال جملة، إلا إذا اعتبرنا أن الاتحاد الذي يسعى إليه لا يعني الاكتفاء الفردي، وإنما يرمز إلى اتحاد القوى في الداخل والخارج، للفوز بسلم مشرف يثمر أطفالا وأزهارا وطيورا. أذن فإن ما سميناه بالانعطافة الرومنطيقية الحادة، كان محكوما بظروفه، وطبيعة العمل الثوري، ولم يكن الإغراق في العاطفية، هدفا فرديا فيه. بل كان هو الشكل

الطبيعي في ظروف غير طبيعية. فإذا قيل؟ من بعد - أن شعر المقاومة يتحدث عن الثورة، دون أن يكون شعرا ثوريا، فذلك تجاهل للظروف وللحقبة التاريخية، وللبراهين الفنية التي تتضح من الدراسة التفصيلية، دون الأخذ بالتعميم، والاحتكام إلى الفروض النظرية. ورغم قوة هذا الاتجاه، وسيطرته على كثير من جوانب الشعر الحر، فأنني لا أنوي أن أتخذه منطلقا لهذه الدراسة، لأنه يضيق حدودها ويمنعها من الاتجاه إلى التأمل في تفريعات أخرى، فالدراسة حين تتناول الرومنطقية، تتحدد في فرعين كبيرين: رصد ما هو ومنطقي وما هو غير ذلك، ولكن حين يتسع اتجاه كبير، فمن الخير أن يدرس في تفرعاته المختلفة، حين يكون لكل فرع منها اثر بارز. وكذلك يستحسن في هذا المجال الا تدرس الاتجاهات الشعرية مقترنة بالعوامل الكبرى التي ذكرتها آنفا: كأن يقال الاتجاه الماركسي أو الاتجاه الوجودي أو ما أشبه ذلك، فإن ذلك يعني أن دراسة كل عامل من هذه العوامل مع ما أتصل به من شعر تتطلب كتابا مستقلا، توضح فيه المميزات لكل عامل قبل البدء بالحديث عن صلته بالشعر، فتحدد على نحو حاسم؟ مثلا - جميع السمات التي تميز الفكر الماركسي أو الفلسفة الوجودية، وهذا يخرج كثيرا عن حدود هذه الدراسة الموجزة، كما أن الخطر فيه أن يتحول الشعر إلى دور الوثيقة الاجتماعية أو العقائدية، وهو أمر لا بد أن يمارس باقتصاد وحذر كبيرين، ثم أنني؟ في الواقع - لا أعتقد بأننا نلازم جانب الدقة حين نقول هذا اتجاه ماركسي أو ذاك اتجاه وجودي، وإنما الأصح أن يقال ثمة أثر ماركسي وأثر وجودي وما أشبه ذلك في جوانب من الشعر الحديث، وقد نجد لدى الشاعر الواحد مؤثرات مختلفة، كما قد

نجد لديه تحولات من اتجاه إلى آخر، في حقبتين مختلفتين من عمره، ثم أن كثيرا من العوامل التي ذكرتها آنفا قد تتداخل، وتصعب نسبة التأثير فيها إلى عامل دون غيره، خذ مثلا فكرة " الثورة " تجد لها مفهومات مختلفة عند الشعراء، منتمية إلى عوامل متداخلة معا، يعسر تمايزها أو الفصل بينهما، أو خذ مثلا فكرة " الرفض " تجد السريالي والوجودي يتفقان حولها إلى مدى ثم يفترقان، فإذا تحدث شاعر عن الرفض أو آمن به فالى أي المدرسين ينتسب؟ ثم أن استعمال مصطلح مذهب ما لا يعني تبنيه أو الانتماء اليه أو الإيمان به، وهذا واضح في قصيدة البياتي " مسافر بلا حقائب:، التي عرضت لها في افصل الثاني، دون أن تكون القصيدة تعبيرا حقيقيا عن معاناة وجودية؟ في الواقع وفي الانتماء -، وقد تقرأ قصيدة فتقع فيها على تطبيق تام لنظرية نفسية، دون أن يكون صاحبها ممن يعنى كثيرا بمذهب نفسي ما، وبإبراز أثره في شعره؛ من ذلك مثلا قصيدة " الأخضر بن يوسف ومشاغله " (1) لسعدي يوسف، فأنها تعبير عما يسميه بعض الدارسين " القرين " The Double حيث يصور فيها انفصام القرين عن ذاته، مع المشاركة فيما بينهما في المسكن وشرب القهوة والحليب والملابس، بل حتى في مرافقة محبوبة واحدة: نبي يقاسمني شقتي يسكن الغرفة المستطيلة وكل صباح يشاركني قهوتي والحليب وسر الليالي الطويلة

_ (1) من ديوانه بهذا العنوان: 13 - 23.

؟؟ يرافقني في زيارة محبوبتي ثم يدخل قلبي وينظر في مقلتيها طويلا ويجلس في آخر الحجرة المعتمة وما عناصر الانفصال بين الأصل والقرين (مثل اختيار الثاني ليس البرنس، أو الاختلاف فيما يرسمه كل منهما وهو برفقة الفتاة) إلا محاولة من الأصل للوصول إلى التطابق الكلي (بين سعدي بن يوسف والأخضر بن يوسف) : سأستخدم اسمك معذرة ثم وجهك أنت ترى أن وجهك في الصفحة الثانية قناع لوجهي حتى ليصبح هذا التطابق شيئا يجوز على رجال الجوازات أنفسهم وهم يفحصون الجواز، ومع ذلك فإن الشاعر حين يختار هذا اللون من التصوير النفسي، لا يحاول تطويره أو تطوير أشباهه في قصائد أخرى: ولعله اهتدى إلى ذلك بوحي من وعيه النفسي، كما هو واضح في نماذج أخرى من شعره. وللمقارنة أقول: أن موضوع " القرين " هذا قد عالجه خليل حاوي من قبل في المقطع السادس من قصيدته " وجوه السندباد " (1) وهي قصيدة ترسم؟ في ظاهرها على الأقل - المفارقة بين وجهين " وجه طري أسمر "، يظل كذلك محتفظا بصورته في نفس المرأة؟ الحبيبة - التي لا

_ (1) ديوان خليل حاوي: 208 - 218 وأنظر الملحق.

تستطيع أن تؤمن بقوة الزمن على التغيير، بل ليس للزمن في قاموسها وجود، و " ووجه جارت عليه دمغة العمر السنية "، يراه صاحبه كذلك لأن إحساسه بالزمن عميق واقعي، ويكاد صاحب الوجه الثاني أن يطمئن ذات لحظة إلى أنه لم يكن ضحية لفعل الزمن، لأنه حين يعيش بين اكتب يرتاح إلى أن " وجهه من حجر بين وجوه من حجر "، ولكن إلحاح المرأة على أنها ترى الحقيقة يجعله دائما في أزمة، ولهذا فإنه حين يمشي في الطريق ينفصل الوجهان، الأصل والقرين: وقناع مسه، حدق فيه لودعاهء آ. لن يمضي معه " أنت هل أنت؟ بلى لا، لست، لا، عفوا، ضباب موحل يعمي مصابيح الطريق أن في وجهك بعض الشبه من وجه صديق ". وكان ذلك الصديق أو القرين ذا وجه " ليس فيه أثر الحمى وتحفير الزمان "، وبروح الصديق؟ العدو - يقود القرين صاحبه إلى الجسر، ويزين له الانتحار غرقا في النهر، لكي يريحه مما يعانيه. زاعما له أن في النهر قوى وأرواحا تستطيع أن تعيد إلى وجهه " سمرته الأولى المهيبة "، وتمضي لحظة من الدوار واختلاط الصور والذكريات،. متعب؟. ماء؟ سرير متعب؟. ماء؟ أراجيح الحرير متعب؟. ماء؟ دوار

وتلمست حديد الجسر كان الجسر ينحل ويهوي صور تهوي وأهوي معها أهوي لقاع لا قرار، وفجأة اختفى القرين، وعزى صاحبه نفسه عن اختفائه بأنه " ربما عادت إلى عنصرها الأشياء وانحلت ضباب ". وتكفي هذه اللمحة ليدرك القارئ الجو الذي تحرك فيه القرين في قصيدة خليل، ومدى أهميته بالنسبة إلى المبنى الكلي في القصيدة، ومدى الإحكام، البناء، والدقة في الوصف للمواقف النفسية المختلفة، وكل ذلك ينبئ أن خليل حاوي إنما كان يزاوج بين وعيه النفسي العميق، وبين ثقافته النفسية الواسعة، وأن بعث القرين ليس خطرة، وإنما هو إلحاح فني حتمي من داخل حركة القصيدة ونموها المتصاعد. وقد تكون الدلالة السلبية - عند محاولة دراسة الاتجاهات الشعرية - أبلغ في كشف حقيقة الشاعر من الدلالة الإيجابية فقد تقول وأنت تتصفح ديوان سميح القاسم هذا شاعر واقعي، إذ أنك حينما وجهت بصرك وجدت مثل قوله: سلاما يا سواعد اخوتي العمال سلاما يا مداخنهم سلاما يا ملازمهم أو مثل قوله: مادمنا نحيا في عصر الإيقاع النفسي فسأحمل فأسي سأشج حماقات الأوثان

ولكنك لا تلبث حين تتعمق النظر أن تدرك أنه كثيرا ما يعالج موضوعاته الواقعية من زاوية رومنطقية خالصة، نعم إن هذه الواقعية تجعله يحب " الحضارة الحديثة " مثلا ويمجد منجزاتها، ولكنك حين تسمعه يقول: وصوت الآلة الحسناء يدعونا تجد أنه ينظر إلى الآلة نظرة رومنطقية تامة، إذ أن هناك " آلة " وحسب، ولكن ليست آلة حسناء. وعلى عكس ذلك يفعل أبو سنه في قصيدته " عصر الإنسان " (1) التي يحاول أن يقارن فيها بين منجزات العصر ومواطن النقص فيه، فيقول: أغرس أعلامك فوق الكون لكن عد للأرض كي تبني قريه يسكنها فقراء الهند لتجفف أنهار الدم (2) الحمراء ولتصنع مهدا للأطفال التعساء. فكأنما هو يحاول أن يهون من قيمة انتصارات الإنسان على الطبيعة في هذا العصر، إذ يضع إلى جانبها في موضع المفارقة لفقر والتشرد وويلات الحروب وتعاسة الاطفال؛ والتعارض غير قائم، والأمران يؤخذان منفصلين كلا على حدة، لأنهما صادقان واقعيان ما داما منفصلين، لا حين يربطان معا في مقارنة نجتلبة، فهذا كمقارنة الناس؟ في الحياة اليومية - بين الصحة والمال، أو كمقارنة القدماء بين الغني الشاكر

_ (1) الصراخ في الآبار القديمة: 108 - 114. (2) أقرأها بتشديد الميم ليصح الوزن.

والفقير الصابر وأيهما أحسن، وهو سؤال باطل، كما بين ابن حزم الفقيه الظاهري منذ قرون. وما عليك وأنت تطالع هذا التحفظ تجاه انتصارات الإنسان وتقدمه التقني إلا أن تقارن هذا الموقف بموقف آخر للشاعر السوداني صلاح أحمد إبراهيم وهو يحيى رائدة الفضاء الروسية " فلنتيما ترشكوفا " (1) بقوله: أنا الذي ليس له أن يملك الأرض ولا أن يقبل الأجر ولا أن يقرع الأجراس في بيع ولا شراء الصائغ الماهر والحداد، سادن الأسرار، مانح الأسماء مسخر الكور، مسير النار، مدوخ السندان مبدع الأشياء مبارك الحصاد، مكمل الطقوس، باذر الموروث، سامر المساء ؟. أنا صلاح الشاعر، في تواضع جم وفي حب وبانحناء اهدي إليك هذا العسل البري يا فلنتينا ترشكوفا، ومنك للنساء. فإن " صلاح " لا يعلن عن إيمانه المطلق بما يستطيع التقدم العلمي أن يحققه من منجزات، وإنما يتخذ هذه المناسبة فرصة ليتحدث عن إيمانه بدور المرأة؟ والمرأة الأفريقية السودانية؟ بوجه خاص - وحقها في الحياة الكريمة إلى جانب الرجل، ولولا أن قصيدة صلاح مثقلة بالأسماء والإشارات التاريخية لحق اقتباسها للدلالة على وجهة جديدة لا في المحتوى وحسب، بل في الشكل أيضا.

_ (1) انظر ديوانه: غضبة الهبابي (بيروت 1965) : 65: 73.

ومن الزاوية السلبية أيضا يمكن أن نتبين طبيعة الخطأ في قول أبي سنه نفسه، في قصيدة أخرى (1) : قالوا أن كنت تحب فلتحفظ كتب الحكمة وليعرف عقلك كل الأسرار ولتخرج لتصارع وحشا جبليا يربض عند الأسرار فالشاعر هنا يشير إلى " المعجزات " التي كلف القيام بها كي يثبت أنه جدير بالحب، وهو موضوع نجده في الأدب الشعبي في قصص " الشاطر حسن " وفي أساطير الأمم الأخرى، مثل الأعمال الباهظة الاثني عشر التي كلف بها هرقل في الأساطير اليونانية، وعند مقارنة ما يقوله الشاعر بما كانت تحويه تلك الأساطير والآداب الشعبية، نجد أنها قد تذكر من بين تلك المبهظات " مصارعة وحش جبلي "، ولكنها لا تذكر " حفظ كتب الحكمة "، إذ أن العاشق الذي سيحفظ تلك الكتب، ربما لم يعد في حاجة إلى أن يظل عاشقا، وغاية الشاعر هنا أن يقول أن بطل أسطورته مثقف، وأنه عانى كثيرا في سبيل الحصول على ثقافته، وقد كان يستطيع أن يعبر عن ذلك على نحو رمزي دون أن يبارح " الروح الجماعية " التي سجلها الأدب الشعبي على مر الزمن، فإذا كان الفولكلور من العوامل المؤثرة في الشعر الحديث فإنه؟ في هذا الموقف - قد مزج بما شوه روحه العميقة. ومثل هذا خطأ جزئي، لا يضر كثيرا بعقيدة سليمة البناء، ولا يحرم الشاعر حق تسويغه كأن يقول: أنني أضيف إلى الفولكلور لأن هذه الإضافة تقوي الموقف الذي أتحدث عنه،

_ (1) حديقة الشتاء (بيروت: 1969) : 59 - 60.

فهذا العاشق مثقف، وقد حفظ كتب الحكمة ومع ذلك ظل عاشقا، وذلك ما يجعل فعل الحب أقوى وأبلغ، أقول: مثل هذا الذي يعد خطأ جزئيا، لا يسيء إلى جوهر الشعر، غير أن أكبر خطأ يرتكبه الشاعر الحديث يتجلى فيما يكون نتيجة عجز عن " الرؤية الصحيحة "، إذ أن الشاعر الحق هو الذي لا تقذفه موجة طاغية من الفجيعة، ولا تطوح به موجة عارمة من الفرج، بحيث تنبهم دونه رؤية الأشياء على حقيقتها، وفي موقعها الصحيح وضمن إطارها السليم، ومن يدرس بعض حصاد الهزيمة (1967) أو بعض حصاد الانتصار (1973) يدرك ما أعنيه، ولعل خير مثل أورده؟ متصلا بالحادثة الثانية - وأكتفي بمثل واحد - هو ديوان كامل للشاعر محيي الدين البرادعي عنوانه " القبلة من شفة السيف "، فإنه؟ في معظمه - يدور حول موضوع واحد، وأقول في هذا السياق: أن التفاؤل جميل، بل هو ضرورة، ولكنه حين يتجاوز حده يفقد قيمته، ويفقد الشعر معه القدرة على التأثير كما يعطل طاقة " النبوءة "، أهم ما يميز الشاعر الحديث. وما دمنا نستبعد دراسة الرومنطقية وما يقابلها في الشعر الحديث، وما دمنا نستبعد أيضا تفريع هذه الدراسة تحت عنوانات مستمدة من العوامل الكبرى التي أثرت في توجيه ذلك الشعر، فلا بد من اختيار طريقة ثالثة، وهي طريقة مستمدة من النظر إلى القوى الكبرى التي تحدد وجهات الشعر نفسه، وتنبع من العلاقة الجدلية القائمة بين الشاعر وتلك القوى، وهي قوى تعمل في داخل الشعر مثلما تعمل في داخل نفس الشاعر، مثلما هي قضايا إنسانية هامة، وبعبارة أبسط ما دامت الحياة مواقف فما هو موقف الشاعر من كل قضية كبرى مثل الحب، الزمن، التراث؟ ثم بالتالي: ما هو

موقفه من المجتمع، فإن دراسة الشعر من هذه الزوايا تكفل أيضا تبيان فعل العوامل الخارجية في الوقت نفسه، وعلى هذا سنتناول الفصول التالية: 1 - الموقف من الزمن (ومن ثم من الموت) . 2 - الموقف من المدينة 3 - الموقف من التراث 4 - الموقف من الحب 5 - الموقف من المجتمع. وربما كان من الخير أن نقتصر؟ موقتا - على هذه المواقف الخمسة، وأن كان من الممكن إضافة مواقف أخرى إليها، فإن هذه تكفي للدلالة على أكبر الاتجاهات الشعرية، كما تكفي للدلالة على مدى صلة الشاعر بالحداثة.

فراغ

4 - الموقف من الزمن يقول بيتر شون في دراسة له عن بودلير: طأن تجربة بودلير فيما يتعلق بالزمن، ذات أهمية أصيلة لفهم شعره (في أزهار الشر) حتى ليمكن أن يقال أنها مفتاح لفهم ذلك الشعر "، وأكاد لا أتردد في أن أقول مثل هذا القول نفسه في كل شاعر من أصحاب الشعر الحر، أعني الذين استطاعوا منهم أن يحفروا عميقا في مجرى التيار الشعري، فإن موقف كل منهم من الزمن هو الذي يعطي شعره سمة فارقة، ويحدد صلته بالحداثة، ويقرر مدى انتمائه وطبيعة ذلك الانتماء. ذلك أنه لا خلاف؟ اليوم - حول أهمية " الزمن " في تيارات الأدب الحديث؟ على المستوى العام - لا في الشعر وحده، ولعل خير ما يصور هذه الأهمية، لا عدد البحوث الفلسفية التي كتبت في هذا الموضوع وحسب، وفي طليعتها بحوث برجسون وهيدجر، بل بتلون النتاج الأدبي منذ بروست وجيمس جويس وفرجينيا وولف بما لفكرة الزمن من قيمة في القصة الطويلة، وبهذه الدراسات الكثيرة التي كتبت حول إبراز الدور الذي " يلعبه " الزمن في مختلف الفنون الأدبية وفي نتاج عدد كبير من الأدباء، وبعيدا عن الدخول في المنعرجات الفكرية حول الموضوع، أحب أن أضع هنا بعض الحقائق الأولية: (1) أن هناك فرقا في تصور الزمن بين الجماعات البدائية وبين الجماعات التي تعيش في ظل الحضارة، فالزمن للبدائي " ميثولوجي " أو شعائري أي أنه ربما كان منعدما، أما الزمن بالنسبة للمتحضر فإنه " تاريخي " لأنه شيء يمكن قياسه والتعامل معه.

(2) أن هناك فرقا في تصور الزمن بين الحضارات القديمة والحضارة الأوربية الحديثة، فالحضارات القديمة تستطيع التغاضي عن الزمن، بينما تصر الحضارة الآوربية على وجوده، وتربط الثقافة والحياة ربطا محكما به. (3) وبناء على الملحوظة يمكن القول أن الحضارة الإسلامية (حسب تصوري) كانت ترى الزمن دورات؟ محدودة الأمد - يتخللها نظرة رجوعية إلى الماضي، بينما تذهب الحضارة الأوربية إلى أن الزمن تيار مستمر، وخاصة منذ أن ارتبطت في القرن التاسع عشر بفكرة التقدم أو النطور التي تعني استمرار السير قدما، دون معوقات من النظرة إلى الوراء، فإذا تحدثنا عن التطور أو التحول فإنما نستعير تصور الحضارة الأوربية للزمن. (4) أن هناك فرقا أساسيا بين رؤية برجستون للزمن، وما حاوله بروست في التطبيق الأدبي، فبينا يرى برجستون أن الزمن الذي يمثل تجربة نوعية؟ لا كمية حين يكون زمنا مسقطا على المكان أو المسافة - لا بد أن يستعاد لا متقطعا على أنه لحظات عاشها المرء، وإنما لا بد من بعث الروابط التي تصل بين تلك اللحظات، بينما حاول بروست، بعث تلك اللحظات في الماضي دون أن يعبأ بإقامة صلة زمنية بينها. (5) أن " الزمن " ظل حتى مطلع هذا القرن يقف في أحد اعتبارين: فأما هو حقيقة واقعية خارجية، وأما هو حقيقة ذاتية يتضاءل وجودها الخارجي المستقل. ولكن في سنة 1908 صرح العالم الرياضي هرمان منكوسكي بقوله: " بعد اليوم يتضاءل الزمن وحده، أو المسافة وحدها، ولن يحفظ ارتباط الزمن؟ بالمكان - أو المسافة - في أدب اقرن العشرين، وتحول أحدهما إلى الآخر، أمرا ضروريا.

(6) أنه مهما يبلغ الإنسان من تطور، فلا بد أن يظل الصراع مستمرا بين زمن تاريخي واقعي وزمن لا نهائي؟ يسمى الخلود -، (أو على الأقل، نوع من الانبعاث المتجدد) حتى يبلغ الإنسان مرحلة يعتبر الموت فيها جزءا ضروريا من الحياة. من هذه الملاحظات الأولية يمكن أن ننطلق إلى محاكمة نماذج من الشعر الحديث؟ من حيث صلتها بالزمن - ولما لم تكن هذه الدراسة معنية بالإحاطة الشمولية، فإنه لا بد من الاقتصار على أمثلة محددة، وليكن أول هذه الأمثلة شعر خليل حاوي: ابتداء من نهر الرماد حتى بيادر الجوع يطالعنا خليل بنوع متشابه من المكان؟ أو المسافة - فنحن حينا في نهر الرماد (انعدام الحركة) أو في جوف الحوت أو في الكهف، أو في عصر الجليد أو في القبر (لعازر) أو في الرحلة الثامنة (لا حركة لأنها رؤيا) ومعنى ذلك أننا في موقف محدد من الزمن، فهو يكاد ينعدم تماما (في الكهف) أو يتحرك حركة خفيفة، وهو ساكن واقف في لعازر " سمر اللحظة عمرا سرمديا " أو هو لحظات خاطفة لا تلبث أن تمحي " عمره عمر الغجر، عمره ثانية عبر الثواني " وهو بالنسبة للحبيبة في قصيدة " وجوه السندباد " قد توقف عند نقطة معينة؟ ذاتية - لأن الحبيبة نفسها لا تستطيع أن تتجاوزها، حرصا منها على أن تشيح بوجهها عن التغير الحقيقي الذي أحدثه مرور الزمن: غبت عني والثواني مرضت ماتت على قلبي فما دار النهار ليلنا في الأرز من دهر نراه البارحة

ومع أن هذا " التجميد " للماضي انتصار على الزمن وتشبث بالبقاء، ببقاء اللحظة الجميلة، عند المحبوبة، فإنه ليس إلا وهما في نظر المحب، ولا مخرج من هذا الوهم إلا انتصار حقيقي، لا يتم دون ولادة طفل، فإنه هو الحقيقة الوحيدة التي تستطيع أن تنتصر على الزمن: ويمر العمر مهزوما ويعدي عند رجليه ورجلينا الزمان يقابل هذا الزمن الماضي الذي " تجمد " عند اللحظة الجميلة في نظر المحبوبة، زمن آخر متجمد، هو الحاضر، الذي يتمثل أحيانا في تحجره كأنه لا يسير: وعرفت كيف تمط أرجلها الدقائق كيف تجمد، تستحيل إلى عصور وغدوت كهفا في كهوف الشط يدفع ليل تحجر في الصخور ذلك لأن الإنسان إنما يعيش حاضره في كهف، كهف نفسه أو كهف الواقع، وأن هذا الكهف نفسه هو جوف الحوت، ومع أن الظلمة ترين على أرجائه فإن الشاعر يعبر عن ضجره من استمرار الضوء؟ بعض الضوء - ويصرخ: " ومتى يحتضر الضوء المقيت "، لأنه ليس ضوءا منقذا قادرا على تبديد تلك الظلمة الشاملة، فهو يعلم يقينا أنه في جوف الحوت، في جو جحيمي السعير: في مداه لا غد يشرق لا أمس يفوت غير آن ناء كالصخر على دنيا تموت

ولهذا فإنه حين يحاول أن يتشبث بالماضي يشك في حقيقة ذلك الماضي: أتراه يوما نضيرا معافى؟ لقد محا ثقل الحاضر كل شيء، ولم تبق إلا احساسات ثقيلة بجهامة الحاضر، وثقل وطأته: كل ما أعرفه أني أموت مضغة تافهة في جوف حوت. ولكن الشاعر يستطيع رغم كآبة الحاضر وضياع الماضي أن يمد جسرا إلى المستقبل، ومرة أخرى يعود الأطفال إلى الصورة، فهم الذين يمدونه بالقوة على أن لا يخاف زحف الجليد من جديد، أن لي جمرا وخمرا ولي أطفال أترابي ولي في حبهم خمر وزاد من حصاد الحقل عندي ما كفاني وكفاني أن لي عيد الحصاد وحين وجد الشاعر؟ من خلال الأزمة الذاتية - هذا الجسر، اتسعت لديه طبيعة الرؤيا، فإذا هو في " الرحلة الثامنة " يتذكر أخطاء الماضي ليتطهر منها، مادا بعينيه إلى المستقبل، وفي فمه " بشارة ": وسوف يأتي زمن احتضن الأرض وأجلو صدرها وأمسح الحدود وأصبح إيمانه بالتجدد، بالبعث، طريقه إلى قهر الزمن، والتغلب على الموت. وإذا كان في " لعازر 1962 " قد عاد إلى التشبث بالموت - رغبة في الموت نفسه - فإنما كان ذلك

كذلك لأن القصيدة لا بد أن تقرأ على ضوء أزمة تاريخية مرت بها الأمة العربية، والسنة المقترنة باسم لعازر (1962) تشير بوضوح إلى تلك الأزمة، واليها يومئ خليل حين يقول في مقدمة القصيدة مخاطبا لعازر " لئن كنت وجه المناضل الذي انهار أمس، فأنت الوجه الغالب على واقع جيل، بل واقع أجيال يبتلى فيها القوي الخير بالمحال، فيتحول أبلى نقيضه، ويتقمص الخضر طبيعة التنين الجلاد والفاسق وتكون المذلة مصدر تعاظمه ". أن النفور من العودة إلى الحياة في القصيدة؟ أو الاستسلام الكلي للزمن - لهو صورة مرحلية لا تمثل عمق التفاؤل بالبعث وبعودة المنقذ في شعر خليل. وقد كان من الممكن أن نستشرف هذا التغير في موقف الشاعر من الزمن، منذ أول قصيدة في الديوان، وهي قصيدة " البحار والدرويش " فإن الدرويش يمثل الحقيقة الثابتة التي تتحدى الزمن والموت، وبكوخه يستريح التوأمان: " الله والدهر والسحيق "، وهو الذي شهد؟ في حالة خلوده - تتابع الحضارات، وفعل الزمن " ذلك الطفل - الغول الذي تلده الثواني "، بينما هو؟ أي الدرويش - قابع في ضفة " الكنج "، شاهد لا تمتد إليه يد الفناء، وأما البحار الذي يرمز إلى الشاعر المسافر، فإنه يعانق الأشياء الزائلة، يموت مع الطين الموات، وقد ماتت منارات الطريق بعينيه، وفي سياق ذلك الخلاص من قبضة الزمن، نجد؟ في النهاية - أن البحار أتحد بالدرويش أو كاد، وأعلن؟ بالبعث والتجدد - انتصاره على الزمن، وإذا لم يستطع أن يكون هو " الخضر " فإنه؟ على الأقل - لم يعد فريسة " للتنين ". من ذلك يتضح أن الاتجاه الشعري عند خليل حاوي لن يفهم على حقيقته إلا عندما يتضح موقفه من الزمن، فإذا

أضفنا إلى ذلك أنه يؤثر أن يتحدث عن الزمن بمصطلح المسافة/ فيعبر عن بطئه وركوده بمثل " الجليد " أو " صحراء الكلس " كما يعبر عن حيويته بمثل " غناء الرؤيا " و " رعشة البرق "؟ أدركنا أننا إزاء شاعر يتميز بوعي دقيق لهذا التزاوج الضروري بين الزمن والمسافة. وتكاد لا ترى أن خليل حاوي؟ رغم تعلقه بالأم - يتحدث كثيرا عن الماضي، ويحلم كثيرا بالعودة إليه، ورغم إيمانه بجمال الطفولة، فإنه لا يعدها ملاذا وحمى، وهو في هذا يفارق؟ مثلا - شاعرا مثل السياب، عاش طول حياته يحلم بالطفولة والعودة إلى الأم - ويجد في الماضي عزاء عن الحاضر، بل هو يزخرف الماضي لأن في ذلك التمويه تعويضا عن قسوة الحاضر، ولهذا كان موقف السياب من الزمن؟ ومن ثم من الموت - مختلفا عن ذلك الذي اتبعه خليل، وبسبب تعرض السياب لتحولات مختلفة في نظرته الفكرية تجد لديه مواقف مختلفة، فهو في قصائده التي سميتها " الكهفيات " (1) يقترب من خليل في تصوره نفسه ميتا يبعث، رامزا بذلك إلى بعث الأمة العربية، وذلك هو ما غلب عليه في عهد اتجاهه القومي، ولعل قصيدته " في المغرب العربي " خير مثال على ذلك، وفيها يتخيل أنه ميت؟ مع موت المجد العربي والحضارة العربية - إلا أن هذا الموت، سيستفيق ولا بد لأنه؟ لا يمكن أن يحيا دون الماضي، فهما يهبان معا من القبر: ومن آجرة حمراء مائلة على حفرة أضاء ملامح الأرض بلا ومض دم فيها فسماها

_ (1) انظر: بدر شاكر السياب: 267 - 275.

لتأخذ منه معناها لا عرف أنها أرضي لاعرف أنها بعضي لاعرف أنها ماضي، لا أحياه لولاها وأني ميت لولاه، أمشي بين موتاها وهذا البعث، يتغلغل أيضا في ثنايا قصائده التي قالها وهو يشهد؟ مقاما - حركة المد الشيوعي في العراق، فقد أعتمد فيها اللجوء إلى أسطورة أدونيس وعشتار، وكان يستمد من الأسطورتين وأمثالهما شعوره بأن الخصب لا بد أن يخلف الجدب، وأن التضحيات لن تذهب سدى. ولكن للسياب؟ إذا شئنا الإيجاز - موقفين آخرين من قضية الموت؟ والزمن - أحدهما إلى نظرته للدمار اكلي قد يعم العالم بسبب القنبلة الذرية، وهذا هو ما تعبر عنه قصائد متعددة تمتد من أقصى تطور تقني في " رؤيا فوكاي " إلى أخيلة القروي الذي يتصور الموت ثعلبا والناس " دجاج القرى "؟ هي تحديقة الشاعر المباشرة في حقيقة الموت، متمثلة في سذاجة الشاعر وثقافته حين يصبح التمييز بينهما أمرا غير ضروري، والثاني هو في مواجهته موته الذاتي، يطل عليه من خلال المرض المزمن، وفي هذا الموقف اليائس يصبح الإنسان مترددا بين العودة إلى الطفولة والأم والقرية، ليحس بالنجاة المؤقتة من مخلب الموت، وبين استدعاء الموت نفسه لأنه؟ فيما قد يبدو - أهون من مكابدة المرض. ويدرك الشاعر أن العودة للطفولة مستحيلة: وهيهات ما للصبا من رجوع أن ماضي قبري واني، قبر ماضي موت يمد الحياة الحزينة؟ أم حياة تمد الردى بالدموع

ولهذا فهو يصرخ مستدعيا الموت: منطرحا أصيح انهش الحجار أريد أن أموت يا اله بل أنه حين يعود إلى الطفولة، إلى القرية، يحس بالتغير؟ أي بفعل الزمن، ولهذا فإنه يتساءل حائرا: جيكور ماذا؟ أنمشي نحن مع الزمن أم أنه الماشي ونحن فيه وقوف؟ أين أوله؟ وأين آخره هل مر أطوله أم مر أقصره الممتد في الشجن؟ وليس يوازي تجربة السياب؟ في الشعر الحديث - تجربة أخرى، تريد أن تحيي الماضي؟ ماضي اطفولة - طفولتي، صباي، أين؟. أين كل ذاك؟ أين حياة لا يحد من طريقها الطويل سور كشر عن بوابة كاعين الشباك تفضي إلى القبور؟! كما تحاول أن تعد الزمن، سنة سنة، " عشر سنين سرتها إليك " و " ثلاثين انقضت "؟ الخ، أن السياب يقف في التجربة؟ تجربة الزمن والموت - شاعرا متفردا، لأنه كان حالة متفردة. انه لا يتفلسف كثيرا حول المشكلة، وإنما كان يعيشها.

ومهما يكن من شيء، فإن الزمن عند خليل (طفل؟ غول) ، ربما كان مخيفا ولكنه رغم شكله المخيف ما يزال طفلا، كما أن الزمن عند السياب " ثعلب " - يصطاد دجاج القرى، وقد يكون في شكل آخر أكثر أخافة، ولكنه حقا لا يبلغ صورته المخيفة عند نازك، التي تراه في صور مخيفة مقيتة فهو حينا " الافعوان " الذي يسد كل الدروب، مطاردا، خانقا كل شيء، يقتفي الخطوات، ويتجسد في كل اتجاه، حتى أنه ليغلق كل باب للفرار، ذلك الغول أي انتعاق من ظلال يديه على جبهتي الباردة أين أنجو وأهدابه الحاقدة في طريقي تصب غدا ميتا لا يطاق أين أمشي، وأي انحناء يغلق الباب دون عدوي المريب أنه يتحدى الرجاء ويقهقه سخرية من وجومي الرهيب ؟ أين أين أغيب هربي المستمر الرتيب لم يعد يستجيب لنداء ارتياعي وفيم صراخ النداء! وهو حينا سمكة ميتة، تكبر وتكبر، لتحول بين المحبين، وتنذرهما بالأفتراق، ومشيا لكن الحركة ظلت تتبعنا والسمكة تكبر تكبر حتى عادت في حضن الموجة كالعملاق

وصرخت رفيقتي أي طريق يحمينا من هذا المخلوق لنعد فالدرب يضيق يضيق والظلمة محكمة الإغلاق ومن ثم تختلف نازك في موقفها إزاء الزمن؟ من خليل حاوي والسياب - فهي ترى في الزمن قوة جبارة مطاردة، والإنسان يحاول أن يهرب منها، ولكنه لا يملك أن ينجو، أو لا يكاد يملك ذلك. وليس الافعوان أو السمكة آو السحلاة، رموزا لقوة متميزة، مستقلة بذاتها تمثل وجودا في مقابل الوجود الإنساني، يقوم بينها وبين الوجود الإنساني صراع مستمر، وتكون الغلبة لها في كل جولة، وما الإنسان بالنسبة لها إلا كيان ضعيف، يحاول أن ينجو، ويتلمس كل سبب للنجاة دون أن يستطيع ذلك، وقد يكون " السمكة " في بعض حالاتها رمزا لانبعاث الماضي حيا، وحيلولته بين المحبين، ولكن تضخم السمكة؟ رغم موتها - يدل على أن هذا الماضي يستطيع أن يستغرق الحاضر والمستقبل، وأن ينشر رعبه على نحو كلي، فلا يعود محددا بآن واحد. ونازكعلى وعي بهذا الذي تتحدث عنه، وليست رموزها للزمن؟ القوة الجبارة - عفوية، ففي مقدمة ديوانها " قرارة الموجة " حديث صريح عن ذلك، حين تتخيل نفسها تتحدث إلى أخرى؟ إلى القرينة التي جردتها من ذاتها - حول فكرة الزمن نفسها، وفي أثناء هذه المحاورة تقول: " أني لا أخاف الزمن، أني اسأمة وحسب "، وتقر أن السمكة رمز للزمن؟ أي الفراق بين الصديقين - وتذهب إلى أن فراق " عشرة أشهر "؟ مثلا - يجعل من المستحيل على الأصدقاء أن يعودوا أصدقاء، لأن كلا منهم قد تغير

ولم يعد هو نفسه، ليحس إزاء الآخر بمثل ما كان يحس به من قبل، وهذا هو ما تعنيه بالشخص الثاني: الشخص الثاني، من أعماق شهور التيه المطموره حاكته دقائق تلك الأيام الجانبية المغروره وترسب في عينيه تثاقلها ورؤاها المذعوره وما دام الأمر كذلك، فإن المحبين بعد أي فراق مهما يكن قصيرا؟ أي بعد خضوعهما لفعل الزمن - لا يكونان هما المحبين اللذين كانا من قبل، وسينكر أحدهما الآخر، وفي هذا عذاب متجدد، لأن الصورة التي تكونت عند أول لقاء، أي اللحظة الزمنية المليئة بالإيحاءات، قد أمحت، ولا يمكن استعادتها. ومن ثم تجد نازك نفسها تنتقل من الفكرة المتافيزيقية للزمن، من حيث هو قوة منفصلة تصارع الآدميين، إلى تصور الواقع الزمني في مراحله الثلاث الماضي والحاضر والمستقبل، وأكثر ما يغلب على تصورها أن الماضي ميت، وأن المستقبل كذلك ميت. وكيف يمكن لقوة ميتة في الماضي وفي المستقبل، أن تكون مخيفة إلى الحد الذي تتصوره الشاعرة، وحقيقة الأمر أن هنا فرقا بين الزمن حين يكون؟ في الخارج - قوة مجردة، وبين الزمن حين يكون علاقة انسانية، فهو في الحال الثانية يمكن أن يكون حيا أو ميتا، مليئا أو فارغا بسبب احساس الإنسان به، أما في الحالة الأولى، فإنه صورة من الموت، ولذا فإنه قوة لا يستطاع التمرس بها. والأمس في شعر نازك؟ في أغلب المواقف - ميت " جثة الماضي الغريق "، لا يمكن أحياؤه أو بعثه، والتعبير عن موته يتخذ صورا مختلفة، ويتكرر في مواقف متعددة، ونادرا ما ينتقض موت الماضي بعودته إلى الحياة أو بالعودة

إلى الطفولة، وفي قصيدتين متقاربتي التاريخ (1) تعبر نازك تعبيرين مختلفين عن هذا الماضي، في أولاهما تصور الخوف الرهيب من الزمن؟ ومن الموت - وتحاول أن تتخذ فكرة تحجبها عن عيون السنين، وأن تشير إلى موضع قائم في المدى المرتمي محجوبا بالظلال، حيث يتم العبور إلى موطن لا يستطيع الزمان البليد أن يصل إليه، إلى عالم حافل بالوعود، ولكنه ليس الأمس: سنمحو الزمان، وننسى المكان هناك ونقسم الا نعود إلى أمسنا المنطوي سر بنا! ومع إن التعبير عن هذا الموضع مقترن بالاستقبال (سنعبر، سنحيا، سنمحو) فإن الزمن المنقذ ليس هو المستقبل أو الغد، وفي القصيدة الثانية حلم - أو محاولة حلم - بالعودة إلى الطفولة، والمسير إلى الأمس: سنحلم أنا نسير الأمس لا للغد ومع ثقل الأمس وتجهمه ومحاولة الهرب منه، فإنه يبدو أخف وقعا من الغد ذلك المجهول المطلق، ولذلك فإن أهداب الافعوان واقفة بالمرصاد تصب " غدا ميتا لا يطاق ". كما أن انتظار الغد يعني مواجهة القبور التي " تمد إلينا بأذرعها الباردة " ولهذا فإن النجاة من الاثنين؟ الماضي والمستقبل - إنما يتم باللجوء إلى دائرة " اللازمان "، وهي الدائرة التي

_ (1) هما قصيدة أول الطريق (2: 229) وقصيدة دعوة إلى الأحلام (2: 236) والأولى بتاريخ 8 - 4 - 1948 والثانية بتاريخ 28 - 9 - 1948.

