إمعان النظر في مشروعية البغض والهجر

عبد الكريم الحميد

مقدمة

- بسم الله الرحمن الرحيم - مقدمة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد: فإنَّ هذا الكتاب تذكير لِمَن أكثروا النكير على من قام بأمرٍ صَارَ غريباً لغربة الدِّين، وعجيباً لكثرة الناكبين، بل مُنْكَراً في فهوم المعارضين، وهو الزجر بالبغض والهجْر مُوَافَقةً لعبودية المعبود، ومحاذرة لعقوبة الإعراض والصدود، مع أن الإرادة بذلك النصيحة للمسلمين بإظهار الجَفاء، ليتجلى الصراط المستقيم دون خَفَاء. فالحذر الحذر من الآراء، فإنها مُحَصَّل الحيارى، ولن تغْني عن المغرور شيئاً إذا حَقَّت الحقائق، ومُيِّز الكاذب من الصادق، فالله المستعان وعليه التُّكْلاَن، ولاَ حَوْلَ ولاَ قُوَّة إلاَّ به سبحانه. قال تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ

حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬1)، وهي عامة في الكفار والمسلمين العصاة، ولو كانوا أرحامًا - كما سيظهر إن شاء الله تعالى -. وقال سبحانه: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} (¬2)، قال القرطبي - رحمه الله -: (الصحيح في معنى الآية أنها دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم، فإنَّ صُحبتهم كفر أو معصية، إذْ الصحبة لا تكون إلا عن مودة) انتهى (¬3). وقال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} (¬4). وقد جَاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: (أَحِبَّ فِي اللَّهِ , وَأَبْغِضْ فِي اللَّهِ , وَوَالِ فِي اللَّهِ , وَعَادِ فِي اللَّهِ , فَإِنَّهُ لا تُنَالُ وَلاَيَةُ اللَّهِ - عز وجل - إِلا بِذَلِكَ , وَلاَ يَجِدُ رَجُلٌ طَعْمَ الإِيمَانِ وَإِنْ كَثُرَتْ صَلاتُهُ وَصِيَامُهُ حَتَّى يَكُونَ كَذَلِكَ؛ وَصَارَتْ مُؤَاخَاةُ النَّاسِ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا , وَإِنَّ ذَلِكَ لا يُجْزِئ ¬

_ (¬1) سورة المجادلة، آية: 22. (¬2) سورة هود، من الآية: 113. (¬3) «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي (9/ 108). (¬4) سورة الأنعام، من الآية: 68.

عَنْ أَهْلِهِ شَيْئًا؛ ثُم قَرأ: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} (¬1)، وقرأ: {لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬2)) انتهى (¬3). وقال ابنُ سحمان - رحمه الله -: وَمَا الدِّينُ إلاَّ الْحُبُّ وَالبغْضُ وَالوَلاَ ... كَذَاكَ البَرَا مِنْ كُلِّ غَاوٍ وَآثِمِ فمَن ادَّعى الْحُبَّ في الله وهو لاَ يُبغِض في الله فدعواه الحب في الله ¬

_ (¬1) سورة الزخرف، الآية: 67. (¬2) سورة المجادلة، الآية: 22. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» برقم (34770)، واللالكائي في «اعتقاد أهل السنة» برقم (1691)، وابن أبي الدنيا في «الإخوان» برقم (22)، وابن المبارك في «الزهد» ص (120)، والعدني في «الإيِمَان» برقم (56) واللفظ له، وكلهم عن ابن عباس موقوفاً؛ وأخرجه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (1/ 312) عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - مرفوعاً، والطبراني في «المعجم الكبير» برقم (13537) عن ابن عمر موقوفاً؛ والصحيح أنه موقوف على ابن عباس، والله أعلم.

كاذبة لأنَّ الجزءَ الأول من كلمة التوحيد «لاَ إله إلا الله» هي الكُفْر بالطاغوت ومعاداته والبراءة منه وأهله بأنواعه، ويتبعه البدع غير المكفِّرة والمعاصي والفسوق فهذه لها ولأهلها بُغْض، ومعاداة دون تكفير لأهلها ولو كانوا مسلمين أو أرحامًا بحسب ما وقعوا به، وإلا كيف يستقيم البغض في الله؟!. وليعلم أنَّ القصدَ الأول من تأليف هذا الكتاب هو توضيحُ وبيانُ بُغْضِ وهَجْرِ عُصَاةِ المسلمين وأربابِ البِدَع غير الْمُكَفِّرة لأنَّه صَار في زماننا عندَ أكثر الْخَلْقِ مُنْكَراً عظيماً أنْ يُهجَر أحدٌ مَهْمَا كانتْ حَالُه!، أمَّا البراءةُ من الكفارِ وَمُعَادَاتِهِم فليس هو موضوعُ الكتابِ، وهُو أظهرُ وأكبَرُ مِنْ مَوضوعِهِ.

الأصل في الهجر، وذكر بعض أقوال وأحوال العلماء حوله.

الأصل في الهجر وذِكر بعض أقوال وأحوال العلماء حوله إنَّ الأصل في هجر أهل البدع والمعاصي في السنة حديث الثلاثة الذين خُلِّفُوا. قال الطَّبَرِي - رحمه الله -: (قصةُ «كَعْب بن مَالك» أصلٌ فِي هُجْرانِ أهلِ الْمَعاصي) (¬1)، وحديث قصة كعب رواه الشيخان " البخاري ومسلم " وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي، قال الخطابي في «مَعَالِمِ السُّنَنِ» في حديث كعب بن مالك: (ونهى رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كَلامِنَا أيها الثلاثة): (فيه من العلم أن تحريم الهجرة بين المسلمين أكثر مِنْ ثلاث إنَّمَا هو فيمَا يكونُ بينهما من قِبَلِ عَتَبٍ ومَوْجدة (¬2) أو لِتقصير في حقوق العِشْرة ونحوها دون ما كان من ذلك في حق الدِّين فإن هِجْرة أهل الأهواء والبدعة دائمة على مَرِّ الأوقات والأزمان ما لَم يظهر منهم التوبة والرجوع إلى الحق) (¬3). وعن عمَّارِ بنِ يَاسِر - رضي الله عنه - قال: قَدِمْتُ عَلَى أَهلِي لَيلاً وَقَدْ تَشَقَّقَتْ ¬

_ (¬1) أنظر: «فتح الباري» لابن حجَر (10/ 497)، و «الزجر بالهجر» للسيوطي ص (13). (¬2) الموْجدة: الغضب. (¬3) أنظر: «سنن أبي داود بشرح الخطابي " مَعَالِم السُّنن "»، (5/ 9) ورقم (4600).

يَدَايَ، فَخَلَّقُونِي بِزَعْفَرَانٍ (¬1)، فَغَدَوْتُ عَلَى النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَلَّمْتُ عَليهِ فَلَم يَرُدَّ علَيَّ ولَم يُرَحِّبْ بِي وَقال: (اذْهَبْ فَاغْسِلْ هَذَا عَنْكَ)، فَذَهَبتُ فَغسلته ثُمَّ جِئتُ وَقَد بَقيَ علَيَّ مِنه رَدْعٌ (¬2) فَسَلَّمتُ فَلم يَرُدَّ علَيَّ ولَم يُرَحِّبْ بِي وقالَ: (اذْهَبْ فَاغْسِلْ هَذَا عَنْكَ)، فَذَهبتُ فَغَسَلته ثُمَّ جِئْتُ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيَّ وَرَحَّبَ بِي وَقَالَ: (إِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لاَ تَحْضُرُ جَنَازَةَ الْكَافِرِ بِخَيْرٍ، وَلاَ الْمُتَضَمِّخَ بِالزَّعْفَرَانِ، وَلاَ الْجُنُبَ)، قالَ: «وَرَخَّصَ لِلْجُنُبِ إِذَا نَامَ أَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَنْ يَتَوَضَّأَ» انتهى (¬3). فَتَأمَّل هذا وتصَوَّر لَوْ فُعِل مِثلُه اليوم، مع أنَّ هذا الْخَلُوقَ اسْتعمَلَهُ «عَمَّارُ» - رضي الله عنه - للدواء!؛ فمَا عَسَى أنْ تكُونَ حَالُنا مَع نَبينا - صلى الله عليه وسلم - لو كانَ حَيًّا ونَحنُ عَلى أموُرٍ وَعظائم لاَ يُحِيطُ بِعِلْمِهَا إلاَّ اللَّهُ تعَالَى!؛ وَقَد يَسْهُلُ عَلى كلِّ أحَدٍ أن يُنكَر مَا لاَ يُوافِقُ مُرَادَه وهَواهُ مِنْ الْهَجْر والتغْليظِ على العُصَاةِ، ويسْهلُ عليه أنْ يَعِيبَ وَيَشتُمُ ويُكابِرُ!، فَهَذا كُلُّه وَارِدٌ مِنْ نفُوسٍ لَمْ تُزَمْ بِزِمَامِ التقوى حتى ولَوْ كانَ مَا يُنكِرُه ¬

_ (¬1) خلَّقوني؛ أي: جعلوا الخلوق من قماش ونحوه في شقوق اليد للمداواة؛ أنظر «عون المعبود» لمحمد العظيم آبادي (11/ 155). (¬2) ردْع؛ أي: لَطْخ من بقية لون الزعفران؛ أنظر «عون المعبود» (11/ 155). (¬3) أخرجه أبو داود في «سننه» برقم (4601)؛ والبيهقي في «سننه الكبرى» برقم (8754)، وأحمد في «مسنده» برقم (18906)، وأبو يَعْلَى في «مسنده» برقم (1635)، والبزار في «مسنده» برقم (1402)؛ وهو حديثٌ حَسَن.

ويعيبه حَقًّا، أمَّا الْمُتَّقِي فيتذَكَّر رُجُوعَه إِلَى رَبِّهِ وَوُقوُفِهِ للمُحَاسَبَةِ وَيَعْلَم أنه بِغَيْرِ وَزْنِهِ الأمورَ بالْمِيزَانِ الشَّرْعِيِّ مُقْدِمٌ عَلى تَهْلُكَةٍ!، وقد أصبحَ من الْمُسْتَغْرب في زَمَانِنَا الإذعانُ للحَقِّ لا رَدُّهُ وَإِنكَارُهُ!. وعن الزهري - رحمه الله - أنَّ رجلاً سلَّم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات فلم يَرُد عليه!، فقيل له: لِمَ؟!، قال: (إِنَّهُ ذُو وَجْهَين)! (¬1). وقال أبو داود بعد أن ذكر أحاديث فيها النهي عن هجر المسلم؛ قال - رحمه الله -: (النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - هَجَرَ بَعْضَ نِسَائِهِ أربعينَ يَوْماً، وابنُ عُمَرَ هَجَر ابناً له إِلَى أنْ مَاتَ) انتهى (¬2)، ويأتي - إنْ شاء الله تعالى - في أثناء الكتاب غير ما تقدم من هجره - صلى الله عليه وسلم -. وفي صحيح مسلم - رحمه الله - (¬3) أن قريباً لعبد الله بن مغفل خَذَف فنهاه فقال: إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الْخَذْف وقال: (إِنَّهَا لاَ تَصِيدُ صَيْدًا وَلاَ تَنْكَأُ عَدُوًّا وَلَكِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ)، قال: فعاد، فقال: أحدثك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه ثم عُدْتَ تخذف لا أكَلِّمك أبداً. قال النووي - رحمه الله - على حديث عبد الله بن مغفل: (في هذا الحديث هجران أهل البدع والفسوق ومُنَابِذِي السنة مع العلم، وأنه يجوز ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» برقم (25464). (¬2) أنظر: «سنن أبي داود»، (4/ 279). (¬3) برقم «1954».

هجرانه دائماً؛ والنهي عن الهجران فوق ثلاثة أيام إنما هو فيمن هجر لحظ نفسه ومعايش الدنيا، وأما أهل البدع ونحوهم فهجرانهم دائماً، وهذا الحديث مِمَّا يؤيده مع نظائر له كحديثِ كعب بن مالك وغيره) انتهى (¬1). وقد جاءَ أنَّ محمَّد بن سِيرين حَدَّث بِحَدِيثٍ فقال رَجُلٌ: قال فلانٌ كذا؛ فقال ابنُ سيرين: (أحَدِّثك عن رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول: " قال فلان كذا "، لاَ أكلِّمُك أبَداً) انتهى (¬2). وعن الزهري - رحمه الله - عن سَالِم بن عبد الله أنه قال: أعرستُ في عهد أبي فأذِن (¬3) أبي الناس، وكان أبو أيوب فيمن آذنَّا، وقد ستروا بيتي (¬4) ببجاد أخضر (¬5)، فأقبل أبو أيوب فدخل فرآني قائماً، فاطَّلَع فرأى البيت مُستَّراً ببجاد أخضر فقال: يا عبد الله أتَسْترون الْجُدُر؟!، قال أبِي واستحيا: " غَلَبَنا النساء يا أبا أيوب "، قال: (مَن خشي أن يغلبنَّه النساء فلم أخش أن يغلبنك!)، ثم قال: (لا أطْعَم لَكُم طعَاماً ولا أدخُل لكُم بيتاً)، ثُمَّ خَرَج - رضي الله عنه - (¬6). ¬

_ (¬1) أنظر: «شرح النووي على صحيح مسلم»، (13/ 106). (¬2) أخرجه الدارمي في «سننه» برقم (441)، والقاسمي في «قواعد التحديث» ص (295). (¬3) آذن: دَعَا. (¬4) البيت: الغرفة. (¬5) هو جنس من الأنماط أو الثياب يستر بها الجدران قاله ابن الأثير. (¬6) أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (4/ 118، 119)، وابن عساكر في «تاريخه» (16/ 50)، وسنده قوي؛ وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/ 55): (رجاله رجال الصحيح)؛ ورواه البخاري في «صحيحه» (5/ 1986) تعليقاً.

وهذا مِن نُصْحِه - رضي الله عنه - لئلاَّ يَرْكَن الناسُ إلى زخَارِفِ الدنيا وَزِينَتِهَا؛ كيف لو رأى الصحابة - رضي الله عنهم - ما نحنُ فيه!، فهذا جِدارُ طينٍ غايته أنه سُتِر بِخِرْقةٍ وفي لَيلة عُرْسٍ!، واللَّهُ المستعان.

فصل.

فصل قال ابنُ حَجَر - رحمه الله -: (ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلى أنه لا يُسَلَّم على الْمُبتَدِع ولاَ الفاسق) انتهى (¬1). وقال الْمُهَلب - رحمه الله -: (تَرْكُ السَّلاَمِ على أهلِ الْمَعَاصِي سُنَّة مَاضية، وبه قال كَثير من أهلِ العِلْمِ في أهل البِدَع) (¬2). وقد وَضَع المنذري - رحمه الله - في كتابه المعروف «الترغيب والترهيب» (¬3) بَاباً جعل عنوانه: (الترغيب في الحب في الله تعالى، والترهيب من حُبِّ الأشرار وأهل البدع لأنَّ الْمَرْءَ مَع مَن أحَبَّ). وقال النووي - رحمه الله - في «رياض الصالحين» (¬4): (بابُ تحريمِ الْهُجْرَان بينَ المسلمين إلاَّ لِبِدْعَةٍ في الْمَهْجُور أو تظاهر بِفِسْق أو نحو ذلك). قال محمد الزمْزَمي: (وهذه السُّنة العظيمة أعني هجر المبتدعين والمتجاهرين والظالمين من السنن التي اندثرت ولَم يبق لَهَا وجودٌ منذ أزمان، لهذا أصبح العلماء يُنكرونها ويروْنَهَا حُمْقاً وَظُلماً للمسلمين!) انتهى (¬5)؛ وذكر ابن مفلح عن الإمام أحمد فيمن ترك ¬

_ (¬1) «فتح الباري»، (11/ 40). (¬2) المصدر السابق. (¬3) (4/ 8). (¬4) ص (363). (¬5) أنظر: «إعلام المسلمين بوجوب مقاطعة المبتدعين والفجار والفاسقين»، ص (39).

