إيضاح طرق الإستقامة في بيان أحكام الولاية والإمامة

ابن المِبْرَد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

«إيْضَاحُ طُرُقِ الإسْتِقَامَةِ فِي بَيَان أحْكَامِ الولايَةِ والإمَامَة»

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1432 هـ - 2011 م ردمك: 8 - 17 - 418 - 9933 - 978 lSBN دَار النَّوَادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤسَّسَة دَار النَّوَادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر الُّلبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوادِرِ الكُوَيْتِيَةٍ ذ. م. م - الكُوَيْت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - الصالحية - برج السحاب - ص. ب: 4316 حولي - الرمز البريدي: 32046 هاتف: 22273725 - فاكس: 22273726 (00965) www.daralnawader.com - [email protected] أسَّسَهَا سَنَة: 1426 هـ - 2006 م نُورُ الدِّيْن طَالِب المُدِير العَام وَالرَّئيس التَّنفيذي

مقدمة التحقيق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة التحقيق إنَّ الحمدَ لله نحمدُهُ، ونستعينُهُ ونستغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا، وسيئاتِ أعمالنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه. أمّا بعد: فإنَّ الإمامةَ رياسةٌ تامةٌ، وزَعامة عامةٌ، تتعلَّق بالخاصَّة والعامة في مهمَّات الدِّين والدُّنيا، مُتَضَمَّنُها حِفْظُ الحَوْزَةِ، ورعاية الرَّعيَّة، وإقامة الدَّعوة، والانتصافُ للمظلومين مِنَ الظَّالمين، واستيفاءُ الحقوقِ من الممتنعين، وإيفاؤها على المستحقِّين (¬1). وقد صنَّف الأئمةُ الثقات في أحكامها وشروطها وفروعِها الكثيرةِ مصنفاتٍ قيمةً كان في مُقَدَّمها كتابا القاضيينِ الكبيرينِ أبي الحسن الماوَرْدِي وأبي يعلى الفَرَّاء، المنعوتانِ بـ: "الأحكام السلطانية". وقد انتهجَ نَهْجَهما، واقتفى أثرَهما الإمامُ يوسفُ بنُ عبدِ الهادي في ¬

_ (¬1) انظر: "غياث الأمم" للجويني (ص: 15).

كتابه القيِّم الموسومِ بـ: " إيضاح طُرُقِ الإستقامة في بيان أحكام الولاية والإمامة" (¬1)، فوضعَ فيه عشرةَ أبوابٍ ذكرَ فيها مسمياتِ الحكامِ والولاةِ، والشُّروطَ الواجبَ توفُّرها فيهم، وفَضْلَ الولايةِ وثوابَها، وما للحكَّامِ من الحقوقِ، وما عليهم، ثم خَتَم بذكرِ تواريخِ ووفيَّاتِ الوُلاةِ والحكَّام والسَّلاطين بَدْءاً من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى عصرِه. * * * هذا وقد تمَّ -بفضل الله تعالى- الوقوفُ على النسخةِ الخطيَّةِ الفريدة لهذا الكتاب، وهي النسخةُ المحفوظةُ بدار الكتب الظاهرية بدمشق تحت رقم (3301)، وهي بخطِّ المؤلف المعروف بغرابة الشَّكْل، وصعوبةِ القراءةِ، وقلَّة الإعجام، وتقع في (167) ورقة، حَصَل فيها خرمٌ بين الباب الخامس والسادس بمقدار عشرين ورقة، وجاء على غلافها تملُّكٌ بخط العلامة ابن طُولون المتوفى سنة (953 هـ)، وعليها وَقْفُه للكتاب على مدرسة شيخ الإسلام أبي عمر بالصَّالحية. * * * ¬

_ (¬1) كذا وقع اسمه على غلاف النسخة الخطية بخط المؤلف نفسه، ثم سماه في خطبة كتابه بـ: "إيضاح طرق السلامة في بيان أحكام الولاية والإمامة" وقد آثرنا في اختيارنا لاسم الكتاب التسمية الأولى لمدلولها، وإن كانت التسمية الثانية حسنة أيضاً، فالمؤدى واحد، إذ الإستقامة في الدنيا مفضية إلى السلامة في الدَّارين.

* هذا وقد تمَّ تحقيق هذا الكتاب وفق الخطة الآتية: 1 - نسخُ الأصلِ المخطوط اعتماداً على النسخة الخطية المشار إليها آنفاً، وذلك بحسب رسم وقواعد الإملاء الحديثة. 2 - معارضةُ المنسوخِ بالمخطوط؛ للتأكُّد من صحة النص وسلامته. 3 - مقابلةُ المنسوخِ بالمصادر المطبوعة التي نَقَل عنها المؤلفُ؛ كـ: "الأحكام السلطانية" لأبي يعلى، و"الفروع" لابن مُفْلح، و"العِبر في خبر من غَبَر" للذَّهبي، وغيرها من الكتب. 4 - عزو الآياتِ القرآنية الكريمةِ إلى المصحف الشريف بذكر اسم السُّورة ورقم الآيةِ، وجعل العزو بين معكوفتينِ في صُلْب النَّص، وإدراجها برسم المصحف الشريف. 5 - تخريج الأحاديثِ النبوية الشريفة تخريجاً لائقاً بالنصِّ المحقَّق. 6 - توثيقُ الآثارِ والأقوال من المصادر التي ينقل عنها المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ-. 7 - كتابةُ مقدمةٍ للكتاب مشتملةٍ على ترجمة مختصرةٍ للمؤلف، وتَقْدمةٍ موجزة للكتاب. هذا وصلَّى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم. حَرَّرَهُ نُورُ الدِّينْ طَالِبْ 17 / صفر / 1432 هـ 22/ 1 / 2011 م

ترجمة المؤلف

ترجمة المؤلف (¬1) * هو الإمام يوسف بن حسن بن أحمد بن حسن بن أحمد بن عبد الهادي المقدشي الأصل، الدمشقي المولد، الحنبلي المذهب، المعروف بـ: "ابن عبد الهادي"، والملقب بـ: "ابن المِبْرَد". *ولد سنة (841 هـ) في أول يوم منها، وقد نشأ في بيئة علمية معروفة، فتفقه على أبيه وجده، وسمع عليهما الحديث. وكان ملازماً للعلماء والصالحين؛ فحفظ "المقنع" لابن قدامة ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في: * "السحب الوابلة" لابن حميد (3/ 1166). * "النعت الأكمل" للغزي (ص: 68). * "شذرات الذهب" لابن العماد (8/ 43). * "مختصر طبقات الحنابلة" للشطي (ص: 74). * "فهرس الفهارس" للكتاني (2/ 1141). * "مقدمة ثمار المقاصد" للدكتور أسعد طلس. * "الإمام يوسف بن عبد الهادي الحنبلي وأثره في الفقه الإسلامي" للدكتور محمد عثمان شبير. * "الإمام يوسف بن عبد الهادي وآثاره الفقهية" للدكتور صفوت عبد الهادي.

على عدد من العلماء، وقرأ على مشايخ كثر "صحيح البخاري"، و"مسند الحميدي"، و"الدارمي"، وغيرها. * فمن مشايخه الذين قرأ وحفظ عليهم: الشيخ علاء الدين المرداوي صاحب "الإنصاف"، وتقي الدين ابن قندس صاحب الحاشية المشهورة على "الفروع"، وزين الدين أبو الفرج ابن الحبال، وغيرهم. * وقد تخرج على يديه جماعات من التلامذة؛ الذي صاروا فيما بعد أعلاماً كباراً؛ كـ: ابن طولون، وعبد القادر النعيمي، وغيرهما. * أثنى عليه جماعة من أهل العلم، ووصفوه بالإمامة والحفظ والإتقان: قال فيه تلميذه ابن طولون: "هو الشيخ الإمام، علم الأعلام، المحدث الرحالة، العلامة الفهامة، العالم العامل، المتقن الفاضل". وقال فيه ابن العماد: "كان إماماً علامة، يغلب عليه علم الحديث والفقه، ويشارك في النحو والتصريف والتفسير، وله مؤلفات كثيرة". وقال الشطي: "أجمعت الأمة على تقدمه وإمامته، وأطبقت الأئمة على فضله وجلالته". * ترك الإمام ابن عبد الهادي كتباً كثيرة بلغت أسماؤها مجلداً، كما قال ابن طولون، ومن أهم تلك الكتب: 1 - "جمع الجوامع في الفقه على مذهب الإمام أحمد" في ثلاثة وسبعين مجلداً، غالبه مفقود.

2 - "الدر النقي في شرح ألفاظ الخرقي". 3 - "مغني ذوي الأفهام" في الفقه. 4 - "هداية الإنسان إلى الإستغناء بالقرآن". 5 - "إرشاد السالك إلى مناقب مالك". 6 - "الدر النفيس في أصحاب محمد بن إدريس". 7 - "محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب". 8 - "زبد العلوم وصاحب المنطوق والمفهوم". 9 - "زينة العرائس من الطرف والنفائس". * توفي -رَحِمَهُ اللهُ- بصالحية دمشق، سادس عشر المحرم، من سنة تسع وتسع مئة، وصلي عليه بجامع الحنابلة، ودفن بسفح جبل قاسيون -رَحِمَهُ اللهُ-، ورضي عنه.

صُوَر المَخْطُوْطَاتْ

صورة غلاف النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية

صورة اللوحة الأولى من النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية

صورة اللوحة الأخيرة من النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية

«إيضاح طرق الإستقامة في بيان أحكام الولاية والإمامة» تأليف الإمام يوسف بن حسن بن عبد الهادي المقدسي الدمشقي الحنبلي المولود سنة 841 هـ - والمتوفى سنة 909 هـ رحمه الله تعالى بعناية لجنة مختصة من المحققين بإشراف نور الدين طالب

مقدمة المؤلف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَهُوَ حَسْبي الحمد لله الذي رفع قَدْرَ من شاء من عباده السعداء، وأبعدَ من أراد، فجعله من الأشقياء البُعَداء، أَحْمَدُه ولهُ الحمدُ كلُّه في الإنتهاءِ والابتداء، وأشكرُه، وله الشكرُ كلُّه على طول المَدَى، وأشهدُ أَنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، شهادةَ عبدٍ حَقَّقَ التوحيدَ واهتدى، وأشهدُ أن محمّداً عبدُه ورسولُه إمامُ الهدى، ومُزيلُ الردى، صلى الله عليه وعلى آلِهِ وأصحابِه، كلَّما ذهبَ أمرٌ وعدى، وسلَّمَ تسليماً. أمّا بعد: فإن الله -عَزَّ وَجَلَّ- وله الحمدُ - فَضَّلَ الآدميَّ على سائر المخلوقات، وجعلَه القَصْدَ، وغيره من المخلوقاتِ غالبه لأجله؛ كما في بعض الآثار: ابْنَ آدَمَ! خَلَقْتُكَ مِنْ أَجْلِي، وَخَلَقْتُ المَخْلُوقَاتِ كُلَّهَا مِنْ أَجْلِكَ، فَلاَ تَشْغَلْ نَفْسَكَ بِما خَلَقْتُهُ مِنْ أَجْلِكَ (¬1). ¬

_ (¬1) ذكره المناوي في "فيض القدير" (5/ 366)، وقال: في بعض الكتب المنزلة. =

وركَّب فيه لذلك العَقْلَ؛ ليعرفَ به فضيلَتَه على غيره، فكلما زادَ عقلُهُ، زادَ به فضلُه، وكلَّما نقصَ، نقصَتْ فضيلَتُه بنقصِه، وشابَهَ غيرَهُ من البهائِم. وتُعرف فضيلَتُه وتمامُ عقلِه فيما أقامَهُ ربُّهُ فيه من طاعته، وما مَنَحَه من علمِه، وما أَعطاه مما يرفَعُ به قدرَهُ، فجعلَ الله -عَزَّ وَجَلَّ- أرفعَ الخلقِ وأعلاهم، وأَتَمَّهُمْ عقلاً وفَضلاً ونُبلاً في الدارينِ: الأنبياءَ، وجعلهم أصحَّ الناس مزاجاً، وأعظمَهم أخلاقاً، كما قال -عَزَّ وَجَلَّ- لنبيه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. ثمَّ جعل أفضلَ الخلق وأعلاهم في الدارين: العلماءَ الذين هم وَرَثَةُ الأنبياء، وجعل فيهم صفةً من صفاته؛ فإن العلمَ من صفاتِ الله، فمن منحَه الله شيئًا، فقد منَّ عليه بنعمة عظيمة، وعلى قَدْرِ ما يمنحه من ذلك، يكون فيه من الفضيلة. ومما منح الله به -عَزَّ وَجَلَّ- بعضَ عباده: الملكُ والولايةُ على عباده؟ فإنه فضيلة عظيمة لمن عرف قَدْرَها، وأعطاها حقَّها، وتواضعَ مع عباده، ولم يُرِدْ بها عُلُوّاً في الأرض ولا فساداَّ؛ كما قال -عَزَّ وَجَلَّ-: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]. وقد أحببت أن أضمع كتاباً يحتوي على الخلافة والإمامة والولايات، وما فيها من خير وشر، وكيف انعقادُها وشروطُها، واللهَ أسألُ أن ينفعني ¬

_ = والله أعلم.

به وجميعَ المسلمين، إنه سميع قريب، وسميته: "كتاب إيضاح طرق السلامة في بيان أحكام الولاية والإمامة" وجعلته عشرة أبواب: الباب الأول: في مُسَمَّيات الحكام والولاة، وما يتعلق بذلك. الباب الثاني: في شروط الولاة والحكام، ومن يصلح للولاية. الباب الثالث: في فضل الولاية وثوابها لمن عدل وبَرَّ. الباب الرابع: في الخوف منها، وإثمْ الجَوْر والظلم. الباب الخامس: فيما يلزم كلَّ واحد منهم فعلُه، وما لا يلزمه، وما يتعلق به. الباب السادس: فيما لكلِّ واحدٍ من الحق والطاعة، ومن يُطاع، ومن لا تجب طاعتُه. الباب السابع: في أئمة جورٍ أخبر عنهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وما ذُكر من ظهور الجور. الباب الثامن: في حكم أموال المسلمين، وبلادهم، وما يجوز لكلٍّ من الحكام أكلُه وأخذُه من ذلك، وما لا يجوز. الباب التاسع: فيمن تمنى ذلك، ومن كرهَهُ وفرَّ منه. الباب العاشر: في ولاةٍ وملوكٍ، وتواريخهم وولاياتهم.

الباب الأول في مسميات الحكام والولاة وما يتعلق بذلك

الباب الأوّل في مسميات الحكام والولاة وما يتعلق بذلك أول مُسَمَّيات كبير الحكام: الملك: وهو أول الأسماء في الجاهلية والإسلام، وهو بفتح الميم وكسر اللام، وبفتح اللام مِنَ الملائكة، وهو من المُلْك -بضم الميم وسكون اللام-، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 126] , وقال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 135] , وقال: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1]. وجمعُه ملوك، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً} [النمل: 134]. وفي الحديث كثير من ذلك، وهو أصل الباب. واختلف في اشتقاقه، فقيل: من الولاية والغَلَبَة، وقيل: من المِلْك -بكسر الميم وسكون اللام-، وهو مِنْ مَلَك الشيءَ يَمْلِكُه مُلْكاً: إذا استولى عليه، وكان في ملكه.

فصل

فصل وأما السلطان، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ} [النحل: 99]. وقال الجوهريُّ: السلطان: الوليّ (¬1). وقال صاحب "المستوعب" من أئمة أصحابنا: السلطانُ هو الإمامُ (¬2). وفي الحديث: "السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ" (¬3). وهو مأخوذٌ من السَّلْطَنَة، وهو الملك، وقيل: من القَهْر والغَلَبَة، ومنه قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 99 - 100]. فصل وأما الإمام: فهو في الأصل: كل منِ ائْتُمَّ به، أي: اقْتُدِيَ به، ولهذا يُطلق على إمام الصلاة، وإمام الأحكام، مثل: الإمام أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، والإمام أحمد، وغيرِهم من الأئمة، ثم نُقل إلى إمام الأحكام والمظالم. ¬

_ (¬1) انظر: "الصحاح" (ص: 1133)، وفيه: "السلطان: الوالي". (¬2) وانظر: "المطلع شرح المقنع" (ص: 71). (¬3) رواه أبو داود (2083)، كتاب: النكاح، باب: في الولي، والترمذي (1102)، كتاب: النكاح، باب: لا نكاح إلا بولي وقال: حديث حسن، وابن ماجه (1879)، كتاب: النكاح، باب: لا نكاح إلا بولي، عن عائشة -رضي الله عنها-.

فصل

وقد ورد أحاديثُ كثيرةٌ بمسمَّى ذلك؛ كقوله -عليه السلام-: "الإمَامُ جُنَةٌ" (¬1). وجمعه أَئِمَّة. قال صاحب "المطلع": الإمام: الخليفةُ، ومن جرى مجراه من سلطان (¬2). فصل وأما الخليفة: فهو مأخوذٌ من الإستخلاف، وهو جعلُ الرجلِ [رجلاً] مقامه في أمر، ولهذا قيل لأبي بكرٍ: خليفةُ رسولِ الله، ولهذا في الحديث: وَإِنْ أَسْتَخْلِفْ، فَقَدِ أُسْتَخْلِفَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي (¬3). وفي حديث عمر: أُوصِي الخليفَةَ مِنْ بَعْدِي (¬4). وقال أسامةُ لأبي بكر: يا خليفةَ رسولِ الله (¬5). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2797)، كتاب: الجهاد والسير، باب: يقاتل من وراء الإمام ويتقى به، ومسلم (1841)، كتاب: الإمارة، باب: الإمام جنة يقاتل به من ورائه ويتقى به، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬2) انظر: "المطلع" (ص: 48). (¬3) رواه البخاري (6792)، كتاب: الأحكام، باب: الإستخلاف، ومسلم (1823)، كتاب: الإمارة، باب: الإستخلاف وتركه عن عمر -رضي الله عنه-. (¬4) رواه البخاري (1328)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- في حديث طويل. (¬5) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (2/ 50) ضمن حديث طويل في خروجه لقتال الروم. =

فصل

وهو -أيضاً- عبارةٌ عن الإمام والسلطان. فصل وأما أميرُ المؤمنين: فهو اسمٌ مركَّبٌ من مضافٍ، ومضافٍ إليه. فالأميرُ: من الإمْرَة، والإِمارَة، وهي كبرُ الشيء، ومنه الحديث: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبي كَبْشَةَ (¬1). والمؤمنين: جمعُ مؤمن، وهو: مَن وُجد فيه الإيمانُ، وهو التصديقُ بالله ورسوله. وأولُ من تسمَّى بهذا الاسم عمرُ بنُ الخطاب -رضي الله عنه-. فصل وأما وَلِيُّ الأمْر: فهو أَعَمُّ من ذلك، فيُطلق على الإمام، وغيره، وهو اسم قد نطق به القرآن بقوله: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]. فهذه الأسماء التي تُطلق على السلطان. فصل لم يطلق اسمُ ملك على أحد من الصحابة، ولا مَنْ بعدَهم، وكذلك مسمَّى السلطان، [و] قد وجد مسمى الإمام. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (7)، كتاب: بدء الوحي، باب: كيف كان الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومسلم (1773)، كتاب: الجهاد والسير، باب: كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام، عن أبي سفيان في حديث سؤال هرقل له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولفظ الشاهد من قول أبي سفيان.

فصل

وأما الخليفة: فأولُ من أُطلق عليه: أبو بكرٍ الصِّدِّيق، ثمَّ عثمان، ثمَّ عليٌّ، ثمَّ كذلك على مَنْ بعدَهم. وأما أمير المؤمنين: فأولُ من تسمى به: عمرُ بن الخطاب، ولم يُسَمَّ به أبو بكر، ثمَّ تسمَّى به عثمان، ثمَّ عليٌّ، ثمَ على كلِّ مَنْ بعدَهم. فصل وأما مسمَّياتُ غير السلطان الكبير؛ من نيابة، ومَنْ تحتَه: فمنهم من له حكمٌ عامٌّ أو خاصٌّ، أو لا حكمَ له. وأعلى مَنْ تحته: القاضي، وهو من قَضَى يَقْضي قَضاءً: إذا أَمَرَ، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23]، وفي الحديث: "أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ" (¬1). وقد اختلف العلماء في القاضي، هل هو وكيل الإمام، أو وكيل المسلمين؟ فإن قلنا: هو نائبٌ عن الإمام، فهو من جملة نوابه، ينعزلُ بعزله، ويتولَّى بولايته. ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (154)، في المقدمة، باب: فضائل خباب عن أنس -رضي الله عنه-. وأبو يعلى في "مسنده": (5763) عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، ولفظهما: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر .... وأقضاهم علي بن أبي طالب"، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (9/ 236) في حديث أبي يعلى: فيه ابن البيلماني وهو ضعيف، قال السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص: 136): له طرق يقوي بعضها بعضاً.

وإن قلنا: إنما هو للمسلمين، فحينئذ الإمامُ ينظر في الابتداء للمسلمين في أصلح مَنْ يجد، فإذا وجد، لم يكن له عزلُه من غير موجبٍ شرعيٍّ يمنع منه. وقد اختلفت الرواية عن أحمد -رضي الله عنه- في القاضي، هل ينعزل بعزل السلطان مع صلاحيته؟ على روايتين: إحداهما: ينعزل، وعليها العمل. والروايه الثانية: لا ينعزل، وأصلهما ذلك. وقد كان في عصر النبوة من ولاة القضاء؛ كعليٍّ وغيرِه، ثمَّ وقع ذلك في زمن عمر، إلا أنه لم يكن على باب الاختصاص، ثمَّ وقع في ولاية عليٍّ على باب الاختصاص، فولّى شُرَيحاً، وسماه بقاضي المسلمين، وقبِل أحكامَه حتى على نفسه، ثمَّ استمر على ذلك الخلفاءُ بعدَه ثمَّ وقع الاصطلاح: أن الخليفة يولِّي واحداً لا غيرَ في جميع معاملاته، وسَمَّوْه بـ: قاضي القضاة، وهو يولِّي مَنْ تحتَ يده في سائر البلاد. وكان أولَ من فعل بذلك أبو يوسف صاحبُ أبي حنيفة، ثمَّ استمر بعدَه الأمرُ على ذلك، وكان ممن ولي كذلك: القاضي أبو يعلى بن الفَرَّاء من الحنابلة، وغيره من الحنفية والشافعية، ولم يكن يُقصد من مذهب واحد. ثم إنه بعدَ ذلك كان يخصُّ كلُّ بلد بقاضٍ من الإمام، وكان يقع الإجتهادُ في أن يكون أعلمَ من يوجد، وأفضلَه.

فصل

ثم جعل في كل بلد أربعة قضاة من المذاهب الأربعة حين وقع الإتفاقُ والإستقرارُ على المذاهب الأربعة، وكان الإمام يجتهد ويتحَرَّى أن يكون أفضلَ من يوجد، وأعلَمَه. وأولُ من تولَّى قضاءَ الحنابلةِ بدمشقَ الإمامُ شمسُ الدين بنُ أبي عمرَ المقدسيُّ الحنبليُّ مُكْرَهاً على ذلك. ثم فسد الناس، فصار يولَّى أفسقُ من يوجد، وأنحس من يوجد بالبراطيلِ ونحوِها. فصل وقد وقع الإصطلاح في الزمن المتأخر: أن قاضيَ كلِّ بلد يقال له: قاضي القضاة، ثم له أعوان من ذلك أنه يسوغ له أن يجعل له نائباً يساعده على الأحكام إذا احتاج إلى ذلك، ويقال لنائبه: أقضى القضاة، كما وقع الاصطلاحُ على ذلك. وهل يُشترط فيه أن يكون من أهل مذهبه؟ فيه خلاف للفقهاء المتأخرين. ومن جملة أعوانه: وكيل الحاكم: وكان يكون لكلِّ حاكمٍ وكيلٌ عنده يجعله وكيلاً فيما يحتاج فيه إلى وكالة؛ من غائب، وميت، وغير ذلك. ومن ذلك: كاتب: فكان يكون للقاضي كاتب. ومن ذلك: مترجم يترجم له، يعرف ألسنةَ الناس. وشاهدان: يقال لهما: شاهدا المجلس؛ لأجل الشهادة على من

فصل

وقع منه ما يحتاج إلى شهادة عليه؛ من إقرارٍ أو غيره، وعلى الحاكم بما يحكم به. ونقيب: وهو الذي تُقدَّم له الدعاوى والأوراق. ورسول: يأتي بالخصوم إليه، ويرسله في أمور الناس وأشغالهم. كلُّ ذلك كان لمصالح المسلمين، فانعكس الأمر، وفسدَ التمر، وحمي الجمر، وصار الكلُّ لمضارِّ الناس، فإنا لله وإنا إليه راجعون. فصل ومن تحته: النائب: وهو في الحقيقة: كلُّ من استنابه في الأحكام من قاضٍ وغيره، في بلده وغير بلده، إلا أنه صار الاصطلاح على مسماه لغير القاضي، وهذا كان يقال له في زمن النبوة والخلفاء: عامل على البلد الفلانية، كما قيل: عامل البصرة، وعامل مصر، ونحو ذلك كثير، ويقال له في الزمن المتأخر: كافل المملكة الفلانية، ويقال له: ملك الأمراء -أيضاً-. فصل ومن جملة أعوانه: الوزير: وهو في الأصل: المساعد على الحكم، وقد نطق به القرآن بقوله: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي} [طه: 29]، وقوله: {أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا} [الفرقان: 35]، وفي الحديث كثير، وجمعه وُزَراء. فصل ومن جملة أعوانه: الدوادار: وليس بقديم لا في الإسم، ولا في

فصل

الفعل، وإنما هو محدَث في الإسم والفعل، وهو الذي ينوب عن كلٍّ من السلطان والنائب في الحكم، حتى إن في زمننا استعملَ هذه الوظيفةَ كثيرٌ من القضاة يجعلون لهم دواداراً. فصل ومن جملة الأعوان: الإستدار: ثم جعلوه ثلاثة أنواع: الإستدار المطلق الذي يتكلم على البلاد والفلاحين والإقطاع، وغير ذلك. والثاني: إستدار المستأجرات: الذي يكون كلامه على المستأجر، دون الأملاك والإقطاع، ومرجعُ هذه إلى الإستدار المطلق. والثالث: إستدار الصحة الذي يقف على الطعام والأكل، وما يتعلق بذلك. فصل ومن جملة الأعوان: رأس نوبة، ثم جعلوه إلى نوعين: رأس نوبة المماليك: الذي يحكم عليهم، ويمنع منهم فِعْلَ ما لا يصلح. ورأس نوبة القضاء: وهو الذي من تحت يده يكون النقباء الذين يذهبون خلف الناس. فصل ومن جملة الأعوان: الحاجب: وكان في الأصل عبارة عن

فصل

البوّاب، ثم إنه نُقل إلى ما هو أعلى من ذلك؛ من حكمٍ، واطِّلاع على أمور الناس، والإعلام بما يخفى على السلطان في بلاده، وغيرها. فصل ومن جملة الأعوان: الخازن دار: ثم جعل نوعين: خازن الغلال، وخازن المال، وسموه: بخازن الكيس. فصل ومن جملة الأعوان: أمير سلاح: وهو الذي يكون السلاحُ من تحت يده. وأما السلحدار: فهو الذي يكون على رأس الملك ونحوه بالسلاح من طبر، أو دبوس، أو سيف، ونحو ذلك. فصل ومن جملة الأعوان: كاتم السر: وهو من يكون من تحت يده الكتابات، والتوقيع، والكَتبَةُ منهم من يقال له: مُوَقِّع، وهو الذي يكتب المراسيم. ومنهم من يقال له: ديوان، وهو الذي يكتب المحاسبات والغلّات، والدَّخْل والخرج، وغير ذلك من المصاريف ونحوها. فصل ومن جملة الأعوان: ناظر الجيش: وهو الذي مرجعُ الجيشِ كلِّه

فصل

إليه في الضبط، وما لهم من أرزاقٍ وغيرِها، وما عليهم من الأعمال، وغير ذلك. فصل ومن جملة الأعوان: الساقي: وهو الذي يسقي الملك. وأما الشلار، فهو الذي يصنع الأشربة ويتولاها من المياه وغيرها. فصل ومن جملة الأعوان: الزردكاش: وهو الذي له النظر على جميع أرباب الصنائع التي يحتاجها الملك في السلاح وغيره. فصل ومن جملة الأعوان: الوالي: وهو في هذا الزمان عبارة عن صاحب الشرطة، ورجالُه رجالُ الشرط. فصل من جملة الأعوان: الكاشف: وهو من يتولَّى على بَرٍّ، أو ضِياع، أو نحو ذلك. فصل ومن جملة الأعوان: البَرْدَ دَار: وهو الذي يتقاضى أشغال الأمير. فصل ومن جملة الأعوان: الحوشكاس: وهو الذي يأتي بحوائج العنب من طلح وغيره.

فصل

فصل ومن جملة الأعوان: نقيب الجيش: وهو الذي يطلب منه كل من آحاد الحابس. فصل ومن جملة الأعوان: نقيب الطُّلب: وهو الذي يطلب آحاد الطلب، ويرتب أمرهم في حال الإستعداد. فصل ومن جملة الأعوان: المِهمندار: وهو الذي يرجع إليه في إدخال المراسيم وإخراجها. فصل ومن جملة الأعوان: الفرّاش: وهو الذي يفرش للملك، وإليه كل ما كان من ذلك. فصل ومن جملة الأعوان: البابا: وهو الذي إليه غسلُ الثياب، وصقلُها، وإصلاحُ كلِّ ما جاء من ذلك. فصل ومن جملة الأعوان: الخياط: وهو الذي يرجع إليه في أمر الخياطة، وما كان منها.

فصل

فصل ومن جملة الأعوان: السلاخوري: وهو الذي يروِّض الخيل، ويعلِّمها الرياضة، ويركبها قبل الملك، ويريضها له، ويركب منها معه ما يحتاج إليه. فصل ومن الأعوان: الركبدار: وهو الذي يركِّب الملك ونحوه، ويكون معه. وأما الغلام، والسائس: فهو الذي يقوم على الدواب في الأكل والشرب والإصلاح، وغير ذلك من أمورها. فصل ومن جملة الأعوان: البيطار: وهو الذي يفعل الدواء، ويعرف عللها، ونحو ذلك منها. فصل ومن جملة الأعوان: البغّال: الذي يقوم بأمر الأبغال التي يُحتاج إليها. ومن جملة الأعوان: السيروان: وهو من يكون نظره على الجِمَال والجَمَّالين.

فصل

ومن يخدم الجِمَالَ ويسوسُها يقال له: جَمَّال. فصل ومن جملة الأعوان: البوّاب: وهو من يقف على الباب؛ ليعرف الداخل والخارج، وفي الحديث: أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَكُنْ لَهُ بَوَّابٌ (¬1). وفي حديث البئر: لأكُونَنَّ بَوَّابَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬2). فصل ومن جملة الأعوان: المشاعلي: وهو الذي يتعاطى الضرب والقتل وغير ذلك، وكان يقال له قديماً: الجَلَّاد. فصل ومن جملة الأعوان: المستشار: وهو من الصور القديمة، وكان يختار لذلك أصلح من يوجد. فصل ومن جملة الأعوان: أميرشكار: وهو الذي يكون الصيد من تحت يده. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6735)، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له بواب عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-. (¬2) رواه البخاري (3471)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو كنت متخذاً خليلاً، ومسلم (2403)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-، من قوله.

فصل

وصاحب الطيور يقال له: بزدار. وصاحب الكلاب يقال له: كلابزي. فصل ومن جملة الأعوان: الأمراء: وهم كلُّ من تَأَمَّرَ من أجناد العسكر، وصار منهم الكثير مَيمَنة ومَيْسَرة، وثاني ميمنة وثاني ميسرة، وأمير مئة، [و] مقدَّم ألف، وأمير أربعين وعشرين وعشرة، وأجناد الحلقة. فصل ومن جملة الأعوان: المنجنيقي: وهو الذي يضرب بالمنجنيق. والتقطي: وهو الذي يضرب بالنفط. فصل ومن جملة الأعوان: الطَّبالين والزمَّارين. فصل ومن جملة الأعوان: الجَمَدار. فصل ومن جملة الأعوان: الطشتدار: وهو الذي يتعاطى غسلَ الأثواب بعدَ الطعام، ونحوه، والفُوَط، وغير ذلك. فصل ومن جملة الأعوان: الطبّاخ: الذي يطبخ الطعام.

فصل

فصل ومن جملة الأعوان: المحتسب: وهو الذي يتولى الحكمَ في الأسواق والسوقة، وإليه أمرُ البيّاعة جميعِهم، وتفقُّدُ أحوالهم. فصل ومن جملة الأعوان: مُقَدَّمي البلاد: وهم بمنزلة الولاة عليهم، ومن يقوم بأمورهم. فصل ومن جملة الأعوان: البريدية: وهم الذين يتسفَّرون في الأشغال. فصل ومن جملة الأعوان: الخاصكية: وهم فوق البريدية، يتسفرون في الأمور المهمة. فصل ومن جملة الأعوان: المؤدِّب: وهو من يُقرئ أولاد الملك ومماليكه. فصل ومن جملة الأعوان: أميرآخور: وهو الذي يقف على عَليق الدواب، ويقوم به. فصل ومن جملة الأعوان: أمير مجلس.

فصل

فصل ومن جملة الأعوان: فاظر الخاص: وهو النظر في الأمور المختصة بالملك. فصل ومن جملة الأعوان: وكيل السلطان، ووكيل بيت المال خاصة. فصل ومن جملة الأعوان: المشد: وهو الذي يقف على الأمور، ومشد المطبخ مختص به، ومشد المحابر مختص بها. فصل ومن جملة الأعوان: المباشر: وكلُّ عمل له مباشِر. فصل ومن جملة الأعوان: الضويّ: وهو الذي يحمل المشاعل والضوء مع السلطان. فصل وكل هؤلاء وضعَهم الملوكُ لمصالح المسلمين، ثم إن الزمان انعكس وفسد، وصار كلُّهم ضرورة على الإسلام والمسلمين.

الباب الثاني في شروط الولاة والحكم، ومن يصلح للولاية

الباب الثّاني في شروط الولاة والحكم، ومَنْ يَصْلُح للولاية وهي تنقسم إلى قسمين: شروط عامة: في كل أحدٍ منهم مشترطة معتبرة لجميعهم، وكل أحد منهم من الخليفة، والسلطان، والقاضي، والنائب، والأمير، وكل أحد منهم، وهي أشياء: الأول منها: العقل، فلا تصح ولايةُ مجنون مطلقاً، وهو مَنْ لا عقلَ له؛ لأن الحكم، والقيامَ بالأمور يحتاج إلى عقل، والعاقلُ هو من عرفَ خالقَه ونفسَه، وميَّز بين المخلوقات، فعرف السماء من الأرض، والبغلَ من الحمار، والرجلَ من المرأة، وعرف ما يضرُّ وما ينفع، والممكنَ والممتنعَ والضروري، ومن لم يعرف ذلك، فهو مجنون لا يجري عليه حكمُ التكليف، ولا تجوز ولايته، وإن عرف البعضَ دونَ بعض، فناقصٌ، ولا تجوز ولايته، وإن كان في وقت دون وقت، أو يُصْرَع في بعض الأحيان، فاختلف في جواز ولايته، والمختار الذي [عليه] الأكثر: لا تجوز ولايته.

الثاشي: الإسلام: إن كانت الولاية على مسلمين، أو على مَنْ فيهم من المسلمين؛ لقول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141]، وقوله -عَلَيْهِ الْسَّلَامْ-: "الإسْلاَمُ يَعْلُو، ولا يُعْلَى" (¬1)، ولأمره -عَلَيْهِ الْسَّلَامْ- بالسمع والطاعة، "إلا أن تَرَوْا كُفْراً بَوَاحاً، عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ فيهِ بُرْهانٌ" (¬2)، وهو مشترَط في كل والٍ. فأما إن كان بلدَ كفار لا مسلمَ فيه، فهل يجوز أن يولّى عليهم كافرٌ، أو يجعل عريفاً عليهم؟ هذا أمر مختلف فيه. الثالث: الذكورية، وهو أمر مشترَطٌ في السلطان والقاضي، وكلِّ أحدٍ من الولاة؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُفْلِحُ قُوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً" (¬3)، والمرأة ناقصة عقل ودين، كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬4). ¬

_ (¬1) رواه الروياني في "مسنده" (783) مختصراً، والدارقطني في "سننه" (3/ 252)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 205) عن عائذ بن عمرو -رضي الله عنه-. وحسنه الحافظ في "فتح الباري" (3/ 220). (¬2) رواه البخاري (6647)، كتاب: الفتن، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: سترون بعدي أموراً تنكرونها، ومسلم (1709)، كتاب: الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-. (¬3) رواه البخاري (4163)، كتاب: المغازي، باب: كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى كسرى وقيصر عن أبي بكرة -رضي الله عنه-، وعنده: "لن يفلح" بدل "لا يفلح". (¬4) روى البخاري (298)، كتاب: الحيض، باب: ترك الحائض الصوم، ومسلم (79)، كتاب: الإيمان، باب: بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات ... عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- مرفوعا بلفظ: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن".

الرابع: البلوغ؛ لأن الصغير لا يقوم به أمر، وهو مشترَطٌ في السلطان والقاضي، وكلِّ أحدٍ من الولاة، لأن الصغير لا يقدر على القتال، وعقلُه ناقص، وليس بمكلَّف، وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه عُرِضَ عليه [عبدُ الله بنُ عمرَ] ليكون من جملة العسكر والجيش، فلم يُجِزْه (¬1)، وقد تَعَوَّذَ من إِمْرَة الصبيان (¬2)، وذلك يدلُّ على عدم جوازها، وسواء كان مُميِّزاً، أو دون التمييز، وسواء كان مراهقاً، أو دون ذلك؛ لهذا الحديث. فأما مَنْ هو دونَ التمييز، فلا خلاف فيه، وأما المميز والمراهق، فاختلف فيه، وجمهور أهل العلم على المنع، وأنه لا تصحُّ له ولاية. الشرط الخامس: الحرية في الإمام والقاضي، وقد اختلف فيها: فقال جمهور أهل العلم إنها شرط، لأن العبد على يده يدٌ، وربما احتاج إلى سفر ونحوه، فمنعه سيدُه، وهو مشتغل بخدمة سيدِه وحقوقه، فلا يقدر على التفرغ لأمور المسلمين وأحكامهم. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2521)، كتاب: الشهادات، باب: بلوغ الصبيان وشهادتهم، ومسلم (1868)، كتاب: الإمارة، باب: بيان سن البلوغ عن ابن عمر -رضي الله عنهما- ولفظه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه، ثم عرضني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني. (¬2) رواه الإمام أحمد في "مسنده" (2/ 326)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (37235) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعاً بلفظ: "تعوذوا بالله من رأس السبعين وإمارة الصبيان"، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/ 22): رجاله رجال الصحيح، غير كامل بن العلاء، وهو ثقة.

وعند الحنفية: لا تشترط الحرية، واحتجوا لذلك بالحديث: "وَإِنْ تأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ" (¬1)، وفي حديث: "اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَلَوْ لِعَبْدٍ حَبَشِيٍّ" (¬2). والجوابُ عن ذلك: أنه جعله من باب المبالغة. الشرط السادس: أن يكون بصيراً، فلا تجوز ولايةُ أعمى عند جمهور أهل العلم، لأن الحاكم يحتاج إلى النظر في جميع أموره، فإن طرأ عليه العمى بعد ولايته، هل ينعزل بذلك؟ ذكر القاضي أبو يعلى من أئمة أصحابنا: أنه ينعزل بذلك. قال في "الأحكام السلطانية": فأما ذهابُ البصر، فيمنعُ من عقدها واستدامَتِها، لأنه يُبطل القضاء، ويمنع من جواز الشهادة، فأولى أن يمنع من صحة الإمامة (¬3). الشرط السابع: السمع، فلا تصح ولاية الأطرش الذي لا يسمع ¬

_ (¬1) رواه بهذا اللفظ: البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 114) بدون لفظ: "حبشي". وذكره النووي في "الأذكار" (ص: 327) بهذا اللفظ وعزاه لأبي داود والترمذي. قلت: رواه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، عن العرباض بن سارية -رضي الله عنه- نحوه. (¬2) رواه البخاري (661)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: إمامة العبد والمولى عن أنس -رضي الله عنه-، ولفظه: "اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل حبشي كأن رأسه زبيبة". (¬3) انظر: "الأحكام السلطانية" لأبي يعلى (ص: 21).

فروع تتعلق بذلك

شيئا عند جمهور العلماء؛ لأنه يحتاج إلى السمع والبصر؛ ليسمع كلام الخصوم، وغيرها. الشرط الثامن: الكلام، فلا تصح ولاية أخرسَ لا ينطِق. الشرط التاسع: المشي، فلا تصح ولاية مَنْ لا يقدر على المشي عند جمهور العلماء، سواء كان ذلك لزَمَانة، أو ذهابهما. الشرط العاشر: وجود اليدين، فلا تصح ولاية مَنْ لا يدينِ له، سواء كان ذلك خِلقةً، أو بقطعٍ عند جمهور العلماء. فروع تتعلق بذلك: الأول: قال القاضي أبو يعلى في "الأحكام السلطانية": إذا كان الحادث على بدنه زوال العقل، نظرت فيه، فإن كان عارضاً مرجُوّاً زوالُه؛ كالإغماء، فهذا لا يمنع عقدَها، ولا استدامَتَها؛ لأنه مرض قليل اللُّبث، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُغمي عليه في مرضه. وإن كان لازماً لا يُرجى زوالُه؛ كالجنون والخَبَل، فينظر: فإن كان مُطْبقاً لا تتخلَّلُه إفاقةٌ، فهذا يمنع الإبتداء والإستدامة، وإذا طرأ عليها، أَبطلها؛ لأنه يمنع المقصودَ الذي هو إقامةُ الحدود، واستيفاءُ الحقوق، وحمايةُ المسلمين، وإن كان تتخلَّلُه إفاقةٌ يعود فيها إلى حال السلامة، نظرت، فإن كان أكثر زمانه الخَبَل، فهو كما لو كان مُطْبِقاً، وإن كان أكثر زمانه الإفاقة، فقد قيل: يمنع من عقدها، وهل يمنع من استدامتها؟ فقيل: يمنع من استدامتها، كما يمنع من ابتدائها؛ لأن في ذلك إخلالاً بالنظر المستحقِّ فيه، وقد قيل: لا يمنع من استدامتها، وإن منع من عقدها؛

لأنه يراعى في ابتداء عقدها سلامةٌ كاملة، وفي الخروج منها نقصٌ كامل (¬1). الثاني: لا فرق في ذلك بين القاضي والإمام. وفي "الفروع": ما منع تولية القضاء، منع دوامها، فينعزل به. وقال أيضاً: إن أفاق مَنْ جُنَّ، أو أُغمي عليه، وقلنا: ينعزل بالإغماء، فولايته باقية. وفي "الترغيب": إن جُنَّ، ثم أفاق: احتمل وجهين. وفي "المعتمد" للقاضي: إن طرأ جنون: فقيل: إن لم يكن مُطْبِقاً، لم يعزل، كالإغماء، وإن أطبق به، وجبَ عزلُه. واختلفت الشافعية، فقيل: مدة سنة لتكميل إنجاز العبادات، وقيل: شهر؛ لإنجاز رمضان مع الصلاة، وقيل: يوماً وليلة، لإنجاز الصلاة، قال: والأشبه بقولنا: الشهرُ؛ لأن أحمدَ أجازَ شهادة مَنْ يُفيق، وفي رواية: من يُخْنَقُ في الأحيان، وقال: في الشهر مرة. قال صاحب "الفروع": كذا قال (¬2). الثالث: قال القاضي في "الأحكام السلطانية": وأما عَشَى العين، وهو أن لا يبصر عند دخول الليل، فلا يمنع من عقدها، ولا استدامتها؛ لأنه مرض في زمان الدّعَة يرجى زوالُه (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الأحكام السلطانية" لأبي يعلى (ص: 21). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 384). (¬3) انظر: "الأحكام السلطانية" لأبي يعلى (ص: 21).

وظاهر كلامه: أنه إذا كان في زمان النهار: أنه يُمنع، للحاجة إلى ذلك لأجل القتال والأحكام بالنهار، فلو كان يبصر ليلاً، ولا يبصر نهاراً، لم تجز ولايته. وفي "الفروع": ما منعَ توليةَ القضاء، منعَ دوامَها، فينعزل به (¬1). وفي "المحرر": فَقْدُ سمعٍ أو بصرٍ بعد الثبوت عنده: له الحكمُ فيه (¬2)، وقاله في "الإنتصار" في فقد بصر، وظاهر هذا لا ينعزل به. وفي "الرعاية الكبرى": إن زال عقله، بجنون، أو سكرٍ محرَّمٍ، أو إغماءٍ، أو عَمًى، انعزل (¬3). قلت: الإغماءُ لا ينعزل به عند جمهور العلماء. الرابع: قال القاضي في "الأحكام السلطانية": وأما ضعفُ البصر: فإن كان يعرف به الأشخاصَ إذا رآها، لم يمنع الإمامة، وإن كان يدرك الأشخاص، ولا يعرفها، منعَ من عقدِها واستدامتِها (¬4). الخامس: قال القاضي في "الأحكام السلطانية": فإن كان أَخْشَمَ الأنف، لا يُدرك به شمَّ الروائح، أو فقد الذوق الذي لا يفرق به بين ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" (6/ 384). (¬2) انظر: "المحرر في الفقه" للمجد ابن تيمية (2/ 203) وعبارته: "وما فقد منها في الدوام أزال الولاية إلا في فقد السمع أو البصر فيما ثبت عنده ولم يحكم به". (¬3) انظر: "المبدع" (10/ 24). (¬4) انظر: "الأحكام السلطانية" (ص: 21).

الطعوم، لم يؤثر ذلك في عقد الإمامة؛ لأنهما يؤثران في اللذة دون الرأي والعمل (¬1). السادسى: قال صاحب "الفروع": لا يمنع ذهابُ عينٍ ولايةَ الإمامة الكبرى، ذكره أصحابنا (¬2)، وهو ظاهر كلام القاضي وغيره. السابع: قال القاضي في "الأحكام السلطانية": وأما الصَّمَمُ والخَرَسُ، فيمنعان ابتداء عقد الإمامة، لأنهما يؤثران في التدبير والعمل، كما يؤثر العمى، وأما في الإستدامة: فقد قيل: لا يخرج بهما من الإمامة؛ لقيام الإشارةِ مقامهما فراعينا في ابتدائها سلامةَ كلامه، وفي الخروج نقصاً كاملاً (¬3). الثامن: قال القاضي في "الأحكام السلطانية": وأما تَمْتَمَةُ اللسان، وثِقَلُ السمع مع إدراك الصوت إذا علا، فلا يمنع الابتداء ولا الإستدامة؛ لأن نبي الله موسى لم تمنعه عقدةُ لسانه من النبوة، فأولى أن لا يمنع الإمامة (¬4). التاسع: قال القاضي في "الأحكام السلطانية": فإن كان مقطوعَ الذَّكَر والأُنثيينِ: لم يمنع الإمامة، لا في ابتدائها، ولا من استدامتها؛ لأن فقدَ ذلك يؤثر في التناسل دون الرأي والحركة، فجرى مجرى العُنَّة، وقد وصف الله تعالى يحيى بن زكريا بذلك، وأثنى عليه، فقال: ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) انظر: "الفروع" (6/ 377). (¬3) انظر: "الأحكام السلطانية" (ص: 21). (¬4) المرجع السابق، الموضع نفسه.

{وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 39]، وقد روي عن ابن عباس: أنه لم يكن له ذَكَرٌ يغشى به النساء، وكان كالنواة (¬1). فلمَّا لم يمنع ذلكَ من النبوة، أولى أن لا يمنع من الإمامة (¬2). العاشر: قال القاضي في "الأحكام السلطانية": ولا يمنع قطعُ الأُذنين، لأنهما لا يؤثران في رأي ولا عمل، ولهما ستر خفي، يمكن أن يستر فلا يظهر (¬3). الحادي عشر: قال القاضي في "الأحكام السلطانية": وأما ذهابُ اليدين الذي يمنع العمل، وذهابُ الرجلين الذي يُذهب البطش، فيمنع من ابتداء عقدِها واستدامتها؛ لعجزه عما يلزمه من حقوق الأمة في عمل أو نهضة (¬4). ¬

_ (¬1) روى الحاكم في "المستدرك" رقم: (7618)، وابن جرير في "تفسيره" (3/ 255)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (64/ 174) عن عبد الله بن عمرو بن العاص أو أبيه -رضي الله عنهما-: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كل ابن آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكريا"، قال: ثم دلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده إلى الأرض، فأخذ عوداً صغيراً، ثم قال: "وذلك أنه لم يكن له ما للرجال إلا مئل هذا العود، وبذلك سماه الله سيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين". قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وروى الطبراني في "المعجم الأوسط" (6555)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (2/ 644)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (64/ 194) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مثله، وفيه: فأهوى إلى قذاة من الأرض فأخذها، وقال: "كان ذكره مثل هذه القذاة". (¬2) انظر: "الأحكام السلطانية" (ص: 21). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬4) المرجع السابق، الموضع نفسه.

الثاني عشر: قال القاضي: وأما ذهابُ إحدى اليدين أو إحدى الرجلين، فلا يصح معه عقدُ الإمامة؛ لعجزه عن كمالِ التصرُّف، ولا يخرج به من الإمامة إذا طرأ عليه؛ لأن المعتبر في عقدها كمالُ السلامة، وفي الخروج النقصُ (¬1). الثالث عشر: قال القاضي: فإن كان أجدَعَ الأنفِ، أو سمل إحدى العينين، لم يؤثر في ابتداء العقد، ولا في استدامته؛ لأنه غيرُ مؤثر في الحقوق، وقد قيل: يمنع من عقدِها دون الإستدامة؛ لأنه نقصٌ يُزدرى، فتقلّ به الهيبةُ، وبقلّةِ الهيبة تقلّ الطاعة (¬2). الرابع عشر: الزَّمِنُ الذي لا يقدر على القيام، ولا المشي، ولا الركوب: يمنع من ابتداء عقدها، وهل يؤثر في الإستدامة؟ فقيل: يؤثر، وقيل: لا؛ لأنه يعتبر لابتدائها كمالٌ تامّ، وللخروج منها نقصٌ تام. الخامس عشر: وأما الجُذامُ، فهل يُمنع منها؟ ظاهرُ كلام جماعة: يمنع؛ لأنه يعتبر لها كمالٌ تامّ، وهذه علة يُقذر صاحبُها ويُزدرى، ويُردّ بها في باب البيع والنكاح، وهي علة لا يُرجى زوالُها، فلايصح ابتداء عقدِها معها، وظاهرُ كلامِ بعضهم: لا يمنع، فهان حدثت بعدَ عقدها، فهل يؤثر في الإستدامة؛ ظاهرُ كلامِ بعضهم: لا، وظاهر كلام بعضهم: بلى. ¬

_ (¬1) المرجع السابق (ص: 22). (¬2) المرجع السابق (ص: 21).

السادس عشر: البَرَصُ هل يؤثر فيها لابتدائها، أو استدامتها؟ ظاهرُ كلام القاضي وجماعة: أنه يمنع من ابتداء عقدها؛ لقولهم: يعتبر له سلامةٌ كاملة، ومع ذلك لا تكون سلامة كاملة. وظاهر كلام بعضهم: لا يؤثر ذلك؛ لأن هذا أمر لا يؤثر إلا في الزينة، ووجدت علامات كثيرة لمن هي به في الجاهلية والإسلام. السابع عشر: هل يمنعها كونُه خنثى مشكل؟ ظاهر كلام أكثر أصحابنا: يمنع ذلك؛ لاشتراطهم الذكورية، فلا تجوز ولاية غير ذكر. الثامن عشر: فإن كان به علة لا يمكن بَرْؤها؛ مثل: الفالج، والعرج، والكَتعَ، أو به لَقْوَة، ونحو ذلك، فهل يمنع منها؟ ظاهر كلام جماعة من أصحابنا: لا يمنع ذلك منها، وظاهرُ كلام القاضي وغيره: يمنع؛ لاعتبار كمال السلامة. التاسع عشر: ظاهرُ كلام أصحابنا: لا تضرُّ عُموشة عينيه، وسيلانُ لعابه من فمه، وكثرةُ نسيانه، ونحو ذلك، لا في الابتداء، ولا في الإستدامة. وظاهر قول من يقول: يعتبر لابتدائها سلامةٌ كاملة = يلي. العشرون: ظاهر كلام أصحابنا: أن نحافة البدن، وضعف الخِلقة في النفس لا تؤثر في ذلك.

فصل

فصل قد تقدمت الشروط العشرة المعتبرة في كل مُوَلًّى من خليفة، وسلطان، وقاضٍ، ونائب، ويعتبر في الإمام شروطٌ أخرُ يختص بها: الأول منها: أن يكون من قريش. قال القاضي: يعتبر أن يكون قرشياً من الصميم، وهم من كان من ولد قريش يريد ابن النضر. قال الإمام أحمد -في رواية مُهَنَّا-: لا يكون من غير قريش خليفة (¬1). وقال ابن عقيل: يعتبر ذلك في الإمام. وأما عمل الناس على بني العباس، فليس له أصل يعتمد عليه، وقول الناس: إنه -عَلَيْهِ الْسَّلَامْ- قال له: "الخلافَةُ فيكَ وفي وَلَدِكَ إلى يَوْمِ القيامَةِ" (¬2)، فهو كذب لا عمل ¬

_ (¬1) انظر: "الأحكام السلطانية" (ص: 3). (¬2) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (26/ 349) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: "الخلافة فيكم والنبوة". وروى ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (5/ 273)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (26/ 347) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- بلفظ: "فيكم النبوة والمملكة"، وفيه عبد الله بن شبيب، قال ابن عدي: يحل ضرب عنقه، ثم قال: ولعبد الله بن شبيب غير ما ذكرت من الأحاديث التي أنكرت عليه كثير. ورواه باللفظ نفسه: البزار في "مسنده" (مجمع الزوائد: 5/ 192 - 193)، والبيهقي في "دلائل النبوة" (6/ 517) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال البيهقي: تفرد به محمد بن عبد الرحمن العامري عن سهيل، وليس بالقوي، وكذا أعله الهيثمي بمحمد هذا. =

عليه، ولو صحَّ ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لم يكن لأبي بكر أن يتقدم على العباس مع وجوده، وقد قال له علي -وراودوه على أن يدخلا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيسألاه: إن كانت الخلافة فيهم، علموا ذلك، وإن كانت في غيرهم، أوصى بهم-، فقال: لا والله، وأبى، وقال: إن منعناها، لم يعطِناها الناسُ أبداً (¬1). وكيف يقع هذا، وقد قال له: "إنها فيه وفي ولده"؟ والله! لو وقع ذلك، لم يستحل أبو بكر أخذَها، ولا عمرُ بعدَه؛ فإنه كان في زمن عمر، وقال عمر في أيامه: كنا نتوسل إليك بنبينا، فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا (¬2)، وكان يتوسَّل به في زمنه، فلو قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الخلافة فيه، لم يَسَعْه السكوت، ولم يسعْ أبا بكرٍ وعمرَ التقدمُ عليه، ولا وسعَ الصحابةَ السكوتُ عن ذلك، ثم بعدها وليَ عثمان، ثم علي، ولم تقع للعباس ولاية، ثم وليَ جماعة من الأئمة من الصحابة وغيرهم، وليس هم من أولاده. ¬

_ = وروى الخطيب في "تاريخ بغداد" (3/ 349)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (26/ 350) عن ابن عباس -رضي الله عنهما- بلفظ: "لي النبوة ولكم الخلافة". وروى الديلمي في "مسند الفردوس" (5371) عن أم سلمة -رضي الله عنه- بلفظ: "لن تزال الخلافة في ولد عمي صِنْو أبي العباس حتى يسلموها إلى الدجال". (¬1) رواه البخاري (4182)، كتاب: المغازي، باب: مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته عن كعب بن مالك -رضي الله عنه-. (¬2) رواه البخاري (964)، كتاب: الإستسقاء، باب: سؤال الناس الإمام الإستسقاء إذا قحطوا عن أنس -رضي الله عنه-.

ولو كان -عَلَيْهِ الْسَّلَامْ- قال ذلك، لما وَسِعَ من بقي من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - السكوتُ عن مثل ذلك، ثم وليها عمرُ بن عبد العزيز، مع عدله وخيره وديانته، والإجماع على أنه من العادلين، وليس هو من ولده، ولو علمَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك، لم يدخل فيها، ولتركها. وإنما حدث هذا الكذبُ على الرسول في خلافة بني العباس حين أخذوها، وصارت إليهم، ولم نر القولَ باشتراط كونه من بني العباس عن أحد من العلماء المعتبرين، ولو اشترط ذلك أحد، وأنه خير، لكان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحقَّ باتباعه، فلم يتولّ العباسُ في زمن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا أحد من أولاده، ثم كذلك لم يتولّ أحدٌ من أولاده في زمن تابعي التابعين، وكانوا أحرصَ على القول بالخبر واتباعِه من غيرهم، ولم يَرِدْ ذلك عن أحد منهم، بل الذي صحّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعن أصحابه، ومَنْ بعدهم: أن يكون قرشياً، فقد أخبرنا الجماعة، أنا ابن الزَّعْبوب، أنا الحَجَّار، أنا ابن الزَّبيدي، أنا السِّجْزِي، أنا الداودي: أنا السَّرَخْسي، أنا الفِرَبْري، أنا البخاري، ثنا أبو اليمان، أنا شعيب، عن الزهري، قال: كان محمّدُ بنُ جُبيرِ بنِ مُطْعِمٍ يحدِّثُ أنه بلغ معاويةَ، وهو عنده في وفدٍ من قريش: أنَّ عبدَ الله بنَ عمرٍو يحدِّث: أنه سيكون ملكٌ من قحطان، فغضب، فقامَ، فأثنى على الله بما هو أهلُه، ثم قال: أمّا بعد: فإنه بلغني أن رجالاً منكم يحدِّثونَ أحاديثَ ليست في كتاب الله، ولا تُوثَرُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أولئك جُهَّالُكُم، فإيَّاكُم والأمانِيَّ التي تُضلُّ أهلَها؛ فإني سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّ هَذَا

الأمْرَ في قُرَيْشٍ، لا يُعادِيهِمْ أَحَدٌ إِلَّا كَبَّهُ اللهُ عَلَى وَجْهِهِ في النَّارِ، مَا أَقَامُوا الدِّينَ" (¬1). تابعه نعيم، عن ابن المبارك، عن مَعْمَر، عن الزهريِّ، عن محمّدِ بنِ جبير (¬2). قال: ثنا أحمدُ بنُ يونسَ، ثنا عاصمُ بنُ محمّدٍ: سمعت أبي يقول: قالَ ابنُ عمرَ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ يَزَالُ هَذَا الأمْرُ في قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنْهُمُ اثنانِ" (¬3). أخبرنا أبو العباس الفُولاذيُّ وغيرُه، أنا ابن بردس، أنا ابن الخباز، أنا الإربليُّ، أنا أبو عبد الله الفُراويُّ، أنا أبو الحسين الفارسيُّ، أنا أبو أحمدَ الجُلوديُّ: أنا أبو إسحاقَ الزاهدُ، أنا مسلمُ بنُ الحَجَّاج، ثنا أحمدُ بنُ يونسَ، ثنا عاصمُ بنُ محمّدٍ، عن أبيه، قال: قال عبد الله: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَزَالُ هَذَا الأمرُ في قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنَ النَّاسِ اثنانِ" (¬4). أخبرنا أبو حفص السليميُّ، أنا ابنُ الزَّعْبوب، أنا الحَجَّارُ، أنا ابنُ الزَّبيديِّ: أنا السِّجْزِيُّ، أنا الدَّاوديُّ، أنا السَّرَخْسيُّ، أنا الفِرَبْريُّ، أنا البخاريُّ، ثنا محمّدُ بنُ المثنى، ثنا غُنْدَرُ، ثنا شعبةَ، عن ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6721)، كتاب: الأحكام، باب: الأمراء من قريش. (¬2) انظر: "صحيح البخاري" (6/ 2611). (¬3) رواه البخاري (6722)، كتاب: الأحكام، باب: الأمراء من قريش. (¬4) رواه مسلم (1820)، كتاب: الإمارة، باب: الناس تبع لقريش والخلافة في قريش.

عبد الملك، قال: سمعتُ جابرَ بنَ سَمُرَةَ قال: سمعتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يَكُونُ اثنُا (¬1) عَشَرَ أَمِيراً"، فقال كلمةً لم أسمعها، فقال أبي: إنه قال: "كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ" (¬2). وبه إلى البخاري، ثثا عبد العزيز بنُ عبد الله، ثنا إبراهيمُ بنُ سعد، عن صالحٍ، عنِ ابنِ شهابٍ، عن عُبيد الله بنِ عبدِ الله بنِ عُتبةَ بنِ مسعودٍ، عن ابنِ عباسِ، عن عمر: أنه قال: كانَ من خبرنا حين تَوَفَى اللهُ نبيَّهُ - صلى الله عليه وسلم -: أَنَ الأَنصارَ خالفونا، واجتمعوا بأَسْرِهم في سقيفةِ بني ساعدةَ، وخالفَ عنّا عليّ، والزُّبيرُ، ومَنْ معهما، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر: فقلتُ لأبي بكر: يا أبا بكر! انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلَقْنا نُريدُهم، فلما دَنَوْنا منهم، لَقِيَنا منهم رجلانِ صالحانِ، فذكرا ما تمالَّا عليه القومُ، فقالا: أينَ تريدون يا معشرَ المهاجرين؟ فقالوا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، فقالا: لا عليكم أن لا تَقْربوهم، اقْضُوا أمرَكم، فقلتُ: والله! لنأتينَّهم، فانطلقنا حتى أتيناهم في سَقيفة بني ساعدةَ، فإذا رجلٌ مُزَّمِّلٌ بين ظَهْرَانَيْهِم، فقلت: مَنْ هذا؟ قالوا: هذا سعدُ بنُ عبادةَ، فقلتُ: ماله؟ قالوا: يُوعَكُ، فلما جلسنا قليلاً، تشهَّد خطيبُهم، فأثنى على الله بما هو أهلُه، ثم قال: أما بعدُ: فنحن أنصارُ الله، وكتيبةُ الإسلام، وأنتم -معاشرَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "اثني". (¬2) رواه البخاري (6796)، كتاب: الأحكام، باب: الإستخلاف.

المهاجرين- رهطٌ، وقد دَفَّتْ دافَّةٌ من قومِكم، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلِنا، وأن يحضنونا من الأمر. فلما سكتَ، أردتُ أن أتكلَّم، وكنت زَوَّرْتُ مقالة أعجبتْني أريدُ أن أقدِّمها بين يَدَيْ أبي بكر، وكنت أُداري منه بعضَ الحَدِّ، فلما أردتُ أن أتكلَّم، قال أبو بكر: على رِسْلِك، فكرهتُ أن أُغضبه، فتكلم أبو بكر -وكان هو أحلَم مني وأوقَرَ- والله! ما تركَ من كلمةٍ أعجبتْني في تزويري إلا قالَ في بديهته مثلَها، أو أفضلَ منها، حتى سكت، فقال؛ ما ذكرتُم فيكم من خير، فأنتم له أهلٌ، ولن يُعرف هذا الأمرُ إلا لهذا الحيِّ من قريش، هم أوسطُ العرب نسباً وداراً، وقد رضيتُ لكم أحدَ هذين الرجلين، فبايِعوا أَيَّهما شئتُم، فأخذ بيدي، وبيد أبي عبيدةَ بنِ الجراحِ، وهو جالسٌ بيننا، فلم أكره مما قال غيرها، كان -والله- أن أقدَّمَ فتُضربَ عنقي، لا يُقرِّبُني ذلك من إثم، أحبَّ إليَّ من أن أتأَمَّر على قوم فيهم أبو بكر، اللهمَّ إلا أن تُسَوِّلَ لي نفسي عند الموت شيئاً لا أجدُه الآن. فقال قائل من الأنصار: أنا جُذَيْلُها المُحَكَّكُ، وعُذَيْقُها المُرَجَّب، مِنَّا أمير، ومنكم أمير يا معشر قريش. فكثر اللَّغَطُ، وارتفعت الأصوات، حتى فَرِقْتُ من الإختلاف، فقلت: ابسطْ يدَك يا أبا بكر، فبسطَ يدَه، فبايعته، وبايعه المهاجرون، ثم بايعتْه الأنصار" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6442)، كتاب: المحاربين من أهل الكفر والردة، باب: رجم =

فكيف يقول عاقل -مع هذا الحال- من جميع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من المهاجرين والأنصار: إنهم علموا ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكتموه، ولم يذكره أحد منهم، ولا احتج به لا العباسُ، ولا أحدٌ من أولاده، ولا من بعدهم؟!! هذا لا يقوله عاقل، بل ذلك فيه وقوعٌ في إثمٍ كبير؛ حيث اتهم جميع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل ومن جملتهم صاحبُ المصلحة العباسُ على كتمانِ ما قاله الرسول، وعَمِلَ على خلافه؟! وإنما وقع اتفاقهم على أنه لقريش، ولهذا قدم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم عليّ، ثم معاوية، وليس ثَمَّ منهم من هو العباس، ولا من ولده، فعلم بطلانُ ذلك، وأنه -عَلَيْهِ الْسَّلَامْ- لم يقله، ولم يتكلم به، بل قال: إن ذلك في قريش، في أحاديث كثيرة، منها ما هو في "الصحيحين"، ومنها ما هو في غيرهما (¬1). ويُشترط -مع ذلك- أن يكون أفضلَ قرشيٍّ يوجد، إما مع الاتفاق على فضله، أو اتفاقِ غالبِ الناس على ذلك؛ كما وقع الاتفاقُ على أفضلية أبي بكر، ثم على عمر، ثم على عثمان، وقد وقع فيه تردُّد كثير ومحاورة، ولهذا قال عبدُ الرحمن لعلي: والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه، فأسكت الشيخان، فقال عبد الرحمن: أتجعلونه ¬

_ = الحبلى في الزنا إذا أحصنت. (¬1) منها: ما رواه البخاري (3309)، كتاب: المناقب، باب: مناقب قريش عن معاوية -رضي الله عنه- وفيه: "إن هذا الأمر في قريش، لا يعاديهم أحد إلا أكبه الله على وجهه ما أقاموا الدين".

إليَّ؟ والله عليّ أن لا آلو عن أفضلكم، وقال لعلي: إني لم أر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يعدلون بعثمان أحداً، فلا تجعل على نفسك لأحد (¬1). وهذا يدل على أنه لابد أن يكون أفضلَ موجود من قريش يقعُ الإجتهادُ عليه في الأفضلية، سواءٌ كان من وَلَدِ العباس، أو غيرِهم، كما وقع الإتفاق على أفضلية أبي بكر، ثمّ عمر، ثمّ عثمان. وأما عليٌّ -رضي الله عنه-، فلم يقع الإتفاقُ عليه، بل وقع اختلافٌ بينه وبين معاوية، ثم بعدَ قتلِه استقرَّ الأمرُ لمعاويةَ، فلا بدَّ للخليفة من المبايعة من أهل الحَلِّ والعَقْد في كلِّ بلد، وأما ما يُفعل في زمننا، فهو أمرٌ ليس فيه معرفة ولا تحقيق من كونه من ولدِ العباس، فهذا أمرٌ قد بينّا فسادَه، وعدمَ الاجتهاد في كونه أفضلَ، وهذا غيرُ جيد، وأن الذي يوليه السلطانُ الذي هو نائبُه، وهذا أمر فاسد، بل المبايعة إنما تكون للخليفة الذي هو الأصلُ الذي يولِّي السلطانَ، فلا بد أن يتفق عليه أهلُ الحل والعقد في كلِّ بلد، ويبايعون له، لا في نائبه الذي هو السلطان؛ فإن السلطان نائب الخليفة اليوم، فتعتبر المبايعة للخليفة، لا للسلطان، والسلطانُ لا تعتبر له مبايعة، بل يوليه الخليفةُ، ولا يصح توليةُ الخليفة من السلطان؛ لأنه يلزم من ذلك الدَّوْرِ، ويصير كلُّ واحد منهما نائبَ الآخر، وفرعاً عنه، وهذا من أفسد ما يكون. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3497)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: قصة البيعة والإتفاق على عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، والبخاري أيضاً (6781)، كتاب: الأحكام، باب: كيف يبايع الإمام الناس.

فالعمل الصحيحُ: أن تقع المبايعةُ للخليفة -الذي هو الإمام الأعظم- من أهل الحل والعقد؛ من العلماء، والأكابر، والأعيان في كل بلد، مع الاجتهاد في جمعه شروطَ الإمامة في نفسه كلَّها، فإذا صار خليفةً بذلك، فبعدَ ذلك يولِّي هو السلطانَ الذي يقوم بسياسةِ الناس، والذَّبِّ عنهم، وَردِّ الأعداء عنهم، وأخذِ الناس بجميع أحكام السياسة، وعليه أن يجتهد في أصلحِ مَنْ يجده لذلك، ومَنْ ولّاه، تولّى، ومن عزله، ينعزل، وعليه أن يَسمعَ ويُطيعَ، وعلى كل أحد أن يسمعَ لذلك ويطيع، دمّ إن جعلَ له الأمورَ عامةً، قام مقامَه فيها، وإن لم يجعلها له عامة، فليس له أن يتعدَّى ما جعله إليه، وهذا التحقيق في هذا الباب. الشرط الثاني: العدالة: فيعتبر في الخليفة أن يكون عدلاً. والعدل: من كان على الإستقامة؛ باتباع الأمر والنهي؛ بفعل الواجبات، وترك المحرَّمات، بأن لا يفعلَ كبيرةً، ولا يُصِرَّ على صغيرة، ويتعاطى أفعالَ المروءة، بأن يرتكب ما يَزينُه، ويتركَ ما يَشينُه، وهذا الشرط معتبرٌ في الخليفة الذي هو الإمام، فلا يصحُّ كونُه فاسقاً. وأما نائبُه الذي هو السلطانُ اليومَ، فلا يعتبر فيه ذلك. فلو كان الخليفةُ يسكر، أو يزني، أو يلوط، أو يفعل كبيرة، لم تصح له ولاية، وينعزل بذلك، وقد بلغني أن مَنْ نُصِّب في ذلك يفعل بعض هذه المحرمات. الشرط الثالث: العلم: ذكره غير واحد، ونص عليه القاضي من أئمة أصحابنا.

الشرط الرابع: أن يكون من أفضل قريش في العلم والدين، ذكره غيرُ واحد من أئمة أصحابنا، ونصَّ عليه القاضي في "الأحكام السلطانية" (¬1)، وقد قدّمنا الكلام على اجتهاد أصحاب النّبي - صلى الله عليه وسلم - في الأفضل في العلم والدّين، وقد روي عن الإمام أحمد رواياتٌ متعدّدة تدّل على اعتبار ذلك. قال في رواية حنبلٍ: وأيُّ بلاء كان أكبرَ من الذي كان أحدثَ عدوُّ الله وعدوُّ الإسلام من إماتة السُّنة -يعني: الذي كان قبل المتوكّل-، فأحيا المتوكّلُ السُّنةَ. وقد أشار القاضي من كلامه هذا: إلى اعتبار العدالة فيه؛ حيث تكلّم فيه أحمد بعدوِّ الله، وعدوِّ الإسلام، ولو كان إماماً عنده صحيحَ الإمامة، لما استحلَّ أن يقول له ذلك. قال القاضي: وفيما رأيته على ظهر جزء من كتب أخي -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ثنا أبو الفتح بنُ مَنِيع، قال: سمعت جدّي يقول: كان أحمدُ إذا ذكر المأمون، قال: كان لا مأمون (¬2). يشير القاضي إلى أنّ ذلك من أحمد يدلّ على عدم صحّة إمامته. وقال في رواية الأثرم في امرأة لا وليّ لها: السلطان، فقيل له: تقولُ: السّلطان، ونحن على ما ترى اليوم، وذلك في وقت يُمتحن فيه القضاة؟! فقال: أنا لم أقل على ما ترى اليوم، إنّما قلت: السّلطان. ¬

_ (¬1) انظر: "الأحكام السلطانية" (ص: 20). (¬2) المرجع السابق (ص: 20 - 21).

قال القاضي: وهذا الكلام يقتضي الذّمَّ لهم، والطّعنَ عليهم، ولا يكون هذا إلا وقد قدح ذلك في ولايتهم (¬1). لكن قد ورد عن الإمام أحمدَ ألفاظٌ تقتضي إسقاطَ اعتبار العدالة والعلم والفضل، قال في -رواية عبدوس بن مالك العطّار-: ومن غَلَبهم بالسيف حتّى صار خليفة، وسُمّي أميرَ المؤمنين، لا يحلّ لأحدٍ يؤمنُ بالله واليوم الآخر أن يَبيت ولا يراه إماماً عليه، برّاً كان أو فاجراً، فهو أمير المؤمنين. وهذا يدل على عدم اعتبار العدالة والفضل. وقال أيضاً في رواية المروذي: فإن كان أميراً يعرف بشرب المُسْكِر، والغلول، يغزو معه، إنما ذاك له في نفسه (¬2). قال القاضي: وقد روي عن الإمام أحمد في "كتاب المحنة": أنه كان يدعو المعتصمَ بأمير المؤمنين في غير موضع، وقد دعاه إلى خَلْق القرآن، وضربه عليه، وكذلك كان يدعو المتوكلَ بأمير المؤمنين، ولم يكن من أهل العلم، ولا كان أفضلَ أهلِ وقتِه وزمانِه (¬3). وقال القاضي: يمكن أن يُحمل ما قاله -في رواية عبدوس وغيره- على أنه: إذا كان هناك عارضٌ يمنع من نصب العدلِ العالِم الفاضلِ، وهو أن تكون النفوسُ قد سكنتْ إليهم، وكلمتُهم عليهم أجمع، وفي ¬

_ (¬1) المرجع السابق (ص: 21). (¬2) المرجع السابق (ص: 20). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه.

العدول عنهم يكثرُ الهَرْجُ، وإذا وُجدت هذه الصفات حالةَ العَقْد، لمّ عدمت بعد العقد، نظرت: فإن كان جَرْحاً في عدالته، وهو الفسق، فإنه لا يمنع من استدامة الإمامة، سواء كان متعلقاً بأفعال الجوارح، وهو ارتكاب المحظورات، وإقدامه على المنكرات اتباعاً لشهوته، أو كان متعلقاً بالاعتقاد، وهو المتأول بشبهة تعترض يذهب فيها إلى خلاف الحق. قال: وهذا ظاهر كلامه -في رواية المروذي- في الأمير يشرب المسكر، ويَغُلُّ: يُغزى معه، وقد كان يدعو المعتصمَ بأمير المؤمنين، وقد دعاه إلى القول بخَلْق القرآن، وقال حنبل: في ولاية [الواثق] اجتمع فقهاء بغداد إلى أبي عبد الله، وقالوا: هذا أمر قد تفاقَمَ وفشا -يعنون: إظهارَ الخلَقْ للقرآن- نشاورك في أنا لسنا نرضى بإمرته ولا سلطانه، فقال: علمتكم لتكتموه بقلوبكم، ولا تخلعوا يداً من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين. وقال في رواية المروذي، وذكر الحسن بن صالح، فقال: كان يرى السيف، ولا نرضى بمذهبه (¬1). الشرط الخامس: أن يكون على صفة يمكن بها القيامُ بأمر الحرب والسياسة، وإقامة الحدود، ورَدِّ الأعداء عن المسلمين، لا تلحقه رأفةٌ في ذلك، ولا في الذَّبِّ عن الأمة. ¬

_ (¬1) المرجع السابق (ص: 21).

فصل

نصّ عليه أحمد، وصرح به عدةٌ من أئمة أصحابنا، منهم: القاضي، وابن عقيل. وصرح ابن عقيل باعتبار الشجاعة، فلا يكون جباناً. وهنا عدة فروع: الأول: لا يشترط في الإمام أن يكون معصوماً؛ خلافاً للرافضة. الثاني: لا يشترط فيه أن يكون من ولد عليّ، ولا من ولد فاطمة. الثالث: لا يشترط فيه أن يكون من ولد العبّاس، كما قدّمنا ذلك. الرابع: لا يشترط فيه أن يكون هاشمياً، حيث وَلِيها أبو بكر، وعمر، وعثمان، وليس أحدٌ منهم من بني هاشم. فصل اعلم أنّ نَصْبَ الإمام أمرٌ واجب، وليس هو بمستحَبّ، ولا يسوغ للأمة تركُ نصب الإمام، وقد نصّ على الوجوب القاضي في كتاب "الأحكام السّلطانية"، فقال: نصبة الإمام واجبةٌ. وقد قال أحمد -في رواية محمد بن عوف بن سفيان الحمصي-: الفتنة إذا لم يكن إمام يقوم بأمر النّاس. قال القاضي: والوجهُ فيه: أنّ الصحابة لما اختلفوا في السّقيفة، فقالت الأنصار؛ منّا أمير، ومنكم أمير، ودفعهم أبو بكر

فصل

وعمر -رضي الله عنهما-، وقالوا: إنّ العرب لا تدين إلَّا لهذا الحيّ من قريش (¬1)، ورووا في ذلك أخباراً (¬2). فلولا أنّ الإمامة واجبةٌ، لما ساغت تلك المحاورة والمناظرة عليها، ولقال قائل: ليست بواجبة، لا في قريش ولا في غيرهم. فصل قال القاضي: وطريقُ وجوبها السّمعُ، لا العقل، لأنّ العقل لا يعلم به فرضَ شيء، ولا إباحتَه، ولا تحليلَ شيء، ولا تحريمَهُ، وذكر دليل ذلك: ما وقع من محاورة الصّحابة، واحتجاجهم بذلك (¬3). فصل قال القاضي: وهي -أي: الإمامة- تعتبر فرضاً على الكفاية، يخاطَب بها طائفتان من الناس: إحداهما: أهل الاجتهاد حتّى يختاروا. والثاني: وجود من اجتمعت فيه شروطها حتّى ينصَّب، فإذا وجد من كَمُلَت فيه الشّروط، لا يُعْدَل عنه إلى غيره مع القدرة، فإن فقد بعضها في الكلّ، قُدِّم في ذلك بالمترجّحات، فإن فقد البعض في شخص، وعزّ ذلك في آخر، ووجد في كلٍّ ما فقد في الآخر، قُدِّم الأهمُّ فالأهمُّ من ذلك. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6442)، كتاب: المحاربين من أهل الكفر والردة، باب: رجم الحبلى في الزنا إذا أحصنت، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. (¬2) انظر: "الأحكام السلطانية" (ص: 19). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه.

فصل

فصل يعتبر في أهل الحل والعقد والاختيار والاجتهاد للإمامة شروط: الأول منها: الإسلام. والثاني منها: العقل. والثالث منها: البلوغ. والرابع منها: الذكورية. والخامس منها: الحرية. والسادس منها: العدالة، نص عليه القاضي، وغيره (¬1). السابع: العلم الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة، ذكره القاضي وغيره (¬2). الثامن: أن يكون من أهل الرأي والتدبير المؤديين إلى اختيار من هو للإمامة أصلح، ذكره القاضي وغيره (¬3). التاسع: أن يكون على حالة النصح للإسلام والمسلمين، لم يوجد منه الغش للإسلام وأهله. العاشر: أن لا يكون له هَوًى ولا ميل بغرض النفس، يميل مع هواه وغرضه إلى مصالح نفسه واختياراته. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) المرحع السابق، الموضع نفسه. (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه.

فروع

فروع الأول: ليس لمن كان في بلد مزيةٌ على غيره من أهل البلاد يتقدَّم بها، ذكره القاضي (¬1). وإنما صار من يختص ببلد الإمام متولياً لعقد الإمامة؛ لسبق علمه مزية، ولأن من يصلح للخلافة -في الغالب- موجودون في بلده. الثاني: لو بويع لاثنين أو ثلاثة في بلد: قُدِّم من كَمُلَت فيه الشروط، ثم مَنْ كثرت فيه، ثم من اتفق عليه أهلُ الحلِّ والعقد، ثم من هُمْ عليه أكثرُ، ثم من سبق مع التساوي. فإن بويع لاثنين أو ثلاثة في بلدين أو أكثر، فإن أمكن إبطالُ أحدهما، وإبقاءُ الآخر بالانقياد أو الإتفاق، قُدِّم من اجتمعت فيه الشروط، ثم من يقع الإتفاق عليه، فإن لم يمكن ذلك، فكل إمام في بلاده، وقد وقع مثلُ ذلك لعليٍّ ومعاويةَ. أخبرنا أبو العبّاس الفُولاذيُّ وغيره، أنا ابن بردس، أنا ابن الخبّاز، أنا الإربليُّ، ثنا الفُراويُّ، أنا الفارسيُّ، أنا الجلوديّ، أنا أبو إسحاقَ الزّاهدُ، أنا مسلمُ بنُ الحجّاج، حدثني وهب بن بقية الواسطيّ، ثنا خالدُ بنُ عبد الله، عن الجريريّ، عن أبي نضرةَ، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا بُوجَ لِخَلِيفَتَيْنِ، فَاقْتُلُوا الآخَرَ مِنْهُمَا" (¬2). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) رواه مسلم (1853)، كتاب: الإمارة، باب: إذا بويع لخليفتين.

وبه إلى مسلم، حدّثني عثمانُ بنُ أبي شيبةَ، ثنا يونس بن أبي يعفورٍ، عن أبيه، عن عَرْفَجَةَ، قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ أتاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتكمْ، فَاقْتُلُوهُ" (¬1). وبه إلى مسلم، حدّثني أبو بكر بنُ نافع، ومحمّدُ بنُ بشّارٍ، قال ابن نافعٍ: ثنا غُنْدَر، ثنا شعبةُ، عن زيادِ بنِ علاقةَ، قال: سمعتُ عرفجةَ قالَ: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّهُ سَتكونُ هَنَاتٌ وهَنَاتٌ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ وَهِيَ جَمِيع، فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِناً مَنْ كَانَ" (¬2). وبه إلى مسلم، ثنا أحمدُ بنُ خِراشٍ، ثنا حبّانُ، ثنا أبو عَوانَةَ ح. قال: وحدّثني القاسمُ بن زكريا، ثنا عُبيدُ الله بنُ موسى، عن شيبانَ ح. قال: وحدّثنا إسحاقُ بنُ إبراهيمَ، أنا المصعبُ بنُ المقدامِ الخثعميُّ، ثنا إسرائيل ح. قال: وحدّثني حجّاج، ثنا عارِمُ بن الفضل، ثنا حمّادُ بنُ زيد، ثنا عبدُ الله بنُ المختار، ورجل سمّاه، كلُّهم عن زيادِ بنِ علاقةَ، عن عرفجةَ، عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بمثله، غير أنّ في حديثهم جميعاً: "فاقتلوه" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1852)، كتاب: الإمارة، باب: حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع. (¬2) رواه مسلم (1852)، كتاب: الإمارة، باب: حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع. (¬3) رواه مسلم (1852).