تسميها الشاعرة " يوتوبيا " منطقة يتعطل فيها حكم الزمن، وتتخذ صفة الكمال والخلود، ولكن الشاعرة تتصور يوتوبيا هذه على ألوان فمرة تراها عالما يموت فيه الضياء، ومرة عالما يبقى فيه الضياء ولا تغرب الشمس، ومرة ثالثة حيث ديانا (ربة القمر) تسوق الضياء، ولكن الصفة الثابتة لها أنها أفق أزلي لا يدركه الفناء. وبين ألامس الميت والغد الرهيب يقع الحاضر، وهو في الغالب يمثل الفراغ، والزمن فيه بطيء العبور، تتمطى دقائقه تمطيا، ولذلك يوصف الزمن هنا بأنه بليد، وتمثل " الساعة " آلة بغيضة بلهاء، لأنها مقترنة بعد الدقائق البطيئة: دقت الساعة في الظلمة تسعا ثم عشرا/ تململت الساعة الباردة على البرج/ وأنا أصغي وأعد دقائقها القلقات، ويمكن التغلب على حركة الانتظار هذه بمشاهدة المتحركات في الزمن، كالقطار مثلا حيث يشكو الآخرون البطء " هذي العقارب لا تسير " ويتساءلون: كم مر من هذا المساء متى الوصول؟ / وتدق ساعته ثلاثا في ذهول/ فان مراقبة هذه المتحركات تأمل في زمن الاخرين، وتخفيف من ثقل الانتظار. كما يمكن التغلب على هذا الحاضر بالسير المستمر في المكان - دون وصول - (لان الوصول يعني الموت) والسير في مكان يتجاهل فيه عامل الزمن ينقذ من العودة التي سيكشف للأعين أن كل شيء مررنا به وخلفناه وراءنا قد تغير: لماذا نعود أليس هناك مكان وراء الوجود نظل إليه نسير ولا نستطيع الوصول

مكان بعيد يقود إليه طريق طويل يظل يسير يسير ولا ينتهي غير أن المكان غير موجود، مثله مثل يوتوبيا، ولذلك كان لا بد من العودة والمرور بالتغيرات التي تحول الأمكنة إلي أمكنة أخرى والشخص إلى شخص ثان، وذلك يعني التعايش مع أشياء لم تؤلف من قبل، ومع أن هذا التجدد كان يمكن أن يخلق بهجة متجددة، فإنه عند الشاعرة نذير بالسأم والضيق، مثله مثل الركود الزمني، لا يخلق سوى الإحساس بالضجر في شعر نازك صور مختلفة، توازي التعبيرات المتعددة عن بطء الزمن، وعن الإحساس بالفراغ، وليس التعبير عن " البطء " من أجل التأمل في الزمن، أو للاستسلام للحلم، وإنما هو صورة لاستثقال الحاضر والفزع من الآتي. ويجدر بنا أن نتأمل هنا في موقفين أحدهما: تجسيد الزمن في صورة قوة خارقة، قوة تكاد تكون مرئية، هائلة في قدرتها على المطاردة، وسد جميع المنافذ والدروب، والثاني: الزمن البليد البطيء المتثاقل الذي تتشابه لحظاته في رتابتها، بحيث لا تعنى الشاعرة أبدا بالإمساك بأية " لحظة " مفردة فيه واستدامته والاحتفاظ بها، وهاتان الحالتان يمثلهما الرمزان الكبيران: الافعوان الذي يرمز إلى الجبروت والمطاردة، والسمكة الميتة التي تكبر وتتضخم رغم موتها، وهي ترمز؟ بحركتها - إلى بلادة الزمن، وتثاقله، وهذا الزمن في حاليه - في صراع مستمر مع الحب، ولا تكافؤ، لأن الحب دائما خاضع له أو منهزم، بل أنه في بعض الحالات يقتل الحب بخلق العداوة، والبغض، وأحداث التغير في الناس والأشياء.

وينحسر هذا الظل المديد الذي يمثله الزمن في شعر نازك؟ انحسارا غير قليل - في ديوانها " شجرة القمر "، وسر ذلك أنها اكتشفت التعويض عنه بالفن، وإلى هذا ترمز قصيدتها " شجرة القمر " نفسها، فهي مبنية على قصة طفل كان يحلم أن يصيد القمر، فلما تحقق حلمه ثار الناس عليه يريدون استرجاع قمرهم، فما كان من الطفل إلا أن زرع القمر، واستنبت منه شجرة تتدلى من أغصانها أقمار فضية، ثم رد القمر الأصلي إلى السماء، فالقمر عند نازك يرمز إلى الطبيعة (وهو في الوقت نفسه صورة للزمن) ، والطفل هو الفنان، والشجرة هي فنه المستمد من الطبيعة، المستقل عنها في آن معا، وبه وجد الطفل (الفنان) رضى عوضه عن الطبيعة والزمن كذلك، وتقول نازك أنها استعارت الأسطورة دون رموزها - من قطعة شعرية إنكليزية مما يكتب للأطفال، ولعلها لو لم تقرأها هنالك لخلقت مثلها، فإن رغبة الطفل في صيد النجم (أو القمر) موجودة في شعرها من قبل، وإنما كانت تلك الرغبة بحاجة إلى تطوير: وافقنا وانتهى الشيء الذي خلناه حبا وتبقت حولنا الذكرى التي تسخر منا من خيالات صغيرين بدأ نجم فظنا أن في وسعهما أن يمسكاه فأشرابا لحظة ثم تهاوى السلم في برود وتلاشى الحلم فهذا النجم الذي كان " طفلان " يريدان صيده هو " الحب " ن وكان صيده وهما تلاشى من بعد، ولكن هذا النجم حينما أصبح " فنا " استطاع الطفل أن يحوزه، وأن يخلق مثله، وبانتقال الصراع من دائرتي الزمن والحب إلى

الصراع بين الزمن والفن، تضاءلت قوة الزمن، لأن الفن يكفل الخلود والرضى والطمأنينة. بل الأمر أكثر من ذلك وأبعد دلالة، فقد كان الحب رابطة بين اثنين، معرضة للاهتزاز وللانفصام، وكان الزمن زونهما، الخاص بهما (أو بالشاعرة وحدها) أما الفن فإنه استطاع أن يرضي الذات (وبالتالي سيرضي الآخرين) كما أن إرجاع القمر (الطبيعة؟ الزمن) إلى الناس كان يعني اعترافا بأن لهم حق المشاركة فيما كان يحبه الفنان (أو يخاف منه) ، ومن هنا تتفتح المشاعر الذاتية على الآخرين، وتأخذ في تحسس مشكلاتهم وقضاياهم على نحو أرحب، وبتعاطف أشد، ومن هنا أيضا يشرب الخوف من الزمن (ومن الموت) في غمار المشاركة الجماعية، وذلك ما ينبئ عنه التطور؟ الموضوعي - الذي شهده شعر نازك (1) . وحين يحاول الدارس أن يحدد فكرة أدونيس عن الزمن؟ من شعره - تواجه عقبات كثيرة، منها أن الشاعر أكثر من استعمال الفعل المضارع، وأعيا أن تلك الصيغة لا ترتبط بزمن محدد؟ في اللغة العربية - فحين يقول: في عالم يلبس وجه الموت لا لغة تعبره لا صوت (تولد) عيناه يدرك أن لفظة " تولد " تعني هنا الديمومة، وكذلك هو قوله: بين الصدى والنداء - يختبئ) تحت صقيع الحروف (يختبئ) .

_ (1) تجد مزيدا من التفصيل عن علاقة شعر نازك بالزمن في كتابي " الزمن في شعر نازك " وهو سيصدر قريبا.

بل أنه حين يستعمل الصيغ التي تدل على المستقبل (سافر في موجة في جناح/ سأزور العصور التي هجرتنا/ والسماء الهلامية السابعة) فإن الناحية الزمنية تتضاءل إلى جانب الإرادة، التي قد تحقق وجودها أيضا في لا زمن، أو قد تجيء المقطوعة مفرغة من كل دلالة زمنية، خالية من أية صيغة فعلية، مثل قوله: خرساء أو مخنوقة الحروف أو لا صوت أو لغة تحت أنين الأرض أغنيتي للموت للفرح المريض في الأشياء للأشياء أغنيتي للرفض يا كلمات الرعب والدواء يا كلمات الداء. بل كثيرا ما تكون صوره الزمنية غير ذات دلالة على الزمن، ففي قوله يخاطب أبا نؤاس: تائه والنهار حولك دهر من الدمن شاعر كيف يشرئب على وجهك الزمن. نجد أن أبا نؤاس في " حضور " لا علاقة له بالماضي، والحديث عن النهار الذي هو دهر من الدمن إيماء إلى الشعر المثقل بوصف الأطلال، واتباعية التراث، والتعبير عن " الزمن الذي يشرئب " إشارة إلى ولادة الثورة التجديدية؟ على يد أبي نؤاس - فاستعمال ألفاظ " النهار " و " الدهر " و " الزمن " واهي الصلة بحقائق الزمن، فالزمن؟ وخاصة الماضي - لا يحمل قيمة في ذاته، وإنما القيمة الكبرى

للإنسان؟ الشاعر، فإنه هو الحقيقة التي تبدأ منها الحقائق، ذاهبة في تيارها المستقبلي، يولد في عيني معنى الضحى تبدأ من نفسي كل الدروب ومن ثم يغدو أمس الشاعر " غدا "، وينعدم وجود الأمس، ويصبح الموت صديقا، وتصبح ثانية الشاعر بما يملؤها من حيوية وإبداع وألق سنوات، أن الزمن قد يكون عدوا للطاغية، مثلا، لا للشاعر، ولهذا فإن الطاغية يحس أن علاقته بالزمن طغيان متبادل: زمن يجري، زمن يهرب مثل الماء وأنا أجري كل نهار سكين في أحشائي والليل حراب، ومن ثم نجد أن بعض أقنعة (1) الشاعر تستعصي على الموت، فزيد بن الحسين يقتل ويصلب ثم يحرق وينثر رماد جثته فوق الماء، ولكنه لم يمت لأنه ظل رمزا حيا إلى الأبد. الجسم يصاعد في رماد مهاجر كالغيمة الخفيفة والرأس وحي نار عن زمن الغيوب والثورة والثوار يقرؤه السياف للخليفة؟

_ (1) سيجيء الحديث عن " القناع " في الشعر الحديث، في فصل تال، ويكفي أن أقول هنا أن " القناع " رمز تاريخي - في أكثر الأحيان - يرمز للشاعر، أو يحمله الشاعر نظراته في الفن والتضحية والمبادئ؟ الخ.

ومهيار: يأمر تيمور الطاغية بتعذيبه ثم يقطع جسده إلى أجزاء صغيرة ترمى في جب للأسود ويفصل رأسه عن جسمه، ولكنه يظل هو " النفس المزروع في رئة الحياة "، ويظل رأسه يتحدث عن موته الذي كان " فوهة الزمان، كان الوعد والمجيء " وعن جسده الذي سار أمامه: أزمنة، مدائنا تواكب النهر مسرحها بضفتين: الحب والبشر وحين توحد بالأرض والكون والموت والزمن صار هو " المدى والمدار "، أو هو الحقيقة المطلقة، بل لعله أكبر من كل ذلك. ليس للزمن وجود ذاتي متميز عن أدونيس، وإنما هو مجال، ساحة لدينامية الإنسان، امتداد، أهم ما يعكسه حركة الإنسان في داخله وأحيانا في خارجه - ولهذا بدلا من أن يركز نظره في الزمن، وإحساسه الكلي في تقلباته وتجسداته، كما تفعل نازك التي تسمع وقع خطى الأيام، وتحس دبيب أقدام الليل، فإنه لا يحاول أن يرى سوى الصيرورة المستمرة، وحياة التحولات في أقاليم الليل والنهار، أن أدونيس لا يبحث عن زمن ضائع - كما فعل بروست - وإنما يلاحق زمنا لم يولد بعد، بل أن قولنا " لم يولد بعد " مجاز، لأن الإنسان متحد به، وهو في صيرورته المستمرة يرسم له أبعاده. وحسبنا هنا أن نعرض مثالا واحدا يصور هذه الصيرورة؟ قناعا آخر من أقنعة أدونيس - بعيدا بعض الشيء عن " تأله " مهيار، وقدرته على توجيه الحياة الإنسانية، وعن تكييف الإنسان؟ بقدرة يسميها الناس خارقة - مثالا يتحرك في التاريخ، ويمثل الإرادة الإنسانية

كما يمثل تواضع الإنسان، وليكن هذا المثال هو " صقر قريش " (1) ؟ عبد الرحمن الداخل - الذي لم يكن دوره التاريخي؟ فكيف بالرمزي - دورا عاديا عابرا. الصقر يعاني أزمة الزمان والمكان: مختبئ يرى ما يحل بأهله من قتل وصلب، وتنقسم مشاعره بين تذكر قريش وأمجادها، وبين التفكير في النجاة، والزمن يضيق: وكأن النهار حجر يثقب الحياة وكأن النهار عربات من الدمع والمكان يضيق، وفارس الموقف كله الموت والموت يسرج أفراسه والذبيحة بجع يتخبط، ويريد فسحة، يريد عونا من الفرات، يريد من الطريق أن يتسع " والطريق يدحرج أهواله ويضيق "، ولكنه يهيب بالمكان أن يتسع، " أفتحي يا برادي مصاريع أبوابك الصدئات " ومع ذلك فإنه استطاع أن يسير في أرض " أضيق من ظل رمحه ". مشكلة الصقر الكبرى أنه ليس شاعرا، لا يعرف أن يغير الفصول، لا يستطيع أن ينقذ أخاه الطفل، لا يستطيع أن يدجن الغرابة، أن يغير الآجال، أن أشياء كثيرة ستحدث دون أن يستطيع الصقر التدخل في مجراها، لأنه ليس شاعرا، ولكنه في النهاية " يرفع في وله الصبوة والإشراق/ أندلس الأعماق ".

_ (1) انظر قصيدة تحولات الصقر في الملحق.

وعند هذا الحد ينتهي الصقر التاريخي ليبدأ الرمز، وتبدأ من ثم تحولات الصقر،: كانت هناك أصوات تنادي الصقر أن يرجع، ولكنها هدأت، وتضاءل صوت الماضي، لكنه لم يتضاءل في الواقع لأن الصلة بالماضي قوية، ويحاول الصقر أن يشدد من عزيمته ليقتل الماضي، طاغ أدحرج تاريخي وأذبحه على يدي، وأحييه ولي زمن أقوده، وصباحات أعذبها أعطي لها الليل، أعطيها السراب، ولي ظل ملأت به أرضي يطول، يرى، يخضر، يحرق ماضيه ويحترق، ولكن صورة دمشق (حبيبة أدونيس) لا يستطيع الصقر أن ينعتق منها بسهولة، ولهذا فإنه يعيش لحظات طويلة، مشدودا إلى هذا الماضي الدمشقي، الذي ينتهي ب " عفوك يا دمشق "؟ وهو تردد بين الرثاء والتحطيم، وحين يصعد الصقر؟ الشاعر إلى أبراج الموت، يمحي الصقر، ويبرز أدونيس، ليعيش لحظات مترددا بين انتماء إلى دمشق الماضي أو القدرة على التحول، ويعاوده الحنين إلى الحضارة القديمة، فيلم ببغداد، ليلقي بالزمن: الزمن أخضر نما وطال أورق في الجدران والحصون الزمن الأنهار والتلال والزمن العيون: قامات أحجار ربيعية في غابة الروح الفرائية وليقرأ الشواهد التي كتبت على قبر الصقر (الشاعر) ، وليفيد منها أن قوة الموت أن كانت قد استطاعت التغلب على الصقر، فإن زوجة فقيرة كانت على وشك أن تعلن ولادة، صقر جديد

وقيل كانت زوجة فقيرة هنا وراء التلة الصغيرة حبلى وبين الليل والنهار في الصمت في التمزق المضيء تنظر الطفل الذي يجيء. أن هذه القصيدة التي تعد من أكثر قصائد ادونيس واقعية، تصور حقيقة التحول على شكل صراع بين الماضي والمستقبل، وميزتها الكبرى أنها تنصف الماضي ولا تهزأ من علاقاته، ولا تحاول الاستخفاف به أو التهوين من قيمته، وإذا كان الانعتاق من الماضي ضروريا فإنها تصور صعوبة ذلك الأنعتاق، وهو شيء يجب أن لا نعده موقفا رومنطقيا، فإنه نابع من شخصية الصقر نفسه الذي كان يقول رغم ما حققه من طموح ومجد، مخاطبا النخلة: " يا نخل أنت غريبة مثلي "، وإذا لم تكن هذه الغربة إنسانية، فماذا تكون؟ هي غربة علها أصدق بكثير من حديث رأس " مهيار " في حقيقة الواقع الإنساني. وللزمن في شعر محمود درويش قصة أخرى، ربما راقه أن يعود إلى الماضي متمثلا في الطفولة، إلا أنها ليست عودة وإنما هي استكشاف: وأثير جسمك تولد اليونان تنتشر الأغاني يسترجع الزيتون خضرته يمر البرق في وطني علانية ويكتشف الطفولة عاشقان

بل أن هذا بل أن هذا الاكتشاف ألا في حالة دون أخرى، ذلك لأن سمات الطفولة لا تتغير، ليس الطفل أبا للرجل (كما يقول وردزورت) وإنما الطفل هو الرجل، ففي الطفولة كان الطفل " صغيرا وجميلا، كانت الوردة داره والينابيع بحاره "، ثم أن الوردة هي التي تغيرت فصارت جرحا، والينابيع هي التي تغيرت فصارت ظمأ، أما الطفل فلم يتغير كثيرا، ظل " صغيرا وجميلا " واستطاع أن يحول الوردة إلى نخلة والينابيع إلى عرق، أن الأشياء تكبر حقا، فتلقي ظلالها على الطفولة، حتى تخيل للناظر أن الطفولة تجاوزت عهدها، ولكن بشيء قليل من التأمل تتضح الحقيقة. وهذا الطفل لا يخشى الزمن، أنه يأخذه بيديه كأنه دمية (ربما كانت دمية متفجرة وهو لا يدري، ولكنه يحبسها كالخرز الملون) يداعبها " كأمير يلاطف حصانا ": إني أحتفل اليوم بمرور يوم على اليوم السابق وأحتفل غدا بمرور يومين على الأمس وأشرب نخب الأمس ذكرى اليوم القادم وهكذا أواصل حياتي (1) . وفي هذه " المداعبة " يتضح التمويه، فالزمن قد لا يكون مرعبا للطفل، ولكن هذا الطفل الذي كبر أخذ يحس بثقل أيامه، ويحاول تزجيتها على نحو من المعاناة التي تتطلب؟ رغم عد الأيام - شيئا من النسيان، ولكن هذا النسيان

_ (1) هذه القطعة لا تعتمد إيقاعا منتظما، ولكنها ذات قيمة في الدلالة على نظرة الشاعر إلى الزمن.

غير متأت لارتباط الماضي بالحاضر ارتباطا وثيقا حتى أنه " حين أحيا الذكرى الأربعين لمدينة عكا أجهش بالبكاء على غرناطة ". المشكلة؟ إذن - أن الطفل يحاول إلا يكبر فيستكشف أن الذاكرة كبرت واتسعت، وأنه رغما عن التشبث بثبات الزمن على حال لا تتغير، يجد أن الزمن يمتد في بعد آخر، في اتجاه جديد، وتمتلئ الذاكرة بالذكريات، وهو يحاول أن يتخلص منها فلا يزداد منها إلا قربا: من كل نافذة رميت الذكريات كقشرة البطيخ واستلقيت في الشفق المحاذي للصنوبر (تلمع الأمطار من بلد بعيد، تقطف الفتيات خوفا غامضا) والذكريات تمر مثل البرق في لحمي، وترجعني إليك إليك. أن الموت مثل الذكريات كلاهما يمشي إليك. يكاد يكون من المستحيل الثورة على الذاكرة لا لأن الذكريات أحيانا تكون " هوية الغرباء " وحسب، بل لأن الزمن " يضاجع الذكرى وينجب لاجئين ". ها هنا مشكلة تبحث عن حل: هل يكون هذا الحل في الامتداد الجغرافي؟ لقد جربه " عبد الله "؟ صديق الشاعر؟ فماذا حدث؟: كان عبد الله حقلا وظهيره يحسن العزف على الموال والموال يمتد إلى بغداد شرقا وإلى الشام شمالا وينادي في الجزيره ؟. يقفز الموال من دائرة الظل الصغيره ثم يمتد إلى صنعاء شرقا وإلى حمص شمالا وينادي في الجزيره

ولكن هذا الامتداد لم ينقذ عبد الله " وتدلى رأس عبد الله/ في عز الظهيرة " لنبحث إذن عن حل آخر، لعله في التشبث بالحاضر والدخول في لفظة " الآن " دخولا لا منفذ له: وإن لا أحزن الآن ولكني أغني أي جسم لا يكون الآن صوتا إي حزن لا يضم الكرة الأرضية الآن الآن؟ الآن؟.، بل لعله الخروج من الجلد ومبارحة شيخوخة المكان، ولكنه كلما فعل ذلك لم يجد " غير وجهه القديم الذي تركه على منديل أمه "، بل لعله الخروج خارج جدار الزمن والاستنامة إلى نوع جديد من الموت: وبودي لو أموت؟. خارج العالم في زوبعة مندثرة ولكنه يعجز عن ذلك لأنه أتحد بالمحبوبة؟ الأرض - الأم وانتشر على جسمها كالقمح، كأسباب بقائه ورحيله، وهي تنتشر في جسمه كالشهوة، مستحيل أن يحقق ذلك: أنها تحتل ذاكرته كالغزاة، تحتل دماغه كالضوء، ما أقسى تلك المحبوبة! ليتها تقول له مرة واحدة " أنتهى حبنا " لكي يصبح قادرا (لا على النسيان) بل على الموت والرحيل، ليتها تصبح زوجة له " ليعرف الخيانة مرة واحدة "، اتحاد الشاعر بالمكان هو سر صلابته أمام الموت، أمام الزمن، مثلما هو في الوقت نفسه سبب الوجد والعذاب المبرح، وحين يبتعد عن المحبوبة قليلا يجد الزمن متحيزا متشخصا، فإذا عاد إلى اتحاده بها فقد الزمن ووجد هويته. وإذن فإن الحل؟ إن كان ثمة من حل - هو في التمسك بالصلابة والمقاومة حتى النهاية، فإنها وحدها القادرة على خلق الاستحالة

المتجددة، وفي كل خروج من مسامير العذاب بحث مستأنف عن " شكل جديد لوجه الحبيب "، وعلى مرأى من الزمن نفسه يستطيع المحب أن يهدي إلى تلك المحبوبة ذاكرته، أن يتحدث عن تلك الاستحالة المتجددة، وأن يمزج ذكرياته، بذكرياتها، ورغم أن الطفل في هذا الموقف أحس بأنه قد كبر، وكبر المساء، وكبر الرحيل، وأصبحت المحبوبة " غزالا سابحا في حقل دم " فإنه وجد بين يديها الولادة الجديدة: والموت مرحلة بدأناها وضاع الموت ضاع؟. في ضجة الميلاد فامتدي من الوادي إلى سبب الرحيل جسما على الآوتار يركض كالغزال المستحيل. هل بعد ذلك كله يهم أن نجد الزمن مقياسا؟ بعد قليل، بعد عام؟ بعد عامين،؟ ما الفرق؟ أننا؟ بدلا من ذلك - بحاجة إلى مقياس للمكان حتى لو فعلنا كما فعل سرحان الذي " يقيس الحقول بغلاته ". * * * هذه خمسة نماذج لتصور العلاقة بين الشاعر الحديث والزمن (والموت) ، وفي تفرد كل نموذج منها بخصائص ومميزات فارقة، ترتسم سمة واضحة تتخذ علامة على موقف إنساني يميز اتجاها عن آخر، ولا ريب في أن مزيدا من الأمثلة يستطيع أن يوسع من حدود الافتراق والتلاقي بين الشعراء حول هذا الموضوع، غير أنه لا يفوتنا أن نلحظ

مدى التفاوت الذي تم؟ حتى في هذا النطاق المحدود - بين زمن رومنطقي خالص (وأحيانا متافيزيقي) كما هو الحال عند نازك والسياب، وبين زمن قائم على الصيرورة المستمرة، يفعل فيه الإنسان ويتفاعل به، ويقف محمود درويش في مرحلة بينهما، وأن كان؟ مع الزمن - قد أخذ يقترب من الثاني.

5 - الموقف من المدينة سوف أناديك من المدائن المسبية - الممنوعة - الفاقدة الذاكرة - المنسية - المقطوعة الأثداء. (البياتي: كتاب البحر: 139) حين استنكر الفرد دي فيني " القطار "، لأنه رمز العجلة، والعجلة من الشيطان، كان في الواقع يعلن عن شيئين معا: عن تذمره من اختلال العلاقة بين الإنسان والزمن، إذ أن هذه السمة المميزة للإنسان، (كيف لو عرف الطائرات والمركبات الفضائية!!) وعن هذا التطور الحضاري السريع الذي ينقل المرء؟ دون أن يعي - إلى عالم جديد يحس فيه بالاغتراب، وفي كلتا الحالتين كان يعبر عن " صدمة حضارية " أحسها تجاه التطور الآلي الجديد. ترى هل تمثل المدنية لدى الشاعر العربي الحديث مثل هذه " الصدمة الحضارية " التي أحسها دي فيني إزاء القطار؟! إن كثيرا من الباحثين يميلون إلى الاعتقاد بأن المدينة في العالم العربي ليست سوى " قرية " كبيرة، وأن الشاعر حين يحس بتضايقه من المدنية ويتحدث عن الغربة والقلق والضياع؟ مجرد محاكاة - شعراء الغرب حين والقلق والضياع إنما يحاكى؟ مجرد محاكاة - شعراء الغرب حين يضيقون ذرعا بتعقيدات الحضارة الحديثة، وبالمدينة الكبيرة ممثلة لها.

أما أن الشاعر الغربي يعبر عن تضايقه من الحضارة الحديثة؟ لأسباب عديدة - ومن المدينة رمز تلك الحضارة، فأمر لا يحتاج توضيحا أو مناقشة، وأما أن الشاعر العربي الحديث، مقلد له في هذا المجال، فأمر محوط بالشك الكثير، ذلك لأن المسألة لا تعدو ان تكون نسبية، ففي البلاد العربية مدن؟ مهما يكن حظها من الضخامة - تختلف فيها طرز الحياة اختلافا غير قليل عما هي الحال في الريف، وقد كان من المصادفة المحض أن يكون عدد من الشعراء المعاصرين ريفيي النشأة ثم هاجروا إلى المدن، فالصدام بينهم وبين المدنية لا يعني مقتا للحضارة ووسائلها، وإنما هو تعبير عن " عدم الألفة " بينهم وبين البيئة الجديدة، لأسباب مختلفة. فمن المعروف أن أول ما يحس به الريفي تجاه المدينة هو النفور من الضجيج الكبير والازدحام والتدافع، واضطراره إلى تغيير طريقته في المشي المتباطئ واستحداث سرعة لم يألفها من قبل في الحركة عامة، والإحساس بالحيرة والخوف إزاء أدوات المواصلات وتعقيدها، واللامبالاة في سرعتها دون تقدير لشعور المشاة، يرافق كل هذا انبهار مشوب بالرهبة من الأضواء والمباني والمنشآت الكبيرة، فإذا أتيح له أن يمكث في المدينة؟ مكوثا مؤقتا طويلا - وأن يفيد من الخدمات الكثيرة فيها من تعليم واستشفاء ووفرة في مواد الاستهلاك، ومعارض ومتاحف ودور سينما، لم تكد هذه المزايا تنسيه أنه أيضا يجد فيها أن كل شيء محسوب بزمن، وأن الساعة تتحكم في كل العلاقات والتصرفات، وأن هناك عادات ومواصفات لا يستطيع أن يطمئن إليها بسهولة. ويبدأ يحس بالفارق الضخم بين المجتمع الفقير والمجتمع الغني في المدينة نفسها، ولعل أشد ما يصدمه أن كل شيء يباع، فتأخذه الحسرة على ما فقده من " فضائل " الريف

وأخلاقياته وعاداته، وينسى أن المدينة منحته حرية فردية كبيرة وخلصته من أسر العادات الرتيبة وقبضتها الوثيقة، ذلك لأنها؟ مقابل هذه الحرية - قد حفزت أعصابه إلى حد " العصاب " بضجيجها وعجيجها، ووضعته في خوف مستمر من الجريمة، وفي معاناة ضميرية إزاء فئات المومسات والقوادين والمنحرفين والسكارى ومدمني المكيفات والضائعين من الأطفال والمتسولين والنشالين والطفيليين، وفي سخط دائم على تعقيدات البيروقراطية، والرشوة والوساطة و " الأتكيت " الاجتماعي المشوب بكثير من النفاق، وفي قمة ذلك كله يتولد لديه شعور بالاغتراب والعزلة وإحساس بفقدان الحرارة في العلاقات الاجتماعية جملة. وقد ذهب كثير من علماء الاجتماع إلى أن كثيرا من الإحباطات التي يحس بها ساكن المدينة إنها هي نتيجة صراع أساسي بين القيم: بين الذات والمجموع، بين الحرية والسلطة، بين التنافس الحاد والمحبة الأخوية؟.الخ، وأن الفرد يحس أن قيما عزيزة على نفسه قد تحولت عن طبيعتها، وفي النفور من هذا الوضع يحاول المرء أن يجد لنفسه مهربا أو مسربا، وإذا كان ساكن المدينة يحس بذلك كله فإن المهاجر اليها من الريف لا يملك إلا أن يكون أحساسه به حادا طاغيا. ولا أود أن استرسل في هذا المنحى، إذ لست أقصد إلى دراسة المدينة من الزاوية الاجتماعية، وإنما الذي يهمني هنا كيف تنعكس صورة المدينة لدى الشاعر الحديث، على أساس من فهم اجتماعي دقيق، وتكاد أن تكون الصدمة الأولى التي يعكسها هذا الشاعر أن تكون متصلة بفقدان " النقاء " المعنوي في المدينة، يوازيها حنين عميق إلى صفاء الريف وبعده عن الرذائل، وفي مقدمتها جسد المرأة، ولهذا

كانت صورة بغداد عند السياب إنها " مبغى كبير "، ولا غرابة في هذا الشعور لدى شاعر كانت من أول التجارب الشعرية لديه قصيدة " المومس العمياء " وقصيدة " حفار القبور "، ثم ازداد هذا الشعور حدة؟ على الأيام - بسبب الخيبة في العمل المناسب وفي قضايا الحب والانتماء الأيديولوجي وغير ذلك من محبطات. أن تصور الشاعر الحديث للمدينة في صورة امرأة؟ ثم في صورة امرأة متعهرة - يكاد يكون قسطا مشتركا بين عدد كبير من الشعراء، وهي صورة ليست جديدة بل هي متوفرة في الأدب القديم والوسيط، ويستوي عند الشاعر الحديث أن تكون المدينة قائمة تنتسب إلى العصر الحديث، أو ممثلة لحضارة قديمة. والشاعر الحديث يحدد المدينة التي يتحدث عنها باسمها؟ غالبا - فهي بغداد أو بيروت أو دمشق أو القاهرة، ولا يتحدث عن " المدينة " بإطلاق، إلا نادرا. وفي هذا ما يؤكد أن الصدمة الناجمة عن لقائه بها ليست ثورة الحضارة أو كرها لها، بل هي صدمة علاقة بين ذاتين. فدمشق أدونيس امرأة، إلا أنها كثيرا من صفات المجتمع العربي عامة، تلك الصفات التي يحاول أدونيس أن يحطمها (وبذلك تختلف غايته من حديثه عن المدينة عن غايات الشعراء الآخرين) : يا امرأة الرفض بلا يقين يا امرأة القبول يا امرأة الضوضاء والذهول يا امرأة مليئة العروق بالغابات والوحول أيتها العارية الضائعة الفخذين يا دمشق

ونيسابور الخيام (او البياتي) امرأة متعهرة متبذلة، كل الغزاة بصقوا في وجهها المجدور وضاجعوها وهي في المخاض. وكذلك هي بابل، إلا أنها مومس عاقر (والبياتي يمعن في إيراد الصور الجنسية كلما تحدث عن المدينة) : العاقر الهلوك من ألف ألف وهي في اسمالها تضاجع الملوك ؟؟. تفتح للغزاة ساقيها وللطغاة تحمل حملا كاذبا في كل فجر، وتموت كلما القمر غاب وراء غابة النخيل في السحر. وتتكرر هذه الصور أيضا عند حميد سعيد، ففي قصيدته " توقعات حول المدن المهزومة " (1) تبدو القدس سبية: ملك يهودي يقضي ليلة معها وقد لقحت فأولدها دما مرا ومات صبيها العربي مقتولا. أما يافا فإنها: ؟. امرأة من أهلي، خضبها الأعداء وباعوها قطعوا نهديها سلخوا جلدي حين رفضت قبول النهدين قلائد للأخت المذبوحة هيروشيما (2)

_ (1) ديوان: قراءة ثامنة (دار الآداب - بيروت 1972) 7 - 20. (2) المصدر السابق: 27.

