إيضاح المحجة في الرد على صاحب طنجة

التويجري، حمود بن عبد الله

من مطبوعات دار الإفتاء (توزع مجاناً)

تقديم الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تقديم بقلم: مفتي البلاد السعودية الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد فقد اطلعت على هذا المؤلف لفضيلة الشيخ حمود بن عبد الله التويجري الموسوم (بإيضاح المحجة في الرد على صاحب طنجة) كشفاً للشبهات للردود عليه وإبطالا لترهاته, فوجدته ردا كافياً شافياً, فجزى الله الشيخ حموداً خيراً وزاده من التصدي لنصرة الدين ورد شبهات المبطلين. قاله الفقير إلى عفو الله محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. ... 14/ 5/ 1385 الختم: محمد بن إبراهيم آل الشيخ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين. والعاقبة للمتقين. ولا عدوان الا على الظالمين. وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين. - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم باحسان إلى يوم الدين. وسلم تسليماً كثيرا. أما بعد فقد وقفت على مؤلف لاحمد بن محمد بن الصديق الغماري الحسني من اهالي طنجة البلدة المعروفة في اقصى المغرب. سماه «مطابقة الاختراعات العصرية. لما اخبر به سيد البرية» فرأيت فيه اخطاءا كثيرة من تأويل الآيات والأحاديث على غير تأويلها ومن وقيعة في انصار الدين. ومدح واطراء لاعداء الدين. إلى غير ذلك من الاخطاء التي قد شوه بها كتابه. وقد نبهت على ما لا يسع السكوت عنه من تلك الاخطاء خشية ان يغتر بها من قل نصيبه من العلم النافع. والله المسئول ان يوفقني واخواني المسلمين لما يحب ويرضى من الاقوال والاعمال. وان يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه. ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه ولا يجعله ملتبسا علينا فنضل. وما اشير اليه من صفحات الكتابِ فالمراد بذلك الطبعة الثانية سنة 1379 هـ مطبعة محمد عاطف.

ما اطلع النبي - صلى الله عليه وسلم - من علم الغيب, وما لم يطلع عليه

فصل قال المؤلف في خطبة الكتاب ما نصه. أما بعد فان علم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالغيب واطلاع الله تعالى اياه على ما كان وما يكون الى قيام الساعة والى ان يصير الفريقان الى منازلهم من الجنة أو النار, بل وما بعد ذلك الى ما لا نهاية له من الازمان, معلوم ضرورة لأهل الايمان, مقطوع به عند اهل المعرفة والإيقان؛ لا يختلف في ذلك منهم اثنان ولا يشك فيه فاضلان. والجواب ان يقال أما اطلاع الله تعالى لرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - على ما كان وما يكون الى قيام الساعة والى أن يصير الفريقان الى منازلهم من الجنة أو النار فهذا صحيح, وقد جاء في ذلك عدة احاديث ذكر المصنف بعضها, منها حديث عمر رضي الله عنه قال قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقاما فاخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل اهل الجنة منازلهم واهل النار منازلهم حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه رواه البخاري تعليقا مجزوما به ووصله الطبراني وأبو نعيم. ومنها حديث حذيفة رضي الله عنه قال لقد خطبنا النبي - صلى الله عليه وسلم - خطبته ما ترك فيها شيئا الى قيام الساعة الا ذكره علمه من علمه وجهله من جهله. رواه الامام احمد والشيخان وابو داود. ومنها حديث حذيفة ايضا رضي الله عنه قال اخبرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما هو كائن الى ان تقوم الساعة فما منه شيء الا قد سألته الا اني لم أسأله ما يخرج اهل المدينة من المدينة رواه الامام احمد وابو داود الطيالسي ومسلم.

ومنها حديث ابي زيد وهو عمرو بن اخطب الانصاري رضي الله عنه قال صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفجر وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر ثم نزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس فاخبرنا بما كان وبما هو كائن فاعلمنا احفظنا رواه الامام احمد ومسلم. ومنها حديث ابي سعيد الخدري رضي الله عنه قال صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما صلاة العصر بنهار ثم قام خطيبا فلم يدع شيئا يكون الى قيام الساعة الا اخبر به حفظه من حفظه ونسيه من نسيه رواه الامام احمد وابو داود الطيالسي والترمذي والحاكم. وقال الترمذي هذا حديث حسن. ومنها حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقاماً اخبرنا بما يكون في امته الى يوم القيامة وعاه من وعاه ونسيه من نسيه رواه الامام احمد والطبراني. ومنها حديث عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ان الله عز وجل قد رفع لي الدنيا فانا انظر اليها والى ما هو كائن فيها الى يوم القيامة كأنما انظر الى كفي هذه) رواه الطبراني. وأما علمه - صلى الله عليه وسلم - بما بعد دخول الجنة والنار الى ما لا نهاية له من الازمان فهذا لا دليل عليه. وقد قال الله تعالى (ولا تقف ما ليس لك به علم) وقد استدل المصنف على ذلك بقول الله تعالى (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه احدا. الا من ارتضى من رسول) ولا دليل في الآية على ما ذهب اليه.

تأويل المصنف لقول الله تعالى: {وخلقنا لهم من مثله ما يركبون} والرد عليه

فصل وقال المصنف في صفحة 6 وصفحة 7 ما نصه. فمن تلك الامور العظام التي قال - صلى الله عليه وسلم - اننا سنراها بابور السكة الحديد والاوطمبيل والبسكليتة وما في معناها. وقد اخبر بها - صلى الله عليه وسلم - بخصوصها ووردت الاشارة اليها في القرآن والاحاديث النبوية. أما القرآن ففي ثلاث آيات حسبما حضر لنا, الآية الاولى قوله تعالى (وآية لهم انا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون. وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) أي خلقنا لهم مما يماثل الفلك المشحون ما يركبون في البر. والذي يماثل الفلك المشحون في كبره وكثرة حمله هو بابور السكة الحديد وسيارات النقل التي تحمل عشرات الركاب مع بضائعهم وحاجياتهم وتكون مارة كأنها الاعلام طولا وعلوا كما وصف الله تعالى به السفن الجواري في البحر كالاعلام. وكذلك بابور السكة الحديد بل هو أولى بالشبه والمثلية للفلك المشحون. أما المفسرون الذين فسروا المثل في الآية بالابل فمعذورون لانه لم يكن في زمانهم ما يشبه الفلك في حمل الركاب والبضائع فاضطروا لحمل الآية على الابل, وان كان حملا باطلا مقطوعا ببطلانه لان الفلك المشحون يحمل العشرات من الناس باثقالهم ويحمل مع ذلك الكثير من السلع والبضائع, وهذا بالنسبة لما كان في زمانهم, أما ما حدث

في زماننا فالسفينة تحمل الآلاف من الناس ومن القناطر المقنطرة من البضائع, ثم السفن التي كانت في زمانهم ايضا مع كبرها وحملها الكثير من الركاب والاثقال كانت تجري في البحر جريا حثيثا بالرياح كما قال تعالى (وله الجواري المنشئات في البحر كالاعلام). وكل ذلك مخالف لوصف الابل تمام المخالفة فمشيها بطيء للغاية وحملها لا يقاس بحمل السفن بل كانت السفينة تحمل ما يزيد على حمل مائة بعير, فكيف يصح تفسير الآية بها, بل ذلك باطل قطعا. وإنما الذي يماثل الفلك المشحون تمام الماثلة في كثرة حمله وسرعة سيره في البحر هو بابور السكة الحديد ثم السيارات فهي المرادة بالآية جزما. وقد قال ابن عباس والحسن والضحاك وجماعة في الآية المذكورة وخلقنا لهم سفنا امثال تلك السفن يركبونها. قال النحاس وهذا اصح لانه متصل الاسناد عن ابن عباس, وهذا يدل على شفوف نظر ابن عباس رضي الله عنهما ونظره بنور الله تعالى في معاني القرآن الكريم تصديقا لدعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اذ قال «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل». فان وجود السفينة في البر لا يخطر ببال احد ولا يكاد ينطق به عاقل في ذلك الوقت, ولكن ابن عباس رضي الله عنهما نظر الى الغيب من ستر رقيق اذ قال ذلك فكان هو المطابق للحال الموافق للواقع, انتهى المقصود من كلامه. وفيه ثلاثة أخطاء.

[الوجه] الأول

الأول: قوله ان حمل الآية على الابل باطل مقطوع ببطلانه. والثاني: قوله ان بابور السكة الحديد والسيارات هي المرادة بالآية جزما. والثالث: زعمه ان ابن عباس رضي الله عنهما حين قال وخلقنا لهم سفنا امثال تلك السفن يركبونها اراد بذلك السيارات وبابور السكة الحديد. والجواب عن هذه الاخطاء وعما ذهب اليه في تفسير الآية من وجوه. الأول: أن الله تعالى عبر في الآية بصيغة الماضي الذي قد وقع فقال تعالى (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون). وهذا صريح في إرادة السفن الموجودة في زمن النزول وما قبله. ولو كان المراد بها ما حدث بعد النزول باكثر من الف وثلاثمائة سنة لعبر عن ذلك بصيغة المستقبل. وهذا ظاهر في ابطال ما جزم به المصنف في تفسير الآية الكريمة, يوضح ذلك. الوجه الثاني: وهو ان الله تعالى امتن على عباده بما يسره من حمل ابائهم في سفينة نوح عليه الصلاة والسلام وجعل ذلك من آياته الدالة على كمال قدرته. ثم امتن عليهم بما خلق لهم من السفن المشابهة لسفينة نوح ليشكروه على ما انعم به عليهم ويفردوه بالعبادة. واول من خوطب بهذا التذكير والامتنان هم كفار قريش ومن حولهم من أحياء العرب.

الوجه الثالث

ويدل على ذلك قوله تعالى في اول السورة (لتنذر قوما ما انذر اباؤهم فهم غافلون) وقوله بعد الآية التي ذكر فيها الفلك (وما تأتيهم من آية من آيات ربهم الا كانوا عنها معرضين). وليس من المعقول ان يخاطبهم الله تعالى ويذكرهم بما لا يعرفونه وان يمتن عليهم بما يحدث بعدهم باكثر من الف وثلثمائة سنة. الوجه الثالث: ان الله تعالى عقب الآية بقوله (وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون) وهذا واضح في إرادة السفن التي تجري في البحر. ولو كان المراد ما حدث من السيارات وبابور السكة الحديد لكان ذكر الغرق ههنا لا معنى له ولا فائدة في ذكره. الوجه الرابع: ان ابن عباس رضي الله عنهما قال في تفسير الآية هي السفن جعلت من بعد سفينة نوح على مثلها. وكذا قال ابو مالك والضحاك وقتادة وابو صالح والسدي ان المراد بذلك السفن. وهذا يرد ما زعمه المصنف من ان ابن عباس رضي الله عنهما اراد بذلك السيارات وبابور السكة الحديد. وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما يعني بذلك الإبل. فانها سفن البر يحملون عليها ويركبونها. وكذلك قال عكرمة ومجاهد والحسن وغيرهم. ويشهد لهذا قول الله تعالى (وإن لكم في الانعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون. وعليها وعلى الفلك تحملون) وهذا يرد قول المصنف إن حملها على الابل باطل مقطوع ببطلانه. والقول الأول أقوى وأولى بظاهر الآية والله أعلم.

الوجه الخامس

الوجه الخامس: ان الصحابة رضي الله عنهم اعلم بتفسير القرآن ممن جاء بعدهم ولا سيما حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما, وقد فسر المراد من الآية بالسفن وفسره ايضا بالابل لاشتراكها مع السفن في حمل الاثقال والركوب عليها ومع هذا يقول المصنف ان حمل الآية على الابل باطل مقطوع ببطلانه, وهذه جراءة عظيمة على مقام حبر الأمة, ومن قال بقوله من أكابر التابعين. الوجه السادس: ان الباطل قطعا هو جزم المصنف بان المراد بالآية السيارات وبابور السكة الحديد, وعزوه ذلك الى ابن عباس رضي الله عنهما وذلك من القول عليه بما لم يقله. الوجه السابع: ان القول في القرآن بمجرد الرأي حرام. وقد ورد الوعيد الشديد على ذلك كما في الحديث الذي رواه الامام أحمد والترمذي وابن جرير والبغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انه قال «من قال في القرآن برأيه أو بما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار» هذا لفظ ابن جرير وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. وروى الترمذي ايضا وابو داود وابن جرير والبغوي عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من قال في القرآن برأيه فاصاب فقد اخطأ) قال الترمذي هذا حديث غريب. قال وهكذا روي عن بعض اهل العلم من اصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم انهم شددوا في هذا في أن يفسر القرآن بغير علم.

وأما الذي روي عن مجاهد وقتادة وغيرهما من أهل العلم انهم فسروا القرآن فليس الظن بهم انهم قالوا في القرآن او فسروه بغير علم أو من قبل أنفسهم, وقد روي عنهم ما يدل على ما قلنا انهم لم يقولوا من قبل أنفسهم, ثم ساق باسناده عن قتادة انه قال مافي القرآن آية الا وقد سمعت فيها شيئا. وباسناده عن مجاهد انه قال لو كنت قرأت قراءة ابن مسعود لم احتج ان أسأل ابن عباس عن كثير من القرآن مما سألت انتهى كلام الترمذي. وقال البغوي قال شيخنا الامام قد جاء الوعيد في حق من قال في القرآن برأيه وذلك فيمن قال من قبل نفسه شيئا من غير علم. قال وأما التفسير وهو الكلام في اسباب نزول الآية وشأنها وقصتها فلا يجوز الا بالسماع بعد ثبوته من طريق النقل انتهى. ولا يخفى ان تفسير المصنف لقول الله تعالى (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) وجزمه بان المراد بذلك السيارات وبابور السكة الحديد لم يكن من طريق النقل الثابت وانما هو تفسير بمجرد الرأي فهو بذلك متعرض للوعيد الشديد والله أعلم.

تأويله لقول الله تعالى: {وإذا العشار عطلت} والرد عليه

فصل وقال المصنف في صفحة 7 وصفحة 8 ما نصه. الآية الثالثة قوله تعالى في اشراط الساعة (واذا العشار عطلت) أي عن السفر عليها وحمل الاثقال عليها. والعشار هي الابل التي قد أتى عليها عشرة أشهر كما قال ثعلب وأئمة اللغة. وانما عطلت عن السفر ونقل السلع والبضائع عليها بوجود السيارات وبوابير سكة الحديد فانها بعد ظهورها لم يعد احد يسافر على الابل او يرسل بضائعه عليها الا نادرا جدا فيما لم يمكن سفر السيارات اليه حتى ان عرب الحجاز وجزيرة العرب تضرروا غاية لما عبدت الطرق في بلادهم وانتشرت فيها السيارات التي عطلت ابلهم عن العمل الذي كانوا منه يرتزقون. وقد ورد التصريح بهذا ايضا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال مسلم في صحيحه حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث عن سعيد بن أبي سعيد عن عطاء بن ميناء عن ابي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «والله لينزلن ابن مريم حكما عدلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها» الحديث. القلاص بكسر القاف جمع قلوص بفتحها وهي من الابل كالفتاة من النساء. فقوله - صلى الله عليه وسلم - ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها تعيين للمراد من قوله تعالى. واذا العشار عطلت. يعني يترك استخدامها في السفر ونقل البضائع كما كان حالها من قبل.

[الوجه] الأول

والجواب عن هذا من وجوه: الأول: ان الآيات في أول سورة التكوير ليست واردة في أشراط الساعة كما زعم ذلك المصنف, وإنما هي في أهوال يوم القيامة كما هو واضح من سياق الآيات, وكما هو ظاهر من كلام المفسرين من الصحابة وأئمة التابعين, والدليل على ذلك ما رواه الإمام احمد والترمذي والحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من سره ان ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأى عين فليقرأ (اذا الشمس كورت). وإذا (السماء انفطرت). (وإذا السماء انشقت)» قال الحاكم صحيح الاسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. الوجه الثاني: ان تفسيره لآية التكوير تفسير بمجرد الرأي. وقد تقدم ان ذلك حرام ومتوعد عليه بالوعيد الشديد. الوجه الثالث: ان أبي بن كعب رضي الله عنه وغير واحد من أكابر التابعين فسروا الآية بغير ما فسرها به المصنف وهم أعلم بكتاب الله منه. والمرجع في التفسير اليهم وإلى أمثالهم, لا إلى المتكلفين كالمصنف وأمثاله من العصريين. قال أبي بن كعب رضي الله عنه في قوله تعالى (وإذا العشار عطلت) قال أهملها أهلها, وقال عكرمة ومجاهد هي عشار الإبل, قال مجاهد عطلت تركت وسيبت وقال الربيع بن خثيم لم تحلب ولم تصر تخلى منها أربابها. وقال الضحاك تركت لا راعي لها. قال ابن كثير والمعنى في هذا كله متقارب.

الوجه الرابع

قال والمقصود ان العشار من الإبل وهي خيارها والحوامل منها التي قد وصلت في حملها إلى الشهر العاشر قد اشتغل الناس عنها وعن كفالتها والانتفاع بها بعد ما كانوا ارغب شيء فيها بما دهمهم من الامر العظيم المفظع الهائل وهو امر يوم القيامة وانعقاد أسبابها ووقوع مقدماتها. وقيل بل يكون ذلك يوم القيامة يراها أصحابها كذلك لا سبيل لهم إليها. قلت ويقوي هذا القول ما تقدم ذكره من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. الوجه الرابع: ان العشار من الإبل لا يركبها أهلها ولا يحملون عليها إلا في النادر, وإنما يركبون ويحملون على الذكور من الإبل والحوائل من إناثها ولا سيما الشواب منها وهي المراد بالقلاص قال الجوهري القلوص من النوق الشابة وهي بمنزلة الجارية من النساء وقال العدوي, القلوص أول ما يركب من إناث الإبل إلى أن تثني فإذا أثنت فهي ناقة. والقعود أول ما يركب من ذكور الإبل إلى أن يثني فإذا أثنى فهو جمل وربما سموا الناقة الطويلة القوائم قلوصا. وقال صاحب القاموس القلوص من الإبل الشابة أو الباقية على السير خاص بالإناث. وقال مرتضى الحسيني في تاج العروس قال ابن دريد هو خاص بالإناث ولا يقال للذكور قلوص انتهى. وإذا كانت العشار لا تركب ولا يحمل عليها إلا نادرا فأي متعلق للمصنف في قوله تعالى. (وإذا العشار عطلت). إذ لا دليل فيها على ما ذهب إليه.

الوجه الخامس

الوجه الخامس: أن المصنف جعل معنى الآية ومعنى ما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه واحدا وليس الأمر كذلك, فإن التعطيل المذكور في الآية هو تركها بالكلية لاشتغال الناس عنها بما حل بهم من الهول العظيم. واما الترك المذكور في حديث أبي هريرة فهو ترك السعي عليها لا تركها بالكلية وأين هذا من ذاك. وقد اختلف في معنى ترك السعي على القلاص فقال النووي معناه أن يزهد فيها ولا يرغب في اقتنائها لكثرة الأموال وقلة الآمال وعدم الحاجة والعلم بقرب القيامة وإنما ذكرت القلاص لكونها أشرف الإبل التي هي أنفس الأموال عند العرب وهو شبيه بمعنى قول الله عز وجل. وإذا العشار عطلت. ومعنى لا يسعى عليها لا يعتني بها أي يتساهل أهلها فيها ولا يعتنون بها هذا هو الظاهر وقال القاضي عياض وصاحب المطالع معنى لا يسعى عليها أي لا تطلب زكاتها إذ لا يوجد من يقبلها. قلت وهكذا قال ابن الأثير وابن منظور في لسان العرب أن معنى لا يسعى عليها أي لا يخرج ساع إلى زكاة لقلة حاجة الناس إلى المال واستغنائهم عنه. قال النووي وهذا تأويل باطل من وجوه كثيرة. قلت بل هو أقوى وأظهر من قول النووي. ويؤيده ما رواه ابن ماجه من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذكر الدجال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام, وفيه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «فيكون عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام في أمتي حكما عدلا وإماما مقسطا يدق الصليب ويذبح الخنزير ويضع الجزية

ويترك الصدقة فلا يسعى على شاة ولا بعير» الحديث وهو مطابق لحديث أبي هريرة الذي تقدم ذكره في كلام المصنف ومفسر لمعنى ترك السعي على القلاص اذ كل من الحديثين وارد فيما يكون في أيام عيسى عليه الصلاة والسلام فما أبهم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه فهو مفسر في حديث أبي أمامة رضي الله عنه. ويؤيده أيضا ما في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقوم الساعة حتى يكثر المال ويفيض حتى يخرج الرجل بزكاة ماله فلا يجد أحدا يقبلها منه» هذا لفظ مسلم. وفي الصحيحين أيضا من حديث حارثة بن وهب وأبي موسى رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. وروى الإمام أحمد والبخاري من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو ذلك أيضا. ومما يرد قول النووي ما رواه الإمام أحمد ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا (¬1) قال وأول من يسمعه رجل يلوط حوض ابله فيصعق ويصعق الناس». وهذا يدل على أن الرغبة في اقتناء الإبل لا تزال باقية إلى أن ينفخ في الصور لا كما يقول النووي أن أهلها يزهدون فيها ولا يعتنون بها. ¬

(¬1) الليت: صفحة العنق وهما ليتان, وأصغى: أمال «نهاية».

الوجه السادس

ويحتمل أن يكون معنى قوله وتترك القلاص لا يسعى عليها أي يترك ركوبها في الأسفار والحمل عليها وهذا مطابق للواقع في هذه الأزمان وإن كان قول عياض ومن وافقه أقوى منه من حيث الدليل. ويحتمل أن يكون كل من الأمرين مراداً في الحديث أعنى ترك السعي عليها للصدقة وترك ركوبها والحمل عليها والله أعلم. الوجه السادس: أن عرب الحجاز وجزيرة العرب لم يتضرروا من تعبيد الطرق في بلادهم وانتشار السيارات فيها كما زعمه المصنف بل انتفعوا به كثيراً واستراحوا من كثير من المشقة والعناء مما كان يصيبهم بسبب السفر على الابل والحمل عليها, وكان ارتزاقهم بسبب السيارات أعظم بكثير من ارتزاقهم بسبب الإبل. وانتفعوا أيضا بكثرة أثمان الإبل فقد كانت الناقة الجيدة في زمن السفر على الإبل والحمل عليها تساوي مائة ريال او نحوها وأما الآن فتساوي سبعمائة وثمانمائة وربما زادت على الألف وهذا خير لأهل الإبل مما كان من قبل. فصل وفي صفحة (8) جزم المصنف ببقاء استعمال السيارات إلى زمان نزول عيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام. وهذا مما لا ينبغي الجزم به لأن ما يقع في المستقبل أمر غيبي لا يعلمه إلا الله تعالى قال الله تعالى (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله) وقال تعالى (وما تدري نفس ماذا تكسب غدا) وقال تعالى (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) الآية.

وفي الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله لا يعلم ما في غد إلا الله, ولا يعلم نزول الغيث إلا الله, ولا يعلم ما في الأرحام إلا الله, ولا يعلم الساعة إلا الله, وما تدري نفس ماذا تكسب غدا, وما تدري نفس بأي أرض تموت» رواه الإمام أحمد والبخاري. وإذا علم هذا فإثبات ما يكون في المستقبل يحتاج إلى دليل قاطع من نصوص الكتاب أو السنة, ولا دليل على ما ذكره المصنف فلا ينبغي إذن الجزم ببقاء السيارات إلى زمان نزول عيسى عليه الصلاة والسلام فقد يفنيها الله ويفني صانعها كما أفنى القرون الأولى وأفنى صنائعهم معهم وأبقى من آثارهم نموذجا يسيرا أدهش به المتأخرين وحيرهم كالأهرام المصرية وغيرها من الآثار القديمة. ولا ينبغي أيضا الجزم بعدم السيارات فقد يبقيها الله تعالى إلى زمان نزول عيسى عليه الصلاة والسلام. والمقصود ههنا أنه لا يجوز الخوض في الأمور المستقبلة بمجرد الظن والتخرص, بل يرد علم ذلك إلى عالم الغيب والشهادة الذي يعلم ما كان وما يكون. لا إله إلا هو, ولا رب سواه.

جزمه أن الدجال وأعوانه يسيرون في الطائرات والسيارات والرد عليه

فصل في صفحة (9 و 15) جزم المصنف أن الدجال وأعوانه يسيرون في الطائرات والسيارات. وهذا مما لا ينبغي الجزم به لان ما يكون في المستقبل لا يعلمه إلا الله تعالى, وليس مع المصنف دليل قاطع فيما ذهب إليه. وأما قوله في حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه قلنا يا رسول الله وما اسراعه في الأرض؟ قال كالغيث استدبرته الريح فلا يلزم منه أن يكون سيره على الطائرات والسيارات بل قد تخرق له العادة إما بطي الأرض وإما بغير ذلك. وقد جاء في حديث جابر رضي الله عنه قال قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم على المنبر فقال: «يا أيها الناس إني لم أجمعكم لخبر جاء من السماء - فذكر حديث الجساسة وزاد فيه - هو المسيح تطوى له الأرض في أربعين يوما». الحديث رواه أبو يعلى بإسنادين قال الهيثمي: رجال أحدهما رجال الصحيح. وروى الحاكم في مستدركه من حديث أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد رضي الله عنه أنه قال «الدجال يخرج في نقص من الناس وخفة من الدين وسوء ذات بين, فيرد كل منهل فتطوى له الأرض طي فروة الكبش» الحديث وفيه «ولا يسخر له من المطايا إلا الحمار فهو رجس على رجس» وقال الذهبي في تلخيصه: على شرط البخاري ومسلم.

وروى الإمام أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يخرج الدجال في خفة من الدين وإدبار من العلم, وله أربعون ليلة يسيحها في الأرض اليوم منها كالسنة واليوم منها كالشهر واليوم منها كالجمعة ثم سائر أيامه كأيامكم هذه, وله حمار يركبه عرض ما بين أذنيه أربعون ذراعا» الحديث, وإسناده صحيح على شرط الشيخين. ورواه الحاكم في مستدركه وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقال الذهبي في تلخيصه: على شرط مسلم. وما في هذه الأحاديث هو المعتمد في سير الدجال في الأرض لصحة أسانيدها وعدم ما ينافيها. وركوبه على الحمار الذي عرض ما بين أذنيه أربعون ذراعاً أبلغ في الافتتان به من ركوبه على الطائرات والسيارات وغيرهما مما قد عرفه الناس واعتادوا ركوبه, وكذلك سيره على الحمار العظيم الجسم قد يكون أسرع من سير الطائرات بكثير والله أعلم. والمقصود هنا أنه لا ينبغي الجزم بسير الدجال في الطائرات والسيارات ولا بعدم ذلك؛ لأنه أمر غيبي, والخوض في مثل ذلك من الرجم بالغيب. فصل وفي صفحة (10) جزم المصنف في شأن المهدي بنحو ما جزم به في شأن عيسى والدجال من بقاء الطائرات والسيارات إلى زمانه. والجواب عنه هو ما تقدم في الفصلين قبله والله أعلم.

تأويله لقوله تعالى: {والمرسلات عرفا} الآيات والرد عليه

فصل وقال المصنف في صفحة (16) ما نصه: وأما الطائرات الحربية فمذكورة في القرآن العظيم وفي السنة النبوية. قال الله تعالى (والمرسلات عرفا. فالعاصفات عصفا. والناشرات نشرا. فالفارقات فرقا. فالملقيات ذكرا. عذراً أو نذرا. إنما توعدون لواقع). فهذا وصف للطائرات الحربية بجميع حركاتها وأفعالها تعصف بقنابلها, وهي تحتمل في اللغة معنيين ترك الناس كعصف مأكول وتميل أحيانا عن هدفها وهو معنى العصف أيضاً وتنشر المنشورات على الجنود في ميادين الحرب وعلى الأهالي والسكان في المدن للدعاية والإخبار بما تريده الدولة المحاربة وتفرق بين الجموع والكتائب فرقا لأن الرعب بها والهزيمة أشد من غيرها بحيث لا يثبت تحتها جمع بل بمجرد رؤيتها من بعيد يقع الفرار والتفرق والاختفاء في الكهوف والملاجئ. فالملقيات ذكرا عذرا: تعذر به الدولة عن ضربها بعض الأماكن البريئة والتي ليست من مراكز الحرب. أو نذرا تنذر به السكان وتخوف وتوعد وتهدد وتطلب التسليم ونحو ذلك من نوع الإنذار كما هو معروف. والجواب عن هذا من وجوه: الأول: أن تفسيره للآيات تفسير بمجرد الرأي بل إلحاد في آيات الله تعالى وقرمطة فيها شبيهة بقرمطة الرافضة وتأويلهم للقرآن.

وقد تقدم أن تفسير القرآن بالرأي حرام ومتوعد عليه بالوعيد الشديد. قال الله تعالى (إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمناً يوم القيامة اعملوا ما شئتم انه بما تعملون بصير). وفي هذه الآية الكريمة تهديد شديد ووعيد أكيد لمن ألحد في آيات الله تعالى وتأولها على غير تأويلها. قال ابن عباس رضي الله عنهما: الإلحاد وضع الكلام على غير مواضعه. ولا يخفى على ذي علم ما جرى عليه أحمد بن محمد بن الصديق الغماري من تفسيره لآيات كثيرة بمجرد الرأي ووضعه الكلام فيها على غير مواضعه ومخالفة ما جاء عن السلف الصالح في ذلك. وقد روى الفريابي عن الحسن قال سأل صبيغ التميمي عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن الذاريات ذروا. وعن المرسلات عرفا وعن النازعات غرقا. فقال عمر رضي الله عنه اكشف رأسك فإذا له ضفيرتان فقال: والله لو وجدتك محلوقاً لضربت عنقك ثم كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن لا يجالسه مسلم ولا يكلمه, وقد روي من غير وجه أن عمر رضي الله عنه ضربه ضرباً وجيعاً وحمله على قتب. وروى الآجري في كتاب الشريعة من حديث السائب بن يزيد قال أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالوا يا أمير المؤمنين انا لقينا رجلا يسأل عن تأويل القرآن فقال اللهم أمكني منه فبينما عمر رضي الله عنه ذات يوم يغدى الناس إذ جاءه رجل عليه ثياب

الوجه الثاني

وعمامة يتغدى حتى إذا فرغ قال يا أمير المؤمنين (والذاريات ذرواً. فالحاملات وقراً) فقال عمر رضي الله عنه أنت هو فقام إليه فحسر عن ذراعيه فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته فقال والذي نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقاً لضربت رأسك ألبسوه ثيابه واحتملوه على قتب ثم أخرجوه حتى تقدموا به بلاده ثم ليقم خطيبا ثم ليقل ان صبيغا طلب العلم فأخطأه. فلم يزل وضيعا في قومه حتى هلك وكان سيد قومه. وإذا كان هذا فعل عمر رضي الله عنه مع من كان يسأل عن متشابه القرآن فكيف لو رأى من يتأول القرآن على غير تأويله. الوجه الثاني: أن الصحابة والتابعين فسروا الآيات التي ذكرها المصنف بغير ما فسرها به وهم أعلم بتفسير القرآن ممن بعدهم. قال أبو هريرة رضي الله عنه في قوله عز وجل (والمرسلات عرفا) قال هي الملائكة أرسلت بالمعروف رواه ابن أبي حاتم والحاكم في مستدركه وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى ابن جرير من طريق مسروق عن ابن مسعود رضي الله عنه (والمرسلات عرفا) قال: الملائكة. وروى ابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما (والمرسلات عرفا) قال: الملائكة (فالفارقات فرقا) قال: الملائكة فرقت بين الحق والباطل. (فالملقيات ذكرا) قال: الملائكة بالتنزيل. وروى ابن جرير عن مسروق (والمرسلات عرفا) قال: الملائكة.

