إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث

مالك بن نبي

مفاهيم إسلامية إنتاجُ المستشرقينْ وأثَره في الفِكر الإسلاميّ الحَدِيث مالك بن نبي دار الإرشاد للطباعة والنشر والتوزيع

إنتاج المستشرقين

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1388هـ - 1969م

مفاهيم إسلاميّة إنتاجُ المستشرقينْ وأثَره في الفِكر الإسلاميّ الحَدِيث مالك بن نبي دار الإرشاد للطباعة والنشر والتوزيع -بيروت-

بسم الله الرحمن الرحيم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يجب أولاً أن نحدد المصطلح: إننا نعني بالمستشرقين الكتاب الغربيين الذين يكتبون عن الفكر الإسلامي وعن الحضارة الاسلامية. ثم علينا أن نصنف أسماءهم في شبه ما يسمى ((طبقات)) على صنفين: أ- من حيث الزمن: طبقة القدماء مثل جربر دوريياك والقديس توماس الاكويني وطبقة المحدثين مثل كاره دوقو وجولدتسهير. ب- من حيث الاتجاه العام نحو الإسلام والمسلمين لكتابتهم: فهناك طبقة المادحين للحضارة الاسلامية وطبقة المنتقدين لها المشوهين لسمعتها.

هكذا وعلى الترتيب يجب أن تقوم كل دراسة شاملة لموضوع الاستشراق، إلا أننا، من الوجهة الاجتماعية الخاصة التي تهمنا في هذا البحث وفي النطاق الضيق المحدد لهذه السطور، نختار عن قصد فصلاً خاصاً، اختياراً تبرره مبررات إلغائنا للفصول الأخرى. إنه لمن الواضح أن المستشرقين القدماء أثروا وربما لا يزالون يؤثرون على مجرى الأفكار في العالم الغربي دون أيما تأثير على أفكارنا، نحن معشر المسلمين، ان ما كتبوا كان قطعاً المحور الذي تحركت حوله الأفكار التي نشأت عنها حركة النهضة في أوروبا، بينما لا نرى لهم أي أثر فيما نسميه النهضة الإسلامية اليوم. فلنترك إذاً قضيتهم جانباً لمن تهمه دراسة التاريخ العام كما نترك أيضاً قضية المنتقدين على الحضارة الإسلامية المحدثين حتى ولو كان لهم بعض الأثر في تحريك أقلامنا أو كان لهم بعض الصيت في زمنهم وبلادهم مثلاً الأب لامانس، انهم لا يدخلون في موضوع بحثنا لأن انتاجهم، على فرض انه مس ثقافتنا الى حد ما، إلا أنه لم يحرك ولم يوجه بصورة شاملة مجموعة أفكارنا، لما كان في نفوسنا من استعداد لمواجهة أثره تلقائيا، مواجهة تدخلت فيها عوامل الدفاع الفطرية عن الكيان الثقافي، كما وقع ذلك في العهد الذي نشر فيه طه حسين كتابه في الشعر ((الجاهلي)) على غرار

أثر في تطور أفكار المجتمع الاسلامي منذ قرن

مما تقتضيه مسلمة قدمها المستشرق مرجليوث قبل سنة من صدور كتاب طه حسين الذي اثار تلك الزوبعة من السخط التي تخللتها الصواعق المنطلقة من قلم مصطفى صادق الرافعي رحمه الله وأكرم مثواه. ولكننا على عكس ذلك نحد للمستشرقين المادحين الأثر الملموس الذي يمكننا تصوره بقدر ما ندرك انه لم يجد في نفوسنا أي استعداد لرد الفعل حيث لم يكن هناك، في بادىء الأمر، مبرر للدفاع الذي فقد جدواه وكأنما أصبح جهازه معطلاً لهذا السبب في نفوسنا. وموضوعنا هنا، هو أن نبين ما كان لهذه الثغرة في جهازنا للدفاع عن الكيان الثقافي، من أثر في تطور أفكار المجتمع الاسلامي منذ قرن، وأثناء هذا القرن العشرين على وجه الخصوص. ولا شك أن المستشرقين المادحين مثل رينو الذي ترجم جغرافية أبي الفداء في أواسط القرن الماضي ومثل دوزي الذي بعث قلمه قرون الأنوار العربية في إسبانيا ومثل سيدييو الذي جاهد جهاد الأبطال طول حياته من أجل أن يحقق للفلكي والمهندس العربي ألبي الوفاء لقب المكتشف لما يسمى في علم الهيأة ((القاعدة الثانية لحركة القمر)) ومثل آسين

بلاثيوس الذي كشف عن المصادر العربية لكوميدية الإلهية، لا شك أن هؤلاء العلماء كتبوا لنصرة الحقيقة العلمية، وللتاريخ، وكل ذلك من أجل مجتمعهم الغربي. ولكننا نجد أن أفكارهم كان لها وقع أكبر في المجتمع الإسلامي، في طبقاته المثقفة. إن الجيل المسلم الذي أنتسب اليه يدين الى هؤلاء المستشرقين الغربيين بالوسيلة التي كانت بين يديه لمواجهة مركب النقص الذي اعترى الضمير الإسلامي أمام ظاهرة الحضارة الغربية. ولكننا إذا تصفحنا هذه القضية في ضوء خبرتنا الحديثة وفي ضوء تجاربنا القريبة نجد أن هذه الوسيلة لم تقتصر نتائجها على الأثر المحمود في تطور أفكارنا وثقافتنا، بل كان لها أثر مرضي هو الذي نريد طرحه كموضوع البحث في هذه السطور. فلكي نتصور هذا الأثر على صورته الحقيقية في مجتمعنا الإسلامي، يجب أن نعيد هذا النوع من الاستشراق الى مصادره التاريخية. إن أوروبا اكتشفت الفكر الإسلامي في مرحلتين من تاريخها فكانت في مرحلة القرون الوسطى، قبل وبعد طوماس الأكويني، تريد اكتشاف هذا الفكر

وترجمته من أجل اثراء ثقافتها بالطريقة التي أتاحت لها فعلا تلك الخطوات الموفقة التي هدتها الى حركة النهضة منذ أواخر القرن الخامس عشر. وفي المرحلة العصرية والاستعمارية فإنها تكتشف الفكر الاسلامي مرة أخرى لا من أجل تعديل ثقافي بل من أجل تعديل سياسي، لوضع خططها السياسية مطابقة لما تقتضيه الأوضاع في البلاد الإسلامية من ناحية، ولتسيير هذه الأوضاع طبق ما تقتضيه هذه السياسات في البلاد الإسلامية لتسيطر على الشعوب الخاضعة فيها لسلطانها وربما انطبقت هذه المجهودات العلمية، في نفس أصحاجها، على مجرد الإعتراف بفضل تلك الشعوب وبمساهمتها في تكوين الرصيد الحضاري الإنساني، ولا شك أن المستشرق سيدييو والعلامة غسطاف لوبون يتسمان في انتاجهما بميزة العلم الخالص والاجتهاد المخلص للحقيقة العلمية. ولكن تجب هنا الملاحظة بأن هذا اللقاء الجديد وقع في ملابسات تاريخية لم يكن فيها العلم الاسلامي علماً حياً ينقل من أفواه الأساتذة مباشرة ومن كتبهم المعاصرة بل أصبح أشبه شيء بعلم الآثار يكتشفه الباحثون الأوروبيون بحكم الصدفة ويصدقون أولا يصدقون في نقله، ثم ينسبونه لأصحابه من العلماء

المسلمين، أو ينسبونه لأنفسهم أو لأحد الأوروبيين، فهكذا كانت اكتشافات كبرى تنسب لغير أصحابها، مثل دورة الدم الصغرى للانجليزي وليام هرفي بينما كان صاحبها، الطبيب المسلم ابن النفيس يعيش قبله بأربعة قرون. كما تجب الملاحظة أيضاً أن العالم الإسلامي أصبح في هذه الملابسات يعاني الصدمة التي أصابته بها الثقافة الغربية، ويعاني بسببها على وجه الخصوص أثرين: مواجهة مركب نقص محسوس من ناحية، ومحاولة التغلب عليه من ناحية أخرى حتى بالوسائل التافهة. لقد أحدثت هذه الصدمة، عند قبيل من المثقفين المسلمين، شبه شلل في جهاز حصانتهم الثقافية، حتى أدى بهم مركب النقص الى أن ولوا مدبرين أمام الزحف الثقافي الغربي، وألقوا أسلحتهم في الميدان، كأنهم فلول جيش منهزم في اللحظة التي بدأ فيها الصراع الفكري يحتدم بين المجتمع الإسلامي والغرب، فأصبح هذا القبيل من المثقفين يبحث عن نجاته في التزي بالزي الغربي، وينتحل في أذواقه وسلوكه كل ما يتسم بالطابع الغربي حتى ولو كان هذا الطابع ليس إلاّ مظهراً لا شيء وراءه من القيم الحضارية الغربية الحقيقية.