ومن السهل أن نجد العلة في استعمال هذه الصور، فالمدينة في اللغة " مؤنثة "، وفي معظم الأحيان كانت حركة التاريخ ضد المدن فتحا واجتياحا واغتصابا لها ولنسائها ولمواردها وهي ما تزال كذلك إلى اليوم، ثم أن الشاعر الحديث يألف الصور الجنسية، في زمن يشيع فيه الاغتصاب في المدن الكبرى، كما تشيع الدعوة إلى الانطلاق التام من القيود المتصلة بالجنس، ولذلك يجد هذه الصورة قريبة المنال والأداء، مع أنه ليس من الضروري دائما (إلا حيث يفرض الجو الفني ذلك) ملاحظة المدينة من هذا المنظور، ذلك أن تكرر الصورة؟ على هذا النحو يجعلها مبتذلة، مع الزمن. أن النفور من المدينة والحنين إلى الريف؟ ممتزجا مع الحنين إلى الأم وإلى الطفولة؟ نزعة رومنطقية أصيلة، وقد وجدت لها تعبيرات مختلفة في الأدب العربي في هذا القرن، كما وجدت لها بدائل أخرى في الحنين إلى الماضي الذهبي أو في العودة إلى الطبيعة؟ الغاب - (عند المهجرين) أو التشوف إلى يوتوبيا (كما رأينا عند نازك) ، أو في خلق مدن مسحورة تغني الشاعر عن مدينة الواقع المليئة بالآلام والعذاب، تلك هي المدينة المسحورة التي يصورها البياتي في قوله: مدينة مسحورة قامت على نهر من الفضة والليمون لا يولد الإنسان في أبوابها الألف ولا يموت يحيطها سور من الذهب تحرسها من الرياح غابة الزيتون، هذه المدينة المسحورة هي التي كان يبحث عنها أبطال الأساطير في الأدب العربي (مدينة النحاس؟ الخ) ومن

نماذجها المشهورة، " أرم ذات العماد " التي جعلها نسيب عريضه؟ أحد شعراء المهجر الشمالي - هدف الوصول الصوفي، ووجدها سميح القاسم في الواقع الحياة الاشتراكية، وضيعها السياب (أو جده) فضاع بذلك حلمه الكبير: لم ادر إلا أنني أمالني السحر إلى جدار قلعة بيضاء من حجر كأنما الأقمار منذ ألف ألف عام كانت له الطلاء ؟.. ارم في خاطري من ذكرها ألم حلم صباي ضاع؟. آه ضاع حين تم وعمري انقضى؟. وحين نلمح هذا الاتجاه في خلق مدن مغيبة، لا نحس بتضايق الشاعر من المدينة الواقعية وحسب، وإنما نجد اصطدامه بمشكلة الزمن (تلك التي تحدثت عنها في الفصل السابق) مسيطرا أيضا عليه، فمن بعض الوجهات يتحد الموقفان أعني الثورة على المدينة والثورة على الزمن بحيث يتعذر فصلهما. ومن الطبيعي أن تتشابه تجارب الشعراء الريفيين المهاجرين إلى المدن العربية في طبيعة الصدمة؟ إن حدثت -، فهي دائما تعبير عن الاغتراب النفسي والاجتماعي الذي أصابهم، ولكنها تتفاوت في العمق والمدى، فهي عميقة مزمنة؟ مثلا - عند السياب، وهي عميقة لمنها مرحلية عند أحمد عبد المعطي حجازي، وهي متقلبة؟ خاضعة لتغير الظروف عند البياتي، وهي مبهمة إلا أنها واقعية الأسباب عند بلند الحيدري، غير أن أكثر الشعراء يتحدث عن

" مدينتي "؟ هكذا بياء الإضافة - إذا عز أن يحددها بالتسمية، وفي هذه الصيغة يتجاوز النفور والحب تجاوزا لا انفكاك له. ويمثل بلند قمة النفور من كل ما يسمى مدينة، حتى لينفر من قريته نفسها، ويرفض العودة إليها، حين تحولت إلى مدينة: لا لن أعود لمن أعود وقريتي أمست مدينة؟! أما أسباب نفوره من المدينة فلأنه يخشى ضياع خطواته في شوارعها الكبيرة، وانسحاقه في الأزقات الضريرة، وخوفه من وحشة الليل، ورعبه من عدم وجود صديق، أي الاغتراب والعزلة والخوف من الاستسلام للوحدة) . وأما السياب فإنه لم يستطع أن ينسجم مع بغداد لأنها عجزت أن تمحو صورة جيكور أو تطمسها في نفسه (لأسباب متعددة) فالصراع بين جيكور وبغداد، جعل الصدمة مزمنة، حتى حين رجع السياب إلى جيكور ووجدها قد تغيرت لم يستطع أن يحب بغداد أو أن يأنس إلى بيئتها، وظل يحلم أن جيكور لا بد أن تبعث من خلال ذاته، (وقد بعثت رغم أندثارها لأنه خلدها في شعره، ومنحها وجودا لا يبيد) ، وحين تحدث السياب عن جيكور التي شاخت، كان يرثي الماضي كله ويرثي نفسه وهو يستشرف الموت: آه جيكور، جيكور؟ ما للضحى كالأصيل يسحب النور مثل الجناح الكليل ما لأكواخك المقفرات الكئيبه يحبس الظل فيها نحيبه أين أين الصبايا يوسوسن بين النخيل

عن هوى كالتماع النجوم الغريبه ؟. أين جيكور؟ جيكور ديوان شعري موعد بين الواح نعشي وقبري. أما المدينة؟ أما بغداد - فهي الخصم الأبدي لجيكور، وحديث السياب عن " دروب " - لدى معظم الشعراء من بعد - تحدد معنى الضياع، شأنها في ذلك شأن " الأزقة " أو " الزقاقات "، بحيث يكاد الحديث عن " الشارع " أو " الشوارع " يعني انفساح المدى لا اختناق النفس في المنعطفات الضيقة: وتلتفت حولي دروب المدينة حبالا من الطين يمضغن قلبي ويعطين، عن جمرة فيه، طينه حبالا من النار يجلدن عري الحقول الحزينه ويحرقن جيكور في قاع روحي ويزرعن فيها رماد الضغينه وبين جيكور والمدينة علاقة غريبة، وأن تكن هامشية: فلون " النضار " الرب المعبود في بغداد يحمل التماعه السمك في جيكور، ولكن بغداد التي تضم " السجون والمقاهي والبارات والملاهي ومستشفيات المجانين ودور البغاء " إنما تستغل شرايين تموز في تغذية كل هذه المؤسسات، واللات؟ أم تموز - هي الأم العراقية التي ثكلت ابنها، فهي ترسل اللعنات على وسائل الحضارة التي سببت موته:

وترسل النواح: يا سنابل القمر دم أبني الزجاج في عروقه انفجر فكهرباء دارنا أصابت الحجر وصكه الجدار، خضه، رماه لمحة البصر أراد أن ينير، أن يبدد الظلام فاندحر. وحين تتحد بغداد والسيطرة اليسارية، تستيقظ عاموره: وتعصر الدروب كالخيوط كلها في قبضة مارده تمطها، تشلها تحيلها دربا إلى الهجير ويتحول الناس إلى تماثيل من طين، أو إلى صور مقطعة الأوصال كأنها أحلام المجانين، وتشكل بغداد ولكن في صور متشابهة، فهي حينا مأوى سربروس (الكلب المتعدد الرءوس) وهي حينا بابل التي تشكو الجفاف ولا تنجع فيها القرابين والصلوات، وهي حينا آخر بابل القديمة ذات الجنات المعلقة إلا أن زرعها رءوس: أهذه مدينتي؟ جريحة القباب فيها يهوذا أحمر الثياب يسلط الكلاب على مهود أخوتي الصغار والبيوت تأكل من لحومهم، وفي القرى تموت عشتار، عطشى، ليس في جبينها زهر؟. بإيجاز: حتى النهاية لم تستطع السياب أن تقيم جسرا من التفاهم؟ أو المودة - بينه وبين المدينة التي قضى فيها أكثر عمره، ترى لو امتد العمر العمر بالسياب ليتمثل؟ حقا - معنى تغير جيكور واندثارها إزاء هذه الصورة القائمة لبغداد والعجز عن التعايش معها، كيف كان يكون الحل؟ أهو الانتحار؟ أو هو الهجرة؟ أو هو اللجوء للتسويغ؟ من المؤسف

أن يقال أن موت السياب؟ أبي الشعر الحديث من كل وجه وفي كل مجال - كان منقذا من الإجابة على هذا السؤال، أن لم يكن هو نفسه ذلك الجواب. وقد أصيب حجازي بالمرض الذي عانى منه السياب إزاء المدينة، ولكن تجربته لم تكن مزمنة، كانت مرحلية وكانت أشمل من تجربة السياب في تفصيلاتها لأنها لم تكن مقتا متأصلا وإنما كانت استكشافا متدرجا، أما على المستوى الفني فقد كانت ممهورة بشيء غير قليل من الفجاجة، ذلك أن لبوسها ثوب البدائية في التعبير قد يكون عذرا عن شاعر ناشىء، ولكنه لا يصلح أن يكون كذلك - في النظرة الكلية - وقد كان حجازي حين أنشأها - شاعرا ناشئا دون ريب. (إن السؤال: هل استطاع حجازي أن يتجاوز ذلك المستوى؟ أمر خارج عن حدود هذا الفصل) . ولكن مما يميز هذه التجربة؟ حقا - أنها لا تستحي من سذاجة الريفي وبراءته، فهي قد تبدأ؟ أو تنتهي - بالإنسان الغريب الذي يسأل: أين يتجه: يا عم من أين الطريق أين طريق السيدة؟ وهي تمضي لتصور الخوف من الزحام، والخشية من وسائل المواصلات الحديثة: لكنني أخشى الترام كل غريب ها هنا يخشى الترام والخوف من الغربة التي تلتهم كل قادم " غريب في بلاد تأكل الغرباء " وتخشى نهاية الطريق لأن النهاية فيه غامضة، وهي تجربة تعيش ليل المدينة " سرعة حمقاء

شراب، موسيقى " ونهارها وشوارعها " قيعان لهب تجتر ما شربته في الضحى من اللهيب " وتمقت قلة الاكتراث للموت، حتى موت الصبي يمضي دون بكاء؟ يا للهول!! - " فالناس في المدائن الكبرى عدد ": هذا أنا وهذه مدينتي ؟. ظل يذوب يمتد ظل وعين مصباح فضولي ممل دست على شعاعه لما مررت وجاش وجداني بمقطع حزين بدأته ثم سكت ؟. هذا أنا وهذه مدينتي هي حقا غربة من يبحث عن حرارة المشاعر في القلوب؟ كما كان يحسها في الريف - فلا يجدها، ليس في المدينة صاحب، وإنما الوجوه والمودات فيها بلون الطريق " طريق مقفر شاحب "، ويستجدي الريفي " خيال صديق، تراب صديق، فلا يجد، كأن كل من في المدينة، لشدة الاغتراب والعزلة بين الواحد والآخر، غريب، صامت يضن بالتحية على من يمر به من الناس. وتزداد هذه الغربة في حدتها لأن الريفي هبط القاهرة دون نقود، فهو يجمع إلى العزلة والضياع جوعا مبرحا، ذا ألوان مختلفة، وإرهاقا واجتهادا

لا لن أعود لا لن أعود ثانيا بلا نقود يا قاهرة كما أنه لعجزه عن دفع أجرة الغرفة التي يسكنها يتعرض للطرد، ويعود من جديد إلى الضياع بين الحيطان العملاقة، ويعود من جديد إلى الضياع بين الحيطان العملاقة، والشوارع اللابرنثية. غير أنه في المدينة لم يلبث أن اكتشف " الإنسان " كان في مبدأ أمره لا يلفته إلا من كان ضائعا مرهقا مثله: كالصبي القروي الذي وفد إلى المدينة يحمل سلة ليمون ولا يعبأ به وبليمونه أحد، وكالكلب اللاهث في الشارع.. الخ، وكان يحس أنه لا بد أن يعود إلى القرية، بل هو (عكسا للنزعة الاجتماعية السائدة) يدعو حبيبته؟ بنت المدينة - لتذهب معه إلى الريف، وكان يقدر أن الريف هو محور اهتمامه أو لا بد أن يكون كذلك، وأن أهله الطيبين هم الناس لذين يكتب لهم وينذر من أجلهم " قوة الكلمة "، فوجد أن لهم أشباها كثيرين في المدينة، فلماذا لا يكتب للإنسان الذي اكتشفه في كل مكان؟ زمن ثم اتسع العالم الشعري لدى حجازي وتعددت آفاقه، فاحتضن مدنا كثيرة في البلاد العربية. نعم ظل حجازي؟ بين الحين والحين - يعاوده الضيق من المدينة ومن جمود مشاعرها، ظل يرهب شوارعها ويقف عند المفارقة: بين شدة الزحام وانعدام " الناس "، حيث لا نظرة إشفاق، ولا اكتراث، وظل يستيقظ لديه حنين الريفي إلى الحقول؟ حيث لا ازدحام، ولا اصطناع للزرع في آنية النحاس: هنا المدى لا يعرف الحراس هنا أنا حر هنا الطيور تستطيع أن تطير

هنا النبات لا يزال أخضر الرداء؟ هنا الحقيقة التي لا تعرف التلون المقيت هنا الدوام والثبوت، بل حيث الانطلاق والحرية والهواء النقي الذي يستطيع أن يغسل من نفسه دخان المدينة، ولكنه من ناحية أخرى كان قد هادن المدينة، بل لعلها أصبحت لديه هي وحدة الوجود السكاني، فهو إذا ضاق ذرعا بها انتقل من مدينة إلى أخرى، يذرع " المدن الشماء "، أنه لم يحاول أن يخدع نفسه عن من يمثلون الجانب الزائف في المدينة: اللغة المطاط والمضحك والمروض المفسر المصفق المشخص المحترف الهاوي المناور المداور العظيم ولكنه لم يعد بهم كثيرا لأنه أقفل عليهم صندوقا وألقى بهم إلى الجحيم، وحين أدخله الفدائيون الغابة التي يتدربون فيها، رأى القاهرة نفسها، وأحس بالرابطة الصحيحة التي تشده إلى أمته، وأدرك أن بعض الزيف في المدينة لا يمكن أن يحجب وجه الحقيقة الخيرة للإنسان، وإذا لم يستطع حجازي أن يصل إلى مرحلة الانسجام الكلي مع المدينة، فإنه على الأقل لم يعد يعاني تجاهها " عقدة " عاطفية. لقد وجد حجازي القرية حين عرف المدينة، فهو يصور المدينة ويمعن في تصويرها لتبرز من خلال مساوئها وعيوبها محاسن القرية وفضائلها، وقد عكس محمد عفيفي مطر هذا الوضع بعض الشيء حين جعل محور ارتكازه هو القرية نفسها، أنه يعرف المدينة، ويعيش حياتها اليومية، ويجد في ليلها ونهارها الوحدة الممضة، إلا أنه معقود النفس بالقرية، بالخضرة والطمي والغرين والنهر وشجرة الجميز وشجرة الصفصاف، ويصرخ في وجد يشبه وجد السياب:

خذيني لارماد عينيك قارورة من دواء خذيني أيا قريتي وأرحميني خذيني أيا قريتي وأرحميني أرحميني أرحميني. والقرية امرأة أيضا، ولكنها أم أو حبيبة، هي عذراء الصمت (1) : لقد أحببت عينيك وأحببت القناديل التي تهتز عبر شوارع الموت ركعت العام بعد العام تحت مقاصل الصمت وبعت دمي لأشرب قطرة من ماء نهديك لتصعقني البروق الخضر؟ تشنقني ضفائرك الآلهية وقد أحببت حراس الشوارع والحواكير الرمادية.. ويشوب مطر هذا الحنين الرومنطيقي بالحديث عن المشكلات الواقعية التي يعانيها الريفيون، وفي ديوانه " الجوع والقمر " مواقف كثيرة حول هذا " الجوع " الذي يرمز إلى المحل والفقر والعذاب: لا شيء يأكله الصغار فأترك عباءتك القديمة يا قمر وأسرق لهم بعض الذرة بعض الذرة بعض الذرة وهي قصيدة تذكر بقصيدة السياب " سلال الصبار في بابل "، مع الفرق في مدى استغلال الشعائر للاستسقاء أو لاستدرار الخصب.

_ (1) انظر: من دفتر الصمت (دمشق: 1968) : 41.

ويختلف موقف البياتي من بغداد عن موقف كل من السياب وحجازي والحيدري من المدينة، فهو - ابتداء - لم يعان نفورا منها، وان كان يدرك أن صرعها " أجساد النساء والحالمون الطيبون "، ومن ثم كانت بغداد لديه عدة مدن لا مدينة واحدة، أي أنها كانت انعكاسات لاسقاطاته النفسية المختلفة، ففي البواكير الرومنطقية الأولى تمثل بغداد المرأة الجميلة الفاتنة المحبوبة: بغداد يا اغرودة المنتهى ويا عروس الأعصر الخالية الليل في عينيك مستيقظ وأنت في مهد الهوى غافيه وهي في خواطر المنفى البعيد " طفلة عذراء " أو " ساقية خضراء "، ورغم أنها قد تجمع بعض النتناقضات: " الشمس والأطفال والكروم، والخوف والهموم، وموطن العذاب والعراة " فإنه مشدود بالحنين الجارف اليها، كيفما كانت وفي أي شكل تصورت، ويتمنى أن يعود إليها ولو " على جنح غيمه/ على ضوء نجمه "، لكن حين تغير المنظر السياسي، حين امتدت النار في المدينة إلى حديقة الليمون لم تعد بغداد طفلة عذراء، بل أصبحت هرة سوداء: تبصق الموتى على الأرصفة الغبر السخينه في ذراع الليل ليل السل، كالام الحزينه لم تزل تبصق آلاف المساكين، المدينه في مقاهيها وفي حاراتها السود اللعينه وعلى أشجارها الصفر الدميمه يولد الخوف، كما تولد في أعماقها السفلى الجريمه

ويتغير المسرح السياسي بعد قليل فإذا بغداد " مقبرة الغزاة " التي ستبتلع جحافل الفاشست والعبيد، ثم يتغير المنظر مرة أخرى فإذا هي صورة أخرى من بابل: ملعونة تعج بالذباب والأصغار والحريم تفتح للغزاة ساقيها وللطغاة؟.. أن بغداد البياتي ليست قيمة ثابتة؟ إلا من حيث حبه العميق لها -، وإنما هي مرآة؟ أو مرايا - للمد والجزر في الحياة السياسية للعراق. ويشترك الشعراء الملتزمون مع البياتي في اتخاذ المدن مرايا تعكس مواقفهم الأيديولوجية، سواء أكانت هذه المدن عربية أو غير عربية. فالمدن العربية عند قاسم حداد قسمان: في قصيدته " خروج رأس الحسيني من المدن الخائنة ": مدن خائنة تلفها الحيرة كأنها وسم على بطون كل الضفادع (من أهلها) ، ومدن لم تخن (أو هي قصور وأكواخ) : ونخرج من كل كوخ على أرض هذا الخليج لندخل كل القصور، ونبني على رسمها قبلة غاضبة ليزهر ورد الرماد واللذين يحملون رأس الحسين، (راية الثورة) يسيرون إلى المدن الخائنة، مدن النار، فيحرقون أسوارها ويحترقون، ليرسموا على معاصم الأطفال هنالك " سيرا بلا حيرة " أو صورة التقدم الضروري، دون تخاذل أو تردد. وتتنوع المدن عند حميد سعيد، فهي مدن مهزومة، ومدن خوف، ومدن براق، وفي كل حال ترمز إلى وضع سياسي (أو نفسي) . وكذلك هو حال المدن الأخرى لدى سميح القاسم في قصيدته " اسكندرون في رحلة الداخل والخارج " فقد أنكرته اسطنبول التي تجمع:

المواخير الكئيبة والمآذن وتشييح عن وجهي الوجوه الغارقة في الشاي والحزن المداهن ؟؟؟؟؟؟؟؟ ويخونني حمال أمتعتي ويشتم سائق التكسي أبي لم يعجب البقشيش حضرته وهمه أن يجد صديقه " ناظم " كما أن همه في أثينا أن يجد صديقه " ميكيس " غير أن أثينا أيضا لم تعرفه، ولكنه كان يعلم وهو فيها أن: سقراط هذا العصر يرفض كأسه ويموت باسم آخر في ساحة الإضراب في المنفى أو السجن الذي سيصير يوما مدرسه إلا أن برلين عرفته ورحبت به، وهي تجربة شبيهة بتجربة البياتي؟ إلى حد ما - أثناء تطوافه في مدن أوربا - شرقيها وعربيها - وتلك تجربة يمكن للقارئ أن يتتبعها في دواوينه المختلفة. غير أن تعبير سميح القاسم عن شعورهنحو المدن العربية، مختلف إلى حد كبير فهي امتداد له، لا مرايا، وأن كان يحاول أن يربط بين تشوفه إلى الثورة والتغيير وبين حنينه الرومنطيقي إلى تلك المدن التي يستشرف فيها انتفاضة (صنعاء، دمشق، أسوان، عدن؟. الخ) . من كل ذلك يتجلى لنا أن المدينة؟ في الشعر الحديث - كانت كيانا يقف؟ في تجربة الشاعر المهاجر - موقف المفارقة من القرية (أو الريف) كما أنها كانت علاقة على طريق التقدم أو التخلف عند الشاعر الايديولوجي. غير أن للمدينة؟ سواء

أكانت شرقية أو غربية - وظيفة أخرى، وهي وظيفة وسائطية، إذ هي لا تعدو في هذا الموقف أن تكون " وعاء " حضاريا يستغله الشاعر لتصوير التمزق أو الضياع ويجعله إطارا؟ محض إطار - لفلسفته، فالمدينة هنا ليست مشخصة كما كانت عند السياب أو حجازي، ولا يقف موقف المضاد أو المحاور أو العدو من الشاعر، كما أن الشاعر ليس بحاجة أن يحكم عليها من زاوية عقائدية، وإنما هي مقبولة أو موشحة بالقبول، على نحو واقعي، فبيروت حاوي هي الوعاء الذي يستطيع الذات والفن والغايات، ويثور الجن فينا وتغاوينا الذنوب والجريمه إن في بيروت دنيا غير دنيا الكدح والموت الرتيب إن فيها حانة مسحورة خمرا، سريرا من طيوب للحيارى في متاهات الصحارى في الدهاليز اللعينة ومواخير المدينة ". يحس الشاعر نحو هذا الذي تقدمه بيروت ثورة على بيروت نفسها وإن وصف الدهاليز بأنها " لعينة "، وإنما يحس بالثورة على نفسه لأنه مضطر إلى تقبل هذا الذي تقدمه، ومرة أخرى يلتقي الشاعر بهذه الدهاليز " اللعينه " في لندن حيث يملأ الضباب الرطب كفيه ويتغلغل في حلقه

وأعصابه، ولكنه حتى ولو أحس بالنقمة على لندن، لا يحملها أية مسؤولية، لأنه كان قد جعل هذا الضياع طريقا ليصفي وجه تاريخه وأمسه، قد تكون كل مدينة كبيرة " سدوم ولكن الشاعر يأبى أن يتحول عمود ملح. هذا الإطار المديني نفسه؟ دون نقد أو ثورة أو استهجان - هو ما يستعمله أمل دنقل، في تصوير الحياة التي تهيؤها المدينة؟ ضمن إطار كبير أسمه القصيدة، لرفد الإحساس بالمعاناة، أو الضياع: كان الطريق يدير لحن الموت؟ في صرير الباب من صدأ الغواية في أزيز مراوح الصيف الكبيرة في هدير محركات الحافلات وفي شجار النسوة السوقي في الشرفات في سأم المصاعد في صدى أجراس اطفائية تعدو.. مجلجلة النداء فكل هذه التي يعدها الشاعر هي أشياء المدينة، ولكنها تؤدي وظيفة وسائطية في بناء القصيدة، وكذلك هو قوله: وكان مبنى الاتحاد صامتا؟ منطفئ الأضواء تسري إليه من عبير، " هيلتون " القريب أغنية طروب ؟؟. وكانت المطابع السوداء تلقي الصحف البيضاء وصاحبان في ترام العودة الكسول يختصمان في نتائج الكره وفي طريق الهرم الطويل تبادلت سيارتان؟ كادتا في الليل أن تصطدما - السباب.

إنك في كل ذلك تجد صورة واقعية قاهرية، ولكن هذه الصورة ليست سوى أداة، لغرض أكبر، تتحدث عنه القصيدة حين تقرأ مكتملة. مرة واحدة تتحول هذه الأداة عند دنقل إلى مفارقة صارخة، حين يتحدث عن السويس التي كانت تعاني الغارات والتعتيم والحرائق والموت، ويقارن بين السويس التي نعم بحياة السلم فيها، وزار أوكار البغاء واللصوصية: عرفت هذه المدينة سكرت في حاناتها جرحت في مشاحناتها صاحبت موسيقارها العجوز في تواشيح الغناء رهنت فيها خاتمي؟ لقاء وجبة الهشاء وابتعت من " هيلانة " السجائر المهربة وبين القاهرة التي لا تبالي بما جرى على أختها: هل تأكل الحرائق بيوتنا البضاء والحدائق بينما تظل هذه " القاهرة " الكبيرة آمنة قريرة تضيء فيها الواجهات في الحوانيت وترقص النساء على عظام الشهداء!! وفي رفع هاتين الصورتين على مستوى واحد، كان أمل دنقل؟ بكل واقعية - يرسم التحلل الذي يعانيه المجتمع المديني، والتفسح في مدى المشاركة العاطفية بين مدينة وأخرى؟ في القطر الواحد - دون أن يبرئ نفسه من أنه هو أيضا سار في ركب الضائعين المنتشين بلذائذ المدينة، في وقت السلم، مع فرق واحد، هو أنه قد استيقظ على مأساة السويس، حين ظل الآخرون سادرين في السعي وراء لذاتهم

ولكن: ترى هل تغني صورة السويس الواقعية؟ فنيا - في تصوير تحولها إلى موقف بطولي مأساوي؟! لنقل: أن أمل دنقل واقعي، وواقعيته بريئة من الدعوى، مهما تكن مؤلمة، وأنه يبعدنا عن دائرة الرومنطقية الخانقة بكثرة ما تستدر عواطفنا؟ في كثير من الأحيان - على نحو مثالي كاذب. حتى هذه اللحظة لم تكن علاقة الشاعر الحديث بالمدينة صدمة حضارية، ولكن هذه الصدمة آتية لا ريب فيها، على نحو طبيعي،، فالشاعر الملتزم إشتراكيا؟ لا يمكن أن يحس بالإنسجام مع المدينة الغريبة - ممثلة الحضارة الغربية - ولهذا فإن المدينة الكبيرة في الغرب قد تصعقه أو تستثير نقمته، وهنا تبدأ معاناة من نوع جديد، يكون فيها رفض المدينة علامة على رفض الحضارة، ولنتذكر كلمة " كبيرة " فإنها مفتاح لهذا الشعور الجديد، ولعل قصيدة البياتي بعنوان " المدينة " أن تكون علامة على هذا الاتجاه، وها أنا اقلها دون حذف (1) : وعندما تعرت المدينة رأيت في عيونها الحزينه مباذل الساسة والصوص والباذق رأيت في عيونها المشانق تنصب والسجون والمحارق والحزن والضياع والدخان رأيت في عيونها الإنسان يلصق مثل طابع البريد في أيما شيء رأيت الدم والجريمة وعلب الكبريت والقديد

_ (1) ديوان البياتي2: 333 - 335.

رأيت في عيونها الطفولة اليتيمة ضائعة تبحث في المزابل عن عظمة، عن قمر يموت فوق جثث المنازل رأيت إنسان الغد المعروض في واجهة المخازن وقطع النقود والمداخن مجللا بالحزن والسواد مكبلا يبصق في عيونه الشرطي واللوطي والقواد رأيت في عيونها الحزينه حدائق الرماد غارقة في الظل والسكينه وعندما غطى المساء عريها وخيم الصمت على بيوتها العمياء تأوهت، وابتسمت رغم شحوب الداء وأشرقت عيونها السوداء بالطيبة والصفاء. لست أظن أن هذه القصيدة بحاجة إلى تحليل، فهي صورة للمدينة سواء أكانت شرقية أو غريبة، ولعل القارئ يستطيع أن يقارن بينها وبين قصيدة أخرى للبياتي بعنوان " مرثية إلى المدينة التي لم تولد " (1) ، فإن هذه الثانية شرقية خالصة، ولعله أيضا يستطيع أن يجمع إلى هاتين القصيدتين صرخة البياتي في وجه الحضارة (وابنتها المدينة) في قصيدته " حضارة تنهار " (2) ونبوءة المتنبي بانهيار تلك الحضارة (3) ، فإنه بذلك يستطع أن يدرك مدى النفور الذي أحسه البياتي إزاء كل حضارة متعفنة، بسبب من موقفه الأيديولوجي، فهو يقول في القصيدة الثانية؟ على لسان المتنبي:

_ (1) ديوان البياتي 2: 299. (2) ديوان البياتي 1: 567. (3) ديوان البياتي 1: 716.

أرى بعين الغيب يا حضارة السقوط والضياع حوافز الخيول والضباع تأكل هذي الجيف اللعينه تكسح المدينة تبيد نسل العار والهزيمة وصانعي الجريمه وحين يذكر البياتي " الخليفة "؟ في هذه القصيدة - نجد أنه لا يميز بين حضارة غربية وشرقية، فالموقفان متشابهان وإن كان من الممكن أن تكون نبؤءة المتنبي كناية من وراء العصور عن مصير الحضارة الغربية نفسها. ويتميز أدونيس في نظرته إلى الحضارة؟ من خلال المدينة - عن كل ما تقدم، في قصيدته النثرية " قبر من أجل نيويورك " (1) ما تزال لديه امرأة (أو تمثال امرأة) " في يد ترفع خرقة يسميها الحرية ورق نسميه التاريخ، وفي يد تخنق طفلة اسمها الأرض "، وهو؟ مثل آخرين غيره - ثائر على هذا اللون من الحضارة " حضارة بأربعة أرجل، كل جهة قتل وطريق إلى القتل، وفي المسافات أنين الغرقى "، ولكنه يرسم أبعادا لمختلف حالات الوضع الحضاري، لمختلف حالات الثورة في الماضي والحاضر، لضروب التخلف، للتغول الطاغي الذي يمارسه الاستعمار الجديد، لوضع السود؟ الخ، في نيويورك تنفتح في مخيلة أبواب العالم وأبواب التاريخ، فيرى الخريطة في مخيلته أبواب العالم وأبواب التاريخ، فيرى الخريطة العربية: " فرسا تجرجر خطواتها والزمن يتهدل كالخرج نحو القبر أو نحو الظل الأكثر عتمة، نحو النار المنطفئة أو نحو نار تنطفئ " ويعترف لنيويورك بأن لها في

_ (1) (مواقف حزيران 1971) اعدد: 15 ص8 - 26

بلاده " الرواق والسرير، الكرسي والرأس، وكل شيء للبيع، النهار والليل، حجر مكة وماء دجلة " ولكنه يدرك كذلك أن تلك المدينة ذات الجسد بلون الإسفلت، تلهث وتسابق في فلسطين وهانوي " أشخاصا لا تاريخ لهم غير النار "، ولا ينسى بيروت ودمشق، وولت ويتمان، ولنكولن وهارلم؟ وغيفارا " الذي نام مع الحرية في فراش الزمن وحين استيقظ لم يجدها "، ثورة عاتية، ولكنها لم تستطع أن تحجب عن عينيه حقيقة مستقرة في أعماقه: " مع ذلك ليست نيويورك لغوا بل كلمة، لكن حين أكتب دمشق لا أكتب كلمة بل أقلد لغوا، دال ميم شين قاف؟ كذلك بيروت القاهرة بغداد لغو شامل كهباء الشمس "، هنا طرفا معادلة، لا قيمة لذكر أحدهما دون الآخر. قد يقال أن أدونيس ثائر على انسحاق الإنسان في ظل هذا الرمز الشامخ، ولكنه أيضا ثائر على ضياع الإنسان الآخر في سديم التخلف. وإذا تأملنا هذه النماذج؟ غير المستقصاة وأن كانت تعين معالم كبيرة - في موقف الشاعر المعاصر من المدينة، وجدناها تدل على الاتجاهات الآتية: 1 - رد فعل رومنطقي خالص يتفاوت قوة وضعفا بحسب أسباب موصولة بنشأة الشاعر ونفسيته، وعن هذا الاتجاه يتولد خلق مدن مرهومة، أو تضخيم للريف على حساب المدينة. 2 - تشكل المدينة بحسب الانتماء العقائدي أو الوضع النفسي الفردي، فالمدينة " وعاء " لا يتغير، وإنما الذي يتغير هو البنية التركيبية في مؤسساتها السياسية أو انتمائها، من خلال العلاقة بينها وبين الشاعر، أو من خلال أزمة تحول يعانيها الشاعر نفسه.

3 - اعتبار المدينة واقعا مسطحا ينعكس على وجهه تمزق الشاعر أو التوتر الوجودي بينه وبين المدينة (أي مجتمع المدينة على نحو دقيق) . 3 - اعتبار المدينة (الغريبة) رمزا للحضارة الحديثة، والثورة عليها على نحو هجائي (كما يفعل البياتي) أو تحليل العلاقات والمستويات الحضارية الراهنة من خلالها (أدونيس) . ومن العسير أن يستنظر المرء في هذه الآونة الراهنة: كيف يكون موقف الشاعر من المدينة - على الوجه الغالب - في المستقبل. أن الهجرة الهائلة التي تتدفق من الريف إلى المدن، والتي تزداد نموا وأتساعا، تحكم مقدما بأن عجز القرية عن تقديم الخدمات الضرورية والفرص الكثيرة التي تقدمها المدينة سيجعلها تخسر شيئا كثيرا من جاذبيتها العاطفية أيضا، بحيث يضعف الوتر الرومنطيقي كثيرا في المستقبل، ولكن تعقد الحياة المستمر، وتغير القيم في مجتمع المدينة، قد يخلق صراعا أحد وأعنف بينها وبين الشاعر، في مقبل الأيام.

6 - الموقف من التراث في موقف الشاعر من التراث تتضح معالم الثورة، ومن ثم الحداثة - بأكثر مما تتضح في موقفه من الزمن أو من المدينة، وأن كان المفهوم المطلق للحداثة يفترض أن تربط المواقف الثلاثة معا، متكاملة. وقد كانت الثورة التي قام بها الشاعر المعاصر؟ على الشكل الشعري، أول الأمر - خطوة تمهيدية، لم تغير كثيرا من طبيعة الشعر، وأن غيرت في بعض موضوعاته ومجالاته، ووسعت من حدوده لتقبل تيارات معاصرة مختلفة، فلما أخذ الشاعر يتساءل عن مدى ارتباطه بالتراث؟ ومن ثم بالماضي وبالتاريخ - أصبح على أبواب ثورة جديدة تشكك في مدى أهمية ما حققته الثورة على الشكل. ونظرا لأهمية هذا الموقف وحساسيته البالغة لا بد من أن يعالج في هدوء وأناة، وفي سبيل ذلك لا بد من أن تقرر أوليات ضرورية، فمن الواضح؟ وذلك أمر متصل بالبدهيات - أن الذين يدعون إلى الثورة على التراث يدركون مدى حضور الماضي في الحضارة الحديثة - عمدا لا عفوا - في صورة معالم أثرية كبرى ومدونات كتابية ومتاحف وبحث عن الآثار ومناهج جامعية لدراسة تاريخ كل شيء: (تاريخ الفلسفة، تاريخ العلوم، تاريخ الأدب، تاريخ الاقتصاد؟) وغير ذلك من صور تجعل الماضي حيا في الحاضر، ليقل من شاء: هذه " رومنطقية "، ولكنها رومنطقية إنسانية، ليست وقفا على الأمة العربية، تنبع

من رغبة الإنسان المستقرة في أعماقه في أن يعيش زمنين (مرة أخرى مشكلة الزمن) إذا استطاع، بدلا من زمن واحد، بل أن المرء ليحس أحيانا، وهو يقارن؟ من هذه الناحية - حضور الماضي في الحاضر، أن الأمة العربية من أقل الأمم احتفالا بحضور هذا الماضي، لأنها تشمله - في الغالب - بإهمال وقلة مبالاة. ومن الواضح كذلك؟ وهذا أيضا من بديهيات الحركة التاريخية - إن الإنسان المعاصر، في ظل النوازع القومية المتعددة، قد أنتقل من واقع التاريخ إلى تبني " الأسطورة التاريخية " واستخدامها حافزا في تقوية " التكاتف الاجتماعي " في الأمة الواحدة، وأن ذلك كان يمتد من مبدأ الإيمان بإرادة القوة، إلى الخروج من حال الضعف والتفكك والتخلف، إلى التغطية على معالم التخلف والتفكك والضعف (واستعارة صبغة خارجية خارجية رقيقة ملساء) لاستشعار قوة وهمية، وأن الثورة على التراث إنما تمثل نفورا من هذه الأسطورة التاريخية، أو ثورة على استغلال المشاعر القومية عن طريق هذا التزوير الصارخ وهذا حق لها لا ينكر، ولكن الثورة؟ في اندفاعها - قد تقع في أخطاء مماثلة، فهي بدلا من أن تقتصر على شجب الأسطورة التاريخية تشمل بندها المندفع التاريخ نفسه، وهي في هذا الاندفاع أيضا تخلق لنفسها أسطورة تاريخية مكافئة. فهي قد تلجأ؟ وأمثلتي هنا مستمدة من التاريخ الإسلامي العربي - إلى عد كل حركة معارضة للنظام القائم ثورة إصلاحية، وبذلك تستوي في ميزانها الجديد: ثورة الزنج وثورة الحزمية؟ مثلا -، فبينما كانت الأولى انتفاضة ضد العبودية والسخرة، كانت الثانية حركة عنصرية دينية؟ في آن -، ومنذ بندلى الجوزي استغل هذا المفهوم الفضفاض لتفسير حركة التاريخ، وبذلك توفر لدينا أسطورة تاريخية جديدة، وحين لم يميز الشاعر الحديث بين الأسطورتين حكم على التاريخ بأسطورتيه الاثنتين، فأختار

إحداهما لأنها أقرب إلى واقعة الاجتماعي (1) ، أو أنكرهما معا في بعض الأحايين، ولجأ إلى الأسطورة المطلقة اللاتاريخية (أورفيوس، أدونيس، أوزوريس، فينيق، عشتار؟ الخ) . ومن الواضح أيضا؟ وهذا من البدهيات الممهورة بالسذاجة - أن الماضي حضورا حتميا لا تستطيع أية ثورة أن تنفيه؟ لأنه أرسخ من " الأهرام " وأكثر سموقا واستعصاء على الهدم - وأبرز شاهد على ذلك هو اللغة وغير خاف " أن الشاعر الحديث لا يريد أن ينكر اللغة، وإلا لم يكن شاعرا عربيا؟ بكل ما يحمله هذا الوصف من مميزات لغوية - ولكنه إنما يعني التحول بها، إلى مستوى يحقق ذاتيته، ويطبع على تاريخ اللغة ختمه، ويفرده بدور يبدو فيه وجوده شاهقا في تيار الزمن (مرة أخرى مشكلة الزمن) ، وأنا؟ مع احترامي للمحافظين - لا أجد في هذا أية تنكر للتراث؟ كما تمثله اللغة - إذ اللغة في مستواها الأولي أداة للتفاهم؟ هذا حق - ولكنها في مستواها الآخر، أو في مستوياتها الأخرى، محض رموز، ابتداء من المستوى الجبري وانتهاء بالمستوى الشعري، ومن حق الشاعر أن يختار الشكل التعبيري الذي يظنه صالحا، مفهوما كان أو غير مفهوم؟ لأن عملية الفهم لا تدخل في نطاق المستوى المختار، وإنما تدخل في نطاق الطبقة التي

_ (1) لا ريب في أن عددا من الشعراء المحدثين ينتمي إلى الأقليات العرقية والدينية والمذهبية في العالم العربي، وهذه الأقليات تتميز - عادة - بالقلق والدينامية ومحاولة تخطي الحواجز المعوقة والالتقاء على أصعدة أيديولوجية جديدة، وفي هذه المحاولة يصبح التاريخ عبئا والتخلص منه ضروريا، أو يتم اختيار " الأسطورة الثانية " لأنها تعين على الانتصاف من ذلك التاريخ بإبراز دور تاريخي مناهض.

