إيضاح المحصول من برهان الأصول

المازري

(ص 12) كما لا يحب عليه سبحانه أن يفعل ما يطابق هذه المنفعة، فإذا استحال (...) مفروضا والثواب والعقاب، وهذا يمنع حقيقة، أو لكون الثواب والعقاب (...) بالعقل بالفعل أن الله سبحانه (...) بطل إضافة الوجوب إلى العقل وأما المخالفون فعمدتهم التي (...) بالتخلص من القدح، في (...) فأما استشهادهم بالعادة فلكونهم يرون العقلاء بأسرهم يستحسنون شكر النعم ويستقبحون كفرها، ومن (...) غيرقا أشفى على الموت، وحمله على ظهره إلى الشاطئ فيجعل جزاءه سبه وذمه فإن هذا مستنكر في العقول (...). ونحن نجيب عن هذا بأنه قياس الغائب على الشاهد فلا يجب إذا كان سجية فينا أن يقضى بذلك في (...) بين الله سبحانه، ورد الغائب إلى الشاهد من غير سبب جامع يؤدي إلى هدم قواعد الدين على ما عرف في كتب (...) سلمنا وجوب الرد على الجملة لعرفنا، نحن نرتاح إلى الشكر ونلتذ به وننتفع عند الناس بكوننا منعمين (...) جل ذلك ونحزن (...) ونغتم إذا كفرنا الصنيعة لفقدان هذه الأمور، وتأسفنا على أنا لم نصب بالصنيعة لأمور قد تقدس الله سبحانه عنها، فلا ينتفع بشكر شاكر، ولا يستضر بكفر كافر، والله غني عن العالمين، (...).

سلمناه أيضا فقلنا معلوم عند العقلاء أن ملك الأقاليم السبعة لو لحظ مسكينا بلحظة (...) شكر هذا على هذه الصنيعة ولا يحسن أن يمشي هذا في الأفاق فيمدحه بمثل هذه (...) قدرا من الملك المفروض، وعطاياه وإن اتسعت أحقر من العطية المفروضة (...) ناحية العقل من جهة ما في العقول من تجنب المهالك والمنعم عليه (...) أيضا أن إتعابه نفسه، وهي رق لغيره، والمشكور المالك (...) إذنه. وأما ما عدّوه استدلالا لكونه مخلصا من (...) قصر على السمع لأتى الرسول بمعجزاته فقال (...) لنا إيجاب شيء علينا وأنت لا (تعـ ...) لأنا نقول قصارى ما في هذا عدم (...) يطمع بمن يمنع أن يحب من ناحية (...) استدلوا به قدروه أصلا (...) يجب على الله سبحانه (...) بالضرورة بل (...) (ص 13) التكليف (...) فوجوب النظر ممكن حق من تأمله، وفكر عند دعوى الرسل (...) في العالم حتى يعلم (...) خلق هذه الآية فإذا فكر في هذا علم من ناحية العقل، وإذا علمه (...) الرسول، ويتضمن العلم، (بصد ...) نظر الذي أخبر الرسول بأن الله أوجبه. وهذا كما يفتقر عندهم في (ل ...) إلى فكره، وإن كان النظر واجبا، (...) أن يفكروا لأن الفكرة بها عملوا الوجوب العقلي، وهكذا نقول نحن: الوجوب (...)

فصل في حكم ما لا حكم له في (...)

ناحية السمع ولكننا لا نعرف ذلك إلا بعد فكرة في مقدمات، إذا عرفناها عرفنا صحة الوجوب من ناحية (...) الفكرة بالإطالة، والقصر، أو كثرة الفصلو، أو قلتها لا يوجب المنع من تحقق الوجوب لأنه يمكن العلم به على (...) وإن كان طرق العلم مختلفة، ألا ترى أن المعرفة بالله سبحانه واجبة ولا يصح أن يعرف الله سبحانه إلا بعد معرفة (...) العالم، ولم يمنع كون معرفة الله سبحانه مفتقرة إلى مقدمة قبلها لا تعلم إلا بعد هذه المقدمة من كون المعرفة بالله (...) واجبة. وعلى هذا قلنا إن النظر في حدث العالم، وإثبات الصناع طاعة وليس بقربة، لأن القربة تتضمن (...) إليه والإنسان في حال كونه طالبا لمعرفة الله سبحانه غير عارف به، لكنها مع هذا طاعة، لأن الطاعة (...)، وهذا النظر مأمور به، فوجب أن يكون طاعة. فصل في حكم ما لا حكم له في (...) تقدم من أن الأحكام كلها على اختلاف أنواعها راجعة إلى قول الله سبحانه وهذا (...) وتفاصيله من إثبات مذهبنا في الحسن والقبيح، وقد مضى، وإيجاب شكر المنعم (...) الفعل قبل ورود الشرائع، وبعد ورودها وقد بحث العارفون بها (...) لا على الإطلاق، أنا نقف في هذا الفعل، وحكم هذا الفعل (...) سبحانه فيه في حقنا. وأما المخالفون لنا فإنهم لا يطلقون (...) كشكر النعم والمعرفة بالله سبحانه (والف ...) فيها قبائح محرمات كالكذب (...) والأقسام وهو التصرف فيما لابد

(...) هذه الأقسام قال المخالفون فيها بمذهب (...) وبه قال الأبهري من أصحابنا (... وازيه) إشارة إلى هذا المذهب (...) بنفي الإباحة وذهبت (...) (ص 14) (...) على أحد القولين أن المباح حسن، وأما الواجب قد يعبر عنه (...) جهة تحقيق هذه العبارة في الواجب ينظر في الحد (وال ...) به كونه حسنا، وذلك مقصور على الواجب والندب، وما تعلق العقاب (...) في كونه قبيحا وذلك (... م). وأما المباح فلا أراه حسنا في مقتضى مفهومات الشرع، وأما المكروه فظاهر قول الأيمة (...) وحدودهم يشير إلى تطابقهم على كونه قبيحا، وهذا مما لا نستسهله، وبعد من مضمونات الشرع تسميته قبيحا (...) إن قلنا بانطلاق تسميته المكروه على هذا المعنى، وسيرد تحقيق القول في المكروه، فمنه ينكشف (... نا) إليه ولو صح القطع بأن المكروه لا حسن ولا قبيح، والمباح كذلك لكان أحسن حد حد به الحسن أنه ما (...)، وأن القبيح ما تعلق به العقاب، فهذا كشف حقيقة المذاهب كلها في معنى هاتين اللفظتين لكنا ذكرنا (...) على أصلنا فلنذكر تفصيل مدركها على أصل المعتزلة. فاعلم أنهم يرون انقسام هذا المدرك (...) المصلحة فيه غاية الأيضاح فيجعلون هذا القسم معلوما بالعلم الضروري (...) الظلم أو الكذب لغير ضرر أصلا، فهذا النوع عندهم مما يعلم بالضرورة، لأنه (...) ما انحطت رتبته عن هذا الإيضاح حتى احتيج

فيه إلى قياسه على ما علم (...) لفائدته، عرض فيه إشكال حتى احتيج في رفع هذا الإشكال إلى ضرب (...) بلغ العفو وكنه معرفته ولو بحثت وفكرت، وقاست واستنبطت (... ن) أحكام الصلوات والزكاة، وغير ذلك من العبادات، وإنما (ال ...) إلى ما تدعو إليه من فعل ما اتضح للعقل حسنه أو (ير ...) وجاء به الشرع. فإذا لحظت تفسيرها (...) تعلم بعد هذا الرد على من (حا ...) غير معقول فيبطل لأن (...) بالعوائد، فأما الطريقة الأولى (...) حتى يدعو (...) (ص 15) (...) هو قبيح مخالف لقتل القصاص الذي هو حسن، ونحن نعلم حسا (... حد) منهما أو أ؛ دهما فصفة نفس كما قد مناه من مذاهبهم (...) أسلفناه من المذاهب الثلاثة عنهم، لا على ما أنكره أبو المعالي من قول (...) الحسن والقبيح من (...) حكيناه عنه، ذلك فيما قبل، وأما المناقضة المذهبية فإنهم يرون (...) يحسن إذا عوضت عن ذلك عوضا فيجب على هذا أن يحسن الكذبة إذا اضطر إليها في تخليص زمرة قد (...) من هلاك حاول ظالم إيقاعه بهم، وقد التزم بعضهم طرد هذا القياس، وتحسين الكذب هاهنا سبيله (...) لهم أخر، لأنهم يرون الكذب من صفات الأفعال فيجب عليه أن يجوز أن يخلق البارئ سبحانه كذبا مفيدا (...).

وأما الوجه الرابع وهو الاستشهاد بالعوائد فإنا نقول قد تقرر إطراد العادة بأن ما علم بالضرورة لا (...) فيه فلو كان البح مما يعلم بالضرورة لم نخالفكم فيه مع كثرة عددنا، وقد أشار أبو المعالي هاهنا إلى (...) فقال: ما علم بالضرورة لا يختلف العقلاء فيه، وما علم بالاستدلال لم تتفق آراء العقلاء فيه على (...) قرائحهم وإفهامهم، وأشار في غير هذا الكتاب إلى جواز تطابق العقلاء (...) القاضي ابن الطيب، وقد انفصلوا عن هذا الاستدلال بأنا نعلم قبح ما قبحوه (وا ...) علم بالسمع، وهو معلوم بالعقل، والفرق بين علم وعلم، طريقة الاستدلال، وإلا (...) أنتم علمتموه بالسمع، وظننتم أنكم علمتموه بالعقل هذا (...) لمكر نفس (...) وهم يأبون ذلك، ونقول لا صفة في الحسن ذاتية، وهم يثبتون ذلك (و ...) بالمألوف المعروف، فيقولون العاذل إذا عذلها (...) المألوف المعروف إيثار الصدق عند سائر العقلاء (...) المشرع، ولا في حق من أنكر الشرائع لا (...) إذا عرف بالكذب (...)، لأن في النفس النفوس (...) الشرائع (مج ...) (ص 16) والقائلون بالإباحة يقولون، العوائد تشهد بأن منع الملك الواسع الغني (ال ...) بذلك ونزرا ما (... بقاه) وفيه منفعة للراغب إليه فيه قبيح، فأنت ترى كيف تقابل الفئتان في الاستشهاد بالعوائد، فاعترض بعضهم ببعض حتى يتضح غلط الجميع، ولعل لأجل هذا التعارض في الاستشهاد قال بعضهم أقول بالوقف، لا على معنى وقفنا الذي قلنا، لكن على

معنى أن في العقل حكما لهذا الفعل يجوز إتيان شرع بأن يحظره ويبيحه، وقد استدل أصحاب الإباحة بأن الله خلق الطعوم في الجواهر، وخلقها ليس من اللازم عقلا، فلم يخلقها والحال هذه إلا لينتفع (بها). وهذه إشارة من العقل إلى الإباحة، وهذا باطل، لأنا نمنع خلق الجواهر خالية من الطعوم، وهذا قد عرف مذهبنا ومذهبهم في كتب الكلام، ولو سلمنا هذه المقدمة لم نسلم الأخرى، وهي إثبات الغرض في فعله تعالى، بل يجوز أن يخلق البارئ تعالى شيئا لا لينتفع به أحد، ولا لينظر، ولو سلمنا هذه المقدمة الثانية أيضًا لم نسلم الثالثة وهي كون المنفعة بخلق (...) صح خلقه لمنفعة أخرى غير ذلك من الاعتبار، أو ما في معنى ذلك من المنافع. واعلم أن هذا الباب مقصور (...) حكم العقل في هذه الأمور ما هو، وأما الخوض في حكم السمع في هذه الأمور إذا نظر الفقيه المفتي في تحريم؟ (...) هل يقضي فيه بحكم تحريم لكون ظاهر السمع يقضي بذلك عند عدم التعيين لهذا الحكم أو لا يقضي بالتحريم (...) ولأنه حكم يتطلب من الشرع كسائر الأحكام، وإنما كلامنا فيها لا حكم للشرع فيه، وهذا هو العذر المانع من (...) هاهنا فما خاض فيه بعض الفقهاء من التمسك بقوله تعالى: (يسئلونك ماذا أحل لهم). وهذه إشارة عنده إلى إقرار ما نحن (...) على التحريم عند فقدان وارد التحليل، أو التمسك أيضًا بضد هذا المذهب لأجل قوله سبحانه: (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما) الآية (هذا) كله خوض في دلالة سمعية تفتقر إلى استقصاء حكم هذه الظواهر وغيرها مما يطول تتبعه.

فصل في التكليف

فصل في التكليف (...) كيفية، هذا الباب قليل الفائدة للفقيه، وهو باللغوي أشبه لأنه منازعة في (ا ...) من الكلفة والكلفة المشقة، فالتكليف على هذا فعل ما يشق، وقد علم أن أحكام (ال ...) والكراهة والإباحة، فأما الوجوب والتحريم فلم يختلف في كونهما تكليفيين، وهو (مق ...) لأن أعلى (...) وترك إذا استحث على ذلك توعد العقاب، ودعا إليه (... بر) ولم تنبعث النفس إليه بحكم الطبيعة والشوق بل بالإحثاث والسوق وذلك (...) بل أطلقتم القول بأن كل واجب ومحرم تكليفي، لأجل ما صورتموه من المشقة وربما (و ...) ويحرم شرب السم، وقتل النفس، والامتناع من ذلك ليس مما يشق من مقتضى الطبيعة فيجب (ا ...) المحرم تكليفيا لفقد معنى الاشتقاق فيه. وهذا قد يجاب عنه بأن هذه صور نادرة هي (ك ...) من الواجبات التي تشق وقد يقال أيضا فإن النفس تتخوف (ال ...) أن التخوف يوجب المشقة التي اقتضاها الاشتقاق (فا ...) فيه وهذا الضد من قبيل ما يشك فلم ينف التكلف (...) أحكام الأضداد في موضعه إن شاء الله، وأما المند (وب) (...) اختلافا (...) (ص 17) أجلا ذلك (مح ... على) النفوس حسن عنده مذهب أبي المعالي، وأما المباح فاتفق الجميع على أنه غير تكليفي، واستخف أبو إسحاق الإسفراييني إطلاق هذا اللفظ عليه، وإلحاقه بالتكليفات (...) أن العلم بكون المباح مباحا ما أمر به الشراع أمرا واجبا في

فصل في تكليف ما لا يطاق

حق قوم، وندبا حق آخرين، والوجوب والندب (...) التكاليف على ما قدمناه من الاتفاق على الواجب، والاختلاف في الندب، والتحقيق كونه غير تكليفي، لأن الواجب (...) استحث الإنسان عليه من ناحية فعله وتركه فاتضح كونه تكليفا، والمباح لم يستحث الشرع عليه، لا من ناحية فعله، ولا من ناحية تركه فاتضح كونه غير تكليفي، وعرض الإشكال في الندب من جهة اختلاف حكم الفعل والترك، والترك كما بيناه، وأما العلم بأحكام المباح فأمر خارج عن نفس المباح. لكن أبو المعالي غلط في الإنكار على الإسفراييني، وقال: إنه هفا في هذه هفوة ظاهرة، وله هو أيضًا في كتاب البرهان في هذا المعنى هفوة، لأنه قد قدم في أول الكتاب في حد الفقه أنه العلم بأحكام التكاليف، ولا ينكر كون المباحات فقيهات، كيف؟ (...) كتاب المدونة يخلو من تعليم المباحات، هذا أول كتاب الطهارة سئل فيه عن حيتان ملحت فأصيب (ت) (...) أنت فقال لا بأس بأكلها، وهذا لا يحصى ولا يحصر. فإذا سلم كون المباحات فقيهات (...) تكليفية على حسب ما أنكر على الإسرافييني، فقد صار حده في الفقه قاصرا على المباحات، وإذا ثبت (...) ففهيات، وليس تكليفات، وهو قد قال في الفقه العلم بأحكام التكليف فكأنه قصر الفقه على مسائل (...) والحظر والندب والكراهة، ولا ينصرف قوله هاهنا التكليف إلى العلم بكون المباح مباحا، لأنه قد قدم ذكر العلوم (...)، فذكر متعلقه وهو التكليفات، وقد بينا أنها لا تعم المسائل الفقهية. فصل في تكليف ما لا يطاق (...) علم الكلام، وعلم أصول الفقه، فأما المتكلمون فلتعلقها بأحكام القدر (وح ...) تعلقها بأحكام التكاليف، وما يصح الأمر به، وما لا يصح، ويحتاجون إلى

ذلك في مسائل (...) في وضعها من هذا الكتاب إن شاء الله عز وجل، واعلم أن المسألة لا تكشف حقيقتها إلا (...) امتناعه إما أن يكون لمعنى (يعو ...) الفعل وهو (استحا ... را) وخلق الأجسام في حق القادرين المخلوقين في حق القادر المأمور بمقطوع اليد (...) كان الامتناع من جهة الفعل وعدم إمكانه، فهي المسألة المرسومة في هذا الباب (...) التعبد بذلك، ورأوا الأمر به، خلافا للقادرية في منعها ذلك. وإلى هذا قال أبو المعالي (...) كان امتناع الفعل لعدم قدرة المأمور في حال الأمر، حتى يكون المراد بنفي القدرة (...) لا (...) الاستقبال فإن التكليف يصح بل لا يكون التكليف عندنا (...) وكون المأمور مكلفًا ما يطيق، وهذا منا، ومنهم، بناء على (...) يتضمن إحالة كون القدرة المحدثة، قدرة على الشيء، (و ...) أن يقوم إلى الصلاة قيامه حال قعوده غير (...) الصلاة (...) القاعد وهو لا يقدر (...) (ص 18) في هذا، يبني على ما ذكرناه من الاختلاف في تكليف ما لا يطاق أم لا؟ لكون (الم ...) الأب، ولا يفهم أنه لا يتصور حقيقة الطلب لهما. وكذلك أيضًا اختلفت الرواة عن الأشعري (...) في شرع تكليف ما لا يطاق، فهذا إيراد المذاهب وإيرادها على هذه الجملة من التقسيم يكشف لك حقيقة القول في قدح أبي المعالي في نقل الأئمة لمذهب الأشعري حتى قال: هذا سوء معرفة بمذهب الرجل، لأن التكاليف كلها عند الأشعري لا تطاق، واستشهد على ذلك من مذهبه بفصلين

أحدهما قول الأشعري إن المأمور وهو قاعد بأن الصلاة أمر بفعل لا قدرة له عليه، وما لا قدرة له عليه يستحيل إيقاعه، ولا ينجي من هذا كون المأمور بالقيام إلى الصلاة منهيا عن القعود، لكون الأمر بالشيء نهيا عن ضده، والقعود المنهي عنه تعلق به هذا التكليف في حال هو مقدور للعبد فلم يعر التكليف من تعليقه بمقدوره عليه. واعتذار هؤلاء بهذا العذر غير مقبول لأن المسألة مفروضة في نفس القيام للصلاة المأمور به ولا شك عنه في كونه حين ورود الأمر غير مقدور عليه، وهو القعود المنصوص (...) في الخطاب، فلا يغني عنه تقدير تعلق خطاب آخر من ناحية الضمن، وليس هو المقصود لا سيما إن نازعنا في كون الأمر بالشيء (...) ما تقف عليه في موضعه إن شاء الله عز وجل. فالذي أوردناه من التقسيم يشير إلى الانفصال عما قاله أبو المعالي (... طوا) على الرجل في نقل مذهبه، لأنه معلوم أنهم أرادوا بقولهم إن الاشعري أجاز تكليف ما لا يطاق أي ما لا يطاق (...) الاستقبال وما يكون إيقاعه من قبيل المحال، ولا شك أنهم لو قيدوا ما أطلقوه بهذا الذي قلناه لم يتعقب (... طعا) أنهم أرادوه، لأنهم هم الناقلون مذهبه في هذا، ومذهبه في أن القيام الذي فرضناه غير مقدور عليه. وأنت تعلم قطعا أن (...) وحسن (...) من نفسه الفرق بين ما يستحيل إيقاعه له ككونه ناطقًا صامتًا في حال واحد، وبين قيامه إلى الصلاة، وهو قاعد فإنه (... ر) من نفسه تأتي القيام منه، وكونه متى شاء أن يفعله فعله، فليس بينه وبين فعله إلا إرادة القيام وترك ما هو فيه من القعود (...) متميز لذلك، والقيام متأت منه، حتى أدى إفراد الحسن بهذا التأتي المعتزلة (أن) اعتقدوا القدرة على القيام (حا ...) الإنسان يحس من نفسه وهو قاعد أن القيام كالفعل الحاصل له، الموجود به.

وأنكرت الأشعرية (... وا) إفراد من الحس كالتهيء، وتأتي الفعل للعلم الضروري بأن الإنسان متى أراد القيام، فعله (...) التقسيم والتنبيه على وجود طرق الفعل بغير تكلف الانفصال بكون القعود متهيئًا (... ارا) عن القدح في نقل الرواة عنه هذا وإن سلم التعقيب في هذه العبارة لأنها (... ت) هذا الجواز لا ينافي القول بأن التكليف لا يكون إلا بذلك الأمر، ناحية المفهوم (ء ...) اللفظة فتفتقر حينئذ لما قدمناه من الاعتذار. وأما الوجه الثاني الذي أشار إليه أبو [المعالي] (...) قال فإنه يعتقد أنها خلق لله سبحانه وإنما العبد مكتسب، فالعبد مطلوب بإيقاع (...) فصل من هذا أن التكاليف كلها لا تطاق عنده. وأما الوجه الثاني الذي أشار إليه أبو [المعالي] (...) قال فإنه يعتقد أنها خلق لله سبحانه وإنما العبد مكتسب، فالعبد مطلوب بإيقاع (...) فصل من هذا أن التكاليف كلها لا تطاق عنده. ورمز هاهنا أبو المعالي إلى مخالفته (... ل) تمويه المموه بذكر الكسب، ولكنه لم يبد حقيقة مذهبه (..) الباب لأن هذا مختص بكتب أصول الديانات، ولعلنا نحن أيضًا (ف ....) ولكن لابد من رمز يستلوح منه، الذكي الطريق التي يسلك (...). وذلك أنه قد علم ما في العالم من الروابط التي (سربد ...) (ص 19) ولولا خلقه (...) عما قبله فقد يحصل من هذا أن الآخر يكون عما للتكوين وارتباط الشيء بما قبله منسوب إلى (...) قبل لم يقع بعد، فقد صار ما بعد مضافًا إليه تعالى، فهذه مقدمة لابد من تسليمها. ولابد أيضًا من تسليم مقدمة ثابتة، وهي أن الإنسان المتحرك قاصدًا للحركة قد حصل له أحوال القادرين العالمين المريدين وبهذه المقدمة ينسب الناس الفعل إلى الفاعل

مهما رأوه، وقع مطابقا لإرادته، وبحسب علمه، ومرتبطا بقدرته فيا نست المعتزلة إلى هذه المقدمة وبحكمها دون ما سواها، فتقول: الإنسان مخترع لفعله، ويلتفت الأشعري إليها غير مضرب عما قبلها فيقتضي ذلك توسطا بين مذهب الجبري الذي هو كالمنكر للمقدمة الأخيرة، وما بين مذهب المعتزلي الذي هو كالمنكر للمقدمة الأولى، فجعل الفعل كأنه بين فاعلين من وجهين مختلفين. وقد نبهناك على اختلاف الوجهين بالتنبيه على هاتين المقدمتين، ويرى أن الأولى إضافة اختراع الحركة إلى البارئ سبحانه لأنا إذا فرضنا أن هذه الوسائط كلها لا اختراع للعبد فيها بل هي كائنة بقدرة الله سبحانه، وما ارتبط بها ارتبط بقدرته سبحانه من أفعال الله سبحانه، ثم لم يخل العبد من معنى يستحل به الإضافة على حسب ما نبهناك عليه، وبه حسن التكليف، وتعلق الثواب والعقاب، إذ لو كان هذا (...)، كما أشار إليه أبو المعالي في إلزامه لكان ما تقرر في مصادر الشرع وموارده وعلم من أصوله وقواعده غير (...) من الشرع قصور أوامر ونواهيه على حركات العبد وسكناته، ونطقه وصماته، وأعضائه ولحظاته (...) من تصرفاته دون أن يتعلق الأمر والنهي بألوانه وطعومه وروائحه، وتأليفه، إلى غير ذلك مما لا يقف على اختياره (...) إلا لما بيناه من حقيقة توجه الإضافة إليه على جهة ما قلناه. وإلى هذا المعنى أشار قوله صلى الله عليه وسلم وقد خوطب (...) شيء من هذا المعنى إذا؟ "وكل ميسر لما خلق له" ولكن بسط هذا، وكشف حقيقته بالتمثيل وزيادة بيان في مقدماته موقوف (...) أصول الديانات (سد ...) فيها إن شاء الله عز وجل، وعلى هذا المعنى يحوم أصحاب الكسب، والمختلفون مع (الق ...) تأثير إثبات حال في المقدور أم لا؟ فهذه فصول لابد من إيرادها لتعلقها بما قدح أبو المعالي في أصل (...) لنكتة فيه أن تعلم أن الجميع متفقون على أن حقيقة الأمر طلب الفعل، فهل يتحقق طلب المستحيل؟

(...) المعتزلة المشترطون كون الأمر مريدًا لوقوع ما أمر به، فلا شك أنه يستحيل عندهم تكليف (...) أمر مستحيل، فلا شك في أنه سبحانه عالم باستحالته، وأنه لا يقع، وقد فرضنا أن من (ا ...) تعالى فإنه لا يقع، وإرادته لأن يقع تناقض، فهذا المعنى يتضح به على أصلهم منع تكليف (...) [وا]ـفقهم في منع التكليف، تكليف ما لا يطاق، يوافقهم على هذا الأصل الفاسد. والذي بنوا المعتزلة (...) تحقق مع علم الطالب أن المطلوب بأمره يستحيل، وتصور جماعة أشياخه أن العلم (با ...) لا وأصولهم أن الثواب والعقاب لا يستحق على الأعمال عقلاً، وإنما الأعمال عليه (كالا ... لم) أن المأمور لا يمكنه الفعل، فالالتفات إلى هذه النكتة هو (...)، وقد يحسن هاهنا الاستدلال بالسمعيات، وقد قال تعالى: (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) (...) بأن يسأل ربه ألا يحمله إياه، وفي الاستدلال بهذه الآية نظر (... ك) بها في القطعيات، وقد تكلمنا على هذه الآية وما (...) الوقوع أم لا؟ وقد (ا ...). (ص 1) ألا تراه سبحانه يقول: (فلا تميلوا كل الميل)، فأضاف الميل إلينا، وأشار إلى ما ينبغي لنا (...) [وأشار النبي] عليه السلام إلى هذا المعنى لما قال: "اللهم هذه قسمتي فيما أملك" الحديث، وأمثل (...)، وقد أمر أن

يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ويصدقه في كل ما يقول، وكان مما قال أنه كان لا يؤمن به، ولا يصدقه، فصار محصول تكليف أبي لهب أن قال له: صدقني، في أنك لا تصدقني، فهذا تكليف الجمع بين متنافرين متناقضين. وقد أشير إلى الجواب عن هذا إلى طريقتين، أما من قال إن الذي كلفه للناس أولا إظهار الشهادتين، فإن معنى تكليف أبي لهب الإيمان أن يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهذا القول يمكنه إيقاعه قبل أن يخبر بأنه لا يؤمن، وبعد أن أخبر. وأما من يقول ـ وهو الذي قاله الجمهور ـ إن أول ما كلف فيما نحن فيه اعتقاد الإيمان بقلبه. فإنما نجيب عن هذا إنما كلف تصديق النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يقول على الجملة قبل أن ينظر في تفصيل أخباره، وعن كل خبر، وهذا التصديق على الإجمال من (...) لتفاصيل الأقوال ممكن. وقد اجتمع في أبي لهب فصلان: علم بالله سبحانه بأنه لا يؤمن، وخبره بذلك، فلهذا كثر استدلال [الجمهور بذلك]. أما من سواه من الكفار كأبي جهل وغيره، وممن علم الله سبحانه أنه لا يؤمن فقد صار إيمانه كالممتنع إيقاعه لأنه لو وقع لخالف علم الله سبحانه، ومخالفة علم الله سبحانه لا تصح، ولكن هذا الامتناع ليس براجع إلى عدم الإمكان [من ناحية العقل] بل إيمان هؤلاء ممكن في نفسه، متأت في علم الله سبحانه، لا يصير الممكن غير ممكن، لأن العلم لا يؤثر في المعلوم [إن تعقل بعلم]، فعلم الله سبحانه وعلمنا لا يؤثر فيه. فإذا ثبت أن العلم يتبع المعلوم على ما هو عليه، فلا يؤثر فيه، وكان إيمان [الكفار] ممكنا بقي على إمكانه، وإن تعلق العلم به، ألا ترى أنهم لا يصير الإيمان في حقهم كالمعجوز عنه، المستحيل إيقاعه لأجل تعلق [علم] الله سبحانه بأنه لا يقع منهم، بل المعلوم أن تأتيه منهم كتأتي غيره من الأفعال التي لا يعلم ما علم الله سبحانه من مآلها، وهذا [مذكور] في كتب أصول الديانات. ونذكر هناك أن كون خلاف المعلوم مقدور، وهو الصحيح من القولين إن شاء

فصل

الله، [ويدل قوله] تعالى: (بلى قادرين على أن نسوى بنانه) فوصف نفسه بأنه قادر على ما علم أنه لا يكون، وكذلك قوله: (أو ليس الذي خلق * السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم). فصل يتشعب مما تقدم (...) مانع من فهم الخطاب، وإذا منع من فهم الخطاب منع من توجه التكليف لأن (ال ...) الخطاب، وهذا يقضي الافتقار إلى ميز وقصد، ليحصل بالقصد الامتثال، ويحصل با [القصد] (...) على هذا، هل يصح تكليف الصبي أم لا؟ قيل أما الصغير الذي لا يعقل فتكليفه مبني (...) تقدم القول فيه مبسوطا. وأما اليافع ومن كان من الصبيان قد صح تمييزه وفهمه كالراشد (...) يصح عقلاً لزوال ما قدمناه من المانع للتكليف، وهو عدم فهم الخطاب، وإذا (...) التكليف العام المضاهي لتكليف المحتلم فالإجماع على أنه لم يرد. وأما من (... ع) لم يرد بتكليفهم شيئًا من الأحكام. وذهب قوم من العلماء إلى أنهم كلفوا (...) الزكاة في أموالهم، وغرامة ما أتلفوه، وإذا (ل ...) من يتولى تدبير الصغير، لا على الصغير في نفسه، وأبوه هو (...) [إذا] مات، والإحداد، وقد أشار القاضي إلى كون (ال ...).

فصل: أحكام المكلف

فصل: أحكام المكلف (ص 2) ممكن فيه وهو (... دقه) عادة اطردت والعوائد لا تستبعد، ولا يقال فيها الاحتصاص في مثل هذا بزمن دون زمن، وعدل أيضًا في الرد على (...) قال: لو كان عند اختلافه يطرأ عليه العقل لأحس طريان ذلك عليه، وهذا أيضًا قاطع، لأنا وإن سلمنا أنه لابد أن يحس الحي بطل ما طرأ عليه من الصفات المشترط فيها الحياة، فإن هذه المعارضة (تلد ...) له، فأنت تعلم أنه قد مرت به سنون وهو غير عاقل، ثم عقل فخبرا عن الصبي متى أحس بهجوم العقل عليه قبل بلوغه. وهذا لا سبيل لتحديده وضبطه، وهذه أحوال على التدريج يخفى كثير منها عن الحس على مقتضى الفطرة التي فطر الله الناس عليها في التنمية للأعضاء والعقول، وبسط هذا يخرج إلى علوم أخر، وإن كان لابد من مخالفة القاضي في هذا فأمثل [ما] يعول عليه عندي أن يقال: قد اتفق على أن العقل شرط في حصول العلوم النظرية. ولا يمكن من فقيد العقل أن يستنبط (...) الأمور، ويكشف بالفطرة السديدة عن حقائقها، ونحن نرى كثيرًا من المراهقين نعلمهم دقائق العلوم فيتعلمونها ويأ [خذون] فيها أصولا فيفرعون عليها ويقيون، وقد يستنبطون منها وهذا لا يكون مع فقد العقل، وبين أيدينا الكلام في حقيقة الـ[ـعقل] فهناك يكشف عن حقيقته إن شاء الله. وأما خطاب من لا يعقل وقد كان عاقلا كالسكران والنائم، وكل من [فقد العقل] فالقول فيه على ما تقدم من البناء على تكليف مالا يطاق، وقد قدمنا حقيقة العلة في هذا المعنى بأن قلنا بمنع (...) الجمهور من الحققين على أن السكران والنائم غير مخاطبين بحكم من الأحكام أصلا، ومن الناس من ذهب إلى كونهم مخاطبين (...) بالأحكام، وإن احتج هؤلاء بتوجه قضاء ما فات من صلاة وصيام عليهم، أو غرامة متلف، كان جوابهم أن هذا الخطاب [توجه إليهم] بعد أن تابت عقولهم إليهم فخوطبوا حينئذ بقضاء ما فات من الصلوات حال النوم والسكر، فإذا صرفنا الخطاب إلى حا [لة كونه] عاقلا إما قبل النوم والسكر أو بعدهما وقع الخطاب في حق عاقل، وخطاب العاقل لا يستحيل، وصارت

الأفعال حال الـ[عقل] (... لما) على خطاب هذا العاقل. وتعلق هؤلاء أيضًا بقوله تعالى: (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) (...) أن الفقيد العقل، وقد أجيب عن هذا بأجوبة منها أن الآية منسوخة بتحريم شرب الخمر، و (هـ ...) إن النسخ إنما يكون بأمر يناقض الأول، وتحريم الخمر، ومنع السكران الصلاة حكمان متباينان وأيضًا (...) لكان السكران قد خوطب في الشرع مدة من الزمان، ثم نسخ فلا يكون هذا الجـ[ـواب] (...) باقي إلى الآن، وقيل أيضًا الآية وردت في السكر من النوم، وهذا إنما ينفع إذا قلنا [إن قوله] تعالى: (حتى تعلموا ما تقولون) يشير إلى أنه غير ثابت الميز، وقيل ايضًا إن المراد بالـ[ـكران] (...) الذي لا ميز له، ونهي هذا عن الصلاة، لأن نشوته ومسرته يمنعان من استيفاء حقوق الله (...) هذا الشراب من الجرأة والتهاون بالعظائم، والإعراض عن النظر في العواقب (...) من يدافعه الأخبثان: الغائط والبول، لكون ذلك قاطعا له عن استيفاء (...) (حتى تعلموا ما تقولون) فجعل غاية النهي العلم، فدل على أن ما قبل الغاية (...) في هذا اللفظ توسع وتجوز، والمراد به علم ملتفت إلى النظر في الـ[عواقب] (...) والمسكنة. وقد أخبرنا أن النشوان لا توجد فيه هذه الصفات، وقد (...) بها الكافرون (...) فيها، وهذا إذا كان معه الميز. ولكن قصد به (ال ...) تعالى الله (...) (ص 3) لتأتي في النظر الأول

شعبة منه فتشعب من النظر في التحسين والتقبيح (...) وجوب عقلا، وشبه ذلك، والكلام في حكم الفعل قبل ورود الشرائع، وتشعب [منه أيضا] تكليف ما لا يطاق (كتكليف) الصبي والسكران والساهي، وتكليف الكفار بفروع الشريعة، وهذا الفصل في تكليف المكره متشعب (...) في التحسين فاعلم أن المكره على فعل، النظر فيه من وجهين: أحدهما: جواز ورود الشرع بالنهي عن فعل ما أكره على فعله. والثاني: جواز وروده بالأمر بفعل ما اكره على فعله، فأما ورود الشرع بالنهي عما اكره على فعله فمتفق على جوازه (...) وأكره رجلا على قتل مسلم لا يحل قتله، فإن الشرع قد ورد هاهنا بنهي هذا الرجل من قتل ما أكره على قتله والثاني [قد] اختلف فيه الخائضون في هذا الفن، وهو صحة ورود الأمر بفعل ما أكره الإنسان على إيقاعه كنائم استيقظ في ضيق من (...) فأكرهه إنسان على إيقاع الصلاة، فعندنا أن الشرع يصح أن يرد بأمره بالصلاة، وكذلك ورد، كيف؟ ومالك ئة وجماعة من العلماء يرون أن من قال: لا أصلي فيهدد بالقول إذا ضاق الوقت، ويقتل إن لم يصل، وقالت المعتزلة في هذا القسم (...) الشرع يأمر المكره بفعل ما أكره على فعله. ونكته النظر في النظر أنا قدمنا أن الإمكان والتمكين إذا حصلا صح، [فينظر] في حصول هذين الوصفين في هذا المكره، فإن حصلا له صح تكليفه، ولا شك أنهما قد حصلا له، لأن [ما] اكره عليه ممكن إيقاعه، بل زاد في الإمكان طبقة حتى خيل إلى المعتزلة أنه كالفعل الضروري الذي لابد منه (...) المكره أيضًا متمكن من الإيقاع، بل زاد في التمكن طبقة لاضطراره إلى الفعل، فإذا كان المكره عالما بما يفعل مقتدرا (...). وقد وافقتنا المعتزلة على كونه مقتدرا، وأربوا علينا في وصفه بالاقتدار، فقالوا إنه قادر على فعل ما أكره عليه [وعلى] تركه بناء على أصلهم في القدرة المحدثة على الضدين،

فهم أحق منا بصحة تكليف هذا المكره، لأنا نحن لا نراه مقتدرا إلا (...) الواقع، ولا قدرة له على ضده، فقد ثبت كونه قادرا عالما، وكذلك ثبت كونه مريدا قاصدا لإيقاع الفعل، فلا (...) تكليف فعل ممكن لرجل متمكن زمن هذا الوصف الآخر الذي ذكرناه وهو القصد والإرادة شبه على المعتزلة (...) إن لم تفعل كذا قتلناك، فإن الطبع يستحثه على التخلص من القتل، فهو كالمجبول على فعل أكره فيه، [فيكون ذلك على] مقتضى الجبلة والطبيعة، فإذا كان السبب في إيقاعه حفظ الحياة لم يتصور معرته (...) أمر الله سبحانه، فإذا لم يكن سبب إيقاعه قصد التقرب به لم يثبت عليه، لأنه يكون ضد (...) شرط التكلف الإثابة، فهذا معتمد القول في الرد عليهم، ثلاثة طرق: أحدهما المدافعة [والثاني الممانعة] والثالث المناقضة. فأما المدافعة عن أصل المذهب فتتكلم عليها في أصول (...) يستند أبو المعالي على أنه لا يجب على الله سبحانه أن يثيب أو يعاقب أو يكلف أو ر، وهناك علم بطلان ما قالوه في إحالة تكليف المكره. وأما الممانعة في تصور (...) والطبيعي، وهذا باطل، لانا نعلم ضرورة أن من الممكن أن يمتنع المكره من فعل ما أكره عليه، (...) صرامة وبالمراقب (؟) أن يقهر أويضام على رؤوس الناس يتجلد على أنواع العذاب ويظهر (...) لصفة من غلب على مراده، وإذا كان هذا موجودا مشاهدا، صح أن يكون المكره لولا مخافة في إيقاعه ما خوفه الله سبحانه من عقابه لا (...) ألم من أنواع عذابه (...) للطبيعة، لا مطيعا لله سبحانه وقع هذا الذي أريناهم (...) (ص 4) هذين (الو ...) يوقعها الإنسان.

وقد قسمت الأوائل الأفعال ثلاثة أقسام طبيعيًا محضًا، [كهضم] المعدة للطعام [وإراديا محضا] كرد السلام، ومشتركا بين الطبيعة والإرادة كالسعال وما ذكروه معه، فمن قـ[ـائل] دخلت على المعتزلة الشبهة، ولا يخفى على عاقل فرق بين المشارك والمتمحض، وهذا لا يطلق [عليه] أرباب الأصول أنه مكره على الحركة لما سلب الاختيار فيها جملة، بخلاف المكره على الحركة. وأما المناقضة فإن القاضي أبا بكر [رضي] الله عنه ناقضهم بالمكره على القتل، فإن العلماء قد أجمعوا على أنه منهي عنه مع إكراهه عليه فقد تحقق التكليف [مع] الإكراه، وهاهنا ذكر أبو المعالي أن هذا الإلزام هفا فيه القاضي هفوة عظيمة، وقد جانب هذا الرجل عادته (...) في مصنفاته القديمة من التضاؤل للقاضي، إذا لاح له وجه مخالفة عليه، وطلب جميل المخارج لقوله، فلو سلك (...) الطريقة لم يطلق مثل هذا القول، في مثل هذا الإلزام، كيف والقاضي لم يهف كما تصور، ولكنه نظر إلى المسألة [من جهة] ونظر القاضي إليها من جهة أخرى أما هو فإنه تتبع علة القول فلم يرَ الإلزام لازما لهم، لأنا ذكرنا عنهم، أن الحمل (...) يقتضي إيقاعه طاعة لا لداعي الشرع، فلهذا لم يحسن تكليفه، وأما المأمور بالقتل المهدد بالقتل إن لم يفعل فإ [ن داعي الطبع] وداعي الشرع مختلفان، الطبع يدعوه إلى أن يقتل تخلصا من الهلاك، والشرع ينهاه عن ذلك، ويأمره (بج ...) أشد في المحنة، فالأجر يعظم فيه، فشتان بين صورة تقتضي الزيادة في الأجر، وصورة تقتضي عدم الأجر، وقد (...) بزيادة الأجر في الوضوء عند شدة البرد، ولما كان داعي الشرع فيه ينازعه داعي الطبع، ولا شك أن من نظر [إلى المسألة] على مقتضى أصلهم، عرف أن ما ألزمه القاضي لهم غير لازم. ومن نظر إلى المسألة من جهة تصور المذاهب كما قد (...) على الوجه الثاني عرف أن ما ألزمهم لازم، وذلك أنه ليس إلا أحد أمرين إما أن يقدر أن الإكراه

لا يسلب الفعل حكم (... ار) فيستوي السؤالان، ويصح تكلف المكره قتل من أكره على قتله، ويصح نهيه عن قتل من أكره على قتله، لأنه في (...) أن يقال أن الإكراه يلحق الفعل بالأفعال الطبيعية والأمور الضرورية، فيستوي أيضًا على هذا السؤالان (...) يصح أن يؤمر به، لأنه يؤمر حينئذ بفعل ضروري، وهذا لا يصح عندكم، كما لا يصح أن يؤمر الإنسان بهضم (...) على قتل رجل، فلا يصح أن ينهي عن قتله، كما لا يصح أن ينهي عن الأفعال الضرورية، ولا يصح (...) طعامه. وعجبا لأبي المعالي كيف أطلق في هذا الإلزام ما أطلقه في القاضي وهو (...) الخصم، ولا خلاف بين النظار أن المناقضة تكون على أصل صاحب المذهب وهو (...) أن يتفقا على نقل الكلام إلى صحة مذهب المخالف، وهو قد علم أن القاضي لا يشترط (...) التكليف ولا يمنع تكليف ما لا يطاق، ولا خفاء عن جواز هذا الإلزام لازم (عد ...) اشترطوه في هذا التكليف، أفيحسن أن يطلق مثل هذا القول، ولامناقضة على (...) أن القاضي يضطرهم إلى أن تكون المناقضة صحيحة على أصلهم لأن نكتتهم التي عولوا [عليها] (...) إلى الطبيعة ولا شك أنهم يمنعون تعلق التكليف بالطبيعات الضروريات (فع ...) ويعلم صحة [ما اعتذ] رنا عن القاضي به، وبيناه. وقد اندرج في كلامنا العذر عن أبي المعالي (...) كالأقد، ولكنه أساء في إطلاق ما أطلق على القاضي [وهذا] واضح لمن تدبره.

فصل [خطاب الكفار بالفروع]

فصل [خطاب الكفار بالفروع] (...) من كفر نتكلم على هذه المسألة [في] خمسة أوجه: (...) (ص 5) ما لا يطاق كما تقدم تنبيهنا عليه، فيما قبل، وأما القاضي فاقتضى عنده (...) لعموم أن النظر فيها نظر فيما اشتمل العموم عليه، كنظره في دخول العبيد في عموم الخطاب، و (...) ولا شك (...) إلى جواز الخطاب عقلا، فالرتبة ما رتب أبو المعال، وإن التفت فيها إلى ورود السمع بخطابهم (...) ما رتب القاضي. وأما الوجه الثاني وهو نقل المذاهب، فاعلم أن المأمور به، إما أن يكون مرتبا على ما قبله، وإما أن لا ترتيب فيه. فإن كان غير مرتب على ما قبله كأول واجب أمر به المكلف من المعارف، فإن هذا لا يُمترى [فيه] فحصل الخطاب به، ولكن مع هذا فالذي عليه أئمة المسلمين أن الكفار [مأمورون] بعقائد الإيمان، من تصديق الله ورسله. وحكي عن [قوم] من المبتدعة، أن الكفار غير مخاطبين بهذا المعارف، واختلفت طريقة هؤلاء، فمنهم من رأى المعارف ضرورية [فلهذا لم يؤمروا] بها، ومنهم من رآها كسبية، ولكنه منع الخطاب لما يذكر في غير هذا الفن. وزعم الجاحظ أن هذه المعارف [ذات] وجهين: النظر والاستدلال، والطبع، فكأنها عنده مشتركة، ورأى أن من استدل فلم يعرف معذور، لأن الطبع (...) به، وهذه ترهات من المذاهب، والمسلمون على خلافها، وإذا التفت إلى نقضها فذلك يذكر في كتب علم الكلام [أما] سوى هذه المعارف كالعبادات البدنية من صلاة وحج، وغيرهما فاختلف الناس في الخطاب لكافر فأضيفه؟ إلى الشافعي أنه رأى توجه الخطاب إلى الكافر بذلك. وذكر عن أبي حنيفة أنه رأى أن الكافر لا يخاطب بذلك. وأما مالك فلم أعثر له فيها على نص، ولكن ذكر ابن خويز منداد من أصحابنا أن الصحيح عنده أن الكفار غير مخاطبين بذلك [وهو] مقتضى مذهب مالك، واستقرأ هذا من

قوله: أن الكافر لا يلزمه طلاق، ولا عتاق، ولا تقام عليه الحدود، وانفصل عن [ذلك] في السرقة، وإقامة حد الحرابة عليها، بأن ذلك لضرورة صيانة المال، بخلاف غيرها من الحدود التي القصد بها كفارة [لأهلها] فإنها لا تقام على الكافر، لأنه مع كفره لا يخاطب بما يكفر عنه هذا الذنب. وكثيرًا ما يجري في المذاكرات تخريج اضطراب أهل المذهب في مسائل الاختلاف في هذا الأصل، من يخرج اضطراب المذهب (...) المحيض إذا أراد زوجها المسلم وطئها على هذا الأصل، وكذلك يخرج مسألة المسلم المسافر [إذا كانت] زوجته النصرانية طاهرة فأراد وطئها لكونها مفطرة على مقتضى دينها وهو (...) يستبعد استقراء مسائل الأصول من الفروع. ونحن إن خضنا في المعاذير عن هذه المسائل و (لع ...) فيما أمليناه من كتب الفقه، ومن الناس من ذهب إلى أن الكفار مخاطبون بالمنهيات دون بالمأمورات والذين يرون أن الكـ]ـفار مخاطبون فإنه يرون [هم] مخاطبين شرعا، لا عقلا، وأما النفون خطابهم فيخالفون على (قو ...) و [هذه] جملة المذاهب. وأما الوجه الثالث فالنكتة فيه أن الصلاة والصيام مما يمكن أن (...) لكن يأتي اكتسابه فالأمر به سائغ، ولو منع بعضه لمنع كله، لكن المكتسبات تقع (...) بعضها إلى مقدمات مكتسبات لا يخرج الأواخر أن يكون ممكنة متأتية كإمكان الأوائل (...) أن يكتب، والقلم موضوع بين يديه يمكنه تناوله، ولا يفرق أحد من العقلاء بين هذين (...) إلا بأن يقدم فعلا آخر قبلهما وهو حركته إلى القلم، لكن لما كانت حركته إليه (بة ...) وإن كان لا يمكنه إيقاع صلاة متقرب بها إلى الله سبحانه، وهو مصر على كـ[ـفرة] (...) وما ذاك إلا لكون (...) (ص 6) ثم يقالل [ل] (...) [إذا]

فرضناه مأمورا بهما بشرط أن نقدم الإيمان، صار تاركا واجبا عليه، مع تأتي إيقا [دعه وهوي ما بيناه، فحصلت المعاقبة. نعم لو فرضنا خطاب الكافر بالصلاة ناجزا لفور الخطاب من غير مهلة يوقع فيها الإيمان [كان] هذا خطابا بالمحال، لأن الصلاة إذا أمر أن يتقرب بها إلى الله سبحانه في الحال التي لا يعرف فيها الله، والتقرب يتضمن معرفة الله فإنه كلف الجمع بين العلم والجهل، وهذا لا يمكن، فمن منع تكليف ما لا يطاق منعه، ومن جوزه أجازه، وقد مضى [الكلام] فيه، ويناقض من أحال خطاب الكافر بالصلاة بخطابه بتصديق الرسل، فإن تصديق الرسل قد أمر الكافر به، باتفاق أهل [العلم] المعتمد على قولهم، وقد علم أن تصديق الرسل لا يصح إلا بعد العلم بالله سبحانه الذي أرسلهم، فمن كان لا يعرف الله سبحانه فما خوطب بتصديق رسله، وذلك لا يمكن إلا بعد العلم بالله سبحانه. فإن قيل: لأن التوصل إلى ذلك يمكن بأن يعرف الله سبحانه، وكذلك يمكن الكافر أن يعرف الله سبحانه، فتصح منه الصلاة، وقد نوقض أصحاب هذا المذهب أيضًا بكون المسلم (الم ...) الذي دخل عليه وقت الصلاة مخاطب بالصلاة مع كونه لا تصح الصلاة منه إلا بعد إزالة حدثه. وقد ركب ابن الجبائي (...) المناقضة، وزعم أنه غير مخاطب بالصلاة، ولو بقي سائر دهره محدثا، وقد نسب في هذا الذي ركب إلى خرق الإ [جماع] أوجده أبو المعالي سبيلا إلى العذر، فقال: إن أراد أنه غير مخاطب بفعل الصلاة ناجزا مع بقاء حدثه فذلك صحيح، وإن أراد لا يأثم وإن اتسع الوقت لإيقاع الطهارة، والصلاة، وأنه لا يأثم بترك الصلاة سائر عمره فقد خرق الإجماع. وهذا الذي نقل أبو المعالي عن ابن الجباثي وأراه طول التأويل فيه، قد وقفت عليه لابن خويز منداد من أصحابنا، وذلك أنه صرح بأن المحدث غير مخاطب، ولو دخل الوقت. وأشار إلى إسناد هذا المهذب لمالك رضي الله عنه فقال: إن مالكا يقول: في الحائض إذا رأت الطهر قبيل الغروب، فإنه يعتبر في إدراكها الصلاة، أن يبقى بينها وبين الغروب قدر ما تغسل فيه، وتدرك ركعتين من صلاة العصر، فهذا منه إشارة إلى أن المحدث لا تجب عليه الصلاة إلا بعد تطهره، فأنت ترى هذا المذهب (ال ...) كيف مر عليه ابن

خويز، وأضافه إلى مالك، وقد كان إمامي في الفقه يقول حين التدريس للفقيه (...) الصبي والكافر، يجب أن يكون المذهب على قولين في اعتبار طهارتهم في إدراك الوقت و (ك ...) مجرى واحد، ويرى أن هذه الموانع إذا زالت فإنه يختلف في مراعاة الطهارة في إدراك وقت [الصلاة] (...) المذكور في بعضها في ما لم يذكر فيه خلاف، وإن كان غيره من المتأخرين يشير إلى منع الحد [ث] (...) هذا لا يمكن بسطه هاهنا، وإنما ذكرناه لأنه كان يبني الخلاف في هذه المسائل على النظر (...) وجوب الصلاة أو في صحة أدائها، فقال: من يقول إن الطهارة شرط في وجوب الصلاة يعتبر في (...) طهارة، ومن يقول إنها شرط في صحة الأداء، يعتبر زوال المانع خاصة، لأن الوجوب عنده (...) فاده حسن تصوره إلى الإمام بهذه الحقائق، والإشارة إلى ما اضطرب فيه الأصوليون وإن لم ر. وأما الوجه الرابع فإنا قدمنا لما نقلنا هذه المذاهب أن من قال إن الكفار مخاطبون [بفروع الشريعة] ثم إنما رجعوا في ذلك إلى السمع، إذ معنى قولهم: إن الكافر مخاطب أي سمع في الشرع خطابه به (...) من اختلاف في مأخذ مذهبهم فمنهم من قال علمنا ذلك لإحالة العقل خطابهم (...) علمنا أنهم غير مخاطبين سمعا، فهؤلاء هم متحاكمون إلى السمع مع (القد ...) أنهم غير مخاطبين. وأما الآخر (...) هنا خطاب (...) (ص 7) ([لم نك]) من المصلين]، ولم نك نطعم المسكين، وكنا نخوض مع الخائضين، وكنا نكذب بيوم الدين) (...) الكفار هذه الأمور هي

الموقعة لهم في العذاب، فدل ذلك على أنهم أمروا بالصلاة فلم يفعلوها فعذبوا عليها، ولا معنى عن هذا بقوله: هذا قول الكفار، والكافر لا حجة في قوله، لأن الله سبحانه أخبر بذلك عنهم تحذيرا للمؤمنين أن [يفعلوا] فيما وقعوا فيه من الموبقات، فلو كانت هذه أكاذيب لم يصح التحذير بها، ولا كذبهم البارئ سبحانه في كذبهم، ولا أنكر عليهم، كما أنكر عليهم ما ذكروه عن أنفسهم من هذه الموبقات. وكذلك إن قيل المراد بهذا: لم يكن من المصدقين للصلاة، وذلك يرجع إلى التكذيب بالإيمان لم يصح هذا التأويل، لأن تسمية المصدق بالصلاة مصليا مجاز، والكلام محمول على الحقائق، لا يصرف عنها إلا بدليل، وهكذا طريقة الاستدلال بقوله سبحانه: (ويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكاة) لأن هذا ذم (...) لا أن الزكاة منعوها بعد أمرهم بها لما نصوا عليها وقد قيل: إن هذا نعت لهن، فلا يستدل به، فيقال: وإن كان نعتا فالقصد [به] الذم، فبقصد الذم استدلالنا لا بمجرد النعتية. وقد ذكر ابن فورك معنى في تخصيص الزكاة دون غيرها من العبادات فقال [إن] الزكاة يحمل على منعها البخل والشح، وكانت العرب تأنف من أن يرمز إليها بالشح والبخل، وترى ذلك من المعرات التي تتقيها، اختصت الزكاة بهذا المعنى الذي يُتقى أن يشار إليها به، خصت، بالذكر دون غيرها من العبادات. وكذلك يستدل أصحاب هذا المذهب بقوله تعالى: (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة * وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة) فنص في هذه الآية على أن أهل الكتاب أمروا بالصلاة والزكاة، وإن سلكوا في المدافعة عنها (...) ما قدمنا دفعناهم بنحو ما تقدم، وحملنا الكلام على حقائقه، وقد قال تعالى في المنافقين: (وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى) فذمهم على التكاسل عن الصلاة، فلولا أنهم مخاطبون بها ما ذموا عليها. وهذا أيضًا يقول فيه الآخرون هم أظهروا الإسلام، والتزام أحكامه فخوطبوا كما يخاطب أهله، والقصد ذمهم على النفاق، فهذا وجه الاستدلال بالقرآن [ومن ثم] فلا

مطمع للقائلين بخطاب الكفار في التعلق بها، كما تعلقوا بالقرآن. وأما الآخرون الذين [يرون أن الكفار مخاطبون] فيتعلقون منها بما وقع في الأحاديث التي وصى بها النبي صلى الله عليه وسلم رسله للناس وقد اشتملـ[ـت] (...) منهم، ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، فإن هم أجابوا فأعلمهم بالصلوات، فإن أجابوا فأعلمهم [بالزكاة] كما وقع، وقد تضمن هذا أنه إنما وجب عليهم الصلاة والزكاة بعد الإجابة إلى الإيمان وقد تكـ[ـلمنا على ذلك في كتا [بنا المعلم بفوائد مسلم، وللآخرين أن يقولوا إنما رتب لهم رتبة التعليم، ولم يقصد رتبة الإيـ[ـجاب] [القا] طع على صحته. وأما طرق الاستدلال فإن من يقول إنهم مخاطبون يستدل بقطعهم في (ل ...) عليها، فلولا كونهم مخاطبين ما أقيم ذلك عليهم، وقد ذكرنا في فيما تقدم ابن خويز عن (...) التفرقة بينه وبين ما سواه من الحدود، وقد استدل من أنكر خطابهم بالإجماع على أنهم لا يقضون [الصلاة فلولا أنها غير واجبة لكانت تقضي، ألا ترى أن الصبي لا يقضي إذا بلغ، وعكسه الناسي إذا ذكر (...) عبادة مستأنفة بأمر متجدد فيتعبد البارئ بما شاء، والحائض لا تصلي، ولا تصوم وتقضي الصلاة (...) بقضاء المرتد أيام ردته وهو كافر، ولا معنى لقولهم كان قبل ارتداده ملتزما للصلاة (...) المفروضات، لا معنى لاعتباره، وإنما يعتبر فيها إلزام الله سبحانه إياها لعباده. وأما المرتد (...) خطاب الكافر فلا وجه [لهذا التفصيل] لأن النهي على الحقيقة أمر، وإن [التروك لا تفتقر إلى تصور بخلاف الفعل] الكلام في الصلاة (...) (ص 8] على كفره فإ [ن أمر] المتركات بخلاف المفعولات في حكم المقصود (ك ...)

فصل في تلخيص النقل لمذاهب الناس في العقل

بخلافها في حكم الخطاب، وقد (...) فإنه لا يمكن الخلاف في كون الكافر القاتل للرسل كالكافر الذي لا ذنب له سوى كفره، وما ذاك إلا أن الكفر (...) الرسل، ولو كانوا غير مخاطبين بالمنهيات لاستوى حال هذين الكافرين. وأما الوجه الخامس فإن القاضي لما [ذهب إلى] خطاب الكافر بفروع الشريعة رأى ذلك من مسائل الاجتهاد ومجاري الظنون، وما ذلك إلا لاعتقاده أن ما تعلق به من الآي يقبل [التأويل] وليست بنصوص في المراد بها هاهنا، وإنما هي ظواهر، ولا شك أن التعلق بالظواهر من مسالك الاجتهاد. وأما أبو المعالي فإنه مال إلى عد المسألة قطيعة وسلك مسلكا آخر، غير مسالك القاضي، وكأنه يشير إلى إجماع مستقر أو تعلق بما [هو] من مخايل نقلة الشرع، فيقول: معلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا الناس عامة إلى قبول شريعته عامة، والتصديق بكل ما جاء به، واتباعه على ما هو عليه، ولكن فيما جاء به من العبادات ترتيب وتقديم وتأخير يتعلم منه بعد التزام تصديقه في كل ما جاء به، وسلوك ما هو عليه من الصراط المستقيم، والدين القويم، هذا مقتضى خطاب الكفار على الجملة وبالله التوفيق. فصل في تلخيص النقل لمذاهب الناس في العقل اعلم أن هذه المسألة تكلم عليها أصناف من المنتحلين للعلوم، منهم الفلاسفة، والأطباء، والمتكلمون والفقهاء. أما الفلاسفة فهم قوم يزعمون أن المقصود من علمهم البحث على حقائق الموجودات وأسبابها، والعقل من أشرف الموجودات المحدثات. وأما الأطباء فإنهم يرون أن المقصود من علمهم معالجة الأمراض، ومن أشدها مرض العقل، فيفتقرون إلى معرفته على الجملة. وأما المتكلمون فإنهم أهل النظر، والاستدلال، ولا يتم النظر والاستدلال إلا بعد حصول العقل، فيفتقرون في معرفة مقصودهم إلى البحث عما لا قوام له إلا به. وأما الفقهاء فمقصودهم معرفة أحكام التكليف، ومن شرط لزومها العقل، فيفتقرون إلى معرفة ما هو شرط في مقصودهم. فكل واحد من هؤلاء [له] في تفسير العقل ما يليق بصناعته.

فأما الفلاسفة فإن منهم من يقول: إن العقل شيء لطيف يشابك الأشخاص، وتسلسل (...) الفلسفة على هؤلاء تفسير هذا اللطيف، فقالوا: هي جزئيات تنحل من كلي الفلك الأعلى الذي هو العقل (...) ومحركها، ومدبر العالم، وإنما تشابك جزئياته الأشخاص الإنسانية عند كون مزاجها، و [آلا] تها على (...) ما فاض عليها من هذا العلوي، فإذا خرجت من هذا الاعتدال نافرت هذا المشابك، ولم تقبله (...) قوة طبيعية يميز بها حقائق المعلومات. وأما الإسلاميون فجمهورهم يصرف العقل إلى العلوم و (...) [بعض المتكلمين] يرونه غيرها. فمنهم أبو المعالي، فقد صرح في كتابه بكونه خارجا عن العلوم وأضاف [هذا] المذهب إلى المحاسبي، بعد أن كان في أول عمره اشتد إنكاره في تصانيفه على من أضاف هذا (...) المذهب عنه، وذكر أنه أعلى قدرًا وأجل نظرا من أن يقول هذا، وتأول مقاله هذا، أن لو صح نقله عنه [وإذا] أطلق المعرفة فإنما يريد بها معرفة الله سبحانه، فلعله أراد أن العقل ليس هو معرفة الله سبحانه، ولم (...) أراد بالغريزة هاهنا العلوم الضرورية التي جبل الإنسان عليها، وهي غريزة فيه، ونهاية (...) [أرا] ده في إنكار إضافة هذا المذهب لأحد م السنة، ثم وقع فيه الآن. ولكنه في آخر عمره (...) المعتزلة أن العقل هو ما يصرف عن القبيح، ويدعو إلى الحسن، فإن أرادوا بهذا الصارف (...) الطريقة التي سلكها أبو المعالي، وإن أرادوا إنما العلم الذي به يصرف عن القبيح (...) العقل هو ما لا يصح الاستدلال [إلا] به، فإن أرادوا (الع ...) آخر غير العلم و (...).

(ص 20] العقل هو العلم وتابعه على هذا الشيخ الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني. وقال الجبائي: هو العلم الداعي إلى الحسن، والصارف عن القبيح، وقالت الخوارج هو أن يعقل عن الله سبحانه أمره ونهيه، وقال بعض الناس هو ما يميز خير الخيرين، وشر الشرين. وهل هذه المذاهب متقاربة المرمى؟ أما الأشعري فجرى على تحديد الشيء باسمه الذي هو أوضح من الاسم الذي سئل، عنه وهذا كحد العلم بالمعرفة، وقد تقرر أن أهل اللغة يطلقون هذه العبارة على معنى واحد، فيقولون عقلت هذا الشيء، وعلمته، وعرفته، وفهمته، ودريته، وزكنته، إلى غير ذلك من الألفاظ، فاقتضى هذا أن العقل هو العلم، كما أن العلم هو المعرفة. وأما الجبائي فسلك هذا المسلك، لكنه التفت إلى اشتقاق هذه التسمية، وهي مشتقة من المنع، ألا تراهم يقولون عقل بطنه (... ت)، وعقلت البعير، ويسمون عصبة الإنسان عاقلة لما كانت تمنع، فبمقتضى هذا لا يسمى من العلوم عقلا إلا ما يحصل فيه معنى هذا الاشتقاق، وهي العلوم المانعة، ولهذا لا يسمى علم الله عقلا، إذ هو المتقدس عن المانع، وإنما سميناه حكيما وإن كان في الحكمة معنى العقل، لأن هذه اللفظة مأخوذة من حكمة الدابة، وهي الحديدة التي فيها، اتباعًا للشرع في إطلاق هذه التسمية، وعلى هذا المعنى جرت بقية المذاهب التي ذكرناها، لأن فيها معنى المنع. وأما القاضي فإنه ذكر أن العقل بعض العلوم الضرورية، واختلفت إشارته إلى تعيين هذه العلوم، فقال مرة: هي العلوم الضرورية بجواز الجائزات، واستحالة المستحيلات، وأشار مرة إلى التحديد، فقال مرة هو العلم باستحالة اجتماع الضدين، وأن العلوم لا تنفك عن ثبوت أو انتفاء، وأن الموجود لا ينفك عن حدث أو قدم، والعلم بمجاري العادات ككون الجبال لا تسير، والبحار لم تفجر، وأن الخبر لا ينفك أن يكون صدقا أو كذبا. ونازعه أبو المعالي في بعض هذه الوجوه، فقال: الأخرس على الحقيقة من لا كلام بقلبه، ولا لسانه، ولكنه إذا انصاف إليه الضمير لم يعقل معنى الخبر، ومن لا يعقل أصل الشيء لا يعرف أقسامه وأحكامه، وقد جزم القاضي القول في كون هذا غير مكلف، إذا لم يتأت إفهامه بالإشارة، وردوا القول في كونه عاقلا. وأولى من هذا الاعتراض [إنه] قد يستثنى عن أفراد عن القسم بالذكر، لأن قوله: من أركان العقل أن يعلم أن المعلوم لابد أن يكون ثابتا أو منتفيا، لم يرد بهذا تعيين [ذلك] وإنما أراد أن يعلم أن هذا من حكم المعلوم على الجملة، وكون الخبر لا ينفك عن الصدق

أو الكذب يعود إلا (...)، أيضًا قوله في موجب العادات وزعم أن لمن لم يطلع على الأمور التي يستنبط منها العادة كمن خلق فريدا لا يعلم العادات (... بذا) عاقل. والقاضي إنما أشار إلى العلم بما في حق المطلعين على أسبابها، فسقط عنه الاعتراض بهذا الذي (...) لذلك اعترض عليه بأن العلم باستحالة اجتماع الضدين قد أنكره قوم، وجوزوا اجتماعهما، على حسب ما يقوله أهل الكمون والظهور، وقال قوم أيضًا بأن العلم باستحالة اجتماعها نظري، والنظري لا يعد ركنا في العقل، وهذا أيضًا يجب (...) لا يلتفت إلى خلاف من خالف في استحالة اجتماعهما. وأهل الكمون والظهور تخيلوا في الكمون معنى (...) حالة ومن قال إن ذلك علم نظري فإنما قال ذلك لمعنى آخر مبسوط في مواضعه. وقد قال بعض أتباع القاضي: إن العقل (... حد). فرأى العقل هو العلم الحاصل للعالم بأنه عالم، فإن المعلوم لا ينفك عما قلناه، وكذلك الموجود لا ينفك [عن القدم أو الحدوث] (...) إلى هذا التخيل المحافظة على أصول مهددة، وهي كون العاقل حصل على حكم، وحال، وكون الأحوال في مثل (...) ومن شرط العلة أن تكون واحدة في الأحكام العقلية، وهذا إفراط في التخيل في حفظ أصل، إلا (...) لا ي أصل آخر، قد علم أن من علم معلوما فعلة أنه عالم به هو نفسه علمه بذلك المعلوم، ومعلوم أن العلم [لا يخلو] من ثبوت أو نفي غير (...) قدم أو حدث على ما أشار إليه (ما ...) عالم هو (...) يصح له (...) (ص 21) الخبر لا ينفك عن الصدق والكذب، فليعد مثل ذلك الجواب هاهنا، ويقال العلم بأن الموجود لا ينفك عن حدث أو قدم، معناه إثبات الأزلية لهذا الموجود أو نفيها عنه فعاد هذا التقسيم داخلا في قولنا من أركان العقل أن يعلم أن المعلوم لا ينفك من ثبوت أو نفي.

وإن لم يسلك هذا المسلك، قلنا: هذا مما لا يقال، انطلاق هذه التسمية التي هي العقل على أعذار أشرنا إليها، ولا يحد أيضًا لأنه لا يلوح معنى تجتمع فيه هذه الأعذار ويتميز به عما سواها. وقد أحسن القاضي في أن صاغ في هذه المسألة لنفسه دليلا، اشتمل على نقض سائر المذاهب على كثرتها سوى مذهبه، وبحث عن الحق بالتقسيم فقال: لا يمكن أن يكون العقل عدما إذ العدم لا تخصيص له بالذوات، فيقتضي كون شخص عاقلا، دون شخص آخ، فثبت كونه موجودا، ولا يصح أن يكون هذا الموجود قديما، إذ لا اختصاص له أيضا بذات دون ذات، ولا يصح أيضًا أن يقوم بالقدم كما تقوم به الصفات، فثبت كونه محدثا، ولا يصح كونه جوهرا لتماثل الجواهر، فليس العقل بأن يكون هو العاقل أولى من أن يكون العاقل هو العقل. وأيضا فإنه لا يصح قيام جوهر بالعاقل كما تقوم به الصفات، فثبت كونه عرضا، فلا يصح أن يكون الأعراض كلها، لأن من لا يتحرك، أو من لا يتكلم فذو عرض وهو عاقل، فصح أنه بعضها، ولا يصح أن يكون هذا البعض خارجا عن العلوم، لاستحالة وصف من لا علم له أصلا بأنه عاقل فصح أنه من العلوم، ولا يصح أن يكون كلها، لأن منها دقائق علوم النظر، والأبله المغفل لا نظريات عنده، وهو مع هذا عاقل، فصح أنه من الضروريات، ولا يكون كلها، لأن الأعمى والأصم فقدا علوما ضرورية، وهما عاقلان فصح أنه بعض العلوم الضرورية، وهذا نهاية ما أنهى إليه القاضي مذهبه على اختلاف عنه في العبارة عنه (قد ... ته). وهذا دليل كما تراه قد بحث عن الحق بالتقسيم المنحصر بين النفي والإثبات، وهو من أجل طرق الاستدلال لكن أثار أبو المعالي في أحد هذه الأقسام منازعه أدته إلى الخلاف في حقيقة العقل كما حكينا مذهبه فيه فقال، العقل صفة (خ ...) العلوم (...)، والانفصال عن ما أبطل به القاضي هذا الوجه أن يجعل العلوم شرطا في وجود العقل الذي هو خلافها فلا (... ها) مع فقدان العقل، كما لا ينكر امتناع وجود العلم مع

فقدان الحياة، وهذا الذي قاله جواب القاضي عنه (...). وهذه المسألة من هذا الطرف، وهو امتناع وجود المشروط دون شرطه، فانظر إليها من الطرف الآخر، وهو صحة وجود الشرط دون مشروطه، فإن كانت العلوم شرطا في هذه الصفة التي هي العقل عندك فلتجز وجود هذه العلوم التي هي شرط مع فقدان العقل، وهذا لا يجوزه عاقل، فإن تعدي هذه المرتبة، وزعم أن هذه الصفة لازمة الوجود للعلم، كملازمة الجوهر للعرض، قيل له هذا يهدم أصلا عظيما، فلتجوز أن يكون القادر إنما كان قادرا للقدرة و (...) لم يقم على إثباتها دليل، وإن كنا نعلم ارتفاع كونه قادرا عند ارتفاع القدرة، وثبوت كونه قادرا عند وجود [القدرة و] العرض المقدر يلازمها في الوجود، ولتجوز مع هذا العرض عرضا آخر هكذا أبدا في القدرة وفي غيرها من الصفات. [واعرض] عليه أبو المعالي في تصحيح مذهبه، وإفساد مذهب القاضي بأن قال: لو كان العقل علما ضرورية لم يكن من انتفت الفكرة عاقلا لكونه ذاهلا عن هذه العلوم الضرورية. فهذا يجيب القاضي عنه بأن هذا في حكم العالمية (...) المؤمنين، وإن كان الإيمان غير خاطر بباله حين غفلته لكونه إذا أشغل نفسه بفكرة أذهلته عن هذه العلوم (...) إذا اختار أحضرها في نفسه في الحال، ففارق حال الطفل الرضيع، والكبير المجنون، فإن محو هذه المعاني (... يا بديها) ولا ردها، مصروف إليها، فليست هذه العلوم في نفوسها حاضرة موجودة بالعقل، ولا موجودة بالفعل، (... سوا) لا اعتراض به في كتب علم الكلام على (...) كان أركان (...) (ص 22) على الجملة. فلنذكر الآن طريقته في البحث عنه على التعيين، فاعلم أن كل علم يشار إلى الخالي منه بأنه ليس بعاقل. وكذلك في عد ذلك العلم ركنا من أركان العقل، لأنه لو لم يكن كذلك لم يوصف العاري منه بكونه غير عاقل، وهذه جملة واضحة مسلمة، لكن أضيف إليها أن

كل علم يوجد بالعاقل، ولكن يشاركه فيه من ليس بعاقل، فإن هذا العلم لا يعد ركنا من أركان العقل، ولهذا لم يعد العلم بوجود اللذة والألم، والعلم بالنفس، والميز بين الكثرة والقلة من أركان العقل، لما كانت البهائم ومن ليس بعاقل من الناس تحصل له هذه العلوم عندي للنظر فيه مجال. وهذا مسلم لو قلنا إن هذه العلوم المشار إليها هي جملة العقل، لأنا لو قلنا ذلك اقتضى ولابد كون هذه العلوم ليست من العقل، لوجدنا إياها فيمن ليس بعاقل، ولا يصح أن توجد العلة مع عدم حكمها، لكنا نقول: العقل جملة علوم، فلا يبعد أن تكون البهائم تحصل على بعض هذه العلوم، ولا تكون عاقلة لفقدانها ما فقدت من بقية العلوم، وهذا واضح لكن قد نقول من انتصر لطريقة القاضي إن جملة العلوم التي يشار إليها بأنها عقل لا يمكن افتراقها حتى يوجد منها بعض ويفقد بعض، فلو كانت هذه التي يتكلم عليها معدودة في العقل لما صح وجودها فيمن ليس بعاقل. وهذا نهاية ما يقال في هذه الطريقة، وهي مفتقرة إلى نظر يدق، ويتشبث بالنظر في قوانين من أحكام العلل، وطريقة القاضي تقتضي أن العقل مما لا يعلل، ولا يحد كما تقدم بيانه. وأما من حكينا عنه أنه حد العقل بأنه ما لا يصح الاستدلال إلا مع وجوده، فإن طريقته أكشف بمعنى العقل من سائر الطرق التي ذكرنا، لولا ما تعقب عليه من أن النظر ما يفتقر أن يبني على علوم ضرورية ليست من العقل، وهذا التعقب لازم إن أراد من حكينا حده الإشارة إلى كل نظر. وأما طريقة الجبائي ومن ذكرنا أنه يسلك مسلكه فإنما يرد بالدليل الذي حكينا عن القاضي، وذكرنا أنه اشتمل على نقض سائر المذاهب، وهذا المذهب من جملتها، ويختص برد آخر، وهو ما قدمناه، من إسناد التحسين والتقبيح إلى السمع، ولا أحد يقول إن مدارك السمع تعد ركنا من أركان العقل. وقد حكينا سلوكه هذا المسلك، وتقييده العقل بالميز بين خير الخيرين، وشر الشرين، فإنما دعاه لذلك اعتقاده أن البهائم تميز بين خير وشر، فتنفر عن ذابحها، وتحن لعالفها، لكنها مع هذا يقصر ميزها عن ترجيح بين خير وخير، وشر وشر، وهذه الحدود كلها مطلوبة، والطريقة (الحد ...) أن الإنسان يميز ما بينه وبين الجماد، فيحد الجماد [بأنه ما] لا حس له ولا إدراك، ولا حياة، ثم يرقى عن هذه الطبقة فيميز بينه وبين البهائم، وإن كانت حساسة دراكة، فإنه باينها بمعارف، وميز، وفكرة يستنبط بها حقيقة ما يفكر فيه، ثم يفرق بينه وبين الطفل الرضيع (...)، فيجد أحدهما قد كان قابلا بما اختص به

العاقل، ولكنه عري عن هذا بعد انصافه به، ويمكن في العقل (...) الاتصاف به، ويد الطفل الرضيع لم يوصف بذلك، ولكنه جار إلى أن يوصف به إن عاش إلى الحلم، وسلم من الآفات (...) وليس كل عاقل في نفسه فرق ما بين بعضها وبعض، لكن جمهور العقلاء لا يحسنون العبارة عن هذه الفروق (...) وهم [كل] بحسب مقتضى صناعته، فيقول الطبيب: قد علمت أن الجسم له أفعال طبيعية واختيارية، وأفعال آلية، وغير (...). على هذه الطريقة في البحث على ما يعرفه أهل هذه الصناعة مما لا يمكننا إيراده هاهنا، فيخرجه ذلك إلى أن العقل قوة طبيعية، كما يخرجه البحث إلى إثبات أربع قوى في الطعام، جاذبة، وممسكة، وهاضمة، دافعة، ويقول القوة الطبيعية هاهنا فقدت أصلا من البهائم، وفقد أيضًا من البهائم المزاج القابل لها، وفسد في الكبير والمجنون، المزاج القابل لها (...) الاعتدال المناسب لها فقد العقل، ويطمع الطبيب بأن يصلح مزاج هذا حتى يعيده إلى ما كان عليه، فيعقل (... عية) عندما عاد (...) الطفل الرضيع لم يكتمل فيه هذا المزاج، ثم فسد فأطمع (...) هذا المزاج (...) قليلا كما للكامل (أع ...) لعقل (ص 23) هيولاني وعقل بالفعل، وعقل بالقوة إلى غير ذلك من تخاليطهم. ونحن نسلم على الجملة بأن العقل لا يكون مع فقدان سائر العلوم أصلا، وأنه حاصل مع وجود جميعها، ونعلم أن العلوم المشار إليها هاهنا في الممكن أن يخلقها الله سبحانه في جوهر غير منضم إلى شيء آخر، ولا مفتقر إلى شيء آخر، لكن قد علم أن هذه العلوم إنما تكون في بنية مخصوصة، ومزاج معلوم، واعتدال ما، وهذه الأمور المفتقر إليه عادة عندنا، وعقلا عند غيرنا، ومن خلق الله سبحانه عندنا، ويمكن أن يكون لها أفراد أخر،

وكم في العالم من شيء مربوط بغيره إلى أعداد كبيرة. لكن هاهنا يختلف المسلمون ومن سواهم، فالمسلمون يقولون: الجميع خلق الله سبحانه، والمحققون من المسلمين [يرون] هذه الارتباطات عادات، سنة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، وغيرهم من المخلطين، يخطبون في الظلمات، ويظنون أنهم يبصرون وهم في عمى. فيقول بعضهم بالطبيعة، وبعضهم بالتولد، وبعضهم يربط شيئا بشيء، ويجعل واحدًا كائنًا عن واحد، حتى ينتهي إلى الفلك الأعلى فتفيض منه قوة على كل شيء فيأخذ كل شيء منها بقدر ما يقبل مزاجه المناسب لذلك الفيض، كالشمس نوره يسطع إذا أشرق على الأرض الكثيفة الصقيلة التي لا حائل بينها وبينه، ويفيض إشراقها على ما ليس بكثيف، ولا صقيل، وبينه وبينها حائل من غمام ونحوه، فيكون الإشراق بخلاف الأول، وما ذاك إلا لأن القابل من الشمس هاهنا خلاف القابل الآخر، وإلا فنور الشمس على حال واحدة، وكذلك الإنسان خلق في قلبه أو دماغه مزاجا ونورا، يقبل من هذا النور الأعلى بمقدار ما تحمله هذه الغريزة، والفطرة المخلوقة في الإنسان فهي مفقودة في البهيمة وموجودة بالكبير المجنون، ولكن حال بينها وبين القبول حائل كما يحول السحاب بين الجبل والشمس، فلا يلوح عليه إشراق الشمس، وقد يلوح عليه ضعيفا، بقدر السحاب. ولهذا اختلف أحوال العقل والعاقلين، فواحد فيه مبدأ هذه الغريزة، ولكنها لم تكمل كالطفل، وآخر بخلاف. فإلى هذا المعنى يرمز أبو المعالي، وهو مبلغ علمه، الذي أشار إليه على الجملة، لكن مسلكه فيه، غير مسلك أهل الإلحاد والتعطيل، وهو يعتقد أن الكل خلق الله سبحانه، وأنه قادر على خلق كل واحد من هذه الأمور، والروابط، من غير استناد إلى مخلوق آخر، ولا يعتقد أيضًا أن العلوم أنوار، ولا أن المحدث يفعل في غيره، ولا أن الفلك يخلق أو يؤثر، لكنه يرى افتقار (ال ...) معان أخر، إذا كملت في الإنسان كان عاقلا، وبكمالها وانتفاء الآفات عنها تكون كثرة علومه، ومعارفه، لكنه يبسط طريقته على أسلوب آخر، من أحاط علما بما قلناه جملة وتفصيلا تفطن لطريقته التي أشار إليها. وإنما بسطنا القول في هذا قليلا لما رمز إليه أبو المعالي، لئلا يسبق إلى ظن الهجوم المجترئ سوء الظن بأبي المعالي، وبنسبه إلى الميل إلى مسلك لا يسلكه المحققون من المسلمين.

فصل في الرد على السوفسطائية

فصل في الرد على السوفسطائية الكلام فيه من ثلاثة أوجه: - معنى التسمية. - ونقل صورة المذهب. - والرد عليه. أما معنى التسمية فقد غـ[ـفل عنه بعض] المصنفين فزعم أنهم نسبوا إلى رجل يسمى سوفسطان، وليس كما قال، وإنما معنى هذه التسمية التي هي سوفسطا، أي حكمة مموهة، هذا تفسير هذه اللفظة باليونانية، وقد ألف فيها اليونانيون جزءا عدوه أحد أجزاء علم المنطق و [كذلك لفظه] فيلسوف، ومعنى هذه التسمية باليونانية: محب حكمة، فكأنهم قدروا أن من ينكر العلوم، ويحتج إلى إنكارها ينتقل (...) عن مذاهبهم، ويغلط مريض الفم في طعم ما يذوق، ومريض البصر في رؤية ما يدرك، كصاحب اليرقان، فكأن هذا تمويه، [في العلم] أو المعارف. وأما الوجه الثاني وهو نقل مذاهبهم، فإنهم على أربع مقالات منهم من غلا في ثبوت العلم، [وزعم أن العلم] والجهل سيان فمعتقد حدث العالم كمعتقد قدمه وكلاهما عالم، ومنهم من غلا على المناقضة لهذا فقال لا (...) من تشكك، هل ثم، علم أم لا، ومنهم من أثبت العلم، ومنع من التوصل (...) ومن تنقل أصحاب (المم ...). الوجه الثالث فالمذهب (...) رأت لأن نهاية (...) ضرورة لا (...) الحيلة (...) (ص 24) يرجى مداواة هؤلاء كما يتحيل الطبيب إذا أعياه على

فصل في حد العلم

القياس، فأمر بعضهم بصفع رجل منهم، فلما عتب على ذلك، وفر، قيل له، ولعلنا قبلنا رأسك، وأدنى إلى رجل منهم رائحة خبيثة، فلما نافرها، قيل له لعلنا أشممناك المسك، وأتى بعضهم إلى بعض الأئمة مكابرا له في مذهبه، فأمر من غير الدابة التي أتاه عليها) فلما خرج عنه وطلبها، وشكا فقدها، قيل له لعلك جئت راجلا، فلم ترد عليه حتى توب عن مذهبه، ومن أبدى هذا المذهب قوم يبطن خلافه، ولهذا إنما يتفق عليه الجماعات عن تواطؤ أو أسباب دعت إلى ذلك. وقد ذكر أبو المعالي طريقة في الرد تختص ببعضهم، وهم من نفي العلوم أصلا، فإن نفى ما علم على زعمه، فقد أثبت ما نفاه، وما قدمناه يغني عن هذا الرد، ويشتمل على إنكار مذاهب الجميع. فصل في حد العلم اعلم أن المقدم على ذكر حده، كيفية استخراج حده، وقد تقرر أن الحس والإدراك يؤدي إلى العقل صور المحسوسات مميزا بعضها من بعض، والإدراك والحس يتعلق بالجزئيات، فيرى البصر إنسانا ثم إنسانا، هكذا إلى ما لا ينحصر، ويطلع العقل على العدد الكثير، فيتصور منه كليا جامعا لحقيقة تلك الآحاد التي أدركها البصر واحد فواحدا، فذلك المعنى هو مطلوب العقل، والعبارات عنه مطلوب الحاد. وكذلك العمل فيما لا يشاهد فإن الإنسان إذا حصل علما بمعلوم أحس في نفسه بالاعتقاد الذي حصل ثم لا يزال يحصل علما حتى يطلع العقل أيضا على معنى وحقيقة اجتمعت فيها تلك الأعداد وتميزت بها عن غيرها من الأجناس، وهذا المعنى أيضًا مطلوب الحاد أن يعبر عنه. فإن وجد في اللغة التي يخاطب بها السائل عنه لفظا وجيزا لا احتمال فيه، وهو مطابق لذلك المعنى الكلي، الذي حصل في الذهن، مطابقة لا تقصير فيها ولا زيادة، فذلك هو الحد المطلوب، وإن وجد عبارة عنه يحصل منها ذلك المعنى المطلوب ولكنها ببسط وبيان، أو تركيب وتجوز إلى غير ذلك مما يستعمل في الشرح والتبيين كان ذلك تفسيرا ورسما. وإن لم يجد عبارة أصلا فذلك لا يحد، ولا يفسر، لكن يحال فيه على ما تقرر في

النفوس على الجملة، وهكذا يستخرج حد الجنس، بأن يقال ما حد الحيوان؟ فيقول: الحي الجساس، لأن العقل أدركه بهذا المعنى، ثم تجد العقل يرى الإنسان من جملة الحيوان فيجده مخالفا للبهائم، فيطلب التفرقة بينه وبينها، فيعبر عن هذه التفرقة فيقول: حده كذا وكذا، على حسب الاختلاف فيه، بين الفلاسفة والمتكلمين، فيكون قد حد [هـ] من هذا الجنس. ومثال ما لا نجد عبارة مطابقة للمعنى الذي أشار إليه على شرائط الحدود، ولكن نجد عبارة في تفسير وبيان، العلم لا يقطع على أنه قد أحس العقل فرقا بين العلوم وغيرها من الصفات، لكونه تصورا ما، وغيره بخلاف، كما أن التصور أيضا يكون فيه تردد فيكون شكا، كالتردد هل زيد في داره قائم أو قاعد، ويكون في هذا التردد تغليبا، فيكون ظنا، كتغليب الخاطر للامطر في شدة القيظ (...) لا تردد فيه أصلا، فينقسم إلى التصميم المصيب، والمخطئ كاعتقاد المسلم أن الله واحد، وتصميمه على ذلك، واعتقاد [الكافر] إلهين وتصميمه على ذلك، وفرق ما بين التصميمين، إصابة المسلم، وخطأ الكافر، ثم المصيب في التصميم تكون إصابته (...) وبصيرة، وبرد يقين، واستدلال صحيح، عن تقليد واتباع للآباء أو غيرهم، ففي مثل هذا يغمض الفرق بين العلم والتقليد مع (... ين)، وبينهما ثلاثة فروق يحسها الإنسان من نفسه: - أحدها: أن المقلد تطمع نفسه، ويتشوق خاطره إلى البحث (... يه) وزيادة الوضوح، فيما هو عليه، والعالم العلم اليقين لا يجد من نفسه ذلك، لأن العلم غاية الانجلاء والوضوح فلا مطلب (...). - والثاني: أن المقلد يجد نفسه متكلفة لربط خاطره بهذا المعتقد، وكالمنقلبة إلى نقيضه، وبهذا يسمى اعتقادا (...) من هذا الربط، والعقد للنفس، والعالم عن بصيرة وثلج قلب، لا يجد تكلفا لما في خاطره بما تصوره بل هو (كاد ...) عليه من الانشراح، لهذا المعنى والانبساط إليه، حتى كأن النفس تجدد به، وإلى هذه الأشياء

(...) سلام فهو على (...) ([من يرد الله أن] يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء) (... كة) عن الاعتقاد (...) (ص 25) وربط الخاطر. ثم فرق ما بينه وبين الشك والظن: التردد فحصل معناه ربط الخاطر بأمر من غير تردد، ثم فرق ما بينه وبين الجهل ما قدمناه من الإصابة، والخطأ فتزيد في الفروق أن تقول على جهة الصواب، ثم فرق بينه وبين العقد التقليدي المصيب ترك الإصغاء إلى من حاول التمويه عليه بأن يشك، وأن لا يتشوف إلى مزيد بحث وبيان، وأن تنشرح النفس انشراحا لا يجد بعده تكلف ربط النفس، فتزيد هذه الفروق أو أحدها فيما قدمناه، فيكون ذلك تعليما بحقيقة العلم وحده الذي فارق به ما سواه. ولأبي المعالي في هذا الفصل كلام أقفله فانبهم على القارئ معناه، وذلك أنه لما ذكر هذه الفروق تخوف من معارضة، وهي أن الإنسان الذي تقرر في نفسه محال ثبوت أمر لا موجود ولا معدوم وعلم ذلك علما ضروريًا عند نفسه، ثم سمع أئمة يقتدى بهم يقولون له إنك متى نفيت الأحوال، وهي أمور لا توصف بالوجود ولا بالعدم، انسد عليك إثبات صفات الله سبحانه، ولم تعلم أنه عالم بعلم، ولا قدر بقدرة على حسب ما قال به بعض الأئمة، المقتدى بهم في هذا الفن، فهذا إذا كان مما يعتقد وجوب تقليد من أخبر بذلك، ويتخوف إن لم يعتقد ثبوت الحال أن يقع في نفي الصفات، فصمم على اعتقادها تقليدا، فلا شك أنه تثور في نفسه ثوائر يتخيلها تشككا فيما علمه ضرورة من استحالة ثبوت أمر لا موجود ولا معدوم، وهذا إن ثبت كونه شكا قدح في ما قلناه من الفروق. فاعتذر أبو المعالي عن هذا، فإن الذي يجده هذا المسكين في نفسه ليس بتشكك في العلم اليقين الذي عنده، ولكنه مجاهدة لنفسه في التعامي عنه وتناسيه، لئلا يتشوش عليه اعتقاده التقليدي. وأنت إذا قرأت هذا الفصل الذي أورده أبو المعالي في باب حد العلم في آخر كلامه عليه، وقرأت كلامنا هذا تبينت أنه لا يكاد يستبين معنى هذا الذي بيناه إلا بعد كد الخاطر فيه [ممن] ارتاض بالحقائق.

وأما ما أشار إليه أبو المعالي من كون العقد التقليدي المصيب مثل الجهل، واستدل على ذلك بأن من سبق إلى نفسه أن زيدا في الدار، وهو ليس بها، وتمادي معتقدا لذلك إن دخل زيد الدار، فقد تبادل العقد، ولم يتبدل حال المعتقد، ولا أحس من نفسه اختلاف حالين عليه، وإن اختلف أحوال زيد، وما ذاك إلا لكون العقد التقليدي المصيب، والجهل سيان، وأغلى في هذا حتى أخذ في العذر عن ابن الجبائي، وذكر أن قوله في كتابه: إن العقد الصحيح والجهل مثلان، مراده به العقد التقليدي، ولم يرد به أن العلم والجهل مثلان، وغلط من نقل ذلك عنه. وهذا الذي قاله مطلوب، أما كلام الرجل فوق مطلقا، وقد نفى أبو المعالي عنه وعن غيره من المعتزلة في كتابه المترجم بالبرهان، أنهم يرون تماثل العلم والجهل، هب أنه تأول قوله هذا فما يصنع بما حكاه عن غيره من المعتزلة؟ وأما اعتماده على أن حال المعتقد لا يختلف عليه، وإن اختلف المعتقد فغير مسلم عندي، لكن الكلام فيه يدق، ويفتقر إلى بسط، ونظر في أحكام التماثل وحقائق المتعلقات، وهذا إنما ينبسط في فن [الكلام. وأما] إن زيدا في الدار، وزيد ليس بها، فلا شك في كون هذا جهلا، فإذا أبصر هذا المعتقد زيدا دخلها فلا شك في كون (ا ...) والفرق محسوس في النفس لما شاهدت أسبابه وأما إذا دخل زيد الدار، والمعتقد غير عالم بما حدث فإنما هو (يا ...) الأول مكتسب لتجديده على ما كان عليه، فالثاني ليس باعتقاد لأمر مستأنف، ولا لمعنى مغاير للأول ولو (اعت ...) لكان هذا العرض الأول باقيا بعينه لا يرتفع، وإن دخل زيد الدار إذا لم يخطر المعتقد أنه قد دخلها، لكن لو شاهده (...) لاستحال فرض بقاء العرض الأول، لحدوث معنى مضاد للأول لا يصح اجتماعه معه، وقد فرضنا أن الاعتقاد التقليدي لم يحدث (...) الأول بل يصح بقاؤه

بعينه (...) لنا ببقاء الأعراض كلها، ولو تبدلت حال زيد، ومع هذا كله فإنما يثلج الصدر فيه (و ...) إليه من الاعتراض عليه، بسط القول في حقائق التماثل، وحقائق المتعلقات. ولما أحس القاضي بأن هذا (...) لا يكاد يجد عنه عبارة عن صيغة الحدود [مال] إلى الاقتصار على التحديد اللفظي لا المعنوي، ورأى أن (...) عبارة عبرنا له بأخرى، (وج ...) فيه على ما (...) أصحابنا فمنها (...) إدراك (المعا ...) (ص 26) وبعضهم إثبات المعلوم على ما هو به، ومنها قول بعضهم: الثقة بالمعلوم على ما هو به. ومنها قول الأشعري ما أوجب كون محله عالما، وقوله الآخر: تسمية العالم عالما، ومنها قول الإسكافي: ما يعلم به المعلوم. ومنها قول القاضي: المعرفة، وقال مرة أخرى: معرفة المعلوم على ما هو به. وهذه زيادة لا يفتقر إليها، ورأى بعض أصحابه أن هذه الزيادة يفتقر إليها ومنها قول ابن فورك: العلم ما صح من الموصوف به إحكام الفعل وإتقانه. وأما المعتزلة فحد من تقدم منهم العلم بأنه اعتقاد الشيء على ما هو به. وقيد المتأخرون هذا بأحد تقييدين، أحدهما مع سكون النفس إليه والآخر إذا وقع عن ضرورة أو دليل. وساهمهم أبو بكر القفال من أصحابنا في ذكر الشيء في حده للعلم، فقال حد العلم أنه إثبات الشيء على ما هو به، ولو يقصد بذكر الشيء هاهنا ما قصدوه. وقد اعتذر عنه بأنه أشار إلى طريقة من قال من أصحابنا بأن النفي والعدم لا يعلم

منفردا من غير استناد إلى وجود حاصل، أو سابق، أو مترقب، أو مقدر، فمن علم عدم ما بين يديه فقد استند علمه بالنفي إلى وجود حاصل، حاضر، وكذلك من علم عدم أعاله بالأمس، أو عدم أفعاله بالغد، أو عدم صعوده إلى السماء، فقد علم نفيا مستندا إلى وجود حاصل، أو سيحصل، أو يقدر حصوله، وإن كان لا يحصل، ومن علم بامتناع اجتماع الضدين فعلمه بامتناع اجتماع الضدين، فعلمه بانتفاء الاجتماع مستند لوجود الضدين، وكذلك علمه بنفي إله آخر مع الله سبحانه، مستند إلى العلم بالله سبحانه، فكان العلم بالعدم لابد من استناده إلى موجود، والموجود شيء، فلهذا استخف القفال ذكر الشيء في حده. وعندي له عذر آخر، وهو أولى من هذا، لأن تقدير الوجود، ليس بشيء ولا موجود، لكن قد قال قوم بتسمية المعدوم شيئا اتباعا للغة، لا ذهابا إلى أن هذه التسمية تفيد إثبات ذات، أو عين، كما تقول المعتزلة وإذا رجع المخالف معنى في هذا إلى المحاكمة إلى اللغة هان الخطب، وسهل الخلاف، وانحصر النظر إلى قوله تعالى: (وكل شيء فعلوه في الزبر) فسمى العدم شيئا إلى غير [ذلك] من الآيات المطابقة لهذه الآية، وإذا سلم تسمية المعدوم شيئا في اللغة صار كالمعلوم في صحة الحد به. والذي يميل إليه القاضي بعد تردد أن العدم المطلق يعلم، كما يعلم الوجود المطلق، ولا أحد يمكنه المكابرة في صحة العلم بالوجود المطلق، فليكن كذلك العدم المطلق. والأظهر من كلام أبي المعالي القطع بالمذهب الذي صار إليه القاضي، فإن اشترطنا الإسناد في هذا العلم، فلابد من إثبات معلومين متلازمين، عدم ووجود، ويستند العدم إليه. فأما المعتزلة فنقضت حدودهم بنواقض منها الاقتصار على ذكر الشيء، وقد بيناه. ومنها أن الحد في الصفة يسري إلى الحد في الموصوف، فمقتضى حدهم أن يكون الباري سبحانه معتقدا إما قولا مطلقا، أو قولا مقيدا بأحد قيديهم، المتقدم ذكرهما، وهم ينفصلون عن هذا بأن الباري سبحانه لا علم له، وهم إنما حددوا العلم فإنما يلزمهم أن يكون كل (...) معتقدا إما مطلقا، أو مقيدا، على ما قالوه، وطعن في حدهم أيضا بأن قال تسمية العلم اعتقادا مجاز، لأجل استحالة الربط (...) حقيقة، وهذا قد لا يلزمهم، لأن

هذا مجاز اشتهر حتى لا يحتاج سماعه إلى استفسار، وقد طعن على من قال مشترطا في (... قا)، وإذا كان عن ضرورة أو دليل فإن العقد التقليدي ليس بعلم، لو خلق الله سبحانه في القلب اعتقادا آخر مثله ضرورة (...) وإن كان وجد فيه هذا الحد لأنه اعتقاد للشيء على ما هو به، ووقع عن ضرورة. وأيضا فإن قولهم: إذا وقع عن ضرورة (...) وفيه تركيب، لأن معنى الضرورة غير معنى الاستدلال، والحدود يتجنب فيها التركيب. وأما أصحابنا فإن ابن فورك حاول [أن يسلك] منهج التحديد، على المنهج الذي قدمناه، في صفة استخراج الحد، لكنه قصر حده على الاستيعاب، ففسد، لأن المستعجل [لا يوجد] والبارئ سبحانه يعلم، وهو مما لا ينفعل فيحكم، ويعلم الإنسان نفسه، ولم يمكنه إحكامها وقد طعن عليه (بم ... ر) الإتقان والإحكام لا يكون بمجرد العلم والعالم العاجز عن الفعل لا يمكنه أن يحكمه، لكونه لا يمكنه (أ ...) مع وجود (...) سواه من أصحابنا فإن (الحا ...) هو المحتمل لا (...) طعن لم أثبت (...) (ص 27) الباري سحبانه مثبتا من حيث كان معلوما، ولا يحسن أن يقال: إن الله مثبت، وأثبت الله سبحانه، وإن كان يتساهل بعض الأئمة، في مثل هذا. وقد قال [في] التمهيد "باب إثبات الصانع"، وكذلك الحد بالثقة، لأن أظهر معانيها الإشعار بالعدالة، وأيضا فالمقلد واثق وليس بعالم، وأيضا فليكن الباري سبحانه واثقا، من حيث كان عالما، وأما التحديد بالإدراك فيقال أيضا أدركت الشيء، بمعنى أبصرته، والبصر طريق إلى العلم على أحد القولين، ويكون أيضا بمعنى البلوغ والانتهاء، يقال منه أدركت الثمرة إذا أينعت. وقد قال بعض أصحابنا: حد العلم الإحاطة بالمعلوم، ورمى مرمى هؤلاء، ويقال عليه نحو مما قيل عليهم، ويلزم عليه أن يكون الباري سبحانه محاطا به من حيث كان معلوما، وقد قال سبحانه وتعالى: (ولا يحيطون بشيء من علمه)، والمضير في علمه فيه قولان،

أحدهما أنه يعود إلى الباري سبحانه، والثاني أنه يعود إلى (ما بين أيديهم وما خلفهم) وقد تكلمنا على هذا الضمير في بعض ما أمليناه من الرسائل. وأما من قال إنه تبين المعلوم، فإن حده طعن فيه، بقصوره عن الاستيعاب، لأن التبين مأخوذ من بان بمعنى انقطع، وفارق، فهو ممشعر بمفارقة العلم بحاله هذه ما كان عليه من الحال التي كان المعلوم خفيا عنه فيها، والبارئ سبحانه لا يخفى عنه خافية، ولا يشك ثم يستبين، ولهذا لا يسمى متبينا، لما في هذا من الإشعار بمعنى لا يجوز على الله سبحانه، وما يوهم معنى مستحيلا على الله فلا يطلق عليه باتفاق، إلا أن يرد فيه إذن. وأما القاضي فعورض في حده بوجهين أحدهما اختلاف تعدي علمت وعرفت، واختلاف تعديهما يشعر باختلاف معناهما، وهذا غير صحيح، لأن التعدي تابع للألفاظ لا للمعاني، وتقول نظرت زيدا، ونظرت لزيد، ومرادك معنى واحد، والثاني يقتضي تسميته سبحانه عارفا، وأجاب القاضي عن هذا اللفظ لا ينكر [على] مطلقيه، ومن قال: إن الله يعرف السر والعلانية لم ينكر عليه، والمطابقة على ترك الإنكار يقتضي الجواز، فهذا الانفصال يتعلق النظر فيه بالنظر في السكوت هل يكون حجة، وبالنظر فيما يجوز إطلاقه على الله سبحانه وما لا يجوز، فإحدى المسألتين مبسوطة في كتب علم الكلام، والأخرى في كتب أصول الفقه، فمن تحقق ذلك هناك تحقق ما أجاب القاضي به عن هذا، وعلم صحته أو سقمه. وأما من رأى من أصحابه أنه لابد من زيادة "المعلوم" في حده فإنه اعتل بأن فيه إشارة إلى مخالفة ابن الجبائي بإثبات علم لا معلوم فيه، وفيه أيضًا إثبات حقيقة العلم بإثبات متعلقة، وهذان وجهان ضعيفان أما الإشعار بمخالفة ابن الجبائي فلا يقول أحد أن غرض الحاد الإشعار في حده بالخلاف. وأما التعرض إلى أحكام المحدود وحقائقه مما ليس غرض الحاد، فلا يلزم أيضا من غير خلاف. وأما ما يقع للقاضي في بعض كتبه من زيادة على هذه الزيادة وهي قوله: على ما هو به، فمتفق على أن الإخلال به لا يفسد الحد وأما حد الأشعري والإسكافي فإنما يردان لما فيهما من الإحالة على مجهول، عنه وقع السؤال، فعن الذي يوجب كون المحل عالما، وعن الذي يعلم به المعلوم السؤال. ولا يمكن أن يعجز أحد عن حد شيء يسال عنه، إذا سلك هذه الطريقة، ورضي بالإجمال، فيقول: القدرة ما أوجبت أن يكون محلها قادرا، ويقول في سائر الصفات كذلك، مع أن في مذهب الأشعري إشارة إلى إثبات الأحوال، وأن

فصل في مبادئ العلوم وكيفية وقوعها

هاهنا ما (...) وموجب وفي إثباتها خلاف، وكذلك ما قلناه بمعنى لفظه وعبارته عنه، من أن العلم ما اقتضى تسمية العالم عالما، [فالعلم] اشتق للعالم منه اسم عالم، ففيه ما في الحدود التي أشرنا إليها من عدم البيان والكشف عن حقيقة المحدود، وصحة (ط ...) في كل مسؤول عنه، وبالله التوفيق. فصل في مبادئ العلوم وكيفية وقوعها المقالات في مأخذ العلوم سبع، قيل مأخذ جميعها الحس لا غير، وقيل الحس وخبر التواتر لا غير، وقيل النظر لا غير، وقيل العقل لا غير، وقيل الشرع لا غير، وقيل الاضطرار والنظر العقلي والسمع، فمن المصنفين من أشار إلى حذف (...) مأخذ العقل لا غير فإن هذا المذهب، (... سار) أئمتنا (...)) به العلوم (...) تارة بوساطة (...) (ص 28) الحس، وتارة بوساطة العادة، وتارة بوساطة الشرع. وهذا التأويل يحسن حمل كلامه عليه، إذا قيل إن العقل غريزة، وميز على صفة ما، حلاف ميز البهائم وهذا الميز يتوصل به إلى نيل العلوم، ولكن في عد العادة واسطة بخلاف ما ذكر معها من الوسائط نظر، لأن العادة مستندة إلى المشاهدات لأمر متكرر يحصل منه للعقل بالتجربة معنى كلي. وكذلك أشار أبو المعالي إلى إسقاط قولين آخرين، وهما حصر العلم في الحسيات أو النظريات، ورأى أن هذين المذهبين، عبارة عن مضمون مذهبنا إذ قلنا إن العلوم المحدثة على قسمين ضرورية ونظرية، فقال: فإن الفلاسفة تسمي ما ارتسم في الخيال، وأخذه العقل بعد تشكله علما، وتسمي مالا يرتسم في الخيال، ولا يتشكل في الحس معقولا، فلما أطلقوا أن لا معقول إلا بالنظر، ظن بعض النقلة بهم أن مرادهم حصر العلوم. ولما أطلقوا أن لا معلوم إلى حسي ظن بهم أيضًا حصر العلوم في الحسيات، وهكذا تأول بعضهم إسقاط مقالة أخرى وهي حصر العلوم في الإلهام، فقال يمكن أن يكون المراد

بهذه المقالة أن العلوم كلها ضرورية، وإن كانت مما يفتقر بعضها إلى فكرة، فيعود ذلك إلى أخذ المقالات في كيفية الوقوع. وقد اختلف الناس أيضًا في كيفية الوقوع: فمنهم من صار إلى أن العلوم كلها ضرورية، واختلف هؤلاء على ثلاث مقالات، فمنهم من زعم أن لا فكرة في جميعها. ومنهم من زعم أن بعضها يفتقر إلى فكرة، ولكنه وإن افتقر إليها فإن الواقع عقيب الفكرة ضروري، ومنهم من زعم أن علوم العقائد خاصة هي الضرورية، وما سواها نظري. ومنهم من قال: بل كلها كسبية، ويحكى ذلك عن بعض الجهمية، وهذا يشير إلى خلاف ظن أبي المعالي، فإن القول إن العلوم كلها نظرية ليس على ظاهره. وقال أهل الحق: العلوم المحدثة على قسمين ضروري، ونظري، وقال بعضهم: ما كان من العلوم الضرورية لا ضرر فيه يسمى بديهيا، إشارة إلى مراعاة مأخذ اللفظ من اللغة، وأن الاضطرار افتعال من الضرر. وإن قلنا: إن الضرر بمعنى القهر والإكراه فلا معنى لهذه التفرقة في علوم الضرورة، لأنها كلها موجودة بغير اختيار الإنسان. فأما من قصر العلم على الشرع فظاهر البطلان، لأن صحة الشرع إنما يعرف بالعقل، وأما من قصر العلم على الحس، فإنه إن قطع بصحة قوله فقطعه بها ليس من الحس، فقد تناقض في قوله. وأما من حصر العلوم في النظر فيرد عليه بالمعلوم ضرورة من استغنى بعضها عن فكر، كعلم الإنسان بنفسه، ولذته، وألمه، وعلمه بما يراه، وأيضًا فلابد عند المكابرة من الاستناد إلى ضرورة لا يخالف فيها، فإذا بقيت الضرورية، بطل هذا الاستناد. وبقية المذاهب سوى ما ذهبنا إليه يعرف إبطاله من هذا الذي قدمناه، وإذا انحصر الحق فيما ذهبنا إليه من تقسيم العلوم فبين أئمتنا خلاف في العلوم النظرية هل هي مكتسبة تقع بعد النظرة، بقدرة الناظر عليها أم لا؟ فالمشهور من مذهب أئمتنا أنها مفتقرة إلى قدرة كافتقار سائر الأفعال الكسبية، كحركة المختار للتحرك، وذهب بعض أئمتنا إلى استغنائها عن القدرة، ورأى أنها تقع اضطرارًا كحركة المرتعش استدلالاً منه على أن المفكر وإن كان مكتسبا بفكرته، ومقتدرا

عليها، ويمكنه الانصراف عنها فإنها إذا اشتدت وتمكنت لا يمكنه دفع العلم عن نفسه، كما لا يمكن المرتعش دفع حركته. وأجيب هؤلاء عن هذا بأن عدم القدرة على الفعل لا يقتضي كونه غير مكتسب، لأنا لجماعتنا نقول: إن القدرة الحادثة لا تتقدم المقدور بل تقارنه، وهي إذا قارنته (... جو) ولم يصح رفعه في حال وجوده، ولهذا قلنا: من اشتد في الجري، واستفرغ فيه وسعه، ثم حاول نظر جريه فلابد [من] حركات بعد إرادة القطع، يتدرج بها اقطع قليلا قليلا، فتلك الحركات مكتسبة، وإن كانت لا يمكنه رفعها (...) نفي الاقتدار على العلم، والانفصال عنها. وأما من ذهب من أئمتنا إلى إثبات القدرة على العلم، وهو عندنا المذهب [الذي أخذ به] الجمهور منا، فإن نكتته أيضًا وجهان أحدهما إحساس التفرقة بين العلم الضروري (... لوم واحـ ...) مثلان، وإن كان أحدهما ضروريا، والآخر نظريا، فإذا أثبتنا؟ (...) للقطع (...) وجود القدرة (...) (ص 29) وعدمها في الآخر، وأجيب هؤلاء عن هذا بأن التفرقة المحسوسة إذا كان لابد من صرفها عن نفس العلمين إلى سواها، فلستم أحق منا إذا صرفنا التفرقة إلى وجود النظر في أحد العلمين ونفيه عن الآخر. واعتذر الآخرون عن هذا بأن التفرقة محسوسة مع تقصي النظر، وعدمه، والعدم لا وجه لصرف التفرقة إليه، وهذا الفصل من لمشكلات، وإنما يصفو بعد الخوض في أحكام القدر ولليس هذا موضعه. والوجه الثاني الاستدلال بأوامر الشرع، بمعرفة الله سبحانه، والضروري لا يؤمر به وأجيب هؤلاء عن هذا بصرف الأوامر الواردة في هذا إلى النظر المؤدي إلى المعارف، فإذا علمت حقيقة المذهبين، فالعلم الواقع نظريًا عند من نفي القدرة عليه، يختلف أصحاب هذا المذهب في صفة وقوعه، فالمعتزلي يثبت وقوعه على جهة التولد، ومذهبهم قد علم في صفة القدرة على المتولدات، وأما نحن فننكر التولد، ونثبت التضمن والتلازم، من غير إثبات كون النظر علة ومولدا، وإذا كشفنا كيفية وقوع العلوم، وأخبرنا بمبادئها على الجملة، فلنكشف عن مبادئ العلوم النظرية.

مبادئ العلوم النظرية

[مبادئ العلوم النظرية] فاعلم أن أبا المعالي ذكر عن أئمتنا أن طرق العلوم النظرية أربعة أنواع أحدهما السبر والتقسيم، والثاني رد الغائب إلى الشاهد، والثالث إنتاج المقدمات النتائج، والرابع الاستدلال بما اتفق عليه على ما اختلف فيه، وباح في هذا الباب بأمور صعاب هدم بها على الأئمة قواعدهم، وزيف فوائدهم، ونحن نبين ما عليه في ذلك وعليهم، ونضايقه حتى نرده عليهم، بعد أن نشير إلى ما تساهل فيه في النقل عنهم، وذلك أنه ذكر عن أئمتنا حصر الأدلة العقلية في أربعة أقسام. والمقدم في هؤلاء الأئمة المشار إليهم القاضي أبو بكر بن الطيب ئة، وهو قد أشار في كتاب التمهيد الذي هو أشهر كتبه إلى الإضراب عن حصر هذه الأقسام، فقال في باب الاستدلال: إن قال قائل على كم وجه ينقسم الاستدلال؟ قيل له على أوجه يكثر تعدادها، وأخذ في عد أنواع منها، فذكر السبر والتقسيم، وذكر رد الغائب إلى الشاهد، وذكر الاستدلال على صحة الشيء بصحة مثله، واستحالته باستحالة مثله، فهذه الأنواع التي نص عليها في طرق العقليات، فأنت تراه كيف افتتح كلامه بأنه يكثر تعداد هذه الأقسام، خلاف ما أشار إليه أبو المعالي من الحصر في أربعة أقسام. ثم زيف أبو المعالي ما قاله الأئمة من عد السبر والتقسيم من أنواع الأدلة، وأشار إلى أن كثيرًا منهم يستعمله المتكلمون، وهو غير منحصر قطعا، لكن ما انحصر منه، وتردد بين النفي والإثبات قد ينهض ركنا من أركان النظر، فأما عبارته هاهنا عنه بأنه قد ينهض ركنا من أركان النظر فقد أحسن فيه، لأن القاضي تعقب عليه عده السبر والتقسيم إن أنواع الاستدلال، وقيل نفس التقسيم لا يثمر علما بالمطلوب، وإنما المثمر العلم الدليل المصحح لأحد القسمين، أو المبطل لها، فإنما التقسيم محل للدليل، أو ركن من أركانه، وإنما يكون ركنا فيما قام الدليل فيه على أحد القسمين، دون التقسيم الذي لا يناسب الاستدلال، وإن كان نفيا وإثبات، كقوللنا: لابد أن يكون خلق الله ملكا أو لم يخلقه، ولا معنى لتعقب كلام القاضي بمثل هذا الذي أشار إليه، لأنه أجل قدرا أن يهجس بباله كون مجرد التقسيم دليلا، لكنه تجوز في العبارة. وأما الوجه الذي زيفه أبو المعالي من الاعتماد على التقاسيم الغير حاصرة، مثل أن يقول المستدل: إنما جازت رؤية المرئي لوجوده، لأنه لا يصح أن يكون إنما صحت رؤيته لكونه جوهرا أو عرضا، أو محدثا، ويذكر ما يحـ[ـتمله] من الأقسام ويفسدها حتى لا يبقى

إلا الوجود فيجعله علة جواز الرؤية، ويقول المعتزلي إنما امتنعت الرؤية لبعد [مفرط أو] قرب مفرط، أو ساتر بين الرائي والمرئي، ويذكر ما يخطر بالبال من الموانع حتى يتوصل إلى غرضه، في أن اله سبحانه لا يرى في الآخرة، فهذا النوع من التقسيم لا يوثق به لجواز أن يبقى قسم لم يخطر ببال المقسم، ولو استقصى البحث لعرفه، أو (...) عنه، ويكون هذا القسم هو علة الحكم المطلوب، دون اعتقده المقسم، وهو (...)، سبق إليه في فنون من هذا النوع. وأجيب عنه بأن هذا القسم (الم ...) لم يف عليه (...) العلم ضرورة (ل ...) (ص 36) ناتج الصدر، وقد عكس على قائله فقيل له هلا جعلت مقدم الدليل على الانتفاء دليلا على الثبوت بعكس جعلك فقد الدليل على الثبوت دليلا على الانتفاء؟ وأجيب أيضًا عن الاعتراض بجواب آخر، وهو أن التشكك في ثبوت قسم يقتضى التشكك في ثبوت آخر، وآخر، هكذا إلى ما لا ينحصر، وهذا لا يصح تصوره واعتقاده، والتحقيق في هذا الاعتراض والانفصال عنه سيبسط في موضعه من كتب علم الكلام، إن شاء الله عز وجل. وذكر أبو المعالي رد الغائب إلى الشاهد في العلة، مثاله أنه قد ثبت كون العالم منا عالما، يعلم بالعلم، فإذا ثبت كون البارئ سبحانه عالما وجب تعليل هذا الحكم بالعلم أيضا. والثاني الشرط مثاله: قد ثبت أن كون العالم منا مشروط حصول علمه بحصول الحياة، فإذا ثبت كون البارئ سبحانه عالما بعلم فيجب كونه حيا بحياة، طردا لهذا الشرط والمشروط، والثالث الحقيقية. فإذا ثبت أن حقيقة العالم منا من له علم، وثبت كون البارئ سبحانه عالما، وجب إثبات العلم له، طردا لهذه الحقيقة، والرابع الدليل، فإذا دل إحكام الفعل فينا على علم فاعله، دل إحكام الخليقة بأسرها على علم خالقها، وهو الله سبحانه. ولما ذكر أبو المعالي هذه الأصول التي تدور عليها جل دقائق علم الكلام، وأكثر أبوابه، وكثير من العقائد، أتبعها بالرد والإنكار، وخالف في ذلك طريقة سائر النظار، والنكتة التي عول عليها في إبطال طريقة من تقدمه أنه قال: لا قياس في العقل، ورد غائب إلى شاهد لا معنى له، فإن قام في الغائب دليل كما قام في الشاهد، فالدليل المتبع، ولا

معنى للرد، وإن كان الدليل إنما قام مختصا بنفس الشاهد، فما الواجب رد الغائب إليه؟. وأنكر في كتابه المترجم بالبرهان ثبوت الأحوال، فإذا أنكرها، فلا شك في بطلان الرد في العلة، إذ لا علة ولا معلول عند نفاة الأحوال، وكذلك ينكر الرد في الحقيقة، لأن علم الله سبحانه مخالف لعلمنا، فلا يجتمعان في حقيقة، وإن فرض اجتماعهما في حقيقة العلمية، فذلك إشارة إلى الحال، وهو لا يقول بها. فاعلم أن هذا الذي هول به لا طائل تحته، وأنه برز إلى القوم بروز حرب، وهو يرى الباطل لهم سلم؟ وذلك أنا نقول للقاضي إذا قام الدليل على أمر في الشاهد فرددت إليه الغائب، فلا يخلو أن يكون ذلك الدليل انتظم الغائب والشاهد، ومعناه متصور في الغائب (...) والشاهد، أم الدليل الذي فرضت مختص في الشاهد لم ينتظم الغائب، فإن قال: لم ينتظم الغائب، ولا يتصور في الغائب (...) حاشاه أن يقول هذا، حاشاه. فالذي قال أبو المعالي هو: وما الذي رد الغائب إلى دليل لم يقم عليه، ولم يتصور فيه، ويقال لأبي المعالي إذا فرضنا أن الدليل قام فينا انتظم الغائب والشاهد، وتصوره في الغائب كتصوره في الشاهد، فهل تمنع المساواة بين الغائب والشاهد في مقتضى الدليل؟ فلابد أن يجيب بأنه لا يمنع من ذلك، وحاشاه أيضًا أن يخالف في هذا، فليس إلا أحد القسمين، وقد بينا أن كل واحد منهما لا يخالف فيه القوم بعضهم بعضا، فإنما تبقى المناقشة في العبارة، وتسمية هذا ردا مع كونه معلوما من نفس الدليل بعينه، المشار إليه، وأنت إذا تأملت هذه الطريقة التي أريناك أجريتها في بقية الأقسام، وعلمت أن القاضي (...) وأن الحال التي اختص فيها العالم، لا يصح حصولها إلا مرتبطة بالعلم، وأنه قد قام عنده الدليل على وجوب ارتباط هذه (... ال) على الإطلاق في سائر العالمين بعلته، وهي العلم، إذ هذا التعميم هو معنى إثباته إياها علة، لأنه لو حصل هذا الحال (...) تكن علة وقد قام الدليل عنده على كونها علة، وهذا الدليل اللذي قام على كونها علة لابد أن يكون منتظما لسائر [العالمين] على هذا يجري في الشرط والمشروط، وكذلك الحقيقة يجري فيها هذا المجرى حتى يرجع الخلاف بين أبي المعالي

[والقاضي] (... به) في عبارة، نعم إذا أنكر الأحوال سقطت بعض هذه الأقسام، إذ العلة والمعلول إنما (تتص ...) من هذه الحقيقة معنى لا (...) الخلاف في الحال مشهور قد سبق (...) ينكر عليه (...) هذا المورد لكشف (... قد) وجانب فيه ما أظهره ممن (ا ...) على الائمة (...) (التتا ... تنا) فإن (الو ...) هذا (ص 31) في التمهيد لما عد أقسام الاستدلال، وليس هذا مشهورا عن الأئمة. وقد مثله أبو المعالي بأن الجسم لا يخلو عن [ادث] نتيجة أن الجسم لا ي سبقها، ثم زيف أيضًا هذا القسم، وأشار إلى أنه لا حاصل له، وأحسن في قوله: إنه لا حاصل له، ولكن لا معنى لعده إياه قسما، وقد علم أن هذا العلم الذي أشار إليه ليس بمخالف للعلم الآخر، ولا هو غيره، لأن القائل إذ قال: هذا الجسم لا يمر به زمن من أزمان وجوده، وهو خال عن الحوادث، فقد تضمن قوله هذا أنه لا يسبقها، إذ لو سبقها لكان قد مر به زمن، وهو خال عنها، وقد فرضنا في هذا القول أنه لا يخلو عنها زمنا من أزمان وجوده. فأنت ترى كيف هذا الثاني هو الأول، وإن كان اللفظ الأول يعم زمنا زائدا على ما يقتضي هذا اللفظ الثني، فإذا وضح هذا، فقوله لا يمر به زمن واحد عنهما هو قولنا منها ولو حسن، عد هذا مقدمة ونتيجة، لأمكن أن يقول قائل آخر: هذا الجسم لا ينفك من الحوادث، ونتيجته أنه لا يخلو منها، وهذا مما يتصوره عاقل، أن يجعل إبدال عبارة بعبارة يدلان على معنى واحدد مقدمة ونتيجة، ولا فرق ببينهما إلا كون قولنا: لا ينفك عنها ولا يخلو عنها متطابقين، وقولنا لا يسبق الحوادث من مضمون قولنا لا ينفك عنها. وهذا واضح لمن تدبره، فلا نتائج ولا مقدمات تتصور على هذه الجهات، وإنما هذه عبارة قوم آخرين، وهم أهل المنطق، فيزعمون أن المقدمة الواحدة لا تنتج، كما لا ينتج ذكر دون أنثى، وأنثى دون ذكر، وإنما تكون النتيجة بازدواج مقدمتين، ويسمون اللفظة

الأولى من المقدمة موضوعا، والثانية محمولا ويجعلون محمول الأول موضوعا للثانية، وتكون النتيجة موضوع الأول، ومحمول الثانية، مثل أن يقول القائل: كل إنسان حيوان، وكل حيوان حساس، فالنتيجة: كل إنسان حساس، على ما عرف في كتبهم من تفصيل القول في المقدمات وتنويعها إلى اللصغرى والكبرى، والسالبة والموجبة إلى غير ذلك من اشتراطهم. وإنما ذكرنا هذا لما ذكرنا الفئة التي يغلب هذا اللفظ على ألسنتها. وأما المتكلمون من أئمتنا فلا يكادون يلمون بهذه العبارة، ولا يشيرون إلى هذه المعاني التي ذكرنا عن أهل المنطق. وأما مما ذكره أبو المعالي من الاستدلال على موضع الخلاف بالوفاق، ثم زيفه فإنك لا تكاد تجد الأئمة المشاهير يعدون هذا قسما من أقسام الاستدلال، ولا أحد منهم يظن أنه يستدل على معرفة الحق في مذهب من المذاهب بالاتفاق والإجماع في مسائل العقائد التي لا يعلم صحة السمع إلا بعد العلم بها، فلا معنى لإضافة هذا المذهب إليهم، نعم قد يستعملون هذا عند المناظرة، والقصد به مناقضة الخصم، ثم مع هذا لا يقتصر الحذاق عليه حتى يظهروا معنى جامعا بين إلزامهم وبين ما ألزموا عليه، ألا ترى أنا نستدل على من زعم أن الجوهر يصح خلوه عن سائر الأعراض إلا الأكوان بموافقته على استحالة الخلو عن الأكوان، كما نستدل على الآخرين بموافقتهم على إحالة التعري عن الألوان، وتناقض طائفة بمذهبه طائفة أخرى من أهل هذين. وكذلك نستدل أيضًا بالموافقة على استحالة التعري عن الأعراض بعد الاتصاف بها على إحالة التعري قبل الاتصاف، وقد اتفق عليها عندنا وعند من يستدل عليه من مشاهير المعتزلة، ولكن التحقيق في هذا أن المناقضة والاعتراض لا يلزم إلا إذا بينا وجه المناسبة بين الإلزام وبين ما ألزم عليه فنقول: إنما امتنع التعري بعد الاتصاف لصحة القبول، فيلزم على هذا حاله قبل الاتصاف على ما يبسط في كتب علم الكلام، فإذا فعلنا هذا كان استدلالا (...) ورد الغائب إلى الشاهد، وعاد هذا القسم إلى ما مضى الكلام عليه. وقد عد القاضي في التمهيد من أقسام الاستدلال على صحة الشيء بصحة مثله واستحالته على استحالة مثله، كاستدلاله بخلق الله سبحانه جوهرا على أنه تعالى قادر [على إعادته بعد فنائه]، والاستدلال صحيح لا يقدح فيه عارف، كيف وقد حاج الله سبحانه من

فصل في مراتب العلوم

أنكر الإعادة فقال: (كما بدأنا أول خلق نعيده)، وقال: (أو ليس الذي خلق * السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم) (فل ...) تصوير عبارة، [هذا] النوع من الاستدلال يناسب (...) يفتقر إلى بسط ودقيق (...) (ص 32) على علة كونه متحركا، ومنها ما يبنى فيه الضروري على النظري، ومثله بأن العلم بأن الجسم لا يخلو من حوادث لها أول تعلم بدقيق النظر، ينتج عنه علم ضروري، وهو أن ما لا يخلو عن الحوادث حادث. وأنت إذ تدبرت ما بيناه أولا من كون الثاني سماه نتيجة، كأنه الأول بعينه، تبينت في هذا المثال ما قدمناه هناك، لكن قد علم الخلاف بين أصحابنا في جواز بناء العلوم الضرورية على النظرية، فمن جوز ذلك استدل بأن العلم باستحالة اجتماع الضدين يعلم بالضرورة وثبوت الضدين يعلم بالنظر. وأجيب عن هذا بأن الضدين يعلمان أيضًا بالضرورة، وإنما جهل نفاة الأعراض مغايرتها للجسم، وركب بعضهم أن إحالة الاجتماع يعلم نظرا، لأن القائلين بالكمون والظهور جوزوا اجتماع هذين الضدين وإنما سلموا اجتماع حالتيهما النقيضين. واعتمد هؤلاء المنكرون لبناء الضروري على النظري بأن النظري يصح الشك فيه، والضروري لا شك فيه، ومن المحال نفي الشك عن الفرع مع الشك في الأصل، وكذلك أيضًا بين أئمتنا اختلاف في صحة بناء ضروري على ضروري، فمن أجازه قال ذلك خلق الله سبحانه يخلق ما يشاء من غير استناد، وأجاز القاضي ذلك، ويمثل بأن الله سبحانه لو خلق لنا علما ضروريًا به، لافتقر إلى علم آخر ضروري، وهو علمنا بأنفسنا، إذ لا يعلم ربه من لا يعلم نفسه. فصل في مراتب العلوم حكى أبو المعالي عن الأئمة أنها مرتبة عشر مراتب، العلم بالنفس وما فيها من لذة أو ألم، ثم العلم بما يستحيل كاجتماع الضدين، ثم العلم بالمدركات، المرئيات وغيرها. وبين هؤلاء اختلاف في المدركات على أربعة أقوال:

- هل متساوية في المرتبة؟. - أو البصر مقدم لعموم تعلقه؟ - أو السمع مقدم، لأن الله تعالى قدمه، إذ يقول: (أفأنت تُسمع الصم)، ثم ذكر بعده (أو تهدى العمى)؟ - وقيل البصر، والسمع سيان، ولكنهما مقدمان على غيرهما. ثم العلم بالأخبار المتواترة لكونه يفتقر إلى فكرة ما، ثم العلم بالصنائع والحرف، ثم العلم بقرائن الأحوال كخجل الخجل، ووجل الوجل، ثم العلم بالنظريات العقلية، ثم العلم بجواز انبعاث الرسل، ثم العلم بالمعجزات، ثم العلم بالسمعيات الكتاب والسنة وإجماع الأمة. وهذه التقاسيم التي حكاها فيها اختلال، واعتل أصحابنا بأضعف اعتلال، ولا وجه لتأخيرهم المدركات، لأجل غلظ يقع فيها، كما يرى من اعتل بصره [فرأى] بعض المرئيات على غير ما هي به، لأن هذا لو التفت إليه لكان قادحا في العلوم الضرورية، وبهذا اعتل السوفسطائية لإنكارهم جميع الضروريات، فإذا لم يلتفت سائر العقلاء إليه لما احتج السوفسطائية فكذلك هاهنا، وإنما نتكلم على السليم الحواس. ولا وجه أيضًا لتأخيرهم العلم بامتناع اجتماع الضدين لكون العلم بذلك يفتقر إلى فكرة في ذات الضدين لأنا إنما نشير هاهنا إلى العلم باستحالة الحالتين النقيضين، فعلم الإنسان بأنه لا يصح أن يكون حيا ميتا، ولا قائما قاعدا كعلمه بنفسه ولذاته وألمه، وأما ذات الضدين فقد قال قوم من أئمتنا إنما يعلم استحالة اجتماعهما بالدليل، ولهذا غلط فيه أصحاب الكمون والظهور، وأما الحالان المحسوستان فلم يجوز اجتماعهما أهل الكمون هذا التقسيم [العلم] بالحرف والصناعات على العلم بقرائن الأحوال، وأنى لهم بذلك؟ وبين الأئمة خلاف [في العلم] بالحرف والصناعات، هل هي مكتسبات أو ضروريات؟ فمنهم من قال إنها نظريات، لأن متعلم الصنعة لا يهجم عليها حتى يستعمل فكرة،

ويتأمل حركات معلمه، ويدبر كيفية ما يقول في التعليم، وربما مر عليه في ذلك الأعوام وهذه هي العلوم النظرية. ومنهم من قال: بل هي ضرورية، لأنه لا يمكن الشك فيها، لأن من يعلم الخياطة وتمرن على عملها لا يطرأ عليه (...) منها علما، وقد قيل لهذا الإشكال إن أول موقعها نظري لافتقارها لتقدم الفكرة، والنظر تتوالى (...) وتعلم (...) ضروريا وأيضًا فإن (العا ...) وإلى الحس والمشاهدة (فيلت ...) وركات (...) الأحوال جوابه ما (...) بي (ال ...) لكن عنده (ص 33) النظر العقلي في المرتبة السابعة، وعدهم النظر في انبعاث الرسل مرتبة ثامنة، وهل يعرف جواز انبعاث الرسل إلا بالنظر العقلي؟ وهم قد جعلوا النظر العقلي كله في المرتبة السابعة، فما بالهم أخذوا بعضه فجعلوه مرتبة ثامنة؟ ويلزمهم على هذا إذا أخذوا في تعيين مسائل النظر العقلي أن يرتبوا مراتب لا تنحصر، ولم يصرحوا في هذا التقسيم بالعلم بوجوب العادات، ولعلهم اكتفوا بكون بعض الأقسام التي ذكروا يشير إليه. وأضرب أبو المعالي عن التنبيه على هذه الوجوه المختلفة صفحا، ورأى هذا المسلك نازحًا عن الحق، وعنده أن العلوم كلها ضرورية، فلا تفاوت فيها، والأمر كما قال في أن العلوم لا تفاوت فيها، والضروري والنظري إذا تعلقا بمعلوم واحد، فهما مثلان، على ما بين في علم الكلام، كيف؟ وإنما يعرض التفاوت بينها، لخفاء وظهور، والخفاء نقيض العلم، لأن العلم نستبان به الأمور وتتضح، فإذا فرضنا علمين تعلقا بمعلوم واحد، على ما

هو به، فكيف تصور التفاضل؟ وإن كان أحدهما تعلق بالأمر على غير ما هو به، فهو جهل وإن تعلقا به على ما هو به، فلا خفاء يقدَّر. ويقع في كلام نقلة الشرع من فقهاء ومحدثين الإشارة إلى خلاف هذا الذي قررناه، فيقولون بزيادة إيمان على إيمان، وهؤلاء من أشار منهم، إلى (...) العلم بالله، فهذا الذي يحتج بما قدمناه، ونحن وإن قلنا بما قررناه من تساوي العلوم، فإننا نمنع القول بأن إيمان أحد كإيمان النبيين صلوات الله عليهم، لأن هذا من سوء الأدب معهم في الشرع، والتسامي إلى مراتبهم، كيف وبعض أئمتنا يقول فيهم إنهم يعرفون الله سبحانه ضرورة؟ ومن قال: بل يعرفونه بالاستدلال، فلا شك في توالي المعرفة على قلوبهم، وأن قلوبهم لا تفتر من ذكر الله سبحانه، واعتقاد جلالته، وسعة ملكوته، واستشعار الخوف منه، والحياء، وإخبات القلب، وانتفاء الشكوك، وكثرة الأدلة، والطرائق الموصلة إلى المعارف، وشتان بين من أحس برد اليقين، وبين من يصارع وخز الشكوك، ومن عصم من نزغة الشيطان، وآخر يجول في ميدان قلبه الشيطان، والعلم بالله يقارنه تصديق به، وهذا التصديق به، وبكل ما جاء به رسله يتبعه توابع من الخير، من حياء بالله سبحانه ومخافة، ومسكنة، وغير ذلك من أحوال الذين اتقوا وهم محسنون. وأما النظر في نفسه فقد اختلف فيه الأئمة فمنهم من أطلق عليه الجلي والخفي، وهذا أبو إسحاق الإسفراييني قد صنف ديوانه الكبير، وترجمه بهذا المعنى: النظر الجلي الدقيق، ومنع بعضهم إطلاق هذه التسمية على النظر، لأن الاتضاح والانجلاء لا مناسبة بينه وبين نفس الفكرة، والنظر المؤدي إلى المعارف، وإنما الجلاء والاتضاح في نفس المعارف كما تقدم. لكن من النظر ما يستند إلى مقدمة ضرورية، لا واسطة بينه وبينها، فلا ينتهض العقل إلا أدنى نهضة، ولا يجرد الفكر) إلا أدنى تجريد وقد حصل الناظر على مطلوبه، ومنها ما يكون بينه وبين المقدمة الضرورية وسائط كثيرة بيني بعضها على بعض فلا يتوصل إلى الآخر إلا بعد قطع الفكر مسافة تلك الوسائط كلها، فيكد الذهن، وتتسع الفكرة، ويبعد عن الحسيات بعدا كثيرًا، فإن أشير إلى الجلاء واعيا في النظر إلى هذا المعنى، فهو معنى صحيح، وإنما تبقى المناقشة في العبارة.

فصل فيما يعلم عقلا أو سمعا تخصيصا أو جمعا

فصل فيما يعلم عقلا أو سمعا تخصيصا أو جمعا قد تقرر أن مبادئ العلوم شيئان: العقل والشرع، وذاك هاهنا مجال كل واحد منهما مختصا أو مشتركا، فأما كل معلوم لا يصح العلم بالسمع إلا بعد تقدمه، فإنه لا مجال للسمع [فيه] و (...) كل معلوم لا يصح أن يعلم إلا بعد العلم بثبوت القول الصدق فلا مجال للعقل فيه. أما كل معلوم يصح أن يعلم متقدما على [القول] الصدق، ولا يجب ذلك فيه فإنه يعلم بالعقل والشرع. وبيان هذا بالمثال أن ثبوت القول الصدق وهو قول الله ورسوله (...) أن يعلم (...) والعلم بالله سبحانه وبصفته التي لا يصح العلم بصدق الرسول إلا بعد العلم بها كعلمه وقدرته إلى غير ذلك (...) العلم (...) يمكن العلم به استدلالا إلا بعد النظر في مخلوقاته، فكل من حاول علم شيء من هذه الأ [شياء] فقد حاول (...) أن يأخذ علم الأصول من الفرع، ومثال ما لا يعلم إلا بهما خاصة جملة الأحكام (...) إلى غير ذلك ر وأن رؤية البارئ (...) (ص 34) (... ين) معناه، وذلك أنا يصح لنا العلم بحدث العالم، وإثبات خالقه تعالى، وصفاته التي لا يصح العلم بالمعجزة إلا بعد العلم بها، ومن صفاته هل يجوز أن يرى أو لا يجوز؟ فينظر فيه قبل أن ينظر في السمع، أو يؤخره إلى أن ينظر في السمع. وقد حاول أبو المعالي البيان عن هذا بلفظ جامع فقال: أما ما لا يعرف إلا

فصل في مجاري العقول

بالعقل كحقائق الموجودات، واستحالة المستحيلات، وجواز الجائزات. وهذا الإطلاق تسامح فيه، وقد يوجد من حقائق الموجودات، وجواز الجائزات ما لا ينفرد العقل به كما قال، بل يشترك فيه العقل والسمع، وقد مثل هو في المشترك جواز رؤية الله سبحانه كما مثل بها القاضي أبو بكر بن الطيب قبله. فهذا واحد من الجائزات لم ينفرد العقل به، بل اشترك في ذلك هو والسمع، ولما أحس أبو المعالي بما تسامح به في إطلاقه ما حكيناه عنه، تلافى ذلك برمز خفي إليه حتى يمنع القادح من الاعتراض عليه، فقال: وأما القسم المشترك، وبذكره ينضبط ما تقدم. فأنت تراه كيف أشار إلى أن القسم الأول وهو قوله: جواز الجائزات استدراك يستثنيه من الإطلاق، ومن وقف على عدة جواز الرؤية من قبيل المشترك. وأما تمثيله في السمعيات فإنه العلم بوقوع الجائزات أو انتفائها، فهذا الإطلاق صحيح لا يحتاج فيه إلى التفات إلى القسم الثالث المشترك، فالأحكام الشرعية كلها حظ العقل إجازة ورودها، أو انتفاء ورودها، وحظ اسمع ورود هذا الجائز ووقعه، وكذلك الإخبار عن المعاد، فإن الإنسان وجوده معلوم حسا، وحدثه معلوم عقلا، ثم العقل يجوز عدمه أو بقاءه إلى غير آخر، فبالسمع علم وقوع هذا الجائز من عدمه، ثم إذا وقع فالعقل يجوز أن يعاد أو لا يعاد، ثم الشرع أعلم أنه يعاد، ثم العقل يجوز في هذا المعاد أن يعاقب أو يثاب، أو لا يعاقب ولا يثاب، فأعلم الشرع أن لابد من أحدهما، هكذا إلى بقية الحشر والنشر، وغير ذلك مما لا ينحصر كثرة، وبالله التوفيق. فصل في مجاري العقول هذا باب أطال فيه أبو المعالي القول حتى خرج من فن إلى فن، ولباب ما أورده في هذا الباب سبع نكت: - إحداها: كون العلوم كلها ضرورية. - والثانية: حقيقة النظر والدليل. - الثالث: كون النتائج كالمقدمات.

- الرابعة: ما لا ينحصر من التقاسيم لا يوثق به. - الخامسة: كون التقسيم المنحصر يعين العقل أحد قسيمة تارة، ولا يعين ذلك تارة. السادسة: فرقان بين وقوعه على التعيين تبلدا منه، أو يكون المطلوب لا يعرف. السابعة: الفرق بين الجواز حكما أو شكا، وتعلق بهذه النكتة السابعة طرف من الكلام في تعلق العلم بما لا يتناهى. أما النكتة الأولى فقد مضى جوابها حيث تكلمنا على اختلاف أئمتنا في كون العلم النظري مقدورا للعبد أم لا. وأما النكتة الثانية فإنه حصر النظر إلى التردد في أنحاء أساليب الضرورات، وأشار إلى أنه لا حاصل للدليل والنظر سوى تحديق العقل، وتجويد الفكر عن الغفلات نحو المطلوب مع صحة النحيزة. فأما حصره الفكرة بين تأمل أمرين، وتردد الفكر بين قسمين إما ثبوت المطلوب و [إما] انتفاؤه فصحيح ما قال، وقد قدمنا في الكلام على العقل الإشارة إلى أن أثبت أركانه العلم بكون المعلوم لا ينفك عن ثبوت أو انتفاء، فعلى هذا كل طالب معلوما ما فإنما يتطلب إن ثبوته أو انتفاءه. وأما الاقتصار في النظر على تحديق البصيرة وتجريدها عن الغفلات، فإذا فعل ذلك أدرك المطلوب فأنت إنما تعرف بتحديق البصر نحوها، ومنعه من التقليب في الجهات، فليس هذا بالكاشف لحقيقة النظر، وكم من (...) ربط به عين فكرته، وهو غير قاصد للبحث عنه، وبطلت حقيقته، ولهذا يعبر عن النظر بأنه الفكر المطلوب به العلم، (...) فأنت ترى هذا الحد لم يقتصر فيه على الفكرة، حتى قيدت بكونها بحثا، والبحث والطلب زائد على التحديق والتجريد (...) لا مطمع في ضبط هذا البحث، ومباحث أهل العلوم مختلفة باختلاف أوضاعهم، وصور علومهم، وكل (...) البحث فيه ينضبط بل هو (...) لا يعرف صحة ما قلناه إلا المجربون، كره فيه من تركيب وتقدير (...) لا

يحصر كثرة، ثم هذه، (...) علمين، نظرا (...) [أ] نتج له ذلك (...) إليه كون (ال ...) (ص 35) المجرد فإنه خلاف لما عليه جماعة الناس، والاستدلال والنظر عند العلماء غير الدليل، فإذا رأى الإنسان كتابة ففكر هل وقعت من كاتب أم لا؟ ففكرته هي النظر، والاستدلال، ووسيلة هذه الفكرة إلى العلم بالكاتب هي الكتابة، وهي التي تسمى دليلا. وأما النكتة الثالثة وإشارته فيها إلى كون النتائج كالمقدمات، وأخذ يضرب مثالا في ذلك من كل علم فقال: إن المهندس إذا علم أن الشيء إذا ساوى شيئين، فكل واحد من هذين الشيئين مساو لصاحبه، وعلم هذا ضرورة وأضاف إلى هذا مقدمة ثانية فعلم أيضًا على الضرورة من غير فكرة، وهي كون الخطوط الخارجة من مركز الدائرة إلى محيطها متساوية، فإنه إذا أراد أن يعرف بعد هاتين المقدمتين كون قاعدة المثلث مساوية لكل واحد من ضلعيه، فإنه لا يمكنه أن يعرف ذلك بديهة كما عرف هاتين المقدمتين، ولكنه يعرض دائرة أخرى، ويركبها على هذه، ويعرف فيها هاتين المقدمتين فيعلم بتصريفهما فيما يشكل مطلوبة علما لا يمتري فيه، ولا يجد فرقا في وضوحه بينه وبين هاتين المقدمتين المذكورتين. فكذلك الأصولي إذا شاهد تحرك جسم وسكونه فإنه حصل له معلوم ضروري ففكر بعده هل تحركه من مكانه واجب أو جائز ويحدق الفكر مترددا بين هذين القسمين فيتضح له أنه جائز، ثم يفكر في هذا الجائز هل وقع بمقتضى اقتضاء، أو بغير مقتض؟ ويردد الفكر أيضًا بين هذين القسمين المترددين بين النفي والإثبات، فيتضح له افتقاره إلى مقتض، ثم يفكر في المقتضى هل هو نفس الجسم، أو زائد عليه؟ وهذا الذي قاله وتمثل به غير مسلم له. ولا أحد من المحققين ينكر فرقان ما بين العلوم الضرورية والنظرية، فإذا عرف العاقل أنه موجود فلا تجد في نفسه تلفتا إلى نقيض هذا الاعتقاد، ولا يجوز رجوعه عنه، واعتقاده ضده، ولا يصغي إلى مشكك له فيه بل يتخذ كلامه هزؤا، حتى إذا قال النظام: أنتم تعتقدون أن الجوهر لا يتجزأ، وها أنا أريكم خطأكم، كيف يصح انتظام الأجسام، وأن يحيط بجوهر فرد ستة جواهر، من جهات مختلفة، ولا يقدر مع اختلاف هذه

الجهات الانقسام، أو يقول له: نحن نرى الجسم متناهيا بالطرفين، وكيف يكون ما لا يتناهى، له طرفان؟ أفترى عاقلا أن يقول إن الإصغاء لهذا كالإصغاء لمن قال للقاعد لست بقاعد. وكم من عالم نحرير نصر مذهبا حقا أو باطلا أكثر أيام عمره وكان واثقا باستدلاله عليه، ثم انتقل عنه إلى نقيضه، وهل في الأرض عاقل يبدل اعتقاده في وجود نفسه؟ فهذه تفرقة لا يكابر فيها عاقل، ولا يمتري في تأتي تشكيكه نفسه في النظريات، وامتناع ذلك عليه في الضروريات، نعم حالة وقوع العلم لا يضامه الشك، لكونهما نقيضين. وأخذ أبو المعالي بمثل ما علمنا، بمسألة ثبوت العرض، ولكنه لم يبعد النجعة، كأن يتمادى إلى آخر فصول حدث العالم، ويورد كل ما علينا من الأسولة، وكل ما لنا من الأجوبة، حتى يبصر كيف تدق الأمور، وتتفاوت مراتب العلوم في المعاني التي أشرنا إليها وهي في غيرها مما يبسط في مواضعه إن شاء الله عز وجل. فإن طلب الرجل نفسه، وجميع أبواب علم الكلام بأن يجري فيها على هذا الأسلوب الذي هو تردد بين أنحاء الضرورة خاصة فقد طلب معوزا (...) معجزا، وكثير من براهين أشكال المهندسين إنما هي علوم ضرورية مستورة عن العقل، فإذا زال ذلك الساتر عرف (...) الأول الضروري بعينه ونحن لا نطلب في علومنا هذا المطلب، ولهذا سمى أهل المنطق استدلالنا إقناعا (وه ...) معنى الذي علينا أن نكلمهم على مسألة من الإلهيات ونظير حقيقة حجاجنا فيها، ونسامحهم بالمعاندة و (...) كل ما ورد حتى نضطرهم إلى الاستناد إلى مقدمة ضرورية، لا يمكن فيها عناد، ولا مكابرة، ثم ليسموا بعدها (...) في كثير من قوانينهم التي لا تخالف الشرائع، يتمسكون فيها بطرق من الجدال (...) الذي يصنعون في الإلهيات لولا المقصود من غرض هذا الكتاب لأوردت عليك (...) أو بطريقهم حتى ترى أنت (...).