وبدأت تظهر في الأفق الثقافي الإسلامي الفكرة الجديدة التي حركت، بعد حرب السباي (1858) بالهند، تأسيس جامعة عليكرة، وحركت، من جانب آخر وضد هذا المشروع، باعث النهضة الإسلامية السيد جمال الدين الأفغاني. وهكذا أصبح الفكر الإسلامي على اثر الصدمة الثقافية التي اجتاحته وما تسبب عنها من موكب نقص. ينحاز الى معسكرين: أحدهما يدعو لتمثل الفنون والعلوم والأشياء الغربية- حتى اللباس- والآخر يحاول التغلب على مركب النقص بتناول حقنة اعتزاز يعلل بها النفس. فالتيار الأول كان من الناحية العقلية، والسياسية والاجتماعية له أثره في لونين، اللون الذي يتمثل في تأسيس جامعة عليكرة، واللون الذي يتمثل في دعوة جمال الدين الافغاني مع تباين الأهداف وتشابه الوسائل التي كانت تفرض على العالم الإسلامي في كلتا الحالتين تطوراً يؤدي به الى ((الشيئية)) و ((التكديس)). وأما التيار الثاني- وهو موضوع حديثنا لاتصاله بإنتاج المستشرقين- فإنه وجد منحدره الطبيعي في أدب الفخر والتمجيد الذي نشأ منذ القرن التاسع عشر على أثر ما نشره علماء مستشرقون، أمثال

دوزي، عن الحضارة الاسلامية. ولا يمكننا، على أية حال، أن نجعل بإن التيارين فاصلاً قاطعاً، لأن الثاني منهما لا يكون مدرسة مستقلة عن الأول، بل نجده يخامر الفكر الاسلامي على العموم ويتخلل اتجاهه العام كفكر يبحث عن حقنة اعتزاز للتغلب على المهانة التي أصابته من الثقافة الغربية المنتصرة، كما يبحث المدمن عن حقنة المخدر التي يستطيع بها مؤقتاً اشباع حاجته المرضية. وهذا لا يجعلنا ننفي لهذا التيار، ولنوع الأدب الذي نتج عنه كل أثر حسن في مصير المجتمع الاسلامي، لأنه كان له نصيب لا يزهد فيه في الحفاظ على شخصيته، والجيل الذي أنا منه يدين له بذلك النصيب على الأقل في المحافظة عالى شخصيته الاسلامية. انني على سبيل المثال، قد أكتشفت وأنا بين الخامسة عشر والعشرين من العمر، أمجاد الحضارة الاسلامية في ترجمة دوسلان لمقدمة ابن خلدون وفيما كتب دوزي عنها وأحمد رضا بعد الحرب العالمية الأولى. وانني على إدراك تام لما أدين به لهذه المطالعات وقد ذكرت ذلك في الجزء الأول من ((مذكرات شاهد القرن))، ولآن، وأنا قد تجاوزت الستين من العمر، أستطيع أكثر من ذي قبل تقدير هذا العلاج للفكر

وللضمير لا في النطاق الشخصي فحسب بل في النطاق الشامل للمجتمع الاسلامي طيلة أربعين سنة بعد تجربتي، فأرى أن أقرر هنا، مع الاختصار اللازم في هذا الغرض ان مساوئ طريقة هذا العلاج تظهر لي بالتالي أكثر من حسناتها وذلك لأسباب متعددة. فالسبب الأول لأنه بديهي نلاحظه في الآثار النفسية لأسلوب التكوين، أي البيداغوجية، بالنحو الذي نشير اليه بمثل بسيط: اننا عندما نتحدث إلى فقير، لا يجد ما يسد به الرمق اليوم، عن الثروة الطائلة التي كانت لآبائه وأجداده إنما نأتيه بنصيب من التسلية عن متاعبه بوسيلة مخدر يعزل فكره مؤقتاً وضميره عن الشعور بها: إننا قطعاً لا نشفيها. فكذلك لا نشفي أمراض مجتمع بذكر أمجاد ماضيه، ولاشك أن أولئك الماهرين في فن القصص قد قصوا للأجيال المسلمة في عهد ما بعد الموحدين قصة ألف ليلة وليلة وتركوا يذلك اثر كل سمر، نشوة تخامر مستمعيهم حتى يناموا فتنغلق أجفانهم على صورة ساحرة لماض مترف. ولكن سوف تستيقظ هذه الجماهير في الغد فتنفتح أبصارهم من جديد على مشهد الواقع القاسي

الذي يحيط بها في وضعها الذي لا تغبط عليه اليوم. فالأدب الذي ينشد ((عصور الأنوار)) للحضارة الاسلامة يؤدي أولاً هذين الدورين، انه أتاح في مرحلة معينة الجواب اللائق للتحدي الثقافي الغربي وحفظ هكذا مع عوامل أخرى على الشخصية الاسلامية، ولكنه من ناحية أخرى، صب في هذه الشخصية الاعجاب بالشيء الغريب ولم يطبعها بما يطابق عمر الفعالية والميكانيك. وليست هذه الملاحظة مجرد شيء عابر نمر عليه في هذا العرض مر الكرام، بل يجب أن نقف عندها بكل اهتمام وتأمل، ولذا كانت أهميتها تلوح لنا من الجانب الاجتماعي من دون أي تردد، فانها تتخذ صورة أوضح اذا ما طرحناها على صعيد معركة الأفكار التي تجتاح العالم اليوم بصورة عامة والمجتمع الاسلامي بصورة خاصة. وهنا تجب كلمة عن هذا المفهوم الذي نعنيه بـ ((الصراع الفكري)) في العالم الاسلامي، يجب أن نقرر مبدئياً هذه القاعدة العامة، الا وهي أنه عندما يطرح مسلم أو بعض المسلمين مشكلة ما تهم مجتمعهم، فان هذه المشكلة تكون قد طرحت أو ستطرح عاجلاً في أوساط المتخصصين في هذه الدراسات لحساب وتحت اشراف الاستعمار.

وكلما يتقدم هذا المفكر المسلم أو هؤلاء المسلمون بحل لهذه المشكلة، يسرع من طرفهم أولئك الاخصائيون لدراسة هذا الحل، فان كان خاطئاً، زادوا في شحنة خطئه بطريقة أو أخرى، وان كان فيه بعض ما يفيد حاولوا كل جهدهم للتقليل من شأنه، وتخفيض قيمته حتى لا يفيد. هذه هي القاعدة العامة في الصراع الفكري الذي نشير اليه. ويترتب على هذا، انه كلما لاحت في العالم الإسلامي أي بادرة ذات مغزى، ولو كانت لا تبصرها أعيننا، فان مجهر أولئك الاخصائيين يلتقطها على الفور، ليجري عليها كل طرق التحليل، واذا وجدوا فيها أي اتصال بحركة الأفكار في العالم الاسلامي، تجري عليها كل عمليات التشريح، وتمر بكل أصناف التقطير، حتى يبقى في محتواها الاجتماعي أقل ما يمكن من عوامل التيسير لصلاحيتها وأكثر ما يمكن من عوامل التعسير وانتفاء الصلاحية. ومن الواضحأن من أكثر البوادر دلالة على اتجاه مجتمع ما، هو اتجاه افكاره: فاما ان تكون متجهة الى الامام، إلى المستقبل، أو إلى الخلف، اتجاهاً متقهقراً، اتجاهاً ملتفتاً إلى الماضي بصورة مرضية. ومن دون ان نستمر إلى أبعد من هذا في تحليل هذه