السُّنة مع العلم بها أنه يُهجر (¬1)؛ وروى البخاري عن الحسَن أنه قال: (ليس بينك وبين الفاسق حُرْمة) (¬2). وقد قال ابن عقيل: (إذا أرَدْتَّ أنْ تعلم مَحْلَّ الإسلام من أهل الزمان فلا تنظر إلى زِحَامِهم في أبوابِ الجوامِعِ ولاَ ضَجيجهم بِلبَّيْك، وإنما انظرْ إلى مُوَاطأتهم أعداءِ الشَّريعة!) انتهى (¬3). هذه الْمُوَاطَأة صَارَتْ في زَمانِنَا تَزَمُّتاً وَضِيقَ عَطَن!. قال شيخ الإسلام: (وهكذا السنة في مقارنة الظالمين والزناة وأهل البدع والفجور وسائر المعاصي، لا ينبغي لأحد أن يُقارنهم ولا يخالطهم إلى على وجه يَسْلم به من عذاب الله - عز وجل -، وأقَلُّ ذلك أن يكون مُنكَراً لِظُلْمِهِمْ مَاقِتاً لَهُم شانئاً ما هُمْ فيه بحسَب الإمْكَان، كما في الحديث: «مَنْ رَأى مِنْكُمْ مُنكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتطع فَبِقَلْبِه وَذَلِكَ أضْعَفُ الإِيِمَان» (¬4)) انتهى (¬5). ¬

_ (¬1) أنظر: «تحفة الإخوان»، ص (58). (¬2) «الأدَب المفرَد»، ص (351). (¬3) أنظر: «غذاء الألباب» للسفاريني (1/ 231)، و «الآداب الشرعية) لابن مفلح (1/ 268). (¬4) أخرجه مسلم برقم (49)، وابن حبان في «صحيحه» برقم (306)، والنسَائي في «سننه الكبرى» برقم (11739)، وأبو داود برقم (1140)، والترمذي برقم (2172)، وابن ماجه برقم (1275)، وأحمد في «مسنده» برقم (11166)، وغيرهم؛ وكلهم من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - مرفوعاً. (¬5) «مجموع الفتاوى»، (15/ 324).

والعجَب مِمَّن يترك الهجر ومع هذا لا يوجد منه شيء من هذا الذي ذَكَرَه شيخُ الإسلامِ للعُصَاة!، كيف بِمَن يُظهر لهم المودة!. قيل لسَمُرة بن جندب - رضي الله عنه -: إنَّ ابنك لَم يَنَم البارحة بشما (¬1)، فقال: (لوْ مَاتَ لَم أُصَلِّ عليه) (¬2) يعني لأنه أعان على قتل نَفْسِه. ومَرَّ زياد بن حُدَير - رحمه الله - على قوم يلعبون بالنَّرْد فَسَلَّم عَليهم وهو لاَ يَعلم، ثم رَجَعَ فقال: (رُدُّوا عَلَيَّ سَلامي!) (¬3). «زِيَاد» هذا من خيار التابعين - رحمه الله -، ولو فعل مثل فعله أحد اليوم لصار أُضحوكةً للسُّفَهَاء!. قال شيخُ الإسلامِ ابن تيمية - رحمه الله -: (وَلِهَذا لَمْ يكن للمُعْلِن بالبِدَع والفجور غيبة، كمَا رُوِي ذلك عن الحسَن البصري وغيره؛ لأنَّه لَمَّا أعلن ذلك استحَقَّ عقوبةَ المسلمين له، وأدنَى ذلك أنْ يُذَمَّ عليه لينْزَجِر وَيَكُف الناس عنه وعن مُخَالطته، ولو لَمْ يُذَم وَيُذْكَر بِمَا فيه من الفجُور والْمَعصية أو البِدْعة لاغترَّ به الناس، ورُبَّمَا حَمَلَ بَعضُهُم أنْ يَرتكب ما هو عليه، ويزداد أيضاً هو جرأةً وفجوراً ومعاصي، فإذا ذُكِر بِمَا فيه انكفَّ وانكفَّ غيْرُه عن ذلك وعن صُحْبته ومُخَالَطَتِه، قال الْحَسَن البَصْري: «أترغبون عن ذِكْر الفاجر؟!، أذكُروهُ بِمَا فيه كَيْ يَحْذَره ¬

_ (¬1) البَشَم: التخَمة عن الدَّسَم. (¬2) أنظر: «النهاية في غريب الحديث والأثر» لابن الأثير، (1/ 130 - 131). (¬3) «مسائل أبي داود» للإمام أحمد، ص (280).

الناسُ»، وقد رُوِيَ مَرفوعاً، و «الفجُورُ» اسمٌ جَامِعٌ لكلِّ مُتَجَاهر بِمَعْصِيَةٍ أوْ كَلاَم قَبِيحٍ يَدُلُّ السَّامِع له على فُجورِ قَلْب قَائله؛ وَلِهَذا كان مُسْتَحِقًّا للهَجْرِ إذا أَعْلَن بِدعةً أو مَعصيةً أو فجوراً أوْ مُخَالَطَةً لِمَن هذا حاله بحيث لاَ يُبالي بِطَعن الناسِ، فإنَّ هَجْرَهُ نَوْعُ تعزيرٍ له، فَإذا أعْلَنَ السيئات أُعْلِنَ هَجْرُه، وإذا أسَرَّ أُسِرَّ هَجْرُهُ، إذِ الْهِجْرة هي الْهِجْرة على السَّيئَاتِ، وَهُجْرَةُ السيئات هُجْرة ما نَهَى الله عنه، كمَا قال تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (¬1)، وقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} (¬2)) انتهى (¬3). ¬

_ (¬1) سورة المدثر، آية: 5. (¬2) سورة النساء، من الآية: 140. (¬3) «مجموع الفتاوى»، (15/ 286 - 287).

ذكر بعض من يهجر من الصحابة.

ذِكر بعض من يهجر من الصحابة وقد جَمَع بعض أهل العلم أسماء من كان يزجر بالهجر من الصحابة والتابعين فمَن بعدهم فذكر منهم: عائشة، وحفصة، وحفص بن أبي وقاص، وعمار بن ياسر، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عمر، وسعيد بن المسيب، وطاووساً، وَوَهْب بن مُنَبِّه، والحسن البصري، وابن سيرين، وسفيان الثوري، وخَلْقًا .. إلى أن خَتَمَ بالنووي فإنه كان يزجر بالهجر ويراه، وقرَّره في شرح صحيح مسلم وغيرِه أوضح تقريرٍ واحتج له بعِدَّة أدلة. وأبلغ ما ذُكر من ذلك أنَّ سعيد بن المسيب هجَر أباه فلَمْ يُكَلِّمه إلى أن مات، ذكر ذلك ابن قتيبة في المعارف، وابن المسيب له علم التابعين وأفضلهم، وكان أبوه صحابياً (¬1)؛ ومعلوم أنه لم يهجر أباه إلاَّ لِمُخالفة شرعية رآها فيه. وعن سالِم بن عبد الله أنَّ عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها)، قال: فقال ابنه بلال بن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: والله لنمنعهن؛ قال: فأقبل عليه عبد الله فسبه سبًّا سيئًا ما سمعته سبه مثله قط ¬

_ (¬1) أنظر: «الزجر بالهجر»، للسيوطي ص (23).

وقال: (أُخْبِرُك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول: " وَاللهِ لَنَمْنَعَهُنَّ "!) (¬1)؛ وفي روايةٍ أخرى: (فمَا كَلَّمَه عبد الله حتى مات) (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في «صحيحه» برقم (442). (¬2) أخرجه أحمد في «مسنده» برقم (4933).

الهجر فوق ثلاث.

الهجر فوق ثلاث تقدَّمَ قول النووي أنَّ النهي عن الْهُجْرَانِ فوقَ ثَلاَث أنه في أموُرٍ دنيوية غير الدِّين، وهو الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ) (¬1). وقدْ قال ابن عبد البَرِّ - رحمه الله -: (وأجْمَع العلماءُ على أنه لا يجوز للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث إلاَّ أن يكون يَخاف من مُكالمته وصلته ما يُفسد عليه دينه أو يولد به على نفْسِه مَضَرَّة في دينه أو دنياه فإن كان ذلك فقد رُخِّصَ له في مُجَانبته وَبُعْدِهِ) انتهى (¬2). قال الشيخ حمود بن عبد الله التويجري - رحمه الله -: (وبعضُ أهلِ الجهل الْمُرَكَّب يُنْكرون على مَن يهجر أهل البدع والفسوق والعصيان ويكفهرّ في وجوههم ويعدُّون ذلك من الْهَجر الذي نَهَى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «لاَ تَهْجُرُوا» (¬3) وقوله: «لا يَحل لِمُسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث لَيَالٍ» (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (5727)، ومسلم برقم (2560) من حديث أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -. (¬2) «التمهيد»، (6/ 127). (¬3) أخرجه مسلم في «صحيحه» برقم (2563) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً. (¬4) أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (5726) و (5727)، ومسلم في «صحيحه» برقم (2559) و (2560)؛ وَكِلاَهما من حديث أنس بن مالك وأبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنهم - مرفوعاً.

وقد سَمِعْتُ هذا من بعض الخطباء والقُصَّاص والحامل لهم على التسوية بين الْهَجْر الديني وهو ما كان لله وبين الهجر الدنيوي وهو ما كان لحظ النفس لا يخلو من أمرين: - إمَّا لِجَهْلٍ بالفرقِ بين هَذَا وهذَا. - وإمَّا قصد لَبْس الحق بالباطل عناداً ومكابرة وتَمْويهاً على الأغبياء الذين لا علم لهم بمدارك الأحكام، وهذا الأخير هو الظاهر من حال المتلبسين منهم ببعض المعاصي ليدفعوا عن أنفسهم الشنْعة، وَلِيُوهِمُوا الجهال أن هجرهم إياهم من أجل المعصية لا يجوز، وأن الذين يهجرونهم من طلبة العلم وغيرهم ليسوا مصيبين. فَيُقَال لِهَؤُلاَءِ المذبذبين المدَلِّسين: إنَّ الذي جاءت الأحاديث بالنهي عنه فيما زاد على الثلاث هو التهاجر الدنيوي) ثم قال: (وقد جاءت السنة بهجر أهل المعاصي حتى يتوبوا كما هجر النبي - صلى الله عليه وسلم - كعب بن مالك وصاحبيه خمسين يومًا ولم يكلمهم حتى تاب الله عليهم (¬1). وهَجَر - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش - رضي الله عنها - قريباً من شهرين لَمَّا قالت: (أنا أُعْطِي تِلْكَ اليَهُودِيَّة؟!) - تعني: «صَفِيَّة» ¬

_ (¬1) سبَقَت الإشارة إلى أن حديث قصة «كَعْب» - رضي الله عنه - أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم.

رضي الله عنها - (¬1). وهجَر - صلى الله عليه وسلم - الذي بنى فوق الحاجة حتى هدم بناه وسوَّاه بالأرض. وهجَر - صلى الله عليه وسلم - رجلاً رآه مُتَخَلِّقاً بزعفران حتى غسله وأزال عنه أثره. وهجَر - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً رأى عليه جُبَّة من حرير حتى طَرَحَهَا. وهَجَر - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً رأى في يده خَاتَماً من ذهب حتى طَرَحَه. وفي سنن أبي داود وجامع الترمذي ومستدرك الحاكم أنه - صلى الله عليه وسلم - هجر رجلاً رأى عليه ثوبين أحمرين، وكان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يهجرون من أظهر المعصية حتى يتوب وتظهر توبته. وقد قال ابن عبد القوي: وَهُجْرَانُ مَنْ أبْدَى الْمَعَاصِيَ سُنَّةً ... وَقِيلَ إِذَا يَرْدَعْهُ أوْجِبْ وَأَكِّدِ وَقِيلَ عَلَى الإِطْلاَقِ مَا دَامَ مُعْلِناً ... وَلاَقِهْ بِوَجْهٍ مُكْفَهِرٍّ مُرَبَّدِ. فلم يَذكر خلافاً في سُنِّية هجْرِ العَاصي الْمُجَاهر بالمعصية سَواء ارتدع أو لَمْ يرتدع. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود برقم (4602)، وأحمد في «مسنده» برقم (25046)، والطبراني في «مُعجمه الأوسط» برقم (2609)؛ وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/ 323): (رواه أبو داود باختصار، ورواه الطبراني في " الأوسط "، وفيه " سُمَيَّة " روى لَهَا أبو داود وغيره، ولَم يَجرحها أحَد، وبقية رجاله ثقات) انتهى.

وإنما الخلاف في الوجوب هل هو على الإطلاق أم إذا كان العاصي يرتدع به فأين هذا مِمَّا يراه المتهوِّكون من إبطال الهجر الديني بالكلية ومعاملة الناس كلهم صالحهم وطالحهم باللُّطف والِّلين والْمَودَّة) انتهى كلام التويجري (¬1). قال أبو داود في «كتاب الأدب» من «سُنَنِه»: «باب فيمن يهجر أخاه المسلم» ثم ذكر أحاديث في تحريم الهجر فوق ثلاث، ثم قال في آخر الباب: (النبي - صلى الله عليه وسلم - هجر بعض نِسَائِهِ أربعين يوماً، وابنُ عمر - رضي الله عنه - هجَر ابناً له إلى أن مات، وعمر بن عبد العزيز - رحمه الله - غطى وجهه عن رَجُل) انتهى (¬2). وبعد ذلك بيَّن أبو داود الفرق بين تحريم الهجر فوق ثلاث فقال: (إذا كانت الْهِجْرةُ للهِ فَلَيسَ مِنْ هذَا بِشَيء) انتهى (¬3)؛ ويعني بذلك أنه ليس من النهي عن الهجر فوق ثلاث، وَلِهَذا أوْرَد الأمثلة السَّابقة؛ وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (فَينْبَغِي أنْ يُفَرَّق بين الْهَجْرِ لحق الله، وبين الهجر لِحَقِّ نفْسِه، فالأول مَأمُورٌ به، والثَّانِي مَنْهِيٌّ عنه) (¬4)؛ وقال: (الهجر من باب العقوبات الشرعية، ¬

_ (¬1) «تحفة الإخوان بِمَا جاء في الموالاة والمعاداة والحب والبغض والهجران» ص (38 - 40). (¬2) أنظر: «سنن أبي داود»، (4/ 279). (¬3) المصدر السابق. (¬4) أنظر: «مجموع الفتاوى»، (28/ 203 - 210).

فهو من جِنْسِ الجهاد في سبيل الله، وهذا يُفْعَل لِأَنْ تكون كلمة الله هي العُليا، ويكون الدِّينُ كلُّه لله) انتهى (¬1). ¬

_ (¬1) المصدر السابق.

فصل.

فصل قال السيوطي - رحمه الله - (¬1): أخرج أبو القاسم بن بِشْر في " أماليه " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: دَخَل مجوسيٌّ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد حَلَق لِحْيته وأعفى شاربه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (وَيْحَك مَن أمَرَك بهذا؟!)، قال: أمرني به كسرى!، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لَكِنْ أمَرَنِي رَبِّي - عز وجل - أنْ أُعْفِي لِحْيَتِي وَأنْ أُحْفِي شَارِبِي) (¬2). قال الشيخ حمود بن عبد الله التويجري - رحمه الله - في أنه لا يُسَلَّم على حالق لحيته: (فمَن حَلَق لِحْيَتَه فهو من الْمُخَنَّثِين (¬3) لأنه قد رَغِب عن مُشابهة الرجال وآثَرَ مشابهة النساء في نعُومَةِ الخدود وعدم الشَّعْر في الوَجْه، وفاعل ذلك لا ينبغي السلام عليه لمجاهرته بالمعصية. ¬

_ (¬1) في كتابه «أسباب ورود الحديث» ص (208) ورقم (178). (¬2) وقد أخرجه ابن سعد في «الطبقات الكبرى» (1/ 449)، وابن عبد البَر في «التمهيد» (20/ 55) من حديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة مُرسَلاً؛ وأخرجه الحارث بن أبي أسامة في «مسنده» برقم (583) من حديث يحي بن أبي كثير مُرسَلاً. (¬3) المخنث هو الذي يتشبه بالنساء؛ قال ابن عبد البر في «التمهيد»: (وَيَحْرُم حلق اللحية، ولا يفعله إلاَّ الْمُخَنَّثون من الرجال)؛ وانظر للأهمية كتابنا: (إحسان خَلْق الإنسان) حيث ذَكَرْنا فيه بالأدلة النقلية والعقلية قبح حلق اللحى وأنه مُحَرَّم لا يجوز.