الثالث: يحرُمُ حيث تمّتِ البيعةُ لإمامٍ لأحدٍ الخروجُ عليه بغيرِ مسوّغٍ شرعيّ، ونزعُ يده من طاعته، والقتالُ عصبيّةً. أخبرنا أبو عبد الله الكعبيُّ، أنا ابن بردس، أنا ابن الخباز، أنا الإربليُّ، أنا الفُراويُّ، أنا الفارسي، أنا الجُلوديُّ، أنا أبو إسحاق الزّاهدُ، أنا مسلمُ بنُ الحجّاج، ثنا شيبان بنُ فَرُّوخَ: ثنا جرير -يعني: ابن حازم-: ثنا غيلانُ بنُ جرير، عن [أبي] قيس بن رياحٍ، عن أبي هريرةَ، عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: أنّه قال: "مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الجَمَاعَةَ، فَمَاتَ، مَاتَ مِيته جَاهِلِيَّةً، وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّهً، يَغْضَبُ لِعَصَبَةً، أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً، فَقُتِلَ، فَقِتْلَةٌ (¬1) جَاهِلِيَّةٌ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا، وَلاَ يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا، وَلاَ يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَه (¬2)، فَلَيْسَ مِنِّي، وَلَسْتُ مِنْه" (¬3). وبه إلى مسلم، حدثني عبيدُ الله بنُ عمرَ القواريريُّ، ثنا حمادُ بنُ زيد، ثنا أيوبَ، عن غيلانَ بنِ جريرٍ، عنِ زيادِ بنِ رياحٍ القيسيِّ، عن أبي هريرة، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، بنحو حديث جرير، وقال: "لا يَتَحَاشى مِنْ مُؤْمِنِهَا" (¬4). وبه إلى مسلم، حدثني زهيرُ بنُ حربٍ، ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ ¬

_ (¬1) في الأصل، "فقتلته". (¬2) في الأصل، "عهدها". (¬3) رواه مسلم (1848)، كتاب: الإمارة، باب: وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن. (¬4) رواه مسلم: (1848).

مهديٍّ، ثنا مهديُّ بنُ ميمونٍ، عن غيلانَ بنِ جريرٍ، عن زيادِ بن رياحٍ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الجَمَاعَةَ، ثُمَّ مَاتَ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيّهً، وَمَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيّهً، يَغْضَبُ لِلْعَصَبَةِ، وَيُقَاتِلُ لِلْعَصَبَةِ، فَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِي، وَمَنْ خَرَجَ مِنْ أُمَّتِي عَلَى أُمَّتِي، يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجرَهَا، لا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا، وَلا يَفِي بِذِي عَهْدِهَا، فَلَيْسَ مِنِّي" (¬1). وبه إلى مسلم، ثنا محمّدُ بنُ المثنى، وابنُ بشارٍ، قالا: ثنا محمّدُ بنُ جعفر، ثنا شعبةُ، عن غيلانَ بنِ جريرٍ بهذا الإسناد، أما ابن المثنى (¬2)، فلم يذكرِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في الحديث، وأما ابنُ بشار، فقال في روايته: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بنحو حديثهم (¬3). وبه إلى مسلم، ثنا حسنُ بنُ الربيع، ثنا حمادُ بنُ زيدٍ، عنِ الجعدِ أبي عثمانَ، عن أبي رجاءٍ، عنِ ابنِ عباسٍ، يرويه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئاً يَكْرَهُهُ، فَلْيَصْبِرْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الجَمَاعَةَ شِبْراً، فَمَاتَ، فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ" (¬4). وبه إلى مسلم، ثنا شيبانُ بنُ فَرُّوخَ، ثنا عبدُ الوارثِ، ثنا الجعدُ، ¬

_ (¬1) رواه مسلم: (1848). (¬2) في الأصل: "ابن مثنى". (¬3) رواه مسلم (1848). (¬4) رواه البخاري (6646)، كتاب: الفتن، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: سترون بعدي أموراً تنكرونها، ومسلم (1849)، كتاب: الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، واللفظ له.

ثنا أبو رجاءٍ العطارديُّ، عن ابنِ عباسٍ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "مَنْ كَرِهَ مْنْ أَمِيرِهِ شَيْئاً، فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْراً، فَمَاتَ عَلَيْهِ، إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً" (¬1). وبه إلى مسلم، ثنا هريمُ بنُ عبد الأعلى، ثنا المعتمر، قال: سمعتُ أبي يحدِّث عن أبي مِجْلزٍ، عن جُنْدُبِ بنِ عبدِ الله البجليِّ، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةً، يَدْعُو عَصَبِيَّةً، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِيَّهً، فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ" (¬2). الرّابع: كما يحرمُ نزعُ اليد من الطاعةِ والخروجُ، كذلك لا يحلُّ لأحدٍ التخلُّفُ عن البَيْعَة؛ حيثُ اتّفقَ النّاسُ على مَنْ يصلُح. أخبرنا الإمامُ أبو إسحاق المحدّث -قبل اختلاطه-، أنا ابن بردس، أنا ابن الخباز، أنا الإربليّ، أنا الفُراويُّ، أنا الفارسيُّ، أنا الجُلُودي، أنا أبو إسحاقَ الزّاهدُ، أنا مسلمٌ، ثنا عبيدُ الله بن معاذٍ العنبريُّ، ثنا أبي، ثنا عاصمٌ -وهو ابنُ محمد بن زيد-، عن زيدِ بنِ محمّدٍ، عن نافع، قال: جاء عبدُ الله بنُ عمرَ إلى عبدِ الله بنِ مطيع، حين كان من أمر الحَرَّةِ ما كانَ زمنَ يزيدَ بنِ معاويَة، فقال: اطْرَحوا لأبي عبدِ الرّحمنِ وسادةً، فقال: إنّي لم آتِكَ لأجلسَ، أتيتُك لأحدّثك حديثاً سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقوله، سمعت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ ¬

_ (¬1) رواه مسلم: (1849). (¬2) رواه مسلم (1850)، كتاب: الإمارة، باب: وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن.

فصل

خَلَعَ يَداً مِنْ طَاعَةٍ، لَقِيَ اللهَ يَوْمَ القِيَامَةِ لاَ حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ في عُنُقِهِ بَيْعَةٌ، مَاتَ مِيتَةٌ جَاهِلِيَّةً" (¬1). وبه إلى مسلم، ثنا ابنُ نُمير، ثنا يحيى بنُ عبد الله بنِ بُكير، ثنا ليثٌ، عن عُبيدِ الله بنِ أبي جعفر، عن بُكيرِ بنِ عبدِ الله بْنِ الأشجِّ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ: أنّه أتى ابنَ مطيعٍ، فذكر عن النّبي - صلى الله عليه وسلم - نحوَه (¬2). وبه إلى مسلم، ثنا عَمْرُو بنُ عليٍّ، ثنا ابنُ مهديٍّ ح. قال: وثنا محمّدُ بنُ عمرِو بنِ جبلةَ، ثنا بشرُ بن عمر، قالا جميعاً: ثنا هشامُ بنُ سعدٍ، عن زيدِ بنِ أسلمَ، عن أبيه، عن ابنِ عمر، عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بمعنى حديث نافعٍ، عن ابن عمر (¬3). فصل فإن عمل بالمعاصي، أو ارتكب محرّماً بعد عقد الإمامة له، لم يجز قتالُه، ولا الخروجُ عليه، وكذلك إن أكل أموالَ المسلمين، أو ظَلَمَهم، ولا خلعُه، إلا أن يرتكب كُفْراً صريحاً. أخبرنا الجماعة، أنا ابن الزَّعْبوب، أنا ابن الخباز، أنا ابن الزَّبيديِّ، أنا السِّجْزيُّ، أنا الدّاوديُّ، أنا السَّرَخْسيُّ، أنا الفِرَبْريُّ، أنا البخاريُّ، ثنا مُسَدَّدٌ، ثنا يحعى بنُ سعيدٍ: ثنا الأعمشُ، ثنا زيدُ بنُ وَهْبٍ، قال: ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1851)، كتاب: الإمارة، باب: وجوب لزوم جماعة المسلمين عند ظهور الفتن. (¬2) رواه مسلم: (1851). (¬3) رواه مسلم: (1851).

سمعت عَبدَ الله قال: قال لنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وَأُمُوراً تُنْكِرُونَهَا"، قالوا: فما تأمرُنا يا رسولَ الله؟ قال: "أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ، وَسَلُوا اللهَ حَقَّكُمْ" (¬1). وبه إلى [البخاري: ثنا] مُسَدَّدٍ، عن عبدِ الوارث، عنِ الجعدِ أبي عثمانَ، عن أبي رجاءٍ، عنِ ابنِ عبّاسٍ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئاً، فلْيَصْبِرْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْراً، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً" (¬2). وبه إلى البخاريِّ، ثنا أبو النعمانِ، ثنا حمادُ بنُ زيدٍ، عن الجعدِ أبي عثمانَ: ثنا أبو رجاءٍ العطارديُّ، قال: سمعت ابنَ عباس، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئاً يَكْرَهُهُ، فَلْيَصْبرْ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الجَمَاعَةَ شِبْراً، فَمَاتَ، إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً" (¬3). وبه إلى البخاري، ثنا إسماعيلُ، ثنا (¬4) ابنُ وَهْبٍ، عن عَمْرٍو، عَنْ بُكَيْرٍ، عن بُسْرِ بْنِ سعيدٍ، عن جُنادَةَ بنِ أبي أميةَ، قال: دخلنا على عُبادةَ بنِ الصامتِ -وهو مريضٌ- قلنا: أصلحَكَ اللهُ! حَدِّثْنا (¬5) بحديثٍ ينفعُكَ اللهُ بِهِ سمعتَهُ من النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: دعانا النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فبايعناهُ، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6644)، كتاب: الفتن، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سترون بعدي أثرة وأموراً تنكرونها". (¬2) رواه البخاري: (6645). (¬3) رواه البخاري: (6646). (¬4) في "صحيح البخاري": "حدثني". (¬5) في "صحيح البخاري": "حدث".

فكان فيما أخذَ علينا: أَنْ بايَعْنا على السَّمعِ والطَّاعَةِ في مَنْشَطِنا ومَكْرَهِنا، وعُسْرِنا ويُسْرِنا، وأَثَرَةٍ علينا، وأَنْ لا نُنازعَ الأمرَ أهلَه، إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْراً بَوَاحاً عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ فيهِ برهانٌ (¬1). أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا، منهم: الإمامُ أبو الفَرَج قراءةً عليه، أنا ناصر الدّين، أنا ابنُ بردس، أنا ابنُ الخبازِ، أنا الإربليُّ، أنا الفُراويُّ، أنا الفارسيُّ، أنا الجُلُوديُّ، أنا أبو إسحاق، أنا مسلمٌ، ثنا هدّابُ بنُ خالدٍ الأزديُّ، ثنا همّامُ بنُ يحيى، ثنا قَتادَةُ، عنِ الحسنِ، عن ضَبَّةَ بنِ محصَنٍ، عن أُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "سَتَكُونُ أُمَرَاءُ، فَتَعْرِفُونَ وتُنْكِرُونَ، فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ، وِلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ"، قالوا: أفلا نُقاتِلُهم؟ قال: "لاَ، مَا صَلَّوْا" (¬2). وبه إلى مسلم، حدّثني أبو غسّانَ المِسْمَعِيُّ، ومحمّدُ بنُ بشارٍ جميعاً، عَنْ مُعاذٍ -واللفظُ لأبي غسّانَ-، ثنا معاذٌ -وهو ابنُ هشامٍ الدَّسْتوائيُّ-، حدّثني أبي، عن قتادة، ثنا الحسنُ، عن ضبةَ بن محصنٍ العنزيِّ، عن أُمِّ سلمةَ زوجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ، فَتَعْرِفُونَ وَتنكِرُونَ، فَمَنْ كَرِهَ، فَقدْ بَرِئَ، وَمَنْ أَنكَرَ، فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابعَ"، قالوا: يا رسول الله! ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6647)، ورواه مسلم (1709)، كتاب: الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء في غير معصية. (¬2) رواه مسلم (1854)، كتاب: الإمارة، باب: وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع وترك قتالهم ما صلوا ونحو ذلك.

فصل

ألا نقاتِلُهم؟ قال: "لاَ، مَا صَلَّوْا" (¬1). أخبرنا أبو العباسِ بنُ زيد، وغيرُ واحد: أخبرتنا عائشةُ بنتُ عبدِ الهادي، أنا الحَجَّارُ، أنا ابنُ الزَّبيديِّ، أنا السِّجْزِيُّ، أنا الداوديُّ، أنا السَّرَخْسِيّ: أنا الفِرَبريُّ، أنا البخاريُّ، ثنا سليمانُ بنُ حربِ، ثنا حمادُ بنُ زيدٍ، عن أيوبَ، عن نافعٍ، قال: لما خلعَ أهلُ الَمدينة يزيدَ بنَ معاوية، جمع ابنُ عُمَر حَشَمه وولدَه، فقال: إني سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، وإنَّا قد بايَعْنا هذا الرجلَ على بيعِ اللهِ ورسولهِ، وإني لا أعلمُ غدراً أعظمَ من أن يبايعَ رجلٌ على بيعِ اللهِ ورسوله، ثم ينصبُ له القتالَ، وإني لا أعلمُ أحداً منكم خلعَه، ولا تابعَ في هذا الأمر، إلا كانتِ الفيصلَ بيني وبينه (¬2). فصل فإن حَجَرَ عليه أحدٌ من أعوانه، وقهرَه، واستبدَّ بتنفيذِ الأمورِ من غيرِ تظاهرٍ بمعصيةٍ، ولا مجاهرةٍ بمشاقَّةٍ، لم يمنع ذلك من إمامته، ولا يقدح في ولايته، ذكره القاضي في "الأحكام السلطانية"، قال: ثم يُنظر في أفعال من استولى على أموره، فإن كانت جاريةً على أحكامِ الدين، ومُقتضى العدلِ، جازَ إقرارُه عليها؛ تنفيذاً لها، وإمضاءً لأحكامها؛ لئلا يقف من العقود الدينية ما يعود بفسادٍ على الأمة. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1854)، وفي آخره زيادة: "أي: من كره بقلبه وأنكر بقلبه". (¬2) رواه البخاري (6694)، كتاب: الفتن، باب: إذا قال عند القوم شيئاً ثم خرج فقال بخلافه.

فصل

وإن كانت أحكامُه وأفعالُه خارجةً عن حكم الدين، ومقتضى العدل، لم يجزْ إقرارُهُ عليها، ولزمَه أن يستنصِرَ من يقبِضُ يده، ويُزيل تَغَلُّبَهُ (¬1). فصل فإنْ صارَ الإمامُ مأسوراً في يدِ عدوٍّ قاهرٍ لا يقدرُ على الخلاص منه، منعَ ذلك من عقدِ الإمامة له؛ لعجزِه عن النظرِ في أمور المسلمين، سواءٌ كان العدو مسلماً بَاغياً، أو كافراً. ذكره القاضي (¬2). فإن كان معقوداً له الإمامة، فللأمة فسخُ العَقْد، واختيارُ مَنْ عداه من ذوي القدرة. وقد أومأ أحمدُ إلى إبطال الإمامةِ بذلك -في رواية أبي الحارث- في الإمام يخرج عليه من يطلب الملك، فيفتتنُ الناسُ، فيكون مع هذا قومُ، ومع هذا قوم، مع مَنْ تكون الجمعة؟ قال: مَنْ غَلَب. قال القاضي: وظاهر هذا: أن الثاني إذا قهر الأول، وغلبه، زالت إمامةُ الأول؛ لأنه قال: الجمعة مع مَنْ غلب. فاعتبر الغَلَبَةَ (¬3). وقد روي عن أحمد ما يدلُّ على بقاء إمامةِ الأول؛ لأنه قال -في رواية المروذي- وقد سأل: أيُّ شيء الحجةُ في أن الجمعة تجبُ في الفتنة؟ فقال: أمرُ عثمانَ لهم أن يصلُّوا. قيل له: فيقولون: إن عثمانَ ¬

_ (¬1) انظر: "الأحكام السلطانية" (ص: 22 - 23). (¬2) المرجع السابق، (ص: 23). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه.

[ما] أمرَ بذلك، فقال: إنما سألوه بعدَ أن صَلَّوا. قال القاضي: وظاهرُ هذا: أنه لم يخرج عثمان من الإمامة مع القهر؛ لأنه اعتبر إذنه (¬1). قال القاضي: فإن أُسر بعد أن عُقدت له الإمامةُ، فعلى الأمة استنقاذُه؛ لما أوجبتْهُ الإمامةُ من نُصْرَته، وهو على إمامته إذا كان يُرجى خلاصُه، ويُؤمَّل فَكَاكُه، إما بقتال، أو فِداءٍ، وإن وقع الإياس منه، نظرت فيمن أسره، فإن كان من المشركين، خرج من الإمامة، واستأنف أهلُ الإختيار بيعةَ غيره. فإن عُهد بالإمامة في حالِ أسرِه إلى غيره ليقوم مقامَه، فهل يفيد عهده؟ قال القاضي: نظرت، فإن كان بعد الإياس من خلاصه، لم يصح عهدُه، لأنه عهدٌ بعد خروجه من الإمامة، وإن كان قبل الإياس من خلاصه، صحَّ عهدُه؛ لبقاء إمامته، واستقرت إمامةُ وليِّ عهدِه بالإياس من خلاصه؛ لزوال إمامته. ثم إن خلص من الأسر بعد عهده، نظرت في خلاصه، فإن كان بعد الإياس منه لم يعد إلى إمامته، لخروجه منها بالإياس، واستقرت في وليِّ عهده. وإن خلص قبل الإياس منه، فهو على إمامته، ويكون العهد في ولي العهد بائناً. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه.

فصل

وإن كان مأسوراً مع بغاة المسلمين، فإن كان يرجى خلاصُه، فهو على إمامته، وإن لم يُرجَ خلاصُه، نظرت في البغاة، فإن كانوا لم ينصبوا لأنفسهم إماماً، فالإمام المأسور في أيديهم على إمامته؛ لأن بيعته لازمةٌ لهم، وطاعته عليهم واجبةٌ، وإطلاقه واجبٌ عليهم، فصار كونُه معهم مثلَ كونه مع أهل العدل إذا صار تحت الحَجْر، وعلى أهل الإختيار أن يَستنيبوا عنه ناظراً يخلُفه إن لم يقدر على الإستنابة، وإن قدر عليها، كان أحقَّ باختيار مَنْ يستنيبه منهم، فإن خلعَ المأسورُ نفسه، أو مات، لم يَصِرِ المستناب إماماً؛ لأنها نيابة عن موجود، فزالت بفقده، وخالف ولي العهد؛ لأنها ولاية بعد مفقود لا تنعقد بوجوده، فافترقا. فإن كان أهل البغي قد نصَّبوا إماماً لأنفسهم، دخلوا في بيعته، وانقادوا لطاعته؛ فالإمام المأسور في أيديهم خارجٌ من الإمامة بالإياس من خلاصه؛ لأنهم قد انحازوا بدارٍ انفرد حكمُها عن الجماعة، وخرجوا بها عن الطاعة، فلم يبق لأهل العدل لهم نصرة، ولا لمأسور معهم قدرة، وعلى أهل الإختيار في دار العدل أن يعقدوا الإمامة لمن ارتضوه. فإن تخلص المأسور، لم يعد إلى الإمامة؛ لخروجه منها. كل هذا ذكره القاضي وغيره من أئمة أصحابنا (¬1). فصل فإن وجد أفضل جماعة يصلحون للإمامة، تعيَّن لها، ووجب عليهم مبايعته، فإن بايعوه، ثم حدث مَنْ هو أفضلُ منه، لم يجز العدولُ ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (ص: 23 - 24).

فصل

عنه إلى مَنْ هو أفضل، فلو عدلوا في الابتداء عن الأفضل لغير عذر، لم يجز، وإن كان لعذر؛ من كون الأفضل غائباً، أو مريضاً، أو كان المفضولُ أطوعَ في الناس، وأحسنَ سياسةً = جاز. فصل والإمامة تنعقد بوجهين: أحدهما: اختيار أهل الحل والعقد، كما قدمنا. والثاني: بعهد الإمام قبله. فأما انعقادُها باختيار أهل الحل والعقد، فلا تنعقد إلا بجمهورهم، وأكثرِ أهلِ الحلِّ والعقد. قال أحمد في رواية إسحاقَ بنِ إبراهيم: الإمام الذي يجتمع عليه: كلهم يقول: هذا إمام. قال القاضي: فظاهر هذا: أنها تنعقد بجماعتهم (¬1). قال: وروي عنه ما دلّ على أنها تثبت بالقهر والغلبة، ولا تفتقر إلى العهد، فقال في رواية عبدوس بن مالك العطار: ومن غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة، وسُمِّي أميرَ المؤمنين، فلا يحلّ لأحدٍ يؤمن بآلله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً، براً كان أو فاجراً. وقال أيضاً في رواية أبي الحارث: في الإمام يخرج عليه من يطلب الملك، فيكون مع هذا قوم، ومع هذا قوم: تكون الجمعةُ مع مَنْ غَلب. ¬

_ (¬1) انظر: "الأحكام السلطانية" (ص: 23).

واحتجّ بأن ابن عمر صلّى بأهل المدينة في زمن الحَرّة، وقال: نحن مع مَنْ غلب (¬1). قال القاضي: ووجه الرواية الأولى: أنه لما اختلف المهاجرون والأنصار، فقالت الأنصار: منّا أمير، ومنكم أمير، حاجَّهم عمرُ، وقال لأبي بكر: مُدَّ يدك أُبايعْك (¬2). فلم يعتبر الغلبة، واعتبر العقد مع وجود الاختلاف. قال: ووجه الثانية: ما ذكره أحمد عن ابن عمر، وقوله: نحن مع من غلب. قال: ولأنّها لو كانت تقف على عقد، لصح برفعه وفسخه بقولهم وقوله؛ كالبيع وغيره من العقود، قال: ولمّا ثبت أنّه لو عزل نفسه، أو عزلوه، لم ينعزل، دلّ على أنّه لا يفتقر إلى عقد، وإنما اعتبر فيها قولُ جماعةِ أهل الحلّ والعقد؛ أنّ الإمام يجب الرجوع إليه، ولا يسوغ خلافُه والعدولُ عنه كالإجماع. قال: ثم ثبت أنّ الإجماع يعتبر في انعقاده جميعُ أهل الحلِّ والعقد، كذلك عقدُ الإمامة (¬3). ¬

_ (¬1) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (4/ 149) بلفظ: "لا أقاتل في الفتنة وأصلي وراء من غلب". (¬2) رواه البخاري (6442)، كتاب: المحاربين من أهل الكفر والردة، باب: رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت. (¬3) انظر: "الأحكام السلطانية" (ص: 23).

فصل

فصل قال القاضي: ولا تنعقد الإمامةُ إلا بالاختيار، ويلزمُ أهلَ الإختيار عقدُ الإمامة، فإن توقفوا، أثموا، لأنّه عقد لا يتم إلا بعاقد؛ كالقضاء لا يصير قاضياً حتى يُوَلَّى، ولا يصير قاضياً بغير ولاية وإن وجدت صفته، كذلك الإمامة (¬1). فإن قيل: أليس قد قلتم على أنه لو اتفق اثنان على التحاكم إلى شخص يصلح للقضاء، يعد قضاؤه، وصَحَّ؛ فقد صار قاضياً، ولأنّه قيل: لا يصير بذلك قاضياً، فإن هذا لايجب عليه الحكمُ بينهما؛ بخلاف القاضي، ولا يجبر أحدٌ منهما على المحاكمة عنده؛ بخلاف القاضي، وليس له طلب خصم؛ بخلاف القاضي، والله أعلم. فصل قال القاضي: وإذا اجتمع أهلُ الحلِّ والعقد على الإختيار، تصفحوا أحوالَ أهلِ الإمامة الموجودِ فيهم شروطُها، فقدموا للبيعة منهم أكثرَهم فضلاً، وأكملَهم شروطاً، فإذا تعين لهم من بين الجماعة مَنْ أدّاهم الإجتهادُ إلى اختياره، وعرضوها عليه، فإن أجاب إليها، بايعوه عليها، وانعقدت له الإمامة ببيعتهم، ولزم كافةَ الأمة الدّخولُ في بيعته، والإنقيادُ لطاعته. وإن امتنع من الإمامة، ولى يُجَب إليها، لم يجبر عليها، وعُدل عنه إلى مَنْ سواه من مستحقيها، فبويع عليها، فإن امتنع الجميع من الدخول ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه.

فصل

فيها، فهل يأثمون بذلك؟ وهل يتعين عليهم؟ اختلفت الرواية عن أحمد في ذلك: قال في رواية المروذي: لا بدّ للمسلمين من حاكم، أتذهب حقوق الناس؟ وقال في رواية محمد بن موسى في الشّاهد يأبى أن يشهد، أيأثم؟ قال: إذا كان يضرّ بأهل القرية، ومثلُه يُحتاج إليه، فلا يفعل. وظاهر كلامه: أنه جعل القضاء والشهادة من فروض الكفايات، مع ما قد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذم القضاء، فأولى أن تكون الإمامةُ الكبرى كذلك؛ إذ ليس طلبتها ولا الدخول فيها مكروهاً، وقد تنازعها أهلُ الشّورى، فما رُدَّ عليها طالب، ولا مُنع منها راغب، ولأن بالناس حاجةً إلى ذلك؛ لحماية البَيْضة، والذبِّ عن الحَوْزة، وإقامةِ الحدود، واستيفاءِ الحقوق، فجرى مجرى حاجتهم إلى غسل الموتى وحملِهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك (¬1). فصل قال القاضي: فإن تكافأ في شروط الإمامة اثنان: قُدِّم أسنُّهما، وإن لم يكن ذلك شرطاً، فإن بويع لأصغرهما، جاز، فإن كان أحدُهما أعلمَ، والآخرُ أشجعَ نظرت، فإن كانت الحاجة إلى فضل الشجاعة أدعى؛ لانتشار الأعداء، وسدِّ الثغور، وظهور البغاة، كان الأشجع أحقَّ. وإن كانت الحاجة إلى فضل العلم؛ لسكون الدَّهْماء، وظهورِ أهل ¬

_ (¬1) انظر: "الأحكام السلطانية" (ص: 23 - 24).

فصل

البِدَع، كان الأعلمُ أحقَّ (¬1)، والله أعلم. فصل قال القاضي: فإن وقف الإختيار علي واحد من اثنين، فتنازعاها، لم يكن ذلك قدحًا بمنعهما منها؛ لِمَا بيّنا أن طلبها غيرُ مكروه؛ لأنه قد تنازعها أهلُ الشورى، وتنازعها عليٌّ ومعاوية. وبماذا يقطع به تنازعُهما مع تكافؤ أحوالهما؟ فقياس قول أحمد -رضي الله عنه-: أنه يُقرع بينهما، فيبايَعُ مَنْ قرعَ بينهما؛ لأنه قال في رواية ابنه عبد الله: في مسجدٍ فيه رجلانِ تداعيا الأذان فيه: يقرع بينهما، واحتجّ بقول سعدٍ، ولفظُ الحديث ما رواه أبو حفص العُكْبَريّ بإسناده عن ابنِ شُبْرُمة: أن الناس تشاحُّوا في الأذان يومَ القادسيّة، فأقرعَ بينهم سعدٌ (¬2). وبإسناده عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا في النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْه، لاسْتَهَمُوا". قلت: والحديث في "الصحيح" (¬3)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) المرجع السابق (ص: 24). (¬2) انظر: "الأحكام السلطانية" (ص: 25). (¬3) رواه البخاري (590)، كتاب: الأذان، باب: الدعاء عند النداء، ومسلم (437)، كتاب: الصلاة، باب: تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها.

فصل

فصل وإن اختلف أهل الحلّ والعقد فيمن يولّي، فالحكم للأكثر، ويجب علي الباقين موافقتُهم، فإن استووا مع استواء الصفات فيمن يولَّي من غير ترجيح، فظاهرُ كلام أحمد والقاضي -أيضًا-: القولُ بالقرعة في ذلك، والله أعلم. فصل وصفة عقدِ الإمامة ما ذكره القاضي وغيرُه من أئمة أصحابنا أن يقال له: قد بايعناكَ علي بيعِ اللهِ ورسوله بيعة رِضا، علي إقامة العدل والإنصاف، والقيام بفروض الإمامة، والذبِّ عن المسلمين، ونحوِ ذلك، ولا يحتاج مع ذلك إلي بيعة اليد (¬1)، فإن وجد، فهو حسن؛ لأن عمر قال لأبي بكر: ابسطْ يدكَ، فبايعَه (¬2)، وعبدُ الرحمن قال لعثمان: ابسطْ يدك، فبسط يدَه، فبايعه (¬3)، فهو فضيلة في ذلك، وليس بشرط، والله أعلم. فصل ولا يجوز عقدُ الإمامة لإمامين في بلد أو بلدين في حالة واحدة، فإن عقد لاثنين فأكثر وجدت فيهم الشّروط، قال القاضي: ينظر؛ فإن كان في عقد واحد، فالعقدُ باطلٌ فيهم، وإن كان العقدُ لكل واحد علي ¬

_ (¬1) في "الأحكام السلطانية": "صفقة اليد". (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري في "صحيحه" (6642). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري في "صحيحه" (3497).

فصل

الإنفراد، نظرت؛ فإن عُلم السّابق منهما، فالثاني باطل؛ لما قدمنا من الدليل (¬1). وإن جُهل مَنِ السابقُ منهما، فقال القاضي: يُخرَّج علي روايتين عن الإمام أحمد: إحداهما: بطلان العقد فيهما. والثائي: استعمال القرعة؛ بناء علي ما إذا زوّج الوليّان، وجُهل السابقُ منهما، فهو علي روايتين، فكذلك ههنا (¬2)، والله أعلم. فصل ولا يرجَّحُ أحدُهما بكونه في بلد الإمام قبلَه، ولا بكونه قرابته، أو ولده، فإن فقد الشّيء السّابق، فإن كان من الشّروط، لم تصحّ ولاية الأوّل، والأمر للثاني، والله أعلم. فصل الثاني مما تحصل به الولاية: العهدُ من الإمام إلي أحدٍ بعدَه؛ لوجود ذلك من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلي أبي بكر، علي الصحيح من قولَي العلماء، بأمرٍ ظاهرٍ أو خفي، علي خلافٍ في ذلك، وكذلك أبو بكر عَهِدَ إلي عمر -رضي الله عنه-. أخبرنا جدّي وغيرُه، أنا الصّلاحُ بنُ أبي عمرَ وغيرُه، أنا الفخرُ بنُ ¬

_ (¬1) انظر: "الأحكام السلطانية" (ص: 25). (¬2) المرجع السابق (ص: 26).

البخاريِّ، أنا ابن طَبرزذ، أنا أبو الفتح الدُّومي، أنا أبو بكر الخطيبُ، أنا أبو عمر الهاشميُّ، أنا أبو علي اللؤلُؤيُّ، أنا أبو داود، ثنا محمد بنُ داودَ بنِ سفيان وسلمةُ، قالا: ثنا عبدُ الرزاق، أنا معمر، عن الزّهريِّ، عن سالمٍ، عن ابنِ عمر قال: قال عمر: [إني] إِنْ لا أَستخلِفْ، فإن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لم يستخلف، وإن أَستخلِفْ، فإن أبا بكر قد استخلف، قال: فوألله! ما هو إلا أن ذكر رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبا بكر، فعلمتُ أنّه لا يعدِلُ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدًا، وأنّه غيرُ مستخلِف (¬1). أخبرنا جدِّي وغيرُه، أنا الصّلاحُ بنُ أبي عمرَ، أنا الفخرُ بنُ البخاريِّ، أنا حنبلٌ، أنا ابنُ الحُصَينِ، أنا ابن المُذْهِب، أنا أبو بكرٍ القَطيعيُّ، ثنا عبدُ الله بنُ أحمدَ بنِ حنبلٍ، حدثني أبي، ثنا يحيى بنُ حمادٍ وعفانُ، قالا: ثنا أبو عوانة، عن داودَ بنِ عبدِ الله الأوديِّ، عن حُميدِ بنِ عبدِ الرحمن، ثنا ابنُ عباسٍ بالبصرة، قال: أنا أولُ من أتى عمرَ حين طُعن، فقال: احفظ عني ثلاثًا، فاني أخاف ألاَّ يُدْرِكَني الناس، أما أنا، فلم أقضِ في الكَلالة قضاءً، ولم أستخلفْ علي الناس خليفةً، وكلُّ مملوكٍ لي (¬2) عتيقٌ، فقال له الناسُ: استخلِفْ، فقال: أيَّ ذلك أفعلُ، فقد فعلَه من هو خيرٌ مني، إن أدع إلي الناس أمرَهم، ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2939)، كتاب: الخراج والفيء والإمارة، باب: في الخليفة يستخلف، ورواه الترمذي (2225)، كتاب: الفتن مختصرًا، قال الترمذي: وفي الحديث قصة، وهذا حديث صحيح. (¬2) في "مسند الإمام أحمد": "له".

فصل

فقد تركه نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن أستخلِفْ فقد استخلف مَنْ هو خير مني: أبو بكر (¬1). وبه إلي الإمام أحمد، ثنا عبدُ الرزاق، ثنا معمر، عن الزهريِّ، عن سالم، عن ابن عمر: أنه قال لعمرَ: إني سمعتُ الناسَ يقولون مقالةً، فآليتُ أن أقولَها لك، زعموا أنك مستخلِفٌ، فوضع رأسَه ساعةً، ثم رفعه، فقال: إن الله- عزَّ وَجَلَّ- يحفظ دينه، وإني إن لا أستخلِفْ، فإن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لم يستخلفْ، وإن أستخلِفْ، فإن أبا بكر قد استخلف، قال: فو الله! ما هو إلا أن ذكرَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبا بكر، فعلمت أنه لم يكن يعدِلُ برسولِ - صلى الله عليه وسلم - أحدًا، وأنه غيرُ مستخلِف (¬2). وكل هذا يدل علي جواز الإستخلاف. فصل إذا علمتَ ذلك، فالإستخلافُ يُشترط له شروطٌ: منها: أن يكون المستخلف صحيح الولاية. ومنها: أن يستخلف من يصلح لذلك، فإن كان لا يصلح؛ لعدم وجود الشّروط أو بعضِها فيه، فاستخلافه له غير صحيح. ومنها: أن يكون في حال الإستخلاف صحيح العقل. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 46) مطولًا. (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 47)، وكذا رواه مسلم في "صحيحه" (1823)، كتاب: الإمارة، باب: الإستخلاف وتركه، مطولًا.

فصل

ومئها: أن يكون باقٍ علي الولاية غيرَ زائلها؛ كمن أسر، أو زالت عنه الولاية بموجب لذلك، فإنه لا يعتد استخلافه، كما قدمنا. فصل ويجوز للإمام أن يَعْهَدَ إلي إمام بعدَه، ولا يحتاج في ذلك إلي شهادة أهلِ الحلِّ والعقد، وذلك لأنّ أبا بكر عَهِدَ إلي عمر، وعمرُ عهدَ إلي سبعة من الصحابة، ولم يَعتبرا في حال العهد شهادةَ أهلِ الحلّ والعقد. قال القاضي: لأنّ عهده إلي غيره ليس بعقد الإمامة، بدليل أنّه لو كان عقدًا لها، لأفضى ذلك إلي اجتماع إمامين في عصر واحد، وهو غير جائز، وإذا لم يكن عقدًا، لم يُعتبر حضورهم، وكان معتبرًا بعد موت الإمام العاقد (¬1)، والله أعلم. فصل ثم اعلم أن الإستخلاف يقع في أحوالٍ من المستخلِف: إما عند مرضه مرضًا مَخُوفًا، أو جرحِه وخوف الموت كما وقع لعمر، أو أسرِه وقهرِه وأخذه لعدو قبل الناس في الخلاص وبقاء الولاية، فإن المريض والمجروح لا تنقطع ولايته إلا بموته، ولو كان في مرض مَخُوف، أو جرح يتلف في القدرة صالحة للبرء، فإن كان كذلك، صحّ استخلافه، ولا يصير بذلك إمامًا إلا بعد موته. ¬

_ (¬1) انظر: "الأحكام السلطانية" (ص: 25).

فصل

قال القاضي: ويعتبر حضورُ أهلِ الحلّ والعقد للإتفاق عليه بعد موته، وإذا عهد إلي رجل، كان له أن يعزله قبل موته. قال القاضي: لما بينا أنّ إمامة المعهود إليه غيرُ ثابتة ما دام العاهد باقيًا إمامًا. قال: وإذا لم تكن ثابتة، كان له أن يُخرجه من ذلك، كما أن الموصي له أن يُخرج الوصي؛ لأن الوصية غيرُ ثابتة ما دام حيًا (¬1). وله أن يستخلف بعدَ عزله آخر، وله -أيضًا- أن يعزل الآخر، ويولي غيره كذلك، والله أعلم. فصل قال القاضي: ويجوز أن يعهد إلي من ينتسب إليه بأُبوة، أو بُنوة، أو مُصاهرة، إذا كان المعهود له علي صفات الأئمة؛ لأن الإمامة لا تنعقد للمعهود إليه بنفس العهد، وإنّما تنعقد بعهد المسلمين، فالتهمة تنتفي عنه (¬2). ولأنّه -عَلَيْهِ السَّلَامْ- أراد أن يعهد إلي أبي بكر، وكان بينهما مصاهرة. فصل قال القاضي: ويعتبر قبولُ المعهود إليه، ويكون ذلك بعد موت المولِّي؛ لأنّ إمامته في تلك الحال تنعقد، ويعتبر في المعهود إليه شروطُ الإمامة وقتَ العهد إليه، واستدامتُها إلي ما بعدَ موت المولِّي، فإن كان ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) انظر: "الأحكام السلطانية" (ص: 25).

فصل

صغيرًا وقتَ العهد، لم تصحّ، ولو كبر حال الموت؛ لأنّها وإن كانت تلزم بعد موت العاقد، فلا يمتنع اعتبارها وقتَ العقد؛ كما قلنا في الموصي يعتبر فيه شرائطُ الوصي وقتَ العقد، وإن كانت تلزم بالموت. فإن عهد إلي غائبٍ معلومِ الحياة، صحَّ، وكان الأمر موقوفًا علي قدومه، فإن مات المولِّي قبل قدومه، وطالت غيبتُه، واستضرّ المسلمون بتأخُّرِه، استناب أهلُ الإختيار نائبًا عنه يبايعونه بالنيابة دون الخلافة، فإذا قدم الغائب، انعزل النائب (¬1)، انتهى كلام القاضي. فصل فإن استخلَفَ، ثم بَرَأَ، فهو علي خلافته، ولا شيءَ لمنِ استخلَفَه؛ لأنّ ذلك إنّما يكون له بعد الموت، وكذلك إن أطلق من أيدي العدوِّ، كما قدمنا. فإن برأ علي صفة لا تصلُح؛ من زوال عقل، أو زَمانةٍ، ونحوِ ذلك، فهي لمن جعلَه مكانَه، والله أعلم. فصل فأمّا إن خلعَ الخليفةُ نفسَه، وجعلها لغيره، فإن كان الجعلُ في حال الصّحة والسّلامة، فقد قال القاضي: إذا خلع الخليفةُ نفسَه إِما بطريان عذر، أو قلنا: له أن يخلع نفسَه من غير عذر -علي أحد القولين-، فإن عمر غير مرة يقول: ليت رجلًا كفانيها، وكذلك ورد عن عمرَ بنِ عبد العزيز، ولولا جوازُ ذلك، ما تمنّى، ولا أريد، وحينئذ إن جعلها ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (ص: 25 - 26).

فصل

لغيره ممن يصلح، وخلع نفسه، انتقلت الولاية إلي ولي عهده، وقام خلعُه مقامَ موته (¬1). فأما إن خلع نفسه، ثم استخلف، فقد اختلف في ذلك: فقيل: تعتبر لمن استخلفه. وقيل: بخلعه نفسَه زال ذلك عنه، وبقي الأمر إلي أهل الإختيار، والله أعلم. فصل قال القاضي: لو عهد الخليفةُ إلي اثنين وأكثرَ، ولم يقدِّمْ أحدَهما علي الآخر، واختار أهلُ الإختيار أحدَهما بعد موته، جاز، والأصلُ فيه أهلُ الشورى، وليس لأهل الإختيار، إذا جعلها الإمامُ شورى في عدد أن يختاروا أحدَهم في حياة المستخلِفِ العاهد، إلا أن يأذن لهم؛ لأنها لم تَزُلْ عنه، فهو بها أَحَقّ، وربما بَرأ من مرضه، فإن خافوا انتشار الأمر بعد موته، استأذنوه، فإن صار إلي حال الإياس، نظرت: فإن زال عنه أمرُهُ، وعزل عنه رأيُه، فهو كحاله بعد موته في جواز الإختيار (¬2). فصل وهل يجوز للخليفة أن ينصَّ علي أهل الإختيار، كما ينص علي أهل العهد؟ ¬

_ (¬1) انظر: "الأحكام السلطانية" (ص: 21)، وما بين معترضتين من كلام المصنف. (¬2) المرجع السابق، (ص: 25).

فقد قيل: لا يجوز. قال القاضي: لأنها من حقوق خلافته. قال: وقياس مذهبنا: أنه لا يجوز لوجهين: أحدهما: أنها تقف علي اختيار جميع أهل الحل والعقد. والثاني: أن إمامة المعهود إليه تنعقد بموته باختيار أهل الوقت. فإن قال: قد عهدتُ بالأمر إلي فلان، فإن مات قبل موتي، أو تغيرت حالُه، فالإمامُ بعدَه فلان، وذكرَ آخرَ، جاز ذلك، وكان هذا عهدًا إليه بالشرط. فإن بقي الأولُ إلي وفاة العاهد سليمًا، كان هو الإمام دون الثاني، وإن مات قبل موت الإمام، أو تغيرت حاله بأحد ثلاثة أشياء، كان الثاني هو الإمامَ المعهودَ إليه. وكذلك إن قال: فإن مات الثاني، أو تغيرت حاله، فالخليفة فلانٌ، صحّ، وكان ذلك علي الترتيب. والأصل فيه: ما رواه الدارقطني في "الأفراد" بإسناده، قال: لما وجه رسولُ الله القومَ إلي مُؤتة، قال: "عَلَيْكُمْ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَإِنْ أُصِيبَ زَيْدٌ، فَجَعْفَر، فَإِنْ أُصِيبَ جَعْفَرٌ، فَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ" (¬1). وروى سيفٌ بإسنادِه، قال: لما أنفذَ عمرُ -رضي الله عنه- بالجيشِ إلي نَهَاوندَ، قال: قد أَمَّرْتُ حُذيفةَ بنَ اليمان حتى ينتهيَ إلي النعمانِ بنِ ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 299)، والنسائي في "السنن الكبرى" (8249)، وابن حبان في "صحيحه" (7048) عن أبي قتادة -رضي الله عنه-.

فصل

مُقَرِّن، وقد كتبتُ إلي النعمانِ: إن حدثَ بكَ حدثٌ، فعلي الناس حذيفةُ، وإن حدثَ بحذيفةَ حدثٌ، فعلي الناسِ نعيمُ بنُ مُقَرِّنٍ (¬1). قال القاضي: وذكر -أيضًا-: أن أبا عُبيد عهد إلي الناس، فقال: إن قُتلت، فعلي الناس جبر، فإن قُتل، فعليكم فلان، فإن قُتل، فعليكم المثني، قال ذلك يوم الجسر (¬2)، هكذا ذكر القاضي. قلت: ويكمن الفرقُ بين الأمير والإمام؛ فإن الأمير وكيلُ الإمام في حياته، والأمر إليه في حياته وبعدَ موته؛ بخلاف الإمامة؛ فإن الإمام إنما هو وكيلُ جميعِ الناس، وليس له التصرفُ بعد موته. فصل قال القاضي: فإن عهد إلي رجلٌ، ثم قال: فإن مات المعهود إليه بعد نظره وإفضاء الخلافة إليه، فالإمامُ بعدَه فلان آخر يذكره، فإنَّ من ذكره وعهدَ إليه أولًا هو الإمام بعده، وإذا مات المعهود إليه، أو انعزل بحدوث معنى، لم يكن الأمر للذي بعده، وليس للذي بعده ولايةٌ ولا عهد؛ لأن الأمر صار لمن جعله وليَّ عهدِه بعدَه. فإذا صار إمامًا، حصل التصرفُ والنظرُ إليه، والاختيار إليه، وكان العهد إليه فيمن يراه. ¬

_ (¬1) رواه الطبري في "تاريخه" (2/ 225). (¬2) انظر: "الأحكام السلطانية" (ص: 25 - 26).

فصل

قال: ويفارق هذا ال فصل الذي قبلَه، لأنه جعل العهد إلي غيره عند موته، وتغيرت صفاته في الحال التي لم يثبت للمعهود إليه إمامةٌ، بل كانت إمامةُ الأول باقية، فلهذا صحّ عهدُه إلي من يراه (¬1). قلت: ما ذكرناه من الفرق بين الإمامة والإمرة أحسن، والله أعلم. فصل ولا يجب علي كافة الناس معرفةُ الإمام بعينه واسمه، بل إلي من هو من أهل الإختيار الذين تقوم بهم الحجّة، وتنعقد بهم الخلافة، والله أعلم. فصل ومن حصلت له الولايةُ الكبرى، قال القاضي: يجوز أن يسمّى خليفةً لمن عقد له الأمر، ويجوز أن يسمّى خليفةَ رسولِ الله، ذكره القاضي؛ لأنه خَلَفَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في أمته (¬2). وهل يجوز أن يقال: خليفة الله؟ قال القاضي: فقد قيل: يجوز؛ لقيامه بحقوقه في خلقه، ولقوله تعالي: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الأنعام: 165]، وقيل: لا يجوز، لأنه إنما يُستخلف من يغيب أو يموت، والله تعالي لا يغيب ولا يموت، ولأنه قيل لأبي بكر: ¬

_ (¬1) انظر: "الأحكام السلطانية" (ص: 26). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه.

فصل

يا خليفة الله! فقال: لستُ خليفةَ الله، ولكنّي خليفةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1) (¬2). فصل ويجوز أن يقال: أمير المؤمنين، ويقال: سلطان المسلمين، وسلطان الله. وقد أخبرنا جدّي وغيرُه، أنا الصلاحُ بنُ أبي عمرَ، أنا الفخرُ بنُ البخاريِّ، أنا حنبلٌ، أنا ابنُ الحُصين، أنا ابنُ المُذْهبِ، أنا القَطِيعيُّ، حدثني عبدُ الله، حدثني أبي، ثنا محمّدُ بنُ بكرٍ، ثنا حميدُ بنُ مهرانَ، ثنا سعدُ بنُ أوسٍ، عن زيادِ بنِ عسيب العدويِّ، عن أبي بكرةَ: سمعت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ أَكْرَمَ سُلْطَانَ اللهِ في الدُّنْيَا، أَكْرَمَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَمَنْ أَهَانَ سُلْطَانَ اللهِ في الدُّنْيَا، أَهَانَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (¬3). فصل وإذا تمت الولايةُ، وحصلت لرجل، لزمه من أمور الأمة أشياءُ يقوم بها. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "مسنده" (1/ 10)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 183)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (37048) عن ابن أبي مليكة. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/ 184): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، إلا أن ابن أبي مليكة لم يدرك الصديق. (¬2) انظر: "الأحكام السلطانية" (ص: 26). (¬3) رواه الإمام أحمد في "مسنده" (5/ 42)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (3/ 366)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 163). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/ 215): رجاله ثقات.

قال القاضي: يلزمه القيامُ بعشرة أشياء: الأوّل منها: حفظُ الدين علي الأصول التي أجمعَ عليها سلفُ الأمة، فإن زاغ ذو شبهة عنه، بيّن له الحجّةَ، وأوضح له الصّوابَ، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود، ليكون الدين محروسًا من خلل [و] الأمة [ممنوعة من زلل]، وهذا الأمرُ يحتاج إلي علم في الإمامة، وحُرمة، وقوة. الثاني: تنفيذُ الأحكام بين المتشاجرين، وقطعُ الخصومات بينهم بنفسه ونوابه حتى تظهر النَّصَفَةُ، فلا يتعدى ظالم، ولا يضعف مظلومٌ، وهذا يحتاج إلي علم، وحرمة، وقوة. الثالت: حمايةُ البَيْضَة، والذبُّ عن الحَوْزَةِ؛ ليتصرف الناس في المعايشِ، وينتشروا في الأسفار والبلاد آمِنين، وهذا يحتاج إلي حرمة، وقوة. الرابع: إقامةُ الحدود؛ لتصان محارمُ الله تعالي عن الإنتهاك، وتُحفظ حقوقُ عباده من إتلاف واستهلاك، وهذا يحتاج إلي علم؛ ليعلمَ ما يوجبُ الحدَّ مما لا يوجِبه، وماذا يجب فيه من الحدِّ، وكيف يجبُ، وكيف يُقام، ومتى يُقام، إلي غير ذلك، ويحتاج -أيضًا- إلي حرمة، وقوة. الخامس: تحصين الثغور بالعُدَّة المانعة، والقوة الدافعة، حتى لا يظهر الأعداءُ بِغِرَّة فينتهكون شيئًا، ويسفكون دمَ مسلم، أو معاهَدٍ، وهذا يحتاج إلي حرمة، وقوةٍ أكثرَ، وإلي علم أقلَّ. السادس: جهادُ مَنْ عاند الإسلامَ بعدَ الدعوة حتى يُسلم، أو يدخل

في الملة، وهو كالذي قبله يحتاج إلي حرمة، وقوةٍ أكثر، ويحتاج إلي علم أقلَّ. السّابع: جباية الفَيْءِ والصّدقاتِ علي ما أوجبه الشّرع نصًا واجتهادًا من غير عسف، ودفعُ ذلك في مستحقاته، وهذا يحتاج إلي علم أكثر، وحرمة وقوة أقلَّ. الثامن: تقديرُ العطاء، وما يستحقّ في بيت المال من غير سَرَف ولا تقصير، ودفعُه في وقته من غير تقديم ولا تأخير، وهو يحتاج إلي علم أكثر، وقوة أقلَّ. التاسع: استكفاء الأمناء، وتقليدُ النصحاء، فيما يفوِّضُه إليهم من الأعمال، ويَكِلُه إليهم من الأموال؛ لتكون الأعمالُ مضبوطة، والأموالُ محفوظة، وهو يحتاج إلي علم وقوة. العاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور، وتصفُّحَ الأحوال، ويقوم بسياسة الأمة، وحراسة الملة، ولا يعوِّل علي التفويض تشاغلًا بلذة أو عبادة، فقد يخونُ الأمين، ويغشُّ الناصح (¬1)، وقد قال الله تعالي: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص: 5 - 26]، فلم يقتصر سبحانه علي التفويض دون المباشرة، وقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ" (¬2). ¬

_ (¬1) في الأصل: "الخائن". (¬2) رواه البخاري (853)، كتاب: الجمعة، باب: الجمعة في القرى والمدن، ومسلم (1829)، كتاب: الإمارة، باب: فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر والحث علي الرفق بالرعية، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-.

فصل

وإذا قام الإمامُ بحقوق الأمّة، وجب له عليهم حقان: الطّاعةُ، والنصرةُ، ما لم يوجد من جهته ما يخرج به عن الإمامة، كالنقص في بدنه، فأمّا الجرحُ في دينه، فقد تقدّم الكلام عليه (¬1). فصل فالأمر الأولُ من حفظ الدين على أصوله يتعلق به أكثرُ من عشر ين أمرًا: الأول: ما يتعلق بالصلاة بالفعل وعدم الترك. ويتعلق بها عشرة أحكام: [الأول]: المحافظة عليها في أوقاتها. والثاني: النظر في الجوامع والمساجد وأماكنها وعَمَارتها. والثالث: الأذان والإمامة بالفعل وعدم الترك. الرابع: إمامة الجمعة والجماعة بالفعل وعدم الترك. الخامس: الصلاة علي الأموات، والقيامُ بأمورهم بالفعل وعدم الترك، وكذلك للدفن ومتعلقاته. والسادس: المحافظةُ علي شروط الصلوات وإمامتها بجميع مصحّحاتها. والثامن: اجتنابُ المفسدات. ¬

_ (¬1) انظر: "الأحكام السلطانية" (ص: 26 - 27).

والتاسع: إقامةُ إمامتها وجُمعتها وجماعتها بنفسه ونوابِّه. والعاشر: الصرفُ لما يحتاج إلي صرف، وذلك من أموال المسلمين. الثاني: أمر الزكاة، ويتعلق بها أمور: الأول: ما تجب فيه مما لا تجب. والثاسْي: متى تجب. والثالث: إخراج مَنْ وجبت عليه إلي الإمام، أو عامله، أو الفقير. الرابع: عقاب من لم يخرج. الخامس: قدر المخرج والمخرج عنه. السادس: المدفوع إليه، ولمن هي، ومن تجوز له، ومن لا تجوز. الثالت: أمرُ الصيام بالفعل بالمصححات، وقتالُ من لم يفعله. والرابع: الحجُّ بالفعل بالمصححات، وعقابُ مَنْ لم يفعل، وإصلاحُ طريقه بالذبِّ والعمارة بما يمكن معه السلوكُ بإيجاد الماء والعلف وغير ذلك، ودفع المؤذي وإزالته من اللصوص وغيرهم، وإقامة مَنْ يذهب مع الحجاج من كل بلد من بلاده، وعدمُ تعطيل الحج، وإقامتُه بالبلد الحرام كلَّ سنة، ومباشرةُ إمامته، وما يتعلق بذلك بنفسه، أو نيابة؛ فإنه عليه السَّلام باشرَ ذلك مرةً بنفسه، ومرة بنيابة، وكذلك

أبو بكر، وعمر بعده، وكذلك استمرَّ علي ذلك الخلفاء، وما يحتاج من ذلك إلي صرفِ مال، صرفَ فيه من أموال المسلمين العامة. الخامس: أمرُ الجهاد، والقيام به، وما يخرج فيه من رجال، ودوابَّ، وزادٍ، وغير ذلك، وما يفعله بنفسه، وما يستنيب فيه، وما يصرف فيه من الأموال، وغير ذلك. السادس: ما يتعلق با لتزويج وعقود الأنكحة، والتزويج، وأولياء ذلك، وعدم تركه، وصيانةُ الأمة عن فسادِ أنكحتِهم، والدخولِ في الزنا وما لا يحلّ. والسابع: صيانةُ العِرْض عن فعل المحرَّمات فعلًا أو استحلالًا من الزنا، ومنع البغايا والقِحاب، وشرب الخمور، واللواط، وإقامةُ الحدود علي مَنْ فعل ذلك، وعدمُ التهاون فيه، وكذلك من أكل الميتة، والمعاملة بالربا، وإظهار المنكرات من الدفوف والمزامير، وغيرِ ذلك من المنكرات، والقيامُ علي فاعلها. الثامن: إزالةُ البدع من الدين، وقمعُ المبتدعين وإزالتُهم، سواء كانت مكفِّرة؛ كالجهمية، وفرق من الرافضة، أو غيرَ مكفِّرة؛ كالإرجاء، ونحو ذلك، فيصون الدينَ، ويحفظه من جميع البدع والنقائص. التاسع: القيامُ بأمر المواريث، وإعطاءُ كلِّ ذي حق حقَّه من ذلك. العاشر: حفظُ نفوس المسلمين الموحِّدين، وعدمُ استحلالِ قتلِ

أَحدٍ منهم بغير حق، والقيامُ علي مَنْ فعل شيئًا من ذلك، والقصاصُ منه، كائنًا من كان. الحادي عشر: عدمُ استحلال مالِ أحدٍ من المسلمين، ومنعُ أحدٍ أن يظلم أحدًا في شيء من ذلك؛ فإن عمر كان يقول: لو ذهبتْ شاةٌ بالفرات، لخشيت أن أُطالَبَ بها. الثاني عشر: الوقوفُ علي الحقِّ حيث كان، ولو علي نفسه، أو ولدِه، أو وُلاتِه، أو صديقه، ويحذر من اتباع الهوى في شيء من ذلك؛ لقوله- عزَّ وجلَّ-: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [ص: 26]. وقوله عليه السَّلام: "لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ سَرَقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَهَا" (¬1). الثالث عشر: اجتنابُ الباطل حيثُ كان، ولو علي عدوِّ أو بَغيضٍ. الرابع عشر: عدمُ الإنتقام لنفسه؛ لأنه عليه السَّلام ما انتقم لنفسه قَطُّ (¬2). ولأن عمر -رضي الله عنه- لما دخل عليه الرجل، فقال: واللهِ! ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3288)، كتاب: الأنبياء، باب: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ}، ومسلم (1688)، كتاب: الحدود، باب: قطع السارق عن عائشة -رضي الله عنها-. (¬2) رواه البخاري (3367)، كتاب: المناقب، باب: صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومسلم (2327)، كتاب: الفضائل، باب: مباعدته - صلى الله عليه وسلم - للآثام واختياره من المباح أسهله، عن عائشة -رضي الله عنها-.

فصل

ما تُعطينا الجَزْلَ، ولا تَقْسِم بيننا بالعدل، فَهَمَّ أن يُوقعَ به، فذكَّرَهُ الحُرُّ قولَه- عزَّ وجلَّ-: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، فسكت، وكان وقَّافًا عند كتاب الله (¬1). الخامس عشر: عدمُ الرأفة والرحمة في استيفاء الحقوق والحدود؛ لقوله- عزَّ وجلَّ-: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ} [النور: 2]. السادس عشر: ارتكابُ المروءة، وفعلُ ما يَزين، واجتنابُ القبائح، وتركُ ما يَشين ويدنِّسُ النفسَ والعرضَ مما هو مذكورٌ في شروط الشاهد. السابع عشر: البروزُ للناس، وعدمُ الإحتجاب عنهم، والإختفاءِ منهم؛ لأنه عليه السَّلام لم يكن له بَوَّابٌ ولا حاجب (¬2)، وقد ورد حديثٌ بذمِّ ذلك. الثامن عشر: اتباعُ العدل حيثُ كان. التاسع عشر: اجتنابُ الظلم والجَوْر حيثُ كان، وكيف كان، قليلًا كان أو كثيرًا. العشرون: بذل الحقوق لأهلها من كل طائفة. فصل وقد أوضحنا لك شروطَ الإمام، ونحن نذكر لك شروطَ نُوّابه، وأعوانه: ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4366)، كتاب: التفسير، باب: خذ العفو وأمر بالعرف، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري من حديث أنس -رضي الله عنه-.

أولُ من قَدَّمنا منهم: القاضي، ويشترط فيه شروط: الأول منها: الإسلام: ولا بد منه فيه بإجماع العلماء، فلا تصحُّ ولايةُ كافرٍ، وسواء كان كفرُه بأمر معلوم له، وللناس؛ من اليهودية، والنصرانية، والمجوسية، والشرك، وغير ذلك، أو بارتكاب بدعة من التجهُّم ونحوِه. الثاني: العقل: فلا تجوز ولايةُ مجنون مُطْبِق، ولا مَنْ يُصْرَع في أكثر أوقاته، وينعزلُ بطريان ذلك، فإن كان ناقصَ العقل، فظاهرُ كلامِ بعضِ أصحابنا: لا يُولَّي. الثالث: أن يكون بالغًا، فلا تجوزُ ولايةُ صبي، فإن كان مميزًا، لم تجز توليته عند جمهور أصحابنا. الرابع: أن يكون ذَكَرًا، فلا يجوز توليةُ امرأةٍ، سواء كان علي رجال، أو نساء، وكذلك لا يجوز توليةُ خُنثى مُشْكِلٍ. الخامس: أن يكون حرًا، فلا يجوز توليةُ عبدٍ مطلقًا، سواء كان قِنًّا، أو مُدَبَّرًا، أو مُكاتَبًا، أو مُبَعَّضًا. السادس: أن يكون عَدْلًا عند جمهور العلماء، فلا يجوز أن يكون فاسِقًا؛ خلافا للحنفية. السابع: أن يكون سميعًا، فلا تجوز ولاية أُطروش؛ لأنه يحتاج إلي سماع كلام الخصوم، وهذا عند جمهور العلماء. الثامن: أن يكون بصيرًا، فلا تجوز ولايةُ أعمى عند جمهور العلماء؛ لأنه يحتاج إلي ذلك؛ لمعرفة من يحكم عليه.

التاسع: أن يكون متكلمًا، فلا يجوز أن يكون أخرسَ ولا أَصَمَّ عند جمهور العلماء. العاشر: أن يكون مجتهدًا عند جمهور العلماء، خلافًا للحنفية، والمجتهدُ: من يعرف من كتاب الله، وسنةِ رسوله الحقيقة، والمجاز، والأمرَ والنهيَ، والمجمَلَ والمبيَّنَ، والمحكَمَ والمتشابهَ، والخاصَّ والعامَّ، والمطلَقَ والمقيَّدَ، والناسخَ والمنسوخَ، والمستثنى والمستثنى منه، ويعرفَ من السنة الصحيحَ والسقيم، والتواتر والآحاد، والمرسَل والمتصل، والمسنَدَ والمنقطعَ، وكلَّ ما هو مذكور من ذلك في أصول الفقه، ويعرف ما أُجْمِعَ عليه مما اختُلِفَ فيه، والقياسَ وحدودَه، وشروطَه، وكيفيةَ استنباطه، والعربيةَ المتداوَلَةَ بالحجاز والشام والعراق، فمن عرف ذلك كله، وعَلِمه، صلح للقضاء والفتيا عند جميع العلماء، ومن ليس كذلك، ففيه خلاف. الحادي عشر: أن يكون كاتبًا في أحد قولي العلماء، واختاره طائفة من أصحابنا، وقاله ابنُ أبي المجد في الأصح عنه، وقدمه في "الرعاية"، وغيرِها (¬1). الثاني عشر: هل يُشترط فيه أن يكون زاهدًا؟ علي قولين: الصحيح عند أكثر العلماء: لا يشترط ذلك. الثالث عشر: هل يشترط أن يكون ورعًا؟ علي قولين، والذي عليه أكثر العلماء: لا يشترط ذلك. ¬

_ (¬1) انظر: "المبدع" (10/ 126)، و"الإنصاف" (11/ 179).

فصل

الرابع عشر: يشترط سلامته من البِدَع المُضِلَّة. الخامس عشر: اختُلف في عدم الزَّمانة التي لا يمكن معها المشيُ، ولا الظهور للناس، فاعتبرَ ذلك بعضُ العلماء. السادس عشر: اختُلف في وجود الرِّجْلَين، وإمكانِ المشيِ بهما، والظهور للناس. السابع عشر: اختُلف في وجود اليَدَيْن، فاعتَبر ذلك بعف العلماء؛ لأجل الكتابة. الثامن عشر: اختُلف في اشتراط السلامة من الجُذَامِ ونحوِه من العلل التي يَقْذَرُها الناس. التاسع عشر: في عدمِ الغفلة والنسيان، هل يشترط ذلك؟ العشرون: هل تشترط الصحة؟ بأن لا يكون الغالب عليه السقم والضعف. فصل وَثمَّ شروطٌ من شروط الإمام لا تعتبر فيه، وهي: النسبُ، وكونُه من قريش، والشجاعةُ، وسلامةُ الأطرافُ، ونحو ذلك. وإن طرأ عليه انتفاءُ شرط من شروطه، فهل ينعزل بذلك؟ قال ابن أبي المجد: ما فقد منها في الدوام، أزال الولاية، إلا فقدَ السمع والبصر فيما ثبت عنده، ولم يحكم به، فإنها باقية (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر" للمجد (2/ 203).

وقال في "الرعاية": إن عَمِيَ بعد ذلك، أو طرشَ، لم تبطل ولايتُه، وإن نسيَ الفقهَ، أو خرسَ، ولم تُفهم إشارتُه، أو فسق، أو زال عقلُه بجنون أو سُكر محرم، أو إغماء، أو عمى، انعزل (¬1). وفي "الفروع": ما منع توليةَ القضاء، منعَ دوامَها، فينعزل به. قال: وفي "المحرر": فقْد سمعٍ أو بصرٍ بعد الثبوت عنده له الحكم فيه (¬2)، وقاله في "الإنتصار": في فقْد بصرٍ (¬3). قال: وقيل: إن تاب فاسقٌ، أو أفاق مَنْ جُنَّ، أو أُغمي عليه، وقلنا: ينعزلُ بالإغماء، فولايتُه باقيةٌ. وفي "الترغيب": إن جُنَّ، ثم أفاق، احتمل وجهين، وفي "المعتمد": إن طرأ جنون، فقيل: إن لم يكن مُطْبِقاَّ، لم يعزل؛ كالإغماء، وإن أطبقَ، يتوجَّبُ عزلُه (¬4). واختلف الشافعية، فقيل: سنة؛ لتكميل إيجاب العبادات، وقيل: شهر؛ لإيجاب رمضان مع الصلاة، وقيل: يوم وليلة؛ لإيجاب الصلاة. ¬

_ (¬1) انظر: "المبدع" (10/ 130). (¬2) انظر: "المحرر في الفقها للمجد ابن تيمية (2/ 203)، وعبارته: "وما فقد منها في الدوام أزال الولاية إلا في فقد السمع أو البصر فيما ثبت عنده ولم يحكم به". (¬3) انظر: "الفروع" (6/ 384). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 384).

قال القاضي: والأشبهُ بقولنا: الشهرُ؛ لأن أحمد أجاز شهادة مَنْ يُخْنَقُ في الأحيان، وقال: في الشهر مرة. قال صاحب "الفروع": كذا قال (¬1). وإن مرض مرضًا يمنع القاضي، تعين عزلُه. وفي "المغني": ينعزل، وإن زالت ولايةُ مَنْ ولَّاه بموت، أو انعزال، لم ينعزل بذلك مع صلاحيته في أصحِّ القولين. وقيل: لا ينعزل بموته، وينعزل بعزله (¬2). فأما إن عزله مَنْ ولَّاه مع صلاحيته، فهل ينعزل بذلك؟ علي قولين للعلماء في ذلك، والعمل علي الإنعزال. وهل له عزلُ نفسه إذا لم يعزله مُوَلِّيه؟ علي قولين، وخرج ذلك علي روايتين عن أحمد؛ بناء علي أنه هل هو وكيلٌ للمسلمين، أو للإمام؟ وذلك علي روايتين منطوقتين عن أحمد، وللشافعية وجهان. وهل ينعزل قبل علمِه بالعزل؟ علي قولين: أصلها: انعزال الوكيل قبل علمه بالعزل، وهو علي روايتين عن الإمام أحمد. فإن قلنا: ينعزل قبل العلم: فأحكامُه بعد العزل غيرُ صحيحة، سواء علم، أو لم يعلم. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (10/ 135).

فصل

وإن قلنا: لا ينعزل، فهي قبل العلم صحيحة، وبعده غيرُ صحيحة. ومن أُخْبِرَ بموت قاضي بلد، فولّي غيره، فبان حيًا: لم ينعزل في أصح القولين. فصل لا يحصل القضاء من غير عقد ولاية، ولا بد له من ولاية. وتحصل الولاية من الإمام، ونصبُ القاضي عليه واجبٌ، وبالنسبة إلي المولَّي: فرضُ كفاية، قال أحمد: لابدَّ للناس من قاضٍ. وفيه: أنَّ نَصْبَه سُنَّة، نصرها القاضي، وأصحابُه. وعلي الإمام أن ينظر له أصلحَ من يجد، ويُكره طَلَبُه، ويحرُمُ أن يبرطِلَ عليه، ويحرم علي الإمام الأخذُ، ولا ولايةَ بذلك. وتجوز ولايةُ المفضول مع وجود الفاضل. وهل للإمام الإجبار عليه؟ علي قولين، وإن لم يوجد إلا واحد، أُجبر؛ كما لو امتنع الكلُّ أَجبر واحدًا، والله أعلم. فصل كان في الزمن الأول يولِّي الخليفةُ واحدًا، وهو قاضي القضاة، وذلك القاضي هو الذي يولِّي القُضاةَ في سائر البلاد، ثم تُرك ذلك. وصار يُولَّي في كل بلدٍ قاضٍ يقال له: قاضي القضاة، ويولِّي هو من تحت يده في كل صُقْع، ثم صار يُولَّي في كل بلد قاضٍ من مذهب من

فصل

المذاهب الأربعة؛ حيث استقر الأمرُ علي المذاهب الأربعة، وله أن يستنيب إن جُعل إليه، ويجوز أن يستنيب من غير مذهبه في أصحِّ القولين، ويُشترط في النائب ما يُشترط فيه. فصل ولا تحصل ولايةُ القضاءِ إلا من الإمام، أو نائبِه، ولابد أن يعرف أن الُموَلَّي يصلُح، ويجوز أن يولِّيه عامًّا بالنسبة إلي البلاد والناس والأحكام، وخاصًّا بالنسبة إلي البلاد والناس والأحكام، بأن يوليه بلدًا بعينه، فلا يجوز [أن] يحكم بغيره، أو طائفةً من الناس؛ كقاضي العسكر، فلا ينفذ حكمُه في غيره، وعلئ هذا يجب في أحد القولين، فلا ينفذ حكمُه بغيره. وفي غير فلان، أو الطائفة الفلانية، فيختص بما وُلّي فيه وعليه. وله أن يمنعه من الحكم بشيء، فلا ينفذ له حكمٌ فيه، فلا بد أن يعين له الأوْلي من نظر وعمل ومكان، والله أعلم. فصل ولابدَّ من مشافهةٍ بالولاية بصريح اللفظ، وقبولها في المجلس، ومكاتبته بها مع البعد (¬1)، أو إشهادٍ بها واستفاضةٍ. وألفاظُ الولاية منها صريح؛ نحو: وَلَّيْتُكَ القضاءَ، أو الحكمَ، أو قَلَّدْتُكَه، أو جعلتُه إليك، أو استَنْبْتُكَ فيه، ونحوِ ذلك. ويقبل بقوله: فعلتُ، أو قُلِّدْتُ. وتنعقدُ الولاية بذلك. ¬

_ (¬1) في الأصل: "العبيد".

فصل

ومن ألفاظها كنايةً؛ نحو: وَكَّلْتُكَ، أو استندْتُ إليك، وعَوَّلْتُ أو اعتمدْتُ عليك. فلا بد أن يقرن بذلك ما يدل عليه، فتصح الولاية. ويجوز تولية قضاة عدة في بلد واحد من مذهب واحد، أو في مذاهب مختلفة عمومًا وخصوصًا، وكل في شيء أو عمل، والكل في عمل واحد. فصل وإذا حصلت الولاية، وكانت خاصة اختصت بما هي فيه، وإن كانت عامة استفاد بها النظر في عشرة أشياء: الأول: فصل الخصومات بين الناس، ويجب عليه الحكم بين كل خصمين أتياه، وإن أتاه خصم وطلب خصمًا، طلبه له، ويجب علي الخصمين قبول ذلك منه، ويجبرا عليه، وهذا بخلاف من تحاكما إلي من يصلح للقضاء، فإنه لا يجب عليه الحكم، وليس له إرسال خلفْ خصم، ولا يجبر الممتنع. الثاني: استيفاء الحقوق ممن هي عليه ورفعها إلي أربابها، ويجب عليه الوقوف مع الحق حيث كان؛ ولو علي نفسه أو والده أو ولده، وله الحكم علي نفسه وولده ووالده، ولا يحكم له ولا لولده ووالده. الثالث: النظر في أموال اليتامى والمجانين والسفهاء، وإقامة أولياء لهم، ومن يتكلم عليهم، والحجر علي من يرى الحجر عليه، لسفه، أو فلس، ونحو ذلك.

فصل

الرابع: النظر في الوقوف بإجرائها علي شروط واقفيها، والنظر في عمارتها ومصالحها ونظارها، ومنع من لا يصلح منهم، وفي تفرقتها، ومنع [...] بغير حق. الخامس: تنفيذ الوصايا، والنظر فيها، وفيما يجوز وما لا يجوز منها. السادس: تزويج النساء ومن لا ولي له من كبير وصغير ومجنون وغير ذلك، مما لا ولي له والنظر في ذلك. السابع: إقامة الحدود علي من وجبت عليه من الزنى والخمر والقذف والسرقة وغير ذلك، وكذلك التعزير لمن وجب عليه بما يراه. الثامن: إقامة الجمعة والجماعة وجميع متعلقات الصلاة وشعائرها. التاسع: النظر في مصالح عمله بكف الأذى عن طرقات المسلمين وأفنيتهم ومساجدهم وجوامعهم، وغير ذلك مما يعود عليَهم من المصالح العامة، وإزالة المضار العامة عنهم. العاشر: النظر في حال الأمناء والشهود والوكلاء وجميع من هو متعلق به، ومنع من لا يصلح ومن لا يرضى لفسق وجرح ونحو ذلك، والإستقرار بمن يصلح. فصل وأما جباة الخراج ونحوه، وأخذ الصدقات ودفعها إلي مستحقيها فقد اختلف فيه علي قولين: أحدهما: ليس إليه، وليس له الدخول في

فصل

ذلك، وإنما هو إلي الإمام، والثاني: أمره إليه كغيره. فصل وله طلب الرزق لنفسه وأبنائه وخلفائه مع الحاجة إلي ذلك، فإن لم تكن بهم حاجة إلي ذلك فعلي قولين: أحدهما: له ذلك، ولهم الأخذ؛ لاشتغالهم بأمور المسلمين، والثاني: ليس لهم ذلك. فإن قلنا له الأخذ، ووجد أخذه، ولا يجوز له أن يأخذ مع ذلك أجرة علي حكم ولا رشوة، ولا قبول هدية، ولا غيرها. فإن عدم ذلك من الإمام أو بيت المال، فهل يجوز أخذ أجرة علي الحكم؟ علي قولين للعلماء أحدهما: لا يجوز، والثاني: بلي، وليس الأخذ قبل الحكم بل علي من وجب له الحق أن [...]، وكذلك يجوز للشاهد أن ياخذ أجرة علي الشهادة علي التحمل والأداء، وكان شيخنا لا يكره ذلك ولو كثر لا سيما علي الكتابة، وكذلك الوكيل له أخذ الأجرة، وكذلك الشفيع له أخذ أجرة علي شفاعته في أحد القولين. فصل وأما النياب والعمال علي البلاد فهم نياب الإمام فيشترط لهم شروط: الأول: الإسلام: إن كان علي مسلمين، وعلي غير المسلمين يجوز أن يكون كافرًا. الثاني: العقل: ولا يجوز أن يكون مجنونًا، سواء كان مطبقًا، أو يصرع ويخنق.

فصل

الثالث: الذكورية: فلا يجوز أن تكون امرأة ولا خنثى، حيث قال -عليه السلام-: "لا يفلح قوم ولو أمرهم امرأة". الرابع: البلوغ: ولا يجوز أن يكون صبيًا. الخامس: سلامةُ يديه ورجليه؛ للحاجة إلي ذلك في أمر الحرب، ولا يضر ذهابُ واحدة. السادس: السمع: فلا يجوز أن يكون أُطروشًا؛ للحاجة إلي السمع. السابع: البصر: فلا يجوز أن يكون أعمى؛ للحاجة إلي البصر في القتال وغيره، ولا يضر ذهابُ عينٍ واحدة. الثامن: الكلام: فلا يجوز ولاية أصمَّ أخرسَ؛ للحاجة إلي الكلام. التاسع: الصحة: فلا يكون غيرَ صحيح البدن. العاشر: عدمُ الزَّمانة للمشي، فلا يكون مقعَدًا. فصل ولا يشترط له النسبُ، ولا أن يكون قُرشيا، ولا حريةُ الأصل، فيجوز أن يكون من الموالي، ولا الحريةُ حالَ الولاية. أخبرنا الجماعةُ، أنا ابنُ الزَّعْبوبِ، أنا الحَجَّارُ، أنا ابنُ الزَّبيديِّ: أنا السِّجْزِيُّ، أنا الداوديُّ، أنا السَّرَخْسيُّ، أنا الفِرَبْريُّ، أنا البخاريُّ، قال: باب: استقضاء الموالي واستعمالهم، ثم قال: ثنا عثمانُ بنُ صالح، ثنا عبد الله بنُ وهبٍ، أنا ابنُ جُريجٍ: أن نافعًا أخبره: أن

ابنَ عمر أخبره، قال: كان سالمٌ مولي أَبي حُذيفةَ يؤمُّ المهاجرينَ الأوَّلِينَ، وأصحابَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في مسجدِ قُباء، فيهم أبو بكرٍ، وعمرُ، وأبو سلمةَ، وزيدٌ، وعامرُ بنُ ربيعةَ (¬1). أخبرنا جَدِّي وغيرُه، أنا الصلاحُ، أنا ابنُ البخاريِّ، أنا حنبل، أنا ابنُ الحُصينِ، أنا ابنُ المُذْهِبِ: أنا أبو بكرٍ القطيعيُّ، أنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا أبو كامل، ثنا إبراهيم، ثنا ابنُ شهاب. قال: وثنا عبدُ الرزاق، أنا معمرٌ، عن الزهريِّ، عن أبي الطفيل عامرِ بنِ واثِلَةَ: أنَّ نافعَ بنَ الحارثِ لقيَ عمرَ بنَ الخطاب بعُسفانَ، وكان عمرُ استعمله علي مكةَ، فقال له عمر: من استخلفتَ علي أهل الوادي؟ قال: استخلفتُ عليهم ابنُ أَبْزَى، فقال: ومَنِ ابنُ أبزى؛ فقال: رجلٌ من موالينا، فقال عمرُ: استخلفتَ عليهم مولي؟! فقال: إنه قارىٌ لكتاب الله، عالمٌ بالفرائض، قاضٍ، فقال عمر: أَمَا إِنَّ نبيَّكُمْ - صلى الله عليه وسلم - قد قال: "إِنَّ اللهَ يَرْفعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ" (¬2). أخبرنا أبو العباسِ الفُولاذيُّ، أنا ابنُ بردس، أنا ابنُ الخباز، أنا الإربليُّ، أنا الفُراوي، أنا الفارسيُّ: أنا الجُلُودي، أنا إبراهيمُ بنُ سفيانَ، أنا مسلمٌ، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وعبد الله بن براد الأشعريُّ، وأبو كريبٍ، قالوا: ثنا ابنُ إدريسَ، عن شعبةَ، عن ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6754)، كتاب: الأحكام، باب: استقضاء الموالي واستعمالهم. (¬2) رواه الإمام أحمد في "مسنده" (1/ 35). ورواه مسلم (817)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل من يقوم بالقرآن ويعمله.

أبي عمرانَ, عن عبد الله بنِ الصامتِ, عن أبي ذَرٍّ, إِنَّ خَلِيلِي أَوْصَانِي أَنْ أَسْمَعَ وَأُطِيعَ, وَإِنْ كَانَ عَبْدًا مُجَدَّعَ الأَطْرَافِ (¬1). وبه إلي مسلم, أنا النضرُ بنُ شُمَيْلٍ جميعًا, عَنْ شعبةَ, عن أبي عمرانَ بهذا الإسنادِ, وقالا في الحديث: "عَبْدًا حَبَشِيًّا مُجَدَّعَ الأَطْرَافِ" (¬2). وبه إلي مسلم, ثنا عبيد الله بنُ معاذٍ, ثنا أبي, ثنا شعبةُ, عن أبي عمرانَ بهذا الإسناد, كما قال ابنُ إدريس: "عَبْدًا مُجَدَّعَ الأَطْرَافِ" (¬3). وبه إلي مسلم, ثنا محمدُ بنُ المثني, ثنا محمّدُ بنُ جعفرٍ, ثنا شعبةُ, عن يحيي بنِ الحصينِ, قال: سمعتُ جَدَّتي تحدِّث: أنها سمعتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يخطب في الوداع, وهو يقول: " وَلَوِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ الله, اسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا" (¬4). قال: وثنا ابنُ بشار, ثنا محمّدُ بنُ جعفرٍ, وعبدُ الرحمنِ بنُ مَهْدِيٍّ, عن شعبةَ بهذا الإسناد, وقال: "عَبْدًا حَبَشِيًّا" (¬5). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1837) , كتاب: الإمارة, باب: وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية. (¬2) رواه مسلم (1837). (¬3) رواه مسلم (1837). (¬4) رواه مسلم (1838). (¬5) رواه مسلم (1837).

فصل

قال: وثنا أبو بكر بنُ أبي شيبةَ، ثنا وكيعُ بنُ الجراح، عن شعبَة بهذا الإسناد، وقال: "عَبْدًا حَبَشِيًّا مُجَدَّعًا" (¬1). قال: وثنا عبدُ الرحمن بنُ بِشْرٍ، ثنا بَهْزٌ، ثنا شعبةُ بهذا الإسناد، ولم يذكر: "حَبَشِيًّا مُجَدَّعًا"، وزاد: أنها سمعتْ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى، أو عرفات (¬2). وبه إلي مسلم، حدثني سَلَمةُ بنُ شَبيبٍ، ثنا الحسنُ بنُ أَعْيَنَ، ثنا معقلٌ، عن زيدِ بنِ أبي أنيسةَ، عن يحيى بنِ حصينٍ، عن جدَّتِه أمِّ الحصين، قال: سمعتُها تقول: حَجَجْتُ معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حجَّةَ الوداع، قالت: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولًا كثيرًا، لمّ سمعتُه يقول: "إِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ مُجَدَّعٌ". حَسِبْتُها قالتْ: "أَسْوَدُ يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللهِ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا" (¬3). فصل ولا يشترط فيه العلمُ، ولا الفضلُ علي غيره؛ لأنه -عَلَيْهِ السَّلَامْ- أمّر غيرَ الفاضل، فامًّرَ أُسامةَ بنَ زيدٍ علي قوم فيهم مَنْ هو أفضلُ منه. وبعثَ جماعةً عمالًا علي البلاد، وَثمَّ مَنْ هو أفضلُ منهم، وكذلك استعملَ أبو بكرٍ بعدَه مع وجود الفاضل، وكذلك عمرُ. ويجوز أن يكون من أقاربِه وغيرِهم. ¬

_ (¬1) رواه مسلم: (1837). (¬2) رواه مسلم: (1837). (¬3) رواه مسلم: (1837).

