إنه القرآن سر نهضتنا - كيف يمكن للقرآن أن ينهض بالأمة؟

مجدي الهلالي

جميع الحقوق محفوظة الطبعة الأولى 1427هـ - 2006م رقم الإيداع: 7925/ 2006م بطاقة الفهرسة فهرسة أثناء النشر إعداد الهيئة المصرية العامة لدار الكتب والوثائق القومية إدارة الشئون الفنية الهلالي، مجدي أنه القرآن/ سر نهضتنا، كيف يمكن للقرآن أن ينهض بالأمة؟ تأليف مجدي الهلالي. ط1 - القاهرة مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، 2006 160 ص، 23 سم ... تدمك: 9 - 85 - 6119 - 977 1 - القرآن والمجتمع ... 2 - العنوان 229.43 مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة 10 ش أحمد عمارة - بجوار حديقة الفسطاط القاهرة ت: 5326610 ... محمول:0102327302 - 0101175447 www.iqraakotob.com E-mail:[email protected]

المقدمة

المقدمة الحمد لله الرحيم الودود، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فلا يخفى على أحد الواقع المرير الذي تعيشه أمتنا الإسلامية في هذا العصر، فلقد أصبحت بلا قيمة ولا اعتبار، تكالب عليها الجميع، وصارت عبرة بين الأمم في الذل والهوان والتخلف والظلام. هذا الواقع الأليم دفع المخلصين من أبنائها إلى البحث عن سبل لنهضتها وخروجها من النفق المظلم الذي تسير فيه، وتعالت الأصوات من هنا وهناك تنادي بضرورة وجود مشروع للنهضة تلتف الأمة كلها حوله وتتبناه. تعددت الطروحات والمقترحات حول نقطة البداية لمشروع النهضة، فمن قائل: نأخذ بأسباب التقدم العلمي كما أخذ بها الغرب فنصير مثلهم، ومن قائل: بل وجودنا كقوة اقتصادية تفرض نفسها على الجميع هو الحل الأمثل لعودة مجدنا مرة أخرى .. هذه وغيرها أمثلة للرؤى التي تُطرح اليوم، بيد أن أصحاب تلك الأطروحات -على أهميتها- قد غفلوا عن حقيقة مهمة, وهي أن الأمة الإسلامية ليست كبقية الأمم عند الله عز وجل، لذا فإن سبيل نهضتها لابد أن يختلف عن سبيل نهضة الأمم الأخرى، فما يصلح لغيرنا ليس بالضرورة يصلح لنا أو يصل بنا إلى ما وصلوا إليه. ومما يؤكد هذا المعنى أن الله - سبحانه وتعالى- قد ربط بين تقدمنا وعلونا كأمة إسلامية وبين إيماننا ومدى ارتباطنا به. {وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] وليس معنى هذا أن نترك الاجتهاد في تحصيل الأسباب المادية، بل المقصد هو إعادة ترتيب الأولويات وعدم مقارنتنا بالأمم الأخرى في كل شيء. فمشروع النهضة الذي ينبغي أن نتبناه جميعًا لابد أن يكون هدفه الأول إعادة الأمة إلى مكانتها عند الله، ليعيد لها سبحانه دورها القيادي بين الأمم، وكيف لا، ومفاتيح التمكين بيده وحده سبحانه {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف:137]. وبيده وحده مقاليد النصر والسيادة {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5]. مع الأخذ في الاعتبار أن الاجتهاد في تحصيل الأسباب المادية له دور كبير في نهضة أي أمة، ومع أهميته الكبرى إلا أنه لا يأتي في المقدمة بالنسبة لنا. ولأن كيان الأمة يتشكل من مجموع الأفراد، فإن نقطة البداية وحجر الزاوية في النهضة لابد أن ينطلق من صلاح الفرد لتنصلح بذلك الأمة, فيرضى الله عنها ويعيد لها مجدها السليب. فإن قلت: وما الوسيلة التي يمكنها أن تقوم بذلك فتسع جميع أفراد الأمة من شرقها إلى غربها، وبكل مستوياتها، ولا تكون في الوقت نفسه - موضع اختلاف - بل موضع إجماع من الجميع، سلفهم وخلفهم؟!

من أجل الإجابة عن هذا السؤال كانت تلكم الصفحات, التي نسأل الله أن يلهمنا فيها الرشد والسداد، ويجنبنا الزلل، وأن تصحبنا فيها رعايته وفضله وتوفيقه وأن يتقبلها منا ومن كل من ساهم فيها، إنه نعم المولى ونعم النصير {سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}. الفقير إلى عفو ربه مجدي الهلالي www.alemanawalan.com

الفصل الأول الأسباب والنتائج

الفصل الأول الأسباب والنتائج - الأسباب المادية والمعنوية. - النتائج من الله لا من الأسباب. - ستار الأسباب. - هل الأسباب متاحة للجميع؟

الأسباب المادية والمعنوية

الأسباب والنتائج الأسباب المادية والمعنوية: خلق الله عز وجل الأرض، وجعل القانون الذي يحكمها وينظم الحياة عليها هو قانون السببية، فلكي نحصل على نتيجة ما، لابد من اتخاذ أسباب بعينها تؤدي إليها، والأسباب التي من شأنها أن تؤدي إلى حدوث النتائج تنقسم إلى قسمين: قسم مادي، وقسم معنوي. القسم المادي هو القسم الذي يتعامل مع المادة المتعلقة بحدوث النتيجة المطلوبة، فالعطشان الذي يريد أن يرتوي عليه أن يشرب الماء، والجائع عليه أن يأكل ليشبع، والذي يريد الوصول إلى مكان ما عليه أن يسير إليه أو يتخذ وسيلة مواصلات مناسبة تقوم بتوصيله للمكان الذي يريد ... وهكذا. وكما نرى فالقوانين المادية نتائجها في الغالب معروفة ومحددة. أما القسم المعنوي للقوانين فهو يتعلق بتنفيذ أمور غير مادية تؤدي إلى تحقيق نتائج مادية ملموسة، أو تنفيذ أمور مادية ليس لها علاقة ظاهرية بالنتائج التي تُحدثها ... وإليك أخي القارئ أمثلة لهذا القسم: الاستغفار شيء معنوي، لكن الله عز وجل أخبرنا في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بأن للاستغفار نتائج مادية كقوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا - يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا - وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:10: 12]. وفي الحديث: «من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجًا، ومن كل هم فرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب» (¬1) - الدعاء أمر معنوي لكنه من شأنه أن يؤدي إلى نتائج مادية محسوسة مثل ما حدث للثلاثة نفر الذين دخلوا إلى مغارة، وجاءت صخرة عظيمة فسدت عليهم باب الخروج، وحاولوا زحزحتها فلم يستطيعوا، فما كان منهم إلا أن دعوا الله بإخلاص أن يفرج عنهم كربهم, فاستجاب الله لهم وأزيحت الصخرة، وخرجوا جميعًا (¬2). - المرض له أسباب، وعندما يتناول المريض الدواء المعالج لسبب المرض فغالبًا ما يُشفى - بإذن الله- ولكن هناك أمور أخرى ليس لها علاقة بأسباب المرض من شأنها أن تؤدي إلى الشفاء؛ كماء زمزم، والصدقة ... قال صلى الله عليه وسلم: «داووا مرضاكم بالصدقة» (¬3). - ومن أمثلة الأسباب المعنوية كذلك صلاة الاستسقاء، فالجو قد يكون صحوا، والسماء صافية ويحتاج المسلمون إلى الماء فيخرجون للصلاة متذللين متخشعين منكسرين لله عز وجل، فترى السماء الصافية وقد تلبدت بالغيوم وتجمعت فيها السحب، ونزل المطر، كما حدث في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وكما تكرر كثيرًا عبر تاريخنا الإسلامي. النتائج من الله لا من الأسباب: قد يقول قائل: إذن نركز على الأسباب المعنوية باعتبار أن نتائجها كبيرة ولا تكلفنا شيئًا، ونترك الأسباب المادية .. نترك التداوي .. نترك الطعام .. نترك ... . ونتجه إلى الدعاء والصدقة والاستغفار ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (1518)، وأحمد (2234)، وابن ماجه (3819). (¬2) انظر نص الحديث في البخاري ومسلم. (¬3) حسن، حسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير ح (3358).

خطورة التعلق بالأسباب

لو فعلنا ذلك ما تحققت نتائج، فالله عز وجل هو الذي خلق الأسباب المادية والمعنوية، وهو الذي طالبنا باتخاذ كليهما، على أن يكون التعامل معها باعتبار أنها لا تملك قوة، ولا فاعلية ذاتية تمكنها من تحقيق النتيجة، فالأمر كله مع الله، والأسباب هي الستار الذي يتنزل من خلاله قَدَرُه سبحانه فالله عز وجل هو الذي يروي ويشعرنا بالإرواء، لكنه جعل هذا الأمر يتحقق من خلال سبب مادي وهو شرب الماء، وهو سبحانه الذي يشفي، وجعل ذلك من خلال بث الفاعلية في الدواء أو في الصدقة، وهكذا ولعل عدم ملازمة النتائج للأسباب في بعض الأحيان دليل يؤكد للناس هذه العقيدة، فالنوم سبب للراحة وفي بعض الأحيان ينام الإنسان طويلاً ويستيقظ وهو يشعر بالتعب، بل لقد نصَّ الحديث النبوي على أن من ينام عن صلاة الفجر, ولو كان نومه طويلاً, إلا أنه يُصبح «خبيث النفس كسلان» (¬1)، وكذلك الدواء قد لا يكون سببًا للشفاء، ويظل المريض ينتقل من دواء لدواء دون نتيجة. خطورة التعلق بالأسباب: عندما يتعامل المرء مع الأسباب على أنها هي التي تستجلب له النتائج فإنه بذلك يقع في منزلق خطير يؤدي به إلى الوقوع في دائرة الشرك بالله، وتتحول الأسباب إلى جدار يحجبه عن الله، مع أنها ما خُلقت إلا لتكون ستارًا يرى العبد من ورائه حكمة الله، ولطفه، ورحمته، وقهره, و ومن مخاطر التعلق بالأسباب كذلك أن الفزع سيتملك القلب كلما نقصت الأسباب، والفرح سيملؤه عندما تزداد، ويتحول الاعتماد عليها في تحقيق النتائج لا على الله، وقد نص القرآن على حال المشركين الذين إذا ذكر من هم دون الله من شركائهم يفرحون ويستبشرون {وَإِذَا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45]. سِتار الأسباب: إذن فالأسباب ستار لابد من إقامته ليتنزل عليه القدر ... هذا الستار يبدأ بالأسباب المادية المتاحة أولاً، ثم بالمعنوية ثانيًا, كما قال صلى الله عليه وسلم للرجل الذي ترك دابته دون عقال: «اعقلها وتوكل». (¬2) فإن اقتصر الستار على الأسباب المادية كان حجمه محدودًا ونتائجه محدودة. وإن حاول الإنسان إقامته من الأسباب المعنوية فقط دون استخدام الأسباب المادية المتاحة أمامه فهذا سوء أدب مع الله، ولن يتحقق له ما يريد لأنه خالف بذلك القوانين التي وضعها الله عز وجل لإقامة الحياة والوصول إلى النتائج. وإن جمع بين الاثنين فهو بذلك يزيد من حجم الستار فيتنزل القدر بنتائج لا حدود لها ... تأمل قوله صلى الله عليه وسلم: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا». (¬3) مع ملاحظة أن تغدو وتروح هي الأسباب المطلوب من الطير أن تفعلها وتأخذ بها فقط. ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) رواه الترمذي وقال حديث حسن. (¬3) رواه الترمذي (2345) وقال: حديث حسن، وأخرجه أحمد 1/ 30، وابن ماجه (4164). ومعنى خماصًا: أي ضامرة البطون من الجوع، وبطانًا: أي ممتلئة البطون.

هل الأسباب متاحة للجميع؟!

ومن الأمثلة التي تؤكد هذا المعنى: شكوى الصحابة من قلة الماء واحتياجهم للشرب والوضوء، فماذا فعل صلى الله عليه وسلم؟ أقام الستار بالأسباب المادية أولاً: طلب الماء القليل الموجود، ثم وضع يده الشريفة فيه ودعا الله بعد ذلك، فنبع الماء من بين أصابعه، وشرب الجميع وتوضأوا ... (¬1) وكذلك ما حدث لمريم الصدِّيقة حين جاءها المخاض وهي تستند بظهرها على جذع نخلة لا ثمر فيها، فطلب الله منها أن تهز الجذع بيدها كستار مادي، مع توكلها المطلق على الله عز وجل كستار معنوي ليتنزل القدر ويسقط الرطب {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم:25]. وعندما أمر الله عز وجل إبراهيم عليه السلام أن ينادي على الناس، داعيًا إياهم إلى الحج {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً} [الحج:27]. قال عليه السلام: يارب كيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟ فقال تعالى: ناد وعلينا البلاغ، فقام على مقامه، وقيل على الحجر، وقيل على الصفا، وقيل على أبي قبيس، وقال: يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتًا فحجوه، فيقال إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب .. (¬2) فإن قلت ولماذا يُبدأ بالأسباب المادية لتكوين الستار؟ لأن الأسباب المادية جعلها الله متاحة للجميع .. المؤمن والكافر، وبالتالي يمكن لأي إنسان أن يحصل على النتائج من خلالها، ولو كانت البداية بالأسباب المعنوية لحُرم الكافر من النتائج التي تكفل له العيش وتوفر له الاحتياجات الأساسية، ومن ثمَّ فإنه لن يأخذ فرصته الكاملة في التعرف على الله وتوحيده وعبادته. هل الأسباب متاحة للجميع؟! الله عز وجل خلق الأرض وقدَّر فيها الأقوات والأرزاق والأسباب التي تيسر للناس معاشهم فيها، وجعل التعامل مع أسبابها متاحًا للجميع ... سواء للسائلين، فعلى قدر اجتهاد الإنسان وسعيه في الوصول إلى مكنوناتها واستخدام أسبابها، يصل إلى مبتغاه ويحصل على نتيجة جهده وسعيه .. يستوي في ذلك المؤمن والكافر {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ} [فصلت:10] , {كُلاً نُّمِدُّ هَؤُلاَءِ وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:20]. هذا بالنسبة للأسباب المادية، أما الأسباب المعنوية التي تجلب الزيادة المضاعفة في النتائج فاستخدامها مشروط بالإيمان بالله، وعدم الشرك به، وإخلاص التوجه إليه ... وعلى قدر ذلك يكون الستار، ومن ثمَّ المدد الإلهي .. فالمشركون إذا ما عادوا إلى الله في أي وقت وطلبوا منه بصدق وإخلاص أن ينجيهم من كرب أصابهم فإنه سبحانه سينجيهم {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان: 32]. ¬

_ (¬1) روى البخاري عن ابن مسعود قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس معنا ماء، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم «اطلبوا من معه فضل ماء» فأتي بماء فصبه في إناء، ثم وضع كفه فيه، فجعل الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم. (¬2) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/ 204.

إذن فحصول النتائج من خلال اتخاذ الأسباب المعنوية مرتبط بحال صاحبها وقت استخدامه لها، فعلى قدر إيمانه بالله، وتعلقه به، وإخلاص التوجه والاستعانة به -سبحانه- يكون المدد، فالأسباب المعنوية بمثابة القوس في يد الضارب، وعلى قدر قوته في استخدامه تكون سرعة السهم ومكان وصوله ... تأمل معي مدى استغاثة المسلمين بربهم في بدر, ثم انظر إلى حجم المدد الإلهي بعد ذلك {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9]. فالإمداد ليس مرتبطًا بأشخاص بعينهم مهما كانت سابقتهم أو نَسَبهم، بل مرتبط بالحالة الإيمانية التي هم عليها {وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا} [الجن:16]، فعهد الله ووعده بإمداد عباده بما يكفيهم وينصرهم ويحفظهم لن يتحقق إلا إذا أوفوا هم بعهدهم معه {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة:40] , فإن لم يفعلوا فالنتيجة معروفة { ... لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124]. وخلاصة القول أن الأسباب ضرورية لحصول النتائج، وأنها بذاتها لا تُحدث القدَر، بل تهيئ لنزوله. والأسباب نوعان مادي ومعنوي ... المادي متاح للجميع، والمعنوي قاصر على المؤمنين بالله، وعلى قدر الإيمان والإخلاص تكون النتائج المتحققة. * * *

الفصل الثاني لسنا كبقية الأمم

الفصل الثاني لسنا كبقية الأمم - الوضع الخاص بأمة الإسلام. - هل نترك الأسباب المادية؟! - المسلم الصحيح أولاً. - هل هي دعوة للتخلف؟

تمهيد

لسنا كبقية الأمم تمهيد: نهض الغرب في القرون الأخيرة نهضة واسعة، وتسابق أبناؤه في كشف مكنونات الأرض وحسن الانتفاع بها، فاستجابت الأرض لهم، وأعطتهم بعض أسرارها، فتفوقوا على غيرهم وامتلكوا مفاتيح التقدم والثروة وفي المقابل نجد أن أمة الإسلام قد خيم عليها الجهل والظلام والتخلف, وانتقلت تدريجيًا من مصاف الأمم المتقدمة إلى مؤخرتها. أصبحت أمتنا أضعف الأمم، وباتت مطمعًا للجميع, حتى اليهود الذين كتب الله عليهم الذلة والمسكنة قد استأسدوا علينا وسامونا سوء العذاب. هذا الوضع المرير حدا بالكثير من أبناء الأمة بالمناداة بضرورة التركيز على الأسباب المادية، والسعي في نفس الاتجاه الذي سلكه الغرب كي نصل إلى ما وصلوا إليه، فهل هذا التصور فقط يصلح لكي يكون سبيلاً لنهضة الأمة الإسلامية؟ الوضع الخاص بأمة الإسلام: إن كان الغرب بسعيه في الأرض واستفادته من خيراتها المتاحة للجميع قد نجح في امتلاك زمام التقدم والحضارة, فإن هذا لا يعني أن نسير مثلهم في نفس الطريق، ونعطي ذلك الأولوية المطلقة، وذلك لجملة من الأسباب: أولاً: إن الله تعالى قد اختص الأمة الإسلامية بنعمة عظيمة, لم يختص بها أمة معها على وجه الأرض ألا وهي رسالة الإسلام التي تُعد بمثابة رسالة هداية للبشرية جمعاء {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143]. هذه المزية العظيمة التي تجعل من أمتنا خير أمة أخرجت للناس، وتضعها على رأس الأمم الأخرى، مرتبطة بمدى تمثل الرسالة في الأمة، وبمدى تبليغها إياها لسائر الناس، فإن لم تفعل ذلك عاقبها الله عز وجل بعقوبات كثيرة كي تفيق من سباتها وتقوم بواجبها، وسيستمر العقاب طالما استمر الإعراض عن القيام بذلك الواجب، وهذا هو التشخيص الحقيقي لواقعنا المرير.

فنحن الآن في مظان الغضب والعقوبة الإلهية بسبب خيانتنا للأمانة .. ومهما اجتهدنا في تحصيل الأسباب المادية فلن يُرفع عنا العقاب أو الذل والهوان إلا إذا عدنا إلى ديننا أولاً ... ألم يقل صلى الله عليه وسلم: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» (¬1). ولقد كان ثمة أمة في الماضي خانت الأمانة ولم تبلغ الرسالة, فحدث لها مثل ما يحدث لنا الآن من عقوبات حتى يرجعوا, فلما أصروا على غيهم سلب الله منهم الأمانة وحمَّلها لنا ... تلكم هي أمة بني إسرائيل {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة:211]. ثانيًا: إن مصدر رفعة وعزة الأمة الإسلامية مرتبط بمدى علاقتها بربها، ومدى دخولها في دائرة معيته وكفايته {وَأَنتُمُ الأَعلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]. ويتمثل ذلك جليًا في قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام, فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله. وفي المقابل فإن مصدر رفعة الأمم الأخرى في الدنيا يكون على قدر امتلاكها للأسباب المادية «فقط» لأنها لم تُكلَّف بما كلفنا به، ومن الخطأ بمكان أن نسعى للرفعة من خلال تقليدهم والسير وراءهم {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ للهِ جَمِيعًا} [النساء:139]. ثالثًا: إن باب الأسباب المعنوية نملكه دون غيرنا من الأمم الكافرة بالله {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11]. فكيف نترك سر تفوقنا؟! كيف نترك ما اختصنا الله به ونبحث عما في أيدي الآخرين؟ كيف نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ونعطيه الأولوية؟! ألم يقل سبحانه: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأبْصَارِ} [آل عمران:13]. رابعًا: لو أُغلق أمامنا باب الأسباب المعنوية، وتساوينا مع الكفار في السباق نحو امتلاك الأسباب المادية، فستكون النتيجة لصالحهم لا محالة، فكما قال الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما تنصرون على عدوكم بطاعتكم لله ومعصيتهم له، فإذا عصيتموه تساويتم. هذا من ناحية .. ومن ناحية أخرى فنحن حين نترك الأسباب المعنوية ونعتمد على الأسباب المادية فقط, فإننا نتعرض للعقوبة من الله بالخذلان وتعسير الأمور, بينما هم لن يعاقبوا مثلنا وإن كانوا أكثر منا معصية، ولمَ لا وقد خنا أمانة عظيمة ائتمننا الله عليها دون غيرنا. وهذا ما أكده عمر بن الخطاب لسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنهما - قبل تحرك جيش المسلمين لملاقاة الفرس في القادسية بقوله: ولا تقولوا إن عدونا شر منا فلن يُسلط علينا، فرب قوم سلط الله عليهم من هو شر منهم، كما سلط على بني اسرائيل لما عملوا بمعاصي الله كفار المجوس فجاسوا خلال الديار (¬2). ¬

_ (¬1) صحيح، رواه أبو داود عن ابن عمر وصححه الألباني في صحيح الجامع (423). (¬2) الجهاد في الإسلام لمحمد سعيد رمضان البوطي, ص 245.

خامسًا: نحن مطالبون بالأخذ بالأسباب المادية بالقدر المتاح أمامنا لإقامة الستار الذي يتنزل من خلاله قدر الله {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] , ولسنا مطالبين أمام الله عز وجل بأكثر مما نقدر على تحصيله من تلك الأسباب. وفي الوقت نفسه فقد طالبنا الله - عز وجل- بالأخذ بالأسباب المعنوية كلها, من توبة وتذلل وانكسار إليه، واستعانة به، وتوكل مطلق عليه، وليس لنا عذر في تركها، وكيفَ لا وهي متاحة أمامنا جميعًا، ولا يوجد ما يحول بيننا وبين الأخذ بها، وهذا هو ترتيب دعاء المجاهدين {وََمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:147]. تأمل معي قوله تعالى وهو يخاطب نبيه ويرشده إلى الاهتمام بالأسباب المعنوية، وأنها هي السبب الرئيسي لاستجلاب النصر: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ - إِن يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 159، 160]. سادسًا: لو افترضنا أن الأسباب المادية هي التي تحسم الصراع، وتعيد لنا مجدنا السليب، فالوضع القائم يؤكد أن أعداءنا لن يسمحوا لنا بامتلاكها بالقدر الذي يجعلنا نتكافأ معهم أو حتى نقترب منهم، فلقد أحكموا قبضتهم علينا من كل جانب، وظهر استعلاؤهم واستكبارهم وطغيانهم بصورة لم يسبق لها مثيل، ولا أمل لنا إلا في الله بأن يكون معنا فيحسم الصراع لصالحنا {وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ} [الرعد:11]. فالله وحده هو القادر على أن يهزمهم رغم تفوقهم علينا ماديًا، وهو القادر على قلب ميزان القوة تمامًا، ولعل ما حدث في غزوتي بدر والأحزاب أكبر دليل على ذلك. ولكن الله عز وجل لن يكون معنا إلا إذا فعلنا ما يرضيه من إخلاص له في التوجه والاستعانة، ومن طاعة لأوامره، ومن جهاد في سبيله وتضحية من أجله، ومن تقديم حبه على كل المحابّ الأخرى، ومن بذل الجهد والأخذ بالأسباب المادية المتاحة أمامنا {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]. سابعًا: تاريخ أمتنا يؤكد هذه الحقيقة .. فأمة العرب التي كانت قبل الإسلام في مؤخرة الأمم لم تنتقل إلى مقدمتها بفضل امتلاكها للأسباب المادية وتفوقها بها على غيرها، بل لأنها دخلت في دائرة المعية والرضا الإلهي، فأوفى الله بعهده معها، وملَّكها الأرض ودحر الممالك الأخرى من فرس وروم, والذين كانوا يمتلكون من الأسباب المادية ما يفوق ما عند الأمة الإسلامية بأضعاف الأضعاف {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ} [التوبة:111]. ويزداد هذا الأمر تأكيدًا عندما ننظر إلى المعارك الإسلامية خاصة في العصور الأولى التي كانت الأمة فيها قريبة من الله ... تتمتع بحمايته ونصرته وكفايته. ففي هذه المعارك –كبدر واليرموك والقادسية – كانت الأسباب المادية عند الكفار تفوق أضعاف أضعاف ما عند المسلمين، ومع ذلك انتصر المسلمون انتصارات باهرة. لماذا؟!

هل نترك الأسباب المادية؟

لأن الله كان معهم {فََلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} [الأنفال:17]. فعندما يكون الله مع الفئة المؤمنة فلا قيمة أبدًا لكثرة الكافرين عددًا أو عدة {وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:19]. وفي المقابل فإن التاريخ ينبئنا بأنه عندما يُخل المسلمون بالشروط التي يريدها الله منهم ليُنزل عليهم نصره, فإن الهزيمة ستكون حليفهم وإن كانوا أكثر عددًا وعدة من أعدائهم، ولنا في غزوة حنين -عند بدايتها- أكبر مثال على ذلك {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة:25]. بل إنه في إحدى المعارك -معركة العِقَاب (¬1) - وكانت بين المسلمين في الأندلس في عهد دولة الموحدين، وبين النصارى، فقد بلغ فيها عدد جيش المسلمين - كما تقول بعض الروايات - خمسمائة ألف مقاتل، ومع ذلك فقد هُزموا هزيمة منكرة وذبح منهم عشرات الآلاف، وذلك بسبب اتكالهم على قوتهم، وكثرة خلافاتهم فيما بينهم. هل نترك الأسباب المادية؟ قد يقول قائل: ولكن هل معنى هذا أن نترك الأسباب المادية، ونتجه للأسباب المعنوية التي نعرفها ولا يعرفها غيرنا؟! لو تركنا الأسباب المادية المتاحة أمامنا لظللنا في أماكننا كما نحن ولن نتقدم قيد أنملة، فكما قيل سابقًا بأن الأسباب المادية المتاحة هي التي تُقيم الستار وتهيئ التربة لنزول القدر الإلهي، أما الأسباب المعنوية فهي التي تستكمل إقامة الستار وتمنحنا مزية التأييد الإلهي دون غيرنا، فالإعداد المادي ضروري - وبالقدر المتاح أمامنا- والإعداد المعنوي لا غنى لنا عنه إن أردنا أن تعود لنا عزتنا ومجدنا السليب، ولم لا وهو الذي يُرجِّح كفتنا على غيرنا، فضلاً عن أنه قبل ذلك هو مهمة وجودنا لتحقيق عبوديتنا لله عز وجل. إذن فالمقصد من هذا كله هو إعادة ترتيب الأولويات، وعدم مقارنتنا بالغرب، وأن نوقن بأن علاقتنا بالله هي سر تقدمنا، فإن انقطعت، وتخلى الله عنا، صار أعداؤنا أفضل منا وإن فقناهم عددًا وعدة, لأننا حينئذ نكون: مغضوبًا علينا ... ألم يقل سبحانه لبني إسرائيل من قبل {وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه:81]. ولقد هوينا إلى القاع بالفعل, وصرنا تحت أقدام الكفار بسبب غضب الله علينا لأننا خُنَّا أمانته. العودة إلى الله هي البداية: إذن فنقطة البداية التي ينبغي ألا نتخطاها هي العودة إلى الله. الصلح مع الله، والدخول في دائرة الرضا والمعية والولاية والنصرة الإلهية. نقطة البداية هي الارتقاء بقيمة الفرد عند الله وهذا لن يأتي إلا من خلال صلاحه على منهاج ربه ومولاه. صلاح الفرد هو الذي سيؤدي إلى صلاح المجتمع، فصلاح الأمة، ليستبدل الله بغضبه عليها رضاه ويولي عليها خيارها. عن قتادة قال: قال موسى عليه السلام لربه: يارب أنت في السماء، ونحن في الأرض، فما علامة غضبك من رضاك؟ قال: إذا استعملت عليكم خياركم فهو علامة رضاي، وإذا استعملت عليكم شراركم فهو علامة غضبي عليكم (¬2). ¬

_ (¬1) جمع عقبة وكانت في سنة 609 هـ. (¬2) العقوبات لابن أبي الدنيا, ص (278).

المسلم الصحيح أولا

معنى ذلك أن عزنا وتقدمنا ورفعتنا مرتبطة برضا الله عنا، فإن رضي عنا تضاعفت النتائج المترتبة على الأخذ بالأسباب المادية, وظهرت البركة في القليل المتاح ... فعشرة آلاف على سبيل المثال يهزمون مائة ألف وأكثر، وكيف لا والله يؤيد بنصره من يشاء {إِن يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160]. وتتدرج نسبة التفوق تصاعديًا وتنازليًا {الآَنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} [الأنفال:66]. المسلم الصحيح أولاً: فصلاح الفرد أولاً ثم امتلاك الأسباب المادية ثانيًا. المسلم الصحيح قبل الطبيب .. قبل المهندس .. قبل عالم الذرة .. المسلم العابد لله أولاً, ثم ليكن بعد ذلك في المكان الذي أقامه الله فيه، ليتخذ الأسباب المادية المتاحة أمامه، فيبارك الله فيها ويضاعف نتائجها .. إذن فنهضة أمتنا تنطلق من صلاح الفرد على أساس الإسلام، ثم التحرك بهذا الفرد الصالح في الميادين المختلفة والمتاحة ليكون بعد ذلك: مسلم طبيب ... مسلم مهندس .. مسلم مدرس .. مسلم نجار ... مسلم فلاح. ويؤكد الإمام حسن البنا على هذا المعنى فيقول: إذا وجد المؤمن الصحيح وجدت معه أسباب النجاح جميعًا. المقصود بصلاح الفرد: وليس المقصد بصلاح الفرد هو التركيز على أدائه العبادات بشكلها الظاهري فقط، بل المقصد هو أن يكون في القالب الذي يريده الله منه، فعلى قدر «العبودية» تكون قيمة الفرد عند الله عز وجلّ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]. صلاح الفرد يبدأ من الداخل، فيكون باطنه أفضل من ظاهره. صلاح الفرد يعني أن يكون الله أعز عليه وأحب إليه من كل شيء. صلاح الفرد يعني أن يَعظُم قدر الله لديه، وتصغر نفسه عنده. صلاح الفرد يعني زهده في الدنيا ورغبته في الآخرة. صلاح الفرد يعني أن تكون معاملته مع الله هي الأساس الذي يحرص عليه، فيخشاه ويتقيه ويطيعه ويرجوه ويتوكل عليه ويستعين به في كل أموره، لينعكس ذلك على تصرفاته ومعاملاته مع غيره وفي جميع الدوائر التي يتعامل فيها .. مع أهله وزوجته وأولاده .. مع جيرانه وزملائه .. مع الناس أجمعين, فيكون نعم الزوج لزوجه، والابن لأبويه، والأب لأبنائه، والجار لجيرانه، والعامل في متجره، والداعي دومًا إلى الله، و يحب في الله ويبغض في الله ... يسارع دومًا في الخيرات، ويجتنب كل المنكرات .. فإن زلت قدمه يومًا تراه مسرعًا مهرولاً إلى مولاه يسترضيه ويطلب منه العفو والصفح، وبصلاحه هذا يمن الله عليه وعلى من حوله بما ورد في الأثر: «إن الله يصلح بصلاح الرجل المسلم ولده، وولد ولده، وأهل كويرته، ودويرات حوله».