وروى عبد بن حميد عن مجاهد (والمرسلات عرفا. فالعاصفات عصفاً. والناشرات نشرا. فالفارقات فرقا. فالملقيات ذكرا) قال: الملائكة. وروى عبد بن حميد وأبو الشيخ وابن المنذر عن أبي صالح (والمرسلات عرفا) قال: هي الرسل ترسل بالمعروف (فالعاصفات عصفا) قال: الريح (والناشرات نشرا) قال: المطر (فالفارقات فرقا) قال: الرسل. وروى عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر من وجه آخر عن أبي صالح (والمرسلات عرفا) قال: الملائكة يجيئون بالأعارف (فالعاصفات عصفا) قال: الريح العواصف (والناشرات نشرا) قال: الملائكة ينشرون الكتب (فالفارقات فرقا) قال: الملائكة يفرقون بين الحق والباطل (فالملقيات ذكرا) قال: الملائكة يجيئون بالقرآن والكتاب (عذرا) من الله (أو نذرا) منه إلى الناس وهم الرسل يعذرون وينذرون. وروى عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر من طريق أبي العبيدين أنه سأل ابن مسعود رضي الله عنه (والمرسلات عرفا) قال: الريح (فالعاصفات عصفا) قال: الريح (والناشرات نشراً) قال الريح (فالفارقات فرقا) قال: حسبك. وروى عبد بن حميد وابن المنذر والحاكم وغيرهم عن خالد بن عرعرة قال: قام رجل إلى علي رضي الله عنه فقال: ما العاصفات

الوجه الثالث

عصفا؟ قال: الرياح. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما (والمرسلات عرفا) قال: الريح (فالعاصفات عصفا) قال: الريح (فالفارقات فرقا) قال: الملائكة (فالملقيات ذكرا) قال: الملائكة. وروى ابن جرير عن مجاهد (والمرسلات عرفا) قال: الريح (فالعاصفات عصفا) قال: الريح (والناشرات نشرا) قال: الريح. وروى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة (والمرسلات عرفا) قال: هي الريح (فالعاصفات عصفا) قال: هي الريح (فالفارقات فرقا) يعني القرآن ما فرق الله به بين الحق والباطل (فالملقيات ذكرا) هي الملائكة تلقي الذكر على الرسل وتلقيه الرسل على بني آدم (عذرا أو نذرا) قال: عذرا من الله ونذرا منه إلى خلقه. فهذه أقوال الصحابة والتابعين في تفسير الآيات من أول سورة المرسلات كما ترى, والعمدة عليها لا على قرمطة المقرمطين وشطحات المنحرفين الخاطئين. الوجه الثالث (*): أن الله تبارك وتعالى أقسم بالآيات من أول سورة المرسلات على وقوع المعاد والجزاء, والله تبارك وتعالى أعظم وأجل من أن يقسم بظلم بني آدم وعدوان بعضهم على

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: بالمطبوع (الوجه الثاني)، وهو خطأ طباعي

تأويله لقوله تعالى: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم} بإلقاء القنابل من الطائرات، والرد عليه

بعض وإهلاكهم للحرث والنسل بالطائرات والقنابل وما يلقونه من منشورات البغي والإفساد في الأرض, ومن زعم أن الله تعالى أقسم بالطائرات والقنابل ومنشورات أهلها فقد أعظم على الله الفرية. فصل وقال المصنف في صفحة (16 - 17) ما نصه: وقال تعالى: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم) الآية. فإنها واردة في إلقاء القنابل من الطائرات. فقد سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية الكريمة فقال: (أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد) رواه أحمد في مسنده من حديث سعد بن أبي وقاص بسند حسن. فهذا يفيد القطع بأن المراد بالعذاب من فوق في الآية المذكورة هو القنابل النازلة من الطائرات, لأنه لم يقع فيما مضى شيء من ذلك في هذه الأمة حتى ظهرت الطائرات ورميها بالقنابل, والنبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأن ذلك كائن لا محالة وأنه آت بعده, فحصل من ذلك القطع أنها المراد من الآية. وقد تحقق ذلك وضرب المسلمون وغيرهم بالقنابل من فوقهم, ولا يزال الناس مهددين بالنوع الخطر منها وهي القنابل الذرية التي هي عذاب عام شامل وستأتي الإشارة إليها بخصوصها في آية أخرى. وأما العذاب من تحت الأرجل فأشار إلى الألغام التي تنصب

في الأرض فيمر عليها من يراد إهلاكه فتنفجر تحت رجله أو عربته فيهلك أو تنصب تحت الدور والمنازل فتتهدم على من فيها ممن يريد الله هلاكه وعذابه. ومن الأحاديث العجيبة في هذا الباب ما رواه أحمد في مسنده بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقوم الساعة حتى تمطر السماء مطراً لا تكن منها بيوت المدر ولا تكن منها إلا بيوت الشعر». فالمطر الذي لا تكن منه البيوت المبنية بالحجر هو القنابل النازلة من الطائرات, فإنه يهدمها على من فيها ولو لم تنزل على البيت نفسه, لأن قوة انفجارها تهدم البيوت القريبة من مكان الانفجار على من فيها, فلا تكن بيوت المدر منها وإنما تكن منها بيوت الشعر في البوادي التي سكن أهلها خيام الشعر, فإن القنابل إذا لم تنزل على نفس الخيمة لا يحصل منها ضرر لسكان القرية الذين يختبئون في المغارات وتحت الاحجار. فالحديث لولا ظهور القنابل لما تصور أحد معناه. والجواب أن يقال: إن تأويله للآية الكريمة وقطعه بما قطع به فيها من نمط ما قبله من التكلف وتأول القرآن على غير تأويله. والصحيح أن المراد بقوله (عذابا من فوقكم) الرجم من السماء (أو من تحت أرجلكم) الخسف, قاله أبي بن كعب وأبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو مالك والسدي وابن زيد وغير واحد.

وقال ابن جرير: حدثني محمد بن عيسى الدمغاني قال: أخبرنا ابن المبارك عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم) الآية. قال: فهن أربع, وكلهن عذاب, فجاء منهن اثنتان بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخمس وعشرين سنة فألبسوا شيعا وأذيق بعضهم بأس بعض, وبقيت اثنتان فهما لابد واقعتان, يعني الخسف والمسخ. وقد رواه الإمام أحمد وابن جرير من طريق أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب رضي الله عنه في قوله تبارك وتعالى (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا) قال: أربع خلال وكلهن عذاب, وكلهن واقع قبل يوم القيامة؛ فمضت اثنتان بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بخمس وعشرين سنة: ألبسوا شيعا؛ وأذيق بعضهم بأس بعض, وثنتان واقعتان لا محالة: الخسف, والرجم. قال الهيثمي: رجال أحمد ثقات. قلت وكذا رجال ابن جرير. قال الهيثمي: والظاهر أن من قوله: فمضت اثنتان ... إلى آخره من قول رفيع - يعني أبا العالية - فإن أبي بن كعب رضي الله عنه لم يتأخر إلى زمن الفتنة انتهى. والقول الثاني في الآية أن المراد بقوله (عذابا من فوقكم) أئمة السوء (أو من تحت أرجلكم) الخدم وسفلة الناس رواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما.

أحدها

قال ابن جرير - فيما نقله ابن كثير عنه -: وهذا القول وان كان له وجه صحيح لكن الأول أظهر وأقوى. قال ابن كثير: وهو كما قال ابن جرير رحمه الله, ويشهد له بالصحة قوله تعالى (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور. أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير) وفي الحديث «ليكونن في هذه الأمة قذف وخسف ومسخ» وذلك مذكور مع نظائره في أمارات الساعة وأشراطها وظهور الآيات قبل يوم القيامة. انتهى. وقد تضافرت الأخبار بوقوع القذف والخسف والمسخ في آخر هذه الأمة, وأكثر ما جاء الوعيد في ذلك لاصحاب الغناء والملاهي وشاربي الخمور, وهي توافق ما قاله أبي بن كعب رضي الله عنه ومن قال بقوله في تفسير الآية الكريمة. وأما كلام المصنف في معنى حديث أبي هريرة رضي الله عنه فلا يخفى ما فيه من التعسف والتكلف, وما تصوره في معناه فهو تصور فاسد وبيان ذلك من وجوه: أحدها: أن بيوت الشعر لا تكن من القنابل كما زعمه المصنف بل هي أقرب إلى الاحتراق والتلف من بيوت المدر, وهذا لا يخفى على الصبيان فضلا عن الكبار العقلاء. الوجه الثاني: أن سكان الخيام إذا اختبؤوا عن القنابل في المغارات وتحت الأحجار فلا يقال إن الخيام هي التي تكنهم من القنابل كما تصوره المصنف وإنما تكنهم المغارات والأحجار.

الوجه الثالث

الوجه الثالث: أن الحديث لا تعرض فيه لذكر البيوت المبنية بالحجر وإنما ذكرت فيه بيوت المدر, والمدر غير الحجر, قال ابن الأثير المدر هو الطين المتماسك, وقال ابن منظور في «لسان العرب» المدر: قطع الطين اليابس وقيل: الطين العلك الذي لا رمل فيه. قال: والمدر للحوض أن تسد خصاص حجارته بالمدر, وقيل هو القرمدة إلا أن القرمدة بالجص والمدر بالطين وفي «التهذيب» والمدر تطيينك وجه الحوض بالطين الحر لئلا ينشف انتهى. وإذا علم هذا فالظاهر من صنيع المصنف أنه إنما عدل عن بيوت المدر إلى بيوت الحجر ليوهم بذلك صحة تصوره الفاسد لمعنى الحديث. ولا يخفى ما في تعبيره ببيوت الحجر من تغيير معنى الحديث وما يراد به. الوجه الرابع: أن بيوت المدر إذا تتابع عليها نزول المطر يومين أو نحوها لا يفتر عنها لا يمسك الماء. بل ينزل منه قطر كثير على من فيها بخلاف بيوت الشعر فإن الماء يزل عنها وتكن ساكنيها منه, وهذا شيء معروف عند الحاضرة والبادية, وعلى هذا فالحديث على ظاهره لا على ما تصوره المصنف والله أعلم.

تأويله لقوله تعالى: {حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت ..} الآية، والرد عليه

فصل وقال المصنف في صفحة (17 - 18) ما نصه: ومن تلك القنابل التي تلقيها الطائرات للعذاب ما ظهر حديثا من القنابل الذرية والهيدروجينية القوية المفعول وهي مع كونها داخلة بطريق الاولى في الآية السابقة فلها أيضاً آية تخصها من بين أنواع القنابل الأخرى, قال تعالى في أشراط الساعة (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس) فإن أهل الدنيا - وهم الكفار وإن ظنوا بما تيسر لهم من المخترعات أنهم قادرون عليها اصلاحا وعمارة وتزيينا وهدماً وتخريبا, لم يقو عندهم هذا الظن حتى حصل عندهم القطع أو كاد بأنهم قادرون عليها إلا بعد حصولهم على القنابل الذرية والطاقة الذرية كما هو معلوم. وبهذا يعلم أن الساعة قريبة جداً وان ظهور أشراطها الكبرى كالمهدي وعيسى عليهما السلام منتظر من يوم لآخر. وقد يكون المراد قوله تعالى (أتاها أمرنا ليلا أو نهارا) أنه سيسلط أصحاب هذه القنابل بعضهم على بعض فيتحاربون بها ويكون ذلك سبباً في خراب الدنيا وجعلها حصيداً كما قال الله تعالى, وكما يصفه الواصفون لمفعول هذه القنابل التي يبدون منها تخوفهم العظيم على الدنيا بأسرها, ولكن لا تقع هذه الحرب المؤدية إلى ما قال الله تعالى إلا بعد خروج المهدي

أحدها

ونزول عيسى لقتل الدجال وطلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة وغير ذلك مما صحت به الأخبار ومما هو واقع لا محالة. والجواب عن هذا من وجوه: أحدها: أن هذا من نمط ما قبله من القرمطة والقول في كتاب الله بغير علم. الثاني: أن الآية من سورة يونس ليست واردة في أشراط الساعة كما زعمه المصنف, وليست فيها دلالة على وجود القنابل الذرية والهيدروجينية بوجه من الوجوه, وإنما هي مثل ضربه الله تعالى لسرعة زوال الدنيا وانقضائها. ولا خلاف بين المفسرين في هذا. وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الكهف (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراً). وقال تعالى في سورة الزمر (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب). وقال تعالى في سورة الحديد (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاما). الوجه الثالث: أن خراب الدنيا بأسرها وقيام الساعة لا يكون

على أيدي بني آدم بتفجير القنابل القوية المفعول, كما قد توهمه المصنف وكما يظنه كثير من أهل زماننا ممن قل نصيبهم من العلم النافع, وإنما يكون ذلك بالنفخ في الصور كما أخبر الله تعالى بذلك في آيات كثيرة من القرآن كقوله تعالى (ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون). وقال تعالى (ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين). وقال تعالى (فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة. وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة. فيومئذ وقعت الواقعة. وانشقت السماء فهي يومئذ واهية) وقال تعالى (ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون. فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون). وقال تعالى (يوم ترجف الراجفة. تتبعها الرادفة) قال ابن عباس رضي الله عنهما: الراجفة النفخة الأولى, والرادفة النفخة الثانية. ذكره البخاري في صحيحه ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر, وهكذا قال مجاهد والحسن وقتادة والضحاك وغير واحد. وقال تعالى (فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير. على الكافرين غير يسير) قال ابن عباس رضي الله عنهما: الناقور الصور. ذكره البخاري في صحيحه ورواه ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه, وهكذا قال مجاهد والشعبي وزيد بن أسلم والحسن وقتادة والضحاك والربيع بن أنس والسدي وابن زيد. وقال

تعالى (يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد) والآيات في هذا كثيرة. وفي الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا» قال وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله فيصعق ويصعق الناس» رواه الإمام أحمد ومسلم, قال الجوهري: الليت بالكسر صفحة العنق وهما ليتان. وقال ابن منظور في «لسان العرب» وفي الحديث ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا أي أمال صفحة عنقه. وفي حديث الصور الذي رواه ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إن الله لما فرغ من خلق السموات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر» قلت: يا رسول الله وما الصور؟ قال «قرن» قلت كيف هو؟ قال «عظيم, والذي بعثني بالحق إن عظم دارة فيه كعرض السموات والأرض, ينفخ فيه ثلاث نفخات: النفخة الأولى نفخة الفزع والثانية نفخة الصعق والثالثة نفخة القيام لرب العالمين, يأمر الله تعالى إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول انفخ فينفخ نفخة الفزع فيفزع أهل السموات والأرض

إلا من شاء الله, ويأمره فيطيلها ويديمها ولا يفتر وهي التي يقول الله تعالى (وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق)» الحديث بطوله وفيه «ثم يأمر الله إسرافيل بنفخة الصعق فيصعق أهل السموات والأرض إلا من شاء الله» قال ابن كثير هذا حديث مشهور وهو غريب جدا ولبعضه شواهد. وروى الحاكم في «مستدركه» عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن طرف صاحب الصور مذ وكل به مستعد ينظر نحو العرش مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طرفه كأن عينيه كوكبان دريان». قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه, وقال الذهبي في تلخيصه: على شرط مسلم. وروى الإمام أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني من حديث عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله (فإذا نقر في الناقور) قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته ينتظر متى يؤمربالنفخ فينفخ» فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف نقول؟ قال «قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل, على الله توكلنا» قال الهيثمي: فيه عطية العوفي وهو ضعيف وفيه توثيق لين. وقال ابن كثير هو حديث جيد. وقد روى الحاكم في مستدركه من حديث عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل (فإذا نفخ في الصور) قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن وحنى جبهته وأصغى بسمعه ينتظر متى يؤمر» قال أصحاب

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف نقول يا رسول الله؟ قال «قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل, على الله توكلنا». وروى الإمام أحمد أيضا والترمذي من حديث عطية عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن واستمع الإذن متى يؤمر بالنفخ فينفخ» فكأن ذلك ثقل على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم «قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل, على الله توكلنا» قال الترمذي هذا حديث حسن. وصححه ابن حبان, ورواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي صالح عن أبي سعيد رضي الله عنه فذكره بنحوه. وروى الإمام أحمد أيضاً والطبراني عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته وأصغى السمع متى يؤمر» قال فسمع بذلك أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فشق عليهم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل». قال الهيثمي: رجاله وثقوا على ضعف فيهم. وروى الإمام أحمد أيضاً عن أبي مرية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - - أو عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال: النفاخان في السماء الثانية, رأس أحدهما بالمشرق ورجلاه بالمغرب, أو قال: رأس أحدهما بالمغرب ورجلاه بالمشرق ينتظران متى يؤمران ينفخان في الصور فينفخان) قال الهيثمي: رواه أحمد على شك

فإن كان عن أبي مرية فهو مرسل ورجاله ثقات؛ وإن كان عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما فهو متصل مسند ورجاله ثقات. وروى ابن ماجه والبزار والحاكم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «ملكان موكلان بالصور ينتظران متى يؤمران فينفخان». وروى الطبراني في الأوسط عن عبد الله بن الحارث قال: كنت عند عائشة رضي الله عنها وعندها كعب الحبر فذكر إسرافيل فقالت عائشة رضي الله عنها يا كعب أخبرني عن إسرافيل فقال كعب: عندكم العلم قالت أجل قالت فأخبرني قال له أربعة أجنحة جناحان في الهواء وجناح قد تسربل به وجناح على كاهله, والقلم على أذنه فإذا نزل الوحي كتب القلم ثم درست الملائكة وملك الصور جاث على إحدى ركبتيه وقد نصب الأخرى فالتقم الصور محني ظهره, وقد أمر إذا رأى إسرافيل قد ضم جناحه أن ينفخ في الصور. فقالت عائشة رضي الله عنها: هكذا سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول, قال المنذري والهيثمي: إسناده حسن. وروى الطبراني أيضا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: يقوم ملك بالصور بين السماء والأرض فينفخ فيه؛ فلا يبقى خلق من خلق الله إلا مات إلا من شاء ربك. وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه عن عبد الله بن عمرو رضي الله

عنهما قال قال أعرابي يا رسول الله ما الصور قال: «قرن ينفخ فيه» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح, وصححه الحاكم والذهبي. وذكر البخاري في صحيحه عن مجاهد أنه قال الصور كهيئة البوق. ورواه عبد بن حميد بإسناده عن مجاهد أنه قال الصور شيء كهيئة البوق. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما بين النفختين أربعون» قالوا: أربعون شهرا؟ قال أبيت, قالوا: أربعون سنة؟ قال أبيت. وبما ذكرته من الآيات والأحاديث يعلم قطعا أن خراب الدنيا وقيام الساعة إنما يكون بأمر سماوي لا صنع للبشر فيه, ويعلم قطعا بطلان ما يتخرصه المتخرصون من خراب الدنيا وقيام الساعة على أيدي بني آدم.

تأويله لقوله تعالى: {ويقذفون بالغيب من مكان بعيد} والرد عليه

فصل وقال المصنف في صفحة (18) ما نصه: ومنها التليفون والتلغراف والراديو, ويشير إلى ذلك قوله تعالى (ويقذفون بالغيب من مكان بعيد) , بل هو ظاهر فيه. والجواب عن هذا من وجوه: أحدها: أن يقال هذا من نمط ما قبله من التكلف والتعسف وليس في الآية التي ذكرها ما يشير إلى التليفون والتلغراف والراديو بوجه من الوجوه, فضلا عن أن يكون ظاهراً في ذلك. الوجه الثاني: أن الآية واردة مع الآيات قبلها في تكذيب كفار قريش للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولما جاء به من عند الله, وسياق الآيات واضح في ذلك قال الله تعالى (وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا افك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين - إلى قوله - وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد). قال مالك عن زيد بن أسلم «ويقذفون بالغيب» قال: بالظن. قال ابن كثير: هو كما قال تعالى (رجما بالغيب) فتارة يقولون شاعر, وتارة يقولون كاهن, وتارة يقولون ساحر,

الوجه الثالث

وتارة يقولون مجنون, إلى غير ذلك من الأقوال الباطلة, ويكذبون بالبعث والنشور والمعاد, ويقولون إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين. قال قتادة ومجاهد: يرجمون بالظن لا بعث ولا جنة ولا نار. وذكر البغوي عن مجاهد أنه قال يرمون محمدا بالظن لا باليقين, وهو قولهم ساحر وشاعر وكاهن, قال ومعنى الغيب هو الظن لأنه غاب علمه عنهم. والمكان البعيد: بعدهم عن علم ما يقولون والمعنى يرمون محمدا من حيث لا يعلمون. الوجه الثالث: أن التخاطب بواسطة التليفون والتلغراف ليس هو من القذف بالغيب كما توهمه المصنف, لأن القذف بالغيب هو القول بالظن والحدس من غير علم ويقين, والتخاطب بواسطة التليفون والتلغراف ليس كذلك, وإنما هو في الغالب مخاطبة عن علم ويقين بما يخاطب به المرء صاحبه, وهو في الحقيقة من المخاطبة مشافهة, وإن كان ذلك بواسطة الآلة الكهربائية. ونشر الأخبار من الإذاعات هو من هذا الباب, إلا ما يذاع فيها من النشرات الجوية فهي من الرجم بالغيب, ,وكذلك ما يقال بلا علم ويقين فكله من القذف بالغيب. قال الجوهري: الرجم أن يتكلم الرجل بالظن قال تعالى (رجما بالغيب). وقال الراغب الأصفهاني: ويستعار الرجم للرمي بالظن والتوهم نحو (رجما بالغيب) وقال الشاعر: . . . . . . . . . . ... وما هو عنها بالحديث المرجم

انتشار المعازف والأغاني والمهازل بسبب الراديو

فصل وذكر المصنف في صفحة (19) أن العلم انتشر بسبب الدروس والمحاضرات والمقالات التي تذاع بالراديو فيسمعها الرجال والنساء والكبار والصغار والعبيد والأحرار. والجواب أن يقال ليس الأمر كما زعمه المصنف من انتشار العلم بسبب الراديو, وإنما انتشرت بسببه المعازف والأغاني الخليعة والمهازل السخيفة وغيرها من أنواع الفتن والشرور التي هي أضر شيء على الدين والأخلاق, فهذه هي التي يتلقاها أكثر المستمعين إلى الراديو من رجال ونساء وكبار وصغار, وهي الرائجة عند متخذيه إلا من شاء الله منهم. ولا ينكر أنه ينشر في بعض الأحيان من بعض الإذاعات دروس ومقالات ومحاضرات علمية ولكن لا يستمع إليها إلا القليل من متخذي الراديو والمستمعين إليه, وأما الأكثرون فلا رغبة لهم فيها ولا في سماعها, فتراهم عاكفين على استماع المعازف والأغاني والمهازل في غالب أوقاتهم, فإذا جاءتهم القراءة أو الدروس والمحاضرات العلمية أغلقوا الراديو عنها وأداروه إلى ما هم مفتونون به من مزامير الشيطان وصوته الفاجر. وبالجملة فالأكثرون في زماننا قد أعرضوا عن العلم النافع إلى ما لا خير فيه من الإذاعات والجرائد والمجلات وما أشبهها من الكتب العصرية, فهذه هي التي يتنافس فيها الأكثرون, وعليها في غالب الأوقات يعكفون, وبسبب ذلك قل العلم النافع وهو العلم الموروث عن سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه, وظهر الجهل وفشا في جميع الأقطار, فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

تأويله لقوله تعالى: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم} الآية بالغواصات، والرد عليه

فصل وقال المصنف في صفحة (20) ما نصه: ومن الأمور العظام التي رأيناها كما قال - صلى الله عليه وسلم - الغواصات, وقد ذكرها الله تعالى أيضا في قوله (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم) الآية, وقد قدمنا الحديث الذي خرجه أحمد في مسنده من حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن هذه الآية فقال «أما انها كائنة ولم يأت تأويلها بعد» فجاء تأويلها بظهور الطائرات الرامية للقنابل والألغام والغواصات. ولما لم يكن في زمن المفسرين شيء من ذلك فسروا العذاب من فوق بالملوك, ومن تحت الأرجل بالعبيد, ولا يخفى بطلانه؛ ولكنهم معذورون لأنهم لم يروا ما يصلح أن تطبق عليه الآية كما رأينا نحن. والجواب عن هذا قد تقدم قريباً (صفحة 22) عند كلام المصنف على الطائرات الحربية. وقد بينت هناك أن المراد بقوله تعالى (عذابا من فوقكم) الرجم من السماء (أو من تحت أرجلكم) الخسف. وهذا قول أبي بن كعب وأبي العالية ومجاهد وسعيد بن جبير وأبي مالك والسدي وابن زيد وغير واحد من المفسرين, وهو أصح القولين في تفسير الآية, ويدل له ما جاء من الأخبار بوقوع القذف والخسف والمسخ في آخر هذه الأمة. وهذا هو الذي يصلح أن تطبق عليه الآية, لا على التكلف الذي لا مستند لقائله إلا مجرد رأيه.

تأويله لتكليم السباع وعذبة السوط وشراك النعل والفخذ لبني آدم، والرد عليه

فصل وفي صفحة (20 - 22) تأول المصنف قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس وحتى تكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله, وتخبره فخذه بما أحدث أهله من بعده» على السيرك الذي تستخدم فيه الأسود والنمور والفيلة وغيرها من السباع في الألعاب العجيبة والحركات الغريبة, وإنها تخاطب فتفهم, وتؤمر وتنهى فتأتمر وتنتهي حسب إرادة اللاعب بها, وعلى الكلاب التي تتخذ لاستكشاف أصحاب الجرائم وعلى الفوتوغراف وآلة التسجيل. والجواب: أن يقال إن ظاهر الحديث يدل على أن السباع تكلم الإنس في آخر الزمان كلاماً حقيقياً كما وقع ذلك في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهبان بن أوس رضي الله عنه حين كلمه الذئب كلاماً حقيقياً وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك فصدقه وأمره أن يحدث به الناس وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «إنها امارة من امارات بين يدي الساعة» والحديث بذلك رواه الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, وروى الترمذي بعضه وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح, ورواه الإمام أحمد أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, ورواه البيهقي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما, و (بنو أهبان) يقال لهم: بنو مكلم الذئب. وفي الصحيحين ومسند الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة ثم أقبل علينا بوجهه

فقال «بينا رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها قالت إنا لم نخلق لهذا إنما خلقنا للحراثة» فقال الناس سبحان الله بقرة تتكلم؟ فقال «فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر» وما هما ثم, «وبينا رجل في غنمه إذ عدا عليها الذئب فأخذ شاة منها فطلبه فأدركه فاستنقذها منه فقال: يا هذا استنقذتها مني فمن لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري؟» قال الناس سبحان الله ذئب يتكلم؟ فقال «إني أومن بذلك وأبو بكر وعمر» وما هما ثم. وروى البيهقي عن أبي عبد الرحمن السلمي سمعت الحسين بن أحمد الرازي سمعت ابا سليمان المقري يقول: خرجت في بعض البلدان على حمار فجعل الحمار يحيد بي عن الطريق فضربت راسه ضربات فرفع رأسه إلي وقال لي اضرب يا أبا سليمان فإنما على دماغك هو ذا يضرب, قال قلت له: كلمك كلاما يفهم؟ قال: كما تكلمني وأكلمك. والمقصود هنا أن تكليم السباع للإنس فيه خرق للعادة وهو مستغرب جدا ولهذا تعجب الصحابة رضي الله عنهم لما أخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بكلام البقرة والذئب واستغربوا ذلك. وأما ما ذكره المصنف من استخدام السباع في الألعاب العجيبة والحركات الغريبة, وإنها تؤمر وتنهى حسب إرادة اللاعب بها فليس ذلك بمستغرب منها كما يستغرب تكليمها للإنس بالكلام الحقيقي. وكذلك استكشاف الكلاب لأصحاب الجرائم ليس بمستغرب

أحدها

منها, وقد ذكر الناس عنها قديما وحديثا من الحكايات العجيبة الدالة على فهمها وقوة إدراكها شيئا كثيرا. وإنما المستغرب منها أن تكلم الناس بالكلام الحقيقي كتكليم الناس بعضهم بعضا, وهذا لم يوجد إلى الآن, وسيكون ذلك كما أخبر به الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه. والقول في تكليم عذبة السوط وشراك النعل والفخذ لبني آدم كالقول في تكليم السباع لهم. وأما تأويل المصنف لذلك بالفوتوغراف وآلة التسجيل فهو تأويل بعيد جدا, وبيان ذلك من وجوه: أحدها: أن ظاهر الحديث يدل على أن الكلام يكون من نفس العذبة والشراك والفخذ لا من آلة تجعل للكلام, وفي تأويل ذلك بالفونوغراف وآلة التسجيل صرف للحديث عن ظاهره بغير دليل. الوجه الثاني: أن تكليم العذبة والشراك والفخذ لبني آدم فيه خرق للعادة وهو مستغرب جدا ولهذا يكون من أمارات الساعة بخلاف الكلام من الفونوغراف وآلة التسجيل فإنه ليس بمستغرب كما يستغرب الكلام من نفس العذبة والشراك والفخذ. الوجه الثالث: أن النطق من الجمادات قد وجد في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - , كما في الحديث الصحيح عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث, إني لأعرفه الآن» رواه الإمام أحمد

وأبو داود الطيالسي ومسلم, والترمذي وقال هذا حديث حسن غريب. وروى الترمذي أيضا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة فخرجنا في بعض نواحيها, فما استقبله جبل ولا شجر إلا وهو يقول السلام عليك يا رسول الله قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ في كفه سبع حصيات أو تسع حصيات فسبحن حتى سمعت لهن حنينا كحنين النحل, ثم وضعهن فخرسن, ثم أخذهن فوضعهن في كف أبي بكر فسبحن حتى سمعت لهن حنينا كحنين النحل, ثم وضعهن فخرسن, ثم تناولهن فوضعهن في يد عمر فسبحن حتى سمعت لهن حنينا كحنين النحل, ثم وضعهن فخرسن, ثم تناولهن فوضعهن في يد عثمان فسبحن حتى سمعت لهن حنينا كحنين النحل, ثم وضعهن فخرسن, فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «هذه خلافة النبوة» رواه البيهقي. وإذا كان النطق من الجمادات موجودا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فغير مستبعد أن يكون ذلك في آخر الزمان أيضا. وكما أن في تسليم الجمادات على النبي - صلى الله عليه وسلم - وتسبيحها في يده وأيدي الخلفاء الراشدين معجزة للنبي - صلى الله عليه وسلم -. فكذلك في نطق العذبة والشراك والفخذ معجزة للنبي - صلى الله عليه وسلم -.

وأيضا فقد قال الله تعالى (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون) وقال تعالى (حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون. وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي انطق كل شيء) الآية. وقال تعالى (يومئذ تحدث أخبارها) وفي الحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم, قال: فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها؛ تقول: عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا, فهذه أخبارها» رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. وإذا كانت الجوارح والأرض تنطق يوم القيامة فلا يستبعد النطق من نفس العذبة والشراك والفخذ في آخر الزمان, والله على كل شيء قدير.

تأويله لقوله تعالى: {وإذا الوحوش حشرت} والرد عليه

فصل وفي صفحة (23) ذكر المصنف ما يفعله سائر الدول من جمع السباع وسائر الوحوش في البساتين للفرجة عليها. قال: وذلك من اشراط الساعة وعلامات قربها, حتى إن الله تعالى ذكر ذلك في القرآن في اشراط أخرى ضمها إلى ما سيقع بعد قيامها, فقال تعالى (وإذا الوحوش حشرت) أي جمعت والحشر الجمع والاختلاط فقد حشرت الوحوش وجمعت في البساتين المعدة لذلك كما قال الله تعالى, وهو فعل محرم منهي عنه شرعا - إلى أن قال - ويكفي أن الله تعالى جعل ذلك من أشراط الساعة وأنها قائمة عند وجوده فتعلم كل نفس ما أحضرت. والجواب عن هذا من وجوه: أحدها: أن الآية من أول سورة التكوير ليست واردة في أشراط الساعة وإنما هي في أهوال يوم القيامة. وقد تقدم إيضاح ذلك (في ص: 13) في الكلام على قوله تعالى (وإذا العشار عطلت). الوجه الثاني: أن ما ذهب إليه في معنى الآية الكريمة مردود, لأنه من تفسير القرآن بمجرد الرأي وذلك لا يجوز. وقد تقدم أن تفسير القرآن بمجرد الرأي حرام ومتوعد عليه بالوعيد الشديد. الوجه الثالث: أن ابن عباس رضي الله عنهما وغير واحد

من التابعين فسروا الآية بغير ما ذهب إليه المصنف في معناها, والعمدة على تفسيرهم لا على رأي المصنف ولا على رأي غيره من المتكلفين. قال ابن عباس رضي الله عنهما: حشر البهائم موتها, وحشر كل شيء الموت غير الجن والإنس فإنهما يوقفان يوم القيامة. رواه سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والحاكم وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي في تلخيصه. وكذا قال عكرمة والضحاك: حشرها موتها. وروى ابن جرير أيضا حدثنا أبو كريب حدثنا وكيع عن سفيان عن أبيه عن أبي يعلى عن الربيع بن خثيم (وإذا الوحوش حشرت) قال: أتى عليها أمر الله. قال سفيان قال أبي فذكرته لعكرمة فقال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: حشرها موتها. وروى ابن أبي حاتم وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما. (وإذا الوحوش حشرت) قال يحشر كل شيء حتى إن الذباب ليحشر. قال ابن كثير: وكذا قال الربيع بن خثيم والسدي وغير واحد. وقال قتادة في تفسير هذه الآية: إن هذه الخلائق موافية يوم القيامة فيقضي الله فيها ما يشاء. رواه عبد بن حميد وابن أبي حاتم. وقال البغوي في تفسيره: (وإذا الوحوش) يعني دواب البر (حشرت) جمعت يوم البعث ليقتص لبعضها من بعض.