تتلقى ما يقال، وهي قادرة على أن تقبل أو ترفض، إذ بمثل ما حق للشاعر مطلق الحرية في التعبير، فإنه لا بد من أن يحق للطبقة المتلقية حق الرفض أو القبول. ولكن يبقى شيء يدركه الشاعر؟ دون ريب - ولا أظن أحدا ينكره، وهو أن الشاعر لا يخلق اللغة - مهما يحاول التحول بها، وإفراغها من دلالاتها الثابتة، وأن هذه اللغة على اتساع نطاقها وتوسيع الشاعر لهذا النطاق تظل " صدارة ضيقة "، تخضع الشاعر دون أن يدري في حيز التركيب المألوف، والمسافات اللفظية المحددة، ولا بأس من أن أورد؟ في هذا الصدد؟ رأي الناقد الفرنسي دونالد بارتDonald Barthes وهو من أكثر النقاد تعاطفا مع الشعر الحديث، يتحدث بارت - بما يذكر برأي لادونيس في بعض مقالاته: - " أن الفرق بين الشعر الكلاسيكي والحديث: أن الشعر الكلاسيكي يبدأ بالفكرة الجاهزة ثم يحاول أن يعبر عنها أو بترجمتها، وأن الشعر الحديث؟ على النقيض من ذلك، إنما تكون العلاقات فيه امتدادا للفظة، حتى لكأن اللفظة " عمل " ليس له ماض مباشر، ويقول أيضا: " أن اللغة ليست أبدا بريئة، فالكلمات ذات ذاكرة ثانية تظل تلح على مثولها من خلال المعاني الجديدة، والكتابة بدقة هي هذه المصالحة بين الحرية والتذكر، أنها الحرية التي تتذكر، وليست حرة إلا في لحظة الاختيار؟ " (1) . ولو أننا قرأنا شعر أشد الثائرين على " لغة القبيلة " أعني أدونيس، لوجدنا أن ذلك الشعر يسقط أحيانا في ذلك

_ (1) Writing Degree Zero، (New York 1967) ، p. 16.

الحيز نفسه، فيتحدث في استرسال ووضوح ومنطقية عقلانية في مثل قوله: يا أيها الممثل يا صوفينا الكبير ها نحن ذاهبون ويعلم الله متى نجيئ نعرف أن الليل سوف يبقى نعرف أن الشمس سوف تبقى لكننا نجهل ما يكون من أمر قاسيون؟. بل هو يكاد يسمح لبعض الصور التراثية بأن تتسلل إلى داخله حين يقول: " يا يد الموت أطيلي حبل دربي " وحين يتحدث عن قاسيون: " وقاسيون حارس كالدهر لا ينام " يذكر بصورة الجبل عند ابن خفاجة الأندلسي، وحين يقول " الزمن استيقظ والنهار يصرخ بالأغصان والجذور " فمن السهل أن ترد الصورتان إلى علاقتهما القديمة، أعني يقظة الزمن وصراخ النهار (ليل يصبح بجانبيه نهار) ، بل أن بعض صوره الجديدة يتصل بطبيعة الألغاز والأحاجي القديمة: " ثدي النملة يفرز حليبه ويغسل الإسكندر "، بل أنه أحيانا يستعير؟ كما يفعل أي شاعر - لغة غيره، فيردد عبارة سان جون بيرس ومن قبله بودلير، حين يقول " الليل يتخثر " (1) وليس قوله: وفوق جثث العصافير تدب طفولة النهار (2) إلا ترجمة تكاد تكون حرفية لقول سان جون بيرس أيضا: " على هياكل العصافير القزمة ترحل طفولة النهار " (3) ، ومن الممكن إضافة تعبيرات أخرى،

_ (1) تعبير سان جون بيرس: " والآن يتخثر النهار كاللبن " (أعماله الشعرية: 159) . (2) أغاني مهيار: 241. (3) أعمال سان جون بيرس: 157.

وكل ما أعنيه هنا: أن أشد الشعراء أصالة وتفردا، يحور إلى موروث، ويقع في ما يسميه بارت " التذكر "، وأن الانفراد المطلق أمر يعز على أي إنسان، إلا إذا شاء إلا يقيم أية علاقات بين الألفاظ. ولكن أدونيس يخلق شيئا جديدا دون ريب، في الجزئيات والكليات من شعره، حين يحدث علاقات ودلالات وصورا تحمل وسمة وذاتيته، غير أن هذه هي مهمة الشاعر الحق منذ هوميرس وليس فيها من الجدة إلا ذلك المقدار من إعادة التفسير لطبيعة العلاقة بين الشعر والتراث؟ إذ من الواضح كذلك أن الشعر كان من أبطأ النشاطات الإنسانية وقوفا ضد التراث، أو تنكرا له، بل كان تراثيا إلى حد بعيد، لا في الأدب العربي وحده بل في آداب الأمم الأخرى - فثورة الشعر على اللغة - من حيث هي مؤسسة تراثية - ليست في الحقيقة ثورة على التقليد، إذ التقليد في كل عصر يدين نفسه بنفسه، ولا يستحق ثورة إلا عندما يصبح قاعدة، في أشد عصور الشعر جفافا ومحلا، وإنما هي ثورة على العدة، كما يقول سان جون بيرس؟ ثورة على الجانب غير الحتمي من اللغة، أعني أنها دعوة لخلق عالم شعري مواز لهذا العالم، من خلال إنشاء علاقات تعبيرية وتصويرية جديدة، وهي على ما فيها من طموح بالغ، مرهونة بالنجاح أو بالإخفاق، وبينما تجد لها أنصارا كثيرين، تجد أيضا من ينكرونها، يقول أحد النقاد المحدثين: " يغدو الأدب أكثر حياة وتتدفق الدماء في عروقه كلما أقترب من الكلام، وحين تضيع التقاليد التراثية من الشعر يصبح متقطعا غير استمراري، كأنه معجم ينثر الأسماء دون علاقات، أو انفجارا من كلمات غير متوقعة تتطاير هنا وهناك، ويقف بشراسة ضد المهمة الاجتماعية للغة، بعبارة أخرى: أن الشاعر الحديث الذي يؤمن بالثورة

على التراث، لا يريد أن يقف عند حدود التطور الطبيعي للغة، بل يريد أن يطورها؟ عامدا - من خلال منظوره الخاص، رافضا كل قيمة تفرض عليه من الخارج، ومن ثم ارتبط الشعر بقانون التطور والتحول، حتى غدا الشاعر في مسابقة مع الزمن، ومسابقة مع شعره نفسه وأصبح التطور لا يعني انتقال سمات مذهب شعري؟ في حقبة ما - إلى سمات مذهب آخر - في حقبة أخرى، بل أصبح حركة متسارعة بعدد الأفراد الذين يقولون الشعر، وبذلك قضي على فكرة " الخلود " الكلاسيكية، وأصبح التميز؟ في الدائرة الشعرية - مرحليا. وصحب هذا كله إيمان بإن كل قيمة ثابتة - أيا كان منبتها ومهما تكن مدة ثباتها - فهي تشير إلى الركود أو التخلف والجمود، سواء أكانت تلك القيم تتصل بالدين أو بنمط حياة أو طريقة تفكير، وكان هذا الوجه من النظر يصيب أكثر ما يصيب مؤسسة قائمة على ثوابت ضرورية مثل الدين؟ وخاصة الدين الإسلامي في صورته السنية - من حيث أنه صورة كبيرة من صور التراث، والحق أن الإنسان الحديث حين يعتقد أنه يعيش في كون قد غابت عنه الألوهية، فانه لا بد أن يعيد النظرة في كثير من القيم التي كانت تتصل بالنواحي الغيبية، ولكن السلام ليس قاصرا على هذا الجنب، وإنما هو أيضا نظام حياة وأسلوب تنظيم، ربما أن التنظيم يعني ثبات قيم معينة، فأن الثورة على التراث كأنث تتناول هذا الجانب منه أيضا. وسن الواضح أن العالم الذي قد يتخلى عن الدين لا يطرح بدائل، وأن المفكر الذي يطرح بديلا لما يريد تقويضه نوعان: نوع ثائر من خلال هذا الدين، والبديل الفكري الذي يطرحه يفترض مستوى مواحد من الثقافة ليكون قابلا للفهم والاستيعاب، ونوع ثائر على هذا الدين من إطار دين أخر، وغايته مدخولة لان ثورته تبدو استمرارا للحركة التبشيرية

أما الشاعر الذي يعتمد على الحدس، فلا يستطيع أن يطرح بديلا سوى الشعر، وما دام هذا البديل الحدسي غير مرتبط بالتجربة العلمية، فإنه لا يصلح أن يكون كذلك، فمجرد الدعوة إلى الهدم المنطلق - دون تحديد وتعديل - أو الرفض المطلق - دون مبنى فكري متكامل - بعد حركة نهلستية تنشب المجتمع في الفوضى. بعد هذه المقدمات يمكن أن نسأل: كيف موقف الشعر العربي المعاصر من التراث؟ على أرض الواقع -؟ تقتضي الإجابة على هذا السؤال أن نميز بين نوعين من المواقف: الموقف الفكري والموقف الشعري (أي المعبر عنه شعرا) وبين نوعين من التراث، التراث الشعري بخاصة والتراث الحضاري بعامة. أما في الموقف الفكري فقد شارك بعض الشعراء سائر المفكرين الذين تناولوا هذه القضية في تحديد موقفهم منها (1) ، فذهب صلاح عبد الصبور إلى أن من العسير على الشاعر أن يتجرد كليا من التراث، وهو يرى أن الشاعر العظيم هو الذي يستطيع أن يتجاوز التراث مضيفا إليه شيئا جديدا. وتحدث أدونيس في مواضع كثيرة من كتابه " زمن

_ (1) لم أتعرض هنا للمفكرين الذين تحدثوا عن قضية التراث مثل زكي نجيب محمود وغالي شكري والنهيري ومحمد عوده وصادق جلال العظم (في الجانب الديني منه) ولا عن مفهوم التراث عند كل منهم وعند المناوئين لهم، فذلك يقع خارج حدود البحث في الشعر نفسه، وإن كان من الضروري أن يدرس الشعر متصلا بالتيارات الفكرية التي غذته أو قاومته، كذلك لا بد أن يتنبه الدارس إلى الحركة الوسطية التي ظهرت متصلة بالتراث واعني بها حركة الأصالة والتجدد أو الأصالة والتفتح (يعني المحافظة على الأصول مع التفتح على الحضارة الحديثة) فإن استكمال التصور لأبعاد هذه القضية لا يمكن أن يتسم دون ذلك.

الشعر " عن التراث، وخلاصة رأيه: يجب أن نميز في التراث بين مستويين: الغور والسطح. السطح هنا يمثل الأفكار والمواقف والأشكال، أما الغور فيمثل التفجر، التطلع، التغير، الثورة، لذلك ليست مسألة الغور أن نتجاوزه، بل أن ننصهر فيه؟. الشاعر الجديد؟ إذن - منغرس في تراثه، أي في الغور، لكنه في الوقت ذاته منفصل عنه. إنه متأصل لكنه ممدود في جميع الآفاق " (1) وكما فعل أبو تمام في القديم حين أتهم بأنه خرج عن عمود الشعر (أي عن التراث الشعري) فجمع ديوان الحماسة ليثبت ما يعجبه في الشعر القديم، كذلك فعل كل من صلاح عبد الصبور وأدونيس، حين أعتمد كل منهما ذوقه الذاتي في صنع مختارات - صالحة للبقاء - من الشعر العربي القديم أيضا. وأما في الموقف الشعري (أي في التعبير عن الموقف من التراث شعرا) فإن الشعراء يتفاوتون بشدة، فهناك من يؤمنون بالتراث ويعتزون به مثل توفيق زياد الذي أن كسر الردى ظهره سنده " بصوانة من صخر حطين "، وهناك الذين يتوقعون إلى التغيير الحضاري، ولكنهم لا يدينون الماضي، وإنما يدينون " تعهر " الماضي بين يدي السادة في الحاضر، ومن هؤلاء الشعراء محمود درويش في قوله: نعرف القصة من أولها وصلاح الدين في سوق الشعارات وخالد بيع في النادي المسائي بخلخال امرأة. فمحمود يميل إلى محاكمة الحاضر، وفضح أساليبه، وهو

_ (1) زمن الشعر: 250 - 251.

في هذا يختلف عن سميح القاسم الذي تتعرض علاقته بالماضي إلى الاهتزازات المتتالية. فبينما تجده حينا يهتز بالتراث وبالماضي دم أسلافي القدامى لم يزل يقطر مني وصهيل الخيل ما زال وتقريع السيوف ويستمد القوة من كل أنواع التراث: ما دامت مخطوطة أشعار وحكايات عنترة العبسي وحروب الدعوة في أرض الرومان وفي أرض الفرس؟. أعلنها حربا شعواء باسم الأحرار الشرفاء وبينما هو ينعى التخلف الحاضر في مقابل " خضرة الماضي الرحيمة " ويقبل " كل نصب المجد بين مقابر الأجداد " ويعدد أمجاد الماضي بزهو واعتداد: عمرت في شيراز قصرا وابتنيت بأصبهان ردهات معرفة وعدت إلى الحجاز بطيلسان وعلى دمشق رفعت رايات النهار مع الاذان وجعلت حاضرة الكنانة في تاج مولانا المعز، جعلتها أغلى جمانه ؟؟ وبنيت جامعة ومكتبة ونسقت الحدائق وهتفت يا أحفاد طارق كونوا المنائر وأغسلوا أجفان أوربا البهيمه

أقول: بينما هو كذلك إذا به يحس أنه قد خدع بالأسطورة التاريخية التي زورها، ويعلن عن سأم الأطفال من تكرار سماع هذه الأسطورة: أطفالنا ملوا البطولات المكررة القديمة سئموا سروجا كالحات صار فارسها الغبار عافوا سيوفا لاكها الزنجار والذكرى السقيمه أن وقفة الوداع بين سميح والماضي، بينه وبين الأب الذي صنع ذلك المضاضي، مشحونة بالأسى، ولا تبدو؟ لسدة الترفق والحنو - حاسمة، وان قبلت نصب الرمس إذا أغلقت أبوابي بوجه الأمس ؟؟ وإن قبلت نصب الرمس لآخر مرة في العمر؟. نصب الرمس ومن ثم يجعل وجهته نحو الغد، نحو العلم وراية الحرية، لأن أنقاض التاريخ لا يستطيع أن تسد مسدها، وهكذا تم الانفصال، لقد طالت بسميح رؤية الحاضر على ضوء الماضي، ومحاولة المقارنة واستخراج العبرة الملائمة، وكانت تنتابه ثورة جارفة أحيانا على ذلك الماضي؟ وخاصة في الأزمات - فيصرخ: يا أبي المهزوم يا أمي الذليله أنني اقذف للشيطان ما أورثتماني من تعاليم القبيلة، ولكنه ظل يؤمن بأنه إلى " تاريخ عظيم " علقت بنعله بعض الوحول، ولهذا كانت معاناته شديدة حين قرر الانفصال، وأعلن؟ في النهاية - عن " مقتل التاريخ "

إلا أنه؟ فيما يبدو - لا يزال يحس بأن الصلة لا يمكن أن تنقطع، لأن التوجه إلى الغد لا يعني رفض الماضي. وأما أدونيس فإنه يطيل الوقوف عند الجوانب السلبية في تاريخنا، حتى لتبدو لهجته رفضا كليا لا علاقة كبيرة بينه وبين ذلك الصوت الذي يتجه نحو الاعتدال، والذي اقتبسته فيما تقدم، ومن أمثلة ذلك قوله في قصيدته المنثورة " مرثية الأيام الحاضرة ": في أية جداول بحرية نغسل تاريخنا المضمخ بمسك العوانس والأرامل العائدات من الحج الملوث بعرق الدراويش، حيث تنخطف السراويل ويحبل الصوف بالعجزة، وتحظى بربيعها جرادة الروح " ولا ريب في أن نظرة أدونيس إلى الماضي متصلة بمبدأي الرفض والتحول المتلازمين، وفي إطار نظرته الكلية إلى الزمن يمكن أن تفهم حقيقة موقفه من التراث، ولعلني أعود إلى الحديث عن موقفه من التاريخ؟ عامة - فيما يلي. وعند الحديث عن علاقة الشاعر المعاصر بالتراث الشعري نرى تفاوتا واضحا كذلك حقا أن اللجوء إلى الشكل الشعري الجديد كان يمثل محاولة للتحرر من الشكل القديم، وقد استطاع هذا الشكل أن يمنح الشاعر حرية في الحركة والاختيار، والتخفيف من رتابة الوزن والقافية، وخلق صور ورموز، والتغلغل إلى ضروب الصراع في الحضارة الحديثة، ولكن ما يزال بعض الشعراء الذين اختاروا هذا الشكل يميلون إلى استعمال الشكل القديم، وما تزال للقافية سيطرة هامة، بل أن الشاعر أحيانا يركب من أجلها نهايات قلقة في سطور قصيدته، كما أن الرتابة عادت تستولي على جانب كبير من هذا الشعر لقلة الأبحر الشعرية التي تصلح للتنويع في التفعيلات. وبينما يحاول

بعض الشعراء إيجاد لغة شعرية جديدة؟ كل بمفرده - نجد أن بعضا آخر منهم ما يزال يستعين بالصور المعروفة المألوفة، والموضوعات المألوفة. فالهجائية القديمة؟ مثلا - ما تزال كذلك في حدتها وعنفها وتعميمها وإن أصبحت تدور حول السياسي المنحرف والشاعر المتملق، كل هذا يحدث اختيارا، عدا ذلك الجانب اللغوي الحتمي الذي أشرت إليه فيما سبق، ولهذا يمكن القول؟ على وجه اليقين لا إرضاء لمحبي التراث - أن هذا الشعر لم يستطع أن يتجاوز التراث الشعري القديم إلا قليلا. ولعل هذا أن يكون وضعا طبيعيا، فإن تصور الشاعر لجمهوره؟ مسبقا - هو الذي يحدد مدى تراثيته أو مدى تجتوزه للتراث، وبين هؤلاء الشعراء من يؤمن أن الشعر فعالية إنسانية لا بد من أن تؤدي دورها في إيقاظ المجتمع، وفي هذا الصدد تصبح مخاطبة المجتمع؟ أو الجمهور - وصلا لهذا الشعر بالتراث حتى يستطيع ذلك المجتمع؟ او الجمهور - التراثي في نزعته قادرا على تذوقه والتأثر به. وأما موقف الشاعر الحديث من التراث الحضاري بعامة، فإن الحديث عنه يستلزم أن نوسع من مدلول التراث ومجاله، إذ هو لم يعد تراثا عربيا إسلاميا، وحسب، وإنما غدا تراثا إنسانيا؟ من بعض الجوانب - والشاعر الحديث يتعامل مع هذا التراث من زوايا مختلفة، نستطيع أن نعد منها أربعا (1) ، على أن نتذكر أنها ليست متساوية في

_ (1) يمكن للدارس أن يزيد زوايا أخرى من التعامل مع التراث، مثل إدخال الأقوال الحكمية والأمثال في الشعر، وهو منهج واضح بقوة في شعر البياتي، هذا إلى زوايا أخرى مثل أن يتجه الشاعر إلى حقل ما - كالفلسفة أو غيرها - ويعتمد عليه كثيرا في تصور الماضي - ومن ثم الحاضر.

الأهمية، وأن الشاعر قد يستعملها جميعا، وقد يقتصر على بعضها، وهذه الزوايا هي: (1) التراث الشعبي (2) الأقنعة (3) المرايا (4) التراث الأسطوري (1) التراث الشعبي: يمكن أن يضم هذا التراث الناحية الأسطورية، وأن يؤدي دور الرمز، ولكني أفرده بالنظر، اعتمادا على الطريقة التي تم بها؟ في الواقع - استخدامه في الشعر الحديث. وللتراث الشعبي ميزة هامة، لأنه تراث قريب حي، وحين يلجأ إليه الشاعر لا يحس أنه مثقل بما في الماضي الطويل من خلافات ومشكلات، وقد وضح هذا بقوة في الأعمال المسرحية، فلو فرضنا أن مسرحيا كتب روايته الشعرية عن زهران (أو الفتى مهران) أو عن جميلة بوحيرد أو عن طانيوس شاهين، أو عن أمثال هؤلاء (مثل عبد الكريم الخطابي أو عمر المختار أو عز الدين القسام) لكان بذلك يختار " بطلا " ممثلا لظرف تاريخي لا يدور حوله خلاف كبير، بينما إذا أختار الحلاج أو الحجاج أو محمودا الغزنوي أو الغزالي فإنه لا بد أن يبذل جهدا مضاعفا، لتخطي الحقائق التاريخية الراسخة في النفوس؟ على اختلاف في هذه الحقائق - لدى مشاهدي مسرحيته. وتكمن الجاذبية في التراث الشعبي في أنه يمثل جسرا ممتدا بي الشاعر والناس من حوله، فهو بذلك يؤدي دور المسرحية؟ إلى حد ما - في إيقاظ الشعور القومي وإبقائه حيا، ولهذا لا غرابة أن نجد الإقبال على هذا اللون التراثي

كبيرا عند بعض شعراء الأرض المحتلة، وخاصة عند توفيق زياد وسميح القاسم، حيث يتسع صدر الشعر للفظة الدارجة، والمثل الشعبي، والعادات الشعبية، والأغاني، فهناك إحساس بأن الاتكاء على هذا التراث، لا يكفل التجاوب الأوسع مع ذلك الشعر وحسب، بل يقدم أيضا شهادة على الاعتزاز بالموروث المشترك، ويكشف عن خوف دخيل من ضياع رابطة تعد مقدسة، حين تتعرض أقلية ما للانصهار في إبقائه واستدامة تأثيره: حينا بجعله ركيزة هامة في الشعر، وحينا بجمعه وتفسيره، وحينا ثالثا بترجمته إلى اللغة الفصحى. وتمثل الأغنية الشعبية منعطفا هاما في قصيدة سميح، بل هي أحيانا تحتل دور الخرجة في الموشح، أعني أنها تعتمد أولا، ثم تبنى القصيدة على وفقها، وأوضح مثل على ذلك قصيدته: " مغني الربابة على سطح من الطين " فإن الأغنية هي المحور، وما يجيء قبلها أو بعدها إنما هو أشبه بالفاتحة وبالتعليق على المتن: على سطر من طين تئن ربابة المأساة في كفين من حجر فتسقط أدمع القمر ويصعد صوت محزون ينادي الاخوة الغياب في دنيا بلا خبر يناديهم مع اللحن الفلسطيني طلع العشب عسطوحكو ويبس العشب يللي عحد الأرض مرميين يا ريت تيجو تطلطلوا عالتين وتجبروا المشحره أقلام العنب

يا ريت تيجو ترشقو البيوت وتصلحوا البواب والسده وتنشلوا حفنة مي للوردة (1) ؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ؟؟؟؟؟؟؟؟.. غناؤك يا غريب الأهل طال وطالت الأيام وأورقت الربابة في يديك وشاخت الأنغام فهل ستظل طول العمر محروما تناديني مع اللحن الفلسطيني؟ وهل ستظل طول العمر تشحذ (عودة) هرمت على سطح من الطين؟!! ولا يخفى أن استخدام التراث الشعبي، يصبغ الشعر بلون محلي إقليمي خالص، يصعب أن يتخطى حدود الإقليم الواحد، وهو يرسم بذلك مستوى آخر؟ أعمق دلالة على الإقليمية - من الطابع الإقليمي العفوي الذي يميز الشعر المصري عن العراقي عن اللبناني عن التونسي..الخ، فهذا الطابع يكاد يكون أمرا لا مفر منه، وأنا لا أرى في الطابعين ما يستنكر، أو يستهجن، أعني الطابع المعتمد والعفوي، إذ أن هذا مدخل ضروري لربط حبل التواصل والتفاهم بين ألوان التراث الشعبي في الأقطار العربية، في الوقت الذي يعبر فيه هذا التراث عن المعالم التي تميز شخصية كل قطر على حدة.

_ (1) طلع العشب على سطوحكم ويبس العشب يا من هم مرميون على حد الأرض. ليتكم تجيئون للأطلال على التين، وتجبرون عساليج العنب (ذات البخت السيئ) ياليتكم تجيئون لتبييض البيوت، وتصلحون الأبواب والسده وتنشلون (من البئر) حفنة ماء للوردة.

ولعل الشعر السوداني؟ في هذا المجال - أكثر من سائر الشعر الحديث، اتصالا بهذا التراث، ومن ثم، تفردا في اللون الإقليمي، وخاصة في شعر محمد مهدي المجذوب (في ديوانه الشرافة (1) والهجرة) وفي شعر صلاح أحمد إبراهيم، وإذا كان هذا الشعر يبدو غريبا حين يتجاوز حدود إقليمه، فليس هذا هو ذنب الشعر، وإنما هو جريرة الكسل العقلي، عند من يريدون أن يتناولوا الأمور من أسهل الطرق. تأمل قصيدة صلاح " فكر معي ملوال " (2) رمز لابن السودان الجنوبي، حيث يحاول صلاح أن يقلع من نفس هذا الجنوبي الخوف من أخيه ابن السودان الشمالي، إنها من أصدق الشعر الحديث وأبلغه، وأشده التحاما بالواقع، وأكثره استفادة من الإيقاع الممتد في النفس الشعري، ومع ذلك فإن الحجاب بينها وبين القارئ أنها حافلة بالتراث الإقليمي السوداني، وهو تراث؟ في هذا المقام - ضروري، لأنه يجب أن يمثل الرابطة بين الأخوين في الشمال والجنوب، واكتفي بإيراد فاتحتها: ملوال ها أنا الحس سنة القلم العق ذرة التراب أضرب فخذي بيدي، أقسم بالقبور، بالكتاب لأن هذه الفاتحة التي تتحدث عن " لحس سنة القلم " ولعق التراب، وضرب الفخذ، والحلف بالقبور وبالقرآن، إنما تمثل تراثا شعبيا سودانيا، يتعلق بألوان القسم، فهذا

_ (1) الشرافة: الزخارف الملونة التي يضعها الأطفال بمدارس القرآن على أطراف الواحهم عند ختم جزء من القرآن. (2) غضبة الهبباي: 43 - 48.

اللون من التراث الشعبي يكاد أكثره أن يكون غير مفهوم إذا قرأه غير السوداني، ولكنه في مطلع القصيدة تكأة لاستدرار الثقة فيما سيجيء بعد، من الزاويتين الإجتماعية والشعرية، ومع ذلك فإن القصيدة بكاملها، لن تكون مفهومة إذا لم يفهم التراث السوداني، على نحو دقيق، وليس من حق القارئ أو الدارس أن يشيح بنظره عنها بدعوى جهله لذلك التراث. (2) الأقنعة: يمثل القناع شخصية تاريخية؟ في الغالب - (يختبئ الشاعر وراءها) ليعبر عن موقف يريده، أو ليحاكم نقائض العصر الحديث من خلالها، ويشترك الشعر مع المسرحية الشعرية (الحلاج وليلى والمجنون لصلاح عبد الصبور مثلا) في استخدام هذه الوسيلة، كما تشترك في ذلك القصة القصيرة (قصص زكريا ثامر: الجريمة، المتهم؟ والخ) ، ولعل البياتي أكثر الشعراء لجوءا إلى هذه الوسيلة عن وعي عامد، ولهذا نجده يقول في كيفية استخدامه للقناع: " حاولت أن أقدم البطل النموذجي في عصرنا هذا وفي كل العصور (في موقفه النهائي) وأن أستبطن مشاعر هذه الشخصيات النموذجية في أعمق حالات وجودها، وأن أعبر عن النهائي واللانهائي، وعن المحنة الإجتماعية والتخطي لما هو كائن إلى ما سيكون " (1) . والقناع عند البياتي يشمل الأشخاص (الحلاج. المعري. الخيام. طرفة. أبو فراس. هملت. ناظم حكمت) ويشمل المدن (بابل. دمشق. نيسابور. مدريد. غرناطة؟) وقد كثر استعمال القناع في الشعر

_ (1) ديوان البياتي 2: 309.

الحديث فمن أقنعة أدونيس: مهيار الدمشقي (شخصية متخيلة) وصقر قريش، ومن أقنعة محمد عفيفي مطر: عمر بن الخطاب، وهكذا نجد الشعراء المعاصرين يتفننون في اتخاذ القناع، للتعبير عن ذواتهم. فعمر بن الخطاب يعبر عن الموقف من الجوع والأثم، وصقر قريش يعبر عن التحول التاريخي، ومهيار يعبر عن التحول متخطيا التاريخ، والخيام يعبر عن الحيرة المستبدة تجاه اوجود، وهكذا. ويمثل القناع خلق أسطورة تاريخية؟ لا تاريخا حقيقيا - فهو من هذه الناحية تعبير عن التضايق من التاريخ الحقيقي، بخلق بديل له (الأسطورة) ، أو هو محاولة لخلق موقف درامي، بعيدا عن التحدث بضمير المتكلم، ولكن رقة الحاجز بين الأصل والقناع، تضع هذه الدرامية في أبسط حالاتها، كما أن حضور الأصل باستمرار، من وراء الستار؟ يقلل في الأقنعة - على اختلاف أسمائها - فالحلاج عند البياتي في النهاية، حين يقول: ستكبر الغابة يا معانقي وعاشقي ستكبر الأشجار سنلتقي بعد غد في هيكل الأنوار فالزيت في المصباح لن يجف، والموعد لن يفوت والجرح لن يبرأ والبذرة لن تموت، لا يفترق كثيرا عن الخيام الذي يرى أن الإنسان قد ولد من جديد، كالشجرة الطالعة من الرماد والثلج، والصيحة يرسلها وليد، وإنما الفرق في الدورات التي يمر فيها كل قناع من هذه الأقنعة، بل أن هذه الدورات نفسها، قد تثير لدى القارئ سؤالا تصعب الإجابة عليه: لماذا كانت

هذه الدورات على هذا النحو، وبهذا العدد؟ وهذا يعني دراسة كل قناع؟ على حدة - واستخراج الإجابة على مثل هذا السؤال، من كل قصيدة. ولو أننا اتخذنا أبا العلاء المعري نموذجا لهذه الأقنعة؟ وليس من الضروري أن يكون خير نموذج - لوجدنا أن القصيدة " محنة أبي العلاء " تصدر بهذه الحكمة لغاليليو " ولكن الأرض تدور "؟ وهي ترمز إلى أن الأرض في دورانها، تمر أحيانا بما مرت به من قبل، وأن المعري والبياتي يشهدان تجربة مماثلة، وهي حقيقة، ولكن الشاعر؟ في نهاية المطاف - مستعد أن يتخلى عنها، مؤقتا، ليعود ويقررها مرة أخرى، لأنه بتمسكه بها يعلن انتصاره النهائي. وتتألف القصيدة من عشر دورات: في الدورة الأولى كل شيء مغلق مطموس، يبيح للمرء الأعمى أن يتساءل " لمن تضيء هذه الكواكب؟ " إذ العمى ليس هو ذهاب البصر وحسب، بل هو الضرب في هذا التيه المسمى الكون، فهذا بلا أمس وذا بلا وجه وثالث بلا مدينة ورابع بلا قناع وخامس بلا شراع، وفارس النحاس في ساحة المدينة تضربه الرياح (وهو نحاس لأنه لا يحس أوجاع الآخرين) واليه يرمز الشاعر بلفظة الأب، لأنه " القدر "، والمعري، ناقم على هذا الفارس لأنه حرمه الضياء، ولكنه رغم نقمته سيطل عليه في غد مقبلا يديه، من خلال ثلاث كوى: " لزوم بيتي وعماي واشتعال الروح في الجسد "، ومن الواضح أن هذه الثورة مشوبة بالتردد بين النكران والولاء، ولكنها ليست موجهة إلى الأرض، إذ أن دور الأرض سيجيء في الدورات التالية. وفي الدورة الثانية صراع بين الشاعر ورب من أرباب الأرض؟ هو الأمير - فالشاعر في البلاط متخم مصاب

بالحمى والضجر قد تحجر في نفسه الفن، لأنه يكره الملق، ولكنه كان إذا خلا إلى نفسه، يحاول أن يمد يده التي تحجرت وأن يعزف على قيثارته. وفي الثالثة يقص الشاعر على الأمير قصة حلم رآه: " رأيت في الأحلام/ تاجك منه يصنع الحداد/ نعل حصاني ويحز رأسك الجلاد؟.. " ويسكت القيثارة وينطفئ القنديل ويسدل الستار. ويحكي الشاعر في ديوانه " سقط الزند "؟ في الدورة الرابعة - قصة ذلك الأمير الذي كان يضم مجلسه كل الصعاليك الأدعياء الداعرين المتشاعرين، فإذا أخذوا في الإنشاد، نام " مفلطحا متخما "، وكانت له نزوات عاتية، فإذا شبهه أحدهم بالقمر غضب بشدة وصفع الشاعر لأن القمر يغيب بينما الأمير دائم الحضور، وتحس في هذا المقطع أن البياتي قد نسي أنه جعل المعري قناعه، فأخذ يتحدث من خلال ذلك القناع، كالمثل الذي ينسى دوره في المسرحية، ويأخذ في مخاطبة الجمهور: كان زمانا داعرا يا سيدي، كان بلا ضفاف الشعراء غرقوا فيه وما كانوا سوى خراف وكنت في مأدبة اللئام شاهد عصر ساده الظلام وفي هذا الموقف انتقض القناع، ولم يعد يؤدي المهمة التي وضع من أجلها. ويستعيد البياتي في الدورة الخامسة ذكرى غربة المعري في بغداد وحنينه إلى المعرة، وحسرته على ما أصاب الأهل والأحباب من تفرق (وهو في الواقع إنما يعكس حنينه

إلى بغداد نفسها) ، وينقله في الدورة السادسة إلى المعرة، ويستعير في هذا الدورة مصطلحات المعري حيث الليل فيها " عروس من الزنج عليها قلائد من جمان " ويستذكر تسميته الدنيا بأم دفر - ليصف بها المعرة - وكأن المعري هنا (أو البياتي) قد صدم من التغير الذي ألم بوطنه، حيث استيقظت الضفادع المقطوعة اللسان، وأخذت تزعجه بنقيقها، ولكنه مستبشر رغم هذا التغير لأن الفقراء صلبوا في السوق السلطان المخلوع وكفروا بالجوع، ولكنه رغم هذا الاستبشار يعتاده التشاؤم، فيقول: " آه غدا من عرق نازل ومهجة مولعة بإرتقاء " لأنه يتذكر الموت، إلا أنه يواجهه بصلابة، ويطلب إلى الحافز أن يعمق الحفرة، تاركا " البقاء " وراءه لحفار القبور؟ أن كان في مقدوره أن يبقى. ويطمئن المعري لعدالة الموت، لأنه يسوي بين الجميع، ولكنه يريد الحياة نفسها أن تكون عادلة، إذ لا عدالة حين يموت مصطفى على الرصيف في الظهيرة، ويموت الشاه فوق صدر الدمية، الأميرة، والناس يبكون على الأمير، بينما يقبع مصطفى في حفرته المهجورة، وعيونه فارغة وأنفه مكسور: الموت عدل، حسنا فليضرب الشاه على قفاه حتى يموت، ولتكن عادلة يا سيدي الحياه وفي الدورة التاسعة يعود المنظر إلى عد تفاهات الحياة البيروقراطية، الصحف الصفراء، الضفادع التي تسمي نفسها رجال، ناشرو الزيف في كل مكان، الانتهازيون الذين يبنون قلاعهم من عرق الجياع ودم الكادحين، ثم يتملقون للكادحين بالوعود ويفرشون لهم الأرض بالورود.