هل هي دعوة للتخلف؟!

هل هي دعوة للتخلف؟! فإن قلت: ولكن هذا معناه إضعاف الحافز داخل النفس للتقدم والتفوق، فتقل تبعًا لذلك الكفاءات بيننا ويزداد اعتمادنا على الحضارة الغربية والتبعية المهينة لهم. المتأمل لما قيل سابقًا سيجد أن العكس هو الذي سيحدث - بمشيئة الله -، وإليك -أخي القارئ- مزيد من وضوح الرؤية حول هذه النقطة: أولاً: الذي يبدأ طريقه بالصلح مع الله والتربية على إيثار محابه ومراضيه على ما تحبه نفسه وتهواه, فإنه لن يألو جهدًا في ارتياد كل الأماكن التي من شأنها أن ترفع شأن الإسلام؛ لأنه سيحمل همَّه دائمًا، وفي المقابل فإن من يبدأ طريقه بالتركيز على التفوق المادي فقط فإنه بالفعل سيتفوق - بإذن الله - طبقًا لقانون السببية، ولكن في كثير من الأحيان يصبح هذا التفوق خادمًا لنفسه، محققًا لمجده الشخصي، ورفعته على من حوله، من ثم لا يدخل صاحبه في دائرة الرضا الإلهي لإخلاله بشروطها، فتكون النتيجة استمرار الوضع على ما هو حادث الآن. ثانيًا: البدء بالأسباب المادية يمهد الطريق لظهور مظاهر العزة الزائفة بالألقاب والشهادات، والمناصب، والأموال وغير ذلك من أمور الدنيا، مما يجعل تفاضل المسلمين فيما بينهم ونظرتهم لبعضهم البعض طبقًا لوجود تلك المظاهر، وهذا من شأنه أن يبعدنا أكثر وأكثر عن دائرة الرضا الإلهي التي هي سر كل سعادة ورفعة. وفي المقابل فإن من يبدأ طريقه بإصلاح نفسه من كل الجوانب فإنه سيعيش دومًا في حقيقة فقره إلى الله، وشدة احتياجه دومًا إليه، وأنه به سبحانه لا بنفسه، فينعكس ذلك على تعامله مع الآخرين؛ فيخفض لهم جناحه، بل ويستشعر دومًا أنهم جميعًا أفضل منه مهما كانت ألقابه ومناصبه. ثالثًا: الذي يبدأ بإصلاح نفسه فإنه يتحرر من أسر الناس، وأعرافهم الخاطئة، ويتحرر كذلك من أسر الاهتمامات الأرضية الدنيوية، فتسمو اهتماماته، وتجده يبحث عما يرضي الله ليفعله, بغض النظر عن تقييم الناس لفعله. ومن فوائد البدء بصلاح الفرد وإيجاد المسلم الصحيح أولاً: - أن أساليب تربية الوالدين لأبنائهما ستختلف، فعندما يصبح الهدف هو تعبيد الأبناء لله عز وجل أولاً ثم التفوق ثانيًا، فإن هذا من شأنه أن يجعل محور اهتمام البيت هو الله ونيل رضاه، وتعظيم قدره في النفس، فيؤدي ذلك إلى حرص الأب على التواجد داخل بيته أطول فترة ممكنة لممارسة دوره في قيادة أهل بيته إلى الله، وربط حياتهم به سبحانه، ومن ثمَّ فإنه لن يحرص على العمل الإضافي, أو السفر للخارج وترك الأولاد مع أمهم بدعوى توفير وسائل الحياة المرفهة لهم, وتحصيل متطلبات تعليمهم الباهظة، بل سيوضع التعليم في حجمه الحقيقي، كخادم للهدف الأساسي وليس غاية في حد ذاته. - ومن مظاهر الاهتمام بهدف إيجاد المسلم الصحيح أولاً أن الأبوين سيحرصان على عدم إلحاق أبنائهما بمدارس اللغات التي من شأنها أن تجعل ولاء الدارسين فيها للغة أخرى غير لغة القرآن، وتجعلهم يعظمون شأن الحضارة الغربية ويوالونها ويرضون بغثها وسمينها، ومن ثمَّ يحتقرون الحضارة العربية الإسلامية، وهذا واقع مشاهد للكثير من خريجي تلك المدارس. نعم، إنّ حرص الآباء على إلحاق أبنائهم في تلك المدارس ينبع من انبهارهم بالغرب وحضارته، وحرصهم على سير أبنائهم في هذا الطريق ليضمنوا لهم النجاح في حياتهم.

هذا التصور بلا شك سيحل محله التصور الصحيح عندما يتأكد الجميع أننا لسنا كبقية الأمم، ولن نتقدم بمثل ما تقدموا به، بل بالعودة إلى الله أولاً, ثم بالأخذ بالأسباب المادية المتاحة أمامنا ثانيًا. - ومن فوائد البدء بالتربية الإيمانية والتركيز على صلاح الفرد, أنها ستعرِّضنا للتوفيق والتأييد الإلهي, فيتضاعف أثر الأسباب المادية بعد ذلك، كما حدث مع المسلمين الأوائل الذين برعوا في شتى فروع العلوم، وأقاموا صرح الحضارة الإسلامية العريقة، وما كان ذلك ليحدث لولا توفيق الله لهم، ومباركته لجهودهم. ومن فوائدها كذلك: عدم التعلق بالأسباب، بل الاجتهاد في تحصيلها، ثم التعلق بالله وحده في تحصيل النتائج، وهذا من شأنه أن يسكب في الفرد السكينة والطمأنينة فلا يبدو فزعًا منزعجًا كلما قلَّ حجم الأسباب المتاحة أمامه {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا - إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا - وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا - إِلاَّ الْمُصَلِّينَ} [المعارج:19 - 22]. وخلاصة القول: إن سر تقدمنا مرتبط بمدى علاقتنا بالله، وأننا لابد أن نجتهد في الأخذ بالأسباب المادية بالمفهوم الذي يسود بيننا الآن, ولكن بعد أن نجتهد في الأخذ بالأسباب المعنوية التي تُعني بصلاح الفرد كأساس للنجاح في كل الميادين. فالأمة بحاجة إلى الربانيين أولاً ليكونوا بعد ذلك في المكان الذي يقيمهم الله فيه .. أما بدون رهبان الليل ... البكائين بالأسحار .. فلا أمل في تقدم ولا رفعة بل سيستمر الوضع القائم وسيزداد سوءًا. ألم يقل سبحانه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ - إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاَغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:105، 106]. وبهذا المفهوم انتصر المسلمون الأوائل على أعدائهم ... تأمل معي ما قاله سعد بن أبي وقاص لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما وهو يصف له المجاهدين في معركة القادسية: « ... كانوا يُدَوُّون بالقرآن إذا جنَّ عليهم الليل كدويِّ النحل وهم آساد في النهار لا تشبههم الأسود، ولا يفضل من مضى منهم من بقى إلا بفضل الشهادة» (¬1). وفي فتح أفريقية يصف عبد الله بن الزبير أحوال المقاتلين فيها فيقول: واستشهد الله جل جلاله رجالاً من المسلمين، فبتنا وباتوا، وللمسلمين دوي كدوي النحل، وبات المشركون في ملاهيهم وخمورهم، فلما أصبحنا زحف بعضنا على بعض، فأفرغ الله علينا صبره، وأنزل علينا نصره، ففتحناها من آخر الليل. (¬2) * * * ¬

_ (¬1) البداية والنهاية لابن كثير, 7/ 50. (¬2) كيف ننتفع بالقرآن الكريم, لأحمد البراء الأميري, ص (107).

الفصل الثالث المعجزة التي نحتاجها

الفصل الثالث المعجزة التي نحتاجها - الحلقة المفقودة. - الدافع الذاتي. - ما المقصود بالقوة الروحية؟ - نحتاج إلى معجزة. - إنه القرآن العظيم. - مظاهر قوة تأثير القرآن.

الحلقة المفقودة

المعجزة التي نحتاجها الحلقة المفقودة: كان الجهل بحقائق الدين يضرب بأطنابه في جنبات الأمة، وكان من المستغرب أن يتم الحديث عن شمول الإسلام، وأنه صالح لكل زمان ومكان، وأنه يتناول مظاهر الحياة جميعًا ... ثم ظهرت الصحوة الإسلامية وانتشرت الأفكار الصحيحة حول الإسلام، وتناقلتها الكتب والمحاضرات، وبدأت أفهام الناس تتغير حول طبيعة الدين ... كل هذا قد تم خلال القرن الرابع عشر الهجري (القرن العشرين) خاصة في نصفه الأخير ... إلا أنه في السنوات القليلة الماضية، ومع انتشار الفضائيات والشبكة العنكبوتية ازداد الأمر وضوحًا، وتصححت مفاهيم كثيرة في أذهان الناس، وإن أردت دليلاً على ذلك فاجلس مع أي مجموعة تقابلك من جيرانك أو أقاربك أو زملائك, وافتح باب النقاش حول موضوع من الموضوعات المطروحة على الساحة مثل سبب تخلف الأمة، أو خطورة دور اليهود، أو الأمراض الاجتماعية المنتشرة في مجتمعنا، ستسمع بلا شك كلامًا رائعًا، وحلولاً جيدة ... إذن فما هي مشكلتنا؟ المشكلة أن هذا الفهم الجيد لقضايا الأمة لا يتفق في الغالب مع سلوك هؤلاء الأفراد الذين يتحدثون ويشخصون مكامن الداء، فالقول في وادٍ والعمل في وادٍ آخر، والفجوة واضحة بين العلم والعمل، والفكر والسلوك، والفهم والتطبيق ... ولا يُخطئ من يقول بأن الكم الهائل من برامج الإصلاح التي تُقدَّم للأمة عبر الفضائيات وغيرها من وسائل الإعلام المختلفة تكفي لصلاح الأجيال حتى قيام الساعة .. إذن فالمشكلة الآن ليست في التوجيهات أو النصائح ... المشكلة في التطبيق لهذه الأمور ... الكثير يعلم مواصفات الزوج الناجح، أو الأب الناجح، أو الجار الناجح، لكنه لا يستطيع أن يكون كذلك، وصدق من قال: غاض الوفاء وفاض الغدر واتسعت ... مسافة الخُلف بين القول والعمل فما السبب؟! السبب أن الفرد يسمع التوجيهات ويتمنى تنفيذها لكنه لا يجد قوة تدفعه لتطبيقها .. هو مقتنع تمام الاقتناع بما يسمع، لكنه لا ينفذ، وكأن شيئًا داخليًا يثبطه ويقعده ... وإذا ما وجد همة وعزيمة في لحظة ما للتطبيق، فإنه قد يفتقد تلك العزيمة والهمة في لحظات أخرى كثيرة، بل في سائر حياته.

محاولات

معنى ذلك أن المشكلة في هذا العصر ليست في العلم والفهم بقدر ما هي في العمل والتطبيق، فصلاح الفرد الذي ينطلق من خلاله مشروع نهضة الأمة لن يتم إلا بالعمل، وفي نفس الوقت هناك تثاقل شديد تجاه العمل ... فما الحل؟ محاولات: ومع اتجاه العلماء والمصلحين إلى مخاطبة أفراد الأمة بضرورة العمل، وكثرة حديثهم بصيغة: علينا أن نفعل كذا ... لابد أن نقوم بكذا وكذا ... ، إلا أن الحديث في الغالب لا يتطرق إلى كيفية استنهاض الهمم وتقوية العزائم للقيام بهذه الأعمال بصورة دائمة. نعم، هناك محاولات تُبذل في هذا الاتجاه، ولكنها في الغالب تعمل على شحذ همة الأفراد بصورة وقتية من خلال الحديث المؤثر الذي يخاطب المشاعر، ويدفع للسلوك فتتحسن أحوال وأفعال الفرد بعد سماعه لهذا الحديث المؤثر، لكنه يعود لسابق عهده بعد انتهاء تأثيره. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد ازداد في الآونة الأخيرة الحديث عن المهارات الإدارية والمتابعة كعنصر فعال وضامن قوي لتنفيذ الواجبات، وبالفعل فكلما قويت المتابعة وكانت لصيقة بالفرد ازدادت درجة تنفيذه للأعمال التي تطلب منه، ولكن لأن الدافع للعمل في الغالب لا ينبع من داخله فقد أصبحت الأعمال تُؤَدى بلا روح أو بصورة آلية, مما أدى إلى تحسن الشكل دون المضمون، والدليل على ذلك هو الواقع، والمعاملات، والتي تدل على أن هناك حلقة مفقودة، وأن الجهد الكبير الذي يُبذل في التعليم والتوجيه والمتابعة لا يقابله أثر إيجابي ملحوظ في السلوك، كل ذلك يحدث لأن الدافع الذي يدفع المرء للقيام بالعمل دافع خارجي وليس داخليًا. ضامن التنفيذ: إن المعاني الإصلاحية الجيدة والفهم الصحيح لكثير من مسائل الدين التي أصبحت شائعة الآن بين المسلمين - مع أهميتها - إلا أنها لا تكفي وحدها لإحداث التغيير داخل الفرد ومن ثمَّ عودة الأمة إلى الله، بل لابد أن يواكبها وجود ضامن وطريقة تتكفل بتنفيذها. هذا الضامن إما خارجي أو داخلي. الضامن الخارجي يكون من خلال التوجيه وشحذ الهمم، وكذلك من خلال قوة المتابعة، وهذا وحده لا يكفي لاستمرارية الفرد في التنفيذ لأنها مرتبطة باستمرار التوجيه والمتابعة في كل وقت، وهذا من المستحيل تحقيقه، ناهيك عن الأداء الشكلي الذي سيصاحب التنفيذ، ومن ثمَّ تظل الفجوة قائمة بين الواجب والواقع ... معنى ذلك أنه لابد أن يكون الضامن الذي يضمن تنفيذ التوجيهات والتوصيات نابعًا من داخل الفرد، دافعًا له دومًا إلى التنفيذ طمعًا في نيل رضا الله ومثوبته. وصدق من قال:

الدافع الذاتي

لا تنتهي الأنفس عن غيها ... ما لم يكن لها من نفسها دافع الدافع الذاتي: إذن فلكي يصبح السر أفضل من العلانية، والأعمال خير من الأقوال .. لكي نصل إلى مرحلة الانتباه والإيجابية والتلهف للقيام بأي عمل يرضي الله عز وجل, لابد من وجود دافع داخلي وليس خارجيًا .. دافع يدفعنا باستمرار لفعل الصالحات وترك المنكرات .. لابد من وجود قوة روحية تتولد باستمرار داخلنا، تضبط تصرفاتنا، وتحثنا على فعل الخيرات وتطبيق التوصيات التي تُلقى على مسامعنا .. ومما لاشك فيه أن هذه القوة الروحية التي تحول الواجب إلى واقع، وتزيل الفجوة بين العلم والعمل، وتدفع الفرد إلى الفعل من تلقاء نفسه تحتاج إلى مصدر يقوم بتوليدها باستمرار داخل كيانه. معنى ذلك أننا لو استطعنا الوصول لمصدر ومنبع متجدد لتلك القوة, فإن هذا من شأنه أن يقلل من الجهد المبذول، وفي نفس الوقت يزيد من الإنتاج كمًّا وكيفًا، وهذا ما فعله محمد صلى الله عليه وسلم بنجاح باهر مع الجيل الأول كما سنبين بمشيئة الله. فما هو هذا المصدر وأين نجده؟! لنتفق أولاً على معنى القوة الروحية، والمطلوب منها ثم ننتقل بفضل الله وعونه للتعرف على مصدر توليدها. ما المقصود بالقوة الروحية؟ المقصود بالقوة الروحية هي العزيمة التي تتولد داخل الفرد, والحالة التي تسيطر عليه عندما تتجاوب مشاعره مع أمر من الأمور, فيشعر وكأن شيئًا من داخله يدفعه للقيام بفعل ما. فعندما يستمع المرء إلى موعظة بليغة تتحدث عن ضرورة الإنفاق في سبيل الله، وعن الخير والثواب الذي يعود على المنفق في الدنيا والآخرة, تجده وقد تجاوبت مشاعره مع ما يسمعه، وتولدت داخله عزيمة تقوده ربما لإخراج كل ما في جيبه في تلك اللحظة. وعندما يرى الواحد منا وهو يسير في طريقه رجلاً يقوم بضرب ولد صغير، والولد يجهش بالبكاء ويسترحم المارة ليكفوا بأس الرجل عنه, فإنه من المتوقع أن تستثار المشاعر وتتولد تلك القوة والعزيمة داخل النفس لتنتج تحركًا تجاه الحدث، ومحاولة لدفع الظلم عن الولد. فالقوة الروحية إذن هي تلك الطاقة والعزيمة المتولدة من التأثير على مشاعر الإنسان, والتي من شأنها أن تدفعه للعمل. هذه القوة تتولد بالفعل داخلنا وتدفعنا للعمل، ولكن ليس بصورة دائمة، فمشاهدة مناظر مأساوية، أو رؤية فقير يتلوى من الجوع، أو قراءة في كتاب من كتب الرقائق ... كل ذلك من شأنه أن يهز مشاعرنا، وقد يدفعنا للبكاء والعمل ولكن بصورة وقتية، يعود المرء بعد انتهاء تأثيرها إلى سابق عهده. المطلوب من القوة الروحية: إذن لكي نستمر في حالة التوهج والانتباه ومن ثمَّ القيام بالأعمال المطلوبة منا بذاتية وتلقائية, لابد أن تتولد داخلنا تلك القوة الروحية بصورة دائمة ومستمرة ... فكيف يتم ذلك؟! كيف يتم ذلك وقد خلصنا مما سبق بيانه أنه لابد من أن يكون الدافع الذي يدفع المرء للقيام بالعمل المطلوب منه دافعًا ذاتيًا ينبع من داخله بصورة أساسية؟! أي أن القوة الروحية المطلوبة ينبغي أن توفر باستمرار هذا الدافع الذاتي .. معنى ذلك أننا بحاجة إلى نبع متجدد، ومصدر دائم لتوليد تلك القوة والدافع الذاتي لدى الأفراد. المواصفات المطلوبة: ولأننا نتحدث عن أمر يخص نهضة الأمة جمعاء, والذي ينطلق من صلاح الفرد، فلابد أن يكون مصدر تحصيل تلك القوة الروحية متاح للجميع ... الرجل والمرأة، العالم وغير العالم، العربي والأعجمي، ... ولابد أن يكون هذا المصدر مجمع عليه من سائر أفراد الأمة وليس محل خلاف بينها، وأن يكون من مواصفاته كذلك ألا يمل منه أحد، وأن يكون لديه القدرة - بإذن الله - على التعامل مع المستويات المختلفة لأفراد الأمة في كل زمان ومكان ...

نحتاج إلى معجزة

فما هو هذا المصدر الفريد الذي يجمع بين هذا كله؟! نحتاج إلى معجزة: لو نظرنا إلى المواصفات التي ينبغي أن تتوافر في المصدر المطلوب لتوليد القوة الروحية لوجدناها مواصفات غير عادية، وقد يتجه التفكير إلى أن هذا المصدر شيء خارق لا يمكن وجوده، فهو أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع ... نعم، لا يوجد مصدر لديه القدرة على القيام بهذا الدور الخطير إلا إذا كان شيئًا معجزًا، خارقًا للعادة، ذا قوة تأثيرية جبارة ومستمرة .. نعم، أخي القارئ نحتاج إلى معجزة تقوم بهذا الدور، فأين تلك المعجزة؟ لنفكر سويًا في الأمر ... فالأمة لن ينصلح حالها إلا بصلاح أفرادها وعودتهم إلى الله، وصلاح الأفراد مرتبط بوجود دافع ذاتي يدفعهم لفعل ما يكلفون به من توجيهات وتوصيات ليصبح العمل قرينًا للعلم، والدافع الذاتي يحتاج إلى مصدر لتوليده باستمرار، ذلك المصدر ينبغي أن يسع الجميع وألا يختلف عليه اثنان و ... فهل سيتركنا الله هكذا دون هذا المصدر أو تلك المعجزة؟ هل سيتركنا الله هكذا وهو الودود الرحيم الذي يريد لنا الخير؟ {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]. يقينًا أنه سبحانه ما كان ليترك عباده هكذا يتخبطون ويدورون بلا فائدة حول أنفسهم، وقد كتب على نفسه الرحمة، وأعلمنا أنه رءوف، رحيم، ودود، كريم ... من المؤكد أنه سبحانه وتعالى لن يحرمنا من تلك المعجزة التي ستؤدي هذا العمل المطلوب وتتوافر فيها المواصفات المشار إليها آنفًا وغيرها وغيرها ... فأين هي هذه المعجزة؟ وهل هي موجودة بالفعل أم علينا أن نتحرق شوقًا لقدومها؟ إنه القرآن العظيم: لو فكرنا سويًا في هذا الأمر، وتذكرنا فضل الله الدائم على عباده، لوجدنا أنفسنا أمام حقيقة واضحة وهي أنه لابد وأن تكون هذه المعجزة موجودة بيننا بالفعل. نعم ... قد تكون كذلك لكننا لا نعرفها أو لا ندرك قيمتها, ولا نتعامل معها على حقيقتها ولكنها بالتأكيد موجودة ... فما هي تلك المعجزة؟! لو تفكرنا في المعجزات السابقة لوجدناها مرتبطة بزمان محدد، أو بحالة محددة، أو بشخص محدد كعصا موسى، وناقة صالح، وإحياء عيسى للموتى بإذن الله. كل هذه المعجزات مرتبطة بأصحابها من الرسل، إلا معجزة واحدة اختص الله بها أمتنا الإسلامية، فلم يجعلها سبحانه وتعالى تخص زمانًا بعينه أو ترتبط بشخص الرسول ثم تنتهي بوفاته، بل جعلها صالحة لكل زمان ومكان حتى قيام الساعة ... ألا وهي القرآن العظيم ... وقد تكفل -سبحانه- بحفظه من التحريف والتبديل لتستمر معجزته في القيام بدورها الخطير في تغيير الأفراد، وبث الروح فيهم، وتوليد القوة الروحية والدافع الذاتي داخلهم باستمرار في أي زمان ومكان {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52]. تعرف بنفسك على المعجزة: لعلك أخي القارئ متعجب بأن ما نبحث عنه موجود بيننا ... لعل الأفكار تراودك من بساطة هذا الحل وسهولته وقربه منا .. نعم، لك بعض العذر في ذلك، كيف لا وقد هجرنا هذه المعجزة، وورثنا تعاملاً خاطئًا معها جعلنا نحصرها في أذهاننا داخل نطاق التقديس الشكلي فقط، مما حرمنا الانتفاع بها، لذلك أدعوك - أخي - إلى أن تبحث في القرآن عن الآيات التي تتحدث عن القرآن وتسجلها بقلمك ثم تنظر إليها بعد ذلك، وتُخرج منها مواصفات وقوة تأثير ومجالات عمل هذا الكتاب ...

مظاهر قوة تأثير القرآن

افعل ذلك بنفسك لتدرك بعضًا من حجم هذه المعجزة، وأنها هي التي نبحث عنها، وهي التي نريدها تمامًا. مظاهر قوة تأثير القرآن: لقد أنزل الله القرآن من السماء ليكون كتاب هداية وشفاء وتقويم وتغيير لكل من يُحسن الإقبال عليه، ويدخل في دائرة تأثير معجزته ... تأمل معي تلك الآية التي تصف لنا صورة من صور تأثير القرآن ومخاطبته للمشاعر وتوليده للقوة الروحية {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ} [الزمر: 23]. هذا القرآن الذي بين أيدينا له قوة تأثير هائلة لا يمكن للعقل أن يدرك أبعادها أو يحيط بها، ولقد ضرب الله لنا بعض الأمثلة التي تبين ذلك لندرك قيمة المعجزة التي بين أيدينا ... انظر إلى قوله تعالى {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد:31]. (¬1) وجواب الشرط محذوف وتقديره: لكان هذا القرآن ... فالآية تخبرنا بأن القرآن قادر - بإذن الله - على أن يُحرك الجبال من مكانها، ويُقطِّع الأرض، ويُكلم الموتى ... فأي قوة هذه التي تستطيع أن تحرك جبلاً من مكانه، أو تقطع الأرض فتجعلها منفصلة عن بعضها، بل وتكلم الموتى فيستجيبون؟! إنها بلا شك قوة لا يمكن للعقل البشري أن يحيط بها أو يدرك أبعادها. فإن كانت تستطيع أن تفعل ذلك كله - بإذن الله - فماذا عساها أن تفعل بي وبك إن دخلنا إلى دائرة تأثيرها؟! ‍ لقد بلغ من قوة تأثير القرآن أنه شيَّب شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا أبو بكر رضي الله عنه يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله قد شبت, فقال صلى الله عليه وسلم: «شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت». (¬2) هذا القرآن: هذا القرآن جعل قلب الجبير بن مطعم كاد يطير عندما استمع إلى بعض آياته ... ففي البخاري عن محمد بن جبير عن أبيه - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي (¬3) .. وفي رواية: فلم بلغ هذه الآية {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ - أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ - أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ} كاد قلبي أن يطير (¬4). هذا القرآن وقوة تأثيره واستحواذه على المشاعر وسيطرته عليها هو الذي جعل رسولنا صلى الله عليه وسلم يردد في قيامه طيلة الليل قوله تعالى: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]. ¬

_ (¬1) يقول الحافظ ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: يقول تعالى مادحًا للقرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم ومفضلًا له على سائر الكتب المنزلة قبله {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} أي لو كان في الكتب الماضية كتاب تسير به الجبال عن أماكنها، أو تقطع به الأرض وتنشق، أو تكلم به الموتى في قبورها، لكان هذا القرآن هو المتصف بذلك دون غيره. وجاء في سبب نزول هذه الآية أن كفار مكة قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع، فنحرث فيها، أو قطعت لنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح، أو أحييت لنا الموتى كما كان عيسى يحيي الموتى لقومه، فأنزل الله هذه الآية. (¬2) صحيح، رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع (3723). (¬3) رواه البخاري رقم (3798). (¬4) رواه البخاري رقم (4573).

قوة تأثير هذه المعجزة الجبارة هي التي جعلت عبَّاد بن بشر يتحمل ألم إصابته بالسهام الثلاثة, التي أطلقها عليه أحد المشركين وهو قائم يصلي ويتلو آيات القرآن، فلم يقطع قراءته إلا خشية تعرض المسلمين للخطر وذلك في غزوة ذات الرقاع .. هذا القرآن استمع إليه نفر من النصارى الذين يبحثون عن الهُدى فماذا حدث لهم؟ {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:83]. وليس هذا في عالم الإنس فقط، فحين استمع إليه نفر من الجن كان قولهم: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا - يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ... } [الجن: 1 - 2]. إنه شيء لا يمكن للعقل للبشري القاصر أن يدرك أبعاده ومدى قوة تأثيره {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21]. إذن فالقرآن الذي بين أيدينا هو الذي تحتاج إليه الأمة جمعاء، ليكون بمثابة المصدر والمولد للطاقة والقوة الروحية بقدرته الفذة على التأثير في المشاعر. القرآن وحقائقه التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يصلح لكي يكون بداية قوية لنهضة الأمة .. {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:89]. أخي .. يقول لنا ربنا: {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:51]. فبماذا نجيبه؟! نعم يا رب يكفينا، يكفينا «سمعنا وأطعنا». ولقد أدرك الإمام المجدد حسن البنا رحمه الله هذه الحقيقة تمامًا، وجعلها غاية في حركة هذه الجماعة ... تأمل قوله: أنتم روح جديد يسري في جسد هذه الأمة ليحييها بالقرآن. * * *

الفصل الرابع لماذا القرآن هو سر نهضتنا؟

الفصل الرابع لماذا القرآن هو سر نهضتنا؟ - أولاً: القرآن اختيار الله لعباده أجمعين. - ثانيًا: القرآن يجمع بين الرسالة والمعجزة. - ثالثًا: القرآن يخاطب الفكر والعاطفة. - رابعًا: القرآن يولد باستمرار القوة الروحية. - خامسًا: القرآن ميسر للذكر والفهم. - سادسًا: القرآن هو الكلمة السواء التي لا يختلف عليها اثنان. - سابعًا: القرآن عبادة متجددة لا تُمل. - ثامنًا: القرآن وسيلة مجربة. - تاسعًا: القرآن هو وصية الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه المخرج من الفتن.

تمهيد

لماذا القرآن هو سر نهضتنا؟ تمهيد: عندما نقول - بعون من الله - إن القرآن هو سر نهضة هذه الأمة، وأنه مخرجها الآمن من النفق المظلم الذي تسير فيه، وأنه قادر - بإذن الله- على بث الروح في جسدها، ومعالجة نقاط ضعفها، وإعادة ما سُلب من أمجادها، فإن هذا القول لا يأتي من فراغ، بل تُؤيده شواهد وأسباب كثيرة نذكرها لك -أخي القارئ- لعلها تشحذ الهمم وتقوي العزائم للانطلاق الصحيح نحو هذا الكنز المهجور، وهي على سبيل الإجمال: أولاً: القرآن اختيار الله لعباده أجمعين. ثانيًا: القرآن يجمع بين الرسالة والمعجزة. ثالثًا: القرآن يخاطب الفكر والعاطفة في آن واحد. رابعًا: القرآن لديه القدرة - بإذن الله - على الاستثارة الدائمة للمشاعر والضرب على أوتار القلوب، وتوليد القوة الروحية. خامسًا: القرآن ميسر للذكر والفهم. سادسًا: القرآن هو الكلمة السواء التي لا يختلف عليها اثنان. سابعًا: القرآن عبادة متجددة لا تُمل. ثامنًا: القرآن وسيلة مجربة. تاسعًا: القرآن هو وصية الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه المخرج من الفتن. ولننتقل بعد هذا الإجمال إلى الحديث عن تلك الأسباب بشيء من التفصيل.

أولا: القرآن هو اختيار الله لعباده أجمعين

أولاً: القرآن هو اختيار الله لعباده أجمعين الله عز وجل هو الرب الذي يُربِّي عباده ويتعاهدهم، ويمدهم بما يحتاجون إليه من سائر الإمدادات كالطعام والشراب والهواء والحفظ والرعاية {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ - يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:10، 11]. هذا الرب العظيم يحب عباده جميعًا ويريد لهم الخير والنجاح في الاختبار الذي نزلوا إلى الأرض لتأديته ... يريد لهم جميعًا دخول الجنة {وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة:221]. وكيف لا يكون الأمر كذلك وقد اختص الإنسان لنفسه، وكرمه على سائر خلقه {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70]. ولأنه سبحانه هو الذي خلق الإنسان ويعلم عنه أكثر مما يعلم هذا الإنسان عن نفسه {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] , فلقد علم - سبحانه- بحاجة هذا الإنسان إلى دواء يشفيه، ويبصره بطريق الهدى، ويُولد لديه الطاقة والعزيمة للسير في هذا الطريق، فهيأ له دواء فريدًا يصلح له حتى قيام الساعة ... فكان القرآن {تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:2]. والأمر اللافت للانتباه أن هناك العديد من الآيات القرآنية التي تؤكد لنا هذا المعنى وتخبرنا بأن القرآن «تنزيل من رب العالمين». فرب العالمين، المربي للبشر جميعًا هو الذي أنزل لهم القرآن. فالقرآن هو اختيار الله لعباده أجمعين {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57]. وفي هذا المعنى يقول سيد قطب - رحمه الله -: إن هذه البشرية - وهي من صنع الله -لا تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله، ولا تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يخرج من يده - سبحانه - وقد جعل في منهجه وحده مفاتيح كل مغلق، وشفاء كل داء: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] ... {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]. ولكن هذه البشرية لا تريد أن ترد الآلة إلى صانعها، ولا أن تذهب بالمريض إلى بارئه، ولا تسلك في أمر نفسها، وفي أمر إنسانيتها وفي أمر سعادتها أو شقوتها، ما تعودت أن تسلكه في أمر الأجهزة والآلات المادية الزهيدة التي تستخدمها في حاجاتها اليومية الصغيرة ... وهي تعلم أنها تستدعي لإصلاح الجهاز مهندس المصنع الذي صنع الجهاز ... ولكنها لا تطبق هذه القاعدة على الإنسان نفسه فترده إلى المصنع الذي منه خرج، ولا أن تستفتي المبدع الذي أنشأ هذا الجهاز الإنساني العظيم الكريم الدقيق اللطيف، الذي لا يعلم مساربه ومداخله إلا الذي أبدعه وأنشأه: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ - أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير} [الملك: 13، 14] (¬1). * * * ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن .. المقدمة.