الاحكامات الدقيقة للصراع الفكري فلنلق هذه الاعتبارات على موضوعنا بالذات، نعني اثر هذا النوع من أدب المدح والتمجيد والاطراء على سير الأفكار، واتجاهها في المجتمع الاسلامي المعاصر، فنرى على الفور الجانب الآخر لهذا الأدب، عندما يصير بين يدي أولئك الأخصائيين وسيلة عمل حهنمي في تحريك رحا الصراع الفكري المحتدم في بلادنا. اننا نرى اليوم مرأى العين هذا العمل الفتاك، ونرى أثره في كل تفاصيل حياتنا الفكرية والسياسية والاجتماعية، وفي البلاد العربية حيث تكونت تجربتي وخبرتي كمواطن وككاتب وكصحافي. وليس كتاب كامل بكافي لسرد هذه التجربة. ولنذكر منها فقط، على سبيل المثال آخر تفصيل من تفاصيلها: انعقد أخيراً بباريس مؤتمر العمال الجزائريين بأوروبا وبهذه المناسبه تقرر من لدن المشرفين على المؤتمر توزيع كتيب لصاحب هذا العرض، تناول فيه مشكلة من مشاكلنا اليوم، بالخصوص في الجزائر، البلد الذي اتخذ من كلمة ((الديمقراطية)) شعاره الدستوري. ولكن أصحاب الاختصاص في الصراع الفكري لم يهملوا هذه المناسبة من اهتمامهم، ولم يفتهم ما تقرر توزيعه بهذه المناسبة، ولكن كيف يسدون الذريعة،

أعني كيف يسدون الطريق على الأفكار المعروضة في الكتيب الذي سيوزع أثناء المؤتمر، حتى لا يصل مدها إلى رؤوس المؤتمرين، أو على الأقل حتى يكون لها أقل مد ممكن؟ ولذا بنا نرى الدعوة توجه إلى تلك السيدة الألمانية المقربة التي وضعت أو وضع اسمها على ذلك الكتاب ذي العنوان الجذاب "شمس الله تشرق على الغرب " وفيه ما فيه من مدح وتمجيد الحضارة الاسلامية. وتقدمت السيدة، وقدمت كتابها إلى المؤتمر، فانتقل على الفور بروحه من مجال المشكلات الحادة القائمة اليوم، إلى أبهة وأمجاد الماضي الخلاب! ولم يكن الصديق الذي كان يذكر لي هذه القصة يخطر على باله أي شيء من صلتها "بالصراع الفكري " وهو يقول: وفي الأخير قامت القاعة كلها لتحيي السيدة! ولا شك أن القصة تكشف عن جانبين: الجانب الذي يبرز حساسية الجماهير المسلمة لأمجاد ماضيها، والجانب الذي يكشف عن امكان استغلال هذه الحساسية لالفات تلك الجماهير عن حاضرها. وهذا الجانب هو الذي يهمنا لأنه يلتقي في الزمن مع أوج الموجة العارمة التي تكتسح اليوم العالم، من أمواج الصراع الفكري، ولأنها فعلاً موجهة في أوجها

بالخصوص في البلاد الاسلامية،- حتى وان كانت لا تشعر بها أحياناً. إنما نرى كيف يتصرف أولي الاختصاص في الصراع الفكري، في ظرف خاص من ظروفه، عندما تعرض فكرة عمل وتأمل على الجماهير الاسلامية، كيف يستطيعون لفت الأبصار عنها بعرض أفكار أخرى في المناسبه ذاتها، أفكار جذابة، تدعو للأحلام السعيدة، أفكار مقتبسة من قصص ألف ليلة وليلة. هذه هي القاعدة العامة التي يجب علينا أن نجعلها دوماً نصب أعيننا: اننا كلما طرحنا مشكلة وعرضنا لها حلاً من الحلول فان قادة الصراع الفكري يأتون على الفور بما يلفت عنه الأبصار أو ما يزيفه تزييفاً. وما الحلول التي تعرض علينا في المجال السياسي، مثل البعثية، والبربرية، والافريقية والشيوعية- تلك الشيوعية التي يرعاها الاستعمار ويسهر على نباتها في مدفآته وما ذلك الأدب المطنب في المدح والتمجيد لماضينا الا وسائل الفات في المجال السياسي أو في المجال الفكري، حتى يلتفت العالم الاسلامي عن أم مشكلاته، الا وهي مشكلة حضارته، حتى يلفتوه عنها، ويربطوا اهتمامه يمشكلات وهمية، ويلهوه بحلول وهمية، يتجلى عبثها بصورة مفجعة في ظرف من الظروف الخطيرة غداة افلاس مصقع، وهزيمة شنيعة، وفضيحة مخجلة، مثل

غداة 5 يونيو 1967. والواقع أن قضية عمليات الالفات والتسلية كانت قائمة منذ قبل الحرب العالمية الأولى، غير أنها تطرح اليوم والعالم الاسلامي يمر، في هذه الآونة بالذات، بأخطر أزمة في تاريخه، حتى أننا نستطيع القول- اذا ما طرحنا جانباً بعض المظاهر من تطوره- أنه كان قبل أربعين سنة أقرب إلى الحل الرشيد لمشكلته وهو مستعمَر، لأنَّ وحدته الروحية أو الايديولوجية كانت أمتن منها اليوم فهو الآن، وهو مستقل، كأنما يبتعد عن هدفه لأن وحدته هذه قد تصدعت من عملية التقسيم التي أجريت عليه منذ أربعين سنة. هذا هو الوضع الحقيقي، اذا ما طرحنا جانباً بعض المظاهر الخادعة- بحيث اننا اذا حكمنا بأن المجتمع الاسلامي- ككل يواجه نفس المشكلة- قد تخلف منذ ربع قرن، وتقهقر، فليس في حكمنا أي اجحاف بالحقيقة، وانما الخطأ في هذه النقطة بالذات يعود إلى أننا تعودنا تقدير الأشياء بالمقياس السياسي، ذلك المقياس الذي يجعلنا نقارن الوضع في حالتين مرت بها الدولة الإسلامية على ضفتين قريبتين من التاريخ، قبيل الحرب العالمية الثانية، وهي في نير الاستعمار، وبعد تلك الحرب، وهي متحررة سياياً في أغلبها، دون أن نقف بالتأمل

عند حقيقة هذا التحرر الذي لم يحم تلك الدول حتى من غيلة دويلة اسرائيل، بينما يكشف لنا هذا السير أو التطور منذ ربع قرن على أن المجتمع الاسلامي ضيع فيه، بين ضفتي التاريخ المشار اليها، أثمن ما عنده كزاد طريق، نعني الشعور بوحدة المصير، وضرورة الحل الواحد الذي لا تجزي عنه بعثية، ولا بربرية، ولا نزعة افريقية، ولا شيوعية مصطنعة، ولا خرافات ألف ليلة وليلة. واليوم تعترض العالم الاسلامي هذه المشكلة في صورة متحارجة، شكسبيرية: هل نكون أو لا نكون؟ بينما تلمح ريشة الساعة إلى الاحتمال الثاني، منذ أتت أحداث يونيو 1967 معبرة بلغتها القاصية على عبث تلك التشييدات السياسية والعسكرية التي تستند على ظاهرة الشيئية نعني تكديس تلك الأشياء التي جمعت في عشرين سنة من أجل الدفاع عن النفس، والتي ذابت في أول ساعة عند هجوم اسرائيل، وليس بمجدٍ، لمواجهة الدويلة الصهيونية، أن نكدس من جديد، دخيرة وزاداً وعتاداً، ليس بمجد تجديد الأشياء، بل تجديد الأفكار، ولكن تجديدها بصورة جذرية، بحيث تعوض تلك التي تؤدي إلى الهزيمة الهائلة وإلى الفضيحة الشنعاء، لأنها تفقد الروح التي ترفع الانسان إلى مستوى مهماته،