هؤلاء هم السادة المتصرفون يريدون أن يقال لهم أن الأرض لا تدور، وأن قانون التغير قد تعطل إلى الأبد، يريدون أن يسمعوا تزييف الحقائق، ستقول لهم ذلك لأنهم سادة ونحن طنافس يطأونها في قصورهم، ولكن هنالك وجه آخر: هنالك ما قاله الشاعر (المعري) للسلطان ذات يوم فهل تحبون أن تسمعوه؟ لا تريدون؟ إذن فلتسكتوا الشاعر ولتحطموا القيثار، ولكن أن: الأرض رغم حقدكم تدور والنور غطى نصفها المهجور ونحن نلحظ في هذا القناع أن هناك أشياء نألفها من المعري حقا، وأنه؟ مثل البياتي - كان شاهد عصر يحيط به الظلام، ولكن المعري والبياتي كليهما أجبر على تمثيل دور لم يمثلاه، وهو انتسابهما إلى بلاط أمير، ونقدهما للأمير ولبلاطه، ولمن يرتادون بلاطه، كما أننا لا نستطيع أن نفسر لماذا عاد المعري يفكر في الموت بعد أن تخلص الجياع من السلطان (رمز الاستبداد وخنق الحرية) : صحيح أن التفكير في الموت ملائم لطبيعة المعري وشعره، ولكن وروده بعد أن تحقق شيء من التفاؤل إنما يدل على انتكاسة سوداوية وإذا كان السلطان قد صلب في السوق، فلماذا يعود حيا ليقارن بمصطفى؟ عند فقدان العدالة في الحياة؟ - ومرة أخرى لماذا يضطر الشاعر إلى المجاملة ليقول أن الأرض لا تدور، ثم ليثور على هذه المجاملة معلنا أنها تدور؟ أقول: أن هناك جوا يليق بالمعري، كما أن هناك جوا آخر لا يليق به، وثمة تجاوزات فنية؟ حين يراد لهذه القصيدة أن تدرس في نطاق تكاملي - ولكن حضور البياتي أشد وضوحا من حضور المعري، ونقد الحاضر، أعنف من نقد الماضي، ولعله من أجل الغاية الأخيرة وجد القناع، ففي الدورة التاسعة مثلا نجد أن البياتي وهو يعد التفاهات والتافهين قد نسي المعري

جملة، وهذا؟ مع وقفته لمخاطبة الشاعر الذي أتخذه قناعا - يكشف عن رقة القشرة الدرامية التي حاول أن يتخذها لنفسه، دون نجاح كبير، وذلك هو العيب الكبير الذي قد يصيب القناع. (3) المرايا: هذا الأسلوب من النظر إلى الماضي يكاد يكون قاصرا على أدونيس، فإني لم أجد غيره يستعمله، إلا أن يكون ذلك قد شذ عني، والمرآة من الوجهة النظرية أشد واقعية من القناع، وأشد حيادية، لأنها لا تعكس إلا الأبعاد المتعينة على شكل صورة أمينة للأصل، ولكنها في الحقيقة تستطيع أن تكون بعيدة عن الموضوعية، لأنها في النهاية صورة ذاتية، ومن المفروض أن تكون كذلك، إذ لو كانت مكتملة الموضوعية لكانت أقرب إلى الواقعية الطبيعية، التي تحاول رسم الأمور هي دون تحريف، أو لكانت أشبه بالصور الفوتوغرافية. والمرآة أوسع مجالا من القناع لآنها تصلح أن ترفع للماضي، كما تصلح أن ترفع في وجه الحاضر، وأن تعكس الأشياء مثلما تعكس الأشخاص، بينما لا يصلح القناع إلا للماضي، ولاستحضار شخصيات أصبحت في تضاعيف التاريخ نموذجية، ولو أن شاعرا أتخذ غسان كنفاني قناعا لما حسبناه يفعل شيئا ذا بال، لأن غسان كنفاني شاهد على العصر مثل الشاعر الذي أتخذه قناعا. ولو أن شاعرا أتخذ قناعه من الأشياء، أي لو أنه مثلا أتخذ أبا الهول قناعا، لتحول القناع إلى رمز أسطوري وخرج من هذه الدائرة، التي أتحدث عنها. وأما شاعر المرآة، فإنه يستطيع أن يرفع مرآته أمام أبى الهول، وأن يعكس الصورة التي يريدها، من الزاوية التي يريدها.

وعلى هذا تتنوع المرايا عند أدونيس، فهناك منها: (1) مرايا الشخصيات التاريخية: زيد بن علي، زرياب، الحجاج، معاوية، وضاح اليمن، أبو العلاء. (2) مرايا شخصيات غير محددة بزمان أو مكان: الطاغية، السياف، رجل يروي، الفقير والسلطان، الممثل المستور، فارس الرفض، شاهد مقتل الحسين. (3) مرايا شخصيات رمزية: عائشة. (4) مرايا شخصيات معاصرة: خالدة. (5) مرايا المجسدات، رأس الحسين، حسد العاشق. (6) مرايا زمانية: الحاضر، الوقت، الزمان المكسور، الحلم، التاريخ، القرن العشرون، جثة الخريف، (العين) والزمن. (7) مرايا مكانية: مسجد الحسين، بيروت، الطريق، الأرض. (8) مرايا الأشياء: الكرسي، الغيوم، الزلاجة السوداء. (9) مرايا مجردات: السؤال، الطواف، النوم. (10) مرايا أسطورية: أوفيوس. إن هذا التنوع يشير إلى أن الشاعر يحاول أن لا تلفت من مرآته الصور الكونية؟ التي تهمه -، في الماضي والحاضر، في الزمان والمكان، إذا هو استطاع إلى ذلك سبيلا، ولكن لما كان الحديث هنا عن التراث، فإن أكثر ما يهمنا من مرايا هو ما وقع في القسم الأول، وبعض القسم السادس (التاريخ) . ويكاد يكون من الواضح أن أدونيس؟ في الشخصيات التاريخية التي اختارها، وفي الوقوف عند

رأس الحسين (القسم الخامس) ومسجد الحسين (القسم السابع) ؟ معني بشدة بالتاريخ الأموي، وأن من يرمزون إلى هذا التاريخ إنما هم خلفاء (معاوية) وولاة (الحجاج) وشعراء (وضاح اليمن) وشهداء (زيد والحسين) وفي هذه المرايا يستحيل معاوية إلى شعره: تقرأ الرياح وتبني ملكها في تفجر البركان، ويستحيل الحجاج إلى ذلك المخلوق الأسطوري الذي ولد دون " أست " مثقوبة، فثقبوا وراءه، وذبحوا فأرا ودهنوا بدمه الحجاج،.. فالتذ بالدماء، ولم يعد يقبل سواها ويصبح وضاح اليمن رمز " الفنان " الذي نام؟ أي لقي حتفه - في سبيل الحب (كل حب يموت في صندوق) ، أما الشهداء من أمثال الحسين وزيد، فهم اللذين تحركت الأشياء لتنصفهم من جور التاريخ، وفظاظة الإنسان، فالأشجار في مقتل الحسين تمشي حدباء في سكر وفي أناة كي تشهد الصلاة. أنها مرآة كبيرة ترفع لتلتقط صورة التاريخ الأموي كما يراه أدونيس؟ وليس للناقد أن يأخذه بما لم يقل، كما أن للشاعر الحرية المطلقة في أن يختار ويهمل، حسب نظرته الكلية للتاريخ أو للأشياء، ولكن في هذا الاختيار وذلك الإهمال، ما يدل على أن المرآة لا يمكن أن تكون غير متحيزة، كما لا يمكن أن تعكس حقيقة التأريخ بالمعنى الدقيق. وهي في الوقت نفسه انتقائية لا شمولية. أما صورة التاريخ نفسه، فإن الشاعر ليس لديه تحديد حاسم لها، بل أنه يكاد يقر أن التاريخ لا تمكن رؤيته في مرآة، فهو يعتمد في وصفه على السماع، " وقال آخرون، وقيل "، ولهذا تتعدد الصور والآراء والتاريخ في رأي بعضهم قد يكون:

- بقية الرطوبة الأولى التي جفت، وصار ما تبقى منها إلى ملوحة أو إلى مرارة. - أو هو خلاصة الزرنيخ بعد مزجه بالرماد أو التراب والحجارة. - أو هو حجر يرشح منه الماء. - أو هو حجر فيه ماء تمتصه الشمس وتحيله بخارا ثم يعود حجرا. - أو هو دوامة: يغرف من ماء النهر ليعود ويصبه فيه. - أو هو أمواج تشتد حين تدخل الشمس في السنبلة أو برج الحوت أو القوس. - أو هو مجال لمحار والقصب واللؤلؤ والعنبر المدور الأزرق. - أو هو كرسي من الزجاج فيه مركب ملتصق بالشمس أو سرطان، أو طائر منبسط في جسد الإنسان يصدح أو يطير يعيش في القبور. - وهو غول جبار يقضي على الموجود ويملأ العمار والخراب. وفي هذه الاحتمالات؟ يحاول الشاعر أن يقول أن صورة التاريخ تتعدد بتعدد زوايا النظر، وأنه ليست هناك حقيقة محددة اسمها " التاريخ ". على أن العامل المشترك في أكثر هذه الصور هو الماء، لأن الماء ضروري لتحديد التيار الزمني، فأما تصور التاريخ على شكل كرسي فيه مركب ملتصق بالشمس، فهو يرمز إلى حركة الفلك، وأما تصوره على

شكل " غول " فذلك يعني التباسه بالزمن النتافيزيقي، الذي ينفصل في صورة قوة خارجية تهدد الوجود الإنساني. ويبدو التطابق بين التاريخ والزمن واضحا في أكثر تلك الصور، ففي قوله: حجر فيه ماء تمتصه الشمس وتحيله بخارا ثم يعود حجرا أو دوامة تغرف من ماء النهر لتعود وتصبه فيه، ربط بين فكرتي الدورات في كل من الزمن والتاريخ. ومن المفيد أن يقارن المرء صورة التاريخ (الزمن الماضي) وانعكاساته في المرآة، بصورة الزمن الحاضر أو مرآة القرن العشرين، فإنه يجد أن رموز الماضي من المتحولات في الأغلب، أما صور القرن العشرين فإنها من الثوابت: تابوت؟ كتاب؟ وحش؟ صخرة، كما أنها جميعا مرتبطة بالقدرة على التحطيم، ومع أن التابوت يلبس وجه الطفل، والوحش يتقدم حاملا زهرة، فإن في ذلك مبالغة في الدلالة على الوجه الخادع الذي يلبسه الزمن الحاضر (أو الحضارة الحديثة والتاريخ الحديث) . (4) التراث الأسطوري: تحتل الأسطورة مقاما هاما في كثير من العلوم الإنسانية الحديثة، ويرى بعض علماء الانتروبرلوجيا (مالينوفسكي مثلا) أن لفظة أسطورة لا تنطبق إلا على ما نبع عند البدائيين من " حكايات " لإرضاء حاجات دينية عميقة، أي أنها تعبير ديني اجتماعي، وكل ما عدا ذلك مثل القصص التي تروى عن أرباب اليونان وما شابه ذلك فإنما هي لون من الحكايات الشعبية لا الأساطيل، ولكن دارسي الأدب لا يقفون عند هذا التحديد الصارم، وإنما يتقبلون في نطاق " الأسطورة " أشياء كثيرة لا يقبلها بعض علماء الانثروبولوجيا، وحين استعمل كلمة " أسطورة " في هذا المقام فإني أنظر إلى معناها الواسع.

وبعد استغلال الأسطورة في الشعر العربي الحديث من أجرأ المواقف الثورية فيه، وأبعدها آثارا حتى اليوم، لان ذلك استعادة للرموز الوثنية، واستخدام لها في التعبير عن أوضاع الإنسان العربي في هذا العصر؛ وهكذا ارتفعت الأسطورة إلى أعلى مقام، حتى إن التاريخ قد حول إلى لون من الأسطورة لتتم للأسطورة سيطرتها الكاملة. لماذا تم كل ذلك؟ ثمة أسباب كثيرة ربما كان في أولها - وإن لم يكن أقواها - التقليد للشعر الغربي الذي اتخذ الأسطورة؟ منذ القديم - سداه ولحمته، ولكن منذ دراسة جيمس فريزر (في الغصن الذهبي) للأسطورة، ومنذ دراسات فرويد ويونج لدورهما في اللاوعي الإنساني، انهارت الحواجز التي كانت تقوم دون تقبلها في الشعر العربي الحديث، أضف إلى ذلك كله أن الأسطورة جاذبية خاصة، لأنها تصل بين الإنسان والطبيعة وحركة الفصول وتناوب الخصب والجدب، وبذلك تكفل نوعا من الشعور بالاستمرار، كما تعين على تصور واضح لحركة التطور في الحياة الإنسانية، وهي من ناحية فنية تعسف الشاعر على الربط بين أحلام العقل الباطن ونشاط العقل الظاهر، والربط بين الماضي والحاضر، والتوحيد بين التجربة الذاتية والتجربة الجماعية، وتنقذ القصيدة من الغنائية المحض، وتفتح آفاقها لقبول ألوان عميقة من القوى المتصارعة، والتنويع في أشكال التركيب والبناء. لهذا الأسباب ولغيرها ذهب الشاعر الحديث؟ في توق محموم - يبحث عن الأسطورة، ويعتمدها أنى وجدها، لا يعنيه في ذلك أن تكون بابلية (عشتاروت تموز) أو مصرية (أوزوريس) أو حثية (أتيس) أو فينيقية (أدونيس، فينيق) أو يونانية (أورفيوس. بروميثيوس. عولس. (أوديس) . سيزيف. أوديب؟ الخ) أو

مسيحية (المسيح. لعازر. يوحنا المعمدان) بل أنه ذهب إلى بعض الحكايات الجاهلية ورمزها الوثنية (زرقاء اليمامة.. اللات) وعامل القصص على المستوى نفسه مثل قصة الخضر وحديث الإسراء والمهدي المنظر (أو صاحب الزمان) ، واتخذ من كل ذلك رموزا في شعره، تقوى أو تضعف، بحسب الحال، وبحسب قدرته الشعرية، وحين اضطر إلى مزيد من التنويع ذهب إلى خلق الأقنعة والمرايا والاستعانة بالأدب الشعبي؟ كما بينت فيما تقدم. ومن الأصناف أن أقول أن الشعراء يختلفون في مقدار شغفهم بالأسطورة فبعضهم يكثر منها مثل السياب، وبعضهم قليل الالتفات إليها مثل محمود درويش، وأن شعراء العراق ولبنان؟ على وجه العموم - لا يجدون غضاضة في تطلبها من أي مصدر، بينما شعراء مصر؟ مثلا - يتحفظون تجاه بعضها ويقبلون على بعضها الآخر، ومهما يكن من شيء فإن الشاعر المتميز، حين يشعر أنه في غير حاجة كبيرة إلى الأسطورة؟ يخلق أساطيره ورموزه الخاصة به. ومع أن هذا الاندفاع نحو الأسطورة المستعارة كان ذا نتائج إيجابية، فقد علقت به بعض النتائج السلبية: إذ أخذت الأساطير أحيانا وأقسرت على الدخول في بناء القصيدة، دون تمثل لها ولابعادها، فوضح أنها دخيلة قلقة في موضعها، أو أنها جاءت أحيانا لا تؤدي سوى وظيفة تفسيرية توضيحية، شأنها في ذلك شأن كثير من التشبيه في الشعر القديم، وأحيانا كان رص نماذج منها في نطاق واحد لا يقدم شيئا سوى الشهادة على الدرجة الثقافية للشاعر. ولذلك قلما ينبض الرمز بالحياة وتتشعب عروقا به، في شعر الشاعر، إذ ما يكاد الشاعر يستخدم رمزا في قصيدة ما، حتى يقفز آخر في قصيدة أخرى، دون أن يكون ذلك رغبة في تنويع الدلالات أو حرصا على

تكييف المبنى. بل لعلي لا أتجنى حين أقول أن الشاعر الحديث قد اقتصر في استعمال هذه الرموز؟ رغم كثرتها - على دلالات محدودة، مما وسم الشعر بطابع التقارب والتكرار، وأهم هذه الدلالات ثلاث: 1 - التعبير عن القلق الروحي والمادي باستغلال رمز الجواب، وفي هذا المجال استخدمت رموز عولس والسندباد واوفيوس وإيكار وواضح أن حركة التجواب أما أن تكون أفقية أو دائرية (عولس والسندباد) أو نزولية (أورفيوس) أو صعودية (إيكار) وفي كل حال يمثل الرمز؟ بسبب وجهة الحركة - حقيقة أو حقائق إنسانية، وقد أضاف البياتي إلى الجوابين رمز " عائشة " (وهو رمز أوجده أدونيس؟ ثم تخلى عنه) لتقوم مقام الخضر (الخالد) ، لكن عن طريق الحب، كما جمع أدونيس بين الحركتين الصعودية والأفقية في قصيدته " مدائن الغزالي "، وفيها عدا هذه القصيدة نجد القصائد تعتمد الحركة المفردة، مما كان ذا أثر في طبيعة بنائها. 2 - التعبير عن البحث والتجدد: ومن الرموز الصالحة لذلك تموز (أو أدونيس) ولعازر، والمسيح واوزوريس وفينيق، وهنا يقف انحصار الشاعر في نطاق الدلالة الأولية، دون التنويع، إلا ما نجده عند حاوي في مثل (لعازر 1962) . 3 - التعبير عن العذاب والآلام التي يواجهها الإنسان المعاصر وهنا تعود رموز المسيح وبروميثيوس وسيزف إلى الظهور. وقد كان السياب بحكم موقعه الزمني، شديد البحث عن الرمز لا يهدأ له بال، وكانت حاجته إلى الرموز قوية بسبب نشوبه في أزمات وتقلبات نفسية وجسمية، وبسبب التغيرات العنيفة في المسرح السياسي بالعراق، حينئذ، ولهذا يصلح

أن يكون السياب نموذجا للشاعر الذي يطلب الرمز في قلق من يبحث عن مهدئ لأعصابه المسوفزة، فهو يتصيده حيثما وجده، وقد تأثر كثيرا بذلك الفصل الذي ترجمه الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا من كتاب " الغصن الذهبي " عن البطل الأسطوري (أدونيس) ، وبهذا يكون السياب قد فتح المجال بعده لمن شاء أن يستخدم الرموز، وأم تجاوزه بعضهم في القدرة على الاختيار وفي طريقة الاستخدام. على أن السياب نفسه قد تطور كثيرا في كيفية استغلال الأساطير والرموز، ابتداء من اتخاذها نماذج موضحة (كما في قصة يأجوج ومأجوج في قصيدة المومس العمياء) حتى بناء القصيدة كلها على الرمز الواحد كما في قصيدته " المسيح بعد الصلب "، ففي هذه القصيدة الأخيرة التي تصور تمزق الشاعر بين جيكور والمدينة، يحس أنه المسيح، وأنه استطاع أن يحيى جيكور لأنها امتداد منه، كما أنه امتداد للجيل كله: صرت مستقبلا، صرت بذره صرت جيلا من الناس، في قلب دمي قطرة منه أو بعض قطره، وأما المدينة، فرغم أنها تعج بأمثال يهوذا، الذين أمعنوا في تعذيبه، فإنها لا بد أن تبعث أيضا: قدي الرب، هذا مخاض المدينة وقد كانت سيطرة رمز البعث على السياب قوية، لأنه على المستوى الفردي كان يحس بأن لا شيء سواه يعينه على مواجهة الموت، ثم ازدادت هذه السيطرة قوة عندما اصبح العراق؟ مثل السياب نفسه - خلال أزمة سياسية معينة - بحاجة إلى الخصب بعد الجدب. ومع أنه لجأ أحيانا؟ في هذه الفترة نفسها - إلى تكثيف الرموز في القصيدة الواحدة

فإن قصيدته " مدينة بلا مطر " تصلح أن تكون أكثر قصائده تعبيرا عن إتقانه للرمز المتصل بالجدب والخصب، على المستوى الجماعي لا الفردي -، ففي هذه القصيدة، المتكاملة بناء وموضوعا، استغل الشاعر جميع الشعائر التي تستجدي الطعام والماء، والقرابين التي تقدم لعشتار في مثل هذا الموقف، ووضعنا في جو كامل لترقب البعث، ومع ذلك فلا بد من القول بأن السياب، يأخذ الأسطورة على حالها، وأن ميزته الحقيقية لا تكمن في الاتكاء على الأسطورة، بمقدار ما يمكن في التفصيلات التي يضيفها والصور التي يخلقها، وبما أن طبيعة الأسطورة أولا، وهذه التفصيلات ثانيا، مرتبطتان بقدرته الفذة، وألق شاعريته، وأحكامه للربط بينهما، فإن قصيدته؟ في الحق - لا تستولي على مشاعرنا عن طريق غرابة التوقع أو المفاجآت، وإنما بهذا الربط العجيب بين بابل الوثنية، والعراق الحديث، ذلك لأنه يستطيع أن يفيد من أكبر خدمتين تقدمهما الأسطورة وهما التطابق بين الماضي (البدائي) والحاضر، والموازاة القياسية، حين لا يكون هذا التطابق ممكنا. ومع أن السياب؟ في سنواته الأخيرة - قد فقد معنى البعث، حين انفرد بمعالجة الموت، وفقد القدرة على الربط بين المحنة الذاتية والجماعية، فإنه استطاع أن يتوصل إلى البناء الأسطوري، دون حاجة للاتكاء على الأسطورة أو للتكثر من رموزها، وخير شاهد على ذلك قصيدته: " حدائق وفيقة "، فإن وفيقة تعيش في حديقة في ظلام العالم السفلي، ويصف الشاعر هذه الحديقة ويتفنن في وصفها ويتمنى آو أن نهر بويب الذي يسقي جيكور، كان يستطيع أن يسقي تلك الحديقة، ووفيقة تنتظر وتنتظر، ولكن لا بويب، ولا حبيبها يقدران على تحويل حديقتها إلى العالم العلوي، ودون أن يقول الشاعر على أية أسطورة يبني تصوراته نحس أن

وفيقة هي (يورديسه) وأن الشاعر هو أورفيوس، الذي خانته رجلاه، فهو لا يستطيع أن ينزل إلى العالم الآخر، ليعود بصاحبته. تغيير طفيف لكنه غير طبيعة القصيدة تماما، ومن المؤلم أن يكون ذلك على حساب العجز الذي كان يعانيه السياب. وتحتل قضية الانبعاث والتجدد في شعر خليل حاوي، المنزلة الأولى، ذلك أنه كان من قدر الشاعر الحديث، أن يكون، رغم النكسات الكثيرة التي ألمت بأمنه، متفائلا، وأن يستشرق من خلال الواقع المظلم؟ مستقبلا أنضر، رغم ما تقدمه قصيدة لعازر من شهادة مخالفة. ولكن حاوي يختلف اختلافا جذريا عن السياب في معالجة الأسطورة، فهو لا يستمد الأسطورة الجاهزة، على حالها، وإنما يبينها بناء جديدا، فالسندباد قديم ولكن وجوه السندباد، والسندباد في رحلته الثامنة، تمثلان أسطورة جديدة، أسطورة الإنسان المعاصر، في الصراع بينه وبين معوقات الزمان والمكان، ومحاولته للتخلص من ثقل التجربة التاريخية، والانطلاق إلى رحاب أوسع. ورغم استعلاء " الواحد " في قصائد حاوي الأولى، إلى محمل من التركيب " الثلاثي "؟ في القصيدة - (أنظر البحار والدرويش وليالي بيروت) فإن هذا الواحد من بعد، هو الشاعر، هو المنقذ، هو الشعب، الذي سنبعث قويا، ليغير وجه التاريخ؟ وبذلك تتطابق الفردية والجماعية بحيث لا يمكن الفصل بينهما؛ ومن وجهة أخرى فإن حاوي؟ رغم إيمانه العميق بالتقدم الحضاري - يحس إحساس الريفي الأصيل في بعض اللحظات، أن البراءة التي تمثل الحيوية الطبيعية وتستطيع الاندماج بها إنما تتمثل في مرحلة شبه بدائية، وأن المدينة التي قيدت بالشرائع والمواصفات، عالم معقد، لا تستطيع الحيوية البكر أن تفقهه، وأنه في

حومة الصراع بين الاثنتين يقوم الكاهن الموسيقي بتحويل الحيوية إلى " كبريت ونار مجرمه " ويقضي على البراءة بالإعدام، ويتخذ الشاعر " الغجرية " رمزا لتلك البراءة، ويتفنن في وصف صلتها العذراء بكل ما هو طبيعي، وفي تصوير الفورة العفوية التي تعانق كل شيء، متخذا من الجسد وتدفقه بألوان النضارة سبيله إلى رسم صورة عجيبة من بكارة الطبيعة، غير أن الكاهن الموسوي " الأسود الداجي المقنع بالرماد " يحاول أن يطهر ذلك الجسد بنار " الحضارة " فيحيل الغجرية إلى عجوز مجنونة: هيهات يعرف من أنا، عبثا محال شمطاء تنبش في المزابل عن قشور البرتقال لقد وضع حاوي في مقدمة هذه القصيدة تفسيرا لفكرته، ولكنه لو لم يفعل، لكان الرمز في القصيدة دالا على نفسه، ولهذا لا يمكن أن يتهم الشاعر هنا، بأنه يوجد الفكرة ويصب القصيدة على مثالها، وإنما القصيدة هي التي كانت أولا. إن حاوي ذا الموقف الهيردري هنا (نسبة إلى المفكر الألماني هيردر) قد خلق أسطورة جميلة، وأجاد التعبير عن أبعادها، ومن التطرف في التفسير أن يقال أن الشاعر يحس بعداء للحضارة، إذ من الذي ينكر أن " البكارة " الحيوية أفضل من " التعهر " الذي تحميه القوانين؟. وإذا أنتقل إلى الحديث عن رموز أدونيس أجدني عاجزا عن الإحاطة بها، ولكن يكفي أن أقف وقفة قصيرة عند قصيدة واحدة من قصائده وأعني بها " رحيل في مدائن الغزالي "؟ وهي القصيدة التي أشرت إليها فيما تقدم، عند الحديث عن الحركتين الصعودية والأفقية، ذلك أنها تقص قصة المعراج (أو الإسراء) ، وتجعل من التنقل في

مدائن الغزالي حركة أفقية، وقصة المعراج معروفة لا حاجة إلى استعادتها. ولكن السير في مدائن الغزالي " وهي صحراء من سعالي " تحتاج توضيحا، فالشاعر يرسم هنا مفارقة ساطعة بين " مثالية " االنبوة، وبين مدائن الغزالي التي تمثل السقوط في مقابل الصعود، وبعد أن تتم الرحلة الصعودية، تواجهنا الثورة على مدائن الغزالي " رفضت وانفصلت "، لأن هذا الرفض يطلب التغيير المطلق، لكل شيء، متجسدا في كل شيء: أفتح كل باب أشق كل رمس بغضبة الخالق؟ بالرجاء أو باليأس بثورة النبي مسكونة بالشمس مسكونة بالفرح الكوني. فالعلاقة بين الحركتين هي العلاقة بين المثل الأعلى والمثل المحطم، لأن الغزالي؟ في رأي أدونيس - لم يظل وفيا لرسالة المثل الأعلى، ولهذا فسدت مدنه، وكان لا بد من تصحيح الأوضاع فيها " بثورة النبي " أو بروحه التي يستمدها الثائر الادونيسي، وهو يهم أن يعلن الثورة. الأمثلة كثيرة، وأنت حين تتحدث عن الرمز عند شاعر واحد يتطلب حديثك كتابا مستقلا، فكيف إذا كان لديك هذا العدد الجم الغفير من الشعراء؟ ولكني لا أود أن أختم هذا الفصل دون التوقف عند أهم معالمه وأعني بذلك قضية البعث والتغيير، (التي دعا إليها أدونيس في هذه القصيدة) وتبناها غيره من شعراء هذا الجيل. وأحب أن

أقول: أن مدائن الغزالي لا تزال؟ على موضعها - تعيش كما كانت، " صهريجا من الدموع "، وأن التاريخ ربما لم يشهد تطابقا تاما بين الشعر والواقع، كالذي شهده عصرنا، في تطلبه للفدائي الذي يبذل دمه؟ طائعا مختارا - ليغير مدن الغزالي، لقد اكتملت الحلقة لقتل ذلك الرمز الكبير في الواقع، أو لجره للاستسلام، وأول ضحايا هذه الموجة الجديدة هو الشاعر، الثائر الرافض، ترى ماذا سيكون مصير الشعر الحديث بعد اليوم؟ هل يستسلم! وإذا استسلم ففي أي اتجاه يسير، وإذا قاوم فكيف يمكن أن تكون المقاومة بعد القضاء على عناصرها الواقعية؟ وإذا أختار طريقا ثالثا فما هو ذلك الطريق؟ أسئلة حيرتني، ولكني لا أملك الإجابة عليها، إنما الإجابة؟ التي يملكها الشعراء وحدهم - هي التي ستحدد طريق الشعر المعاصر ووجهته.

فراغ

7 - الموقف من الحب أنا شاعر حب جوال تعرفه كل الشرفات (نزار) عشرون عاما في كتاب الهوى ولم أزل في الصفحة الأولى (نزار) نحن نعيش في عصر فرويد: جملة قد تحمل معاني عديدة وقد تكون فارغة من المعنى، ولكنها تشير إلى انهيار الحواجز بين الحب والجنس، وتدفع إلى النظر المستأنف، في ما تحمله الألفاظ من المعاني في الظهار، وعلى أساسها يمكن أن نلحظ ضياع مصطلحي " نسيب " و " غزل " أو نفسرهما تفسيرا جديدا، ذلك لأن الشعر الذي يعبر عن الحب، لم يعد ينقل عاطفة مفردة بسيطة، وانما ينقل غابة متشابكة الغصون من العواطف والمشاعر، وحين عبر المتنبي عن العلاقة بين الحب والموت - متجاوزا رؤيا نقاد عصره ومن بعدهم - في قوله: متعينا بحسن وجهك ما دام فحسن الوجوه حال تحول وصلينا نصلك في هذه الدنيا فإن المقام فيها قليل كان بذلك يفتح الباب الذي سيدخل منه الشاعر الحديث إلى تلك الغابة الكثيفة، ولهذا فإننا إذا استثنينا نزار قباني، وجانبا من شعر صلاح عبد الصبور، لم نجد الحب يتخذ شكل موضوع شعري مستقل، وإنما هو ذائب في التيار الشعري جملة.

وقد أكثر نزار الحديث عن الحب؟ معتبرا إياه عالما ذا أبعاد متميزة تكفل له الوجود المستقل؟ في شعره - حتى سماه بعضهم " شاعر الحب " وسماه آخرون " شاعر المرأة "، أو غير ذلك من تسميات، وكان بعضهم يرى أنه يرسم بهذه التسميات المعلم الذي يميز الاتجاه الشعري عند نزار، كما كان البعض الآخر يرى أن نزارا شغل بقصة الحب حتى ألهته عن القضايا الكبرى في العالم العربي. وكلا الأمرين لا يعنيان شيئا لهذا الفصل، الذي يمثل نظرة مستأنفة في شعر الحب عند نزار. هل كل نزار شاعر حب؟ لا أظن أن من الخير الإسراع في الإجابة على هذا السؤال بإيجاب أو بالسلب، وعلينا أن ننظر ونطيل لحظات الانتظار، حتى نقع على نقطة " الكشف النفسي " التي ظل نزار يراوغ ويماطل في مواجهتها، ويتهرب من التحديق فيها، أعواما، ونقطة الكشف هذه تلتمع في قصيدته " الرسم بالكلمات " وهي في ديوان بهذا الاسم نفسه، وفيها يقول: لم يبق نهر أسود أبيض إلا زرعت بأرضه راياتي لم تبق زاوية بجسم جميلة إلا ومرت فوقها عرباتي فصلت من جلد النساء عباءة وبنيت أهراما من الحلمات ؟.. مأساة هارون الرشيد مريرة لو تدركين مرارة المأساة ؟.. الجنس كان مسكنا جربته لم ينسه حزني ولا أزماتي والحب أصبح كله متشابها كتشابه الأوراق في الغابات أنا عاجز عن عشق أية نملة أو غيمة.. عن عشق أي حصاة مارست ألف عبادة وعبادة فوجدت أفضلها عبادة ذاتي ؟.. كل الدروب أمامنا ممدودة وخلاصنا في الرسم بالكلمات

وأحب أن أسارع إلى نفي ما قد يثور في فهم القارئ من إيراد هذه الأبيات ظانا أنني أتخذها اعترافا ذاتيا يومئ إلى حال من العجز، أو أعدها مؤشرا على مرحلة من مراحل العمر، فما لهذه الغاية أوردتها، وإنما أنا أرى فيها لحظة كشف، لحظة إضاءة، كان نزار يومئ إليها إيماء سريعا من قبل، وكنا نمر بتلك الإيماءات ابرين، ترى ماذا عنى بقوله؟ في دور مبكر - مخاطبا إحداهن: " فإذا كنت واقعا لا أكون " (ديوان طفولة نهد) ، وبقوله: " فحياتي كلها شوق إلى حرف جديد " (ديوان قصائد) ، وبقوله: " ابحث في جوف الصدفات عن لفظة حب لم تلفظ " (ديوان حبيبتي) ؟ أليس هذا دليلا على أن مشكلة الصراع بين المرأة وبين الرسم بالكلمات (أي الشعر) ليست جديدة، لأنها حين تصبح هي - أي المرأة - واقعا في حياته يمحي وجوده (أي وجود الشعر) ، أيهما يختار؟ لقد كان واعيا بأنه أختار ما يريد منذ البداية، وأنه أتخذ الجنس مسكنا، وأصبح الحب كله متشابها. وعلى ضوء هذا الصراع الطويل بين الحرف والجنس نستطيع نم نتصور مقته للمرأة " المدمرة "، التي لا تستطيع أن توحي له بالشعر لأن غايتها هي أن تمتص نسغ الشعر في أعراقه؛ على ضوء هذا الفهم يستطيع القارئ أن يقرأ قصائده " مصلوبة النهدين " و " طائشة الضفائر " و " همجية الشفتين " وغيرها مما يجري هذا المجرى ليكشف أن خوف الشاعر من ضياع الحيوية الشعرية؟ لا من ضياع العفة والفضيلة - هو الذي يحدد للحب (ومن ثم الجنس) أبعاده وقيمه، فنزار إذن لم يتحدث عن الحب، بمعناه العاطفي الذي يظنه الكثيرون، إنما تحدث عنه بمعنى جديد حين جعله طرفا في قوتي صراع كبيرتين.

ويطيب لنزار أحيانا أن يقول للمرأة؟ في لحظة غضب - أنه خلقها، ولكن نزارا هنا إنما يردد معنى رومنطقيا مألوفا، ذلك لأنه لم يخلق امرأة أبدا، إذ أنه لا يستطيع ذلك إلا حين تكون المرأة (بكامل شخصيتها ومكوناتها الجمالية والثقافية) صورة قصيدة، وهي لم تكن كذلك، وإنما هي واحدة من كل متشابه وحسب، " كلنا في مجامر النار نسوة ". غير أن أبسط شيء لديها قد يكون صورة قصيدة، ينتقل على يدي الشاعر ليصبح قصيدة جميلة. ومن درس شعر نزار دراسة متدرجة، وجد أن استغرابه الشعري بدأ أولا بتناول أشياء المرأة، والألوان التي تربط بينها وبين الطبيعة (مع تركيز خاص على النهد منذ البداية واستمر ذلك في شعره حتى النهاية) ثم أخذ التنبه يحرك نظراته نحو حالات المرأة وحركاتها (وهي تمشط شعرها، وهي تمر في المقهى، وهي تنزل من السيارة، وهي مضطجعة، وهي ترقص؟) مع الإلحاح على مزيد من أشيائها (قلم الحمرة، المشط، الجورب، المانيكور، المايوه الأزرق، ثوب النوم الوردي، الصليب الذهبي، الكم، التنورة؟) مما يصح معه أن نقول أنه سكان " يبعثر " المرأة ولا يلمها في خلق سوي، كان يجزئ، ويركز نظره على المفردات، لأن كل عنصر مفرد منها، كان يحميه من المرأة مكتملة، إذ كان يجد فيه صورة قصيدة ثم يحوله؟ دون ريب - إلى قصيدة جميلة، كان يرى الجمال الطبيعي والمصنوع، ويفتنه، فيدخل في كونه (الفم، الشفة، الاسم، الغرفة، الظفر المصبوغ، كم الدانتيل) دخول الطفل الذي تفتنه الفراشة، ويعود جذلان لأنه استطاع أن يقبض " شعريا " على تلك الفراشة، وأقول " شعريا " لا لنفي المتعة الجسدية، بل لاؤكد جانب التعبير، والتصوير، فإن الدخول إلى هذه الجزئيات، لم يكن مما

يعني الشاعر كثيرا قبل نزار، كما أن ابتكار الصور الملائمة لهذه المجالات الصغيرة، والجرأة في اللغة والصورة معا، هما أقوى ما يميز هذا المنزع الشعري الجمالي (ثوبا كزوبعة الفل، المساء شلال فيروز ثري، مئزر خضل ثر المواسم، يا كمها الثرثار يا مشتل، وكر الخيط في شهقة نادمة؟ الخ) . ثم أنتقل الشاعر من المرحلتين السابقتين إلى مرحلة ثالثة هي الحديث عن مشكلات المرأة، فأنتقل بذلك من أن يكون جماليا إلى أن يكون سيكولوجيا، ماذا تقول امرأة اكتشفت أن صاحبها يعاشر أخرى حين جاءت لزيارته (رسالة من امرأة حاقدة) ، ماذا تقول حين تحمل، والرجل المسؤول عن ذلك يدير ظهره لها (حبلى) ، كيف تعبر عن جوعها الجنسي لأن الرجل النائم بجانبها ممددا كالثور لم يبلغ بها قمة الاكتفاء (أوعية الصديد؟) ، ثم كيف تتحول عن ممارسة الجنس مع الرجل إلى ممارسته مع أنثى مثلها (القصيدة الشريرة) ؟ الخ، ثم تتحول المشكلات نفسها لتصبح تعبيرا عن أوضاع متبادلة بين المرأة والرجل، اتهامات متبادلة، ثم اكتشاف النهاية في برود العاطفتين، وفي فصم تلك العلاقة بالإقرار بالكذب والنفاق، وفي هذه المرحلة ينتقل الصراع إلى مستوى جديد، (عصري في أكثر سماته) فيصبح الحب فيه طرفا، والجنس طرفا آخر (وهو صراع في النهاية يؤدي إلى أن يصبح الحب كله متشابها) . ومع أن الشاعر يصور ثورة المرأة؟ هنا - على تقلبات الرجل، فإنه أشد ميلا إلى تصوير مدى فتنتها بالرجل، وتعلقها به، وتذللها له، ودورانها في فلكه، وتلذذها بحركاته وأشيائه، حتى أن إحداهن لتقول وهو يشعل لها سيجارة (1) :

_ (1) يستطيع القارئ أن يراجع عدة قصائد بهذا المعنى في ديوان " حبيبتي ".