وقد روى أبو نعيم بإسنادٍ جيدٍ عن زياد بن حدير قال: قَدِمْتُ على عُمَرَ بنِ الخطاب - رضي الله عنه - وعَليَّ طَيْلَسَان وشاربي عافٍ فسَلَّمتُ عليه فرفع رأسه فنظر إلَيَّ ولَم يرد عليَّ السلام، فانصرفت عنه فأتيتُ ابنه «عَاصِماً» فقلت له: لقد رُميت من أمير المؤمنين في الرأس، فقال: سأكفيك ذلك، فلَقِي أباه فقال: يا أمير المؤمنين أخوك «زياد بن حدير» يُسلِّم عليك فلم ترد عليه السلام، فقال: إني رأيت عليه طليساناً ورأيت شاربه عافياً. قال: فرجع إلَيَّ فأخبرني فانطلقتُ فقصصتُ شارِبِي وكان معي بُرْد شققته فجعلته إزاراً ورِدَاءً، ثُمَّ أقبلتُ على عُمَرَ - رضي الله عنه - فسَلَّمْتُ عليه فقال: " وَعَلَيْكَ السَّلاَم، هَذَا أحسَن مِمَّا كُنْتَ يَا زِيَاد " (¬1). ثم قال الشيخ حمود بعد ذلك مبيناً هَجْر حالق لحيته: وإذا كان عُمَر - رضي الله عنه - قد هجر زياد بن حُدَير على إعفائه لِشاربه فكذلك ينبغي هجر من حلق لحيته لأنَّ كُلاًّ من الأمرين معصية ظاهرة لِما فيهما من مخالفة أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإحفاء الشوارب وإعفاء اللحى، وَلِمَا فيهما أيضاً من التشبه بالمجوس ومن يحذو حذوهم من أصناف المشركين، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» (¬2). ¬

_ (¬1) «حلية الأولياء» لأبي نعيم، (4/ 197 - 198). (¬2) أخرجه أبو داود برقم (4031)، وأحمد في «مسنده» برقم (5115)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» برقم (33016)، وغيرهم؛ وكلهم من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، وحسَّن إسناده الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» (10/ 271).

والْهَجر على حَلْق اللحية أوْلَى من الهجر على إعفاء الشارب لِما في حلق اللحية من مزيد التشبه بالنساء، والدخول في عِداد المخنثين، وقد لَعَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المخنثين من الرجال (¬1)) انتهى كلامه - رحمه الله - (¬2). هذا الفعل من عمر - رضي الله عنه - عند كثير من المنتسبين للدِّين والعِلْم في زماننا تنفير!، وقد لا يَسْلم من ألسنتهم وهو عُمَر - رضي الله عنه -، وأمْثَلُهُمْ طريقة مَن يقول: " يا أمير المؤمنين .. لو أنك رَدَدْتَّ عليه السلام، ثم نصحته لِيَقبل منك! "، وهم إنما سلكوا مَسْلكَ تَمْييع الدِّين لِمُشَاركتهم في المخالفات التي سَوَّغوها فلا يقبلون من أحَدٍ إنكارها عليهم، بل صارت لديهم من قبيل المعروف الذي إنكاره مُنْكَر، وكثير من منكرات زماننا صَارَت مَعروفاً اتباعًا للهوى!. والمراد هنا أنَّ مَن سَلَك هذا المسلك الذي عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث لَم يرد على «كَعْب» ولا ناصَحَه لأنَّ الدِّين ظاهر، كذلك هَجْره مَن هَجَر كما يتبين في هذا الكتاب وكمَا فَعَل الصحابةُ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (5547)، وأبو داود في «سننه» برقم (4930)، وأحمد في «مسنده» برقم (1982)، وغيرهم؛ وكلهم من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬2) «تحفة الإخوان بما جاء في الموالاة والمعاداة والحب والبغض والهجران»، ص (60 - 61).

والعلماءُ بعدهم، فَمَن فعل ذلك اليوم صار هو الآتي بالْمُنكَر وهو الْمُستحق للإنكار عليه وبُغْضِه، وهذا واقعٌ في وقتنا مِمَّن يرْون أنفسهم، وفي هذا الكتاب - ولله الحمدُ والْمِنَّة - مَا يُوضِّح هذا الأمر وَيُجَلِّيه تجلية بيِّنة؛ ويأتي - إن شاء الله تعالى - من كلام الشيخ «حمود التويجري» ما يُبَيِّن إنكار الْهَجْر وعدم رَد السَّلام مِمَّن ينتسب للعِلْم والدِّين في وَقته فكيفَ اليوم؟!، وقد كابَدتُّ من ذلك مَا صِرْتُ فيه أُحدوثة، وذلك مِنْ شدة الغربة في زماننا وإجمال الناس على المخالفات إلاَّ ما شاء الله!، وهذا من الانتكاس لأن المداهِن في ما مضى هو الذي ينكَر عليه، واليوم صار إنكار كثير من الناس على من يعمل بالسُّنة ويهجر العصاة، وهذا من مَكْرِ الشيطان بهم ليصير المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، وما أكثر ذلك في زماننا حيث انقلبت الموازين!. قال أبو داود - رحمه الله -: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: أرى رجلاً من أهل السُّنة مع رجُلٍ من أهل البدعة أترك كلامَه؟!، فقال: (لاَ، أوْ تُعْلِمُهُ أنَّ الرَّجُلَ الذي رأيتَه مَعه صاحب بدعة، فإنْ تَرَك كَلاَمَه فَكَلِّمْهُ وإلاَّ فألْحِقْه به) (¬1). تأمَّل قول الإمام أحمد - رحمه الله -: (وإلا فألْحِقْهُ به)!. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي يعلى في «طبقات الحنابلة» (1/ 61)؛ وأورده ابن مفلح في «حلية الأولياء» (1/ 263).

المداهنة.

المداهنة المداهِن يَضُرُّ نفْسَه بمخالفته ويضر المدَاهَن بتهوين معصيته ويغرُّ مَن يقتدي به، ومِن هنا واللَّهُ أعلم قالوا: (الْمُدَاهِن شَرٌّ من العَاصِي!). قال سفيان الثوري - رحمه الله -: (إذا أثنى على الرجل جيرانه أجمعون فهو رَجُل سوء)، قالوا: كيف؟!، فقال: (يراهم يعملون بالمعاصي فلا يُغَيِّر عليهم ويلقاهم بوجْهٍ طَلِق) انتهى (¬1). وفيه أنَّ العصاة لا يُلقون بوجه طلق، وفيه أنَّ العِبْرة بلزوم الاستقامة، وليس الْمَطْلب ثناء الناس أو الْهَرَب من ذَمِّهم سواء جيران الإنسَان، أوْ غيرهم؛ فكم من مغرور بالثناء والمدح، وكم من فارٍّ من الثلب والقدْح دون ميزان شرعي!، فهذا ميزانه جاهلي. بعد هذا ماذا يقول مَن أنكر هجر العصاة؟!. ولقد سَمِعْتُ العَجَبَ من أهل زماننا حتى أنَّ كثيراً منهم يُحيلون هذا الفِعْل إلى سوء أخلاق الهاجر وتشدده وتزمُّتِه وضيق عَطَنِه ونحو ذلك؛ ولقد غَرَّهم أمران وهما: ¬

_ (¬1) «حلية الأولياء» (7/ 30)؛ وانظر: «سير أعلام النبلاء» للذهبي (7/ 278).

الأول: جُرْأتهم على مَحَارم الله وَقِلَّة خَوْفه. الثاني: مداهنة الْمُتَدَيِّنين لهم، وَحَسْبُ المداهِن أنْ يُوصف بأنه شيطان أخرس فقد زادهم بذلك فُجُوراً وغروراً. ولقد كاد أنْ يَغِيبَ الفرقانُ الشرعي في زماننا إلاَّ ما شاء الله حيث أصبح الدِّين الحق في غاية الغربة. وقد قال ابن القيم - رحمه الله - عن المداهنين بعد أن ذكر الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة لله ورسوله وعباده ونصرة الله ورسوله ودينه وكتابه؛ قال: (فهذه الواجبات لا تَخْطر بِبَالِهِم فضلاً عن أن يريدوا فِعْلها، وفضلاً عن أن يفعلوها. وأقَلُّ الناس دِيناً وأمْقتهم عِند الله مَن تَرَك هذه الواجبات وإنْ زهد في الدنيا جَمِيعِهَا. وقَلَّ أن ترى منهم من يَحْمَر وجهه ويُمَعِّرُهُ لله، ويغضب لِحُرُماته ويبذل عِرْضَه في نَصْرِ دِينه، وأصحاب الكبائر أحسن حالاً عند الله من هؤلاء) انتهى باختصار (¬1). تأمل قوله - رحمه الله -: (يَحْمرّ وجهه ويمعِّره لله ويغضب لحرماته، ويبذل عرضه لنصر دينه) مع أنَّ هذا عند أكثر أهل الوقت - لا كثرهم الله - تَشَنُّجاً وتزمُّتاً وضِيق عَطَن، وصاحبه مُصَابٌ بأمراض نفسيه!. وقائل هذا الكلام ونحوه عند انتهاك محارم الله يكون فيه من ¬

_ (¬1) «عدة الصابرين»، ص (143).

صفات الشيطان الأخرس بتركه إنكار المنكر ومن صفات الشيطان الناطق لِطَعْنه على المنكِر للمنكَر، وما أكثر هؤلاء!، فالله المستعان. قال شميط بن عجلان - رحمه الله -: (مَن رضي بالفسق فهو من أهله) (¬1). وقال الأوزاعي - رحمه الله -: (إذا رأيت العالِم كثير الأصدقاء فاعلم أنه مُخَلِّط لأنه لوْ نطق بالحق لأبغضوه!) انتهى (¬2)؛ وهو وَصْف المداهن، وَيوضحه ما جاء عن سفيان الثوري - رحمه الله - أنه قال: (كثرة الإخوان من سَخَافَة الدِّين!) (¬3)، وقال: (كَثْرةُ الأخلاَّء مِن رِقِّةِ الدِّين!) (¬4). ولا ريب أن لِمُدَاهنة الفساق والعصاة آثار سوء، وكُتُبُ أهلِ السُّنة حافلة ببيان هذا والتحذير منه. وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ ¬

_ (¬1) «الزهد» للإمام أحمد، ص (229)؛ وانظر: «صفة الصفوة» لابن الجوزي (3/ 341). (¬2) «فيض القدير» للمناوي، (4/ 274). (¬3) «التواضع والخمول» لابن أبي الدنيا ص (69) ورقم (42)، و «الورع» للإمام أحمد ص (193)؛ وانظر: «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم الرازي (1/ 94). (¬4) «الطبقات الكبرى» للشعراني، (1/ 46).

وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً) (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: (لاَ تُصَاحِبْ إِلاَّ مُؤْمِنًا، وَلاَ يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلاَّ تَقِيٌّ) (¬2). وقد ذكر أهلُ العلمِ أنَّ «عبدَ الرزاق بن هَمَّام» ما دخل في التشيُّع إلاَّ بعد أنْ سَمِعَ وصَحِب «جعفر بن سليمان» (¬3). ورُمِيَ بالقَدَر «ابن أبي ذئب» حينما تلطَّف مع القدرية وأدخلهم مجلسه؛ قال الذهبي: (كان حَقُّه أن يكفهرَّ في وجوههم، ولَعَلَّه كان يُحسن الظنَّ بالناس) انتهى (¬4). وقد كان «عِمْران بن حطان» من أهل السنة، وحينما تزوَّج ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (5214)، ومسلم برقم (2628)، وغيرهم؛ وكلهم من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه أبو داود في «سننه» برقم (4832)، والترمذي في «سننه» برقم (2395)، وأحمد في «مسنده» برقم (11355)، الحاكم في «مستدركه» برقم (7169)، وغيرهم؛ وكلهم من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -؛ وقال الحاكم عقبه: (هذا حديث صحيح الإسناد ولَم يُخرجاه) ووافقه الذهبي؛ وحسَّنه البغوي في «شرح السنة» (6/ 468)، وحسَّنه - أيضاً - ابنُ مفلح في «الآداب الشرعية» (3/ 527). (¬3) أنظر: «تذكرة الحفاظ» للذهبي (1/ 241)، و «سير أعلام النبلاء» (9/ 570)، و «الكامل» لابن عدي (5/ 315). (¬4) «سير أعلام النبلاء» (7/ 141).

خارجية صَارَ من أئمة الخوارج؛ قال ابن عساكر: (وعمران بن حطان كانَ رَجُلاً مِنْ بَنِي سدوس أدرك جماعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وصار في آخر أمره أنْ رأى رأي الخوارج؛ وكان سبب ذلك فيما بَلَغَنَا أنَّ ابنة عمٍّ له رأتْ رأيَ الخوارج فتزوَّجَها ليردَّها عن ذلك فصَرَفَتْه إلى مذهبها!) انتهى (¬1). قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: (اعتبروا الناس بأخدانهم فإنَّ المرءَ لا يُخَادِن إلاَّ مَن يُعجبه) (¬2). وعن عمرو بن قيس أنه كان يُقال: (لاَ تُجالس صاحب زَيْغٍ فيزيغ قلبك) (¬3). وقال يحيى بن سعيد القطان: لَمَّا قدم سفيان الثوري - رحمه الله - «البصرة» جعل ينظر إلى أمْرِ الربيع بن صبيح وقَدْره عند الناس فسَأل: (أيُّ شيءٍ مذهبه؟!)، قالوا: مَا مَذهبه إلاَّ السُّنة؛ فقال: (مَن بطانته؟!)، قالوا: أهلُ القَدَر؛ فقال: (هُوَ قَدَرِي!) (¬4). قال ابنُ بَطَّة - رحمه الله - مُعلِّقاً على كلام «سفيان الثوري» بعد أنْ ¬

_ (¬1) أنظر: «تاريخ دمشق» لابن عساكر (43/ 490)، و «تهذيب الكمال» للمزي (22/ 323). (¬2) أخرجه ابن بطة في «الإبانة» برقم (381)، وابن أبي الدنيا في «الإخوان» برقم (38). (¬3) «الإبانة»، رقم (371) و (395). (¬4) «الإبانة»، رقم (426).

ذكَرَه: (لقد نطق بالحكمة فَصَدَق، وقال بالعلم فوافق الكتاب والسنة، وما تُوجِبُه الحكمةُ، ويُدركه العَيانُ، ويعرفه أهلُ البصيرَةِ والعَيانِ، قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} (¬1)) انتهى. وقد قيل للأوزاعي - رحمه الله -: إنَّ رَجُلاً يقول: " أنا أجالس أهل السنة وأهل البدع "؛ فقال: (هذا رجل يُرِيدُ أن يُساوي بين الحق والباطل!) (¬2). وقال سفيان الثوري - رحمه الله -: (ليس شيء أبلغ في فَسَادِ رَجُلٍ وصَلاَحِه مِن صَاحِب!) (¬3)، يعني تأكُّد تأثُّره به. ولذلك يقول عديُّ بن زيد (¬4): عَنِ الْمَرْءِ لاَ تَسْألْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ ... فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِي! وَصَاحِبْ أُوْلِي التَّقْوَى تَنَلْ مِنْ تُقَاهُمُ. ... وَلاَ تَصْحَبِ الأرْدَى فَتَرْدَى مَعَ الرَّدِي وقال الفُضَيل بن عِيَاض - رحمه الله -: (ليس للمؤمن أنْ يَقْعُد مع كُلِّ مَن شَاءَ لأنَّ الله - عز وجل - يقول: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، من الآية: 118. (¬2) «الإبانة»، رقم (434). (¬3) «الإبانة» رقم (504). (¬4) «بَهجة المجالِس» لابن عبد البر، (1/ 151).

فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (¬1)) انتهى (¬2). قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: (ورُفع إلى عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - قومٌ يشربون الخمر وكان فيهم جليس لَهُم صائم فقال: «ابدؤوا به في الْجَلد، ألم تسمع الله يقول: {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} (¬3)») ثم قال ابن تيمية بعد ذلك: (فإذا كان هذا في الْمُجَالسَة والعِشْرة العارضة حين فِعْلهم للمُنْكَر يكون مُجَالِسُهُم مِثْلاً لَهُم فكيف بالعِشْرَةِ الدائمة!) انتهى (¬4)؛ فليتأمل الْمُداهن هذا!. وقد قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: (وَمِن أنواعِ مَكايده وَمَكْره - أيْ الشيطان -: أنْ يدعو العبدَ بِحُسْنِ خُلُقِهِ وطلاقَتِه وَبِشْرِه إلى أنواعٍ من الآثام والفجُور، فيلقاه مَن لاَ يُخَلِّصُه مِن شَرِّه إلاَّ تَجَهُّمه والتعبيس في وجهه والإعراض عنه، فَيُحْسِّن له العدوُّ أنْ يلقاه بِبِشْرِه وطلاقة وجهه وحُسْن كلامه، فيتعلق به فيروم التخلص منه فيعجز، فلا يزال العدوُّ يسعى بينهما حتى يُصيب حاجته، فيَدْخُل على العبدِ بِكَيده مِن بابِ حُسْنِ الْخُلْق وطَلاَقة الوَجه!، ومن هَهُنَا وصَّى أطباءُ القلوبِ بالإعراضِ عن أهل البِدَع وأنْ لاَ يُسَلِّم ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، من الآية: 68. (¬2) «الإبانة»، رقم (514). (¬3) سورة النساء، من الآية: 140. (¬4) «مجموع الفتاوى»، (15/ 315).

عليهم، ولا يُرِيهِمْ طلاقةَ وجْهِهِ، ولاَ يلقاهُمْ إلاَّ بالعبوس والإعراض) انتهى (¬1). ¬

_ (¬1) «إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان» لابن القيم، (1/ 140).

المقصود بالهجر.

المقصود بالهجر إنَّ في الْهَجْر صيانة للمُسلم من التعرض لِمَا يُفسد عليه قلبه وعمله. كما أنَّ فيه إشعار وتنبيه الواقع بالمعصية لعله يُفَكِّر فيتوب. كذلك فهو حُكْمٌ شرعي بِمَنزلة التعزير، وهو إنكارٌ للمنكَر، وغَضَبٌ لله، وَبُغْضٌ للعاصي ومعصيته، وعقوبةٌ شرعية. فالقصد بالهجر بيان الحق وهداية الخلق، وصيانة عزة المؤمن عما يشوب إيمانه من دنس العصاة ومعاصيهم مع إظهار البغض للعاصي وإنكار معصيته. كذلك فإنه بالقيام بأمر الله يندفع البلاء بإذن الله عن المسلمين، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مَا مِنْ قَوْمٍ يَكُونُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ مَنْ يَعْمَلُ بِالْمَعَاصِي هُمْ أَعَزُّ مِنْهُ وَأَمْنَعُ لَمْ يُغَيِّرُوا عَلَيْهِ إِلاَّ أَصَابَهُمْ اللَّهُ - عز وجل - مِنْهُ بِعِقَابٍ) أخرجه الإمام أحمد (¬1)، وفي لفظِ أبي داود (¬2) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (مَا مِنْ رَجُلٍ يَكُونُ فِي قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي يَقْدِرُونَ عَلَى ¬

_ (¬1) في «مسنده» برقم (19236) من حديث جرير بن عبد الله - رضي الله عنه -؛ وإسناده حسَن. (¬2) حيث أخرجه في «سننه» برقم (4339) من حديث جرير بن عبد الله - رضي الله عنه -؛ وإسناده حسَن، وصححه ابن حبان حيث أخرجه في «صحيحه» برقم (300).

أَنْ يُغَيِّرُوا عَلَيْهِ فَلاَ يُغَيِّرُوا إِلاَّ أَصَابَهُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَمُوتُوا)، فالهجر إنكارٌ وإشعار. قال ابن الجوزي: (وحُدِّثْتُ عن أبي بكر الخلال عن المروذي عن محمد بن سهل البخاري، قال: كنا عند الفِرْيابي فجعل يذكر أهل البدع فقال له رجل: لو حدَّثتنا كان أعجب إلينا؛ فغضب وقال: «كلامي في أهل البدع أحب إلَيَّ من عبادة ستين سنة») انتهى (¬1). وقال ابنُ عبد البَرِّ - رحمه الله -: (وَرُبَّ صَرْمٍ جَمِيلٍ خير مِن مُخَالطة مُؤْذِيَة) (¬2). وكان عمَّار بن يَاسِر - رضي الله عنه - يقول: (مُصَارمة جميلة أحبّ إلَيَّ من مودَّة على دَغَل) (¬3). فالهجْرُ مع أنه دليل بغض ونُفرة فهو نصح للمهجور لِيُشْعِر بحاله بخلاف المداهنة فإنها غِش. جاء ابْنٌ لِسليمان بنِ عبد الْمَلِكِ بن مروان فجلس إِلَى جَنْبِ طَاووس اليمَانِي فلَم يلتفت إليه، فقيل له: جَلَسَ إليك ابنُ أمير المؤمنين فلم تلتفت إليه!؛ فقال: (أرَدْتُّ أنْ يَعلم أنَّ لِلَّهِ عِبَاداً ¬

_ (¬1) «تلبيس إبليس»، ص (24). (¬2) أنظر: «الاستذكار» (8/ 290)، و «التمهيد» (6/ 127)، وكلاهما لابن عبد البر؛ ومعنى (صرْم) أيْ: هَجْر. (¬3) «فيض القدير» للمناوي، (1/ 531)؛ ومعنى (دغَل) أيْ: خِدَاع وَغِش.

يزهَدُون فِيمَا فِي يَدَيْهِ!) انتهى (¬1). أنظر ما فعل طاووس - رحمه الله - مع ابن الخليفة، وهذا واللهِ غاية النصح الذي يَعُدُّهُ كثيرون من أهل وقتنا تنفيراً فهو يقول: (أرَدْتُّ أنْ يَعلم أنَّ لِلَّهِ عِبَاداً يزهَدُون فِيمَا فِي يَدَيْهِ!) أيْ ليرجع إلى نفسه ويتفَكَّر في الدنيا وغرورها وأنها ليسَتْ بِشَيءٍ فلا تغرُّهُ كَمَا غَرَّت غيره. وَمِمَّا يُوضح ذلك قول الإمام أحمد - رحمه الله -: (إذا عَلِمَ مِنْ رَجُل أنه مُقيم على معصيتهِ وهو يعلم بذلك لَم يأثَمْ إنْ هو جفاه حتى يرجع، وإلاَّ كيف يتبين للرجل ما هو عليه إذا لَم يَرَ مُنكِراًَ عليه ولا جَفْوَة من صَدِيق!) انتهى (¬2). فهذا إمام أهل السنة يقول: (وإلاَّ كيف يتبين للرجل ما هو عليه) وكثيرون اليوم يَرمون فاعلَ ذلك بالعظائم!، فتأمَّل نُصْحَ السلف وغرورَ الْخَلَف!. ومن المقصود بالهجر أيضاً رجوع المهجور عمَّا هو عليه، فقد سُئل الإمام أحمد عن رَجُلٍ مبتَدِع داعية يدعو إلى بدعة .. أيُجَالَس؟!، فقال: (لاَ يُجالَس ولا يُكلَّم لعلَّه أنْ يَرْجِع) (¬3). ¬

_ (¬1) «حلية الأولياء» (4/ 16)، و «تهذيب الكمال» (13/ 372). (¬2) أنظر: «غِذاء الألباب»، (1/ 220). (¬3) «مسائل الإمام أحمد» برواية ابن هانئ النيسابوري، (2/ 153).

والهجر تعزيرٌ، قال ابنُ فرحون: (والتعزير لا يختص بفِعل مُعَيَّنٍ ولاَ قول مُعَيَّن، فقدْ عَزَّرَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بالهجر، وذلك في الثلاثة الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن الكريم، فَهُجِروا خمسين يوماً لا يُكَلِّمُهم أحدٌ وَقِصَّتهم مشهورة في الصِّحَاح) انتهى (¬1). ¬

_ (¬1) «تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام»، (2/ 202).

أعوان الظلمة.

أعوان الظلمة لَمَّا قَدِم أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - من البصرة وكان عاملاً عليها أقبل على أبي ذرٍّ الغِفَاري - رضي الله عنه - يحتضنه ويقول: مرحباً بأخي؛ فجعل أبو ذرٍّ - رضي الله عنه - يدفعه عن نفْسِه ويقول: (إليك عني؛ لست بأخيك!، إنما كنتُ أخاك قبل أن تُسْتَعْمل!) انتهى (¬1)؛ وأين هذا مِمَّا آلَتْ إليه الأحوالُ اليوم؟!. وحينما أتى ابنُ نجيح إلى طاووس وكان عاملاً لمحمد بن يوسف أوْ أيوب بن يحيى، فقعد بين يديه فسلَّم عليه فلم يُجبْه، فكَلَّمَه فأعرض عنه، ثم عَدَل إلى الشِّقِّ الأيسر فأعرض عنه! (¬2). قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: (قال غيْرُ واحدٍ من السَّلَف: أعوانُ الظلمَةِ مَن أعانَهُم ولوْ أنه لاَقَ لهم دواةً أو برى لهم قَلَماً، ومنهم مَن يقول: بل من يغسل ثيابهم من أعوانهم، وأعوانهم هم أزواجهم المذكورون في الآية) انتهى (¬3). ويريد بالآية قولَه تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا ¬

_ (¬1) أخرجه ابنُ سَعد في «طَبَقاته» (4/ 230)، وابن عساكر في «تاريخه» (66/ 210 - 211). (¬2) «حلية الأولياء»، (4/ 16). (¬3) «مجموع الفتاوى»، (7/ 64).

يَعْبُدُونَ} (¬1)، وهي التي يقول فيها أهل التفسير أنهم النظراء والأشباه يعني وأزواجهم. قال أحمد بن سعيد الرباطي - وكان عاملاً لعبد الله بن طاهر -، قال: قَدِمْتُ على أحمد بن حنبل، فجعل يرفع رأسه إلَيَّ، فقلت: يا أبا عبد الله .. إنه يُكتب عني بـ " خُرَاسَان " وإن عاملتني هذه المعاملة رَمَوْا حديثي!، قال: (يا أحمد! .. هل بُدٌّ يوم القيامة من أن يُقال: أين عبد الله بن طاهر وأتباعه؟!، فانظر أين تكون منه؟!) انتهى (¬2). ¬

_ (¬1) سورة الصافات، من الآية: 22. (¬2) «سير أعلام النبلاء»، (11/ 225).

انظر مأخذ الإمام أحمد - رحمه الله - وأنه من الآية السابقة: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} ومعاملته للرباطي بالهجْر والإنكار!. وقد قال أبو بكر المروذي - رحمه الله - في الإمام أحمد: (كان يحب في الله ويبغض في الله؛ وإذا كان في أمر الدين اشتدَّ له غضبه) انتهى (¬1). وعن أبِي عيسَى الْخُرَاسَانِي عن سَعِيدِ بن الْمُسيِّبِ - رحمه الله - أنه قال: (لا تَمْلَؤُوا أعينكم من أعوان الظَّلَمَةِ إلاَّ بالإنكارِ مِنْ قلوبكم لكيلاَ تحبط أعمالكم!) انتهى (¬2). وقد سُئِلَ ابنُ تيمية - رحمه الله - عن الْمُعَاون لأعداءِ الله فقال: (حكمُه حُكْم الْمُبَاشِر، وَبِهَذا قال أبو حنيفة ومالك وأحمد) (¬3). وقال - رحمه الله -: (الْمُتلبِّس بِمَعصيةٍ لا يُسلَّمُ عليهِ حالَ تلبُّسِهِ بِهَا) (¬4). ¬

_ (¬1) «سير أعلام النبلاء»، (11/ 221). (¬2) «الكبائر» للذهبي، ص (112). (¬3) أنظر: «مجموعة التوحيد»، ص (288). (¬4) «المستدرك على مجموع الفتاوى»، (3/ 145).

فصل.

فصل قال أبو العالية - رحمه الله -: (إِعْمَلْ بالطاعةِ وأحب عليها مَن عَمِل بِهَا، واجتَنِبْ المعصيةَ وعادِ عليها مَن عَمِل بها، فإنْ شاء الله عَذَّبَ أهلَ مَعصِيَتِهِ وإنْ شاء غَفَرَ لَهُم) انتهى (¬1). هكذا العلماء يخافون على العاصي ويرْجُون للمُطِيعِ، وليسَ مَعنى بغضهم وحبهم الشهادة لأحدٍ أو الْحُكْم عليه بنارٍ أوْ جَنَّةٍ، فهذا إلى الله - عز وجل -. ورَضِيَ الله عن أمير المؤمنين عَلِيِّ بنِ أبِي طالب حيث قال: (لو كان الدِّينُ بالرأيِ لكانَ أسفَلُ الْخُفِّ أولى بالْمَسْحِ مِنْ أعلاَه!) (¬2)، وذلك لأنَّ أسفَلَه هو الذي يباشِرُ الأرضَ ومع هذا جاء الأمر بِمَسْح أعلاه. ولقد صالَت الآراءُ وجالت في وقتنا بِمَا لا يُعْهد له مثيلٌ حتى طالت الولاء والبراء وتسمية الكفار بغير ما سماهم الله به ورسوله ¬

_ (¬1) «بغية الطَّلَب» لابن العديم (4/ 9)، و «الحلية» (2/ 208). (¬2) وتمام الحديث: (وقد رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظاهر خُفيه) أخرجه أبو داود في «سننه» برقم (162)، والنسائي في «سننه الصغرى» برقم (136)، وغيرهم؛ وقال الحافظ ابن حجر في «بلوغ الْمَرام» برقم (27): (إسناده حسَن)؛ وانظر للفائدة: «سبل السلام» للصنعاني (1/ 85).

- صلى الله عليه وسلم - ومقاربة الأديان والتقارب مع الرافضة وغير ذلك، بل حصلت موالاة الكفار وموادتهم من كثيرين مِمَّن يَدَّعُون الإسلامَ مع أنه لا يقوم دينُ العبدِ ولاَ يستقيم إلاَّ بالعمل بقوله تعالى: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَه ُ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة الممتحنة، من الآية: 44.

فصل.

فصل قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (أشار أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - لَمَّا قال له عمر بن الخطاب في بعض ما يُخَاطبه به: يا خليفة رسول الله: " تألَّف الناس "، فأخَذ بلحيته وقال: «يا ابن الخطاب .. أجَبَّاراً في الجاهلية خَوَّاراً في الإسلام؟!، عَلاَمَ أتألَّفُهُم؟!، أعَلَى حديثٍ مُفترى أم شِعْر مُفْتَعل؟!». يقول: إني لست أدعوهم إلى حديث مفترى كقرآن مسيلمة ولا شعر مفتعل كشعر طليحة الأسدي) انتهى (¬1). أين الصِّدِّيق والفاروق مِمَّن مَيَّعوا دينَ ملك الملوك سبحانه؟!، والمؤمن لا يُذِلُّ نفْسَه لأنَّ دينَهُ عزيزٌ عليه، وفد قال رجل للحَسَن البصري: إنك مُتكَبِّر!، فقال: (لستُ بِمُتكَبِّرٍ ولكني عَزِيز) (¬2). كذلك فشأن الدِّين اليوم ليس هو كأوله، ولذلك أنكر أبوُ بَكْرٍ على عُمَرَ - رضي الله عنهما - التأليفَ لظهورِ الدِّين. وقد ذَكَر الدارمي في «سُنَنِه» (¬3) عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن درهمين في درهم، فقال فلان: ما أرى بهذا بأساً، ¬

_ (¬1) «مجموع الفتاوى»، (2/ 136). (¬2) «طريق الهجرتين»، ص (186 - 187). (¬3) برقم (443)؛ وانظر: «قواعد التحديث» للقاسمي، ص (296).