فصل

فصل ويملِك بالولاية ما يملِكُه الإمام؛ لأنه نائبُه، وقائمٌ مَقامه، إلا أن يمنعَه من شيء، أو يستعمله علي شيء دونَ غيره، وأن يستعملَه علي بلدِ إقامتِه، وعلي غيرها، وله الحكمُ في غَيبته وحُضوره، وفي زمننا هذا سلطانُ مصر، وما يعين الخليفة علي سائر البلاد، إلا أنهم يفعلون أشياءَ غير جائزة، فإن الخليفةَ يوليه السلطانُ من غير أن يتفق أهلُ الحلِّ والعقد، سواء كان يصلُح، أو لا يصلُح، وسواء اجتمعت فيه الشروط، أو تخلَّفت، ويصير معه مقهورًا: إن عزلَه، لا ينعزل، وإن أمره بشيء، لا يمتثل، ولا يدعُه يولِّي قاضيًا ولا غيرَه، وموضعُ هذا الأمر كان إليه، دونَ نائبه الذي هو السلطان، فهو اسمٌ علي غير مسمًّى.

[...] ابن بردس، أنا ابن الخباز، أنا الإربلي، أنا الفراوي، أنا الفارسي، أنا الجلودي، أنا أبو إسحاق الزاهد، أنا مسلم، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وابن نمير، قالوا: حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو يعني: ابن دينار، عن عمرو بن أوس عن عبد الله بن عمرو قال ابن نمير وأبو بكر: يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي حديث زهير قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ المُقْسِطِينَ عِندَ اللهِ علي مَنابِرَ مِنْ نُوْرٍ عَنْ يَمِيْنِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْه يَمِيْنٌ؛ الَّذِينَ يَعْدِلونَ في حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيْهِمْ وَمَا وَلُوْا" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1827). كتاب: الإمارة، باب: فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر.

الباب الثالث في فضل الولاية وثوابها لمن عدل وبر

الباب الثّالث في فضل الولاية وثوابها لمن عَدَلَ وبَرَّ في ذلك ثوابٌ جزيل لمن عدلَ وبر. أخبرنا الجماعة، أنا ابن الزَّعْبوب، أنا الحَجَّار، أنا ابنُ الزَّبيديِّ، أنا السِّجْزِيُّ، أنا الداوديُّ، أنا السَّرَخْسيُّ، أنا الفِرَبْريُّ، أنا البخاريُّ، ثنا محمّدُبنُ بَشَّارِ، ثنا يحيى، عن عُبيدِ الله، حدثني حبيبُ بنُ عبد الرحمن، عن حفص بنِ عاصمٍ، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ في يَوْمٍ لا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الإِمَامُ العَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ في عِبَادَةِ الله، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ في المَسْجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا في اللهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ، وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ [امْرَأَةٌ] ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ، أَخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تنفِقُ يَمِينُه، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (629)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد، ومسلم (1531)، كتاب: الزكاة، باب: فضل إخفاء الصدقة.

[...] ابن بردس، أنا ابن الخباز، أنا الإربلي، أنا الفراوي، أنا الفارسي، أنا الجلودي، أنا أبو إسحاق الزاهد، أنا مسلم، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وابن نمير، قالوا: حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو يعني: ابن دينار، عن عمرو بن أوس عن عبد الله بن عمرو قال ابن نمير وأبو بكر: يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي حديث زهير قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ المُقْسِطِينَ عِندَ اللهِ علي مَنابِرَ مِنْ نُوْرٍ عَنْ يَمِيْنِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْه يَمِيْنٌ، الَّذِينَ يَعْدِلونَ في حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيْهِمْ وَمَا وَلُوْا" (¬1). أخبرنا جَدِّي وغيرُه، أنا الصلاحُ بنُ أبي عمرَ، أنا الفخرُ بنُ البخاريِّ، أنا حنبلٌ، أنا ابنُ الحُصَينِ، أنا ابنُ المُذْهِبِ، أنا أبو بكرٍ القَطيعيُّ، أنا عبدُ الله بنُ أحمدَ، حدثني أبي، ثنا وكيعٌ، ثنا سعدانُ الجهنيُّ، عن سعدٍ أبي مجاهدٍ الطائيِّ، عن أبي مدلهٍ، عن أبي هريرة، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الإمَامُ العَادِلُ لاَ تُرَدُّ دَعْوَتُهُ" (¬2). وبه إلي الإمام أحمدَ، ثنا يحيى بنُ آدمَ، ثنا فضيلٌ، عن عطيةَ العوفيِّ، عن أبي سعيدٍ، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1827). كتاب: الإمارة، باب: فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر. (¬2) رواه الإمام أحمد في "مسنده" (2/ 443) بهذا اللفظ، ورواه الترمذي (3598)، كتاب: الدعوات، باب: في العفو والعافية، وابن ماجه (1752)، كتاب: الصيام، باب: في الصائم لا ترد دعوته، مطولًا. قال الترمذي: هذا حديث حسن.

إِلَى اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَإِنَّ أَبْغَضَ النَّاسِ إِلَي اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَشَدَّهُ عَذَابًا: إِمَامٌ جَائِرٌ" (¬1). وبه إلي الإمام أحمدَ، ثنا عليُّ بنُ إسحاقَ، أنا عبدُ الله، أنا الفضيلُ بنُ مرزوقٍ، عن عطيةَ العوفيِّ، عن أبي سعيدٍ الخدريِّ، قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَي اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَإِنَّ أَبْغَضَ النَّاسِ إِلَي اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَشَدَّهُمْ عَذَابًا: إمَامٌ جَائِرٌ" (¬2). أخبرنا جدِّي وغيرُه، أنا الصلاحُ بنُ أبي عمرَ، أنا الفخرُ بنُ البخاريِّ، أنا أبو جعفرٍ الصَّيدلانيُّ، أنا أبو عليٍّ الحدَّادُ، أنا أبو نُعيمِ، قال: والوالي إذا أنصفَ الضَّعيفَ من القَوِيِّ، رَافَقَ النَّبيِّينَ في أَعْلَي عِلِّيِّينَ (¬3). وبه إلي أبي نعيم، ثنا أبو محمّدٍ الحسنُ بنُ عبدِ الحميدِ العطارُ الكوفيُّ، ثنا محمّدُ بنُ الحسنِ الهاشميُّ، ثنا محمّدُ بنُ بشرِ بنِ شريكٍ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ شريكٍ، عن أبيه، عن جابرٍ، عن عطاءٍ، عن ابنِ عباس، قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا، فَحَسُنَتْ سَرِيرَتُهُ، رُزِقَ الهَيْبَةَ، وَإِذَا بَسَطَ يَدَهُ بِالْمَعْرُوفِ، رُزِقَ الْمَحَبَّهَ، وَإِذَا عَدَلَ، زِيدَ في عُمُرِهِ، وَإِذَا أَنْصَفَ الضَّعِيفَ مَنِ الْقَوِيِّ، كَانَ مَعِي ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "مسنده" (3/ 22)، والترمذي (1329)، كتاب: الأحكام، باب: الإمام العادل، وقال: حديث حسن غريب. (¬2) رواه الإمام أحمد في "مسنده" (3/ 55). (¬3) ذكره الحافظ أبو نعيم في كتابه "فضيلة العادلين" (ص: 109).

في الْجَنَّةِ"، وأشار بإصبعيه: السبابةِ والوسطي (¬1). وبه إلي أبي نعيم، ثنا سليمانُ بنُ أحمدَ، ثنا محمّدُ بنُ يونسَ العصفريُّ، ثنا يزيدُ بنُ عمرِو بنِ البراءِ، ثنا محمّدُ بنُ موسى الشيبانيُّ، ثنا إبراهيمُ بنُ خثيمِ بنِ عراكِ بنِ مالكٍ، عن أبيه، عن جدِّه، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن وَلِيَ مِن أَفرِ النَّاسِ وِلاَيَةً، وَكَانَتْ نِيَّتُهُ الْحَقَّ، وُكِّلَ بِهِ مَلَكَانِ يُوَفَّقَانِهِ وَيُرْشِدَانِهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ وِلاَيَةً، وَكَانَتْ نِيَّتُهُ غَيْرَ الْحَقِّ، وَكَلَهُ اللهُ إِلَي نَفْسِهِ" (¬2). وبه إلي أبي نعيم، ثنا محمّدُ بنُ إبراهيمَ بنِ عليٍّ، ثنا محمّدُ بنُ عبدِ الله بنِ عبد السلامِ، ثنا أحمدُ بنُ عيسى بنِ يزيدَ، ثنا عَمْرُو بنُ أبي سلمةَ، ثنا إبراهيمُ بنُ محمّدٍ الأنصاريُّ، عن عليِّ بنِ ثابتٍ، عن محمّدِ بنِ سِيرينَ، عن أبي هريرةَ، قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَدْلُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ؛ قِيَام لِيْلِهَا، وَصِيَامِ نَهَارِهَا، وَجَوْرُ سَاعَةٍ في حُكْمٍ أَشَدُّ وَأَعْظَمُ مِنْ مَعْصِيَةِ سِتِّيَنَ سَنَةً" (¬3). وبه إلي أبي نعيم، ثنا عبدُ الله بنُ جعفرٍ، ثنا إسماعيلُ بنُ عبدِ الله، ثنا أحمدُ بنُ يونسَ، ثنا سعدٌ أبو غيلانَ الشيبانيُّ، ثنا عفانُ بنُ جُبيرٍ الطائيُّ، عن أبي حريزٍ الأزديِّ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسِ، قال: ¬

_ (¬1) انظر: "فضيلة العادلين" (ص: 111 - 112). (¬2) "فضيلة العادلين" (ص: 116). ورواه أيضًا الطبراني في "المعجم الأوسط" (6063). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/ 194): رواه الطبراني والبزار، وفيه إبراهيم بن خثيم بن عراق وهو ضعيف. (¬3) "فضيلة العادلين" (ص: 117).

قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَوْمٌ مِنْ إِمَام -أو قالَ: إِمَامٍ عَادِلٍ - أَفْضَل مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَّةً، وَحَدٌّ يُقَامُ في الأرْضِ أَزْكَي فِيهَا مِنْ قَطْرِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا" (¬1). وبه إلي أبي نعيم، ثنا أبو بكر بنُ خلادٍ، ثنا الحارثُ بنُ أبي أسامةَ، ثنا أبو عُبيدٍ القاسمُ بنُ سلامٍ، ثنا هُشيمٌ، ثنا زياد بنُ مخراقٍ، عن رجلٍ، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لَعَمَلُ الْعَادِلِ في رَعِيَّتِهِ يَوْمًا وَاحِدًا، أَفْضَلُ مِنْ عَمَلِ الْعَابِدِ في أَهْلِهِ مِئَةَ عَامٍ، أَوْ خَمْسِينَ عَامًا"، الشَّكُّ من هُشيم (¬2). والعجبُ من بعض المتفقِّهة الفَجَرة، يذكرون هذه الأحاديثَ لكثير من الظَّلَمة ممن انغمس في الظلمِ، وعامَ فيه وسبح، وأخذَ أموال الناس من غير حِلِّها، وقتل النفسَ الحرامَ أكثرَ من ألفِ مرة بغير حق، واستحلَّ أموال الناس ودماءهم وأعراضَهم، ويُزَيِّنُ له أنه عادلٌ، ولولا أنت ولولا أنت؛ ليتوجَّه بذلك عندَه، وينفق سوقه، فلا كَثَرِّ الله في المسلمين من أمثالهم، حتى إن كثيرًا منهم قال لي: أليسَ قد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "عَدْلُ يَوْمِ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً"؟! يرى في نفسِه أنه أفضلُ من العلماءِ والعبّاد. ¬

_ (¬1) "فضيلة العادلين" (ص: 119). ورواه الطبراني في "المعجم الكبير" (11932)، وفي "المعجم الأوسط" (4765)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 162). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/ 197): فيه سعد أبو غيلان الشيباني لم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. (¬2) "فضيلة العادلين" (ص: 123). ورواه الحارث في "مسنده - بغية الباحث" للهيثمي (2/ 626) وفيه بدل "من عمل" "من عبادة العابد". قال البوصيري في "إتحاف الخيرة" (5/ 40): إسناده ضعيف لجهالة التابعي.

وقال لي مرة واحدٌ منهم ذلك، فقلت له: وأينَ العدلُ؟! العدلُ كان في زمن عمر بن الخطاب، ومع ذلك كان لا يرى نفسه عادلًا، فما كان جوابه إلا أن قال -بجهلِه وكفرِه-: أنا أعدلُ من عمرَ بنِ الخطاب، وقلت له: كفرتَ واللهِ! فإن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد أخبرنا: أَنَّ أَحَدَنَا لَوْ أَنْفَقَ مِلْءَ الأرْضِ ذَهَبًا، ما بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، وَلاَ نَصِيفَهُ (¬1). فقال: الله ما هو قادر أن يجعلني أعدلَ منه؟، فقلت له: القدرةُ صالحة لكل شيء، غير أنّ هذا من المحال، كما أن القدرة صالحةٌ لإيمان أبي جهل، وإيمانُه من المحال، والأمور التي قَدَّرَ الله أن لا تكون، ومن حدَّثته نفسه بذلك، فقد باء بإثمٍ عظيم، وكل هذا من ستر كَفَرَةِ فَجَرَةِ الفقهاءِ لهم، ونعتهم لهم أنهم علي العدل، وهم علي الظلم والجَوْر الذي ليس بعده ظُلم ولا جَوْر. وسوف نذكر شروطَ العدل التي لا يوجد فيهم منها بعضُ واحد. وقد أخبرنا جَدِّي، أنا الصلاحُ بنُ أبي عمرَ، أنا الفخر بنُ البخاريِّ، أنا ابن طَبرزذ، أنا القاضي أبو بكر، أنا القاضي أبو يعلي، أنا أبو الحسن البزاز، ثنا إبراهيمُ بنُ عبد الصمد، حدثني أبي، ثنا عليُّ بنُ عاصمٍ، ثنا عبدُ الله بنُ عثمانَ، حدثني عبدُ الرحمن بنُ سابط، ثنا جابرُ بنُ عبدِ الله، قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يا كَعْبُ بْنَ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3475)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو كنت متخذًا خليلًا، من طريق ذكوان عن أبي هريرة، ومسلم (2540)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: تحريم سب الصحابة -رضي الله عنهم-، من طريق أبي صالح عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

عُجْرَةَ! أُعِيذُكَ بِاللهِ مِنْ إِمْرَةِ السُّفَهَاءِ"، قال: وما ذاكَ يا رسولَ الله؟ قال: "أُمَرَاءُ يَكُونُونَ مِنْ بَعْدِي (¬1)، مِنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ (¬2) فَصَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَأُولئكَ لَيْسُوا مِنِّي، وَلَسْتُ مِنْهُمْ، وَأُولئكَ لا يَرِدُوا عَلَيَّ الحَوْضَ، وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَي ظُلْمِهِمْ، فَأُولَئِكَ مِنِّي، وَأَنَا مِنْهُمْ، وَأُوَلئك يَرِدُوا عَلَيَّ الحَوْضَ (¬3). يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ! إِنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنْ سُحْتٍ، النَّارُ أَوْلَي بِهِ، يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ! النَّاسُ غَادِيَانِ؛ فَمُبْتَاعٌ نَفْسَهُ، وَمَغْبُونٌ فِيهِ، وَبَائِعٌ نَفْسَهُ، فَمُوبِقٌ رَقَبَتَهُ (¬4) " (¬5). أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا، أخبرتنا فاطمةُ بنتُ عبدِ الهادي، أنا عبدُ الله بنُ علي الترياقيُّ، ومحمّدُ بنُ عبدِ الحميدِ الهمدانيُّ، قالا: أنا ابنُ عروةَ، أخبرتنا فاطمةُ بنتُ سعدِ الخيرِ، أخبرتنا فاطمةُ الجُوردانيةُ، أنا ابنُ ريذةَ، أنا الطبرانيُّ، ثنا عليُّ بنُ عبدِ العزيز، ثنا يونسُ بنُ عبدِ اللهِ، ثنا أحمدُ بنُ القاسمِ، ثنا سعيدُ بنُ سليمانَ، قالا: ثنا ¬

_ (¬1) في مصادر التخريج زيادة: "لا يقتدون بهدي، ولا يستنون بسنتي". (¬2) قوله: "من دخل عليهم"، وكذا بعد: "ومن لم يدخل عليهم" ليس في مصادر التخريج. (¬3) في المصادر زيادة: "يا كعب بن عجرة، الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة، والصلاة قربان، أو قال برهان". (¬4) في المصادر: "فمبتاع نفسه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها". (¬5) رواه الإمام أحمد في "مسنده" (3/ 321)، والحاكم في "المستدرك" (265)، ابن حبان في "صحيحه" (4514). قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/ 247): رجاله رجال الصحيح.

المبارَكُ (¬1) بنُ عُميرٍ، عن رِبْعِيِّ بنِ حراشٍ، عن حُذيفَة، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّها سَتكونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يَكْذِبُونَ وَيِظْلِمُونَ، فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ عَلَي ظُلْمِهِمْ، فَلَيْسَ مِنِّي، وَلَسْتُ مِنْهُ، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَئ ظُلْمِهِمْ، فَهُوَ مِنِّي، وَأَنَا مِنْهُ، وَسَيَرِدُ عَلَيَّ الحَوْضَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللهَ تَعَالَي" (¬2). أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا، عن ابنِ المحب، عن المِزِّيِّ، أنا ابنُ الدرجيِّ: أنا أبو المجد الثقفيُّ، وابنُ الأخوة، وغيرُهما: أنا أبو عبد الله الخلاّلُ، أنا أبو الفضل الرازيُّ، أنا أبو القاسم الرازيُّ، أنا أبو بكرٍ الرُّويانيُّ، ثنا ابنُ إسحاقَ، ثنا يحيى بنُ أبي بكيرٍ، ثنا خالدُ بنُ طهمانَ، عن نافعٍ -شيخٍ من همدان-، عَن معقِلِ بنِ يَسارٍ، قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لاَ يَلْبَثُ الْجَوْرُ بَعْدِي إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى يَطْلُعَ، كُلَّمَا طَلَعَ مِنَ الْجَوْرِ شَيْءٌ، ذَهَبَ مِنَ الْعَدْلِ مِثْلُهُ، حَتَّى يُولَدَ في الْجَوْرِ مَنْ لاَ يَعْرِفُ غَيْرَهُ". قال: قلتُ: يا رسولَ الله!، مَنْ أهلُ العدل؟! قالَ بيدِه علي صدرِه: "نَحْنُ أَهْلُ الْعَدْلِ، نَحْنُ أَهْلُ ¬

_ (¬1) في "المعجم الكبير" للطبراني: "عبد الملك". (¬2) رواه الإمام أحمد في "مسنده" (5/ 384)، الطبراني في "المعجم الكبير" (3020)، و"المعجم الأوسط" (8491)، والبزار في "مسنده" (2832)، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/ 248): رجال أحمد والبزار رجال الصحيح. ورواه النسائي (4207)، كتاب: البيعة، باب: ذكر الوعيد لمن أعان أميرًا علي الظلم، والترمذي (2259)، كتاب: الفتن عن كعب بن عجرة، -رضي الله عنه-. قال الترمذي: حديث صحيح غريب.

الْعَدْلِ". قال: قلتُ: مَنْ أهلُ الجور؟! قال: فأخبرَه (¬1) بهم، وأخبره كم يملكون (¬2). فالعجبُ كلُّ العجب من كلبٍ نجس لا دينَ له ولا عقلَ، ومع ذلك يزعُم أنه فقيه، ويدخل علي الكفرة الظلمة الفجرة في القرن التاسع والعاشرِ، ويُزَيِّنُ لهم، ويُحَسِّنُ لهم أنهم علي العدل، وأنهم من العادلين، مع قتلِ النفس المحرمة، وعدمِ توقِّي دماء المسلمين وأموالِهم وأعراضِهم، ومع ذلك، منهم من يُزين لهم ذلك، وأنه خير، وأن بعض أئمة الإسلام أَباحَ قتلَ الثلثين في صلاخ الثلث، ونحو ذلك، وكل ذلك زورٌ وبهتانٌ وافتراءٌ علي الأئمة، لا حقيقةَ له، ولا أصلَ، وقد عملتُ في ذلك مصنَّفًا، ومَنْ عنده إيمان ومعرفةٌ يعلم أنه لا يحلُّ قتلُ أدنى أدنى نفسٍ مسلمةِ لصلاح أحدٍ، كائنًا مَنْ كان، ولو اجتمع أهلُ الأرض علي قتل نفس مسلمة بغير حق، أكبّهم الله به في نار جهنم. أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا، أنا ابنُ المحبِّ، أنا القاضي سليمانُ، أنا الحافظ ضياءُ الدين، أنا الصيدلانيُّ، أنا أبو عليٍّ الحدادُ، أنا الحافظُ أبو نُعيمٍ، ثنا جابرُ بنُ إسحاقَ، ثنا أبو بكرِ بنُ أبي عاصمٍ، ثنا محمّدُ بنُ عوفٍ، ثنا محمّدُ بنُ عمرانَ، ثنا سليمانُ بنُ رجاءٍ، عن عبدِ العزيز بنِ مسلمٍ، عن أبي نصر العبديِّ، عن أبي رجاءٍ العطارديِّ، قال: سمعتُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "فأخبرهم". (¬2) رواه الروياني في "مسنده" (1292) واللفظ له، والإمام أحمد في "مسنده" (5/ 26). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/ 196): فيه خالد بن طهمان، وثقه أبو حاتم الرازي وابن حبان وقال: يخطئ ويهم، وبقية رجاله ثقات.

أبا بكرٍ علي المنبرِ يقول: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الْوَالِي الْمُتَوَاضِعُ ظِلُّ آللهِ وَرُمْحُهُ في الأرْضِ، فَمَنْ نَصَحَهُ في نَفْسِهِ وَفي عِبَادِ اللهِ، حَشَرَهُ اللهُ في وَفْدِهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ، وَمَنْ غَشَّهُ في نَفْسِهِ وَفي عِبَادِ اللهِ، خَذَلَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". قال: "وَيُرْفَعُ لِلْوَالِي العَدْلِ المُتَوَاضِعِ في كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عَمَلُ سِتِّينَ صِدِّيقًا، كُلُّهُمْ عَابِدٌ مُجْتَهِدٌ" (¬1). قال أبو نعيم: وللعادلين من الولاة الدرجةُ الرفيعة، والإجابةُ السريعة (¬2). أخبرنا أبو العباس الحديديُّ، أنا ابنُ بردس، أنا ابنُ الخبَّاز، أنا الإربليُّ، أنا الفراويُّ، أنا الفارسيُّ، أنا الجُلوديُّ، أنا أبو إسحاقَ الزاهدُ، أنا مسلمٌ، ثنا إسحاقُ بنُ إبراهيمَ الحنظليُّ، أنا عيسى بنُ يونسَ، ثنا الأوزاعيُّ، عن يزيدَ بنِ يزيدَ بنِ جابرٍ، عن رزيق بنِ حيانَ، عن مسلم بن قرظة، عن عوفِ بنِ مالكٍ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونكمْ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمُ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونكمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ". قيل: يا رسولَ الله! أفلا نُنابِذُهم بالسيف؟ قال: "لاَ، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاَةَ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ وُلاَتِكُمْ شَيْئًا يمْرَهُونَهُ، فَاكْرَهُوا عَمَلَهُ، وَلاَ تنزِعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ" (¬3). ¬

_ (¬1) "فضيلة العادلين" (ص: 124 - 126). قال الحافظ ابن حجر: غريب. انظر: "الأمالي المطلقة" له (ص: 115). (¬2) "فضيلة العادلين" (ص: 126). (¬3) رواه مسلم (1855)، كتاب: الإمارة، باب: خيار الأئمة وشرارهم.

وبه إلي مسلمٍ، ثنا داودُ بنُ رشيدٍ، ثنا الوليد -يعني: ابنَ مسلم-، ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ يزيدَ بنِ جابرٍ، قال: أخبرني مولي بني فزارةَ، وهو رزيقُ بن حيانَ: أنه سمع مسلمَ بنَ قرظةَ ابنَ عَمِّ عوفِ بنِ مالكٍ يقول: سمعتُ عوفَ بنَ مالكٍ الأشجعيَّ يقول: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْكمُ، وتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونكمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونكمْ". قالوا: يا رسولَ الله! أفلا نُنابذهم عند ذلك؟ قال: "لاَ مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاَةَ، لاَ مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاَةَ، أَلاَ مَنْ وُلِّيَ عَلَيْهِ وَالٍ، فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصيَةِ اللهِ، فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلاَيَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ". قال ابن جابر: فقلت -يعني: لرزيق- حين حدثني بهذا الحديث: اللهِ يا أبا المقدامِ لحدَّثَك بهذا، أو سمعتَ هذا من مسلمِ بنِ قرظة يقول؟ سمعتُ عوفَ بنَ مالك يقول: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! قال: فجثا علي ركبتيه، واستقبل القبلة، وقال: إي واللهِ الذي لا إلهَ إلا هو! لسمعته من مسلم بن قرظة يقول: سمعت عوفَ بنَ مالكٍ يقول: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). أخبرنا ابنُ الطحانِ وغيرُه إذنًا، أنا الراعي، والصلاحُ ابنُ أبي عمر، أنا ابن البخاريِّ، أنا أبو جعفرٍ الصيدلانيُّ، أنا أبو عليٍّ الحدادُ، أنا أبو نعيمٍ، ثنا محمّدُ بنُ أحمدَ بنِ الحسنِ، ثنا بِشْرُ بنُ موسى، ثنا عبدُ الله بنُ صالحٍ، ثنا الفضيلُ بنُ مرزوقٍ، عن عطيةَ، عن ¬

_ (¬1) رواه مسلم: (1855)، (3/ 1482).

أبي سعيدٍ الخدريِّ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَي اللهِ، وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَأَبْغَضَ النَّاسِ إِلَي اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَشَدَّهُ عَذَابًا: إِمَامٌ جَائِرٌ" (¬1). وبه إلي أبي نعيم، ثنا أبو بكرٍ أحمدُ بنُ جعفرِ بنِ حمدانَ، ثنا عبدُ ألثه، حدثني أبي، ثنا سفيانُ، عن عمرِو بنِ دينارٍ، عن عمرِو بنِ أوسٍ الثقفيِّ، عن عبدِ الله بنِ عمرٍو، يبلغ به النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "الْمُقْسِطُونَ عَلَي مَنَابِر مِنْ نُورٍ، هُمُ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ في حُكْمِهِمْ وَأَهْلِهِمْ وَمَا وُلُوا" (¬2). وبه إلي أبي نعيم، ثنا حبيبُ بنُ الحسن، ثنا موسى بنُ إسحاقَ القاضي، ثنا أبو بكرِ بنُ أبي شيبةَ، ثنا عبدُ الأعلي بنُ عبدِ الأعلي، عن معمرٍ، عن الزهريِّ، عن سعيد بن المسيَّب، عن عبدِ الله بنِ عمرٍو -رضي الله عنه-: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنًّ الْمُقْسِطِينَ في الدّنْيَا عَلَي مَنَابرَ مِنْ لُولُؤٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ بِمَا أَقْسَطُوا في الدُّنْيَا" (¬3). ¬

_ (¬1) "فضيلة العادلين" (ص: 126)، وتقدم تخريجه من طريق الإمام أحمد. (¬2) "فضيلة العادلين" (ص: 128). ورواه مسلم (1827)، كتاب: الإمارة، باب: فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر ... ، ولفظه: "إن المقسطين عند الله علي منابر من نور عن يمين الرحمن -وكلتا يديه يمين- الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا". (¬3) "فضيلة العادلين" (ص: 129). ورواه الإمام أحمد في "مسنده" (2/ 159)، والنسائي في "السنن الكبرى" (5917)، والحاكم في "المستدرك" (7006). قال أبو حاتم: الصحيح موقوف. انظر: "علل =

وبه إلي أبي نعيم، ثنا أبو أحمدَ محمّدُ بنُ أحمدَ بنِ إبراهيمَ القاضي، ثنا أبانُ بنُ مخلدٍ، ثنا أبو غسانَ محمّدُ بنُ عمرٍو، ثنا الحكمُ بنُ بشيرٍ، ثنا سعيدُ بنُ بشيرٍ، عن قَتادةَ، عن أنس، قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللهِ الْمُقْسِطُونَ" (¬1). وبه إلي أبي نعيم، ثنا عبدُ الله بنُ جعفرٍ، ثنا يونسُ بنُ حبيب، ثنا أبو داودَ الطيالسيُّ، وثنا أبو بكر بنُ خلاّد: ثنا الحارثُ بنُ أبي أسامة، ثنا عاصمُ بنُ عليٍّ، قالا: ثنا زهيرٌ أبو خَيْثَمَةَ، ثنا سعدٌ الطائيُّ، ثنا أبو المُدلَّة: أنه سمعَ أبا هريرةَ يقول: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثَلاَثَةٌ لا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الإِمَامُ الْعَادِلُ، وَالصَّائِمُ حِينَ يُفْطِرُ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ، وَتُفْتَحُ لَها أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ: وَعِزَّتي! لأنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ" (¬2). وبه إلي أبي نعيم، ثنا محمّدُ بنُ أحمدَ بنِ الحسنِ، وحبيبُ بنُ الحسنِ، والحسنُ بنُ محمّدِ بنِ كيسانَ، قالوا: ثنا يوسفُ بنُ يعقوبَ ¬

_ = الحديث" لابن أبي حاتم (1/ 464). (¬1) "فضيلة العادلين" (ص: 130). وبسنده رواه الطبراني في "مسند الشاميين" (4/ 20)، ورواه الخطيب في "المتفق والمفترق" (2/ 70) من طريق آخر، وفي إسناده: إسماعيل بن مسلم قال يحيى بن معين فيه: ليس بشيء، وقال الخطيب: متروك. (¬2) رواه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده" (2/ 969)، والترمذي (2526)، صفة الجنة ونعيمها، وابن ماجه (1752)، كتاب: الصيام، باب: في الصائم لا ترد دعوته، مطولًا، وقال الترمذي: هذا حديث ليس إسناده بذاك القوي، وليس هو عندي بمتصل.

القاضي، ثنا محمّدُ بنُ أبي بكرٍ، ثنا حميدُ بنُ الأسودِ، ثنا عبدُ الله بنُ سعيدِ بنِ أبي هندٍ، عن شريكٍ، عن ابن أبي نمرٍ، عن عطاءِ بنِ يسارٍ، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "ثَلاَثَة لَا يُرَدُّ دُعَاؤُهُم: الذَّاكِرُ اللهَ كَثيرًا، وَدَعْوَةُ المَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الإِمَامِ المُقْسِطِ" (¬1). وبه إلي أبي نعيم، ثنا محمّدُ بنُ عمرَ بنِ غالبٍ، ثنا محمّدُ بنُ عبدِ الله بنِ عبد الرحمن القرشيُّ، ثنا بكرُ بنُ عبدِ الوهابِ، ثنا عمرُ بنُ راشدٍ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ حرملةَ، عن سعيدِبنِ المسيَّبِ، عن أبي هريرة، قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ في الْجَنَّةِ دَرَجَةً لَا يَبْلُغُهَا إِلَّا إِمَامٌ عَادِلٌ، أَوْ ذُو رَحِمٍ وَصُولٌ، أَوُ ذُو عِيَالٍ صَبُورٌ". فقال له عليٌّ: يا رسولَ الله! ما صبرُ ذي العيالِ؟ قال: "لَا يَمُنُّ عَلَي أَهْلِهِ مَا يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ" (¬2). وبه إلي أبي نعيم، ثنا أبو بكرِ بنُ خلاّدٍ، ثنا الحارثُ بنُ أبي أسامةَ، ثنا عباسُ بنُ الفضلِ، ثنا همامٌ، ثنا قتادةُ، قال: أخبرني يزيدُ أخو مطرِّفٍ، عن عياضِ بنِ حمارٍ، قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلاَثَة: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِط مُصَدَّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمُ الْقَلْبِ بِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَرَجُلٌ فَقِيرٌ عَفِيفٌ مُصَدّقٌ" (¬3). ¬

_ (¬1) "فضيلة العادلين" (ص: 132). (¬2) "فضيلة العادلين" (ص: 133)، ورواه الديلمي في "مسند الفردوس" (842). (¬3) "فضيلة العادلين" (ص: 135 - 136). ورواه مسلم (2865)، كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل =

وبه إلي أبي نعيم، ثنا عبدُ الله بنُ محمّدِ بنِ جعفرٍ، ثنا أحمدُ بنُ عمرِو بنِ عبدِ الخالق، ثنا محمّدُ بنُ ثوابٍ، ثنا عبدُ الله بنُ نميرٍ، ثنا عبدُ الله بنُ مسلمِ بنِ هرمزَ، عن ابنِ سابطٍ، عن عبدِ الله بنِ عمرٍو، قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ في الْجَنَّةِ قَصْرًا حَوْلَهُ الْبُرُوجُ وَالْمُرُوجُ، لَهُ خَمْسَةُ آلاَفِ بَابٍ، لا يَدْخُلُهُ -أو: لا يَسْكُنُهُ- إِلَّا نَبِيٌّ، أَوْ صِدِّيق، أَوْ شَهِيدٌ، أَوْ إِمَامٌ عَادِلٌ" (¬1). وبه إلي أبي نعيمٍ، ثنا أبو يزيدَ محمّدُ بنُ جعفرِ بنِ عليٍّ التميميُّ بالكوفة، ثنا سميعُ بنُ إسحاقَ، ثنا أبو كريبٍ، ثنا رشدينُ بنُ سعدٍ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ زيادٍ، عن عقبةَ بنِ حميدٍ، عن عُبادةَ بنِ نسيٍّ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ غنمٍ، عن معاذِ بنِ جبلٍ، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُقَالُ لِلإِمَامِ العَادِلِ في قَبْرِهِ: أَبْشِرْ؛ فَإِنَّكَ رَفِيقُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - (¬2). أخبرنا جَدِّي، أنا الصلاحُ بنُ أبي عمرَ، أنا الفخرُ بنُ البخاريِّ، أنا حنبلٌ، أنا ابنُ الحُصَينِ، أنا ابنُ المُذْهِبِ، أنا أبو بكرٍ القطيعيُّ، أنا عبدُ الله بنُ أحمدَ، حدثني أبي، ثنا حسينُ بنُ محمّدٍ، ثنا مسلم -يعني: ابنَ خالِدِ-، عن عبدِ الرحمنِ بنِ أبي بكرةَ، أخبرني ¬

_ = النار، مطولًا. (¬1) "فضيلة العادلين" (ص: 136 - 137). ورواه أيضًا ابن أبي شيبة في "مصنفه" (21919)، والبزار في "مسنده" (2487). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/ 196): وفيه عبد الله بن مسلم بن هرمز وهو ضعيف. (¬2) "فضيلة العادلين" (ص: 137). ورواه الديلمي في "مسند الفردوس" (8742)، وإسناده ضعيف.

القاسمُ بنُ محمّدٍ، عن عائشةَ، قالت: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ وَلَّاهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا، فَأرَادَ بهِ خَيْرًا، جَعَلَ لَهُ وَزِيرَ صِدْقٍ، فَإِنْ نَسِيَ، ذَكَّرَهُ، وإِنْ ذَكَرَ، أَعَانَهُ" (¬1). أخبرنا الجماعةُ، أنا ابنُ الزَّعْبوبِ، أنا الحجَّارُ، أنا ابنُ الزَّبيديِّ، أنا السِّجْزِيُّ، أنا الداوديُّ، أنا السَّرَخْسيُّ، أنا الفربريُّ، أنا البخاريُّ، ثنا أصبغُ، ثنا ابنُ وهبٍ، أنا يونسُ، عن ابنِ شهابٍ، عن أبي سلمةَ، عن أبي سعيدٍ الخدري، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "مَا بَعَثَ اللهُ مِنْ نَبِي، وَلاَ اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ، إِلَّا كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ -وفي رواية: بِالخَيْرِ-، وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ، وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللهُ" (¬2). قال أبو نعيم: ومن سعادةِ الولاةِ والأمراء: أن يقيض لهم الصلحاء من الوزراء (¬3). أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا، أنا ابنُ المحِبِّ، أنا القاضي سليمانُ، أنا الحافظُ ضياءُ الدينِ، أنا أبو جعفرٍ الصيدلانيُّ، أنا أبو عليِّ الحدَّادُ، ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "مسنده" (6/ 70)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/ 210): رواه أحمد والبزار، ورجال البزار رجال الصحيح. ورواه أبو داود (2932)، كتاب: الخراج والفيء والإمارة، باب: في اتخاذ الوزير بلفظ: "إذا أراد الله بالأمير خيرًا جعل له وزير صدق ... " مطولًا. قال النووي في "رياض الصالحين" (ص: 144): إسناده جيد علي شرط مسلم. (¬2) رواه البخاري (6773)، كتاب: الأحكام، باب: بطانة الإمام وأهل مشورته. (¬3) "فضيلة العادلين" (ص: 137).

أنا أبو نُعيمٍ، ثنا أبو بكرِ بنُ خلادٍ، ثنا بشرُ بنُ موسى، ثنا سعيدُ بنُ منصورٍ، ثنا فَرَجُ بنُ فَضالَةَ، عن يحيى بنِ سعيدٍ، عن عَمْرَةَ، عن عائشةَ، قالت: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَعْظَم أَجْرًا مِنْ وَزِيرٍ صَالِحٍ يَكُونُ مَعَ إِمَامٍ، فَيَأْمُرُهُ بِذَاتِ اللهِ، فَيُطِيعُهُ" (¬1). وبالسند إلي عائشةَ، قالت: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ أَحَدٍ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ أَمْرًا، فَأرًا دَ اللهُ بهِ خَيْرًا، إِلَّا جَعَلَ مَعَهُ وَزِيرًا صَالِحًا، إِنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ، وَإِنْ ذَكَرَ أَعَانَهُ" (¬2). وبه إلي أبي نعيم، ثنا عبدُ الله بنُ محمّدِ بنِ جعفر، ثنا أبو الحسينِ أحمدُ بنُ الحسنِ الصوفيُّ الحافظُ، ثنا حسينُ بنُ أبي يزيدَ، ثنا يحيى بنُ ميمونٍ، ثنا حمادُ بنُ سلمةَ، عن سُهيلٍ، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "السُّلْطَانُ ظِلُّ اللهِ في أَرْضِهِ، مَنْ نَصَحَهُ هُدِيَ، وَمَنْ غَشَّهُ ضَلَّ" (¬3). ولهذا قال أبو نعيم: ومن نصحَ الولاةَ والأمراء اهتدى، ومن غشَّهم غوى واعتدى (¬4). ¬

_ (¬1) "فضيلة العادلين" (ص: 138). ورواه الديلمي في "مسند الفردوس" (6063). (¬2) "فضيلة العادلين" (ص: 139). ورواه القضاعي في "مسند الشهاب" (1/ 321). (¬3) "فضيلة العادلين" (ص: 140). ورواه البيهقي في "شعب الإيمان" (7373) عن أبي بكرة بلفظ: "السلطان ظل الله في الأرض، فمن أكرمه أكرمه الله، ومن أهانه أهانه الله". (¬4) "فضيلة العادلين" (ص: 139).

وبه إلي أبي نعيم، ثنا محمّدُ بنُ إبراهيمَ، ثنا عبدُ الله بنُ الحسينِ بنِ معبدٍ الملطيُّ، ثنا عبدُ الله بن أيوبَ المُخَرَّمِيُّ، ثنا داودُ بنُ المحبرِ، ثنا عقبةُ بنُ عبدِ الله، عن قتادةَ، عن أنسِ بنِ مالكٍ، قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "السُّلْطَانُ ظِلُّ اللهِ في الأرْضِ، فَمَنْ نَصَحَهُمْ، وَدَعَا لَهُمُ اهْتَدَى، وَمَنْ غَشَّهُمْ وَدَعَا عَلَيْهِمْ ضَلَّ" (¬1). أخبرنا جَدِّي: أنا الصلاحُ: أنا الفخرُ: أنا حنبلٌ: أنا ابنُ الحصينِ: أنا ابنُ المذهبِ: أنا أبو بكرٍ القطيعيُّ: ثنا عبدُ الله بنُ أحمدَ: حدثني أبي: ثنا يحى بنُ سعيدٍ: ثنا عبيدُ الله ابنُ عمرٍو. وبه إلي أبي نعيم، ثنا أبو بكرِ بنُ مالكٍ، ثنا عبدُ الله، حدثني أبي، ثنا يحيى بنُ سعيدٍ، ثنا عبيدُ الله بنُ عمرٍو. قال أبو نعيم: وثنا سليمانُ بنُ أحمدَ، ثنا محمّدُ بنُ عليٍّ الصائغُ، ثنا القعنبيُّ، ثنا سعيدُ بنُ أبي الأبيضِ، قالا: عن خُبيب بنِ عبدِ الرحمن، عن حفصِ بنِ عاصمٍ، عن أبي هريرةَ، قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ في ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌ نَشَأَ في عِبَادَةِ اللهِ" (¬2). ¬

_ (¬1) "فضيلة العادلين" (ص: 142). ورواه العقيلي في "الضعفاء" (3/ 353)، وفيه عقبة بن عبد الله العنزي مجهول بالنقل، وحديثه منكر غير محفوظ. (¬2) "فضيلة العادلين" (ص: 144). ورواه البخاري (629)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد، ومسلم (1031)، كتاب: الزكاة، باب: فضل إخفاء الصدقة، مطولًا.

قال أبو نعيم: فالإمامُ العادلُ مظلَّلٌ يومَ القيامة في أشرفِ المنازل (¬1). وبه إلي أبي نعيمٍ، ثنا أبو عمرٍو محمّدُ بنُ أحمدَ بنِ حمدانَ، ثنا الحسنُ بنُ سفيانَ، ثنا هارونُ بنُ سعيدٍ، ثنا أنسُ بنُ عياضٍ، أخبرني عبدُ الله بنُ عامرٍ، عن سهيلى، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "سَبْعَةٌ يُظِلّهُمُ اللهُ في ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِمَامٌ مُقْسِطٌ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِيَمِينِهِ يُخْفِيهَا عَنْ شِمِالِهِ" (¬2). وبه إلي أبي نعيمٍ، ثنا إبراهيمُ بنُ عبدِ الله، ثنا محمّدُ بنُ إسحاقَ الثقفيُّ، ثنا محمّدُبنُ غالبٍ، ثنا عثمانُ بنُ الهيثمِ، ثنا هشامُ بنُ حسانَ، عن محمّدِ بنِ سيرين، عن أبي هريرةَ، قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "سَبْعَةٌ في ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ لاَظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ مُقْسِطٌ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَة ذَاتُ حَسَبٍ وَجَمَالٍ إِلَي نَفْسِهَا، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ" (¬3). وبه إلي أبي نعيمٍ، ثنا عبدُ الله بنُ محمّدِ بنِ عثمانَ الواسطيُّ، ثنا مسلمُ بنُ خالدٍ الأيليُّ، ثنا عمرُ بنُ يحيي الأيليُّ، ثنا محمّدُ بنُ زيادٍ، عن ميمونِ بنِ مهرانَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) "فضيلة العادلين" (ص: 142). (¬2) "فضيلة العادلين" (ص: 147). (¬3) "فضيلة العادلين" (ص: 148).

"اثنانِ مِنَ النَّاسِ إِذَا صَلَحَا صَلَحَ النَّاسُ، وَإِذَا فَسَدَا فَسَدَ النَّاسُ: الْعُلَمَاءُ وَالأُمَرَاءُ" (¬1). قال أبو نعيم: وصلاحُ الراعي صلاحُ الرعية، وفي إغفالِ تقويمهم الدمارُ والبليّة (¬2). وبه إلي أبي نعيم، ثنا عبدُ الله بنُ محمّدِ بنِ عثمانَ، ثنا عبدُ الله بنُ قَحْطَبَةَ، ثنا عباسُ بنُ عبدِ العظيمِ العنبريُّ، حدثني الفضلُ بنُ كيْنٍ، عن مالكِ بنِ أنسٍ، عن زيدِ بنِ أسلمَ، عن أبيه، قال: قالَ عمرُ بنُ الخطابِ عندَ موته: اعْلَمُوا أَنَّ النَّاسَ لَنْ يَزَالُوا بِخَيْرٍ مَا اسْتَقَامَتْ لَهُمْ وُلاَتُهُمْ وَهُدَاتُهُمْ (¬3). وبه إلي أبي نعيم، ثنا أبو الحسنِ أحمدُ بنُ محمّدِ بنِ مقسمٍ، ثنا عبدُ الله بنُ محمّدِ بنِ عبدِ العزيز، ثنا محمّدُ بنُ حسانَ السمتيُّ، ثنا أبو عثمانَ عبدُ الله بنُ زيدٍ، ثنا الأوزاعيُّ، عن حسان بنِ عطيةَ، عن ابنِ عمرَ، قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَنْ تَهْلِكَ الرَّعِيَّةُ، وَإِنْ كَانَتْ ظَالِمَة مُسِيئَة؛ إِذَا كَانَتَ الوُلاَةُ هَادِيَةً مَهْدِيَّةً، وَلكِنْ تَهْلِكُ الرَّعِيَّةُ، وَإِنْ كَانَتْ هَادِيَةً مَهْدِيَّة؛ إِذَا كَانَتِ الوُلاَةُ ظَالِمَةً مُسِيئَةً" (¬4). ¬

_ (¬1) "فضيلة العادلين" (ص: 149). ورواه الديلمي في "مسند الفردوس" (3784). قال الحافظ العراقي: وسنده ضعيف. انظر: "فيض القدير" (4/ 209). (¬2) "فضيلة العادلين" (ص: 148). (¬3) "فضيلة العادلين" (ص: 151). والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 162). (¬4) "فضيلة العادلين" (ص: 152). ورواه القضاعي في "مسند الشهاب" =

وبه إلي أبي نعيمٍ، ثنا محمّدُ بنُ عبيدِ الله بنِ عبدِ الله بنِ محمّدِ بنِ أبي سمرةَ البغويُّ، ثنا عبدُ الله بنُ الحسنِ بنِ نصيرٍ الواسطيُّ، ثنا سوادةُ بنُ عليٍّ الكوفيُّ، ثنا عليُّ بنُ مكنفِ بنِ حاجبٍ التميميُّ، ثنا طلاب بنُ حوشبٍ، عن أبي زيدٍ، عن أبي المغيرةِ، عن ابنِ عباس، قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الإِسْلاَمُ وَالسُّلْطَانُ أَخَوَانِ تَوْءَم، لَا يَصْلُح وَاحِدٌ مِنْهُمَا إِلَّا بِصَاحِبِهِ، فَالإسْلاَمُ أُول، وَالسُّلْطَانُ حَارِسٌ، وَمَا لَا أُسَّ لَهُ مُنْهَدِمٌ، وَمَا لَا حَارِسَ لَهُ ضَائِعٌ" (¬1). ولهذا قال أبو نعيمٍ: والسلطانُ حارسُ الدين، وإذا وليَ الأمرَ أهلُه، حَمَى الدين المتين (¬2). وبه إلي أبي نعيم، حُدِّثْت عن محمّدِ بنِ مأمونٍ المروزيِّ، عن عونِ بنِ منصورٍ المروزيَّ، ثنا موسى بنُ بجرٍ الكوفيُّ، ثنا عمرُو بنُ عبدِالغفارِ، عنِ الحسنِ بنِ عمرٍو الفقيميِّ، عن سعيدِ بنِ سعيدٍ الأنصاريِّ، وعبدِ الله بنِ عبدِ الرحمنِ أبي طوالةَ، عن سالمِ ابنِ عبدِ الله بنِ عمرَ، عن أبيه، عن عمرَ بنِ الخطابِ، قال: قلتُ: يا رسولَ الله! أخبرني عن هذا السلطانِ الذي ذلّت له الرقابُ، وخضعَتْ له الأجسادُ، ما هو؟ فقال: "هُوَ ظِلُّ اللهِ في الأرْضِ، فَإِنْ أَحْسَنُوا، ¬

_ = (2/ 93)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (9/ 459). قال الذهبي وابن حجر: فيه عبد الله بن زيد الحمصي، ضعيف. انظر: "ميزان الإعتدال" (4/ 103)، و"لسان الميزان" (3/ 288). (¬1) "فضيلة العادلين" (ص: 153)، والديلمي في "مسند الفردوس" (396). (¬2) "فضيلة العادلين" (ص: 152).

فَلَهُمُ الأجْرُ وَعَلَيْكُمُ الشُّكْرُ، وَإِنْ أَسَاؤُوا، فَعَلَيْكُمُ الصَّبْرُ وَعَلَيْهِ الإِصْرُ، لَا تَحْمِلنَّكُمْ إِسَاءَتُهُ عَلَى أَنْ تَخْرُجُوا مِنْ طَاعَتِهِ؛ فَإِنَّ الذُّلَّ في طَاعَةِ اللهِ خَيْرٌ مِنْ خُلُودٍ في النَّارِ، لَوْلاَهُمْ مَا صَلَحَ النَّاسُ" (¬1). وبه إلي أبي نعيمٍ، ثنا أحمدُ بنُ عبيدِ اللهِ بنِ محمودٍ، ثنا عبدُ الله بنُ وَهْبٍ الدينوريُّ، ثنا عيسى بنُ يونسَ الرمليُّ، ثنا يحى بنُ عيسى، عن محمّدِ بنِ عبدِالرحمنِ بنِ أبي ليلي، عن الحكمِ بنِ عُتَيْبةَ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ أبي ليلي، عن حُذيفةَ بنِ اليَمانِ، قال: "لَا تَسُبُّوا السُّلْطَانَ؛ فَإِنَّهُ ظِلُّ اللهِ في الأرْضِ، بِهِ يُقِيمُ اللهُ الْحَقَّ، وَيُظْهِرُ الدِّينَ، وَبِهِ يَرْفَعُ اللهُ الظُّلْمَ، وَيُهْلِكُ الفَاسِقِينَ" (¬2). وبه إلي أبي نعيم، ثنا سليمانُ بنُ أحمد، ثنا أحمدُ بنُ عبدِ الوهاب بنِ نجدةَ، ثنا أبو اليمنِ الحكمُ بنُ نافعٍ، ثنا شعيبُ بنُ أبي حمزةَ، عن أبي الزنادِ، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّمَا الإمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ، وَيُتَّقَى بِهِ، فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللهِ، وَعَدَلَ، فَاِنَّ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرًا، وَإِنْ أَمَرَ بِغَيْرِهِ، فَإِنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ وِزْرًا" (¬3). ¬

_ (¬1) "فضيلة العادلين" (ص: 156). (¬2) "فضيلة العادلين" (ص: 156). وروى أوله: الديلمي في "مسند الفردوس": (7291)، والبيهقي في "شعب الإيمان": (7372) عن أبي عبيدة -رضي الله عنه-. (¬3) "فضيلة العادلين" (ص: 159). ورواه البخاري (2797)، كتاب: الجهاد والسير، باب: يقاتل من وراء الإمام ويتقى به، ومسلم (1841)، كتاب: الإمارة، باب: الإمام جنة يقاتل به من ورائه ويتقى به.

وبه إلي أبي نعيمٍ، ثنا محمّدُ بنُ عليِّ بنِ حبيشٍ، ثنا أحمدُ بنُ قاسمِ بنِ مساورٍ، ثنا عبيدُ الله بنُ عمرَ القواريريُّ، ثنا حكيمُ بنُ خذام، ثنا عبدُ الملكِ بنِ عميرٍ، عن الرفيع بن عميلةَ، عن عبدِ الله بنِ مسعودٍ، قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "سَيَلِيكمْ أُمَرَاءُ يُفْسِدُونَ، وَمَا يُصْيحُ اللهُ بِهِمْ أَكْثَرُ، فمنْ عَمِلَ مِنْهُمْ بِطَاعَةِ الله، فَلَهُمُ الأجْرُ، وَعَلْيْكُمُ الشُّكْرُ، وَمنْ عَمِلَ مِنْهُمْ بِمَعْصيَةِ اللهِ، فَعَلَيْهِمُ الْوِزْرُ، وَعَلَيْكُمُ الصَّبْرُ" (¬1). وبه إلي أبي نعيمٍ، ثنا عبدُ الله بنُ جعفرٍ، ثنا إسماعيلُ بنُ عبدِ الله، ثنا عبدُ الأعلي بنُ مُسْهِرٍ، ثنا سعيدُ بنُ عبدِ العزيزِ، عن إسماعيلَ بنِ عبدِ الله، عن عبدِ الرحمنِ بنِ غنمٍ، عن عمرَ -أو قالَ: سمعتُ عمرَ بنَ الخطابِ- يقول: وَيْلٌ لِدَيَّانِ مَنْ في الأَرْضِ مِنْ دَيَّانِ مَنْ في السَّمَاءِ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ، إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِالعَدْلِ، وَقَضَى بِالحَقِّ، وَلَمْ يَقْضِ عَلَي هَوًى، وَلَا عَلَي قَرَابَةَ، وَلَا عَلَي رَغَبٍ، وَلَا عَلَي رَهَبٍ، وَجَعَلَ كِتَابَ اللهِ مِرْآةً بَيْنَ عَيْنَيْهِ. قال عبدُ الرحمن بنُ غنمٍ: فحدّثتُ به عثمانَ بنَ عفانَ، ومعاويةَ، ويزيدَ، وعبدَ الملكِ (¬2). ¬

_ (¬1) "فضيلة العادلين": (ص: 162 - 163). ورواه البيهقي في "شعب الإيمان" (7368)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (2/ 220). قال أبو حاتم: هذا حديث منكر، وأبو سمير حكيم بن خذام متروك الحديث، وقال البخاري: منكر الحديث. انظر: "علل الحديث" (2/ 414)، و"لسان الميزان" (2/ 342). (¬2) "فضيلة العادلين" (ص: 164)، ورواه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 117)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (55/ 244) دون قول =

وبه إلي أبي نعيمٍ، ثنا أبو حامدٍ أحمدُ بنُ محمّدِ بنِ جبلةَ، ثنا محمّدُ بنُ الحسنِ الثقفيُّ النيسابوريُّ، ثنا محمّدُ بنُ الصباغِ، ثنا عليُّ بنُ ثابتٍ، عن جعفرِ بنِ برقانَ، عن أبي عبدِ الله الحرسيِّ -من حرسِ عمرَ بنِ عبدِ العزيز-، قال: دخل أبو مسلمٍ الخولانيُّ علي معاويةَ ابنِ أبي سفيانَ، فقال: السلامُ عليكَ أيها الأجيرُ، فقال الناسُ: الأميرَ يا أبا مسلم، ثم قال: السلامُ عليك أيها الأجيرُ، فقال الناس: الأميرَ، فقال معاوية: دعوا أبا مسلمٍ، فهو أعلمُ بما يقول، فقال أبو مسلم: إنّما مَثَلُك مَثلُ رجلٍ استأجرَ أجيرًا، فولَّاه ماشيةً، وجعل له الأجرَ علي أن يُحسن الرعيةَ، ويوفِّرَ جزازَها وألبانها، فإن هو أحسنَ رعيتَها، ووفّر جزازَها، حتى تلحقَ الصغيرةُ، وتسمنَ العجفاءُ، أعطاه أجرَه وزيادةً، وإنْ هو لم يحسنْ رعيتَها، وأضاعَها حتى تهلكَ العجفاء، وتعجفَ السمينةُ، وإن لم يوفِّرْ جِزازَها وألبانَها، غضبَ عليه، فعاقبه، ولم يعطِه الأجرَ (¬1). وبه إلي أبي نعيمٍ، ثنا عبدُ الله بنُ محمّدِ بنِ جعفرٍ، ثنا أبو العباسِ أحمدُ بنُ محمّدٍ الجمالُ، ثنا أبو العباس الجريريُّ، ثنا إبراهيمُ بنُ صالحٍ، ثنا شبيبُ بن شيبةَ، قال: دخلتُ علي المهديِّ، فقال لي: يا أبا معمر! حَدِّثْني عن عمرِو بنِ عبيدٍ، فواللهِ! لرأيتُه يومًا، ودخلَ ¬

_ = ابن غنم. (¬1) "فضيلة العادلين" (ص: 166). ورواه أبو نعيم أيضًا في "حلية الأولياء" (2/ 125)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (27/ 223) وفي آخره عندهما: "فقال معاوية: ما شاء الله".

علي أبي جعفرٍ المنصورِ، فقال له: يا أميرَ المؤمنينَ! إن الله قد أعطاكَ الدنيا بكمالِها، فاشترِ نفسَك منه ببعْضِها، واعلمْ أَنَّكَ واقفٌ بين يديه، وسائِلُكَ عن مثاقيلِ الذَّرِّ من الخيرِ والشرِّ، وإنّه لا يرضى منكَ إلا بما لا ترضى لنفسِك إلا به، وأنتَ لا ترضى إلا بأن يعدلَ عليك، واللهُ تعالي لا يرضى إلا بالعدلِ علي الرعية. يا أمير المؤمنين! إنّ وراء بابك نارًا تأجَّجُ من الظلمِ والجَوْرِ، واللهِ! ما يُعمل خلفَ بابِك بكتاب الله، ولا سنةِ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -. قال: فبكي أبو جعفرٍ بكاءً شديدًا، فقال له سليمانُ بنُ مجالد: اكْفُفْ عن أميرِ المؤمنين، فقد شَقَقْتَ عليه. فقال: إنَّ أميرَ المؤمنين مَيِّتٌ غدًا، وكلُّ ما ترى ههنا أمرٌ مفظعٌ، وأنت جيفة بالعَراء، فلا يغني عنك إلا عملُك، ولَهذا الجدارُ خير لأمير المؤمنينَ منكَ إذا طويْتَ عنه النصيحةَ، وافقت مَنْ يفضحه. ثم قال: يا أمير المؤمنين! إنّ هؤلاء اتّخذوك سُلَّمًا لشهواتهم، فكلُّهم يوقد عليك نارَهُ، لمّ تلا: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} إلي أن بلغ {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14]. يا أمير المؤمنين! لمن عمل مثل أعمالهم، وفعلَ مثلَ أفعالهم. يا أمير المؤمنين! لولا أنّها مضتْ عَمَّنْ كان قبلَك، لم يصل إليك منها شيء، فاعلم أنّك وارثُ مَنْ مضى، وموروثٌ غدًا، وقادمٌ علي ربّك، ومَجْزِيٌّ بعملك، فاتَّقِ ليلةً تَمَخَّض عن يومٍ لا ليلةَ بعدَه، وهي ليلةُ القيامة.

قال: فخلع أبو جعفرٍ خاتمه، وقال: دونَك مما ورائي يا أبا عثمان، فادعُ لي أصحابك أَستعملُهم، فوالله! إني لآمر عمّالي بالعدل، وأَكتبُ ذلك في عهودهم. قال: كلا، ادعُ أصحابي لعدلٍ تُظهره، واطردْ هؤلاء الشياطينَ عن بابك؛ لأنّ أهل الدين لن يأتوك وهؤلاء ببابك؛ لأنّهم إن عملوا بما يُرضيك، أسخطوا خالقَهم، وإن عملوا بما يرضي خالقَهم، أسخطوك، فأرشوك. ولكنِ استعملْ على العمل الواحد في يوم مئةً، كلَّما رَابَكَ واحدٌ، فاعزله وولِّ غيره، فوالله! لو علم هؤلاء أنّك لا ترضى منهم إلا بالعدل، ولا تُقَرِّبهم إلا عليه، لقد تقرب إليك به مَنْ لا نيّة له فيه ولا حسنةَ. ثمّ قام فخرج (¬1). وبه إلي أبي نعيم، ثنا أبو يعلي الحسينُ بنُ محمّدٍ الزبيريُّ، ثنا عبدُ الله بنُ محمّدِ بنِ مسلمٍ، ثنا عصامُ بنُ روادٍ، ثنا أبي، ثنا ابنُ أبي عبلةَ، عن ابنِ محيريزٍ، قال: من جلس علي وسادةِ الأمير، فقد وجبت عليه النصيحةُ لله ورسوله ولجماعة المسلمين (¬2). وبه إلي أبي نعيم، ثنا عبدُ الله بنُ محمّدِ بنِ عثمانَ الواسطيُّ، ثنا عمرُ بنُ عبيدِ الله الواسطيُّ، ثنا خالي إسحاقُ بنُ عمارٍ، قال: سمعتُ أبي يقول: سمعتُ الفُضيلَ بنَ عياضٍ يقول: ابنُ آدمَ وعاءٌ، فمَنْ جُعل ¬

_ (¬1) "فضيلة العادلين" (ص: 166 - 170). (¬2) "فضيلة العادلين" (ص: 170).

فيه شيء كان، ولو كانت لي دعوةٌ مستجابةٌ جعلتها في الإمام -وزادني غيره-: فإنَّ صلاحَه صلاحُ العباد والبلاد، وفسادَه فسادُ العباد والبلاد (¬1). وبه إلي أبي نعيم، ثنا سليمانُ بنُ أحمدَ، ثنا أحمدُ بنُ محمّدِ بنِ صَدَقَةَ، ثنا العباسُ بنُ طالبٍ، ثنا خلفُ بنُ تميمٍ، ثنا إسماعيلُ بنُ إبراهيمَ بنِ أبي المهاجرِ، عن أبيه، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ: إنّ مَلِكًا من الملوك خرجَ يسيرُ في مملكته، وهو مستخفٍ من الناس، حتى نزل علي رجلٍ له بقرة، فراحت عليه تلك البقرةُ، فحُلبت، فإذا حِلابُها مقدارُ ثلاثين بقرةً، فحدث الملكُ نفسَه أن يأخذَها، فلما كان الغد، غدت البقرةُ إلي مرعاها، ثم راحت فحلبت، فنقص لبنُها علي النصف، وجاء مقدارُ حِلابِ خمسَ عشرةَ بقرةً، فدعا الملك صاحبَ منزله، فقال: أخبرني عن بقرتك، رعتِ اليوم في غير مرعاها بالأمس؟ قال: لا، قال: فشربت في غير مشربها بالأمس؟ قال: لا. قال: فما بالُ لييها نقص علي النصف؟! قال: أرى أنّ الملك هَمَّ بأخذِها، فنقصَ لبنُها، فإن الملك إذا ظلَم، أو هَمَّ بظلمٍ، ذهبت البركةُ، قال الملك: أنّى عرفتَ ذلك؟! قال: هو ذلك كما قلتُ لك. قال: فعاهدَ الله -عَزَّ وجَلَّ- الملكُ في نفسه أن لا يأخذَها، ولا يملكَها، ولا تكون له في ملكه أبدًا. قال: فعادت، فرعَتْ، ثم ¬

_ (¬1) المرجع السابق (ص: 171).

يشترط للعدل عشرون شرطا

راحت، ثم حلبت، فإذا لبنُها قد عاد مقدارَ حلبِ ثلاثين بقرة. فقال الملك بينه وبين نفسه، واعتبر، فقال: إن كان الملكُ إذا ظلمَ، أو هَمَّ بظلم، ذهبت البركة، لا جرمَ لأعدلنَّ، ولأكونَنَّ علي أفضلِ حال (¬1). ولما ولي عمرُ بنُ عبدِ العزيز، قالت الرعاةُ في رؤوس الجبال: مَنْ هذا العبدُ الصالح الذي وُلِّي علي الناس؛ فقيل لهم: من أين علمتم؟ فقالوا: لأنّه إذا ولي علينا رجلٌ صالح، كَفَّت الذئاب عن غنمنا (¬2). وقد أخبرنا القاضي أبو حفص، أنا ابنُ المحبِّ، أنا المطعمُ، وابنُ سعدٍ، أنا الهمدانيُّ، أنا السِّلَفيُّ، أنا الثقفيُّ، ثنا أبو الحسن عليُّ بنُ محمّدٍ الفقيهُ، ثنا أبو عمرٍو أحمدُ بنُ محمّدٍ، ثنا أبو عبدِ الله محمّدُ بنُ مسلمٍ، ثنا سعيدُ بنُ سلمانَ، ثنا أنسُ بنُ عياضٍ، ثنا صالحُ بنُ حسانَ، عن محمّدِ بنِ كعبٍ القُرَظِيِّ، قال: قال عمرُ بنُ عبد العزيز: صِفْ ليَ العدلَ، قال: بَخٍ بَخٍ، لسألتَ عن أمرٍ جسيم (¬3). ويشترط للعدل عشرون شرطًا: الأول: الحكمُ بالحق، والوقوف عنده؛ كما قال -عزَّ وَجَلَّ-: ¬

_ (¬1) "فضيلة العادلين" (ص: 172 - 174). ورواه البيهقي في "شعب الإيمان" (7475)، والخرائطي في "مساوئ الأخلاق" (619). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (5/ 255)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (5/ 387)، عن مالك بن دينار. (¬3) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (13495)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (55/ 148).

{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] , {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] , {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]. وقال: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [ص: 26]. وكان عمر وقّافًا عند كتاب الله (¬1). الثاني: أن يستوي عنده في الحق والحكمِ به له وعليه، نفسُه وغيرُه، وولدُه ووالده، وصديقُه وقريبُه وعدوُّه، فلا يميل مع أحد، ولا عليه، حتى ولا يكلِّمُه، ولا ينظرُ إلا بإصغاء. الثالث: أن لا يأخذ لأحدٍ وزنَ ذَرَّةٍ ظلمًا بغير حَقٍّ، لا من مالٍ، ولا عِرْضٍ، ولا دمٍ، ولا غيرِ ذلك. الرابع: أن يكون ناظرًا في أمر رعيته من غير إهمالٍ لهم، يمرج بعضهم علي بعض، ويعدو بعضُهم علي بعض، ويظلم بعضُهم بعضًا. قال البخاري: مرجَ الأميرُ رعيتَه: إذا خَلاّهم يعدو بعضُهم علي بعض (¬2). الخامس: أن لا يُغلق بابه عن أحد، ولا يحجُبَ عنه أحدًا من ذوي الضرورات والحاجات من الأغنياء والفقراء والمساكين، وجميع رعيته. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري (4366) عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. (¬2) "صحيح البخاري" (3/ 1188) في باب صفة النار وأنها مخلوقة.

السادس: النظرُ في جميع البلاد التي تحت يده، القاصي والداني؛ كنظره في بلده؛ فإن عمر كان يقول: لو ذهبَتْ شاةٌ بالفراتِ، لخشيَ عمرُ أن يُطالَب بها (¬1). السابع: منعُ جميع أعوانه وعمّاله ومَنْ عنده من الظلم، وكَفُهم عن الناس؛ فإنَّ فعلَهم فعلُه، وكل أحدٍ منهم منتسبٌ فعلُه إليه. الثامن: الذبُّ عن المسلمين وأهلِ ولايته؛ من المسلمين، وأهل الذمة، ودفعُ الأعداء عنهم، وحمايتُهم جهدَه، وحمايةُ البيضة، ودفعُ المخاوف عنهم. التاسع: إقامةُ الحدود علي فاعِلها من قريبٍ وبعيد، عدوٍّ وحبيبٍ، من غير رأفة ولا رحمة؛ لقوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} [النور: 2]. وقوله -عَلَيْهِ السَّلَامْ-: "لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَهَا" (¬2). العاشر: اجتنابُ المعاصي والمفسِدات؛ من الزنا والسُّكر والربا، وغير ذلك من الأمور المدنسة في نفسِه وأعوانه. ¬

_ (¬1) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 305). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري (3288)، ومسلم (1688) عن عائشة -رضي الله عنها-.

الحادي عشر: الظهورُ للناس بالمخالطة، وتفقدُ الأحوال ليلًا ونهارًا؛ كما ورد عن عمرَ: أنه كان يدور في الأسواق بنفسِه، وكان يَعُسُّ بالليل ينظرُ أحوالَ الناس. الثاني عشر: قَسْمُ مالِ المسلمين بينهم بالعدل، من غير حَيْفٍ ولاطمع في شيء منه من الإقطاع، وأموال بيت المال التي هي للمسلمين، كما كان عمرُ وغيرُه من الخلفاء يَقْسمون ذلك علي مُستحقيها، ولا يختصُّ بشيء من أموال المسلمين التي ببيت مالهم، ولا من بلادهم التي هي إقطاعُهم، لا لنفسه، ولا لأحد من له ذلك من قريب وبعيد وأعوان، وغيرهم. الثالث عشر: إنصافُ المظلومين من ظالميهم بمقتضى ذلك، فإن كان بأخذِ مالٍ، فبأَخذِه وردِّه، وإن كان بما يوجب الحدَّ من قذفٍ ونحوه، فبإقامة الحدِّ فيه، وإن كان بعِرْضٍ، أقام ما في ذلك. الرابع عشر: إن الأمور المتعلقة بالله -عَزَّ وَجَلَّ- يُقيمها، ولا يراعي فيها أحدًا، ويقيم ما فيها من حَدِّ، أو كفّارة، أو غير ذلك. الخامس عشر: إزالةُ الضرورات العامة عن المسلمين. السادس عشر: إقامةُ المصالح العامةِ، والنظر فيها؛ من الطرقات والمساجد [و] الجوامع والمنارة وغير ذلك. السابع عشر: قمعُ المفسدين من قُطّاع الطريق واللصوص والمؤذية بالضرب والحبس وأنواع العقوبات.

الثامن عشر: إقامةُ المعروفُ وردعَ المناكر، وإزالتُها حيث كانت؛ من الخمّارات، وشرب الحشيش، والزناة والزواني، وإزالة الأماكن المعدّة للمنكرات حيث كانت. التاسع عشر: إقامةُ العبادات علي وجهها؛ من الصلوات، والزكاة، والصوم، والحج، وعدم تعطيل شيء من ذلك. العشرون: إزالةُ البِدَع عن الدين، وقمعُ المبتدعين، وإزالةُ رسومِهم وأشكالهم؛ بحيث يصير الدينُ خالصًا من ذلك.

الباب الرابع في الخوف منها، وإثم الجور والظلم

الباب الرّابع في الخوف منها، وإثم الجَور والظُّلم لم يَزَلْ أهلُ الدين والخير من الولاة وغيرِهم علي الخوفِ الكبير من ذلك. أخبرنا جَدّي وغيرُه، أنا الصلاحُ بنُ أبي عمرَ، أنا الفخرُ بنُ البخاريِّ، أنا ابن الجوزي، أنا محمّدُ بنُ عبدِ الباقي، ثنا حما، ثنا أحمدُ بنُ عبدِ الله، ثنا محمّدُ بنُ معمرٍ، ثنا أبو سعيدٍ الحرانيُّ، ثنا يحيى بنُ عبدِ الله البابلتي، ثنا الأوزاعيُّ، حدّثني داودُ بنُ عليٍّ، قال: قال عمرُ: لو كانت شاةٌ علي شاطئ الفراتِ ضائعةً، لظننتُ أَنَّ الله يسألُني عنها يومَ القيامة (¬1). وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا عبدُ الرّحمنِ بنُ محمّدٍ القزازُ، ثنا أحمدُ بنُ محمّدِ بنِ حمدويه، ثنا أحمدُ بنُ محمد، ثنا أبو خيرٍ محمّدُ بنُ الأَدَمِيِّ، ثنا أحمدُ بنُ عبيدِ بنِ ناصحٍ، ثنا القاسمُ بنُ الحكمِ، ثنا إسماعيلُ بنُ إبراهيمَ، قال: سمعتُ أبي يذكرُ عن مجاهدٍ، عن عبيد الله ابنِ عمرَ، قال: كان عمرُ بنُ الخطاب يقول: لو ماتَ جَدْي بِظَهْرِ ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 53).

الفراتِ، لخشيتُ أن يحاسبَ اللهُ به عمرَ (¬1). قال: وبلغني عن أميرِ المؤمنين عليِّ بنِ أبي طالب: أنه قال: رأيتُ عمرَ بنَ الخطاب -رضي الله عنه- علي قَتَبٍ يغدو، فقلت: يا أمير المؤمنين! أين تذهب؟ فقال: بعير ندَّ من إبلِ الصدقةِ أطلُبُه، فقلتُ: لقد أَذللْتَ الخلفاءَ بعدَك، فقال: لا تلمني يا أبا الحسنِ؟! فو الذي بعثَ محمّدًا بالنبوة! لو أنّ عَناقًا ذهبتْ بشاطئ الفرات، لأُخِذَ بها عمرُ يومَ القيامة (¬2). وبه إلي ابن الجوزي، أنا يحيى بنُ عليِّ بنِ الطراحِ، أنا المباركُ بنُ الحسنِ، أنا أبو الحسين بنُ بشرانَ، ثنا الحسينُ بنُ صفوانَ، ثنا أبو بكرٍ القرشيُّ، ثنا يحعى بنُ عمرانَ، ثنا حصينُ بنُ عمرَ الأحمسيُّ، عن مخارقٍ، عن طارقٍ، قال: قلنا لابن عباس: أيَّ رجلٍ كان عمر؟ قال: كان كالطيرِ الحَذِرِ الذي كأنَّ له بكلِّ طريقٍ شَرَكًا (¬3). وبه إلي ابن الجوزي، أخبرنا عبدُ الوهابِ الأنماطيُّ، أنا أبو الحسينِ بنُ عبدِ الجبارِ، أنا أحمدُ بنُ عليٍّ القوريُّ، ثنا عمرُ بنُ ثابت، أنا عليُّ بنُ أحمدَ، ثنا أبو بكرٍ القرشيُّ، ثنا عليُّ بنُ الجَعْدِ، أنا قيسُ بنُ الربيعِ، عن سِماكِ بنِ حربٍ، عن أبي سلامة، قال: انتهيتُ إلي عمر وهو يضرب رجالًا ونساءً في الحَرَم علي حوضٍ يتوضؤون فيه ¬

_ (¬1) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 160 - 161)، وذكره في "صفة الصفوة" (1/ 285). (¬2) "مناقب عمر" لابن الجوزي (ص: 161). (¬3) ورواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (44/ 312).

حتى فرَّق بينهم، ثم قال: يا فلان! قال: لبيك، قال: لا لبيك، ألم آمرْكَ أن تتخذ حياضًا للرجال، وحياضًا للنساء؟ قال: ثم اندفع، فلقيَهُ عليٌّ -رضي الله عنه-، فقال: أخاف أن أكون هلكت، قال: وما أهلكك؟ قال: ضربتُ رجالًا ونساء في حرم الله -عَزَّ وَجَلَّ-، قال: يا أمير المؤمنين! أنت راعٍ من الرعاة، فإن كنتَ ضربتَهم علي نُصح وإصلاح، فلن يُعاقبك الله، وإن كنتَ ضربتَهم علي غِشٍّ، فأنت الظالمُ المجرمُ (¬1). وقال الحسن البصريُّ: بينما عمر يجول في سِكَك المدينة، إذ عرضت له هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} [الأحزاب: 58]، فحدَّث نفسَه، فقال: لعلّي أُوذي المؤمنين والمؤمنات، فانطلق إلي أُبيِّ بنِ كعبٍ، فدخل عليه بيتَه وهو جالس علي وسادة، فنزعها من تحته، وقال: دونَكَها يا أمير المؤمنين، قال: لا، ونبذَها برِجْله، وجلسَ، فقرأ عليه هذه الآية، وقال: أخشى أن أكونَ صاحبَ هذه الآية أُوذي المؤمنين والمؤمنات، فقال أُبي: لا، إن شاء الله، قال: ولكنك رجلٌ مؤدِّبٌ لا تستطيع إلا أن تعاهد رعيتك، فتأمر وتنهى، فقال عمر: قد قلتُ (¬2)، والله أعلم. وبه إلي أبي الجوزي، أنا محمّدُ بنُ أبي منصور، أنا أبو الحسين بنُ عبدِ الجبار، أنا أحمدُ بنُ عبدِ الله الأنماطيُّ، أنا أبو حامدٍ أحمدُ بنُ الحسين المروزيُّ، أنا أحمدُ بنُ الحارثِ، ثنا جَدِّي ¬

_ (¬1) "مناقب عمر" لابن الجوزي (ص: 161 - 162). (¬2) رواه عمر بن شبة في "أخبار المدينة" (1/ 361 - 362).

محمّدُ بنُ عبدِ الكريمِ، ثنا الهيثمُ بنُ عَدِيٍّ، ثنا أسامةُ بنُ زيدٍ الليثي، ثنا القاسم بنُ محمّدٍ، قال: بعث سعدُ بنُ أبي وقاص -أيامَ القادسية- إلي عمر بقباءِ كسرى وسيفِه ومِنْطَقَته وسراويلِه وقميصِه، وتاجهِ وخُفَّيْه، قال: فنظر عمرُ في وجوه القوم، فكان أحسنَهم وأمدَّهم قامةً سراقةُ بنُ مالكِ بنِ جُعْشُمٍ المُدْلِجِيُّ، فقال: يا سُرَاقُ! قم فالْبَسْ، قال سُراقة: فطمعت فيه، فقمتُ فلبستُ، فقال: أَدْبِرْ، فأدبرتُ، فقال: أَقْبِلْ، فأقبلْتُ، ثم قال: بَخِ بَخٍ أُعَيْرابِيُّ من بني مدلجٍ عليه قباءُ كسرى وسراويلُه، وسيفُه ومنطقته، وتاجه وخُفاه، رُبَّ يومٍ يا سُراقَ بنَ مالكٍ لو كان عليك فيه هذا من متاع كسرى، وآل كسرى، كان شرفًا لك ولقومك، انزعْ، فنزعتُ، فقال: اللهمَّ إنك منعتَ هذا رسولَكَ ونبيَّكَ، وكان أحبَّ إليك مني، وأكرمَ عليكَ مني، ومنعْتَه أبا بكرٍ، وكانَ أحبَّ إليك، وأكرمَ عليكَ مِنِّي، ثم أَعْطَيتنيه، فأعوذُ بكَ أن تكونَ أَعطيتنيه لتمكرَ بي، ثمَّ بكئ حتى رَحِمَه مَنْ كان عنده، وقال لعبد الرحمن: أقسمتُ عليك لما بعته، ثمَّ قَسَمته قبل أن تمسي (¬1). وبه إلي ابن الجوزي، أنا عبدُ الوهابِ الحافظُ، أنا المباركُ بنُ عبدِ الجبارِ، أنا أحمدُ ابنُ عليٍّ النوريُّ، أنا عمرُ بنُ ثابتٍ، أنا عليُّ بنُ أحمدَ، أنا أبو بكرٍ القرشيُّ، ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ صالحٍ، ثنا أبو بكرٍ بنُ عَيَّاشٍ، قال: جيء بتاج كسرى إلي عمرَ، فقال: إن قومًا أَدَّوْا هذا، لأُمَنَاءُ، فقال له عليٌّ: إنَّ القومَ رأوكَ عَفَفْتَ، فَعَمُّوا ولو رَتَعْتَ، لَرَتَعُوا. ¬

_ (¬1) وانظر: "البداية والنهاية" لابن كثير (7/ 68).

وبه إلي ابن الجوزي، أنا إسماعيلُ بنُ أحمد، أنا محمّدُ بنُ هبةِ الله، أنا محمّدُ بنُ الحسين، أنا عبدُ الله بنُ جعفرٍ، حدثني الحميديُّ وابنُ أبي عمرَ، قالا: ثنا سفيان، ثنا عاصمُ بنُ كليبٍ، أخبرني أبي: أنه سمع ابنَ عباسٍ يقول: كان عمرُ بنُ الخطاب إذا صلّي صلاةً، جلس للناس، فمن كانت له حاجةٌ، كلّمه، وإن لم يكن لأحد حاجة، قام فدخل فصلي صلواتٍ لا يجلس للناس فيهنَّ، فحضرت البابَ، فقلت: يا يرفأُ! أبأمير المؤمنين شَكاة؟ قال: ما بأمير المؤمنين شكاة، فجلستُ، فجاء عثمانُ فجلسَ، فخرج يرفأُ، فقال: قم يا بنَ عفانَ، قم يا بنَ عباسٍ، فدخلنا علي عمر، فإذا بين يديه صبر من مال، علي كل صبرة منها كتفٌ، فقال: إني نظرتُ في أهل المدينة، فوجدْتُكما من أكثرِ أهلِها عشيرةً، فخذا هذا المال فاقسماه، فما كان من فضلٍ، فردَّاه، ثمَّ قال: أما كان هذا عندَ الله، ومحمّدٌ وأصحابُه يأكلونَ القِدَّ؟ فقلت: بلي والله! لقد كان عند الله، ومحمّدٌ حَيٌّ، ولو عليه فتح، لصنع فيه غيرَ الذي تصنع، فغضب، وقال: إذًا أصنعُ ماذا؟ قال: قلت: إذًا كُلْ وأطعِمْنا! فنشجَ عمرُ حتى اختلفتْ أضلاعُه، ثم قال: وَدِدْتُ أني خرجتُ منها كفافًا، لا عَلَيَّ ولا لي (¬1). فانظر مع هذا العدل الزائدِ كيف يخاف علي نفسه من الإثم وعدمِ الأجر، وغيرُه من ظَلَمَةِ زماننا مع الظلم الذي ليس معه عدلٌ يحقق لنفسِه الأجرَ وعدم الإثم، ويدَّعي لنفسه العدلَ، ويُحَسِّن لهُ ذلك بعضُ ¬

_ (¬1) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 288)، والحميدي في "مسنده" (30)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 358).