ثانيا: القرآن يجمع بين الرسالة والمعجزة

ثانيًا: القرآن يجمع بين الرسالة والمعجزة: القرآن دون غيره من الكتب السماوية السابقة يجمع بين أمرين عظيمين: الرسالة والمعجزة .. فالرسالة القرآنية شأنها شأن الكتب السابقة تدل الناس على الله، وتهديهم إلى الطريق الموصل إليه، وتبين لهم العقبات والمنعطفات التي قد تقابلهم وكيف يتجاوزونها {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185]. ولقد كانت هذه وظيفة الإنجيل أيضًا {وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} [المائدة:46]. وكذلك التوراة وسائر الكتب {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [المائدة:44]. ولكن هل معرفة الطريق وحدها تكفي لسلوك المرء له، أليس هناك عقبات داخل الإنسان تحول بينه وبين السير في طريق الهدى؟ أليس الهوى وسطوته على القلب له دور كبير في تثبيط الإنسان وإقعاده عن السير في طريق الله؟ من هنا تظهر عظمة القرآن وأفضليته على سائر الكتب السابقة، فلقد أودع الله فيه معجزة خارقة، أعظم بكثير من معجزات عيسى وموسى وصالح وسائر الرسل والأنبياء السابقين عليهم أفضل الصلوات والتسليم. إن المعجزة القرآنية الخارقة ليست فقط في بلاغته وخلوده وحفظه من التحريف، وليست فقط في صلاحية القرآن لكل زمان ومكان، بل إنها فوق ذلك بكثير، فسرُّ المعجزة القرآنية يكمن في قدرته الفذة - بإذن الله - على التغيير، وبث الروح والحياة الحقيقية، وتوليد الطاقة فيمن يحسن الإقبال عليه {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52]. المعجزة القرآنية تقوم بتوصيل تيار الحياة إلى القلب فيفيق من غفلته، ويحيا بعد موته، وينطلق إلى ربه {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} [الأنعام:122]. ولئن كانت الرسالة القرآنية توضح للناس الطريق الموصل إلى الله، فإن المعجزة القرآنية تقوم بأخذ أيديهم إلى هذا الطريق، وتسير بهم، وتقودهم، وتتولى إخراجهم من الظلام الذي يعيشون فيه إلى نور الله المبين في الدنيا، والجنة في الآخرة. وهناك العديد من الآيات التي تبين هاتين الوظيفتين، منها ما جاء في سورة المائدة {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ - يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ} [المائدة: 15، 16]. فهنا توضح الآيات وظيفة القرآن كرسالة هادية، أما وظيفته كمعجزة فتوضحها بقية الآية {وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [المائدة: 16]. فالإخراج من الظلام ... من المكان الذي ألفه الإنسان يحتاج إلى قوة دافعة، وطاقة تتولد داخله تُيسِّر له اتخاذ قرار النهوض والخروج مما تعود عليه ... وهذه هي وظيفة المعجزة القرآنية، والتي اختصه الله بها ... قال صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلا أُعْطِيَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ, وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ, فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬1). يعلق الحافظ ابن كثير على هذا الحديث فيقول: معناه أن معجزة كل نبي انقرضت بموته، وهذا القرآن حجة باقية على الآباد لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن كثرة الرد .. فإنه ليس ثمَّ حجة ولا معجزة أبلغ ولا أنجع في العقول والنفوس من هذا القرآن, الذي لو أنزله الله على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله (¬2). * * * ¬

_ (¬1) صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه (4598). (¬2) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/ 471.

ثالثا: القرآن يخاطب

ثالثًا: القرآن يخاطب الفكر والعاطفة في آن واحد من عجائب القرآن التي ينفرد بها عن غيره أنه يخاطب الفكر والعاطفة معًا وفي آن واحد، يخاطب العقل فيقنعه بما يريد إقناعه به، وفي نفس الوقت يتسرب هذا الخطاب إلى المشاعر فيستثيرها ويدفعها للتجاوب معه فتتحول القناعة العقلية إلى إيمان قلبي، وهذا لا يمكن حدوثه مع أي خطاب آخر. فأهل الرأي إذا ما أرادوا أن يقنعوا الناس بفكرة ما استخدموا أساليب الإقناع المختلفة، وبالفعل يقتنع العقل، ولكن تظل هذه الفكرة حبيسة فيه، ولا تنتقل إلى القلب لتصبح إيمانًا يدفع للعمل بمقتضاها، والسبب في ذلك أنهم لم يخترقوا القلب بفكرتهم، ولم يؤثروا على المشاعر وهذا أمر بعيد المنال عنهم، فإمكاناتهم وإمكانات البشر جميعًا لا تسمح بذلك. وفي هذا المعنى يقول د. محمد عبد الله دراز - رحمه الله-: وفي النفس الإنسانية قوتان: قوة تفكير وقوة وجدان، وحاجة كل واحدة منهما غير حاجة أختها، فأما إحداهما فتنقب عن الحق لمعرفته، وعن الخير للعمل به، وأما الأخرى فتسجل إحساسها بما في الأشياء من لذة وألم، والبيان التام هو الذي يوفي لك هاتين الحاجتين ويطير إلى نفسك بهذين الجناحين، فيؤتيها حظها من الفائدة العقلية والمتعة الوجدانية معًا. فهل رأيت هذا التمام في كلام الناس؟ لقد عرفنا كلام العلماء والحكماء، وعرفنا كلام الأدباء والشعراء، فما وجدنا من هؤلاء ولا هؤلاء إلا غُلُوًا في جانب، وقصورًا في جانب ... فالذي يفهمك تتناقص قوة وجدانه، والذي يقع تحت تأثير لذة أو ألم يضعف تفكيره. وهكذا لا تقصد النفس الإنسانية إلى هاتين الغايتين قصدًا واحدًا، وإلا لكانت مقبلة مدبرة معًا. هذا مقياس تستطيع أن تتبين به في كل لسان وقلم أي القوتين كان خاضعًا لها حين قال أو كتب: فإذا رأيته يتجه إلى تقرير حقيقة نظرية أو وصف طريقة عملية قلت: هذه ثمرة الفكرة. وإذا رأيته يعمد إلى تحريض النفس أو تنفيرها، وقبضها أو بسطها، واستثارة كوامن لذاتها أو ألمها، قلت: هذه ثمرة العاطفة، وإذا رأيته قد انتقل من أحد هذين الضربين إلى الآخر ... عرفت بذلك تعاقب التفكير والشعور على نفسه .. وأما إن أسلوبًا واحدًا يتجه اتجاهًا واحدًا ويجمع في يديك هذين الطرفين معًا، كما يحمل الغصن الواحد من الشجرة أوراقًا وأزهارًا وأثمارًا معًا ... فذلك لا تظفر به في كلام بشر، ولا هو من سنن الله في النفس الإنسانية. أما الله رب العالمين فهو الذي لا يشغله شأن عن شأن. وهو القادر على أن يخاطب العقل والقلب معًا {الرَّحْمَنُ - عَلَّمَ الْقُرْآنَ - خَلَقَ الإِنْسَانَ - عَلَّمَهُ البَيَانَ} [الرحمن: 1 - 4]. وأن يمزج الحق والجمال معًا يلتقيان، وأن يخرج من بينهما شرابًا خالصًا سائغًا للشاربين، وهذا ما تجده في كتابه الكريم حيثما توجهت. ألا تراه في فسحة قصصه وأخباره لا ينسى حق العقل من حكمة وعبرة؟ أوَلا تراه في معمعة براهينه وأحكامه لا ينسى حظ القلب من تشويق وترقيق، وتحذير وتنفير، وتهويل وتعجيب، وتبكيت وتأنيب؟ يبث ذلك في مطالع آياته ومقاطعها وتضاعيفها؟

اقرأ مثلاً قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:178] , وانظر: الاستدراج إلى الطاعة في افتتاح الآية بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا" وترقيق العاطفة بين الواترين والموتورين في قوله {أَخِيهِ} وقوله {بِالْمَعْرُوفِ} وقوله {بِإِحْسَانٍ}، والامتنان في قوله تعالى: {تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} والتهديد في ختام الآية. ثم انظر في أي شأن يتكلم؟ أليس في فريضة مفصلة وفي مسألة دموية؟ وتتبع هذا المعنى في سائر آيات الأحكام حتى أحكام الإيلاء والظهار. ففي أي كتاب من كتب التشريع تجد مثل هذا الروح؟ بل في أي لسان تجد هذا المزاج العجيب؟ تالله لو أن أحدًا حاول أن يجمع في بيانه بين هذين الطرفين ففرق همه ووزع أجزاء نفسه، لجاء بالأضواء المتنافرة ولخرج بثوب بيانه رقعًا ممزقة (¬1). ومن نماذج الخطاب المتكامل التي لا يقدر عليه إلا الله والذي يخاطب العقل والوجدان، ويتعرض لقضية غاية في الحساسية دون جرح مشاعر قارئها ذكرًا كان أو أنثى قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة:223]. * * * ¬

_ (¬1) النبأ العظيم لمحمد عبد الله دراز 143 - 146 بتصرف.

رابعا: القرآن لديه القدرة - بإذن الله - على الاستثارة الدائمة للمشاعر والضرب على أوتار القلوب وتوليد الطاقة والقوة الروحية

رابعًا: القرآن لديه القدرة - بإذن الله - على الاستثارة الدائمة للمشاعر والضرب على أوتار القلوب وتوليد الطاقة والقوة الروحية أودع الله في القرآن خاصية عجيبة تساعده على تفعيل معجزته، والقيام بدوره الخطير في توليد القوة الروحية الدافعة للعمل بما يدل عليه، هذه الخاصية هي قدرته الفذة - بإذن الله - على الاستثارة الدائمة للمشاعر. ونلحظ هذه الخاصية في لفظه وبيانه. فبالنسبة للفظه وتأليف حروفه وكلماته نجد أن نَظْمه وجرسه - عندما يُقرأ بترتيل صحيح - له وقع مؤثر غاية التأثير على النفس, فله جمال توقيعي يأخذ بمجامع القلوب؛ من توزيع الحركات والسكنات، والمدَّات والغنات، والاتصالات والسكنات، لا يمكن أن تجده في غيره. يقول محمد عبد الله دراز: أول ما يلاقيك ويسترعى انتباهك من أسلوب القرآن الكريم خاصية تأليفه الصوتي في شكله وجوهره. دع القارئ المجوِّد يقرأ القرآن يرتله حق ترتيله، ثم انتبذ منه مكانًا قصيًا لا تسمع فيه جرْس حروفه، ولكن تسمع حركاتها وسكناتها، ومدَّاتها وغُنَّاتها، واتصالاتها وسكناتها، ثم الق سمعك إلى هذه المجموعة الصوتية، وقد جُرِّدت تجريدًا أو أرسلت ساذجة في الهواء. فستجد نفسك منها بإزاء لحن غريب عجيب لا تجده في كلام آخر لو جُرِّد هذا التجريد، وجوِّد هذا التجويد. ستجد اتساقًا وائتلافًا يسترعي من سمعك ما تسترعيه الموسيقى والشعر، على أنه ليس بأنغام الموسيقى ولا بأوزان الشعر, ذلك أنك تسمع القصيدة من الشعر فإذا هي تتحد الأوزان فيها بيتًا بيتًا، وشطرًا شطرًا، فلا يلبث سمعك أن يمجها، وطبعك أن يملها، إذا أعيدت وكررت عليك بتوقيع واحد، بينما أنت من القرآن أبدًا في لحن متنوع متجدد، تنتقل فيه بين أسباب وأوتار وفواصل، على أوضاع مختلفة يأخذ منها كل وتر من أوتار قلبك بنصيب سواء، فلا يعروك منه على كثرة ترداده ملالة ولا سأم. بل لا تفتأ تطلب منه المزيد.

هذا الجمال التوقيعي في لغة القرآن لا يخفى على أحد ممن يسمع القرآن حتى الذين لا يعرفون لغة العرب, فكيف يخفى على العرب أنفسهم؟ (¬1). ومع جماله التوقيعي يأتي جماله التنسيقي في رصف حروفه وتأليفها من مجموعات مؤتلفة مختلفة (¬2) مما يزيد من قوة تأثيره على المشاعر. بحر لا ساحل له: هذا من ناحية القشرة الخارجية للفظ القرآن، أما ما يخص بيانه ومعانيه وقوة تأثيرها على القلب فلا يمكن لأحد كائنًا من كان أن يدرك أبعادها جميعًا، وإنما هي رشفات نرتشفها من بحر لا ساحل له ... فالبيان القرآني يحمل شتى أنواع الأساليب التي تخاطب العاطفة, وتضرب على أوتار القلوب فتستثيرها وتأخذ بمجامعها وترجها رجًا عنيفًا, فيحدث التفاعل وتتولد الطاقة والقوة الروحية وتقوى العزيمة، وتشتد الإرادة للقيام بما تحمله الآيات من توجيهات ... فتجد القرآن مليئًا بأساليب الترغيب والترهيب، والتشويق، ولفت الانتباه، وضرب الأمثال، والقصة، والتخيير، والاستدراج، والترقيق، والتنفير، والتحذير، والتشجيع، والإشهاد، والاستشهاد، وإثارة مشاعر الغيرة والتنافس .... هذا وغيره تجده بسهولة عند قراءتك لبضع آيات من القرآن، فإذا ما اجتمع في القراءة الترتيل الصحيح حيث التأثر بالنظْم والجرْس، مع التدبر والفهم حيث التأثر بالمعنى .. تولدت القوة الروحية التي ننشدها. فإن أردت مثالاً لتأثير التلاوة الصحيحة في المعنى، وما يحدثه من أثر في القلب، وبعد ذلك البدن في الحركة فاقرأ -إن شئت- قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ - قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1:2]، وكذلك قوله: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} [آل عمران: 193]. وقل مثل ذلك على إيحاءات ألفاظ: سارعوا - سابقوا - خروا سجدًا وبكيا، وأثر ذلك على القلب والبدن. * * * ¬

_ (¬1) النبأ العظيم 127 - 131. (¬2) يقول د. دراز: فإذا ما اقتربت بأذنك قليلًا قليلًا، فطرقت سمعك جواهر حروفه خارجة من مخارجها الصحيحة. فاجأتك منه لذة أخرى في نظم تلك الحروف ورصفها وترتيب أوضاعها فيما بينها: هذا ينقر، وذاك يصفر، وثالث يهمس، ورابع يجهر، وآخر ينزلق عليه النَفَس، وآخر يحتبس عنده النفس. وهلمَّ جرًّا، فترى الجمال اللغوي ماثلًا أمامك في مجموعة مختلفة مؤتلفة: لا كركرة (إعادة الشيء مرة بعد مرة) ولا ثرثرة، ولا رخاوة (استرخاء ولين) ولا معاظلة (تعقيد الكلام) ولا تناكر ولا تنافر (تنافر بين الحروف) وهكذا ترى كلامًا ليس بالحضري الفاتر ولا بالبدوي الخشن، بل تراه وقد امتزجت فيه جزالة البداوة وفخامتها برقة الحضر وسلاستها، وقُدّر فيه الأمر تقديرًا أن لا يبغي بعضها على بعض ... النبأ العظيم 132 - 133.

خامسا: القرآن ميسر للذكر والفهم

خامسًا: القرآن ميسر للذكر والفهم من المزايا العظيمة للقرآن أنه ميسر للذكر {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر: 17]. ففي أي وقت بالليل أو النهار، وفي أي مكان طاهر يستطيع المرءْ أن يلتقي مع القرآن. كان من الممكن أن تكون قراءة القرآن مقصورة على أزمنة محددة أو أماكن معينة كالمساجد مثلاً، لكن الله عز وجل جعل تناوله بهذا التيسير لتتاح الفرصة للجميع أن يلتقوا به في الوقت الذي يروق لهم، وهذا - بلا شك - يعطي للقرآن مزية عظيمة في استيعابه لجميع الأفراد باختلاف ظروفهم وأحوالهم. خطاب للعامة وخطاب للخاصة: ومع تيسر القرآن للقراءة في أي وقت وأي مكان فإنه كذلك ميسر للفهم، فخطابه موجه للعامة والخاصة. يقول د. دراز: وهاتان غايتان متباعدتان عند الناس، فلو أنك خاطبت الأذكياء بالواضح المكشوف الذي تخاطب به (العامة) لنزلت بهم إلى مستوى لا يرضونه لأنفسهم في الخطاب. ولو أنك خاطبت العامة باللمحة والإشارة التي تخاطب بها الأذكياء لجئتهم من ذلك بما لا تطيقه عقولهم، فلا غنى لك - إن أردت أن تُعطي كلتا الطائفتين حظها كاملاً من بيانك - أن تخاطب كل واحدة منها بغير ما تخاطب به الأخرى، كما تخاطب الأطفال بغير ما تخاطب به الرجال. فأما أنَّ جملة واحدة تُلقى إلى العلماء والجهلاء، وإلى الأذكياء والأغبياء، وإلى السوقة والملوك، فيراها كل منهم مُقَدّرة على مقاس عقله، وعلى وفق حاجته, فذلك ما لا تجده على أتمه إلا في القرآن الكريم. فهو قرآن واحد يراه البلغاء أوفى كلام بلطائف التعبير، ويراه العامة أحسن كلام وأقربه إلى عقولهم، لا يلتوي على أفهامهم، ولا يحتاجون فيه إلى ترجمان وراء وضع اللغة، فهو متعة العامة والخاصة على السواء. ميسر لكل من أراد {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر: 17]. القصد في اللفظ والوفاء بحق المعنى: من وسائل تيسير القرآن للقراءة أنه كتاب موجز مع أن ما يحتويه من معان عظيمة يحتاج عرضها إلى الكثير من المجلدات الضخمة. تخيل معي - أخي القارئ - أن القرآن يملأ عدة مجلدات ... هل سيقبل عليه الناس؟ هل سيتسنى لهم قراءته من أوله إلى آخره أم سيهابون ذلك ويتكاسلون عن إتمامه؟! هذا الإيجاز المعجز يجمع بين القصد في اللفظ والوفاء بالمعنى، وهذان ضدان لا يمكن أن يجتمعا في أي كلام غير القرآن كما يقول د. دراز: فالذي يعمد إلى ادخار لفظه وعدم الإنفاق منه إلا على حد الضرورة لا ينفك من أن يحيف على المعنى قليلاً أو كثيرًا ... فالحذر يأخذه من الإكثار والإسراف ... يبذل جهده في ضم أطرافه وحذف ما استطاع من أدوات التمهيد والتشويق، ووسائل التقرير والتثبيت، وما إلى ذلك مما تمس إليه حاجة النفس في البيان، حتى يخرجه ثوبًا متقلصًا يقصر عن غايته، أو هيكلاً من العظم لا يكسوه لحم ولا عصب ... ورب حرف ينقص من الكلام يذهب بمائه ورونقة، ويكسف شمس فصاحته. والذي يعمد إلى الوفاء بحق المعنى وتحليله إلى عناصره، وإبراز كل دقائقه لا يجد له بُدًّا من أن يمد في نفسه مدًّا، لأنه لا يجد في القليل من اللفظ ما يشفي صدره، ويؤدي عن نفسه رسالتها كاملة، فإذا أعطى نفسه حظه من ذلك لا يلبث أن يباعد ما بين أطراف كلامه، ويبطئ بك في الوصول إلى غايته فتحسُّ بقوة نشاطك وباعثة إقبالك آخذتين في التضاؤل والإضمحلال (¬1). فإن سرك أن ترى كيف تجتمع هاتان الغايتان على تمامهما بغير فترة ولا انقطاع، فانظر حيث شئت من القرآن الكريم، تجد بيانًا قد قدِّر على حاجة النفس أحسن تقدير، فلا تحس فيه بتخمة الإسراف ولا بمخمصة التقتير. ¬

_ (¬1) المصدر السابق 139،138.

يؤدي إليك من كل معنى صورة نقية وافية: (نقية) لا يشوبها مما هو غريب عنها، (وافية) لا يشذ عنها شيء من عناصرها الأصلية ولواحقها الكمالية ... كل ذلك في أوجز لفظ وأنقاه. ضع يدك حيث شئت من المصحف، وعد ما أحصته كفك من الكلمات عدًا، ثم أحص عدتها من أبلغ كلام تختاره خارجًا عن الدفتين، وانظر نسبة ما حواه هذا الكلام من المعاني إلى ذاك. ثم انظر: كم كلمة تستطيع أن تسقطها أو تبدلها من هذا الكلام دون إخلال بغرض قائله؟ وأي كلمة تستطيع أن تسقطها أو تبدلها هناك؟ فكتاب الله - كما يقول ابن عطية - (لو نُزعت منه لَفظة، ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم توجد). بل هو كما وصفه الله {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1] (¬1). القرآن إيجاز كله: القرآن إيجاز كله، سواء مواضع إجماله ومواضع تفصيله، والقرآن يستثمر دائمًا برفق أقل ما يمكن من اللفظ في توليد أكثر ما يمكن من المعاني ... أجل، تلك ظاهرة بارزة فيه كله، يستوي فيها مواضع إجماله التي يسميها الناس مقام الإيجاز، ومواضع تفصيله التي يسمونها مقام الإطناب، ولذلك نسميه إيجاز كله ... فليس فيه كلمة إلا هي مفتاح لفائدة جليلة، وليس فيه حرف إلا جاء لمعنى (¬2). * * * ¬

_ (¬1) النبأ العظيم, 142،141. (¬2) المصدر السابق 159،158.

سادسا: القرآن هو الكلمة السواء التي لا يختلف عليها اثنان من الأمة

سادسًا: القرآن هو الكلمة السواء التي لا يختلف عليها اثنان من الأمة لا يمكن لعاقل أن يُنكر الخلافات الموجودة بين أبناء الأمة الإسلامية، فمن خلاف بين السنة والشيعة، إلى خلاف بين أبناء السنة أنفسهم. والخلاف بين الناس أمر واقع ما له من دافع, لاختلاف البيئات والأفهام والثقافات ... وهو محمود لو كان اختلاف تنوع بين الطوائف والمذاهب المختلفة حين يسعى الجميع لتكميل بعضهم البعض. وهو محمود لو كان خلافًا في المساحة التي يمكن الخلاف فيها، فالصحابة والسلف اختلفوا فيما بينهم، ولكن لم يختلفوا في الكليات والأصول، بل في الفرعيات. وهو محمود كذلك لو لم يصاحبه تعصب واعتداد بالرأي وتسفيه وانتقاص للمخالفين واحتقار جهودهم أو الحط من شأنهم. ولكن الواقع يقول غير ذلك، فالأمة ليست على قلب رجل واحد، فبعض الخلافات تجاوزت المساحة المسموح بها بكثير. وبعض الخلافات انتقل أصحابها من الناحية الموضوعية إلى الناحية الشخصية، فعمدوا إلى تجريح الأشخاص والهيئات والتشهير بهم ... ومما يدعو للأسف أن الكل يعتقد أنه على صواب، وأن طريقته هي الطريقة المثلى. فما هو الحل لهذا الوضع الذي لا يُرضي الله عز وجل، والذي بسببه تتعرض الأمة للخذلان والحرمان {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]. ولقد ذهبت ريحنا بالفعل، وأصبحنا معرَّة الأمم، ومضرب المثل في التخلف والانحطاط. الكلمة السواء: لحل لهذه المشكلة المعقدة لابد أن يكون هناك شيء يجتمع عليه الجميع ... يرضون به حكمًا يحل هذا الخلاف ويصوب للجميع مواقفهم، فما هو هذا الشيء الذي يمكنه أن يجمع حوله أمة تجاوز عددها المليار وثلث المليار؟! لو بحثنا في كل شيء تحت أيدينا فلن نجد إلا شيئًا واحدًا يوافق الجميع على الاحتكام إليه ... ألا وهو القرآن. والعجيب أن الله سبحانه وتعالى سماه بالحبل, وكأن قدره ووظيفته أن ينتشل الجميع ويرفعهم ويوحدهم {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]. فحبل الله هو القرآن كما قال ابن مسعود وغيره. ومما يؤكد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «كتاب الله هو حبل الله الممدود بين السماء إلى الأرض» (¬1). فالقرآن حين يقبل عليه المرء إقبالاً صحيحًا نازلاً به على هواه، وليس نازلاً بهواه إليه، فإنه يزيد الإيمان ويُنقص الهوى في قلبه، وهذا من شأنه أن يُنهي جزءًا كبيرًا في موضوع الخلاف. والقرآن كذلك يوضح ويبين الكثير من الأمور المختلف فيها، ويرسم في الأذهان خريطة الإسلام بنسبها الصحيحة دون تفريط ولا إفراط، فيُعطي كل ذي حق حقه. والقرآن يبني العلاقة الصحيحة مع الله، ومع النفس، ومع الرسل، ومع الملائكة، ومع الصالحين، ومع عالم الغيب وعالم الشهادة، و ...

_ (¬1) صحيح رواه ابن أبي شيبة، وابن جرير عن أبي سعيد، وصححه الألباني في صحيح الجامع، ح (4473).

وحين تنبنى العلاقة الصحيحة بهذه الأمور يزول الكثير من أسباب الخلاف بين أبناء الأمة. فعلى سبيل المثال: عندما يقرأ المرء قوله تعالى مخاطبًا رسوله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128] , ويجد أن المعنى الذي تحمله الآية يتكرر في عشرات الآيات، ومن ثمَّ يتحول ذلك إلى يقين في عقله، وإيمان في قلبه، فإن هذا يدفعه إلى أن ينظر إلى البشر جميعًا بنفس منظار الآية ... ليس لهم من الأمر شيء مهما كان صلاحهم. هذا المعنى لو استقر في عقولنا وقلوبنا فإنه سيؤدي إلى حسم الكثير والكثير من نقاط الخلاف، وأسباب التشرذم والفرقة الناتجة عن تقديس البشر. * * *

سابعا: القرآن عبادة متجددة لا تمل

سابعًا: القرآن عبادة متجددة لا تُمل القرآن لا يبلى من كثرة الرد، ففيه الجديد دائمًا لقرائه، ولو نهل البشر جميعًا من نبعه لما انقطع أبدًا عن التدفق، ولما شعر أحدهم بالملل أو التكرار أو عدم وجود جديد، بل العجب أننا سنفاجأ يوم القيامة بأننا ما أخذنا إلا رشفات وقطرات يسيره من نهر القرآن العظيم الفياض بالخير، وصدق من قال بأن القرآن لا يزال بكرًا. وفي هذا المعنى يقول د. محمد عبد الله دراز - رحمه الله -: تقرأ القطعة من القرآن فتجد في ألفاظها من الشفوف، والملاسة، والإحكام، والخلو من كل غريب عن الغرض، ما يتسابق به مغزاها إلى نفسك دون كدّ خاطر ولا استعادة حديث, كأنك لا تسمع كلامًا ولغات بل ترى صورًا وحقائق ماثلة. وهكذا يخيل لك أنك قد أحطت به خُبرا ووقفت على معناه محدودًا ... هذا ولو رجعت إليه كرة أخرى لرأيتك منه بإزاء معنى جديد، غير الذي سبق إلى فهمك أول مرة. وكذلك حتى ترى للجملة الواحدة أو الكلمة الواحدة وجوهًا عدة، كلها صحيح أو محتمل للصحة، كأنما هي فصّ من الماس يعطيك كل ضلع منه شعاعًا فإذا نظرت إلى أضلاعه جملة بهرتك بألوان الطيف كلها، فلا تدري ماذا تأخذ عينك وماذا تدع. ولعلك لو وكلت النظر فيها إلى غيرك لرأى منها أكثر مما رأيت. وهكذا تجد كتابًا مفتوحًا مع الزمان يأخذ كل منه ما يُيسَّر له، بل ترى محيطًا مترامي الأطراف لا تَحدّه عقول الأفراد ولا الأجيال. ثم يضرب الشيخ دراز مثلاً فيقول: اقرأ قوله تعالى: {وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة:212] , وانظر هل ترى كلامًا أبيين من هذا في عقول الناس. ثم انظر كم في هذه الكلمة من مرونة، فإنك لو قلت في معناها: 1 - إنه سبحانه يرزق من يشاء بغير محاسب يحاسبه ولا سائل يسأله لماذا يبسط الرزق لهؤلاء ويقدره على هؤلاء، أصبت. 2 - ولو قلت: إنه يرزق بغير تقتير ولا محاسبة لنفسه عند الإنفاق خوف النفاذ، أصبت. 3 - ولو قلت: إنه يرزق من يشاء من حيث لا ينتظر ولا يحتسب، أصبت. 4 - ولو قلت: أنه يرزقه بغير معاتبة ومناقشة له على عمله، أصبت. 5 - ولو قلت: يرزقه رزقًا كثيرًا لا يدخل تحت حصر وحساب، أصبت. (¬1) تقرأ فتؤجر: وفوق هذا كله فالقرآن عبادة يُتعبد من خلالها ويُتقرب إلى الله عز وجل بها، مما يدفع بالمسلم إليه ويحببه دومًا في التعامل معه كباب للأجر والثواب، وقربة إلى الله، وهذا لا يتوافر في أي كتاب آخر. تأمل هذا القول لرسول الله صلى الله عليه وسلم وما يمكن أن يثيره من رغبة لقراءة القرآن: «أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله، أن يجد ثلاثَ خِلفاتٍ عظامٍ سمانٍ؟ فثلاث آيات يقرأ بهن أحدكم في صلاته، خير له من ثلاث خلفاتٍ عظامٍ سمان» (¬2). * * * ¬

_ (¬1) النبأ العظيم, 146، 147. (¬2) رواه مسلم

ثامنا: القرآن وسيلة ودواء مجرب

ثامنًا: القرآن وسيلة ودواء مُجرب ومما يؤهل القرآن ليكون بداية صحيحة لنهضة الأمة، أنه قد جُرِّب من قبل ... استعمله الجيل الأول على حقيقته فصاروا من خلاله - بإذن الله - خير أمة، وتبدل ترتيبهم بين الأمم من الذيل إلى المقدمة في سنوات معدودة. لقد كان حال أمة العرب قبل الإسلام أسوأ بكثير من حالنا الآن، ومع ذلك فقد نفع معهم القرآن وأثر فيهم، وغيَّرهم، وأصلح حالهم، وأعاد صياغتهم من جديد، وهذا - بلا شك - يعطينا الأمل بأن القرآن يصلح معنا - بإذن الله - ويقدر أن يفعل بنا مثل ما فعل بهم. ويكفيك في هذا أن حزنهم الشديد على وفاة محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن فقط على فراقه، بل كان على انقطاع نزول القرآن، وانفصال الأرض عن السماء، كيف لا وقد ذاقوا حلاوة الإيمان من خلاله، وأدركوا قيمته وقدرته التغييرية الفذة، وأنه كان يرفعهم ويرقيهم في مدارج الإيمان، ويزيدهم معرفة بالله، وارتباطًا به ... تأمل معي هذه الواقعة التي تؤكد هذا المعنى: «قال أبو بكر، رضي الله عنه، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعمر، رضي الله عنه: انطلق بنا إلى أم أيمن، نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها ... فما انتهينا إليها بكت، فقال لها: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالت: ما أبكى أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولكني أبكي أن الوحي انقطع من السماء! فهيجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها». (¬1) فالنص - كما يقول د. فريد الأنصاري - دال بوضوح على أن ارتباط الصحابة، إنما كان بالقرآن، الذي هو ربط مباشر بالله، ولم يكن بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم إلا من حيث هو مبلغ عن الله (¬2). (ومن ثمّ صح أن نقول: إن القرآن الكريم كان هو الباب المفتوح والمباشر الذي ولجه الصحابة الكرام إلى ملكوت الله، حيث صُنعوا على عين الله ... إنه السبب الوثيق الذي تعلقت به قلوبهم، فأوصلهم إلى مقام التوحيد (الفعلي والحقيقي). (¬3) ولقد دأب رسول الله صلى الله عليه وسلمعلى ترسيخ الارتباط بالقرآن، باعتباره المصدر الأساسي للتربية، والمتتبع لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم يجدها شارحة للقرآن مبينة لما أُجمل فيه، مؤكدة لمعانيه، وهذا ما دفع الشافعي - رحمه الله - لأن يقول بأن السُّنة هي: فهم النبي للقرآن، أو نضح فهمه للقرآن (¬4). أولا يكفينا القرآن؟! جاء بعض المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتب قد كتبوها، فيها بعض ما سمعوه من اليهود. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كفى بقوم حمقا -أو ضلالة- أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إليهم». فنزلت: {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51] (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في فضائل الصحابة. (¬2) التوحيد والوساطة في التربية الدعوية , ص (45). (¬3) المصدر السابق , ص (46). (¬4) كيف نتعامل مع القرآن لمحمد الغزالي, ص (45). (¬5) أخرجه الدارمي وأبو داود في مراسيله وابن أبي حاتم ... انظر الدر المنثور.