وأما المسألة الرابعة (...) (ص 36) بتقاسم لا يوثق بها، كالتقاسيم في علة صحة تعلق الرؤية وأوردنا فيه مقدار ما يليق بهذا الكتاب. وأما النكتة الخامسة فإن أبا المعالي نوع التقسيم المنحصر الدائر بين الإثبات والنفي، إلى نوعين أحدهما يدركه العقل، ويعين مطلوبه في أحد القسمين، ومثل ذلك بأن تحرك الجسم المشاهد لا يخلو أن يكون عن مقتضٍ، فهذا يدرك العقل افتقاره إلى مقتض، والنوع الثاني لا يدركه العقل، ومثل ذلك بأن الإنسان يفكر في جوهر هل يصح تعرية عن اللون أم لا؟ فزعم أن العقل لا يدرك تعيين أحد القسمين، ولو امتد الفكر فيه أبد الآباد، ومن حاول قياسه على الأكوان فقد غلط، لا قياس في العقل، لكن إن كان الدليل الذي يصور في امتناع الخلو عن الأكوان يتصور في الألوان قضي به، وهذا الذي قاله شذ به عن الجماعة. وسائر الأئمة مجمعون على خلاف ما قال، محيلون تعري الجواهر عن الألوان، نعم وعن غيرها من سائر الأعراض، وقد وافقتنا المعتزلة بصريهم وبغداديهم على هذه الإحالة بعد اتصاف الجوهر بالأعراض، وإنما خالفونا في جواز تعري الجوهر عن الاتصاف بالأعراض قبل أن يتصف بها، فقال جميعهم يجوز ذلك إلا في عرض واحد أبقوه، ليصح لهم الاستدلال على حدث الجوهر إذ المجيز لتعريها عن سائر الأعراض غير قادر على الاستدلال على حدث الأجسام لكنهم اختلفوا في هذا العرض فهل هو اللون، أو الكون؟ وقد كنا قدمنا قبل هذا مضايقة الأئمة في رد الغائب على الشاهد، وما ذكر معه من الأقسام حتى رددنا أبا المعالي إليهم فيما أظهره من الخلاف عليهم، وأشرنا إلى أن الدليل الذي قام على ارتباط حال العالمين بالعلم مطرد في القديم والحادث، كما أشار إليه أبو المعالي هاهنا، في طرد دليل الكون ولهذا نقول: إن الجوهر إنما قبل العرض لنفسه، فمحال أن توجد نفسه وهي غير قابلة للعرض، وهذا دليل مبسوط في كتب علم الكلام وهو مطرد في سائر الأعراض. وأما النكتة السادسة فإن أبا المعالي أشار إلى غموض هذه التفرقة، وأكد في البحث عنها، وذكر أن الإنسان يحس من نفسه انقفال خاطره عن العلم المطلوب تبلدًا طبيعيًا، أو لعارض نفسي، أو غذائي، أو هوائي، أو لتحمله في التمادي في الفكرة فوق طاقته، وبين انقفاله لكون المطلوب منقفلا في نفسه، لا يتشوف فهم من الأفهام، وإن

استنارت ولطفت واحتدت إلى فتح انقفاله، وربما وقع في النفس تردد في هذا الانقفال هل هو راجع إلى البصر أو إلى المبصر، وهذا في البصائر كهو في الأبصار. ألا ترى أن الإنسان يفرق في نفسه بين كونه قاصرا عن إدراك ما وراء الجدورات، ويعلم أن ذلك غير راجع إلى ضعف البصر الطبيعي، وبين كونه قاصرا عن إدراك خطوط يقرأها غيره، ولكنه كل بصره، أو رمد وقد يشك بصره أيضًا في خطوط هل هي مما تقرأ أو مما لا يقرأها أحد، فكذلك حال العقل والمعقولات، ومثل فيما لا يدرك من قبل المطلوب لا من قل الطالب العلم بحقيقة الإله، وما هو عليه من صفات الجلال والكمال. وحاول هاهنا جمعا بين فئتين مختلفتين الإسلاميين والمتفلسفين، فزعم أن الإسلاميين يقولون في علة نفي الإحاطة بحقائق الإله أن ما يتصف به حادث موسم بحكم النهاية لا يدرك ما لا يتناهى، وأشار إلى أن الفلاسفة يحومون على هذا المعنى، ويعبرون عنه بعبارة مستنكرة عند الإسلاميين، لأنهم يقولون: هذا العالم الطبيعي، ويشيرون إلى هذه المركبات من الاستقصاءات، كالحيوان والمعادن والنبات، ويشيرون إلى عالم آخر وهو عالم الطبيعة كنفوس الأفلاك وغيرها من الروحانيات ويرون أن هذا العالم الطبيعي كالجزء، والعالم الذي وراءه عالم الكل، والعلم إحاطة بالمعلوم، فكما لا يحيط الأصغر بالأكبر، والجزء بالكل إحاطة مماسة، فكذلك لا يحيط إحاطة (...) إنما يحيط الأكبر بالأصغر، والكل بالجزء في الحس والمماسة، فكذلك في العقل، والإحاطة والاستحواذ سلطنة [كسلطنة] السلطان الأعلى على الأسفل، والأكبر على الأسفل والكل على الجزء، لا الأسفل على الأعلى ولا الأصغر على الأكبر، ويرون أن الجزئيات فاضت علينا من العقل الكلي، وإنما اختصصنا نحن بهذا الفيض دون غيرنا من الحيوان، (لكو ... انعت) (... ببا) لقبول هذا الفيض، ولكنه إنما يقبل من هذا الفيض بقدر ما يحتمل، والإحاطة (...) (ص 37) هما لا يحتملها هذا المزاج الجزئي، فلا

يصح أن يكون هذا الجزئي والمقدار من الفيض الذي يعلم به ما تحته، يعلم به ما هو فوقه (...) لو عقل به ما فوقه، بما انحل منه، وهو العقل الكلي، وأحاط بجميعه، لصار كليا مثله. وهذا تناقض، وليست هذه العبارة بمجردها مستنكرة عند أهل الإسلام كما قال أبو المعالي بل هي مستنكرة عندهم لفظا ومعنى، وقد كشفنا لك مقاصدهم بهذه كشفا يعرف منه استنكار معانيها عند المسلمين، ونحن إنما نحيل ما أحالوه، وذلك أنا نقول: قد تقرر في كتب علم الكلام أن الإنسان لا يعلم معلومين غير متلازمين بعلم واحد، بل يفتقر في كل معلوم إلى علم به، فإذا علم مسألة، ومعها مسائل، فلكل مسألة علم، وإذا ثبت أنه لابد لكل معلوم من علم، فإنما نحيل أن يعلم الإنسان معلومات لا نهاية لها على التفصيل، لأن ذلك لو جوزناه اقتضى أن يخلق في قلبه علوم لا تتناهى في زمن متناه، وخلق ما لا يتناهى في زمن متناه، [محال] لأن وصفنا الزمن بالتناهي يتضمن جواز خلق شيء آخر بعده، وقد قلنا: إن المخلوقات لا تتناهى، فأثبتنا التناهي فيها بتناهي الزمن ثم نفيناه عنها، لما قلنا إنها لا تتناهى، وهذا الوجه خاصة هو الذي نحيل أن يعلمه الإنسان. وأما معلومات لها نهايات، وإن كثرت حتى يعجز أن يعدها منا العادون، فإن خلقها في الإنسان جائز، سواء كانت معلومات لعدم، أو لوجود، وسواء كان الوجود نفسه، أو من سواه من مركب أو بسيط أو روحاني أو كثيف على ما يهتفون به في تقاسيمهم، ولا فرق بين معلوم ومعلوم في هذا، ومن قدر على العلم بجوهر، قدر على خلق العلم بجوهر آخر، ومن قدر على خلق العلم بعرض قدر على خلق العلم بعرض آخر، وحصر هذا بعد لا سبيل إليه، إذ ليس لقائل أن يتحكم بالوقوف عند عدد، إلا وللآخر أن يزيد عليه، أو ينقص منه، لكن إن خرج بالزيادة إلى ما لا يتناهى فهو المحال، خاصة، لما قدمناه، وهذا أوضح من فلق الصبح. وقد عبر أبو المعالي عبارة عن هذا الدليل، وأخذ بعض ألفاظنا فيه فأشار إلى كون الإنسان متناهيًا، وتناهيه يمنعه أن يحيط بما لا يتناهى، ونحن إنما جعلنا العلة تناهي الزمن، لما أريناك من تضمنه للتناقض. وأما تناهى جرم العالم فلا مدخل له هاهنا، ولا مناسبة بينه وبين ما أشرنا إليه من التناهي إلا من ناحية الألفاظ والعبارات، ولو جوزنا خلق ما لا يتناهى في الزمن المتناهي لجاز أن يعلم الإنسان معلومات لا تتناهى، ولو كان في نفسه متناهيا ولا التفات إلى ما

قالوه، وما تشير إليه عبارة أبي المعالي عنها من جزء وكل، وكثر وقل، وهم كثيرا ما يتمثلون بالحسيات، ويناسبون الأبصار بالبصائر، وهذه العين ومقدارها في التجزئة ـ كما قد علمتم ـ تدرك في لمحة واحدة من السماء مقدار ما علمتم على بعد مقدار ما بينها في نفسها في الجرم وبين أجرام الجبال، والبحار، والسماء، التي تدرك، فلا إحاطة في إدراك أصغر أكبر منه، وإنما الحق ما مهّدناه، وقررناه، بالدليل الواضح. وكذلك أيضا الحق في تمثيل هذا القسم أبو المعالي الخاصية في المغناطيس التي يجذب بها الحديد، وحكى عن الأوائل أنه لا سبيل إلى أن يطلع العقل على سر هذا، فأشار إلى القدح في مذهبهم، على أصولهم بكونه هذا كله من حديد ومغناطيس وجاذب ومجذوب من جملة عالم الطبيعة، وعالم الطبيعة فليست عقولنا جزءا منه فيستحيل إحاطتها بشيء منه، وإنما استحال إحاطتها بالعقل الكلي لكونها جزءا منه، ولا يحيط الجزء بكله. ثم عطف عطفة أخرى، وأشار إلى كون الاختصاص بحكم فيض ما أفاض من النفس العلوية على المغناطيس، لكون المغناطيس متهيئًا أيضًا لقبول فيض هذه القوة كما تهيأ الدماغ من الإنسان لقبول فيض قوة العقل، وإذا (...) قوية علوية فغير مستنكر تقصير العقل على الإحاطة بها لما قدمناه من التعليل، وردد قوله في هذه المسألة، وأ [شار] إلى أنه لم يتهيأ محل العقل من الإنسان إلى أن يفيض عليه ما يعرف به، هذا الخفي من أسرار الطبيعيات، وإنما (ا ...) قل الكلي ما يليق بهذا التمهيد، وهذا المقدار لا يبلغ أن يطلع به على هذه الأسرار. وأشار أيضًا إلى [أنه لو كان ممكنا] أو يتأتى العلم [به] لعثر عليه عاثر، فلما انقضت الأعصار، ومرت الدهور والجس لا (...) (ص 38) برا اقتضى ذلك أنه من قبيل ما يمكن معرفته، وعجبا له في هذا التردد، وهذا الاضطراب، ويطلب

المعاذير عما قاله هؤلاء المبطلون. والأصل الذي بنوا عليه كله فاسد، ومنهدم، وقد أوضحناه حتى صار كالشمس، وبينا أنه لا فرق بين معلوم ومعلوم في جواز العلم به، وأن الله سبحانه قادر على أن يخلق لنا العلم بهذا المعلوم بدلا من العلم بمعلوم آخر، وإنما المحال أن يعلم ما لا يتناهى على التفصيل لما بينّاه، فمن المقدور أن يعلمنا الباري حقيقة هذا الجذب، وكيفية ما في المغناطيس من خواص، أو غيرها، وهل قوة ما في المغناطيس إلا كقوة في الفلفل مغذ بها؟ ولكن جرت عادة هؤلاء الأوائل أن ينظروا في هذه الأجسام إذا تلاقت بانفعال بعضها عن بعض، فإن علموا للانفعال علة وسببا، واستند لهم إلى مقدمة ضرورية قالوا هذا أمر طبيعي، وسببه كذا، وإن لم يعلموا لهذا المشاهد من الانفعال سببا ولا علة قالوا هذه خاصية، فيعبرون عن جهلهم بعلة الحكم بالخاصية. ألا تراهم لما نظروا إلى الصبر، وإلى السقمونيا فوجدوا كل واحد من هذين يسهل البلغم والصفراء، وكانت عندهم مقدمة أن الصفراء حارة يابسة، والبلغم بارد رطب، ومقدمة ثانية وهي أن الصبر حار يابس، والسقمونيا حارة يابسة، ومقدمة ثالثة وهي أن الضد ينفي ضده، أنتجت هذه المقدمات علة إسهال الصبر، والسقمونيا للبلغم، لكون المزاجين ضدين، فضادت حرارة الصبر والسقمونيا برودة البلغم، فنافته ومنعته من مجاورتها، فأما الصفراء فلا منافاة بينها وبين الصبر، بل هما متناسبان، في كونهما حارين يابسين، فلم يعلم لإسهال الصبر الصفراء علة، لارتفاع التنافي بينهما، فعبروا عن جهالتهم هذه الخاصية، والذي أحوجهم إلى تحسين العبارة عن أنفسهم لما جهلوا، أصولهم الفاسدة التي يبنون عليها. وأما من أراح قلبه من هذه الترهان واعتقد أن الله سبحانه فاعل كل شيء، وأن المحدث لا يفعل في غيره شيئا، والجواهر متماثلة فليس بعضها أن يفعل في بعض بأولى من أن يفعل ذلك البعض في الفاعل الذي فعل فيه، فليس إلا فعل الله سبحانه الذي يخلقه عند مجاورة بعضها لبعض، ومقابلة بعضها لبعض، عادة أجراها وسنة في الخليقة أمضاها ولن تجد لسنة الله تحويلا. ونضايقهم في هذه الخاصية هل هي نفس جوهر المغناطيس؟ فإن قالوا: هي مجرد الذات من غير مزيد، قيل لهم: جوهر الحديد كجوهر المغناطيس، فلم اختص أحدهما بكونه جاذبا, والآخر مجذوبا؟ وإن قالوا: هو معنى يزيد على الجوهر، قيل لهم للجوهر صفات نفسية ومعنوية، فالمعنوية أعراضه المعقولة، كلونه، وطعمه ورائحته، وكونه، فأي هذه الأعراض هي

الخاصية؟ فلا يقولون في أحدها قولا إلا وقيل لهم خلافه، فلا يجدون مدفعا، وإن كانت صفاته النفسية فهي معقولة، كوجوده وتحيزه، وقبوله للأعراض، إلى غير ذلك من الصفات التي يشترك فيها سائر الجواهر، فلا يخصون منها صفة إلا وقيل لهم خلافها. وأيضًا فهذه الصفات تشترك فيها سائر الجواهر، فلم اختص واحد منها بجذب الحديد دون الآخر؟ وهلا كان الحديد هو الجاذب، والمغناطيس هو المجذوب؟ فإن قالوا هي غير معلومة ولا معقولة، فإثبات صفة نفسية أو معنوية [خا] رجة عن الأجناس المعقولة مذكور أدلته في كتب علم الكلام. وأيضًا فلو سلمناها مع الجهالة بها، لقيل لهم: [هل ذلك] يدل على علم فاعله وإرادته؟ وهذه الصفة تستحيل أن تكون مريدة عالمة، لأن الصفات لا تقوم بها الصفات، [ويحا] جون بما يحاج به الطبائعيون، وذلك مبسوط في كتب علم الكلام. والعجب من أبي المعالي إذا علم بالدليل القاطع [فساد] القول بالطابع الفاعلة، وأقر بأن الله سبحانه خالق كل شيء، ما حاجته إلى تسطير هذا الهتف، وأخذه المعاذير (.. عه) في المعاذير حتى يتردد فيها، هذا على أن المعنى الذي أشار إليه، وإلى انقداحه في نفسه مسطور في كتبهم (...) ابن سينا، وهو معاصر لأبي المعالي، ويذكر أنه كان يذاكره، وهو أمام مات (جمل ... ة) عليهم ذكر الأفيون و (...) للجسم تبريدا قويا، فوق تبريد (...) (ص 39) مركبا من العناصر الأربعة، وكالجزء منها، ولا يمكن أن يكون الجزء أقوى فعلا من الكل، فأشار إلى قوة فلكية أثرت فيه، حتى جعلته مؤثرا هذا التأثير، وهذا هو نفس هذا الذي أشار إليه أبو المعالي في المغناطيس، وأظنه منصوصا لهم عليه، لكن لم يثبت في حفظي الآن، إلا ما حكيته في الأفيون. وعجبا لهم هؤلاء قوم يؤمنون بأنه لا يكون شيء من هذه إلا عن فاعل، فهلا جعلوا هذا الفاعل هو الله سبحانه الذي هو معلوم، دل عليه الدليل؟، ولم انصرفت عقولهم عنه إلى تطلب فاعل آخر لا يعقل معناه، ولا يثبت عليه دليل؟ وقد أشار هاهنا إلى الاعتماد على

الاستقراء، وذكر أنه لو كان هذا لأمكن أن يعثر عليه على عاثر، مع تكرير البحث عنه على مر الدهور. وقد قدمت عنه أنه منع الاعتماد على الأقسام الغير منحصرة، كالتقاسم المستعملة في المصحح للرؤية، وقد قال يمكن أن يكون هناك قسم لم يعثر عليه المقسم، وإن طال الفكر فيه، وعميت عنه بصائر سائل المقسمين، فيقال هاهنا: هلا نقلت من هنا إلى هنالك، وقلت لو أمكن أن يكون هناك قسم آخر لعثر عليه عاثر، على مر الدهور؟ إلا أن يقول معتذر عن هذا أنا أمنع أن يكون هاهنا قسم يعلم في تقاسيم الرؤية، ولكن نفي العلم به، لا ينفيه، فينتقل الكلام إلى الفصل المتقدم، وهو النظر فيما يمكن أن يعلم أو لا يعلم. وأما النكتة السابعة فقد تقرر أن كل عاقل يجد في نفسه فرقا بين تجويزه لأمر تجويزا يرجع إلى نفس الأمر المجوز، وتجويزا يرجع إلى جهالة المجوز، وحيرة المتردد، فمن قطع بجواز رؤية الله سبحانه أحس في نفسه فرقا بين هذا القطع بالتجويز وبين تحيره وتردده بين المذهبين: مذهب الأشعرية في جواز الرؤية، ومذهب القدرية في إحالة الرؤية. وضرب أبو المعالي لهذا مثلا آخر، وهو ما قد اشتهر من الخلاف في تجويز خلق جنس من الألوان غير الألوان المعلومة، فمن صائر إلى إحالة ذلك، ومن صائر إلى القطع بجوازه، ومن تردد بين المذهبين شاك في جوازه وإحالته. وهذا مبلغ القول في النكت التي عددناها على الجملة، وبسط القول في هذه المذاهب في الألوان مذكور في كتب الأصول، ولكن أبا المعالي أشار هاهنا إلى اختياره القطع بالإحالة، ونفي الجواز، وعلق بذلك مسألة عظيمة يجل فيها الخطب، وهي الكلام على تعلق علم الله سبحانه بما لا يتناهى على التفصيل لآحاده، وكون كل واحد مميزا عن صاحبه، فقال إني لو أجزت خلق أجناس من الألوان لاستحال الوقوف عند عدد لا يتعدى، وإذا استحال الوقوف عند عدد لا يتعدى لم يبق إلا القطع بنفي التناهي، وإذا قطع بنفي التناهي تضمن ذلك تعلق العلم بآحاد ما لا يتناهى على التفصيل، لكون كل جنس مشار إليه يختص بحقيقة يخالف بها جنس صاحبه، وهذا الاختصاص، وتميز واحد عن واحد، يتضمن إثبات التقدير، والتناهي، وقد فرضنا عدم التناهي، وهذا جمع بين النقيضين. وأشار إلى تجهيل من قدح في هذا باعتقاد المسلمين أن الله سبحانه يعلم ما لا يتناهى، ولم يتضمن ذلك تناقضا، واعتذر عن هذا بأن المعلوم الذي لا يتناهى متناسب الآحاد، ليس بأجناس مختلفة فيضطر اختلافها في قضية العلم بها إلى تميز بعضها عن بعض، فإنما يتعلق العلم به، تعلق استرسال عليه من غير تفصيل لبعضه عن بعض،

واستشهد على صحة هذا بأنه لا يتناهى [وما لا يتناهى]، قد تقرر استحالة خروجه إلى الوجود، وما ذاك إلا لما تضمنه من التناقض بين إثبات التقدير والنهاية للموجود المفروغ من خلقه وإيجاده مع نفي النهاية عنه، ووصفه بأنه لا يتناهى، وذكر أن هذه حقائق إذا لاحت فليقل الأخرق ما شاء. وأول ما أقدم بين يدي الكلام على هذه المسألة تحذير الواقف على كتابه هذا أن يصغي إلى هذا المذهب الذي قال، أو يتساهل في خطوره بباله، فضلا عن التشكك في محاله، فإنه أحد أركان الدين و (مع ...) يؤدي التساهل فيه إلى مطاعن الزندقة والملحدين، وبودي لو محوت هذا من هذا الكتاب بماء بصري، لأن هذا الرجل له سابقة قديمة وآثار كريمة في عقائد الإسلام، والذب عنها، وتشييدها، وحسن العبارة عن حقائقها، وإظهار ما أخفاه العلماء من أسرار، ولكنه في آخر أمره ذكر أنه خاض في فنون من علم الفلسفة، وذاكر أحد أئمتها، فإن ثبت هذا القول (ص 40) عليه، وقطع بإضافة هذا المذهب في هذه المسألة إليه، فإنما سهل عليه ركوب هذه المسالك إدمانه للنظر في مذاهب أولئك. ومن العظيمة في الدين أن يقول مسلم إن الله سبحانه يخفى عنه خافية ولو دقت، حتى لا يحيط بها العقول، ولا تتوهمها الأوهام، والمسلمون لو سمعوا أحد يبوح بخلاف هذا لتبرأوا منه، وأخرجوه عن جملتهم، ونحن لو قنعنا في رد هذا المذهب بهذا المقدار، لكنا عوّلنا على ما يعول عليه في مثل هذا، لأنا إذا كان خطابنا مع موحد مسلم، كنا نخاطبه بلسان سائر المسلمين، ونقول له إن زعمت أن الله سبحانه يخفى عليه خافية، أو يتصور العقل معنى، أو يثبت في الوجود صفة أو موصوف، أو عرض أو جوهر، أو حقائق نفسية أو معنوية، وهو تعالى غير عالم به فقد فارقت الإسلام، وإن كان كلامنا مع ملحد فنرد عليه بالأدلة. ولابد من مقدمات نقدمها قبل أن نخوض في العقليات المختصة بهذه المسألة، فمن ذلك اختلاف أهل الأصول في وجوب اتحاد معلوم العلم الحادث، فأما ظاهر مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري، فإنه يوجب اتحاد معلوم العلم الحادث، ويمنع من تعلقه بأكثر من معنى واحد، وتابعه على هذا المذهب القاضي أبو بكر بن الطيب لكنه قبل ذلك بما لا يتلازم من المعلومات، وأجاز تعلق العلم الحادث بمعلومين متلازمين يستحيل أن يعلم

أحدهما ويجهل الآخر، وهي معلومات النسب، والتضمين، كالعلم بفوق، فإنه يستحيل أن يعلم فوق من يجهل تحت، وكذلك يمين وشمال، وخلف وقدام، وكذلك إذا قلنا هذا غير هذا، وهذا مثل هذا، وهذا خلاف هذا، فمن المحال أن يعلم التماثل بين اثنين أو التغاير بينهما من لا يعلم إلا واحدا منهما. وأما ما لا يتلازم كزيد وعمرو، فلابد من اتحاد المعلوم، ولا يصح عنده أن يعلم هذان بعلم واحد، لأنا لو فرضنا أنهما يعلمان بعلم واحد لأدى ذلك إلى الجمع بين النقيضين، لأنه معلوم بالضرورة أنه من الممكن أن يعلم زيد، ويجهل عمرو، ويعلم عمرو، ويجهل زيد، فإذا قررنا تعلق علم واحد بهما أدى إلى أحد محالين، إما إحالة جائز أوجمع بين النقيضين، لأن العلم الواحد إذا تعلق بهما، فإن قلنا لا يصح أن يجهل أحدهما أحلنا ما كنا قدمنا القطع بجوازه وإن قلنا يصح الجهل بأحدهما مع بقاء العلم بالآخر فقد صار هذا الذي فرضنا الجهل به معلوما، من حيث فرضنا بقاء العلم المتعلق بصاحبه مجهولا من حيث فرضنا طريان الجهل به، وإذا كانت هذه العلة في منع تعلق علم حادث بمعلومين، فلا شك في فقدانهما في المتلازمين لما بيناه من استحالة العلم بأحدهما دون الآخر، وإذا وجب تقارنهما في العلم، لم يقتض تعلق علم واحد كما بيناه. وأما أبو الحسن الباهلي أستاذ القاضي ابن الطيب، فإنه أجاز تعلق علم ضروري بمعلومات، ومنع ذلك في النظريات، لأن كل مسألة تختص بنظرها، ونظر ما يضاد نظر صاحبتها، لأن كل نظرين ضدان، والضدان لا يجتمعان، فتجويز تعلق علم نظري بمعلومين يتضمن إثبات نظرين، وإثبات نظرين معا محال، ولو جاز إثبات ذكرين لنظرين معا، فإنا نمنع تعلق علم ذكري بمعلومين، لأنه إذا ثبت ذلك في مهتديه ثبت في ذكره، إذ لا يصح أن نحيل أمرا في العلم الواقع عقيب النظر، ونجيز في العلم الواقع عند تذكار ذلك النظر مع كون (... رى) العلم متعلقا بما تعلق به الأول، وإذا كانت العلة عند هذه فلا شك أيضًا في فقدانها في الضروريات. وحكى عن (...) وأصحابنا جواز تعلق العلم الحادث، بمعلومات متناهية، أو غير متناهية، وعبر هؤلاء كون علم الباري سبحانه متعلقا بما لا يتناهي، ومن حق العلل أن تطرد على سياق واحد شاهدا وغائبا، وهذا مذهب ضعيف لا يرتكبه محقق،

ووجود التفرقة بين علم الله سبحانه، وعلمنا، مذكور في كتب الكلام. والدليل القاطع على أننا لا نعلم ما لا يتناهى، وأن ذلك مخال منا مبني [على] القاعدة، وهي إحالتنا تعلق علم حادث بمعلومين، ولو فرضنا أن الإنسان يعلم ما لا يتناهى من المعلومات لاقتضى (...) لا تتناهى وخلق علوم لا تتناهى في زمن متناه محال، فهذه مقدمة لما نحن بصدده. وأما المعتزلة (... ني) القول بأن العلم يتعلق بالأمر على (...) مسألة اختلف الناس والمعتزلة على (ص 41) تجويز ذلك، إلا ابن الجبائي فإنه منعه في أحد قوليه، وأكثر أئمتنا على تجويز ذلك أيضا، وإذا قلنا بتجويز ذلك فبين أبي الحسن الأشعري والقاضي اختلاف: هل لابد أن يضام العلم على الجملة بالتفصيل أم لا؟ فرآه القاضي مضاما لها، ولم يره أبو الحسن الأشعري. وقد اعتمد من قال إن العلم يتعلق على الجملة، كما يتعلق على التفصيل بأنا نعلم أن معلومات الله سبحانه لا تتناهى، وهذا علم منا على الجملة، وأجاب الآخرون بأنا إنما علمنا هاهنا بأن لله سبحانه علما يتعلق بما لا يتناهى فمعلومنا علم الله سبحانه، لا ما لا يتناهى، وهذا جواب ضعيف، ونحن نعلم حقيقة ما لا يتناهى على الجملة، وإن لم يستند ذلك إلى علم الله سبحانه به. وكذلك نعلم من فارقناه عن قريب أنه بالمدينة معنا على الجملة، وإن كنا لا نعلم عين مكانه على التفصيل. وكذلك الدرهم المختلط مع دراهم نعلمه كائنا مع جملة الدراهم على الجملة، ولا نعين كونه ومكانه. وأما طريقة من منع تعلق العلم على الجملة فسنشير إليها في آخر هذا الفصل إن شاء الله تعالى. وأما اختلاف القاضي وأبي الحسن في كون العلم الجملي لابد أن يضامه الجهل بالتفصيل، فإنما يتضح معنى خلافهما إذا كشفت لك حقيقة منها ترقي إلى صرف خلافهما إلى عبارة، وذلك أن الذات قد تقرر أن لها صفات عامة حتى لا يوجد فوق تلك الصفة ما هو أعم منها، وخاصة حتى لا يوجد تحت تلك الصفة ما هو أخص منها، وبين هاتين صفات تكون بالمقايسة إلى ما فوقها خاصة، وإلى ما تحتها عامة، وبيان ذلك بالمثال: أن

السواد من أوصافه أنه معلوم، ولكن ليس فوق هذا الوصف ما هو أعم منه، لأنه وصف ينطلق على المعلوم والموجود، فإذا علم وصف آخر يميزه به عن المعدوم علمه موجودا، لكن الموجود الله سبحانه ومخلوقاته، فإذا علم وصف آخر وهو حدوثه، انفصل هذا المعلوم انفصالا آخر، لكن إذا علم كون هذا المحدث عرضا انفصل المعلوم انفصالاً آخر، لكونه قد تميز عن الجواهر، فإذا علم أن هذا العرض لون انفصل هذا المعلوم أيضًا عن بقية الأعراض، وإذا علمه سوادا انفصل هذا المعلوم عن بقية الألوان فمن علم سواد جوهر بعينه، فليس تحت هذا المعلوم ما هو أخص منه. وهذه الأوصاف المشار بالجملة منها إلى التعميم، وبالتفصيل إلى التخصيص، فكونه لونا، خاص بالنسبة إلى كونه عرضا، عام بالنسبة إلى كونه سوادا، وليس من شرط من علم الوصف العام أن يجهل الخاص، وهذا يتضمن فلابد صحة ما قاله الأشعري من أن العلم على الجملة لا يقارنه الجهل بالتفصيل ضربة لازم، لأنا نعلم كون هذا العرض عرضا، ونجهل كونه سوادا، وتارة نعلم كونه عرضا ونعلم كونه سوادا، فقد اتضح أنه ليس من ضرورة العلم بالوصف العام، الجهل بالوصف الخاص. فالذي قاله القاضي لا وجه له، لما بيناه، إلا أن يكون قصد المشاحة في العبارة، وذلك أنه يقول لا يسمى العالم بالوصف العام عالما بالجملة، إلا إذا جهل الوصف الخاص، وأما إذا علمه مع علمه بالوصف العام فلا أسميه عالمًا على الجملة، وامنع أن يقال إن الله سبحانه عالم على الجملة لما أشعر به هذا الإطلاق من الجهل بالتفصيل، فيعود ذلك بينه وبين الشيخ أبي الحسن اختلافا في عبارة. وإذا وضحت هذه الحقائق، واستبان معنى العلم بالجملة والتفصيل، استبان منه القطع على فساد ما أشار إليه أبو المعالي من أن الله سبحانه يسترسل علمه على ما لا يتناهى من غير تعلق بتفاصيل آحاده، وذلك أنا إذا قلنا الله سبحانه يعلم نعيم أهل الجنة، وذلك لا آخر له، ولا نهاية، فإذا فرضناه عالما بشرب رجل من أهل الجنة كأس رحيق، وبشربه كأسا آخر، بعد ذلك، هكذا لغير آخر، فلابد أن نقول إن الكأس الأول متميز عن الثاني بجميع أوصافه الخاصة والعامة، والله سبحانه يعلم منه جميع هذه الأوصاف الخاصة والعامة، أو لا يعلم ذلك؟ فإن قال: إنه لا يتميز شرب كأس عن شرب كأس فقد كابر، (...) وإن قال: يتميز شرب بأوصاف [اختلف] بها عن صاحبه، والباري سبحانه عالم بجميع، قيل له فما

معنى الامتناع من القول إن الله تعالى [يعلم] التفصيل؟ وهذا هو غاية التفصيل، وإن قال إن الله سبحانه لا يعلم ذلك. قيل له: فهذا معلوم أثبته، والله سبحانه جاهل به، [فإذا صح] جهله بهذا المعلوم صح جهله بمعلوم آخر، وما الفرق بين معلوم، ومعلوم؟ وأيضًا فيقال له أليس (ال ...) على ما هي عليه من الصفات، وهو خالق هذا الذلا (...) واحد (عل ... تع) وأنت تستدل على (...) (ص 42) للذات، وعلى كونه عالما بأحكامها، وعلى كونه مريدا بتخصيصها بما اختصت به من الأوصاف. فإذا كان لا يعلم سبحانه هذه الأوصاف التي بها انفصلت الذوات بعضها من بعض، فيستحيل أن يريدها، لأنه محال عند كل عاقل أن يريد الشيء من لا يعلمه وإذا كان غير عالم بها، ولا مريدا لها، وهو صانعها تعالى، فبما أنكرت أن يدل خلق السموات والأرض على كونه عالمًا بها، مريدًا لها، وإن كان صانعها وكيف لا يعلم من خلق؟. وهكذا اضطره هذا إلى أنه سبحانه عالم بها، فلا شك في أنه علم ذلك على التفصيل، وإن ركب أنه غير عالم بها، ولا مريد، فسد دلالة هذا العلم على كون سبحانه عالمًا مريدًا، وإذا ثبت صحة تعلق القدرة عنده بهذه الآحاد وإن كانت لا تتناهى، فكيف يتصور عاقل منع تعلق العلم بذلك؟ وهل القدرة والعلم لا تتساويان في مثل هذا؟ والمعنى الذي استبعد منه تعلق العلم يوجب القدرة، وإثبات المقادير يرفع نفي التناهي تناقض، وتدير عليه تقسيما منحصرا بين نفي وإثبات. وهو قد سلم أنه أصح دليل في سائر العقليات، فنقول: هذا الذي استرسل عليه علم الله سبحانه هل يخرج منه شيء إلى الوجود أو لا يخرج؟ فإن قال لا يخرج أثبت تناهي نعيم أهل الجنة، وقد أخبر الشرع بخلافه، وإن قال لابد أن يخرج، قيل له فإن خرج منها عددان أو ثلاثة، فهل البارئ سبحانه عالم بها على التفصيل أو يعلمها على غير التفصيل؟

فإن قال لا يعلمها على التفصيل، قيل معلومان أو ثلاثة لا إحالة في علمها على التفصيل، ويمكن من المخلوق أن يعلم معلومين أو ثلاثة، وأكثر من ذلك على التفصيل، فكيف بمن هو بكل شيء عليم؟ وهذا يؤدي إلى جهله بكل شيء تعالى [عن] ذلك، وإن قال يعلمه على التفصيل، قيل له لا يخلو أن يعلمها بعلمه القديم الواحد، أو بعلم يتجدد له، فإن قال بعلم يتجدد له، فهذا مذهب الجهمية القائلين بأن الله سبحانه يعلم المعلومات بعلوم محدثات، وهذا باطل، وقد بسط الرد عليه في كتب علم الكلام، فلم يبق مع هذا التفسير الحاصر إلا إثبات كونه عالما بها بعلمه القديم على التفصيل، ونفرض ذلك في كل ما خرج منها إلى الوجود، حتى يؤدي إلى إثبات علمه بالتفصيل فيما لا يتناهى، كما قاله المسلمون. وعجبا له من استشهاده علينا بما اتفقنا عليه من استحالة خروج ما لا يتناهى إلى الوجود، وواضح لكل متأمل فرقان بين كون ما لا يتناهى موجودا، وبين كونه معلوما، وذلك أنا إذا أثبتنا الفراغ من الموجودات فمعلوم قطعا أن يمكن بعد الفراغ إيقاع موجود آخر غيرها، ويزيد عليها فاعلها موجودات أخر، وإثبات زيادة عليها يقتضي كون الموجود قد تناهى، لأن الزيادة إنما تكون على متناه وما لا يتناهى ولا آخر له تستحيل الزيادة عليه. فإذا قلنا بعد هذا إنه لا يتناهى فقد ناقضنا، لأن ذكرنا الفراغ منه، يقتضي تناهيه، على ما بيناه، وقولنا لا يتناهى مناقض لقولنا إنه قد تناهى بالفراغ. وأما إذا قدرنا ما لا يتناهى معلوما فليس هذه هنا إشارة إلى أمر أتى الفراغ عليه، لأن المعلوم لا يكتسب من العلم شيئا، وإنما يتعلق به على ما هو عليه، فإذا كان لا يتناهى، وعلم غير متناه، لم يتضمن تعلق العلم به إثبات نهاية له، كما تضمن ذلك من الفراغ إلى الوجود، وإذا لم يتضمن ذلك، فلا تناقض فيه، يؤدي إلى المنع، وهذا أوضح من فلق الصبح، لمن تدبره، وفي مثله ينبغي أن يقول المحصل: إذا لاحت الحقائق فليقل الآخر ما شاء. وعجبا له، هو يعلم أن ابن الجبائي على صدقه عنده، ومن وافقه إنما صاروا إلى أن العلم يتعلق بأمر على الجملة، لأنهم لو قالوا بذلك لأبقوا لله سبحانه علما بالجملة، وذلك يتضمن الجهل على التفصيل، والله سبحانه يتقدس عن الجهالة. وإن قالوا: إن الله سبحانه لا يعلم علم الجملة فقد أثبتوا أن للعبد معلوماً والله

فصل في مدارك العلوم الدينية

سبحانه لا يعلمه، ومن الشنيع في أمر الدين أن يقال إن للعبد معلوما لا يعلمه الله سبحانه وهذا مستنكر من جميع المسلمين، وإن كان القاضي لما نفي تعلق علم الله سبحانه بالمعلومات على الجملة لم يلتفت إلى هذا التشنيع، ورأى (...) يجب أن تتبع، وهذا أمر نفي عن البارئ سبحانه الجهالة، وإضافتها إليه. فأنت ترى هذه المذاهب كيف [جعلهم] الحال يحاذرون من الوقوع في مذهب [يؤدي] إلى إضافة جهالة إلى الله سبحانه، وإن كانت على هذا الأسلوب (...) (ص 43) نفي جهالة أخرى عنه، فكيف بإضافة جهالات للباري سبحانه لا تنحصر ولا تعد؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وهذه النكتة التي منعت ابن الجبائي من القول بتعلق العلم بالمعلوم على الجملة أخرنا ذكرها هناك، لنوردها، هاهنا، على هذه الصفة، تبشيعا للمذهب الذي أشار إليه، وأنت إذا حققت معنى تعلق العلم بالأمر في الجملة، أو التفصيل هان عليك الجواب عن تعلق ابن الجبائي بهذا الذي تعلق به من استبعاد إثبات معلوم للعبد لا يعلمه الله سبحانه، وقد استبان من هناك صفة تعلق العلم بهذه المعلومات، وأن تعلق العلم بالجملة لا يتضمن الجهل بالتفصيل إلا على جهة المشاحة في عبارة. ولعل أبا المعالي لا يخالف في شيء من هذه الحقائق، وإنما يريد الإشارة إلى معنى آخر، وإن كان مما لا يحتمله قوله إلا على استكراه وتعسف، وبالجملة فإنه مقال شنيع، ولفظ لا يقبل التأويل، فنسلك فيه ما سلكناه من الجمع بينه وبين الأئمة، على حسب ما قدمناه، في كلامنا على مخالفته إياهم في رد الغائب إلى الشاهد، وفي هذا كفاية. فصل في مدارك العلوم الدينية قسم أبو المعالي هذه المدارك على ثلاثة أقسام تقسيما كليا: - العقل المحض. - ومدرك مشترك بين العقل والعرف.

- ومدرك سمعي محض. ثم حصر مدرك العقل المحض في أربعة أنحاء: - العلم بالجواز. - ومحض أحد الجائزين بالوقوع. - ووجوب مخالفته للجائزات. - والصفات التي لا تكون مخصصا إلا بعد حصولها. وهذا الذي قاله فيه نقصان ومداخلة، أما النقصان فإن العلوم التي أشار إليها هي التي لا يصح العلم بصدق الرسول إلا بعد العلم بها كالعلم بحدث العالم، وإثبات صانعه، وقدمه، ووحدانيته، واقتداره، وعلمه، وإرادته، وجواز بعثته الرسل. وقد علم أن هذه العلوم ينبني بعضها على بعض على الجملة، وحدث العالم مقدم فيها، وقد علم أن من مقدماته التي لا يتم العلم بحدثه إلا بعد العلم بها: استحالة حوادث لا أول لها، والاستحالة نقيض الجواز، فلا معنى لحصر العلوم الدينية في الجائزات خاصة، ومما يفتقر إليه في العلم بحدث العلم استحالة قيام الصفات بالصفات إلى غير ذلك من ضروب الإحالات، مثل استحالة تعري الجوهر عن الأعراض، وغيرها. فاتضح أن الذي قاله قاصر عن استيعاب المطلوب هاهنا، وأما المداخلة، فإنه ذكر في القسم الثالث العلم بمخالفة المخصص للمخصصات وذكر في الرابع العلم بالصفات التي لا يصح كونه مخصصا إلا بها، ووجوب مخالفته للمخصصات داخل في هذا، إذا كان المراد المخالفة التي لا يتم كونه فاعلاً إلا بها وهي المقصود في هذا الباب، لما أشرنا إليه من الحاجة إلى علم صدق الرسل. واعتمد أبو المعالي في هذا الفصل في إثبات كلام الله سبحانه على التضمن العقلي فقال: العالم لابد أن يقارن علمه إخبار عن المعلوم مطابق للعلم، وإذا طابق الخبر العلم، كان صدقا، لأن حقيقة العلم معرفة المعلوم على ما هو به، وحقيقة الصدق الإخبار عن الأمر على ما هو به، وأشار إلى أن العلم يتضمن هذا الخبر، كما يتضمن الحياة، فكما لا يصح علم دون حياة، فلا يصح علم دون الخبر والطريقة المشهورة في الاستدلال أن الباري سبحانه ثبت كونه حيا، والحي يصح منه أن يكون متكلما، فالحياة مصححة لقبول المحل للكلام، وضده الذي هو الخرس، فلو لم يكن الباري سبحانه متكلما لكان أخرس تعالى عن ذلك، ولو ثبت الخرس له، قائما به، لم يقدر إلا قديما، إذ القديم لا تحل به الحادثات،

وإذا قدر قديما استحال تصور الكلام منه، والخرس نقص، وآفة، والنقائض والآفات يتعالى الله سبحانه عنها. واختلفت طرق الأئمة في تعاليه عنها، هل ذلك عقلا أو سمعا، فقيل: العقول تقتضي أن الإله لا يكون ناقصا، ويكون العبد المربوب أكمل منه، وقد قال النبي عليه السلام في الصحيح في الدجال أنه أعور، وأن الله ليس بأعور، الحديث، فنبه على أن من الحجة على كذبه في دعوى الألوهية نقصه بالعور، والإله لا يكون ناقصا، وقيل بل تنفى أمثال هذه النقائص عن الباري بالسمع، وإجماع الموحدين على نفيها، وقد ذكر في كتب الكلام الاعتراض على هذه الطريقة، فإنها تتضمن إثبات الكلام بالكلام، لأن نفي النقص (...) والسمع هو كلام الله، فكأنا أثبتنا كلامه بكلامه. وأجيب عن هذا بأن المعجزة تدل على صدق الرسول، (...) وكون المرسل متكلما، وفي حق من لم ينص (...)، فلو وقفت دلالتها على ثبوت الكلام لام (ص 44) الإله وصفاته فيستعمل فهيا البرهان المستقيم، سوى نفي الألوهية عن الإله، وهل نفي الألوهية عن الإله إلا من جملة صفات الإله، وهو أشار هاهنا إلى إخراجها عن هذا النوع، ولأن [نفي] الانقسام عن الجوهر الفرد يتضح تصوير برهان الخلف فيه لمن طالع أدلة القوم عليه وأقر بها أنه لو كان ينقسم إلى غير نهاية لم يكن الفيل أكبر من الذرة، فلما كان الفيل أكبر منها دل على أنه يقف في القسمة عند حد، بمحصول أنه لما ثبت استحالة كونه لا يتناهى ثبت كونه متناهيًا، وأنت إذا تدبرت ما قلناه عنهم، من المثال يكون العالم متناهيا، وضعت في هذه المسألة مثل ما وضعك في تلك، فتأخذ من مذهب الخصم في أنه لا يتناهى تجعله مقدمة كالشكوك فيها فتقول: الجسم لا يتناهى، وتضيف إليه، كل شيئين لا يتناهيان فلا يكون أحدهما أكبر من الآخر، فالنتيجة أن جسما لا يكون أكبر من جسم، وقد علمنا بطلان هذه النتيجة بالحس والمشاهدة، فما كانت كاذبة باطلة إلا لبطلان إحدى مقدمتها، فلا سبيل إلى صرف الكذب إلى قولنا: لكل جسمين لا يتناهيان فلا

القول في البيان

يكون أحدهما أكبر من الآخر، فاضطرت إلى صرفه إلى المقدمة الأخرى وهي قولك الجسم لا يتناهى، فإذا كانت هذه المقدمة كاذبة، فنقيضها هو الصدق، ونقيضها أن الجسم متناه. فهذا هو معنى قول المتكلمين، لو كان الجسم لا يتناهى لم يكن الفيل أكبر من الذرة، فاختصروا هذا كله، واقتصروا على ما قلناه، لأن ما سواه معلوم واضح، لا يفتقر إلى عبارة عنه، وإثبات مقدمة أو مؤخرة. وفي هذا كفاية. القول في البيان يفتقر الكلام في هذا الباب إلى النظر في حد البيان ومراتبه، وجواز تأخيره، فأما حده فقد أكثر الناس القول فيه، فمن مشاهير حدودهم حد أبي بكر الصيرفي إذ قال في حد البيان: إنه إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي، ورد هذا الحد أبو المعالي لأجل ما اشتمل عليه من المجاز بذكر الحيز والتجلي، وهذا رد ضعيف، لأنه مجاز يفهم القصد به، من غير افتقار إلى مراجعة القائل، واستفساره عن مراده، ورد القاضي أبو بكر بن الطيب ئة هذا الحد، بأن من أحكام الشريعة ما ورد نصا جليا مبتدأ من غير أن يسبقه إشكال يكون هذا النص مفسرا له. وهذا النوع بيان للأحكام، وهو خارج من حد الصيرفي، لأنه قصر البيان على ما تقدم فيه إشكال. وأشار القاضي أبو محمد عبد الوهاب إلى الانفصال عن هذا التعقب، بأن النصوص الواردة في حكم المبتدأ قد أفادت علما لم يكن حصل للسامع، وهو قبل سماع هذه النصوص يشبه في عدم علمه للحكم من أشكل عليه خطاب سبق وروده في هذا الحكم، وهذه مضايقة بين القاضيين في عبارة، فقد لا يسلم القاضي أبو بكر تسمية عدم العلم إشكالا. وإذا لم يسلم ذلك صح تعقبه على الصيرفي، إلا أن يمانعه الصيرفي في تسمية هذا

القسم الذي هو النصوص الواردة مبتدأة بيانا، ويزعم أن هذه التسمية مقصورة على نصوص بين بها القصد بلفظ مشكل تقدمها، وقد قال: أما الكلام من أصحابنا أن حد العلم بأنه تبيين المعلوم ففاسد، لأجل أن التبيين ينبئ عن تقدم خفاء وإشكال، وعلم الله سبحانه لم يتقدمه خفاء ولا إشكال، فأنت ترى هؤلاء كيف يشيرون بهذا إلى منع وقوع هذه التسمية على منع ما لم يتقدمه إشكال. وقد أشار أبو المعالي في كتابه إلى اعتراض القاضي إشارة عن بعد فقال: وذو البصائر لا يودعون مقاصد الحدود إلا في عبارات هي قوالب لها من غير قصور ولا ازدياد، فأنت تراه كيف التفت إلى التنبيه على فساد الحد من ناحية قصوره عن الاستيعاب، والقاضي إنما تعقبه من ناحية كونه قاصرا عن الاستيعاب. وذهبت طائفة إلى أن البيان هو [الدليل] لكن بين هؤلاء اتلاف: فحذاقهم كالقاضي أبي بكر وغيره يقول: إن البيان هو الدليل، قولا مطلقا، فالدليل العقلي بيان (...). ومن هؤلاء من يقيد مقاله فيرى أن البيان هو الدليل القولي، فقصر هؤلاء البيان على مآخذ الأقوال. [وبعضهم ذهب] إلى أن البيان هو العلم، واختلفت طائفة من هؤلاء، فمنهم من قال: هو العلم بالأمر المتبين قولا مطلقا، ومنهم من (...) فقال هو العلم الحادث بالأمر المتين. و [من] هؤلاء الحادين بالعلم من أشار إلى طريقة [الص ...] للأمر (...) فقال: البيان هو العلم [بما كان] إشكالا خفيا، وقد حد (...) (ص 45) خط أو إشارة. وهذا عندي وإن كان قد حكاه القاضي أبو محمد عبد الوهاب، فإنه يجب أن يؤخر

الكلام عليه إلى القول في مراتب البيان، وقد رد على القائلين بأن البيان هو العلم بطريقتن: إحداهما: أن العرب تقول أكملت البيان، وأتممت البيان لك، وهذا يشعر بكون البيان طريقا للعلم من العلم. والثانية: أن البيان إذا كان هو العلم، فليكن العلم بيانا، وهذا يقتضي تسمية علم الله سبحانه بيانا، وقد تقدم تعقب الأئمة فيه. ولما أحس بعضهم بهذا الاعتراض الثاني قيد حده بأن قال: هو العلم الحادث، على حسب ما حكيناه عنه، ليسلم بهذا التقييد من المعارضة بعلم الله سبحانه، لكون علمه تعالى غير حادث. وأما من أشار من الحادين بالعلم إلى التقييد لمفارقة الإشكال فإنه قصد ما ذكرناه من قصد الصيرفي، وبيناه من قصر هذه التسمية على ما تقدمه إشكال، على ما يشير إليه تعقب المتكلمين للحد الذي ذكرناه، وهؤلاء أيضًا يخاطبهم القاضي بما خاطب به الصيرفي، في قصره البيان على ما تقدمه إشكال، وقد تقدم بسط القول فيه. واعلم أن النكتة التي تدور عليها هذه المذاهب أن هذه اللفظة مأخوذة من الانفصال والانقطاع، وبانت اليد عن الجسد بمعنى قطعت فصارت بقطعها متميزة عن الجسد، وبان الهلال ظهر، وفارق الخفاء، وبانت المسألة بهذا المعنى أيضا، وقد علم أن شخصا إذا استتر، فإن البصر منا لا يدركه، فإذا رفع الستر ووقع البصر الصحيح ظهر له، وفارق الستر والخفاء، ولكن هذه المفارقة للخفاء يصح إسنادها إلى وقع البصر عليه، ونفس الإدراك له، وإلى ارتفاع الستر الحائل بني البصر وبينه. وكذلك المعاني المستورة عن العقل إذا رفعت الفكرة فيها هذا الستر حتى أدركها العقل، وحصل العلم بها فإنه قد يصح إسناد مفارقتها للخفاء، وحصولها معلومة إلى نفس الفكرة الرافعة لما أخفاها عن العقل، ويصح أن تصرف إلى نفس إدراك العقل لها، والعلم بها، فمن الالتفات إلى النظر في هذا وقع الخلاف في البيان، هل يرجع إلى الدليل أو إلى العلم، والبيان قد يطلق بمعنى التبيين، فيرجع ذلك إلى الطريق إلى العلم، وقد يكون مصدرًا من بان يبين بيانا، فيرجع إلى العلم. فهذا سبب النزاع في معنى هذه اللفظة، لكن القاضي وغيره لما اختاروا صرفها إلى الطريق إلى العلم، قال ذلك قولا مطلقا، طردا، اقتضى هذا الذي بيناه، وزعم غيره ممن

سلك مسلكه أن العرب إنما تطلق هذا في البيان القولي، لا في العقلي فقد حده بما ذكرنا، فهذا منشأ الخلاف بين أصحاب هذه الحدود، مطلقها ومقيدها. وأما الوجه الثاني وهو القول في مراتب البيان فإن أبا المعالي نقل في ذلك ثلاثة مذاهب: - أحدهما أن المراتب ثلاثة أولها النص. - والثاني الظاهر. - والثالث المحتمل على التساوي. والمذهب الثاني أنها خمسة على ما ذكره الشافعي: - أولها: النص الجلي، الذي يدركه الجميع، كقوله تعالى في صيام المتمتع: (فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم) أكده بقوله: (تلك عشرة كاملة). - وثانيها: النص الذي ينفرد بدركه العلماء، كالواو التي في آية الطهارة، فإن هذين الحرفين يقتضيان معاني معلومة عند أهل اللسان. - ثالثهما: نصوص السنة الواردة بيانا لمشكل في القرآن، كالنص على ما يخرج من الحصاد مع تقدم قوله تعالى: (حقه يوم حصاده) ولم يذكر في القرآن مقدار هذا الحق. - رابعها: نصوص السنة المبتدأة. - خامسها: القياس والمذهب الثالث أنها ستة: - أولها: القول. - ثانيها: الفعل. - ثالثها: الإشارة كقوله: "الشهر هكذا، وهكذا وحبس في الثالثة لسبعة" الحديث. - رابعها: الكتابة. - خامسها: المفهوم بالموافقة وهو الفحوي، أو بالمخالفة وهو دليل الخطاب.

- سادسها: القياس. ومما تعجب [منه] في نقل هذه المذاهب أن الغزالي نخل هذا الكتاب الذي نحن آخدين في [شرحه] فذكر أن الأصوليين (...) على أن مراتب البيان خمسة، وإنما اختلفوا في أوضاعها، وهذا أبو المعالي قد حكى في الأصل الذي هذبه الغزالي (...) قولا إنها ثلاث، وقولا إنها ست، فلا عذر للغزالي في هذا النقل، إلا أن يكون قد استكذب نقل إمامه، وكان من (حق ...) هذا الكتاب أن ينبه على غلط إمامه في هذا النقل، لئلا يعود قارئ كتابه مستكذبا له هو (... هب) المتفق عنده على (... ك) المقالة التي عددناها ثلاث مراتب، أما (...) (ص 46) مرتبتين فجعل بينها ثانيها وثالثها المحذوف المفهوم آخره عن الظاهر، وقدمه عن المحتمل، وزاد مرتبة خامسة وهي القياس، ولما حكى المراتب الستة أسقط منها الكتابة، حتى صارت هذه بإسقاط هذه الواحدة خمسا، وتلك بزيادة الاثنين خمسا. فأما ما نقل الشافعي فقد تعقبه عليه ابن داود بإسقاطه الإجماع في هذه المراتب، وقد أعذر عنه بأن الإجماع مستند إلى خبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وخبر الرسول قد عد في المراتب الخمس، فاستغنى عن الإجماع بذكره، لكن هذا ينتقض بعده القياس، فإنه مستند إلى الإجماع، فكان يجب أن يسقط لاستناده للإجماع الذي أسقط أيضًا لاستناده للخبر المعدود، والقياس أولى بالحذف من الإجماع على موجب هذا الاعتذار، وعندي أنه قد يقدح في قوله: من طريقة أخرى، لأنه أشار إلى طرق لا حظ لها في التفاوت من ناحية القوة والضعف، والحرف الذي أشار إليه في آية الطهارة إن كان محتملا في اللسان عند العلماء، فلا وجه لعده في البيان، وإن كان نصا لا احتمال فيه، فلا وجه لتقاصره على النص الذي يعرفه الجميع، لأن زيادة العالمين بالشيء أو نقصهم لا يؤثر في العلم قوة ولا ضعفا وهكذا السنة الصحيحة، هي على مرتبة واحدة في الضعف والقوة، إذا نقلت عن النبي صلى الله عليه وسلم،

سواء كان المنقول حكما لمبتدأ أو بيانا لمشكل تقدم. وقد أشار أبو المعالي إلى قوله تعالى: (تلك عشرة كاملة) تأكيدا، وهذا وإن لم يكن غرض هذا العلم، بل هو من شغل أهل التأويل حسن عندنا لما عن هاهنا أن نشير إيه، وأمثل جواب قيل فيه أن قوله تعالى: (تلك عشرة كاملة) إنما قصد به رفع ما قد يهجس في النفوس من أن المتمتع إنما عليه صوم سبعة أيام لا أكثر، ثلاثة منها في الحج، ويكمل سبعة إذا رجع، ويلوح لي معنى آخر، وذلك أن قاعدة الشريعة أن الجنسين في الكفارة لا يجب على المفكر أن يجمع بينهما، ألا ترى الحانث في اليمين بالله لا يلزمه أن يطعم المساكين ويكسوهم، ولا يلزم المظاهر أن يعتق ويصوم، ولا القاتل أن يعتق ويصوم، ولا الحالق في الحج أن يهدي ويصوم أو يطعم ويصوم. فلما اختلف محل هذين الصومين فكانت ثلاثة في الحج، وسبعة إذا رجع، صار باختلاف المحلين كالجنسين، والجنسان لا يجمع بينهما هذه الزيادة، وهي قوله تعالى (تلك عشرة كاملة) [ترمي] إلى رفع ما قد يهجس في النفوس من أنه إنما عليه أحد النوعين، إما الثالث، وإما السبع. وأما المذهب الثاني الذي عد فيه المراتب ثلاثة فإنه يتعقب على نقل أبي المعالي من جهة واحدة، وهي إدخال المحتمل المجمل في مراتب البيان كالقرء وشبهه، والاحتمال نقبض البيان، ويتعقب على نقل الغزالي بهذا، وبوجه آخر، وهو إتيانه المحذوف المفهوم كقوله تعالى: (فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر) مؤخررا عن الظواهر، مع كون الظواهر ظنية وهذه المحذوفات قطعية. وأما المذهب الثالث فإن عد فيه الأفعال من مراتب البيان، وهي مسألة اختلف الأصوليون فيها، فالأكثرون على أن البيان يقع بالأفعال، ومنهم من أنكر البيان بالفعل، ورأى مجرد الأفعال لا تنبئ على المراد، بخلاف صيغ الأقوال التي تنبئ على المراد بالاصطلاح عليها، ومن لم يسلم هذا المذهب يقول متى استؤذن إنسان في أن يؤخذ شيء من ماله، فأشار برأسه نعم، أو لا، فإن هذه الإشارة تنزل بمجردها منزلة القول: نعم، أو لا، فقد صار مجرد الفعل حل محل النصوص من الأقوال، وربما حل الفعل محل الظواهر من الأقوال، كمن فعل فعلا يحتمل أن يريد به أمرا، وأمرا، لكنه في إنبائه عن أحد الأمرين أظهر. فإن هذا كالمحتمل من الأقوال، ولكنه في أحد محتمليه أظهر، وقد يكون أفعال كالمجمل من الأقوال، باحتمالها الإنباء عن مرادين، احتمالا متساويا، كمن رأيناه صائمًا

يوما، لا مزية لذلك اليوم على غيره، فإنه يحتمل أن يصومه طوعا، أو نذرا، احتمالا متساويا، ولو رأيناه صائما يوم عاشوراء، وقد كان مفطرا قبله، وهو مفطر بعده، لكان غلبة الظن أنه صامه لفضله، وإن أمكن يصومه قضاء، عن نذر عليه. والمنكرون لكون الفعل بيانا يعتلون بأن البيان لا يتأخر عن أحد القولين، والفعل قد يتأخر، أو يشرع فيه عقيبه، فيطول، وهذا ضعيف، لأن هذا ليس بالتأخير الممنوع، عند من منع تأخير (...) يفتقر البيان القولي إلى إطالة وتكرر، وهؤلاء يرون أن صلاته عليه السلام إنما اتبع فيها وحجه إنما اتفق عليه لقوله (ص 47): "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وقوله: "خذوا عني مناسككم" والفعل لا يكون بيانا حتى يتقدمه قول يشعر بكونه بيانا، ألا تراه صلى الله عليه وسلم قال للسائل له عن الأوقات: "صل معنا". فالبيان مسند إلى هذه الأقوال، لا إلى مجرد الأفعال، يجيبون عن هذا بأن مجرد قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" لا يتعلم منه ركوع الصلاة وسجودها، وإنما يتعلم ذلك من نفس فعله للركوع والسجود، فكان إضافة البيان إليه أولى، وهذه عندي مشاحة في عبارة، فلابد من إشعار بكون الفعل بيانا من مقال، أو قرينة حال، ولولا هذا الإشعار لم يحصل للمكلف بيان، ولولا الفعل لم يتعلم صور الأفعال، فعاد الخلاف في هذا مناقشة في عبارة على أن المفهوم من نقل بعض المصنفين صرف الاختلاف إلى معنى، وهو هل يتصور فعل ينبئ مجرده عن المراد من غير إسناد ذلك إلى مقال، أو قرينة حال، فهذا لا تمس الحاجة إلى الكلام عليه هاهنا لأن الأحكام استقرت. وأفعال عليه السلام التي وقعت قد قال كل طائفة من العلماء مذهبه واعتقاده في الصفة التي وقعت عليها، وأنبأت عنها. ولما اختار أبو المعالي أن البيان هو الدليل عقليه، وسمعيه، رأى أن لا تفاوت فيه إلا على الطريقة التي قدمنا القول فيها في الكلام على النظر. أما العقلي فيتفاوت بقربه من الضرورة وبعده منها، والسمعي يتفاوت بقربه من دلالة المعجزة، وبعد عنها، فسامع خطاب النبي صلى الله عليه وسلم حصل في أول المراتب، والإجماع ثانية، لكونه علما على خبر النبي صلى الله عليه وسلم، وخبر الواحد والقياس ثالثهما، لأنهما إنما ثبتا

بالإجماع، ثم تتفاوت الأخبار، والأقيسة في القوة والضعف، على حسب ما تبين في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله. والوجه الثالث، وهو القول في تأخير البيان، فالكلام في أربعة أوجه: - إظهار فائدته. - ونقل المذاهب فيه. - وسبب الاختلاف فيه. - وإثبات وقوعه في الشرع. فأما فائدة الكلام فيه فإن الفقيه إذا عثر على عموم القرآن ثم عثر على خبر واحد يرفع بعض ذلك العموم، وعلم تاريخ نزول الآية، وتاريخ الخبر، وأن الخبر متأخر عن نزول الآية فإنه إن اعتقد إحالة تأخير البيان قضي بكون الخبر نسخا، فلم يأخذ به، إذ النسخ لا يكون بأخبار الآحاد، وإن أجاز تأخير البيان قضي بكونه مخصصا، فأخذ به، إذا كان من مذهبه التخصيص بخبر الواحد، وهذا كما يستدل الشافعي على أن السلب للقاتل، بقوله: عليه السلام "من قتل قتيلا فله سلبه" الحديث المشهور. ونقل إن هذا الحديث كان في غزوة حنين، وأن الآية وهي قوله تعالى: (واعلموا أن ما غنمتم من شيء) كانت قبل ذلك في غزوة بدر، وتقع المنازعة في معنى الحديث، هل قال ذلك حكما جزما، أو قاله لأنه أعطى ذلك نفلا، وقد قال تعالى في هذه الآية: (فأن لله خمسة وللرسول ولذي القربى). وقد ورد الخبر بتخصيص بعض الأقارب، فينظر أيضا في تاريخه، ويجري على ما بيناه من كيفية العمل في هذا الأصل. وهكذا يجري النظر في عدة الحامل المتوفى عنها زوجها هل هي وضع الحمل، لقوله تعالى: (فأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) فعم المتوفى عنها زوجها والمطلقة، هذا يقتضي أن وضع الحمل نهاية عدة المتولي عنها زوجها، وهو المشهور من المذهب عندنا، وقوله تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا)، فعم الحايل والحامل، وهذا يقتضي أن الحامل إذا وضعت قبل أربعة أشهر

وعشرا، [فإنها تخرج من عدتها] لعموم هذه الآية، وأما وضع الحمل، إذ لا يصح لحامل أن تتزوج، ولا يسقي الإنسان زرع غيره، مع قوله تعالى: (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن). وورد أيضًا في الصحيح حديث سبيعة الأسلمية، وفيها أنها "حلت بوضع الحمل من عدة الوفاة"، فينظر في تواريه هذه الظواهر كلها، فإن علم تأخير حديث سبيعة، عن آية سورة البقرة، وقلنا بإحالة تأخير البيان صار ناسخًا، فلا يؤخذ به، وإن أجزنا تأخير البيان كان مخصصا، فيصح الأخذ به، وهكذا ينظر أيضًا في تاريخ الآيتين، ليعلم من التواريخ المتأخر، فينظر هل أنت تطلب نسخًا فلا يكون إلا بقاطع، أو تخصيصا فيكون بغير قاطع، وهذا مما يكثر، ومن استبحر في مسائل الخلاف، وطرق المحاجة من أهلها ألفي من هذا كثير. ومما يلتحق بالكلام في هذا (ص 48) الباب أن تعلم فرق ما بين من يقول بالوقف، وينكر صيغ العموم، وبين من يقول بالعموم، ويقف انتظارًا للبيان، فإن هذا وقف، وهذا واقف، ولكن أحدهما يقف لأجل احتمال اللفظ، فلا ينقض وقوفه حتى يعثر على ما يبين له المراد باللفظ، فإن لم يعثر على ما يبين له المراد باللفظ فلا متمسك له بذلك اللفظ، والآخر وهو القائل بالعموم المجوز لتأخير البيان يقف ترقبا ورود مخصص فإن يئس منه تمسك، فشتان بين متمسك بالعروة حتى لا تزال يده منها، وبين من يتلطف التوصل للتمسك بها. وأما الوجه الثاني وهو نقل المذاهب في تأخير البيان، فاعلم أن الخطاب إذا ورد، ومست الحاجة إلى امتثاله وإنفاذه، فإن الاتفاق قد حصل من أهل المذاهب على أن البيان لا يتأخر حينئذ، لأنه لو تأخر في هذه الصورة، وكلف المكلف القصد إلى من لم يعلمه مراده، ولا فعل له دليلا عليه، كان هذا تكليف ما لا يطاق، وقد حصل الإطباق على أنه لا يقع هاهنا، وإن اختلف في تجويز ورود الشرع به، على حسب ما تقدم فيما قبل. والمعتزلة يلتفتون مع هذه النكتة إلى طريق ثانية في الإحالة وهي النظر في الاصطلاح، والتقبيح والتحسين العقلي، وذلك أصل لا نساعدهم عليه. وأما تأخير البيان على وقت الخطاب إلى وقت الحاجة إلى الامتثال، فإن المنقول فيه ستة أقوال: من الناس من ذهب إلى إجازة ذلك على الإطلاق، وبه قال الشافعي، وأكثر أصحابه، والأقل من أصحاب أبي حنيفة، ومن أصحابنا ابن بكير، وأبو الفرج، وابن خويز منداد، وحذاق المتكلمين من أصحابنا.

ومنهم من ذهب إلى منع ذلك على الإطلاق، وبه قال الأكثر من أصحاب أبي حنيفة، وبعض أصحاب الشافعي، ومن أصحابنا أبو بكر الأبهري، وغيره، وهو قول المعتزلة. ومن الناس من لم يطلق الجواب، بل فصله، فقال بعضهم يجوز تأخير البيان في الأوامر والنواهي دون الأخبار. ومنهم من قال بالعكس. وقال بعض الناس يجوز تأخير البيان في المجمل، ولا يجوز في العموم وذكر بعض المصنفين قولا سادسا، وهو عكس هذا، وهذا القول السادس، وهو إجازة تأخير البيان في العموم ومنعه في المجمل، ولست أثق بنقله كما أثق بنقل المذاهب الخمس. وقد قال القاضي عبد الوهاب في بعض مصناته: ما أحد قال به، وأراه إنما نبه عليه، لأنه استراب نقله أيضًا، فلم ينقله مع جمله المذاهب، ولكنه رمز إليه بمثل هذا التنبيه عليه. وإذا ورد بيان لمشكل، فهل يترقب وقوع بيان آخر بعده على القول بجواز تأخير البيان؟ اختلف الناس فيه أيضًا على أربعة أقوال: فمنهم من أجاز ذلك في الثاني والثالث وما بعدهما، كما أجازه في الأول. ومنهم من منع ذلك في الثاني وما بعده، وقدر أن ورود البيان الأول يشعر بانحسام طرق ترقب بيان آخر، لأن المخاطب جد في بيان ما أشكل فاقتضى الحال إكمال البيان. ومنهم من أجاز ذلك في المجمل، ومنعه في العموم كإحدى المقالات المقولة في البيان الأول، فمنهم من منع تأخير الثاني، إلا أن يشعر المبين بأنه قد بقي بيان آخر، فحينئذ يجوز تأخير بيان بعد بيان. وأما الوجه الثالث، وهو سبب الاختلاف بين أهل هذه المذاهب، فإنه مما ينبغي أن يعلم قبل الخوض في هذا أنا ذكرنا أن الكلام في هذه المسألة من أربعة أنحاء: منها إثبات وقوع ذلك في الشرع، وأنت إذا اشتغلت بهذا الوجه وأثبتت وقوع ذلك في الشرع أغناك عن النظر في جواز وقوعه، وهذا كما قال المستدل بالسمع على أن الله تعالى يرى في القيامة يتضمن استدلاله جواز الرؤية، ويعينه عن إفراد ذلك بالذكر.

فأما القائلون بجواز تأخير البيان على الإطلاق فإنهم يعتمدون على أن تصور هذا ممكن متأت، ولا بعد في العقول في أن السيد يقول لعبده: اصنع لي غدا طعاما، ثم يبين في غد جنس الطعام الذي يصنع له. وإنما منع المانعون تأخير البيان، لأنهم قدروا تضمنه إحالة، لا لكونه في نفسه محالا، واختلفت عبارتهم عن وجه الإحالة، فمنهم من يشير إلى أن تأخير البيان يصير الخطاب المشكل كالعدم، أو كخطاب الميت، أو كخطاب الزنجي بالعربية. ومنهم من يشير إلى كون هذا الخطاب إغراء بالجهالة، وتسليط الغلط، ومنهم من يشير إلى كونه مهجنا للخطاب، مفسدا للغة، كما يهجن الخطاب تأخير الاستثناء، ويفسد اللغة، ومنهم من [يشير] إلى الاستصلاح الواجب على الله سبحانه للعباد، وهؤلاء هم المعتزلة، وأصلهم غير مسلم كما قررناه مرارا، على أنا لو [سلمنا] لهم لم يبعد كون الاستصلاح في تأخير التعيين، وربما كان تقدمه مفسدة، وتأنيس الطبع به، وتدرجه عليه (ص 49) أقرب إلى الصلاح. وأما من جعل الخطاب كالعدم فباطل، لأنه موجود حسا، ومن شبهه بخطاب الموتى فباطل، لأن الميت لا يفهم جملا ولا تفصيلا، وهذا يفهم على الجملة، ويعلم أنه مكلف عبادة، وينتظر بيانها له، فهو مطيع في تصديقه، وعازم على فعلها عند البيان، ويتوقع البيان، والميت لا يتوقعه. وتشبيههم بخطاب الزنجي باطل أيضًا لما قررناه من كون الزنجي لا يفهم جملة وتفصيلا هذا على أن نجوز خطاب الزنجي بالعربية بشرط بيانها له، وقد كلف النبي عليه السلام، أمته امتثال ما جاء به للعجم، كما كلفه للعرب، ولم يقبح ذلك لكونه يترجم لهم عنه، على أن هذا الإعلال تتوجه المطالبة به على من احتج به، وذلك أن المانعين لتأخير البيان لا ينكرون ورود الخطاب بالمشكل إذا قارنه بيان، وخطاب الميت لا يحسن ولو قارنه البيان، وخطاب الزنجي حسن، والبيان واقع عقيبه، أو متأخرا عنه، على حد سواء. وهكذا لو درس فقيه الفقه سائر نهاره بالعجمية، والتلامذة عرب فإن حسن البيان

عقيب الفراغ من التدريس، وبعض حين على حد سواء، فإن كان قبيحا ففي الأمرين، وإن كان حسنا ففي الأمرين. وأما تعويلهم على أن في ذلك إغراء بالجهالة فإنه باطل، لأنه من حق سامع العموم أن يترقب ورود بيان وتخصيص، لكونه ذلك لا إحالة في تأخيره، فإن بادر فصمم على القطع على الشمول فالذنب له، لا للفظ، ولا يجعل غلط الغالطين إفسادًا للحقائق، ولا قلبا لها عن صورتها. وأما من قبحه قياسا على قبح تأخير الاستثناء فإنه باطل، لأن العرب لم تنطق بالاستثناء مؤخرا، ونطقت بمشكلات ثم بينتها فيما بعد، فالقبح والحسن هاهنا متلقى من اللسان، وإذا وضح فساد ما تخيله هؤلاء من طرق الإحالة، ثبت جواز الذي قلناه، ويناقضون بتأخير النسخ، فإنه عند المعتزلة وغيرهم ممن اتبعهم على هذا المذهب بيان مدة انقطاع العبادة، والنسخ تخصيص للأزمان، والتخصيص يكون في الأعيان، ولا فرق بين إخراج بعض الأزمان، أو بعض الأعيان، فإذا جاز التأخير في النسخ، جاز ذلك في إخراج بعض الأعيان، وهذا لا يتصور فيه فرق محقق. وقد دعا توجه هذا الإلزام بعض المبتدعة إلى أن كابر في تأخير النسخ فمنعه، وأوجب اقترانه للخطاب نصا، أو إشعارا، وهذا معلوم على الضرورة، أن الشريعة جاءت بخلافه، وأن النواسخ كلها لم تقارن المنسوخ، ولو قارنته تصريحا لم يكن نسخا، إذ لو كان ذلك لكان كل تقييد، أو اشتراط نسخا، حتى يكون قوله تعلى في الحيض: (حتى يطهرن) نسخا لتحريم وطء الحائض، وقوله تعالى: (إلى الليل) نسخا لقوله: (ثم أتموا الصيام). والإشعار على الجملة من غير تصريح لا معنى له، لأنا بالعقل نجوز نسخ ما تعبدنا به، فلا ثمرة لقوله: صلوا إلا أن أنسخ ذلك عنكم، لأنا نعلم بالعقول أن الأمر كذلك يكون، وأما من فرق بين الأخبار والأحكام فأجاز في الأحكام دون الأخبار، فإنه قدر أن تأخير البيان [في] الأخبار يطرق سوء الظن إلى صدق الصادق، بخلاف الأحكام فإنها ليست بخبر يدخله الصدق والكذب، ورفع جميعها بالنسخ غير مستنكر، فكيف برفع بعضها.

وأما من عكس هذا، فقدر أن الغلط في الأحكام مضر بالمكلفين، ومفسد للعباد، وتأخير البيان فيه إغراء بالغلط، والغلط في الأخبار غير مفسد للعباد، فصح فيه التأخير. وأما من أجاز في المجمل، ومنع في العموم، فلأن المجمل لا طريق له إلى اعتقاد أمن فيه فيؤمن الغلط عليه، والعموم له طريق إلى اعتقاد التعميم، لكونه مقتضى ظاهر اللفظ، وقد يغلط في اعتقاده، إذا أخر التخصيص. وأما من عكس هذا المذهب إن ثبت النقل لهذا المذهب، فإنه يرى أن العموم له ظاهر يدل على المعاني، فالخطاب به خطاب بما يفيد، والمجمل لا فائدة [فيه] فضارع الخطاب به خطاب العربي بالزنجية. وأما الأربع مذاهب التي نقلناها في جواز تأخير البيان الثاني فقد نبهنا على سبب الخلاف في المذهبين المطلقين بالمنع والإجازة، والمذاهب المعتدة توجيهها، والرد عليها مأخوذ مما قررناه. وأما الوجه الرابع فإن الناس استدلوا على وقوع البيان متأخرا في الشريعة بقوله تعالى: (ثم إن علينا بيانه) و"ثم" للمهل والتراخي. وبقوله تعالى: (ثم فصلت آياته) و"ثم" للمهملة كما قررناه. وقد قالت الملائكة: (إنا مهلكوا أهل هذه القرية) ولم يستثنوا لوطا، حتى قال إبراهيم عليه السلام: (إن فيها لوطا) فـ (إن فيها لوطا)، نخصص من أهل القرية. وهكذا [وعد الله] (ص 50) سبحانه نوحا بأنه ينجيه وأهله، ولم يستثن من الأهل ابنه، حتى قال نوح: (إن ابني من أهلي) فأخبر بتخصيصه من الأهل، وهذان بيانان تأخرا. وقد أمر الله بني إسرائيل بذبح بقرة، والقصد بالأمر بقرة معلومة، وراجع بنو إسرائيل فيها مرة بعد مرة، حتى بين لهم ما عرفوها به، وهذا تأخير البيان، وهكذا قصة موسى عليه السلام مع الخضر، فإنه لم يخبره بجواب ما سأله عنه إلا بعد تراخ، على حسب ما أخبر الله

فصل يشتمل على ذكر المقالات في مبادئ اللغات

سبحانه عنهما في قتل النفس، وخرق السفينة، وإقامة الجدار، وقد سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الصبح "فأمره أن يصلي معه يومين" الحديث، فأخر البيان حتى أوقعه بالفعل. وقد فرض الحج، وأخر بيانه حتى حج النبي صلى الله عليه وسلم، وبين المناسك حالا فحالا، هكذا نصب الزكوات وأحكامها، والصلوات وأنواعها، وركوعها وسجودها، أخر بيان جميع ذلك عن أوقات ورود الأمر بها على الجملة، إلى غير ذلك مما يكثر تعداده، وبعض هذه الظواهر وإن نوزع في التعلق بها، فإن جميعها وتكاثرها يقضي وقوع تأخير البيان، مع المنقول في الحج والصلاة من الأحوال الدالة على التأخير. فصل يشتمل على ذكر المقالات في مبادئ اللغات فينبغي أن نقدم بين يدي القول في هذا الفصل الاعتذار عن إيراده في أصول الفقه مع العلم بأنه لا تمس الحاجة إليه، في النظر في الأصوليات، ولا يستعمل قانونا كليًا في شيء من الاستدلالات، فالعذر في إيراد الأصوليين له مع كونه لا ثمررة لهم في علمهم، أن أصول الفقه معظمها يستند إلى النظر في دلالة الصيغ كالعموم والخصوص، وأحكام الأمر والنهي، ودليل الخطاب ومفهومه، وإلى النظر في إشارات معانيها، وهو مبدأ القياس، والنظار في الفقه لا يكمل نظره دون أن يكون عارفا بجزء من أجزاء اللغة، وهو قوانين كلية، تعقد في أحكام بعض الألفاظ التي يكثر دورانها في الكتاب والسنة. فحسن عندهم لما كانت أصول الفقه متعلقة بالإحاطة بفن من اللغة أن يذكروا مبدأ ذلك الفن، فيكون تكميلا في العلم المنظور فيه، وربما يشار في هذا إلى أن من فوائد الكلام عليه النظر في جواز اللغة. فأما ما يتعلق بالأحكام الشرعية، ومستند الأحكام فيه ألفاظ ما، فمتى غيرت وقلبت اختلطت الأحكام، وفسد النظام، واندرست من الشريعة الأعلام، فإن هذا لا يختلف في تحريم قلبه وإفساده لا لأجل نفسه، لكن لأجل ما يؤدي إليه من إفساد الشرع. وأما ما لا تعلق له بالشرع من الألفاظ فقد حكي عن بعض من يقول إن أصل اللغة توقيف، أن القلب لا يجوز، فلا يسوغ عندهم أن يسمى الثوب فرسا، والفرس دارا، وأما من يقول إن أصل اللغة الاصطلاح فلا مانع عنده يمنع من قلب هذا النوع من الأسماء، وأما من يجوز الأمرين جميعا، كونها اصطلاحا وتوفيقا، فاختلفت إشارة المتأخرين إلى ترجيح هذه المسألة على هذا المذهب.

فأما الأدري، فإنه يشير إلى تجويز ذلك، كما يجوز عند أصحاب الاصطلاح. وأما أبو القاسم عبد الجليل الصابوني فإنه يشير إلى منع هذا، ويعتل بأنا نجوز كون اللغة توقيفا، ونجوز كون هذا التوقيف واردا على أنه وجب على السامعين له ألا ينطقوا إلا به، وهذا الذي قاله بعد عن طريق الفقه. وهذه المسألة فقية محضة، لا مدخل لها في الأصول، لأن النظر فيما لا يحل له إيقاعه من لفظه أو حركة، أو لحظة أو سكتة، أو غير ذلك من ضروب الأفعال إنما هو شغل الفقيه، وتعيني التحليل أو التحريم في مسألة بعينها لا يوجد في علم الأصول. وقد علم أن الفقهاء المحققين لا يحرمون الشيء لجواز أن يكون قد ورد شرع بتحريمه، وإنما يحرمونه إذا حققوا ورود الشرع بتحريمه، فإذا لم يعلموا ورود حكم الشرع، فهاهنا يختلفون هل يحملون ذلك في العقل على الحظر، أو الإباحة، وهذا فن آخر غير ما نحن فيه. كيف؟ وهذا (...) يجوز مع القول بأن اللغة توقيف أن يرد التوقيف بمورد الإيجاب، أو مورد الإباحة، أو الندب، فالتصميم بالفتيا بأحد الجائزات من غير ترجيح جائز على جائز، لا سبيل إليه، ولو رجح بالاحتياط للتحريم لكان هذا نظرا في المسألة من جهة أخرى (...) الأشياء على الحظر عند عدم ورود الشرع. وإذا وضح القول عن العذر عن إدخال هذه المسألة في (ص 51) أصول الفقه، ووضح ما قلناه من هذه الفائدة، وأنها بعد بيانها ملتحقة بالفقيهات لا بالأصوليات فلنعد إلى مقصود الباب فنقول: اختلف الناس في مبادئ اللغات كلها: فمنهم من قطع بأن مبدأها التوقيف، ولم يجوز سواه، ويحكى عن الشيخ أبي الحسن الأشعري ئة أن أصلها توقيف كما قال هؤلاء، ولكن لست أدري هل يمنع سواه كما منع هؤلاء، أو يجوز سواه، وإنما قطع بما قال سمعا. ومن الناس من قال بعضها توقيف، وبعضها اصطلاح، والقاضي أن الطيب رضي الله عنه في جماعة من المحققين يجوز وقوع اللغات على جميع هذه الجهات. وهذه المذاهب المنقولات، وتلخيص النكتة التي يعتمد عليها في تصحح مذهبه، والرد على من سواه من المذاهب، أن سماع اللغة من قبل الباري سبحانه ممكن في العقول،

وخلق علم ضروري في قلوب السامعين بالمراد بالكلام المسموع غير مستحيل، بل جائز في العقول جوازا لا إشكال فيه، فإذا أمكن أن يرد كلام من قبل الله، ويعلم مراده به، ويأمر بالنطق به، أو نتيجة لم يكن لمنع تصور التوقيف معنى كما اعتقده من قال بمنع التوقيف من حيث أغفل ما صورناه من خلق العلوم الضرورية بالمراد بالكلام، ولما أغفل هذا، وقدر أن المراد بالكلام إن افتقر إلى بيان بكلام آخر، افتقر الآخر إلى آخر إلى ما لا يتناهى، هرب عن القول بالتوقيف إلى الاصطلاح لأجل هذا. وأما تصوير وقوعها اصطلاحا فواضح أيضًا لأنا نرى الخرس يفهمون عنا بالإشارة، ونفهم عنهم بها كثيرا من المعاني، فلا نكر في العقول في أن يشير قوم إلى وضع نوع من النعم دلالة على أشخاص حاضرة، والطفل على هذا النحو يتعلم اللغة من أمه وأبيه ولا وجه لمنع هذا مع تصوره، كما ظن المانعون له إذ تخيلوا أن الاصطلاح والتواضع يفتقر إلى تقدم عبارة يدعو بها بعضهم لبعض إلى الاصطلاح، لأنا قد بينا حلول الإشارة محل العبارة. وإذا كانت هذه هي النكتة عندهم في المنع دعا النظر فيها قوما آخرين إلى المذهب الثالث، وهو كون بعض اللغة توقيفا، لأن بهذا البعض يتم الدعاء إلى الاصطلاح، فلا وجه عند هؤلاء إلى تعميم القول في كونها كلها اصطلاحا، مع عدم الحاجة إلى ذلك في بعضها. فإذا وضح أن الحق تجويز هذا كله من ناحية العقول، فكيف كان الأمر فيها، هذا لا حظ للعقول فيه، وهو من جملة الغيب الذي إنما يتلقى من أخبار الصادق. وقد زعم بعضهم أن قوله تعالى: (وعلم أدم الأسماء كلها) الآية يقتضي القطع بأن أصل اللغة توقيف، لإخباره تعالى معلمة من لدنه لآم، وأنكر الحذاق أن يكون في الآية دليل قاطع، ومن الممكن أن تكون الملائكة اصطلحت على لغة، وأنساها الباري سبحانه ثم علم ما أنساه الملائكة لآدم، وأحضر أصحاب الأسماء، وعرضهم على الملائكة لقوله تعالى: (ثم عرضهم على الملائكة)، وهذا الضمير الذي هو الهاء ولميم لا يحسن عوده على التسميات، بل على المسميات، فلما عرضهم على الملائكة: (قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا). وقد أخبر الباري سبحانه عن كلام وقع من الملائكة عليهم السلام، قبل خلق آدم صلى الله عليه وسلم، إذ قالوا: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) وهذا يقتضي أنه إثبات كلام، ولغة

فصل في اختلاف الناس في إثبات اللغة بالقياس

قبل خلق آدم، وتعليمه الأسماء، فلا بعد مع هذا في موافقة ما علمه آدم ما كان الملائكة عليه من لغة، وهذا التقدير يبطل كون الآية نصا. والغرض في هذه المسألة القطع، والقطع لا يكون إلا بالنصوص وبالله التوفيق. فصل في اختلاف الناس في إثبات اللغة بالقياس الكلام في هذا الفصل من ثلاثة أوجه: - فائدته. - ومحله. - وسبب الخلاف فيه. أما فائدته فإنه قد تمس الحاجة إلى النظر في ثبوت تسمية لذات، أو نفيها عنها، حتى يعلم بثبوتها، أو نفيها دخولها تحت ظاهر يحتج به في الشرع، أو خروجها عنه، كالمالكي، إذا استدل على تحريم شرب نبيذ التمر المسكر بأن الخمر حرام، فيقول الحنفي لا يسمى خمرا إلا ما اعتصر من العنب وكان نيا، ولم تضع العرب هذه التسمية إلا لهذا خاصة. ويحاول بهذا منع المالكي من إدخال عصير التمر تحت الظواهر الواردة بتحريم الخمر، لأن التسمية إذا لم تصح لهذا المتنازع فيه، لم يصح الاحتجاج عليه بتسمية لم تصح له، فيقول: المالكي [الخمر] مأخوذ من المخامرة، أو من التخمير الذي هو بمعنى التغطية والت [ـخمر] أالمرة تغطي وجهها (خل ..) في خمارا (...) (ص 52) في جماعة يستر بعضهم عن بعض، وعصير العنب إذا أسكر يستر العقل وكذلك عصير التمر يستر العقل أيضا، فيجب أن يكون من لغة العرب تسميته خمرا أيضا. فإن قبل بالقياس على اللغة، وأن ما يستقر أو يلزم على القول كالمقول صح الاستدلال للمالكي، وإن لم يقل بأن المقول كالمنقول لم يصح الاستدلال بصحة الطريقة من العلل، ولكن بعلة أخرى، وهي العلة الحكمية، لأن هذه المسألة فيها علتان: علة الاسمية، وهي مضافة إلى العرب، وكأنها كشف عن السبب الذي دعاهم إلى وضع التسمية، وعلة حكيمة وهي مضافة إلى صاحب الشرع، وكأنها كالسبب الداعي إلى ما جاء به الشرع من هذا التحريم، وهو إيقاع العداوة، والبغضاء، والصد عن ذكر الله تعالى، وعن الصلاة. وهذه العلة الشرعية التي هي إيقاع العداوة والبغضاء، والصد عن ذكر الله والصلاة

موجودة في المسكر التمري، كما هي موجودة في المسكر العنبي، ورد الفرع إلى الأصل بعلة التسمية هو المختلف فيه بينهم، فمن منعه اضطر إلى الرجوع إلى هذا النظر الآخر، وهو الرد من ناحية العلة الحكمية، وهذا كله إذا لم يوجد نقل عن العرب أنها تسمى المسكر التمري خمرا. وهكذا النباش سارق الكفن إذا استدل المالكي على قطعه بقوله تعالى: (والسارق والسارقة) افتقر إلى إثبات تسمية هذا النباش سارقا، إما نقلا عن العرب، أو قياسا على لغتهم، فيصح له الاستدلال حينئذ. وهكذا المخالف إذا استدل على حد واطئ البهيمة بقوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما) افتقر إلى إثبات هذه التسمية في هذا الوطء ليصح له دخولها في الظاهر، إما نقلا عن العرب، أو قياس على معنى الاشتقاق، وهو العلو الذي منه أخذ الزنا بالآدمية، ومسائل هذا الباب تكثر. وأما الوجه الثاني، وهو محل الخلاف، فاعلم أن أسماء الأعلام كزيد وعمرو، لا يتصور إثبات القياس فيها، ولكونها غير معللة، فهي في هذا كالنصوص الشرعية التي لا تعلل، ومن ضرورة القياس إثبات معنى يقع به التشبيه، وهذا لا يختلف. وأما الأسماء المشتقة الصادرة عن معان معقولة كما مثلنا به في الخمر، والزاني، وكالأسود والأبيض، والعالم، والكاذب، فإن في مثل هذا يتصور الخلاف. وقد اختلف المتكلمون في ذلك على قولين، وكذلك اختلف الفقهاء أيضًا على قولين. وحذاق المتكلمين على منع القياس، وللمالكية فيه قولان أجازه ابن القصار، وأبو التمام، ومنعه ابن خويز منداد، وكذلك اختلف فيه من ليس من أصحابنا الفقهاء على قولين أيضا. وقد كان طرد هذا الذي بيناه يقتضي تصوير الخلاف في القياس على المجاز، كما اختلف في القياس في الحقيقة، لكن القاضي أبو محمد عبد الوهاب قد يشير إلى ارتفاع الخلاف فيه، وأن القياس فيه ممنوع، وذكر فرقين بينه وبين الحقائق، أحدهما أن المنع من القياس في المجاز لا يوقع في ضرورة، لأن هذا المجاز المشار إليه بالمنع يبقى له اسم الحقيقة، يعبر به عنه، والحقيقة إذا منعنا فيها القياس بقيت بغير اسم، وقد يحتاج إلى العبارة عنها، فيوقع منع القياس في ضرورة، وهذا الذي قاله إنما يتصور له فرقا في ذات لا اسم لها أصلا في لسان العرب.

والذي تمثلنا به مما وقع في الشريعة، له في لسان العرب اسم نصوص عليه، يعبر به عنه، فلا يوقع مع القياس في ضرورة، فيغني في العبارة المقصود فيها التفهم، قولنا: هذا وطئ بهيمة عن قولنا: زنا بهيمة، وكذلك بقية ما تمثلنا به، له عبارات تنبئ عن المراد، وذكر فرقا ثانيا، وهو أن المجاز أخفض رتبة من الحقيقة، فيجب أن يكون للحقيقة عليه رتبة، بل يجاز القياس فيها، ويمنع فيه، وهذا أيضًا ليس بالقوي، لأنا نجد بين الحقيقة والمجاز (...) الرتب بالسبق، وكون الحقيقة أصلا، والمجاز فرعا، إلى غير ذلك مما ذكره العلماء من الفروق، ما يغني عن هذا الفرق، وليس يجب (...) ثبت مع وجودنا فروقا كثيرة كل فرق قد يدعى من غير دليل يقوم عليه. وقد منع القاضي ابن الطيب القياس على المجاز، [فقال] لا يقال: سألت الثوب، قياسا على قولهم سألت الربع، والطلل، ولكن القاضي ابن الطيب ممن يمنع القياس على العلة [على] كل حال فلا ندري ما يقول في القياس على المجاز إذ وجدت العلة كوجودها في الحقائق على هذه الطريقة التي بنينا عليها (دان ...) في الخلاف في هذه المسألة، فإن من منع القياس استدل بقوله تعالى: (وعلم أدم الأسماء كلها) وهذا (ث 53) استدلال ضعيف، لأنا لو قلنا بالعموم، وأنه لم يبق اسم إلا وقد علمه آدم، فإن الآية لا تنفي أن يكون غير آدم لم يعلم كل الأسماء، وعلم بعضها، واحتاج إلى قياس بعض آخر عليه، والكلام في علماء هذه الأمة لا في آدم صلوات الله عليه، ولكن القاطع الذي يعول عليه من منع القياس أن العرب إذا وضعت لذات أسماء وعرف العلة. والسبب الذي وضعوا لأجله التسمية كما تمثلنا به في مسألة الخمر وغيرها، فإنهم لا يخلو حالهم من ثلاثة أقسام، إما أن ينهونا عن طرد علتهم، والقياس على تسميتهم، أو يأمرونا بذلك، أو يصمتوا عن أمرنا ونهينا، فلا يخفى عن أحد أنهم إذا قالوا سمينا هذا الشيء بهذه التسمية، ولا نسمى كذا وكذا بها، وإن كان مشبها لما سميناه أنه لا يجوز أن يسمى ذلك الشيء بالاسم الذي نهوا عنه، على أن ذلك من لغتهم، لأن من فعل ذلك كان مكابرا لهم، وكاذبا عليهم. ولا يشك أحد أيضًا أنهم إذا أمرونا بالقياس، وأفهمونا أنهم وضعوا هذه التسمية لكل ما فيه معنى المسمى عموما، حضر لديهم، أو غاب، إنما نسمي ذلك بهذه التسمية، ونضيف ذلك إليهم، ولا نكون كاذبين عليهم، وليس هذا بقياس، وإنما هو اتباع لهم، فيما وضعوه من المسميات نصا وتصريحا، أو ضمنا وتلويحا، ولهذا سمينا العالم منا الآن

فصل في ألفاظ شرعية ظن أنها ليست لغوية

عالما، وإن كانت العرب لم تره فتشير إلى عينه بهذه التسمية، لأنا علمنا ضرورة أنهم [لم] يقصدوا قصر هذه التسمية، على علماء عصرهم، بل وضعوها مشيرين بها إلى من رأوه من العلماء، ومن يأتي بعدهم، وكذلك تسميتهم الإنسان منهم إنسانا، والفرس فيهم فرسا، لكن لو تصور معنى آخر يقاس على العلم فتطرد التسمية فيه بالقياس، كان مسألة الخلاف. وأما إذا صمتوا فلم يأمروا، ولم ينهوا، فهذه موضع الخلاف، ولا وجه لتقويلهم ما لم يقولوا مع إمكان أن يكونوا قصدوا قصر التسمية، وإذا أمكن هذا في العقل [وجاز] فلا وجه للقطع على أن الأمر كان واقعا على نقيضه، وقد سموا سواد الفرس دهمة وسموا عصير العنب خمرا، ولم يسموا نبيذا التمر وغيره من المشروبات التي تغشي وتفسد العقل خمرا. وإذا وجد هذا النحو من التصرف في اللسان من القصر والإضراب [عن] العلل فمن أين ينطقوا فيما سكتوا عنه على خلافه، وأما من أجاز القياس على اللغة، فإنه يعتمد على القياس في [اللسان]، ويقول: كما صح الطرد في العلل الحكمية صح في العلل الاسمية، وهذا قياس يحاول به إثبات قياس آخر، والمطالبة في الثاني كالمطالبة في الأول، فيقال لم يجب القياس في اللغة لما وجب في الأحكام. ثم الفرق أن القياس في الأحكام عبارة من الله سبحانه، فصاحب الشرع، كالقائل إذا غلب على ظن الفقيه أني قلت قولا لعلة، ووجدت تلك العلة في أمر سكت [عنه] فليقض فيه، بمثل قضائي، فلو قال العربي إذا وجدتم علتي في أمر لم أسمه فسموه بمثل ما سميت أنا به شبيهه، لكان هذا مضافا للعربي، ولسانا له، ولم يكن قياسا على حسب ما بيناه، وقد قالوا أيضًا إن في منع القياس إفسادا للغة، وحسم مادة الانتفاع بها، لأنه يقتضي ألا يسمى فرسنا فرسا، لأن العرب لم تره فتسميه وهذا قد سبق جوابه، وأنه فهم عن العرب قطعا طرد التسمية فيه، وإنما كلامنا فيما لم يفهم عن العرب فيه أحد الأمرين، من أمر يقصر أو يطرد. فصل في ألفاظ شرعية ظن أنها ليست لغوية النظر في فائدة هذا الفصل يضاهي فائدة الفصل الذي قبله، وقد ذكرناها، وهي تتصور في هذا الفصل أيضا، وذلك مما يستبان بعد نقل المذاهب وتصويرها، فاعلم أن المعتزلة والخوار قسموا الألفاظ إلى ثلاثة أقسام: دينية ولغوية وشرعية فالدينية ما تعلق بمسائل الأصول، وهي الكفر، والإيمان، والفسق، فالإيمان عندهم مطلق على الطاعات المفترضة

عقلا، أو نطقا، أو فعلا، وأكثرهم على أنه لا ينطلق، على المندوبات، وذهب [الغلاة] إلى أن الإيمان ينطلق عليها، ولكنه إيمان لا يكفر تاركه ولا يفسق، فإن مفروضات الدين إما أن يكفر تاركها كالجهل بالله سبحانه، ورسله، وإما أن يفسق كتارك الصلاة والصوم، وقالت الخوارج في تارك المفروضات إنه يكفر. وأما الشرعية (فا ...) والصلاة والصوم والزكاة والحج، فإن الصلاة في اللغة يشار بها إلى الدعاء قال الله تعالى: (وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم) معناه ادع، [وقال] تعالى: (إن الله وملائكته يصلون على النبي) وصلاة الملائكة هاهنا الدعاء، صلى (ا ...) وسلم، إما (ا ...) (ص 54) الشيء والقبول عليه، ومنه الاصطلاء بالنار، وقد قيل غير ذلك، مما بسطناه، وذكرنا شواهده في كتاب شرح التلقين، وقد علم أن الصلاة في الشريعة يشار بها إلى الأفعال المعلومة. وكذلك الزكاة في اللغة النماء، ويشار بها في الشريعة إلى إخراج شيء من المال، وهو نقص لا نماء، وكذلك الحد يشار به إلى القصد، وفي الشريعة إلى طواف، ووقوف، وسعي، والصوم يشار به في اللغة إلى الإمساك مطلقا، وصامت الشمس إذا قام قائم الظهيرة، وخيل صيام، وقالت مريم: (إني نذرت للرحمن صوما)، قيل: إمساكا عن الكلام، وهو في الشرع يشار به إلى الإمساك عن خارج، ووالج مخصوصين، في زمن مخصوص، والوضوء يشار به في اللغة إلى النظافة مطلقا، وهو في الشريعة يشار به إلى غسل أعضاء مخصوصة. وأما الأسماء اللغوية فهي التي [بنيت] عليها كل الشريعة عند قوم، أو جلها عند آخرين. من الناس من أنكر التقسيم في هذا الفصل، من هذه الجهة، وقال جميع ما ورد في الشرع بحروف العرب ونظمهم، والمقصود به من نطق الشرع هو المقصود به عندهم، فلا يعتبر أصلا وضع من الشرع لغة، وهو رأي المحققين من أئمتنا الفقهاء، والأصوليين.

ومنهم من زعم أن الشرع غير اللغة، ونقلها عن موضوعها، وأشار بالحروف، والنظام اللغوي إلى مسمى غير مسمى، وقدر أن هذه الأحرف التي هي الصلاة صاغتها العرب ونظمتها مشيرة بها إلى ما قدمناه عنهم، واستعملتها العرب، واستعملها صاحب الشرع، مشيرا بها إلى ركوع، وسجود، وقيام، وقعود، على ما عرف من أحكام الشرع في الصلوات، وهكذا بقية ما عددناه من تلك المسميات. وتوسط آخرون فرأوا أن الشرع لم يغيرها تغييرا كليًا، ولا أقرها إقرارا كليا، بل حذا حذو العرب [في البناء] على معانيهم معاني أخر، وصرف تلك التسمية إليها، وجعل هذه الجملة مسماة بتلك التسمية الواقعة [موقع] الفرد من هذه الجملة، الذي هو الدعاء، وإذا تصورت المذاهب، وتمثلتها. ففائدة هذا الباب أن الظواهر (...) تفتقر إلى عرضها على هذه المذاهب، فيقول مثلا الخارجي: الزاني مخلد في النار، ويستدل على ذلك بما ورد من الظواهر في تخليد الكفار في النار، فإذا نوزع في تسمية الزاني كافرا، لأن العرب لا تعرف الكافر إلا من غطى الشيء وستره، كالجاهل بالله، الجاحد لنعمه، قال: غير هذه ونقلها عن موضوعها في اللغة، ألا تراه قال: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"، فسلبه تسمية الإيمان، فدليل هذا أنه كافر. ويقول المعتزلي: ليس سلبه الإيمان يثبته كافرا بل الزاني لا مؤمن، ولا كافر، فترى التغيير للتسمية وقع من الشرع على ما حكيناه عنهم. ويقول الأشعري: الحديث متأول، بمعنى من زنا مستحلا، أو بغير ذلك من التأويلات التي ذكرناها في كتاب المعلم بفوائد مسلم، فنمنع بالتأويل في كون الشرع مغيرا للغة. وعلى هذا الأسلوب يجري في الأسماء الشرعية، فيقول قائل فيمن صلى ولم يقرأ قرآنا أصلا ولا دعاء: صلاته باطلة، لأن هذا أتى بما يسمى في اللغة صلاة، وقد قال تعالى: (وأقيموا الصلاة)، وهذا لم يفهمها فيقول من يرى صلاته صحيحة، وإن لم يدع، ولا قرآ قرآنا رعى الشرع غير اللغة، واراد بهذه التسمية الركوع والسجود، وغير ذلك من المقصود عنده في الصلاة، فلا يكون في الظاهر حجة عليه، أو ينازع في مراد العرب، ويقول الصلاة عندها مأخوذة من الملازمة، والقبول على الشيء، والراكع والساجد القائم القاعد،

حصل له هذا المعنى، فدخل في الظاهر، وهكذا العمل في بقية المسميات التي ذكرنا الخلاف فيها. فأنت ترى تصرف هذا الأصل في استدلال الفقهاء بعضهم على بعض، وأنت إذا تصورت هذا، وتصورت [فا] ئدة أن العرب تتجوز فتسمى الشيء باسم ما لازمه وقاربه، وربما اشتهر المجاز عندهم حتى صارت حقيقة مهجورة، لا يكاد ينطق بها، ألا ترى أن حقيقة: (حرمت عليكم أمهاتكم) لا يفهم من الخطاب، وإنما يفهم من مجازه، وهو وطء الأمهات، وهكذا يكون (...) التعارف عن أهل النطق من أهل اللغة. وكذلك أيضًا إذا تصورت أن العرب ربما قصرت التسمية على بعض (...) على نوع من [الألفاظ] كالفقيه الذي لا يسمى به في العرف إلا العالم بأحكام الشريعة (ص 55)، وأصله في اللغة اسم للعالم بكل علم، وكذلك دابة قصر في العرف هذا الاسم على نوع من الحيوان، وهو في أصل اللغة لكل ما دب فهو داب. فإذا تحققت الفصول علمت سبب الاختلاف الذي حكيناه، فكان من صور التغيير، وأثبته مطلقا يقول قد علم من إطلاق أهل الشرع الإشارة إلى الركوع والسجود بكونه يسمى صلاة، وهو ليس بدعاء، وهو المقصود، مع القيام والقعود في فرض الصلوات دون الدعاء، ولو أوجبنا معه قراءة أم القرآن، حتى يكون إيجابنا إياها عذرا عن ثبوت المعنى اللغوي في الصلاة، لقول القارئ لأم القرآن: (اهدنا الصراط المستقيم) وهذا دعاء، لمن يكن اعتذار هذه الطائفة بهذا عندنا مقبولا، لأن هذا إنما يسمى قارئا لأم القرآن، لا داعيا. فقد وضح أن الشرع أراد بهذه الصيغة معنى لم ترده العرب، ويقول من لم ير الشرع غير اللغة على حال: قد ذكرنا أن العرب إذا قصرت اسما على بعض مسمياته حتى صار اسما عرفيًا فإن ذلك ليس بتغيير له، ولا محد لإطلاقها إياه على غير هذا المقصور عليه، كما قلناه في تسمية الفقيه. وهكذا جاء الشرع في الصلاة والزكاة والحج لكنه قصر التسمية على دعاء مخصوص في الصلاة، وهو ما في أم القرآن مما ذكرناه، واشترط إيقاع هذا الدعاء على صفة

مخصوصة من أفعال، وجهات. فليس قصر التسمية على بعض الأدعية المخصوصة مما قلناه، أو ما في معناه مما يوجب كون هذا تغييرا للغة، ومتى نازعنا في موارد العرب، وقلنا إنما تريد بهذه التسمية القبول والملازمة لم يكن للمخالف متعلق، في ذكره، لأن الركوع والسجود بمجرده، لا يحصل له هذه الحقيقة. وهذا الجواب الثاني يتقرر في الصلاة خاصة، ويتمسك في بقية المسميات بالجواب الأول. وأما من توسط بين المذهبي، فلم ينكر التغيير أصلا، ولا أثبته إطلاقا، فإنه تخيل هذين الأمرين، وكذا إن مراعاة الشرع للدعاء أو للقصد، أو للإمساك، تمسك بالمعنى اللغوي، وإطلاق التسمية عليه مع تلك الزيادات الشرعية، تغيير لما وضعته العرب. واستعمل أبو المعالي في هذه المسألة المضايقة لأهل المذاهب، فقال: ثبت فيها قصر التسمية على بعض مسمياتها كما بيناه، وثبت أيضًا إطلاق الصلاة على الركوع والسجود توسعا واستعارة من الدعاء، لأن الداعي مقبل على خضوعه، والتماسه ما عند الله سبحانه، وكذلك الراكع، والساجد، والعرب تسمي الشيء باسم ما لازمه، وتعلق به، فإن أشير بالتغيير إلى القصر أو التجوز فلا وجه لإنكاره، وإن أشير بالتغيير إلى معنى آخر سواه فهو باطل. وهذا الذي أشار إليه أبو المعالي من القصر قد بينا أنه ليس بتغيير أصلا، وكذلك التجوز هاهنا إن فهم عن العرب إطلاق اسم الشيء على ما لازمه على الإطلاق، أو في ما كان معناه مثل هذا المعنى من الملازمة التي بين الركوع والدعاء لم يكن هذا أيضًا تغييرا، ولا قياسا على اللغة، كما تقدم بيانه في تسمية الإنسان منا إنسانا، أن هذا ليس بقياس، بل هو نقل عنهم لما فهم منهم. وأنت إذا علمت هذا الفصل فاعلم أنه: زعم قوم آخرون أن حروفا ونظاما معلوما استعمله الشرع في غير معانيه في اللغة. وكذلك زعم قوم أن الشرع وردت [فيه] كلمات ليس بصيغ عربية، وأضافوا ذلك إلى القرآن، وعدوا منه: استبرق، ومشكاة، إلى غير ذلك مما ذكروه. وجمهور العلماء على إنكار هذا لقوله تعالى في وصل القرآن: (ولو جعلناه قرءانًا أعجميًا لقالوا لولا فصلت آياته) فكأنه يقول سبحانه: لو مزجناه بلغة العجم لقالت الكفرة افتقر إلى الاستمداد من لغة أخرى وعجز عن العربية، وهذا يمنع من كون شي من لسان العجم

فصل يشتمل على جمل مأخوذة من علم اللغة المحض

فيه، وقد قال تعالى: (وهذا لسان عربي مبين) (وما أرسلنا من رسول إلى بلسان قومه)، وهذا كله يقتضي بطلان ما قالته الشرذمة، ولا مستنكر أن يتفق لسانان على لفظة واحدة، ويصادف وضع العرب، وضع العجم في بعض الألفاظ، أو يكون التوقيف ورد فيها لأهل اللسانين موردا واحدا. فصل يشتمل على جمل مأخوذة من علم اللغة المحض اعلم أن هذا الفصل تكلم عليه جمهور الأئمة، المتكلمين على الأصول، وأثبتوه في تصانيفهم، وتبع فيه الآخر الأول، مع كونه مجانبا لحسن الترتيب والوضع المطلوبين في [التأليف]، إن الأصولي [يرجع] جميع أفكاره إلى العقل فيجعل له قوانين كلية (...) (... فك) حتى لا (...) (ص 56) صاحب الشرع فيجعل له أيضا قوانين كلية تسدده إذا نظر في قول صاحب الشرع، حتى لا يزل نظره في قول صاحب الشرع، [ونظره] يكون من جهتين مختلفتين إما معنى لفظه الذي هو كالسبب لقوله، فيفتقر حينئذ إلى أن يوضع أحكام القياس، ويميز له الصحيح من الفاسد، كما فعل أصحاب هذا العلم الذي نحن فيه، وإما معنى لفظه الذي هو مضمون الصيغة، وله وضعت العرب تلك الصيغة. فهذا المفزع فيه لأهل اللسان الذين خاطبهم صاحب الشرع بلغتهم، فنظر الأصولي في هذا القسم فرأى أن معنى الأصل أن يوضع قانونا يكون كالكلي لجزئيات الشريعة، وعلم أن الشريعة [تنقسم] إلى آمر ومأمور، فافتقر إلى أن يضع في هذا العلم الكلام على الأمر والنهي، والوجوب والندب، والحظر والإباحة، إلى غير ذلك مما يتعلق بهذا الضرب، والنهي، والوجوب والندب، والحظر والإباحة، إلى غير ذلك مما يتعلق بهذا الضرب، واحتاج من نظره في المأمور إلى الكلام في العموم والخصوص، والمطلق والمقيد، ودليل الخطاب إلى غير ذلك مما استند إلى هذا النوع، وهو النظر في المأمور، أو يشرك بين النظر في أحكام الأمر والمأمور، فلو اقتصروا على هذا لكان وضعا حسنا، وترتيبا لائقا،

حد الكلام وأقسامه

لأجل ما قدمناه من التنبيه على الحاجة إليه. وأما النظر في حكم حرف، أو لفظة فإنما يحتاج إليها في الفقيهات في مسألة أو مسألتين، فلا معنى لإدخالهما هاهنا، لأنها لا تكون كالقانون الكلي، الذي يتصور فيه حقيقته الأصلية، وأيضًا فإنه يلزمهم إذا التزموا هذا استيعاب كل ما يتعلق بمسائل الفقه، من علم اللسان، وهيهات أن يستوعب هذا إلا من استبحر في علم اللغة، والنحو، وإيراد ما يفيد الاستبحار يقتضي تصنيف دواوين عظيمة. وهذا يشير إلى أن لا معنى لكلامهم على حرف الباء هل هي للتبعيض لأن المتعلق بها من مسائل الخلاف مسألة واحدة، وهي النظر في قوله تعالى: (وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين)، هل المراد بعض الرأس، أو كل الرأس؟ وتعدوا هذه المرتبة حتى تكلموا، على حروف لا توجد في مسائل الفقه المتلقاة من قول صاحب الشرع، وهلا تكلموا على الصعيد في الفقه ما هو؟ لأنه من مسائل الخلاف المتعلقة بآية الطهارة كحرف الباء وحرف إلى في قولله: (إلى المرافق)، وهلا تكلموا على حقيقة الغسل في اللغة لأنه من مسائل الخلاف المتعلقة بآية الطهارة أيضا؟ فإن قصدوا بذكر نبذ من هذه الألفاظ المفردة تنبيه الفقيه على أنه يحتاج من علم اللغة إلى غير ما ذكروه في تلك القوانين الكلية التي هي القول في الأوامر والعموم، فذلك مقصد يليق، ولعل الآخر منهم اتبع الأول، استقالا لاطراح ما تحفل به أشياخه، وهذا الداعي له إلى أن سلك ما سلكوه، كما هو الداعي لنا نحن أيضًا إلى أن نفعل ما فعلوه. وإذا انحصر الأمر إلى النظر في معاني الكلام عند العرب، فيجب أن يعرف حد الكلام وأقسامه. فأما حده فقد قيل فيه: هو ما نفى عن ذات من وجد به الخرس، والسكوت، والطفولية، وقدر هؤلاء أن الامتناع الاختياري يسمى سكوتا، والمنع الاضطراري إن كان مؤبدا يسمى خرسا، وإن كان يترقب انقضاؤه سمي طفولية. وحده آخرون بأنه: ما اشتق للمتكلم منه اسم متكلم، وهذا قد تقدم في الكلام على حد العلم التنبيه على ما في هذه الطريقة من الاحتمال. وقيل فيه: هو المسموع المفيد من غير مواضعة، فقال هؤلاء: المسموع، ليميزوه من غيره من الصفات كالقدرة والحياة، وقالوا: المفيد، لأن خوار البقرة، ورغاء البعير، ووعار

الشاة، أصوات مسموعة، وليست بكلام، وتحرز أيضا من الكلام الذي لا يفيد، فإنه لا يسمى كلاما على أحد القولين، وإن كان مسموعا. وأشار أبو المعالي في كتابه إلى اختيار سلبه هذه التسمية فقال: والكلام هو المفيد، فقد أشار بهذا التقييد إلى اختيار أحد القولين، ونحن إن قلنا بالقول الآخر، وهو تسمية ما لا يفيد كلاما، بطل هذا الحد لتقييده بالمفيد، وكذلك تقييد صاحب هذا الحد بقوله: من غير مواضعة يفسد الحد، على أحد القولين أيضا، إذا قلنا إن أصل اللغة اصطلاح، ومواضعه [كما] بيناه على القول بأن أصل اللغة توقيف، وتحرز على هذا القول من المناقضة بصوت الطبل إذا ضربه الأمير عند (...) وكصوت البوق عندنا في بلدنا إذا ضرب بمكان مخصوص، فإنه علم على أن ضاربه رأى مركبا واردا على المدينة (ص 57) من أحد بحريها، وقد صار هذا الصوت عندنا مسموعا مفيدا، وليس بكلام، لأنه أفاد بمواضعة السلطان الأمر بهذا مع المأمور النافخ، في البوق، فالقول بهذا الحد من غير مواضعة يتحرز به من مثل هذا. وقالت المعتزلة: حد الكلام أصوات مقطعة، وحروف منظومة، وهذا يبطل عليهم بكلام الله سبحانه، وكلام الإنسان في نفسه، من غير أن ينطق به على أصلنا في هذين، وهم ينكرونهما، وقد رد حدهم بأن الكلام يكون حرفا واحدا، تقول: ق إذا أمرت بالوقاية قال تعالى: (وقهم السيئات) وحرف القاف من هذه الكلمة فعل سؤال وطلب، ولو كان من أعلى لأدنى لكان فعل أمر، فقد حصل الكلام من حرف واحد، وهم قد قالوا إنه حروف، وهذا يبطل حدهم، لكونهم اعتذروا عن هذا بأن هذه الأفعال لم ينطق بها إلا موصولة بحرف آخر كقولهم: قه، وعه، وشه، وهذه هاءات للاستراحة، ولابد من النطق بها، فصارت الكلمة من حرفين، وجوابنا عن هذا واستقصاء ما قيل في حدهم مبسوط في كتب الديانات. وإذا تحقق ما قيل في حد الكلام فقد قسم على أنحاء مختلفة. أما التقسيم المشهور الأعم فإن الكلام اسم، وفعل، وحرف. وقد أشار أبو المعالي إلى [أن] الاسم ما دل على معنى المسمى به، وإلى هذا المعنى أشار بعض أئمة النحاة فقال: الاسم ما دل على معنى، غير مقترن بزمن محصل.

وكان أبو الحسن بن الحداد رحمه الله، وهو أشهر المدرسين لصناعة النحو في إقليمنا لما صنف كتابه أعجبه حد الاسم بأنه: كلمة تدل على مجرد ذات المسمى دلالة تصريح، فأخبرته أن هذا إشارة إلى أصل المعتزلة، لأن لفظ العدم اسم بإجماع النحاة، وهو كلمة لا تدل على ذات عند المعتزلة، والرجل شديد التبري مما يوقع في مذهبهم. وقد يناقش أيضا من حد [الاسم] بأنه ما دل على معنى، إذا حقق المراد بالمعنى عند العرب، حتى ينظر هل استوفى تسمية المعنى سائر المسميات موصوفاتها، وموجودها، ومعدومها، أم لا؟ وهكذا أشار أبو المعالي إلى حد الفعل أنه صيغ دالة على أحداث الأسماء، مشعرة بالأزمان. وقد قال بعض أئمة النحاة: الفعل ما دل على معنى مقترن بزمان محصل، وقول أبي المعالي مشعر بالأزمن على الجملة أولى من قول هذا: زمن محصل، لأن الفعل الماضي تحصل زمنه أنه قد مضى. وأما الفعل المضارع فإنه مترددبين زمن الحال، وزمن الاستقبال، فلم يكن زمنه محصلا من هذه الجهة على التعيين. وجماعة النحاة يثبتون هذا الاحتمال، ويرون الأفعال منقسمة إلى ثلاثة أقسام: ماض، واستقبال، وحال، كما أشار إليه قوله سبحانه: (له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك)، فأثبت الثلاثة الأقسام، إلا شرذمة لا يلتفت إليهم أنكروا فعل الحال، ولم يثبتوا إلا الماضي، والاستقبال، وهذه جهالة منهم بأحكام الوجود. وذكر أبو المعالي أن المصادر أصول الأفعال، وهي كالتبر الذي هو أصل في المصوغات، فيصاغ منه الماضي، والحال، والاستقبال، كما يصاغ من التبر القرط، والدملج، والخلخال، وهذا الذي قاله مذهب البصريين من النحاة، ومذهب الكوفيين منهم عكس هذا، وهو أن الأفعال أصل المصادر. يستدل البصريون على قولهم إن المصدر يدل على زمن مبهم، والفعل على زمن حاضر، والإبهام قبل التخصيص، وأيضًا فإن المصدر مدلول الفعل، والفعل دليل عليه، والمدلول قبل الدليل.

ويستدل الكوفيون بأن المصدر معمول الفعل، والفعل عامل فيه، والعامل فيه المعمول. وهذه التعاليل كما تراها، وقد سبق في المثل: أضعف من علة نحوي، والتحقيق خلاف هذا كله، وكان من حق أبي المعالي لما خاض في صناعة النحو، أن ينبه على طريقة التحقيق، التي تقتضيها الأصول، وذلك أن قولهم: المصدر أصل للفعل، أو الفعل أصل للمصدر، إن أريد بذلك أن أحدهما حقيقة والآخر مجاز، والحقيقة أصل للمجاز، فهذا مما لا يذهب إليه ذاهب، ولا خلاف أنا إذا قلنا قام زيد قياما فإن قولنا: قام، لفظة من الحقائق، لا تجوز فيها، وقولنا: قياما، لفظة من الحقائق لا تجوز فيها أيضا. فقد وضح بطلان صرف الأصلية والفرعية إلى هذا الوجه، وإن أرادوا بقولهم: هذا أصل، وهذا فرع أن اللفظتين حقيقتان، ولكن النطق بهذه سبق النطق بهذه، فهذا غيب لا يعلمه إلا علام الغيوب، والبحث عنه عناء لا يجدي، والمفكر فيه، يقيمه الفكر فيه بين العجز والتعب، وأي فائدة في سؤال السائل عن تسمية الحائط، والجدار أي اللفظتين نطق به أو لا؟. وهذا إن قيل: إن اللغة توقيف، فإنما معنى السؤال عنه، هل علم الله سبحانه آدم مثلا هذه اللفظة قبل أن يعلمه الأخرى؟ ولو قيل: إن اللغة اصطلاح، فأول المصطلحين عليها، ما الذي قدم وأخر؟ هذا مما لا يعرف، ولو عرف ما أفاد (...) (ص 58) اللفظتين الحقيقتين. فهذا وجه التحقيق في هذا الذي اشتهر كلام النحاة عليه، وما اعتلوا به، قصارى ما يوردون منه استفادة ظنون، والظنون هاهنا لا تنفع، لأنه ليس بموضع عمليات شرعيات، فتستعمل فيها الظنون، وإنما المراد القطع على ما كان، وهذا لا يحصل إلا بدليل قاطع. وذكر أبو المعالي أن الحرف على أربعة أقسام: - منها ما وجوده كعدمه، لا يغير إعرابا، ولا معنى كالحروف الزوائد، مثل قوله تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم).

- ومنها ما يفيد عكس هذا، وهو تغيير الإعراب والمعنى، كقولك: زيد منطلق، إذا أخبرت عنه بذلك، فإذا ترجيت له الانطلاق قلت: لعل زيدا منطلق، فقد صار هذا الحرف الذي هو لعل غير إعراب زيد ومعناه. - ومنها ما يغير الإعراب دون المعنى كقولك في الإخبار عن انطلاق زيد: إن زيدا منطلق، فقد غير إعراب زيد بإدخال حرف إن والخبر عن انطلاقه لم يتغير. - ومنها ما يفيد عكس هذا، وهو تغير المعنى دون الإعراب كقولك: هل زيد منطلق؟ فإعراب زيد باق على حاله، فقد انتقل حكمه بتغيير هذه الحروف، فقد تغير الخبر عن انطلاق زيد بدخول حرف هل إلى أن صار استفهاما عن انطلاقه. ولما ذكرنا ما ذكره عن النحاة من تقسيم الكلام التقسيم الأعم المشهور المشتمل على مفردات الكلام، والحروف، فلنذكر تقاسيم الكلام من جهات أخر، وقد أخرها أبو المعالي عن كلامه على الحروف، فهذا الباب ألوى بها في صناعة التأليف. فاعلم أن الكلام قسمه القدماء من الأئمة أربعة أقسام: أمر، ونهي، وخبر، واستخبار، وزعموا أن جملة الكلام تحصره هذه المعاني الأربع، واختار أبو المعالي الاقتصار على أربعة كما قال هؤلاء، ولكنه أبدل لفظة بأخرى، استوعبت قسمين من هذه الأربع، وأثبت الرابع قسما آخر، غير ما قاله هؤلاء، فقسم الكلام إلى الطلب، والخبر والاستخبار, والتنبيه، فقوله: الطلب، يدل على قول أولئك: أمر ونهي، ورأى الناهي طالبا، كما [رأى] الآمر طلبا. وزاد المتأخرون على ما قاله القدماء سبعة أقسام، فصار الكلام ينقسم عندهم إلى أحد عشر قسما، فزادوا على الأربع التي هي الأمر، والنهي، والخبر، والاستخبار، والتعجب والتلهف، والتمني، والترجي، والنداء، والقسم، [والدعاء]. وتأول بعض المتأخرين اقتصار الأولين فرأى أن التعجب خبر، والمتعجب من علم زيد، مخبر بسعة علمه، وانفراده في العلم، وكذلك القسم من جملة الأخبار، لأنه إنما يستقل مفيدا عند ذكر قسم، ومقسم عليه، فإذا قال: والله لأضربن زيدا، فقد التحق هذا بالأخبار، لأنه أخبر بما يفعل، فأشبه المخبر عما فعل. وأما التمني، والترجي، والتلهف، فإنما يقدر فيها معنى الخبر، والإعراب عما في النفس من هذه المعاني. وتعقب أبو المعالي هذا الاعتذار، ورأى أن هذا تخيل يحصر الكلام كله إلى الخبر

حتى يكون الآمر والناهي مخبرا عما في نفسه من طلب الفعل، أو ترك الفعل، ولأجل هذا القدح الذي وجهه هرب إلى إثبات التنبيه في الأقسام الأربعة، ورأى أن المتلهف، والمترجي، والمتمني، والمنادي، إنما القصد بما يقولونه التنبيه، لكن المنبه بالنداء آخر غير المتكلم، والمنبه في التلهف، والتمني، والترجي المتكلم نفسه، فكأن القصد بمثل هذه الصيغ، وإن كان إعرابا عما في النفس تنبه النفس على ما تلهفت عليه، وتمنته، وترجته، وأما النداء فقد اعتذر الإسفراييني عنه، بأنه لا يفيد بمجرده، والصوت بالنداء حرف، والاسم المنادي يترقب ما يأتي بعده. وأنكر أو المعالي هذا الاعتذار، وقال بل هو كلام مستقل عند أهل اللسان، فإذا قال القائل: يا زيد، فقد أتى بكلام مستقل ولننبه نحن على ما قاله في النداء فيما بعد. وهذه كلها مضايقات في عبارات، وإلا فالحقائق والمعاني التي في النفس لا يقع منها الإلباس، وإنما تصور إشكال في بعض هذه الأقسام لما يشعر به المعنى من معنى آخر، حتى يظن أن المعنى المتخيل المشعر به هو المقصود (... اب). وما أشار إليه أبو المعالي من إثبات التنبيه للنفس قسما آخر، لا شك في إثبات هذه الحقيقة، وأن الإنسان كثيرا ما ينطق [بما] قصد به تنبيه نفسه، ألا ترى قولهم: ءاه، فهذا صوت دال على تنبه لأمر ما، ويشعر أيضًا بالإعراب عما في النفس من أمر ما. قسم الكلام على غير هذا الأسلوب، فقيل: منه ما لا يفيد، ومنه ما يفيد، والذي لا يفيد إما أن تعدم فائدته، لأن حروف الكلمة (...) المنتظم الحروف كديز، مقلوب زيد (...) ومقلوب عمرو، ورمع، فالحروف في زيد، وعمرو لم تتغير (... الا تم) (الكلام ... عربيا ... النظر ...) (ص 59)، اسم مع اسم، كقولك: زيد قائم، واسم مع فعل، كقولك: قام زيد. وأما اجتماع فعلين فمما لا يفيد كقولك: تكلم أبصر، وأما اجتماع حرف مع فعل فذكر القاضي ابن الطيب، وغيره، أنه مما يفيد كقولك: تكلم أبصر، وأما اجتماع حرف مع فعل فذكر القاضي ابن الطيب، وغيره، أنه مما يفيد كقولك: قد قام، وأنكر هذا عليه، بأن هذا إنما يفيد بتصور ضمير في الفعل الذي هو قام، فيكون المعنى قد قام فلان، وكذلك اختلف الناس في إفادة اجتماع الحرف مع الاسم، فمنهم من قال: لا يفيد على حال، ومنهم من قال: يفيد، ألا ترى قولك: يا يزيد في النداء فإنه كلام مفيد، فأجاب الآخرون عن هذا بأن

الإفادة إنما تحصل بأحد وجهين: إما [أن] يقدر في الكلام حذف مفهوم، مراد، فيكون المعنى يا زيد تعال، ويكون حذف تعال حينئذ، لكونه مفهوما من النداء أو يقدر أن حرف النداء الذي هو الياء والألف نائب عن قولك تعال، فبهذه النيابة حصلت الإفادة. وهذا نحو ما ذكرناه من الخلاف في قولك: قد قام، وإفادته بتقدير إضمار، وما كنا ذكرناه عن الإسرافييني، وأبي المعالي ووعدنا التنبيه عليه، فهذا هو الذي وعدنا به من التنبيه وقد يكون الكلام غير مفيد، لكونه واقعا مما لا ميز له، وفي إثبات هذا قسما قائما بنفسه، نظر، لأن المجنون إن تكلم بما ليس بمفيد عند العرب، فقد دخل فيما قدمناه، وإن تكلم بما يفيد عندهم، لكنه لم يقصد إليه لعدم التمييز فإنما يقال إن هذا لا يفيد إشعارا بما في ضمير المتكلم. وأما الكلام فجنسه مفيد، وكذلك ذكر أيضا أن من الأقسام التي لا تفيد استحالة معنى الكلام عنده كقولك: زيد ميت حي، أو ميت لا ميت، وهذا أيضا صيغ الكلام فيه معلوم معناها، مستفاد فحواها، لكن الاستحالة لم ترجع لنفس الصيغة، وإنما هي راجعة إلى الفعل، وقد أهدى التقسيم للكلام إلى ما يفيد، وإلى ما لا يفيد، وإنما بني على أحد القولين في كون ما لا يفيد كلاما. وقد قسم الكلام على جهات أخر، فقيل: - قد تتماثل صيغ الكلام ومعانيه. - وقد تختلف صيغه ومعانيه. - وقد تختلف صيغه دون معانيه. - وقد تختلف معانيه دون صيغه. فالأول كقولك: بياض وبياض. والثاني كقولك: فرس وإنسان. والثالث كقولك: قام وقعد. والرابع كقولك: قرء المنطلق على الحيض والطهر، وجون المنطلق على السواد والبياض، وعين المنطلقة على عين الجارية، وعين الماء. وقد قسم الكلام أيضًا إلى أقسام: فمنه اللازم، كقولك: فرس وإنسان.

وإلى المفارق كقولك: طفل وشاب. وإلى المشتق كقولك: عالم ومسافر، ومريض، وهذا أيضاً التمثيل يدخل في المفارق، وإلى مفرد كقولك: زيد وعمرو. وإلى مضاف كقولك: غلام زيد، وثوب عمرو. وإلى ما فيه معنى شمول كأسماء الأجناس، أو الأسماء المترددة كالقرء، أو التضميني كالأب والابن، وفوق وتحت. وقد وقع للأذري في "لامعه" تقسيم الكلام على وجه وقع منه فيه إغفال، وذلك أنه قسم الكلام إلى أربعة أقسام فذكر منه: - أسماء الأعلام كزيد وعمرو. - والأسماء الدالة على صورة وبنية كفرس وطائر. - والاسم الدال على الجنس أو الحقيقة كقولك: سواد وبياض، وقديم ومحدث. والاسم المقتضي معنى متعلقا بالمسمى، وجعله على قسمين: - منه ما يتضمن معنى قائما بنفسه كالأب والابن وفوق وتحت. - ومنه ما يتضمن معنى لا يستقل بنفسه، وقسمه على قسمين: - فمنه ما يشعر بصفة في المسمى كعالم وضارب، ومباح ومحظور. - ومنه ما لا يشعر بصفة زائدة في المسمى كالحدث فإنه مأخوذ من الحدوث، والحدوث ليس بمعنى يقوم بالمحدث، وأشار إلى انقسام هذا النوع إلى: - ما يشتق منه، كما مثلنا به. - وإلى ما لا يشتق منه كالمعلوم، فإنما يفيد تعلق العلم به. وذكر أن القاضي لما ذكر ذلك أخبره بأن النحاة ينكرون هذا، ويرون قولنا: معلوم مشتق، وهو عندهم مشتق من علم بعلم على بناء ما لم يسم فاعله، بخلاف اسم الفاعل، فإن مشتق من علم يعلم. وذكر أن القاضي لما ذكر له أن النحاة يرون قولنا: "معلوم" مشتقا قال له القاضي لا يبعد ما قالوه، فأنت تراه كيف جعل قولنا: فرس وطائر، قسما، وجعل قولنا: سواد وبياض قسما، والقسمان جميعا يقرر فيهما الجنسية، ولا يفترقان في هذا، ولا يمنع من ثبوت

حرف الباء

الجنسية فيهما كون هذه أجساما، مشكلة، وكون هذه أعراضا، وذكر القديم والمحدث في قسم ذكر الدال على الجنس والحقيقة، ثم ذكر المحدث في هذا القسم الدال على معنى لا يستقل بنفسه المباح والمحظور (... بعه على ....................... ليست ....) (ص 60) أو مباحا. وإنما حقيقة ذلك تعلق كلام صاحب الشرع به، وهو قوله: لا تفعلوا هذا، ولكم أن تفعلوا هذا، فعاد ذلك إلى صفات التعلق، واندرك في أسلوب المعلوم والمذكور. وقد ذكر هو المعلوم حيث نقلناه عنه، ويحتمل إلحاق المعلوم بأسماء الضمن البائن بنفسه كفوق وتحت، لكن الظاهر أنه ألحقها بما لا يبين بنفسه لكون العلم لا تتصور حقيقته، ولا معلوم له، وكذلك المعلوم لا يتصور دون العلم، وفي هذا الموضع ما يحتاج فيه إلى تدقيق في النظر في أحكام التعليق، وربما كان هذا مضايقة في عبارة لا يجدي كبير فائدة. فهذه جمل كافية فيما أورده الناس في تقاسيم الكلام، وحده، وتجنيسه، وتنويعه. وها نحن نخوض فيما خاض فيه الأصوليون من أحكام الحروف فمن ذلك: حرف الباء وقد اختلف الناس فيه فالشافعي يراه للتبعيض، ولهذا لم يوجب إيعاب مسح الرأس في الوضوء، بل رأى الأجزاء يحصل بمسح بعضه لقوله تعالى: (وامسحوا برءوسكم) والباء هاهنا تفيد التبعيض. وقال أصحابنا بل الواجب إيعاب جميع الرأس، بناء منهم على إنكار القول بأن الباء تفيد التبعيض، والذي قاله أصحابنا من إنكار كونها مفيدة للتبعيض هو الذي عليه أئمة النحاة. وقد ألف ابن جني كتابا ترجمه بسر الصناعة، تكلم فيه على سائر الحروف وأحكامها، وما يتعلق بها من دقائق صناعة النحو، وأنكر كون الباء موضوعة للتبعيض، وإنما الباء موضوعة للتعليق والإلصاق، وقد نوع بعض الناس هذا التعليق، إلى تعليق عمل بمعمول، وتعليق اختصاص، وتعليق اتصال، وحملوا قوله تعالى: (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم)

على أن الباء في قوله: (بإلحاد) من باب تعليق العمل، لأن الإلحاد من عمل الملحد، وقوله: (بظلم) الباء فيه من باب تعليق الاختصاص، لأن الظلم مختص بالإلحاد. وأما تعلق الاتصال فهو كثير في الاستعمال منه: ضربت بالسوط، وكتبت بالقلم، ومن الناس من يقدر الباء بمعنى الحال، يقول: جاء زيد بسلاحه، أي متسلحا، وبمعنى البدل، تقول: هذا بهذا، وبمعنى في تقول: زيد بمصر أي في مصر. وهذه كلها عندي أمور تتفاوت، وإنما هذا من القوم اتساع في العبارات، وإلا فزيد بمصر، فيه معنى التعلق والالتصاق، وكذلك جاء متسلحا، وكذلك هذا بهذا فيه تعلق معلوم، فلم تخرج هذه الأنواع عما قدمناه. وأما تأويل الشافعي قوله تعالى: (ومنهم من إن تأمنه بدينار) على أن المعنى: تأمنه على دينار، ورأى أن حرف الباء يرد بمعنى على، وكذلك تأويل سيبويه قوله تعالى (ولم أكن بدعائك رب شقيا) أن الباء تكون بمعنى لأجل، وتقدير الكلام: ولم أكن لأجل دعائك رب شقيا، وقول غيره: إن الباء هاهنا بمعنى في، فالمعنى في دعائك رب شقيا، فإن هذا من باب إبدال حروف الجر، بعضها ببعض. وقد ذكر ابن جني في كتابه المترجم: بالخصائص، وهو من أعيان كتبه، فصلا كشف فيه سرا من أسرار العربية، وأغرب فيه، وذلك أنه أشار فيه، أن إبدال حرف بحرف جزء آخر لا سبيل إلى إطلاق القول به، لما يقتضيه من إفساد الكلام، وتثبيج النظام، ولا وه لإنكاره، مع وجوده في الكلام الفصيح، فالواجب وضع قانون يعلم منه ما يحسن من هذا الإبدال، وما لا يحسن، فالعرب تحرص على الاختصار في الألفاظ، وتوفير المعاني، فربما كان الفعل الواحد يعبر عنه بصيغتي مختلفتين تتعدى إحداهما بحرف، وتتعدى الأخرى بحرف آخر خلافه، فقد تورد إحدى الصيغتين، وتعديها بحرف الصيغة الأخرى، ليشعر سامع الخطاب بالفعل المحذوف، فيكون كالسامع للصيغتين معا. ألا ترى قوله سبحانه: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) والرفث: الجماع، كما أن الإفضاء هو الجماع، لكن الإفضاء يتعدى بحرف إلى، تقول: أفضيت إلى المرأة، ورفثت بالمرأة، فلما ذكر الرفث، ترك حرفه الذي يتعدى به، وعدي بحرف إلى، الذي هو مختص بالإفضاء ليشعر السامع أن الرفث هاهنا هو الإفضاء المحذوف ذكره، فكأنه قال تعالى: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم، والإفضاء إلى نسائكم، فأتى بقول

حرف الواو

وجيز، ليدل على قول أطول منه، وهكذا قوله تعالى: (هل لك ...) (ل ...) أن تزكي (لاد ... تك) إلى كذا، وهل لك في كذا فعدي بحرف إلى (...) (ص 61) من زمن الطفولة لم أطالعه بعدها، ولم أعثر على الكتاب من ذلك الزمن إلى الآن، ولم أتمكن من نسخة أطالع هذا الفصل فيها، لكن هذا الذي أوردت هو علق بحفظي من القديم، فإن اتفق فيه بسط أو إحجاب فبمقتضى طول العهد. وإنما ذكرت هذا كالمعتذر عن نقل كلامه في هذا، أوردناه من قوله تعالى: (ومنهم من إن تأمنه بدينار)، وقوله: (من إن تأمنه بقنطار)، وقوله تعالى: (بدعائك رب شقيا) إن كان تكلم على هاتين الآيتين في هذا الكتاب. لكن يظهر لي الآن في قوله تعالى: (ولم أكن بدعائك رب شقيا) أن الباء هاهنا، ربما أبقيت على أصلها، ويكون التقدير: ولم أكن شقيا بدعائك، أي ما شقيت بالدعاء، فتكون الباء هاهنا متعلقة بالشقاوة، وهذا التعلق معقول المعنى خارج مما قدمناه، فإن كان سيبويه أراد بقوله: من أجل دعائك رب شقيا، هذا المعنى، أي ما شقيت بسبب هذا الدعاء، فالباء لا حاجة بنا إلى إخراجها عن معنى موضوعها، وإن كان أراد أن الشقاوة ارتفعت عني لأجل دعائك، وهو الأظهر في التأويل، وفي تقدير معنى التعلق والإلصاق هاهنا غموض، يفتقر إلى عبارة مبسوطة، ولكن محصولها المعنى الذي عبر عنه سيبويه. وكذلك قوله تعالى: (من إن تأمنه بدينار)، فإن في معنى الإئتمان، والإلصاق الأمانة بالمؤتمن، وإلزامه له، وهذا المعنى هو معنى الحرف، فيحسن أيضا وضع صيغة تقتضي هذا المعنى، ويجري في هذه المعاني على طريقة ابن جني، ما أمكن الجري عليها، فإنها من ملحه. [حرف الواو] وأما حرف الواو فالكلام عليه من ثلاثة أوجه:

- فائدته. - وأقسامه. - والاستدلال على المذاهب فيه. فأما فائدته، فإن الفقهاء مختلفون في ترتيب الوضوء، هل هو مستحب، أو مستحق، فالمشهور من مذهبنا أنه مستحب، وعند الشافعي أنه مستحق، وشذ بعض فأوجب على متعمد التنكيس للوضوء إعادة صلاته أبدا، وهذا قد يشعر بموافقته للشافعي في إيجاب الترتيب، لكنه قد يكون بناه على القول بأن تارك السنن تعمدا يبطل العبادة، وهو أحد القولين عندنا في هذا الأصل. فمن زعم أن الواو في اللسان موضوعة للترتيب، اقتضت الآية عنده غسل الذراعين بعدا لوجه، لعطف الذراعين على الوجه بحرف الواو. ومن أنكر وضعها للترتيب لم يسلم هذا الاستدلال، وكذلك إذا قال الرجل لزوجته التي لم يدخل بها: أنت طالق، وأنت طالق، كلاما نسقا، متصلا بعضه ببعض، ففي إلزامه الطلقة الثانية اختلاف بين العلماء، وقد ذكرنا سبب اختلاف الفقهاء في هذه المسألة، ومذاهب اصحابنا فيها، فيما أمليناه في الفقه، فمن يرى أالواو مرتبة ينكر إلزام الطلقة الثانية، لأن مقتضى الترتيب إيقاع الطلقة الثانية بعد استقرار الأولى، ومن ينكر الترتيب، ويراها للجمع يوجب الطلقة الثانية، كما أوجب الأولى، لأن حرف الواو هاهنا، لم يوجب للطلقة الأولى رتبة على الثانية، فلما وجبت الأولى، وجبت الثانية، لاستوائهما في الرتبة، واستقصاء ما يتعلق بهذا المعنى من المسائل الفقهية يخرج عن غرض الكتاب. وأما أقسامها، فإنها تقع على عشرة أنحاء: تكون عاطفة، كقوله تعالى: (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات) الآية، وفيها عطف بحرف الواو تسعة عشر موضوعا. وتقع بمعنى "أو" عند قوم من أئمتنا، واستدلوا بقوله تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) على جهة التخيير في هذه الجمل، ولو كانت هاهنا ليست بمعنى أو، لأبحنا للإنسان نكاح تسعة، [كما] قال داود تعلقا بالظاهر من معنى حرف الواو، وقد ورد عليه بأنه لو كان المراد ما تأول لقال: فانكحوا تسعا، إذ لا يقول من العرب في

العبارة عن تسع، اثنان، وثلاث، ورباع. وأنكر البصريون من النحاة ورود الواو بمعنى أو. وترد الواو أيضًا بمعنى الحال كقوله تعالى: (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم)، فأعرب الطائفة الثانية بالواو، ولم يعطها على إعراب الطائفة الأولى، التي [إعرابها] بالنصب (...) هنا بالواو، ومعنى [الآية] كأنه يقول: إذ طائفة مثلا [قد أهمتهم]، أي أنزل عليكم الأمنة في حال هذه الطائفة [أهمتهم أنفسهم]. وترد أيضا بمعنى ["مع" كما تقول] استوى بالماء والخشبة] (ص 62). وترد بمعنى الباء كقولك: مازال زيد وعمرو حتى أعطاه، ومعناه زيد بعمرو. وترد أيضا بمعنى الجواب كقول الله تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) فالواو في قوله: (ويعلم الصابرين) ليست على جهة العطف الذي قدمناه في أول الأقسام، وإنما هي بمعنى الجواب. وترد أيضًا بمعنى القسم، قال الله تعالى: (والله ربنا ما كنا مشركين). وترد إلى الاستئناف أيضا كقوله تعالى: (فلما أسلما وتله للجبين * وناديناه) فالمراد: فلما أسلما وتله للجبين ناديناه، وكقوله: (ولقد أتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين) فالمراد: ضياء وذكرا. وأما الاستدلال على كون العاطفة مرتبة أو جامعة، فإن الشافعية تستند إلى قول إمامهم لكونه عندهم من أئمة اللغة، وتستدل بقوله عليه السلام، في الصفا والمروة: "نبدأ بما بدأ الله به"، فأشار إلى وجوب الترتيب، وأن المبدأ مقدم على عطف عليه بحرف الواو. فأما تعويلهم على إمامهم فلا حجة لهم به لأنه صاحب مذهب، يبني آراءه على ما

يتأول، ويستنبط، ولا حجة باستنباطه على فقيه غيره، وأما الحديث فليس بتصريح باقتضاء الواو الترتيب، وإنما تضمن البيان عن حكم الشرع في البداية بالصفا، فعبر عن قوله: ابدأوا بالصفا، بأن قال نبدأ بما بدأ الله به، ولو كانت تقتضي الترتيب لم تفتقر إلى أن ينبههم على وجوب البداية بالصفا لأن لسانهم لا يفتقرون فيه إلى تعليم وبيان، وإنما يبين لهم المراد بالمشكل المحتمل. وأما المنكرون للترتيب فإنهم يعتمدون على حسن دخول حرف الواو في باب المفاعلة، لأنك تقول تضارب زيد وعمرو، ولا يحسن أن تقول تضارب زيد فعمرو، ولا تضارب زيد ثم عمرو، لما في هذا من التناقض، لأن قولك تضارب يقتضي وجود المضاربة من هذا وهذا في حالة واحدة، وقولك: تضارب زيد ثم عمرو يقتضي ضرب زيد لعمرو فحصل الكلام متناقضا، فلهذا قبح، فلو كانت الواو تفيد ترتيبا لقبحت العبارة هاهنا أيضا، لأجل ما تضمنه [ذلك] من التناقض. واستدلوا أيضًا بأن من قال: جاءني الزيدون كان الأصل فيه: جاءني زيد وزيد وزيد، فلما قبح عندهم هذا التكرير، ورأوه عيا اختصروا فقالوا: جاءني الزيدون، فكأن الواو في قولك: زيد وزيد وزيد هي الواو في قولك: الزيدون فلما كانت الواو في قولك: الزيدون لا تفيد ترتيبا بإجماع، فكذلك لا تفيد ترتيبا في قولك: زيد وزيد وزيد. واستدلوا أيضًا بقوله تعالى: (وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة) وفي آية أخرى: (وقولا حطة وادخلوا الباب سجدا)، فلو كانت الواو تتضمن ترتيبا، القصة واحدة لم لم يحسن تقديم السجود على القول، والقول على السجود مرة أخرى لأن الواو يوجب فعل أحدهما قبل الآخر، فإذا قدم هذا على هذا مرة، وهذا على هذا مرة أخرى، بطل الترتيب المستفاد، ولم يصح ذلك إلا أن يكون أمرا لفئتين، أو لفئة واحدة في زمنين مختلفين. وأنكر أبو المعالي على من قال إنها وضعت للجمع، فأنا نعلم أن القائل: جاءني زيد وعمرو، فلا تفهم العرب عنه أنهما جاءاه معا، بل يحتمل قوله أن يجيئاه معا، أو يجيء واحد، بعد واحد، وهذا منه ظن بالفقهاء أنهم أرادوا بقولهم: ترد للجمع هذا المعنى الذي أشار إليه، وأفسده عليهم، وأظن أنهم ما أراده، وإنما أرادوا بالجمع أنهما اجتمعا في المجيء مع احتمال أن يكون جاءا معا، أو مفترقين، وقد ذكر بعض المصنفين المحققين أن الواو إنما وردت للجمع، وفسر الجمع بالاحتمال الذي قلناه. وأما إشارة أبي المعالي إلى أنها ترد للجمع على غير هذا القصد، والغرض كقولهم:

حرف الفاء

لا تأكل السمك، وتشرب اللبن، فإن المراد النهي عن الجمع بين السمك واللبن، ولكن هذا الجمع ليس هو الجمع الذي يشير إليه من تكلم على الواو العاطفة ومتى أراد هذا القائل بهذا الكلام العطف، والنهي عن تناول السمك وتناول اللبن، قال: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، فيكون الإعراب يختلف المعنى باختلافه. فإذا قال: وتشرب اللبن بفتح الباء، كان نهيا عن الجمع بينهما، ويكون الانتصاب في: تشرب بمعنى تقدير حرف أن، وإذا أراد النهي عن أكل كل واحد منهما كسر الباء، فكأنه قال: لا تأكل اسمك وتشرب اللبن، وقد يرفع الباء أيضا، ويكون تقدير الكلام: لا تأكل السمك شاربا للبن، يعني لا تأكله على هذه الحالة بمنزلة من يمضغ المطعوم، هوه (...) الماء. [حرف الفاء] وأما حرف الفاء فإن الأصل فيه إذا ورد للنسق والعطف للتعقيب من غير تراخ، كقولك (ص 63) جاءني زيد فعمرو. وترد أيضا للتسبيب والتعليق كالجزاء والشرط. والتسبيب هاهنا يسمى التعقيب كقولك: إن أحسنت إلىّ فأنا أشكرك، فهذه الفاء دخلت في المجازاة، والإحسان بسبب الشكر، والشكر متعلق بالإحسان، وكذلك الشرط والمشروط كله، ومنه قوله تعالى: (من يضلل الله فلا هادي له)، وأنكر القاضي كونها للتعقيب إذا وقعت في جواب الأمر والنهي. ودافع المعتزلة عن الاستدلال على خلق القرآن بقوله تعالى: (كن فيكون)، وأن الفاء هاهنا للتعقيب من غير تراخ، ولا مهلة، وإذا كان الكائن الحادث عقيب القول: كن، من غير تراخ ولا مهلة، اقتضى ذلك حدث القول الذي هو: كن، فاشتد نكير القاضي لكون الفاء تقتضي التعقيب، في مثل هذا، ورأى أنها إنما تقتضيه في النسق والعطف، وليس هذا منه. وهذه إحدى الفوائد في الكلام على هذا الحرف، وكذلك أيضا استدلال من

حرف "ثم"

استدل على وجوب الترتيب بقوله تعالى: (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا)، ورأى أن الفاء، هاهنا للتعقيب، لأن هذا من باب الشرط والمشروط، وإذا أفادت تعقيب القيام إلى الصلاة بغسل الوجه منعت أن يقدم قبل الوجه عضو آخر سواه، لأن تقدمة عضو آخر عليه، يمنع من كون الوجه مغسولا عقيب القيام إلى الصلاة، وإذا ثبت البداية بالوجه فقد ثبت له الترتيب، وإذا ثبت الترتيب في عضو واحد ثبت في سائر الأعضاء، إذ لا أحد يفرق بينها في هذا الحكم. وترد الفاء أيضا زائدة، وأنشدوا في هذا: وقائلة خولان فانكح فتاتهم ............................... وأنشدوا أيضا: .................................. وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي [حرف "ثم"] وأما حرف "ثم" فإنها تفيد الترتيب مع تراخ، ومهلة، وزعم بعض الأئمة أنها ترد بمعنى الواو، وتأول قوله تعالى: (ثم استوى على العرش)،وقوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء)، وقوله: (ثم الله شهيد على ما يفعلون) على أنها في هذه الآي بمعنى الواو، ويضطره إلى هذا التأويل في الاستواء، أن الاستواء صفة ذات، وصفة الذات قديمة، والتعقب بالتراخي والمهلة لا يوصف به القديم. وأما من يذهب إلى أن الاستواء صفة فعل، فلا يضطر إلى هذا التأويل، لأن أفعال الباري قد يتعقب بعضها بعضا، وقد تأول أن المراد بالاستواء هاهنا الإشعار بأنه تعالى فرغ من إكمال الخليقة وأمر، ونهي، وكلف، ثم استوى على العرش، والمراد الإشارة إلى ما قلناه من إكمال ما ذكرناه، وهذا المعنى يصح فيه التعقب، وبسط الكلام على هذه الآي، واستقصاء ما قيل فيها من التأويلات ليس هذا موضعه. [لفظه "ما"] وأما لفظة ما فإنها على نوعين: اسمية، وحرفية:

فالحرفية خمسة أنحاء: نافية، وكافة، وزائدة، ومسلطة، ومغيرة. فأما النافية فإنها تدخل على الاسم كقولك: ما زيد قائم، وعلى الفعل، كقولك: ما قام زيد، وهي إذا دخلت على الاسم الذي هو مبتدأ له خبر، فيها اختلاف بين الحجازيين والتميميين، فالحجازيون يجرونها مجرى ليس، فيرفعون بها الاسم، وينصبون الخبر، وبهذا نزل القرآن، قال تعالى: (ما هذا بشرا)، فنصب خبرها، وقال تعالى: (ما هن أمهاتكم)، فنصب أيضا الأمهات، بكون الكسرة علامة للنصب، والتميميون يلغونها، ووجه الإعراب عندهم: "ما هذا بشر"، "ما هن أماتهم" برفع التاء في الأمهات. وأما الكافة فتدخل على: إن، وليت، ولعل، وكأن، فتقول: إنما، ليتما، لعلما، كأنما، فيبطل ما عمل ما اتصلت به من هذه الحروف. وأما الزائدة فكقوله تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم). وأما المسلطة فكقولك: حيثما تكن أكن، إن حيث لو تجردت من ما لم تجزم تكن، فلما اتصل بها حرف ما سلطها على جزم هذا الفعل، فكأنه سلطها العمل، بما أحدث فهيا من معنى الشرط. وأما المغيرة، فكقوله تعالى: (لو ما تأتينا بالملائكة) فإن حرف لو إنما وضع ليدل على امتناع الشيء لامتناع غيره، وهي في هذه الآية للتحضيض، فمعنى: (لو ما تأتينا بالملائكة) هلا تأتينا بالملائكة. وأما الاسمية فخمسة أنحاء أيضا: شرطية كقولك: ما تفعل أفعل. وتعجبية كقولك: ما أحسن زيدا. واستفهامية كقولك، ما عندك؟ وموصولة، تكون بمعنى الذي كقولك: ما يعطيني أتصدق به. وموصوفة ولا تكون إلا نكرة كقول الشاعر: ربما تجزع النفوس من ... الأمر له فرجه كحل العقال و"ما" هاهنا نكرة لأنها دخل عليها حرف "ب"، وهو لا يدخل على المعارف، وقد عد في أقسامها مع ما ذكرناه الظرفية والمصدرية:

حرف "أو"

فالظرفية كقولك: آتيك ما أكرمتني، أي ما دمت مكرما لي. والمصدرية كقوله تعالى: (والسماء وما بناها) تقديره: والسماء وبنائها، وفي مثل (ص 64) هذا. قال ابن جني إن المصدرية تكون اسما، وتكون حرفا، والأشهر أنها حرف، وألحق بعض الناس بهذين القسمين أيضا التعظيمية، والتحقيرية، كقولك في التعظيم: لأمر ما يسود من يسود. وقال الآخر: تجافيت عني حين لا لي حيلة ... وخلفت ما خلفت من الجوانح وفي الكتاب: (فغشيهم من اليم ما غشيهم) وكقوله في التحقير: لهذا الكلام وجه ما، وأعطى شيئا ما، فتكون أقسام حرف "ما" إذا جمعت هذه المذاهب بعضها لبعض أربعة عشر قسما. [حرف "أو"] وأما حرف أو فإنها ترد للشك وللتخيير، والإبهام، وترد بمعنى الواو عند قوم. فأما التي للشك فكقولك: رأيت زيدا أو عمرا، وأنت شاك في الذي رأيت منهما. وهكذا الأمر إذا كانت للإبهام، المعنى متقارب، ولهذا أسقط أبو المعالي في عد هذا قسما آخر، لأنك إذا علمت من رأيت منهما، وإنما أردت التلبيس على السامع، وألا تفيده علم من رأيت منهما، قلت له: رأيت زيدا أو عمرا، ليحصل السامع على شك استفاده من هذا الحرف، وإن كنت أنت على يقين، فصارت كأنها للشك على النحو الذي أشار أبو المعالي من تقدير الخطاب على حسب اعتقاد المخاطب السامع، وإذا كانت للشك فهي تضاهي حرف "ام"، إذا وقع للشك صحبه الاستفهام، تقول: أرأيت زيدا أم عمرا؟ ولا تقول: أرأيت زيدا أو عمرا. والمشكك بحرف "أم" موقن" برؤية أحدهما شاك في عينه، والمشكك بحرف "أو" يمكن أن يكون كذلك، ويمكن أن يشك فيهما جميعا؛ هل رأى واحدا منهما، أو لم ير واحدا. وأما كونها للتخيير فكقوله تعالى: (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) وكقولهم:

جالس الحسن أو ابن سيرين، والقصد هاهنا بذكر التخيير، وإباحة التنقل، من شخص إلى شخص، الإشعار بأمر السامع بمجالسة أهل الخير والرشاد، كما أن قوله تعالى: (ولا تطع منهم أثمًا أو كفورا) يتضمن هذا الإشعار النهي عن طاعة المضل، آثما كان، أو كفورا، فلهذا تناول النهي الآثم والكفور جميعا، حتى يقدر المعصية بطاعة أحدهما، ولا تحصل الطاعة إلا بمعصيتهما جميعا، بخلاف قولك: جالس الحسن أو ابن سيرين، فإن القصد الأمر بمجالسة أهل الخير، فإذا جلس إلى واحد، وترك الآخر، لم يكن عاصيا، لأنه لم يأمر هاهنا بما يتضمن الجمع، وهذا المعنى الذي نسلك في قوله تعالى: (عذرا أو نذرا). وهذا التأويل يدفع حجة من احتج على أن أو تكون بمعنى الواو بهاتين الآيتين، لأن المراد لا تطع الآثم والكفور، وكذلك المراد (فالملقيات ذكرا* عذرا أو نذرا) كذلك احتجوا بقوله تعالى: (وأرسلناك إلى مائة ألف أو يزيدون)، وقوله تعالى: (لعلة يتذكر أو يخشى) وقوله تعالى: (لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا) وقوله تعالى: (قاب قوسين أو أدنى) وقوله تعالى: (وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب) إن الآي محمولة عند هؤلاء على أن حرف أو يها بمعنى الواو، فالمراد: مائة ألف ويزيدون، وكذلك المراد بقوله: (إلا كلمح البصر أو هو أقرب)، وكذلك المراد (فكان قاب قوسين أو أدنى). واضطر هؤلاء، إلى هذا التأويل أن الله سبحانه لا يترجى، لعلمه بالعواقب، وإنما يترجى من لا يعلمها، والجواب العام عن كل ما قالوه، وتمسكوا به، من هذه الآي أن الخطاب في جميعها إنما ورد بألفاظ صيغت على حسب فهم المخاطب فكأنه تعالى يقول: إن قوم يونس لو رأيتموهم لقلتم مائة ألف أو يزيدون، على جهة التشكيك من المخلوقين، لا من الخالق، جلت قدرته. وهذا كأحد التأويلات في قوله تعالى: (وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه) أن المراد أنه أهون فيما اعتاده المخلوقون، لأن إعادة الأفعال أسهل من ابتدائها، لأنه قد قيل في قوله: (مائة ألف أو يزيدون) أن المراد هاهنا الإبهام على السامعين. وقد ذكرنا أن أحد أقسام هذا الحرف الإبهام ولكنا أشرنا إلى أن هذا يرجع إلى

حرف "هل"

الجواب الذي نحن فيه، وهو تنزيل الخطاب على حساب فهم المخاطب، وقيل أيضا في قوله تعالى: (وهو أهون عليه) أن الضمير عائد على المخلوق، لأن الإنسان يندرج في هذه الفطرة الأولى، من حال إلى حال، ويشق عليه ما يلقى فيها من انتقال، وتدريج، كانتقاله من رضاع إلى فطام و (...) فطرة الآخرة نشأة واحدة، لا يكابد فيها الإنسان من تغيير الأحوال ما يكابد في دار الانتقال، وقيل أيضا إن أهون هاهنا (ص 65) بمعنى هين، وتقدير الكلام: وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، وهو هين عليه، فلا يثبت مع هذا التأويل مفاضلة تشعر بمشاق يتقدس عنها الخلاق. وقد ذكر الزجاج طريقة أخرى في الاعتذار عن قوله: (أثمًا أو كفورا) ورأى أن ذلك خرج مخرج التأكيد، لا مخرج التعديد والآثم هو الكفور. وقد ألحق بما ذكرناه من معاني أو، معنى آخر وهو أن يكون بمعنى "إلى" [مثل] أن يقول لا أفارقك أو تقتضي حقي، معناه لألزمتك إلى أن تقتضيني حقي. [حرف "هل"] وأما حرف هل فترد على ثلاثة أنحاء: للاستفهام، ويليه الاسم أو الفعل، تقول: هل قعد زيد؟ وهل زيد قائم؟ وبمعنى قد، وعليه يحمل قوله تعالى: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر)، معناه قد أتى. وبمعنى التقرير كقوله تعالى: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) وعندي أن الآية التي استشهد للناس بها على أن "هل" بمعنى قد ترجع إلى هذا القسم الآخر، وهو التنبيه والتقرير، ويكون القصد بها تنبيه الإنسان على ابتداء فطرته، واختراعه، ثم تدريجه في الفطرة، ليعتبر بذلك، ويعلم منه أنه مخلوق مربوب. فإن أدخلت على حرف "هل" "لا"، صارت للتحضيض، تقول: هلا زرتني، هلا أعطيتني، والمراد الحث، والتحضيض. [حرف "لا"] وأما حرف "لا"، فإنه للنفي، وقد يكون القصد بها التبرئة، واستغراق الجنس، تقول: لا رجل في الدار فإذا وصل بالنكرة المفردة بنيت على الفتح قال تعالى: (لا بيع فيه

ولا خلة ولا شفاعة)، وقال: (فلا رفث ولا فسوق) فبنيت كل واحدة من هذه النكرات الست على الفتح، لما صحبها حرف "لا"، وإنما تبنى مع الاتصال، لا مع الانفصال، ألا ترى قوله سحبانه: (لا فيها غول) رفع غول، لما حال بينه وبني حرف لا، حرف الجر، وما اتصل به من ضمير، ولو كان الذي وليها مضافا، لم يكن مبنيا، تقول: لا غلام زيد يطيعه، ولا صحاب امرأة يحسن إليها. وقد ترد لا زائدة، مقحمة قال تعالى: (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك)، وهو سبحانه إنما أمر إبليس بالسجود، وعلى تركه وبخه، فكان الأصل فيه أن يقول: ما منعك أن تسجد؟ كما قال في بعض الآي: (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) فلا، مزيدة في الآي التي فيها أن لا تسجد، لأن ظاهر هذا أنه إنما وبخه على السجود، لا على تركه، ألا تراه قال: (ما منعك أن تسجد إذ أمرتك) فكأنه يقول: ما منعك أن تترك السجود؟ وهذا لا يصح أن يراد، لأن إبليس قد ترك السجود وكان عاصيا في تركه، لا في فعله، إذ بفعله أمر، لا بتركه، لكن حسن دخول هذا الحرف هاهنا، ما انطوى عليه الكلام من النفي، لأن الامتناع من الفعل يتضمن انتفاء الفعل، وحرف لا يتضمن الانتفاء، فكأنه أقحم هاهنا، وزيد ليؤكد ما انطوى الكلام عليه من معنى النفي، فصار كقوله: ما منعك بتكرير هذا اللفظ مرتين أن تسد، وناب حرف لا في تأكيد معنى: ما منعك بتكرير لفظه عن تكريره لما أشعر بمعناه من النفي الذي ذكرناه وهذا أيضا هو ما قدمناه عن ابن جني في إبدال حروف الجر بعضها من بعض وإنما اشترط كون الحرف المثبت يشعر بمعنى فعل محذوف آخر، يسد مسد الفعل المثبت. فهذا الذي أشار إليه، وقد بسطناه فيما تقدم، وهو من هذا الأسلوب الذي نحن فيه. وقد اشترط أبو المعالي أنها لا تزاد إلا بهذه الشريطة، وهي تأكيد معنى النفي الذي النطوى عليه سياق الكلام، وأبان عن حصول هذا المعنى في قوله تعالى: (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك)، لكنه قد يطالب بإبراز مثل هذا المعنى في قوله تعالى: (لئلا يعلم أهل الكتاب

حرف "لو"

أن لا يقدرون على شيء من فضل الله) الآية، وما قبلها، والمراد أن الله سبحانه أمر المؤمنين بالتقوى ليؤتيهم كفلين من رحمته، ويجعل لهم نورا يمشون به، ليعلم الكفار أن الفضل بيد الله، يؤتيه من يشاء، فإدخال حرف "لا"، هاهنا على جهة الزيادة. وعندي أن لأبي المعالي أن يقول، في هذه المطالبة: قد أشعر الكلام أيضا بمعنى النفي، لأن إذا كان المقصد إكرام المؤمنين ليعلم الكفار هوانهم، فهم الآن غير عالمين بهوانهم، فقد تضمن سياق الخطاب الإشعار بانتفاء العلم عنهم، وحرف لا للنفي، ووروده هاهنا مشعر أيضا بما انطوى عليه الخطاب من النفي الذي قرررناه. وقد ألحق بعض الناس أقساما أخر، في هذا الحرف فقال: يكون للنهي كقوله: (لا تقربوا). وللدعاء كقوله: (ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به). وللعطف كقولهم: جاء زيد لا عمرو. ولكنه قد يكون من أخل بذكر هذه الأقسام رآها يتصور فيها معنى النفي، فاستغنى بعد النفي عن تعديدها. [حرف "لو"] وأما حرف "لو" فإنه يمتنع به الشيء لامتناع غيره، تقول: لو زرتني لزرتك، فالزيارة امتنعت من القائل لامتناعها من المخاطب. لكن هذا الحرف يتغير معناه بما يضاف إليه، فإن أضيف (ص 66) إليه حرف لا صار للتخضيض في بعض مجاريه، قال تعالى: (لولا أنزل إليه ملك) معناه هلا تأتينا بالملائكة وإن أضيف إليه حرف "ما" كانت بهذا المعنى قال تعالى: (لو ما تأتينا بالملائكة) معناه هلا تأتينا بالملائكة. وإن أضيف إليه حرف "لم" انعكس المعنى، وصار الامتناع لوجوده، لا لامتناعه فإن

حرف "لولا"

أثبتت في الفعلين جميعا، اقتضى ذلك وجودهما، تقول: لو لم تزرني لم أزرك، فالزيارتان وجدتا، وإن انتفى فيهما جميعا، لم يوجد الفعلان، تقول لوزرتني لزرتك، فالزيارتان مفقودتان، وإن ثبت في الأول، خاصة كان الأول هو الموجود دون الثاني، تقول: لو لم تزرني لزرتك، فالقائل قد زاره صاحبه، وهو لم يزره، وإن وجدت في الثاني دون الأول، كان الثاني هو الموجود، تقول: لو زرتني لم أزرك، فالقائل قد زار، وهو لم يزر. وقد ترد لو بمعنى "إن"، قال تعالى: (ولو أعجبكم)، معناه وإن أعجبكم. وقد ترد للتعليل، قال عليه السلام: "اتقوا النار، ولو بشق تمرة"، وقال في حديث آخر في الصداق: "ولو خاتم من حديد". [حرف "لولا"] وأما حرف "لولا" فإنه يمتنع في الشيء لوجود غيره، تقول: لولا مجيئك إلي لجئتك. وترد للتخضيض، وقد قدمناه. [حرف "مِن"] وأما "مِنْ" فإنها ترد للتبعيض، تقول: أخذت من الكيس درهما. ولابتداء الغاية، تقول: سرت من البصرة إلى الكوفة. ولبيان الجنس، تقول: ثوب من خز، وخاتم من فضة، قال تعالى: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان). وترد مزيدة لتشعر بالتعميم، والاستغراق، ذكر سيبوية أنك إذا قلت: ما جاءني رجل، فقد تقرر أنك إنما أردت نفي مجيء رجل واحد، لا رجلين، أو رجال. فإذا قلت ما جاءني من أحد نفيت هذا التقدير، وأشعرت بأنه لم يأتك رجل، ولا رجلان، ولا رجال، لكن سيبويه قصر الزيادة على النفي، ولم يجزها في الإيجاب.

حرف "عن"

فإن احتج عليه بقوله تعالى: (فكلوا مما أمسكن عليكم)، قال من الصيد ما يحرم على الصائد، وهو دمه، فقد حصل فيه معنى التبعيض، وإن سئل عن قوله: (ويكفر عنكم من سيئاتكم) فعندي أنه قد يجيب عنه بأن من السيئات ما لا يكفر أصلا، وهو الكفر الموافي عليه. ومن الناس من يجيز زيادتها في الواجب والإثبات، فيحمل قوله تعالى: (مما أمسكن عليكم)، وقوله: (من سيئاتكم) على أنها مزيدة. وأما قوله تعالى: (وينزل من السماء من جبال فيها من برد) فواضح حمل من الأولى على ابتداء الغاية، والمراد أن ابتداء إنزال الغيث من السماء. وأما الثانية، وهي قوله: (من جبال) فيحتمل وجهين: - أحدهما: أن تكون لابتداء الغاية أيضا، فيكون ذكر غاية بعد غاية، كما تقول: خرجت من المدينة، من داري إلى البصرة. - ويحتمل أن تكون للتبعيض، على أن يكون قوله: (من برد) بيانا لجنس الجبال، وأنها من برد، فكأنه يقول: من جبال في السماء هي برد، فيكون الإنزال بعض هذه الجبال وأما من الثالثة، وهي قوله: (من برد) فتأويلها يستند إلى ما قدمناه، من التردد في قوله (من جبال)، فإن قلنا إن الجبال برد، كانت من الثالثة لبيان الجنس، لأنها أفادت كون الجبال جنسا مخصوصا، وإن قلنا إن قوله (من جبال) ابتداء غاية ثانية، كان قوله: (من برد) للتبعيض، فكأنه يقول: أنزلت من الجبال من البرد. وقد قيل: قد تكون من بمعنى "علي"، قال الله تعالى: (ونصرناه من القوم) معناه: على القوم، وقد قدمنا نحن من الكلام على إبدال حروف الجر، ما يعلم منه حقيقة هذا، وقد قيل: إنها تكون فعلية، كقولك من يا هذا، إذا أمرته، من المين، وهو الكذب. وإنما ذكرنا هذا ليتدرب منه على تصور المعاني التي قدمناها. [حرف "عن"] وأما حرف "عن" فإنه قد تكون اسما، تقول: أخذت من عن الفرس جله، فلو كانت "عن" هاهنا حرفا لما دخل عليه حرف الجر الذي هو "من". وقد تكون بمعنى "من" وتفارقها في بعض المجاري، لأن "من" تفيد التبعيض

حرف "إلى"

والانفصال، و"عن" لا تفيد ذلك، ولهذا اختصت الأحاديث بالعنعنة، فتقول: حدثني فلان عن فلان. [حرف "إلى"] وأما حرف "إلى" فإنه يرد للغاية تقول: سرت من الكوفة إلى البصرة، ولكن يقع الإشكال في الغاية هل هي بحكم ما قبل حرف إلى، أو بخلاف حكم ما قبله؟ فرأى سيبويه أن هذا الحرف إذا صحبه من، اقتضى ذلك كونه الغاية والمبدأ غير داخلين في حكم المنطوق به، فإذا قلت: بعتك من هذه الشجرة إلى هذه الشجرة، لم تدخل الشجرتان في البيع، وكأنه قدر أن غاية الشيء هي نهايته المميزة له مما بعده. وهذه الحقيقة (...) في دخول الغاية فيما قبلها، لأنها لو دخلت فيما قبلها لصارت من جملة الأجزاء، فلم يقع التمييز، وبطل معنى الغاية، لكنه (ص 67) لا يتحقق إلى القصد بها ما وضعت له من الدلالة على الغاية إلا بأن يصاحبها حرف من، لأن حرف من يقتضي ابتداء الغاية كما تقدم، ومن أشعرك بابتداء أمر، أشعر بآخره، فكأنه رأى حرف من قرينة تقتضي أن حرف إلى لم يرد به معنى آخر غير معنى الغاية، فإذا لم يصاحب إلى حرف من، صار محتملا هل يكون المراد به الغاية، فيعطي حكمها الذي تقدم، أو يراد به معنى مع فيكون ما بعد حرف إلى مضافا إلى ما قبله، ومنضما إليه، كما يقتضي ذلك حرف مع، ويفتقر حينئذ السامع إلى بيان المراد من الغاية هل هي داخلة فيما قبلها أو لا؟ وأما غير سيبويه من أئمة اللغة فإنما استدل على المعنى الذي نحا إليه سيبويه بطريقة أخرى، فرأى أن ما بعد الغاية إذا كان مجانسا لما قبلها اقتضى التجانس التداخل، وقضى بكون ما بعد إلى داخلا فيما قبله كقوله: بعتك هذا الثوب من الطرف إلى الطرف، حتى إذا كان ما بعد الغاية مخالفا لما قبلها لم يدخل فيما قبل، لو قلت: بعتك هذه الأرض إلى الشجرة، لم تدخل الشجرة في البيع، لكونها ليست من الأجزاء المشابهة لأجزاء الأرض، فكأنه استدل بالمشابهة والمخالفة عن قصد المتكلم. وبالجملة فإن هذا أمر يفتقر إلى نقل عن العرب، والتعويل فيه على مثل هذا الاستدلال ضعيف، نعم، لا ينكر كون العرف يجري بين بعض المخاطبين في هذا المعنى، ما يستدل عليه بنحو هذه الطريقة. وأما إضافة هذا إلى أهل اللغة، بمثل هذا الاستدلال فجانب للتحقيق.

حرف "مذ" و"منذ"

وقد ترد إلى بمعنى "مع"، قال تعالى: (من أنصاري إلى الله) يعني مع الله، وقال تعالى: (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) بمعنى مع أموالكم، وقد قيل في هذه الآية إن فيها معنى الغاية، وأن المراد لا تتلفوا أموالكم، وتبلغوا في إتلافها إلى الحاجة إلى أكل مال اليتيم، وقد كنا نحن قدمنا عن ابن جني في إبدال هذه الحروف طريقة بيناها، فمن تأملها نظر في استعمالها في مثل هذه المواضع. وقد قيل ترد إلى بمعنى "في" كقوله تعالى: (هل لك إلى أن تزكى) معناه هل لك في أن تزكى؟، لأنه لا يقال: هل لك إلى كذا، وإنما يقال هل لك في كذا، وذكرنا نحن فيما تقدم عن ابن جني تقرير معنى هذا الإبدال، وأنه إنما حسن هاهنا، لأن معنى "هل" لك في هذا الموضع: أدعوك، فكأنه قال: أدعوك إلى أن تزكى. [حرف "مذ" و"منذ"] وأما "مذ" و"منذ" فإنهما لابتداء غاية الزمان، كما أن من لابتداء غاية المكان. وقد ترد من لابتداء غاية الزمان، لأنك تقول: سرت من البصرة إلى الكوفة، ومن الجمعة إلى الجمعة، لكون استعمال "مذ" و"منذ" في الزمان أفصح من استعمال "من" فيه، فقولك: منذ الجمعة أفصح من قولك: من الجمعة. والأظهر في "مذ" أنها اسم، لدخول الحذف فيها، والحذف لا يكون في الحروف، وإنما يكون في الأسماء، والأظهر في "منذ" أنها حرف، إذ لا حذف فيها. [حرف "على"] وأما "على" فتكون حرفا، تقول: لي على زيد مال. وتكون اسما، تقول: أخذت من على فلان ثوبه، وينشد في هذا البيت المشهور: غدت من عليه بعد ما تم ضمتها .................. وتكون فعلا، ومنه: علا يعلو، قال تعالى: (ولعلا بعضهم على بعض). [حرف "حتى"] وأما حرف "حتى" فإنها ترد لأنحاء شتى:

حرف "إي"

ترد بمعنى "إلى" فتنخفض ما بعدها من الأسماء، تقول: أكلت السمكة حتى رأسها، معناه إلى رأسها، فيكون رأسها غير مأكول، على مقتضى حكم الغاية، وأنها هاهنا في مثل هذا المكان تشعر بأن ما بعدها لا يدخل فيما قبلها، قال تعالى: (سلام هي حتى مطلع الفجر). وترد ناصبة، فتكون حينئذ بمعنى كي، إذا [كان] ما بعدها مستندا إلى ما قبلها تقول: قمت حتى تقوم، وصليت حتى يغفر الله لي، وتكون هاهنا بمعنى "إلى أن"، تقول: تسير حتى تطلع الشمس، تقديره إلى أن تطلع الشمس. ولا يحسن التقدير هاهنا بحرف "كي"، لأن الشمس تطلع سواء سرت أو لم تسر، فلا يصح أن تجعل سيرك علة في طلوع الشمس. وتكون رافعة إذا دخلت على فعل بمعنى الماضي أو الحال، وهي هاهنا حرف ابتداء، وقد قرئ في السبعة: (حتى يقول الرسول)، و (حتى يقول الرسول) بالرفع والنصب. وأنشدوا أيضا: فيا عجبا حتى كليب تسبني ... كان أباها نهشل أو مجاشع فارتفع ما بعدها هاهنا، وإن كان اسما بحكم الابتداء، والبيت المشهور قد أنشد على الثلاث روايات: ألقى الصحيفة كي يخفف رحله ... والزاد حتى نعله ألقاها فأنشدوه بخفض الفعل على أن معنى حتى بمعنى "إلى"، [وبالنصب] فيكون بمعنى العطف، وهو أحد المواضع (ص 68) الذي ترد له أنها تعطف ما بعدها على ما قبلها، وأنشدوه بالرفع على حكم المبتدأ الذي ذكرناه. [حرف "إي"] وأما حرف "إي" فمعناه: أجل، قال تعالى: (إي وربي). [حرف "بل"] وأما حرف "بل" فإنها للإضراب عن الأول، والإيجاب للثاني، تقول: جاءني زيد بل عمرو، فكأنك أضربت عن مجيء، زيد، وأثبت المجيء لعمرو.

حرف "نعم" و"بلى"

وقد ترد لافتتاح الجمل، قال تعالى: (ص والقرآن ذي الذكر* بل الذين كفروا في عزة وشقاق). [حرف "نعم" و"بلى"] وأما حرف "نعم" و"بلى" فإنهما للمجاوبة، وتكسر العين من نعم، وتفتح، وقد قرئ في السبع: (قالوا نعم) بفتح العين وكسرها. لكن "نعم" تكون جوابا في النفي والإثبات، وتصديقا للخبر على ما هو عليه، وأما "بلى" فإنما يجاوب بها في النفي، ويكون معناه حينئذ إيجاب النفي. قال تعالى: ألست بربكم قالوا بلى) فقوله: (ألست بربكم) بحرف الاستفهام جوزته صورة النفي للربوبية، فلو قالوا جوابا عن هذا: نعم، قال سيبويه لكفروا، لأنهم يصدقون بقولهم: نعم، نفي الربوبية، ولكنهم قالوا: بلى، وهي موضوعة لإيجاب ما نفي، فاقتضت إيجاب الربوببية، وإثباتها. [لفظة "مَن"] وأما "من" فإنها تكون اسما بمعنى الخير، تقول: أعجبني من عندك. وتكون استفهاما، تقول: من عندك؟ وتكون شرطا، تقول: من جاءني أكرمه. وقد تعلق بالنظر في معناها على الجملة أحكام شرعية، منها قوله عليه السلام: "من قتل قتيلا فله سلبه" الحديث، وفيه التنازع بين مالك والشافعي، هل المراد بهذا الحكم يكون السلب للقاتل ضربة لازم، أو المراد به تنفيله للقاتل، وليس بخير عن حكم الله سبحانه في ذلك؟ [حرف "إذا"] وأما حرف إذا فإنها للجواب والجزاء، تقول لمن قال لك: أنا أزورك: إذا أكرمك. وهي إنما تعمل بشرائط منها ألا يعتمد ما بعدها على ما قبلها كقولك: إني إذا أقوم، فهي هاهنا ملغاة لما توسطت بين حرف إن وخبرها. وقد ذكر بقية أحكامها في كتب النحو، لكن ذكر ابن خويز منداد عن بعض أصحابنا

أنهم قالوا: في قوله عليه السلام: "إني إذا صائم" أنها هاهنا متوسطة ملغاة ويقتضي الخطاب أنه أسبق عقدة الصوم، وحاولوا بهذا الرد على من يقول يصح استئناف نية الصوم بعد الفجر، لأجل هذا الحديث، ودافعوه بهذا التأويل عن الاستدلال بهذا اللفظ، ورأوا أنه محمول على عقد صيام تقدم. ولا أرى لما قالوا وجها، أما كونها هاهنا ملغاة فلا شك فيه، على ما قدمناه، لأنها حالت بين حرف إن واسمها، وبين الخبر، وهو قوله: صائم، وليس في إحالتها بين إن وخبرها، ولا في القول بإلغائها ما يقتضي بيان المراد بهذا القول، هل معناه أنه عقد الصوم الآن، أو سبق عقده فيه؟ وإنما هذا اسم فاعل، وهو قوله: صائم وقد يصح أن يكون مأخوذا من فعل الحال، فلا وجه لهذا الاستدلال الذي ذكروه. وقد تقدم قولنا في أقسام الخطاب، من تنويعه، إلى الخبر والاستخبار وإلى غير ذلك، ونقلنا ما في ذلك من الخلاف، فأغني عن إعادته هاهنا، وبالله التوفيق.