الوجه الرابع

قلت: ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى شاتين تنتطحان فقال: «يا أبا ذر هل تدري فيم تنتطحان؟ قال: لا, قال: لكن الله يدري وسيقضي بينهما». ورواه عبد الرزاق وابن جرير بنحوه. وروى عبد الرزاق أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: يحشر الخلق كلهم يوم القيامة, البهائم والدواب والطير وكل شيء, فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول كوني ترابا فلذلك يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا. وقد روي نحو هذا مرفوعا في حديث الصور الذي رواه الطبراني وغيره, وهو حديث طويل مشهور. والمقصود ههنا بيان خطأ المصنف فيما ذهب إليه في معنى قوله تعالى: (وإذا الوحوش حشرت) , وبيان معنى حشر الوحوش وأنه: موتها كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما وغيره, أو جمعها يوم القيامة ليقتص لبعضها من بعض كما قاله آخرون والله أعلم. الوجه الرابع: أن ظاهر الآية الكريمة يدل على حشر الوحوش كلها, والوحوش الآن منتشرة في أرجاء الأرض, والذي قد جمعته الدول في بساتينها نزر يسير من بعض أنواع الوحوش لا من كلها, ومع هذا يقول المصنف: إنها قد جمعت في البساتين المعدة لذلك, وهذا قول ظاهر البطلان.

تأويله لقوله تعالى: {والبحر المسجور} - وقوله - {وإذا البحار سجرت} وللحديث في انحسار الفرات عن جبل من ذهب، والرد عليه

فصل وقال المصنف في صفحة (24 - 25) ما نصه: ومن ذلك بخار الوقود من البترول والجاز التي تستخرج الآن من الأرض فتضرم وتوقد في الدنيا بأسرها, في السيارات والبوابير البرية والبحرية والطائرات والموتورات والفبارك الكبيرة والصغيرة وماكينات الطحن والخبز والنجارة وغير ذلك مما يبلغ مئات الأصناف, وبوابير الطبخ في البيوت وموتورات الإنارة العامة والخاصة وغير ذلك. وكله مذكور في أشراط الساعة, وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعادنه وعين مواضعها وسمى البترول ذهبا كما يسمونه اليوم بالذهب الأسود, ومن العجيب أنه ورد في بعض طرق الحديث تسميته بكنز ليس من ذهب ولا فضة. قال الله تعالى (والطور. وكتاب مسطور. في رق منشور. والبيت المعمور. والسقف المرفوع. والبحر المسجور) وقال تعالى (وإذا البحار سجرت) أي أضرمت ناراً كما قال علي وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعبيد بن عمير وجماعة من أئمة التفسير من السلف. وغير خاف أن البترول بحار مودعة في الأرض. وقد قدمنا أن أبي بن كعب وابن عباس وأبا العالية وجماعة من السلف قالوا إن هذه في الدنيا قبل يوم القيامة, قالوا: ذكر الله تعالى في السورة

الكريمة اثنتي عشرة علامة, ستة منها في الدنيا, وستة منها في الآخرة, فالتي في الدنيا آخرها (وإذا البحار سجرت) , وما بعدها فهو في الآخرة, كما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. وإذ هي في الدنيا وإنها من أشراط الساعة, وهي بحار من الزيوت أودعها الله في بطن الأرض منذ خلق الله الدنيا, ولم يهيأ استكشافها واستخراجها من الأرض لإضرامها وإيقادها إلا في وقتنا هذا الذي ظهرت فيه تلك الأشراط الستة المذكورة كلها - كما بيناه في قوله تعالى (وإذا العشار عطلت) بالسيارات (وإذا الوحوش حشرت) في بساتين الحيوانات, وسنبين الباقي قريباً -: تعين أنها المراد. وأيد بذلك أن البترول يسمى بالذهب الأسود, وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر به, وأن من المواضع التي سيظهر فيها أرض العراق وأرض فارس وأرض نجد وما والاها, كما ورد أنه قريب من الحجاز, وورد تسميته بكنز ليس بذهب ولا فضة فلم يبق شك في أنه المراد. ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يوشك الفرات أن ينحسر عن كنز من الذهب فمن حضره فلا يأخذ منه شيئا» , ورواه مسلم في صحيحه من وجه آخر عن أبي هريرة بلفظ «لا تقوم الساعة حتى ينحسر الفرات عن جبل من ذهب تقتتل الناس عليه فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون».

أحدها

والجواب عن هذا من وجوه: أحدها: أن الآيات الست من أول سورة التكوير ليست واردة في أشراط الساعة كما زعم ذلك المصنف فيها وتأول لأجل ذلك القرآن على غير تأويله, كما تقدم ذلك في مواضع من كلامه وكما سيأتي في مواضع اخر منه. وأما ما روي عن أبي بن كعب وابن عباس وأبي العالية أن ست آيات منها في الدنيا, فالمراد أنها من جملة الأهوال التي تكون عند قيام الساعة والناس يشاهدون ذلك, لا أنها تكون قبل قيام الساعة بزمن طويل كما توهمه المصنف. قال الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: ست آيات قبل يوم القيامة: بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس؛ فبينما هم كذلك إذ تناثرت النجوم, فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فتحركت واضطربت واختلطت؛ ففزعت الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن واختلطت الدواب والطير والوحوش فماجوا بعضهم في بعض فذلك قوله (وإذا الوحوش حشرت) قال: اختلطت (وإذا العشار عطلت) قال: أهملها أهلها. (وإذا البحار سجرت) قال: قالت الجن نحن نأتيكم بالخبر - قال - فانطلقوا إلى البحر فإذا هو نار تتأجج, قال فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى وإلى السماء العليا, قال فبينما هم كذلك إذ

الوجه الثاني

جاءتهم ريح فأماتتهم. رواه ابن أبي الدنيا وابن جرير وابن أبي حاتم, وسياقه ظاهر فيما ذكرنا, وفيه رد لما زعمه المصنف في تأويل الآيات الست من أول سورة التكوير. الوجه الثاني: أن ظاهر الآيتين الكريمتين وهما قوله تعالى (والبحر المسجور) وقوله تعالى (وإذا البحار سجرت) يدل على أن البحر نفسه هو الذي يسجر فيكون كله ناراً, وبحار الزيوت لم تسجر بالنار, وإنما يضرم ما يستخرج منها وهذا لا يكون تسجيراً لها. وعلى هذا فاستدلال المصنف بالآيتين على ما ذهب إليه لا وجه له, وهو استدلال في غاية البعد والتكلف. الوجه الثالث: أن البحر إنما يسجر عند قيام الساعة, كما قاله أبي بن كعب رضي الله عنه وغيره. وقيل: إنه يسجر يوم القيامة روي ذلك عن علي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وعبيد بن عمير وغيرهم. وهذا يرد ما زعمه المصنف من أنها قد سجرت الآن. الوجه الرابع: أن البحر الذي يسجر عند قيام الساعة أو يوم القيامة هو البحر الذي على وجه الأرض, وقد تقدم ما روي عن أبي بن كعب رضي الله عنه في ذلك وروى ابن أبي حاتم عن شيخ من بجيلة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: يكور الله الشمس والقمر والنجوم يوم القيامة في البحر ويبعث الله ريحاً دبوراً فيضرمها ناراً. قال ابن كثير: وكذا قال عامر الشعبي وهذا يرد ما زعمه المصنف في بحار الزيت. الوجه الخامس: أنه لم يؤثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سمى البترول

الوجه السادس

ذهبا, وقول المصنف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمى البترول ذهباً, من القول عليه - صلى الله عليه وسلم - بما لم يقله, وذلك حرام وكبيرة من الكبائر. الوجه السادس: أن البترول ليس بذهب حقيقة ولا مجازا. وأما تسمية بعض الناس له بالذهب الأسود فليس مرادهم أنه نوع من أنواع الذهب, وإنما يقصدون أنه يحصل من ثمنه الذهب الكثير, فلذلك يطلقون عليه اسم الذهب الأسود اعتباراً بما يستثمر منه. الوجه السابع: أن الأثر الذي ذكره المصنف في تسمية البترول بكنز ليس من ذهب ولا فضة ينقض ما زعمه من تسميته في الحديث بالذهب. الوجه الثامن: أن الذي جاء في الحديث الصحيح هو حسر الفرات عن كنز من ذهب, وفي الرواية الأخرى عن جبل من ذهب, ومن المعلوم أن بحور الزيت ليست في نهر الفرات وإنما هي في باطن الأرض, وكثير منها يبعد عن نهر الفرات بمسافة بعيدة. الوجه التاسع: أن الزيت من المعادن السائلة, والذي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بانحسار الفرات عنه هو الذهب المعروف عند الناس وهو من المعادن الجامدة, ولهذا جاء في بعض الروايات في الصحيح أنه ينحسر عن جبل من ذهب. وهذا يرد تأويل من تأوله على معدن سائل ليس بذهب ولا يشبه الذهب.

الوجه العاشر

الوجه العاشر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن الفرات يحسر عن جبل من ذهب, أي ينكشف لذهاب مائه فيظهر الجبل بارزاً على وجه الأرض, وهذا لم يكن إلى الآن وسيكون فيما بعد بلا ريب. وبحور الزيت لم تنحسر الأرض عنها وإنما يستخرجها الناس بالتنقيب عنها من مسافة بعيدة في بطن الأرض, وأين هذا من ذاك؟ فصل وفي صفحة (25 - 26): جزم المصنف أنه لا بد من وقوع الحرب من أجل بترول العراق وإيران, وأنها سوف تكون بالقنابل الذرية المبيدة للبشر. والجواب: أن يقال هذا من الرجم بالغيب وقد قال الله تعالى (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله). والذي سيقع بلا شك هو الاقتتال على جبل الذهب إذا حسر الفرات عنه, لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك, وما أخبر بوقوعه فهو كائن لا محالة.

تغييره لمعنى حديث «تكون معادن يحضرها أشرار الناس» والرد عليه

فصل وفي صفحة (26): ذكر المصنف ما رواه الإمام أحمد من حديث رجل من بني سليم سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ستكون معادن يحضرها شرار الناس». ثم قال المصنف: فهذه المعادن هي آبار البترول التي ما ظهرت إلا قرب قيام الساعة الذي هو وقتنا هذا. قال ويؤكد ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - «يحضرها شرار الناس» فإن معادن البترول لا يستخرجها ويحضرها إلا الكفار الذي هم شرار الناس وقوله - صلى الله عليه وسلم - «يحضرها» هو بضم الياء وفتح الحاء وكسر الضاد المشددة أي يهيئها للاستعمال ويجعلها حاضرة لذلك صالحة لما حضرت له. والجواب: أن يقال أن هذا الحديث ضعيف لأنه من رواية رجل من بني سليم عن جده, ورجل من بني سليم: مجهول وعلى تقدير صحته فليس المراد به آبار البترول بخصوصها بل هو عام لها ولمعادن الذهب والفضة وغيرها من المعادن الأرضية, ويدل على ذلك قوله في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: «تخرج معادن مختلفة» الحديث. وقوله يحضرها شرار الناس هو بفتح الياء وإسكان الحاء وضم الضاد المخففة أي يأتي إليها ويسكن عندها شرار الناس وقد جاء

ذلك صريحا فيما ذكره المصنف من حديث عبد الله بن عمرو, وأبي هريرة رضي الله عنهما: فأما حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما فقال فيه «تخرج معادن مختلفة معدن منها قريب من الحجاز يأتيه من أشرار الناس» رواه الحاكم في مستدركه, وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقال فيه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا تقوم الساعة حتى تظهر معادن كثيرة لا يسكنها إلا أراذل الناس» رواه الطبراني في الأوسط. والمراد بأراذل الناس الكفار وفساق المسلمين كما هو الواقع الآن, وليس المراد به الكفار خاصة كما زعم ذلك المصنف. ثم إن المصنف غيَّر معنى الحديث بما فسر به قوله «يحضرها» ليوافق ما ذهب إليه, ولا يخفى أن ذلك من تحريف الكلم عن مواضعه.

تأويله لقوله تعالى: {إذا زلزلت الأرض زلزالها} الآيات، والرد عليه

فصل وقال المصنف في صفحة (27) ما نصه: ويشير إلى البترول أيضا قوله تعالى (إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها) الآية. فإنها أخرجت ملايين الأطنان من البترول والغاز وهو أعظم ثقل فيها عندما زلزلت أي حركت بالآلات وفتح فيها آبار البترول والغاز, (وقال الإنسان مالها) تعجباً مما تخرجه من ذلك, فعند ذلك تحضر الساعة. أَو (إذا زلزلت الأرض زلزالها) الموعود به وهو الزلزال الكثير الذي يحدث آخر الزمان كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وتكثر الزلازل» كما في أحاديث صحيحة متعددة. وقد صارت تحدث بكثرة في هذا الوقت الذي أخرجت فيه الأرض أثقالها من البترول. (وقال الإنسان مالها) يكثر زلازلها؟ وهذا كله واقع فيترقب ما بعده فإن الزمان بالنسبة إلى علم الله تعالى شيء واحد. والله تعالى يجمع بين الأمور المتباعدة فيسوقها مساقا واحداً لتحقق الجميع وحضوره في علمه سبحانه وتعالى. والجواب: أن يقال هذا من التخبيط في القرآن وتأوله على غير تأويله, وقد قدمنا أن ذلك حرام ومتوعد عليه بالوعيد الشديد. ويقال أيضاً إن السورة واردة في قيام الساعة وما يكون

بعد ذلك في يوم القيامة وسياقها يدل على ذلك, وليس فيها ما يدل على خروج البترول بوجه من الوجوه. قال البغوي في تفسيره (إذا زلزلت الأرض زلزالها) حركت الأرض حركة شديدة لقيام الساعة (وأخرجت الأرض أثقالها) موتاها وكنوزها فتلقيها على ظهرها (وقال الإنسان مالها) قيل: في الآية تقديم وتأخير تقديره: يومئذ تحدث أخبارها فيقول الإنسان مالها: أي تخبر الأرض بما عمل عليها. وقال ابن كثير في تفسيره قال ابن عباس رضي الله عنهما (إذا زلزلت الأرض زلزالها) أي تحركت من أسفلها (وأخرجت الأرض أثقالها) يعني ألقت ما فيها من الموتى قاله غير واحد من السلف. وهذه كقوله تعالى (يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم) وكقوله (وإذا الأرض مدت. وألقت ما فيها وتخلت). وروى عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما (إذا زلزلت الأرض زلزالها) تحركت من أسفلها (وأخرجت الأرض أثقالها) قال: الموتى (وقال الإنسان مالها) قال: يقول الكافر مالها (يومئذ تحدث أخبارها) قال لها ربك قولي فقالت. وروى الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر عن مجاهد في قوله (وأخرجت الأرض أثقالها) قال: من في القبور. وروى ابن أبي حاتم عن عطية (وأخرجت الأرض أثقالها) قال ما فيها من الكنوز والموتى. فهذه أقوال المفسرين في تفسير السورة وفيها رد لقرمطة المصنف وإلحاده.

تأويله لقوله تعالى: {وإذا الجبال سيرت} والرد عليه

فصل وقال المصنف في صفحة (28) ما نصه: ومن ذلك زوال الجبال عن أماكنها للدواعي الداعية إلى ذلك, من تعبيد الطرق للبوابير الحديدية والسيارات وتوسيع الطرق وضواحي المدن وغير ذلك, مما هو واقع الآن في كثير من أقطار الأرض كما هو مشاهد ومعلوم, قال الله تعالى (وإذا الجبال سيرت) وقد قدمنا أن هذا في الدنيا قبل قيام الساعة وتسييرها زوالها من أماكنها. ثم ذكر ما رواه البزار والطبراني من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «لا تقوم الساعة حتى تروا أموراً عظاما لم تكونوا ترونها, وحتى تزول الجبال عن أماكنها». قال وروى أحمد من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عيسى عليه السلام ليلة الإسراء في ذكر أمارات الساعة وفي آخر الحديث قوله «ثم تنسف الجبال وتمد الأرض مد الأديم - ثم قال - ففيما عهد إلي ربي عز وجل أن ذلك إذا كان كذلك فإن الساعة كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفجأهم بولادها ليلاً أو نهاراً». فهذا النسف غير المذكور في قوله تعالى (ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً) الآية فإن ذلك بعد قيام الساعة يوم تصير الجبال كالعهن المنفوش, وهذا قبل قيام الساعة بل هو من

أحدها

أشراطها وعلاماتها الدالة على قرب قيامها. ويؤيد هذا وقوع هذا النسف كل يوم في سائر الدنيا بالألغام والحفر بالآلات ومد الأرض ذات الجبال مد الأديم حتى ينزل عيسى عليه السلام فيجدهم على ذلك. والجواب عن هذا من وجوه: أحدها: أن يقال إن فتح الطرق في الجبال لا يكون إزالة للجبال ونسفاً وتسييراً لها ومداً للأرض مد الأديم, وهذا لا يخفى على من له أدنى عقل ومعرفة. واستدلال المصنف على ما ذهب إليه بقول الله تعالى (وإذا الجبال سيرت) وبما في حديث سمرة وحديث ابن مسعود رضي الله عنهما لا وجه له وهو استدلال في غاية البعد والتكلف. الوجه الثاني: أن يقال إن جبال الأرض باقية على حالها مع فتح الطرق فيها. ولو أنها قد نسفت وسيرت ومدت الأرض مد الأديم - كما زعمه المصنف - لما بقي في الأرض جبل بالكلية. بل إنا نقول لعله لم ينسف منها ولا جبل واحد, اللهم إلا أن تكون آكاما صغاراً تؤخذ أحجارها للحاجة أو تزال عن الطرق فهذا قد يكون موجوداً الآن ولكن لا يعد هذا نسفا للجبال وتسييراً لها ومداً للأرض. الوجه الثالث: أن نسف الجبال وتسييرها ومد الأرض مد الأديم إنما يكون يوم القيامة, قال الله تعالى (ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا) , وقال تعالى (إن يوم

الفصل كان ميقاتا. يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا وفتحت السماء فكانت أبوابا. وسيرت الجبال فكانت سرابا) وقال تعالى (فإذا السماء فرجت. وإذا الجبال نسفت. وإذا الرسل أقتت. لأي يوم أجلت. ليوم الفصل) وقال تعالى (ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا. فيذرها قاعا صفصفا. لا ترى فيها عوجا ولا أمتاً. يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا) وقال تعالى (القارعة ما القارعة. وما أدراك ما القارعة. يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش). وقال تعالى (ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين. وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب) الآية. وقيل إن تسيير الجبال يكون عند قيام الساعة, وهو ظاهر ما رواه ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام, فتذاكروا أمر الساعة - فذكر الحديث في خروج الدجال وقتله وخروج يأجوج ومأجوج وموتهم - قال ثم تنسف الجبال وتمد الأرض مد الأديم» الحديث رواه الإمام أحمد وابن ماجه وابن جرير, والحاكم وصححه, ووافقه الذهبي في تلخيصه. وفي حديث الصور الطويل «إن الله تعال يأمر إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول انفخ فينفخ نفخة الفزع فيفزع أهل

الوجه الرابع

السموات والأرض إلا من شاء الله ويأمره فيطيلها ويديمها ولا يفتر, فيسير الله الجبال فتمر مر السحاب فتكون سرابا» رواه ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا. الوجه الرابع: أن المصنف قرر نسف الجبال في الدنيا بفعل بني آدم, واستدل على ذلك بقول الله تعالى (وإذا الجبال سيرت) وبما في حديث سمرة وحديث ابن مسعود رضي الله عنهما ثم قرر نسفاً آخر يكون بعد قيام الساعة وهو المذكور في قول الله تعالى (ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا). والحق أن النسف إنما يكون مرة واحدة وأن ما ذكر في قوله تعالى (وإذا الجبال سيرت) وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - عن عيسى عليه الصلاة والسلام «ثم تنسف الجبال وتمد الأرض مد الأديم» هو بعينه ما ذكر في قول الله تعالى (ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا) وغيرها من الآيات التي تقدم ذكرها, ولا دليل على تعدد النسف والله أعلم. الوجه الخامس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ (إذا الشمس كورت) و (إذا السماء انفطرت) و (إذا السماء انشقت)» رواه الإمام أحمد والترمذي والحاكم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما, وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي في تلخيصه. وهذا الحديث الصحيح يدل على أن نسف الجبال إنما يكون يوم القيامة, وفيه رد لقول المصنف إن ذلك كائن الآن بفعل بني آدم؛ وفيه أيضا قطع ما تعلق به المصنف من قول الله تعالى (وإذا الجبال سيرت) وبيان أنه لا وجه لاستدلاله بهذه الآية على وقوع النسف في الدنيا.

تأويله لقوله تعالى: {وإذا النجوم انكدرت} والرد عليه

فصل وقال المصنف في صفحة (28 - 29) ما نصه: ومن ذلك الكهرباء والاستنارة بها في الدور والطرق وفي الأسفار على البوابير والسيارات, فهي والله أعلم المراد بقوله تعالى (وإذا النجوم انكدرت) , فقد قدمنا عن الصحابة وغيرهم من التابعين أنها من العلامات الواقعة في الدنيا قبل قيام الساعة. وانكدار النجوم ضعف نورها أو ذهابه بالكلية عند وجود النور الكهربائي والاستغناء به في الطرق والأسفار عن نورها والاهتداء به في ظلمات الليل دونها, فإن الناس قبل ظهور النور الكهربائي ما كانوا يهتدون في ظلمات الليل في الأسفار إلا بالنجوم فلما ظهرت الكهرباء انكدرت أنوارها واستغنى الناس عنها؛ كما عطلت الإبل واستغنى الناس عنها أيضا بالسيارات وبوابير السكة الحديدية, وذكر الله تعالى ذلك أيضا بقوله (وإذا العشار عطلت) كما سبق بيانه. ويؤيد هذا ويزيده وضوحاً أن الله تعالى عبر عن الشمس بالتكوير دون الانكدار وذهاب النور, لأن أنوار الكهرباء مهما عظمت قوتها لا تؤثر على نور الشمس بل بالعكس فإن الشمس هي التي تؤثر في أنوار الكهرباء فلا يظهر لها أثر مع سلطان الشمس بخلاف النجوم.

أحدها

والجواب عن هذا من وجوه: أحدها: أن المراد بانكدار النجوم طمسها وانتشارها على وجه الأرض كما سيأتي بيانه, وليس المراد به ما ذهب إليه المصنف من اختفائها عن الأبصار بسبب الأنوار الكهربائية, فإن ذلك لا يكون طمسا لها فضلا عن الانكدار. واستدلال المصنف بالآية على ما ذهب إليه لا وجه له؛ وهو من تأول القرآن على غير تأويله. الوجه الثاني: أن طمس النجوم وانكدارها إنما يكون يوم القيامة, قال الله تعالى: (فإذا النجوم طمست. وإذا السماء فرجت. وإذا الجبال نسفت. وإذا الرسل أقتت. لأي يوم أجلت. ليوم الفصل. وما أدراك ما يوم الفصل) وقال تعالى: (إذا الشمس كورت. وإذا النجوم انكدرت). قال البغوي في تفسيره (وإذا النجوم انكدرت) أي تناثرت من السماء وتساقطت على الأرض, يقال انكدر الطائر إذا سقط عن عشه, قال الكلبي وعطاء: تمطر السماء يومئذ نجوماً فلا يبقى نجم إلا وقع. وقال ابن كثير في تفسيره (وإذا النجوم انكدرت) أي انتثرت كما قال تعالى (وإذا الكواكب انتثرت). وأصل الانكدار: الانصباب, وقال الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: ست آيات قبل يوم القيامة, بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس, فبينما

الوجه الثالث

هم كذلك إذ تناثرت النجوم .. الحديث. رواه ابن أبي الدنيا وابن جرير وابن أبي حاتم وقد تقدم ذكره (صفحة 54). قال ابن كثير: وهكذا قال مجاهد والربيع بن خثيم والحسن البصري وأبو صالح وحماد بن أبي سليمان والضحاك في قوله جل وعلا (وإذا النجوم انكدرت) أي تناثرت. قلت: وقال قتادة انكدرت: تساقطت وتهافتت. وقد قال أهل اللغة في الانكدار بمثل ما قاله المفسرون في ذلك, قال الجوهري: انكدر أي أسرع وانقض, وانكدرت النجوم. وقال الراغب الأصفهاني: الانكدار يعبر عن انتثار الشيء, قال: (وإذا النجوم انكدرت) , وانكدر القوم على كذا إذا قصدوا متناثرين عليه. وقال ابن منظور في «لسان العرب»: انكدرت النجوم تناثرت. وكذا قال صاحب القاموس وغيره أن معنى انكدرت النجوم تناثرت. وقد تقدم حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ (إذا الشمس كورت) و (إذا السماء انفطرت) و (إذا السماء انشقت)» وهذا الحديث فيه رد لما تعلق به المصنف من الآية الكريمة. الوجه الثالث: أن ما ذكره عن بعض الصحابة والتابعين أن الآيات الست في أول سورة التكوير تكون في الدنيا قبل قيام الساعة, فليس مرادهم ما ذهب إليه من وقوع ذلك قبل قيام

الوجه الرابع

الساعة بزمن طويل, وإنما مرادهم أن ذلك يكون عند قيام الساعة, وأن ذلك من جملة الأهوال التي تكون عند قيامها والناس يشاهدون ذلك. وأول ذلك ذهاب ضوء الشمس كما في حديث أبي بن كعب رضي الله عنه, وإذا كان ذهاب ضوء الشمس هو أول ما يقع من الآيات فأي متعلق للمصنف في شيء مما ذكره الله تعالى في أول سورة التكوير؟ الوجه الرابع: أن الناس لم يستغنوا عن الاهتداء بالنجوم في أسفارهم, ولا سيما اذا سافروا في الطرق التي لم تعبد فإنهم كثيراً ما تشتبه عليهم الجهة التي يقصدونها فيرجعون إلى الاهتداء بالنجوم. وكذلك جهة القبلة إنما يهتدون إليها في النهار بالشمس وفي الليل بالنجوم. الوجه الخامس: أن الظاهر من كلام المصنف وتقريره أن تكوير الشمس هو شدة ضوئها وغلبته على الأنوار الكهربائية. وهذا خطأ مخالف لما قاله المفسرون في معنى تكوير الشمس. قال ابن كثير في تفسيره: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما (إذا الشمس كورت) يعني أظلمت. وقال العوفي عنه: ذهبت. وقال مجاهد: اضمحلت وذهبت, وكذا قال الضحاك. وقال قتادة: ذهب ضوؤها. وقال سعيد بن جبير كورت غورت, وقال الربيع بن خثيم: كورت رمي بها. وقال

أبو صالح: كورت ألقيت, وعنه أيضاً نكست. وقال زيد بن أسلم: تقع في الأرض. قال ابن جرير: والصواب من القول عندنا في ذلك أن التكوير جمع الشيء بعضه إلى بعض, ومنه تكوير العمامة وجمع الثياب بعضها إلى بعض, فمعنى قوله تعالى كورت جمع بعضها إلى بعض ثم لفت فرمى بها, وإذا فعل بها ذلك ذهب ضوؤها. ثم ذكر ما رواه ابن أبي حاتم عن شيخ من بجيلة عن ابن عباس رضي الله عنهما «إذا الشمس كورت» قال: يكور الله الشمس والقمر والنجوم يوم القيامة في البحر, ويبعث الله ريحاً دبوراً فيضرمها ناراً. قال ابن كثير: وكذا قال عامر الشعبي.

كلامه في المطر الذي يكون مع الدجال وجبل الخبز ونهر الماء, والرد عليه

فصل وفي صفحة «29 - 32»: قرر المصنف أن المطر الذي يكون مع الدجال هو المطر الصناعي, وأن ما يكون معه من جبل الخبز ونهر الماء هو ما يحمله في العربات الحاملة للماء والعربات الحاملة للخبر وماكينات العجين والخبر والطبخ وما إليها مما هو موجود الآن لدى سائر الدول لاستعمالها في الحروب, وان ذلك كله بالأسباب العادية التي أجراها الله تعالى على يد غيره واخترعها الإفرنج قبل ظهوره فاستعملها هو لدعوته. والجواب أن يقال: إن الأمور التي تكون مع الدجال من الأمور الغيبية فلا يقال فيها بمجرد الرأي وإنما ينتهى فيها إلى ما جاء عن المعصوم صلوات الله وسلامه عليه. والذي يظهر من الأحاديث أن ما يجريه الله تعالى على يدي الدجال يكون من خوارق العادات لا من الأسباب العادية التي تعرفها الناس ويستعملونها, وذلك أعظم الفتنة, فأما الأمور التي قد سبقه بها غيره وعرفها الناس فليس في إتيانه بها أمر خارق يفتتن به الناس. وقد جاء في الحديث الصحيح «أنه يأمر السماء أن تمطر فتمطر, ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت فتروح سارحة القوم عليهم أطول ما كانت ذرى وأسبغه ضروعاً وأمده خواصر».

رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن إلا النسائي من حديث النواس بن سمعان الكلابي رضي الله عنه. وهذا شيء خارق للعادة لا من الأسباب العادية التي يعرفها الناس ويستعملونها. وقد دل هذا الحديث على أن السماء تمطر بمجرد أمره لها أن تمطر, لا بآلات يستعملها ذلك. ودل الحديث أيضاً على أن الأرض تنبت النبات في الحال من غير آلة يستعملها لذلك, وإن السارحة تروح من يومها وهي طويلة الذرى سابغة الضروع ممتدة الخواصر. وفي الحديث أيضاً أنه «يلبث في الأرض أربعين يوماً يوم منها كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة». وهذا شيء خارق للعادة. وفي الحديث أيضاً أنه يمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك, فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل, وأنه يدعو رجلا ممتلئاً شباباً فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض, ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك. وفي الحديث الآخر أن له حماراً يركبه عرض ما بين أذنيه أربعون ذراعاً. وهو حديث صحيح وقد تقدم ذكره. وهذا كله من خوارق العادات, لا من الأسباب التي يعرفها الناس ويستعملونها. ولهذا كانت فتنة الدجال أعظم فتنة تكون في الدنيا, كما في سنن ابن ماجة عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن رسول الله

تأويله لانتفاخ الأهلة والرد عليه

- صلى الله عليه وسلم - قال: «لم تكن فتنة في الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم أعظم من فتنة الدجال, وإن الله لم يبعث نبياً إلا حذر أمته الدجال». وفي المسند وصحيح مسلم عن هشام بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال». وفي رواية «أمر أكبر من الدجال». ولما كانت فتنته أعظم الفتن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاستعاذة منها في كل صلاة, وحذر منه وأنذر في عدة أحاديث. وفي المسند وسنن أبي داود عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سمع بالدجال فلينأ عنه» - وفي رواية لأحمد: يقولها ثلاثا - فو الله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات». ولو كان ما مع الدجال من الأسباب العادية التي يعرفها الناس ويستعملونها لكان شأنه كشأن سائر الدول التي تصنع المخترعات العجيبة وتستعملها ولم يكن للتحذير منه بخصوصه كبير فائدة. فصل وفي صفحة (33 - 34): تأول المصنف ما جاء في حديثي ابن مسعود وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «من اقتراب الساعة انتفاخ الأهلة» على آلات الرصد التي يرى بها الهلال عند أول ظهوره. ولا يخفى: أن الحديث ضعيف, ولو صح لكان محمولا على ظاهره. لا على وجود آلات الرصد إذ لا غرابة في ذلك والله أعلم.

تأويله لقوله تعالى: {حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت} والرد عليه

فصل وقال في صفحة (38) ما نصه: ومن ذلك زينة الأرض وحضارتها بتعبيد الطرق وإحداث الشوارع وإضاءتها بالأنوار ووجود الأبنية الطويلة ذات الطبقات المتعددة وغير ذلك من أنواع الزينة والحضارة. وقد ذكر الله تعالى ذلك من أشراط الساعة الدالة على قربها جداً فقال تعالى (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس). والجواب: أن يقال إن هذه الآية ليست واردة في أشراط الساعة كما زعمه المصنف, وإنما هي مثل ضربه الله تعالى لزهرة الحياة الدنيا وزينتها وسرعة انقضائها وزوالها: بالنبات الذي يخرجه الله تعالى من الأرض بالماء الذي ينزله من السماء. ولهذه الآية نظائر في سورة الكهف وسورة الزمر وسورة الحديد وقد ذكرتها فيما تقدم.