بالأفكار الحية، المحيية التي تعطي الانسان تلك الدفعة الجبارة التي ترفعه إلى قمة واجباته أمام الأحداث الكبرى. يجب أن نقف عند هذه الحقيقة، أن ما ينوب مجتمعاً ما في منعطفات التاريخ الخطير. ليس من قلة أشيائه ولكن من فقر أفكاره. وما فاجعة سيناء، في غرة يونيو 1967، الا المحك العملي الذي يبرز هذه الحقيقه العامه، في ظرف خاص للأمة العربية، ولعلي يجدر بنا أن نقف عند الظرف لنستخلص منه عبرة أخرى ألا وهي أن النصر الخاطف الذي أحرزته اسرائيل في هذا الظرف على كوم جامد من الأشياء التي كانت بيد العرب، أصبح يواجه على نفس الأرض صعوبات لم يتوقعها، لأنه يواجه اليوم رجالاً تحركهم أفكار جديدة، بل رجالاً تجددوا هم بهذه الأفكار: أن قصف باخرة ((ايلات)) والموقف البطولي للفدائيين الفلسطينيين على حدود الأردن، وداخل الأراضي المحتلة، ليسا الا تعبيراً واحداً على التحول الذي حدث، اثر النكبة، لا في عالم الأشياء بالنسبة للعرب، بل في عالم أفكارهم. ولست أتعرض هنا لقضية الأفكار بالنسبة لمجتمعنا الا بصورة عابرة، تاركاً هذا الموضوع المهم الى فرصة أخرى.

وحاصل الأمر أن الصدمة التي حصلت للضمير الاسلامي في القرن التاسع عشر وفي هذا القرن، تجاه الحضارة الغربية، كانت محسوسة في عالم أفكارنا على وجه الخصوص، وفي مجال الأفكار العلمية بالذات، بحيث كان لهذه الصدمة أثرها حتى في ميدان تفسير القرآن الكريم، ولا شك أن عملاً جباراً مثل تفسير طنطاوي جوهري، ذلك التفسير الذي لا نجد فيه كثيراً من الجدوى، يعزى قطعاً إلى هذا التأثير العلماني على أفكارنا، مع الملاحظة أنه يعبر في نفس الوقت على ظاهرة التكديس، تكديس المعلومات طبعاً، بحيث يصبح هذا العمل الشاق كله أقرب إلى دائرة معارف منه إلى تفسير القرآن، كما أنه يعبر عن ظاهرة جديدة، هي تلك العلمانية العقيمة التي ليست بالنسبة للفكر الاسلامي الا عملية تعويض في الميدان الذي شعر فيه أكثر بتحدي الحضارة الغربية. والآن نستطيع القول أن هذا الميدان بالذات كان التربة الخصبة الذي وجدها الأدب الاستشراقي، من النوع الذي يتصف بالمدح والتمجيد، ليزرع فيها كل تلك المخدرات التي يتقبلها بكل شغف مجتمعنا لأنها تخدر ضميره وتسليه، ولكن هذا الضمير لا زال في صراع داخلي تسكنه أحياناً مؤلفات مشارقة مثل طنطاوي جوهري، وأحمد رضا وفريد وجدي أو مستشرقين مثل دوزي

وجوستاف لوبون أو تثير، مؤلفات أخرى لمشارقة ومستشرقين آخرين في صورة استثارات وتحديات جديدة لما تستصغر هذه الطائفة أو تلك ما ساهم به العرب في تنمية العلوم، ابان حضارتهم، قاصرين دور هذه الحضارة على مجرد تبليغ ما أنتجه اليونان والرومان. واذا أردنا أن نخص احدى هاتين الطائفتين بالذكر، نقول أن بعض هؤلاء المشارقة المتتلمذين للمستشرقين يخفون عملهم التخريبي ضد الاسلام، بإيعاز واضح من أوساط استعمارية، تحت رداء تقدمية جوفاء تحاول سلب الاسلام من كل قيمة حضارية، بل تنسب له حالة التخلف الراهنة في العالم الإسلامي. ولا شك أن كتاب ((الايديولوجيات العربية في محضر الغرب))، الذي ظهر منذ بضعة أشهر بتقديم مكسيم رودنسون، لا شك أن هذا الكتاب المبني على منطق سفسطائي، ذو صلة متينة بهذا التيار، وأن صاحبه، التلميذ المراكشي لصاحب المقدمة، من هذه الشجرة التي يجوز لنا أن ننسب لها أيضاً من تلامذة المستشرقين حتى أولئك الأبرياء الذين يضعون أقدامهم عن غير شعور في ثقافة الغرب بل في سياسته أيضاً ويتقدمون هكذا بأنصاف الحلول لأنصاف المشكلات التي يعتقدونها المشكلات الرئيسية للعالم الاسلامي غير أنهم يختلفون

بحسن نواياهم عن الآخرين أولئك الآلات المسخرة بين أيدي اختصاصيي الصراع الفكري، السائرين على اثر أساتذتهم الغربيين، لا يختلفون معهم الا في مهارة الأسلوب والتزويق في الصيغة، ويلتقون مع أساتذتهم في الانتقاص من سوابق الفكر الاسلامي، ولكن يمتازون في احاطة مستقبله بالريبة والابهام بتلك الثرثرة التقدمية مثل صاحب كتاب ((الايديولوجيات العربية في حضر الغرب)) الذي أشرنا اليه. وهكذا يبقى الضمير الاسلامي في دوامة صراعه الباطن يسكنه أحياناً ما يكتب المادحون ويثيره أحياناً أخرى ما ينتجه المفندون، وقد استمر هذا الصراع منذ قرن في حلقة مغلقة، مستهلكاً أجدى الطاقات الفكرية في العالم الاسلامي من دون جدوى، من دون أي تأثير حقيقي على تطور العقلية الاسلامية، لم ينتج الا بعض الصواريخ الأدبية الخلابة في تلك المؤلفات الجميلة التي لم يبق لها أي أثر مثل كتاب ((روح الاسلام)) للسيد أمير علي. بحيث لو أننا حاولنا اليوم أن نجعل تقويماً لهذا الانتاج نراه يعبر أحسن تعبير على تبذير طاقات فكرية ثمينة لم يحسن استخدامها، واذا أردنا أن نعطي هذا التقويم كل معناه يجب أن نقارن هذا الانتاج بما أنتجه لوثر وكلفان

إبان حركة الاصلاح في أوروبا، وانتاج ديكارت الذي وضع أقدام أوروبا على طريق التطور التكنولوجي أو انتاج ماركس وأنجلس ولينين الذين وضعوا على أقدامه مجتمعاً جديداً يغزو اليوم الفضاء. وبالتالي يتبين لنا أن الانتاج الاستشراقي، بكلا نوعيه، كان شراً على المجتمع الاسلامي، لأنه ركب في تطوره العقلي عقدة حرمان سواء في صورة المديح والاطراء التي حولت تأملاتنا عن واقعنا في الحاضر وأغمستنا في النعيم الوهمي الذي نجده في ماضينا، أو في صورة التفنيد والاقلال من شأننا بحيث صيرتنا حماة الضيم عن مجتمع منهار، مجتمع ما بعد الموحدين، بينما كان من واجبنا أن نقف منه عن بصيرة طبعاً ولكن دون هوادة، لا نراعي في كل ذلك سوى مراعاة الحقيقة الاسلامية غير المستسلمة لأي ظرف في التاريخ، دون أن نسلم لغيرنا حق الاصداع بها والدفاع عنها لحاجة في نفس يعقوب. وعلى كل، فان أمكننا أن نصرح بأننا نجد على كل وجه جانباً إيجابياً في هذا الاستشراق، فاننا لا نجده في صورة المديح، بل في صورة التفنيد. فعندما يعلن الاستشراق أنه لا نصيب للعرب في تشييد صرح العلوم، وربما يؤدي بنا هذا الموقف المتطرف