كتاب الأوامر

كتاب الأوامر القول في الأوامر يستدعي الكشف عن مائية الكلام بعبارتين مختلفتين: - إحداهما تجري فيها مجرى الكشف بالتفصيل والتبيين، والعبارات الكاشفة للحقيقة، وإن لم يكن على شرط الحدود. - والثانية الكشف على شريطة الحدود. فأما الأول فإن الناس اختلفوا في مائية الكلام. فقال النظام: هو جسم لطيف مسموع، يلج الهواء إذا انبعث من فم المتكلم، ولو جاء على جهة المداخلة من غير أن يستند بحيز، بناء منه على مذهبه الفاسد، في تجويز تداخل الجواهر، فإذا ولج في الهواء، ولج في المسامع، وهجم على الأرواح فأدرك. واختلف قوله في حقيقة المدرك منه، فقال مرة: ذلك المنبعث بعينه يلج المسامع لا أكثر، وقال مرة أخرى لما علم أن مقتضى هذا الرأي ألا يسمع الكلام إلا الواحد الذي ولج الكلام في سمعه، أن الهواء يتشكل فيه أمثال ذلك الجسم الخارج من الفم، يتشكل من ذلك أعداد لا يعلم مبلغها إلا الله تعالى، فيلج في كل سمع، غير الذي ولج في سمع الآخر، وقال العلاف، وابن الجبائي وغيرهما: الكلام أصوات يقارنها حروف مسموعة، وهذه الحروف يقارن المكتوب منه والمحفوظ، إلا أنها غير مسموعة في الكتبة والحفظ. وقال الجمهور من المعتزلة: الكلام هو الأصوات المقطعة ضربا من التقطيع، فالصوت الحاد (...) الطست، وما في معناه ليس بكلام وكلام الإنسان (...) طبع، ليس بكلام، لكنه جعلت له قدرة على تحريك (ص 69) فمه بحسب ما شاء على أوضاع مختلفة، وتصاك بعض أجزاء الفم البعض الآخر، على نسبة مختلفة أيضا، فيكون

تسكين بعض تلك المخارج، وقطع التصويت منها حرفا إذا وقع على صفة مخصوصة معلومة، فهذا مائية الكلام عندهم. ونحن لا ننكر ما قال هؤلاء من كون الصوت الممتد لا يكون كلاما، ومن كون التقطيع على نسبة معلومة يكون كلاما، لكنهم أنكروا كلاما سواه، وقلنا نحن بل هاهنا كلام سواه، هو الأصل، وهو الحديث النفسي، وما يجده الإنسان في نفسه من الخواطر والأحاديث الدائرة في قلبه، وهي عندنا تسمى كلاما على الحقيقة. واختلف قول الأشعري في تسمية نطق اللسان كلاما، هل هو حقيقة أو مجاز. وابن الجبائي لم ينكر إثبات كلام النفس، ولكنه أثبته صوتا وحرفا، كلاما خفيا على خلاف عنه، هل يسمعه الإنسان من نسه أم لا، ورأى مصداق كون الإنسان إذا حبس نفسه، لم تخطر له الخواطر، لسكون حركة الحشا، لقطع الهواء الداخل عليه، الخارج عنه، اللذين يقرعانه، حتى إذا أرسل نفسه ولج الهواء، وخرج، وصار في الشراسيف من القرع والتحريك والاختلاج ما يكون منه التصويت الخفي. وهو في هذا المذهب الذي فارق به أصحابه ليس منا أيضا، ولا نحن منه، لأنا نثبت كلام النفس، ليس بصوت ولا حرف، وننكر قوله إن قاطع النفس بعدم الخواطر، وإن عدمها فلاشتغاله بما أحدث على نفسه، وجناه عليها، كما يشتغل المتألم بألمه عن الفكرة فيما سواه. على أن مثل هذا لا يحتج به، وإن سلم، وهذه عوائد لا تتلقى منها هذه الحقائق، ولا يظهر إثبات حقيقة عقلية، ومعنى ذاتي للكلام إلا على أصلنا في إثبات حديث النفس، ولا على أصل من صرفه إلى ضرب من التقطيع اصطلح عليه، لأن الاصطلاح يتبدل، وما أثبتناه في النفس لا يتبدل، ولم يقدر أحد على إنكار ما في النفس من الكلام على الجملة، ولكن كل طائفة صرفته إلى مرادها، المطابق لاعتقادها. فالفلاسفة يحيلون ذلك على ترهاتهم التي كنا قدمنا القول فيها من فيض العالم العلوي على السفلي، إلى غير ذلك مما بسطنا القول فيه، والمعتزلة تحيل ذلك على أنه تقدير النطق بالكلام الصوتي كيف يقع، وتصور للنفس، وتحيلها لما تحب أن توقع منه أو إلى الإرادة أو العلم، إلى غير ذلك من دعاويهم التي [إذا] سوعدوا عليها اختلطت الحقائق والأجناس. ونحن نعلم قطعا أن الإنسان يجد في نفسه طلب عبده أن يسقيه ماء، ويحس هذا الطلب من نسه، كما يحس علومه، وقدرته، وإرادته، ويجد هذا في نفسه على جنس، وحقيقة، مخالفة للأجناس التي صرفته إليها المعتزلة، وصرفهم إياه إلى العلم بكيفية نظم الحروف وترتيبها باطل، لأن الإنسان إذا قال لغلامه: افعل، وجد في نفسه معنى القول:

افعل، وأحس نسه قائلة له قبل نطقه به، والقول: افعل، عبارة عن هذا الذي أحسه من نفسه، والعبارة عن كيفية نظم الحروف لا يكون بالقول: افعل، وإنما صفة العبارة عن ذلك أن يقول في نفسه: الألف قبل الفاء، والفاء قبل العين، والعين قبل اللام، وهذا المعنى نعلمه حقيقة، ويقارن علمه حديث في نفسه عنه، مطابق لهذا العلم، فقد بان أن الحقيقتين مختلفتان، وأن الذي قالوه تلبيس وتدليس. وكذلك صرفهم هذا إلى إرادة امتثال الأمر، بناء منهم على أصلهم من [أن] الآمر لا يأمر إلا بما يريد خطأ أيضا، لأنا نجوز أن يأمر الإنسان منا بما لا يريد، ومن تخوف عاقبة طاعة قوم له، وانتفع بمعصيتهم إذا أمرهم، فلا شك أنه لا يريد أن يطيعه فيما أمرهم به، ولو شكا عبد سيده للسلطان أنه أسرف في عقابه، فأراد السلطان عقاب السيد، وعلم السيد أن السلطان يعذره إذا اطلع على عصيان عبده له، لاقتضى الحال أنه إذا أمره بين يدي السلطان، أن مراد السيد أن يعصيه، لا أن يطيعه، فلا معنى لقولهم: ليس هذا بأمر، وإنما هو اختيار، لأنه قد يفهم عن السيد من قرينة الحال أنه أمر عبده أمرا جازما منه أن يعصيه. وأيضا فإن غرضهم بهذا إثبات كون الباري سبحانه مريدا من الكافر الإيمان لأمره به، وقد علموا عقلا أن الباري علام الغيوب، وأنه يعلم أن الكافر الذي نفذ فيه قدره أن لا يؤمن، ويموت على الكفر أنه لا يطيعه، ولم يستحل منه أمره لأجل علمه أنه لا يمتثل ما أمر به، ولم يكن هذا كالمتناقض أن يأمر الإنسان بما لا يريده منه (لحت ...) عليه، وعلما على عقابه، فقد تقدم قولنا: إن النسخ (...) ثابت مستقر، وليس ببيان لمدة انقضاء العبادة (...). وأبطلنا قولهم إنه بيان [لمدة] (ص 70) انقطاع العبادة، ثبت لنا منه، أن المنسوخ أمر به، على التأبيد، ولم يرد إيقاعه على التأبيد ولو لم يكن في هذا إلا أمر الله سبحانه إبراهيم نبي الله عليه السلام بذبح ولده إسحاق أو إسماعيل على اختلاف العلماء في الذبيح من هو منهما، وقد علم أنه لم يذبح، فقد أمر بالذبح ولم يرد وقوع الذبح لأنه سبحانه نسخ هذا الأمر عن إبراهيم قبل أن يذبح، وفدي ولده بذبح عظيم، وإبراهيم مطيع أولا وآخرا. فقد ثبت أنه أمر بما لم يرد، وهذا لا حيلة لهم فيه، إلا اعتذارات يهزأ بها، كقول

بعضهم هذا منام، وليس بأمر جازم، وهذا رد لقوله تعالى: (افعل ما تؤمر) ولقوله: (إن هذا لهو البلاء المبين) وتجهيل الرسل. وكذلك قولهم: انقلب العنق نحاسا، لأن هذا أمر بالشيء مع المنع منه، وهذا أقبح مما جروا فيه على مقتضى أصولهم. وكذلك قولهم: كان إذا قطع جزءا التحم، لأن هذا لا يسمى ذبحا، ومن قطع جزءا من الحلق فالتحم قبل أن يقطع الآخر فقطع، يجري الأمر كذلك إلى آخر الحلق لم يسم ذابحا، ولو سلمنا كونه ذابحا، فما معنى الفداء بذبح عظيم؟ ولا يعبر هؤلاء يقوله: (قد صدقت الرؤيا)، لأنه لم يقل قد فعلت الذبح، وإنما ذكر أنه صدق، لكونه مأمور بذلك. وكذلك قولهم: إنما أمر بربط ابنه، ونله للجبين، لا بذبحه، يرده قوله تعالى: (إن هذا لهو البلاء المبين)، وليس فيما قالوه بلاء مبين، وأيضا فإنه لا معنى للفداء هاهنا. وأما التحاكم في هذه المسألة للسان، فالقرآن أصدق نقلا، وقد قال فيه تعالى: (يقولون * في أنفسهم)، وقال: (وأسروا قولكم أو اجهروا به)، وقال في المنافقين عقيب قولهم: (نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون)، وهم لم يكذبوا في أنه رسول الله، لكن كذبوا في قولهم في أنفسهم إنه ليس برسول، بهذا استدل أئمتنا، وفي الاستدلال بهذه الآية نظر، لأنهم إنما أرادوا بالقول الذي أفصحوا به أنهم يعلمون أنه رسول الله، فقد كذبوا في هذا القول النطقي المسموع منهم إذ كانوا غير عالمين. وهذه مسألة مستقصاة في كتب الكلام. وأما الكشف عن حقيقة الكلام على جهة صناعة الحدود، فإنا كنا قدمنا القول في هذا الكلام فيما سبق. وهذا كتاب أمليناه على كتاب البرهان، ولم نطالع هذا الكتاب، فنعلم رتب

فصل في حقيقة الأمر

فصوله، فنؤخر ما يجب أن يؤخر من وقف فيه على مثل هذا، هذا العذر، وفي تقديم وتأخير إن اتفق، كما أن العذر في عبارة تقع فيه، ربما كان غيرها أولى منها، وأفصح، إنما نملي هذا الذي نحن فيه على جماعة مختلفي الأفهام، فربما اشتغل الخاطر بالإملاء على كل واحد منهم عن تحرير ما هو أولى في العبارة، ولكن لا نخلي هذا المعاد من زيادة فائدة. فقد كنا قدمنا أن الكلام قد قيل في حده: إنه المسموع المفيد، من غير مواضعة، وذكرنا ما في هذا الحد [ما] له وعليه، وذكرنا أنه قيل في حده: ما نفى عن ذات من وجد به الخرس، والسكوت، والطفولية، وذكرنا أنه قيل فيه: ما أوجب كون محله متكلما، وقد قيل أيضا: إنه نطق النفس المدلول عليه بالعبارات، وما في معناها. وقيل أيضا: إنه القول الذي لا يختص بمواضعة، ولا توقيف، وهذا يخلص الكلام النفسي من الكلام اللسني، لأن اللسني إنما يفيد بالاصطلاح والمواضعة على الخلاف الذي قدمناه فيه. وقد قيل إن الكلام هو ما لا ينفك من كونه خبرا، أو اسختبار أو أمرا، أو نهيا، وهذا ليس على صناعة الحدود، ويرتبط به من القول ما قدمناه من المذاهب في تقسيم الكلام، وقد صار القاضي في بعض مصنفاته إلى أنه مما لا يحد، ولا يكشف عن مائيته، بعباراته، ويوضع معناه، وإن لم يكن على شريطة الحدود. فصل في حقيقة الأمر اعلم أنا قدمنا في أول الكتاب تعليم استخراج الحدود في كل محدود، وهذا منه، وذلك أن الأمر نوع من أنواع القول، والقول كالجنس لهذا النوع، وقد يكون الجنس نوعا بالمقايسة إلى ما قبله، وإلى ما هو أعم منه، فالقول صفة، ولكن ليست كل صفة قولا. ألا ترى أن الألوان والأكوان صفات، وليست بأقوال، فالقولية يميز الأمر بما هو كالجنس، وليست كل قولية أمرا، لأن الأخبار أقوال وليست من الأمر، فلابد من ذكر ما هو كالنوع أو كالفاصلة بهذا الجنس، حتى يتميز الأمر من غيره من الأقوال. وعند النظر في هذا الميز اختلفت عبارات الأئمة اختلافا كثيرا. فقال بعضهم: هو القول: افعل.

وقال بعضهم لا (...) في هذا، فيقال: هو قول القائل: افعل لمن هو دونه (...) المسألة. وبعضهم (ص 71) يرى أن قوله، وتعرضه لذكر الطاعة كالتنبيه، بعينه عن هذه الزيادة، لأن السائل ربه، والمهدد لغيره بقوله: افعل، يقتضي بقوله طاعة. وقال بعضهم: الأمر ما كان المأمور بامتثال موجبه مطيعا. وقال بعضهم: ما اشتق للأمر منه اسم آمر. وقال بعضهم [ما] اقتضى الفعل، وربما عبر بعض هؤلاء فجعل مكان الفعل الطاعة، وقد تختلف عبارتهم، ومعناها ما ذكرناه. وقال بعضهم: هو القول الدال على وجوب المأمور به، ويرى هؤلاء أن هذا يتخلصون [به] من السائل ربه، ومن المهدد بالقول: افعل. إذ ليس في شيء من هذا إيجاب، وهؤلاء مقتضى حدهم إنكار كون الندب أمرا، وبعض من سلك هذه الطريقة يشير إلى هذا المعنى الذي يجوز به هؤلاء. وقد قدمنا قولهم في افتتاح نقل المذاهب، فنقول: هو المقتضى به الفعل، أو القول على جهة الترغيب أو الترهيب. وهؤلاء إنما أرادوا مع ذكر الترغيب والترهيب إحدى العبارتين: الاقتضاء، أو القول: افعل، أو ما في معنى ذلك، نقلناه بمعناه. وقال أبو المعالي هاهنا: هو القول المقتضي بنفسه طاعة المأمور بفعل المأمور به. وكأنه في هذه الطريقة جانب طريق هذه الحدود، لأن هذه الحدود لم يتعرض فيها إلى تخصيص الحد بالأمر النفسي، دون اللسني، وهو قد تعرض لتخصيص الحد بالنفسي خاصة، ولهذا قال: "المقتضى بنفسه"، إذ الأمر اللسني إنما يقتضي مقتاه باصطلاح المخاطبين، أو بالتوقيف، وذلك ليس بأمر عقلي، وحكم النفسي لا يتبدل ولا ينقلب، لأنه يصح تبديل اللغات، وانعكاسها، وما في النفوس من الاقتضاء لا يتبدل ولا ينقلب، لأنه يصح تبديل اللغات، وانعكاسها، وما في النفوس من الاقتضاء لا يصح أن تتبدل حقيقته، وتنقلب ذاته، كما لا يصح ذلك في العلوم، وغيرها من الحقائق. ولأجل هذا أنكر أبو المعالي على المعتزلة اشتغالهم بحد الأمر، ورأى أنه لا يحسن التعرض إلى هذا على أصلهم، لأنهم أنكروا الأمر النفسي، وإنما أثبتوا الأمر اللسني، وذلك

ليس بمعنى ذاتي له ولا حقيقة عقلية، وإنما نحد الحقائق وتكشف عن المعنى الذاتي المخصص للشيء مما سواه. وهذا الذي أنكره عليهم صواب، قوله فيه على إحدى الطريقتين عندنا، من الحدود، راجعة لأنفس المحدودات، وليست بتفاسير، وأما إذا قلنا إنها تفاسير فيصح أن يعبروا عن متبدل بمتبدل آخر أوضح منه، بخلاف أن تكون الحدود راجعة إلى حقائق المحدود الذاتية، فإنا أخبرنا أن هذا المعنى مفقود في الأمر اللسني، وتعرضه أيضا إلى قصر الحد على النفسي دون اللسني يظهر صوابه على أحد القولين عندنا من أن الأمر اللسني إنما يسمى أمرا مجازا، والحدود إنما تنصرف إلى الحقائق. ألا ترى أن الأمر ينطلق على الأمر القولي وعلى الأمر الشأني، ومنه قوله تعالى: (وما أمر فرعون برشيد) يعني شأنه، لأن تسمية الشأن أمرا مجاز. فلهذا لم يلزم الحاد للأمر التعرض في حده إليه، مع أن قصد أهل هذه الصناعة السؤال عن الأمر القولي، لا الشأني. فكأن السائل عن حد الأمر، وإن أطلق سؤاله مقيد كلامه بقوله: ما حد الأمر القولي؟ فيكون الجواب هو غير تعرض إلى الأمر المجازي صحيحا مطابقا للسؤال. وذكر أبو المعالي في حده تتميما بمعنى البيان، ولو أسقطه لم يفسد الحد، وهو قوله: بفعل المأمور به، لأن قوله: هو القول المقتضي بنفسه طاعة المأمور، يغنيك عن هذه الزيادة التي هي القول: بفعل المأمور به، ولو قدر أنها تحرز من النهي لكان قد أغنى عن هذا التحرز، قوله: من المأمور به، لأن المأمور غير المنهي. ونحن إذا قلنا بأحد القولين من أن الأمر اللسني يسمى أمرا حقيقة لم يحسن الاقتصار في الحد على أحدهما، بل من شرط الحد استيعابهما جميعا. كما أن المعتزلي إنما يتعرض لأحدهما، وهو اللسني خاصة، لأنه ينكر الأمر النفسي. ولما كانت صناعة استخراج الحدود تضمنت اقتضاب الحد من لفظ كالجنس، والفاصلة، وتصور في العقل أن بالاقتضاء يميز الأمر مما سواه من أنواع الكلام كان التحويم على عبارة عن هذه الفاصلة، فذكرنا قول من حد الأمر مما سواه من أنواع الكلام كان التحويم على عبارة عن هذه الفاصلة، فذكرنا قول من حد الأمر بأنه القول: افعل، واشرنا إلى تخطئته، لكون هذه الصيغة ترد، وليست بأمر كورودها من النائم، ومن الحاكي لأمر غيره، ومن المهدد، كقوله تعالى: (اعملوا ما شئتم) ومن المعجم، كقوله: (كونوا حجارة أو

حديدا)، ومن المبيح كقوله: (وإذا حللتم فاصطادوا)، إلى غير ذلك من الأنواع التي تعد من مصارف هذه اللفظة. وخطئ أيضًا أصحاب هذا الرأي بوقوع هذه اللفظة من الداعي لربه، والآمر من هو أعلى منه، وقد قال بعض أئمتنا: من أمر من هو أعلى منه لا يبعد أن (...) قيل إن احترز من احترز بقوله: لمن هو دونه، فقد أصلح بهذه (ص 72) جانبا، وأفسد آخر، بهذا الإصلاح، وذلك أنه يخرج بهذا الإصلاح أمر الأدنى للأعلى، ولكن يدخل عليه أمر النظير للنظير، لأنه قصر الحد على وقوعه من الأعلى للأدنى. وسلك أبو المعالي في تخطئة من حده بالقول: افعل، طريقة أخرى، وذلك أنه رأى أكثر الأوامر خارجة عن هذه الأحرف التي هي حروف افعل، كقولك: اسقني، أطعمني، وقولك: اسقني أطعمني ليس حروفه، حروف القول: افعل، وإن اعتذروا عن هذا بأنهم لم يريدوا الاقتصار على القول: افعل، وحصر الأوامر كلها في هذه الأحرف، وإنما أشاروا بها إلى هذه البنية والصيغة على حسب ما عرف من اصطلاح النحاة، قيل لهم: التصريح في حدكم إنما اقتضى ما ذكرناه، وهذا معنى آخر، لم يشتمل عليه لفظ حدكم، والتأويل لا يحسن استعماله في الحدود، وعلى هذا الأسلوب يجري الأمر في السؤال عن الأمر، لم كان أمرا؟ فنحن نقول في الأمر النفسي إنما كان أمرا لنفسه، والصارفون له إلى القول اللسني تعيينا أو ترددا بينه وبين غيره، يقولون في اللسني إنما كان أمرا لصيغته، وعليه جمهور الفقهاء. ولما نوقضوا بما يصدر من النائم، والمهدد، وكون الصيغة فيه موجودة، وليس بأمر، قال بعضهم إنما كان أمرا بصيغته، وتجرده من القرائن، وعد النوم وإشعار التهديد قرينة صارفة له، وأجيب هذا بأن التجرد إشارة لعدم، والعدم لا يكون، ولا يعد علة، وأيضا فإن هذا كالتعليل بأمرين: الصيغة، والتجرد، ولا تعلل العقليات بأمرين. ولما أحست المعتزلة بهذا، وكانت تنكر قول النفس، اضطرت إلى طلب حيلة أخرى، فقالوا إنما كان لإرادة إيقاع المأمور به، وعندهم أن الأمر يفتقر لثلاث إرادات: إرادة لإيجاده تحرزا مما يقع من النائم، فإنه وإن وقعت منه صيغة أمر، فليس بأمر، لعدم إرادته لإيقاعها. وإرادة ثانية لكون الصيغة أمرا، لأن اليقظان الغافل يحكي صيغة الأمر عن غيره، ولا يكون أمرا. وإرادة ثلاثة إلى إيقاع المأمور به.

وقد كنا قدمنا مذهبهم في اشتراط إيقاع المأمور به، ونقضنا عليهم في الفصل الذي قبل هذا. وأنت إذا علمت ما نبهناك عليه، من النظر في الحد؛ هل يرجع لذات المحدود أو التفسير؟ انتبهت هاهنا إلى ما قاله هؤلاء في إبطال التعليل على الفقهاء بالصيغة والتجرد، لأن هذا الإبطال الذي ذكروه إنما يتحقق في تعليل العقليات، وأما تعليل الاصطلاحات فلا يستحيل فيه استعمال مثل هذا، فانتبه لما نبهناك عليه. ولما ذكرنا مذاهب المعتزلة في افتقار الأمر إلى ثلاث إرادات اقتضى ذلك تبين أصولهم في أحكام الصفات التي يبني عليها هذا، فاعلم أنهم قالوا بافتقار الأمر إلى ثلاث إرادات لأجل ما اعتللنا به عنهم، سوى الكعبي فإنه ذهب إلى أنه إنما يفتقر إلى إرادتين، فأسقط من الثلاثة المتقدمة إرادة كونه أمرا، وذلك أنهم يقولون إن الصفات التي ليست بمعان قائمة بالذوات تنقسم إلى ما يعم حال الوجود، وحال العدم، وإلى ما يخص حال الوجود خاصة. فالتي تعم حال الوجود والعدم هي الصفة التي هي أخص الأوصاف كالسوادية مثلا في السواد، فإن هذه الصفة تثبت بالسواد حال العدم والجود، وإذا ثبتت اقتضى ثبوتها صفات الأجناس العمة كاللونية والعرضية، فوجب لهذا أن يثبت في العدم للذوات، ما ذكرناه من الصفات الخاصة والعامة. فإذا حصل الحدوث للذوات العدمية تبعته صفات تنقسم إلى قسمين: واجبة وجائزة. والواجبة لا تفتقر إلى مقتض، مثل تحيز الجواهر، وقبولها للعرض، وافتقار العرض إلى محل، ومضادته لما يضاده، وإيجاب العلل أحكامها، وبينهم اختلاف في الحسن والقبح هل هو من هذا القبيل، أو من القبيل الذي قبله، وهو الثالث حال الوجود والعدم، والجائز يفتقر إلى مقتض فالإحكام يفتقر إلى العلم عند أكثرهم، وإلى الإرادة عند أقلهم، ويشرط هؤلاء كون المريد عالما. ومال ابن الجبائي منهم إلى مذهب ثالث يوافق ما عندنا، فقال: لو قيل إن المؤثر ففي الإحكام هو القدرة لكان مذهبا، وهذا مذهب لم يقل به أحد منهم، وإنما يرون أن القدرة تؤثر في الصفة الجائزة في الإحداث خاصة، ووقوع الصيغة أمرا وتهديدا، وإن وقعت أمرا وإيجابا، أو ندبا، يفتقر إلى الإرادة، وكذلك ما جرى على هذا الأسلوب من إيلام بعض الأشخاص استصلاحا، أو عقوبة، وإيقاع السجدة لله تعالى أو الوثن، إلى غير ذلك من مصارف الألفاظ، والأفعال المترددة بين أمرين أو أمور، وكذلك إرادة اللفظ المؤثر فيه.

وقد صار الكعبي إلى إلحاق هذا الاسم بما ذكرناه في قسم الصفات التابعة للحدوث، فرأى أن الأمر إنما كان (ص 73) أمرًا لنفسه، ولم يفتقر في ذلك إلى إرادة تصيَّره أمرًا، وكذلك إنما اختص الأمر بكونه واجبًا دون أن يكون ندبًا، أو ندبا دون أن يكون واجبا لنفسه، وقد اختص الأمر الإيجابي بصفة نفسية، هي خلاف الصفة النفسية التي اختص بها الأمر الاستحبابي، وهذا سبب الخلاف بينه وبين أصحابه، وذلك أنه لما قدر أن هذا الاختصاص واجب لا يجوز غيره، لأن في تجويز غيره انقلاب الذوات، وصفات الأنفس منع من افتقاره إلى مقتض، بناء على أصلهم أجمعين في أن الواجب لا يعلل، ولما رآه من الصفات الجائزة افتقر إلى مقتض يخصه بأحد الجائزين، وما ذاك عندهم إلا الإرادة. فهذا تلخيص مذاهبهم وبيانها. وأما نحن فإنا نذكر مذاهبنا في هذه الأصول، فصلا، فصلا. أما ما أثبتوه في العدم، فلا حاجة بنا إلى ذكره، لأننا ننكر أشد الإنكار كون الذوات ثابتة في العدم، ومن أنكر أصل الثبوت، فلا شك أنه ينكر صفات الثبوت. وأما الحدوث فإنه عندنا متعلق بقدرة الله سبحانه وهو الإيجاد للفعل، وأما ما يتبع الحدوث مما لا ينفك الحدوث منه كالحيز، وما عددناه معه، مما سلمنا كونه من الصفات الواجبة فإنا إن أنكرنا الأحوال لم نحتج في هذا إلى النظر في مقتض، لأنه ليس هاهنا أكثر من الوجود، وقد قدرنا أن الإيجاد من تأثير القدرة، وإن قلنا بالأحوال فللقاضي قولة، كما قال القوم من أن هذه الصفات لا تتعلق بالفاعل وهذه الحال لا تكون بالفاعل بل تحصل من جهة إيجابها بعد تحقق الحدوث، وله قولة أخرى، وهي الصحيح، من أن هذه الأحوال إنما تثبت بالفاعل، لأنها تجدد، والمتجدد الحاصل بعد أن لم يكن حاصلا يفتقر إلى مجدد يجدده، وفاعل يصيره حاصلا. وهذا فصل يتعلق بغامض أحكام متعلقات القدر، وقد كنا أشرنا إلى شيء ينخرط في هذا السلك حيث تكلمنا على كون أفعالنا مخترعة لنا، أو مكتسبة. وأما الصفات الجائزة التابعة للحدوث فأما الإحكام فلنذكر حقيقته ثم ننظر في مقتضيه، فالإحكام إذا كان في الأجسام فالمشار به إلى اتصالها على نظام، أو افتراقها على وجه ما مخصوص، وذلك يرجع إلى مجرد الأكوان، والترتيب في الكائنات ليس بأثر، فيتطلب له مقتض زائد على مقتضى ذواتها، وقد تقرر أن مقتضى ذوات الأكوان وحصولها موجودة إنما كان بالقدرة، وبين أصحابنا اختلاف في الجوهر الفرد أو العرض الفرد، قيل: [لا] يتصور فيه معنى الإحكام، لأجل عدم تصور النظام. وقد يرجع اختلافهم إلى مناقشة في عبارة، والحاصل من هذا أن الموجودات آحادها،

وجماعاتها كائنة بالقدرة، وأما اختصاص القول بالإرادة الأصلية، أو تعيين إفادة فيه مع تجويز ما سواها، فقد ذكرنا مذهب المعتزلة فيه، البصريين والبغداديين، فحكينا عن الكعبي شيخ البغداديين أنه يرى ذلك من الصفات الواجبة، وأصلهم أن الواجب لا يطلب له تعليل، والبصريون منهم يرونه من الجائزات فللقول عندهم حال اختص بها حتى كان بهذه الحال إيجابا، وهي خلاف الحال التي اختص بها الندب، حتى كان ندبا. والقاضي قد اختلف قوله في هذا أيضا فأنكر مرة هذه الحال، ورأى أنا تقطع على تماثل الصورتين وهي القول: افعل، والمتكلم موجب، والآخر نادب، وسبقه الكعبي في اعتقاده اختلاف هاتين الصورتين ومصيره إلى اختلاف هاتين الصيغتين، وأنكر استبدال القول: افعل، وهو موجب بصفة نفسية دون القول: افعل، وهو نادب، وأشار إلى مكابرة البديهة، وقطع القول بتماثل الصيغتين والقطع بالتماثل يمنع من استبداد أحد المثلين، بصفة دون الآخر. وصار مرة أخرى إلى ما قاله البصريون من إثبات حال لهذه الذوات. وهذه مقالة يسرع لأجلها القول إليه بالقدح فيما قرر أصوله عليه، لأنه إن أثبت اختلاف الذوات لاستبداد كل ذات بحال، ليست بحاصلة لذات أخرى، فقد سلم ما قال الكعبي من الاختلاف وإن تمادى على مخالفة الكعبي، وقال بالتماثل مع اختصاص أحد المثلين بحال لم تحصل للمثل الآخر فقد هدم أصل التماثل، لأن أصله أن التماثل لا يتحقق إلا مع التساوي في سائر الصفات المتعلقة بالنفس. فإذا قلنا بأحد قوليه، وهو إثبات هذه الحال كما قاله البصريون من المعتزلة فإنه قد قال: المقتضي لهذه الحالة الإرادة، كما قاله البصريون، وقد قال مرة أخرى، وهو يذكر هذه الحال: لو كنت قائلا بإثباتها لجعلت مقتضيها القدرة بشرط الإرادة، فصار في هذا النوع قولان: هل هو أثر، وحال، أو ليس بأثر، ولا حال؟ وإن قلنا إنه أثر وحال، فما يكون مقتضيه؟ فيه قولان: الإرادة، وهو المنصوص عليه، والقدرة على حسب (ص 74) ما حكيناه عن القاضي. وأما قولهم في الصفات الواجبة التابعة للحدوث، فقد ذكرنا مذهبنا فيه، ومذهبهم، وحكينا اختلاف قول القاضي في ذلك، هل يتعلق بالفاعل أم لا؟ وهي مسألة ينجر إلى فصول الكلام دقائق، لا يمكن إيرادها هاهنا، منها ما أشرنا إليه من أحكام القدر، وتعلقاتها، وكون الباري سبحانه خالق لقدرنا باتفاق منا، ومن المعتزلة، وقدرنا خلقها الباري سبحانه متضمنة لمقدوراتها، فهل يكون فعلا له، وبه وقعت لإيقاعه ما تضمنه فيه ما قدمناه قبل هذا؟

فصل في صيغة الأمر

ويتعلق بهذا الفصل أيضا تعليل الواجب، وهم يمنعونه، ونحن لا نمنع من تعليل الواجب، فلو سلمنا كون هذه الأوصاف التي عددناها من الواجبات لم يمتنع عندنا افتقارها إلى مقتض، وهم مروا على أصلهم في أن الواجب لا يفتقر إلى مقتض، على أنا نناقضهم، فيما قدروه واجبا تابعا لجائز، فنقول: قلتم الحدوث جائز فافتقر إلى مقتض، ولكنه إذا ثبت وجوب التحيز، فوجوبه يغنيه عن مقتض، فهلا قلتم بعكس هذا إن تحيز الجوهر جائز؟ فإذا أوقعه فاعله تضمن حصول الحدوث، لأن حدوث الجوهر وتحيزه مقترنان يستحيل أن يفارق أحدهما الآخر، وكون الحدوث أعم من التحيز لا يغني هاهنا، لأنا إنما ننظر في الجوهر فوجدنا حدوثه وتحيزه، قد تبين لا يفترقان، فمن أين لكم التحكم بأن تجعلوا أحد القرينين جائزا، والآخر يجب عنه؟ لأجل استحالة المفارقة، دون أن تجعلوا الأمر بالعكس، فتحكموا لما جعلتموه جائزا بأنه واجب، ولما جعلتموه واجبا بأنه جائز، وهذا يوقفهم عن هذا التحكم الذي تحكموا به. هذا وقد ثبت أن هاهنا واجبا، ولا يستغني بوجوبه عن مقتض، ألا ترى أن بذكي النظر إذا حصل، وقع العلم، والعلم الواقع بعده واجب وقوعه، ثم وجوب وقوعه لا يمنع من القول إنه افتقر إلى مقتض. فهذا كله مستقصي في كتب العلل والصفات وغير ذلك. فصل في صيغة الأمر الكلام فيه من وجهين: - أحدهما: هل للأمر صيغة؟ - والثاني: ما مقتضى الصيغة إذا ثبتت؟ فأما الوجه الأول، فاعلم أن قولنا صيغة مأخوذ من الصياغة. فلما نظر الفقهاء إلى الأمر القائم بالنفس، ووجوده حقيقة ثابتة مثل سائر الحقائق، نظرت هل وضعت له العرب كلمة ركبت من حروف على نظام ما؟ فكان تركيبها كصياغة التبر حليا، فلهذا سموها صيغة. وقد اختلف الناس في هذا، فالأكثرون منهم على أن للأمر صيغة وضعت للدلالة على ما في النفس، والأقل منهم على أن العرب لم تضع له صيغة معلومة تدل عليه، ولا آلة اختصاص، ويحتج هؤلاء بأن قصارى ما يدعي في ذلك لفظة واحدة، وهي القول: افعل،

أو ما بني مبناه، وقد علم أن هذه الصيغة، وهذا المبنى يرد أمرا. ويرد تهديدا كقوله تعالى: (اعملوا ما شئتم). وترد تعجيزا كقوله تعالى: (فإن كان لكم كيد فكيدون). وترد تكوينا، كقوله تعالى: (كونوا قردة خاسئين). وترد إباحة كقوله تعالى: (وكلوا واشربوا). فإذا ثبت تصرفها في هذه المصارف وجب ألا يدعى وضعها لإحدى هذه الجهات إلا بدليل، ولم يقم دليل على ذلك. وأما الآخرون فيستدلون على أن العرب ذكرت حقيقة الأمر على الجملة، وقسم أهل اللسان الكلام إلى أقسام منها الأمر، فاقتضى ذلك إثبات نوع من العبارة يختص بهذا القسم، كما ثبت نوع من العبارة يختص بالخبر، ونوع آخر يختص بالاستخبار. والنظر في هذه المذاهب إنما يستند إلى إثبات كلام في النفس، ينظر هل وضعت العرب له صيغة أم لا؟ وأما من نفي كلام النفس فليس عنده هاهنا أمران يكون أحدهما صيغ للدلالة على الآخر فمتى قال هؤلاء: صيغة الأمر كذا، فالأمر هو نفس الصيغة، من غير مزيد. فبالإضافة إضافة الشيء لنفسه كقوله تعالى: (علم اليقين)، وقولهم: نفس الشيء، ونفس الذات. وأما الوجه الثاني، وهو النظر في مقتضى هذه الصيغة إذا ثبتت، وهذا مما اختلف الناس فيه: - فمنهم من ينكر اقتضاءها لمعنى معين من تلك المصارف التي عددناها، وذكرنا انصراف القول: افعل، إليها، وهؤلاء هم المعروفون بالواقفية، شيخهم الأشعري، وتبعه جماعة من أئمة المتكلمين، وذكر هذا المذهب عن الشافعي، وقال قال الشافعي في قوله تعالى: (وأنحكوا الأيمى منكم): لا يستدل به على اشتراط ولي المرأة، لتردد الأمر بين الإيجاب والندب.

ولكن الواقفية مختلفون [في] الوقف: فمنهم من يراه وقف جهالة بما عند العرب، والذي عندهم كون هذا اللفظ مشتركا بين المصارف التي عددناها، فيقول هؤلاء: قد ثبت استعمال هذا اللفظ فيما عددناه من المصارف، وقلدنا في ذلك (ص 75) قرآنا، فحصل من هذا الاشتراك التردد بين معاني شتى فنقف، حتى نستبين المراد باللفظ، كما يفعل في اللفظ المحتمل، كقولنا: قرء، ولون، ولا يلزمنا هاهنا الاستدلال على صحة القول بالوقف، لأنا إنما أردنا به أن العرب استعملت هذا اللفظ في معان شتى، واستعمالها في معان شتى قد ثبت في القرآن، وزيادة على هذا لم نثبتها فنطالب بالدليل عليها، كما يطالب من أثبت زيادة على هذا فقال: إن العرب إنما وضعت اللفظة في الأصل لأحد هذه المعاني، وإنما يفهم عنها بقية المعاني التي عددناها بقرينة، لأن هؤلاء مدعون على العرب أمرا، فهم مطالبون بإثباته. وأما الآخرون الذين يصرفون الوقف إلى الجهالة بما عند العرب فإنهم يثبتون ما أثبت هؤلاء من تردد الفظ بين هذه المعاني. ويجوز أن يكون العرب وضعته في الأصل لأحد هذه المعاني، وإنما يصرفه عن هذا المعنى بدلالة، ولكنهم يجهلون هذا المعنى الذي يمكن أن تكون العرب وضعته له. وقد رد أبو المعالي هذا المذهب بالاستبعاد المحض، فقال إن هذه اللفظة تكرر على الألسنة على مر الأعصار، وبعيد مع تكررها ألا يبحث عنها، وإذا بحث عنها فبعيد ألا يعرف ما عند العرب فيها. وهذا الذي قاله لا يوثق [به] في رد هذا المذهب، لأنا لا نحيل إضراب العرب عن وضع عبارة بمعنى معقول، وإن تكرر، ولو أحلناه لم يشترط وضع عبارة بعينها نقترحها عليها، وقد وضعت للدلالة على الأمر، وعلى الوجوب ألفاظا تعرب عما في النفس من ذلك فتقول: أمرتك، وما في معناه، وأوجبت عليك، وألزمتك، وما في معناه، ولو قلنا بالاقتراح عليها أن نضع لفظة افعل، فما المانع أن يكون وضعتها، وعلم وضعها قوم، وجهله آخرون. ولكن إذا قال من زعم هذا إنه يعلم مذهبها، طلب بالدليل عليه حتى يبينه، ولا، لعمري هذا يلزم منه الانتقال عن التردد إلى التعيين، ولكن تبقى المطالبة في التعيين. وأما من نقل عن الأشعري الوقف، إن ظهرت القرائن فقد أغلى، وإن ثبت نقله،

فلعله توقف في الإفادة إذا حصلت، هل باللفظة أو بالقرينة، وهذا يحسن نقله في قرائن المقال التي يستند فيها إلى اللسان، وأما قرائن الحال فالمنازعة فيها مكابرة في الضروريات. ومن الناس من يثبت لهذه الصيغة اقتضاء معينا، واختلف هؤلاء على ست مقالات: - فمنهم من زعم أن مقتضاها إرادة الامتثال، ولكن إرادة الامتثال تتضمن كون الممتثل مطيعا، فهذا نهاية متضمنها، واستشعار الوجوب يفتقر إلى قرينة، إلى هذا صار عبد الجبار الهمذاني في شرح العمد. - ومن الناس من ذهب إلى حملها على الإباحة، ومنهم من ذهب إلى حملها على الندب، ذكر ذلك عن الشافعي، ومن أصحابنا عن أبي الحسن بن المنتاب، وأبي الفرج، وبه قال كثيرون من المعتزلة. - ومن الناس من ذهب إلى حملها على الوجوب، وعليه جل الفقهاء، يضاف هذا المذهب إلى مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وصرح به من أصحابنا القاضي إسماعيل، وابن بكير، وبكر بن العلاء، وابن القصار، وابن خويز منداد، وأبو جعفر الأبهري. وذهب أبو بكر الأبهري إلى التفصيل في هذا، فحمل أوامره سبحانه على الوجوب، وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم على الندب، إلا أن يكون بيانا لمجمل، أو ما في معناه، وإن كان قد اختلف النقل عنه فروي عنه موافقة من قال بالندب على الإطلاق، وروي عنه موافقة من قال بالوجوب على الإطلاق. وأشار أبو المعالي إلى انفراده بمذهب أداة البحث إلى اختياره، وهو حمل الأمر على الاقتضاء، والطلب. ولكن قصارى ما استفاد من جهة اللسان الاقتضاء الجازم، ولكن الوجوب إنما يعقل إذا ثبت في هذا الأمر الجازم، الوعيد على الترك. والوعيد على تروك أوامر الشرع الجازمة ثبت بالإجماع، فالوجوب مستفاد بهذا التركيب بين اللغة والشرع، فقد وافق القائلين بالوجوب، وإن كان خالفهم في هذا الترتيب، وقد صرح بعض أصحابنا بأن الوعيد مستفاد من اللفظ كما يستفاد منه الاقتضاء الجازم. ولكن أبا حامد الإسفراييني صرح بما صرح به أبو المعالي، وسبقه إلى ما اختاره،

فأشار إلى أن الأمر يقتضي حصر المأمور على الفعل، واقتضاءه منه اقتضاء جزما، ولكن إذا ثبت هذا من جهة اللسان ثبت بعده الوعيد. وأشار أبو المعالي إلى أن طريقة عبد الجبار تجري على أسلوب طريقته وإن [كان] القصد مختلفا، والمرمى متقاربا، وذلك أن عبد الجبار استفاد من اللفظ إرادة الامتثال لا غير، وتضمن الامتثال كون الممتثل مطيعا، وبمقارنة الوعيد يثبت الوجوب. والذي أعتقده في هذه المسألة أن الأمر فيها ليس على ما قاله أئمتنا من التردد المتساوي ولا (ص 76) على ما يشير إليه الجمهور في التصميم على الوجوب، والقطع على أنها موضوعة له، حتى يصير الخروج عن الوجوب كالخروج عن الأصل، ولكنها عندي تنزل في الدلالة على الوجوب منزلة الظواهر التي هي مترددة بين معنيين، ولكنها في أحدها أظهر، وأنا أنزل متى نظرت في الفقهيات مستدلا عليها بما يلوح من معارضة الأوامر عن الوجوب، على حسب ما يخرج النظار عن الظواهر إذا قابلها نزلة عنها. والرأي في هذا خلاف رأي من يقطع على أن الأصل فيها الوجوب، وهي في إخراجها عنه خارجة عن الأصل، لأن هؤلاء يشتدون في التمسك بها، ولا ينزلون عنها نزول من اعتقد كونها كالظواهر، وذلك أني أعلم يقينا، أن المستمر من أحوال أهل العصر، ومن قبلهم على مقتضى نقل الآخر عن الأول، أن الأوامر إذا صدرت، والقائل إذا قال: افعل، لمن دونه، ولا يخطر ببال السامعين الالتفات إلى كونه مهددا، أو غير ذلك من الأقسام التي عددناها إلا عند استشعار أحوال تلوح بما استشعروه، وهذا مما نعلمه قطعا، ثم كذلك نعلم أنهم لا يلتفتون إلا الإباحة إلا عند عوارض، قد يستشعر منها قصد الإباحة وإمكان إرادتها. وأما المضيق في التردد بين الواجب والندب وهما المذهبان المشهوران، وهاهنا أقول: إن استعمالها في الوجوب أكثر وأشهر، ولهذا كانت عندي ظاهرا فيه، ولو لم يؤيد ما قلناه، إلا أن المطلع على ما نقل عن الصحابة صث، وأئمة من بعدهم من أهل الأعصار، يستلوح من المقنول عنهم من مناظرة، أو فتوى، أو بنية على استدلال، ابتدارهم إلى التمسك بظواهر الأوامر المجردة، وقد نقل عن الصحابة رضي الله عنهم الاستدلال بمجرد أوامر، ونواه يكثر تعدادها، مما نقل عنهم البدار إلى امتثال ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، من غير توقف، ولا استفسار، وهذا إن لم يفد القطع بما قاله أصحاب الوجوب، فاقل مراتبة أن يفيد الظن، وكون هذا كالظاهر في إفادة الوجوب.

وهذا القاضي أبو بكر بن الطيب رأس الواقفية استدل على صحة القول بالقياس بهذا النوع من الاستدلال، وقال: من تتبع أقوال الصحابة ألفاها دالة على استعمالهم القياس، وهم بين مستعمل له، ومسلم لاستعماله، وهذا هكذا الذي نحن فيه، ولا معنى لقوله في كل ما نقل، لعلهم صاروا إلى ما صاروا إليه بقرائن، لأن هذا وإن أمكن فهو بعيد، مع كثرة المنقول عنهم، واختلاف الأقوال والأزمان، والأحوال، فالظاهر في هذا خلاف ما قال، وتأول. وهذا الجواب لمن قال إن الأقيسة التي وقعت منهم، لم يعلموا بمجردها، بل لأمور ضامتها، لأن هذا مما أنكره القاضي أبو بكر على متأوله، لا سيما وقد اعتمد أصحاب الوجوب على آي، وأخبار من ذلك قوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لأدم) إلى توبيخه لإبليس، وقوله: (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) فوبخه على مخالفة الأمر، ولم يقل إذ أمرتك واجبا، بل ذكر أنه سبحانه قال لهم: (اسجدوا) وسمى هذا أمرا، وفيه إثبات الصيغة ثم وبخ إبليس على مخالفة الأمر، وفيه إثبات الوجوب، وذكر تعالى عن الملائكة بدارهم امتثال السجود، من غير توقف، وكل هذا يدل عندهم على الوجوب. وكذلك قوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) فحذر، وتوعد من مخالفة الأمر ولم يقل الأمر الواجب، إلى غير ذلك من أي، يكثر تعدادها، استدل بها هؤلاء، وهي متفاوتة في القوة والضعف، وأقواها عندي ما تلوته. وكذلك استدلوا بحديث بريرة، وقد قالت فيها: "أبأمر منك؟ " والظاهر أنها اعتقدت أنه لو أمر لوجب عليها، لأن سؤالك، وشفاعته مندوب إلى قبولها. وكذلك قوله: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك ... "، فمعنى أمرتهم: أوجبت عليهم، لأن الوجوب تتصور المشقة [فيه] إلى غير ذلك مما تعلقوا به، وأظهره ما أوردناه. ولو اطلعت على كثرة ما استدلوا به، من ظواهر القرآن، والسنن، والآثار كما اطلعنا عليه، لبعد في نفسك تأويل جميع ذلك، على كثرته، ولو رأيت التأويل بجميعه

فصل في اختلاف النظار في حمل الأمر المطلق على التكرار

تعسفا، حتى يكاد يحسن معه القطع على الوجوب، فإن نزل عن هذا قليلا، فلا أقل من إيجاد هذه الأوامر ظواهر. ومن قال بالندب، يرى أن تحريم الترك لم يتضمنه الأمر، فاقتضى ذلك الندب. فيقال له: ولا تضمن الإباحة الترك، وكذلك إن تمسك بأن الندب متيقن، الوجوب مشكوك فيه، فيتمسك باليقين، لأن الشك في الترك تشوف إلى الوقف، وعمدة الواقفية أنهم ليس عليهم مطالبة بالدليل، كما صورناه أولا، ويجعلون الدليل في جانب مخالفهم، وينكرون وجود دليل (ص 77) ينقلهم عما هم عليه، من لغة، لعدم التواتر في النقل عن أهلها في هذا، وعدم الاستقرار من قولهم ومن شرع، لأن ما أوردناه، وأضربنا عن إيراده، من القرائن والأخبار متأول عندهم، محمول على أوامر علم وجوبها بقرينة حالية، أو مقالية، وما ذكرناه نحن في هذه الظواهر، ونبهنا عليه في تأويلاتهم فيه جواب عن هذا، يبين الحق في المسألة إن شاء الله عز وجل. فصل في اختلاف النظار في حمل الأمر المطلق على التكرار الأكثر من الفقهاء على حمل الأمر المطلق على فعل مرة واحدة، فإذا قال الآمر لغيره: تصدق، فتصدق مرة واحدة فقد برئ من عهده الأمر. واختلف أصحابنا في هذه المسألة: فالذي ينصره القاضي عبد الوهاب أنه يحمل على مرة واحدة. وقد اختلف من تكلم من أصحابنا على هذه المسألة، ما مقتضى مذهب مالك؟ فذهب بعضهم إلى أن مقتضى مذهبه حمل الأمر على مرة واحدة، واستقرأوا ذلك من لفظ وقع في أول كتاب الوضوء من المدونة، لما سئل ابن القاسم عن التوقيت في الوضوء فأجاب بما أجاب، واستدل على نفي التكرار بمجرد قوله: (وجوهكم)، فلولا أن مذهبه حمل الأمر المطلق على مرة واحدة لم يحسن الاستدلال بهذه الآية، على أن الواجب في الوضوء غسلة واحدة مستوعبة للعضو. وأشار ابن خويز منداد إلى أن مقتضى مذهبه التكرار تعلقا منه بقوله: إن المتيمم يتيمم لكل صلاة، ولكنه مع هذا تردد في الاستقراء عنه، قال: وقد قال في التمليك إنه لا يجب

للمرأة إلا مرة واحدة، واختار لنفسه مما تردد فيه عن مالك حمل الأمر على التكرار، وهو اختيار ابن القصار، وبه قال من المتكلمين المعتزلة، ومن الأشعرية الإسفراييني أبو إسحاق، والمحكي عن الشافعي المذهب الأول، وذكر أيضا عن أبي حنيفة. وذهب القاضي في جماعة الواقفية إلى الوقف، فيما زاد على المرة الواحدة، لأن المرة الواحدة متفق على ثبوتها، ويستحيل تحقق الأمر دونها، لاستحالة أمر لا يتعلق بمأمور به، وإنما هذه الثلاثة أقوال، فيما زاد على المرة الواحدة، فمن قاطع بالنفي، ومن قاطع بالتكرار على الدوام، ومن متردد بين هذين، وعمدة هؤلاء المترددين ما تقرر أن كل محتمل لا يصح الهجوم على أحد محتمليه إلا بدليل، والدليل على احتماله عندهم حسن استفهام الآمر عن مراده. الا ترى أن السيد إذا قال لعبده زر فلانا، حسن أن يسأله هل أراد زيارة واحدة، أو زيارة متكررة؟ فلولا الاحتمال ما حسن السؤال، وأصدق شاهد على هذا سؤال رجل من الصحابة إما الأقرع بن حابس، أو سراقة ابن مالك، على اختلاف في الرواية، للنبي صلى الله عليه وسلم عن الحج، هل هو لعامنا هذا، أو للأبد؟ فلولا احتمال هذا اللفظ لم يسال هذا الصاحب، مع كونه عربيا عارفا باللسان، ألا تراه لم يسال عن المراد بالناس في قوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت). وقد أجيبت الواقفية عن هذا "بأن النبي عليه السلام انتهر هذا السائل"، فلو أصاب في السؤال ما انتهره، فدل على أنه سأل عما لا يحتمل، واعتذر الواقفية عن هذا الانتهار، بما عمل منه عليه السلام من كراهية كثرة المسألة، كما كان يفعل بنو إسرائيل مع أنبيائهم، مع أنه يمكن أن يكون هذا مما أفشي بيانه، حتى صار السائل كالمقصر، بل خفي عنه ما أفشاه، أو أراد منه أن يستعلم هذا من غيره من الذين علموا بيان النبي عليه السلام فيه. واعتمدوا أيضا في الاحتمال على أن فعل الأمر وغيره من الأفعال مشتق من المصادر، كما تقدم قبل هذا، والمصدر لا يدل بمجرده على كثرة، أو قلة، فكذلك ما أخذ منه، لأنك إذا قلت أكلت أكلا، فإن قولك: أكلا مصدر، لا يدل على أكل قليل، أو كثير، مردد، أو موحد، فكذلك ما يؤخذ منه، وهو قولك: كل، لا يدل على شيء من هذا، بل فيه من الاحتمال ما في قولك: أكلا. وأما الذاهبون إلى حمله على التكرار فإنهم يعتمدون على استشهاد بقياس، وعادة في التخاطب، أما القياس فلهم فيه مسلكان ضمني ومطلق، فأما المطلق فإنهم يقولون إن النهي

في معناه أمر، لأنه أمر بالكف والترك، كما أن الأمر أمر بالإقدام والإيقاع، والآمر والناهي مقتضيان، ولكن هذا فعلا، وهذا تركا، وقد علم أن النهي يحمل على التكرار والدوام، فكذلك الأمر. وأما الضمني فقد علم أن الأمر بالشيء نهي عن ضده، ألا ترى أن السيد إذا قال لعبده تحرك فقد تضمن أمره هذا نهي العبد عن السكون، وإذا ثبت كون السكون منهيا عنه، ليس من جهة التصريح بالنهي عنه، لكن من جهة تضمن الأمر، وكان النهي عن الجملة يقتضي استيعاب الأزمان، تضمن ذلك لا محالة استيعاب الأزمان بمجانية السكون المنهي عنه ضمنا، لا بأن يستوعب الأزمنة بفعل (ص 78) الحركة المأمور بها تصريحا. وأما عادة التخاطب، فإنهم يقولون قد حسن الاستثناء في عادة التخاطب في مثل هذا الأمر الذي نتكلم عليه، فإذا قال السيد لعبده: كل، حسن أن يقول له إلا في رمضان، فلولا أن مطلق الأمر يقتضي الاستيعاب لما حسن الاستثناء، لأن الاستثناء إخراج بعض من كل، والواحد لا بعض له، وأجيب هؤلاء عن هذا بأن القياس على النهي لا يصح، لأنه قياس على اللغة، واللغة لا تثبت قياسا. وأما النهي الضمني فإن أبا المعالي لم يسلم لهم اقتضاء الأمر نهيا عن الضد، ولو سلمه لم يسلم فيه الاستيعاب، بل يكون الاستيعاب فيه تابعا لمقتضى الأمر المتضمن للنهي، فإن كان بفعله واحدة، تضمن هذا الأمر تركا واحدا، وإن كان بفعل دائما تضمن النهي تركا دائما، وبهذا انفصل ابن المجاهد عن استدلالهم هذا. ولهم مسلك في القياس، أشار أبو المعالي إلى الاستغناء عن النظر فيه، لوضوح فساده، وذلك أنهم قالوا اعتقاد الوجوب، والعزم على الفعل يجب استدامته فكذلك نفس الفعل يجب استدامته، لأن جميع ذلك من مقتضى الأمر، وهذا ليس بشيء، لأن اعتقاد الوجوب ينتجه التصديق بما قال الرسول، فلم سامحناه طرفة عين باعتقاد سقوط الوجوب مع علمه بأن الرسول يقول إنه واجب لكنا سامحناه بإكذاب الرسل، وأما العزم فلمعنى آخر سنتكلم عليه بعد هذا إن شاء الله. وهكذا تمسكهم بعادة التخاطب هو عندي مما يتضح ضعفه، لأنا إنما نجيز الاستثناء إذا أراد المتكلم استيعابا مخصصا، وأورد ما يحتمل الاستيعاب، أو يجب فيه الاستيعاب، ثم تلافى تجويز الاستيعاب بالاستثناء حتى رفع به ما جوز أن يريده. وأقرب ما في هذا أن يقال لهؤلاء قد علمتم مذهب الواقفية في هذا، فلهم أن يقولوا حسن الاستثناء لما فرضناه من الاحتمال الذي اقتضى وقوفنا إلى حمل الأمر المطلق على

مرة واحدة، فإنهم يعتمدون على القياس على الخبز، والقسم، فيقولون إذا قال القائل: أكل زيد، وتصدق عمرو، فإن مقتضى ذلك أكلة واحدة، وصدقة واحدة، فليكن الأمر كذلك. ويستشهدون على هذا بأن من قال لوكيله اشتر لي ثوبا فإنه إنما يلزمه شراء ثوب واحد، وكذلك من حلف ليدخلن، فإنه يبرأ بدخلة واحدة، بخلاف الحنث فإنه متى قال لا دخلت الدار حنث متى ما دخل، لأن الحنث كالنهي، والنهي مستوعب والبر كالأمر، والأمر غير مستوعب، وهذا كله أجيبوا عنه بأنه قياس على شرع، أو على لغة، وكل ذلك لا تثبت به اللغات. هذا ولا نسلم لهم أن الخبر يقتضي اتحادا واستيعابا، بل هو متردد بينهما على حسب ما قدمناه، لما ذكرنا أخذ هذه الأفعال من المصادر، واستدلوا أيضا بأن الموقع فعلة واحدة يسمى مطيعا، وممتثلا، فلولا أن ذلك مقتضى الأمر، لم يحسن وصفه بذلك، وأجيبوا عن هذا بأنه إنما يوصف بالطاعة والامتثال فيقرر ما فعل، ولو صرح الأمر بالتكرار، فأخذ المكلف في الفعل والإيقاع، لقيل هو مطيع ممتثل، والمراد وصفه بذلك بحسب مقتضى الإمكان، وقد انطوى في هذا الفصل ذكر النهي، وكونه مستوعبا للأزمان، فاقتضى الحال إفراده بالكلام عليه، حتى تتميز الأوامر من النواهي. فاعلم أني رأيت في تصانيف من الأصول لا تحصى كثرة، حكاية الاتفاق على أن النهي المطلق يحمل على استيعاب للأزمنة بالاجتناب، فمن مصرح، يذكر الاتفاق على ذلك، ومن مشير إليه، لكن القاضي أبو محمد عبد الوهاب، ذكر أن من الناس من أجراه مجرى الأمر في اقتضائه الكف مرة واحدة، ولم يسم في بعض تصانيفه، من ذهب إلى ذلك، والقاضي، وغيره من أئمة المتكلمين أجروه مجرى الأمر، في أنه لا يقتضي الاستيعاب. وأما الجمهور الصائرون إلى أن النهي يقتضي الاستيعاب بخلاف الأمر، فقد أكثروا من ذكر الفروق بينهما، فقيل إنما فرقنا بينهما لقوله عليه السلام: "إذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم فانتهوا" الحديث. فأنت تراه صلى الله عليه وسلم، كيف علق الأوامر بالاستطاعة وأطلق النواهي، وأشار بإطلاقه إلى حملها على الاستيعاب.

وقيل الفرق بينهما أن الاجتناب لا يشق وإن تكرر، والفعل يشق إذا تكرر، وهذا قد يقدح فيه بأن في المجتنبات ما يشق تكرير اجتنابه، ألا ترى أن الصوم هو ترك الطعام، والشراب، والجماع، وتكرير حبس النفس عن شهواتها يشق؟ وقيل الفرق بينهما أن الفعل الواحد يكون تركا لأفعال كثيرة، وينافيها في زمن واحد، لو فعلت لما اتسع ذلك الزمن لها، والفعل الموقع بخلاف ذلك، إذ لا يمكن إيقاع أفعال (ص 79) شتى في زمن يضيق عنها، فدل ذلك على [أن] الاجتناب والترك يتحقق فيه الاستيعاب، وإن ضاق الزمان، واتحد الأمر، بخلاف الأمر بالإيقاع. وقيل الفرق بينهما أن النهي يدل على قبح المنهي عنه، والقبيح يجب اجتنابه أبدًا، والأمر يدل على الحسن، وقد يكون حسن لا يجب. وقيل الفرق بينهما، أن العادة في التخاطب جارية بالتفرقة بينهما، فالنواهي يفهم منها الاستيعاب، بخلاف الأوامر، ألا ترى أن السيد إذا قال لعبده: لا تقابح، لا تؤذ الجار، إلى غير ذلك من أمثاله، لم يحسن من العبد أن يستفسره عن الاتحاد، والتكرار، بل يفهم من هذا استيعاب الأزمنة، ولو قال له أعط لفلان ثوباً، تصدق على هذا المسكين بدرهم، لم يفهم عنه الاستيعاب. وقيل الفرق بينهما أن النهي كالنفي، والأمر كالإثبات، والناهي كالسالب لما أثبته الآمر، فإذا قال: صل، فقد أثبت الصلاة، وإذا قال لا تصل، فكأنه سلب ما أثبت، ومقتضى هذا أن يجري النهي على مناقضة الأمر، فإذا قال: صل فصلى صلاة واحدة، فقد خرج من عهدة الأمر، فإن لم يصلها اليوم، وصلاها بالغد كان ممتثلا، وهكذا في باقي الأيام، فقد صار في كل يوم يوقعها ممتثلا، فإذا نهاه اقتضى كون النهي سلباً للأمر، استيعاب الأزمنة في الاجتناب حتى تتحقق المناقضة بين الأمر والنهي، ويكون النهي يستوعب الأزمنة ضما واجتماعا، والأمر على البدل، والتنقل من يوم إلى يوم. وقيل الفرق أن الأمر إثبات، وهو مأخوذ من المصدر، والمصدر لا يدل على قلة أو كثرة، كما تقدم، والنهي مأخوذ من النفي، والنفي يدل على الاستيعاب، وإنما دل النفي على الاستيعاب لأنه عدم محض، ولا تخصص فيه، فجعل الاستيعاب للأزمنة كصورة يتخيل منها الاختصاص، كما يتخيل في الإثبات الاختصاص من ناحية الصور، فإذا قال رأيت رجلا وقع الاختصاص برجل واحد، لما كان الكلام إثباتا، فإذا قال لم أر رجلاً، فقد أخبر أنه لم يوقع الرؤية، فأشار إلى عدم، والعدم لا يفعل في مثل هذا إلا باستناد، فإن لم يستند هذا النفي إلى استيعاب سائر الرجال، لم يكن له اختصاص برجل دون رجل، وهذا

فصل في مطلق الأمر هل يقتضي التراخي أو الفور

الفرق [و] الذي قبله مبدأهما واحد، ونهايتهما كالمختلف. وهذه الفروق أكثرها لا يسلم من القدح، وما سلم منها قد يغمض، وأمثلها ما أشر فيه إلى معنى النفي، والإثبات، على حسب ما صورناه آخرا. فصل في مطلق الأمر هل يقتضي التراخي أو الفور الكلام في هذه المسألة من أربعة أوجه: - أحدهما: محلها. - والثاني: العبارة عنها. - والثالث: نقل المذاهب فيها. - والرابع: سبب الخلاف فيها. فأما محلها فإن الأمر بعبارة متكررة تستوعب سائر الأوقات كالإيمان بالله، لا يصح فيه تصور التراخي، لأن تقدير التراخي فيه يخرجه عن الاستيعاب، وأما إذا كان الأمر بعبارة واحدة، وأعداد محصورة، فلا يخلو من أن يرد مؤقتا، أو مطلقا: فإن ورد مؤقتا، فوقته حاصر له، يستغني بتحديده عن تصوير التراخي أو الفور. وأما إن ورد مطلقا، فهاهنا محل الخلاف، وهذا في الأوامر، وأما النواهي فالمعروف من مذاهب العلماء أنها ليست محل الخلاف، ولا يتصور فيها التراخي، لاستيعابها الأزمان، وقد قدمنا أن الأمر المستوعب للأزمان لا يتضور هذا فيه. وأشرنا في الباب الذي قبل هذا إلى ارتفاع الخلاف عند قوم من المصنفين في النواهي، وأنهم يزعمون أن الاتفاق حصل على حملها على الاستيعاب وذكرنا عن القاضي أنه لا يحملها على الاستيعاب كالأوامر. وذكر أبو المعالي في تلخيصه أنه لا يعرف حقيقة مذهب القاضي في هذه المسألة، هلي حمل هذه المرة التي تضمنها النهي على الفور أو التراخي، وأشار إلى أن الأليق به أن ينسب إليه موافقة الجماعة في حمل النهي على الفور. وأما الأذري فقد صرح بحمل النهي المقتضي إطلاقه مرة واحدة على الانتهاء واجتناب الفعل مقدما أو مؤخرا، وهذا بعيد تصوره على مجاري الشرع، واللسان، وسننبه عليه. والوجه الثاني بتحرير العبارة عنها، فاعلم أن المصنفين والمتناظرين أولعوا بهذه

العبارة، وهي القول: الأمر المطلق هل يحمل على الفور أو على التراخي، فأما قولهم: على الفور فعبارة تطابق المعنى المراد، وتنبئ عنه، وأما قولهم: على التراخي فعبارة لا تطابق المراد، لأن مقتضاها أن البدار إلى الفعل لا يجوز، وهذا لم يذهب إليه أحد، وإنما مرادهم إجازة التأخير، فإذا كان هذا هو المراد فالعبارة المنيبة عنه أن يقال: يقتضي الامتثال من غير تعيين وقت) أو يقال: يقتضي الامتثال مقدما أو مؤخرا (ص 80) أو ما في معنى هذه العبارات. وكان شيخي يعبر عن هذا بأن يقول له: التراخي يشير إلى المكلف، وهذا كله تحرير عبارة، وإلا فالمراد متفاهم بين أهل هذه الصناعة، وإن عبر عنه بما ألفوه. والوجه الثالث نقل المذاهب، فاعلم أن للعلماء في هذه المسألة ثلاث مذاهب: فمنهم من ذهب إلى حمل الأمر على الفور والبدار، وينسب هذه المذهب إلى أبي حنيفة، وبعض أصحاب مالك البغداديين. وأشار بعضهم إلى استنباط هذا من قول مالك إن تفرقة الوضوء عمدا لا يجوز، ويوجب استئناف الطهارة، وما ذاك عنده إلا بحمل الأمر على الفور. - ومنهم من ذهب إلى حمله على التراخي، ينسب هذا إلى الشافعي، وبه قال بعض المتأخرين من المالكية المغربيين، واستنبطوا أيضا هذا مما وقع لمالك من أمر للزوجة باستئذان الزوج في الحج، عاما بعد عام، وما ذاك عنده إلا حمل الأمر على التراخي. - ومن الناس من ذهب إلى الوقف بين هذين المذهبين، فلم يقطع بأحدهما، ولأصحاب الشافعي هذه الثلاثة أقوال، وكذلك لأهل الظاهر. فأما من قال بالفور فإنه يؤثم من أمكنه الفعل فأخره، ولكن اختلفوا على قولين بعد اتفاقهم على حصول التأثيم، هل يجب إيقاع الفعل بعد أن فاتت المبادرة إليه، ويكون ذلك من مقتضى الأمر الأول، وكان معناه: افعل عاجلا، فإن فاتك عاجلا فافعل فيما يليه، أولا يجب إيقاع الفعل بعد أن فات البدار إليه إلا بأمر آخر؟ وكذلك أصحاب التراخي اتفقوا على أن لا إثم في التأخير ما لم يغلب على الظن الفوات إن لم يفعل، ولكنه مع هذا اختلفوا إذا مات والتأخير له سائغ هل يأثم أم لا؟ فمن أصحاب مالك المتقدمين من آثمه، وهو الذي اختاره أبو المعالي، ومن الناس من لم يؤثمه، وهذا اختيار القاضي ابن الطيب.

ومن قال من هؤلاء بالتأثيم اختلفوا على قولين، هل يتعلق التأثيم بآخر زمن من فعل الإمكان الذي تعقبه الموت، ولا يتعدى هذا الزمان أو يتعلق به، وينبسط على ما قبله من أزمنة الإمكان؟ وكذلك الواقفية اختلفوا أيضا، هل الوقف في سائر الأزمان حتى يشك في المبادر إلى الفعل هل هو ممتثل للأمر أم لا، إنما يشك فيمن أخره عن أول زمن الإمكان، هل يتعلق به الإثم أم لا؟ وأما من بادر إليه ففعله، فلا شك في كونه مطيعا ممتثلا، وهذا مذهب حذاق المالكية الواقفية، وهو الذي اختار أبو المعالي. والوجه الرابع سبب اختلاف هذه المذاهب، والوجه فيه أن نفرد أهل كل مذهب بتعلقهم. فأما أهل الفور فيتمسكون باستدلال عقلي ولغوي وقياسي، وظواهر شرعية. فأما الاستدلال العقلي فإنهم يرون أن القول بتجويز التأخير، يوقع في إحالة، إما إحالة مترددة ما بينها وبين إحالة غيرها، وإما إحالة متحدة معينة، فأما إيقاعه في إحدى إحالات، فتصور في المكلف إذا مات، فيسالون عنه، هل مات مؤثما أو غير مؤثم؟ في وزان من قال من أصحابنا بأنه يموت غير مؤتم، يوقعهم في إحالة واحدة، وهي إبطال حقيقة الوجوب، وإخراج الواجب إلى حقيقة النفل، وذلك أن النفل من مات ولم يفعله، فلا إثم عليه. فإذا كان الحج مثلا لا يؤثم من مات ولم يفعله، وقد تمكن منه، فقد لحق الحج المفروض بالنوافل. وأما من قال بالتأثيم من أصحاب هذا المذهب كما حكيناه عنهم، فإنه يقع في إحدى إحالتين، الجمع بين إباحة الشيء والتاثيم فيه، لأنا إذا جوزنا له التأخير، ثم آثمناه في التأخير، فكانا تناقضا، لأن الجواز يرفع المآثم، والمآثم ترفع الجواز، وإن قيل إن التأخير إنما جاز بشرط ألا يموت المكلف قبل أن يفعل فقد علق الإباحة على أمر مجهول، وتعلق الأحكام على أمر مجهول، كالخطاب والإلزام بأمر مجهول، وذلك محال. ولما كان القاضي ابن الطيب وابن فورك يريان انتفاء المآثم، اعتذروا عن هذا الإلزام بأن أثبتوا العزم على إيقاع الفعل بدلا من تقديم إيقاعه، ورأوا أن التأخير لم يسقط وجوبه إلا بإثبات عوض [عنه] وهو العزم، فأشبه تخيير الحانث بين إطعام المساكين، أو كسوتهم، فإن الإطعام وإن لم يؤثمه في تركه إذا لم يفعله وعوض عنه الكسوة لم يخرج عن حقيقة الوجوب، لأنه إنما سقط إلى بدل، كأنه هو، والنفل يسقط ولا يؤتى عنه ببدل.

وأنكر أبو المعالي إثبات العزم هاهنا، ولم يره عذرا، وانفصالا عن الإلزام، لأنه تعجب من القاضي إذا أنكر إشعار الصيغة بالوجوب، مع زعم أكثر العلماء أنها تشعر بذلك في اللسان، وأثبتها مقتضية للعزم. وقد ظن أبو المعالي بأصحاب هذا الانفصال، ولم يقولوه، وذلك أنهم صرحوا بأن (ص 81) العزم لم يثبتوه بدليل قام عليه، وطعن أيضا فيما قالوه بأن المسألة مفروضة في عبادة متحدة متعينة، وإثات العزم مخيرا بينه وبين العبادة يخرج العبادة عن التعليق والاتحاد في الأمر، وهذا أيضًا لا يلزمهم، لأنهم يجعلون العزم بدلا من العبادة، حتى يكون إيقاع العزم يسقطها كالحال في الإطعام، إذا سقط للكسوة، وإنما يرون العزم عوض التقدمة، فإذا أوقع العزم سقطت عنه التقدمة خاصة، وبقي مطالبا بالفعل على حسب ما كان يطالب به أولا، في التخيير بينه وبين العزم، فلم يزل الأمر عن تعلقه بالفعل، ولا يسقط الفعل أصلا بفعل غيره، وطعن عليهم أيضا بأن أشار إلى أن هذا خرق الإجماع، وما أحد يؤثم من مات وسط الوقت في الصلاة، ولم يخطر له العزم ببال، ولا أحد يوجب إخطار العزم بالبال. وهذا لا يسلمه له القاضي، ولو سلم القاضي الإجماع لم يجسر على مخالفته. وقد كان دار بيني وبين الشيخ أبي الحسن اللخمي رحمه الله في هذا السؤال مقال طويل حين قراءة البخاري عليه، وذلك أني عرض له بمذهب القاضي في إيجابه العزم، فاشتد إنكاره لذلك، واستبعده، كما استبعده أبو المعالي هاهنا، واستعظم القول به، فلم يكن إلا قليلا حتى قرأ القارى: "إذا التقى المسلمان بسيفهما"، الحديث، وفيه تعليل النبي عليه السلام، كون المتقول في النار بكونه حريصا على قتل أخيه. فقلت له: هذا يشير إلى ما قاله القاضي، لأن الحديث إنما اقتصر فيه التعليل بالحرص على المعصية التي هي القتل، ولم يتعرض إلى حمل السلاح لذلك، ولا إلى المكافحة، فلم يكن منه رحمه الله جواب، عن هذا ينقل سوى التمادي على الإشارة إلى استبعاد هذا. وقد وقع لأبي المعالي في هذا الباب إغفال وذلك أنه ذكر عن القاضي أنه يقول بالعزم، وتردد المكلف بين العزم والفعل، كل وقت إلى آخر زمن الإمكان، ثم قال بعد هذا في الباب بعينه: ولا يظن بهذا الرجل العظيم ـ يعني القاضي ـ أنه يوجب العزم مكررا، وإنما يراه يجب مرة [واحدة]، وينسحب حكم هذه المرة على هذه الأزمنة،

فيكون فيها كالعازم كالنية المنسحب حكمها من أول العبادة على أثناء العبادة. فأنت ترى كيف اتفقت عليه هذه الغفلة، هو بنفسه يحكى عن رجل مذهبا ثم يقول: لا يظن أنه يقول به، ولو أورد عنه لفظا محتملا، ونبه على احتماله، ثم قال: لا ينبغي أن يظن به المصير إلى أحد محتمليه الذي هو كذا، وكذا، لحسن هذا، وأما وقد حكى عنه لفظا يبعد عن الاحتمال، ولم يتعرض حاكيه إلى تنبيه على احتماله، ثم يقول: لا يظن به أنه يقول: بما حكيت عنه أنه يقوله، هذا إهمال، وإنما يقع من مثله بحكم الاسترسال. وأما القاضي فإنه سلك في إثبات العزم في التبشيع أيضا بعكس مطلوب أبي المعالي، فيقول: إذا خطر ببال المسلم فريضة من الفرائض مؤخرة فلابد أن يكون قد قارن هذا الخاطر تصميم منه على فعلها في المستقبل، أو تصميم منه على أنه لا يفعلها سائر أيام عمره، فاعتقاده، وتوطين نفسه على ألا يفعل ما فرض الله سبحانه عليه، كالتهاون بأمر الله سبحانه، والاستخفاف بمعصيته ومثل هذا لا يسوغه أحد، ولا يستخفه مسلم، وإذا كان منهي عنه كان ضده مأمورا به، وضده هو العزم على فعل الطاعة، فيقابل استعباد أبي المعالي إيجاب المسلمين العزم باستبعاده هو أن يقول المسلمون بإسقاطه، وفيه ما قلناه من الشناعة. وهذا أوردته على الشيخ أبي الحسن اللخمي رحمه الله، تماما، لما كنت حكيته عنه، فأشار إلى أن هذا يرده الحديث الصحيح في أن "من هم بالسيئة ولم يعملها لم تكتب"، فإذا قلنا مثلا إن الحج على الفور، فقال في نفسه: لا أحج أبدا، ثم بعد ذلك حج صار الخاطر المتقدم هما، والهم بالمعصية مغفور، ومنعني من التمادي معه في هذه المسألة تعلقها بعلم قوم آخرين وهو النظر في الإرادات، والأمنيات، والعزائم والشهوات، وغير ذلك من اعتقادات القلوب، وكلام النفس، وهذا من الرقائق الذي لا يحسن استقصاؤه إلا في كتب علم الكلام. فهذا الكلام في المسألة على طريقة القاضي القائل بأن من مات، وقد أخر العبادات التي ورد الأمر بها مطلقا لا يأثم. وأما على طريقة من قال إنه يأثم فإنه يرى أن هذا الخطاب لا إحالة فيه، وإلى هذا أشار أبو المعالي، وليس في هذا إيقاع في تكليف ما لا يطاق، ولا إلزام (ص 82) أمر مجهول، وذلك أن الممتنع في هذا أحد أمرين، إماما يمنع منه فهم المخاطب، كمخاطبة الميت والنائم وإلزامه حال نومه فعل ما خوطب به، وإماما يمنع الامتثال كقوله: تصدق بدرهم من الكيس معين، ولا يدله على عينه، ويلزمه امتثال ما أراد الآمر بأمره، وما عينه في طي غيبه، وإما إلزام المكلف الخطاب بعبادة يفهم معناها، والمراد بها، كالحج مثلا،

ويجعل ميقات إيقاعها سائر أيام العمر فإن أوقع فيه برئ من الأمر، وإن مات قبل أن يوقع باء بالإثم، فإنه لا إحالة في هذا، لأن الخطاب يفهم والامتثال يمكن، وبيد المكلف ركوب الخطر في الإثم أو القطع على السلامة منه، وقد جاء الشرع بإيجاب الكفارات إيجابا متراخيا، ولم يوقع ذلك في تكليف ما لا يطاق. وأجمعت الأمة في قضاء الصلوات الفائتة بأعذار، ثم العمر مدة لقضائها. وانتبه لتحرز أبي المعالي بقوله هاهنا: ثم العمر، فإنه لما صدر كلامه بإجماع الأمة على قضاء الصلوات الفائتة بأعذار، وكان جماعة من العلماء يوجبون القضاء على الفوز، والبدار، استفتح القول بحرف ثم، مشيرا به إلى مذهبه، لا إلى مذهب جمع الأمة، وهكذا أيضاً تحرزه بقوله: بأعذار، لأن قضاء من تعمد ترك الصلاة فيه خلاف، على أنه مع تقييده وتحرزه في هذين الموضعين المنبه عليهما لا يصفو له ما حكاه من الإجماع مع الأعذار، لأن ما زاد على الخمس صلوات قد حكي فيه خلاف شاذ. وأما استدلالهم الثاني بإحالة متحدة معينة، فهو أنهم قالوا إن الواجب لا يسوغ تأخيره، وإذا قلتم بحمل الأمر على التراخي أجزتم التأخير، وإنما يجوز التأخير في الندب، وإلا فما الفرق بين الندب والواجب، وهذا جواب القاضي عنه، ما تقدم من إثبات العزم بدلا، فيكون هذا البدل عوضا عن التأخير، فلو جمع بين ترك البدل والمبدل منه، لأثم عنده، وهذا قد قدمناه في صدر المسالة. وأما أبو المعالي المنكر للعزم، وأن يكون الشرع تعبد به، فإنه هاهنا يصعب عليه الانفصال في العبادة المؤقتة، وأما الأمر المسترسل على سائر العمر فإنه قد حكينا عنه يثبت فيه التأثيم، والتأثيم إذا ثبت فارق الندب، فالمكلف إذا أمر بعبادة جعل سائر عمره وقتا، فكأنه قيل له: إن فعلتها بدارا، أو بعد تراخ فقد امتثلت، وأطلعت، وأخذت بالحزم، ولم تركب ظهر الغرر، ولم تسر على منهج الخطر، فإن لم تفعل حتى مت فقد حاق بك ما كنت مخاطرا فيه من استحقاق العقاب، فهو مخوف بسبب هذا التكليف، مروع أن يموت قبل الفعل فيستحق العذاب، والشرع محصوله في مثل هذه تهاويل، وتخاويف مفزعة للنفوس حتى تسهل على النفوس إذا لاحظتها مشاق العبادات. وأما فلو ترك عبادة قد ضاق وقتها وتعينت كصلاة الصبح عند طلوع الشمس فإنه لا يوقن بعذابه عليها، بل يرجو عفو الله سبحانه، ولكنه مع رجائه خائف منه، فكذلك الحج إذا قلنا إنه على التراخي فإن الإنسان خائف من الله سبحانه أن يعذبه عليها إن مات ولم يحج. إلى هذا أشار أبو المعالي، ولكن عندي بين الخوفين بون بعيد، هذا التارك لأمر مضيق، قد صار عرضه العذاب، واستحق النكال، وأن ما يرجو أن يرتفع عنه واقع،

وارتفاعه عند بيد غيره، وأما هو فلا قدرة له على رفعه، وهذا الذي يؤمل الحج لم يستحق عذابا، فيرجو اندفاعه، وهذه المخالفة أيضًا بيده لإزالتها بأن يحج فلا يخاف والآخر لا يمكنه إزالة خوفه، نعم تارك الحج إذا مات صار كالحي التارك لعبادة مضيقة، في كونهما جميعا استحقا العذاب، ولكن عفو الله سبحانه مجوز فيهما جميعا. وأما العبادة المؤقتة فإن أبا المعالي لما أحس بلزوم المعارضة وأنه إذا فارق القاضي في إثبات العزم لا حيلة له فيها إلا أحد أمرين: إما إثبات التأثيم، كما قاله شذوذ من الفقهاء، وصرحوا بأن من مات وسط وقت الصلاة، ولم يصل فإنه آثم. وهذا الذي قالوه لا يلتفت إليه، لأنه مذهب مستنكر عند المسلمين، فهؤلاء لا تلزمهم المعارضة، لأن إثباتهم التأثيم يلحق هذا الفعل بحقائق الواجبات، وإما تسليم المعارضة وإنكار حقيقة الوجوب. وقد زاحم أبو المعالي نفسه حتى اضطر إلى ركوب هذا، والخروج عن مذهب أصحابه إلى مذهب أبي حنيفة القائل بأن الصلاة إنما يتحقق وجوبها آخر الوقت المضيق، وأما قبل ذلك فإنها نائبة مناب الواجب وكان أول الوقت، ووسطه ظرفا ليعلم المكلف أن الإيقاع فيهما يغنيه عن الواجب الحق، وأما الواجب الحق فالإيقاع (ص 83) آخر الوقت. ولما كان أبو المعالي من المطلعين على أسرار الفقه والطرق الفقهية، باح بأنه خالف طريقهم في هذا، لأنهم يقولون إن العبادة إنما تقدم قبل وجوبها فتجزئ إذا كانت عبادة مالية، مثل الزكاة، وأما البدنية مثل الصلاة فلا. فقال أبو المعالي البدنية كالمالية في هذا على أنه إن تفطن متفطن إلى انتفاء المآثم في حق من مات وسط الوقت، ولم يصل فهذا لم يأت بالفعل الذي هو الصلاة، ولا بالبدل الذي هو العزم، ولا إثم، فكيف يتصور وجوب الصلاة هاهنا؟ فأشار إلى أن لا حيلة في هذا إلا الرجوع إلى أصل أبي حنيفة في أن الصلاة إنما تجب بآخر الوقت. فهذه طرق الاستدلال العقلية، ذكرنا ما لهم فيها، وما عليهم. وأما اللغوية فإنهم يقولون: من تواني عن امتثال أمر الآمر حسن لومه، وتوبيخه، لاسيما في الأمر إذا صدر ممن له حق ويخاف سطوته، ويعظم جلاله، فإن هذا يطابق أهل اللسان، والعقلاء على البدار إلى أوامره، من أن يعد المتواني مستخفا بالأمر أو مجتريا عليه، وهذا يقتضي حمل الأوامر على الفور، وهذا لا يسلمه لهم الآخرون، ويزعمون أن ما يبادر إليه من هذا فبحكم قرينة حال اقتضت البدار، أو احتياطا واستظهارا، أو حذارا من سطوة الملك المرهوب.

وأما الظواهر الشرعية فقوله تعالى: (فاستبقوا الخيرات)، وقوله تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم). ولأهل التراخي أن يقولوا: المغفرة لا نسارع إليها، لأن ذلك مما لا يكتسب، والمراد المسارعة إلى فعل ما يتضمنها، كالتوبة، والتوبة على الفور باتفاق، أو يحملوه على ما يقرب من هذا المعنى، لا سيما والقاضي ينكر حمل الأمر على الوجوب بمطلقه، فيطالبهم بإيجاب المسارعة والاستباق، ويقول لهم قد يكون هذا ندبا، ولا ينكر حصول الفضل في المسابقة إلى الخيرات للسلامة من الخطر، أو الخروج من الخلاف الذي قدمناه في حمل الأوامر على الفور. وأما القياس فإنهم يقبسون الأوامر على النواهي، وهذا قد تقدم كلامنا عليه مذهبا وفرقا، أما المذهب فقد حكينا ما قاله الأذري، فالأذري غير مسلم للأصل المقيس عليه، وأما من سواه فقد ذكرنا أن النهي نفي، والنفي يشعر بالاستيعاب، والاستيعاب يشعر بالمنع من التراخي، وذكرنا فروعا كثيرة، أنت قد تصرف منها ما تصرفه من هنالك إلى هنا، وقاسوا أيضا الفعل على الاعتقاد، فقالوا كما يجب المبادرة إلى اعتقاد الوجوب، وإلى العزم على الفعل، فكذلك نفس الفعل تجب المبادرة إليه. وقد قدمنا نحن الجواب عن سبب الاعتقاد، وأن ذلك ينتجه التصديق بالله ورسله، وهذا لا يصح التأخير فيه، بخلاف الفعل. وأما العزم فإنما يتصور إثباته معجلا مع تسليم تأخير الفعل، وتأخير الفعل هو مطلوبنا، وأما إذا وجب الفور استحال تصور العزم، فلا يستدل على صحة مذهب بأمر ينافي ذلك المذهب، وقاسوا أيضا على أحكام شرعية وهي الطلاق والبياعات، فإن الطلاق يتعجل حكمه، وكذلك البيع، وهذا يقابلون فيه بعكسه، من الأحكام الشرعية، فإن الكفارات يجوز تأخيرها، فليس القياس على البيع أولى من القياس على الكفارة. هذا والقياس في مثل هذا لا مدخل له، لأنا إنما نتكلم على حقائق لغوية، وهذه حقائق شرعية. وأما أصحاب التراخي فإن النكتة التي يعولون عليها أن الأمر الذي يقتضي امتثال الفعل، وإيقاعه لا أكثر من ذلك، فإثبات زمن معين للإيقاع لا يتضمنه الأمر، ولا يشعر به، وإنما يشعر بالزمان من غير جهة اللفظ، وهو العلم بافتقارنا إلى محال زمانية ومكانية، فإنما يثبت ما تمس الحاجة إليه في الفعل وهو زمان ما، ومكان ما وإذا أثبتنا هذه المحال على هذه الصفة ثبت أن إيقاع الفعل في سائر الأزمنة مبادرة إليها، ومؤخرا مطابق للأمر،

وقد اتفق على هذا في المكان، وأنه لا يتعين، فليكن الزمن كذلك، ولا معنى لقولهم إن المكان يتعين إذا قلنا بوجوب البدار، لأن التأخير عن المكان الذي سمع فيه الخطاب إلى مكان [آخر] تأخير للزمن، وقد فرضنا أن الزمان لا يصح تأخيره، فقد تحقق أن المكان إنما يتعين تبعا لتعين الزمن عندهم، لامتناع خروجه عن المكان الذي سمع فيه الخطاب إلى مكان آخر من غير قطع زمان ثان. ومما يؤكد تساوي الأوقات في كونها محلا للإيقاع، أن الفعل يلزمه لوازم لا تنحصر كالصحو، والغيم، والريح القوية أو الضعيفة، والمكان المشرف أو المنخفض، ثم لا أحد يقول يجب استفسار الآمر عن حال من هذه الأحوال دون حال، فكذلك الزمن. وقد أجيب عن هذا بأن هذه أمور يعلم قطعا أن لا (ص 84) غرض فيها لأحد من الآمرين، ولا يلتفت إليها أحد من المخاطبين، ولا تمر على بال آمر، أو مأمور وتعجل الفعل المأمور به أو تأخيره من الأغراض الصحيحة التي قع فيها الآمرون منا، فيحسن الالتفات إليها، وسؤال الآمر عنها. وهذا منه نشأ مذهب أصحاب الوقف، لأنهم يرون أن من الأوامر ما ينبغي فيها الآمر التعجيل، ومنها ما ينبغي فيهما التأخير، حتى يحسن استفهامه عن قصده، وإذا حسن استفهامه اقتضى ذلك احتمال الأمر للمعنيين، وإذا احتمل، اقتضى احتماله الوقف، إذا لا سبيل إلى القطع على أحد المحتملين دون الآخر إلا بدليل. وكان هذا يشير إلى طريقة أصحاب الوقف حتى في الزمن الأول، والآخرون من الواقفية لا ينفون في الزمن الأول، بل يقطعون على كون الفعل الموقع فيه امتثالا مجزيا، ومخرجا من عهدة الأمر، وإنما يقفون في اللوم والتاثيم إذا أخر الفعل إلى الزمن الثاني، فما بعده، حذارا أن يكون الآمر أراد التعجيل فخولف. وأما إرادته التأخير حتى يكون التعجيل عنده منعوتا مخالفا لغرضه وأمره، فيرون ذلك خروجا عن المتعارف عند أهل اللسان، وعن المعتاد عند سائر الآمرين. وكأن الآمر منا إما أن يكون محتفلا بما أمر به، مهتما به، متشوقا إليه، ينتفع بتعجيله، ويتضرر بتأخيره، فهذا لا يشك في أن التعجيل موافق له وإما إن يكون الأمر مما [لا] يهمه، ولا يحتفل به، ولا يتضرر بتأخيره، فهذا يعلم أن تعجيله ليس بمخالفة له، ولا عصيان لأمره، فقد حصل كون

التقدمة غير مخالفة لقصد الآمر في الحالين جميعا، وإنما يقع الشك في التأخير. وقد استدل أصحاب التراخي بالقياس على الخبر، في كونه لا يفيد تعجيلا، إذا قلت: سيقوم زيد فإن هذا اللفظ، محتمل لقيام زيد معجلا، ومؤخرا، وهذا غير صحيح، لأنه قياس على اللغة، وقد منعناه. وأيضا فإن هذا خبر، والخبر لا يتضمن الإنجاز والأمر طلب، والاقتضاء يتطلب الإنجاز، وينافيه التأخير. وأيضًا فإن فعل الحال يخبر عنه، ولا يؤمر به، وهذا يشعر باختلاف أحكام الأخبار والأوامر وأن وضعهما مختلف، واستدلوا أيضًا بالقياس على البر، كمن قال: والله لأدخلن الدار، فإنه لا يحنث بتأخير الدخول، وهذا أيضًا من نحو الأول، لأن قياس، ونحن منعنا من قياس لغة على لغة، فكيف بقياس لغة على حكم شرعي. واستدلوا أيضًا بحجج النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أوقعه صلى الله عليه وسلم مؤخرا عن الأمر به، لأن الأمر به ورد في سنة ست من الهجرة، وحجة صلى الله عليه وسلم كان في سنة عشر، فقد أخر الحج عن فور الأمر أربعة أعوام، وما ذلك إلا لكون الأمر المطلق على التراخي. وقد نازع الآخرون في هذا وقالوا لم يفرض الحج عليه صلوات الله عليه إلا في سنة تسع، وبسط القول في التعلق بهذا الأمر مبسوط في كتب الفقه. ومما يلحق بهذا الفصل إيضاح معنى مشكل تصويره على بعض هذه المذاهب، وذلك أنا حكينا عن طائفة أنها تحمل الأمر المطلق على الفور، وتؤثم المؤخر، وبعض هؤلاء يرى أن الفعل إنما يجب إيقاعه في الزمن الثاني إذا لم يوقع في الأول بأمر آخر غير الأمر الأول، وهذا يقتضي كون الفعل قضاء حتى يوصف من أخر الحج سنة بلوغه فحج بعد ذلك بسنين تكون حجته قضاء، وهذا لم يطلقه أحد من الفقهاء. وقد رأيت بعض أصحابنا يشير إلى تسليم المعنى، ويذكر أن العبارة هي المجتنبة خاصة ليشعر الفقهاء الفرق بين ما لم يفعل من العبادات المؤقتة، وبين المؤخر من العبادات المطلقة، وأشار أبو المعالي إلى فرق معنوي، فذكر أن الآمر بالأمر المطلق يقدر كأن أمره اشتمل على غرضين، إيقاع الفعل مطلقا، وتعجيل الفعل، فكأنه قال: حج في هذا العام، فإن لم تفعل ففي الذي يليه، فإذا حج في الذي يليه فهو مطابق للأمر الوارد، ولكنه مخالف لغرض آخر اشتمل الأمر عليه، وهو التعجيل في العام الأول، فوصفه بالامتثال من ناحية البدار للامتثال.

مسألة في كون المندوب إليه مأمورا به

مسألة في كون المندوب إليه مأمورا به هذه المسألة ذكر أبو المعالي أنه لا فائدة في الخلاف فيها، ولا جدوى، وإنما هي تناقش في عبارة، وليس الأمر كما ظن، وذلك أنه كثير مما يقع في ألفاظ الرواة أمره عليه السلام بكذا، ونهى عن كذا، فيفتقر الفقيه هاهنا إلى معرفة المراد بهذا اللفظ، فإن اعتقد أن المندوب إليه غير مأمور به، وأن الراوي معتقد لذلك حمل قوله: "أمر" على أن (ص 85) المراد به أوجب. وكذلك يحمل قوله عليه السلام: أمرتكم بكذا، على أن معناه: أوجبت عليكم، لأن المندوب إليه لا يسمى مأمورا به على الحقيقة، وإن سمي بذلك فتجوزا، فلا يفتقر الفقيه حينئذ إلى تردد، وبحث عن هذا الحكم المنقول هل هو مستحق أو مستحب. وإن كان مذهبه أن المندوب إليه مأمور به، تردد في قول الرسول عليه السلام: أمرتكم بكذا، وقول الراوي عنه: أمر بكذا، هل المراد به أمر واجب، أو أمر ندب، ولم يفت بالوجوب إلا بعد نظر آخر، وأدلة تقوم له على ذلك، وهذه فائدة ظاهرة متعلقة بالفقه، فقد صارت المسألة كأصل يثمر فروعا فقهية فحسن الكلام عليه، كما حسن من جماعة الأصوليين إدخالهم في كتب الأصول الكلام على قول الرواة: من السنة كذا، كان عليه السلام يفعل كذا، وقضى عليه السلام بكذا، لأن في تحقيق هذه الألفاظ تحقيق ما بني عليها مما نبهناك عليه. وأما نقل المذاهب فيها، فإنها مسألة اشتهر الخلاف [فيها]، فللأصوليين قولان: - فالشيخ أبو الحسن الأشعري يذهب إلى أنه غير مأمور به. - والقاضي ابن الطيب يذهب إلى أنه مأمور به. وأبو المعالي لما اعتقد ألا فائدة فيها لم يستقص البحث فيها، وردد القول فيها، ورأى أنه قد يقال: ندبتك وما أمرتك، والمراد ما جزمت عليك الأمر، وقد يقال: أمرتك استحبابا. وقد اختلف الفقهاء فيه أيضا، فمن أصحاب الشافعي من أثبت كونه مأمورا به، ومنهم من نفاه، وإلى هذا صار بعض أصحابنا، ورأى أن المندوب إليه ليس بمأمور به على الحقيقة، وهذه المسألة إنما يرجع فيها إلى النقل عن العرب، ولما فقده القوم رجعوا إلى الاستدلال على ما عند العرب، فمن أثبته مأمورا به استدل بإجماع الأمة على أن التنفل بالأسحار، والتسبيح، وذكر الله سبحانه بالعشي والإبكار طاعة لله سبحانه، والطاعة هي

عندنا موافقة الأمر، بدليل قوله تعالى: (لا يعصون الله ما أمرهم)، وقوله: (لا أعصي لك أمرا)، وبقوله: (أفعصيت أمري) فجعل مخالفة الأمر معصية، والطاعة نقيض المعصية، فلتكن الطاعة موافقة الأمر، لما كانت المعصية مخالفة الأمر، وأنشدوا في ذلك: أمرتك أمرا جازما فعصيتني ...................................... وأنشدوا: أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ..................................... وفي البيت الثالث من هذا: فلما عصوني كنت منهم وقد أرى ................................ فقتضت هذه الأشعار أيضا كون المعصية مخالفة على حسب ما قلناه، وإذا ثبت كون الطاعة موافقة الأمر، وثبت كون المندوب طاعة أنتج ذلك كون المندوب إليه مأمورا [به]، وإذا عمل هذا على طريقة أهل المنطق قيل: كل مندوب إليه طاعة، وكل طاعة مأمور بها، فهاتان مقدمتان نتيجتهما موضوع الأولى ومحمول الثانية، وهو: كل مندوب إليه مأمور به. والمعتزلة رأت أن الطاعة موافقة الإرادة، وهذا ينقض عليهم بما تقرر في كتب علم الكلام أن الله سبحانه أمر أبا جهل بالإيمان، ولم يرده منه، ونهاه عن الكفر، وأراده منه، والمعتزلة تخالف في إرادة الله سبحانه لهذا، فيثبت مذهبنا في هذا الأصل بما عرف في كتب الكلام، فيبطل بإثباته ما قالوه. والمباحات عندنا مرادة لله سبحانه، وليست بمأمور بها، وهو جل جلاله قد يفعل لنا ما نريد ولا يكون مطيعا لنا بكون فعله مطابقا لإرادتنا. فإن قيل: أبطلتم كون الطاعة موافقة الإرادة، فهلا كانت الطاعة ما حصل به الثواب، فلا يكون المندوب إليه مأمورا به، لأجل كونه طاعة، بل إنما يكون طاعة لأجل كونه مثابا عليه؟ قيل: نحن لا نوجب على الله سبحانه أن يثيب المطيع، ولو أمر بأمر وامتثله المأمور لكان المأمور مطيعا، وإن أخبره الباري سحبانه بأنه لا يثيبه، وهاهم يقولون: إن بعض الطاعات يحبط ثوابها وأجرها بفعل الكبائر، وهي مع هذا امتثال لأمر الله سبحانه، وعندنا أنا نجوز إحباط الأجر لتعري الفعل من الثواب، فعلى أصلنا وأصل المعتزلة لا يصح تعليق الطاعة بالثواب. وأجاب أصحابنا على استدلال المعتزلة بقول الشاعر:

فصل في تضمين الأمر بالشيء النهي عن ضده

رب من أنضجت غظيا صدره ... قد تمنى لي موتا لم يطع بأنه لم يرد لم يطع في التنمي، والإرادة، وإنما أراد تمني لي الموت، وأمر به فلم يطع. وقد سلم أبو المعالي كون المندوب إليه مقتضى، وإنما تردد في كون كل مقتضى مأمورا به، أو يتخصص ذلك بالاقتضاء الجازم اللازم، فله أن يقول في مجاوبة المستدلين: إن طاعة امتثال الاقتضاء لا أكثر من ذلك، وهذا لو ركبه افتقر معه إلى طريقة أخرى في تصحيح ما قاله القاضي في كون الأمر، وقد استدل من أنكر كون المندوب إليه غير مأمور به بقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيح: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك". وقد علم أنه صلى الله عليه وسلم قد ندب إليه (ص 86) فإن كان مندوبا إليه، لم يبق لقوله (لأمرتهم به) معنى، إلا أن يكون معناه: لأوجبته عليهم، فلولا أن المأمور به هو الواجب خاصة لما عبر عن هذا بهذا. والمخالفون لهم يحملون ذلك على أن المراد لأمرتهم أمرا جازما، ولو صرح بهذا التقييد لم يكن في الحديث استدلال، فإذا قدرناه محذوفا صار كالمصرح به. فصل في تضمين الأمر بالشيء النهي عن ضده هذه مسألة اشتهر خلاف الناس فيها، فذهب الأئمة من الأشعرية إلى أن الأمر بالشيء نهي عن ضده، وكأن الأمر له متعلقان متلازمان: اقتضاء الفعل، والإيقاع، والنهي عن الترك والاجتناب، وترك الفعل فعل آخر، وهذا الفعل الذي هو ترك ضد للمتروك هو المشهور من مذهب القاضي أبي الطيب، وصار في آخر أمره إلى أن الأمر ليس هو عين النهي عن الضد، ولكنه يتضمنه، وإلى هذه الطريقة يميل أكثر الفقهاء، وإن كانوا يخالفون القاضي في مسلك التضمين. وذكر ابن خويز منداد عن مالك أنه يقول بدليل الخطاب، وأن قوله بدليل الخطاب يقتضي أن يقول في الأمر بمثل المقالة التي حكيناها عن الفقهاء. وأما المعتزلة فإن المشهور من نقل أئمتنا عنهم أن الأمر ليس بنهي عن الضد، لا من جهة القول، ولا من جهة المعنى، وهذه الطريقة التي اختار أبو المعالي، ولكنه مع ذلك خالف الأشياخ في نقله عن المعتزلة، فنقل عنهم أنهم يرون تضمن الأمر للنهي عن الضد

على حسب مسالك الفقهاء، ولكنهم عنده لما كانوا ينقون القول النفسي، ويرون أنه لا أمر إلا الأمر النطقي اعتقدوا أن العرب وضعت قولها: قم، لتدل على معنيين تصريحا، وتلويحا، فالتصريح بحكم النص هو اقتضاء القيام، والتلويح بكم الإشعار وهو النهي عن السكون، ومجرى هذا كمجرى قوله تعالى: (ولا تقل لهما أف)، فإن تصريحه يقتضي النهي عن التأفيف، وأما ضرب الوالدين وشبههما لا تقتضيه صيغة القول "اف"، ولكنه يقتضيه بمفهومه ومعناه، وإن كان هذا عندهم أجلي مما نحن فيه، لأن هذا يسميه أهل الأصول مفهوم الخطاب، وهو عندهم كالنص. وأما مثبتو الكلام النفسي فإنهم لا يتصورون فيه تواضع ولا استصلاحا، لكنه معنى ثابت في النفس محسوس، العلوم، والقُدُر، وقد علم أن العلم له تعلق بمعلوم، كما أن القدرة لها تعلق بمقدور، فكذلك الأمر في النفس له تعلق بمأمور به، وكما يكون العلم له متعلقان متلازمان، لا يصح أن يعلم أحد المعلومين دون الآخر، فكذلك الأمر النفسي يمكن أيضًا أن يكون له متعلقان متلازمان، أحدهما اقتضى الإيقاع، والثاني النهيعن الكف، فمتى قال: إن في النفس كلاما، وأثبت فيه أمرا، أو اعتقد مع هذا أن نفس الأمر بالشيء هو بعينه النهي عن ضده، أجرى هذا مجرى العلم المتعلق بمتعلقين متلازمين، كيمين وشمال، وفوق وتحت، فإنه كما يستحيل عنده أن يعلم الفوق ويجهل التحت، فكذلك يتسحيل عنده أن يتعلق الأمر النفسي باقتضاء فعل ولا يتعلق بالنهي عن تركه. وأما من قال: إن في النفس كلاما، واعتقد أن الأمر بالشيء ليس هو النهي عن ضده، ولكنه يقتضي ذلك اقتضاء التضمن، كما ذهب إليه القاضي في آخر عمره، فهاهنا في تصور مذهبه إشكال، ولكن أبو المعالي جزم القول بأن هؤلاء يعتقدون أن الأمر النفسي يقارنه نهي نسي أيضا، فيكون وجود هذا القول النفسي الذي هو اقتضاء القيام، ويعبر عنه بقولك: قم، يتضمن وجود قول آخر في النفس يعبر عنه بقولك: لا تقعد، ويكون هذا القول الذي يعبر عنه بقولك: قم يتضمن هذا القول الثاني ويقارنه، حتى لا يوجد أبدا مفردا، ويجري ذلك مجرى الحياة والعلم، فإن العلم إذا وجد اقتضى وجوده الحياة، فكأن من أثبت القول النفسي اتفقوا على إثبات متعلقين، واختلفوا في المتعلق، فمنهم من وحده، وهو القائل: إن الأمر بالشيء هو نفس النهي عن ضده، ومنهم من ثناه فجعل لكل متعلق من هذين متعلقا يتعلق به، ولم يخالف أحد من مثبتي الكلام النفسي هذه المسالك، سوى أبي المعالي فإنه نفى التعدد في المتعلق والمتعلق به. فصارت هذه الطائفة على ثلاثة أنحاء، منهم من يوحد المتعلق والمتعلق به وهو أبو

المعالي، ومنهم من يثبتهما جميعا وهو القاضي في أحد قوليه، ومنهم من يثني المتعلق به ويوحد المتعلق وهم جماهير أئمتنا. وهذا كله واضح في تصور المذاهب فيه في الأمر على جهة الإيجاب. وأما الأمر على جهة الندب والاستحباب فإن القاضي ابن الطيب أجراه مجرى الأمر على جهة الندب والاستحباب نهيا عن الضد على جهة التنزيه أيضا، بل قصارى ما نحن فيه على الأمر على جهة الإيجاب. فهذا إيضاح المذاهب في هذا الفصل (ص 87) وتصويرها على أحسن بيان. وأما طريق الذاهبين إليها فنحن نكشف الغطاء عنها حتى يهون على النظار ما وقع الاختلاف فيها، فاعلم أن المطلوب من أصول الفقه الانتفاع بها في الأحكام الشرعية والمسائل الفقهية، وما لا منفعة فيه في الفقه، فلا معنى لعده من أصوله. وإذا تقرر هذا قلنا: النظر في هذه المسألة من وجهين؛ أحدهما: تعيين حكم الضد، والثاني: تعيين طريق الحكم. فأما نفس الحكم فإنه يستعمله فيه طريق التقسيم، وتقديم المقدمات فنقول: قد علمتم أن الأحكام الشرعية خمسة لا سادس لها: الإيجاب، الندب، والتحريم، والكراهة، والإباحة، فهذه مقدمة لا شك فيها. ومقدمة ثانية وهي أن المحل لا يصح أن يخلو من الشيء وضده. ومقدمة ثالثة وهي أن نفس خلوه من الشيء وتعريه عنه هو نفس حلول الآخر فيه وقبول له، وليس بين هذين واسطة ولا معنى معقول. ومقدمة رابعة وهي أن الثواب والعقاب إنما يتعلق بما يخترع عند قوم، أو يكتسب عند آخرين، وأما الانتفاء المحض فلا يكتسب ولا يتعلق به ثواب ولا عقاب. فإذا عرضت هذه المسألة على هذه المقدمات علمت حكمها على التعيين، وذلك أنه إذا قيل للإنسان: تحرك وقد علم أنه إذا لم يتحرك فلابد أن يسكن لاستحالة خلو المكان عن الصفة وضدها، وعلم أن ليس تحت قولنا: إنه لم يتحرك أكثر من وجود السكون به، وأن لو أمكن ألا يوجد السكون به لم يمكن أن يعذب على انتفاء الحركة، لأن الانتفاء المحض لا يتعلق به في الشرع ثواب ولا عقاب، فإذا أوجب الله عليه التحرك، وقد تقررت هذه المقدمات، فإن السكون إما أن يقال: إنه واجب، وهذا لا يصح، لأن فيه تكليف المحال، وهو الجمع بين الحركة والسكون معا. أو يقال: إنه مندوب إليه، وهذا لا يصح لهذا المعنى أيضا، لأن فيه الأمر

بالحركة والسكون معا، ولا يصح أن يكون مكروها ولا مباحا، لأن المكروه والمباح لا إثم فيهما، وإذا كان السكون لا إثم فيه إذا فعله، وقد علم أن ترك الحركة هو نس السكون، والواجب ما في تركه العقاب اقتضى ذلك خروج الحركة عند حكم الوجوب، وقد فرضنا أنها واجبة. فقد استحالت هذه الأحكام الأربعة، فلم يبق إلا الحكم الخامس وهو التحريم، وهذا هو المطلوب في الفقه، وهو معرفة ما يحل وما يحرم إلى غير ذلك من الأحكام، فإذا ثبت تحريم الضد، فالمحرم منهي عنه بلا خوف، فقد ثبت النهي عن ضد الفعل المأمور به، وهذا هو المطلوب المقصود في الفقه. وإنما يبقى النظر في الجهة الثانية، وهي طريقة هذا التحريم والنهي؛ هل هي نفس الأمر بالفعل، أو متضمن الأمر، أو ليست هي واحد من هذين؟ فنعود إلى تحقيق القول في هذه الجهة الثانية فنقول: تقرر عند العقلاء اختلاف مواقع الأفعال في القصود، وكذلك يختلف عندهم أحكام الأوامر والنواهي في القصود، فمن خرج من داره قاصدا إلى غرض هو غاية فعله، فهو بخلاف من عرض له في طريق غرض قضاه، وكذلك من أمر عبده بفعل أو نهاه عن فعل تصريحا، فهو بخلاف ما تتضمنه أوامره ونواهيه من الاتباع التي هي غير مقصودة، ألا ترى الإنسان مأمور بالحج، ولا يتم الحج إلا بقطع مسافة إليه، فقطع تلك المسافة مأمور به وواجب بإجماع الأمة، لأنه لا يتوصل إلى الواجب المقصود إلا به، ولكنه مع الكل عليه مخالف لوجوب الحج في نفسه، لأن الحج هو المقصود، وقطع المسافة إليه ليس بمقصود في التكليف، وإنما هو بمقتضى الجبلة والخلقة التي لا يمكن معها الحج إلا بقطع مسافات، ولو تصور حجم بغير قطع مسافة لسقط هذا الواجب الذي هو قطع المسافة. فإذا تقرر هذا قلنا: إن من قال: إن هذا التحريم والنهي عن الضد ليس بمنهي عنه، ولا يقتضي الأمر بالفعل المنهي عنه، وأنكر ذلك أصلا فإنه قد أخطأ، لما قدمناه مما أنتجته تلك المقدمات. وأما من قال: إنه منهي عنه ويجري ذلك مجرى القصد إلى المنهي عنه فليس بمصيب، لما قدمناه أيضا من أن القصد امتثال الفعل المأمور به، ولكنه لما لم يكن امتثاله إلا مع مجانبة ضده، وما لا يمكن فعل الواجب إلا به فهو واجب، صار من هذه الجهة واجبا بسبب حكم الجبلة والخليقة، لا بحكم القصد إلى النهي عنه. فإلى هذا المضيق تنحصر هذه المذاهب المتقدمة، وعلى هذا التحقيق يجب أن تعرض، فما وافقه منها فهو الحق، ولكن مع هذا استدرك أبو المعالي على الجماعة استدراكا ظن أنهم أغفلوه، وأشار إلى طريقة لا تتصور إلا في أوامر المحدثين، وأوامر

المحدثين لا كبير جدوى في تشاغل الفقيه بها، وأما أمر الله سبحانه فقد اشتهر من مذاهب الأشعرية وأهل السنة أن كلام الله سبحانه قديم أزلي صفة (...). (ص 88). النظر بحيث يتصور قصد الناهي إلى الفعل المأمور به، وجعل هذا الوجه المنهي عنه خاصية من خواصه، فإنه يتصور القول بمنع الإجزاء والاعتداد بالفعل، لأن الموقع وقد تعرض فيه للصفة المقصودة بالنهي المختص بالفعل يصير الواقع كالعدم في كونه غير امتثال للأمر، فتبقى المطالبة بالأمر على ما كانت عليه، فيخرج من هذا منع الإجزاء. فأما إذا كان النهي لا بمعنى يرجع إلى الفعل المأمور به، ولا هو مقصود فيه، فلا يتصور منعه للإجزاء من هذه الجهة، لأنه في حكم الفعل الموقع موافقا للأمر، من سائر جهاته كما تقدم. وهذا التفصيل طريقة أبي المعالي في اعتبار وحصول الإجزاء أو عدمه، وأما اختياره في أصل المسألة فإن المختار عنده أن الأمر لا يتناول المكروه كما قدمناه، من تناقض الجمع بين حقيقة الأمر بالإيقاع والكف في حالة واحدة. وقد أغلظ القول في هذا الباب على أئمة الشافعية فوق الحاجة في مسألة تعد من مثل هذا الباب، فذكر أن الاستدلال على وجوب الترتيب في الوضوء بأن الوضوء المنكس مكروه، والمكروه لا يتناوله الأمر، فيبقى الأمر بالطهارة لم يمتثل، فيطالب المكلف به، وهذا معنى قولنا: تعاد الطهارة المنكسة. وزعم أن هذا استدلال على إيجاب الشيء يقول المخالف فيه: إنه مكروه عندي، فليس قول المالكية: إن الوضوء المنكس مكروه يعرف منه أن الصحيح ما قاله الشافعي من [أن] الوضوء ترتيبه واجب، ورأى أن هذا الاستدلال من فن العبث، وقد أسرف في النكير على أشياخه المستدلين. وهذا إن أوردوه إيراد مناظرة للمالكي، فلا يحسن إنكاره بحسب ما أنكره أبو المعالي، وأكثر المناظرات يسلك فيها هذه المسالك، فيقول الفقيه للفقيه: قلت كذا وكذا، فيلزم عليه كذا وكذا، وهذا اللازم لا يصح إلزامه إلا على أصلي لا على أصلك، فدل على أن أصلي هو الصحيح. ولعل هذا المراد بهذا الإيراد، فيقول الشافعي من قال من أصحابنا المالكية: إن الصلاة بالوضوء المنكس تعاد أبدا، قد سلم من الشافعي من قال من أصحابنا المالكية: إن الصلاة بالوضوء المنكس تعاد أبدا، قد سلم من خالفنا أن الوضوء المنكس مكروه، فيلزم عليه أن يكون موقفه لا يعتد به من حيث ما يبقى عليه من المطالبة بالأمر كما قدمنا بيانه، والتزام أنه لا يعتد به إنما على أصل الموجب

فصل في النهي عما يمكن اجتنابه

للترتيب لا على أصل المالكي المسقط لوجوبه. وأشار أبو المعالي أيضًا في رد هذا الاستدلال إلى كون كثير من المكروهات تخرج عن عهدة الأمر ويقع بها الاعتداد، وأن هذا إنما يوقف على ما جاء الشرع به، كيف والحرام المحض وهو الصلاة في الدار المغصوبة يقع الاعتداد بها كما قدمنا في بابه، فكيف بالمكروه. وهذا الذي قاله إنما يرد به على من عمم القول في أنه لا يعتد بفعل مكروه، وأما من يقول: إن الأصل أن الأمر لا يتناول المكروه وإذا لم يتناوله بقيت المطالبة بموجب الأمر الأول، فلا يناقض بأعيان مسائل فقهية، ولكن قد يحقق هذا معه حتى يعتبر مقصود الشرع في النواهي، ويفرق بينه وبين ما لا يقصده الشرع منها كما تقدم مرارا. فصل في النهي عما يمكن اجتنابه النهي يرد جزما، وتخييرا، على حسب ما تقدم بيانه في الأوامر، والتخيير فيه ضدين لا ثالث لهما، يصح إذا ورد بمعنى ملازمة المكلف أحد الضدين الذي اختاره وآثره على نقيضه، مثل أن يقول: أنهاك عن الحركة أو السكون، اجتنب أيهما يثبت، ودم على اجتنابه دواما مطلقا، أو إلى حين، لأنه في سعة ألا يدوم على أحدهما، فصار التكليف متوجها إلى حالة يمكن اكتسابها أو اكتساب نقيضها من معاقبة الضد بالضد، بخلاف تصوير هذا في التخيير بين ضدين يجتنب أحدهما في حالة واحدة. وقد منع بعض الناس التخيير بين مذهبين، وزعم بعض هؤلاء أن اللغة لم ترد بذلك، ألا ترى أن قوله سحبانه: (ولا تطع منهم أثمًا أو كفورا) محمول على أنه نهي عن طاعة الآثم والكفور جميعا، وهذا لبس، ولولا الإجماع على أن المراد في الشرع النهي عن طاعة الجميع لم يحمل هذه الأية على معنى الجمع دون التخيير. وأما النهي عن الضدين جميعا، وإلزام المكلف الخلو منهما، والتعري عنهما كقوله: لا تتحرك ولا تسكن الآن، فهذا عين تكليف ما لا يطاق، وفيه الخلاف المتقدم، والخلاف في النواهي فيه كالخلاف في الأوامر، فلا فرق بين أن يقول: تحرك واسكن معا، أو لا

تتحرك ولا تسكن، فالمانعون لتكليف ما لا يطاق يمنعون هذا، فإن صوروا سؤالا يناقض هذا التأصيل الذي أصلناه بأن قيل: من دخل دارا تعديًا فخروجه عنها تعد أيضا، لأن التخطي في ملك الغير بغير إذن لا يجوز (ص 89)، فهذا الإنسان نهي عن اللبث في هذه الدار، كما هو نُهي عن الخروج منها، لكون اللبث والخروج جميعا يتصرف في ملك الغير بغير إذن. وقد ركب أبو شمر هذا المذهب، وصرح بأن مقامه في هذه الدار حرام، وخروجه عنها حرام، ونحو هذا المرمى رمى ابن الجبائي وأبو المعالي ورأيا أن الخروج ينسحب عليه حكم المعصية والعدوان والتأثيم، من قبل أن مبدأ هذا الفعل الذي صار كالضروري كان مكتسبا بمعصية مأثوما فيه، وهو دخول هذه الدار، ولولا هذا الدخول لما تورط بين هذين النقيضين اللذين لا انفكاك له منهما. وصرح أبو المعالي بأنه غير منهي عنه، عن الخروج، وإن كان عاصيا فيه، لأن معصيته فيه مستندة إلى ما اكتسبه أولا من دخول هذه الدار، وحكم تلك المعصية الأولى منسحب على هذه الأخيرة، فصح ارتفاع النهي عن هذا مع إثبات المعصية فيه، كما صح كونه مأمورا به على جهة التنصل من المظالم، وامتثال الأمر برد الحقوق والخروج عنها إلى أربابها. قد تقدم في الصلاة في الدار المغصوبة كون الصلاة تعلق بها النهي على وجه، والأمر على وجه آخر، فهكذا هاهنا تعلق الامتثال بوجه، والمعصية بوجه آخر. وركب ابن الجبائي هذا المركب في هذه المسألة، وإن كان قد استبعده في الدار المغصوبة، ورأى أن أكوان المصلي في الدار المغصوبة منهي عنها، فمن المحال أن يكون مأمورا بها. وجوابه في المسالتين ومركبه فيهما متناف. وتمثل أبو المعالي في انسحاب هذا العدوان بغاصب المال، فإن توبته منه تسقط حق الله سبحانه عنه قطعا أو ظنا ـ على ما عرف من خلاف في قبول التوبة ـ هل مقطوع به أو مظنون، ولا تسقط تباعه الخلق في حجرهم عن أموالهم ومنعهم منها بالتوبة. فإن زعم على أن التخلص بغرم ما أتلف عليهم، وما ذلك إلا لأجل أن ما ورد نفسه فيه هناك منسحب حكمه على حال التوبة، وإن كان حال التائب كالمناقض لحال المصر، ولو يمثل في طريقته بقول الفقهاء: إن طلاق السكران يلزم، والحدود تقام عليه، وإن كان غير عاقل حين جنايته ما جنى لأجل أن شربه الخمر معصية مآلها زوال عقله، فزوال العقل كالمكتسب له، لما كان سببه منه، وإن كان على الحقيقة نفس زواله لا اكتساب له فيه، لكان التمثيل بهذا أثلج للصدور، لكون هذا التعليل متداولا على ألسنة من قال به من الفقهاء، ولكن الجناية

الموقعة الآن ليس كفعل تقضي مثلما تقضي زمن الغصب، بل هي فعل شرع فيه السكران كما شرع الغاصب في خروجه من الدار، وهذا التمثيل الذي صورنا أوضح من تمثيله. والقاضي ابن الطيب في جملة المحققين ينكرون هذا الذي قاله أبو شمر، ويرونه تكليف ما لا يطاق، ويحيلون تكليف ما لا يطاق، وما هو من قبيل المحال حين التعبد، غير ملتفتين إلى مبدأ هذا المحال؛ هل هو مكتسب؟ والإنسان هو الموقع نفسه في هذا المحال الممتنع، أو غير مكتسب لمبدئه ولا موقع نفسه فيه؟ هذا مما لا يصح تكليفه على القول بمنع تكليف ما لا يطاق، لا سيما على أصل المعتزلة القائلين بأن القبح وصف نفسي، وصفات الأنفس لا تختلف باختلاف الصور. وسبب الخلاف في هذه المسألة أنه قد علم أن تكليف الممكن المتأتي سائغ كتكليف الامتناع من دخول دار من غير إذن صاحبها، لأنه يمكن للإنسان أن يخالف هواه في دخولها ويؤثر طاعة الله فلا يدخلها، أو يغلبه هواه فيعصي الله بدخولها، فإيثار طاعة الله على ما أمكنه من اتباع هواه سبب مدحه وأجره، كما علم أن تكليف الممتنع الذي لا سبب للإنسان في كونه ممتنعا غير سائغ على القول بمنع ما لا يطاق كالقول: اقلب هذا الدار حيوانا، وأبطل حقيقة كونها مكانا. حتى إذا وقعت صورة مشوبة وقع النزاع، مثل هذه المسألة التي نحن فيها، وذلك أن التعري من اللبث في الدار والخروج عنها محال لا يمكن، ولكن كان في وسع هذا الإنسان ألا يقع في هذا الممتنع المحال، بأن لا يدخل الدار أولا، فينشب فيما نشب فيه، تخيل قوم كون هذا الفعل كالمكتسب، فصرح أبو شمر بأنه محرم، وصرح الآخران بانسحاب حكم العدوان عليه، ولعل الجميع مرمى واحدا رموا، وإن اختلفت عباراتهم. ورأى القاضي أن التعري عن الأمرين محال، فلا مبالاة بمبدئهما وسببهما، وقد قال بعض المتأخرين من الأشياخ: إن من كان داخل الكعبة لا يتوجه عليه الأمر بأن يولي وجهه شطر الكعبة، لكونه لا يمكنه أن يدبر بوجهه عن جميعها، وإنما (ص 90) يمكنه الإدبار بوجهه إذا كان خارجاً عنها، فيصح أمره حينئذ، لما أمكن منه الموافقة والمخالفة، بخلاف من كان داخل الكعبة الذي لا يمكنه المخالفة، ولا يجد سبيلا إلى الموافقة. وقد يشير إلى هذا مسائل تكلم عليها الفقهاء، وهي من أفطر في صوم التطوع إفطارا ضروريا، وإن كان سببه اختياريا كالمسافر يعطش لأجل سفره. وكذلك تكلم القوم على قطع التتابع في صيام الظهار بمثل هذا الإفطار الملحوظ بأن فيه شائبة من الاضطرار ومن

الاختيار، ومن تتبع المسائل التي يشير إليها ما نبهنا عليه من هذا الأصل ألفي منها ما لا ينحصر. وقد ذهب قوم إلى أن هذه الأرض التي دخلها تعديا لو كان بها زرع، لكان هذا الداخل مأمورا بالخروج من هذه الأرض من غير إفاسد للزرع، وهذا لا معنى له لأن اجتناب الإفساد الذي لابد منه عند التخطي لا يمكنه، وتكليف ما لا يمكن محال، فلا معنى لظن هؤلاء أن هذا الاشتراط يخرجهم عن إنكار ما أنكرنا على ابن شمر، ولكنا نوافقهم على الجملة، فنأمر الخارج بأن يخطو في الخروج خطوات هي غاية ما يمكن في ترك الإفساد، وتقليل المسافة في الخروج، لأن الزيادة على ذلك تعد لم تدع ضرورة إليه، وما سواه أمر به لما دعت الضرورة إليه في التنصل من هذه المظلمة. وقد صور في هذا مسائل اللازم للأصولي من الجواب عنها هو قدر ما أوردناه من بيان ما يصح تكليفه وما لا يصح، وأما تعيين ما يلزم من الجائزات التي يصح تكليفها، فذلك فقه محض، فليستفت عنه الفقيه، فما عينه منها تعين في حق مستفتيه، إذا كان عاميا، مثل ما يقال في طريح على صدر جريح بين طرحي مجاريح، إن لبث على صدر هذا قتله، وإن زايله متنقلا عنه قتل من بجانبه، فلا ينفك من قتل مسلم مهما سكن أو تحرك. وقد رأى أبو المعالي أن الحكم في هذه المسألة فتواه بانقطاع التكليف عنه، إذ لا ينفك من قتل إنسان، سكن أو تحرك، وتكليفه التعري من الحركة والسكون، تكليف التعري عن الضدين، وقد بينا ما فيه، وتعيين أحدهما للقتل لا سبيل إليه مع تساوي الشخصين في وجوب صيانة الدم، فإذا امتنع القول بأن المقام والزوال عليه حرام، وامتنع القول بأن أحدهما حرام دون صاحبه، مع تساويهما لم يبق إلا انقطاع التكليف عن هذا الذي لا يجد سبيلا إلى التخلص من هذين الممنوعين. ثم يفترق الجواب بعد ارتفاع التكليف في هذا الطريح، فإن كان طرح نفسه تعديا فقد باء بالإثم، واستحث عليه حكم المعصية مهما سكن أو انتقل، لأنه هو الذي ورط نفسه في هذا الفعل الذي وصفناه بأنه ارتفع عنه التكليف فيه. وإن قذف به على صدر هذا الجريح بغير اختياره، ارتفع عنه حكم العدوان والمعصية، كما ارتفع عنه التكليف. وهذا الذي أفتى به أبو المعالي في هذه الصورة يبعد عن مجاري المفتين، ولكن بسط طرائفهم في مثل هذا إنما يليق بكتب الفقه.

فصل في تعلق الأمر والنهي/ بالفعل الواحد

وقد تصور هذا السؤال أيضا في رجل، إن أقام بمكانه مات عطشا، وإن تخطى عنه إلى الماء قتل من يمر عليه، فلا ينفك هذا من قتل نفسه أو قتل غيره. وبعض من تكلم على هذا السؤال رأى أن الواجب بقاؤه وإن مات، إذ ليس له أن يصون نفسه بإتلاف نفس غيره، ألا ترى أن المكره على قتل غيره لا يباح له قتله، ولو قتل إن لم يقتله. وألحق الناس هذه المسائل بمسألة النازع فرجه من فرج الزانية معه، أو النازع فرجه من فرج زوجته، وفجر يومه من رمضان طالع حين النزع، واختلاف أصحاب مالك في إفساد صوم هذا الصائم، بهذا النزع المقارن إلى الفجر معلوم، فبعضهم رأى أن هذا النزع لما وقع بعد طلوع [الفجر] صار كابتداء الوطء بعد طلوع الفجر، ومنهم من يرى أن هذا النزع تنصل وخروج عن إفساد الصوم، والتنصل من الشيء خلاف الدخول فيه. وقيد أبو المعالي هاهنا بتقييد فقال: لو كان وطؤه وهو يعلم أن الفجر يطلع حين نزعه على بعض [عسر في] تصور هذا لفسد صومه، لأنه يكون حينئذ كالمتحامل على التغرير بصيامه، بخلاف من قدر أن الفجر لا يطلع إلا بعد فراغه من هذا الشأن، فظهر الأمر على خلاف تقديره. وهذا الذي أشار إليه أبو المعالي إلى أن استدرك على الفقهاء لم يعقل الفقهاء أصله، وقد تكلموا على أحكام الآكل مع شكه في الفجر، وعلى مقارنة النية بعقد الصوم طلوع الفجر، وبسطوا من هذا في كتبهم ما يعلم منهم حكم هذا التقييم الذي قيد به أبو المعالي جوابه، وقد بسطنا [هـ] فيما أمليناه من كتب الفقه، والله ولي التوفيق. فصل في تعلق الأمر والنهي/ بالفعل الواحد (ص 91) من وجهين مختلفين هذه مسألة اختلف الناس فيها، والمشهور من مذهب الجمهور أن ذلك صحيح، وقد تقدم بيانه في الكلام على الصلاة في الدار المغصوبة، وذهب ابن الجبائي إلى المخالفة في هذا الأصل، فقال ما حكيناه عنه في الصلاة في الدار المغصوبة، وكذلك أيضا أن السجود لله سبحانه طاعة مأمور بها، فإذا سجد للصنم فإن التحريم عنده إنما يتعلق بالقصد خاصة دون نفس السجود للصنم، وهذا مذهب متروك عليه، وإنما صار إليه، لأنه رأى أن السجود لله أمر بإحداث السجود واختراعه، ونفس الاختراع واحد لا يتعدد، ولا يتخلف باختلاف جهاته، وإذا كان إحداث السجود واحدا لا يختلف، فمحال أن يكون هذا الإحداث

فصل في بيان مراد الشرع بصيغ نافية لذوات واقعة

مأمورًا منهيًا عنه، فلم يبق إلا صرف التحريم للقصد والإرادة. وهذا الذي قاله مراغمة لما أجمع المسلمون على خلافه، ومن النكير عند المسلمين أن يقال: السجود للصنم غير محرم، وصرف قول المسلمين: السجود للصنم محرم، إلى أن مرادهم القصد والإرادة، خروج عن ظاهر لفظهم، وحقيقة كلامهم بغير دليل اقتضى ذلك، فهذا يهدم كثيرا من حقائق التكاليف وأحكام الشرع، ويجره إلى أن يقول: نس واطئ الزانية ليس بحرام على الزاني، وإنما يحرم القصد، وهذا من منكر القوم. فصل في بيان مراد الشرع بصيغ نافية لذوات واقعة هذا قد جاء الشرع به في معاني إثبات، ومعاني نفي، مقطوعا به ومظنونا، فالذي في معنى الإثبات قوله تعالى: (حُرمت عليكم أمهاتكم)، ومعلوم أن نفس الأم لا يحرم، والمحرم معنى آخر غير ذلك، وهو غير مذكور، فالمنطوق به غير مراد، والمراد غير منطوق به. وكذلك قوله تعالى: (الحج أشهر معلومات)، ونفس الحج ليس هو الأشهر، فالمنطوق به غير مراد، والمراد غير منطوق به. وكذا ما جرى على هذا الأسلوب مما وقع في الشرع. وقد قال قوم: إنه مجمل، واعتلوا بالإجمال بما بيناه من كون المراد غير مذكور، ومن الناس من أنكر الإجمال في مثل هذه الصيغ، ورأى أن الذوات لم يتعرض إليها وإنما التعرض لأوصافها، وهذا معلوم عند أهل اللسان، لاسيما في مثل قوله: (حرمت عليكم أمهاتكم)، فإن جماعة المحققين وجمهور الأصوليين ينكرون الإجمال في هذا ويرون أن المحذوف أسبق إلى الفهم من معنى النطق، ولا يخفى عن سامع من العرب لهذا الخطاب أن المراد به وطء الأمهات، بحذف المضاف وهو الوطء وأقام المضاف إليه وهي الأمهات مقامه مجازا عرفيا، تعارف أهل اللسان على تفاهم هذا المجاز من مجرد اللفظ، كما لا يشك أحد منهم أن مراد القائل: حرمت عليك هذا الطعام، أكل الطعام، دون ذات الطعام. وأما قوله: (الحج أشهر معلومات) فطريقة من صار إلى إجماله ما بيناه، أو سلك طريقة أخرى سنبينها، ويراد أن المراد بقوله: (الحج أشهر معلومات) إما أفعال الحج على أصل مالك المجيز تقدمة الإحرام على أشهر الحج، وإما وقت الحج على رأي المخالف

المانع من تقدمة الإحرام على أشهر الحج، فالمحذوف هاهنا يحتمل الأمرين، ويتردد بين المذهبين، ولا يدعى عمومه لأنه محذوف، ولا يدعى العموم إلا في الصيغ، والمحذوف ليس بصيغة. ومن الناس من لم يرد هذا مجملا، وصار فيه إلى دعوى العموم في هذا المحذوف، كما يدعى في الصيغ المنطوق بها، فيحمله على الوقت وعلى الإحرام جميعا،. ومنهم من يرى في مثل هذا أنه لا يحمل على العموم لكونه محذوفا، ولكن يحمل على موضع الخلاف ليستفاد بهذا الحمل تصحيح مذهب على مذهب، فيحمل هؤلاء هذه الآية على أن المراد بها إحرام الحج، لأنه المختلف فيه، لا أفعال الحج كعرفة وغيرها، فإن ذلك متفق عليه أنه لا يصح إلا في أشهر الحج. فهذا القول في معاني هذه الصيغ إذا كانت إثباتا، وأما إذا كانت نفيا كقوله: "لا عمل إلا بنية"، وقوله: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"، وقوله: "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل"، و"لا نكاح إلى بولي"، و"لا أحل المسجد لجنب، ولا لحائض"، فإن العلماء مختلفون في هذا الأصل. وأما مثال القطعي فكقوله: (لا إكراه في الدين)، وأما مثال الظني فكقوله: "لا نكاح إلى بولي". والغرض من هذا الأصل الكلام على هذا النوع، وألفاظ النفي للذات الواقعة المتعلق بها حكمان أو أحكام، مثل قوله: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"، فمعلوم قطعا أن جار المسجد قد يصلي في غير المسجد، ومعلوم قطعا أن النبي عليه السلام، لا يكذب فيخبر عن (ص 92) واقع أنه لم يقع، فيخرج من هذا أن النبي عليه السلام لم يرد ظاهر ما اقتضاه النطق، بل أراد غيره. فهاهنا اختلف الأصوليون على مذهبين: فمنهم من زعم أن هذا مجمل، واختلف هؤلاء على مذهبين في طريق الإجمال، فمنهم من صور الإجمال من الجهة التي أشرنا إليها، وهو كون اللفظ لم يرد به نفي وقع الفعل، وإنما أريد به أمر آخر لم يذكر، والذي أريد لا تعلم حقيقة معناه، فصار من هذه الجهة مجملا. ومنهم من صار إلى أن هذا اللفظ لم يوضع لنفي الذات، ولم يتوقع أن يكون

هو مراد المتكلم، بل ذلك موضوع إلى نفي أوصافها، ألا تراهم يقولون لمن أجاب بما لا يفيد: ما أجبت بشيء، ولمن أعطى حقيرا: ما أعطيت شيئا، لم يضعوا هذه العبارة لنفي الذوات، وإنما وضعت في مثل هذا لنفي الإفادة عن الجواب، ونفي الانتفاع بالعطية، ولكن الأوصاف التي وضعت لنفيها إذا تعددت وأمكن أن يراد أحدها دخل اللفظ الأجمال من هذه الجهة، فيمكن أن يكون المراد لا صلاة جازية لجار المسجد إلا في المجسد، ويمكن أن يكون المراد: لا صلاة كاملة، فيها التضعيف المذكور في الجماعة إلا في المسجد، وإجزاء الصلاة وصف من أوصافها، كما أن كمالها وصف من أوصافها، ويحتمل أن يريد المتكلم أحد الوصفين دون الآخر، ولا يتعين لنا ما المراد منهما، فصار مجملا، وهذه طريقة القاضي ابن الطيب واختياره. وأما الطائفة الثانية فهم المنكرون للإجمال الصائرون إلى إلحاق هذا بما لا إجمال فيه، ولكنهم أيضا مختلفون في طريقة رفع الإجمال على مذهبين، كما اختلف من قبلهم، فمنهم من رأى أن وجود الفعل داخل في النفي بحق عموم اللفظ، ولكنه خص بدليل أن الرسوم لا يكذب، فبقي الخطاب متوجها لسائر أوصافه، من كماله وإجزائه، وهذا كإحدى طريقتي أهل المذهب الذي ذكرناه قبلهم، في أن اللفظ ظاهر موضوع لنفي الذات، ومعلوم أنها ثابتة، ومن هؤلاء من صار إلى أن الذات لم تقصد بالخطاب أصلا، حتى تفتقر إلى دلالة التخصيص بتقديم العلم بصدق الرسول، ولكنها موضوعة لنفي الوصفين جميعا بحق العموم على أصل القائلين بالعموم في المحذوفات والمنطوقات، كما بيناه على أصل الواقفية المنكرين له أصلا، ولا عن أصل المعممين المقصرين التعميم على الصيغ لا على المحذوفات. ورأى القاضي أن المعميين أخطأوا في حمل هذا على العموم، وإن سلم لهم صحة أصلهم في المصير إلى القول بالعموم، واعتل بأن العموم إنما يصح دعواه فيما لا يتناقض، فأما إذا كان دعوى العموم يصير في معنى الصيغة تناقضا وتهافتا استحال دعوى العموم، وأظهر هذا التناقض بتقدير قدره يخفى تصويره إلا بعد تأمل، وذلك أنه رأى أن العبادة إذا قلنا: إنها لا تجزى، إنا بنفينا عنها الإجزاء نفينا عنها الكمال، إذ من المحال أن تكون صلاة لا تجزى، وهي مع هذا كاملة، فقد ثبت أن نفي الإجزاء يتضمن نفي الكمال، فيستغنى بنفيه عن التعرض لنفي الكمال، لأنه مما لا يقدر، وإذا نفينا الكمال خاصة عن العبادة، فقلنا: هذه صلاة غير كاملة، فإن هذا اللفظ يشعر بأنها جازية، إذ لا يقال: هذه صلاة كاملة في مثل من ترك التأمين، ورفع اليدين، والتسبيح في السجدتين، إلى غير ذلك

مما يعده الفقيه من الفضائل، ويراه مع هذا تجزئ الصلاة مع عدمه، فإذا ثبت أن نفي الكمال يتضمن ثبوت الإجزاء، فإذا ادعينا نفي الإجزاء والكمال جميعا، صار الإجزاء منتفيا من حيث نفيناه هو، والكمال ثابتا من حيث إننينا الكمال يتضمن ثبوته، وإذا أدى دعوى العموم إلى كون الإجزاء ثابتا منتفيا معا، لم يصح حمل اللفظ على العموم، لأن كلام صاحب الشرع لا يحمل على التناقض بمثل هذا التصوير رد على من قال: إن اللفظ ليس بمجمل، ولكنه يعم نفي الذات وسائر أوصافها، ثم يخص الذات بالدليل الذي قام على أنه عليه السلام لا يكذب، وذلك أن هذا مذهب يوقع أيضا في التهافت والتناقض كما صورناه، لأجل أننفي الذات يتضمن نفي أوصافها، حتى لا يتوقع ثبوت الأوصاف مع انتفاء الذات، فيحتاج إلى التعرض لنفي الأوصاف، ونفي الأوصاف يتضمن ثبوت الذات، ألا ترى أنه لا يقال لمن لم يصل أصلا: صلاته جازية ولا كاملة، وإنما يقال هذا فيمن صلى على غير طهارة، أو فيمن كان في معناه، فيقال فيه: صلاته غير جازية ولا كاملة، فقد صار نفي الكمال والأجزاء يشعر بثبوت الذات، ونحن قد فرضنا الذات منتفية بحق العموم النافي لها ولأوصافها (ص 93) فتصير الصلاة منتفية بحكم النطق، ثابتة بحكم الضمن الذي استفيد من نفي أوصافها، وهذا متناقض متهافت، لا يصح حمل كلام صاحب الشرع عليه. وقد قيل: إن حمل هذا اللفظ على نفي الأوصاف، كأنه تعرض لنفي الذات، لأن المراد بقوله: "لا صلاة" الصلاة الشرعية، والصلاة الشرعية لا شك في أنها لم تقع أصلا، فصار هذا النفي للأوصاف كالمخيل لنفي الذات، وهذا على التحقيق لا يتعدى نفي الأوصاف، إذا قلنا: إن ما ليس بشرعي من صوم وصلاة يسمى في اللغة صوما وصلاة، ولكن قد يظهر هذا التخيل لو صورنا وقدرنا أن اللغة لا تسمى الصلاة الفاسدة صلاة، وقد ذكرنا أن المحققين قطعوا بأن اللفظ منصرف إلى الأوصاف لا للذات، ولكنهم على مذاهب في هذا الانصراف، فمن واقف بين الأوصاف لاحتمال اللفظ لجميعها، لإنكاره القول بالعموم على الإطلاق، ومن واقف لإنكاره العموم في المحذوفات، ومن واقف لإنكاره العموم في مثل هذا. ولو صح القول به على الإطلاق في المنطوقات والمحذوفات لما يؤدي إليه من التناقض. وسلك أبو المعالي مسلك هؤلاء في صرف اللفظ إلى نفي الأوصاف دون الذات، وسلم الاحتمال في الأوصاف، ولكنه خالف من تقدمه فرأى أن الاحتمال لا يتساوى فيها، بل اللفظ في أحدها أظهر من الآخر، فحملها على نفي الإجزاء، لأجل أن صريح اللفظ يعرض لنفي الذات الواقعة على جهة المبالغة، والمناسب لهذه المبالغة نفي إجزاء العبادة، لأن ما لا يجزي كما يفعل، فوقع بالنسبة والتناسب في المبالغة من هذه الجهة، ولا

فصل في حقيقة كل نوع من الأحكام الشرعية

مناسبة بين هذه المبالغة وبين الاقتضاء على أدنى أوصاف الفعل الذي لا يمتنع من الاعتداد به، بل الفعل معه جازيا معتدا به، كما يعتد بالفعل الكامل، فتحمل مثل هذه الأحاديث الواردة في العبادة المحتملة لنفي الكمال والإجزاء، على أن المراد بها نفي الإجزاء، وإنما يصرف عن ذلك إلى نفي الكمال خاصة بضرب من التأويل والترجيح، ولكنه لا يطالب الفقيه فيه نفسه بما يطالب به نفسه في الزوال عن نصوص الخطاب. وهذا المذهب الذي اختاره هو الأصح عندي، لأجل ما اعتللت به، وقد تقدم اختياري في مثل هذه الطريقة في حمل الأوامر على الوجوب، وإن كان أبو المعالي خالفني فيها هناك كما تقدم. فصل في حقيقة كل نوع من الأحكام الشرعية قد تقدم الكلام على حقيقة العلم الشرعي على الجملة، ولماذا يرجع؛ هل إلى قول الله سبحانه، أو إلى ذوات الأفعال المحكوم [عليها]. والكلام هاهنا في تفاصيله، وهو ينقسم إلى قسمة هي كالجنس، فيقال: الفعل إما أن يكون للفاعل أن يفعله، وإما أن يكون ليس له أن يفعله، وهذه قسمة يقدح فيها بأن الواجب لا يقال فيه للمكلف أن يفعله، لأن هذه العبارة تشعر بالمسامحة في تركه، وإنما يعبر عنه بأن يقال: على المكلف أن يفعله، فصارت القسمة غير حاصرة من هذا الوجه ومن غيره أيضا، وقد تقدم إشارتنا إلى هذا التعقب، حيث ذكرنا الاختلاف في الوجوب هل ينطوي على الجواز أم لا؟ وأما القسمة النوعية فهي خمسة؛ الوجوب، والندب، والحظر، والكراهة، والإباحة. فالوجوب والندب مأمور بهما، والحظر والكراهة منهي عنهما، فصارا من هذه الجهة قسمين، ويكون المباح قسما ثالثا، وقد قسمت على هذا النحو، فقيل: أمر، ونهي، وإباحة. فأما الواجب فله تفسيران: لغوي واصطلاحي. فأما اللغوي فأصله في اللغة: السقوط، والثبوت، كقول العرب: وجب الحائط، بمعنى سقط، قال تعالى: (فإذا وجبت جنوبها)، بمعنى سقطت. وأما الاصطلاحي فمأخوذ من هذا، وذلك أن الله سبحانه إذا ألزم المكلف فعلا صار هذا الفعل بإلزامه سبحانه إياه لا محيص له عنه، كما لا محيص في السقوط، ويعبر عن هذا في الشرع واللغة بعبارت ست، فيقال: واجب، ولازم، ومفروض، ومحتوم، ومكتوب، ومستحق. وقد قال تعالى: (كتب عليكم الصيام)، وقال تعالى: (أنلزمكموها وأنتم لها

كارهون)، وقال تعالى: (كان على ربك حتمًا مقضيا). وأما تحقيق معنى الوجوب على صناعة الحدود، وقدمنا فيما سلف التنبيه على صفة استخراج الحدود، ووجه العمل في هذا على تلك الطريقة: أن الواجب ينبغي أن ينظر إلى الخاصية التي يميز [بها] عن بقية الأحكام الأربعة، فنجده يميز عن الحظر، والكراهة، والإباحة، بما يتعلق بفعله من المدح والثواب، لكنه يشاركه المندوب إليه في هذا، فجيب النظر إلى خاصية تفرق بينه وبين الندب، فتجدها أمرا يتعلق بالترك، وذلك أن الواجب يذم ويعاقب على تركه، والندب (ص 94) لا ذم في تركه ولا عقاب، فمن نظر إلى هذا النظر تعرض في حده إلى ما يتعلق بفعله، وإلى ما يتعلق بتركه فقال: حد الواجب: ما في فعله ثواب، وفي تركه، وترك البدل إن كان ذا بدل استحقاق عقاب، وهو حد اختاره القاضي ابن الطيب. ومن نظر نظرا آخر رأى أن تعليل الخواص في الحد أولى ـ ووجد في خاصية الترك معنى يفرق بين الواجب وبين ما سواه، استغنى عن النظر لما يتعلق بالفعل، والذي يختص بالترك: اللوم، والذم، والعقاب، فإذا حد بهذا المعنى صح حده. وهذه الطريقة حد بها القاضي أيضا، وإليها مال اختياره، وكأنه رأى أن الثواب والعقاب يعقل [منهما] معنى الوجوب، فلو فرضنا عدم الشرائع وصورنا اقتضاء جزميا من سيد لعبده لتصور معنى السقوط واللازم في العبد، حتى يصير بمعنى السقوط الذي هو أصل الاشتقاق، فاقتضى هذا عنده اختيارا لا يتعرض لذكر الفعل، وإنما يتعرض لذكر الترك، ولكن بعبارة الذم واللوم، فيقال: ما استحق الذم بتركه، أو ما استحق اللوم بتركه. ولكنه استشعر مع هذا قدحا في الحد من طريقة أخرى، وذلك أن العبادة ذات البدل ككفارة اليمين، أو كفارة الحلاق في الحج، أو جزاء الصيد، إذا فعل أحدها أثيب عليه ولم يأثم ولا يلام ولا يعاقب على ترك ما ترك من أبداله، وقد كانت أبداله موصوفة بالوجوب على غير جهة التعيين، كما قدمناه في بابه. فهذا واجب، وهو الإعتاق مثلا لم يتعلق الإثم بتركه إلى بدله الذي هو الأبدال مع كون الإطعام واجبا على صفة ما قدمناه، فاقتضى هذا القدح من هذه الجهة تقييدا في الحد

بالتعرض إلى ما يرفع هذا القح، فيقال: حد الواجب: ما استحق الذم بتركه، أو العقاب، أو اللوم ـ على حسب ما قدمناه ـ على وجه ما. وإن شئت قلت بدل قولك: على وجه ما، وترك البدل منه. وقولنا: على وجه ما، ينوب عن قولنا: وترك البدل منه، ولكن قولنا: على وجه ما، يدفع قدحا آخر، لا يدفعه قولنا: ترك البدل منه، وذلك أنك قد تترك الواجب بفعل نافلة، فتكون النافلة حينئذ حراما، لما كانت تركا للواجب، وأن حكمها المختص بها للندب، ولكن الإثم لم يتعلق بها من جهة كونها ندبا، بل من جهة كونها تركا للواجب. فإذا قلت: على وجه [ما] أشرت إلى التحرز من هذا القدح. وقد تحرز الأئمة منه أيضا بعبارة أخرى فقيل: ما استحق اللوم بتركه، من حيث هو ترك له، فأفصح هذا بالمعنى الذي أشار إليه ذلك بعبارته، وهي قوله: على وجه ما. وهؤلاء تعرضوا إلى ما يتعلق بالترك بمعاني ليست بحكمية في ذواتها، وهي العقاب، والذم، واللوم. وسلك القاضي عبد الوهاب طريقتهم، ولكن تعرض إلى ما يتعلق بالترك من جهة الحكم، فقال: حد الواجب ما يحرم تركه، وترك البدل منه إن كان ذا بدل، والتحريم حكم من الإحرام المتعلقة بترك الواجب. وقد طعن أبو المعالي في حد من حده من هؤلاء بأنه: ما استحق المكلف العقاب بتركه، فإن الأشعرية لا توجب على الله سبحانه مجازاة بعقاب عن عمل شر، ولا بثواب عن عمل خير، على ما عرف من أصولهم، من أن الله سبحانه له أن يعذب المطيع وينعم العاصي، فبعيد عن هذا، أصله أن يذكر الاستحقاق على الأعمال، والمعتزلة وإن لاق بأصلهم في استحقاق المجازاة على الله سبحانه، فهم يعتقدون أن الصغائر مكفرة باجتناب الكبائر، فلا عقاب عليها، وصغير الواجب على هذا عندهم غير معاقب على تركه إذا قام بجليل الواجبات، فصار الحد غير مستوعب أيضا على أصلهم، لكون بعض الواجبات لا عقاب عليها عندهم. وعندي هذا الذي قدح به أبو المعالي على أئمتنا غير قادح، وذلك أن هذا الحد إنما تعرض فيه إلى ما استقر من واجبات الشرع، وقد اخبر الشرع عنها بحقيقة ما قلناه، وتوعد الله سبحانه تارك الواجبات بالعقاب، وأعملنا أنه يوقعه به، إلا أن يكون ممن سبق في قضائه عفوه عنه وصفحه عن ذنبه، والاستحقاق إذا ثبت بالسمع صار في القطع عليه، كالاستحقاق الثابت بالعقل. وقد ذكرنا هذا المعنى في كتابنا "المعلم" لما تكلمنا على قوله عليه السلام: "ما حق الله

على العباد، وما حق العباد على الله" الحديث، ونبهنا على إطلاق القول بثبوت حق العبد على ربه، على حسب ما وقع في الحديث. وذكر أبو المعالي أيضا هروب قوم عن لفظ الاستحقاق، كما أشار إليه من التعقب إلى أن قالوا: حد الواجب ما توعد الله بالعقاب على تركه، ولمز في هذا الحد لمزا (ص 95) لا يليق بأصولنا، وبسط الكلام معه فيه يتعلق بعلم الكلام، والنظر في مذاهب الناس في تنفيذ الوعيد، وهل ترك تنفيذه خلف قبيح لا يجوز كالكذب، أو لا قبح فيه؟ بخلاف الوعد الجميل فإنه الوفاء به ممدوح، لأنه إنما يحمل على الخلف فيه الشح والحرص، وذلك معنى مذموم، والتجاوز عن جناية الجناة، إنما يحملنا عليه الحلم وكرم الطباع، والله وصف نفسه بالحلم، وهو جميل الصفح والعفو، فلا قبح في أن لا ينفذ وعيده في بعض العصاة، والقصد بالوعيد: التخويف والتحذير، ولم يقصد به الخبر القاطع عن وقوع الشيء أو عدم وقوعه. وأشار أبو المعالي إلى أن المعنى بالوعيد لابد أن ينفذ فيه ويعاقب، ومن الواجبات ما يعفو الباري سبحانه عن تاركه فلا يعاقبه، ولو كان مقصودا بالوعيد لعاقبه. وهذا إنما يبسط في كتب علم الكلام. وذكر أبو المعالي أنه قد قيل: الواجب ما يخاف العقاب على تركه، ونقض هذا بمن غلط فاعتقد وجوب ما ليس بواجب، وتخوف العقاب على تركه، فخوف العقاب قد حصل، والوجوب لم يحصل، وهؤلاء لم يتعرضوا للغلط في ثبوت الوجوب، وإنما تعرضوا لحقيقته، واعتقاد هذا الغالط أن حقيقته ثابتة صحت منه المخافة، ثم يبقى النظر في إصابته في اعتقاد الوجوب أو خطئه في ذلك، فإذا أخطأ في الوجوب أخطأ في المخافة، والمراد التعرض لمن أصاب فيهما، أو ثبوت التخوف على موجب الاعتقاد. واختار أبو المعالي في حده: أنه الفعل المقتضى من الشارع الذي يلام تاركه شرعا. فذكر المقتضى لتخلص الواجب من الحظر والكراهة والإباحة بأمر يعود إلى الفعل، كما خلصه أولئك بذكر استحقاق الثواب على الفعل، وبقي عليه ما بقي على أولئك من مشاركة المندوب، فتخلص منه بإثبات اللوم على الترك، وعارض نفسه بالغلط، كما اعترض به على غيره، فقال: من ترك ما لا يعلم وجوبه لا يلام، وإن كان

فصل في حقيقة الندب

المتروك واجبا عند الله سبحانه، وانفصل عن هذا بأن الناسي، والغافل لا تكليف عليه، والفعل غير واجب في حقه حتى يعلم، فإنما سقط اللوم لسقوط الوجوب، ولو ثبت الوجوب لثبت اللوم. فصل في حقيقة الندب وقد تقرر أن الشرع اقتضى أفعالا من المكلفين اقتضاء مختلفا، فمنه اقتضاء جازم لم توجد رخصة في تركه، ولا وكل تركه إلى اختيار المكلف، ومنه ما وكل تركه إلى اختيار المكلف، وهذا الذي اقتضى فعله، ووكل تركه إلى اختيار المكلف، فلم يتهدده بالعقاب على تركه. قد تقدم نقلنا عن أئمتنا الاختلاف في تسميته مأمورا به مع اتفاقهم على أنه قد ثبت فيه حقيقة الطلب والاقتضاء، وهذا القسم يعبر عنه في الاصطلاح بست عبارات، فيقال: سنة، وندب، وتطوع، ونافلة، وفضيلة، ومرغب فيه. فالسنة في اللغة هي الطريقة، قال الله تعالى: (سنة من قد أرسلنا من رسلنا) أي طريقتهم، وقال أبو ذويب: فلا تجزعن من سنة أنت سرتها ... فأول راض سنة من يسيرها وأصل هذه التسمية عند العرب من قولهم: سنت الماء، بمعنى مهدت صوبه للجري، ومنه سمى المسن، وسنة الشرع طريقته التي مهدها لاستقامة الجاري عليها. ومقتضى هذا تسمية النفل والفرض سنة، لأن الفرض طريقة صاحب الشرع أيضا، لكن عرف الاصطلاح قصر هذه التسمية على الطريقة التي ندب إليها دون التي فرضها. وكذلك تسمية الندب فإنه قد قيل: إنه مأخوذ من الدعاء، ومنه تسمية المرأة الثكلى نادبة، لأنها تقول في ثكلها: وا سيداه، وا سنداه، إلى غير ذلك من الألفاظ التي يستعملها العربيات في الندبة، فعلى هذا يسمى الواجب ندبا، لأن الشرع دعا إليه أيضا فوق ما دعا إلى الندب. وقيل: بل هو مشتق من التأثير، ومنه الندوب في الوجه، يراد به الآثار، ومنه حديث موسى صلى الله عليه وسلم "لما هرب الحجر بثوبه، فطفق بالحجر ضربا، وذكر في الحديث أن بالحجر ندبا" الحديث، والمراد به الإخبار عما أثر ضربه في الحجر، وعلى هذا يسمى الواجب ندبا، لأنه أثر صاحب الشرع فيه بدعائه إليه، بل هو أشد تأثيرا لما يتعلق بتركه من العقاب.

وأما التطوع مأخوذ من الطوع، والمندوب إليه غير مجبور الإنسان بالشرع عليه، بل دعاه الشرع إلى أن يفعله بطواعيته. وأما النفل فالزيادة، ومنه قوله تعالى: (يسئلونك عن الأنفال)، ونوافل [الشرع] كأنه زيادات على الواجبات، فاستحقت هذه التسمية بهذا المعنى. وأما الفضيلة (ص 96) فمأخوذة من الفضلة، من قولهم: أكلت حتى فضل لي الطعام، ونوافل الشرع كأنها كالفضلة عن واجباته. وأما المرغب فيه فمأخوذ من الترغيب، ومعلوم أن صاحب الشرع وعد على فعل النوافل بأجور تثير رغبة السامعين لخطابه في فعلها، وقد تقرر أيضًا التفاضل في أحكام الشرع، فيقال: واجب آكد من واجب، بمعنى زيادة الأجر في الفعل، والعقاب في الترك، ألا ترى أن صائم رمضان أجره في صومه، وعقوبته في تركه أشد من أجر صوم شهر منذور، أو عقوبته إذا وجب عليه الوفاء بالنذر، ولهذا يقال: حرام أشد من حرام، بمعنى التفاضل فيما قلناه، ولهذا كان تحريم الزنا بالأم أعظم من تحريم الزنا بأجنبية، وهكذا يقال في المندوبات: بعضها آكد من بعض، والمراد تفاضل الأجور والثواب فيها، وأما تروكها فمتساوية في ارتفاع الإثم والعقوبة. ولما علم الفقهاء بهذا التفاضل أرادوا أن يضعوا أسماء تشعر بالتفاوت في الأجور، فسموا ما ارتفعت رتبته في الأجر، وبالغ عليه السلام في التحضيض عليه سنة، وسموا ما كان في أول هذه المراتب تطوعا ونافلة، وسموا ما توسط بين هاتين الحاشيتين فضيلة ومرغبا فيه، ويقارب معنى الفضيلة عندهم. فإذا سمعت فقهاء المذهب يقولون: الوتر سنة، ويقولون: اختلف المذهب في ركعتي الفجر؛ هل هما سنة أو من الرغائب؟ فمرادهم بما ذكرناه من وفاق هاهنا وخلاف ما نبهناك عليه من الإشعار بطبقات الأجور. فإذا علمت معاني هذه التسمية لغة وعرفا، فاختلف الأصوليون في حد الندب، وعملهم في استخراج حده على حسب ما نبهناك عليه في استخراج حد الواجب، فقد علمت أن المندوب إليه يفارق الحظر والكراهة والإباحة من ناحية فعله، فإن في فعله ثوابا، وليس في فعل ما ذكرناه ثواب، ولكنه يساوي الواجب من ناحية فعله أيضا، لأن الواجب في فعله

ثواب، وكذلك المندوب إليه، ولكنه يخالف الواجب من ناحية تركه، فالواجب في تركه عقاب، والمندوب إليه ليس في تركه عقاب. وقد قدمنا أن التعرض للترك في الواجب خاصة يصح به حد الواجب دون التعرض إلى فعله. وقد سلك بعض الأصوليين في حد الندب هذا المسلك، فتعرض إلى تركه خاصة، فأخطأ في هذا، فقال: حد المندوب إليه ما لا يلحق الذم بتركه من حيث إنه ترك له، وهذا يفسد بالمباح والمكروه، فإنه لا يذم تاركه. وسلك الجمهور في هذا التحديد خلاف هذا المسلك، فتعرض الخاصية في الفعل والترك، ولكن اختلفت عباراتهم عن هذا، فمن مصيب منهم، ومن مخطئ، فمن قائل منهم: حد المندوب إليه: ما في فعله ثواب، وليس في تركه استحقاق عقاب. أصاب المرمى، هكذا وقع لهؤلاء، ولكنه إنما يكون الحد صوابا إذا زيد فيه: وليس في تركه من حيث هو ترك له استحقاق عقاب. وقد نبهناك على معنى هذه الزيادة، وذكرنا أن المندوب قد يترك بالحرام فيعاقب المكلف على تركه، لكون الترك حراما، لا لكونه تركا للمندوب. ومن الناس من حد بأن قال: ما فعله خير من تركه من غير ذم يلحق بتركه. وربما عبر بعضهم بان يقول: ما تعلقت الفضيلة بفعله من غير ذم يلحق بتركه. ولابد لهؤلاء أن يضيفوا إلى الحد: من حيث هو ترك له، لأجل ما نبهناك عليه. لكن بعد إضافتهم ذلك لمز القاضي ابن الطيب هذا الحد، وذكر أن الأفعال قبل ورود الشرع يعتقد أن بعضها خير من بعض، لما يحصل به من منفعة أو لذة، ولا يقال فيها حينئذ إنها مندوب إليها. وأشار بعض المتأخرين إلى تعسف القاضي في هذا التعقب، ورأى طريقتهم في الحد صحيحة، ولا مبالاة بما قبل الشرائع، فإن القول في هذا إنما يقصد به بيان ما بنيت عليه الشرائع. وجماعة من المعتزلة يحدون المندوب بأنه: ما استحق فاعله المدح بفعله، ولم يستحق اللوم بتركه. وهذا ينتقض بأفعال الله سبحانه، فأنه ممدوح عليها ومتقدس عن الذم إن تركها، ومع هذا فلا يقال: إن الله سبحانه مندوب إلى ما فعل. ومن الناس من حده بأنه: ما أمر الله بفعله ولم ينه عن تركه. وهذا إنما صح على طريقة من قال: إن المندوب إليه مأمور به، وأن تركه غير منهي عنه. وقد قدمنا فيما مضى ذكر الخلاف في ذكر المندوب إليه مأمورا به، وذكر الخلاف أيضا في كون الأمر على جهة الندب نهيا عن الضد، فهذا الحد إنما يصح على أحد هذه المذاهب الذي نبهناك عليه. وقد قيل في حده: إنه الفعل المأمور به الذي لا يلحق الذم بتركه. ولابد أيضا (ص 97) في هذا الحد من التعرض لتلك الزياة، وهي قولك: من حيث هو ترك له. وهذا المعنى سلك أبو المعالي في تحديده في كتابه المترجم بالبرهان، ولكنه عبر عن

فصل في حقيقة المحظور

قولنا: المأمور به، بأن قال: المقتضى شرعا من غير لوم على تركه، فكأنه بقوله: المقتضى، تعرض إلى التخلص من الخلاف في كون المندوب إليه مأمورا به، فإنه وإن اختلف في كونه مأمورا به لم يختلف في كونه مقتضى. فصل في حقيقة المحظور أما المحظور فأصله في اللغة مأخوذ من المنع، ومنه قوله تعالى: (وما كان عطاء ربك محظورا)، يعني ممنوعا، ومنه قوله تعالى: (فكانوا كهشيم المحتظر)، يعني صاحب الحظيرة الزرع الذي حظر له ومنع منه حتى انصان. وله عبارات، يقال: محظور، وممنوع، قال الله تعالى: (لا مقطوعة ولا ممنوعة)، وحرام قال الله تعالى: (وحرام على قريةٍ أهلكناها)، ومحجور قال الله تعالى: (ويقولن حجرًا محجورا) يعني حراما محرما. وأما حده فمقلوب ما حددنا به الواجب، لأن المحرم هو ما نهى عنه نهيا جازما، كما أن الواجب هو ما أمر به أمرا جازما، فإذا كان حقيقة الواجب: ما تعلق الذم بتركه، كان حقيقة المحظور: ما تعلق اللوم بفعله. وقد قال أبو المعالي: المحظور ما زجر الشرع عنه ولام على الإقدام عليه. وأنت إذا طالعت تلك العبارات التي قدمناها في الواجب، وعكستها فقد حددت المحظور. فصل في حقيقة المكروه أما المكروه فأصله في اللغة ضد المراد، والكراهة ضد الإرادة، وليس هذا المعنى هو المراد به في الشرعيات، لأنا لا نشترط في أوامر الله سبحانه أن يكون مريدا لما أمر به، ولا في نواهيه أن يكون كارها لما نهى عنه. وأصل هذه الكلمة في اللغة مأخوذة من التنفير، ومعنى قوله تعالى: (وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان)، أي نفركم عنه وبغضكم فيه، كما قال الشاعر: وإذا تكون كريهة أدعى لها ... وإذا بحاس الحيس يدعى جندب

فسمى الحرب كريهة، لنفار الطباع منها. وأما حد المكروه فاعمل فيه بما قلنا لك في حد المحظور، فإن المكروه نقيض المندوب إليه، كما أن الحرام ضد الواجب، فإذا كان مقلوب حد الواجب هو حد الحرام، فليكن مقلوب حد الندب هو حد المكروه. وقد قال أبو المعالي: المكروه ما زجر الشارع عنه، ولم يلم على الإقدام عليه. لكن يفتقر هذا التحديد إلى النظر في نكتة، وقد تقدم بسطها، وهي تعلق أوامر الشرع بالشيء قصدا إليه، أو يكون المأمور به، أو المنهي عنه في حكم الذريعة والوصلة إلى امتثال الأمر والنهي. وقد تقدم مذهب الجماعة في تعلق الأوامر والنواهي بهذه الوصلات والأسباب المؤيدة للامتثال، ومذهب أبي المعالي فيها، وذكرنا عنه أنه لا يطلق القول بأنها مأمور بها أو منهي عنها، حيث تكلمنا على كون الأمر بالشيء نهيا عن ضده، وذكرنا الاختلاف فيه، والاختلاف في الأمر على جهة الندب؛ هل هو أمر بالضد على رأي من سلم كون الأمر الواجب نهيا عن الضد، وذكرنا هناك ما عندنا في ذلك، وتلك الطريقة تستعمل هاهنا، فما ورد الشرع بالنهي عنه على جهة التنزيه قصدا إليه، وتعلق النهي مختصا به، فلا شك في تسميته مكروها لغة، وعزما، ألا ترى النبي عليه السلام لما قال: "لا يمنعن أحدُكم جاره أن يغررز خشية في جداره"، وكان هذا نهيا محمولا على الندب على المذهب المشهور، كان المنع من غرز خشية مكروها. وأما ترك صوم يوم لم يرد الشرع بالتغريب في عينه، أو صلاة ركعتين لم يرد الشرع بالترغيب في عينهما، فإن فعلهما مندوب إليه ومأمور به، فليكن تركهما منهيا عنه نهي تنزيه، على حسب ما قدمناه، من كون الأمر بالشيء نهيا عن ضده، فهدأ النهي موقع نزاع واضطراب بين العلماء، فمنهم من يشير إلى استحقاق إطلاق اسم الكراهة على هذا، ومنهم من يمتنع من ذلك. وأشار أبو المعالي إلى أن مذهب الفقهاء جار على الامتناع من هذا، ولا شك في أن استيعاب العمر بصلاة النافلة، وصيام التطوع مستحسن في الشرع مندوب إليه، ولا يطلق الفقهاء على من جانب هذه السيرة أنه أتى مكروها. هكذا ذكر أبو المعالي، وقد ذكرنا نحن إشارة الفقهاء إلى الاضطراب في هذا الفصل، واعتذر أبو المعالي عن هجران الفقهاء هذه التسمية (ص 98) في هذا النوع بأن النهي عن القواطع عن هذا النوع من الخير لم يرد في الشرع نص عن النهي عنها، وإنما ينهى عنها

فصل في حقيقة المباح

على جهة كونها وصلات وأسبابا في تحصيل هذه المندوبات، وما كان هكذا فقد تقدم مذهب أبي المعالي أنه لا يوصف بأنه منهي عنه من مقتضى الأمر بضده، وذكرنا نحن أن الجماعة لا تنكر كون النهي عنه غير مقصود في نفسه، فلعل من جانب من الفقهاء هذه التسمية في هذا النوع إنما اجتنبها لأجل كون النهي عنها إنما ورد لأجل غيرها، وهو كون اجتنابها موصلا لفعل ما أمر به. ومن سلك من الفقهاء طريقة الامتناع من إطلاق اسم الكراهة على هذا النوع، فإنه يتطلب للمكروه حدا مأخوذا من معنى آخر، فقال بعض هؤلاء: المكروه ما اختلف في تحريمه، وهذا غلط لأن من المكروه ما اتفق على اختصاصه بحكم الكراهة من غير اختلاف في تحريمه. وأيضا فإن كل فقيه مأخوذ بمقتضى نظره، فمن أداه اجتهاده إلى تحريمه فليس بمكروه عنده على مقتضى العرف، إذ لا أحد يسمى المحرم مكروها، وإن كان قد يسمى المحرم مكروها على أصل اللغة، ومن أداه اجتهاده إلى تحليله لم يعتقد كونه مكروها على مقتضى مذهبه. ومنهم من قال: حده: ما خيف العقاب عليه، وهذه إشارة أيضا إلى هذا الحد الذي أفسدناه، لأن الشك في حكم لا يصح بين سائر العلماء، وفي الأحكام ما اتفق على كراهته من غير شك في حكمه، وقد قال بعضهم، إذا التبست الأدلة، وغمض مدرك الحق، وأمكن مع هذا التوصل إليه، فالهجوم على ما هذا سبيله مكروه، وهذا المرمى أيضا يشير إلى نحو ما أشار إليه مذهبهم، وأفسدناه. وقد يستمسك هؤلاء بقوله عليه السلام: "الحلال بين، والحرم بين، وبينهما أمور متشبهات"، فأشار إلى اجتناب الشبهات على حسب ما قاله هؤلاء، وبالجملة فإن مرجع الجميع إلى محاكة في لغة أاصطلاح، والنزاع فيها يهون مع تسليم المعاني المقصودة. فصل في حقيقة المباح أصل هذه اللفظة مأخوذ من التوسعة، ومنه قولهم: باحة الدار، يعنون وسطها والموضع المتسع منها، فلما وسع على الإنسان أن يفعل أو يترك سمي هذا المعنى إباحة لما فيه من التوسعة، ولابد في حدها من التعرض للفعل والترك، كما ذكرنا في المندوب، ولكن التعرض إلى خاصية الفعل والترك اختلفت العبارة عنه، فقوم قالوا: ما فعله

فصل في مصارف صيغ الأوامر والنواهي

وتركه سيان، وهذا منتقض بأفعال الله سبحانه، فسوى فعله وتركه تعالى في تفويض الأمر إليه في ذلك، وأنه موقوف على إرادته، وربما استوى ذلك في المصلحة عند من اشترط في أفعاله تعالى المصالح. وتنقض أيضا بأفعال البهائم فإنه قد استوى فعلها وتركها. ولما أحس بالمناقضة بأفعال الله سبحانه بعضهم قال: المباح ما لا يستحق مدح بفعله، ولا ذم بتركه. وهذا وإن لم ينتقض بأفعال الله سبحانه لأنه يستحق المدح عليها، فإن ينتقض بأفعال البهائم، فإنها لا تذم ولا تمدح على أفعالها، وأفعالها ليست بمباحة. ولما تفطن الآخرون إلى الفساد بهذه الطرق أضافوا إلى هذا المعنى ما تخلصوا [به] من النقض، فقال بعضهم: ما ورد الإذن عن مالك الأعيان بأن فعله وتركه سيان. بهذا كان يحده أستاذي الأصولي، ولكن لابد من الزيادة التي كنا قدمنا التنبيه عليها في فصل قبل هذا، وهي قولنا: من حيث هو ترك له، فيقول: ما ورد الإذن من مالك الأعيان بأن فعله وتركه من حيث هو ترك له سيان. وقد بسطنا وجه الحاجة إلى هذه الزيادة، وهي أن المباح قد يترك لمعصية فيكون الترك حراما، ولكن إنما حرم لأجل نفسه، لا لأجل كونه تركا للمباح. وقال بعضهم: ما أذن الله سبحانه في فعله وتركه من غير مدح على فعله، ولا لوم على تركه، ولابد أيضا من تلك الزيادة من حيث هو ترك له. وقال بعضهم: ما أعلم المكلف أنه لا نفع له في فعله، ولا ضرر عليه في تركه، ورأى هؤلاء أن الإعلام والإذن، أو عبارة تنوب مناب هذين يدفع النقض بأفعال الله سبحانه وأفعال البهائم، ولابد مع هذه العبارة الدافعة للنقض، والتعرض لخاصية الفعل والترك من تلك الزيادة التي نبهنا عليها مرارا في جميع حدود هؤلاء، وقد قدمنا قول من قال: إن المباح مأمور به، وصار إلى هذا أبو الفرج من أصحابنا، وأصحاب هذه الطريقة ليسوا من هؤلاء الذين قدمنا مذاهبهم في ورود الأخبار في أصل هذه المسألة. فصل في مصارف صيغ الأوامر والنواهي أما صيغة الأمر والنهي فقد تقدم بيانهما، وأما (ص 99) ما يسمى أمرا ونهيا فقد تقدم أيضا بيانه، وأن الجازم يسمى بهذا، وما لا جزم فيه من أمر أو نهي فعلى القولين، وأما ما

ينصرف إليه هذه الصيغ فيكثر تعداده، وقد عد أبو المعالي منه وغيره من ذلك مصارف كثيرة. فأما الأمر فهو ما ورد من هذه الصيغ على: قصد الإيجاب كقوله: (وأقيموا الصلاة). أو على الندب على طريق من قال: المندوب إليه مأمور به، مثل قوله: (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا). وقد ينضاف إلى الندب قصد آخر فتوصف الصيغة به كقوله: (وأشهدوا إذا تبايعتم)، فهذا بمعنى الإرشاد إلى الأحوط. وترد بمعنى الدعاء كقوله: (اهدنا الصراط المستقيم). وترد بمعنى التهديد كقوله تعالى: (اعملوا ما شئتم). وبمعنى التكوين كقوله تعالى: (كونوا قردة خاسئين). وبمعنى الإنذار كقوله تعالى: (قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار). وبمعنى الإكرام كقوله تعالى: (ادخلوها بسلام أمنين). وبمعنى الإهانة كقوله تعالى: (ذق إنك أنت العزيز الكريم)، وقد علم أن الآخرة ليست دار تكليف، ولا طلب، فالمراد بهذين ما قلناه من إكرام، أو إهانة. وبمعنى الإنعام، كقوله تعالى: (كلوا من طيبات ما رزقناكم)، والظاهر أنه تذكير بالنعمة، وإن كان فيه معنى الإباحة. وبمعنى التسوية كقوله تعالى: (اصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم).