كذبه على النبي - صلى الله عليه وسلم - , وعلى النجديين, والرد عليه

فصل وقال المصنف في صفحة (50) ما نصه: إخباره - صلى الله عليه وسلم - بالإهمال الواقع من النجديين للمدينة المنورة الذي سيؤول بها إلى الخراب. روى أحمد وأبو داود من حديث معاذ بن جبل قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عمران بيت المقدس خراب يثرب وخراب يثرب خروج الملحمة وخروج الملحمة فتح القسطنطينية وفتح القسطنطينية خروج الدجال». فعمران بيت المقدس قد ابتدأ وظهر إن لم يكن تم بإنشاء دولة اليهود فيه فإنهم عمروه ولا زالوا جادين في عمارته. والمدينة المنورة في طريق الخراب, لمحاربة القرنيين لها وسعيهم في القضاء عليها بعدم التفاتهم إليها وإلى إصلاحها, مع إهمالهم لأهلها ومعاكستهم لمن يريد الإقامة بها وصرفهم النظر عن سكانها وعدم مساعدتهم ومد يد المعونة إليهم, لتخرب ولا يبقى بها ساكن ولا مجاور لسيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - , بغضاً منهم في جانبه الشريف واعتقاداً منهم - قبحهم الله - أن زيارته وتعظيمه بدعة وضلال, فهم يسعون لذلك في خرابها حتى ينصرف الناس عن المجاورة والزيارة. وخرابها كما ترى من أشراط الساعة. والجواب عن هذا من وجوه: أحدها: أن ما ذكره عن النجديين من الإهمال للمدينة وأهلها إلى آخر كلامه الذي أقذع فيه فكله كذب وبهتان.

وكل من رأى حال المدينة وأهلها في هذا الزمان يعلم حقاً جراءة هذا الصوفي على الكذب والبهتان وإسرافه في ذلك, وقد قيل: لي حيلة فيمن ينمُّ ... وليس في الكذاب حيله من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليله وقال بعض السلف يفسد الكذاب والنمام في ساعة ما لا يفسد الساحر في سنة. والكذب من كبائر الإثم وقد قال الله تعالى (إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب). وقال تعالى (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا) وقال تعالى (إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين) قال أبو قلابة هي والله لكل مفتر إلى يوم القيامة. وروى الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة, وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا. وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار, وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا». وروى ابن حبان في صحيحه عن أبي بكر الصديق رضي الله

عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بالصدق فإنه مع البر, وهما في الجنة. وإياكم والكذب فإنه مع الفجور, وهما في النار». وروى الطبراني في الكبير بإسناد حسن عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «عليكم بالصدق فإنه يهدي إلى البر, وهما في الجنة وإياكم والكذب فإنه يهدي إلى الفجور وهما في النار». وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رجلا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ما عمل الجنة؟ قال «الصدق إذا صدق العبد بر وإذا بر آمن, وإذا آمن دخل الجنة» قال يا رسول الله وما عمل النار قال «الكذب: إذا كذب العبد فجر وإذا فجر كفر وإذا كفر دخل» يعني النار. وروى الإمام أحمد أيضا والبخاري في صحيحه عن سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «أتاني الليلة آتيان وإنهما ابتعثاني - فذكر الحديث وفيه - فانطلقت معهما فأتينا على رجل مستلق لقفاه, وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد, وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه - قال - ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول, فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح الأول كما كان, ثم يعود فيفعل به مثل ما فعل به المرة الأولى - قال - قلت سبحان الله ما هذان؟ - قال - قالا لي: انطلق انطلق- الحديث وفي آخره - وأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه وعيناه إلى قفاه

ومنخراه إلى قفاه فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق». وروى الترمذي في جامعه عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا كذب العبد تباعد عنه الملك ميلا من نتن ما جاء به»: قال الترمذي هذا حديث حسن جيد غريب. وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب» وروى البزار وأبو يعلى نحوه من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. وروى الإمام أحمد أيضا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: يا أيها الناس إياكم والكذب فإن الكذب مجانب للإيمان. ورواه البيهقي مرفوعا وقال: الصحيح أنه موقوف. وروى مالك عن صفوان بن سليم مرسلا قال قيل: يا رسول الله أيكون المؤمن جبانا؟ قال نعم, قيل: أيكون المؤمن بخيلا؟ قال: نعم قيل له: أيكون المؤمن كذابا قال: لا. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «آية المنافق ثلاث. إذا حدث كذب, وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان» وفي رواية لمسلم: «آية المنافق ثلاث وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم» ورواه الإمام أحمد ولفظه قال: «ثلاث من كن فيه فهو منافق, وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: من إذا حدث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا اؤتمن خان إسناده صحيح على شرط مسلم.

الوجه الثاني

وفي الصحيحين والمسند والسنن عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان, وإذا حدث كذب, وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر». وروى أبو يعلى وأبو الشيخ الأصبهاني عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «ثلاث من كن فيه فهو منافق, وإن صام وصلى وحج واعتمر وقال إني مسلم: إذا حدث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا اؤتمن خان». وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى كان يقال: أس النفاق الذي بني عليه: الكذب. والأحاديث في ذم الكذب والتحذير منه كثيرة, وفيما ذكرته كفاية. ومما يؤسف له صدور الكذب والبهتان من المصنف مع دعواه لنفسه مرتبة الكمال في آخر كتابه, وأنه من القائمين بكتاب الله الداعين إليه سراً وعلانية فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. الوجه الثاني: أن المدينة كانت في زمان ولاية الترك عليها كسائر القرى المتأخرة في أنواع العمارة والتنظيم؛ وكان السكان فيها قليلا والخراب في بيوتها كثيراً لقلة من يمر بها في غير وقت الحج. ولما ولي عليها أهل نجد جعلوها هي ومكة, نصب أعينهم

الوجه الثالث

وموضوع عنايتهم, فكانوا يهتمون بهما وبأهلهما أعظم من اهتمامهم بعاصمة ملكهم التي كانوا يسكنون فيها وبأهلها حتى صارت المدينة الآن من المدن الكبار في السعودية, متباعدة الأطراف كثيرة السكان معموراً أكثرها بأحسن العمارة الحديثة ومنظمة بأحسن التنظيم. وقد زاد النجديون في المسجد النبوي منذ سنوات أكثر من مثله في ولاية الترك على المدينة, ولا يزال مع ذلك يضيق بالمصلين فيه, والخيرات في المدينة كثيرة جداً وأهلها في نعمة عظيمة ورخاء من العيش وافر وأمن وطمأنينة. وقد كثر الوافدون إليها في كل وقت, وخصوصاً لما عبدت الطرق إليها فلا تزال في كثير من الأوقات مزدحمة بالسكان والوافدين. فإن كان المصنف لم يرها في الوقت الحاضر فليقدم إليها ولينظر إليها حتى يعلم بطلان ما قاله فيها وفي أهلها وفيمن لهم الأمر فيها. الوجه الثالث: أن عمران بيت المقدس, الذي جاء ذكره في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه, ليس هو بتضخيم البناء وزخرفته وتنظيمه على الأشكال الحديثة كما توهمه المصنف, وإنما عمرانه بظهور الإيمان وطاعة الله تعالى فيه؛ وإزالة الشرك والبدع وسائر المنكرات منه, وهذا لم يكن إلى الآن, وسيكون ذلك فيما بعد إذا كانت الخلافة في الأرض المقدسة قبل خروج الدجال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام.

كما في حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذكر الدجال, وفيه: فقالت أم شريك بنت أبي العكر: يا رسول الله فأين العرب يومئذ؟ قال «هم قليل, وجلهم يومئذ ببيت المقدس, وإمامهم رجل صالح. فبينما إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح إذ نزل عليهم عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام فرجع ذلك الإمام ينكص يمشي القهقرى ليقدم عيسى يصلي, فيضع عيسى يده بين كتفيه ثم يقول له: تقدم فصل فإنها لك أقيمت, فيصلي بهم إمامهم ...» الحديث. رواه ابن ماجه. وروى الإمام أحمد وأبو داود والبخاري في تاريخه والحاكم في مستدركه عن عبد الله بن حوالة الأزدي رضي الله عنه قال: وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على رأسي - أو على هامتي- ثم قال: «يا ابن حوالة إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة فقد دنت الزلازل والبلابل والأمور العظام, والساعة يومئذ أقرب إلى الناس من يدي هذه من رأسك» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي في تلخيصه. وقد قال الله تعالى: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله). وقال تعالى (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها). وفي هاتين الآيتين دليل على أن العمارة في الحقيقة إنما هي بالإيمان وإعلاء كلمة الله. وأن الخراب كل الخراب بضد ذلك.

الوجه الرابع

ويدل على ذلك أيضاً حديث علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يوشك أن يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه, ولا يبقى من القرآن إلا رسمه, مساجدهم عامرة وهي خراب من الهدى, علماؤهم شر من تحت أديم السماء, من عندهم تخرج الفتنة وفيهم تعود» رواه البيهقي في «شعب الإيمان» , وذكره الإمام أحمد في كتاب الصلاة مختصراً. وذكر الإمام أحمد أيضاً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال توشك القرى أن تخرب وهي عامرة, قيل: وكيف تخرب وهي عامرة؟ قال: إذا علا فجارها أبرارها, وساد القبيلة منافقها. ورواه أبو موسى المديني في كتاب «دولة الأشرار». وإذا علم هذا فاليهود لم يعمروا بيت المقدس كما زعمه المصنف, وإنما هم مخربون له, ولا زالوا جادين في تخريبه حتى تنزل الخلافة فيه وتطهره منهم ومن إخوانهم من المشركين والمنافقين. الوجه الرابع: أن بغض الرسول - صلى الله عليه وسلم - من نواقض الإسلام فمن أبغضه, أو أبغض شيئاً مما جاء به, فهو كافر, وقد حكى شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى الاتفاق على هذا. ومع هذا فقد زعم هذا الصوفي الملحد في آيات الله تعالى أن النجديين يبغضون الرسول - صلى الله عليه وسلم - , ويعتقدون أن زيارته ومجاورته وتعظيمه بدعة وضلال.

والجواب عن هذه الفرية أن نقول: سبحانك هذا بهتان عظيم. وقد قال بهذه الفرية قبله غير واحد من سلفه وأشباهه من أهل الزيغ والإلحاد, ورد عليهم المحققون من أهل نجد وغيرهم بما يشفي ويكفي. وقد قال الله تعالى (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً). وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من ذكر امرأً بشيء ليس فيه, ليعيبه به, حبسه الله في نار جهنم حتى يأتي بنفاذ ما قال فيه» رواه الطبراني, قال المنذري: وإسناده جيد. وفي رواية له «أيما رجل أشاع على رجل مسلم بكلمة وهو منها بريء, يشينه بها في الدنيا, كان حقاً على الله أن يذيبه يوم القيامة في النار حتى يأتي بنفاذ ما قال». وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال» رواه الإمام أحمد وأبو داود والطبراني وزاد: «وليس بخارج». وكلام المصنف في زيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمه: فيه إجمال. فإن كانت الزيارة بغير سفر فلا خلاف في جوازها, وليس أحد من علماء النجديين يمنع منها, فضلا عن أن يعتقدوها بدعة وضلالا كما زعمه المصنف كذباً وافتراء عليهم.

وإن كانت الزيارة تحتاج إلى سفر فهي داخلة فيما نهى عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة كما في الصحيحين والمسند والسنن - إلا الترمذي - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام, ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - , ومسجد الأقصى» هذا لفظ البخاري, وفي رواية لمسلم «إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد: مسجد الكعبة, ومسجدي, ومسجد إيلياء». قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» قوله لا تشد الرحال بضم أوله بلفظ النفي والمراد النهي عن السفر إلى غيرها قال الطيبي: هو أبلغ من صريح النهي, كأنه قال لا يستقيم أن يقصد بالزيارة إلا هذه البقاع, لاختصاصها بما اختصت به, وكنى بشد الرحال عن السفر لأنه لازمه, وخرج ذكرها مخرج الغالب في ركوب المسافر, وإلا فلا فرق بين ركوب الرواحل والخيل والبغال والحمير والمشي في المعنى المذكور, ويدل عليه قوله في بعض طرقه: «إنما يسافر» انتهى. وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد: مسجد الحرام, ومسجد الأقصى, ومسجدي» هذا لفظ البخاري, ولفظ مسلم: «لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا, والمسجد الحرام, والمسجد الأقصى».

ورواه ابن ماجه في سننه من حديث أبي سعيد وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: إلى المسجد الحرام, وإلى المسجد الأقصى, وإلى مسجدي هذا». وروى الطبراني في الصغير عن علي رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا, والمسجد الحرام, والمسجد الأقصى». وفي الموطأ والمسند وسنن النسائي عن بصرة بن أبي بصرة رضي الله عنه أنه قال لأبي هريرة رضي الله عنه - وقد أقبل من الطور -: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه لما خرجت, سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام, ومسجدي هذا, والمسجد الأقصى». وقد رواه الإمام أحمد أيضاً وأبو داود الطيالسي والبخاري في التاريخ الكبير من حديث أبي بصرة رضي الله عنه, بنحوه. وقد تحصل من ألفاظ هذه الأحاديث ثلاث صيغ: النفي, والنهي, والحصر, وكل واحدة من هذه الصيغ تفيد أنه لا يجوز السفر إلى زيارة شيء من القبور ولا المساجد والأماكن المعظمة سوى المساجد الثلاثة. وباجتماع هذه الصيغ الثلاث يزداد المنع شدة, والله أعلم. وإذا كان شد الرحال إلى زيارة القبور معصية للنبي - صلى الله عليه وسلم - فما ذنب النجديين إذا نهوا عن ذلك واعتقدوه بدعة وضلالا عن

الصراط المستقيم, فليس النجديون بمخطئين في نهيهم عن الزيارة البدعية, وإنما المخطئ الأثيم من أجازها وارتكب ما نهى عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة, فخالف بذلك قول الله تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب). وأما تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم -: فإن كان ذلك بما أمر الله به, من طاعته ومحبته واحترامه وتوقيره واتباع أوامره واجتناب نواهيه, فذلك واجب على كل مسلم, وجميع المؤمنين من النجديين وغيرهم على هذا المذهب, وليس أحد من مؤمني أهل نجد يخالف في هذا؛ فضلا عن أن يعتقدوه بدعة وضلالا كما زعم ذلك المصنف كذباً وافتراء عليهم. وإن كان تعظيمه - صلى الله عليه وسلم - بما نهى عنه من اللغو فيه وإطرائه كما أطرت النصارى عيسى بن مريم, واتخاذ قبره عيداً والالتجاء إليه في قضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات كما يفعله كثير من المفتونين بالقبور, فذلك ضلال عن الصراط المستقيم. ومن اعتقد ذلك بدعة وضلالا فهو المصيب, ومن أنكر عليه فهو التائه الضال, والله أعلم. وأما تسمية المصنف للنجديين بالقرنيين, فمراده أنهم هم قرن الشيطان الذي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بطلوعه. وسيأتي الجواب عن هذا إن شاء الله تعالى عند قوله في صفحة (76): «ولما طلع قرن الشيطان بنجد». والله المستعان؛ وهو حسبنا ونعم الوكيل.

قوله - صلى الله عليه وسلم - «سيكون بعدي سلاطين, الفتن على أبوابهم كمبارك الإبل, لا يعطون أحدا شيئا إلا أخذوا من دينه مثله»

فصل وقال المصنف في صفحة (51) ما نصه: روى الطبراني في الكبير والحاكم في المستدرك, من حديث عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «سيكون بعدي سلاطين, الفتن على أبوابهم كمبارك الإبل, لا يعطون أحداً شيئاً إلا أخذوا من دينه مثله». فسلاطين الفتن هم الموجودون في هذا العصر لا من كان قبلهم, بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «على أبوابهم كمبارك الإبل» لأن هذا وصف السيارات ومواقفها, ولم يوجد ذلك إلا في عصرنا هذا على أبواب ملوك الوقت الذين هم منشأ الفتن القائمة الآن في سائر الأقطار الإسلامية كما هو معلوم. ويؤيد ذلك أيضاً ذكره لبعضهم ووصفه - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالوصف الذي لم يكن موجوداً قبل وقتنا هذا, فروى الطبراني في الكبير من مرسل عبد الله بن رباح قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يوشك أن يؤمر عليهم الرويجل فيجتمع إليه قوم محلقة أقفيتهم بيض قمصهم, فإذا أمرهم بشيء حضروا» فالقوم المحلقة أقفيتهم هم العصريون المتفرنجون الذين يلبسون القمص تحت الملابس الإفرنجية أيضاً ويحلقون أقفيتهم تشبهاً بالكفار, وهم الملتفون حول سلاطين الوقت أهل الفتن. أما من كان قبل هذا العصر فلم يكن فيهم قوم محلقة أقفيتهم ولا على أبوابهم كمبارك الإبل.

أحدهما

والجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أن حديث عبد الله بن الحارث بن جزء ضعيف جداً لأن في إسناده «حسان بن غالب» قال الدارقطني ضعيف متروك, وكذا قال الذهبي والهيثمي أنه متروك, وذكره ابن حبان فقال: شيخ من أهل مصر يقلب الأخبار, ويروي عن الأثبات الملزقات لا تحل الرواية عنه إلا على سبيل الاعتبار. وفيه أيضاً «ابن لهيعة» , وهو ضعيف. وعلى هذا فليس هذا الحديث بشيء ولا يعتد به. الوجه الثاني: لو قدرنا صحة هذا الحديث فهو عام لسلاطين الفتن في هذا الوقت ولم كان قبلهم من زمان بني أمية إلى يوم القيامة وليس فيه ما يدل على تخصيص أهل هذا العصر بذلك. وأما استدلال المصنف على ما ذهب إليه بقوله على أبوابهم كمبارك الإبل, وأن هذا وصف السيارات ومواقفها على أبواب ملوك الوقت فهو استدلال في غاية البعد والتكلف, إذ ليس بين الإبل وبين السيارات شيء من المشابهة. وأيضاً فإنه قال في الحديث «الفتن على أبوابهم كمبارك الإبل» والمبارك: آثار الإبل في الأرض لا أجسام الإبل والمعنى أن الفتن على أبوابهم كثيرة تشبه في كثرتها آثار الإبل التي تناخ عند أبوابهم. ولو كان الأمر على ما ذهب إليه المصنف لقال على أبوابهم كالإبل البروك أو الإبل المناخة.

وأما الحديث الآخر الذي ذكره المصنف عن عبد الله بن رباح. فصوابه: «عبد الله بن وراح» براء ثقيلة ثم حاء مهملة, هكذا ضبطه الحافظ ابن حجر في «الإصابة». وهو معدود في الصحابة فحديثه متصل وليس بمرسل. وقد ظهر مصداق حديثه في زمنه بل فيه نفسه وفي جزء بن سهيل السلمي رضي الله عنه: قال جبير بن نفير: كان عبد الله بن وراح قديماً له صحبة, وحدثنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «يوشك أن يؤمر عليكم الرويجل, فيجتمع عليه قوم محلقة أقفيتهم بيض قمصهم, فإذا أمرهم بشيء حضروا» ثم إن عبد الله بن وراح ولي على بعض المدن, فاجتمع إليه قوم من الدهاقين محلقة أقفيتهم بيض قمصهم, فكان إذا أمرهم بشيء حضروا فيقول: صدق الله ورسوله. رواه الطبراني, قال الهيثمي: ورجاله ثقات. وعن جبير بن نفير أيضاً قال: قال ابن حوالة رضي الله عنه كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشكوا إليه الفقر والعري وقلة الشيء, فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «أبشروا فوالله لأنا لكثرة الشيء أخوف عليكم من قلته, والله لا يزال هذا الأمر فيكم حتى يفتح لكم جند بالشام وجند بالعراق وجند باليمن حتى يعطي الرجل المائة فيسخطها» قال عبد الله بن حوالة: ومتى نستطيع الشام مع الروم ذات القرون؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليفتحها لكم ويستخلفكم فيها حتى تظل العصابة منهم, البيض قمصهم, المحلقة أقفاؤهم,

تأويله لحديثين؛ والرد عليه

قياماً على الرويجل الأسيود منكم, ما أمرهم بشيء فعلوه, وإن بها اليوم رجالا لأنتم أحقر في أعينهم من القردان في أعجاز الإبل» رواه الطبراني بإسنادين قال الهيثمي: رجال أحدهما رجال الصحيح غير نصر بن علقمة وهو ثقة. وقد رواه البيهقي بنحوه وزاد: قال أبو علقمة نصر بن علقمة سمعت عبد الرحمن بن جبير ابن نفير يقول: فعرف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعت هذا الحديث في جزء بن سهيل السلمي, وكان على الأعاجم في ذلك الزمان, فكانوا إذا رجعوا من المسجد نظروا إليه وإليهم قياماً حوله, فيعجبون لنعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه وفيهم, ورواه ابن عساكر في تاريخه وثابت بن قاسم في الدلائل بنحوه وزادا - بعد قوله وكان على الأعاجم -: وكان أسود قصيراً, فكانوا يرون تلك الأعاجم وهم حوله قيام, لا يأمرهم بشيء إلا فعلوه, فيتعجبون من هذا الحديث. وفي هذا الحديث والذي قبله رد لما ذهب إليه المصنف في معنى حديث عبد الله بن وراح رضي الله عنه, وان المراد به العصريون المتفرنجون الذين يلبسون القمص تحت الملابس الإفرنجية ويحلقون أقفيتهم تشبهاً بالكفار. وفيهما أيضاً رد لقوله إن الوصف المذكور في حديث عبد الله بن وراح رضي الله عنه لم يكن موجوداً قبل وقتنا هذا, وأن من كان قبل هذا العصر لم يكن فيهم قوم محلقة أقفيتهم.

كلامه في إنشاء دولة اليهود, وتأويله لقوله تعالى: {وحبل من الناس} والرد عليه

فصل وفي صفحة (52): ذكر المصنف إنشاء دولة اليهود, وأن دولتهم إنما كونها لهم الإنجليز والأمريكان, وأن الله تعالى أخبر بذلك في قوله تعالى (ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس) قال: فالحبل هو العهد والسبب, والناس هم الإنجليز والأمريكان. ثم ذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار إلى ذلك في حديث معاذ السابق قريباً حيث قال «عمران بيت المقدس خراب يثرب» الحديث. قال: وبيت المقدس ما عمر تمام العمارة إلا بعد إنشاء دولة اليهود. والجواب عن حديث معاذ وكلام المصنف عليه قد تقدم قريباً (في صفحة 80) فليراجع. وأما قوله إن الناس الذين قال الله تعالى فيهم (وحبل من الناس) هم الإنجليز والأمريكان. فهو من القول في القرآن بمجرد الرأي, وذلك حرام. وجوابه: أن يقال إن الآية عامة لكل من كان اليهود تحت ولايتهم في قديم الدهر وحديثه, من ملوك اليونان والروم

والفرس فيما قبل الإسلام, ثم ملوك المسلمين بعد ذلك, وغيرهم من ملوك النصارى الذين كانت طوائف اليهود عندهم, فإنهم بعد ضرب الذلة عليهم لم يكونوا يأمنون إلا بحبل من الله, وهو عقد الذمة لهم وضرب الجزية عليهم, وحبل من الناس أي أمان منهم لهم. وليست الآية نازلة في الإنجليز والأمريكان, ولا خاصة فيهم, كما توهمه المصنف.

تخبيطه في شأن المصريين, والرد عليه

فصل وفي صفحة (54 - 55): تخبيط كثير في شأن المصريين زعم فيه المصنف أنهم هم الذين قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - «لا تزال طائفة على الحق ظاهرين على من ناوأهم, كالإناء بين الأكلة, حتى يأتي أمر الله وهم كذلك». وأنهم الذين قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - «لتقاتلن المشركين حتى يقاتل بقيتكم الدجال على نهر الأردن أنتم شرقيه وهم غربيه» قال: وهذا قد تحقق الآن في المصريين مع الإنجليز والفرنسيين واليهود والأمريكان. ثم ذكر تخبيطاً كثيراً حاصله تأييد ما ذهب إليه من أن المصريين هم الطائفة المنصورة, وأنهم هم الذين يقاتلون الدجال وجنده اليهود. قال: وفي هذا بشارة لهم بالإيمان والعصمة من فتنة الدجال وأن الله تعالى سيظهر لهم كرامة, وهي كلام الشجر والحجر معهم فيقول الشجر والحجر للمؤمن: يا عبد الله هذا كافر ورائي فتعال فاقتله. قال: والمؤمن من جيش مصر والاتحاد العربي فدل على بقاء إيمانهم في ذلك الوقت, وأن فتنته غير ضارة بهم إلا من شاء الله خذلانه. والجواب عن هذا من وجوه: أحدها: أن يقال ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني, ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال, وإذا عرضنا أعمال الكثيرين

الوجه الثاني

من المصريين الآن على ما يأمر به الإيمان ويقتضيه وجدنا بينهم وبين الإيمان كما بين المشرق والمغرب, بل أبعد من ذلك بكثير. الوجه الثاني: أن الطائفة المنصورة هي الفرقة الناجية من الثلاث والسبعين فرقة, وقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الفرقة الناجية من هم؟ فقال: «هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي» , وهذا يدل على بعد المصريين عن وصف الطائفة المنصورة غاية البعد, وذلك لمخالفتهم لمنهاج الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبعدهم عما كان عليه هو وأصحابه غاية البعد. وبيان ذلك من وجوه: 1 - أحدها: أن الله تعالى بعث رسوله ? بالتوحيد, وأمره بمحق الأوثان وجميع المعتقدات التي يتعلق بها المشركون من دون الله تعالى. وقد خالف المصريون هذا فغلوا في القبور غلواً عظيماً, واتخذوا كثيراً منها أوثانا تعبد من دون الله, ولا سيما مشهد البدوي ومشهد الحسين والرفاعي والدسوقي والحنفي ونفيسة وزينب وأمثالهم من المعتقدين المعبودين من دون الله. وقد رأيت في بعض الصحف المصرية منذ سنوات أن الزوار للبدوي في يوم مولده بلغوا خمسمائة ألف تقريباً, وأنه تزوج في ذلك المجمع عشرة آلاف تقريباً, وختن فيه من الأطفال أكثر من ذلك, يرجون بذلك البركة من البدوي. وهذا هو نفس ما بعث النبي ? بمحقه ومجاهدة أهله. ولولا خشية الإطالة لذكرت كثيراً مما يفعله المصريون عند

القبور وغيرها من المواضع التي يعتقدون فيها النفع والضر, وما يصرفونه لبعض الأموات من خصائص الربوبية والألوهية. 2 - ثانيها: أن المصريين قد نبذوا حكم الشريعة وراء ظهورهم, واعتاضوا عنه بالقوانين الوضعية التي هي من حكم الطاغوت والجاهلية, وزعموا أن الحكم بالشريعة يؤخرهم عن اللحاق بدول الكفر من الإفرنج وأضرابهم. وقد قال الله تعالى (من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون). وقال تعالى (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) وقال تعالى (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) وقال تعالى (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) وقال تعالى (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما). 3 - ثالثها: افتتانهم بالاشتراكية الخبيثة التي شرعها لهم الشيوعيون, وزعمهم كذبا وزوراً أنها من دين الإسلام. وهي من أعظم الظلم الذي حرمه الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله ?. 4 - رابعها: قتالهم لأهل اليمن بغير سبب شرعي, وضربهم بالقنابل, وإلقائها أيضاً على المستضعفين في القرى من شيوخهم ونسائهم وأطفالهم. وهذا من أعظم البغي والعدوان.

الوجه الثالث

5 - خامسها: تركهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالكلية. 6 - سادسها: تقليدهم لدول الإفرنج, واتباع سننهم حذو النعل بالنعل في كل شيء حتى في قبائحهم ورذائلهم. 7 - سابعها: انتهاكهم لكثير مما حرمه الله ورسوله, وقد تواترت الأخبار بما فشى وظهر عندهم من كبائر الإثم, ولا حاجة إلى تفصيل أنواع ذلك, إذ لا فائدة في ذكرها وهي معلومة عند كل عاقل نبيه. وإذا كان الأمر كما ذكرنا عنهم - مع أنه أعظم مما ذكرنا بكثير - وعلم أنهم بعيدون غاية البعد عما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه, فهل يقول عاقل بعد هذا إنهم هم الطائفة المنصورة؟ كلا, لا يقول هذا عاقل, وإنما يقوله من أعمى الله بصيرته. الوجه الثالث: أن المصنف نقض ما ادعاه في المصريين, فقال في صفحة (82) من كتابه ما نصه: وبسبب هؤلاء الملاحدة المارقين انتشر الكفر والإلحاد حتى بين طلبة علم الدين فصاروا أكفر من طلبة المدارس, وألحد من رؤوس هؤلاء الزنادقة, تقليداً لهم وعملا بدعايتهم, وصار معهد القرويين معهداً للإلحاد والكفر بالله ومحاربة القرآن والسخرية من العقائد الإسلامية, والاستهانة بالدين وبأشرف الخلق - صلى الله عليه وسلم - , مع تعظيم شأن الملاحدة ومشاهير الكفار, حتى صاروا يمنعون المدرس أن يستدل بالقرآن أو يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - باسم الرسالة, ويأمرونه

إذا ذكره أن يقول: «قال محمد» فقط بل صار المدرس منهم ينادي بأن تفكيره هداه إلى أن دين الإسلام غير صحيح, وأنه حر في عقيدته, في أمثال هذا مما هو معروف. أما الصلاة فهم أبعد الناس منها وهي أبغض شيء إليهم, وهكذا كان حال طلبة الأزهر بالنسبة إلى الصلاة, فكنت ترى الناس يصلون وهم يأكلون ويمزحون ويمرحون ويضحكون. انتهى كلامه. فانظر إلى ما ذكره عن طلبة الأزهر من تضييع الصلاة والاستخفاف بشأنها, وإذا كان هذا حال الطلبة فما الظن بغيرهم؟ وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة» رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن وغيرهم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما, وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ولفظ مسلم. «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة». وروى الإمام أحمد وابنه عبد الله والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارقطني والآجري عن بريدة رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. وصححه أيضا ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي في تلخيصه. والأحاديث في تكفير تارك الصلاة كثيرة جدا وليس هذا موضع ذكرها.

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا إسلام لمن ترك الصلاة وفي رواية: لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة. رواه مالك وغيره. والآثار عن الصحابة في تكفير تارك الصلاة كثيرة جداً, وليس هذا موضع ذكرها. وإذا كان طلبة الأزهر قد أضاعوا عمود الإسلام وأعظم أركانه بعد الشهادتين فهم لما سوى ذلك من شعائر الإسلام أشد تضييعا!! وقد روى مالك في الموطأ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى عماله: إن أهم أموركم عندي الصلاة من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه, ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع. وروى أبو نعيم في الحلية من طريق الأوزاعي قال كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى إلى عماله: اجتنبوا الاشتغال عند حضرة الصلاة فمن أضاعها فهو لما سواها من شعائر الإسلام أشد تضييعا. وإذا علم هذا فمن أبطل الباطل أن يقال فيمن أضاع الصلاة واستخف بها إنهم هم الطائفة المنصورة!! وقال المصنف أيضاً في صفحة (84) ما نصه: حدثني شيخنا شيخ الديار المصرية وعالمها الشيخ محمد بخيت قال: لما قامت الحركة الوطنية عقب الحرب العظمى السابقة, واتحد هؤلاء المارقون مع الأقباط ليطالبوا بالاستقلال كان مقر اجتماعهم وقطبهم الجامع الأزهر ومنه كانت تنظم المظاهرات فكان يعمر بالأقباط, والقسس منهم يصعدون إلى المنبر خطباء مناوبة مع

المصريين قال وذات يوم كان المسمى مصطفى القاياتي, وهو من المدرسين في الأزهر - هو القائل إن سعداً أفضل من النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنه جاء بما لم يأت به النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنه رسول الوطنية - كان هذا اللعين حاضراً معهم؛ فأخذ الصليب ووضعه في محراب الأزهر, وقام لعنه الله خطيباً, فدعا إلى اتحاد الإسلام والنصرانية القبطية؛ ودعا الحاضرين إلى صلاة ركعتين جميعاً - مع وضع الصليب في المحراب - وكبر وصلى ركعتين والصليب أمامه يصلي له ولله معا في زعمه, لعنه الله تعالى. قال المصنف وقد شاهدت كثيراً من اجتماعاتهم في الأزهر وخطبهم, فكان الأزهر يكون كأعظم سوق مختلطاً باليهود والنصارى والملاحدة والفسقه, والخطباء منهم يعلون المنابر واحداً تلو الآخر. انتهى كلامه. وإذا كان الجامع الأزهر - الذي هو قطب العلم والدين عند المصريين, والذي هو الموضع المرموق المحترم عند المصريين وعند غيرهم من الدول الإسلامية - قد انتكس إلى هذه الحالة السيئة التي ذكرها المصنف عن مشاهدته ومشاهدة شيخه محمد بخيت, فكيف يصح مع هذا أن يقال إنهم على الإيمان وإنهم الطائفة المنصورة؟! هذا لا يقوله من يعلم ما يقول. وقال المصنف أيضاً في صفحة (108 - 109) ما نصه: وقد نبذت الدولة التركية أواخر أيام إسلامها الحكم بالفقه الإسلامي المأخوذ من الشريعة أو من القواعد المنسوبة إليها

الوجه الرابع

على الأقل, وصارت تحكم بالقانون المأخوذ عن الأنجاس الأرجاس الذين قال الله فيهم (إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل) , واتخذت ذلك في بلادها والبلاد التي كانت تحت حكمها - ومنها الديار المصرية - فإنها أول من أسست المحاكم الأهلية, فكفرت بذلك كفراً صراحاً, في حال ادعائها الإسلام وحماية حماه, ووجود الخلافة الإسلامية فيها, قبل أن تعلن الكفر والانسلاخ من الإسلام. انتهى كلامه. فانظر إلى تكفيره الدولة التركية لما حكمت بالقوانين ونبذت الحكم بالشريعة المحمدية وراء ظهورها, وانظر إلى حكمه للمصريين بالإيمان وأنهم هم الطائفة المنصورة!! مع أنهم قد حكموا بالقوانين ونبذوا حكم الشريعة وراء ظهورهم. وهذا تناقض قبيح واتباع للهوى, ونظر إلى الأتراك بعين البصيرة وإلى المصريين بعين العمى. ويلزمه أن يحكم في حق المصريين بما حكم به في حق الأتراك, لاتحاد سبب الحكم في كل من الدولتين, وإن لم يفعل فهو داخل في حكم هذه الآية: (ومن أضل ممن تبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين). الوجه الرابع: أن الطائفة المنصورة هم أهل السنة والجماعة. وجزم البخاري في صحيحه أنهم أهل العلم, وقال أيضاً: «باب قول الله تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) وما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بلزوم الجماعة» وهم: أهل العلم.