الفَسَقة، ومع هذا يدّعي بعضُهم أنه أعدلُ من عمر، كما وقع لي مع بعضهم، فإنّا لله وإنا إليه راجعون. أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا، أنا ابن المحبِّ، أنا القاضي سليمانُ، أنا الحافظُ ضياءُ الدين، أنا ابنُ الجوزيِّ أنا المباركُ بنُ عليٍّ، أنا عبدُ اللهِ بنُ محمّدٍ الصّرديُّ، أنا أبو الحسنِ هبةُ الله بنُ عبدِ الله، أنا أبو الحسن بن بشرانَ، أنا دعلجُ بنُ أحمدَ، ثنا محمّدُ بنُ عليٍّ، ثنا سعيدُ بنُ منصورٍ، ثنا يونسُ بنُ أبي يعقوبَ، عن أبيه، قال: قال عبدُ الله بنُ عمرَ: اشتريتُ إِبلًا، وارتجعْتُها إلي الحِمي، فلما سَمِنَتْ، قَدِمْتُ بها أبيعُها، قال: فدخلَ عمرُ بنُ الخطاب السوقَ، فرأى إبلًا سِمانًا، فقال: لمن هذه الإبلُ؛ فقيل: لعبدِ الله بنِ عمرَ، فجعل يقول: يا عبدَ الله بنَ عمرَ! بَخٍ بَخٍ، ابنَ أميرِ المؤمنين، قال: فجئتُه أسعى، فقلت: مالكَ يا أميرَ المؤمنين؟ قال: ما هذهِ الإبلُ؟ قال: قلت: إبلٌ اشتريتها، وبعثت بها إلي الحِمي أبتغي ما يبتغي المسلمون، قال: فقالى: ارْعَوْا إبلَ ابنِ أميرِ المؤمنين، اسْقُوا إبلَ ابنِ أمير المؤمنين، يا عبدَ الله بنَ عمر! اغْدُ علي رأسِ مالك، واجعلْ باقيه في بيت مالِ المسلمين (¬1). فانظر إلي هذا العدلِ الزائد الذي لا يفعله أحد، فأيُّ أميرٍ تحدثه نفسُه في زماننا هذا أنه مثلُه، أو يدانيه مع الظلم الزائد؟ ¬

_ (¬1) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 159)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (44/ 326 - 327)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 147).

وبه إلي ابن الجوزي، أنا المباركُ بنُ عليٍّ، أنا أحمدُ بنُ الحسينِ، أنا أبو إسحاقَ البرمكىُّ، أنا أبو بكرٍ الدقاقُ، ثنا عبدُ الله بنُ سليمانَ، ثنا محمّدُ بنُ يحيى، ثنا أبو أسامةَ، عن الصلتِ بن بهرانَ، قال: حدثني جميعُ بنُ عميرٍ، قال: سمعتُ عبدَ الله بنَ عمر يقول: شهدت جَلولاءَ، فابتعت من الغنائم بأربعين ألفًا، فقدمتُ بها المدينةَ علي عمر، فقال: ما هذا؟ فقلت: ابتعتُ من الغنائم بأربعين ألفًا، فقال: يا عبدَ الله بنَ عمر! لو انطُلِقَ بي إلي النار، كنتَ مفتدِيَّ؟ قال: قلت: نعم بكلِّ شيء أملكُ، قال: فإني مخاصَمٌ، وكأني بك تبايع بجلولاء، يقولون: هذا عبدُ الله بنُ عمرَ صاحبُ رسولِ الله، وابنُ أمير المؤمنين، وأكرمُ أهلِه عليه، وإن رَخَّصوا عليك كذا وكذا درهمًا، أَحَبُّ إليهم من أن يُغلوا عليكَ بدرهم، وسأعطيكَ من الربح أفضلَ ما ربح رجلٌ من قريش، ثمَّ أتى باب صفيةَ بنتِ أبي عبيد -يعني: زوجة ولده-، فقال: يا بنتَ أبي عُبيد! أقسمتُ عليك أن تخرجي من بيتك شيئًا، أو تخرجين منه، وإن كان عنقَ ظبية، فقالت: يا أمير المؤمنين! ذلك لك، ثمَّ تركني سبعة أيام، ثمَّ دعا التجار، ثمَّ قال: يا عبدَ الله بنَ عمر! إني مسؤول، فباع من التجار متاعًا بأربع مئة ألف، فأعطاني ثمانين ألفًا، وأرسل ثلاثَ مئةً وعشرين ألفًا إلي سعد، فقال: اقسمْ هذا المالَ فيمن شهدَ الوقعة، فإن كان مات أحدٌ منهم، فابعثْ بنصيبه إلي وَرَثَته (¬1). ¬

_ (¬1) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 158). ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (33779)، وأبو عبيد في "الأموال" (ص: 331)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (44/ 323 - 324).

فانظرْ كيف أخذَ ربَح مالِ ولده، وبعث به؛ خوفًا أن يكون رُوعي في البيع، فمَنْ يدانيه في هذا العدل، أو يقاربه؟ وبه إلي ابن الجوزي، أنا ابنُ ناصرٍ، أنا المباركُ بنُ عبد الجبار، أنا أبو الحسن الأنماطيُّ، أنا أبو حامدٍ أحمدُ بنُ الحسينِ، ثنا أحمدُ بنُ الحارث المروزيُّ، حدثني جَدِّي محمّدُ بنُ عبدِ الكريم، ثنا الهيثمُ بنُ عَدِيٍّ، أنا فضيلُ بنُ مرزوقٍ، ثنا عطيةُ العوفيُّ، عن ابنِ عمرَ، قال: استأذنت عمرَ في الجهاد، فقال: أي بني! إني أخاف عليكَ الزنا. فقلت: أَوَ علي مثلي تتخوَّفُ ذلك؟ قال: نعم. تلقَوْنَ العدوَّ، فيمنحُكُم الله أكتافَهُم، فتقتلون المقاتلة، وتَسبون الذريّة، وتجمعون المتاعَ، فتقدم جاريةٌ في المغنم، فينادَى عليها، فتسومُ بها، فينكُلُ الناسُ عنكَ، ويقولون: ابنُ أمير المؤمنين، وللهِ ولرسولهِ ولذي القربى واليتامى والمساكين وابنِ السبيل فيها حَق، فتقع عليها، فإذا أنتَ زانٍ، اجلسْ (¬1). وبه إلي ابن الجوزي، أنا محمّدُ بنُ أبي منصورٍ، أنا عمرُ بنُ أحمدَ، أنا الحسنُ بنُ علي التميميُّ، أنا أبو بكرِ بنُ مالكٍ، ثنا عبدُ الله بنُ أحمدَ، ثنا أبو سعيدٍ مولي بني هاشم، ثنا عبدُ العزيز بنُ أبي سلمى، ثنا إسماعيلُ بنُ محمّدِ بنِ سعدِ بنِ أبي وَقَّاصٍ، قال: قدم علي عمر -رضي الله عنه- مِسْكٌ وعنبرٌ من البحرين، فقال ¬

_ (¬1) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 158)، ورواه ابن أبي الدنيا في "إصلاح المال" (ص 19).

عمر -رضي الله عنه-: والله! لوددتُ أني أجدُ امرأةً حسنةَ الوزن تزنُ لي هذا الطِّيبَ حتى أُفرقه بين المسلمين، فقالت له امرأتُه عاتكةُ: أنا جيدةُ الوزن، هلمَّ أَزِنْ لك، قال: لا. قالت: ولِمَ؛ قال: إني أخشى أن تأخذي هكذا، فتجعليه هكذا -وأدخلَ أصابعَه في صُدْغَيه-، وتمسحين عنقَك، فأصيبَ فضلًا عن المسلمين (¬1). فانظر كيف خافَ من وزنِ زوجته أن تتطيَّبَ بأثرِ أصابعها، فهل يقاربُ هذا أحدٌ في العدل، أو يُدانيه؟ ومع ذلك، يدّعي من لا يحترم مالَ مسلمٍ أنه أعدلُ منه. وبه إلي ابن الجوزي، أنا ابنُ ناصرٍ، أنا عبدُ القادرِ بنُ محمّدٍ، أنا أبو بكرٍ محمّدُ بنُ عليٍّ الخياطُ، أنا محمّدُ بنُ أبي الفوارسِ، أنا أحمدُ بنُ جعفرٍ، ثنا أحمدُ بنُ محمّدٍ، ثنا أبو بكرٍ المروزيُّ، ثنا عبيدُ الله بنُ معاذٍ، ثنا المعتمرُ عن أبيه، قال، حدثني نعيمٌ، عن العطارةِ، قالت: كان عمرُ يدفع إلي امرأته طِيبًا من طِيب المسلمين، فتبيعه، قال: فبايعتني، فجعلتْ تقوم، وتزيد وتنقص، وتكسره بأسنانها، فيعلق بأصابعها شيء منه، فقالت به هكذا بإصبعها في فيها، ثمَّ مسحت به علي خمارها، قالت: فدخل عمر، فقال: ما هذه الريح؟ فأخبرته الذي كان، فقال: طِيبُ المسلمين تأخذينه أنتِ، فتتطيبين به؟! قالت: فانتزعَ الخمارَ من رأسها، وأخذ جراءً من ماء، فجعل يَصبُّ الماء علي الخِمار، ثمَّ يدلكه في التراب، ثمَّ يشمُّه، ثمَّ يصبُّ عليه ¬

_ (¬1) "مناقب عمر" لابن الجوزي (ص: 159).

الماء، ثمَّ يدلكه في التراب، ثمَّ يشمُّه، ففعل ذلك ما شاء الله. قالت العطّارةُ: ثمَّ أتيتُها مرةً أخرى، فلما وَزَنَتْ لي، علقَ بأصابعها منه شيء، فعمدتْ، فأدخلت إصبعَها في فيها، ثمَّ مسحتْ بأصابعها الترابَ. قالت: فقلت: ما هكذا صنعت أول مرة، قالت: أوما علمتَ ما لقيتُ منه؟ لقيت منه كذا، ولقيت منه كذا (¬1). فانظر من يفعل مثلَ هذا، فكيف يدّعي من لا يعرف غيرَ الظلم أنه أعدلُ منه؟! وبه إلي ابن الجوزي، أنا المباركُ بنُ عليٍّ، ثنا شجاعُ بنُ فارسٍ، أنا محمّدُ بنُ علي، أنا أحمدُ بنُ محمّدٍ، ثنا الحسينُ بنُ صفوانَ، ثنا أبو بكرٍ القرشيُّ، ثنا هارونُ بنُ عمرَ، ثنا أسدُ بنُ موسى، ثنا ابن لهيعة، ثنا ابنُ هبيرةَ، عن عبدِ الرحمن بنِ عمرٍو الأشعريِّ: أنه خرج إلي عمرَ، فنزل عليه، وكان لعمرَ ناقةٌ يحلبها، فانطلق غلامُه ذاتَ يوم، فسقاه لبنًا، فأَنْكَرَه، فقال: ويحكَ! من أين هذا اللبنُ؟ قال: يا أمير المؤمنين! إن الناقة انفلتَ عليها ولدُها، فشرب لبنَها، فحلبتُ لك ناقةً من مال الله، فقال له عمر: ويحك! سقيتَني نارًا، ادعُ لي عليَّ بنَ أبي طالب، فدعاه: فقال: إن هذا عَمَدَ إلي ناقةٍ من مال الله، فسقاني لبنَها، أفَتُحِلُّه لي؟ قال: نعم يا أميرَ المؤمنين، هو لك حلالٌ ولحمُها (¬2). ¬

_ (¬1) ورواه أبو بكر المروزي في "الورع" (ص: 46 - 47). (¬2) ورواه أبو بكر المروزي في "الورع" (ص: 91).

وبه إلي ابن الجوزيِّ، أنا الحسنُ بنُ الأحمد أنا ابنُ بشرانَ، ثنا ابنُ صفوانَ، ثنا ابنُ أبي الدنيا، ثنا محمدُ بنُ عثمانَ، ثنا حسينٌ الجُعْفِيُّ، عن زائدةَ، عن هشامٍ، عن الحسنِ، قال: خرج عمرُ في يوم حارٍّ واضعًا رداءَه علي رأسِه، فمر به غلامٌ علي حمار، فقال: يا غلام! احملني معك، قال: فوثب الغلامُ عن الحمار، فقال: اركبْ يا أمير المؤمنين، فقال: لا، اركبْ وأَركبُ أنا خلفَك، تريدُ أن تحملني علي المكان الخشن، وتركب علي المكان الوطيء، ولكن اركبْ أنتَ، وأكونُ خلفك، قال: فدخل المدينةَ خلفَه، والناسُ ينظرون إليه (¬1). فانظر بنفسِك هل تنكبسُ نفسٌ عبْدِ السلطانِ اليومَ أن يركب خلفَ أحدٍ علي فرسٍ، فضلًا عن حمار؟! وبه إلي ابن الجوزيِّ، أنا عبدُ الوهابِ الحافظُ، أنا أبو الحسنِ بنُ عبدِ الجبار، أنا محمّدُ بنُ عليٍّ، أنا محمّدُ بنُ عبدِ الرحمنِ المُخَلِّص، ثنا عبيدُ الله بنُ عبدِ الرحمن، ثنا أبو بكرِ بنُ عبيدٍ، حدثني عبدُ الله بنُ يونسَ: حدثني أبي، عن الوليدِ بنِ عبدة، عن أصبغَ بنِ نُباتة، قال: خرجتُ أنا وأبي من زرودَ حتى انتهينا إلي المدينة في غَلَسٍ، والناس في الصلاة، فانصرف الناس من صلاتهم، وخرج الناس إلي أسواقهم، فدفع إلينا رجلٌ معه درَّةٌ، فقال: يا أعرابيُّ! أتبيعُ؟ فلم يزل يساومُ أبي حتى راضاه علي ثمَن، وإذا هو عمرُ بنُ الخطاب، فجعل يطوفُ في ¬

_ (¬1) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 157). ورواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم" (ص: 342)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (44/ 318 - 319)، قال الدينوري: إسناده ضعيف جداً.

السوق يأمرُهم بتقوى الله، يُقبل فيها ويُدبر، ثمَّ مرَّ علي أبي، فقال له أبي: حَبَسْتَني، ليس هذا وعدتني، ثمَّ مرَّ الثانيةَ، فقال له أبي مثلَ ذلك، ويردُّ عليه عمرُ: لا أريمُ حتى أوفيك، ثمَّ مرَّ به الثالثةَ، فوثب إليه أبي مُغْضَبًا، فأخذ بثياب عمر، فقال له: كذبْتَني وظلمتني، ولَهَزه، فوثب المسلمون إليه: يا عدو الله! لهزت أمير المؤمنين، فأخذ عمرُ بِجُمْعِ ثيابِ أبي، فجرّه إليه، لايملك من نفسه شيئًا -وكان شديدًا-، فانتهى به إلي قصّاب، فقال: عزمتُ عليك، أو أقسمتُ عليك لتعطينَّ هذا حقَّه، ولك ربحي، وكان عمرُ باعَ الغنَم منه، فقال: يا أمير المؤمنين! لا، ولكن أُعطي هذا حقّه، وأهديك ربحه، فأخَرج حقّه، فأعطاه، فقال له عمر: استوفيتَ؛ قال: نعم، فقال له عمر: بقي حقُّنا عليك، لهزتك التي لهزتني قد تركتُها لله -عَزَّ وَجَلَّ-، قال الأصبغ: فكأني أنظرُ إلي عمر أخذَ ربحَه لحمًا، فعلّقه في يده اليسرى، وفي يده اليمنى الدرَّة يدور الأسواق حتّى دخل رحله (¬1). فانظر- رحمك الله- هل يفعل هذا عبدٌ لأميرٍ، فضلًا عن سلطان الدين؟! فكيف يزعم كلبٌ منغمِسٌ في الظلم أنه أعدلُ منه؟! فلا حول ولا قوة إلا بالله. أخبرنا الجماعةُ، أنا ابنُ الزَّعبوب، أنا الحجّار، أنا ابنُ الزَّبيديُّ، أنا السِّجْزِيُّ، أنا الداوديُّ، أنا السَّرَخْسيُّ، أنا الفربريُّ، أنا البخاريُّ، ¬

_ (¬1) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر": (ص: 156). ورواه ابن أبي الدنيا في "إصلاح المال" (ص: 75 - 76)، وفي "التواضع والخمول" (ص: 133)، وأصبغ بن نباتة متروك رمي بالرفض.

ثنا يحيى بنُ بكيرٍ، ثنا الليثُ، عن يونسَ، عن ابنِ شهابٍ: قال ثعلبة بنُ أبي مالكٍ: إن عمرَ بنَ الخطاب قسمَ مُروطًا بين نساءٍ من نساء أهلِ المدينة، فبقي منها مِرْطٌ جيدٌ، فقال له بعضُ مَنْ عندَه: يا أمير المؤمنين! أعطِ هذا ابنةَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - التي عندَك- يريدون: أُمَّ كُلثوم بنتَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ زوجتَه-، فقال عمر: أُمُّ سليطٍ أحقُّ به، وأم سليطٍ من نساء الأنصار ممن بايع رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -. قال عمر: فإنها كانت تزفرُ لنا القِرْبَةَ يومَ أُحد (¬1). أخبرنا جدّي وغيرُه، أنا الصلاحُ، أنا الفخرُ، أنا ابنُ الجوزيِّ، أنا محمّدُ بنُ الحسينِ، وإسماعيلُ بنُ أحمدَ، قالا: أنا أبو الحسينِ بنُ النقّورِ، أنا محمّدُ بنُ عبدِ الرّحمنِ المخلِّصُ، أنا أحمدُ بنُ عبدِ الله، ثنا السَّرِيُّ بنُ يحيى، ثنا شعيبُ بنُ إبراهيمَ، أنا سيفُ بنُ عمَر، عن مجالدٍ، عن الشعبيِّ، وسهلٍ، ومبشرٍ بإسنادهم، قالوا: لمّا سمع النّاسُ قولَ عمر، ورأوا عملَه، وكان يمشي في الأسواق، ويطوف في الطرقات، ويقضي بين الناس في قبائلهم، ويعلّمهم في أماكنهم، ويَخْلُف الغزاةَ في أهليهم، ذكروا أبا بكر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أعلمُ بأبي بكر، وكان أبو بكر أَعلم بعمرَ، فجرى أبو بكرٍ وعمرُ مجرًى واحدًا، فكانوا يخافون من لعنِ هذا، ومن شدَّةِ هذا، فكان أبو بكر - مع لينه- أقواهم فيما لانوا عنه، وألينَهم فيما ينبغي، وكان عمر ألينَهم فيما ينبغي، وأقواهم علي أمرهم (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3843)، كتاب: المغازي، باب: ذكر أم سليط. (¬2) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 66 - 67).

وبه إلي ابن الجوزي، أنا المحمّدان، ابنُ ناصرٍ وابنُ عبدِ الباقي، قالا: أنا أحمدُ، أنا أحمدُبنُ عبدِ الله، ثنا محمّدُ بنُ معمر، ثنا أبو شُعيبٍ الحرانيُّ، ثنا يحيى بنُ عبدِ الله، ثنا الأوزاعيُّ، إن عمرَ بنَ الخطابِ خرج في سواد الليل، فرآه طلحةُ، فذهب عمر فدخل بيتًا، ثم دخل بيتًا آخر، فلمّا أصبح طلحةُ، ذهب إلي ذلك البيت، فإذا بعجوز عمياءَ مُقْعَدَةٍ، فقال لها: ما بالُ هذا الرجل يأتيك؟ فقالت: إنه يتعاهدُني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يُصلِحني، ويُخرج عنّي الأذى، فقال طلحة: ثكلتك أمُّك [يا] طلحةُ، أعثراتِ عمرَ تتبّعُ؟! (¬1). وبه إلي محمّدِ بنِ عبدِ الباقي، أنا الحسنُ بنُ عليٍّ الجوهريُّ، أنا أبو عمرَ بنُ حيُّويه، أنا أحمدُ بنُ معروفٍ، ثنا الحسينُ بنُ نعيمٍ، ثنا محمّدُ بنُ سعدٍ، ثنا يزيدُ بنُ هارونَ، أنا يحيى بنُ المتوكلِ، حدثني عبدُ الله بنُ نافعٍ، عن أبيه، عن ابنِ عمرَ، قال: قدمَتْ رُفقةٌ من التجار، فنزلوا المصلَّي، فقال عمرُ لعبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ: هل لكَ أن تحرسَهُ الليلةَ من السرقِ؟ فباتا يحرسانهم، ويصليان ما كتب الله لهما، فسمع عمرُ بكاء صبيٍّ، فتوجه نحوه، فقال لأمِّه: اتقي الله، وأحسني إلي صَبِيِّك، ثم عاد إلي مكانه، فسمع بكاءه، فعاد إلي أمه، فقال لها مثلَ ذلك، ثم عاد إلي مكانه، فلما كان من آخر الليل، سمع بكاءه، فأتى أمه، فقال: ويحك! إني لأراك أمَّ سوء، مالي أرى ابنَك لا يقرُّ منذ الليلة؟ قالت: يا عبد الله! أبرمتني منذ الليلة، إني أربعه عن الفِطام، ¬

_ (¬1) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 68). ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 48).

فيأبى، قال: ولِمَ؟ قالت: لأن عمر لا يفرض إلا للفطم، قال: وكم له؟ قالت: كذا وكذا شهرًا، قال: ويحك! لا تعجليه، فصلَّي الفجر، وما يستبين الناسُ قراءتَه من غَلَبَة البكاء، فلما سلَّم، قال: يا بؤسًا لعمر! كم قتل من أولاد المسلمين! ثم أمر مناديًا فنادى: ألا تعجلوا صبيانكم عن الفطام، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام، وكتبتُ بذلك إلي الآفاق أن يفرض لكلِّ مولود في الإسلام (¬1). وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا محمّدُ بنُ أبي منصور وعليُّ بنُ أبي عمرَ، قالا: أنا عليُّ بنُ الحسين، أنا أبو عليِّ بنُ شاذانَ، أنا أحمدُ بنُ جعفرٍ، ثنا عبدُ الله بنُ أحمدَ، قال: ذكر مصعبُ بنُ عبدِ الله الزبيديُّ: حدثني أبو عبدِ الله بنُ مصعبٍ، عن ربيعةَ بنِ عثمانَ، عن زيدِ بنِ أسلمَ، عن أبيه، قال: خرجنا مع عمر بن الخطاب إلي حَرَّةِ وَاقِمٍ، حتى إذا كنا بصرارٍ، إذا نارٌ، فقال: يا أسلم! إنَّ هاهنا ركبًا، فضربهم الليل والبرد، انطلقْ بنا، فخرجنا نُهرولُ حتى دنونا منهم، فإذا بامرأة معها صبيان صغار، وقِدْرٍ منصوبة علي نار، وصبيانُها يَتَضاغَوْنَ، فقال عمر: السلامُ عليكم يا أصحابَ الضوء -وكره أن يقول: يا أصحاب النار-، فقالت: وعليكم السلام، فقال: أدنو؟ فقالت: ادنُ بخير، أو دع، فدنا، فقال ما بالُكُم؟ قالت: قصر بنا الليلُ والبرد، قال: وما لهؤلاء الصبيةِ يتضاغون؟ قالت: الجوع، قال: فأيُّ شيء في هذه القدر، قالت: ما أُسَكِّتُهم به حتى يناموا، واللهُ بينَنا ¬

_ (¬1) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 68) ورواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 301)، وأبو عبيد في "الأموال" (ص: 303).

وبين عمر، قال: أي رحمك الله! وما يُدري عمرَ بكم؟ قالت: يتولَّي أمرَنا، ثم يغفلُ عنّا؟! -وفي رواية: لأي شيء هذا أمير المؤمنين-. قال: فأقبل عليَّ، فقال: قد كِدْتُ أهلِك، انطلقْ بنا، فخرجنا نهرول حتى أتينا دارَ الدقيق، فأخرجَ عدلًا من الدقيق، وَكبة من شحم، فقال: احملْه عليَّ، فقلت: أنا أَحمله عنكَ، فقال: أنتَ تحمل وِزْري يومَ القيامة لا أمّ لك؟! احملْه عليَّ، فحملته عليه، فانطلقَ، وانطلقتُ معه إليها نُهرول، فألقي ذلك عندها، وأخرج من الدقيق شيئًا، فجعل يقول لها: ذُريّ علي، وأنا أُحَرِّك، وجعل ينفخ تحت القِدْر، ثم أنزلها، فقال: ابغني شيئًا، فأتته بصَحْفَة، فأفرغ فيها، ثم جعل يقول لها: أَطعميهم، وأنا أسطحُ لكِ لهم، فلم يزل يفعل حتى شبعوا، وترك عندها فضلَ ذلك، وقام، وقمتُ معه، فجعلَتْ تقول: جزاكَ الله خيرًا، كنتَ أولي بهذا من أمير المؤمنين، فيقول لها: قولي خيرًا، إذا جئتِ أميرَ المؤمنين، وجدتيني هناك -إن شاء الله-. قال: ثم تنحّى ناحيةً عنها، ثم استقبلها، فربضَ مربضَ السبعِ، فقلت: لك شأن غير هذا؟ فلا يكلمني حتى رأيت الصبية يصطرعون، ثم ناموا وهدؤوا، فقال: يا أسلم! الجوعُ أسهرهم وأبكاهم، وأحببت ألا أنصرف حتى أرى ما رأيت (¬1). وبه إلي ابن الجوزي، أنا محمّدُ بنُ أبي طاهر، أنا أبو محمّدٍ الجوهريُّ، أنا أبو عمرَ بنُ حيويه، أنا أبو الحسن بنُ معروفٍ، ثنا الحسينُ بنُ الفهمِ، ثنا محمّدُ بنُ سعد، ثنا محمّدُ بنُ عمرَ، حدثني ¬

_ (¬1) ورواه الإمام أحمد في "فضائل الصحابة" (1/ 290 - 291).

عبدُ الله بنُ زيدِ بنِ أسلمَ، عن أبيه، عن جَدِّه، قال: كان عمر يصوم الدهر، فكان زمان الرمادة إذا أمسى، أُتي بخبز قد ثُرِدَ بالزيت، إلي أن نحروا يومًا من الأيام جَزورًا، فأطعمها الناسَ، وغرفوا له طيبها، فأُتي به، وإذا قدرٌ من سنامٍ وكبدٍ، فقال: أَنَّى هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين! من الجزور التي نحرنا اليوم، قال: بَخٍ بَخٍ، بئس الوالي أنا إن أكلتُ طيبها، وأطعمتُ الناسَ كراديسها، ارفعْ هذه الجفنةَ، هاتِ لنا غيرَ هذا الطعام، فأتي بخبز وزيت، فجعل يكسر بيده، ويثرد ذلك الخبز، ثم قال: ويلك يا يرفأ، احملْ هذه الجفنة حتى تأتي بها أهلَ بيت بِثَمْغ، فإني لم آتهم منذ ثلاثة أيام، وأحسبهم مُقْفرين، فضعها بين أيديهم (¬1). قال ابن سعد: قال عوفُ بنُ الحارث، عن أبيه: إنما سُمي عامَ الرمادة؛ لأن الأرض كلَّها صارت سوداء، فشُبهت بالرماد، وكانت تسعة أشهر. قال ابن سعد: ونظر عمرُ عامَ الرمادة إلي بطِّيخةَ في يد بعضِ ولده، فقال: بَخٍ بَخٍ! ابنُ أمير المؤمنين يأكل الفاكهةَ، وأمةُ محمّدٍ هزلى؟! فخرج الصبي هاربًا، وبكي، فقالوا: اشتراها بكفٍّ من نوى. قال ابنُ سعد: قال عياضُ بن خليفة: رأيت عمرَ عام الرمادة وهو أسودُ اللون، ولقد كان أبيضَ، كان رجلًا عربيًا يأكل السمنَ واللبن، فلما أَمحلَ الناسُ، حرمها، وأكل الزيت حتى غيَّر لونَه، وجاع فأكثر. ¬

_ (¬1) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 71).

قال ابن سعد: وقال زيدُ بنُ أسلم، عن أبيه: كنا نقول: لو لم يرفع الله المَحْلَ عام الرمادة، لظننا أن عمرَ يموت همًّا بأمر المسلمين (¬1). فانظر كيف حالُه، وانظر هل وُجد في الدنيا من يفعل هذه الفعال، أو يقارب؟ فكيف يزعم من قد انغمس في الظلم، وأكل أموال المسلمين وبلادهم وإقطاعهم أنه مثلُه، أو أعدلُ منه؟ فإنا لله وإنا إليه راجعون. وبه إلي ابن الجوزي، أنا هبةُ الله بنُ أحمدَ، ثنا محمد بن عليٍّ بعشارى، ثنا أبو الحسين محمّدُ بنُ سمعون، ثنا أبو بكرٍ العبديُّ، ثنا إسماعيلُ بنُ إسحاقَ، ثنا أبو ثابتٍ، حدثني عبدُ الله بنُ وهبٍ، قال: سمعت مالكًا يحدِّث عن يحيى بن سعيد، قال: اشترت امرأةُ عمرَ بنِ الخطاب لعمرَ فَرقَ سمنٍ بستين درهمًا، فقال عمر: ما هذا؟ فقالت امرأته: هو من مالي، ليس من نفقتك، فقال عمر: ما أنا بذائقه حتى يحيا الناس (¬2). وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا محمّدُ بنُ ناصر، وعمرُ بنُ ظفر، قالا: أنا محمّدُ بنُ الحسن: ثنا القاضي أبو العلاءِ الواسطيُّ، ثنا أبو نصرٍ النيازكيُّ، ثنا أبو الخيرِ البزازُ، ثنا البخاريُّ، ثنا بشرُ بنُ محمد، أنا عبيدُ الله، أنا أبو يونسَ البصريُّ، عن ابنِ أبي مُلَيْكَةَ، قال: قال ¬

_ (¬1) انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 315). (¬2) انظر: "مناقب عمر" لابن الجوزي (ص: 72)، ورواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (44/ 346).

أبو مَحْذُورَةَ: كنت جالسًا عند عمر، إذ جاء صفوانُ بن أمية بجفنة يحملها نفرٌ في عَباءة، فوضعوها بين يَدَي عمر، فدعا عمرُ ناسًا مساكينَ وأرقاء من أرقّاء الناس حولَه، فأكلوا معه، ثم قال عند ذلك: يفعل الله بقوم -أو قال: لَحَي اللهُ قومًا- يرغبون في أرقّائهم أن يأكلوا معهم، فقال صفوان: أما والله! ما نرغب عنهم، ولكنّا نستأثر عليهم، ولا نجدُ -والله- من الطعامِ الطيبِ ما نأكلُ ونُطعمهم (¬1). وبه إلي ابن الجوزي، أنا عبدُ الوهابِ، أنا عاصمُ بنُ الحسنِ، أنا ابنُ بشرانَ، أنا ابنُ صفوانَ، ثنا ابنُ أبي الدنيا، حدثني القاسمُ بنُ هاشمٍ، عن عبدِ الله بنِ بكرٍ السهميِّ، حدثني الفضلُ بنُ عميرة: أنّ الأحنفَ بنَ قيسٍ قدم علي عمرَ بنِ الخطاب في وفد من العراق قدموا عليه في يومٍ صائفٍ شديدِ الحرِّ، وهو محتجِزٌ بعباءة يَهْنَأُ بعيرأ من إبل الصدقة، فقال: يا أحنف! ضعْ ثيابَك وهلمَّ فأَعِنْ أمير المؤمنين علي هذا البعير، فإنه لمن إبل الصدقة، فيه حقُّ اليتيم والأرملة والمسكين، فقال رجلٌ من القوم: يغفرُ الله لك يا أمير المؤمنين، فهلّا تأمرُ عبدًا من عبيد الصدقة، فيكفيك هذا؛ قال عمر: وأيُّ عبدٍ هو أعبدُ منّي ومن الأحنف؟ إنه من ولي أمرَ المسلمين، فهو عبا للمسلمين، يجب عليه لهم ما يجب علي العبد لسيده من النصيحة، وأداء الأمانة (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "مناقب عمر" لابن الجوزي (ص: 72). ورواه البخاري في "الأدب المفرد" (ص: 85)، وابن المبارك في "البر والصلة" (ص: 182). (¬2) انظر: "مناقب عمر" لابن الجوزي (ص: 73).

فانظر -رحمك الله- إلي هذا الإمام الذي كان سلطانًا علي جميع الدنيا، كيف يفعل ما لا يرضى مباشرتَهُ العبيدُ، ومع ذلك يَرى أنه عبدٌ لجميع المسلمين، الصغير والكبير، والقليل والكثير، فهل يدانيه في ذلك أحدٌ حتى يزعم بعضُ من لا يصلح أن يكون عبدًا في زمنه من الفراعنة والجبابرة الظلمة أنه مثلُه، وأعدلُ منه؟ وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا عبدُ الوهابِ الأنماطيُّ، أنا المباركُ بنُ عبدِ الجبارِ، ثنا محمّدُ بنُ علي، أنا محمّدُ بنُ عبدِ الله، ثنا الحسينُ بنُ صفوانَ، أنا ابنُ أبي الدنيا، حدثني محمّدُ بنُ الحسين، أنا الفضلُ بنُ دُكَيْنٍ، ثنا هشام بنُ سعدٍ، عن زيدِ بنِ أسلمَ، أخبرني أبي، قال: كنا نَبيت عند عمرَ أنا ويرفأ، قال: فكانت له ساعةٌ من الليل يُصلِّيها، وكان إذا استيقظ، قرأ هذه الآية: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132]. قال: حتى إذا كان ذات ليلة، قام فصلّي، ثم انصرف، ثم قال: قُومَا فصلّيا، فوالله! ما أستطيع أن أصلِّي، وما أستطيع أن أرقد، وإنّي لأفتتح السورة، فما أدري في أولها أنا أو في آخرها، قلنا: ولِمَ يا أمير المؤمنين؟ قال: من همِّي بالناس (¬1). وبه إلي ابن الجوزي: أنا المحمّدان؛ ابنُ ناصرٍ وابنُ عبد الباقي، قالا: أنا حمدُ بنُ أحمدَ، أنا أبو نعيمٍ، أنا محمّدُ بنُ إبراهيم، ثنا المفضلُ بنُ محمّدٍ، ثنا إسحاقُ بنُ إبراهيمَ، قال: قال الفُضَيل بنُ ¬

_ (¬1) انظر: "مناقب عمر" لابن الجوزي (ص: 73)، ورواه ابن أبي الدنيا في "التهجد وقيام الليل" (ص: 398).

عياض يوبِّخ نفسَه: ما ينبغي لك أن تتكلم بغمّك كلّه، تدري من يكلّم بغمه كلّه؟ عمرُ بنُ الخطاب، كان يُطعمهم الطَّيِّب، ويأكل الغليظَ، ويكسوهم اللَّيِّن، ويَلْبَس الخشنَ، وكان يعطيهم حقوقَهم، ويزيدُهم (¬1). وكان عمر -رضي الله عنه- يَعُسُّ المدينة كلّ ليلة بنفسِه، وله في ذلك حكايات كثيرة وقعت له. وبه إلي ابن الجوزي، أنا أبو بكرِ بنُ أبي طاهرٍ، أنا الجوهريُّ، أنا ابنُ حيويه، أنا ابنُ معروفٍ، ثنا ابنُ الفهمِ، ثنا محمّدُ بنُ سعدٍ: أنّ عروةَ قال: كان عمرُ إذا أتاه الخصمان، بَرَك علي ركبتيه، وقال: اللهمَّ أعِنّي عليهما، فإنَّ كلَّ واحد منهما يُريدني عن ديني (¬2). أخبرنا جَدِّي وغيرُه، أنا الصلاحُ بنُ أبي عمرَ، أنا الفخرُ بنُ البخاريِّ، أنا حنبلٌ، أنا ابن الحصينُ، أنا ابنُ المُذْهِبِ، أنا القَطيعيُّ، أنا عبدُ الله بنُ أحمدَ، حدثني أبي، ثنا إسماعيل، أنا الجريري سعيدٌ، عن أبي نضرةَ، عن أبي فراسٍ: قال: خطب عمر بن الخطاب فقال: يا أيها الناس! ألا إنا إنما كنا نعرفكم إذ بين ظهرينا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وإذ ينزل الوحي، وإذ ينبئنا الله من أخباركم، ألا وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد انطلق وانقطع الوحي، وإنما نعرفكم بما نقول لكم: من أظهر منكم خيرًا ظننا به خيرًا، وأحببناه عليه، ومن أظهر لنا شرًّا أبغضناه عليه، سرائركم بينكم ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (8/ 86) مطولًا. (¬2) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 289)، وابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 94).

وبين ربكم، ألا إنه قد أتى عليّ حين وأنا أحسب أن من قرأ القرآن يريد الله وما عنده، فقد خيّل إليّ بآخره أن رجالًا قد قرأوه يريدون به ما عند الناس، فأريدوا الله تعالي بقراءتكم، وأريدوه بأعمالكم، ألا وإني والله ما أرسل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أرسلهم إليكم ليعلِّموكم دينكم وسنتكم، فمن عمل به سوى ذلك فليرفعه إليّ، فوالذي نفسي بيده لأُقصّنه منه، فوثب عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين! أفرأيت إن كان رجل من المسلمين علي رعيته، فأدب بعض رعيته، أئنك لتقصنه منه؟!، قال: إي، ومن نفس عمر بيده، إذًا لأقصّنه منه، أنّى لا أقصّ منه وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقصّ من نفسه، ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم، ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم (¬1). وبه إلي ابن الجوزي، أنا المبارك بن علي، أنا محمد بن عبد السلام، أنا أبو علي بن شاذان، أنا أبو محمد بن كيسان، ثنا إسماعيل بن إسحاق، ثنا عبد الواحد بن غياث، ثنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن أبي زرعة عمرو بن جرير، عن جرير بن عبد الله البجلي: أن رجلًا كان مع أبي موسى الأشعري، وكان ذا صوت، ونكاية في العدو، فغنموا مغنمًا، فأعطاه أبو موسى بعض سهمه، فأبى أن يقبله إلا جميعًا، فجلده أبو موسى عشرين سوطًا، ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "مسنده" (1/ 41)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 282). ورواه أبو داود (4537)، كتاب: الديات، باب: القود من الضربة وقص الأمير من نفسه، مختصرًا.

وحَلَقه، فجمع الرجل شعره، ثم ترحل إلي عمر بن الخطاب حتى قدم عليه، فدخل علي عمر بن الخطاب قال جرير: وأنا أقرب الناس من عمر، فأدخل يده فاستخرج شعره، فضرب به صدر عمر، فقال: أما والله لولا النار، فقال عمر: صدق والله لولا النار، فقال: يا أمير المؤمنين إني كنت ذا صوت ونكاية في العدو، فأخبره بأمره، وقال: ضربني أبو موسى عشرين سوطًا، وحلق رأسي، وهو يرى أنه لا يقتص منه. فقال عمر -رضي الله عنه-: لأن يكون الناس كلهم علي صرامة هذا، أحب إلينا من جميع ما أفاء الله علينا. فكتب عمر إلي أبي موسى: سلام عليك، أمّا بعد: فإن فلانًا أخبرني بكذا وكذا، فإن كنت فعلت ذلك في ملاء من الناس، فعزمت عليك لما قعدت له في ملاء من الناس، حتى يقتص منك، وإن كنت فعلت ذلك في خلاء من الناس، فاقعد له في خلاء من الناس، حتى يقتص منك. فقدم الرجل فقال له الناس: اعف عنه، فقال: لا والله، لا أدعه لأحد من الناس، فلما قعد له أبو موسى ليقتص منه، رفع الرجل رأسه إلي السماء ثم قال: اللهمَّ إني قد عفوت عنه (¬1). وروى ابن شبة بإسناد له قال: قال عمرو بن العاص -رضي الله عنه- لرجل من تُجَيب: يا منافق. فقال التُّجيبي: ما نافقت منذ أسلمت، ولا أغسل لي رأسًا ولا أدهنه حتى آتي عمر، فأتى عمر -رضي الله عنه- فقال: يا أمير المؤمنين! إن عَمرًا نفقني، ولا والله ما نافقت منذ أسلمت. فكتب عمر -رضي الله عنه- إلي عمرو، وكان إذا غضب عليه ¬

_ (¬1) رواه ابن شبة في "أخبار المدينة" (2/ 16 - 17).

يكتب: إلي العاص بن العاص، أمّا بعد: فإن فلانًا التجيبي ذكر أنك نفقته، وقد أمرته إن أقام عليك شاهدين أن يضربك أربعين مرة، فقال: أنشد الله رجلًا سمع عَمرًا نفقني إلا قام، فشهد، فقام عامة أهل المسجد فقال له حشمه: أتريد أن تضرب الأمير؟ قال: وعرض عليه الأرش؟ فقال: لو ملئت لي هذه الكنيسة ما قبلت. فقال له حشمه: أتريد أن تضربه؟ فقال التجيبي: ما أرى لعمر ها هنا طاعة، فلما ولي قال عمرو: ردوه، وعلم أنه يعزله ويقيده منه، فأمكنه من السوط وجلس بين يديه، فقال لعمرو: أتقدر أن تمتنع مني بسلطانك؟ قال: لا، فامض لما أمرت به، قال: فإني أدعك لله، فعفى (¬1). وقد وقع في إمامته أن بعض من يدعي أنه أعدل من عمر بن الخطاب بكفره وفجوره أن بعض أعوانهم ممن يقال: إنه يعدل، قتل رجلًا مَن طلبة العلم الأجواد الأخيار، فادَّعى والده، فقيل: اعرف لولدك قاتلًا. فقال: فلان. فقال له هذا المدعي في جملة المدعين: ذلك تريد، لن نقتل مملوك ملك الأمراء بولدك هذا، والله لو قتل منكم مئة فقيه ما قتلناه بهم، فكن عاقلًا. فانظر بعينيك إلي هذا الكفر والفجور، ومع ذلك يزعمون أنهم مثلُ عمر، أو أعدلُ منه. وبه إلي ابن الجوزي، أنا محمد بنُ أبي منصورٍ، ثنا محمّدُ بنُ أبي نصرٍ، ثنا محمّدُ بنُ سلامةَ، ومنصورُ بنُ النعمانِ، ويحيى بنُ فرحٍ، قالوا: ثنا أبو محمد بنُ أحمد، أنا أبو بكرِ بنُ دريد، ثنا عسلُ بنُ ¬

_ (¬1) رواه ابن شبة في "أخبار المدينة" (2/ 16).

ذكوانَ، ثنا كثيرُ بنُ يحيى، ثنا سالمٌ، حدثني أبو عامرٍ، عن ابنِ أبي مُلَيكةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: قدم علينا عمرُ بنُ الخطاب حاجًّا، فصنع له صفوانُ بنُ أميةَ طعامًا، قال: فجاؤوا بجَفْنَة يحملُها أربعة، فوُضعت بين القوم، وأخذ القومُ يأكلون، وقام (¬1) الخدام، فقال عمر: ما لي لا أرى خُدَّامكم ياكلونَ معكم، أترغبون عنهم؟ وغضب، ولم يأكل (¬2). وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، ثنا محمد بنُ أبي طاهرٍ، أخبرني الجوهريُّ، أنا ابنُ حيويه، ثنا أبو الحسنِ بنُ معروفٍ، ثنا الحسينُ بنُ الفهمِ، ثنا محمد بنُ سعد، ثنا المعلّي بنُ أسدٍ، ثنا وهيبُ بنُ خالدٍ، عن يحيى بنِ سعيدٍ، عن سالمِ بنِ عبدِ الله: أن عمرَ بنَ الخطاب كان يُدخل يده في دُبُر البعير، ويقول: إني لخائفٌ أن أسُأل عمّا بك (¬3). وبه إلي ابن الجوزي، أنا أبو محمّدِ بنُ البشريِّ، عن أبي عبدِ الله بن بَطَّةَ، أخبرني محمّدُ بنُ الحسينِ الآجُرِّيُّ، ثنا محمّدُ بنُ كردي، ثنا أبو بكر المروزيُّ، ثنا رَوْحُ بنُ حربٍ، ثنا محمّدُ بنُ الحسينِ، ثنا أبي خلدة، عن المسيبِ بنِ دارمٍ، قال: رأيت عمرَ بنَ الخطاب يضرب حَمَّالًا، ويقول: حمّلْتَ جَملَكَ ما لا يُطيق. قال: ورأيته مرَّ به سائل، وعلي ظهره جرابٌ مملوء طعامًا، فأخذه فنثره ¬

_ (¬1) في الأصل: "وقال". (¬2) رواه الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 96). (¬3) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 286)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (44/ 356)، وابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 97).

للنواضِحِ، ثم قال: الآنَ سَلْ ما بدا لك (¬1). وبه إلي ابن الجوزيِّ، أنا محمّدُ بنُ أبي منصورٍ، أنا أبو الحسينِ بنُ عبدِ الحبار، أنا أحمدُ بنُ عبدِ الله الأنماطيُّ، أنا أبو حامدٍ المروزيُّ، ثنا أحمدُ بنُ الحارث، ثنا جَدِّي محمّدُ ابنُ عبدِ الكريم، ثنا الهيثمُ بنُ عَدِيٍّ، أنا يوسفُ بنُ عبدة، عن ثابتٍ البنانيِّ، عن أنسِ بنِ مالكٍ، قال: كنا عند عمرَ بنِ الخطاب، إذ جاءه رجلٌ من أهل مصر، فقال: يا أمير المؤمنين! هذا مقامُ العائِذِ بكَ، قال: وما لَكَ؟ قال: أجرى عَمْرُو بنُ العاص الخيلَ، فأقبلَتْ، فلما رآها الناس، قام محمّدُ بنُ عمرٍو، فقال: فَرَسي وربِّ الكعبة! فلما دنا مني عرفته، فقلت: فرسي وربِّ الكعبة! فقام إليّ يضربني بالسوط، ويقول: خُذْها، وأنا ابنُ الأكرمين. قال: فوالله! ما زاده عمرُ علي أن قال: اجلسْ، ثم كتب إلي عَمْرِو إلي مصر: إذا جاءك كتابي هذا، فأقبلْ، وأقبل معك بابنِك محمد. قال: فدعا عمرٌو ابنَه، فقال: أَأَحدثْتَ حدثًا؟ أَجنيتَ جنايةً؟ قال: لا، قال: فما بالُ عمرَ يكتب فيك؟ قال: فقدم به إلي عمر، قال أنس: فوالله! إنَّا لعند عمرَ بمنى، إذا نحنُ بعمرٍو قد أقبل في إزارٍ ورداء، فجعل عمرُ يلتفت هل يرى ابنَه، وإذا هو خلفَ أبيه، فقال: أين المصريُّ؟ قال: ها أنا ذا، قال: دونك الدرَّةَ، اضرب ابنَ الأمير، اضرب ابنَ الأمير، اضرب ابنَ الأمير، قال: فضربه حتى أثخنه، ثم قال: اجعلْها علي صلعةِ عمرٍو، فوالله! ما ضربك إلا بفضل سلطانه، فقال: يا أمير المؤمنين! قد ضربتُ مَنْ ضربني، فقال: أما ¬

_ (¬1) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 97).

والله! لو ضربْتَهُ، ما حُلْنا بينك وبينه حتى تكون أنت الذي تدعُه، يا عمرو! متى استعبدتُم الناسَ وقد ولدتْهم أماتُهم أحرارًا؟ ثم التفت إلي المصريِّ فقال: انصرفْ راشدًا، فإنْ رابَكَ ريبٌ، فاكتبْ إليّ (¬1). فلمثلِ هذا يصلح الحكمُ وأمرُ الناس، لا للكفرة الفجرة. أخبرنا جَدِّي وغيرُه، أنا الصلاحُ بنُ أبي عمرَ، أنا الفخرُ بنُ البخاريِّ، أنا حنبل، أنا ابن الحُصينِ، أنا ابنُ المُذْهِبِ، أنا أبو بكرٍ القَطيعيُّ، أنا عبدُ الله بنُ أحمد، حدثني أبي، ثنا محمّدُ بنُ مبشرٍ، ثنا محمّدُ بنُ إسحاقَ، عن محمّدِ بنِ عمرِو بنِ عطاءٍ، عن مالكِ بنِ أوس، قال: كان عمر -رضي الله عنه- يحلف علي إيمان ثلاث: يقول: واللهِ! ما أحدٌ أحقَّ بهذا المال من أحد، وما أنا بأحقَّ به من أحد، واللهِ! ما من المسلمين أحدٌ إلا وله في هذا المال نصيب، إلا عبدًا أو مملوكًا، ولكنّا علي منازلنا من كتاب الله- عزَّ وجلَّ-، وقَسْمِنا من رسول الله، والرجلُ وبلاؤه في الإسلام، والرجلُ وقدمُه في الإسلام، والرجلُ وغناه في الإسلام، والرجلُ وحاجتُه، ووالله! إن بقيت لهم، ليأتينَّ الراعيَ بجبل صنعاءَ حَظُّه من هذا المال، وهو يرعى مكانَه (¬2). يشير بذلك إلي أموال المسلمين التي ببيت المال، وما يتحصَّل من بلادهم. ¬

_ (¬1) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 98 - 99). (¬2) رواه الإمام أحمد في "مسنده" (1/ 42)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 299)، ورواه أبو داود (2955)، كتاب: الخراج والفيء والإمارة، باب: فيما يلزم الإمام؛ بمعناه.

فكان عمر يقسم ذلك، حتى علي الرجل والمرأة، والكبير والصغير، ولا يشرك أحدًا معه يعلم به. ثم حَدَثَ هؤلاء، فأكلوا مالَ بيت المال، واقتسموا البلاد إقطاعًا، واختصوا بذلك لأنفسهم، ويزعمون أنه حلالٌ لهم، حتى إن بعضَهم يقول لنا: كلْ؛ فإنه من إقطاعي حلال!! فقد اقتسموا بلاد المسلمين، فجعلوها لهم إقطاعًا، ثم أكلوا أموالَ بيتِ المال، ولم يُعطوا أحدًا من ذوي الحاجات ولا غيرهم منها درهمًا، ثم لم يقنعهم ذلك حتى أخذوا من أوقاف المسلمين، ثم لم يقنعهم ذلك حتى أخذوا الرشا والبرطيل علي الولايات والمناصب، ويقول بعضهم: أعطني مالي الذي لي عندَك؛ كأنه باعه به التجارةَ والمتاع، ثم لم يقنعوا بذلك حتى أخذوا أموالَ الناس ظلمًا وعسفًا وعدوانًا، ثم بعد ذلك يزعم أحدُهم أنه عادل، أو أنه مثلُ عمر، بل ويزعم بعضُهم أنه أعدلُ من عمر، فإنا لله وإنا إليه راجعون، هذا هو الكفر والجهل. أخبرنا جَدِّي وغيرُه، أنا الصلاحُ بنُ أبي عمرَ، أنا الفخرُ بنُ البخاريِّ، أنا ابنُ الجوزيِّ، أنا محمّدُ بنُ عبدِ الباقي، أنا حمدُ بنُ أحمدَ، ثنا أحمدُ بنُ عبد الله، ثنا سليمانُ بنُ أحمدُ، ثنا المقدامُ بنُ داودَ، ثنا عبدُ الله بنُ محمد، ثنا مالكُ بنُ مِغْوَلٍ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ، قال: قدم علي عمر مالٌ من العراق، قال: فأقبل يَقسمه، فقام إليه رجلٌ، فقال: يا أمير المؤمنين! لو أبقيتَ من هذا المال لعدوٍّ إن حضر، أو نائبةً إن نزلت، فقال عمر: مالَكَ قاتَلَكَ الله نُطق بها علي لسانِك شيطان؟ كفاني الله حجّتها، والله! لا أعصينّ الله اليوم لغد،

لا، ولكن أعدُّ لهم كما أعدَّ لهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وبه إلى ابن الجوزيِّ، أنا محمّدُ بنُ أبي منصورٍ، وعبدُ الله بنُ عليٍّ، قالا: أنا طرّادُ بنُ محمد، أنا أبِوِ الحسين بنُ بشرانَ، ثنا ابنُ صفوانَ، ثنا عبدُ الله بنُ محمّدٍ، ثنا أبو خيْثمَةَ، ثنا يزيدُ بنُ هارونَ، عن محمّدِ بن عمرٍو، عن أبي سلمةَ، عن أبي هريرةَ: أنه قال: قدم على عمرَ من البحرين مالٌ، فقدمْت عليه، فصليت معه العشاء، فلما رآني سلَّمت عليه، قال: ما قدمتَ به؟ قلت: قدمتُ بخمس مئة ألف، قال: أتدري ما تقول؟ قلت: مئة ألف، ومئة ألف، ومئة ألف، حتى عَدَدْتُ خمسًا، قال: إنك ناعسٌ، ارجِعْ إلى بيتك فنمْ، ئمّ اغدُ عليَّ. قال: فغدوتُ عليه، فقال: ماذا جئت به؟ قلت: خمس مئة ألف، قال: أطيِّب؟ قلت: نعم، لا أعلم إلا ذلك، فقال للناس: إنه قدم عليَّ مالٌ كثير، فإن شئتم أن نعدّ لكم عددًا، وإن شئتم أن نكيله لكم كَيْلًا، فقال له رجلٌ: يا أمير المؤمنين! إني قد رأيتُ لهؤلاء الأعاجم يدونون ديوانًا يعطون الناس عليه، فدوّن الديوان، ففرض للمهاجرين خمسة آلاف، وللأنصار أربعة آلاف، ولأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - اثني عشر ألفًا، ائني عشر ألفًا (¬2). فأقسمُ بالله! لو قد جاء مثلُه لقايتباي، لكنزهُ لنفسه، ولم يعط ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 45)، وابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 100). (¬2) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 300)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (32864).

أحدًا منه درهمًا، ولو كان من [كان]. وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا إسماعيلُ بنُ أحمدَ السمرقنديُّ، أنا محمّدُ بنُ هبةِ الله، أنا محمّدُ بنُ الحسينِ، أنا عبدُ الله بنُ جعفرٍ، أنا يعقوبُ بنُ سفيانَ، ثنا عبدُ الله، أنا عبدُ الله بنُ موهبٍ، حدثني عبيدُ الله بنُ عبدِ الله، قال: سمعتُ أبا هريرةَ يقول: قدمتُ علي عمرَ بنِ الخطاب من عندِ أبي موسى الأشعري بثماني مئة ألفِ درهمٍ، فقال لي: ماذا قدمت؟ قال: قلتُ: قدمتُ بثماني مئة ألف، قال: إنما قدمتَ بثمانين ألفَ درهم، قال: قلتُ: إنما قدمت بثماني مئة ألف، قال: ألم أقلْ لكَ: إنكَ يمان أحمقُ، إنما قدمتَ بثمانين ألف درهمٍ، فكم ثماني مئة ألف؟ فعددت مئة ألف، ومئة ألف، حتى عددتُ ثمان مئة ألف، فقال: أطيبٌ ويلك؟ قلت: نعم، قال: فبات عمر ليلته أرِقًا، حتى إذا نودي لصلاة الصبح، قالت له امرأته: يا أمير المؤمنين! ما نمتَ الليلةَ، [قال]: كيف ينام عمرُ وقد جاء الناس ما لم يكنْ يأتيهم مثلُه منذ كان الإسلام، فما يؤمنُ عمرَ لو هلك، وذلك المالُ عنده، ولم يضعْه في حقه؟ فلما صلّي الصبح، اجتمع إليه نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لهم: إنه قد جاء الناسَ الليلةَ ما لم يأتهم مثلُه منذ كان الإسلام، وقد رأيت رأيًا، فأشيروا عليَّ، رأيتُ أن أكيل للناس بالمكيال، فقالوا: لا تفعلْ يا أمير المؤمنين، إن الناس يدخلون في الإسلام، ويكثر المال، ولكن أعطِهم علي كتاب، فلما كثر الإسلامُ، وكثر المالُ، أعطيتَهم، قال: فأشيروا عليَّ بمن أبدأ منهم؟ قالوا: بكَ يا أمير المؤمنين، إنك وليُّ ذلك، ومنهم من قال: أمير المؤمنين أَعلمُ،

قال: لا، ولكن أبدأُ برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم الأقرب فالأقرب إليه، فوضع الديوانَ علي ذلك، فبدأ ببني هاشم، وبني المطلب، ثم ببني عبد شمس، ثم ببني نوفل بن عبد مناف، ثم سائر الناس (¬1). فأقسمُ بالله! لو قدمَ مثلُ ذلك علي قايتباي، لم يهتم لقسمه، ولا خاف أن يموت وهو عنده، ولَمَا أعطي أحدًا منه درهمًا. وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا محمّدُ بنُ أبي طاهرٍ، أنا الجوهريُّ، أنا ابنُ حيويه، ثنا أبو الحسنِ بنُ معروفٍ، ثنا الحسينُ بنُ فهمٍ، ثنا محمّدُ بنُ سعدٍ، يرفعه إلي محمّدِ بنِ سيرينَ، عن الأحنف، قال: كنا جلوسًا بباب عمر، فمرتْ جارية، فقالوا: سُرِّيَّةُ أميرِ المؤمنين، فقالت: ما هي لأمير المؤمنين بسريَّة، وما تحلُّ له، إنها من مال الله، فما هو إلا قدر أن بلغت، وجاء الرسول فدعانا، فأتيناه، فقال: ماذا قلتم؟ فقلنا: لم نقل باسًا، مرت جارية، فقلنا: هذه سريةُ أمير المؤمنين، فقلتَ: ما هي لأمير المؤمنين بسرية، وما تحل له، إنها من مال الله، فقلنا: ماذا يحلُّ له من مال الله؟ فقال: أنا أخبركم بما يحلُّ لي منه، حُلَّتان: حلةٌ في الشتاء، وحلة في القيظ، وما أحجُّ عليه وأَعتمر من الظَّهْر، وقوتي وقوت أهلي كقوت رجلٌ من قريش، ليس بأغناهم، ولا أفقرهم، ثم بعدُ أنا رجلٌ من المسلمين يُصيبني ما أصابهم (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 364)، وابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 101). (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (32912)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" =

قال ابن سعد: وأنا عارمٌ، ثنا حمادُ بنُ سلمةَ، عن هشامِ بنِ عروةَ، عن عروةَ: أن عمرَ بنَ الخطاب قال: لا يحلُّ لي من هذا المال إلا ما كنتُ آكِلًا من صُلْب مالي (¬1). قال ابن سعد: قال محمّدُ بنُ إبراهيم: كان عمرُ يستنفق كلَّ يوم درهمين له ولعياله، وأنفق في حجّته ثمانين ومئةَ درهم (¬2). وقال: إني أنزلتُ مالَ الله مني بمنزلة مالِ اليتيم، إن استغنيتُ، عففتُ عنه، وإن افتقرتُ، أكلت بالمعروف (¬3). فانظر إلي هذا الفعل، وانظر إلي هؤلاء الفَجَرة الذين جعلوا أموال المسلمين خالصة لأنفسهم، واقتسموا بلادَ المسلمين، فجعلوها إقطاعًا لأنفسهم، وإنها أحل شيء لهم، وهي أحرم شيء عليهم. واعتلّ عمرُ مرة، فوصف له العسلُ، وفي بيت المال عُكَّةٌ من العسل، فقال للناس: إن أَذِنْتم لي فيها، أخذتُها، وإلا، فإنها عليّ حرامٌ (¬4). ¬

_ = (3/ 275 - 276)، والبيهقي في "معرفة السنن والآثار" (5/ 164)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (69/ 197). (¬1) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 276)، وابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 102). (¬2) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 308)، وابن الجوزي فى "مناقب عمر" (ص: 102). (¬3) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 276)، وابن الجوزي فى "مناقب عمر" (ص: 102). (¬4) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 276 - 277)، ومن طريقه: الطبري =

ولما وَلِيَ، استشار الناسَ فيما يحلُّ له من هذا المال من مال هؤلاء؟ فقال عليٌّ: ما أصلحَكَ وأصلحَ عيالَكَ بالمعروف، ليس لك من هذا الأمرِ غيرُه (¬1). وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا عبدُ الوهابِ بنُ المبارك، أنا أبو الحسينِ بنُ الطيوريِّ، ثنا الحسينُ بنُ عليٍّ الطباشيريُّ، أنا أبو جعفر السلميُّ، ثنا أبو بكرٍ الباغنديُّ، ثنا عثمانُ بنُ أبي شيبةَ، ثنا حسينُ بنُ عليٍّ، عن إسرائيلَ، عن موسى، عن الحسنِ، قال: قال عمرُ بنُ الخطاب: السنة ثلاثُ مئةٍ وستون يومًا، وإن حَقًّا علي عمرَ أن يكسح بيتَ المال في كل سنة يومًا؛ عذرًا إلي الله- عزَّ وجلَّ-، فلا أدعُ فيه شيئًا (¬2). وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا محمّدُ بنُ ناصرٍ، أنا المباركُ بنُ عبدِ الجبارِ، أنا أبو الحسنِ الأنماطيُّ، ثنا أبو حامدٍ أحمدُ بنُ الحسينِ، ثنا أحمدُ بنُ الحربِ، حدثني جَدِّي محمّدُ بنُ عبدِ الكريم، ثنا الهيثمُ بنُ عَدِيٍّ، ثنا جريرُ بنُ حازمٍ، عن الحسنِ: قال: بينما عمر يمشي في سِكَّة من سكك المدينة، إذا هو بصبية تطيش على وجه الأرض، تقوم مرة، وتقع أخرى، فقال عمرُ: يا بؤسها! من يعرف هذه منكم؟ فقال عبدُ الله بنُ عمرَ: وما تعرفُها يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، ومن هي؟ ¬

_ = في " تاريخه" (2/ 569)، وابن عساكر في "تاريخه" (44/ 301)، وابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 102). (¬1) رواه الطبري في "تاريخه" (2/ 453). (¬2) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (44/ 342).

قال: هذه إحدى بناتك، قال: وأي بناتي هذه؟ قال: هذه فلانة بنتُ عبدِ الله بنِ عمر، قال: ويحك! وما صيّرها إلي ما أرى؟ قال: مَنْعُك ما عندَك، قال: ومنعي ما عندي يمنعُك أن تطلب لبناتك ما يكسِبُ الأقوامُ لبناتهم؟! إنه والله! ما لك عندي غيرُ سهمك في المسلمين، وَسِعَكَ، أو عَجَزَ عنك، هذا كتابُ الله بيني وبينكم (¬1). وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا إسماعيلُ بنُ أحمدَ، أنا عمرُ بنُ عبيدِ الله، أنا أبو الحسينِ بنُ بشرانَ، أنا عثمانُ بنُ أحمدَ، أنا حنبل، ثنا إبراهيمُ بنُ محمد: ثنا سفيانُ، عن عمرٍو، عن ابنِ شهاب، عن مالكِ بنِ أوس، قال: قال عمر: ما أحدٌ إلا وله في هذا المال حق، إلا ما ملكَتْ أيمانكم (¬2). وشكا عمرُ بطنَه من أكل الزيت، فخطب الناس، فقال: إن أمير المؤمنين يشتكي بطنه من الزيت، فإن رأيتم [أن] تحلوا له ثلاثة دراهم ثمنَ عُكَّة سمنٍ من بيت مالكم (¬3). ولمّا كتب المهاجرين، جعل عطاءهم خمسةَ آلاف، وكتبَ نفسه كذلك، وكتبَ ابنَه عبدَ الله علي أربعة آلاف، فقال له: إن كان لي حَقٌّ، فأعطِنيه، وإلّا فلا تعطني، فقال لعبد الرحمن بن عوف: اكتبه على ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي الدنيا في "الورع" (ص: 114). (¬2) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 325)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 347). (¬3) رواه ابن شبة في "أخبار المدينة" (1/ 373)، وابن الجوزي فى "مناقب عمر" (ص: 107).

خمسة آلاف، واكتبني أنا علي أربعة آلاف، فقال عبد الله: أنا لا أريد هذا، فقال عمر: لا أجتمع أنا وأنت علي خمسة آلاف (¬1). وكان عمر -رضي الله عنه- يقسم للناس علي قدر فضلهم؛ من الرجال والنساء والصبيان، ولا يدع أحدًا من الناس. وبه إلي ابنِ الجوزيّ، أنا المباركُ بنُ عليٍّ، أنا عليُّ بنُ أحمدَ، أنا محمّدُ بنُ محمّدٍ، أنا أحمدُ بنُ جعفرٍ القطيعيُّ، ثنا إبراهيمُ الحربيُّ، ثنا داودُ بنُ عمرٍو، ثنا ابنُ أبي غنيةَ، ثنا سلامةٌ بنُ منيحٍ، قال: قال الأحنفُ بن قيس: وفدْنا إلي عمر بفتح عظيم، فقال: أين نزلتم؟ فقلنا: في مكان كذا، فقام معنا حتى انتهينا إلي مناخ ركابنا، فجعل يتخللها ببصره، ويقول: ألا اتقيتم الله في ركابكم هذه، أما علمتم أن لها عليكم حقًا؟ ألا خلَّيتم عنها فأكلَتْ من نبت الأرض؟ فقلنا: يا أمير المؤمنين! إنا قدمنا بفتح عظيم، فأحببنا التسرعَ إلي أمير المؤمنين والمسلمين بما يسرُّهم. ثم انصرف راجعًا ونحن معه، فلقيه رجلٌ، فقال: يا أمير المؤمنين! انطلقْ معي، فأَعْدِني علي فلان، فإنه ظلمني، قال: فرفع الدرةَ، فخفق بها رأسه، وقال: تَدَعون عمرَ وهو معترضٌ لكم، حتى إذا انشغلَ في أمر من أمور المسلمين، أتيتموه، أَعْدِني، أَعْدِني؟! فانصرف الرجل وهو يتذمر، فقال عمر: عليَّ الرجل، فألقي إليه المِخْفَقَة، فقال: أمسكْ، قال: لا، ولكن أَدَعُها لله ولك، قال: ليس ذلكَ لك، إما تدعُها لله وإرادة ما عندَه، أو تَدَعُها ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (32880)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 350)، وابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 108).

لي، فاعلم ذلك، قال: أدعُها لله، قال: انصرفْ، ثم جاء يمشي حتى دخل منزله ونحن معه، فافتتح الصلاة، فصلَّي ركعتين، ثم جلس فقال: يا بن الخطاب! كنتَ وضيعًا، فرفعك الله، وكنت ضالًا، فهداك الله، وكنت ذليلًا، فأعزّك الله، ثم حملَكَ علي رقاب المسلمين، فجاءك رجلٌ يَستعديك، فضربْتَهُ! ما تقولُ لربك غدًا إذا أتيته؟ فجعل يعاتب نفسَه معاتبةً ظننتُ أنه من خير أهلِ الأرض (¬1). وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا محمّدُ بنُ أبي منصورٍ، أنا المباركُ بنُ عبدِ الجبار، أنا القاضي أبو الحسين، أنا عمرُ بنُ ثابت، أنا عليُّ بنُ أحمد، ثنا عبدُألله بنُ محمّدٍ القرشيُّ، ثنا محمّدُ بنُ حمادٍ، قال: سمعتُ عبدَ الله بنَ عبدِ المجيد، ثنا عكرمةُ بنُ عمارٍ، أخبرني إياسُ بنُ سلمةَ، عن أبيه، قال: مرَّ عليّ عمرُ بنُ الخطاب وأنا في السوق، وهو مارٌّ في حاجة له، ومعه الدرَّةُ، فقال: هكذا أمِطْ عن الطريق يا سلمةُ، قال: ثم خَفَقَني، فما أصابَ إلا طرفَ ثوبي، فأمطْتُ عن الطريق، فسكتَ عني، حتى كان في العام المقبل، فلقيني في السوق، فقال: يا سلمة! أردتَ الحجَّ العام؟ قلتُ: نعم يا أمير المؤمنين، فأخذَ بيدي، فما فارقَتْ يدُه يدي حتى دخلَ بي بيته، فأخرج كيسًا فيه ست مئة درهم، فقال: يا سلمة! استعنْ بهذه، واعلم أنها من الخَفْقَة التي خَفَقْتُك عامَ أولَ، قلت: يا أمير المؤمنين! ما ذكرتُها حتى ذَكَّرْتنيها، قال: وأنا -والله- ما نسيتُها بعدُ (¬2). ¬

_ (¬1) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 111 - 112). (¬2) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 112).

فانظر بعينك كيف ضربه بجلدة لا تضر، أصابت طرفَ ثوب إنسان، أقام يتفكر فيها سنة، ثم إنه ورّث لربها لأجلها ست مئة؛ خوفًا منها، فما ظنك بقطج والمحصبي اللَّذَين قتلا لأجل إراقة خمر مئةً وعشرين مسلمًا في جامع دمشق، وعلي أبوابه، وافتخرا بذلك هما وسيدُهما، ومع ذلك يزعمون أنهم أعدلُ من عمر بنِ الخطاب، هذا هو الضلال المبين. وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا عبدُ الوهابِ بنُ المباركِ، ومحمّدُ بنُ أبي منصورٍ، قالا: أنا أبو الحسينِ بنُ عبدِ الجبارِ، أنا الحسنُ بنُ عليٍّ الجوهريُّ، أنا أبو عمرَ بنُ حيويه، أنا أبو بكرِ بنُ الأنباريِّ، ثنا إسماعيلُ بنُ إسحاقَ، ثنا اسماعيلُ بنُ أبي قيسٍ، ثنا مالكٌ، عن عاصمٍ، عن عبيدِ الله، قال: قال عمرُ بنُ الخطاب تحتَ شجرة في طريق مكة، فلما اشتدت عليه الشمس، أخذ عليه ثوبَه، وقام، فناداه رجلٌ غير بعيد منه: يا أمير المؤمنين! هل لك في رجلٌ قد رثدتْ حاجتُه، وطال انتظاره؟ قال: من رثدها؟ قال: أنت، قال: فجاراه القول حتى ضربه بالمِخْفَقَة، فقال: عَجِلت عليَّ قبل أن تنظر فيّ، فإن كنتُ مظلومًا، رددتَ إليّ حقي، وإن كنتُ ظالمًا رددتني، فأخذ عمرُ طرف ثوبه، وأعطاه المخفقة، وقال له: اقتضِ، قال: ما أنا بفاعل، فقال: والله! لتفعلنّ، أو لتفعلنّ كما يفعل المنصف من حقه، قال: فإني أغفرُها، فأقبل عمر على الرجل، فقال: أنصف من نفسي أصلح من أن ينتصف مني وأنا كاره -يعني: يوم القيامة-، فلو كنت في الأراك لسمعت حنين عمر -يعني: بكاءه لأجل ذلك-.

فانظر كيف بكي حتى سمع الناس بكاءه لأجل ضربة بجلدة؛ خوفًا من أن تكون بغير حق، [ولمّا] يتحققْ أنها بغير حق. فوالله! لم يبك قانصوه ولا المحصبي وقطج لقتلِ أكثرَ من مئةِ نفسٍ ظلمًا؛ لإراقة خمر، ومع ذلك يزعمون أنهم أعدلُ من عمر، هذا هو العجبُ والافتراء. وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا عبدُ الوهابِ، أنا عاصمُ بنُ الحسنِ، ثنا عليُّ بنُ محمّدٍ، ثنا الحسينُ بنُ صفوانَ، ثنا أبوبكرِ بنُ سعدِ بنِ عبدِ الله بنِ محمّدٍ، ثنا أبي، عن أبي عبيدةَ الجعفيِّ، عن جابرٍ الجعفيِّ: أنه سمع سالمَ بنَ عبد الله قال: نظر عمرُ إلي رجلٌ أذنبَ ذنبًا، فتناوله بالدرَّةِ: فقال الرجل: والله يا عمر! إن كنت أحسنت، فقد ظلمتني، وإن كنت أسأت، فما علمتني، قال: صدقت، فاستغفر الله، دونَكَ فاقْتَدْ من عمر، فقال الرجل: أَهَبُها لله -عَزَّ وَجَلَّ-، وغفر الله لي ولك (¬1). أخبرنا أبو العباسِ الفُولاذيُّ، أنا ابنُ بردس، أنا ابنُ [عبدِ] الجبار، أنا الإربليُّ، أنا الفُراويُّ، أنا الفارسيُّ، أنا الجُلُوديُّ، أنا أبو إسحاقَ الزاهدُ، أنا مسلمٌ، حدثني هارونُ بنُ سعيدٍ الأيليُّ، ثنا ابنُ وهبٍ، حدثني حرملةُ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ شماسةَ، قال: أتيتُ عائشة أسألها عن شيء، فقالت: ممن أنت؟ فقلت: رجلٌ من أهل مصر، فقالت: كيف كان صاحبُكم لكم في غَزاتكم هذه؟ قال: ما نقمنا شيئًا، إن كان ليموت للرجل منا البعيرُ، فيعطيه البعيرَ، ¬

_ (¬1) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 113).

والعبدُ، فيعطيه العبد، ويحتاج إلي النفقة، فيعطيه النفقة، فقالت: أما إنه لا يمنعني الذي فعل في محمد بنِ أبي بكر أخي أن أخبرك ما سمعتُ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في بيتي هذا: "اللَّهُمَّ مَنْ وَليَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا، فَرَفَقَ بِهِمْ، فَارْفُقْ بِهِ" (¬1). أخبرنا أبو العباسِ الحريريُّ، وغيرُه، أنا ابنُ البالسيِّ وغيرُه، أنا المِزَيُّ وغيرُه، أنا ابنُ أبي عمرَ وغيرُه، أنا ابنُ الجوزيِّ، [أنا] محمّدُ بنُ أبي منصورٍ، أنا أبو الحسينِ بنُ عبدِ الجبارِ، أنا أبو الحسنِ الأنماطيُّ، أنا أبو حامدٍ المروزيُّ، أنا أبو العباسِ أحمدُ بنُ الحربِ، أنا الهيثمُ بنُ عَدِيٍّ، [أنا] عبدُ الله بنُ الوليدِ بنِ عبدِ الله بنِ معقلٍ المزنيُّ، حدثني عمارةُ بنُ خزيمةَ، قال: كان عمرُ بن الخطاب إذا استعملَ عاملًا، كتب عليه كتابًا، وأشهدَ عليه رهطًا من الأنصار: أن لا يركَبَ بِرْذَونًا، ولا يأكلَ نقيًّا، ولا يلبسَ رقيقًا، ولا يُغلق بابَه دونَ حاجات [الناس]، ثم يقول: اللهمَّ اشهدْ (¬2). وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا أبو بكرِ بنُ عبدِ الباقي، أنا أبو إسحاقَ البرمكيُّ، أنا ابن حيويه، أنا ابنُ معروفٍ، أنا ابنُ الفهمِ، ثنا محمّدُ بنُ سعدٍ، قال: كان عمرُ بنُ الخطاب قد استعمل النعمانَ علي ميسانَ، وكان يقول الشعر، فقال: ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1828)، كتاب: الإمارة، باب: فضيلة الإمام العادل. (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (32920)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (44/ 277)، وابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 114).

أَلاَ هَلْ أَتَى الْحَسْنَاءَ أَنَّ حَلِيلَهَا ... بِمَيْسَانَ يُسْقَي فِي زُجَاجٍ وَحَنْتَمِ إِذَا شِئْتُ غَنَّتْنِي دَهَاقِينُ قَرْيَةٍ ... وَرَقَّاصَة تَجْثُو عَلَى كُلِّ مَنْسِمِ فَإِنْ كُنْتَ نَدْمَانِي فَبِالأَكْبَرِ اسْقِني ... وَلَا تَسْقِنِي بِالأَصغَرِ الْمُتَثَلِّمِ لَعَلَّ أَمِيرَ الْمُومِنِينَ يَسُوءُهُ ... تنَادُمُنَا فِي الْجَوْسَقِ الْمُتَهَدِّمِ فلما بلغ عمرَ قولُه، قال: نعم، والله! إنه ليسوءُني، من لقيه، فليخبره أني قد عزلتُه، فقدم عليه رجلٌ من قومه، فأخبره بعزله، فقدمٍ علي عمر، فقال: والله! ما صنعت شيئًا مما قلت، وإنما كنتُ امرأً شاعرًا، فوجدتُ فضلًا من قول، فقلتُ فيه الشعر، فقال عمر: والله! لا تعملُ لي علي عملٍ ما بقيتُ، وقد قلتَ ما قلتَ (¬1). وفي رواية: لما بلغ عمرَ، كتب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر: 2، 3]. أما بعدُ: فقد بلغني قولُك: ¬

_ (¬1) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (4/ 140)، وابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 115).

لعَلَّ أَمِيرَ الْمُومِنِينَ يَسُوءُهُ ... تنَادُمُنَا فِي الْجَوْسَقِ المُتَهَدِّمِ وايم الله! ليسوءُني، وعزلَه. فلما قدمَ علي عمر، قال: والله! ما شربتُها قَطُّ، وما ذاك الشعرُ إلا شيءٌ طفح علي لساني، فقال عمر: أظنُّ ذاك، ولكنْ لا تعملُ لي علي عمل أبدًا (¬1). وبه إلي ابن الجوزي، أنا محمّدُ بنُ عبدِ الملك، أنا أحمدُ بنُ عليٍّ، أنا أبو عبدِ الله محمّدُ بنُ عبدِ الواحدِ، أنا محمّدُ بنُ العباسِ، ثنا أحمدُ بنُ محمّدٍ، ثنا محمّدُ بنُ القاسمِ، عن عبّادِ بنِ الوليدِ، قال: سمعتُ محمّدَ بنَ عبدِ الغفارِ، قال: استعمل عمرُ بن الخطاب رجلًا من قريش علي عمل، فبلغه أنه قال: اسْقِنِي شَرْبَةً ألذُّ عَلَيْهَا ... وَاسقِ بِاللهِ مِثْلَهَا ابْنَ هِشَامِ فأشخصَ عليه يطلبه، وذكر أنه إنما أشخص من أجل البيت، ثم أشخص بآخر، فلما قدم عليه، قال: ألستَ القائل: اسْقِنِي شَرْبَةً ألذُّ عَلَيْهَا ... وَاسْقِ بِاللهِ مِثْلَهَا ابْنَ هِشَامِ قال: نعم يا أمير المؤمنين، ولكن قلتُ بعده، وما بلغك: ¬

_ (¬1) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 116).

عَسَلًا بَارِدًا بِمَاءِ سَحَابٍ ... إِنَّنِي لَا أُحِبُّ شُرْبَ المُدَامِ قال: اللهِ؟ قال: آللهِ، يعني: أنه قال ذلك حين قاله، فلما حلف له أنه قاله كذلك، قال: ارجعْ إلي عملك (¬1). وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا محمّدُ بنُ أبي طاهرٍ، أنا أبو محمّدٍ الجوهريُّ، أنا ابنُ حيويه، ثنا أبو الحسنِ بنُ معروفٍ، ثنا الحسينُ بنُ الفهمِ، ثنا محمّدُبنُ سعدٍ، أنا محمّدُ بنُ عمرَ، حدثني عاصمُ بنُ عبدِ اللهِ الجهنيُّ، عن عمرانَ بنِ سويدٍ، عن ابنِ المسيَّبِ، عن عمرَ، قال: أَيُّما عاملٍ لي ظلمَ أحدًا، فبلغَتْني مظلَمَتُه، فلم أُغَيِّرْها، فأنا ظلمتُه (¬2). فانظر إلي هذا الكلام، وكل نجس من هؤلاء الظَّلَمة يتخذ أعوانًا يدعمهم في مئة يظلمون له الليلَ والنهارَ، ويقول: أنا لا أظلم، ويقول: هؤلاء يظلمون! يظن بجهله أنه إذا لم يباشرْ، وباشره غيرُه: أنه لا يعاقَب عليه، وما يعلم أن فعلهم كلَّه بمنزلة فعله، وظلمَهم بمنزلة ظلمِه. وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا أبو غالبٍ الماورديُّ، وأبو سعدٍ البغدادي، قالا: أنا المطهرُ، أنا أبو جعفرِ بنُ المرزبانِ، أنا محمّدُ بنُ إبراهيم، ثنا لُوَيْنٌ، ثنا شريكٌ، عن عياضٍ الأشعريِّ: قال: قدم على ¬

_ (¬1) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 116). (¬2) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 305).

عمر فتحٌ من الشام، فقال لأبي موسى: ادعُ كاتبك يقرؤه علي الناس في المسجد، قال أبو موسى: إنه نصراني لا يدخل المسجد، قال عمر: ولِمَ استكتبت نصرانيًا؟ (¬1). وبه إلي شريك، عن أبي هلال، عن أشق، قال: كنت عبدًا نصرانيًا لعمر، فقال: أسلِمْ حتى نستعينَ بك علي بعض أمورِ المسلمين؛ لأنه لا ينبغي لنا أن نستعين علي أمورهم مَنْ ليس منهم. وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا محمّدُ بنُ ناصرٍ، أنا محمّدُ بنُ علىٍّ، ثنا عليُّ بنُ الحسن، أنا الحسينُ بنُ أحمدَ، أنا أبو يعلي الموصِلِّيُّ، ثنا غسانُ بنُ الربيعِ، عن حمادِبنِ سلمةَ، عن عطاءِ بنِ السائبِ، عن مُحاربِ بن دِثارٍ، عن عمرَ بنِ الخطاب: أنه قال لرجل قاضٍ: من أنت؟ قال: أنا قاضي دمشق، قال: كيف تقضي؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإذا جاءك ما ليس في كتاب الله؟ قال: أقضي بسنةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فإذا جاءك ما ليس في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأي، وأؤامر جلسائي، قال عمر: أحسنتَ. وقال: إذا جلست فقل: اللهمَّ إني أسألك أن أفتي بعلم، وأقضي بحكم، وأسألك العدلَ في الغضب والرضا. قال: فسار الرجل ما شاء الله أن يسير، ثم رجع إلي عمر، فقال: ما أرجعك؟ قال: رأيت القمر والشمس يقتتلان، ومع كل واحد منهما جنود من الكواكب، فقال: مع أيهما كنت؟ قال: كنت مع القمر، فقال: يقول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ¬

_ (¬1) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 116).

آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12] [فقال له،: لا تلي لي عملًا، اذهب (¬1). وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا إسماعيلُ بنُ أحمد، أنا عمرُ بنُ عبيدِ الله، أنا أبو الحسينِ بنُ بشرانَ، أنا عثمانُ بنُ أحمدَ حنبل، حدثني أبو عبد الله أحمدُ بنُ حنبل، ثنا هاشمُ بنُ القاسم، ثنا المباركُ بنُ فضالةَ، عن الحسن، قال: قال عمر: أعياني أهلُ الكوفة، إن استعملتُ عليهم ليّنًا، اسضعفوه، وإن استعملت عليهم شديدًا، شكوه، ولوددت أني وجدتُ رجلًا قويًا أمينًا مسلمًا أستعمله عليهم، فقال رجلٌ: يا أمير المؤمنين! أنا والله أدلّك علي الرجل القوي الأمين المسلم، وأثنى عليه، فقال عمر: ومن هو؟ قال: عبد الله بن عمر، قال عمر: قاتلك الله، واللهِ! ما أردتَ اللهَ بها (¬2). فانظر كيف مَقَتَه حين ذكر ذلك، وكره ولايَة ولدِه، وكذلك قال عند موته: يَشهدكم عبدُ الله بنُ عمرَ -يعني: في الولاية بعدَه-، ولا حقَّ له فيها، فلم يجعل إليه شيئًا، لا في حياته، ولا بعد موته. وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا عبدُ الوهابِ بنُ المباركِ، أنا أبو الحسينِ بنُ عبدِ الجبارِ، أنا القاضي أبو عبدِ الله النصيبيُّ، ثنا إسماعيلُ بنُ سعيدٍ، ثنا أبو بكير الأنباريُّ، ثنا أبو عبدِ الله المقدَّمِيُّ، ثنا أحمدُ بنُ المقدامِ، ثنا مرحومُ بنُ عبدِ العزيزِ، ثنا عاصمُ بنُ بهدلةَ، ¬

_ (¬1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (68/ 103 - 104). (¬2) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 118).