وبمعنى الإباحة كقوله تعالى: (وإذا حللتم فاصطادوا). وبمعنى التأديب والتمرين كقوله [عليه] السلام لابن عباس، وكان صغيرا: "كل مما يليك". وبمعنى التمني، قال امرؤ القيس: ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ............................ وبمعنى التعجيز كقوله تعالى: (أتوا بسورة من مثله)، وقوله: (كونوا حجارة أو حديدا). وبمعنى التحكيم والتفويض كقوله تعالى: (فاقض ما أنت قاض). فهذه خمسة عشر محملا المختصة بالصيغ المقيدة بالقرائن، وهي الندب وما بعده مما عددناه معه. وأما الإيجاب فهو معنى يختص بالأمر المطلق على الرأي الذي قدمناه في ذلك، وهذه المحامل التوسع في زيادة البيان، وإفراد كل نوع عن نوع بأدنى عارض هو الذي دعا إلى عد هؤلاء، فربما قد أدخل بعضها [في بعض]، ألا تراه عد قوله تعالى: ادخلوها بسلام أمنين) قسما، وعد [قوله]: (كلوا من طيبات ما رزقناكم) قسما آخر، ووصف هذا بأنه امتنان، وهذا بأنه إنعام، والامتنان إنما يكون بالنعم، ولكن عرض في الثاني معنى الإباحة، كما نبه عليه فأفرده بالذكر. وكذلك عد قوله تعالى: (قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار) قسما القصد منه الإنذار، وعد قوله تعالى: (اعملوا ما شئتم) قسما آخر القصد منه التهديد، وقد يتقارب المراد فيهما. وكذلك عد قوله تعالى: (فاقض ما أنت قاضٍ) قسما آخر، وقد

يدخل أو يتقارب بعض ما تقدم. وهذا التنبيه يرشدك إلى ما سواه، وإلى ما ذكرناه في النواهي، إن مطلقها للتحريم على الرأي الذي قدمناه، ومقيدها يرد للتنزيه، وللدعاء، وللإرشاد كقوله تعالى: (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم)، ولبيان العقابة كقوله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا)، وللتحقير والتقليل كقوله تعالى: (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجًا منهم)، ولإثبات اليأس كقوله تعالى: (لا تعتذروا اليوم). وهذه المصارف جارية على ما نبهناك.

كتاب العموم والخصوص

كتاب العموم والخصوص دعت الضرورة في هذا الكتاب إلى الخروج عن رسم ما يقتضيه التأليف في هذا العلم، وذلك أن أبا المعالي رمز فيه إلى مذاهب الفلاسفة في القوة الفكرية والعقلية، وخرج عن عادته القديمة في إكبار أئمة الأشعرية، وتحسين المخارج لهم، فيما قد يظن ظان بهم، أنه يتوجه عليهم فيهم قدح، وأشار إليهم بأنهم طاشت منهم الأحلام في أمرهم في استهانتهم إياه كالنيام استركاكا واستهجانا، ووصفهم أنهم جهلوا من علم الفلسفة أمرا فاختبطوا لأجله. وحاشى أهل الاعتقاد الصحيح أبي الحسن الأشعري، والقاضي أبن الطيب، وابن فورك، وابن مجاهد، وغيرهم من أئمة الدين أن يختبطوا، والمذهب الذي ذكر أن أهله اختبطوا هم هؤلاء، والمعتزلة على أصله اختبطوا أيضا. هذا وقد وقع له في هذا الكتاب الإشارة إلى الثناء على ابن الجبائي المعتزلي في مواضع، وتحسين الظن به، وتخريج المخارج الجميلة لكلامه في موضع آخر، وأئمته أحق بهذا منه من ابن الجبائي، وهول هذا الفصل حتى نظر إلى الريح الرخاء بعين الزعازع، وذكر أنه لا مطمع في معالجة ما رمى إليه، فضلا عن استقصائه. فرأيت أن الواجب الذب عن هؤلاء الأئمة، وإبانة أنهم لم تطش أحلامهم، بل هو الذي طاش به حلمه (ص 100)، إذ كان في القديم من كتبه في هذا الفصل الذي نحن فيه على رأيهم، ثم انتقل عنهم لتخييلات كتخييلات الشعراء، واستعرابات الصوفية، مجانبة لحقائق المتكلمين، نام المتكلمون فيما قالوه ملي جفونهم، وسهر هو ومن خالفهم واختصموا.

وأعان أيضا على بسط هذا وأكده، أن جماعة التلاميذ المجتمعين لإملاء كتابنا هذا عليهم سألوا في الكشف عما أخفى، والإجهار بما أسر فرأينا من الصواب أن نبسط مذاهب الفلاسفة في هذا الفن بسطا يتجلى منه لقارئ كتابنا صورة ما ذهبوا إليه، ونشير في أثناء ذلك لبطلان ما هم عليه، بأن نقرر جملة نستعين بها في الرد عليهم، وذلك أن تعلم أن صاحب المنطق جزأه أجزاء، فمن أجزائه التخييلات والخطابيات، ووصف أهل علم المنطق هذا النوع بأنه يستميل النفوس ويهزها، وهذا لعمري كما قاله، أنت ترى طرب كل ذكي عندما ينشد أشعارا رائقة الألفاظ، بديعة معانيها في التشبيهات والاستعارات والتمثيلات، وكلما زاد الشاعر في تخييل المعاني التي تشتاق إليها الطباع، أطرب السامعين. وهذا جرى للقوم في علومهم التي سموها الإلهيات والطبيعات، يستمسكون فيها بخيالات مضمحلات، لكنهم يجنحون فيها إلى المحسوسات، فربما استمالت الغر، واستقادت من لم يعجم حقائق الأدلة، ثم مع هذا يزدرون على أدلة المتكلمين، وإن نفس الله في مدة العمر، فلابد أن نورد جميع ما قالوه في كتبهم الإلهيات حرفا حرفا، ونعرض عليك طرقهم في الاستدلال عليها، وطرق المتكلمين، فيغنيك عرض ذلك عليك عن الموازنة بين الفئتين، وعن ذكر الصحيح من المذهبين لظهور ضعف مبانيهم التي بنوا عليها معانيهم. وهاهنا نبسط لك مذاهبهم في هذا الفن الذي نحن فيه بعبارات تألفها، حتى تتصور معانيهم حقيقة التصور. فاعلم أنهم يقولون: إن هذه الموجودات التي تتغير صورها، وتوجد بعد أن لم تكن موجودة على أحوال وتدرج، حيوان ونبات، وقد علم أن للحيوان والنبات أفاعل وخصائص، فارقا بها ما سواها من المحسوسات، كالسماء والأرض، وذلك أن هذا النبات والحيوان يحس وجوده على تدريج إلى أن يتكامل، ثم يحس بعد التكامل بنقصه إلى أن ينحل ويبطل، وما ذاك إلا أن لهذين النوعين قوة يكون بها تغذيه، لأنا نشاهد تغذي النبات بالماء وغيره، وتغذي الحيوان بالطعام وغيره، ولولا هذا التغذي لما تكامل وجودهما، ولا نقص ما تكامل منهما، فأضافوا هذا النوع من التغيير المحسوس إلى قوة في جسم البر المودعة في البطن. قالوا: فهذا معنى حصل لهذا النوع، بهذا النوع من الاستدلال، وكذلك

حصل له نوع آخر، وهو زيادته في الأقطار وذهابه في الجهات، ألا ترى أن النطفة تعظم في البطن، والطفل يعظم بعد الوضع شيئا فشيئا، وكذلك النواة المغروسة تعظم شيئا فشيئا، فلابد أن نضيف هذا الفعل إلى قوة أخرى في هذه الأجسام، فنقول: فيها قوة منمية. ثم أيضا نشاهد نوعا آخر من الأفعال لهذه الأجسام، وهو التوليد، فيكون عن الإنسان إنسان مثله، ويكون عن البرة إذا أسلبت برة لمثلها، فلابد أيضا أن تثبت قوة ثالثة تفعل هذا النوع. فيحصل من هذا الجميع الحيوانات والنبات ثلاث قوى: قوة مغذية، وقوة منمية، وقوة مولدة. وهاهنا تقف معهم وقفة قبل أن نتمادى على سياقة مذهبهم فيما نحن بسبيله فنقول: أحسستم وأحسسنا بهذه التغييرات الثلاثة التي هي التغذية، والتنمية، والتوليد، وبقي علينا وعليكم الكشف عن السبب فيها، فقلنا نحن: لا سبب لها إلا الله سبحانه خلقها، وفعلها كذلك، فالذي خلق أصل الوجود خلق تغير هذا الوجود، وهل هذا إلا كوجود بعد وجوده، والذي فعل الواحد من هذا الوجود هو الذي فعل جميعها، فلا سبب ولا مسبب عندنا، وإنما هنا خلق وخالق، صنع الله الذي أتقن كل شيء، ولو قدرنا أنه أوجد ذلك دفعة واحدة لم يكن بنا حاجة إلى إثبات قوة لكل نوع، فكذلك إذا أحسسنا أنه أوجد شيئا بعد شيء، ومن أعطى زيدا مالا دفعة واحدة، كمن أعطى زيدا درهما بعد درهم، لا تختلف معنى الفعلية في هذا، ولا معنى الفاعل، فكذلك ما نحن فيه. والخباط الذي يتخيلون هاهنا، من أن هذه أفعال توجد شيئا بعد شيء، على جهة تغير الذوات لا يمكن أن تضاف إلى الباري سبحانه، لأنا لو أضفناها إليه لأدى إلى تغيره (ص 101) [وهذا] واضح البطلان، ولأن الفعل لا يوجب العقل أن يغير ذات الفاعل، ولو سلمنا أنه يوجب ذلك فينا، وأن يحس منا، لم يلزم أن يكون الباري سبحانه في ذلك كنحن، وشتان بين من يفعل بآلة، وبين من يفعل بغير آلة، وشتان بين ذات تقبل التغير، وتخلع عندهم صورة وتلبس أخرى، كما يخلع النبات صورة النباتية، ويكتسي صورة اللحمية إذا غذي به الإنسان، فإن كان يفرط تغير فمن هذه الجهة، وقد اتفقنا على أن الباري سبحانه متقدس عن هذه النقائص، فلا مجال لتصور التغير عليه إذا تغيرت أفعاله، وبالجملة فقف معهم موقف مطالب بالدليل، وقل لهم: ما الدليل على أن كل فاعل إذا تغيرت [أفعاله تغيرت] ذاته؟ فلا يجدون أبدا استدلالا على هذا، ضعيفا ولا قويا، فإن ركنوا إلى المشاهدة والحس، قيل لهم: رد ما غاب في حكم الوجود إلى ما شوهد باطل عيانا، ومن قضى ممن لم ير بشرا أسود أن لا بشر أسود في الدنيا، فقد أخطأ عيانا.

هذا، وهذه الذوات المحسوسة تتغير وفي العالم العقلي عندهم ما لا يتغير. واعلم أن هذه الطريقة الفاسدة، هي التي أدتهم إلى أشنع مذهب ركبوه في صنعة هذا العالم، وكون شيء عن شيء، حتى لا يتناهى الأمر إلى الواحد الأول، فلم يكن عندهم عنه إلا آخر يليه، على حسب ما بيناه من مذاهبهم في غير هذا الكتاب الذي يؤدي إلى مفارقة مذهب أهل الشرائع، فصار تلخيص هذا إنما أثبتنا هذه الأفعال الثلاثة من صنعة الله سبحانه، وجعلنا واحدا خلق ثلاثة، وأحلنا على فاعل معقول، وجعلوا هم هذه الأفعال الثلاثة لثلاثة فاعلين، وأحالوا على فاعل غير معقول. وقف أيضا معهم هاهنا وقفة، فلا يكادون يتخلصون منك، قل لهم: هب أنا سلمنا أن هذه الأفعال لغير الله سبحانه، فهذا الغير اكشفوا عنه، وأخبرونا عن معنى قولكم: قوة؟ هل تريدون بهذا جوهرا أو عرضا؟ فإن قالوا: لا نريد جوهرا، ولا عرضا، منازعة منهم في هذه العبارة. قيل لهم: فهل تشيرون إلى متحيز، أو إلى قائم بنفسه، أو تشيرون إلى غير متحيز أو إلى غير قائم بنفسه؟ فلا يمكنهم هاهنا أن يشيروا إلى نوع آخر. فهذه تسمية ضرورية مترددة بين نفي وإثبات، فإن أشاروا إلى متحيز ذي مقدار، وعظم، فذلك الجوهر، فكأنهم يقولون: ثلاثة جواهر، انفعل عن كل واحد منها نوع من الفعل، والذي انفعل نحن نشاهده جوهرا [انسل عن] جوهر آخر، فيكيف يصح أن يكون هذا منفعلا عن هذا، وليس لأحدهما مزية عن صاحبه؟ وإن أشاروا إلى [ما لا] مقدار له في العظم، ولا تحيز وهو مع محمول أصلهم، وحال على أصلنا في الذوات، فهذا صفة من الصفات، ومحال أن تكون الصفة فاعلة، وما لا يقوم بنفسه لا يقوم غيره به، ولا يخلق ما سواه، ومن شرط الخالق أن يكون حيا، قادرا، عالما، والصفة لا تكون حية، عالمة، قادرة، لأن الحياة والعلم والقدرة صفات، والصفات لا تكون صفات لصفات، لأن هذا يؤدي إلى ما لا يتناهى. وإن كان هذا الذي لا عظم له في المقادير والتحيز ذاتا غير متحيزة ولا مقدرة بتقدير، ولا مفتقرة إلى محل، فهذا هو الله سبحانه الذي جعلناه فاعلا. ويبقى علينا كونه حيا، عالما، قادرا، وهذا معلوم ثبوته، لأن الموات، والجماد، ومن لا يعلم، ولا يقدر، لا يفعل، وهذه أمور تضطرهم إلى مفارقة مذاهبهم، وعجبا لقوم يهربون عن هذا مع وضوحه إلى إثبات ما لا يتصور ولا ينعقل، ولو تصور وانعقل لم يقم عليه برهان ولا دعت إليه ضرورة، ومن الممكن في غير هذا الذي نحن فيه أن تنسب

ثلاثة أفعال إلى ثلاثة فاعلين، أو تنسب إلى فاعل واحد، فما قلناه غير محال، ولا ممتنع تصوره، ولا هو مما لا ينعقل، وقد أقمنا عليه البرهان، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ ثم أيضًا بعد هذين الوقفتين، قف معهم وقفة ثالثة، وقل لهم: هب أن سلمنا أن هذه الأفعال الصادرة عن قوى لا عن الله سبحانه الخلاق العليم، فلم كانت ثلاثة؟ وهلا كانت قوة واحدة؟ بها تكون التغذية، والتنمية، والتوليد، فهلا قلتم أيضا في هذه الثلاث: إنها مضافة إلى واحد؟ كما قلنا نحن: مضافة إلى واحد، وتخالفوها في هذا الواحد، هل هو الله سبحانه كما قلنا أو قوة واحدة؟ واعلم أنهم لا يجدون عن هذا الاعتراض جوابا أبدا، ولا خيالا يخيلون به على حسب عادتهم، وقد رأيت في كتاب عظيم عندهم من تأليف عظيم من أئمتهم المتأخرين جوابا عن هذا الاعتراض لا يحسن بالمحصل الاشتغال باستماعه، فضلا عن النظر في دفاعه (ص 102) ولكنا نورده ونجيب عنه، لعظم شأن من أورده عندهم، وذلك أنه ذكر أن القوة مبدأ الفعل بالقصد الأول، ومن المحال أن يكون شيء بالقصد الأول مبدأ لشيء، ومبدأ لآخر، وإنما يكون مبدأ لما يلي فقط، وهذا كما تراه في غاية الوهي والضعف، وذلك أنا نقول له: إن أردت بالمبدأ هاهنا أن هذا الشيء أول لهذا الشيء، على جهة أنه جزء منه، ولكن هذا الجزء هو أول أجزائه، كما تقول هذه النقطة أول هذا الخط، فصدقت فيما قلت: إنه محال أن يكون هذا الشيء أول لشيئين مختلفين كما [أنه] من المحال أن تكون النقطة الواحدة نهاية لخطين مختلفين متجاورين. ولكن يبقى عليك السؤال في أصل الاستدلال، لا في هذا الانفصال، فيقال: هل لك هذا الجزء الذي هو أول الخط مثلا، ما مبدأه هو أيضا؟ فإن قلت لا مبدأ له ولا سبب ولا فاعل. قيل لك: فبقية الأجزاء كذلك للمشابهة له، ولا يمتري عاقل أنه إذا جاز وقوع جزء من غير سبب ولا فاعل، صح وقوع جزء آخر يشبهه عن غير سبب ومن غير فاعل. ومن جوز أن يقع ربع خط مثلا من غير خاط، جوز أن يقع بقيته من غير خاط، وهذا معلوم صحته على الضرورة والبديهة، وفي هذا إن مرورا عليه إنكار القوة أصلا، التي قالوا: إنه مبدأ لهذا الفعل. وإن قالوا: هذا مبدأ ليس هو من أجزاء هذا الانفعال، ولا يعني قولنا: إنه أول له، أنه نهاية فيه من أحد طرفيه، كما يقال: أول هذا الخط هذه النقطة، وإنما نريد بقولنا: مبدأه، أن هذا الفعل يكون عنه، قيل لهم: قد أحلتم هاهنا أن يكون عن الشيء الواحد

شيئان أو أشياء، وبهذا طالبناكم، وعنه سألناكم، وأخبرناكم أنكم لا تجدون عنه جوابا أبدا، وهذا أوضح من فلق الصبح. فهذه كلها مواقف إذا تأملتها علمت منها بطلان ما قالوه، واستبان لك أنهم لا جواب لهم عما ألزمناهم به أبدا، ولو أخذت في مشاحتهم في القوة المنمية من جهة المعنى، فقلت: هلا تمادى النمو إلى حد فوق الحد الذي بلغ النبات إليه؟ لم يجدوا عن هذا جوابا، سوى أنه ليس في قوة هذه القوة الزيادة على مقدار ما يبلغ النبات إليه، فيقال لهم: ولم كانت هذه الصفة؟ فلا يجدون عذرا إلا أن يقولوا: هكذا أبدعها مبدعها، فإضافة النماء إلى المبدع الحق، وهو الله سبحانه أولى. ولو أخذت في أن تشاحهم في العبارة لوجدت في ذلك مساغا، فتقول: هل تولد البزر في النبات إلا ضرب من التنمية؟ وهل فرقان بين أن تفعل هذه القوة أخرى وهي ساق النسبلة، أو أخرى هي القمح في رأس السنبلة؟ وهل الجميع إلا نماء تولد عنها؟ فهلا قلتم ليس هاهنا في هذين الموضعين سوى قوة واحدة وهي المنمية؟ إلا أن تريدوا أن اختلاف صور الأجزاء النامية أوجب اختلاف التسمية في صورة النمائين خالفتم بين التسمية، فيكون هذا اصطلاحا منكم على هذه العبارة فمسلم، وإما أن يمتنع استصحاب هذه التسمية، التي هي القوة المنمية على البزر، فلا بعد فيه من جهة اللسان، وإذا كان معنى التسمية الموجب لحصول التسمية موجودا في البزر، وجوده في ساق النبات أكد هذا ما التزمناهم من اتحاد القوى، وإبطال ما قالوه في تعدياها. وقد بسطنا القول في الرد عليهم في هذا النوع من القوى قليلا، لأنه سنستغني به عن المناقضة في بقية ما قالوه. وأنت إذا تأملت ما بقى من تقاسيمهم، وما رددنا به هذا القسم خاصة، نقلت ما قلناه من الرد عليهم في هذا القسم إلى بقية الأقسام. ثم إنهم لما نظروا أيضا إلى انتقال آخر، وميزة ثانية في أحد هذين النوعين، وهو الحيوان فوجوده قد تميز عن النبات بأنه يحس ويتحرك بالإرادة، بخلاف النبات فإنه لا يحس، وحركته طبيعية، لا بالإرادة، وإنما يتحرك على جهة واحدة وهي جهة النمو، قالوا: لابد لهذا أيضا من نفس أخرى غير نفس النبات التي هي كمال لجنسه، بذلك الكمال استحق أن يختص بقواه الثلاث، المولدة، والمنمية، والمغذية، وقصر هذا الكمال عن أن يستحق نفسا أخرى لبعده عن الاعتدال، التي تقرب إليه الحيوان، فكان كماله لقربه من

الاعتدال أبلغ من كمال النبات، فاستحق مع هذه النفس النباتية المغذية المنمية المولدة نفسا أخرى، وهي النفس الحيوانية، فاستحق بهذه النفس نفسا أخرى، وهي كونه محسا متحركا بإرادته وهذه أيضا قوة للحيوان لما اختص بهذا المعنى، [كما] قلنا: من حس وحركة بإرادة. ولهذا الحيوان قوتان: محركة ومدركة، فالمحركة نوعان: شوقية، واختيارية، فالشوقية تبعث النفس على الحركة إلى ما يشتهي، والنفار عما يضر، والاختيارية هي المشاهدة من حركة أعضاء الحيوان (ص 103) وتصرفاتها. والمدركة أيضا نوعان مدرك الصورة المتلونة بانطباعها في الهواء، ويتسلسل الانطباع حتى ينطبع في الرطوبة الجليدية التي في العين فتدركها هذه القوة. وحاسة السمع، وهي قوة في العصب المفرق في الصماخ، بها تدرك الأصوات بتوسط تضاغط في الهواء، وتزاحمه عند قرعه، ثم ينطبع أيضا تلك الأصوات فيه بضرب من التموج، حتى يصل ذلك الهواء إلى الصماخ، فيتشكل بشكله فتدركه تلك القوة التي فيه. وحاسة الشم، وهي زائدتان في الدماغ كحلمتي الثدي، يتخلل إليهما روائح الأجسام، فتدركها قوة بهاتين الزائدتين. وكذلك حاسة الذوق، وهي قوة أيضا في العصب المفروش في سطح اللسان، يدرك طعوم الأجسام ذوات الطعوم. وكذلك حاسة اللمس، قوة منبتة في سائر جلد الجسم، ولحمه، يدرك بها الحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، والرخاوة، والصلابة، والملوسة، والخشونة. فهذه مذاهبهم في القوة الحاسة الداركة، وأنت ترد عليهم في هذا بما قدمناه أولا، من كون هذه القوة لا يعقل معناها، ومن اشتراطهم تعددها بغير دليل، مع هذا التحكم أيضا في هذه التفاصيل، والرد عليهم في هذا التحكم مبسوط في كتب علم الكلام، أشبع فيها الرد عليهم في الانطباع والرد على المعتزلة، والأطباء في الشعاع، وهذا الانطباع أيضا لا يتحقق له معنى، وإن أشير به إلى عدم، فالعدم لا يدرك، وإن أشير به إلى وجود، فذلك الوجود إن كان عرضا فالعرض لا يصح انطباعه ولا انتقاله، وإن كان جسما فالأجسام المدركة أضعاف الرطوبة الجليدية، بما لا يكاد يضبط، لعظمه، فإن انطبع في الرطوبة جسم بمقدار الجسم المرئي، فمحال أن يرى الإنسان الجبل كله، وإن كان إنما ينطبع في الرطوبة

بمقدارها، فما رأى الإنسان من البحار والجبال إلا أصغر من أنملة، وهذا باطل على الضرورة والاتساع في رد هذا لا يليق بما نحن فيه. وكذلك ما قاله في حاسة السمع، قد استقصى المتكلمون من أئمتنا إبطاله في كتب علم الكلام. وأما الذي ذكروه في حاسة اللمس، فإنهم ذكروا أربعة أنواع من المدركات، ونحن قد نرد بعضها إلى بعض على ما عرف في كتب علم الكلام، فنناقضهم في تعدادها أولا، ثم نناقضهم فيها من جهة ثانية، فنقول لهم: الحرارة والبرودة جنسان مختلفان متضادان، وقد أدركتهما هذه القوة، والرطوبة واليبوسة جنسان متضادان أيضا، وهما جميعا مخالفان للحرارة والبرودة، فما بال هذه القوة الواحدة استولت [على] المتضادين، والمختلف الذي لا يتضادد، وهذا مناقضة لما قاله إمام عظيم عندهم من متأخريهم، فإنه قال: يشبه أن تكون القوة الداركة لهذه الأجناس واحدة، وهذا إذا مر عليه وسلمه، تأكد ما قدمناه من المناقضة لهم في قولهم بتعدد هذه القوى. أما القوة المدركة الباطنة عندهم فهي خمس قوى أيضا، كما أن الظاهرة خمس أيضا. فأول هذه الباطنة قوة في مقدم الدماغ يسمونها فنطاسيا، ويسمونها الحس المشترك، ومعنى الحس المشترك أن جميع الإدراكات الظاهرة التي عددناها، تنقل مدركاتها إلى هذه القوة التي في مقدم الدماغ، فيطبع صور المدركات فيها على حسب ما أدركتها، فيكون الانطباع في القوتين الظاهرة، وهذه الباطنة مقترنا، وإن كان الرتبة في البداية إلى القوة الظاهرة، ومهما كانت القوة الظاهرة عمالة في الصور منطبعة فيها، كانت هذه القوة الباطنة منطبعة أيضا فيها الصور، وإذا لم تعمل القوة الظاهرة لم يقع انطباع في هذه القوة الباطنة. هاهنا يجب أن نطالبهم بجميع ما قدمناه، ثم نخص هذه المسألة بمطالبة أخرى، ولا جواب لهم عنها، فنقول: لم زعمتم أن هذه الباطنة مدركة لجميع محسوسات الحواس الخمس الظاهرة؟ وما بال هذه القوة وهي واحدة أدركت جميع هذه المدركات على اختلافها، وهلا كان ما سواها من القوى التي يهتفون بها متحدا، كقولهم في هذه القوة؟ ولم هربتم أن تجعلوا هذه الواحدة الباطنة قوى كثيرة متعددة بحسب تعدد الحواس الظاهرة؟ وقد أجاب جميعهم عن هذا، المتقدم منهم والمتأخر بجواب واحد، وذلك أنهم قالوا: نحن نعلم أن الإنسان يحس فرقا بين الحلو والمر، والاسود والأبيض، وبين ما يراه وبين ما

يسمعه، فلو كانت تأدية هذه الحواس الظاهرة إلى قوى باطنة متعددة لم يجد الإنسان فرقا بين مدرك ومدرك، لأن محل هذا غير محل هذا، فكل لا يحصل فيها إلا مدركها، فالفرق كيف يحس مع تباين القوتين، وتباين المدركين؟ وإنما يحس الفرق (ص 104) على ما قلناه من كون القوة واحدة اجتمع فيها أمران، ففرقت بينهما. وهذه الحجة لا تساوي استماعها، وذلك أنا نطالبهم أولا بتخصيص ما قالوه من اشتراط الاتحاد، لأجل إحساس التفرقة، ونقول لهم: ما أنكرتم أن يكون الحس بالتفرقة في إحدى هاتين القوتين، فالقوتان جميعا أدركتا مدركين، واختصت إحداهما بزيادة مدرك آخر، وهو هذه التفرقة، ولا يستدرك أن تدرك القوة الواحدة مدركين مختلفين، ألا ترى إدراك البصر لمختلفات، وإدراك حاسة اللمس لمتضادات؟ فما المانع أن تكون إحدى هاتين القوتين أحق بهذه الزيادة من الأخرى؟ قيل لهم: وليس هي بأن تختص بهذا النوع من المحسوسات أولى من اختصاص الأخرى به. فإن قالوا: هكذا أبدعها مبدعها. قيل لهم: وهكذا أيضا أبدعها مبدعها دراكة لمحسوساتها، وللتفرقة المذكورة. على أنا لو سلمنا ما قالوه من هذا الاعتراض لقلنا: فقولوا: إن كل واحدة من القوتين حصل لها إدراك، وإدراك التفرقة بين محسوساتها ومحسوسات أخرى. ويقال لهم أيضا: ما أنكرتم أن يكون التفرقة غير حاصلة لواحدة من هاتين القوتين، وإنما لكل قوة إدراك محسوساتها خاصة، ثم العقل يحكم بالتفرقة بين المحسوسين، ولا يستنكر عاقل إدراك العقل حقائق كثيرة، وهي عندهم مع إدراك العقل لها تحل به، وهذا ما لا يجدون عنه جوابا محققا أبدا. فإذا علمتم مذهبهم في هذه القوة الأولى التي يسمونها الحس المشترك، فلتعلم أن مذهبهم أن انطباع صور المدركات فيها لا يبقى، وإنما لها قبول الصور خاصة، وليس كل قابل لها حافظا، وتمثلوا بالماء فإنه يقبل الانطباع، ولكن ذلك الانطباع لا يبقى فيه. قالوا: ونحن نعلم أنا إذا غمضنا أبصارنا عن المدركات، وجدنا تمثالها وخيالها في أنفسنا، وقد فقدنا ذلك المعنى الذي أحسسناه عند فتح أبصارنا، فما ذلك إلا لأن هاهنا قوة أخرى في آخر هذا التجويف الأول من الدماغ ينطبع فيها الصور انطباعا يدوم، ويسمون هذه القوة خيالية. وهذا مما يقال في إبطاله بعد إعادة جميع ما تقدم: ما أنكرتم أن تكون هذه القوة الأولى التي ذكرتموها من التي ينطبع فيها الخيال والتمثال بعد غيبة المبصرات؟ وإنما الفرق

الذي يحسونه راجع إلى أن هذا الانطباع حدث مرة، ومعه إدراك ظاهر آزره وقواه، وحدث مرة وليس معه إدراك ظاهر، وإلا فالقوة الداركة واحدة، تدرك الشيء مرة وحدها، وتدركه مرة ومعها ما يعاونها، أو معها ما يطابقها. وهذا لا ينكر إمكانه وجوازه عاقل، ثم بعد هذه القوة الثانية عندهم قوة ثالثة يسمونها المتخيلة، فيقولون: إننا نحس بعد هذا الانطباع تمكنا من تركيب ما تخيلناه، ونصوره على غير النظام الذي أدركناه، فنتخيل شخصا بصفة إنسان، وبصورة طائر، وهذا ليس في الوجود، فيكون انطباعا في الخيال، فليس إلا إثبات قوة متخيلة تركب من الصور ما شاءت، وتقايس يعضها ببعض، وتستعمل الحل والتركيب كيف شاءت، فهذه القوة الثالثة عندهم محلها التجويف الثاني من الدماغ، وهي التي يسمونها المفكرة، وهي التي يستخدمها العقل إذا حاول إدراك المعقولات، فإذا استعملت سميت بالنسبة إليه مفكرة، وهي متخيلة بالنسبة إلى القوة الحيوانية خاصة، وإنما تكون مفكرة بالنسبة إلى القوة الإنسانية، وهي العقل، وهذا أيضا يبطل عليهم جميع ما تقدم. ويقال لهم: هذه أقرب إلى أن تكون هذه القوة الثانية التي سميتوها خيالية مما عارضناكم به، إذا قلنا: قد تكون الثانية هي الأولى على أصلكم، وذلك أن هذه القوة المتخيلة إنما يكون حظها انطباع الصورة، فتارة يكون ذلك لها بغير آلة، وتارة يكون بآلة وهي الحاسة الظاهرة، وهذا أيضا لا يدفع إمكانه عاقل. ثم أيضا تحقق معهم معنى الانطباع في جميع معنى القوى التي ذكروها، ويعاد التقسيم الذي قسمناه، حتى لا يتحقق للانطباع معنى. ثم عندهم بعد هذه القوة قوة رابعة، وذلك أنهم يقولون: إن الإنسان يحس من نفسه إدراك الصورة الجزئية تارة، ويحس من نفسه إدراك معاني هذه الجزئيات تارة أخرى، وهذه المعاني لا تكون محسوسة، ألا ترى أن الشاة تنافر الذئب إذا رأته، وإن كان لم يؤذها قط، ولا شاهدت أذاه، ولكن فيه معنى ينافرها (ص 105) أدركته الشاة فهربت منه لأجله، وهكذا تجري إلى النبات المستلذ عندها، وليس إلا لمعنى أدركته من موافقة بينها وبينه، وهذا المعنى لا يقال: إنه مشاهد فتضيفه إلى البصر، ويفتقر فيه إلى الحس المشترك وإلى الخيالية على ما صورناه، فلابد من إثبات قوة رابعة، ويكون محلها آخر التجويف الثاني من الدماغ، يسمى هذه القوة قوة وهمية، وهي الحاكمة على الحيوان كله، ولها تنقاد البهائم وأشباهها من الناس، وهي معاندة للعقل، لأنها تأبى من الانقياد إليه إذا خالف متعلقاتها، ومن هذا تعرض الضلالات في أكثر الاعتقادات الدينية وغيرها، وهذا الوهم يأبى كل الإباء من الانقياد إلى التصديق بمعقول، لا جوهر، ولا عرض، ولا في مكان، ولا مفارق للعالم،

ولا مواصل. ولهذا الانقياد إلى الوهم ظلت المعضلة، ولو أجهد الإنسان جهده لما توهم ما وراء هذا العالم، ولا تخيله، لأنا ذكرنا أن الوهم إنما سلطانه على معاني جزئية في محسوسات جزئية، وما وراء العالم ليس بمحسوس فينظر في معانيه، وهذه القوة الوهمية تستخدم ما قبلها من القوى، لأنا أريناك أن حظها انتزاع معان من محسوسات جزئية، وقد افترقت إلى خدمة ما قبلها من القوى ليحصل ما هو بصدده. والرد عليهم في هذه القوة مأخوذ من جميع ما قدمناه، ثم يقال لهم: لا معنى لإثبات هذه القوة، بل هي القوة المتخيلة، وأنتم ذكرتم أن القوة المتخيلة تركب ما ليس في الموجود، لعل هذا منه، أو تكون القوة الخيالية، ويكون معنى التوهم تكرر انطباع أذى الذئب إلى الغنم، فتنطبع صورة أذاه في القوة الخيالية انطباعا لازما لا يمحي، حتى يصير كالجزء من البدن في ملازمة هذا المعنى لهذه القوة، فيكون الطباع تنفر وتهرب، لأجل هذا لا لأجل أن هاهنا قوة أخرى تسمى وهيمة. ومما يؤكد هذا أن هذه الوهمية لا تحصل إلا بعد تحصيل محسوسات، فلو كانت معنى مستقلا بنفسه لم تفتقر إلى المحسوسات. ثم عندهم بعد هذا قوة خامسة يسمونها الحافظة، ومحلها عندهم التجويف الثالث الذي في مؤخر الدماغ، وحظ هذه القوة حفظ ما تحصله الوهمية، فكأن الوهمية تقبل قبولا لا يدوم، وهذه تقبل قبولا دائما. فقد حصل أن المدركات جسمانية ومعنوية، فالجمسانية يختص بها من القوة الباطنة قوتان، الحس المشترك اختصاص قبول، والخيالية اختصاص دوام وبقاء، فالخيالية خازنة للحس المشترك صور الأجسام، وقوة وهمية تدرك معاني الأجسام إدراك قبول خاصة لا يستدام، والقوة الحافظة خزانة هذه القوة، فيكون الانطباع فيها دائما، وبقيت قوة وسطى بين الأربع، وهي القوة المتخيلة قبلها قوتان يستعملان في المعنويات. والرد عليهم في هذه القوى على نحو ما تقدم حرفا بحرف، ومن عجيب أمرهم قطعهم على محال هذه القوى، حتى جعلوا محل الحس المشترك مكان كذا من الدماغ، وحس الخيال في آخر التجويف الأول من الدماغ، إلى ما سوى ذلك من تحكماتهم في هذه المحال التي ذكرناها عنهم، وهب أنهم يسلمون للأطباء ما يقولونه في صفة الأعضاء الباطنة والعروق، والأوراد، والشريانات، والعصب، والعضلات، إلى غير ذلك مما يحيلون فيه على المشاهدة عند تشريح بعض أجسام بني آدم، فما كان مغيبا يفقد لا محالة عند موت الإنسان قبل أن يؤخذ في تشريحه، كيف الحيلة في إدراكه والعلم به. هذا ولو كان الإنسان حيا، وكشف لأبصارنا عن باطن دماغه لما أبصرنا عندهم هذه القوى، لأنها عندهم مما

يستحيل أن يبصر، لأنها ليست بألوان ولا ذوات متلونة، فالعجب كل العدب من قطعهم على هذه المحال بخيال لا ينهض أن يفيد ظنا ضعيفا مثلا، فضلا عن القطع والتصميم على هذه المحال، بأن يقولوا: إذا فسد مقدم الدماغ فسد الحس المشترك، وإذا فسد وسطه فسد التصور والتخيل، وإذا فسد مؤخره فسد الحفظ والذكر. ولهذا شحن الأطباء مصنفاتهم في باب مداواة النسيان وسوء الحفظ بعلاج مؤخر الدماغ بالاستفراغات للخلط الذي كان عليه النسيان، واستعمل اللطوخات على مؤخر الدماغ المضادة للخلط الذي كان عنه النسيان، وهذا كما تراه في غاية الضعف. أما فساد التخيل والتصور فمحسوس، أما استيلاء النسيان وبعد الحفظ لما يدرس ويقرأ فمعلوم أيضا، والناس متفاوتون في ذلك، إما في أصل تركيبهم، أو لأعراض تطرأ عليهم، فهذا القدر هو الذي نؤمن به، لأنه معنى محسوس، ومن فعل هذا فهو عندنا الله سبحانه، لما قام من الأدلة على وجوده تعالى ووحدانيته، وأنه خالق كل شيء، فما سوى هذا هنف لا يشتغل به (ص 106) محقق، ولا ينكر عقلا أن يكون الباري سبحانه الذي هذا كله من فعله، يفعل هذه الأمور ابتداء، أو يفعلها بعد أن يفعل أفعالا تتقدمها، يربط بعضها ببعض، سنة الله التي في خليقته، لا على أن ذلك أمر عقلي لابد منه، ولا يقدر الله سبحانه على فعل ما سواه، ولا يمكنه نقضه، ومن بنى قدر على أن يهدم، ومن ربط قدر على أن يحل، ولكنا لو أثبتنا هذه الرباطات، وهذه التعلقات لم يثبت منها إلا ما أدركه الحس والمشاهدة، أو قام عليه برهان، فالحس والمشاهدة معلوم أنهما لا يوجدان هاهنا، وبرهان لا يقوم على هذا أبدا، وبراهينهم هذه قد أوضحنا بطلانها. والصحيح التصور والفكرة يكاد يستغنى عن معرف يعرفه أن هذه الأمور التي تمسكوا بها لا تؤدي إلى يقين وقطع أبدا، وإن تشوفت نفس بعض العقلاء إلى الإخلاد لشيء مما قالوه فتلك ظنون تقبلها النفس بسبب استنادهم إلى تخيلات حسنة كما قدمنا عنهم. وليت شعري كيف يعلم من مداواة عضو ما حل فيه في باطنه، أما الاستفراغ فلا يقدر بشيء على أن يجعله دليلا على شيء من هذه المحال، وإذا سقى الطبيب البلاذر، والإيارجات الكبار، واستفرغ خلط، أخرج من البدن، فمن أين يعلم أن هذا الخلط إنما ينبعث من آخر التجويف الثاني من الدماغ؟ هذا لا يدعيه عاقل، وكذلك إن وضع هناك لطوخا، لا سبيل إلى اليقين بأن ذلك محل ذاك، وإن كان هذا أقرب من دلالة الاستفراغ الذي شوهد الانتفاع بذلك اللطوخ في ذلك الموضع من ذلك المرض، وقد يمكن أن يكون ذلك المكان منه ينصب خلط إلى مكان آخر هو محل تلك القوة المشار إليها، أو يكون ذلك المكان فيه آلة من آلاتها

لا تعلم تلك القوة إلا بها، فإذا تعطلت الآلة تعطلت القوة، وهذا أيضًا مما يجوز ويمكن في العقول، وقد ذكرنا في كتابنا "المعلم" الحجة عليهم في هذا، وناقضناهم في دواء "المالنخونيا"، وهذا منه. ثم إذا تقرر هذان الاختصاصان، ومعناهما، اختصاص النبات واختصاص الحيوان على الجملة، فإن من الحيوان الإنسان، قد اختص أيضا بخصيصة فارق بها النبات والحيوان البيهيمي، فنظروا فيها على زعمهم، فوجدوا الإنسان قد قرب من الاعتدال أشد من قرب النبات، وأشد من قرب الحيوان البهيمي، فاختص لأجل هذا القرب بهيئة وكمال اقتضت له أن تكون له نفس إنسانية، وهي نفس ثالثة حصلت له مع حصول النفسين الأخريين التي هي نفس النباتية والحيوانية، وهذه النفس التي تميز بها هي التي استحق بها أن تكون قوة من جهة ما يفعل بالروية والاستنباط، ومن جهة ما يدرك الكليات، فإن ما سواه من الحيوان والنبات لا يقع منه أفعال بالفكرة والروية، ولا يدرك حقائق كليات الأمور، فنظروا في هذه القوة على زعمهم فوجدوها نوعين: قوة عاملة، وقوة عالمة، ولربما يعبرون عن هذا فيقولون: قوة عملية، وقوة نظرية. فأما القوة العملية فبها يكون سياسة البدن، والأخلاق، والتدابير. والقوة النظرية يكون بها الإطلاع على حقائق الكليات، وكأن هذا النفس له وجهان، وجه ملتفت إلى الأعلى، وهي المبادئ، والعالم العقلي، ووجه ملتفت إلى الأسفل وهي جهة البدن، ووصوا في كتبهم بأن تكون هذه النفس معرضة من جهة الأسفل لئلا تستولي عليها الطباع، وأحوال النفس الحيوانية فتكون مقهورة، فتظهر الأخلاق، وتقع الأفعال قبيحة، حتى إذا كانت كالمعرضة عن الأسفل والمقبلة على الجهة العليا استمدت منها الفضائل، وكانت قاهرة لطباع الإنسان، فظهر منه من الأخلاق الجميلة، والأفعال الجميلة ما يكون به فاضلا. وهذه الجهة النظرية التي يسمونها القوة العالمة هي المطلوبة المبحوث عنها، وبسبها قدمنا ما قدمناه، وهي عندهم القوة العقلية، لكنهم زعموا أنه قد علم اختلاف حقائق الوجود المتصور، فمنه ما يكون وجودا بالقوة، ومنه ما يكون وجودا كاملا تاما يسمونه وجودا بالفعل، ومنه وجود بين هذين الطرفين، وتدريج بين هاتين الحاشيتين، ويسمونه وجود تمكين، ولهم فيها عبارات أخر، وهذا كالنواة، فإنه يميز فرقان ما

بينها وبين الحصاة في توليد النخلة منها، وما ذاك إلا لأن النواة فيها قوة تهيأت إلى أن تنتمي شيئا فشيئا حتى تصير نخلة مثمرة، وهذا التهيؤ لا يوجد في الحصاة فيسمون ما في النواة من هذا وجود نخلة بالقوة، حتى إذا كملت النخلة وأثمرت وتناهى نماؤها سموا ذلك وجودا بالفعل، بمعنى أن ما كان يتصور من النواة (ص 107) ويتخيل قد حصل محسوسا حصولا كاملا، وهو الوجود الكامل، فإذا لم تبلغ الإثمار وغاية النماء، فكأن هذا الوجود وجود ممكن من الإثمار. فهكذا الحال في التعليمات أيضا فإن الإنسان إذا كان أميا، كان كاتبا بالقوة، بمعنى أن الكتابة يتصور وجودها منه، بخلاف الحمار، فإذا ابتدأ فتعلم مفردات الحروف، والخط بالقلم، وحضرت الآلات قيل: هذا متمكن من الكتابة، حتى إذا حصل على علم الخط وكتبه قيل: كاتب بالفعل، ومتى تعطل عن الكتابة كان هذا الوجود الكامل حاصلا له، لم يفقد بعطلته عن الكتابة. فكذلك عندهم حال الإنسان، فإن الطفل أول ما يولد قد ركب دماغه وقلبه على شكل ومزاج قرب من الاعتدال قربا متهيئا بهذا إلى أن يقبل صور المعقولات ويطلع على المعلومات، بخلاف دماغ الحمار وقلبه، فيسمون هذا عقلا هيولانيا، بمعنى أن التهيؤ القابل للعقل حصل فصار كالهيولي والمادة [التي] لا صورة فيها، ثم بعد هذا تكتسي صورة ما، فإذا شب الطفل وصار في سن من يميز، ويعرف العلوم الضرورية التي تنطبع عندهم في هذه القوة من غير أن يحس الإنسان بانطباعها، ولا يسعى في تحصيلها كان هذا عقلا ممكنا، بمعنى أنه قد ارتفع عن طبقة العقل الهيولاني، وقد يسمى عقلا بالفعل، بمعنى أنه حصلت فيه معارف وعلوم ضرورية. ثم بعد هذا الوجود الممكن، الوجود التام الكامل، وهو المسمى عندهم العقل المستفاد، ومعنى هذا أن هذا العقل الذي قد حصل فيه مع الهيولي، ومعنى التمكن من الاستفادة تنطبع فيه صور المعقولات الكلية، بل يحرك ويستخدم تلك القوة التي سميناها بالمتخيلة بالنسبة إلى الحيوان، وبالمفكرة بالنسبة إلى الإنسان، فإنما هي القوة وحركها، وهي أيضًا قد تستخدم ما قبلها و [إذا] التفت إلى العالم العقلي انفعل هذا العقل عن هذا، وانطبع فيه حقائق المعقولات، وليس انطباعها فيه من قبل نفسه، لكن من قبل غيره، إذ هذا العقل المستفاد، وهو المسمى عندهم الوجود بالفعل، وما تهيأ لقبول شيء لا يقبله من تلقاء نفسه، بل من تلقاء غيره، فكل وجود بالقوة لا يحصل وجودا بالفعل من تلقاء نفسه بل من تلقاء غيره.

وهذا الاستدلال عندهم يضطرهم إلى إثبات عقل آخر يسمونه العقل الفعال، وفيه صور المعقولات كلها، وهو في نفسه قد كان عقلا بالفعل، لم يكن قط عقلا هيولانيا، لأنه لو كان كذلك لافتقر إلى آخر ينقله من الهيولي إلى الفعل، ويتسلسل القول، فوجب عندهم إثبات هذا العقل على وجود كامل تام، مستوف لصور المعقولات كلها، قد كان، وعنه تستمد عقولنا المعارف والعلوم النظرية كلها، فإذا استمدت عقولنا منه هذه المعقولات، فما دام تطالعها عقولنا وتذكرها فذاك غاية الكمال، وإن لها عنها فتلك حالة لا تخرجه عن كونه عقلا بالفعل، لأن المعقولات مخزونة فيه متى شاء طالعها. وتفاوت الناس في العلوم لتفاوت هذا العقل الهيولاني في القوة والضعف، فتهيؤ الجنس إلى قبول ما يقبله من الوجود يختلف عيانا، فبحسب هذا يقع التفاوت في العلوم والاختلاف في الذكاء، وصحة الحدس، مع الاختلاف أيضا في استعمال هذا العقل لتلك القوى التي يستخدمها مع قبوله على تدبير النفس خاصة وإصلاح الجسم والطباع، فيضعف عن تحصيل العلوم، وبالعكس فإنه إذا أقبل على تحصيل العلوم وانتصبت تلك القوة العقلية إلى استقبال ما يفيض عليها من هذا العقل الفعال، ضعف نظرها في تدبير البدن والطباع. ويضربون مثالا من المحسوسات يحيلون به صحة ما قالوه، حتى يستميلوا بذلك أنفس العوالم، لما قدمنا مكررا من كون التخيلات الحسية تسرع النفوس لقبولها، ويألفها إحساسها، فيقولون: هذه الأجسام المتلونة يراها الإنسان بعينه، فالعين هي الرائية، والألوان هي المرئية، ولكن لولا شعاع الشمس ولمعانه على الألوان لما أدركه البصر، ولهذا لم يدركه في الليل، فالعين أبدا متمكنة من أن ترى، والمرئي مهيأ لوقع البصر عليه، ولكن إذا شرق عليه نور الشمس صار البصر رائيا له، فالبصر إنما انفعل عن شعاع الشمس، ولكن شعاعها إنما ضرب على الأجسام متلونة، فصار البصر مدركا لها، وحصلت العين رائية. وهذا العقل الفعال كالشمس، وصور المعقولات كالأجسام المتلونة، وهذا العقل الذي حصل له حال الهيولي، وحال التمكن على ما شرحناه، متمكن من أن يحصل المعقولات وتنطبع فيه (ص 108) صورها وحقائقها، ولكن يشترط أن يشرق نور العقل الفعال على المعقولات فيبصرها حينئذ هذا العقل الذي وصفناه فينا، فإذا أبصرها كمل وصار عقلا بالفعل، وصار عقلا مستفادا.

وقد ذكرنا أن هذا الاستمداد عن العقل الفعال على هذه الصفة إنما يكون بتهيئ يصح معه قبول هذا الفيض، وهذا التهيؤ إنما يحصل فينا غالب عند تحريك العقل الحاصل لنا القوة المفكرة على ما فرضناه. وإذا تصورت هذه التخاليط والتحكمات في تصور أمر به يدرك تصور المتصورات انكشف لك ما رمز إليه أبو المعالي وهول عليك وروعك بقوله: "لا مطمع في مفاتحة هذا الفصل فضلا عن استقصائه"، فها نحن قد فتحنا لك الباب الذي أغلقه، حتى نظرت ما وراءه فلم تبصر شيئا، ونحن نملي نص كلامه في هذا الفصل وننبهك على غرضه على ما قدمناه من مذاهب القوم حتى تعرف مخارجه منها. قال أبو المعالي: "وليعرف طالب هذا الشأن أن معظم ما يحسبه من لم يعظم حظه في الحقائق علما فهو فكر، وهو المعنى بكلام النفس، ومن دقيق ما يتعلق بمدارك العقول أن فكر النفس متعلقة المعلومات، أو المعتقدات، ولا تنطق النفس بالعلم الحق، وهذا الآن يتعلق بالقول الفلسفي، ولا مطمع في مفاتحته، فضلا عن استقصائه، ومهما ظن ذو الفكر أنه ناطق بالعلم، فهو متخيل العلم معلوما، ومنطوقا به، وهذا هو الذي اختلج في عقول المتكلمين، وطيش أحلامهم، حتى اضطربوا في أن العلم بالشيء هل هو علم بأنه علم، وهذا الذي اختبطوا فيه اضطراب منهم في فكر النفس، لا في العلم نفسه، ونحن في الأحايين نرمز إلى تلويحات في هذا المجموع، ليتشوف عند نجازه إلى العلوم الإلهية، ونستحب على طلبها". أما قوله: "إن معظم ما يحسبه من لم يعظم حظه في الحقائق علما فهو فكر، وهو المعنى بكلام النفس"، فإنه إنما أشار به إلى ما قدمناه من أن القوة المتخيلة التي تسمى مفكرة بالنسبة إلى العقل عندهم، إنما تتعلق عندهم بالمعتقدات، لأنا أخبرناك كيف يأخذ الحس المشترك صور الأجسام، وكيف ينقلها، وكيف تأخذ القوة المتخيلة معاني الأجسام، وكيف تنقلها، وهذا محسوس عندهم. وأما العلم الحق عندهم فهو ما ذكرنا من خروج القوة الهيلوانية إلى العقل الفعلي، ومعنى خروجها حصولها علوما بعد أن كانت مهيأة للعلوم، فنفس العقل هذا المشار إليه هو

نفس العلوم بهذه الكليات المتلقى من فيض العقل الفعال، وهذا عندهم عقل بالمعقولات، وعقل بنفسه، فهو قد عقل المعقولات وعقل نفسه. ولا معنى عندهم للقول: عقل نفسه إلا ما صورناه من عود ذلك العقل الهيولاني علوما ومعارف بالكليات، ونفس هذا العود والخروج إلى الفعل لا ينطق ولا يفكر، والنطق والفكر، وإنما هو لتلك النفس التي ذكرنا أنها قوة متخيلة مفكرة، وهي بمنأى ومعزل عن هذا العقل المستفاد المشار إليه، وإنما هي كالخادم له، على ما صورناه، وإن فرض في النفس فكر بالعلم، أو نطق به فإنما معناه عندهم أن يقدر ذلك العلم كمعلوم يتطلب ويتلقى، وقد ذكرنا أن تطلب المعارف تتحرك معه القوة الفكرية، فالمحسوس إذا تحرك القوة الفكرية عند استفادة العقل الهيولاني المعارف، وكون القوة الفكرية ينطلق بهذا العلم الحاصل، بمعنى أنه صار كالمعلوم، وهي تتعلق بالمعلومات على صفة ماذكرناه، وهو المحسوس عندهم حتى يظن أن النفس الفكرية تعلقت بنفس هذا العلم، وأن نفس العلم الحق تعلقت به النفس. وأضاف أبو المعالي إلى أيمتنا أن جهلهم بهذه الحقائق طيش أحلامهم، وأدى إلى اختباطهم. وعجبا من هذا الاعتقاد مع وقوفه على أعيان مصنفاتهم، ومذاكرته على ما يذكر لأعظم أيمتهم، ولم يقف على ما وقف عليه على برهان على هذا الذي رتبوه وزينوه، وقد أشبعنا نحن الرد عليهم بما يغنيك عن إعادته في هذا الفصل الثالث، ويقال لهم فيه هي القوة الهيولانية أعرض هي أم جوهر؟ فإن كانت جوهرا فالجواهر متماثلة، وإن كانت عرضا فالأعراض لا تقبل العلوم والصفات، وإن كانت غير ذلك فاذكروه، ولا سبيل إلى الإشارة إلى جنس من المحدثات، خارج عن كونه جوهرا أو عرضا، وهم يسلمون حدوث عقولنا، ويزعمون أن هذه القوة المشار إليها بالعقل الهيولاني، أو الكامل ليس بجزء من أجسامنا، ولا صفة حالة بأجسامنا، فليت (ص 109) شعري لم اختص زيد بعقله دون عمرو؟ ولم كان العاقل منا عاقلا؟ والمجنون مجنونا؟ والعاقل لم يجد به شيئا، ولا حلت فيه صفة. وعذرهم عن هذا بأن بين عقل زيد ومزاجه مناسبة اقتضت علامة واختصاصا بينه وبين هتف لا يسمع، ودعوى لا تنفع. ويقال لهم: ما معنى هذه المناسبة؟ فلا يجدون لها

معنى يعقل، ويسألون عن سببها فلا يجدون لذكره سبيلا، ولو صح أن يعقل بعقل غير حال في، ولا قائم بي، ولا هو جزء من جملتي صح أن يتحرك بحركة هي كذلك، وصح أن يكون الجوهر أسود بسواد هو كذلك. وهذه تخاليط لو أخطر إليها دليل لنافرتها النفوس لكونها إحالة على مجهولات، واستمساكا بخيالات، فكيف ولا برهان يقوم لهم عليها؟. ثم يقال لهم: هذا الذي رتبتموه من تقسيم الوجود في هذا العقل، لا يتحصل في ذلك أن النواة في حال كونها نواة كالحصاة في حال كونها حصاة، النخلة معدومة منهما جميعا عدما متساويا، وليس للنخلة وجود يشار إليه، وإنما هاهنا إمكان وتجويز خلق شيء آخر لم يخلق منه ذرة واحدة بعد، ولكن هذا الذي لم يخلق ذرة واحدة [منه] تأتي خلقه، وأمكن في محل دون محل، فعندنا أن ذلك بعادة أجراها الله سبحانه في خليقته وهو الحق، وإلا فما الفرق بين جواهر النواة وجواهر الحصاة؟ وعندكم ذلك أمر يرجع إلى الطباع وإلى المزاج، إحالة منكم على أمر مجهول، لم يقم عليه دليل، فلا معنى للعقل الهيولاني، وإذا بطل هذا القسم الهيولاني لأنه لا ينعقل له معنى، فكذلك القسم الثاني وهو الممكن، لأنه ليس بين الوجود والعدم مرتبة، فإن كان هاهنا وجود فسموه ما شئتم، ولكن نحن لا ننكر حدوثا بعد حدوث، ووجودا بعد وجود، وليس إلا أن الله سبحانه يخلق في الطفل معارف إعدادا ما، ثم إذا نهض في السن زاد فيه خلق معارض أخر، حتى تكتمل المعارف الضرورية، فإذا كملت خلق فيه فكرة واستنباطا من تلك العلوم الضرورية، وقدره على ذلك، كما يخلق فيه قدرة على أن يتحرك ويسكن حركات ضعيفة أو قوية، بحسب ما شاء أن يخلقه تعالى، فإذا فكر واستنبط بما خلق فيه من قدرة على الاستنباط، وخلق فيه من استنباط وفكرة، وبما خلق فيه من قدرة خاصة على ذلك على رأي قوم من الإسلاميين خلق فيه حينئذ معارف وعلوما على رأي قوم أيضا، أو فعلها العبد على رأي آخرين، على ما تقدم ذكرنا له في هذه الكتاب وفي غيره، ثم تتفاوت الناس فيما تفضل به عليهم من خلق المعارف والعلوم. فتأملوا رحمكم الله هذه الصورة التي صورناها، وحكيناها عنا معشر المسلمين، هل هي في العقل متناقضة أو متهافتة؟ أو يستحيلها عقل سليم، فإذا أمكنت وأمكن ما قالوا لو سلمنا إمكانه، ولم يقم دليل على فساده كما أوردناه، فمن أين القطع والتصميم على أن الأمر ما صوروه، وهم قد سلموا أيضا أن هذه العلوم إنما نستفاد من جهة أخرى، وليست هي من تلقاء أنفسنا، ولكنها مستفادة من المسمى عندهم بالعقل الفعال، فما المانع من أن تكون مستفادة من الله سبحانه الذي أبدع العقل الفعال، والعقل الفعال عندهم لا يتغير في

فصل في أنحاء الكلام على العموم

نفسه، وقد انفعلت عنه هذه الأفاعيل، فهل أضافوا الانفعالات كلها إلى الله سبحانه؟ وقضوا بأنه لا يتغير لأجلها، وهم على زعمهم إنما يهربون عن إضافة هذه الكائنات المتغيرات إلى الله سبحانه لئلا يؤدي ذلك إلى تغيره، فهذا العقل الفعال عندهم كانت عنه هذه الانفعالات ولم يتغير. فإن قالوا: لم يخترع العقل الفعال شيئا فيغيره ما اخترع، وإنما كان انعفال الفعل منه على صفة ما ذكرناه. قيل لهم: فهل أضفتم تلك الصفة من الانفعال إلى كونها عن الله سبحانه؟ وإن كنا قد أفسدنا ما ذكروه من هذه الانفعالات، ولكن هذا الإلزام لا جواب لهم عنه أبدا. وقد أخذنا في إملاء ما تعلق بكلام أبي المعالي، ونيتنا استيفاء ما قالوه، والرد عليهم كما يجب، ثم رأينا تأخيره إلى أن يسر الله سبحانه في إفراد تصنيف متعلق بهذا النوع، وفيه شرح فرقان تعلق العقل بالكليات المجردة من المواد عندهم بذواتها، أو بالكليات التي يجردها العقل من موادها، بخلاف تلك القوة التي ذكرناها في الإدراكات الباطنة التي من شأنها أن يتعلق بالجزئيات إلى غير ذلك من فصول، هي نوع من الفصول مما يذكرونه في هذا الباب. وذكر أبو المعالي أنه إنما أورد هذا ليتشوف منه إلى الإلهيات، ولو وقفت على طرائقهم في الإلهيات لرأيت العجب أيضا في براهينهم، والتحكمات التي مدارها على تخيلات لا حقائق لها. وفي هذا القدر كفاية. فصل في أنحاء الكلام على العموم لما صدرنا (ص 110) الترجمة بكتاب العموم والخصوص، ثم أقطعنا على إيراد ما يليق بأصول الفقه، للعذر الذي قد بيناه، وأوردنا هذا الفصل بالمقصود، نبحث بصدده، فنتكلم فيه على سبعة أوجه: - الأول: الكشف عن حقيقة العموم والخصوص. - الثاني: هل يتصور هذه الحقيقة في القول النفسي أم لا؟ - الثالث: هل تتصور في الأفعال أم لا؟ - الرابع: هل تتصور في الأحكام أم لا؟ - الخامس: هل يتصور في المعاني أم لا؟ - السادس: تعيين الأقوال التي تتصور فيها نقل المذاهب. - السابع: سبب الاختلاف فيها.

فأما الوجه الأول، فإن معنى العموم في اللغة: الشمول، تقول العرب: شملهم الأمر بمعنى عمهم، ويقولون: مطر عام، وعطاء عام، وعم السلطان الرعية بالعدل، ومنه سميت العامة، لأنهم أكثر الناس، وكالمشتملين بكثرتهم على الخواص. ومعنى الخصوص: الإفراد ومنه قولهم: خص السلطان فلانا بالولاية، وفلانا بالعطاء، ومنه سميت الخاصة، لأنهم تفردوا وتميزوا عن العوام، بما هم عليه من فضل. وأما حد العموم عند أهل الأصول فإن الأئمة من المتكلمين أشاروا في حده إلى أنه: القول المشتمل على مسميين فصاعدا، والتثنية عندهم عموم لما تصور فيها من معنى الجمع والضم والشمول الذي لا يتصور في الواحد. وقد زاد بعض متأخريهم في هذا الحد: على وجه واحد، ورأى أن قولنا: ضرب زيد عمرا متعلق باثنين، ومع هذا لا يسمى عموما، لأنه لم يتعلق بذلك من جهة واحدة. وهذا التحرز قد يستغنى عنه عندي، لأنه إن أراد زيدا وعمرا، فهما اسمان خاصان، وليس بعمومين كما قال، ولكن كلامنا في اللفظة. وإن أراد لفظة "ضرب" لكونها مشعرة بضارب ومضروب، فإشعارها بذلك راجع إلى حكم عقلي، وهو ما تقدم من العلم باستحالة وجود ضرب لا من ضارب ولا مضروب، فالاقتصار على ما قاله الأولون [كاف] ومغن عن قول هذا: العموم هو القول المشتمل على مسميين فصاعدا من وجه واحد، لأجل ما قدمناه من الاعتذار عن الأولين. وأشار بعض الأصوليين إلى حده بأنه القول المستغرق لجميع ما بني على إفادته. ولو أن واحد من الواقفية حد بهذا الحد لقال هاهنا: القول المستغرق لجميع ما صلح لإفادته، وكان الحد الذي حكيناه عن بعض أئمة المتكلمين هو اللائق على مذهبهم في القول بالوقف، وهذا الحد الثاني هو اللائق بأصل الفقهاء القائلين بأن الصيغة تستوعب بمطلقها جميع ما بنيت لإفادته. وأما الخصوص فهو القول المتعلق بمسمى يتناوله مع غيره اسم واحد، لأن قولنا: مؤمن لفظ خاص، لتناوله الشخص المشار إليه، مع كونه ينطلق عليه وعلى غيره هذه التسمية، ويجتمعان في أن يعبر عنهما بعبارة واحدة. وقد أنكر المتكلمون ما قالوه من كون الاثنين فصاعدا من غير استيعاب المسميات عموما، لأجل أن هذا [يؤدي] إلى جمع النقيضين، فيكون الخطاب عاما من حيث اشتمل على اثنين، خاصا من حيث قصر عن الاستيعاب. وجوابهم عن هذا أن المنكر الجمع بين كون الخطاب عاما خاصا من جهة واحدة، وفي محل واحد، وأما [من] وجهين مختلفين فلا ينكر، كما لا ينكر وجود السواد والبياض

في محلين اثنين، وإن أنكر وجودهما في محل واحد، فالخطاب الذي اعترضوا به عام من جهة تناوله اثنين أو عددا محصورا لما في ذلك من معنى الشمول، خاص من جهة أنه لم يتناول بقية المسميات، وحصول التناول وجه، وعدم التناول وجه آخر. وما الوجه الثاني وهو تصور معنى العموم والخصوص في الأقوال النفسية، فإن المشهور من مذاهب سائر أئمة الأشعرية تصور ذلك في الأقوال النفسية، كما يتصور في الأقوال النفسية الأمر والنهي. وأنكر أبو المعالي في كتابه كون ذلك متضحا إيضاحه في الأمر والنهي، وأشار إلى أنه مخالف للجماعة فيما قالوه، وصرف عموم النفس إلى علوم فيها، لكون المعلومات على جهات دون جهات، فكأن عنده القائل: "اقتلوا المشركين" يحس في نفسه اقتضاء للقتل، وهذا الاقتضاء لا ينكره عاقل، ولا يخالف في النفس في إحساسه أحد، وهذا الاقتضاء هو المسمى أمرا، ولا يمكن صرف هذا الاقتضاء إلى إرادة وقوع المأمور به، لأنا قد قدمنا أن تجيز أن يأمر الآمر بما لا يريد، فكراهة وقوع المأمور به لا تنافي الأمر به، وأما كون قوله: "اقتلوا المشركين" مستوعبة لجميعهم، فإنما ذلك راجع إلى إرادة القائل في نفسه من الاستيعاب والعلم المحسوس (ص 111) في هذا إنما يرجع إلى هذا المعنى، وهو كون هذه اللفظة واقعة على وجه، وهو إرادة الاستيعاب بها، وأشار أبو المعالي إلى طريقة ينتصر بها الأئمة، وهي كون الجمع معنى معقولا، والإنسان يجد في نفسه تصور الجمع والعلم به، وكل علم في النفس لابد أن يقارنه خبر عنه موجود بالنفس أيضا، وهذا يقتضي إثبات قول نفسي، ومن هاهنا خرج أبو المعالي إلى تلك الرموز التي شرحنا فيها أقوال الفلاسفة، وبينا نقض ما قالوه، وأنكرنا عليه مخالفة الجماعة، والرمز [إلى] التقصير بهم وإضافة الاختباط إليهم. وقد يستغني عن هذا كله بأن يقول: إنما أنكرت وجود قول في النفس يتضمن معنى الاستيعاب بنفسه وحققته، وأما إثبات قول في النفس هو خبر عن معنى العموم فليس هو المراد المنازع فيه، وقوله: (فاقتلوا المشركين) ليس ذكر المشركين هاهنا خبرا، وإذ لم يكن خبرا لم يتقرر فيه معنى العموم كما قدمنا، وهذا ما يفتقر تحقيق القول فيه، وتصوير عموم النفوس والانفصال عن طريق التشكك فيه [إلى] إطالة وإطناب يقطع التشاغل به عن مقصود الكتاب. وأما الوجه الثالث وهو تصور العموم في الأفعال فإن الأئمة مختلفون في قولهم، عطاء

عام، هل ذكر العموم هنا مجاز أم حقيقة؟ فالأكثر من أئمة المتكلمين أنه مجاز، لكونه ما يتناوله كل إنسان من العطاء مختصا به، وهو غير ما تناوله صاحبه، بخلاف قوله المشركين، فإن هذه اللفظة تتناول كل مشرك تناولا واحدا، فهي لفظة واحدة اشتملت على آحاد، ونفس تناول العطاء لا اشتمال فيه، فإيقاع لفظ العموم عليه مجاز، لكن أن نتعرض إلى لفظة العطاء فإنها تتناول الجميع تناولا واحدا، ويصح دعوى العموم فيها. ومن الأئمة من أشار إلى انطلاق العموم في الأفعال على جهة الحقيقة، فهذه مشاحة لا كبير طائل تحتها، وانصراف العموم إلى التسمية تصور وإلى نفس الفعل لم يتصور على حسب ما بيناه. وأما الوجه الرابع وهو تصوره في الأحكام حتى يقال: قطع يد السارق عام، فإن القاضي أنكره، وأبو المعالي أثبته، وقد كنا قدمنا فيما مضى معنى الحكم، وأنه عندنا ينصرف إلى قول الله سبحانه، وعند غيرنا إلى أوصاف ترجع إلى الذوات. ولا شك أنه إذا قيل بانصرافه إلى الذوات فإنه لا ينصرف فيه معنى العموم، ولما قدمناه في الأفعال، لأن وصف كل ذات، ووصف ذات أخرى [كل منهما مختص بصاحبه]، وإن قلنا: إن ذلك يرجع إلى قول الله سبحانه، فقول الله سبحانه يشتمل على كل سارق، فنفس القطع أفعال، والأفعال لا عموم فيها على الحقيقة، وحكمها إن صرف إلى ذوات القطع، فإن ذلك أيضا لا يتحقق فيه العموم، وإن صرف إلى قول الله سبحانه، فذلك قد بينا حكمه، ولعل القاضي إنما نفي من ذلك ما بيناه. وأما الوجه الخامس وهو تصور العموم في المعاني فإنا قد قدمنا الإشارة إليه، حيث قلنا: إن دعوى العموم في المحذوفات فيه خلاف، ومثلناه: (الحد أشهر معلومات)، وذكرنا أنه يحتمل أن نضمر أوقات الحج، أو أفعال الحج، وأن قوما ادعوا العموم في هذا، وقوما أنكروه، لأن العموم إنما يتصور في الألفاظ، وهذه المحذوفات ليست بألفاظ، فيتخيل فيها شمول أو اختصاص. وتخيل الآخرون العموم لأن معاني الكلام مستفادة من ألفاظه، فكأن عموم المحذوفات مستفاد من ناحية الألفاظ المسند إليها الحذف، ومن هذا أيضا قوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة)، فإن نفس الميتة لا تحرم، وإنما تحرم أفعالنا فيها، وأفعالنا فيها شتى، من بيع، وأكل، واستصباح، وطلاء سفن، إلى غير ذلك مما في معناه، فهل يدعى

العموم في هذه المحذوفات حتى يقال: إن الأكل، والبيع، والاستصباح، وطلاء السفن حرام بعموم قوله: (حرمت عليكم الميتة)، وهذه الأحكام وإن كانت شتى، وهي محذوفة، فالعموم مستفاد فيها من ناحية اللفظ. ومن الناس من أنكر [عموم اللفظ] في مثل هذا، وقد تكلمنا نحن على طلاء السفن بها، وما في معنى ذلك في كتابنا "المعلم"، وكذا قوله عليه السلام: "رفع عن أمتي خطؤها ونسيانها"، فإن تفس الخطأ لا يرتفع، فطر الصائم فينهار رمضان على جهة السهو، قد اشتهر فيه خلاف فقهائنا؛ هل يقضي الصوم أم لا؟. وقد يتعلق من يدعي العموم في المعاني المحذوفات بقوله: "رفع عن أمتي خطؤها" فعم الآثام، وسائر الأحكام عن قضاء صوم وغيره، وأمثلة هذا الباب تكثر. وأما الوجه السادس فإن الأقوال التي تصلح دعوى [العموم] فيها خمس أدوات: الشرط (كو ......) (ص 112). لا تشعر بعقله، وبين هاتين الحاشيتين وسطتان، فكأنها أربعة أعداد: النص في طرف، الذي هو كالمصدر في طرف، والوسط بينهما، منه ما يميل إلى هذه الحاشية الأولى فيكون ثانيا، ومنه ما يميل إلى الآخرة فيكون ثالثا، فبأدوات الشرط نميل إلى الأولى التي هي كالنص، لكنه قد يعرض فيها خصوص بأن يكون قد تقدمت مخابطة على قوم بأعيانهم، فقال المخاطب: من فعل كذا، فله كذا، ومراده أولئك المذكورون، فنزل عن المرتبة الأولى بتقدير خصوص فيه، بضرب من النخيل. وأما لفظ الجمع الذي لم يوضع للقلة فلا يستنكر أن يريد مطلقه الخصوص من غير فرض مثل تلك الصورة التي فرضناها في أدوات الشرط، لكنه مع هذا نص في أقل الجمع، وظاهر فيما سواه مع انتفاء القرائن، فقصر هذا الثالث عن الثاني بكونه ظاهرا، وكون ذاك نصا، ويجوز على الخصوص من غير فرض صورة بتقديم الخطاب، وفي أدوات الشرط لابد من فرض مثل تلك الصورة. وقد تقدم انقسام الجمع إلى جمع السلامة وجمع التكسير، وذكرنا مثل جمع السلامة، وأما جمع التكسير فهو ما تغير فيه بناء الواحد، ويكون التغيير بنقصان حرف، كرغيف ورغف، وبزيادة حرف كثوب وثياب، وبتغيير حركة في صدر الكلمة كأسد وأسُد.

وذكر سيبويه أن جمع السلامة من أبنية جمع القلة، واستعظم أبو المعالي مخالفته في مثل هذا، أو مخالفة الفقهاء القائلين بالعموم في مثل هذا عنده مطبقون على حمله على الاستغراق. وقد زل أبو المعالي فيما حكي هاهنا من إطباق المعممين على القول بالعموم في مثل هذا، وقد تقدم ذكرنا للخلاف بينهم فيه. وذكر الإسفراييني إلى حمل الجمع المعرف على الخصوص، وحاول أبو المعالي [أن يتوسط] بين مذهب النحاة ومذاهب الأصوليين، فحمل كلام سيبويه على أنه إنما أراد به جمع السلامة الذي لم يعرف، وذكر أبو المعالي أن الاسم العلم إنما تعرف لاتحاده من حيث يعتقد أنه مفرد في قصد المسمى، حتى إذا ثني وجمع تعدد، وزال معنى الاتحاد فتنكر، وإذا تنكر لم يقتض الاستيعاب، ولا يقتضيه جمع من الجموع، لما ذكرناه، ومصداق هذا قوله تعالى: (ما لنا لا نرى رجالا)، فهذا منكر لم يقتض الاستيعاب، والمعرف يقضتيه، قال تعالى: (إن الأبرار لفي نعيم)، فلا جمع عنده يقتضي الاستغراق بوضعه، إنما يقتضيه الألف واللام المعرفان الداخلان على الجمع، وذكر أبو المعالي هاهنا أن الجمع من غير تقدير تعريف لأقل الجمع، فإذا عرف ففيه الخلاف، وهذا يوهم أن لا خلاف في المنكر، وقد قدمنا نحن ذكر الخلاف فيه. وأما النكرة في سياق النفي فإنها تقتضي الاستيعاب، لأن النكرة ليست مختصة بمعين في نفسها، كقولك: رأيت رجلا، والنفي أيضا لا اختصاص له، فإذا انضم النفي الذي لا اختصاص له إلى التنكير الذي لا يختص بمعين اقتضى ذلك العموم. وقد قيل: إن النكرة في الإثبات تخص، وأنكر أبو المعالي إطلاق هذا القول، وقال: إذا قال القائل: من يأتني بمال أكرمه، فإن المال غير خاص، والسبب في ذلك أن الشرط لا اختصاص له كما قدمناه، فالنكرة الواقعة بعده محمولة عليه، وحكم الشرط في التعميم منبسط على النكرة، ولو اختص المال لاختص الشرط، وذكر أن دلالة الاستيعاب في النكرة المنفية ليست بنص، بل هي ظاهر، فإذا قال: ما رأيت رجلا، كان الظاهر نفي الرؤية عن جنس الرجال، لكنه يتطرق إليه تأويل، ذكره سيبويه، إذ قد يريد: ما رأيت رجلا واحدا، بل رأيت رجالا، حتى إذا أدخل فيه حرف "من" فقال: ما جاءني من رجل، ارتفع ذلك التأويل، وخرج الكلام عن تطرق الاحتمال إليه.

وأما لفظ الواحد المعرف بالألف واللام كقولك: الرجل أفضل من المرأة، والدينار أفضل من الدرهم، فقد اختلف المعممون في حمله على الاستغراق، واختار أبو المعالي أنه إن كان التعريف ينبئ عن تنكير سبق، كقولك: أقبل رجل، ثم تقول: قرب الرجل، والمراد أعرف قرب من ذكرته، فهذا لا يقتضي استغراقا وإن لاح في الكلام قصد المتكلم للجنس فهو للاستيعاب. وإن لم يدر هل خرج تعريفا لتنكير سابق، أو إشعار الجنس، فالرأي عند أبي المعالي أنه مجمل (...) المعممين في حمله على الاستيعاب، واعتل أبو المعالي في توق تب البيت اللفظ ليس بجمع (ص 113) ولا وضع للإبهام المقتضي للاستغراق كأدوات الشرط، فالخصوص والعموم إنما يتلقيان من القرائن، ولكن لا يمكن عنده أن ينتظم الكلام من قاصد من اللفظ إلا مرتبا على تنكير سبق، أو مشعرا بالجنس، وأما وقوع الكلام عريا عن إحدى قرينتي العموم والخصوص، في حال أو مقال فمحال من المنتظم الكلام. وأما الجمع الذي إنما فارق لفظة واحده بنقصان الهاء كالتمرة والتمر، فإن المعممين مختلفون في دلالته على الاستغراق، واحتج من أنكر دلالته على الاستغراق بأنه ليس بجمع، ألا تراه يجمع في نفسه فيقال: تمور. وأنكر أبو المعالي هذا الاحتجاج، وقال: إن الإبهام والجمع ثابتان، ويعارض ما قالوه من جمعه على تمور، من امتناع قول القائل تمر واحد، فهذا الامتناع يشعر بالجمع. والعذر عما قالوه أن قولك: تمور جمع [من] حيث اللفظ، وقد قال سيبويه بجمع الناقة على نوق، ثم النوق على نياق، وهما جميعا من أبنية الكثرة، ثم النياق على أنيق، وهو مقلوب أنوق، وأوانيق، على ما علم من علم التصريف، والأفعال جمع قلة، ولكن هذا الجمع مردود إلى ألفاظ أقوام قالوا: نياق. ورأى أبو المعالي أن التمر أدل على استغراق الجنس من التمور، فإن التمر يسترسل على الجنس لا بصيغة لفظية، والتمور يتخيل فيه الواحد ثم الاستغراق بعده بصيغة الجمع، وفي صيغة الجمع خلاف قد تقدم. وذكر أبو المعالي أن اللفظ الموضوع لأمور مختلفة كالعين والقرء واللون، فذكر عن بعض المعممين أنهم يحملونه على جميع معانيه، ولم يفرقوا بين كون محامله كلها حقيقة أو

بعضها مجازا، أو بعضها حقيقة، وأضاف هذا المذهب إلى الشافعي، لأنه حمل قوله تعالى: (أو لامستم النساء) على العموم، مع كون الملامسة حقيقة في حس اليد، مجازا في الجماع، وقال قائلون: إنما تحمل على الحقائق كلها، ولا تحمل على الحقائق والمجاز جميعا. وأنكر القاضي ابن الطيب على الأولين حمله على المجاز والحقيقة، واعتل بأن ذلك يؤدي إلى التناقض والتهافت، لأن الحقيقة هي اللفظة المستعملة على أصل وضعها، والمجاز هو المنقول عن وضعه، وهذان نقيضان لا يصح دعوى العموم فيهما، كما تقدم بيانه فيما سلف. وأجاب أبو المعالي عن هذا بأن الذي قاله القاضي: إنما هو نظر في اشتقاق لفظة الحقيقة والمجاز، وهذا غير مراد بما نحن فيه. وأما الحمل على مسميين: الجس والجماع، فذلك ممكن كغيرهما من المسميات، واختار التوقف في هذه اللفظة، لأنها لم توضع مشعرة بالاحتواء على جميع معانيها، لكن إنما اقترنت معها قرينة تدل على [أن] المراد جميع المحامل، ولو كان بعضها مجازا حملت على التعميم، مثل أن يذكر الذاكر محامل العين، فيذكر بعض الحاضرين لفظ العين، ويفسر من حاله أنه أراد بها جميع ما جرى ذكره. وذكر أبو المعالي قول الشافعي [أن] ترك الاستفصال في حكاية الأحوال مع الاحتمال يتنزل منزلة العموم في المقال، وهذا يمثل بقوله عليه السلام لمن أسلم وتحته عشرة نسوة: "أمسك أربعة وفارق سائرهن"، من غير أن يسأله؛ هل عقد عليهن معا، أو واحدة بعد واحدة. وأشار أبو المعالي إلى أن هذا لا يقتضي العموم، لجواز أن يكون النبي عليه السلام عرف صفة العقد، وكيف وقع، فأجاب عنه كما يجيب المفتي على ما يعرفه من قصد المستفي، وإن كان يفتقر كلامه إلى تفصيل، ولو صح أن صاحب الشرع أطلق جوابه، وهو غير عالم بما عليه حال السائل لجرى جوابه على جميع التفاصيل، لكن إنما يتمسك بالحديث من جهة أخرى، وهي قوله: "أمسك أربعا" ولم يخصص الإمساك بالأوائل عن الأواخر، وقال لآخر قد أسلم على أختين: "اختر أيتهما شئت وفارق الأخرى".

وذكر أبو المعالي أنه نقل عن أبي حنيفة أنه عمم أمورا لا يصير إلى تعميمها شادٍ في الأصول، فقال: إذا قال الراوي: قضي عليه السلام في كذا بكذا، عم القضاء في غير المحمل المنقول. كما روي أنه قضى بالكفارة على المجامع في رمضان، فعم به أبو حنيفة كل إفطار. فإن قال هذا تلقيا من اللفظ فهو غلط، وإن قال قياسا نظر في قياسه. وقد قال الشافعي في قول الراوي: "إنه عليه السلام قضى في الأموال بالشاهد واليمين"، هذه الجملة تختص بمحلها، واللفظ لا يشعر بالعموم، والأقيسة لا جريان لها في مراتب البينات، فإنها مستندة إلى التعبدات. وهذا الذي ذكره أبو المعالي (...) (ص 114) بكذا، ذهب المحققون من أئمتنا إلى أنه يحتمل أن يكون أراد: قضي بفعل وقع منه، أو قول. وإن كان بقول، فالقول لا تعرف صيغته، فلا يدعى عموم حتى يوقف على الفظ المنقول، والحكم مترتب على ما يفيده قول الراوي إفادة لا احتمال فيها، ولعلنا نحن أن نبسط الكلام فيما تمثل به أبو المعالي من هذه الأحاديث في كتاب التأويلات. وأما الوجه السابع وهو سبب الخلاف، فإن مستمسك القوم فيه يحصره الاستدلال بشواهد عقلية، أو شواهد لغوية، أو شواهد شرعية. فأما الشواهد العقلية فنكتة واحدة، وهي ما تقرر من مقتضى العادات، وذلك أن الإخبار بكليات الأوامر بها، مما تمس الحاجة إليه ويتكرر حدوثه ونزوله، وما تكرر وعمت به البلوى ومست الحاجة إليه، فممتنع في العادة أيضا إضراب سائر العقلاء عنه صفحا، وإعراضهم عنه، وإهماله، فنتيجة هذا إثبات وضع صيغة العموم يعبر بها عنه، وما ذاك إلا الصيغ التي قدمنا تعديدها. وأجيب عن هذا بأن مسيس الحاجة إلى إفهام المراد لا يغير على العاقل نوعا من الأفهام، وقد يفهم مراده للاستيعاب بقرائن أحوال، وألفاظ مؤكدة على وجه من التأكيد يرفع الاحتمال على حسب ما تقدم بيانه، فإذا أمكن هذا، وصح الاستغناء به لم يتعين إثبات صيغة واحدة للعموم، وهذا بعد أن نسلم أنه لا تمكن الغفلة من العقلاء عن مثل هذا. وقد نوقض أصحاب هذا الاستدلال بإضراب العرب عن وضع أسماء مميزة لرائحة من

رائحة، ولكون من كون، ولطعم من طعم، وهذا يجيبون عنه بأنا لا نغير اللفظ الذي يقع به الاكتفاء، فاستغنوا بالإسناد والإضافات في الروائح، فقالوا: رائحة مسك، ورائحة عنبر، وقالوا في الطعوم: طعم رمان وطعم تفاح. والعموم قد أنكر الواقفية صيغة تدل عليه، لا مستندة ولا غير مستندة. وأما الإشهاد اللغوي فإن روي فيه النقل عن العرب معينا عسر، وإن ادعي ذلك مفهوما عنهم، كما فهم رفع الفاعل، ونصب المفعول، طلب مدعيه بإتيانه، فعدل جمهور المحتجين للعموم عن هذا إلى الاستثناء بألفاظ لغوية، منها: التأكيد، فقالوا: إن الواحد لا يؤكد بلفظ الجمع، فلا يقال: جاء زيد كلهم، وما ذاك إلا لأن الواحد غير مشعر بمعنى الجمع ولا صالح له، كما أن الجمع لا يؤكد بلفظ الواحد، فلا تقول: جاء القوم نفسه، وما ذاك إلا لأن لفظة القوم لا تشعر بالاتحاد، فاقتضى هذا أن يكون التأكيد عاما، والمؤكد فإذا قال: جاء القوم أجمعون أكتعون أبصعون، دل هذا على أن القوم جاء جميعهم، وأن هذا يقضتيه اللفظ قبل أن يؤكد، ولو لم يكن يقتضيه لما صح أن يؤكد بلفظ لا يدل عليه، كما لم يصح أن يؤكد الواحد بلفظ الجمع. وقلب الواقفية هذا الاستدلال، فقالوا: لولا كون اللفظ محتملا لما احتيج إلى التأكيد، لأن الأول لو اقتضى بنفسه الاستيعاب لاستغنى عن لفظ آخر يدل على الاستيعاب، وانفصلت كل فئة من هؤلاء عما قاله مخالفوها. فأما المعممون فيقولون: وإن دل اللفظ الأول على العموم فإنه يمكن أن يراد به الخصوص، فيكون التأكيد مزيلا لهذا الاحتمال، رافعا لهذا الإمكان، وتقول الواقفية: إنما حسن التأكيد بالجمع في لفظ الجمع لكون لفظ الجمع صالحا للاستيعاب، بخلاف لفظ الواحد الذي لا يصلح للاستيعاب، فالأولى ترك الاعتماد على هذا لما أريناك من تقابل الفئتين. وهكذا وقع الاستدلال بالاستثناء، فتقول المعممة: لولا دخول المستثنى في المستثنى منه لما حسن استثناؤه، كما لا يحسن استثناء الحمير من الناس. وتجيب الواقفية عن هذا أيضا بأن الاستثناء إنما وقع لدفع ما يمكن إدخاله في العموم، وإزالة اللبس عن السامع [من] التردد في دخول من استثنى، وهذه فائدة محققة، وفرق بين إفادة رفع الاحتمال أو رفع ما يقع دونه الاستقلال، وإنما لم يجز استثناء الحمير من الناس لكون لفظة "الناس" غير [شاملة للحمير].

أيضا استدل بحسن الاستفهام، فإن الواقفية تقول: إذا قال: اضرب القوم، حسن أن يقال: فهل يدخل (... ك) حسن أن يقال: فهل نكرم فلانا إذا زارني، ولولا أن اللفظ فيه إشكال ما (....) (ص 115) حسن الاستفهام، ويجيب المعممون عن هذا بأن اللفظ قد يجوز أن يراد به الخصوص، فيكون الاستفهام إنما حسن لدفع هذا المجوز، لا سيما على طريقة من قال: إن إفادة اللفظ العام للاستيعاب إفادة الظواهر، لا إفادة النصوص، وعلى هذه الطريقة يحسن فيه الاستفهام، ما لا يحسن في القول: رأيت حمارا، هل هو النهاق البهيمي، أو البليد الإنساني؟ واستدل بعض المعممين بأن [لفظ] "بعض" يفيد معنى يناقض الاستيعاب، ألا ترى أن بعض المال ليس بكل المال، ونقيض البعض الكل، فليكن الكل مفيدا للاستيعاب حتى تصح هذه المناقضة. وللواقفية أن تجيب بأن المناقضة في الصلاح لا في الإيجاب، فلما كانت "كل" صالحة للاستيعاب، ولفظة "بعض" لا تصلح للاستيعاب، صارت المناقضة بينهما من هذه الجهة. والذي أراه أن جميع ما قدمناه من طرق الاستدلال غير قاطع في تخصيص أحد المذاهب، وإن كان في بعضه إفادة ظنون، ولكن ليس هذا موضع ظن، والتعويل عندي على الاستدلال بالشرع، لأن ما تقدم قد أريناك تقابل الفئتين في بعضه، وتطرق الاحتمال إلى بعضه، ومثل هذا لا يوثق به. وأما طرق الاستدلال بالشرع فإن الصحابة عليهم السلام قد نقل عنهم في محاجتهم وفتاويهم تمسك بعمومات مطلقات يكثر تعدادها، وبلغت من الكثرة إلى حيث ما صارت كالمتواترة على المعنى، والمحصول، كجود حاتم الذي لا تعرف قطعا قصة من جودة بعينها، ولكنا نعرف من آحاد القصص المنقولة من جهة الآحاد جوده قطعا. وكذلك ما نحن فيه من تتبع ما أشرنا إليه استلوح من معانيهم، وفهم من مواصيهم تمسكهم بالظواهر، وحمل الصيغ المذكورة على العموم، فمن ذلك اختلافهم في وطء الأختين بملك اليمين، وتعلق بقوله تعالى: (وأن تجمعوا بين الأختين)، لأجل أن هذه لم يفرق الله سبحانه فيها بين أختين حرتين، أو مملوكتين، وتعلق الآخر بقوله تعالى: (أو ما ملكت أيمانكم)، ولم يفرق بين أن يملك أختين أو أجنبيتين، وما وقع من قول بعضهم: "أحلتهما آية وحرمتهما آية"، إشارة منه إلى تعارض هذين العمومين، وليس

إلا هذه الصيغ، فدل ذلك على تمسكهم بالعمومات. وهكذا احتج ابن عمر على ابن الزبير في إسقاط عدد الرضعات بقوله تعالى: (وأمهاتكم التي أرضعنكم)، وهكذا احتج بعضهم على ابن عباس بعموم ما ورد من تحريم الربا، واحتج هو بعموم قوله عليه السلام: "لا ربا إلى في النسيئة"، وهكذا احتج عمر على الصديق رضي الله عنهما في منع قتال أهل الردة بقوله عليه السلام: "أمرت أن أقاتل الناس" الحديث، فتعلق فيه بعموم قوله: الناس، وانفصل الصديق رضي الله عنه بقوله: "إلا بحقها"، والزكاة من حقها، فتعلق أيضا بعموم هذا الاستثناء، ولم ينكر أحدهما على الآخر تعلقه بالعموم، ولو كان التعلق به باطلا لما احتاج الصديق إلى هذا الاستنباط الخفي من هذا العموم المستثنى. على أن القصة التي جرت بينهما مشهورة، ولم ينكرها أحد، ولما سمع عمر رضي الله عنه شعر لبيد، إذ بقول: ............................. وكل نعيم لا محالة زائل استكذبه وناقضه بنعيم أهل الجنة الذي هو باق لا يزول، فلولا حمله الصيغة وهي "كل نعيم" على العموم لما أنكر مقاله، ولما نزل قوله تعالى: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم)، قال ابن الزبعري: أنا إذا أخاصم محمدا، قد عبدت الملائكة والمسيح، أفتراهم حصب جهنم؟، فأنزل الله: (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون)، فلولا كونهم يعممون لما قال الزبعري: أنا أخاصم محمدا، ولما أنزل هذا التخصيص الذي أخرج به من العموم من سبقت له من الله الحسنى. وقد خرج أهل الصحيح أن قوله تعالى: (الذين أمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ)، قالت الصحابة: أيُنا لم يظلم نفسه؟ فأنزل الله تعالى: (إن الشرك لظلم عظيم) فلولا اعتقادهم عموم قوله: (بظلم) حتى تخوفوا أن يكون الله سبحانه اشترط في الأمر والهدى أن [لا] يخلط الإيمان بمعصية لما تخوفوا من هذه الآية، حتى نزل ما يشير إلى أن الظلم

فصل في أقل الجمع

المذكور هو الكفر، وهكذا لما سمع ابن أم مكتوم: (لا يستوي القاعدون) الآية، وهو ير شكا ضرارته، أنزل الله سبحانه: (غير أولى الضرر) وتتبع أمثال هذه القصص يطول. وللواقفية في بعضها مجال، (فـ ....) التعميم قطعا على صلاح التعميم، وأن التخوف سبب صلاح اللفظ للاستدلال (...) (ص 116) على الاستيعاب، وبعض ما أوردناه لا يمكن تأويله على هذا الوجه، ولكن القاضي ابن الطيب عول فيه على تجويز قرائن صحبته أشعرت باستيعابه، فلأجلها تعلق القوم به، وهذا عندي إنما يحسن التشكيك والتوقف بسببه في نقل حادثة، أو حادثتين، أو نقل أمر عن رجل، أو رجلين، وأما قصص يكثر تعدادها من رجال مختلفي الآراء والمذاهب، ويكثر تعدادهم، فتقدير مثل هذا المجوز في حق جميعهم، وفي عين كل قصة، ثم لا يؤثر ذلك عن واحد منهم مع كثرتهم، ولا اتفق ظهوره في حادثة مع تباين أزمانها، واختلاف أجناسهم ومبالغتهم أيضا في طرق الحجاج، وإظهار الحق، فإن هذا بعيد في العوائد. ومن أعظم ما يمنع القاضي عن طريق القدح إلى مثل هذا الاستدلال قطعه على صحة القول بخبر الواحد والقياس ومسالكه فيهما استقراء ما وقع من فتاوى الصحابة رضي الله عنهم، وحجاج بعضهم على بعض، ومن قرأ كلامه في كتابه على هذين المسألتين وتدبر وجه حجاجه بما نقل عن الصحابة رضي الله عنهم فيها، علم أن هذا القدح يبعد على أصله. ويتطرق به إليه لو ثبت في القدح في حجاجه على وجه لعلنا أن نذكره في مواضعه إن شاء الله. ولا تظن بي وقد ملت إلى تصحيح مثل هذا الحجاج أن أقول بالعموم على مسالك جماهير من قال به من المتقدمين، بل مسلكي فيه قريب مما سلكه أبو المعالي في كتابه هذا، وبسطه يطول، وقد نشير في كتاب التأويلات إليه إن شاء الله عز وجل، وبالله التوفيق ولا رب سواه. فصل في أقل الجمع الكلام في هذه المسألة من ثلاثة أوجه: - أحدها: إظهار ثمرتها.

- والثاني: ذكر الخلاف فيها. - والثالث: سبب الخلاف. فأما ثمرة الخلاف فيها ففائدتان: أصولية، وفروعية. فأما الأصولية فهي النظر في نهاية ما يخصص إليه العموم، حتى إذا جاء خبر واحد مخصصا لعموم ذكر في القرآن، وأخرج منه جميع مسمياته إلا ثلاثة، فإن ذلك مقبول على الأشهر من المذاهب في تخصيص العموم بأخبار الآحاد، فإذا تجاوز هذه المرتبة وأخرج جميع المسميات حتى لم يبق إلا اثنين، فهذا على القولين في أقل الجمع، فمن قال: إنه اثنان سلك مسلك من خصص حتى بلغ إلى الثلاث، لأن اللفظ حينئذ لم يخرج حتى يستعمل عليه في اللغة. ومن أنكر أن يكون أقل الجمع اثنين، وقال: لا تعبر العرب عن التثنية بلفظ الجمع لم يقبل تخصيص الآحاد، لأن قبوله يؤدي إلى إبطال معنى الكلام، ويصير كالرافع لجملته، ورفع جملته لا يكون بخبر الآحاد، لأن قبوله يؤدي إلى إبطال معنى الكلام، ويصير كالرافع لجملته، ورفع جملته لا يكون بخبر الآحاد، وهذا في تخصيص ألفاظ الجموع، لا في تخصيص أدوات الشرط، كقولك: من دخل داري، فهذه الفائدة الأصولية. وأما الفائدة الفقهية فهي على ماذا يحمل إقرار المقرين إذا أقروا بجنس من الأجناس وعبروا عنه بلفظ الجمع غير منصوص عليه على عدد كالقائل: له عندي ثياب، أو له عندي دراهم أو دنانير؟ فاختلف الفقهاء هل يلزمه درهمان كما قال ابن الماجسون من أصحابنا، أو يلزمه ثلاثة دراهم، كما روي عن مالك رضي الله عنه. وهكذا يجري الأمر في اختلاف العلماء في حجب الأم عن الثلث إلى السدس بأخوين، فإن من رأى أن أقل الجمع اثنان، وأن قوله تعالى: (فإن كان له إخوة) ينطلق على الاثنين حجبها بالأخوين إلى السدس. وقد أشار أبو المعالي إلى استبعاد هذه الفائدة الفقهية، وقال: ما أرى الفقهاء يسمحون بهذا. وليس الأمر كما قال، بل في كتب لا تحصى كثرة من كتب الفقهاء إجراء إقرار المقر بدراهم أو ثباب، على ما ذكرناه من الخلاف في أقل الجمع. وأما الوجه الثاني وهو ذكر المذاهب في المسألة فالناس فيها على قولين: أحدهما أن أقل الجمع ثلاثة، وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه، ويذكر أيضًا عن أبي حنيفة، وقد تردد ابن خويز منداد فيما يضاف إلى مالك في هذا، فأضاف إليه القول بأن أقل الجمع اثنان، لأجل مصيره إلى حجب الأم عن الثلث إلى السدس، قال: ويشبه أن يكون مذهبه أن أقل الجمع ثلاثة، لأجل ما قال في المقر بدراهم: يلزمه ثلاثة دراهم. وأضيف إلى عثمان بن عفان وزيد بن ثابت رضي الله عنهما أنهما يريان أقل الجمع

اثنان لأجل مصيرهما إلى حجب الأم عن الثلث إلى السدس بأخوين، كما أضيف إلى ابن عباس أن أقله ثلاثة (...) إلى ابن مسعود لأجل قوله: إن الإمام إذا ائتم به رجلان قاما إلى جنبيه (ص 117) ولو كانوا ثلاثة قاموا وراءه، وبه قال ابن فورك من أئمة الأشعرية، وأضيف إلى الخليل وسيبويه أن أقل الجمع اثنان، وبه قال القاضي ابن الطيب. وأما الوجه الثالث وهو سبب الخلاف فإن عمدة من يقول: أقل الجمع ثلاثة إطباق النحاة على انقسام الكلام إلى توحيد، وتثنية، وجمع، وذكرهم التثنية وأحكامها وإعرابها وعلامتها في فصل مفرد عن أحكام الجمع، كما ذكروا الجمع وأحكامه وعلامته وإعرابه في فصل آخر، فرقوا في ذلك ما بين الجمع والتثنية في أحكام الألفاظ والعلامات والإعراب، فمن قال بعد ما قالوه: إن الجمع يعبر به عن التثنية كان كمن قال: إن الواحد يعبر به عن الجمع، أو يعبر به عن التثنية. وأما الصائرون إلى أن أقل الجمع اثنان فاستشهدوا بمعنى عقلي، وهو كون الواحد إذا أضيف إلى الواحد شوهد بينهما التئاما وتجمعا، فوجب أن يكون أقل الجمع اثنين، وهذا ليس بيشئ، لأنه نظر في المحسوسات، ونحن إنما نتكلم على العبارات الموضوعة لها، وقد توجد معنى التسمية في الشيء ثم تنطلق التسمية على ذلك الشيء، هذا الملك مشتق من الرسالة، ولا يسمى رسلنا بعضنا إلى بعض ملائكة. واحتجوا ايضا بالشرع كقوله تعالى: (فقد صغت قلوبكما)، وأجيبوا عن هذا بأن النحاة ذكروا أن تثنية ما ليس في الإنسان منه إلا شيء واحد يكون بلفظ الجمع، لأن تقدم العلم بأن الإنسانين ليس لهما إلا قلبين حسن العبارة عنهما بلفظ الجمع الدال على الثلاثة لأمن الغلط فيه، بخلاف غيره من الجموع التي لا يؤمن من غلط السامع فيعتقد أن المراد بما سمع ثلاثة، والمتكلم إنما أراد اثنين. وإلى هذا أشار ابو المعالي بأن هذا له باب وقياس، على أن سيبويه احتج لكون أقل الجمع اثنين بقول الشاعر: ............................. ظهراهما مثل ظهور الترسين فجمع ظهرين، وليس لكل ترس إلا ظهر واحد، وأورد هذا شاهدا مطلقا غير مختص

بما اتخذ في كل جسم، وقال سيبويه: سالت الخليل عن قولهم: ما أحسن وجههما قال لي: اثنان جمع. واحتج أصحاب هذا المذهب أيضًا بقوله تعالى: (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم وكنا لحكمهم شاهدين)، فجمع في قوله (لحكمهم)، وهكذا أيضا أجابوا عن الاحتجاج بقوله لموسى وهارون: (إنا معكم مستمعون)، أضاف فرعون إلى هذا الخطاب، وكذلك قوله تعالى: (خصمان) بعد قوله: (إذ تسوروا)، أجيب عنه أيضا بأنه تسور مع الملكين غيرهما، وكذلك أجيب عن قوله: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) بأن الطائفة تطلق على الواحد وعلى الآحاد، وهذا المعنى في الجواب يسلك في قوله: (هذان خصمان اختصموا في ربهم)، لأن الخصم ينطلق على الواحد والآحاد. فهذا الاستدلال كله كما تراه قد تؤول، وقد يمنع تأوله من القطع عليه، واختار أبو المعالي في المسألة طريقة هي التي نبهنا عليها لما ذكرنا فائدة الكلام على المسألة، فرأى أن المسألة مبنية على القول بالعموم، وهو يقول به على صفة ما تقدم بيانه، ولكن قد يخصص في العموم فينظر في المخصص، فما خصص إلى الثلاث قبل على الإطلاق، وإذا كان من جنس ما يخصص به، فإن تعدى التخصيص هذه المرتبة إلى أن أبقى من الخطاب اثنين، تطلب في المخصص زيادة قوة، فإن تعدت هذه المرتبة طلب في التخصيص زيادة القوة على ما قلناه في المرتبة الثانية. وسبب هذه الموازنة بين ما تعارض من أدلة الشرع فيقدم الأوزن والأرجح، فإفادة الجموع لتعميم ثابت على حسب اختلاف طبقات العموم في قوة إفادة الاستيعاب، والخروج عن العموم إلى قصره على اثنين أبعد في حكم الخطاب، ودلالته من قصره على الثلاث، فاقتضى هذا بلا شك طلب قوة في المخرج له عن بابه. وقد يميل أبو المعالي في حمل الجمع على الواحد بشرط قرينة؛ فمن رأى امرأته تتصدى لناظر إليها، فإنه يحسن أن يقول لها: تتبرجين للرجال، ولم ير إلا رجلا واحدا، ولكن هذا لا يحمل الكلام عليه إلا في مثل هذه القرينة، وهذا الذي تمثل به فيه نظر، والمعلوم من القائلين بمثل هذا الكلام

فصل في اشتمال العموم على من تميز بخصيصة أشكل من أجلها تناول العموم له

أنهم ما أشاورا به إلى ذلك الواحد الذي شاهدوا إفساده للحريم، وإنما يخطر بالبال حينئذ أن هذه الإشارة من هذا لم تكن إلا وقد تقدمتها إشارات أخر، و [هم] يطلقون اسم الرجال على من شوهد، ومن استدل عليه بمن شوهد، وقيل أيضاً بأنه قد يطلق لفظ الجمع على الاثنين بقرينة (لـ ....) أن من كان لا يخاف من رجل واحد ويخاف [من رجلين، فيقول: أقبل] (ص 118) الرجال، وهذا أيضا فيه معنى مما ذكرناه. وأشار أبو المعالي إلى أنه لو لم يكن في طبيعة الكلام ما يحسن به مع القرينة لما جاز إطلاقه، ولو اقترنت به القرينة، وبالجملة فالمسألة عندي محالها وثمراتها لا تبلغ القطيعات في الوضوح. فصل في اشتمال العموم على من تميز بخصيصة أشكل من أجلها تناول العموم له فمن ذلك العبيد، وقد اختلف الناس في دخولهم في العمومات، كقوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت)، وكقوله: (يا أيها الذين أمنوا اركعوا واسجدوا)، وأمثال ذلك. والظاهر من مذاهب أصحابنا وأصحاب الشافعي أنهم داخلون تحت الخطاب مع الأحرار، وذكر ابن المنتاب عن بعض أصحابنا أنهم لا يدخلون في الخطاب، وهو الذي اختاره ابن خويز منداد، وإنما عول هؤلاء في إخراجهم عن تناول الصيغة لهم مع كونها صالحة في أصل اللغة لهم على كونهم مستحقي المنافع لسادتهم، وهذا ينافي التكليف، ولكونهم يملكون فأشبهوا البهائم، ولقوله تعالى: (عبدًا مملوكًا لا يقدر على شيء)، ومن لا يقدر على شيء فلا يكلف. والاستدلال بهذا كله غلط، وعليه عول ابن خويز منداد، فأما شبههم بالبهائم فواضح فساده، إذ البهيمة لا تعقل فتكلف، وهذا عاقل فكلف، أما ظاهر الآية فلا يحسن الاستدلال به هاهنا، لأن المقصود بها هاهنا [شيء] آخر، كيف ونحن نشاهد العبد

يقدر على الحركة والسكون اللذين هما مناطق التكليف غالبا، كما يقدر الحر. وأما التعويل على كونه مستحق المنافع، فنحن لا نوجب عليه حق الله سبحانه في الحال التي يوجب عليها فيها من حق سيده ما يمنعه من القيام بحق الله سبحانه، لأنه لو أوجبنا ذلك كلفناه ما لا يطيق، وإنما يوجب عليه حق الله في حال ليس لسيده عليه حق يمنعه من القيام بحق الله سبحانه، وهذه الصورة هي محل الخلاف، وتعليلهم ساقط فيها لا يتصور. ومن ذلك دخول النساء في جمع السلامة الوارد في جمع التذكير، كمسلمين، ومؤمنين. وهذا أيضا مما اختلف الناس فيه، فذهب الشافعي إلى أنهم لا يدخلون في مثل هذا الخطاب، وهو اختيار جماعة الحذاق من مشاهير المتكلمين والفقهاء، وهو الذي نصر القاضي عبد الوهاب، ونصر ابن خويز منداد من أصحابنا القول الآخر، وهو دخولهن في الخطاب، وبه قال ابن داود وغيره. وإنما نشأ الخلاف من ورود صورة اتفق عليها النحاة، وهي تغليب المذكر على المؤنث في الجمع، فاغتر قوم بهذا فأخذوه عنهم على إطلاقه فقالوا بدخول النساء في الخطاب، وليس الأمر كما ظنوه، وإنما ذكرت النحاة تعليم المتكلم كيفية النطق إذا أراد أن يعبر عن نساء ورجال، وقد علموه أن علامة الجمع فيهم مختلفة كما تقدم، فجمع المسلمة مسلمات، فالعلامة ألف وتاء، وجمع المسلم مسلمون، فالعلامة واو ونون، فعلموه هاهنا تعليما ثانيا هو أن يغلب علامة المذكر إذا قصدوا إلى العبارة عن جماعة نساء وجماعة رجال، ولم يذكروا أن اللفظة عند إطلاقها موضوعة لتناول الجميع، فشتان ما بين تعليم القاصد إلى التعبير عن الجمع كيف ينطق، وبين الحكم على مقتضى لفظة لا يعلم قصد مطلقها. وقد احتج الشافعي على أنهن لا يدخلن في الخطاب المذكور بشكوى أم سلمة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن الله سبحانه لم ينزل فيهن خطابا، وإنما خاطب الرجال، فنزل عند شكواها: (إن المسلمين والمسلمات)، الآية، فلو كن داخلات لما شكت هذا، ولأنكره عليه السلام عليها، ولما احتيج إلى نزول هذه الآية عند شكواها. وأجاب الآخرون عن هذا بأن القصد بشكواها استدعاء تنويه بهن إذا ذكرهن، وتشريف لهن بذكرهن في القرآن، وقد أغلى بعض أصحاب أبي حنيفة فقال: لا تدخل

النساء في الخطاب، ولو كان بأدوات الشرط، مثل قوله عليه السلام: "من بدل دينه فاقتلوه"، لا تقتل المرأة إذا ارتدت لكونها غير داخلة في هذا الخطاب، يحتج هؤلاء بقول العرب: من في الذكر، ومنة في الأنثى، وفي الذكرين منان، وفي المرأتين منتان، وفي الذكور منون، وفي الإناث منات. فقد اختلف علامة التذكير والتأنيث في هذا، كما اختلف في جمع السلامة الذي قدمناه (...) الاستدلال أن سيبويه إنما أورده في باب الكناية (فكا ...) كالمحاكاة (ص 199) لأمر تقدم، وباب الحكاية معلوم مجراه في اللسان، ونحو هذا يعتذر عن قول الشاعر: أتوا ناري فقلت منون أنتم ... فقالوا الجن قلت عموا ظلاما مع كون هذا أيضا ليس باللغة الفصحى. وفائدة هذه المسألة التي قبلها في الفقهيات النظر في جنبة من يكون الدليل، وكيف يتصور التخصيص، فإذا قلنا: لا جمعة على العبد، ولا على المرأة، فاحتج عليه بقوله تعالى: (يا أيها الذين أمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله). فمن قال من أصحابنا: إن العبد لا يدخل في هذا الخطاب، ومن قال أيضا منهم: إن المرأة لا تدخل في هذا الخطاب لم يكن عليه في الآية حجة، ومن قال منهم بدخول هذين في الخطاب لزمه أن يخصص هذا العموم، فيفتقر حينئذ إلى الحديث الوارد بإسقاط الجمعة عمن ذكر فيه من عبد أو امرأة وغيرهما، وينظر حينئذ في الحديث إذا ثبت عنده؛ هل يخص به العموم أم لا؟ على ما سيأتي بيانه في تخصيص العموم الوارد في القرآن بأخبار الآحاد. وقد اختلف المذهب عندنا فيمن أعتق كل مملوك له، هل يدخل الإناث في العتق أم لا؟، وهذا أيضًا مما يصلح أن يخرج على هذا الأصل الذي نحن فيه. وقد أشار أبو المعالي إلى أن من الألفاظ ما يتفق على دخول النساء فيها، ومثل

قولهم: الناس، والقوم، وتمثيله إنما يصح له على أحد القولين، على أنه ينطلق على النساء بدليل قوله: (إنا أرسلنا نوحا إلى قومه)، وقد أرسل إلى نسائهم ورجالهم، لا على القول: إن النساء لا يسمين قوما بدليل قوله: (لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساء من نساء)، وقول الشاعر: .................... ... أقوم آل حصن أم نساء ويلحق بهذا النوع سؤال جار على أسلوبه، وهو دخول المتكلم في عموم كلامه، كقول القائل لعبده، من دخل الدار فليطعم. فقد قيل: لا يدخل المتكلم في هذا، ولا يلزم العبد إطعام سيده إن دخل، واستشهد هؤلاء بقوله تعالى: (خالق كل شيء)، ومعلوم أنه لم يدخل نفسه تعالى في هذا الخطاب، وهذا الاستشهاد ليس بشيء، لأن الخلق لا يتصور لذات الباري سبحانه، ولا يتوهم فيها، وهو مما يستحيل عليها، فلهذا لم يشتمل العموم عليه، ألا ترى قوله تعالى: (والله بكل شيء عليم)، وقد اشتمل على نفسه، فهو عالم بنفسه تعالى. وقد سلم أبو المعالي خروج المتكلم عن الخطاب بحكم ما يقع في كثير من الألفاظ بمقضتى العادة، لكن اللفظ عنده يتناوله بحق العموم ووضع الصيغة في أصل اللسان. ومما يلحق بما نحن فيه اختلاف الأصوليين في صيغة العموم الصالحة لدخول النبي عليه السلام فيها كقوله: (يا أيها الذين أمنوا)، هل يدخل فيها صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فمذهب مشاهيرهم أنه داخل فيها، وذهبت طائفة إلى أنه غير داخل، لاختصاصه بأحكام لا تشاركه فيها، وهذا باطل، لأن الخصوص في غير محل الخطاب الذي نتكلم عليه لا يقتضي تعدي التخصيص إلى ما سواه، مما نحن فيه. وفصل الصيرفي فقال: إن صدر الخطاب بأمر النبي عليه السلام بالتبليغ كقوله: (قل يا أهل أيها الناس) فإن النبي عليه السلام لا يدخل فيه، بخلاف الخطاب الذي لم يصدر بمثل هذا، بل ورد مسترسلا، فإنه عليه السلام يدخل فيه. وأنكر أبو المعالي هذا التفصيل، لأن القول في الفصلين جميعا مستند إلى الله

سبحانه، والرسول مبلغ خطابه إلينا في الوجهين جميعا، فلا معنى للتفرقة. ومما ألحق بما نحن يه خطاب النبي عليه السلام بصيغة تختص به [في] وضع اللسان، فذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى مشاركة الأمة له في ذلك، وبه تعلقوا في عقد النكاح بلفظ الهبة، لقوله تعالى: (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي)، فهذا خطاب مختص به صلى الله عليه وسلم، والناس مشاركون له في حكمه. وأنكر أبو المعالي هذا من ناحية الخطاب لكونه خاصا في نفسه، وتردد في مسالك الصحابة فيه، فأشار إلى أن ما كان عرف تخصيص النبي عليه السلام فيه بخصيصة كالنكاح والغنائم، فإنهم لا يؤمرون بالمشاركة فيما ورد من هذا القبيل، وما لم يظهر فيه خصائصه صلى الله عليه وسلم ففيه مجال للنظر، وقد كان بعضهم يحتج على بعض بآيات مختصة به صلى الله عليه وسلم، ولا أقطع أنهم يردون ذلك في هذا النوع. وبالجملة والظن المستفاد من ناحية وضع اللسان فهو المعمول به، وما كان من [الظنون] المستفادة من جهة عادات ووقائع ما أرى هاهنا إلى الأحكام مدخلا (...) (ص 120) النسخ، وإن كان مجوزا، ونراعي حكم التأويل المحتمل من ناحية اللفظ. ونحن وإن تيقنا أنهم عليهم السلام كانوا يستدلون بأفعاله على رفع الحرج، إذا لم يظهر اختصاص النبي عليه السلام، فإنا لم نعرف من عادتهم في الخطاب المختص ما عرفنا من عادتهم في أفعاله، ونحن إنما لم نوسع المقال في خروج النبي من الخطاب العام، ودخول أمته في الخطاب المختص، لأنه قل ما تمس حاجة الفقيه إليه. ومما ألحق بهذا الباب القضايا في الأعيان، وقد اختلف أهل الأصول في خطاب النبي عليه السلام رجلا من أمته بحكم ما، هل يتعدى ذلك إلى غيره ويقتضي مشاركة الأمة له فيه أم لا؟ والحق أن دعوى المشاركة من جهة الصيغة باطل، ودعوى الاشتراك من ناحية عمل الصحابة وعمل الشرائع لا شك فيه، وكذلك خطابه لأهل عصره معلوم أن من بعدهم عاملون به. وأشار أبو المعالي إلى أن الاتفاق حاصل على تعديها من ناحية العمل، لا من ناحية وضع اللسان، ودعواه الاتفاق في هذا من جهة العلم لا يسلم له.

فصل في العموم إذا خرج على سبب

فصل في العموم إذا خرج على سبب قد تقرر أن الشريعة منها أحكام مبتدأة، لم يثرها سبب كالصلاة، والصوم، والحج إلى غير ذلك، مما بين في أحكام العبادات والمعاملات، ومنها ما خرج على سبب، وينبغي أن يحتفظ على هذه العبارة التي هي قولنا: على سبب، لكونها أولى من قولك عند سبب، لأن قولك على سبب يوجب ارتباط الثاني بالأول، وقولك عند سبب لا يوجب ذلك، ألا تراك إذا قلت: ضربت غلامي على قيامه، أشعر ذلك بأن قيام الغلام كالعلة في ضربه، وهي السبب فيه، وإذا قلت: ضربت غلامي عند قيامه، لم يشعر بهذا المعنى، وأمكن أن يريد ذكر ما اتفق وجوده من حركات الغلام عند حركاتك أنت في ضربه. وإذا ثبت خروج الخطاب على سبب، فلا يخلو الخطاب، إما أن يكون لا يستقل بنفسه، ولا يفهم معناه دون أن ينتقل إلى السامع سببه كقوله عليه السلام، وقد سئل عن بيع التمر بالرطب: "أينقص الرطب إذا يبس؟ فقالوا: نعم، فقال: نعم، فقال: فلا إذن"، فقوله: "فلا إذن"، لو وجد بالنقل، ولم يذكر سببه، ولا المراجعة التي كانت قبله لم يفهم معناه، ولم يستبن به مراد، وهكذا إخباره تعالى عن قول أهل النار: نعم، لما سألهم أهل الجنة: هل وجدوا ما وعدهم ربهم حقا، لأن قول أهل النار، نعم، لا يفيد إلا أن يفيد عماذا أجابوا. ومن هذا النوع قوله عليه السلام، وقد سئل عن ماء البحر: "هو الطهور ماؤه"، فإن هذا القول لو نقل دون السؤال الذي هذا جوابه، لم يعرف لماذا أشار بقوله: "هو الطهور ماؤه". وهذا القسم من الأجوبة لا يختلف في قصره على سببه، لأنه لما كان لا يستقل بنفسه، صار هو السبب كالشيء الواحد لا يفترقان، وأما أن يكون اللفظ مستقلا بنفسه يفهم معناه، وإن لم ينقل سبه كقوله عليه السلام لما قيل له في بئر بضاعة: إنها تطرح فيها الحيض، ولحوم الكلاب، وما ينجس الناس، فقال: "خلق الله الماء طهورا"، فلو نقل إلينا هذا اللفظ الواقع من النبي عليه السلام دون سببه لفهمنا معناه وحملناه على عمومه في سائر المياه، إذا قلنا بالعموم، وهذا موضع اختلاف الناس؛ هل يقصر على سببه، ويرد اللفظ عن حكم عمومه إلى حكم خصوص السبب، حتى يكون السبب كأنه انسحب حكمه في

التخصيص على حكم الجواب العام، أو يكون اللفظ محكوما له بالعموم على مقتضى أصل وضعه عند المعممين، ولا يلتفت إلى سببه لكونه مستقلا، فأشبه اللفظ المبتدأ من غير سبب. هذا مما قال فيه أكثر أصحابنا وأصحاب الشافعي: بأنه يحكم بعموم اللفظ ولا يقصر على السبب، وشذ بعض أصحابنا وهو أبو الفرج، فقال بقصره على سببه، ورده عن دلالته على العموم، وقال به أيضا من أصحاب الشافعي المزني، والدقاق، والقفال، وبه قال أبو ثور، وحكاه أبو حامد الإسفراييني عن مالك، وأشار ابن خويز منداد إلى اختلاف قول مالك في هذا، استقراء من اختلاف قوله في غسل الآنية التي ولغ فيها كلب، وفيها طعام، فقال مرة أن يغسل ففي الماء وحده، قصرا منه لعموم اللفظ، وهو قوله عليه السلام: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم" الحديث، على ما ورد فيه الحديث [و] هو الماء، وقال مرة: تغسل سائر الأواني، وإن كان فيها طعام، آخذا بعموم (ص 121) اللفظ غير ملتفت إلى سببه. واختار ابن خويز منداد إجراء اللفظ على حكمه في أصل الوضع من غير مراعاة سببه. وقد وقع في الشرع مواضع اتفق على تعديها إلى غير أسبابها، كما نزل الظهار في حديث سلمة بن صخر ثم تعداه إلى غيره، وكما نزل اللعان في قصة هلال بن أمية ثم تعداه إلى غيره، وكما نزل القذف في رماة عائشة ثم تعدى ذلك إلى غيرهم، وإن كان فقد قال تعالى: (يرمون المحصنات) فجمعها مع غيرها، ولكن الرماة لها كانوا معلومين، فتعدى الحكم إلى من سواهم، فمن يقول بمرعاة حكم اللفظ كان الاتفاق هاهنا هو مقتضى الأصل، ومن قال بالقصر خرج عن الأصل في هذه الآي بدليل، وقد مثل الناس ما نحن فيه بهذه المثل. ولو خرجت على الاختلاف في الألف واللام؛ هل تقتضي الصيغ التي دخلت عليها العموم؟ ويكون المراد الإشارة إلى الجنس، أو تكون محمولة على العهد، كما تقدم الخلاف فيه، لكان تخريجا لائقا، لأن الألف واللام في قوله عليه السلام في بئر بضاعة: "خلق الله الماء طهورا"، من قال بقصره على بئر بضاعة صار الألف واللام كالمشار بهما إلى

معهود، وهو ما تقدم ذكره، ومن قال بالتعميم فكأنه حمل على الجنس، ولا عمدة لمن قال بقصر العموم بسببه، إلا أن السبب لو لم يكن الجواب مرتبطا به لم ينقل إلينا ذلك، إذ ما لا يفيد لا تتشاغل الأئمة بذكره. وأجيب عن هذا بأن من قال بالتعميم اتباعا لحكم اللفظ يجوز التخصيص لبعض هذا العموم بطرق التخصيص كالقياس إن قال به، فإن كان اللفظ مبتدأ أجزنا التخصيص في آحاد متضمناته، من غير أن يخص هذا عينا دون عين، أو واحد دون واحد. وأما تخصيص العموم الخارج على سبب فإنا نمنع تخصيص سببه، إذ لو أجزناه وقلنا: دل القياس على أن صاحب الشرع ما أراد بقوله: "خلق الله الماء طهورا" بئر بضاعة، وإنما أراد ما سواه من المياه، جعلنا كلامه عليه السلام غير مشتمل على بيان ما سئل عنه، ولا يصح منه صلى الله عليه وسلم أن يسأل عن بيان ما يحتاج إلى بيانه فيضرب عن بيانه ويبين غيره مما لم يسأل عنه، وقد أضيف إلى أبي حنيفة أنه يجوز التخصيص في هذا العموم تجويزا مطلقا، حتى يصح عندهم تخصيص سببه، ويجريه مجرى العموم المبتدأ. وقد استنكر أبو المعالي أن يذهب إلى هذا المذهب محصل لظهور قبحه، ولكنه اعتذر عن أبي حنيفة بعذر هو أشد من الذنب، فأشار إلى أنه إنما قال هذه المقالة، لأن قوله: لا يلاعن الزوج لنفي الحمل، مع أن آية اللعان إنما نزلت في نافي الحمل، فكأنه خص سببا، وأجراها على عمومها فيما سوى سببها، وكذلك صنع في حديث عبد بن زمعة، فإنه عليه السلام قال: "الولد للفراش"، وأورد هذا اللفظ وهو التخاصم في ولد أمة، ثم لم يلحق أبو حنيفة ولد الأمة بسيدها، وألحق ولد الحرة بزوجها، وإن تيقنا أنها لم تعلق منه، مثل أن تكون بالمشرق وهو بالمغرب، فكأنه أجرى قوله: "الولد للفراش" على عمومه فيما سوى سببه، وهو التنازع في ولد المملوكة، فأضاف أبو المعالي إليه أنه كان غير مهتم كما يجب بحفظ أحاديث النبي عليه السلام، وإنما كان مهتما بالرأي المعهود من السلف رضي الله عنهم، فلأجل ضعفه في علم الأخبار قال ما قال في اللعان، وفي ولد المملوكة، حتى لو سمع الخبرين وضبطهما كما يجب، لما قال بما قال في أسبابها. وهذا اعتذار عن مثل هذا الإمام يجب أن يعتذر عنه المعتذر به، وإضافة التقصير إليه في إجازة تخصيص السبب، وتصوره أن يكون النبي عليه السلام أضرب عن الجواب عما سئل عنه إلى غيره، لأمر دعاه إلى ذلك أولى من أن يضاف إليه ترك الاطلاع على قصتين مشهورتين: حديث اللعان، وحديث عبد بن زمعة، ولا يكاد يخفيان عمن اشتغل بالعلم أدنى اشتغال، فكيف بمن ناظر فيه الرجال، وصار فيه مخطئا للرجال، واندرجت الأعصار

على تقليده في كثير من الأنظار. وهذا أيضا مما أستثقله من إيراده في هذا الباب، كما أستثقل منه الرمز إلى مخالفة مالك وأصحابه للسلف، واستيطائهم مركب العقوق في الحقول، وخرقهم حجاب الهيبة، إلى غير ذلك من ألفاظه التي هي مصيحة، وليست معانيها صحيحة، ولا معنى للعقوق هاهنا وذكره، وهو كالخارق في مقدم نفسه حجاب الهيبة، إذ لم يتهيب أبا حنيفة ولا مالكا رضي الله عنهما، وأشار في هذا الباب إلى استثقال مخالفته للشافعي رضي الله عنه (ص 122) أم طريقة مالك عنده أسد، وهلا جرى فيمن تقدم من أئمة الأشعري على هذا الأسلوب؟ فيما نبهنا عن مخالفته لهم، وإن اعتذر عنه معتذر بأن تلك مسائل أصول، وهذه مسائل فروع، وأن حسن العبارة عن الماضي، وتحسين المخارج لهم لا يضيق على من هو أضيق منه باعا، فكيف به مع اتساع باعه في العلوم لفظا ومعنى. والذي أشرنا إليه من محاذرته مخالفة الشافعي هو قوله: (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة) الآية، وهي تتضمن قصر المحرمات على ما ذكر فيها، وهي من آخر ما نزل، وهذا يقضتي جواز أ: ل الحشرات كما قال مالك، لكن الشافعي رضي الله عنه أجراها مجرى العموم الخارج عن سبب، ورأى أن الجاهلية كانت تستبيح أكل الميتة وما ذكر معها، فأنزل الله الآية تغليظا لهم، وإشعارا بأنهم على مضادة الحق، فكأنه يقول على جهة العكس عليهم، لا يحرم ما حللتموه، وليس الغرض الحصر، وإنما الغرض المناقضة، وهذا قد يكون الشافعي أجراه مجرى التأويل، ومن قال بمراعاة اللفظ دون سببه لا يمنع من التأويل، فالقطع على إضافة هذا المذهب إلى الشافعي من هذا الذي قاله في هذه الآية وأشار إليه لا يوثق به، وقد حكى غير أبى المعالي من المصنفين أن الشافعي اختلف قوله في قصر العموم على سببه، أو تعديه إلى ما سواه. وقد تكلمنا نحن في كتابنا "المعلم" على هذه الآية، وحققنا طريقة بيانها على أصول الفقه، كما أنا تكلمنا فيه أيضا على حديث عبد بن زمعة كلاما شافيا مبسوطا، يعلم من اطلع عليه وتأمل مراميه، أن الأمر ليس كما ظن أبو المعالي بأبي حنيفة في جهله بحديث ابن زمعة، بل هو متأول عنده، وقد حكينا في كتابنا هناك تأويل من تأول من أصحاب الحديث، وذكرنا أن الولد لا يلحق بسيد الأمة، إلا أن يكون استولدها قبل ذلك على رأي أبي حنيفة، كما أنه على رأي مالك لا يلحق بسيدها حتى يكون قد اعترف بوطئها، وليس في الحديث أنه اعترف بوطئها، ولا أنها ولدت منه، فهذا مالك اشترط في الإلحاق تقدم إقرار السيد

فصل في حقيقة الاستثناء

بالوطء وإن لم يذكر في الحديث، فمع إمكان هذا يقبح الهجوم على إمام مثل أبي حنيفة وإضافة الجهل بالأحاديث إليه، وقد استوت قدمه وقدم مالك إمام أئمة المحدثين في الافتقار إلى تأويل لهذا الحديث، وإنما يترجح تأويل مالك على تأويله بما ذكرناه في كتابنا "المعلم" وذكرنا هناك رواية من روى من أصحاب أبي حنيفة: "هو لك، عبد بن زمعة")، فحذف حرف النداء، وتكلمنا على ما قيل فيه، فمن أراد شفاء غليله في معاني هذا الحديث فليطالعه هنالك. وأما ما ذكر عنه في اللعان فيطول الكلام [فيه]، وقد أشرنا أيضا هناك إلى ما إن تؤمل عرف منه سبب الخلاف في اللعان بمجرد نفي الحمل، فإن قيل: هل يسوغ أن يكون جواب النبي عليه السلام الخارج عن سبب غير مطابق للسؤال؟ إما بزيادة أو بنقصان، قيل: أما بزيادة فنعم، وقد قال لما سئل عن التوضي بماء البحر: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته"، بزيادة بيان حكم ميتته، وأما النقصان عما سئل عنه، فإن مست الحاجة إلى بيان جميعه، ولم يكن في المذكور تنبيه على المسكوت عنه، فإن ذلك لا يجوز لما تقدم في باب البيان، وإن [كان] فيه تنبيه، إذا فكر فيه السامع علم منه حكم المسكوت عنه، فإن ذلك يسوغ، وأما إن لم تمس الحاجة إلى بيان ما سئل عنه فذلك جار على الخلاف المذكور في باب البيان. فصل في حقيقة الاستثناء الكلام فيه من أربعة أوجه: اشتقاقه، وانقسامه، وتعداده، وأعرابه. فأما اشتقاقه فهو من قولك: ثنيت زيدا عن رأيه، أي صددته عنه، وصرفته عن مراده. أو يكون مشتقا من العطف والعود كقولك: ثنيت الحبل، بمعنى عطفك بعضه على بعض، وثني الثوب: ما كف من أذياله وأكمامه، سميت بذلك لما فيها من انعطاف بعضها على بعض. وهذان المعنيان يتصوران في الاستثناء النطقي، لأنه إذا قال: جاء القوم، فقد تضمن هذا دخول زيد يهم على القول بالعموم، أو جاز دخوله فيهم على القول بالوقف، فإذا قلت: إلا زيدا، فقد صرفت الكلام عن مقتضاه الواجب له والصالح فيه. وكذلك أيضا فيه معنى الانعطاف، لأنك كأنك انعطفت على زيد فأخرجته من خطاب كان داخلا فيه، وثنيت حديثه، فإن قيل: يلزم على هذا أن يسمى التخصيص المتصل استثناء كقولك: جاء القوم ولم يجئ [زيد، فهذا فيه] صرف الكلام عن مقتضاه، وفيه أيضا انعطاف على ذكر زيد،

وما أحد يسمي مثل هذا استثناء. قيل: (ص 123) هذا تعاليل اشتقاقية لا يلزم طردها كالتعاليل العقلية، وكم للعرب من اسم مشتق لم يجروا فيه على اشتقاقه، وهذا منه. وعلى هذا الاشتقاق والمعنى يكون حده: أنه كلام ذو صيغة مخصوصة محصورة دالة على أن المسمى فيه غير مراد بالقول الأول. وإن شئت قلت: بالقول المستثنى منه. وقد حده بعض الأصوليين بأنه: إخراج بعض اللفظ بلفظ آخر مع اتصاله به. وتحرز بقوله: مع اتصاله به من التخصيص المتأخر عن وقت ورود الخطاب، ولكنه لم يتحرز عن التخصيص المقارن للخطاب، كقوله: قام القوم، لكن زيدا لم يقم. وقد انتبه إلى المناقضة بهذا التخصيص المتصل أصحاب الحد الأول، فقالوا: بصيغ مخصوصة، وإنما أشاروا بهذا إلى ما قلناه من التخصيص المتصل. وهذا الحد إنما بني على القول بالعموم، وأما إن لم يقل به فينبغي أن يقال في الحد: إخراج ما يصلح دخوله في اللفظ، وقد تعقب على أصحاب هذا الحد لفظ الإخراج لما فيه من التجوز، وأن الإخراج الحقيقي لا يتصور فيه، وهذا خطب هين، لأن المجاز إذا اشتهر معناه لم يبعد التحديد به. وأما انقسامه فإنه ينقسم إلى: استثناء من الجنس كقولك: جاء القوم إلا زيدا، فزيد من جنس القوم. وإلى ما لا يكون من الجنس، ولكن بينه وبين المستثنى منه علاقة ومناسبة كقولهم: ما بالدار أحد إلا الحمار، فالحمار وإن لم يكن من جملة الأحدين، فهو متعلق بهم، لأن الدواب والأدوات متعلقة بأصحابها على وجه ما. وإلى ما لا يكون من الجنس ولا تعلق بينه وبين ما استثنى منه على حال كقولك: ما في الدار مسلمون إلا الكافرون. وينقسم الاستثناء انقساما آخر من جهة أخرى فيكون استثناء من موجب، واستثناء من منفي، والاستثناء من المنفي ينقسم أيضا إلى ما نذكره في حكم الإعراب. وأما تعداده فهو اثنا عشر حرفا: أمها وأصلها حرف "إلا" لكون هذا الحرف يتصرف في مواضع لا يتصرف فيها غيره من حروف الاستثناء. وجملة هذه الحروف الاثني عشر: إلا، وغير، وبله، وسوى، وسواء، وسيما، وخلا، وعدا، وحاشا، وما خلا، وما عدا، وليس، ولا يكون. وأما إعرابه فإن خمسة من هذه تعرب بالخفض، وهي: غير، وبله، وسوى، وسواء، وسيما، ويروى قول امرئ القيس:

لا سيما يوم بدارة جلجل ... .......................... بالخفض على الوجه الذي قلنا، ويروى بغير ذلك لوجوه أخر يعرفها النحاة. وأربعة من هذه الحروف يكون ما بعدها منصوبا، وهي: ما خلا، وما عدا، [وليس]، ولا يكون، فنصب ما بعدها لأنها أفعال. حرفان منها وهما: خلا، وعدا، يعرب ما بعدهما بالوجهين؛ الخفض على أنهما حرفان، والنصب على أنهما فعلان. ويبقى حرف واحد وهو حاشا، فيه قولان؛ سيبويه يعرب ما بعده بالجر خاصة، ويراه حرفا، وغيره يعرب ما بعده بالوجهين جميعا الخفض والنصب، فيجعله إذا أعرب بالخفض حرفا، وإذا أعرب بالنصب فعلا. وهذا كله مستقصى في كتب النحاة، وكان الأليق الإضراب عنه في مثل هذا التأليف، وإحالة بسطه إلى أهله وكتبهم، لكن لماذكر أبو المعالي في هذا الباب ما لم يذكره من قبله من الأصوليين من أحكام إعراب ما بعد "إلا"، اقتضى الحال وأوجب الترتيب أن نذكر أيضا إعراب ما بعد أخوات "إلا"، لكون جميعها أدوات الاستثناء. وأما إعراب ما بعد "إلا" فلا يخلو إما أن يكون اللفظ موجبا، خبرا كان هذا الموجب كقولك: قام القوم إلا زيدا، أو أمرا كقولك: قوموا إلا زيدا، فإن كان كذلك فالمشهور إعراب ما بعد "إلا" بالنصب. وذكر أبو المعالي في تعليل النصب علة واحدة عول عليها بعض النحاة، ولهم ثلاث علل سواها اقتضى الحال ذكرها وتعقب العلة التي ذكر وعلتين أخريين سواهما. فالتعليل الصحيح عند المتقدمين والمتأخرين غير ما قاله أبو المعالي، وهو أن ما بعد "إلا" إنما انتصب بالفعل، والفعل إن كان لا يتعدى: قام زيد، فإن هذا الحرف قواه وسلطه على العمل فيما بعد هذا الحرف، فلما تسلط الفعل على العمل في هذا الاسم بواسطة حرف "إلا"، وتعدى إليه عمل فيه النصب. وقال أبو العباس: إنما انتصب بمعنى حرف "إلا"، وهي مقدرة هاهنا بتقدير الفعل، فكأنه قال: قام القوم أستثنى زيدا، وهذا التعليل الذي ذكره أبو العباس، واقتصر عليه أبو المعالي تعقب بأن الأمر لو كان كذلك لاستوى حكم الاستثناء من موجب ومنفي، لأن حرف

"إلا" إذا قدر بمعنى استثنى، فإن هذا الفعل الذي هو استثنى ينصب ما بعده بحكم مقتضاه، سواء كان واقعا على موجب أو منفي، وقد فرقت النحاة بأسرهم بين الموجب والمنفي كما ستراه، وإجماعهم على التفرقة في أن "إلا" قد تصير الكثير قليلا. (ص 124) وقد اعتمد من صحح استثناء الأكثر من الأقل على قوله تعالى: (قم الليل إلا قليلا* نصفه أو انقص منه قليلا* أو زد عليه)، فهذه الآية تضمنت استثناء الأكثر من الأقل، على قوله: وهو النصف، أو أكثر منه. وأجيب عن هذا بأن المستثنى فيها على الحقيقة قوله تعالى: (إلا قليلا)، وما بعد ذلك كالمستأنف، وتقديره: قم نصفه، أو أكثر منه، فهو أعظم لأجرك، ويقوي هذا التأويل عند هؤلاء أن حذاق المجيزين لاستثناء الأكثر من الأقل يرونه كلاما مستهجنا ومستقبحا، وحاشا القرآن أن ينسب إليه كلمة مستهجنة. واعتمد هؤلاء أيضًا على قله تعالى: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين)، وقال في آية أخرى خبرا عن إبليس: (فبعزتك لأغينهم أجمعين* إلا عبادك منهم المخلصين)، فاستثنى مرة المخلصين، واستثنى مرة الغاوين، فإن كان الصنفان متساويين فهو استثناء النصف من النصف، وإن كان أحدهما أكثر من الآخر ففيه استثناء الأكثر من الأقل، والظاهر أن الغاوين أكثر، وهذا من أقوى ما يتمسك به هؤلاء. وعندي أنه قد يقال فيه: ليس المراد هاهنا الإشارة إلى عدد مخصوص ولا إلى مقدار محصور، فيرعى فيه الأكثر والأقل، وإنما المراد هاهنا الإشارة إلى الجنس، فكأنه قال: لأغوينهم إلا المخلصين، من وجد من المخلصين، ومن تقرر وجوده مخلصا، وكذلك المعنى في الغاوين. وبالجملة إن كان المراد التعرض إلى صفة الإخلاص أو إلى الإغواء، أو إشارة إلى أن الإخلاص مانع لي منهم، إن هذا قد يخرج عن هذا الباب الذي نحن فيه. وقد أنشد هؤلاء أيضا أدوا التي نقصت تسعين من مائة ... ثم ابعثوا حكما بالحق قوالا وأجيب عن هذا بأن هذا ليس فيه صيغة الاستثناء، وإنما ذكر فيه انتقاص شيء من شيء، على أنه لا يتحقق أنه منسوب إلى من يحتج بقوله، وهو أيضا قد ينخرط في سلك الأشعار اللغزية التي يتكلف ألفاظها لإخفاء معانيها.

فصل في حقيقة التخصيص

وبعد هذا الفصل فصل آخر، ذكره أبو المعالي اشتمل على حكم الاستثناء من غير الجنس، ونحن قد تكلما عليه مضافا إلى غيره من أقسام الاستثناء في باب قبل هذا. فصل في حقيقة التخصيص وقد قدمنا حيث تكلمنا على العموم حقيقة الخاص والعام، وقد ذكر أبو المعالي هاهنا أن التخصيص: إفراد الشيء بالذكر، واللفظ الخاص: هو الذي ينبي على أمر يجوز إدراجه مع غيره تحت لفظ [آخر]. وقد كنا نحن بسطنا هذه المعاني فلا معنى لإعادتها هاهنا، ومن هناك يعرف ما لا يكون إلا عاما، كمعلوم ومذكور، وما لا يكون إلا خاصا كأنا، وأنت، وما يكون عاما من جهة لارتفاعه عن الخاص لاذي لا خاص تحته، وخاصا من جهة انخفاضه عن العام الذي لا عام فوقه، كقولنا: موجود، والاثنان، عامان من حيث ارتفعا عن الواحد، خاصان من حيث تقاصرا عن الثلاثة فما زاد. والغرض من هذا الباب الفرق بين التخصيص والاستثناء، ولكن يحتاج ذكر الفرق المقصود هاهنا إلى مقدمة نقدمها، وهي أن التخصيص حقيقة بيان ما أريد باللفظ مما قد يحتمله اللفظ، وهذه الحقيقة تمنع من طريانه على النصوص، إذ النص ما لا احتمال فيه، ويوجب اختصاص التخصيص بما فيه احتمال من الظواهر. وبين الأصوليين خلاف في الاستثناء من عدد معلوم، هل يكون الاستثناء كقرينة غيرت حكم الصيغة، أو تكون كقرينة لم تغير وضع الصيغة، وإنما كشفت عن المراد بها، فمن رأى أسماء الأعداد كالنصوص التي لا تحتمل سوى ما يفهم منها جعل الاستثناء قرينة مقالية غيرت حكم الصيغة في دلالتها، ورأى الاستثناء والمستثنى منه كالكلمة الواحدة الدالة على عدد ما، ويكون الاستثناء كجزء من أجزاء هذه الكلمة، فمجموع الاستثناء والمستثنى منه هو الدال على العدد المبقى، ويرى هذا ألا فرق بين قول القائل: تسعة، وبين قوله: عشرة إلا واحد، فإن قوله تسعة يدل على مخصوص، ولكن الكلمة تركبت من حروف أربعة، لو ذهبت منها أحد أجزائها الأصلية، وهو حرف العين مثلا، بقى ما بقى من الحروف غير دال، فكذلك قوله: عشرة إلا واحد، يجري هذا المجرى في كون الكلمتين: الاستثناء والمستثنى منه دالا على التسعة، وصار قوله: إلا واحدا كأحد حروف التسعة، ولا (ص 125) يتصور أن هذا كالبيان عن المراد بقوله عشرة، فإنه إن قال: عشرة واقتصر على

هذا، ولم يعقبه باستثناء، ولا غيره صار نصا في التسعة، وإلى هذه الطريقة ذهب أبو المعالي واستنكر ما سواها. والطريقة التي ذكر أنه لا يصير غليها لبيب هي المذهب الذي أشرنا إليه، وهو أن طائفة من الأصوليين ذهبوا إلى خلاف هذا المذهب الثاني الذي حكيناه عن بعضهم، ورأوا أن الكلمة الدالة على عدد ربما نطق بها فيما دونه، كقولنا: عشرة، فإنه ربما استعمل في عشرة ناقصة، وهؤلاء يرون أن الاستثناء قرينة لفظية دلت على المراد باللفظ المستثنى منه كما دل قوله: "لا تقتلوا الرهبان" على المراد بقوله: (فاقتلوا المشركين)، ولم يقدر قوله: "ولا تقتلوا الرهبان"، أن هذا اللفظ مع قوله: (فاقتلوا المشركين) ككلمة واحدة دالة على من سوى الرهبان، وهذا يصح مع القولب أن صيغة العموم تقتضي الاستيعاب اقتضاء الظواهر. وأما على مذهب من قال: إنها نص في الاستيعاب، فإن هذا الفرق والذي صورناه لا يتحقق، إذ قال: اقتلوا المشركين، لا تقتلوا الرهبان، فإن الصيغتين على أصل من يرى العموم نصا كاللفظة الدالة على عدد من يراها نصا في الدلالة على ذلك العدد. وقد ذكر بين التخصيص والاستثناء طريقة أخرى في الفرق، وهي منعطفة على هذه، وذلك أنه قيل: الاستثناء لا يكون إلا متصلا، والتخصيص قد يكون منفصلا، وهذا صحيح، ولكن عليه ما قدمناه من كون الاستثناء كجزء من أجزاء الكلمة، ولا يصح (تأخير بعض أجزاء الكلمة، والتخصيص ليس بجزء من أجزاء الكلمة، فلهذا أمكن تأخيره، وهذا يتضح على القول بجواز) تأخير البيان عن وقت الحاجة. وأما من منع تأخير التخصيص عن مورد الخطاب، فإن يتعذر عن هذا بأن يقال: معنى تأخير البيان ليس بمعنى يرجع إلى اللسان، كما منعت تأخير الاستثناء لمعنى يرجع إلى اللسان، لأن العرب تقبح تأخير الاستثناء، فإذا قال القائل: رأيت القوم إلا زيدا، عدوه كالتهافت للكلام، وإذا قال: رأيت القوم، ثم قال بعد شهر منها: إني ما أردت بحديثي لكم إلا من سوى فلان وفلان، لم يعدوا هذا كلاما متهافتا، ولكني إنما منعت تأخير التخصيص من ناحية العقول، لأن الله واجب عليه استصلاح العباد، ومن الفساد تأخير البيان لهم. وقد سبق منا نحن الجواب عن هذا، واستيفاء الأدلة التي يتمسك بها الفريقان، مانعو التأخير للبيان ومجيزوه.

فصل في البدار لاعتقاد العموم في الصيغة الواردة

وقد أورده أبو المعالي هاهنا بعد هذا الباب في باب أفرده له، ونحن نكتفي بما قدمناه، وعول هؤلاء في جواز التأخير على أن العقل يخصص به، وقد يكون العاقف يفتقر إلى فكرة طويلة بها يتوصل إلى الدليل العقلي المخصص، وهذا تأخير قد صح وثبت، فلا يعد في تأخير البيان اللفظي أيضًا، ولا يجيء من هذا كون ما في العقول كالحاصل الحاضر، لأن ما فيها لا يتوصل [إليه] إلا بعد فكرة، فالتأخير لابد منه. وعول أيضًا على العلم الضروري بأن النبي عليه السلام كان يبين ما نزل عليه من الأحكام حالا بعد حال، بقدر الحاجة كما فعل في بيان عموم قوله: (والسارق والسارقة) من ذكر الحرز، ونصاب القطع، إلى غير ذلك من الأحكام التي تبين مراد الله سبحانه بما نزل عليه فيها. ولا معنى لإطنابنا نحن في هذا، قد بسطناه في بابه. ومن طرق الفرق أيضًا بين الاستثناء والتخصيص أن الأستثناء لا يكون إلا بقرينة لفظية، وهي حرف إلا وأخواتها، والتخصيص يكون بقرينة حالية، ألا ترى أن من قال: سألت العلماء يعلم بقرينة الحال أنه ما أراد علماء سائر البلاد في أقطار الدنيا، وإن لم يكن أبان عن هذا المراد بنطق أضافه إلى هذه الصيغة. ومن طرق الفرق أيضا، وقد تقدمت الإشارة إليه أن الاستثناء يدخل على النصوص، والتخصيص لا يدخل عليها، وقد [قدمنا] بيانه ومثاله. فصل في البدار لاعتقاد العموم في الصيغة الواردة قد تقدم الكلام في جواز تأخير البيان، وذكرنا أن من الناس من منع تأخير العموم عن مورد الخطاب، فأبو بكر الصيرفي ذهب إلى البدار لاعتقاد حمل الصيغة على الاستيعاب والاستغراق، والمعممون على خلافه في هذا. وقد أغلظ أبو المعالي القول عليه، وأساء معه الأدب، وهو من أئمة الشافعية المشهورين، ولا يحسن أن ينسب إلى الغباوة أو العناد، مع إمكان تأويل مخرج لكلامه وإن بعد، مع كون المسألة لا تقدح (ص 126) في قاعدة من قواعد التوحيد ولا تتعلق بذلك. والذي اعتمد في الرد عليه هو أن يقال له: أنت تجوز تأخير البيان عن مورد الخطاب، والتخصيص بيان للخطاب، ومعنى التخصيص تبين أن المراد باللفظة العامة بعض ما شملته، والجمع بين تجويز أن يكون المراد بها بعض ما شملته، وبين اعتقاد أن المراد بها جميع ما شملته تناقض لا يصح اعتقاده، وهذا لا حيلة في الجواب عنه، ولكن إذا قال الرجل: لم أرد هذا وإنما أردت اعتقاد وجوب العمل به، لأن الصيغة تفيد الظن

للاستيعاب، والظان يجوز أن يكون الأمر على خلاف ما ظن، وهذا لا يستحيل تعبده بالعمل بالظن، ألا ترى أن الأقيسة الشرعية وأخبار الآحاد مظنونة، ثم العمل بها واجب قطعا، كانت هذه طريقة غير مستحيلة كاستحالة ما بيناه من الجمع بين نقيضين في الاعتقاد. ولكن إنما ننظر فيها معه من طريقة أخرى، وهي أن المسألة مصورة في عموم لم تقف الحاجة إلى العمل به، وأما إذا وقفت الحاجة إلى العمل به، فلا يمكن تأخير البيان على ما بيناه في بابه، فإن أشار باعتقاد وجوب العمل فيما افتقر فيه إلى العمل، وإنفاذ الأمر، فهو كما بيناه من أن البيان لا يتأخر, وفيما قبل ذلك لا يجب عمل متصور اعتقاد وجوبه، فإن أراد أنه يعتقد العمل بالاستيعاب على حسب مقتضى دلالة الصيغة إذا حضر العمل، ولم يرد مخصص، فهذا لا يخالف فيه، وتعود المسألة إلى خلاف في عبارة، وإن أراد أنه إذا حضر العمل وجب الامتثال والتنفيذ للخطاب، والعمل به على جهة الاستيعاب، غير ملتفت إلى ما سواه من أدلة الشرع، هل فيها مخصص من قياس يظهر بعد البحث عن الأصول، أو ظاهر، أو غير ذلك من الأدلة المخصصة، فهذا أيضًا غلط، لأن الفقيه لا يباح له أن يفتي بأول خاطر يسنح له، مع تزاحم الظنون عليه، وتزاحم تعارض الأدلة لديه، ولو عن له قياس لم يسغ له أن يفتي بموجبه، دون أن يبحث هل في الشريعة خبر يخالفه، أو قياس يضاده، أو قادح يقدح فيه، فكذلك العموم لابد من الالتفات إلى الجهات التي تمنع من إجرائه على ظاهره، فإن أمن منها ووثق بأن لا معارض له ولا مخصص، أجرى الأمر على عمومه. فإن قال: في التوقف إبطال دلالة الكلام على الاستيعاب، وإبطال الدلالة لا يصح. قيل له: إنما تدل الصيغة على الاستيعاب مع التجرد عن القرائن المخصصة، والتجرد إنما يعرف بعد البحث، لا عند سماع الصيغة من غير بحث. فإن قال أيضا: في التوقف مساهمة للواقفية في الصيغة، والمسألة مفروضة مع تسليم صيغ العموم، وإثبات التوقف إلى حين كإثباته إلى غير حين، وإذا أثبتناه إلى غير حين، فذلك تصريح بالقول بالتوقف. قيل له: الواقف لا يجريه على ظاهر، لأجل أنه بحث فلم يجد قبل تعيين العمل به، لأن اللفظ عنده محتمل للخصوص والعموم، وليس بظاهر في أحدهما، فعدم عثوره على دليل متين لا يوجب إجراءه على أحد المحتملين، إذ ليس أحدهما أحق بذلك من الآخر، ألا ترى أنه إذا قال: اصبغ هذا الثوب لونا، وأعدم السامع البيان فإنه لا يقضي على أن مراد القائل الحمرة، لأجل عدم البيان، دون أن يقضي بأن مراده الصفرة، لأجل عدم البيان. وأما المعممون فإنهم يرون الصيغة موضوعة للاستغراق، وهي وإن احتملت الخصوص فهو احتمال على الأقل، والظاهر الاستيعاب، فإذا تفقد مع البحث

فصل في التخصيص بالدليل العقلي

ما يرد عن الظاهر إلى النادر وجب التمسك بالظاهر الغالب. فهذا الفرق بين الواقفين في هذا البحث على ما ينبه على إجراء الصيغة على ظاهرها، وبين من يقف منتظرا بيان أحد المحتملين، فوقفه متماد إلى أن يجد أن تمس الحاجة إلى البيان، فيعمل فيه بما قلناه في باب تأخير البيان. فصل في التخصيص بالدليل العقلي هذا لا كبير طائل تحته، وإن كان قد تكلم الناس عليه واختلفوا فيه، وذلك أن الله سبحانه لما قال: (الله خالق كل شيء)، وقد علم أنه سبحانه شيء، وأنه غير مخلوق، ولا خالق نفسه، فقد صار شيء من الأشياء غير مراد [منه] باللفظ الذي وضع للاستيعاب عند المعممين وهو قوله (كل شيء)، وهذا إنما علم بدليل العقل، فقد صار الدليل العقلي خصص العموم. وهكذا إذا قال الإنسان: سألت العلماء كلهم، فمعلوم من جهة العادة أنه لم يسأل كل من في الدنيا من العلماء، وكذلك إذا قال: رأيت الناس، فمعلوم أنه (ص 127) لم ير كل إنسان في الدنيا، فهذا تخصيص بالدليل العقلي ولا يمكن النزاع فيه. فلعل من قال: لا يخصص بالدليل العقلي، إنما نازع في تسمية هذا تخصيصا، لأجل أن التخصيص إخراج ما يتوهم دخوله في الخطاب، وإن كان المتكلم قد يريده، وهذا مما لا يمكن أن يراد، وأيضًا فإن العقل متقدم على الخطاب تقدما لا يحسن أن يقال فيه: إنه مخصص، وهذا إن كان المراد يمنع هذه التسمية، فذلك سهل لا طائل تحته. وبالجملة فإنه قد استبين من جهة العقل المراد بهذا الخطاب، وأن المتكلم لم يرد كل ما تنطلق الصيغة عليه، فلا نكير في تسمية هذا خصوصا، واستدراك العلم بمراد المتكلم إنما حصل بعد سماع الخطاب، فلا أثر لتقدم العقل الذي وصل إلى ذلك. فصل في العموم إذا خص اعلم أن الكلام فيه من وجهين: - أحدهما: النظر في تناوله ما بقي من مضمونه، هل هي فيه حقيقة أو مجاز. - والثاني: النظر في العمل به وتلقي الأحكام منه.

فأما الوجه الأول فإن العموم إذا خرج منه بعض مسمياته بالتخصيص، فلا يخلو من قسمين: أحدهما أن يخرج مسمياته حتى لا يبقى منه إلا واحد، أو يخرج منه مسمياته بالتخصيص حتى يبقى منه أقل الجمع ـ على القولين في أقل الجمع، وهو اثنان أو ثلاثة ـ فأما إن خرجت مسمياته بالتخصيص حتى لا يبقى منه إلا واحد، فالمعروف من مذهب سائر المتكلمين في هذا الفن أن اللفظ يتناول ذلك الواحد الباقي على جهة المجاز، إذا كان اللفظ العام صيغة من صيغ الجموع، لأجل أن الجمع في أصل وضع اللغة لا يعبر به عن الواحد، فإذا صار هاهنا عبارة عن واحد صار مجازا. وقد حكى القاضي ابن الطيب الاتفاق على هذا، ولكن أبا حامد الإسفراييني خالف فيه، وذهب إلى أنه يبقى في تناوله للواحد على الحقيقة، احتجاجا منه بقوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)، وبقوله تعالى: (فقدرنا فنعم القادرون)، فأخبر عن نفسه تعالى بلفظ الجمع، وهذا منصوص لأهل اللسان في هذا المعنى المشعر بالتعظيم خاصة، فلا يجري هذا في حقائق الجموع. وأما إن خص العموم حتى بقي منه أقل الجمع، فهل يبقى في تناوله لأقل الجمع فما زاد عليه على الحقيقة أم لا؟ هذا مما اختلف الناس فيه: فقال قوم: إنه يبقى في تناوله لما سوى المخصص على الحقيقة. وذهب إليه جماعة من طوائف الفقهاء، وقال قوم: بل يبقى في تناوله إياه مجاز، ذهب إليه القاضي ابن الطيب في أحد قوليه، وبه قال مشاهير المعتزلة. وذهب قوم إلى أنه يبقى على الحقيقة إن كان التخصيص بدليل متصل كالاستثناء والشرط، وإن كان خص بدليل منفصل بقي مجازا، وإلى هذا رجع القاضي ابن الطيب، وقال به الكرخي وغيره. واختار أبو المعالي أنه مشترك بين الحقيقة والمجاز، فمن حيث رفع اللفظ عن بعض مسمياته يتصور المجاز، ومن حيث أبقاه على بعض مسمياته يتصور الحقيقة. وبسبب هذا الاختلاف أنك قد علمت أن معنى الحقيقة استعمال اللفظة فيما وضعت [في] الأصل له، ألا ترى قولهم: حمارا لهذا الحيوان النهاق، فإنه لفظة حقيقة مستعملة في أصل ما وضعت له، وإذا قالوا للرجل البليد حمار، فإنه مجاز منقول عن أصل ما وضع له في اللغة وهو الحيوان النهاق. والمجاز هو المنقول عن أصل وضعه، وقد حصل هاهنا نقل

الاسم بالكلية، فاتضح كونه مجازا، كما اتضح كونه حقيقة في الحمار النهاق لإبقائه على أصل وضعه بالكلية. فإذا قال تعالى: (فاقتلوا المشركين)، ثم قال صلى الله عليه وسلم بعد هذا بحين: "لا تقتلوا الرهبان"، فإن هذا كالإخبار منه على أن مراد الله سبحانه بهذا بعض المشركين لا كلهم، وقد علم أن قولنا "المشركين" موضوع في أصل اللغة للدلالة على استيعاب كل مشرك، فإذا علم ان المراد باللفظة بعضهم، فقد تكلم بها على غير ما وضعت له في الأصل في اللغة، فكانت مجازا على ما قررناه في حقيقة المجاز والحقيقة، بالالتفات إلى هذه الجهة والنظر إلى هذا الجانب، وهو جانب رفع الاسم عن بعض مسمياته. تصور هؤلاء أن الصيغة تبقى فيما تناولته على جهة المجاز. ومن نظر إلى الجانب الآخر وهو إبقاؤها على بعض مسمياتها، وقد علم أن تناولها لهذه المسميات التي أبقيت عليها حقيقة لو لم يرد تخصيص أصلا، وكذلك إذا ورد، لأن تناول (ص 128) اللفظ إياها لم يتغير، وإنما وقع التغير في القدر الذي خصص. وهذا عندي يقوي طريقة من يقول: إن العموم على الاستيعاب دلالة الظواهر، فكأنه موضوع للخصوص والعموم، ولكنه في العموم أظهر، فيتضح على المذهب طريقة هؤلاء، كما قد تتضح طريقة الأولين، على من قال: إنه يدل على الاستيعاب دلالة النصوص، لأن هؤلاء يرونه غير محتمل للخصوص بحكم صيغته. ولأجل الالتفات لهذين الجانبين الذي ينشأ من النظر فيه اختلاف هذين المذهبين، صار أبو المعالي إلى دعوى الاشتراك وإثبات الحقيقة من جانب والمجاز من جانب، فرأى أن القدر المزال وقع به التجوز، والقدر المبقى لم يتغير عن حقيقته في نفسه. وقد رد عليه ما ذهب إليه، فإن اللفظة واحدة [ليس] لها جهتان في الحقيقة والمجازية، لأنا قلنا: إن معنى الحقيقة استعمالها فيما وضعت في الأصل له، ومعنى المجازية استعمالها فيما لم توضع في الأصل له. فلابد أن يحكم لهذه اللفظة في استعمالها في بعض مسمياتها، فإنها مستعملة استعمالا على أصل الوضع، أو استعمالا على غير أصل الوضع، وليس بين هذا النفي والإثبات مرتبة أخرى يذهب إليه على الحقيقة، والمجاز إنما يتصور في الكلام والنطق، وأما العدم وما لم ينطق به فلا يتصور فيه حقيقة ولا مجاز، وما لم ير من المسميات فحكه حكم العدم، ومحصوله أنه لم ينطق به ولا أراده المتكلم، والنفي والعدم لا يوصف بأنه حقيقة ولا مجاز، وهذا واضح.