اعتماده على كلمة محرفة في حديث سلمان, والرد عليه

وقال الترمذي في جامعه: قال محمد بن إسماعيل قال علي بن المديني هم أصحاب الحديث. وكذا قال ابن المبارك وأحمد بن سنان وابن حبان وغيرهم, وبوب عليه ابن حبان في صحيحه فقال: «ذكر إثبات النصرة لأصحاب الحديث إلى قيام الساعة» ثم ساق ما يدل على ذلك. وقال يزيد بن هارون وأحمد بن حنبل: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم, رواه عنهما الحاكم في «علوم الحديث» , وقال القاضي عياض: إنما أراد أحمد أهل السنة والجماعة ومن يعتقد مذهب أهل الحديث. وعن علي بن المديني رواية أنهم العرب, واستدل بحديث «لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة». قال والمراد بالغرب الدلو, أي العرب لأنهم أصحابها لا يستقي بها أحد غيرهم ذكره يعقوب بن شيبة ونقله عنه صاحب «المشارق» وغيره. قلت: ويؤيد ذلك ما رواه ابن ماجه من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه, وسيأتي ذكره قريباً إن شاء الله تعالى. وقال النووي: يحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين, منهم شجعان مقاتلون, ومنهم فقهاء, ومنهم محدثون, ومنهم زهاد, وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر, ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير. ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين, بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض انتهى. وقد اختلف في محل هذه الطائفة, فقال ابن بطال أنها تكون في بيت المقدس, كما رواه الطبراني من حديث أبي أمامة رضي

الله عنه قيل: يا رسول الله أين هم؟ قال: «بيت المقدس». وقال معاذ رضي الله عنه: هم بالشام. وفي كلام الطبري ما يدل على أنه لا يجب أن تكون في الشام أو في بيت المقدس دائماً, بل قد تكون في موضع آخر في بعض الأزمنة. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: قلت يشهد له الواقع وحال أهل الشام وأهل بيت المقدس من أزمنة طويلة لا يعرف فيهم من قام بهذا الأمر بعد شيخ الإسلام ابن تيمية وأصحابه - في القرن السابع وأول الثامن - فإنهم في زمانهم على الحق يدعون إليه ويناظرون عليه ويجاهدون فيه, وقد يجيء من أمثالهم بعد بالشام من يقوم مقامهم بالدعوة إلى الحق والتمسك بالسنة؛ والله على كل شيء قدير. ومما يؤيد هذا أن أهل الحق والسنة في زمن الأئمة الأربعة وتوافر العلماء في ذلك الزمان وقبله وبعده, لم يكونوا في محل واحد, بل هم في غالب الأمصار: في الشام منهم أئمة, وفي الحجاز, وفي مصر وفي العراق, واليمن, وكلهم على الحق, يناضلون ويجاهدون أهل البدع, ولهم المصنفات التي صارت أعلاماً لأهل السنة والحجة على كل مبتدع. فعلى هذا فهذه الطائفة قد تجتمع وقد تفترق, وقد تكون في الشام وقد تكون في غيره, فإن حديث أبي أمامة وقول معاذ لا يفيد حصرها بالشام, وإنما يفيد أنها تكون في الشام في بعض الأزمان لا في كلها.

قلت: الظاهر من حديث أبي أمامة وقول معاذ أن ذلك إشارة إلى محل هذه الطائفة في آخر الزمان, عند خروج الدجال ونزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام. والدليل على ذلك: ما رواه ابن ماجه من حديث أبي أمامة رضي الله عنه في ذكر الدجال, وفيه فقالت أم شريك بنت أبي العكر: يا رسول الله فأين العرب يومئذ؟ قال «هم قليل, وجلهم يومئذ ببيت المقدس, وإمامهم رجل صالح, فبينما إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح إذ نزل عليهم عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام, فرجع ذلك الإمام ينكص يمشي القهقرى ليقدم عيسى يصلي, فيضع عيسى يده بين كتفيه ثم يقول له تقدم فصل فإنها لك أقيمت, فيصلي بهم إمامهم» الحديث. ويدل له أيضاً: ما روه الإمام أحمد وأبو داود والبخاري في تاريخه والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن حوالة الأزدي رضي الله عنه قال: وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على رأسي - أو على هامتي - ثم قال: «يا ابن حوالة» إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة, فقد دنت الزلازل والبلابل والأمور العظام, والساعة يومئذ أقرب إلى الناس من يدي هذه من رأسك» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي في تلخيصه. وفي المسند أيضاً وجامع الترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ستخرج نار من حضرموت

- أو من نحو بحر حضرموت - قبل يوم القيامة, تحشر الناس, قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ فقال: عليكم بالشام» قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وفي المسند أيضاً وسنن أبي داود ومستدرك الحاكم عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «فسطاط المسلمين يوم الملحمة الكبرى بأرض يقال لها الغوطة, فيها مدينة يقال لها دمشق؛ خير منازل المسلمين يومئذ» قال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي في تلخيصه. ولفظ أبي داود «أن فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة, إلى جانب مدينة يقال لها دمشق, من خير مدائن الشام». قال المنذري في «تهذيب السنن» قال يحيى بن معين - وقد ذكروا عنده أحاديث من ملاحم الروم فقال يحيى - ليس من حديث الشاميين شيء أصح من حديث صدقة بن خالد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «معقل المسلمين أيام الملاحم دمشق» انتهى. ففي هذه الأحاديث دليل على أن جل الطائفة المنصورة يكون بالشام في آخر الزمان, حيث تكون الخلافة هناك, ولا يزالون هناك ظاهرين على الحق حتى يرسل الله الريح الطيبة فتقبض كل من في قلبه إيمان, كما جاء في الأحاديث الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» قال معاذ: «وهم بالشام» يعني أنهم يكونون بالشام حين يأتي أمر الله وهو هبوب الريح الطيبة.

الوجه الخامس

فأما في زماننا وما قبله فهذه الطائفة متفرقة في أقطار الأرض كما يشهد له الواقع من حال هذه الأمة منذ فتحت الأمصار في عهد الخلفاء الراشدين إلى اليوم, ولا يختص بها مصر من أمصار المسلمين دون المصر الآخر. ولكنها تكثر في بعض الأماكن أحيانا ويعظم شأنها ويظهر أمرها ببركة الدعوة إلى الله تعالى وتجديد الدين, كما وقع ذلك في الشام في زمان شيخ الإسلام ابن تيمية وأصحابه رحمة الله عليهم, وكما وقع ذلك في الجزيرة العربية في زمان شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وأولاده وأحفاده رحمة الله عليهم أجمعين, ولم يزل أهل الجزيرة العربية في بركة من تجديدهم إلى اليوم. الوجه الخامس: أن الذين يقاتلون في الملاحم التي ستكون في آخر الزمان ويقاتلون الدجال أيضا هم العرب: من سكان الجزيرة العربية. وليسوا بالذين ينتسبون إلى العربية, وهم بعيدون من أرضها, ولم يتحقق نسبهم إليها. والدليل على ذلك: ما رواه الحاكم في مستدركه عن حسان بن عطية عن ذي مخمر - رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن أخي النجاشي - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «تصالحون الروم صلحاً آمناً حتى تغزون أنتم وهم عدواً من ورائهم, فتنصرون وتغنمون وتنصرفون حتى تنزلوا بمرج ذي تلول, فيقول قائل من الروم: غلب الصليب, ويقول قائل من المسلمين: بل الله غلب, فيتداولانها بينهم فيثور المسلم إلى صليبهم وهو منهم غير

بعيد فيدقه, فيثور الروم إلى كاسر صليبهم فيقتلونه, ويثور المسلمون إلى أسلحتهم فيقتتلون, فيكرم الله عز وجل تلك العصابة من المسلمين بالشهادة, فيقول الروم لصاحب الروم: كفيناك حد العرب, فيغدرون فيجتمعون للملحمة, فيأتونكم تحت ثمانين غاية تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً» قال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي في تلخيصه. والمقصود من هذا الحديث قول الروم لصاحبهم: كفيناك حد العرب, وأنهم يغدرون ويجتمعون للملحمة, وهذا يدل على أن الملحمة الكبرى تكون بين العرب وبين الروم, واسم العرب إذا أطلق فإنما يراد به سكان الجزيرة العربية لا غيرهم. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ, فإذا تصافوا قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم, فيقول المسلمون: لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا فيقاتلونهم, فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً, ويقتل ثلثهم أفضل الشهداء عند الله, ويفتح الثلث لا يفتنون أبداً فيفتتحون قسطنطينية, فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم, فيخرجون - وذلك باطل - فإذا جاؤا الشام خرج, فبينما هم يعدون للقتال يسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة فينزل عيسى بن مريم - صلى الله عليه وسلم - فأمهم, فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء, فلو

تركه لانذاب حتى يهلك ولكن يقتله الله بيده, فيريهم دمه في حربته». وروى ابن ماجه والطبراني والحاكم في مستدركه عن عمرو بن عوف رضي الله عنه قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تقوم الساعة حتى تكون رابطة من المسلمين ببولان, يا علي - قال المزني يعني علي بن أبي طالب رضي الله عنه - قال: لبيك يا رسول الله, قال: اعلم أنكم ستقاتلون بني الأصفر, ويقاتلهم من بعدكم من المؤمنين, ثم يخرج إليهم روقة المسلمين أهل الحجاز الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم حتى يفتح الله عليهم قسطنطينية ورومية بالتسبيح والتكبير» الحديث. قال ابن الأثير وابن منظور: فيخرج إليهم روقة المؤمنين أي خيارهم وسراتهم, وهي جمع رائق, من راق الشيء: إذا صفا وخلص. وفي هذا الحديث والحديث قبله: دليل على أن أهل الجزيرة العربية هم الذين يقاتلون في الملاحم ويقاتلون الدجال. وفي الصحيحين ومسند الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في بني تميم: «هم أشد أمتي على الدجال» وبنو تميم: قبيلة كبيرة من قبائل العرب في الجزيرة العربية. وفي المسند أيضا عن عكرمة بن خالد قال: حدثني فلان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: نال رجل من بني تميم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما فقال: «لا تقل لبني تميم إلا خيرا فإنهم أطول الناس رماحا على الدجال» إسناده صحيح على شرط مسلم.

وروى البزار في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - وذكر بني تميم فقال - «هم ضخام الهام, ثبت الأقدام, نصار الحق في آخر الزمان, أشد قوماً على الدجال». وفي سنن ابن ماجه عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان أكثر خطبته حديثا حدثناه عن الدجال - فذكر الحديث بطوله وفيه - فقالت أم شريك بنت أبي العكر: يا رسول الله فأين العرب يومئذ؟ قال «هم قليل, وجلهم يومئذ ببيت المقدس, وإمامهم رجل صالح فبينما إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح إذ نزل عليهم عيسى بن مريم, فرجع ذلك الإمام ينكص يمشي القهقرى ليقدم عيسى يصلي, فيضع عيسى يده بين كتفيه ثم يقول: تقدم فصل فإنها لك أقيمت, فيصلي بهم إمامهم, فإذا انصرف قال عيسى عليه السلام: افتحوا الباب؛ فيفتح ووراءه الدجال, معه سبعون ألف يهودي كلهم ذو سيف محلى وساج, فإذا نظر إليه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء, وينطلق هاربا, ويقول عيسى عليه السلام: إن لي فيك ضربة لن تسبقني بها, فيدركه عند باب اللد الشرقي فيقتله فيهزم الله اليهود؛ فلا شيء مما خلق الله يتوارى به يهودي, إلا أنطق الله ذلك الشيء, لا حجر ولا شجر ولا حائط ولا دابة - إلا الغرقدة فإنها من شجرهم لا تنطق - إلا قال: يا عبد الله المسلم هذا يهودي فتعال اقتله».

الوجه السادس

قال الجوهري: الساج الطيلسان الأخضر والجمع سيجان. وقال ابن منظور في «لسان العرب» الساج الطيلسان الضخم الغليظ, وقيل هو الطيلسان المقور ينسج كذلك, وقيل هو طيلسان أخضر, وقال ابن الأعرابي: السيجان الطيالسة السود واحدها. ساج. والغرقد هو العوسج, قال النووي: الغرقد نوع من شجر الشوك معروف ببلاد بيت المقدس, وهناك يكون قتل الدجال واليهود, وقال أبو حنيفة الدينوري: إذا عظمت العوسجة صارت غرقدة. وفي هذه الأحاديث دليل على أن العرب هم الذين يقاتلون الدجال وجنده اليهود, وفيها رد لما زعمه المصنف في غيرهم من بني الأقباط وأصناف الأعاجم, والله أعلم. الوجه السادس: أن المصريين لم ينتصروا على الإنجليز ومن أعانهم في حربهم مع المصريين كما زعم ذلك المصنف, وإنما قامت الروس بحمايتهم ومنع الإنجليز ومن معهم من محاربتهم بعد أن أخذوا منهم بعض النواحي وكادوا يستسلمون للإنجليز بدون قيد ولا شرط. وقد كافأ المصريون صنيع الروس معهم بقبول مذهبهم الخبيث في الاشتراكية ودعاء المسلمين إلى قبول هذا المذهب الخبيث.

قوله - صلى الله عليه وسلم - بتعلم اللغات الإفرنجية

فصل وقال المصنف في صفحة (63 - 64) ما ملخصه: إخباره - صلى الله عليه وسلم - بتعلم اللغات الإفرنجية واختلاف ألسن العرب بحسب الدول المستعمرة لبلادهم, فطائفة تتكلم بالفرنسية, وأخرى بالإسبانية وأخرى بالإنجليزية, وأخرى بالروسية, وغيرها من ألسن الدول المستعمرة. روى الطبراني في الأوسط والكبير من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا ظهر القول وخزن العمل, واختلفت الألسن, وتباغضت القلوب, وقطع كل ذي رحم رحمه, فعند ذلك لعنهم الله فاصمهم وأعمى أبصارهم». وقد ذكر المصنف هذا الحديث أيضا بهذا اللفظ في صفحة (105) ونسبه للأوسط فقط. ثم قال: فاختلاف الألسن المذكورة في الحديث إنما المراد به اختلاف ألسن العرب باللغات الإفرنجية, وإلا فاختلاف ألسن الخلق موجود من يوم نشر الله نسل آدم عليه السلام في الأرض. ثم قال عن اللغة العربية إنها هي أساس الإسلام. والجواب عن هذا من وجوه: أحدها: أن الحديث الذي أورده قد وقع فيه تحريف في الكلمة التي استدل بها على تعلم اللغات واختلاف الألسن. والظاهر

أنه نقله من مجمع الزوائد المطبوع في القاهرة في سنة 1353 من الهجرة النبوية, فإنه فيه كذلك, وهو تحريف بلا شك إما من الذين طبعوا الكتاب وإما من بعض النساخ قبلهم. والحديث قد رواه الإمام أحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن سلمان رضي الله عنه موقوفا, ورواه الحسن بن سفيان وأبو نعيم وابن عساكر عن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا ظهر القول وخزن العمل, وائتلفت الألسن, واختلفت القلوب, وقطع كل ذي رحم رحمه, فعند ذلك لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم». وقال الطبراني: حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا محمد بن عمار الموصلي حدثنا عيسى بن يونس عن الحجاج بن الفرافصة عن أبي عمر البصري عن سلمان رضي الله عنه قال, قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا ظهر القول وخزن العمل, وائتلفت الألسنة وتباغضت القلوب, وقطع كل ذي رحم رحمه, فعند ذلك لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم» هذا لفظ الحديث عند الطبراني, والعبرة بهذا اللفظ لا بما حرف في مجمع الزوائد. وقد روى ابن أبي الدنيا نحوه عن الحسن مرسلا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا أظهر الناس العلم وضيعوا العمل, وتحابوا بالألسن وتباغضوا بالقلوب, وتقاطعوا في الأرحام, لعنهم الله عند ذلك فأصمهم وأعمى أبصارهم». وقد تبين مما ذكرنا أنه لا إشارة في الحديث لما ذكره المصنف

الوجه الثاني

من تعلم اللغات الإفرنجية واختلاف ألسن العرب بذلك, وأنه إنما بنى كلامه في هذا الفصل على كلمة محرفة. الوجه الثاني: أن اختلاف ألسن بني آدم إنما كان بعد الطوفان قال علباء بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان مع نوح في السفينة ثمانون رجلا معهم أهلوهم, وإنهم كانوا فيها مائة وخمسين يوما, وإن الله وجه السفينة إلى الجودي فاستقرت عليه, فهبط نوح إلى أسفل الجودي فابتنى قرية وسماها ثمانين, فأصبحوا ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة إحداها اللسان العربي, فكان بعضهم لا يفقه كلام بعض, فكان نوح عليه السلام يعبر عنهم. فأما قول المصنف إن اختلاف الألسن موجود من يوم نشر الله نسل آدم في الأرض فهو قول لا دليل عليه, ويلزم عليه أن يكون بنو آدم لصلبه مختلفين في اللسان لكل واحد منهم لغة غير لغة أخيه, وهذا قول بعيد جدا بل ظاهر البطلان, والله أعلم. الوجه الثالث: أن أساس الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, فمن أتى بها من عربي أو عجمي حكم بإسلامه ولو كان العجمي لا يعرف اللغة العربية. ولو كان الأمر على ما زعمه المصنف من أن أساس الإسلام اللغة العربية لما صح لأحد من الأعاجم إسلام حتى يتعلم اللغة العربية, وهذا قول معلوم البطلان بالضرورة.

حملة للأحاديث الواردة في الخوارج على غيرهم, وتبرئته للمنافقين مما نزل فيهم ومجادلته عنهم, والرد عليه

فصل وقال المصنف في صفحة (66 وما بعدها) ما ملخصه: إخباره - صلى الله عليه وسلم - بالعصريين الملاحدة الزنادقة وذكره أوصافهم التي هم عليها الآن. ثم ذكر حديث علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام, يقولون من خير قول البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم, يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية, فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم» وذكر أيضا حديث ابن مسعود رضي الله عنه بنحو حديث علي رضي الله عنه. ثم قال: فهؤلاء الأحداث المذكورون هم هذا الشباب الفاسد الكافر الملحد المارق من الدين: إلى آخر كلامه فيهم. ثم قال: وقد ذكرهم الله تعالى في كتابه العزيز وأخبر أنهم كافرون غير مؤمنين: فقال تعالى (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) وذكر جميع الآيات الواردة في المنافقين في أول سورة البقرة إلى قوله (إن الله على كل شيء قدير). ثم قال فهذه الآيات يزعم كثير من المفسرين أنها نازلة في المنافقين وليس كما زعموا, بل هي نازلة في هؤلاء الملاحدة المفسدين, كما بينته في كتابي: «بيان غربة الدين, بواسطة العصريين المفسدين» من وجوه تزيد على العشرين كلها قاطعة في تحقيق نزولها فيهم, وأن المنافقين إنما أدخلهم المتقدمون فيها لأنه

لم يكن أمامهم غيرهم, فكانت الضرورة داعية لهم إلى تنزيلها عليهم, كما فعلوا في آيات أخرى واردة في هذا الزمان فحملوها على ما كان موجودا في زمانهم؟ كما قدمناه في قوله تعالى (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون). وكما فعلوا في قوله تعالى (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت) الآية وغيرها. قال: والمقصود أن هذه الآية لم تنزل في المنافقين الذين كانوا في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - , وإنما هي نازلة في هؤلاء المنافقين المارقين الملاحدة المتفرنجين والذين ولدهم الاستعمار الكافر وانتجتهم مدارسه الإفرنجية للقضاء على الإسلام. والدليل على ذلك أمور: ثم ذكر ما روي عن سلمان رضي الله عنه في قوله تعالى (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون) قال سلمان: لم يجيء أهل هذه الآية بعد قال: وقد قال ابن جرير يحتمل أن سلمان رضي الله عنه أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فساداً من الذين كانوا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا أنه عنى أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد. قال المصنف وليس كذلك, بل مراد سلمان أن أهل هذه الآية سيكونون في آخر الزمان, وليس المراد بها أحدا ممن كان في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - , لأنها لا يمكن أن تنطبق عليهم إلا بتأويل وتكلف بخلاف أهلها النازلة فيهم من ملاحدة هذا العصر وشبابه الفاسد فإنها منطبقة عليهم حرفاً حرفاً, قال: ولم يبق أدنى شك في أنهم المراد من الآيات المذكورة.

قال: والثاني - وهو من الأدلة القاطعة -: أن كلمة مصلح لم تتداول ولم يعرف الإكثار من ذكرها: بل ولا ذكرها مطلقاً إلا عند ظهور هذا النشء الفاسد المارق, فلا تسمع كلمة مصلح من مؤمن بالله ورسوله, وإنما تسمعها منهم حتى صارت شعاراً لهم. فتعين أن الآية نازلة فيهم لا في منافقي عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - , فإنه لم ينقل عنهم أنهم كانوا يقولون إنهم مصلحون, ولا نقل عن واحد منهم كلمة مصلح. قال: والثالث أنه لم ينقل عن المنافقين أنهم كانوا يفسدون في الأرض ولا كان لهم كثرة وانتشار حتى يقال إنهم أفسدوا في الأرض, وإنما الذين ملؤوا الأرض فسادا هم المارقون الملاحدة. قال: وأما منافقو زمانه - صلى الله عليه وسلم - فلم يحصل منهم فساد في البقعة الصغيرة التي كانوا بها مطلقا, فضلا عن أن يحصل منهم في الأرض, بل ما صدر منهم مما يسمى فسادا في الأرض مقدار شعرة بالنسبة لثور مما صدر من هؤلاء, بل لم يصدر من أولئك فساد أصلا إلا ما كان في نفوسهم من الكفر القاصر عليهم, وهو النفاق, فكيف يمكن حمل الآية عليهم وهم أبرياء منها. ثم قال: فأقسم بالله تعالى إن الله تعالى ما أراد بالآيات إلا هؤلاء المارقين وأنه لو رآهم المفسرون من السلف لقطعوا بذلك ورجعوا عن تنزيلهم الآية على منافقي عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم أطال الكلام في الذب عن المنافقين الذين كانوا في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - , وذكر أنه لم يحصل منهم خداع لمؤمن واحد, وأن

أحدها

المثلين المذكورين في أول سورة البقرة لا ينطبقان عليهم, وإنما ينطبقان على ملاحدة العصريين وزنادقتهم. ثم قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سماهم مارقين من الدين أي خارجين منه بعد أن كانوا داخلين فيه, والمنافقون لم يدخلوا فيه يوماً ما, فتعين أن هؤلاء هم المراد في الآيات الكريمة. والجواب عن هذا من وجوه: أحدها: أن الأحاديث التي ذكرها عن علي وابن مسعود وأنس وأبي ذر ورافع بن عمرو وأبي سعيد رضي الله عنهم كلها واردة في الخوارج الذين قتلهم علي رضي الله عنه يوم النهروان, وليست واردة في ملاحدة العصريين وزنادقتهم كما توهمه المصنف. وكل من جاء بعد أهل النهروان وهو على شاكلتهم فعموم الأحاديث الواردة فيهم يشمله معهم. وقد جاء في بعض الروايات التي ذكر المصنف أطرافاً منها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الخوارج «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم» وليست حال ملاحدة العصريين كذلك, فإن الغالب عليهم الجفاء والتفريط في أمور الدين كالصلاة والصيام وغير ذلك من أنواع العبادة. وأما الخوارج فالغالب عليهم الغلو والإفراط والتعمق في الدين. وأيضاً فقد جاء في بعض الروايات أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر» وقد وجد هذا الرجل مع الخوارج يوم النهروان.

الوجه الثاني

وعلى هذا فلا ينبغي حمل الأحاديث الواردة في الخوارج على ملاحدة العصريين وزنادقتهم وإن كانوا مثل الخوارج أو شراً منهم, لأن في حملها على الملاحدة وصرفها عن الخوارج صرفاً لها عن المراد منها, وذلك نوع من الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الوجه الثاني: من عجر المصنف وبجره تبرئته للمنافقين الذين كانوا في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - مما نزل فيهم من الآيات من الإفساد في الأرض وأنه لم يصدر منهم فساد أصلا ولا حصل منهم خداع لمؤمن واحد. وهذا خطأ كبير وغلط فاحش يستغرب صدوره من رجل مسلم فضلا عمن يدعي العلم والكمال كما سيأتي في آخر كتابه. الوجه الثالث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جادل عن بعض المنافقين ظاناً براءته مما رمي به من السرقة نهاه الله تعالى عن ذلك وأمره بالاستغفار مما فعل, فقال تعالى (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيما. ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خواناً أثيما. يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطاً. ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا). ولا يخفى على من له أدنى علم ومعرفة أن المصنف قد جادل عن المنافقين الذين كانوا في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - أشد الجدال,

الوجه الرابع

حيث برأهم مما نزل فيهم من القرآن وبرأهم من الإفساد في الأرض ومن الخداع بالكلية, فالواجب عليه الرجوع عما قال والاستغفار مما فعل. الوجه الرابع: أن المفسرين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء التفسير أجمعوا على نزول الآيات من أول سورة البقرة في المنافقين الذين كانوا في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد خالفهم المصنف فبرأ المنافقين منها بغير مستند صحيح, فكان الأمر فيه كما قال الشاعر: خلافاً لقولي من فيالة رأيه ... كما قيل قبل اليوم خالف لتذكرا قال أبو جعفر بن جرير رحمه الله تعالى في الكلام على قول الله تعالى (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين): أجمع جميع أهل التأويل على أن هذه الآية نزلت في قوم من أهل النفاق. وأن هذه الصفة صفتهم. ثم روى بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) يعني المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم. قال ابن كثير: وكذا فسرها بالمنافقين من الأوس والخزرج أبو العالية والحسن وقتادة والسدي. قال ابن جرير: وقد سمي في حديث ابن عباس هذا أسماؤهم عن أبي بن كعب, غير أني تركت تسميتهم كراهة إطالة الكتاب بذكرهم.

قلت قد ذكر أسماءهم محمد بن إسحاق في السيرة, وكذلك ابن هشام وغيره ممن صنف في السيرة. وقال البغوي في تفسيره نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول ومعتب بن قشير وجد بن قيس وأصحابهم, حيث أظهروا كلمة الإسلام ليسلموا من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه, واعتقدوا خلافها. وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن صدر سورة البقرة إلى المائة منها نزل في رجال أسماهم بأعيانهم وأنسابهم, من أحبار يهود ومن المنافقين من الأوس والخزرج, قال ابن جرير: كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم. وروى ابن جرير أيضاً عن قتادة في قوله (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين - حتى بلغ - فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين) قال هذه في المنافقين. وروى ابن جرير أيضاً عن مجاهد قال: هذه الآية إلى ثلاث عشرة في نعت المنافقين. وروى ابن جرير أيضاً من طريق إسماعيل السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما, وعن مرة عن ابن مسعود رضي الله عنه, وعن ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين): هم المنافقون. وروى ابن جرير أيضاً عن الربيع بن أنس في قوله (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر - إلى - فزادهم الله مرضاً ولهم عذاب أليم) قال هؤلاء أهل النفاق.