إلى تلافيه بعلمانية سطحية نشاهد أثرها حتى في انتاج بعض المفسرين مثل طنطاوي جوهري، ولكن، هذا الموقف يضطرنا، بما فيه من افراط في الجحود، إلى طرح مشكلة الاسلام والعلم في صورة جديدة تتماشى أكثر مع سمو الدين ومنطق العلم، بحيث لا نصبح نبحث في الآيات الكريمة هل ذكر فيها شيء عن غزو الفضاء أو تحليل الذرة، وانما نتساءل هل في روحها مما يعطل حركة العلم، أو على العكس ما يشجعها وينميها. يجب على وجه الخصوص أن نتساءل اذا ما كان يستطيع القرآن أن يخلق في مجتمع ما المناخ المناسب للروح العلمي، وأن يطلق فيه الأجهزة النفسية الضرورية لتقبل العلم من ناحية، ولتبليغه من أخرى. هذه صورة المشكلة اذا ما طرحناها كما يجب طرحها، نعني من الجانب النفسي الاجتماعي، لا من جانب تاريخ تطور العلم، ولو كان علينا أن نبرر الفكر الاسلامي من هذه الناحية بالذات، لكفانا أن نضع في حسابه ابتكارين لولاهما لم يكن التقدم التكنولوجي في القرن العشرين شيئاً يتصوره العقل، أجل ان التقدم التكنولوجي يشمخ اليوم في فصل العلم النووي الذي لا يمكن للباحثين في هذا الفصل من علوم الطبيعة أن يحصلوا فيه على طائل لولا ما يجدونه مهيئاً تحت أيديهم من طرق حساب سرعتها

فوق كل سرعة، يمكن تصورها في عمليات الآلات الحاسبة الألكترونية. فهل يمكن لهذه الآلات أن تقوم بعملياتها لو لم يهيئ من قبل ذلك النظام العشري الذي نستطيع به كتابة رقم أفوجدرو، على سبيل المثال، بخمسة رموز فقط، أو سبعة اذا تحرينا دقة أكثر؟ والآن نتساءل: ألسنا ندين بوضع هذا النظام العبقري لذلك المناخ العقلي الذي كونته القيمة القرآنية في المجتمع الاسلامي؟ كما أننا لو تساءلنا عن دور الجبر، في تطوير علم الحساب، بحيث يتحول من علم الأرقام المحسوسة إلى علم الرموز المجردة، لأدركنا بعد الأخذ في حسابنا أن اسم الجبر نفسه عربي من ناحية الصيغة والاشتقاق، لأدركنا ما يدين به العقل الانساني إلى العقل الاسلامى من وسيلة لا يستطيع بدونها السير والتقدم في ميدان علوم التقدير والضبط. ولا يضيرنا أن يعزى الجبر، من طرف متطفلين من تلامذة المستشرقين مثل فريد وجدي الذي عزاه إلى اليونان ديوفانت بلا دليل ولا أي حجة، لا يضيرنا ذلك: أن الجبر أتى الى الوجود في المناخ الذي خلقه القرآن.

ولقد يكون من العبث الصبياني أن نربط الصلة هنا، بين الآيات المنزهة وبين النظام العشري أو الجبر، عن طريقة ما يسمى تاريخ تطور العلوم. ان القرآن الكريم لم يأت قطعاً، وبصورة مباشرة، لا بالحساب العشري ولا بالجبر، ولكنه أتى بالمناخ العقلي الجديد الذي يتيح للعلم أن يتطور كما تطور بالنسبة إلى مرحلته السابقة في العهد الاغريقي والروماني، والأمر الجدير بالملاحظة هو أن تطور العلم لا يناط بالمعطيات العلمية فحسب، بل بكل الظروف النفسية الاجتماعية التي تتكون في مناخ معين، والأمر الجدير بالملاحظة أيضاً هو أن مراكز الاهتمام للعقل تتغير من عصر إلى آخر، من حضارة إلى غيرها، حسب التغيرات التي تحدث في المناخ العقلي بالذات. اننا نستطيع قطعاً ربط العلاقة، من الناحية التاريخية، بين عهد الصناعة والتصنيع واكتشاف دونيس بيبان الذي كان ينظر إلى غلاية ماء فوق النار، فلاحظ أن مغلقها يرتفع وينزل بالتوالي، فاكتشف هذا طاقة البخار بالصدفة. ولكننا نلاحظ أن هذه الصدفة كانت تتكرر عبر الأجيال منذ اكتشاف النار، فلم تؤد الى اكتشاف الطاقة البخارية إلى عهد بيبان.

لماذا؟ السبب في ذلك هو أن دونيس بيبان أو نظيره الانجليزي واط كان يمارس ملاحظاته ويتفهمها ويفسرها في مناخ عقلي جديد، تكون في أوربا منذ قرنين من قبل، لما كتب ديكارت ((خطابه)) المشهور في المنهج وقال فيه هذه العبارات المتنبئة الموجهة: ((انه لمن الممكن الوصول إلى معرفة تطبق تطبيقاً نافعاً في الحياة، بحيث تترك مدارس التعليم تلك الفلسفة السكولاستية، وتعلم فلسفة تقبل التطبيق، وتتيح لنا، بعد معرفة تأثير النار والهواء والأجرام الفلكية، والسماوات وكل الأجرام التي تحيطنا، ان نستخدمها تحت قانونها بالذات لمصلحتنا الخاصة بحيث نتمكن من امتلاك الطبيعة والهيمنة عليها)). ان هذه العبارات ناصة فعلاً، متنبئة بما سيحدث بعد ديكارت من انقلابات علمية وتكنولوجية، فهي تدل بكل وضوح على المنحدر الذي سيتبعه الفكر الأوربي في بحثه عن الحقيقة العلمية ذات النفع المباشر، وكان لزاماً أن يلتقي الفكر الأوروبي على هذا المنحدر مع الطاقة البخارية سواء كان دونيس بيبان هو المكتشف أو غيره. وبالتالي فان منهج ديكارت هو الذي كون، بصورة أعم، المناخ العقلي الجديد الذي ستترعرع فيه العبقرية المصلحية التي تتميز بها الحضارة الجديدة.

وهذه هي الزاوية بالذات التي نقدر منها العلاقات العامة بين الاسلام والعلم، فموقف الانسان المسلم أمام عالم الظاهرات، والمنحدر الذي تتبعه العقلية الاسلامية تحت دفعة النص القرآني، والمناخ العقلي الجديد الذي ستتطور فيه هذه العقلية، هذه الأشياء هي في التالي العناصر الأساسية للقضية، فحسب. فالعلم، من حيث أنه علم، هو مجموعة المعلومات ومجموعة الطرق المؤدية لاكتسابها. ولكن يجب علينا اضافة شيء إلى هذا التعريف الذي تصورناه من زاوية علم تاريخ التطور العلمي، لأن التطور العلمي لا ينحصر في هذه الزاوية، بل هو منوط أيضاً بمجموعة شروط نفسية إجتماعية، تؤثر سلبياً أو ايجابياً، بحيث تعطل هذا التطور أو تتيحه أكثر. وعلى سبيل الإيضاح، فإن جليليه، لما أعلن نظرية دوران الأرض، لم تواجهه معارضة علمية، بل معارضة كلامية، نعني معارضة عقائدية، ولم تدن جليليه أكادمية علوم، بل أدانته محكمة دينية تحكمت في أمره باسم العقيدة، إن ما أدانه هو بالتالي مجموعة عوامل القمع والحرمان الموجودة في نفسية المجتمع الذي حكم عليه بالاعدام.