وأخرج عبد الرزاق والبيهقي عن أبي قلابة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر برجل يقرأ كتابًا، فاستمعه ساعة، فاستحسنه، فقال للرجل: اكتب لي من هذا الكتاب، فقال: نعم، فاشترى أديمًا فهيأه ثم جاء به إليه فنسخ له في ظهره وبطنه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يقرأه عليه، وجعل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلون، فضرب رجل من الأنصار بيده الكتاب، قال: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب أما ترى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ اليوم وأنت تقرأ عليه هذا الكتاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: «إنما بعثت فاتحًا وخاتمًا، وأعطيت جوامع الكلم وفواتحه واختصر لي الحديث اختصارًا، فلا يهلكنكم المتهوكون» (¬1). وأخرج ابن الضريس عن الحسن أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا رسول الله إن أهل الكتاب يحدثونا بأحاديث قد أخذت بقلوبنا، وقد هممنا أن نكتبها فقال: «يا ابن الخطاب أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى؟ أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولكني أعطيت جوامع الكلم، واختُصر لي الحديث اختصارًا» (¬2). من هذه النصوص وغيرها يتبين لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعتمد شيئًا في تربية الصحابة غير القرآن، وسنته المطهرة، باعتبارها شارحة له. ومن هنا توثق ارتباط الناس بالقرآن في العهد النبوي، ارتباطًا عمق صلة القلوب بربها، إلى درجة أن الصحابة، رضوان الله عليهم، كانوا يتتبعون الوحي، تتبع الملهوف، الحريص على الترقي في مدارج المعرفة بالله والسلوك إليه سبحانه (¬3). تأمل معي أخي القارئ هذا الخبر الذي يبين كيف كان حال الصحابة مع القرآن، وكيف كانوا يستقبلون توجيهاته وإشاراته: نزل رجل من العرب على عامر بن ربيعة، فأكرم عامر مثواه، وكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء الرجل فقال: إني استقطعت رسول الله صلى الله عليه وسلم واديًا ما في العرب أفضل منه، ولقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك. فقال عامر: لا حاجة لي في قطيعتك، نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1]. بل انظر إلى مدى تقدير اليهود للقرآن, بل لآية واحدة فيه وهم الذين ينكرونه ويكذبونه ويكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا حسدًا من عند أنفسهم: «نزلت عليكم آية لو نزلت علينا معشر يهود لجعلنا يوم نزولها عيدًا يقصدون قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة:3] , لما فيها من فضل وتكريم، فهل شعرنا نحن بهذا التكريم من الله، وقدرناه حق قدره، وقمنا بحقه؟ الجيل الفريد: كان من نتاج ارتباط الصحابة الوثيق بالقرآن، والانصياع التام له، والسماح لمعجزته أن تعمل داخلهم، أن تكونت أمة جديدة وجيلاً فريدًا لم تر البشرية مثله حتى الآن. يقول محمد الغزالي - رحمه الله -: الأمة التي نزل عليها القرآن فأعاد صياغتها هي المعجزة التي تشهد للنبي عليه السلام بأنه أحسن بناء الأجيال، وأحسن تربية الأمم، وأحسن صياغة جيل قدم الحضارة القرآنية للخلق .. فنحن نرى أن العرب عندما قرأوا القرآن، تحولوا إلى أمة تعرف الشورى وتكره الاستبداد، إلى أمة يسودها العدل الاجتماعي ولا يُعرف فيها نظام الطبقات، إلى أمة تكره التفرقة العنصرية، وتكره أخلاق الكبرياء والترفع على الشعوب. ¬

_ (¬1) الدر المنثور 5/ 284 والمتهوكون أي المتحيرون. (¬2) المصدر السابق نفسه. (¬3) التوحيد والوساطة , ص (42).

ووجدنا بدويًا كربعي بن عامر رضي الله عنه يقول لقائد الفرس: جئنا نخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. إنهم فتح جديد للعالم وحضارة جديدة أنعشت الإنسانية ورفعت مكانتها، لأن الأمة الإسلامية كانت في مستوى القرآن الكريم، والحضارة الإسلامية إنما جاءت ثمرة لبناء القرآن للإنسان (¬1). من ثمارهم تعرفونهم: لقد أدركت البشرية، وسجَّل التاريخ حجم التغيير الذي حدث للصحابة وذلك من خلال رصد أعمالهم, التي لا يمكن أن تحدث من أُناس عاديين، فهي أعمال فوق طاقة البشر، ومما يدعو للدهشة أن هذه الأعمال لم تكن قاصرة على عدد محدود من الصحابة, بل كانت سمتًا عامًا لهم جميعًا: رجالاً ونساء ... شبابًا وشيبًا. فهذه امرأة تدفع إلى ابنها يوم أحد السيف، فلم يُطق حمله، فماذا فعلت؟! هل فرحت وحمدت الله على السلامة وعادت به إلى دارها؟! لا، لم تفعل ذلك، بل أحضرت نسعة (سير مضفور) فشدت به السيف على ساعد ابنها، ثم أتت به النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله هذا ابني يقاتل عنك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أي بني احمل ههنا، أي بني احمل ههنا، فأصابته جراحة، فصُرع فأُتي به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أي بني لعلك جزعت؟ قال: لا يا رسول الله. (¬2) وعندما أراد النبي صلى الله عليه وسلم الخروج إلى تبوك دعا الناس للإنفاق وتجهيز الجيش، فتسابق الصحابة إلى إخراج الكثير والكثير من الأموال وكل ما يحتاجه الجيش، فوجد رجلاً من الأنصار اسمه الحجاب ويكنى أبو عقيل أنه لا يملك شيئًا ينفقه، فماذا يفعل وهو يريد أن يساهم في هذا الجهاد، ويُري الله من نفسه خيرًا؟ فكر وفكر فهداه الله إلى شي عجيب: لقد ذهب وأجَّر نفسه (عمل بالأجرة) عند البعض, وكان العمل هو جر الجرير (الحبل) على ظهره, أما الأُجرة فكانت صاعين من تمر، فترك صاعًا لأهله، وذهب بالآخر لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: يا رسول الله ما لي من مال غير أني أجرت نفسي من بني فلان، أجُرُ الجرير في عنقي على صاعين من تمر، فتركت صاعًا لعيالي وجئت بصاع أقربه إلى الله تعالى .. (¬3) فكان وأمثاله ممن قال الله فيهم {وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ} [التوبة:79]. ولما نزلت {مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا} قال أبو الدحداح: يا رسول الله، إن الله يريد منا القرض؟ قال: «نعم يا أبا الدحداح» قال: أرني يدك، فناوله يده، قال: قد أقرضت ربي حائطي (بستان) - وحائطه فيه ستمائة نخلة - فجاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه وعيالها، فنادى: يا أم الدحداح، قالت: لبيك، قال: اخرجي فقد أقرضته ربي» (¬4). وفي رواية: يا أم الدحداح، اخرجي من الحائط فإني قد بعته بنخلة في الجنة؟ فماذا قالت زوجته؟ هل لامته وعاتبته على فعله؟ هل قالت له: وأين سنذهب، لقد أفقرتنا وأفقرت عيالنا؟!! لا، لم تقل له ذلك، بل قالت: ربح البيع (¬5). وإن تعجب فاعجب من هذا الموقف: أخرج ابن سعد في طبقاته عن جعفر بن عبد الله أنه لما كان يوم اليمامة واصطف الناس للقتال كان أول الناس جُرح أبو عقيل الأنيفي، رُمي بسهم فوقع بين منكبيه وفؤاده فَشَطب في غير مقتل، فأخرج السهم ووهن له شقّه الأيسر لما كان فيه، وهذا أول النهار، وجُرَّ إلى الرّحل، فلما حمي القتال وانهزم المسلمون وجازوا رحالهم وأبو عقيل واهن من جُرحه سمع معن بن عدي يصيح بالأنصار: الله الله والكَرَّة على عدوكم. ¬

_ (¬1) كيف نتعامل مع القرآن, ص (30). (¬2) كنز العمال 10/ 431. (¬3) الدر المنثور 3/ 472. (¬4) حياة الصحابة 2/ 23. (¬5) المصدر السابق.

قال عبد الله بن عمر: فنهض أبو عقيل يريد قومه، فقلت: ما تريد يا أبا عقيل؟ ما فيك قتال، قال: قد نوّه المنادي باسمي، قال ابن عمر: فقلت: إنما يقول يا للأنصار لا يعني الجرحى، قال أبو عقيل: أنا رجل من الأنصار وأنا أجيبه ولو حبوا. قال ابن عمر: فتحزّم أبو عقيل وأخذ السيف بيده اليمنى مجرّدًا ثم جعل ينادي: يا للأنصار كرَّة كيوم حنين. فاجتمعوا - رحمهم الله جميعًا- يقدمون المسلمين دُرْبة من دون عدوهم, حتى أقحموا عدوهم الحديقة فاختلطوا واختلفت السيوف بيننا وبينهم. قال ابن عمر: فنظرت إلى أبي عقيل وقد قُطعت يده المجروحة من المنكب فوقعت الأرض، وبه من الجراح أربعة عشر جُرحًا كلها قد خلصت إلى مقتل، وقتل عدو الله مسيلمة. قال ابن عمر: فوقعت على أبي عقيل وهو صريع بآخر رمق، فقلت: أبا عقيل، فقال لبيك بلسان مُلْتَاث: لمن الدّبْرة؟ قال: قلت أبشر، ورفعت صوتي، قد قُتل عدو الله، فرفع إصبعه إلى السماء يحمد الله، ومات يرحمه الله (¬1). . فماذا تقول بعد ذلك؟! * * * ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 362،361.

تاسعا: القرآن هو المنقذ - بإذن الله- والمخرج من الفتن الذي دلنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم

تاسعًا: القرآن هو المنقذ - بإذن الله- والمُخرج من الفتن الذي دلنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه ستكون هناك فترات انكسار وهزيمة وفتن ستمر بها الأمة الإسلامية، وأن الأمم الأخرى ستتكالب عليها وتهزمها، وأخبرنا صلى الله عليه وسلم بأن السبب وراء ذلك هو حب الدنيا وكراهية الموت، أو بمعنى آخر ضعف الإيمان وسطوة الهوى على القلب. عن ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها» فقال قائل: وقلة نحن يومئذ؟ قال: «بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن» فقال قائل: وما الوهن؟ قال: «حب الدنيا وكراهية الموت» (¬1). ولقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم بأن المخرج من هذه الفتن وهذا الوهن هو القرآن, لأنه سيعالج السبب الذي من أجله ضعفت الأمة وهانت على الله. عن الحارث الأعور قال: مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث، فدخلت عَلَى عليَّ رضي الله عنه فقلت: يا أمير المؤمنين ألا ترى أن الناس قد خاضوا في الأحاديث؟ قال: أوَ قد فعلوها؟ قلت: نعم. قال أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ألا إنها ستكون فتنة. فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله فيه نبأ ما كان قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى تقول: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا - يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} [الجن: 1، 2] من قال به صَدَق، ومن عمل به أُجر، ومن حكم به عَدَل، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم» (¬2)

_ (¬1) صحيح، أخرجه الإمام أحمد وأبو داود، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ح (918). (¬2) أخرجه الترمذي، والدارمي، والبيهقي في الشعب.

ولقد أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا المعنى في حديثه لحذيفة بن اليمان حين أخبره بالاختلاف والفرقة بعده، فقد قال حذيفة للرسول عليه الصلاة والسلام عندما سمع ذلك: يا رسول الله فما تأمرني إن أدركت ذلك؟ قال: «تعلم كتاب الله عز وجل، واعمل به فهو المخرج من ذلك» قال حذيفة: فأعدت عليه ثلاثًا، فقال صلى الله عليه وسلم ثلاثًا: «تَعَلَّم كلام الله واعمل به فهو النجاة» (¬1) * * * ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود، والنسائي، والبيهقي في الشعب، والحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي.

الفصل الخامس كيف يمكن للقرآن أن ينهض بالأمة؟

الفصل الخامس كيف يُمكن للقرآن أن ينهض بالأمة؟ - هجر القرآن. - الكتاب الوحيد. - الحاضر الغائب. - إعادة الثقة في القرآن. - التأثر هو الغاية. - خطوات عملية مقترحة.

هجر القرآن

كيف يمكن للقرآن أن ينهض بالأمة؟ تأكد لدينا أن الأمة بحاجة إلى روح جديدة تُبث في جسدها فتنهض بها وتدفعها للعمل والسعي في مرضاة الله، وتأكد كذلك أن المصدر الجامع المتفرد لهذه الروح هو القرآن بما يملكه من مواصفات وخصائص لا تتوافر في غيره. هجر القرآن: ومع كون القرآن قادر بإذن الله على إصلاحنا، وسد الفجوة القائمة بين العلم والعمل، وبث الروح في جسد الأمة إلا أننا لا نرى هذا الأثر في واقعنا، رغم مما نراه من اهتمام كبير به من خلال المطابع الكثيرة التي تقوم بطباعته، والإذاعات التي تبثه ليل نهار، وحلقات التحفيظ والتعليم المنتشرة في المساجد والمدارس, إلا أن هذا كله لم يصاحبه تعامل مع القرآن على حقيقته، ولم يصاحبه استشعار لخطورة الدور الذي يستطيع أن يقوم به في قيادة الأمة وتوجيه الحياة، فلقد هُجرت معجزته، وابتعد الناس عن دائرة تأثيره .. وهذا بلا شك لم يكن وليد اليوم، بل هو حصاد موروثات قديمة من التعامل الخاطئ مع القرآن امتدت لعدة قرون سابقة، ابتعد فيها المسلمون شيئًا فشيئًا عنه وعن دوره في التوجيه والتأثير وقيادة الحياة، فحُصر دوره في كونه مصدرًا للتبرك، والأجر والثواب فقط، وأطلق مصطلح «أهل القرآن» على حفاظ حروفه فقط، وأصبح المقصد من تعلم القرآن وتعليمه هو تعلم أحكام تلاوته ومخارج حروفه والاقتصار على ذلك. الصورة الموروثة عن القرآن: إن أكبر عقبة تواجه الأمة نحو الانتفاع بالقرآن هي تلك الصورة الموروثة عنه، فكما يقول عمر عبيد حسنة في مقدمة كتاب كيف نتعامل مع القرآن: إن الصورة التي طُبعت في أذهاننا في مراحل الطفولة للقرآن أنه: لا يُستدعى للحضور إلا في حالات الاحتضار والنزع والوفاة، أو عند زيارة المقابر، أو نلجأ لقراءته عند أصحاب الأمراض المستعصية، وهي قراءات لا تتجاوز الشفاة. فإذا انتقلنا إلى مراكز ودروس تعليم القرآن الكريم، رأينا أن الطريقة التي يُعلَّم بها يصعب معها استحضار واصطحاب التدبر والتذكر والنظر، إن لم يكن مستحيلاً .. فالجهد كله ينصب إلى ضوابط الشكل من أحكام التجويد ومخارج الحروف، وكأننا نعيش المنهج التربوي والتعليمي المعكوس ... فالإنسان في الدنيا كلها يقرأ ليتعلم، أما نحن فنتعلم لنقرأ! لأن الهم كله ينصرف إلى حسن الأداء ... وقد لا يجد الإنسان أثناء القراءة فرصة للانصراف إلى التدبر والتأمل، وغاية جهده إتقان الشكل، وقد لا يعيب الناس عليه عدم إدراك المعنى قدر عيبهم عدم إتقان اللفظ. ونحن هنا لا نهوّن من أهمية ضبط الشكل، وحُسن الإخراج، وسلامة المشافهة، ولكننا ندعو إلى إعادة النظر بالطريقة حتى نصل إلى مرحلة التأمل والتفكر والتدبر التي تترافق مع القراءة (¬1).

_ (¬1) كيف نتعامل مع القرآن لمحمد الغزالي , ص (17).

الكتاب الوحيد

الكتاب الوحيد: من الأمور البديهية التي لا يختلف عليها اثنان أن الدافع للقراءة هو المعرفة، فالذي يتناول بيده كتابًا أو جريدة ليقرأ فيها, فإن الذي يدفعه لذلك هو المعرفة ... معرفة ما وراء الخبر وما يحتويه من معارف ومعلومات. وفي المقابل فلا يمكن لعاقل أن يقرأ - أي شيء - بلسانه أو بعينه دون أن يُعمل عقله فيما يقرؤه، أو يفكر في معانيه!! تخيل لو أن شخصًا يفعل ذلك ... ماذا تقول عنه؟ وكيف يكون تقييمك له؟! ألا توافقني في أنك ستعتبره إنسانًا غير سوي. هذا المفهوم البدهي للقراءة قد تعارف عليه الناس في جميع الأزمان والأمصار على اختلاف مذاهبهم وأديانهم، فالذي يقرأ إنما يقرأ لأنه يريد أن يتعلم شيئًا من خلال هذه القراءة, والذي يطلب من غيره قراءة شيء ما، فإنه يقينًا يريد من وراء هذا المطلب أن يفهم المقصود من الكلام المقروء. هذه -القاعدة التي لا تحتاج إلى برهان - تنطبق على جميع الكتب والصحف والمجلات الموجودة على ظهر الأرض الآن ... فقط كتاب واحد لا يتم التعامل معه بنفس الكيفية .. كتاب واحد يتعامل معه عدد كبير من الناس بطريقة عجيبة ... إنهم يقرؤونه لمجرد القراءة!! ودون إعمال عقولهم لفهم معانيه ولو بصورة إجمالية، بل ويتنافسون على ذلك ولا يجدون أي غضاضة في نفوسهم من قيامهم بهذا الفعل، ولا يجدون حرجًا في إظهار ذلك أيضًا. أتدري أخي القارئ ما هو هذا الكتاب؟! إنه- للأسف الشديد - أعظم كتاب على ظهر الأرض ... الكتاب الوحيد الذي ليس فيه أي خطأ أو ريب أو باطل ... إنه القرآن الكريم. نعم، أخي القارئ, القرآن هو الكتاب الوحيد الذي يقرؤه غالبية المسلمين بألفاظه فقط دون أن يفكروا في معاني تلك الألفاظ، ودون أن يُعملوا عقولهم في فهمها، والعجيب أنهم بذلك يحسبون أنهم يُحسنون صنعًا. لقد أنزل الله القرآن ليقرأه الناس ويتدبروا معانيه، ويفهموا المراد منه ثم يجتهدوا في العمل به {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ} [ص:29]. فهل فعل المسلمون ما أمرهم الله به؟!! للأسف لا، بل فعلوا شيئًا عجيبًا لم تفعله أمة من قبل ... جعلوا عملهم مع القرآن هو القراءة، ولم يجعلوا القراءة وسيلة لفهم المراد من الآيات والعمل بها، وفي هذا المعنى يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «لقد أنزل الله القرآن ليُعمل به، فاتَخَذوا تلاوته عملا»، وقال الفضيل بن عياض: إنما نزل القرآن ليعمل به، فاتخذ الناس قراءته عملاً. ولقد أدى انشغال المسلمين بألفاظ القرآن عن معانيه إلى حرمان الأمة من مصدر عزها ومجدها، وكيف لا وهم قد اطفأوا بهذا الفعل مصباحهم الذي ينير لهم الطريق فتخبطوا في الظلمات، وسقطوا في الهاوية، وأصبحوا في ذيل الأمم ... لا قيمة لهم، ولا اعتبار لوجودهم .. أمة صارت في المؤخرة، بينما لديها ما يعيدها إلى الصدارة والرفعة ... بين يديها مفتاح سعادتها، إلا أنها تُعرض عنه، وتتعامل معه تعاملاً شاذًا لم يحدث مع أي كتاب من صنع البشر ... لم يحدث مع أي صحيفة من الصحف، أو حتى مع قصاصة ورقية شاردة. أين شرفنا؟ القرآن هو شرفنا ومصدر عزنا ... هذا هو دوره، وهذا هو قدره، ألم يقل سبحانه: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10] , قال ابن عباس في هذه الآية: فيه شرفكم (¬1). فماذا فعلت الأمة بشرفها؟ للأسف أضاعته وهجرته وفي نفس الوقت تدّعي أنها تهتم به اهتمامًا بالغًا، ولعل أصدق ما ينطبق على حالنا مع القرآن هو أننا اتخذناه مهجورًا. ¬

_ (¬1) الدر المنثور 4/ 563.

الحاضر الغائب

فإن قلت: كيف يكون اتخاذ شيء ما بهجره؟ فكلمة «اتخذ» توحي بالإيجابية، و «الهجر» كلمة توحي بالسلبية؟ لقد اجتمع الضدان بالفعل مع القرآن، فمن الناحية الشكلية اهتم المسلمون بالقرآن اهتمامًا كبيرًا فالإذاعات تبث آياته ليل نهار، والمصاحف في كل بيت، وآيات القرآن تزين الجدران .. أما من الناحية الموضوعية، فلقد هجر المسلمون القرآن هجرًا كاملاً ... هجر يشمل رسالته الهادية، ومعجزته التغييرية، وانصب اهتمامهم على شكله ولفظه فقط، والدليل على ذلك الهجر هو الواقع، فكما تذكرنا حجم التغيير الذي حدث للصحابة والذي ظهر في أعمالهم وآثارهم «تعرفهم بسيماهم»، ثم قارنا حالهم بحالنا رأينا أن واقعنا وأعمالنا وما فيها من سلبيات كثيرة تكشف لنا أن القرآن لم يفعل معنا كما فعل معهم!! فهل المشكلة في القرآن؟ هل توقفت معجزته عن العمل بعد الجيل الأول؟! حاشاه أن يكون كذلك والله عز وجل قد تكفل بحفظه من كل جوانبه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]. المشكلة إذن فينا نحن، عندما اتخذناه ترانيمًا، وبابًا للأجر والثواب فقط، وتعاملنا معه بحناجرنا دون عقولنا وقلوبنا ... أحسنا التعامل مع لفظه وهجرنا معجزته، فاجتمع فينا الضدان «اتخذنا القرآن وهجرناه»، وهذا ما ينطبق مع شكوى الرسول صلى الله عليه وسلم لربه: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]. هذا الوضع الشاذ الذي أحدثته الأمة مع كتابها ومصدر عزها، وتوارثته أجيالها المتتابعة وكأنهم تواصوا به ... هذا الوضع يحتاج إلى وقفة حاسمة ومراجعة شديدة مع أنفسنا لنغير الطريقة التي نتعامل بها مع القرآن ليعود إلينا شرفنا وعزنا. يقول محمد الغزالي - رحمه الله -: لابد من جعل القرآن يتحول في حياتنا إلى طاقة متحركة ... أما أن يوضع في المتاحف أو المكاتب للبركة، أو أن نفتح المصحف ونقرأ آية أو آيات وينتهي الأمر، هذا لا يجوز. (¬1) بل من العجيب أن تعلم أن لفظ يتلو القرآن يتضمن السير وراءه واتباعه، وليس قراءته فقط، ففي اللغة تقول: جاء فلان يتلوه فلان، أي جاء بعده وسار على أثره. الحاضر الغائب: إن القرآن أصبح اليوم بين المسلمين حاضرًا وغائبًا .. موجودًا ومفقودًا في نفس الوقت ... فهو حاضر وموجود بلفظه ومصاحفه وقرائه وحفاظه .. غائب ومفقود بروحه ومعجزته وقيادته للحياة. فلا هو حاضر معنا حضورًا حقيقيًا، ولا هو غائب عنا غيابًا تامًا، وهذه أهم عقبة تواجه الأمة وتمنعها من الانتفاع به انتفاعًا حقيقيًا، لأن الكثيرين لا يرون أن هناك مشكلة مع القرآن وذلك بسبب حضوره بيننا -كما أسلفنا-. يقول حسن البنا رحمه الله: لم ينزل القرآن من علياء السماء على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون تميمة يُحتجب بها، أو أورادًا تُقرأ على المقابر وفي المآتم أو ليُكتب في السطور، ويُحفظ في الصدور، أو ليحمل أوراقًا ويُهمل أخلاقًا، أو ليحفظ كلامًا ويُهجر أحكامًا ... وإنما نزل ليهدي البشرية إلى السعادة والخير {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ - يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [المائدة:16،15] (¬2). ¬

_ (¬1) كيف نتعامل مع القرآن , ص (59). (¬2) نظرات في كتاب الله , ص 34.

إعادة الثقة في القرآن

ويقول: (عرف سلفنا الصالح رضوان الله عليهم فضل القرآن وتلاوته، فجعلوه مصدر تشريعهم، ودستور أحكامهم، وربيع قلوبهم، وورد عبادتهم، وفتحوا له قلوبهم وتدبروه بأفئدتهم، وتشربت معانيه السامية أرواحهم، فأثابهم الله في الدنيا سيادة العالم، ولهم في الآخرة عظيم الدرجات، وأهملنا القرآن فوصلنا إلى ما وصلنا إليه من ضعف في الدنيا ورقة في الدين) (¬1). إعادة الثقة في القرآن: إن كان الأمر كذلك فلكي يتم إعادة الثقة مرة أخرى في القرآن من حيث هو المصدر الجامع للتغيير وتوليد الطاقة الروحية, فإن هذا بلا شك يحتاج إلى جهد ضخم وإلى اعتناق المصلحين في الأمة لهذا المشروع، فمع سهولة الحل وبساطته وتيسُّره للجميع؛ إلا أن الموروثات الخاطئة التي توارثتها الأجيال عن القرآن تجعل من الصعب على المرء أن يتجاوزها، وأن تتغير نظرته للقرآن وطريقة تعامله معه، بل إنه من المتوقع أن تجد الكثير من المسلمين غير مقتنع أو متحمس لمبدأ أن القرآن هو الحل، وبأن مجد الإسلام سيعود من جديد على يديه، فهم يظنون أن اهتمامهم بحفظه، وكثرة قراءاته، وانشاء المدارس لتحفيظه، والتعمق قي قراءة تفسيره، وافتتاح الحفلات به، هو أقصى ما ينبغي عليهم فعله معه. من هنا اشتدت الحاجة لبذل الجهد الضخم لإزالة تلك الموروثات القاصرة، ولتغيير تلك الأساليب السائدة لنشره وخدمته، ولبناء الثقة عند الناس في قيمته الحقيقية. شرط لابد منه: وقبل الحديث عن التصورات المقترحة لتفعيل مشروع العودة إلى القرآن والانتفاع بقوة تأثيره الفريدة، والتعامل معه على أنه بداية حقيقية لمشروع النهضة، فإن هناك شرطًا لابد منه لكل من يريد اعتناق وتبني هذا المشروع ألا وهو ضرورة الانتفاع والتأثر به أولاً، وتذوق حلاوة الإيمان من خلاله، وأن يصبح بالفعل مصدرًا متفردًا للقوة الروحية والدافع الذاتي عند من يريد نشره وإيصاله إلى غيره. لابد لكل من يريد أن يدل الناس عليه أن يبدأ بنفسه أولاً، وأن يشاهد المعجزة القرآنية وهي تعمل داخله، وأن يشرق على قلبه نور القرآن وتظهر علاماته عليه، والتي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سأله أصحابه عن علامات دخول النور القلب وانشراحه له فقال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله» (¬2). لا يُعقل أن ندل الناس على شيء لا نعرفه، ولم نتذوقه، ولم نر أثره، فهذا إن تم فإنه يعرضنا للمقت من الله كما أخبرنا سبحانه بذلك: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف:3]. ومن شأنه أن يجعل الكلام لا يخرج من القلب، فلا يتعرض للتوفيق الإلهي، ولا يُشعر مستمعه بحرارته فكما قيل: ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة. انتبه: مهما كنت أخي الحبيب .. مهما كنت حافظًا للقرآن، أو عالمًا من العلماء أو داعية أو كاتبًا أو مربيًا ... مهما كان سنك، ومهما كانت مكانتك بين الناس ... لابد لك أولاً من الدخول إلى دائرة تأثير القرآن والانتفاع به ومشاهدة معجزته في نفسك، ورؤية أنواره، وهذا لا يحتاج منك إلى كبير عناء ... فقط أن تستشعر حاجتك إلى القرآن ثم تقبل عليه بشغف باحثًا عن التأثر من خلال تلاوة آياته، وهذا ما أوصي به نفسي وإياك، فعلى قدر ما سنُعطي القرآن من أوقاتنا وعقولنا ومشاعرنا سيعطينا ويعطينا، وعلى قدر ما سنتواضع أمامه، وندخل عليه دخول الملهوف المتشوق لرؤية معجزته، الباحث عن حياة قلبه ستكون النتيجة المبهرة بمشيئة الله .. أما إذا دخلنا عليه دخول المتردد الذي لا يستشعر احتياجه إليه فسنبتعد كثيرًا عن دائرة معجزته. ¬

_ (¬1) المصدر السابق , ص 37. (¬2) أخرجه الحاكم، والبيهقي في الزهد.