الوجه الخامس

وإذا كان ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من أكابر السلف قد صرحوا بأن الآيات من أول سورة البقرة نزلت في المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم, فلا ينبغي العدول عن قولهم إلى ما خالفه من أقوال المتخرصين المتكلفين. الوجه الخامس: أن المصنف لم يكتف بمخالفة المفسرين الذين ذكرنا أقوالهم حتى زعم أنهم حملوا الآيات من أول سورة البقرة على غير من نزلت فيهم, وأنهم فعلوا مثل ذلك في قوله تعالى (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) وفي قوله تعالى (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت) الآية وغيرها مما تقدم ذكره. وهذا أيضاً خطأ كبير من المصنف حيث قضى بصواب نفسه فيما فسره من الآيات بمجرد رأيه, وقضى بخطأ حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من أئمة السلف لما خالفت أقوالهم رأيه ومذهبه. وهذا من قلبه للحقيقة وعكسه للقضية, فإن الصواب في الحقيقة ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما ومن قال بقوله في تفسير الآيات من أول سورة البقرة, وأنها نزلت في المنافقين الذين كانوا في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكذلك القول في الآية من سورة يس, والآية من سورة يونس, وغيرهما مما تقدم ذكره, فالصواب فيها ما ذكرنا هناك عن أئمة السلف, والخطأ ما قاله المصنف فيها وفي الآيات من سورة البقرة بمجرد رأيه. الوجه السادس: أن الله تعالى ذكر عن المنافقين أنهم قالوا

الوجه السابع

إنما نحن مصلحون. قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي قالوا إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب. رواه ابن جرير وذكر تعالى أيضا عن الإسرائيلي أنه قال لموسى. (وما تريد أن تكون من المصلحين) وفي هاتين الآيتين رد لقول المصنف أن كلمة مصلح لم تتداول ولم يعرف ذكرها مطلقا إلا عند ظهور النشء الفاسد المارق. وأما قوله إنه لم ينقل عنهم أنهم كانوا يقولون إنهم مصلحون ولا نقل عن واحد منهم كلمة مصلح. فجوابه أن يقال قد ذكر الله ذلك عنهم في كتابه - ومن أصدق من الله حديثا ومن أصدق من الله قيلا؟ - وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من المفسرين إنها نزلت في المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم فلو أن المصنف اكتفى بما أخبر الله به في كتابه عن المنافقين, وبما قاله حبر الأمة وغيره من أكابر التابعين في ذلك لكان خيراً له من الاعتماد على مجرد رأيه. الوجه السابع: أن الله تعالى ذكر الإفساد عن المنافقين الذين كانوا في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - , وذكر أنهم يخادعون الله والذين آمنوا. وهذا يرد ما نفاه المصنف عنهم من الإفساد والخداع. قال أبو جعفر بن جرير رحمه الله تعالى: «وخداع المنافق ربه والمؤمنين: إظهاره بلسانه من القول والتصديق خلاف الذي في قلبه من الشك والتكذيب, ليدرأ عن نفسه بما أظهر بلسانه حكم الله عز وجل اللازم من كان بمثل حاله من التكذيب, لو لم

يظهر بلسانه ما أظهر من التصديق والإقرار, من القتل والسباء, فذلك خداعه ربه وأهل الإيمان بالله». فإن قال قائل: وكيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعا وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية؟ قيل: لا تمتنع العرب من أن تسمي من أعطي بلسانه غير الذي هو في ضميره تقية لينجو مما هو له خائف, فنجا بذلك مما خافه مخادعاً لمن تخلص منه بالذي أظهر له من التقية, فكذلك المنافق سمي مخادعاً لله وللمؤمنين بإظهاره ما أظهر بلسانه تقية مما تخلص به من القتل والسباء والعذاب العاجل, وهو لغير ما أظهر مستبطن, وذلك من فعله - وإن كان خداعاً للمؤمنين في عاجل الدنيا فهو لنفسه بذلك من فعله خادع لأنه يظهر لها بفعله ذلك بها أنه يعطيها أمنيتها, ويسقيها كأس سرورها. وهو موردها به حياض عطبها, ومجرعها به كأس عذابها ومزيرها من غضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به, فذلك خديعته لنفسه ظناً منه - مع إساءته إليها في أمر معادها - أنه إليها محسن, كما قال جل ثناؤه (وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون). إعلاماً منه عباده المؤمنين أن المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم في إسخاطهم ربهم بكفرهم وشكهم وتكذيبهم غير شاعرين ولا دارين, ولكنهم على عمياء من أمرهم مقيمون. ثم قال حدثني يونس بن عبد الأعلى قال أخبرنا ابن وهب قال سألت عبد الرحمن بن زيد عن قول الله جل ذكره (يخادعون

الله والذين آمنوا). إلى آخر الآية. قال «هؤلاء المنافقون يخادعون الله والذين آمنوا أنهم مؤمنون بما أظهروا». وروى ابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله تعالى (يخادعون الله) قال يظهرون لا إله إلا الله, يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم, وفي أنفسهم غير ذلك. وأما إفسادهم في الأرض فقال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود, وعن أناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون) قال: هم المنافقون. أما (لا تفسدوا في الأرض) فإن الفساد هو الكفر والعمل بالمعصية. ورواه ابن جرير من طريق السدي. وقال ابن جريج عن مجاهد: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض) قال: إذا ركبوا معصية الله فقيل لهم لا تفعلوا كذا وكذا قالوا إنما نحن على الهدى مصلحون. رواه ابن جرير: وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض) قال: يعني لا تعصوا في الأرض, وكان فسادهم ذلك معصية الله لأن من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصية فقد أفسد في الأرض, لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة. قال ابن كثير: وهكذا قال الربيع بن أنس وقتادة. وروى ابن جرير وغيره عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه

قال في هذه الآية (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون) قال: ما جاء هؤلاء بعد. قال ابن جرير: وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال إنها نزلت في المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وإن كان معنياً بها كل من كان بمثل صفتهم من المنافقين بعدهم إلى يوم القيامة. وقد يحتمل قول سلمان عند تلاوة هذه الآية ما جاء هؤلاء بعد أن يكون قاله بعد فناء الذين كانوا بهذه الصفة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبراً منه عمن هو جاء منهم بعدهم ولما يجيء بعد لا أنه عنى أنه لم يمض ممن هذه صفته أحد. وإنما قلنا أولى التأويلين بالآية ما ذكرنا, لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن ذلك صفة من كان بين ظهراني أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المنافقين, وأن هذه الآيات فيهم نزلت. والتأويل المجمع عليه أولى بتأويل القرآن من قول لا دلالة على صحته من أصل ولا نظير (¬1). والإفساد في الأرض: العمل فيها بما نهى الله جل ثناؤه عنه, وتضييع ما أمر الله بحفظه, فذلك جملة الإفساد. - إلى أن قال - فكذلك صفة أهل النفاق, مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربهم, وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه, وتضييعهم فرائضه, وشكهم في دين الله الذي لا يقبل من أحد عملا إلا بالتصديق به والإيقان بحقيقته, وكذبهم المؤمنين بدعواهم ¬

(¬1) لعله نظر.

غير ما هم عليه مقيمون من الشك والريب, وبمظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا. فذلك إفساد المنافقين في أرض الله وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها». قال ابن كثير: وهذا الذي قاله حسن, فإن من الفساد في الأرض: اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء كما قال تعالى (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير). قلت: ومن إفساد المنافقين الذين كانوا في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - بناؤهم لمسجد الضرار الذي قال الله تعالى فيه (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون). فالمنافقون بنوا مسجدهم ضرارا لمسجد قباء, وكفرا بالله ورسوله, وتفريقا بين المؤمنين, وارصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل. وهو أبو عامر الفاسق الذي كان يقال له الراهب, وكان قد كتب إلى المنافقين يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم من عند ملك الروم بجيش يقاتل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويغلبه ويرده عما هو فيه, وأمرهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده الأداء كتبه, ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك. وهذا من أعظم الإفساد في الأرض, قال الله تعالى (وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون).

وقولهم ههنا إن أردنا إلا الحسنى: هو كقولهم (إنما نحن مصلحون). قال الله تعالى (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون). ومن إفساد المنافقين أيضا: همهم بالفتك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قفل من غزوة تبوك. قال ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة ابن الزبير قال لما قفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تبوك إلى المدينة همّ جماعة من المنافقين بالفتك به, وأن يطرحوه من رأس عقبة في الطريق, فأخبر بخبرهم فأمر الناس بالمسير من الوادي وصعد هو العقبة وسلكها معه أولئك النفر وقد تلثموا, وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان أن يمشيا معه, عمار آخذ بزمام الناقة وحذيفة يسوقها, فبينما هم يسيرون «سمعوا بالقوم قد غشوهم, فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبصر حذيفة غضبه فرجع إليهم ومعه محجن فاستقبل وجوه رواحلهم بمحجنه, فلما رأوا حذيفة ظنوا أن قد أظهر ما أضمروه من الأمر العظيم فأسرعوا حتى خالطوا الناس, وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمرهما فأسرعا حتى قطعوا العقبة ووقفوا ينتظرون الناس, ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحذيفة: «هل عرفت هؤلاء القوم؟» قال ما عرفت إلا رواحلهم في ظلمة الليل حين غشيتهم. ثم قال: «علمتما ما كان من شأن هؤلاء الركب؟» قالا: لا, فأخبرهما بما كانوا تمالؤوا عليه, وسماهم لهما واستكتمهما ذلك, فقالا يا رسول الله أفلا تأمر بقتلهم؟ فقال: «أكره أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه» وهكذا ذكره ابن كثير في تاريخه.

قال: وقد ذكر ابن إسحاق هذه القصة إلا أنه ذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أعلم بأسمائهم حذيفة بن اليمان وحده وهذا هو الأشبه. ويشهد له قول أبي الدرداء لعلقمة أليس فيكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره - يعني حذيفة -. وذكر ابن إسحاق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث إليهم حذيفة بن اليمان فجمعهم له فأخبرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما كان من أمرهم وما تمالؤوا عليه - ثم سرد ابن إسحاق أسماءهم, قال - وفيهم أنزل الله عز وجل (وهموا بما لم ينالوا). وقد روى البيهقي من حديث أبي البختري عن حذيفة رضي الله عنه نحو ما تقدم. وزاد في آخره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا عليهم فقال: «اللهم ارمهم بالدبيلة, قلنا: يا رسول الله وما الدبيلة» «قال: هي شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك». وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي الطفيل عامر بن واثلة رضي الله عنه نحو ما تقدم, وإسناده صحيح على شرط مسلم. ومن إفساد المنافقين أيضا: رجوع عبد الله بن أبي بثلث الجيش يوم أحد وتخذيله الناس عن القتال مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قال الله تعالى (وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين. وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم

بما يكتمون. الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين). قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ومحمد بن يحيى بن حبان وعاصم بن عمر بن قتادة والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم من علمائنا, كلهم قد حدث قالوا: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني حين خرج إلى أحد في ألف رجل من أصحابه, حتى إذا كان بالشوط بين أحد والمدينة انحاز عنه عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الناس فقال: أطاعهم وعصاني, ووالله ما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس. فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه أهل النفاق وأهل الريب, واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة يقول: يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضر عدوكم, قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ولكن لا نرى أن يكون قتال, فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف عنهم قال: أبعدكم الله أعداء الله فسيغني الله عنكم نبيه - صلى الله عليه وسلم -. ومن إفساد المنافقين أيضا: ما ذكره الله عنهم في قوله تعالى (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين. لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون. ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين). وقال تعالى (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض

ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا. وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا - إلى قوله - قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا) الآية. ومن إفساد المنافقين أيضا: أذيتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقول السيء, واستهزاؤهم به وأصحابه, كما ذكر الله ذلك عنهم في سورة براءة, وسورة المنافقين. وكقول عبد الله بن أبي: والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل: سمِّن كلبك يأكلك. وكقول بعضهم: ما رأينا مثل قراءنا هؤلاء ارغب بطونا ولا أكذب ألسنا, ولا أجبن عند اللقاء, يعنون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. ومن إفساد المنافقين أيضاً: أمرهم بالمنكر ونهيهم عن المعروف, كما ذكره الله عنهم في سورة براءة. وكل هذا من الفساد المتعدي شره وضرره إلى الغير. وإذا كان الأمر في المنافقين كما ذكرنا, مع أنه أعظم مما ذكرنا بكثير, فكيف يستجيز المصنف أن يقول إنه لم يصدر منهم فساد أصلا إلا ما كان في نفوسهم من الكفر القاصر عليهم! ولو قال قائل إن الإفساد الذي صدر من المنافقين في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم مما صدر من ملاحدة العصريين وزنادقتهم لكان

الوجه الثامن

قوله أقرب إلى الصواب من قول المصنف, لأن من آذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهمّ بالفتك به وسعى فيما يوهن أمره ليس كمن آذى آحاد المسلمين وسعى فيما يضرهم. والله أعلم. الوجه الثامن: ما رواه السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس, وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (مثلهم كمثل الذي استوقد نار فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون) زعم أن أناساً دخلوا في الإسلام مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة, ثم إنهم نافقوا, فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد ناراً فأضاءت له ما حوله من قذى أو أذى فأبصره حتى عرف ما يتقي, فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى, فكذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم فعرف الحلال من الحرام والخير من الشر؛ فبينا هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام ولا الخير من الشر. ورواه ابن جرير من طريق السدي. وروى أيضا من طريق السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس, وعن مرة عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق - إلى - إن الله على كل شيء قدير). كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله, فيه رعد شديد وصواعق وبرق, فجعلا كلما أضاء لهما الصواعق جعلا أصابعهما في آذانهما من الفرق أن تدخل الصواعق في مسامعها فتقتلهما, وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه

الوجه التاسع

وإذا لم يلمع لم يبصرا, وقاما مكانهما لا يمشيان, فجعلا يقولان ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمداً فنضع أيدينا في يده فأصبحا فأتياه فأسلما ووضعا أيديهما في يده, وحسن إسلامهما, فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين مثلا للمنافقين الذين بالمدينة. وفي هذين الأثرين عن حبري الأمة رد لقول المصنف إن المثلين المذكورين لا ينطبقان على المنافقين الذين كانوا في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -. الوجه التاسع: أن الله تعالى أثبت الإيمان ثم الكفر للمنافقين الذين كانوا في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - , فقال تعالى (ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون) وقد نزلت سورة المنافقين في شأن عبد الله بن أبي وأصحابه من المنافقين, وفيها رد لقول المصنف إن المنافقين لم يدخلوا في الدين يوماً ما. ومما يرد عليه أيضا قول الله تعالى (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) وقوله تعالى (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا) الآية. الوجه العاشر: أن المنافقين في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا هم السلف الطالح لجميع المنافقين بعدهم إلى يوم القيامة, فما أنزل في أولئك وهو صالح للعموم فهو عام لمن بعدهم من المنافقين إلى يوم القيامة, لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فلو أن المصنف قال إن الآيات من أول سورة البقرة تشمل المنافقين الذين كانوا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن كان بعدهم من المنافقين ومنهم ملاحدة العصريين وزنادقهم لكان أولى به من تبرئة المنافقين الأولين مما نزل فيهم.

زعمه أن ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب ونشره للسنة هو طلوع قرن الشيطان ونشر الفتنة, والرد عليه

فصل وفي صفحة (75). ذكر المصنف ما رواه أنس وأبو ذر ورافع بن عمرو الغفاري وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في وصف الخوارج, وفي كل منها أنه قال: «سيماهم التحليق» ثم قال في صفحة (76) ما نصه. واعلم أن الأحاديث الواردة في هؤلاء المارقين مشابهة للأحاديث الواردة في الخوارج. وهم وإن كانوا كلهم خوارج عن الدين, وكلهم كلاب النار كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - , إلا أنهم على قسمين. فالقسم المعروف بهذا الاسم الخاص: ورد وصفهم بالتنطع في الدين والغلو فيه وأن أحدنا يحقر صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم. والقسم الثاني الذين هم ملاحدة هذا العصر, ورد في وصفهم أنهم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام وأن علامتهم التحليق. ولما طلع قرن الشيطان بنجد في أواخر القرن الحادي عشر وانتشرت فتنته كان العلماء يحملون جميع هذه الأحاديث عليه وعلى أصحابه لأنه لم يكن ظهر هذا النوع من الخوارج الملاحدة. والجواب عن هذا من وجوه: أحدها: أن الروايات الواردة في طلوع قرن الشيطان من المشرق

كلها عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وقد صرح في بعضها أن المراد بالمشرق أرض العراق فبطل بذلك كل ما يتعلق به الملاحدة على أهل الجزيرة العربية. وأنا أذكر ههنا جميع الروايات عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ ليعلم بطلان ما ذهب إليه المصنف ومن شاكله من الملاحدة الذين يرمون النجديين بما ليس فيهم. ففي الصحيحين ومسند الإمام أحمد من حديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مستقبل المشرق يقول «ألا إن الفتنة ههنا ألا إن الفتنة ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان» وفي رواية لمسلم عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام عند باب حفصة فقال بيده نحو المشرق: «الفتنة ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان» قالها مرتين أو ثلاثا. وقال عبيد الله بن سعيد - وهو أحد شيوخ مسلم - في روايته: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند باب عائشة. ورواه الإمام أحمد وقال كان قائما عند باب عائشة. وقد رواه مالك وأحمد والبخاري من حديث عبد الله بن دينار سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - وأشار بيده نحو المشرق - فقال «ها إن الفتن من ههنا, إن الفتن من ههنا إن الفتن من ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان» هذا لفظ إحدى روايات أحمد. وروى الإمام أحمد أيضا والشيخان والترمذي من حديث الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قام إلى جنب المنبر

فقال الفتنة ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان أو قال قرن الشمس هذا لفظ البخاري ولفظ مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وهو مستقبل المشرق «ها إن الفتنة ههنا, ها إن الفتنة ههنا, ها إن الفتنة ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان». وفي رواية الترمذي قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فقال «ههنا أرض الفتن - وأشار إلى المشرق حيث يطلع قرن الشيطان, أو قال قرن الشمس» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ورواه الإمام أحمد ومسلم أيضا من حديث حنظلة, وهو ابن أبي سفيان المكي قال سمعت سالما يقول سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشير بيده نحو المشرق ويقول «ها إن الفتنة ههنا, ها إن الفتنة ههنا, ها إن الفتنة ههنا, من حيث يطلع الشيطان قرنيه» هذا لفظ أحمد. وفي رواية له أخرى عن حنظلة عن سالم بن عبد الله بن عمر عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشير بيده يؤم العراق «ها إن الفتنة ههنا, ها إن الفتنة ههنا, ها إن الفتنة ههنا, من حيث يطلع قرن الشيطان». إسناده صحيح, رجاله كلهم من رجال الصحيحين. وفي هذه الرواية فائدة جليلة, وهي البيان بأن منشأ الفتن من جهة العراق, لا من جهة نجد التي هي أرض العرب, ففيها رد على من زعم من الملاحدة أن المراد بذلك أرض العرب. وسيأتي ما يشهد لهذه الرواية من حديث عمر وابنه وابن عباس رضي الله عنهم. ورواه الإمام أحمد ومسلم أيضاً من حديث عكرمة بن عمار عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

من بيت عائشة رضي الله عنها فقال: «رأس الكفر من ههنا, من حيث يطلع قرن الشيطان» يعني المشرق. ورواه مسلم أيضاً من حديث ابن فضيل عن أبيه قال: سمعت سالم بن عبد الله بن عمر يقول: يا أهل العراق ما أسألكم عن الصغيرة وأركبكم للكبيرة, سمعت أبي عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الفتنة تجيء من ههنا - وأومأ بيده نحو المشرق- من حيث يطلع قرنا الشيطان». وأنتم يضرب بعضكم رقاب بعض, وإنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ فقال الله عز وجل له: (وقتلت نفساً فنجيناك من الغم وفتناك فتوناً). وروى الإمام أحمد والبخاري والترمذي من حديث ابن عون عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما, أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم بارك لنا في شامنا, اللهم بارك لنا في يمننا, قالوا: وفي نجدنا, قال: اللهم بارك لنا في شامنا, اللهم بارك لنا في يمننا, قالوا: وفي نجدنا, قال: هنالك الزلازل والفتن, منها - أو قال بها - يطلع قرن الشيطان» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. ورواه الإمام أحمد من حديث عبد الرحمن بن عطاء عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا - مرتين - فقال رجل: وفي مشرقنا يا رسول الله, فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من هنالك يطلع قرن الشيطان, ولها تسعة أعشار الشر» قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير عبد الرحمن بن عطاء وهو ثقة وفيه خلاف لا يضر.

وقد رواه الطبراني في الأوسط ولفظه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا, وقال رجل: وفي مشرقنا يا رسول الله, فقال: اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا, فقال رجل: وفي مشرقنا يا رسول الله فقال: اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا؛ إن من هنالك يطلع قرن الشيطان, وبه تسعة أعشار الكفر, وبه الداء العضال». ورواه الإمام أحمد من حديث بشر بن حرب سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اللهم بارك لنا في مدينتنا, وفي صاعنا ومدنا, ويمننا وشامنا - ثم استقبل مطلع الشمس - فقال: من ههنا يطلع قرن الشيطان, من ههنا الزلازل والفتن» ... هنا إضافة بخط اليد لم تفهم ... وعن مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد أن يخرج إلى العراق فقال له كعب الأحبار: لا تخرج إليها فإن بها تسعة أعشار السحر, وبها الداء العضال. ذكره في الموطأ. قال الخطابي: القرن الأمة من الناس يحدثون بعد فناء آخرين وقرن الحية أن يضرب المثل فيما لا يحمد من الأمور. نقله عنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري. قال: وقال غيره كان أهل المشرق يومئذ أهل كفر فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن الفتنة تكون من تلك الناحية, فكان كما أخبر. وأول الفتن كان من قبل المشرق فكان ذلك سبباً للفرقة بين المسلمين, وذلك مما يحبه الشيطان ويفرح به. وكذلك البدع نشأت من تلك الجهة.

وقال الخطابي: نَجْد من جهة المشرق, ومن كان بالمدينة كان نجده بادية العراق ونواحيها, وهي مشرق أهل المدينة. وأصل النجد ما ارتفع من الأرض, وهو خلاف الغور, فإنه ما انخفض منها, وتهامة كلها من الغور ومكة من تهامة. قال الحافظ ابن حجر وعرف بهذا وهاء ما قاله الداودي أن نجداً من ناحية العراق؛ فإنه توهم أن نجداً موضع مخصوص, وليس كذلك بل كل شيء ارتفع بالنسبة إلى ما يليه يسمى المرتفع نجداً والمنخفض غوراً. قلت: وقد تقدم ما رواه سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشير بيده يؤم العراق «ها إن الفتنة ههنا» الحديث ... هنا إضافة بخط اليد لم تفهم ... كقولهم: وفي نجدنا, وقولهم وفي مشرقنا. فالمراد بذلك كله أرض العراق وما يليه من المشرق وقد وقع مصداق ذلك فكان قتل عثمان رضي الله عنه على أيدي أهل العراق ومن مالأهم من أجلاف أهل مصر, وبقتله انفتح باب الفتن إلى يوم القيامة. وكانت في العراق وقعة الجمل, ووقعة صفين. وفيه قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما وأصحابه. وكانت فيه أيضاً فتنة المختار بن أبي عبيد, وفتنة الحجاج بن يوسف. وغير ذلك من الفتن العظيمة.

الوجه الثاني

وكذلك كانت فتنة بني العباس ودعاتهم في العراق وخراسان وكذلك فتن الأهواء المضلة فكلها ظهرت أول ما ظهرت بأرض العراق كفتنة الخوارج, والرافضة, والقدرية, والمرجئة, والمعتزلة؛ والجهمية. ثم انتشرت بعد ذلك في أرجاء الأرض. ولم يزل العراق موضع هرج وفتن في الدين وآخر ذلك فتنة المسيح الدجال, وهي أعظم فتنة تكون على وجه الأرض. وقد جاء في بعض الأحاديث أنه يخرج من العراق. وفي بعضها أنه يخرج من خراسان. وعلى هذا فيحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - أراد بقوله قرني الشيطان أول الفتن وآخرها وما بين ذلك من الفتن العظيمة. ويحتمل أنه أراد بذلك فتنة الهرج وفتنة الأهواء المضلة. والله أعلم بمراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... هنا إضافة بخط اليد لم تفهم ... الوجه الثاني: أن المصنف أراد بطلوع قرن الشيطان بنجد ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب قدس الله روحه. وقد سمى أهل نجد بالقرنيين في صفحة (50 و 127) من كتابه. وهذا من البهتان والإثم المبين, لكونه وصفهم بصفة ذميمة لم ترد فيهم, وإنما وردت في غيرهم. وقد قال الله تعالى (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً).

الوجه الثالث

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من ذكر امرأً بشيء ليس فيه ليعيبه به حبسه الله في نار جهنم حتى يأتي بنفاذ ما قاله فيه) رواه الطبراني, قال المنذري: وإسناده جيد. وفي رواية له «أيما رجل أشاع على رجل مسلم بكلمة وهو منها بريء يشينه بها في الدنيا كان حقاً على الله أن يذيبه يوم القيامة في النار حتى يأتي بنفاذ ما قال». وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قاله» رواه الإمام أحمد وأبو داود والطبراني وزاد «وليس بخارج». الوجه الثالث: أن الله تعالى قال (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) وقد زعم المصنف في آخر كتابه أنه من القائمين بالكتاب والسنة ثم خالف قوله بفعله في مواضع كثيرة من كتابه. ومنها هذا الموضع, حيث لم يتثبت في أمر الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأهل نجد, وتسرع إلى وصفهم بصفة مضادة لصفتهم في الحقيقة. ولو أنه تثبت في أمر الشيخ والنجديين كما تثبت علماء الدين لظهر له ما ظهر لهم من براءة الشيخ والنجديين مما رماهم به علماء الزيغ والضلال من البهتان والإثم المبين. الوجه الرابع: أن ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وتجديده للدين في أرض نجد كان في أواخر القرن الثاني عشر من الهجرة, لا في أواخر القرن الحادي عشر كما زعمه المصنف.

الوجه الخامس

الوجه الخامس: من فساد تصور المصنف جعله تجديد الدين ونشر السنة في البلاد النجدية نشراً للفتنة فيها. وهذا شأن أهل البدع الذين نكست قلوبهم فصاروا يرون الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق, عياذاً بالله من عمى البصيرة. الوجه السادس: من عجيب أمر المصنف حكمه للمصريين بالإيمان, وأنهم الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة, كما تقدم ذكر ذلك - وحكمه على الإمام المجدد للدين بأنه قرن الشيطان, وأنه نشر الفتنة, وتسميته للنجديين بالقرنيين. ولا يخفى على من له أدنى علم ومعرفة أن الأمر في كل من الفريقين بالعكس مما قال فيه. فأما الشيخ محمد بن عبد الوهاب قدس الله روحه فإنه قام بالدعوة إلى الله تعالى أتم القيام, فجعل الله تعالى في قيامه أعظم البركة, وجدد الله به دين الإسلام بعد اندراسه, ونشر به السنة في أرض الجزيرة العربية وغيرها وقمع به البدعة, وطهر به بلاد نجد من أمور الجاهلية. وكذلك كان أولاده وأحفاده وتلاميذه, وتلاميذ أولاده وأحفاده, وغيرهم من علماء نجد الأعلام, فكلهم كانوا على الصراط المستقيم والمنهج القويم, يدعون إلى الله تعالى على بصيرة ويجاهدون أهل الشرك والبدع وكتبهم ورسائلهم شاهدة بما ذكرته عنهم.

الوجه السابع

وأما المصريون فقد تقدم ما ذكرناه عنهم من الافتتان بالقبور, ودعاء أهلها والالتجاء إليهم في طلب الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات, وأن البدع والخرافات وأنواع المعاصي والمنكرات كانت فاشية عندهم بكثرة, وأنهم نبذوا حكم الشريعة المحمدية وراء ظهورهم واعتاضوا عنها بالقوانين الوضعية التي هي من حكم الطاغوت والجاهلية, وأنهم افتتنوا بالاشتراكية الخبيثة, مع تمسكهم بالتقاليد الإفرنجية في كل جليل وحقير من أمورهم. إلى غير ذلك مما ذكرناه ولم نذكره مما يطول وصفه. ومع هذا يقول المصنف عنهم إنهم على الحق, وإنهم الطائفة المنصورة. ويقول في الشيخ محمد بن عبد الوهاب قدس الله روحه إنه قرن الشيطان, وإنه نشر الفتنة, وإن النجديين هم قرن الشيطان. وهذا من قلب الحقيقة وعكس القضية في كل من الفريقين. وما أشبه حال المصنف بالذين قال الله تعالى فيهم (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون). الوجه السابع: أن المصنف قال عن العلماء إنهم كانوا يحملون الأحاديث الواردة في الخوارج على الشيخ محمد بن عبد الوهاب وعلى أصحابه. وهذا الكلام فيه إيهام وتلبيس على من جهل حال الشيخ محمد بن عبد الوهاب, كما أن فيه افتراء على علماء الدين وجوابه أن يقال:

ثناء علماء المسلمين وأهل الكتاب على الشيخ محمد بن عبد الوهاب

أما علماء الزيغ والضلال, من المفتونين بالقبور وأهل البدع والأهواء ومن شاكلهم فإنهم قد أظهروا العداوة للشيخ محمد بن عبد الوهاب وأصحابه, ورموهم بكل ما يرون أنه يعيبهم ويحط من قدرهم, فقالوا كذباً وزوراً إنهم خوارج, وقالوا إنهم قرن الشيطان, وقالوا إنهم نشروا الفتنة, وقالوا إنهم يبغضون الرسول - صلى الله عليه وسلم - , إلى غير ذلك مما بهتوهم به وافتروه عليهم. وأما علماء الدين فإنهم شهدوا للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى أنه أظهر توحيد الله؛ وجدد دينه ودعا إليه, واعترفوا بعلمه وفضله وهدايته, وأثنوا عليه نظما ونثرا. فمن ذلك ما قاله عالم اليمن الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله تعالى. قفي واسألي عن عالم حل سوحها ... به يهتدي من ضل عن منهج الرشد محمد الهادي لسنة أحمد ... فيا حبذا الهادي ويا حبذا المهدي لقد أنكرت كل الطوائف قوله ... بلا صدر في الحق منهم ولا ورد وقد جاءت الأخبار عنه بأنه ... يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي وينشر جهراً ما طوى كل جاهل ... ومبتدع منه فوافق ما عندي

ويعمر أركان الشريعة هادماً ... مشاهد ضل الناس فيها الرشد أعادوا بها معنى سواع ومثله ... يغوث وود بئس ذلك من ود وقد هتفوا عند الشدائد باسمها ... كما يهتف المضطر بالصمد الفرد وكم عقروا في سوحها من عقيرة ... أهلت لغير الله جهراً على عمد وكم طائف حول القبور مقبل ... ويستلم الأركان منهن بالأيدي لقد سرني ما جاءني من طريقه ... وكنت أرى هذي الطريقة لي وحدي وقال عالم الإحساء حسين بن غنام رحمه الله تعالى: لقد رفع المولى به رتبة الهدى ... بوقت به يعلى الضلال ويرفع سقاه نمير الفهم مولاه فارتوى ... وعام بتيار المعارف يقطع فأحيا به التوحيد بعد اندراسه ... وأقوى به من مظلم الشرك مهيع سما ذروة المجد التي ما ارتقى لها ... سواه ولا حاذى فناها سميدع

وشمر في منهاج سنة أحمد ... يشيد ويحيي ما تعفى ويرقع يناظر بالآيات والسنة التي ... أمرنا إليها في التنازع نرجع فأضحت به السمحاء يبسم ثغرها ... وأمسى محياها يضيء ويلمع وعاد به نهج الغواية طامساً ... وقد كان مسلوكاً به الناس تربع وجرت به نجد ذيول افتخارها ... وحق لها بالألمعي ترفع فآثاره فيها سوام سوافر ... وأنواره فيها تضيء وتسطع وقال العلامة محمد بن علي الشوكاني اليمني رحمه الله تعالى: إمام الورى علامة العصر قدوتي ... وشيخ الشيوخ الحبر فرد الفضائل محمد ذو المجد الذي عز دركه ... وجل مقاماً عن لحوق المطاول عنيت ابن عبد الوهاب قدوة عصره ... سلالة أنجاب زكي الخصائل عليه من الرحمن أعظم رحمة ... تبل ثراه بالضحى والأصائل

لقد أشرقت نجد بنور ضيائه ... وقام مقامات الهدى بالدلائل إمام له شأن كبير ورتبة ... من الفضل تثني همة المتطاول تأخر ميلاداً وفي حلبة العلى ... وميدان فخر سابق للأوائل ويأمر بالمعروف في كل حالة ... وعن منكر ينهى وليس بقابل ولم يأل جهداً في نصيحة مسلم ... برأي وتدبير وحسن تعامل ومن شأنه قمع الضلال ونصره ... لمن كان مظلوماً وليس بخاذل وكم كان في الدين الحنيفي مجاهداً ... بماضي سنان دامغ للأباطل فلولاه لم تحرز رحى الدين مركزاً ... ولا اشتد للإسلام ركن المعاقل ولا كان للتوحيد واضح لاحب ... يقيم اعوجاج السير من كل عادل فما هو إلا قائم في زمانه ... مقام نبي في إماتة باطل

وقال الشيخ ملا عمران بن علي بن رضوان, نزيل لنجه من بلاد العجم رحمه الله تعالى, في رده على من عارض الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: الشيخ شاهد بعض أهل جهالة ... يدعون أصحاب القبور الهمد تاجاً وشمسان ومن ضاهاهما ... من قبة أو تربة أو مشهد يرجون منهم قربة وشفاعة ... ويؤملون كذاك أخذاً باليد ورأوا لعبّاد القبور تقرباً ... بالنذر والذبح الشنيع المفسد ما أنكر القراء والأشياخ ما ... شهدوا من الفعل الذي لم يحمد بل جوزوه وشاركوا في أكله ... من كان يذبح للقبور ويفتدي فأتاهم الشيخ المشار إليه بالنـ ... ـصح المبين وبالكلام الجيد يدعوهم لله أن لا تعبدوا ... إلا المهيمن ذا الجلال السرمد لا تشركوا ملكاً ولا من مرسل ... كلا ولا من صالح أو سيد

فتنافروا عنه وقالوا ليس ذا ... إلا عجيب عندنا لم يعهد ما قاله آباؤنا أيضاً ولا ... أجدادنا أهل الحجى والسؤدد إنا وجدنا جملة الآبا على ... هذا فنحن بما وجدنا نقتدي فالشيخ لما أن رأى ذا الشأن من ... أهل الزمان اشتد غير مقلد ناداهم يا قوم كيف جعلتم ... لله أنداداً بغير تعدد قالوا له بل إن قلبك مظلم ... لم تعتقد في صالح متعبد قالوا له غشاش أمة أحمد ... وهو النصيح بكل وجه يبتدي هل قال إلا وحدوا رب السما ... وذروا عبادة ما سوى المتفرد وتمسكوا بالسنة البيضا ولا ... تتنطعوا بزيادة وتردد هذا الذي جعلوه غشاً وهو قد ... نطقت به الرسل الكرام لمن هدي

من عهد آدم ثم نوح هكذا ... تترى إلى عهد النبي محمد وكذلك الخلفاء بعد نبيهم ... والتابعون وكل حبر مهتد منهاجهم هذا عليه تمسكوا ... من كان مستناً بهم فليقتد عجباً لمن يتلو الكتاب ويدعي ... علم الحديث مسلسلا في المسند ويقول للتوحيد غشاً: إن ذا ... خطر على من قاله فليشهد ويجدد الإسلام والإيمان معتقداً ... بأن الشيخ خير مجدد ما ذنبه في الناس إلا أنه ... هد القباب وتلك سيرة أحمد لما نفى الإطراء منهم والغلو ... قالوا أتيت بذا الجفاء المبعد لو كان حبك للنبي محققاً ... لفعلت فعلتنا لعلك تهتدي والله قد ذم الغلو فقال (يا ... أهل الكتاب) بغلظة وتهددي إذ قال (لا تغلوا) بنهي لازم ... (في دينكم) فالحكم لم يتردد