وأما المفرقون بين التخصيص المتصل والتخصيص المنفصل، فإنهم يلتفتون إلى ما كنا أشرنا إليه في باب الاستثناء، حيث قلنا: إن الاستثناء كجزء من الكلام، والاستثناء والمستثنى منه كالكلمة الواحدة، وكأن الاستثناء بعض أجزاء هذه الكلمة، فقولهم: عشرة إلا واحد، هو قوله: تسعة، وكأن مجموع اللفظتين: الاستثناء والمستثنى منه وضع في أصل الوضع لإفادة هذه الجملة التي هي التسعة، كما وضعت التسعة لإفادتها، والاستثناء كالسين من التسعة أو العين منها، وهذا يقتضي أن التخصيص بالاستثناء لم يغير حكم الصيغة، وإذا لم يغيرها فهي حقيقة. والشرط المتصل بالكلام يتصور فيه ما صورناه في الاستثناء، فهذا سبب اختلاف هذه المذاهب. وأما الوجه الثاني وهو العمل ببقية ما اشتمله العموم والاستدلال بالعموم المخصص فيا بقي لم يرد فيه تخصيص، فإن كان من زعم أن التخصيص لا يخرج الصيغة عن حقيقتها إما مذهبا مطلقا، أو على ذلك التقييد الذي قيدناه، فإنهم يرون التمسك بالعموم واجبا، والاستدلال به في بقية المسميات صحيح. وأما الصائرون إلى حمله على المجاز في بقية المسميات فهم مختلفون في الاستدلال به، فالمعتزلة تمنع منه، ويرونه بالتخصيص صار مجازا ولحق بالمجملات، لأجل هذا التغيير الذي دخله، لأن اللفظة لم تستعمل على أصل وضعها، ولم يرد بها ما وضعت له، وقد دل الدليل على انها لم يقصد المتكلم بها ما وضعت له، وغيره مما لو تضع لم يقم عليه دليل يوجب إلحاقها بالمجملات التي لا يعلم المراد بها ولا يستدل بها، وإن كان مجازا. ومن تتبع استدلال الصحابة رضي الله عنهم على بعضهم بعضا في الفقهيات ألفاهم يستدلون بعمومات قد خصت، ووجد من ذلك ما لا يحصى كثرة، كاستدلال فاطمة رضي الله عنها بقوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم)، وقد علم أن هذا العموم خص بأن قاتل العمد، والعبد لا يرثان، ولم ينكر عليها الاستدلال بالآية، وإنما أجيبت بتخصيص آخر، وهو أن الأنبياء صلوات الله عليهم لا يورثون، إلى غير ذلك مما اشتهر ولا يخفى عن باحث عنه. وكذلك من بعدهم من العلماء. وعموم لم يخصص عزيز وجوده في الشرع، والذهاب على أنه لا يستدل بالعموم إذا خص تعطيل لجل أدلة الشريعة، وهذا واضح. وفي هذا كفاية في ذكر الخلاف في هذا الباب وموقع الخلاف، وسبب الخلاف، ووجوب العمل، فكل وحد من هذه الأركان قد ذكرنا فيه لباب ما يقال فيه، والله ولي التوفيق.

فصل في تقسيم إفادة الألفاظ

فصل في تقسيم إفادة الألفاظ قد علم أن من الألفاظ ما لا يفيد، وذلك لفساد نظم حروف الكلمة، كقولك: ديز، في مقلوب زيد، ولفساد نظم الكلم وإن كانت مفردات الكلم (ص 129) عربية، كقولك: التي جاء من. ومنها ما يفيد كما تقدم بيانه في بابه. ثم الكلام الذي تنطلق به العرب في معرض الإفادة لكل نوع من أنواع إفادته عبارة، قصد أهل الأصول أن يميزوا بها بين الأنواع، فمن ذلك: النص، والظاهر، والمجمل، والمفصل، والخصوص، والعموم، ومفهوم الخطاب، ودليل الخطاب، والمحكم، والمتشابه، والمطلق، والمقيد، لكل هذه الأنواع باب يذكر فيه. فأما النص فمعناه في اللغة الظهور، يقال: نص في السير إذا ظهر فيه، ومنه ما جاء في الحديث أنه عليه السلام "كان يسير العنق، فإذا وجد فرجة نص"، ومعنى نص: ظهر في السير، ومنه سمي كرسي العروس منصة، لأنها تجلى عليه لتظهر على أعين النساء أو الزوج، وقال امرؤ القيس: وجيد كجيد الريم ليس بفاحش ... إذا هي نصته ولا بمعطل وقال غيلان: إذا أودعته صفصفا أو صريمة ... تخت ونصت جيدها للمناظر يصف الظبية إذا تركت ولدها بمكان، وتشوفت ومدت عنقها تنظر هل من صائد تخافه عليه إذا أسلمته. وهو عند الأصوليين: اللفظ الكاشف لمعناه الذي يفهم المراد به من غير احتمال، بل من نفس اللفظ. وهكذا حده بعضهم، فإن اللفظ الكاشف للمعنى بنفسه، وبعضهم يذكر هذا المعنى بطريقة أخرى في العبارة فيقول: ما يفهم المراد منه على وجه لا احتمال فيه. وهو عزيز وجوده في الألفاظ، لا تكاد تجد لفظة عارية من الاحتمال، وأخذ الأصوليون في عد ما وقع منه في الشرع فلم يجدوا إلا نزرا يسيرا، كقوله تعالى: (الله أحد)، وكقوله [تعالى]: (محمد رسول الله)، وقوله عليه السلام لأبي بردة في الأضحية:

فصل في الظاهر

"تجزيك ولا تجزي عن أحد بعدك"، وقوله: "واغد يا أنيس على امرأة الآخرة، فإن اعترفت فارجمها". وقد أنكر أبو المعالي على هؤلاء ما قالوه، وزعم أن الغرض تحصيل المعنى على وجه لا احتمال فيه، فالاحتمال قد ينتفي بالقرائن الحالية والمقالية، وهذا يكثر وجوده. وما أنصف فيما تعقب عليهم، لأن قصدهم عزة وجوده من ناحية لفظه، وهو قد سلم عزته من ناحية الألفاظ، نعم حتى نازعهم فيما تمثلوا به من النصوص، وزعم أن آية التوحيد إنما انتفت عنها وجوه الاحتمال بالأدلة العقلية لا من جهة صيغة لفظنا. وذكر أبو المعالي حدين متقاربين فقال: قد قيل: هو لفظ مفيد لا يتطرق إليه التأويل، وقيل: هو لفظ استوى ظاهره وباطنه. وعندي أن هؤلاء إنما قيدوا بالإفادة، لأن ما لا يفيد من كلام المجانين لا يتطرق إليه التأويل، ويستوي ظاهره وباطنه، وعبارة هؤلاء باستواء ظاهره وباطنه إشارة منهم إلى قول الآخرين: لا يتطرق إليه تأويل. وهكذا رأيت بعضهم حده: ما تأويله تنزيله، وما ظاهره باطنه. وقد فهم الغرض، وجميع ما أوردناه تحويم عليه. وذكر أبو المعالي أن بعض المتكلمين اعترضوا على ما ذكره من هذين الحدين بفحوى الخطاب، إنها تقع نصا، وإن لم يكن معناها مصرحا به لفظا. واتصل هذا الاعتراض بأن الفحوى لا استقلال لها، وإنما هي معنى متلقى من لفظ مخصوص على نظام معلوم، كقوله في سياق أمره بر الوالدين: (ولا تقل لهما أف)، فالفحوى آيلة إلى معاني الألفاظ، فلم يصح الاعتراض. وقد حده بعضهم بأنه: اللفظ الدال على الحكم بصريحه على وجه لا احتمال فيه. ولعل هذا ذكر الصريح احترازا من الاعتراض بفحوى الخطاب. فصل في الظاهر وأما الظاهر، فإن الظهور معقول معناه، وقد أشار الشافعي والقاضي ابن الطيب طردا لمعناه المعقول إلى أن النص يسمى ظاهرا، وما أبعدا فيما قالا، لأن النص قد ذكرنا أن

أصله في اللغة الظهور، فلا شك على هذا في تسميته ظاهرا، والمعنى فيه أظهر منه في المعاني المستفادة من الظواهر التي نحن في الكلام عليها، لكن العرف هجران هذه التسمية في النصوص، وقصرها على لفظ احتمل المعنيين أو لمعان، ولكن في أحد معانيه أظهر، وعرف الاستعمال قد غلب على أحد معانيه. وقد قيل في حده: إنه ما لا يحجر السامع عن فهمه شيء، وهذا يدخل عليه النصوص، وإن كنا قلنا: إن القاضي يسميها ظواهر، ويرى على أصله كل نص ظاهرا، وليس كل ظاهر نصا. وقيل في حده: ما احتمل معنيين، وهو في أحداهما أظهر. وقال بعض هؤلاء: ما احتمل معنيين أو معاني غلب عرف الاستعمال على أحدها. وقال بعضهم: ما سبق إلى الوهم معناه على وجه فيه احتمال. وذكر أبو إسحاق الإسفراييني (ص 130) أنه لفظ معقول يبتدر إلى الفهم، وله وجه في التأويل سائغ لا يبتدره الظن والفهم. هذه معاني حدود من ذكرنا حدودهم فيه، والغرض قد قدمناه، وكل هؤلاء الحادين عليه حوموا، وذكر القاضي أ، هـ لفظ معقول المعنى له حقيقة ومجاز، وهو في حقيقته ظاهر وفي مجازه مؤول. وهذا الذي ذكره القاضي أحد أنواع الظواهر، وتبقى منه أقسام غير ما ذكره، ربما كان الأمر بالعكس فتكون المجازات الشائعة الغالبة على الحقائق في التخاطب هي الظاهر السابق إلى الفهم، والحقيقة هي المؤولة، كقولهم: دابة، فإن حملها على حقيقتها وهو الدبيب المحض، خلاف الظاهر، وحملها على نوع من الحيوان يدب هو الظاهر، فكأنه ظاهر في جهة المجاز، وهو ما أشرنا إليه من معنى القصد الذي ليس هو أصل الوضع. وعلى طرد ما قلناه يون العموم ظاهرا، والخصوص مؤولا، والوجوب في الأوامر والتحريم في النواهي ظاهرا، والندب والتنزيه مؤولا. وهكذا ألفاظ النفي المحمولة على الجواز والكمال هي ظاهر في نفي الجواز، مؤولة في نفي الكمال، كما بيناه في بابه. ومن ذلك ما يتلقى من المخصصات على ما سيرد، فالاستمساك به تعلق بالظاهر، وتركه في حكم التأويل. والظهور يستبين وقوعه في الأسماء والأفعال، وأما الحروف كمثل "إلى"، فإنه

فصل في المجمل

ظاهر في التحديد والغاية، مؤول في ما سوى ذلك، مما لعنا أن نذكره في كتاب الكلام عند ذكرنا حمل المعتزلة قوله تعالى: (... إلى ربها ناظرة)،وتأويلهم إياهم على أنها ليست بحرف هاهنا، ورددنا عليهم بما لا يليق بسطه هاهنا. فصل في المجمل الإجمال يقع على وجهين: بمعنى الضم والجمع، وبمعنى الإبهام والإشكال. فأما بمعنى الضم والجمع فكقولك: أجملت الحساب إذا جمعت آحاده، العموم على هذا المعنى مجمل لكونه شمل الآحاد، والمقصود في هذا الباب المعنى الآخر، وهو الإجمال الذي بمعنى الإشكال والإبهام، ومنه قوله: ليل بهيم، وكمي مبهم، بمعنى أن متبرقع مختلف على أن يعرف ببرقعه وسلاحه. فالمجمل من الألفاظ ما لا يعلم المراد منه على حال، وإلى هذا المعنى أشار الحادون له، فقالوا: هو ما لا يعقل معناه من جهة لفظه، ويفتقر إلى أن يبين بغيره، إلى غير ذلك من حدودهم المشار بها إلى هذا المعنى. وقد تعرض أبو المعالي إلى تقاسيم المجمل من ناحية ليس هي مطلوب الأصوليين، وإنما هي كتقاسيم التحاسين، فذكر أن الإجمال يعرض في الحكم والمحل، كقولك لزيد: في بعض مالي حق، الحكم هو الحق وهو مجهول لم يذكر جنسه ولا مقداره، والمحل بعض المال، وبعض المال أيضا لم ينوع ولا قدر، فصار الحكم والمحل مجهولين. وقد يعرض الإجمال في الحكم دون المحل كقوله تعالى: (وأتوا حقه يوم حصاده)، فالحق وهو الحكم مجهول المقدار والجنس، والمحل معلوم وهو يوم الحصاد. وقد يكون بالعكس فيجعل المحل ويبين الحكم، كالقائل: إحدى نسائي طالق، فإن الطلاق حكم معلوم، ومحله من زوجاته مجهول. وقد يعرض الإجمال في الحكم والمحكوم له، دون المحكوم عليه، كقوله تعالى: (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا)، فالمقتول مفهوم معناه، والولي الذي له الحق لم يعين ولم يبين من هو، وكذلك أيضا لم يبين الحق الذي لهذا الولي، وإنما قال: (جعلنا

لوليه سلطانا)، ولم يبين هذا السلطان ما المراد به. وذكر أن الإجمال ينسحب على الكلام من جهة إجمال في الاستثناء المتصل به كقوله تعالى: (أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم)، فلو تركنا وقوله تعالى: (أحلت لكم بهيمة الأنعام) لاستبنا من هذا الكلام إباحة كل بهيمة من الأنعام، لكنه لما استثنى من التحليل ما يتلى علينا وهو مجهول، عاد بالجهالة فيما استثنى منه وهو المحلل. وهذا الذي قال صحيح، وذكر غيره من الأصوليين، ولكن بشرط أن يكون المراد بقوله: (إلا ما يتلى عليكم) الإشارة إلى التوقف عن الاستباحة حتى يسمع ما يرد من بيان المراد بها العموم، أو يكون المراد: إلا ما يتلى عليكم من المحرمات، والسامع لم يحط بها علما، فيكون هذا الخطاب مجملا في حقه، إلا أن يحيط علما بجميع ما تُلي علينا من المحرمات. وأما لو أراد: إلا ما سنبيحه، فإن هذا لا يعود بالإجمال. (ص 131) وذكر أبو المعالي من وجوه الإجمال أيضا أن يكون اللفظ معلوما بالعقول تخصيصه على الجملة، وإن كان لا يوقف على تفصيل التخصيص إلا بعد فكرة وسبر أدلة، فهو مجمل حتى يحاط علما من ناحية العقول ما المراد به، وهذا كنحو ما قلناه في قوله تعالى: (إلا ما يتلى عليكم)، إذا كان المراد به: إلا ما تلي عليكم، ونحن لم نحط به الآن علما، وسنحيط به إذا بحثنا عنه. فهذه التقاسيم التي أوردها أبو المعالي، وأما التقاسيم التي هي أشبه بعلم الأصول فهي: أن الإجمال يعرض من ناحية عدم التعيين أصلا كقوله: (وأتوا حقه يوم حصاده)، فإن هذا الحق لم يعين على حال ولا يحاط بمحتملاته، ومنه قوله عليه السلام: "فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" الحديث. وقد يعرض في معين ولكن يقع في تعيينه تردد كقوله تعالى: (ثلاثة قروءٍ)، فإن القرء معلوم أن المراد به إما الحيض وإما الطهر، فقد تعين المراد، ولكن مترددا. ومنه ما ذكر أبو المعالي من اكتساب اللفظ المبين إجماله من لواحقه وعد من ذلك ما ذكرناه من قوله تعالى: (إلا ما يتلى عليكم)، وقد ذكرنا ما فيه. ويلحق بهذا القسم قوله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا) [هل هو] عموم أو

مجمل. واختلف القائلون في تعميه؛ هل هو عموم يحتج بإطلاقه على جوار كل بيع حتى يطالب من الفقهاء من خالف في بيع من البيوع فقال بفساده بأن يقيم الدليل على أنه فاسد غير حلال، أو يكون من العموم الذي لا يقبل التخصيص، لأجل أن كل بيع حرام فاسد لا ينطلق عليه تسمية البيع، لأجل أن البيع في اللغة: نقل الملك بعوض، فإذا قال صاحب الشرع: لا ينتقل الملك بهذا العقد، فإذن ارتفعت عنه التسمية، لأن الحكم مناط بالتسمية ومعلق بها، فإذا سلب الشرع الحكم وهو انتقال الملك، استلبت التسمية التي هي موضوعة لحقيقة هذا الحكم، فكل بيع حرام إذا لم يسم بيعا، لأجل ما قلناه، فإنه لا يدخل في عموم قوله: (وأحل الله البيع)، فإذا لم يدخل في هذا العموم بقي اللفظ على تعميمه لم يخص منه شيء. ومن الناس من صار إلى أنه مجمل، واختلف هؤلاء في سبب إجماله، فمنهم من ذهب إلى أن سبب إجماله كون الشرع قد قرر شروطا اشترطها في جواز البياعات، مثل ألا تكون وقت الجمعة، وأن يكون لا غرر فيها، إلى غير ذلك من شرائطه المعلومة عند الفقهاء. والتخصيص إذ آل إلى أن لا يتعلق بالاسم حتى تنضاف إليه شروط، فإن العموم لا ينتقل بذلك إلى الإجمال، لكون كل بيع قد علم أنه لا يجوز بمجرد تسميته بيعا، حتى ينضاف إلى التسمية شروط، وهكذا قوله تعالى: (والسارق والسارقة)، فإنه قرر الشرع في قطع كل سارق شروطا، منها الحرز، والنصاب، وغير ذلك مما يعرفه الفقهاء، فصار التعلق بمجرد تسمية السارق سارقا لا يغني حتى تعتبر شروط تنضاف إليه. وقال قوم آخرون: بل سبب الإجمال ما ألحق بها [من] قوله تعالى: (وحرم الربا)، فصار هذا الإلحاق كالاستثناء اللاحق بالكلام، وهذا الإلحاق كسب الكلام الأول إجمالا، لأن لا بيع إلا وفيه زيادة، وقد قال: إن الربا حرام، والربا زيادة، وليست كل زيادة حراما، فصار اعتبار ما يحل من الزيادات وما يحرم يسري إلى اعتبار ما يجوز من البيع وما لا يجوز، لأجل كون كل بيع يقدر فيه زيادة. ومن هؤلاء من أشار إلى الربا فيه إجمال من جهة أخرى، فعاد إجماله بإجمال ما قبله. ولعلنا أن نبسط هذه المعاني في كتاب التأويلات إن شاء الله. وذكر أبو المعالي تردد الشافعي في هذه الآية، هل هي عموم أو مجمل، واختار من قولي الشافعي كونها غير مجملة في كل بيع لا زيادة فيه، بل هي عموم في هذا النوع من

البياعات، وكونها مجملة في كل بيع فيه زيادة، لأجل ما تعارض هاهنا في حكم الزيادة من جهة قوله: (وأحل الله البيع)، ومن جهة قوله: (وحرم الربا). وقد يعرض الإجمال من ناحية تعلق الحكم بالأعيان المعلوم أنها لا تدخل تحت قُدرنا كقوله تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم)، وكقوله: (أحلت لكم بهيمة الأنعام)، ومعلوم أن نفس بهيمة الأنعام، ونفس الأم لا يوصفان بتحليل أو تحريم، لأنا لا قدرة لنا على ذواتها، وإنما لنا قدرة على التصرف فيها، والتكليف إنما يتعلق بمقدور عليه. وقد اختلف الأصوليون في هذا، فرآه بعضهم مجملا لأجل العلم بأن نفس ما يتناوله اللفظ من الأم والبهيمة غير مراد، وأن المراد غيره، وهذا (ص 132) الغير مراد غير منطوق به، وما لم ينطق به لا يعرف. وقال آخرون: ليس هذا بمجمل، لأن عرف التخاطب أغنى عن النطق، وقد علم أن المراد بقوله تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم) وطء أمهاتكم، وبقوله: (أحلت لكم بهيمة الأنعام) أي أكل بهيمة الأنعام والانتفاع بها، فصار المحذوف هاهنا كالمنطوق به، لما فهم من جهة العرف. ومما ينخرط في هذا السلك وقد اختلف فيه الأصوليون قوله تعالى: (وليس الذكر كالأنثى)، ومعلوم مماثلة الذكر الأنثى في الإنسانية وغير ذلك مما علم ضرورة مساواة الذكر فيه للأنثى، فعرف أن المراد أن الذكر ليس كالأنثى في بعض الأحكام، وهذا البعض غير منطوق به، فصار مجملا من هذه الجهة. وقال آخرون: بل هذا على العموم حتى يخص ما يخص من الأحكام بدليل. وثمرة هذا النزاع احتجاج قوم من الفقهاء على أن المرأة لا تكون قاضيًا فيما تشهد فيه، ولا تؤم في الصلاة، ولا تلزمها الجمعة بهذه الآية، لأن هذه الأحكام تلزم [الذكور] فلا تلزم الإناث، ولا تصح منهن حتى تكون الأنثى غير مساوية للذكر، كما قال الله تعالى، وهكذا قوله تعالى: (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة)، إذا تعلق به من قال: لا يقتل المسلم بالكافر. هكذا أيضا تنازع الأصوليون في إجراء الخطاب على ما ليس بمقصود فيه، وإن كان بحكم العموم داخلا في اللفظ، هل يحتج به من ناحية شمول اللفظ له، أو لا يحتج به من ناحية عدم القصد إليه، وهذا كعمومات وردت مورد المدح كقوله تعالى: (لفروجهم حافظون* إل على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم)، فهل يحتج بهذه الآية على جواز وطء

الأختين بملك اليمين، لكون هذا اللفظ شاملا لهما، أو لا يحتج بذلك؟ لأن القصد مدحة من حفظ فرجه، لا بيان ما يحل وما يحرم. وهكذا ما ورد مورد الذم، كقوله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة) الآية، هل يحتج بها في زكاة أموال من الذهب والفضة اختلف في زكاتها لأجل دخولها في هذا العموم أو لا يحتج بذلك؟ لأن القصد ذم من منع حق الله، لا بيان ما يجب فيه حق الله سبحانه مما لا يجب. وهكذا تنازع الأصوليون في تعليق الحكم بأسماء الأجناس كقوله عليه السلام: "في الرقة ربع العشر"، هل يحتج به في مقادير اختلف في زكاتها أم لا؟ فمن احتج به تعلق بعموم اللفظ، ومن منع الحجة به تعلق بأن القصد ذكر الجنس المتعلق به الحكم، لا تفاصيل الحكم، ونحن نبسط ما اقتضاه من هذه المعاني في كتاب التأويلات إن شاء الله. وقد يعرض الإجمال من ناحية تعارف الشرع على أسماء كالصلاة والصوم والحج، فإن هذه أسماء زعم بعض الأصوليين أنها مجملة لا يحتج بها، لأجل أن المراد بها في الشرع غير المراد بها في اللغة، ألا ترى أن الصلاة في اللغة الدعاء، وفي الشرع: ركوع وسجود وما ينضاف إليها، فقد صار المراد بذلك غير ما أرادته العرب، وهذا الغير معلوم بوضع اللسان، فافتقر العلم به إلى بيان من غير لفظه، فهو مجمل. وهذا المذهب يقوي على طريقة من يقول: إن الشرع نقل هذه الأسماء. وقال آخرون: ليس هذا بمجمل، بل يحتج به على إيجاب كل دعاء، إلا ما خرج بدليل، ولهذا حسن عند هؤلاء الاحتجاج على وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة كما قال الشافعي وبان المواز من أصحابنا بقوله تعالى: (وأقيموا الصلاة)، والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم دعاء، فدخلت في هذا العموم، وهذا أيضا يحسن على طريقة من قال: إن الشرع لم ينقل هذه الأسماء، وقد تقدم بياننا لما علم [من] الشرع في هذه الأسماء بما فيه كفاية. وقد يعرض الإجمال من نفي الذات الثابتة كقوله: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"، فزعم قوم أن ذلك مجمل، واختلف هؤلاء في سبب إجماله، وقد تكلمنا على جملة ما قيل فيه، وتفصيل المذاهب المنقولة فيه في باب أفردناه له فيما تقدم، فلا معنى لإعادته. وقد يعرض الإجمال في الأفعال كما روي "أنه عليه السلام قصر في السفر"، ولم يذكر هل

فصل في المحكم والمتشابه

هو سفر قصير أم طويل، فصار من جهة التردد بين وقوعه على وجهين مختلفين كاللفظ المتردد بين معنيين كما قلناه، وتمثلنا به في قوله تعالى: (ثلاثة قروء). وألحق بهذا قضاياه صلى الله عليه وسلم وأجوبته على أسولة مجملة لمن قال له: أفطرت في رمضان: "أعتق رقبة" ولم يذكر السائل إفطاره يجامع أو يأكل، فأطلق عليه السلام الجواب من غير استفسار. ويحتمل أن يكون السائل سأل عن إفطار بجماع، ويحتمل أن يكون سأل عن إفطار بأكل، فمن جهة (ص 133) هذا التردد وقع الإجمال، وقد أفردنا لهذا بابا فيما قبل يغني عن إعادته هاهنا. فهذه ثمانية يعرض بسببها الإجمال، ويلحق الكلام الإشكال، وبيانها أهم وتعدادها أولى من تعداد الأقسام التي ذكرها أبو المعالي. فصل في المحكم والمتشابه الكلام في هذا الفصل من أربعة أوجه: - أحدها: الكلام على معنى هاتين اللفظتين في اللغة. - والثاني: على معناهما عند المفسرين. - والثالث: على سبب اختلاف المفسرين لهما. - والرابع: هل يعلم الراسخون في العلم المتشابه أم لا؟ فأما حقيقة المحكم في اللغة فإنه السديد النظم المفيد فائدة صحيحة، ألا تراهم يقولون: بناء محكم، وصيغة محكمة، بمعنى حسن الترتيب والنظام، وعدم التثبج والتخليط، فكذلك الكلام الحسن النظام لفظا ومعنى، ويوصف بأنه محكم. والمتشابه يكون في اللغة بمعنى المتماثل، ولا فرق بين قولنا: هذا البياض مثل هذا البياض، وقولنا: هذا البياض يشبه هذا البياض. ويكون المتشابه في اللغة أيضا بمعنى الملتبس المشكل، وربما كان هذا المعنى الثاني مأخوذا من الأول، لأن المشكل فيه ضرب من التشابه والتماثل، ألا ترى أن من رأى شخصا فقدره رجلا يعرفه، فإذا به آخر غيره، يقول: اشتبه علي، ومعناه: ماثل من كنت أعتقد، وهكذا في المذاهب كلها، معنى قول الفقيه: اشتبه علي حكم هذه المسألة، بمعنى أن جواببين تقابلا في نفسه، ولم يترجح أحدهما على الآخر، فصار كالمثلين من ناحية استوائهما عنده.

وأما الوجه الثاني وهو نقل المذاهب في تفسير قوله تعالى: (منه آياتٌ محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات)، فالمنقول في هذا تسعة أقوال: - أحدها: ما ذهب إليه عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، من أن المحكم وعيد أهل الكبائر، والمتشابه وعيد أهل الصغائر. - وقال الأصم: المحكم نعوت النبي صلى الله عليه وسلم في الكتب السالفة كالتوارة والإنجيل، والمتشابه: نعته في القرآن. - وقال غير هؤلاء المبتدعين: المحكم: الناسخ، والمتشابه: المنسوخ. - وقال بعضهم: بل المتشابه الحروف المقطعة المذكورة في القرآن على أربعة عشر نوعا كـ "ألم، والمص، والر، والمر، إلى بقية فواتح السور بأمثال هذه الحروف. - وقال: المحكم: الأحكام من الحلال والحرام، والمتشابه: القصص والأمثال. - وقال بعضهم: المحكم: [ما يؤخذ معناه بإجرائه على ظاهره]، والمتشابه: ما عسر إجراؤه على ظاهره، كقوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى). - وقال بعضهم: المحكم: ما عرف معناه، والمتشابه: هو المجمل، وقد تقدم بيانه، وأنه ما لا يعرف معناه وهذا الذي ذهب إليه القاضي ابن الطيب، ونصره أبو المعالي، وربما كان هذا المذهب راجعا إلى هذا الذي قبله، وهو قول من قال: المتشابه: ما عسر إجراؤه على ظاهره، لأنه إذا دل الدليل على فساد مذهب من ذهب إلى معنى: (الرحمن على العرش استوى)، أي استقر، ومذهب من سلك في استقراره صار لمراد به معنى آخر، وهذا المعنى الآخر غير منطوق به ولا معلوم، فصار من هذه الجهة مجملا، على حسب ما قدمنا في باب المجمل، وذكرنا مذهب بعض الناس في أحد أنواعه. - وقال أبو إسحاق الزجاج: المتشابه أمر الساعة وميقاتها، لأن الكفرة كانت تكثر سؤال النبي عليه السلام عنها، وقد قال تعالى: (يسألونك كأنك حفى عنها). والتأويل تفعيل من آل يؤول، وقال تعالى: (هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله)، فأشار بتأويله إلى مآله، وهو يوم القيامة. وقال بعضهم: المتشابه: ما لا يعلم تأويله إلا الله، ولا يعلمه الراسخون في العلم، وهذا قد يرجع إلى أن المتشابه هو المجمل على حسب ما حكيناه عن القاضي ومن تبعه.

ولكن إنما يبقى النظر في أمر آخر، وهو هل يقدر في القرآن مجمل لا يعرف معناه إلى الآن؟ وهذا قد قال بعض الناس: إنه لا يمكن، لأن الله تعالى أخبر بأنه أكمل الدين، فقال: (اليوم أكملت لكم دينكم)، ولأن تجويز هذا يطرق إلى خرم الثقة بالقرآن، وقال بعضهم: بل هذا ممكن. وما أرى هؤلاء المختلفين اختلفوا إلا فيما لا يتعلق به أحكام تكليف، وأما ما يتعلق به التكليف والتعبد فلا يصح أن يقال ذلك فيه، لأنه ذهاب إلى تكليف ما لا يطاق، لكن ما لا يتعلق به تكليف ولا تعبد، لا مانع يمنع من تجويزه، وإلى هذا التفصيل ذهب أبو المعالي فجوز ذلك فيما لا تكليف (ص 134)، فيه ومنعه فيما فيه التكليف. وأما سبب الاختلاف فمعروض على ما قدمناه من حقيقة المحكم والمتشابه في اللغة، وقد قلنا: إن المتشابه هو المشكل، وما قاله الزجاج لا شك في إشكاله، وكذلك ما قاله القاضي، وكذلك المذهب الآخر الذي ذكرنا أنه يضاهي مذهب القاضي، وكذلك مذهب عمرو بن عبيد، فإنه يقدر فيه الإشكال في الوعيد على الصغار دون الوعيد على الكبائر، وكذلك ما قال الاصم، وكذلك من قال: إن المتشابه الحروف المقطعة يقدر المراد بها مشكلا. وأما من قال: المتشابه المنسوخ، فلأجل التعارف على قولهم: آية محكمة بمعنى أنها غير منسوخة، وأما من يقول: المحكم الإحكام، فكأنه أخذ اللفظة من اللفظة. والأصح أن كل ما تصور فيه التباس وإشكال من هذه المذاهب فهو من المتشابه، وإنما يبقى هل ما تصوره صاحب المذهب من الإشكال ثابت أم لا؟ وأما معرفة الراسخون في العلم بالمتشابه، فهو نحو من هذا الذي فرغنا منه، ولكن قد اشتهر اختلاف الناس في قوله تعالى: (والراسخون في العلم يقولون أمنا به)، هل الواو هاهنا واو ابتداء، والوقف على قوله: (إلا الله)، و (الراسخون في العلم) مبتدأ، وهم لا يعلمون المتشابهه، أو الواو هاهنا عاطفة و (الراسخون في العلم) يعلمون المتشابه، ويقولون بمعنى: قائلين المنتصبة على الحال. وهذا مشكل عندي، والمذهبان لا يكادان يقوم دليل يقتضى القطع على أحدهما، ويكاد أن يكون الكلام على كون الراسخين في العلم يعلمون المتشابه من المتشابه، ولكن مع هذا الأظهر عندي من سياق الآية أنهم لا يعلمونه، ألا تراه سبحانه قال: (فأما الذين في قلوبهم زيع فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله)، والراسخ في [العلمي لا يعلم شيئا

فصل في تخصيص العموم بأخبار الآحاد

من هذا، حتى يتبع هذا المتشابه اتباع ناظر فيه، ويبتغي تأويله ابتغاء متطلب العلم به، وقد ذم الباري تعالى مبتغيه ذما مطلقا. وأيضًا فبعيد هذا الذي صدر به ذكر الراسخين في العلم إخباره تعالى عنهم أنهم: (يقولون أمنا به كل من عند ربنا) وفي قلوبهم [زيغ]. (كل من عند ربنا) إشارة منهم إلى تفاوت هذا عندهم، وأن اليقين بصدق الله ورسوله أدى إلى التسليم والإذعان والتصديق بما لا يعرف، وفي مثل هذا المعنى يحسن مثل هذا القول، ويكون فيه إشارة إلى معنى يقتضي إيراده. وأما إذا كان المتشابه يعلمه الراسخون كما يعلمون المحكم، فالجميع عندهم واحد، ويرتفع هذا المعنى المشار إليه بمثل هذا اللفظ الذي إنما يستعمل غالبا فيما قلناه. هذا الأغلب على ظني من هذا، استنبطه من السياق المتقدم على هذه الجملة، والمتأخر عنها. فصل في تخصيص العموم بأخبار الآحاد اعلم أن التخصيص يكون بدليل متصل: إما استثناء كقوله تعالى: (إلا أن تستقوا منهم تقاة)، وكقوله: (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام). وإما حرف غاية كقوله تعالى: (ثم أتموا الصيام إلى الليل)، و (لا تقربوهن حتى يطهرن). وإما صفة كقوله: (فتحرير رقبة مؤمنة). وإما شرط كقوله: (فمن لم يجد صيام ثلاثة أيام في الحج). ويكون التخصيص منفصلا، وذلك على ضربين: نطقي، وغير نطقي .. فأما ما ليس بنطقي فهو دليل العقل وقد تقدم ذكر الخلاف في التخصيص به. وأما النطقي فيكون تخصيص الشيء بمثله، كتخصيص الكتاب بالسنة، والسنة بالكتاب.

فأما تخصيص الكتاب بالكتاب فالجمهور على جوازه وصحته، ومن أمثلته عندهم قوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروءٍ)، فلو تركنا عموم هذه الآية لأوبجنا على المطلقة قبل الدخول ثلاثة قروء، ولكن خص هذا العموم بقوله تعالى: (ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فمالكم عليهن من عدة تعتدونها). وهكذا قوله تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا)، فلو تركنا وعموم هذه الآية لأوجبنا على التي مات زوجها وهي حامل أربعة أشهر وعشرا، لكن خص هذا العموم بقوله تعالى: (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن)، على بعض الطرائق في أهل هذا المذهبن وقد ذكرناه مبسوطا في الكتاب "المعلم". ومن هذا قوله تعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون* إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم)، فلو تركنا وهذا العموم لأبحنا وطء الأختين بملك اليمين، ولكن خصصناه بقوله تعالى: (وأن تجمعوا بين الأختين 9. وهذا قوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن)، ولو تركنا وعموم هذا لحرمنا نكاح (ص 135) اليهودية والنصرانية، لكنا خصصنا هذا العموم بقوله: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم). وقد ذهب قوم إلى منع تخصيص الكتاب بالكتاب تعويلا منهم على قوله تعالى: (لتبين للناس ما نزل إليهم)، فأشار إلى قصر بيان الكتاب المنزل علينا على [ما] يورده صلى الله عليه وسلم علينا، وهذا لا معول فيه، لأنه ليس بنص إلا بيان يقع بالكتاب، وإنما فيه إثبات بيان من قبل النبي عليه السلام، وهذا لا ينفي البيان من غير جهته، على أن الكل من جهته على وجه، والكل من عند الله سبحانه على وجه آخر، وصحة إضافة الكل إليه على الإطلاق، أو إلى الله سبحانه على الإطلاق يمنع الاستدلال بهذه الآية.

وكذلك تخصيص السنة بالسنة مثل قوله عليه السلام: "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب"، خص بقوله عليه السلام: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر" على ما بسطنا صفة التخصيص وحكم الإهاب في كتاب "المعلم". فالجمهور أيضًا على صحة تخصيص السنة بالسنة، ومنعه قوم تعويلا منهم على مثل ما قلناه في منع تخصيص الكتاب بالكتاب، ورأى هؤلاء أيضًا أن قوله: (لتبين للناس ما نزل إليهم) يقتضي كون المبين قرآنا وكون المبين سنة، وقد ذكرنا ما في هذا الاستدلال. ويكون التخصيص النطقي المنفصل تخصيصا للشيء بخلافه كتخصيص الكتاب بالسنة، وقد أجازه كثير من الأئمة، ومنع قوم أيضا تعويلا على الآية التي ذكرناها [إذا] تقتضي أن المبين إنما يكون سنة، وأما ما نزل إلينا فلا يكون بيانا لغيره، وإنما يكون مبينا. وأما تخصيص الكتاب بالسنة فإن السنة إذا كانت متواترة، فلا خلاف في تخصيص الكتاب بها، لأنها بيان لما نزل إلينا على حسب ما تضمنته الآية، وهي أيضًا مقطوع على صحتها لأجل تواتر النقل، فلم يقع بيان القطعي إلا بالقطعي. وأما إن كانت السنة خبر واحد نص فيه على خروج بعض ما تناولته عموم القرآن، فهاهنا اختلف الناس فيه على خمسة أقوال ... - فجمهور الفقهاء، وهو المذهب المشهور على تخصيص العموم بخبر الواحد. - ومنعه آخرون. - وذهب عيسى بن أبان إلى أنه إذا ثبت دليل على تخصيص العموم، صح أن يخصص تخصيصا آخر بالخبر، وأما إن كان العموم لم يدخله تخصيص قط، فإنا لا نفتتح تخصيصه بخبر الواحد، بل نقدم العموم عليه. - وسلك قوم مسلكه فقالوا: إن خص بدليل متصل لم يخصه بخبر الواحد، وإن كان قد خص بدليل منفصل رددناه تخصيصا آخر بهذا اللفظ الذي نقله الآحاد. - وذهب القاضي ابن الطيب إلى مساواة خبر الواحد لما قابله من العموم، وإذا تساويا وجب الوقف فيهما. وسبب هذا الخلاف يدور على نكتة واحدة، وهي الموازنة بين العموم وخبر الواحد، فإذا وزنت بينهما، واستبان قوة أحدهما على الآخر قدمت الراجح، وإن لم يظهر تفاوت

في القوة ولا ظهور رجحان، فلا شك هاهنا في إنه ليس أحدهما أولى من الآخر فيجب الوقف بينهما. فأما الموازنون المرجحون للعموم فيقولون: قد ثبت أن القرآن مقطوع عليه، ومن أنكر كونه قول اله سبحانه فقد كفر، وخبر الواحد من أنكر كونه كلام النبي عليه السلام لم يكفر، لأنه مما يمكن فيه السهو والغلط والكذب، وشتان عند الموازنة بين قول يقيني وقول ظني. وأما المرجحون للخبر المخصصون به العموم فيقولون: تناول الخبر للحكم تناولا ناصا لا احتمال فيه، وتناول العموم لذلك تناولا غير ناص، بل فيه احتمال، وشتان ما بين النص وبين الاحتمال، ألا ترى أنه سبحانه إذا قال: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)، فإن هذا القول مقطوع به أنه من عند الله سبحانه، ولكنه مع قوته بكونه قطعيا يقينيا، يمكن أن يكون الله سبحانه لم يرد به الرهبان، وإنما أراد قتل المشركين الذين ليسوا برهبان، فإذا قال عليه السلام: "لا تقتلوا الرهبان"، فإن قوله هذا ليس بقطعي من ناحية النقل، لجواز أن يكون أحد رواته سها أو غلط، ولكنه مع هذا قوي من جانب أن الرهبان نص على أن لا يقتلوا. ولا يمكن أن يقال: يحتمل أن لا يريد بهذا الخبر قتل الرهبان، فقد صار الحكم وهو قتل الرهبان تناوله الخبر تناولا ناصا، وتناوله العموم تناولا محتملا، والخبر ظني، والعموم قطعي، فلكل جانب وجه من القوة ليس للآخر، فالتفات كل طائفة إلى جانب من هذه (ص 136) القوة دون الجانب الآخر أوجب ذهابه إلى ما ذهب إليه. والتفات القاضي رضي الله عنه إلى الجانبين جميعا، وتساوي القوتين في نفسه أوجب وقفه بينهما ونظره في دليل سواهما. وأما من ذكرنا عنه التفرقة بين ما سبق فيه تخصيص وبين ما لم يسبق، وتفرقة الآخرين التخصيص بالمتصل والمنفصل، فإن ذلك منهم ذهاب إلى أن العموم إذا خص تناول بقية المسميات على جهة الإجمال، وصار مجازا، والمجمل لا يحتج به بل يفتقر إلى بيان، فيكون خبر الواحد بيانا عنه، ويصير خبر الواحد كخبر أتى بحكم مبتدأ، وخبر الواحد إذا جاء بحكم مبتدأ فلا شك في قبوله، وهذه طريقة من فرق بين أن يسبق إليه التخصيص بدليل منفصل أو متصل، لأنه رأى أن التخصيص بالدليل المتصل كالاستثناء لا يصير العموم مجملا ولا مجازا، وإذا لم يصر مجازا لم تسقط الحجة به، لم يقدم عليه الحجة بخبر الواحد. وقد كنا تكلمنا على هذه المذاهب في باب قبل هذا، واختار أبو المعالي في هذه

المسألة التخصيص بخبر الواحد تعويلا منهم على أنه مسلك الصحابة رضي الله عنهم ورأيهم، ومن تتبع فتاويهم ومحاجتهم علم منها هذا. وقد استشهد السالكون لهذه الطرقة أن أبا هريرة لما روى "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها"، انقادت لذلك الصحابة رضي الله عنهم، وخصوا به عموم قوله تعالى: (وأحل لكم ما وراء ذالكم)، وهكذا خصوا بقوله [صلى الله عليه وسلم]: "لا وصية لوارث" عموم آية المواريث، وقد قال فيها تعالى: (من بعد وصية يوصى بها أو دين)، وقال في آية أخرى: (... الوصية للوالدين والأقربين)، وإن كان في هذه الآية اضطراب بين العلماء. وقد ذكر الصديق قوله عليه السلام: "لا نورث ما تركناه صدقة" الحديث، دفعا لفاطمة رضي الله عنها عن مطالبتها الميراث، ولم تنكر ذلك عليه. وقد أجيب عن هذا بأنه يمكن أن يكون بعض هذه الأحاديث علموا رضي الله عنهم صحتها، فلهذا استدلوا بها، أو ظهرت قرائن اقتضت الاستدلال. وقد قال الآخرون مستشهدين أن الصحابة لم تخص العموم بأخبار الآحاد، أن عمر رضي الله عنه رد خبر فاطمة بنت قيس إذ أخبرت بأنها لا سكنى لها ولا نفقة: "لا ندع كتاب ربنا لامرأة لا ندري نسيت أو شبه عليها"، إلى غير ذلك من الألفاظ التي نقلت عنه في حديثها. وهذه عائشة أيضًا رضي الله عنها ردت قول ابن عمر عن النبي عليه السلام: "أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه" بعموم قوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى)، فرأت أن تعذيب الميت بفعل الحي فيه يحمل وازرة وزر أخرى، خلاف ما تضمنت الآية. وقد أجيب عن هذا بأن عمر رضي الله عنه إنما رد خبرها لاسترابة استرابها منها خاصة،

فصل في تخصيص العموم بالقياس

لا طردا لذلك في كل خبر، وتعليله يشير إلى هذا، لا سيما وفي بعض الروايات: "لا ندع كتاب ربنا، وسنة نبينا"، فيمكن أن يكون سمع من النبي عليه السلام خلاف ما قالته، وإليه أشار بقوله: "وسنة نبينا". أو لعلهم علموا أن قوله تعالى: (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم) نزل عاما في كل مطلقة، مبتوتة أو رجعية، واستقر الحكم استقرار عاما، حتى يكون خبر فاطمة ناسخا، له وإن كان الأمر كذلك، فلا شك أن خبر فاطمة بنت قيس مردود، إذ لا ينسخ بأخبار الآحاد، لأن النسخ رفع النص، وقد ذكرنا أن خبر الواحد إنما قدم على العموم عند من صار إلى ذلك لأجل كونه نصا، وكون العموم محتملا، فإذا فرضنا عموما نصا، زالت العلة وقوي العموم من الجانبين جميعا، وصار قطعيا من جهة نقله ومن جهة مضمونة، فلا يوازي خبرا ظنيا فينقله، ولعل عمر رضي الله عنه أشار إلى هذا بقوله: "لا ندع كتاب ربنا". وأشار أبو المعالي إلى الالتفات إلى ظهور الاستيعاب في العموم أو خفائه، وإلى قوة الخبر وضعفه على ما سنبين في كتاب التأويلات إن شاء الله، وهذه الطريقة التي أشار إليها ينبغي للفقيه أن لا يغفل عنها، ولا يجري هذه المذاهب التي قلنا على ظواهرها، ولا يلتزم أخذها من غير التفات إلى ما سيعلم من كتاب التأويلات إن شاء الله. فصل في تخصيص العموم بالقياس اعلم أن هذه المسألة، المذاهب فيها كالمذاهب المنقولة في التي فرغنا منها سواء بسواء: جواز التخصيص بالقياس، ومنعه، والوقف، والتفرقة بين ما خص وما لم يخص (ص 137)، والتفرقة بين التخصيص بالمتصل والمنفصل، وزيد في هذه مذهب سادس، وهو التفريق بين قياس العلة وقياس الشبه، فأجيز التخصيص بقياس العلة ومنع قياس الشبه. وسبب الخلاف أيضًا فيها دائر على النكتة التي أريناك في هذه المسألة التي قبلها، وهي الموازنة بين العموم والقياس، للعموم القطع على أصله مع كونه محتملا من ناحية لفظه، وللقياس الاتفاق على العمل به، وتأثيم من خالف فيه، وكونه متناولا الحكم تناولا لا احتمال فيه، والموازنة بهذه الطريق سبب الخلاف على حسب ما قدمناه حرفا بحرف، فلا معنى لإعادته. ومن فرق بين قياس الشبه وقياس العلة، فإنه رأى أن قياس الشبة أخفض رتبة واضعف من قياس العلة، فتقاصر لأجل ضعفه عن التخصيص. والقاضي عبد الوهاب يشير إلى تصحيح القول بالتخصيص بالقياس، وإن كان قياس

فصل في حمل المطلق على المقيد

وأجاب عن هذا بأن المعممين والقائلين بالقياس ليسوا كل الأمة، وفي الأمة من ينكر القياس أصلا، وفيهم جماعة ينكرون العموم، والحجة في قول جميع الأمة لا في قول بعضها. وأجاب أيضا بأنه قد سبق سابقون إلى رد القياس، وآخرون إلى رد العموم، فإذا وقف القاضي عنهما، وعن هذا، فقد ضاهى في كل واحد من النوعين الذاهبين فيه إلى ما ذهب، ولا يضر مع موافقته لهم في ذلك النوع مخالفته إياهم في التوقف الآخر، لأن الآخر قد وافق أيضا فيه آخرين. وهذا يذكر في مسائل الاجتماع إن شاء الله، إذا تكلمنا على تركيب المذاهب، وتفرقة الفقيه بين جوابي مسألتين، قال من قبله بالمساواة بينهما، ولكن الناس في ذلك على قولين مختلفين. وذكر أبو المعالي أن خبر الواحد إذا عرض قياس يخالفه، فإنه يجري فيه ما تقدم من المذاهب التي ذكرها، وأنت إذا نظرت في سبب الخلاف الذي أبديناه في هذه المسائل علمت ما يتصور من الخلاف وما لا يتصور، وفي هذا القدر كفاية. فصل في حمل المطلق على المقيد هذه المسألة الكلام فيها من ثلاثة أوجه: - أحدهما: إيضاح مواقع الخلاف، فإنه يستبين بتقسيم اختلفت الأمة في العبارة عنه: - فمن قائل: إن الموجِب والموجَب إذا اختلفا ارتفع الخلاف في هذه المسألة، ولم يرد مطلق إلى مقيد. - وإن اتحاد الموجِب والموجَب وجب رد المطلق إلى المقيد، وارتفع الخلاف في ذلك. - وإن اختلف الموجِب وتساوى الموجَب، فهاهنا وقع الخلاف بين الأصوليين، هل يجب رد المطلق إلى المقيد أم لا؟ ومن الناس من يعبر عن هذا المعنى بأن يقول: إن اختلف الحكمان اختلافا متباينا لم يختلف العلماء في أنه لا يرد مطلق أحدهما إلى تقييد الآخر، وإن اتحد الحكم فلا خلاف في رد مطلقة إلى مقيده، وإن تعدد ولكنه متناسب فهاهنا يختلف الأصوليون هل يرد المطلق إلى المقيد أم لا؟

وأما الوجه الثاني وهو تمثيل محل الخلاف فإن مثال محل الخلاف العتق في كفارة الظهار، فإن الله سبحانه وتعالى قال في المظاهر: (فتحرير رقبة) ولم يشترط كونها مؤمنة، ولا قيد ذكرها بذلك، بل أوردها إيرادا مطلقا، غير مقيد بنعت ولا صفة، وقال في كفارة القتل: (فتحرير رقبة مؤمنة)، فلم يطلق الرقبة بل نعتها ووصفها، وقيدها بالإيمان. فقال مالك والشافعي: لابد من مراعاة الإيمان في الرقبة في الظهار ردًا لمطلق آية الظهار إلى مقيد كفارة القتل. وقال أبو حنيفة: بل تجري في الظهار عتق رقبة كافرة، أخذا بإطلاق آية الظهار، ومنعا من ردها لآية القتل، وبهذه المسألة يمثل سائر الأصوليين محل الخلاف. وقد مثله أيضا جماعة منهم باللفظ الوارد في التيمم، واللفظ الوارد في الوضوء، إذ يقول تعالى في الوضوء: (وأيديكم إلى المرافق)، فقيد ذكر اليد بالمرفق، وقال في التييمم: (وأيديكم منه) فأطلق ذكر اليد في التيمم، ولم يقيده بالمرفق. فاختلف هل يجب على المتيمم أن يبلغ في مسح يده بالتراب إلى المرافق، ردًا إلى التقييد في غسل يديه بالماء إلى المرافق أو لا يجب ذلك عليه؟ لأجل أن الرد لا يجب. وهذا المثال الثاني أنكره بعض الأصوليين، وأشار الشيخ أبو بكر الأبهري إلى إنكاره، ورأى أن التمثيل (ص 138) الصحيح إنما يتصور في المسألة الأولى، وهي اشتراط الإيمان في عتق المظاهر، لأن هذا إنما فيه زيادة صفة في الرقبة، وأما الرقبة ففي الكفارتين متساوية. وفي التيمم فيه زيادة عضو وهو الذراع، وزيادة الذوات والأجرام بخلاف زيادة الصفة والنعوت. وهذا الذي أشار إليه يصير كمذهب ثالث في رد المتناسب، فقوم يطلقون القول برده، وقوم يطلقون القول بالمنع من رده، والأبهري لا يطلق القول، بل يسلم الرد إذا وقع بزيادة صفة، وينكره إذا وقع بزيادة ذات مستقلة بنفسها، وهاتان المسالتان تحققنا فيهما ما قلناه على إحدى العبارتين، وهي اختلاف الموجب وتساوي صنف الموجب، لأن الظهار غير القتل، ولكن العتق في الظهار من صنف العتق في القتل، والقتل والظهار موجِبان، والعتق فيهما موجَب.

وهكذا على العبارة الأخرى وهي مراعاة التناسب والتلاقي، وذلك أن بين الرقبة في الظهار، والرقبة في القتل تناسب، لأنهما جميعا عتقان، كفارتان على معصيتين، وهذا تناسب لا شك فيه، وعلى هذه العبارة الثانية يصح التمثيل في التيمم والوضوء، لأنهما جميعا طهارتان واجبتان عن حدث، وتستباح بهما الصلاة. وأما العبارة الأخرى وهي اختلاف الموجِب وتساوي الموجَب فتصورها في هذا يبعد، إلا على تحيل، وذلك أن الحدث الناقص للطهارة هو الموجب لها، والموجَب عنها الطهارة، ونواقض طهارة الماء وطهارة التراب يستويان في الأكثر إلا في صورة نادرة كطريان الماء، أو دخول وقت صلاة ثانية، فهاهنا تتصور العبارة الأخرى، وهي اختلاف الموجِب وتساوي الموجَب. وأما تمثيل ما أدى التقسيم إلى ذكره مما اتفق عليه، وهو ما يجب رد مطلقه إلى مقيده، فلا يكاد يوجد في القرآن، فلهذا مثله أهل الأصول بما لم يوجد، مثاله أن يأمر الله سبحانه في القرآن بعتق رقبة مطلقة في كفارة القتل، ويأمر بعتقها بشرط الإيمان في آية أخرى، فهذا حكم واحد أطلق وقيد، فيرد مطلقه إلى مقيده باتفاق، وهذا التمثيل لم يوجد، فلا معنى لذكره. لكن قد يضرب بهذا القسم مثال ورد في القرآن، وهو قوله تعالى: (لئن اشركت ليحبطن عملك)، فأطلق الإحباط، وعلقه بنفس الردة، ولم يشترط المواقاة عليه، وقال في آية أخرى: (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم)، فقيد الردة في هذه الآية بالموت عليها والموافاة على الكفر، فوجب رد الآية المطلقة إليها، وألا يقضي بإحباط الأجور والأعمال إلا بشرط الموافاة عليها. وهذا تمثيل صحيح من جهة أن الردة المذكورة في الآيتين معنى واحد، وكذلك الإحباط المذكور في الآيتين أيضا المراد به معنى واحد، لكن إنما يبقى النظر من جهة ثانية، وهو أن قوله تعالى: (لئن اشركت) خطاب خاص، وقوله: (من يرتدد منكم عن دينه) خطاب عام، فمن هذه الجهة يفترقان، إذا قلنا: إن الخاص عن العام. وأما إذا قلنا إن المراد بخطاب النبي عليه السلام بهذا من سواه من أمته، ومعنى قوله: لئن أشركت أمتك، إنه يرتفع هذا الاعتراض ويتحقق التمثيل. وإن شئت عدلت لأجل هذا الاعتراض عن هذه الآية إلى آية أخرى عامة، وهي قوله تعالى: (ومن يكفر الإيمان فقد حبط عمله)، وهذا عام ورد مطلقا، كما أن المقيد عام

أيضا، وهو قوله: (من يرتدد منكم عن دينه)، والآيتان جميعا وردتا بحرف "من" المقتضية للاستيعاب، وقوله: (فقد حبط عمله) قد يشير إلى أن المراد كفر من آمن حتى يتحقق فيه حقيقة الإحباط. وأما ما أدى إليه التقسيم أيضًا وهو القسم الثالث المتفق على أنه لا يرد مطلقه إلى مقيده، فإن الأصوليين مروا فيه على التمثيل باشتراط العدالة المذكورة في قوله تعالى: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) فقالوا: لا يلزم اشتراط العدالة في عتق الرقبة الواردة في كفارة القتل، وإن كان شرط فيها الإيمان، لكون التعبد بالعتق غير مناسب للتعبد بالشهادة. ومثل بعضهم هذا القسم بما ورد من اشتراط التتابع في صيام الشهرين المذكورين في كفارة الظهار، ولم يوجب هذا التقييد بالتتابع في الصيام التتابع في الإطعام في الظهار، بل يجب عليه إطعام ستين مسكينا وجوبا مطلقا، إن شاء تابع وإن شاء فرق، ويجب عليه صيام ستين يوما وجوبا متتابعا لأجل (ص 139) التقييد. وهذا المثال الثاني قد يهجس في النفس إلحاقه بالقسم المختلف فيه، لأنا ذكرنا أن إحدى العبارتين عن هذا القسم اعتبار اختلاف الموجب وتساوي الموجب، وهذا بالعكس منه لأجل أن الموجَب وهو الإطعام والصيام مختلفان، والموجِب واحد وهو الظهار، وهذا وإن هجس في النفس أنه يعد من قبيل المختلف [فيه] فإن الدليل قد قام على أن التتابع غير واجب في الإطعام، وأيضًا فالإطعام والصيام لم يشتركا في لفظ حتى ينظر إلى عموم أحد اللفظين وخصوص الآخر، ويرد هذا إلى هذا، بخلاف الرقبة العامة في آية، الخاصة في آية أخرى. وهذا أحد الأجوبة، فمن اعترض فقال: هلا وجب الإطعام في كفارة القتل، كما وجب ذلك في كفارة الظهار رد مطلق هذه الآية وهي كفارة القتل إلى مقيد آية الظهار التي قيدت بذكر الإطعام؟ وعن هذه ثلاثة أجوبة: - أحدها: ما قلناه، وهو أن الرقبة ذكرت في الآيتين فحسن النظر في رد العام إلى الخاص فيهما، والطعام لم يذكر إلا في إحدى الآيتين، فلم يجب إثباته في الأخرى. - والجواب الثاني: أن هذا فيه إثبات زيادة ذوات مستقلة بأنفسها، فكان بخلاف الزيادة في الصفات، وقد تقدم ذكر هذا عن الأبهري. - والجواب الثالث: ذكره بعض الناس وهو أن هذا الاعتراض لازم، ولكن دل الدليل

على أن لا إطعام في كفارة القتل، فخرجنا عن الأصل من رد المطلق في مثل هذا إلى المقيد بالدليل. وهو جواب من لم يتفطن إلى الفروق التي قدمناها في أجوبة غيره، أو قدرها فروقا ضعيفة، وهذه معان إنما يحسن بسطها في كتب الفقه. وأما الوجه الثالث وهو سبب الخلاف فإن المعتمد فيه على النظر في الزيادة على النص، هل يكون نسخا أم لا؟ كما سيرد بيانه في كتاب النسخ إن شاء الله. فمن قدر التقييد هاهنا زيادة على الآية المطلقة، والزيادة لها حقيقة النسخ لم يرد المطلق إلى المقيد، لأن الرد عند جمهور المحققين القائلين به إنما وجب لأجل قياس معنوي، والنسخ لا يكون بالأقيسة ولا بأمثالها مما يقتضي الظنون كأخبار الآحاد. ومن لم ير الزيادة على الإطلاق نسخا، ورآها بيانا وتخصيصا حسن عنده رد المطلق إلى المقيد، لأجل أن التخصيص يكون بما يقتضي الظن على ما قدمناه في بابه، إذ تكلمنا على التخصيص بخبر واحد والتخصيص بالقياس، أو الوقف بين القياس وما قابله من العموم. فقدر أبو حنيفة الزيادة نسخا، إذا كان لها ارتباط بالمزيد عليه، وتأثير في مقتضى إطلاقه، كالحال في الرقبة في كفارة القتل، فإنها قيدت بالإيمان، وإذا اشترطنا في رقبة الظهار الإيمان، وقد اقتضى الإطلاق سقوط اعتبار الإيمان صار بذلك كالنسخ للإطلاق، فلا يقبل فيه إلا القواطع. ورأى الآخرون أن دلالة الإطلاق على الأجزاء دلالة الظواهر على متضمناتها، وليست كدلالة النصوص، إذ لا يمكن أحد أن يدعي أن قوله تعالى: (فتحرير رقبة مؤمنة من قبل أن يتماسا) نص في إجزاء الكفارة، بل يحتمل أن يراد به الرقبة المؤمنة، فإذا لم يكن نصا، وإنما اقتضى الإجزاء اقتضاء الظواهر صح تخصيصه بالقياس، والتخصيص يكون على نوعين، إما بالقصر على بعض المسميات من غير تمييز لما قصر اللفظ عليه من غيره، كما يقول الشافعي في أن الزكاة لا تجزي حتى يعطاها أقل الجمع من الفقراء والمساكين، مع بقية الأصناف، على ما عرف من مذهبه في كتاب الزكاة، ولكن الثلاثة المساكين الذين هم أقل الجمع غير متميزين عن سائر المساكين. وإما أن يكون التخصيص بتمييز المقتصر عليه على ما سواه بصفة، كتخصيص الرهبان من قوله تعالى: (فاقتلوا المشركين)، والرهبان متميزون بصفة عن غيرهم من المشركين، فلا مستنكر في تخصيص إطلاق آية الظهار بصفة استفيدت من آية القتل، وهذا واضح. وقد نوقض أبو حنيفة في الأصل الذي ركبه، بأنه اشترط في إعطاء ذوي القربى أن

يكونوا فقراء، والقرآن ورد بإعطائهم مطلقا من غير تقييد، وقد قيد أبو حنيفة هذا المطلق بغير دليل قاطع، وخرج به عما أصل في أحكام النسخ. ونوقض أيضا في المسألة بعينها التي مثلنا بها، وذلك أنه يجزئ عنده عتق الأقطع، ولا يجزئ عتق الأخرس، فإن كان الأخرس لا يجزئ لأجل أنه لا يسمى رقبة، لأجل عيبه، فيجب أن لا يجزئ الأقطع لأجل عيبه أيضا، على أنه لا يصح بالدعوى أن المعيب لا يسمى رقبة، فما بال الأخرس لا يجزئ عنده؟ (ص 140) مع كونه يسمى رقبة، ومع كون إطلاق الآية يقتضي جوازه، فبماذا إذا أثبت هذه الزيادة على الآية؟ وقد يحاج عليها بما أمليناه في الفقهيات. وأشار أبو المعالي في رد المطلق على المقيد إلى طريقه المعهودة، وهو اختيارنا في مواضع أمليناها في هذا الكتاب، وهي الموازنة بين التقييد والإطلاق، فأيهما رجح في مسالك الظنون قضى به وغلب على صاحبه، فقد تضعف دلالة الإطلاق، وتقوى دلالة التقييد على الإشعار باشتراط الصفة التي قيد بها. وقد يكون الأمر بالعكس، ألا ترى أن إشعار آية الظهار بإجزاء عتق الكفارة ضعيف، لأجل أن الآية إنما سيقت مساق البيان لأجناس الكفارة، لا بيان تفاصيلها وأحكامها، فتفاصيل أحكامها غير مقصودة فيها، وما ليس بمقصود في الخطاب لا يرتبط به الخاطر ارتباطه بمقصود المخاطب. وسيأتي بسط هذا وأمثاله في كتاب التأويلات إن شاء الله. وتنبه هاهنا إلى عبارة تقع للأصوليين من هذا الباب، وهي قولهم: الزيادة على النص لا تكون نسخا، فإن هذه العبارة إنما يستحق معناها إذا سمينا الظواهر نصوصا كما حكيناه في بابها عمن ذهب إلى ذلك، فتحسن العبارة على رأي هؤلاء. وأما إن قلنا: إن الظواهر لا تسمى نصا، فهذه العبارة فيها درك، لأن تعتبر النصوص التي لا احتمال فيها نسخا على ما سيرد بسطه، وبيانه في كتاب النسخ إن شاء الله. وقد ذكر أن جمهور رادي المطلق إلى المقيد يذهبون إلى أن الرد بقياس معنوي [ممكن]، وقد ذهب إلى أنه بحكم اللغة ومقتضى الألفاظ، وزعم هؤلاء أن العرب إذا قيدت، فإنها تستخف الإطلاق اكتفاء بالتقييد، وطلبا للإيجاز والاختصار على ما عرف من عاداتها في لسانها، وقد قال تعالى: (عن اليمين وعن الشمال قعيد)، والمراد عن اليمين قعيد، ولكن حذف بدلالة الثاني عليه، وهكذا قوله تعالى: (والله ورسوله أحق أن يرضوه)

فصل في مخالفة الراوي ما رواه

فحذف ذكر إرضاء الرسول عليه السلام. وهذا يكثر وجوده في اللسان وأنشد في هذا: يا من رأى عارضا يسر به ... بين ذراعي وجبهة الأسد والمراد ذراعي الأسد، فحذفه لدلالة الثاني عليه، وهكذا أنشد الآخر: فما أدري إذا يممت أرضا ... أريد الخير أيهما يلبني فحذف الشر لدلالة الكلام عليه. وزعم بعضهم أن القرآن كالكلمة الواحدة، لأن كلام الله واحد، فلا بعد في أن يكون المطلق كأنه المقيد، وهذا غلط فاحش، لأن الموصوف بالاتحاد الصفة القديمة المختصة بالذات، وأما هذه الألفاظ والعبارات فمحسوس تعددها وتغايرها، وفيه الشيء ونقيضه كالإثبات والنفي، إلى غير ذلك من أنواع الكلام المتضادة التي لا يوصف القديم الأزلي بأنه في نفسه حاصل عليها، وهذا أوضح من أن يطنب في نقضه، والله ولي التوفيق. فصل في مخالفة الراوي ما رواه الكلام في هذه المسألة من ثلاثة أنحاء: - مخالفة الراوي ما رواه بالكلية. - ومخالفته لظاهر ما رواه على جهة التخصيص. - وتأويله لمحتمل أو مجمل رواه. وكل هذه الأقسام فيها الخلاف. فذكر أبو المعالي الاختلاف في عمله بخلاف ما رواه، ونسب إلى الشافعي أن مذهبه اتباع روايته لا عمله، ولأصحاب أبي حنيفة اتباع عمله لا روايته، وهكذا ذكر جميع الأصوليين الخلاف في تخصيص عموم الخبر بمذهب راويه. وأما تخصيصه بمذهب صاحب آخر لم يروه عن النبي عليه السلام، فإنه عليه القولين بين الأصوليين في كون قول الصحابي حجة إذا ابتدأ إنشاء مذهب في الفروع، فإن قلنا: إنه ليس بحجة فلا شك في كونه لا يخصص به. وإن قلنا إنه حجة فهاهنا يضطرب هؤلاء في تقديم حجة العموم أو حجة قول الصاحب الراوي. وكذلك حكى بعض المصنفين الاختلاف في تأويله لحديث محتمل المعاني وصرفه إلى أحد محتملاته، هل يصار إلى مذهبه في ذلك أم لا؟ وكان الأشهر في هذا القسم المصير

إلى تأويله، ومثله أبو المعالي بقوله عليه السلام: "الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء"، وأن عمر راويه رضي الله عنه حمله على أن المراد به التقايض في المجلس، فوجب المصير إلى تأويله وصرف إلى أحد محتملاته. وقد ذكر في هذا الباب رواية ابن عمر: "البيعان (ص 141) بالخيار ما لم يفترقا"، وحمله ذلك على فرقة الأبدان. وهذا يحتاج إلى تحقيق وتفصيل، به يعرف في أي نوع يقع من التماثل، فإن قلنا: إن الافتراق ينطلق على افتراق الأبدان دون ما سوى ذلك، وما سوى فرقة الأبدان لا ينطلق عليه هذه التسمية لا حقيقة ولا مجازا، فإن هذا الحديث وتأويله لا مدخل له في هذا الباب، وإنما يكون كحديث رواه راو وعمل به. وإن قلنا: إن هذه التسمية تنطلق على فرقة الأبدان وفرقة الأقوال حقيقة، ولكن لا نقول بالعموم بل نقف، كان مذهب ابن عمر كالبيان للمحتمل. وإن قلنا: إنه ينطلق على الفرقة بالأقوال مجازا، ولكن لا يعم اللفظ في حقيقته ومجازه بل يحمل على الحقيقة خاصة، كان هذا أيضا لا مدخل له في هذا الباب. وإن قلنا إنه يحمل على العموم فيهما، أو قلنا بحمله على العموم فيهما لأجل كون التسمية حقيقة فيهما كان هذا كالتخصيص للعموم. فهذا تحقيق القول في تجويز هذا التمثيل، أطلق القول فيه المصنفون، وقد تكلمنا نحن في كتابنا المترجم بالمعلم عن هذا الحديث ومعناه، وما يعارض به، وما تؤول عليه، بما فيه كفاية. وقد اعتذر أبو المعالي عن مخالفة الفقهاء لأحاديث رووها بأنه قد يكون لهم أصول تقتضي ترك الحديث، قد علم ذلك منهم، فلا يستنكر مخالفتهم لما رووه، ولا يعود ذلك بالقدح في الراوية، كما علم من أصل مالك رضي الله عنه في أنه يقدم عمل أهل المدينة على الحديث، فإذا لم يقل بفرقة الأبدان في البياعات فعذرة اتباع العمل المقدم عنده على الخبر. كما قد علم أيضا أن من أصل أبي حنيفة أنه يقدم القياس على الخبر، إذا خالف خبرا رواه لقياس اقتضاه، فلا تستغرب مخالفته إياه ولا يعود بالقدح في روايته. ومما عد في هذا الباب رواية أبي هريرة غسل الإناء من ولغ الكلب سبع مرات، وإباحته الاقتصار على الثلاث، وفتواه بالاقتصار على الثلاث مخالفة للعدد المحدود فيما رواه، وهو يعد في النوع الذي قدمناه من مخالفة الحديث التي هي بمعنى النسخ، لا بمعنى

التخصيص، وقد قررنا المذاهب في هذا كله. والنكتة التي لم يدر عليها هذا الخلاف، ومنها ينشأ النظر في المسألة أن لو تحققنا أن حديث النبي صلى الله عليه وسلم خولف بطريق لا يجب اتباعها لم يختلف مسلم في طرق هذه المخالفة، وترك الالتفات إليها. كما لا يختلف أحد في أن هذه المخالفة إذا علم أنها بوجه حق، وطريق يجب اتباعها كحديث آخر سمع من النبي عليه السلام يجب أن يرجع إليه، فإن الرواية لا يعمل بها، بل يعمل بما صار إليه الراوي، وليس ذلك لأجل مذهب الراوي، بل لما أحلنا عليه من قول الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يتحقق أحد الأمرين، فهنا يحسن الخلاف، ويقع الإشكال في هذا الوسط إلى كل واحدة من الحاشيتين، فحسن عند قوم تحسين الظن بالرواة، وحمل مخالفتهم على أمر سمعوه من صاحب الشرع غير ما أبدوه ونقلوه، فصاروا إلى اتباع مذهب الراوي. ورأى آخرون أن كلام صاحب الشرع قد دل الدليل على وجوب اتابعه، ونحن على يقين من صدقه وصحته، لا نترك قوله صلى الله عليه وسلم لقول غيره. وفصل أبو المعالي القول فرأى أننا إن تحققنا أن مخالفة الراوي كانت لنسيان الخبر، أو لأنه لم يفهم معناه، فلا شك أن الحق اتباع ما رواه، وكذلك إن فسق فسقا يظهر منه أنه اجترأ على مخالفة ما روى عصيانا وطغيانا، فإنه لا يعتبر بمذهبه في المخالفة، بل يجب اتباع الرواية إذا أوردها في وقت يجب فيه قبول روايته لعدالته. وكذلك إذا روى خبرا بالرخص والتحليل في أصوله، أما في التحريم ثم وقف متورعا فإنه لا يترك الخبر لوقوفه الذي دعاه إليه المبالغة في التورع والتمسك بالأفضل. وإن خفي عنا سبب المخالفة، ولكنا علمنا أنه خالف ذلك عمدا وقصدا، فالمختار لا يعمل بما رواه، لأن الظاهر أنه لا يرتكب مثل هذه المخالفة إلا بمسموع آخر اقتضى مخالفة، من الأسباب التي قدمناها، وإن لم نحط علما بالداعي إلى المخالفة، ولا ظنناه، بل ترددنا في ذلك تردد شاك، فإن الواجب اتباع ما رواه، إذ ما رواه محقق، فلا يترك المحقق المتيقن إلا بأمر مجوز. ولو ظننا أنه يعمل المخالفة ظنا من غير يقين، فإن هذا ربما أثر في دلالة العام وحطها عن منصبها (ص 142) في قوة الظهور، حتى يكون التأويل المخرج للفظ عن الاستيعاب المطابق لمذهب الراوي تساهل فيه ما لا يتساهل فيه، إذا لم تقع هذه المخالفة المظنونة

فصل في تخصيص العموم بالعادة

من الراوي. وستقف على تحقيق هذه المرامي وإيضاح هذه المعاني في كتاب التأويلات إن شاء الله تعالى. فصل في تخصيص العموم بالعادة اعلم أن المعتمد في هذا ما كنا أشرنا إليه مرارا من الموازنة بين طوارق الظنون إذا تعارضت، فما كان أرجح ويفيد ظنا أقوى من ظن الطريق الآخر قدم، فإذا تقرر هذا فالعادة على قسمين: عادة فعلية، وعادة قولية. فأما العادة الفعلية فلا تخصص بها العموم، مثال ذلك قوله عليه السلام: "إذا وقع الكلب في إناء أحدكم، فليغسله سبع مرات"، وقد اختلف المذهب في هذا الحديث، هل يحمل على إناء فيه طعام؟ فقيل: إنما يحمل ذلك على الماء، لأنه غالب ما كان يوجد في آنيتهم، وإلا فالطعام أعز وجودا عندهم في زمانهم، من أن تصل الكلاب إليه، فيخصص العموم بهذه العادة، وكأنها عادة فعلية، لأن هذا إنما يرجع إلى أفعالهم، وهو ترك أواني المياه والكلاب دون أواني الطعام. وقيل: بل يغسل سبعا وإن كان ولغ في طعام أخذا بعموم هذا الحديث، ولا يخص العموم بمثل هذه العادة، وهذا الخلاف المذكور في المذهب المذكور، والتعليل المشار إليه يشير إلى إثبات الخلاف في هذا القسم. وأما العادة القولية فمثل أني يكون الكلب في اللغة اسما لهذا الكلب النابح ولغيره من السبع، ولكن تعارف المخاطبون على قصر هذه التسمية على النابح خاصة، وإنما يجري على ألسنتهم هذا الاسم غالبا في النابح دون ما سواه. وكذلك إذا "نهى عليه السلام عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل"، فقال الشافعي: يشرط التماثل في سائر الأطعمة، وإن لم يكن معنا به كما قال مالك، ولا مكيلة أو موزونة كما قال أبو حنيفة، أخذا بعموم هذا الحديث. وقال له من خالفه: اعتادت الصحابة اسم الطعام إلا على البر، فيحمل خطاب النبي عليه السلام عليه، فهذا مثال ما نحن فيه من هذا التقسيم.

وأما تخصيص العموم بعادة فعلية، فلا سبيل إليه، إذا كان المخاطبون لم يغيروا التسمية، ولا تعرضوا فيها إلى قصر ولا تعميم، بل مروا بالنطق بها على ما وضعتها العرب، فلو قال: أحللت لك بهيمة الأنعام، وكانوا المخاطبون اعتادوا أكل لحم الضأن، ولم يعتادوا أكل لحم الإبل، إما لعدمها عندهم أو لغير ذلك، لكنهم مع هذا الاعتياد يجرون هذا الاسم عليها كما يجرونه على لحم الضأن، وعرفهم في التسمية في هذين النوعين يجري مجرى واحدا، فإن هذا من الواضح أن عموم التحليل جار على إيعابه، وعادة الفعل مع بقاء التسمية على حالها غير مؤثر في معناه، إذ لا تعلق بين الفعل وبين التسمية. وأما إن كانت العادة قولية كما مثلناه، وتصويره في مسألتنا أن يكون المخاطبون اعتادوا أيضا إطلاق لحم بهيمة الأنعام على الضأن دون ما سواه، فهذا موضع الخلاف. فالشافعي لا يخصص بهذه العادة، وأبو حنيفة يخصص بها، وهذا إذا كان التعارف من غير أهل اللغة المتبعين على التسمية.، فأما تعارف أهل اللغة على تسميته فإنه يرجع إليه إذا وجب التمسك بلغتهم. وأما تعارف من سواهم على قصر مسمياتهم على بعض ما وضعوها له، ففيه الخلاف المذكور، هل يقدم العرفي أو اللغوي؟ فهذا الخلاف إنما يتصور إذا كان المخاطب يدخل ف يالمخاطبين في اصطلاحهم ويخاطبهم، حتى يعرف من عادته ما أراد إلا ما يريدون باللفظ، فلو تحققنا أن النبي عليه السلام اعتاد أن لا ينطلق بالطعام إلا في البُر خاصة، لحملنا ما سمعنا من نطفه على البُر حاصة، وكذلك لو فرضنا أن المخاطب خاطب وعنده أنهم لا يفهمون من التسمية إلا ما اعتاده هو فيها، وما هو اللغة عنده وعندهم، فإن هذا إثما يحمل الخطاب فيه على ما اعتاده المخاطب وكان من لغته. فإذا فرضنا أن المخاطب باق في اعتقاده على عموم التسمية، وهو عالم بأن السامعين لخطابه اعتادوا قصرها، ويعلمون أن المخاطب لم يشاركهم في العادة، فهذا موضع إشكال (ص 143) هل يظن أنه باق على لغته واعتياده، ولا يلزمه الرجوع إلى عادتهم، ولا أن يبني خطابه على عرفهم، فيكون الواجب أن يحمل السامعون كلامه على حكم اللغة، أو يقال: القصد تقريب معنى الخطاب من أفهام السامعين، وهذا يتحقق خطابهم على الوجه المألوف عندهم. فهذه صورة الخلاف وأسبابه، وفيها كفاية.

فصل في مفهوم الخطاب

فصل في مفهوم الخطاب الكلام في هذه المسألة من ثلاثة أوجه: - أحدها: الكشف عن معاني العبارة في هذا الباب. - والثاني: نقل المذاهب فيه. - والثالث: سبب اختلاف المذاهب. فأما الكشف عن العبارات في هذا فاعلم أن المستعمل في هذا الباب عبارات منها: مفهوم الخطاب، وفحوى الخطاب، ولحن الخطاب، ودليل الخطاب. والظاهر أن معاني هذه الألفاظ متقاربة من جهة اللغة، وذلك أن الألفاظ كظروف حاملة للمعاني، والمعاني المستفادة منها تارة تستفاد من ناحية النطق والتصريح، وتارة تستفاد من ناحية التعريض والتلويح. فالمستفاد من ناحية النطق يسمى نصا، ومنه ما يسمى ظاهرا، وقد مضى الكلام عليهما، وعددنا هناك قسما ثالثا وهو المجمل ولم نعده هاهنا، لأجل أنا إنما نَعُد ما يفيد، والمجمل ما لا يفيد. وأما المستفاد من التلويح وهو مسكوت عنه، فإنه لا شك في كونه فهم من الخطاب، واستدل عليه بالخطاب، فحسن تسميته مفهوم الخطاب، ودليل الخطاب، فهذا النحو يسلك في الفحوى واللحن، وقد قال تعالى: (ولتعرفنهم في لحن القول). واختلف طرائق الأصوليين في الاصطلاح على العبارة عن أنواع ما يفهم من الكلام، فمنهم من يرى أن المفهوم اسم لجنس ما يفهم من الكلام من غير ناحية نطقه، ولكن هذا الجنس أنواع: فمن المفهوم ما يدل على أن المسكوت عنه موافق لحكم النطق من جهة التنبيه بالنطق على ما هو أولى. ومنه ما يدل على [أن] المسكوت عنه مخالف للمنطوق به في الحكم، فما كان من المسكوت عنه مواقا للمنطوق به سمى فحوى، وما كان مخالفا للمنطوق به سمى دليلا. فالموافق كقوله تعالى: (ولا تقل لها أف)، فإن ضرب الوالدين وقتلهما مسكوت عنه، ولكن حكمه التحريم، وهو منهي عنه، واستفيد ذلك من النهي كما نطق به، وهو التأفيف.

والمخالف مثل قوله: "في سائمة الغنم الزكاة"، دليله أن المعلوفة لا زكاة فيها، بخلاف المستفاد من النطق في السائمة من ثبوت الزكاة. ومن الأصوليين من سلك مسلك هؤلاء في هذا الاصطلاح، وزاد قسما ثالثا فسماه لحنا وهو ما علم من المحذوفات المقدرة بلفظ كقوله تعالى: (اضرب بعصاك البحر فانفلق)، فمعلوم قطعا أن هاهنا حذفا وهو "فضرب". وهكذا قوله تعالى: (فأتيا فرعون فقولا إنا رسولا رب العالمين* أن أرسل معنا بني إسرائيل* قال أم نربك)، تقديره: "فأتياه، فقال: ألم نربك". وقد عد في هذا المثل من هذا النوع قوله تعالى في الحالف: (ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم)، تقديره: "فحثتم". وأنكر هذا آخرون، وقالوا: قد قال سعيد بن جبير: إن الحانث يكفر ولم لم يحنث، أخذا بهذا الظاهر من غير حذف، فلو كان المحذوف كالنص لما خالف فيه مثل هذا الرجل. وهكذا أيضا قوله تعالى: (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر)، قد تمثل به قوم وأنكره آخرون، لأجل أن من الناس من لم يقدر حذفا، وقال إن المسافر في رمضان يقضي الصوم، ولو صام في السفر، أخذا بهذا من غير حذف، وركب بعض الناس هذا في المريض أيضا، وقال: إنهم خرقوا الإجماع في المريض. وهكذا قوله تعالى: (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية) تمثل به قوم، وقال آخرون: لولا الإجماع لم يثبت الحذف. وعندي أن الأولين، إنما لم يتشاغلوا بعد هذا قسما ثالثا كما صنع هؤلاء، لأجل أن الغرض في علم الأصول تعليم أصول مأخذ الأحكام، والأحكام متحققة فيما سميناه فحوى، وفيما سميناه دليلا، ألا ترى أن حكم التأفيف النهي عنه، وقد استقل هذا النهي المنطوق به بنفسه، فدعت الحاجة إلى أن يبين أن حكم المسكوت عنه موافق له، كما دعت الحاجة في القسم الآخر إلى أن يبين أن الحكم المسكوت عنه بعكس حكمه.

وقوله تعالى: (أن اضرب بعصاك البحر) لا يتعلق به حكم، وما تعلق به من المثل الأخرى حكم. فما تقدم (ص 144) المحذوف لا يتصور فيه حكم فيقدر المحذوف موافقا أو مخالفا، ألا ترى قوله تعالى: (فمن كان منكم مريضًا أو على سفر)، فهذه جملة لو اقتصر عليها لم تفد حكما، وإنما هي شرط علق الحكم عليها قوله: فضرب، إنما هو لفظ محذوف مقدر الوجود، وهو تتمة الشرط، فلهذا أرى الآخرين لم يتعرضوا لعده قسما آخر. ومن الأصوليين من يجري على لسانه تسمية هذا الموافق مفهوما، ولحنا، وفحوى، ويقتصر على الخطاب في المنطوق به على تسميته دليل الخطاب. فإذا أحطت علما بهذه المقاصد والأغراض بهذه العبارات، فاعلم أن الأصوليين اختلفوا في هذا التنبيه المستفاد من قوله تعالى: (ولا تقل لهما أف)، هل يقتصر في استفادته على مجرد اللفظ الوارد على النهي في التأفيف، أو إنما يستفاد من سياق الآية مبدئها ومختتمها المشتمل على الأمر بالبر، والتنبيه على ما تقدم من حقهما. فمنهم من يرى أن مجرد النهي عن التأفيف لا يدل على النهي عما سواه من ضروب الأذى والتعنيف، ولولا نظام الآية، وما اشتملت عليه من أنواع المعاني المؤكدة للأمر بالا لما استفيد منها النهي عن ضرب الوالدين، فكأن هؤلاء يرون أن الأقل والأحقر لا يتضمن، فلابد [من] التنبيه على الأعلى والأكثر. وطريقة هؤلاء تضاهي عندي ما اشتهر نقله في التصانيف عن بعض أهل الظاهر، فإنه كي عنه إنكار القول بمفهوم الخطاب على الإطلاق، كما حكي عن قوم من الأصوليين، أن المفهوم متى تطرق إليه أدنى احتمال فإنه لا يستدل به، ويرون أن الاحتمال في هذا يسقط، فسقط العمل به، بخلاف الظاهر اللفظي. وقد قدمنا لك أن المعاني المستفادة من اللفظ مستفادة منه من جهتين: إحداهما من جهة لفظه، والأخرى من جهة معناه، فالمستفاد من جهة لفظه يسمى منه ما لا احتمال فيه نصا، وما فيه احتمال يسمى ظاهرا. وما يستفاد من جهة إشعاره ولحنه فإنه على قسمين أيضا: ما لا احتمال فيه أصلا يستدل به، وما فيه احتمال، ولكنه ظاهر في أحد محتمليه فيه اختلاف، هل يعمل به أم لا؟ فتلخص من ذلك أن ما لا احتمال فيه يعمل به من غير خلاف سواء دل عليه الخطاب

تصريحا أو تلويحا، وما فيه احتمال مع الظهور فيعمل به إن كان لفظيا من غير خلاف، وإن كان مشعرا به ففيه الخلاف المذكور. وقد تقدم ذكر الأمثلة في النطقي، النص والظاهر. وأما أمثال ما لا احتمال فيه من المفهوم، فكما قلناه في آية النهي عن التأفيف، وأما الظاهر من المفهوم فكقوله تعالى: (من قتل مؤمنًا فتحرير رقبةٍ مؤمنةٍ)، فإن هذا عند طائفة من العلماء يشعر بأن القاتل عمدا عليه تحرير رقبة، لأجل أن المخطئ إذا أمر بها كفارة، مع كون فعله لا إثم فيه، فالآثم الذي هو الغامد أولى بالتكفير، فهذا المفهوم الموافق من جهة التنبيه بالآدنى على الأعلى. ولكن في هذه الآية احتمال، ويمكن أن يراد بها قصر الكفارة على المخطئ، لكون ذنب متعمد قتل النفس أعظم من أن يكفر، كما تأوله قوم من الأئمة في مواضع من الشريعة تشبه ما نحن فيه. وقد تكلم الناس على تجويز ضم نقيض هذا المفهوم إلى النطق من أن يقول: ولا تقل لهما أف، واقتلهما، ورأيت الأذري تردد فيه، فسلم أن قوله: (فمن يعمل مثقال ذرة) لا يصح أن يقال ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، وإن عمل قنطارا فلن يره، ورأى هذا من التناقض. وقال في موضع من كتابه: إذا قال: ولا تقل لهما أف، واضربهما، فإن هذا خارج عن لسان العرب، وقد قال في موضع آخر من كتابه: إنما يستفاد المنع من قتلهما لأجل تجريد النهي عن التأفيف، وأشار إلى جواز مضامة هذين اللفظين بعضهما لبعض، وهذه إشارة إلى ما كنا قدمناه من كون النهي عن الضرب مستفادا من سياق الآية، لا من نفس اللفظ. فإذا علمت أن الجمهور على القول بالمفهوم، وبعض أهل الظاهر ينكره على الإطلاق، فإن القائلين به مختلفون في وجه دلالته؛ هل هي من ناحية اللغة، أو من ناحية القياس الجلي؟ فجمهورهم على أنا من ناحية اللغة، وذهب الشافعي إلى أنه من ناحية القياس الجي. ورد عليه بأن سامع هذا الخطاب يفهم منه النهي عن الضرب، وإن لم ينظر في طرق القياس، ويؤمر بذلك، وإن [لم] يؤمر بالتعبد بالقياس، فهذا جميع (ص 145) ما يتعلق بالقول بالمفهوم، ولعلنا أن نرد على الظاهرية عند أخذنا في سبب اختلاف المذاهب.

وأما مفهوم المخالفة وهو المسمى عند الأصوليين بدليل الخطاب فإنه يتنوع أنواعا: فمنه تعليق الحكم بالغاية كقول تعالى: (ولا تقربوهن حتى يطهرن)، وكقوله: (حتى يعطوا الجزية)، وكقوله: (ثم أتموا الصيام إلى الليل). ومنه تعلق الحكم بالحصر وقريب منه تعليقه بالحد أيضا، كقوله: "إنما الولاء لمن أعتق"، وعد في هذه: "الشفعة فيما لم يقسم"، حتى أشير إلى أنه من قبيل المفهوم الذي فرغنا من ذكره. ومنه تعليق الحكم بالعدد كقوله تعالى: (إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم). ومنه تعليق الحكم [بالشرطي] كقوله: (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا). ومنه تعلقه بالصفة كقوله تعالى: (ومن قتل مؤمنا متعمدا). ومنه تعليقه بالمكان كقوله: (فاذكروا الله عند المشعر الحرام). ومنه تعلقه بالزمان كقوله: (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة). ومنه تعليق الحكم بالاسم العلم كقوله تعالى: (ليذكروا اسم الله في أيام معلومات). وقد حصر الشافعي مفهوم المخالفة في خمس وجوه، فذكر الحد، والعدد، والصفة، والمكان، والزمان، وأشار أبو المعالي إلى أن العبارة عن جميعها بالصفة يعم هذا التفصيل الذي فصله، لأن المعدود والمحدود موصوفان بعدهما وحدهما، وظرف الزمان مقدر فيه الصفة، فإذا قلت: زيد في الدار، فالمراد: كائن في الدار. وإذا قلت: القتال يوم الجعة، فالمراد: واقع يوم الجمعة، والكون والوقوع صفات، فهذه أنواع مفهوم المخالفة.

وأما الوجه الثاني وهو نقل المذاهب في هذا الباب فقد قدمنا في مفهوم الموافقة جميع ما فيه من الخلاف، وذكرناه هناك لاتصاله بما كنا فيه من الكلام وتعلقه به، فذكرنا إنكار بعض أهل الظاهر، وعد الشافعي له قياسا جليا، واختلاف القوم في الاستفادة؛ هل هي من ناحية اللفظة المتضمنة للأدنى، أو من ناحية السياق، وذكرنا اختلافهم فيما كان منه ظاهرا يتطرق إليه الاحتمال، وهذا كله قد يحسن إيراده في هذا الوجه الذي نحن فيه، فلهذا أشرنا إليه. وأما مفهوم المخالفة فالاختلاف فيه مشهور، وحكي عن جماعة من العلماء إثباته، وأضيف ذلك لبعض أصحاب مالك، وبه قال الشافعي. وحكي عن قوم نفيه، وبه قال قوم من الشافعية والحنفية والقاضي ابن الطيب. وقال ابن سريح بإثباته في الشرط. وقال القاضي ابن الطيب في المذهب الذي رجع إليه واستقر أمره عليه بإثباته في حرف الغاية، وتردد قوله في حرف الحصر، ومال إلى أنه الأظهر إثباته. وأنكره الأذري وغيره في حرف الغاية وما سواه. وقال قوم بإثباته حتى في الاسم العلم، والجمهور من مثبتي دليل الخطاب على إنكاره في الاسم العلم، وابن خويز منداد من أصحابنا أثبته في الاسم العلم، وبه قال الدقاق. وحكى ابن سريج عن الشافعي أنه ينكره في تعليق الحكم بالصفة. وأشير إلى أن مالكا رضي الله عنه يثبته في الاسم العلم لأجل استدلاله في الدونة على أن الأضحية إذا ذبحت ليلا لا تجزئ بقوله: (ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام)، قال في المدونة: فذكر الأيام ولم يذكر الليالي، وكذلك أشير أيضا إلى أنه من القائلين بدليل الخطاب لأجل استدلاله على أن الخيل لا تؤكل بقوله تعالى: (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة)، فذكر منافعها من ركوب وزينة، ولم يذكر الأكل. وفي هذا الاستقراء عندي نظر، لاحتمال أن يكون تعلق بالآية لأجل أنها وردت مورد الامتنان، فلو كان الأكل مباحا لامتن به، لأنه من أعظم النعم التي يمتن بها، فلا يكون هذا الاستدلال منه اقتصارا على أن المسكوت عنه بخلاف المنطوق به، لكن لأجل هذه القرينة التي أشرنا إليها.

وأما أبو الحسن الأشعري، فإنه ذكر أبو المعالي أن النقلة نقلت عنه نفي القول بالمفهوم، كما نقلت عنه نفي صيغ العموم، وقد أضيف إليه أيضا خلاف ذلك، وأنه قائل بدليل الخطاب، لأجل أنه استدل على أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة بقوله تعالى: (إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون)، وببقوله: (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) دليل الخطاب، لأن العدل لا (ص 146) يثبت في خبره، وبقوله: (فيه هدى للمتقين)، دل هدى على أن ليس فيه هدى لغير المتقين. وذكر أبو المعالي أنه رأس الواقفية، وإنكار القول بالعموم يضاف إليه، ولكن أبا المعالي أشار إلى ضعف إضافة هذا المذهب إليه، ورأى أنه إنما أنكر لما فاوض القائلين بتنفيذ الوعيد، وهناك قد يحسن إنكار التعلق به، لأن المسألة المراد بها القطع والمبتغى منها العلم لا العمل. وأما العمليات والمسائل الفقهيات فلا ينكر التعلق بالعموم فيها، كما لا ينكر التعلق بغير العموم وأنواع الظواهر، وإن كان القاضي ابن الطيب صرح بإنكار التعلق بالعموم حتى في العمليات. وقد استرسل أبو المعالي في لفظة وقعت له في هذا الباب، وذلك أنه حكى عن أبي حنيفة وجماعة من الأصوليين إنكار القول بالمفهوم مطلقا، والذين أشار إليهم لم ينكروا مفهوم الموافقة، وإنما أنكروا مفهوم المخالفة المسمى بدليل الخطاب، وقد رجع أبو المعالي بعد كلام قليل إلى الإشارة إلى ما نقلناه، فذكر أن من أنكر المفهوم يسلم الفحوى، وإن اختلفوا في وجه الاستدلال بها على ما حكيناه نحن في جملة مذهبهم. واختار أبو المعالي في تعليق الحكم بالصفة أنه يدل على أن المسكوت [عنه] مخالف المنطوق به، إذا كانت الصفة مخيلة بالحكم مناسبة له، حتى تصلح تعليلا له، بخلاف أن يكون لا مناسبة بينهما وبين الحكم، واختار في الاسم العلم أنه يتضمن أن للمتكلم غرضا في الاقتصار على المسمى، ولكن لا يتعين ذلك الغرض بنفي الحكم عن غير المسمى، على ما سنبسط طريقته، إذا خضنا في محاجة أهل المذاهب. وإذا علمت مذهب الصائرين إلى أن تعلق الحكم بالصفة يدل على أن ما عدا المنطوق به بخلاف، فاعلم أن بينهم اختلافا في صفة دلالتها أيضا، فمنهم من يرى أن الحكم إنما تنتفي الزكاة عن المعلوفة من الغنم، وقال بعضهم: بل ينتفي الحكم عن سائر الأجناس.

وأما الوجه الثالث وهو سبب الخلاف فإن النافين لدليل الخطاب على الإطلاق يتمسكون في نفيه بأربع طرق، منها ما مضى في كتاب العموم وصيغ الأوامر، حيث أشرنا إلى أنهم يقولون: المعلوم إنما يثبت عقلا أو نقلا، ولا احتكام للعقليات الضروريات أو النظريات على المسميات، والنقل عن اللغة أو الشرع آحاد وتواتر، فالآحاد لا يعول عليها في مسائل القطع، والتواتر مفقود، إذ لو كان ثابتا لعلمناه. والطريقة الثانية تقدمت الإشارة إليها، وهي حسن الاستفهام، فيصح أن يستفهم من قال: اضرب زيدا إن كان قائما، بأن يقال له: هل نضربه إن كان قاعدا. وكذلك يصح الاستفهام عن قوله: "في سائمة الغنم الزكاة"، بأن يقال: فهل المعلوفة زكاة؟ ولولا كون المسكوت عنه مما يحتمل أن يكون موافقا للمنطوق به، ويحتمل أن يكون مخالفا لما حسن الاستفهام. والطريقة الثالثة أنه لو أشعر الخطاب بأن المسكوت عنه بخلاف المنطوق به، لما صح أن يضاف إلى الخطاب ما يفسد هذا الإشعار وينقض دلالة المنطوق، قد علم أنه يحسن أن يقول القائل: في سائمة الغنم وفي معلوفتها الزكاة، فلو كان ذكر السائمة ينفي الزكاة عن المعلوفة لكان ذكر المعلوفة كالمناقض لدلالة الكلام الأول. والطريقة الرابعة أن النطق إذا وضع ليدل على أن ما عداه بخلافه، كان النطق الذي قام الدليل فيه على أن المسكوت عنه مساو، يصير الخطاب مجازا. فهذه مسالك القوم، وأجاب الآخرون على جميعها. أما الطريقة الأولى فأجابوا عنها بأنا سنريكم الأدلة على إثبات ما قلناه، وأنتم إنما أثبتم مذهبكم لزعمكم أنا عاجزون عن تصحيح مذهبنا وها نحن نصححه. وأجابوا عن الطريقة الثانية بأن الاستفهام إنما يقبح في النصوص التي لا احتمال فيها، وأما ما يدخله أدنى احتمال فلا يقبح فيه الاستفهام، ألا ترى أن القول بالعموم ثابت عند الصائرين إليه، ويرون قولنا: اقتلوا المشركين يقتضي الاستيعاب، ولكن اقتضاؤه للاستيعاب اقتضاء الظواهر، ويحتمل أن يكون القائل: اقتلوا المشركين أراد الحربيين دون المعاهدين، فيحسن أن يقال له: هل تقتل المعاهدين أم لا؟ وكذلك دلالة النطق على أن ما عداه بخلافه إنما حسن الاستفهام فيه لأجل ما يقع في النفس من إمكان أن يكون المتكلم اقتصر على ما اقتصر عليه من الصفة المذكورة (ص 147) لغرض صحيح غير إشعاره بأن المسكوت عنه في الحكم بخلاف المنطوق به، فلهذا حسن الاستفهام. وأجابوا عن الطريقة الثالثة بأن هذه الأمور إنما تدل عند تجريدها عن القرائن التي تنقلها عن أصلها، ولهذا قال الجمهور: إن صيغة القول: افعل، تدل على الوجوب عند

التعري عن القرائن، فأما عند وجود القرائن فإنها تنقلها عن أصلها، وكذلك قالوا في العموم، فكذلك دليل الخطاب إنما نثبته عند الاقتصار على ذكر إحدى الصفتين. فأما إذا لم يتعر الخطاب من إضافة ذكر الصفة الأخرى، فإنه لا يدل بالتعري من القرينة الناقلة عن الأصول [على إحداهما دون الأخرى] وهذه طريقة معروفة عند أهل الفن. وكذلك يقولون في العموم إنما يدل على الاستيعاب عند التعري من المخصص، ألا تراه إذا قال: اقتلوا المشركين إلا الرهبان، لكان ما أضاف إلى هذا الكلام من الاستثناء مجرد اللفظ، إلا نزل عن الدلالة على الاستيعاب، فكذلك إذا قال: من قتل الصيد متعمدا فعليه جزاؤه، ومن قتله مخطئا فعليه جزاؤه كان ما ذكره في المخطئ مقترنا بذكره للعامد يبطل دلالة الاقتصار على العامد، وهذا واضح. وأجابوا عن الطريقة الرابعة بأن النطق لا تجوز فيه فيما اقتضاه من التصريح، ولكن التلويح لم يجز فيه على الأصل إذا قام الدليل على أن المسكوت عنه بخلافه، وهذا يتنزل منزلة تخصيص العموم في نقله بالتخصيص عن الأصل. وقد تكلمنا على حقيقة المجاز والحقيقة فيه هنالك. وأما المثبتون لدليل الخطاب فلهم أيضا أربعة مسالك: - أحدها: الاستناد إلى النقل عن اللغة، فقالوا: أبو عبيدة ذهب إلى دلل الخطاب لأنه استدل في الرد على من قال: معنى قوله عليه السلام: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير من أن يمتلئ شعر" أن هذا في الأشعار التي هجي بها النبي عليه السلام، فقال: ما هجي النبي عليه السلام به يحرم قليله وكثيرة، والحديث ذكر فيه امتلاء الجوف، فدل على أن القليل بخلافه، وإنما تأويل الحديث فيمن تفرغ لحفظ الشعر فراغا شغله عن العلوم المأمور بها، وكذلك استدل على أن المديان الفقير لا يحبس بقوله عليه السلام في الواحد يحل عرضه وعقوبته، فدل على أن غير الواجد لا تحل عقوبته. والشافعي صار إلى القول بدليل الخطاب، وهو من أئمة اللغة، وقد صحح عليه الأصمعي أشعار الهذليين. والطريقة الثانية ما نقل من الأخبار الدالة على إثباته، كما نقل عنه عليه السلام لما نزل

عليه: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة) فقال: لأزيدن على السبعين، وهذا يقضتي أنا ما زاد على السبعين بخلاف حكمها عنده في وضع اللسان، وهكذا قال يعلي بن أمية لعمر بن الخطاب في قصر المسافر الآمن، مع كونه القصر مشروطا في القرآن بالخفو، قال تعالى: (أن تقصروا من الصلاة إن خفتم) فقال له عمر: تعجبت مما تعجبت منه: فسالت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته"، فقد فهم يعلي أن اشتراط الخوف في القرآن يشعر بأن الأمن بخلافه، وأخبره عمر أن رأيه كرأيه، وآكد من هذا إقرار النبي عليه السلام على هذا الاعتقاد ولم ينكره، بل أبان عن سبب القصر مع الأمن، ولو كان اعتقاده من أن المسكوت عنه بخلاف المنطوق به لأنكره. والمسلك الثالث التعلق بالآثار عن السلف، فمن ذلك أن ابن عباس قال لعثمان رضي الله عنهما: كيف تحجب الأم إلى السدس بأخوين، وهما ليسا بإخوة؟ فقال له عثمان: إن قومك حجبوها [باثنين يا صبي]، وابن عباس إنما تعلق بدليل الخطاب، وهو أن الإخوة إذا قيل: إثنان، فإنهم يردونها إلى السدس، دل على أن من ليس بإخوة بخلافهم، ولم ينكر عليه عثمان هذا الاستدلال. وكذلك صنع ابن عباس في حجب الأخت الشقيقة أو من الأب عن التوريث مع البنت بقوله تعالى: (إن امرؤا هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك)، فدل على أنه إذا كان للمرء ولد فإن الأخت لا ترث، فهذا منقول كما ترى. وقد احتج بعض الصحابة بقوله عليه السلام: "الماء من الماء"، والحجة من هذا من ناحية دليل الخطاب، وسلم الآخرون الحجة، واعتذروا بأن هذا منسوخ بقوله عليه السلام: "إذا جاوز الختان الختان" الحديث. والمستقرأ عنهم يكثر، ألا تراهم يتمسكون في الفقهيات بدليل الخطاب، ولهذا كانت المطلقة قبل البناء يسقط نصف صداقها، وليس إلا قوله تعالى: (فنصف ما فرضتم)، ففهموا أن النصف الآخر ساقط.

وهكذا فهموا تحريم ما زاد على نكاح الأربع من قوله تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) دليل الخطاب ألا تنكحوا الخامسة فما زاد على غير ذلك مما يكثر تعداده. والجواب عن جميعه واحد، فلهذا لم نستقصه. والطريق الرابعة ما عول عليه الشافعي من أن العاقل الحكيم يحرر ألفاظه، ويقصد إليها، وإذا قصد فلابد من غرض، وإذا كان الغرض فلا يكون إلا صحيحا، ولا غرض صحيح في الشرعيات إلا تعليق الأحكام بها وبيان حقائقها، فإذا قال عليه السلام: "في سائمة الغنم الزكاة"، فذكر السائمة لا يعد لغوا غير مقصود إليه، ولابد أن يكون قصد إليه لغرض صحيح، ولا غرض إلا التنبيه على أن المعلوفة لا زكاة فيها. وأجاب الآخرون عن هذه الأربع مسالك فقالوا: أما الخبران فلا دليل فيهما، لأن ذلك من أخبار الآحاد، ومسائل القطع لا يعول فيها على أخبار الآخاد، على أن ما روي من أنه صلى الله عليه وسلم [قال]: "لأزيدن على السبعين" لم يثبت عند أهل الصحيح، وأشار القاضي ابن الطيب إلى أنه مؤتفك، لأنه قال: لا يخفى عن عربي، ولا من شدا طرفا من اللسان أن مثل هذه الخطاب إنما يرد مورد قطع الطمع من الغفران لهم، وأن ذكر السبعين مبالغة في قطع الطمع، ولا يظن بأحد من أهل اللسان سمع هذا أنه يفهم منه أن قصد المتكلم أن ما زاد على السبعين يخالفها، والنبي عليه السلام أفصح العرب، وأعلمهم بما يفهم عن الله سبحانه من كلامه، فلا يصح أن يضاف إليه أنه فهم من اللسان خلف ما يفهم منه. وقد قيل: إن الاستغفار لم يكن عليه حراما، بل خير فيه، فإنما أشار إن ثبت الحديث إلى أنه باق على الاستغفار لأجل التخيير فيه، وأنه يزيد على العدد المبالغ بذكره، والاعتماد على ما قدمناه من الجواب أولا. وأما حديث عمر رضي الله عنه في قصر المسافر الآمن، فيمكن أيضا لما رأى أن أصل الصلاة الذي استقر الشرع عليه الإتمام، وإنما جاء الشرع بالخروج عن الأصل في سفر الخوف، فيجب أن يكون سفر الآمن باقيا على الأصل، فلما رآه لم يبق على الأصل تعجب من هذا حتى سأل عنه النبي عليه السلام، فقال له ما قال. وإذا احتمل أن يكون تعجبه من مخالفة حكم الأصل، أو من مخالفة دليل الخطاب، فليس أحد الاحتمالين أولى من صاحبه. وأيضًا فإن هذا تعليق بالشرط، وجماعة من منكري دليل الخطاب تثبت المفهوم في الشرط.

وأجابوا عن الآثار المروية الصحابة رضي الله عنهم بأن ابن عباس إنما استمسك بإثبات الثلث للأم مع الأخوين بمجرد قولن: (لأمك الثلث)، فلا ينقص من هذا إلا بوجود إخوة، الإخوة ثلاثة، ويستمسك بدليل الخطاب. وكذلك صنع في إسقاط ميراث الأخت مع البنت، لأجل أن الأصل: لا ميراث لأحد إلا بأن يثبت الشرع له ميراثا، والأخت إنما أثبت الشرع لها الميراث بشرط عدم الولد، فإذا عدم الولد تعين ميراثها، رجوعها إلى الأصل الذي قررناه، لا إلى دليل الخطاب. هذا وفي الآية كلام يطول قد ذكرناه في الفرائض من كتابنا المترجم بالمعلم. وأما تعلق بعض الصحابة في إسقاط الغسل عن المجامع ولم ينزل بقوله: "الماء من الماء" بدليل الخطاب لأن له ماء من غير الماء، فقد قيل فيه: إنه روي "إنما الماء من الماء" وهذا لفظ الحصر، وطائفة من منكري دليل الخطاب يثبته في مثل هذا اللفظ، فقد كان عندهم معلوم أن لا غسل في مجاوزة الختان الختان، وقد خرج البخاري وغيره حديث: "لعلنا أقحطناك" الحديث المشهور، وفيه أنه عليه السلام أسقط عنه الغسل إذا لم ينزل، وفي البخاري أيضًا عن عثمان بن عفان عن النبي عليه السلام مثل هذا المعنى أيضا. فلعل القوم إنما أشاروا بالنسخ إلى مثل هذه الأحاديث لا إلى حديث "الماء من الماء". ويمكن أن يكون أيضا رأوا هذا من ألفاظ الحصر على ما سننبه عليه بعد هذا إذا تكلمنا على قوله: "الشفعة فيما لم يقسم". وأما ما استقرأوه استقراء من تفاويهم ومذاهبهم، فالجواب العام لجميعه على (ص 149) كثرة ما يوردونه منها أنهم لم يتمسكوا بدليل الخطاب، لكن بأصول تقررت عندهم في الأحكام فرجعوا (...) فقدان الشروط والصفات المخصصة بالذكر. ولولا تخوف الإطالة لأوردنا كل ما أورده، وأرينا في كل مسألة لهم طريقا أو طرقا في الاستدلال خارجة عن النطق بدليل الخطاب، ولكن هذا يتطلع عليه من كتب الفقه المصنفة في مسائل الخلاف. وأما الطريقة الرابعة وهي التمسك بأن صاحب الشرع لا يليق أن ينطق إلا عن قصد، وإذا ثبت القصد فلابد من غرض، وإذا ثبت الغرض فلا يكون إلا تأسيس الشرع وتعليم والأحكام، فإن أبا المعالي جنح إلى تسليم هذا الاستدلال، واشترط فيه ما سنذكره عنه.

وأجاب غيره من منكري دليل الخطاب بأن الغرض والفائدة ثابتة، ولكن أنى لنا بتعينها؟ حتى زعم أن لا غرض سوى التنبيه على أن المسكوت عنه بخلاف حكم المنطوق به، وقد يكون الغرض الاهتمام بالصفة المخصصة حتى لا يحاول الفقيه إسقاط الحكم المرتبط بها بقياس ولا يضرب من التأويل. أو يكون ذكرها اتباعا للمعروف المألوف فيها على ما سنبينه، ولأن السؤال عنها وقع كما تأول قوم أنكروا التحديد بالقلتين في نجاسة الماء، والتحديد بما زاد على المصتين في تحريم الرضاع، بأن الحديثين خرجا على سؤال سائل عن قلتين فقال عليه السلام: "إذا بلغ الماء قلتين ... "، وسأل آخر عن التحريم بالمصتين فقال: "لا تحرم المصة والمصتان"، إلى غير ذلك من الأغراض والمقاصد التي لا تكاد أن يحاط بها، ولا يلزمنا تعيينها. هذا، والشرع لم يستوف النص على كل النوازل، بل ذكر شيئا ووكل للعلماء إلى الاستنباط منه، كما فعل في النص على تحريم التفاضل في النسيئة، وفي الممكن أن يورد لفظا مستوعبا لجميع الربويات حتى لا يتصور فيها اختلاف بين العلماء، ولكنه لم يفعل توسعة على الأمة بالاجتهاد في المسكوت عنه، وليرفع الله درجة الذين أوتوا العلم بالاستنباط من كلامه في الأمور الدالة على مراداته وأحكامه، فقد يجري التخصيص بالصفة هذا المجرى، ويقصد فيه هذا المعنى. ولما أحس أبو المعالي بما على الاستدلال من هذه الاعتراضات التي أوردناها اشترط في كون الصفة مشعرة بأن ما عداها بخلافها، أن تكون الصفة مخيلة بالحكم مناسبة له مناسبة التعاليل للأحكام، فحينئذ يدل مقتضى اللسان على أن ما عدا المذكور بخلافه، لأن التعليل يقتضي الارتباط، ولكن لا يعطي هذا التعليل المقرر في هذه الصفة أحكام التعليل بالعلل المستنبطة الشرعية، فإن العلل الشرعية لا توجب انتفاء الحكم عند انتفائها، بل يجوز أن يثبت الحكم عند انتفائها بعلة أخرى، على ما سنبسطه في كتاب القياس إن شاء الله، ولكن هذه الصفة المنطوق بها إذا قدرناها مخيلة مشعرة بالحكم فإنا إنما أوجبنا انعكاسها، وأن يبقى الحكم عند انتفاء الصفة، لكون هذا وضع اللسان ومقتضاه في مثل هذه الحال، وما كان من مقتضيات اللسان بخلاف العلل المستنبطة، والتقدير في مثل هذا أن صاحب الشرع قال: هذا الحكم يحصل عند حصول هذه الصفة وينتفي عند انتفائها. وإنما استدللنا بالإخالة والمناسبة على أن هذا معنى قوله ومراده بالتقييد الذي

قدره، فإذا كانت الصفة غير مخيلة ولا مشعرة بما علق عليها من الحكم جرت مجرى اسم اللقب في تعليق الأحكام عليه، فإن اسم اللقب قد قال الدقاق وابن خويز منداد من أصحابنا: إنه يجري مجرى تعليق الحكم بالصفة في أن ما عداه بخلافه، وأفرط الناس في إنكار هذا المذهب. وسلم أبو المعالي أن الاختصاص بالاسم اللقب لا يكون إلا لغرض، ولكن ذلك الغرض لا يوقف عليه، ولا يعين بل يعتقد غرض مبهم في حق من نقل إليه هذا الكلام المخصص باللقب. وأما من شاهد الكلام فإنه قد يستشعر قصد المتكلم بالتخصيص إذا رأى جماعة فيهم زيد، فقال: رأيت زيدا، وخصه دون من رآه لعلة فطن بها من شاهده وسمع كلامه، وعرف أغراضه، حتى لو أراد نفي ما علق باللقب عما سواه لكانت العبارة عنه بصيغة أخرى، فيقول: لم أر إلا زيدا، وإنما رأيت زيدا فمن مثل هذه (ص 150) العبارة يفهم انتفاء الرؤية عن غير زيد، وأما قوله: رأيت زيدا، فإنه إنما يفيد غرضا ما في تعليق رؤيته بزيد دون غيره من الناس، ولا يكون من جملة هذه الأغراض المبهمة قصده إلى نفي الرؤية عن غير زيد لأجل ما ذكرناه، إن العبارة عن نفي رؤيته لغير زيد إنما يكون بما صورناه من قولك: ما رأيت إلى زيدا، وإنما [رأيت] زيدا، ولا يقول: من أراد أن يخبر عن نفسه بأنه لم ير أحدا إلا زيدا، رأيت زيدا. والصفة إذا لم تكن مخيلة جرت مجرى الاسم العلم في هذا الذي قلناه، فلا يتعين الغرض فيها أيضا بأن يعتبر أن قصد المتكلم نفي حكمها عما عداها، حتى إذا كانت مشعرة مخيلة تعينت الإفادة، ودلت الإخالة على أن قصد المتكلم تعليق الحكم بها، ونفيه عما سواها، وجرت مجرى التعليل. ولكنا لا نشترط في التعاليل المستنبطة الانعكاس كما قررناه، ولا يقدح في هذه الصفة المنطوق بها الجارية مجرى التعليل بمعنى مستنبط مخيل بما يقدح به في العلل المستنبطة، لأن هذه كلفظ أصله صاحب الشرع في الأحكام فيتصرف فيه كما شاء، بخلاف ما نظنه نحن ونستنبطه، فإن القوادح إذا تطرقت إليه أشعرت بتخطئتنا فيما استنبطناه، والذي يتفق من صاحب الشرع من التخصيص بالصفات من هذا النوع المفيد المخيل. وأما ما لا إخالة فيه ولا إشعار بالحكم ولا فائدة لذكره في تأصيل الأحكام وبنائها، فلم يقع في الشرع. ولو قال قائل: زيد إذا مشى حرك رجليه، وإن أكل حرك فكيه، لعد هذا التخصيص بزيد من الهزء واللعب، لأن غيره مثله في هذا، حتى إذا أضاف إليه معنى خالف به من سواه، كان هذا معنى مفيدا، وهو التمثيل بما يعمل عليه القائلون بإثبات دليل

الخطاب، وأن ذكر الصفة لم ترد في الشرع إلا للإشعار بأن ما عداها في الحكم بخلافها، ولكن أطلق هؤلاء هذا الجواب في الصفة لعلة ما ذكرناه. وقيد أبو المعالي بالإخالة، وأشار إلى أنه لا يقع في الشرع من ذكر الصفات ما لا يفيد فائدة، وأشار أبو المعالي إلى أن هذه الصفة إن كانت مخيلة مشعرة بالحكم فإنها أدل على نفي الحكم عما سواها من الشرط، ومن قال: أنا أكرم زيدا لأجل زيارته لي، كان أدل على ارتباط إكرام زيد بالزيارة، من قوله: من زارني أكرمته. وقد ذكر أيضا أن منكري دليل الخطاب في الشروط أسرفوا وأفرطوا، ومن العناد والمكابرة أن يقال: إذا قال القائل: من أكرمني أكرمته، فإن هذا لا يفهم منه أنه لا يكرم من لم يكرمه، ومن زعم أن الشرط لم يعلق إجراؤه به، فقد أفسد حقيقة اللسان وعاند في مقتضاه. وهذا الذي تمثل به أبو المعالي يلحق بالقسم الذي ذكرناه مما فيه إخالة وإشعار بالحكم يحسن معه ارتباط الصفة بالحكم وانتفاؤه مع انتفائها، لأن الإكرام يتخيل باقتضاء الإكرام، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان. لكن لو فرضنا هذا فيما لا إخالة فيه، فإنه لا يظهر الأمر فيه ظهوره فيما تمثل به أبو المعالي، فلو قال: اضرب زيدا إن وجدته بمكان كذا، فإن هذا قد يحسن الاستفهام فيه بأن يقال: أأضربه إن وجدته بغير ذلك المكان؟ لأن هذا إن لم يعرف فيه علة مختصة بالمكان خرج عن المعنى المخيل. وهذا الذي قيده أبو المعالي في اشتراط الإخالة في الصفة، وإن كان أطلقها من سواه، وقد أشار إليه بعض [ما] تقدم، وذلك أنا قدمنا أن مِن عُمَدِ القائلين بدليل الخطاب أن اختصاص الصفة بالذكر إذا لم يفد أن ما عداها بخلافها كان ذكرها لغوا، ولا يليق اللغو بكلام النبي عليه السلام. وناقضهم جماعة من الأصوليين في هذا الاستدلال بأنهم يلزمهم عليه مذهب الدقاق وابن خويز منداد في أن التخصيص بالاسم العلم يدل على أن ما عداه بخلافه، وإذا صح أن لا دليل له في المسكوت عنه مع اختصاصه بالذكر صح ذلك في الصفة مع اختصاصها بالذكر. وأشار أبو المعالي إلى صحة الإلزام، وذكر القاضي أبو محمد عبد الوهاب أن الفرق بينهما أن الاسم العلم لا يصلح أن يعلل به، والصفات والمعاني يعلل بها، فإذا صلحت تعليلا كانت على المسكوت عنه دليلا. فأنت ترى القاضي أبو محمد عبد الوهاب كيف أشار إلى طريق التعليل الذي

فصل [في إشكال]

(ص 151) سلكه أبو المعالي واشترطه، ولكنه لم يقيد الصفة بإحالة، لأن رأية ورأي غيره في العلل المستنبطة (...) رأي أبي المعالي على ما سنذكره في كتاب القياس إن شاء الله، ونتكلم هناك عن التعليل بأسامي الأعلام، وعلى ما يصلح أن يعلل به من الصفات. وهكذا قال من تقدم: إن الاسم المشتق إذا علق به حكم، دل على أن معنى الاشتقاق هو علة الحكم، كقوله تعالى: (والسارق والسارقة)، و (الزانية والزاني)، فإن هذه أسماء مشتقة من الزنا والسرقة، والزنا والسرقة علة هذه الحدود. وذكر أبو المعالي أن هذا إنما يتصور في الزنا والسرقة، لكون هاتين الصفتين مخيلتين بالحكم الذي علق بهما، وأشار إلى الكلام على قوله عليه السلام: "لا تبيعوا الطعام بالطعام" الحديث، وأحال بسط القول فيه على كتاب المترجم بالأساليب، وهذا الكتاب الذي أشرنا إليه ذكر فيه عن قوم أن الطعم علة في الربا، وهي مخيلة، لكون الطعم به طعام الأبدان، وبسط ما في هذا القول بما لعلنا نحن نبسطه إذا وصلنا إليه فيما نمليه في الفقيهيات إن شاء الله. فصل [في إشكال] واعلم أنه قد يقع في هذا الباب ما يشكل، وقد أشرنا إليه، ومن ذلك حرف الغاية، فإن نفاة دليل الخطاب جمهورهم على تسليم دلالة اللفظ على أن ما بعد الغاية بخلافها كقوله تعالى: (ولا تقربوهن حتى يطهرن)، وكقوله تعالى: (حتى يعطوا الجزية عن يدٍ)، كقول القائل: اضرب زيدا حتى يتوب، فإن التوبة غاية للضرب، وغاية الشيء نهايته، فلو كان يضرب بعد التوبة لبطل كون التوبة غاية. وقد عرف أن "حتى" هاهنا حرف غاية، فاقتضى هذا أن ما بعد الغاية يخالف ما قبلها، وإلى هذا رجع القاضي ابن الطيب، بعد أن كان يقول خلافه. وهكذا حرف الحصر وهو قوله: (إنما إلهكم الله)، وكقوله: "إنما الولاء لمن أعتق"، فتردد قول القاضي ابن الطيب في ذلك، ومال إلى أن الأظهر حصر الأمر على

المذكور، وأن ما ذكر بخلاف ما لم يذكر. وهذا قد تقدمت الإشارة إليه. ولكن أبا المعالي ذكر هاهنا مصير أصحاب أبي حنيفة إلى أن قوله عليه السلام: "الشفعة فيما لم يقسم" جار مجري تعليق الحكم بالصفة أو غيرها من أقسام دليل الخطاب المختلف فيها، ومذهبهم إنكار دليل الخطاب على الجملة، فنفي الشفعة فيما لم يقسم على رأيهم لا يدل عليه هذا الحديث، لذهابهم إلى إنكار دليل الخطاب. ورأى أبو المعالي أن هذا غلط، وأن هذا اللفظ من ألفاظ الحصر، والألف واللام في قوله "الشفعة" للجنس، فحصر جنس الشفعة في غير المقسوم، فخرج هذا اللفظ بهذا عن تلك الأقسام المختلف فيها التي أشار أبو حنيفة إليها. وكذا رأى قوله عليه السلام: "تحريم الصلاة التكبير، وتحليلها التسليم"، من ألفاظ الحصر، وهذا اللفظ عندي يقتضي ألا تحريم إلا بالتكبير، كما لا تحليل إلا بالتسليم، وليس ذلك من ناحية دليل الخطاب المختلف فيه كما ظنه أصحاب أبي حنيفة الذاهبون إلى أن نفى التحريم بغير التكبير إنما يتلقى من دليل الخطاب، ورأوا أن قوله: "تحريم الصلاة التكبير" دليله أن غير التكبير لا يكون تحريما، وهم ينكرون دليل الخطاب، ولأجل إنكارهم إياه، قالوا: إن المصلي يدخل الصلاة بغير التكبير كالقول: الله أعظم، الله أجل، كما يخرج منها بغير التسليم. وأنكر أبو المعالي هذا، ورأى أن مثل هذا اللفظ إنما يستعمل في اللسان لحصر التحريم على التكبير، وهذا عنده مشهور عند أهل اللسان لا ينكره أحد. وعلى هذا اعتمد في الرد عليهم، بعد أن أشار إلى اقتضاب معنى من معاني الحال كالمؤكد لما قال، وإن لم يكن عنده بمجرده مما يعول عليه، فقال: إن العرب من كلامها المبتدأ والخبر، فمن حق المبتدأ أن يكون معرفة حتى يحصل في نفس السامع معنى معروف، فإذا حصل ذلك في نفسه يبني عليه أمر مجهول عنده يفيده سماعه. وأما لو كانا معرفتين لم يلتمس فائدة لم تكن عنده، ولو كانا نكرتين لم يستفد أيضا لكونهما مجهولين، وإنما يحصل الاستفادة بالرتبة التي قلناها، فتقول: زيد قائم، فزيد قد عرفه السامع، وجهل حاله؛ هل هو قائم أو قاعد، فإذا قلت: قائم، وهذا اسم نكرة أفدت السامع له ما عليه زيد من الحال، هذا أصل الوضع، فإذا قلت: قائم، وهذا اسم نكرة أفدت السامع له ما عليه زيد من الحال، هذا أصل الوضع، فإذا قال القائل: زيد صديقي، فقد وضع الكلام على رتبته (...) بمعرفة معلومة عند السامع، وأخبر عنها بصداقة قدر أن السامع (ص 152) حاول بها.

فإذا قلب هذا الوضع والترتيب فقال: صديقي زيد، لم يقبله إلا لغرض، ولا غرض فيه إلا حصر الصداقة على زيد، حتى يصير بحرصها كالمعرفة التي حسنت البداية بها، فيستفيد السامع من هذا الكلام معنى لم يكن عنده، وهو [أن] المتكلم لا صديق له إلا زيد، فإذا قال: زيد صديقي لم يستفد منه ألا صديق له إلا زيد، كما استفيد ذلك من قلب هذا الترتيب. وقد رأيت القاضي أبا محمد عبد الوهاب سلك مسلكه هذا، ورأى أن قوله: "الشفعة فيما لم يقسم" يلحق بالمفهوم الذي لا يجب التنازع فيه، واعتل بأن اللفظ يفيد أن الشفعة محلها ما لم يقسم، وهي مقصورة عليه. وكذلك على رأيه الحديث الآخر، وهو قوله: "تحريم الصلاة التكبير". وإذا نجز الأول في دليل الخطاب، وعبارته، وأقسامه، والمذاهب فيه، وأدلته، فلنذكر طبقته عند القائلين به في الدلالة. فاعلم أن الغالب على مفهوم الموافقة البالغ أعلى مراتبه أن يكون نصا لا احتمال فيه، والصنف الذي يعرض فيه الاحتمال حتى يكون كالظواهر نادر فيه. والذي لا احتمال فيه كقوله تعالى: (ولا تظلمون فتيلا) فلا احتمال فيه في هذا الكلام، لكون الكثير لا يظلمون فيه. والذي يحل محل الظاهر كقوله تعالى: (ومن قتل مؤمنا فتحرير رقة مؤمنة)، فقد قيل: إن القتل عمدا يوجب الكفارة من باب أولى وأحرى، لأن الكفارة تمحيص الذنب، فإذا وجبت في المخطئ [الذي] لا ذنب عليه، فالعامد الذي عظم ذنبه أحرى وأولى باحتياجه إليها. وأما مفهوم الخطاب الذي هو بعكس النطق، فالغالب فيه أنه لا يدل دلالة الظواهر، ويتنزل منزلة العموم الذي قد يستعمل مستوعبا لكل ما اشتمل عليه اللفظ، وقد يستعمل غير مشتمل على جميع مسمياته، لكن الأظهر من الاستعمالين الشمول والاستيعاب، وقد تقدم هذا. فإذا تنزل منزلة العموم فقد ذكرنا أن هذه الدلالة على الاستيعاب التي هي الظاهر من حكم اللفظ العام، بترك الأدلة والقرائن المقترنة، وكذلك دليل الخطاب يستعمل أيضاً

مشعرًا نطقه بأن ما عدا المذكور بخلافه، وتكون هذه الدلالة على ما لم ينطق به كأنها بعض متضمنات اللفظ، وكأن اللفظ له متضمنان، أحدهما من جهة نطقه، والآخر من جهة ما يشعر به فيما لم يذكر فيه، فيصير ما أشعر به مما لم يذكر كبعض مسميات العموم، وهذا البعض المشعر به غير مستقل بنفسه، ولا هو كجملة منفردة، أو بعض جملة مستقلة بذاتها، وإنما من ضمن النطق، فيصح الخروج عنه بدلالة أيضا، كما يصح تخصيص العموم بدلالة. وقد رأى الشافعي أن أحد الأدلة التي يسقط بها دليل الخطاب اطراد عادة يكون الناطق توخاها، وقصد مطابقة النطق لها، ولم يقصد إشعار النطق بأن ما عداه بخلافه، فإذا علم أن المتكلم قصد بالتخصيص مطابقة العادة فلا شك أن التخصيص لا يدل على أن ما عداه بخلافه. وكذلك لو ترددنا في قصده وجوزنا أن يكون قصد بالتخصيص الإشعار بأن ما عدا المذكور بخلافه، أو قصد به مطابقة العادة للحق دليل الخطاب بالمجملات التي يستدل بها لأجل ما دخله من الاحتمال. وساق أمثلة وقعت في الشرع وقع التخصيص فيها بحكم مطابقة العرف لا بحكم الإشعار بأن ما عدا المذكور بخلافه، فذكر منها قوله تعالى: (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان)، ومعلوم أن العرف باستشهاد الرجال دون النساء، لكون النساء يعسر استشهادهن وتكشفهن للقضاة وغيرهم في أداء الشهادة، فحمل قوله: (فإن لم يكونا رجلين) على مطابقة العرف المعتاد في الاستشهاد، وكقوله تعالى: (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم)، وقوله عليه السلام: (المسافر وماله على قلت إلا ما وقى الله"، فالخطاب إنما جرى على مطابقة العرف والغالب في أحوال السفر، فلم يكن للتقييد مفهوم. وكذلك قوله تعالى: (فإن ختم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليكم فيما افتدت به)، إنما قيد بالخوف لأن العادة أن المرأة لا تبذل مالها عوضا عن فراق الزوج وهما متحابان، وإنما تبذله إذا وقع القلى والتنافر، الذي يخاف معه ألا يقيما حدود الله، فاشتراط الخوف هاهنا جرى على مطابقة العرف، لا على القصد إلى أن يشعر النطق على أن ما عداه بخلافه، حتى يحرم على الزوجة المفاداة الخوف والمقة. وهكذا أيضا حمل قوله عليه السلام (ص 153): "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها

فنكاحها باطل" على أنه لم يقصد بهذا الإشعار على أن ما عدا إذنه بخلافه، فتكون المرأة إذا عقدت على نفسها النكاح بمجرد إذن الولي لها في ذلك من غير أن يعقد عليها، يصح عقدها ونكاحها، كما قال أبو ثور ومحمد بن الحسن، لأن القصد هاهنا بهذا اللفظ مطابقة العرف الجاري، فإن المرأة التي معها أدنى خفر، واقل مسكة من الحياء لا تتبرج للرجال فتعقد على نفسها نكاحها منهم، فجرى النطق على حكم المتابعة لهذه العادة والإخبار بأن عقدها على نفسها باطل، دون الإشعار بأن الولي إذا أذن لها جاز أن تعقد على نفسها. وهذا الذي ذكره الشافعي من الأمثلة أشار غيره فيه إلى أمثله أخرى يكثر تعدادها، قوله تعالى: (وربائبكم اللاتي في حجوركم)، فإن الربيبة تحرم وإن لم تكن في الحجر، وإنما اشترط الحجر جريا على المعتاد المعروف في كون الربائب في حجور أزواج أمهاتهن. وهكذا قوله تعالى: (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا فرهان مقبوضة)، فإن السفر إنما قيد به لأن الكاتب إنما يعدم غالبا في السفر لا في الحضر، فجرى التقييد على حكم المتابعة للعرف، لا على قصد الإشعار بأن الرهن في الحضر لا يحل كما قاله مجاهد، وأن نكاح الربيبة التي ليست في الحجر تحل كما قاله أهل الظاهر. وخالف أبو المعالي طريقة الشافعي في هذا، ورأى أن دليل الخطاب لم يثبت بمجرد التخصيص بالذكر، إذ لو كان هذا من العلة للزم ذلك في الأسماء الأعلام، كما قاله الدقاق، ولكن إنما دل على ذلك بما في الكلام من الإشعار على حسب مقتضى حقائقه من كونه شرطا، ومن حق الشرط تعليقه جوابه به، إلى غير ذلك مما تقدمت الإشارة إلى علله. وإن كان هذا هكذا لم يصح إسقاط مقتضى اللفظ باحتمال يؤول إلى العرف، فإذا لم يعلم قصد المخاطب إلى إسقاط دليل الخطاب لم يصح ما دل عليه الخطاب بالتجويز والاحتمال، واستشهد في هذا بأن عمر رضي الله عنه لم ينكر على تعلقه بدليل الخطاب في قصر المسافر على ما تقدم. وقد أشار الشافعي إلى عده مما يسقط لأجل العرف كما تقدم. وأشار أبو المعالي أيضا إلى نظر عنده فيما قاله الشافعي في حديث نكاح المرأة بغير إذن وليها، وذهابه إلى إسقاط المفهوم منه، ولكنه سلم أن دليل الخطاب إذا عرض فيه

فصل في أحكام أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم

إمكان توخي مطابقة العرف بالتخصيص، فإن المستدل على سقوط هذا المفهوم، ويسامح في استدلاله ما لا يسامح من حاول إسقاط فمهوم خطاب لم يعرض [فيه] مثل هذا الاحتمال الذي هو توخي مطابقة العرف، ولا يطلب المستدل نفسه في إسقاط مثل هذا الدليل، بما يطلب به نفسه من الأدلة إذا حاول إسقاط دليل خطاب لم يعرض فيه مثل هذا الاحتمال، بل طبقة الدليل الذي يترك به هذا المفهوم يصح أن يتقاصر عن طبقة الدليل الذي يحاول به ترك المفهوم الآخر الذي لا احتمال فيه، وهذا تتضح حقائقه في كتاب التأويلات، عند الإشارة إلى الموازنة بين ما يعرض من التأويلات، وصلى الله على محمد. فصل في أحكام أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وما يقع من الرسول صلى الله عليه وسلم، لا يخلو من أن يكون قولا أو فعلا، فيفتقر الفقيه إلى أن يعلم كيفية اتباعه صلى الله عليه وسلم والاقتداء به في أقواله وأفعال. فعلم فيما مضى في هذا الكتاب كيفية اتباعه في أقواله صلى الله عليه وسلم، وما ذكرنا من الأمر وأحكامه وفصوله كلها المتقدم ذكرها، من حمل مجرد أمره على الوجوب أو الندب، وحمل أمره المطلق على التكرار أو الاتحاد، وحمله على الفور أو التراخي، إلى غير ذلك من أحكام الأوامر، وكذلك أقواله المشتملة على المسميات التي مضى أحكامها أيضا في كتاب العموم، وكل ذلك إنما قدم بيانه ليعرف الفقيه كيف يأخذ الأحكام من أقواله، وكيف يتحرى طرق الاتباع. فلما نجز القول في جميع ذلك، وجب أن يعرف (ص 154) بعده معنى كيفية الاقتداء به في أفعاله. وقد تقرر أن المعصية لا تتبع، ولا يقتدى بفاعلها فيها، ولو وجب في الشرع اتباع العاصي على معصيته لانقلب عن كونها معصية إلى أن تصير طاعة، واستحال السؤال، فإذا تقرر أن المعصية لا يصح الاقتداء بفاعلها ولا تابعه عليها، احتجنا هاهنا أن نقدم فصلا

يشتمل على عصمة الأنبياء صلوات الله عليهم عنها. فليعلم أن النبي من جملة البشر، يجوز عليه ما يجوز عليهم، فإذا قال: إن الله تعالى عصمني من أمر يجوز على البشر، وأقام على صحة ما قال دليلا وهو المعجزة، ارتفع الجواز ووجب القطع على صدقة فيما قال. فأصل هذا الباب أن يجوز على الرسول كل شيء يجوز على البشر، إلا ما ذكر أن لا يجوز عليه، وأقام المعجزة دليلا على صحة ما قال. فقوله: لا يجوز عليَّ كذا وكذا خبر متردد بين الصدق والكذب، فإذا أقام المعجزة تعين في أحد الجائزين وهو الصدق، والمتبع على هذا ما ذكره حين الاستدلال بالمعجزة، فإن قال: إن الله تعالى عصمني أن يقع مني كذب في البلاغ عنه، أو في شيء من الأحاديث التي ليست ببلاغ عن الله سبحانه، وأني لا يقع مني كذب في ذلك، لا سهو ولا عمد، ولا تقع مني معصية أعصي بها الله صغيرة ولا كبيرة، فلو صرح بجميع هذا في التحدي لم يختلف أحد من مثبتي النبوءة أن ما قال حق، ولا يمتري أحد في أنه معصوم عن جميع ذلك، كما لو قيد في استشهاده أحد ما ذكرناه من هذه الأنواع لم يختلف في قصر العصمة على ما ذكرناه، ويبقى ما سواه على التجويز. فجميع مسائل هذا الباب إلى هذا يرجع، فقد علم قطعا أنه إنما يذكر أنه رسول من قبل الله سبحانه، أرسله ليبلغ عنه ما يخاطب به العباد، وأنه صادق في أن الله أرسله ليبلغ ذلك بلاغ صدق وحق، وأنه لا يبلغ عنه تعالى إلا حقا، فلم يختلف المسلمون في عصمة الرسول عن الكذب في هذا النوع قصدا أو عمدا إليه، فأما وقوع خبر من هذا النوع على خلاف ما هو عليه سهوا وغلطا، وعلى بدار اللسان إلى لفظ بغير قصد، فهذا موضع اضطراب. أما أبو إسحاق الإسفراييني فإنه منع ذلك، وأشار إلى منعه من ناحية دلالة المعجزة، ورأى الدلالات العقلية، والدلالة العقلية لا تدل في حال دون حال، ألا ترى أن الإحكام للأفعال يدل على علم المحكم على الإطلاق، ولا يختص بحال دون حال، وكذلك الفعل يدل على الفاعل، ولا يختص ذلك بحال دون حال، فكذلك المعجزة تدل على صدق الرسول دلالة مطلقة، ولا تختص بإحالة كذب عليه دون كذب. وذهب القاضي إلى خلاف هذه الطريقة، ورأى أن المعجزة في معنى الدلالة الوضعية الاصطلاحية والدلالة الوضعية إنما تدل بحسب ما وقع عليه التواضع والاصطلاح، فالرسول إنما استشهد بالمعجزة على أنه لا يتعمد الكذب على الله سبحانه وأظهر الباري سبحانه

المعجزة حينئذ لينبئ عنه تعالى، أنه صدقه فيما قال، فالكذب على جهة غلط اللسان والسهو، والوهم باق على الجواز على حسب ما عهد من الطبية البشرية، فإن وجد وسمع وجاء شرع بعصمة الرسول عن شيء من هذا اتبع في ذلك الشرع المنقول، لا دلالة العقول. وزعم القاضي هاهنا أن الشرع جاء بأنه لا يقع منه غلط ولا سهو فيما يتعلق بعقائد الإيمان، وادعى الإجماع على ذلك. ولم يسلم أبو المعالي الإجماع في هذا بل أبقاه على الأحكام المجوزة، ومتى قيل للقاضي في هذا الإجماع الذي أشار إليه ما تصنع في الحديث المذكور فيه أنه تلا في سورة النجم: "تلا الغرانيق العلى" إلى آخر ما تلا، في ذلك؟ أجاب بأن هذا إذا سلم أمكن أن يكون الشيطان حاكي صوت النبي صلى الله عليه وسلم حين تلاوته محاكاة يتعذر على السامعين تمييزها، وإليها الإشارة بقوله تعالى في آية أخرى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته)، الآية فأشار إلى أن الشيطان يلقي في تلاوة الرسول والنبي إذا تلا، وهذا الحديث منه، وقد جرى الرسم بأن يعبر عن هذا الفصل بأن يقال: هل يجوز على النبي الغلط والسهو فيما طريقه البلاغ عن الله سبحانه؟ وذكر أبو المعالي هذا المعنى فقال: أما ما يتعلق بالتكاليف ففيه اضطراب، فإن أراد بهذه العبارة ما يتعلق بالتبليغ عن الله سبحانه ففيه ما حكيناه (ص 155) ومذهبه تجويزه عقلا، وإن أراد بهذه العبارة جميع القرب الواقعة منه، سواء كانت بلاغا أو غيره، فالمعروف عند [الفقهاء] أن ما يتعلق بالبلاغ فلا يمنع فيه النسيان، وأشار بعضهم إلى منع النسيان على الإطلاق. ولما احتج عليه بما رواه ذو اليدين من "سلامه عليه السلام من اثنتين" الحدث المشهور، أجاب بأنه قد قيل: "إني لا أنسى بل أنسى" الرواية كما وقعت في بعض طرق الحديث، وزعم هؤلاء أنه عليه السلام كان يؤمر بأن يتشبه في مثل هذا بالناسي حتى يعلم أحكام النسيان. وهذا جواب من أفرط في التعس، ولا معنى لله ورب من جواز النسيان عليه في هذا، وإضافة ما هو أبعد منه من أفعال يتخيل منها معاني التدليس والتلبيس، وقد قال في الحديث: "إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني" الحديث. وإذا قلنا بجواز وقوع الغلط والسهو فيما طريقه التبليغ عن الله سبحانه، فإن أصحاب

هذا المذهب يشترطون أن الرسل لا تقر على اغلط، بل ينبهون عليه عن قرب حتى يرجعون إلى البلاغ للحق. وأشار أبو المعالي [إلى] أن اشترط القرب في التنبيه لهم لا يجب، بل يصح تأخير تنبيههم على الغلط ما لم ينقرضوا ويموتوا، فإنه لا يجوز أن يموتوا غير منبهين على ذلك الغلط. هذا جملة ما يتعلق بالكذب والغلط في الأخبار البلاغية عمدا أو سهوا. وأما الأخبار الدنيوية التي لا مستند لها إلى الأحكام، ولا إلى أخبار المعاد، ولا تضاف إلى الله سبحانه، بل هي مما يتفاوض الخلق فيه فيما بينهم، [مثل] خبره عن شخص لقيه، أو طعام أكله، لا يقصد بذلك إثبات حكم وتعليم شرع، فهذا فن آخر، وهو أيضا ينقسم إلى العمد والسهو. فأما العمد فلا شك أن الإكثار من هذا يلحق بالمعاصي الموبقات، ويندرج في جملة الكبائر، وسنتكلم على أحكام الكبائر. وأما الكذبة ونحوها التي لا تؤدي إلى احتقار وازدراء بقائها، وهي مما يلتحق بالمعاصي الصغار، فسنتكلم عليها أيضا في جملة أحكام الصغائر. وأما وقوع الكذب في مثل هذا النوع الذي لا يتعلق ببلاغ ولا إخبار عن الله سبحانه فإن وقوعه سهوا لا شك في جوازه على رأي القاضي، لأجل ما قدمناه من أن القاضي يجيز الكذب سهوا وغلطا في الخبر البلاغي، فكيف بالخبر الدنيوي. وقد كنت تكلمت على هذا السؤال وأنا في سن الحداثة فذهبت فيه إلى المنع، وسئل عن ذلك شيخنا أبو القاسم سليمان الأصولي رحمه الله، فلم يرجع عنه جوابا، وخالفني بعض الأصحاب، وتكلمت معه على السؤالين بين يدي أستاذنا الشيخ الفقيه أبو محمد عبد الحميد رحمه الله، واحتججت عليه بأن هذا إجماع مستقرا، وذلك أنا نعلم أن الصحابة عليه السلام كانوا يبادرون إلى تصديق كل من يقول، والثقة به على الفور، والبدار عند ما يقع منه الإخبار في أي نوع كانت الأخبار، غير متوقفين في شيء من ذلك منها، ولا مترددين في بعضها، ولا ملتفتين إلى [عدمي] تجويز أن يكون منها ما حكى.

وهذا الاستقراء أوضح الاستقراءات، ذكرها العلماء في مسائل حاولوا فيها إثبات الإجماع، هي مسطورة في كتبهم، فهذا الذي كان ظهر لي وأبديته مناظرا في سن الحداثة، ونقض عندي بحديث ذي اليدين، وأجبت بأنه خبر واحد، وبأنه قد تؤول قوله: "كل ذلك لم يكن"، على أن المراد به لم يكن القصد والنسيان معا، وبأن معنى الحديث: لم يكن ذلك في علمي واعتقادي. ولو اشترط هذا نطقا فقال: لم يكن ذلك في اعتقادي، لم يكن كذبا، فكذلك إذا جعلنا هذا الكلام مقدرا مضمرا، فهذا الذي كان جرى مني قديما. وعندي الآن في المسألة نظر يطول استقصاؤه، فهذه جملة القول في الأخبار. وأما أفعال الجوارح فلا شك في تقرر الإجماع على عصمة الأنبياء عن الفواحش والكبائر الموبقات، وإنما اختلف الناس في الطريق التي منها علمت عصمتهم عن هذا، فذهب أهل الاعتزال وقوم من أئمتنا إلى أن ذلك يمتنع عقلا. فأما المعتزلة فأشاروا إلى طريقتهم المعروفة في التحسين والتقبيح العقلي، فقالوا: تجويز الكبائر والفواحش المبوقات كالزنا والسرقة والحرابة، والمتساكن بالمأمور ينقص من الأقدار ويزري بفاعله، وتسقط هيبته من النفوس ويوجب (ص 156) احتراز اعتقاد خساسته، وهذا لا يصح إضافته للرسل لأن فيه تنفيرا عنهم. وأما القاضي فإنه قال: لا طريق إلى العصمة إلا ما قدمناه من دلالة المعجزة، والرسول لم يستدل بها على أنه لا يعصي، فإذا لم تقع المعجزة على العصمة من ذلك بقي الأمر على الجواز، لكن الإجماع انعقد على عصمتهم من الكبائر، فصرنا لذلك من جهة الإجماع عليه. وأما الصغائر فإن هذه العبارة فيها مشاحة، قد ذكرت في كتب الكلام، قيل فيها: إن الشيء يكون صغيرا إذا نسبت إلى مخالفة أمر آخر، والباري سبحانه مخالفته تجب أن تكون كبيرة عظيمة على الإطلاق، لعظيم حقه على المأمورين، وعظيم ما يتخوف من سطوته، ولكن عن تسليم العبارة المتداولة، واشتهار المراد بها، فبين أئمتنا اختلاف في وقوع الصغائر، فمنهم من منعها، ومنهم من أجازها. وجنح المجيزون لها إلى أن وردت في الشرع أخبار تشير إلى أنها قد وقعت من الأنباء، كقوله تعالى: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر)، وتأول الآخرون هذا على أن المراد به ما تقدم وما تأخر مما أحدثه قبل النبوة، أو على أن المراد بهذا الخطاب أمته صلى الله عليه وسلم.

وهكذا يتأولون ما استدل به من الآيات المشيرة إلى هذا كقوله: (وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعًا وأناب* فغفرنا له ذلك)، والمغفرة تقتضي ذنبا، وقوله تعالى في يونس: (إني كنت من الظالمين)، وقوله في آدم: (وعصى* أدم ربه فغوى)، فقالوا: هذا كان قبل نبوة آدم، ألا تراه يقول: (ثم اجتباه ربه)، فاشار إلى أن الاجتباء كان بعد المعصية. وكذلك يسلكون في جميع الظواهر والآي طرق التأويل. وهذا الخلاف في صغيرة واحدة أو ما في معناها، فأما إذا تكررت وكثرت حتى تلحقها كثرتها بالكبائر، فإن الجواب يعود إلى ما قدمناه في الكبائر. وكذلك يجب أن لا يختلف في صغيرة مواقعتها عنوان خساسة النفس، وسوقط المروءة كسرقة حبة بر، وربما كان في المباحات ما يسقط المروءة ويزيل الحرمة، حتى يلحظ مواقعه بغير الخساسة والازدراء، كنحو ما يقع في بعض الممازحة والمداعبة، أو [ما] في معنى ذلك، فهذا أيضا مما يعصم منه الأنبياء، وجرى الرسم بأن يعبر عنه بما عبرنا به. والأمر إذا خرج إلى مثل هذه الحال قد يخرج الشيء عن حكم الإباحة، وهذا يبسط في موضعه. وأما عصمة النبي قبل أن يتنبأ فإنا لا نشترطها، ولكن لم يرد في الأخبار أن الله بعث من كان كفر، والأخبار تدل على أن ذلك لم يقع على ما زعم أهل الأخبار. وأما الفواحش الموبقات فهو أحرى بالتجويز من الكفر، وقد ذهب قوم إلى منعها جريا على ما كنا أشرنا إليه من أن في ذلك تنفيرا عن الرسول، وقد يعير بما تقدم من زلاته، أو يعتقد احتقاره بسببها. وقد قدمنا نحن أن لا نسلم بهذا الأصل، ولا نوجب على الله سبحانه أن يفعل بالرسول كل ما يبعد من النفار عنه، وقد هزم الرسول، وجرح وتولى ذلك الكفار، ولم يعصم من هذا لئلا يحدث منه في بعض النفوس الجاهلية بالله سبحانه نفار. وأما الملائكة فالرسل منهم إلى النبيين حكمهم مع النبيين فيما ذكرناه من العصمة، حكم النبيين المرسلين إلينا معنا، وأما من سواهم من الملائكة فقال قوم: جميعهم معصومون لقوله تعالى: (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون)، هذا خرج مخرج المدح، فوجب حمله على التعميم، ولو كان المراد به: لا يعصون في أمر وحال دون حال،

لكانوا كبني آدم، لا وجه لاختصاصهم بهذا الوجه. وقيل: بل جائز عليهم، وقد تحمل الآية عند هؤلاء على الملائكة المقربين أو من في معناهم، وهذا لا حاجة للفقيه به، فنطنب فيه. وإذ قد نجز القول فيما يعصم منه النبي، وما يجوز عليهم، وما لا يجوز، فلنذكر الآن أحكام الاقتداء بهم في أفعالهم. فاعلم أن قدمنا تقسيم أفعال المكلفين إلى الوجوب والحظر، وغير ذلك مما قدمناه من أقسام الأحكام العامة لجميع المكلفين، فأما قسم المحظور منها فإنه ساقط فيما نحن فيه إذا قلنا بعصمة الأنبياء صلوات الله عليهم من الصغائر والكبائر. وإذا قلنا بجواز وقوع الصغائر منهم، لم يسقط هذا القسم، ولكن أشار أبو المعالي وغيره إلى أنه لا مطمع في إثبات الاقتداء بهم في أفعالهم على القول بتجويز وقوع صغائر المعاصي منهم. وهذا عندي فيه نظر (ص 157) لأن من يجوز وقوع المعاصي الصغيرة منهم، فإنه لا يجوز توالي ذلك وتكرره، على حسب ما قدمنا، وإنما يجوز وقوع الفلتة منهم، فالفعل إذا وقع مطلقا ولم يقارنه ما يدل على أنه معصية، قد يحيله هؤلاء على أنه من قبيل الجائز، لأن الجائز هو الغالب والظاهر. وكل أمر محتمل في الشرعيات، وأحد محتمليه أظهر، فإنه يستعمل في الشرعيات، ويحتج بالظواهر فيها على حسب ما قدمنا في كتاب الأوامر وكتاب العموم، فلست أرى جواب من جوز المعاصي على الرسل ينشط إلى ما أشار إليه أبو المعالي من إسقاط القدرة بالرسل لتجويز أمر نادر، وما عندي أن القوم يستسهلون هذا الإطلاق. وأما ما يجوز كونه معصية إما لإحالة المعاصي عليهم، أو لقرينة نفت المعصية، أو أخذ بالظاهر على ما أشرت أنا إليه، فإنه لا يخلو أن يكون من قبيل الأفعال التي يلحق بما تقتضيه الجبلة والطبيعة كالمنام والقيام والقعود، فإن هذا القسم لم يذكر فيه اختلاف أنهم لا يسوغ اتباعهم فيه، لأنه كالواقع منهم من غير قصد، أو كالموجود فيهم بغير اختيارهم. وأما ما سوى هذا مما يقع عن قصد مبتدأ مجرد ولسبب ما، فإنه لا يخلو من أن يكون قارنه قول على اقتداء الخلقية بالرسل فيه، أو يقع على حالة تجري مجرى ما قرانه القول، أو يكون معرى من ذلك. فأما إذا قارنه قول تضمن الأمر بالاتباع في الفعل كقوله في صلاته صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما

رأيتموني أصلي"، وفي حجه: "خذوا عني مناسككم"، فإن هذا لا شك في أنه قد شرع اتباعه على فعله، ولكن إنما صير إلى هذا لأجل ما قارنه من الأمر بالاتباع، فالمتبع القول، والأفعال كالأعلام على الاتباع. وكذلك إن لم يقارن الفعل قول ولكنه وقع منه موقع البيان لمجمل عند سؤال سائل عنه مست الحاجة إلى بيانه، أو شوهدت قرائن دلت على أنه قصد به البيان والامتثال للأمر، فهذا أيضا قدر شرع لنا اتباعه عليه، على حسب ما تضمنه القول المبين. وأما إن لم يكن من الأفعال التي تجري مجرى الجبلة، ولا من الأفعال الاختيارية التي قارنها قول أو شاهد حال على حسب ما ذكرناه، فلا يخلو أيضا أن يكون أوقعها على وجه التقرب إلى الله سبحانه، أو أوقعها إيقاعها مطلقا لا يظهر فيه قصد التقرب، فإن المصنفين اختلف نقلهم للمذاهب في هذين القسمين. فبعضهم يقيد النقل في الفعل الواقع على جهة القربة خاصة دون ما وقع مطلقا. وبعضهم يجعل القسمين يجريان مجرى واحد في نقل الخلاف فيهما، فقيل في الأفعال الواقعة على هذين القسمين أما قصد القربة، أو الإطلاق أن ذلك محمول على الوجوب، فيلزم الأمة، ويجب عليها أن تفعل كما فعل، حكي ذلك عن مالك، وأشار ابن خويز منداد إلى أنه مذهب مالك، وقال: وجدته في موطئه يستدل بأفعال النبي عليه السلام، كما يستدل بأقواله، وهذا المذهب الذي اختاره ابن خويز، وبه قال قوم من أهل العراق، ومن أصحاب الشافعي. وقال قوم من أصحاب الشافعي، بل نحن مندوبون إلى أن نفعل مثل ما فعل. وقال قوم: بل فعله هذا لا يتضمن أكثر من إباحة الفعل لنا وجوازه منا. وقال آخرون بالوقف في هذا الفعل على حسب ما قتوله الواقفية في صيغ الأوامر، والعموم، وهو مذهب القاضي ابن الطيب، وبه قال أبو بكر الصيرفي من أصحاب الشافعي، واختاره الشيرازي. لكن الشيرازي لما اختار الوقف ذهب إلى أنه متى علم كيفية الحكم الذي أوقع عليه السلام عليه فعله وجب الخروج عن الوقف، وأن يؤمر بالاتباع واجبا، أو ندبا، على حسب ما علمنا أنه وقع الفعل عليه.

وحكي عن الدقائق أنه يتمادى على الوقف، ولو علم كيفية حكم وقوع فعله صلى الله عليه وسلم. وهذا الذي ذكرناه من هذه المذاهب كلها فيما وقع على وجه القربة، أو مطلقا على رأي قوم ألحقوا هذا القسم المطلق بالذي قيدناه يعضد القربة. وأشار أبو المعالي إلى أنه لا يصير إلى وجوب الاتباع في الفعل المطلق إلا ضعفه الفقهاء، وذكر أنه مذهب نسب إلى ابن سريج، وأبعد أن يقول ابن سريج به. وأما لو وقع الفعل مقترنا بما دل على أنه مباح كأفعاله الصادرة منه صلى الله عليه وسلم، المخير بين فعلها وتركها على حد سواء، فإن المشهور عند الأصوليين أن اتباعه عليها لا يجب ولا يستحب. (ص 158) وذهب قوم إلى أنه يستحب لنا فعل مثل ما فعل من أفعاله المباحة. وحكى بعض المصنفين أنه يجب علينا أن نفعل مثل ما فعل في سائر أفعاله حكاية على الإطلاق، وأشار فيها إلى المساواة بين أفعاله المباحة، وما قصد به القربة، هكذا أشار بعض المصنفين في حكاية هذا المذهب عن قوم. والذي اختاره أبو المعالي أن أفعاله الصادرة منه على جهة التقرب تندب، نحن إلى نقل فعلها وأفعاله المطلقة التي لا يقصد بها التقرب تنبئ عن إباحة الفعل لنا من غير ندب إليه، وأفعاله له فيما لا يتعلق بالأحكام التي هي من خصائصه، وميز فيها عليه السلام عن أمته يقف عليها هل شرع لنا اتباعه عليها أم لا؟ فهذه جملة المذاهب في جميع هذه الأقسام. وأما سبب الاختلاف، فليعلم أن القائلين بوجوب اتباعه على أفعاله مختلفون؛ هل يدل على ذلك العقل أو السمع؟ وكذلك [الـ]ـصائرون إلى حمل ذلك على الندب مختلفون أيضا هل دلهم على ذلك العقل أو السمع؟ فأما طريقة من تمسك بالعقل في الوجوب فإنهم يقولون: التكليف له صلى الله عليه وسلم يقتضي كونه مصلحة، ومصلحتنا كمصلته. وأيضا فالذي يفعله حق وصواب، والصواب يجب أن يتبع. وأيضا فلو سامحنا في أن لا نتبع أدى إلى التنفير عنه. وهذا الذي قالوه باطل، أما المصالح فلا نشترطها في التكليف، ولو اشترطناها لاختلف [ذلك] باختلاف الأشخاص، كما اختلف للحائض والطاهر، والمسافر

والحاضر. وكذلك الصواب والحق يختلف باختلاف الأشخاص واختلاف أفعالهم. وأما مراعاة ما ينفر فلا نشترطه في النبوات، ولو اشترطناه لم نسلم كون هذا منفرا، وقد هزم صلى الله عليه وسلم وجرح، ووقع في شرعه النسخ، ولم يمنع ذلك لئلا يقع فيه تنفير، قال تعالى: (وإذا بدلنا أية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر). وكذلك القائلون إن الندب يوجب من طريق العقل، إنما عولوا على ما لا يعول عليه فقالوا: الاتباع مأمور به، والندب منه متيقن، فلا يزاد على اليقين. وأيضا فلو وجب الاتباع لوجب أن يبحث عن باطن أفعاله وظاهرها. وهذا غلط منهم لأصحاب الوجوب بقولون: الأحوط والأخذ بالحزم يقتضي الحكم بالوجوب، ولأن الاتباع أمر به وتجويز تركه لسنا على ثقة منه، فلا يخاطر بالتساهل في الترك. وأما البحث عن أفعاله فإنه إنما يسلك في ذلك المسلك الذي جاء الشرع به، وما لم نعلم من فعله لا حكم علينا [فيه]، وإنما هذا الخلاف فيما حصل معلوما لنا، وتطلب علمنا بأفعاله مسألة أخرى. وأما الراجعون إلى السمع من المذهبين فإنهم يستمسكون بقوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)، ويرون أن قوله: (لكم) ينفي الوجوب، لأنه لو كان واجبا التأسي والاقتداء به لقال بدل "لكم" "عليكم". وأجاب الآخرون عن هذا بأنه قد قال: "لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر ومن يتولى فإن الله هو الغني الحميد)، وهذا تهديد ووعيد يدل على الوجوب. وجوابنا للجميع أن يقابل بعضهم فتتعارض أقوالهم فتسقط. وأيضا فإن التأسي والاقتداء إنما يتعلق إذا اتبعناه على فعله على حسب ما أوقعه عليه، وعلى حسب ما أمرنا باتباعه فيه. وكذلك تعلقوا بقوله تعالى: (وما أتاكم الرسول فخذوه)، وهذا ينازعون في قوله: (فخذوه)، فإنه صيغة الأمر، وقد علم اختلاف الناس في صيغة الأمر المجرد، هل يوقف أم لا؟ مع أن أفعاله ليست مما أتانا [به]. وأيضا فقد قال عطفا على هذا: (وما نهاكم عنه

فانتهوا)، وهذا يشير إلى أن ما قبله أمر، وهو الذي أتانا حتى تصح المقابلة بين الأمر والنهي، ونحن لا نخالف في امتثال أمره. وهكذا تعلقوا بقوله تعالى: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا) الآية. ونحن نقول: قد قيل: أما قوله في هذه الآية: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره)، أن الضمير المذكور في أمره، المراد به الله سبحانه لا رسوله، لأنه أقرب المذكورين، قال تعالى: (يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذًا فليحذر الذين يخالفون عن أمره)، فالمراد أني أعلم ما يخافونه عن رسوله فاحذروني. وجواب آخر وهو أن الأمر هاهنا ليس هو الفعل، إنما يسمى أمرا مجازا، وإلا فحقيقة التسمية إنما تنصرف إلى الأوامر القولية، ونحن لا نخالف في أوامره القولية، إنما نهينا عن مخالفته فيها، ويعضد هذا قوله في صدر (ص 159) الآية: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا)، ودعاؤه ليس من أفعاله المشار إليها، وإنما يراد به ما يأمرنا به وينهانا عنه. وكذلك تعلقوا بقوله: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول)، ونحن نقول: الطاعة موافقة الأمر، لا المتابعة على الفعل. فهذا تعلق القوم من آي القرآن. وأما تعلقهم من الأخبار فإنهم يقولون: إن رجلا أتى أم سلمة فسألها عن قبلة الصائم، فسألت أم سلمة النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال لها: "ألا أخبرتيه أني أقبل وأنا صائم"، وهذا منه صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أن حسب الناس أن يفعلوا ما يفعل في سائر أحواله، ولهذا قال لأم سلمة: "هلا أخبرتيه أني أقبل"، ولو كان اتباعه صلى الله عليه وسلم في أفعاله ساقطا عنا لم يقل لها مثل هذا الكلام. وأيضا روى ابن معاذ أتى النبي عليه السلام، وهو راكع فركع معه، فقال له عليه السلام: "ما حملك على ما صنعت؟ فقال: كرهت أن أجدك على أمر ولا أتبعك عليه.، فقال صلى الله عليه وسلم: سن لكم معاذ سنة فاتبعوها" الحديث كما وقع، وهذا يشير إلى اتباعه صلى الله عليه وسلم في أفعاله. ولما

عدل معاذ عما كانوا عليه من قضاء ما فات، والإمام في الصلاة إلى ما صنع، وعلل بكراهية المخالفة له صلى الله عليه وسلم، اقتضى ذلك وجوب اتباعه في أفعاله. وأيضا فإنه عليه السلام شكا إلى أم سلمة تأخر أصحابه عن الحلاق لما أمرهم به في حجته، فقال لأم سلمة: "أما ترين أن قومك أمرتهم فلا يأتمرون؟ فقالت رضي الله عنها: اذبح واحلق، ففعل صلى الله عليه وسلم فاتبعوه على ما فعل"، ورأوا أن فعله آكد من قوله، لأنه قال: فتأخروا حتى فعل فامتثلوا. وتعلقوا بسيرة الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم كانوا يتحرون أفعال النبي عليه السالم، ويقتدون بها فيها، ألا تراه صلى الله عليه وسلم لما خلع نعله خلعوا نعالهم. وألا ترى أن عمر بن الخطاب قال في الحجر [الأسود]: "لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك، ما قبلتك". وألا ترى ابنه عبد الله بن عمر أتى إلى مكان فأدار ناقته، فقيل له: ما هذا؟ فقال: ما أدري، ولكني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله ففعلته. وحديثه المخرج في الصحيح، الموطأ وغيره لما قيل له: رأيتك تصنع أربعا، فذكر له الإهلال، وتقبيل الأركان، والصباغ، ولباس النعال السبتية؟ فأجاب عن الجميع بما دل على أنه يرى الاقتداء بالنبي عليه السلام في أفعاله، والحديث مشهور. وقد اختلفت الصحابة في الغسل من مجاوزة الختانِ الختانَ، فسألوا عائشة، فحكت فعل النبي عليه السلام، فلو لم يكن حجة لما حكته، ولا رجعوا إليه. وتتبع آثارهم في هذا يكثر، ويكاد لا يحصى لكثرته واشتهار هذا عنهم. وكثرة ما نقل عنه دعا أبا المعالي إلى أن اختار الندب إلى اتباعه صلى الله عليه وسلم تمسكا بهذه السيرة المنقولة عنهم فيما طريقه القرب، كما ذهب إلى اختيار الإباحة فيما لا يقصد فيه التقرب، وذكر أن الصحابة كانوا يستدلون على رفع الحرج بفعله صلى الله عليه وسلم، ووقف فيما كان من خصائصه، وزعم أنه لا يعرف سيرتهم في هذا النوع. والواقفون يجيبون عن هذه السيرة، بأنه قد يكون قارنت الأفعال قرائن تدل على الأمر

فصل في تعارض الأحوال

بالاتباع فيها، ويجيبون عن الأحاديث التي قدمناها بنحو من هذا، ويقولون: أما خلعهم النعال في الصلاة، فلأجل أنه قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي". وقال ابن خويز منداد ردا لهذا الجواب: لم يذكر أن خلعهم النعال كان بعد أن قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي"ـ فيحمل ما فعلوه على امتثال قوله هذا، لا على اتباع فعله. وأيضا فإن خلع النعال ليس من نفس الصلاة، فيدخل في قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي". وكذلك أجاب الواقفية عن حديث الحلاق في الحج، لأنه قال: "خذوا عني مناسككم"، فلهذا فعلوا ما فعلوه. وتتُع كل ما قيل في مثل هذا يطول، وبالجملة فالأظهر في هذا أنا مأمورون بالاتباع على الجملة، وأن الصحابة كانت تدين بهذا، وإذا طرقنا إلى مثل [هذا] الاستدلال ما أشار إليه الواقفية من التجويز، فتحنا على أنفسنا مطاعن من طعن علينا في استدلالنا بآثارهم على إثبات القياس، والعمل بخبر الواحد، وهذا واضح. وإنما يبقى النظر في مسلكهم اتباعه صلى الله عليه وسلم؛ هل [كانوا] يعتقدون الوجوب، أو الندب، وما عندنا في هذا يطول استقضصاؤه. فصل في تعارض الأحوال (ص 160) اعلم أن التعارض بمعنى التضادد، والتنافر. فأما الأقوال فيصح فيها هذا المعنى، لأن تقدير قول متضمن لمعنى، وتقدير قول متضمن لمعنى مضاد لذلك المعنى ممكن متصور، والقول: اقتل زيدا، مضاد للقول: لا تقتله، والقول: (وأحل الله البيع)، مضاد للقول: وحرم الله البيع. وأحكام ما تعارض من الأقوال مذكور في مواضعه، والمشهور عند الفقهاء فيه استعمال البناء والتأويل على ما يصح معه استعمال القولين جميعا، "كنهيه عليه السلام عن الصلاة بعد العصر" ولم يفرق بين فرض ونافلة، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها"، ولم يفرق بين ما بعد العصر وبين غيره من الأزمان، فكان أحد الحديثين يقتضي عمومه قضاء الصلاة المنسية بعد العصر، ويقتضي عموم الحديث الآخر النهي عن الصلاة المنسية حينئذ، فمالك يبني الحديثين، ويرى أن نهيه عن الصلاة بعد العصر محمول على النوافل، حتى لا يعطل واحد من الحديثين. وإن تعارض القولان تعارضا لا يمكن فيه البناء والتأويل كان أحدهما ناسخا للآخر، فاعتبرت التواريخ التي منها يعلم الناسخ منهما من المنسوخ.