ولكي نعطي لهذه الملاحظة كل معناها ومغزاها تجب ملاحظة أخرى أن في هذا المجتمع الأوروبي، مجتمع ما قبل ديكارت، الذي أعدم أحد كبار علماء الفلك، كان المنجم يقوم بدور كبير المستشارين، ويكرم ويقرب في بلاط الملوك، مثل ثوسراد موسى الذي كان مستشار الملكة كاترينة دامد تشي في البلاط الملكي الفرنسي. ولمزيد من التوضيح يجب أن نقول أن جليليه هذا لو كان يعيش في المجتمع الاسلامي، حتى لما بدأ في ذلك العصر في حركة الجزر الحضري، ما كان ليتعرض لنفس العوامل التي حدَّت من عمله العلمي، وبالتالي حطمت حياته، وإننا لنرى في أوائل القرن الرابع الهجري، أحد كبار الملحدين في ذلك العصر ابن الروندي المذكور في كتاب الزركلي، نراه ينتقص من شخص النبي الأمي عليه الصلاة والسلام فيقول في شأنه: ((لقد تحجر عريضاً ابن أبي كبشة حين ادعى أنه خاتم الأنبياء)) والمشار إليه بابن أبي كبشة معروف لدى الجميع، ومع هذا لم نرَ محكمة تفتيش تنعقد من أجل محاكمة وإدانة هذا التعدي البليغ على أكبر شخصية في الاسلام، بحيث نرى صاحبه يلجأ بالتالي الى انتحار أثناء حجة إلى مكة. وأكثر من هذا: كان اليهودي يستطيع التعدي على عزة القرآن ذاته، دون أن تنزل به أي كارثة، ما عدا

الردود المنتظرة مثل الرد المفحم الذي ورد في ابن حزم لما انتقد يهودي من يهود الأندلس، القرآن الكريم نقداً غير نزيه، فأفحمه ابن حزم في ((رسالة ابن النجريله)) المشهورة. وهذه الحالات المتطرفة قطعاً، إن دلت على شيء إنما تدل على أن المناخ العقلي الجديد، الذي تمتع به المجتمع الاسلامي عندما كان القدوة والنموذج في العالم، ما كان يعرف الاكراه كوسيلة قمع للفكر ولحرية الرأي. وما كان دور عوامل الحرمان إلا في بعض الحالات الشاذة، مثل القضية التي طرحها عصر المأمون بشأن القرآن، هل هو مخلوق أم سرمدي، وحتى في هذه الحالات نجد عناصر أخرى تحد من عوامل وتخفف من شدتها، وهي العناصر التي نمت في الضمير الإسلامي مع البذور التي بذرها فيه القرآن، إننا نرى فعلاً كيف بدأ المناخ العقلي الجديد يتكون منذ بداية الوحي. بينما ينفتح كتاب العهد القديم، منذ السطر الأول في سفر التكوين، على عالم الظاهرات المادية، وينفتح كتاب العهد الجديد في انجيل يوحنه، على عملية التجسيد، ينفتح القرآن على الجانب العقلي: اقرأ باسم ربك ... اقرأ ... هذه هي الكلمة الأولى التي تفتح إليها أول

ضمير إسلامي، ضمير محمد، ويتفتح لها بعده كل ضمير مسلم. ان الحروف هي حقاً أداة النقل للروح، لكل رسالة، ولكل بلاغ، فهي الحامل والرمز لكل معلومة من المعلومات، فأول ما نزل به القرآن يشير إلى أهميتها، ويخصص موضوعها بالذكر، ويرسم في الضمير الاسلامي قيمتها منه اللحظة الأولى في كلمة اقرأ. ان الحرف ينقل ويبلغ الروح، وفي نفس الوقت يحفظه من الضياع، وسيحفظ أولاً وقبل كل شيء القرآن نفسه، ذلك الكتاب الذي لم يتغير فيه حرف واحد منذ أربعة عشر قرناً، على خلاف كل الكتب الأخرى، من العهد القديم إلى العهد الجديد، حيث لم يبق فيها، من ناحية صحتها التاريخية، إلا القيمة الرمزية، التي يحترمها النقد الحديث، دون أن يعتمدها من الناحية العامية. وليست هذه الميزة إلا النتيجة العلمية الأولى، لهذا الفكر الجديد الذي ظهر في المناخ القرآني، ذلك المناخ الذي تدشن بالضبط يوم قام المجتمع الإسلامي الناشىء، أيام سيدنا عثمان، جمع الآي الكريمة لحفظها من التلف، ولحصرها نهائياً في صورة لا تقبل أي تغيير، واللجنة التي قامت بهذا العمل تحت رئاسة سيدنا زيد بن ثابت،

قامت في الحقيقة بأول عمل علمي طبقاً لمنهج، ليس من موضوعنا هنا ذكر تفاصيله، ولكنه يوجب إعجاب النقد الحديث إزاء ما تحراه من دقة. انه كان حقاً أول عمل علمي للفكر الإسلامي، بل أول عمل علمي للفكر البشري من نوعه الذي طالما تعثر في تاريخه، على مبدأ التسليم للقدوة، بل لا زال يتعثر عليه حتى الآن أحياناً، مثلما حدث في الاتحاد السوفيتي حيث تأخر علم الحياة بثلاثين سنة عن الركب، أيام القدوة التي افترضها لنفسه ليسنكو في هذا الميدان. ولهذا المعوق تاريخه في جميع المجتمعات الانسانية، فهو ملازم لتطورها حسب عمرها النفساني. فالانسانية، على العموم، تمر بثلاثة أعمار من حيث تطورها النفسي، فهي في عصرها الأول، في طفولتها، تصيغ كل أحكامها طبقاً لمقاييس تتعلق بعالم الأشياء، بحيث تكون أحكامها في أبسط صورها، معتمدة على الحاسة أو ناتجة عن الحاجة البدائية. ثم في عمرها الثاني تصيغ أحكامها طبقاً لمقاييس خاضعة لمبدأ القدوة، أي صادرة من عالم الأشخاص، ففي هذا الطور، لا تكون الفكرة حرة من تجسيد، بحيث تكون قيمتها مرتبطة بالشخص الذي يجسدها في نظرنا.

ثم تبلغ الانسانية رشدها، أي عمرها الثالث، فتصبح الفكرة ذات قيمة في حد ذاتها، دون أيما تأييد من طرف عالم الأشياء أو عالم الأشخاص. وأن مما تجب ملاحظته هنا، أن الانسانية تبلغ هذا العمر، عمر النضج، بحيث تصبح الفكرة لا تحتاج إلى ضمان قيمتها من طرف الأشخاص علاوة على الأشياء، والآية التي تنص على هذا الحدث في منتهى الوضوح، إذا ما لاحظنا أن الفكرة الإسلامية مرتبطة بذات النبي ((صلى الله عليه وسلم)) الارتباط المعروف، كأنها المجسدة في شخصه في نظر ذلك المجتمع البسيط الذي وجهت إليه الدعوة. ولكن أراد القرآن الكريم أن تتحرر الآية من هذا القيد، وبالتالي أن يتحرر المجتمع الجديد من هذا النوع من القيود المعطلة لتقدم الفكر والعلم. ونزلت فعلاً الآية المحرِّرَة: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ... ؟} ان هذه الآية نزلت بمثابة الدفعة التي دفعت المجتمع البدائي الذي نزلت فيه، من عصر ((الشيء)) والشيئية،

إلى عصر الفكر. وهكذا نرى كل ملامح هذا المجتمع النفسية تتغير منذ نزول ((اقرأ)) تغيراً يتولد عنه المناخ العقلي الجديد، وبالاضافة إلى ذلك نرى نوعاً من الاختبارات تجري على هذا المناخ لتوضح أكثر ملامحه في الضمير الاسلامي الناشىء عندما يلقي عليه القرآن مثل هذا السؤال: قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ؟ ان هذه الآية الواردة في صورة سؤال على لسان النبي ((صلى الله عليه وسلم))، إختبار، وتركيز في الضمير الاسلامي لقيمة العلم، ولفضل رجل العلم على الجاهل في المجتمع الجديد. والعلم ما هو، في أبسط معانيه، إلا البحث عن الحقيقة في كل ميدان، في الأخلاق، في التشريع، في الاجتماع، في الطب، في الطبيعة الخ ... ولكن هذا البحث معرض لمعوقات وإلى متاهات: قد نتخذ وهما بمثابة حقيقة، قد نتيه في الآراء، ورب رأي خطأ، فعلى العلم أن يواجه هذه الحالات التي يتردد فيها العقل بين الشك والاقتناع، بتمرينه على هذه المواجهة.