يداً بيدٍ!؛ فقال عبادة - رضي الله عنه -: (أقول قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقول: " لا أرى بِهذا بأسًا "!، والله لا يُظلَّنِي وإياك سَقْفٌ أبَداً!) انتهى. أين عُبادَة - رضي الله عنه - من شيخ من مشايخ الوقت يُفتي بأحَد مَجَلاَّتِهِ قائلاً: (أنَا لا أُسَلِّم أنَّ الملائكةَ لاَ تدخل البيتَ الذي فيه صُور، لأنَّ بيوتَ المسلمين اليوم مليئة بالصور!) انتهى. لقد صارت - والعياذ بالله - كثرة الحرام في البيوت عند هذا الشخص الْمُفْتِي عِلَّة تغيُّر حال الْمَلائكة التي أخبر «جبريلُ» - عليه السلام - النبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بأنَّهُمْ لا يدخلون بيتاً فيه صورة (¬1)، ولَوْ طُرِد هذا القياسُ السوء لتغير الدِّين مع التغيُّرَات!. وتأمَّل ما يَفْعَله الصَّحَابة - رضي الله عنهم - فِيمَن يُعارضُ السُّنةَ برأيه لَوْ كانَ ¬

_ (¬1) عن عائشة - رضي الله عها - أنها قالت: وَاعَدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل - عليه السلام - في ساعة يأتيه فيها، فجاءت تلك الساعة ولَم يأتِهِ وفي يدِهِ عَصَا فألقاها من يده وقال: (ما يُخْلِف الله وعدَه ولا رُسُلُه)، ثم التفَتَ فإذا جرو كَلْبٍ تحت سريرِهِ فقال: (يا عائشة متى دَخَل هذا الكلب ها هنا)، فقالت: واللهِ ما دَرَيْت؛ فأمَرَ به فأُخْرِج، فجاء جبريل - عليه السلام -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (واعدتني فَجَلَسْتُ لك فلم تأتِ!)، فقال - عليه السلام -: (منعني الكلب الذي كان في بيتك، إنا لا ندخل بيتاً فيه كًلْب ولاَ صُورَة) رواه البخاري في «صحيحه» برقم (5615) ومسلم في «صحيحه» برقم (2104) واللفظ له. وعن أبي طلحة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة) أخرجه البخاري برقم (3144) ومسلم برقم (2106). والأحاديث الواردة في الصِّحَاح والسُّنن والمسانيد في هذا المعنى كثيرةٌ جِدًّا.

مَا كَان: عن حُمَيد بن عبد الرحمن أنه قال: دَخَلْنا على «أسير» - رَجُلٍ مِن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حِين استُخْلِفَ «يزيد بن معاوية»، قال: (يقولون: " إنَّ «يزيد» ليس بخير أمة محمد ولا أفقهها فِقْهاً ولا أعظمها فيها شرفاً "؛ وأنا أقول ذلك، ولكن واللهِ لَأَنْ تَجْتَمِعَ أمةُ محمد - صلى الله عليه وسلم - أحب إلَيَّ من أنْ تُفَرَّق، أرأيتكم بَاباً لو دَخَل فيه أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وَسِعَهُم أكانَ يَعْجَزُ عن رَجُلٍ واحدٍ لو دَخَل فيه)، قال: قلنا: لا؛ قال: (أرأيتكم لو أنَّ أمةَ محمد - صلى الله عليه وسلم - قال كُلُّ رَجُلٍ منهم: " لا أهريق دَمَ أخي ولا آخذ مالَه " أكانَ هذا يَسَعهم؟!؛ قال: قلنا: نعم؛ قال: (فذلك ما أقول لكم) ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لاَ يَأْتِيكَ مِنْ الْحَيَاءِ إِلاَّ خَيْرٌ) قال حُمَيدٌ: فقال صاحبي: " إنَّ في قَصَصِ «لُقمَان» أنَّ بعضَ الْحَياء ضَعْفٌ وبعضه وَقَارٌ للهِ "؛ قال: فأرْعَدَتْ يَدُ الشيخِ وقال: «أُخْرُجَا مِن بَيْتِي!، أُخْرُجَا مِن دَارِي، ما أدخلكما عَلَيَّ؟!»، قال: فَمَا زِلْتُ أسَكِّنُهُ حَتى سَكَن؛ قال: ثم خَرَجْنَا أنا وصاحبي (¬1). فتأمَّل مقابلة مَن عارض حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -!، وإنَّ مِن أيْسَرِ شيءٍ على مَن تُنكَر عليه الصور الْمُحَرَّمَة أو غيرها مِمَّا يُغضب الله من شاشاتِ ما يُسمَّى (الْمَجْد) وغيرها أنْ يقول: " الشيخ فلان يقول ¬

_ (¬1) أخرجه ابنُ سَعد في «طبقاته»، (7/ 67).

كذا "!. إنَّ بعض الناس يحتج على ترك الهجر بكثرة المنكرات، والعجَب أنهم مع عدم الهجر تَرَكوا حتى الإنكار، وداهنوا، وضَعُفَ الوازعُ الديني في قلوبهم فلاَ هُم يهجرون، ولا يُنكرون، ولا يُبغضون!، وهذا من ضَرْبِ القلوبِ بعضها ببعض. قال شيخ الإسلام - رحمه الله - بعد كلامٍ سابق: (ولكن مَن أظهر بدعته وَجَب الإنكار عليه بخلاف مَنْ أخفاها وكتَمَها) انتهى (¬1). إنَّ أهل هذه التعاليم الحادثة في وقتنا يَستحِقُّون الْهَجْر، فُكُتُب تعاليمهم ومناهجهم ظاهرة معروفة مشهورة، ومعلوم أنَّ هذا إظهار وإشهار. ثم قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: (وإذا وَجَبَ الإنكار عليه كان من ذلك أن يُهجر حتى ينتهي عن إظهار بِدعتِهِ) انتهى (¬2). إنَّ أولئك المفتونين بالتعاليم الحادثة لا ينتهون وهم مُصِرُّون على البقاء لأجل شُبهة الإصلاح التي تُغطِّي ظُلْمَتُها عنهم شهوةَ المالِ والرئاسة فاتفق لهم شهوةٌ بِشُبْهَة! - نسأل الله العافية -. ثم قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: (ومِن هَجْره أن لا يؤخذ عنه العلم ولا يُسْتشهد، وكذلك تنازع الفقهاء في الصلاة خلف أهل الأهواء ¬

_ (¬1) «مِنهَاج السنة النبوية»، (1/ 17). (¬2) المصدر السابق.

والفجور؛ منهم مَن أطلق المنع، والتحقيق أنَّ الصلاةَ خَلْفَهُم لا يُنْهَى عنها لِبطلاَنِ صلاتهم في نفْسِها لكن لأنهم إذا أظهروا المنكر استحقوا أنْ يُهْجَرُوا وأن لا يُقَدَّمُوا في الصلاة على المسلمين، ومن هذا الباب تَرْك عِيَادتهم وتشييع جنائزهم؛ كل هذا من باب الهجر المشروع في إنكار المنكر للنهي عنه) انتهى (¬1). انظر قوله: (الهجر المشروع في إنكار المنكر للنهي عنه). ثم قال - رحمه الله -: (وإذا عُرف أنَّ هذا من بابِ العقوباتِ الشرعيةِ عُلِمَ أنه يختلف باختلاف الأحوال من قِلَّةِ البِدْعَة وكثْرتها وظهور السُّنة وَخَفَائِهَا) انتهى (¬2). إنه من الْمَعلوم كثرةُ الباطل وخفاء سنة الهجر الذي هو من باب العقوبات الشرعية؛ فهل يُتْرَك هذا بالكُلِّيةِ؟!؛ وقد قال - رحمه الله -: (إنَّ المشروع قد يكون هو التأليف تارة، والْهُجْران أخرى) انتهى (¬3). إنَّ الْحَاصِلَ أنَّ مَن ادَّعَى من أهل الوقت بِتَرْكِ الْهَجْر التأليفَ تَلِف أوْ كاد!، وأهلُ الدِّينِ يعلمون ما كانوا عليه سَابِقاً من الْهَجْر وما تحوَّلوا إليه من دعوى التأليف ويعلمون أيهما أفضل حالهم اليوم أو الأمْس!، إنهم يُقرُّون بِحُسْنِ أحوالهم في الماضي لَمَّا كان ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) المصدر السابق. (¬3) المصدر السابق.

الهجر والْمُصَارمة، والآن عَرَّضوا نفوسهم ومن يقتدي بهم للعدوى والبَلْوى بترك الوقاية وقد وقع ما يَسُوء. ثم قال شيخ الإسلام بعد الكلام السابق: (كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتألَّفَ أقواماً من المشركين مِمَّن هو حديث عهد بالإسلام، وَمَن يُخَاف عليه الفتنة، فَيُعْطِي الْمُؤلَّفَة قلوبهم ما لاَ يُعطي غيرهم) انتهى (¬1). لاَبُدَّ من التفريق بين أوَّلِ الإسلاَم ووقتنا في التأليف، وبين مَن يعرف الإسلام وينتسب إليه ومَن لاَ يَعرفه، وقد سبق رَدُّ أبي بكر على عُمَرَ - رضي الله عنهما -. ثم قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: (وكان - صلى الله عليه وسلم - يَهجر بعض المؤمنين كَمَا هَجَر الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك لأنَّ المقصود دعوة الخلق إلى طاعةِ اللهِ بأقْوَمِ طَرِيق) انتهى (¬2). وحيث إن هذا مطلوب أعظم وهو دعوة الخلق إلى طاعة الله بأقوم طريق فَمِثْل وقتنا حيث أُبطل الهجرُ وصار لأهل الباطل دعوى عريضة طويلة حيث يرون أنهم أهل الدعوة والعلم والإصلاح فَلاَبُدَّ من وجودِ من يُعاملهم بِمَا يُصَادم زَبَدهم ليذهب جُفَاءً!، وَمِن أشَدِّ ذلك عليهم الهجر والمصارمة ولو لَم يكن في هذا ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) المصدر السابق.

من الْمَصلحة إلاَّ التنبيه على فسَاد ما قد اتفقوا عليه من باطلهم الذي ألْبسوه لباسَ الحقِّ!. ثم قال - رحمه الله -: (فيستعمل الرغبة حيث تكون أصلح والرهبة حيث تكون أصلح) انتهى (¬1). إنَّ أهلَ الدِّين يعرفون الأصلح وهو الهجر والْمُصَارَمة ويعرفون ما آلت حالهم إليه الآن فهذا بالتجربة ظهر صلاحه بشهادة مَن كان يفعله ثم تَرَكه، وكم مِمَّن يُضْمِرُ في نفْسِه أنَّ الهجر هو الصواب لكن يقول: " تربطنا بهم روابط "، ويتمنى لو انحلَّت هذه الروابط لِيَهْجُر، مع أنها ليست عذراً مقبولاً له، ومن هنا يتبين أنَّ الاعتذار اليوم بعدم مَنْفَعَةِ الهجر ليس بشيء، فالْمُقَارنة بين حالِ أهلِ الدِّين أوَّلاً وأخيراً تكشف هذه الشبهة. والخلاصة أنَّ الهجرَ يكون حسَب المصلحة، وقد كان أهل الدين في حماية ووقاية وعزة لَمَّا كانوا يستعملونه، واليوم حصل الْخَلَل!، ولو عادوا إليه لحصلت منافع عظيمة بإذن الله، وحسبك أنَّ أيسرها ظهور الفرقان بينهم وبين الآخرين، فبهذا تزول أعظم شبهة في مسألة الهجر وهي أنه حسب المصلحة، لأنه لا يُجَادل في حُسْن حال أهل الدِّين في السابق لَمَّا كانوا يُبْغِضون مَن هو متلبس بباطل ويهجرونه إلاَّ مَن لاَ يُنصف في هذه المسألة، وقد كانوا ¬

_ (¬1) أنظر: «مِنهاج السنة النبوية»، (1/ 17).

يهجرون على أقل ِمَّما وقع اليوم!. وَعلى أيَّة حال فإنه يُقال الآن: أينَ البغض والإنكار والْمَقت والشنآن لأهل الباطل لَمَّا تُرِك الهجر؟!، وَمِمَّا يُوضِّح ما تَقَدَّم فإنه لاَبدَّ من البغض والْمَقت والشنآن لأهل الباطل حتى ولو لَمْ يُهجروا؛ قال ابن تيمية - رحمه الله -: (وهكذا السُّنة في مقارنة الظَّالِمِين والزُّنَاة وأهل البِدَع والفجور وسائر المعاصي) انتهى (¬1). تأمَّل قوله: (وسائر المعاصي). وقال - رحمه الله -: (لا ينبغي لأحد أن يُقارنهم ولا يخالطهم إلا على وجه يسلم به من عذاب الله - عز وجل -، وأقلَّ ذلك (¬2) أن يكون منكراً لظلمهم ماقتاً لهم شانئاً ما هم فيه بحسب الإمكان كما في الحديث: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْه بِيَدِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتطع فَبِقَلْبِه وَذَلِكَ أضْعَفُ الإِيِمَان» (¬3)) انتهى (¬4). وهنا يُقَال لِمَن تَرَك الْهَجْر: هل قُمْتَ بِمَا ذكره شيخ الإسلام أو ¬

_ (¬1) «مجموع الفتاوى»، (15/ 324). (¬2) تأمل قولَه: (وأقلُّ ذلك). (¬3) أخرجه مسلم برقم (49)، وابن حبان في «صحيحه» برقم (306)، والنسَائي في «سننه الكبرى» برقم (11739)، وأبو داود برقم (1140)، وابن ماجه برقم (1275)، والترمذي برقم (2172)، وأحمد في «مسنده» برقم (11166)، وغيرهم؛ وكلهم من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - مرفوعاً. (¬4) «مجموع الفتاوى»، (15/ 324).

بعضه من الإنكار والْمَقْت والشنآن على وجه تَسْلم به من عذاب الله - عز وجل -؟!، أمْ أنه بدَلاً مِنْ ذلك حَصَلَتْ الصُّحبَةُ والْمُسَالَمَةُ والمدَاهَنَةُ فتضَرَّرَ الْمُدَاهِن واغترَّ الْمُدَاهَن!. وقد قال الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ (¬1) بعد نَقْله لكلامٍ لشيخ الإسلام ابن تيمية في الْهَجْر ومُراعاة الْمصْلَحَة فيه؛ قال - رحمه الله -: (فانظُرْ أيها الْمُنْصِف بعين الإنصافِ، واحْذَر التعصُّبَ والاعتسافَ إلى ما قاله شيخ الإسلام: " مِنْ أنَّ فِي هَجْرِهِمْ عِزٌّ لِلدِّينِ " (¬2)، وهَذَا إذا كانُوا مسلمين، ولكنهم أصحابُ مَعَاصٍ واقترافٍ لبعضِ الأوزار، فيجِبُ هَجْرهم واعتزالُهُم حتى يُقْلِعُوا، أمَّا الْمُشْرك والْمُبتَدِع: فلاَ نِزَاع فِي هجْرِهِمَا ولا خِلاَف فيه إلاَّ عند مَن قلَّ حظُّه ونصيبه مِنْ العِلْم الْمَوْرُوثِ عن صَفْوةِ الرُّسُلِ - صلواتُ اللهِ وسَلاَمُه عَليه -) انتهى (¬3). ¬

_ (¬1) توفي عام (1367هـ). (¬2) أنظر: «مجموع الفتاوى»، (28/ 206). (¬3) «الدرر السنية»، (8/ 443).

دعوى محبة بلا غيرة ولا غضب!.

دعوى محبة بلا غيْرة ولا غضب! كثيرون في وقتنا يدَّعون الْحُبَّ في الله ولكنهم لا يُبغضون فيه!، وهذا من تلاعب الشيطان بهم لأنَّ حقيقةَ الحب في الله لا تحصل إلاَّ بحقيقة البغض فيه، ولَمَّا خفَّ الأولُ وثَقُلَ الثاني اكتفينا بالدعوى!، والله المستعان. قال شيخُ الإسلامِ - رحمه الله -: (وكثير مِمَّن يَدَّعي المحبة هو أبْعَد من غَيْرِهِ عن اتباع السُّنة، وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، ويَدَّعِي مع هذا أَّن ذلك أكملُ لطريقِ المحبة من غيره لزعمه أنَّ طريقَ المحبة ليس فيه غَيْرة ولا غضب لله، وهذا خلافُ ما دَلَّ عليه الكتابُ والسُّنة) انتهى (¬1). وطائفة (التبليغ) فيهم شَبَهٌ كبير من ذلك، وأكثر مَن يَنتَسِبُون للدِّين سلكوا هذا الْمَسْلكَ وهم لاَ يَنتمُون إلى هذه الطائفة!. وقد قال يوسف بن أسباط: سمعت سفيان الثوري يقول: (إذا أحببتَ الرَّجُلَ في الله، ثُمَّ أحْدَثَ حَدَثاً في الإسلام فلم تُبغضه عليه فإنك لَمْ تُحبه في الله!) انتهى (¬2). فتأمَّل الميزانَ ومَدَارَ قَلْبِ الصَّادق، وانظر ما كان عليه نبيك ¬

_ (¬1) «مجموع الفتاوى»، (10/ 83). (¬2) «حلية الأولياء»، (7/ 34).

محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنَّ شيخَ الإسلام - رحمه الله - بعد ما ذكر حديث عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: (مَا ضَرَبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً قَطُّ بِيَدِهِ ولاَ امْرَأة ولا خادِماً إلاَّ أنْ يُجَاهد في سبيل الله، ومَا نِيلَ منه شيءٌ قَطُّ فَينْتَقِمُ من صَاحبِهِ إلاَّ أنْ يُنتَهَك شَيءٌ مِن مَحَارِمِ اللهِ فينتقم لِلَّهِ - عز وجل -) (¬1)؛ قال شيخ الإسلام بعد أنْ ذَكَرَ هذا الحديث: (فقد تَضَمَّنَ خُلُقُه العظيم أنه لا ينتقم لنفْسِهِ إذا نِيل منه، وإذا انتُهِكَت مَحَارِمُ الله لَم يَقُمْ لغضبه شيء حتى ينتقِمْ لله) انتهى (¬2). وانظُر ما ينكِرُه الكثيرون من الغضب إذا انْتُهِكَت مَحَارِم الله، فيكون فاعل ذلك الغضب هو صاحبُ المنكَرِ فيُنكَرُ عليه، ويُرْمى بكلِّ بَليَّة!. وليَعلم أصحاب الآراء المخالفة لهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين يحتجُّون برحمة العُصَاة في عدم التغليظ عليهم أو معاقبتهم بالحدود الشرعية أنهم تاركون للرحمة الحقيقية لِخُدَعٍ وهْمِيَّة ضارَّة لهم بترك المأمور وللعصاة بالتمادي في الإصرار والغرور، وتأمل ما ذكره ابن تيمية - رحمه الله - في هذه المسألة حيث قال: (وبِهَذا يتبين أنَّ العقوبات الشرعية كلها أدويةٌ نافعةٌ يُصْلِحُ الله بها مرض القلوب، وهي من رحمة الله بعباده، ورأفته بهم الداخلة في قوله تبارك وتعالى: {وَمَا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (6461)، ومسلم برقم (2328) واللفظ له. (¬2) «مجموع الفتاوى»، (15/ 169).

أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (¬1)، فمَن تَرَك هذه الرحمة النافعة لِرَأفَةٍ يجدها للمريض فهو الذي أعانً على عذابه وهلاكه وإنْ كان لا يريد إلاَّ الخير إذْ هو في ذلك جاهل أحمق، كما يفعله بعض النساء والرجال الجهَّال بِمَرْضَاهم وَبِمَن يُربُّونَه من أولادهم وغِلْمَانهم وغيرهم في تَرْكِ تأديبهم وعقوبتهم على ما يأتونه من الشَّرِّ ويتركونه من الخير رأفة بهم، فيكون ذلك سبب فسادهم وعدوانهم وهلاكهم) إلى آخره (¬2). فهذا يُبيِّن أنَّ مَن أبطل حدودَ الله والبغضَ والْهَجْر فيه - عز وجل - بِدَعْوَى الرحمةِ أنه تاركٌ للرَّحمة الحقيقيَّة مُتَسَبِّبٌ للعُصَاة بفسادهم وعُدْوانهم وهلاكهم. وزماننا هذا مليء بالعجائب والغرائب حتى أنه من الحرص الشديد على تغيير النَّهْج السَّلَفي لِمُخَالفته للمفتونين يرى بعضهم ما سَمَّاه (تجديدَ الخطابِ الدِّيِنِي) ويستدل بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (ِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا) (¬3)، ومعنى هذا الحديث صَحيحٌ، ولكنَّ ليسَ الدِّينَ - كمَا يَزعُم الْمُتَّبِع لِهَواه - ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء، آية: 107. (¬2) من «مجموع الفتاوى»، (15/ 290). (¬3) أخرجه أبو داود في «سننه» برقم (4291)، والحاكم في «مستدركه» برقم (8592) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -؛ وقال عنه السَّخاوي في «المقاصد الحسَنة» ص (149): (إسناده صحيح، ورجاله كلهم ثقات).

يُجاري أهواء الناس وأزمَانِهِم ومُحْدَثَاتِهِم فَيحتَاج كُلُّ زمانٍ إلى مَن يُجدِّده بِمَعنى يُلْبِسهُ مُحْدَثات كل زمان ويُخْرِجه للناس بقَالَب ذلك اللباس الْمُتَناسِب مع ما أحدثوا، بل مَعناه الصحيح داحض لِمَزَاعِمِ أهلِ الْهَوى مُعَاكِس مُعَارِض لأهوائهم حيثُ إنَّ المرادَ بتجديد الدِّين إعادته إلى ما كان عليه في عهد النبوة والخلافة الراشدة بإعادة الناس إليه كما هو بإبطال ما أحدثوا مِمَّا يُفْسِده، وإلاَّ فهو جَديدٌ بنفْسِه إلى نِهَاية الدنيا؛ يُوضِّح ذلك نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن مُحْدَثات الأموُر بعد أمْره بالتمَسُّكِ بِهَدْيِه وهَدْي خُلفَائِه الراشدين (¬1)، وقد خافَ - صلى الله عليه وسلم - على أمَّته الأئمةَ الْمُضِلِّين (¬2)، وقد كَثُروا في وقتنا - لا ¬

_ (¬1) حيث قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (عليكم بسنتي وسُنَّةِ الخلفاء الراشدين المهديين، تَمَسَّكوا بِهَا وَعَضُّوا عليها بالنواجِذِ، وإياكم ومُحْدَثات الأمُور .. ) الحديث أبو داود برقم (4607)، والترمذي في «سُنَنه» برقم (2676) - وصحَّحَه -، وأحمد في «مسنده» برقم (17184)، وأخرجه ابن حبان في «صحيحه» برقم (5)، وغيرهم؛ وكلهم من حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه -؛ وصحَّحَه شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (28/ 493) والشوكاني في «السيل الجرَّار» (4/ 504). (¬2) حيث قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما أخافُ على أمتي الأئمة المضلين) أخرجه أبو داود في «سُنَنه» برقم (4252)، والترمذي برقم (2229)، وأحمد في «مسنده» برقم (22447)، وابن حبان في «صحيحه» برقم (6714)، والحاكم في «مستدركه» برقم (8390)، وغيرهم؛ وكلهم من حديث ثوبان - رضي الله عنه - مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال الحاكم عقِبه: (حديث صحيح على شرط الشيخين ولَم يُخرِّجاه بِهَذه السِّيَاقة) ووافقه الذهبي.

كَثَّرهم الله -. والخلاصة أنَّ الدِّينَ جديدٌ أبَداً، وإنما الناس بِبُعدهم عنه وإحداثهم ما ليس منه وتَزَيِّيهم بغير زِيِّه يَتَّسِخُوا!؛ فتجديده قَطْعاً عائِدٌ عليهم برجوعهم له حقيقة، وإلاَّ فهو في الحقيقة جديدٌ بذاته. فالْمُجَدِّد للدِّين حقيقةً هو مَن يدعو الناسَ إلَى تَرْكِ مَا أُحْدِثَ بعد الرعيل الأول ولزوم مَا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بلزومه، وهو الصراط المستقيم الذي كان عليه وأصحابه - رضي الله عنهم -.

هجر الأقارب والأرحام.

هجر الأقارب والأرحام عن سعيد بن المسيب - رحمه الله - أنه قال: (كان «أبو بَكْرة» أخَا «زياد» لأُمِّهِ، فلمَّا كان من أمْرِ «زِيَاد» ما كانَ حَلَفَ «أبو بَكْرة» ألاَّ يُكَلِّم «زِيَاداً» أبَداً، فلَمْ يُكَلِّمْه حتى مَاتَ) انتهى (¬1). وفي وقتنا يُقالُ في هذا: " قطيعة رَحِم "!؛ ولكن اعلم أنَّ المغرورَ مَن اغترَّ بأهلِ الوَقتِ الذين دَخَلوا الْمَدَاخِلَ الْمُظْلِمَة!؛ إنَّهم واللهِ يُلَبِّسُون على الْمَرءِ دِينَه إلاَّ مَن عَصَمَه الله منهم. وقد قال ابنُ أبي جَمْرة - رحمه الله -: (تكون صِلَةُ الرَّحم بالمال وبالعَوْن على الحاجَةِ وَبِدَفع الضَّرَرِ وبطلاَقَة الوَجهِ وبالدُّعاء؛ والمعنَى الْجَامِع: إيصَال مَا أمكَن من الخير ودَفْع ما أمكن من الشَّرِّ بِحَسَبِ الطَّاقَة؛ وهذا إنما يستمر إذا كان أهلُ الرَّحِمِ أهلَ استقامةٍ، فإنْ كانوا كُفارًا أو فُجَّارًا فمقاطعتهم في الله هي صِلَتهم بِشَرط بَذْل الْجُهْدِ في وَعظِهم ثم إعلامهم إذا أصَرُّوا أنَّ ذلك بِسَبب تَخَلُّفِهم عن الحق؛ ولا يسقط مع ذلك صِلَتهم بالدعاء لَهُم بِظَهْرِ الغيب أنْ يَعودوا إلى الطريق الْمُثْلى) انتهى (¬2). أنظر قوله: (إذا كانوا كفاراً أو فجارًا)، والفاجر هو الْمُسلم العَاصي؛ وانظر قوله: (فمقاطعتهم في الله هي صلتهم) وهذا هو تحقيق البغض في الله، وفي كتابنا هذا بيان ذلك كما تقدم من فِعْل ابنِ عمر مع ابنه بلال، وابن المسيب مع أبيه، وأبي بكرة، وغيرهم. ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في «مُصنفِه» برقم (13564)؛ وأخرجه ابنُ عساكر مُفَصَّلاً في «تاريخه» (60/ 36)، وابنُ حزم في «الْمُحلَّى» (11/ 259). (¬2) أنظر: «فتح الباري» لابن حجَر (10/ 418)، و «تحفة الأحوذي» للمباركفوري (6/ 30)، و «غِذَاء الألباب» للسَّفاريني (2/ 59).

وَمِمَّا يبين مسألة هَجْر الأرحام التي قد تُشْكِلُ على بعض الناس أنَّ قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬1)؛ فهذه الآية ليسَت خاصةً بالكفار، بَل الأب والابن والأخ والعشيرة ولو كانوا مُسلمين، فإنَّ لَهم نصيب من الْمُحَادة إذا حادُّوا الله تعالى ورسوله وخالفوا أمْرَه وانتهكوا حرُماته، وَقَد تقدَّم بيان ذلك من الوقائع، ومُقاطعةُ مَن خالف أمر الله وانتهك حُرُماته مُقَدَّمَة على صلة الرحم ويأتي إنْ شاء الله زيادةُ بيان. وكثيرون في وقتنا لا يُبالون فيُجَالِسُون وَيُؤاكلون ويُصاحبون الفُسَّاق، وقد قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: (لاَ تَصْحَبْ إلاَّ مُؤْمِناً، وَلاَ ¬

_ (¬1) سورة المجادلة، آية: 22.

يَأْكُلْ طَعَامَك إِلاَّ تَقِيٌّ) (¬1). وقال القاضي أبو الحسن: (لا تختلف الرواية في وجوب هجر أهل البدع وفُسَّاق الْمِلَّة، ولا فَرْق في ذلك بين ذوي الرحم والأجنبي إذا كان الحق لله؛ فأمَّا إذا كان الحق للآدمي كالقَذْفِ والسَّب والغِيبَة وأخْذ مَاله غصباً ونحو ذلك نَظَرَ، فإنْ كان من أقاربه وأرحامه لَمْ يَجُز هِجْرُه، وإن كان غيره جاز) انتهى (¬2). ويُوَضِّح كلام «ابن أبي جمرة» المتقدِّم وهذا الكلام أنَّ الوقوعَ في الْمُحَرَّمَات والمعاصي انتهاكٌ لِمَحَارم الله مِمَّا يُوجِبُ غَضَبه سبحانه، والعبودية الْحَقَّة موافقة المعبود، والمحبة موافقة الحبيب، فالربُّ يغضب لانتهاك حرماته والعبد مأمور بموافقة ربه في غضبه ورضاه وحُبِّه وبغضه. فإذَا داهنَ العبدُ أرحامَه ولَمْ يَغْضَب عليهم لِرَبِّه فهو بِهَذا يكون مُخَالفاً لربه لأنَّ ربه غضبانٌ عليهم، فأمَّا إذا وافق ربه سبحانه بِغَضبه ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في «سننه» برقم (4832)، والترمذي في «سننه» برقم (2395)، وأحمد في «مسنده» برقم (11355)، الحاكم في «مستدركه» برقم (7169)، وغيرهم؛ وكلهم من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -؛ وقال الحاكم عقبه: (هذا حديث صحيح الإسناد ولَم يُخرجاه) ووافقه الذهبي؛ وحسَّنه البغوي في «شرح السنة» (6/ 468)، وحسَّنه - أيضاً - ابنُ مفلح في «الآداب الشرعية» (3/ 527). (¬2) أنظر: «الزجر بالهجر»، ص (28)، و «غذاء الألباب» (1/ 395).

عليهم ومقاطعتهم وقام بحقهم الذي ذكر «ابن أبي جمرة» من دَعْوَتِهِم، فإذا أصَرُّوا دعا لهم بِظَهْرِ الغيب بالهداية، فيكون بِهَذا قد أدَّى حقَّ اللهِ وحقَّهُم. وقد قال ابن القيم - رحمه الله - عن مشروعية الهجر في ذَاتِ الله تعالى: وَاهْجُرْ وَلَوْ كُلَّ الوَرَى فِي ذَاتِهِ ... لاَ فِي هَواكَ وَنَخْوَةِ الشَّيْطَانِ وَاصْبِرْ بِغَيْرِ تَسَخُّطٍ وَشِِكَايَةٍ ... وَاصْفَحْ بِغَيْرِ عِتَابِ مَنْ هُوَ جَانِي وَاهْجُرْهُمُ الْهَجْرَ الْجَمِيلَ بِلاَ أَذَى ... إِنْ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الْهُجْرَانِ (¬1) إنَّ الذي ميزانه مَدْحُ الناس وذَمُّهُم يصعب عليه البُغْضُ في الله والْهَجْر فيه، أمَّا مَالك بن دِينار - رحمه الله - فَيَقُولُ: (مُنذُ عَرفتُ الناسَ لَمْ أفرحْ بِمَدحهم ولَمْ أحزن لِِذَمِّهم). قالوا: كيف ذلك يا أبا يَحْيَى؟!. قال: (إنِّي لاَ أرَى إلاَّ مَادِحاً مُفْرِطاً أوْ ذَامًّا مُفْرِطاً) انتهى (¬2). وحَسْبك بِرَضا الله تعالى فهو الذي مَدْحُه يَزِين وَذَمُّه يَشِين (¬3)، ¬

_ (¬1) «الكافية الشافية بشرح ابن عيسى " توضيح المقاصد "»، (1/ 139). (¬2) «العزلة» للخطابي ص (61). (¬3) جاء الأقرع بن حابس في وفد بني تميم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنادَى النبي - صلى الله عليه وسلم - من وراء الحجرات فلم يُجبه، فقال: (يا محمد .. إنَّ مدحي زيْن وإنَّ ذَمِّي شين!)، فخرج إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (ويلك!، ذاك الله عزَّ وجل) فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}؛ أخرجه الإمام أحمد في «مسنده» برقم (16034) وغيره.