قال: كان عمرُ بنُ الخطاب جالسًا مع أصحابه، فمرّ به رجلٌ، فقال له: ويل لك يا عمرُ من النار، فقال رجلٌ: يا أمير المؤمنين! ألا ضربته؟ -وأُقسمُ بالله لو قال مثلَها رجلٌ لقطج، لَقَطَع لسانه، أو عاقبه العقاب الشديد- فقال له رجلٌ- أظنه عليًا-: ألا سألته؟ فقال: عليَّ الرجل، فقال له: لِمَ قلتَ ذلك؟ قال: تستعمل العامل، وتشرط عليه شروطًا، ولا تنظر في شروطه، قال: وما ذاك؟ قال: عاملُكَ علي مصر اشترطْتَ عليه شُروطًا، فترك ما أمرتَه به، وانتهكَ ما نهيته عنه. وكان عمر إذا استعمل عاملًا، اشترط عليه: أن لا يركب دابةً، ولا يلبس رقيقًا، ولا يأكل نقيًّا، ولا يغلق بابه من حوائج الناس وما يصلحهم. قال: فأرسل إليه رجلين، فقال: سَلا عنه، فإن كان كذبَ عليه، فأعلماني، وإن كان صدق، فلا تملِّكاه من أمره شيئًا حتى تأتياني به، وإن وجدتماه أغلقَ بابه دون الناس، فأحرقا بابه- وكان يأمر بذلك-، قال: فقدما، فسألا عنه، فوجداه قد صدق عليه، فاستأذنا ببابه، فقيل: إنه ليس عليه إذن، فقالا: ليخرجنَّ إلينا، أو لنحرقنَّ بابه، وجاء أحدُهما بشعلة من نار، فلما رأى ذلك حاجبُه، أخبره، فخرج إليهما، فقالا: إنا رسولا عمر لتأتيه، فقال: إن لي حاجة حتى نتزود، قالا: ما أنت بالذي تأتي أهلك، فاحتملاه، فأتيا به عمرَ، فسلم عليه، فقال: من أنت ويلك؟ قال: عاملُك علي مصر -وكان قد ابيضَّ وسَمِنَ من ريف مصر-، قال: استعملتُك، وشرطتُ عليك شروطًا، فتركتَ ما أمرتُك به، وانتهكْتَ ما نهيتتُك عنه، أما والله! لأعاقبنَّك عقوبةً أبلغ إليك فيها، ائتوني بدرَّاعة من كساء، وعصا، وثلاثِ مئةِ شاةٍ من شاءِ الصدقة، فقال: البسْ هذه الدرَّاعة، فقد رأيت

أباك، وهذه خيرٌ من دراعته، وهذه خيرٌ من عصاه، ودفع إليه العصا، وقال: اذهب بهذه الشياه، فارعَها في مكان كذا وكذا، وذلك في يوم صائف، ولا تمنعِ السابلةَ من ألبانها ولحومِها شيئًا، واعلم أنا آلَ عمر لم نصب من شاء الصدقة، ولا من ألبانها ولحومها شيئًا. فلما ذهب، ردّه، فقال: أفهمتَ ما قلتُ لك؟ وردَّد عليه الكلام ثلاثًا، فلما كان في الثالثة، ضرب بنفسه الأرض بين يديه، وقال: ما أستطيع ذلك، فإن شئتَ، فاضربْ عنقي. قال: فإن رددتُك إلي عملك، أيَّ رجلٌ تكون؟ قال: لا ترى مني إلا ما تحبُّ، فردّه، فكان خيرَ عامل (¬1). وهكذا ينبغي للسلطان أن ينتقد عمّاله. وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا ابنُ ناصرٍ، أنا المباركُ بنُ عبدِ الجبار، وعبدُ القادرِ بنُ محمّدٍ، قالا: ثنا أبو إسحاقَ البرمكيُّ، أنا أبو بكرِ بنُ بخيتٍ، أنا أبو جعفرِ بنُ ذريحٍ، ثنا هَنّادٌ، ثنا أبو معاويةَ، عن عاصمٍ الأحولِ، عن أبي عثمانَ، قال: استعمل عمرُ بنُ الخطاب رجلًا من بني أسدٍ علي عمل، فدخل ليسلِّمِ عليه، فأتى عمرُ ببعض ولده، فقبَّله، فقال له الأسدي: أتقبِّلُ هذا يا أمير المؤمنين؟ فواللهِ! ما قبلت ولدًا لي قَطّ. فقال عمر: فأنتَ واللهِ بالناسِ أقلُّ رحمة، لا تعملُ لي عملًا، فردّ عهده (¬2). وبه إلي ابنِ الجوزيِّ، أنا عبدُ الوهابِ بنُ المباركِ، ثنا ¬

_ (¬1) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 119 - 120). (¬2) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 120). ورواه البخاري في "الأدب المفرد" (ص: 48) نحوه.

الباب الخامس: فيما يلزم كل واحد منهم فعله، وما لا يلزمه، وما يتعلق به

أبو الحسينِ بنُ الطيوريِّ، ثنا الحسينُ بنُ عليٍّ الطباشيريُّ، أنا أبو جعفرٍ السلميُّ، أنا أبو بكرٍ الباغنديُّ، ثنا عثمانُ بنُ أبي شيبةَ، ثنا الفضلُ بنُ دُكَيْنٍ، عن حمادِ بنِ زيدٍ، عن أيوبَ، عن ابنِ سيرينَ، قال: قال عمرُ بنُ الخطاب: والله! لأنزعنّ فلانًا عن القضاء، ولأستعملن على القضاء رجلًا إذا رآه الفاجر، فَرِقَه. وروي: أن عمرَ وجَد على بعض عماله، فترامى على زوجةِ عمرَ، فقالت له: يا أمير المؤمنين! فيمَ وجدْتَ عليه؟ فقال: يا عدوةَ الله! فيما أنت وهذا؟ إنما أنتِ لعبةٌ يلعب بك، وتتركين (¬1). وروينا عن الحسنِ: أن عمرَ قال: إن عشتُ، لأسيرنَّ في الرعية حولًا، وأعمل للناس، فإن حوائجهم تقطع عني آمالهم، فلا يصلون إليّ، وعمالُهم لا يرفعونها إليّ، أسيرُ إلي الشام، فأُقيم بها شهرين، ثم أسير إلي مصر، فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلي البحرين، فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلي الكوفة، فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلي البصرة، فأقيم بها شهرين (¬2). وروينا عن زيد بن وهب (¬3). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وأنجس من فعلهم هذا وأقبح: أنهم قد استعملوا الحطّ على بعضهم والذمَّ، يدخل أحدُهم على الأتراك، فيذكر رفيقه أو غيره، حتى ¬

_ (¬1) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 121). (¬2) رواه ابن الجوزي في "مناقب عمر" (ص: 121). (¬3) حصل في الأصل الخطي خرم بين هذا الموضع والموضع الذي يليه، فجاء في اللوح (82 / أ): "وروينا عن زيد بن وهب"، ثم جاء في (82 / ب) من اللوح نفسه، في أوله: "وأنجس من فعلهم هذا ... "، ويقدر هذا السقط بعشرين لوحًا.

ولو كان من خير الناس وأعلمِهم، فيذمُّه ويحقِّره، ويقع فيه بالنقائص و [الشتم] حتى لايجعله مسلمًا، فأوجبَ ذلك لهم منهم المقتَ والبعدَ، والطمعَ فيهم، والازدراء لهم؛ بحيث إن الفقهاء قد صاروا عندهم أنجسَ خلق الله، وأبخسه، ولو أن أهل العلم صانوه، صانهم، ولو عظّموه في النفوس، لَعُظّم. أخبرنا جَدِّي، أنا الصلاحُ بنُ أبي عمرَ، أنا الفخرُ بنُ البخاريِّ، أنا حنبلٌ، أنا ابنُ الحُصينِ، أنا ابنُ المُذْهِبِ، أنا أبو بكرٍ القطيعيُّ، أنا عبدُ الله بن أحمدَ، حدثني أبي، ثنا مؤمل بنُ إسماعيلَ، ثنا حَمَّادُ بنُ سلمةَ، ثنا داودُ بنُ أبي هندٍ، عن الشعبيِّ، عن جابرِ بنِ سَمُرَةَ، قال: سمعتُ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: " يَكُونُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ اثْنَا عَشَرَ خَلِيَفَةً" (¬1). وبه إلي الإمامِ أحمدَ، ثنا وكيعٌ، ثنا الأعمشُ، عن سهلٍ أبي الأسدِ، عن بكرٍ الجزريِّ، عن أنسٍ، قال: كنا في بيت رجلٌ من الأنصار، فجاء رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذ بِعِضادَتَي الباب، فقال: "الأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ، وَلَهُمْ عَلَيْكُمْ حَقٌّ، وَلَكُمْ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَإِذَا اسْتُرْحِمُوا، رَحِمُوا، وَإِذَا حَكَمُوا، عَدَلُوا، وَإِذَا عَاهَدُوا، وَفَوْا، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "مسنده" (5/ 106). وروى مسلم (1821)، كتاب: الإمارة، باب: الناس تبع لقريش والخلافة في قريش، نحوه. (¬2) رواه الإمام أحمد في "مسنده" (3/ 183)، والنسائي في "السنن الكبرى" (5942). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/ 192): رجاله ثقات.

وبه إلي الإمامِ أحمدَ، ثنا حسنُ بنُ موسى، ثنا سكينُ بنُ عبدِ العزيزِ، عن سيارِ بنِ سلامةَ أبي المنهالِ الرياحيِّ، قال: دخلتُ مع أبي على أبي بَرْزَةَ الأسلَمِيِّ، وإن في أذني يومئذٍ لَقُرطين، وإني لغلام، قال: فقال أبو برزة: إني أحمدُ الله أني أصبحت لائمًا لهذا الحيِّ من قريش، فلانٌ ههنا يقاتل على الدنيا، وفلان ههنا يقاتل على الدنيا، وفلان ههنا يقاتل على الدنيا -يعني: عبد الملك بن مروان-، قال: حتى ذكر ابنَ الأزرق، قال: ثم قال: إن أحبَّ الناسِ إليّ لهذه العصابةُ المائدة، الخميصةُ بطونُهم من أموال المسلمين، والخفيفةُ ظهورُهم من دمائهم، وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الأُمَرَاءُ مِنْ قُرَيْشٍ، الأُمَرَاءُ مِنْ قُرَيْشٍ، الأُمَرَاءُ مِنْ قُرَيْشٍ، عَلَيْهِمْ حَقٌّ، وَلَكُمْ عَلَيْهمْ حَقٌّ فَافْعَلُوا -ثلاثًا- مَا حَكَمُوا فَعَدَلُوا، وَاسْتُرْحِمُوا فَرَحِمُوا، وَعَاهَدُوا فَوَفَوْا، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَعَلَيْهِ لعنةُ اللهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" (¬1). وبه إلي الإمامِ أحمدَ، ثنا سليمانُ بنُ داود، ثنا سكينٌ، ثنا سيّارُ بنُ سلامةَ، سمع أبا برزةَ، يرفعُه إلي النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "الأئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ، إِذَا اسْتُرْحِمُوا رَحِمُوا، وَإِذَا عَاهَدُوا وَفَوْا، وَإِذَا حَكَمُوا عَدَلُوا، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وِالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "مسنده" (4/ 424)، وأبو يعلي في "مسنده" (3645). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/ 193): رجال أحمد رجال الصحيح خلا سكين بن عبد العزيز وهو ثقة. (¬2) رواه الإمام أحمد في "مسنده" (4/ 421)، والروياني في "مسنده" (768).

وبه إلي الإمامِ أحمدَ، ثنا حسنٌ، ويحيى بنُ إسحاقَ، ثنا ابنُ لَهيعةَ، قال: حدثنا خالدُ بنُ أبي عمرانَ، عن القاسمِ بنِ محمّدٍ، عن عائشةَ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "أَتَدْرُونَ مَنِ السَّابِقُونَ إِلَي ظِلِّ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ "، قالوا: الله ورسولُه أعلم، قال: "الَّذِينَ إِذَا أُعْطُوا الْحَقَّ قَبِلُوهُ، وَإِذَا سُئِلُوهُ بَذَلُوهُ، وَحَكَمُوا لِلنَّاسِ كَحُكْمِهِمْ لأنْفُسِهِمْ" (¬1). وبه إلي الإمامِ أحمدَ، ثنا يحيى، عن عبيدِ الله، أخبرني نافعٌ، عن ابنِ عمر، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَي الْمَرْءِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أمِرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَلاَ سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ" (¬2). وبه إلي عبدِ الله بنِ الإمامِ أحمدَ، ثنا عبيدُ الله بنُ عمرَ القواريريُّ، ثنا ابنُ مهديٍّ، عن سفيانَ، عن زبيدٍ، عن سعدِ بنِ عُبيدة، عن أبي عبدِ الرحمن السلَميِّ، عن عليٍّ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ في مَعْصِيَةِ اللهِ" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "مسنده" (6/ 67)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 16)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (11139). قال أبو نعيم حديث غريب، تفرد به ابن لهيعة عن خالد. (¬2) رواه الإمام أحمد في "مسنده" (2/ 17)، ومسلم (1839)، كتاب: الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء في غير معصية. (¬3) رواه الإمام أحمد في "مسنده" (1/ 131). وروى نحوه مسلم (1840)، كتاب: الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء في غير معصية.

وبه إلي الإمامِ أحمدَ، ثنا محمّدُ بنُ جعفرٍ، ثنا شعبةُ، عن محمّدِ بنِ أبي يعقوبَ، سمعت شقيقَ بنَ حيّانَ يحدِّثُ عن مسعودِ بنِ قَبيصَة، [أو قبيصة] بنِ مسعودٍ: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنَّهُ سَتُفْتَحُ لَكُمْ مَشَارِقُ الأَرْضِ وَمَغَارِبُهَا، وَإِنَّ عُمَّالَهَا في النَّارِ، إِلَّا مَنِ اتَّقَى اللهَ، وَأَدَّى الأَمَانَةَ" (¬1). أخبرنا جدِّي وغيرُه، أنا الصلاحُ بنُ أبي عمرَ، أنا الفخرُ بنُ البخاريِّ، أنا ابنُ طبرزذ، أنا أبو الفتح الدُّوميّ، أنا أبو بكرٍ الخطيبُ، أنا أبو عمرَ الهاشميُّ، أنا أبو عليٍّ اللؤلؤيُّ، أنا أبو داودَ، ثنا موسى بنُ عامرٍ، ثنا الوليدُ، ثنا زهيرُ بنُ محمّدٍ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ القاسمِ، عن أبيه، عن عائشةَ -رضي الله عنها-، قالت: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا أَرَادَ اللهُ بِالأمِيرِ خَيْرًا، جَعَلَ لَهُ وَزِيرَ صِدْقٍ، إِنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ، وَإِنْ ذَكَرَ أَعَانَهُ، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِهِ غَيْرَ ذَلِكَ، جَعَلَ لَهُ وَزِيرَ سُوءٍ، إِنْ نَسِيَ لَمْ يُذَكِّرْهُ، وَإِنْ ذَكَرَ لَمْ يُعِنْهُ" (¬2). • • • ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "مسنده" (5/ 366)، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/ 85): فيه مسعود وشقيق بن حبان وهما مجهولان. ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (6/ 199) عن الحسن مرسلًا. (¬2) رواه أبو داود (2932)، كتاب: الخراج والفيء والإمارة، باب: في اتخاذ الوزير، قال النووي في "رياض الصالحين" (ص: 144): إسناده جيد على شرط مسلم.

الباب السادس فيما لكل واحد من الحق والطاعة، ومن لا تجب طاعته

[الباب السَّادس فيما لكل واحد من الحق والطاعة، ومن لا تجب طاعته] فصل الأمور والحقوق التي يجب على الحاكم [أن] يقدّم أكثَرها ولا يخرج من الإمامة إلا بالكفر -والعياذُ بالله-، فلا يجب حينئذ له طاعةٌ، فإن كان الكفرُ بارتكاب بِدْعَة التجهُّمِ، أو الاعتزالِ أو الرفضِ: فقد اختلف العلماءُ فيه. وكذلك اختلفتِ الروايةُ عن الإمام أحمدَ فيه، في ذلك نَقْلُ روايتين: إحداهما: يخرج به من الإمامة. والثانية: لا يخرج به. فصل فأما إن عمل بالمعاصي: فإنه لايخرج بذلك من الإمامة، ولا يخرج من الطاعة بذلك منه.

فصل

وأما إن أَمَر الناسَ بالمعاصي: فلا تجب طاعتُه في ذلك، فلا طاعةَ في ترك الصلاة والزكاة والصوم والحج، ولا ارتكاب المعاصي: فلا طاعةَ في قتل نفسٍ محرَّمَة، ولا زِنًا، ولا شربِ خمر، ولا معاملةٍ بالربا، ولا لِواطٍ، ولا اكلِ أموال الناس بالباطل، ونحو ذلك. فصل وعلي الناس نصرةُ الإمام، والقتالُ معه، والنصحُ له، والدعاءُ له، وكذلك عليه النصحُ لهم، وعدمُ الغش، والذبُّ عنهم، ورحمتُهم جهده. فصل وأفضلُ الشهداء كلمةُ حَقٍّ بين يَدَيْ سلطانٍ جائر، فكان فيه حتفُه، كما روينا ذلك في الحديث (¬1)، وقد ذكرنا على أنه لا ينكر على الإمام إلا موعظة. وقد روينا: أن رجلًا جاء إلي بعض الخلفاء، فقال له: إني أريد أن أكلمك كلامًا فيه غِلْظَة، فاحتملْه لي، فقال: لا ولا نعمةَ عينٍ ولا كرامةَ؛ فإن الله -عَزَّ وَجَلَّ- بعث مَنْ هو خيرٌ منك إلي من هو شرٌّ مني، وأمرَه أن يكلمه كلامًا لَيِّنًا (¬2). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4344)، كتاب: الملاحم، باب: الأمر والنهي، واللفظ له، والترمذي (2174)، في الفتن، باب: أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر، وابن ماجه (4011)، كتاب: الفتن، باب: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-. قال الترمذي: حديث حسن غريب. (¬2) رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم" (ص: 172)، والموعوظ هو =

وقد أخبرنا جدِّي وغيرُه، أنا الصلاحُ بنُ أبي عمرَ، أنا الفخرُ بنُ البخاريِّ، أنا أبو عبدِ الله بنُ راجحٍ، أنا السلفيُّ، أنا أبو الحسنِ العلاّفُ، ثنا أبو الحسنِ الحماميُّ، ثنا أبو بكرٍ الموصِليُّ، ثنا محمّدُ بنُ معدانَ، ثنا أبو عمرٍو النحويُّ، عن الفضل بنِ الربيعِ، قال: بينا أنا ذاتَ ليلة في منزلي بمكة، إذ أتاني رجلٌ، فدقّ بابي، فخرجت، فإذا أنا بهارون، فقلت: يا أمير المؤمنين! لو أرسلتَ إليّ حتى آتِيَك، قال: ويحك يا عباسي! إنه حاك في صدري شيء، فهل تعرف لي أحدًا من العلماء؟ فقلت: نعم، سُفيان بنُ عُيينة، قال: وهو شاهد؟ قلت: نعم، فانطلقنا إليه، فدققتُ عليه الباب، فقال: من هذا؟ فقلت: أجبْ أميرَ المؤمنين، فخرج مسرِعًا، فقال: يا أمير المؤمنين! لو أرسلتَ إليّ حتى آتيَكَ، قال: خذ لما جئناكَ له، فحدَّثه ساعة، ثم قال له: يا ابنَ عُيينة! أعليك دَيْن؟ قال: نعم يا أميرَ المؤمنين، قال: يا عباسي! اقضِ دينه. فخرجنا من عنده، فقال لي: يا عباسي! ما أغنى عني صاحبُك شيئًا، فهل تعرف لي غيرَه؟ قلت: نعم، عبدُ الرزاق الصنعانيُّ، فدققتُ الباب، فقال لي: من هذا؟ فقلت: أجبْ أميرَ المؤمنين، فخرج مسرعًا، فقال مثلَ ما قال سفيانُ، فقال: خذ لما جئناك له، فحدَّثه ساعة، فقال: يا عبد الرزاق! أعليك دَيْن؟ قال: نعم، قال: يا عباسي! اقض دينه. قال: فخرجنا، فقال: يا عباسي! ما أغنى صاحباك شيئًا، فهل تعرف غيرَهما؟ قلت: نعم، ¬

_ = هارون الرشيد عندما كان يطوف بالبيت، وكذا ذكره ابن كثير في "البداية والنهاية" (10/ 217).

ههنا فُضيل بنُ عياض، قال: وشاهد هو؟ قلت: نعم، قال: فأتينا فضيلًا، فإذا هو في غرفة له قائمٌ يصلي يتلو آية من القرآن، فجعل يردِّدها، فجعل هارونُ يستمع ويبكي، وكان هارون رجلًا رقيقًا، قال: فدققتُ عليه الباب، فقال: من هذا؟ قلت: أجبْ أمير المؤمنين، فقال: مالي ولأمير المؤمنين؟ قلت: رحمك الله، أوما عليك طاعة؟ قال: أو ليسَ قد رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ لِلْمُومِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ"؟ فنزل ففتح الباب، ثمّ طلع الغرفة، فأطفأ السراج، ثمّ التجأ إلي زاوية من زوايا الغرفة، قال: فجعلتُ أجول أنا وهارون في البيت بأيدينا، فسبقت كفُّ هارون كفي إليه، فسمعتُه وهو يقول: أوّه من كَفٍّ ما ألينَها إن نجتْ غدًا من عذاب الله تعالي، قال: فعلمتُ أنه سيكلمه بكلام نقي من قلب نقي، قال: خذ لما جئناك له، فقال: يا أمير المؤمنين! لما ولي عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ الخلافةَ دعا سالمَ بنَ عبدِ الله بنِ عمر -رضي الله عنهم-، ومحمّدَ بنَ كعبٍ القرظيَّ، ورجاءَ بنَ حيوةَ الكنديَّ. فقال: ويحكم! إني قد بُليتُ بهذا البلاء، فأشيروا عليَّ، فعدَّ الخلافة بليةً، وعَدَدْتَها نعمةً أنت وأصحابُك، فقال: سالم بنُ عبد الله: يا أمير المؤمنين! إذا أردتَ النجاة غدًا من عذاب الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فصم [عن] الدنيا، وليكن إفطارُك منها الموت. وقال له محمّدُ بنُ كعبٍ القرظيُّ: يا أمير المؤمنين! إذا أردتَ النجاة غدًا من عذاب الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فليكن كبيرُ المسلمين عندك أبًا، وأوسطُهم عندك أخًا، وأصغرُهم عندك ولدًا، فأكرِمْ أباك، ووقّرْ أخاك، وتحنّنْ على ولدِك.

وقال له رجاءُ بنُ حيوةَ: يا أمير المؤمنين! إذا أردتَ النجاة غدًا من عذاب الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فأحبَّ للمسلمين ما تحبُّ لنفسك، واكرهْ لهم ما تكرهُ لنفسك، ثم مُتْ إذا شئت. وإني أقول لك هذا، وإني لأخافُ عليك أشدَّ الخوف من يومٍ تزلُّ فيه الأقدام، فهل معك مثلُ هذا -رحمك الله-، أو من يأمرُك بمثل هذا؟ فبكي هارونُ حتى غُشي عليه. فقلت له: ارفقْ بأميرِ المؤمنين -رحمك الله-، فقال: يا بن أم الربيع! تقتلُه أنت وأصحابُك، وأرفُقُ به أنا؟! قال: فأفاق هارون، ثم استوى جالسًا، فقال: زدني، فقال: يا أمير المؤمنين! بلغني أن واليًا لعمرَ بنِ عبد العزيزِ شُكي إليه، فكتب إليه: يا أخي! أذكّرك طولَ سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد، فإنَّ أجلك يطردُك إلي الموت نائمًا ويقظانًا، وإياكَ أن ينصرف بك من عند الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فيكون آخر العهد، وينقطع الرجاء. فلما قرأ الكتاب، طوى البلاد حتى قَدِم على عمر، فقال: ما أقدمَكَ؟ قال: قد خلعْتَ قلبي بكتابك، ولا أعودُ إلي ولاية حتى ألقي الله -عَزَّ وَجَلَّ-. فبكي هارون حتى غُشي عليه، ثم استوى جالسًا، فقال: زدني- يرحمك الله-، قال: إن أباك عمَّ المصطفي - صلى الله عليه وسلم - سأل المصطفي - صلى الله عليه وسلم -: فقال: أمِّرْني، فقال: "يَا عَبَّاسُ! يَا عَمَّ رَسُولِ اللهِ! نَفْسٌ تُحْيِيهَا خَيْر مِنْ إِمَارَة لَا تُحْصِيهَا؛ فَإِنَّ الإِمْرَةَ حَسْرَةٌ وَنَدَامَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". قال: زدني، قال: يا حسن الوجه! أنت الذي يسألك الله -عَزَّ وَجَلَّ- عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجهَ الحسنَ من النار، فافعل، ولا تصبح وتمسي وفي قلبك لأحدٍ

من أهل ولايتك غِشّ؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ [شَيْئًا]، فَأَصبَحَ لَهُمْ غَاشًّا، لَمْ يَرحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ". قال: رحمك اللهُ! هل عليك دَيْن؟ قال: نعم، دين لربي -تبارك وتعالى- لم يحاسبني بعدُ، فويل لي إن ناقشني، وويلٌ لي إن ساءَلَني، وويلٌ لي إن وافقني، وويلٌ لي إن لم أُلْهَم حجتي. قال: أُعفيكَ من دين العباد؟ قال: لا، لأن عندي خيرًا كثيرًا لا أحتاج معه إلي ما في أيدي الناس. قال أبو عمر: كأنه يعني القرآنَ والسننَ والدعاء. قال: فهذه ألفُ دينار خذْها تستعين بها على عيالك وزمانك، وتوسِّع بها عليهم، قال: إن ربي -عَزَّ وَجَلَّ- لم يأمرني بهذا، أمرني أن أُطيع أمره، وأصدّق وعدَه، وقد قال- تبارك وتعالي-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58]، فراجعَه، فقال: يا هذا! أنا أصفُ لك طريقَ النجاة، وأنت تكافئني بمثل هذا؟! ثم صَمَتَ فلم يردَّ علينا شيئًا حتى خرجْنا من عنده، فقال هارون: يا عباسي! إذا دَلَلْتَنى، فدلّني على مثلِ هذا، هذا سيدُ المسلمينَ اليومَ (¬1). وقد قرأتُ هذه الحكايةَ على الشيخْ شهابِ الدين بنِ هلالٍ، فكتب لي بخطه: عن ابنِ المحبِّ، عن النابلسي، عن الواسطيِّ، عن الشيخ موفقِ الدين، وبعضهم ينكر ذلك. ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (8/ 105 - 108)، والبيهقي في "شعب الإيمان": (7425 - 7426).

وقرأ بها على الشهاب بن الشريفة، عن المشايخ الثلاثة، أنا شيخُ الإسلام بنُ أبي عمر وغيرُه، أنا شيخُ الإسلام موفقُ الدينِ، أنا محمد، ثنا أحمدُ، ثنا سليمانُ بنُ أحمدَ، ثنا محمّدُ بنُ زكريا الغلابيُّ، ثنا أبو عمرَ الحرميُّ، ثنا الفضلُ بنُ الربيع، فذكره، وفيه: أن هارون قال له: هذه ألفُ دينار خذْها لك، فأنفقها، وتقوَّ على عبادة ربك، فقال: يا سبحان الله! أدلُّك على النجاة، وأنت تكافئني بمثل هذا؟! سلَّمك الله، ووفقك، ثم صَمَتَ فلم يكلِّمنا، فخرجنا من عندِه، فلمَّا أَنْ صرنا من عندِه على الباب، قال لي هارون: يا عباسي! إذا دَلَلْتَني على رجلٌ، فدُلَّني على مثلِ هذا، هذا سيدُ المسلمين اليوم. قال غيرُ أبي عمَر: فبينما نحن كذلك، إذ دخلَتْ عليه امرأةٌ من نسائه، فقالت: يا هذا! قد ترى سوءَ ما نحن فيه من ضيق الحال، فلو قبلْتَ هذا المال، تَفَرَّجنا به، فقال: مثلي ومثلُكم كمثل قوم لهم بعير يأكلون من كَسْبه، فلما كبر، نحروه، وأكلوا لحمَه، فلما سمع هارونُ الكلام، قال: نرجعُ، فنسعى أن يقبل المال، قال: فدخل، فلمّا علم فُضيلٌ، خرج، فجلس على تراب في السطح على باب الغرفة، فجاء هارونُ فجلس إلي جنبه، فجعل يكلِّمه، فلم يجبهُ، فبينما نحن كذلك، إذ خرجت جاريةٌ سوداءُ، فقالتْ: يا هذا؟ لقد آذيتَ الشيخَ منذُ الليلة، فانصرِفْ -رحمك الله-، قال: فانصرفْنا (¬1). ¬

_ (¬1) رواه الخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (1/ 366 - 367)، وابن عساكر من طريقه في "تاريخ دمشق" (48/ 437 - 440) مختصرًا، وابن قدامة في "التوابين" (ص: 164 - 170). =

أخبرنا جماعةٌ من شيوخِنا، أنا ابنُ المحبِّ، أنا القاضي سليمانُ، أنا الحافظُ ضياءُ الدينِ، أنا أبو عبدِ الله القرشيُّ، أنا أبو الحسنِ الغسّانيُّ، أنا ابنُ أبي الحديدِ، أنا جَدِّي، أنا ابنُ زَبْرٍ، ثنا أبو عمرانَ الجونيُّ، ثنا ابنُ أخي الأصمعيِّ، قال: حدثني عمي، قال: كنت عند أمير المؤمنين الرشيد، ومعنا سعيدُ بنُ سلم، فلما كان نحوُ نصفِ النهار، انصرفنا، فإذا نحن بيهوديين ضريرين، أحدُهما يقود صاحبه، فقال أحدُهما للآخر -وليس يعلم أن أحدًا يسمع كلامهما-: ويحك! قد أفرح سيدي الحرسي قلوبَ الخلق، فقل معي: يا حليمُ ذو أناةٍ لا تعجَلْ على الخاطئين، وإنما تؤخِّرهم إلي يومٍ تشخَصُ فيه الأبصار، لا طاقةَ لنا بسَعَةِ حِلْمِك عن سيدي الحرسيِّ، وأنت العليمُ الحكيم. قال الأصمعي: فقلتُ لسعيد: هل سمعتَ؟ قال: قد سمعتُ، قال الأصمعي: فلمَّا وصلتُ إلي منزلي، رميتُ ثيابي لأستريح، فإذا رسولُ الخليفةِ يدعوني إليه، فراعَني ذلك، وصرتُ مع الرسول، فإذا هو جالسٌ في مجلسه ذلك، فقال لي: لا تُرَعْ، إنكم لمّا نهضتم، غفوتُ، فإذا قائل يقول لي: اعزلْ سيدي الحرسيَّ عن رقابِ الناس، وسلِ الأصمعيَّ عمّا سمع، قال: فحدثتُه الحديث، فظهر عليه من الخشوع والجَزَع شيء عظيم، وعلم أنها دعوةٌ استجيبت من وقتها، وبعث فأشخص إلي حرسيٍّ، فضربه ألفَ سوط، ثم أخذ صفَة اليهوديين، وأمر بطلبهما من بغدادَ كلِّها، ومساءلة اليهود عنهما، فلم يعرفوهما، ولا سُمع لهما بذكر، ولا بمعرفة. قلت: إنما هما مَلَكان تمثّلا في تلك الصورة، والله أعلم.

أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا، أنا ابنُ البالسيِّ وغيرُه، أنا الحافظُ المِزِّيُّ، أخبرتنا ساميةُ بنتُ البكريِّ، أنا ابنُ طبرزذ، أنا أبو القاسمِ السمرقنديُّ وغيرُه، قالوا: أنا أبو الحسينِ بنُ النقّورِ، أنا أبو الطاهرِ المخلصُ، ثنا أبو الحسنٍ الصيدلانيُّ، حدثني أبو الهيثمِ الغنويُّ، ثنا الرياشيُّ، ثنا شيبانُ بنُ فرُّوخَ، قال: وفدَ على عمر -رضي الله عنه- وفد، قال: وكان منهم شابٌّ، فتكلم الشابُّ، فنظر إليه عمَر، فحدَّد النظر، ثم قال: الكبرُ الكبرُ، قال الشابُّ: يا أميرَ المؤمنين! ليس بالكبير ولا بالصغير، ولو كان بالكبر، لقد كان في الناس من هو أكبرُ منك، قال: صدقت، فتكلم، قال: ما جئناك لرغبةً ولا لرهبة، قال: فنظر إليه عمرُ -أيضًا-، فقال: أما الرغبةُ، فقد أتتنا في منازلنا، وأما الرهبةُ، فقد أمِنَّا جَوْرَكَ، ولكنّا وفدُ الشكر، قال: فسُرِّيَ عن عمرَ، وقال: ناقتي إذًا لك عقلًا فظني، فقال: إن قومًا أكثروا بالله فيك، فأثْنَوْا عليكَ بما ليس فيك، فلا يَغْرُرْك اغترارُهم بالله فيك عمّا تعرفُه من نفسك. قال: فبكي عمر -رضي الله عنه- حتى سقط (¬1). أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا، أنا ابنُ المحبِّ، أنا القاضي سليمانُ، أنا الحافظُ ضياءُ الدينِ، أنا أبو محمّدٍ الحلوانيُّ، أنا أبو عليٍّ النَّسَفِيُّ، أنا أبو أحمَد المطوّعيُّ، أنا أبو بكرٍ محمّدُ بنُ الفضلِ، ثنا عبدُ الله بنُ محمّدٍ، ثنا أبوالفضلِ محمّدُ بنُ داودَ، ثنا محمّدُ بنُ عبس، ثنا سفيانُ بنُ عُيينةَ، عن عمرِو بنِ دينارٍ، قال: كان رجلٌ ينادي: ¬

_ (¬1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (68/ 195 - 196).

لا تظلموا الناس عبادَ الله، واتقوا دعوةَ المظلوم، قال: فقيل له: ما قصتك؟ قال: كنتُ رجلًا شرطيًا، فمررت بصياد يصيد، وقد صاد سمكة، فساومته بها، فأبى أن يبيعها مني، فضربتُه، وأخذتُ منه السمكةَ، فبينما هي معلقةٌ، إذ وثبتْ فعضَّتْ على إصبعي، فلما بلغتُ المنزلَ، إذا فيها قُرْحَةٌ منكر، وكان لنا جارٌ ينظر في القروح، فأريتُها إياه، فقال: اقطعها من المفصل، وإلّا دبَّت في يدك، فإنها أكلةٌ، قال: فقطعتُها، فدبّت في ظهر الكفِّ، فقال: اقطعه، فقطعته، فدبّت في ساعدي، قال: اقطعها، فقطعتُها من المرفَقِ، فدبّت في العَضُد، فأتاني آتٍ في منامي، فقال لي: دواؤك عند من ظلمتَهُ، فأتيت الصيادَ، فجلستُ بين يديه وأنا أبكي، فقلت له: حَلِّلْني؛ فقد أصابني من أجلِك هذا، قال: فأخذ الرجلُ يبكي، وقال: اللهمَّ إني جعلتُه في حِلّ، قال: فرأيتُ الدودَ يتناثر من يدي، ثم قال لابنٍ له: احفرْ زاوية البيت، قال: فحفرَ، فأخرج منها جرّةً فيها عشرةُ آلاف درهم، فقال: خذها أنفقْها على نفسك وعيالك، قال: فأخذتُها، وعوفيتُ، فقلت له: هل دعوتَ عليَّ حينَ أوجعتُك وأخذتُ السمكةَ منك؟ قال: نعم، قلت: يا ربّ! خلقتَ هذا قويًا، وخلقتني ضعيفًا، فأَحِلَّ به عقوبةً في الدنيا تكون نكالًا، فهو ما رأيتَ (¬1). أخبرنا جماعةٌ من شيوخِنا، أنا ابنُ المحبِّ، أنا القاضي سليمانُ، أنا الحافظُ ضياءُ الدينِ، أنا أبو القاسم زنكي، أنا أبو على العلويُّ، حدَّثه: أن أبا محمّدٍ وزيرَ أبي الحسنِ بنِ بُوَيْه - وكان من أفاضل الوزراءِ ¬

_ (¬1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (5/ 63 - 64) نحوه.

وأتقاهم- ركب يومًا في شدة البرد في الشتاء، فرأى في شاطئ دجلةَ صيادًا قائمًا في الماء بيده شبكةٌ، فقال لحاجبه: هذه مئةُ دينارٍ احملْها إليه، فإنه لم يخضِ الماء في هذا البرد الشديد إلا لضرورة، وقل له: استعنْ بهذه الدنانير، وانصرفْ إلي أهلك، فجاء الحاجبُ، وصاح به، فلم يُجبه، وتزاحم الناس على الشاطئ للنظر، فقرب الحاجب منه، وسلَّم عليه، وقال له: أثقيلُ السمع أنت يا رجلُ؟ فلم يلتفتْ إليه، وقال: أنا صحيحُ الجوارح والجسد، وقال: وقد ازدحم الناس يتصايحون، وأنت مطرقٌ رأسَك لا تبالي، فقال: هؤلاء بطّالون فيما لا تحتاج إليه، وما لي في ذلك من حاجة، فقال الحاجب: إن مولانا رآكَ على هذه الحالة، فرحمَكَ، وأمر لك بهذه الدنانيرِ مئة صحاح، فقال: ومَنْ مولاك يا عبد الله؟ قال: مولاي الوزيرُ أبو محمد، قال: بل مولانا ومولاه الله تعالي، أمّا رحمتُه إيّاي، فأنا أَوْلي أن أرحمه؛ لأنه اجتمع عليه أثقال هذه الأعمال في الدنيا، وأوزارُها في الآخرة، وأمّا ما أنفذَ إليّ، فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن يريدَ اللهَ تعالي، أو الرياءَ والسمعةَ، فإن أراد اللهَ تعالي، فليردَّ [هُ] على الذين عفتهم حقوقهم، وإن أراد الرياءَ والسمعة، فليفرِّقْها في مئة نفر، فتظهر في الأسواق، ويكون أعظم لذكره وأكثرَ؛ فإني رجلٌ خاملٌ، ولا حاجة لي فيها، وأنا من ربي بخير، فأراد الحاجبُ أن يجيبه، فلم يلتفت إليه، ولم يسمع كلامه، وانصرف الحاجب بالدنانير منكسِرًا خائبًا، ولم يقبل منه شيئًا. أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا، أنا ابنُ المحبِّ، أنا أبو محمّدٍ عبدُ الرحمنِ بنُ عبدِ الواحدِ، وجَدِّي أبو العباسِ، قالا: أنا عبدُ الله

الخشوعيُّ، أنا أبي أبو طاهرٍ، أنا أبو محمّدِ بنُ الاكفانيِّ، أنا أبو محمّدٍ الكتانيُّ، أنا أبو بشرٍ المزنيُّ، أنا ابنُ زبرٍ، أنا أبي، قال: ذكر عبدُ الجبارِ بنُ سعيدٍ، عن أبيه، عن محمّدِ بنِ إبراهيمَ، قال: حضرت أبا جعفرٍ المنصورَ بالمدينة، وعنده ابنُ أبي ذئبٍ، فقال له أبو جعفرٍ: يا بن أبي ذئب! أخبرْني بحالات الناس، فقال: يا أمير المؤمنين! هلك الناس، وضاعت أمورُهم، فلو اتقيتَ الله فيهم، وقسمتَ فيهم فيئهم. قال: ويلَكَ يا بن أبي ذئب! لولا ما بعثنا بذلك الفيء من البعوث، وسددنا به من الثغور، لأتيت في منزلك، وأُخذت بعنقك، وذُبِحْتَ كما يُذبَح الجمل. فقال ابن أبي ذئب: يا أمير المؤمنين! قد بعثَ البعوثَ، وسدَّ الثغورَ، وقسم فيهم فيئهم غيرُك، قال: وَيْلَكَ! ومن ذاك؟ قال: عمرُ بنُ الخطاب. قال: فأطرق أبو جعفرٍ إطراقةً، ورفع رأسه، وقال: إن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عملَ لزمانٍ، وعملنا لغيره. فقال: يا أمير المؤمنين! إن الحقَّ لا ينقلُه الزمانُ عن مواضعه، ولا يغيرُهُ عن وجهه. قال: أحسبُكَ يا بن أبي ذئبٍ طعَّانًا على السلطان؟ قال: لا تقلْ ذلك يا أمير المؤمنين، فوالذي يُمسِكُ السماءَ أن تقع على الأرض إلا بإذنه، لَصلاحُكَ أحبُّ إليَّ من صلاح نفسي، وذاك أنَّ صلاحي لنفسي لا يَعْدوها، وصلاحك لجميع المسلمين. قال: فأطرق أبو جعفر، وإن المسيب والحرس قيامٌ على رأسه بأيديهم السيوفُ المسللةُ. قال: ثم رفع رأسه، وقال: من أراد أن ينظر إلي خير أهلِ الأرض اليومَ، فلينظرْ إلي هذا الشيخ -وأومأ إلي ابن أبي ذئب-. قال: فقلت في نفسي: أشهدُ أن الله وليُّ الذين آمنوا، وهو منجي المتقين.

وبه إلي ابنِ زبرٍ، أنا أبي، أخبرني عبدُ الله بنُ مسلمٍ، عن أحمدَ بنِ يحيى، عن محمّدِ بنِ إدريس الشافعيِّ، قال: قدم أبو جعفرٍ المنصورُ المدينةَ حاجًّا، فأتته الوفودُ من كل بلد يشكون إليه الأمراءَ، فأتاه أهلُ اليمن يشكون معنَ بنَ زائدة، وأتاه بنو أبي عمرو الغفاريِّ من أهل المدينة يشكون أميرهم الحسنَ بنَ زيد، فقال وفدُ اليمنِ لأبي جعفر المنصور -وقد أحضر ابن أبي ذئب والعلماء-: يا أمير المؤمنين! إن معن بنَ زائدة قد تعدَّى علينا، وأساء فينا السيرةَ، وقد رضينا بابن أبي ذئب، فقال له أبو جعفر: ما تقولُ في معنِ بنِ زائدةَ؟ قال: قَوْلي فيه وعلمي به أنه عدوُّ الله، يقتل المسلمين بغير حق، والمعاهَدين، ويحكم بغير ما أُنزل، ويفسد العبادَ والبلاد. قال: ثم تقدَّمَ الغفاريون يشكون الحسنَ بنَ زيدٍ وسيرتَه فيهم، وقالوا: قد رضينا بابن أبي ذئب، فأطبق عليه ابنُ أبي ذئب، وذكره بسوء. فقال الحسنُ بنُ زيدٍ: يا أمير المؤمنين! قد ذَكَرني بما قد ذَكَر، فإن رأى أميرُ المؤمنين أن يسأله عن حال أمير المؤمنين عندَه، فقال أبو جعفر: ما تقول فيَّ يا بن أبي ذئب؟ فقال: أَعْفِني، قال: عزمْتُ عليك، قال: أَعْفِني، قال: لستُ أفعل، قال: فبكي ابنُ أبي ذئب، ثم قال: تسألُني عن نفسِك، أنت أعلمُ بنفسك مني، وما عسى أن أقولَ فيك مما فيك؟ أنت -واللهِ- الرجلُ الذي اتزرت المسلمين أمرَهم، ظلمتَهم، واعتديتَ عليهم، وسفكتَ الدماءَ الحرام، وأخذتَ الأموالَ من غير حِلِّها، ووضعتَها في غير حَقِّها، وأهلكتَ المسلمينَ والفقراء، واليتامى والمساكين. قال محمّدُ بنُ إبراهيم: وبين يَدَي أبي جعفر عمودٌ، فجمع الناسُ

عليهم ثيابهم مخافةَ أن تتلطَّخ عليهم من دمه ودماغه، فلم يهجْه بشيء، وانصرف الناس. فقال عمُّ أبي جعفر له: يا أمير المؤمنين! إن هذا المجلس قد حضره أهلُ الآفاق، وينصرفون إلي البلاد، فيخبرون بما كان إلي أمير المؤمنين من الجرأة، فلو قتلتَ هذا الكلبَ، لئلا يجترئ عليك غيرُه من الناس، فقال له أبو جعفر: ويحكَ! هذا رجلٌ قد بلغت منه صعوبةُ العبادة، وقد سمعَ الحديثَ: "إِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ قَالَهَا عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ، فَقُتِلَ عَلَيْهَا"، فطمع أني أقتلُه، فيصير إلي الجنة، وأُريحه مما هو فيه من صعوبة العبادة، ولا والله! ما أهيجه أبدًا حتى يموتَ أو أموتَ. وبه إلي ابنِ زبرٍ، أنا أبي، ثنا عبد الله بنُ مسلمٍ، عن داودَ بنِ أبي العباس، عن أبيه، عن جدِّهِ، قال: بعث بي المنصورُ إلي ابنِ أبي ذئبٍ أسألُه عن مسألة، فقال: ما هي؟ فذكرتها له، فقال: لا يراني الله -عَزَّ وَجَلَّ- أُفتي جبارًا مثلَه في مسألة فيها ضررٌ على المسلمين، قال: فرجعتُ إلي المنصور مُغْضَبًا، فعرف في وجهي ذلك، فقال: لقد جئتَ بغير الوجه الذي ذهبتَ به؟ فقلت: تبعثُ بي إلي مجنون؟ ثم أخبرته، فقال المنصور: الذي لقيتُ أنا منه العامَ في الطواف أشدُّ من هذا، كنتُ بالأسواق إلي أن أراه، فبينا أنا أطوف، إذ قال لي المسيَّبُ: أليس كنتَ تسألُ عن ابن أبي ذئب؟ فقلت: بلي، فقال: هو ذا هو يطوف، فأتيته، فقلت: السلام عليكم ورحمة الله، وناولتُه يدي، قال: فبرق عينيه في وجهي، وقال: من أنت؟ فلقد

أخذتَ يدي أخذَ جبَّار، قلت: أوما تعرفني؟ قال: لا، قلت: أنا أبو جعفرٍ المنصورُ، قال: فجذب يدَه من يدي، وقال: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22] الآية. قال: قلتُ: يا أمير المؤمنين! فما صنعتَ به، قال: ما عسيتُ أن أفعلَ برجلٍ اللهُ في قلبه عظيمٌ. أخبرنا الحافظُ أبو العباسِ، أنا أبو المعالي الأزهريُّ، أخبرتنا عائشةُ بنتُ عليٍّ، أنا أحمدُ بنُ عليٍّ، أنا البوصيريُّ، أنا الأريافيُّ، أنا ابنُ الفراء، أنا ابنُ الضرابِ، أنا أبي، أنا الدينوريُّ، ثنا الحسنُ بنُ الحسينِ، ثنا أحمدُ بنُ يونسَ، قال: قالَ حفصُ بنُ غياث لابن إدريسَ: مررتُ بطاقِ اللَّحامين، فإذا أنا بعليانَ المحدثِ جالسٌ، فلما آنَ حِزْبُه، سمعتُه يقول: من أراد سرورَ الدنيا وحزنَ الآخرة، فليتمَنَّ ما هذا فيه، فو الله! لتمنيت أني كنتُ متُّ قبلَ أن أَلِيَ القضاءَ (¬1). أخبرنا جماعةٌ من شيوخِنا، أنا ابنُ المحبِّ، أنا القاضي سليمانُ، أنا الحافظُ ضياءُ الدين، أنا موفق الدينِ، أنا أبو القاسمُ بنُ بُندار، أنا والدي أبو المعالي، أنا أبو عبدِ الله الحسينُ بنُ عليٍّ، أنا المعافى بنُ زكريا، ثنا أحمدُ بنُ جعفرٍ، ثنا أبي، ثنا الربيعُ بنُ ثعلبٍ، قال أحمدُ بنُ ¬

_ (¬1) رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم" (ص: 170).

جعفرٍ، وثنا جدِّي، ثنا أبو الليث سلمُ بنُ قادمٍ، ثنا أبو حفصٍ العبديُّ، عن هشامِ بنِ حسانَ، عن الحسنِ، قال: بعث عمرُ بنُ الخطاب -رضي الله عنه- عُميرَ بنَ سعدٍ أميرًا على حمصَ، فأقام بها حَوْلًا، ثم إن عمر -رضي الله عنه- كتب إليه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: من عمرَ بنِ الخطابِ إلي عُمير بنِ سعدٍ، سلام عليك، فإني أحمدُ اللهَ الذي لا شريك له، وقد كنّا ولّيناك شيئًا من عملنا، فلا ندري أوفيتَ بعهدنا، أم خنتنا؟ فإذا جاءك كتابي هذا، فاحمل ما قبلك من في المسلمين، ثم أَقْبِل. قال الحسنُ: فلما وقع الكتابُ إليه، أقبل من حمصَ على رجليه، ومعه عَصًا له، وجرابٌ، وقصعةٌ، ومطهرةٌ، فلما قدم على عمر -رضي الله عنه-، قدم عليه رجلٌ شاحبٌ، رَثُّ الهيئة، كثيرُ الشعر، فقال له: سبحان الله يا عمير! ما هذا الذي أرى من سوء حالك، أكانت البلادُ بلادَ سوء، أم هذا منك خديعة؟ فقال عميرٌ: سبحانَ الله يا عمر! ألم ينهكَ ربُّك عن التجسسِ وسوءِ الظنِّ؟ وما الذي ترى من سوء حالي؟ أما تراني طاهرَ الدم، صحيحَ البدن، معي الدنيا بقرابها، فقال له عمر: وما معك من الدنيا يا عمير؟ فقال: معي عصاي أتوكأ عليها، وأقتل بها حيةً إن لقيتُها، ومعي جرابي أحمل فيه طعامي، ومعي قصعتي آكلُ فيها طعامي، وأغسل فيها رأسي وثوبي، ومعي مطهرتي أحمل فيها شرابي ووضوئي لصلاتي، فما كان بعد هذا من الدنيا، فهو تبع لما معي. قال: صدقت -رحمك الله-، فما صنع المسلمون؟ فقال: تركتُهم يوحدون الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ويصلون على نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وقد نهانا الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن نسأل عمّا وراء ذلك. قال: فما صنع أهل الجزية؟ قال: أخذتُ منهم الجزية عن يَدٍ وهم صاغِرون.

قال: فما صنعتَ فيما أخذتَ منهم؟ قال: وفيم أنتَ من ذلك؟ بعثتني أمينًا، فنظرتُ لنفسي، واحتطْتُ لها، والله! لولا أني أكره أن أغمَّكَ، ما حدثتُك بشيء، قدمتُ البلادَ، فدعوت المسلمين على ما يجب عليهم من دينهم، ثمّ قلدتهم ذلك، ثمّ دعوت أهل الكتاب، واستعملت عليهم ناسًا من المسلمين يأخذون منهم الجزية، ثمّ يردونها في فقراء المسلمين ومجهوليهم، ولم ينلك من ذلك شيء، ولو نالك من ذلك شيء، بلّغتكه. فقال عمر: سبحان الله يا عمير! أما كان أحد ينزع بخير، فيحملك على دابة حين أقبلتَ، بئس المسلمون فارقتَ، وبئس المعاهَدون فارقتَ، أما والله! لقد سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لتوطأنَّ حَريمُهُمْ بِطَرِيقِهِمُ، ولَيُجارُنَّ في حُكْمِهِمْ، ولَيُسَلَّطَنَّ عَلَيْهِمْ رِجَالٌ إِنْ تَكَلَّمُوا قَتَلُوهُمْ، وَإِنْ سَكَتُوا اجْتَاحُوهُمْ". فقال عمير: سبحان الله يا عمر! أولا أراك تشتهي سفكَ دماءِ المسلمين، وانتهاكَ حريمهم؟ فقال عمر -رضي الله عنه-: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتنهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُسَلِّطَن اللهُ عَلَيْكُمْ شِرَاركُمْ، ثُمَّ تَدْعُو خِيَارُكُمْ فَلاَ يُسْتَجَابَ لَهُمْ". ثمّ قال: هاتوا صحيفة كيما نُحْدِثَ لعميرٍ عهدًا. فقال عمير: كلا والله يا أمير المؤمنين! اتَّقِ اللهَ وأَعْفِني، فوالله! ما كنتُ أنجو مع أَنِّي ما نجوتُ، إني قلتُ لنصرانيٍّ مرة: أجزاك الله، وإني سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أَنَا خَصِيم عَنِ الذِّمِّيِّ وَالْيَتيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ أُخَاصِمْهُ أَخْصِمْهُ"، وما يؤمِنُني أن يخاصمَني محمّدٌ - صلى الله عليه وسلم -؟ ثمّ جعل يبكي. قال الحسن: فبكي عند ذلك عمرُ -رضي الله عنه-، ثمّ صعد

المنبر، فخطب، ثمّ قال: من يكفيها إلا قائمٌ اليومَ يُريحني منها -يعني: الخلافة-؟ ثمّ نزل يشتد حتى أتى قبرَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقبر أبي بكر -رضي الله عنه-، فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، ماذا لقيتُ بعدَكما؟! ثمّ قال: اللهمَّ أَلْحِقْ عمرَ بصاحبيه لم يغيرْ ولم يبدل. ثمّ قال لعميرٍ: الْحَقْ بأهلِك. قال الحسن: وبين أهله وبين المدينة ثلاثة أميال، ثمّ إن عمر تبعته نفسُه بعد ذلك، فقال: والله! ما آمَنُ أن يكونَ خدعَنا، فدعا رجلًا من أصحابه يقال له: حبيبُ بنُ جارية، فأعطاه مئة دينار، وقال له: انطلق حتى تنزل على عميرِ بنِ سعدِ ثلاثةَ أيام، وانظرْ إلي مطعمه وملبسه، فإذا انقضت الثلاثةُ، فأعطه هذه المئةَ دينارٍ، فقدم الرسولُ على عمير وهو قاعدٌ في الشمس يَفْلي ثيابه، فسلَّم عليه، فرفع رأسه إليه، ورَحَّب به، ثمّ قال: كيف تركَت أمير المؤمنين؟ قال: صالحًا، وهو يقرأ عليك السلام، قال له: ويحك! فلعلّه استأثر بغيه؟ قال: اللهمَّ لا، ويحك! فلعله جارَ في حكمه؟ قال: اللهمَّ لا، قال: ويحك! فلعلك اطلعت عليه وهو يرتشي؟ قال: اللهمَّ لا، ويحك! فلعلّه يضرب أهلَ القبلة بالسوط؟ قال: نعم، تركته وقد ضربَ ابنًا له بالسوط ضربًا شديدًا حتى بلغ حدًّا، قال: أفي فجره أتاها؟ قال: نعم. قال: اللهمَّ سَلِّمْ عمرَ؛ فإنه لا يُضيع الحدود. قال: ثمّ قال: اللهمَّ إني أُشهدك وأُشهد صاحبي هذا أني لا أعلم عمرَ إلا شديدَ الحبِّ لك ولرسولك.

قال الحسن: فأقام الرسولُ عندهم ثلاثًا، فكان إذا أمسى، أتوه بقُرصة لهم قد أَدموها بزيت، فلما انقضتِ الثلاثة، قال له عميرٌ: يا هذا! تحوَّلْ عنّا، فقد أَجَعْتَنا وأجعتَ عيالنا. وكان الحسن يقول: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "حَقُّ الضِّيَافَةِ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا أَصَابَ الضَّيْفُ فَوْقَ ذَلِكَ، فَهُوَ صَدَقَةٌ". فلما قال للرسول ما قال، أخرج المئة دينار، فناولها عُميرًا، وقال: هذه صِلَةُ أمير المؤمنين، وخرج الرسولُ، فلما صارت الدنانير في يد عمير، جعل يبكي، فقالت له امرأته لما رأته يبكي: قمْ فأخرجْ هذه الدنانيرَ عني، ولا تَبْك على مال. [فقال لها]: ويحك! تلومينني أن أبكي، وقد صحبتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم أُبْتَلَ بشيء من الدنيا، ثمّ صحبتُ الأمينَ الصدِّيق أبا بكر -رضي الله عنه- ولم أُبتلَ بشيء من الدنيا، ثمّ صحبتُ عمرَ -رضي الله عنه-، فابتُليت بالدنيا، ألا وشرُّ أيامي يومَ خُلقت مع عمر إذ ابتُليت بالدنيا، فهل عندك من خير؟ قالت: أنا بحيث تحب، فألقت إليه درعًا لها خَلَقًا، فجعل يَصُرُّ خمسة وأقلَّ وأكثر حتى أتى عليها، ثمّ دار بها على بني الشهداء، ففرقها عليهم. وقدم الرسول على عمر، فقال له: كيف تركتَ أخي؟ قال: يا أمير المؤمنين! جئتُ من عندِ أقلِّ الناس خيرًا، يعمد إلي الخير كلِّه، فيجعله للآخرة، والله! ما أعطاني من تلك الدنانير دينارًا واحدًا. قال: فلعلَّ على أخي دينًا؟ قال: لا والله! ولكني أخليها.

فقال عمر: عليَّ بعمير، فلما قَدِم عليه، قال: عزمتُ عليكَ بحقي عليك يا عمير ماصنعتَ بتلك الدنانير؟ قال: استودعتُها رَبَّنا -تبارك وتعالي-، ولم أحبَّ أن يطّلع على ذلك أحدٌ، وحملنا بها إخواننا. قال عمر لعبدِ الله ابنهِ: قم فأعطِه ثوبين، وكِلْ له وَسقَين من تمر. فقال: أما الثوبان فسآخذُهما، وأما التمرُ فما كان بالذي يصحبُني، إني خَلَّفت في أهلي صاعًا من تمر. فقال له عمر: يا عمير! ارجعْ إلي أهلك، واقرأ على امرأتك السلام. قال الحسن: فما لبثَ أن طُعِن، فمات، فبينما عمر- رضي الله عنه- في جنازته، وأصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه، إذ قال لهم: تمنّوا، فقال: جابر بن عبد الله: وَدِدْتُ لو أن لي من القوة ما أميحُ الدلوَ بمنى، فأسقي حاجَّ بيتِ الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فقال عمر -رضي الله عنه-: وددتُ لو أنَّ عندي رجالًا مثلَ عُمير بنِ سعد أستعين بهم على أمور المسلمين (¬1). فانظر -رحمك الله- إلي هذا الأمير، وإلى هذا الكلام، فإن أدنى أدنى أدنى عبدٍ من عبيدِ عبيدِ عبيدِ أميرِ اليوم لا يرضا بمثل هذا الحال، ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (17/ 51 - 52)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 247 - 250)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (46/ 489 - 494)، نحوه.

فإن قال قائل: كان الشيء عليهم قليلًا، فقد كذب؛ فإن الأموال كانت أكثرَ منها اليومَ، حتى إنه أتى عمرَ في بعض الفتوح خمسُ مئةِ حملِ حملٍ من الأموال، فلم يُبَيِّتْ منها شيئًا حتى قَسَمه، وأخذ ولدٌ من أولاده الصغار من ذلك درهمًا، فقام فخلَّصه منه، وردَّه. فهل يرضى عبدُ أميرٍ أن يخرج ماشيًا من حمصَ إلي الحجاز ليس معه غيرُ عصا، وسقاءٌ وقدحٌ على هيئة الفقراء؟ وهل يقدرُ أحدٌ اليوم -مع تَجبُّرهم وتكبُّرهم بخيلهِ ورَجِلِه-[أن] يقطع هذه البراري، أو يدخلها؟ انظر كيف أُخذوا مع كثرتهم فيها غير مرة، وكلما تفاحموا وتكبروا، أذلَّهم الله -عَزَّ وَجَلَّ-، مثل هذا يكون على نيابة حمص، ويخرج في هذه الهيئة؟ لمثل هؤلاء يكون الخير، وكيف كانوا على هذه الحال في حال سلاطين الدنيا من كسرى وقيصر، ثمَّ يخافون منهم، ويقهرونهم؟ ومع ذلك لا يعتزُّون بمال، ولا رجال، ولا غيرِ الله -عَزَّ وَجَلَّ-. أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا، أنا ابنُ المحبِّ، أنا عبدُ الله بنُ أبي الهيجاءِ، وأبو العباسِ بنُ شجاعٍ، وأبو العباس بن المعالي، أنا خطيب مَرْدا، أنا ابنُ الموازيني، أنا أبو يعلي السلميُّ، أنا أبو الفتح المقدسيُّ، أنا أبو الفتحِ الرازيُّ، أنا أبو الحسينِ بنُ فارسٍ، أنا أبو جعفرٍ محمَّدُ بنُ إبراهيم، أنا أبو يونس المدينيُّ، ثنا أبو الحارثِ عمرُ بنُ إبراهيمَ، ثنا عبدُ الله بنُ يحيى، عن أبيه، قال: دخل سليمان بنُ عبدِ الملك حاجَّاً، فسأل: هل رجلٌ أدركَ من أصحاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أحدًا؟ قالوا: نعم، أبو حازم، فأرسل إليه، فلمَّا أتاه،

قال: يا أبا حازم! ما هذا الجفاء؟ قال: وأيُّ جفاء تعتدُّ مِنِّي يا أمير المؤمنين؟ قال: أتاني وجوهُ الناس غير واحد، ولم تأتني، قال: والله! ما عرفتني قبلَ هذا، ولا أنا رأيتُك، فأيُّ جفاء تعتدُّ مني؟ فالتفت سليمانُ إلي ابن شهابٍ، فقال: أصاب الشيخُ، وأخطأت أنا، ثمَّ قال: يا أبا حازم! مالنا نكرَهُ الموت؟ فقال: لأنكم عَمَّرْتُم الدنيا، وخَرَّبتُم الَاخرة، فأنتم تكرهون أن تخرجوا من العمرانِ إلي الخراب. قال: يا أبا حازم! ليت شعري، مالنا عند ربنا -عَزَّ وَجَلَّ-؟ قال: اعرضْ عملَك على كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ-، قال: فأين أجدُه في كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ-؟ قال: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الإنفطار: 13، 14]، قال سليمان: فأين رحمة الله؟ قال أبو حازم: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]. قال سليمان: يا أبا حازم! ليت شعري كيف العرضُ غدًا على الله -عَزَّ وَجَلَّ-؟ قال أبو حازم: أما المحسن، فكالغائب يقدَمُ على أهله، وأما المسيء، فكالآبق يُقْدَمُ به على مولاه. فبكي سليمانُ حتى اشتد بكاؤه، ثمَّ قال: يا أبا حازم! كيف لنا أن نصلح؟ قال: تدعون الصلف، وتتمسكون بالمروءة، وتقسمون بالسويَّة. قال: وكيف المأخذ لذلك؟ قال: تأخذه من حقه، وتضعه في أهله. قال: يا أبا حازم! ومن أفضلُ الخلائق؟ قال: أولو المروءة والنُّهى.

قال: فما أعدل العدل؟ قال: قول الحق عند من يرجوه ويهابه. قال: يا أبا حازم! فما أسرعُ الدعاءِ إجابةً؟ قال: دعاء المحسَن إليه للمحسن. قال: فما أفضل الصدقة؟ قال: جهدُ المُقِلِّ إلي البائس الفقير، لا يُتْبِعها منَّاً ولا أذى. قال: يا أبا حازم! من أكيسُ الناس؟ قالوا: رجلٌ ظفر بطاعة الله- عزَّ وَجَلَّ-، فعمل بها، ثمَّ دلَّ الناس عليها، فعملوا بها. قال: فمن [أحمقُ] الخلقِ؟ قال: رجلٌ انحطَّ في هوى أخيه وهو ظالم، فباع آخرتَه بدنيا غيره. قال: سليمان: يا أبا حازم! هل لك أن تصحبنا، فتصيبَ منا، ونُصيبَ منك؟ قال: لا. قال: ولم؟ قال: إني أخاف أن أركَنَ إليكم شيئًا قليلًا، فيذيقني الله ضعفَ الحياة، وضعفَ الممات، ثمَّ لا يكون لي منه نصيرًا. قال: يا أبا حازم! ارفعْ إليَّ حاجتك، قال: نعم، تُدخلني الجنة، وتُخرجني من النار. قال: ليس ذلك إليَّ. قال: فما لي حاجةٌ سواها. قال: يا أبا حازم! ادعُ الله لي. قال: نعم، اللهم إن كان سليمانُ من أوليائك، فيسّره لخير الدنيا والآخرة، وإن كان سليمان من أعدائك، فخذْ بناصيته إلي ما تحبُّ وترضى. قال سليمان: فقط؟ قال أبو حازم: قد أكثرتُ وأطنبتُ إن كنتَ من

أهله، وإن لم تكنْ من أهله، فما حاجتك أن ترميَ عن قوس ليس لها وتر. قال سليمان: يا أبا حازم! ما تقول فيما نحن فيه؟ قال: وتُعفيني يا أمير المؤمنين؟ قال: يا أبا حازم! أوصني، قال: نعم، سوف أُوصيك وأُوجز: نزّه الله -عَزَّ وَجَلَّ- وعظّمه أن يراك حيثُ نهاك، أو يفقدك من حيث أمرك، ثمَّ قام، فلما ولَّي قال: يا أبا حازم! هذه مئةُ دينار أنفقْها، ولك عندي أمثالًا كثيرة، فرمى بها، وقال: ما أرضاها لكَ، فكيف لنفسي؟ إني أعوذ بالله أن يكون سؤالك لي هزلًا، وردِّي عليك بذلًا، إن موسى بن عمران -عليهم السلام- لما ورد ماءَ مدين وجد عليه بضعة من الناس يسقون، ثمّ قال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)} [القصص: 24]، فسأله -عليه السلام- ربه -عَزَّ وَجَلَّ-، ولم يسأل الناس، ففطنتِ الجاريتان، ولم يفطن الرِّعاءُ، فأتتا أباهما، وهو شعيب -عليه السلام- فأخبرتاه، فقال شعيب: ينبغي أن يكون هذا جائعًا، ثمَّ قال لإحداهما: اذهبي ادعيه إليَّ، فلما أتته أعظمته، وغطَّت وجهها، وقالت: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص: 25]، فلما قالت: {أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا}، كره ذلك موسى، وأراد ألَّا يتبعها، ثمَّ لم يجد بُدَّاً من أن يتبعها؛ لأنه كان في أرض مَسْبَعَةٍ وخوف، فخرج معها، وكانت امرأة ذاتَ عجز، وكانت الرياح تضربُ ثوبها، فتصف لموسى عجزها، فيغضي مرة، ويعرض أخرى حتى عِيلَ صبرُه، فقال: يا أمة الله! كوني خلفي، وأرني السمت -يريد: الطريق-، فأتيا إلي شعيب، والعَشاء مهيأ - فقال: اجلسْ يا شابُّ فكُلْ، فقال موسى:

لا، قال شعيب: ألستَ بجائع؟ قال: بلى ولكني من أهل بيت لا يبيع شيئًا من عمل الآخرة بملء الأرض ذهبًا، وأخشى أن يكون هذا أجرًا لما سقيتُ لهما، قال شعيب: لا يا شابُّ، ولكنها عادتي وعادةُ آبائي قِرى الضيف، وإطعامُ الطعام. قال: فجلس موسى بن عمران، فأكل. قال أبو حازم: فإن كانت هذه المئة دينار عوضًا عما حَدَّثتك، فالميتةُ والدمُ ولحمُ الخنزير عندَ الإضطرار أحلُّ منه، وإن كانت من بيت مالِ المسلمين، فلي فيه شركاء ونظراء، فإن وازيتهم بي، وإلا فلا حاجة لي بها، إن بني إسرائيل لم يزالوا على الهدى والتقوى حيث كان أمراؤهم يأتون إلي علمائهم رغبةً في علمهم، فلما نكسوا، وسقطوا من عين الله تعالي، وآمنوا بالجِبْت والطاغوت، صار علماؤهم يأتون إلي أمرائهم من [أجل] دنياهم، ويشتركون معهم في فتكهم. فقال ابن شهاب: لعلَّك يا أبا حازم إياي تعني، وبي تعرِّض؟ فقال: ما إيَّاك اعتمدت، ولكن هو ما تسمع. قال سليمان: يا بن شهاب! تعرفه؟ قال: نعم جاري منذ ثلاثين سنة ما كلمتُه قط. قال أبو حازم: إنك نسيت فنسيتني، ولو أحببت الله لأحببتني. قال ابن شهاب: يا أبا حازم! أتشتمني؟ قال: ما شتمتك، ولكن أنت شتمتَ نفسك، أما علمتَ أن للجار على الجار حَقَّاً كحق القَرابة تجب. فلما ذهب، قال رجلٌ من جلساء سليمان: أتحبُّ أن الناسَ كلَّهم مثلُه؟ قال سليمان: لا (¬1). ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (3/ 234 - 237)، واللفظ له، والدارمي في "سننه" (647)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (22/ 35 - 38).

قال [أبو] يونس: قال أبو الحارثِ عمرُ بنُ إبراهيمَ: ثنا عبدُ الله بنُ يحيى، عن أبيه، قال: دخل أبو حازم على سليمان بن عبد الملك بالشام في نفر من العلماء، فقال سليمان: يا أبا حازم! ألك مال؟ قال: نعم، لي مالان، قال: ما هما بارك الله لك فيهما؟ قال: الرضا بما قسم الله لي، واليأسُ مما في أيدي الناس. قال سليمان: يا أبا حازم! ارفعْ إليَّ حاجتك. قال: هيهات، رفعتُها إلي من لا تختزل الحوائجُ دونه، فما أعطاني شكرتُ، وما منعني صبرتُ، مع أني رأيت الأشياء شيئين: فشيء لي، وشيء لغيري، فما كان لي، فلو جهد الخلق أن يردُّوه عني، ما قدروا، وما كان لغيري، فما نافست فيه أهله فيما مضى، فكيف فيما بقي؟ كما مُنِعَ غيري رزقي، كذلك منعت رزق غيري. قال سليمان بن عبد الملك: يا أبا حازم! ما المخرجُ مما نحن فيه؟ قال: بالصغير من الأمر. قال سليمان: وما هو؟ قال أبو حازم: تنظر ما كان في يدك مما ليس بحق، فترده إلي أهله، وما لم يكن لك، لم تنازع فيه غيرَك. قال سليمان: ومن يطيق هذا؟ قال أبو حازم: من خاف النار، وأحبّ الجنة. قال: يا أبا حازم! ادعُ الله -عَزَّ وَجَلَّ- لي، قال: ما ينفعُك أن أدعو لك في وجهك، ويدع عليك مظلوم من وراء الباب، فأي الدعاء

أحقُّ أن يجاب؟ فبكى سليمان حتى اشتد بكاؤه، وقام أبو حازم (¬1). فانظر -رحمك الله- إلي هؤلاء الخلفاء كيف كانوا يقبلون النصح والمواعظ، ويُصغون إليها، ويحتملون الكلمات الثقيلة من العلماء والناصحين، ولو قيل اليوم لواحد من هؤلاء أدنى من ذلك، لقتلوه، أو قطعوا لسانه، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ¬

_ (¬1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (22/ 38).

الباب السابع في أئمة جور أخبرنا عنهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وما ذكر من ظهور الجور

الباب السَّابع في أئمة جور أخبرنا عنهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وما ذكر من ظهور الجور ويقال: إن الجور يعمّ الدنيا، حتى يولد الرجلُ في الجَوْر لا يعرف غيره، وحتى يرى الناس أدنى الجور، فيُعد غايةً في العدل. أخبرنا جماعةٌ من شيوخِنا، عن ابنِ المحبِّ، عن المِزِّي، أنا ابن الدرج يِّ، أنا أبو المجد الثقفيُّ، وابنُ الأخوة، وغيرهما، أنا أبو عبدِ الله الخلاَّلُ، أنا أبو الفضلِ الرازيُّ، أنا أبو القاسمِ الرازيُّ، أنا أبو بكرٍ الرويانيُّ، ثنا ابنُ إسحاقَ، ثنا يحيى بنُ أبي بكيرٍ، ثنا خالدُ بنُ طهمانَ، عن نافعٍ -شيخ من همدان-، عن معقلِ بنِ يَسارٍ، قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لَا يَلْبَثُ الْجَوْرُ بَعْدِي إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى يَطْلُعَ، كُلَّمَا طَلَعَ مِنَ الْجَوْرِ شَيْءٌ، ذَهَبَ مِنَ الْعَدْلِ مِثْلُهُ، حَتَّى يُولَدَ في الْجَوْرِ مَنْ لَا يَعْرِفُ غَيْرَهُ". قال: قلت: يا رسولَ الله! من أهلُ العدل؟ فقال بيده على صدره: "نَحْنُ أَهْلُ الْعَدْلِ، نَحْنُ أَهْلُ الْعَدْلِ". قال: قلت: فمَنْ أهلُ الجور؟ قال: فأخبره بهم، وأخبره كم يملكون (¬1). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عن الروياني في "مسنده" (1292)، واللفظ له، والإمام أحمد في "مسنده" (5/ 26).

أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا، أنا ابنُ المحبِّ، أنا أبو عبدِ الله البالسيُّ، أنا النحاسُ، أنا أبو الحجاجِ الدمشقيُّ، أنا ابنُ يونسَ وغيرُه، عن أبي غالبِ بنِ البنّاءِ، أنا أبو محمدٍ الجوهريُّ، أنا أبو سعيدٍ الخرقيُّ، ثنا أبو شُعيبٍ، ثنا يحيى، ثنا الأوزاعيُّ، حدثني حسانُ بنُ عطيةَ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَسْتَأْمِرُ شِرَارُ أُمَّتِي عَلَي خِيَارِهِمْ، حَتَّى يَسْتَخْفِيَ فِيهِمُ الْمُومِنُ، كَمَا يَسْتَخْفِي فِيكُمُ المُنَافِقُ الْيَوْمَ" (¬1). أخبرنا جماعةٌ من شيوخِنا، أنا ابنُ المحبِّ، أخبرتْنا زينبُ بنتُ الكمالِ، أنا محمّدُ بنُ عبدِ الهادي، وأحمدُ بنُ عبدِ الدائمِ، أنا أبو الفرجِ البقاليُّ، أنا أبو الفضلِ العلويُّ، أنا أبو منصورٍ، أنا أبو محمّدِ بنُ حبّانَ، أنا أبو يعقوبَ الرمليُّ، ثنا عبدُ الواحدِ بنُ محمّدٍ، ثنا محمّدُ بنُ كثيرٍ، عن داودَ بنِ أبي هندٍ، عن الشعبيِّ، عن حُذيفةَ بنِ اليمانِ، قال: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "وَيْحَ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنْ مُلُوكٍ وَجَبَابِرَةٍ كَيْفَ يَقْتُلُونَ وَيَحِيفُونَ إِلَّا مَنْ أَظْهَرَ طَاعَتَهُمْ، فَالْمُؤْمِنْ النَّقِيُّ يُصَانِعُهُمْ بِلِسَانِهِ، وَيَفرُّ منهم بِقَلْبِهِ". أخبرنا جَدِّي وغيرُه، أنا الصلاحُ بنُ أبي عمَر، أنا الفخرُ بنُ البخاريِّ، أنا حنبلٌ، أنا ابنُ الحُصَينِ، أنا ابنُ المُذْهِبِ، أنا أبو بكرٍ القطيعيُّ، أنا عبدُ الله بنُ الإمامِ أحمدَ، حدثني أبي، ثنا وكيعٌ، ثنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن هلالِ بنِ يَسافٍ، عن ابنِ المثني الحمصيِّ، عن أُبَيِّ ابنِ امرأةِ عُبادةَ بن الصامتِ، عن عبادةَ بنِ الصامتِ، قال: قال ¬

_ (¬1) رواه أبو عمرو الداني في "السنن الواردة في الفتن" (4/ 798).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّهَا سَتكونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ تَشْغَلُهُمْ أَشْيَاءُ عَنِ الصَّلاَةِ حَتَّى يُؤَخِّرُوهَا عَنْ وَقْتِهَا، فَصَلُّوهَا لِوَقْتِهَا". قال رجلٌ: يا رسول الله! فإن أدركتُها معهم أُصلِّي؟ قال: "إِنْ شِئْتَ" (¬1). يقال: إن أولَ من فعل ذلك الحجَّاجُ بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وبه إلى الإمامِ أحمدَ، ثنا أبو سعيدٍ: ثنا عبدُ الله بنُ بُحَيْرٍ: ثنا سيّارٌ: أن أبا أُمامةَ ذكر: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَكُونُ في هَذِهِ الأُمَّةِ في آخِرِ الزَّمَانِ رِجَالٌ -أو قال-: يَخْرُجُ رِجَالٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ في آخِرِ الزَّمَانِ مَعَهُمْ سِيَاطٌ (¬2) كَأَنَّهَا أَذْنَابُ بَقَرٍ، يَغْدُونَ في سَخَطِ اللهِ، وَيَرُوحُونَ في غَضَبِهِ" (¬3). أخبرنا جماعةٌ من شيوخِنا، أخبرتنا فاطمةُ بنتُ عبد الهادي، أنا عبدُ الله بنُ عليٍّ وغيرُه، أنا ابنُ غزوانَ، أخبرتْنا فاطمةُ بنتُ سعدِ الخيرِ، أخبرتنا فاطمةُ الجوردانيةُ، أنا ابنُ ريذةَ، أنا الطبرانيُّ، ثنا عليُّ بنُ عبدِ العزيزِ، ثنا يونسُ بنُ عبدِ الله، ثنا أحمدُ بنُ القاسمِ، ثنا سعيدُ بنُ سليمانَ، قالا: ثنا المباركُ بنُ فَضالةَ، عن خالدِ بنِ أبي الصَّلتِ، عن عبدِ الملكِ بنِ عميرٍ، عن ربعيِّ بنِ حراشٍ، عن حذيفةَ، قال: قالَ ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 314). ورواه أبو داود (433)، كتاب: الصلاة، باب: إذا أخر الإمام الصلاة عن الوقت، وابن ماجه (1257)، كتاب: إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فيما إذا أخروا الصلاة عن وقتها. (¬2) كذا في الأصل، وفي "مسند الإمام أحمد": "أسياط". (¬3) رواه الإمام أحمد في "مسنده" (5/ 250)، والحاكم في "المستدرك" (8347)، والطبراني في "المعجم الكبير" (8000)، وفي "المعجم الأوسط" (5251)، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/ 234): رجال أحمد ثقات.

رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - "إِنَّهَا سَتكونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يَكْذِبُونَ وَيَظْلِمُونَ، فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَلَيْسَ مِنِّي، وَلَسْتُ مِنْهُ، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَهُوَ مِنِّي، وَأَنَا مِنْهُ، وَسَيَرِدُ عَلَيَّ الْحَوْضَ غَداً إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى" (¬1). أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابنُ المحبِّ: أنا القاضي سليمانُ: أنا الحافظُ ضياءُ الدينِ، أخبرتْنا فاطمةُ بنتُ سعدِ الخيرِ، أخبرتنا فاطمةُ الجوردانيةُ، أنا ابنُ ريذةَ، أنا الطبرانيُّ، ثنا محمّدُ بنُ الصائغ، ثنا محمّدُ بنُ معاويةَ النيسابوريُّ، ثنا محمّدُ بنُ سلمةَ الحرانيُّ، عن خصيفٍ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: قالَ رسولُ الله - صلي الله عليه وسلم -: "سَيَجِيءُ أَقْوَام في آخِرِ الزَّمَانِ، وُجُوهُهُمْ وُجُوهُ الآدمِيِّينَ، وَقُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ، أَمْثَالُ الذِّئابِ الضَّوَارِي، لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ شيء مِنَ الرَّحْمَةِ، سَفَّاكُونَ لِلدِّمَاءِ، لَا يَرْعَوونَ عَنْ قَبِيحٍ، إِنْ تَابَعْتَهُمْ وَارَبُوكَ، وَإِنْ تَوَارَيْتَ عَنْهُمُ اغْتَابُوكَ، وَإِنْ حَدَّثُوكَ كَذَبُوكَ، وَإِنِ ائْتَمَنْتَهُمْ خَانُوكَ، صَبِيُّهُمْ عَارِمٌ، وَشَابُّهُمْ شَاطِرٌ، وَشَيْخُهُمْ لَا يَأْمُرُ بِمَعْرُوفٍ، وَلَا يَنْهَى عَنْ مُنْكَرٍ، الإِعْتِزَازُ بِهِمْ ذُل، وَطَلَبُ مَا في أَيْدِيهِمْ فَقْرٌ، الْحَلِيمُ فِيهِمْ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عن الإمام أحمد في "مسنده" (5/ 384)، ورواه الطبراني في "المعجم الكبير (3020)، و"المعجم الأوسط" (8491)، والبزار في "مسنده" (2832)، وأن الهيثمي قال في "مجمع الزوائد" (5/ 248): رجال أحمد والبزار رجال الصحيح. ورواه النسائي (4207)، كتاب: البيعة، باب: ذكر الوعيد لمن أعان أميراً على الظلم، والترمذي (2259)، كتاب الفتن عن كعب بن عجرة -رضي الله عنه-. قال الترمذي: حديث صحيح غريب.