فالقرآن لا يهمل هذا الجانب بل يلفت النظر إليه أحياناً بالاشارة والتلميح، فيكشف الفرق بين الحقيقة وما سواها مثلاً في قصة يصف فيها انحراف اليهود من هذه الناحية: ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم الا يظنون. فهنا نرى الميل، والشك، ومجرد الاحتمال، هذه الأمور المعبرة عن صور مختلفة للتردد توضع في مكانها من ((الحقيقة)) الساطعة التي تعبر عن الاقتناع العقلي في أصفى صوره. وهذه آية أخرى توجه النقد الصارم للفكر الذي يسوغ لنفسه المناقشة فيما لا علم له به، دون أن يتحرى أولاً جمع معطيات موضوع المناقشة: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ؟.} فهذه الآيات، تضع الفكر الاسلامي في طريق العلم وتزوده لاكتسابه بأحسن التوجيهات المنهجية، وغيرها كثير، بحيث يكون القرآن الكريم، من هذه الناحية، منهجاً تربوياً جديراً بالدراسة في غير هذا المكان، إلا أننا نضيف أن المفهوم القرآني العام ينصب في الحديث النبوي الذي يصيغه في القالب التطبيقي، في

صورة أحكام تدخل مباشرة في حياة المسلم اليومية، وفي توجيه وجوه نشاطه: العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة. اطلبوا العلم ولو بالصين. حبر العلماء أفضل من دم الشهداء. فهذه الأحاديث وغيرها تدعم عملياً، كما نرى، البناءات العقلية التي أنشاها القرآن في الفكر الاسلامي الذي ينطلق محصناً، مزوداً، موجهاً هكذا للقيام بمهمته العلمية والسياسيه والاجتماعية. واننا لنرى أثر هذا المنهج التربوي الذي هيأ المجتمع الجديد لمهماته العقلية، حتى في سلوك الفرد أمام اختبارات بسيطة في ظروف ذات مغزى، نرى مثلاً، عمر ابن الخطاب يمر يوماً بدرب من دروب المدينة، وهو يتلو، على طريقته في الجلوس أو في المشي، يتلو الآية، {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا}. وها عمر يقف عند كلمة ((أبا)) ويشعر أنه لا يعرف معناها، ترى كيف سيحل هذه المشكلة؟ ان عمر ليس

من علماء اللغة، وهذا العلم نفسه ليس موجوداً بعد، إلى عصر صاحب كتاب العين، الخليل بن أحمد الفراهدي الذي يجب أن نعتبره اليوم المؤسس لعلم اللغات، وليس عمر بالمفسر أيضاً، انه رجل فقط، رجل عمل لا يحق له أن يتورط في الشؤون التي ليست من إختصاصه، وإلا وقع فيما حذر منه القرآن الكريم في قوله لليهود: {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ؟} واننا لنرى عمر لا يقف إلا هنيهة عند الكلمة التي أوقفته، والتي لا تنقص شيئاً، ان جهلناها، من وضوح الآية لأي ضمير مؤمن، فالمشكلة بالنسبه له، في هذه اللحظة، ليست في نطاق العلم، ولكن في نطاق السلوك، ونراه فعلاً يحلها بكلمة يؤنب بها نفسه: ((ما لعمر والأبّ، إن جهل ما الأب، إن هذا إلاّ لكلفة يا عمر)) وانطلق عمر إلى شؤونه، حيث تدعوه المسؤوليات الكبرى، ونراه يوماً آخر يجتهد في تحديد صداق المرأة، لأنه يراه فوق ما يناسب في نظره، ولكن ها هي امرأة تعارضه، فتقول له: ما أعطاك الله ذلك يا عمر وتذكو الآية: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا؟}. فسكت عمر ثم قال: ان كل الناس أعلم منك يا عمر

حتى هذه المرأة العجوز .. وتراجع عن رأيه. اننا نرى في هذين الظرفين موقف العقل تحاه الاختبارات التي تعرض له، نرى في الظرف الأول كيف يتحرر العقل في المناخ الجديد من الشكليات، من سلطان المفردات الذي طالما عوق تقدم العلم. وفي الظرف الثاني، نراه كيف يتحرر من المكابرة وهي شر عدو للحقيقة، وأكبر معوق للفوز بها. بل نرى كل ظرف يعبر في المجتمع الجديد على المناخ العقلي الذي كونه القرآن، نرى مثلاً عليّ بن أبي طالب، يحتقر يوم النهروان رأي المنجم الذي يشير عليه بالانطلاق في وقت معين، فينطلق عليّ في غير ذلك الوقت، متعمداً وينتصر، ثم يقول على الملأ: لو انطلقنا في الوقت الذي أشار به المنجم لقال لنا اننا انتصرنا بما أشارت به النجوم. وفي ظرف آخر يسلم علي الراية إلى زياد بن النظر ويقول له: قد هذه الفئات، واستفد برأي عالمهم، وعلم جاهلهم. وهنا نرى في المناخ الجديد الفكر الاسلامي يضع سلماً، يتسلقه الفرد، وهو يدلي بعلمه لمن دونه درجة، ويطلب العلم ممن فوقه، وهكذا ينطلق تيار العرفان في

الاتجاهين ومن أسفل إلى أعلى أحياناً، عندما تقف المرأة مثلاً، وترد رأي عمر في قضية الصداق. ولا شك أن هذا السلم هو الذي أتاح للفكر الاسلامي الانطلاق، من عصر الشيئية في عهد العصر الجاهلي، للوصول إلى تلك القمم الشامخة التي أشع منها العلم على العالم الذي كانت تخيم عليه الظلمات. واليوم أرانا تبهرنا هذه القمم الشامخة ونتيه في عالم الخيال لما تذكرها أقلام المستشرقين، وان نكرتها يعترينا مركب النقص، وفي كلتا الحالتين تصب هذه الدراسات في روحنا حرماناً مزدوجاً لا نستطيع التخلص منه إلا إذا تذكرنا السلم الذي وضعه المفهوم القرآني ليتسلقه الفكر الانساني حتى يصل على درجاته إلى تلك الانجازات العلمية التي تهيمن حتى اليوم على التقدم التنكولوجي، مثل الحساب العشري أو الغباري، والجبر، والكيمياء وعدد من القوانين في عالم الكائنات العضوية، والطبيعة، والفلك، وإذا لذكرنا هذا السلم فلنعلم أنه ما زال تحت يد أو تحت قدم المجتمع الاسلامي متى أراد استخدامه من جديد، وبحسبنا أن نقرر أن مساهمة الفكر الاسلامي في تنمية تراث الانسانية العلمي ليست تقدر فحسب بانجازات يقرها أو ينفيها المستشرق، حسب هواه بل تقدر بالتغيير الجذري الذي أحدثه المفهوم القرآني في المناخ العقلي

والبناءات العقلية، منذ كلمة ((اقرأ)). وبالتالي، ربما وجب علينا أن نستخلص من هذا العرض نتيجة تحدد موقفنا من إنتاج المستشرقين، فنقول أولاً انه إنتاج لا يجوز نكران قيمته العلمية، بل نراه أحياناً يستحق كل التقدير لما يتسم- في بعض أصنافه مثل ما خلفه سيدييو أو جوستاف لوبون أو آسين بلاثيوس- بالاضافة إلى طابعه العلمي، بطابع أخلاقي ممتاز لا يمكن نكرانه كشهادة نزيهة من طرف شهود نعرف قيمتهم كعلماء. ولكننا نغفل جانباً أساسياً في الموضوع إذا لم نأخذ في حسابنا أن كل ما ينتجه العقل في هذا القرن العشرين الخاضع لمقاييس الفعالية، لا يخلو من بعد عملي قد يستغل في ميدان السياسة والانتفاع حيث تصبح الأفكار، ما سما منها وما كان تافهاً، مسخرة لتكون وسائل إفتضاض الضمائر والعقول. ان الكتب، بغاليها وتافهها، تقع بمجرد خروجها من الطبع، وتقع أحياناً دون أن يشعر أصحابها في أيدي أخصائيين يسخرونها للصراع الفكري، فيصيرونها أدوات للمشاغبة، وللتحلل الأخلاقي، أو مجرد أدوات إلفات وتلهية، ومما نلاحظه أن الكتاب الذي يتعلق بموضوعنا

يصدر في عاصمة أوروبية في نفس الوقت مع ترجمته في عاصمة عربية. ولا يبدو هذا التنسيق يلفت النظر حتى في البلاد التي تعاني آثار الصراع الفكري، ودون أن تشعر هذه البلاد بالوسائل التي يستخدمها هذا الصراع ولا بأهدافه، بل ولا بمعنى هذه الكلمة نفسها كأنها مجرد مفردة. ولختبر بهذا الصدد عقلاً متنوراً فسوف نراه يحوم حول جواب متردد مرتاب، لا يستطيع صياغته بوضوح، وإنما يتمتم: الصراع الفكري؟ ... آه لعلكم تتحدثون عن الوجودية، والماركسية، والسريالية؟ وإذا ما أبرزتم أكثر معنى سؤالكم، وقلتم: لا يا سيدي بل أتحدث عن ماركسية لا صلة لها بماركس، وإنما هي مجرد كلمات وشعارات تلقنها لشبابنا بعض سلطات ترى في الماركسية مجرد وسيلة للعمل ضد الإسلام، كما أتحدث عن وجودية لا صلة لها بوجودنا على الاطلاق، وعن سريالية لا تمت بصلة للفن، وليست هذه الأشياء في الواقع إلا وسائل للتغلغل في عقول النشىء الجديد تستعملها من أجل هذا الغرض دوائر لا تؤمن بها من الناحية الفلسفية والفنية والاجتماعية.