رجل يمنحني شعلته ما أطيب رائحة الرجل ولما كانت المرأة تفعل أي شيء من أجل إرضاء الرجل، فإن لديها؟ على عكس ما لدى الشاعر - قدرة على المصالحة التوفيقية بين الحب والجنس، في أغلب المواقف. بهذا المعنى؟ وبمعنى آخر سيجيء تبيانه من بعد - يمكن أن يسمى نزار شاعر المرأة، لأنه ينصفها، لأنه؟ وهو يحاول أن ينصفها - يرى فيها محض امرأة، لا فنانة شاعرة، ذلك لأنها في أقصى حالات الشاعرية تتمنى الفناء؟ حبا وجنسا - في الرجل. فإذا تركنا عالم المشكلات، وفيه أصابع ثقافية فرويدية واضحة، وعدنا إلى عالم الأشياء والحركات، وجدنا الشاعر الجمالي طفلا (وإن تزويا بثوب المراهق أحيانا) يلعب بتلك الأشياء كما يلعب الطفل بالدمى، ويصور الحركات في إعجاب طفل يرى نيزكا لأول مرة. وهذا الطفل في نزار يقترب من تلك الأشياء والحركات، وهو مصمم على أن لا يحترق، وإنما يريد أن يرجع وقد قبض على لحظة شعرية " أني أحارب بالحروف وبالرؤى "، هو يرى ويسمع ويلمس، ولكن انبهار الطفل عنده لا يتجلى على أتمه إلا حين تكون المرأة بعيدة، ما أشد لهفة الطفل حين يقرأ خطايا جاءه من حبيبته، أو حين يمني نفسه بأنه سيحضر عيد ميلادها (قبل أن يحضره) ، أننا هنا لا نحس لهفة الرجل، بمقدار ما نحس لهفة الطفل، وقد ظل نزار يموه بالمزج بين اللهفتين، إلى أن صرح عن الحقيقة الخفية، ووضعنا في لحظات كشف أخرى في ديوانه " الرسم بالكلمات " فحدثنا أن الرجال كلهم أطفال: لم تستطيعي بعد أن تتفهمي أن الرجال جميعهم أطفال وبهذه الصورة نفسها تراه المرأة التي تتحمل كل شيء من غضبه

فأنت كالأطفال يا حبيبي نحبهم مهما لنا أساءوا وفي لحظة كشف؟ تكاد تكون أسطورية - كتب نزار في هذه المرحلة خمس رسائل إلى أمه، لماذا في هذه المرحلة دون ما قبلها من مراحل؟ ؟) وفي إحداهما يحدثنا عمن عرف من النساء وعن العواطف وعن البلاد التي جابها: ولم أعثر على امرأة تمشط شعري الأشقر وتحمل في حقيبتها إلي عرائس السكر وتكسوني إذا أعرى وتنتشلني إذا أعثر هذه الطفولة الخبيثة؟ في معالم تلك الرجولة - تتكشف الآن، لتدلنا على سر المشكلة، أنها لحظة اضاءة، جعلت الأشياء والحركات؟ في عالم المرأة - تبدو وكأنها ليست سوى دمى، ومرة ثالثة يجيء الصراع بين الحب وعقدة أوديب (1) ، وهو صراع قد حدد طبيعة الحب، أيضا، إذ رده رومنطقيا خالصا: الحب ليس رواية شرقية، لكنه الإبحار دون سفينة وشعورنا أن الوصال محال ومن قبل بكثير قال أحد رسل الرومنطقية، يوسف غصوب، " لذاتنا في الشوق لا في الوصال " ولكن نزارا تجاوزه بكثير، حين أفترض؟ منذ البداية - أن حقيقة الحب في أن يكون الوصال محالا.

_ (1) بنكر نزار مثل هذه العقدة في قصيدة له - في أحد دواوينه الأخيرة - وأنا هنا لا استعملها بمعناها المرضي، كما أن أنكار لها يتطلب تأملا جديدا.

هذه المرأة؟ الأم - ينبوع جمال وحب، ولكنها هي التي وضعت الشاعر في وضع التمزق النفسي، (وهو تمزق لا يظهر كثيرا على السطح لأن الغرق في اللحظات الجمالية الكثيرة يحجبه) فهو في مشاعره ينتمي إلى القديم، كل النساء لديه " سبايا "، وليس هو سوى شيخ بدوي يفصل لنفسه " عباءة " من جلودهن، وهو في ثقافته وفكرة يريد للمرأة أن تتحرر، رغم أنه يراها بسبب وضعه الأول مقيدة بأغلال الحب والجنس، وقد رآها متحررة، وأعجب بتحررها، رأي " جانين " الفرنسية الوجودية: تريد أن تختار ما تراه تريد أن تمزق الحياه ربما لم تكن جانين جميلة، ولكنها كانت تعرف ما تريد (او هكذا خيل للشاعر) ، وكان في انطلاقها معنى جديد، تأمله الشاعر فإذا هو يحسدها عليه لأنه لا يملك هو نفسه أن يكون كذلك، مع كل توهمه أنه؟ وهو الرجل الشرقي - لا يعرف للانطلاق حدودا، صحيح أنه إذا قيس إلى المرأة الشرقية بدأ وكأنه يتمتع بحرية مطلقة، ولكن هذا الشعور يتضاءل لديه إزاء جانين، وكانت قصيدة " جودية " هي المدخل إلى " مذكرات امرأة لا مبالية "، وهذه اللامبالية ليست تلك الوجودية الفرنسية، ولكنها شرقية، وكل ما فيها من لامبالاة أنها أرسلت خواطرها حرة في مذكراتها (وأحيانا يتكلم نزار بالنيابة عنها ناسيا أنها موجودة) وعبرت توقها الممض إلى حرية الحب وحرية الجنس، وهي رغم ما تلجأ إليه من محاكمات عقلية وتاريخية تدخل احيانا منطقة الهستريا، والمذكرات عادية تطرح مشكلة واحدة، وتقترح لها حلا واحدا، وأبرز ما فيها أنها تصور خوف المرأة من الزمن، خوفها من أن تصل إلى مرحلة يكف فيها الجسد عن الاعتزاز بثماره، وهي أحيانا توسع من الأفق

الشعري للقصائد بطرح المفارقات القائمة خارج عالم المرأة (طيور تشرين؟ القط؟ الخ) ، وهي بمجموعها الكلي ثورة على الأب، صريحة " هجائية " في طابعها: أبي صنف من البشر مزيج من غباء الترك، من عصبية التتر أبي أثر من الآثار، تابوت من الحجر ولكن في نهاية المطاف تبدو الثورة على الرجل والحاجة إلى الرجل انقساما شيزوفرينيا، (فصاما) قد لا يتأتى علاجه، مثل انقسام الرجل الشرقي بين قطبي التمسك العاطفي بالقيم القديمة والثورة العقلية عليها. ولنا أن نسأل: هل خوف المرأة من الزمن (من الشيخوخة والموت) يقابله صراع مساو لدى نزار نفسه بين الحب والموت؟ والجواب على هذا السؤال بالإيجاب إذا تذكرنا ما قلناه من قبل، وهو أن طبيعة شعر نزار كانت تكفل للطفل أن لا يكبر، وأن يظل يتلهى بلعبه، مستسلما إلى عالم الواقع، مستريحا إلى الأجزاء الجميلة في عالم المرأة، ولكن تصوره للمشكلة منبعد أصبح أشد وضوحا وصراحة، ففي ديوانه " قصائد متوحشة " (1970) يتكرر لديه التعبير عن الهزيمة، وعن محاولة قراءة المستقبل بالنظر في الفنجان، مقدورك أن تمشي أبدا في الحب على حد الخنجر وتظل وحيدا كالأصداف وتظل حزينا كالصفصاف وسيظل نزار يتحدث عن الحب، مستغلا طواعية اللغة الشعرية التي مرن قلمه عليها، وسيظل بغير المواقف فحينا يتحدث الشاعر المحب وحينا يتحدث المرأة المحبوبة، وسيظل

الحب بمعنى رؤية الجمال وضروب الصراع في الحياة والمشاعر هو الملاذ الأخير، لأنه وحده رابطة. أما صلاح عبد الصبور فإنه حيت أصبح شاعرا كان قد فقد القدرة على استعادة " فرحة الطفل " بالإشياء، تلك الخاصية التي تميز شعر نزار قباني، وإذا كان يشترك مع نزار في الوقوف عند المظاهر الحسية من عالم المرأة، مقلدا نشيد الإنشاد: " وجه حبيبتي غيمة من نور/ شعر حبيبتي حقل حنطة/ خدا حبيبي فلقتا رمان؟ فما ذلك إلا لقاء عارض لا يلبث أن يضمحل ". ذلك أن الطفل القروي الرقيق الحال، ظل حين وجد نفسه في المدينة خجولا يحس بشقة كبيرة تفصله عن المرأة: وأنا لم أبرح القرية مذ كنت صبيا ألقيت في رجلي الأصفاد مذ كنت صبيا ومنذ طفولته كان يحلم بعسف القدر " وبالموت حين يدرك الحياة "، فلما شب طالعه الموت الواقعي بقفدان الأب، والأخ، ومصطفى ابن القرية، وقريبه محمد نبيل، وبشنق " زهران "،؟ الخ، فغشى الحزن وجه حياته، وألقى ظله على الوجود، وخاصة إذا جن الليل، وشعر بالوحدة، هنالك يكون الحزن ضريرا، طويلا كالطريق من الجحيم إلى الجحيم، ويصبح كلما مر الزمن ألوانا وأشكالا: لقد بلوت الحزن حين يزحم الهواء كالدخان؟. ثم بلوت الحزن حين يلتوي كأفعوان؟. ثم بلوت الحزن حينما يفيض جدولا من اللهب فإذا تحدث صلاح عن الحب، لم يكن حديثه عنه أغنية رقيقة شفافة، وإنما هو تأمل حاد، متصل بحقيقة نظرته الفلسفية الشاملة إلى الموت والحياة. وذلك الحزن

الذي يملك عليه رؤيته للأشياء ليس حزنا لحادثة أو فاجعة، فهو يزول بزوالها أو نسيانها، وإنما هو أيضا نابع من أعماق تلك الفلسفة، فهو حزن لا يعرف ولا تدرك أبعاده، حزن " لا تطفئه الخمر ولا المياه؟ ولا تطرده الصلاة " هو حزن إنساني لا فردي يتصل بتصور صلاح لوضع الإنسان في هذتا الكون، ومن التبسيط أن يقال أن هذا الإنسان لا يمثل أية قيمة، وأن ليس لوجوده معنى، " ما الإنسان؟ أن عاش وأن مات "، الإنسان مخلوق شريف مناضل جميل حين لا يفقد الألفة مع أخوته أو حين لا يموت في قلبه " الإنسان "، ولكنه في النهاية هو الفارس القديم (لأنه يعيش في غير عصر الفروسية) ، وهو في النهاية مهزوم، كما أنه هو الملاح الذي مات قبيل الموت " حين ودع الأحباب والأصحاب والزمان المكان "، عادت إلى قمقمها حياته وانكمشت أعضاؤه رمال ومد جسمه على خط الزوال، وهو سندباد الذي سئم التطواف، والحديث عن المغامرات والأهوال. ليس هذا وحسب، بل أنه لا يمثل حقيقة واحدة تسمى الإنسان، وإنما هو في كل مرحلة غيره في المرحلة الأخرى، ولهذا تتكثر " الأنا " عند الفرد، ويغدو " الأنا " القديم مطاردا للأنا الجديد، وإذا مشى " الأنا " الجديد بثقة فيما صار إليه أصبحت " الذوات " القديمة قتلى يجرجرها معه أينما أتجه، وكلما حاول أن يقدم خطوة، بهظه الحمل، فأصبحت مواقفه النفسية وقوفا عند محاكمة تلك المراحل، فإذا كان شاعرا مثل صلاح أصبح جانب كبير من شعره، ترجمة ذاتية، واستعادة للماضي، فإذا جاء المساء قام بجولة في تاريخه

أتحد بجسمي المتفتت في أجزاء اليوم الميت تستيقظ أيامي المدفونة في جسمي المتفتت أتشابك طفلا وصبيا وحكيما محزونا يتآلف ضحكي وبكائي مثل قرار وجواب أجدل حبلا من زهوي وضياعي لأعلقه في سقف الليل الأزرق أتسلقه حتى أتمدد في وجه قباب المدن الصخريه أتعانق والدنيا في منتصف الليل، حتى إذا طلع الصباح تجمع " فأرا " في مخزن عاديات: كي أتأمل بعيون مرتبكه من تحت الأرفف أقدام المارة في الطرقات إذن فهذا الإنسان غريب ضائع، وفي النهاية شيء تافه، يعيش في عالم " يموج بالتخليط والقمامة "، " كون خلا من الوسامة "، وتتقاذف هذا الإنسان موجتان: الرعب والسآمة، لتسلماه إلى الهوة الأخيرة " الموت "، حتى لتشرفان به أحيانا على الانتحار. فالموت؟ رغم كل ما يقال في كراهيته - يظل هو الحقيقة الكبرى، صحيح أنه هو الطارق الغريب المجهول الذي يختار الأهل والأصحاب والأطفال، والأبرياء القرويين، دون أن يقدم مسوغا لفعله، ولكنه أيضا الحقيقة التي تختصر معنى الوجود الإنساني في لفظتين؟ هما لفظة واحدة - " قضى "، " قضت "، وهو الخيار الوحيد الذي قد يعانقه الإنسان لو قيض له أن يختار، بل هو الخيار النهائي، لأن الإنسان حين يصبح حرا، في اختياره، سيختار؟ في الحياة - أخطاء أكبر، وحياة أقسى وأمر، وإذن لقتل نفسه ندما (ثمنا للحرية) ، ففقدان الحرية هو الحرية نفسها، ولا يستطيع هذا الإنسان أن يمتلك ناحية الحرية المطلقة إلا بالموت:

أين يقع الحب في إطار هذه الفلسفة؟: الفارس القديم، دون كيشوت هذا العصر، يحس أن الحب لم يعد كما كان، الحب في هذا الزمان خاضع للتحول، فإذا أحب الفارس اليوم فمن يدري؟ في الغد - هل يكون في العيون وجدها أو يكون فيها حقدها، وفي القديم كان الحب " يخضع للترتيب والحسبان " كانوا يقولون، نظرة فابتسامة فسلام.. الخ، أما اليوم فإن العاشق العصري قد يلتقي بمحبوبته " من قبل أن يبتسما "، وقد يذوق العاشقان ما يذوقانه قبل أن يشتهياه، فالحب لحظة شبق، تضيع قبل أن تتحدد أبعادها أو يعرف الممارسان لها أحدهما الآخر، وهذا ما حدث للشاعر ذات يوم في فينا، ومع ذلك فأنه أحب تلك اللحظة، ووجد فيها انفراج حزنه المقيم، وحمد الله (رغم نقمته على السماء) على ما قيض له من شعور؟ ولو عابر - بالحياة: تبارك الله الذي قد ابدعك وأحمد الله الذي ذات مساء على جفوني وضعك وواضح أن الشاعر هنا، يتحدث عن الحب، وهو يعني الجنس، ولكنه حين تحدث عن الحب بمعناه المطلق فإنه يجد فيه قوة مكانية، وأن عجزت أن تتغلب على الموت، تستطيع أن تكون ملاذا منه، وفردوسا إلى أن تنتهي رحلة الإنسان إلى شاطئ المنون، الحب يا حبيبتي أغلى من العيون صونيه في عينيك واحفظيه الحب يا حبيبتي مليكنا الحنون كوني له سميعة مطيعه

الحب كالشعر، كلاهما يولد بلا حسبان، وكلاهما قهار، هذا حين نتأملهما بمعزل عن الموت، أي نقبل على الحياة، رغم ما فيها من رعب وسأم، ولكنهما يحوران؟ على ضوء الحقيقة الكبرى - شيئين آخرين، حينئذ يخوننا الحب كما يخوننا الشعر، ونغدو ولا ملاذ، حين يلتقي انسانان منهوكان عليلان، ويتوهج قلباهما، يولد شيء في الظلمة، فيتلاصقان ويتعانقان، ثم؟ ثم خبا لم ندرك شيئا وتهدل كفانا، أغضت عينانا ولان الليل الموحش يولد فيه الرعب لن نجني حتى الحب؟. أن الحب قد يكون قوة تبدد الحزن، وتسقطه من نفس الشاعر كما تسقط الآوراق عن الشجرة، ولكن هذا شيء آني، حين يقترن كل ذلك بالتفكير في الموت، وفي الحياة التي يمتلك طرفاها الرعب والسأم، وهذا وأن كان وليد فلسفة وجودية عامة، فإنه وليد الإحساس بصدمة ذاتية أسقطت الشاعر فوق الزمن في مطلع الصبا، وفي الكلمات الآتية صورة تلك التجربة: في ليلة صيف وقع أحد الشعراء البسطاء أنغاما ساذجة خضراء ليناجي قلب الآلف لكن كفا معشوقته قد مزقتا أوتاره صارت أنغام الشاعر خرساء فإذا نطقت كانت سوداويه

بل لعل هذه الصدمة الذاتية هي المدخل إلى تلك الفلسفة، فيكون الحب هو الذي رسم للشاعر صورة الإنسان والكون، والموت والحياة. أن شعر صلاح في تطوره يشير إلى أنه أخذ يستخدم العادي في التعبير عما هو غير عادي، أعني استخدام شؤون الحياة اليومية، للتحليل الدقيق، للأوضاع النفسية المعقدة، المركبة، ولعل هذا هو الذي مهد لنقلته إلى المسرح الشعري، وفي هذا الجو الجديد، جو المسرح، تعبير عن الحب يستحق وقفة أخرى، ولكني لا أجد ذلك ضروريا في هذا المقام، إذ أنه ليس في منهج هذه الدراسة اقتحام ميدان الشعر المسرحي. وقد يطول بي القول لو أردت أن أعرض للحب عند البياتي، في مراحله ووجهاته المختلفة، ولهذا أقتصر هنا على وجهة واحدة، هي أكثر شيء برواز في المراحل الأخيرة من شعره: ربما كان الحب في شعر البياتي قوة موحدة، تربط بين الشاعر والكون، وتصل ما بينه وبين الآخرين، وتخلق علاقة بين الواقع واللاواقع، ولكن مجاورته للكره، تجعل قوة التوحيد " أملأ " لا حقيقة، ذلك لأنه محتاج للكره من أجل الثورة، ولهذا فإنه حين يحس نوازع النقمة والغضب على الفساد، والشرور ينكمش الحب إلى حد التلاشي. من أين يأتي الحب، يا حبيبتي، ونحن محكومون بالإعدام ؟. محاصرون منذ الفي عام نحاول الخروج من دوائر الأصفار وحين يفسح الغضب والنقمة الطريق للحزن الصوفي تتسع دائرة الرؤيا، ويصبح الحب قوة كونية خفية لا تبيد، ويمثل

الحبيبان طرفي المعضلة اللذين لا يلتقيان: أعني الانتظار والبحث، أو البحث والانتظار، (أي أنه كان أحدهما منظرا سار الآخر في البحث عنه، والعكس) ، وتتعدد الرموز (عائشة - عشتاروت، أوفيليا، لارا؟ الخ) لتشير إلى حقيقة واحدة لا تتعدد، هي المحبوب (أو الحب) الذي ضاع ولكنه لم يمت، بل هو يحل في كل مجال، ويتراءى في صور وأشكال، (فراشة، نجمة، شجرة؟. الخ) عائشة تبعثتحت سعف النخيل فراشة صغيره تطير في الظهيره ها هي ذي ترشق بالقرنفل الأحمر وجه الموت تقول لي: تعال خذني على ظهر جواد الليل والنهار إلى سهوب النار راعية لغنم القبيلة خذني إلى مدينة الطفوله فأنني أموت من كوني لا أموت؟ فهذا الخلود دون اتحاد بالمحب هو موت أيضا، ولهذا كان ذلك البحث الدائب الذي لا يعرف الإعياء طلبا للاتحاد، ليتم به انتصار الشاعر على الزمن والموت، وحين يدنو المحب من لحظة الوصول، ينزل بين الروحين (أو الجسدين) حجاب يحول دون ذلك الاتحاد: أرسم صورتها فوق الثلج، فيشتعل اللون الأخضر في عينيها والعسلي الداكن، يدنو فمها الكرزي الدافئ من وجهي، تلتحم الأيدي بعناق أبدي لكن يدا تمتد فتسمح صورتها، تاركة فوق اللون المقتول بصيصا من نور لنهار مات

وهكذا يظل الإنسان " الشاعر " يكابد هذا الطواف في المنفى (الفردي والكوني) ، مفتشا مسائلا، في توق محموم، وأن كان شيخ المعرة قد قال له؟ بنغمة مؤيسة: إياك والسؤال فلن يرد جبل " التوباد " لسائل جواب. هذا الاتحاد الذي جعله البياتي مستحيلا، كما جعله بديلا عن كل اخفاقات الحب في الواقع، هو نفسه مطلب حياتي، وجودي، فلسفي، لدى الشاعر الحديث، ولهذا فإنه يتأتى له، ويحاوله، عامدا أو مداورا، من زوايا مختلفة؛ وهو عند أدونيس؟ مثلا - يمكن أن يتم عن طريق الحب الجسدي -، كما تعبر عن ذلك قصيدته " تحولات العاشق " (1) ، حيث يمكن أن يولد من هذا الاتحاد نفسه كل شيء: الطبيعة، الفصول، والأطفال، والمعجزة التي لا تتقيد بقوانين الطبيعة، بل " والحب الآخر في الحب "،: طامح جسدي كالأفق وأعضائي نخيل تدورين في أقطف تحت صدرك، أيبس وأنت ريحاني والماء كل ثمرة جرح، وطريق إليك أعبرك وأنت سكناي، اسكنك وأنت أمواجي جسدك بحر وكل موجة شراع جسدك ربيع وكل ثنية حمامة تهول بأسمي فالحب الجسدي عند أدونيس؟ كما هو عند السرياليين - " يختصر كل عجائب الكون قوى الوعي وكل اهتزازات الشعور "، وهو الذي يمكن المحب من

_ (1) أنظرها في ديوانه " كتاب التحولات ": 111 - 166.

مبارحة ذاته والخروج من الحب النرجسي: " أتبرأ من الأرض وأجيئه وحيدا عالقا بنفسي "، والمرأة في هذا الحب قادرة؟ كما هي عند ايلوار - على أن تصبح حقيقة متألهة، إلا أن أدونيس يضيف إلى ذلك حركة مضادة، إذ يجعل الرجل أيضا قادرا على الخلق: " كما خلقتك اشتهيتني، كما شئتك انسكبت في ". وفي هذا الزواج الجسدي (حيث الزوجان: كل منهما لباس للآخر) ، معاملة مع الموت من عدة وجوه، التزيي بالموت، الانتقام من الموت، الاتحاد مع الموت، الانفصال في الموت عن الموت، وفي مثل هذه المواقف يصل المرء إلى نتيجة واحدة، وهي أن الحب والموت سيان، فإن لم يكونا كذلك فهما منطقتان؟ بالمتعة - متجاورتان: هل الحب وحده مكان لا يأتيه الموت؟ هل يقدر الفاني أن يتعلم الحب؟ وماذا اسميك يا موت؟! بيني وبين نفسي مسافة يرصدني فيها الحب، يرصدني الموت والجسد عمارتي من أعماق الأشياء الفانية أعلن الحب ليبيرا، ليبيرا، فالوس؟. وفي مثل هذا النوع من الغناء، قد يتلاشى الجسد، (بل لا بد له أن يتلاشى) ولكن شريعته باقية، وعندما يسأل الحب، هنا، ماذا تفعل أيها الحب، يجيب: أعارض الأرض أي يقف وحده حقيقة شاهرة؟ مع الموت - في الحكم على الوجود الماضي إلى الفناء.

وهذا الاتحاد عند محمود درويش هو سر شعره، إلا أنه اتحاد من نوع آخر، أنه وحدة الشاعر والأم والحبيبة والأرض في نطاق واحد، دون انفصال. وإذا لم يغد هذا الاتحاد في شعر محمود مفهوما بحدوده المميزة، ظن القارئ أنه قائم على التلاعب بلفظة " الحبيبة " والألغاز بها للتمويه. وقد يذكر محمود أسماء واقعية لحبيبات، ولكن هذا يجب أل يصرفنا عن رؤية المعنى الكلي الذي يرمي إليه، سواء أكان تعبيره؟ حسب قوله -: باللغة الصافية أو اللغة الدامية أو اللغة النائمة أو اللغة الضائعة، فإن " المعبودة " واحدة لا تتغير، ابتداء من بطاقة التشريد حتى كل محاولة للعثور على الهوية، تلك الهوية التي لن تتحقق دون الوطن: ؟؟ لم أجد في الشجر خضرتها فتشت عنها السجون فلم أجد إلا فتان القمر فتشت جلدي، لم أجد نبضها ولم أجدها في هدير السكون ولم أجدها في لغات البشر وهذه الأرض المعبودة ذات عينين ساحرتين، هما حينا هجرة، وحينا منفى، وحينا عودة، وحين يمثلان العودة، يتجلى المستقبل في أكمل بشاراته: - من يرقص الليلة في المهرجان - أطفالنا الآتون - من يذكر النسيان - أطفالنا الآتون - من يضفر الأحزان، إكليل ورد في جبين الزمان - أطفالنا الآتون

عندئذ يموت المحبان؟ مسرورين - في ضوء موسيقى الأطفال الآتين، وهذا يعني أن فرحة الحب، موصولة، بفرحة المستقبل، وأن ليس ثمة حب مجرد يعيش، في المطلق، كما يعيش حب البياتي، أو كما يحاول أن يعيش حب أدونيس. ولا بد أن يختلف تعبير المرأة عن الحب؟ ولو نظريا - عن تعبير الرجل، حتى حين يحاول أن يتقمص دور المرأة (كما يفعل نزار قباني) . ولكن يجب أن نتذكر أنه في خلال الثلاثين سنة الماضية، قد تم تطوران كبيران؟ إلى جانب تطورات أخرى - وهما تطور وضع المرأة، وتطور فكرة الحب، ولهذا فإننا حين ندرس شعر المرأآ، قد نتأرجح بين أدنى درجات السلم وأقصاها، فشعر نازك؟ مثلا - من هذه الناحية، قد يتلخص في كلمتين: تعال؟ لا تجيء، أو " لنلتق؟ لنفترق "؟. لأنه قائم على تصور الخوف من التغير (ومن الزمن) ؟ كما بينت في فصل سابق -. وتمثل فدوى طوقان جميع هذه المرحلة، وتضيف إليها أشياء كثيرة تتصل بعالم الأنثى، حبن يكون المجال هو الحب، أو تجربة الحب، فهي مثل الرجل حين ترى أن الفن نوع من التخليد للمحبوب: " ربيعك باق بشعري فما ينتهي "، إلا أنها تختلف عن الرجل في تحليل عاطفة الغيرة؟ مثلا - (1) ، وفي تحليل معاني العبودية، فالرجل قد يقول للمرأة: سيدتي، أميرتي، مليكتي، ولكنه في النهاية، لا يعني بدقة ما تحمله هذه الألفاظ من معان، أما المرأة فإن كل لفظة من هذا القبيل مقيدة لها مرهونة بإخلاصها، ولست أريد أن ألجأ إلى التعميمات فأقول: أن المرأة أشد إخلاصاً؟ في الحب - من الرجل، وأنها من ثم أكثر منه وفاء، ولكني قد أقول: أنها لا تتفلسف كثيرا حول الحب، كما

_ (1) انظر ديوان وجدتها (بيروت: 1962) : 84.

يفعل الرجل، بل هي أكثر التصاقا بالواقعية؟ في الحب - منه، وإذا كانت فدوى هي المثال الذي اختاره لتأييد هذا الزعم، قلت: إننا نصادف لديها سؤالا خالدا هو: ما أنت؟ (بدلا من: من أنت؟) وبين " ما " و " من " يكمن كل الفرق في تحديد هوية الحب: أسأل ما أنت؟ سمعت الرياح تقول لي في مثل همس القدر إنك يا حبي نشيد الخلود وانني عبر الوجود وفي هذه المرحلة التاريخية تغدو " سرية " الحب أمرا ضروريا، لأنها جزء من طبيعة تلك المرحلة، ولأنها أكثر دلالة على الوفاء. ورغم التطور الزمني، تظل المرأة أقدر من الرجل في التعبير عن احساساتها العميقة حين يطري جمالها رجل ما (1) ، أو عن العيش في سجن الحب، أو في تقديس الأمور المشتركة بين المحبين (2) : من الرأي إذ نلتقي عنده يا حبيبي من الفكرة الواحدة من الشعلة العذبة الخالدة ومن ألف حلم ندي جميل وأشياء أخرى نتقاسمها وإياك، نسيانها مستحيل

_ (1) انظر ديوان وجدتها (بيروت: 1962) : 106 - 107. (2) المصدر السابق: 43.

ثم إن المرأة أقل عنفا من الرجل في الاتهامات المتصلة بالخيانة أو التنكر للحب، ولكنها من وجهة أخرى أشد من الرجل رأما للطفولة فيه. وتميز فدوى؟ بقوة - بين الحب والود، فالأول متصل بارتعاشات مبهمة تبدأ في الطفولة: " تحبني "؟ تاريخها عندي قديم قبلك من سنين، من سنين نشدتها، بحثت عنها في طفولتي نشدتها إذ كنت طفلة حزينة، مع الصغار عطشى إلى محبة الكبار وكنت أسمع النساء حول موقد الشتاء يروين قصة الأمير، إذ أحب بنت جاره الفقير أحبها؟ وترعش الحروف في كياني الصغير إذن هناك حب؟ هناك من يحب، من تحب!! وأما اللفظة الثانية، فإنها تلحق بالصداقة، تحبني؟ لا. ردها دع لي، صديقي، ودك الكبير أعب من حنوه في دربي الطويل غير أن لفظة " الحب " نفسها، قد تلقي في النفس ظلالا متفاوتة، من المعاني، كما أنها؟ ككل شيء آخر في هذه الحياة - خاضعة لحكم الزمن: يوم، وتعرى الكلمة الناعمه من ظلها، من سحرها الباني يوم، ويبدو وجهها الثاني عبر مسافات جليدية خلف متاهات ضبابية؟.

مثلما أن " ظاهرة الحب " نفسها قد أصابها التغير بفعل الزمن، فجفت، وأصبحت قاصرة على العلاقات الجسدية: الحب عند الآخرين جف وانحصر معناه في صدر وساق؟. وتشارك سلمى الخضرا الجيوسي في كثير من مظاهر هذه المرحلة التاريخية، فهي أيضا حيية، لا تسعفها الجرأة على البوح خانت جرأة البوح الرحيمة وبسالة الشكوى قوانا فخلت أغانينا من الآهات، واختنقت رؤانا ولعل هذا الخجل هو الذي يجعلها تعتمد صيغة الجمع في الحديث عن نفسها: وهواك ملء فؤادنا، هذي حنايانا رفيف من عباده. وتعارض سلمى بين الجمال والحب، وخاصة في قصيدة " سودان "؟ وهو رمز للفتى الجميل - الذي حرك جماله دخائل الإعجاب، ولكنه لم يترك حبا: سيمضي لن يراه الليل سهدا في مآقينا ولن يشرب من آهاتنا حسره ولا من دمعنا المغلوب في أعماقنا قطره ولن يمتص من أوراد خديها التلاوينا وتعود سلمى إلى رمز " شوان " حين تريد أن تصور التوحيد بين الجمال والموت، فيصبح الحب بذلك والموت متطابقين. وتضيف الشاعرة تجربة أخرى حين تستغل صور السفينة أو المركب، وما يتعلق بهما من شراع وقلع ومجداف (وهي

صور تتردد عند فدوى أيضا) لتعبر بالسفينة الغارقة عن الموت المنقذ، من حياة تحول فيها الحب عن طبيعته السمحة: تغوص سفينتي في البحر، تغرق لا انجيها صقيع الليل، يا ويلي، يكدس ثلجه فيها ذلك أن الحب قد استحال إلى برودة قاتلة. فكل شيء هامد، وكل شيء يشكو الصقيع: صقيع الليل مد جذوره عندي وعشعش في شغاف القلب من ينجيك من بردي!! وقد اجتمع تغير الحب مع ضياع الوطن والهوية، فإذا العالم كله ميت، والبرد " قد عشعش في عرق الرحم ". وليس من المستغرب أن تتجاوز المرأة الشاعرة؟ في هذه المرحلة - كل ما يتصل بالحب الجسدي، فلا تقف عنده، وان كان بعض الشواعر لا يجدن حرجا في استخدام بعض الصور الجنسية. وسيظل الشعر؟ إذا قيس بالقصة الطويلة أو المسرحية - من أقل الألوان الأدبية تنويعا في موضوع الحب، بحكم جوهره وطبيعته.

8 - الموقف من المجتمع يكاد كل ما جاء في الفصول الأربعة السابقة: حول الموقف من الزمن والمدينة والتراث والحب، أن يمثل جوانب من علاقة الشاعر بالمجتمع، فليس لدي عذر في اختيار هذا العنوان الكبير لهذا الفصل، إلا الرغبة في الكشف عن سمات وقضايا أخرى، لم أتعرض لها من قبل، وأن كان بعضها مما المعت إليه؟ بإيجاز - في الفصل الثالث. هل يمكن أن يمثل الموقف من المجتمع قضية؟ الجواب على ذلك بالإيجاب، وحين يكون الأمر كذلك، تنحصر المسألة في شيئين: هل يجوز أن يكون الفرد في صراع مع المجتمع، وهل هناك شيء اسمه الصراع بين الطبقات؟ في المجتمع الواحد -؟ ومع أن كل هذا يعد تبسيطا شديدا، للواقع الاجتماعي، فإن هناك من يعتقد دون ريب أن الفرد والمجتمع يمثلان طرفي صراع، كما أن هناك من يثبت، أن الوضع الإنساني كله، لا يتعدى الصراع بين الطبقات في المجتمع الواحد. ولنأخذ القضية الأولى: الصراع بين الفرد والمجتمع، (وما أقساها من حقيقة!!) إذ كيف يمكن للفرد، أن يقف هذه الوقفة التي تنبئ عنها البداية بأنها خاسرة، ومع ذلك، فإن نجيب محفوظ، حاول في " اللص والكلاب "، أن يصور هذه الفكرة، وكانت النهاية مرصودة في البداية، فإن الفرد منهزم قبل أن تبدو إمارات هزيمته، إذ من ذا الذي يستطيع أن يقول؟ ولو على نحو من التنبؤ الخاسر - أن الفرد هو

سينتصر في النهاية؟!! تلك حقيقة تتجاوز القول؟ على نحو من تصور كافكا - بأن الفرد محكوم، دون أن يعرف من هم حكامه، ومن هي المحكمة التي تدينه، وما هو الذنب الذي يحاكم من أجله، وما هي التهمة الموجهة إليه، سوى تهمة " الوجود " أو كما يقول زكريا ثامر في إحدى قصصه: " إذا كنت بريئا فلم ولدت "؟؟؟. الصراع بين الفرد والمجتمع؟؟ طرفان في المعادلة لا يستويان، ومع ذلك فإننا نسمع ممدوح عدوان يقول، في مقدمة ديوانه " الظل الأخضر ": " إن الفنان إذ يكتشف صفاءه، يكتشف عكر العالم، وتصطدم صلابة صفائه بصلابة العالم.. وهذا الاصطدام يولد الشرارة المضيئة للعالم؟ إن الفن ينبع دائما من هذا الصدام، من الرغبة في أن لا يفقد الإنسان صفاءه.. ويصبح هذا الهم الذاتي جذرا لهموم الناس جميعا ". إن هذا التصور لفردية الشاعر، ولمعنى هذه الفردية، هو نفسه الذي يلهم ممدوح عدوان قصيدة مثل " العابرون كالرعد " (1) ، حيث يدخل الفرد؟ رغم تفرده - من الخلايا الاجتماعية، ويستمد القوة منها: كانت الجماعة تجري كرفوف النحل، مع جوعها وحفائها وعرقها، وهي تردد الحمد للإله على ما وهب؟ أيا كان مقدار ما وهب - وكان مضاؤهم وهو يقع في إذن المتسمع لحركتهم يشبه صوت حوافر الخيل، أو صوت الاذرعة النابضة، وكان الشاعر يتسمع إلى تلك الحركة وهو ما يزال مبدد المشاعر، مشغول النفس بترقب النساء اللواتي يطرقن الأبواب " بحثا عن لقاء فحول " وببناء سجون الوحدة المعتمة، ولكنهم حين رآهم استيقظ، فاستنكر هربه، وبصق على الجانب الممسوخ من حياته، وأخذ في النهوض " فذابت الجدران "، وسار مع الجماعة يعبر التاريخ

_ (1) ديوان " الظل الأخضر " (دمشق: 1967) : 77 - 83.