ولنعلم جميعًا أن الإمداد على قدر الاستعداد، وأن التفاوت الحقيقي بين الناس ليس بالدرجة الأولى في الإمكانات، بل في الرغبات، فمن لديه رغبة أكيدة في الوصول لشيء ما فإنه - بعون الله - يبلغه ... ويؤكد هذا المعنى ابن الجوزي بقوله: لو كانت النبوة تحصل بالاجتهاد لرأيت المقصر في تحصيلها في حضيض (¬1). فيقينًا لو قويت رغبتنا في الانتفاع بالقرآن، والدخول في دائرة تأثير معجزته ... لو قويت رغبتنا واشتدت حاجتنا للقلب الحي ... للسعادة الحقيقية ... لمعرفة الله ... لجنة الدنيا ... فيقينًا سنصل إلى مقصودنا في وقت قياسي، وكيف لا والله عز وجل ينتظر منا التفاتة صادقة ليُقبل علينا ... أتراه يمنعنا من جريان معجزة القرآن علينا وهو يحبنا ويريد لنا الخير؟ {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]. كل ما هو مطلوب منا أن نحرك قدم العزم، ونشمر عن ساعد الجد، وأن نلح على الله في الدعاء بأن يجعلنا من أهل المعجزة القرآنية، ثم نقبل على القرآن باجتهاد وصدق ننتظر الفتح منه سبحانه ... قال صلى الله عليه وسلم: « ... ومن يتحر الخير يُعطه» (¬2) أمامك عقبة: من الأمور التي قد تمنع الواحد منا من استشعار حاجته إلى المعجزة القرآنية أنه قد تعود على تدبر القرآن واستخراجه لمعانٍ عظيمة منه، فهذا من شأنه أن يُشعره بأنه قد أدى حق القرآن، وانتفع به، ومن ثمَّ لا يقع الحديث عن المعجزة القرآنية موقعه الصحيح في نفسه، ولا يتفاعل معها، بل وقد يعتبر أن هذا الكلام موجهًا إلى غيره، لذلك فإن من المهم أن يتأكد لدينا بأن المقصد من التعامل الصحيح مع القرآن ليس التدبر فقط، بل أن يصبح القرآن مصدرًا رئيسًا لتوليد القوة الروحية، وهذا يستلزم حصول التأثر وتجاوب المشاعر مع المعاني التي تفهمها عقولنا، فهذا الذي يزيد الإيمان ويولد الطاقة، ويسير بالقلب قُدمًا نحو التحرر من أسر الهوى، ومن ثمَّ تتم يقظته وحياته الدائمة. إن العلم وحده لا يكفي ليكون دافعًا للعمل، بل لابد أن يمتزج بالعاطفة، ويؤثر في المشاعر والقرآن يفعل ذلك بكل سهولة ويسر -إذا ما أحسن المرء التعامل معه-، وقراءته بالطريقة التي تخاطب الفكر والعاطفة معًا، والتي دلنا عليها الله عز وجل عندما أمرنا بتدبره وترتيله. فمخاطبة الفكر تحتاج إلى إعمال العقل عند قراءة الآيات ... وهذا هو جوهر التدبر {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ} [ص:29]. ومخاطبة العاطفة تحتاج إلى وسائل تستثيرها، فبالإضافة إلى أساليب القرآن المؤثرة، إلا أن هناك أمرًا بالغ الأهمية يقوم بالطرق على المشاعر طرقًا شديدًا ألا وهو الترتيل {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:4] , وتحسين الصوت بالقراءة «زينوا أصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنًا» (¬3) فإذا ما قام المرء بقراءة القرآن قراءة هادئة بطيئة مرتلة مع إعمال العقل فيما يقرأ, فسيكون لذلك أبلغ الأثر في مزج الفكر بالعاطفة والوصول لدرجة التأثر والتفاعل مع القراءة، ومن ثمَّ تكون الطاقة والروح الدافعة للعمل .. ¬

_ (¬1) صيد الخاطر. (¬2) حسن، صحيح الجامع ح (2328) (¬3) صحيح، رواه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3581)

خصوصية الترتيل

خصوصية الترتيل: ولأن القرآن هو الوحيد في الكتب السماوية الذي يجمع بين الرسالة والمعجزة، فقد ميَّزه الله عز وجل بأن يُقرأ مرتلاً، فالتوراة والإنجيل لم يؤمر الناس بترتيلهما، وكذلك فإن القرآن كان ينزل على مراحل، ولم ينزل جملة واحدة مثل التوراة، وذلك للقيام بدوره العظيم في إنشاء الإيمان وتثبيته في القلب {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان:32]. ولقد كانت قراءته صلى الله عليه وسلم للقرآن قراءة هادئة بطيئة مترسلة مرتلة، فقد كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها، وقام بآية حتى الصباح، وكان صلى الله عليه وسلم يقف عند المعاني متأملاً ومعتبرًا {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} [الإسراء:106]. التأثر هو الغاية: إذن فلتكن غايتنا من قراءة القرآن الوصول لدرجة التأثر، فمهما فهمنا وتدبرنا الآيات دون أن يصاحب ذلك تأثر، فلن يفعل القرآن ما نريده منه، ولن نشعر بمعجزته وهي تعمل داخلنا وتقوم بتوصيل تيار الحياة إلى قلوبنا. ولقد تمت الإشارة إلى الوسائل المعينة على الوصول إلى درجة التأثر في غير هذه الصفحات (¬1) وهي باختصار: أن يكون هدفنا من قراءة القرآن التأثر القلبي وليس التدبر العقلي فقط، وهذا يستدعي منا القراءة اليومية للقرآن، وأن تكون متصلة وبمدة معتبرة، وأن يكون وردنا اليومي زمنًا وليس كمًا محددًا وذلك بأن يكون ساعة أو ساعتين، وأن نقرأه في مكان هادئ قدر المستطاع، وبصوت مسموع وبترتيل، وأن نتباكى عند القراءة لنهيئ مشاعرنا لسرعة الاستثارة، ولا يكن همنا هو سرعة الانتهاء من السورة أو الجزء ... وعلينا أن نقرأه ببساطة ودون تعمق وتوقف عند كل لفظ فيه، بل نأخذ المعنى الإجمالي الذي تدل عليه الآيات، وأن نمرر ما لا نفهمه، على أن نعود للتفسير في وقت آخر غير وقت التلاوة, حتى لا يحدث برود أو فتور في المشاعر، ومن ثمَّ يصبح من الصعب استثارتها بعد ذلك. وعندما يحدث التأثر مع آية أو آيات فعلينا بتكرارها مرات ومرات طالما وُجد التجاوب والتأثر, لنستفيد قدر الإمكان من الإيمان الذي يزيد في هذه اللحظات، والطاقة المتولدة الناتجة من هذه الحالة. هذه الوسائل لو داومنا عليها لدخلنا إلى دائرة تأثير القرآن - بإذن الله - في مدة وجيزة، ولشعرنا بالتغيير، وبروح جديدة تسري داخلنا، ولعدنا إلى مرحلة الانتباه التي كنا عليها عند بداية تديننا، ولوجدنا قلوبنا تتحرك معنا حين نريدها، ولعظم قدر الله في نفوسنا ولصغرت الدنيا في أعيننا و ... كل ذلك وغيره سيحدث بمشيئة الله لو ثابرنا على اتباع هذه الوسائل، وانشغلنا بالقرآن أكثر مما ننشغل بأي شيء آخر خاصة في البداية. ¬

_ (¬1) ذكرت في كتب: بناء الإيمان من خلال القرآن, الطوفان قادم, كيف نغير ما بأنفسنا, العودة إلى القرآن, وكيف ننتفع بالقرآن.

أتأثر ولكن!!

أتأثر ولكن!! فإن قلت إنني بالفعل أتأثر بالقرآن ولكني لا أشعر بآثار المعجزة ولا بعلامات دخول النور إلى القلب؟! نعم، يحدث هذا لنا لأن تأثرنا تأثر وقتي ومحدود وغير متواصل، لذلك، ولكي تصل المعجزة القرآنية إلى قلوبنا فتمدها بتيار الحياة لابد وأن يستمر التأثر ويزداد وقته ويطول أمده يومًا بعد يوم، فتنتقل المشاعر تدريجيًا من كفة الهوى إلى كفة الإيمان، وهكذا حتى نصل لمرحلة غلبة الإيمان على الهوى، وتمكن النور من القلب, ومن ثمَّ تظهر علامات ذلك بسهولة ويسر، وهذا يستدعي منا أن نعطي القرآن الكثير من الأوقات خاصة في البداية، وألا نسمح بمرور يوم دون اللقاء معه، وألا نتعجل قطف الثمرة قبل نضجها. ولنتذكر أن هذا هو فعل الصحابة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسمح لهم بالانشغال بقراءة شيء آخر غير القرآن حتى يصفو النتاج وتطيب الثمار. وقد كان .. فعندما أعطوا القرآن الكثير من أوقاتهم وانشغلوا بتلاوته، وتعاملوا معه على حقيقته ككتاب هداية، وكمعجزة تحيي القلوب أحسن القرآن وفادتهم ورفعهم إلى السماء فكانوا بحق الجيل القرآني الفريد التربة مهيأة لاستقبال المشروع: وبعد أن نتذوق حلاوة الإيمان من خلال القرآن، ونشعر بقيمته، ونرى آثار معجزته في أنفسنا، علينا أن نقوم ببث هذه الروح، والتبشير بهذا المشروع في الأمة، ومما يثلج الصدر أن هناك بالفعل جهود مخلصة يتبناها الكثيرون من أبناء المسلمين المخلصين في خدمة القرآن، فالمراكز القرآنية وحلقات التعليم والحفظ، منتشرة في كل مكان. كل هذه الوسائل وغيرها تجعل التربة مهيأة أكثر من أي وقت مضى لتفعيل مشروع القرآن، فالوعاء موجود، وحب القرآن يملأ القلوب، كل ما في الأمر هو تحويل الوجهة، والتعامل الصحيح مع هذا الكتاب، وهذا بلا شك سيقَابل في البداية باعتراض من البعض الذين تعودوا على خدمة حروف القرآن وألفاظه فقط، ولكن مع إلحاح المخلصين الذين ذاقوا حلاوة الإيمان نتيجة تعاملهم مع القرآن، وعرفوا قيمته الحقيقية من خلال تأثرهم الدائم به، فسيكون هناك حتمًا من يستجيب لهذه الدعوة، وستبدأ المراكز القرآنية في تبني المشروع، ومن ثمَّ تبدأ الثمار اليانعة في الظهور لتكون أكبر دليل على صحة هذا التوجه. خطوات عملية مقترحة: بعد أن نرى المعجزة القرآنية، ونشعر بروحها وعلاماتها من انتباه ويقظة، ومن قلة رغبة في الدنيا، ومن تعلق بالآخرة ... ومع استمرار هذا الشعور معنا، فمن المقترح أن نقوم بهذه الأعمال: أولاً: أن نقوم بنشر هذا المفهوم الجديد للتعامل مع القرآن لمن حولنا ... للزوجة والأولاد والأهل والمعارف والأصدقاء، وأن نأخذ بأيديهم حتى يصلوا إلى ما وصلنا إليه، ليقوموا هم بعد ذلك بنشره إلى من حولهم. ثانيًا: ومن الوسائل المهمة كذلك والتي من شأنها أن تُسرع الخطى نحو انتشار روح القرآن في الأمة: اهتمام المربين بهذا الأمر، ووضعه في برامجهم التربوية، وبخاصة أن القرآن تلاوة وحفظًا وتفسيرًا يحتل مساحة معتبرة في هذه البرامج ...

كل ما هو مطلوب هو زيادة الاهتمام به، وأن يكون الهدف الذي يسعى الجميع إليه هو السعي وراء التأثر, مع القراءة اليومية الطويلة ليتم من خلالها توليد القوة الروحية الدافعة للقيام بالواجبات المختلفة، مع الأخذ في الاعتبار أنه ينبغي على المربين أن يبدأوا بأنفسهم أولاً، فهذا أمر لا يصلح له إلا من عايشه، وعاين المعجزة بنفسه. ولو قام المربون بذلك، وانتشر مفهوم التعامل الصحيح مع القرآن في المحاضن التربوية فلا تسل عن النتائج المبهرة التي ستحدث، ولا عن الذاتية والإيجابية التي سيثمرها في الأفراد، وسينعكس ذلك على العمل فيزداد النتاج، وتزداد خطوات البناء في مشروع الإصلاح الشامل المتكامل الذي تتبناه الحركة الإسلامية، ويقترب تحقيق الوعد الإلهي {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ - وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} [القصص:5، 6] ولقد كان الإمام حسن البنا - رحمه الله - شديد العناية بالقرآن وبضرورة الانتفاع به كروح ودستور للحياة ... تأمل معي قوله: فليس المقصود من القرآن: مجرد التلاوة، أو التماس البركة، وهو مبارك حقًا، ولكن بركته الكبرى في تدبره، وتفهم معانيه ومقاصده، ثم تحقيقها في الأعمال الدينية والدنيوية على السواء، ومن لم يفعل ذلك، أو اكتفى بمجرد التلاوة بغير تدبر ولا عمل، فإنه يُخشى أن يحق عليه الوعيد الذي يرويه البخاري عن حذيفة رضي الله: «يا معشر القراء: استقيموا فقد سبقتم سبقًا بعيدًا، وإن أخذتم يمينًا وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيدًا» (¬1)، وتحذير رسول الله صلى الله عليه وسلم الخطير عندما نزلت عليه خواتيم سورة آل عمران فقال: «ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتدبرها». ولقد كان حريصًا - رحمه الله - على أن يدل الناس ويرشدهم للوسائل المعينة على فهم القرآن والتأثر به، وفي ذلك يقول: واجتهد أن تقرأ القرآن في الصلاة وغيرها على مُكث وتمهل وخشوع وتذلل، وأن تقف على رؤوس الآيات، وتُعطي التلاوة حقها من التجويد والنغمات، من غير تكلف ولا تطريب، أو اشتغال بالألفاظ عن المعاني، مع رفع الصوت المعتدل في التلاوة العادية أو الصلاة الجهرية، فإن ذلك يُعين على الفهم، ويُثير ما غاص من شآبيب الدمع، وما نفع القلب شيء أفضل من تلاوة في تدبر وخشوع (¬2). ثالثًا: ومن الوسائل المهمة كذلك في تفعيل هذا المشروع: إقامة مراكز قرآنية نموذجية تهتم بتحقيق المعجزة وتخريج نماذج قرآنية تمشي على الأرض، وإليك أخي القارئ المزيد من التفاصيل حول طبيعة ودور هذه المراكز ... ¬

_ (¬1) نظرات في كتاب الله , ص (88). (¬2) حسن البنا ومنهجه في التفسير /100.

الفصل السادس تصور مقترح للمراكز القرآنية النموذجية

الفصل السادس تصور مقترح للمراكز القرآنية النموذجية - التوعية وإنشاء الرغبة. - برنامج إعداد المعلمين.

التوعية وإنشاء الرغبة

تصور مقترح للمراكز القرآنية النموذجية مما لا شك فيه أن أهم عامل يضمن نجاح المراكز القرآنية النموذجية في أداء رسالتها المرتقبة, هو أن يكون القائمون عليها أناسًا عرفوا معنى المعجزة القرآنية، وتذوقوا ثمرتها، وشاهدوا آثارها في أنفسهم حتى يتسنى لهم إقامة تلك المراكز على أسس صحيحة، والحفاظ على هويتها، ووضوح الرؤية الدائم حول الهدف من وجودها، وطبيعة الثمار المتوقعة منها. ويمكن أن تكون نواة المركز القرآني النموذجي شخص واحد على الأقل, شريطة أن يكون ممن دخل إلى عالم القرآن الحقيقي، ورأى آثار معجزته في نفسه، وأصبح مداومًا على تلاوته آناء الليل وأطراف النهار بفهم وتأثر، ولديه الإمكانية لتعليم غيره وشحذ همته، وبث روح القرآن في قلبه بإذن الله، وأن يكون وقته يسمح بذلك. التوعية وإنشاء الرغبة: أول عمل ينبغي أن يقوم به هذا الشخص -إذا ما أراد تكوين مركز قرآني نموذجي - هو القيام بحملات توعية للناس من حوله وتوجيههم حول طريقة الانتفاع الحقيقي بالقرآن، ولماذا أنزله الله عز وجل وكيفية الدخول إلى دائرة تأثير معجزته، وكيف يمكن جعله قائدًا موجهًا للحياة، مع الإجابة عن التساؤلات التي يطرحها الناس في هذا المضمار. ويمكن القيام بهذه المهمة من خلال المحاضرات والندوات والمنتديات .. ومن خلال توفير الكتب والمطويات والمواد السمعية التي تخدم هذا الموضوع، ومن الكتب المفيدة في التوعية وإنشاء الرغبة للانتفاع الحقيقي بالقرآن: أخلاق حملة القرآن للآجري - فضائل القرآن لأبي عبيد الهروي - التذكار في أفضل الأذكار للقرطبي - تدبر القرآن للسنيدي - كيف نتعامل مع القرآن لمحمد الغزالي - مقدمة تفسير في ظلال القرآن لسيد قطب - منهج السلف في العناية بالقرآن الكريم لبدر ناصر البدر. ولقد يسر الله لنا بفضله وكرمه طرح هذا الموضوع في بعض الكتب مثل: العودة إلى القرآن - كيف نغير ما بأنفسنا؟ - الطوفان قادم - كيف ننتفع بالقرآن - الكنز المهجور - القرآن وقيادة الحياة. ومن خلال حملات التوعية ستظهر-بمشيئة الله - نوعيات تريد أن تكون من أهل القرآن بمفهومه الصحيح.

إعداد المعلمين

إعداد المعلمين: أول خطوة حقيقية ينبغي القيام بها في المركز القرآني النموذجي - بعد التوعية - هو تأهيل الأفراد الذين سيقومون بمهمة التدريس والتوجيه والتحفيظ للطلاب الملتحقين بالمركز، وإلا فكيف يقوم المعلم بدلالة طلابه على شيء لم يعرفه ولم يتذوقه ... ؟! من هنا تظهر أهمية التأني وعدم الاستعجال في تخريج المعلمين المؤهلين لهذه المهمة العظيمة. شروط الالتحاق بدورة إعداد معلمي القرآن: 1 - أن تكون لدى المتقدم الرغبة في الانتفاع الحقيقي بالقرآن، وأن يكون مستشعرًا عظيم حاجته إليه. 2 - أن يكون ماهرًا في قراءة القرآن من حيث النطق السليم وأحكام التلاوة. 3 - أن يكون حافظًا لقدر مناسب من القرآن. برنامج إعداد المعلمين: مدة البرنامج المقترحة: سنتان. ويشمل البرنامج عدة نقاط من الضروري أن يتم السير بها على التوازي - جنبًا إلى جنب -، وهي: أولاً: وضوح الرؤية حول القرآن ودوره كرسالة ومعجزة وكيفية الانتفاع به. وتشمل هذه النقطة العناصر التالية: 1 - التعرف على الهدف الأسمى من نزول القرآن. 2 - التعرف على جوانب الهداية في القرآن (القرآن كرسالة). - الجانب الأول: التعرف على الخالق وواجبنا نحوه (من هو الله؟!). - الجانب الثاني: التعرف على الرسول والرسالة (من هو الرسول؟!). - الجانب الثالث: التعرف على الإنسان (من أنا؟). - الجانب الرابع: التعرف على الشيطان (من هو الشيطان؟!). - الجانب الخامس: قصة الوجود ويوم الحساب. - الجانب السادس: معرفة السنن والقوانين الحاكمة للكون والحياة. - الجانب السابع: التعرف على الكون المحيط بنا. - الجانب الثامن: حقوق العباد بعضهم على بعض. - الجانب التاسع: فقه الدعوة إلى الله. - الجانب العاشر: العبرة من قصص السابقين. 3 - التعرف على القرآن كمعجزة: كيفية التغيير القرآني: - القرآن وإعادة تشكيل العقل وبناء اليقين الصحيح. - القرآن والقلب وتعبيده لله. - القرآن وترويض النفس. 4 - النموذج القرآني في الجيل الأول: - الرسول والقرآن. - تحذير الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة من عدم الانتفاع بالقرآن كرسالة ومعجزة. - صفاء المنبع الذي نهل من الصحابة - وفاء الله بعهده للصحابة وتمكينهم في الأرض. - وصايا الصحابة لمن بعدهم. 5 - تاريخ هجر القرآن. 6 - حاجتنا إلى القرآن. 7 - عقبات في طريق العودة إلى القرآن: - العقبة الأولى: الاهتمام بالشكل فقط. - العقبة الثانية: ختمتان للقرآن. - العقبة الثالثة: الخوف من تدبر القرآن. - العقبة الرابعة: مفهوم التدبر. - العقبة الخامسة: ضرورة ختم القرآن في مدة محددة. - العقبة السادسة: أمراض القلوب. - العقبة السابعة: مفهوم حامل القرآن. 8 - كيف نعود إلى القرآن؟! 9 - معينات على الفهم والتأثر.

ثانيا: مداومة تلاوة القرآن

هذه العناصر يمكن دراستها من خلال كتاب العودة إلى القرآن، مع إضافة كل ما يخدمها من الكتب الأخرى، والتي تم التنويه إلى بعضها في الصفحات السابقة عند الحديث عن التوعية. ثانيًا: مداومة تلاوة القرآن: والنقطة الثانية من نقاط برنامج إعداد معلمي القرآن, هي مداومة تلاوة القرآن آناء الليل وأطراف النهار. فأهم عامل يؤهل الفرد لكي يكون من أهل القرآن الحقيقيين هو لقاؤه المباشر والطويل مع القرآن بصفة دائمة، وبالطريقة التي طالبنا الله بها (تدبرًا وترتيلاً) وباتباع هدي محمد صلى الله عليه وسلم في قراءته. لابد أن يتعود الفرد في خلال هذه الدورة على كثرة قراءة القرآن حتى يصل لمرحلة عدم الصبر عنه، وأن يصبح وقت لقائه به أحب الأوقات إليه، وهذا لن يتم إلا إذا ذاق حلاوته، ودخل إلى دائرة تأثير معجزته، وشاهد آثارها في ذاته بانشراح في صدره، وشعور بالسلام الداخلي والطمأنينة، وبتولد الطاقة والقوة الروحية التي تدفعه دومًا إلى التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله. وهذا بلا شك يحتاج إلى دوام متابعة وتعاهد من القائم على الدورة، وأن يتأكد من قيام الأفراد بالأخذ بالوسائل المعينة على الفهم والتأثر. ولنعلم جميعًا أن محور دورة معلمي القرآن، بل والنجاح في إقامة المركز القرآني النموذجي متوقف - بإذن الله - على النجاح في هذه النقطة، فعلى سبيل المثال: حفظ الآيات (النقطة الرابعة التي ستأتي لاحقًا) , والعمل بما تدل عليه, يتوقف على وجود قوة دافعة تتولد داخل الفرد وتدفعه للعمل بتلقائية، فإن لم توجد تلك القوة تحول الأمر إلى حفظ باللسان فقط. والمصدر الذي لا بديل عنه لتوليد تلك القوة هو المداومة على قراءة القرآن ليلاً ونهارًا. ثالثًا: بناء الإيمان من خلال القرآن: القرآن أفضل وسيلة لبناء الإيمان، وهو خير كتاب يؤسس العقيدة الصحيحة الصافية في النفس والتي تثمر بدورها سلوكًا في واقع الحياة، لذلك فمن الضروري أن تقوم هذه المراكز بتعليم الإيمان وذلك من خلال القرآن, كما كان يقول الصحابة رضوان الله عليهم: «فتعلمنا العلم والإيمان معًا». فالإيمان ليس شيئًا نظريًا، أو قواعد تُحشى بها العقول، بل هو حقائق تشكل جزءًا من يقين الإنسان، وتتشابك مع مشاعره، فالمعرفة وحدها لا تكفي لإقامة صرح الإيمان وتأسيس قاعدته في القلب، بل لابد من التأثر والانفعال مع هذه المعرفة بصورة مستمرة، وهذا ما يقوم القرآن بفعله بسهولة ويسر. لقد كان القرآن في السابق ومع الأجيال الأولى هو الوسيلة الأساسية لبناء العقيدة الصحيحة الصافية عند المسلم، ولكن بمرور الوقت، وابتعاد الأجيال اللاحقة عن القيمة الحقيقية للقرآن، وهجر الانتفاع به، تحولت العقيدة إلى كلام نظري تمتلئ به الكتب ما بين قواعد وأصول وشروح وحواش ومختصرات، مما أدى إلى تضخيم الجانب المعرفي دون أن يصاحب ذلك إيمان حي في القلب، فكانت النتيجة ابتعاد الواقع عن الواجب والعمل عن العلم. وكما ورد في الأثر ... العلم علمان: علم في القلب؛ فذاك العلم النافع، وعلم على اللسان؛ فذاك حجة الله على ابن آدم. من هنا اشتدت الحاجة إلى العودة مرة أخرى إلى القرآن, لتعلم الإيمان وبناء العقيدة التي تجمع بين اليقين العقلي والإيمان القلبي، ويظهر أثرها في السلوك العملي بالاستقامة على أمر الله. ومن الوسائل المعينة على ذلك تتبع معنى من المعاني الإيمانية خلال رحلتنا مع تلاوة القرآن كوسيلة سهلة ومتدرجة لبناء العقيدة الصحيحة ..

فعلى سبيل المثال ندرس في كتب العقيدة: الإيمان بالغيب كموضوع محدد، فلماذا لا نفعل ذلك مع القرآن، ونستقي منه حقيقة هذا المعنى الإيماني ونمزج الفكر بالعاطفة، ونجتهد في تجاوب المشاعر معه ليصبح إيمانًا راسخًا في قلوبنا, فينعكس على تصرفاتنا بمزيد من الاستقامة على أمر الله؟ وحبذا لو أعطينا كل معنى من المعاني الإيمانية التي تشكل أسس العقيدة عند المسلم مساحة كبيرة من الوقت, بأن نخصص له ختمة أو أكثر من ختماتنا، ولا ننتقل إلى غيره حتى نتشبع منه تمامًا. أما وظيفة دورة معلمي القرآن في ذلك فهي تستعرض المعنى من الناحية النظرية, وطريقة عرض القرآن له، ثم تطبيقات عملية على بعض الآيات يستخرج من خلالها الدارسون ما يدل على المعنى الإيماني، ويطلب منهم أن يركزوا في وردهم اليومي على التجاوب بصفة خاصة مع هذا المعنى، وأن يدوِّنوا الآيات التي أثرت فيهم تأثيرًا كبيرًا ليتم طرحها خلال الوقت المخصص في الدورة والتعليق عليها. ولكي تحسن استفادتنا أكثر وأكثر بهذه النقطة, علينا أن نربط هذا المعنى الإيماني الذي نعيشه في رحلتنا المباركة مع القرآن بأعمال مصاحبة لها ارتباطًا وثيقًا به، فعندما نبحث في القرآن ونتعرف على الله الوهاب المنعم يمكننا أن نستصحب في هذه الفترة بعض الوسائل لترسيخ التفاعل مع هذا المعنى ككثرة الحمد، وسجود الشكر، وإحصاء النعم ... وهكذا. ولقد تم شرح هذا النقطة بشيء من التفصيل في كتاب «بناء الإيمان من خلال القرآن» مع عرض عدة نماذج مقترحة يبني بها الفرد إيمانه من خلال القرآن ... وإليك أخي القارئ نموذجًا منها ننقله من الكتاب: «الإيمان باليوم الآخر» الإيمان بالله واليوم والآخر له دور كبير في استقامة العبد، فالذي يعلم أن هناك حسابًا على ما يفعله من أخطاء، وأن هناك سجن يُودع فيه المجرمون، فإن هذا من شأنه أن يدفعه لاجتناب الوقوع في المعاصي، فإن زلت قدمه يومًا سارع بالاعتذار والندم وطلب العفو والصفح إذن فالإيمان باليوم الآخر ركن ركين من أركان الإيمان، لذلك كان ولازال المشركون ومن سار على نهجهم يحاولون التشكيك في قضية البعث والحساب ليستمروا في غيهم وظلمهم {بَلْ يُرِيدُ الإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ - يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} [القيامة:6،5]. ولأهمية هذا الموضوع وضرورة الإيمان الراسخ به، فلقد أفرد له القرآن مساحة كبيرة وتناوله من عدة جهات: تناوله من جهة إثباته بالأدلة العقلية الدامغة. وتناوله من جهة كشف أسباب تكذيب الناس به. وتناوله من جهة وصف أحداثه بكثير من التفصيل مع التركيز على مخاطبة المشاعر؛ لتزداد بذلك خشية الله والخوف منه, مما يدفع العبد للاستقامة والمسارعة إلى الخيرات {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ - وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ - وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ - وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ - أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:57: 61]. ومما لاشك فيه أن حجر الزاوية ونقطة البداية في هذا الموضوع هو إثبات البعث والمعاد, وهذا ما سيفرد له الحديث في الأسطر القادمة بعون الله وفضله. إثبات المعاد: أثبت القرآن أن هناك حياة بعد الموت, وأن هناك بعثًا، وحشرًا، وحسابًا، وجنة يتنعم فيها الطائعون، ونارًا يُعاقب فيها العاصون. ومن هذه الأدلة: 1 - إثبات صحة القرآن وصحة نسبه إلى الله عز وجل ومن ثمَّ تثبت صحة كل ما أخبر به من غيبيات وأحداث مستقبلية. 2 - قياس الغيبي على المشهود:

فلقد دعا القرآن الناس إلى قياس الغيب على ما يشاهدونه، ومن ذلك إحياء الأرض البور. فنحن نشاهد الأرض البور الجرداء والتي لا أثر للزرع فيها، نجدها وقد أصبحت مخضرة بالزرع بعد نزول المطر عليها {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت:39]. - وكذلك الاستدلال على إمكانية ومعقولية البعث بخلق الإنسان من العدم {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ - قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78،79]. - والاستدلال بالنوم - كموتة صغرى- على الموتة الكبرى، وبالاستيقاظ على البعث {اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر:42]. 3 - إثبات القدرة المطلقة لله عز وجل: ولقد أفاض القرآن في إثبات القدرة المطلقة لله عز وجل، ومن ثمَّ تصبح إعادته للحياة بعد الموت شيئًا يسيرًا عليه {الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِّنْهُ تُوقِدُونَ - أَوَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ - إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ - فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 80 - 83]. 4 - حدوث آيات تشبه البعث، أخبر عنها القرآن وأثبتها التاريخ: ومن ذلك قصة أهل الكهف الذين ظلوا نائمين ثلاثمائة عام ثم بعثهم الله، وقد تغير كل ما حولهم، بينما بقيت أجسادهم كما هي لتشهد على قدرة الله سبحانه {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا} [الكهف:21]. 5 - الوعد الحق: أخبرنا القرآن في مواضع كثيرة بوعود وعدها الله عز وجل في الماضي وحدثت بالفعل، وأخبر كذلك بوعده سبحانه بيوم الحساب ومجازاة المحسنين بالجنة، والمسيئين بالنار .. فإن كان كل ما وعد به قد تحقق في وقته وكما وعد، فمن المؤكد أيضًا أن وعده بالجزاء سيتحقق {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ} [التوبة:111]. فعلى سبيل المثال: أوحى الله عز وجل إلى أم موسى أن تلقي موسى -عليه السلام- في اليم، ووعدها بأنه سيرده إليها {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]. وأوفى الله سبحانه وتعالى بوعده {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [القصص:13]. ووعد سبحانه وتعالى بنصر الروم على الفرس فانتصروا، ووعد رسوله صلى الله عليه وسلم بالعودة إلى مكة مرة أخرى بعد أن أخرجه منها قومه، فوفى بوعده، ووعد سبحانه بحفظ القرآن من التحريف فوفى بوعده، ووعد سبحانه في مواضع كثيرة من القرآن بالبعث {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء:97] , وسيوفي الله بوعده.