وأما تعارض الفعلين فلا يتصور على الحقيقة، لأن كل فعل يختص بمحله، ويقع في زمنه، والتضادد إنما يتحقق مع تساوي الزمن والمحل، لكنا إن قدرنا تعدي حكم فعله عليه السلام إلينا، صار من ناحية تعدي الحكم إلينا، إما وجوبا أو ندبا، على ما تقدم ذكر الخلاف فيه بتصوير التعارض، ويتنزل الفعل منزلة القول المشتمل على المعاني، فإذا نقل عنه عليه السلام فعلان متعارضان، وقد أخبرناك بمعنى التعارض، ولم يتصور فيهما طرق التأويل، فإن أحدهما يكون ناسخا للآخر، فيطلب التاريخ حتى يعلم الآخر، فيكون هو الناسخ على حسب ما ذكرناه في تعارض القولين، هذا مذهب الجمهور. ورأى القاضي أن النسخ هاهنا لم تدع إلى المصير إليه ضرورة كما دعت في الأقوال، لأن الفعل مقصور على فاعله ولا يتعداه، وليس كالصيغ المشتملة على معان متضادة، فإذا وجدنا فعلين متعارضين حملناهما على التجويز والإباحة، وقلنا: القصد بيان جواز كل واحد من الفعلين. وهذا الذي قاله القاضي فيه نظر عندي، إلا على رأي الذاهبين إلى أن فعله عليه السلام يقتضي الإباحة، وليس القاضي من جملة القائلين بهذا المذهب، بل مذهبه الوقف، فإن كان يقول برأي الصائمين إلى أن فعل النبي عليه السلام يقتضي الجواز صح ما قال. وإن أراد أن ذلك يحمل على جواز الفعلين في حقه صلى الله عليه وسلم خاصة فصحيح ما قال، إذا قلنا: يمنع وقوع صغائر الذنوب من الأنبياء صلوات الله عليهم على طريقة من ذكرنا ذلك عنه، ونبهنا نحن على ما عندنا على ما قاله هؤلاء، وإنا إن قلنا بتجويز ذلك فالأظهر في الأفعال المطلقة حملها على الجواز لكون تكرار المعاصي لا يليق بهم، وإن كانت صغائر. وأشار أبو المعالي إلى أن المختار ما قاله الفقهاء من الأخذ بآخر الفعلين [تاريخا]، ولكن يمكن أن يكونوا رضي الله عنهم قدموا الآخر تقدمة أولى وأفضل لا تقدمة ناسخ على منسوخ. وأشار أبو المعالي في غضون هذا الباب إلى مسألة فقهية نقل فيها كلام الشافعي، وأراد أن يستنبط منه [أنه] من المائلين إلى الأخذ بآخر الفعلين، فذكر أنه قدم في صلاة الخوف ما وصفه ابن خوات [بن جبير] من "صلاة النبي عليه السلام بالطائفتين" على ما وصفه ابن عمر، لما كانت رواية ابن خوات مؤخرة، فإنها صلاة غزوة ذات الرقاع، ورواية ابن عمر في غزاة غيرها، فقدر أنها سابقة لما رواه ابن خوات في رواية ابن خوات: إذا كانت هي الآخرة يجب أن تتبع. أو يكون الشافعي إنما قدم رواية [ابن] خوات لضرب من الترجيح. وهذه الرموز التي رمز إليها مبسوطة في كتب الفقهاء، لكن قوله: لما كانت رواية

صالح بن خوات مؤرخة ذات الرقاع، ورواية ابن عمر في غزوة غيرها، قدرت رواية ابن عمر متقدمة على هذا التاريخ. هذا فيه نظر، ويمكن أن يقال: بل رواية ابن عمر كانت رواية ابن عمر (ص 161) مؤرخة بتاريخ يسبق ذات الرقاع. ولهذا عطف أبو المعالي فقال كالمستدرك لما تعقبناه عليه، أو يكون سلك مسلك الترجيح، والترجيح الذي أشار إليه هو أن رواية ابن خوات تضمنت أن الطائفة الأولى يصلي بهم الإمام ركعة، فإذا قام إلى الثانية قاموا فصلوا الركعة الثانية أفذاذا وسلموا، وانصرفوا وبقى الإمام قائما في الركعة الثانية حتى تأتي الطائفة الثانية فتحرم وتصلي معه هذه الركعة الثانية، ثم تقضي الركعة الفائتة أفذاذا، وهذه الرواية حصل فيها اجتناب المشي في الصلاة والعمل الكبيرة المجانب لخضوع الصلاة وما شرط فيها من السكون، وهذه طريق من الترجيح، لكنها إنما فيها كون المأمومين يصلون بقية الصلاة والإمام لم يفرغ. هذا في حق الطائفة الأولى، وفي حق الطائفة الثانية فيها القضاء قدر خروج الإمام من الصلاة على أحد قولي مالك في المدونة أن الطائفة الثانية تقوم للقضاء، إذا تشهد الإمام، وينتظرهم حتى يقضوا الركعة السابقة فيسلمون، والقضاء قبل فراغ الإمام من الصلاة خلاف الأصول. فأنت ترى هذه الرواية كيف خالفت الأصول من جهة صلاة المأمومين وقضائهم قبل فراغ إمامهم، ووافقت الأصول من جهة اجتناب العمل الكثير في الصلاة. كما أن رواية ابن عمر أيضا وافقت الأصول من جهة، وخالفتها من جهة أخرى، وذلك أن في رواية ابن عمر أن الطائفة الأولى لما صلت مع الإمام ركعة مضوا لجهة العدو، وانصرف أصحابهم إلى الإمام ليصلوا معه الثانية، والطائفة الأولى قد انصرفت إلى مصافة العدو، والمشي إلى مكان العدو ومقابلته عمل كثير في الصلاة، وهذا خلاف الأصول، لكنه وافق الأصول من جهة أخرى، وهو أ، هم سلموا من قضاء الصلاة، والإمام لم يفرغ، فأنت ترى كل واحد من الروايتين كيف وقعت في موافقة أصول الشريعة من جانب ومخالفتها من جانب. وأبو المعالي إنما أشار إلى الترجيح من جهة وهي التحفظ من العمل الكثير في الصلاة على ما بيناه نحن، ولكن في قبالة التحفظ عن أصل تضييع أصل آخر، وهذا جائز في الروايتين جميعا، وإنما يبقى بعد هذه الموازنة ما بين كل جهة من هذه الجهات وما قابلها، وهذا يدق وليس من شغل الأصولي، نعم، ولا هذا الذي أوردناه من شغله أيضا، وإنما ذكرناه هاهنا، وإن كنا أمليناه مبسطوا كما يجب مستقصى كل ما يتعلق به في كتابنا المترجم بشرح التلقين.

فصل في تقرير النبي عليه السلام على الفعل

وأما إن تعارض قول وفعل ففيه ثلاثة أقوال: - أحدها: أن القول مقدم لكونه له صيغة تتضمن المعاني، والفعل جامد مقصور على فاعله. - والثاني: أن الفعل أولى لأنه مما لا يحتمل]، والقول مما يحتمل، وما لا احتمال فيه أولى. - والقول الثالث: أنهما سيان لا يرجح أحدهما على صاحبه، لما ذكرناه مما لكل واحد منهما من الترجيح. وهذا يمثل "بقوله عليه السلام عن استقبال القبلة واستدبارها"، مع ما رواه ابن عمر أنه "رآه على اللبنتين ... " الحديث. ويمثل بغير ذلك من الأحاديث. فصل في تقرير النبي عليه السلام على الفعل اعلم أنه عليه السلام لا يرى منكرا إلا غيره، ومتى سمع قولا أو رأى فعلا، فلم ينكره دل ذلك على جوازه وإباحته لمن أقره عليه، إذ لو كان حراما لأنكره، اقتضى هذا أيضا إباحته لسائر الأمة، لأن حكمه على الواحد حكمه على الجميع. هذا على مذهب الجمهور، وهو المعروف عند الفقهاء. وذكر أبو المعالي هاهنا أن هذا القول إنما يصح إذ كان المقر على الفعل منقادا للشرع، سامعا مطبعا، وأما الأبي الممتنع كالكافر، فلا يكون إقراره عليه دالاً على الإباحة والجواز. والذي قاله أبو المعالي في الكافر صحيح، ولكن في الذي قال في المناطق نظر، لأن المنافقين لو زنوا أو شربوا الخمر لأقام الحد عليهم، والحدود تغيير للمنكرات، وكذلك ينهاهم لو رآهم على معصية، لأن السكوت على الإنكار يوهم من سواهم جواز الفعل، لما كان المنافقون منقادين في الظاهر للشرع واقعين فيما يرغبون تحت أمره ونهيه، خوفا أو طمعا. وألحق أبو المعالي بهذه المسألة الكلام على حديث مجزز، وذكر استلال الشافعي على الفعل بالقافية في الأنساب بحديث مجزز (ص 162) و"أنه عليه السلام سر بقوله في أسامة وزيد: هذه الأقدام بعضها من بعض"، وذكر أن الشافعي اعتمد على هذا الحديث في

فصل في خطابنا بشرع من كان قبلنا

العمل بالقافة، ورأى أن النبي عليه السلام لا يسر بباطل، وذكر أن القاضي تعقب هذا بأن سرور النبي عليه السلام (يحتمل أن يكون لأجل أن الجاهلية كانت تطعن في هذا النسب، وكانت ترى تصديق القافه فسر عليه السلام) بإكذابهم، ووقوع خبر يصدقونه بأمر يسوؤهم. وأشار أبو المعالي [إلى] أن نهاية ما ينتصر به الشافعي أن يقال: إن القائف إذا [كان] يخطئ ويصيب، فالقيافة أمر لا يعول عليه ولا يوثق به، وأخبار مجزز لا يوثق فيها، فصحة الخبر مما لا يقره عليه السلام، وقد ذكرنا نحن في كتابنا "المعلم" هذا الحديث، واختلاف المذهب على قولين في الحكم بالقافة، ومذهبا ثالثا صار إليه أبو حنيفة، وذكرنا سبب الخلاف فمن تشوف إليه فليطالعه هناك. فصل في خطابنا بشرع من كان قبلنا الكلام في المسألة من وجهين: - أحدهما: النظر فيما كان صلى الله عليه وسلم [يتعبد به] قبل أن يوحى إليه، وهذه المسألة قليلة الفائدة في حق الفقيه ولا تمس الحاجة إلى نظره فيها، ولا حظ لها في علم الأصول أيضا لا تعلقها بالرد على المعتزلة في بنائها على التحسين والتقبيح العقلي، ولكن نذكر ما قيل فيها: - فمن الناس من صار إلى أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن عاملا بشريعة أحد قبله. - ومنهم من صار إلى أنه كان عاملا بشريعة من قبله. - ومنهم من وقف وجوز أن يكون الأمر على كل واحد من المذهبين. فالقائلون بأنه لم يكن عاملا بشريعة نبي قبله اختلفوا، فمنهم من منع ذلك عقلا، وهي المعتزلة، ومنهم من منع ذلك نقلا وهو القاضي ابن الطيب ومن وافقه. والقائلون بأنه كان يعمل بشرع من قبله اختلفوا على طريقتين أيضا، فقال: بعضهم: لا ندري أي النبيين كان يتبع، ويقفون في ذلك، وقال آخرون: بل ندري من كان يتبع، واختلف هؤلاء، فقيل: كان يتبع نوحا، وقيل: كان يتبع إبراهيم: وقيل: كان يتبع عيسى صلوات الله عليهم أجمعين. فأما المعتزلة فمسلكهم أن قالوا: كونه قبل أن يبعث متبعا لنبي غيره يحط من قدره، وينفر عنه، لأنه يبعد أن يكون متبوعا من كان تابعا. وهذا الذي قالوه باطل، وقد قدمنا بطلان مرارا، وبسطنا بطلان مذهبهم في التقبيح والتحسين العقلي فيما تقدم. وأيضا لو

سلمناه لم نسلم أن في هذا حطا للقدر ولا تنفييرا، وأمور الآخرة والأحكام والنبوات لا تقاس على أحوال أهل الرياسات الدنيوية. وأما المانعون لذلك سمعا فمعتمدهم على أنه لو كان على شريعة لنقل ذلك، إذ لا يمكن في العادة كتمان ذلك ولا إخفاؤه، بل العادة أن يتحدث بما كان صلى الله عليه وسلم يتقرب به، وينتمي إليه من الشرائع، ولو لم يكن إلا أن يتحدث بذلك ويفتخر به أهل الملة التي دعاهم إلى الرجوع إليها وترك ما هم عليه، وهذه عمدة القاضي التي يعول عليها. واختار أبو المعالي مذهب الواقفية الذي حكيناه، ورأى أن ما تمسك به القاضي قد يقلب عليه، فيقال: لو كان غير متبع لشرع لنقل أيضا، ولو سلم أن ذلك لا ينقلب، وأن العادة ما ذكره القاضي، لأمكن أن تكون هذه العادة انخرقت كما انخرقت له عوائد كثيرة صلى الله عليه وسلم. وأما الذاهبون إلى أنه كان متمسكا بشريعة على الجملة دون معرفة عن الشريعة التي تمسك بها فإنهم يقولون: قد كان يذبح الذبائح، ويتصرف في الملابس والمراكب والمطاعم والوطء تصرفا على مسلك ما، وما ذاك إلا لشريعة اتبعها. وأيضا فقد كان يفعل القُرَب والمناسك، ويصل الرحم، إلى غير ذلك مما يشعر بكونه متمسكا بشريعة. وهذا الذي قالوه لا حجة لهم فيه، لأجل أن بعض هذه الأمور ربما آثرها لما في الطباع والنفوس إيثارها، وقد يؤثر من لا يتشرع أصلا أمر ما بحكم الطبع أو المنشأ والإلف. وقد قالت المعتزلة: إنه لم يكن على شريعة، ولكنه كان على شريعة العقل، يجتنب ما يقبحه العقل، ويفعل ما يحسنه. ونحن نصرف ما صرفوه إلى العقل ما ذكرناه من مقتضى الطبع والإلف والعادة. وأما الصائرون إلى تعيين رسول (ص 163): فمن عين منهم عيسى صلى الله عليه وسلم اعتمد على كون شريعته آخر الشرائع التي قبل شريعتنا، والآخِر أحق أن يتبع في مثل هذا، وأشار هؤلاء إلى أن عيسى كان شريعته عامة، فالنبي عليه السلام يدخل في عموم من دعاء عيسى. وهؤلاء خولفهم في تعميم شريعة عيسى، وقيل لهم: يجوز أن تكون غير عامة، ولو قلنا: إنها عامة فإنها يسقط اتباعها لاندراسها، وأصل شريعة النصارى عن أربعة: لوقا، ومرقص، ومتى، ويحنا، والعلم لا يقع بخبر أربعة. وأما من قال هو إبراهيم، ومن قال: هو نوح فيتعلقون بقوله تعالى: (أن اتبع ملة

إبراهيم)، وبقوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا). وسنذكر الجواب عن هذا. ولعل من قال: شريعة موسى هي التي كان يتبع رأي أن الآخر هاهنا هو المتبع، وشريعة عيسى وإن كانت الآخر فلم تثبت فيها أحكام بنقل متواتر إلى ما قبلها، وهي شريعة موسى. وأما الوجه الثاني وهو تعبدنا بعد أن بعث نبينا صلى الله عليه وسلم بشريعة من كان قبله، فاختلف الناس أيضا في ذلك: فقيل: نحن متعبدون بذلك، وقيل: لسنا متعبدين. والقائلون بأنا متعبدون اختلفوا في عين من تعبدنا بالرجوع إليه، فقيل: إبراهيم، وقيل: موسى، وقيل: عيسى. وكنا ذكرنا في الوجه الأول، أنه قد ذكر في جملة المذاهب أنه عليه السلام كان قبل مبعثه متبعا شريعة نوح، هكذا نقل أبو المعالي هاهنا. وظنى أن المذهب الذي نقله هناك في هذا الوجه ينبغي أن ينقل، ولكني لست الآن على ثقة ويقين بهذا، والظاهر أن أصحاب هذا المذهب اعتمدوا على قوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا)، وهذا الخطاب ظاهره تعبدنا نحن بهذا بعد بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم. وقال قوم بالوقف، وجوزوا أن يكونوا متعبدين بشرع من قبلنا، وأن يكونوا غير متعبدين. فأما الصائرون إلى أن غير متعبدين فمنهم من أنكر ذلك عقلا، وهم المعتزلة، ومسلكهم ما حكيناه عنهم من التحسين والتقبيح، وقد أفسدناه، ومنهم من قال: إنه منع ذلك سمعا، واعتماد هؤلاء على قوله تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا). ويجاب عن هذا بأنه لا يمتنع أن يكون هذا وصفا لغالب ما عليه كل رسول. وأيضا فكل رسول له منهاج يضاف إليه، سواء كان ذلك المنهاج موافقا لما قبله أو مخالفا، واعتمد أيضا على أن النبي عليه السلام قال لعمر رضي الله عنه إذا كان يسأل بني إسرائيل عن قصصهم: "لو كان ابن عمران حيا ما وسعه إلا اتباعي"، وهذا يشير إلى المنع من اتباع شريعة من سواه.

وكذلك يحتج أيضا بحديث معاذ لما قال للنبي عليه السلام: "أقضي بكتاب الله، فإن لم أجد فبسنة رسول الله، فإن لم أجد أجتهد رأيي" الحديث المشهور، ولم يذكر فيه في طرق ما يرجع إليه في الأحكام النظر في شرع من كان قبلنا. واعتمد هؤلاء أيضًا أن الصحابة كانت تكثر البحث عن أحكام مشكلة ملتبسة، ويتطلب المعرفة بها من كل جهة، ولم يؤثر عن أحد منهم أنه بحث عما في الكتب المنزلة كالتوراة والإنجيل، ولو كان أمرا متبعا لنقل ذلك عن بعضهم. ولا معنى لقول من أجاب عن هذا بأن المانع لهم من الرجوع إلى شرع من كان قبلنا [ما وقع فيها من التحريف، فهم موافقون له في المذهب مع] مخالفة له في العلة، مع أنه لو كان ذلك حقا لوجب أن يبين النبي عليه السلام مواضع التحريف [لـ]ـيجتنبوها إذا رجعوا إلى هذه الكتب. وأيضا فقد كان عبد الله بن سلام، وهو المشار إليه بقوله: (ومن عنده علم الكتب) بين أظهرهم، ولم يسألوه عن أحكام التوراة، ولا عن موضع التحريف، وكذلك فعلوا مع كعب الأحبار. وأما الذاهبون إلى أنا يجب علينا اتباع شرع من كان قبلنا من الرسل فيعتمدون على قوله تعالى: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتدة). وأجيب عن هذا بأن المراد به الاقتداء في سلوك طرق التوحيد والإيمان بالله. ويؤكد هذا أن في المذكورين من ليس له شريعة كيوسف، ولكنه كان موحدا، فإذا صرفنا القدوة إلى طرائق التوحيد عممنا الجميع. وأما عن عين إبراهيم فإنه أخذ بقوله تعالى: (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم)، ومن عين نوحا إن كان قيل ذلك كما ظننته ولم أتيقنه الآن، فيعتمد على قوله: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا). وهذه الآي وأمثالها لما نذكره محمولة على القدرة في التوحيد والإيمان بالله سبحانه، وربما كان في بعض سياق هذه (ص 164) الآيات ما يشهد على صحة التأويل. ولما نجز القول في تعليم كيفية تلقي الأحكام من ألفاظ صاحب الشرع، ومضى بيان ذلك في كتاب الأوامر والنواهي، والعموم والخصوص، وما يتعلق بهذين الكتابين، رتب سائر المصنفين بعد هذا تعليم فصول أخر من أصول الفقه، إما كتاب الأخبار أو غيره من

الكتب، لكن أبا المعالي شرع بعد هذا في فن آخر وهو التأويل للظواهر، لما كان يمكن وضع قوانين كلية في تعليم كيفية تأويل الظواهر، وما يقبل من ذلك وما لا يقبل، وأسقط ذلك أكثر المصنفين لما رأوه مما يشتغل الفقهاء بالإكثار من تفاصيله والمناظرة عليه فكان الأولى الإحالة عليهم عند هؤلاء. ورأى أبو المعالي أنه من تعليم كيفية مأخذ الأحكام من ألفاظ صاحب الشرع، فألحقه هاهنا وترجمه:

كتاب التأويلات

كتاب التأويلات اعلم أن التأويل مأخوذ من المآل الذي هو نهاية الشيء ومرجعه، ومنه: أل يؤل، قال تعالى: (بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا)، يريد أن الآخرة مآل المكلفين، ومرجعهم ليس لهم غيرها مرجع يرجعون إليه، ولا مفزع يفزعون إليه، ومنه قوله تعالى: (هل يعلمون* إلا تأويله) يعني مآله، وقال: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم). وإذا علمت معنى التأويل علمت بعده أنه لا يتحقق في الممل، إذ المجمل ما لا يفهم معناه، والمعنى إذا لم يفهم كيف يتأول؟ وكذلك لا يتصور التأويل في النصوص، لأجل أن المعنى لا تردد فيه ولا إشكال، ولا يحتمل صرف اللفظ عن معناه إلى معنى آخر، حتى لا يتصور من هذا مرجع رجع إليه الشيء بعد أن كان مقدرا على خلاف ما رجع إليه، لكن التأويل إنما يتصور في الظواهر، لأنا ذكرنا أن الظاهر كل لفظ محتمل، ولكنه في أحد محتمليه أظهر، فحسن هاهناتقدير المرجع والموئل، لتردد المعنى بين أمرين، فتلخص من هذا أن التأويل مقصور على الألفاظ، وأن الألفاظ ثلاثة أنواع: نص، وظاهر، ومجمل، وقد تقدم بيانها وحدودها، فالتأويل منها في الظاهر خاصة. وأما المجمل فلا تأويل فيه، لأن التأويل وصف لمعنى فهم فأول، وما لا يفهم لا يؤول. وأما النص فلا تأويل فيه لما قلناه، ولكن العمل فيه من جهة ثانية، وهي تقديم المراتب بعضها قبل بعض، فما كان نصا قطعيا كالقرآن والسنة المتواترة قدم على النصوص الظنية التي ينقلها الآحاد، وصارت المقدمة في المراتب في النصوص كالتقدمة في التأويلات في الظواهر، وإن استوت المراتب في النصوص فليس إلا إسقاطها جميعا أو ترجيح بعضها على بعض، إذا لم يعرف الناسخ على ما سيذكر في موضعه إن شاء الله. فاضبط من هذا أن الفقيه لا يشتغل بالمجمل إلا من جهة التقدمة في المرتبة أو

مسألة [النكاح بغير ولي]

التأويل، ويشتغل بالظواهر فينظر في التقدمة من ناحية المراتب والتأويل، والنصوص يشتغل [فيها] بالنظر في التقدمة من ناحية المراتب، لا من ناحية التأويل. واعلم أن المجمل لا يستدل به في قطعي ولا ظني لا عقلي، ولا شرعي، لعدم تحقيق معناه. وأما النصوص فيستدل بها في الشرعيات الظنيات على الإطلاق، في الشرعيات أيضا القطعية إذا كان النصوص قطعية. وأما الاستدلال بها في العقليات فلا يصح إلا في كل معلوم يصح أن يعلم صدق الرسل قبل العلم به. وقد استدل ابن الجبائي بها على التوحيد، وهو معلوم عقلي، ولعله قدره مما يمكن أن يعلم صدق الرسل قبله. وأما الظواهر فإنها يستدل بها في الظنيات لا في القطعيات، لأن الظاهر إنما يفيد ظنا، بأن المعنى المشار إليه هو المراد، والقطع على ذلك يضاد الظن به، لكون العلم والظن ضدين. وأما الظنيات الفقهيات فيستدل بالظواهر فيها، وذلك إجماع من السلف، وكل من سمع أخبارهم وتتبع آثارهم علم منهم أنهم كانوا يستدلون في مسائل الفقه بظواهر القرآن، وأحاديث النبي عليه السلام، لا يصدهم عن ذلك أدنى احتمال يعرض في الكلام. وكذلك أيضا قد [علم] من سيرهم ومذاهبهم تسويغ تأويل الظواهر لمن تأولها، والنظر في طرق تأويله، ومحاجته عليها، حتى يتبين له أنه الأقرب والأولى خلاف المعنى الذي ظنه بالكلام، أو يسلم له ما فهم وظن، ولكن لا يسوغ الحكم في التأويل، وبناؤه على الافتراض ويترسخ بالبال، من غير أن يعضد بترجيح واستدلال من طرق الترجيح، ومعاني هذا الاستدلال سترد فيما بعد إن شاء الله. واستدعى الكلام على هذا الفصل ذكر مسائل بأعيانها تنازع الفقهاء في تأويل الظواهر فيها، فاحتيج إلى التنبيه على ما قوي من تأويلهم (ص 165) فيها، وما ضعف، ليكون ذكر التنبيه في أعيان المسائل كالتدريب للفقيه على استعمال ما ذكر له، وما سيذكر من أصول الكلام في التأويل. مسألة [النكاح بغير ولي] ذكر أبو المعالي طرق التأويل في مسألة النكاح بغير ولي في حديث واحد، وتشاغل به دون ما سواه، ورأيناه أن نورد هاهنا ما يتعلق بهذه المسألة من الظواهر، وننبه على طرق

تأويلها، فإن الغرض بالكلام على مثل هذا تدريب الفقيه على معرفة استخراج معاني الظواهر، وإيضاح مسالك التأويل التي يسلك فيها، وكلما أكثر من ذلك كان أفيد له، وقد تكلمنا نحن على هذه المسألة في كتابنا "المعلم" بنكت تليق بعلوم الحديث، وتكلمنا عليها كلاما مبسوطا في شرح التلقين بحسب ما يليق بالفقهاء الناظرين في مسائل الخلاف، ونتكلم عليها الآن بحسب ما يليق بالأصولي. فاعلم أن مما يتعلق به في هذه المسألة لمن أثبت الولي قوله تعالى: (وأنكحوا الأيمى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم)، وقوله تعالى: (ولا تننكحوا المشركين حتى يؤمنوا)، وقوله تعالى: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينحكن أزواجهن). ويتعلق من لم يشترط الولي بقوله تعالى: (فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف)، وبقوله تعالى: (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره). فيفتقر الفقيه هاهنا إلى التنبيه على وجه التمسك بالظاهر، وإلى التنبيه على ما يتأول على الظاهر. فأما التنبيه على وجه الاستدلال فإن المالكي يقول: نرى الله سبحانه خاطب الأولياء آمرا بالإنكاح، ونهيا عن الإنكاح، ونهيا أيضا عن المنع عن النكاح، فلو كان الأولياء لا حق لهم، ولا يفتقر إليه في العقد بل هم فيه كالأجانب لكان خطابهم خطابا لا يفيد، وحمل خطاب الله سبحانه على ما لا يفيد لا يصح. ولهذا لم يحسن أن يخاطب الأجانب بمثل هذا الخطاب، لما كان لا مدخل لهم في إنكاح الأجنبيات. فيقول له الحنفي المؤول: أنت تسلم يا مالكي أن اللفظ لم يتعرض فيه إلى حكم عقد المرأة على نفسها، وإنما فيه أمر الأولياء بالعقد، أو نهيهم عن العقد، أو عن المنع منه، وإنما عولت على أن إسقاط حق الأولياء يصير الخطاب غير مفيد، فما المانع أن تكون الفائدة في الخطاب أمر الأولياء بالنكاح إذا دعتهم إليه الولية، ونهيهم عن المنع إذا دعت إليه الولية أيضا، أو نهوا عن منع يوقعونه ظلما وعدوانا على ولياتهم المقهورات تحتهم المقصورات عليهم، أو يكون الخطاب لأولياء يملكون العقد لاستحقاقهم النظر لمن يكون عليه؟

وإذا أظهرنا فائدة للخطاب وقف عليكم الاستدلال، وعاد الأمر إلى أن تقولوا: فائده كون المرأة تفتقر إلى الولي شرعا، وإلى أن نقول نحن: تفتقر إليه عادة وعرفا، للعلم أن المرأة ولو كانت متبرجة، فإنها تظهر الخفر والحياء من أن تعقد على فرجها، وتماكس في العوض عن وطئها، وإنما تستنيب وليها، ويلقى هذا بوجه، والرجال يسهل عليهم ملاقاة الرجال، فلهذا حسن الخطاب للأولياء. وأما النهي عنا لعضل، فالعضل: المنع، وقد يمنعها الولي حقا، ويمنعها باطلا وعدوانا عليها، وليس في الآية أكثر من منعه أن يمنع، فإثبات افتقار العقد إليه لم يشتمل عليه الظاهر. هذا وفي الآية طريق آخر من التأويل يجب أيضا أن يتنبه إليه الفقيه ليستعمله في مواضع أخر، وذلك أن الخطاب افتتح بالأزواج فقال سبحانه: (وإذا طلقتم النساء)، ولا شك أن المطلق هو الزوج لا الولي، ثم قال: (فبلغن أجلهن) يعني عدتهن، ثم قال: (فلا تعضلوهن)، فلا شك أن هذا الضمير عائد على حرف الخطاب الذي هو التاء والميم، في قوله: (طلقتم)، وأ/االولي فلا ذكر له هاهنا، والمعنى أن الزوج لا يسوغ له إذا قرب انقضاء العدة أن يرجعها ثم يطلقها فتعتد عدة ثانية، حتى يضر بها في التطويل. ولكن للمالكي أن يقول هاهنا: أما من جهة الضمائر، فالأظهر ما قلته يا حنفي، وأما من جهة قوله: (فإذا بلغن أجلهن) فالأظهر أن الولي لا الزوج، لأن المرأة إلى بلغت أجلها فقد انقضت عدتها، والزوج بعد انقضاء عدتها لا يملك ارتجاعها، فاضطر هذا إلى حمله على الولي، ويؤكد هذا ما ورد في صحيح الأخبار من نزول الآية في معقل بن يسار لما منع (ص 166) أخته من النكاح، ولا يصح أن تنزل الآية على سبب، وتحمل على غير سبب نزولها. ويقول الحنفي: معنى قوله: (فإذا بلغن أجلهن)، أي قاربن بلوغ الأجل، حتى يكون ارتجاع الزوج واقعا في موضعه. فيقول المالكي: هذا إضمار لم يدع إليه اضطرار. فأنت ترى وجه العمل في التأويل والموازنة بين هذين التأويلين، أن تأويلهم (بلغن) بمعنى قربن البلوغ أظهر من تأويل عود الضمير الثاني على غير الأول، لولا الخبر

المنقول الذي ذكرناه، فإنه يقوي تأويلنا. وأما قوله تعالى: (فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف). وأما الحنفي فيقول: أخبر تعالى أن لا جناح علينا فيما فعلت المرأة بنفسها بعد انقضاء عدتها، وإضافة الفعل إليها بمقتضى افنرادها واستبدادها به دون الولي. فيقول المالكي: قد قال تعالى مقيدا لهذا بالمعروف، وفي المعروف تنازعنا، فقلنا: المعروف أن تعقد نكاحها بولي يعقد عليها، فقد صار التقييد يعود بإجمال في موضع الاستدلال. وكذلك قوله تعالى: (حتى تنكح زوجًا غيره) يقول الحنفي: أضاف الفعل إليها، وهذا يقتضي انفرادها دون الولي. ويقول المالكي: المراد بالنكاح هاهنا الوطء، إذا لا تحل المبتوتة بمجرد العقد عند سائر العلماء سوى ابن المسيب، وإذا كان المراد الوطء فهي تنفرد به دون وليها. فهذا وجه العمل في الظواهر القرآنية. وأما قوله عليه السلام: "لا نكاح إلا بولي"، فينظر الفقيه إليه من باب آخر في أصول الفقه، فقد تقدم ذكره، وهو هذه الألفاظ الواقعة على نفي الذوات الموجودة؛ هل يحمل على نفي الكمال أو غيره، وقد تقدم ذكر المذاهب في هذا الأصل والأدلة عليها. وأما الحديث الذي اشتغل أبو المعالي هاهنا بالنظر فيه خاصة، وهو قوله عليه السلام: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل" الحديث، فإن الشافعي ومالكا يستدلان به على أبي حنيفة، ولكن لأصحاب أبي حنيفة فيه تأويلات: أحدها: حمله على الصغيرة: والثاني: حمله على الأمة، والثالث: حمله على المكاتبة. فأما حمله على الصغيرة فيرد عليهم من وجهين: - أحدهما: أن الصغيرة لا تسمى امرأة، كما لا يسمى الصغير رجلا. - والثاني: أن الصغيرة إذا عقدت على نفسها كان الخيار لوليها في إمضاء العقد عليها أو رده، يفعل من ذلك ما هو الأصلح لها، فالنكاح إذا اختار الولي إمضاءه [ليس] بباطل، والنبي صلى الله عليه وسلم وصف هذا النكاح بالبطلان، وقال: باطل، باطل باطل، ثلاثا، فوكد الإبطال به. وقد تأولوا قوله: باطل، على أن المراد به ما يؤول الأمر إليه إذا اختار

الولي فسخه. وهذا تعسف في التأويل لا يقبل لأجل أن الولي لا يبطله على كل حال، حتى يحسن وصف الحال بما يكون في المآل، كما حسن ذلك في قوله تعالى: (إنك ميت وإنهم ميتون)، لأجل أن الموت على الخليقة ضربة لازم. والولي هاهنا قد يختار إمضاءه، فالبطلان ليس بضربة لازم، وإذا كان الإبطال في المآل مجوزًا كما يجوز الإمضاء، لم يحسن القطع على أحد المجوزين. وأما حملهم على الأمة فيرد من ثلاثة أوجه: - أحدها: أن هذا الذي ذكرناه من كون السيد مخيرًا بين إمضاء نكاحها أو رده على أصولهم، وعلى أحد القولين عندنا في الأمة، وإن كان لم يختلف مذهبنا في الحرة إذا أنكحت نفسها. - والثاني: قوله عليه السلام في هذا الحديث: "فإن وطئها فلها مهرها"، والمهر ليس للأمة بل لسيدها، والحديث أضاف فيه المهر للموطوءة، وهذا الرد يقوى على القول بأن العبد لا يملك، فإن المهر لا يملكه إلا السيد. - والثالث: قوله: "فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له"، والسيد لا يشاجر في أمته، ولا مدخل للسلطان معه فيها. وأما حملهم على المكاتبة فباطل، وإن كان المهر لها، من جهة ما قدمناه من تخيير سيدها، وأن سيدها لا يشاجر فيها. وأبطله القاضي ابن الطيب من جهة أخرى وقال: يعلم بالضرورة فساد هذا التأويل، لأن قوله: "أيما" لفظ من أدوات الشرط، وأدوات الشرط من أبلغ ألفاظ العموم، و"أي" وما فيها من آكد ما يعم، وقد أكدت أي بـ "ما"، وهذا كله يشعر بقصد العموم والعبارة (ص 167) عن صورة نادرة، فإنما تقع بلفظ عام بالغ في التعميم، على هذا الأسلوب لا يصح، ولا يقع ذلك من فصيح سلك في كلامه الجد، وجانب الهزل واللغز، وهذا إن تصوره متصور فإنما يتصوره عند وقوعه جوابا عن سؤال أو قصدا إلى مطابقة شاهد حال، وأما لرسول يقصد عمدا تأسيس شرع، وتعلمي حكم كلي، فإن هذا كالقرينة الحالية إلى قصد الصورة النادرة، ومثل هذه التأويلات من النكت النادرة. وهذا هو الجواب عن قوله: المكاتبة مما شملها العموم، والتأويل هو حمل اللفظ على عض ما شمله العموم، لأنا بينا أن ذلك لا يحسن في محامل نادرة ينفيها حكم اللفظ ومقتضى القصد، ومن قال: لقيت أسدا، وأراد شجاعا لم يبعد، وإن كان الأظهر أنه المفترس. ومن قال: أردت رجلا أبخر، لأن السبع أبخر فاستعرت لهذا الإنسان تسميته عند

مسألة في تأويل قول النبي عليه السلام

ذلك ملغزا أو هازلا، فإنه يحسن أن يستثني من هذا الحديث سائر النسوان سوى المكاتبة، فإذا حسن هذا بالاستثناء حسن بالتأويل، فإن هذا قياس على اللغة، وهو لا يسع، والصيغ والنظم مختلف إحكامه. هذا وقد منع القاضي مثل هذا الاستثناء، ومن جوز مثل هذا الاستثناء إذا وقع في الإقرارات وغيرها من غير الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه يعده من الكلام المستهجن، وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم يجل عن هذا، وهذه المسألة ذكرنا في كتاب "المعلم" وفي شرح التلقين اختلاف الناس فيها، وذهاب من ذهب إلى أن الولي لا يفتقر إليه شرعا في صحة العقد على الفروج، كما لا يفتقر إليه في العقد على الأموال، وهو مذهب أبي حنيفة، وذهاب من ذهب إلى افتقار العقد إليه في الفروج بخلاف الأموال، وهو مذهب الشافعي، ومذهب أبي ثور في أنه يفتقر إليه إذنا عقدا، فإذا أذن صح عقد المرأة على نفسها أخذا بظاهر هذا الحديث. وقد قدمنا نحن فيما مضى من هذا الكتاب تأويل الحديث على وجه تمنعه من التعلق به، وذهب داود إلى التفرقة بين الثيب والبكر، فأخذ في البكر بمذهب مالك، في الافتقار إلى ولي، وفي الثيب بمذهب أبي حنيفة في إسقاط اشتراط الولي تعلقا منه بالحديث المشهور المذكور فيه: "الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر في نفسها"، وهذا أيضا يحتاج إلى عمل آخر من أصول الفقه، وبيانه ما قدمناه من الأدلة وما لم نذكره مما بسطناه في شرح التلقين يعرف منه الصواب من هذه المذاهب، ولا يمكن النظار أن [يبين] حكم الله سبحانه في هذه المسألة حتى يسلك فيها هذه المسالك التي أريناك، وهي كالبادي لنظر النظار، وفي هذا كفاية. مسألة في تأويل قول النبي عليه السلام لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" اعلم أن الكلام هناهنا في هذه المسألة من وجهين: - أحدهما: في إثبات النية. - والثاني: في محلها. فأما إثباتها فإن الصوم على خمسة أقسام: - صوم واجب بإيجاب الله معين كرمضان. - وصوم واجب بإيجاب المكلف معين كنذر شهر بعينه.

- وصوم واجب بإيجاب الله سبحانه مضمون كالكفارات. - وصوم واجب بإيجاب المكلف مضمون كنذر شهر بغير عينه. - وصوم تطوع. فجميع هذه الأنواع تفتقر إلى نية عند فقهاء الأمصار، وخالف زفر فقال: الصوم المعين الواجب الذي لا يصح زمانه إلا للصوم، وقد عينه الله سبحانه للصوم، وصار مستحق العين في ذلك لا يفتقر إلى نية كرمضان، لأن رمضان أوجب الله صومه، لم يجعل أيامه صالحة للفطر، ولا إلى صوم النفل، ولا لقضاء صوم واجب كفارة أو قضاء، وهذا في حق الحاضر الصحيح. وأما من له إفطاره للمرض أو السفر فلا بد أن ينوبه، لما حصل من التمييز فيه. وقدر زفر استحقاق هذه الأيام لهذه العبادة مغنيا عن النية، لأن القصد في شرع النية التمييز، وإذا لم يصح في رمضان إلا الصوم، ولم يفتقر إلى قصد تمييزه من غيره من الأيام، فإنها تصلح للإمساك عن الطعام عادة وللإمساك عبادة، فافتقر أحد الإمساكين وهو العبادة إلى قصد (ص 168) تمييزه عن نقيضه الذي هو الفطر، وهذا هو الذي يعتمد عليه الرجل، لا على ما أشار إليه بعضهم من أنه رأى الصوم تركا للطعام، والتروك لا تفتقر إلى نية، ألا ترى أن المصلي واب عليه أن يترك الطعام والكلام في الصلاة، ولا يجب عليه أن ينوي ذلك، ولو كان الرجل يعتمد على هذه الطريقة عندي لكان متناقض المذهب، لأن سائر أنواع الصوم تتساوى في كونها تركا للطعام والشراب، ثم مع هذا هو يوجب النية في معظم أنواعها، فما ذلك إلا لما قلناه، لا ما يقوله هذا المتأول عليه. ويعتمد زفر في الاستدلال على صحة ما أصل بأن رد الوديعة، ورد المغصوب لا تفتقر إلى نية، لما كان رد الوديعة والغصب لا يتنوعان إلى فرض ونفل، ولا يرخص في تركها، فاستغنى عن النية فيها. ونوقض زفر بمن استيقظ فيها طلوع الشمس بمقدار ما لا يحمل أكثر من صلاة الصبح، فإن هذا الزمن قد تعين للصلاة، ولا رخصة في تركها، ولا يصح التنفل بها، ثم مع هذا لابد لهذا المصلي من نية، والصلاة والصوم عبادات بدنية، والغضب والوديعة حقوق مالية، فرد العبادة البدنية إلى عبادة بدنية أولى من ردها إلى حقوق مالية. وأيضا فإن الصلاة والصوم حقان لله سبحانه، و [رد] الغصب والوديعة حق للخلائق، فرد حقوق الله سبحانه بعضها إلى بعض أولى. وهذا ستعلم طرق الترجيح فيه إن شاء الله في كتاب القياس، وإنما ذكرناه هاهنا لتعلقه بما نحن فيه. وما تعلق المسألة بتأويل الظواهر فإن زفر يقول: قال الله تعالى: (فمن شهد منكم

الشهر فليصمه)، والصوم: الإمساك، ومن صام رمضان بغير نية فهو ممسك. ودوفع عن هذا بأن المراد الصوم الشرعي لا اللغوي، وصفة الصوم الشرعي فيه التنازع، صار كالمجمل في الآية، فلا يتعلق بما فيه. وهكذا قوله عليه السلام: "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل"، هذا ينفي عمومه حصول صوم شرعي بغير نية، رمضان كان أو غيره، فإن تأوله زفر على ما سوى رمضان، أجيب بأن هذا اللفظ بالغ في التعميم كما تقدم بيانه في كتاب العموم، وصوم رمضان هو المتكرر في الشرع في كل عام في حق كل مسلم، وما سواه كالنادر الشاذ بالقياس إليه، فلا يحمل مثل هذا اللفظ العام على الصور النادرة قصرا عليها كما قدمناه في المسألة التي قبل هذه. وأضرب أبو المعالي عن الكلام على الحديث من هذه الجهة مع زفر، وتشاغل بالوجه الثاني، فلعله لما رأى طرق التأويل في الوجه الثاني أبعد، لأجل أن المراد عند بالحديث بيان محل النية، لا بيان ما تثبت فيه النية وما لا تثبت. وأما الوجه الثاني فإن فقهاء الأمصار اختلفوا في محل النية، فعند مالك أن جميع أنواع الصوم التي قدمناها محل النية فيها قبل الفجر في الليلة التي صبيحتها لليوم الذي يصام، ووافقه الشافعي إلا في التطوع، فإنه أجاز إيقاع النية في نهار يوم الصيام، على اختلاف عندهم؛ هل يشترط في ذلك أن يوقع النية قبل الزوال، أو يجوز إيقاعها في سائر أزمان النهار، على خلاف عندهم فيما انقضى من النهار قبل إيقاعه، هل يثاب عليه ثواب الصائم أو يقصر الصوم وثوابه على ما بعد زمان النية. وأما أبو حنيفة فإنه يرى أن كل صوم مضمون في الذمة كقضاء ما وجب صيامه، أو صوم نذر مطلق غير معين يفتقر إلى نية، وما سوى ذلك من الصيام الواجب المعين وغيره يصح فيه إيقاع النية في نهار الصوم قبل الزوال تمسكا منهم بصوم عاشوراء، فإن الخبر ورد بالأمر يصومه في خلال النهار، فاقتضى ذلك ترك اشتراط التبييت في الصوم المعين. وأجيبوا عن هذا بأن وجوب صوم يوم عاشوراء نسخ فسقط التعلق بجملة أحكام. ولما رد عليهم ما قالوه فيما توعده بقوله عليه السلام: "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل"، تأوله على أن المراد به ما ذكروه من الصوم المضمون. ورد أبو المعالي هذا بالطريقة المتقدمة، ورأى أن هذا اللفظ عام بالغ في التعميم، فلا يحمل على هذا الجنس من الصوم الذي يشذ ويندر، كما تقدم بسطه في مسألة النكاح بغير ولي. وقد علم أن شهر رمضان هو المكرر المعروف المألوف، فلا يظن بالنبي عليه السلام

مسألة في تأويل الحديث الوارد فيمن أسلم عن أكثر من أربع نسوة

أنه لم يرد بمثل هذا الخطاب، وأراد ما سواه مما يشذ ويندر. وقد تأولوه أيضا على نفي الكمال في الصوم، لا نفي الإجزاء. ورد أبو المعالي هذا بأن الصوم (ص 169) عندهم يتنوع كما قدمناه، فلا يصح أن تنصرف لفظة واحدة إلى نفي الإجزاء عن نوع، ونفي الكمال [عن] نوع، وهذا التحكم في التأويل ليصح مذهب بني عليه مما لا سبيل إليه. وذكر عن الطحاوي أنه حمل الحديث على أن المراد به النهي عن تقدمة النية في النهار الذي يليه يوم الصوم، وإنما الحكم تأخيرها إلى مغيب الشمس، حتى توقع في الليل، فهذا حكم النية في سائر أنواع الصيام. ورد أبو المعالي هذا بأن تخصيص هذا النوع لا معنى له، والنهي عن التقدمة فيه كالنهي عن التقدمة على يوم الصوم بسنة، ورأى أن القصد بالحديث النهي عن الغفلة والتشاغل عن النية، والمبادرة إلى أن توقع بالليل قبل أن يصبح، فمقصود الحديث النهي عن تأخير النية بعكس ما قدره الطحاوي من أن القصد النهي عن تقدمتها. مسألة في تأويل الحديث الوارد فيمن أسلم عن أكثر من أربع نسوة اعلم أن هذه المسألة مبنية على النظر في أنكحة المشركين؛ هل هي فاسدة، والإسلام يصححها لهم أم لا؟ وهذا مبسوط في الفقه. وقد زعم أبو حنيفة أن المشرك إذا تزوج عشر نسوة في عقد واحد، فإنه إذا أسلم نسخ نكاح جميعهن، وإن تزوجهن واحدة بعد واحدة صح نكاح الأربع الأوائل، وفسخ نكاح الست الأواخر. وذهب مالك والشافعي إلى تخييره في الاستمساك بأربع منهن، كن أولاء الأربع أوائل أو أواخر، كان العقد على جميعهن واحدا أو كانت عقود متفرقة. والأحاديث الواردة حجة على أبي حنيفة، فمنها قوله صلى الله عليه وسلم للذي أسلم على عشرة: "أمسك أربعا وفارق سائرهن"، وقوله صلى الله عليه وسلم للذي أسلم على ثمان: "اختر أربعا"،

وقوله للذي أسلم على خمس: "فارق واحدة". وخرج الترمذي عن فيروز الديلمي أنه أسلم على أختين فقال له عليه السلام: "اختر أيتهما شئت". ولأصحاب أبي حنيفة تأويلات في هذا: - منها قولهم: المراد بقوله: "أمسك أربعا" أي أمسكهن باستئناف عقد عليهن، بعد فسخ نكاح الجميع. وهذا تأويل باطل لا يسمع، لأن العبارة عن استئناف تزويج وابتداء عقد بقوله: "أمسك" بعيد لا يستعمل، لا سيما والخطاب لقوم حديثي عهد بالإسلام غير راسخين في العلم بسائر الأحكام، فلو كان هذا المراد لبينه بلفظ يسبق المراد به إلى الأفهام. وأيضا فقد قابل قوله: "أمسك" بقوله: "فارق"، وهذه المقابلة تقتضي أن يكون الإمساك ضد الفراق، ولا تحصل المضادة إلا بالتمادي على ما كان عليه من ملك العصمة. وأيضا فلو كان المراد استئناف العقد على أربع لم يكن لتخصيص أربع من هؤلاء العشرة معنى، لأن نساء العالم مثلهن في الإباحة للعقد على أربع منهن. ومن تأويلاتهم أن المراد إمساك الأوائل. وهذا باطل، واللفظ يرده، لأن ما ذكرناه من لفظ التخيير ينافي القصر على الأوائل، لأن القصر على معينات ينافي التخيير. ومن تأويلاتهم أن القصر على أربع لم يكن في أول الإسلام، بل كان نكاح العشر وما زاد مطلقا، وإنما حرم بعد ذلك، فمن الممكن أن يكون عقد هؤلاء الذين كانوا مشركين كان في تاريخ الإطلاق والإباحة، فلهذا لم يفسخ نكاح الجميع، لأن الفسخ إنما يجب في عقد محرم. وهذا مردود عند أبي المعالي، لأجل أن التحريم ثابت الآن، والأمور على ما هي عليه، ومن زعم أنها لم تكن على ما هي عليه الآن في القديم فعليه الدليل، وهو مدع لأمر عليه إثباته. فإن قيل: هذا ممكن والاحتمال مما يسمع في الظواهر. قيل: ذلك تأويل لأمر محتمل عضده الدليل، وأما مجرد التجويز والإمكان فلا يسقط المعلوم من الأحكام، ولو قيل مثل هذا التجويز وأصغي إليه لبطل التمسك بمعظم ظواهر الشرع، ونحن نعلم أن الماضيين لا يلتفتون إلى مثل هذا التجويز، ولا يتركون الظواهر من أجله، كما لا يتركون الظواهر لإمكان أن تكون منسوخة. فإن نقل أن هذا كان من المباح في أول الإسلام حسنت المطالبة بكون عقد هؤلاء وقع في زمن التحريم لثبوت أمرين، تحليل وتحريم مع الشك في زمن العقد؛ هل وقع في هذه الحالة أو في هذه. لكن هذا يرد عليهم من جهة أن طريان التحريم على العقد يؤثر فيه، كما يؤثر في ابتدائه، كطريان الرضاع على المتزوجة، على ما بسط هذا في كتب الفقه (ص 170).

مسألة في عتق الأقارب

مسألة في عتق الأقارب اختلف الناس فيمن يعتق من الأقارب إذا ملك، فالمشهور من مذهبنا أن العتق يختص بعمودي النسب، وبالإخوة، فعمود النسب هم الآباء، والأجداد، والأمهات، والجدات، كانوا من جهة الأبوة أو الأمومة، ويعبر عنهم بالأصول، والبنون وبنوهم، ذكرانا كانوا أو إناثا، ويعبر عنهم بالفصول، لكونهم منفصلين، ويلحق الإخوة في هذا الحكم بعمودي النسب سواء كان الإخوة ذكرانا أو إناثا. وقد روي عن مالك رضي الله عنه رواية شاذة أن العتق يختص بالأصول والفصول خاصة دون الإخوة، وبهذه الرواية قال الشافعي. وروي عنه أيضا رواية شاذة أن العتق يختص بمن ذكرنا من عمودي النسب والإخوة، ويضاف إليهم كل ذي رحم محرم، وبهذه الرواية قال أبو حنيفة، واعتمد الذاهبون إلى هذه الرواية الثالثة على الحديث الوارد بأن "من ملك ذا رحم محرم فهو حرا". وذكر أبو المعالي أن تأويل هذا على عمودي النسب خاصة باطل قطعا، لأجل أن الخبر ورد ببيان حكم الشرع وتأصيله، ولم يرد مطابقة لحكاية حال، ولا جوابا عن سؤال، فيحسن فيه توخي مطابقة السؤال أو الحال، مع تثقيفه هذا المقال وتقييده للإرسال بأن ذكر وصفا وهو المحرمية، قيد بها ذكر الرحم، ليشير بذلك إلى أنه كالقاصد إلى ضبط من يعتق وتحريره. وهذا الذي ذكره أبو المعالي ليس بقرينة دالة على التعميم فلابد، والقائلون بالخصوص لا يسلمون كون مثل هذه الأمور قرائن تقتضي التعميم، كيف وقد تقدم في كتاب العموم ذكرنا ما نقل عن شيخ الواقفية عن إنكاره وجود لفظ اللسان دال على العموم، ولو سلمت الواقفية مثل هذا وزداته دلالة على العموم لكانت مسلمة لمذاهب المعممين، وأكثر ما وقع في الشرع أحكام مبتدأة، وبينات موصلة، لم يجعل ذلك أصحاب الخصوص والوقف قرينة دالة على التعميم، وكذلك التقييد ليس بقرينة أيضا عندهم، كيف وقد قدمنا إنكار جماعة من الأئمة لدليل الخطاب، ولكون الوصف والتقييد يدل على أن ما عداه بخلافه. وإن أراد أبو المعالي أن الذاهبين للعموم ينكرون حمل مثل هذا اللفظ على عمودي النسب بمجرد الدعوى والتحكم، دون دليل يعضد دعواهم فذلك صحيح، وهو غير مسموع

عندهم ولا مقبول، وإن عضد التأويل بدليل، نظر في ذلك الدليل بحسب ما قلناه في تخصيص العموم. وقد تقدم كلامنا على تخصيص العموم بالقياس، وتخصيص عموم الكتاب بأخبار الآحاد، وسنتكلم على تعارض الأقيسة والأخبار، ونبين أن الواجب تقدمة القياس على خبر الواحد، والإنصاف اتباع هذه المسالك، والنظر في الحديث بعرضه على هذه الأصول. لكنا لا ننكر تفاوت صيغ العموم وكون بعضها يكاد يلحق بالنصوص في إفادة الاستيعاب، وكون بعضها على طرف نقيض من هذا حتى تكون دلالته على الاستيعاب تلوح تارة، وتخفي أخرى، وكون بعضها متوسطا بين هاتين المرتبتين، وتختلف أيضا مراتب هذا المتوسط بالقرب من الحاشية الأولى أو الثانية اختلافا لا يكاد ينضبط على حسب ما تقدم بيانه في كتاب العموم. وقد ذكر أبو المعالي هاهنا أن مثل هذه الأخبار على ثلاثة أقسام: منها ما لا يسمع فيه تأويل، ولا يصغى إلى عاضده بدليل، ورأى هذا الحديث وأمثاله من كل ما لاح فيه قصد صاحب الشرع إلى التعميم [من هذا النوع]، وقد بينا نحن ما عندنا في هذا، وأن ما عده قرينة لا يسلمه له إلا من صار إلى حمل الألفاظ على الاستيعاب، وإن لم تقارنها قرائن تدل على الاستيعاب. والقسم الثاني: يسمع فيه التأويل وإن لم يعضد بدليل، وهو ما لاح فيه ترك القصد إلى التعميم، وعد في مثل هذا قوله عليه السلام: "فيما سقت السماء العشر" الحديث، وأنكر أصحاب أبي حنيفة الاستدلال به في إثبات الزكاة في الخضراوات، لكونها تسقيها السماء، أو تسقي بالدالية في عموم الحديث، ورأى أن قصد الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل هذا تعليم حيث يؤخذ العشر، وحيث يؤخذ نصف العشر، ولم يقصد التعرض إلى ما يزكى وما لا يزكى، فيستدل بذلك على إثبات ذلك في الخضراوات، والاستدلال بالخير على حكم لاح من قصد الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لم يقصد إليه ممنوع. وهذا كمثل قوله: "في سائمة الغنم الزكاة"، فإنه (ص 171) لم يقصد به بيان النصب، بل بيان جنس ما يزكى، فلم يتعلق به في إثبات الزكاة فيما دون النصاب، وإنما أطلقه الرسول صلى الله عليه وسلم تعويلات على ما بين من أصحاب النصب. وعد من هذا القبيل إزالة النجاسة بالخل واللين وغيرهما من المائعات، فإن أصحاب

أبي حنيفة إن تعلقوا بقوله تعالى: (وثيابك فطهر)، منعوا من هذا القبيل، وقد رد الشافعي هذا عليهم بأن القصد بالآية الأمر بالطهارة على الجملة، لا بيان ما يتطهر به. وهذا مثل قوله تعالى في آية الوضوء: (فاسعلوا وجهكم)، ولم يبين ما يغسل به، لما كان القصد سواه، ثم مع هذا لم يستدل به في إباحة الوضوء في كل مائع، بل كان الحكم الاقتصار على الماء فقط. قال: وأما القسم الثالث فهو ما لم يلح فيه القصد إلى التعميم ولا إلى نقيضه، بل وقع مطلقا، فذكر أن هذا موضع الموازنة ما بين الظن المستفاد من اللفظ الدال على الاستيعاب، وما بني الظن المستفاد من قياس دل على التخصيص وصد عن الاستيعاب، فما رجح من الظنين قدم على صاحبه، إما الاستيعاب المستفاد من اللفظ، أو التخصيص المستفاد من الاستنباط. إن تساوي الظنان في النفس فرأى القاضي أن لا يقدم أحدهما على صحبه، ويطلب الحكم من غيرهما، ورأي أبي المعالي أنه يقدم الظن المستفاد من اللفظ جريا على ما تقدم من تقدمة الخبر على القياس، وأن ذلك عادة الصحابة رضي الله عنهم في تركهم الالتفات إلى الأقيسة والبحث عنها مع وجود الأخبار عن النبي عليه السالم، هذا معلوم من مذهبهم على الجملة. ومثل أبو المعالي هذا القسم الذي تلوح فيه قرينة تدل على التعميم أو التخصيص بقوله عليه السلام: "الأعمال بالنيات"، فإذا خرجت منه بعض الأعمال بالتأويل كإخراج أبي حنيفة الوضوء، نظر في الدليل العاضد لتأويل مع دلالة اللفظ على الاستيعاب، ووزن الناظر في المسألة بينهما، واستعمل ما قلناه. والذي أراه أن ما أورده من مثل هذا الباب وتقاسيمه فيه اضطراب، وقد نبهت في صدر هذا الباب على أن القائلين بالعموم يستغنون عن تطلب قرينة تقتضي الاستيعاب، بل يرون مجرد اللفظ دالا على قصد العموم. والقائلون بالوقف لا يرون ما ذكره أبو المعالي من القرائن قرينة توجب الاستيعاب، وتنقلهم عن مذاهبهم في الوقف، وإذا وقفوا فلا ظن عندهم مستفاد من اللفظ حتى يوازن

مسألة تأويلية متعلقة بالصناعة النحوية

بينه وبين القياس على حسب ما ذكره أبو المعالي. فهذه المثل والتقاسم كما ترى، والتحقيق منها ما نبهناك عليه، ولا شك أن مراتب الظن المستفاد من الألفاظ تتفاوت تفاوتا لا يكاد ينضبط، والحق فيما عارض هذه الظنون الموازنة بين المتعارضين حتى يترجح أحدهما فيقدم، ومطلوب الفقيه ظنون تحصل له، فإذا حصلت علق الأحكام عليها، ولكن لا يطلق الفقيه هواجس خواطر يسرح فيها كيف شاء، ولكن لابد أن يجري خواطره على مضمار مسالك السلف في الاستنباط واستفادة الظنون. فهذا هو الحق، وما ذكره أبو المعالي في قوله: "فيما سقت السماء العشر" لائح وجهه لوث ثبت أن النبي عليه السلام صدر منه هذا اللفظ عند سؤال قوم علموا جنس ما يزكى وما لا يزكى مما تنبته الأرض، وجهلوا مقدار الزكاة، وأما إذا خرج مبتدأ غير جواب عن سؤال، ولا مطابقة لحكاية حال، فلا يقطع أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقصد به العموم، ولكن إن حمل على العموم فمرتبة هذا الظن تتقاصر عن مراتب ظنون أخر بعمومات أخر. وكذلك بقية ما أورده في هذا الباب من المثل، مثل بها سائر الأقسام، ينبغي أن تنتبه فيها لما قلناه، وتجري كل حديث على ما بيناه، وتضعه موضعه في إفادة الاستيعاب حتى لا تغلي فيه ولا تقصر، وهذا يعرفه كل كاشف لأسرار اللغة والأصول. مسألة تأويلية متعلقة بالصناعة النحوية اعلم أنه لا يسمع تأويل المتأول إذا أخرج الكلام بتأويله عن مجراه المألوف في اللسان، وعن الفصيح من اللغات، حتى يصير التأويل متعسفا مستكرها، يلحق كلام صاحب الشرع بغث الكلام وركيكه، لأن ردئ الكلام ومستهجنه إنما يقع فيه المتكلم إما عن جهل به، وهذا لا يضاف إلى صاحب الشرع، وإما عن إيثار الأدنى، والقصد إلى الأدنى من غير عذر ولا ضرورة، والعقل يقتضي إيثار الأفضل مع السعة والاختيار، كما يسامح في العدول عنه مع الاضطرار، كتسامح أهل اللسان بما يقع في القوافي من إقواء وغيره من عيوب، ويتسامحون بصرف ما لا ينصرف، إلى غير (ص 172) ذلك مما عليه ضرورة الشعر وضيق الوزن، على خلاف بينهم في بعض ما يتسامح به في مثل هذا مما هو مبسوط في كتبه. فإذا قال القائل: إن غسل الرجلين مما اختلف الناس فيه، فالذي عليه أئمة الفقهاء وجمهور المسلمين في سائر الأمصار على كرور الأعصار أن فرض الرجلين في الوضوء

الغسل لا المسح، وشذ قوم فذهبوا إلى أن الفرض فيهما المسح، وانفرد الطبري فقال بالتخيير بين هذين المذهبين، فإن شاء المتوضئ عنده غسل وإن شاء مسح. فيحتج من ذهب إلى أن فرضهما المسح بقوله تعالى: (فاغسلوا وجوهكم وأيدكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم) ـ بالخفض ـ في قوله: (وأرجلكم) على قراءة النحويين وابن كثير وأبي بكر، والخفض عطف على الرأس، والرأس منصوص على مسحه، فكذلك ما عطف عليه وهو الرجلان. فيجيب جماعة الفقهاء القائلون بأن الفرض الغسل خاصة بأن الخفض إنما وقع هاهنا على الاتباع والجوار، والخفض على الاتباع غير مستنكر، والعرب تتبع لفظة إعراب لفظة تجاورها، وتغير حكم الإعراب طلبا لاسترسال الكلام، وانبساط اللسان في التكلم، ومرور الصوت على السمع على مجرى واحد لا يتنافر على السمع باختلاف حركات الإعراب. ألا ترى وقد حكى الخليل عنهم أنهم يقولون: هذا حجر ضب خرب ـ بخفض لفظ "خرب" ـ إتباعا لإعراب اللفظة التي قبلها، وهو قوله "ضب" ـ بالخفض ـ ومعلوم أن الضب لا يخرب وإنما يخرب جحره، فالأصل أن يقال: "خرب" ـ بالرفع ـ نعتا للجحر الذي هو مضموم، وأنشدوا في هذا بيت امرئ القيس في قصيدته المعلقة: كأن ثبيرا في عرانين وبله ... كبير أناس في بجاد مزمل وقد أجيب هؤلاء عن هذا التأويل، وهو حمل الآية على خفض الجوار بأربعة أجوبه: - أحدهما: أن ذلك إنما حسن في كلام علم السامع قطعا مراد المتكلم به ولم يلتبس معناه، لأجل تغيير إعرابه، ولهذا قالوا: هذا جحر ضب خرب، للعلم الضروري بأن الضب لا يوصف عندهم بالخراب في مثل هذا الكلام، وإنما يوصف بالخراب الأحجار والأبنية، وهكذا قوله "في بجاد مزمل" معلوم أن المراد بهذا كون كبيرة الأناس هو المزمل لا البجاد، لأن البجاد كساء مخطط بخطوط سود وبيض، وهذا لا يوصف بأنه يزمل، لكنه مما يزمل به. وقوله تعالى: (وأرجلكم) ليس في العقول مما يحيل التعبد بمسح الرجلين دون غسلهما، فلا يصح خفضهما على الجار، لأن في ذلك تلبيس معاني الكلام وإغراء السامع بأن يفهم من الكلام غير المراد به، كما لبس هذا على قوم وأغراهم حتى ذهبوا إلى أن الفرض مسح الرجلين. وجواب ثان وهو أن الجوار إنما ورد فيما ليس فيه حرف عطف، وأما مع دخول حرف

العطف فإنه لم يرد، لأجل أن في وروده بذلك إفسادا لحقائق العوامل الإعرابية. وقد ذكر في الاعتذار عن هذا بأنه قد قرى: (وحور عين) ـ بالخفض في حور، وبالرفع ـ وإحدى القراءتين على الاتباع، على ما ذكرناه فيما أمليناه من كتبنا الفقهية، وذكرنا هناك استشهادا آخر للخافضين على الجوار. وأجيب عن هذا بجواب ثالث، وذلك أن سيبويه قال: إنما حسن خفض خرب في قولهم: هذا جحر ضب خرب، لأجل أن قولك جحر، وقولك: ضب، كلمتان: مضاف ومضاف إليه، والمضاف والمضاف إليه يقدران كالكلمة الواحدة، وفي هذه الكلمة الواحدة إعراب بالخفض وهو الضب، فحسن اتباع اللفظة الأخرى لهذه، لأنها وما قبلها كلفظة واحدة، فكأنه باتباع اللفظة الثانية في الإعراب اتبع الأولى، لكون الثانية والأولى كالكلمة الواحدة. ويعضد سيبويه اعتلاله هذا بأن الخليل لما حكى في الإفراد حكى عنه في التثنية: هذان جحرا ضب خربان، فرجع في إعراب خرب إلى الأصل، لما ثناه لأجل أن "ضب" مفرد، والجحران اثنان، والاثنان خلاف الواحد، فلا يحسن أن يقدر الجحران وهما اثنان كبعض اللفظة الأخرى وهو الضب، وهي لفظة مفردة. وهذا الاعتذار الذي أورده سيبويه واعتل به في هذا، لا يوجد في قوله تعالى: (وأرجلكم)، وإن كان أيضا لا يوجد في بيت امرئ القيس. وأجيب عن هذا بجواب رابع وهو أن العرب تقول: تمسحت للصلاة بمعنى توضأت للصلاة، ويسمى الغسل مسحا، وقفت على هذا في كتاب "غريب الحديث" لابن قتيبة، ذكره عن بعض أئمة اللغة. وقد أجيب عن هذا بجواب خامس وهو الذي اختاره سيبويه، وهو كالبسط لهذا الجواب (ص 173) الرابع الذي حكيناه عنه، وذلك أنه زعم أن العرب تعطف اللفظ على اللفظ عند تناسب في المعنى واشتباه في المرمى، ولا تعطف على اختلاف ما يعرض لهذين المتناسبين حرصا منها على الاسترسال في الكلام، وانبساط اللسان فيه، وحمل مؤونة الاختلاف عن اللسان والسمع، ولهذا أنشدوا يا ليت زوجك قد غدا ... متقلدا سيفا ورمحا

والرمح يعتقل ويتأبط ولا يتقلد به، ولكنه لما كان التأبط والاعتقال حملا للرمح، والتقلد حملا للسيف فتناسبا من ناحية كونهما محمولين، حسن هاهنا عطف الرمح على السيف، ومنه قول لبيد في معلقته: فعلا فروع الأبهقان وأطفلت ... بالجهلتين ظاؤها ونعامها يروى: فروع ـ بضم العين ـ ومعناه: عاشت الأرض وعاش ما فيها، ألا ترى قوله: وأطفلت بالجهلتين ظباؤها ونعامها. ويروى ـ بنصب العين ـ ومعناه فعلا السيلُ فروع الأيهقان، والأيهقان: الجرجير البري، الواحدة: أيهقانة، والجلهتان: جانبا الوادي هما ما استقبلك منه، ومعنى البيت: إنه يصف أن هذه الديار قد خلت فكثر أولاد الوحش بها. والشاهد على غرضنا من البيت قوله: وأطفلت، والنعام لا يقال فيه: أطفل، وإنما يقال فيه: أفرخ وأرأل، ولكن الفرخ لما كان في معنى الطفل، حسن فيه الاتباع. ومما أجاب به بعض حذاق النحوية عن هذه الشواهد، وهو جواب سادس أن قول ارمرئ القيس على تقدير الحذف، والمراد في بجاد مزمل به الثبير، ثم حذف، وهذا كقول من يقول: كسيت جبة زيدا، والحذف يستعمل في هذا، كما تقول: مررت برجل فكسوته جبة، ثم تكني عن الجبة فتقول: مررت برجل فكسوته، ثم تحذف الهاء. وهكذا التقدير: هذا جحر ضب خرب جحره، ثم حذف جحره، وأبقى الإعراب على حاله. ومثل هذا التقدير الذي ذكرناه لا يتصور في قوله تعالى: (وأرجلكم). والمقصد من هذا كله أن حمل الآية على الخفض على الجوار تعسف في التأويل، وخروج الإعراب عن الأصل إلى ما لا يحسن إلا عند الضرورة. هذا مع أن التأويلات التي ذكرناها تمنع من تصوره وتقديره في الآية على كل حال، على حسب ما كشفنا لك عن علل تلك الشواهد نظرا، نظما ونثرا. فإن قيل: قد قال تعالى: (وأغلالا)، وفعالل الذي هو وزن سلاسل، وفعايل أيضا، لا ينصرف في معرفة ولا نكرة إلا في ضرورة، وقد جاء القرآن بصرفه على قراءة من قرأ بذلك من غير ضرورة. وعن هذا جوابان: أحدهما: أن في الغايات ومقاطع الآيات بعض أحكام القوافي، والألف في

"سلاسل" يحكي إطلاق القوافي، ثم قد تبدل العرب الألف نونا تستروح إلى غنتها استرواحها إلى استرسال الألف. والثاني: أن الأصل صرف كل اسم متمكن، ومنع الصرف في حكم تضييق طارئ على الكلام، فلم يبعد في فصيح الكلام رده إلى أصله. وأما الخفض على الجوار فخروج على الأصل والقانون، ولا يحسن الخرو عن الأصل إلى لضرورة. ولما ذكرنا ما تعلق بقراءة الكسر في قوله تعالى: (وأرجلكم)، فلنذكر ما يتعلق بقراءة النصب، فقد قال أيضا الصائرون إلى المسح أن النصب إنما ورد هاهنا على حكم العطف، على إعراب الرؤوس، قبل دخول حرف الجر علهيا، فكأنه قال: وامسحوا رؤسكم وأرجلكم، والمراد مسح الأرجل عطفا على موضوع إعراب الرؤوس قبل دخول حرف الجر عليها، ألا ترى قولهم: يا عمر الجواد، فإن المنادى المفرد، وإن كان مرفوعا في اللفظ فمحله النصب على ما عرف في كتب النحاة، فأجرى قولهم: "الجواد" على الإعراب المعنوي لا اللفظي. ولما رأى الطبري أن قراءة النصب وإن احتملت هذا فالأظهر إجراء إعرابها على حكم الظاهر، فالقرض على مقتضاها الغسل عطفا على المنصوب المتقدم، وهو الوجه واليدان، ورأى قراءة الخفض تفيد المسح كما بيناه، وأبطلنا ما تؤول سواه من الخفض على الجوار، ولم يراع التأويل الذي حكيناه عن سيبويه وعن بعض أهل اللغة، أثبت التخيير بين مقتضى هاتين القراءتين، وخير المتوضئ بين الغسل والمسح. وهذه الطريقة التي سلك لا تصفو له إلا بأن يبطل إيجاب فرض الغسل والمسح معا، ويرى أن المكلف لا يجب عليه الجمع بينهما، فيصار إلى التخيير عند هذا التأويل والتنافي المقدر بالدليل الذي يقيمه على منع إيجاب النوعين جميعا. وأما إن لم يقم دليلا على هذا فيقال له: الواجب على مقتضى طريقتك الإتيان بالغسل والمسح (ص 174) جميعا، إذ لا تنافي في العقل في الجمع بينهما. ومعتمد جمهور المسلمين على الغسل، ويستدلون على ذلك بما أوردناه وبسطناه في كتبنا الفقهية من الآثار وعمل السلف، والتحديد بالكعبين كما حد بالمرفقين، إلى غير ذلك مما ذكرناه مما ليس هذا موضعه.

مسألة في مصرف الصدقات

مسألة في مصرف الصدقات اختلف الناس في مصرف الزكاة؛ هل يجزي صرفها إلى إحدى الجهات التي ذكرها الله سبحانه في الثمانية أصناف أو لابد من توزيعها على سائر الحاجات، بأن يدفع إلى الثمانية أصناف. فذكر أبو المعالي أن المقتصر بالإعطاء على صنف واحد، مثل أن يعطي جميع زكاته للفقراء، أو يعطي جميعها للغارمين، معطل للفظ لا مؤول، وكل تأويل عطل اللفظ فإنه غير مسموع ولا متقبل من مؤوله. وقد اشتملت الآية على عد ثمانية أصناف عطف بعضهم على بعض بحرف الواو التي هي للجمع والتشريك، وأكد هذا المعنى فإنه قال: (إنما الصدقات للفقراء)، وهذه اللام تفيد التمليك كقولك: الدار لزيد، والثوب لعمرو، فإن هذا اللفظ يفيد الملك. وإذا أفادت اللام في قوله تعالى: (للفقراء) الملك، وعطف على ذلك ما ذكر بعده من الأنصاف بحرف الواو التي هي للتشريك، وجب اشتراك الجميع في ملك هذا المال الذي هو الصدقة. ويوضح كون هذه اللام وعطف أعداد عليها يوجب التمليك أن الموصي إذا قال: ثلث مالي للفقراء، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، فإنه لا يصح صرف ثلثه إلى واحد من هذه الجهات دون الأخر، وما ذلك إلا لإفادة هذه العبارة في اللسان التشريك في التمليك. وقد سلم بعض المتأخرين لزوم ما ألزمه الشافعي من الوصية لأعداد، فزعم أن الوصية بمثابة الصدقات يجوز صرفها إلى واحد من ذوي الحاجات، وهذا غلط، والوصايا يجب أن تنفذ على مقتضى لفظ الموصي، فإذا صرف واحد بعض ماله إلى جههة عددها وجب استيفاء تلك الجهات، كما لو صرفها إلى أشخاص معينين. وأنكر أبو المعالي أن يكون القصد بالآية التعرض للحاجة في جهة من الجهات المذكورة فيها، ورأى هذا كالتعطيل للفظ لا كالتأويل، واعتل بأن الحاجة أيضا قد لا تستمر في بعض الأصناف المذكورين كالعاملين، فإنهم لا يأخذون من جهة حاجتهم، وكالغارمين بسبب حمالة تحملوها لإصلاح ذات البين، ولا معنى لتخيل العامل على الزكاة لما كان محتاجا إلى كفايته ونيابته على المساكين وغيرهم، صار من هذا الجانب الدافع إليه كبعض جهات الحاجة المذكورة، لأن هذا تغيير مبناه على تحكم، واللفظ منتظم لذكر الحاجات انتظام تشريك وتمليك، ولو كان المراد تأوله المتأول لكانت التلاوة: "إنما الصدقات

مسألة جارية على أسلوب هذه التي قبلها

للفقراء والمساكين"، ونحن نكتفي في هذه المسألة بكلامنا عليها في كتاب شرح التلقين، فمن أراد الاطلاع على ما يتعلق بهذه الجمل التي أوردناها، فليطلع على ذلك من ذلك الكتاب. مسألة جارية على أسلوب هذه التي قبلها اعلم أن خمس الغنيمة قد أنزل الله فيه سبحانه: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسة وللرسول ولذي القرب واليتامى والمساكين وابن السبيل)، فهذا الخطاب أفاد صريحه من يصرف إليه الخمس، وأفاد ضمنه من يستحق الأربعة أخماس وهم الغانمون، وهذا كقوله تعالى: (وورثه أبواه فلأمه الثلث)، فإن صريحه يقتضي استحقاق الأم الثلث، وضمنه يقتضي استحقاق الأب الثلثين. وقد اختلف العلماء في هؤلاء المسمين لصرف الخمس فيهم، كما اختلفوا في المسمين لصرف الزكاة فيهم، كما قدمناه. فذهب أبو العالية إلى استحقاق جميع من ذكر في هذه الآية لهذا الخمس، فرآه يقسم على ستة أجزاء، جزء لله سبحانه ومصرف هذاالجزء في رتاج الكعبة لاستحالة صرفه إلى الله سبحانه على الحقيقة، وجزء آخر يصرفللنبي عليه السلام، وجزء آخر للذوي القربى، وجزء آخر للتيامى، وجزء آخر للمساكين، وجزء آخر لابن السبيل. ورأى الشافعي أنه يصرف إلى خمسة مصارف (ص 175) وأسقط من هذه الستة الجزء المضاف إلى الله سبحانه، لا يقال للشافعي: إنك هاهنا عطلت بعض اللفظ كما يقوله هؤللاء لأبي حنيفة في آية الزكاة، وقد تقدمت، لأن أبا العالية وغيره من العلماء قد سلموا أن الصرف إلى الله سبحانه على الحقيقة يستحيل، فلابد من تأويل اللفظ، فيقول أبو العالية: المراد به صرف إلى ما يقصد به وجه الله سبحانه، وهو رتاج الكعبة، ويول الشافعي: إنما ذكر اسم الله هاهنا تيمنا وتبركا وإشعارا بأنه سحبانه هو المقصد بالتقرب إليه بهذا المال. وأما سهم الرسول فاتق على سقوطه بوفاة النبي عليه السلام، ولكن اختلف القائلون: إنه كان عليه السلام يستحقه أيام حياته، فيمن يصرف إليه بعد موته. فقال الشافعي: في مصالح المسلمين، وقال غيره: يرجع إلى أربعة أصناف

المذكورين معه: ذوي القربى ومن بعدهم. وقال غيره: بل يرجع إلى من يلي بعده. وذهب أبو حنيفة إلى قسمه على ثلاثة أصناف، فاسقط ما أضيف إلى الله سبحانه كما صنع الشافعي، وأسقط ما أضيف إلى النبي عليه السلام، وأسقط ما أضيف لذوي القربى، واختلف أصحابه؛ هل كانوا يستحقونه في حياة النبي عليه السلام؟ ولكن هذا الاستحقاق سقط بموته، أو كانوا غير مستحقين له أصلا. وذهب مالك إلى صرف الخمس إلى الأوكد فالأوكد من الأصناف المذكورين، فتلخص من هذا أن مالكا لا يعين له مصرفا ولا يعدده، وأن من سواه يعينه ويعدده. فأبو العالية صرفه في ستة، والشافعي صرفه في خمسة، وأبو حنيفة صرفه في ثلاثة. وتشعب من هذا الخلاف الثلاثة أقوال المذكورة، فيمن يصرف إليهم سهم النبي عليه السلام، فمن قال: يصرف سهم النبي عليه السلام في مصالح المسلمين تعلق بقوله عليه السلام: "ليس ليس مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود فيكم". وتعلق من يراه يصرف إلى من يقوم بالأمر بعده بقوله: "ما أطعم الله نبيا طعمة إلا جعلها لمن يقوم بالأمر بعده" الخبر كما وقع. ومن يقول: يعود على بقية الأصناف يعتل بأن سائر الأصناف مستحقون لهذا المال، فإذا سقط حق بعضهم عاد على من سواه من المستحقين له المشاركين له في الاستحقاق. وأبو العالية يتعلق باللفظ، ويرى أن التنصيص على أصناف ذكروا بصفاتهم كالتنصيص على أشخاص ذكروا بأسمائهم، فكما لا يصح تعطيل بعض أسماء الأشخاص، فكذلك لا يصح تعطيل بعض أسماء الأصناف. ويرى الشافعي ما رآه، ولكنه أسقط ما ذكرناه لما حكيناه من القربى، ويرى أبو حنيفة ما يراه الشافعي في الإسقاط على الجملة، ولكن زاد في الإسقاط ذوي القربى، واعتقد أنهم إنما يعطون إذا كانوا فقراء محاويج، والقصد بالآية سد الخلة فيمن ذكر بعدهم، فكذلك القصد فيهم. فإن قيل له: لام عنى لذكر القرابة، لأن الفقير من قرابة النبي عليه السلام عندك كالفقير ممن سواهم، فذكر القرابة على هذا لغو، والقصد إعطاء الفقير، ولا يحسن أن يكون قصد المتكلم الأمر بإعطاء الفقراء فيقول أبو حنية: لما كانت الزكوات حراما على هؤلاء الأقرباء، وإن كانوا فقراء أمكن الخمس حراما عليهم، وإن كانوا فقراء أيضا ـ

فالقصد بذكرهم رفع هذا الإشكال العارض. وهذا لا ينجيه من كون تأويله معطلا للفظ، لأجل أنه يجوز حرمانهم وصرف هذا النصيب إلى فقراء غيرهم، وهو إذا صرف إلى من سوادهم صار اللفظ معطلا، وكل تأويل عطل اللفظ فإنه غير مقبول. هذا، وهو يرى أن الزيادة على النص نسخ، والنسخ لا يكون القياس، وقد قال الله سبحانه: (ولذي القربى)، ولم يقل فقيرا ولا غنيا. فإذا قال أبو حنيفة: المعنى: ولذي القربى الفقراء. قيل له: هذا تقييد لمطلق، وزيادة على نص بقياس مستنبط، وذلك مما يمنعه، كما منعته في اشتراط الإيمان في الرقبة لعتق في الظهار، فإن الله سبحانه يقول: (فتحرير رقبة) ولم يقل مؤمنة. فرأيت أنت أن قولنا وقول الشافعي لا يجزئ في الظهار إلا رقبة مؤمنة زيادة على النص، فلا يسوغ لنا عندك رد هذه الآية التي في الظهار إلى آية كفارة القتل لما قيد فيها بالإيمان، فقال: (فتحرير رقبة مؤمنة)، فكذا يجب أن يقول بما قاله الشافعي: إن هذا النصيب (ص 176) من الخمس يجب أن يعطي لقرابة النبي عليه السلام الأغنياء منهم والفقراء، يأخذونه على حد سواء. وقد وقع في هذه المسألة استدلالات أخر، تحتاج إلى حكومة بين المتأولين، فمن ذلك ما روي أن عثمان بن عفان وجبير بن مطعم رضي الله عنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم، لما أعطى من الخمس بني هاشم وبني عبد المطلب وتركهما، فقالا: يا رسول الله: إنا لا ننكر فضل إخواننا من بني هاشم للمكان الذي وضعك الله فيه منهم، فما بال بني عبد المطلب أعطيتهم وحرمتنا، وقرابتنا وقرابتهم واحدة؟ فقال عليه السلام: "أنا وبنو المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام، وبنو هاشم وبنو عبد المطلب شيء واحد، هكذا، وشبك بين أصابعه" الحديث كما وقع. وبسط هذا الحديث أن جد النبي عليه السلام الخامس منهم عبد مناف، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم: محمد، بن عبد الله، بن عبد المطلب، بن هاشم، بن عبد مناف. وكان عبد مناف هذا له خمسة بنون، منهم واحد لم يعقب، وهو أبو عمرو، والأربعة عقبوا وهم: هاشم جد النبي عليه السلام، وعبد شمس جد أعلى لعثمان بن عفان، ونوفل جد أعلى لجبير من مطعم، والمطلب أخ لهؤلاء الثلاثة رجال، فقرابة عثمان وجبير رضي الله عنهما كقرابة بني المطلب، لأنهم أبناء رجال إخوة، فهذا معنى قولهما: قرابتنا وقرابتهم واحدة.

وأما بنو هاشم فهم كما قالوا له: هم أقرب إليه، لأنهم وإياه أولاد جد، وهاشم وهؤلاء أولاد إخوة هاشم، فتنازع الإمامان في هذا الحديث، فيقول أبو حنيفة: أضرب عليه السلام في هذا الحديث على التعليل بالقرابة وقصد إلى التعليل بالنصرة والمشادة، ألا تراه بقول: "أنا وبنو عبد المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام"، ومثل المشابكة التي بينهم في المعاضدة بمشابكة الأصابع بعضها ببعض، فأشعر بذلك أن القرابة ليست بسبب في استحقاق هذا المال. ويقول الشافعي: ليس الأمر كذلك، وإنما ذكر النصرة والمعاضدة ترجيحا لقرابة على قرابة، وإن كانت النصرة بمجردها لا توجب استحقاقا في هذا النصيب، ومثل ذلك في الشريعة أن الأخ الشقيق يحوز المال إذا انفرد، وكذلك الأخ للأب يحوز المال إذا انفرد، فإن اجتمعا أسقط الشقيق الأخ من الأب، وإن كانا جميعا أخوين من الأب، لزيادة الشقيق القربى من جهة الأم، وإن كانت هذه الزيادة لو انفردت لم توجب تعصيبا، لكنها إذا ضامت التعصيب أكدته ورجحته، وكذلك نصرة هؤلاء لما ضامت قرابتهم، أكدت قرابتهم ورجحتها. ويبطل ما تخيله أبو حنيفة من تأويل هذا الحديث أنه عليه السلام أقرهم على اعتلالهم بالقرابة، وإشارتهم إلى أنهم يستحقون, وهو عليه السلام لا يقر على باطل، فلو كانت القرابة ليست بسبب هاهنا، وإنما السبب الفقر لأنكر عليهم اعتلالهم بالقرابة، ولما سلم أخذ بني هاشم بالقرابة. ومن هذه الجهة يكاد هذا التأويل للحديث يلحق بما نحن [فيه]، لأنه عليه السلام إذا اقر على التعليل للاستحقاق صار كأنه هو الناطق به، والتحيل على التعليل يبطل حكم نطقه لا سبيل إليه. وهكذا صنع القوم أيضا في قوله تعالى: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القربى* فلله وللرسول ولذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم)، فذكر الستة الأصناف المذكورين في سورة الأنفال في خمس الغنيمة، وعلل استحقاقهم بأن لا يكون هذا المال دولة بين الأغنياء، وهذا التعليل يمنع إعطاء قرابة النبي عليه السلام إذا كانوا أغنياء، وإذا امتنع ذلك بحق هذا التعليل فقد ثبت التقييد بالفقر والحاجة في ذوي القربى المذكورين في آية الانفال، وهذا هو المطلوب. وهذا من آكد ما يتعلق به أبو حنيفة. ويقول الشافعي: إني لا أخص المعنى من قرابة النبي عليه السلام بهذا النصيب فأجعله

دولة بين الأغنياء، ولكني نعطي الغني كما نعطي الفقير، وليس هذا المال دولة بين الأغنياء خاصة، والآية إنما منعت من كونه دولة بين الأغنياء خاصة. وإذا انتهى التأويل إلى هذه الطبقة من الإشكال خرج عما نحن فيه، وإن كان موضع بسط كتب الفقه. واعلم أن مما يتعلقبهذه النكتة التي نحن فيها، أنها تعاليل مستنبطة من لفظ، عادت بتخصيص اللفظ، والعموم لا يخص بعلة مستنبطة منه، لأن العلل إنما تستنبط من الألفاظ بعد تحصيل مضمونها (ص 177) وكمال فائدتها، فإذا استقرت فائدتها وما يفيد لفظها، بحث الباحث عن سبب القول بعد تحصيله، فيتحصل من هذا أن العلة تابعة لتحصيل معنى اللفظ وما يفيده، وهذا يمنع التخصيص بعلة مستنبطة منه، لأنا نقدم قبل النظر في علة إفادته للاستيعاب، فإذا كان مفيدا للاستيعاب نظرنا في سبب إفادته للاستيعاب، وهذا يناقض التخصيص منه فيه. لكن لو كان التخصيص باستنباط علة من اصل آخر ولفظ سواه لكان فيه الخلاف الذي قدمناه في بابه، وذكرنا سبب الخلاف فيه أيضا. وبهذا يرد بعض الحذاق ما صنعه أبو حنيفة في مسألة ذوي القربى ومسألة الزكاة، فإنه استنبط علة من تعداد هذه الأصناف، أسقط بها بعض اللفظ المشتمل على بعض الأصناف. وهذا كمنعه من التعليل للربا بالكيل لكون اليسير من البُر الذي لا يكتال ليسارته فيه الربا لعموم قوله: "البُر بالبُر"، واستنباط الكيل من هذا اللفظ يخص هذا اللفظ. وهكذا صنع في إجازة افتتاح الصلاة باللفظ الذي فيه تعظيم الله سبحانه قياسا على التكبير لما كان فيه تعظيم، فاستنبط من التكبير الوارد به الشرع علة عطل! بها لفظ الاختصاص الوارد به من قوله: "تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم". وهكذا صنع في التسليم وأجاز الخروج بغير لفظ التسليم. وهكذا أباح الاقتصار في الصلاة على بعض الآي سوى أم القرآن تخيلا أن القصد قراءة قرآن ما، فعطل ما ورد من الاختصاص بأم القرآن. وهكذا أجاز إخراج قيمة شاة عن أربعين شاة، فعطل اللفظ الوارد بالشاة، بأن استنبط منه أن القصد سد خلة المحاويج بهذا المقدار، وإن كان في مذهبنا نحن اختلاف في إخراج القيم في الزكاة ذكرناه وذكرنا سبب الخلاف فيه في كتاب "شرح التلقين".

مسألة تأويلية في الكفارة الإطعامية

ومن نظر إلى أن الزكاة وجبت لأجل أن الإسلام قرابة، قال تعالى: (إنما المؤمنون إخوة)، وقد وجب في الشرع النفقة على القريب على الجملة مواساة له، فكذلك قرابة الإسلام، لكنها من عام إلا عام لكونها قرابة عامة، فصار المستحقون للزكاة من الأصناف المذكورين كالمستحقين بقرابة النسب، فلا ينوب بعضهم عن بعض، ترجح عنده ما قاله الشافعي. ومن نظر إلى أن الله سبحانه له على عبده نعمتان: نعمة بدنية، ونعمة مالية، فشكر عن صحة البدن والانتفاع بأعضائه باستخدام الأعضاء في الصلاة والحج وغيره من العبادات، وشكر نعمة الانتفاع بالمال بالخروج عن جزء منه إلى الله سبحانه، والله سبحانه لا يناله لحومها ولا دماؤها، لكن أعطيت الزكاة للمحاويج نيابة عن الله سبحانه فيما تكفل لهم به من أرزاقهم، فالمقصود بشرعها شكر النعمة بالمال وجنس ما يعطى، ومن يعطي كالدلالة في تأدية شكر هذه النعمة، ترجح عنده جانب من رأى إجزاء صرف الزكاة إلى أحد الأصناف. وكتب الفقه أحق ببسط هذا من كتابنا، لكن بسطنا هذه النكت بعض البسط، لأجل أن اختصرنا ما أمليناه في مصرف الزكاة مما قدمنا في هذا الكتاب. مسألة تأويلية في الكفارة الإطعامية ذكر الله سحبانه في كفارة الظهار الإطعام فقال: (فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا)، فقدر من يطعم بعدد محصور، ولم يقدر قدر الإطعام. وقد اختلف الناس في الوجهين جميعا أما قدر الطعام في كفارة الظهار فإن لمالك فيه أربعة أقوال: أحدها: أن الذي يطعمه كل مسكين مد بمد النبي عليه السلام، وبهذا قال الشافعي. والثاني: مد وثلث. والثالث: مد وثلثان. والرابع مدان. وذهب أبو حنيفة إلى أنه إن كان الطعام برا كان مدين، وإن كان تمرا أو شعيرا كان الأطعام صاعا. وأما عدد من يعطي هذا الطعام فمذهب مالك والشافعي مراعة العدد الذي ذكر الله سحبانه وهو ستون مسكينا، فلا يجزئ عندهما أن يعطي الكفارة لأقل من ستين مسكينا، كما لا يجزئ أن يعطي كفارة اليمين بالله لأقل من عشرة مساكين.

وذهب أبو حنيفة إلى إسقاط مراعاة العدد، ورأى أن المقصود في الشرع سد الخلة بهذا المقدار، فإن أطعم طع أم ستين مسكينا لمسكين واحد لأجزأه، لأنه حصل في ذلك ستين خلة. ونقل أبو المعالي هذا المذهب عن أبي (ص 178) حنيفة نقلا مطلقا يغتر به قارئ كتابه، ويظن أن مذهب الرجل جواز إعطاء هذه الكفارة لمسكين واحد في يوم واحد، والرجل لم يقل ذلك، ولكنه اشترط في تكرير ذلك على مسكين واحد تكرر الأيام، فرأى أنه إذا أعطى مسكينا صاعا أو نصف صاغ في يومه، وأمهل حتى صار بالغداة أعطى ذلك المسكين بعينه صاعا أو نصف صاع في يومه، وأمهل حتى صار بالغداة أعطى ذلك المسكين بعينه صاعا أو نصف صاع، ثم يمهل إلى الثالث فيعطيه كذلك حتى يستوفي ستين يوما، فيكون كالمطعم ستين مسكينا، هكذا مذهب الرجل لا ما أطلقه أبو المعالي في حكايته عنه. وبهذا التقييد الذي حكيناه عنه يوجد إلى الاعتراض عنه سبيل، ولا تبلغ المسألة إلى إفراط أبي المعالي في تأنيبه، قوله: من عذيرنا فيه، إذا عطل النص بتأويل فاسد، لأن الرجل إنما تخيل أن الله سبحانه أمر بإعطام ستين مسكينا، ولم يعين مسكينا من مسكين، ولاخلاف بين العلماء أن المساكين غير معينين، فإذا لم يعينوا وأطعم هذا مسكينا، ثم كرر إطعامه بالغداة، وهو بالغداة مسكين، فكأنه أطعم مسكينا، لكونه هذا المسكين يصير كل يوم من جملة المساكين الذين لا يعينوا. وإذا انتهى التأويل بهذا الرجل إلى هذا التقدير، فلا وجه للإفراط في تأنيبه وإضافته إلى تعطيل النص، لأنه إنما قدر أنه مستعمل للنص بهذا التكرار، وأنه غير مخل بالعدد المنصوص عليه، لكونه المساكين غير معينين، فإنما تحكام إلى مقتضى اللسان، وهل تسمى العرب هذا الإنسان المكرر على مسكين واحد ستين يوما مطعما لستين مسكينا أم لا؟ فالرجل على هذا التقدير غير مسقط للنص، وإنما ظن أن النص مشتمل عليه، وتخيل أن الغرض سد الخلة بهذا المقدار، فلا فرق بين أن يسد خلة مسكين واحد ستين يوما، أو يسد خلة ستين مسكينا في يوم واحد. وقد أفسد عليه هذا بأن اتباع هذا الغرض الذي تخيل يجوز أن يكون على المسكين الواحد الإطعام إذا سرق ما أعطيه أولا، عاد بسرقته منه محتاجا لسد جوعته، وكان يجب على هذا إذا بقى عند هذا المسكين ما أعطيه من الطعام في يوم إلى غده ألا يكرر عليه، وهو لم يلتزم هذا الذي اقتضاه طرد اعتلاله، وقد احتج له بجواز تكرير الطعام بأن يشتري من المسكين، ثم يعطي لآخر، ولم يمنع ذلك من الإجزاء، فكذلك تكرير الإعطاء لمسكين واحد بتكرير الأيام.

وأجيب عن هذا بأن الطعام لا غرض صحيح في النظر في من يملك عنه الطعام، ومن القصود الصحيحة مراعاة عدد من المساكين، ولا ينكر أحد أنه يمكن القصد إلى اعتبار العدد، وأن ذلك بخلاف اعتبار من يملك عنه الطعام، إذا تساوت جهة الملك. وأخذ أبو المعالي في الرد عليه من جهة أخرى أورد فيها نكتا نحوية، وذلك أنه قد علم أن الفعل المتعدي إلى مفعولين، يختلف حال المفعولين، فتارة لا يجوز الاقتصار على أحدهما، وذلك إن كانا اسمين يصح أن يكون أحدهما مبتدأ، والآخر خبرا عنه، لأن الاقتصار على المبتدأ دون خبره لا يصح، وكذلك الاقتصار على أحدهما خبره دونه، ألا تراك تقول: زيد عالم، فتأتي باسمين أحدهما مبتدأ، وهو قولك: زيد، والآخر خبر عنه، وهو قولك: عالم. ولو اقتصرت على إحدى اللفظتين، فقلت: زيد: أو قلت: عالم لم يكن كلاما مفيدا، فإذا تعدى الفعل إلى هذا النوع من الأسماء لم يصح الاقتصار على أحدهما دون الآخر، ولابد من ذكرهما جميعا، حتى إذا كان المفعولان بخلاف ذلك، فيجوز الاقتصار على أحدهما، إذ لا ارتباط بين الاسمين، ولا يكون أحدهما مبتدأ والآخر خبره، ألا تراك لا تقول: زيد درهم، فلما لم يكن بينهما ارتباط صح حذف أحدهما إذا علقتهما بفعل، فتقول: أعطيت درهما ولا تذكر من أعطيته، فلهذا عمل الفعل في هذا في هذا النوع مقدما ومؤخرا، لكونه مقصودا في الخطاب معتنى به، فنقول: أعطيت زيدا درهما، وتقول: زيد درهما أعطيته، ولا يحسن هذا في النوع الآخر، فلا تقول: زيدا عالما ظننته، وإنما تقول: زيد عالم ظننته، على وجه إلغاء الفعل، لأنك إذا قدمته أشعرت تقدمته بتأكيده فعمل، فإذا أخرت أشعر تأخيره باطراحه فلم يعمل، ولو وسطته لجاز لك الوجهان: الرفع والنصب، فتقول: زيدا ظننت عالما، فتعمل الفعل، وتقول: زيد ظننت عالم، فتلغي الفعل. فاستفيد من هذه الجملة أن العرب تراعي في كلامها الأهم، وتعتبر المقصود، فقوله تعالى: (فإطعام ستين مسكينا) الإطعام هاهنا مصدر (ص 179) والمصدر يعمل عمل الفعل، فيتعدى إلى مفعولين، والتقدير فإطعام طعام ستين مسكينا، فطعام أحد المفعولين، ولكنه حذف لأن هذا الفعل مما يصح حذف أحد مفعوليه. فاعتبر أبو حنيفة المفعول المحذوف وجعله المقصود في الخطاب، حتى علق الحكم به، فقال: لو كانت التلاوة: فإطعام طعام ستين مسكينا، لكان إذا أخرج قدر طعام ستين مسكينا أجزأه، فإذا لم تكن التلاوة هكذا، ولكن المحذوف مقدر وجب تعليق الحكم بتقديره، فرآه أبو المعالي غالطا خارجا عن قانون اللسان، إذ جعل المحذوف هو المراد المعلق الحكم به، والمذكور المنصوص كالملغي. وقد أخبرنا نحن في أول المسألة بعذره عن ذلك، هذا أيضا وقد يزاحم أبا المعالي

مسألة تأويلية في خبر التصرية

فيما تعلق به من صناعة النحو، فيقول ما قاله سيبويه: إن المصدر يقدر بـ "ما"، ويقدر بـ "أن"، فإذا قدرنا المصدر هاهنا بمعنى "ما" اقتضى ذلك ما قاله أبو حنيفة، ويكون التقدير: فمن لم يستطع فما يطعم ستين مسكينا، وهو التقدير الآخر، يخرج به إلى ما لا يريد. فأنت ترى كيف أريناك أن له متعلقا بصناعة النحو م وجه آخر، ذكره الإمام الأول وهو سيبويه، وذكر في تقدير المصادر ما حكيناه عنه، وأحد تقديريه فيها يخرج أبا حنيفة إلى ما أراد، فمع إمكان تعلقه بالظاهر من هذه الجهة النحوية، ومن تلك الجهة الفقهية، كيف يفرط في التغليظ عليه فيما ذهب إليه، والأولى أن لا يطرق إلى إمام أدنى ذام أو ملام، ما وجد سبيلا إلى صرف ذلك عنه، ولم نشر بهذا إلى تصحيح ما ذهب إليه في هذه المسألة، ولكن أريناك طرقه فيها، وفي هذا كفاية. مسألة تأويلية في خبر التصرية ذكر أبو المعالي، [و] أشار بذكرها إلى انخراطها في سلك ما هو فيه، ولم يورد جوابا عنها، وأحال على كتب متقدمة بسط الكلام فيها على هذه المسائل، فرأينا أن لا نخلي كتابنا هذا من تفصيل ما أجمل، وإحضار ما أحاله على غائب. فمن ذلك الخلاف المشهور بين فهقاء الأمصار في المصراة، فقد علم أن مذهب مالك رضي الله عنه والشافعي رضي الله عنه، أن من باع ناقة أو بقرة أو شاة، ودلس في لبنها، بأن ترك حلابها أيام حتى كثر درها، وتكاثر لبنها في ضرعها، ليوهم مشتريها أنها غزيرة اللبن، أن ذلك عيب دلس به البائع، وفعل فيه ما لا يحل، وهو بالخيار إذا اطلع على أن لبن الشاة أو البقرة بخلاف ما ظن، بين أن يمسكها أو يردها، وإن ردها فعندنا أنه يرد معها صاعا من تمر، كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي عليه السلام: "لا تصروا الإبل، ولا البقر، فمن اشترى مصراة فهو بخير النظرين"، الحديث. وقد ترك الأخذ به أبو حنيفة، واختلفت النقلة عنه، فلاذي يضيف إليه من تقدم من أصحابه أن التصرية عيب، ولكن منع الرد به تصرف المشترى في المبيع، وهو البقرة أو الشاة، والذي يقوله المتأخرون من أصحابه أن ذلك ليس بعيب عنده.

وإنما نيطت هذه المسألة بما نحن فيه لأجل أن أبا المعالي ذكر أن كل تأويل عطل اللفظ لا يسمع، ولو عضد بدليل، فآخر ما أجرى من هذه المسألة كفارة المظاهر بالإطعام، فإنه رأى أن مذهب أبي حنيفة إذا صار إلى أن المظاهر إذا لم يقدر على الإعتاق ولا الصيام، فإنه يطعم طعام ستين مسكينا واحدا كما قدمناه، وظن به أنه علق الحكم بلفظ محذوف، وعطل اللفظ المنصوص من قوله: (ستين مسكينا) على ما بيناه فيما قدمناه، فكذلك ما نحن فيه. زعم بعض من ينتصر لأبي حنيفة أن تأويل الحديث فيمن اشترى مصراة، واشترط غزارة اللبن، وإثبات هذا الاشتراط محذوف علق الحكم به، وعطل ظاهر اللفظ، وهو صلى الله عليه وسلم إنما علق النهي على التصرية، وبنى عليها الحكم في من اشتراها، فمن هذه الجهة انخرطت هذه المسألة في سلك ما نحن فيه. وأما من رأى أن أبا حنيفة إنما لم يقل بهذا الحديث لأجل مخالفته لقياس الأصول، لأن فيه إثبات غرامة مقدرة عن متلفات مختلفة، فلبن الناقة ليس كلبن البقرة، ولبن البقرة ليس كلبن الشاة، ثم مع هذا الاختلاف جاء الحديث بأن على متلف هذه الألبان المختلفة صاعا من تمر. وقد اعتذر عن هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما شرع هذا رفعا للخصام والتشاجر. وقد قال عيسى بن أبا، لا يصح أن ترد الشاة دون لبنها المبيع معها، ولبنها المبيع معها لا يتميز عن اللبن الذي حدث [أثناء] ملك المشتري، فلما لم يتميز هذا من هذا، ووجب رد بعض هذا الذي لا يتميز، وخيف من التشاجر والاختلاف فيه، قطع التشاجر برد صاع عوض الكل. (ص 180) إلى هذا أشار عيسى بن أبان، وإن كان لم يبسط التعرض لذكر الخصام، وإنما بسطه غيره فقال: ولا يستنكر هذا في الشريعة، ألا ترى أن الجنين إذا ضرب بطن أمه فألقته، فـ"إن النبي عليه السلام حكم فيه بالغرة"، ولم يفرق بين أن يكون الجنين المطروح ذكرا أو أنثى، مع اختلاف دية الذكر والأنثى، وإنما ذلك لرفع الخصام. وكذلك جاء الشرع في الموضحة، وهي الجرح الذي كشف عن العظم بأن فيه نصف عشر الدية، ولم يفرق بين كون هذا الجرح صغيرا أو كبيرا، فقد جاء في الأصول إثبات غرامة واحدة مع اختلاف حال المتلف. وقال أصحاب أبي حنيفة ايضًا في مخالفة الأصول: غرامة التمر عن اللبن، والأصول تقتضي ألا يغرم المتلف خلاف ما أتلف. وقد اعتذر عن هذا بأن غرامة اللبن توقع في الربا والتفاصيل في اللبن، فعدل عن ذلك لأجل الاحتياط للربا إلى أن غرم خلاف الجنس.

وأشار الطحاوي إلى طريقة أخرى في التأول تشعر بأنه يرى الحديث منسوخا فقال: غرامة اللبن، وهو دين في ذمة المشتري، والتعويض عنه بثمن في ذمته دين بدين، وقد نسخ جواز بيع الدين بالدين. فكأنه يشير إلى أن الدين بالدين كان جائزا، والحديث إنما ورد وقت جوازه، وهذا من الطراز الذي تقدم في غير هذه المسألة، حيث ذكرنا أنه لا يحسن أن يضاف إلى الشرع أمور بالتقدير، فإذا صادفنا الشرع على حكم فنحن على أنه لا يكون إلا كذلك، ومن أثبت خلافه لأجل الإمكان، ورأى ما نحن عليه ناسخا يضاهي من حاول نسخ ما نحن عليه بإمكان أن يكون قد نسخ. وهذا قد فرغ من الكلام عليه في مسألة إسلام المشترك وتحته عشرة نسوة. ومما يعتد به من أركان النظر في هذه المسألة أن أبا حنيفة يسلم أن من اشترط غزارة اللبن ثم لم يجده غزيرا، فإن له مقالا، فنقول نحن: إذا حفل شاته وصراها فلم يحلبها أيام قصدا لتغليط المشتري والتغرير به، حتى يظن أنها غزيرة اللبن، فإن هذا الفعل يحل عند العقلاء محل قول البائع: أبيعك إياها بشرط أن لبنها غزير، وهل بين هذا فرق وبين من اشترى عبدا وشرط أنه سالم الأصابع، فوجد أصبعه قد قطعت، أشترى عبدا ولم يتعرض لذكر أصابعه فوجد أصبعه مقطوعا، فإن المشتري له الرد سواء سكت أو نطق، وإنما كان له الرد وإن سكت، لأن غالب العبيد [صفتهم] السلامة من قطع الأصابع، فالمشتري إنما دخل على شراء عبد سالم الأصابع جريا منه على المألوف الذي هو الأكثر في بني آدم، فكذلك مشترى الشاة المصراة، وإن سكت عن غزارة اللبن، فإنه دخل على أن الغالب أن الشاة لا تصري، وأن الذي في ضرعها هو المعتاد من لبنها، فسكوته هاهنا كنطقه. وقد سلم أبو حنيفة هاهنا أن الاشتراط نطقا يوجب للمشتري مقالا، فكذلك السكوت الذي يحل محل المقال، ولكن يلزم على طرد هذا التعليل أن البائع لو لم يحفلها، وإنما اشتغل عن حلابها أياما ثم باعها غير قاصد للتدليس، ولا كان تاركا حلابها قصدا للتغرير للمشتري أن يكون للمشتري مقال في هذا أيضا على ما قررناه من أن السكوت في مثل هذا يحل محل النطق. وقد اختلف العلماء في هذه المسألة فطرد بعضهم هذا الأصل، ورأى أن للمشتري مقالا، وأباه بعضهم، ورأيت ابن القصار من أصحابنا هرب من طرد، وقال: لم يكن الرد للمشتري لأجل أن اللبن جاء بخلاف ما ظن، ولكن لأجل أن البائع دلس عليه، وفعل ما لا يحل، ورأى أن الاعتماد على التعليل بالتدليس يمنع من أن يوجه علينا ما وجهه أصحاب أبي حنيفة [إلى] من تابع علف بقرته حتى انتفخ بطنها فقدره المشتري جنينا، أو من بائع

مسألة تأويلية في خيار المجلس

باع غلاما بيديه قلم ودواة، وهو مسود الثياب، حتى ظنه المشتري كاتبا، فقال ابن القصار: لا يلزم الرد بهذا، لأن علف البقر ليس بحرام، فالبائع غير مدلس، ولا فاعل حراما، بخلاف المصري ناقته، فإنه فعل ما نهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم [عنه]، وهكذا إمساك الدواة والقلم، وتسويد الثياب ليس بحرام. وهذا الذي قاله ابن القصار لنا فيه تفصيل يطول، نمليه في كتبنا الفقيهة إن شاء الله. وقد ذكر أبو حامد الإسفراييني عن ابن أبي هريرة من أصحابهم أنه يرى أن ذكر الخيار بعد الثلاث في حديث المصراة، إنما وجهه أن خيار الثلاث اشترط فيه. وهذا منه مزاحمة لما أنكرناه وأنكروه على أصحاب أبي حنيفة من تقدير الإضمار (ص 181). وذكر عن المروزي أنه إنما ذكر في الحديث الثلاث، لأن اللبن لا يتبين في أقل من الثلاث. وقد يقول أصحاب أبي حنيفة: إذا لم يستنكر تخصيص العموم بالقياس وهو نقص من اللفظ، فلا تستنكر زيادة بتقدير محذوف أثبتها القياس. ويجابون عن هذا بأنهم يرون الزيادة على النص نسخا بخلاف التخصيص، فقد كفونا مؤونة الفرق. وأيضا فإن استعمال اللفظ العام على غير جهة الاستيعاب شائع سائغ في اللسان، فالحمل عليه حمل على معروف اللسان، وإثبات زيادات في الكلام مستغني عنها، والتحكم في ذلك مهجور عند أهل اللسان مستنكر، والزيادات لا تكاد تنحصر وليست زيادة أحق من زيادة، فلو فتحنا هذا الباب لم نقف عند حد، والتخصيص عنده حد على ما سبق بيانه في مواضعه. مسألة تأويلية في خيار المجلس قد علم من مذهب مالك أنه لا يرى خيار المجلس، ويعتقد لزوم البيع بالقول وإن لم يفترق المتبايعان، وإن كان من راوي الحديث: "البيعان باخليار ما لم يفترقا"، ووافقه أبو حنيفة على مذهبه هذا، وعلم أيضا مخالفة الشافعي لهما وأخذه بإثبات خيار المجلس اتباعا لهذا الحديث المروي، وأكد هذا عنده أن راويه ابن عمر رضي الله عنه كان يأخذ به، فأكد هذا وجوب العمل به. ولا يقدح في مخالفة مالك رضي الله عنه، لأن راوي الحديث إذا خالفه أخذ بروايته دون مذهبه على ما تذكر بعد هذا في موضعه، لا سيما إذا بدا عذر راويه في المخالفة. وعذر مالك في هذا أنه رأى العمل مضى بخلافه، وقد قال: ليس لذلك عندنا حد ولا أمر معمول

به، فأشار إلى كون الحديث مخالفا للعمل، وكان يرى اتباع أهل المدينة، وأنه حجة على غيرهم. وتبعه على هذه الطريقة قوم من أصحابه، فذكر ابن المعذل أن استمرار العمل بخلافه يقتضي بكونه منسوخا، وإلى هذا أشار ابن الماجشون أيضا، وإليه أشار أبو الفرج أيضا في أحد أجوبته عنه، وأكد أبو الفرج هذا الجواب بكون هذا مما تعم البلوى به، ثم مع عمومها استمرار العمل به بخلافه، وما ذاك إلا لنسخه. وهذه الطريقة التي أشار إليها أبو الفرج هي إحدى الطرق التي توجب عند أبي حنيفة ترك الأخذ بالخبر، لأنه من أصله أن لا يقبل خبر واحد فيما تعم البلوى به، وخيار المجلس مما تعم البلوى به، وإنما ورد بإثباته خبر واحد، فتعلقت المسألة من هذا الجانب بعلم الأصول من وجهين سيذكران إن شاء الله تعالى من زيادة هذا في كتاب الأخبار، أحدهما: مخالفة رأوي الخبر له، ولثاني: ورود خبر واحد فيما تعم البلوى به. وأما رده لاعتقاد نسخه فطريقة ثالثة فقهية، وقد ذكرنا من أشار إليها من أصحابنا. وأما الطريقة الرابعة وهي المقصودة في كتابنا هذا فالتنازع في قوله صلى الله عليه وسلم: "البيعان بالخيار ما لم يفترقا"، هل أراد بذلك ما لم يفترقا بالإيجاب والقبول، وإن كانا في مكانهما، أو ما لم يفترقا بالأبدان عن مكانهما؟ فيزعم الشافعي أن المراد ما لم يفترقا عن مكانهما، لا سيما وقد ذكر المكان في بعض طرق الحديث، يشير أبو المعالي إلى أن هذا هو المقصود بالحديث، وأن تأويله على الافتراق بالأقوال مما لا يقبل. ونحن ننبهك على طريقة المختلفين في هذا، فأما أصحابنا فإنهم يقولون: إذا وجب البيع وانعقد فلا يسمى المتبايعان متبايعين (حقيقة، وإنما الحقيقة أنهما) كانا [متبايعين] على الحقيقة حال تشاغلهما بالتبايع والتساوم، فالحمل على الافتراق بالأقوال تقتضيه المحافظة على التمسك بالحقيقة في لفظة المتبايعين، كما بيناه. وإن قلنا: إن حمل الافتراق على الافتراق بالأقوال مجاز، فإنما صرنا إليه لئلا يتجاوز بلظ متبايعين، وإذا كان لابد من مجاز في أحد اللفظين فالتجوز بذلك في الأقوال أولى من التجوز في تسمية المتبايعين، وقد ورد الشرع بهذا اللفظ في الأقوال، قال تعالى: (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب)، وقال: (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته)، والمراد الافتراق بالأقوال مذهبا أو طلاقا.

وتزعم الشافعية أن حقيقة الافتراق إنما يكون في الأجسام والجواهر التي تقبل الأكوان: الحركة والسكون، والاجتماع والافتراق، وأما أقوالنا فأعراض لا تقبل اجتماعا ولا افتراقا، فإن أطلق عليها ذلك فاستعارة وتشبيه، وتأويل الحديث على مثل هذه الاستعارة والتشبيه (ص 182) مستكره مستبعد لا يقبل ولا يسمع. وأما المتبايعان فهما متفاعلان، وإنما يسميان بذلك إذا حصل الفعل، كالمتضاربين والمتشاتمين، فإنهما إنما يسميان بذلك إذا حصل الضرب والشتم، فحقيقة المتبايعين من وقع بينهما تبايع، والتبايع هو انعقاد البيع، فالحمل على ذلك ليس بحمل على الاستعارة والمجاز كما صنعتهم في حملكم الافتراق على الأقوال مع ذكر المكان في بعض طرق الحديث. فهذا هو منشأ الخلاف في هذا التأويل، والالتفات إلى الاحتفاظ على حقيقة لفظة والتسامح في أخرى هو سبب التنازع كما أريناك. وهاهنا مثل هذه الطريقة من التأويل أيضا، وذلك أنه وقع في بعض طرق الحديث: "ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقبله"، فيقول أصحابنا: لو كان من حق كل واحد من المتبايعين الفسخ في المجلس من غير اختيار صاحبه لم يكن لقوله عليه السلام: "ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقبله" معنى، لأنه لا يفتقر حينئذ إلى الاستقالة التي تكون برضا صاحبه. فيقول أصحاب الشافعي: المراد هنا: لا يحل له أن يفر من صاحبه ويفارقه مخالفة أن يفسخ عليه بحق ما له من خيار المجلس. فيجابون عن ذلك أيضا بأن حمل الفسخ بالخبر على أن المراد بلفظ الاستقالة تعسف واستكراه في التأويل، وقد أنكرتم علينا مثله في حملنا الافتراق على الأقوال، فتساوت الأقدام. وقد نبهنا نحن في كتابنا "المعلم" على هذه الطريقة، فهذا هو المقصد الذي يليق بكتابنا هذا، وإليه أشار أبو المعالي. وقد رأيت أبا الفرج من أصحابنا يشير غلى طريق آخر في التأويل، ويقول: المراد بالحديث أن قبول الاستقالة والفسخ في المجلس سنة، وبعد الافتراق من المجلس تفضل. وفي هذا التأويل من الاستعباد ما نبهنا عليه، من حمل الفسخ جبرا على الاستقالة التي تكون بالمرضاة، وأبو الفرج إنما ذكر هذا جوابا في جملة أجوبة. وقد كان القاضي يحيى بن أكثم يتأول الحديث بالافتراق كما قلناه، ويعضد تأويله

مسألة تأويلية في أحكام العربة

بإجماع العلماء على أن من اشترى سلعة واشترط خيار بائعها أنه لا يحل له إتلافها والتصرف فيها حتى يرضى له بائعها بذلك، ورأيناهم أجمعوا على شرب الماء من السقاء، وهما بالمجلس لم يفارق الشارب من باع منه الماء، وما ذاك إلا لأنالسقاء لا خيار له في المجلس، ولو كان له الخيار ما ساغ له إتلاف مائة من قبل أن يرضى. ورأيت المغافي أشار إلى طريقة أخرى توجب العدول عن الحديث فقال: إن النبي عليه السلام نهى عن بيع الغرر، وعن بيع الحصاة، لأنه لا يدري أمد وقوعها، فلو كان الخيار ثابتا في المجلس لكان من جنس ما نهى عنه، لأنه لا يدري متى يفترقان، وهذه الطريقة التي ذكر المغافي. والطريق الثاني التي أشار إليها يحيى بن أكثم لا تصفو لهما عن شوائب القدح، ولوا الإطالة لنبهناك على ما فيها. ومما يولع به أصحابنا مناقضة الشافعية بالنكاح، فإنهم لا يرون فيه خيار المجلس. والشافعية تجيب عن هذا بأن معظم البياعات تقع فجأة من غير روية، فكان من المصلحة والحكمة إثبات الخيار ما داما في المجلس ليتلافى به الغالط غلطه، فإذا افترقا فإن ذلك علم على أن كل واحد منهما روي وفكر فأبصر فاعل ما رأياه صوابا، ولو كان في مهلة من النظر لأمكن أن لا يفارق صاحبه، لأنه قد لا يلقاه بعد اليوم، والنكاح بخلاف ذلك. والمراد من النكاح الأعيان، بخلاف المعاوضة المالية، ألا ترى أن الوكيل يبيع وينعقد بيعه وإن لم يسم من وكله، ولا ينعقد إنكاحه حتى يسمي للزوجة من وكله فتعرفه، لأن القصد في النكاح الأعيان، فلابد أن يعرف، فإذا عرفت حصل المقصود. وقد التزم أصحاب الشافعي على هذا التعليل إثبات خيار المجلس من جانب الصداق، لكونه مالا، ولهم فيه اضطراب لا يليق إيراده بكتابنا هذا. مسألة تأويلية في أحكام العربة قد اشتهر الحديث الوارد في الصحيح في "أنه صلى الله عليه وسلم أرخص في شراء العربة بخرصها تمرا إلى الجذاذ، إذا كانت خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق"، شك الراوي في هذا، وأخذ مالك بهذا الحديث، ولكنه لم يجز انتقاد التمر، بل شرط في جواز هذه المعاملة تأجيل التمر. والشافعي لم يشترط (ص 183) التأجيل في صحة العقد، وكلاهما أخذ بهذا الحديث في جواز هذه المعاملة على الجملة، وإن تضمنت التفاضل في ما لا يجوز التفاضل

فيه، وهو بيع الرطب بالتمر، وتضمنت أيضا مزابنة وهو بيع معلوم بمجهول، لأن الرطب إنما يباع بخرصه تمرا، وتضمنت النسيئة فيما لا يجوز النساء فيه، وهو بيع الطعام باطلعام إلى أجل. وقد عفا الشرع عن هذه الوجوه المحرمة، وأخرج هذه البيعة عن إجرائها على هذه الأصول المقررة، إما لنفي الضرر، وإما للرفق والإحسان، واتباع معروف بمعروف على ما عرف في كتب الفقه من الاختلاف في علة جواز ذلك، وسبب استثنائه من الأصول المقررة. وأبو حنيفة لا يرى هذا بيعا مستثنى من الأصول كما تخيله الإمامان، وإنما يقدر أن المعري وهب ثمرات نخله، والهبة لا تجب عنده إلا بالقبض، وأما بمجرد القول فلا تستقل في اللزوم، ولا يجبر الواهب على تسليم ما وهب، فإذا وهبه ثمرات نخيله، وكان من حقه أن يرتجعها إذا شاء، فإن التمر الذي يبذله عوض ما ارتجع من الرطب إنما هو هبة ثانية وليست بمعاوضة عن الأولى، حتى يقدر فيها من وجوه التحريم ما قدره الإمامان مالك والشافعي رضي الله عنهما. وهذا التأويل فيه تعسف ظاهر، وكان لاحقا بما كنا فيه من المسائل التي تقدمت هذه المسألة، لأن الخبر ورد بأنه "نهى عن المزابنة، وأرخص في بيع العربة بخرصها ... " الحديث، وتصدير الراوي مقاله بأنه نهى عن بيع المزابنة، معناه أنه نهى عن معاوضة وتبايع فيه مزابنة، وهذا المنهي عنه لا امتراء ولا شك في كونه عقدا وبيعا، ثم بنى على ما قاله هذا وأرخص في بيع العربة، فيسمى ما يصنع فيها بيعا، ولا بيع عند أبي حنيفة كما قررناه، ففي تأويله تعطيل لفظة البيع، وإبطال معناها، ومنافرة بين هذا العطف والمعطوف عليه، وقطع ما بينهما من الارتباط، لأن المراد أن هذه المعاوضة في العربة مزابنة، وكان الواجب لا تجوز لما صدر الراوي به كلامه من أنه صلى الله عليه وسلم هى عن المزابنة، لكنه أخبر بأن ههذ المعاوضة مستثناة من بياعات المزابنة، ورخصة من الرخص سامح الشرع بها. ولا خفاء عمن أنصف أن هذا هو المفهوم من سياق هذا الكلام، لا ما تأوله أصحاب أبي حينفة، وقد رأيت الطحاوي تخيل في الاعتذار عن هذا بأن ذكر قولين فيه: - أحدهما: أن الرخصة إنما ساقها الراوي هاهنا، لأجل أن الواهب مندوب إلى أن لا يرجع في هبته، لكن هذا رخص فيه في العرية للضرورة أو للرفق. - والثاني: أن سنة المعاوضة وحقيقتها نقل ملك إلى ملك على جهة المقابلة، هذا بهذا، والثمن والمثمون هاهنا من عند واحد، وهو المعري، لأجل أن الرطب وهبه ثم ارتجعه ثم وهبه الثمن، فكلاهما ملكه وماله، فحقيقة المعاوضة غير حاصلة فيه. وهذا الذي اعتذر به ليس بشيء، أما اعتذاره بأن الرخصة في إرجاع الهبة، فالسياق يبطل هذا التأويل، وقد ذكرنا أنه صدر الحديث بأن قال: "نهى عن المزابنة"، ثم عطف

عليه قوله: "وأرخص في بيع العرية"، والمفهوم من هذا قطعا أن الرخصة بالإخراج لهذا الحكم عن أحكام المزابنة، ولو لم يكن ذلك، لم يكن لتصدير الخطاب بذكر المزابنة معنى. ونحن وإن لم نعد عطف جملة على جملة لا تعلق بينهما كقول الراوي: نهانا عن سبع، وذكر لبس القسي، والشرب في آنية الذهب، إلى غير ذلك مما ذكره، فإن هذا لما عبر الراوي بلفظ الرخصة عقيب ما صدر الخطاب به اقتضى ذلك الإشارة إلى أن المراد أن هذه رخصة مما تقدم، ولا يسمى الشيء رخصة إلا إذا استثنى من ممنوع، ولا ممنوع هاهنا سوى ما ذكره الراوي، لو كان المراد ما ذكره هذا المتأول لقال: نهى عن الرجوع في الهبة، وأرخص في العرية، ولم يقل: في بيع العرية، وهذا ظاهر لا يمتري فيه لبيب. وأما التأويل الثاني، وهو أن هذه العبارة إنما حسنت لأجل عدم حقيقة التعاوض لكون الرطب والتمر لمالك واحد، فإن هذا باطل بهذا الذي قدمناه، لأنه لا بيع هاهنا عند هذا المتأول، وكأنه يشير إلى الرخصة في التسمية، وهذا لا يقوله محصل، لأن الراوي لم يشتغل في هذا بنقل اللغة وحقائق التسميات، وإنما اشتغل بنقل الأحكام وبيان الشرائع، فالمنع والترخيص إنما يراد به هاهنا الأحكام (ص 184) والحلال والحرام، لا التسميات. ولا تحسبن العبارة أيضا عمن تجوز في لفظ أو برزت منه استعارة أن يقال: أرخص في كذا. وبالجملة فقد قال: بيع العرية، وهذا تعطيل اللفظ جملا وتفصيلا، فلحق بالمسائل التي قدمناها من ههذ الجهة. هذا الذي أظنه أراد أبو المعالي بإيراد هذه المسألة هاهنا، من غير ذكر جواب عنها، ولم أقف له فيها على مقال، وقد أبدينا نحن ما يمكن أن يقال. ومن مستهجن التأويل أيضا بما تعلق بخلال هذه المسألة، لأنا ذكرنا أن العربة من الاستثناء عن الأصول، بيع الرطب بالتمر وهو ممنوع عندنا وعند الشافعي، وأجازه أبو حنيفة كيلا بكيل مع ورود الحديث المشهور، وقد سئل عنه صلى الله عليه وسلم فقال: "أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم. قال: فلا إذن"، فاشار عليه السلام إلى أن المماثلة المطلوبة في الربويات المساواة حال الادخار، وذلك إنما يكون بعد الجفاف. وقد تعسف بعض من ينتصر لأبي حنيفة على هذا الحديث بتأويل لا خفاء بركاكاته، فقال: المراد: فلا إذا، أي لا تبيعوا الرطب إذ جف، فصار تمرا بتمر آخر إلا مثلا بمثل.

مسألة تأويلية في بعض المسائل الربوية

ومثل هذا التأويل لا يصح أن تسود الصحف بذكره، وإنما ذكرناه لتعلقه بأذيال هذه المسألة التي نحن فيها، وأقل ما فيه من الفساد أن هذا جهل باللسان، لأن هذه اللفظة إذا وردت آخر الكلام كانت ملغاة في إعمال الإعراب، وواردة مورد التعليل على ما قدمناه في كتاب الحروف، وهي بخلاف "إذا" الذي لا تنوين فيها، لأن "إذا" ظرف زمان مستقبل، فقد جهل هذا المتأول أحكام الإعراب والرواية أيضا، لأنه لم يقل: فلا إذن، أي إذا جف الرطب وصار تمرا، فلا تبيعوه بالتمر متفاضلا، وحذف هذه الجملة كلها بعد "إذن" فإن إخراج كلام النبي عليه السلام عن الإفادة، وإلحاقه بمن سئل عن شيء، فأجاب عن غيره، وهذا يحاشي منه الفقهاء، فكيف بالنبي صلى الله عليه وسلم. يضاف إليه أنه سئل عن شيء فترك الجواب عنه، وأجاب عن غيره والمسألة تبسط في الكتب الفقيهات، وإنما ذكرنا منها هذه الجملة المتعلقة بالتأويل الذي نحن بصدده. مسألة تأويلية في بعض المسائل الربوية قد قررنا فيما أمليناه من الفقهيات اختلاف فقهاء الأمصار في علة الربا، وسبب اختلافهم في ذلك. والمتعلق من ذلك بما نحن فيه الآن مسألة أشار إليها أبو المعالي على الجملة، وأحال جوابها على كتب له أخرى، وهي مسألة بيع الحفنة بالحفنتين، فقد علم أن العلة عند مالك في تحريم التفاضل في البُر وما في معناه: الاقتيات والادخار، وعند الشافعي الطعم، وعند أبي حنيفة الكيل والوزن؛ فإذا سئل الشافعي عن بيع ما لا يكال من الطعام لقلته كالحفنة قال: لا يجوز بيعها بمثليها، ولا يباع إلا مثلا بمثل، لأن العلة الطعم، والطعم حاصل فيها وإذا سئل عن ذلك مالك قال: لا يجوز، لأنها مما تدخر وتقتا، ولو قل الطعام حتى لا تكون فيه كفاية في التغذي، لم يخل من أن تكون له حصة في التغذي والتقوت، والتعليل للجنس، فوجب تحريم التفاضل. وأما أبو حنيفة فيقول: العلة الكيل، وما لا يكال لقلته فجائز بيعه متفاضلا بجنسه كالحفنة بالحفنتين. فيتحاكم القول إلى الحديث، فيقول: قال عليه [السلام]: "لا تبيعوا البر بالبر إلا كيلا بكيل" الحديث كما وقع، فيقول أبو حنيفة: ذكره عليه السلام الكيل، يشعر بأن علة الربا الكيل، على ما عرف من بسط الكلام في هذا في كتب الفقه، وإذا ثبت أن اللفظ مشعر بأن العلة الكيل، فالحفنة مما لا يكال، فوجب أن يكون لا ربا فيها لزوال علة الربا منها.

فيقول له الآخرون: هذا تعليل وتأويل فيه تخصيص للفظ، وتخصيص اللفظ تعطيل لبعض المسميات، وتعطيل بعض مسميات اللفظ كتعطيل جملته، وقد قدمنا أن كل تأويل يؤدي إلى تعطيل اللفظ فإنه لا يسمع ولا يقبل، ومن هذه الجهة حسن إدخال هذه المسألة في هذا الكتاب وإيرادها في هذا الباب، لأن أبا حنيفة تأول تأولا، وعلل تعليلا استنبطه من لفظ، عاد ذلك لتعطيل بعض مسميات اللفظ، وذلك [أن] قوله عليه السلام: "لا تبيعوا البر بالبر" جملة مفيدة، مستقلة بنفسها، لو اقتصر عليها لأفادت تحريم بيع البر بالبر على أي حال (ص 185) كان قليلا أو كثيرا، متساويا أو متفاضلا، لكنه لما قال: "إلا كيلا بكيل"، استثنى من هذا العموم ما تساوى كيله خاصة، وبقي الباقي على عمومه في المنع، فدخلت الحفنة بالحفنتين في المنع بحق هذا العموم، فإذا عاد يستنبط من اللفظ علة تجيز بيع الحفنة بالحفنتين صار مخصصا للفظ بتأويل وتعليل استنبطه منه. وقد تقدم بياننا لمنع تخصيص اللفظ لعلة مستنبطة منه، إذ التعليل إنما يكون بعد فهم معنى اللفظ، والإحاطة بمضمونه في اللغة. ولكن أبا حنيفة يعتذر عن هذا بأن المقصود من الحديث تعليم حكم التعليل، وإنما ورد التحريم فيه على جهة التبعية، والوصلة إلى النطق بالمقصود، ويتنزل ذلك منزلة قوله عليه السلام: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب"، و"لا عمل إلا بنية"، و"لا صلاة إلى بطهور"، فإن الجملة الأخيرة المستثناة لا المستثنى منه، وهو النفي، وإنما ورد النفي ليتوصل به إلى النطق بما بعده من إثبات الطهارة، وتعليم الحاجة إليها في الصلاة، وإلى فاتحة الكتاب، وإلى غير ذلك من أمثاله، وإذا ثبت أن هذا المقصود: فقوله: "لا تبيعوا البر بالبر" غير مقصود، وما ليس بمقصود لا يدعى فيه العموم. وقد تقدم لنا نحن مثل هذا في قوله: "فيما سقت السماء العشر، وفيما سقى بالنضج نصف العشر"، ورددنا على أبي حنيفة، فقوله: إن الخضراوات [لا تزكى] ترك لعموم قوله: "فيما سقت السماء العشر"، بأن هذا الحديث: المقصود منه تعليم ما يعشر وما يؤخذ منه نصف العشر، لا تعليم ما يزكي وما لا يزكي، وما ليس بمقصود لا يتعلق بعمومه. فهذا نهاية ما يعتذر به أبو حنيفة عن هذا الحديث، ولكنه يخالف فيما اعتقد من هذا، ويقال له: بل المقصود الجملة الأولى، وهي قوله: "لا تبيعوا البر بالبر"، وإنما ما استثني

بعدها في حكم التبع الوارد لتخصيص الجمل والتحرز فيها، فشبيه ذلك ما يزيده القايس من تقييد في العلة ليتحرز من النقض، ومقصوده مع ذلك في التعليل ما سوى هذا اللفظ المزيد، فكذلك قوله: "لا تبيعوا البر بالبر إلا كيلا بكيل"، المقصود تعليم التحريم، ثم يستثنى منه ما يحل على جهة التبعية للفظ، وليس المقصود تعليم التحليل، والمحرم ذكر كالوصلة كما قال أبو حنيفة. وإذا ثبت أن الجملة الأولى هي المقصودة، صح التعلق بعمومها، ومنع أبو حنيفة من تخصيص هذا العموم بتعليل يستنبطه منه، وتصير هذه الجملة كقوله عليه السلام: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، كفر بعد إيمان ... " الحديث، فالمقصود الجملة الأولى، وهي تعليم تحريم الدماء، والذي استثنى من هذه الجملة في حكم التبع الوارد لتحصينها وتقييدها، فهذا موضع التنازع ومنشؤه. وتلخيصه: هل الجملة الأولى مقصودة والغرض تعليم التحريم، حتى يمنع أبو حنيفة من تخصيص المقصود بعلة مستنبطة منه، [أو] المقصود الجملة الثانية؟ حتى لا يحتج على أبي حنيفة بعموم الأولى. ويمكن عندي أن يظن ظان بهذا الحديث مذهبا ثالثا غير ما قاله هؤلاء، وهو كون الجملتين جميعا مقصودتين، وقصد الشارع بيان ما يحل ويحرم معا في التبايع بالبر بعضه ببعض. ولا شك أنه ربما وردت جمل كلها مقصودة، ومثل هذا القسم بقوله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا)، فإن الجملتين جميعا مقصودتان، والقصد تعليم التحليل في البيع والتحريم في الربا. ولكن هذا المثال ناء عما كنا فيه، لأن هاتين جملتان لا تفتقر إحداهما إلى الأخرى، مثل ما مثلنا به فيما المقصود آخره، وهو قوله: "لا صلاة إلى بطهور"، وما المقصود أوله كقوله: "لا يحل دم المرئ مسلم ... " الحديث، فلابد أن يوضح الصحيح من هذه الآراء، هل المقصود في الحديث الذي تكلمنا عليه الجملة الأولى وهي منع التبايع في البر بالبر، أو الأخيرة، أو المقصود مذهب ثالث وهو اعتقاد قصد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تعليم التحليل والتحريم جميعا، ويكثر الشكل من هذا النوع، ومنه قوله عليه السلام: "أمرت أن أقاتل الناس

فصل يشمل المعنى الكلي المحيط بجميع ما تقدم في كتاب التأويل

حتى يقولوا: لا إله إلا الله ... "، هل المقصود بيان الأمر بالقتال، وما بعده في حكم التبع، أو المقصود ما بعد حرف الغاية، والأولى في حكم الوصلة؟ والمسألة عندي لا تصفو جارية على الأسلوب من النظر إلا بعد أن تحقق أحكام هذه العلل، والنظر في الكيل (ص 186) والوزن؛ هل ينوب أحدهما عن الآخر في أحكام الربا إذا تعذر الآخر؟ وهل يراعى الوزن في التمر في بلاد اعتادوا وزنه، أو الكيل؟ وهكذا البر. وإنما أشرنا إلى هذا لأن ما امتنع كيله لا يمتنع وزنه، هذا أيضا ولابد لكل مبيع أن يكون مقدرا، ولا بُعْدَ في اتخاذ معيار لذلك المقدار يصطلح عليه وإن قل، ولا يمتري أحد في إمكان اتخاذ ميكال بقدر الحفنة، حتى يلحق بما اعتيد كيله، وهذا كله إنما ينظر فيه الفقيه، وبسطه إنما يحسن في كتب الفقه. فصل يشمل المعنى الكلي المحيط بجميع ما تقدم في كتاب التأويل اعلم أنا كنا قدمنا في مواضع تنبيهات، إن انتبهت إليها أغنتك عن مطالعة هذا الفصل، فمن ذلك أنا كنا قدمنا أن المطلوب في أكثر الفقيهات الظنون، والتطرق إليها من جهات لا تكاد تنحصر، ولكن هذه الجهات يعرض فيها التنافر والتعارض، فيحصل في النفس عند النظر فيها خواطر تتدافع أيضا وتتنافر، فإذا عرض للفقيه هذا، وقد علم أن المطلوب حصول غلبة الظن، فإنه يجب أن يستعمل ميزانا من فكرة يزن به بين الظنين المتدافعين فمهما رجح عنده قدمه. فإذ ورد عن النبي عليه السلام لفظ، وكان نصا لا احتمال فيه فلا شك، أنه لا يدفعه ظن يناقضه من جهة تأويل له، لأن التأويل إنما يكون لأمر محتمل، ويعضد المتأول تأويله المحتمل بعاضد، والنص لا احتمال فيه فيؤول، فانحصر الأمر إلى أن التأويل إنما يكون في الظواهر، وقد تقدم معنى الظاهر وحقيقته، فإذا تأول المتأول الكلام على معنى أخرج الكلام عن إفادته الظاهرة فيه، فإن ذلك لا يسمع منه بمجرد دعواه، فإن استدل عليه نظرنا في الدليل عليه، ومقدار ما أفاد من الظن بصحته، ووازنا بينه وبين الظن المستفاد من الظاهر السابق إلى النفس من جهة اللفظ، أن النبي عليه السلام أراده، فإن كان الظن المستفاد من ناحية اللفظ وظاهره أقوى وأغلب في النفس وجب العمل به، وإن كان النظر الآخر الذي أبداه المتأول أقوى وأغلب رجع إليه، وإن تقابلا وتوازنا حكم فيهما بأحكام ما يتعارض، وسيرد حكم التعارض. وقد قدمنا نحن ما يقال في هذا إذا تعارض، وذكرنا أن الخروج عن الظاهر بقياس

استنبط الفقيه علته لا يحسن، لأن الظن المستفاد من نطق النبي عليه السلام من جهةه دلالة اللفظ والصيغ أولى من ظن يستفاد من قياس مستند إلى علة ظن الفقيه أنها مراد صاحب الشرع، وسيتضح هذا عند إقامة الدلالة على تقدمة الخبر على القياس. وقد ذكر أبو المعالي أن اللفظ إذا كان ظاهره التعليل ولم يكن نصا فيه لا يترك بتأويل عضد بقياس استنبطه الفقيه، لأجل هذه العلة التي نبهنا عليها، ومثل هذا بقوله عليه السلام: "أينقص الرطب إذا جف؟ ". وقد تقدم كلامنا نحن على هذا الحديث، لكن لو عضد تأيوله بقياس مستند إلى تعليل استفيد من لفظ صاحب الشرع، ودل نطق صاحب الشرع عليه دلالة الظواهر للحق هذا بما يتعارض من الأخبار، وسيرد حكم ما تعارض منها. وذكر أبو المعالي أنه إذ ألف من عادة علماء الشرع حملهم نواهي وردت في عقود على الفساد، فإنه لا يحسن تأويل خبر ورد فيما يناسبها على غير ما جرى عليه أمثاله، ومثل هذا بالنهي عن نكاح الشغار، وذكر أن الشافعي يمنع من تأويل هذا الخبر وحمله على الكراهة، ولم يسلم أبو المعالي هذه الطريقة في هذا، ورأى أن مثل هذا التأويل لا يبلغ في التعسف والإبعاد المبالغ التي ذكرناها في تأويلات المسائل السابقة، لا سيما وإن ألف هذا من الماضين في نواهي وردت في عقود البياعات، فإنه قد علم أن عقود النكاحات كأصل آخر في الشرع لا يراعي فيه ما يراعي في البياعات، وكثيرأ ما يفسد البيع ولا يفسد النكاح، هذا لا يعرفه الفقهاء، وهذا الذي قاله صحيح وله تعلق بأمر آخر يؤكده، يذكر في باب الأخبار، وهو قول الراوي: نهى عليه السلام عن كذا، وأمر بكذا، فإن هذا لحذاق الأصوليين فيه تنبيه ذكروه، ليس هذا موضعه. وختم أبو المعالي كتاب التأويلات، فذكر رتبة أجزاء الكتاب (ص 187)، وأخبر أن أصول الفقه أدلته، وأدلته نطق صاحب الشرع، والإجماع، ومستنبط من نطق الشرع، فتعلق بنطق الشرع النظر في كتاب الأوامر، وكتاب العموم، وقد تقدم ذكرهما، وذكر أحكام النص، والمجمل، والظاهر، وذكر التأويلات، وسنذكر أحكام الأخبار، ثم الإجماع، والقياس، ثم الترجيح، ثم النسخ، ثم أوصاف المفتي، ثم نختم الغرض من الكتاب بالنظر في تصويب المجتهدين. وهذا الذي اختاره أبو المعالي في الترتيب من تقدمة كتاب القياس على كتاب النسخ مما جرى الرسم بخلافه، لأن النسخ نظر في الأقوال الصادرة من صاحب الشرع، والقياس نظر فيا استنبط من أقواله. ولعله أخر ذلك لما كان المنسوخ بطل كونه دليلا، والقياس لم تبطل دلالته، والخطب في هذا يسير، والأمر هين، ونحن نجري في الترتيب على رسمه، فلا يختلف علم مطالع الكلام على جزء من أجزاء هذا العلم باختلاف وضعه في التأليف على هذه الطرق التي أشرنا إليها.

كتاب الأخبار

كتاب الأخبار الكلام في مقدمته منثلاثة أوجه:- الكلام في التسمية، وفي الحد، وفي الاعتراض عليها. فأما التسمية فقد علم فيما تقدم مذهبنا في إثبات كلام النفس، ووسعنا الكلام في ذلك بيننا وبين المعتزلة والفلاسفة، وذكرنا ما يقال لكل مذهب وعليه، وأشرنا إلى الاختلاف في تسمية الكلام الصوتي كلاما، هل ذلك حقيقة أو مجاز، فكذلك يختلف أئمتنا في تسمية الخبر الصوتي خبرا؛ هل يسمى بذلك حقيقة أو مجازا؟ مع اتفاقهم على أن ما في النفس من الكلام يسمى كلاما وخبرا حقيقة، ومع اتفاقهم على أن العبارة عما في النفس بإشارة إن سميت كلاما وخبرا فذلك مجاز وليس بحقيقة، فمن سئل عن شيء: هل كان؟ فإنه يقدم في نفسه وضميره خبرا عنه بأنه كان أو لم يكن، فهذا المقدم في النفس يسمى خبرا حقيقة، فإن نطق بلسانه بقد كان، أو قال لم يكن، فإن هذا يسمى خبرا، وهل يسمى بذلك حقيقة أو مجازا؟ فيه اختلاف. وإن أشار بيده أو برأسه خافضا رأسه، ليفهم منه أنه لم يكن، فإن سمي هذا خبرا فإنما ذلك مجاز. هذا الكلام في الوجه الأول. وأما الوجه الثاني وهو الحد فإن المشهور في حده أنه ما دخله الصدق والكذب، وسائر أنواع الكلام من الأمر، والنهي، والاستخبار، والترجي، والتمني، وغير ذلك من أنواع الكلام لا يدخلها صدق ولا كذب، وإنما يختص بالصدق والكذب نوع من أنواع الكلام، وهو الخبر، فحد بما ذكرناه. وقد أصلح القاضي هذا الحد بأن زاد فيه: ما يدخله الصدق أو الكذب، فأتى بحرف "أو" بدلا من "الواو"، لأنه اعتقد أن الحد بالواو يوهم اجتماع الصدق والكذب في خبر واحد، حتى يقول القائل: قام زيد، دخل خبره الصدق والكذب معا. وهذا محال، فعدل عنه إلى أن قال: ما دخله الصدق أو الكذب، ليخلص بحرف "أو" من هذا الاعتراض. وقد دوفع عن اعتراضه من وجهين: - أحدهما: إبطال ما تصور. - والثاني: عكس اعتراضه عليه. فأما إبطال ما تصور، فإنه إنما فصل الحادون بحرف الواو، حد جنس الخبر كله، لا

حد خبر بعينه. ومعلوم أن الأخبار بأسرها ما كان منها وما سيكون، بعضها صدق، وبعضها كذب، فالتعرض للجنس لا لواحد بعينه، يدفع الاعتراض للعلم بدخول الصدق والكذب معا في جملة الأخبار على الجملة. وهذا عندي انفصال منهم لا يشفي، لأن الحاد لجملة الشيء من حق حده أن يتصور حقيقته في كل واحد من آحاد المحدود، ألا ترى أنا إذا حددنا الحركة بالانتقال، فلابد أن تكون كل حركة على حيالها انتقالا، فكذلك يجب أن يكون كل خبر على حياله يدخله الصدق والكذب، وإذا وجب هذا فيه، تصور على الحد الإبهام الذي قاله القاضي. وأما العكس، فإنه قيل له: ولو أثبت حرف "أو" لم يسلم حدك من الاعتراض، لأنه يوهم أيضا أن كل خبر على حياله يوهم دخول الكذب فيه بدلا من الصدق، والصدق بدلا من الكذب، على مقتضى حرف، ونحن نعلم أن من قال مناة إني إنسان، فإن خبره صدق ولا يمكن دخول الكذب فيه، ومن قال: ما أنا إنسان، فإن خبره كذب لا يمكن دخول الصدق فيه، فقد صار هذا الحد بعد إصلاحه (ص 188) غير متخلص من الإيهام لمحال أيضا. وقد أشار القاضي أبو محمد عبد الوهاب إلى اختيار حد جار على هذا الأسلوب مشعر بدفع هذا العكس، بأن يعترض لدفع الصيغة، وحده بأنه: ما احتملت صيغته الصدق أو الكذب. وقال: إن هذه الأخبار المعلوم صدقها من صدق الرسول الذي يستحيل كونها كذبا صيغتها محتملة من ناحية اللسان، ومقتضى وضعها للصدق والكذب، وتعين أحدهما من ناحية العقول لا يرفع [أن] مجرد الصيغة محتملة لهذا. والنظر معه في هذا الذي قال يطول، وقد عدل بعضهم على سائر المسالك بأن قال: الخبر ما لا يخلو إما أن يكون صدقا أو كذبا، وكل خبر على حياله يتصور فيه حقيقة هذا الحد. وقد يعترض على هذا أيضا بأن من الأخبار ما لا يخلو عن الصدق والكذب جميعا على رأي قوم، وهو الخبر الذي لم يتعمد من أخبر به الخلف، ولكنه غلط في اعتقاد، كمن اعتقد أن زيدا في الدار، فقال: زيد في الدار، فإن لم يكن في الدار، فإنه لا يوصف خبره بأنه صدق لأن خبره لم يطابق مخبره، ولا بكونه كذبا لأن الكذب عند هؤلاء: الإخبار عن الأمر بخلاف ما هو عليه مع القصد إلى ذلك، وهذا الغالط غير قاصد للخلف. وهذا إنما يقدح به على أصل من ذهب إلى هذا، ورأى أن الكذب يتضمن الذم واللوم، والغالط هاهنا غير مذموم ولا ملوم، ونحن نبطل هذا الأصل، ونرى أن هذا كاذب

في هذا الخبر، وارتفاع اللوم والذم لا ارتباط بينه وبين هذه الحقيقة التي كون هذا الخبر على خلاف المخبر عنه. ولو شئت أن تأتي بعبارة جارية على هذا المسلك من التحديد، وتنتظم المذهبين لقلت: حد الخبر ما لا يخلو أن يكون مخبره على ما ليس هو عليه أو على ما هو عليه. وهذا المعنى من مطابقة الخبر لمخبره، أو مخالفته له متفق على أنه لابد منه، وإن وقعت المناقشة في تسمية ما يخالف مخبره كذبا إذا لم يقصد إليه، ومر بأنه لا يخلو عن أن يكون صدقا أو كذبا، فمعنى هذه العبارة أراد. وقد يتعلق من ينصر مذهب من ذهب إلى اشتراط القصد في حقيقة الكذب بقوله تعالى: (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسول والله يشهد إن المنافقين لكاذبون)، فأكذبهم مع قولهم مقالا حقا، لما لم يقولوه عن اعتقاد. وهذا لا حجة فيه، لأنه وإن لم يكن صدقا عندهم لأجل عدم الاعتقاد فليس بكذب أيضا، لأن مخبره ليس بمخالف لخبره. وإنما يحصل الكذب مع المخالفة ويبقى التنازع في مراعاة انضمام القصد إليها، فإن قيل: أكذبهم فيما أخبروا به من اعتقادهم، لأنهم قالوا: نشهد بذلك، وهم لا يشهدون به. قيل: قد رجع الأمر إلى مخالفة مخبره، وهذا واضح. وقد حكى عن قوم من أهل العربية أنهم لا يصفون قول القائل: أتيتك غدا، بأنه صدق ولا كذب، فإن أضافوا إلى هذا أنه ليس بخبر، لم ينتقض حد الخبر الذي ذكرناه على أصلهم، وإن سلموا كونه خبرا، ومنعوا وصفه بالصدق أو الكذب، فالحد منتقض على أصلهم ولا وجه لمنع تسميته خبرا، وإن كان محالا، فكم من محال اتفق على تسميته خبرا، ولا نزاع في كونه كذبا، وليس في هذا أكثر من إيراد معنى متنافر. والإخبار عن فعل تقضي وذهب زمانه بأنه فعل في زمان مستقبل، والعقل يحيل هذا وينكره، ولكنه بالجملة تضمن إفادة، ولكنها محال لا تتصور. ولعلنا أن نوسع هذا في تقسيم المخبرات إن شاء الله، وهذا الكلام على التسمية، والحد، والاعتراض عليه. وأما الاعتراض على اصطلاح هذا الباب فإنه يقال: أطلق الناس تسمية ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار، ومعظم ما قد نقل الرواة عنه صلى الله عليه وسلم أوامر ونوهي، والأوامر النواهي ليست بأخبار.

فصل في تقسيم الأخبار على الجملة

وقد أجيب عن هذا بأن أوامر النبي عليه السلام ونواهيه ليست عن نفسه، وإنما هي خبر عن ربه بأنه أمر ونهى، فكل أمر منه تضمن خبرا عن ربه أنه أمر به، ولهذا صدق فيه وأطيع، لأنه استدل بالمعجزة على أن جميع أخباره حق وصدق، فمن هذه الجملة وجب أن يتبع في أمره ونهيه. وجواب ثانٍ أنهم لم يكونوا يسمون ما سمعوه عن النبي صلى الله عليه وسلم من هذا خبرا، ولكن حدثت له هذه التسمية بعد ذلك، لما أن نقلته رواة، فصار إخبار (ص 189) الرواة عن رواة فيه حقيقة الخبر، فلم يخرج هذا الاصطلاح عن حقيقة ما ذكرناه. فصل في تقسيم الأخبار على الجملة اعلم أن المشهور الذي عليه الجمهور انقسام الأخبار إلى قسمين: تواتر وآحاد. والتواتر عبارة عن كل خبر رواه مخبرون، فعلم صدقهم في خبرهم ضرورة. والآحاد عبارة عما لم يحصل منه أكثر من غلبة الظن بصدق من أخبر، واحدا كان أو أكثر، ما لم تبلغ الكثرة إلى العدد الذي يقع العلم الضروري بصدقها في خبرها. وذهب قوم من الأئمة إلى زيادة قسم ثالث على هذين القسمين فقالوا: الأخبار ثلاثة، خبر واحد، وخبر مستفيض، وخبر متواتر، وجعلوا المستفيض منحطا عن طبقة المتواتر، مرتفعا عن طبقة الآحاد، ورأى هؤلاء أن إثبات هذا القسم لابد منه، لأجل وجود خبر يخرج عن هذين القسمين اللذين حصر الجمهور التقسيم فيهما، وهو الخبر الذي يقع عنه العلم بصدق المخبرين، لكن العلم الواقع علم نظر واستدلال، لا علم بديهة واضطرار. قال هؤلاء: فإذا كان التواتر عبارة عما يقتضي العلم الضروري، والآحاد عبارة عن يقتضي الظن، يقي هذا الصنف من الأخبار لا عبارة عنه، فاقتضى الحال وضع عبارة عنه تميزه عن القسمين، ونستوفي بوضعها تقسيم سائر الأقسم. وقد نوزع هؤلاء من وجهين: - أحدهما: يتعلق بوضع التسمية، وذلك أن المستفيض مأخوذ من الفيض، من قولهم: فاض الإناء يفيض فيضا، وهذا لمعنى إشعاره بحقيقة ما قلناه في الخبر المتواتر أولى، لأن الخبر المتواتر يفيد أعلى مرتبة تفيدها الأخبار، فهو من هذه الجهة قد زاد على غيره وفاض. وهذه مناقشة في عبارة واصطلاح، ولا طائل تحتها، ولا يناقش أهل الاصطلاح على عبارة يتفاهمون بها معنى في صناعتهم. كما يناقش المتكلمون على الحقائق، أو لا ترى الجمهور يطلقون خبر الواحد على ما رواه الاثنان، لما كان إنما يستفاد من الاثنين الظن لا أكثر منه، ولكن سومحوا بهذا لما كان قصدهم الاصطلاح.