انني أتحدث مثلاً عن تلك الكتب من نوع ((ديجست)) التي توزع مجاناً أو بثمن بخس على الشباب كي تعينه بتواضع ثمنها على هضم الأفكار المعروضة لضميره .. ولكن هيهات ... هيهات أن يفقه هذا الحديث ((الفكر المتنور)) الذي يستمع لكم، إن على بصره لغشاوة، ولستما، أنتم وهو، على نفس الصعيد، فهو يعيش على الصعيد الفكري، حيث نتلقى أفكار الغير بكل تقدير، لأن الآراء والأذواق ليست موضوع نقاش، حسب زعمهم، وربما تكونون أنتم على الصعيد الايديولوجي حيث يجب أن تطرح كل فكرة واردة تحت المجهر لينظر في شأنها، لأن الفكرة قد لا تكون، على هذا الصعيد، مجرد فكرة ينظر فيها من الزاوية الفكرية أو الفنية فحسب، أو بالنظر إلى نوايا صاحبها فقط، ولكن ينظر فيها من حيث نوايا من يستخدمها. وعلى العموم فإن من يستمع إليكم لا يفهمكم لأنه خالي الذهن من فكرة الصراع الفكري، في العالم، وعلى أكثر تقدير يشعر بوجود هذا الصراع في المجال الدولي بين الكتلتين الكبيرتين. يجب إذاً أن نذكر، ولو كلمة، على هذا المفهوم بالنسبة لموضوعنا، حيث لا نعتبر انتاج المستشرقين من

زاوية ذاتية أصحابه، من ناحية ميزاتهم الفكرية ونواياهم، بل من زاوية من يستخدم إنتاجهم لغايات خاصة في عالمنا نفسه، لا في عالم بعيد أو خيالي. فهذه الغايات التي عرفناها فيما سبق بـ ((افتضاض الضمائر)) يمكن تلخيصها كما يلي: ان كل فراغ ايديولوجي لا تشغله أفكارنا، ينتظر أفكاراً منافية، معادية لنا. فهذه هي القاعدة العامة ... والمتخصصون في الصراع الفكري يعرفونها كما يعرفون أبناءهم، ولكن يجب أن نضيف إلى ذلك أن أولئك الاخصائيين ليسوا مجرد مثقفين، يبحثون عن الحقيقة، لأنها حقيقة، ولكنهم يبحنون عن جانب التطبيق منها في مجال المصلحة السياسية، ولعلهم إذا لا ينتظرون وقوع الفراغ الايديولوجي لاحتلاله، بل يصنعونه هم، وربما يشغلونه مؤقتاً بأفكار سواهم حى تنتهي، في مرحلة أولى، عملية فصلنا عن أفكارنا بتلك الأفكار الفاصلة الوسيطة. أجل، إن هذا المجال ليس المجال الذي يطبق فيه المبدأ المقرر تبعاً لخط مستقيم، مثل الهندسة، حيث النتيجة المنطقية تتبع مباشرة التي قبلها، فالصراع الفكري يجري فيه منطقه الخاص، تبعاً لخط ملتوٍ على العموم، بحيث يقتضي الانتقال من مرحلة معينة إلى أخرى، إلى مراحل

وسيطة تفرض منعرجات ومنعطفات الطريق. فالماركسية المزيفة مثلاً التي تلقن إلى الجناح اليساري من شبابنا، ليست إلاَّ مرحلة وسيطة، تفصل طائفة من شبابنا عن الجبهة الايديولوجية الوطنية، لأن المشرف على عملية الفصل، لا يستطيع أن يقول لتلك الطائفة: نريد تخفيض حركة النمو في بلادكم، والحد منها، هل لكم أن تعينونا على تشويه واستنقاص الأفكار والمثل التي تدعم هذه الحركة؟ ان قولاً كهذا يكون قطعاً صنفاً من الجنون والعبث لا نتصورهما في ابليس. فما يبقى عليه إلا أن يحمل هذه الطائفة على جسر من أفكار الغير ليعبر بهم إلى الضفة الأخرى حيث نجد عصابة من ماركسيين مزيفين، وقوميين مصطنعين، وأفراد مقنعين على وجوههم قناع الثورة. وبهذه العلمية الأولى تكون قد حصلت على نتيجة أولى: أن وحدة الصف المعنوية قد انفصمت في الوطن في الوقت ذاته الذي هو في حاجه لها لمواجهة مشكلات الاستقلال الصعبة وذات الأهمية الكبرى. حتى أن عدد هذه المشكلات، عوض أن ينقص، يتزايد بقدر من تأتي أالعملية بنتائجها الفكرية لدى هذا الشباب، وبنتائجها الاجتماعمية في المجتمع، حتى يصبح

هذا الشباب يلعب دور الفرملة عندما يضع عليه أخصائيو الصراع الفكري قدمهم، ونقول قدمهم لأنهم يتنزهون أن يضعوا أيديهم على هذه الأجهزة. وربما تبدو هذه الاعتبارات دون صلة بموضوع المستشرقين، نقول أجل لها صلة، على شرط أن نتبصر في العملية بصورة شاملة، لأنها في الوقت الذي نلاحظها من جانب الشباب الذي تحقن له حقنة من سيروم الكلاب المسعورة، فينطلق يلهث في مجال الديماغوجية، نراها تستمر في الناحية الأخرى حيث يصب نفس الأخصائيون في روح الجناح الآخر من شبابنا عقار النوم والسلوى من خالص إنتاج المستشرقين. وهكذا تتم العملية على جناحي شبابنا: الجناح المصاب بالشلل المضطرب والجناح المصاب بالشلل المسكن، فالبعض يصيحون ويضطربون، والآخرون يحلمون في بلاد تتطلب النظام والجدية، وتتطلب الضمير المتيقظ على الدوام لمواجهة مشكلات الاستقلال. وعلى كل هكذا نرى الانتاج الاستشراقي في دوره في إطار ما نسميه الصراع الفكري. والآن نتساءل: كيف يجب أن يكون عملنا الفكري

في هذا الاطار؟ فليسمح لنا ألاَّ ندخل في التفصيل في هذه السطور، وأن نتقدم فحسب بالملاحظة العامة التي نراها تتردد، عن حق، في أحاديثنا اليوم بأن الاستقلال السياسي لا يكفي ولا يشفي إن لم يدعمه الاستقلال الاقتصادي. فهذا صحيح .. إلا أنه يجب أن نضيف له أن المجتمع الذي لا يصنع أفكاره الرئيسية، لا يمكنه على أية حال أن يصنع المنتجات الضرورية لاستهلاكه، ولا المنتجات الضرورية لتصنيعه، ولن يمكن لمجتمع في عهد التشييد أن يتشيد بالأفكار المستوردة أو المسلطة عليه من الخارج سواء كانت تمت إلى الاستشراق أو الشيوعية. وأن في تجربة كوبا لأكبر فى ليل على ذلك فانها تشق طريقها اليوم بالخبرة التي تكتسبها في التطبيق لا في الكتب. فعلينا أن نكتسب خبرتنا كذلك أي أن نحدد نحن موضوعات تأملنا وألا نسلم بأن تحدد لنا. وبكلمة علينا أن نستعيد أصالتنا الفكرية، واستقلالنا في ميدان الأفكار حتى نحقق بذلك استقلالنا الاقتصادي والسياسي.

§1/1