كالرعد، حافيا كواحد منهم " يزحف الأيام بالأقدام والأيدي ". وهذا الذي يتحدث عنه ممدوح ينبئنا؟ بكل صراحة - أن الصراع بين الفرد والمجتمع، ليس تعويضا عن السير في المجتمع، حين يأخذ المد الطاغي مجراه، وقد نقول أن ممدوح عدوان قد بسط المشكلة، ووضعها في جو شعري، مصورا مرحلتين متعاقبتين: مرحلة الاغتراب، ومرحلة وجدان الهوية الاجتماعية. فكيف يكون الوضع بالنسبة لشاعر كان يجد هويته أولا ثم بسبب عوامل متعددة أحس بالاغتراب من بعد، وبفقدان تلك الهوية؟ المشكلة هنا تمثل أزمة غير التي يتحدث عنها ممدوح، لأنها ليست مجرد صراع متافيزيقي بين صفاء الشاعر وكدر العالم، ذلك الصراع المتافيزيقي يعني أن كل شاعر أصيل لا يستطيع أن يعبر عن مجتمعه قبل أن يكتشف أبعاد ذاته، ويبدو أن ليس بالتالي من تناقض حاد لأن المجتمع ليس بحاجة إلى أفراد (فنانين أو مفكرين) ليست لهم هويات مميزة داخل ذلك الإطار الاجتماعي الكبير. ويبدو لي أنه لا بد لوضع هذه القضية في موضعها الصحيح من أن نميز؟ في الصراع بين الفرد والمجتمع - مواقف متفاوتة: فهناك الغربة (أو الاغتراب) وهناك الثورة على المجتمع، وهناك العزلة الكلية عن المجتمع. فالغربة تتم في نطاق المجتمع (لا خارجه) ، ولهذا فإنها رغم ما يصاحبها من الآم وخيبة، لا تحول بين صاحبها وبين خدمة المجتمع، والثورة ليست سوى اصطدام بالنقائض التي يعاني منها المجتمع، وليست محاولة لتحطيمه، وإنما هي محاولة لتنبيهه أو إيقاظه أو تطويره، والثائر في مثل هذه الحال، يصارع من أجل أن يحقق الانسجام الاجتماعي، على نحو أشد فعالية من المغترب، وأن كان مطلب الاثنين واحدا، وقد يكون التأقلم

بالمناخ الاجتماعي إيمانا مطلقا بالواجب، (كالسير في ركاب حزب أو جماعة) ، وعندئذ ربما تتعرض طبيعة الخدمة الاجتماعية للمحك، إلا قليلا، وذلك حين يختل الإيمان المطلق، أو حين تصطدم مصالح الجماعة بمصالح جماعة أخرى، وعندئذ قد يكون ما سمته " زاوية الرؤية " خاطئا ربما لم يكن له وجود في الواقع، ولكن هنا سلمننا بوجوده، فإنه يعني في حال الشاعر " غيابا تاما " عن معالم المرحلة التي يعيشها، والحقيقة أن هذا الغياب التام نسبي، وهو في أردأ صوره انحياز للثانويات وهرب من الضرورات والجوهريات. مثل هذا التصور يقربنا كثيرا من مفهوم الالتزام، فلنعد إلى ممدوح عدوان، الذي يعلق على حديثه عن الصراع بين الفرد والمجتمع بقوله: " هل قلت شيئا ينافي الالتزام؟ " ثم يجيب على هذا التساؤل قائلا: " أن لم تعط في حالة كهذه أدبا ملتزما، فإنك لن تعطي التزاما صادقا في حياتك. فالالتزام ليس استداء التصفيق، والاهتمام بالناس لا يعني كتابة قصائد التعزية. للشعر وظيفة واحدة هي الدفاع عن إنسانية الإنسان في هذا العالم؟ كما يقول الشاعر ماياكوفسكي؟. ". وحين نقبل هذا المفهوم لوظيفة الشعر، علينا أن نضيف: أن إنسانية الإنسان ليست قيمة مصمتة، وإنما هي واقع أصيل، يتأذى بشتى الاعتبارات: هي حتمية يؤذيها الإهمال والانغلاق والخطأ في زاوية الرؤية، والخوف من التطور، وكثير غير ذلك، ولكن أكثر ما يؤذيها أيضا الإيمان بالتفاوت الطبقي (أي ضياع العدالة الاجتماعية، وعدم الوعي على التمييز العنصري أو اللوني، وتمجيد القوة لمجرد أنها قوة يسحق فيها الضعيف والفقير، ويضيع الحق الإنساني،؟ الخ) .

وهي من ثم؟ رغم واقعيتها - قيمة مطلقة، وكل خروج عنها يمثل شرخا أو جرحا في وظيفة الشعر، وإذا كان الأمر كذلك فإن الإلحاح على صراع الطبقات؟ في المجتمع - أهم بكثير من الإلحاح على الصراع بين الفرد والمجتمع، لأن الأول يحقق مفهوم الالتزام، أكثر مما يحققه الثاني، وإذا كنا نقول أن الالتزام يكاد لا ينعدم، فيجب أن نسارع أيضا إلى القول، بإن درجات الالتزام متفاوتة، وفي كل موقف يتضح هذا التفاوت، سواء أكان ذلك الموقف صورة للعلاقة بالزمن أو بالمدنية أو بالتراث أو؟.الخ، فالشاعر الذي يرى في علاقته بالزمن صورة التجدد، ويستشرف في رؤيته للمدينة صورة الحضارة التي تكفل سلامة إنسانية الإنسان، ويستطيع في موقفه من التراث أن يربط بين الماضي والمستقبل، ربطا لا يطغى فيه أحدهما على الآخر، هو أكثر التزاما ممن يقع دون ذلك في تصوراته وأفكاره. ولعل خير ما يلخص حقيقة الأمر أن يقال أن الالتزام هو الجانب الإيجابي من علاقة متبادلة بين الشاعر والمجتمع، وهي ليست علاقة أخذ أو عطاء ولا علاقة انصهار أو ذوبان، وإنما هي علاقة تطابق، فقد يصف الشاعر البحر لأنه أحب منظره، أو تأثر بروعة امتداده ولكنك تحس وهو يتحدث عنه أنه يعبر بذلك عن حرية الإنسان، أو عن عمق الوجود الإنساني أو سعة التجارب الإنسانية، دون أن يصرح؟ في الحالين - مخبرا أو مقررا - بهذه الرابطة الوثيقة السرية بينه وبين البحر، وتكون كل حركة أو صورة أو موجة موسيقية في قصيدته صورة لذلك التطابق، وهذا التطابق قد يوحي بالتفارق أو التقابل أو التناسب أو التحاور ولكنه لا يوحي أبدا بالانفصال. وليست صفة الإيجابية في هذه العلاقة تعني المهانة، إذ أن هذه الأخيرة قد تكون بدورها سلبية محضا، ولهذا

كان الالتزام مرتبطا بالثورة، وأن أوحت كلمة " التزام " بتقبل مواصفات معينة، كأنها آتية من الخارج، إذ أن هذه المواصفات قد تكون ثورية وقد تكون غير ذلك. ولكن أية ثورة نعني؟ لنأخذ ثورتين متصلتين اتصالا وثيقا بتطور الشعر الحديث، وبرسم الوجهات التي يسير فيها، وهما الثورة السريالية والثورة الماركسية، فماذا نجد؟ نجد أنهما رغم التقائهما في بعض الأصول والظواهر تفترقان في أمور جوهرية، فالاولى ثورة من خلال المشاعر، والحلم واشعر والجنون، بينما الثانية ثورة عملية تعتمد تنظيما واعيا وتؤمن بأن العمل هو الرابطة بين الإنسان والطبيعة، وتحتكم إلى التاريخ، بينما يرفض السرياليون التاريخ، ولا يؤمنون بأي موجه يجيء من خارج الرغبة الإنسانية. وما دام التحويل للمجتمع ماديا هو الذي يخلق أشكالا فكرية لم تكن في الحسبان؟ في رأي المادية التاريخية - فإن المنادين بالثورة الماركسية يعتقدون أن الثورة هي المهمة الضرورية الوحيدة للإنسان، وهذا شيء لا يأخذ به السرياليون لأنهم يرون الثورة إحدى المهمات الإنسانية، وحسب، وإذا كان الفن؟ أو الشعر - جزءا من النشاطات الإنسانية التي تحقق تلك الثورة لدى الماركسيين، فإنه لدى السرياليين عالم قائم بذاته، صنو للثورة، وقد يسعفها في بعض المراحل، إلا أنه يجب إلا يصبح أداة فيها. هذان تياران ثوريان يفعلان بعمق في الشعر العربي المعاصر، وينبنيان قضية الالتزام، فإذا أضفت إليهما تيارا ثوريا ثالثا يأخذ من هذا وذاك، وهو التيار الوجودي، ويبني مفهومه للأدب والشعر على أساس من الالتزام أيضا، وضح لك، أن تطبيق مفهوم الالتزام لن يتحدد في شكل

واحد، ولكنه يجيء على أشكال متفاوتة تنبني جميعا على أصل مشترك هو " الدفاع عن إنسانية الإنسان ". ومن الاختلاف في التطبيق يجيء التفاوت بل الاختلاف العميق في طبيعة الشعر ووظيفته، وحول اللغة والتاريخ والشكل الشعري والصورة الشعرية؟ مما المعت إليه من قبل - فأصحاب المادية التاريخية يتحدثون ببساطة وعفوية إلى الجماهير لأنهم يرون أن الشعر فعال في تبنيه الوعي، والدفع نحو الثورة، وهذا اللون من الشعر يغلب عليه الوضوح في لغته وصوره ورموزه، وعدم التعقيد في بناء القصيدة، وإبراز الهدف فيها ظاهرا على السطح، وأصحاب الاتجاه السريالي يرون؟ كما يرى أدونيس - (وهو وأن لم يكن سرياليا فإن لديه عناصر كثيرة تربطه بالسرياليين) أن ذلك اللون من الشعر ليس ثوريا، وأنه يخون قضية الشعر الصحيح، إذ الشعر الصحيح " تحويل إبداعي باللغة معادل للتحويل الإبداعي بالعمل "، وإن دور الشاعر هو " أن ينقض باللغة الثورية بنية الحياة الشعرية الماضية "، ومن الواضح أن أدونيس يحاول أن يقيم جسرا بين الثورتين المذكورتين؟ من خلال مفهومان سريالية - ولهذا فعندما أخذ عليه محمد دكروب أنه " يفصل بين الثورة والشعر الثوري، ويهدف إلى تغيير الشعر غير عابئ بإسهام ذلك الشعر في تغيير بنية المجتمع، وأنه جعل الفن الثوري موازيا للثورة "، استغرب ذلك، مع أنه لا وجه للاستغراب، لخلاف جوهري بين المنطلقين. وليس في وسع هذه الدراسة تتبع الآثار التي تركتها كل ثورة، ولكن حين ندرس علاقة الشعر المعاصر بالثورة: ماركسية كانت أو سريالية أو وجودية أو قومية أو غير ذلك فإننا نلمح في هذا الشعر؟ رغم التفاوت في تقييمه - انفتاحا كبيرا على مشكلات الإنسان، وقدرة على تفجير

الوعي الداخلي عند الشعوب العربية، على نحو لم يحرزه الشعر من قبل، وإذا نحن اعتمدنا القانون الطبيعي: " لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار ومضاد له في الاتجاه " لم نستغرب العنف في محاولة الانتكاس بهذا الوعي، واستعمال القوة السلطوية لمحاربة الفن جملة. كذلك فإن الثورة حين تعتمد التحطيم ترتبط بالإخافة لمن لا يقدرون على تصور كل نتائجها، وهؤلاء يخشون إلى درجة الرعب انهيار سلطة الأب، وتفكك نظام العائلة، وبالتالي تقشعر نفوسهم من التحدي للسماء، ذلك أن إنسانية الإنسان؟ دون أي شيء آخر - تعني فيما تعنيه إشاحة الوجه عن كل ما هو وراء الغيب، وهذه سمة بارزة في الشعر الحديث، ولا يخفف من وقعها أن نحتال لها بالتفسيرات والتوجيهات، هل الشاعر الحديث من حزب الشيطان؟ لو الإنسان، وهذا يعني حربا خاسرة، ولكنه من حزب الإنسان، وهذا يعني أن الإنسان هو القيمة الوحيدة في هذا الكون، وهو لا يحاول أن يدخل حربا بين طرفين، وانما يكتفي بالجهود. ثم أن ارتباط جانب من هذا الشعر بالرفض المطلق فيه تحد للعلم والعقل والنظام، وإذا كان الرفض غاية في ذاته أصبح عبئا - لا أداة للثورة - لدى أمة يرتبط تخلفها بحاجتها إلى هذه الثلاثة جميعا، وقد يكون الرفض المطلق أداة توازن لدى ناس أسرفوا في الخضوع لسيطرة العالم والعقل والنظام، ولكنه حين يقف وحده تظل أسباب تبنيه خير مفهومة. ولعل ارتباط الشعر بالثورة هو الذي أفقد الشاعر الحديث قسطا كبيرا من قدرته على السخرية، لأن الغاضب المحنق لا يستطيع أن يستخر، مع أن السخرية أداة فعالة في التشكيك بالمسلمات وفي إثارة قدرة الإنسان على الحوار من

خلال قدرته الطبيعية على الضحك والابتسام، وقلما نجد في الشعر الحديث، مثل هذا الاتجاه الذي يتقنه معين بسيسو في بعض قصائده، من ذلك قوله في قصيدة " مقامة إلى بديع الزمان " (1) . حدثني وراق في الكوفة عن خمار في البصرة، عن قاض في بغدان عن سائس خيل السلطان عن جارية، عن أحد الخصيان عن قمر الدولة، حدثني قال: كنا في مجلس مولانا في شمس الرابع من رمضان مولانا انطقه الله فصاح من يقعي خلف الأبواب؟ من الفقهاء من الشر - مولانا في بابك عبدك واواء النطاح وهنالك عبدك خفاش بن غراب والشيخ الواثق بالله أبن مضيق صاحب ألف طريق وطريق تسلكه الزنديقة والزنديق مولانا عطس ثلاثا، يرحمه الله، وانتصبت أذناه آلي بواواء النطاح ؟؟؟؟؟؟.. ؟؟؟؟؟؟..

_ (1) الأشجار تموت واقفة (دار الآداب: 1966) : 87 - 90.

ومن يدرس الشعر الحديث لا تخطئ عيناه فيه اتجاهه إلى التصرف، بقوة، حتى ليغدو الاتجاه الصوفي أبرز من سائر الاتجاهات في هذا الشعر، ولعل ذلك راجع إلى طول عملية التقدم والتراجع في الحياة السياسية، واليأس الغالب والسأم من متابعة الكفاح، كما ان هناك قسطا من التصوف يربط بين الاتجاهات الثورية المتقدمة، ثم أن هذا الميدان خير ميدان تتفتح فيه ذاتية الشاعر وفرديته، فهو ينفصل عن المجتمع ظاهريا، ليعيش آلامه؟ التي هي نفسها آلام المجتمع - بوجد مأساوي، ثم أن في هذا اللون من التصوف محاولة للتعويض عن العلاقات الروحية والصلات الحميمة التي فقدها الشاعر، وتلطيفا من حد المادية الصلب الخشن. ونحن نجد مظاهر هذا التصوف في: 1 - الحزن العام الهادئ اللائب، المتطور عن الحزن الرومنطيقي القديم، ويبدو هذا أكثر ما يبدو في رمز الجواب الذي يعود مثقلا بالخسارة. 2 - الإحساس بالغربة والضياع والنفي والحاجة إلى العكوف على النفس، في مجتمع كثير الضجيج، كثير التمسك بالقيم اليومية، شديد الجحود لفضل " أنبيائه ". 3 - اتحاد الشاعر بالرموز المثقلة بالتضحية وارتياح الشاعر إلى عالم الأرواح، عالم الخلود. 4 - اتحاد الصوفي والشهيد في التراث (الحلاج. السهروردي؟.) . 5 - اتحاد الشاعر والشهيد المقاتل على نحو مجازي وحقيقي.

6 - الحلولية الكونية من مثل معانقة الشاعر للكون، أو اتحاد الشاعر والأرض والحبيبة، أو فناء المحب في المحبوب (الحب الجسدي أو غير الجسدي) . 7 - اكتشاف منطقة الما بين (بين الظل والضوء، بين الليل والنهار، بين الحقيقة والخيال) وهي منطقة شبحية يلوذ فيها الشاعر من الموت ويحتمي من جبروته. 8 - التسامي بالصدمات العاطفية والتصعيد للإخفاق فيها وفيما شابهها. 9 - خلط المحسوسات معا، والمزج بين المحسوس والمتخيل، وانسياح القيم دون حواجز مميزة. 10 - الإعلاء من شأن الجنون (أو بعبارة أخف إطلاق العقل اللاواعي وإبقاء العقل الواعي مكبلا) (وقد كان الصوفي " البهلول " أو " المجذوب " من أشد الناس تمثيلا للوصول) . 11 - الغيبوبة الحلمية التي تتجاوز الحد الطبيعي للحلم؟ القصيدة. 12 - الظمأ النفسي لمعانقة المتوقع، الذي يأتي ولا يأتي، الأمل المطلق. ومع أن التصوف تيار كبير عام، فإن لكل واحد من الشعراء تصوفه الخاص به، تحدده أسباب متصلة بحياة الشاعر واتجاهه الكبير في الشعر، فتصوف البياتي إحساس باستمرار النفي وظمأ إلى الحب وارتياح إلى عالم الأشباح (عائشة) وحزن طول الكفاح دون أن يأتي بثمرة مرجوة، وتصوف أدونيس انفتاح على الكون واتحاد بالتراث الصوفي الديني، وتصوف محمد عبد الحي استخدام للرموز الصوفية

الإسلامية للتعبير عن الحقائق الكونية، وتصوف محمد الفيتوري حزن عميق يشوبه الإخفاق العاطفي والإحساس بالغربة، وفي قصيدته " ياقوت العرش " (1) نموذج جيد من المفارقات القائمة في عالم الواقع حيث تكذب الحواس، فلا تستطيع أن تميز الأشياء بحقائقها، ولا بد لذلك كله من مكاشفة الصوفي، لفصح الزيف الذي تعاني منه هذه الحياة: دنيا لا يملكها من يملكها أغنى اهليها سادتها الفقراء الخاسر من لم يأخذ منها ما تعطيه على استحياء والغافل من ظن الأشياء هي الأشياء تاج السلطان القاتم تفاحه تتأرجح أعلى سارية الساحه تاج الصوفي يضيء على سجادة قش صدقني يا ياقوت العرش أن الموتى ليسوا هم هاتيك الموتى والراحة ليست هاتيك الراحه ؟. يا محبوبتي.. ذهب المضطر نحاس قاضيكم مشدود في نقعده المسروق يقضي ما بين الناس ويجر عباءته كبرا في الجبانه

_ (1) ديوانه: 505.

لن تبصرنا بمآق غير مآقينا لن تعرفنا ما لم نجذبك فتعرفنا وتكاشفنا أدنى ما فينا قد يعلونا يا قوت فكن الأدنى، تكن الأعلى فينا؟.. ولسائل أن يسأل: هل تبقى الثائر الماركسي في خطه الذي اختاره حين يصبح صوفيا؟ إن الإجابة على هذا السؤال تختلف لو كان السؤال متصلا بالسريالية أو الوجودية، ذلك أن من يختار السريالية مذهبا، ربما لم يجد بدا من الانتهاء إلى التصوف، في شكل من أشكاله، وفي إيمان الوجودي بعبث الحياة دافع قوي للتصوف، أما الماركسية فالأمر فيها مختلف، ولهذا أمكننا أن نقول أن الثائر الماركسي أن أتخذ التصوف مهربا من الواقع ومن الموت، فإنه بذلك ينتقل إلى مرحلة جديدة، مهما تبق من آثار ماركسية في شعره. والفرق بين التصوف لدى السرياليين والوجوديين (على ما قد يكون بينهما من شركة) أن الأولين يبحثون عن حقيقة كبيرة ضائعة، وأما الآخرون فإنهم يتمرسون؟ شعريا - بتوافه الحياة للسمو فوقها، وتلك هي صوفية الاحتراف في التجربة، والخروج من رمادها، ولكن هذا اللون غير كثير الوجود في الشعر الحديث، ولو قرأنا شعر أمل دنقل؟ وهو من أبرز الممثلين لها - لوجدنا لديه دائما صور العبث (الحياة) في مقابل الحزن (الموت) أو الإنسان واقفا أمام الجدار يحاول أن يوجد فيه ثغرة أي ثغرة. وقد كان من الممكن أن تتسرب روح التصوف إلى الاتجاه القومي في الشعر، دون أن تفقده ثوريته، لأنه لا شيء مثل أن يصبح الوطن هو الحقيقة الكلية والهدف الأسمى

ولكنها لم تفعل، وظل الاتجاه أكثر شيء محافظة، إذ يعتمد التلقائية التامة في العلاقة بين الشاعر والحدث، ويستخدم الحماسة، ويتكئ على الانفعال والتأثير المباشر، مع أنه من أكثر الموضوعات اتساعا، فهو يتناول التعاون والتكاتف الوطني والوحدة العربية الكبرى، والأبطال الوطنيين القوميين، والثورات التحررية في البلاد العربية وخارجها، والأجزاء السلبية من الوطن العربي و؟؟ غير ذلك من موضوعات، وإذا استثنينا القصائد حول المشكلة الفلسطينية، بعد الغزو الثلاثي لمصر، لم نجد تطورا كبيرا في هذا الاتجاه. وهذا يلفتنا إلى شيء هام يتناول أكثر الشعر المعاصر، وهو أن الشاعر رغم كل المحاولات التجديدية، - إذا استثنينا قلة من الشعراء - لا يحتفل كثيرا بخلق المبنى الشعري الملائم وبتطويره، وإنما هو أسير لحظة انفعالية تتخلق فيها القصيدة على ما هجس في نفسه من شكل مألوف، ولهذا كثر الإنتاج الشعري دون أن يحمل سمات مميزة في البناء، بل أنك أحيانا لتجد ديوانا كاملا قد سار على وتيرة واحدة. ولما كان أكثر الناس متفقين على أن الشعر إبداع، فلا بد للإطلاع من زمن ليختمر في النفس، ولا بد للشاعر من مراجعة ما يكتب، ومواجهته بالشك قبل أن يقبله. أما هذا التدفق السيال فإنه يحرم صاحبه العمق والتنويع والاحتفال باختيار المبنى الملائم. وربما كان المزيد من الثقافة للشاعر الحديث أمرا ضروريا ينتصر به على الغنائية والسطحية، فإن محض الموهبة وحده قليل الغناء، لقد مضى الزمن الذي كان يقول فيه ابن وكيع " الشاعر كالمغني الحاذق ولا يضره عدم معرفته للألحان "، لأن الشاعر لم يعد مغنيا حاذقا بل أصبح مفكرا حاذقا بارعا. يريد أن يعيش زمنه بوعي وبصيرة.

ملحق (1)

_ (1) ليس هذا الملحق، مختارات من الشعر المعاصر، وإنما يضم بعض القصائد التي وقفت عندها - وقفة طويلة أو قصيرة - ليستطيع القارئ أن يربط بينها وبين ما قلته عنها في متن الكتاب.

1 - نازك الملائكة الخيط المشدود في شجرة السرو - 1 - في سواد الشارع المظلم والصمت الأصم حيث لا لون سوى لون الدياجي المدلهم حيث يرخي شجر الدفلى أساه فوق وجه الأرض ظلا، قصة حدثتني صوت بها ثم اضمحلا وتلاشت في الدياجي شفتاه - 2 - قصة الحب الذي يحسبه قلبك ماتا وهو ما زال انفجارا وحياة وغدا يعصرك الشوق اليا وتناديني فتعيى، تضغط الذكرى على صدرك عبئا

من جنون، ثم لا تلمس شيئا أي شيء، حلم لفظ رقيق أي شيء، ويناديك الطريق ويراك الليل في الدرب وحيدا تسأل الأمس البعيدا فتفيق. أن يعودا ويراك الشارع الحالم والدفلى، تسير لون عينيك انفعال وحبور وعلى وجهك حب وشعور كل ما في عمق أعملقك مرسوم هناك وأنا نفسي أراك من مكاني الداكن الساجي البعيد وارى الحلم السعيد خلف عينيك يناديني كسيرا ؟.. وترى البيت أخيرا بيتنا، حيث التقينا عندما كان هوانا ذلك الطفل الغريرا لونه في شفتينا وارتعاشات صباه في يدينا

- 3 - وترى البت فتبقى لحظة دون حراك: " ها هو البيت كما كان، هناك لم يزل تحجبه الدفلى ويحنو فوقه النارنج والسرو الأغن وهنا مجلسنا.. ماذا أحس؟ حيرة في عمق أعماقي، وهمس ونذير يتحدى حلم قلبي ربما كانت؟ ولكن فيم رعبي؟ هي ما زالت حنانا وستلقاني؟ ". وتمشي مطمئنا هادئا في الممر المظلم الساكن، تمشي هازئا بهتاف الهاجس المنذر بالوهم الكذوب: " ها أنا عدت وقد فارقت أكداس ذنوبي أنا ألمح عينيك تطل ربما وراء الباب، أو يخيفك ظل ها أنا عدت، وهذا السلم هو ذا الباب العميق اللون، مالي أحجم؟

لحظة ثم أراها لحظة ثم أعي وقع خطاها ليكن.. فلأطرق الباب؟ " وتمضي لحظات ويصر في ظلمة الدهليز زجها شاحبا جامدا بعكس ظلا غاربا: " هل؟؟ " ويخبو صوتك المبحوح في نبر حزين لا تقولي أنها؟ " " يا للجنون! أيها الحالم، عمن تسأل؟ أنها ماتت " وتمضي لحظتان أنت ما زلت كأن لم تسمع الصوت المثير جامدا، ترمق أطراف المكان شاردا، طرفك مشدود إلى خيط صغير شد في السروة لا تدري متى؟ ولماذا؟ فهو ما كان هناك منذ شهرين. وكادت شفتاك تسأل الأخت عن الخيط الصغير ولماذا علقوه؟ ومتى؟

ويرن الصوت في سمعك: " ماتت.. " " إنها ماتت.. " وترنو في برود فترى الخيط حبالا من جليد عقدتها أذرع ووارتها المنون منذ آلاف القرون وترى الوجه الحزين ضخمته سحب الرعب على عينيك. " ماتت.. " - 4 - هي " ماتت. " لفظة من دون معنى وصدى مطرقة جوفاء يعلو ثم يفنى ليس يعنيك تواليه الرتيب كل ما تبصره الآن هو الخيط العجيب أتراهاهي شدته؟ ويعلو ذلك الصوت الممل صوت " ماتت " داويا، لا يضمحل يملأ الليل صراخا ودويا " إنها ماتت " صدى يهمسه الصوت مليا وهتاف رددته الظلمات وروته شجرات السرو في صوت عميق " إنها ماتت " وهذا ما تقول العاصفات " إنها ماتت " صدى يصرخ في النجم السحيق وتكاد الآن أن تسمعه خلف العروق

- 5 - صوت ماتت رن في كل مكان هذه المطرقة الجوفاء في سمع الزمان صوت " ماتت " خانق كالافعوان كل حرف عصب يلهث في صدرك رعبا ورؤى مشنقة حمراء لا تملك قلبا وتحنى مخلب مختلج ينهش نهشا وصدى صوت جحيمي أجشا هذه المطرقة الجوفاء " ماتت " هي ماتت وخلا العالم منها وسدى ما تسأل الظلمة عنها وسدى تصغي إلى وقع خطاها وسدى تبحث عنها في القمر وسدى تحلم يوما أن ترها في مكان غير أقباء الذكر إنها غابت وراء الانجم واستحالت ومضة من حلم - 6 - ثم ها أنت هنا، دون حراك متعبا توشك أن تنهار في أرض الممر

طرفك الحائر مشدود هناك عند خيط شد في السروة، يطوي ألف سر ذلك الخيط الغريب ذلك اللغز المريب أنه كل بقايا حبك الذاوي الكئيب - 7 - ويراك الليل تمشي عائدا في يديك الخيط، والرعشة، والعرق المدوي. " انها ماتت.. " وتمضي شاردا عابثا بالخيط تكويه وتلوي حول إبهامك أخراه، غلا شيء سواه، كل ما أبقى لك الحب العميق هو هذا الخيط واللفظ الصفيق لفظ " ماتت " وانطوى كل هتاف ما عدا 1948

بدر شاكر السياب في السوق القديم - 1 - الليل، والسوق القديم خفقت به الأصوات إلا غمغمات العابرين وخطى الغريب وما تبث الريح من نغم حزين في ذلك الليل البهيم. الليل، والسوق القديم، وغمغمات العابرين، والنور تعصره المصابيح الحزانى في شحوب، - مثل الضباب على الطريق - في كل حانوت عتيق، بين الوجوه الشاحبات، كأنه نغم يذوب في ذلك السوق القديم. - 2 - كم طاف قلبي من غريب، في ذلك السوق الكئيب، فرأى، وأغمض مقلتيه، وغاب في الليل البهيم. وارتج في حلق الدخان خيال نافذة تضاء

والريح تعبث بالدخان؟ الريح تعبث، في فتور واكتئاب، بالدخان، وصدى غناء.. داو يذكر بالليالي المقمرات وبالنخيل، وأنا الغريب؟ أظل أسمعه وحلم بالرحيل في ذلك السوق القديم. - 3 - وتناثر الضوء الضئيل على البضائع كالغبار، الظلال على الظلال، كأنها اللحن الرتيب، ويريق ألوان المغيب الباردات، على الجدار وعلى الرفوف الرازحات كأنها سحب المغيب. الكوب يحلم بالشراب وبالشفاه ويد تلونها الظهيرة والسراج أو النجوم. ولربما بردت عليه وحشرجت فيه الحياة، في ليلة ظلماء باردة الكواكب والرياح، في مخدع سهر السراج به، وأطفأه الصباح - 4 - ورأيت، من خلل الدخان، مشاهد الغد كالظلال. تلك المناديل الحيارى وهي تومئ بالوداع أو تشرب الدمع الثقيل، وما تزال تطفو وترسب في خيالي؟ هوم العطر المضاع

فيها، وخضبها الدم الجاري! لون الدجى وتوقد النار يجلو الأريكة ثم تخفيها الظلال الراعشات - وجه أضاء شحوبه اللهب يخبو، ويسطع، ثم يحتجب ودم يغمغم وهو يقطر ثم يقطر: مات؟ مات! - 5 - الليل، والسوق القديم، وغمغمات العابرين، وخطى الغريب. وأنت أيتها الشموع ستوقدين في المخدع المجهول، في الليل الذي لن تعرفيه، تلقين ضوءك في ارتخاء مثل أمساء الخريف - حقل تموج به السنابل تحت أضواء الغروب تتجمع الغربان فيه - تلقين ضوءك في ارتخاء مثل أوراق الخريف في ليلة قمراء سكرى بالأغاني، في الجنوب: نقر (الدرابك) من بعيد يتهامس السعف الثقيل، به، ويصمت من جديد! - 6 - قد كان قلبي مثلكن، وكان يحلم باللهيب، حتى أتاح له الزمان يدا ووجها في الظلام

- نار الهوى ويد الحبيب - مازال يحترق الحياة، وكان عام بعد عام يمضي، ووجه بعد وجه مثلما غاب الشراع بعد الشراع؟ وكان يحلم في سكون، في سكون: بالصدر، والفم، والعيون، والحب ظلله الخلود.. فلا لقاء ولا وداع لكنه الحلم الطويل بين التمطي والتثاوب تحت أفياء النخيل. - 7 - بالأمس كان وكان؟ ثم خبا، وأنساه الملال واليأس، حتى كيف يحلم بالضياء - فلا حنين يغشى دجاه، ولا أكتئاب، ولا بكاء، ولا أنين الصيف يحتضن الشتاء، ويذهبان.. وما يزال كالمنزل المهجور تعوي في جوانبه الرياح، كالسلم المهار، لا ترقاه في الليل الكئيب قدم، ولا قدم ستهبطه إذا التمع الصباح. ما زال قلبي في المغيب ما زال قلبي في المغيب فلا أصيل ولا مساء، حتى أتت هي والضياء!

- 8 - ما كان منها سوى أنا التقينا منذ عام عند المساء، وطوقتني تحت أضواء الطريق ثم ارتخت عني يداها وهي تهمس؟ والظلام يحبو، وتنطفئ المصابيح الحزانى والطريق -: " أتسير، والأشباح تعترض السبيل، بلا رفيق؟ " فأجبتها والذئب يعوي من بعيد، من بعيد " أنا سوف أمضي باحثا عنها، سألقاها هناك عند السراب وسوف أنبي مخدعين لنا هناك. " قالت؟ ورجع ما تبوح به الصدى " أنا من تريد! " - 9 - " وأنا من تريد، فأين تمضي؟ فيم تضرب في القفار مثل الشريد؟ أنا الحبيبة كنت منك على انتظار. أنا من تريد.. " وقبلتني ثم قالت؟ والدموع في مقلتيها - " غير أنك لن ترى حلم الشباب: بيتنا على التل البعيد يكاد يخفيه الضباب لولا الاغاني، وهي تعلو نصف وسنى، والشموع تلقي الضياء من النوافذ في ارتخاء، في ارتخاء! أنا من تريد وسوف تبقى لا ثواء ولا رحيل: حب إذا أعطى الكثير فسوف يبخل بالقليل، لا يأس فيه ولا رجاء.

أنا أيها النائي القريب، لك أنت وحدك، غير أني لن أكون لك أنت؟ أسمعها، وأسمعهم ورائي يلعنون هذا الغرام. أكاد أسمع أيها الحلم الحبيب لعنات أمي وهي تبكي. أيها الرجل الغريب أني لغيرك.. بيد أنك سوف تبقى، لن تسير! قدماك سمرتا فما تتحركان، ومقلتاك لا تبصران سوى أمضي فاتركني: سوف ألقاها هناك عند السراب " فطوقتني وهي تهمس: " لن تسير! " - 11 - " أنا من تريد، فأين تمضي بين احداق الذئاب تتلمس الدرب البعيد؟ " فصرخت: سوف أسير، ما دام الحنين إلى السراب في قلبي الظامي! دعيني أسلك الدرب البعيد حتى أراها في انتظاري: ليس أحداق الذئاب أقسى علي من الشموع

في ليلة العرس التي تترقبين، ولا الظلام والريح والأشباح، أقسى منك أنت أو الأنام! أنا سوف أمضي! فارتخت عني يداها، والظلام يطغى؟ ولكني وقفت وملء عيني الدموع! 3/ - 11/1948

(3) عبد الوهاب البياتي سوق القرية الشمس، والحمر الهزيلة، والذباب وحذاء جندي قديم يتداول الأيدي، وفلاح يحدق في الفراغ: " في مطلع العام الجديد يداي تمتلئان حتما بالنقود وسأشتري هذا الحذاء " وصياح ديك فر من قفص، وقديس صغير: " ماحك جلدك مثل ظفرك " و " الطريق إلى الجحيم من جنة فردوس أقرب " والذباب والحاصدون المتعبون: " زرعوا، صاغرين: فيأكلون " والعائدون من المدينة: يا لها وحشا ضرير! صرعاه مونانا، وأجساد النساء والحالمون الطيبون "

وخوار أبقار: وبائعة الأساور والعطور كالخنفساء تدب: " قبرتي العزيزة، يا سدوم! لن يصلح العطار ما قد أفسد الدهر الغشوم " وبنادق سود، ومحراث، ونار تخبو وحداد يراود جفنه الدامي النعاس: " أبدا، على أشكالها تقع الطيور والبحر لا يقوى على غسل الخطايا، والدموع " والشمس في كبد السماء وبائعات الكرم يجمعن السلال: " عينا جبيبي كوكبان وصدره ورد الربيع " والسوق يقفر، والحوانيت الصغيرة، والذباب يصطاده الأطفال، والأفق البعيد وتثاؤب الأكواخ في غاب النخيل

(4) عبد الوهاب البياتي مسافر بلا حقائب من لا مكان لا وجه، لا تاريخ لي، من لا مكان تحت السماء، وفي عويل الريح أسمعها تناديني: " تعال! " لا وجه، لا تاريخ.. اسمعها تناديني: " تعال! " عبر التلال مستنقع التاريخ يعبره رجال عدد الرمال والأرض ما زالت، وما زال الرجال يلهو بهم عبث الظلال مستنقع التاريخ والأرض الحزينة والرجال عبر التلال ولعل قد مرت علي؟ علي آلاف الليال وأنا؟ سدى - في الريح أسمعها تناديني " تعال! " عبر التلال وأنا وآلاف السنين

متثائب، ضجر، حزين، من لا مكان تحت السماء في داخلي نفسي تموت، بلا رجاء وأنا وآلاف السنين متثائب، ضجر، حزين سأكون! لا جدوى، سأبقى دائما من لا مكان لا وجه، لا تاريخ لي، من لا مكان الضوء يصدمني، وضوضاء المدينة من بعيد نفس الحياة يعيد رصف طريقها، سأم جديد أقوى من الموت العنيد سأم جديد ؟ وأسير لا ألوي على شيء، وآلاف السنين لا شيء ينتظر المسافر غير حاضره الحزين - وحل وطين - وعيون آلاف الجنادب، والسنين وتلوح أسوار المدينة، أي تقع أرتجيه؟ من عالم ما زال والأمس الكريه يحيا، وليس يقول: " ايه "

يحيا على جيف معطرة الجباه نفس الحياة نفس الحياة يعيد رصف طريقها، سأم جديد أقوى من الموت العنيد تحت السماء بلا رجاء في داخلي نفسي تموت كالعنكبوت نفسي تموت وعلى الجدار ضوء النهار يمتص أعوامي، وبصقها دما، ضوء النهار أبدأ لأجلي، لم يكن هذا النهار الباب أغلق! لم يكن هذا النهار أبدأ لأجلي لم يكن هذا النهار سأكون! لا جدوى، سأبقى دائما من لا مكان لا وجه، لا تاريخ، من لا مكان

(5) سميح القاسم تعالي لنرسم معا قوس قزح نازلا كنت: على سلم أحزان الهزيمه نازلا.. يمتصني موت بطيء صارخا في وجه أحزاني القديمه: أحرقيني! أحرقيني.. لأضيء! لم أكن وحدي، ووحدي كنت، في العتمة وحدي راكعا؟ أبكي، أصلي، أتطهر جبهتي قطعة شمع فوق زندي وفمي.. ناء مكسر؟ كان صدري ردهة، كانت ملايين مئه سجدا في ردهتي.. كانت عيونا مطفأة! واستوى المارق والقديس في الجرح الجديد واستوى المارق والقديس

في العار الجديد واستوى المارق والقديس يا أرض؟ فميدي واغفري لي، نازلا يمتصني الموت البطيء واغفري لي صرختي للنار في ذل سجودي: أحرقيني.. أحرقيني لأضيء . . . . . . . . . . . . نازلا كنت، وكان الحزن مرساتي الوحيده يوم ناديت من الشط البعيد يوم ضمدت جبيني بقصيده عن مزاميري وأسواق العبيد من تكونين أأختا نسيتها ليلة الهجرة، أمي، في السرير ثم باعوها لريح، حملتها عبر باب الليل؟ للمنفى الكبير؟ من تكونين؟ أجيبيني.. أجيبيني! أي أخت، بين آلاف السبايا عرفت وجهي، ونادت: يا حبيبي!