ووعد المؤمنين بالنعيم في الجنة {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111]. ووعد الكافرين بالنار {النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحج:72]. وسيوفي بوعده سبحانه. {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف: 44]. ولعلك تلحظ - أخي القارئ- أن الأفعال بصيغة الماضي لتأكيد وقوعها. 6 - النظام الحق العادل: أفاض القرآن في الحديث عن النظام الذي يحكم السماوات والأرض، وبيَّن أنه نظام حق عادل يجري وفق سنن وقوانين {وَخَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} [الجاثية:22]. هذا النظام الحق الذي ينظم حركة الحياة والموجودات .. من الطبيعي أن يطبق على البشر كذلك باعتبار أنهم جزء من هذا الكون، ولكن الواقع يخبرنا بأن هناك بعض البشر يظلم والبعض يُظلم، وكلهم في النهاية يموتون ... البعض يرتكب أخطاء فاحشة ولا تتم معاقبته، وهذا بالطبع ينافي النظام الحق العادل الذي قامت عليه السماوات والأرض إلا إذا كان هناك ملحق آخر للحياة يتم فيه مجازاة الظالمين، والانتصار للمظلومين، ومحاسبة المخطئين. أعمال يُفضل القيام بها وبمثلها لتثبيت هذه العقيدة في النفس: 1 - لكي تصبح عقيدة الجزاء راسخة في يقين العبد وتشكل جزءًا أصيلاً من إيمانه, لابد من تكرار عرضها على العقل ليتفكر دومًا فيها، فترسخ في يقينه، وأن يتكرر كذلك عرضها على المشاعر لتستحوذ على جزء معتبر منها فتنشئ إيمانًا .. وهذا ما يفعله القرآن بكثرة عرضه لمسألة البعث والجزاء، ومخاطبته للعقل، وإقناعه بها، وإلهابه للمشاعر من خلال عرضه المتكرر لأهوال يوم القيامة. من هنا كان من الضروري أن نستفيد من القرآن في البناء الصحيح لعقيدة الجزاء، ولا نكتفي بما عندنا من تصور عقلي محدود، بل لابد أن تصبح هذه العقيدة راسخة في عقولنا وقلوبنا، لتُثمر تقوى واستقامة على أمر الله، وهذا يستدعي منا التركيز على المحاور الستة السابقة وغيرها مما أثبت به القرآن البعث والجزاء, وذلك من خلال رحلتنا المباركة مع القرآن وحبذا لو أفردنا ختمة أو أكثر لهذا الموضوع المهم، مع الاجتهاد في تجاوب المشاعر قدر الإمكان مع الحقائق التي تظهرها الآيات. 2 - تخصيص وقت للتفكر في آيات الله المبثوثة في الكون والاستدلال من خلالها على قدرة الله المطلقة، وعلى أن هناك نظام عادل ودقيق يحكم حركة الأشياء والمخلوقات، وأنه من اللازم أن يُطبق هذا النظام على البشر وهذا يستدعي وجود ملحق للحياة بعد الموت ... تأمل معي قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِي الألْبَابِ - الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190، 191] فهؤلاء الصالحون قد قادهم التفكير في ملكوت السماوات والأرض إلى الوصول إلى حقيقة {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً}، وأن هناك حسابًا {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.

رابعا: مدارسة وحفظ الأجزاء الثلاثة الأخيرة

3 - الالتزام بدعاء الاستفتاح عند قيام الليل والذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله إذا قام الليل يتهجد: «اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيّوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد لك مُلك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت مَلك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، والساعة حق ... » (¬1). رابعًا: ومن النقاط الأساسية في برنامج دورة إعداد المعلمين: مدارسة وحفظ الأجزاء الثلاثة الأخيرة: حفظ آيات القرآن وسوره له دور كبير في تيسير الانتفاع بالقرآن، وكيف لا والحافظ يمكن أن يتلو القرآن في أي مكان لا يتيسر فيه وجود المصحف، وكذلك يقوم به في الصلاة. ومع هذه الأهمية فإن حفظ الآيات لابد أن يكون بالطريقة التي كان يفعلها الصحابة, فهم يمثلون الجيل القرآني الذي تربى على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ثمَّ فهم النموذج الصحيح الذي ينبغي أن يُحتذى به. يقول أبو عبد الرحمن السُّلمي التابعي والذي تتلمذ على يد كبار الصحابة: إنما أخذنا القرآن من قوم أخبرونا أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوهن إلى العشر الأخرى حتى يعلموا ما فيهن من العمل، فتعلمنا العلم والعمل جميعًا، وأنه سيرث القرآن من بعدنا قوم يشربونه شرب الماء، لا يجاوز هذا، وأشار إلى حنكه (¬2). وفي رواية أخرى يقول أبو عبد الرحمن: «حدثنا الذين كانوا يُقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل. قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا» (¬3). وغير ذلك من الأخبار الكثيرة التي وصلت إلينا, والتي تؤكد عدم حرص الصحابة على كمِّ الحفظ الذي يحفظونه بقدر حرصهم على فهم الآيات وتطبيق ما فيها من عمل تدل عليه، ويكفي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ظل يحفظ سورة البقرة في اثنتي عشرة سنة, أما ابنه عبد الله فحفظها في ثماني سنوات (¬4) ... علينا إذن أن نتبنى هذه الطريقة، وألا يكون همنا من الحفظ عدد الأجزاء التي سنحفظها، بل ما تحمله الآيات من معان إيمانية، وحقائق عقدية، وأحكام شرعية، وواجبات عملية، وهذا - بلا شك - سيثمر حفظًا قد يكون قليلاً، ولكن سيكون معه خير كثير ونفع عظيم، فمع الإيمان الذي سيزيد دومًا من خلال القرآن، ومع الطاقة والقوة الروحية المتولدة من القراءة اليومية، سيصبح من السهل علينا تعلم الآيات وتطبيق ما فيها من عمل. ويُقترح لدورة إعداد المعلمين حفظ ومدارسة الأجزاء الثلاثة الأخيرة من القرآن مع التركيز على هذه الجوانب: 1 - تعلم النطق السليم للآيات، وأحكام الترتيل. 2 - الحقائق الإيمانية التي تدل عليها الآيات. 3 - معنى ما أُشكل فهمه منها. 4 - معايشة الأجواء التي نزلت فيها ومعرفة سبب النزول. 5 - معرفة الأحكام الشرعية التي تتضمنها. 6 - استخلاص واجبات عملية تدل عليها، وحبذا لو كانت الواجبات قليلة حتى يتسنى القيام بها والتعود عليها، مع التأكيد بأننا ينبغي ألا ننتقل إلى آيات أخرى حتى نطبق تلك الواجبات, ولو استغرق ذلك بضعة أيام أو أسبوع. ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) فضائل القرآن للفريابي, ص241. (¬3) حديث القرآن عن القرآن لمحمد الراوي, ص185. (¬4) انظر شعب الإيمان للبيهقي رقم (1955)، (1957).

ومما يجدر الإشارة إليه أن معرفة غريب القرآن، وسبب نزول الآيات، والأحكام التي تدل عليها موجود -بفضل الله - في الكثير من كتب التفاسير حيث يمكن للقائمين على الدورة اعتماد بعضها في مجال الحفظ. يبقى تعلُّم الحقائق الإيمانية التي تدل عليها الآيات - وهو أهم جانب - ... هذه الحقائق تدور أغلبها حول جوانب الهداية في القرآن وهي: 1 - التعرف على الله عز وجل، والتعرف كذلك على واجبات العبودية نحوه سبحانه. 2 - التعرف على الرسول صلى الله عليه وسلم والرسالة. 3 - التعرف على الإنسان (عقله - قلبه - نفسه). 4 - التعرف على الدنيا وكيف أنها دار امتحان، والتعرف على يوم الحساب والجنة والنار (قصة الوجود). 5 - التعرف على الشيطان وأساليب خداعه ووسوسته للإنسان. 6 - التعرف على السنن والقوانين الحاكمة للكون والحياة. 7 - التعرف على الكون المحيط بنا (عبوديته - علاقته بالبشر .... ). 8 - التعرف على حقوق العباد بعضهم على بعض. 9 - التعرف على فقه الدعوة، ولماذا لا يتبع الناس الحق .. 10 - التعرف على قصص السابقين وأخذ العبرة منها. على أن يكون تناول هذه الجوانب تناولاً يمزج الفكر بالعاطفة من خلال عرض الحقيقة الإيمانية, ومزجها بوسائل التأثير المختلفة كالقصة والمثل والموعظة. نموذج لاستخراج الجوانب الإيمانية من الآيات، وكذلك الواجبات العملية .. سورة الليل بسم الله الرحمن الرحيم {واللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى - وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى - وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى - إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى - فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى - وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى - وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى - وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى - وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى - إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى - وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى - فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى - لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأشْقَى - الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى - وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى - الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى - وَمَا لأحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى - إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى - وَلَسَوْفَ يَرْضَى}. هذه السورة تركز بشكل كبير على التعرف على الله عز وجل، وأنه يملك كل شيء في هذا الكون ويقوم عليه بنفسه ... يدير حركة الحياة فيه، ويجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته .. وتركز كذلك على السنة الاجتماعية والقاعدة العريضة التي نصَّها: «البداية من العبد» ... والسنن الاجتماعية تشبه المعادلات الرياضية أي أنها نتائج تترتب على بدايات ... كمثال قوله تعالى: {إِن تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7] وقوله: {نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أنفُسَهُمْ} [الحشر: 19]. كذلك تركز السورة وتحث على الإنفاق وصنائع المعروف دون انتظار المقابل، ولكن ابتغاء وجه الله. {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى - وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى - وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} من هو الله؟!: الخالق المبدع الذي خلق الذكر والأنثى بهذا الإتقان والجمال والحكمة، خلق في الذكر ما يُعينه على ممارسة مهامه في الحياة، وفي الأنثى ما يؤهلها للقيام بدورها كزوجة وأم. الكون المحيط: كون مطيع لربه .. ففي كل يوم يغشى الليل الكون بظلمته .. لم يعترض يومًا أو يتأخر، وفي كل يوم يتجلى النهار بنوره وضيائه على الأرض. {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} من هو الإنسان؟: الناس يتفاوتون في أعمالهم واتجاهاتهم، فمن عامل للدنيا، ومن عامل للآخرة.

{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى - وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} من هو الإنسان؟!: لديه قابلية للعطاء والتقوى والتصديق بالمعاد ... التقوى هي اللجام الذي يلجم به نفسه، وهي الدافع الذي يدفعه للإنفاق. السنن الاجتماعية: هنا سنة مكتملة: فالعطاء والتقوى والتصديق أسباب ومقدمات لتيسير الأمور، وأنه سبحانه ينتظر من عباده قيامهم بهذه الأشياء لييسر لهم أمورهم، فهو الحي القيوم سريع الحساب. {وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى - وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} من هو الإنسان؟!: الإنسان عندما يترك نفسه بدون تزكية، فإن لديه القابلية للبخل والاستغناء عن الله والتكذيب بالمعاد. السنن الاجتماعية: هذا الإنسان بأفعاله ينطبق عليه قوانين المنع والتعسير، والله عز وجل لا يظلم الناس شيئًا ولكن الناس هم الذين يظلمون أنفسهم ... فالإنسان هو الإنسان, يمكنه أن يعيش في سعادة وتيسير إذا ما ألجم نفسه بالتقوى وأنفق من ماله، ويمكنه أن يعيش في ضنك وتعسير إذا ما أطلق الزمام لنفسه وسار وراء هواها وظن أن بمقدوره الاستغناء عن الله. من هو الله؟: هو مدبر الأمور، بيده مقاليد كل شيء، وبيده تيسير الأمور -أي أمور- إن شاء جعل الحَزن (المكان المرتفع)، سهلاً منبسطًا هينًا. وتيسير العسير لديه يسير، وهو العدل يجازي بالإحسان إحسانًا، ويزيد عليه منة وغفرانًا وتيسيرًا وإكرامًا. وكذلك بيده أن يعاقب البخلاء فيُعسِّر أمورهم ويضيق عليهم، حتى يعودوا إليه ويطرقوا بابه ... وهو سبحانه إذ يبين لنا حال الفريقين ينبهنا – رحمة بنا وحبًا لنا – إلى ما فيه الخير والصلاح لنا ... فالآيات تحمل لنا رسالة تقول: أنفقوا وتصدقوا – من رزقي ومالي – أُيسِّر لكم أموركم وأسهلها لكم وأوسع عليكم، ولا تبخلوا فأعاقبكم بالتضييق والتعسير، فالبداية منكم. - من المناسب هنا أن يتم عرض نماذج قصصية للتيسير الإلهي للمنفق، وكذلك التعسير للبخيل: كقصة الرجل الذي سمع صوتًا في سحابة يأمرها بالإمطار على أرض فلان، وتتحرك السحابة إلى مكان ما وتمطر فيه .. وكان ذلك بسبب دوام وكثرة إنفاق صاحب الأرض. - وكذلك ضرب نماذج لإنفاق الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة وعلى رأسهم أبو بكر الصديق ... {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} من هو الإنسان؟: ضعيف، مسكين، قليل الحيلة، ضيق الأفق، فهو يظن أن أمواله تنفعه، أو تصرف عنه الأذى والهم، فتراه يهلك نفسه في جمع المال وكنزه، بينما يكتشف الحقيقة المرة يوم القيامة وأنها لا تغني عنه شيئًا إذا ما وقع في النار وتردى فيها، فهيهات أن ينجيه ماله .. ونموذج طغيان المال يتمثل في صاحب الجنتين، وقارون، فهل نفعهما المال؟! {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} من هو الله؟!: الله سبحانه هو الهادي، هو الذي يبين لعباده – بفضله وكرمه – طريق الخير والهدى الذي يوصل إلى جنته ورضوانه. والآية تؤكد وتجزم بأن الهداية من عند الله وحده، ومع ذلك فلابد أن نوقن بأن الله عز وجل يهدي مَن عنده رغبة في الهداية، ويريدها ويبحث عنها (البداية من العبد). أما من لا يريدها ولا يبحث عنها فما أبعد الهداية عنه {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ}. - وحبذا لو تم عرض قصة فرعون والسحرة؛ فقد رأوا جميعًا الآيات وانقلاب العصا إلى حية عظيمة، فكانت النتيجة إيمان السحرة، وكفر فرعون، فالسحرة رأوا آية تدل على الله، فرغبوا في الله فهداهم، وفرعون رأى آية تدل على الله فخاف على ملكه وسلطانه واستغنى عن الله، فتركه الله لضلاله وكفره. {وَإِنَّ لَنَا لَلآَخِرَةَ وَالأُولَى}

من هو الله؟: هو مالك الملك، يؤتيه من يشاء، وينزعه ممن يشاء ... نعم، لا ينزعه من أحد ظلمًا – حاشاه – فالبداية دومًا تكون من العبد {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال:53]. يملك سبحانه الدنيا، ويملك الآخرة ... يدبر الأمر، وبيده مقاليد الأمور. {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} من هو الله؟!: يحب عباده ويشفق عليهم من أن يدخلوا النار، لذلك فهو يحذرهم منها، ويهول لهم شأنها فهي «تلظى» , وهذا يدل على استمرارية استعارها والتهابها ... كل ذلك ليجتنبوا كل ما يوقعهم فيها. {َلا يَصْلاَهَا إِلاَّ الأشْقَى} من هو الإنسان؟!: قد يصل في شقاقه وعصيانه لله ورسوله إلى درجة الشقاء – نسأل الله العافية-. من هو الله؟!: الله الودود الذي يطمئن عباده بأن النار لن تكون إلا للأشقياء المكذبين. {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى - الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} من هو الإنسان؟: كما أنه قد يكون- بأفعاله شقيًا أو أشقى- فقد يكون تقيًا أو أتقى (أي شديد التقوى) , وهنا تعطيه الآية الأمان من النار (سيجنبها) , ثم تعرف الآية بأهم سمة للأتقى بأنه الذي يسعى دومًا في تزكية نفسه من خلال دوام إنفاقه، فالأفعال في الآية بصيغة المضارع (يؤتي – يتزكى) وهي تدل على استمرارية الإنفاق لحاجة النفس دومًا إلى التزكية. وفي الآية دلالة واضحة على أن ثمرة التقوى الحقيقية هي دوام الإنفاق، ودلالة كذلك على أن من أهم وسائل تزكية النفس دوام الإنفاق. - من المناسب أن يُذكر هنا حديث مثل المنفق والمتصدق وجُبَّتا الحديد (القصة). السنن الاجتماعية: في الآيات الأربع السابقة تتحقق السنة الاجتماعية (البداية من العبد): - نارًا تلظى .. من يصلاها؟ الأشقى الذي كذب وتولى. - سيجنبها؟ الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى. قصة الوجود: الدنيا مكان للاختبار والامتحان، والآخرة دار للجزاء، وأن النجاح في مادة العطاء (المال) يتحقق بإنفاقه في أوجه الخير، والرسوب في هذه المادة يتحقق بالبخل وعدم الإنفاق. وكذلك من كذب وتولى عن الله وعن الإنفاق فالنار مصيره. ومن يتقى الله ويزكي نفسه ويداوم على الإنفاق فسيجنبه الله دخول النار ويكرمه بالجنة فضلاً منه وكرمًا {وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى - إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى - وَلَسَوْفَ يَرْضَى}. واجبات العبودية: من حق الله على عباده أن تكون أعمالهم ابتغاء وجهه الأعلى، فعليهم أن ينفقوا أموالهم ولا ينتظروا أي مقابل ممن يعطونهم، بل يكون هدفهم أن يراهم الله وهم ينفقون فيرضى عنهم. من هو الله؟: الكريم المعطي الذي يُرضي عباده ... فالذي ينفق من ماله ابتغاء رضاه سبحانه عنه، فهذا لا يرضيه المال، فلو جازاه الله بزيادة أمواله لأنفقها أيضًا ... هذا العبد الصالح سيرضيه الله بما يرضيه ... سيرضيه بالسعادة والطمأنينة والرضى عن الله ومعرفته والأنس به في الدنيا، والقرب في الآخرة. دروس مستفادة: 1 - الإنفاق في سبيل الله وسيلة أكيدة لتيسير الأمور وفتح المغاليق وتفريج الكروب. 2 - الإنفاق وسيلة عظيمة لتزكية النفس. 3 - البخل والشح سبب لضيق الصدر والمعيشة الضنك وتعسير الأمور. 4 - البداية دومًا تكون من العبد في تحصيل الهداية أو السعادة أو الشقاء في الدنيا، والجنة والنار في الآخرة. واجبات عملية:

التقييم

1 - التعود على الإنفاق بصفة مستمرة، وحبذا لو كانت الصدقة يومية، وكلما بكرنا بها كانت الفائدة أعم وأوسع, فما من يوم ينشق فجره إلا وملكان يناديان يُسمعان جميع الخلائق إلا الثقلين ويقول أحدهما: «اللهم أعط منفقًا خلفًا» ويقول الآخر: «اللهم أعط ممسكًا تلفًا». وحبذا لو خصصنا صندوقًا للصدقة نضع فيه ما نتصدق به كل يوم، ثم نعطي ما فيه للمحتاجين كل عدة أيام. 2 - الإنفاق قبل أي أمر نريد إنجازه وتَيَسّره مثل: إنهاء معاملة رسمية - إصلاح بين الناس - قبل الاختبارات ... 3 - الإنفاق أيضًا عند الوقوع في أي ذنب أو تقصير، لأن الذنب يوقع العبد في دائرة الغضب الإلهي ويجعله عرضة للعقوبة، أما الصدقة فهي تطفئ غضب الرب وبالتالي تتوقف العقوبة «صدقة السَّر تطفئ غضب الرب» كما ورد في الحديث (¬1). كلمة أخيرة: عاش الصحابة مع سورة الليل وتعلموا منها أهمية الإنفاق فكان من سماتهم الأساسية كثرة الإنفاق بلا حساب ... إنفاق من لا يخشى الفقر (¬2). مسابقات واختبارات: ومما يساعد على ترسيخ هذه الطريقة والتعود عليها أن نربط التشجيع والجوائز لمن يتفوق في استخراج ما في الآيات من معان إيمانية، وأعمال سلوكية، بجوار الحفظ. فعلى سبيل المثال: لو أجرينا مسابقة حول سورة النبأ فيمكن تضمينها الآتي: 1 - تناولت السورة إثبات حقيقة حدوث البعث واليوم الآخر بأدلة عقلية منظورة ... اذكرها. 2 - تناولت السورة مظاهر عديدة للقدرة المطلقة لله عز وجل ... ما هي؟! 3 - تناولت السورة مظاهر كثيرة تبين مدى حب الله لعباده ... اذكر خمسًا منها. 4 - اذكر معاني الكلمات الآتية: المعصرات - مرصادًا - دهاقًا - ثجاجًا. 5 - أشارت السورة إلى حقيقة إيمانية عظيمة وهي أن الدنيا دار امتحان ... اذكر الآيات التي تدل على ذلك، مع التعليق عليها. 6 - أكمل حتى نهاية السورة: إن للمتقين مفازًا ..... 7 - اذكر بعضًا من الأعمال التي يمكننا أن نقوم بها من خلال دراستك للسورة. التقييم: خلال مدة الدورة وما سيتم فيها من معايشة لأفرادها، والتعامل معهم في النقاط الأربع: (وضوح الرؤية حول القرآن - المداومة والإكثار من تلاوة القرآن - بناء الإيمان من خلال القرآن - مدارسة وحفظ الأجزاء الثلاثة الأخيرة)، ومع الاختبارات والتقويم المستمر لهذه النقاط ستظهر بوضوح مستويات الأفراد ومدى تفاعلهم مع القرآن، والتغيير الذي سيطرأ عليهم، والذي سيظهر بوضوح في التعامل مع الدنيا (تجاف)، والآخرة (إنابة)، والموت (استعداد). وسيظهر كذلك التفاعل والتغيير من خلال الأسئلة التي يطرحونها، والخواطر الإيمانية التي تسيطر عليهم، ويتحدثون بها. وبعد نهاية مدة الدورة من المتوقع أن نجد أمامنا هذه الأصناف: الصنف الأول: أفراد تأثروا وانتفعوا بالقرآن، إلا أنه لم يهيمن عليهم هيمنة تامة ولم يصلوا لمرحلة مداومة تلاوته وعدم إمكانية الصبر عن تلاوته بفهم وتأثر، ومن ثمَّ لم يُحدث تغييرات جوهرية فيهم. هؤلاء من الصعب أن يقوموا بمهمة التدريس للأفراد الجدد. ويكفي ما وصلوا إليه من حبهم للقرآن. الصنف الثاني: أفراد تأثروا وانفعلوا وهيمن عليهم القرآن هيمنة صحيحة، وأحدث فيهم التغيير المطلوب، لكن ليست لديهم الإمكانية لنقل المعلومة، والتدريس، والتأثير في الناس. هؤلاء يمكن الاستفادة بهم في الأعمال الإدارية الخاصة بالمراكز القرآنية. الصنف الثالث: مثل الصنف الثاني، ولكن لديهم الإمكانية لتعليم الآخرين. هؤلاء يتم تقسيمهم لقسمين حسب المستوى: ¬

_ (¬1) صحيح الجامع الصغير ح (3759). (¬2) يمكن الرجوع إلى كتاب «حياة الصحابة» للكاندهلوي - باب إنفاق الصحابة - ونتعرف على أخبارهم في الإنفاق ليزداد المعنى رسوخًا.

الحلقات القرآنية

قسم منهم (الأكفأ والأكثر تأثرًا وتغيُّرًا) يقوم بمهمة إعداد المدرسين الجدد، والإشراف الكامل على دورة جديدة لإعداد المعلمين. والقسم الآخر يتولى الإشراف والتدريس على الحلقات القرآنية. الحلقات القرآنية: يقوم بالإشراف عليها وإدارتها أحد الذين تخرجوا من دورة إعداد المعلمين وتمت إجازتهم لإدارة حلقة قرآنية. مع الأخذ في الاعتبار أن هذه الحلقة ينبغي ألا تكتفي بالتحفيظ فقط، بل هي نموذج مصغر لدورة إعداد المعلمين. فيتم فيها توضيح الرؤيا حول طبيعة القرآن كرسالة ومعجزة وكيفية الانتفاع به بصورة مبسطة. ويتم فيها متابعة القراءة اليومية للقرآن بفهم وتأثر. ويتم فيها طرح المواضيع الإيمانية ليتم بناء الإيمان من خلال القرآن - كما أسلفنا - ويتم فيها كذلك مدارسة آيات القرآن وحفظها بطريقة «الإيمان قبل القرآن» والتي تمت الإشارة إليها سابقًا. وحبذا لو كانت البداية من الجزء الثلاثين. (¬1) صغار السن والقرآن: بالنسبة للصغار فالتجارب تقول بأنهم يمكنهم أن يدركوا المعنى العام للآيات بصورة مبسطة, وذلك من سن الخامسة أو السادسة، مثلما لديهم المقدرة على التعلم في المدرسة والحضانة، وكذلك فهم الأفلام الكرتونية وغيرها. نعم، علينا أن نخاطبهم على قدر عقولهم ومستوى فهمهم، فإدراكهم محدود، ولكن مع هذا الإدراك المحدود فإن فطرتهم السليمة تؤهلهم لقبول الحقائق الإيمانية بسهولة ويسر، فلنستفد من ذلك في غرس المعاني التي نريدها ليتعلموا الإيمان قبل القرآن، وعلينا ألاّ نسرف في كم الحفظ الذي يأخذونه، فيكفي بضع آيات كل عدة أيام تُشرح لهم بطريقة مبسطة، وتُعرِّفهم بربهم وبنبيهم، وبأنفسهم، وبعدوهم، وبدنياهم، وآخرتهم ... ، وليأخذوا منها الجانب العملي البسيط ثم يُتابعوا بعد ذلك في أدائه. وشيئًا فشيئًا، وبتكرار المعاني في الآيات، سيزداد كم الحفظ المصاحب للمعنى ليتخرجوا بعد ذلك حفاظًا للقرآن كله أو بعضه، حاملين له حملاً حقيقيًا. معنى ذلك أننا إذا ما بدأنا مع الأولاد من سن الخامسة أو السادسة في الجزء الثلاثين فقد نستمر معهم فيه سنتين أو أكثر، نُعلِّمهم فيه الإيمان، ونربطهم بالله عز وجل، فإذا ما حفظوا الآيات رسخت المعاني داخلهم أكثر وأكثر فيزداد إيمانهم، ويعظم قدر الله في نفوسهم. ولقد كانت هذه الطريقة السائدة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يقول جندب بن عبد الله: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاير فتعلمنا الإيمان قبل القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانًا (¬2)، وهذا ما جعلهم يمكثون مدة طويلة في حفظ السورة كما قال ابن تيمية. ومن المناسب استخدام أساليب التشويق والإثارة في تعليمهم الإيمان ليزداد حبهم لله ولكتابه مثل: القصة - ضرب الأمثال - الأناشيد - التشجيع - المسابقات - الرحلات - المواد الإعلامية خاصة المرئية. وحبذا لو تم اختيار المدرسين - الذين اجتازوا الدورة - ممن لديهم الإمكانات والمواهب التي تؤهلهم للتعامل مع هذا السن دون تذمر أو تضجر. * * * ¬

_ (¬1) نسأل الله عز وجل أن يتم علينا فضله ويكرمنا بالانتهاء من كتابة خواطر إيمانية للجزء الثلاثين, يتناول جوانب الهداية العشرة والدروس المستفادة والواجبات العملية، يستأنس بها المعلم في حلقته القرآنية. (¬2) رواه ابن ماجه بإسناد حسن، وحزاير جمع حزير، وهو الشاب الممتلئ نشاطًا وقوة.

الفصل السابع تساؤلات وردود

الفصل السابع تساؤلات وردود - قراءتين للقرآن. - أيهما أفضل؟ - الحد الأقصى لختم القرآن. - المقصود بـ (اقرأ وارق). - الشيطان والقرآن. - الذي يتعتع له أجران. - التعمق في التدبر. - التلقي المباشر من القرآن. - المحافظة على الحفظ. - تأثر غير العرب بالقرآن. - الذنوب وأمراض القلوب. - لا أجد أثرًا!! - مكانة السنة.

تمهيد

تساؤلات وردود تمهيد: وإتمامًا للفائدة، فقد تم إلحاق هذا الفصل بالكتاب والذي يحوي ردودًا على بعض التساؤلات, التي من المتوقع أن تقفز إلى أذهان البعض حول طريقة التعامل مع القرآن, وكيفية تحويل الوجهة نحو الانتفاع الحقيقي به، خاصة أن تاريخ هجر القرآن كرسالة هادية ومعجزة تغييرية يمتد إلى عدة قرون سابقة، ومن ثمّ فليس من السهل على النفس الانتقال مما ألفته وتعودت عليه من القراءة السريعة, أو العابرة إلى القراءة الهادئة المترسلة المتباكية التي تراعي الفهم والتأثر. وقبل أن نبدأ في سرد تلك التساؤلات والإجابة عنها، نجد أنه من الضروري التذكير بأمر هام وهو أننا في هذه الصفحات نتحدث عن القرآن كنقطة بداية لمشروع نهضة الأمة جمعاء، وكيفية سد الفجوة بين العلم والعمل من خلاله، وإيقاد شعلة الإيمان في القلب، والوصول لحالة الانتباه واليقظة، وتوليد الدافع الذاتي والطاقة الروحية باستمرار. وهذا بلا شك لا يمكن حدوثه من خلال الطريقة التي نتعامل بها حاليًا مع القرآن والتي تهتم بالشكل فقط. السؤال الأول قراءتان للقرآن - سمعنا وقرأنا أن بعض السلف كان يخصص ختمتين للقرآن ... ختمة للقراءة السريعة من أجل تحصيل الأجر والثواب، وختمة للتدبر فلماذا لا نفعل ذلك فنجمع بين الأمرين سويًا؟! الجواب: هذا السؤال من أكثر الأسئلة شيوعًا، والإجابة عليه تتضمن عدة نقاط. أولاً: نحن هنا نتحدث عن الانطلاقة الحقيقية لمشروع نهضة الأمة, الذي يتمثل في كيفية الاستفادة من القرآن كمصدر دائم ومتفرد لتوليد القوة الروحية في كيان المسلم، ومن البديهي أن الذي يقرأ قراءة سريعة بغية تحصيل أكبر قدر من الحسنات فقط لن يتم له الفهم أو التأثر، ومن ثمَّ لا يتحقق له الانتفاع الحقيقي بالقرآن. ثانيًا: نحن نحتاج إلى المعجزة القرآنية وقدرتها على التأثير في مشاعر الإنسان وقلبه، وتوليد القوة الروحية فيه، وكل ذلك يستدعي استمرارية تعرُّض القلب للقرآن، أي تكرار القراءة اليومية، فإذا ما جعلنا ختمة التدبر مفتوحة الزمن، لا نلتزم بها كل يوم فإننا بذلك نكون قد فقدنا أهم مزية للقرآن، ومن ثمَّ لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يصبح القرآن هو المخرج مما نحن فيه، وكيف لا وقد ابتعد المرء عن الاستفادة من دوره الخطير في التغيير. ثالثًا: إن كان الماء هو مادة الغيث الذي يسقي الأرض فيحييها بعد موتها، وينبت فيها الزرع، فإن القرآن هو مادة الغيث الذي يسقي القلب بأسباب حياته، فينبت فيه الإيمان، كما ورد في الدعاء: «اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا» وربيع: أي غيث. فإن لم تتعرض الأرض للماء باستمرار فإنها لن تُنبت شيئًا، وكذلك القلب إن لم يتعرض للقرآن باستمرار فلن ينبت فيه الإيمان الحي اليقظ، ولن تظهر ثماره المرجوة. رابعًا: إن فعلنا - كما يقول السائل -هذا فمن المتوقع أن نكون الختمة السريعة هي الغالبة علينا لأنها لا تكلفنا شيئًا، ولأنها تشعرنا بالرضا عن النفس وتحقيق الذات وذلك كلما انتهينا من قراءة سورة أو جزء من القرآن .. أما ختمة التدبر فهي تحتاج إلى إعداد ذهني وقلبي وقراءة هادئة مترسلة و ..... ، وهذا بلاشك لا يُريح النفس وستحاول التهرب منه، والتسويف في القيام به باعتبار أن هناك بابًا آخر للقراءة السريعة المريحة مفتوح أمامها. أما إذا أغلق هذا الباب فلن تجد النفس مناصًا من القراءة الهادئة التي تبحث عن الفهم والتأثر.