وقدْ قِيل: فَلَيْتَكَ تَحْلُو وَالْحَيَاةُ مَرِيرةٌ ... وَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالأنَامُ غِضَابُ وَلَيْتَ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَامِرٌ ... وَبَيْنِي وَبَيْنَ العَالَمِينَ خَرَابُ إِذَا صَحَّ مِنْكَ الوُدُّ فَاْلكُلُّ هَيِّنٌ ... وَكُلُّ الَّذِي فَوْقَ التُّرَابِ تُرَابُ. وقد جاء عن سول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (مَنْ أَسْخَطَ اللَّهَ فِي رِضَا النَّاسِ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وأَسْخَطَ عَلَيْهِ مَنْ أرضاهُ فِي سَخَطِهِ، وَمَنْ أَرْضَى اللَّهَ فِي سَخَطِ النَّاسِ رَضِي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَأَرْضَى عَنْهُ مَنْ أَسْخَطَهُ فِي رِضَاهُ حَتَّى يُزَيِّنَهُ وَيُزَيِّنَ قَوْلَهُ وَعَمَلَهُ فِي عَيْنِهِ) (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» برقم (11696) من حديث عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -؛ وقال المنذري في «الترغيب والترهيب» (3/ 209): (إسناده جيد قوي)، وكذا قال الْهَيتمي المكي في «الزواجر» (2/ 188)؛ وأخرج ابن حبان نحوه في «صحيحه» برقم (276) و (277) من حديث عائشة - رضي الله عنها - مرفوعاً.

فصل.

فصل قال الرافعي في «شرح المسند»: (حَقُّ الْمُبتدع أن يُهْجر، وأن يُحَذَّر عن مكاتبته وَمُجَالسته) انتهى (¬1). إنَّ مصائِبَنا في هذا الوقت لا تحصى، ومنها مصائب قاتلة؛ وهي أنَّ أكثر وأعظم مَا وَقَع الناسُ فيه مِن بِدَع ومَعَاصٍ بل وَكُفْر لا يَعدُّون ذلك مُخَالِفَة للشَّرْع حيث سَوَّغه لَهُم مشايخ هَانَ عليهم وَعِيدُ الْجَبَّار وتهاونوا بقوله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} (¬2)، فدَخَل الناس في الظلمات أفواجاً إلاَّ مَا رَحِمَ الله. قال ابن عبد البَرِّ - رحمه الله -: (وجَائِزٌ أنْ يَهْجُر مَن لَمْ يسمع منه ولَمْ يُطِعْه، وليس هذا من الهجرة المكروهة، ألاَ تَرى أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ الناسَ ألاَّ يُكَلِّمُوا «كَعْبَ بن مالك» حين تَخَلَّف عن تبوك، وهذا أصلٌ عند العلماء في مُجَانَبة من ابتدع وهُجْرته وقطْع الكلام معه) (¬3)؛ وقد حَلَف ابنُ مسعود - رضي الله عنه - ألاَّ يُكلِّم رجُلاً رآه يضحك مع جنازة حيث قال له: (أتضْحَك وأنتَ تَتَّبِعُ جنَازة!، واللهِ لا ¬

_ (¬1) أنظر: «الزجر بالهجر»، ص (28). (¬2) سورة النحل، آية: 25. (¬3) «التمهيد»، (4/ 86).

أكَلِّمُكَ أبَداً!) (¬1). انظر قول ابن عبد البر: (وهذا أصلٌ عند العلماء في مُجَانَبَةِ مَن ابتدع وَهِجْرته وقطع الكلام عنه) مَع أنَّ كعباً وصاحببيه ليسوا مُنَافِقِين بل مُؤمِنِين وقد هجرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة - رضي الله عنهم - حتى نزلت توبتهم، والذنب فقط هو التخلُّف عن غزوة فكيف بِمَا نحن فيه الآن؟!. وانظر الآن إلى ما حصل من النبي - صلى الله عليه وسلم - مع صاحب قُبَّةٍ مُشَرَّفَةٍ وهَجْرِه له وإعراضه عنه؛ فَعَن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خَرَج فرأى قبة مُشَرَّفة فقال: (مَا هَذا؟!)، قال له أصحابه: هذه لفلانٍ - رَجُلٍ مِن الأنَصار -؛ قال: فَسَكت وَحَمَلَهَا فِي نَفْسِه حتى إذا جَاء صَاحِبُهَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُسَلِّم عليه في الناس أعْرَضَ عنه - صَنَع ذلك مِرَاراً -، حتى عَرَفَ الرَّجُل الغَضَبَ فيه والإعراضَ عنه، فَشَكا ذلك إلى أصحابه فقال: والله إني لأُنكر رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ قالوا: خرج فرأى قُبَّتَك؛ قال: فَرَجَع الرَّجُلُ إلى قُبَّتِهِ فَهَدَمَهَا حتى سَوَّاها بالأرضِ، فَخَرَج رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ يومٍ فَلَمْ يَرَها، قال: (مَا فَعَلَتْ القُبَّةُ؟!) قالوا: شكى إلينا صاحبها إعراضَك عنه فَأخْبَرناه فَهَدَمَهَا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أمَا إنَّ كُلَّ ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في «شُعب الإيمان» برقم (9271)، وابن عبد البَرِّ في «التمهيد» (4/ 87)، وغيرهم.

بِنَاء وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ إلاَّ مَالاَ، إلاَّ مَالاَ) - يَعْنِي مَا لاَ بُدَّ مِنْه - (¬1). وإذَا كان هذا في قُبةٍ مُشَرَّفَةٍ من الطين فكيفَ بِمَا نَحْنُ فيهِ مِن التنافسِ على مَسَاكِنِ (الخلود) في الدنيا؟!، مَع أنَّهَا تَشَبُّهٌ بالكفَّار في مَسَاكِنِهِمْ، وتُنفق في بنائها الأموال الكثيرة، وغير ذلك من آفات ليس هذا موضع ذكرها، وهذا من نصحه - صلى الله عليه وسلم - لأمته وشفقته ورحمته لئلا يغْتَروا بالدنيا وَيَرْكنوُا إليها ويَطُول فيها أمَلُهُم، فهل يَتَناسب ما نَحْن فيه في هذا الزمان مَع قَول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأنَّكَ غَرِيبٌ أوْ عَابِرُ سَبِيلٍ) (¬2)؟!، أو مَع مَا فَعَلَ مَع صَاحِبِ القُبة؟!، وتأمَّلْ بِهَذه المناسَبَةِ كلامَ «ابن حزْم الأندلسي» حينما رأى تشاغُلَ حُكَّامِ زَمَانهِ وهُمْ يَتشبَّهُون بالكفار في تشييد الدنيا وغفلتهم عن الدِّين حيث قال: (اللَّهُمَّ إنَّا نَشْكُو إِلَيْكَ تَشَاغُلَ أهْلِ الْمَمَالِكِ مِنْ أهْلِ مِلَّتِنَا بِدُنْيَاهُمْ عَنْ إِقَامَةِ دِينِهِمْ، وَبِعِمَارَةِ قُصُورٍ يَتْرُكُونَهَا عَمَّا قَرِيبٍ عَنْ عِمَارَةِ شَرِيعَتِهِمْ اللاَّزِمَةِ لَهُمْ فِي مَعَادِهِمْ وَدَارِ قَرَارِهِمْ، وَبِجَمْعِ أمْوَالٍ رُبَّمَا كَانَتْ سَبَباً إِلَى انْقِرَاضِ أعْمَارِهِمْ وَعَوْناً ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في «سننه» برقم (5237)، وابن ماجه في «سننه» برقم (4161)، والطبراني في «المعجم الأوسط» برقم (3081)، وأبو يعلى في «مسنده» برقم (4347)، والضياء المقدسي في «الأحاديث المختارة» برقم (2747)، وأخرجه أيضاً برقم (1537) وحسَّن إسناده؛ وقال المنذري في «الترغيب والترهيب» (3/ 76): (إسناده جيِّد)؛ وكذا قال ابن مفلح في «الآداب الشرعية» (3/ 408)، والسيوطي في «البدور السافرة في أمور الآخرة» ص (71). (¬2) أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (6053) من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -.

لأَعْدَائِهِمْ عَلَيْهِمْ!) انتهى (¬1). فإذا كان «ابنُ حزْم الأندلسي» يقول ذلك عن سَادَةِ زَمانه فَمَاذا عسَاه أنْ يَقُول لَوْ رأى الناسَ فِي زَمَانِنَا حُكَّاماً وَمَحْكُومِينَ وهُمْ يَتَشَبهُونَ بالكفَّار في تَشْييدِ الدُّنيا بِمَا لاَ مَثيلَ لَه مِن قَبْلُ إِلى غَايَةِ أنه لَوْ صَاحَ صَائِحٌ من السَّمَاءِ وقال: (يَا أهْلَ الدُّنْيَا خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ) لَمَا زَادُوا عَمَّا هُمْ عَلَيهِ في تَشْييدِهِم ذَلِكَ! (¬2). ثم انظُرْ مَا تَقَدَّم ذِكْرُه من تغليظِ ابنِ مسعودٍ - رضي الله عنه - على مَن رآه يضحك وهم في جنازة!، كيف لو رأى السلفُ الْمُشيِّعين للجنائز اليومَ ومَا هُمْ لاَهُون لاَغُون فيه مِنْ ضَحِكٍ وكلامٍ في أمورِ الدنيا وجوَّالاَتٍ مُصاحِبة لهم ومراكب جائلة في الْمَقابر!، وهذا لا يَدل على شيء إلاَّ على قوله تعالَى: {لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ} (¬3)!، أمَّا لو تذكَّر الإنسانُ أنَّ هذا مصيره وقد أُخفي عليه حِينُه وتذكَّر ما وَرَدَ في شأن القبر وكَوْنه رَوضة من رياض الجنة أو حفرة من حُفَر النار وسؤال «مُنكَر ونكير» لصارَتْ له حالٌ غير هذه الحالة الإستكبارية الْجَفَائية الْمُعلِنَةُ أنَّ صَاحِبَهَا فِي شأنٍ غير الشأن الذي خُلِق له وأمِر به، وأنَّ العقْلَ عازبٌ، وفي أودية طول الأمَل ذاهبٌ!. وحينما نَظَر أبو الدَّرداء - رضي الله عنه - إلَى رَجُلٍ يَضْحك في جِنَازةٍ قال له: ¬

_ (¬1) «رسائل ابن حزم»، (3/ 41). (¬2) أنظر للفائدة كتابنا: «عيوب تشييد البناء في دار الفناء». (¬3) سورة الأنبياء، من الآية: 3.

(أمَا كَانَ فِي مَا رَأيتَ مِنْ هَوْلِ الموْتِ مَا يَشْغَلك عَن الضَّحِك!) (¬1). وقال إبراهيم النخعي - رحمه الله -: (كَانَتْ تَكونُ فِيهِمْ الْجِنَازَةُ فَيَظلُّون الأيام مَحْزُونِينَ يُعرَفُ ذَلِكَ فِيهِمْ!) (¬2)، وقال أيضاً: (كُنَّا إذَا حضَرْنا جِنَازَةً أوْ سَمِعنَا بِمَيِّتٍ عُرِفَ ذلك فِينَا أيَّامًا؛ لأنَّا قَدْ عَرَفنا أنه قَد نَزَل به أمرٌ صَيَّرَه إِلَى الْجَنَّةِ أو إلى النَّارِ)، ثم قال: (فَإِنَّكُمْ فِي جَنَائِزِكُمْ تَحَدَّثونَ بِأحَادِيثَ دُنيَاكُمْ!) (¬3). وعن الأعمَشِ - رحمه الله - أنه قال: (إنْ كُنَّا لَنشهَد الْجِنَازَة فلاَ نَدري مَن نُعزِّي مِنْ حُزنِ القَومِ!) (¬4)؛ فتأمَّل ذلك ومَا نَحنُ فيه اليوم! (¬5). ¬

_ (¬1) «تاريخ دمشق» لابن عساكر، (47/ 194). (¬2) «الزهد» لوكيع ص (232)، و «حلية الأولياء» لأبي نعيم (4/ 227). (¬3) «الزهد» للإمام أحمد ص (365)، وانظر: «البداية والنهاية» لابن كثير (9/ 160). (¬4) «مُصَنف ابن أبي شيبة»، (8/ 318)، ورقم (169). (¬5) أنظر قصيدة مهمة للمؤلف في هذا الموضوع بعنوان: «القبور الواعظة»، وهي ملحقة بالطبعة الثانية من كتاب «معرفة المأمور به والمحذور في زيارة القبور» ص (73 - 75).

فصل.

فصل قال الإمام أحمد - رحمه الله -: (لَيس لِمَن يسْكُر ويُقارف شيئاً من الفواحشِ حُرْمَةً ولاَ وصْلة إذَا كان مُعلناً مكاشفاً) (¬1). وقال الخلاَّل في كتابه «المجانبة»: (أبو عبد الله - يعني الإمام أحمد بن حنبل - يَهْجُر أهلَ المعاصي ومَن قارف الأعمالَ الرَّدِيئة أو تعدى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وأمَّا مَن سَكِرَ أو شَرِب أو فَعَل فِعْلاً مِن هذه الأشياء الْمَحْظُورة، ثُمَّ لَم يُكاشِف ولَم يُعْلِن ولَم يُلْقِ جِلْبَابَ الْحَيَاء فالكَفُّ عَن أعراضِهِمْ وعَن الْمُسلمينَ والإمْسَاك عن أعْرَاضِهِمْ وعن الْمُسْلِمين أسْلَم) انتهى (¬2). وفي الحديث الصحيحِ أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (كُلُّ أمَّتِي مُعَافًى إلاَّ الْمُجَاهِرينَ) (¬3). ¬

_ (¬1) أنظر: «الفروع» لابن مفلح، (3/ 192). (¬2) أنظر: «غِذاء الألباب»، (1/ 224). (¬3) أخرجه البخاري في «صحيحة» برقم (5721) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

فصل.

فصل عن يزيد بن يوسف أنه سألَ يزيدَ بن أبي حبيب - رحمه الله - عن الشطرنج، فقال يَزِيدُ: (لَوْ مَرَرْتُ بِقَومٍ يلعَبوُنَ بالشِّطْرَنْجِ مَا سَلَّمْتُ عَلَيْهِم!) (¬1). قال الشيخ حمود التويجري - رحمه الله - بعد أنْ أوْردَ هذا الكلام: (قلتُ: وَمِثْل اللاعبين بالنرد والشطرنج اللاعبون في زماننا بالجنجفة (¬2)، والكيرم، وما أشبه ذلك مِمَّا يُلهي ويصُدُّ عن ذِكْرِ اللهِ وعن الصَّلاة فَلاَ يُسلَّم عليهم، ولاَ يُسَلَّم أيضاً على اللاَّعبين بالكُرَةِ لأنها مِن أعظم ما يُلهي ويصُد عن ذِكْرِ الله وعن الصلاة، وفيها من الْمَفَاسد نَحْوَ مَا فِي النرد والشطرنج وأعظم) انتهى (¬3). وقال - رحمه الله - أيضاً: (فإذا كانت الدار يُسْمعُ منها الغِناء وأصوات الملاهي فصاحبها مُعْلِنٌ مُجَاهِرٌ يُسَنُّ هَجْرُه أو يَجِب؛ وكذلك إذا كانت آلاتُ اللَّهْو، أو أواني الخمْر، أوْ أوْعِية الدُّخَان الخبيث أوْ آلات شُرْبه تُرى في الدار لا يُخفيها صاحب الدار عن الداخلين، أوْ كانت رائحة الدُّخَان الخبيث أو غيره من الْمُسْكِرَات تُوجَد في فِيِّ ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» برقم (6526)؛ وأورده المزي في «تهذيب الكمال» (32/ 287). (¬2) وهي التي تسمى: (الورقة) و (الأونو). (¬3) «تحفة الإخوان»، ص (59 - 60).