غَاوِي، وَالآمِرُ بِالْمَعْرُوفِ مُتَّهَمٌ، وَالْمُؤمِنُ فِيهِمْ مُسْتَضْعَفٌ، والْفَاسِقُ فِيهِمْ مُشَرّف، وَالسُّنَّةُ فِيهِمْ بِدْعَةٌ، وَالْبِدْعَةُ فِيهِمْ سُنَّةٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُسَلِّطُ اللهُ عَلَيْهِمْ شِرَارَهُمْ، فَتَدْعُو خِيَارُهُمْ، فَلاَ يُسْتَجَابُ لَهُمْ" (¬1). وروي من حديث حذيفةَ، عن رسولِ الله - صلي الله عليه وسلم -: "بَعْدَ سَتِّ مِئَةِ سَنَةٍ [...]، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَقِلُّ أَعْمَالُهُمْ، وَيَرْفَعُ اللهُ يَدَهُ الْكَرِيمَةَ عَنْهُمْ، وَتَقِلُّ الْبَرَكَةُ بَيْنَهُمْ، وَيَظهَرُ فِيهِمُ الْبَطَرُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَمْلِكُ رِقَابَهُمْ ولاَةٌ فَجَرَةٌ يُوزِرُونَ الخِصْيَانَ، وَيُوَلُونُ السُّودَانَ، وَيَنْكِحُونَ الصِّبْيَانَ، فَالنَّاجِي مِنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ قَلِيلٌ". أخبرنا جدِّي وغيرُه، أنا الصلاحُ بنُ أبي عمَر، أنا الفخرُ بنُ البخاريِّ، أنا حنبلٌ، أنا ابنُ الحُصَينِ، أنا ابنُ المُذْهِبِ، أنا أبو بكرٍ القطيعيُّ، أنا عبدُ الله بنُ الإمامِ أحمدَ، حدثني أبي، ثنا محمّدُ بنُ عبدِ الله بنِ الزبيرِ، ثنا إِسرائيلُ، عن سماكٍ، عن ثروانَ بنِ ملحانَ، قال: كنا جلوساً في المسجد، فمر علينا عمارُ بنُ ياسرٍ، فقلنا له: حدِّثْنا ما سمعتَ من رسول الله - صلي الله عليه وسلم - يقول في الفتنة، فقال: سمعتُ رسولَ الله - صلي الله عليه وسلم - يقول: "يَكُونُ بَعْدِي قَوْمٌ يَأْخُذُونَ الْمُلْكَ، يَقْتُلُ عَلَيْهِ ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (11169)، وفي "المعجم الأوسط" (6259)، وفي "المعجم الصغير" (869)، وقال: لم يروه عن خصيف إلا محمد بن سلمة، تفرد به محمد بن معاوية. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/ 326): فيه محمد بن معاوية النيسابوري وهو متروك. قال ابن معين فيه: كذاب، وكذا قال الدارقطني، وقال مسلم والنسائي: متروك. انظر: "ميزان الإعتدال" (6/ 341 - 342). وأورده ابن الجوزي في "الموضوعات" (2/ 368) والسيوطي في "الآلئ المصنوعة" (2/ 320).

بَعْضُهُمْ بَعْضاً". قال: قلنا له: لو حدَّثنا غيرُك ما صدَّقناه، قال: فإنه سيكون (¬1). وبه إلى الإمامِ أحمدَ، ثنا أبو عامرٍ، ثنا أفلحُ بنُ سعيد -شيخٌ من أهلِ قُباء من الأنصار-، حدثني عبدُ الله بنُ رافعٍ مولي أم سلمةَ، قال: سمعتُ أبا هريرة يقول: سمعت رسولَ الله - صلي الله عليه وسلم - يقول: "إِنْ طَالَتْ بِكُمْ مُدَّةٌ، أَوْشَكَ أَنْ تَرَى قَوْما يَغْدُونَ في سَخَطِ اللهِ، وَيَرُوحُونَ في لَعْنَتِهِ، في أَيْدِيهِمْ مِثْلُ أَذْنَابِ البَقَر" (¬2). وبه إلى الإمامِ أحمدَ، ثنا أبو سعيدٍ، ثنا عبدُ الله بنُ بجيرٍ، ثنا سيّارٌ، أن أبا أُمامة ذكر: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَكُونُ في هَذه الأُمَّةِ في آخِرِ الزَّمَانِ رِجَالٌ -أو قال-: يَخْرُجُ رِجَالٌ مِنْ هَذهِ الأُمَّةِ في آخِرِ الزَّمَانِ، مَعَهُمْ أَسْيَاطٌ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ الْبَقَرِ، يَغْدُونَ في سَخَطِ اللهِ، وَيَرُوحُونَ في غَضَبِهِ" (¬3). وبه إلى الإمامِ أحمدَ، ثنا أبو أحمدَ، ثنا خالدٌ، عن نافعٍ، عن معقلِ بنِ يَسارٍ، قال: قالَ رسولُ الله - صلي الله عليه وسلم -: "لا يَلْبَثُ الْجَوْرُ بَعْدِي إِلَّا قَلِيلاً حَتَّى يَطْلُعَ، فَكُلَّمَا طَلَعَ مِنَ الْجَوْرِ شَيْءٌ، ذَهَبَ مِنَ الْعَدْلِ مِثْلُهُ، ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "مسنده" (4/ 263)، وأبو يعلي في "مسنده" (1650)، وابن أبي شيبة في "مصنفه": (37222). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/ 292 - 293) وعزاه إلى أحمد والطبراني وأبي يعلي: رجاله رجال الصحيح غير ثروان وهو ثقة. (¬2) رواه الإمام أحمد في "مسنده" (2/ 308) ورواه مسلم (2857)، كتاب: الجنة وصفة نعيهما وأهلها، باب: النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء. (¬3) تقدم تخريجه.

حَتَّى يُولَدَ في الْجَوْرِ مَنْ لَا يَعْرِفُ غَيْرَهُ" (¬1). وبه إلى الإمامِ أحمدَ، ثنا الأسودُ، ثنا كامل -يعني: ابنَ صالحٍ- مؤذن كان يؤذِّن لهم: سمعتُ أبا هريرة يقول: قالَ رسولُ الله - صلي الله عليه وسلم -: "تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ رَأْسِ السَّبْعِينَ، وَإِمَارة الصِّبْيَانِ" (¬2). وبه إلى الإمامِ أحمدَ، ثنا إسحاقُ بنُ يوسفَ، ثنا سفيانُ، عن الحسنِ بن عمرٍو، عن ابنِ مسلمٍ، [وكان في كتاب] أبي: [عن] الحسنِ [بنِ] مسلمٍ، فضرب على الحسن، وقال عن ابنِ مسلم، وإنما هو محمّدُ بنُ مسلمٍ أبي الزبير -أخطأ الأزرق-، عن عبدِ الله بنِ عمرٍو، عن النبيّ - صلي الله عليه وسلم -, قال: "إِذَا رَأَيْتَ أُمَّتِي لَا يَقُولُونَ لِلظَّالِمِ مِنْهُمْ: أَنْتَ ظَالِمٌ، فَقَدْ تُوُدِّعَ مِنْهُمْ" (¬3). وبه إلى الإمامِ أحمدَ، ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ محمّدٍ، ثنا الحسنُ بنُ عمرو، عن أبي الزبيرِ، عن عبدِ الله بنِ عمرٍو، قال: قالَ رسولُ الله - صلي الله عليه وسلم -: "إِذَا رَأَيْتَ أُمَّتِي تَهَابُ الظَّالِمَ أَنْ تَقُولَ لَهُ: ظَالِمٌ، فَقَدْ تُوُدعٍّ مِنْهُمْ" (¬4). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) رواه الإمام أحمد في "مسنده" (2/ 189)، والديلمي في "مسند الفردوس" (1020). (¬4) رواه الإمام أحمد في "مسنده" (2/ 163)، والحاكم في "المستدرك" (7036)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (7825)، والبزار في "مسنده" (2374، 2375)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 95). قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" =

أخبرنا جماعةٌ من شيوخِنا، أنا ابنُ المحبِّ، أخبرتنا زينبُ بنتُ الكمالِ، أنا أبو الحجَّاجِ الدمشقيُّ، أنا أبو سعيدٍ الرازيُّ، أنا أبو عليٍّ الحدادُ، أنا أبو نعيمٍ، أنا أبو القاسم الطبرانيُّ، ثنا أحمدُ بنُ بشيرٍ، ثنا شيبانُ بنُ فَرُّوخَ، ثنا أبو هلالٍ الراسبيُّ، حدثني أبو موسى الهلاليُّ، عن أبيه، عن كعبِ بنِ عُجْرَةَ، قال: دخلنا على رسولِ الله - صلي الله عليه وسلم - المسجدَ، فقال: "مَنْ هاهنَا؟ هَلْ تَسْمَعُونَ؟ إِنَّ بَعْدِي أُمَرَاءَ يَعْمَلُونَ بِغَيْرِ طَاعَةِ اللهِ، فَمَنْ شَارَكَهُمْ في أَعْمَالِهِمْ، وأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَلَيْسَ مِنِّي، وَلَسْتُ مِنْهُ، وَلَنْ يَرِدَ عَلَيَّ الْحَوْضَ، وَمَنْ لَمْ يُشَارِكْهُمْ في عَمَلِهِمْ، وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَهُوَ مِنِّي، وَأَنَا مِنْهُ، وَسَيَرِدُ عَلَيَّ الْحَوْضَ" (¬1). وبه إلى الطبرانيِّ، ثنا إبراهيمُ بنُ هاشمٍ، ثنا محمّدُ بنُ عثمانَ، ثنا أبو سعيدٍ مولي بني هاشمٍ، عن عمَر بنِ راشدٍ، عن يحيى بن أبي كثيرٍ، عن زيدِ بنِ سلامٍ، عن أبيه، عن جدِّه، عن حذيفة: قالَ رسولُ الله - صلي الله عليه وسلم -: "سَتكونُ أَئِمَّة لَا يَهْتَدُونَ بِهَديْي، وَلَا يَسْتنونَ بِسُنَّتِي، وَيَكُونُ رِجَال قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِيِن في أَجْسَادِ الإِنْسِ"، قلت: كيف أصنعُ إن أدركني ذلك؟ قال: "تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأَمِيرِ الأعْظَمِ، وَإِنْ ضَرَبَكَ بِظَهْرِكَ، وَأَخَذَ مَالَكَ، فَاسْمَعْ وَأَطِعْ" (¬2). ¬

_ = (7/ 270): أحد رجال البزار رجاله رجال الصحيح، وكذلك إسناد أحمد إلا أنه وقع فيه في الأصل غلط. (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (2893)، واللفظ له، ومسلم (1847)، =

أخبرنا جماعةٌ من شيوخِنا، أنا ابنُ المحبِّ، أنا ابنُ سعدٍ، أنا ابنُ مَكّيٍّ، أنا ابنُ بَشْكُوالُ، أنا أبو محمّدٍ القرطبيُّ، أنا ابنُ عبدِ البَرِّ، أنا أبو عمرَ الإشبيليُّ، أنا أبي، أنا أبو عبدِ الله بن يونسَ، أنا بقيُّ بنُ مخلدٍ، أنا أبو بكر بنُ أبي شيبةَ، ثنا وكيعٌ، عن سفيان، عن أبي حصينٍ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ بشرٍ، قال: جاء رجلٌ إلى عبدِ الله، فقال: متى أضلُّ؟ فقال: "إِذَا كَانَ عَلَيْكَ أُمَرَاءُ، إِنْ أَطَعْتَهُمْ أَضَلُّوكَ، وَإِنْ عَصَيْتَهُمْ قَتَلُوكَ" (¬1). وبه إلى ابنِ أبي شيبةَ، ثنا غندرٌ، عن شعبةَ، عن سماكٍ، عن أبي الربيع، عن أبي هريرةَ، قال: "وَيْلٌ للعربِ من شَرٍّ قدِ اقتربَ: إمارةِ الصبيانِ، إن أطاعوهُم أدخلوهُمُ النارَ، وإن عَصوْهم ضربوا أعناقَهُم" (¬2). وبه إلى ابنِ أبي شيبةَ، ثنا وكيعٌ، ويزيدُ بنُ هارونَ، قالا: ثنا عمرانُ بن جديرٍ، عن رفيعٍ أبي بكرةَ، قال: سمعتُ أبا حسن عليًّا يقول: تمتلئُ الأرضُ ظُلمًا وجَوْراً حتى يدخلَ كُلَّ بيتٍ خوفٌ وحربٌ، يسألون درهمين، وجريبين، فلا يعطونه (¬3). وبه إلى ابنِ أبي شيبة، ثنا يحيى بنُ عيسى، عن الأعمشِ، عن ¬

_ = كتاب: الإمارة، باب: وجوب ملازمة المسلمين عند ظهور الفتن ... ، وفيه: حدثنا زيد بن أسلم عن أبي سلام -يعني: جده-. (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (37234). (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (37236، 37751). (¬3) انظر: "العلل" للدارقطني (2/ 194).

مخولٍ، عن رجلٍ، قال: كنا مع حذيفةَ، فأخذ حَصًى، فوضع بعضَه فوقَ بعض، ثمّ قال لنا: انْظُرُوا ما ترونَ منَ الضوء؟ قلنا: نرى شيئاً خفيّاً، قال: واللهِ! ليركبنَّ الباطلُ على الحقِّ حتى لا ترونَ من الحقِّ إلا كما ترونَ من هذا (¬1). أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا، أنا ابنُ البالسيِّ، أنا المِزِّيُّ، أنا أبو بكرٍ الدستيُّ، أنا أبو القاسمِ بنُ رواحَةَ، أنا السِّلَفيُّ، أنا أبو غالبٍ الباقلانيُّ، أنا أبو بكرِ بنُ درهمٍ، أنا عمرُ بنُ محمّدٍ، ثنا أبو بكرٍ الخَلاَّلُ، أنا عفّانُ بنُ مسلمٍ، ثنا حمادُ بنُ سلمةَ، ثنا يحيى بنُ سعيدٍ، عن محمّدِ بنِ إبراهيمَ، عن علقمةَ بنِ وَقَّاصٍ، عن عمَر بنِ الخطاب، قال: سَتكونُ أُمَرَاءُ اتّبَاعُهُمْ بَلاء، وَمُفَارَقَتُهُمْ كُفْرٌ (¬2). وبه إلى ابنِ أبي شيبةَ، ثنا ابنُ فضيلٍ، عن الصَّلْتِ بنِ مطرٍ العجليِّ، عن عيسى المراديِّ، عن معاذٍ، قال: يَكُونُ في آخِرِ هَذَا الزَّمَانِ قُرَّاءُ فَسَقَةٌ، وَوُزَرَاءُ فَجَرَةٌ، وَأُمَنَاءُ خَوَنَةٌ، وَعُرَفَاءُ ظَلَمَةٌ، وأُمَرَاءُ كَذَبَةٌ" (¬3). • • • ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (37246). (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (37398). (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (37731)، والإمام أحمد في "الزهد" (ص: 212).

الباب الثامن في أموال المسلمين وبلادهم وما يباح للإمام والحكام من ذلك وما يمنع منه

الباب الثّامن في أموال المسلمين وبلادهم وما يباح للإمام والحكام من ذلك وما يمنع منه أما أموال المسلمين فإنها أقسام، منه ما هو مختصّ، ومنه ما هو عامٌّ. أما المختصُّ؛ كالزكاة، فهي للثّمانية أصنافٍ الذين ذكرهم الله -عَزَّ وَجَلَّ- في كتابه، الأولُ الفقراء، والثاني المساكين، والثالثُ أبناء السبيل، والرابعُ المؤلفةُ قلوبهم، والخامسُ الرقاب، والسادسُ في سبيل الله، والسابعُ العاملون، والثامنُ الغارمون. فهي لهذه الثمانية أصناف، ولا يجوز صرفُها في غيرهم حتى ولا في مصالح المسلمين العامة، ولربِّها تفرقَتُها بنفسه، وله دفعُها إلى الإمام يصرفُها. ولكن هل يجبُ استيعابُ الثمانية بها، أو يُستحبُّ ولا يجب؟

الأموال التي تؤخذ منها الزكاة

فذهب الشافعي -رضي الله عنه- إلى وجوب استيعاب الأصناف الثمانية، وذهب الإمام أحمدُ وأبو حنيفةَ إلى عدمِ وجوب ذلك. والأموال التي تؤخذ منها الزكاة أربعة: الأول: الذهب والفضة إذا بلغ نصاباً، وهو عشرون مثقالاً من الذهب، ومن الفضة مئتي درهم. والثاني: سائمة بهيمة الأنعام: الإبل، والبقر، والغنم. والثالث: الخارج من الأرض إذا بلغ نصاباً، ويجب فيه العُشْر. وما يوجد من الأعشار في هذا الزمان، وما يوضع على البلاد منه، كلّه خباط ولباط، وظلم وافتراء وعدوان، يفعل الولاةُ فيه أكثرَ من مئة خصلة باطلة افترائية، ليس لها في الشرع جواز. الأول منها: إقطاعُه، ولا يجوز. والثاني: إقطاعُه للأغنياء، ولا يجوز، ولا يحلّ أكلُ شيء منه. والثالث: بيعُه، ولا يجوز. والخامس: وَقْفُه، ولا يجوز. والسادس: وضْعُهُ على كل أرضٍ، زُرعتْ أو لم تُزرع، ولا يجوز. والسابع: وضعُه على ما فيه نصاب أولا، ولا يجوز. والثامن: أخذُه من حصة الفلاح دون الأستاذ، ولا يجوز. والتاسع: تقديرُه بشيء، زاد الخارجُ أو نقصَ، ولا يجوز. والعاشر: عدمُ اعتبارهم في المأخوذِ منه النصابَ، ولا يجوز. والحادي عشر: فصلُه بدراهم، ولا يجوز.

والثاني عشر: فصلُه بقمح، سواء كان الخارجُ قمحاً، أو شعيراً، أو غيرهما، ولا يجوز. والثالث عشر: فصلُه بشعير، ولا يجوز. والرابع عشر: عدمُ تفرقته على الفقراء، ولا يجوز. والخامس عشر: أخذه من المغل، أو الذهب والفضة عن الأشجار، ولا يجوز. والسادس عشر: إذا أخرجَهُ ربُّه، يؤخذ منه مرةً أخرى، ولا يجوز. والسابع عشر: أن يؤخذ عليه خدم من دجاج وغيرها، ولا يجوز. والثامن عشر: أخذُه من الغني والفقير، ولا يجوز. والتاسع عشر: وضعُه على الرؤوس دون المغل، ولا يجوز. والعشرون: أخذُه من الأرض المزروعة ما لا تجب فيه الزكاة، ولا يجوز. وأنت إذا تأملتَ، رأيتَ كلَّ ما يفعل فيه من جنس الأمور الكفرية الظلمية. والرابع من أموال الزكاة: عروض التجارة. وإنما تجب الزكاة في هذه الأربعة أموال بخمسة شروط: الإسلام؛ فلا تؤخذ من كافر، وتمامُ الملك، والحرية، وملكُ

النصاب، وأن يحول على ذلك حولٌ، إلا أن الحول لا يُعتبر في الخارج من الأرض. الثاني من أموال المسلمين: الغنيمة: وهو المال المأخوذ من الكفار قهراً، فيقسم على خمسة أسهم: سهم لله تعالى ولرسوله صلي الله عليه وسلم لسائر المسلمين في مصالحهم العامة. وسهم لذوي القربى، يستحقه بنو هاشم وبنو المطلب، غنيُّهم وفقيرهم حيث كانوا، للذكر مثلُ حَظِّ الانثيين. وسهم ليتامى الفقراء، وسهم للمساكين، وسهم لأبناء السبيل من المسلمين. والأربعة أسهم الباقية من الغنيمة لمن شهد الوقعة. الثالث من أموال المسلمين: المالُ المأخوذُ من الكفار بغير قتال؛ كالجزية، والخَراج، والعُشر، وما تركوه فَزَعاً، ونحو ذلك، وهذا لعموم المسلمين، يصرَف في مصالحهم العامة, من سدِّ الثغور، وكفايةِ أهلها، وسدِّ البثوقِ، وكَري الأنهار، وعمل القناطر، وأرزاق القضاة والأئمة والمؤذنين، وإصلاح الجوامع والمنابر والطرقات، وتكفين مَنْ لاكفَن له، والإنفاق على من لا مال له، وكلُّ ما كان للمسلمين من مصلحة عامة، أو دفعِ ضررٍ عامٍّ, فإنه يصرف منه، ولا يجوز لأحد الاختصاصُ به. المال الرابع من أموال المسلمين: مالُ مَنْ مات لا وارث له من المسلمين، فإن هذه الأموال كلَّها يأخذها الإمام، ويجعلها في بيت المال. واختلف العلماء فيمن ماتَ لا وارثَ له، أُخذ مالُه لبيت المال،

هل هو لكون بيت المال وارثاً، أولا؟ على قولين: فقال بعضهم: هو وارث. وقال بعضهم -وهو ظاهر كلامِ أحمدَ-: إنما هو مُرْصَدٌ؛ فإنه ليسَ ثمَّ مِن ميت إلا وله وارث من قريب أو بعيد، فإنّا نبدأ في الإرث بالأقرب فالأقرب، فلا بد للإنسان من أقارب، قربوا أو بعدوا, من أولاد أب، أو جد، أو جدِّ جدٍّ، أو جدِّ جدِّ جدٍّ، وكذلك هلمّ جراً، فهو لا يخلو منهم، وهم يرثونه، فلما جُهلوا، صار مالُه جُهِلَ مستحقُّه، فوُضع في محل يُرْصَدُ له فيه، وهو بيتُ المال، ثمّ مع عدم علمِه وجهلِه، صُرف في مصالح المسلمين العامة، فمالُ بيت المال يصرَف في مصالح المسلمين العامة، حتى إن تبقّى منها شيء، فإن لم يفِ بها، صُرف كلُّه في ذلك، وإن كفاها، ولم يفضُل منه شيء، فقد سدّ الوجهَ الذي هو محلُّه، وإن فضل منه شيء بعدها، قُسم بين المسلمين، ويقدَّم الأقربُ فالأقربُ من رسول الله - صلي الله عليه وسلم -، من أبناء المهاجرين، ثمّ لمن كان من أبناء الأنصار، ثمّ سائر المسلمين. وكان العطاء في زمن الخلفاء يصرف (¬1) إلى كلِّ أحدٍ حقه منه على قدره من صغير وكبير، حتى إلى الأطفال، وليس للولاة، ولا الإمام، ولا غيرِه أن يستأثروا منه بشيء فوق الحاجة، وفعلُ ذلك ظلم، ففي زمننا هذا استأثروا به كلّه، ولم يعطوا أحداً منه شيئاً، واختصّوا به، ولم يَكْفِهم حتّى أخذوا معه البراطيلَ على الولايات، والرّشَا، ولم يكفِهم ذلك حتّى أخذوا من الناس من أموالهم فوقَه. ¬

_ (¬1) في الأصل: "منه كان يصرف".

وقد روينا في الصحيح عن السّيّد أبي بكر- رضي الله عنه-: أنّه قال للمسلمين: قد علمَ قومي أَنَّ حِرْفتي لم تكنْ تعجزُ عن مؤنَة أهلي، فسيأكل آلُ أبي بكرٍ من هذا المال، ويحترف لهم فيه (¬1). وورد عن عمر في ذلك حكايات كثيرة مهولة, مثل قوله: سيأكلُ عمرُ وآلُ عمرَ من هذا المال نفقةَ رجلٍ من أوسطِهم، ليس بغنيٍّ، ولا فقيرٍ. وكان يؤدم طعامَه بالزيت، وكان الزيتُ لا يوافقه، فلم يكن يدعُ ذلك، ولا يشتري السّمن؛ خوفاً من أن يتوسّع في مال المسلمين. ولما وُصف له العسلُ لأجل بطنه، ولم يجد عسلاً إلا عُكَّة في بيت مال المسلمين، لم يأخذها، ولم يأكلها حتّى جمع المسلمين، واستشارهم، واستأذنهم في أخذِها وأكلِها (¬2). ولما أطعمه بعضُ مواليه شيئًا من ناقة ذبحت، جمع المسلمين، واستأذنهم في ذلك، واستشارهم، ولم تسكن نفسُه حتّى أخبره عليٌّ أنّه يستحقّ ذلك، وأكثرَ منه. ولما أخذ بعضُ أصاغرِ ولدِه درهماً من المال، غدا خلفَه، وخلَّصه منه، ورده. ولما مسحت زوجتُه أثرَ يدِها من طيب مَسَّتْهُ من طيب المسلمين، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1964)، كتاب: البيوع، باب: كسب الرجل وعمله بيده. (¬2) تقدم تخريجه.

فصل

غسلَه بالماء والتراب، حتى ذهبَ ريحهُ (¬1). إلى غير ذلك من الحكايات المهولة. وكذلك ورد عن عثمان -رضي الله عنه- أحوال وحكايات في ذلك. وكذلك عن عليٍّ -رضي الله عنه-. إلا أنّه في زمن معاوية حصل أدنى توسُّع، ثمّ حصل السَّرَفُ في زمن يزيدَ، ثمّ حصل فيما بعدَ ذلك، ثمّ عاد في زمن عمرَ بنِ عبد العزيز، ثمّ اختلّ بعدَه. إلا أنّه في هذا الزمان، فسد الأمر بالكلية، ولم يبقَ للمسلمين مال، ولا بيتُ مال، إنّما عاد المالُ لصاحب الحال، حتّى إنّهم يكنزونه لأنفسهم وأولادهم، وليس ثمّ على أحد منهم لا من إسلام، ولا مسلمين، ولا مصالح لا عامة ولا خاصّة، فلا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم. فصل وأمّا بلاد المسلمين: فإنّ عمر -رضي الله عنه- لما فتح البلاد، وأخذَها بعد موت النبيّ صلي الله عليه وسلم، فإنّ الذي أُخذ في زمن النبوة مكةُ، وبلادُ الحجاز، ثمّ في خلافة أبي بكر لم يؤخذ غيرُ بلادٍ قليلة من بلاد نجدٍ واليمنِ، فلمّا كان في خلافة عمر- رضي الله عنه-، أخذ جميع بلاد اليمن، ونجد، وجميع بلاد مصر، وجميع بلاد الشّام، وبيت المقدس، وغزة، والرملة، ودمشق، وبعلبك، وحمص، وحماة، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

وحلب، وجميع بلاد العراق، كلّها أخذها من أهلها قهراً بالسيف، إلا أماكنَ يسيرةً من بلاد العراق، وهي: الحيرة، والليس، وبانقيا، وأرض بني صلوبا، فإن هذه الأماكن أخذت صلحاً، ولما أخذها، وتم الأمر فيها، وصارت في يدِه وحوزه، وَقَفَها على المسلمين. وقد اختلف العلماء في أرض العَنْوَة، هل تصير وقفاً على المسلمين بنفس الاستيلاء عليها، أو أن الإمام يُخير فيها، مهما رأى فيها يفعله، إن شاء وقفها، وإن شاء أقطعها، وإن شاء باعها وصرفَها في مصالح المسلمين، وإن شاء أرصدَها للمسلمين مهما رأى فيها يفعل، أو أنّها تصير للإمام يتصرف فيها بما شاء؟ وحاصل الأمر: أنّ عمر -رضي الله عنه- وقف جميع هذه البلاد: بلاد مصر، وبلاد الشّام كلها، وبلاد العراق على المسلمين، فكان المتحصّل منها يُصرف في مصالح المسلمين من أمورهم، الأهم فالأهم؛ من الجهاد، والمصالح، وغير ذلك، وما فضل يقسمه بين المسلمين. ثمَّ لم يزل الأمرُ على ذلك زمَناً من زمن الخلفاء، ولم يكونوا يرون التوسُّع من ذلك في المراكب والملابس، والمآكل والمشارب، وكانوا يعدّونه من التخوُّل في مال الله بغير حقّ. فلما صار في زماننا، وقبلَه، استأثر الولاةُ بها، واستقطعوها لأنفسهم، فصار للسلطان في كلّ بلاد منها ما يصلح له من خيارها, كزرع، وداريا، وعيثا، وغير ذلك من أحسن البلاد، ولنائب الشام بعدَه ما هو دون ذلك, مثل: حرستا، وعدرا، وعقربا، والزبداني، ونحو

ذلك مما يناسبه، ولأمير كبير بعده؛ مثل: دوما، ونحوها، ولكل أمير من ذلك، وكل نائب، وكلّ أحد من الولاة ما يليق به، فتخوّلوا في ذلك، وشروا منه الخيلَ واللباسَ من الحرير وغيره، والمماليكَ الكثيرة المتّخذة لِلِّواط وغيرِه، والعبيدَ الكثيرةَ المتّخذةَ للواطِ وغيره، والسراريَّ، وبنوا الدُّور العظيمة، وتوسَّعوا في المآكل والمشارب، فَبطِروا وأَشِروا، فخرجوا من الحلال إلى الحرام، وشربوا الخمور، ووطئوا الإناث والذكور، ودخل إليهم الشّيطان من سائر الحيطان، واتّخذوا الأعوان من كلّ مارد شيطان، فأمروهم بالظّلم والمعاصي، فلستَ ترى في بابهم غيرَ كلبٍ بلاصي، وطردوا الفقهاء والقراء، وصاروا أعداءهم في السرّاء والضرّاء، فإن حصل لواحد منهم فلتة، أو دخل إليهم بغتة، لم يسعه غيرُ الموافقة والمعاشرة والمرافقة، فإن سكروا سكر، وإن بطروا، بطر، وإن جاؤوا بحرام، أفتاهم بأنه عينُ الحلال، فيدُه متناوِلَةٌ قبل أيديهم، وهو كالشيطان يُغويهم، فهذا شأنه يُفسد أكثرَ مما يُصلح، وليس يرعوي عن قبيح ولا يفلح.

الباب التاسع فيمن تمنى ذلك، ومن كرهه، وفر منه

الباب التّاسع فيمن تمنى ذلك، ومن كرهه، وفرّ منه أولُ من طلبه وأرادَه يوسفُ، كما أخبر الله -عَزَّ وَجَلَّ- عنه في كتابه بقوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]، وقال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} [يوسف: 101]، ثمّ داود -عليه السلام-: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20]، ثمّ ولده سليمان كما قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- أنّه قال: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35]، وقال -عَزَّ وَجَلَّ- عنهما: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79]، ونبينا - صلى الله عليه وسلم - أُعطي النبوةَ والحكم، وأبو بكر -رضي الله عنه- وَلِيَ بعده، ولم يمتنع، وكذلك عمر، إلا أنه في آخر أمره كرهها، وتمنّى أن يخرج منها، وأن يجد من يكفيه أمرَها، وعثمان -رضي الله عنه- دخل فيها من غير كراهة، وكذلك عليٌّ، والحسنُ تركَها لله، وعبدُ الله بنُ عمرَ -رضي الله عنه- لم يدخل في ولاية قطّ. وفي الصّحيح: "إِنَّا لَا نُوَلِّي أَمْرَنَا هَذَا مَنْ أَرَادَهُ، وَلَا مَنْ حَرَصَ عَلَيْهِ" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6730)، كتاب: الأحكام، باب: ما يكره من الحرص على =

وفيه: "إِنَّكمْ تَحْرصُونَ عَلَي الإِمَارة، وَسَتكونَ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نِعْمَ المُرْضِعَةُ، وَبِئْسَ الْفَاطِمَةُ" (¬1). وقال -عليه السلام-: "مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ، فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سكِّينٍ" (¬2). وقال: "قَاضٍ في الْجَنَّةِ، وَقَاضِيَانِ في النَّارِ" (¬3). وفي بعض الآثار: "يُؤْتَى بِالْقَاضِي الْعَدْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَامُ مَعَ الظَّلَمَةِ، فَلاَ يَفكُّهُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا الْعَدْلُ" (¬4). وليعلمْ أنَّ القاضي إذا لم يعدلْ هو مِنْ نَفْسِ الظَّلَمة، بل هو كبيرُهم وشرُّهم. وفي بعض الأحاديث: إِنَّ مُعَلّمَ الْكُتَّابِ يُحْشَرُ مَعَ الظَّلَمَةِ، فَإِنْ كَانَ ¬

_ = الإمارة، عن أبي موسى -رضي الله عنه-. (¬1) رواه البخاري (6729)، كتاب: الأحكام، باب: ما يكره من الحرص على الإمارة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬2) رواه أبو داود (3571)، كتاب: الأقضية، باب: في طلب القضاء، والترمذي (1325)، كتاب: الأحكام، باب: القاضي، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. وقال: هذا حديث حسن غريب. (¬3) رواه أبو داود (3573)، كتاب: الأقضية، باب: في القاضي يخطئ، والترمذي (1322)، كتاب: الأحكام، باب: القاضي، عن بريدة -رضي الله عنه-. (¬4) رواه الإمام أحمد في "مسنده" (6/ 75)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (2619)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 96) عن عائشة رضي الله عنها بلفظ: "يؤتى بالقاضي العدل يوم القيامة، فيلقي من شدة الحساب ما يتمنى أن لم يقض بين اثنين في تمرة قط". قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/ 192): إسناده حسن.

عَدَلَ بَيْنَ الصِّبْيَانِ، وَإِلَّا أُقِيم مَعَهُمْ (¬1). وقد روينا أنّه: "يُنادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ الظَّلَمَةُ وَأَعْوَانُ الظَّلَمَةِ؟ أيْنَ مَنْ بَرَى لَهُمْ قَلَماً، أَوْ لاَقَ لَهُمْ دَوَاةً؟ " (¬2). وقال رجلٌ للإمامِ أحمدَ: ترى أنّي من أعوان الظلمة؟ قال له: وما تصنع؟ قال: خَيَّاطُهم، فقال: لا، بل أنتَ منهم، إنّما أعوانُهم الذي يبيعُك الخيطانَ والإبرة. أخبرنا الحافظُ أبو العبّاس إذناً، أنا أبو المعالي الأزهريُّ، أخبرتنا عائشةُ بنتُ على، أنا أحمدُ بنُ على، أنا البوصيريُّ، أنا الأرتاحيُّ، أنا ابنُ الفراءِ، أنا أبو القاسم بنُ الضرّابِ، أنا أبو بكر الدّينوريُّ، ثنا الحسنُ بنُ الحسينِ الطوفيُّ، ثنا أحمدُ بنُ يونسَ، قال: قال حفصُ ابنُ غياثٍ لابنِ إدريس: مررتُ بطاقِ الحامل، فإذا أنا بعليانَ المجنونِ جالسٌ، فلمّا أن جزتُه، سمعته يقول: من أرادَ سرورَ الدنيا، وحزنَ الآخرة، فليتمنَّ ما هذا فيه، فو الله! لتمنّيت أنّي كنتُ متُّ قبل أن أليَ الفُتْيا (¬3). أخبرنا جَدّي، أنا الصّلاحُ بنُ أبي عمَر، أنا الفخرُ بنُ البخاريِّ، أنا ابنُ الجوزيِّ، أنا المحمّدان، ابنُ ناصر، وابنُ عبدِ الباقي، أنا أحمدُ، أنا أحمدُ بنُ عبدِ الله، ثنا سليمانُ بن أحمدَ، ثنا عليُّ بنُ أحمدَ، ثنا ¬

_ (¬1) رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم": (ص: 107) عن مجاهد قوله. (¬2) رواه الإمام أحمد في "الورع" (ص: 93) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، والديلمي في "مسند الفردوس" (989) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬3) تقدم تخريجه، ووقع في المصادر: "بطاق اللحامين" بدل "بطاق الحامل".

أحمدُ بنُ جميلٍ، قال: قيل لعبدِ الله بنِ المبارك: إنّ إسماعيلَ بْنَ عُلَيَّة وليَ على الصّدقات، فكتب إليه: يَا جَاعِلَ الْعِلْمِ لَهُ بَازِياً ... يَصْطَادُ أَمْوَالَ الْمَسَاكِين اِحْتَلْتَ لِلدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا ... بِحِيلَةٍ تَذْهَبُ بِالدِّينِ فَصرْتَ مَجْنُوناً بِهَا بَعْدَمَا ... كُنْتَ دَوَاءً لِلْمَجَانِين أَيْنَ رِوَايَاتُكَ في سَرْدِهَا ... عَنِ ابْنِ عَوْنٍ وابْنِ سِيرِينِ أَيْنَ رِوَايَاتُكَ وَالْقَوْلُ في ... لُزُومِ أَبْوَابِ السَّلاَطِين إِنْ قُلْتَ أُكْرِهْتُ فَمَاذَا كَذَا ... زَلَّ حِمَارُ الْعِلْمِ في الطِّينِ فلمّا قرأ الكتابَ، بكى، فاستعفى من ذلك (¬1). وحضرتُ مرةً عند الشّيخ نجمِ الدّينِ بن قاضي عجلونَ، وكان من العلماء الكبار، قد حوى العلومَ الكثيرة، وبرع فيها، وكان من ذوي البيوت، وله دُنيا واسعة، فتحادثنا في القُضاة وذمِّهم، وما هم عليه من ¬

_ (¬1) انظر: "الجهاد" لابن المبارك (ص: 26). ورواه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1/ 165)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (6/ 236)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (54/ 61).

التعاسة والبلاء، فقال: والله! لو علمت أنّ في هذا الأمر خيراً، ما سبقني منهم أحدٌ إليه. وهو صادق؛ لأنّه كان يصلُح له من جهة العلم والمال، فحدّثته: أنّا قد روينا في "فوائد أبي القاسم الرّازي": أنّ حَجَراً عَبَدَ الله كذا كذا ألف سنة، ثمّ جعلَه في أُسِّ كَنيفٍ، فعجَّ إلى ربّه -عَزَّ وَجَلَّ-، وقال: يا ربّ! عبدتُك كذا كذا ألفَ سنة، ثمّ جعلتني في أُسِّ كنيفٍ؟! فأوحى الله -عَزَّ وَجَلَّ- إليه: أما ترضى أن عدلتُ بك عن مجالس القضاة؟ (¬1). وكان شرفُ الدين بنُ عيدٍ في زمننا حَلَفَ عند قبر النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أن لا يلي القضاء، ثمّ أكرهه السّلطان عليه. وكان قوامُ الدين الحنفيُّ امتنعَ منه، ثمّ أكره عليه. وأكره شيخنا ابنَ قندس عليه، وحلف عليه، فولي يوماً، ثمّ عزل لفتنته. وامتنع منه القاضي شهابُ الدين بنُ الباعونيِّ حتّى أُجيب إلى كلّ ما شرط عليهم. وامتنع منه ولدهُ شيخنا الشّيخُ برهان الدين. وأما ذوو الرغبة فيه والبرطيل عليه في زمننا، فكثير ممن لا يصلح له، لا بالعلم ولا بالدين، فلا كَثَّرَ اللهُ في الإسلام من أمثالهم. وقد ذكر عن شيخ الإسلام شمسِ الدين بنِ أبي عمَر -وهو أولُ ¬

_ (¬1) رواه تمام في "فوائده" (1/ 242، 243)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (38/ 99). قال تمام: هذا حديث منكر.

حنبليٍّ ولي دمشق-: أنّه امتنعَ منه الامتناع الكلي، حتّى قال السلطان: إما أن يلي، وإما أن يتحوَّلَ من بلادي، وأنه كان عزمَ على التحوُّل، وأنه ترامى عليه أصحابُه وأهلُه وإخوانُه، وقالوا: هذا أمر لا يحصُل به إلا الخيرُ، وإن كان قصدُك الخيرَ، حصل لك به من العدل، وإعانة الملهوف، وغير ذلك، فولي. وله في ولايته الحكايات العجيبة. ثمّ لما مات، أوصى أن لا يُدفن عند أبيه؛ لأنه ولي القضاء، ويخاف أن يشوش عليهم، ودُفن خلف الحائط. ولما ولي صالحُ بنُ الإمامِ أحمدَ قضاءَ سمرقندَ، ودخل إليها، واجتمع عليه علماؤها، وقرئ عهدُه، أخذه البكاءُ الشديدُ والإنتحابُ، فظنّ الفقهاءُ والعلماءُ أن ذلك لفراق أهله وبلاده، فأخذوا يُسلّونه عند ذلك، وأنّها بلادٌ جيدة، وبها العلماءُ والأجواد، والخير الكثير، فقال: والله! ليس بكائي لذلك، فقالوا: فلأيِّ شيء هو؟ فقال: إنما هو لأن أبي -رَحِمَهُ اللهُ- كان يَعِزُّ عليه أن يراني بهذا المجلس. وحضرنا مرةً عند قانصوه نائبِ دمشق، فقال بعضُ الإخوان له: أَمْسِ جاءنا إلى الصالحية: أن القاضيَ الحنبليَّ ولّي الشيخَ، وخلع عليه خِلْعة، فقال لي: حَقٌّ هذا؟ فقلت: لا، ما فعلتُه ولا أفعلُه، فقال: إنّما هلك. وأوصيك على خمسة أشياء قطّ لا تفعلْها، فقلت: وما هي؟ فقال: أولُها: لا تضمنَنَّ أحداً، فقلتُ: نعم، وأنا حالفٌ على هذا أن لا أفعله. فقلت: والثاني؟ فقال: لا تعملنَّ وكيلاً لأحد، فقلت: نعم.

والثالث؟ فقال: لا تَلِيَنَّ قاضياً، فقلت: نعم. والرابع؟ فقال: والرابع: لا تتكلمنَّ في نجس قطّ، ولا تشفعنَّ فيه، فقلت: هذه لا؛ فإنّ الشفاعة إنّما تقع في المذنب والنجس، والجيدُ لا يحتاج إلى شفاعة، وشفاعةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة إنما هي في المذنبين، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، عجزتُ وأنا أقول له: لا تتكلم في نجس، وهو لا يقبل، ولا يسمع مني ذلك. ووقع الكلام بيننا في ذلك وطال، ولم يقلِ الخامس. وقد أوصى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعضَ أصحابه ألا يتأمَّرَنَّ على اثنين (¬1)، وأَوْصى آخرَ أَلَّا يحكُمَ بين اثنين (¬2). وقد طُلِب بعضُ السلف للقضاء، فخرج مجنوناً حتى تُرك، فلامه بعض إخوانه على ذلك، فقال له: هذا عقلك يا فلان. وقد صار في زماننا جَهَلَةٌ فسقةٌ كذبةٌ خونةٌ، لهم رغبة في القضاء، يطلبونه، ويأخذون أموالَ الفقراء والمساكين وطلبةِ العلم، وقد عطّلوا المساجدَ والمدارس، وخرّبوها، وأَعْرَوها من حُصُرٍ وبُسْطٍ، ومنعوا ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1826)، كتاب: الإمارة، باب: كراهة الإمارة بغير ضرورة، عن أبي ذر -رضي الله عنه-. (¬2) رواه الإمام أحمد في "مسنده" (5/ 181) عن أبي ذر -رضي الله عنه-.

طلبةَ العلم من العلم، بأخذِ أوقافِهم، والبرطيلِ بها، فصدّوا عن العلم، وعن الخير. وقد ورد في أخبار محمد بن جرير الطبريِّ: أن يهودياً صرف عليه وعلى جماعته المالَ الجزيلَ أربعين مرةً، كلَّما فَنِيَ شيء وأرادوا الذهابَ اعترضهم وأعطاهم، وقال: أقيموا على ما أنتم عليه من الخير، وأنّه سُئل عن ذلك، فقال: إني رأيتُ فيما أنزل الله: أنّه ليس ثَمّ نفقةٌ أعظم أجراً من درهم صُرف على رجلٍ في طلب العلم. فمثل يهوديٍّ يرغب في ذلك؟ هؤلاء الجهلةُ الفسقةُ أخذوا أموالَ طلبة العلم، فهؤلاء وأمثالُهم داخلٌ في قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114]. حتى إن بعضهم يأخذ بجهله أموال الفقراء والمساكين وطلبة العلم، ويُبرطل الظلمَةَ بها، ويزيِّن له الشيطان أن يبرطل بها، ولا يطعمهم في الأخذ منه، حتى إن منهم من إذا رأى مَنْ هو قوي عليه، برطلَ بها على قتله، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون من الجهل والتعاسة. وقد وقع بيني وبين بعض الجهلة كلام في شيء من ذلك، وأنّه يزرع الوقف، ويقول: أنا زرعته، فقلت له: من قال من المسلمين أو اليهود أو النصارى: إنّك إذا زرعتَ أرضَ الوقف تختصُّ به؟ فقال: أنتم تحسدوني على ذلك، فقلت: كيف نحسدك؟ من يقول بحِلِّ هذا؟ فقال: إذاً ترافعوني، فقلت: أنتَ إذا أخذت شيئاً ما، تريد أن تأخذه

بوجه؟ فقال لي: ابنُ الحنش يزرع عندكم أكثرَ مني، ويأخذه، فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله، أنت ما تجعل حُجَّتَك إلا فعلَ ابنِ الحنش، حتى تلبس لك لاطيةً، وتأخذ رمحك، وتعمل شيخ عشيرة، ثمّ احتجَّ بفعل ابن الحنش، لا تعمل قاضي المسلمين، وتحتج بفعل ابن الحنش، فانظر بعينك إلى هذا الجهل العظيم. وقلت: أَلاَ جَهِلٌ تَفَاخَمَ بِالْقَضَاءِ ... لَهُ بِالْجَهْلِ أَحْوَالٌ رَدِيَّهْ غَدَا بِالْجَهْلِ سَامٍ إِلَى الْعُلاَ (¬1) ... يُقَعْقِعُ في المَلاَ بِالأشْرَفِيَّهْ وقلت: رأيْتُ لَنَا قَاضٍ عَلَى السُّوءِ يَرْتَمِي ... كَشِبْهِ مَرِيضٍ لَيْسَ في السُّقْمِ يَحْتَمِي وَفَاوَضَنِي خَلْق كَثِيرٌ بِأَمْرِهِ ... فَقُلْتُ: دَعُوهُ فَهْوَ قاضِي جَهَنَّمِ وقلت: قُضَاةُ زَمَانِنَا صَارُوا قِلاَعا ... لِكُلِّ مُحَارِبٍ فِيهَا مَرَامِي ¬

_ (¬1) كذا في الأصل.

فصل

لَهُمْ في الْعِلْمِ بَاعٌ مُسْتَطِيل ... وَلَيْسَ الْفِقْهَ بِلْ أَكْلَ الْحَرَامِ طَوِيلِ الْكُمِّ ذِي وُسعٍ مَليحٍ ... لأجْلِ الدَّكِّ عَنْ عَبْدِ الأنَامِ وَوَصْفُ الْكُلِّ أَجْمَعِهِمْ لُصُوص ... وَمَا فِيهِمْ يَسُودُ سِوَى الْحَرَامِ فصل في سنة ثلاثٍ وتسعِ مئةً عند موت السلطان قايتباي، ونائب الشام قانصوه، وغيرهما من الحكام، وظهور الزُّعْر، حدثت مسألة، وهو أنه: لما ظهر هؤلاء الزعرُ، أفتاهم بعض الحنفية بقتل العَوانية وأعوانِ الظلمة، ووقع لنا بسبب ذلك أمرٌ كبير، وصنّفتُ في ذلك لما جاءتني هذه المسألةُ كتابي "الذُّعْر في أحوال الزُّعْر". وذلك أن من أفتى، انعكس فهمُه، وقد تطلّبتُ مستندَهم في ذلك، ففي بعض كتبهم قيل: الأعوانُ والسعاة، وإنه تعريض بهم لفترة، ويُقتلون، وفي بعضها: قتلُ الأعوان. وتأملت ذلك، فلم أرَ لقتل أعوان الحكام وَجْهاً، ولا لسُعاة الإمام؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -أوصى بهم، ودعا لهم، حتى إنه كان في زمن الصحابة والتابعين أعوان أشدَّ تعسُّفاً وظلماً من هؤلاء؛ مثل: الحجّاجِ وغيرِه، ولم يرد عن أحد جوازُ قتلهم، وكان في زمن الإمام أحمدَ مَنْ خرج منهم عن الإسلام؛ مثل: المعتصمِ والمأمون، وإنهم قالوا بخَلْق القرآن، ولم يرد تكفيرُ أحدٍ

منهم، ولا القولُ بقتل أعوانهم، حتى ولم يُخرجهم -بذلك- من الإمامة، حتى إنه -عليه السلام- لما أَخبر عن أنه تكون أمراءُ وولاةُ جَوْر، فقيل له: ألا نُنابذهم عند ذلك؟ فقال: "لَا مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الدِّينَ" (¬1)، وقد أمرَ بالسمعِ والطاعةِ ما لم ترَ كفراً بَواحاً عندكم من الله فيه برهان (¬2). وكَثرُ تأملي لذلك، ولَعَمري! لئن جاز قتلُ أعوانهم، ليجوزُ به قتلُهم من بابٍ أولى، فلما كثر تأملي لذلك، وفحصي عنه، بان لي الحقُّ فيه، وأنّ هذه المسألة ليست في أعوان الحكام والولاة وسُعاتهم، وإنما هي أن في قرب الأربع مئة ظهر العَيَّارون على الحكام والناسِ، فكانوا يأخذون أموالَ الناس قهراً بالليل والنهار، ولا يفيد فيهم الغوثُ، ولا التجمُّع؛ بحيث إنه كان يخرج إليهم عسكرُ الإسلام، فيكسرونه ويردُّونه؛ بحيث إنّ كبيرَهم البرجميَّ لم يبقَ أحدٌ يتجاسر يقول عنه: البرجميّ، إنما يقال له: أبو العباس القائد بمسمى السلاطين؛ بحيث إن جميع الأجناد خرجوا إليه، فقال لهم: أنتم إليّ، وأنا كلَّ ليلة عندكم، وكسرَهم؛ بحيث إنهم قبضوا [على] السلطان، وأرادوا حبسه، فخلّصه منهم، وردّه إلى بنيه. وكانوا قد صاروا ثلاثة أقسام: قسم يدورون بالنهار ينظرون ويتأملون ما يأخذونه بالليل، وهم السُّعاة، ويأتون بالليل، منهم من يباشر القتلَ والأخذَ، وكبارُهم ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه.

لا يباشرون، إنما يكونون أعواناً لهم لمكانتهم، فأفتى العلماء بأن حكم الرِّدْء منهم حكمُ المباشِر، يُقتلون كلّهم، من باشرَ القتلَ، ومن لم يباشر من الأعوان والسعاة. وهذه المسألة قد ذكرها صاحب "الفروع" من أصحابنا في باب: قطّاع الطريق عن صاحب "المفردات"، وأنه يقتل السعاة والأعوان، قال: لأن مجرى الجميع على أنهم قطاع طريق (¬1). وكلامُ الحنفيّة هو في هؤلاء، ولا يخرج عن ذلك، وليس أحد يقول: إنّ أعوان حكام الإسلام يقتلون، هذا ما أظن يقوله أحد. • • • ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" (6/ 139).

الباب العاشر في ذكر جماعة من الخلفاء والملوك ومددهم وأخبارهم

الباب العاشر في ذكر جماعة من الخلفاء والملوك ومُدَدهم وأخبارهم أما قبل نبينا - صلى الله عليه وسلم -، فيقال: إنه ملكَ الدنيا جميعَها أربعةٌ لم يَتَّفِق ذلك لغيرهم: مؤمنان، وكافران: سليمان -عليه السلام- والإسكندر، والنمرود وفرعون. فأما النمرودُ فكان في زمن إبراهيم -عليه السلام-، وأما فرعونُ فكان في زمن موسى -عليه السلام-، وأما سليمان فهو نبيّ، وملّكه اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، وكان بعد موسى، والإسكندرُ وهما اثنان: الأصغر، والأكبر، والأكبرُ هو الذي ملك الدنيا. ولم يملك من الأنبياء غيرُ سليمانَ ويوسفَ. وأما الحكام غير هؤلاء قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - فثمّ ملوك كثيرة: فالعزيز، وهو الريّان، كان في زمن يوسف، وكان بعدَ يوسفَ قابوسُ بنُ مطعم، وكان عدّه من التبابعة، وكسرى. وأما الذين في زمنه -عليه السلام-، فالنجاشي صاحبُ الحبشة، وأَسْلَمَ، وكسرى، وقيصر، والمقوقس.

حكام الإسلام

وأما حكام الإسلام، فكان الأمر في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه، ثمّ بعد وفاته وَليَ الخلافةَ أبو بكر الصديق، وأقام سنتين وثلاثةَ أشهر، وولَّى عدة أمراء، وقاضيه عمرُ بن الخطاب، وحاجبه سديدٌ مولاه. واستخلَفَ عند موته عمرَ -رضي الله عنه-، وفتحت غالبُ البلاد في أيامه، ومن أمرائه: خالد، وأبو عبيدة، وسعد بن أبي وَقَّاص، ومعاذ، والمثنى بن جارية، وأبو عبيد، وعمرُو بنُ العاص، ومعاويةُ، وغيرُهم. كُتَّابه: عبدُ الله بن خلف، وزيدُ بن ثابت، وعلى بيتِ المال زيدُ بنُ أرقَم. وقضاتُه بالمدينة: يزيدُ ابن أختٍ لعمر، وبالكوفة: أبو أمية، وشريح، ويقال: إنه أقام قاضياً خمساً وستين سنة. حاجبُه: يرفأ مولاه. وجعل الخلافةَ بعده في ستة، وبرَّأ ولده عبد الله منها، وأقام في الخلافة، وكانت خلافته عشرَ سنين ونصف. وولي بعدَه عثمانُ بنُ عفان، وقام في الخلافة اثنتي عشرةَ سنةً، وفُتحت في أيامه عدة بلاد، وكان له عدةُ أمراء، وكاتبه: مروانُ بنُ الحكم، وقاضيه: كعب بن سور، وحاجبه: حُمرانُ مولاه، وصاحبُ شرطته: عبدُ الرحمن بن قيدن الهتمي، وهو أول من اتخذَ صاحبَ شرطة. قُتل ظلماً في شوال سنة خمس وثلاثين.

وولي بعده عليُّ بن أبي طالب، وهو أولُ خليفة هاشمي الأبوين، ولم يكن بعده كذلك غيرُ محمّدٍ الأمين، وكانت خلافته خمسَ سنين تنقص ثلاثةَ أشهر، وفي أيامه بويع لمعاويةَ في الشام، وسار كلُّ واحد منهما إلى صاحبه، وكانت بينهما وقعةُ صِفِّين، قُتل فيها خلائقُ من الصحابةِ وغيرِهم، وقُتل على، ضربه ابنُ مُلْجِمٍ وهو خارجٌ إلى الصلاة، في شهر رمضان سنة أربعين، وكان له عدةُ أمراء، وكاتبه: عبدُ الله بنُ أبي رافع، وسعيدُ بن بحران، وقاضيه: شريحُ بنُ الحارث، وحاجبه: بِشْر مولاه، ثمّ قنبَرٌ مولاه. ثمّ بويع بعده بالعراق لولدِه الحسن، فأقام إلى شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين، ثمّ سار إلى معاويةَ، ثمّ اصطلحا، وسلَّم الأمرَ إلى معاوية، ودفع إليه معاويةُ كلَّ ما أراد، وحقنَ الحسنُ دماء المسلمين، وحقق قولَ جده: "إِنَّ ابني هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ" (¬1)، وقولَه -عليه السلام-: "الْخِلاَفَةُ ثَلاثُونَ عَاماً، ثُمَّ يكُونُ مُلْكاً" (¬2)؛ فإن تمامَ الثلاثين بمدَّته، ولما خرجَ عنها لله، رجع إلى المدينة، فأقام بها حتى مات مسموماً، وكاتبُه كاتبُ أبيه، وقاضيه قاضي أبيه. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2557)، كتاب: الصلح، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للحسن بن عليٍّ -رضي الله عنهما-: "ابني هذا سيد .. "، عن أبي بكرة -رضي الله عنه-. (¬2) رواه أبو داود (4646، 4647)، كتاب: السنة، باب: في الخلفاء، والترمذي (2226)، كتاب: الفتن، والنسائي في "السنن الكبرى" (5/ 47)، "فضائل الصحابة" (ص: 17)، والإمام أحمد في "مسنده" (5/ 220)، عن سفينة -رضي الله عنه-.

ثمّ كان الأمر كلُّه لمعاويةَ، وأقام على الشام أربعين سنة أميراً وخليفة، فأقام أميراً عليها لعُمَرَ أربعَ سنين، ولعثمانَ اثنتي عشرةَ سنة، ومناظراً لعليٍّ خمسَ سنين، وخلص له الأمرُ تسعَ عشرةَ سنة، وهو أول من عمل المقصورة، وأخذَ البيعةَ لابنه يزيد، كاتبه: عبيدُ بنُ أوس، قَاضيه: فَضالَةُ بنُ عُبيد، أمراؤه: عمرُو بنُ العاص، وغيرُه، حاجبه: يزيدُ مولاه، ثمّ صفوانُ مولاه. ثمّ يزيدُ بنُ معاويةَ، ولي بعهد أبيه إليه في رجب سنة ستين، فأقام ثلاثَ سنين، وسبعةَ شهر، وعمرُه تسع وثلاثون سنة، وفي أيامه قُتل الحسين، وفي أيامه وَقْعَةُ الحَرَّة، أباح فيها المدينةَ ثلاثةَ أيام، وذلك كفرٌ والعياذُ بالله، وبذلك أجاز أحمدُ لعنَه في إحدى الروايتين عنه، وهو أولُ من اتخذ ديوانَ الخاتم، وأولُ من اتّخذ الحصيات. كُتَّابه: عبيد بن أوس، دويدُ بنُ عمر، قاضيه: أبو إدريسَ الخولانيُّ، حاجبه: خالدٌ مولاه، وقيل: صفوان، أمراؤه: عمرُو بن العاص، وعُبيد الله بن زياد، وعمر بنُ سعد. وبعدَه ولي معاويةُ ابنهُ، وكان رجلاً صالحاً، فأقام في الخلافة أربعين يوماً، وقيل: ثلاثة أشهر، وتوفي وسنّهُ إحدى وعشرون سنة. ثمّ كانت بيعة عبد الله بن الزبير بمكة والحجاز، ثمّ بايعه أهل العراق، وولَّى أخاه مصعباً في البصرة، وعبدَ الله بن مطيع الكوفة، وبنى الكعبة على ما أخبرت عائشةُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إرادة بنائها (¬1)، وولّى ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1507)، كتاب: الحج، باب: فضل مكة وبنيانها، ومسلم =

أخاه عبيدةَ المدينةَ، ولم يزل حتى قتله الحجاجُ في خلافة عبد الملك، وصَلَبه على البيت سنة ثلاث وسبعين، وكان سلطانه بالحجاز والعراق تسعَ سنين، كاتبُه: زيد بن عمرو، وحاجبه: سالم مولاه، وأمراؤه: أخواه، وعبدُ الله بن مطيع، وهو أول مولود ولد بالمدينة للمسلمين. وكان قد بويع لمروانَ بنِ الحكم بالشام بالخلافة في رجب سنة أربع وستين، ثمّ جُدِّدت له البيعة في ذي القعدة، وكان سلطانه بالشام ومصر، وتوفي في رمضان سنة خمس وستين، وكانت ولايته في الأول والثاني تزيد على السنة بيسير، وكاتبُه: سفيان الأحول، وقيل: عبيد بن أوس، وقاضيه: أبو إدريس، وحاجبه: أبو سعيدٍ مولاه. وبويع بعده في شهر رمضان سنة خمس وستين لولده عبدِ الملك بالشام، ولما ولي، خرج إلى العراق، وقتلَ مصعبَ بنَ الزبير، وأخذ العراق، ثمّ بعث الحجَّاجَ إلى عبد الله بن الزبير فحاصره، وقتله وصلبه على الكعبة، ونقضها وردَّها على ما كانت من البناء، وأخذ جميع بلاد الحجاز من بني الزبير، وأصبح الأمرُ لعبد الملك، ثمّ ردَّ الحَجَّاجَ إلى العراق، وكانت خلافته إحدى وعشرين سنةً وأياماً، منها سبعُ سنين وسبعةُ أشهر وستةَ عشرَ يوماً قبل قتل ابن الزبير، وباقيها بعد. وكتابُه: زيدُ بنُ زنباع، ثمّ قَبيصةُ بن ذؤيب، وغيرهما، قاضيه: أبو إدريسَ الخولانيُّ، وعبيد الله بنُ قيس، حاجبُه: يوسفُ مولاه، وغيره. ¬

_ = (1333)، كتاب: الحج، باب: نقض الكعبة وبنائها.

ثمّ ولي بعدَه الوليدُ بنُ عبدِ الملك بعهدٍ من أبيه إليه، وإلى أخيه سليمانَ من بعدِه، [في] نصف شوال، سنة ستٍّ وثمانين، وهو الذي بنى مسجدَ دمشق، وزال فيه كنيسةَ النصارى، وولَّى عمرَ بنَ عبدِ العزيز المدينةَ، فأقام بها سبعَ سنين، وخمسةَ أشهر، وشيّد مسجد الرسول -عليه السلام-، ورصعه بالفسافس، وبنى الأميال في الطرقات، وفي أيامه كان الطاعونُ الجارِفُ. ومات الحجاجُ سنة خمس وتسعين، وكانت ولايته العراقَ عشرين سنة. وتوفي الوليد سنة ستٍّ وتسعين، وكانت خلافته تسمعَ سنين، وثمانية أشهر، ودُفن بدمشق، كاتبُه برّةُ بنُ شريك، ثمّ قَبيصة بن ذؤيب، ثمّ الضَّحَّاك، ثمّ يزيدُ بنُ أبي كبشة، ثمّ عبد الله بن بلال، وقضاته [.....]، حُجَّابه: خالدٌ مولاه، وسعيدٌ مولاه. ثمّ بويع بعده لأخيه سليمانَ بنِ عبد الملك سنة ستٍّ وتسعين، فأقام سنتين وثمانيةَ أشهر، وتُوفي سنة تسمع وتسعين، وله خمس وأربعون سنة، وجعل ابنَه أيوبَ وليَّ عهده، فمات، فجعل ذلك لعمرَ بنِ عبد العزيز، كُتَّابه: يزيدُ بنُ المهلَّب، ثمّ الفضلُ بن المهلب، ثمّ عبدُ العزيز بنُ الحارث، قاضيه: محمّدُ بنُ حزم، حاجبُه: أبو عبيد مولاه، أمراؤه: عمرُ بن عبد العزيز، وغيره. ثمّ ولي بعدَه عمرُ بنُ عبد العزيز بعهد من سليمان، وبويع له بذلك [في] صفر سنة تسمع وتسعين، وله تسع وثلاثون سنة، فأقام سنتين وخمسة أشهر وأياماً، وقام بالعدل والخير حتى أُلحق بالخلفاء

الراشدين -رضي الله عنه-، كتابُه: رجاءُ بنُ حيوة، وابن أبي رقية، قاضيه: عبدُ الله بن سعد، حجابه: حبيش، ومزاحم، توفي بدير سَمعان من حمص. ثمّ ولي بعده يزيدُ بن عبد الملك، أقام في الخلافة أربع سنين وشهراً، وتوفي بحوران سنة خمس، وله تسع وعشرون سنة، كتابُه: عمر بنُ هبيرة، ثمّ إبراهيمُ بن صِلَة، ثمّ أسامةُ، وقضاتُه: عبد الرحمن بنُ الخشخاش، وسعيدُ بنُ أبي وقاص، حجابه: سعيد مولاه، ثمّ خالد مولاه. ثمّ ولي بعدَه هشامُ بنُ عبد الملك، بويع له بعهدِ أخيه إليه في شعبان، سنة خمس ومئة، فأقام في الخلافة تسعَ عشرةَ سنةً، وسبعةَ أشهر، ويومين، وتوفي بالرّصافة [في] شهر ربيع الآخر، سنة خمس وعشرين ومئة، وله ثلاث وخمسون سنة، كتابُه: سعيدُ بن الوليد، ثمّ محمد بنُ عبد الله، قاضيه: محمّدُ بنُ صفوان، حاجبه: غالبٌ مولاه. ثمّ بويع بعده للوليد بن يزيدَ بنِ عبد الملك [في] شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين، وقد جاوز الأربعين، وكان منهمِكاً على اللهو، واللذَّات، ثمّ قتله ابنُ عمه سنة ستٍّ وعشرين، وكانت ولايته سنةً وشهرين وأياماً، كاتبُه: العباسُ بنُ مسلم، قاضيه: محمّدُ بنُ صفوان، حاجبه: قَطَن مولاه. ثمّ بويع بعدَه ليزيدَ بنِ الوليد بنِ عبد الملك في جمادى الآخرة سنة ست وعشرين، فأقام خمسة أشهر وأياماً، وتوفي بعدَ عيد الأضحى بالطاعون، وله أربعون سنة، كاتبُه: ثابت بنُ سليمان، قاضيه:

عثمان بن عمر التيميُّ، حاجبه: قطنٌ مولاه. وبويع بعده لإبراهيمَ بنِ الوليد بن عبد الملك في ذي الحجة سنة ستٍّ وعشرين، وكانت ولايته شهرين، وعشرة أيام، كاتبه: دُكَيْن، قاضيه: عثمانُ بنُ عمر، حاجبه: قطن، ثمّ وردان. ثمّ بويع لمروانَ بنِ محمّدٍ في صفر سنة سبع وعشرين ومئة، وكان والياً على أرمينية، ولم يزل أمرُه مضطرباً إلى أن ظهر أبو مسلمٍ بخراسان. وبويع السفاحُ بالكوفة في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين، فسيَّر السفاحُ عبدَ الله بنَ على بن عبد الله بن عباس إلى مروان، وانهزم، واتبعه عبدُ الله، ثمّ تبعه أخوه صالح، فقُتل بصعيد مصر ليلة الأحد من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين، وله تسع وخمسون سنة، كاتبه: عبدُ الحميد بن يحيى، قاضيه: عثمانُ، حاجبه: صقلان، وبه زالت خلافةُ بني أمية. وجميعُ مَنْ ولي منهم من لدن معاويةَ أربعةَ عشرَ رجلاً، ومدةُ خلافتهم بعد معاوية إحدى وسبعون سنة، وتسعة أشهر، وخمسة أيام. ثمّ تفرقت بنو أمية في البلاد هرباً بأنفسهم، فهرب عبدُ الرحمن بنُ معاويةَ بنِ هشام إلى الأندلس، فبايعه أهلُها سنة تسع وثلاثين ومئة، وأقام والياً ثلاثاً وثلاثين سنة وأربعةَ أشهر، وتوفي في جمادى الأولى سنة اثنتين وسبعين. ثمّ ولي ابنهُ هشام سبعَ سنين وسبعةَ أشهر.

ثمّ ولي الحَكَمُ بنُ هشام سبعاً وعشرين سنة، وشهراً، وخمسة وعشرين يوماً. ثمّ ولي عبد الرحمن بن الحكم اثنتين وثلاثين سنة، وأربعةَ أشهر. ثمّ ولي محمّدُ بنُ عبدِ الرحمن أربعاً وثلاثين سنة، وأحدَ عشر شهراً. ثمّ ولي المنذرُ بنُ محمد سنة، وأحدَ عشرَ شهراً، وثلاثةَ عشرَ يوماً. ثمّ ولي أخوه عبدُ الله خمساً وعشرين سنةً، ونصف شهر. ثمّ ولي ابنُ ابنه عبدُ الرحمن بنُ محمد بنِ عبد الله، وتسمَّى: أمير المؤمنين، وكان مَنْ قبله يسمون: بني الخلائف، ولم يزل والياً خمسين سنة. ثمّ ولي بعده ابنُه الحَكَمُ بن عبد الرحمن، ولقبُه: المستنصرُ بالله، وأقام والياً إلى أن مات خمسَ عشرةَ سنة وأشهراً. ثمّ ولي ابنُه هشام تسعاً وثلاثين سنة إلى أن قتله ابنُ عمه سليمانُ سنة ثلاث وأربع مئة، وانحلّ نظام بني أمية، وغلب على كل ناحية من الأندلس أميرُها، وصار بعضُها لرجل من ولد الحسن تلقب بالمأمون. • • •

فصل في دولة بني العباس

فصل في دولة بني العباس أولُهم: أبو العباس السفاح، عبدُ الله بنُ محمّدِ بنِ عليِّ بنِ عبدِ الله بنِ العباس، بويع له بالكوفة يومَ الجمعة لثلاثَ عشرةَ ليلةً خلت من شهر ربيع الأول، سنة اثنتين وثلاثين ومئة، فأقام في الخلافة أربعَ سنين، وسبعةَ أشهر، وتوفي بالأنبار بمدينته التي بناها وسمّاها الهاشمية يومَ الأحد، ثالث عشر ذي الحجة، سنة ست وثلاثين، وله اثنتان وثلاثون سنة ونصف، وزراؤه: أبو سَلَمَةَ حفصٌ الخَلاَّل، وهو أولُ من لُقب بالوزارة، ثمّ قتله، واستوزر خالدَ بنَ بَرْمَك، قاضيه: ابن أبي ليلى، ثمّ يحيى بن سعيد، حاجبه: صالح بن الهيثم. وبعده بويع لأبي جعفر المنصور، وهو أخوه من أبيه، بويع له وهو بمكة، وقام عمّه عيسى بنُ على ببيعته، وأتته الخلافة وهو بطريق مكّة، فأقام في الخلافة اثنتين وعشرين سنة، وتوفي عند بئر معونة على أمتار من مكّة، يوم السبت سادس ذي الحجّة، سنة ثمان وخمسين ومئة وهو محرِم، وله ثلاث وستون سنة، وولد في ذي الحجّة، وأعذر في ذي الحجّة، وولي في ذي الحجّة، ومات في ذي الحجّة، ولم يكن به

بأس، وزراؤه: أبو عطية الباهليُّ، ثمّ أبو أيوبَ الموزراني، ثمّ الرّبيعُ وخالدُ بنُ برمك مدّة، قضاتُه: عبد الله بن محمد بن صفوان، وشريكُ بن عبد الله، والحسنُ بن عمار، والحجاجُ بنُ أرطاة، ويحيى بن سعيد، وعثمان التيميُّ، حُجَّابه: الربيعُ مولاه، ثمّ عيسى مولاه، ثمّ أبو الحصين مولاه. وبويع بعده لولدِه محمّدٍ المهديِّ، فأقام عشر سنين وشهراً ونصف شهر، وتوفي بالمحرم سنة تسع وستين ومئة، وزراؤه: أبو عبيدةَ معاويةُ بنُ عبد الله، ثمّ يعقوبُ بن داود، والفيضُ بن أبي صالح، قضاتُه: محمد بن عبد الله بن علاثة، وعاقبة بن يزيد، حاجبه: سلام الأبرش. وبويع بعده لولده موسى الهادي، فأقام سنة وشهراً وأربعة عشر يوماً، وتوفي ليلة الجمعة، نصف شهر ربيع الأول، سنة سبعين ومئة، وله أربع وعشرون سنة، وزراؤه: الربيعُ بن يونسَ، ثمّ عمرُ بنُ بزيع، قضاته: أبو يوسفَ، وسعيدُ بنُ عبد الرحمن، حاجبُه: الفضلُ بنُ الربيع. وبويع بعده لأخيه هارونَ الرشيدِ ليلة وفاته، فمات خليفةٌ، وبويع لخليفة، وولد فيها خليفةٌ، وهو المأمون، فأقام في الخلافة ثلاثاً وعشرين سنة وشهراً وسبعة عشر يوماً، وتوفي ليلة السبت شهر جمادى الآخرة، سثة ثلاث وتسعين ومئة، وله خمس وأربعون سنة، وخمسة أشهر، وزراؤه: يحيى بنُ خالد، وابناه: جعفرٌ، والفضلُ، ثمّ بمَبَهم، ووزرَ بعدهم الفضل بن الربيع، قضاته: برج بن درّاج، وحفصُ بن غياث بالجانب الشرقي، والحسن بن الحسن، ثمّ

عون الله بن عبد الله بالجانب الغربي، ومحمّد بن سماعة، وشريك بن عبد الله، وعلي بن حرملة، حجابه: بشر مولاه، ثمّ محمّدُ بن خالد، ثمّ الفضلُ بنُ الربيع. وبويع بعده لولده محمّدٍ الأمين سنة ثمان وتسعين ومئة، وله تسع وعشرون سنة، وثلاثة أشهر، فأقام أربع سنين وسبعةَ أشهر وثمانية عشر يوماً، وكان الرشيد جعل عهده إلى ابنيه: الأمين، والمأمون، وكتب بينهما شرطاً، وتخالفا، وعلّق الكتاب في الكعبة، ودفع إلى إبراهيمَ الحَجَبِيِّ ليعلّقه، فوقع من يده، فعُرف من ذلك سرعةُ انتقاضه، ولم يزل المأمون في دَعَة، والمأمونُ بخراسان سنتين وأشهراً، ثمّ أغرى الفضل بن الربيع، فنصّب الأمينُ ابنَه موسى لولاية العهد بعدَه، وأخذ البيعةَ، ولقّبه: الناطقَ بالحقِّ سنةَ أربع وتسعين، وجعله في حجر عليِّ بنِ عيسى، ووجّه عليَّ بن عيسى إلى خراسان، ووجّه المأمونُ هزيمةَ بن عمرٍو على مقدّمة طاهر بن الحسين، فقتل عليَّ بنَ عيسى، ولم تزل الحربُ بين الأمين والمأمون سنين، ثمّ لجأ الأمينُ إلى مدينة أبي جعفر، ثمّ قُتل سنة ثمان وتسعين، وزراؤه: الفضلُ بنُ الربيع، ثمّ إسماعيلُ بنُ صبيح، وغيرُه، قضاتُه: إسماعيل بنُ حمادِ بنِ أبي حنيفةَ، وأبو البَخْتريِّ، ومحمّد بن سماعة، حاجبه: العبّاس بن الفضل. ولم يكن الأمينُ بمحمودِ السّيرة في ولايته. ثمّ ولي بعدَه المأمون، بويع له يوم الأحد، لخمسٍ بقين من المحرم، سنة ثمان وتسعين، فأقام في الخلافة عشرين سنة وخمسةَ

أشهر، وبايع لعليِّ الرضا بن موسى بن جعفر لولاية عهدِه في شهر رمضان سنة إحدى ومئتين، ولبس الخضرة، ومات على سنة ثلاث، ودعا إبراهيمُ بنُ المهديِّ لنفسه بالخلافة، ولقّب نفسه: المبارك، وبويع له ببغداد سنة اثنتين [ومئتين]، وأقام أحدَ عشر شهراً وأياماً، ثمّ استخفى. وفي سنة أربع ومئتين رجع المأمون إلى الناس بالسواد، وفي سنة اثنتي عشرة أظهر المأمونُ القولَ بخَلْق القرآن، وقال في عليٍّ: إنّه أفضلُ الناس بعدَ الرسول، فأتعسَ نفسَه، وابتدعَ البدعَ التي لم تُطْفَ حتّى حصل بها الشرورُ والفتن والمحن الزائدة، وكان عليه وزرُ ذلك كلّه إلى يوم القيامة، وزراؤه: الفضلُ بنُ سهل ذو الرئاستين، ثمّ أخوه الحسن، ثمّ أحمد بن أبي خالد، ثمّ أحمد بن يوسف، قضاته: محمد بن عمر الواقديّ، ثمّ محمد بن عبد الرحمن، ثمّ بشير بن الوليد، ثمّ يحيى بن أكثم، حجابه: عبد الحميد بن شبيب، ثمّ محمد، وعليّ بنُ صالح، ثمّ إسماعيلُ بن محمد بن صالح. ثمّ بويع بعده لأخيه المعتصم بالله، فأقام ثمانَ سنين وثمانية أشهر، وتوفي لاثنتي عشرة ليلةً بقيت من شهر ربيع الأول، سنة سبع وعشرين ومئتين، وسنّه ثمان وأربعون سنة، وهو المثمِّن من اثنتي عشرة جهة: الثامنُ من ولد العباس، والثامن من الخلفاء منهم، وولي سنة ثمان عشرة، وكانت خلافته ثمان سنين وثمانية أشهر، وتوفي وله ثمان وأربعون سنة، في الشّهر الثامن من السنة، وخلّف ثمانية ذكور، وثمان إناث، وغزا ثمان غزوات، وخلّف ثمانية آلاف دينار، وثمانية آلاف درهم.

وهو الذي أظهرَ الكفرَ، والقولَ بخلق القرآن، وقتل خلائقَ من العلماء بسبب ذلك، وضربَ أحمدَ بنَ حنبل، ومات شرَّ موتة، وزراؤه: الفضل بنُ مروان، ثمّ أحمدُ بن عمار، ثمّ محمد بنُ عبدالملك، قضاتُه: سعيد بن سهل، ثمّ محمد بن سماعة، ثمّ عبد الله بن غالب، وأحمدُ بن أبي دؤاد، وأبو جعفر بن عيسى، حجَّابُه: وصيفٌ مولاه، ثمّ محمّدُ بنُ حماد. ثمّ بويع بعده لولده الواثقِ بالله، بويع له يوم الخميس، لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول، سنة سبع وعشرين ومئتين، فأقام خمس سنين، وسبعة أشهر، وستة أيام، وكان رديء السيرة، أظهرَ المحنَ والأمور الرّديّة، وتوفي في ذي الحجة سنة اثنتين ومئتين، وزيره: محمّدُ بنُ عبد الملك، قاضيه: أحمدُ بن أبي دؤاد، حجابه: رباح، ثمّ وصيفٌ، ثمّ أحمدُ بن عمار. ثمّ بويع بعده لأخيه المتوكّل على الله سنة اثنتين ومئتين، فأقام أربعَ عشرةَ سنة، وتسعة أشهر، وتسعة أيام، وقُتل ليلة الأربعاء في شوّال سنة سبع وأربعين ومئتين، وله أحدٌ وأربعون سنة، وهو الذي رفع المحنةَ، ومنع من الجدل، وصَفَت له الدنيا، وزراؤه: محمد بن عبد الملك، ثمّ محمد بن الفضل الجرجاني، ثمّ عبيد الله بن يحيى بن خاقان، قضاتُه: يحيى بن أكثم، ثمّ جعفرُ بنُ محمد، ثمّ جعفر بن عبد الله العباسيُّ، حجابه: وصيفٌ، ثمّ محمد بن عاصم، ثمّ يعقوبُ بن قوصرةَ، ثمّ الموريانيُّ، ثمّ إبراهيم بن الحسن. ثمّ بويع بعده لولده المنتصر بالله في شوّال سنة سبع وأربعين

ومئتين، وتوفي بالرقة سنة ثمان وأربعين، وزيره: أحمدُ بنُ الخصيب، قاضيه: جعفرٌ العباسيُّ، حجابه: وصيفٌ، ثمّ بُغا، ثمّ ابنُ المرزبان، ثمّ أوتامش. ثمّ بويع للمستعين أبي العباس أحمدَبنِ محمّدِ بنِ المعتصم يوم الائنين شهر ربيع الآخر، سنة ثمان وأربعين ومئتين، وخلع نفسَه لأربعٍ خلون من المحرم سنة اثنتين وخمسين ومئتين، وكانت خلافته ثلاث سنين، وتسعة أشهر، وأحدر إلى واسط، وكان بها أحمدُ بن طولون، ثمّ قُتل آخر شهر رمضان من هذه السنة عن إحدى وثلاثين سنة وثلاثة أشهر. وكان تسلّم الخلافةَ منه المعتزُّ بالله سنة اثنتين وخمسين ومئتين، وفي سنة ثلاث توفي نائبُ بغداد محمّدُ بن عبد الله بن طاهر، وكبيرُ الأمراء وصيفٌ التركي. وفي سنة أربع توفي بُغا الصغيرُ. وفي سنة خمس كانت وقعةُ الزَّنْج، وفيها دخل جماعةٌ من الجند على الخليفة، فأحاطوا بقصر الخلافة، وهمّ عليه جماعةٌ، فضربوه بالدبابيس، وألزموه بخلع نفسه، ثمّ أطلقوه بعد ذلك. ثمّ بويع بعده للمهتدي بالله في رجب، سنة خمس وخمسين ومئتين، فأقام أحد عشر شهراً وأيامًا، وكان تَشَبَّه بعمرَ بن عبد العزيز من بني أمية، وقُتل يوم الثلاثاء لأربعَ عشرةَ خلت من رجب، سنة ستٍّ وخمسين، وله تسع وثلاثون سنة، وزراؤه: سليمانُ بنُ وهب، وجعفرٌ أبو محمد الإسكافي، وصالح بن أحمد، قاضيه: الحسنُ بن

أبي الشوارب، حجابه: صالحُ بنُ وصيف، وبايك باك، وموسى بن بُغا. وأقام بعده في الخلافة المعتمدُ على الله، وكان قد بويع له لأربعَ عشرةَ ليلةً خلت من رجب سنة اثنتين وخمسين ومئتين، وكانت خلافته ثلاثاً وعشرين سنة وبعض أيام، وتوفي ببغداد في رجب، سنة سبع وسبعين ومئتين وله خمسون سنة، وكان مقبِلاً على اللذات، مشغولاً عن الرعية، وكان جعل أخاه طلحةَ وليَّ عهده، ولقّبه: الموفق، وجعل إليه المشرق، وجعل ابنه جعفراً وليَّ عهده، ولقّبه: المفوّض إلى الله، وجعل إليه المغرب، وغلب الموفقُ على الأمر، وقام أحسنَ قيام، ومال الناس إليه، وكان مشغولاً بقتال عليِّ بنِ محمّدٍ صاحبِ الزنج، المعروف بعلويِّ البصرة، وكان ظهوره في شوّال، سنة خمس وخمسين في خلافة المهتدي، وقُتل في صفر سنة سبعين، وكان من الخوارج الخبثاء، قتل خلائقَ من الناس، وكان المعتمد قد سار في جمادى الآخرة سنة سبع وستين ومئتين يريد مصر بمكاتبة جرت بينه وبين أحمد بن طولون، فلما بلغ الموفقَ ذلك وهو في القتال، إذا صاحبُ الزّنج وجَّهَ إسحاقَ بن كيراج، فردّه، وسلّمه إلى صاعد بن مخلد، فأنزله دارَ ابن الخصيب بسُرَّ مَنْ رأى، وحَجَر عليه، ولقّب الموفقُ إسحاقَ بذي السبقين، وولَّاه أَعمالَ ابن طولون، ولقّب صاعدَ بن مخلد بذي الوزارتين، وصار ابنُ طولون بدمشق، فجمع القضاة والعلماء، وخلع الموفَّق، وأفتى الفقهاء كلُّهم بخلعه إلا بكّارَ بنَ قتيبة، فحبسه، وأمر الموفقُ بلعن ابنِ طولون على المنابر، ثمّ مات ابنُ طولون بشهر [ذي] القعدة سنة

سبعين ومئتين، ومات ابنه العباس بعده باثنتي عشرة سنة، ثمّ مات الموفق سنة ثمان وسبعين ومئتين، فردّ المعتمدُ ولاية عهده إلى ابنِ الموفَّق، وهو أحمد المعتضدُ بالله، ووزراء المعتمد: عبيدُ الله بنِ يحيى بن خاقان، ثمّ سليمانُ بن وهب، ثمّ بُسْرُ بن خالد، ثمّ صاعدُ بن مخلد، ثمّ أبو الصقر، وقضاتُه: الحسنُ بن أبي الشوارب، وعليُّ بن محمد، وحُجَّابُه: موسى بن بُغا، ثمّ جعفر، ثمّ خطارمش، ثمّ بكتمر، ثمّ عليٌّ الحسار. وأما المعتضد بالله أحمدُ بنُ الموفق، فبويع له لإحدى عشرة ليلة بقيت من رجب، سنة سبع وسبعين ومئتين، فأقام تسع سنين، وتسعة أشهر، وأربعة أيام، وتوفي آخر سنة سبع وثمانين ومئتين، وعمره ستٌّ وأربعون سنة. وزراؤه: عبيد الله بن سليمان، وغيرُه، قضاتُه: إسماعيل بن إسحاق، ثمّ أبو العباس أحمدُ بن محمد اليزيديُّ، ثمّ أبو حازم عبدُ الحميد بن عبد العزيز، ثمّ يوسفُ بن يعقوب بن أبي الشوارب، ثمّ أبو عمر محمّدُ بن يوسف، حاجبُه: صالح الأمين. وكان بعده المكتفي بالله بنُ المعتضد، بويع له لسبعٍ بقين من شهر ربيع الآخر، سنة تسع وثمانين، فأقام ستَّ سنين، وستة أشهر، وعشرين يوماً، وتوفي ببغداد [في] شهر [ذي] القعدة، سنة خمس وتسعين ومئتين، وعمره إحدى وثلاثون سنة وأشهُر، وزراؤه: القاسم بنُ عبيد الله بن يعقوب، ثمّ أبو عمرو بنُ أبي الشوارب، حاجبه: خفيف. ثمّ بويع بعده للمقتدِر بالله بنِ المعتضِد في ذي القعدة، سنة خمس

وتسعين ومئتين، فأقام أربعاً وعشرين سنة، وأحدَ عشَر شهراً، وأربعةَ عشَر يوماً، وقُتل يوم الأربعاء لثلاث بقين من شوال سنة عشرين وثلاث مئة، وسنه ثمان وثلاثون سنة، وشهر، وخمسة أيام، أفضت إليه الخلافة وله ثلاث عشرة سنة، وشهر وبعض شهر، فدبَّر الوزراء والكُتَّاب، وغلب على أمره النساء والخدم، حتى إن جارية لأمه كانت تجلس للمظالم ويحضرها القضاة والفقهاء، وخلع مرتان، فأما المرة الأولى؛ فإن الحسن بن حمدان ومحمد بن داود بن الجراح دبرا مع جماعةٌ من القواد خلعه، فخلع يوم السبت لعشر بقين من شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين، وبويع لعبد الله بن المعتز، ولقب المرتضى بالله، ثمّ اضطرب أمره وهرب واستتر عند ابن الجصاص، ولم يتم له الأمر غير يوم واحد وليلة، وعاد الأمر إلى المقتدر، ثمّ قبض على ابن المعتز، وصودر ابن الجصاص، ثمّ أخرج ابن المعتز ميتا من دار السلطان لليلتين خلتا من شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة، فسلم إلى أهله، فدفن، وله خمسون سنة. والخلع الثاني في نصف المحرم سنة ست عشرة وثلاث مئة، وأشهد على نفسه بالخلع، وبويع أخوه القاهر، وأقام يومين، ثمّ عاد الأمر إليه، وأمن القاهر على نفسه، ثمّ إن موسى الخادم سار يريد بغداد بعد أن استولى على ديار ربيعة وأعمال الموصل، فحسَّن للمقتدر أن يخرج إلى قتاله، فخرج إلى باب الشماسة، واقتحم العسكر، فقتله رجلٌ من البربر وأخذ رأسه وثيابه، ودفن هناك، ووقع في أيامه ما لم يوجد قبله، منها أنه ولي وهو صبي ولم يلي في الإسلام أحد قبله في سنه، ومنها: أنه استوزر اثني عشر وزيراً، ومنها: أن الحج بطل في أيامه سنة سبع عشر وثلاث مئة، ومنها: أن الحجر الأسود

أخذ في أيامه، وذلك أن أبا طاهر سليمان بن الحسن الجنابي القرمطي دخل مكة يوم التروية، فقتل الحاجَّ، ورمى القتلى في زمزم، وأخذ الحجر الأسود، وعرَّى الكعبة، وقلع بابها، وبقي الحجر عندهم اثنتين وعشرين سنة إلا شهراً، ثمّ ردوه على يد سنبر لخمس خلون من ذي القعدة سنة تسع وثلاثين وثلاث مئة، وكان بجكم بذل لهم في رده على ما يذكر خمسين ألف دينار، فما فعلوا، وقالوا: أخذناه بأمر، ولا نرده إلا بأمر، وكان أخذه في أيام أحد أئمة مذهبنا أبي القاسم الخرقي -رضي الله عنه- ذكره الذهبي، ولذلك قال في "مختصره" الذي وضعه في الفقه على مذهب الإمام أحمد-: يستلم الحجر الأسود إن كان، وإلَّا استلم موضعه (¬1). وذكروا أنهم لما أخذوه، ثَقُل عليهم، فلم يقدروا على أن يوصلوه إلى مكانهم، حتى بدَّلوا تحته بضعةَ عشرَ بعيراً، وإنهم لما ردُّوه، ردَّهُ بعيرٌ واحد أقلَّ ما يكون من الثِّقل. وفي أيامه قُتل الحَلَّاج. ويقال: إنه جمع أموالاً لم يجمعها أحدٌ من الخلفاء قبله، وزراؤه: العباسُ بن الحسن، أبو الحسن بنُ القزاز، محمد بن عبيد الله بن خاقان، أبو الحسن على بن عيسى، حامد بن العباس، أبو القاسم الخاقاني، أبو على بن مقلة، أحمد بن عبيد الله بن الخصيب، سليمان بن الحسن بن مخلد، عبيد الله بن محمد الكلوذاني، الحسن بن ¬

_ (¬1) انظر: "مختصر الخرقي" (ص: 58)، وقال فيه: ثم أتى الحجر الأسود إن كان فاستلمه إن استطاع.