وكذا الرسول نهى وأخبر أنه ... فيه الهلاك لراهب متعبد عجباً لهم لو كان فيهم منصف ... لرأى المحب محمداً لمحمد من حيث إن الاتباع مقارن ... للحب في نص الكتاب الأمجد قالوا صبأتم نحوه قلنا لهم ... الحق شمس للبصير المهتدي ما بيننا نسب نميل به ولا ... حسب يقربنا له بتودد أيضاً ولا هو جارنا الأدنى الذي ... نمتار نعمته ولم نسترفد لكنها شمس الظهيرة قد بدت ... لذوي البصائر فاهتدى من يهتدي فالعالمون العاملون المنصفون ... له أقروا بالفضائل واليد لكن قليل منهم في عصرنا ... كالشعرة البيضا بجلد أسود فان اعتراكم في الذي قد قاله ... شك وريب واختلاف يبتدي فزنوا بميزان الشريعة قوله ... تجدوه حقاً ظاهراً للمقتدي

وقال الشيخ أحمد بن محمد الحفظي اليمني رحمه الله تعالى في أرجوزة له: حركني لنظمها الخير الذي ... قد جاءنا في آخر العصر القذي لما دعا الداعي من المشارق ... بأمر رب العالمين الخالق وبعث الله لنا مجدداً ... من أرض نجد عالماً مجتهداً شيخ الهدى محمد المحمدي ... الحنبلي الأثري الأحمدي فقام والشرك الصريح قد سرى ... بين الورى وقد طغى واعتكرا لا يعرفون الدين والتهليلا ... وطرق الإسلام والسبيلا إلا أساميها وباقي الرسم ... والأرض لا تخلو من أهل العلم وكل حزب فلهم وليجه ... يدعونه في الضيق للتفريجه وملة الإسلام والاحكام ... في غربة وأهلها أيتام دعا إلى الله وبالتهليله ... يصرخ بين أظهر القبيله

مستضعفاً وما له مناصر ... ولا له معاون موازر في ذلة وقلة وفي يده ... مهفة تغنيه عن مهنده كأنها ريح الصبا في الرعب ... والحق يعلو بجنود الرب ولم يزل يدعو إلى دين النبي ... ليس إلى نفس دعا أو مذهب يعلم الناس معاني أشهد ... أن لا إله غير فرد يعبد محمد نبيه وعبد ... رسوله إليكم وقصده أن تعبدوه وحده لا تشركوا ... شيئاً به والابتداع فاتركوا ومن دعا دون الإله أحدا ... أشرك بالله ولو محمداً إن قلتم نعبدهم للقربه ... أو للشفاعات فتلك الكذبه وربنا يقول في كتابه ... هذا هو الشرك بلا تشابه هذي معاني دعوة الشيخ لمن ... عاصره واستكبروا عن السنن

وبعد ما استجيب لله فمن ... جادل في الله تردى وافتتن ومن أجاب داعي الله ملك ... ومن تولى معرضاً فقد هلك وثناء العلماء من سائر الأمصار على الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى, واعترافهم بعلمه وفضله ونصيحته لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم: كثير جداً. بل قد اعترف أعداء الإسلام والمسلمين من كتاب النصارى ومؤرخيهم أن الشيخ محمداً وأتباعه أرادوا تجديد الإسلام وإعادته

إلى ما كان عليه في الصدر الأول, كما ستأتي الإشارة إلى ذلك في كلام محمد رشيد رضا, وفيما نقله الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن سند عن الكاتب الأمريكي. قال محمد رشيد رضا في مقدمة كتاب صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان: لم يخل قرن من القرون التي كثرت فيها البدع من علماء ربانيين يجددون لهذه الأمة أمر دينها بالدعوة والتعليم وحسن القدوة, وعدول ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين كما ورد في الأحاديث. ولقد كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي من هؤلاء العدول المجددين, قام يدعو إلى تجريد التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده بما شرعه في كتابه وعلى لسان رسوله خاتم النبيين

- صلى الله عليه وسلم - وترك البدع والمعاصي وإقامة شعائر الإسلام المتروكة, وتعظيم حرماته المنتهكة المنهوكة. فنهدت لمناهضته واضطهاده القوى الثلاث قوة الدولة الحكام, وقوة أنصارها من علماء النفاق, وقوة العوام الطغام. وتصدى للطعن في الشيخ محمد بن عبد الوهاب والرد عليه أفراد من أهل الأمصار المختلفة, منهم رجل من أحد بيوت العلم في بغداد, قد عهدناه يفتخر بأنه من دعاة التعطيل والإلحاد. وكان أشهر هؤلاء الطاعنين مفتي مكة المكرمة الشيخ أحمد زيني دحلان المتوفي سنة 1304. ألف رسالة في ذلك تدور جميع مسائلها على قطبين اثنين: قطب الكذب والافتراء على الشيخ, وقطب الجهل بتخطئته فيما هو مصيب فيه. وكنا نسمع في صغرنا أخبار الوهابية المستمدة من رسالة دحلان هذا ورسائل أمثاله فنصدقها بالتبع لمشايخنا وآبائنا ونصدق أن الدولة العثمانية هي حامية الدين ولأجله حاربتهم وخضدت شوكتهم. وأنا لم أعلم بحقيقة هذه الطائفة إلا بعد الهجرة إلى مصر والاطلاع على تاريخ الجبرتي وتاريخ «الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى» فعلمت منهما أنهم هم الذين كانوا على هداية الإسلام دون مقاتليهم, وأكده الاجتماع بالمطلعين على التاريخ من أهلها ولا سيما تواريخ الإفرنج الذين بحثوا عن حقيقة الأمر فعلموها وصرحوا أن هؤلاء الناس أرادوا تجديد الإسلام وإعادته إلى ما كان عليه في الصدر الأول, وإذاً لتجدد مجده وعادت إليه قوته وحضارته. وإن الدولة العثمانية ما حاربتهم إلا خوفا من تجديد ملك العرب وإعادة الخلافة الإسلامية سيرتها الأولى. على أن العلامة الشيخ عبد الباسط الفاخوري مفتي بيروت كان ألف كتابا في تاريخ الإسلام ذكر فيه الدعوة التي دعا إليها الشيخ محمد بن عبد الوهاب, وقال إنها عين ما دعا إليه النبيون والمرسلون, ولكنه قال إن الوهابيين في عهده متشددون. وقد عجبنا له كيف تجرأ على مدحهم في عهد السلطان عبد الحميد؟ ورأيت شيخنا محمد عبده في مصر على رأيه في هداية سلفهم وتشدد خلفهم وأنه لولا ذلك لكان إصلاحهم عظيما ورجي أن يكون عاما, وقد ربى الملك عبد العزيز غلاتهم المتشددين منذ سنتين تربية يرجى أن تكون تمهيداً لإصلاح عظيم. وأن علماء السنة في الهند واليمن قد بلغهم كل ما قيل في هذا الرجل فبحثوا وتثبتوا كما أمر الله تعالى فظهر لهم أن الطاعنين فيه مفترون لا أمانة لهم, وأثنى عليه فحولهم في عصره وبعد عصره وعدوه من الأئمة المصلحين المجددين للإسلام ومن فقهاء الحديث كما نراه في كتبهم, ولا تتسع هذه المقدمة لنقل شيء من ذلك انتهى. والتشدد الذي أشار إليه إنما وقع في بعض الأعراب في زمن يسير. فأما الحاضرة وكثير من البادية فكانوا على الطريقة السلفية ولم يكن فيهم تشدد كما يزعمه بعض الناس, فإطلاق

التشدد على العموم متعقب على من ادعاه, كما لا يخفى على من له أدنى معرفة بحال أهل نجد. وقال محمد رشيد رضا في هامش صيانة الإنسان: من المعلوم بالتواتر أن الشيخ رحمه الله تعالى جدد الإسلام في نجد وغير نجد. وقال أيضاً في مقدمة رسائل العلامة الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى: لا نعرف في تاريخ الإسلام شعباً دخل في جميع الأطوار التي دخل فيها الإسلام في نشأته الأولى: غربة وجهاداً وهجرة وحجاجاً وقوة, غير هذا الشعب النجدي. فقد ظهر الشيخ محمد بن عبد الوهاب في وقت كان حال أهله شراً من حال المشركين وأهل الكتاب في زمن البعثة, من شرك وخرافات وبدع وضلالات وجهالة غالبة, فدعا إلى عبادة الله وحده والرجوع إلى أصل الإسلام الذي كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم, فعاداه في بلاده الأكثرون ووالاه فيها الأقلون, فنصر الله تعالى أولياءه من أمراء آل سعود وأتباعهم على أعدائهم. ثم تصدى لعداوتهم الترك وأعوانهم فكانت الحرب سجالا بينهم, وعاقب الله السعوديين زمناً ما بما كان من تخاذل بينهم وتقصير في إقامة بعض سنن الله في دولتهم, ثم كانت العاقبة الحسنى لهم عندما تابوا من ذنبهم ورجعوا إلى وحدتهم واعتبروا

بقول الله تعالى (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) وقوله في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما ظهر عليهم المشركون في غزوة أحد (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم) وقوله تعالى (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم). امتحن الله النجديين بتصدي الترك لعدواتهم وتأليب العرب وشرفاء الحجاز والمصريين عليهم لئلا يعيدوا ملك العرب وسلطانهم الذي سلبوه منهم, فحاربوهم باسم الإسلام, ونشروا الكتب والفتاوى في رميهم بالكفر والابتداع, وقد اغتر كثيرون بما فعلوه باسم الإسلام, وشايعهم عليه أفراد وجماعات هم دون الخوارج الذين خرجوا على الإمام أمير المؤمنين الخليفة الرابع للرسول - صلى الله عليه وسلم - وكفروه وتبرؤوا منه, ودون الذين بغوا عليه وحاربوه مع معاوية, نعم هم دونهم علماً بالدين وعملا به. بل كفرهم وقاتلهم أخلاط منهم المسلم والكافر والزنديق والمنافق, وعسكر لا يقيم الصلاة ولا يؤدي الزكاة ولا يحرم ما حرم الله ورسوله, من الخمر والزنا واللواط وأكل أموال الناس بالباطل والقتال لطاعة الرؤساء ولو في معصية الله تعالى. بهذا كان علماؤهم وأمراؤهم في حال تشبه حال مسلمي الصدر الأول: في مقاومة المشركين الذين يدعون غير الله ويجعلون لله أنداداً كالذين جاهدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - , وفي مقارعة تاركي الصلاة ومانعي الزكاة كالذين قاتلهم أبو بكر الخليفة الأول رضي الله عنه, وفي مجالدة البغاة كالذين قاتلهم الخليفة الرابع علي رضي الله عنه,

وفي مجادلة المبتدعين من الروافض والجهمية كالذين ناضلهم الإمام أحمد وإخوانه أئمة السنة بالحجة. فأعادوا نشأة الإسلام العملية سيرتها الأولى في الصدر الأول من ولاية وبراءة وهجرة وجهاد بالسيف والسنان, وبالحجة والبرهان. على حين صارت النصوص الخاصة بهذه الأحوال منسية أو كالمنسية عند غيرهم من شعوب الإسلام ودوله, لا يتعلق بها عمل من الأعمال ولا حكم من الأحكام. وقد عده أحمد أمين في كتابه يوم الإسلام من المجددين للدين وقال: كان من بني تيم ظهر في أواخر القرن الثامن عشر - أي الميلادي - وكان أهم مبادئ إصلاحه الرجوع إلى القرآن الكريم والسنة النبوية, ودافع عن مبدأ الأخذ بالحديث والاعتماد عليه اعتمادا كليا عكس ما فعله الفقهاء السابقون من أخذهم بالرأي, واقتنع بمذهب أحمد بن حنبل في اعتماده على الحديث, ودرس مؤلفات ابن تيمية, وأعاد الرجم للزاني والزانية واكتسبت تعاليمه أنصارا كثيرين وأبطل الأضرحة وهدمها, وحرم لبس الحرير, وأي زينة وزخرف في المساجد, كما تشدد في تحريم المسكرات وتحريم التدخين, إلى أن قال إصلاحات محمد بن عبد الوهاب هي إصلاحات دينية لا دنيوية انتهى. وقال محمد رشيد أيضا في مقدمة مجموعة الحديث النجدية: وقد كان مما استعمل الله به الشيخ محمد بن عبد الوهاب مجدد

الدين في نجد وما حولها أن أحيا مدارسة السنة النبوية فيها للاهتداء بها لا لمجرد التبرك بألفاظها, ولا لأجل الاستقلال فيها دون ما كتب المحدثون والفقهاء في شرحها والاستنباط منها بل نرى من هداهم الله تعالى بدعوته وأنقذهم من الجاهلية التي عادت إلى أكثر أهل جزيرة العرب ما زالوا يحيون كتب فقه شيخ السنة الأكبر الإمام أحمد رضي الله عنه, مع خيار كتب التفسير والحديث لغير الحنابلة من علماء السنة فكانوا من أجدر المسلمين بلقب أهل السنة. وقال الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن سند, في رده على الراوي العراقي: لقد نهض الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى نهضة أكرم بها من نهضة, وقد بلغ من أمر تلك النهضة أن عرفها الباحثون في علل رقي الأمم وانحطاطها حتى من غير علماء الإسلام. وإليك نظرية أحد علماء الغرب في تلك النهضة الإصلاحية التي نهض بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب. قال لو ثروب ستودارد الأمريكي في كتابه حاضر العالم الإسلامي المترجم إلى اللغة العربية بقلم الأستاذ عجاج نويهض- الفصل الأول من الكتاب, في اليقظة الإسلامية -: في القرن الثامن عشر - أي الميلادي - كان العالم الإسلامي قد بلغ من التضعضع أعظم مبلغ ومن التدلي والانحطاط أعمق دركة, فاربدجوه وطبقت الظلمة كل صقع من اصقاعه, ورجاً من أرجائه, وانتشر فيه فساد الأخلاق والآداب وتلاشى ما كان باقيا من آثار التهذيب العربي,

واستغرقت الأمم الإسلامية في اتباع الأهواء والشهوات, وماتت الفضيلة في الناس, وساد الجهل وانطفأت قبسات العلم الضئيلة. وانقلبت الحكومات الإسلامية إلى مطايا استبداد وفوضى واغتيال فليس يرى في العالم الإسلامي في ذلك العهد سوى المستبدين الغاشمين كسلطان تركيا وآخر ملوك المغول في الهند يحكمون حكما واهناً فاشي القوة متلاشي الصبغة, وقام كثير من الولاة والأمراء يخرجون على الدولة التي هم في حكمها وينشؤون حكومات مستقلة ولكن مستبدة كحكومة الدولة التي خرجوا عليها, فكان هؤلاء الخوارج لا يستطيعون إخضاع من في حكمهم من الزعماء هنا وهناك, فكثر السلب والنهب, وفقد الأمن, وصارت السماء تمطر ظلماً وجوراً. وجاء فوق جميع ذلك رجال الدين المستبدون يزيدون الرعايا إرهاقا فوق ارهاق, فغلت الأيدي, وقعد عن طلب الرزق, وكاد العزم يتلاشى في نفوس المسلمين, وبارت التجارة بوراً شديداً, وأهملت الزراعة أي إهمال. وأما الدين فقد غشيته غاشية سوداء, فألبست الوحدانية التي علمها صاحب الرسالة الناس سجفا من الخرافات وقشور الصوفية, وخلت المساجد من أرباب الصلوات, وكثر عدد الأدعياء الجهلاء وطوائف الفقراء والمساكين, يخرجون من مكان إلى مكان يحملون في أعناقهم التمائم والتعاويذ والسحات, ويوهمون الناس بالباطل والشبهات, ويرغبونهم في الحج إلى قبور الأولياء, ويزينون للناس التماس الشفاعة من دفناء القبور.

وغابت عن الناس فضائل القرآن فصار يشرب الخمر والأفيون في كل مكان, وانتشرت الرذائل, وهتكت ستر الحرمات على غير خشية واستحياء. ونال مكة المكرمة والمدينة المنورة ما نال غيرهما من سائر مدن الإسلام, فصار الحج المقدس الذي فرضه الله تعالى وفرضه النبي - صلى الله عليه وسلم - على من استطاعه ضربا من المستهزآت. وعلى الجملة فقد بدل المسلمون غير المسلمين, وهبطوا مهبطا بعيد القرار فلو عاد صاحب الرسالة إلى الأرض في ذلك العصر ورأى ما كان يدهى الإسلام لغضب وأطلق اللعنة على من استحقها من المسلمين كما يلعن المرتدون وعبدة الأوثان. وفيما العالم الإسلامي مستغرق في هجعته ومدلج في ظلمته, إذا بصوت قد دوى من قلب صحراء شبه الجزيرة مهد الإسلام, يوقظ المؤمنين ويدعوهم إلى الإصلاح والرجوع إلى سواء السبيل والصراط المستقيم. فكان الصارخ هذا الصوت إنما هو المصلح المشهور محمد بن عبد الوهاب الذي أشعل نار الوهابية فاشتعلت واتقدت واندلعت ألسنتها إلى كل زاوية من زوايا العالم الإسلامي, ثم أخذ هذا الداعي يحض المسلمين على إصلاح النفوس واستعادة المجد الإسلامي القديم والعز التليد, فتبدت تباشير صبح الإسلام ثم بدت اليقظة الكبرى في عالم الإسلام. ولد محمد بن عبد الوهاب في نجد الواقعة في قلب الصحراء العربية حوالي سنة ألف وسبعمائة ميلادي؛ وكانت نجد في ذلك

العصر على انحطاط العالم الإسلامي وتدليه أنقى البلدان إسلاما وأطهر الأقطار دينا. وإذ كان منذ أول شأنه شديد الميل إلى الاطلاع والتفقه في الدين, لسرعان ما اشتهر ذكره وذاع اسمه فعرف بعلم وافر, قواماً على التقوى فحج إلى مكة في أوائل عمره وطلب العلم في المدينة المنورة, وساح إلى كثير من البلاد المجاورة حتى فارس, ثم عاد إلى نجد مشتعلا غضباً دينياً لما رآه بأم عينه من سوء حالة الإسلام فصحت عزيمته على القيام بدعوة الإصلاح. فقضى سنين عديدة راحلا من بلاد إلى بلاد في شبه الجزيرة فبشر بالدعوة موقظا النفوس, حتى استطاع بعد جهاد طويل أن يجعل محمد بن السعود وهو أكبر أمراء نجد وأعلى زعمائهم كعبا وشأنا يقبل الدعوة ويدخل فيها فاكتسب ابن عبد الوهاب بذلك مكانة أدبية عالية ومنزلة اجتماعية رفيعة وقوة حربية لا يستهان بها فاستفاد من ذلك استفادة جليلة قد مكنته من بلوغ غايته وإدراك غرضه. فتكونت على التوالي وحدة دينية سياسية في جميع الصحراء العربية شبيهة بتلك الوحدة التي أنشأها صاحب الرسالة - صلى الله عليه وسلم - وفي الواقع فإن المنهج الذي نهجه ابن عبد الوهاب يشبه شبها كبيراً ذاك الذي نهجه الخلفاء الراشدون كأبي بكر وعمر. ولما مات سنة ألف وسبعمائة وسبعة وثمانين - أي ميلادية - خلفه ابن السعود فكان خير خليفة للمصلح الإسلامي الكبير,

واقتفى الوهابيون آثار خلافة الراشدين، وعلى ما كان في يد ابن السعود من القوى الحربية العظيمة فإن ذلك ما كان ليصرفه عن أن يكون على الدوام نازلا على رأي الجماعة وشوراها, فلم يمتهن حرية اتباعه وبني قومه. وكانت حكومته على عنفها مكينة عادلة فانقطع التعدي, وأمن الناس السرقات, وانتشر الأمن وسادت الطمأنينة والراحة وعكف على العلم والتهذيب, فكان في كل واحة مدرسة, وفي كل قبيلة بدوية عدد من المعلمين. وبعد أن أخضع ابن السعود نجداً وتم له الأمر في كاملها أخذ يستعد ليقوم بعمل أكبر, ألا وهو إخضاع جميع العالم الإسلامي ونشر الإصلاح فيه فجعل نصب عينيه في المقام الأول تحرير الأماكن المقدسة الحجازية, فكر على الحجاز في صدر القرن التاسع عشر - أي الميلادي - بمقاتلته الشجعان المشتعلين غيرة دينية, وكان له ما أراد من الاستيلاء على الأماكن المقدسة, فلم تستطع قوة الوقوف في وجه الوهابيين وهم يحملون على الترك, والترك في نظرهم أهل الارتداد والجحود, ومغتصبو الخلافة اغتصابا وحقها أن تكون أبداً في العرب. وبينما كان ابن السعود سنة ألف وثمانمائة وأربعة عشر - أي ميلادية - يعد العدة لفتح سوريا وهمته متينة, كان يخيل إلى العالم منه أن الوهابين متدفقون على الشرق تدفقا وصانعون ما شاء الله من الإصلاح في الإسلام, غير أن ذلك ما قدر ليكون.

فلما أيقن سلطان تركيا أنه لا يستطيع القضاء على الوهابيين استصرخ بطلا من مشاهير الأبطال وهو محمد علي واستكفاه أمر القضاء عليهم, وكان هذا المقدام الألباني سيد مصر وأميرها واقفا حق الوقوف على قدرة أوربا وشدة بأسها وتفوقها فدعا إليه ضباطا من أهل الغرب فنظموا له جيشا قويا ودربوه تدريباً على الطراز الغربي, وجهزوه بمعدات الأسلحة الغربية, وكان غالب هذا الجيش مؤلفا من المقاتلة الألبانيين الأشداء. فسرعان ما أجاب محمد علي نداء السلطان فأيقن حينئذ أن الوهابيين على شدة غيرتهم الدينية وحماستهم لن يستطيعوا بعد الوقوف بوجه البنادق والمدافع الأوربية يطلق عيارها جنود مجربون, وما هي إلا مدة قصيرة حتى استردت الأماكن المقدسة الحجازية ورد الوهابيون على أعقابهم فانقلبوا إلى الصحراء, فاختفت الإمبراطورية الوهابية الوليدة للحال اختفاء أو أرخي الستار على الدور السياسي الوهابي. بيد أن خاتمة هذا الدور السياسي كانت فاتحة الدور الديني فقد ظلت نجد بؤرة تشتعل فيها نار الغيرة الدينية, ومنبثق النور تنبعث منه الأشعة الوهاجة إلى كل ناحية من نواحي الأرض. وما فتئ الوهابيون منذ قضي على قوتهم السياسية يبثون روح الحركة الدينية في مئات الألوف من الحجيج الوافدين كل عام إلى مكة والمدينة من كل قطر من أقطار العالم الإسلامي, فيقتبس هؤلآء ناراً وهابية ثم يعودون إلى أوطانهم يشعلون بها

ما استطاعوا إشعاله في سبيل الإصلاح. وهكذا قد استطاع الوهابيون أن يبذروا بذورا تلاها الاختمار الشديد للثورة الدينية في كل فج إسلامي, حتى بلغت دعوتهم الدينية أقصى المعمور, فقام في شمال الهند الزعيم الوهابي المغالي السيد أحمد مستنفراً مسلمي بنجاب, وأنشأ دولة وهابية, فكان هذا الزعيم يعد عدته لفتح سائر شمالي الهند فحالت منيته بينه وبين ذلك, واضمحلت الدولة الوهابية الهندية سنة ألف وثمانمائة وثلاثين - أي ميلادية - غير أنه لما جاء الإنكليز يفتحون البلاد عانوا الأمرين من بقايا النار الوهابية الكامنة في الرماد, وظلت هذه النار مخبوءة إلى ما شاء الله فكانت عاملا من عوامل الثورة الهندية, ثم استطار من شررها ما تناول أفغانستان وسائر القبائل الهندية عند الحدود الشمالية الغربية فاشعلها أيما إشعال- إلى أن قال -: فالدعوة الوهابية إنما هي دعوة إصلاحية خالصة بحتة غرضها إصلاح الخرق ونسخ الشبهات وإبطال الأوهام, ونقض التفاسير المختلفة والتعاليق المتضاربة التي وضعها أربابها في عصر الإسلام الوسطى, ودحض البدع وعبادة الأولياء. وعلى الجملة هي الرجوع إلى الإسلام والأخذ به على أوله وأصله, ولبابه وجوهره, أي أنها الاستمساك بالوحدانية التي أوحى الله بها إلى صاحب الرسالة صافية ساذجة, والاهتداء والائتمام بالقرآن المنزل مجردا.

وأما ما سوى ذلك فباطل وليس في شيء من الإسلام. ويقتضي ذلك الاعتصام كل الاعتصام بأركان الدين وفروضه وقواعد الآداب كالصلاة والصوم وغير ذلك, والكون على السذاجة التامة في أحوال المعيشة, وتحريم اتخاذ الملابس الحريرية والتأنق في الأطعمة وشرب الخمر والتبغ - أي الدخان - وغير ذلك, مما بعضه من أسباب السرف, وبعضه الآخر من المضار المفسدة لسلامة العقل. انتهى ما يقتضي إيراده هنا مما كتبه ذلك الأجنبي عن الإسلام من الشهادة الصحيحة, والاعتراف بفضل نهضة الإصلاح الوهابية التي لم تحصر في قطر من أقطار الإسلام ولا شعب من شعوبه, بل عم أصل نفعها وهدايتها سائر الأقطار والشعوب الإسلامية. فما أشبه ذلك بأمر هرقل قيصر الروم وأبي سفيان القرشي حين اطلع قيصر على كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي دعاه به إلى الإسلام وجرت قصة محادثة قيصر مع أبي سفيان وقول قيصر لأبي سفيان إن صدقت فسيملك محمد ما تحت قدمي, فيخرج أبو سفيان وهو يقول لقد أمِر أمر ابن أبي كبشة, فقد أصبح يخافه ملك بني الأصفر. فما أشبه الليلة بالبارحة فقد اعترف بفضل الوهابية وإصلاح نهضتها أعداء الإسلام من العلماء, كما اعترف قيصر بصحة الرسالة. وأنكر فضل الوهابية أدعياء العلم من المسلمين الجغرافيين كما جحد فضل الرسالة الأقربون من العرب. والفضل

ما شهدت به الأعداء انتهى باختصار من كتاب البراهين الإسلامية. على إبطال المزاعم الراوية. وقال كارل بروكلمان الألماني في كتابه تاريخ الشعوب الإسلامية ما ملخصه: ولد في نجد المرتفعة في قلب الجزيرة محمد بن عبد الوهاب من قبيلة تميم ما بين أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر - أي الميلادي - فنشأ محباً للعلم واقفا نفسه على دراسة الفقه والشريعة, وقصد إلى عواصم الشرق الإسلامي طلبا للعلم في مدارسها, ودرس فقه أحمد بن حنبل الذي دافع في شدة وثبات عن مبدأ الأخذ بالحديث والاعتماد عليه اعتمادا كليا ضد نزعة الفقهاء السابقين إلى الأخذ بالرأي, ثم إنه درس مؤلفات ابن تيمية الذي كان قد أحيا تعاليم ابن حنبل. والواقع أن دراسته لآراء هذين الإمامين انتهت به إلى الإيقان عن أن الإسلام في شكله السائد في عصره مشرب بالمساوئ فلما آب إلى بلده الأول سعى أول ما سعى إلى أن يعيد إلى العقيدة والحياة الإسلاميتين صفاءهما الأصلي - إلى أن قال -حتى إذا انفضت فترة قصيرة اكتسبت تعاليمه أنصارا ومريدين وذكر أنه أقام حد الرجم ونهى عن لبس الحرير وحرم أيما تزيين أو زخرفة للمساجد والأضرحة, بل لقد توسع في فهم التحريم الإسلامي لمختلف ضروب المسكر فحرم تدخين التبغ الذي أعلن جميع الفقهاء من الحنابلة وغير الحنابلة معارضتهم له أول دخوله إلى بلاد الشرق, قال والواقع أن هذا المصلح لم يكن يتمتع من خصب

الأفكار أو الابتكار بأكثر مما كان يتمتع به الرسول نفسه انتهى. المقصود من كلامه. وقال فيكتور فيندي الصحفي السويدي في مقال له منشور في جريدة البلاد عدد 1904 وتاريخ 13 المحرم سنة 1385 هـ ما نصه: ورب سائل يسأل هل للمملكة دستور؟ فأقول له نعم فإن دستورها هو القرآن, ويرجع الفضل في ذلك إلى الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب المصلح الديني الأكبر الذي قام في القرن الثامن عشر الميلادي بحملة شعواء على المسلمين المتهاونين في دينهم والذي بينه وبين آل سعود منذ ذلك التاريخ أوثق الوشائج ويبدو التمسك بأهداب الدين وبتعاليمه واضحا في كل مكان وفي مواسم مثل شهر الصيام في رمضان. أو في موسم الحج عندما يفد الحجيج إلى مكة من كل بقاع المعمورة انتهى المقصود من كلامه ... هنا إضافة بخط اليد لم تفهم ... وفيما ذكرته من ثناء علماء المسلمين وعلماء أهل الكتاب على الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى كفاية في رد ما قاله المصنف وأمثاله فيه من الزور والبهتان. ويعلم من ذلك ما عليه علماء أهل الكتاب الذين ذكرنا أقوالهم من تحري الصدق وأداء الأمانة فيما كتبوه عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى بخلاف المصنف وأمثاله من أهل الزيغ والإلحاد فإنهم قد كذبوا فيما قالوه في حق الشيخ وأصحابه ولم يؤدوا الأمانة في ذلك, فبعداً لمن كان الكفار أصدق منهم مقالا وأوثق في أداء الأمانة.