والوجه الثاني من مناقشة هؤلاء الذين زادوا القسم الثالث، يتعلق بالمدافعة عن تصوير المذهب، وذلك أن أبا إسحاق الإسفراييني من جملة من أثبت هذا القسم الثالث الذي هو الخبر المستفيض، ومثله بالخبر عن النبي عليه السلام الذي اشتهر عند أئمة الحديث، فلم ينكروه، ورأى هذا مما تعلم صحته علما نظريا، لا علما ضروريا، وكأنه استدل بالاشتهار مع التسليم، وعدم الإنكار على صحة الحديث، وقطع على صدقه. وقد أشار ابن فورك إلى طريقته هذه في صدر كتاب "مشكل الحديث" الذي صنفه، وتمثل في هذا بخبر: "في الرقة ربع العشر"، وبخير: "في مائتي درهم خمسة دراهم"، وشبه ذلك. وأنكر أبو المعالي أن يكون هذا طريقا إلى العلم، ورأى أن التسليم وعدم الإنكار من أئمة الحديث لا يقتضي أكثر من الظن، وذكر عن ابن فورك أنه قال في بعض مصنفاته: إن الخبر الذي تلقته الأئمة بالقبول يقطع بصدقه، وأنه فصل القول في ذلك أيضا في بعض مصنفاته، فذكر أن القطع إنما يتحقق إذا تلقوه بالقبول قولا وعملا، وأما مجرد العمل فلا يكون طريقا إلى القطع، لأنهم متعبدون بالعمل بخبر واحد، وذكر أن القاضي ابن الطيب لم يسلم القطع، ولو تلقوه بالقبول قولا، لأجل أن التلقي بالقبول وإظهار التصديق يكون مستندا إلى ما حصل لهم من غلبة الظن بصدق العدل فيما رواه، وتصديق العدول غير مستنكر. فقيل للقاضي: فلو صرحوا بأن التصديق لم يصدروه عن ظن بل عن قطع. فقال: هذا لا يقع، لأجل أن قطع الأمة على أمر مجوز من غير طريق يقتضى القطع خطأن والأمة معصومة عن الخطأ. وهذا الذي أورده أبو المعالي من التعقب فيما مثل به الإسفراييني صحيح. وأما الحكومة بين ابن فورك والقاضي ابن الطيب رضي الله عنهما، فيما نقلناه عنهما، فإن ما أظهره القاضي صحيح من أن الأمة لا تجمع على خطأ، وما ذكره ابن فورك صحيح في أن إجماعها على أمر ما يتضمن القطع منا بصحة ما أجمعوا عليه فصحيح أيضا، ولكن الإنصاف [الـ]ـتفصيل في تصديق الخبر المروي، فإن لاح من سائر العلماء مخايل القطع والتصميم، وأنهم أسندوا التصديق إلى يقين فلا وجه للتشكيك، ويحمل عليهم أنهم علموا صحة الحديث من طريق خفيت عنا، إما أخبار (ص 190) نقلت تواترا واندرست، إن كان الخبر مما يصح اندراسه، أو من غير هذه الطريقة. وإن لاح منهم

فصل في الخبر المتواتر

التصديق مستندا إلى تحسين الظن بالعدول، وبدارا إلى القبول من جملة السنن، وانقيادا إليهم، فلا وجه للقطع. وقد رأيت ابن فورك في صدر كتاب مشكله الذي صنفه في الحديث أشار إلى غثبات هذا القسم قسما ثالثا، وصرف العبارة إلى كل خبر يعلم صدقه بالنظر، ويكون العلم الواقع عن ذلك الخبر علما مكتسبا نظريا. وقد يمثل في هذا الصنف بمثال يسلمه القاضي، وهو رواية أحد الصحابة أنه كان في غزاة كذا مع النبي صلى الله عليه وسلم "فرآه يتوضأ والماء ينبع من بين اصابعه"، ويتوضا الناس، وأشار إليهم ولم ينكر عليه أحد ما قال، بل يطابق الخلق والجم الغفير على السكوت عن الإنكار عليه، فإن ذلك يستدل به على صحة خبره، وهذا مبسوط في كتب الأصول في الكلام في معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم. فصل في الخبر المتواتر القول في هذا من ثلاثة أوجه: - أحدها: هل يقع العلم عن الخبر المتواتر أم لا؟ - والثاني: كيفية وقوعه. - والثالث: شرط وقوعه. فأما وقوع العلم عنه فجميع أصحاب المقالات على اختلاف طرقهم مجموعون على وقوع العلم عنه، سوى طائفة تعرف بالسمنية، فإنهم أنكروا وقوع العلم عن الخبر المتواتر، وجمهور المصنفين الناقلين مذهبهم هذا يشيرون إلى أنهم مخالفون في ذلك لفظا ومعنى. وأبو المعالي يشير إلى تسهيل أمر مخالفتهم في هذا، أو يرى أنهم ينكرون وقوع العلم به على الجملة، لكنهم لم يضيفوا وقوعه إلى مجرد الأخبار، بل إلى قرائن تضام الأخبار، ووقوع العلم عن القرائن لا ينكره عاقل، كالعلم الواقع بخجل الخجل، ووجل الوجل، وقد رد المصنفون الحاملون خلافهم على المخالفة في أصل وقوع العلم مذهبهم، فإن الإنسان يعرف أمه التي ولدته، ولا طريق له إلى معرفتها إلا الخبر المتكاثر بأنها ولدته، فإن جحد جاحد معرفة أمه سقطت مكالمته، وإن أقر بها سلم إفادة الخبر المتواتر وقوع العلم. وهكذا يضرب في هذا مثالا بمعرفة مكة وبغداد، ولا يظن أن هذه محاجة لهؤلاء، لأن النظريات فروع للضروريات، ومن جحد الضورية فلا سبيل إلى مخاطبته بالمعاني النظرية، وإنما نورد مثل هذا تشنيعا عليهم، وإيضاحا لقبح مذهبهم. وأما الوجه الثاني وهو كيفية وقوع العلم [به] فإنه ينظر فيه من نحوين مختلفين:

- أحدهما: هل العلم الواقع عن الخبر المتواتر ضروري أو نظري؟ - والثاني: لماذا يستند هذا العلم؟ فإما كونه ضروريا فإنه مذهب جميع أصحاب المقالات سوى الكعبي وأتباعه، فإنهم ذهبوا إلى افتقار هذا العلم إلى تقدم استدلال، فالكعبي وجماعة ممن تبعه يرون أن هذا الاستدلال المتقدم للعلم يثمر علما نظريا كغيره من العلوم النظرية. ويرى بعض اتباعه أن هذا الاستدلال يثمر علما ضروريا. وجمهور المصنفين يشيرون إلى مخالفة هذا المذهب أيضا لما عليه الجمهور لفظا ومعنى، وأبو المعالي حمله على مخالفة لفظية لا معنوية، ويرى أن المستمع للأخبار المتواترة لابد أن يصحب استماعه تأمل ما من تعري الأخبار عن التواطؤ عليها لغرض ما، أو لجامع وسائس ساس المخبرين حتى صاروا إليها، فهذا التأمل ضرب من الاستدلال وقع عنه العلم. فتلطف ابو المعالي في رد خلاف السمنية والكبيعة، إلى أمر قد يوافقون عليه، وأشار إلى تصحيح هذه المذاهب إن قصد أهلوها ما ظن بهم. وقد رد المصنفون على الكعبية بأن الصبيان ومن تقاصر عمره عن النهوض بالاستدلال يعرف المخبرات المتواترة، كيف يعرف الطفل أمه، وهو في سن يقصر عن النهوض بالاستدلال، فلو وقف هذا العلم على الاستدلال لما أدركه من لم تبلغ فيه درجة الاستدلال. وأيضا فإن ما يستدل عليه يختلف الناس فيه بالإبطاء والسرعة والتصرف في فنون المذاهب بحسب اختلاف القرائح والأفهام، وصحة التصور وفساده، وترى السامعين للأخبار المتواترة يتساوون في وقوع العلم مع اختلاف أفهامهم وطرائق استدلالالتهم، وما ذاك إلى لكونه علما غنيا عن الاستدلال. وأما التفات الذهن إلى أن في تأمل يستفاد به التعري (ص 191) عن أسباب المواطأة وما في معناها مما يمنع وقوع العلم، فإنما ذلك أمر لطيف خارج عن كيفية الاستدلال، ونازل منزلة تحديق الأبصار للمبصرات، والإصغاء بالأسماع للمسموعات، ومثل هذا لا يسمى استدلالا. وقد تمسك الكعبي في تصحيح ما قال بأن هذا العلم لو علم على الضرورة لما خالف فيه هو أتباعه، فدل على أنه يعلم بالنظر، ومن البعيد أن يكون العلم بالمخبرات ضروريا، والعلم بنفس هذا العلم نظريا. ورد القاضي هذا بأنه استبعاد اقتصر عليه على الدعوى من غير حجة، والعلم الضروري يفتقر إلى النظر في إبطال طرق النظر التي توصل إليه، حتى يعلم انحسام مواد

النظر عنه أنه ضروري. ولو بشع على القاضي هذا بأنه يوجب أن العلم بالمستحيلات كلها ضروري، ومع هذا إنما يعرف كونه ضروريا بالنظر، لم يلتفت إلى هذا التبشيع، وسلك في الطريق التي أريناك. وقد عورض القاضي بأن العلم بكون العالم عالما هو عين علمه بالمعلوم من غير مزيد، فإذا كان ذلك العلم بعينه ضروريا فكيف يتصور من جهة أخر نظريا. وهذه معارضة لا تلزم، لأنا إنما ننكر التناقض المتزاحم على ذات واحدة من جهة واحدة، وأما من جهتين فلا، وكون العغلم علما جهة، وكونه نظريا أو ضروريا جهة أخرى، فلا يعد في تعدد الطرق بتعدد الجهات، وهذا إنما يحسن التدقيق فيه في كتب أصول الديانات. وأما كيفية الوقوع والنظر فيه من جهة الاستناد فإن الجميع أطلقوا القول بأن هذا العلم مستند إلى الأخبار المتواترة، وأنكر أبو المعالي هذا، ورأى أنه مستند إلى القرائن [و] وكثرة العدد الذين لا يمكن في العادة تواطؤهم، ولا الكذب، ولا اتفاق وقوعه منهم غلطا، وسمعوا مع عدم التواطئ، وما في معناه، فإذا حصلت هذه القرائن وقع العلم الضروري، فكثرة عدد المخبرين أحد أوصاف القرينة التي يقع العلم عندنا [بها]. وطرد أصله في هذا حتى لم يستنكر وقوع العلم الضروري بخبر واحد، فإذا إضامته قرينة، وتمثل في هذا برئيس وقور قد ألف من سيرته ما ملأ من هيبته الصدور، إذا خرج شاقا جيبه، لاطما وجهه، ناتفا شعره، ينادي: وا ثكلاه، وا ولداه، قد خلع رقبة الوقار التي اعتادها، وأخبر بموت ابنه، والغسال متشمر داخل، خارج للغسل، والجنازة حاضرة، فإن هذا يعلم ضرورة صدقه في موت ابنه. وجمهور أئمتنا ينكرون هذا، ويرون أن العادة كما أطردت بوقوع العلم الضروري عند الأخبار المتواترة، فكذلك طردت بعدم وقوع العلم عند خبر واحد، ولو صور في مقارنة خبره كل قرينة، ويرون أن هذا الذي تمثل به أبو المعالي ربما تحقق وقوعه من هذا الموصوف كذبا لغرض ما، بخلاف العدد المتواتر فإنه لا يتفق منهم مع الكثرة تعمد الكذب، ولو جمعهم عليه جامع لم يقع العلم، ولظهر ثاني حال منهم الإشعار بتواطئهم، ولو صور في هذا أيضا من المثل من لقيناه بقرب حمام، وسلطه بيده، ومئزره يقطر ماء، ووجهه محمر يتصبب العرق على وجهه، فذكر أنه خرج من الحمام فإنا نعلم صدقه ضرورة. ومثل هذا بعض المتأخرين بأن الضارب باب صديق له، فخرج إليه خادمه، فيقول له: قال لك: ادخل، فإن الدخول مباح له، وربما وقع العلم الضروري لسامع خبر الخادم بصدقها من قرينة حال شاهدها منها، وذكر عن هذا المتأخر أنه أفرط حتى زعم أنه يعلم

صدق بعض المدعين لحقوق لهم على غيرهم ضرورة، وقد أنكر هذا غيره من الأئمة، وقال: قد تكررت الدعاوى في مرور الأعصار في سائر الأمصار، ولا أحد من القضاة سمع منه أنه علم صدق مدع على الضرورة، وما ذاك إلا لاطراد العوائد، بما قلناه من أنه لا يقع العلم بخبر الواحد على حال. وهذه طريقة إنما سبق النظام [بها]، فذكر عنه أنه قال: يقع بخبر الواحد العلم، ونقل بعض المصنفين عنه هذا مقيدا إذا ضامته قرينة. ورأى أبو المعالي أن هذا النقل الثاني أولى وأشبه به. وذهب ابن خويز منداد من أصحابنا إلى أن خبر الواحد يوجب العلم الظاهر، ولعلنا أن نتكلم عن مذهبه فيما بعد. وبالجملة فإن هذه المثل ربما تصور في بعضها قرائن تقتضي العلم الضروري، وإن لم يصحب القرائن خبر، كمثال من لقيناه خارجا من الحمام على صفة ما ذكرناه، فإنه ربما كان [معه] قرائن تدل على أنه خرج من الحمام وإن لم (ص 192) يخبر بذلك الخبر، لاحظ له في هذا، وما صوره الآخرون من الشكوك والتجويز لا معنى له، لأن القرائن لا تنقل، وإن اعتمد النظام ومن واقه على مجرد الأوصاف التي وصفوا، غلطوا، وطرق الإمكان والتشكيك لها فيها مجال، لكن لا يبعد أن يكون هناك من الأوصاف التي ذكروا أحوال لا يعبر عنها، فيقضي مجموع ذلك العلم، ولا قدرة لألسن خلق الله وأقدرهم على التصور والتصوير أن يعبر عن جملة القرائن، ولا يبين بعبارة عن فرق ما بين شحوب المريض وشحوب الخائف. وقد ذكر الشافعي أن من شهد عند القاضي بأنه رأى طفلا التقم ثديا، وهو يمصه، ويتجرجر ما يمص، فإنه لا يثبت قضية بأن الطفل رضيع للمرأة حتى يقطع الشاهد الشهادة بأنه قد ارتضعته المرأة، معولا في ذلك على قرائن أحوال شاهدها ضامت هذه الأوصاف. وأما الوجه الثالث وهو شرط خبر التواتر الذي يقع العلم عنه، فإنا قدمنا مذهب أبي المعالي، ما يفهم منه أنه يرى اتحاد الشرط في هذا الفن، لأنه يسند وقوع العلم إلى القرائن، ولا يعتبر أن يكون المخبر واحدا أو آحادا، ويرى أن كثرة العدد أحد القرائن. فأما القرينة المضامة لخبر الواحد الذي يقع العلم عند خبره، فلا يمكن أن يشير إليها بعبارة تضبطها. وأما القرينة التي نشير إليها في خبر التواتر، فإن العبارة عنها أن الكثرة التي لا

يمكن في العادة أن يقع منهم الكذب اتفاقا منهم على تعمد، أو يتفق من جماعتهم وقوعه منهم سهوا وغلطا، مع انتفاء أسباب التواطى، وما في معناه من الأمور الحاملة للعدد الكثير على الكذب، فإن هذه الأوصاف هي المشار إليها بأنها قرائن على الجملة، فأنت ترى كيف صارت الكثرة أحد مجموع هذه القرينة المقتضية للعلم عند سماع الخبر المتواتر. وأما من سواه فإنهم تحزبوا أحزابا، فمذهب جماعة المحققين اعتبار ثلاثة شرائط: - أحدهما: كون المخبرين كثرة. - والثاني: كون المخبرين يخبرون عما علموه ضرورة، وقد عبر بعض الطائفة عن هذا الشرط الثاني، بأن قالوا: يجب أن يكونوا يخبرون عما علموه حسا، فأبدلنا قولنا: ضرورة بقولهم: حسا. وهذا متعقب عليهم، لأن المخبرين لو أخبروا عن خجل الخجل الذي علموه من قرائن الحال لوقع عن خبرهم [العلم]، إذ كانوا من الكثرة بحيث لا يتفقون على الكذب، وهذا العلم وإن استند إلى الحس على وجه ما، فمجرده المحسوس لا يكفي في وقوع العلم، لأن الحمرة إنما يدرك الحس ذاتها، وقد أخبرنا أن حمرة الخجل كحمرة الغضبان، يفرق بينهما بأمر يدق عن ضبطه بالعبارة، أو تحديده في الحس. وإنما شرطنا أن يكونوا مخبرين عما علموه ضرورة، لأن المسلمين والنصارى واليهود يبلغون من الكثرة إلى ما يفوت الإحصاء والعد، ويخبرون عن حدث العالم، ولا يقع العلم الضروري بصدقهم في خبرهم، لما كانوا قد أسندوه إلى دليل، فكيف يكونون وهم لا يعلمون ما يخبرون عنه بالضرورة، وهم أصل في هذا الخبر، ثم من سمعهم، وهم كالفرع عنهم، يعلم صدقهم بالضرورة، فيصير الفرع أقوى من أصله، وهذا محال. - والشرط الثالث: أن يستوي طرفا الخبر وواسطته، فإذا أخبرت الصحابة بظهور محمد صلى الله عليه وسلم، وقع لمن سمعهم العلم الضروري بصدقهم لأنهم كثرة أخبروا عن مشاهدة، وهكذا إخبار العصر الثاني الذي سمع منهم، إلى العصر الثالث، إلى أن تنتهي الأعصار إلينا، فيعلم ضرورة صحة هذا الخبر. فلو اتفق انحلال في أحد الأعصار الوسائط بيننا وبين الرسول عليه السلام، حتى لم يكونوا من الكثرة بحيث يوجب خبرهم العلم الضروري، لا يحل العلم الضروري لنا نحن لعدم الشرط في واسطة من هذه الوسائط، ولهذا قلنا: إن اليهود وإن كانوا من الكثرة بحيث لا يمكن اتفاقهم على الكذب، فإنهم وإن نظروا إلينا أن موسى صلى الله عليه وسلم أخبرهم بتأبيد شريعتهم لا يقع العلم لنا بصدق ما قالوا، لأن الدخيلة دخلت على الكثرة من مبدأ الخبر، فإنه لم يكن عن كثرة. وقد قيل: إن ابن الراوندي لقنهم هذه الكذبة ليجادلوا بها المسلمين،

ويقولون لهم: أنتم تدينون بصدق موسى صلى الله عليه وسلم، وموسى الذي تصدقونه قد حذرنا منكم ومن دينكم. والدليل على أن خبر مؤتفك اختلف بعد ذهاب عصر النبي عليه السلام أن هذا الخبر لو كان صحيحا لخصمت به اليهود محمدا صلى الله عليه وسلم، ولقالت له: (ص 193) أنت تأمرنا بتصديق موسى وطاعته، وموسى قد أمرنا بتكذيبك ومنافرتك، فلا يمكن أن يكون هذا الخبر عندهم، ويعدلون عن محاجة النبي عليه السلام به إلى ترهان يوردونها عليه، ومسائل يمتحنونه بها، مما لا حظ لها في أن تكون من قوى الشبه، فضلا عن أن تكون حجة يخصم بها صلى الله عليه وسلم. وهكذا اعتذارنا عن إطباق النصارى على أن عيسى قتل وصلب، فإنا لا نجد أنسنا مضطرة إلى العلم بصدقهم، وما ذلك إلا أن هذا الشرط الذي ذكرناه من استواه الطرفين والواسطة انحل عليهم، وتلقوه عن آحاد شبه عليهم. وهكذا يقال للإمامية في نقلهم النص عن علي رضي الله عنه، فإنهم إن قالوا: إنا من الكثرة بحيث لا يصح منا التواطؤ على الكذب. قلنا لهم: إنما دخلت عليكم الدخيلة من مبتدأ الخبر، لأنكم لم تنقلوه كثرة عن كثرة حتى تتصل الكثرة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأقل الكثرة منكم إنما تلقنته من آحاد، تعمد الكذب عليهم ممكن في العقول وفي العادة، فلهذا لم يقع العلم لنا بخبركم. وقد أنكر أبو المعالي عد هذا شرطا فيما نحن فيه، وإن كان القول في نسه صحيحا، وذلك أنه رأى [أن أهل] كل عصر مستقلون بأنفسهم في خبرهم، والناقل عنهم إن كان من الكثرة بحيث لا يكذب فقد صدق فيما نقل، ويقع لنا العلم بصدقه، وإن كان أهل ذلك العصر آحادا لم يقع للسامعين العلم بصدقهم، فقد صار هذا الشرط منحصرا فيما تقدم من اشتراط الكثرة، وإنما يحسن أن يترجم عن هذا بأن يقال: هل يندرس ما تواتر أولا يندرس؟ وينظر هذا في باب القول على ما يندرس من أخبارا لتواتر، ويشيع من أخبار الآحاد. وقد كنا ذكرنا أن الكثرة أحد الشرائط الثلاث في وقوع العلم بالخبر المتواتر، فأما ضبط الكثرة من ناحية النهاية والآخر، فلا سبيل إليه، ولم يذهب إليه ذاهب، ومحال أن يتصور، لأنا لو قدرنا أن مائة ألف يقع العلم بخبرهم وهم نهاية من يقع العلم بخبرهم لاقتضى هذا أن مائتي ألف لا يقع العلم بخبرهم، فيصير زيادة الكثرة وتضاعف الأعداد في المخبرين ضعفا في الخبر، وهذا عكس المعلوم قطعا. وأما ضبطهم بعدد ما [من] ناحية المبدأ والأول، فقد كثر اضطراب المتكلمين في هذه المسألة من سائر الطوائف، فنقلت في ذلك مذاهب، ولو سبق الأئمة لنقلها لاقتضى الحال الإضراب عن ذكرها، لإشعارها ببعد المذاهب إليها عن التحصيل. فمن ذلك قول أبي عبد الرحمن صاحب العلاف: أقل ما يقع بخبره العلم خمسة

مؤمنين أولياء الله معصومين، ولكن لابد أن ينضاف إليهم سادس من جملة الناس حتى لا يلتبس أمرهم ولا يتميز هؤلاء المعصومون للناس، وهذا نقله يغني من له أدنى فهم عن الاشتغال بنقضه. وإذا كان عند هذا الرجل لابد أن يكونوا معصومين، فما الحاجة مع العصمة إلى العدد، والعصمة في واحد بعينه تغنيه عن العدد، والرسول واحد، ولما كان معصوما عن الكذب لم يقف العلم بصدقه عن أن ينضاف إليه. وهب أنه تصور الحاجة إلى مضامة عدد، فما المقتضى كونهم خمسة؟ فإن مر في الاعتلال لكونهم خمسة على طريقة القاضي التي سنذكرها من أن الأربعة لا يقع العلم بخبرهم. قيل له: القاضي لا يشترط العصمة، وسنتكلم على الذي أداه إلى ما قال حتى يعلم منه أنه هذا الرجل لم يسلك مسلكه. ومن ركيك ما نقل عن هذا الرجل أنه قال: أقل ما يقع بخبره خمسة إلى عشرين، ولا يمكن عاقل أن يتصور وجها إلى جعل العشرين نهاية دون أن يقال: إلى الثلاثين، أو إلى الأربعين، أو إلى الألف، والألفين، وقد قدمنا أن الكثرة لا يصح أن تنضبط بنهاية وآخر. وهكذا اشتراط التباس الخمسة بدخول سادس معهم ليس منهم حتى يلتبس أمرهم لا تأثير له في ثبوت العلم أو نفيه، وإنما هذا قرع باب قوم آخرين من الإمامية الذاهبين إلى إمام معصوم لا يعلم متميزا بين الناس، أو قوم آخرين يرون إخفاء حال الولي وكونه في الأرض لا يعرف. وهذا كله لا معنى للتشاغل به، كما قدمناه. وهذا ما ذهب إليه العلاف، وهشام القوصي من أن أول عدد يقع بهم العلم عشرون مؤمنون أولياء الله، تمسكا بقوله تعالى: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين). وهكذا من قال: أقلهم أربعون، لأنهم فيهم نزل قوله تعالى: (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين)، والآية نزلت لما (ص 194) كمل إسلام أربعين، وأيضا فإنه العدد الذي لا تقوم الجمعة بأقل منه على رأي من قال به من الفقهاء. وهكذا مذهب من ذهب إلى أنه يجب أن يكون أقلهم ثلاثمائة وثلاثة عشر كعدد أهل بدر. ومذهب من ذهب إلى أن عددهم ألف وسبعمائة كعدد أهل بيعة الرضوان.

هذه لا يخفى عن خواص العوام بعدها عن التحصيل، وبعد هذه التشبيهات، وأي مناسبة بين عدد جنس اتفق للإمام اللقاء به في حرب ما وبين وقوع العلم بصدق الأخبار، وكم غزا النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة، وكم أسرى من سرية، أعداد جميع ذلك مخالف بعضه لبعض، وكل ذلك مبني على الحاجة والمصالحة والكفاية في الحرب، والدعاء إلى الجهاد، وتحصيل الأجر والغنائم، وهذا ليس من وقوع العلم بالأخبار في ورد ولا صدر. وقد أدى قوما الإفراط إلى أن ذهبوا إلى أن أقلهم أن يكونوا بحيث لا يحويهم بلد ولا يحصيهم عدد، وهذا إسراف، ونحن نعلم أن أهل مصر وبغداد إذا أخبروا عن شيء رأوه فإنه يقع للسامع العلم بخبرهم، وقد حواهم بلد ويمكن أن يحصروا بعدد، ولو جرينا إلى ما لوحوا به لقلنا به، ولو كانت مدائن كثيرة هي أكثر العالم لأمكن في العقول أن تعد، ولكن عند انتظام أمور يبعد في العادة اتفاقها. وبالجملة هذا المعنى يلوح لأنه لا مناسبة بينه وبين وقوع العلم، اللهم إلا أن يشيروا بكونهم لا يحويهم بلد إلى أن أهل البلد الواحد يمكن تواطؤهم لتجاورهم ولقاء بعضهم بعضا، فهذا قد يكون من الأمور المناسبة لوقوع العلم، لكن نفرض عليهم حالة لا يمكن تواطؤ أهل بلد فيها، أو حالة يمكن تواطؤ أهل بلد عليها، حتى يبطل ما قالوه طردا وعكسا. وأما الذاهبون إلى اشتراط كونهم مختلفي الأديان والآباء، أو الذاهبون إلى اشتراط كونهم مؤمنين، أو اليهود الذاهبون إلى اشتراط كون المخبرين أهل ذلة وصغار، أو الذاهبون إلى اشتراط ألا يكونوا محملوين على أن ينقلوا الخبر الذي أخبروا به فإن هذه شرائط جميعها ظاهر الفساد. وأما اشتراط اليهود أن يكون الناقلون أهل ذلة وصغار وجزية فباطل فباطل، لأنا نراهم أن المسلمين ينقلون ما يعلم صدقهم فيه ضرورة، وكذلك من اشترط كونهم أهل أديان مختلفة يبطل ايضا بانفراد المسلمين بالنقل وهم أهل دين واحد. ويقال لليهود: كنتم في أول أمركم لستم في ذلة وصغار، فيجب أن لا يقع لكم العلم بنقل أسلافكم الذين لم يكونوا في ذلة وصغار، فدينكم وأعلام شرائعكم على هذا غير معلوم عندكم، وهذا لا جواب لهم عنه. ويبطل اشتراط من اشترط كون الناقلين مؤمنين بأن يقع العلم بنقل سائر اليهود، أو سائر النصارى، لأمر ما شاهدوه، وهم ليسوا بمؤمنين. وأما اشتراط من اشترط ألا يكونوا محملوين على نقل ما نقلوه فلا معنى له، وصاحب هذا المذهب أشار إلى حقيقة، ولكنه لم يضعها موضعها.

قد كنا نحن قدمنا أن انتفاء التواطؤ والأسباب التي تحل محله شرط في وقوع العلم، ولكننا مع هذا لا نحيل أن يكون أمر عايشته الجماعة الكثيرة، ونقلوه عن أمر ننقله، وحمل على إشاعته يقع عند العلم، بل نقول، ولو لم يحملوا على نقله لنقوله إذا كانوا من الكثرة، والخبر في نفسه بحيث لا يمكن معه الكتمان، لو اتفق فيه الكتمان لهبة أو سبب ما لظهر الخبر عند زوال السبب فلا معنى لرد هذا شرطا في وقوع العلم، وإنما يكون الحمل والجبر سببا لاجتماع الكثرة على أمر لولاه لما اجتمعوا عليه، ومن تحسس إلى العادات، وتصور أحكام المشاهدات علم صحة ما نقلناه. وأما القاضي فإنه قطع القول بأن الأربعة لا يقع العلم بخبرهم أصلا، واعتمد في هذا على أنهم عدد الشهود في الزنا، وقد جاء الشرع بطلبه القاضي بشهادتهم أن يبحث عن عدالتهم، وأمر الشارع بهذا أمرا عاما في كل عصر ومصر، وما ذاك إلا لأنهم ممن لا يقع العلم بخبرهم، ولم يُر حاكم قط قد زعم أنه استغنى عن البحث عن العدالة فيهم، لأنه وقع له العلم بصدقهم، فصار هذا أيضا كعادة مطردة فيهم، كما اطردت العادة بأنا نسمع دعوى المدعين، ويسمع ذلك القاضي في مجلس حكومته، ولم يقع لأحد من القضاة أو غيرهم العلم بصدق دعوى مدع، وما ذاك إلا لاطراد العادة أيضا يكون خبر الواحد لا يقع [به] العلم. وقدم حجة عند هؤلاء على من صار إلى وقوع العلم بخبر الواحد على ما لا قدمناه، ولو كان الأربعة يقع العلم بخبرهم لكان (ص 195) إذا شهد أربعة بالزنا عند قاض فلم يقع له العلم، فإنه لا يقبل شهادتهم لعلمه أنهم كاذبون، أو فيهم كذبة، وهذا خلاف الإجماع. وهذه عدمة يعتمدوها القاضي مرورا منه على أصله، إذ من أصله أن الكثرة الذين يقع بهم العلم لا يصح قبول حتى يقع بهم مرة، ومرة لا يقع. وقد وافق القاضي أبو المعالي على القطع بأن الأربعة لا يقع العلم بخبرهم، ولكنه استشعف حجة القاضي بالشهادة على الزنا، وقال: إن الشرع إذن للقاضي في الاستظهار بطلب شهادة خامس، حتى يدخل الخامس في جملة البينات. ومقتضى هذا على اعتلال القاضي أن يقطع القول بأن الخمسة لا يقع العلم بخبرهم كما لا يقع بخبر الأربعة، لأجل إذن الشرع بإلحاق خامس بأربعة في حكم البينة، وهو لا يقول بذلك، بل تردد في الخمسة، هل يقع العلم بخبرهم أم لا.

وقطع أبو المعالي القول بأنهم ليسوا بحد يقع العلم بخبرهم فلابد، لاطراد العادة في الخمسة والستة أنهم قد يكذبون، وعلى هذا عول في الأربعة أيضا، وتمسك في الجميع بالعادة. ولما قطع القاضي القول بعدد ينتفي عن خبره وقوع العلم، وتردد فيما زاد عليه، ورأى أنه لا سبيل إلى تحديد أقل العدد الذين يقع بهم العلم، أراك طريقة تعلم منها تحديد هذا العلم الذي هو الأقل، فقال: يسمع السامع خبر الأربعة فلا يقع له العلم لأجل ما قدمناه، ثم يسمع خبرا آخر زائدا عليهم، ويحس ما يقع في نفسه ويرجع إلى عقله، فيحكمه، فما دام يرى في نفسه تخالج الشكوك في صدق الخبر، فإنه لا يثبت له ذلك العدد أول عدد التواتر، حتى إذا زالت الشكوك، وانحسمت مواد التردد والتجويز عن نفسه ووقع له العلم اتخذ ذلك العدد مذهبا له في أنه أقل عدد يقع به العلم، ولا يقول له أن يخبر عدد مثله مرة أخرى، ولا يقع العلم لأن الكثرة الذين يقع بهم العلم لا يصح أن يقع بهم مرة، ومرة أخرى لا يقع، ولو صح هذا لجوزنا أن يخبر أهل بغداد يوما ما عن خبر ما ولا يقع بخبرهم العلم، وهذا معلوم بطلانه من جهة العادة. وأبو المعالي ينكر هذه الطريقة، ويشير إلى أنه قد يختلف حال العدد باختلاف أحوال المخبرين، وأحوال الخبر في نفسه، فلا يمكن اتخاذ هذا الذي قاله القاضي قانونا في معرفة حد أقل التواتر. والمذهب الحق عندي في هذا أن الأمر لا ينضبط، ولكن العاقل إذا سمع خيرا فإن نفسه (إنما يغلب عليها التشوف إلى تجويز تعمد الكذب على المخبر لغرض ما له في الخبر)، يقوي ظنها بصدقه تارة عند انتقاء الأغراض الحاملة له على الكذب [و] ضعف الظن بإذا شك في انتقائها]، وإذا انتفت كلها قوي الظن، ويتوسط الأمر بحسب توسطها واختلاف أقدارها، ولهذا رد الشرع شهادة العدل فيما بدت فيه أغراض ظاهرة، كشهادة لولده، أوعلى عدوه، حتى إذا انتفت هذه الأغراض كلها، ودينه يمنع أن يتساهل في ركوب الآثام قبل شهادته الشرعُ، وإذا لم يكن له دين، قوي التجويز لكذبه، وضعف الظن فلم يقبله. وهكذا حال الكثرة، فإذا انضاف إلى الواحد آخر، وجاءا معا، وكان معروفين عند السامع بالتطابق عن أهوائها، والتعاون على أغراضها، لم يجد في نفسه ذاك النهوض في الظن. ولو جاءا مفترقين حينا بعد حين، بحيث يكون الظاهر عند السامع أنهما لم يتلاقيا، وعرفهما بأنهما غير متطابقين، ولا يعرف بعضها بعضا، فإنه يجد في نفسه نهوضا في الظن

بقصدهما، ويقوى الصدق في نفسه قوة ما بحسب ما ظهر له من إمكان تطابقهما على الخبر، قبل أن يراهما، أو بعد هذا الإمكان، ويجد في النفس تجويزا لاتفاقهما عليه غلطا، إن كان ذلك مما يمكن في العادة، أو اتفاقهما على غرض وإن كان لم يتطابقا عليه. فإذا انضاف إليهما ثالث بعد في نفسه وقوعهم في غرض واحد على جهة الاتفاق، والتواطؤ أيضا لكونهم عنده متباعدين بعضهم عن بعض، فلا يزال هكذا ونفسه تنهض إلى التصديق، وتشوف النفس إلى الأسباب التي أشرنا إلى كونها داعية للكذب تضعف حتى يمحي آثاره من النفس، فلا تقبل عليه النفس و [لا] تنعطف إلا بعد أن تعطف كما تعطف عن أمورها الطبيعية، التي يحس الإنسان فيها بالكلفة، وهذا عندي هو العلم الاستدلالي الواقع بالاختيار. ثم يتكاثر عليه المخبرون بتفاوت أزمان واختلاف قرائن أحوال [حتى] يقطع العقل بأول وهلة على (ص 196) انتفاء الأسباب الاتفاقية كلها، كما أشرنا إليها، فيقع العلم الضروري حينئذ. ولو حاول السامع لمثل هذه الأخبار أن يعطف نفسه إلى تجويز الكذب فيها، أو يقدر إمكان التفاق تلك الأسباب التي أشرنا إليها لوجد نفسه آبية عن ذلك، غالبة له عليه، حتى لا يمكن مدافعتها عنه، وهذا هو العلم الضروري الذي لا يمكن الشك فيه ولا الارتياب. وإليه أشار الجمهور في النظر في انتفاء هذه الأسباب، وحسم مواد تشوف النفس إليها، وقع إليها اختلاف المذاهب، فاشار كل قوم إلى حالة من هذه الأحوال التي فصلناها، ووقف عند الحال التي بني عليها ولم يتعدها، وآخر تعداها فبنى مذهبه عليها. وأنت إذا علمت هذا علمت أن قد تبلغ الأعداد إلى أن يمكن أن يقع العلم الضروري بخبرهم مرة، ومرة أخرى لا يقع، وعلمت أن من الكثرة ما يمكن أن يقع بخبرهم العلم مرة، ومرة لا يقع، وذلك أن [من] الأسباب التي أشرت إليها ما يقطع بأنه لا يجوز على مقدار من الكثرة قد تبلغ إلى حد عظيم من الانتشار والافتراق في الأزمان والأغراض والأسباب التي أشرنا إليها. ومنها ما يجوز على مقدار ما من الكثرة حتى تبقى النفس متشوقة إلى النظر في ارتفاع تلك الأسباب والأغراض تارة، وتنحسم عنها مواد التشوف أخرى. هذا هو المسلك الحق في هذا الباب، وإليه ترجع المحققات من المذاهب التي نقلناها فيه. وأبو المعالي وإن كان أشار إلى اتخاذ هذا الأسلوب مذهبا له وطريقة، فإنما أضفناه إلينا ونسبناه إلى اختيارنا، لأنه كان مذهبا لنا مشهورا قبل أن نقف على كتابه هذا.

فصل في تقاسيم الأخبار من جهة متعلقاته

وإذا علمت ما أخبرناك به من طريقة القاضي التي يطلب بها ضبط العدد الذي هو أقل ما يقع به العلم، فإنه يقطع على أن الأربعة لا يقع بهم العلم كما قدمناه، وإذا وقع له العلم بخمسة قطع على أصله أنه أول العدد، وإن سمع خبر ستة فوقع له العلم لم يقطع على أنهم أول العدد لجواز أن يكون لو سمع خمسة لوقع له العلم، وإذا انتفى وقوع العلم على عدد لم يقض بأنهم ليسوا بأقل العدد، لجواز أن يكون العلم إنما لم يقع لكونهم فيهم كذبة، أو كلهم كاذبون. فقد تحصل من مذهبه أن وقوع العلم يصح أن يجعله معتبرا لإثبات هذا العدد الذي هو الأقل، ونفي العلم لا يجعله معتبرا لنفي كونه الأقل، لأن من شروط الخبر أن يكونوا عالمين بما أخبروا به، وقد يكون في هؤلاء كذبة. فإن كانوا من القلة بحيث يمكن أن يتواطؤوا على الكذب جوز أن يكون جميعهم كذبة، وإن كانوا من الكثرة بحيث لا يمكن هذا منهم، جوز أن تكون طائفة منهم يمكن أن تتواطأ على الكذب كذبت، وتبقى الطائفة الأخرى صادقة، ولكنها مقصرة عن أقل عدد التواتر، فلهذا لم يقع العلم. فاضبط مذهبه في اتخاذه وقوع العلم علما، وفي إضرابه عن اتخاذ انتفاء العلم علما. وأما نحن فقد قدمنا طريقتنا التي نعرف بها الحق في هذا وفي غيره، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما. فصل في تقاسيم الأخبار من جهة متعلقاته قد كنا قدمنا تقاسيم الأخبار من ناحية طرقها والمخبرين بها، وهذا تقسيمها من ناحية متعلقاتها. فاعلم أنها تنقسم من هذه الجهة إلى ثلاثة أقسام: - أحدها: القطع بالصدق. - والثاني: القطع بالكذب. - والثالث: التجويز للصدق والكذ ب. وهذا القسم الثالث في التحقيق إنما يرجع إلى اعتقادات السامعين للخبر لا إلى كون الخبر صدقا في نفسه أو كذبا، لأن من قال: زيد قام، ولا علم عند السامع بصدقه أو كذبه، فخبره في نفسه لا يخلو أن يكون صدقا أو كذبا، وإنما وقع التردد من جهة السامع لا لكون الخبر يصح خلوه عن الصدق والكذب. فإذا تقرر هذا فاعلم أن الأخبار يعلم صدقها عقلا، ويعلم صدقها سمعا، وكذلك يعلم كذبها عقلا، ويعلم أيضا سمعا.

فالذي يعلم من هذين القسمين من صدق أو كذب بالعقل إما أن يعلم بضرورة البداهة، كقول القائل إذا كان صادقا: الضدان لا يجتمعان، أو قوله إذا كان كاذبا: الضدان يجتمعان. ويعلم أيضا بضرورة الحس والمشاهدة قول القائل: فلان قد خجل، والسامع يرى ما رآه القائل من قرائن الخجل، أو يقول ذلك كذبا، فيعرف (ص 197) السامع أيضا كذبه. وقد يستند العلم الضروري إلى العادة كقول القائل: أظلم الجو لما غابت الشمس، وإما أن يعلم من ناحية العقل الصدق والكذب من جهة الاستدلال كقول القائل: العالم محدث، إذا كان صادقا. وقول الآخر: بل هو قديم، إذا كان كاذبا. وقد يعترض [على] هذا التقسيم بأن الصدق والكذب مستند إلى الدليل وإلى البداهة، سواء أخبر مخبر عن ذلك أو لم يخبر، فالخبر لم يفد العلم بالصدق أو الكذبن وأنه أفاده مما نسبنا هذه الأمور إليه من ضرورة أو استدلال. وهذا اعتراض صحيح، ولكن قصد القوم تقسيم متعلقات الأخبار التي يكتسب الخبر بها كونه صدقا أو كذبا، فهذا لا طائل تحت المناقشة فيه. وقد ألحق أثمتنا بالنوع الذي يعرف بالاستدلال خبر الواحد إذا أخبر عن أمر يشاهده، وادعى على جماعة أهل تواتر لا يمكن تواطؤهم على الكذب أنهم شاهدوا ما شاهد، فلم ينكروا ذلك عليه، وهم سامعون لما قال، لا مانع يمنعهم من الإنكار، ولا عذر يقتضي السكوت عنه من تواطؤ أو اتفاق على غرض ما. وبهذا أثبتنا القطع بنوع من أنواع معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، كتكثير الماء، والطعام، وغير ذلك مما نقل أته جرى له في المحافل والمجامع. إذا قال الصاحب: كنت في غزاة كذا، فجرى للنبي عليه السالم بحضرتي وبحضرة سائرهم كذا وكذا، وأشار إلى عجب خارق للعادة، وزعم أن الجماعة شاهدوه كما شاهده، فلم ينكروا ذلك عليه، فإنا نقطع على صحة خبره، ولو أن القوم نطقوا كما نطق وأخبروا كما أخبر على حسب ما يخبر أهل التواتر، لوقع العلم الضروري لسامع خبرهم، ولا مطمع للفرق بين المسألتين من ناحية العقول، حتى يقال: لو وقع [العلم] عند سكوتهم الدال على تسليمهم الخبر [لوقع] العلم الاستدلالي عند نطقهم، وإنما يفترق ذلك من جهة العادة. وقد أخبرنا أن وقوع العلم الضروري عند سماع الخبر المتواتر بعادة اطردت، لا لأمر عقلي، وهذه العادة إنما اطردت مع نطق المخبرين لا مع سكوتهم، والعوائد لا تعلل، ولا يناقض بعضها ببعض. إلى هذا أشار بعض أئمتنا، ولكني لا أرى ما رأوا من ذلك، بل أقول: إنه قد يقع العلم الضروري عند سكوت قوم عن الإنكار كما يقع عند نطقهم سواء بسواء، فلو أن رجلا

من أهل الحجيج قال وقد أفاض من عرفات: قد جاء جيش لعرفة، فحارب أهلا، وقتل منهم خلقا، ثم كل من أفاض من عرفات سمعوا كلامه ولم ينكروا عليه، وفهم رأيهم، وشاهد حالهم، وسامع هذا المقال [يشعر] أنهم قد نطقت قلوبهم به، وألسنتهم كالمفصحة به، وإن لم تفصح، فإنه يعلم بالضرورة صحة هذا الخبر، كما يعلم صحته لو نطقوا به أجمعون. ومهما وجد السامع لهذا الخبر في نفسه تشوفا إلى امتراء فيه، فإنما ذل تشوف منه إلى الأسباب التي لا يعلم صدق الخبر إلا عند العلم بارتفاعها، فقد تشوف نفسه إلى أن القوم لم يسمعوا قول هذا المخبر، أو إلى أنهم اتقوا من الإنكار عليه تقاة، أو إلى غير ذلك من الأغراض، ونحن إنما فرطنا حصول العلم عند القطع على ارتفاع هذه الأسباب، وهذا كما قدمناه من أن العلم الضروري إنما يحصل عند سماع الخبر المتواتر، مع القطع بارتفاع الأسباب الحاملة على الكذب، وهذا الذي قلناه لا ينكره من رجع إلى نفسه، وحكم عقله في وجدان ما يجد عند سماع هذه الأخبار، إما نطقا و [إما] إفهاما. وبالجملة فإنا إذا نظرنا فيما تقدم أن المعتمد في ذلك كله على القرائن، وهي مما لا ينضبط، وقد يتفق فيها مع اسكوت ما لا يمتري عاقل فيه أنه وقع له العلم الضروري على حسب ما وقع له عند نطق هؤلاء المشار إليهم بالسكوت. وقد عد في القسم الذي يعلم الكذب فيه بالاستدلال خبر واحد، أخبر أهل التواتر الذين لا يصح أن يكونوا بضد ما أخبر به، وهذا في عده من هذا النوع نظر، لأن الواحد إذا قال: لم يمت زيد. وقال ألوف من الناس لا يصح أن يتواطؤوا على الكذبك بل مات، فإنه إذا كان خبر هؤلاء يقع به العلم الضروري، فمن ضرورة العلم الضروري، فإنه قد مات، [و] كونه قد كذب من قال: إنه لم يمت [ظاهر]، لكن هؤلاء الجمع لم يخبروا بنفس ما أخبر هذا الكاذب، وإنما أخبروا بضده، ومن ضده علم كاذب خبر هذا، فإن كان المراد بعده من هذا القسم هذا المعنى، فغير مستنكر إلى من جهة مناقشة في تحقيق عباراته، ونظر في تعداد علوم ومعلومات مما يتعلق بعلم الكلام. وقد عد أيضا من الأقسام التي يعلم فيها الكذب بالدليل خبر من ادعى النبوة ولم (ص 198) يأت بمعجزة، فإن عدم المعجزة دليل على كذبه. هكذا أطلق أئمتنا هذا المقال، ونحا فيه أبو المعالي إلى نحو من التفضيل، فقال: أما إن لم يطالب هذا الرجل الناس بشريعة واتباعه على تكاليف، فإنا لا نقطع على كذبه من ناحية عدم المعجزة، وأما إن كلف الناس باتباعه والتزام لوازم ويعرضها عليهم، وامتثال أوامر ونواهٍ فإنا نقطع على كذبه، لأنه جاء بتكليف ما لا يطاق [وهو] محال. ومر على أصله

الذي قدمناه في أول الكتاب، لما تكلمنا على المذاهب في تكليف ما لا يطاق. ولو سكلنا في الإحالة هذا المسلك الذي أشار إليه أبو المعالي لم نقطع بكذب هذا الرجل، لأجل أن أئمتنا لا يحيلون من ناحية [العقل] تكليف ما لا يطاق، لكن أئمتنا قطعوا على تكذيب هذا المدعى النبوة، وإن كانوا يجوزون تكليف ما لا يطاق، من أجل ما قام عندهم من الأدلة القاطعة، وتمهد من أمر الشريعة أنه لا يصح أن يبعث الله رسولا يكلف الناس، ولا يؤيده بمعجزة، لا سيما أنه إذا قال: إن أرسلني وأخبرني أنه يظهر على يدي معجزة تدل على صدقي فلم تظهر على يديه، فإنه افتضح أمره بما افتضح فيه، وبان كذبه، لأنا نعلم أن الله سبحانه لو قال له ذلك لم يكذب ولأظهر المعجزة على يديه، فثبت أن الكذب من جهته تصور، فقد حصل الغرض المطلوب من تكذيبه. وغير بعيد أن يدعي في مثل هذه الصورة التي صورناها من القول والدعوى، وقرائن تصحب ذلك أن العلم يقع بكذبه من قرائن اجتمعت وانتظمت بحاله ودعواه، ونحن وإن لم نشترط انعكاس الدليل، فنقول: إذا دلت المعجزة على الصدق وجب أن تدل على الكذب، كما تقول: إذا دل وجود العالم على وجود الله سحبانه، فإنه لا يدل عدم العالم على عدمه تعالى، وكذلك إذا دل إحكام على المحكم، فإن عدم الإحكام لا يدل على الجهل. وقد يدعي الإنسان أنه يحسن الكتابة فيمتحن فيكتب خطا جيدًا فيعلم منه أنه كاتب، وقد يكتب خطا قبيحا لعلة وغرض سنح له أداه إلى إخفاء أمره، وهو مع هذا عالم بالكتابة، فلا يدل خطه الدنيء على أنه لا يحسن الخط الجيد، لكن ربما تصورت قرائن في بعض المجالس تقطع على ارتفاع الأسباب التي تدعوه إلى الإخفاء، ويعلم منها ضرورة أنه لو كان عالما بالخط الجيد لكتبه، فيصير عدم كتابته مع القرائن دلالة على جهله. وتنخرط في هذا السلك مسألة أخرى، وهي متعلقة بالقول في كرامات الأولياء، ولا مطمع في استقصائها هنا لأنها متعلقة بفن الكلام، وفي كتب الكلام يبسطها العلماء، لكن نشير إلى ما أشار إليه أبو المعالي، وذلك أنه يقول: يجب أن يتشكك الإنسان أيضا في خبر من أخبره عن تقلع جبل، أو ما في معناه من خوارق العادات، لتجويزه أن يكون ذلك الخرق لولي. وأجاب عن ذلك بعد استخارته الله سبحانه بأنه يقطع على بطلان مثل هذه الأخبار، ما دامت العوائد المطردة على ما هي عليه، والعلوم الضرورية لازمة للقلوب بكون هذه المخلوقات على ما هي عليه، حتى إذا صار الإنسان إلى زمن تشوشت علومه الضرورية المستندة للعادات، وشاهد كثيرا من انخراقها، فإنه حينئذ يأتي منه التجويز لصدق هذا

الخبر، ونحن الآن والعادة مطردة تجوز الكرامة تجوبزا لو وقع لكان خارقا. وأما تجويز إيجاد موجود، والآخر تشكك في وقوعه. وقد تقدم في صدر كتابنا هذا الإشارة إلى فرق ما بين تردد العقل تردد حيرة ووقف، وتردد تجيوز وإمكان، مع القطع على ذلك. ومما يتعلق بأحكام الإخبار النظر فيما يعلم كونه بالضرورة المستندة للعادات، وقد ذكرنا هذا القسم ومثاله على الجملة فيما تقدم من التقسيم، ولكن أفردنا هاهنا الكلام على فرع من فروعه لاتساع القول فيه، وذلك أنك تعلم أن العادة مطردة بأن الخطب الجسيم، والثناء العظيم، والحادثة المجهولة التي تطيش لها الأحلام، يمكن إذا شاهدها الخلق العظيم والجم الغفير، أن ينفرد منهم واحد بالإخبار عنها، دون سائر الناس كخطيب قام على منبره يخطب للجمعة في مصر عظيم كبغداد وأمثالها، وقد غص الجامع بجميع أهل المصر، فإنه لو تزلزل بالخطيب منبره، وتنقل من مكانه، أو صعد إليه من قتله، فخرج الناس من الجامع، وأخبر واحد منهم وقال: جرى على الخطيب كذا (ص 199) وكذا، ولم يسمع ذلك إلا منه، فإن هذا الخبر يقطع على كذبه، للعلم الضروري بأن مثل هذا لا يتفق لسائر من بالجامع على أن لا يذكره واحد منهم، إذا لم يكن سبب يحملهم على كتمانه، وهذا معلوم بالعادة أن تطابقهم على السكوت عن الحديث بمثل هذا، والإخبار به لمن لقوه خارجا من الجامع ممن لا علم عنده من جملة الناس، فإن هذا ممتنع في العادة كما يمتنع اتفاقهم على خبر كاذب على حسب ما قدمناه وبسطناه، والعادة إليها التحاكم في هذا، وكل عاقل [يدرك] أنها كما أطردت بامتناع اجتماعهم على خبر كاذب، فكذلك يمتنع اجتماعهم على السكوت عن ذكر هذا الخبر الصادق، وهذا لا إشكال فيه، وإنما أوردناه لمسائل صورت عليه كالقادحة فيه. ونحن نقدم لك قبل ذكرها جوابا عامًا لجميعها، فلتعلم أن العلوم الضرورية لا يصح أن تفسد، ويحاج على بطلانها، لأن الحجج والنظر فروع مستندة للعلوم الضرورية، فإذا بطلت الأصول بطلت الفرع التي بنيت عليها، فلهذا لم يسمع من أحد الحجة بفرع على إبطال أصل، لكونه معترفا ببطلان حجته ببطلان أصلها. فإذا تقرر هذا فكل مسألة ألقيت عليك فلا تلتفت إليها وامتنع من تصورها، فإذا لم تجد بدا من تسليم تصورها، فاعلم أنها لم تتصور على حسب ما اعتقد المعترض بها، ولكن قارنتها أمور أخرجتها عن هذه العادة التي قررناها، ويكفيك أن تجيب بالإحالة على أمور مجهولة، وتعتمد في ذلك على ما تقرر من العلوم الضرورية، وإن شئت تعرضت لتفصيل هذه الأمور، فمن ذلك قول بعض المعترضين على النقل لحجة النبي صلى الله عليه وسلم هل كانت قرآنا أو

إفرادا، أو كان قدم قبلها عمرة، حتى صار متمتعا على حسب ما صار إليه الفقهاء الثلاثة مالك والشافعي وأبو حنيفة من كون الإفراد أفضل، أو غايره على حسب ما ذهب إليه مالك. فيقول المعترض هاهنا: حجة النبي صلى الله عليه وسلم واحدة، واجتمع إليه فيها سائر المسلمين، وحجوا معه، فما بالهم اختلفوا في الذي فعل، ومن حقه على أصلكم التطابق على نقله، والتطابق يقتضي اتفاق النقل، لأن أهل التواتر لا يكذبون، ولا يخالف تواتر تواترا. والجواب عن هذ أنا نقول: مقدار ما يتعلق بما ذكرتموه قد تطابقوا عليه، على نقله ولم ينكتم، ولا اختلفوا فيه، بل جروا فيه على الأصل الذي قررناه، وهو كون النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة وأتى مكة، وطاف وسعى، ووقف بمعرفة، ونزل بالمزدلفة، وهذا الذي لم ينازع فيه مسلم مسلما، والزيادة عليه ليست جارية على الأصل الذي قررناه، لأن صورة حج المنفرد، وحج القارن سواء بسواء، لا يختلفان في فعل أصلا مشاهد محسوس، تعم مشاهدته على رأي مالك رضي الله عنه الذي يرى أن القارن يطوف طوافا واحدا، ويسعى سعيا واحدا لحجة وعمرة، وإنما يختلفان من ناحية النية وعقد الضمير، وهو أن المفرد ينوي بفعله الحج خاصة، والقارن ينوي بفعله الحج والعمرة معا، والنية لا يطلع عليها ولا يشاهدها خاص من الناس ولا عام، ونحن نصحح الحج، وإن لم ينطق الحاج بما أضمره منها، ولو فرضنا نطقه بذلك لم نشترط أيضا أنه مما يجب أن يشتهر، أو يجب أن يتكرر تكرارا يدركه الخاص والعام، وهذا لا يشك في صحته عاقل عارف بأحكام العادات. ولو سلمنا أنه عليه السلام كان قارنا ونطق بذلك لكان العذر عند أصحاب هذا المذهب أن يكون سمع سامع منه أحد اللفظتين، وهو تلبيته بالعمرة، وذهب عنه قبل أن يسمع التبية بالحج، فظنه متمتعا، وسمع آخر تلبيته بالحج خاصة فظنه منفردا، وسمعه آخر فاعتقد أنه قارن. فإذا تصور طريق عذر يعلم منها سبب اختلافهم، فلا وجه للقدح في أصل عظيم علم بالضرورة بمثل هذا السؤال. وقد ذكرنا جملة المعاذير التي قيلت فيه في كتابنا المترجم بالمعلم. وقد يضعف السؤال على أصل من قال من العلماء: إن القارن يطوف طوافين، ويسعى سعيين، ولكن له أن يجيب عن هذا بأنه قد لا يلزم من جهة اشتهار العادة [أن يعلم] كل طواف يطوف، وإنما يلزم في العادة اشتهار الطواف على الجملة. وقد يقال: تدخل الدخيلة في النقل، لأجل اعتقاد من يعتقد أن الطواف المتكرر تطوع، والتطوع لا يهم أمره، فينقل كما ينقل الفرض (ص 200). وقد قيل: إن الاهتمام بحقيقة هذه الحجة لا يسلم اطراد العادة به، لأن الجميع من إفراد وقران وتمتع سائغ، وإنما اختلاف العلماء في أيهم أفضل، وقد لا يهتم نقل الأفضل، كما يهم نقل الفروض.

ومن ذلك أيضا سؤال ثاني وهو الاختلاف في الإقامة للصلاة، هل يوردها المؤذن مثنى مثنى، أو فرادى؟ فيقول المعترض: قول ينادي به على المنابر، ويكون خمس مرات في ليل ونهار، كيف يصح الاختلاف في نقل ما كان بلال يفعل فيه بحضرة النبي عليه السلام وأصحابه؟ وهذا السؤال من أصعب ما يوردونه في هذا الباب، وقد أهم القاضي أمره حتى نحا فيه إلى أن بلالا كان يفعل هذا وهذا، يثني تارة ويفرد أخرى، فالنقل عنه لم يقع فيه كذب، ولا مخالفة للعادة، فأداه اعتراض هؤلاء إلى القطع بأنه كان يفعل ذلك. واعترض هذا أبو المعالي بأنه يجب أن يتواتر اختلاف فعله ويشتهر، حتى لا يختلف النقلة عنه في أنه كان يفعل هذا وهذا، والنقل لم يرد كذلك. والمعتمد عند أبي المعالي في الجواب أن هذا يمكن أن يكون نقل نقلا واحدا متفقا متواترا، ولكن اندرس نقله بعد تطاول زمان وحدوث فتن وحروب، وحدوث تواتر وأيمة، كل إنسان يقيم الجماعة ما يتعلق بها على رأيه ومذهبه، وهذا من الأمور المتعلقة بالأمراء والسلاطين، فمن حينئذ حدث الخلاف، واندرس التواتر عند وجود سبب دعا إلى اندراسه. والأخبار التي تتعلق بهذا الأصل الذي قدمناه منها ما يصح اندراسه إذا ذهبت الدواعي الداعية لنقله واشتهاره، وما دامت الدواعي باقية، فالأمر باق على ما هو عليه من وجوب اشتهاره، ما دام السبب الداعي إلى اشتهاره باقيا، ولهذا اشتهرت معالم الدين في النقل أولا، وتمادى اشتهاردها إلى الآن، لحاجة أهل كل عصر إلى تلقي ذلك ممن قبلهم كتلقيهم أفعال الصلوات، وتعيين شهر رمضان من بين شهور السنة، إل غير ذلك من أمثاله، ولو صح أن تذهب الأسباب الداعية للنقل لاندرس النقل، كما كان ذلك في سير رسل تقدموا. هذا أيضا مع كون الأفضل من إفراد وتثنية في الإقامة لا يهم مثل الفروض المؤكدة، كيف وكثير من العلماء على أن الإقامة للصلاة ليست بفرض، ولو تكرها المصلي أصلا في نفسه لصحت صلاته. وهذه الطريقة أيضا تسلك إن اعترض في الإقامة بما بين الشافعي ومالك في المشهور عنه من اختلاف في قوله: قد قامت الصلاة، هل تقال مرتين كما ذهب إليه الشافعي، وروي عن مالك ذلك أيضا رواية شاذة، إو إنما يقال مرة واحدة، كما ذهب إليه مالك في مذهبه المشهور عنه، فإن الطريق في الجواب طريقة واحدة، ولا سيما وهذه نقطة واحدة، وأمرها أقرب إلى الخفاء من خفاء ما وقع في سائر ألفاظ الإقامة. وفي صحيح البخاري وغيره

"أنه عليه السلام أمر بلالا أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة، إلا الإقامة"، وقد تكلمنا على هذا في تواليفنا في الفقهيات، شرح التلقين وغيره. ومن ذلك قولهم: وقع اختلاف النقلة في نكاحه عليه السلام ميمونة، هل نكحها وهو محرم أم حلال؟ وهذا ليس باعتراض يلتفت إليه، ولا يلحق بهذه الاعتراضات المتقدمة، لأنه لا يخفى على عاقل أن نكاحه ميمونة يصح أن يقع منه بحضرة اثنين أو ثلاثة لا أكثر، وكيف يدعى أن هذا مما يجب أن يشتهر. هذا، وقد اعتذر بعض الفقهاء عن اختلاف النقلة فيه بأن من روى أنه كان محرما، فمعناه حال بالحرم، لا أنه عاقد بحج أو عمرة، حرصا من هذا المتأول على تطابق الروايتين، حتى يكون من روى أنه كان حلالا، لا يخالفه من روى أنه كان حراما. ولا يختلف أهل اللغة في أنه يقال لمن كان بالحرم: محرم، كما يقال للحاج أو المعتمر: محرم. وهذا يتأوله من يقول من المعسن المحرم لا يصح نكاحه حتى لا يكون عليه في رواية من روى أنه كان محرما بحجة. وهكذا اعتراض من اعترض بخلاف ابن مسعود في المعوذتين، فإنهما مما يجب اشتهار نقلهما اشتهارا لا يندرس ولا يختلف فيه، كما جرت الحال في غيرهما من سور القرآن. فإنان نقول له: الأمر كما قلت في وجوب اشتهارهما، وهكذا جرى الأمر أنهما مشتهرتان، وإنما خالف ابن مسعود في إثباتهما في المصحف بالكتبة، لا في كونهما قرآنا، وقد بسط القاضي ابن الطيب الكلام على خلافه هذا في كتابه المترجم بالانتصا لنقل القرآن. وأنت إذا تقرر لديك هذا الأصل الذي قدمناه، علمت منه بطلان نقل اليهود عن موسى (ص 201) أن شريعته مؤبدة، لأنهم في عصر النبي عليه السلام لم يوردوا عليه هذا ويحاجوه به، ويقولن: أنت أمرتنا بطاعة من أمرنا بعصيانك، ومثل هذا لو حاجوه به وخصموه وأسكتوه عنهم، لوجب اشتهار نقله، طردا للاصل الذي قدمناه، فإذا لم يشتهر فإنه لم يقل، وإذا لم يقل فإنه باطل. فاقتضى هذا أن القول إنما ادعي بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم ذكرنا لهذا، وذكرنا أيضا ادعاء الإمامية النص على علي رضي الله عنه، لأنه قد جرى في سقيفة بني ساعدة يوم اجتمع الصحابة، للنظر فيمن يولونه ما قد اشتهر ونقل فيه ما جرى من بيعتهم لأبي بكر رضي الله عنه، وما جرى من علي رضي الله عنه وغيره. ولو كان عندهم نص على عليّّ ما تطابقوا على مخالفته ومعصية الله سبحانه فيه ورسوله فيه، ولا صح أيضا تطابقهم على

كتمانه لما قدمناه، وهذا مما علم أنه لم يكن، ولا أنه أيضا كان ثم اندرس، ولم تكن خلافة أبي بكر أيدت بشوكة وتغلب، كيف وإلى الآن متحزبون لعلي رضي الله عنه ولخلافته، وهم غير مقهورين ولا محمولين على الكتمان؟. وهكذا كان الأمر فيما قيل، ولو اتفق سبب يحمل على الكتمان لم يعم ذلك سائر الأقاليم، و [من] قد رأى نقل السير وما دون منها، وما ناقله الناس فيها، علم صحة ما قلناه من مقتضى العادة في مثل هذه المسألة. وأما قول النصارى: إنكم تزعمون أن عيسى صلوات الله عليه تكلم في المهد، ونحن أقعد منكم وأقرب إلى الاطلاع على هذا، ثم ها نحن لا نعلمه، وهو مما يجب أن يشتهر، فيقال لهم: لو تكلم طفلا في المهد بحضرة الخلق العظيم لوجب أن يشتهر كما قلتم، ومتى ورد آحادا كذب إذا كان الخبر مما لا يندرس، وممكن في العقول أن يكون عيسى تكلم بحضرة آحاد، واطلع الله سبحانه عليه، وأخبرنا نحن به على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم في كتابه العزيز، كما أخبرنا رسوله بكلام طفلين آخرين في المهد اطلع الله سبحانه على ذلك وأوحى به إليه، ولكنا لا نقطع على كلام هذين الطفلين الآخرين، كما نقطع على كلام عيسى عليه السلام، لأجل أن كلام عيسى ذكر في القرآن ونحن نقطع على صحته، وكلام الآخرين وإن ذكره البخاري وغيره من أهل الصحيح فلا يبلغ القطع واليقين مثل كلام عيسى صلى الله عليه وسلم، مع أن كلام هذين الآخرين لا يقطع على كذب الرواة فيه، وإن نقلوه آحادا، لأنه وإن كان من العجائب فهو مما يصح أن يندرس، ومثل هذه العجائب متى لم تتماد الدواعي إلى نقلها، فإنها تضمحل وتندرس، أو ينقلها الآحاد، وكلما تقادمت العصور والأزمنة استحكم الاندراس للأخبار. وأما انشقاق القمر، وإن كان الباري سبحانه تكلم به، كما أجبتم بكلام عيسى، وهو أيضا مما يجب أن يشتهر، فما باله لم يشتهر؟ فإن هذا الاعتراض والمحافظة على الأصل الذي قررناه أدى الحليمي إلى أن تأول القرآن، وقال: معنى: (وانشق القمر)، أنه ينشق، وقد يعبر عن المستقبل الكائن عن قريب، فلابد بصيغة الماضي الذي وقع، وتقضي تأكيدا وتحقيقا لوقوعه، ألا ترى قوله سحبانه: (أتى أمر الله فلا تستعجلوه)، معناه سيأتي، وهذا معنى قوله: (اقتربت الساعة وانشق القمر)، أي اقتربت الساعة وانشقاق القمر.

فصل في خبر الواحد

وهذا التعسف لا حاجة بنا إليه، لأنا نجد جوابا مما قاله المعترض على ذلك الأصل، وذلك أن القمر حدث ذلك فيه بالليل، والناس نيام، ومن كان يقظانا فربما كان في مضجعه، أو في مكان غير بارز إلى السماء، ولو كان بارزا لأمكن أن يكون غير ناظر للقمر في تلك اللحظة التي انشق فيها ثم عاد، ولو كان ناظرا إليه تلك اللحظة لأحال ذلك على فساد وقع في تخيله، أو علة في بصره لا محالة، كما نجد الآن فينا لو تصور لنا في الجو خيالات صور، يعلم أنها لا تكون، فإنا نرجع بذلك إلى أنه عارض خيال فسد، لا سيما إذا كانت أمور تذهب عن قرب حتى لا يمكن تثبت البصر لها، وشدة تحديق المبصر إليها، وذلك أشد وآكد في اعتقاد أن ذاك الذي أدرك ليس على حقيقة ما تخيل. وقد يقدره كوكبا، أو شهابا شق وسط القمر، أو غير ذلك من الأمور التي تفزع إليها نفوس العقلاء ضبطا لعقولها عن الانقلاب إلى ما استمرت أمور العقول على خلافه. وهذا الذي قلناه واضح لكل من تدبر العوائد، فإذا أمكن في العادة هذا لم يكن هدما للاصل الذي قررناه، وإذا لم ينهدم الأصل الذي قررناه فلا حاجة للتعسف على تأويل القرآن بحمله على ما يبعد في حكم المساق. ومتى ورد عليك (ص 202) أمثال هذه المسائل فاسلك فيها هذه المسالك التي أريناك طرق الجواب [عنها] تأصيلا وتفصيلا. فصل في خبر الواحد الكلام في هذه المسألة من أربعة أوجه: - أحدها: تحقيق عبارات أطلقها حملة الشرع. - والثاني: هل يثمر خبر الواحد العلم أو الظن؟ - والثالث: يجب العمل به أم لا؟ - والرابع: سبب الاختلاف في وجوب العمل به. فأما الوجه الأول فإن القوم يطلقون هذه العبارة، ومرادهم بها كل خبر قصر عن أن يقع العلم به، ولا يتلفتون إذا لم يقع العلم به إلى كون راويه واحدا أو أكثر منه، ما لم تبلغ الكثرة إلى خبر التواتر الموجب للعلم، فإذا وقع العلم بالخبر لم يسموه خبر واحد، ولو كان راويه واحدا، إذا وقع العلم بخبره ضرورة أو استدلالا، ومقتضى اللغة يسمى مثل هذا خبر واحد وإن وقع العلم به، كما أن مقتضاها منع تسمية ما رواه الجماعة خبر واحد، وإن لم يقع عن خبرهم العلم، فالاصطلاح وقع بخلاف مقتضى اللغة طردا وعكسا.

وهاهنا عبارة ثانية يطلقونها، فيقولون: خبر الواحد يوجب العمل، ورأى أبو المعالي أن في هذه العبارة تساهلا، لأن نفس الخبر لو أوجب العمل لعلم ذلك منه، فيصير حينئذ الخبر قد استفيد منه علم بمعلوم ما، وخبر الواحد لا يثمر علما على حال من الأحوال، وإنما وجب العمل عند سماعه بأمر سواه، وهو الأدلة التي نذكرها فيما بعد. وهذا الانتقاد في هذه العبارة لا يبلغ مبلغ الانتقاد في العبارة الأولى، لأن قولهم في خبر الأربع أنه خبر واحد، كالمخالف للغة حسا وضرورة، على مقتضى تسمية الواحد واحدا في اللغة، وقولهم: خبر الواحد يوجب العمل، ليس بتصريح بالدال على الوجوب، وإذا أمر الشرع بالعمل بخبر الواحد، حسن أن يقال على مقتضى اللغة خبر الواحد يوجب العمل، ولكن من أين قيل: إنه يوجيه؟ ليس في العبارة تصريح به نصا، والأمر في هذا قريب، وإنما نبهناك على تفاوت مراتب الانتقاد في هاتين العبارتين. وأما الوجه الثاني وهو الكلام على ثمرة خبر الواحد فقد تقدمت الإشارة إليه مرارا، وذكرنا مذهب النظام وأنه يراه قد يقع العلم الضروري به، وحققننا مذهبه في ذلك. وقد ذهب ابن خويز منداد إلى إطلاق القول بأنه يوجب العلم، وأضاف هذا المذهب إلى مالك رضي الله عنه، وذكر أنه نص عليه، ورأيته أطال في كتابه الكلام على هذا المذهب. ولباب ما يتحصل من مذهبه فيه أنه يراه يوجب العلم الضروري، ولكنه يرى مراتب الأخبار مختلفة تواترا كانت أو آحادا، فيرى أن أعلى مرتبة في الأخبار المتواترة ما تحدث به جميع الناس، ككون بغداد بلدا معمورا، ومكة بلدًا محجوجا إليه. ويلي هذه المرتبة من أخبار التواتر ما لم يتطابق الناس على الحديث به، ولكن إنما حدث به قوم لا يحصرهم عدد كالخبر عما يجري في بعض البلاد بين أهلها من العظائم أو ما في معنى ذلك. ويرى خبر الواحد متفاوتا أيضا، فمنه ما اشتهر وانتشر كما يقع في بعض الأخبار التي خرجها أصحاب الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومنه ما لم يشتره مما قصر على روايه، وهذا هو المرتبة الأخيرة في الأخبار. ويرى أن خبر الواحد لا يقع العلم الضروري به على الإطلاق، دون مضامة أسباب تقويه وتعضده، حتى يثمر الدق ضرورة، ككون راوي الخبر محصلا معروفا بالصدق في أحاديثه، منتفيا عنه مظان التهم في الأخبار، من كونه لا يجر بالخبر نفعا إلى نفسه أو إلى من يتهم عليه ولا يدفع بذلك ضرا ولا غرض له يسهل الكذب عليه. فمجموع أمثال هذه الأحوال يراها كالقرينة المضامة لخبر الواحد المقتضية للعلم الضروري.

وأبهم فرق ما بين مذهبه وبين مذهب النظام، فإنا كنا أشرنا إلى أنه يرى وقوع العلم بخبر واحد عند هذه القرائن، ولكنا مثلنا القرائن هناك بمثل هو أعلى طبقة من هذا الذي حكيناه عن ابن خويز منداد، وقلنا: إن الرجل الرئيس الملحوظ بعين الجلال والكمال في النفس، المحاذر مما يقدح في حفظ الرتبة، إذا خرج من داره حاسرا رأسه، حافيا، يضرب بيد على أخرى، وعبرته لا تكف، مسترجعا، حزينا، يخبر بموت ولده، فإنه يعلم ضرورة صدقه، وذكرنا هناك أن أمثال هذه القرائن ربما دلت على الفجعة بمحبوب على الجملة، وإن كان لم يصحبها نطق ولا إخبار، ونبهناك على أن الخبر قد يستغنى عنه في أمثال هذه الأحوال. وأما العدالة وانتفاء الأغراض، فمجرد هذا لا يستقل قرينة في إثمار العلوم الضروري (ص 203)، هذا مما لا أظن النظام يذهب إليه عند من حكى عنه أنه يرى وقوع العلم بخبر الواحد عند القرائن. وأنت ترى فرق ما بين المذهبين، هذا يرى التجرد من القوادح في الخبر كالقرينة المثمرة للعلم، والعلم لا يقتصر على مجرد التجرد من القوادح، بل يعتبر وجود قرائن حسية على ما أخبرناك به. وقد جعل ابن خويز منداد أحد شواهده على أن خبر الواحد يقع به العلم أن الإنسان يضرب الباب على صديقه فيفتح له الخادم الباب، ويقول: قد أذن لك في الدخول فادخل، فيقع له العلم الضروري بصدقها. وكذلك إذا زفت إليه العروس وأخبره بعض أهله أو أهلها، أنها التي عقد النكاح عليها، فإنه يعلم صدق ذلك ضرورة، وأراد أن يجعل وجود هذه الأسباب لها قرائن مثمرة للعلم دالة على التجرد من طريق التهم في قرينة أيضا تثمر العلم. فهذا تحقيق مذهب الرجل، قد كشفناه لك. وذهب قوم إلى أن خبر الواحد يوجب العلم الظاهر دون الباطن. فأما الرد على هذه المذاهب فإنا كنا قدمنا في الرد على النظام ما يغنيك عن إبطالها بوجوه أخر، فاعتمد على ما قدمناه. ويخص ابن خويز منداد القائل بما حكيناه من أن خبر الواحد يثمر العلم على الإطلاق، وقد حكي هذا المذهب عن ابن حنبل أيضا، بأن تقول له: لا أحد من الآحاد أقرب إلى الصدق وأبعد عن الكذب عقلا، وسمتا، وهمة، وحكمة من الرسل صلوات الله عليهم، ونحن لم نصدقهم إلا بعد إقامة المعجزات على تصديقهم، ثم بعد وقوع المعجزات لم نعلم صدقهم، وإنما علمناه بالاستدلال، ولهذا اختلف العقلاء فيهم؛ فمنهم من آمن،

ومنهم من كفر، ولو كان معلوما ضرورة ما اختلف العقلاء فيهم. وقد أشار هو إلى الانفصال عن هذا الإلزام، بأنه يرى أن من القرائن تجرد الخبر عن التهم، وقد يتهم الرسول في دعوى النبوة بالرغبة في الرياسة والطاعة، فلهذا افتقر إلى المعجزة. وهذا يبطل عليه، ولو فرضنا الحال في مدع للنبوة، وقد علم ضرورة من قرينة حاله أنه لا يطلب علوا في الأرض ولا فسادا. فإنا لو فرضنا هذا لم نعلم صدقه حتى يأتينا بمعجزة، ويقال له: قد رفعت عنك المعجزة، وعند كل مسلم التهمة بالحرص على الرياسة، فيلحق خبرهم بخبر من لا يتهم، ويقع به العلم الضروري، ولو اتفق أن يسمع خبرهم من لا يخطر له التهمة بطلب الرياسة على بال لوجب على أصلك أن يعلم ضرورة صدقهم، وهو لا يعلمه حتى يأتوا بمعجزة تدل على صدقهم. وها نحن نرى المدعين للحقوق يردون على القضاء، كعدد الوبل في سائر الأعصار وفي سائر الأمصار، ولو ادعى أعبد أهل الزمان وأزهدهم بفلس على أرذلهم ما أعطى بدعواه، ولا وقع العلم بصدقه، ولكن مراتب الظنون تختلف في القوة والضعف حتى يكون منها ما يكاد يلحق بقوته العلم الملزم به، ولكن النفس مع هذا ملتفتة إلى التجويز والتشكيك، فمهما رأيت في نفسك في آحاد الصور من دعوى مدع، أو خبر مخبر ما يرتاب منه بصحة ما قال ابن خويز منداد، فاعلم أن ذلك ظن بلغ في قوته أعلى مراتب الظنون، فلا تغلط فيه فتختلط عليك الحقائق. وقد حكينا عنه رحمه الله أنه قسم الأخبار على المراتب التي ذكرناها، وإذا كان جميعها عنده مثمرا للعلم الضروري لم يصح التقسيم، لأن العلم لا يتفاوت في نفسه، وقد قدمنا فيما سلف أنه لا تفاوت بين العلم الضروري والنظري في نفس تعلقهما بالمعلول على ما هو به، فكيف بعلوم ضرورية؟ تلك أبعد من أن تتفاوت في نفسها في تعلقها بالمعلوم على ما هو به، وقد ذكرنا عنه أنه أضاف القول الذي قال به إلى مالك رضي الله عنه، وذكر أنه نص عليه، ونحن لم نعثر على هذا النص، ولعله رحمه الله، رأى لمالك مقالة تشير إلى هذا، ولكنها متأولة، فقدرها نصا، فكيف وحذاق أصحابه رضي الله عنهم يعتذرون عن قوله: إن الصغير إذا بلغ وقام له شاهد بأن لأبيه على رجل دينا، فإنه يحلف معه ويقولون: كيف استجاز رضي الله عنه أن يبيح للصغير الحلف على مغيب لا يعرف صحته ويقول في يمينه: لقد شهد شاهدي بالحق، وهو مع هذا يجوز أن يكون الشاهد كذب، ويقولون: إنما يحلف الصغير إذا تواتر عنده الخبر، حتى علم صدق الشاهد، ويشيرون إلى حمل كلام مالك رضي الله عنه على هذا؛ ولو كان عندهم أنمالكا رضي الله عنه يرى أن خبر الواحد يقتضي العلم لم يفتقروا إلى هذا التأويل المستنكره، ولقالوا: إنما سوغ اليمين لكون الصغير عِلمَ ضرورة صدق شاهده.

وأما من حكينا عنه أن خبر الواحد يثمر العلم الظاهر دون الباطن، فإن هؤلاء الظاهر عندهم (ص 204) أنهم يشيرون إلى أنه يثمر الظن، وإنما عبروا عن ذلك بهذه العبارة إشعارا بقوة الظن وتأكده، ومزاحمته للعلم. وأما القطع على صحة مغيبة فبعيد عن التحصيل، وقد يتعلق هؤلاء بقوله تعالى: (فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار)، والإيمان على الحقيقة هو اعتقاد في القلب، وما في سبحانه ثمرة الظن علما لنا بأنهن مؤمنات، فقال عز من قائل: (فإن علمتموهن مؤمنات)، ولولا أن خبر المرأة عن نفسها بأنها مؤمنة بقتضي أن يعلم السامع لهذا الخبر إيمانها، لم يقل سبحانه: (فإن علمتوهن مؤمنات)، بل يقول: فإن ظننتموهن مؤمنات. والتعلق بمثل هذا في مثل هذه الحقائق الجلية بعد عن التحقيق، والحقائق القطعية الجلية لا يعول فيها على إشارات تلوح من ظواهر خفية، ونحن نعلم قطعا أنا إذا فاجأتنا امرأة لم نرها قط، ولا نعرف قومهاه بإيمان ولا كفر، فقالت: إني مؤمنة، فإنا نجوز أن تكون كذبت وقالت ذلك لغرض لها، وإنكار تجويز هذا وكونه محسوسا في قلوب العقلاء مراغمة للحقائق. فإن اقترن بقولها قرائن، وطالت المصاحبة والانبساط والمكاشفة والبروح بما ترى الضمائر، فهاهنا يصح أن يذهب ذاهب إلى أنه يعلم إيمانها ضرورة من قرائن أحوال أخبرت عن إيمانها أو لم تخبر، ولاحظ في خبرها حينئذ للعلم، بل إنما الحظ كله للقرائن المصاحبة كصلواتها وصومها، وما يبدو من خوفها من الله سبحانه على وجه يعلم أنه غير مستعمل، بل راسخ في ضميرها، وغير بعيد تسمية النطق بالشهادتين إيمانا لما كانت علما على الإيمان، كيف وقد ذهب جماعة من حملة الشرع إلى عدها من جملة الإيمان وإذا صح بطلان هذه المذاهب صح ما ذهب إليه الجماهير من العلماء من كون خبر الواحد إنما يثمر الظن لا العلم. وأما الوجه الثالث وهو نقل المذاهب في العمل بخبر الواحد، فقال: اختلف الناس في ذلك: فقال بعضهم: لا يعمل به، ولا يجوز في العقل أن يتعبدنا الله سحبانه بالعمل به. وقال آخرون وهم الجماهير من علماء الأمة: بل يجوز من جهة العقول أن يتعبدنا الله سبحانه بالعمل به، واختلف هؤلاء؛ هل تعبدنا بذلك أم لا؟ فقال الشذوذ: منهم لم يتعبدنا الله به، واختلف هؤلاء الشذوذ أيضا، فمنهم من نفى

ذلك لعدم وجود دليل شرعي على العمل، ومنهم من نفى ذلك لأنه اعتقد ورود الدليل السمعي بمنع العمل به. وقال الدهماء من العلماء: بل تعبدنا الله سبحانه بالعمل به، واختلف هؤلاء أيضا في طريقة العلم بالتعبد به، فقال من شذ منهم: إن العقول دلت على وجوب التعبد به، وقال الجمهور: لا مدخل للعقول في هذا، وإنما علمنا بوجوب التعبد به بالدلالة السمعية، وشذ بعض هؤلاء أيضا فرأى أن الدلالة السمعية إنما وردت بالتعبد به على أحكام ما وردت به في الشهادة، فلا يقبل عنده خبر واحد عن النبي عليه السلام، وإنما يقبل خبر اثنين عدلين، أو رجل واشترط في النقل تضاعف العدد، فلا يقبل من التابعين إلا أربعة عن اثنين من الصحابة، ومن تابعي التابعين إلا ثمانية ليكونوا قد نقل اثنان عن كل واحد من الأربعة، والأربعة عن كل واحد من الصحابة رضوان الله عليهم، وهكذا التضعيف حتى يبلغ الأمر إلى عصرنا، وبذلك يخاطب من بعدنا من العصور، وهذا المذهب يضاف إلى الجبائي. وسائر من أثبت العمل بخبر الواحد يخالفه، ولا يشترط عددا في النقل في العصر الأول، ولا فيما بعده من الأعصار، وعلى هذا الأئمة من فقهاء الأمصار، فهذه جملة المذاهب المذكورة في هذا الباب. وأما الوجه الرابع وهو سبب اختلاف هذه المذاهب فلنبدأ بمذاهب المختلفين في جواز التعبد به عقلا، فنقول: ورود التعبد عند حصول ظن يظنه الإنسان لا إحالة فيه، وذلك أن الله سبحانه إذا قال: [إذا] رأيتم الشمس فصلوا، فلا امتراء في صحة التعبد بهذا، وهكذا إذا قال: إذا ظننتم أنا لشمس قد زالت فصلوا، ولا فرق بين أن يعلق وجوب الصلاة علينا على إحساسنا على خلقه في قلوبنا أو ظننا خلقه في قلوبنا أيضا، كيف وقد تعبدنا بذلك فقال (ص 205) فقيه مجتهد عدل وقد استفتيته: هذا عليك حرام، وأنت لا تجد من تقلد سواه، فإن التحريم لازم، هذا والقاضي يجوز على الفقيه أن يكون غلط أو تعمد التحريف عن الحق، وهكذا يسمع الحاكم شهادة عدلين بأن هذا قتل هذا، فيأمر بإراقة دمه، فيبيح الدم ويريقه، ولم يحصل له إلا خبر شاهدين قد يكونان في الباطن فاسقين أو يكونان عدلين في الباطن، ولكنهما كذبا غلطا وسهوا. وهكذا الفقيه المجتهد يفتي في مسألة بتحريم أو تحليل لأجل قياس أو اجتهاد، ولا يحصل له منه إلا الظن. فمن ألفى الشرائع واردة بهذه الأنواع، وسلم أن العقول لم تمنع منها ولا أحالتها،

فكيف يطمع أن يتخيل ذو تحصيل من منع ورود التعبد بأن يقول الله سبحانه: إذا روي لك راو عدل أنه سمع النبي عليه السلام يأمر بكذا، فاعمل على ما نقل لك عنه، وإن كنت تجوز الغلط على الناقل، فإني رفعت الحرج عنك فيه، وإن غلط وأنت ممتثل أمري في ذلك كامتثالك أمري فيما أمرتك به من اتباع رسولي فيما قاله لك شفاها، وهذا أوضح من أن يحتاج إلى إطناب. ثم إن أمثل ما يورده هؤلاء المحيلون للتعبد بذلك، أن المصلحة في العبادات والجري على مقتضى الحكمة واجب، وليس من المصلحة والحكمة للخليقة إراقة دمائهم واستباحة أموالهم بخبر لا يعرف باطنه، ولا يدري سامعه هل هو صدق أم كذب. وأنت في جوابهم عن هذا بالخيار، فإما أن تمنعهم من نقلهم الفاسد في تعليق التكاليف على المصالح، وقد مضى في صدر هذا الكتاب في إبطال مذهبهم فيه، وإبطال ما بنوه عليه من التحسين والتقبيح العقلي ما فيه إيضاح للحق، وإما أن تسلمه لهم، وتمنعهم من كون خبر الواحد خروجا عن الحكمة والمصلحة، إذ لا يمتنع أن يكون صلاح العالم وانتظام أمورهم في قبولهم خبر العدول عن عدوهم لعدة التواتر في الأخبار، وقبوله ما يوجد منها معلوما علما ضروريا، وإما أن تناقضهم بما قدمناه من ورود التعبد بقبول شهادة شاهدين، وقبول قول مفت واحد عمل فيه بقياس مظنون، وتسألهم عن الفرق بين هذا كله، وبين خبر الواحد فلا يجدون فرقا إلا الخوض في خيالات واضحة الفساد، كقولهم إن المفتي والقاضي والشاهد أمورهم مقصورة على شخص بعينه، والخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم يتوجه على سائر الناس، وهذا فرق منهم من غير موضع الجمع، لأنا قلنا قد ورد التعبد بالمظنونات، ولم يكن ذلك تغريرا بالأحكام، ولا فسادا في الحكمة والمصلحة، فكذلك خبر الواحد في ورود التعبد به، وإن كان ظنا. هذا وقد يقضي القاضي، ويشهد الشاه، ويفتي المفتي بأمور تتعدى إلى الجماعات، وقد ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يخص فيلزم العمل به. وهكذا يجابون إن قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقبل خبره إلا بمعجزة تثمر العلم بصدقه، فخبر غيره أولى أن لا يقبل، ونحن لا نعلم صدقه، لأن الرسول تعبدنا بأن نعلم صدقه، والظن لا يكفي عن العلم والقطع لكونهما ضدين، ونحن تعبدنا في خبر الواحد بالظن. هذا ونحن نقول: لم نعمل في خبر الواحد بالظن، بل عملنا بالعلم، وبما قام عليه

الدليل القاطع، وهو الإجماع على وجوب العمل بخبر الواحد عل ما ستقف عليه إن شاء الله عز وجل. فمتعلق الظن غير متعلق [العلم]، فالمظنون صدق الخبر، والمعلوم المقطوع به وجوب العمل عند سماعه، فلم يعمل إلا بدليل قطعي أيضا. وهكذا إن قالوا: يجوز إثبات القرآن، وإثبات أصول الديانات، ونسخ القرآن بأخبار الآحاد، وجوزوا أيضا العمل بخبر الفاسق. قلنا: أما العقول فتجوز ذلك فيها عندنا، ولو تعبدنا الله سبحانه بأن نعمل بمضمون آية رواها واحد، دون أن نقطع بصدقه لم يكن هذا محالا عندنا، كيف وقد صار إليه قوم من الأئمة، وإلى أن ذلك يعمل به كما سنحكيه في موضعه إن شاء الله، وهكذا العمل بخبر الفاسق، وبخبر العدل في أصول الديانات، فإنه لم يمنع عندنا عقلا، وإنما منع سمعا، هذا سبب الاختلاف في الإحالة والجواز. وأما سبب الخلاف؛ هل ورد التعبد به أم لا؟ فإنا كنا ذكرنا عن القوم الذين نفوا ورود التعبد به، أن منهم من نفاه لأنه لم يعلم دليلا سمعيا ورد به، ومنهم من نفاه لأنه علم ورود الدليل السمعي بالمنع منه، فأما من نفى ذلك وزعم أنه لم يعلم فنحن سنريه كيف ورد السمع به، حتى نزيل عنه ما شكاه من عدم العلم. وأما الآخرون الذي صمموا على نفي العمل، وزعموا أن السمع ورد بالمنع منه، فإن متعلقهم في ذلك كتاب وسنة واستقراء من (ص 206) آثار الصحابة، على حسب ما سنسلكه نحن في نصرة مذهبنا، كما ستراه إن شاء الله. فأما متعلقهم من الكتاب فقوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم)، وقوله: (إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا)، وقوله تعالى: (ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين* إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون)، واستدل القاساني بقوله تعالى: (ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم)، وخبر الواحد لم يحكمه الله تعالى كما أحكم آياته، وعضد استدلاله في منع التعبد به أيضا بأن القياس والاجتهاد في فروع الدين واجب، فيجب أن تكون الأصول المقيس عليها محصورة حتى يصح القياس في المنتشر على المنحصر، وإذا كانت الأصول غير محصورة لم يصح القياس، وأخبار الآحاد لا تنحصر. وهذا الذي تعلقوا به لا يخفى ضعفه على محصل، أما قوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم)، فإن سياق الآية يدل على أن القصد بهذا القول النهي عن المجازفة والهجوم

على حقائق الديانات والعلوم بغير علم ولا نظر يؤدي إلى العلم، ونحن لا نثبت خبر الواحد مجازفة ورجما بالظنون واتباعا لما يخطر بالبال من وسواس النفس، بل إنما أثبتناه بالدليل القاطع الذي أدانا إلى العلم اليقين، فما اقتفينا إلا ما لنا به علم، ولا اتبعنا إلا أمرا تيقنا صحته. ويقال لهم: لم كانت هذه الآية دليلا علينا، دون أن تكون دليلا عليكم، بأن نقول لكم: أنتم في نفيكم العمل بخبر الواحد، ومصيركم إلى أنه لا يحل أن يعمل به في الدين قد افتفيتم ما ليس لكم به علم. فإن قالوا: بل اقتفينا ما لنا به علم. قيل لهم: فأوردوه من غير هذا الآية، واتركوها لا دليل فيها لنا ولا لكم على ما نحن فيه. وكذلك يجري في الجواب عن قوله تعالى: (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون)، لأنه ذكر فيما قبل النهي عن اتباع خطوات الشيطان، وأشار إلى علة النهي، بأنه يدعونا إلى السوء والفحشاء، وأن نتقول على الله سبحانه الكذب وما لا نعلمه، ونحن قد علمنا أن الله سحبانه أمر بالعمل بخبر الواحد، فلم نقل على الله سبحانه إلا ما نعلم. وهكذا قوله: (إن تتبعون إلا الظن)، لأن الله سبحانه إنما ذكر هذا بعد أن ذكر عن الكفرة أنهم يسمون الملائكة تسمية الأنثى رجما بالظنون، وخيالات فاسدة لا أصل لها، ونحن إنما أثبتنا خبر الواحد بدليل أدانا إلى العمل اليقين، والظن ليس في وجوب العمل، وإنما الخبر نفسه هو المظنون صدقه، وكلامنا على العمل به، لا على حقيقة الصدق والكذب. وأما ما استدل به القاساني فلا مدخل له في هذه الآية، ورد في سياق الآية ما نعلم منه، أن ما نحن فيه ليس منها في ورد ولا صدر، وقد قال تعالى: (وما أرسلنا من قلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته)، والمراد إحكام آيات القرآن، وما نحن فيه خارج عن هذا. ولنا أن نقول له: سنتلو عليك من القرآن آيات محكمات تدل على وجوب العمل بخبر الواحد حتى يصير العمل به من جملة الآيات التي أحكمها الله سبحانه. وأما تعويله على كون الأصول يجب أن تكون محصورة، وخبر الواحد لا انحصار فيه، فهذا وإن كان خارجا عن التعلق بالقرآن، فإنما ذكرناه لكونه من كلام الرجل الذي نحن في مخاطبته. والجواب عنه أن خبر الآحاد محصورة، لأنا لا نقبل الخبر من كل من جاء به، حتى يشترط فيه صفات سنذكرها فيما بعد، وهؤلاء الرواة الموصوفون بهذه الصفات قد دون ما رووه ونقل عنهم، فالفقيه إذا حاول الاجتهاد في مسألة بحث عن جملة السنن والأخبار الواردة فيها، فإذا انضبطت له، نظر في أسانيدها ومتونها بحسب ما يعرفه النظار،

ومر على طرق النظر حتى يكملها، وإن جوز من ناحية العقول أن يكون من ذكر خبرا لم ينتبه إليه، فذلك ساقط عنه وهو غير متعبد بما لا يعلم، إذا أنهى الاجتهاد نهايته فما نظر إلا في أمور محصورة عنده. وأما تعلق هؤلاء بالسنن فإنهم يقولون قصة ذي اليدين مشهورة عند الفقهاء والمحدثين، وقد أخبر النبي عليه السلام بأنه نقص من الصلاة فلم يرجع النبي عليه السلام إلى خبره حتى استطيع أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما صدقاه رجع إلى إكمال الصلاة، فلو كان خبر الواحد مقبولا لرجع النبي عليه السلام إلى خبر ذي اليدين. وهذا استدلال ضعيف، لأن أحكام (ص 207) الصلاة قد تقتضي ما فعل، وللفقهاء كلام طويل في وجوب رجوع الإمام إلى من خلفه إذا أخبره بأنه لم يكمل الصلاة؛ هل يراعي في ذلك خبر رجلين أو يراعي في ذلك خير جماعة كثير، وهل يرجع إلى بقيتهم وإلى ما أخبروه مع التصميم على غلطتهم في خبرهم، أو إنما يرجع إليهم إذا خامره [شك]، وهل يوجب عليه مخامرة الشك بعد سلامه دون جبران، فرجع إلى الباء على يقين، كما يفعل ذلك إذا شك قبل السلام أم لا؟ ومن عرف طرق الفقهاء في هذا علم تطرق الاحتمالات إلى هذا الاستدلال، إذا عرض الخبر الوارد على هذه الوجوه، فمن الممكن أن يكون النبي عليه السلام بقي على تصميمه، وأنه أكمل الصلاة، فلما أخبره أبو بكر وعمر بخلاف ما عنده، خامره الشك فقام وأكمل. وقد مر ابن خويز منداد في الجواب عن هذا على ما قدمناه من أصله أن خبر الواحد يثمر العلم الضروري، وليس كل خبر يثمره، وإنما يثمره من الأخبار ما اقترنت به قرائن، ويرى التجرد من طرق الاسترابة قرينة، ولم يتجرد للنبي عليه السلام عند خبر ذي اليدين بل استراب خبره، وأمكن عنده غلطه، حتى أخبره أبو بكر رضي الله عنهما فتجرد الخبر من الريبة، فوقع له العلم. ويقال لهم: أيضا لو كان خبر الواحد غير مقبول لم يرجع إلى الإكمال بخبر أبي بكر وعمر، لأن المخبرين ثلاثة، وقد قدمنا أنا إذا قلنا: خبر الواحد، فإنا نشير إلى الواحد، والاثنين، والثلاثة، والأربع، وإلى كل ما لا يقع العلم بخبره. وإنما قد يحسن أن يتعلق بهذا من قال: يقبل خبر الاثنين ولا يقبل خبر الواحد. وقد يتعلق هؤلاء بالحديث الوارد فيه عن النبي عليه السلام أن ما جاء من الحديث عنه يقبل، إذا كان موافقا لكتاب الله، ويرد إذا لم يوافق، الحديث، ما ذكروه، وقد قيل: إنه

خبر غير صحيح، وبالجملة فلم يخرجه من المحدثين من اشترط واشتهر كتابه بها. هذا ولو صححناه فهم يردون خبر الواحد فكيف يطمعون أن يقبل منهم على أصلهم رد خبر واحد، ثم تقابل هذا بما روي أنه عليه السلام قال: "لا أرى أحدا منكم يكذبني بعد موتي. فقيل له: كيف يكذبك بعد موتك يا رسول الله؟ قال يتكئ على أريكته، فإذا حدث عني قال: لا أجد هذا في كتاب الله" الحديث كما وقع، وهذا ظاهره مخالف لما ذكروه. وأما استقراؤهم من الصحابة رضي الله عنهم فإنهم يقولون قد رد الصديق خبر المغيرة، وعمر خبر أبي موسى، وعلي خبر أبي سنان، وعائشة خبر ابن عمر، إلى غير ذلك مما يذكرونه. ونحن نبطل هذا عليهم بأن نريهم أضعاف ما ذكروه من الأحاديث ممن قبلته الصحابة حتى تعارض ما أوردناه [مع] ما ذكروه، ونبين وجه المعاذير في رد ما ردوه، إذا انتهى إليه الكلام في كتابنا هذا. وأما القائلون بوجوب العمل به فسبب اختلافهم في طريقة الوجوب أن من صار منهم إلى أن مدرك الوجوب العقل، وهم شذوذ فإن هؤلاء يبنون مذهبم على القول بالمصالح في التكاليف، وإثبات التحسين والتقبيح العقلي، ونحن قد تكرر منا ذكر مخالفتهم في هذا الأصل، وأوضحنا بطلانه، على أنهم يتنازعون في تصور المصلحة فيه، فإن قالوا: التواتر يعز وجوده، فالحكمة تدعو إلى العمل بخبر واحد. قيل لهم: ولم عز وجوده؟ وفي مقدور الله سبحانه أن يجعل كل خبر متواترا، وأن يكلف نبيه صلى الله عليه وسلم إلقاء كل حكم لجماعة من أصحابه، ويأمرهم بنقل ذلك عنه، ويأمر من بعدهم بذلك. وأما الصائرون إلى أن مدرك ذلك السمع دون العقل، فإنهم يتعلقون بالكتاب، والسنة، وإجماع الصحابة رضي الله عنهم. فأما الكتاب فتعلقوا منه بقوله تعالى: (يا أيها الذين أمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)، وقد كثر من المخالفين لنا المدافعة عن التعلق بهذه الآية، وأمثل ما دافعوا به عنها، أن هذا تمسك بدليل الخطابب، ودليل الخطاب مختلف فيه بين الأصوليين، لا سيما وقد ذكر سبب نزول الآية، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ولي رجلا عاملا على الصدقات، فعاد إليه فذكر له عن قوم أنهم منعوا الصدقة، وأرادوا قتله، وهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم الجيش، أنزل الله تعالى هذه الأية، آمرا فيها بالتثبت فيما نقله هذا. والقصد منها التنبيه على فسقه في الباطن، وأنه بخلاف ما ظن عليه السلام به، من أنه عدل في الظاهر. وجوابنا عن هذا أن نقول: قد علم أن كثيرا من العلماء صائرون إلى القول بدليل

الخطاب، وإلى أن العموم (ص 208) إذا نزل على سبب تعدي سببه وأخذ بحكم اللفظ وعمومه، فلا مطمع لهم في مدافعة هؤلاء. وأما الآخرون الذين ينكرون هذا، فإنا كنا قدمنا أن الوصف المتعلق به الحكم، إذا كان لفظا مشتقا من معنى مخيل بالحكم مناسبا له، فإنه يكون علة للحكم، وهذا اللفظ في هذه الآية واضح في الإخالة بالحكم، لأن الفاسق الذي لا دين له ولا مروءة، ولا يتقي عار الكذب وفضيحته، يعلم منه أنه لا زاجر له عن الكذب، وأنه يتساهل فيه فلا يوثق بخبره، ولا يجد الإنسان في نفسه الإصغاء إلى قوله والتعويل عليه، بخلاف ما يجده العقلاء في أنفسهم إذا أخبرهم العدل الورع المتحفظ على دينه، إنه دينه وروعه يزجره عن الكذب ويمنعه منه، والنفوس مائلة إلى قوله معتقدة صدقه، فلو كان الفاسق والعدل سواء، لم يكن لهذا المعنى المخيل بالحكم الذي هو رد للخبر معنى، ولا كان لذكره وجه ولا فائدة، ولكان الخطاب: إذا جاءكم واحد بخبر فتبينوا، أو إذا جاءكم العدل بخبر فتبينوا، لينبه بالعدل على أن الفاسق أولى بالتثبت في خبره، وإذا أمرنا بالتثبت فقد تضمن ذلك الرد لخبره وأنا لا نعمل به ولا نعول عليه. وهذا من جنس استدلال أئمتنا على أن المؤمنين يرون الله سبحانه يوم القيامة لقوله تعالى: (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون)، فدل ذلك على أن المؤمنين غير محجوبين، لأن سياق هذه الآية وما قبلها يقتضي أن الكفار مهانون مخزيون مطردون عن ربهم لأجل كفرهم، فلو كان المؤمنون محجوبين أيضا لم يكن لهذا التخصيص بالهوان والطرد والخزي معنى يزجر الكفار عن كفرهم. ودافعونا أيضا عن الآية بأن قالوا: قال تعالى في سياق أمره بالتثبت في خبر الفاسق ما أشار به إلى التعليل لأمره فقال: (أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)، والواحد العدل إذا أخبر بخبر، فإنا نجوز كذبه، وإذا عملنا بخبره خفنا أن نصيبب القوم بجهالة فنندم على ما فعلنا إذا اطلعنا على كذبه. فيقال لهم: إذا كانت العلة في رد خبره تجويز الكذب عليه، فلا تقبل شهادة عدول في شيء من الحقوق لجواز كذبهم، ولأن القاضي قد يطلع في ثاني حال على أنهم كذبوا فيندم على ما أراق بشهادتهم من دماء وأباح من فروج وأموال، ورد الشهادات في سائر الحقوق معلوم من دين الأمة ضرورة فساده. فإن قالوا: يلزم على هذا التعليل ما قلتموه، ولكن خص من هذا التعليل الشهود بالإجماع. قيل لهم: بين الأصوليين اختلاف في جواز تخصيص العلة الشرعية، فمن أحال ذلك منهم فلا مطمع لكم فيه أن يقبل هذا الانفصال، وأما من أجاز ذلك فإنه يقول: التقدير في التعليل غير ما قدرتموه، والجهالة هاهنا السفاهة والتهون في الأمور والهجوم عليها

بمقتضى أول خاطر من خواطر النفس ووسواسها، والفاسق قد قررنا أن خبره كالعدم، وأنه لا يظن صدقه في خبره، بل ربما ظن كذبه، فالهجوم على استباحة الدماء والأموال بخبره هجوم على ذلك بحكم خواطر النفس ورجم الظنون التي لا تستند إلى أصل، والقصد تنبيه النبي عليه السلام على أن الرجل ليس بعدل في الباطن كما ظن به، وإذا ثبت عند النبي عليه السلام أنه ليس بعدل بهذا الوحي، صار الإقدام على العمل بخبره هجوما على الأمور برجم الظنون، ولو كان المراد ما قالوه من أن كل من جوز العقل كذبه، فإن العمل بخبره جهالة لم يكن للتقييد بذكر الفاسق هاهنا معنى، بل كان يقول: إذا جاءكم واحد أو آحاد من الرجال فتثبتوا، لجواز كذبهم. وبالجملة فإنك إذا استمسكت بذكر الفسق هاهنا، ورأيت أن السياق يشهد على أنه علة في الرد، وأن العلة مخيلة مناسبة للحكم هان عليك إبطال ما حاجوك به مما ذكرنا، ومما لم نذكره في هذه الآية. وتعلق أصحابنا أيضا بآية ثانية وهي قوله تعالى: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)، والفرقة عبارة عن جماعة، وأقل الجماعة على أحد القولين ثلاثة، وطائفة الشيء بعضه، وبعض الثلاثة واحد، فخرج من هذا أن المراد بقيد فخرج واحد لينذر من رجع قومه، لا سيما إذا حملنا قوله تعالى: (قومهم) على أن المراد به إنذار كل واحد في نفسه لقومه، وإنما جمعوا بعد تقدير الافتراق في الإنذار، وأن واحدا إذا أنذر قومه ثم واحدا واحدا، حسن هاهنا الجمع في قوله: (ليتفقوا في الدين ولينذروا قومهم). وقد دافع المخالف عن هذه الأية أيضا (ص 209) بأن قال: المراد إنذار جماعة لقومهم، ونحن قدمنا الانفصال عن هذا لما أريناك وجه الاستنباط من الآية، وأن الفرقة إذا كانت ثلاثة فبعضها واحد، فهذا انفصال عما دافعونا من هذا الوجه. ودافعوا أيضا بوجه ثان، وهو أن المراد فتوى من يفتي، والمفتي يصح أن يكون واحدا. وأجيبوا عن هذا بأنه عطف على ذلك: (ولينذروا قومهم)، والإنذار الإخبار بما يجب [أن] يحذر منه، وهذا خلاف الفتيا. فدافعوا عن هذا أيضا بأن قالوا: لو سلمنا هذا كله، لم يقتض أكثر من أمر الواحد بالإخبار والإنذار، ولكن لا يتضمن هذا أن المنذرين يجب عليهم القبول منه والعمل

بإنذاره، وكم في الشريعة من حكم يختلف في مثل هذا، والشاهد الواحد يجب عليه أن يشهد إذا تعين ذلك عليه، ولا يجب على القاضي قبول ذلك منه والعمل بشهادته حتى ينضاف إليه الآخر. والمحارب إذا طلب المال وخاف المطلوب [منه] من القتل إن لم يبذل ماله، فإنه مأمور ببذل ماله، والمحارب منهي عن أن يقبل منه ما بذل. والجواب عن هذا أن سياق الآية يدفع هذا التأويل، لأنه سبحانه قال: (ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)، فلو كان التعبد والتكليف إنما ورد على صفة ما قالوا، بأن تعبد الله هذا الواحد بأن ينذر قومه، وتعبد قومه بأن لا يقبلوا منه، كما تعبد القاضي بأن لا يقبل من الشاهد الواحد، لم يكن لقوله تعالى: (لعلهم يحذرون) معنى، لأنهم لم يجب عليهم الإصغاء إلى قوله وتصديقه حتى يحذروا ما حذرهم منه. وقد تعلق بعض أصحابنا بآية ثالثة، وهي قوله تعالى: (ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم)، والأذن هو الذي يسمع كل ما يقال، وجعل الله سبحانه ذلك خيرا لنا، فاقتضى ذلك قبول خبر الواحد. والتعلقُ يمثل هذا لا وجه له عندي لظهور ضعفه، وإنما يحسن التعلق بالآيتين اللتين قدمناهما، وأقواهما في التعلق آية الحجرات، على أنك قدر رأيت ما فيها من الاعتراضات والانفصالات عنها. فأما كونها ظاهرة في الاستدلال على قبول خبر العدل فلا شك فيه، وأما إلحاقها بمرتبة النصوص التي لا تحتمل التأويل، فهذا مما لا ينظر فيه، وقد قدمنا لك في كتاب التأويلات ما تزن به كل تأويل حتى تعلم ما يخرك عن كون ما تعلقت به نصا وما لا يخرجك عنه، وتعلم مرتبة اللفظ إن خرج عن كونه نصا في طبقة الظواهر. فإن خفت التشغيب عليك إذا تعلقت بهاتين الآيتين فلتتعلق بالسنن. وقد نبه الشافعي على وجه التعلق بها فقال: إن النبي عليه السلام بعث رسله وعماله وسعاته إلى سائر الجهات والأقاطر مبلغين عنه ما أنزل عليه من الأحكام، فلو كانوا لا يجب القبول منهم لم يكن لإرسالهم معنى، وهذا الذي نبه عليه الشافعي استدلال صحيح، وقد تواترت الأخبار من جهة المعنى والمعقول على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل رسله على الجملة بالشرائع والأحكام إلى جهات شتى، وفهم أن الغرض القبول منهم، والتسليم إليهم ما بعثوا فيهم. فإن قيل لك: هذا فعل من النبي عليه السلام، وأفعاله مقصورة عليه، أو ليست على الوجوب على [ما] تقدم ذكره في باب أحكام الأفعال؟، فإنك تقول [ذلك] هاهنا، أما من صار إلى التعلق بأفعاله فلا دافع له عن هذا الاستدلال، وأما من توقف فيها فإنه يرى أن المفهوم عن الصحابة والأمة العمل بمثل ما عمل به والاعتماد عليه، فحوجك هذا إلى أن تتمسك بالإجماع، وسنبينه.

وقد وقع في الحديث المشهور في موطأ الإمام رضي الله عنه وفي غيره من الدواوين الصحاح، قوله عليه السلام لأم سلمة: "ألا أخبرتيه أني اقبل وأنا صائم"، وكان الرجل بعث زوجته إلى أم سلمة لتسألها، فلولا أن قبوله خبر زوجته وتعويله على خبر الواحد كان مشهورا عندهم لما بعث زوجته، إذ لا فائدة له في بعثها إن لم يعمل بخبرها، وكذلك قوله عليه السلام لأم سلمة: "الا أخبرتيها أني أقبل وأنا صائم"، فلو كان لا يلزم الرجوع إلى إخبار أم سلمة عن النبي عليه السلام، لم يكن لأمره صلى الله عليه وسلم لها بأن تخبر الرجل بحكم القبلة في الصوم فائدة ولا معنى. وفيه أيضا أن يؤمر بها من سواه لأنه إنما أحاله على فعله. فأنت إذا التقطت أمثال هذا من غضون الأحاديث قد تجد في خلال ذلك ما يكثر حتى يصير كالمتواتر. وأما الاستدلال بالإجماع فاعلم أن ثبوت ذلك تواترا يكون تارة على الجملة، وتارة على التفصيل، فالذي ينقل تواترا على التفصيل يكثر تعداده، كنقل خلائق من الناس قتل رجل بعينه، أو لعطية أعطاها رجل لرجل، والذي نقل على الجملة يكثر تعداده أيضا كعلمنا بكرم حاتم، وحلم الأحنف، وفصاحة قس، وليس في الدنيا كلام متواتر يحفظ بعينه عن قس، ولا عطية معينة عن حاتم، وإنما حصل ذلك على آحادية كثيرة وقعت (ص 210) من حاتم دلت على كرمه، وهذا ما نحن فيه، لأنا نورد عليك أخبارا كثيرة أفرادها نقلت آحادا، ومجموعها صار متواترا، ومحصول مجموعها عمل الصحابة رضوان الله عليهم بخبر الواحد. - فمن ذلك رجوع الصحابة رضي الله عنهم في أن النبي عليه السلام لا يورث إلى خبر الصديق رضي الله عنه بذلك. - ورجوعهم لما اختلفوا في الغسل من التقاء الختانين إلى أزواج النبي عليه السلام. ورجوع الصديق رضي الله عنه في فسخ قضية أخبر بها إلى خبر بلال. - ورجوعه في توريث الجدة إلى خبر المغيرة ومحمد بن مسلمة. - ورجوعه في توريث المرأة من دية زوجها إلى الخبر الذي روي له في ذلك. - ورجوعه أيام الطاعون إلى خبر عبد الرحمن بن عوف، بعد أن استشار الصحابة واختلفوا عليه، وكان عبد الرحمن غائبا في بعض حاجاته، فلما أتى فقص اختلاف الصحابة

عليه، فأخبره أن عنده من هذا علما، فحمد الله عمر، ثم انصرف. الحديث مشهور في الدواواين الصحاح. - وهكذا أيضا رجع إلى خبره في أخذ الجزية من المجوس لما أخبر بقوله عليه السلام: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب". - وهكذا رجع رضي الله عنه في دية الأصابع إلى خبر عمرو بن حزم في الديات بعد أن كان يرى اختلاف دية الأصابع، وأن في الإبهام خمسة عشر، وفي الخنصر خمس، وفي البنصر تسع، وفيما سوى هذه الثلاث عشر، عشر. - ورجع أيضا عثمان بن عفان رضي الله عنه في خبر السكنى إلى الفريعة بنت مالك. - ورع علي رضي الله عنه إلى خبر المقداد في خبر المذي، على أنا نبهنا في كتاب "المعلم" بما في حديث علي رضي الله عنه، وكان رضي الله عنه يحلف من أخبره عن النبي عليه السلام بخبر، وإذا أخبره الصديق لم يحلفه فيقول: أخبرني الصديق، أخبرني أبو بكر، وصدق أبو بكر. - وقد رجع ابن عمر رضي الله عنه في المخابرة إلى رواية رافع بن خديج. - ورجع زيد بن ثابت في جواز أن تنفر الحائض قبل طواف الوداع إلى الحديث الذي روي له في هذا. وهذا لو تتبع خرج عن الحد والحصر، وأنت إذا طالعت ما صنف في هذا من كتب المحدثين والفقهاء التقطت من هذا الجنس ما لا يكاد يحصى، ومثل هذا يدل على أنهم رضي الله عنهم مجمعون على العمل بخبر واحد، لأن مثل هذه الكثرة من القصص لا تكاد تنكتم وتخفي، فكانوا ما بين راو لخبر، وعامل به، ومسلم للرواية والعمل، فصار ذلك منهم إطباق على العمل، إذ لو كان العمل به حراما لكانوا أجمعوا على خطأ ومعصية، لأنهم ما بين عامل وراض بالعمل مسلم له. وهذه عمدة يعول عليها في إثبات العمل بخبر الواحد، وهي معتمد الحذاق من الأصوليين. وقد رويت أخبار تتضمن ردهم لخبر الواحد، وهي سبب اختلاف من حكينا عنه اختلافهم في إجراء الخبر مجرى الشهادة، فلا يقبل فيه إلا اثنان. وقد ذكرنا أنه قد يتعلق بها أيضا من ينكر العمل بخبر الواحد جملة، وإن كان راوي الخبر رجلين، ويرون ذلك دلالة سمعية، ونحن نورد عليك الآثار تعلق بها هؤلاء، ثم نجيب عنها:

فمن ذلك قولهم: إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه، لما سأل عن ميراث الجدة، فروى له المغيرة بن شعبة أن النبي عليه السلام أطعمها السدس، لم يقبل ذلك منه، حتى روى له محمد بن مسلمة أن النبي عليه السلام ورثها. - وهكذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه رد خبر فاطمة بنت قيس في السكنى والنفقة. - ورد خبر أبي موسى الأشعري في الاستئذان عليه ثلاثا، ثم انصرف، فرده واستعلم السبب منه فأخبره فتهدده إن لم يأت بآخر يخبر عن النبي عليه السلام بمثل ما أخبر، حتى أتى أبو سعيد الخدري فأخبره بمثل خبره. - وهكذا رد الصديق وعمر رضي الله عنهما خبر عثمان بن عفان رضي الله عنه ـ على جلالته ـ لما أخبرها بأن النبي عليه السلام أذن للحكم بن أبي العاص في رجوعه إلى المدينة. - وهكذا رد علي رضي الله عنه [الخبر] الذي روي له في نكاح التفويض في قصة بروع بنت واشق. - وهكذا ردت عائشة خبر ابن عمر لما روى أن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه. والجواب العام عن هذه الأحاديث أن نقول: قد أوردنا عليكم من الأحاديث المتضمنة لقبولهم خبر الواحد ما يكثر تعداده، وتواتر المعنى المراد منه، ورويتم أنتم أحاديث ردوها، فإذا كان النقلان صحيحين، فلابد أن ننظر في الذي يعول عليه منها، فنقول: إذا تعارضت الأخبار وأردنا رفع التناقض منها بنيناها وجعلناها وإرادة على اختلاف أحوال، فأنتم ليس عندكم لخبر الواحد حالان، بل إنما له حالة واحدة عندكم وهي (ص 211) الاقتضاء برده على الإطلاق، فلا حيلة لكم في الاعتذار على أصلكم الفاسد في اختلاف هذه الأخبار، بل أنتم مضطرون إلى تكذيب روايتها، وهذا لا سبيل إليه، أو إضافة التناقض والاضطراب والوقع في الخطأ إلى الصحابة رضي الله عنهم، ومعاذ الله منه، فكل مذهب أدى إلى هذين الأمرين فهو باطل. ونحن لا نقول إن كل خبر يقبل، ولا نقول: إن كل خبر يرد، بل نقول: يجب قبول بعض الأخبار إذا كانت على شروط وصفات، ولا يجب قبول بعضها إذا عدم منها تلك الشروط والصفات، فيحمل ما قبلوه على أنهم رأوه قد تكامل فيه قبول الصحة والقبول، ويحمل ما ردوه على أنه عري من ذلك، وفقدوا فيه شروط الصحة، فلا نضيف إلى الأخبار كذبا، ولا إليهم رضي الله عنهم تناقضا وغلطا، وهذا واضح قاطع في الجواب عن جميع ما قالوا، ولا يبقى عليه إلا سؤالان، إذا أجبنا عنهما لم يتخالج اللبيب شك في صحة ما قلناه.

فأحد السؤالين أن يقال: بينوا هذه المعاذير التي ردوا الأخبار بسببها، فنقول لهم: لا يلزمنا في حكم الجدل بيانها، وإنما يلزمنا أن نحيل على معاذير على الجملة، ونحيل تفصيلها ومعرفتها عليهم، وإذا كان فعل مستنكر في الظاهر، وعلم العاقل حذر فاعله على الجملة خرج بعلمه ذلك الفاعل عن أن يكون وقع في قبيح، كما يخرج الفاعل عن ذلك إذا علم عذره على التفصيل. وإن تطوعنا بالإشارة إلى تفصيل المعاذير فقد قيل: - أما الصديق رضي الله عنه فيمكن أن يكون طلب الاستظهار في توريث الجدة بزيادة راو آخر، ولا حرج في الحاكم أن يتطلب مزيدا من البينات، وقد استقلت من ناحية الشرع، إذا طلب فيها زيادة الوضوح عنده، ويمكن أيضا المغيرة لما روي له أنه أطعمها السدس صار ذلك كحكم في شخص خاص شهد به، فأراد استعلام خبر يقوي به عنده إمضاء الحكم. - وأما عمر رضي الله عنه فإنه قد قيل: إن أبا موسى الأشعري صار كالمطلوب بأمر لما تهدده عمر، فصارت روايته كالشهادة لنفسه بما ينفي عنه ما طلب منه وهدد به، فلهذا احتاج عمر رضي الله عنه إلى خبر غيره. وغير هذا الاعتذار أولى منه، وهو أنه رضي الله عنه طلب أيضا مزيدا في الاستظهار، وقد صرح بهذا فقال لأبي موسى: إني لم أتهمك، ولكن خشيت أن يتقول الناس على النبي عليه السلام، فاشار إلى أن ذلك منه حسما لمواد الريب عن الأخبار، وأشار إلى التقليل منها ومجانبة الإكثار، إذا خيف الوقوع في الغلط والوهم. - وأما رد الصديق وعمر رضي الله عنهما خبر عثمان، فقد قيل: إنه كان مشهورا بشدة الميل لأقاربه، والحكم من أقاربه، وإنما نقل أن النبي عليه السلام قضى لواحد من أقاربه بحق ما، وهو رجوعه إلى المدينة، وذلك كالشهادة على قاض بأنه قضى لإنسان بقضية، ألا تراهما رضي الله عنهما قالا له رضي الله عنهم إنما أنت شاهد واحد. - وقيل: إن عليا رضي الله عنه إنما رد خبر أبي سنان لأنه استرابه، ولم يره ممن يقبل مثل هذا الخبر [منه]، وأخبره أنه لا يرجع إلى قول أعرابي بوال على عقبيه. - وهذا مثل العذر عن رد عمر رضي الله عنه خبر فاطمة، لأنه قال: لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة لا ندري نسيت أو كذبت، وكانت أيضا قصتها معروفة، وسبب إخراجها في العدة بذاءة لسانها، فرأى أن مثل هذا الخبر لا يقبل منها لمخالفته كتاب الله عنده، ولأنه كان له سبب معلوم.

- وهكذا عائشة رضي الله عنها إنما عولت في رد خبر ابن عمر على قوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى)، وذكرت أن خبره ورد في معنى مخصوص. وقد ذكرنا أن من الأخبار ما لا يقبل لعلل فيه، وربما كانت العلة من ناحةي سنده، وربما كانت من ناحية متنه أو من ناحية قيام أدلة بخلاف. وهذا كاف في الجواب عن هذه الأخبار، وإذا اتضح الجواب عنها جملة وتفصيلا، بطل تعلق من تعلق بها في مصيره إلى إنكار العمل بخبر الواحد على الإطلاق، وبطل أيضا تعلق من تعلق بها في أنه لا يقبل [خبر] واحد، وإنما يقبل اثنان على ما فصلنا مذهبه في ذلك، وفي هذا كفاية. وقد أشرنا في تفصيل مذهبه إلى أنه يرى تضاعف الأعداد بقدر تكرار الأعصار، وهذا المروي على أصله يعطل جل أحكام الشرع، فإنا بيننا وبين عصر النبي عليه السلام اعصر كثيرة، فإن قدرنا أن الخمسمائة عام التي بيننا وبين النبي عليه السلام خمس أعصر لم نقبل خبرا حتى يكون عدد رواته لنا اثنين وثلاثين رجلا، ولو قدرنا أنا في العصر السابع مثلا لم نقبل خبرا حتى يكون رواته مائة وثمانية وعشرين رجلا، وهذا إسراف يؤدي إلى تعطيل الشرع وعدم الفائدة بكل ما في الدنيا من كتب الأحاديث، وهذا واضح البطلان. والسؤال الثاني أن يقال: دفعتم أحاديثنا، فإنهم إنما ردوها لعلل وأعذار، كما أنكرتم أن يقال: إنهم لم يعملوا بأحاديثكم التي رويتموها، وإن عملوا بأدلة ضامتها. وقيل: هذا معلوم (ص 212) بطلانه قطعا من جهة ما فهم من النقل عنهم، وكما قطعنا من جهة النقل على أنهم عملوا بأخبار الآحاد، فكذلك قطعنا من جهة الفهم لهذا النقل، على أنهم إنما عولوا في العمل عليها دون ما سواها، كيف وعمر رضي الله عنه كان يرى الجنين إذا خرج ميتا أنه لا شيء فيه، فلما روي له حديث المغيرة رجع إليه، وقال: كدنا أن نقضي فيه برأينا، وهكذا فعل في حديث الطاعون، فإنه رجع عند سماع حديث عبد الرحمن، وهذا مفهوم من طريق النقل وسياق الحديث. وهكذا ما جرى للصديق ولغيره رضي الله عنه من وقف على سياق الأخبار وتتبع ألفاظها، علم قطعا أنهم لم يرجعوا إلا إليها، ولم يبحثوا عما سواها بعد سماعها، وقد رجعوا في كثير منها بعد أن وقوفا وأعياهم البحث والنظر فلم يعثروا على شيء، وهذا كتاب الله تعالى موجود بني أظهرنا، وليس فيه دلالة على حكم كثير مما رجعوا إليه عند سماع الأخبار، ولو كان فيه دلالة ما استشار الصديق الصحابة، ولا استشارهم عمر أيضا، وهذا واضح يستغنى بوضوحه عن الإطناب فيه.

فصل فيما يقبل أو يرد من أخبار الآحاد

فصل فيما يقبل أو يرد من أخبار الآحاد قد مضى الكلام في تقسيم الأخبار إلى التواتر والآحاد، ومضى الحكم على مقتضى أخبار الآحاد من ظنون أو إعمال، وذكر أبو المعالي أن الذي يبقى بعد هذا أربعة فصول: أحدها القول في صفة الرواة، والثاني: الإرسال والإسناد، والثالث: في كيفية التحمل، والرابع في كيفية الرواية. فأما الفصل الأول وهو الكلام في صفة الرواة فاعلم أن الاتفاق قد حصل على أنه لم يجب قبول كل خبر على الإطلاق، كما لا يجب رد كل خبر على الإطلاق، فلابد من فاصل يفصل بين ما يرد وما يقبل، والأصل الجامع لما نحن فيه أن المطلوب الثقة بالخبر المسموع وسكون النفس، وهذا لا يوجد في كل خبر، كما لا يقال: إنه يعري منه كل خبر. وأما تفصيل هذا القول الجامع فإن مالكا رضي الله عنه قد روى عنه معنى أنه قال: لا يؤخذ الخبر من أربعة، ويؤخذ ممن سواهم: سفيه معلن بالسفه، وصاحب بدعة يدعو إلى ضلالته، ومن يعرف بالكذب على الناس، وإن كان يصدق في حديثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كان لا يعلم هذا الشأن ولقد أدركت بين هذه الأساطين سبعين رجلا لو اؤتمن أحدهم على بيت مال لأدى أمانته، فما أخذت عن أحد منهم حرفا، فقيل له: ولم ذلك؟ قال: لأنهم لم يكونوا يعرفون هذا الشأن. وهكذا ذكر عن الشافعي أنه تعرض لتفصيل هذا أيضا، فذكر الثقة والأمانة، وعلم ما يروي، والضبط له، إلى غير ذلك مما ذكره مما في معنى هذا. وأما الأصوليون فإنهم ذكرا ما ذكره أبو المعالي من اشتراط العقل، والبلوغ، والعدالة، ولكن بعضهم أسقط ذكر اشتراط العقل هاهنا ورآه من الكلام الفارغ، لأن العدالة لا تحصل إلى بعد حصول العقل، فذكرها يتضمن كون الراوي عاقلا. كما لا يحسن أن يشترط كونه حيا لأجل العلم بأن وصفنا إياه راويا يتضمن كونه حيا، وهذا سلكه القاضي أبو محمد عبد الوهاب في الانتقاد على هؤلاء في اشتراطهم العقل هاهنا، وما أرى الأمر ينتهي إلى ما أشار إليه من كون هذا الكلام فارغا، لأنا قد نعرف رجلا بالعدالة فيتغير ميزه، ويفسد عقله في حال، فيتحدث حينئذ ويروي رواية، فإنا لا نقبلها منه، وإن كان موصوفا حينئذ بأنه عدل. ولا شك أن إطلاق هذه التسمية عليه حينئذ وإن كان ينظر فيها من جهة أخرى، هل إطلاقها عليه حقيقة أو على جهة المجاز؟ بمعنى أنه كان قبل فساد عقله عدلا، والأمر في

هذه المناقشة قريب، والغرض متفق عليه، وهو أن لابد من كون الراوي قاصدا لما يرويه، عارفا بصيغ ما يورد، وهذا لا يصح [إلا] مع سلامة العقل، فهذا الكلام في الشرط الأول وهو العقل. وأما اشتراط البلوغ فإنه لا يغني عنه اشتراط العقل، عند من رأى أن المراهق عاقل، وقد قدمنا مذهب القاضي في هذا، ومذهب غيره. فأما اعتبار البلوغ فعلى وجهين: أحدهما اعتباره حين تحمل الرواية، والثاني اعتباره حين أدائها. فأما اعتباره حين التحمل فالذي عليه المشاهير من الفقهاء والأصوليين أن ذه لا يعتبر، وأن الصغير إذا سمع حديثا قبل بلوغه أو تحمل شهادة حينئذ، ثم بلغ فروى ما سمع، وشهد بما كان علم به أن ذلك مقبول منه، ويعمل بروايته، ويقضي بشهادته إن كان عدلا. وذهب قوم إلى أن ذلك لا يقبل منه حتى يكون سماعه لما يعيه ومعاينته لما يشهد به، إنما كان ذلك منه بعد بلوغه، وهذا مذهب ضعيف، لأن المعتبر في المحتمل إمكانه (...) (ص 213) به. وقد قدح في هذا الاستدلال أن خبر العبد يقبل ولو أقر على نفسه بما يؤدي إلى غرامته وهو غير مأذون له لم يقبل، وهذا يدل على أن الخبر عن الغير لا يقاس على الخبر عن النفس، هذا أيضا، ولم يسلم من القحد فهو قياس من جنس أقيسة الفقهاء فتحري فيه على ما قلناه من رده إن كانت المسألة قطعية. وأما الشرط الثالث وهي العدالة فإنا سنتكلم فيما بعد عن حقيقة العدالة وما يتعلق بها. وأما اشتراطها في الراوي على الجملة فإن الراوي لا يخلو من ثلاثة أقسام؛ إما أن يكون معلوم العدالة، أو معلوم الفسق، أو مجهول الحال. فأما معلوم العدالة فلا كلام في قبول شهادته. وأما المعلوم الفسق فلا يخلو من أن يكون فسقه واقعا منه عن عمل منه بأنه فسق كالزنا والسرقة وقتل النفس المحرمة، وإما أن يكون وقع منه عن تأويل كاستباحة الخوارج للأموال والدماء، أو كنفي المعتزلة علم الله سبحانه وقدرته مع مصيرهم إلى أنه عالم قادر على أحد القولين عندنا في أن ذلك لا يقتضي تكفيرهم، وإنما يقتضي تفسيقهم. ولا شك أن الخوارج والمعتزلة معتقدون أنهم مصيبون فيما قالوه وفعلوه، متقربون إلى الله سبحانه، فلم يقع منهم

هذا الفسق أو الكفر إلا عن تأويل. فأما الفسق المقصود إليه عن علم بكونه فسقا كالزاني وقاتل النفس، فإن الاتفاق حصل على أنه يوجب رد الرواية. وذكر أبو المعالي أن أصحاب أبي حنيفة، وإن باحوا بقبول شهادة الفاسق فإنهم لم يبوحوا بقبول روايته، والذي أشار إليه من قبولهم شهادة الفاسق كثر الاضطراب في نقل هذا المذهب عنهم، ولا شك في أنهم صرحوا بصحة انعقاد النكاح مع حضور شاهدين فاسقين، لم يحضره من الشهود سواهما، وخالفوا في ذلك الشافعي في مصيره إلى أن النكاح لا ينعقد ولا يصح إذا اقتصر فيه على حضور شاهدين فاسقين. وبعض أئمتهم ينكر إثبات النكاح بشهادة فاسقين، وبعضهم يرى أن شهادة الفاسق تثبته، وتوجب القضاء به عند التجاحد. وذكر أبو المعالي في بعض مصنفاته الفقهية، أن الذي تحصل له من مذاهب القوم أنهم يصرفون قبول شهادة الفاسق إلى اجتهاد القاضي، فإن غلب على ظنه صدقه مضى شهادته، وإن مضى على ظنه كذبه رد شهادته. وإلى هذه المعاني أشار أبو المعالي بقوله: "وإن باحوا بقبول شهادة الفاسق فإنهم لم يبوحوا بقبول روايته". فأما الشافعي فلا يحتاج إلى اعتذار عن مذهبه، لأنه ساوى بين الأمرين في شهادة الفاسقين، فقال: لا يثبت انعقاد النكاح بحضورهما، ولا يقضي به عند التجاحد بشهادتهما، لأنه يرى الشهادة في النكاح شرطا فيه كالولي عندنا لورود الحديث عنده بذلك، كما ورد في الولي. والمفهوم من الشرع أن حضور الشاهدين إنما يقصد به الاحتياط للفروج، والقضاء بالنكاح عند التجاحد، وهذا لا يصح إلا أن يكون الشاهدان ليسا بفاسقين. وأما أصحاب أبي حنيفة فإنهم يرون أن ورود الشرع باشتراط حضور شاهدين حين العقد تعبد غير معقول المعنى، والفاسقان يسميان شاهدين، فدخلا في الظاهر، بخلاف لو حضر النكاح صبيان، أو عبدان، وأو ذميان، فإن هؤلاء لا يسمون شهودا. وأما من اجترأ منهم على القضاء بالنكاح عند التجاحد بشهادة فاسقين ليطرد اصله، حتى لا يفرق بين حال الانعقاد وحال القضاء، فإن ذلك غلو وإسراف ومراغمة لما مضى به عمل المسلمين من اعتبار العدالة في القضاء بشهادة الشهود على الجملة. وقد ذكر عنهم أنهم سلموا [أن] حد الزنا لا يقام بشهادة الفساق، وسلموا أن الراوي إذا كان فاسقا لا تقبل روايته، وهذا ينقض عليهم ما ذكروه من القضاء بشهادة فاسقين بثبوت النكاح، وقد وقع التجاحد فيه. فهذا الكلام في الفسق الواقع عن عمد وقصد.

وأما الفسق الواقع على جهة التأويل كما ذكرناه في اعتقاد المعتزلة والخوارج، فإن الأصوليين مختلفون في قبول رواية مثل هؤلاء، فمنهم من رأى أن ذلك لا يمنع من قبول الرواية، لأنه إنما وقع وفاعله يعتقد أنه مما يقربه إلى الله سبحانه، فلم يظهر منه من قلة مبالاته بالدين ما يتهم به في روايته، بخلاف الزاني وقاتل النفس. ويحتج هؤلاء بأنه كإجماع من الصحابة، لأنهم قبلوا شهادة من قاتل عثمان وروايته، وقبلوا رواية الخوارج أيضا. ومن الناس من رأى أن ذلك يمنع من قبول الرواية، وهذا الذي نصره القاضي أبو بكر ابن الطيب. وقال القاضي أبو محمد عبد الوهاب: الواجب قبول ذلك منهم، إلا أن يكون فسقا يؤدي إلى البراءة والضلال، والكفر الواقع على جهة التأويل كمذاهب الخوارج إذا كفرناهم بها على أحد القولين، يجري على هذا الاختلاف المذكور، وقد اختلف الفقهاء في قبول شهادة الكافر أو الفاسق على جهة التأويل، فمنهم من قبلها، وإلى ذلك صار الشافعي في أهل الهوى (ص 114)، واستثنى منهم الخطابية من الرافضة لأجل أنهم يرون الشهادة لمن وافقهم عمن خالفهم، ومنهم من ردها، ومنهم من فرق بين الكافر بالتأويل والفاسق بالتأويل، فرد شهادة الكافر بالتأويل، وقبل شهادة الفاسق بالتأويل. ويجب أن يجري هذا الخلاف في رواية الراوي، وقد ذكرنا اختلاف القاضي أبي محمد عبد الوهاب، وأنه رأى أن من كان فاسقا من جهة الحكم، فإن روايته مقبولة، إلا أن يقضتي ذلك البراءة والضلال، فإن كان أشار بهذا إلى التفرقة بين الكافر المتأول والفاسق المتأول فهو المذهب الثالث الذي حكيناه. وهذا الذي وقع في هذا الفصل من هذه العبارة هو لفظ جرى على ألسنة العلماء، وإما فكل كافر متأول، واليهود والنصارى متأولون، لأجل أنهم يعتقدون أنهم مصيبون في مذاهبهم، ويستدلون على صحتها، لكنهم لا تطلق عليهم هذه العبارة، وإنما يطلقها العلماء على من كان من أهل القبلة، فاعتقد اعتقادا أداه إلى كفر أو فسق، وإذا تحققت أن كل كافر متأول حتى اليهود والنصارى، فإن لك أن تجعل الاتفاق على رد رواية اليهود والنصارى حجة في رد رواية الكافر المتأول، لما نبهناك عليه من أن الكل متأولون في كفرهم. وتدين الرهبان المنطقعين عن الدنيا من أهل الكفر، وتحريهم الصدق في أحاديثهم لا يبيح قبول روايتهم، فكذلك ما اعتل به من قال من أصحابنا بقبول رواية الفاسق المتأول من أنه يدين بتحريم الكذب، ويتحرى الصدق، لأن الرهبان بهذه الصفة، ومع هذا فخبرهم غير مقبول.

ونحن وإن كنا قدمنا أن المطلوب من الرواية حصول الثقة، فإنا لا نقتصر على مجرد هذا، بل نقيده بإضافة شرائط إليه تعبدية الشرع، وكم من صبي وبعد يوثق بما يقول، ويعلم منه اعتياده الصدق، ثم مع هذا لا تقبل شهادته، وإن حصلت الثقة بقوله. ولهذا نبه مالك رضي الله عنه في الكلام الذي قدمناه على هذه المعنى لما ذكر الأربعة الذين لا تقبل روايتهم، فعد منهم من يكذب على الناس، وإن كان يصدق في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى أن اعتياده الصدق في حديث عن النبي عليه السلام لا يوجب قبول حديثه عنه لجرحته بالكذب على الناس، فمجرد الثقة عمدة معتبرة، ولكن مع إضافات تضاف إليها. ولقد كنت أسمع في سن الحداثة من إمام أئمة اللغة أشياء من اللغة، وكنت أراه من تحرية الصدق في محكيه، وهروبه إذا استثبت في لفظة عن النطق بها لأدنى شك يعرض له، ما كان يربى فيه على كثير من العدول المتحفظين، لكنه غير ثابت العدالة، وفي نفسي إلى الآن سكون شديد إلى ما كان يخبرني به من اللغة، وثقة أكيدة، لكني لم أدخل شيئا من كلامه في كتبي المتعلقة بهذا الشأن، دون اختباره من الدواوين، لأجل ما قدمته من أن الثقة وسكون النفس إلى الخبر لا يستقل ذلك بمجرده، دون شرائط تنضاف إليه، ولأجل قول مالك في مثل هذا الرجل أن اعتياد الصدق فيما يحكي من العلوم لا يقتضي القبول مع التلطخ بجرحه تقتضي التهمة. وبالجملة فإن الثقة التي أشرت إليها في هذا الرجل لا تلحق بالثقة فيما يحكيه العدل الورع إذا التفت النفس إلى تذكار الفاسق، وأن فسقه قد يخفف عليه ركوب الكذب، لكن متى تعامت النفس عن ذكر الجرحة، ونظرت إلى اعتياد الصدق سكنت إلى الخبر. وأما اعتماد من اعتمد على قبول الصحابة لرواية قتلة عثمان، ورواية الخوارج، فإنا لا نسلم له إجماع الصحابة على ذلك، ولا نمنع أن يكون بعضهم قبل ذلك، لأنا ذكرنا أن قبول ذلك مختلف فيه بين الأئمة. وأما المجهول الحال وهو يسمى في العرف مستورا، فإنما العلماء مختلفون في روايته وشهادته، فأصحاب أبي حنيفة يقبلون روايته ويقبلون شهادته ولكن إذا شهد في الأموال، وأما إن شهد في الحدود أو الفروج فإن شهادته لا تقبل. وذكر بعض الناس عن الشافعي أنه يرى قبول روايته، وتمسك في هذا بأن الشافعي يرى انعقاد النكاح بشهادة المتسورين بخلاف الفاسقين، وبعض أصحاب الشافعي ينكر هذا، ويقول: قبول الرواية يتنزل منزلة القضاء بالناح، لا منزلة انعقاد النكاح، والنكاح لا نقضي فيه عند التجاحد بشهادة مستورين، فكذلك لا تقبل رواية المستورين. وقد حكى المحاملي أن عندهم اختلافا في صحة انعقاد النكاح بشهادة المستورين، فذكر أن بعض أصحابهم قال: لا ينعقد النكاح بحضورهما، فهؤلاء أبطلوا الأصل الذي

استقرأ منه هذا ما استقرأه في الرواية، ويرى هؤلاء أن القصد بحضور شاهدين القضاء عند التجاحد، فإن كان لا يقضي بشهادة المستورين فلا ينعقد بحضورهما. وبعض أصحاب الشافعي يرى أنه ينعقد بشهادة المستورين، وهو ظاهر مذهبهم، ويرى هذا أن من اقتصر على حضور فاسقين فقد أخل بالحزم، وترك الاحتياط لما يتوقع من جحود، والمستوران قد يعدلهما إذا احتاج (ص 215) إليهما، فما أضاع من اقتصر عليهما الحزم، كما أضاعه من اقتصر على فاسقين. وقد احتج من قبل رواية المستور بأن النبي عليه السلام "قبل شهادة الأعرابي في الهلال". وأجيب عن هذا ثلاثة أجوبة: - أحدها: أنه أخبر واحد فلا مدخل له في المسألة أصلا. - والثاني: أن النبي عليه السلام علم عدالته، ولم يذكرها الراوي، كما علم إسلامه ولم يذكره الراوي. - والثالث: أنه يمكن أن يكون أدى الشهادة حين اسلم، ولم يقترف بعد إسلامه ذنبا. واحتج أصحاب هذا المذهب أيضا باستصحاب الحال، وأن الإنسان عند بلوغه لا ذنب له، فيجب أن يبقى على هذا الحكم، وهذا ضعيف لأن استصحاب الحال لا مدخل له في هذه المسألة، كيف وقد كنا على يقين أنه لم يذنب، ونحن الآن شاكون فيه؛ هل أذنب أم لا؟ فقد حُرِمنا ما كنا عليه من يقين، فلا معنى لاستصحاب مثل هذا. واتحجوا أيضا بأنا مأمورون بتحسين الظن بالمسلمين، والوقف عن خبر المستور إساءة ظن بهم. وأجيب عن هذا بأن المراد بهذا الأمر ألا تطلق الألسنة فيهم بقبيح، ولا نضيف إليهم معصية، ولا نغتابهم. وأما خبر من يجهل حاله فإنا لم نؤمر به، واحتج من لم يقبل رواية المستور بأن الصحابة صلى الله عليهم كانوا لا يقبلون إلا خبر من علموا عدالته، ومعلوم من حالهم أنهم كانوا لا يبادرون إلى العمل بخبر كل من جاءهم ممن لا يعرفونه، ولا رأوه قبل خبره. وقد اعتمد أبو المعالي على هذا، وقد لا يسلم له هذا الإجماع. وقد رأيت الشيخ أبا بكر بن فورك في كتابه الذي ألفه في أصول الفقه اختار قبول خبر المستور، وأشار إلى أنه مذهب الصحابة. قال: وكانوا يقبلون خبر الأعرابي، وقبل

النبي عليه السلام خبر الأعرابي بالهلال. فأنت تراه كيف أشار إلى إجماع الصحابة بعكس ما أشار إليه أبو المعالي، فأولى أن نعتمد على طريقة أخرى فلنقول: إن العمل بخبر الواحد لا توجبه العقول، فإنما صرنا إليه لأجل دلالة السمع عليه، والمعتمد في الدلالة السمعية إجماع الصحابة على العمل به، ولم يثبت إجماعهم على العمل إلا بخبر العدل، وأما خبر المستور فلم يثبت عنهم فيه إجماع، فإذا فقد الدليل على العمل به، لم يجب العمل به، إذ لا يجب العمل إلا بدليل سمعي. وقد ذكر أبو المعالي أن الواجب عنده التوقف عن إمضاء خبر المستور أو رده، حتى يبحث عنه، ولكن أيام البحث عنه يجب أن يكف عن الفعل إن تضمنت روايته تحريم ذلك الفعل، فإذا أيس من العلم بحاله، والاطلاع على عدالته أو فسقه، لم يتأبد وجوب الكف، لكن ينتقل الحكم بعد الإياس إلى الكراهية للإقدام على الفعل، ويشير إلى أن الصحابة كانت تكف عن الفعل حتى تبحث عن حال الراوي. وبالجملة فالأظهر عندي في هذا الذي قاله من الكف أن يناط الحكم فيه باجتهاد سامع الخبر، وما يتوسم من حال المخبر، وينقدح في نفسه من صدقه أو كذبه، وحال الفعل، ومشقة الكف عنه أو سهولة ذلك عليه، وقوة التحريم الذي رواه أو ضعفه، وملاحظة أصول الشرع لخبره بقوة أو ضعف، إلى غير ذلك مما يعلمه المجتهدون. والقاضي أبو بكر بن الطيب ممن ينصر نفي وجوب العمل بروايته، ومما اعتمد عليه فيه أن الحدود لا تقبل فيها شهادة المستور فتقاس الرواية عليها، وأشار إلى الاتفاق على أن الشهود إذا نقلوا عن شهود آخرين ولم يعدلوهم، ولا يعلم القاضي حالهم، فإن الشهادة غير مستقلة، وإن كان الناقلون عدولا، وما ذاك إلا لأن ظاهر الإسلام لا يكفي في القبول للرواية دون حصول العدالة، ولو اكتفي بظاهر الإسلام لقضي بشهادة هؤلاء الناقلين عن قوم مجهولين، ولا يدفع هذا الاستدلال إلا أن يكون الناقلون علموا فسق المنقول عنهم، لأن الأصل عند هؤلاء عدم الفسق، واستصحاب البراءة من المعاصي، وهذا الذي استدل به القاضي لا يستقل دليلا في المسألة، لأنه قياس فقهي فلا يستدل به، إلا أن تعد هذه المسألة من مسائل الاجتهاد. وقد رأيت الشيخ أبا بكر بن فورك في كتابه في الأصول حكى عن القاضي إسماعيل بن إسحاق أنه صار إلى أن الراوي إذا نقل عن مجهول عمل بخبره. قال: وكذلك عنده إذا شهد عدول على شهادة قوم مجهولين، فإن الشهادة يقضي بها. فأنت ترى مخالفة ابن فورك للقاضي فيما أشار إليه من الاتفاق.

فصل أدرجه أبو المعالي في صفة الرواية وذكر فيه التعديل والتجريح

فصل أدرجه أبو المعالي في صفة الرواية وذكر فيه التعديل والتجريح ونحن نذكر في هذا الفصل سبع مسائل: - المسألة الأولى: ما العدالة والجرح؟ (ص 216) - المسألة الثانية: ما العبارة المطلوبة في الشرع عنهما؟ - المسألة الثالثة: هل تقوم بعض الأفعال مقام العبارة عنهما؟. -المسألة الرابعة: عدد من يثبتها. - المسألة الخامسة: هل يكشف المعدل والمجرح عن طريق علمهما؟. - المسألة السادسة: اختلاف من يثبتها. - المسألة السابعة: هل يستغنى بعض الأشخاص عن البحث عن ثبوتها؟ أما المسالة الأولى: فاعلم أن العدالة عند أهل الشرع: هي اتباع أوامر الله سبحانه على الجملة، وقد يتبع الإنسان أمر الله سبحانه في فعل من الأفعال، فيكون في ذلك الفعل خاصة عدلا، ويعصي الله سبحانه في فعل آخر فيكون في ذلك غير عدل. ويجري على الإنسان تسمية عدل مجازا واتساعا، لأن العدل مصدر، تقول: عدل يعدل عدلا، وتسمية الشخص باسم فعله مجاز. وقد قيل: إن هذه التسمية من أسماء الأضداد، لأنك تقول: عدل السهم إذا جار وانحرف عن القصد، وتقول [عدل] الرجل إذا سلك القصد واتبع المنهج الذي أمر به. فهذا ذكر العدالة على الجملة من ناحية اللغة. وأما من ناحية الشرع، فاعلم أنه لا مطمع لأحد في إيراد صيغة على صيغ الحدد حاصرة للعدالة مبنية لها على التعيين والتفصيل، ولما أيس العلماء من العثور على هذا القول الجامع المانع، عدلوا إلى ذكر رسوم مبننة عنها على الجملة؛ فقال الشافعي: لا أحد يطيع الله سبحانه حتى لا يعصيه، كما لا أحد يعصيه حتى لا يطيعه، فلا سبيل إلى رد الجميع ولا قبول الجميع، فلابد من فاصل، فمن كان الأغلب عليه الاستقلال بالفرائض وأوامر الله سبحانه، والكف عن زواجره، والتحلي بالمروءة فإنه عدل، ومن كان بالعكس فإنه غير عدل، فمن لم يمتثل أمر الله سبحانه، أو وقع فيما يسقط مروءته وقدره في الناس، فذلك ساقط الشهادة والرواية. وقال بعض العلماء: لا شك في أن متفرقة الكبائر كالزنا وقتل النفس مستجرح، والمتوالي على فعل الصغائر غير مقبول القول، لأن ذلك يتنزل منه منزلة مقارفة الكبيرة، والواقع في صغيرة واحدة غير مردود القول، إلا أن يكون تعمد الكذب فإن هذا يوجب التوقف عن قبول قوله، لأنا وإن فرضنا كذبة واحدة وقعت منه من الصغائر، فإنها تؤثر في

المقصود المطلوب منه، وهو سكون النفس إلى خبره، والاطلاع على ذلك يمنع من سكون النفس إلى خبره. وهذا الذي أشار إليه هذا الرجل مما حكيناه عنه أنه أراد به تعمد الكذبة في حديث النبي عليه السلام تتعلق به أحكام، أو في شهاد زور أباح بها الدماء والفروج، فلا يصح أن يعد ذلك من الصغائر، بل هو كبيرة اقترفها ويعود حكمها إلى ما قدمناه في مقترف الكبيرة. وإن كان ذلك في أحاديث المفاكهة والمؤانسة فيما لا يحدث ضررا في دين ولا دنيا، فإن هذا فيه نظر. وأما القاضي ابن الطيب فإنه أشار إلى مسلك قريب من مسلك الشافعي، فرأى أن من عرف بالقيام بالفرائض، واتباع أوامر الله سبحانه، واجتناب مزاجر الشرع، وتوقي ما يمرض القلوب فيه ويحدث فيها تهمة، وسوء ظن بدينه، فإن هذا هو العدل المقبول الشهادة والرواية. فإذا سئل عمن قارف كبيرة كالزنا، وقتل النفس، قال: قد قيدت قولي بأن كل ما يؤثر في النفوس تهمة فإنه يوجب رد الشهادة والرواية، ولا شك أن من سهل عليه ارتكاب الزنا وقتل النفس فقد تسهل عليه شهادة الزور ورواية الكذب عن النبي عليه السلام، وكذلك لو فرضناه سرق حبلا أو بيضة وما لا قدر له من المكاسب، فإن هذا وإن كان محتقرا في نفسه، فإنه يؤذن بخساسة همة سارقه، ورذالة نفسه، ومن بلغ في الخساسة وسقوط المروءة إلى ركوب الخطر في سرقة مثل هذا النزر المحتقر، فإنه يتهم في شهادته وروايته، أن تحمله خساسة النفس على الوقوع في ذلك وعلى أن لا يبالي بالناس متى أطلعه على كذبه وزوره. وهذه الطراق التي ذكرناها عن أئمة الفقهاء والأصوليين حتى واضح، ومسلكنا في قبول خبر الواحد والعمل به اتباع الصحابة رضي الله عنهم، ونحن نعلم قطعا أنهم كانوا لا يقبلون الرواية عن النبي عليه السلام ممن اطعلوا على وقوعه فيما ذكرناه من المحرمات والخساسات، وملابسة أمثال هذه الدناءات. فلا يبقى للأصولي والفقيه إذن نظر فيما يقبلانه بعد هذا الإشكال إلا في سؤال واحد، وهو أنا لو فرضنا وقوع إنسان قد حصل ما ذكرناه من طرق العدالة فياجتناب المعاصي، لكنه [وقع] في مباحات تفسد النواميس، وتهتك حجاب الهيبة، وتخلط فاعلها بخلعه ثوب الوقار والمروءة، كمداعبة تقع من الأفاضل، والعلماء، ورؤساء الدين، والنساك، والمنتصبين للشهادات مع بعض العوام والأرذال، والانخراق في الضحك

والتلاعب، والاستهزاء والمجانة، والجلوس على قوارع الطرقات للتنزه، والآكل (ص 217) بالأسواق، إلى غير ذلك مما أضربنا عن ذكره تفصيلا، وهو داخل فيما ذكرناه على الجملة، من كونه هادما للمروءة، واضعا للقدر، فإن هذا القسم الذي ذكرناه من جماعة من الائمة على أنه يحل محل التجريح في وجوب التوقف عن قبول الرواية والشهادة. ومر القاضي ابن الطيب فيه على أنه معلق بالاجتهاد في حال فاعل هذا الجنس من الأفعال، فإن لاح من مخائله أنه إنما يبعثه على ذلك دناءة الهمة، واستخفاف سقوط المنزلة، وقلة المبالاة بما يضع من القدر، فإن ذلك يوجب رد شهادته وروايته، وإن كان إنما بعثه على ذلك غرض صحيح، أو تأويل تأوله من إيثاره التجلي وممازحة الناس، واستئلافهم، والتحبب إليهم، وخلع ثوب الرياء والكبر، فإن هذا لا يوجب رد الشهادة ولا الرواية، وما أرى الأئمة الذي أطلقوا القول برد الشهادة والرواية في هذا الصنف إلا يوافقون القاضي ابن الطيب رحمه الله على أن ذلك لا يوجب رد الشهادة والرواية، إذا ذهب [إلى] أن الباعث على هذا الفعل غرض صحيح، غير خارج عن منهج آداب أهل الدين والدنيا وسدادهم. وهذه الطريقة هي الصحيحة، ولكن الانحراق في مثل هذه المعاني، والتفرغ لها، وقطع الأزمنة بها مع كل من جالس الإنسان أو لقيه سخف وخرق يبعد في مثله أن يبعث عليه غرض صحيح أو تأويل سديد، وإنما يقع الاجتهاد في قلة تقع من هؤلاء الصنف المرموقين بعين الجلالة مع بعض الأشخاص، وهذا محل الاجتهاد في التعدل والتجريح الذي لا يققبل إلا من أهل الذكاء والتحصيل، ومن شدا أطرافا من علوم الحقائق التي يستعان بها على ما يقبح من هذا ويحسن. وأما الوقوع في الكبائر فالشهادة به غير مقبولة على الإطلاق إذا حكى الشاهد على معاينته ضبطها. وأما أبو المعالي فإنه تعرض لسائر هذه الفصول التي بسطنا القول فيها، فجمعها في كلام وجيز، فقال: إن الثقة هي المعتمد عليها، فمهما حصلت الثقة بالخبر قبل، وهذا مفهوم من عادة الأولين، وهذا على إيجازه هو الطريقة التي حكيناها عن الأئمة، لأن ما ذكرناه من المعاصي والانخراق في مداعبة الأرذال التي تخرم الثقة، وتخلخل سكون النفس إلى خبر من كانت هذه حاله. ولكنه أشار إلى زيادة في هذا فقال: لم يرد الشرع بتعبد في الأخبار، ومراعاة شرائط، كما ورد في الشهادة، فمجرد الثقة بالشهادة لا يغني دون أن يسمع ذلك من حر، أو ذكر،

أو اثنين، أو أربع، على حسب تفاصيل الشرع في هذا، وهذه التقييدات زيادات في التعبد مع حصول الثقة، بخلاف الخبر فإنه يقبل من العبد والمرأة. وقد كنا نحن قدمنا لك إشارة إلى ورود تعبد في الخبر مع حصول الثقة، لأنا أريناك أنهم ردوا خبر من لا يكذب في حديثه عن النبي عليه السلام، ولكنه يكذب على الناس، وخبر من لم يبلغ، وإن اعتيد منه الصدق والتحري. فأما أبو المعالي فإنه على أصله هذا يدافع في حصول الثقة بخبر هؤلاء، ويرى أن الكاذب على الناس لا يوثق بخبره عن النبي عليه السلام، وإن اعتيد منه الصدق فيه، وكذلك من لم يبلغ الحلم، فإن سلكت طريقته فقد أوضحناها لك، وإن خفت من التشغيب والمنازعة في هؤلاء، قلت: لا يبعد أن يكون التعبد ورد بأن لا يقبل خبر هؤلاء، وقد كنا حكينا عن مالك رضي الله عنه أن لا يقبل حديث من يكذب على الناس وإن كان يصدق على النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر أنه أضاف إلى ذلك من كان سفيها معلنا بالسفه، وقد تأول بعض أصحابنا البغداديين كلامه هذا على الإشارة إلى ما قدمناه من رد شهادة المخرق في المداعبة والتمازح، ولقوله: المعلن بالسفه، وهذا التقييد إشارة إلى ما قلناه من كون الإنسان معروفا بالمجون، والعيارة، ومداعبة الأرذال. وأما لو أراد بالسفه غير هذا وهو مقارفة الكبيرة، فإنه لا يقيد حينئذ بالإعلان بالسفه، لأن من شهد عليه بقتل نفس مسلمة عمدا ظلما وعدوانا ترد شهادته، وإن لم يعلن بذلك، وكذلك من زنا سرا. فهذا منتهى القول في حقيقة العدالة والجرح، قد كشفنا لك حقائقه جملة وتفصيلا، لغة وشرعا. وأما المسألة الثالثة أما الجرح فإنا سنتكلم فيما بعد على وجوب استفسار المجرح، ولا عبارة مطلوبة في الجرح أكثر من إخبار الشاهد [عن القـ]ـصة التي عول عليها في التجريح، كقوله: رأيته أربى، أو رأيته شرب خمرا. وأما التعديل المطلق فالحذاق على أنه لا تشترط [فيه] عبارة مخصوصة، وإنما المطلوب من المعدل أن يورد عبارة يفهم منها عنه أن الراوي والشاهد عنده عدلان، والمشهور عن مالك رضي الله عنه اشتراط عبارة مخصوصة، وهو أن يقول (ص 218) المعدل: الشاهد هو عدل رضي. وقال الشافعي: بل المطلوب أن يقول هو عدل مقبول القول لي وعلي، إن كان التعديل لراو، أو يقول: هو عدل مقبول الشهادة لي وعلى إن كان التعديل لشاهد.

وقد قيل: إن هذين الإمامين لو سئلا عن تعديل وقع بعبارة تؤدي إلى معنى هذه العبارة التي اشترطها هذان الإمامان لقبلا ذلك وعولا عليه، وكأنه العبارة التي اخارها إنما سلكا فيها تخفيف المؤونة على المعدلين في النظر في صيغ العبارات المفيدة لهذا المعنى، وإنما اشترط التعرض لمعنيين هما العدالة، والمعنى الآخر ما أضيف إليه من الرضا، أو من قبول القول، لأنه قد يكون الإنسان عدلا، ورعا، متنزها عن الدناءات، ملحوظا بعين الصلاح، ولكنه من البلة والغفلة بحيث لا ينبغي أن تقبل روايته ولا شهادته. وقد ذكرنا فيما تقدم عن مالك رضي الله عنه أنه قال: "أدركت بين هذه الأساطين سبعين رجلا لو اؤتمن أحدهم على بيت مال لأداها، فما أخذت عن أحد منهم حرفا"، فأشار إلى أن هذا قصر بهم عن قبول روايتهم قلة علم، لا قلة دين، وهذا هو المعنى الذي زيد لأجله في التعديل قولنا: "رضي"، حتى يثبت مع العدالة وصلاح الدين كون الشاهد مرضيا لقبول الشهادة، ليس بمغفل ولا أبله. وقد ذكر الباري سبحانه في الشاهد هاتين العبارتين، قال: (وأشهدوا ذوى عدل منكم)، وقال في آية أخرى: (ممن ترضون من الشهداء)، ولهذا توخي مالك هاتين العبارتين وأثرهما على ما سواهما. وهذا [هو] المعنى الذي يشر إليه الشافعي أيضا بقوله: "مقبول الشهادة لي وعلي"، لكن عبارة مالك رضي الله عنه أقرب إلى التحرير، لأنه قد يكون لا يقبل شهادته للمعدل، أو لا تقبل عليه لقرابته، أو تهمة بعداوة أو غيرها، فيقدح في العبارة التي اختارها الشافعي بهذا، ولكنها مع هذا القدح أكشف لهذا المراد الذي تكلمنا عليه، وذكرنا ما تعرضا له، ولما ذكرنا هاهنا وجه اشتراط هذه العبارة عن هذا المعنى الثاني، وأشرنا أن ذلك إخبار بكون الشاهد غير مغفل، وكذلك الراوي. فلتعلم أن الراوي المعتمد في روايته على حصول الثقة، وسكون النفس إلى صحة ما روى، واستيلاء الغفلة والبله عليه يخرم هذه الثقة، ويمنع من كون القلب مطمئنا إلى خبره، فإذا عرف بالتساهل في حديثه، والتسامح فيه، لم تقبل روايته، لأن هذا يلحق بمعنى الكذبب الذي هو جرحة، لكونه واقعا منه في المقصود المراد منه، وهو الرواية، فإذا كان ممن يتساهل فيها، ويخف عليه حذف ألفاظ من الرواية وزيادتها مما يغير المعنى، أو يظهر منه إذن في أن يروى عنه، ويعمل بها حدث به، وهو شاك فيه، ويبدي في كثير من الأحيان التصميم على إثبات ألفاظه في الحديث أو رواة، ومخايل الشك عليه في ذلك بادية،

ولكنه يفهم عنه أنه سهل ذلك عليه لغرض من الأغراض التي يجوز له اعتمادها، فإن ذلك يوجب رد خبره إذا عرف بذلك، أو وقع منه ما يدل على ضعف الدين، وقلة الورع، وركوب المعصية في مثل هذا. وأما إن لم يعرف بالتساهل، ولكن بدت منه غفلات وسهو، فإن ذلك وإن كان نادرا وقليلا في أحواله، فإن حديثه مقبول ما لم يلح للسامع منه ظهور مخايل الغفلة والسهو، وغلبت عليه، فاختلف في حديثه [على] أقوال: - أحدهما: أن ذلك لا يمنع من قبول حديثه، إلا أن يظهر في حديث بعينه عليه دلائل الغفله فيه. - والثاني: أن حديثه لا يقبل، لأن الظن أن الأقل لا حق بالأكثر، فإذا كان الأكثر من أحوله الغفلة في حديثه، قدر أنه مغفل في جميعها. - وقيل: إن ذلك مصروف إلى الاجتهاد والبحث عن الحديث الذي سمع منه حتى يظهر ضعفه من قوته، وهذا مذهب عيسى بن أبان، وهو اختيار القاضي أبي محمد عبد الوهاب، ومثل القاضي أبو محمد هذا الاجتهاد بمثل ما وقع في حديث أبي هريرة: "من أصبح جنبا فلا صوم له"، فلما بحث عن الخبر بسؤال أمير المؤمنين رضي الله عنهما، ظهر من حال الرواية وما وقع في سندها ما كان خفيا. والقاضي أبو محمد قد يشير إلى ارتفاع الخلاف إذا تقارب أحواله فيها، ولميكن ممن الغالب عليه أحد الأمرين، إما التيقظ، وإما الغفلة، ويرى أن حديثه مقبول. وفي هذا الذي قال نظر، ولا شك أن الثقة تضعف بخبر من كان هذا وصفه. وهكذا ذكر رضي الله عنه في الراوي إن كان قليل الضبط، فإنه إن كانت قلة الضبط هي الغالبة عليه، فإن حديثه يرد، ولم يذكر في ذلك خلافا، وإن تساوت أحواله في الضبط وفي الإهمال، فذكر في ذلك قولين. - أحدهما: رد خبره، لأن ذلك كأمر اجتمع فيه الحظر والإباحة، والحظر والإباحة إذا اجتمعا في أمر غلب الحظر. - وقيل: بل يجتهد في حال راويه مثل هذا، وهو الذي اختاره القاضي أبو محمد، وإن كان عدم الضبط (لـ ...) (ص 219) فيه اختلافا، ولم يذكر اختلافا في الغفلة إذا كانت قليلة كما تقدم.

وهذا الاختلاف الذي أورده في هذين النوعين يفتقر إلى بسط وتحقيق، فربما وقع في النفس أنهما سيان، وأنه لا وجه لتقسيمهما في الخلاف على المرتبة التي ذكر، والتشاغل بتحقيق هذا يفتقر إلى أمر يطول. المسألة الثالثة ذكر أبو المعالي أن التعديل يكون تصريحا، ويكون ضمنا، فأما التصريح فهو ما تقدمت العبارة عنه، كقولنا: عدل رضي، وأما الضمن فإن العلماء مختلفون في الراوي العدل إذا روي عن رجل سماه حديثا؛ هل تكون روايته للحديث عنه تعديلات له أم لا؟ فمنهم من قال: لا يكون تعديلا، وهو اختيار الحذاق، إلا أن يقول: لا أروي إلى عن عدل، أو يفهم ذلك عنه من عادة وقرينة حال، فيكون ذلك لاحقا بالتعديل التصريحي. وقيل: بل ذلك تعديل، وقد كنا قدمنا حكاية هذا المذهب عن القاضي إسماعيل. والرد على هذا المذهب أنا نقول: إذا كان من المجوز في العقول أن يروي الراوي الحديث عن العدل وعن الفاسق، فإن الرواية بمجردها تعديل مع هذا الاحتمال والتجويز، وقد عرف من جماعة من أئمة المحدثين أنهم يروون عن الثقة، وعن غير الثقة، وهذه دواوين الحديث لا تحصى كثرة ولم تشترط الصحة، إلا دواوين مشهورة كالموطأ والبخاري ومسلم، فإن مالكا رضي الله عنه قد علم أن كل من روى عنه حديثا عن النبي عليه السلام، وأدخله في موطئه ليعمل به، فإنه عنده ثقة عدل رضي للرواية عنه، وهكذا اشترط البخاري ومسلم هذا، وقد نوزعها في بعض ما رويا عنه على ما هو مذكور في كتب الحديث، وهذا أبو داود على كتاب يعول أكثر الفقهاء البغداديين قد ذكر عنه أنه أشار إلى أنه أدخل في كتابه العدل والمستور، وإنما جانب المستجرح، ومن وقف على دواوين الحديث علم صحة ما قلناه من رواية كثير منهم عمن لم تثبت عدالته. ومما يفيد في التعديل الضمني عمل راوي الحديث بالحديث الذي رواه، فإن من الناس من ذهب إلى أن عمله بما رواه يدل على تعديله لأشياخه الذين روى عنهم ذلك الحديث، إذا علم أنه عول على العمل بالحديث لا على دليل سواه. ومنهم من يقول لا يكون ذلك تعديلا، لجواز أن يكون من مذهبه الاقتصار على ظاهر الإسلام، وقبول رواية المستور والعمل به، ونحن قد رددنا مذهب من ذهب إلى العمل برواية المستور، فإذا جوزنا أن يكون القائل بالحديث ممن ذهب إلى هذا المذهب الذي رددناه لم يعول على عمله. وأجيب عن هذا بأنا نقبل تعديله التصريحي إذا قال: هو عدل رضي، ولا يرد ذلك لتجويز أن يكون من مذهبه التعديل على ظاهر الإسلام، وهكذا يستقصى في المسألة التي نذكرها بعد إن شاء الله.

واشترط أبو المعالي في قبول روايته، وكونه معدلا لأشياخه إذا ظهر تعويله على الحديث، بأن يكون ذلك العمل مما لا يؤخذ فيه بالاحتياط، حتى يجوز أن يكون الراوي احتاط للعمل بأن أخذ بالرواية. وهذا التقييد الذي اشترطه داخل في الجملة التي أجملناها أولا، حيث قلنا: إنا نشترط أن لا يكون عمل بدليل آخر غير الحديث، وكأنه هذا ضرب من ذلك، والأخذ بالاحتياط مسلك ثان غير مجرد الرواية. وعلى هذا الأسلوب يجري الأمر في التجريح الضمني، فإنه إذا روى حديثنا ولم يعمل به، وتحققنا أنه لم يترك العمل به لدليل آخر عارضه، فإن الظن به أنه ترك العمل به لكون شيخه فيه غير ثقة عنده، أو شيخ شيخه. ولا شك أن هذا مما يخرم الثقة بالخير. وقد كنا قدمنا مرارا أن المعتمد في هذا الباب حصول الثقة وسكون النفس إليه. وقد أجرى القاضي ابن الطيب هاهنا سؤالا جاريا على هذا الأسلوب، وهو أن القاضي إذا حكم بشهادة قوم، فإن ذلك حكم منه بتعديلهم، إذا عول في البحث عن حالهم على نسه، واختياره، وفحصه عن حالهم، بخلاف أن يزكوا عنده، فإن ذلك لا يكون حكما بتعديلهم. وهذه المسألة [سنذكر] تفصيلها في ما نميله من الفقيهات، ففيها نبسط المقال في قاض آخر، هل يكلف بالاجتهاد في حال الشهومد، واستئناف النظر [أو يضرب عن ذلك] صفحا، ويعول على القاضي الذي نفذ حكمه بتعديلهم على حسب ما ذكرناه. المسألة الرابعة (...) فيمن يزكى أو يجرح شاهدا أو مخبرا، فقالت طائفة: لا يقبل في تزكية المخبر أو الشاهد إلا اثنان [ولا يقبل] في ذلك قول رجل واحد. وقالت طائفة: أما المخبر فيقبل في وصف حاله رجل واحد بخلاف الشاهد (...) الشهادة، وعليه أكثر أهل المذاهب، فإنه يرى أن العدد لما كان معتبرا فيها وجب أن يعتبر فيما شرط في (ص 220) قبولها أو ردها. ولما كان التعديل والتجريح مؤثرين في القبول والرد وجب اعتبار العدد فيها كما اعتبر ذلك في نفس الشهادة، وإذا ثبت هذا في تعديل الشهود أو تجريحهم قيس عليه تعديل المخبر أو تجريحه، لأنه شهادة بحاله على رأي من ساوى بين الأمرين. وأما على رأي من فصل بينهما فإنه لا يسلم هذا القياس، لأن القياس لا يصح إلا بعلة جامعة، ولا علة تجمع هاهنا بين الخبر والشهادة، وأما من ساوى بين الجميع في أنه لا يعتبر عددا في تزكية شاهد أو مخبر أو تجريحهاما بل يقبل في جميع ذلك قول رجل واحد، فإنه يعول على أن قدمنا إجماع الصحابة على العمل بخبر واحد عن النبي عليه السلام، وما ذاك

إلا لحصول الثقة بخبره، وغلبة الظن بصدقه، وكون الظاهر من حاله العدالة وتجري الصدق. وهذا المعنى يثبت في خبر العدل إذا عدله رجل آخر عدل، والنفس تسكن إلى خبر المعدل، كما تسكن لخبر المعدل، فوجب قبول الخبر عن التعديل، كما وجب قبوله عن النبي عليه السلام. والمفهوم عن الصحابة أنه لو روي لهم رجل خبرا عن النبي عليه السلام وهم يعملون حاله، فقال لهم الصديق أو عمر رضي الله عنهما: إنه ثقة صدوق، لبادروا الخبر بخبره، وعولوا على مقتضى ما يقول، وإذا ثبت هذا في الخبر قيست الشهادة عليه، والعلة الجامعة بين الشهادة والخبر عند هؤلاء أن الشهادة هي ما يختص به رجل واحد بعينه، أو قوم بأعيانهم، ويتطلب فيه فصل القضاء ويمكن الترافع فيها إلى الحكام والتخاصم، ألا ترى أن من شهد على رجل بدين، أو وديعة، أو نكاح، أو طلاق، أو عتاق، أو قتل، أو سرقة، أو قذف، فإن جميع هذا مما يختص ضرره بالمشهود عليه، وما يتطلب فيه فصل القضاء ويمكن فيه المرافعة إلى الحكام، يتطلب فيه الشرع العدد استظهارا لمزيد الظن وقوته، وانتفاء التهمة عنه، والخبر عن النبي عليه السلام لا يختص ضرره بشخص واحد، ولا يقف حكمه على معين، بل يعم سائر المسلمين والمخبر بالخبر، وكل ما سواه، فحسن أن لا يتطلب فيه استظهارا بالعدد. وإذا تصورت هذه النكتة كما يجب، فمهنا ينشأ الخلاف في اعتبار العدد في المزكي والمجرح، وذلك أن من اعتبر العدد في ذلك قال: إن المقصود إثبات وصف رجل بعينه، وهو المخبر أو الشاهد، وإذا كان مضمون القول الاقتصار على ثبوت أمر معين في رجل معين، فهذا حقيقة الشهادة. وقد جاء الشرع باعتبار العدد في الشهادة، ومن لم يعتبر العدد في ذلك قال: إن هذا الوصف إذا حصل لهذا الرجل قبل قوله وخبره وشهادهت في جميع ما يخبر عنه أو يشهد عموما، فصار ذلك كقول تضمن عاما في سائر الناس، فجرى مجرى الخبر، فالالتفات إلى هذا السر في هذه المسألة هو سبب اختلاف الفقهاء والأصوليين فيها، وعلى المرور عليها مال الحذاق إلى تصويب من قال: إن الهلال يجب أن يقبل فيه خبر واحد، كان هلال صوم أو هلال فطر، لأن مضمون هذا الخبر عن الهلال يتضمن حكما عاما يخاطب به هذا المخبر عن الهلال وكل من سواه. وقد اختلف أئمتنا في قبول خبر الترجمان الذي يترجم للقاضي عن أهل اللغات الذين

لا يعرف القاضي لغتهم، وإنما سبب الخلاف ما أشرنا إليه أنه أقيم للترجمة مقام عام، ولكن إنما يرفع للقاضي خبرا مخبرا عن معين فمعين، إلى غير ذلك من المسائل الذي اضطرب فيه المذهب عندنا، وجميعها دائر على اعتبار النكتة التي نبهناك عليها. وقد قيل في الرد على من اعتبر العدد وعول في ذلك على القياس على الشهادة، بأنه قد ورد الشرع بأن الشرط في الشهادة قد يكون أخفض رتبة منها، ألا ترى أن الزاني لا يرجم بإجماع الأمة بأقل من شهادة أربعة، ولكنه لا يرجم حتى يثبت كونه محصنا، وإحصانه يثبت بشهادة رجلين، ولا يفتقر الإحصان إلى شهادة أربعة، وإن كان لا يصح الرجم إلا بعد ثبوته، فقد صار شرط الشهادة غير جار مجراها، فكذلك لا يبعد أن تكون الشهادة مشروطة بالعدد. والتعدل وإن كان شرطا فلا يفتقر إلى العدد كما قلناه في الإحصان والزنا، ويلزم القائلين بقياس التعديل على الشهادة ألا يقبلوا في تعديل شهود الزنا بأقل من أربعة، ولا في النقل عنهم، ولا في كتاب القاضي، حكمه في شهادتهم (...) اختلف المذهب عندنا في قبول شهادة شاهدين على حكم القاضي بالزنا، وفي النقل عن شهوده، إلى غير ذلك مما نبسط (...) إن شاء الله. المسألة الخامسة اعلم أن اختلاف العلماء في اللفظ المطلوب في تعديل المعدل (...) العدالة جملة وتفصيلا، فإذا عدل رجل شاهدا أو مخبرا، أو جرحها، فهل يكاشف ويباحث عن طريق (...). اختلف الناس في ذلك على أربعة أقوال: - فمنهم من قال يستفسر المعدل والمجرح عن الأسباب التي عولا عليها (...) (ص 221) أو التجريح. - ومنهم من قال يقلدان ما تقلداه ولا يجب أن يكاشفا. - ومنهم من قال يكاشف المجرح عن السبب الذي جرح به ولا يكاشف المعدل، وبهذا قال الشافعي، وعليه الجمهور. - ومنهم من عكس ذلك فقال لا يكاشف المجرح ويكاشف المعدل، ذكر هذا المذهب أبو المعالي عن القاضي.