القاسم بن عبد الله، الفضل بن جعفر بن الفرات، قضاتُه: يوسفُ بن يعقوب، ثمّ ابنه محمّدُ بنُ يوسف أبو عمر، ثمّ عبد الله بنُ أبي الشوارب، ثمّ ابنه محمد بن أحمد بن إسحاق بن البهلول، ثمّ عمر بن محمد بن سيف، ثمّ الحسن بن عبد الله، ثمّ محمد بن الحسن بن مالك، ثمّ ابن أبي الشوارب، حجابهُ: سوسن مولى المكتفي، نصرٌ القسوري، ياقوتُ مولى المعتضد، إبراهيم ومحمّد ابنا رائق. وبويع بعده للظاهر بالله محمّدِ بن المعتضد يومَ الخميس، لليلتين بقيتا من شوال سنة عشرين وثلاث مئة، فأقام سنةً، وستةَ أشهر، وثمانية أيام، وخُلع، وسُمِلَتْ عيناه لستٍّ خلون من جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثلاث مئة، ثمّ كبس عليه الغلمان، فقبض [عليه]، وحبس، وأُخرج أبو العباس أحمدُ بنُ المقتدر من حبسه، ولقب: الراضي بالله، وسُلِّم عليه بالخلافة في يوم الأربعاء، لستٍّ خلون من جمادى الأولى، وأحضر القضاة وجماعة من الشهود، وأُدخلوا على القاهر ليشهدوا عليه بالخلع، فقال: لي في أعناقكم بيعة، ولست أُحَلِّلُكم منها، فانصرفوا، واستدعى في تلك الليلة أحمد بن أبي الحسين الصابئ، وكحل القاهر بمسمار محمي دفعتين، بعد أن أقيم بين يدي الراضي، وسلم عليه بالإمارة، وكان القاهر أولَ من سُمِلَ من الخلفاء، ولم يزل باقياً في دار السلطان إلى أن أخرجه المستكفي سنة ثلاث وثلاثين وثلاث مئة ورده إلى ولده، فأقام مدة، ثمّ خرج إلى جامع البصرة في يوم الجمعة، وقام يعرّف الناسَ بنفسه، وسألهم أن يتصدَّقوا عليه، فقام إليه ابنُ أبي موسى الهاشميُّ الحنبليُّ، فأعطاه ألفَ درهم، وردَّه إلى داره، وتوفي في خلافة المطيع ليلة الجمعة في جمادى الأولى، سنة تسع

وثلاثين وثلاث مئة، وله اثنتان وخمسون سنة، وزراؤه: أبو علي بن مُقْلَة، ثمّ محمد بن القاسم، ثمّ أحمد بن عبيد الله، ثمّ علي بن يلبق، ثمّ سلامة الطولوني، قاضيه: عمر بن محمد. ثمّ استمر الراضي بالله، وكان قد بويع له يوم الأربعاء من جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثلاث مئة، وكانت خلافته ستَّ سنين، وعشرة أشهر، وعشرة أيام، وتوفي بالإستسقاء شهر ربيع الأول سنة سبع وعشرين، وكان سنُّه اثنتين وثلاثين سنة، ومات في أيامه عبيدُ الله المهدي صاحبُ المغرب سنة اثنتين وعشرين، وكانت ولايته خمساً وعشرين سنة وأشهراً، وكان في أيامه ظهورُ عليِّ بن محمد السمعاني أبي العذافر، وكان ادَّعى الربوبية سنة اثنتين وعشرين، وقُتل هو وابن أبي عون، لأنه أقر أنه إلهُهُ، وقيل: إن الحسن بن القاسم بن وهب الوزيرَ اعتقد ذلك -أيضاً-. وفي أيامه ضَرب أبو علي بنُ مقلة ابنَ سنبوذ المقرئ سبعَ درر؛ لأجل قراءات أُنكرت عليه، فدعا عليه بقطع اليد، وتشتيت الشمل، فلم يمض عليه غيرُ القليل حتى قُبض عليه، وقطعت يده ولسانه، ولحقته أمور كثيرة، وعللٌ ومصائب، ثمّ مات، ونُبش ثلاث مرات. وفي أيامه اعترض له أبو طاهر -الذي كان أخذ الحجر الأسود- الحاجَّ، وقتل منهم خلائقَ، وسبى جماعة سنة ثلاث وعشرين. وفي أيامه مات ابنُ مجاهد. وزراؤه: أبو علي بنُ مقلة، ثمّ ابنه الحسين، ثمّ عبد الرحمن بن عيسى، ثمّ محمد بن القاسم، ثمّ سليمان بن الحسن بن مخلد، ثمّ

الفضل بن جعفر، وأبو عبد الله اليزيديُّ، وقضاتُه: عمر بن محمد بن يوسف، ثمّ ابنه يوسف بن عمر، حُجَّابه: محمد بن ياقوت، ثمّ ذكيٌّ مولاه. وبعده كان المتقي بالله إبراهيمُ بنُ المقتدر، بويع له يوم الأربعاء، لعشرٍ بقين من ربيع الأول، سنة تسعٍ وعشرين وثلاث مئة، فأقام ثلاث سنين، وأحدَ عشرَ شهراً، ثمّ خُلع، وسُملت عيناه لعشرٍ بقين من صفر، سنة ثلاث وثلاثين وثلاث مئة، وكان بجكم يدبر الملك إلى أن قتل، وأقام سنتين وثمانيةَ أشهر، ثمّ صار التدبيرُ بعده لكورتكين أبي شجاع، فكتب المتقي يستدعي ابنَ رائق، فسار من دمشق، ووصل إلى بغداد، فهرب كورتكين، وكانت إمارته ثمانين يوماً، وخلع على ابن رائق سنة تسع وعشرين، وكان في أيامه غلاء وشدة، ووصل أبو الحسن اليزيديُّ إلى بغداد، وملك أصحابُه دار السلطان، وصرف المتقي وابنَه وابنَ رائق إلى الموصل، فقُتل ابنُ رائق، قتله ابنُ حمدان، واعتذر إلى المتقي من قتله، وقال: إنما قتلته؛ لأني علمتُ أنه يريد الإيقاعَ بك، فعذرَه، ورد إليه تدبير الملك، ولقّبه: ناصر الدولة، ثمّ سار المتقي وابنُ حمدان وأخواه إلى بغداد، فأقام ناصرُ الدولة ثلاثة عشر شهراً، ثمّ خلع المتقي على توزون، وصار إليه التدبير، وقامت الحرب بين سيف الدولة ابن حمدان وبين توزون، وسار المتقي بنفسه وحرمه إلى الموصل في شهر ربيع الأول، سنة اثنتين وثلاثين وثلاث مئة خوفاً على نفسه، وانهزم سيفُ الدولة، وعاد توزون إلى بغداد، وراسله المتقي في الصلح، فأجاب إليه، ووصل الأخشيد من مصر في المحرم سنة ثلاث

وثلاثين، فسأل المتقي أن يسير معه إلى مصر، فأتى، وظهر له أن بني حمدان قد ضجروا من مقامه عندهم، فاستقبله توزون، وقبّل له الأرض، وقبّل يده ورجله، وركب وسار معه، ونزل المتقي هو وحرمُه في مضرب توزون، وأنفذ توزون، فأحضر عبد الملك بنَ المكتفي، وبويع له، ولقّب: المستكفي، وسلّم إليه المتقي، فأخرجه إلى جزيرة بقرب السندية، وسُملت عيناه بعد أن أقيم بين يدي المستكفي، وسُلِّم عليه بالخلافة، وأشهدَ على نفسه بالخلع. ولم يزل المتقي باقياً إلى أن توفي في خلافة المطيع سنة سبع وخمسين وثلاث مئة، وله ستون سنة. وزراؤه: أحمدُ بن محمد، ثمّ اليزيديُّ، ثمّ سليمانُ بن الحسن، ثمّ أبو إسحاق المرابطيُّ، ثمّ محمد بنُ القاسم الكرخيُّ، ثمّ أحمد بن عبد الله الأصبهانيُّ، ثمّ علي بن مقلة، ثمّ محمد بن عيسى، ثمّ أبو طاهر محمد بن أحمد، ثمّ أبو الحسن أحمد بن عبد الله، حُجَّابه: سلامة مولى خمارويه، ثمّ بدرٌ الجوشني، ثمّ أحمد بن خاقان. ثمّ بعده المستكفي بالله بنُ المكتفي، بويع له لعشرٍ بقين من صفر سنة ثلاث وثلاثين، فأقام سنة وأربعةَ أشهر، وخُلع، وسُملت عيناه في جمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين، ولقّب نفسَه آخرَ سنة ثلاث وثلاثين: إمام الحقّ، وضرب ذلك على الدينار والدرهم. ومات توزون لثمان بقين من المحرم سنة أربع وثلاثين، وكانت إمارته سنتين وأربعةَ أشهر، واجتمع الجيشُ على محمد بن يحيى بن شيرزاد كاتبِ توزون، ووصل بنو بويه في جمادى الأولى سنة أربع

وثلاثين، فقلّد المستكفي أبا الحسين أحمدَ بنَ بُوَيْه الإمارةَ، ولقّبه: معزّ الدولة، ولقّب أخاه أبا الحسن عليّاً: عمادَ الدولة، ولقّب أخاه أبا عليٍّ الحسنَ: ركنَ الدولة، وخلع عليهم، ونزل الديلمُ دورَ الناس. ثمّ إن قهرمانة المستكفي صَنَعت دعوة، وأحضرت جماعةً من الديلم، فاتهمها معزُّ الدولة أنها أرادت أن تعقد على الديلم بيعةً في بعض رئاسته، فركب إلى دار السلطان في يوم الخميس، لثمانٍ بقين من جمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين، ووقف بين يدي المستكفي على رسمه، وتقدّم إلى المستكفي رجلان من الديلم، فمدّا إليه أيديهما، وصاحا صياحاً عظيماً بالفارسيّة، فقدّر أنهما يريدان تقبيلَ يده، فمدّها إليهما، فجذباه، وسحباه بعمامته في عنقه، وقام معزّ الدولة، وقبض الديلمُ على القهرمانة وابنيها، وسبق المكتفي إلى دار معزّ الدولة، ماشياً، ونهبت دار السلطان، ثمّ أُحضر المطيع، وأُقيم المستكفي بين يديه، وسُلِّم عليه بالخلافة، وأشهدَ على نفسه بالخلع، ثمّ سُمِلَ، ولم يزل في دار السلطان إلى أن توفي في شهر ربيع الآخر سنة ثمانٍ وثلاثين، وله لستّ وأربعون سنة وأشهر، وزراؤه: محمد بن عليٍّ، وغيرُه، قضاتُه: أحمدُ بنُ عبد الله الحرميُّ، ابن أبي موسى، موسى بن محمد، ابن أبي الشوارب، محمد بن أحمد بن نصر، عتبة بن عبد الله الهمذاني، محمد بن صالح بن أم سيّار، كاتبُه: أحمد بن خاقان. وكان بعده المطيعُ لله بنُ المقتدر، بويع له لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين، فأقام تسعاً وثلاثين سنة، وأربعةَ أشهر، وأياماً، ثمّ خلع نفسه، ولقّب ابنَه أبا بكر: الطائعَ لله في اليوم الثالث

عشر من ذي القعدة سنة ثلاث وستين وثلاث مئة، ومات لثمان ليال من المحرم، سنة أربع وستين، وله ثلاث وستون سنة، والمدبر للملك معز الدولة ابن بويه إلى أن توفي شهر ربيع الآخر سنة ست وخمسين، وصارت المملكة لابنه بختيار أبي منصور عز الدولة، وفي أيامه مات الإخشيد محمد بن طغج أمير مصر بدمشق سنة أربع وثلاثين، وأخذ مكانه ابنه محمود، وغلب كافور الخادم على أمره، ثمّ مات محمود سنة خمس وخمسين، فأخذها كافور إلى أن مات سنة سبع وخمسين، فعقد الأمر لأحمد بن علي بن الإخشيد. وفي أيامه مات القائم أبو القاسم صاحب المغرب سنة أربع وثلاثين، وعمره خمس وخمسون سنة، ومات ابنه المنصور سنة إحدى وأربعين، وعمره تسع وثلاثون، ثمّ دخل جوهر إلى مصر من قبل المعز صاحب المغرب سنة ثمان وخمسين، وخرجت مصر والشام والحجاز عن دولة بني العباس. وفي أيام المطيع تغلب الدمستق على كثير من ثغور المسلمين، وملك حلب وأقام بها أياماً، وسبا من المسلمين عدة ألوف، وقتل ملك الروم وتزوج زوجة الملك، وعزم على خصي ولديها، فأدارت عليه الحيلة وقتلته سنة تسع وخمسين، وقعد الأكبر من ولديها في الملك، وزراء المطيع: أبو الحسن بن مقلة، أبو أحمد الشيرازي، وكان أبو جعفر الصَّيمري يكتب لمعز الدولة، ثمّ كتب له أبو محمد المهلبي، ثمّ أبو العباس الشيرازي، وأبو الفرج محمد بن العباس الشيرازي، قضاته: محمد بن الحسن، ابن أبي الشوارب، ومحمد الهاشمي،

ومحمد بن أكثم، وأبو الشوارب، حجابه: بختيار بن معز الدولة، ثمّ عبد الواحد بن أبي عمر الشيرازي. وبعده الطائع لله بويع له يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة ثلاث وستين وثلاث مئة، فأقام سبع عشرة سنة، وتسع أشهر، وخمسة أيام، إلى أن قبض عليه بهاء الدولة أبو نصر بن عضد الدولة يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة إحدى وثمانين وثلاث مئة، وخلع نفسه بعد أن بويع للقادر، وتوفي يوم الثلاثاء سلخ شهر رمضان سنة ثلاث وتسعين وثلاث مئة، وكان مدبر الملك في أيام بختيار بن معز الدولة إلى أن قتله ابن عمه أبو شجاع عضد الدولة، ولم يزل عضد الدولة في الملك إلى أن مات سنة ثلاث وسبعين، وولي ولده ضمضام الدولة ثمّ سمل وقتل، ثمّ بعده أخوه أبو الفوارس شرف الدولة، ثمّ توفي وولي أخوه بهاء الدولة. وكان بعد الطائع القادر بالله أبو العباس أحمد، بويع له لتسع بقين من شعبان سنة إحدى وثمانين وثلاث مئة، وجدِّدت له البيعة في شهر رمضان من السنة، فأقام في الخلافة إحدى وأربعين سنة وثلاثة أشهر، وتوفي بذي الحجة سنة اثنتين وعشرين وأربع مئة، وله ست وثمانون سنة وأشهر، ودبر الملك في أيامه بهاء الدولة إلى أن مات، ثمّ ابنه أبو شجاع سلطان الدولة إلى أن توفي، ثمّ أخوه أبو على شرف الدولة إلى أن توفي، ثمّ بغداد خاصة أبو طاهر جلال الدولة. وزراؤه: محمد بن أحمد الشيرازي، وسعيد بن نصر، وسعيد بن الحسن، وعلي بن عبد العزيز، ثمّ ابنه أبو الفضل، ثمّ أبو أيوب محمد بن محمد بن

صاحب النعمان، ثمّ محمد بن أيوب. ثمّ كان بعده القائم بالله أبو جعفر، بويع له في ذي الحجة سنة اثنتين وعشرين وأربع مئة، فأقام في الخلافة خسماً وأربعين سنة وله سبع وسبعون سنة، وأول ما ولي كانت السلطنة لجلال الدولة. وفي سنة ثلاث ثارت الأتراك عليه وهموا بعزله، فهرب إلى عكبرا، وافتقر حتى باع بعض قماشه، وفي سنة أربع اشتد البلاء بالعيارين والحرامية، وقتلوا صاحب الشرطة، ونهبوا الناس، ولم يبق أحد يجسر يسمي مقدمهم البرجمي، بل يقولون القائد أبو على، وتطلبه جماعةٌ من الأمراء فبرز لقتالهم وقال: من العجب خروجكم إلي وأنا كل ليلة عندكم، فلم يتجاسروا على الإقدام عليه، وقوي الشر، وثار الجند لجلال الدولة، وقبضوا عليه وأهين، فانتصر له القائد وأخذه منهم ورده إلى داره، ثمّ تحول إلى دار الشريف المرتضى وهم العسكرية، ثمّ اختلفوا ثمّ أذعنوا لطاعته. وفي سنة خمس: قتل البرجمي مقدم العيارين. وفي سنة ست: قوي أمر العيارين بحيث إنهم تملكوا البلاد في المعنى. وفي سنة سبع: مات صاحب مصر الطاهر لإعزاز دين الله علي بن الحاكم العبيدي، وكانت دولته ستة عشر سنة، وضعفت دولة العبيدية. وبايع المصريون بعده ولدَه المستنصر بالله. وفي سنة ثمان وعشرين: شغّب الجند على السلطان جلال

الدولة، ثمّ قُطعت الخطبة له، وخُطب لأبي كاليجار، ثمّ اختلفوا، فخطبوا لهما، وشدّ مع جلال الدولة الخليفة. وفيها: مات الأمير وجيه الدولة بنُ صاحب الموصل، وقد ولي نيابة دمشق ثلاث مرات. وفي سنة ثلاثين: تملّكت السلجوقية بخراسان، وقهروا مسعود بن السلطان محمود. وفيها: لقّبت الملوك بأسماء ملوك زماننا، فلقّب أبو من صور بن جلال الدولة بالملك العزيز. وفي سنة اثنتين وثلاثين: استولت السلجوقية على جميع خراسان. وفيها: قتلٌ ونهبٌ ومصادرُ تزيد على الوصف. وفي سنة ثلاث: سار الملك أبو كليجار، ودفع عسكر السلجوقية عن همدان، ومات ملك إشبيليّة ابنُ عبّاد، وتملّك بعده ابنُه عبّاد، ثمّ ابنُ ابنه. وفيها: مات السلطان مسعود بعد أن قهرته السلجوقية. وفي سنة خمس: استولى السلطان طُغْرلبك السلجوقي على الريِّ، وأخربها عسكره بالقتل والنهب. وفيها: مات السلطان جلال الدولة. وفيها: دخلت السلجوقية إلى الموصل.

وفيها: خطب ببغداد لملك العزيز بن جلال الدولة. وفيها: مات صاحب قرطبة أبو الحزم جَهْوَر، وأبى أن يتسمّى بالملك. وفي سنة ست: دخل أبو كليجار الديلمي بغداد، وضرب له الطبل في أوقات الصلوات الخمس. وفي سنة ثمان وثلاثين: حاصر طغرلبك السلجوقي أصفهان، وخطب له بها. وفي سنة أربعين: مات السلطان أبو كليجار الديلمي، وتسلطن ابنُه الملأ الرحيم أبو نصر، وكانت دولته أربع سنين. وفيها: خلع المعزّ طاعة المستنصر العبيدي ببلاد المغرب، وجعلت لبني العباس، وأقام الدعوة للقائم بأمر الله. وفي سنة إحدى وأربعين: مات صاحب الموصل معتمد الدولة قراووش، وملكَ خمسين سنة، وكان أعرابياً جَلفاً جافياً. وفيها: مات سلطان غزنة مودود بن مسعود، وكانت دولته عشرين سنة. و [في] سنة اثنتين وأربعين: ولي شرطة بغداد ابن النسوي. وفيها: مات الملك العزيز بن جلال الدولة. وفي سنة سبع وأربعين: تملّك طغرلبك العراق، وقبض على الملك الرحيم، وفرغت دولة آل بويه.

وفي سنة ثمان وأربعين: عظم دستُ الخلافة بطغرلبك، وتزوج الخليفة بأخته. وفي سنة تسع وأربعين: سُلِّمت حلب لصاحب مصر. وفي سنة خمسين: توفي الملك الرحيم آخرُ ملوك الديلم. وفي سنة إحدى وخمسين: قُتل البساسيري. وفيها: مات صاحب خراسان أخو السلطان طغرلبك، وكان أعدل من أخيه. وفي سنة اثنتين: حوصرت حلب والرحبة. وفي سنة ثلاث: ولي نيابة دمشق حسامُ الدولة من جهة صاحب مصر. وفيها: مات ناصر الدولة صاحبُ مَيَّافارِقين، وكانت دولته إحدى وخمسين سنة. وفيها: مات صاحب الموصل، وكانت دولته عشرين سنة. وفي سنة أربع: مات صاحب المغرب. وفي سنة خمس: ولي نيابة دمشق بنو المستنصري. وفي سنة ست وخمسين: تسلطن ألب أرسلان بعد عمّه. وفي سنة ثمان: سلطنَ ألبُ أرسلان ولدَه ملكشاه. وفي سنة اثنتين وستين: مات ملك المغرب أبو بكر بن عمر، وقام بعده يوسفُ بن تاشفين.

وفي سنة خمس وستين: قُتل السلطان ألب أرسلان. وفي سنة سبع وستين: مات الخليفة القائم بأمر الله، ولما مرض، افتصد، فانفجر فصاده، فخرج دم عظيم، وخارت قوته، وطلب ابنَ ابنه عبد الله، وعَهِدَ إليه بالأمر، ولقّبه: المقتدي بأمر الله، بمحضر القاضي الدَّامغاني، وأبي إسحاق صاحب "التنبيه"، وأبي نصر بن الصَّبَّاغ، وأبي جعفر بن أبي موسى الهاشمي، والوزير ابن جهير، وطرَّاد الزينبي. وفي هذه السنة: مات عزّ الدولة صاحبُ حلب. وفي سنة ثمان: أخذ أتسز دمشقَ من نائب المستنصر، وخطب بها للمقتدي بأمر الله. وفي سنة تسع: مضى أتسز إلى مصر، وحاصرها، ثمّ قطع، واتخذ القدس، وذبح القاضي والشهود، وقتل بها خلائق. وفي سنة إحدى وسبعين: أخذ تاجُ الدولة حلب، ثمّ تملَّكَ دمشقَ، وخرج إلى خدمته الملك أتسز، فقبض عليه، وقتله في الحال. وفي سنة اثنتين: مات صاحبُ ديار بكر، وتملك بعده ابنُه منصور. وفي سنة سبع وسبعين: سار سليمان بن قتلمش السلجوقي، فنازل أنطاكية، وأخذها من النصارى. وفي سنة تسع وسبعين: أخذ تتش حلبَ، ثمّ أخذها منه ملكشاه، وسلّمها إلى نائبه قسيم الدولة.

وفيها: أسقطت خُطبة صاحبِ مصر من الحرمين، وخُطب للمقتدي أميرِ المؤمنين. وفي سنة إحدى وثمانين: مات ملك غَزْنَةَ الملك المؤيدُ إبراهيم بن مسعود، وتملك بعده أخوه جلال الدين. وفيها: أخذ السلطان ملكشاه سمرقند. وفي سنة اثنتين: أخذَ بخارى. وفي سنة ثلاث: أخذت عساكرُ مصر صيدا، وعكا، وجُبيل. وفيها: تملك ابن الصباح رأسُ الإسماعيلية قَلعة أصبهان، وهو أولُ ظهور الإسماعيلية. وفي سنة أربع وثمانين: استولى يوسف البربري على ممالك الأندلس، وسجن المعتمد بن عبّاد. وفي سنة خمس: قُتل الوزير نظامُ الملك. وفيها: مات السلطان جلال الدولة ملكشاه السلجوقي، وتسلطن بعد والده، وامتدت أيامه، واتّسعت ممالكه، فكان تحت يده ما وراء النهر، وباب الأبواب، والروم، والجزيرة، والعراق، وخراسان، والشام، وملك من كاشغر إلى بيت المقدس طولاً، ومن قرب القسطنطينية إلى بحر الهند. وفي سنة ست: سار صاحبُ دمشق حين علم بموت أخيه، سار بالجيوش ليأخذ السلطنة، وسار معه نائبُ حلب قسيمُ الدولة، وعسكرُ أنطاكيةَ وحران، وسار فنازل نَصِيبين، وأخذها عَنْوةً، وقصد الموصل،

وقد غلب عليها إبراهيمُ بن قريش العقيليُّ، فانكسر إبراهيم، وأُسر فذُبح، ثمّ سار، فملك مَيَّافارِقين، ثمّ حاصر قسيمُ الدولة وبوزان، وتحولوا إلى بركباروق، فضعف بذلك تتش، ورجع، وعظم بذلك بركباروق. وفيها: دخل بركباروق بغداد، وقلّده الخليفةُ، وخُطب له. وفي سنة سبع وثمانين: التقى تتش وقسيم الدولة، فأَسَر قسيمَ الدولة، وذبحه، ثمّ حاصر حلب، وأخذها، وتسلّم حرانَ والرَّهَا، وكثر جيشُه، فقصد بركباروق، فكبسه عسكرُ تتش، فهزموه، فتوصّل إلى أصبهان، وقبضوا عليه. وفيها: مات صاحبُ مصر المستنصرُ بالله بن الطّاهر، وكانت دولته ستين سنة، وقام بعده ابنُه المستعلي. وفيها: مات ابن أبي هاشم صاحبُ مكّة. وفيها: توفّي أميرُ المؤمنين المقتدي بأمر الله، وهو ابن تسع وثلاثين سنة، وكانت خلافته تسعَ عشرةَ سنة، وثلاثةَ أشهر، وبويع بعدَه لولده أبي العبّاس أحمدَ، ولقّبوه: المستظهر بالله. وفي سنة ثمان وثمانين: تزندقَ أحمد خان صاحبُ سمرقند، فأفتى العلماء بقتله، فقُتل، وأُقيم ابن عمّه. وفيها: قُتل تتش، قتله مملوكُ قسيم الدولة، واستمرّ في تيّار أستاذه، وانفرد بركباروق بالسلطنة، وتملّك رضوان بن تتش بعد أبيه حلب، وتملّك أخوه دقّاق دمشق.

وفي سنة تسع وثمانين: تملّك كربوقا الموصل. وفي سنة تسعين: قُتل أرسلانُ بنُ السلطانِ ألب أرسلان السلجوقي، وتسلم بركياروق نيسابور، ومرو، وبلخ، واستعمل أخاه سنجر على خراسان، فدامت دولته عليها نحو ستين سنة. وفي سنة اثنتين وتسعين: انتشرت دعوة الإسماعيلية الباطنية بأصبهان. وفيها: أخذ الفرنج بيت المقدس. وفي سنة أربع وتسعين: كان المصافُّ العظيم بين الأخوين: بركباروق، ومحمد، فانهزم محمد، وأُسر وزيرُه مؤيدُ الملك، فذُبِح. وفيها: كثر الإسماعيلية بالعراق وأصبهان، وملكوا بعض قلاع؛ لاشتغال الإخوة بالقتال. وفي سنة خمس وتسعين: مات صاحب مصر المستعلي بالله العبيدي، وبويع بعده ابنُه الآمرُ بأحكام الله منصور، وهو صغير له خمس سنين، والأمورُ كلّها بيد الأفضل أمير الجيوش، وفيها كان المصاف الثالث بين الأخوين: محمد، وبركباروق، وسُعي بينهما في الصلح، وأن تكون السلطنة لبركباروق، ولمحمد حيرة، وأذربيجان، وديار بكر، والموصل، وحصلت بينهما مخالفة، ثمّ بعد شهرين كان بينهما المصاف الرابع، وهرب محمد، فدخل أصبهان في أسوأ حال، ثمّ حُصر بها، ثمّ خرج منها على حمية، وفيها مات صاحب الموصل.

وفي سنة ست وتسعين: وقع مصاف خامس بين الأخوين، وانهزم محمد. وفي سنة سبع: اصطلحا. وفيها: مات صاحبُ دمشق دقاق، وأقيم بعده ابنُه. وفي سنة ثمان: مات السلطان بركباروق، وأقامت الأمراء بعده ولدَه جلالَ الدولة، ثمّ جعل لعمّه محمد. وفي سنة تسع: ظهرت الإسماعيلية بالشّام. وفي سنة خمس مئة: مات صاحب المغرب والأندلس أميرُ المسلمين يوسفُ، وتملّك بعده ابنُه عليّ، ويوسفُ هو الذي أنشأ مدينةَ مراكش. وفيها: انتزع السلطان محمد بن ملكشاه أصبهانَ من الباطنية، وقتل ابن عطّاش رأسَ الإسماعيلية. وفي سنة إحدى وخمس مئة: وقع بين السلطان محمد، وبين سيف الدولة الأسدي صاحبِ الحلّة ملك عرب العراق. وفيها: مات صاحبُ إفريقية تميمُ بن المعزّ. وفي سنة ثلاث: أخذت الفرنجُ طرابلس، وبانياس، والجبيل، وحصن الأكراد. وفي سنة أربع: أخذوا بيروت، وصيدا، وغير ذلك، وخاف المسلمون أن يتملكوا إقليمَ الشّام، وطلبوا منهم الهدنة، وصالحهم صاحبُ حلب، وصاحبُ حماة.

وفي سنة ست: مات صاحب سيس، وصاحب أنطاكية، وصاحب حمص قراجا، وتملّكها بعده ابنُه خيرخان. وفي سنة سبع: مات صاحبُ حلب رضوانُ السلجوقي، وتملّك بعده أخوه أرسلان، فقتلَ أخوين له، وقتل رأسَ الإسماعيلية أبا طاهر الصائغ، ونزحت الإسماعيلية من حلب. وفي سنة ثمان: مات سلطان الهندِ وغزنةَ علاءُ الدولة مسعود. وفيها: وثب على أرسلان صاحب حلب غلمانُه، فقتلوه وملّكوا أخاه سلطان شاه. وفي سنة تسع: قدم عسكر السلطان محمد الشام، فأخذوا كفرطاب من الفرنج. وفي سنة إحدى عشرة: مات السلطان محمد السلجوقي، وله سبع وثلاثون سنة، وقام بعده ولده محمود. وفي سنة اثنتي عشرة: توفي أمير المؤمنين المستظهرُ بالله العباسي، مات بالخوانيق، وغسّله ابن عقيل الحنبلي، وبويع بعدَه ولدُه الفضل، ولقّب بالمسترشد بالله. وفي سنة ثلاث عشرة: خرج عليه أخوه، وفيها قصد سنجر العراق بعد موت أخيه ليتسلطَنَّ، فلمّا سمع محمود بن محمد بحركة عمّه، راسله، وخضع له، فلم يفد، فسار إليه، واقتتلا، ثمّ اصطلحا. وفي سنة أربع عشرة: خُطب لهما معاً، ثمّ وقع الخلفُ بين محمود وبين أخيه مسعود، ثمّ اقتتلا، وهرب مسعود، ثمّ اصطلحا.

وفيها: ظهر محمد بن تومرت بالمغرب، وزعم أنه المهدي. وفي سنة خمس عشرة: مات بمصر الأفضلُ أميرُ الجيوش، وكانت ولايته ثماني وعشرين سنة، وولي الوزارة بعده البطائحي. وفي سنة ست عشرة: توفي صاحبُ ماردين، وجدُّ ملوكها نجمُ الدين إيلغاري، وتملك بعده ابنُه تمرتاش. وفي سنة اثنتين وعشرين: مات صاحب دمشق طغتكين، وتملّك بعده ابنُه تاجُ الملوك. وفي سنة أربع وعشرين: مات صاحبُ مصر الآمرُ بأحكام الله منصور، وكانت دولته ثلاثين سنة، وبويع بعده ابنُ عمّه الحافظُ عبدُ المجيد. وفي سنة خمس وعشرين: توفي السلطان مغيثُ الدين محمود السلجوقي، وتسلطن بعده أخوه طغربل. وفي سنة ست وعشرين: قدم مسعود بعد وفاة أخيه محمود، وأخيه سلجوق، وكلُّ منهما يطلب السلطنة، ووصل سنجر إلى همذان، ووقع بينهم مقتلة عظيمة، وقتل فيها قراجا. وفيها: مات صاحبُ دمشق تاجُ الملوك، وكانت دولته أربع سنين، جرحه الإسماعيلية، فتعلَّلَ، ومات، وتملّك بعده ولدُه شمسُ الملوك. وفي سنة سبع وعشرين: خُطب ببغداد لمسعود، وحاربه أخوه طغربل، وفيها أخذ شمسُ الملوك بانياس من الفرنج.

و [في] سنة تسع وعشرين: مات طغربل، وفيها هجم جماعةٌ من الإسماعيلية على الخليفة المسترشد بالله، فقتلوه، ثمّ أحيط بهم، فقُتلوا، وكان عمره أربعاً وأربعين سنة، وكانت خلافته سبع عشرة سنة، وسبعةَ أشهر، ووقع للناس عليه المصاب الكبير، وبايع الناس ولدَه الراشدَ بالله. وفيها: قتلت الباطنية صاحبَ دمشق شمسَ الملوك، وكانت دولته ثلاث سنين، وتملك بعده أخوه محمود. وفيها: خرجت أمور، وحكم القاضي ابن الكرخي بخلع الرّاشد بالله، وأُحضر عمُّه محمد، فبويع، ولقّب: المقتفي لأمر الله. وفي سنة اثنتين وثلاثين: استفحل أمرُ الراشد، والتفَّتْ عليه عساكرُ كثيرة، وسار إلى أصبهان، ومعه السلطان داود، فقتله الإسماعيلية، ثمّ قُتلوا. وفي سنة ثلاث وثلاثين: قُتل صاحب دمشق شهاب الدين محمود بنُ تاج الملوك، وتسلَّمها أخوه محمد. وفي سنة أربع وثلاثين: وقعت بدمشق حروب، وكذلك بمصر والمغرب. وفي سنة خمس: وقعت لسنجر حروب، وضعف أمره. وفي سنة سبع وثلاثين: مات صاحب المغرب عليُّ بنُ يوسف، وتملّك بعده ابنهُ تاشفين، فعجز عن جيش عبد المؤمن، وأخذوا مدائنه.

وفيها: مات كوخان ملك الخطا. وفي سنة ثمان: توفي وزير بغداد عليُّ بنُ طرَّاد الزينبي. وفي سنة أربعين: افتتح عبدُ المؤمن صاحبُ المغرب، تلمسان، وفاس. وفي سنة إحدى وأربعين: قُتل: زنكي بنُ آقسنقر، وتملك ابنُه غازي الموصل، وابنُه نور الدين محمود حلب. وفي سنة اثنتين: استنقذ نور الدين أرتاج من الفرنج، وتزوج بابنة نائب دمشق معين الدين. وفي سنة ثلاث: وقع بين الخليفة والسلطان مسعود. وفي سنة أربع: قتل نورُ الدين صاحبَ أنطاكيّة في ألف وخمس مئة خنزير، وافتتح حصن فامية، وأذل دين الصليب، وأَسَر جولسين صاحب البيرة، والبنا، وعين تاب، وعزاز، وكان قد ألهبَ المسلمين، واستولى نور الدين على بلاده. وفيها: مات أخوه غازي صاحبُ الموصل. وقيها: مات معين الدين، وصاحب مصر الحافظُ لدين الله العبيدي، وتملك مصر عشرين سنة، وكان مقهوراً مع أبي على أمير الجيوش، وولي بعده ابنُه ظافر. وفي سنة خمس وأربعين: حاصر نور الدين دمشق، فخرج إليه صاحبها أبق، ووزيره، وخضعا، فرقّ لهما، وخلع عليهما، وردّ [هما] إلى حلب.

وفي سنة سبع وأربعين: خرجت الغورية على الملك حسين، واستولوا على بلخ، فقاتلهم السلطان سنجر، فظفر بمَلِكهم، وأَسره، ثمّ عفا عنه، فصار بجموعه إلى غزنة، فانهزم منه صاحبُها بهرام من أولاد محمود، وتملكها حسين، وعظم ملكه، وتلقّب بالسلطان المعظّم، واستناب ابني أخيه، وهما: السلطان غياث الدين، والسلطان شهاب الدين، فعدلا في الرعية، وعصياه، فبعث إليهما عسكراً، فكسراه، فالتقاهما بجيشه، فأسرا عمَّهما، ثمّ دخلا به، فأجلساه على التخت، ورفعا في خدمته، فبكى، وزوج غياث الدين بابنته، وفوض إليه الممالك، ثمّ ما تعظم سلطان غياث الدين. وفيها: مات صاحب ماردين حسامُ الدين، وكانت دولته نيفاً وثلاثين سنة، وتملك بعده ولده ألبي. وفي سنة ثمان وأربعين: خرجت الغُزُّ على السلطان سنجر، وكسروه، وأسروه، وبَقَّوا الخطبةَ باسمه، وقالوا: أين سلطاننا؟ وأذاقوه الذلّ بعد سلطنة ستين سنة. فيها: أخذ غياث الدين هَرَاة، وكانت لسنجر، ووقع لأخيه شهاب الدين وقاع بالهند. وفي سنة تسع: وقعت للخليفة وقائع، وكذلك للسلطان سنجر. وفيها: قتل خليفةُ مصر الظافرُ بالله الرافضي، وأُقيم ولده الفائزُ بالله وهو صغير مقامه، فبعث أمير المؤمنين المقتفي العهدَ للملك نور الدين، وله أيام قد تملك دمشق، ثمّ ولاه مصر، وأمره بفتحها، وأزال نورُ

الدين عن بلاد الشام ما كان تأخذُه النصارى من المسلمين، ونصرَ دينَ الإسلام. وفي سنة خمسين: عَظُم شأن نور الدين، وأخذ من الفرنج عدّة أماكن. وفي سنة إحدى وخمسين: قدم السلطان سليمان بن محمد السلجوقي بغداد مستجيراً بالخليفة، فتلقّاه ابنُ هبيرة، ولم يترجل له لتمكن الخلافة، ثمّ خطب له بالسلطنة بعد اسم سنجر، وسار الخليفة إلى حلوان، وفي خدمته السلطان سليمان. وفيها: هرب سنجر من الغُزّ. وفيها: سار سليمان، فهزمه محمد شاه، ثمّ خرج عليه أمير الموصل، فأسره. وفي سنة اثنتين: وقعت وقعة بين نور الدين والفرنج، ونصره الله عليهم، وأُخذت منهم غزة وبانياس، وأخذ عبد المؤمن بالمغرب عدة بلاد. وفيها: مات السلطان سنجر السلجوقي. وفي سنة ثلاث وخمسين: اصطلح الأخوان محمد شاه، وملك شاه. وفي سنة أربع: أخذ عبد المؤمن المهديَّة من الفرنج، وفيها مات محمد شاه. وفي سنة خمس: تسلطن سليمان شاه السلجوقي، وذهب

ابنُ أخيه إلى أصبهان ليتسلطنَ، فمات، فقبضت الأمراء على سليمان شاه، وقُتل، وخطبوا لرسلان شاه. وفيها: مات أمير المؤمنين المقتفي لأمر الله بالخوانيق، وكانت دولته خمساً وعشرين سنة، وعاش ستاً وستين سنة، ووزر له علي بن طَرَّاد الزينبي، ثمّ أبو نصر بن جهير، ثمّ علي بن صدقة، ثمّ عون الدين بن هبيرة. وفيها: مات الأمير مجاهد الدين بزان، وبويع بعد المقتفي لولده المستنجد بالله، بايعه أولاد عمّه: أبو طالب، ثمّ أخوه أبو جعفر، ثمّ ابن هبيرة، وقاضي القضاة ابن الدامغاني. وفيها: مات صاحب مصر الفائز بالله، وبايعوا ابنَ عمه العاضدَ عبدَ الله. وفي سنة ثمان وخمسين: وقع لنور الدين مع الفرنج وقعة، وانهزم عسكرُه، فحلف لا يُظلّه سقف حتى يأخذ بثأره منهم. وفيها: مات سلطان المغرب عبدُ المؤمن، وعاش إحدى وسبعين سنة، وكانت سلطنته بضعاً وعشرين سنة، وبويع بعده ولدُه يوسف. وفي سنة تسع: أخذ نور الدين بثأره، وكسر الفرنج كسرة عظيمة، وأَسر، وذلت الفرنج، وجهز بابنه أسد الدين إلى مصر لتملُّكها، فلما دخلها، قتل الملك المنصور ضرغام الذي قهر شاور، ووقعت في هذه السنة لنور الدين وقائع مع الفرنج، ونصره الله عليهم، وأَسر صاحبَ أنطاكية، وطرابلس، وأخذ منهم عدّة حصون. وفي سنة إحدى وستين: افتتحَ عدّةَ حصون.

وفي سنة ثلاث وستين: وهب نورُ الدين شيركوه حمصَ، وفيها مات صاحب إربل زينُ الدين على، وكان عمل نيابة الموصل وحارب الخليفة، ثمّ دخل في الطاعة. وفي سنة أربع: توفي أسد الدين، فقلَّد العاضدُ في الحال المنصبَ لصلاح الدين يوسفَ ابنِ أخي أسدِ الدين. وفيها: توفي ببغداد مجيرُ الدين أبق الذي كان صاحبَ دمشق. [و] في سنة خمس وستين: قدم نور الدين سنجار. وفيها: مات صاحبُ الموصل قطب الدين مودود أخو نور الدين. وفي سنة ست: مات الخليفةُ المستنجدُ بالله يوسفُ بن المقتفي العباسي، وكانت دولته إحدى عشرة سنة، وله ثمان وأربعون سنة، وبويع بعده لولده المستضيء بالله أبي محمد الحسن، وكان القائم بأمر المبايعة محمد بن عبد الله بن رئيس الرؤساء أبي الفرج بن المسلمة، واستوزر يومئذ. وفي سنة سبع: عزل الوزير، ونهبت دياره، ووقعت لصلاح الدين بمصر وقائع، ونُصر فيها، وخُلع العاضدُ من الخلافة، وخُطب بمصر لأمير المؤمنين المستضيء، وانقطعت خلافة العبيدية من الدنيا، وكافت دولتهم من قبيل الثلاث مئة، وعدّتُهم أربعةَ عشرَ متخلف إلا خليفةً، ويدَّعون أنهم فاطميون، وإنما هم من غُبَّر اليهود. وبها: مات العاضد، وتسلّم صلاحُ الدين جميع مالهم، ومنع مَنْ بقي من الرجال منهم من النساء؛ لئلا يوجد لهم نسلٌ؛ وأرسل الخليفةُ بخلعتين: لنور الدين واحدة، ولصلاح الدين واحدة، ثمّ غضب نور

الدين على صلاح الدين، وأراد قصدَ مصر، فقلق صلاح الدين، واستشار، فتكلم بعضهم بما يوجب المحاربة، فشتمهم والدُ صلاح الدين، وقال: والله! لو رأينا نور الدين لم يمكنّا إلا أن نقبّل له الأرض، ولو أمرنا بضرب عنقك، فعلنا، وهذه بلاده. وكتب غيرُ واحد إلى نور الدين بما جرى، ولمّا خلا والدُ صلاح الدين به، قال له: أنت جاهل، تجمع هذا الجمعَ، وتُطلعهم على سرّك، ولو قصدَكَ ورأيته، لم ترَ معك منهم أحداً. وكتب صلاح الدين يخضع لنور الدين، ففتر عنه. وفي سنة ثمان وستين: سار قراقوش من مصر، فحاصر طرابلس المغرب فملكها، وسكنها. وفيها: مات خوارزم شاه أرسلان، وتملك بعده ابنُه محمود، وكان ولده الكبير تكش غائباً، فاستنجد بعسكر الخطا، فسار أخوه صاحبُ نيسابور المؤيدُ، والتقى الجمعان، فأُسِرَ المؤيدَ، وذُبح، وهرب محمود، وتملك تكش، وقتل كل من عنده من الخطايين، فسار محمود إلى ملك الخطا، فأعطاه جيشاً، ونجا، فحاصر خوارزم، فارسل تكش عليهم [...]، فكادوا يفرقون كلهم، فسار بهم محمود، فأخذ مرو، وسرخس، وولي نيسابور بعد المؤيد ولدُه محمد [.......]، وكان نور الدين استخدم مليح بن لاون النصراني على بلاد سيس، فأقبلت الروم، فتلقاهم مليح، فكسرهم، وظهر لنور الدين نصحه.

وفيها: سار نور الدين إلى الموصل، ثمّ رجع، ففتح بهسنا، ومرعش. وفيها: مات نور الدين. وفيها: سار أخو صلاح الدين إلى اليمن، ففتحها، ومات نور الدين بالخوانيق شهيداً، وأوصى بالملك بعده لابنه الملكِ الصالحِ إسماعيلَ، وسار صلاح الدين إلى الشام ليرهِبَ الفرنج. [و] في سنة سبعين: تملَّكَ دمشقَ بغير قتال، وتوجّه ابنُ نور الدين إلى حلب، ثمّ حاصر صلاحُ الدين حمصَ، وأخذها، ثمّ إلى حماة، وتسلَّمها، ثمّ إلى حلب، وبها ابنُ نور الدين، وأنعمَ بحمصَ على ابن عمّه، واستناب بدمشق أخاه سيفَ الإسلام، وبعث إلى المستضيء بالله يطلب تقليدَ السلطنة الكبرى. وفيها: قتل شملة التركماني المتغلب على مملكة فارس، وكانت دولته عشرين سنة. وفي سنة إحدى وسبعين: وقع وقعة لصلاح الدين مع غازي بن مودود، فهزمهم، وتسلم منبج، وعزاز، ثمّ حاصر حلب، ثمّ وقع الصلح. وفي سنة اثنتين وسبعين: نازل صلاحُ الدين بلدَ الإسماعيلية، وفيها بنى صلاح الدين قلعة الجبل، وولّى الأمير قراقوش. وفي سنة ثلاث: مات سلطان توريز أرسلان السلجوقي، وملك بعدَه ولدُه طغرل.

وفي سنة خمس وسبعين: وقعت وقعة بين صلاح الدين وبين الفرنج، ونصره الله عليهم. وفيها: مات أمير المؤمنين المستضيء بالله العباسي، وكانت خلافته تسع سنين ونصفاً، وعاش تسعاً وثلاثين سنة، وبويع بعدَه لولده أبي العباس أحمد، ولقّب: الناصر لدين الله. وفي سنة ست وسبعين: توجّه السلطان إلى بلاد الأرمن، ثمّ بلاد الروم، فحاربه قلج رسلان بن مسعود، ثمّ رجع إلى مصر، وسمع "الموطأ" بالإسكندرية من ابن عوف. وفيها: مات الملك المعظم أخو السلطان. وفيها: مات صاحب الموصل سيف الدين، وتملك بعده أخوه مسعود. وفي سنة سبع: مات الملكُ الصالحُ إسماعيلُ بن نور الدين صاحبُ حلب، وله عشرون سنة. وفي سنة ثمان وسبعين: أخذ صلاحُ الدين حرّان، وسنجار، ونصيبين، والرقة، والبيرة، وحلب، وعاد إلى مصر. وفيها: مات عز الدين صاحبُ بعلبك، وتملكها بعده ولدُه الملكُ الأمجد. وفي سنة ثمانين: توفي سلطان المغرب يوسفُ بن عبد المؤمن، وكانت دولته اثنتين وعشرين سنة.

وفي سنة إحدى وثمانين: مات شمسُ الدين صاحبُ أذربيجان، وكانت أيامه عشرين سنة، وتملك بعده أخوه سبعَ سنين. وفيها: مات صاحبُ حمص ناصرُ الدين محمدُ بن الملك أسدِ الدين شيركوه، وتملك بعده ولدُه المجاهد. وفي سنة اثنتين وثمانين: أعطى السلطان ولدَه حلبَ. وفي سنة ثلاث وثمانين: قتل التتار الخليفةَ مجدَ الدين بنَ الصاحب [...]، وقعت بينه وبين الفرنج وقعة عظيمة، ونصره الله عليهم -دين النصرانية- من الملوك، ثمّ أخذ عكا، ثمّ يافا وغيرَها، ثمّ المجدل، والناصرة، وصفورية، وقيسارية، ونابلس، وحصن الغولة، وتبنين، وصيدا، وبيروت، وعسقلان، وذلَّت الفرنج، وأيقنوا بالهلاك، وسلَّموا الحصون، ثمّ أخذ الرملة، وغزة، والدارون، وأخذ جبول، والنظرون، ثمّ بيت المقدس. وفي سنة أربع: أخذ جبلة، ثمّ الشغر، وفتح ستَّ قلاع في ست جمع: جبلة، واللاذقية، وصِهْيون، والشغر، وبكاس، وسرمانية، ثمّ حصن برزية، ثمّ درسباك، ثمّ بفراس، ثمّ الكرك، ثمّ الشوبك، ثمّ صفد، ثمّ حصن كوكب. وفيها: مات الأمير مؤيد الدولة أسامةُ بنُ مرشد أحدُ أبطال الإسلام. وفي سنة خمس: وقعت بين السلطان والفرنج وقائعُ شديدة.

وكذلك في سنة ست: استمر الفرنج الملاعين على حصار عكا مدة، ووقعت له وقائع مع الفرنج في هذه السنة، وفي التي بعدها، وشدائد يطول شرحها. وكذلك في سنة ثمان: ووقعت بينهم مهادنة. وفيها: مات سلطان الروم قلج رسلان السلجوقي، وتسلطن بعده ولده كنجسرو. وفي سنة تسع وثمانين: قتلت الإسماعيليةُ سلطانَ أخلاط بكتمر، وهلك ملك الإسماعيلية سيارُ بنُ سليمان. وفيها: مات سلطان خوارزم محمود بن أرسلان، وتملك بعده أخوه خوارزم شاه. وفيها: مات سلطانُ الموصل عزّ الدين مسعود. وفيها: مات السلطان الكبير المجاهدُ الملكُ الناصرُ صلاح الدين يوسفُ بنُ أيوب، وله خمس وسبعون سنة، وله فتوحات كثيرة، وكانت دولته أربعاً وعشرين سنة، وخلّف سبعةَ عشرَ ابناً، بينهم: العزيزُ صاحبُ مصر، والأفضلُ صاحبُ دمشق، والظاهرُ صاحب حلبَ. وفي سنة تسعين: كانت وقعة مشهورة بين شهاب الدين صاحب غزنة، وبين صاحب الهند، فانتصر شهابُ الدين على الكافر. وفيها: قتل خوارزم طغرل، فقلده الخليفة. وفي سنة إحدى وتسعين: كانت وقعة بين السلطان يعقوب والكفار، فنصر الله دينه.

وفي سنة اثنتين وتسعين: حاصر العزيزُ صاحبُ مصر أخاه الأفضلَ صاحب دمشق، واستولى العادلُ عمُّهُم على دمشق، وأعطى الأفضلَ صَلْخد. وفيها: وقعت وقعة أخرى بين السلطان يعقوب والكفار. وفي سنة ثلاث وتسعين: أخذ العادل يافا. وفيها: ملكت الفرنج بيروت، وهرب نائبها عزُّ الدين إلى صيدا. وفيها: مات سيف الإسلام أخو السلطان صلاح الدين صاحبُ اليمن، وتملك بعده ابنُه إسماعيل، وظلم، ورام الخلافة، وتلقَّب بالهادي. وفي سنة أربع: أخذ علاءُ الدين خوارزم شاه بخارى من صاحب الخطا. وفيها: مات صاحب سنجار عماد الدين، وتملك بعده ابنُه محمد. وفي سنة خمس وتسعين: مات صاحب المغرب يعقوب، وقام بعده ابنُه محمد، ومات صاحب مصر العزيز، فسار الأفضل أخوه إلى مصر، فملك ولد أخيه، وصار [......]، ثمّ سار بجيوش مصر، وحاصر دمشق. وفي سنة ست وتسعين: مات خوارزم شاه، وكانت الحرب بين العادل والأفضل، ثمّ رجع الأفضل إلى مصر، ولحقه العادل وسبقه،

ودخل مصر وملكها، ورجع الأفضل إلى صلخد، ثمّ سلطن العادلُ ولدَه الكامل بمصر. وفيها: قتل باليمن المعزُّ إسماعيل. وفي سنة تسع وتسعين: مات سلطان الهند وغزنة غياثُ الدين محمد. وفي سنة ست مئة: أرادت الفرنج أخذ القدس، فخذلهم الله -عَزَّ وَجَلَّ-. وفي سنة اثنتين وست مئة: مات سلطان غزنة والهند شهابُ الدين محمد. وفي سنة أربع وست مئة: وقعت وقائع بين خوارزم شاه، وصاحب الخطا، وأسر خوارزم شاه، ونجا بحيلة لطيفة، وهو أنه أُسر هو وبعض أُمرائه، فأظهر أنه غلام ذلك الأمير، وجعل يخلعه خُفَّه ويخدمه، فجعل ملكُ الخطا يحترم ذلك الأمير، ثمّ قال له: إني أخاف أن يظن أهلي أني قتلت، فقرر عليَّ مالاً حتى أرسل أخبية لك، فقرر عليه شيئا، فقال: أرسل غلامي هذا يأتيك به، فأذن له، وبعث معه من يخفره حتى وصل السلطان إلى مملكته، ونجا بهذه الحيلة، ثمّ إن الخطائي قال لذلك الرجل: سلطانكم فُقد! فقال: أوما تعرفه؟ قال: لا، قال: هو غلامي الذي كان يخدمني، وبعثته يأتي بالمال، فعض يدهُ، ونهب وقال: هلّا كنت علمتني حتى كنتُ أُكرمه وأخدمه، وأسير بين يديه إلى مقر ملكه؟ قال: خفتُ عليه منك، قال: فقم بنا نسير إلى خدمته، فسارا جميعاً إليه حتى أتياه.

وفيها: سار الملك العادل من مصر، فنزل عكا، وحاصرها، فصالحه صاحبُها، وبذل له مالاً وأسراء أطلقهم، ثمّ أغار على أعمال طرابلس. وفي سنة ست وست مئة: حاصر العادلُ سنجار، وعد ذلك من ذنوبه حيث ترك غزو الفرنج، وقاتل المسلمين. وفيها: وقع بين خوارزم شاه وبين الخطا، وأسر سلطانهم، فأكرمه، وأقعده معه على السرير، ثمّ افتتح عدة مدائن. وفي هذه السنة: كان ابتداء خروج التتار، فكاتب صاحبُ الخطا خوارزم شاه بالاستعانة على التتار، فكاتبهم إني قادم لنصركم، وكاتبَ التتارَ بمثل ذلك، ثمّ سار إلى أن نزل بقرب الفريقين، يوهم كلَّ طائفة أنه معهم، فلما وقعت المصاف، انهزمت الخطا، فمال مع التتار عليهم، فلم يفلت منهم إلا اليسير، وأنصاف من بقي منهم إلى خوارزم شاه، ثمّ راسل ملك التتار أن يقاسمه مملكة الخطا، فأرسل إليه: أنْ قنعتُ بالمسالمة، وإلا سوف ترى ما يقع بك، فجعل يتخطف من التتار ويسرقونهم، فبعث ملك ملكهم: ليس هذا فعل الملوك، هذا فعلُ اللصوص، فإن كنت ملكاً، فاعمل مصافًّا، فأخذ يغالطه ويراوغه؛ لعلمه أنه لا طاقة له بالتتار، ثمّ أمر مَن في ناحية الخطا من بلاده بالإنجفال إلى بخارى وسمرقند، إلى أن خلت تلك البلاد النزهة وخربها، وجعلها مفاوز؛ خوفاً أن يملكها التتار. وفي سنة سبع: مات صاحب الموصل نور الدين

أرسلان [...]، وكانت دولته ثماني عشرة سنة، وتملك بعده ابنُه عزُّ الدين مسعود. وفي سنة تسع: تملك اللبان صاحبُ خطا الكامل، وجعل يغير على التركمان، فقتلوه هو وأكثر جنده، وكانت وقعة العقاب بين السلطان محمد بن يعقوب الناصر لدين الله والفرنج بالمغرب، ونصر الله المسلمين. وفيها: مات الملكُ الأوحد أيوبُ صاحبُ خلاط، وتملك بعده أخوه الأشرف. وفي سنة عشر: تنكّر السلطان خوارزم شاه هو وثلاثة، ولبسوا زيّ التتار، ودخلوا في عسكرهم لكشف أمرهم، فأُمسكوا، وضُرب اثنان حتى ماتا، ولم يفرّا، وضرب خوارزم شاه والآخر، وقدموا عليهما، فهربا في الليل، وخلصا. وفيها: قتل السلطان أيتكمس صاحب الري، قتله التركمان، واستعجل أمر منكلي. وفيها: مات صاحب المغرب والأندلس السلطان الناصرُ محمدُ بنُ يعقوب، وكانت دولته خمس عشرة سنة. وفي سنة إحدى عشرة: افتتح خوارزم شاه كرمان، والسند. وفي سنة اثنتي عشرة: سار الملك المسعود أطشر بن الملك الكامل إلى اليمن، فأخذها، واستولى خوارزم شاه على مملكة غزنة، وهرب صاحبها.

وفي سنة أربع عشرة: أراد خوارزم شاه أن يدخل بغداد، ويحكم على الخليفة، ويقره، فرد الله شره. وفيها: خرجت الفرنج لتأخذ القدس، فلم يقدروا. وفي سنة خمس عشرة: مات الملك العادل. وفيها: مات صاحب الروم كيكاوس، وصاحب الموصل عز الدين. وفي سنة سبع عشرة: كانت وقعت البرلس بين الكامل والفرنج، فكسرهم. وفيها: عاد التتار، وهزموا خوارزم شاه، وملكوا ما وراء النهر، ووصلوا إلى قزوين وهمدان، وفرغوا من بلاد الخطا والترك والعجم وغير ذلك، وملك جنكزخان عدة أقاليم. وفيها: مات السلطان الكبير خوارزم شاه علاء الدين الخوارزمي، وكان قد اتسع ملكه، ودانت له الأمم، وكانت دولته إحدى وعشرين سنة، وقام بعده ابنُه جلال الدين، ثمّ التقى التتار، فكسرهم، وقتل أميرَهم ولدَ جنكزخان، فلما بلغ الخبر أباه، قامت قيامته، وجمع جيشه، وسار إلى جلال الدين، وهزم الله جنكزخان، ثمّ حملت طائفة كانت كميناً، فكسرت جيش جلال الدين، وأسر ولده، ووقعت له أمور، ثمّ إن التتار وصلوا إلى العراق. وفي سنة عشرين: توفي سلطان المغرب المستنصر بالله يوسف بن الناصر محمد، وكانت دولته عشر سنين.

وفي سنة إحدى وعشرين: انفصل جلال الدين على الهند وكرمان، واستولى على أذربيجان. وفيها: استولى الملك الرحيم نورُ الدين لؤلؤ على الموصل، وأظهر أن ابن أستاذه الملك محمود قد مات، فيقال: إنه خنقه. وفيها: وثب أمير البربر على السلطان عبد الواحد، فقتلوه، وكانت سلطنته تسعة أشهر، واستولى ابنُ أخيه عبدُ الله، وغلب ابنُ هود على الأندلس، وخَطب بها لبني العباس. وفي سنة اثنتين وعشرين: توفي أمير المؤمنين الناصرُ لدين الله أبو العباس أحمدُ، وله سبعون سنة، وكانت خلافته سبعاً وأربعين سنة، وكان قد خطب بولاية العهد لابنه أبي نصر محمد، فلما توفي، تسلَّم الخلافة، ولُقَب: الظاهر بأمر الله، وبايعه الكبار. وفيها: توفي الوزير صفي الدين الدميري. وفيها: مات السلطان الملك الأفضل بن السلطان صلاح الدين صاحب سميساط. وفي سنة ثلاث وعشرين: قدم ابنُ الجوزي بخلع وتقاليد السلطنة للإخوة: الكامل، والمعظم، والأشرف من أمير المؤمنين الظاهرِ بأمر الله. وفيها: توفي أمير المؤمنين الظاهر بأمر الله، وله اثنتان وخمسون سنة، وكانت خلافته تسعة أشهر، وكان خيِّراً، أظهر العدلَ والإحسان، وأحيا سنة العُمَرين، وقد عُذِل في دينه وعدله، وأريد منه الإنبساط في

الدنيا، فقال: من فتح بعد العصر إيش يكسب؟ قد لقس الزرع؟ يشير إلى أنه ما حصل له الأمر حتى كبر، وبويع بعدَه لولده المستنصرِ بالله أبي جعفر المنصور، وهو أكبر أخويه، فبايعه جميع إخوته، وبنو عمه، و [كان] عمره خمساً وثلاثين سنة. وفي سنة أربع وعشرين: كانت وقعة بين خوارزم شاه والتتار، ودخل السلطان جلال الدين أصبهان. وفيها: مات جنكزخان المغلي، الذي خرَّب البلاد، وقتل الخلائق، وكانت دولته خمساً وعشرين، وتملك بعده ابنُه، وكلُّهم كفرة. وفيها: توفي سلطان الشام الملكُ المعظمُ شرفُ الدين عيسى، وله ثمان وأربعون سنة. وفي سنة خمس وعشرين: جاء تقليد بالسلطنة من الكامل لابن أخيه الملك الناصر داود بن المعظم، وقد فرغت هدنة الفرنج، فعاثُوا بالسواحل، وفي آخر العام قدم الكامل، وجاءه أسد الدين صاحب حمص إلى دمشق، فأغلقها الناصر، واستنجد بعمه الأشرف، فقدم من خلاط، فتأخر الكامل عن الحضور، وقال: أنا ما أقاتل أخي، فبلغ الأشرف، فقال للناصر: قد حرد أخي، فالمصلحةُ استعطافُه، فسار إليه إلى القدس، فصار [...] على الناصر لا له، فاتفق الأخوان على ترحيل الناصر عن دمشق، فاستنجد الكامل بالفرنج، فأقبل الإنبرور في جيشه، فأعطاه الكاملُ القدسَ، وشقَّ ذلك على المسلمين، ونفى أهلها في ذلة معه، وخرج الناصر ليتلقى عَمَّيه، فبلغه اتفاقُهم عليه، فغادروا

حصن البلد، وحاصروه شهراً، وفي آخر الأمر أعطوه الكرك، فتحول إليها، ونفى سلطانها مدة، وأعطى الكاملُ أخاه الأسر ودمشق. وفيها: جرت أمور بين خوارزم شاه والتتار، وآخر الأمر كانت الدائرة عليهم. وفي سنة ست وعشرين: وقعت وقائع بدمشق بين الكامل والناصر، ثمّ تسلطن الأشرفُ بدمشق، وأعطى أخاه عوضها حرّان، والرّها، ورأس العين، والرقة، ثمّ سار الكامل إلى هذه البلاد ليتسلمها، وخرج صاحبُ حماة إلى خدمته، ثمّ حاصر الأشرفُ بعلبك، وبها الأمجدُ، ثمّ سلمها، وأقام بداره بدمشق. وفيها: مات الملك المسعودُ بنُ الكامل صاحبُ اليمن. وفي سنة سبع وعشرين: أعطى الأشرف أخاه الصالحَ إسماعيلَ بعلبكَّ، وتجهز الأشرفُ والكامل لحرب خُوارزم شاه، ثمّ اتفق الأشرفُ مع سلطان الروم، والتقوا خوارزم شاه، فكسروه. وفي سنة ثمان: التقى خوارزم شاه والتتار، فكسروه، وتمزق عسكرُه. وفيها: قتل السلطان الكبير جلالُ الدين خوارزم شاه، وكانت دولته اثنتي عشرة سنة. وفي سنة تسع وعشرين: قصدت التتار أذربيجان، فخرج عليهم صاحبُ إربل، وعسكرُ الخليفة، فردُّوهم.

وفي سنة ثلاثين: أخذ الملك الكامل آمد من صاحبها الملك المسعود مودود. وفيها: مات سلطان المغرب أبو العلاء إدريسُ بنُ يعقوب. وفيها: مات الملك العزيز عثمان بن العادل أخو المعظم. وفيها: مات صاحب إربل الملك المعظم مظفرُ الدين، وطالت أيامه، وعاش ثمانين سنة. وفي سنة إحدى وثلاثين: سار الملك الكامل ليدخل الروم، فوقع صاحب الروم علاء الدين على طلائعه، فكسرهم، وأسر المظفر صاحب حماة، فتقهقر الكاملُ، ثمّ أطلق صاحبُ الروم الأسرى مكرَّمين. وفي سنة ثلاث وثلاثين: كانت وقائع مع التتار. وفي سنة أريع وثلاثين: أخذ التتار إربل. وفيها: مات الملك المحسن أحمدُ بنُ صلاح الدين يوسفَ، وصاحبُ الروم علاء الدين، وسلطان حلب الملكُ العزيز غياث الدين محمد، وتملك بعده ولدُه الملكُ الناصرُ يوسف. وفي سنة خمس وثلاثين: توفي الأخوان: الملك الأشرف مظفرُ الدين موسى، والملك الكامل، وتملك الأشرفُ دمشق تسع سنين، والكاملُ تملك مصر أربعين سنة، وتسلطن بعدهما بدمشق الملكُ الجواد، وأخذ الناصرُ غزة، وتسلطن بمصر الملكُ العادل ولدُ الكامل. وفيها: وقعت وقائع بين التتار وعساكر المسلمين.

وفي سنة ست وثلاثين: ضعف الملك الجواد عن السلطنة، وقايض بدمشق سنجار والعانةَ للملك الصالح، ثمّ الملك عماد الدين إسماعيل دمشق. وفيها: مات صاحب ماردين الملك المنصور ناصرُ الدين. وفي سنة سبع وثلاثين: زحف الملك الصالح إسماعيلُ، وصاحب حمص على قلعة دمشق، وبها المغيث عمرُ بنُ السلطان نجمِ الدين، فأُخذت منه، وجرت أمور. وفيها: مات صاحب حمص الملكُ المجاهد أسدُ الدين شيركوه، وله ستٌّ وسبعون سنة، وكانت دولته ستًّا وخمسين سنة، وتملك بعده ولدُه المنصور إبراهيم. وفيها: توفي الملك جمال الدين قشتمر مقدَّمُ جيوش بغداد، والصاحبُ الوزير ضياء الدين. وفي سنة تسع وثلاثين: فيها كانت وقعة الجواد، وعسكر مصر. وفي سنة أربعين: حصلت وقائع مع الخوارزمية. وفيها: مات سلطان المغرب الرشيد بالله عبدُ الواحد بنُ إدريس، وكانت دولته عشر سنين، وتملك بعده أخوه السيد علي. وفيها: مات أمير المؤمنين المستنصرُ بالله أبو جعفرٍ المنصورُ العباسي، وله اثنتان وخمسون سنة، وكانت دولته سبع عشرة سنة، فبويع بعده لأبي أحمد عبدِ الله بن المستنصر، ولقِّب: المستعصم بالله.

وفي سنة إحدى وأربعين: وقع الصلح بين الصالح وعمِّه الصالح عماد الدين، وخطب بدمشق لصاحب مصر، وأطلق ابنه المغيث من حبس القلعة. وفيها: سار صاحب حمص، وحاصر عجلون. وفيها: أخذ التتار عدةَ مدن. وفي سنة اثنتيين وأربعين: عامل الصالح الخوارزمية على عمه، ووقعت أمور يطول ذكرها. وفي سنة ثلاث: زحفت الخوارزمية على دمشق، واشتد البلاء والجوع، وكانت بلايا عظيمة من الغلاء والأعداء، والحريق والنهب والمعاصي، ثمّ تسلم نوابُ صاحب مصر دمشق، وانفصل عنها الصالح إلى بعلبك، ومات المغيث بالقلعة، ثمّ مات معين الدين بن الشيخ نائب السلطنة. وفيها: جاء ابن الجوزي محيي الدين يوسف باني الجوزية، وكان علامةً في مذهب الإمام أحمد، معه خِلَع السلطنة لنجمِ الدين أيوب. وفيها: وصلت التتار إلى بغداد، فتلقاهم عسكر من المسلمين، فكسرهم. وفي سنة أربع وأربعين: كانت وقعة مع الخوارزمية، وقُتل مقدَّمُهم، وتمرَّض صاحبُ حمص الملكُ المنصورُ إبراهيم، ومات، والتجأ الصالح إسماعيلُ إلى صاحب حلب. وفيها: قدم السلطان من مصر، فدخل دمشق.

وفي سنة خمس وأربعين: فتح المسلمون عسقلان، وطبرية. وفيها: مات صاحب صرخد عزُّ الدين أيبك. وفيها: مات الملك المظفر شهابُ الدين غازي صاحبُ مَيَّافارقين. وفي سنة سبع وأربعين: مات سلطان مصر، فكتمت زوجتُه أمُّ خليلٍ موته، وبعثت تُعلم غلاميه، فطُلب ولدُه الملك المعظمُ من حصن كيفا، وجرت فصول وأمور وحروب يطول ذكرها، ثمّ تسلطن ولدُه، وكانت الدائرة على الفرنج. وفيها: قُتل السلطان الملك المعظم، وسلطَنوا الملكَ المعزَّ عزَّ الدين الملك، ثمّ سار صاحبُ حلب، فنزل دمشق، فكسر أقفال باب الصغير، وباب الجابية، ودخل البلد، ونهب دار نائبها ابن يغمور، ثمّ دخل السلطان القلعة، ووقعت في هذه السنة أمورٌ يطول شرحها. وفيها: قتل الصالح إسماعيل الذي كان صاحب دمشق. وفي سنة تسع وأربعين: تملك الملك المغيث بنُ العادل الكَركَ. وفي سنة خمسين وست مئة: كانت وقائع مع التتار وغيرهم. وفي سنة اثنتين وخمسين: تسلطن المعز، وفيها قُتل رأسُ الأمراء أَقْطاي، وهزمت النجدية إلى الشام، فقدمت على الناصر يوسف، وفيهم سيفُ الدين بلبان الرشيدي، وركن الدين بيبرس البندقداري، فقووا عزمَه على النهوض لأخذ مصر، فجهز جيشاً عليهم الملك بوزان شاه بن صلاح الدين، فساقوا إلى غزة، وخرج من مصر

الملك المعز، فلم يتم قتال، وكان فارس الدين أمطايا عاملاً على السلطنة، واشتراه الملك الصالح بألف دينار، وتزوج بابنة صاحب حماة، فقال للمعز: أخلِ لي قلعة الجبل، كي يعمل الفرس بها، فاتفق المعزُّ وزوجته على قتله، فوثب عليه قُطُز الذي تسلطن، فضرب عنقه وغلقت القلعة، فركبت حاشية أمطايا، وأحاطوا بالقلعة، فألقوا إليهم رأس أستاذهم، فهربوا. وفي سنة ثلاث وخمسين: توفي الأمير سيف الدين الصيمري. وفيها: خرج هولاكو، فقتل الإسماعيلية، وأخذ بلادهم، ثمّ جاء الروم، فهرب سلطانها، فاستولى عليها، ثم أخذ أذربيجان. وفي سنة خمس: مات الملك المعزُّ صاحب مصر، قتلته زوجتُه، فقتلها مماليكه، وسلطنوا ولده الملكَ المنصور، وجرت وقائع وأمور. وفي سنة ست: قصد هولاكو بغداد، فخرج إليهم عسكر المسلمين، فانكسروا، ثم أحاطوا ببغداد، فقال الوزير للخليفة: أنا أخرج إليهم لعلّ يقع الصلح، فخرج وتوثق لنفسه، وعمل معهم حيلة، ورجع إلى الخليفة، وقال: إنه قد رغب في أن يزوج ابنته بابنك، وأن تكون الطاعة له كما كانت السلجوقية، ويرحل عنك، فخرج الخليفة في أعيان دولته ليحضروا العقد، فضربت رقاب الجميع، وقتلوا الخليفة، ودخلوا بغداد، وعمل فيها السيف أربعة وثلاثين يوماً، فبلغت القتلى ألف ألف وثمان مئة ألف وزيادة، ثمّ ضرب عنق أميره الأكبر باجو نوين؛ لكونه كاتبَ الخليفةَ، وأرسل إلى صاحب الشام يهدده إن لم يخرب أسوار بلده.

وفيها: مات الملك الناصر داود بن المعظم صاحب الكرك، وله ثلاث وخمسون سنة، والوزير مؤيد الدين بنُ العلقمي الرافضي الذي عامل هولاكو، والعلامة أستدار الخلافة محيي الدين يوسف بن الجوزي، وملك الأمراءُ ركنَ الدين الدويدار المستنصري. وفي سنة سبع وخمسين: نزل هولاكو على آمد، واشتدت الأراجيف بالتتار لأخذه الشام، فقبض الأمير قطز على ابن أستاذه الملك المنصور، وتسلطن، ولُقَب بالملك المظفر، وفي آخر العام نازلت التتار حلب، ومات صاحبُ الموصل الملك الرحيم بدرُ الدين لؤلؤ. وفي سنة ثمان وخمسين: أخذ هولاكو حلب، فقتل ونهب وسبى، ثم أخذ حماة ودمشق، وهرب الناصر من دمشق، ثم نابلس وغيرها، ثم إن السلطان سلم نفسه، فأخذوه إلى هولاكو، فأكرمه، ثم جاء عسكرُ مصر، فوقع المصافُّ في عين جالوت من أرض بيسان، فنصر الله دينه، وانهزم التتار، وقُتل مقدمهم، ثم قتل النصارى بدمشق، وساق الأمير ركن الدين بيبرس وراء التتار إلى حلب، وطمع أن تكون له؛ فإن الملك المظفرَ وغيرَه بها، ثم رجع، ووقع إضمارُ الشر بينه وبين الملك المظفر، وتعامل بيبرس وجماعة الأمراء، ثم قتلوه بالغزالي، وتسلطن بيبرس، وسموه: الملك الظاهر، وكان على نيابة الشام علمُ الدين الحلبي، فحلف الأمراء لنفسه، وتلقب بالملك المجاهد. وفيها: توفي الملك المعظم الذي كان نائب حلب، وهو آخر أولاد صلاح الدين، وقُتل الملك السعيد حسن صاحبُ الصبية، وقُتل الملك

المظفر، وصاحب مَيَّافارقين الملك الكامل ناصر الدين. وفي سنة تسع وخمسين: وقعت وقائع مع التتار لأهل حمص وحماة وحلب، ونصر الله المسلمين. وفيها: دخل الحلبي إلى قلعة دمشق، وتسلطن، ثم حاصره المصريون، وهرب إلى بعلبك، ثم أخذ الظاهر وجيه، وكان الوقت بعد قتل المستعصم بالله خالياً من خليفة. وفي هذه السنة: بايع المسلمون بمصر المستنصرَ بالله أحمدَ بنَ الخليفة الظاهرِ محمدٍ العباسي الأسود، وكانت أمه حبشية، وهو عمُّ المستعصمِ المقتولِ أمامَه، وبايعه السطان الملكُ الظاهر، وفوض أمورَ الناس إلى السلطان، ثم خرجا إلى الشام، ثم سار المستنصر بعسكره لتملك بغداد، وكان نائبُ حلب بايع بحلب الحاكمَ بأمر الله، فلما قدم السلطان دمشق، اختفى الحاكم، ثم جاء إلى المستنصر وبايعه، ثم وقع المصافُّ بين المستنصر وبين التتار، فقدم المستنصر، وانهزم الحاكم إلى الشام. وفيها: قَتل ملكُ التتار الملكَ الناصرَ يوسف، وأخاه الملكَ الظاهر غازي. وفي سنة ستين: أخذ التتار الموصل، وقتلوا صاحبها الصالحَ إسماعيلَ. وفي سنة إحدى وستين: بويع بالخلافة للحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد العباسي، وبايعه الظاهرُ، والقضاة، ومات الظاهر.

وفي سنة اثنتين وستين: توفي صاحب حمص الملكُ الأشرف موسى. وفي سنة ثلاث: كانت وقائع بين سلطان الأندلس محمد بن الأحمر والفرنج، ونصره الله عليهم. وفيها: أخذ الظاهرُ قيساريةَ وأرسوفَ، وكانت وقعة على البيرة بين التتار والمسلمين، وكانت الدائرة عليهم. وفي سنة أربع وستين: هلك هولاكو ملك التتار، وقام بعده ولده أبغا. وفي سنة خمس مات بركة صاحبُ مملكة القنجاق، وقام بعده ابنُ أخيه منكوتمر. وفيها: توفي مقدم الجيوش ناصر الدين الصيمري باني البيمارستان، وسلطان المغرب المرتضى عمر. وفي سنة ست وستين: فتح السلطان يافا، ثم الشقيف، ثم أنطاكية، ثم بغراس. وفيها: مات صاحب الروم ركنُ الدين. وفي سنة ثمان وستين: أخذ الظاهر حصونَ الإسماعيلية. وفيها: مات سلطان المغرب الواثقُ بالله إدريس. وفي سنة تسع وستين: أخذ الظاهر حصنَ الأكراد، وحصن عكا، وهادنَ صاحبَ طرابلس عشر سنين.