أيهما أفضل؟!

خامسًا: لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابته الكرام أنهم كانوا يخصصون ختمة للتدبر وختمة للقراءة السريعة، بل هي ختمة واحدة تبحث عن الفهم والتأثر .. ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوتنا، وفعل الصحابة هو النموذج الصحيح الذي أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم. قيل للسيدة عائشة رضي الله عنها: إن أناسًا يقرأ أحدهم القرآن في ليلة مرتين أو ثلاثًا، فقالت: قرؤوا ولم يقرؤوا، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم ليلة التمام فيقرأ سورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة النساء لا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا الله تعالى ورغب، ولا يمر بآية فيها تخويف إلا دعا واستعاذ. (¬1) وسأل رجل زيد بن ثابت: كيف ترى قراءة القرآن في سبع؟ فقال زيد: حسن، ولئن اقرأه في نصف شهر أو عشرين أحب إليَّ لكي أتدبره وأقف عليه (¬2). وعن ابن جمرة قال: قلت لابن عباس: إني سريع القراءة وإني اقرأ القرآن في ثلاث، فقال: لأن أقرأ البقرة في ليلة فأدَّبرها وأرتلها أحب إليَّ من أن أقرأ كما تقول (¬3). السؤال الثاني أيهما أفضل؟! - من الملاحظ أن الكثير من المسلمين عندما يدخل عليه شهر رمضان تراه وقد شمر عن ساعديه محاولاً تحصيل أكبر قدر من الحسنات من خلال أدائه لعبادات كثيرة، ويأتي على رأسها قراءة القرآن، فتجده وقد حدد لنفسه هدفًا بأن يختم القرآن عدة مرات خلال هذا الشهر دون الاهتمام بفهم ما يقرأ فضلاً عن التأثر به ... فهل الأفضل له أن يفعل ذلك، أم أن القراءة الهادئة المتأنية التي تبحث عن الفهم والتدبر والتأثر دون النظر لعدد الختمات هي الأفضل؟! الجواب: يجيب عن هذا التساؤل الإمام ابن القيم في كتابه زاد المعاد فيقول رحمه الله: وقد اختلف الناس في الأفضل: الترتيل وقلة القراءة، أو السرعة مع كثرة القراءة، أيهما أفضل ... على قولين: فذهب ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما وغيرهما إلى أن الترتيل والتدبر مع قلة القراءة أفضل من سرعة القراءة مع كثرتها. واحتج أرباب هذا القول بأن المقصود من القراءة فهمه وتدبره والفقه فيه والعمل به، وتلاوته وحفظه وسيلة إلى معانيه، كما قال بعض السلف: نزل القرآن ليعمل به، فاتخذوا تلاوته عملاً، ولهذا كان أهل القرآن هم العالمون به، والعاملون بما فيه، وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب، وأما من حفظه ولم يفهمه ولم يعمل بما فيه فليس من أهله وإن أقام حروفه إقامة السهم. وقالوا: ولأن الإيمان أفضل الأعمال، وفهم القرآن وتدبره هو الذي يُثمر الإيمان، وأمامجرد التلاوة من غير فهم ولا تدبر، فيفعلها البرُّ والفاجر، والمؤمن والمنافق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة، ريحها طيب وطعمها مر» [رواه البخاري]. والناس في هذا أربع طبقات, الأولى: أهل القرآن والإيمان، وهم أفضل الناس. والثانية: من عَدِم القرآن والإيمان. والثالثة: من أُوتي قرآنا، ولم يُؤت إيمانًا. والرابعة: من أُوتي إيمانًا ولم يؤت قرآنًا. قالوا: فكما أن من أُوتي إيمانًا بلا قرآن أفضل ممن أُوتي قرآنًا بلا إيمان، فكذلك من أُوتي تدبرا، وفهمًا في التلاوة أفضل ممن أُوتي كثرة قراءة وسرعتها بلا تدبر. وهذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها، وقام بآية حتى الصباح. ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد، وأبو يعلى، وابن المبارك في الزهد. (¬2) مختصر قيام الليل لمحمد بن نصر , ص (149). (¬3) فضائل القرآن لأبي عبيد الهروي, ص (157).

وقال أصحاب الشافعي رحمه الله: كثرة القراءة أفضل، واحتجوا بحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» [رواه الترمذي]. قالوا ولأن عثمان بن عفان قرأ القرآن في ركعة (¬1)، وذكروا آثارًا عن كثير من السلف في كثرة القراءة. والصواب في المسألة أن يُقال: إن ثواب الترتيل والتدبر أجلّ وأرفع قدرًا، وثواب كثرة القراءة أكثر عددًا، فالأول: كمن تصدق بجوهرة عظيمة، أو أعتق عبدًا قيمته نفيسة جدًا، والثاني: كمن تصدق بعدد كثير من الدراهم، أو أعتق عددًا من العبيد قيمتهم رخيصة، وفي صحيح البخاري عن قتادة قال: سألت أنسًا عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: كان يمد مدًا. وقال شعبة: حدثنا أبو جمرة، قال: قلت لابن عباس: إني رجل سريع القراءة، وربما قرأت القرآن في ليلة مرة أو مرتين، فقال ابن عباس: لأن أقرأ سورة واحدة أعجب إلي من أن أفعل ذلك الذي تفعل، فإن كنت فاعلاً ولابد، فاقرأ قراءة تُسمع أذنيك ويعيها القلب. وقال ابن مسعود: لا تَهُذُّوا القرآن هذَّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدقل، وقفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكنُّ هم أحدكم آخر السورة .... انتهى كلامه رحمه الله، ولعلك أخي القارئ قد أدركت الفرق بين الطريقتين. أين الثمرة؟ هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فقد جربنا القراءة السريعة، وكان هم الواحد منا الانتهاء من ختم القرآن، بل وكان بعضنا يتنافس في عدد المرات التي يختمه فيها خاصة في رمضان، فأي استفادة حقيقية استفدناها من ذلك؟ وماذا غيّر فينا القرآن؟! إن القرآن باللسان فقط دون مشاركة العقل بالفهم، والقلب بالتأثر، كالنخالة كبيرة الحجم قليلة الفائدة. يقول علي ابن أبي طالب رضي الله عنه: لا خير في قراءة ليس فيها تدبر. وقال الحسن البصري: كيف يرق قلبك وإنما همك آخر السورة؟! ويؤكد على هذا المعنى الآجري في كتابه «أخلاق حملة القرآن» فيقول: والقليل من الدرس للقرآن مع التفكر فيه وتدبره أحب إلي من قراءة الكثير من القرآن بغير تدبر ولا تفكر فيه، وظاهر القرآن يدل على ذلك، والسنة، وقول أئمة المسلمين. ولقد سئل مجاهد عن رجل قرأ البقرة وآل عمران، ورجل قرأ البقرة قراءتهما واحدة وركوعهما, وجلوسهما ... أيهما أفضل؟ قال: الذي قرأ البقرة، ثم قرأ {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} [الإسراء:106] (¬2). ¬

_ (¬1) هذا الأثر ضعفه الترمذي، ووافقه الألباني، ومما يؤكد ذلك أيضًا أن الأخبار الكثيرة الواردة عن الصحابة تؤكد أنهم كانوا يقرأون القرآن بترتيل وترسل، وكانوا يوصون من بعدهم بذلك .. قال الألباني: ولقد أحسن الإمام الترمذي برواية هذا الخبر والذي بعده «خبر عثمان بن عفان وخبر سعيد ابن جبير» بصيغة التضعيف، لأن الركعة مهما طالت لا يمكن أن يقرأ فيها القرآن الكريم كاملًا، فضلًا عما في ذلك من مخالفته لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركوع والسجود والقيام، وحاشا لسيدنا عثمان أن يفعل مثل ذلك, ضعيف الترمذي للألباني ص (357). (¬2) أخلاق حملة القرآن للآجري 83.

الحد الأقصى لختم القرآن

الحافز القوي: إن كان الهدف من قراءة القرآن هو تحصيل الحسنات فقط لبحثنا عن أعمال أخرى أكثر ثوابًا منه, ولا يستغرق أداؤها وقتًا طويلاً كالتسبيح مثلاً (¬1). ولكن أمر القرآن غير ذلك, فلقد أنزله الله ليكون وسيلة للهداية والتغيير, وما الأجر والثواب المترتب على قراءته إلا حافز يشحذ همة المسلم لكي يقبل على القرآن, فينتفع من خلال هذا الإقبال بالإيمان المتولد من الفهم والتأثر، فينصلح حاله ويقترب من ربه. ومثال ذلك: الأب الذي يُحفِّز ابنه على مذاكرة دروسه من خلال رصد الجوائز له ... يقينًا إن هدفه من خلال رصده لهذه الجوائز هو انتفاع ابنه بالمذاكرة، وليس مقصده مجرد جلوسه أمام الكتاب دون مذاكرة حقيقية. ولله المثل الأعلى، فلأنه سبحانه يحب عباده ويريد لهم الخير أنزل إليهم هذا الكتاب الذي يجمع بين الرسالة والمعجزة ... ولكي يستمر تعاملهم معه ومن ثمَّ يستمر انتفاعهم بما يُحدثه هذا الكتاب من تغيير في داخلهم يدفعهم لسلوك طريق الهدى, كانت الحوافز الكثيرة التي تُرغّبهم وتحببهم في دوام الإقبال عليه، ومنها أن لهم بكل حرف يقرؤونه عشر حسنات. أيهما أحب إلى الله؟! ولنسأل أنفسنا هذا السؤال: أيهما أحب إلى الله: أن نقرأ القرآن كثيرًا، بألسنتنا فقط دون تفهم لخطابه، ولا تجاوب معه، أم القراءة الهادئة المرتلة التي يفهم من خلالها القارئ مراد الله من خطابه ويتأثر به. أليس الأحب إلى الله هي الصورة الثانية، ومن ثمَّ يكون الأجر والثواب مصاحبًا لها أكثر وأكثر من الصورة الأولى؟! هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن القراءة الهادئة المرتلة بفهم وتأثر تزيد الإيمان، وتولد الطاقة والقوة الدافعة للقيام بالأعمال الصالحة، فيترتب على القيام بهذه الأعمال الأجر والثواب الكبير، وهذا لا يحدث مع القراءة السريعة ... قراءة الحنجرة فقط. رمضان والقرآن: فإن قلت: لنجعل القراءة الهادئة المتأنية التي تراعي الفهم والتأثر في غير رمضان، أما خلال هذا الشهر فينبغي أن ننتهز فرصة مضاعفة ثواب الأعمال فيه فنقرأ أكبر قدر ممكن من القرآن ... نعم، رمضان فرصة عظيمة للانطلاقة القوية، وذوق حلاوة الإيمان من خلال القرآن. نعم، رمضان يصلح كنقطة بداية لمن يشكو عدم وجود همة ورغبة في التعامل مع القرآن بتدبر وتأثر .. أما أن يكون التعامل مع القرآن في رمضان بطريقة تبحث عن الأجر فقط، ومن ثمَّ لا تراعي الهدف الذي نرجوه فهذا معناه أن نظل في أماكننا ندور في حلقة مفرغة حول أنفسنا، فقراءة القرآن بفهم وتأثر ينبغي أن تصاحبنا طيلة العام، بل إن الحاجة إليها تشتد أكثر وأكثر في شهر رمضان باعتبار أنه فرصة جيدة ومناخ مناسب لإحياء القلب بالإيمان، ولنعلم جميعًا أننا لو ختمنا القرآن في رمضان ختمة واحدة ... بتفهم وتأثر فإن أثرها، والثواب المترتب عليها سيكون- بمشيئة الله- أفضل من عشرات الختمات بدون فهم وتأثر. يقول ابن القيم: لو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها، فقراءة آية بتفكر خير من ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب، وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن ... (¬2) السؤال الثالث الحد الأقصى لختم القرآن - بلغنا أنه ينبغي للمسلم أن يختم القرآن على الأكثر مرة كل شهر أو كل أربعين يومًا، ولو تأخر عن ذلك لأصبح هاجرًا للقرآن. ¬

_ (¬1) قال صلى الله عليه وسلم: «من قال سبحان الله وبحمده، في يوم مائة مرة، حُطَّت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر» متفق عليه. (¬2) مفتاح دار السعادة 1/ 553.

ما المقصود بـ «اقرأ وارق»؟

فإن فعلنا ذلك فقد يدفعنا هذا الأمر إلى سرعة قراءة القرآن للانتهاء من ختمة في المدة المحددة، ومن ثمَّ فلن نردد الآية التي تؤثر فينا، ولن نتوقف عند المعاني العظيمة التي يولدها التدبر والتأثر ... فكيف نوفِّق بين الأمرين؟ الجواب: من الضروري - إن أردنا الانتفاع بالقرآن - أن ننشغل بتلاوته، وألا يمر يوم لا نقرأه فيه مهما كانت الظروف، بل إننا نطمع أن نصل لمرحلة تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، وألا نستطيع الصبر عنه، وألا نشبع منه كما كان حال الصحابة رضوان الله عليهم. ومع هذا الانشغال فلا ينبغي علينا أن نشغل أذهاننا بمدة ختمه، فلا يوجد دليل صريح يبين الحد الأقصى لختم القرآن. فإن قلت: ولكنه صلى الله عليه وسلم لما سأله عبد الله بن عمرو بن العاص: في كم يقرأ القرآن؟ قال: «في أربعين يومًا» (¬1). يقول محمد أبو شهبة - رحمه الله - في رده على هذه المسألة: وليس في الحديث ما يدل على كراهة الختم في أكثر من أربعين، والعبارة ليست حاصرة حتى يكون ما عداها ليس من سنته (¬2). ومما يؤكد ذلك هو فعل الصحابة رضوان الله عليهم. أخرج ابن أبي داود عن مكحول قال: كان أقوياء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرءون القرآن في سبع، وبعضهم في شهر، وبعضهم في شهرين، وبعضهم في أكثر من ذلك (¬3). وليس معنى هذا هو التراخي في ختم القرآن، بل إننا نطمع في أن يكون الغالب علينا ختمة في سبع أو عشر كما كان حال الكثير من الصحابة، ولكن دون وجود سيف على رقابنا يدفعنا لسرعة القراءة من أجل الانتهاء في الوقت المحدد. أخي القارئ: هب أنك قد تأثرت تأثرًا شديدًا بآية من الآيات، وعشت معها، وأردت أن تكررها مرات ومرات كي تستفيد من الإيمان الذي يزداد في هذه الفترة ... ماذا تفعل حينئذ وأنت تشعر أنك مطالب بالانتهاء من كم محدد من القرآن .. أليس من المتوقع أن تترك ترديد الآية وتكرارها من أجل الانتهاء من السورة أو الجزء؟ إنك إن فعلت ذلك تكون قد فوّت على نفسك فرصة عظيمة لزيادة الإيمان وتنوير القلب، وطرد الهوى، ومن ثمَّ التغيير والاستقامة على أمر الله. تأمل معي هذا الخبر الذي يحدثنا عن حال أحد الصحابة وهو تميم الداري - رضي الله عنه - مع القرآن وكيف كان يفعل مع الآية التي تؤثر فيه. عن مسروق قال: قال رجل من أهل مكة: هذا مقام أخيك تميم الداري، لقد رأيته ذات ليلة حتى أصبح أو كاد أن يصبح يقرأ آية من كتاب الله، يركع ويسجد ويبكي {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21] (¬4). السؤال الرابع ما المقصود بـ «اقرأ وارق»؟ - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق ورتِّل، كما كنت تُرتل في دار الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها» (¬5). هل المقصد بذلك القارئ من المصحف، أم الحافظ الذي يقرأ عن ظهر قلب؟!! الجواب: ¬

_ (¬1) حسن، رواه أبو داود، وأورده الألباني في صحيح الجامع ح (1261)، والسلسلة الصحيحة (1512). (¬2) المدخل لدراسة القرآن لمحمد أبو شهبة, ص (438). (¬3) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 1/ 104. (¬4) دموع القراء لمحمد شومان, ص (75). (¬5) صحيح، رواه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح الجامع (8122).

أولاً: حفظ ألفاظ القرآن لا يدل على ما في القلب من إيمان، والدليل على ذلك أن هناك الآلاف من حفاظ القرآن، ممن حفظوه إجباريًا في المدارس أو الجامعات أو الكتاتيب، تجد أن سلوكهم يبتعد كثيرًا عما يرضي الله ... فهل هؤلاء الذين يجهلون على الناس، ويرتكبون ما يغضب الله، ويتركون بعض أوامره .. هل سيقال للواحد منهم اقرأ وارق ورتل ... ؟!! إن هذا الفهم يتنافى مع أصول التفاضل بين الناس التي أخبرنا الله عنها أنها مرتبطة بالإيمان والتقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]. ثانيًا: الأحاديث الواردة في فضل حفظ القرآن - كله أو بعضه - مرتبطة بالعمل به، وفي المقابل نجد الوعيد الشديد لمن يحمل القرآن ولا يعمل به. روى البخاري من حديث سمرة بن جندب رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وفيها: « .. فانطلقنا حتى أتينا على رجل مضطجع على قفاه، ورجل قائم على رأسه بفهر أو صخرة، يشدخ به رأسه، فإذا ضربه تدهده الحجر، فانطلق إليه ليأخذه فلا يرجع إلى هذا حتى يلتئم رأسه، وعاد رأسه كما هو، فعاد إليه فضربه، قلت: من هذا؟ قالا: انطلق ... » وفي آخر الحديث: «والذي رأيته يُشدخ في رأسه فرجل علمه الله القرآن، فنام عنه بالليل، ولم يعمل فيه بالنهار، يُفعل به إلى يوم القيامة ... » (¬1). إن الفضل العظيم لحفظ القرآن مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالعمل به، فإن لم يُعمل به كان وبالاً على صاحبه، كيف لا وهو يتلو على الناس آيات لا يعمل بها، فيصير ما يقوله في واد، وما يفعله في واد آخر، فيصدق عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «أكثر منافقي أمتي قراؤها» (¬2). من هنا ندرك تأنِّي الصحابة رضوان الله عليهم في حفظ القرآن لدرجة أن عمر بن الخطاب ظل اثنتي عشرة سنة يحفظ سورة البقرة، أما ابنه عبد الله فقد حفظها في ثماني سنوات. وهذا أبو عبد الرحمن السلمي - وهو من كبار التابعين - وكان ممن تتلمذ على يد كبار الصحابة كعبد الله بن مسعود يقول: إنما أخذنا القرآن من قوم أخبرونا أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوهن إلى العشر الأخرى حتى يعلموا ما فيهن من العمل، فتعلمنا العلم والعمل جميعًا، وإنه سيرث القرآن من بعدنا قوم يشربونه شرب الماء، لا يجاوز هذا وأشار إلى حنكه (¬3). وجمع أبو موسى الأشعري الذين قرأوا القرآن وهم قريب من ثلاثمائة، فعظّم القرآن وقال: إن هذا القرآن كائن لكم ذخرًا وكائن عليكم وزرا، فاتبعوا القرآن ولا يتبعكم، فإنه من اتبع القرآن هبط به على رياض الجنة، ومن اتبعه القرآن زجّ به في قفاه فقذفه في النار. (¬4) ثالثًا: لو كان هذا الأمر الوارد في الحديث مرتبطًا بحفظ الألفاظ ... أتظن أن الصحابة سيفوِّتون هذه الفرصة لعلو المنزلة، وهم الذين عايشوا القرآن، وصاحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ثمَّ فهم أكثر الناس فهمًا لمراد أقواله صلى الله عليه وسلم. لو تأملنا سيرتهم سنجد أمرًا عجيبًا ... سنجد أنهم كانوا يتسابقون على كثرة قراءة القرآن أكثر من تسابقهم في حفظه، بل إن الحفاظ بينهم كانوا قلة. يقول عبد الله بن عمر: كنا صدر هذه الأمة، وكان الرجل من خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما معه إلا السورة من القرآن أو شبه ذلك، وكان القرآن ثقيلاً عليهم، ورزقوا العمل به، وإن آخر هذه الأمة يخفف عليهم حفظ القرآن حتى يقرأه الصبي والأعجمي فلا يعملون به (¬5). ¬

_ (¬1) رواه البخاري في كتاب الجنائز. (¬2) صحيح، رواه الإمام أحمد والطبراني، والبيهقي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1203) والصحيحة (750). (¬3) فضائل القرآن للفرياني /241. (¬4) أخلاق حملة القرآن لآجري /20. (¬5) أخلاق حملة القرآن /49.

والعجيب أنه قد مات الكثير من الصحابة - بل من العشرة المبشرين بالجنة - دون أن يتموا حفظ القرآن. أخرج ابن سعد في طبقاته عن محمد بن سيرين قال: قُتِل عمر ولم يجمع القرآن (¬1). ويقول الحسن البصري: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وما استكمل حفظ القرآن من أصحابه رضوان الله تعالى عليهم إلا النفر القليل، استعظامًا له، ومتابعة لأنفسهم بحفظ تأويله والعمل بمحكمه (¬2). وليس معنى هذا هو إهمال الحفظ، بل معناه الاجتهاد في العمل بما تدل عليه الآيات المحفوظة، وعدم الاستعجال في الحفظ حتى لا يتم إهمال الفهم والعمل. رابعًا: الحديث يؤكد على أهمية التأثر بقراءة القرآن، فدرجات الجنة مرتبطة بالإيمان، ولأن كل آية في القرآن تحمل نورًا يزيد الإيمان في القلب حين يدخله لذلك كلما تأثر القارئ بآية وحصَّل ما فيها من إيمان ارتقى في الجنة درجة، وهذا هو أهم ما يرمي إليه الحديث، فيقال له يوم القيامة اقرأ كما كنت تقرأ في الدنيا بترتيل وتفهم وتأثر, فيزداد إيمانك, وترتفع به في الجنة بحسب ما حصلت من إيمان في الدنيا. ولو قرأ المرء القرآن سواء كان عن ظهر قلب أو من المصحف دون تأثر وكان همه نهاية السورة أو الورد، ومن ثمّ لم يزدد بقراءته إيمانًا فهيهات أن يكون داخلاً في دائرة هذا الحديث. من المخاطب؟: وخلاصة القول أن المخاطب بهذا الحديث هو من يقرأ القرآن سواء عن ظهر قلب، أو من المصحف شريطة تفهمه وتأثر بآياته، وبهذا ندرك سر انشغال الصحابة بكثرة التلاوة بتفهم وترتيل، وندرك أيضًا سر حثه ومتابعته صلى الله عليه وسلم للصحابة في قراءة القرآن، أكثر من متابعته لحفظهم، ويكفيك أن الله عز وجل طالب نبيه في أكثر من موضع بأن يتلو القرآن {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ - وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} [النمل:92،91] وقوله: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:4]. وليس ذلك فحسب بل نجد القرآن في مواضع أخرى يحدد مهمات الرسول صلى الله عليه وسلم والتي تبدأ بتلاوة الآيات على من حوله {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2]. فإذا ما انتقلنا إلى أحاديثه صلى الله عليه وسلم نجده يستثير الهمم لكثرة قراءة القرآن تأمل قوله «اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه ... » (¬3). وقوله: «اقرؤوا القرآن واعملوا به، ولا تجفوا عنه، ولا تغلو فيه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به» (¬4). هذه الأحاديث وغيرها، وتعامل الصحابة مع القرآن على حقيقته ككتاب هداية، وتغيير، ومنبع للإيمان يرفع صاحبه عند الله كلما تزود منه ... هذا كله جعلهم يتسابقون لقراءته أكثر من حفظه، لأن الحفظ يتطلب العمل بكل ما تحمله الآيات، وهذا يحتاج إلى جهد ضخم، ويحتاج كذلك إلى قوة إيمانية متدفقة باستمرار تدفعهم إلى هذا العمل، وهذا هو المقصد من قول ابن عمر وجندب ابن عبد الله أنهم قد تعلموا الإيمان قبل القرآن ... فتعلم الإيمان إنما يكون بكثرة التلاوة، وتعلم القرآن يكون بحفظ آياته وتعلم ما فيها من علم، والقيام بما تدل عليه من عمل. وعندما تعلموا الإيمان بكثرة التلاوة الصحيحة ساعدهم ذلك على تطبيق ما تدل عليه الآيات التي يحفظونها، فزادهم هذا التطبيق إيمانًا .. ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 224. (¬2) الحسن البصري لابن الجوزي (98). (¬3) رواه مسلم. (¬4) صحيح رواه الإمام أحمد، والطبراني، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1168) والصحيحة (260).

الشيطان والقرآن

يقول جندب بن عبد الله: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاير، فتعلمنا الإيمان قبل القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانًا (¬1). ويؤكد على هذا المعنى عبد الله بن عمر بقوله: لقد عشنا برهة من دهرنا، وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، فتتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فنتعلم حلالها وحرامها، وأمرها وزجرها، وما ينبغي أن نقف عليه منها، ثم رأيت رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان, فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري أمره ولا زجره، ولا ما ينبغي أن يقف عنده، فينثره نثر الدقل؟ (¬2). نعم، استطاع البعض منهم أن يستكمل الحفظ، ولكن كانوا جميعًا يكثرون من التلاوة بآدابها الصحيحة التي من شأنها أن تزيد الإيمان، وترفع صاحبها عند الله. عن أبي الدراء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قرأ القرآن في سبع ليال كُتب من المخبتين» قلنا: فمن قرأه في خمس يا رسول الله؟ قال: «إني أخاف أن يعجلكم عن التّفهم، إلا أن تصبروا على مباكرة الليل، فمن فعل كُتب من المقربين» قلنا: ففي ثلاث يا رسول الله؟ قال: «لا أراكم تطيقون ذلك، إلا أن يبدأ أحدكم بالسورة وأكبر همه أن لا يبلغ آخرها» قلنا: فإن أطقناه على تَفَهُّم وترتيل. قال: «فذلك الجهد من عباده النبيين» قلنا: ففي أقل من ثلاث يا رسول الله؟ قال: «لا تقرؤوه في أقل من ثلاث». (¬3) السؤال الخامس الشيطان والقرآن - كلما هممت بقراءة القرآن، وفتحت المصحف أجد النعاس يغلبني، فإذا ما قاومته وقرأت أجد نفسي وقد شردت بفكري في أودية الدنيا، وتذكرت أمورًا لم تخطر على بالي منذ فترة طويلة ... فماذا أفعل لأجمع عقلي ومشاعري مع القراءة؟!! الجواب: السبب الرئيسي وراء هذا كله هو الشيطان، فهو لن يتركنا نتعامل تعاملاً صحيحًا مع القرآن وننتفع به، فهو يوقن بأن الهدى والإيمان والتغيير يتحقق من خلال فهم القرآن والتأثر به، فالشيطان هو العدو المبين للبشر، وهدفه الدائم هو إضلال الناس جميعًا .. ولعلمه بقدر القرآن، ومدى قوة تأثير معجزته لمن يتعرض لها باستمرار، فإنه يعمل جاهدًا على صرف الناس عن قراءة القرآن حتي يسهل عليه إضلالهم، وقد قالها قديمًا بكل وضوح {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16] , والقرآن خير ما يدل على الصراط المستقيم ويأخذ بيد من يتمسك به إلى هذا الصراط حتى يصل به إلى منتهاه {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى} [النجم: 42]. فإن جاهد البعض الشيطان وبدأ في القراءة، فإنه لا يتركه ليفلت منه ويمسك بحبل القرآن، بل يعمل جاهدًا على أن يصرف ذهنه عن فهم ما تضمنته الآيات من معان هادية، ومدخله لذلك هو تزيينه فوائد القراءة السريعة وما سيجني من ورائها من حسنات كثيرة. فإن جاهده القارئ، واجتهد أن يُعمل عقله فيما يقرأ، حاول أن يجعل عقله يشرد مع كلمة من كلمات القرآن الذي يقرؤه، فيذكِّره من خلالها بموقف من مواقفه السابقة، فينشغل لسانه بالقراءة، أما عقله ففي واد آخر. فإن جاهده القارئ، ولم يسمح بشرود ذهنه مع القراءة، فإنه يدخل عليه من باب التعمق في فهم كل كلمة يقرؤها، ليصبح القرآن بذلك مخاطبًا لعقله فقط، دون أن يؤثر في قلبه، ومن ثمَّ تصبح ثمرة قراءته زيادة معارفه العقلية دون زيادة للإيمان في قلبه. وهكذا يجتهد الشيطان في صد الناس عن الانتفاع بالقرآن .. ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه بإسناد حسن، وحزاير جمع حزير، وهو الشاب الممتلئ نشاطًا وقوة وجلدًا. (¬2) أخرجه الحاكم، وصححه على شرط الشيخين، والدقل رديء التمر. (¬3) أورده الغافقي في كتاب لمحات الأنوار (1802).

«الذي يتعتع له أجران»

والعجيب أن العبادة الوحيدة التي أمرنا الله عز وجل أن نستعيذ به من الشيطان قبل القيام بها هي تلاوة القرآن {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98]. فقبل أن يشرع الواحد منا في الذكر أو الصيام أو أداء العمرة، أو إخراج الصدقة، فإنه غير مطالب بأن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم. إنه أمر يلفت الانتباه .. لماذا القرآن دون غيره من العبادات؟! أليس في هذا الأمر دلالة على قيمة القرآن ودوره الخطير في الهداية والتغيير، ومن ثمَّ فالشيطان يجتهد في إبعاد الناس عنه؟! يقول ابن هبيرة: ومن مكايد الشيطان تنفير عباد الله عن تدبر القرآن، لعلمه أن الهدى واقع عند التدبر (¬1). من هنا تتضح لنا أهمية الاستعاذة بالله من الشيطان قبل التلاوة، فجوهر الاستعاذة هو طلب حماية الله لنا من الشيطان، واستدعاء معونته سبحانه في صرف هذا العدو. لذلك علينا - كي نتغلب على هذه العقبة - أن نهرع إلى الله، ونلح عليه في الدعاء بأن يصرف عنا الشيطان وذلك قبل الشروع في قراءة القرآن، وكذلك كلما شردت أذهاننا خلال القراءة. أيضًا فإن الالتزام بالوسائل النبوية في قراءة القرآن لها دور كبير في جمع العقل والمشاعر مع القراءة؛ ومن ذلك الانشغال بالقرآن، والتهيئة الذهنية من خلال الوضوء والسواك والقراءة في مكان هادئ قدر المستطاع، والتهيئة القلبية بالتباكي مع القراءة، وأيضًا القراءة من المصحف، وبترتيل، وبصوت مسموع، وأيضًا الفهم الإجمالي للآيات، والتجاوب مع الخطاب القرآني بالرد على الأسئلة, وسؤال الله الجنة والاستعاذه من النار، وأخيرًا ترديد الآية التي تؤثر في القلب .. وقبل هذا كله علينا ألا نستجيب لوساوس الشيطان بترك القراءة، بل نقاوم ونقاوم ونستعين بالله عليه. السؤال السادس «الذي يتعتع له أجران» - هناك بعض الأحاديث التي يظن البعض أنها تدعو لقراءة القرآن لمجرد القراءة - دون تدبر - كقوله صلى الله عليه وسلم: «لماهر بالقرآن مع السَّفرة الكرام البررة، والذي يقرؤه ويتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران» (¬2). الجواب: المتأمل للحديث السابق لا يجد فيه ما يدل على ما فهمه صاحب السؤال، بل العكس. فالحديث يبين أهمية تعلم أحكام التلاوة, والتي تعتبر مفتاحًا ضروريًا للانتفاع بالقرآن ... فتلاوة القرآن حق تلاوته - كما يقول أبو حامد الغزالي - هو أن يشترك فيه اللسان والعقل والقلب، فحظ اللسان تصحيح الحروف بالترتيل، وحظ العقل تفسير المعاني، وحظ القلب الاتعاظ والتأثر بالانزعاج والائتمار ... فاللسان يرتل، والعقل يترجم، والقلب يتعظ. (¬3) ولأن الترتيل علم يحتاج إلى ممارسة لفترة ليست بالقصيرة كي يتقنه الانسان، فإن من المتوقع ألا يصبر عليه الكثيرون حتى يتعلموه ويتقنوه، لذلك كان التشجيع النبوي للمبتدئ بأنّ له أجرين حتى يستمر في التعلم ولا يتركه، ومن ثمّ تحسن استفادته بالقرآن. أما الفهم والتأثر فليس له علاقة بالتعتعة، أي أن الماهر بالقرآن، والذي يتعتع فيه عليهما أن يفهما ما يقرآنه ويجتهدا في التأثر به .. فالحديث يقول: «والذي يقرؤه ويتعتع فيه» والمتبادر للذهن عند سماع كلمة «يقرأ» هو: إعمال العقل في الألفاظ لإدراك ما ترمي إليه من معانٍ، ولقد مر علينا ذلك في الفصل الخامس بشيء من التفصيل. ¬

_ (¬1) تدبر القرآن للسنيدي, ص (48). (¬2) متفق عليه. (¬3) إحياء علوم الدين 1/ 442.