فتلقتها يدايا؟ أغمضي عينيك من عار الهزيمه أغمضي عينيك.. وابكي، وأحضنيني ودعيني أشرب الدمع.. دعيني يبست حنجرتي ريح الهزيمه وكأنا منذ عشرين التقينا وكأنا ما افترقنا وكأنا ما احترقنا شبك الحب يديه بيدينا.. وتحدثنا عن الغربة والسجن الكبير عن أغانينا لفجر في الزمن وأنحسار الليل عن وجه الوطن وتحدثنا عن الكوخ الصغير بين أحراج الجبل.. . . . . . . . . . وستأتيني بطفلة ونسميها " طلل " وستأتيني بدوري وفله وبديوان غزل! . . . . . . . . قلت لي؟ أذكر -:

في أي قرار صوتك المشحون حزنا وغضب قلت يا حبي، من زحف التتار وانكسارات العرب! قلت لي: في أي أرض حجريه بذرتك الريح من عشرين عام قلت: في ظل دواليك السبيه وعلى أنقاض أبراج الحمام! قلت: في صوتك نار وثنية قلت: حتى تلد الريح الغمام جعلوا جرحي دواة، ولذا، فأنا أكتب شعري بشظيه وأغني للسلام! . . . . . . . وبكينا مثل طفلين غريبين، بكينا الحمام الزاجل الناطر في الأقفاص، يبكي.. والحمام الزاجل العائد في الأقفاص . . . يبكي ارفعي عينيك! أحزان الهزيمه

غيمة تنشرها هبة ريح أرفعي عينيك، فالأم الرحيمه لم تزل تنجب، والأفق فسيح أرفعي عينيك، من عشرين عام وأنا أرسم عينيك، على جدران سجني وإذا حال الظلام بين عيني وعينيك، على جدران سجني يتراءى وجهك المعبود في وهمي، فأبكي؟ وأغني نحن يا غاليتي من واديين كل واد يتبناه شبح فتعالي.. لنحيل الشبحين غيمة يشربها قوس قزح! . . . . . . . . وسآتيك بطفله ونسميها " طلل " وسأتيك بدوري وفله وبديوان غزل!!

6 - خليل حاوي وجوه السندباد - 1 - وجهان لم تر الغربة في وجهي ولي رسم بعينيها طري ما تغير آمن في مطرح لا يعتريه ما أعترى وجهي الذي جارت عليه دمغة العمر السفيه كيف؟ ربي - لا ترى ما زور العمر وحفر كيف مر العمر من بعدي، وحفر، وما مر، فظلت طفلة الأمس وأصغر تغزل الرسم على وجهي، وتحكي ما حكته لي مرار عن صبي غص بالدمعة في مقهى المطار

غبت عني، والثواني مرضت، ماتت على قلبي، فما دار النهار، ؟. ليلنا في الأرز من دهر تراه أم تراه البارحة؟ ؟. صدرك الطيب نفس الدفء والعنف، ونفس الرائحه، وجهك الأسمر؟. " - أدري أن لي وجها طريا أسمرا لا يعتريه ما أعترى وجهي الذي جارت عليه دمغة العمر السفيه وجهي المنسوج من شتى الوجوه وجه من راح يتيه: - 2 - سجين في قطار مرة ليلته الأولى ومر يومه الأول

في أرض غريبة، مرة كانت لياليه الرتيبه، طالما عض على الجوع على الشهوة حرى وانطوى يعلك ذكرى يمسح الغبرة عن أمتعة ملء الحقيبه. حجر تحمله الدوامة الحرى، سجين في قطار ما درى ما نكهة الشمس، وما أطيب الغبار ورشاش الملح في ريح البحار. * * من أسابيع وفي غرفته تلك الكئيبة. تأكل الغبرة أشياء الحقيبه تأكل الوجه الذي خلفه لما تعرى ومضى وجها طريا ما له أمس وذكرى.

- 3 - مع الغجر من ترى يحتل ذاك الفندق الريفي، عرس الجن فيه؟ محرقه! لهب الرقص، ورقص في اللهب، والتعب؟ من ترى يتعب من لين الزنود المحرقة من ترى يرتاح في حمى السرير! صاح: " هذا الكأس لي من أهرقه؟ " ضحكت: " ثوبي الدمشقي الحرير لست أدري، لم أرسل من مزقه " * * أتقن الدوخة من خصر لخصر، عاد من عرس الغجر دمغة في وجهه، في دمه شلال نار وعلى قمصانه ألف أثر. موجة واحدة في دمه

في زوغة الشمس، وحمى المعدن المصهور، في البركان، في وهج الثمار، موجة تغزل في المرج فراشات، وتغفو في خوابي الخمر، تغفو في قوارير البهار، موجة فورها في دمه عرس الغجر عاد منه ما له ذاكرة تحصي الصور عمره ثانية عبر الثواني يتلقاها، وينسى ما عبر، عمره عمر الغجر وله وجه الغجر وجه من تبصقه الدوامة الحرى فيرسو في المواني ومحطات القطار لبنات " البار " ما في جيبه، ضحكة حشرجة خلف الستار، وجه من يتعب من نار فيرتاح لنار.

- 4 - بعد الحمى وجه من يصحو من الحمى: فراغ، شاشة ترتج، عين مطفأة، وصرير المدفأة. - 5 - جنة الضجر وجه ذاك الطالب القاسي على أعصاب عين متعبه في زوايا متحف، في مكنبه وجهه يعرق مصلوبا على سفر عتيق وعلى صمت الصور، ووجوه من حجر، ثم يرتاح إلى الصمت العريق حيث لا عمر يبوخ اللون فيه والبريق، * * ضجر في دمه في عينيه الصمت الذي حجره طول الضجر وجهه من حجر بين وجوه من حجر

- 6 - الأقنعة، ألقرينه، جسر واترلو لو دعا عابر للبيت، للدفء، لكأس مترعه، سوف يحكي ما حكى المذياع، يحكي: " سرعة الصاروخ، تسعير الريال، جونا المشحون بالإشعاع والموتى بحمى الخوف، لا، شؤم، محال، طيب جو العيال، ابتذال. " لو دعاه عابر للبيت لن دعته امرأة، ربما طابت لها الخمر وطاب الشعر.. نعم التوطئة.. ما بنا لا ما بنا من حاجة للضوء.. أو للمدفأة.. " * * ما لها فرت وغابت حلوة كانت، وكانت طيعه!

عتمة الشارع، والضوء الذي يجلو فراغ الأقنعة وقناع مسه، حدق فيه، لو دعاه؟ آه لن يمضي معه " أنت! كل أنا؟ بلى، لا، لست، لا، عفوا، ضباب موحل يعمي مصابيح الطريق، أن وجهك بعض صديق. " - فلأكن ذاك الصديق كنت أمشي معه في درب " سوهو " وهو يمشي وحده في لا مكان وجهه أعتق من وجهي ولكن ليس فيه أثر الحمى وتحفير الزمان، وجهه يحكي بأنا توأمان. ولماذا ساقني للجسر حيث الموج أثر الموج يدوي يتداعى مدخنات الفحم تعوي من محطات القطار

والبخار وضباب كالح ينبع من صوب البحار، كلها تغزل حول الجسر حولي أفعوانا، أخطبوطا وسخ الأطفار، أشداقا رهيبه، " متعب أنت وحضن الماء مرج دائم الخضرة، نيسان، أراجيح تغني، وسرير مخملي اللين شفاف حرير وبنات الماء ما زلن على الدهر صبايا ربما كان لديهن قوارير من البلسم، أعشاب، تعازيم عجيبه تمسح التحفير عن وجهك تيقيه عوى سمرته الأولى المهيبه لون لبنان وطيبه. " متعب، دوامة عمياء، هذا اللولب الملتف حولي، ذلك التيار دوني والدوار متعب.. ماء.. سرير..

متعب..ماء.. أراجيح الحرير.. متعب.. ماء.. دوار.. وتلمست حديد الجسر كان الجسر ينحل ويهوي، صور تهوي، وأهوي معها، أهوي لقاع لا قرار وتلمست صديقي، أين أنت، كيف غاب؟ الضباب الرطب في كفي وفي حلقي وأعصابي ضباب ربما عادت إلى عنصرها الأشياء وانحلت ضباب. - 7 - في عتمة الرحم خففوا الوطء على أعصابنا يا عابرين نحن ما متنا، تعبنا من ضباب وسخ، مهتري الوجه، مداجي يتمطى أفعوانا، أخطبوطا، وأحاجي

رحم الأرض ولا الجو اللعين خففوا الوطء على أعصابنا يا عابرين، نحن في عتمة قبو مطمئن نمسح الحمى، ونصحو، ونغني نتخفى، ونخفي العمر من درب السنين خففوا الوطء على أعصابنا يا عابرين. - 8 - الوجهان بينما أمسح عن وجهي تراب القبو، ذكراه، تلفت، انحنيت فوق عينيها، رأيت وجه طفل غص بالدمعة في مقهى المطار. وهي تحكي ما حكته لي مرار، وكأن العمر ما فات على زهو الصبايا وحكايات الصغار

- 9 - الوجه السرمدي عشت في حنوة بيت، ما وقاك أنه بيت على الصخر تعمر، أن خلف الباب، في صمت الزوايا يحفر الموج، وتدوي الهمهمه أن في وجهك آثارا من الموج، وما محى، وحفر، وأنا عدت من التيار وجها ضاع في الحمى، وفي الموج تكسر، بعضنا مات، ادفنيه، ولماذا نعجن الوهم ونطلي الجمجمة؟ * * أسندي الأنقاض بالأنقاض شديها.. على صدري أطمئني، سوف تخضر، غدا تخضر في أعضاء طفل عمره منك ومني

دمنا في دمه يسترجع الخصب المغني، حلمه ذكرى لنا، رجع لما كنا وكان، ويمر العمر مهزوما ويعوي عند رجليه ورجلينا الزمان

7 - أدونيس تحولات الصقر كادت الفاقة أن تكون كفرا حديث شريف عجبت ممن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه. أبو ذر الغفاري فصل الدمع هدأت صيحة البراري: الغيوم تسير على النخل تجنح في آخر النخل وردية الصواري، هدأت صيحة الرجوع: أسألها؟ دمشق لا تجيب لا تنقذ الغريب

- " هل مر؟ أن يمر مات بلا صوت هنا أو سر. " يا مرايا الضياع الطويل غيري صورة القمر لم يعد وجهها هناك أمس كنا على القمر فرأينا عاريا ورأيناه في الثياب وصعقنا من النظر كان وجها من التراب غيري صورة القمر لم يعد وجهها هناك يا مرايا الضياع الطويل؟ ساكن حيث تغفو تطيل الزفير في الحقول المريضه في السرير الذي فرشته الدموع في الممر الصغير بين أجفانها والسماء العريضه، هدأت صيحة الرجوع: ليس في عيني شيء من حياتي غير أشباح حزينه

غير أن الشجر الباكي على أرض المدينه عاشق يسكن قلبي ويغني أغنياتي، - هدأت صيحة الرجوع: أمضي وتمضي معي السماء تحملني الرايات في موكب العرائس الطيور والعرائس الحيات تتبعني عينان من مجامر السنين أرقص في خواصر التنين مع نجمة سوداء. غير أن الصواري نغم جارح القرار: " أن جسمي ومالكيه بأرض وفؤادي ومالكيه بأرض. " (1) هدأت صيحة الرجوع غير أن الصواري وطن للدموع: "؟ ولو أنها عقلت، إذن لبكت ماء الفرات ومنبت النخل. " (2) هدأت صيحة الرجوع:

_ (1) من شعر عبد الرحمن الداخل. (2) من شعر عبد الرحمن الداخل.

حائر حائر، ولي لغة تهدر مخنوقة ولي أبراج حائر أصلب النهار ويغويني رعب في صلبه وهياج حائر تأخذ الشواطئ ميراثي وتحمي صباحي الأمواج، ؟ " غنيت عن روض وقصر شاهق بالفقر، والإيطان في السرادق فقل لمن نام على النمارق أن العلة شدت بهم طارق فاركب اليها شبح المضايق أولا، فأنت أرذل الخلائق. " (1) هدأت صيحة الرجوع: طاغ، أدحرج تاريخي وأذبحه على يدي، وأحييه، ولي زمن أقوده، وصباحات أعذبها أعطي لها الليل، أعطيها السراب، ولي ظل ملأت به أرضي يطول، يرى، يخضر، يحرق ماضيه ويحترق مثلي ونحيا معا نمشي معا وعلى

_ (1) من شعر عبد الرحمن الداخل.

شفاهنا لغة خضراء واحدة لكن أمام الضحى والموت نفترق. هدأت صيحة الرجوع: أحلم يا دمشق بالرعب في ظلال قاسيون بالزمن الماضي بلا عيون بالجسد اليابس، بالمقابر الخرساء تصيح: يا دمشق موتي هنا واحترقي وعودي تصيح: لا، موتي ولا تعودي أيتها الطريدة المليئة الفخذين يا دمشق يا امرأة منذورة لكل من يجيء للحظة، أو للعابر الجريء ترقد في حمى وفي ارتخاء تحت ذراع الشرق، رسمت عينيك على كتابي حلمت ميراثك في شبابي في الغوطة الخضراء في سفوح قاسيون يا امرأة للوحل والخطيئة

أيتها الغواية المضيئة يا بلدا كان اسمه دمشق؟ أمس، أنا والشعر والنهار جئنا إلى الغوطة واقتحمنا بوابة الرجاء نستصرخ الحقول والمياه ننسج منها راية وجيشا نغزو به سماءك السوداء ولم نزل ننسج يا دمشق لا الموت يلهينا ور سواه أنى لنا الموت أو الراحة يا دمشق؟ وأمس في نومي يا دمشق سويت تمثالا من الصلصال حفرت في خطوطه البيضاء تاريخك الأسود يا دمشق ورحت في رعب وفي ابتهال أسقط كالزلزال على روابي جلق جميله

أحضنها أضربها أغني؟ ها ها هلا هلال وقلت: لا، فلتبق في حنيني وفي دمي دمشق وقلت: لا، فلتحترق دمشق واستيقظت أعماقي القتيله مذعورة تصيح: وادمشق؟. يا امرأة الرفض بلا يقين يا امرأة القبول يا امرأة الضوضاء والذهول يا امرأة مليئة العروق بالغابات والوحول أيتها العارية الضائعة الفخذين يا دمشق، تصغين للموتى وللقبور والتكايا تصغين في خشوع وتعشقين الجثث الصفراء والضحايا وتأكلين الطين والدموع أيتها المنهومة القاضمة القشور يا دمشق؟ يا حب، لا؟ عفوك يا دمشق

لولاك، لم أهبط إلى الأغوار لم أهدم الأسوار، لم أعرف النار التي تنادي تضج في تاريخنا، تضيء سفينة الكون الذي يجيء، عفوك يا دمشق أيتها الخاطئة القديسة الخطايا؟

8 - بدر شاكر السياب حدائق وفيقة لوفيقه في ظلام العالم السفلي حقل فيه مما يزرع الموتى حديقه يلتقي في جوها صبح وليل وخيال وحقيقه. تنعس الأنهار فيها وهي تجري مثقلات بالظلال كسلال من ثمار، كدوال سرحت دول حبال. كل نهر شرفة خضراء في دنيا سحيقه. ووفيقه تتمطى في سرير من شعاع القمر زنبقي أخضر

في شحوب دامع، فيه ابتسام مثل أفق من ضياء وظلام وخيال وحقيقه. أي عطر من عطور الثلج وان صعدته الشفتان بين أفياء الحديقه يا وفيقه؟ والحمام الأسود يا له شلال نور منطقي! يا له نهر ثمار مثلها لم يقطف! يا له نافورة من قبر تموز المدمى تصعد! والأزاهير الطوال، الشاحبات، الناعسه في فتور عصرت أفريقيا فيه شداها ونداها، تعزف النايات في أظلالها السكرى عذارى لا نراها روحت عنها غصون هامسه. ووفيقه لم تزل تثقل جيكور رؤاها. آه لو روى نخيلات الحديقه من بويب كركرات! لو سقاها

منه ماء المد في صبح الخريف! لم تزل ترقب بابا عند أطراف الحديقه ترهف السمع إلى كل حنيف! ويحيا.. ترجو ولا ترجو وتبكيها مناها: لو أتاها؟! لو أطال المكث في دنياه عاما بعد عام دون أن يهبط في سلم ثلج وظلام! ووفيقه تبعث الأشذاذ في أعماقها ذكرى طويله لعشيش بين أوراق الخميله فيه من بيضاته الزرق اتقاد أخضر (أي أمواج من الذكرى رفيقه) كلما رف جناح أسمر فوقها والتم صدر لامعات فيه ريشات جميله أشعل الجو الخريفي الحنان واستعاد الضمة الأولى وحواء الزمان. تسأل الاموات من جيكور عن أخبارها، عن رباها الربد، عن أنهارها.

آه والموتى صموت كالظلام أعرضوا عنها ومروا في سلام وهي كالبرعم تلتف على أسرارها. والحديقه سقسق الليل عليها في اكتئاب مثل نافورة عطر وشراب وخيال وحقيقه بين نهديك ارتعاش يا وفيقه فيه برد الموت باك واشرأبت شفتاك تهمسان العطر في ليل الحديقه. 12 - 8 - 1961

9 - أدونيس السماء الثامنة (رحيل في مدائن الغزالي) قافلة كالناي، والنخيل مراكب تغرق قي بحيرة الأجفان قافلة؟ مذنب طويل من حجر الأحزان آهاتها جرار مملوءة بالله والرمال: هذا هو الغزالي يجيئنا في كوكب تخصه نساؤنا تصوغ من بهائه الثياب والأحلام واللآلي. يبتدئ السقوط في مدائن الغزالي: - " من هذه المرأة؟ كل ذكر

يضيع؟ كان جيشي يذبح تحت خيمة. طريقي حمراء والمرايا؟ كسرتها؟ تقول: كان وجهي نهرا؟ من الغريق؟ غصت، سد. نهضت - كان وطني يموت يأكله فهد وعنكبوت. " يبتدئ السقوط في مدائن الغزالي يستنزل الفرقان واللسان وتعلق الجباه بالغبار. في مدائن الغزالي شرارة ليس لها مكان والريح مثل جمل. مدائن الغزالي صحراء من سعالى تغول، أو من قصب السعال. وبعد أن يصمت أو يضيع سائل تجره حشيشة السؤال، يعرف: كل نهر يصب أو ينبع في مدائن الغزالي يصير صهريجا من الدموع

يدور في ناعورة الشفاه أو في قفص الضلوع: - " والوطن المفتوح مثل كفن يمامة تذبح في ينبوع رأيت فيه القمر المقطوع من أوجه الأطفال والزمن المنكس المخلوع والزمن الآتي كالزلزال؟ " يبتدئ السقوط في مدائن الغزالي يختلج الشارع كالستاره والزمن القاعد في الأبواب مثل خنجر يغوص تحت العنق، والمناره ستارة سوداء. أهدم، كل لحظة، مدائن الغزالي أدحرج الأفلاك فيها، أطفئ السماء: - " والفجر مثل طفل سبع حراب سود سبع سماوات بلا حدود تهيم في خطاه "

ويدخل الموتى ويخرجون من نفق أخضر؟ في مدائن الغزالي يأتون في كلام يئن كالمزمار، في دروب كالملح، في كتاب يموت، دفتاه رقص وصافنات؟ ويدخل الموتى ويخرجون؟ - "؟. والشمس في ثيابهم جارية صفراء مدهونة الثديين بالقلوب بالحجر الأحمر، بالكبريت والغيوب تسقط كل ليلة في نشوة الاسراء تلتهم السيوف والسنينا، تطرح، كل لحظة، جنينا؟. " ويدخل الموتى ويخرجون؟ توعدي خطاي والطريق عذابك الكبير مثل خيمة جورتها، كسرت فيها خاتم الزواج، والكوثر، والرحيق

توعدي، أعرف كل خلجة في جسمك العتيق أعرف ما يقوله عذابك الكبير؟ في مدائن الغزالي مسافرون؟ - أين تذهبون؟ لت تصلوا، فهذه الطريق لا تمر في دمشق، والصباح عذراء تستبيحها الأزلام والطيوف والأشباح " مسافرون يخطبون؟ أين يذهبون؟ من جثث الآباء يحملون تمائما والتيه في أقدامهم طريق والرمل في وجوههم عيون - " كيف تركت الذل في عينيك ينزل كالسكين؟ من أنت افتح قلبك المطموس لا يديك وليحترق في دمك الستار والجدار لو كنت من بغداد أو دمشق أو صنين لقلت: هذا جسدي وهذا وجهي، بلا مساحيق ولا تلوين

وعشت في تاريخك الغريق تحت الطين كأنك التكوين أو كأنك الشرار. لو كنت من بغداد أو دمشق أو صنين؟ " ؟. (شددت فوق جسدي ثيابي وجئت للصحراء كان البراق واقفا يقوده جبريل، وجهه كآدم، عيناه كوكبان والجسم جسم فرس. وحسنما رآني زلزل مثل السمكة في شبكه؟) أيقنت، هذا زمن التناسخ؟ الإضاءة: الشمس عين قطة صغيره والنفط رأس جمل تقلد الخنجر والعباءه وهام في جزيره؟ وكلما سايرت في طريقي يمامة أو زهرة أوغبت في اشاره بيني وبين الضوء، وانحنيت كالنبع في مسالك الحجاره

تنبت في جفوني رصاصة وكلما قلت أحب الماء والزمن الآتي، والأشياء وكلما حاولت أن أبني أو بنيت تحت شموس الماء سقيفة، تطلع في عروقي رصاصة ؟ (- لا تخش، في شفاعتي أنت، فمال نحوي ركبته وطار بي؟ - " هذا الذي يصبح يميني ينصح لي، لم التفت إليه؟. " - " لو أنك التفت واستمعت، لاستلان شعبك، من بعدك، للشيطان. " - " وهذه المرأة كالفيروز عن شمالي تنصح لي، لم ألتفت إليها؟ " - " لو أنك التفت واستمعت، لاستهان شعبك بالجنة والقيامه واختار أن يموت فوق سرة ورفض الجهاد والكرامه؟ ")

وكلما هجست ولذت بالهواء وانغرست كالعشب في مدينة التراب أستكشف الفضاء والجناح أسكن في باكورة الرياح، تنبت في ثيابي رصاصة؟ رصاصة؟ وكلما سألت وانكسر السؤال في سريرتي، وملت كاغصن، أو نويت أن أطوف في غرفة البكاء في طبقات الشمس والهواء، تطلع في النية والحروف رصاصة؟ رصاصة؟ والشجر الأخضر في الطريق مدائن حبلى وحاضنات والشجر الميت في الطريق نار بلا ضحية تظل من رمادها بقيه في موقد الكلام

تحمل الطفل الذي ينام حلما. وللطفل الذي يفيق دفتر أحزان وأغنيات؟ ؟ (ها هو بيت المقدس؟ المعراج يمد لي يجيئني جبريل باكؤس ثلاث؟ " خذ أيها تشاء " أخذت، كان لبنا، شربت. - " أن هذا خمر، وذاك ماء، فلو أخذت الخمر لغويت بعدك، مثل وثن، أمتك الحنيفه ولو أخذت الماء لغرقت؟ " ولفني جبريل وابتدأنا نصعد في أدراج من ذهب وفضة، من لؤلؤ أحمر كالقطيفه..)

كان الرغيف يصيح كالملك: - " أهتدينا نارا أنا وضربتني جسد المدينه ماس، دمقس، أرجوان ما كان من ذهب وياقوت، وكان؟ ماذا أرى؟ " - " هذي جموع الخارجين إليك يا تاج المدينه: عن أحمد: " ورثت قطتي الامينه وارتحت من قانونهم؟ " عن صالح: " تاجرت بين المقعدين فرشت أيامي وساده؟ " عن أخته: " نفق هواي وفي دمي ذئب يدور وأنا الضحية والبخور. "

عن أختها: " وطني يشب يشيخ يطعمني رماده. " عن زوجها: " وجهي ينام كطوطم؟ " عن حامد: " لم يبدأ التاريخ أفتح ساعدي للشمس؟ " وانتشق الرغيف كأنه أفق النبي وأنا العرافه ودخلت في لهب المسافه أتزوج النار البعيده في، أقتلع الزمن كالعشب، اغتسل؟ أغتسلت، غرقت في ألق الدموع وحنوت فوق دم يئن، دم يجوع (؟ - " ماذا ترى؟ " - " ملاكا:

نصفين من ثلج ومن شرار بألف ألف لغة تسبح الجامع بين الثلج والشرار؟ " - " وهذا ملك يساوي بين جميع الناس، وهو أنصح الملائكه؟ " وهذه سماء غبراء من حديد؟ - " وهذي اسمها الماعون يسكنها ملائك أكتافهم حراب لنصرة الإسلام؟ " هنأوني: - " ألخير في شعبك، أنت الأصل والعلامه من أول الزمان حتى موعد القيامه. " قدمني جبريل صليت ركعتين بهم، على ملة إبراهيم؟) وهبطت في أغوار نجمتي الصغيره بين المشيمة والكفن في شمس جمجمة ضريره فقرات تاريخ الفضاء، قرأت تاريخ القمر

من قبل أن أرد الفضاء وقبل أن أطأ القمر - " الأرض بيتي والزمن لغتي وصوتي؟ " وسمعت عراف الرصيف يقول: " مفتاح المدينه تخت ومغزل غازل؟ عراف، قل لي، فسر الرؤيا، نسيت؟ أعيدها - ؟ ودخلت دائرة الرغيف، رأيت قطعة فضة، مدهونة، سوداء، تحمل خنجرا. تدنو وتطعنني، وتهرب في الزقاق، ومت، لكن قمت فجأه ووجدتني في حضن امرأة؟ (؟ ثم رأيت ملكا لم يبتسم؟ - " من هو يا جبريل؟ " - " عزرائيل، اقترب وسلم؟ " سلمت هب واقفا، هنأني، سألت، كيف تقبض الأرواح؟ قال: " سهل. حتى يتم أجل الإنسان أرسل أربعين من ملائكتي ينتزعون روحه من العروق؟ حينما تصير في حلقومه

أسلها كشعرة تسل من عجين فإن تكن طيبة قبضتها بحربة من نور وإن تكن خبيثة قبضتها بحربة من سخط؟ " وبدت الدنيا في يده، كدرهم؟) عراف، قل.. - " لا شيء، هذا مخبز اللغة العجينه لا شيء، تاريخ النساء مخدة وحنان طينه. " - ودهنها المعدي؟ عراف قل كل شيء؟ - " والدهن كالوسام أو شاره علامة السيد: كل شيء نهدان في يديه أو ستاره

للزمن اليابس كالعرجون للزمن المخزون في امرأة؟ والدهن معدني مملك، ينزل قبل البحر في كتاب يستوطن الأغوار أو يستوطن الصواري يصير فوق أرضك البغي شعائر للذبح، أو فخاخا، أو خرزا ملونا؟ والدهن معدني طيف جنائزي يدخل كالنشار في جسد العالم كالملاءه يطرحها المافون والعيار على جفون أرضك المضاءه؟ (؟ وهذه سماء خضراء من ياقوتة خضراء فيها رجل طويل تلفه مدرعة من صوف وشعره يكاد أن يغطي ساقيه؟ - " يا جبريل

من هو؟ " - " هذا صنوك المفضل الكليم موسى بن عمران؟ اقترب وسلم. " سلمت، قال موسى: " يزعم اسرائيل أني أنا المفضل الكريم فأنت يا حبيبي المفضل الكريم. " ثم دعا لأمتي بالخير، ثم اصطفت الملائكه أممتهم، صليت ركعتين بهم، على ملة إبراهيم؟) والدهن معدني بحر من السواد - ألقاع نافوره من ذهب، والسطح قاذوره والأرض كالمرايا، مكسورة، والشمس هسهسات تنأى، وآبار من الرماد؟ هل قلت كل شيء؟ (؟ رأيت بابا كتبت عليه كتابة قرأتها فانفتح الباب، رأيت خلفه

جهنما، رأيت غابات من الحيات رأيت باكيات يغرقن في القطران عالقات يغلين كالقدور موثقات يطرحن للأفاعي؟ - " هذا جزاء نسوة يظهرن للغريب؟ هذي امرأة صورتها كصورة الخنزير، جسمها حمار لأنها لم تغتسل من حيضها؟ - " هذا عقاب امرأة تعشق غير زوجها " - " هذا جزاء امرأة لا تحسن العشرة أو لا تحسن الوضوء، لا تصلي؟ ") رسمت ظل القمر الطالع في طريقي بلهفتي، ربطت كل جرح في زجهه بثوبي العتيق. ؟ وسرت في بحيرة الأغاني نيلوفرا، أغاني ترشح من قرارة التاريخ، من سريرة المكان

والتفت الأشجار حول وجهي والتفت الطريق كان النهار حجرا يسير، كل حجر إشاره وكان كل حجر فلاح يغسل وجه الحقل أو يطارد التمساح يسافر التراب في خطاه ينام يستفيق وكان كل حجر شراره. (؟ وها أرى رجالا تمشي على ظهورهم حجارة؟) وسرت كالشراره أحلم كي أسقط في الظلام شمسا وكي تدور حولي أرض الحلم الخفيه أحلم كي أكتب عن صداقة العصفور عن وطن أحن من قنديل ينسج كل لحظة

من دمه، منديل أغنية للحب، أو تحية؟ (؟ طوفت في زبرجد أخضر، في مدارج الياقوت، ثم جاءني الملائكه برفرف فسار بي كسهم، وحط بي في بحر من نور أبيض خلف بحر من نور أصفر خلف بحر من نور أسود، فاستوحشت واستغثت؟) ورأيت أني في الأزقة والزوايا أمشي كزين العابدين - عبأت بالخبز الجراب ورطضت من باب لباب أزكي لهيب الثائرين، أسد جوع الجائعين؟ (؟ وانطلق الرفرف، صار يعلو وحطني في حفرة الاله - ما رأيته لم تره عين، وما سمعته لم تستمعه أذن؟ نوديت: " لا تخف. " خطوت خطوة كأنني خطوت ألف عام

أحسست حول كتفي يدا، ولم تكن محسوسة، فأورثت قلبي كل علم؟) - " مولاي زين العابدين؟ " - " أنا لست مولى، لست كهفا للأنين أنا جمر ثورتك؟ انفجر غير نداءك، وانفجر؟ " ؟ ورأيت أن الجوع يرفعني تحيه لدم الضحايا للبائسين الطالعين من الأزقة والزوايا موجا يضيءالعالمين.. - " مولاي زين العابدين لغتي تنوء كأن فوق حروفها حجرا وطين فبأي جائحة أطوف، بأي موج أستعين؟ ؟ - " وأنطفا المصباح في آخر الشارع، واستدارت غمامة، وذابت

في أول الشارع واشرأبت حمامة، وماتت في لفتة الشارع - - " من هناك؟ " وارتجفنا كالخيط - " من هناك؟ " وانكسرنا كالغصن - " من هناك " وانجرحنا في حائط دخلنا في حفرة وغبنا؟ - " هل قلت؟ " - " لا " - " خذوه؟ " - " هل كنت؟ "

- " لا " - " تبعنا خطاه؟ " - " قيدوه؟ " ونامت المدينه وغلقت أبوابها ونمنا من أين؟ لا مفتاح يفتح أي باب فيها، ور مصباح يضيئها، وليس في مداها مهاجر شهيد يرفع في ساحاتها جبينه؟ " وهذه بلادي مع رجل آخر من سرادق الغزالي تنام؟ ليس وجهي حرفا، ولا ذراعي تكية

وهذه بلادي فخذان من صلاة مسافة من شرر وتيه أبحث في رمادها عن دمي الآخر، عن شبيهي؟ (؟ وكان سيف النقمة المجبول بالدماء معلقا بالعرش، قلت: " سيدي ارفعه عن بلادي؟ " فقال: تم الحكم والقضاء وسوف يفنى شعبك الحنيف مثل زبد بالطعن والطاعون لكنك المفضل الحبيب؟ آدم خلقته من طين وأنت من وجهي ومن ضيائه، وكان إبراهيم لي خليلا وأنت لي حبيب، وموسى، كلمته وبيننا حجاب وأنت تلقاني بلا حجاب ،ان أكن خلقت من كلامي

عيسى، فقد شققت من أسمائي اسما لك، اقترنت بي، أعطيتك الكوثر والحوض والشفاعة الكبرى؟. ") أسمع صوت صخرة قديمة تضرب وجه الشرق يرتسم الخالق في شقوقها والخلق. أسمع صوت الزمن؟ البغايا والقبر والمعاد وحائط يضحك أو يصلي لليل شهرزاد؟ ؟ - " والنيل والفرات عينان مملوءتان بالشمس والأشرعه وبردى يبكي تيبس في صوته الأشجار والأغنيات والغوطة المرضعه رمى على وجهه ملاءة؟

ينام أو يقرأ في بستان؟ " (- " دهشت؟ هذي قبة، سرير من عنبر، عليه حوريه تضيء من خنصرها الحقول والفصول هذي لمن يموت شاهدا بأنك الرسول "؟) سمعت صوت الزمن؟ الجريمه: رائحة النسرين أغنية الشمس على الأسوار فراشة تهرب من تشرين إلى غد يحرثه نوار في أرضه الكريمه. سمعت صوت الزمن، انعتقت غورت في خميرة الصوان في الكلس واحترقت زحفت بين الجوع والزرنيخ، وارتميت في خرطوم يقتلع الأنهار أو بغير التخوم سمعت صوت الزمن الرعاف

وطوطم الأسنان، وانصهرت في شفرة القطاف. من أين هذا الزمن المشقق المدهون بالنسم البارئ، بالطاعون؟ من أين؟ كيف تصبح الربابه قرنين، أو ذبابه؟ سمعت صوت الزمن: السقوط لو لم يك البستان جارية، لكان جرادة؟ أعيدي صوتك، واستعيدي سماءه - ملاك يأتي، وهذا سلم الهبوط؟ سمعت صوت الزمن؟ السقوط نحوي في الولاده والنهر الممدود كالوساده من شفتي سقراط حتى جثة الحسين. (؟ ولم نزل ننزل؟ ها وصلنا ودعني جبريل، قال: " حدث بما رأيت " واختفى البراق؟)

حدثت تم الحكم والفراق وسوف تفنى أمتي بالطعن يستأصل في نهارها وليلها كأنه الطاعون من أجل أن يطهر الجذور أن يستأصل الطاعون. حدثت، كانت عمة الغزالي جالسة كالسيف، صرت حجرا مبرأ كطفل يطارد الغزالي وبعد أن يرسم حول وجهه إشارة الوضوء والطهاره وبعد أن يكرر الصلاة حتى تصبح العباره تكية ومسجدا، وبعد أن يغالي في مدحه؟ يجله كالله ذي الجلال، يرج كل ذرة في كوكب الغزالي؟ بالرفض بالسؤال بالغرق الحاضن كل رأس بشاطئ الغيبة والرجعة، بالامامه تأتي، وكل نجمة عمامه

بالرعد. بالأيام سابحات في مخمل الأبد كأنها الأعراس أو كأنها الجراح في مدينة الجسد بالصخر والبقول بوطن يعيش فوق الأرض، لكن خارج الفصول، بالرفض بالسؤال بالمسجد المهدوم، بالحجاج وهو يصلب المدينه بعابد تجتره التكيه بالخوف، بالتقيه بقبة تجتثم كالوطواط أو تهتز كالسفينه حاملة بقايا من ورق لون الأرض، بالبنفسج المقلوع من أول الزمان، بالينبوع مرتطما بالوقت مستضيئا كأنه الحصاد أو كأنه المصباح بالقبول والسؤال بكل هذا العالم اليابس كالنبات الأخضر كالنبات رججت كل ذرة في كوكب الغزالي

رفضت وانفصلت لأنني أريد وصلا آخرا، قبولا آخر مثل الماء والهواء يبتكر الإنسان والسماء يعير اللحمة والسداة والتلوين كأنه يدخل من جديد في سفر النشأة والتكوين. لكوكب الغزالي لهذه المقابر المبثوثة الأشباح والطقوس في غرف الهواء والتاريخ في الأقدام والرؤوس، لهذه الجدران للكتب المدهونة الأوراق والرفوف بالبطن والشهوة والأسنان لهذه الأنصاب والأعلام والسيوف لهذه المساجد والكنائس الدانية القطوف لهذه الدروب مرصوصة بالليل، للتكايا علامة الأسرار والغيوب لكل هذا الزمن المكدس المشحون بالرمل والسعار والطاعون

أعرف ما تقول لي يا كوكبا يسكن وجه الشرق أعرف ما تود أن تقوله للشرق، هذا السيد المصلوب هذا الشاعر المجنون، وها أنا أغني آتي كما تقول لي يا كوكبا يسكن وجه الشرق من يبس الغابات من دجنة الآبار ولزوايا من جوف عنكبوت من قمر يسود من حضارة تموت آتي كما تقول لي يا كوكبا يسكن وجه الشرق في الشمس في حناجر الأطفال في النوارس المليئه بالبحر، بالشواطئ المضيئه، أفتح كل باب أشق كل رمس بغضبة الخالق؟ بالرجاء أو باليأس بثورة النبي مسكونة بالشمس مسكونة بالفرح الكوني.

§1/1