الكلام في الاجتماع للذكر ورفع الصوت بذلك, وإنكار ما يفعله الصوفية في ذلك

فصل وفي صفحة (78): ذكر المصنف في جملة ما أنكره على الملاحدة العصريين أنهم دقوا الأبواب بالليل على عدة بيوت كان أهلها مجتمعين لذكر الله تعالى وبعضهم للصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بدلائل الخيرات فأسكتوهم. والجواب أن يقال إن كان الاجتماع لذكر الله تعالى على نحو ما يذكر عن الصوفية من اجتماع الجماعة ورفعهم أصواتهم جميعا بالتهليل, فهذا من البدع التي ينبغي النهي عنها. وقد أنكر ابن مسعود وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهما على الذين اجتمعوا للذكر على صفة لم يفعلها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعد ابن مسعود رضي الله عنه فعلهم ذلك من البدع. فروى الطبراني في الكبير عن عمرو بن سلمة قال كنا قعودا على باب ابن مسعود رضي الله عنه بين المغرب والعشاء, فأتى أبو موسى رضي الله عنه فقال اخرج إلينا أبا عبد الرحمن, فخرج ابن مسعود رضي الله عنه فقال: أبا موسى ما جاء بك هذه الساعة؟ قال لا والله إلا أني رأيت أمراً ذعرني وإنه لخير, ولقد ذعرني وإنه لخير, قوم جلوس في المسجد ورجل يقول سبحوا كذا وكذا, احمدوا كذا وكذا. قال فانطلق عبد الله وانطلقنا معهم حتى أتاهم فقال: ما أسرع ما ضللتم وأصحاب رسول الله

- صلى الله عليه وسلم - أحياء, وأزواجه شواب, وثيابه وأبنيته لم تغير, أحصوا سيئاتكم فأنا أضمن على الله أن يحصي حسناتكم. وروى الدارمي عن عمرو بن يحيى قال سمعت أبي يحدث عن أبيه قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قبل صلاة الغداة, فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد, فجاءنا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا لا فجلس معنا حتى خرج, فلما خرج قمنا إليه جميعاً فقال له أبو موسى يا أبا عبد الرحمن إني رأيت في المسجد آنفاً أمراً أنكرته ولم أر والحمد لله إلا خيراً, قال: فما هو؟ فقال: إن عشت فستراه, قال رأيت في المسجد قوماً حلقا جلوساً ينتظرون الصلاة, في كل حلقة رجل وفي أيديهم حصى فيقول كبروا مائة فيكبرون مائة, فيقول: هللوا مائة فيهللوا مائة, ويقول سبحوا مائة فيسبحون مائة, قال فماذا قلت لهم قال: ما قلت لهم شيئاً انتظار رأيك وانتظار أمرك قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء. ثم مضى ومضينا حتى أتى حلقة من تلك الحلق فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا يا أبا عبد الرحمن حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح, قال: فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء, ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم, هؤلاء صحابة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - متوافرون, وهذه ثيابه لم تبل وآنيته لم تكسر, والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد - صلى الله عليه وسلم - أو مفتتحو باب ضلالة؟ قالوا: والله يا

أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير, قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه. وروى عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد الزهد والطبراني وأبو نعيم في الحلية وأبو الفرج ابن الجوزي واللفظ له عن أبي البختري قال: أخبر رجل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن قوماً يجلسون في المسجد بعد المغرب, فيهم رجل يقول كبروا الله كذا وكذا وسبحوا الله كذا وكذا واحمدوا الله كذا وكذا, قال عبد الله فإذا رأيتهم فعلوا ذلك فأتني فأخبرني بمجلسهم, فأتاهم فجلس فلما سمع ما يقولون قام فأتى ابن مسعود رضي الله عنه فجاء, وكان رجلا حديداً فقال: أنا عبد الله بن مسعود والذي لا إله غيره لقد جئتم ببدعة ظلماء, أو لقد فضلتم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - علما, عليكم بالطريق فالزموه ولئن أخذتم يميناً وشمالا لتضلن ضلالا بعيداً. وفي رواية الطبراني فأمرهم أن يتفرقوا. وروى محمد بن وضاح أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حدث أن ناساً يسبحون بالحصى في المسجد فأتاهم وقد كوم كل رجل منهم كومة من حصى فلم يزل يحصبهم بالحصى حتى أخرجهم من المسجد وهو يقول لقد أحدثتم بدعة ظلماء أو لقد فضلتم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - علما. وقد أمر الله تعالى بإخفاء الذكر ونهى عن رفع الصوت بذلك فقال تعالى (واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخفية ودون الجهر من القول) وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أنكر رفع الصوت بالذكر

ونهى عن ذلك, كما في الصحيحين وغيرهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: لما غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر أو قال: لما توجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشرفوا على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله, فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم». وإذا علم هذا فالإنكار على الذين كانوا يرفعون أصواتهم بالذكر هو الصواب, بدليل ما ذكرنا من الآية وحديث أبي موسى رضي الله عنه. وأيضا فإن رفع الصوت بالذكر حتى تسمع أصوات الذاكرين في الأسواق وهم من داخل البيوت فيه مراءاة للناس, أو هو مظنة للمراءاة ومشابهة للمرائين. والرياء حرام لأنه من الشرك بالله تعالى وقد قال الله تعالى (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا). وما كان مظنة للرياء ومشابهة المرائين فأقل أحواله الكراهة؛ قاله شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى. وقد روى الإمام أحمد وأبو يعلى وابن حبان في صحيحه والبيهقي في شعب الإيمان عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «خير الذكر الخفي, وخير الرزق ما يكفي. وأيضا فإن الذكر الذي تجتمع له الصوفية لم يكن من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا من فعل أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين.

وقد روى الإمام أحمد والشيخان وأبو داود وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد». وفي رواية لأحمد ومسلم وللبخاري تعليقا مجزوما به «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد». وروى الإمام أحمد أيضاً وأهل السنن وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه عن العرباض بن سارية رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ, وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح, وصححه الحاكم ووافقه الذهبي في تلخيصه. وقال حذيفة رضي الله عنه كل عبادة لا يتعبدها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا تعبدوها, فإن الأول لم يدع للآخر مقالا, فاتقوا الله يا معشر القراء وخذوا ممن كان قبلكم. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم, كل بدعة ضلالة. رواه الدارمي وابن وضاح. وفي رواية لابن وضاح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: اتبعوا آثارنا ولا تبتدعوا فقد كفيتم. وروى ابن وضاح أيضاً عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: اتبعوا سبلنا ولئن اتبعتمونا لقد سبقتم سبقاً بعيداً ولئن خالفتمونا لقد ضللتم ضلالا بعيداً.

الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بدلائل الخيرات بدعة

ولقد ذكر عن بعض الصوفية أنهم كانوا يبتدئون الذكر بقول لا إله إلا الله, ثم يقتصرون على الاسم المفرد فيقولون الله الله, ثم يعدلون عن ذلك إلى المضمر فيقولون هو. هو ويزعمون أن الإتيان بلا إله إلا الله تامة هو ذكر العامة, وأن الاقتصار على الاسم المفرد هو ذكر الخاصة. وأن الاقتصار على الاسم المضمر هو ذكر خاصة الخاصة. وهذا من تلاعب الشيطان بهم, وفاعل هذا ينبغي زجره عنه, وإن أصر على المخالفة فينبغي أن يؤدب بما يردعه عن هذه البدعة, فإن الاقتصار على الاسم المفرد أو على المضمر ليس بذكر مشروع, وإنما هو من بدع الصوفية. قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: ومن هؤلاء من يرجح الاسم المفرد كقوله الله الله الله على كلمة الإخلاص التامة وهي قول لا إله إلا الله, ومنهم من يرجح ذكر المضمر وهو قول هو. هو أو يا هو على الاسم المظهر, وهذا كله من الغلط الذي سببه فساد كثير من السالكين حتى آل الأمر ببعضهم إلى الحلول والاتحاد. وكل ذكر علمه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأمته أو قاله إنما هو بالكلام التام لا بالاسم المفرد ولا بالمضمر انتهى. والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بدلائل الخيرات بدعة أحدثها أهل الغلو والإطراء الذي نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله» متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

وقد قال الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله في قصيدته التي مدح بها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى. وحرق عمداً للدلائل دفتراً ... أصاب ففيها ما يجل عن العد غلو نهى عنه الرسول وفرية ... بلا مرية فاتركه إن كنت تستهدي أحاديث لا تعزى إلى عالم فلا ... تساوي فلساً إن رجعت إلى النقد وصيرها الجهال للذكر ضرة ... ترى درسها أزكى لديهم من الحمد لقد سرني ما جاءني من طريقه ... وكنت أرى هذي الطريقة لي وحدي ثم إن رفع الصوت بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بدعة أخرى. قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى اتفق المسلمون على أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - والدعاء كله سراً أفضل, بل الجهر ورفع الصوت بالصلاة بدعة انتهى. وروى محمد بن وضاح عن يونس بن عبيد قال كانوا يجتمعون فأتاهم الحسن فقال له رجل يا أبا سعيد ما ترى في مجلسنا هذا, قوم من أهل السنة والجماعة لا يطعنون على أحد نجتمع في بيت هذا يوما وفي بيت هذا يوماً, فنقرأ كتاب الله وندعو

تأويله لقوله تعالى: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا} الآيات، والرد عليه

ربنا ونصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - , وندعو لأنفسنا ولعامة المسلمين قال فنهى عن ذلك الحسن أشد النهي. وإذا علم هذا فالصواب المنع من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بدلائل الخيرات ومن رفْع الصوت بالصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - , لأن ذلك بدعة والبدع لا يجوز إقرارها. فصل وفي صفحة (98) أورد المصنف هؤلاء الآيات. (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا. ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا). ثم جزم أنها مما نزل في ملاحدة العصريين دون غيرهم, قال وإن ظن كثير من أهل التفسير أنها نزلت في الحرورية. والجواب أن يقال إن الآية عامة لليهود والنصارى والحرورية وغيرهم ممن كان يعبد الله تعالى على غير طريقة مرضية, ويدخل في عمومها ملاحدة العصريين وغيرهم ممن يحسب أنه مصيب في عمله وهو مخطئ فيه. وقد روى البخاري في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال هم اليهود والنصارى. وروي مثله عن ابن عباس

رضي الله عنهما. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه والضحاك وغير واحد هم الحرورية. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: ومعنى هذا عن علي رضي الله عنه أن هذه الآية الكريمة تشمل الحرورية كما تشمل اليهود والنصارى وغيرهم, لا أنها نزلت في هؤلاء على الخصوص ولا هؤلاء بل هي أعم من هذا فإن هذه الآية مكية قبل خطاب اليهود والنصارى وقبل وجود الخوارج بالكلية وإنما هي عامة في كل من عبد الله على غير طريقة مرضية يحسب أنه مصيب فيها وأن عمله مقبول وهو مخطئ وعمله مردود كما قال تعالى (وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى ناراً حامية) وقال تعالى (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا) وقال تعالى (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءاً حتى إذا جاءه لم يجده شيئا).

إنكار حمل السبحة في العنق

فصل وفي صفحة (101) ذكر المصنف المارقين من العصريين وقال ما نصه: حتى صار المؤمن يمشي فيهم مختفياً لا سيما إذا كان ذاكراً لله تعالى أو حاملا لسبحة في عنقه. والجواب أن يقال ليس حمل السبحة في العنق من أفعال المؤمنين وإنما هو من أفعال الصوفية المبتدعين. ولا يجوز حمل السبحة في العنق لأمور ثلاثة: الأول أنه من محدثات الأمور التي حذر منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته فقال في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» رواه الإمام أحمد وأهل السنن, وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح, وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي في تلخيصه, وروى الإمام أحمد أيضا والشيخان وأبو داود وابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية لأحمد ومسلم والبخاري تعليقاً مجزوما به «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» - أي مردود. الثاني أن في حملها في العنق مشابهة النساء لأن تعليق القلائد في

المشروع عد التسبيح بالأصابع لا بالسبحة

الرقاب من أفعالهن وقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء في عدة أحاديث ليس هذا موضوع ذكرها. الثالث: أن في تعليقها في العنق مراءاة للناس, أو هو مظنة للمراءاة ومشابهة للمرائين. والرياء شرك وما كان مظنة للمراءاة ومشابهة المرائين فأقل أحواله الكراهة. والمشروع عد التسبيح بالأصابع لا بالسبحة, قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى عد التسبيح بالأصابع سنة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للنساء سبحن واعقدن بالأصابع فإنهن مسؤلات ومستنطقات وأما عده بالنوى والحصى ونحو ذلك فحسن, وكان من الصحابة من يفعل ذلك وقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - أم المؤمنين تسبح بالحصى وأقرها على ذلك. وروي أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يسبح به. وأما التسبيح بما يجعل في نظام من الخرز ونحوه فمن الناس من كرهه, ومنهم من لم يكرهه, وإذا أحسنت فيه النية فهو حسن غير مكروه, وأما اتخاذه في اليد أو نحو ذلك فهذا إما رياء للناس أو مظنة المراءاة, ومشابهة المرائين من غير حاجة, والأول محرم والثاني أقل أحواله الكراهة, فإن مراءاة الناس في العبادة المختصة كالصلاة والصيام والذكر وقراءة القرآن من أعظم الذنوب انتهى. وروى محمد بن وضاح عن الصلت بن بهرام قال مر ابن مسعود رضي الله عنه بامرأة معها تسبيح تسبح به فقطعه وألقاه, ثم مر

تأويله لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «إن الله خلق آدم على صورته»، والرد عليه

برجل يسبح بحصى فضربه برجله ثم قال لقد سبقتم, ركبتم بدعة ظلماء, أو لقد غلبتم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - علماً. وروى ابن وضاح أيضاً عن أبان بن أبي عياش قال سألت الحسن عن النظام من الخرز والنوى ونحو ذلك يسبح به, فقال: لم يفعل ذلك أحد من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا المهاجرات, وبلغني أن ابن مسعود مر على رجل وهو يقول لأصحابه سبحوا كذا وكبروا كذا وهللوا كذا قال ابن مسعود: على الله تعدون أو على الله تسمعون, قد كفيتم الإحصاء والعدة, قال إبان فقلت للحسن فإن سبح الرجل وعقد بيده قال لا أرى بذلك بأساً. فصل وقال المصنف في صفحة (107) ما نصه: ومما ظهر وشاع في هذا الزمان من مقالات الكفار التي روجها هؤلاء المارقون مقالة داروين النشوء والارتقاء, وأن الإنسان أصله قرد, وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه المقالة وبطلانها في الحديث الصحيح المخرج في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إن الله خلق آدم على صورته» أي صورة آدم التي خلقه عليها, ولم يخلقه في صورة القرد ثم بعد ذلك النشوء والتطور والارتقاء صار إلى هذه الصورة الموجود عليها بنو آدم اليوم. والجواب أن يقال: أما مقالة داروين فهي كفر صريح لما فيها من التكذيب بما أخبر الله به عن خلقه لآدم من طين, وأن الله

تعالى خلقه بيديه, ونفخ فيه من روحه, وأمر الملائكة بالسجود له. وهذه فضائل عظيمة خص الله بها آدم دون سائر المخلوقات. وفي هذه المقالة الخبيثة أيضاً أعظم عقوق لآدم أبي البشر حيث جعلوه ناشئاً من القردة التي هي من أخبث الحيوانات وأشوهها خلقاً. ولا تستغرب هذه المقالة الخبيثة وأمثالها من مقالات الكفر من ملاحدة الإفرنج وأشباههم من أعداء الله تعالى, وإنما المستغرب تلقيها بالقبول من كثير من المنتسبين إلى الإسلام, ومنهم من ينتسب إلى العلم, وقد رأيت معناها منشوراً في بعض صحف المسلمين الرائجة عندهم, وما رأيت أحداً أنكر ذلك عليهم, فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وإنما يقول بهذه المقالة الخبيثة من ينكر وجود الصانع, ويرى أن المخلوقات إنما تكونت من قبل الطبيعة لا بفعل الرب الفاعل المختار الذي أوجد جميع المخلوقات من العدم وصورها على غير مثال سبق, قال الله تعالى (وخلق كل شيء فقدره تقديراً) وقال تعالى مخبراً عن موسى عليه الصلاة والسلام (قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) وقال تعالى (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) وقال تعالى (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون). وفي هذه الآيات رد على ملاحدة الإفرنج ومن يقلدهم من طغام المسلمين فيما يزعمونه من النشوء والتطور والارتقاء, والآيات في الرد عليهم كثيرة وفيما ذكرته ههنا كفاية.

وفي الحديث الصحيح عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «إن الله عز وجل خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض, جاء منهم الأبيض والأحمر والأسود وبين ذلك, والخبيث والطيب والسهل والحزن وبين ذلك» رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه, والحاكم في مستدركه, والبيهقي في سننه, وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح, وصححه الحاكم ووافقه الذهبي في تلخيصه. وفي هذا الحديث رد على من قال بالنشوء والتطور والارتقاء في بني آدم. وأما تأويل المصنف لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - إن الله تعالى «خلق آدم على صورته» بقوله أي صورة آدم التي خلقه عليها, فهو تأويل باطل مردود وهو من أقوال الجهمية, نص على ذلك الإمام أحمد رحمه الله تعالى في رواية أبي طالب عنه. قال أبو جعفر محمد بن علي الجرجاني المعروف بحمدان سألت أبا ثور عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «إن الله خلق آدم على صورته» فقال على صورة آدم وكان هذا بعد ضرب أحمد بن حنبل والمحنة, فقلت لأبي طالب قل لأبي عبد الله, فقال لي أبو طالب قال لي أبو عبد الله: صح الأمر على أبي ثور, من قال إن الله خلق آدم على صورة آدم فهو جهمي, وأي صورة كانت لآدم قبل أن يخلقه؟ وقال زكريا بن الفرج سألت عبد الوهاب - يعني الوراق - غير مرة عن أبي ثور فأخبرني أن أبا ثور جهمي, وذلك أنه قطع

بقول أبي يعقوب الشعراني حكى أنه سأل أبا ثور عن خلق آدم على صورته فقال إنما هو صورة آدم ليس هو على صورة الرحمن. قال زكريا فقلت بعد ذلك لعبد الوهاب ما تقول في أبي ثور؟ فقال ما أدين الله عز وجل فيه إلا بقول أحمد بن حنبل: يهجر أبو ثور ومن قال بقوله. قال زكريا وقلت لعبد الوهاب مرة أخرى وقد تكلم قوم في هذه المسألة خلق الله آدم على صورته فقال من لم يقل إن الله خلق آدم على صورة الرحمن فهو جهمي. وقد قال عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة حدثني أبو بكر الصاغاني حدثنا أبو الأسود وهو النضر بن عبد الجبار حدثنا ابن لهيعة عن أبي يونس - وهو سليم بن جبير السدوسي مولى أبي هريرة - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه, فإنما صورة الإنسان على وجه الرحمن». ابن لهيعة ضعفه بعض الأئمة, وحسن بعضهم حديثه, وروى له مسلم مقروناً بآخر, وبقية رجاله ثقات. وقال أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة أخبرنا أبو محمد عبد الله بن صالح البخاري قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم المروزي قال حدثنا جرير بن عبد الحميد عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا تقبحوا الوجه فإن ابن آدم خلق على صورة الرحمن عز وجل» إسناده صحيح. أبو محمد عبد الله بن صالح البخاري قال فيه أبو علي الحافظ: ثقة مأمون, وقال أبو بكر الإسماعيلي: ثقة ثبت,

وقال أبو الحسن ابن المنادي: هو أحد الثقات والصلاح والفهم لما يحدث به, وبقية رجاله رجال الصحيح. قال أبو بكر الآجري هذه من السنن التي يجب على المسلمين الإيمان بها, ولا يقال فيها كيف ولم, بل تستقبل بالتسليم والتصديق وترك النظر, كما قال من تقدم من أئمة المسلمين حدثنا أبو نصر محمد بن كردي قال: حدثنا أبو بكر المروذي قال سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله عن الأحاديث التي تردها الجهمية في الصفات والأسماء والرؤية وقصة العرش, فصححها وقال: تلقتها العلماء بالقبول, تسلم الأخبار كما جاءت. وقال أبو بكر المروذي: وأرسل أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة إلى أبي عبد الله يستأذنانه في أن يحدثا بهذه الأحاديث التي تردها الجهمية, فقال أبو عبد الله حدثوا بها فقد تلقتها العلماء بالقبول. وقال أبو عبد الله تسلم الأخبار كما جاءت. قال محمد بن الحسين الآجري: سمعت أبا عبد الله الزبيري وقد سئل عن معنى هذا الحديث, فذكر مثل ما قيل فيه, ثم قال أبو عبد الله: نؤمن بهذه الأخبار التي جاءت كما جاءت, ونؤمن بها إيماناً ولا نقول كيف, ولكن ننتهي في ذلك إلى حيث انتهي بنا فنقول في ذلك ما جاءت به الأخبار كما جاءت.

الرد عليه فيما يراه من احترام الأضرحة وإقامة الموالد

فصل وفي صفحة (113) وصفحة (114): ذكر المصنف عداوة المستشرقين للإسلام, وشدة بحثهم عن الطرق الموصلة إلى القضاء عليه وإفساده, واتفاق الدول الكافرة على ذلك, وإنفاقهم الأموال الباهظة عليه. قال ومع ذلك فهم أشد الناس خدمة للصوفية وتعظيما لهم, واحتراما لأضرحة الأولياء وإقامة الموالد التي تقام لهم كل سنة, حتى إنهم هم الذين ينفقون عليهم في بعض الأحيان ويشجعون القبائل على إقامتها بحضور الرؤساء منهم وغير ذلك, مع ما فيه من المظاهر الإسلامية والتآلف والاجتماع والتعارف الذي يحصل بينهم بسببها, وهو الذي يحاربونه بمكة ويسعون في القضاء عليه. والجواب عن هذا من وجوه: أحدها: ان تعظيم الأضرحة وإقامة الموالد للصوفية ليس هو من المظاهر الإسلامية. وإنما هو من مظاهر الوثنية والبدع المضلة. وهل وقع الشرك وعبادة القبور قديماً وحديثاً إلا بسبب الغلو في الأولياء أو من تظن الولاية فيه, والعكوف على قبورهم وتعظيمها بالبناء والكتابة عليها والتمسح بها واتخاذها مساجد, وغير ذلك مما نهى عنه الشرع المطهر. الوجه الثاني: من عجيب أمر المصنف وقبيح جهله قوله عن احترام أضرحة الأولياء وإقامة الموالد للصوفية أن فيه أعظم تأييد

الوجه الثالث

للدين, وهذا من قلبه للحقيقة, فإن هذه الأمور من أعظم هوادم الدين كما لا يخفى على من له أدنى علم وفهم. وهذا مولد البدوي الذي تقيمه الصوفية وأمثالهم من الطغام في كل عام, ويحضره مئات الألوف من الناس الذين لا يسمعون ولا يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا من الأنعام, ويحصل فيه من أنواع الشرك والبدع والمنكرات العظيمة ما لا يعد ولا يحصى, هل يقول مسلم إنه من المظاهر الإسلامية وإن فيه تأييداً للدين؟ كلا. لا يقول هذا مسلم, وإنما يقوله من طبع الله على قلبه فصار يرى الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق, عياذاً بالله من رين الذنوب وانتكاس القلوب. الوجه الثالث: أن خدمة الإفرنج للصوفية وتعظيمهم لهم ليس هو من أجل تمسك الصوفية بدين الإسلام كما قد توهمه المصنف وإنما ذلك لما بينهم وبين الصوفية من المناسبة والمشاكلة في الغلو في المخلوقين والبعد عن الدين الصحيح. فأما الإفرنج فلا يخفى ما هم عليه من الغلو في المسيح وأمه والحواريين وغيرهم من القديسين عندهم, حتى اتخذوا المسيح وأمه إلهين من دون الله. وأما الصوفية فلا يخفى ما هم عليه من الافتتان بالبدوي وغيره من المعتقدين عندهم, حتى اتخذوهم آلهة من دون الله, يفزعون إليهم في قضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثةاللهفات, ويسمون البدوي قطب الأقطاب والغوث الذي يتصرف في الكون

الوجه الرابع

ويدبر فيه. ومن كانت هذه حالهم فلا تستغرب خدمة أشباههم لهم وتعظيمهم إياهم. وأيضاً فإن المستشرقين من علماء الإفرنج لا تخفى عليهم مخالفة الصوفية لدين الإسلام وبعدهم عنه, فهم لذلك يخدمون الصوفية ويعظمونهم, ويقيمون لهم الموالد وينفقون الأموال الكثيرة فيها ويشجعونهم عليها, يريدن بذلك إظهار الوثنية والبدع وأنواع المنكرات, وتوهين الإسلام والقضاء عليه كما قال الله تعالى (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون). الوجه الرابع: أن أعظم المظاهر الإسلامية أركان الإسلام الخمسة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله ولزوم طاعة الله تعالى وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - في كل شيء. ولم يكن المستشرقون يشجعون المسلمين على هذه الأمور, لأنها من أبغض الأشياء إليهم, وإنما كانوا يشجعون الطغام على ما يخالف الإسلام ويهدمه, من أنواع الشرك والبدع والمعاصي. الوجه الخامس: من أعظم فضائل النجديين وأكبر مناقبهم محاربتهم للمظاهر الوثنية والبدع وسعيهم في القضاء عليها. وهذا المصنف المسكين قد ذكر أنهم يحاربون إقامة الموالد بمكة ويسعون في القضاء عليها, يريد بذلك ذمهم وعيبهم, ولا يدري أنه في الحقيقة مادح لهم ومثن عليهم بقمع البدع والمحدثات التي حذر منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبر أنها ضلالة.

الرد عليه في زعمه أن إجابة الدعاء قد رفعت مطلقا

ولما كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه أهل توحيد وسنة ومحاربة لأهل الشرك والبدع, كان هذا الصوفي المفتون بالمظاهر الوثنية والبدع المضلة يشن الغارة عليهم بالإفك والبهتان, فيقول عن ظهور الشيخ محمد وتجديده للدين إن ذلك هو طلوع قرن الشيطان في نجد, ويقول عن نشر الشيخ للتوحيد والسنة إن ذلك هو نشر الفتنة, ويسمي النجديين بالقرنيين, ويقول إنهم يبغضون الرسول - صلى الله عليه وسلم - , وإنهم يحاربون المدينة ويسعون في القضاء عليها وإنهم أعداء أهل المدينة وإنهم يضيقون عليهم ويعاملونهم بما يحملهم على مفارقتها والخروج منها لتخرب. وما ينقم هذا الصوفي منهم إلا أنهم ينكرون ما هو مفتون به هو وشيعته الصوفية من المظاهر الوثنية والبدع المضلة. فصل وفي صفحة (124): زعم المصنف أن إجابة الدعاء قد رفعت إلا في رمضان, وعند الكعبة, وعرفات, ثم رفعت مطلقاً. والجواب: أن يقال هذا القول خطأ ظاهر ورجم بالغيب ومن أين له العلم برد الداعين كلهم وعدم إجابتهم؟ (أعنده علم الغيب فهو يرى). ولم يزل المسلمون ولله الحمد يرون إجابة الدعاء للجماعات والأفراد, فما زعمه المصنف من رفع الإجابة مردود عليه.

الرد عليه في كذبه على النجديين

فصل وفي صفحة (127): سمى المصنف النجديين بالقرنيين, وزعم أنهم أعداء أهل المدينة, وأنهم يضيقون عليهم, ويعاملونهم بما يحملهم على مفارقتها والخروج منها لتخرب. والجواب: أن يقال هذا من الكذب والبهتان, كما لا يخفى على من رأى المدينة وأهلها في هذه الأزمان. وقد تقدم الجواب عن هذا البهتان في أثناء الكتاب (صفحة 79 فما بعد) فليراجع. فصل وفي صفحة (131): جزم المصنف أن علماء الوقت هم شر من تحت أديم السماء. والجواب: أن يقال هذا الإطلاق خطأ ورجم بالغيب, ومن أين له العلم بأحوال العلماء كلهم حتى يحكم عليهم بأنهم شر من تحت أديم السماء؟ (أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهداً). والحق أن العلماء ليسوا كلهم مذمومين, لأنهم لم يكونوا على طريقة واحدة, بل منهم المحسنون المستحقون للثناء والمدح, ومنهم المسيئون المستحقون للذم والقدح. وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله, لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم, حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس» رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة عشر من الصحابة رضي الله عنهم, وكلها أحاديث صحيحة.

الرد عليه في زعمه أنه لا يوجد الآن من يفتي بالسنة

والمراد بالطائفة المنصورة أهل السنة والجماعة. وجزم البخاري في صحيحه أنهم أهل العلم. وقال ابن المبارك وابن المديني وأحمد بن سنان وابن حبان: هم أصحاب الحديث. وقال يزيد بن هارون وأحمد بن حنبل: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم؟ قال القاضي عياض: «إنما أراد أهل السنة والجماعة ومن يعتقد مذهب أهل الحديث» انتهى. وفي هذه الأحاديث رد لما جزم به المصنف في علماء الوقت, لأن الطائفة المنصورة لم تنقطع من الأرض ولا تنقطع منها حتى يأتي أمر الله تعالى بهبوب الريح الطيبة التي تقبض روح كل مؤمن. وإذا كانت الطائفة المنصورة باقية إلى الآن فلا بد أن يكون فيها علماء صالحون مصلحون لما أفسد الناس, وأولئك من خير من تحت أديم السماء, لا كما يقول المصنف إنهم شر من تحت أديم السماء. فصل وقال المصنف في صفحة (137) ما نصه: فلو طاف المرء أقطار الأرض لما وجد من يفتيه بسنة أصلا. والجواب أن يقال هذا القول خطأ ظاهر, فإن الأرض لم تخل من قائم لله بحجة, ولا تخلو ما دامت الطائفة المنصورة موجودة. وكبار العلماء عندنا في الجزيرة العربية لا يعدلون عن الفتيا بالكتاب والسنة, وإذا عدموا الدليل من الكتاب والسنة رجعوا إلى أقوال الصحابة, وبعد ذلك إلى أقوال التابعين وأئمة العلماء.

الرد عليه في تزكيته لنفسه وادعائه مرتبة الكمال

فصل وفي صفحة (138): ذكر المصنف قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق, لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك». ثم قال ما نصه: وتحدثا بنعمة الله علينا نقول إننا من تلك الطائفة والحمد لله, وبنا وبأمثالنا يندفع الضلال عن هذه الأمة, ويتحقق ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من أن أمته لا تجتمع على ضلالة, وأنها لا تزال بها طائفة قائمة بالحق عاملة به إلى أن يأتي أمر الله وهم على ذلك. بل لا نبالغ إذا قلنا قد وردت الإشارة إلينا والحمد لله تعالى على فضله ومنته وذلك فيما رواه ابن وضاح وغيره من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا ظهرت فيكم السكرتان: سكرة الجهل؛ وسكرة حب العيش وجاهدوا في غير سبيل الله فالقائمون يومئذ بكتاب الله سراً وعلانية كالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار». فليس في مغربنا بل ولا في الشمال الأفريقي قائماً بكتاب الله داعياً إليه سراً وعلانية, محارباً ومخالفاً من المقلدة الذين هم أكثر أهل الأرض غيرنا.

الإنكار عليه في قوله على النبي - صلى الله عليه وسلم - بما لم يقله

والجواب أن يقال هذه دعوى المصنف لنفسه وتزكيته لها. والله أعلم هل هو عند الله كذلك أم لا؟ وقد قال الله تعالى (فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى). وقد ذكرت عنه كثيراً مما يخالف ما عليه الطائفة المنصورة, ولا سيما تفسيره لجملة آيات من القرآن بمجرد رأيه, وقوله على الله وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بغير علم, وكذلك استحلاله للكذب والبهتان على أهل نجد وعيبهم بما ليس فيهم, والكذب من النفاق, وسباب المسلم فسوق وكذلك تعظيمه للمظاهر الوثنية والبدع التي تقيمها الصوفية في الموالد, وكذلك استرساله في اللعن والشتائم, وكذلك تقريره لمذهب الجهمية في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «إن الله تعالى خلق آدم على صورته» إلى غير ذلك مما ذكرته عنه فيما تقدم, فليراجع ذلك وليقارن بينه وبين ما ادعاه لنفسه من مرتبة الكمال, فما أبعدها دعوى من الصحة. فصل وقد صدر المصنف كثيراً من عناوين كتابه بقوله: «إخباره - صلى الله عليه وسلم - بكذا وكذا» بصيغة الجزم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك. وهو لم يرد صريحاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا من القول على النبي - صلى الله عليه وسلم - بما لم يقله, وقد تواترت الأحاديث بالوعيد الشديد لمن قال على النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقله, وليس هذا موضوع ذكرها.

إنكار ما أودعه في كتابه من كثرة اللعن والشتم

فصل وقد أكثر المصنف من اللعن والشتم في كتابه الذي رددنا عليه فيه, وربما فعل ذلك في حق أناس معينين. ولا يجوز لعن المعين ولو كان كافراً, إلا إذا تحقق أنه مات على الكفر فأما إذا كان حياً فإنه يرجى له الإسلام فيدعى له بالهداية ولا يدعى عليه بالطرد والإبعاد من رحمة الله. ولما لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أناساً معينين من رؤساء الكفار يوم أحد, أنزل الله عليه (ليس لك من الأمر شيئاً أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) ثم تاب الله عليهم فأسلموا وحسن إسلامهم. والحديث بذلك في صحيح البخاري ومسند الإمام أحمد وغيرهما من حديث ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم. فأما لعن أهل المعاصي على سبيل العموم فجائز, وهو كثير في الكتاب والسنة. وقد ورد النهي عن اللعن والسب في أحاديث كثيرة ليس هذا موضع ذكرها. وروى الإمام أحمد ومسلم وأبو داود عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة».

وروى الإمام أحمد أيضا والترمذي وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه والبيهقي في شعب الإيمان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب, قال الحاكم: على شرط الشيخين, وأقره الذهبي في تلخيصه. وروى الترمذي أيضاً عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «لا يكون المؤمن لعانا» قال الترمذي هذا حديث حسن غريب, وروى بعضهم هذا الحديث بهذا الإسناد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال «لا ينبغي للمؤمن أن يكون لعانا». قلت وقد رواه الحاكم في مستدركه بهذا اللفظ, وفي رواية له «لا ينبغي لمسلم أن يكون لعانا». وروى الإمام أحمد والطبراني عن جرموز الهجيمي رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أوصني, قال: «أوصيك أن لا تكون لعاناً». وهذا آخر ما تيسر إيراده. والحمد لله رب العالمين, وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وسلم تسليما كثيراً. وقد وقع الفراغ من تسويد هذا الرد في يوم الإثنين الموافق للعشرين من ربيع الأول سنة 1385 هـ.

ثم كان الفراغ من كتابة هذه النسخة في يوم الثلاثاء الموافق للسابع والعشرين من ربيع الآخر من السنة المذكورة على يد جامعه الفقير إلى الله تعالى حمود بن عبد الله التويجري. غفر الله له ولوالديه وللمسلمين والمسلمات, الأحياء منهم والأموات, والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. وكان الفراغ من طبعه في 28 رمضان المبارك 1385 هـ في مؤسسة النور للطباعة والتجليد زادها الله قوة في نصرة الحق ودمغ الباطل.

§1/1