وفي سنة سبعين: قدم الظاهر دمشق، وعزل التجيبي، واستناب عز الدين أيدمر. وفي سنة إحدى وسبعين: كبس الظاهر وجماعة من الأمراء طوائف من التتار، وانتصروا عليهم. وفي سنة اثنتين وسبعين: مات قطامي الصالحي. وفيها: مات صاحب الأندلس أبو عبد الله محمدُ بنُ الأحمر، وكانت دولته اثنتين وأربعين سنة، وتملك بعده ولده محمد. وفي سنة ثلاث: افتتح الظاهر إياس ولاية [....]. وفي سنة أربع: وقعت وقعة لأهل البيرة والتتار، ونصر الله المسلمين. وفي سنة خمس: وقعت معهم وقعة، ونصر الله الإسلام. وفيها: مات صاحب تونس الملك أبو عبد الله محمد بن عثمان. وفي سنة ست وسبعين: توفي الملك الظاهر بدمشق، وعمرُه نحو من ستين سنة، وكانت دولته سبع عشرة سنة وشهرين، وتسلطن بعده ولدُه الملكُ السعيد. وفيها: توفي نائب المملكة بيلبك الخزندار، ثم أمسك الملك السعيد تيسرى، وسنقر الأشقر، واستناب الفارقي، ثم قبض عليه، واستناب شمس الدين بن سنقر الألفي. وفيها: مات الملك القاهر عبد الملك بن المعظم، سقاه

السلطان، وقام ليتبوَّل، فأخذ الساقي الهبات من يده، ولم يعرف، وملأه على العادة، فجاء السلطان فتناوله، وشرب، وقد نسي أنه سقاه منه، وفيه آثار السم، فحُمَّ ومات -أيضاً-. وفي سنة سبع وسبعين: قدم الملك السعيد دمشق. وفيها: مات جمال الدين آقوش الذي كان نائب دمشق. وفي سنة ثمان وسبعين: اختلف الأمراء على السعيد، ثم خلعوه من السلطنة، وأعطوه الكرك، وسلطنوا أخاه بدرَ الدين، وله سبعُ سنين، كان القائم به وبالسلطنة سيفُ الدين قلاوون، وخطب لهما معاً، والأمراء بدمشق على نائبها عز الدين أيدمر، ثم جاء على النيابة سنقر الأشقر، وفي رجب رُفع ولدُ السلطان من السلطنة، واتفقوا على سلطنة الملك المنصور قلاوون. وفيها: مات بالكرك الملكُ السعيد، وفي ذي الحجة ركب سنقر الأشقر، وهجم إلى القلعة، وجلس على التخت، ولقب بالسلطان الملك الكامل، ولم يحلف له الشالق، فحبسه، وحبس نائب القلعة لاجين المنصوري. وفي سنة تسع وسبعين: ركب الملك الكامل سنقر، ووفد عليه عيسى بن مهنا، وأحمد بن حجي، ثم جهز له الملك المنصور جيشاً عليهم علم الدين الحلبي، وأقبل إليه المصريون، فالتقى الجمعان عند الجسورة، ثم خامر على سنقر عسكره، فانهزم من أول شيء صاحب حماة، فهرب سنقر إلى حمص، وفتحت البلد والقلعة للمصريين،

وأهين كل من بايع سنقر، ثم صفح عنهم، وناب للسلطنة بكوت العلاي شهراً، ثم قلد حسام الدين لاجين. وفيها: جاء التتار حلب، فعاثوا، وقتلوا، فتحصل لهم عسكر كثير. وفي سنة ثمانين: هادن السلطان أهلَ عكا، وقبض على كيرك الظاهري، وهرب آيتمش السعدي، وسيف الدين الهاروني إلى سنقر، ثم دخل السلطان دمشق، وحصل الصلح مع سنقر. وفيها: وقعت حمص مع التتار، وكانت شديدة، كانت على المسلمين أولاً، ثم نصر الله الإسلام وأهلَه، واستشهد من أمراء المسلمين عدة، منهم: أزدمر، وسيف الدين الرومي، وشهاب الدين توتل، وناصر الدين الكامل، وعز الدين بن النصرة، وهلك ملك التتار منكوتمر، وأخوه أبغا، وتملك بعده أخوه أحمد الذي أسلم. وفي سنة إحدى وثمانين: قبض السلطان على البيسري، وكشتغدي. وفيها: توفي سلطان تلمسان عمراسن البربري، وبقي في الملك ستين سنة. وفي سنة ثلاث: توفي صاحب خراسان والعراق والروم أحمدُ بنُ هولاكو، قتله أرغون ابن بغا، وتملك بعده. وفيها: توفي أمير العرب عيسى بن مهنا، وصاحب حماة الملكُ المنصور محمد بن المظفر، وكانت دولته اثنتين وأربعين سنة، وتملك بعده ولدُه المظفر.

وفي سنة أربع: أخذ السلطان المرقب. وفي سنة خمس: أخذ الكرك من الملك خضر بن الطاهر. وفيها: توفي سلطان مراكش أبو يوسف يعقوب، وكانت دولته عشرين سنة، وتملك بعده ولدُه. وفي سنة ست: قدم حسام الدين طرنطاي نائب دمشق، وسار لحصار سنقر، وأخذ البلاد منه، والتزم له بأمور، وقدم به مصر. وفي سنة سبع: ظلم الشجاعي وتعسَّف، ثم صودر وعُزل. وفي سنة ثمان: مات الكافر صاحبُ طرابلس، ثم أخذها المسلمون، وأخربت، وبنى مدينة صغيرة نزلها المسلمون. وفي سنة تسع وثمانين: توفي سلطان الإسلام وسيدُ الترك الملكُ المنصور أبو المعالي قلاوون، وقد جاوز الستين، وكانت دولته إحدى عشرة سنة، وأربعة أشهر، وتملك بعده ولدُه السلطان الملكُ الأشرف صلاحُ الدين خليل، فأمسك نائب السلطنة طربطاي، وضربه حتى مات. وفي سنة تسعين: ولي الوزارةَ ابنُ السلعوس، والنيابةَ بدرُ الدين بيدار، ثم نزل السلطان، وحاصر عكا، وتهيأ نائب الشام حسام الدين للهرب، وقد بلغه أن السلطان يريد إمساكه، ثم طَمَّنه، وخلع عليه، ثم قبض عليه وعلى أمراءَ غيرِه، ثم أخذ عكا بعد أمور هائلة يطول شرحها، ثم أخذت صور وغيرها، ثم دخل السلطان دمشق [...]، ثم سار طائفة من العسكر، فأخذوا صيدا، وكانت لبيروت هدنة، فخافوا،

وأغلقوها، وبدا منهم النقض، فأخذها الشجاعي، وهدمت قلعتُها، وقلعة جبيل، وتنظيف الشام مق الفرنج، ولله الحمد، وولي نيابةَ دمشق علمُ الدين سنجر الشجاعي. وفيها: [...] ملك التتار. وفيها: أطلق السلطانُ الأمراءَ: حسام الدين، وسنقر، والبيسري، وسنقر الطويل، وأذن للخليفة الحاكم بأمر الله بالركوب. وفيها: مات سلامش بن الملك الظاهر. وفي سنة إحدى وتسعين: دخل السلطان دمشق، ثم سار إلى حلب، ثم نازل قلعة الروم وفتحها، ثم مرَّ بحلب، فعزل منها قرا سنقر المنصوري بسيف الدين الطباخي، واستناب على قلعة الروم عز الدين بن الموصلي، ثم هرب حسام الدين لاجين الذي تسلطن، ثم غيّره أمير الغرب، وأمسكه، وأتى به السلطان [...] مع سنقر الأشقر، ثم رجع إلى مصر، وأطلق لاجين، ثم قتل [...]، وسنقر الأشقر. وفيها: مات صاحب ماردين الملك المظفر قرا رسلان، وكانت دولتُه ثلاثا وثلاثين سنة. وفي سنة اثنتين: أخذ السلطان بهسنا. وفيها: قدم السلطان دمشق، ثم رجع إلى مصر. وفيها: مات علم الدين سنجر. وفي سنة ثلاث: قَتل السلطانَ الأشرفَ نائبُه بيدار ولاجين، وسلطنوا بيدار، وسموه: الملك القاهر، فحمل عليه كتبغا

بالخاصكية، فقتلوه من الغد، واختفى لاجين، وقرا سنقر، وجماعة، فولوا السلطان الملك الناصر ناصرَ الدين قلاوون، وأهلك الوزير ابن السلعوس تحت الضرب، وقتل الشجاعي [........] السلطنة كتبغا، وبعد أشهر ظهر لاجين، وشفع فيه كتبغا. وفيها: مات ملك التتار كنجيوتن، وأخذ السلطنة بيدو. وفي سنة أربع: ذهب السلطان ناصر الدين إلى الكرك، ورغب عن الملك، فتسلطن زين الدين كتبغا المعلى المنصوري، ولقب بالملك العادل، وصيّر نائبه حسام الدين لاجين. وفيها. دخل غازان بن أبي عون في الإسلام، ونطق بالشهادتين، وفشا الإسلام في التتار. وفيها: توفي سلطان إفريقية المستنصرُ بالله عمر، وكانت دولته إحدى عشرة سنة. وفيها: توفي صاحبُ اليمن الملك المظفر شمسُ الدين يوسف، وكانت دولته سبعاً وأربعين سنة. وفي سنة ست وتسعين: رجع السلطان العادل من حمص، وجلس بدار العدل، وأخذ من الناس القصص بيده، وصلى الجمعة، وزار الأماكن الفضيلة، ثم سافر، فلما كان في آخر المحرم، غلقت القلعة، [...] وجميع الأمراء، وركبوا على باب النصر، فوصل السلطان قبل العصر في خمسة مماليك، وقد زالت دولته، فدخل القلعة، وذلك أن حسام الدين لاجين بوادي فحمة ركب، وقتل الأميرين

بتخلص وبكتوت، وكانا جناحي العادل، فحين سمع العادل، ركب فرس النوبة، وساق إلى دمشق، وساق حسام الدين الخزائن والجيش، وبايعوه، وتسلطن [...]، فأقام العادل بالقلعة ثلاثة عشر يوماً، وشاعت الأخبار بسلطنة حسام الدين، ثم قدم كجلن، فنزل العتيبات، وانحلف باسم السلطان الملك المنصور حسام الدين، فسارع إليه أمراء دمشق، فأذعن العادل بالطاعة، وسلم نفسه، فاعتُقل بمكان من القلعة، ثم اجتمع الأمراء والنائب [...]، وحلّفوا الأمراء، ثم ركب السلطان بمصر بخلعه الحاكم بأمر الله، ثم جعل كتبغا إلى صرخد، ثم جاء قلجق على نيابة دمشق، وناب بمصر قراسنقر [...]، وناب منكوتمر، وعمل وزارة مصر شمس الدين الأعسر، ثم أمسك وصودر. وفي سنة سبع: قبض على البيسري، وأخذت مرعش، وغيرها. وفيها: قبض على عز الدين أيبك الحموي، وسار طائفة من الأمراء إلى غازان فراراً، ثم جاء قتل السلطان لاجين حسام الدين، وأحضر السلطان من الكرك، وتسلَّم السلطنة، ثم قتل طغجي وكرجي، وكانا ممن قتل المنصورَ ونائبه، وناب بمصر سيف الدين سلّار، وبالشام أقوش الأفرم، وأخرج قرا سنقر، وأعطى قلعة الصبيبة، ومات في الحبس البيسري. وفيها: مات صاحب حماة الملك المظفر محمود، وكانت دولته خمس عشرة سنة، وأعطيت حماة لقرا سنقر، وكانت دولة حسام الدين [...] سنين، وثلاثة أشهر. وفي سنة تسع: وصل أولئك الأمراءُ الذين سحبوا إلى غازان،

فأكرمهم، وعلم بمقتل صاحب مصر، فقصد الشام، فوقعت بينه وبين السلطان الوقعةُ العظمى بوادي الخزندار، ولاحت لوائحُ النصر، ثم انكسرت ميمنةُ المسلمين، وسار السلطان على ناحية البقاع، واستولى [عليها] قازان، ودخل التتار دمشق، ووقع القتل والنهب والحريق، وصادروا، ووقع أمور يطول شرحها. ثم ترحَّل، وجعل نائبه بدمشق قبجق، ومعه بكتمر، ودخل السلطان مصر على [...] شاه [...] أخذ أموالهم وخيلهم ورمحهم، ففتح بيوت المال، وأنفق ما لم يُسمع مثلُه، ثم توجه عسكر الشام مع سلاَّر، فبادر إلى خدمته قبجق، وبكتمر، والدلجي، فصفح عنهم السلطان، وأعطى قبجق الشوبك. وفيها: مات علم الدين سنجر، ونائب طرابلس سيف الدين. وفي سنة سبع مئة: كانت الأراجيف بالتتار، ووصلوا إلى حلب، ثم رجع بعد أن هلك منهم خلائق من البرد. وفيها: توفي الأمير عز الدين أيدمر. وفي سنة إحدى وسبع مئة: توفي أمير المؤمنين الحاكمُ بأمر الله، وكانت خلافته أربعين سنة وأشهراً، وقد عهد بالخلافة إلى ولده المستكفي بالله. وفي سنة اثنتين: رجع التتار، وخرج السلطان من مصر، ووقعت وقعة بين التتار والمسلمين، وكان عليهم أستدمر، وغزلوا [...] وبها، ونصر الله المسلمين، ثم دخل دمشق عسكر من المصريين، ثم عسكر آخر، وتجمعت العسكر بمِزَّة دمشق، ووصلت التتار [...]، ووصل السلطان للغور، واشتد الخطب، ثم جاء الخبر

أن الجيوش المحمدية بمرج الصفَّر، وبه كانت الوقعة، واستشهد الحسام الأستدار، ثم نصر الله المسلمين، ودخل السلطان والخليفة بالنصر والظفر، واستشُهد حسام الدين لاجين، وعلاء الدين الجاكي، وحسام الدين بن قرمان، وسنقر الشمسي، وشمس الدين سنقر، وعز الدين محمد، وصلاح الدين بن الملك الكامل. وفيها: توفي الملك المنصور زين الدين كتبغا صاحب حماة. وفي سنة ثلاث: مات قازان مسموماً، وملك بعده أخوه خزندار محمد. وفي سنة ست: توفي الأمير بدر الدين بكتاش الصالحي. وفي سنة سبع: وقعت وقعة بين التتار وأهل جيلان، فانتصروا بعون الله. وفيها: مات سلطان المغرب أبو يعقوب يوسفُ. وفي سنة ثمان: ذهب السلطان إلى الكرك مظهِراً للحج، وإنما كان مدة بمصر [.........]، فوثب بعد أيام ركنُ الدين الجاشنكير، فتسلطن، وخُطب له، وتقلد بمشورة الأمراء، ولُقِّب: الملك المظفر. وفي سنة تسع: توجه السلطان إلى دمشق ليعود إلى ملكه، وكان قد سحب إليه جماعةٌ من الأمراء، فوصل الخمات، ثم رد، ثم بعد أيام قصد دمشق، وقد سحب إليه من دمشق عدة أمراء، فخاف الأفرم، وهمّ بالهرب، ثم أرسل إلى السلطان [.........]؛ للإعتذار، ثم

قلق، ونزح عن دمشق، ثم جاء الأمان له، ثم قدم السلطان دمشق، ثم جاءه الأفرم، فأكرمه، وأمره بمباشرة النيابة، ثم قدم نائب حماة، ونائب طرابلس، ثم نائب حلب، ثم خرجوا لقصد الديار المصرية، ثم جاء الخبر بهرب الجاشنكير، وأنه طلب مكاناً يأوي إليه، فهرب نائب السلطنة سلاَّر، ثم، السلطان على سرير السلطنة يوم عيد الأضحى، وانتصر على عدة أمراء، وأهللى منهم، واستناب بمصر سيف الدين بكتمر، وبدمشق قرا سنقر، ثم قدم قبجق على نيابة حلب، وبهادر على طرابلس. وفي سفة عشر: قدم أستدمر على نيابة حماة. وفيها: مات بهادر بطرابلس، وقبجق بحلب، فناب بحلب أستدمر وبحماة عماد الدين إسماعيل بن صاحب حماة، وبطرابلس الأفرم. وفي سنة إحدى عشرة: نقل قرا سنقر من نيابة دمشق إلى حلب، وولي كراي المنصوري دمشق، ثم عزل، وقيد، وأمسك قطلبك نائب صفد، ثم ولي نيابة دمشق جمال الدين أقوش. وفي سنة اثنتي عشرة: سحب أمراء إلى الأفرم نائب طرابلس، ثم ذهبوا إلى ملك التتار، فاحترمهم. وفيها: مات صاحب ماردين الملكُ المنصور، وكانت دولته نحو العشرين سنة، وولي بعده ابنه على [........]، فولي بعده أخوه الملكُ الصالح.

وفيها: أمسك عدة أمراء من دمشق، ومصر [.........] تنكز الناصري على نيابة الشام، وولي نيابة مصر سيف الدين أرغون. وفيها: أقبلت التتار [.........]، ثم رجعوا، ثم قدم السلطان دمشق، ثم توجه إلى الحج. وفيها: مات ملك القبجاق، وتسلطن بعده ابنُه أزبك جان، وهو مسلم. وفي سنة ثلاث: قدم الملك الناصر من الحج إلى دمشق، ثم سافر إلى مصر. وفيها: توفي علاء الدين بيبرس العديمي. وفي سنة أربع: توفي نائب حلب سيفُ الدين، وولي بعده علاء الدين الكبتغا، وقدم سلطان جيلان شمس الدين [........] الحج، فمات، ودفن بقاسيون. وفي سنة خمس عشرة: سار سيف الدين تنكز بالعسكر المصرية والشافعية إلى مطلية، فأخذها. وفيها: مات سلطان الهند علاء الدين محمود، وتملك بعده ابنُه غياث الدين. وفي سنة ست عشرة: مات صاحب السر [.........] المغلي، وملك بعده ولدُه أبو سعيد. وفي سنة تسع عشرة: اختلف أمراء التتار، واقتتلوا، وأفنى بعضُهم بعضاً.

وفي سنة عشرين: تسلطن الملك الناصرُ صاحبُ حماة عمادُ الدين إسما عيل، ولُقِّب: المؤيد. وفيها: وقعت بين المسلمين والفرنج وقعة ببلاد المغرب، وكان الفرنج تزيد على المسلمين بأكثر من مئة مرة، ونصر الله المسلمين، ثم وقعة أخرى بالمغرب، ونصرهم الله. وفي سنة إحدى وعشرين: توفي صاحب اليمن الملكُ المؤيدُ بن داود بنِ الملك المظفر، وكان دولته بعضاً وعشرين سنة. وفي سنة خمس وعشرين: مات ركنُ الدين بيبرس المنصوري. وفي سنة ثمان وعشرين: قتل مقدَّم المغل جوبان. وفي سنة إحدى وثلاثين: توفي صاحبُ المغرب السلطان أبو سعيد، وكان دولته اثنتين وعشرين سنة. وفي سنة اثنتين وثلاثين: توفي صاحب حماة الملك المؤيد عماد الدين، وتسلطن بعده ولدُه علي، ولقب بالأفضل. وفي سنة ثلاث: توفي سيف الدين بكتمر، وابنه الأمير أحمد. وفي سنة ست وثلاثين: توفي صاحب المشرق القان أبو سعيد، وكان دولته عشرين سنة. وفي سنة سبع: قتل علي، وسار الملك موسى بن علي من [.........] التتار، وكان قامت دولتهما أقل من نصف سنة. وفي سنة تسع وثلاثين: توفي سيف الدين كجكن المنصوري.

وفي سنة أربعين: توفي أمير المؤمنين المستكفي بالله، وكانت خلافته تسعاً وثلاين سنة، وبويع بعده لأخيه إبراهيم، ولقِّب [...]. وفي سنة إحدى وأربعين: قبض على الأمير سيف الدين تنكز نائب الشام، واعتقل بالإسكندرية أياما، ثم قُتل، وولي بعده نائبُ حلب علاء الدين الطنبغا. وفيها: مات السلطان الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون عن بضع وخمسين سنة، وعهد إلى ابنه الملك المنصور أبي بكر. وفي سنة اثنتين وأربعين: بويع الخليفة الحاكمُ بأمر الله أبو العباس أحمد بن المستكفي بالله سليمان العباسي، وكان وليَّ عهدِ أبيه، وقبض السلطانُ المنصور على الأمير سيف الدين بشتك الناصري، وغيرِه من الأمراء، فاتفق الأمراء على خلعه، فخلعوه، وحبس بقُوص، ثم قتل، وكانت دولته نحو السبعين يوماً، وأقاموا أخاه الملكَ الأشرفَ كجك، فسلطنوه، وهومميز، وكان أخوه الملك الناصر أحمد بالكرك، فسار إلى القاهرة، ثم خلع الأشرف، وكانت ولايته نحو سبعة أشهر، و [......] الملك الناصر أحمد، وولّى الفخري نيابة دمشق، ثم قبض عليه بالطريق، فقتله، ثم قتل الطنبغا نائب الشام، وجماعة من أمراء المصريين. وفيها: مات أرنبغا الناصري، وقُتل قونصون الناصري. وفي سنة ثلاث: أرسل الأمراء إلى الملك الناصر أن يعود من الكرك

إلى القاهرة، فلم يجبهم، فاضطربت آراؤهم، ثم خلعوه، وعقدوا الملك لأخيه الملكِ المظفرِ إسماعيل، وكانت دولة الناصر نحو خمسة أشهر، وولي نيابة دمشق علاءُ الدين أيدغمش الناصري، فأقام نحو ثلاثة أشهر، ومات، وولي بعده سيفُ الدين طقزتمر الناصري. وفي سنة خمس وأربعين: قبض على الملك الناصر أحمد بالكرك، وقتل. وفيها: مات الأمير سنجر الجاولي المنصوري. وفي سنة ست وأربعين: توفي السلطان الملك الصالح إسماعيل بنُ الملك الناصر، واستقر أخوه الملك الكاملُ شعبان، وكانت دولته ثلاث سنين، وثلاثة أشهر، ولما ولي الكامل، شرعَ في تفريق كبار الأمراء، فجهز سيف الدين الملك إلى صفد بعد نيابة مصر، وسيف الدين قماري إلى طرابلس، وسيف الدين طقزتمر إلى مصر، والحاج رقطة إلى حلب، وسيف الدين يلبغا اليحياوي إلى دمشق بعد حلب، وسيف الدين آق سنقر إلى مصر بعد طرابلس، وحسام الدين طرنطاي إلى دمشق، وسيف الدين طقتمر إلى حمص. وفيها: توفي نائب حمص سيف الدين طقتمر، وسيف الدين آياز نائب غزة، والأمير جنكلي، والأمير سيف الدين قماري، والأمير سيف الدين نائب صفد، والأمير سيف الدين ألمش. وفي سنة سبع وأربعين: خُلع السلطان، واعتُقل، وتملك بعده أخوه الملكُ المظفر حاجي، ثم خُنق الكامل بعد خلعه.

وفي سنة ثمان وأربعين: جاء الخبر إلى دمشق بمسك جماعةٌ من كبار الأمراء، منهم: آق سنقر، والحجازي تتمة ستة، فجمع نائب الشام بلبغا الأمراء، واستشارهم، فاختلفوا عليه، فكتب إلى النواب، فأجابه بالطاعة نائبُ حلب أرغون شاه، فتحول نائبُ دمشق إلى القصر، فكتب إليه يتوجه إلى القاهرة، وأعطى أرغون نيابة دمشق، ثم خرج ومعه جماعةٌ من الأمراء إلى القبيبات، ثم ظهر إليه عسكر دمشق، فهرب، ثم أمسك، ثم قتل. وفيها: مات الأمير قلاوون الناصري، والأمير نجم الدين بن الزيبق، والأمير حسام الدين طرنطاي. وفيها: قُتل السلطان الملكُ المظفر، وولي بعدَه أخوه الملك الناصر حسن، وكانت دولته خمسة عشر شهراً. وفي سنة تسع وأربعين: توفي الأمير محمد بن طولو بغا السيفي. وفي سنة خمسين وسبع مئة: قدم الأمير سيف الدين ألجي بغا المظفري نائب طرابلس إلى دمشق مختفياً في جماعةٌ من أصحابه، فنزل ليلاً على الأمير فخر الدين إياس الذي كان نائبَ حلب، وكان نائبُ دمشق سيفُ الدين أرغون شاه تلك الليلةَ بالقصر، فتلطف ألجي بغا وإياس بالبوابين، ففتحوا، ودخلوا باب القصر، فطرقوه بزعجة، فخرج أرغون شاه مسرعاً، فقبضوه، وسحبوه إلى خارج القصر عند المنيبة، فذبحوه، وأمسكوا السكين بيده، ودعوا القاضي جمال الدين الحسباني وشهود [اً]، وسألوهم: هل تعرفون هذا؟ فأنكره القاضي والشهود،

فعرّفوهم به، وأرادوهم أن يعملوا محضراً أنهم وجدوه مذبوحاً، وبيده السكين -يعنون: أنه ذبح نفسه-، فاقتنع القاضي والشهود، وأدركهم الصبح، فنصبوا خيامه بالميدان، وأخرجوا كتاباً مفتعلاً أن السلطان أمرهم بذلك، ثم منعه أمراء دمشق من الخروج حتى يكاتبوا إلى مصر، فخرج ألجي بغا بمن معه بالسيوف، وخرج حتى قدم طرابلس، ثم جاء إنكار السلطان لذلك، وأرسل يطلبه [.........]، وخرج ركب العساكر خلفه، وقبضوه، وأتي به دمشق، وحبس بالقلعة [.........]، ثم جاءت المراسيم بقتلهما، فقتلا، وولي نيابة دمشق الأمير سيف الدين أيتمش الناصري. وفي سنة اثنتين وخمسين: خُلع الملك الناصر حسن، وأقاموا الملك الصالح صالح، وكانت دولته نحواً من ثلاث سنين، وتسعة أشهر، وقام بتدبر المال سنجر، وطاز، وصرغتمش، فاعتقلوا الوزير منجك، ومغلطاي، وعزلوا أيتمش من نيابة دمشق، ووليها أرغون الكاملي، وأعطوا نيابة حلب ينبغاروس. وفي سنة ثلاث وخمسين: خرج من حلب إلى دمشق، ومعه نائب طرابلس، ونائب حماة، ونائب الرحبة، ونائب صفد الأمير أحمد، ونزلوا ظاهر دمشق، وغلقت أبواب دمشق دونهم، وكان نائب دمشق أرغون الكاملي حين بلغه ذلك، حصّن أهله بالقلعة، وخرج، فنزل الرملة، فلما نزل نائب حلب ومَنْ معه على دمشق، فتح حواصل نائب الشام وغيره، واستخدم من جهات السلطنة، وعاث في الغوطة وغيرها بالنهب والفسق، فلما تحققوا خروج السلطان من مصر، رجعوا إلى

حلب، وقدم السلطان الصالح، والخليفة المعتضد، والوزير العلم بن زنبور، والأمير سيف الدين سنجر، وجماعة من الأمراء إلى حلب، فأحضروا النواب إلى دمشق، وقُتلوا صبراً، وتغيّب بيغا، فلم يقدر عليه، ثم عادوا إلى مصر. وفي هذه السنة: توفي الخليفة الحاكمُ بأمر الله أبو العباس أحمدُ بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان العباسي، وبويع لأخيه المعتضد بالله أبي الفتح أبي بكر بعهدِ أخيه. وفيها: قدم الأمير علاء الدين المارداني على نيابة دمشق عوضاً عن أرغون الكاملي. وفي سنة أربع وخمسين: توجّه الأمير عزّ الدين طقطاي إلى حلب، فأخذ أرغون نائبها، وسار نحو بيغاروس إلى أرض الروم، فأمكنهم الله منه، فأمسكوه، ورجعوا به إلى حلب، فقتلوه. وفيها: توفي الأمير سيف الدين ألجي بغا العادلي، والأمير بدر الدين مسعود أتابك الجيوش، والوزير علم الدين، ووزر بعده موفقُ الدين عبدُ الله. وفي سنة خمس وخمسين: خُلع السلطان الملك الصالح، وكانت دولته نحو ثلاث سنين، وثلاثة أشهر، وأعيد الملك الناصرُ حسن، وكانوا اغتنموا غيبة طاز حين خرج إلى الصيد، وكا [ن] هو القائم به، فلما حضر، رأى الأمور قد تغيّرت، ورسم له الناصر نيابة حلب، وطلب الأمير سيف الدين أرغون الكاملي نائب حلب إلى القاهرة،

فحضر، فاعتُقل بالإسكندرية، وذهب طاز إلى حلب، وولي منجك طرابلس. وفيها: مات الأمير علاء الدين مغلطاي النوري، والأمير سيف الدين أيتمش الناصري. وفيها: مات صاحب [....] الشيخ حسن. وفي سنة ست وخمسين: مات خلق من الأمراء، منهم: الجمدار الناصري، وقردم، وملك آص، وسيفاه، وابن الطبال، وقجا، ووالي الولاة ناصر الدين بن الزيبق. وفي سنة سبع: أفرج عن الأمير سيف الدين أرغون الكاملي. وفيها: مات الأمير بكتاش الظاهري نائب بعلبك. وفي سنة ثمان: وثب بعض الجند على الأمير سيف الدين شيخون، فضربه بحضرة السلطان والأمراء، وحصل بذلك خبطة، وتعلل منها أياماً، ومات. وفيها: مات سيف الدين أرغون الكاملي. وفي سنة تسع وخمسين: اعتُقل الأمير طاز نائبُ حلب بالكرك، ونُقل سيف الدين منجك من نيابة طرابلس إلى حلب، وقُبض على صاحب دمشق الإسماعيلي، واعتُقل بقلعة صرخد، ثم أفرج عنه، وصُرف علاء الدين المارديني عن نيابة دمشق إلى نيابة حلب، وقدم سيف الدين منجك من حلب على نيابة دمشق. وفيها: قبض على الأمير سيف الدين صرغتمش الناصري، ثم

قبض على الأمير ناصر الدين محمد بن الأقوش نائب حمص، وعلى أخويه: سيف الدين الحاجب، وأمير حاج، ثم أفرج عنهم، وقبض على أستدمر العمري نائب حماة، ثم صرف الأمير منجك من نيابة دمشق إلى نيابة صفد، وقدم الأمير شهاب الدين أحمد بن صالح حاجباً إلى دمشق عوضاً عن الإسماعيلي. وفيها: مات صاحب المغرب السلطان أبو عنان. وفي سنة ستين وسبع مئة: دخل الأمير علاء الدين المارداني نيابة دمشق، ثم قبض عليه، ثم أُعطي نيابة صفد، وولي بعده نيابةَ دمشق سيفُ الدين أستدمر، وقدم الأمير بيدمر من مصر إلى دمشق يتقدمه ألف، وأضيف إليه عدّة جهات، وحجوبية الحجاب، وقُبض على الأمير شهاب الدين بن صبح الحاجب، وصُرف منجك من نيابة صفد، وأُخذ إلى القاهرة، فهرب عند غزة. وفيها: قدم الأمير سيف الدين آقطر نائب طرابلس، واعتُقل بقلعة دمشق، ثم نقل إلى الإسكندرية، وكذلك اعتُقل على نائب حماة. وفيها: قُبض على عدة من الأمراء، واعتقلوا بقلعة دمشق، وصُرف صاحبُ دمشق بالأمير شهاب الدين بن القيمري، ونُقل بيدمر إلى نيابة حلب. وفيها: مات الأمير صفي الدين البصراوي. وفي سنة إحدى وستين: ظهر الأمير سيف الدين منجك، و [........] بالشرف الأعلى، فتوجّه إلى القاهرة، فعاقبه

السلطان، ثم منّ عليه وأطلقه، وسمح له أن يسكن حيث شاء. وفيها: توجّهت الجيوش الحلبية مع نائبهم، فأخذوا عدّة قلاع وحصون. وفيها: قُبض على الأمير سيف الدين أستدمر نائب دمشق، وولي بعده نيابة دمشق الأمير سيفُ الدين بيدمر، وأُعطي شهابُ الدين القيمري نيابة حلب، وأعطي الحاجب اليوسفي. وفي سنة اثنتين وستين: حين تمهّد الناصر الأمر، وأزال من يخشى منه الشر على، الرعية، واستغلّ بدنياه، [.........] عليه سيف الدين يلبغا الناصري، وأقام ابنَ أخيه الملك المنصورَ صلاحَ الدين محمد، وحلفت له الأمراء، وأُخذ الناصر، فعُذِّب حتى هلك، وكانت دولته في المرة الثانية ستَّ سنين، وسبعة أشهر، وكان نائب الشام سيفُ الدين بيدمر الخوارزمي في أنفس المصريين منه؛ لتقدمه عند الناصر، وجُعلت نيابة طرابلس لسيف الدين تومان، ونُقل تمر من نيابة غزة إلى حجوبية دمشق، وأُفرج عمن كان اعتقلهم الناصر من الأمراء، وهم: نائب صفد، ونائب حماة، ونائب طرابلس، ونائب دمشق، وأخرج الأمير سيف الدين طاز إلى القدس، وكان الناصر اعتقله بالكرك، وأكحله، وتوافق النياب مع نائب الشام [.....] القلعة، ثم أرسل جيشاً إلى جهة غزة، يحفظوا له ذلك الوجه، ثم خرج بمن بقي من الأمراء، ثم خالفوا عليه، وتفرقوا عنه، ولم يبقَ معه سوى منجك، وأستدمر، وجبرائيل، وخرج المصريون في خدمة السلطان والخليفة المعتضد، ووصل الكسوة، وتحصن النائب

ومَنْ معه بالقلعة، وغُلقت أبواب البلد، وأعطي الأمير علاء الدين المارداني نيابة دمشق، ثم سعى في الصلح، فنزلوا من القلعة بالأمان إلى وطاقِ الأمير سيف الدين يلبغا، فأمر بتقييدهم، وأُخذوا إلى القصر، ودخلت العساكر المصرية والشامية، ودخل السلطان القلعة، ثم قبض على جماعةٌ من أمراء الشاميين، وخرج ببعضهم معه إلى القاهرة، وأراد بعضُ أمراء القاهرة إقامةَ حسين بن الملك الناصر في الملك، فلم يتمَّ لهم ذلك، واستقرت نيابة الشام للمارديني، وطيزق على نيابة حماة، وسيف الدين الأحمدي على نيابة حلب، وتومان على حمص، وتلكتمر المحمدي على طرابلس، وزين الدين على زبالة على نيابة القلعة. وفي سنة ثلاث وستين: فيها مات الخليفة أمير المؤمنين المعتضدُ بالله أبو الفتح أبو بكر العباسي، وكانت خلافته نحو العشر سنين، وبويع لولده المتوكل على الله حمزةَ بعهدٍ من أبيه. وفيها: أُفرج عن الأمراء المعتقلين بالإسكندرية، وقلعة دمشق. وفيها: عُزل المارديني عن دمشق، وأُعطيت دمشق لسيف الدين قشتمر، ثم هرب أمير العرب صولة من القلعة، وصُرف النائب على نائبُ القلعة، وعزله وضربه، واستقر على نيابة القلعة سيفُ الدين بهادر العلائي. وفيها: مات سيف الدين طاز. وفي سنة أربع وستين: خلع السلطان الملك المنصور، وكانت مدته ثلاث سنين، وثلاثة أشهر، وولي عوضه الملكُ الأشرفُ زينُ الدين شعبان بن حسين بن الناصر، وصُرف سيف الدين قشتمر عن دمشق،

وأُقر على نيابة صفد، وأُعطيت دمشق لسيف الدين منكلي بغا الناصري. وفيها: توفي الأمير حسين بن الناصر. وفيها: توفي صلاح الدين خليل الناصري، والأمير ناصر الدين بن صلاح الدين، ولم يزل الملك الأشرفُ شعبانُ بن حسين إلى أن قُتل خنقاً يوم الاثنين، خامس ذي القعدة، سنة ثمان وسبعين وسبع مئة، وتولى عوضه أخوه الملكُ الصالح أمير حاج. وفي سنة أربع وثمانين: جمع سيف الدين برقوق القضاة والعلماء، والأمراء والأعيان، وفيهم أميرُ المؤمنين المتوكلُ على الله بن المعتضد بالله العباسي، وذكر لهم أن الأمور مضطربة، وأن الوقت يحتاج إلى سلطان كبير، فوقع الإختيار على سيف الدين برقوق؛ لما فيه من المصالح الخاصة والعامة، وبايعوا الخليفة، وولاه، وتلقب بالملك الظاهر أبو سعيد سنة أربع وثمانين، وولّى شيخون نيابة السلطنة بمصر، وقطلوبغا الكوائي حاجباً، ونائب دمشق بيدمر الخوارزمي، ونائب حلب يلبغا الناصري، وكان الحاكم ببلاد تبريز وبغداد السلطان أحمد بن أويس، وببلاد، الظاهر عيسى بن الملك المظفر، وبالبلاد الشمالية قتمش جان، وفي سمرقند بلاد ما وراء النهر تمرلنك، وفي [......] وتوابعها [.......]، وفي قونية الأمير علاء الدين بن [........]، وفي المدينة النبوية حجاز بن هبة، وفي مكة أحمد بن عجلان. وفي سنة خمس وثمانين: أُعطي تمرباي الدمرداس

نيابة [......] عوضاً عن [......]، وأعطي نيابة حماة، ثم عزل عنها [.......] سنجق. وفيها: أمسك السلطانُ الخليفةَ المتوكلَ على الله، وقَيَّده، وحبسه في القلعة، وأمسكَ من بلغه اتفاقُهم معه، فوسّط بعضهم، وحبس بعضهم، [.......] عمر ابن عم الخليفة خليفة، ولُقِّب بالواثق بالله عوضاً عن المتوكل على الله، ثم أُفرج عنه، وسكن القلعة. وفيها: كانت وقعة بين نائب حلب والتركماني. وفي هذه السنة: توفي قطلوبنا الكوكائي، والأمير بلاط الصغير، والأمير عز الدين، والأمير ناصر الدين بن أيبك. وفي سنة ست: ولي نيابةَ طرابلس كمشبغا الحموي، وقرا بلاط الأحمدي نيابةَ الإسكندرية. وفيها: توفي الأمير طشمتر، وكان قد ولي نيابة الشام، والأمير بهادر الجماني، والأمير جمال الدين عبد الله الناصري. وفي سنة ثمان وثمانين: أخذ تمرلنك مدينة تبريز، ووقعت وقعة مع التركمان قُتل فيها سودون العلائي نائبُ حماة، وولي مكانه سودون العثماني. وفيها: خُلع السلطان علا زكري بن إبراهيم بن الإمام المستكفي بالله أبي عبد الله محمد بن الحاكم بأمر الله، واستقر خليفة، وذلك بعهد عن أبيه المعتضد بالله أبي الفتح أبي بكر [........] عوضاً عن أخيه الواثق بالله بحكم وفاته، ولُقِّب بالمستعصم بالله.

وفيها: قتل سلطان مكة أحمدُ بن عجلان، قتله ولدُه، وكان تولّى هذه السنة بعدَ موت أبيه أحمد. وفي هذه السنة: توفي الواثق بالله أبو حفص عمرُ العباسي، وولي بعده زكري بن إبراهيم. وفي سنة تسع وثمانين: كان نائب دمشق أشقتمر المارداني، وبحلب سودون المظفري. ثم في هذه السنة: تولى نيابة دمشق الطنبغا الجوباني؛ لضعف أشقتمر، وولي نيابةَ الوجه القبلي عوضاً عن بيدمر الشمسي [........]. وفيها: ولي نائب بن نعير الحسيني المدينة النبوية [.......]. وفيها: استقر ناصرُ الدين بن مبارك نائب حماة عوضاً عن سودون العثماني. وفيها: تحرك تمرلنك، وأرسل السلطان يونس الدوادار بعسكر إلى ناحية حلب. وفيها: [.......] نائب ملطية، وعصا معه صاحب سبوائين، وقرا محمد [........] ألماجارني نائب البيرة، ويلبغا المنجكي، والطنبغا الأشرفي، وأسندمر الشرفي بن يعقوب شاه، فوجه لهم السلطان عسكراً في هذه السنة، وكانت النصرة لعسكر السلطان.

وفيها: استقر [......] الطيبي نائب الوجه القبلي عوضاً عن مبارك شاه. وفيها: استقر تبخاص [..........] في نيابة صفد عوضاً عن أركماس؛ بحكم وفاته. وفيها: ذكر عن الجوباني نائب دمشق: أن قصده المخامرة والعصيان، فأرسل أمراء دمشق يعرفون بذلك، ووقع بينه وبين طرنطاي نائب دمشق، فلما علم الجوباني بذلك، طلب الحضور [........] له، فلما حضر، أرسل إليه فارس الصرغتمش، فمسكه، وأخذ إلى سجن إسكندرية، وأُعطيت نيابة الشام لطرنطاي الحاجب. وفيها: أمسك الطنبغا المعلم، وقردم الحسني. وفيها: أمسك كمشبغا الحموي نائب طرابلس، فأعطي حاجبها أسندمر نيابتها. وفيها: توفي بهادر المنجكي. وفي سنة إحدى وتسعين: كانت وقعة مع التركمان. وفيها: محاصرة يلبغا الناصري نائب حلب، وقتل سودون المظفري. وفيها: توجه منطاش إلى حماة، وفيها سودون العثماني، فهرب منها، وملكها بيرم العربي، ثم تولها منطاش. وفيها: أُعطي إينال اليوسفي نيابة حلب عوضاً عن يلبغا الناصري.

وفيها: توجه عسكر نصر، وكسرهم سيف الدين أيتمش النحاس إلى حلب، فحاصره الناصري. وفيها: أعطي طغيتمر القبلاوي نيابة طرابلس. وفيها: كانت وقعة العسكر المصرية والشامية على برزة، وقتل جركس الخليلي وغيره، وقتل يونس الدوادار، ثم توجه الناصر إلى القاهرة، فوصل إلى الصالحية، وسحب إليه عدة أمراء، ثم لم يزل يسحب إليه الأمراء حتى لم يبق مع السلطان إلا القليل، ثم طلب الأمان، ثم تغيب، ودخل الناصري القاهرة، ثم اتفق رأيهم على سلطنة الملك المنصور حاجي بن الأشرف شعبان بن حسين بن قلاوون، ولَقَّبوه: المنصور، وكان لقبُه قبل أن يخلعه الطاهر الصالح، وذلك بحضور الخليفة المتوكل على الله، وكانت مدة سلطنة برقوق ست سنين، وخمسة أشهر، وسبعة عشر يوماً، ثم تولى كمشبغا الكبير نيابةَ حلب، وبزلار نيابةَ دمشق، وقطلوبغا الصفوي نيابةَ صفد، وسنجق نيابةَ طرابلس، وبقاجق نيابةَ ملطية، وكمشبغا الأشرفي نيابةَ قلعة الروم، وأحمد بن المهندار نيابة حماة، وطقنجي نيابة البيرة، وتمان تمر نيابة بهسنا، والأبغا نيابة سيس، وأطلق الأمراء المعتقلين بإسكندرية، وأمسك الأمراء الظاهرية، وأطلق الطنبغا الجوباني، والطنبغا المعلم، وقردم الحسني، وأمسك سودون الطرنطاي في خلائق من الأمراء، ثم وجه السلطان الظاهر إلى الكرك، واعتقل عليه بها. وفي شعبان تضاعف الأمير منطاش الأفضلي، فدخل عليه الجوباني ليعوده، فأمسكه هو وجماعة، وخرج، وتظاهر بالشر، ووقع القتال،

ووقعت وقعات، وظفر فيها منطاش وتسحب إليه أمراء وناس ومماليك، ثم أمسك منطاش جماعةٌ من الأمراء [........] إلى الإسكندرية من مقدمي الألوف ثمانية، ومع الناصري تسعة، ومن الطبلخانات سبعة، وممن أطلق من الاعتقال ممن كان من الطبلخانات، وأخذوا من العشراوات سبعة، ثم أمسك بعد ذلك جماعات كثيرة، ثم أعطي دمرداش القشقري بنيابة الكرك عوضا عن حسين الكحكي، ثم أبطله من يومه، ثم ولّى أمراء بصفد وطرابلس، وأعطى قطلوبك للنظامي نائب صفد عوضاً عن قطلوبغا الصفوري، ومبارك شاه نائب الوجه القبلي. وفي هذه السنة: كثر فساد الزُّعر والحرامية، وولي أبو بكر بن مرزوق والي الشرقية عوضا عن أقبغا [.......]، وأعطى ركن الدين بن حطاب والي الغرمية. وفيها: أمسك بزلار نائب الشام، وولي عوضه جنتمر أخو طاز، وجعل أستدمر العلائي نائب الإسكندرية عوضاً عن أمير حاج. وفي رمضان قرّر أمراء كثر، وأنفق أموالاً كثيرة، ثم إنه وجه من يقتل الملكَ الظاهر برقوق بالكرك، فكتب إلى نائب الكرك أن يقتل برقوق، وكتب إلى نائب قلعتها بمسك نائبها وقتله إذا قتل برقوق، فغلط القاصد، وأعطى كتاب كل واحد للآخر، فلما دفع الكتاب إلى نائب الكرك، قال: إن الكتاب الآخر، فأخذ الكتاب الذي فيه قتلُ الظاهر، وأتاه ودفعه إليه، فقال الظاهر: حتى أصلي ركعتين، وافعلْ ما أُمرت به، فقال له: لا أفعل شيئاً، وما أموت إلا من يديك، وأراه الكتاب الآخر، ثم تحالفا على الوفاء والصدق، ثم قتل البريدي، ثم وافقه

بعض أعيان الكرك والعربان، وأعطوه خيول [اً] ودراهم، ثم إنه قوي، وقصد دمشق، وأراد منطاش أن يجهز له عسكراً، فوجه رجلاً من الأعراب إلى مصر أن العرب قد أحاطوا به، وكانت منه مكيدة؛ ليجهز ناساً يتقوّى بهم في الإدراك، ثم إنه سحب إليه خلائق من الأمراء، وسار إليه عسكر، منهم: نائب صفد، ونائب حماة فكسر مرتين، ثم نصره الله، وقتل في هذه الوقعة تبازك شاه الطازي، وأطلش، وطشبغا الحاجب. وتوجه إلى مصر جماعةٌ من الأمراء، منهم: نائب صفد، ونائب حماة، ومحمد شاه الخوارزمي نائبُ الشام، ويلبغا العلائي، وأضاي الأشرفي. ثم بعد هذه الوقعة وقعت وقعة أخرى له مع ابن باكيش نائب غزة عند قبة يلبغا، ونصر الله الظاهر، وهرب نائبُ غزة، فأخذَ جميع ما معهم، وأمر أن يسلب كل من [.......]، ولا يقتل أحداً، ثم إنهم هجموا على دمشق من فوق المزة؛ لأن دمشق كانت دريت، فخرج إليهم الأعراب والناس من كل وجه بالحجارة والمكاحل، فأقلقوا العسكر [الطا .....]. وهرب أكثرهم، ولم يبقَ الظاهرُ إلا في نفر قليل، ونهبهم العوامّ، ولم يبقَ له ختمُه، ثم إنه ولّى، وجاء إلى القبة، واجتمع إليه المنهزمين [.......]، حتى تحدث ابنه إليهم إينال اليوسفي، وفحماس ابن عم الظاهر، فانصلح حاله، وقويت قلوبهم، وجعلوا يقاتلون من أطراف دمشق.

وفي يوم عيد الأضحى قاتل العسكر الظاهري قتالاً شديداً، وقتل خلائق من أهل دمشق، ثم جاءه كمشبغا الحموي نائبُ حلب بالعساكر الحليفة نصرةً له، ونصب للسلطان ختمة سلطانية، ومعه الأموال [......] الظاهري، وكان معه عدة من الأمراء الكبار، وكان منطاش قد أمسك سودون الشيخوني وغيره بمصر. وفي رمضان قعد منطاش للقصص والحكومات، ثم خرج منطاش والملك المنصور حاجي ابن الأشرف الذي أقامه بالعساكر المصرية طالبين الظاهرَ برقوق، واتفق منطاش على العسكر، ومعه الخليفةُ المتوكل على الله، والقضاة، وعمل نائب الغيبة صراي تمر السبعي، ونائب غيبة القلعة بكار الأشرفي، ونائب غيبة القاهرة قطلوبغا الحاجب. وتوفي هذه السنة من الأمراء: قرا محمد أخوبيرم، والأمير زامل بن مهنا أمير آل فضل، والأمير أشقتمر نائبُ دمشق، والأمير بزلار العمري نائبُ دمشق، والأمير جركس الخليلي، والأمير يونس التوروزي. وفي سنة أربع وتسعين: استهلّت والملكُ المنصورُ حاجي الأشرف، والخليفة المتوكل على الله، وأتابكُ العساكر الحاكم منطاش على سفر الشام لأجل الظاهر برقوق، ونائب الشام جنتمر محصور معه، ونائب حلب كمشبغا معه، وهما بعساكرهما على دمشق، والناس في الخُطَب مختلفون، فمصرُ ودمشقُ يخطبون للمنصور، والكركُ وغيرُها يخطبون للظاهر، وفي مواضع يخطبون باسم الخليفة، ولا يذكرون سلطاناً، والأمر مخبط، والأحوال موقوفة، والبلاد غيرُ آمنة.

وفيها: انتصر الظاهر على منطاش، وأمسك الخليفة والمنصور، وتوجه إلى القاهرة، ثم تسبب جماعةٌ من جماعةٌ الظاهر، وظفروا بحرب منطاش، وقويت شوكتُهم، وحبسوا [.......] مَنْ كان ولّاه منطاش، وخطب باسم الظاهر برقوق، وخرج من الجيوش عدة من مماليكه وحزبه، وطلب جماعةٌ من المنفيين، وأمسك جماعات من حزب منطاش، وأخذت القاهرة كلها لبرقوق قبل دخوله، ثم دخلها بغير قتال. وفي المحرم كانت وقعة شَقْحَب بين الظاهر والعسكر المصري، وفيهم: الملك المنصور، والخليفة، ومنطاش، وانتصر الملك الظاهر، وكسرت ميمنة الظاهر، وفيها كمشبغا الحموي، فلم يزل على رأسه إلى أن وصل إلى حلب، وكسر منطاش، وتوجه إلى دمشق، وأمسك الظاهرُ الخليفةَ والمنصورَ، ثم تراجع العسكر إليه، وأضاف إليه غالب جماعةٌ منطاش، ثم قصد دمشق، فخرج إليه منطاش بالعساكر، فوقعت وقعة أخرى أكبر من وقعة شقحب، وانكسر منطاش والعسكرُ الشامي، ثم رجع، فأقام على شقحب، واستناب على صفد الجرجاوي، وأقبغا الصغير بعده، وقديد القملطاوي بالكرك، ثم قصد الديار المصرية، ومعه المنصورُ والخليفةُ والقضاة، وكان ممن قُتل: بطرنطاي الذي كان نائب دمشق، وجركس المحمدي، ومحمد بن قرطاي، ثم نزل المنصور للظاهر عن السلطنة، وولَّاه الخليفة، ثم حصل لمنطاش وقعةٌ أخرى، وانكسر، وتوجه إلى دمشق. وفي صفر وصل الظاهر إلى الصالحية، ثم طلع إلى القلعة،

وصحبته الخليفة، والملك المنصور، ثم جددت له البيعة، وقلده الخليفة، وكانت مدة غيابه عن السلطنة ثمانية أشهر وثمانية أيام، ثم أرسل يحضر الأمراء المعتقلين بالإسكندرية، وأطلق عدة من الأمراء والمماليك، ثم قدمت عليه الأمراء المسجونين، ثم أعطى إينال اليوسفي أتابك العساكر، ويلبغا الناصري أمير سلاح، والطنبغا الجوباني رأس نوبة العرب، وسودون الشيخوني نائب السلطنة بمصر، وكمشبغا الخاصكي أمير مجلس، ونطا دويدار كبير، وقمرقماس الطشتمري أستدار العالية، وتولى جماعات على باقي الوظائف، ثم أخلع على الطنبغا الجوباني نائب دمشق، وقرا مرداس نائب طرابلس، ومأمور نائب حماه، وأرغون العثماني نائب إسكندرية، والأبغا العثماني حاجب دمشق، وأستدمر السيفي حاجب طرابلس، ثم حصل تغيرات وأمور يطول شرحها. وأما كمشبغا فإنه لما هرب ووصل إلى حلب وقعت أمور، ودخل القلعة، وجرت له وقائع عظيمة ومحاصرات، ثم نزل من القلعة وجرى له محاصرات، وقتل وظفر، ثم إن كمشبغا عمر قلعة حلب، وحصنها وادخر بها المؤنة، وعمر أسوار حلب التي كان هدمها هلاوو، وحدد أبوابها، واستمر بحلب يأمر وينهى، ويعزل ويولي إلى أن حضر تائباً، ثم خلص. وأما منطاش فلما انكسر ورجع إلى دمشق أقام بها، ثم أرسل عسكراً إلى صفد ليأخذها، فجاء من أمراء العسكر وذهبوا إلى السلطان الظاهر، ثم أرسل إليها عسكراً آخر فكسروا عسكر صفد، ثم كسرهم بعد ذلك،

ثم إن الظاهر جهز جيشاً صحبة يلبغا الناصري وغيره لقتال منطاش، وكذلك الطنبغا الجوباني نائب دمشق، وقرا مرداس نائب طرابلس، ومأمور نائب حماة، ولما سمع منطاش بذلك خرج من دمشق بعد أن قتل أعيان المحبوسين، ووسط ناصر الدين بن المهندار، وترك القلعة خالية، وأخذ الأموال التي جمعها، ثم بعد هربه دخل الجوباني بمن معه دمشق، ثم نزلها بقية العسكر مع يلبغا النصاري، ثم حاصر على منطاش نحو مئتي نفر، ثم خرجت العساكر وراءه من دمشق فالتقوا معه، وكان معه من العرب [...] بين حمص وجوستا، وقتل نائب حمص، ثم بعده وقع قتال عظيم، وكانت الكسرة على عسكر السلطان، وقتل خلائق منهم الجوباني، وأسر جماعةٌ من الأمراء كنائب حماة، وأقبغا الجوهري، والطنبغا الأشرفي، ومنكلي الشمسي، ثم وسط منطاش الجوهري، ومأموراً، وأما الناصري فسلم، وجمع المنكسرين ودخل إلى الشام، ثم ركب على عرب آل على فقتل منهم خلائق ونهبهم، ثم ولي الناصري نيابة دمشق عوضاً عن الجوباني، ثم إن جيش السيفي كمشبغا توجه نحو طرابلس ليعلم [...]، فأخذه العرب وأتوا به منطاش فقتله، ثم دخل منطاش حمص وصادر أهلها، ثم سار بمن معه من العربان إلى حلب ونازلوها وحاصروها وقطعوا الماء عنها، ووقع في أهل حلب الحصار الكبير، ثم حصل الصلح بينهم وبين العرب، ورحل العرب، [...] منطاش ورحل عنها، ونهب في الطريق إلى أن وصل إلى [...]، فاتفقا على التوجه إلى عينتاب، فقتل ونهب بمن معه، وحاصر قلعتها مدة، ثم قصد الناصري، فهرب بمن معه.

وفي هذه السنة: توفي أمير حاج ولدُ الملك الظاهر، والسلطان أبو حمو بن يوسف صاحب تلمسان، وكانت دولته إحدى وثلاثين سنة، قتله ولدُه، وملك بعدَه، والسلطان محمد بن أبي الحاج، وتولّى بعده أبو الحجاج، والأمير الطنبغا الجوباني نائبُ الشام، والأمير مأمور نائب طرابلس، والأمير أقبغا الخويصري حاجبُ حلب، والأمير جبق السبقي، [و] كمشبغا الحموي، والأمير تمرثاني الحسني صاحبُ مصر، والأمير قرابغا الأتوبكري، والأمير قرقماش الطغشتمري، والأمير حسن قجا السبعي أرغون شاه، والأمير [.......] الطيبي، والأمير ناصر الدين بن المهندار، والأمير ناصر الأشرفي نائب بهسنا، والأمير لغتنمر، والأمير يونس الأسعردي، والأمير قازان المنجكي، والأمير تنكز العثماني، والأمير أردوبغا العثماني، والأمير عيسى بن سمصمص التركماني، والأمير أقبغا، والأمير سيف الدين طولوبغا الأحمدي، والأمير سيف الدين بغداد، والأمير عبد الرحمن بن منكلي، والأمير [.......]، وغيرهم كثير. وفي سنة اثنتين وتسعين: أمسك جماعة من الأمراء قطلوبغا الطشتمري، وطقطاي الطشتمري، والأبغا الطشتمري، وأقبغا الألجاوي، وقبغا الألجاوي، ومحمد شاه بن بيدمر الخوارزمي، وطنبغا الألجاوي، ومنجك الزيني، وأرغون شاه السبعي، وجنزبك الخوارزمي، وصنجق الحسني، وصراي تمر الشريخر ابن أستدمر التونسي رأس نوبة منطاش، وأقبغا الطريق القجماسي، [و] إسماعيل السيفي، وكذا القرمي، ثم أمسكوا المماليكَ الذين كانوا في خدمة

منطاش، ثم قتل صراي تمر السيفي تمر باي دوادار منطاش، وبكا الأشرفي، ودمرداس اليوسفي، ودمرداس القشتمري، وعلي الجركتموي، وقطلوبك البطامي الذي كان نائب صفد، ثم قتل جيتمر أخو طازو ولده، والطنبغا الجربغاوي، وطقطاي الطشتمري، وفتح الدين بن الشهيد، ثم غرق جماعة، ثم وسط جماعة، ثم اثني عشر من الأمراء، منهم: الأبغا الطشتمري، وأقبغا الألجاوي، وأرغون شاه السيفي تمر باي، وبزلار الخليلي، ثم منصور الحاجب، وقرابغا الألجاوي، وغيرهم، ثم جماعة، منهم: حسين بن باكيش نائب غزة. وأما منطاش، فإنه لما هرب من عين تاب، هرب إلى مَرْعَش، ثم جاء إلى حماة، فهرب نائبها إلى طرابلس، ودخل منطاش حماة فلم يسوس على أحد، ثم توجه إلى حمص، فدخلها، ولم يسوس على أحد، ثم إلى بعلبك، فهرب نائبها إلى دمشق، ثم قصد دمشق، فلما سمع الناصري بحضوره، توجه إلى الزبداني لملتقاه، فدخلها منطاش ومَنْ معه، ونزل بالقصر، ثم أتاهم الناصري، ووقع القتال بينهما، وقُتل خلائق، وأُحرقت أماكن، ثم انكسر منطاش وهرب، وهربت التراكمين الذين معه، وقتل منهم خلائق. ويقال: إن الناصري لو أراد مسكه، أمسكه، ولكنه كان في نفسه بعضُ ميلٍ إليه. ثم تجهز الظاهرُ بالعساكر المصرية لقصد دمشق، فدخلها في شهر رمضان، وأقام بالقلعة، ثم توجّه نحو حلب، فلما وصلها، بعث [......] إلى ماردين، وعسكر دمشق صحبة نائبها الناصري،

وعسكر مصر صحبة إينال اليوسفي، فهرب منطاش، وسالم الذكري إلى سنجار، فرجعت العساكر، ثم إن سالم الذكري أرسل يعرف السلطان أن الناصري أرسل إليه أن يأخذ منطاشاً، ويهرب به، فوقع في نفس السلطان من الناصري، وأنه لم يخرج من قلبه النفاق، وترك الخلاف والشقاق، ثم إن السلطان أمسك الناصري، وقتله، معه نائب حلب وجماعة، ثم عزل قراد مرداس، وولّى جلبان رأس نوبة، وعَيَّنَ بُطا أرغون نائب دمشق، وإياس [.......] نائب طرابلس، وأرغون شاه حاجب دمشق نائب صفد، وتمربغا المنجكي عوضه في الحجرتمية، ودمرداس المحمدي نائب حماة، ثم رجع إلى دمشق، وأمر بقتل الأبغا العثماني، وسودون باق، وأمر بتسمير حماة، ثم رجع إلى مصر، وقُتل فيها من الأمراء: الناصريُّ نائب دمشق، وشهابُ الدين بنُ المهندار نائبُ حماة، والأمير [.......] وقد ولي نيابة حماة، والأمير أحمد بن الحاج ملك، و [.......] حسن رأس نوبة الناصري، والأبغا العثماني، [و] جتغمر أخو طاز، وولده، وابن أخيه، وأستداره الطنبغا، ونائب طرابلس دمرداس، وصنجق الحسني، والطنبغا الحلبي، وحسين بن باكيش، وأرغون شاه، وصراي تمر، وبكا الأشرفي، وأستدمر اليونسي، ودمرداس القسيمري، وأقبغا المارداني، وخلائقُ من الأمراء غيرُهم، والملكُ المنصورُ أبرك بن الملك الأمجد. وفي السنة التالية: توفي بُطا نائبُ دمشق، وكانت مدته شهراً وعشرين يوماً، وأخلع بعده على سودون الطرنطاي، فقدم دمشق، ووُلي، وعُزل، ثم توفي في رمضان، فأقام سبعة أشهر وعشرة أيام،

وحصل له ماليخوليا، وعلل عديدة، وولي قبل وفاته بعشرة أيام كمشبغا الأشرفي، ثم أمسك جماعة من الأمراء وغيرهم. وفيها: استقر ناصر الدين الأستدار نائبَ إسكندرية عوضاً عن الطنبغا المعلم بحكم وفاته، وأخلع على كمشبغا الحموي [أ] تابك العساكر عوضاً عن إينال اليوسفي بحكم وفاته. وفيها: هجم عدة مماليك على القلعة، وقتلوا نائبها، وأطلقوا مَنْ في الحبس، وتملكوها، ثم حوصروا ثلاثة أيام، ثم أُخذوا، وقُتلوا بأجمعهم. وفيها: وقع حريق عظيم بدمشق، وتوفي فيها من الأمراء: ناصر الدين بن الحسام، والأمير إينال اليوسفي، والأمير [........] العمري، وعنقا أمير آل مري. وفي السنة الخامسة والتسعين: توفي كمشبغا نائب دمشق، وولي عوضه تنم الحسني، وإياس الجرجاوي نائبُ طرابلس أتابك الشام، وأُعطي دمرداس نائبُ حماة نيابةَ طرابلس، وأقبغا الصغير نيابةَ حماة، والطنبغا العثماني نائب غزة عوضاً عن يلبغا الأشقتمر بحكم وفاته. وفيها: أمسك أولادُ نعيرٍ منطاشاً، فضربَ نفسَه بسكين كانت معه ثلاث ضربات، وكانت عليه أردية، فلم تقتله، وأرسل به إلى نائب حلب، فسلمه نائب حلب إلى نائب القلعة، ثم أرسل السلطان بطلبه، فسلم إلى العاضد، فقرره، فلم يُقر بشيء، فذُبح، وأُخذ رأسه، وتوجه به إلى حماة، ثم دمشق، ثم مصر.

وفيها: هرب الملك المغيث أحمد خان من بغداد من تمرلنك، فتلقاه نعير، فأكرمه، ثم قدم حلب. وأما تمرلنك، فدخل بغداد، وأفسد وأخذ أموال الناس، وقتل، وحصل أمور يطول ذكرها. وفي هذه السنة: توفي السلطان عبد الرحمن صاحب تلمسان، والأمير أبو يزيد الدوادار، والأمير ناصر الدين محمد بن أقبغا آخي، والأمير ناصر الدين الخوارزمي والي قطنة، والأمير سيف الدين قطلوبغا. وفي سنة ست وتسعين: وصل الملك المغيث أحمد إلى مصر إلى الظاهر، ولما تلقاه، أراد أن يقبل يد الظاهر، فمنعه، وعانقه، وتباكيا، وقال له الظاهر: طيّب خاطرك، إن شاء الله أُجلسك على كرسي مملكتك، [......] عليه، وأركبه فرساً من جبلة، ووجهه إلى مكان أعدّه له، وأكرمه إكراماً زائداً، وأعطاه أشياء كثيرة. وفيها: كانت وقعة بين اللنكية وجماعة من عسكر السلطان على الرّها، وكانت النصرة لعسكر السلطان. ثم إن الظاهر توجه إلى الشام، ومعه الملكُ المغيث أحمد إلى أن وصل إلى دمشق، ثم خرج أحمد بن أويس متوجّهاً نحو بلاده، فلما وصل بغداد، خرج إليه نائبها الذي كان وضعه تمرلنك، فانكسر، وأطلق الماء على الأرض قدام [......]، فلم يتخلص منه، ودخل بغداد حتى هرب، وأتى تمرلنك، فجهز معه زوجته بعسكر، ثم وجّه

السلطان العساكر إلى حلب، ثم توجه بعدها، وعزل نائبها جلبان، وولّى الأمير تغربردي، وغير نائب طرابلس، ونائب صفد. وفيها: توفي السلطان أبو الحجاج صاحبُ غرناطة، وتوفي بعده ولدُه محمد، والسلطان أبو العباس صاحبُ تونس، وولي مكانه أبو فارس عبدُ العزيز. وفيها: توفي الأمير منكلي الشمسي، والأمير [......] المحمدي، والأمير زين الدين عبد الرحمن بن منكلي. في سنة سبع وتسعين: رجع السلطان من حلب إلى دمشق، فعزل وولّى، ثم توجه إلى غزة، ثم إلى قطنة، فأمسك جلبان، ثم دخل مصر، وولّى وعزل. وفيها: توفي الأمير فردم الحسني، وعلي بن عجلان صاحبُ مكة. وفي سنة ثمان وتسعين: فيها تولّى مرند القلمطاوي نيابة الإسكندرية، والخليفة المتوكل على الله وليس له نائب بمصر، ونائب دمشق تنم الحسني، ونائب حلب تغريبردي. وفي سنة تسع وتسعين: الخليفة: المتوكل على الله، وسلطان مصر والشام: الظاهر برقوق أبو سعيد، والنيّاب هم الذين في التي قبلها. وفي سنة ثمان مئة: كان الخليفة: المتوكل على الله، والسلطان: أبو سعيد برقوق الظاهر، والنياب هم الذين في التي قبلها.

وفيها: قبض على بعض أمراء. وفي سنة إحدى وثمان مئة: الخليفة: أمير المؤمنين أبو عبد الله محمد المتوكل، والسلطان: الملك الظاهر أبو سعيد برقوق، وسلطان الروم: أبو يزيد بن عثمان، واليمن: الأشرف إسماعيل، والمغرب أبو فارس. وفي سنة اثنتين وثمان مئة: الخليفة: المتوكل على الله، والسلطان: الملك الناصر فرج بن برقوق، وصاحب الروم: ابن عثمان، ونائب دمشق: تنم الحسني، وصاحب العجم: تمرلنك. وفي سنة ثلاث وثمان مئة: كانت [......]، وكان السلطان: فرج، والخليفة: المتوكل على الله، وصاحب المغرب: أبو فارس، والروم: أبو يزيد بن عثمان. وفي سنة أربع: الخليفة: المتوكل على الله، والسلطان: فرج بن برقوق، وصاحب الروم: ابن عثمان، والمشرق والعجم: تمرلنك، ونائب الشام: تغري بردي، ونائب حلب: دبرداس. وفي سنة خمس: الخليفة: المتوكل على الله، والسلطان: فرج بن برقوق، وصاحب الروم: ابن عثمان، وصاحب المشرق والعجم: تمرلنك، ونائب دمشق: شيخ المحمودي. وفي سنة ست: الخليفة: المتوكل على الله، والسلطان: فرج بن برقوق، وصاحب الروم: أبو يزيد بن عثمان، والعجم والمشرق: تمرلنك، وصاحب المغرب: أبو فارس، ونائب دمشق: شيخ المحمودي.

وفي سنة سبع: الخليفة: المتوكل على الله، والسلطان: الناصر فرج بن برقوق، وصاحب الروم: ابن عثمان، وبلاد العجم والعراق: تمرلنك، والمغرب: أبو فارس. في سنة ثمان: الخليفة: المتوكل على الله، والسلطان: الملك الناصر فرج بن برقوق، وصاحب الروم: ابن عثمان، والعجم والعراق: اللنك. في سنة تسع: الخليفة: أبو الفضل ولد المتوكل، والسلطان: الملك الناصر فرج بن برقوق، وصاحب بلاد الروم: ابن عثمان، وصاحب بغداد: أحمد بن الشيخ حسن. سنة عشر: الخليفة: أبو الفضل، وسلطان البلاد المصرية والشامية والحلبية والحجازية: الملك الناصر فرج بن برقوق، وصاحب الروم: ابن عثمان، ونائب دمشق: شيخ المحمدي. سنة إحدى عشرة: الخليفة: أبو الفضل، وسلطان البلاد المصرية والشامية والحجازية: الناصر فرج بن برقوق، وصاحب الروم: ابن عثمان، وبغداد: أحمد بن أويس، ونائب دمشق: نوروز. سنة اثنتي عشرة: الخليفة: أبو الفضل، وسلطان مصر والشام والحجاز: فرج بن برقوق، وصاحب الروم: ابن عثمان، وصاحب بغداد: أحمد بن أويس، ونائب الشام: شيخ. سنة ثلاث عشرة: الخليفة: أبو الفضل العباسي، والسلطان:

الملك الناصر فرج بن برقوق، وصاحب الروم: ابن عثمان، وصاحب بغداد: أحمد. سنة أربع عشرة: الخليفة: أبو الفضل، والسلطان: الملك الناصر فرج بن برقوق، وصاحب الروم: ابن عثمان، وصاحب بغداد: أحمد بن أويس. سنة خمس عشرة: الخليفة: أبو الفضل، والسلطان: الناصر فرج بن برقوق، وصاحب الروم: ابن عثمان، وصاحب بغداد: أحمد. سنة ست عشرة: الخليفة: أبو الفضل، والسلطان: الناصر، وصاحب الروم: ابن عثمان، وصاحب بغداد: أحمد. سنة سبع عشرة: الخليفة: المعتضد بالله، والسلطان: المؤيد شيخ، وصاحب الروم: ابن عثمان، والعجم: أولاد تمرلنك، ببلاد الشام خارج عن الطاعة. سنة ثماني عشرة: الخليفة: المعتضد، والسلطان: المؤيد شيخ، وصاحب الروم: ابن عثمان، بلاد العجم: مع أولاد تمر، ببلاد المغرب: أبو فارس. سنة تسع عشرة: الخليفة: المعتضد، والسلطان: المؤيد شيخ، وصاحب الروم: ابن عثمان، وبلادُ العجم في أيدي أولاد تمر، والشام مع الطنبغا العثماني. سنة عشرين: الخليفه: المعتضد، والسلطان: المؤيد شيخ،

وصاحب الروم: ابن عثمان، والعجم مع أولاد اللنك، وبلاد المغرب أبو فارس. سنة إحدى وعشرين: الخليفة: المعتضد، والسلطان: المؤيد شيخ، واليمن: الناصر أحمد، وبلاد الروم: ابن عثمان، والعجم: شاه برخ. سنة اثنتين: الخليفة: المعتضد، والسلطان: المؤيد شيخ، وصاحب الروم: ابن عثمان، والعراق: أبو قرا يوسف، والعجم: شاه برخ بن اللنك. سنة ثلاث وعشرين: الخليفة: المعتضد، والسلطان: المؤيد، وصاحب الروم: ابن عثمان، والعجم: شاه برخ. سنة أربع وعشرين: الخليفة: المعتضد، والسلطان: الملك المؤيد، وقد عهد بالسلطنة إلى ولده أحمد، وصاحب الروم: ابن عثمان. سنة خمس وعشرين: الخليفة: المعتضد، والسلطان: محمد بن طرر، وقد توفي المؤيد، وولي ولده أحمد، ثم خلع، وولي ططر، ثم توفي في السنة، ثم ولي ولده محمدُ بنُ ططر. سنة ست وعشرين: الخليفة: المعتضد، وسلطان البلاد الحجازية والمصرية والشامية والحلبية: الملكُ الأشرف برسباي، وصاحب الروم: ابن عثمان. سنة سبع وعشرين: الخليفة: المعتضد، والسلطان: الأشرف

برسباي، وصاحب الروم: ولدُ ابن عثمان، والعجم: شاه برخ بن تمرلنك. سنة ثمان وعشرين: الخليفة: المعتضد، والسلطان: الأشرف برسباي، وصاحب الروم: ابن عثمان، وصاحب بلاد العجم: شاه برخ بن تمرلنك. سنة تسع وعشرين: الخليفة: المعتضد، والسلطان: برسباي الأشرف، وصاحب الروم: ابن عثمان، والعجم: شاه برخ. سنة ثلاثين: الخليفة: المعتضد، والسلطان: الملك الأشرف برسباي، وصاحب الروم: ابن عثمان، والعجم: شاه برخ بن تمرلنك. سنة إحدى وثلاثين: الخليفة: المعتضد، والسلطان: الملك الأشرف برسباي، وصاحب الروم: ابن عثمان، وصاحب بلاد العجم: شاه برخ بن تمرلنك. سنة اثنتين وثلاثين: الخليفة: المعتضد، والسلطان: الملك الأشرف برسباي، وصاحب الروم: ابن عثمان، وصاحب بلاد العجم: شاه برخ بن تمرلنك. وفي سنة ثلاث وثلاثين: الخليفة: المعتضد، والسلطان: الملك الأشرف برسباي، وصاحب الروم: ابن عثمان، وصاحب العجم: شاه برخ. وفي سنة أربع وثلاثين: الخليفة: المعتضد، والسلطان:

الملك الأشرف برسباي، وصاحب الروم: ابن عثمان، وصاحب العجم: شاه برخ بن تمرلنك. وفي سنة خمس وثلاثين: الخليفة: المعتضد، والسلطان: الأشرف برسباي، وصاحب الروم: ابن عثمان، والعجم: شاه برخ. وفي سنة ست وثلاثين: توجّه الأشرف برسباي إلى ناحية [.......] لقطع الفرات، وسار إلى آمد، وملك الرّها، وأقام بهما نائبا. الخليفة: المعتضد، والسلطان: الملك الأشرف برسباي، وصاحب الروم: ابن عثمان. وفيها توجه [....]. وفي سنة سبع وثلاثين: الخليفة: المعتضد، والسلطان: الأشرف برسباي، وصاحب الروم: ابن عثمان. وفي سنة ثمان وثلاثين: الخليفة: المعتضد، والسلطان: الأشرف برسباي، والروم: ابن عثمان، والعجم: شاه برخ. وفي سنة تسع وثلاثين: الخليفة: المعتضد، والسلطان: الأشرف برسباي، وصاحب الروم: ابن عثمان. وفي سنة أربعين: الخليفة: المعتضد، والسلطان: الأشرف برسباي، وصاحب الروم: ابن عثمان. وفي سنة إحدى وأربعين: الخليفة: المعتضد، والسلطان: الملك الأشرف. وفيها: ولّى الملك [......] برسباي، فأقام شهراً وثلاثة

أيام، وخُلع، وكان صاحب الروم: ابن عثمان، والعجم: شاه برخ. وفي سنة اثنتين وأربعين: الخليفة: المعتضد، والسطان: صلاح الدين يوسف العزيز الأشرف، وفيها خلع، واستقرّ الملك الظاهر جقمق. وفي سنة ثلاث وأربعين: الخليفة: المعتضد، والسلطان: الملك الظاهر جقمق، وصاحب الروم: ابن عثمان. وفي سنة أربع وأربعين: الخليفة: المعتضد، والسلطان: الظاهر جقمق، وصاحب الروم: ابن عثمان. وفي سنة خمس وأربعين: فيها توفي الخليفة المعتضد أبو سليمان داود العباسي، وكانت دولته تسعاً وعشرين سنة، وستة أشهر، والسلطان: الظاهر جقمق، وصاحب الروم: ابن عثمان. وفي سنة ست وأربعين: ولي الخلافة أبو الربيع سليمانُ العباسي أخو داود في قبلها، وقُتل فيها، والسلطان: الملك الظاهر جقمق، وصاحب الروم: ابن عثمان. وفي سنة سبع وأربعين: الخليفة: أبو الربيع سليمان، والسلطان: الظاهر جقمق، وصاحب الروم: ابن عثمان، والعجم: شاه برخ بن تمرلنك. وفي سنة ثمان وأربعين: الخليفة: علمُ الدين سليمان، والسلطان: الملك الظاهر جقمق، وصاحب الروم: ابن عثمان، والعجم شاه برخ.

وفي سنة تسع وأربعين: الخليفة: علم الدين سليمان، والسلطان: الملك الظاهر جقمق، وصاحب الروم: ابن عثمان. وفي سنة خمسين: الخليفة: علم الدين سليمان، والسلطان: الملك الظاهر جقمق، وصاحب الروم: ابن عثمان. وفي سنة إحدى وخمسين: الخليفة: علم الدين سليمان، والسلطان: الظاهر جقمق، وصاحب الروم: ابن عثمان، ونائب الشام: جلبان. سنة اثنتين وخمسين: الخليفة: أبو الربيع علم الدين سليمان، والسلطان: الظاهر جقمق، وصاحب الروم: ابن عثمان، ونائب الشام: جلبان. سنة ثلاث وخمسين: الخليفة: سليمان، والسلطان: الملك الظاهر جقمق، ونائب الشام: جلبان، وصاحب الروم: ابن عثمان. سنة أربع وخمسين: الخليفة: أمير المؤمنين أبو الربيع سليمان، والسلطان: الظاهر جقمق، ونائب الشام: جلبان. سنة خمس وخمسين: فيها توفي الخليفة أبو الربيع سليمان، وولي بعده أخوه حمزة، والسلطانُ: الملكُ الظاهر جقمق، وصاحب الروم: ابن عثمان، ونائب الشام: جلبان. سنة ست وخمسين: الخليفة: أمير المؤمنين حمزة، والسلطان: الظاهر جقمق، وصاحب الروم: ابن عثمان. سنة سبع وخمسين: أمير المؤمنين الخليفة حمزة، وفيها خَلع

جقمقٌ نفسه من السلطنة وولي ولده عثمان، فأقام اثني عشر يوماً في حياة والده، واستمرّ يسيراً، وخُلع، وولي مكانه إينال الأجرود، ولقب بالأشرف. سنة ثمان وخمسين: الخليفة: حمزة، والسلطان فيها: إينال الأجرود الملك الأشرف، وصاحب الروم: محمد بن عثمان، وصاحب العجم والعراق: جاهنشاه. سنة تسع وخمسين: الخليفة: حمزة، والسلطان: الملك الأشرف إينال الأجرود، ونائب الشام: قايتباي الحمزاوي. سنة ستين: الخليفة: حمزة، والسلطان: الملك الأشرف إينال الأجرود، وصاحب الروم: محمد ابن عثمان، وصاحب العجم والعراق: جاهنشاه، والنائب: الحمزاوي. سنة إحدى وستين: الخليفة: حمزة، والسلطان: الأشرف إينال الأجرود، وصاحب الروم: محمد بن عثمان، وقد أخذ الأسطنبول، ونائب الشام: الحمزاوي. سنة اثنتين وستين: الخليفة: حمزة، والسلطان: إينال الأجرود، وصاحب الروم: محمد ابن عثمان، ونائب الشام قايتباي الحمزاوي. سنة ثلاث وستين: الخليفة: حمزة، والسلطان: الملك الأشرف إينال الأجرود، وصاحب الروم: محمد بن عثمان، ونائب الشام: الحمزاوي.

سنة أربع وستين: الخليفة: حمزة، والسلطان: الملك الأشرف إينال الأجرود، وصاحب الروم: محمد بن عثمان، وصاحب العجم والعراق: جاهنشاه. سنة خمس وستين: الخليفة، وفيها توفي إينال الأجرود، وعهد إلى ولده أحمد، فأقام مدة يسيرة، وخُلع، وولي بعده خشقدم الرومي، وصاحب الروم: محمد بن عثمان، ونائب دمشق: جانم أخو الأشرف. سنة ست وستين: الخليفة، والسلطان: خشقدم، وصاحب الروم: محمد بن عثمان، ونائب الشام: تنم. سنة سبع وستين: الخليفة، السلطان: خشقدم، صاحب الروم: محمد بن عثمان، صاحب العجم: حسن بك. سنة ثمان وستين: الخليفة، السلطان: خشقدم، وصاحب الروم: محمد بن عثمان، صاحب العجم: حسن بك، ونائب الشام: بردبك. سنة تسع وستين: الخليفة، السلطان: خشقدم، صاحب الروم: محمد بن عثمان، صاحب العجم: حسن بك، ونائب الشام: بردبك. سنة سبعين: الخليفة: السلطان: خشقدم، وتوفي، وتسلطنَ بعدَه خير بك، وأقام بعض يومين يلباي المؤيدي، صاحبُ الروم: محمد بن عثمان.

سنة إحدى وسبعين: الخليفة، السلطان: دولانباي، صاحب الروم: محمد بن عثمان، نائب الشام: أزبك. سنة اثنتين وسبعين: الخليفة، السلطان: قايتباي، صاحب الروم: محمد بن عثمان، صاحب العجم والعراقي: حسن بك، نائب الشام: أزبك. سنة ثلاث وسبعين: الخليفة، السلطان: قايتباي، صاحب الروم: محمد بن عثمان، صاحب العراق والعجم: حسن بك، نائب الشام. سنة أربع وسبعين: الخليفة، السلطان: قايتباي، صاحب الروم: محمد بن عثمان، صاحب العراق والعجم: حسن بك، نائب الشام. سنة خمس وسبعين: الخليفة، السلطان: قايتباي، صاحب الروم: محمد بن عثمان، صاحب العراق والعجم: حسن بك، نائب الشام. سنة ست وسبعين: الخليفة، السلطان: قايتباي، صاحب الروم: محمد بن عثمان، صاحب العراق والعجم: حسن بك، نائب الشام. سنة سبع وسبعين: الخليفة، السلطان: قايتباي، صاحب الروم: محمد بن عثمان، صاحب العراق والعجم: حسن بك، نائب الشام.

سنة ثمان وسبعين: الخليفة، السلطان: قايتباي، صاحب الروم: محمد بن عثمان، صاحب العراق والعجم: حسن بك، نائب الشام. سنة تسع وسبعين: الخليفة، السلطان: قايتباي، صاحب الروم: محمد بن عثمان، صاحب العراق والعجم: حسن بك، نائب الشام. سنة ثمانين: الخليفة، السلطان: قايتباي، صاحب الروم: محمد بن عثمان، نائب الشام. سنة إحدى وثمانين: الخليفة، السلطان: قايتباي، نائب الشام. سنة اثنتين وثمانين: الخليفة، السلطان: قايتباي، نائب الشام. سنة ثلاث وثمانين: الخليفة، السلطان: قايتباي، نائب الشام. سنة أربع وثمانين: الخليفة، السلطان: قايتباي، نائب الشام. سنة أربع وثمانين: الخليفة، السلطان: قايتباي، نائب الشام. سنة خمس وثمانين: الخليفة، السلطان: قايتباي، نائب الشام: قانصوه. سنة ست وثمانين: الخليفة، السلطان: قايتباي، نائب الشام: قانصوه.

سنة سبع وثمانين: الخليفة، السلطان: قايتباي، نائب الشام. سنة ثمان وثماثين: الخليفة، السلطان: قايتباي، نائب الشام. سنة تسع وثماثين: الخليفة، السلطان: قايتباي، نائب الشام. سنة تسعين: الخليفة، السلطان: قايتباي، نائب الشام. سنة إحدى وتسعين: الخليفة، السلطان: قايتباي، نائب الشام.

§1/1