التعمق في التدبر

السؤال السابع التعمق في التدبر - تدبر القرآن يجعلني أقف كثيرًا عند كل كلمة وكل آية، مما يجعلني لا أتجاوز بضع آيات في لقائي بالقرآن، وهذا الأمر يسبب لي ضيقًا في نفسي، وشعورًا بصعوبة الأمر. فماذا أفعل؟! الجواب: غاية التدبر هو إدراك المعنى الذي ترمي إليه الآية، والتدبر وحده لا يكفي لإنشاء وإنبات وزيادة الإيمان في القلب، وإلا لقرأنا القرآن بدون ترتيل، وبأعيننا فقط مثلما نقرأ في أي كتاب، ولكن لأن غاية التلاوة هي الفهم والتأثر، كانت الوسيلة هي التدبر والترتيل، مع الأخذ في الاعتبار بأن التأثر الذي يولِّد الإيمان لابد وأن يمر من بوابة الفهم كما قال تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ - فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:198، 199]. ولكن الوصول لدرجة التأثر يستدعي استمرارية القراءة، والسماح للآيات بأن تنساب داخل القلب، ويتصاعد تأثيرها شيئًا فشيئًا، فيستمر الطرق على المشاعر حتى تصل لدرجة التجاوب والتأثر، وهذا يستلزم عدم التوقف عند كل كلمة وإلا لما حدث التأثر. علينا - إذًا- أن نقرأ الآيات ونفهم ما تدل عليه بصورة إجمالية، وأن نمرر ما لا نفهمه من آيات حتى يتسنى لنا بلوغ مرحلة التأثر, التي يحتاج الوصول إليها كثرة مرور الآيات على المشاعر، ودوام الطرق عليها .. وهذا ما أوصى به صلى الله عليه وسلم عندما رأى بعض الصحابة يختلفون فيما بينهم في معنى آية من الآيات فقال لهم: «إن القرآن لم ينزل يُكذب بعضه بعضًا، بل يصدق بعضه بعضا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم فردوه إلى عالمه» (¬1). وقال عبد الله بن مسعود: إن للقرآن منارًا كمنار الطريق، فما عرفتم منه فتمسكوا به، وما يشبه - أو قال شُبّه عليكم - فكلوه إلى عالمه (¬2). انتبه: وفي المقابل فإننا حين نقف عند كل كلمة ونحاول سبر أغوارها، والغوص في معانيها فإننا بلا شك سنفهم فهمًا عميقًا، ولكن دون تأثر، ولن نتجاوز في القراءة بضع آيات ولن نشعر من خلال القراءة بحلاوة الإيمان، ومن ثمَّ يؤدي ذلك بنا إلى الفتور والضيق بل والاستجابة لإلحاح النفس - ومن ورائها الشيطان - بالعودة إلى الطريقة القديمة التي تبحث عن الانتهاء من قراءة أكبر قدر ممكن دون تدبر ولا تأثر. إذًا فالمطلوب تدبر عام وإجمالي للآيات، وألا نقف عند كل كلمة لا نعرف معناها، بل نعمل على إدراك المعنى العام من السياق حتى يستمر انسياب الآيات داخلنا ويتصاعد تأثيرها شيئًا فشيئًا على المشاعر فيحدث التأثر. ماذا أفعل إن لم أتأثر؟: فإن قلت: ولكني قد أقوم بذلك ولا أتأثر بالآيات، فهل أقوم بإعادة الآيات التي لم أتأثر بها؟! التأثر هو رقة القلب، وانفعال المشاعر مع القراءة، وهو نادر الحدوث في البداية لابتعاد القلوب مدة طويلة عن القرآن، لذلك علينا أن نصبر ولا نمل، ولا نقوم بإعادة ما لم نتأثر به، بل نسترسل في القراءة، ونلتزم بالوسائل النبوية المشار إليها سلفًا مع دعاء الله بأن يفتح قلوبنا لغيث القرآن. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد وابن ماجه. (¬2) فضائل القرآن لأبي عبيد, ص (99).

التلقي المباشر من القرآن

فإن فعلنا ذلك فستأتي تلك اللحظات السعيدة ... إنها لحظات التأثر معلنة فتح قلوبنا لنور القرآن، فإذا داومنا، وأكثرنا من التلاوة ازدادت أوقات التأثر ورقة القلب حتى تصل إلى ما وصل إليه أبو بكر الصديق ... فقد كان إذا بدأ قراءة القرآن لا يملك دمعه. أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عائشة قالت: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي قال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس, قالت: فقلت يا رسول الله، إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ القرآن لا يملك دمعه ... فلنصبر ولنصبر حتى يأتي التأثر، ومن المعينات التي تستجلبه وتستدعيه: دعاء الله بإلحاح أن يرزقنا فهم الآيات والتأثر بها، وكذلك التباكي له دور كبير في استجلاب التأثر, وتحسين الصوت بالقراءة قدر المستطاع، والاستفادة من أي وقت نجد فيه تأججًا للمشاعر مثل سماع خبر أو رؤية منظر مؤثر .. ففي هذا الوقت تكون المشاعر مهيأة لاستقبال القرآن والتأثر به أكثر من أي وقت آخر ... ومع هذا كله يبقى الانشغال بالقرآن وطول المكث معه أكبر عامل يستدعي التأثر ويطيل زمنه. السؤال الثامن التلقي المباشر من القرآن - هناك خطورة شديدة من التلقي المباشر من القرآن, وما حدث للخوارج يشهد بذلك ... فماذا نفعل؟!! هل نترك التدبر؟!! الجواب: نعم، هناك خطورة شديدة لمن يستنبط الأحكام الشرعية من القرآن بمفرده دون أن يكون مؤهلاً لذلك .. فاستنباط الأحكام من القرآن وظيفة العلماء المختصين والمؤهلين، أما من هم دونهم فعليهم أن يرجعوا إلى كتب التفسير والفقه لمعرفة ما تدل عليه الآيات من أحكام شرعية. أما التدبر .. أما الروح .. أما الطاقة الروحية فلن تتولد إلا باللقاء المباشر مع القرآن من قِبَل العامة والخاصة. إذن فلا تعارض بين الأمرين .. ومما يؤكد هذا المعنى أن الله أمر الجميع بتدبر القرآن - كل حسب مستواه - فكيف نؤمر بشيء لا نستطيعه؟! إن الجانب التشريعي في القرآن لا يتجاوز جزءًا من عشرة أجزاء من آيات القرآن، ونحن نُسلِّم بأن هذا الجزء من اختصاص العلماء وفيه ورد النهي الشديد «ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» (¬1). أما بقية الأجزاء التسعة فالمجال مفتوح للجميع. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يبقى أهم ضابط للتلقي المباشر من القرآن, وهو معرفة معاني الألفاظ الغريبة حتى يستقيم الفهم، ولعل في عصرنا هذا قد تيسر وجود المصاحف التي كتب على هامشها معاني الكلمات الغريبة, فيتمكن القارئ من فهم معناها وهو يقرأ دون أن يقطع القراءة، ومن ثمَّ لا ينقطع حبل تأثره. ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (4023) , وقال حديث حسن. يقول الدكتور يوسف القرضاوي في بيان معنى التحذير الوارد في الحديث: والجواب عن الحديث - إن صح - أنه محمول على وجهين, الأول: أن يُراد بالرأي الهوى، فهو يجر القرآن جرًا لتأييد ما يهواه وما يميل إليه. والثاني: أن يكون معنى الحديث: أن يهجم على تفسير القرآن دون أن يتأهل له بما يلزم من أدوات التفسير، وشروط المفسرين, انظر: كيف نتعامل مع القرآن العظيم.

المحافظة على الحفظ

السؤال التاسع المحافظة على الحفظ - بفضل الله حفظت القرآن، ولخوفي من نسيانه أصبح كل همي هو كيفية المحافظة على هذا الحفظ، مما يضطرني للقراءة السريعة بغية المراجعة وتثبيت الحفظ، مع العلم بأنني لا أراعي التدبر أو التأثر في هذه القراءة ... فماذا أفعل؟!! الجواب: حفظ القرآن وسيلة لتيسير الانتفاع به، وليس غاية في حد ذاته، وإلا لاندفع الصحابة للحفظ - كما أسلفنا - ومع ذلك فله أهميته العظيمة في القيام بالقرآن في الصلاة، وفي الإمامة بالناس، ومن الخطورة بمكان أن تصبح الوسيلة غاية، ويكون همّ الحافظ منصبًا على كيفية المحافظة على حفظه، مع الأخذ في الاعتبار بأن الذي يزيد الإيمان، ويرفع الدرجات عند الله، ويغير في سلوك الفرد هو تدبر القرآن والتأثر به سواء كانت القراءة من المصحف أو عن ظهر قلب، فإن لم يصاحب القراءة ذلك .. كانت الخطورة بأن يصبح القرآن حجة علينا لا لنا. من هنا كان من الضروري اللقاء المباشر مع القرآن، وحبذا لو كانت القراءة من المصحف حيث التركيز أشد، والتأثر أسرع استجلابًا .... وعندما ننشغل بكثرة تلاوة القرآن فإن هذا يؤدي إلى تثبيت الحفظ، وكيف لا والتدبر وهيمنة الآيات على العقل والمشاعر، وكثرة تكرارها من شأنه أن يجعل المرء في حالة من الانتباه والتركيز, ومن ثمَّ يثبت حفظه أكثر وأكثر. ولا بأس من تخصيص وقت للمراجعة - غير وقت القراءة المباشرة من المصحف- على أن يكون الحد الأدنى للقراءة هو فهم ما نقرأ كما قال ابن عباس لأبي جمرة .. إن كنت فاعلاً (للقراءة السريعة) فاقرأ قراءة تسمعها أذنك ويعيها قلبك. (¬1) ولكن أحذِّر نفسي وإياك أن يطغى ذلك على وقت القراءة اليومية من المصحف, والتي تهدف إلى التدبر والتأثر ومن ثمَّ زيادة الإيمان وتوليد القوة الروحية. السؤال العاشر تأثر غير العرب بالقرآن - إن كان الفهم ضروريًا للتأثر ومن ثمَّ زيادة الإيمان، فكيف نفسر تأثر غير الناطقين بالعربية بالقرآن؟!! الجواب: أولاً: الإيمان محله القلب، ومن تعريفات القلب أنه مجمع المشاعر داخل الإنسان، والإيمان ينشأ في القلب ويستحوذ على جزء من المشاعر عندما يتم التجاوب بين الفكر (الفهم) والعاطفة (التأثر) {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج:54]. فلا بديل عن الفهم، ولا بديل عن تجاوب المشاعر مع هذا الفهم إن أردنا زيادة الإيمان في القلب، والذي يؤكد هذا المعنى قوله تعالى {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ - فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:198، 199]. فالآيات تدل دلالة واضحة أن السبب الأساسي لعدم إيمان هؤلاء هو عدم فهمهم للخطاب القرآني لأنهم أعاجم. ثانيًا: أما بخصوص تأثر غير الناطقين بالعربية بسماع القرآن، فهذا أمر حقيقي ومتكرر، ومنشأ هذا التأثر ليس ناتجًا عن فهمهم لمعاني القرآن وتجاوب مشاعرهم معها, لأنهم لا يعرفون اللغة العربية، وإنما ينشأ هذا التأثر من وقع نظم القرآن وجرسه في نفوسهم، والذي سماه الشيخ محمد عبد الله دراز بالقشرة الخارجية للقرآن، أو الجمال التوقيعي في لغة القرآن - كما مر علينا في الفصل الرابع - ... هذا التأثر له دور كبير في استجلاب السكينة اللحظية التي يشعر بها هؤلاء، لكنه كما -أسلفنا - لا ينشئ الإيمان. ¬

_ (¬1) فتح الباري 9/ 110.

الذنوب وأمراض القلوب

السؤال الحادي عشر الذنوب وأمراض القلوب - كيف أدخل إلى القرآن، والذنوب تتلبس بي، والهوى يخنقني، والأمراض تملأ قلبي؟! أليس من الضروري أن أتطهر من هذا كله أولاً قبل الدخول لعالم القرآن؟!! الجواب: أولاً: إن كان الأمر كذلك، فما هو دور القرآن إذن؟!!، ألم يصفه الله عز وجل بأنه دواء، وأنه {وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس:57]. فمن خصائص المعجزة القرآنية أنها دواء لأمراض القلوب، ومطهرة للذنوب، وطاردة للهوى {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا} [الرعد:17]. القرآن غيث للقلب، كما أن الماء غيث للأرض ... ومهما أجدبت الأرض فإن استمرار تعرضها للماء يجعلها تنبت الزرع. نعم، الإنبات يكون في البداية ضعيفًا لكن شيئًا فشيئًا يزداد ويزداد {اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد:17]. وفي هذا المعنى يقول مالك بن دينار: إن القرآن ربيع المؤمن، كما أن الغيث ربيع الأرض، فقد ينزل الغيث من السماء إلى الأرض فيصيب الحُشَّ، فتكون فيه الحبّة، فلا يمنعها نَتن موضعها أن تهتز وتخضر. (¬1) ثانيًا: هل هذا ما حدث مع الصحابة؟!! هل طُلب منهم تطهير قلوبهم أولاً قبل التعامل مع القرآن.؟!! أم أنهم تعاملوا معه مباشرة، فقام القرآن بتطهير قلوبهم، وإنبات الإيمان فيها، وطرد الهوى منها شيئًا فشيئًا. ثالثًا: ومتى يظن المرء أنه قد أصلح نفسه وطهَّر قلبه؟! .. إنه إن ظن ذلك فقد خسر خسرانًا عظيمًا، كيف لا وعلى المسلم أن يديم إساءة الظن بنفسه، وأن يجاهد هواه حتى يأتيه الموت .. سُئلت السيدة عائشة: متى يكون الرجل مسيئًا؟ قالت: إذا ظن أنه محسن. معنى ذلك أننا إن سلمنا بما يطرحه السائل فلن نتعامل مع القرآن طيلة حياتنا. أخي القارئ: أقبل على القرآن ولا تخف، واترك زمامك له فسيقوم بأداء دوره الذي يعرفه جيدًا في تطهير قلبك وتنويره، وملئه بالإيمان، شريطة أن تُقبل عليه إقبال الملهوف، الباحث عن النور والإيمان، وأن تعطيه الكثير من وقتك، وألا تستعجل الثمرة، فحتمًا ستظهر لو داومت على تعريض قلبك للقرآن من خلال الفهم والتأثر والتباكي مع القراءة. يقول حذيفة: اقرؤوا القرآن بحُزن، ولا تجفوا عنه، وتعاهدوه، ورتلوه ترتيلا. (¬2) السؤال الثاني عشر لا أجد أثرًا - حاولت أكثر من مرة أن أقرأ القرآن بتدبر وتأثر، ولكني لم أجد ما تتحدثون عنه من تغيير، وحلاوة الإيمان، و ... ، مما دفعني للعودة إلى ما ألفته من قراءة سريعة بغية تحصيل أكبر قدر من الحسنات، وللمحافظة على حفظي للقرآن ... ومع ذلك فإني أشعر بين الفينة والفينة بتأنيب الضمير، والشعور بالتقصير تجاه القرآن، والخوف من أن يكون شيء مهم قد فاتني ... فماذا أفعل؟! الجواب: أولاً: أهم عامل من عوامل النجاح في الانتفاع بالقرآن ككتاب هداية وتغيير، ومنبع دائم للإيمان يتزود منه القلب كلما تعرض له هو وجود الرغبة الجارفة للانتفاع به، واستشعار الحاجة الماسة إليه، وإلى الثمرة الناشئة من دوام الإقبال عليه من: قلب سليم، وإيمان حي، وتعرف حقيقي على الله، ومن ثمَّ السير إليه، والوصول إلى معرفته للدرجة التي تمكِّن صاحبه من أن يعبده - سبحانه - كأنه يراه. فعلى قدر هذه الرغبة، وهذا الاحتياج يكون الإمداد من الله «فالإمداد على قدر الاستعداد» تأمل معي قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ - لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28:27]. فالآيات تخبرنا بوضوح بأن القرآن هو طريق الاستقامة لجميع الناس، ولكن لن ينتفع به إلا من يريد الاستقامة ويبحث عنها، ويرغب فيها ... ويؤكد هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «ومن يتحرَّ الخير يعطه» (¬3). ولقد أكد على هذا المعنى الإمام البخاري في صحيحه عند تعليقه على قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ - فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ - لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:77 - 79] قال: لا يجد طعمه إلا من آمن به. لابد من الاقتناع بأهمية القرآن، ودوره في التغيير، ولابد كذلك من استشعار الحاجة إليه. وبدون القناعة الأكيدة، والرغبة الجارفة، والاحتياج الماس للقرآن، فلن تكون هناك النتيجة المرجوة والثمرة المنتظرة من هذا الكتاب. جاء في الأثر عن أبي الدرداء قال: لما أهبط الله آدم إلى الأرض قال له: يا آدم أحبني، وحببني إلى خلقي، ولن تستطيع أن تفعل ذلك إلا بي، ولكن إذا رأيتك حريصًا على ذلك أعنتك عليه، فإن فعلت ذلك فخذ به اللذة والنظرة وقرة العين والطمأنينة. (¬4) ¬

_ (¬1) العقوبات لابن أبي الدنيا, ص (66). (¬2) لمحات الأنوار للغافقي, ص (566). (¬3) حسن أورده الألباني في صحيح الجامع (2328). (¬4) استنشاق نسيم الأنس للحافظ ابن رجب، ص (127).

مكانة السنة

فالدخول والانتفاع بالقرآن لن يكون إلا بالله، والله عز وجل لن يفتح قلوبنا للقرآن إلا إذا رأى منا رغبة وحرصًا أكيدين على ذلك. لذلك من أقبل على القرآن يقرؤه بتدبر من باب التجربة ففي الغالب لن يجد الثمرة المرجوة. إذًا فبداية الحل تكمن في وجود الرغبة والشعور بالاحتياج، وعلينا أن نترجم هذا الشعور بالإلحاح على الله أن يفتح قلوبنا لتلقي غيث القرآن ... فالدعاء له دور كبير في تيسير هذا الأمر. ثانيًا: القرآن هو غيث القلوب، ولكي يؤتي ثماره لابد من كثرة تعرض القلب له، والاستمرار على ذلك مدة طويلة، حتى يجد القرآن ثغرة يدخل منها إلى القلب فينبت فيه الإيمان، وشيئًا فشيئًا تزداد الثغرات وينفتح القلب وينشرح ... لابد إذن من الاستمرارية وعدم اليأس. ثالثًا: لا ينبغي علينا أن نغفل دور الشيطان، وعمله الدؤوب لصدنا عن الانتفاع بالقرآن، فمن المتوقع أنه سيحشد كل جنوده، ويستخدم كل أساليبه مع كل من يحاول الانتفاع بالقرآن، وستكون الفترة الأولى هي أشد الفترات التي سيحاربنا فيها الشيطان، ومن أبوابه المتوقعة التي سيعمل على أن يدخل منها الوسوسة لنا بمثل هذه الخواطر: «أين الثمرة التي قالوا عنها .. إنه كلام مبالغ فيه». ويكفيك في هذا قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران:155] , فهؤلاء دخل عليهم الشيطان من باب أنهم لا يصلحون للجهاد بسبب ما فعلوه من ذنوب!!! رابعًا: أفي الله شك؟ لقد أخبرنا الله عز وجل عن دور القرآن المتفرد في التغيير، ولقد رأينا أثره على جيل الصحابة، وبما أن القرآن الذي معنا هو القرآن الذي كان معهم ... فلماذا التردد .. أقبل يا أخي على القرآن ... أقبل ولا تخف ولا تتردد. أعط القرآن الكثير من وقتك .. هيئ قلبك قبل اللقاء به ولو بالتباكي -كحد أدنى- عند القراءة، وكلما وجدت الباب مغلقًا اهرع إلى مولاك وألح عليه في الدعاء حتى يفتح لك ولي أبواب رحمته، ويصل غيث القرآن إلى قلوبنا فيحييها. خامسًا: وأخيرًا اترك نفسك للقرآن ... لا تدخل على القرآن دخول من يريد إثبات صحة آرائه وتصوراته .. دع القرآن ينزل على هواك، ولا تدع هواك ينزل على القرآن. وتذكر وصية أبي الدرداء ونصيحته: اعطوا القرآن خزائمكم فإنه يحمل على القصد والسهولة، ويجنب الجور والحزونة .. والخزامة هي الحلقة التي توضع في أنف البعير، ثم يُربط فيها الحبل لتنقاد من خلاله ... فلنترك أمر قيادتنا للقرآن وسنجد الخير الكثير بإذن الله. السؤال الثالث عشر مكانة السنة - أين السنة في مشروع نهضة الأمة؟ وهل ما قيل عن دور القرآن في نهضة الأمة يعني الاكتفاء به وترك السُنَّة؟! الجواب: أولاً: السنة صنو القرآن، وشارحة له، ومبينة لما أجمل فيه، وهي المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44]. وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ... » (¬1) فالحديث يدل دلالة واضحة على أهمية السنة وأنها شارحة للقرآن، وأنه لا يجوز لأحد أن يستخرج الأحكام الشرعية من القرآن دون الرجوع للسنة. ثانيًا: نحن في هذه الصفحات نبحث عن معجزة تجمع الأمة، ويكون من شأنها توليد الدافع الذاتي والقوة الروحية باستمرار، وهذا لا يتوافر إلا في القرآن كما أسلفنا. ¬

_ (¬1) صحيح، رواه الإمام أحمد وأبو داود وصححه الألباني في صحيح الجامع ح (2643).

نعم، نحتاج للقراءة في السُّنَّة كثيرًا لتأكيد المعاني التي دلت عليها آيات القرآن، وضبط الفهم، وفتح آفاق جديدة للعمل الصالح، وكذلك التعرف على نماذج عملية تطبيقية لآيات القرآن. ومع ذلك يبقى القرآن هو المصدر المتفرد الذي يولد الطاقة باستمرار، ويُرسِّخ الإيمان. ثالثًا: القرآن والسنة يشكلان سويًا منهج حياة ... فالقرآن يضع الدستور والقوانين، والسنة تشرحها، ولكن يقف ضعف الإيمان والعزيمة عائقًا أمام تطبيق القرآن والسنة في واقع الحياة ... وهنا يظهر دور القرآن المتفرد كمعجزة تغييرية. ويؤكد الدكتور يوسف القرضاوي على منزلة السنة فيقول: القرآن الكريم هو الآية العظمى، والمعجزة الكبرى لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو الكتاب المحفوظ الخالد .. وهو المصدر الأول المقطوع بثبوته من أوله إلى آخره، وبه يحتج على كل مصادر الإسلام وأدلته الأخرى، ولا يستدل بها عليه. وتأتي السنة النبوية مصدرًا تاليًا للقرآن، مبينًا له، كما قال تعالى لرسوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] , فالرسول هو المبين للقرآن بقوله وعمله وتقريره. وبهذا نعلم أن السنة هي التفسير العملي للقرآن، والتطبيق الواقعي - والمثالي أيضًا - للإسلام، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم هو القرآن مفسرًا، والإسلام مجسمًا. فمن أراد أن يعرف المنهج العملي للإسلام بخصائصه وأركانه، فليعرفه مفصلاً مجسدًا في السنة النبوية القولية والعملية والتقريرية، فكلمة (السنة) تعني: الطريق أو المنهج، وهو تُمثل (الحكمة) النبوية في بيان القرآن، وشرح حقائق الإسلام، وتعليمه للأمة، فقد أنزل الله على رسوله (الكتاب والحكمة) , كما جعل ذلك من شُعب مهمته في تكوين الأمة {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [آل عمران:164] (¬1). * * * ¬

_ (¬1) كيف نتعامل مع السنة النبوية ليوسف القرضاوي , ص 26،25 - بتصرف يسير.

وفي النهاية

وفي النهاية أخي: إن كان القرآن هو سر نهضتنا فهو يحتاج بالضرورة إلى من يحمله ويبلغه للناس. لذلك فإن كل ما قيل في الصفحات السابقة متوقف على من يتبناه، ولكن لا يمكننا أن نحمله ونتبناه إلا إذا بدأنا بأنفسنا، وذقنا حلاوة التغيير من خلال القرآن، وشعرنا بالقوة الروحية والدافع الذاتي الدائم المتولد من لقائنا معه. فلا تتعجل -أخي- دعوة غيرك إلى ذلك إلا بعد أن يتمثل فيك أولاً وترى بنفسك أثر المعجزة القرآنية، وهذا لا يحتاج إلى وقت طويل، شريطة أن تشتد رغبتك، وتواظب على الوسائل المذكورة آنفًا وغيرها مما يفتح الله به عليك للوصول إلى مرحلة التأثر المستمر، وأن تتواصى بذلك مع من معك، وأن تلح دومًا على ربك بأن يكرمك ويكرمني ويكرم جميع المسلمين بالدخول إلى عالم القرآن، والانتفاع الحقيقي بمعجزته.

مناشدة أخي الحبيب: ناشدتُّك الله .. بأن تأخذ موضوع القرآن مأخذ الجد. ناشدتُّك الله .. أن تخصص له على الأقل ساعة يوميًا تقرؤه بتفهم وترتيل وتباك. ناشدتُّك الله .. أن تفعل ذلك وتصبر عليه فالأمة في انتظارك، والقرآن جاهز لتغييري وتغييرك. وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم (والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله)

أهم المراجع

أهم المراجع • القرآن الكريم. • الإتقان في علوم القرآن - دار الندوة الجديدة - بيروت. • إحياء علوم الدين - أبو حامد الغزالي - دار الحديث القاهرة - ط1 - 1412 هـ. • أخلاق حملة القرآن - أبو بكر الآجري - دار الكتاب العربي - لبنان. • آداب الشيخ الحسن بن أبي الحسن البصري - ابن الجوزي - دار المعراج - الرياض - ط1 - 1414هـ. • استنشاق نسيم الأنس - ابن رجب - المكتب الإسلامي - دار الخاني - ط1 - 1411 هـ • البداية والنهاية - الحافظ ابن كثير- مكتبة العبيكان - السعودية - ط2 - 1417 هـ. • تدبر القرآن - سلمان بن عمر السنيدي - المنتدى الإسلامي - ط1 - 1422هـ. • تفسير القرآن العظيم -الحافظ ابن كثير - مكتبة العبيكان - المكتبة العصرية - بيروت - ط2 - 1417هـ • التوحيد والوساطة في التربية الدعوية - د. فريد الأنصاري - دار الكلمة - المنصورة - مصر. • الجهاد في الإسلام - د. محمد سعيد رمضان البوطي - دار الفكر - دمشق. • حديث القرآن عن القرآن - محمد الراوي - مكتبة العبيكان - الرياض - ط1 - 1415 هـ • حسن البنا ومنهجه في التفسير - دار التوزيع والنشر الإسلامية - القاهرة. • حياة الصحابة - محمد يوسف الكاندهلوي - شركة الرياض - السعودية - ط1 - 1998 هـ • الدر المنثور في التفسير المأثور - جلال الدين السيوطي - دار الكتب العلمية - بيروت - ط1 - 2000 م. • دموع القراء - محمد شومان الرملي - دار النفائس - الأردن - ط1 - 2003 م. • زاد المعاد في هدى خير العباد - ابن القيم - مؤسسة الرسالة - بيروت. • سلسلة الأحاديث الصحيحة - محمد ناصر الدين الألباني - مكتبة المعارف - الرياض - 1415هـ. • شعب الإيمان - البيهقي - دار الكتب العلمية - بيروت - ط1 - 1410هـ. • صحيح الجامع الصغير وزيادته - محمد ناصر الدين الألباني - المكتب الإسلامي - دمشق - ط3 - 1408هـ. • الطبقات الكبرى - ابن سعد - دار الكتب العلمية - بيروت - ط1 - 1410 هـ. • العقوبات ابن أبي الدنيا - دار ابن حزم - بيروت. • فتح الباري شرح صحيح البخاري - الحافظ ابن حجر العسقلاني - دار الكتب العلمية - بيروت - ط1 - 1410هـ. • فتح الرحمن في بيان هجر القرآن - محمد فتحي، محمود الملاح - دار طيبة الخضراء - مكة. • فضائل القرآن - أبو عبيد بن سلام الهروي - تحقيق مروان العطية - دار ابن كثير - دمشق - ط2 - 1420هـ. • فضائل القرآن - أبي بكر الفريابي - تحقيق د. يوسف عثمان - مكتبة الرشد - الرياض - ط2 - 1421هـ. • في ظلال القرآن - سيد قطب - دار الشروق - القاهرة - ط15 - 1408هـ. • كيف نتعامل مع السنة النبوية - د. يوسف القرضاوي - دار الشروق - القاهرة - ط1 - 2000م. • كيف نتعامل مع القرآن؟ - محمد الغزالي - دار الوفاء - المنصورة - مصر - ط2 - 1412هـ. • كيف ننتفع بالقرآن الكريم - أحمد البراء الأميري - مؤسسة الريان بيروت. • لمحات الأنوار ونفحات الأزهار وري الظمآن - الغافقي - دار البشائر الإسلامية - بيروت - ط1 - 1997 م. • مختصر قيام الليل - محمد بن نصر المروزي - مؤسسة الرسالة - ط2 - 1414هـ. • المدخل لدراسة القرآن الكريم - محمد أبو شهبة - طبعة خاصة بالمؤلف. • مفتاح دار السعادة - ابن القيم - دار ابن عفان - الخُبر - السعودية - ط1 - 1416هـ. • النبأ العظيم - د. محمد عبد الله دراز - دار طيبة - الرياض - ط2 - 1421هـ. • نظرات في كتاب الله للإمام الشهيد حسن البنا- جمع عصام تليمة- دار التوزيع والنشر الإسلامية- القاهرة. * * *

§1/1