والأشهر عن القاضي عندنا أنه يرى ترك المكاشفة في التعديل والتجريح، إذا وثق بعلم العدل والمجرح، وعرف كونهما عارفين بأسباب التعديل والتجريح. وهذا الاشتراط للمعرفة في المعدل والمجرح تعرض إليه القاضي كما ذكرناه وأبو المعالي، وما رواه مما يخالفان فيه، ولا يحسن أن يذهب محصل إلى قبول ذلك مطلقا من رجل غمر جاهل لا يعرف ما يجرح به ولا ما يعدل به، وإنما يحسن الخلاف إذا وقع ذلك من عالم. وقد اعتمد من أوجب الاستفسار في التعديل والتجريح بما يدخل ذلك لما تقرر اختلاف العلماء في أمور كثيرة، هل يقع بها التجريح أم لا؟ وفي حقائق التعديل، وفي التعويل فيه على مجرد ظاهر الإسلام خاصة، وإن أمكن أن يصير المعدل أو المجرح إلى مذهب يخالف مذهب السامع له، وجب على السامع لخبره أن يكاشفه عن ذلك حتى يرى ما عوّل عليه؛ هل أصاب فيه عنده أم أخطأ، فهذه عمدة أصحاب هذه المذاهب. وعمدة الآخرين أن الحاكم يجب عليه قبول شهادة الشاهد، بأن فلانا عقد نكاح فلاننة، أو اشترى دار فلان، ويقضي بهذه الشهادة، وبإمضاء النكاح والبيع، مع اشتهار اختلاف العلماء في عقود الأنكحة والبياعات، ومع تجويز القاضي إذا كان مالكيا أن يكون الشاهد حنفيا يرى صحة النكاح من غير ولي، وكذلك إذا كان القاضي شافعيا يرى أن من شرط انعقاد النكاح حضور شاهدين، ويجوز أن يكون الشاهد مالكيا يرى صحة انعقاده مع عدم الشهادة، وكذلك إذا شهد عنده بيع داره، وكان الشاهد مالكيا يرى جواز بيع الغائب على الصفة. ثم مع هذا الاحتمال والتجويز يقضي القاضي بالشهادة غير ملتفت إلى هذا التجويز، فكذلك ما قوع من الخلاف في التعديل والتجريح، ولا يوجب ذلك مكاشفة المعدل والمجرح. وقد اشتهر الخلاف في مسألة المدونة فيمن شهد أن فلانا مولى فلان، لا يعلمون له وارثا غيره، فأوجب أصحاب مالك استفسار الشهود إذا حضروا، هل هو مولى أعلى، أو مولى أسفل. وصرح بعضهم بأنهم إذا غابوا وتعذر استفسارهم قضى له بالميراث جريا على ما قلناه من حمل الشهادة على ما يفيد، واجتناب تعطيلها بالتجويز. وأما من فرق بين التعديل والتجريح فإنه يعول على أن التجريح تمكن العبارة عنه بلفظ وجيز، فيقول: رأيته سرق أو سكر من الخمر، والتعديل تكثر أسبابه وتطول العبارة عنه، فدعت هذه الضرورة إلى ترك المكاشفة. هذا والاختلاف في معاصٍ تجرح أشد إشكالا من الاختلاف في حقائق العدالة. وأما ما ذكره أبو المعالي عن القاضي من عكس هذا المذهب، فإنه اعتمد على أن المعتبر في قبول الخبر الثقة به، والإخبار بالتجريح على الجملة يخرم هذه الجملة، ويمنع من سكون النفس إلى خبر هذا المجرح على الجملة، وكل ما خرم الثقة فإنه يقتضي رد

الخبر، وأشار أبو المعالي إلى أن هذا المذهب أوقع في مأخذ الأصول، لما قلناه من كون التجريح على الجملة يخرم الثقة، بخلاف الإخبار عن الثقة فإنه لا تحصل الثقة بخبر المخبر إلى عن مباحثته عن الأسباب التي علم منها ثقة المعدل، واطلع منها على دينه، وحسن حاله. وأما ما اعتمد عليه أبو المعالي، وذكرنا أن القاضي أشار إليه فإنه قال: العالم بوجوه التعديل والتجريح، الظاهر منه أنه لا يطلقها إلا بعد تحصيل اسبابها كيف يجب، بخلاف الجاهل فإنه لا يوثق بما يقول لجهله بأسباب التعديل والتجريح. وقد قيل: إن الشافعي إنما دعاه إلى المكاشفة عن التجريح خاصة، أنه علم بإنسان جرح إنسانا، فلما سئل عن طريق علمه بتجريحه، قال: رأيته يبول قائما. فقيل له: وإذا بال قائما ماذ عليه؟ فقال: قد يتطاير عليه البول. فقيل له: فهل رأيته صلى بعد هذا؟ فقال: لا. فدعا الشافعي إلى اشتراط المباحثة عن أسباب التجريح. وظاهر هذه الحكاية يقتضي أنه يوجب مباحثة من لا يوثق بعلمه بالتجريح. وما يتعلق بأحكام المباحثة أن التجرح [هل] نقل من المجرح سرا أو علانية؟. لأنه إذا قال: رأيته سرق أو شرب الخمر، فإن ذلك يخرم الثقة بقول السارق والشارب، سواء أسر المعدل هذا التجريح لمن أخبره به أو أعلنه. وأما التعديل فقد اختلف أصحاب الشافعي فيه على قولين: هل يقتصر فيه على تعديل (ص 222) العلانية للمخبر، أو لابد من المباحة عن التعديل في السر؟ وقد اختلف المذهب عندنا على قولين في جواز الاقتصار في تعديل الشاهد على العلانية دون تعديل السر، واختار بعض أشياخي ألا يقبل ذلك إلا بعد المباحثة في السر، لأن الإنسان لا يمكن غالبا أن يذكر في العلانية قبائح الإنسان المستورة، وإذا سئل في السر ذكرها. وقد يجري اختلاف أصحابنا هذا في تعديل المخبر عن النبي عليه السلام، لا سيما وقد قال كثير من الناس: إن المبالغة في البحث عن عدالة الراوي يجب أن تكون أشد من المباحثة عن تعديل الشاهد، لكون الراوي يعم خبره سائر المسلمين، بخلاف شاهد يختص ضرر شهادته بزيد أو عمرو، فعلى هذا قد يجري الخلاف في المخبر ما حكيناه عن أصحابنا في الشاهد، وإن كان قد رأيت بعض المصنفين قد يشير إشارات خفية إلى أن المخبر هاهنا أخفض مرتبة، لأن الخبر مبني على حسن الظن، ألا تراه يقبل من العبد والمرأة بخلاف الشهادة. وبالجملة فلا أعرف في الخبر نص خلاف بين أصحابنا، فإن لم يتخرج الخلاف فيه من الشهادة فقد ذكرنا الخلاف فيه بين أصحاب الشافعي.

المسألة السادسة: اعلم أنا قد قدمنا حقيقة التعديل والتجريح، وعدد من يعدل أو يجرح، وهل تجب المباحثة للمعدل أو المجرح، فلو فرضنا اختلافا وقع في شاهد أو راوٍ، حتى عدله قوم وجرحه آخرون، فإن هذا لا يخلو من قسمين، أحدهما أن يتساوى عدد المعدلين والمجرحين، أو يختلف. فأما إن تساوى عدد المجرحين والمعدلين، بأن أثبت [التعديل رجل واحد واثبت] التجريح رجل واحد على قول من يقبل الواحد في ذلك، أو أثبت التعديل رجلان، وأثبت التجريح رجلان، فإن القاضي ابن الطيب حكى الإجماع على قبول التجريح وتقدمته هاهنا على التعديل. وما أرى الإجماع يثبت له، لأن ابن شعبان من أصحابنا ذكر في كتابه المترجم بالزاهي في ذلك قولين: أحدهما أن شهادة المعدلين أولى من شهادة المجرحين، والقول الثاني: أن المجرحين أولى، فأنت تراه ذكر في المسألة قولين. وأما إن اختلف عدد المعدلين والمجرحين، فإن كان المجرحون هم الأكثر، فلا شك في تقدمة شهادتهم، وذلك أولى بأن يكون إجماعا على نقل القاضي ابن الطيب وقوع الاختلاف بين العلماء في ذلك. وهذه المسألة ينجر إليها مسائل كثيرة يعرفها الفقهاء لا تكاد تحصى كثرة، وكم من مسألة في المدونة وغيرها من الدواوين المشهورة تكلم الفقهاء فيها على اختلاف الشهادات، ونظرا فيمن تقدم من الشهود، وذكروا خلافا في بعض المسائل، وعدوا مسائل أخرى من الخلاف، ولكن النكتة التي يجب أن ننبه عليها أن الاختلاف والتعارض إنما يكون إذا وقعت الأقوال على وجهين متناقضين لا حيلة في رفع التناقض عنهما، فأما إذا وجد السبيل إلى بناء ما اختلف من الأقوال، فإن التناقض لا يقطع في حصوله، فهذا يحوجك إلى النظر في اختلاف المعدلين أو المجرحين: فإن حكيا في ذلك حكاية مطلقة بأن قال المعدل: هو عدل، وقال المجرح: هو مستجرح، فإن تقدمة الجرح هاهنا أولى، ولا يحسن الخلاف في هذا، ولو اختلف عدد المعدلين والمجرحين. وإذا كان المجرحون عددا يستقل به التجريح، وذلك أن التعديل مبناه على الظاهر، لأنا قدمنا أن من حقيقته اجتناب المعاصي المفسدة للدين، واجتناب المباحات المسقطة للمروءة، والمعدلون إنما يحكون من ذلك ما رأوه في غالب الأحوال والأوقات، ومن الممكن أن تقع فلتة يزني فيها أو يسرق من وصفوه بحسن الدين والوقار واستقامة الأحوال، وهذا لاشك أن المعدلين يجوزونه، ويقولون: يمكن أن يكون لما جنه الليل وآوى إلى فراشه ركب في فراشه معصية كبيرة سقطت بها عدالته، ولكنا ما نعبدنا بهذا الخفي المحوز، فإذا قال المجرحون: نحن اطلعنا على هذا الخفي، ولم يره المعدلون، فإن المعدلين لا

يقدرون على إكذابهم فيما قالوه، إذا لم يقطعوا بكذبهم، فلا وجه لرد شهادتهم بالتجريح. لكن لو تصور الأمر على خلاف هذا بأن يقول المجرحون: رأيناه ساعة كذا يشرب خمرا، أو سرق مالا، ويقول العدلون الذين عولوا على الشهادة على غالب حاله: كنا حضورا معه في تلك الساعة فلم يصنع مما قال المجرحون شيئا، بل كان قائما يصلي، فلا شك أن هذا تكاذب، وهذا يغمض الأمر، ويحسن وقوع الخلاف فيما تقدم من الشهادتين، ويحسن الترجيح بالكثرة في العدد، أو الترجيح يكون بقوم أظهر عدالة من قوم، على حسب ما عرف في كتب الفقهاء من النظر في الترجيح بقوة العدالة، أو بكثرة العدد، وأصل المدونة في أمثال هذه المسائل بقوة العدالة والظهور فيها، فالجانب الذي هو أظهر عدالة وأقوى ديانة هو الأقوى أن يقدم. وأما التجريح بالكثرة فلم يلتفت إليه في المدونة، والتفت [إليه] في غيرها من كتب المالكية، ويعتبر الفقهاء هاهنا (ص 223) أصلا آخر، وهو أن من أثبت حكما أولى ممن نفاه. وقد وقع عندنا في المذاهب قولان في شاهدين شهدا أن فلانا قتل فلانا ساعة كذا، وشهد آخران أن القاتل كان عهما تلك السعة بمكان آخر، يعلم منه أنه ما حضر القتل، هل يقدم شاهدا القتل لأجل أنهما اثبتا حكما، وهو إباحة إراقة دمه قصاصا، بعد أن كان الأصل أن دمه مصان غير مباح، أو تسقط الشهادتان لتعارضهما؟ وكلك لو شهد اثنان بأنه تكلم بكلمة هي "طالق لزوجته، وقال آخر: بل هي عتق لغلامه. وكذلك لو شهد شاهدان أن هذا مات نصرانيا، وقال آخران: بل مسلمًا، وتنازع النصارى والمسلمون من أولى بميراثه. وكذلك إذا شهد شاهدان بأنه وصى عند موته وهو ثابت العقل، وقال آخران: بل فاسد الميز فقيد العقل. على ما عرف من أحكام المسائل المذكورة، بعضها في المدونة وبعضها في غيرها. وإنما بسطنا لك هذا لتعليم طريقة الفقهاء فيه، وتستدل بأجوبتهم في هذه المسائل على مسألتك ماذا يقولون فيها ما إنا ذكرنا عنهم الخلاف في عينها على حسب ما نقلناه لك، ولكن الفقهاء إنما يتكلمون على ذلك في أحكام الشهادات وفصل القضاء إذا اختلف على القاضي المعدلون والمجرحون.

وأما الأصوليون فقد ذكرنا لك ما قال إمامهم وهو القاضي ابن الطيب، وكنا قدمنا لك أن أبا المعالي أشار إلى أن المعتمد في هذا على عمل الصحابة، وهم رضي الله عنهم كانوا يعولون على حصول الثقة بالخبر، وذكر أن كل ما يخرم الثقة فإنه يمنع من وجوب قبول الخبر، فينظر في هذا الاختلاف إذا وقع في راوٍ، هل ذلك مما يخرم الثقة أم لا؟ وقد ذكر أبو المعالي في باب التعديل والتجريح فصلا لطيفا، وذاك أنه قال: فهمها لم نجد إجماعا من الصحابة في قبول خبر، فإنا إذا لم نعرف رأيهم في جنس من الأخبار، أو المخبرين فإن القاضي ابن الطيب يقطع على رد الخبر، لأجل فقد الدليل الذي عليه يعول في العمل بالخبر. وذكر أبو المعالي أن هذا المذهب وإن [كان] مخيلا، فإن الراوي لهذه أن يترك إلى ظنون الفقهاء، ويخلون [و] الاجتهاد فيها، كما يخلون مع اجتهادهم في المسائل الفقهية الظنية، واعتمد في ذلك على أن الصحابة رضي الله عنهم، كانوا ربما اتفق فيهم أن يعمل بعضهم بخبر ويقف آخرون عنه عن العمل به، لأجل اختلاف طرق الاجتهاد منهم في قبوله. فإذا كان هذا معلوما من حالهم، ونحن إنما نعتمد عليهم في العمل بخبر الواحد، فهذا كانوا يرون صرفه إلى الاجتهاد، كما كانوا مجمعين على العمل بصنف آخر من الأخبار. وهذا الفصل قد أفرده أبو المعالي بالذكر في خلال كلامه في التعديل والتجريح، وما له به تعلق، إلا أن ينظر فيه عند الحاجة إلى مثل النظر في هذه المسألة التي نحن في ذكرها، وهي اختلاف المعدلين والمجرحين، أو ما في معناها، وهذا الفصل الذي ألحقناه عنه قد يشير إلى إلحاق هذه بالمجتهدات عند اختلاف الشهود. في تعديل الراوي تجريحه، أو إلحاقها بما يرد لنفي الدليل على وجوب العمل به على رأي القاضي ابن الطيب الذي ذكره عنه أبو المعالي ورده. المسألة السابعة: اعلم أنا لما ذكرنا الحاجة للوقوف على حقيقة التعديل والتجريح، وحققة من تقبل شهادته به، ومن لا تقبل، فلتعلم أنا لما ذكرنا لك حقيقة العدالة، فإن بعض الأشخاص قد اشتهر حصولها له اشتهارا يستغني سامع خبره أو شهادته على البحث عن حاله، أو استشهاد الشهود فيه، فنحن الآن لو حدثنا بحديث عن النبي عليه السلام، وعلمنا تعديل شيخنا فيه، وشيخ شيخنا، حتى انتهى السند بنا إلى مالك رضي الله عنه أو إلى سفيان الثوري، أو الحسن البصري، وأمثالهم، فإنا لا نطلب تعديل هؤلاء ولا نترك العمل به حتى

يثبت عندنا عدالتهم، لأنا لو طلبنا ذلك فإنا نطلبه بإخبار واحد لنا بذلك، أو إخبار اثنين، وقد استفاض ذلك حتى أخبرنا به الجم الغفير عن العدد الكثير، وصار ذلك في نفوسنا آكد من ثبوته لدينا بشهادة شاهدين، ولهذا يعمل بأحاديث الموطأ، والبخاري، ومسلم، لروايتنا هذه الدواوين عن شيوخ ثقاة، وأئمة عدول، وأخبرونا بذلك عن أمثالهم، حتى انتهى الأمر إلى مالك والبخاري ومسلم، وهؤلاء قد ذكروا أنهم ما أدخلوا في كتبهم إلا أخبار العدول، ولم يعثر مع البحث فيمن رووا عنه على خلاف ما وصفوه به. فإذا تقرر هذا لديك فليكن أولى بهذا الوصف، وأحق بهذا الحكم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم إذا روينا حديثا، وثبت عندنا عدالة من (ص 224) بيننا وبين التابعين فيه، وكان التابعي عدلا، فإنا نقبل الخبر إذا أضافه أحد من أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم، ولسنا نعني بأصحابه هاهنا كل من رآه اتفاقا، أو رآه لماما، أو ألم به لغرض وانصرف عن قريب، لكن إنما نريد بذلك أصحابه الذين لازموه، (وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون)، ولو لم يكن في تصحيح ما قلناه إلا هذه الآية التي شهد الله سبحانه لهم فيها بالفلاح مع إخباره عن أهل بيعة الرضوان رضي الله عنهم، فقال: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم)، وذكر في آيات لا تحصى ما أعد للمجاهدين معه من الخيرات، وأثنى عليهم ثناء جميلا في كثير من الآيات، وقال تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر)، وفي أقل من هذا كفاية في تعديلهم وتزكيتهم. ونحن نقبل تعديل رجل واحد عدل على ما بدا به من حسن الحال في غالب الأمر، وقد يغلط من جهة المراءاة والتصنع، فكيف بتعديل من عدله من يعلم السرائر وما تخفي الصدور، وإنما ذكرنا هذا ردا على من قال من المعتزلة بنفي عدالة قوم مشاهير قاتلوا عليا رضي الله عنه، وحكموا عليهم بالتفسيق، لجلهم رضي الله عنهم عن تسميتهم، لما وصفهم هؤلاء بالضلال بذلك، وقد وقف بعضهم بين الفئتين، ورأى أنه لو شهد اثنان كل واحد منهما من طائفة لم يجب قبول شهادتهما للتردد بينهما، إلى غير ذلك من أباطيلهم التي تفرهوا بها في نقلة هذا الدين وحملته الذين بأسيافهم ظهر، ومن ألسنتهم انتشر، ونحن نرى كلا منهم أداه

اجتهاده إلى ما فعل، ولم يتعمد ركوب المعصية، ألا ترى أن بعضهم أشكل عليه الأمر فوقف عن الفئتين، حتى سمعوا العقد به، لأنهم قعدوا عن نصرة علي رضي الله عنه، أو النصرة عليه. ولو أفضنا فيما يدل على صحة ما قلناه من قبول شهادة بعضهم عند الفئة القاتلة لهم، وتفويض الأحكام إليهم لخرجنا عن غرض الكتاب، وهذا يدل على أن المقاتل منهم لصاحبه كان يراه مجتهدا في قتاله متأولا، فلم يتبرأ منه، ولا أسقط شهادته. ومن طعن في أبي هريرة لإكثاره، فقد طعن بما لم يطعن به، وقد ولاه عمر رضي الله عنه أمورا جسيمة، ولو كان غير عدل ما ولاه إياها، علي بعد عمر رضي الله عنه عن المداهنة والمراءاة. وكذلك لمز من لمز ابن عمر رضي الله عنه يرد عليه بأن جبريل قد زكاه فقال في الصحيح: "نعم الرجل عبد الله". هذا وأئمة المسلمين في سائر الأعصار يرون عنهم، ويعملون بأحاديثهم، وقد قال البخاري: روي عن أبي هريرة سبعمائة من أبناء المهاجرين والأنصار، ومن اشتهر عند التابعين بالنقل عنه هذا الاشتهار كان الطعن فيه إزراء بعقول أئمة المسلمين، ومخالفة لما عليه نقلة هذا الدين. فإن قيل: عدالتهم في تعديل الصحابة على ما تلوتم من القرآن وصدقتم، ولكن حدثت بعد ذلك حوادث تسقط العدالة في الموطأ وغيره من الصحاح، حديث الحوض وأخباره صلى الله عليه وسلم أنه "يذاد قوم عن حوضه فيقول: أصحابي، فيقال له: ما تدري ما الذي أحدثوا بعدك". قيل: أما هذا الحديث فمحال أن يراد به من أشرنا إليه من الصحابة رضي الله عنهم، ما بدلوا، ولا غيروا، وإنما أشار إلى من بدل دينه وغير، وقد بدل قوم دينهم وغيروا، وأولئك ليسوا الذين أردناهم، ولاهم المروي عنهم هذه الشريعة، وقد ذكرنا تأويلهم في القتال الذي جرى بينهم. وألف أئمتنا فيه دواوين مجردة للكلام على ما جرى بينهم، والذي ذكرناه لك على الجملة عليه التعويل، وإنما بقي النظر في تعيين تأويل كل قصة يتعلقون بها في القدح في العدالة. والجواب المسكت لهم أن كل ما قدحوا به فيمن أسقطوا عدالته من الصحابة يتصور عليهم مثله في الصحابة الذين لم يقدحوا في عدالتهم، فإن ابتدوا إلى تأويل أفعال من وافقوا على عدالته، وحسنوا لهم المخارج قوبلوا بمثل ذلك فيمن خالفونا في عدالته، ولا يجدون فصلا بين الفئتين، فهم بين حيرتين، إما التأويل لأفعال الجميع، فنصل نحن بذلك إلى ما نريد، وإما إسقاط عدالة الجميع، وهذا خلاف الإجماع. وقد أجمع الناس على أنه لا

فصل في المراسل

يصح إسقاط عدالة جميع الصحابة، لأنه لو سقطت عدالتهم جميعهم لانهدم هذا الدين، ولم نحصل نحن ولا من قبلنا على شيء منه، لأنهم رضي الله عنهم هم طريقنا إليه. فإن قيل: أنتم وإن تأولتم فإن تأويلكم لا يرفع الشك في فعلهم، والشك في فعلهم يوجب الشك في عدالتهم. قلنا: الإجماع الذي حكيناه من استحالة القول بإسقاط عدالة الجميع، مع كون الشك في عدالة بعضهم [لا] يؤدي إلى إسقاط عدالة جميعهم، والوقف عن خبرهم حجة قاطعة في أن هذا الشك غير مؤثر، بعد أن نسلم حصول الشك في ذلك (ص 225)، كيف ونحن إنما نتأول تأويلا في قصة، وهو الظاهر المستفاد ظهوره منها، والمستفاد ظهوره مما تقدم، وعلم عدالتهم التي شهد لهم بها رب العالمين، كيف ونحن لو شهد فينا شاهد عرفناه بالعدالة والورع، ولكن حكي لنا عنه أنه صدر منه فعل قد يريب فإنا لا نسقط عدالته بالتجويز والشك، بل نستصحب ما كنا عليه من قبول شهادته، وبهذا تعبدنا في شهدائنا مع كون أحدهم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ من أحد الصحابة، ولا نصيفه، فكيف نظن أنا نخرجهم عن العدالة بتجويز وقوعهم في معصية تقدح في العدالة هذا لا خفاء به عند محصل. فصل في المراسل الكلام في هذه المسألة من أربعة أوجه: - أحدها: بيان معنى المرسل من الحديث. - والثاني: نقل المذاهب فيه. - والثالث: التنبيه على نكتة سلفت يفتقر إليها هاهنا. - والرابع: ذكر [سبب] الخلاف فيه. فأما الوجه الأول: فإن للمحدثين عبارات اصطلحوا عليها يديرونها بينهم في مجالسهم وكتبهم، فمن ذلك قولهم: حديث مسند، وحديث مرسل، وحديث مقطوع، وحديث موقوف، وحدي ثمتصل، إلى غير ذلك من عباراتهم. وحاجتنا هاهنا إلى بيان المسند، والمرسل. فأما المسند فهو حكاية كل تلميذ عن شيخه حتى ينتهي الحديث إلى صحابه، كقول مالك في موطئه: حدثني نافع، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام. وقول سحنون: حدثني ابن القاسم عن مالك.

وأما المرسل فهو رواية التلميذ عن شيخ شيخه، كقول سحنون: قال مالك، وقول مالك: قال ابن عمر. ومعلوم أن سحنونا لم يلق مالكا، ولا مالك لقي ابن عمر. وإنما عول مالك على من حدثه عن ابن عمر، وكذلك عول سحنون على من حدثه عن مالك. وهكذا إذا قال مالك: عن نافع، عن النبي عليه السلام، أو عن عطاء عن النبي عليه السلام، أو عن ابن المسيب عن النبي عليه السلام، فهذا مرسل، لأن ابن المسيب لم ير النبي عليه السلام، ولا رآه عطاء، ولا نافع، فقد انحذف من السند رجل بين نافع وبين النبي عليه السلام. وكذلك قول مالك في موطئه: أن ابن شهاب قال: "وكان النبي عليه السلام يقول آمين"، فمعلوم أن ابن شهاب لقيه مالك وسمع منه، فخبره عنه مسند، ومعلوم أن ابن شهاب لم ير النبي عليه السلام، فمعلوم أنه إنما عول على النبي عليه السلام كان يقول آمين على خبر من أخبره عن النبي عليه السلام، فهو مرسل ما بين ابن شهاب وبين النبي عليه السلام، لأن مالكا حدثه عن ابن شهاب كالأمر المعتمد المستقر سماعه منه، وخبر ابن شهاب كأنه أمر أرسله صاحبه إرسالا، فلا ساتناد له، لأجل كتمانه ذكر ما بينه وبين النبي عليه السلام. وإذا تصور معنى المرسل، ومعنى المسند، فإن هذه الحقيقة التي أشرنا إليها فالإرسال قد يقع من الراوي كما صورناه، بأن يحذف ذكر من روى عنه تصريحا [أ] وتلويحا، وقد يتعرض لذكره ذكرا لا يفيد، فيسمى ذلك إرسالا أيضا، كقوله: حدثني رجل عن فلا، ولا يسمى الرجل الرجل الذي حدثه، فإن ذكر هذا على الإجمال لا يفيد فائدة تزيد على قوله: قال فلان، لأن معلوم أنه إذا كان لم يلق فلانا، فإن مراده أنه حدثني بذلك رجل عنه. وكذلك لو أضاف إلى هذا المكني عنه العدالة فقال: حدثني رجل عدل مرضي، فإن هذا يلحق بالمرسلات من الأحاديث على ما ذكره أبو المعالي، وسننبهك على باقيه. وكذلك إضافة خبر إلى كتاب كتبه النبي عليه السلام من غير أن يذكر من حمل الكتاب ونقله، لأنه لم يذكر حامل الكتاب وناقله، صار ذلك مثل ما قلناه من قول الراوي: حدثني رجل، لم يسمه. ويلتحق بهذا عندي ما وقع في الصحيح: "نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الخمر قد حرمت"، وقوله: "نادى منادي رسول الله بإكفاء القدور التي طبخ فيها لحوم الحمر"،

وقد تكلمت على هذا في كتاب "المعلم"، لأن المنادي إذا لم يسم صار ككتاب أضيف إلى النبي عليه السلام أنه أرسله، ولم يسم حامله وناقله، وقد أشرت هنالك إلى الالتفات إلى علم المحدث عن النداء، بأن ذلك لا يخفى على النبي عليه السلام، حتى يعلم ضرورة أن النبي عليه السلام أمر به، فيحل ذلك محل سماعه الأمر منه صلى الله عليه وسلم. وهذا مستقضى في غير هذا الموضع. وقد ذكر أبو المعالي عن الأستاذ ابن فورك أنه سمى حذف الراوي شيخه منقطعا، وسمى ذكره على الإجمال مرسلا، فإذا قال ابن المسيب: قال النبي عليه السلام، أو قال مالك: قال عمر بن الخطاب، كان هذا يسمى حديثا منقطعا، وإن قال ابن المسيب: حدثني رجل عن النبي عليه السلام، أو قال مالك: حدثني رجل عن عمر بن الخطاب سمي ذلك مرسلا. وذكر أبو المعالي أن في كلام الشافعي إشارة إلى هذا، ونبه على أن هذا لا يتعلق بفرق معنوي، وإنما هو ذكر القاب في هذا الباب. وقد رأيت أنا مصنف ابن فورك في أصول الفقه، فأول ما افتتح به: باب القول في المراسيل، أن قال: إذا قال التابعي (ص 226): أن النبي عليه السلام قالك كذا وكذا، فهذا معنى المراسيل، فأنت تراه كيف ذكر أن حقيقة المرسل ما حذف فيه اسم الراوي، ولم يذكر لا معينا ولا مجملا، بخلاف ما حكاه عنه أبو المعالي. ولعمري هذا اصطلاح لا فائدة في تحرير نقل المذاهب فيه إذا عرف غرض المنقول عنه. وأما الوجه الثاني وهو نقل المذاهب في المراسيل في العمل به، فاعلم أنه لا يختلف في جواز إرسال الحديث بأنيقول مالك رضي الله عنه: بلغني أن النبي عليه السلام، أو يقول الفقيه من أهل عصرنا: قال مالك، ويقول سحنون: قال مالك، وإنما الخلاف في ذلك؛ هل يلزم بقوله والعمل به أم لا؟ فأما أبو حنيفة رضي الله عنه فنص جماعة من المصنفين على أنه يرى قبول المراسيل، ويوجب العمل بها، وكذلك أضاف قوم من المصنفين هذا المذهب إلى مالك رضي الله عنه، والقاضي أبو الفرج من أصحابنا لما نصر هذا القول، وأضافه إلى مالك، وبين ما وقع من كلامه، مما يدل على أنه يرى العمل بالمراسيل، وذكر القاضي عبد الوهاب أن الظاهر من المذهب قبولها والعمل بها، ولكنه بعد ذلك ذكر مذهب من ذهب إلى الاقتصار على قبول

المراسيل للصحابة، والتابعين، وتابعي التابعين، ثم قال: وهذا هو الظاهر من المذهب عندي. فقد علمت من صار إلى قبول المراسيل على الإطلاق. ومن الناس من قيد وجوب القبول على الصحابة خاصة رضي الله عنهم، فقال: لا يقبل سوى مراسيل الصحابة، ومنهم من أضاف إلى الصحابة والتابعين، فقال: إنما يجب قبول مراسيل الصحابة والتابعين (لا مراسيل من بعدهم. ومنهم من أضاف إلى هذين العصرين العصر الثالث، فقال: يجب قبول مراسيل الصحابة والتابعين) وتابعي التابعين. ومن الناس من ذهب إلى أن المراسيل لا يجب قبولها ولا العمل بها، فمنهم من لم يقبل المرسل ولا من الصاحب رضي الله عنه، ومنهم من استثنى الصحابة فقبل منهم المرسل، ومن القائلين بالمراسيل من أغلى في قبولهم حتى قدمها على المستندات، لأمر سننبهك إليه. وأما الشافعي فلقد اضطرب النقل عنه فرأيت بين المصنفين اختلافا كثيرا في النقل عنه، لكن القاضي ابن الطيب نقل عنه أنه لا يرى العمل بالمراسيل إلا عند شروط تصحب الحديث المرسل، منها أن يسنده غير من أرسله، ومنها أن يعمل به صاحب، ومنها أن يعمل به العامة، ومنها أن المرسِل لا يرسل إلا عن ثقاة، ولهذا قال: مراسيل ابن المسيب حسنة، لأ، هـ كشف عنها وعلم إسنادها. وأبو المعالي ذكر عن الشافعي أنه لا يرد المرسل مطلقا، ولكنه قد يتطلب مزيد ثقة تقوي الحديث المرسل، وأشار إلى استنباط هذا من مذهببه مما حكيناه عنه في مراسيل سعيد، وإلى بعض ما نقلنا من شروطه، وهذه الطريقة التي اختار أبو المعالي، فرأى أن الراوي الموثوق بعلمه ودينه واختياره للرواية، ومعرفته بالتعديل والتجريح إذا قال: حدثني من أثق به وأرضاه، فإن ذلك يوجب الثقة بحديثه، وإذا قال: حدثني رجل، ولم يزد على هذا، فإن هذا يتوقف على العمل بحديثه. وكذلك: إذا قال الإمام اراوي: قال النبي عليه السالم، فهذا بالغ في ثقته بمن روى له. فهذه جملة من المذاهب المذكورة في هذا الباب. وقد كنا حكينا أن من الناس من قال: لا يقبل إلا مرسيل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، هكذا حكى بعض المصنفين هذا مطلقا، ولم يسم أصحاب هذا المذهب، وحكى بعضهم عن عيسى بن أبان هذا المذهب، ولكنه زاد فيه قبول مرسل أرسله إمام، وإن كان هذا الإمام بعد تابعي التابعين. وأما الوجه الثالث فاعلم أنه ينبغي للناظر في هذه المسألة أن يلتفت إلى بنائه على أصول تقدمت الإشارة إليها، فمن ذلك ما ذكرناه من اختلاف الناس في التعديل، هل يفتقر فيه إلى مباحثه المعدل عن أسباب التعديل، فلا شك أنه لا يقبل المرسل من الأحاديث، لأن قصارى ما يعتمد عليه من يقبل المرسل من الأحاديث كون المرسل متقلدا عدالة من أرسل عنه، وهو لو صرح بتعديله لم يقبل ذلك منه دون المباحثة عن أسباب التعديل

به، إذا لم يصرح، وإنما فهم عنه التعديل تلويحا لا تصريحا. وأما من قال: يقبل التعديل من غير مباحثة المعدل، فأصحاب هذا المذهب هم الذين ينظرون في قبول المرسل، ويختلفون هل يتضمن الإرسالُ التعديلَ أم لا؟ فهذا أصل لابد من الالتفات إليه في هذه المسألة، ويلتفت فيها إلى أصل آخر أيضا، وهو قبول تعديل المعدل الواحد، لأن المرسل عند من قبل الإرسال كالمعدل لمن أسل عنه الحديث، وهو لو سماه وعدله لم يعول على تعديله منفردا، فكيف به إذا لم يسمه، ومنها أنه لو قال: حدثني رجل عدل وثقة مرضى، فإن هذا مما اختلف فيه، فقيل: لا يعول على هذا حتى يسميه، لأنه لو سماه لأمكن أن يعرف سامع الخبر من جرحه هذا المسمى، ولأن يعرفه المرسل الذي عدله قاصرا به عن تسميته يقتضي عدم ثقة (ص 227) السامع لتعديله، فلهذا لم يقبل، وقيل: بل يجب قبول مثل هذا. وقد رأى أبو المعالي أن هذا من الصنف المقبول من المراسيل إذا كان المعدل إماما ثقة، عارفا بطرق التعديل والبحث عنه، ورأى أن هذا التشكك الذي فرضناه من تجويزنا أنه لو سمى للسامع لأمكن أن يعرف منه ما لم يعرف المعدل لا يخرم الثقة بصحة الخبر والتعديل، وكل ما لا يخرم الثقة لا يلتفت إليه. وقد ذهب بعض الأئمة إلى أنه لو صحر بتسمية الراوي وبتعديله لم يبادر إلى العمل بالخبر حتى يبحث السامع عن صحة ما قال المعدل، ويطلب تعديل هذا أو تجريحه من مظانه حتى يتأكد عنده صحة تعديل المعدل، أو يعثر على خلاف ما قال من كون التعديل طريقه الاجتهاد، وما طريقه الاجتهاد تختلف فيه الآثار، ويتفاوت فيه بحث العقلاء، فكل إنسان منهم مخاطب باجتهاده، ولهذا كان القاضي إذا شهد عنده عدلان حكم بشهادتهما قاض غيره، لا يقتصر على ما فعله غيره، بل يستأنف هو البحث عنهما إذا أمكن عنده أن يفيده البحث بطلان ما ذهب إليه القاضي الذي قبله من تعديلهما، أو تأكيد صحة ما ذهب إليه. وقد أشار القاضي أبو محمد عبد الوهاب إلى إلزام هؤلاء الصائرين إلى إيجاب البحث بعد سماع التعديل أن يكون القاضي إذا رفع إليه حكم قاض آخر لا ينفذه حتى يبحث عن عدالة من حكم القاضي بشهادته، لجواز أن يكون إذا بحث عثر على تجريحهم، وحاول بهذا الإلزام رد ما قالوه من إيجاب البحث عن تعديل الراوي بعد سماع تعديله ممن روى عنه، وهذا عندي قد لا يلزمهم، وشتان بين أمر قد تقدم فيه حكم، ونفذت فيه قضية، وبين أمر لم يتقدم فيه قضية ولا نظر فيه قاض، فهؤلاء، إنما أوجبوا البحث على القاضي الثاني في

أمر شهد عنده به شاهدان حكم قاض قبله بشهادتهما في أمر آخر، لا تعلق له بما هو فيه ناظر، ولا يكون إمضاؤه فيه القضاء بإبطال أو تصحيح مناقضا لحكم آخر قبله، بخلاف حكم آخر قبله بخلاف حكم رفع إليه قد نفذه من قبله، فإنه إذا بحث عن عدالة من شهد عند الأول، وعثر على تجريحها، ونقض ما شهدا به فقد تعرض لنقض قضية من قبله، وليس للقاضي أن ينقض على من قبله، إلا إذا أخطأ خطأ لا مدخل للاجتهاد فيه، وقد اختلف المذهب عندنا على قولين في نقض حكم، حكم فيها بشهادة عدلين عند القاضي بهما، ثم تبين أنهما كانا حين الحكم فاسقين. وبالجملة فإن أصل الشريعة قد فرق بين ما نفذ الحكم به وما لم ينذ، والشاهدان إذا رجعا بعد الحكم لم يبطل الحكم برجوعهما، ولو رجعا قبل الحكم لم يصح إنفاذ الحكم بشهادتهما. وأيضا فإن القاضي المأمور باستئناف البحث عن شاهدين حكم قاض غيره بشهادتهما في أمر آخر يحسن منه البحث، لجواز أن يكونا فسقا بعد إنفاذ الأول الحكم بشهادتهما فيصادق حكمه فسقهما، فلهذا حسن البحث عند هؤلاء، وهؤلاء الذي ذكرنا عنهم يوجبون البحث مع سماع التعديل تصريحا بتسمية الراوي وتعديله يخالفهم غيرهم في ذلك، ويقتصر على تعويل المعدل، وفي خلال حجاج من يقبل المراسيل ما يشير إلى ما قلنا من إسقاط إيجاب البحث مع سماع التسمية والتعديل، وقد كنا ذكرنا اختيار أبي المعالي قبول ذلك من العارف بطرق التعديل مع إضرابه عن التسمية، ولست أدري ما يذهب إليه في هذا لما سمي الراوي، لأنه قد يرى أن من سمى له الراوي قد وجد سبيلا إلى الاستقصاء والبحث فلا معنى لإضرابه عنه مع قدرته عليه، وأما من لم يسم له الراوي، ولكن قال له شيخه: حدثني رجل عدل رضي، فإنه لم يوجده شيخه سبيلا إلى البحث عمن عدله. وبالجملة فإن الذي أفهم من كلام بعض من ذهب إلى قبول المراسيل أنه لا يرى من شرط القبول البحث والاستقصاء بعد سماعه لتسمية الراوي وتعديله، وقد كنا قدمنا أيضا ذكر الاختلاف في رواية العدل عن رجل؛ هل يتضمن ذلك تعديله أم لا؟ وهذا الأصل مما يلتفت إليه أيضا في مسالتنا هذه، وقد يلتفت فيها أيضا إلى نحو ما كنا قدمنا ذكر الخلاف فيه من التعديل على ظاهر الإسلام في قبول الخبر. فهذه نكت نبهناك عليها يفتقر الناظر في المسألة التي نحن فيها إلى التشوف إليها، ولم ينبه عليها غيرنا من المصنفين مجموعة كما نبهناك عليها، ويكاد الذكي أن يستلوح منها سبب الخلاف في قبول المراسيل على ما ترى. وأما الوجه الرابع فاعلم أن النكتة المعتمد عليها ومن النظر فيها ينشأ الخلاف في قبول المراسيل هي أن الراوي إذا قال: حدثني فلان وهو عدل مرضي، فإنه إذا سمى الراوي،

وصرح بتعديله فقد بلغ إلى نهاية ما يراد منه، وإذا استظهر السامع بعد هذا بالبحث والاستقصاء عن صحة ما قال في التعديل فلم يعثر على جرح فقد حصل الإجماع على وجوب قبول (ص 228) هذا الخبر على الجملة، عند من لم يشترط العدد في التعديل، ولا المباحثة كما تقدم. وإذا قال: حدثني رجل لا أعرفه بخير ولا شر، ولا أعدله ولا أجرحه، فإن هذا لا يقبل إجماعا عند من لم ير التعديل على ظاهر الإسلام في قبول الرواية. فإذا أحطت بهذا علما، فإذا قال الراوي: حدثني رجل، ولم يسمه؛ فهل يحمل أمره على أنه عنده من القسم الأول المتق على قبوله، وأنه لو لم يكن عنده عدلا لما حدث عنه، فيجب قبول المراسيل والعمل بها. أو يكون الأمر فيه كالحال في القسم الثاني، وأنه لا يعرف هذا الرجل بعدالة ولا جرح، فلا يقبل هذا الخبر، فهذه النكتة هي سبب الخلاف، ولهذا سلك المحققون الطرق التي حكيناها عنهم، فرأى القاضي ابن الطيب أنه لا يجب العمل بالمراسيل، لأنه وإن كان حصل الاتفاق على جواز الحديث بها، فإن المحدثين بها لم يتطابقوا على اعتياد أن لا يحدثوا إلا عن عدل، ونحن نجد المحدثين في عصرنا وفيما قبله من الأعصار يحدثون عن رجال ويسمونهم، فإذا سئل المحدث عن رجل منهم قال: لا أعرف حاله، هل هو ثقة أم لا؟ فإذا كان هذا مشهورا بينهم، وجوزنا أن يكون المحدث أرسل الحديث عمن هو عدل عنده، أو عمن لم يعرفه، أو عمن يعرف جرحه، وقد قال الشافعي: حدثني الحارث الأعور، وكان كذابا. فمن أين يصح القطع على أن الراوي لم يرسل الحديث إلا عن عدل عنده. وإذا ثبت التجويز لأن يكون أرسل عن عدل، أو عن غير عدل لم يجب العمل بحديث مشكوك فيه، وإنما يعتمد على من قال بقبول المراسيل، على أنه لا يرسل الحديث إذا كان ثقة إلا عن ثقة، وقد أخبرنا أن هذا الذي اعتمد عليه غير صحيح، وأن العادة لم تطرد به. وقد نجح من يقول بالمراسيل إلى الاعتماد على مسلك آخر، وذلك أنه يقول: العمل بخبر الواحد إنما تلقيناه عن الصحابة رضي الله عنهم، وعلى إجماعهم على العمل به عولنا، وقد رأيناهم يقبلون المراسيل، وهذا ابن عباس رضي الله عنه مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير، وقد روى أحاديث لا تحصى، ولم ينكر عليه ولا ترك العمل بما رواه، مع العلم بأنه لم يبلغ به العمل إلى أن يسمع من النبي عليه السلام بعض ما رواه فكيف بجميعه ألا تراه لما [روى]: "لا ربا إلا في النسيئة" وهو حدث عنه قال: حدثني أسامة بن زيد، وهكذا لما روي "أن

النبي عليه السلام لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة". قال حدثني به أخي الفضل. ولقد قال بعض الناس: إنه رضي الله عنه لم يسمع من النبي عليه السلام إلا أربعة أحاديث، وزاد بعض الناس على هذا العدد قليلا. وألا ترى ابن عمر حدث بحديث أجر المصلي على الجنازة، ثم قال: حدثني به أبو هريرة، ألا ترى أبا هريرة حدث بأن "من أصبح جنبا فلا صوم له"، فلما وقع في القصة ما ذكره مالك في «الموطأ» من إرسال مروان إلى أمير المؤمنين رضي الله عنه، قال: إنما حدثني به الفضل فرأى هؤلاء أن هذه الأخبار وأمثالها إجماع الصحابة على العمل بالمراسيل. وقد كان ابن الزبير صغيرا، والنعمان بن بشير، وقد رووا ما علم، والمخالفون لهؤلاء المستدلين لا يسلمون إجماع الصحابة على العمل بها، وليس تجويز الرواية على الإرسال يقتضي العمل بها، هذا وهم أيضا، إنما أمرونا أن الصحابة إنما عملت بأحاديث قوم صغار الأسنان مع تجويزهم أن يكونوا أرسلوا الحديث، ونحن إنما تكلمنا على حديث قطع فيه بالإرسال، فمن حاول قياس ما قطع فيه بالإرسال على ما جوز فيه الإرسال طولب بعلة جامعة بينهما، ولو أرودها كان ذلك قياسًا ظنيًا لا يؤدي إلى القطع. وهذا أيضًا إنما يحتاج إليه إذا قلنا: إنا لا نقبل المرسلات ولا من الصحابة. وأما إذا قلنا بقبول مراسيل الصحابة خاصة كما قدمنا ذكر هذا عن قوم، فإنا لا نحتاج إلى هذه الاعتبارات لكون ابن عباس وابن الزبير وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم، ومراسيلهم مقبولة. وأما من حكينا عنه أنه يرد المراسيل كلها إلا مراسيل الصحابة، فإنه يعتمد على أن الصحابة إنما يحدث بعضهم عن بعض، فإذا علمنا أن الصاحب إنما يحدث عن صاحب آخر، وكان جميعهم عدولا بتعديل الله سبحانه إياهم كما قدمنا وتلونا فيما سلف، وتعديل النبي عليه السلام إياهم بقوله: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهدتيم" وجب قبول إرسالهم خاصة، إذ عدالة أهل الأعصار الذين بعدهم لا يقطع بها في آحادهم كما قطع بذلك على الصحابة رضي الله عنهم. واعلم أن هذا الاستدلال إنما يصفو لهم بعد التسليم أنه لم يكن في الصحابة أحد إلا معدل، وأما إذا قيل: إنه قد يندر فيهم من حدث عنه حادث قدح في العدالة، فإن هذا

الاستدلال يضعف لجواز أن يكون الراوي منهم إذا أرسل فإنه إنما أرسل عنه. وقد ذهب الفساق إلى أنه لا يبعد أن يكون فيهم من حدث منه ما أوجب التوقف عن قبول خبره، وقد يعتضد صاحب هذه الطريقة بحد عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي بكرة لما حده بالقذف، وقد (ص 229) اعتذر عن هذه الوقعة الشاذة النادرة فيهم رضي الله عنهم، بل إن أبا بكرة لم يورد ما حد عليه مورد القذف والسباب، لكن أورده مورد الشهادة التي قدرها قربة وعبادة، فكان من حكم الشرع جلده صيانة للأعراض، وحماية للذريعة، لا على أنه تعمد ركوب معصية بالقذف. والقاضي أبو محمد عبد الوهاب يشير إلى إنكار أن يكون في الصحابة مقدوحا في عدالته، وإلى هذا أيضا يشير غيره من البغداديين من أصحاب الشافعي، وقد رأيت الأذري ترددفي هذا، ولكنه مال إلى أنه لا يشترط العصمة لجميعهم. وقد قال من أنكر العمل بالمراسيل ولو من الصحابة: ليس يجوز أن يكون الصاحب أرسل عن التابعي، والتابعي غير مزكي بالشرع؟ وهذا التجويز يوجب التوقف عن قبول مراسيل الصحابة رضي الله عنهم. وأما من أضاف إلى الصحابة والتابعين خاصة، فإنه يرى أن التابعي إنما يحدث عن الصحابة، وقد قدمنا أن الصحابة كلهم عدول، فإرسال التابعي إنما يكون عمن ثبتت عدالته، وهذا أيضا ضعيف لجواز أن يرسل التابعي عن تابعي أخر مثله. وأما من أضاف إلى التابعين تابعي التابعين فلعله رأى أن هذا العصر الثالث هو نهاية ما ورد الثناء عليه، وإنما الفساد إنما ظهر وانتشر بعد هذا العصر. وأما من قدمنا الحكاية عنه أنه يرى أن المرسل آكد من المسند، فإنه يعتل بأن الراوي إذا سمي رجلا فقد وكل النظر فيه إلينا، وإذا لم يسمه فقد تقلده، ولا يتقلد الإمام الثقة إلى عن ثبت وتصحيح. وأما الشافعي فإنه ذكر عنه شروط في قبول المرسل، منها أن يعمل به صاحب، ومنها أن يسنده غيره، ومنها أن تعمل به العامة. وقد رد عليه ما قال، فأما عمل الصاحب فليس بدليل، وأما إسناد غيره فإنه يغني عن إرساله، وأما عمل العامة فإنه لم يرد [فيه] الإجماع، فلا حجة فيه. وقد أغلى بعض من قال بقبول المراسيل حتى قال ما حكيناه عنه أنها أقوى من المسند، لعلة أن من أرسل تقلد التعديل. ويجاب عن هذا بأنا قدمنا أن الإطلاق والإرسال لا يتضمن التعديل في العرف والعادة.

فصل في تحمل الرواية وتلقيها

وقد أغلى أيضا بعض من رد المراسيل حتى قال: إذا أرسل روٍ حديثا، وأسنده غيره رددت المسند، وهذا لا وجه له، ولا يخفى فساده على محصل، وليس تقصير رجل يقتضي رد صواب رجل آخر. وهذا واضح. وفيما ذكرناه في هذا الباب كفاية. وبالجملة فإن القول في المراسيل طريقه الاجتهاد، وتلحق المسألة بالظنيات، وقد أريناك طرقها. فصل في تحمل الرواية وتلقيها ذكر أبو المعالي في هذا الفصل مسائل افتتحها بالكلام على صفة السماع، فاعلم أن حملة الحديث يحملونه عن أشياخهم على رتب متقاربة ومتفاوتة. فمن الرتب التي يعول عليها حملة الحديث قراءة الأستاذ على التلميذ ما يأمره بروايته عنه، وإملاؤه عليه ذلك، فإذا قال مالك لابن القاسم، وقد حضره ليروى عنه: حدثني فلان عن فلان أن النبي عليه السلام قال كذا وكذا، وقرأ عليه ذلك من صحيفة بيده، أو عن ظهر قلبه فحفظه منه تلقيا، أو كتبه عنه إملاء، فلا يشك أحد في صحة هذا التحمل والتحميل. وهو من أعلى مراتب النقل وأقواها. ويجوز هاهنا للتلميذ أن يعبر عن ذلك بأن يقول: سمعت منه، أو أخبرني، أو حدثني، أو قرأ عليّ، إن كان ذلك قراءة من الشيخ، أو أملى علي إن كان ذلك إملاء منه، لأن هذه العبارات كلها صدق بمطابقتها ما جرى. ومن مراتب التلقي أن يقرأ التلميذ على أستاذه كتابا، والأستاذ يسمع منه جميع ما قرأه عليه، على وجه يتحقق التلميذ أنه لم يغفل ولم يسه عن شيء مما قرأه عليه، بل تحقق ما قرأه عليه، ثم قد يختلف الحمل هاهنا فيقول الأستاذ للتلميذ: أرو عني ما قرأت عليّ، أو يقول له: الأمر كما قرأت، أو الذي قرأت صواب وحق، أو يصمت الشيخ فلا يقول حرفا. أما إذا قال عقب فراغ التلميذ من القراءة: أرو ما قرأت عليّ، أو الأمر كما قرأت، أو الذي قرأت حق وصواب، أو أورد عبارة أو إشارة يفهم منها هذا المعنى، فلا شك أن هذا من التلقي الصحيح المقبول المعمول به، ونطقه هاهنا بأن يقول: أرو عني ما قرأت، يحل محل قراءة الأستاذ بنفسه، وكذا إذا قال له التلميذ: أئذن لي في أن نروي عنك ما قرأت عليك، فقال له: نعم، أو أشار إليه برأسه إشارة يفهم منها ضرورة الإذن، فلا يمتري لبيب في صحة هذا النقل والثقة به. وأما إن لم يقع من الأستاذ عبارة ولا إشارة حتى انصرف عنه التلميذ، فهذا مما ذكر

فيه الخلاف، ومعظم العلماء والأئمة المحققين على أن ذلك تلق مقبول معمول به، إذا علم من حال الساكت أنه كالناطق بالإذن بالنقل عنه. وذهب الناس (ص 230) إلى أن ذلك لا يقبل ولا يعمل به، وإليه ذهب قوم من أهل الظاهر، ولا معنى للخلاف في هذا، لأن قرائن الأحوال تفيد العلوم الضرورية، وكم من صامت يكون كالمخبر، فإذا كان الأستاذ عدلا ورعا، وانتصب وتصدر لقراءة الناس عليه وحملهم الدين عنه، وعلم أنه غير مجبور على السكوت على باطل، ولا خائف من إنكار كذب، وأنه سمع ما قرئ عليه، حتى لم يغفل عن شيء منه، وأن الناس ينصرفون من مجسه ويروون ما قرأه عليه ويعملون به ويأمرون الناس بالعمل به، فإنا لو فرضنا أنه سمع ما ما قرئ عليه باطلا، أو كذبا وتحريفا، ولم ينكر ذلك وقد تحق أنه يروي عليه ويعمل به، فإن هذا يؤذن بفسقه وضعف دينه، ونحن فرضنا المسألة في عدل موثوق به، فإذا علم أن العدل لا يرضى بهذا صار عدم إنكاره وتقريره للقراءة عليه على ما قرأه وانصرفوا به عنه كالنطق يأذن لهم في النقل. ولا العبارة من هذا القسم تكون بخلاف العبارة عن القسم الأول، فإذا قال في هذا: قرأت عليه، أو حدثني، أو أخبرني قراءة عليه، فلا شك في صدق هذا الخبر، وصحة هذه العبارة. وأما إن اقتصر على قوله: أخبرني وحدثني، ولم يضف إلى هذا قراءة عليه، فإن الحاق من الأئمة يكرهون له هذه العبارة، ويأمرون باجتنابها لكون ظاهرها يقتضي أن الشيخ تولى نفسه القراءة أو الإملاء، فيتحوف أن يقع المعبر بمثل هذه العبارة في التدليس على السامع، ومن الناس من تسامح في إطلاقها، ولعله رأى أن العرف لما اطرد بها وكثر استعمالها فيما قرأه القارئ على أستاذه، جانب المعبر بها حال المدلس الموهم للسامع ما ليس بحق. ومن الناس من ذهب إلى أنه لا يقول: حدثني وأخبرني مطلقا دون أن يقول: قراءة عليه، إذا لم يقرر الأستاذ السماع عند فراغه نطقا، فأما إذا قرره نطقا عند انقضاء السماع فإنه يجوزأن يقول: أخبرني، ولا يقول: حدثني، لأن الحديث يقتضي المشافهة، وهو لم يشافهه، والإخبار يفيد العلم، وهو قد أعلمه بما قرره. وقد شرطنا في هذا الفصل أن يكون الأستاذ عالما بصحة ما قرئ عليه، غير غافل عن شيء منه، فأما إذا قرأ من حفظه، أو أملى من حفظه، فلا شك في أنه على ثقة مما أورد، وقد اختار بعض الناس للحفاظ أن يكون بأيديهم كتبهم، استظهارا للثقة واحتياطا من غلط أو سهو، وهذا الشرط مبالغة في الاحتياط، لا على أنه لا تصح الرواية إلا به، لأن العدل

متى أملى من غير صحيفة، فإنه مهما شك في شيء، فإنه لا يورده إيراد موقن به، لأن هذا كالكاذب، وهو خلاف صفات العدول، وأما إن كان الأستاذ لا يعول فيما يمليه أو يُرئه على حفظه، وإنما يعول على كتابه، فإن الحال يختلف في هذا أيضا، فإن كان الأستاذ يتحقق أنه قد سمع جميع ما في كتابه جملة وتفصيلا، ويقف على عين كل حديث، ويتحقق سماعه إياه، ويعلم عين ما سمعه منه، فلا شك أيضا في الثقة به وصحة الراوية عنه، ووجوب العمل بما حدث به. وإن كان يعلم سماعه لجميع ما في كتابه وأنه سمعه من ثقة، ولكنه نسي ممن سمعه، فذكر القاضي ابن الطيب هاهنا اختلافا في جواز الرواية لما في هذا الكتاب، وذهب [إلى] أنه لا يروي رواية معمولا بها، لأن هذا إن نسي من سمع منه الكتاب مع عدم تيقنه، وإنما عول على ظن وتخمين، فإن هذا يلحق بالكذب، وذلك مما لا يجوز له، كما لا يجوز لشاهد أن يشهد على ظنه فيما المطلوب به القطع. فإن قيل: بل يجوز رواية هذا الكتاب والعمل به وإسناده على الظن، كما جاز للشاهد أن يشهد بملك سلعة لرجل رآها في يديه مدة طويلة، وهو يتصرف فيها تصرف الملاك. قيل: قد منع بعض الفقهاء التعويل في الشهادة بالملك على هذا، ومن أجازه منهم فإنه يرى أن هذا الشاهد لو حكى القاضي صورة ما رأى لحكم القاضي للمشهود له بحكم الملك، وأقر يده على السلعة بكون الشرع جاء بأن اليد دليل الملك، ولو ساغ لهذا الراوي أن يبني روايته على الظن، لساغ لشاهد أن ينقل الشهادة عن شاهد آخر يظن أنه أمر بنقلها عنه، ولا يتيقن ذلك منه، وهذا مما لا يقوله أحد. وذكر القاضي أن الشافعي أومأ في رسالته إلى قبول مثل هذه الرواية، لأنه قال: لا يحدث المحدث من كتابه حتى يكون حافظا لما يه، وهذا يقتضي أنه إنما أشار إلى من جهل شيخه الذي سمع منه الكتاب، لأنه لو علم شيخه الذي حدثه بالكتاب لم يشترط حفظه إياه، لأن من علم شيخه الذي حدثه، وعلم بأنه حدثه بجميع ما في كتابه فإنه لا يشترط فيه أن يكون حافظا لما في كتابه، وهو الذي تأوله القاضي، وقد تأول غير القاضي هذا الكلام الذي وقع للشافعي على غير هذا التأويل كما سنذكره. فهذا حكم من تحقق (ص 231) سماع جميع ما في الكتاب جملة وتفصيلا، وقد علم هذا السامع غير من حدثه أو نسي من حدثه، وبالجملة فعندهم أنه تحقق سماع جميع ما في الكتاب ممن علم ثقته وعدالته، ولكنه جهل عينه، فإن هذا الحديث يلحق بالمراسيل، وقد ذكر من أمثلتها هذا القسم، ولكنا إنما ذكرناه هناك عن راو حدث عن عدل عنده ثقة، ولم يسمه، ولكنه ما

صرح بأنه جهله، وهاهنا قد صرح الراوي بأنه جهله، فلذلك نبهناك على هذا هاهنا. وأما إن كان الأستاذ سمع جميع ما في الكتاب، ويتحقق أنه سمع الجزء كله، ولكنه لا يحفظ ما في الكتاب عن ظهر قلبه، ولا يذكر سماعه لعين كل لفظة فيه، فإن هذا لا يصح له أن يرويه، ويجب العمل به. وأما إن كان لا يذكر السماع ولا مجلسه ولازمه، وإنما عول في أنه سمعه على خطه الذي كتبه في أول كتابه، كما جرت عادة المحدثين أن يكتبوا في أوائل كتبهم: حدثني بهذا الكتاب فلان، فإن هذا ذكر الأصوليون اختلافا في قبوله والعمل به. وذكر القاضي أبو محمد عبد الوهاب عن أبي حنيفة أنه لا يرى العمل به، وذكر أن ذلك هو مقتضي أصل مالك، واشار إلى تخريج المسألة على منع الشاهد من الشهادة على أمر لم يذكره، وإنما عول فيه على خطه، فعندنا في المشهور أن هذه الشهادة لا يعمل بها. قال القاضي أبو محد عبد الوهاب: وعلى الرواية الأخرى عن مالك في العمل بها يجب أن يعمل بمثل هذه الرواية التي فرضناها في هذا المحثد من كتابه الذي عول عليه على خطه. وذكر أن بعض الأصوليين نسب إلى الشافعي جواز العمل بمثل هذه الرواية، أخذ مذهبه هذا مما حكيناه عنه في الرسالة أنه قال: لا يحدث المحدث في كتابه إلا أن يكون حافظا له. وبالمنع من العمل بهذه الرواية قال أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وخالفا شيخهما أبا حنيفة في ذلك، وأشار القاضي أبو محمد عبد الوهاب إلى أن الفرق بين تقليد الراوي لغيره فيما يرويه، وبين تعويله على خطه أنه كان ذاكرا لما سمع متيقنا له، من غير تعويل على خطه، فلما طال العهد تناسى ما كان علم، وقد كان أولا مقطوعا به، وما كان إلى القطع عليه طريق، لا يعول فيه على الظن، بخلاف تقليد الراوي لغيره، فإن ذلك لا سبيل فيه إلى القطع، ولا طريق إلى التقليد. وأشار إلى أن القائلين بذلك يرون أن هذه ضرورة، وأن الأحاديث كثيرة، وأن الأشياخ الأئمة المكثرين من الرواية لا يكاد أن يخصلوا جميع ما رووه حفظا وذكرا مع تطاول الزمان، ولو شطرنا ذلك فيهم لا نحل أكثر الأحاديث، فلهذا قبل التعويل على الخط في مثل هذا.

وأما إن كان الأستاذ لم يعول على أنه سمع كتابه لا من جهة ذكره لذلك، ولا من جهة خطه، ولكن لأنه رأى فيه خط رجل آخر يذكر فيه أن هذا الذي بيده الكتاب سمعه هذا الكتاب على شيخه كما جرت عادة اتلامذة بأن يكتب كل واحد منهم في آخر كتابه أو في أوله أسماء من سمع معه، فإن هذا الكتاب لهذا إن [لم] يحقق خطه، ولم يتحقق ثقته وعدالته فإنه لا شك أنه لا يحل له أن يروي هذا الكتاب مسندا إلى من كتب غيره عنه أنه سمعه معه، وإن كان هذا الأستاذ صاحب الكتاب تحقق خط من كتب فيه أنه سمعه معه، وعلم ثقته، فهذا مما اختلف فيه هل يجب قبول هذه الرواية أم لا؟ والمحدثون يقبلونها. والذي أراه في ذلك أنا إن قلنا: لا نعول في الشهادة ولا في الرواية على خط نفسه، ففي خط غيره أحرى [أن] لا يعول على ذلك. وأما إذ قلنا بقبول الشهادة والرواية على الخط، فإنه لا يصح عندي أن يروي هذا الكتاب، وأطلق الرواية على شيخهما جميعا بأنه حدثه، لأن هذا كذ وتدليس، لكن إن ذكر طريق روايته، وأخبر بصفة الحال، فقال: أحدث بهذا الكتاب عن فلان لا شفاها، ولكن تعويلا مني على خط فلان أنه سمعه معه على فلان، وخط فلان أتحققه، وأتحقق ثقته وعدالته، ومعلوم أنه لا يكتب ذلك إلا عن تحقيق ويقين، فإن هذا يقبل على هذه الطريقة، ولا يفتقر هاهنا إلى إذن الكاتب أن ينقل ذلك عنه كما يفتقر إلى إذن الشاهد في أن ينقل عنه شهادته إذا تحققها هاهنا، أن هذا ما وضع خطه إلا عن يقين، وقد ذكرنا مرارا أن المعتمد في قبول الراوية عن النبي عليه السلام على الثقة، فإذا حصلت وجب العمل، وليس في الروايات تعبدات وتقييدات كما في الشهادت، وقد تقدم بيان ذلك. وأما إن لم تكن نسخة الشيخ بيده، لكنها كانت بيد قارئ يقرأها عليه، والقارئ موثوق بعدالته وتصحيح قراءته، فإن القاضي ابن الطيب تردد في العمل بهذا الخبر وصحة إسناده، ومال في الأظهر من تردده إلى أن ذلك لا يبقل، لأنه لم يحصل الشيخ على يقين من صحة ما حمله للتلامذة، وإنما قصارى ما حصل (ص 232) من نظر الغير إلى كتابه يقرأ على الجملة. وعندي أن الأولى في هذا سلوك الطريقة التي أشرت إليك بها الآن، وذلك أن الشيخ يصير معولا فيما يرويه ويحمله لتلامذته على نقل غيره عنه أنه روى كذا وكذا، وقد ينخرط هذا السؤال في سلك مسألة الأستاذ إذا روى عنه تلميذه حديثا، ونسي الأستاذ أنه حدثه به، حتى يصير في الرواية معولا على تلميذه، فكذلك هذا القارئ الذي أخبره بأن في كتابه كذا وكذا. ولو رأى ما في كتابه لقطع بصحته، فإن الأستاذ يصير هاهنا كراو عمن روى

فصل في الإجازة والمناولة

عنه، لكن الأستاذ هاهنا يمكنه اليقين بما يرويه إذا كان لا آفة ببصره تمنعه من الاطلاع على ما في كتابه حتى يكون تحميله الرواية لتلامذته يقع منه عن يقين، والأستاذ إذا نسي لا يمكنه اليقين، فرجوعه إلى الراوي عنه أمر ضروري. هذا قصارى ما يكون فرقا بين المسألتين، لكن لو كان الأستاذ ببصره آفة تمنعه من الاطلاع على ما في كتابه بأن يكون كف بصره، وهو قاطع على أن الكتاب الذي ناوله للقارئ سمع جميع ما فيه، فإن هذا يكون في تعويله على القارئ مغرورا أيضا. هذا تحقيق القول عندي في هذه المسألة التي تردد فيها كلام القاضي ابن الطيب. وكثيرا ما يعول فقهاء الزمان على قراءة من يقرأ كتبهم بين أيديهم، ولكن أكثر فقهاء الزمان كثيرا ما تقرأ عليهم بعض كتب الحديث ليستمع كلامهم على فقهها، ويتعلم منهم كيفية الاستنباط من أحاديثها، وعندي أن مثل هؤلاء لا ينبغي أن يروى عنهم ما قرئ عليهم على هذه الجهة، حتى يقرر عليهم عند فراغ السماع أنهم يأذنون في رواية ما قرئ عليهم، فإن كثيرا منهم يهرب إذا قرئ ذلك عليهم عن أن يتقلد للقارئ ضبطا في الكتاب. وقد كنا قدمنا ذكر الخلاف في الرواية عن المحدث إذا قرئ عليه، ولم يقرر عليه عند الفراغ من السماع، وذكرنا أن المختار جواز الرواية عنه، وأن يقرر عليه، ولكنا نبهنا هناك على أن قرائن الحال من الحدثين الذين إنما انتصبوا لأن يروى عنهم اللفظ، لا لأن يتعلم المعنى [مما] يشعر بأنهم آذنون بما قرئ عليهم أن يرى عنهم، وهذا بخلاف ما وصفنا من حال الفقهاء. فصل في الإجازة والمناولة كثر من أبناء الزمان الإخلاد إلى تطلب الإجازات من المشايخ لا سيما عصبة المتفقهين، لأنهم يرون أن قطع الأزمنة في قراءة دواوين الأحاديث، وتطلبهم المحدثين من الأقطار مقطعة عن درس الفقه. ولا خلاف في جواز تطلب ذلك، والرواية عليه، هكذا حكى القاضي ابن الطيب الاتفاق على جواز ذلك. وقد رأيت ابن خويز منداد في كتابه ذكر أن قول مالك اختلف في ذلك، فأجاز تلك مرة وكرهه أخرى، ولكنه أورد بعد هذا بناء على هذا الاختلاف ما يشير إلى أنه غير متعرض إلى ذكر الاختلاف فيما ذكر القاضي ابن الطيب الاتفاق عليه من جواز الرواية على هذه الصفة، وذلك أنه قال: إن قلنا برواية الإجازة قال الراوي: أخبرني، وحدثني. وإن قلنا برواية الكراهة لم يقل إلا أجازتي، أو أخبرني أو حدثني إجازة. فأشار إلى صرف الاختلاف إلى تحقيق العبارة في الرواية. لكن القاضي أبو محمد عبد الوهاب أشار إلى صرف الاختلاف إلى جواز الرواية

بالإجازة، فقال: الظاهر من مذهب مالك أنه يكره الرواية بها، وحكى عن قوم المنع، واحتج لهم بأنهم إذا كان لا يجوز للراوي أن يروي عن شيخه قبل أن يجيز له، فكذلك إذا جاز له، لأن إجازته له لا تتيح له أن يفعل ما لم يكن جائزا، وظاهر هذا حكاية الاختلاف في جواز الرواية بالإجازة. وقد اختلف العلماء في صفة العبارة هاهنا، فمنهم من أباح لمن عول في الرواية على الإجازة أن يقول: حدثني، وأخبرني مطلقا، ومنهم من جوز ذلك حتى يقيده بأن يقول: حدثني أو أخبرني إجازة. ورأى أبو المعالي أن الأليق بالراوي أن يذكر جهة تلقيه، فيقيد بأن يقول: حدثني إجازة، فإن هذا أرفع للبس، وإن قال ذلك مطلقا من غير تقييد فليس ذلك كذبا محضا، ولكن ليس قوله: حدثني في الإجازة عبارة مرضية لإيهام التحفظ والتصون، وهذا الذي قاله صحيح، ومايكاد من يتورع أن يقع فيه، وكثيرا ما يبعث على هذا الإطلاق ومجانبة التقييد بالإجازة طلب الرئاسة، وارتفاع القدر في أنفس التلامذه ليلحظوه بعين من اشتدت عنايته بالحديث، وتكون ثقتهم به أتم. والتدليس في الرواية قد تكلم العلماء عليه ونهوا عنه، والدواعي تكثر، وربما كان منها ما نحن فيه إذا قصد [بـ]ـمطلق القول هاهنا الإيهام والتدليس. ومن وجوه التدليس أن يوهم الأستاذ للتلامذة أنه سمع من رجل وهو لم يلقه، وإنما أخذ عمن أخذ عنه، لتشتد رغبتهم فيه وفي السماع منه، لعلو السند، ولو باح لهم بما كتم لزهدوا فيه، وربما كان من روى عنه حاضرا، وهو أقرب إليهم (ص 233) منه، وقد اختلف في جواز العمل بالمراسيل كما قدمناه، وقد يكون السامع من هذا لا يرى العمل بالمراسيل، ولكنه يعمل بحديث هذا لتوهمه أنه لا إرسال فيه، وهذا تغرير في الديانات. ومن وجوه التدليس أيضا أن يروي عن رجل مشهور بصناعته أو بلده، أو بغير ذلك من ألقاب المحدثين، فيحذف ما يعرف به ويعدل إلى اسم خفي من أسمائه، حتى يوهم التلامذة أنه غير ما يعرفونه بذلك اللقب الذي كتم، ولو باح لهم بما كتم، لكان لهم ي قبوله والأخذ عنه رأي آخر، وهذا أيضا من التغرير بأهل الديانات. وقد اختلف الناس في قبول حديث المدلس، فمنهم من قال: إنه وإن كان يكره له ما فعل، فإن حديثه لا يرد، فإنه لم يقع في الكذب الصراح فيجرح به، ومنهم من قال: هذا كالكذب الذي يقدح في العدالة، فلا يقبل حديثه، ولا شك عندي أن هذا يقدح في ورعه وتحفظه وإفراط الثقة به، وأما قبول حديثه أو رده فموقوف عندي على الاطلاع على تأويله،

وغرضه الباعث له على التدليس، وعلى النظر في مقدار تغريره بالسامعين منه، وهل أمن من أن يقعوا بما حدثهم في فعل ما لا يحل لهم لو أبدى لهم ما كتم. وذكر أبو المعالي أن للمحدثين اصطلاحات اقتضت أن يقولوا في بعض رواياتهم: أخبرني، وفي البعض: حدثني، وليست جارية على حقائق، ولكنهم لا يمنعون من اصطلاحاتهم، فإن لكل طائفة عبارات اصطلحوا عليها يديرونها بينهم. وهذا الذي قاله صحيح. وقد اشتهر من اصطلاحات المحدثين استعمال العنعنة في الحديث، بأن يقولوا: عن فلان عن فلان عن فلان، وهم إنما دعاهم لذلك طلب الاختصار لأن قول سحنون: حدثني ابن القاسم عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي عليه السلام، أخصر من قوله: حدثني ابن القاسم، قال حدثني مالك، وقال مالك: حدثني نافع. وقد قال بعض حذاق الأصوليين: إن هذا محمول على أن كل راو سمع الحديث ممن قال فيه عن فلان، إذا كان عاصره وحاضره، ومن الناس من لم ير هذا تصريحا بالسند وتوقف فيه مخافة أن يكون مرسلا. وإذا وضح تحقيق العبارة عن أحاديث الإجازة، فإن العمل بأحاديث الإجازة فيه اختلاف بين الأصوليين؛ منهم من لا يرى العمل به، وألحقه بالمراسيل في حكم منع العمل بها، ومنهم من أوجب العمل بها ورأى تحقق المسند فيه، وهو اختيار القاضي ابن الطيب، وذلك أنا لا نشترط أن يقرر المحدث عند فراغ نوبة السماع على أنه يروي عنه ذلك كما تقدم، فنطقه بالحديث ليس بمشترط، وإنما المعتمد على استفادة العلم منه، بإنه يروي كذا وكذا، وأذن في أن يروى عنه، وهذا المعنى متحقق فيه، إذا أجاز كتابا أن يروى عنه معينا، أو أحال على مسموعاته إذا صحت عند المحال له. وذكر أبو المعالي الاختلاف المذكور فيه إذا عين كتابا لتلميذه، فأجاز له أن يرويه عنه، أو أباح له أن يروي عنه ما صح من مسوعاته، واختار أبو المعالي العمل بالإجازة لأن المعتمد على حصول الثقة بالمخبر، وقد تقدم هذا مرارا، والثقة هاهنا حاصلة، ولكنه رأها تتفاوت مراتبها، فأعلاها أن يشير إلى كتاب بعينه، فيقول له: ارو هذا عني وبعض الناس يؤكد هذا بأن يناول الكتاب إلى التلميذ تأكيدا للرواية. قال أبو المعالي: وما أرى في مناولته مزيد تأكيد، وأشار إلى ضعف الإجازة التي أحيل فيها التلميذ على عماية وجهالة بأن يقول له أستاذه: أجزت لك أن تروي عني ما صح عندك من مسموعاتي، واستبعد صحة ذلك عند التلميذ، وإن بطلت الصحة وعول فيها على خطوط رآها، عرف منها أن شيخه سمع الكتاب الذي رأى فيه الخط، فهذا ليس بمقنع في الثقة، ولكن أبا المعالي أشار إلى أنه

متى صح ذلك عند التلميذ صحة موثوقا بها، فإن يروي ذلك. وهذا الذي أورده في هذا الفصل صحيح، ولكن يفتقر إلى مزيد إشارة إلى أصول تقدمت، وذلك أن أبا المعالي ذكر هاهنا تعويل التلميذ على خطوط، وقد قدمنا نحن ما قال العلماء في التعويل على الخطوط في الرواية والشهادة، وإن عول على خبر تلميذ آخر روى عن شيخه، فذلك يلحق من جهة بالإرسال، ومن جهة بالإسناد؛ فأما لحوقه بالإسرال فمن حيث إنه إنما عرف أن شيخه يروي كذا وكذا من قبل صاحبه لا من قبل شيخه، وأما لحوقه بالمرسل فمن جهة أن شيخه أذن له أن يروي مثل هذا عنه، فهو غير كاذب في أن الشيخ أرواه إياه، إذا قيد بالإجازة كما تقدم، والعمل به لازم إذا كان صاحبه الذي أخبره عن شيخه عدلا، وقصارى ما فيه أن يكون كالتلميذ لصاحبه، ولو حدثه صاحبه عن شيخه بما سمعه منه لوجب العمل فكيف به، وقد ينضم له إلى حديث صاحبه إذن شيخه في أن يعمل ويروي ما صح عنده (ص 234) من مسموعاته. هذا عندي كشف الغطاء عن حقيقة هذه المسألة، وعند انكشافه يتحقق وجوب العمل، ولا يتصور الخلاف فيه، إلا أن يدار الخلاف على جههة أخرى أشرنا إليها. وأما الشيخ إذا ناول تلميذه كتابا كتبه بيده أو صححه بيده، فقال له: أرو هذا عني، فلا شك في وجوب العمل بهذا، ولا معنى للاختلاف فيه، وقد قدمنا أنا لا نشترط تقرير الأستاذ إذا فرغت نوبة الإسماع، وهذا وإن لم يسمع لفظ الأستاذ بالكتاب الذي ناول تلميذه، فإن مناولته إياه، وقوله له: ارو عني ما فيه كسماعه، وقد ذكر ابن وهب أن يحيى بن سعيد سأل مالكا عن شيء من أحاديثه فكتب له مالك رضي الله عنه بيده أحاديث وأعطاها له، فقيل لابن وهب: أقرأها يحيى بن سعيد على مالك؟ فقال ابن وهب: هو أفقه من ذلك. يشير بهذا إلى أن كتابة مالك لها بيده ومناولته إياها مغن عن قراءته إياها على مالك رضي الله عنه. وقد حاول ابن خويز منداد الانتصار لتصحيح الإجازة والمناولة، وإلحاقها بالمسوغات شفاها بقوله تعالى: (ألست بربكم قالوا بلى)، وبقوله: (فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا قالوا نعم)، وبما وقع من الأحاديث التيجرى فيها القول بـ "نعم" مجرى الحديث، فمن قال: نعم كقوله للنبي عليه السلام: "الله أرسلك إلينا؟ قال: نعم"، الحديث بطوله، وجوابه عن كل فصل فيه بـ "نعم" جرى مجرى نطق النبي عليه السلام بالفظ الذي سأله به

فصل في تحقيق عبارة

السائل. وهذا الذي احتج [به] إنما يكون حجة في تقرير الحديث عند فراغ السماع، وأما كونه دليلا على أحاديث الإجازة، فإنه لا يتحقق، ولا يستقل بمجرد ما قال، دون أن يبسط البسط الذي قدمناه. وذكر أبو المعالي في هذا الباب مسألة هي كالخارجة عما نحن فيه من الكلام على تحمل الراوية، لكنه ألحقها بالباب لانخراطها في سلكه. والحاجة إليها ماسة، فإن كثيرا من الفقهاء والمفتين والمصنفين في مسائل الخلاف وطرق الحجاج، تقل روايتهم للحديث لاشتغالهم عنه بما هم فيه من درس كتب الفقه، وتحفظ مقالات الفقهاء، ولكنهم يحتجون بأحاديث ويعلمون بها، وإنما معتمدهم فيها الإحالة على الدواوين الصحيحة، فإذا احتاج فقيه إلى الوقوف [على حديث] قرأه في الموطأ أو البخاري أو مسلم، ولا رواية له في شيء من هذه الكتب، فإنه إذا بحث عن الحديث ووقف عليه في شيء من هذه الدواوين في أمهات صحاح ضطبها الثقات لما قرأها على الأئمة حتى تحقق عنده أن هذا مما أدخله البخاري في كتابه على صفة ما رآه، فإنه يعمل به لحصول الثقة له بأنه مسند عن النبي عليه السلام من طريق صحيح، وإذا أخبر بهذا الحديث غيره لزمه أيضا أن يعمل به، ولكنه مع هذا لا يروي ما رأى، إذ لا رواية له فيه، فإن رواه كذب، وأما العمل به وإن كان لا يرويه، فلأن ثقته به كثقته بحديث حدث به عدل عن عدل عن النبي عليه السلام. واعتمد أبو المعالي في وجوب العمل بمثل هذا على أن كتب النبي صلى الله عليه وسلم كانت ترد إلى جهات فيعمل بها من أرسلت إليه، ويعمل بها من رآها عنده، وإن لم ترسل إليه، لأجل حصول الثقة له بأنه أمر النبي عليه السلام ونهيه. وهذا الذي ذكره أبو المعالي يفتقر عندي إلى الإحالة على مطالعة ما تقدم من جواز التعويل على خطوط وقف عليها على حسب ما كنا قدمنا بسطه قبل هذا لما تكلمنا على بحث الطالب عن مسموعات شيخه، ولكنه ربما وقع في مثل الموطأ والبخاري بحيث يكاد يفضي بالباحث إلى القطع على أن الحديث من أحاديث الموطأ، وكذلك أحاديث البخاري وإن لم يبالغ في بحث ينتهي به إلى هذا الاعتقاد، فهاهنا يفتقر إلى الرجوع إلى النظر فيما أشرنا إليه. فصل في تحقيق عبارة اعلم أنه قد يقع من الصاحب إسناد حكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ نص لا احتمال فيه، كقوله: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا". وقد يقع منه هذا بعبارة فيها إشكال كقوله: "من السنة كذا وكذا".

وقد اختلف الناس في هذا اللفظ؛ هل يحمل على أن المراد به سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويتنزل ذلك منزلة قوله صلى الله عليه وسلم، أو يتردد هذا اللفظ بين أن يكون قائله أراد به سنة النبي عليه السلام أو سنة غيره من أئمة الصحابة رضي الله عنهم؟ واختلف قول الشافعي فيه، فقال في القديم "الظاهر من هذا الاحتمال أن المراد به سنة النبي عليه السلام، وقال في الجديد: هو محتمل، ولم يره مسندا. وذكر القاضي أبو محمد عبد الوهاب أن أصحابنا وأصحاب الشافعي مختلفون فيه، وينبغي لك أن تحقق أن منشأ الاختلاف راجع إلى تنازع في معهود المعتاد من الرواية، فمن جعلهذا اللفظ كالمسند إلى النبي عليه السلام، فلا تعويل له إلا على أنه هو المفهوم في (ص 235) عرف التخاطب، وما مراد الصاحب به إلا أن يجعل ما ذكر حجة وشرعا، ولا يحصل له هذا الغرض إلا أن يضيف ذلك إلى النبي عليه السلام، ويؤكد عنده ما ادعاه من هذا العرف قول الناس، الكتاب والسنة، ولا يريدون بالكتاب إلا القرآن، مع كون ما سواه من الكتب يسمى كتابا، فكذلك لا يريدون بقولهم: السنة إلا قول النبي عليه السلام أو فعله، فوجب حمل هذا الإطلاق على العرف، وإن كان محتملا من ناحية اللغة، لأن السنة في اللغة هي الطريقة، وسنة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما طريقتهما، وقد قال عليه السلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي". وأبي المحققون من هذا وأنكروا أن يكون العرف اطرد بها اطرادا يقتضي ألا يفهم عن قائله إلا الإشارة بما قال النبي عليه السلام، وكل مفت تنسب فتواه إلى شريعة النبي عليه السلام، سواء كانت فتواه عن نقل أو عن استنباط، وقد يقول الفقيه في فتواه: هذا هو الحق، وهذا هو الشرع، وكذلك أيضا قد يقول: هو السنة، ومراده أنه مستنبط من سنة النبي وطريقته. ونصر أبو المعالي كون اللفظ مترددا، ومنع من إلحاقه بالمسندات، ولم يبسط القول فيه، ولكن فلتعلم أنت أن الصاحب إذا قال: أمر النبي عليه السلام بكذا وكذا، فإن الجمهور من العلماء على أن ذلك مقبول معمول به. وذهب داود وابنه إلى أن ذلك لا يعمل به حتى ينقل الصاحب لفظ النبي عليه السلام الذي ذكر الراوي أنه أمر، لجواز أن يعتقد كون النبي عليه السلام أمر من لفظ سمعه منه، لو عرضه علينا لخالفناه في اعتقاده فيه، ورأيناه محتملا، وأيضا فقد يكون نقل الأمر عن غيره، فيصير الحديث مرسلا، وهذا الاعتلال الثاني إنما يصح على طريقة من قال: مراسيل الصحابة رضي الله عنهم لا تقبل، ويراهم كغيرهم في الإرسال، ويرى هذا

اللفظ مترددا بين الإسناد والإرسال، وقد رد الأئمة هذا المذهب بأن الظاهر من الصاحب أنه لا يجزم القول بأن النبي عليه السلام [أمر] إلا وقد سمع منه ما علم منه الأمر علما ضروريا بقرينة حال أو غيرها. وأما لو سمع لفظا فيه احتمال لاقتضى ورعه وعدالته، ألا ينقل إلينا محتملا يصمم القول فيه بناء على اعتقاده فيه، مع علمه بإمكان الخلاف فيه، وتأويل غيره له بخلاف تأويله، كيف وقد تقدم ذكرنا أن الشاهد بالنكاح والبيع يقضي بإطلاق شهادته، ولا يجب الوقف عن شهادته لعدم تفسيره لنا، وإيراده [هـ] علينا شروط الصحة في النكاح والبيع، ووقف كلام العدول عن إمضائه على ظاهره لا يجب لتجويز أن يكون معرضا للبطلان. وقد ذكر ابن خويز منداد هذا الخلاف الذي ذكرناه عن أ÷ل الظاهر، عن بعض أصحاب الشافعي، وبعض أصحاب أبي حنيفة، وما رأيت من أضاف هذا لهؤلاء سواه، ولكنه مع هذا أشار إلى سبق الإجماع على خلاف هذا المذهب. ويتعلق بما فيه النظر في حمله على العموم، وأظن أنا أشرنا إليه في كتاب العموم، ولكن نشير إليه الآن، فاعلم أن بين العلماء اختلافا في حمل مثل هذا على العموم، أو التوقف فيه، لجواز أن يكون الراوي إنما أراد أن النبي عليه السلام أمر رجلا واحدا أمرا لا يتعداه، أو فرقة واحدة أمرا لا يتعداهم، وكذلك اختلف الناس أيضا في قوله: "قضى النبي عليه السلام بكذا"، هل يحمل على العموم أو يتوقف فيه، كقول الراوي: "قضى بالشفعة للجار"، وبالكفارة في الإفطار، فمن لم يحمله على العموم لجواز أن يكون الراوي أراد أنه قضي في شخص واحد، قصر قضيته عليه. ومنهم من رأى أنه لو غير الراوي هذه العبارة فقال: قضى بأن الشفعة للجار، لكان ذلك يقتضي العموم. وأبى بعضهم من اقتضاء هذا العموم، ولو وقع بهذا اللفظ، ورأى أن دخول "أن" كخروجها. ومنهم من قال: إنما يقتضي هذا العموم لو قال: كان يقضي بالشفعة للجار، لأجل إفادة "كان" التكرار قد يكون في شخص بعينه أو آحاد محصورين، فصار في واحد بعد واحد. وقد كنا نبهناك على الاختلاف في قول الصاحب: "أمر النبي عليه السلام" هل يحمل على العموم أم لا؟، فاعلم أيضا أن الاحتمال يدخله من جهة أخرى، وهل تردد قوله: "أمر" بين الوجوب أو الندب على رأي أن المندوب إليه مأمور به؟ وقد قيل: إنا تتبعنا آثار الصحابة فوجدناهم عاملين بمثل هذا اللفظ، وقد قال علي لابن عباس رضي الله عنهما محتجا عليه

فصل في إنكار الشيخ ما روي عنه

" أن النبي عليه السلام نهى عن نكاح المتعة"، وأورد هذا القائل أمثال هذا الحديث كقوله: "نهى عن المخابرة"، وأمر بكذا، ونهى عن كذا، مما يكثر تعداده، ولم يطالب بعضهم بعضا بإيراد نفس اللفظ. فهذا منتهى القول في قول الصاحب: "أمر النبي عليه السلام بكذا". وأما لو قال: "أُمرنا بكذا"، و (نُهينا عن كذا)، فقد اختلف (ص 236) الناس فيه على حسب ما قدمناه من اختلافهم في قول لصاحب: "السنة كذا وكذا"، فمن الناس من حمل هذا على أن المراد به أن النبي عليه السلام هو الآمر، ومنهم من حمله على أنه محتمل أن يكون غير النبي صلى الله عليه وسلم وهو الآخر الذي أشار إليه الراوي، وسبب الخلاف (هو ما قدمناه من) اختلافهم في قول الصاحب: "السنة كذا وكذا". فصل في إنكار الشيخ ما روي عنه اعلم أن الناس مختلفون في راوٍ تحدث بحديث عن شيخ، وذلك الشيخ ينكر الحديث، فمن الناس من رأى قبول ذلك الحديث والعمل به، ومنهم من أبى من قبوله والعمل به، وحكي عن الشافعي أنه يرى العمل بذلك. وذكر ابن خويز منداد من أصحابنا أن المختار عنده العمل به، واستقرأ هذا عن مالك رضي الله عنه من قوله: إن القاضي إذا شهد عليه شاهدان بأنه قد حكم عليه بحكم، والقاضي ينكر ذلك الحكم، أن شهادة الشاهدين يقضي بها، ويجب إمضاء الحكم بشهادتهم، وإن كان الحاكم بالحكم ينكره، ولكنه ذكر أن قول مالك رضي الله عنه في شهود نقلوا شهادة عن شاهد، والشاهد المنقول عنه الشهادة ينكرها، فإن الشهادة لا يقضي بها. قال ابن خويز منداد: وهذا يدل على خلاف الأول، فاشار إلى تردد في الاستقراء عن مالك، ولكنه بعد هذا في أثناء الباب أنكر قياس الإخبار على الشهادة في هذا، والذي أورده من الإنكار، والفرق بين الشهادة والإخبار يقتضي أن لا يتردد تضييفه إلى مالك من مسألة الشهود إذا نقلوا عن شهود. وأما القاضي ابن الطيب فإنه فصل القول في هذا، ورأى أن الشيخ إذا قطع بأنه لم يحدث بالحديث واستكذب من رواه عنه، فإن هذا الحديث لا يعمل به، لأن قطع الشيخ على تكذيب التلميذ يخرم الثقة بالخبر، وليس تصديق التلميذ على الشيخ بأولى من تصديق الشيخ على التلميذ، وإذا تعارض الأمران سقط الخبر، لأن التلميذ هاهنا كالفرع والشيخ

كالأصل، وانهدام الأصل يهدم الفرع، وأضاف القاضي هذا المذهب إلى الشافعي في هذا الوجه، وحمل إطلاق قوله بالقبول على أن الشيخ متشكك فيما قاله التلميذ. ورأى أبو المعالي أن قطع الشيخ بكذ التلميذ لا يوجب الرد على الإطلاق، لكنه يتنزل منزلة خبرين تعارضا على التناقض، فيستعمل الترجيح بينهما بزيادة العدالة، أو بغير ذلك من وجوه الترجيح، أو يفقد الترجيح بينهما، فيؤدي ذلك إلى سقوط الخبر. وبعض المصنفين يشير إلى إخراج هذا عن أحكام التعراض في الأخبار، لأن الخبرين المتعارضين إذا رواهما رجلان فليس أحدهما فرعا للآخر، ولابد له منه، فيسقط الفرع بسقوط الأصل، وهاهنا التلميذ فرع لشيخه، وسقوط الأصل مسقط للفرع. وقد أشار القاضي أبو محمد عبد الوهاب إلى أن هذا كالتجريح من التلميذ لأستاذه، وإذا جرح الراوي من روى عنه سقطت الرواية، ولكن ألزم على هذا أن لا يعمل التلميذ بشيء من رواية هذا الشيخ في هذا الحديث ولا في غيره. وغيره من المحققين يأبى كون هذا تجريحا، لجواز أن يكون الشيخ والتلميذ لم يعتقد كل واحد منهما في صاحبه أنه تعمد البهتان والمكابرة، ولكنه غلط فيما تصمم عليه، والغلط لا يجرح به، ولعل القاضي عبد الوهاب إنما أشار إلى التجريح إذا اعتقد التلميذ أن شيخه تعمد الكذب والمكابرة. وقد عول الرادون لخبر أنكره الشيخ على تلميذه على القياس على الشهادة، وأنكر الشافعي هذا القياس، ورأى أن الشهادة تعبدنا فيها بعبادات لم نتعبد في الأخبار بمثلها، ولهذا يقبل خبر المرأة والعبد، ولا تقبل شهادتهما على الإطلاق، واحتج بأن الراوي لو روى في أثناء خصومته حديثا يؤدي إلى القضاء على خصمه [أو] إلى جر منفعة إلى ولده، أو والده، لم يرد خبره لأجل هذه التهمة، بخلاف الشهادة التي ترد للتهمة. وأيضا فإن نقل الشهادة لا يصح مع حضور المنقول عنهم، وإمكان تلقي الشهادة منهم شفاها، لأن تواريهم عن القاضي ريبة، بخلاف الخبر فإنه يصح النقل فيه، ويسمع خبر التلميذ ويعمل به مع إمكان مطالعة شيخه وتلقي الحديث عنه. وأشار الشافعي إلى القطع بأن الصحابة كانوا يروي بعضهم لبعض عن النبي عليه السلام، فيقبلون ذلك ولا يلتزمون على الطرد مراجعة النبي عليه السلام مع الإمكان، وهذا كله يشعر بمخالفة أحكام الأخبار أحكام الشهادات، فلا يقاس أحدهما على الآخر. وهذا الذي ذكره الشافعي من رواية راوٍ حديثا في أثناء خصومة يجر به لنفسه منفعة يسلم له إن حكى ذلك عن قديم الزمان وصدر الإسلام، حيث كانت العدالة بارزة، وأكثر الأحاديث والأحكام خية غير ظاهرة، وأما الآن مع خفاء العدالة (ص 237) وظهور الأحاديث وضبطها بالدواوين، والكتب، والروايات فلنا فيه نظر، وصرفه إلى الاجتهاد الذي

يقتضيه شاهد الحال لا يبعد الذهاب إليه. وأما ما ذكره من إمكان مطالعة الشيخ مع الإضراب عنها، فقد ذكر ابن خويز منداد مسألة أفردها فقال: إن الناس اختلفوا في رجل روي له عن النبي عليه السلام حديث، ثم قدم عليه صلى الله عليه وسلم، هل يلزمه العمل بهذا الحديث أو يلزمه سؤال النبي عليه السلام حتى يسمعه شفاها منه. قال: وهذه مسألة تكلفها الأصوليون، وتركها أفضل من ذكرها، لأن الآن في غنى عنها. واحتج القائلون بمطالعة النبي عليه السلام أن مطالعته إذا أمكنت انتقال من الظن إلى اليقين، ومن تطلب الحكم بالاجتهاد ثم عثر على النص وجب عليه أن يرجع إليه، فينتقل من ظن إلى يقين، وهكذا القبلة يجتهد فيها عند الالتباس، فإذا أمكنت المعاينة وجب الرجوع إليها. وقال آخرون: لا تجب مطالعة النبي عليه السلام، وقد رد عليه من نقل خبره إليه ولم ينقل عنه أنه طالعه، وتطلب السماع منه، وهكذا كان شأن الصحابة. فقيل لهؤلاء: قد قال بعضهم لما ورد عليه: إن رسولك أمرنا بصلاة ... الحديث، ولم ينكر عليه أن يستثبت الخبر منه ويطالعه عليه، وهذا لا يعترض به على هؤلاء، لأنهم لا يمنعون جواز الاستظهار باسماع من النبي عليه السلام، ولكنهم ينازعون في وجوب هذا. وقد أبعد ابن خويز منداد النجعة وأغرب في العرض فقال: إن حديث ذي اليدين يشهد بصحة العمل بالحديث الذي ينظره الشيخ الذي روى عنه، ألا ترى "أن النبي عليه السلام لما أخبره ذو اليدين بأنه لم يكمل الصلاة خالفه عليه السلام فيما قال: وقال له: ما قصرت ولا نسيت"، حتى سأل أبا بكر وعمر فأعلماه فرجع إلى قولهما لما أخبراه بأنه فعل شيئا، وهو ناس للفعل الذي أخبراه به. فكذلك الشيخ يجب أن يرجع إلى تلميذه، ويحدث به عنه كما كان سهيل يقول: حدثني ربيعه عني أن النبي عليه السلام "قضى بالشاهد واليمين"، وهذا الذي قاله قد تقدمت إشارتنا إلى القدح فيه حيث قلنا: لا تقاس الأخبار على الشهادات، لكون الشهدات انفردت بمزيد تعبد. فكذلك نقول الآن لابن خويز منداد: الصلوات فيها من العبادات ما اختصت بها، ولم يوجد في غيرها، فلا تقاس الأخبار عليها. هذا ومن الممكن أن يكون النبي عليه السلام ذكر أنه لم يكمل الصلاة لما أخبره أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، ويمكن أيضا أن يكون أحدث له خبرهما شكا، فرجع إلى الأصل في

الفرع، وهو أن الشك في عدد الركعات يلغي شكه ويبني على يقينه، وقد بسطنا الكلام على هذا الحديث في "المعلم"، وفي شرح كتاب التلقين، بما يؤكد عندك صحة هذا الذي قلناه، ومما يعول علهي الراوون للخبر الذي ينكره الأستاذ أن إنكاره له يخرم الثقة، ومبني الأخبار على حصول الثقة. وذكر أبو العباس أن هذا لا يخرم الثقة خرما كليا، ولكن الشيخ لو صدق التلميذ لكان آكد في الثقة، ولسن متعبدين بمطالعة بلوغ أقصى النهايات في الثقة، ولهذا يعمل برواية مالك للحديث، كما يعمل برواية عدل آخر لم يشتهر بالعدالة والأمانة اشتهار مالك، وإنما تؤثر قوة الثقة في الترجيح لخبر على خبر، وأما أن يقتضي التقاصر عن البلوغ إلى نهاية الثقة رد الخبر، فلا يجب ذلك، وقد قيل: إنه قد حصل الاتفاق على أن الشيخ إذا شك في لظفه أو إعراب لفظة، وحقق التلميذ أنه رواها عنه، فإن ذلك لا يوجب التوقف عما قاله التلميذ، فكذلك إذا نسي الشيخ جملة الحديث. وقد يشير الآخرون إلى أن الفرق بين نسيان الكل، والبعض، أن نسيان البعض يمكن وجرت العادة به، ونسيان كل الحديث بعيد من جهة العادة، فتشكك الشيخ فيه ريبة توجب رده. والتحقيق في هذا الفرق النظر في حال الحديث، وحال الشيخ، وبعد الزمن وقربه، فالأئمة المثكرون من الرواية الذي روى عنهم عدد الرمل لا يطالبون بحفظ جميع ما أملوه وأرووه مطالبة من لم يرو إلا حديثا أو حديثين، والمعروف بالحفظ والبعد عن النسيان بخلاف المعروف بخلاف ذلك، وحديث يقول التلميذ للشيخ: سمعته منك منذ أربعين عاما بخلاف حديث يقول له: سمعته منك بالأمس، وكذلك نسيان إعراب لفظة ولفظة، أقرب من نسيان حديث طويل بأسره. فهذا النحو من النظر يجب أن يسلك في استرابة الحديث وقوته وضعفه، إذا شك الشيخ فيه، وهي الطريقة عندي، وقد [روى] أهل العراق خبر الولي في النكاح الذي رواه ابن شهاب (ص 238) وهو قوله عليه السلام: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل"، لما عرض الحديث على ابن شهاب فأنكره، وابن شهاب من المكثرين للرواية، لكنه من الحفاظ، فقد تتعارض قرائن الأحوال في الشيخ هذا النحو من التعارض، ولكن

فصل في كيفية الرواية وتفصيلها وردها وقبولها

المعتمد على قوة البحث عن طرق الاسترابة للخبر حتى تسكن النفس إلى صدق التلميذ، ووهم الشيخ، أو تيقن عن قبول الخبر والتصديق به، فيعول فيها على ما تشهد به مخايل الأحوال، وفي هذا كفاية. فصل في كيفية الرواية وتفصيلها وردها وقبولها تقرر فيما تقدم حقيقة الأخبار، وأقسامها، وثمراتها من علوم أو ظنون، ومن يقبل من الرواة، ومن لا يقبل، والعبارة عن التحمل والتحميل، فلنتكم هنا عن تغيير الراوي العبارة التي رواها، فاعلم أن الكلام في هذا الفصل من ثلاثة أوجه: - أحدهما: بيان موقع الاتفاق والاختلاف في هذا الباب. - والثاني: نقل المذاهب. - والثالث: سبب اختلاف المذاهب فيه. فأما الوجه الأول فاعلم أن للمسألة موقعا اتفاقيا، وجل المصنفين يشير في هذا إلى موقع واحد، وهو موقع يتفق فيه على منع تبديل العبارة المسموعة وانفرد القاضي أبو محمد عبد الوهاب بإشارة يستلوح منها إثبات موقع آخر اتفاقي وهو موقع يتفق فيه على جواز تبديل العبارة على الجملة، وما سوى هذا الموقع الواحد على رأي الجمهور، أو الموقعين على رأي القاضي أبي محمد عبد الوهاب فهو محل الخلاف وموقعه. فأما الموقع الاتفاقي على منع النقل بالمعنى وتغيير العبارة المروية فإنه يجمعه أربعة أوصاف: أحدها أن يقطع الرواية على أن تبديله العبارة يضمن تبديل المعنى وتغييره إلى ما ليس هو منه، كما لو غير قوله: "نهى عن كذا" بقوله: "أمر"، وقوله: "خطر" بقوله: "أباح"، وكما لو غير قوله عليه السلام: "إن الله يأمركم بكذا" بأن قال: قال عليه السلام: "إن الله أوجب عليكم، وفرض عليكم كذا"، على القول بأن قوله: يأمركم ينطلق على الواجب والمندوب، لأن هذا تغيير رفع من اللفظ ما ثبت فيه من التردد، وعين فيه مراد الله سبحانه، وهو يجوز أن يكون أراد خلاف ما نقل عنه. والثاني أن يشك في اللفظ الذي بدله؛ هل معنى اللفظ الذي عبر عنه مثل اللفظ الذي سمع في تأديه المعنى أم لا؟ وهذا لا تحصى أمثلته، ولكن ما تقدم من المثال يحسن أن يضرب فيه، وذلك أن يكون الراوي شاكا؛ هل لا معنى لقوله: "إن الله أمر بكذا" إلا أنه

أوجب كذا وفرضه، أو يحتمل أن يكون عند العرب مترددا بين أن يكون أمر وجوب أو أمر ندب؟ والثالث أن يصمم على أن معنى اللفظ الذي أورد هو معنى اللفظ الذي سمع، ولكن لا علم له بالحقائق حتى يكون على ثقة من تصميمه، فالجاهل لا يوثق بتصميمه على الأمور، وهجومه عليها من غير معرفة بطرق اليقين، إذا كان ما صمم عليه خارجا عما لا يمترى في كونه معلوما ضرورة. والرابع أن يكون عالما بالحقائق والعموم، ولكن إنما صمم على أن مراد المتكلم بلفظه ما اعتقده من جهة استدلال على ذلك، فإن هذا لا يسوغ له نقل الحديث بالمعنى وتبديل العبارة، التي إنما ضبط معناها بالاستدلال إلى عبارة يفهم منها المعنى الذي استدل عليه، ولا يفهم منها ما سواه، ولا يتردد بينه وبين ما عداه. وهذا كما لو سمع قوله عليه السلام: "ذكاة الجنين ذكاة أمه"، وهو لا يتردد بين أن يكون أراد أنه يذكي مثل ما تذكى أمه، أو أراد أن ذكاة أمه ذكاة له وإن لم يذك، فيكون أداه الاستدلال من جهة أحكام الإعراب وصناعة النحو، وشواهد الأصول إلى أحد المعنيين، فيعبر عن ذلك بعبارة تكون نصا في المعنى الذي تأول واعتقد، ويضيف ذلك إلى النبي عليه السلام فيقول: قال عليه السلام: إن الجنين يذكي مثل ما تذكى أمه، أو يقول: قال عليه السلام: إن الجنين يكفي فيه ذكاة أمه ويستباح بها، وأمثلة هذا لا تحصى كثرة. فهذا موقع الاتفاق على منع النقل، وقد ضبطناه بهذه الأربعة. وأما موقع آخر اتفاقي فهو ما انفرد به القاضي عبد الوهاب فإنه ذكر أنه يشترط في المسألة شرطا أغفله الكل، وأشار إلى أن الخلاف إنما يصور في حديث سمع من النبي عليه السلام نقل ألفاظه حتى يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم في إيراده إياه مرة واحدة من غير تكرير يقصد به أن يحفظ عنه، وإنما إذا أورد حديثا طويلا يعلم أنه لا يحفظ عنه على حال إلا أن ينتصب لتعليمه وتحفيظ ألفاظه، فإن هذا ينقل على المعنى. وهذا الذي قاله رحمه الله وانفرد به، قد يسبق إلى النفس قبوله لما يتخيل فيه من الضرورة إلى الاقتصار على المعنى، ولكن عندي فيه تفصيل هو كش الغطاء فيه، وذلك أن الحديث الطويل إذا كان النبي عليه السلام أورده على (ص 239) أصحابه إيراد غير قاصد إلى الإذن في نقله عنه، لكونه لا يتعلق به حكم، أو لا تمس الحاجة إلى نقله، أو لكونه يتعلق به حكم مقصور على السامعين، فإن هذا لا أراه يسلم من الاختلاف في جواز نقله على المعنى، إذ لا حاة لمغير اللفظ وبملده إلى نقله على المعنى، وهذا كإخبار النبي عليه السلام بحديث

جريح الراهب، إن قيل: [إ] نه لا يتضمن حكما، وإن كان البخاري أشار إلى تعلق حكم به، وكخبر إحدى عشر امرأة على طوله، وما فيه من اللغة، إن قيل أيضا: إنه لا يتعلق به حكم. وقد شرحناه في كتابنا "المعلم"، وذكرنا ما قيل: إنه يتعلق به. فمثل هذا وإن طال فتغيير العبارة فيه وإضافتها إلى النبي عليه السلام لا يبعد أن يذهب الذاهبون إلى منعه، لكن يظهر لما قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب وجه، وهو أن يكون الحديث المطال يتعلق به الأحكام، وقصده صلى الله عليه وسلم بإيراده أن يعمل به، ويبلغها السامعون لمن يأتي بعدهم ويعلمونهم إياها، فإن هذا يكون منه صلى الله عليه وسلم شاهد الحال فيه يتضمن الإذن في نقل ذلك عنه بالمعنى، إذ لا يقدر على أكثر منه، ولو ردده عليه السلام ليحفظ لأمكن في الغالب أن يكون الأظهر تغيير بعض العبارة، فإن أراد رحمه الله بما انفرد بإيراده هذا الوجه، فما قاله صحيح. فهذه مواقع الاتفاق وقد ضبطناها هنالك، وذكرنا هنا كل ما قيل فيها، ووجه التحقيق فيها، فإذا علمت ذلك علمت ما سواه هو موقع الخلاف. وأما الوجه الثاني وهو نقل المذاهب، فاعلم أن معظم الأصوليين على جواز نقل الحديث بالمعنى، كما أن معظم المحدثين على منع ذلك. وأما الفقهاء فإن أبا حنيفة لم يختلف المصنفون في النقل عنه أنه يجيز ذلك، وكذلك الشافعي نقل المصنفون عنه إجازة ذلك أيضا، لكن الذي وقع له في كتاب الرسالة أن حديث النبي عليه السلام إنما ينقل كما سمع بلفظه، إذا كان الناقل غير عالم، واحتج لذلك بقوله عليه السلام: "نضر الله أمرأ سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها" الحديث. والتقييد في منع النقل يكون الناقل غير غير عالم يشير إلى أنه يجيز ذلك إذا كان الناقل عالما، والتعويل فيإضافة هذا المذهب إليه على مثل هذا اللفظ فيه نظر، فإن لم يوجد له ما ينقل منه مذهبه في هذا اللفظ فلا يحسن التصميم على إضافة هذا المذهب إليه، الذي قاله أبو حنيفة. وأما مالك فمن المصنفين من يضيف إليه ما أضاف إلى الإمامين أبي حنيفة والشافعي، ويرى أنه يقول بالجواز، ومنهم من يضيف إليه الامتناع من نقل الحديث على المعنى، والذي وقع له لفظ أشار ابن خويز منداد [به] إلى أن مذهب مالك المنع من نقل الحديث على المعنى تمسكا منه بأن مالكا سئل عن ذلك فقال: لا ينقل حديث النبي عليه السلام إلا كما سمع، وأما نقل أحاديث الناس فإنه لا بأس

بنقلها على المعنى، وابن خويز منداد منع من نقل الحديث على المعنى. والقاضي أبو محمد عبد الوهاب يضيف إلى مالك أنه يكره ذلك في حديث النبي عليه السلام، لأنه قال: أكره ذلك في حديث النبي عليه السلام، ولا أرى به بأسا في حديث الناس، وهذا تمسك به القاضي أبو محمد عبد الوهاب من لفظة الكراهية، وقد يتأولها من خالفه في النقل عن مالك، ويقول: قد وقع لمالك رضي الله عنه فيما لا يجوز لفظة الكراهية، فيقول: أكره كذا وكذا، وهو عنده من قبيل ما لا يجوز، فهذه المذاهب المشهورة في هذا الباب. وأما الوجه الثالث وهو سبب الاختلاف، فاعلم أن المانعين لذلك تعلقوا بالكتاب والسنة والاستدلال. فأما الكتاب فقوله تعالى: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة)، فآيات الله هي القرآن، والحكمة هي السنة، وقد أمر الله سبحانه أن يذكرن نفس ما يتلى، وآيات الله إذا ذكرنها فإن تغيرها لا يحل، فكذلك ما عطف عليها وهي الحكمة المراد بها السنة. ويجيب عن هذا الآخرون بأن عطف جملة على جملة لا يوجب تساويهما في الأحكام، وليس إذا منع نقل آيات الله بالمعنى وجب أن يمنع ذلك فيما عطف عليه، وليس في الآية تصريح بمنع النقل على المعنى، وإنما اشتملت على الأمر بأن يذكرن ما يتلى في بيوتهن، ومن ذكر معناه من غير تغيير فيه، فقد يسمى ذاكر له، وإن بدل بعض عباراته. وأما السنة فقوله عليه السلام: "نضر الله أمرا سمع مقالتي فأداها كما سمعها، رب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه ... " الحديث، على ما رويت (...)، وهذا منه صلى الله عليه وسلم مبالغة في التحضيض على نقل لفظه صلى الله عليه وسلم بصيغته وعبارته. وأجاب الأولون (...) لأنها فيها خبر الواحد، وأيضا فإن الحديث محمول (ص 240) على ما ليس بعالم، ولا واثق بنفسه في ضبط المعاني وحقائق العبارات عنها، ألا تراه يقول آخر الحديث: "فرب حامل فقه ليس بفقه"، إلى غير ذلك من الألفاظ التي أشار فيها صلى الله عليه وسلم إلى أن الناقل إذا غير لا يبعد أن يكون غالطا في تغييره، وإن نقل نفس ما سمع لعرف المنقول إليه غلطه.

وأما الاستدلال فإنهم يقولون: قد أجمع على أن القرآن لا ينقل على المعنى، فكذلك السنة لأنهما جميعا وحي عن الله سبحانه، وأيضا فإن الأذان، والتشهد، وتكبيرة الإحرام جاء الشرع بمنع تغيير العبارة فيها، فكذلك يجب أن تكون أحاديث النبي عليه السلام. ويجيب الآخرون عن هذا بأن هذا قياس من غير علة جامعة، وتلك قد قدمنا الأدلة على التعبد بإيراد ما سمع وشرع فيها، ولم يقم دليل على التعبد بإيراد لفظ النبي عليه السلام. وأما الأخرون المجيزون لنقل الحديث بالمعنى فإنهم يحتجون أيضا بالكتاب والسنة والاستدلال. فأما الكتاب فإن الله سبحانه ذكر معنى واحدا بعبارات مختلفة أنزلها على محمد صلى الله عليه وسلم كقوله عن أم موسى: (هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم)، وفي موضع آخر: (هل أدلكم على من يكفله)، وقال تعالى: (وألق عصاك)، وفي موضع آخر: (وأن ألق عصاك)، إلى أمثال ذلك مما يكثر تعداده في القرآن، فلولا أن المعنى إذا تساوى لا يكون اختلاف العبارة عنه كذبا ولا تحريفا، لم يقع ذلك في القرآن العزيز. بهذا استدل البلخي، وأجابه الدقاق من أصحاب الشافعي بأن الله سبحانه يعلم ضمائر الناطقين ومقاصد المتكلمين علما لا يجوز فيه الغلط، وكذلك يعلم مضمون العبارات وحقائقها، وما يفهمه السامعون منها، فلهذا حسن في القرآن اختلاف العبارة عن المعنى الواحد. والرواة منا بخلاف ذلك في جواز الغلط والجهل عليهم، فلهذا منعوا. وللبلخي أن يقول له: إنما كلامنا في تغيير اللفظ مع أمن الراوي من الغلط، وعلمه الضروري بأنه لم يغيرا لمعنى لما غير اللفظ، كقوله عليه السلام: "إذا صلى قاعدا فصلوا قعودا أجمعون"، بدل قوله: " ... جالسا فصلوا جلوسا" إلى أمثال ذلك مما يعلم قطعا أنه لم يفسد تغيير اللفظ المعنى المراد ولا حرفه. لكن قد يقال للبلخي: من الممكن أن تقول أم موسى هذا المعنى مرتين، وتختلف عبارتها فيه، فأخبر الله سبحانه عنها بالمجلسين جميعا، لكن هذا يفتقر إلى بسط، ويبعد تأويله في بعض المواضع على صفة قد يشير إليها.

فصل [في جواز الاقتصار على نقل جزء من الحديث]

وأما السنة فقال هؤلاء: "إذا أصيب المعنى فلا بأس"، ولكن هذا الحديث لا يثبت ثبوت الحديث المتقدم الذي تعلق به الآخرون، ولا اشتهر اشتهاره. وأما الاستدلال فإنهم يقولون رأينا الصحابة تختلف عبارتها في حديث واحد يحكونه عن النبي عليه السلام، وما ذاك إلا لأنهم إنما كانوا يراعون المعنى وضبطه، فإذا حصل لهم اليقين بتحصيل المعنى عبروا عنه بما يفهمه السامع منهم. ولا يحسن أن يجاب عن هذا بأن يقال: ما أنكرتم أن يكون النبي عليه السلام ذكر الحكم في مجالس مختلفة بعبارات مختلفة، فحدث كل راو بالعبارة التي سمع، لأن هذا التجويز إنما يحسن تصوره لو كان الواقع من هذا حيدث أو حديثان، وأما فقد وقع من ذلك من الرواة ما لا يحصى كثرة، ومن البعيد أن يكون يتصور المحصل أن النبي عليه السلام كرر جميع ذلك على كثرته، وكرر كل واحد منه مرات كثيرة بحسب اختلاف عبارات الرواة. وأيضا فإنهم كانوا يرددون الحديث بعبارات مختلفة، ولا يتحاشى الراوي الواحد منهم من ذلك، ولا يأبى عنه بأن يفعل منه بقدر ما يظهر له من فهم السامعين، وتحصيل الإيضاح والبيان لهم. وأيضا فإن النبي عليه السلام كان يبعث رسله إلى الجهات، ولا يأمرهم لأن ينقلوا نفس ألفاظه، ولا يكلفهم ذلك، وأيضا فإن النبي عليه السلام قد بعث إلى سائر أهل اللغات، ولابد من الترجمة عنه لأهل كل لغة بلغتهم، ونقل المعنى من لغة إلى لغة أخرى أبعد من نقله من اللغة نفسها إلى اللغة نفسها إذا اختلف عبارتها. وهذا قد يجيب عنه الآخرون بأن هذه اضرورة لكون العجم لا تفهم لغة العرب، ولا ضرورة بالراوي في أن يبد لفظة بلفظة أخرى، وهو ذاكر لها. وقد أشرنا أن القاضي عبد الوهاب يرى أن ما طال من الكلام حتى لا يمكن ضبطه يسوغ التبديل فيه للضرورة إلى ذلك، بخلاف ما قل من الكلام الذي وقع فيه اختلاف العلماء، كما قدمناه، وهذا من ذلك فافهمه. فصل [في جواز الاقتصار على نقل جزء من الحديث] لما تكلمنا على نقل الحديث بالمعنى (...) ترتيب الحذاق هذا الفصل به

لاتصاله، وهو جواز الاقتصار (...) ص (241) الناس في هذه المسألة على أربعة أقوال: - أحدها: إجازة ذلك على الإطلاق. - والثاني: منع ذلك على الإطلاق. - والثالث: إجازة ذلك إن كان تقدم من الناقل رواية الحديث تاما، وتقدم ذلك من غيره، ومنعه من الاقتصار على بعض الحديث إن لم يكن تقدم منه روايته على التمام، ولا تقدم ذلك من غيره. - والرابع: الجواز إن لم يكن ما سكت عنه تتمة لما قبله، ومتعلقا [به] كالشرط، والاستثناء، والتقييد، ولا كان قادحا فيما نقل، ويقيده، ولا يوهم غلطا فيه. وقد أشار الحذاق من الأئمة إلى أن المانعين من نقل الحديث على المعنى يمنعون ما نحن فيه على الإطلاق، وكأنهم يرون أن علة المانعين لنقل الحديث على المعنى إمكانهم غلطهم في المعنى إذا غيروا العبارة، وهذا الإمكان يتقدر فيما نحن فيه، لجواز أن يكون ما سكت عنه الناقل متعلقا بما قبله ومؤثرا فيه، وإن كان الناقل لا يعتقد ذلك. وعندي أنه كان تغيير العبارة أشد من الاقتصار على بعض جمل الحديث في النقل، لأنه لا يبعد أن يعرف من غير العبارة بأنه كان، فمتى قال رجل: قال لي زيد: اقعد، وزيد إنما قال له: اجلس، فقد يهجس في النفس أن هذا لا حق بالكذب. وإذا قال: قال لي زيد: اجلس، وسكت عن قول زيد له: وهل رأيت عمرا، لم يكن ذلك مما يتخيل فيه متخيل أنه قد كذب. وقد أشار القاضي أبو محمد عبد الوهاب إلى حمل مذهب المجيزين على الإطلاق على ما لا يغير السكوت عنه حكم الأول، ولا يوهم فيه غلطا، لتصير المذاهب على هذا التأويل ثلاثة، وسقط الرابع. والذي عليه الحذاق من الأئمة منع ذلك متى أدى السكوت عن نقل بعض الجمل إلى تغيير معنى الأول، أو إيهام غلط فيه، وإجازة ذلك متى أمن من هذين على حسب ما تقدم ذكره، لأنا إذا أمنا مما ذكرنا جرى الاقتصار على ذكر إحدى الجمل المسموعة في مجلس، فجرى الاقتصار على ذكر حديث سمع في يوم، والسكوت عن نقل الحديث سمع

في يوم آخر، إذ اتحاد اليوم والمجلس لا تأثير له في هذا، إذا لم يكن في ذكر الثاني زيادة فائدة في الأولى من الجمل، وكأن الصارين إلى المنع يساهمون هؤلاء في المقصد، ولكن اختلفت طرقهم، فاختلفت لذلك آراؤهم. فرأى قوم أن الناقل قد يعتقد فيما سكت عنه أنه لا يغير معنى ما أورد ذكره، ولا يوهم فيه غلطا، ولكنه مع هذا يغلط في اعتقاده، فكان من الحزم حماية الذريعة، وسد الباب، والمنع على الإطلاق. ورأى آخرون أنه متى تقدم منه أو من غيره نقل ما سكت عنه الآن، فإن ذلك يؤمن مما اعتل به هؤلاء، وسماع ما تقدم يرفع الإيهام والالتباس، وهذا تخيل أدى هؤلاء إلى الإطلاق في شرط الإباحة عندهم، ولا يخفى على أن إطلاق هذا لا يحسن، لأنا إذا كنا لم نسمع من الأستاذ تلك الرواية التي أوردها على التمام في قديم الزمان، وقعنا في الغلط، وأوهمنا نقله الباطل، ولم يكن لما سمعه غيرنا منه جدوى ولا فائدة (...)، وإنما يقرب ما قالوه من الصواب لو فرضنا هذا التكرار مرة تاما، ومرة ناقصا في حق أستاذ أسمع مرتين، وأما من التلامذه مخصوصين على وجه يعلم أنهم ذاكرون لما رووه من الرواية التامة ومعتقدون أنه أورد الرواية [تامة]، والمرة الثانية اختصارا لا رجوعا عنها. وأما المجيزون على الإطلاق، وقد ذكرنا التأويل عليهم، وأنهم لا يجيزون مع كون المسكوت عنه موهما غلطا، فإن كان هذا مذهبهم فتوجيه هذا المذهب قد تقدم، وأما إطلاق الجواز، وإن كان اختصار الحديث يفسد، ويوهم الغلط، فلا يتصور له وجه. وقد رأى القاضي عبد الوهاب أن الاقتصار على نقل الحكم، والسكوت عن ذكر علته جار حكمه على ما قدمناه، وأنه من قبيل ما يمنع، لما في السكوت عن ذكر العلة من الإيهام والإلباس (وا ...) الحكم، فكأن الناقل خص العام لفساد نقله، وهذا الذي قاله رحمه الله يتضح صوابه مع القول بأن ارتفاع العلة يوجب ارتفاع الحكم، لأن الراوي إذا سكت عن ذكر العلة اقتضى نقله تأبيد الحكم، وأنه لا يتغير، وإذا [حذفوا] علة وارتفعت، غيرنا نحن الحكم، وهو قد منعنا من التغيير لأجل حذف ما حذف. ونقل أبو المعالي في هذا الباب عن الشافعي مسألتين [وهما] كالمثالين، وأمثلة هذا

الباب لا تحصى كثرة، لكن نذكر ما ذكره الشافعي. ذكر أن الشافعي [ذهب] إلى أن ما وقع من الاختلاف في حديث ابن مسعود من أنه "أتى النبي صلى الله عليه وسلم بحجرين وروثة (ص 242) ليستنجي بها، فرمى النبي عليه السلام الروثة، وقال: إنها رجس"، وزاد بعض الرواة فقال: "إنه رمى بالروثة، ثم قال: ابغ لي ثالثا"، فالسكوت عن هذه الزيادة لا يمنع من استقلال ما رواه الناقل الآخر، وإفادته لما أفاده، ولكنه قد يوهم جواز الاقتصار على حجرين في الاستنجاء، فيمنع الراوي من الاقتصار على قوله: "رمى بالروثة"، وحذف ما بعد ذلك، وتحمل رواية المقتصر على أنه لم يبلغه غير ما رواه. واختار أبو المعالي في هذا تفصيلا فقال: إن قصد الراوي استعمال منع الروث في الاستنجاء، ونقل ما يدل على صحته من رمي النبي عليه السلام للروثة، وحكمه بأنها رجس، فإن هذا سائغ بقصده ذلك، ولكنه [إذا] أورد الحديث غير متعلق بغرض معين، فلا يجوز الاقتصار على ذكر رمي الروثة، لما فيه من الإيهام الذي قدمناه. وهذا الذي قاله أبو المعالي فيه نظر، لأنه وإن قصد بما ساق الاحتجاج على منع الاستنجاء بالروث، فإنه قد يظن السامعون للحديث أن الذي أورده هو غاية الحديث ومنتهاه، فيحتجون به في مقصدهم أيضا في جواز الاقتصار على حجرين، فيكون في هذا النقل إيهام وتدليس، لكن لو أفهمهم من شاهد الحال أنه لم يسق الحديث على نصه وكماله، وإنما أورد ما يتعلق بغرضه، فمثل هذا يصح أن يذهب إلى جوازه. وذكر عن الشافعي أيضا أن الحديث المروي فيه إثبات الجلد مع الرجم في زنا المحصن يرده حديث ماعز، لأنه عليه السلام لم يجلده، فصار ناسخا لما تقدم من الحديث [الذي] فيه جلد مع رمه لأ [ن] قصة ماعز مشهورة، فلو وقع فيه الجلد لذكر. ثم عطف الشافعي عن هذه الطريقة إلى أخرى فعول على أن أبا الزبير روى عن جابر "أنه عليه السلام رجم ماعز ولم يجلده"، ولولا هذه الزيادة لما عارضنا الحديث الأول بقصة ماعز. وذكر القاضي أن ما قاله الشافعي يتأكد بالإجماع على ترك الجلد، ثم قال: وما أرى الحديث

فصل في أحكام الانفراد في الرواية

الأول إلا هفوة، فإن من يقتل بالأحجار لا معنى لجلده. وتعقب أبو المعالي على القاضي ما أورده فقال: في السلف من يجمع بين الجلد والرجم، ولولا ذلك لما اعتني الشافعي بالكلام على الحديث، فالإجماع غير مسلم. وأما قوله: إن الحديث الأول هفوة، لعل الراوي سمع الجلد في البكر فطرده في الثيب، فإن هذا لا يسوغ التعلق بمثله، ولا ترد راية الثقاة بمثل هذه الإمكانات، ولكن إنما يستعمل هذا في التأويلات، تقوية للتأويل، وإظهار لغلبة الظنون. وقد قال بعض الحذاق، إن الراوي متى علم اختصاره للحديث يوجب تهمته عند التلامذة، والنظر إليه بعين الاسترابة وسوء الحفظ، فإنه لا يسوغ له أن يحمل الناس على إساءة الظن به، وأن يحلظوه بالضعف في الثقة و [العدالة]، وهذا ضرب في فن آخر، لا يتعلق بيانا من جهة أخرى، لأن المنع من هذا المعنى يعود إلى الراوي في حال نفسه، لا لمعان تعود إلى بيانات الشرع وأوضاعه. فصل في أحكام الانفراد في الرواية الكلام في هذا الباب من ثلاثة أوجه: - أحدها: تقاسيم الانفراد المراد في هذا الباب. - والثاني: نقل المذاهب فيما يقبل منه أو يرد. - والثالث: بيان سبب اختلاف المذاهب. فأما الوجه الأول فإن الانفراد الذي تكلم عليه الأصوليون في هذا الباب خمسة: - أحدها: أن ينفرد الراوي بنقل حديث أو حديثين، لا يروي في عمره سواهما. - والثاني: أن يكون من المكثرين للرواية وإن انفرد بنقل حديث عن شيخه، دون بقية أصحاب الشيخ وتلامذته. - والثالث: أن ينفرد دون التلامذة بإسناد ما أرسلوه. - والرابع: أن ينفرد برفع ما أوقفوه. - والخامس، وهو مقصود الباب: أن ينفرد بزيادة في حديث رواه هو وغيره من التلامذة وغيره عن شيخهم. وأما الوجه الثاني وهو نقل المذاهب فاعلم أن كون الراوي مقلا حتى لا يروي

سوى حديث واحد أو حديثين لا يقدح في روايته عند سائر العلماء والمحققين، وربما أنكر بعض المحدثين قبول رواية مثل هذا، ويرون قلة حفظه علما على قلة عنايته، وقلة عنايته توجب انخرام الثقة بخبره. وأما انفراده بحديث دون بقية التلامذة، أو بإسناد مرسل، أو بإسناد موقوف، فإن العلماء أيضا المحققين، على أن ذلك غير قادح في الرواية، ولا مانع من العمل بها، والمحدثون أيضا ينكرون ذلك، ويقفون عن قبوله. وأما انفراد أحد التلامذة بزيادة لفظ في حديث رواه جميعهم، فإن للناس في ذلك ستة أقوال: - أحدها: قبول ذلك على الإطلاق، وإليه مال أبو الفرج من أصحابنا. - والثاني: منعه على الإطلاق، قال به جماعة من العلماء، وقال (ص 243) القاضي أبو محمد عبد الوهاب: إن في كلام بعض شيوخنا ما يدل على منع الأخذ به، لأجل أنهم ردوا زيادة أحد الرواة إلى حديث عدي بن حاتم في الصيد "وإن أكل فلا تأكل"، لأن جملة الرواة إنما رووا أن عدي بن حاتم لما استفتى النبي عليه السلام عما يحل أكله من الصيد الذي اصطاده فقال عليه السلام: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل"، وانفرد الشعبي فزاد على هذا: "وإن أكل فلا تأكل"، فلما انفرد الشعبي بهذه الزيادة لم يقبلها بعض شيوخنا. - ومن الناس من قال: إن كان المزيد لفظا لا يتعلق به حكم قبل، وإن كان يتعلق به حكم لم يقبل. - ومنهم من عكس هذا، فقال: إن لم يتعلق به حكم يكون ناسخا لما سواه قبل، وإن لم [يكن] ناسخا لم يقبل. - ومنهم من قال: إن كانت الزيادة من الراوي بعينه الذي كان أرواه الحديث ناقصا لم يقبل، وإن كانت زيادة رواها تلميذ دون التلاميذ قبلت. فهذه جملة المذاهب المذكورة في هذا الباب. وأما الوجه الثالث وهو سبب اختلاف المذاهب في جميع هذا كله فإنه يدور على نكتة واحدة، وهي ما قررناه مرارا من أن المعتبر فيما يقبل أو يرد من الأخبار حصول الثقة أو انخرامها، وإذا كانت الظنون الواقعة عقيب خبر الآحاد، أو العلوم الضرورية عقيب خبر

التواتر إنما مستندها العادات، هي الحاكمة فيها، فكان من قال: إن المقل لا يعمل بروايته تخيل استرابة من ناحية العادة [التي] قدمنا ذكرها، وهي كون ذلك يؤذن بقلة عنايته بالحديث ومعرفته بأهله، ومن كان كذلك لم يوثق بحديثه. والجمهور غلطوا اصحاب هذا التخيل ولم يروا هذا خارما للثقة، والثقة وإن تفاوتت مراتبها فإنها لا يطلب منها في الأخبار غايتها، بل إنما يطلب حصول الثقة على الجملة، وهي حاصلة هاهنا، وقد كانت الصحابة تقبل خبر الأعرابي ومن لا يعرف بحفظ الحديث والإكثار من الرواية. وقد يتفق سماع حديث واحد من عدل، ثم تقطع القواطع عن الازدياد، فلا تقف صحة روايته لهذا الحديث على الازدياد، بخلاف العادة في المفتي، فإن لم يعن بنفسه في مواضبة العلماء والأخذ عنهم، وطول الأزمنة في القراءة عليهم والتلقي منهم لم يحصل في مرتبة الفتوى، ولا يكون لها أهلا، لما أشرنا إليه من جريان العادة بالحاجة في ذلك إلى لقاء العلماء والاستكثار من الأخذ عنهم، والتحسس إلى مراميهم ومسالكهم فيما يتأملون ويفتون به. وكذلك ما ذكرنا من الخلاف في انفراد أحد التلامذة برواية حديث دون بقية أصحابه، فإن من رد ذلك تخيل هذا ريبة، واستبعد أن لا تعلم الجماعة من ذلك ما علمه هذا المنفرد. ورأى الجمهور أن هذا ليس بريبة، ومن الممكن أن يكون الشيخ خص هذا في بعض خلواته بأن أرواه حديثا آثره به على أصحابه، أو كان غافلا عن ذكره فذكره حين أرواه لهذا التلميذ، أو يكون اقتضى حال في تلك الخلوة ما أراده فأورده على هذا المنفرد، ولم يقتض الحال في أيام اجتماع التلامذة إيراده عليهم. ويمكن أيضا أن يكون روى هذا الحديث وهم منصرفون، وهذا المنفرد لم ينصرف، فحصله دونهم أو كانوا على بعد من مجلس الشيخ، وهذا المنفرد على قرب منه، بحيث يسمع ما يخفيه من ألفاظه، فأخفى صوته بحديث فسمعه هذا دونهم. وطرق الإمكانات لا تكاد تحصى، وإذا أمكن هذا كله لم تقع ريبة في انفراده، فوجب قبول خبره، ولو جعل هذا ريبة لذهب معظم الشرع من أيدينا، لأن أكثر مجالس النبي عليه السلام، إنما كانت لجملة من الناس، وانتصابه لبيان الأحكام لم يكن لقوم دون قوم، ونرى أكثر الأحاديث ينفرد بها رجل من الصحابة، فيروي صاحب حديثا، ويروي آخر حديثا، حتى يأتي على سائر الأحاديث، فنجد كل واحد منها إنما رواه الواحد أو الآحاد، ولم يكن انفرادهم بهذا ريبة، وهذا واضح.

وكذا (ا ............ ون) في سبب الخلاف في إسناد ما أرسله الأكثر، أو رفع ما وقفه الأكثر، تخيل الواقفون عن العمل به أن الانفراد بمثل هذا ريبة، وقال الجمهور: يمكن في الانفراد لأحد الأسباب التي أحلناها على العادة، وهذا أيضا واضح. وأما مقصود الباب وهو انفراد الراوي بالزيادة في حديث شاركه في نقله من سواه من الرواة عن شيخه، فإن المانعين لقبول ذلك على الإطلاق قد رأوا هذا ريبة، واستبعدوا أن يضبط رجل واحد ما أغفل الجماعة. وهذا أيضا ليس بريبة عند الآخرين، لأن الأسباب التي أحلناها على العادات ممكنة في هذا بأن يكون الشيخ كرر الحديث بموقع لم يكن حاضرا فيه سوى هذا المنفرد فحصل الزيادة دون من سواه، أو ذهلوا عن ضبطها، أو بعدوا عن سماعها، إلى غير ذلك من وجوه الإمكانات. ويؤكد هذا أن الزيادة والانفراد مما لا يقتضي رد الشهادة، هذا والشهادة قد ورد فيها من التعبدات (ص 244) والتقييدات ما لم يرد في الأخبار، من مراعاة العدد والحرية إلى غير ذلك مما تقدم ذكره في موضعه، فإذا لم يقدح هذا في الشهادة مع كون (...)، فإن القوادح إليها أسرع منها في الأخبار، فكذلك انفراد راو بزيادة دون بقية التلامذة، ولم نورد هذا إيراد مستند على الاستدلال به، فيطالب فيه بشروط القياس، وينظر في قبوله هاهنا، وإنما أردناه إيضاحا لأحكام العادات، وأن هذا لا يعد في جملة الاسترابات في النقل، وأشار إلى أن من قبل القراءة الشاذة مع كون القرآن يلفى شائعا على العا [دة]، فأحرى أن يقبل الزيادة التي انفرد بها أحد رواة الأحاديث، وسنتكلم نحن على القراءة الشاذة. وهذا كله الذي أوردناه إنما يتحقق إذا كان بقية التلامذة غير قاطعين بكذب المنفرد، بأن يجوزوا ما أريناك تجويزه من ناحية العادة من غفلة منهم، أو انفرد هذا الواحد بمجلس دونهم. وأما لو حكى زيادة عن مجلس أضافه غلى حضورهم واستماعهم، وكذبوه على قطع في تلك الزيادة، فإن هذا يصير من أحكام التعارض وسنتكلم عليه. وبالجملة فإن هذا يخرم الثقة على الجملة، والثقة هي المعتبر، وإذا تضح لك ما ذكرناه من النكتة التي يدور عليها الخلاف، علمت أن لا وجه لمذاهب المفصلين الذي حكيناه، وأن لا فرق بين زيادة تفيد حكما أو لا تفيده. على أن التشاغل بالكلام على زيادة لا تفيد، لا معنى له، وإنما يحسن التشاغل بالكلام على زيادة تفيد.

فصل في نقل ما تعم البلوى به

وكذلك ما فرق بين الزيادة ناسخة أو غير ناسخة لا معنى له، لأنه وإن كانت الزيادة تنقض حكم المزيد، وكان ذلك في مجلسين، نظرنا إلى التارخ ونسخنا الأول بالآخر، وأما النسخ فيما يورد بمجلس واحد لم يستقر حكمه، فإنه لا يقع. وكذلك تفرقة من فرق بين أن تكون تلك الزيادة من الراوي نفسه الذي روى الحديث ناقصا، أو من غيره، وكان هذا اتهم الراوي لما اختلف خبره في نفسه، رواه مرة ناقصا، ومرة تاما، وهذا أيضا مما قد يظهر فيه العذر بأن يكون نسي الزيادة حين رواه ناقصا، ثم ذكرها فأكمل الحديث، ولا قدرة للمحصل في مثل هذا على أكثر من أن يعتبر حصوله الثقة أو انخرامها، وسنستقضي وجوه الإمكانات في العادات. وقد قيل في الراوي نفسه: إنه لا ينبغي أن يروي الحديث ناقصا وهو ذاكر للزيادة، لأجل أنها لا تفيد أكثر من التأكيد، لأن التواكيد في الشريعة تشعر بتأكيد الحكم وقوته على غيره، وهذا مما قد يحتاج في. ومنهم من سامحه بإسقاط الزيادة إذا لم يكن فيها فائدة أكثر من التأكيد، وقد كنا تكلمنا على رواية بعض الحديث دون بعض، وإنما ذكرنا هذا هاهنا لتعلقه بقول هؤلاء: إن الراوي نفسه إذا زاد في الحديث بعد أن نقص لم يقبل ذلك منه بخلاف غيره، وربما احتاج الفقيه فيما ينظر فيه إلى مزج هذا الباب بباب الكلام في ترجيح أحد الخبرين على الآخر، وقد كنا قدمنا ذهاب بعض المحدثين إلى منع العمل برواية من لم يرو إلا حديثنا أو حديثين. وقد اختلف الأصوليون القائلون بقبول خبر هذا المقل من الحديث لو عارضه مكثر من الحديث؛ هل يرجح خبر المكثر على خبر المقل لأجل إكثاره أم لا؟ وهذا يستقصى في كتاب الترجيحات إن شاء الله. فصل في نقل ما تعم البلوى به قد قررنا فيما سلف تقاسيم الأخبار، وأنها منقسمة إلى ما يقطع بصدقه، وإلى ما يقطع بكذبه، وإلى ما يتردد فيه بين أن يكون صدقا أو كذبا. فالذي يقطع بصدقه تارة يكون ذلك ضروريا، كمن أخبر عن المدركات على ما هي عليه، وتارة يكون استدلاليا كمن أخبر بأن الله إله واحد، وهذا القسم لا تعلق [له] بما نحن فيه. وأما عكسه وهو الكذب فيستفاد علمه من عكسه ما قلناه في الخبر الصدق، فعكس

الأخبار الصدقية في المدركات، والاستدلال تكون كذبا، كمن قال: العسل مر، والله ثاني اثنين ـ تعالى الله عن ذلك. وينفرد المقطوع على كذبه بطريق أخرى لا تتلقى من العكس، وهو أن يكون الخبر يرد آحادا وشذوذا، فيما نعلمه أنه من حقه أن يشيع ويذيع ويتواتر، ويكثر له نقل الدول على الجملة، فإن ذلك من موقوف الهمم على الحديث به، وأن لا يفيد في دنيا ولا دين، وتارة يدعو استغرابه والتعجب منه إلى نقله كالزلازل والعجائب السماوية الخارقة للعادة، فإن هذا إن نقله الواحد خاصة قطع على كذبه، ومن ذلك معجزات الرسول فإن فيها هذا المعنى الداعي إلى الإشاعة، وهو الاستغراب والتعجب، ومنه ما يتعلق بأمر الدين والشرائع التي من شأن المتعبد نقل الخبر عنها والحديث بها، وهكذا فرض الصلوات الخمس، وصوم رمضان، إلى غير ذلك من قواعد الإسلام، فإن شأنه أن يكثر وينقل (ص 245) تواترا، لأن العبادة جاءت به بأن يعلم فرضه ويتصدى من يأتي بعدنا لعلم ذلك والعمل به، ولا يتوصل إلى علم ذلك من جهة مخبر واحد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا يقطع على كذب من قال: إن الله فرض صلاة سادسة، وصوم شهر آخر، فلو قيل خبر بهذا لقطعنا على كذبه، لأنه لو كان حقا لم ينفرد هذا بنقله وعلمه، وقد بسطنا جميع هذا الأنواع فيما تقدم من هذا الكتاب، وأعدنا منها هذه النكتب لحاجتنا إليها في التصوير لما نحن فيه. فإذا تحققت أن من الأقسام ما يقطع بكذبه إذا جاء آحادا، وأردت أمثله لهذا مما يقع الإشكال فيه، هل يلحق بهذه النقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم حكما من الأحكام، نعم البلوى به وتمس الناس حاجة إلى العلم بحكمه، ويتكرر عليهم ما يقتضي السؤال عن حكمه كمس الذكر، فإنه مما يتكرر ويكثر في جملة الناس، فإذا روى واحد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء من مسه، ولم يسمع ذلك إلا من هذا الواحد لم يعمل به لكون انفراده بهذا ريبة لعموم حاجة الناس كلهم إلى معرفة حكم هذا، وكثرة نزوله بهم، فمن حقه أن يعلمه جميعهم أو أكثرهم، وينقلون ما سمعوا به، فإذا لم ينقلوا أو نقله واحد لا أكثر دونهم استريب خبره، ولم يصح العمل به، لا سيما إذا كان الراوي لنا امرأة بخبر مس الذكر، فإن الناقل عن النبي صلى الله عليه وسلم بالوضوء منه بسرة، وهي امرأة لا حاجة لها في معرفة ذلك، ولا يصح أن يخص المرأة بذكر أحكام ذكور الرجال دون أن يعلم بذلك الرجال. وأمثلة هذا الباب التي تنخرط في هذا السلك تكثر، والتنبيه بهذا الحديث يرشدك إلى جميعها، وفي مثل هذا اختلف الناس على قولين:

فمنهم من قال: لا يقبل خبر واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما تعم البلوى به، ذهب إلى هذا الكرخي وغيره من متأخري أصحاب أبي حنيفة، وبه قال ابن خويز منداد من أصحابنا، وأضاف هذا المذهب إلى مالك، واستنبط هذا المذهب لمالك رضي الله عنه لما قيل له: إن قوما يقولون: إن التشهد فرض. فقال: أما كان أحد يعرف التشهد؟ فأشار إلى أن الانفراد بعلم هذا لا يصح، لأن من شأن أن يعرفه الجميع. وكذلك قصته مع أبي يوسف عن الآذان، فقال له مالك: وما حاجتك إلى ذلك؟ فعجبا من فقيه يسأل عن الآذان، ثم قال له مالك: وكيف عندكم الآذان؟ فذكر مذهبم فيه الذي ذكرناه في كتبنا الفقيهات، وهو مشهور في الكتب. فقال له مالك: من أين لكم هذا؟ فذكر له أن بلالا لما قدم الشام سألوه [أن] يؤذن لهم، فاذن لهم بما ذكرناه. فقال له مالك: ما أدري ما أذان يوم، وما صلاة يوم، ها مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم وولده من بعده، يؤذنان في حياته وعند قبره، وبحضرة الخلفاء الراشدين من بعده. فاشار مالك ئة [إلى] أن الأذان لما كان مما تعم البلوى به لم يقبل فيه مثل الخبر الذي أورده أبو يوسف على انفراده وشذوذه، مما أشار ابن خويز منداد في استنباط ما استنبطه عن مالك. ومثل هذا الاستنباط لا يصح التعويل عليه في إضافة مذهب إلى إمام وإسناده إليه، لأن مالكا عفا الله عنه لم يرد ما رواه أبو يوسف في الأذان بمجرد ما أشار إليه ابن خويز منداد من كون الأذان مما تعم البلوى به، لكنه قابله بأخبار أخر أثبت منه وأظهر وأصح وأشهر، ولا ينكر أحد ويريد تقدمة خبر على خبر، فلا يحسن أن يضاف إلى مالك أنه لا يقبل خبر الواحد فيما تعم به البلوى لأجل هذا الذي نقله ابن خويز منداد عنه وتعلق به. وكذلك ما أورده في التشهد لم يذكر فيه أنه نقل خبر، وإنما نقل إليه ذهاب قوم إلى مذهب فاشار إلى إنكاره عليهم، فيكون مذهبهم كالمبتدع الذي بخلاف ماعليه من تقدم. والنظر في هذا الاستدلال عليهم غير متعلق بما نحن فيه، وإنما يتعلق بما نحن فيه ما نبهناك عليه من كون ما تعلق به ابن خويز منداد غير صحيح. وذهب جماعة من الفقهاء والأصوليين إلى العمل بخبر الواحد فيما تعم البلوى به، وهو الذي نصر القاضي أبو محمد عبد الوهاب من أصحابنا، وقد قدمنا لك في صدر هذا الكتاب نكتة إذا عرضت عليها هذه المذاهب بأن لك وجه الحق فيها، وسبب اختلاف أهليها، لأنا قدمنا أن الأخبار منها ما يقطع على كذبه، ولا شك أن ما كان هكذا فإن ورود التعبد به لا يحسن، كما أن ما قطع على صدقه يحسن ورود التعبد به، وكذلك ما ظننا صدقه

ولم يقطع به، فإن التعبد به يحسن فتخيل قوم مسيس حاجة الجمهور إلى معرفة حكم يقتضي سؤالهم عنه، وإذا اقتضت الحاجة إليه سؤالهم عنه، فلابد أن يجيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا أجابهم وهم خلق عظيم فمن البعيد أنلا ينقل ذلك منهم إلا رجل واحد. ورأى الآخرون أن ذلك لا يستبعد (ص 246)، ومن الممكن أن يكتفوا بنقل الواحد منهم عن الإضافة في نقله، أو تحدث به حوادث تقطعهم عن النقل، والأساب القاطعة عن النقل والأعذار في هذا لا تضبط ولا تحصر، وأقل ما فيه أنا لا يمكننا القطع على كذب هذا العدل الناقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذا الحكم، كما نقطع على كذب المنفرد بنقل العجائب العامة، وإذا لم نقطع على كذبه فلا مانع من العمل بحديثه. ويعتضد هؤلاء أيضا بأن القياس يعمل به فيما تعم به البلوى، وهو إنما يوجب الظن، فكذلك خبر الواحد يعمل به، وإن كان لا يوجب إلا ظنا هاهنا. وقد ينفصل الآخرون عنه وعن هذا الاستدال بأن يقولوا: القياس هاهنا إذا كان مما يعم صار عموم الحاجة إليه كالمعارض لنقل هذا الواحد فاستريب. ولكن للآخرين أن يقولوا: لما حسن العمل بالقياس في مثل هذا أشعر ذلك أنه من المجتهدات المظنونات، وإذا ثبت أنه من المجتهدات المظنونات حسن استعمال الظن فيه. وهاهنا ينازعهم الآخرون فيمنعون من حصول الظن بهذا الخبر، لأجل ما قررناه من الاسترابة عندهم، ولا ملجأ للآخرين إلا إنكار الاسترابة، وإبداء المعاذير التي أشرنا إليها في انفراد هذا بهذه الخبر. وأشار ابو المعالي في الرد على من أنكر العمل بهذا إلى طريقة أخرى، وذلك أنه نظر إلى أصل علة مذهبهم فعكسها عليهم، لأنهم إنما عولوا على أن ما تعم البلوى به من حقه أن يستفيض حكمه وينتشر وينقل تواترا، وإذا تعلقنا بخبر واحد فيما تعم البلوى به، وأنكروا علينا، قيل لهم فعكس الحكم المروي يجب أن ينقل تواترا إن كان خبرنا أيضا، فإن لم ينقل اصلا عندكم ولم يستحل ألا ينقل ولا يستحيل أنينقل الحكم الآخر آحادا، لأن قصارى ما فيه عدم التواتر سلمتم عدمه من أحد الطرفين، والطرف الآخر لم يروه إلا واحد فقبوله أقرب إلى ما تشيرون إليه من رده، لأنا إن رددناه واستكذبناه صار ما تعم البلوى به غير منقول فيه حكم أصلا، وإذا صح ألا ينقل فيه حكم أصلا، ولم يستحل ذلك، فأحرى وأولى ألا يستحيل انفراد واحد بنقل فيه. ألا ترى أن مس الذكر مما تعم البلوى به، ونقل فيه حديث بسرة، وفيه الأمر بالوضوء، ومذهبهم ألا وضوء فيه، فيجب على اعتلالهم أن يكون إسقاط الوضوء منقولا تواترا، وقد علم أنه ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم إسقاط الوضوء منه نقلا متواترا من هذا الطرف الذي هم عليه، فما المانع أن ينقل آحادا، ولا ينقل تواترا من الطرف الآخر الذي نحن عليه، واعتلالهم بأن بسرة امرأة لا يحسن خصوصها بذكر

فصل في القراءة الشاذة

هذا دون الرجال. جوابه أنه من الممكن أن يكون المخاطب رجالا سمعت الخطاب لهم ثم افترقوا واندرسوا قبل النقل واخترموا دونه، أو لهم عذر مما تقدمت الإشارة إليه. ومما رد عليهم به القاضي أبو محمد عبد الوهاب أن ما لا تعم البلوى به وهو مما يخص، قد يكون الذين يخصهم جماعة فيجب أن لا يقبل هذا الخبر إلا من جماعة، وكون هذه الجماعة قاصرة عن الجماعة التي يشير إليها المخالف لا يمنع من طرد علتهم في كون هذه الجماعة الخاصة ينقل جميعها ما خصوا، فإن صح انفراد واحد منهم بالنقل صح انفراد واحد بالنقل دون الجماعة الكبيرة. ومما رد عليهم به أيضا أن (...) تعم البلوى بحكمه، وقد اختلفت فيه الصحابة المهاجرون والأنصار حتى استفتوا في ذلك أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وقبلوا خبرهن، فلو كان ما تعم البلوى به لا يقبل فيه خبر الواحد لم يقبل فيه الصحابة خبر من أخبرهم من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. هذا، وقد قابل الآخرون برد الخبر بتوريث الجدة وخبر أبي موسى في الاستئذان لما كان الآحاد نقلوا ما يعم، ونحن قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب العذر في رد هذين الخبرين، فمن طالعه هنالك علم بطلان تعلقهم به، وقد نوقض المخالفون في هذا في مسائل تعم البلوى بها، قبلوا فيها خبر واحد، ولا حاجة لإيرادها، لأنها قد يتركون كونها تعم البلوى بها. ومن نظر في أحكام الفقه في الصلاة والرعاف في الصلاة، والقيء فيها، وإيجاب الوضوء من ذلك، والأمر عن غسل منها أن يغسل، وإيجاب الوتر عند المخالف عمل منذ ذلك ما يجزيه في هذا الباب، وما يناقض به المخالف إذا علم مذهبه في هذه الفروع، وهذا نهاية ما يقال في هذا الباب. فصل في القراءة الشاذة اعلم أن هذا الباب نوع من المسالة التي فرغنا منها الآن، وأنا نبني على ما نبهناك عليه من أن الأخبار منقسمة إلى ما يقطع على صدقه أو كذبه أو يشك فيه، وإن مما يقطع على كذبه مجيء الخبر آحادا ومن حقه أنينقل تواترا، إما بسبب دنيا كما تقدم مثاله، أو بسبب تعجب واستغراب كما تقدم مثاله أيضا، والخلاف المشار إليه في القراءة الشاذة هل يعمل بها أم لا؟ مبنى (ص 247) على هذا مع حصول الاتفاق على (...) ما في

المصاحف الآن، إثباتها في المصحف و (ذ ...) أن الثقة بها والقطع (...) لا يوجب (...) كما تقدم بيانه. وأما العمل بها في الحلال والحرام وغير ذلك من الأحكام فهذا (...) أبو المعالي إلى الشافعي أنه ينكر العمل بالقراءة الشاذة، واستنبط ذلك له من (...) بالله لا يجب تتابعه مع قراءة ابن مسعود: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات"، وأضاف إلى أبي (...) أنه يرى (... لى) وجوب التتابع في صوم هذه الكفارة (فاد ...) ما نسبه إلى الشافعي، ففيه نظر، وقد يرى الشافعي ترك التتابع (... خر) قابل به قراءة ابن مسعود وعارضها ورجحها عليها، ولا ينكر أصولي الترجيح في مثل هذا عند تعارض الأدلة (...) الشافعي (... ت) في الرضعات المحرمات، ويقول: لا يحرم الرضيع إلا بخمس مصات فأكثر لا أقل منها، وذلك أن عائشة رضي الله عنها روت الحديث المشهور "أن المصات المحرمات كن عشرا فنسخن إلى خمس"، فهذا الشافعي هاهنا قد [يمكن] أن يقال: إنما عول على قراءة شاذة (...) نقل آحادا. وأما أبو حنيفة فكذلك يقول فيه أيضا، لأنه من الممكن أن يوجب التتابع في كفارة اليمين بدليل آخر ظهر ولم (...) قراءة ابن مسعود، وقد ورد في القرآن اشتراط التتابع في صيام بعض الكفارات كالظاهر والتقل و (...) أطلقت، ويرد المطلق إلى المقيد، وقد تقدم كلامنا عليه، وبسطنا القول فيه (...)، فبقي النظر هاهنا في

اختلاف (...) في كفارة اليمين، وفي كفارة القتل والظهار، وتحقق القول في وجوب (...) بابه الذي تقدم كلامنا فيه و (.... ي) يعول عليها المحققون في أن القراءة الشاذة لاي عمل بها (...) السلام وقطب الأحكام، ومفزع (...) وزرهم، وآية رسولهم، ودليل صدق دينهم، ومعلوم قطعا أن ما اجتمعت فيه هذه الأسباب أن دواعي أهل الملة تتوافر على نقله وتلهج ألسنتهم بذكره، لا سيما القرآن وما هو عليه من البلاغة الخارقة للعادة المستحسنة عند أهل اللسان (...) كان من شأنهم وعادتهم اللهجة بفقرة نادرة وبيت شعر رائق، حبا في البلاغة واستحسانا للبراعة، ولا بلاغة أعظم من بلاغة القرآن، فإن ثبت أن هذه الاسباب تدعو الجميع إلى النقل، فإنه إذا نقل الواحد دونهم علم أننقله غير ثابت، ولا يحتج بما قدمناه من الآحاد الذي قررناه مرارا. وأشار أبو المعالي إلى التعويل على نكتة ثانية، وهو ما تقرر من إجماع الصحابة على مصحف عثمان وعمل الناس عليه، وأنهم عولوا عليه ورضوه ونبذوا ما سواه ورفضوه، وعاق عثمان رضي الله عنه ابن مسعود لما أبدى تعقبا عليه في مصحف، وحض الناس عليه، وهذا الإجماع يمنع الناس من التعلق بالقراءة الشاذة والعمل بها. وهذا الذي تمسك به أبو المعالي من هذا الإجماع إنما يكون له فيه حجة إذا سلم المخالفون في العمل بالقراءة الشاذة أن الإجماع قد تقرر من الصحابة على إطراح ما سوى مصحف عثمان نقلا وعملا، وأما إن قالوا: إنا إنما نسلم إجماعهم على إطراح ما سواه في ألا يقرأ في المحاريب، ولا يكتب في المصاحف، ولا يضاف إلى القرآن، دون أن يسلم إجماعهم على منع تعليق الأحكام به، فإنهم يوقفون (...) الاستدلال، ويضرب معهم في باب آخر، وهو البحث عن هذا الإجماع؛ هل يتضمن منع العمل بالقراءة الشاذة أم لا؟ وكل من يرى الإجماع يتضمن [العمل بها] يستلوح هذا من إضرابهم عما سوى مصحف عثمان ابن عفان

ورده، ونظر إمامهم في إخفاء ما سوى مصحفه واندراسه، وهذا يشير إلى أنهم لا يرون العمل به. وأشار أبو المعالي إلى اختصاص القطع على رد القراءات الشاذة، وأنه ينقل نقلا شاذا أو لفظا يضاف إلى القرآن. وأما اختلاف الإعراب والجاري من القراء فليس من هذا، لأن اختلاف الإعراب وضبط القراءات إنما اشتهرت به طائفة من المسلمين، وهم الذين تواتر عندهم، ومنهم من يؤخر التواتر، وقد أشرنا إلى أن اشتهار الخبر، والله بذكره إنما يكون بحسب السبب الداعي إليه، فإن كان السبب يعم الجميع نقله الجميع، وإن كان السبب يخص طائفة اختص بالنقل تلك الطائفة، والداعي إلى تداول القرآن [هو] كونه معجزات الرسول وأصل الد [ين] (...)، هذا السبب يعم الجـ[ـميع]. وأما التشاغل بضبط حركات (ص 248) الإعراب والنطق بها (والو ...) [طائـ] فة من المسلمين، وهم [النحاة]، كما اشتغلت طائفة من المسلمين بعلم (...) الذي نقله الجميع، وهكذا حركات الإعراب التي أشرنا إليها يختص بضبط (...)، وهكذا الحال في جميع العلوم والحرف والصنائع يختص بالبحث عنها (...) من جهة العادة ولكن (...) سائر الناس لاشتراكهم في السبب المقتضى لعلمه، وهو (التستـ ... سموية) وغيرها من الأدوية المسهلة، مما يسهل عليهم أيضا من جهة العادة، ولكن يختص بالعلم بذلك الأطباء (ومت ...) لاشتغالهم بعلم هذا الباب الذي هو معالم الأبدان السقيمة، وحفظ الصحة على الأبدان الصحيحة. وأما الآخرون الذاهبون إلى العمل بالقراءة الشاذة، فإنهم يرون أن أقل مراتبها أن يكون كخبر واحد نقل لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، وقضيته في حكم من الأحكام مقبول، وقد نبهناك على الفرق، وبطلان هذا القياس، لأن الأصل الذي قاسوا عليه خبر مظنون صدقه، وهذا الذي تنازعنا فيه بعد ذلك هو خبر معلوم بطلانه، وشتان بين ما يظن الصدق فيه، وبين ما يعلم بطلانه.

وأشار أبو المعالي إلى أنه لا مطمع لمن قال بأن أحد الرواة إذا انفرد بزيادة لا يقبل فيه في أن [يعمل] بالقراءة الشاذة (...) كزيادة انفرد بها بعض الرواة، وقد ذكرنا فيما تقدم الخلاف في العمل بزيادة انفرد بها بعض الرواة، وذكرنا سبب (...) في ذلك، وإذا أنت تأملت سبب الخلاف (...) علمت أن هذا الذي أشار إليه أبو المعالي أنه من القائلين بمنع قبول الزيادة (...) الرواة لا يمكنهم القول بالعمل بالقراءة الشاذة فيه نظر، إذا لم يسلم القوم كون هذه القراءة الشاذة مما يجب علم الجميع بها (... ـم) إذا لم يسلموا ذلك صارت عندهم كحديث رواه واحد، ولم يسمعه سواه، وانفرد الرواة بحديث ليم يسمعه غيره يجب قبوله عند جمهور المحققينن. واعتذر أبو المعالي عن ترك ضبط القول فيما يتعلق بأطراف الكلام في هذا الباب من أحكام نقل القرآن بأنه سيجمع فيه مجموعا يختص به، وذكر أن القاضي ابن الطيب لم يشف الغليل في كتاب الانتصار لنقل القرآن على أنه من أجل كتبه. وقد كنا نحن أملينا كتابا ترجمناه بقطع لسان النابح في المترجم بالواضح، وهو كتاب نقضنا فيه على رجل نصراني كان كتاب ألفه في الرد على المسلمين، وصرف همته فيه إلى الطعن في القرآن وما يتعلق به، وبسطنا القول هناك في بعض أطراف ما يتعلق بما نحن فيه. وبالجملة فلا يحسن بالمؤلف استيعاب المسائل المتعلقة بالقرآن، فهذا القاضي ابن الطيب قد استوعب فيه ما يحسن إيراده في ذلك، ولكن أبا المعالي أبدا يرمز في مثل هذه المواضع إلى الكلام على مبادئ بعيدة، ويرى أن إيرادها وتدريج القارئ منها على ما تكلم عليه القاضي هو شفاء للغليل، وإبراء من داء الشكوك، ولكل مؤلف طريقته في التأليف، والله سبحانه يهدينا إلى أجمل الطرق بمنه وفضله. نجز كتاب الأخبار والحمد لله.

كتاب الإجماع

كتاب الإجماع تصور كتاب الإجماع بأربع مسائل: - إحداها معنى هذه التسمية. - الثانية، إمكان وجود هذا المسمى أواستحالته. - الثالثة نقل المذاهب فيه إذا كان ممكنا. - الرابعة سبب اختلاف المذاهب فيه. فأما معنى هذه التسمية فإنها تتردد بين معنيين: - أحدهما: العزيمة والإمضاء، ومنه قولهم: أجمع رأي فلان على كذا، قال تعالى: (فأجمعوا أمركم). والمعنى لاثاني يرجع إلى الإجماع والانضمام، فكأن الأمة إذا قالت بقول واحد في مسألة واحدة، فقد اجتمعت أقوالها، وجرى إجماع أقوالها مجرى اجتماع الأجسام، ولو كان الاجتماع لا يصح في الأقوال، لكن قد يتجوز بإطلاق ذلك فيها. ومن الناس من ذهب إلى إنكار إطلاق ذلك على معنى الاجتماع، ورأى قصر هذه اللفظة على معنى واحد وهو العزم والإمضاء، واستشهد بأن ما كان بمعنى العزيمة يكون من واحد، ألا تراهم يقولون: أجمعت الأمة على كذا بمعنى عزمت عليه، ولا يقولون في هذا: اجتمعت لأن الاجتماع لا يكون إلا بين اثنين، يدل هذا على أن الإجماع خلاف الاجتماع. وقد زعم أبو حامد الإسفراييني أن هذه اللفظة في الشرع بخلاف معناها في اللغة، فإن بنى على هذا المذهب، فكأنه يرى أن (...) الإشارة إلى الاجتماع على المذاهب، لا على العزم عليها.

أنهيت نسخ هذا الكتاب يوم الإثنين 2 من ذي الحجة 1420 هـ الموافق لـ 7 فيفري 2000 على الساعة التاسعة إلا ربعا صباحا، بمنزلي بالعاشور ـ الجزائر العاصمة. وقبولت مع الأصل مع تخريج الآيات والأحاديث، وتم ذلك يوم الثلاثاء 9 ربيع الثاني 1421 هـ الموافق لـ 11 جويلية 2000 م بمنزلي بالعاشور (الساعة الرابعة بعد الظهر) نسأل الله التوفيق في البدء والختام. الأستاذ الدكتور عمار الطالبي الأستاذ بجامعة الجزائر كلية العلوم الاجتماعية قسم الفلسفة

§1/1