أحَدٍ أو مِن بيته فصَاحِبُ ذلك مُعْلن مُجَاهر يُسَنُّ هَجْرُهُ أوْ يَجِبُ) انتهى (¬1). وَيُوضِّحُ ما تَقَدَّم قولُ شيخِ الإسلامِ - رحمه الله -: (مَن أظهرَ المنكَرَ وجَب الإنكار عليه وأن يُهْجَر ويُذَمُّ على ذَلك، فهذا معنى قولهم: «مَن ألقَى جِلْبَابَ الحياءِ فلاَ غِيبَة له» بِخِلاَف مَن كان مُسْتتراً بِذَنْبه مُسْتخفياً، فإنَّ هذا يُسْتر عليه لكن يُنْصَح سِرًّا، وَيَهْجُره مَن عرفَ حَالَه حتى يَتُوبَ، وَيَذْكرُ أمْرَه على وَجْهِ النَّصِيحَةِ) انتهى (¬2). وشيخ الإسلام - رحمه الله - لَمْ يأتِ بشيءٍ مِنْ عنده في قوله: (مَنْ أظهَرَ الْمُنكَرَ وَجَبَ الإنكَارُ عليهِ) فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ؛ فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ؛ فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أضْعَفُ الإِيِمَان) (¬3)؛ فحالق اللحية، ومُسبل الثياب، وشارب الدخان، وحامل الصور أو آلة التصوير، أو المتشَبِّه بالكفار في لباسهم الْمُحَرَّم، ونحو ذلك؛ كلُّ هذا داخل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (مَنْ رَأى مِنكُم مُنكَرًا .. ) الحديث. ¬

_ (¬1) «تحفة الإخوان»، ص (63 - 64). (¬2) «الفتاوى الكبرى»، (4/ 413). (¬3) أخرجه مسلم برقم (49)، وابن حبان في «صحيحه» برقم (306)، والنسَائي في «سننه الكبرى» برقم (11739)، وأبو داود برقم (1140)، وابن ماجه برقم (1275)، والترمذي برقم (2172)، وأحمد في «مسنده» برقم (11166)، وغيرهم؛ وكلهم من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - مرفوعاً.

وقد قال السفاريني - رحمه الله -: (وقد هجَرَ الإمامُ أحمد - رحمه الله - جَمَاعة مِمَّن أجابوا في الْمِحْنَةِ مثل يَحْيَى بن معين وعلي بن المديني وغيرهما مع فخامة شأنِهم؛ وكم إمام هَجَرَ خِدْناً كان أعَزَّ عليه - لولا انتهاكه لِمَحَارِمِ مَولاه - مِنْ رُوحِهِ فَصَار بذلك كالْجماد، بل أدنَى. قال القاضي أبو حسين فِي «التمَام»: " لا تختلف الرواية في وجوب هجر أهل البِدَع وفسَّاق الْمِلَّة "). ثم قال: (فينبغي لك إنْ كنتَ مُتَّبِعاً سُنَنَ مَن سَلَف أنَّ كُلَّ مَن جاهرَ بِمَعاصي الله لا تعاضده ولاَ تساعده ولا تقاعده ولا تُسَلِّم عليه، بل اهجره) انتهى (¬1). ولكن مَن لَمْ يُسلِّم على العصاة اليوم بل حتى الكفرة فأقل ما يقال فيه أنه مستكبر، وهذا الصِّنف لا يعرفون ما أعَزَّ الله به المؤمن من الأنَفَةِ والاشمئزاز مِمَّن عصى معبوده، وقَد قال رجل للحَسَن البصري - رحمه الله -: إنك مُتكَبِّر!، فقال: (لستُ بِمُتكَبِّرٍ ولكني عَزِيز) (¬2) - وقدْ تقدَّم ذِكْرُه -. فمِنْ مَواهبِ اللهِ لِعِبَادِه الصالحين أنْ يجعل في قلوبهم النُّفْرَةِ والبغض لِمَن عصاه، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (¬3)، وقد ¬

_ (¬1) «غذاء الألباب»، (1/ 222). (¬2) «طريق الهجرتين»، ص (186 - 187). (¬3) سورة المنافقون، من الآية: 8.

قال عَليُّ بنُ أبي طَالب - رضي الله عنه -: (مَن أراد عِزاً بلا سلطان وكثرةً بلا عشيرة وغِنى بِلاَ مَالٍ فليتحوَّل من ذُلِّ المعصِيَةِ إلى عِزِّ الطَّاعَة) (¬1). ولِهَذا قال مُحمَّد بن الوَرَّاق: هَاكَ الدَّلِيلَ لِمَنْ أرَا ... دَ غِنىً يَدُومُ بِغَيْرِ مَالِ وَأرَادَ عِزَّاً لَمْ تُوَطِّـ ... ـدُهُ العَشَائِرُ بِالْقِتَالِ وَمَهَابَةً مِنْ غَيْرِ سُلْـ ... ـطَانٍ، وَجَاهاً فِي الرِّجَالِ فَلْيَعْتَصِمْ بِدُخُولِهِ ... فِي عِزِّ طَاعَةِ ذِي الْجَلاَلِ وَخُرُوجِهِ مِنْ ذِلَّةِ الْـ ... ـعَاصِي لَهُ فِي كُلِّ حَالِ (¬2) ويكفي في ذلك ما جاءَ في الحديثِ الصحيح أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الأرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ؛ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ) (¬3). فلْيُفَتِّش العبدُ عن نَفْسِه وَليحْذَر مَنْ ألِفَ العُصَاةَ ولَم يجد في نفْسه نفرةً منهم لأنَّ ذلك مِنْ التشاكل والتعارف، وقد يَغْتر بعضُنَا بأنه وإنْ لَمْ يبغضهم لكن هو ليس يعمل بِمَعْصِيَتِهم فيقال: قَدْ يكون فيه أعظم منها وهو لاَ يَشْعر!، فقد ذَكَر بعضُ أهلِ العِلْم أنَّ ¬

_ (¬1) أنظر: «العِقد الفريد» لابن عبدِ ربه الأندلسي (1/ 302)؛ و «الأنساب» للسمعاني (3/ 503) وقد نسبه لجعفر الصادق - رحمه الله -. (¬2) «بَهجة المجالس»، (1/ 40، 85). (¬3) أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (3158) من حديث عائشة رضي الله عنها؛ ومسلم برقم (2638) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

الكبائرَ الباطنة أعظم من الكبائر الظاهرة، وذلك مثل الرياء والعُجْب والحسَد ونحو ذلك (¬1)، والْمُرَاد أنه لاَبُدَّ من وجودِ النُّفْرَةِ والبغض لِعِلَّةِ عدم التَّجَانُسِ والْمُشَاكلة، وإلاَّ فإنَّ الأمرَ خطير. وللمُدَاهنة والمخالطة أضرار تضُرُّ الفاعل وتتعدَّى لِغَيْره؛ ولذلك يقول محمد الزمزمي: (ولاَ نُبَالِي بعد ذلك بِطَعن الْمُدَاهنين والْمُجاملين والمرجفين والذين في قلوبهم مرض الذين يزعمون الحكمةَ والسِّيَاسةَ والْخُلُقَ والصَّبر والتسامُحَ مع أهلِ الضَّلال والظُّلم والزيغ والبِدَع والْخُرَافَاتِ والأهواءِ لكنهم إذا مَسَّهم أحدٌ من المسلمين الصادقين الموحِّدين في أمْرٍ من أمورهم الدنيوية انقلبوا وُحُوشاً ضَارية مُفترسة لاَ يَرقبون فيه إلاًّ ولاَ ذِمَّة ولو كَانَ مِن المقربين!؛ وَلَعَمْرُ الله إنَّ ضررَ هؤلاءِ لعظيمٌ، والبلية بهم شديدة لأنَّ العَامَّةَ يغترون بهم ويغترون بِمَن يداهنونهم فيظنونَ أنَّ أولئك على حَقٍّ وعلى خير فيما سكتوا عنه من الظلم والبِدَعِ والمعاصي والْمُشَاقَّةِ لله ولرسوله، فيعتمد العامَّةُ على ذلك فَيَضِلُّون فتكون تَبِعَتُهُم على الْمُداهنين والْمُجَاملين والسَّاكتين والْخَائِفِين من الناس!) انتهى (¬2). وقد قال ابنُ عقيل - رحمه الله - في كتابه «الفُنون»: (الصحابة - رضي الله عنهم - ¬

_ (¬1) أنظر: «مدارج السالكين» لابن القيم، (3/ 223). (¬2) «إعلام المسلمين بوجوب مقاطعة المبتدعين والفجار والفاسقين»، ص (40).

آثَرُوا فِرَاقَ أنفُسِهم لأجلِ مُخَالفاتها للخَالِقِ سبحانه وتعالى، فهذا يقول: " زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي " (¬1)، ونَحْنُ لا نَسْخُوا أنْ نُقَاطِع أحَداً فيه لِمَكانِ الْمُخَالَفَة!) انتهى (¬2). وعن عاصم بن أبي النجود قال: مَرَّ رَجُلٌ من الأنصار على زِرِّ بنِ حُبيش وهو يُؤَذِّن فقال: يا أبا مريم قد كنت أكرمك عن الأذان!؛ فقال: إذَنْ لاَ أُكَلِّمكَ كَلِمَةً حتى تَلْحَق باللهِ) (¬3). وقد هَجَر الإمامُ أحمد الْحزامي، وكان الحزامي هذا قد ذَهَبَ إِلَى ابنِ أبِي دُؤَاد، فَلمَّا أتى إلى الإمامِ أحْمَد - رحمه الله - أغْلَقَ البَابَ فِي وَجْهِهِ وَدَخَل (¬4). إنَّ مصيبة مصائب العصاة في وقتنا أنهم يُكابرون مَن يُنكر عليهم، وَحُجَّتهم مُقَلَّديهم من مشايخِ ونحوهم فَيحتجون بِفِعْلِهم ¬

_ (¬1) أنظر: ما أخرجه مسلم في «صحيحه» برقم (1695) وغيره، وفيه قصة " ماعز بن مالك " حيث زنَى فجاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (يا رسول الله: طهِّرْنِي)؛ وفيه أيضاً قصة المرأة الغامدية التي زَنت وجاءت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: (يا رسول الله: إني قد زنيت فَطَهرِّنِي)، وفي آخر القصة بعد أن رُجم " مَاعِز " فمات - رحمه الله ورضي عنه - أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة الكرام أن يستغفروا له، ثم قال: (لقد تاب توبة لو قُسِمت بين أمة لوسِعتهم)؛ وقال - صلى الله عليه وسلم - عن " الغامدية " بعد أن تم رجْمُها فماتت: (لقد تابَت توبة لوْ تابَها صاحب مَكس لغُفر له) ثم صلى عليها ودَفَنها - رحمها الله ورضي عنها -. (¬2) أنظر: «غِذاء الألباب»، (1/ 223). (¬3) أخرجه ابن سَعد في «طبقاته» (6/ 105)، وابن عساكر في «تاريخه» (19/ 30). (¬4) أنظر: «مناقب الإمام أحمد» لابن الجوزي، ص (250).

وَبِشُبهاتهم التي ضلوا بِهَا وأضلوا مَن قلَّدَهم!، ومعلومٌ أنَّ هذه حُجَجٌ داحِضَة، ولذلك يَرْمُون مُخَالِفَهم بالغُلوِّ والتزمت ونَحو ذلك!، وإذا ترفَّقُوا به رَمَوْه بالْجَهْل!. وقد قال يحيى بن كثير - رحمه الله -: (إذا لَقِيتَ صاحبَ بِدعة في طريقٍ فخُذ في طريق آخر) (¬1). وقال الْحَسَن البصري - رحمه الله -: (لا تُجَالس صاحبَ هوى فيَقْذِف فِي قلبك ما تَتْبَعه عليه فتهلك أو تُخَالفه فَيَمْرض قلبك!) (¬2). وقال أبو قلابة - رحمه الله -: (لاَ تُجَالِسُوا أهلَ الأهواءِ ولاَ تُجَادلوهم؛ فإِنِّي لاَ آمَن أنْ يَغْمِسُوكم فِي ضَلاَلَتِهم، أوْ يُلَبِّسُوا عَليكُم في الدِّينِ مَا لُبِّسَ عَلَيهِمْ!) (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» برقم (9463). (¬2) «الاعتصام» للشاطبي، (1/ 55 - 56). (¬3) أخرجه اللالكائي في «اعتقاد أهل السنة» برقم (244)، وابن المستفاض في «القدر» برقم (366) وصحح إسنادَه.

الوسطية والدين يسر!.

الوسطية، والدِّين يُسر! إنَّ مِن أعجَب ما يَستدل به الْمُعارِضُون للهَجْرِ هو أنَّ الدِّين وَسَطٌ ويُسْر، وكأنَّ الوَسَطَ واليُسْر غير الذي كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة - رضي الله عنهم -، وغير الذي أوْصى بالتمسُّكِ به. وقد كتبتُ قديماً في هذا الموضوع ما سَوف أضيفه هنا لأهَمِّيتِهِ (¬1): فتأمل الآن الوَسَط ما هُوَ وانظُرْ فهومَ الْمُتبعين أهواءَهم، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (¬2)؛ (أُمَّةً وَسَطًا) أيْ عُدُولاً كمَا فَسَّرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، والمطلوب هنا أنْ نُبيِّن أنَّ كثيراً من الناس إذا رأى أو سَمِع شيئاً من الدِّين مخالفاً لعادته وهواه، ولو كان حقاً أنكره بقوله: " الدين وسط "، أو قال: " خير الأمور أوسَاطها " (¬3)، ¬

_ (¬1) أنظر كتابنا: «الوعيد على أهل الغلو والتشديد»، ص (19 - 29). (¬2) سورة البقرة، آية: 143. (¬3) أخرج البيهقي في «الشُّعَب» برقم (6601)، وابن سَعد في «طبقاته» (7/ 142)، وابن عساكر في «تاريخه» (58/ 304) عن مُطرِّف بن الشخير - رحمه الله - أنه قال: (خَير الأموُرِ أوسَاطها)؛ وقد نسَبه أبو نُعَيم في «الْحِلية» (2/ 286) لأبي قلابة - رحمه الله -؛ ولا تصح نسبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وللفائدة أنظر: «كشف الخفاء» للعجلوني (1/ 469) ورقم (1247).

فالجاهل إذا سَمِعَه ظنَّ ذلك مُنكَراً بِحُجَّة أنَّ الدِّين وسَط، فيرمي الْمُتدين بكل بَلِيَّة لأنه تاركٌ للوَسَطِ زائدٌ عليه بِزَعْمِهِ. والكلام في هذا أنَّ هؤلاء يقولون ألفاظاً مُجْمَلة لاَ تدل على مقصودهم الذي هو الطعن على الْمُتدين والتشنيع عليه. فَيُقَال: نَعَم، إنَّ الدِّينَ وسَط، وخير الأمور أوساطها، ولا ننازع في ذلك فنحن نقوله ونأمر به، ونعوذ بالله أن نُجادل عمَّن غَلاَ في الدين وتعدى الوسَط، لكن الشأن في هذا الوسَط ما هو؟!؛ هل هو ما يقتضيه العقل أوْ ما عليه أهل الزمان؟!. فالدِّينُ الوَسَط وخير الأموُرِ هو ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته، وهو فِعْل مَا أمرَ به واجْتِنَاب ما نَهَى عنه؛ فهذا هو الوسَط وهو الذي أُمِرْنَا بِهِ بِلاَ زيادةٍ ولا نُقْصَان. أمَّا إذا زَعَمْتَ أنَّ الوَسَط هو مَا تَهْواه نفْسُك، وما تعوَّدْتَه أنتَ وأهلُ وقتك، فأنتَ مُشَرِّعٌ في الدِّين ما لَم يأذَن به الله!، كذلك فأنتَ قَادِحٌ بِمَا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ومَن تَبِعَهم بإحسَانٍ حيثُ لَمْ يكُن دِينهم وَسَطًا - كمَا تزْعُم - وإِنَّما جِئْتَ أنتَ تُبين للناسِ الوَسَط!، فَهَذا مِن جِنْسِ الضَّلال بتجديدِ الدِّين والخطابِ الدِّيني - وقد تقدَّم بيانُ ذلك وللهِ الحمْد -. وَلَمَّا قِيلَ لِوَاحِدٍ من هؤلاء الْمُفَرِّطِين - وكان يَقُصُّ لِحْيَتَه وَيَدَع منها شيئاً قليلاً -: " هذا لا يَحِلُّ لك " قال: " خير الأمور أوسَاطها "!،

فانظُرْ كيف يَحتج؟!، فقد أتى بكلام حق، لكن مُرَاده باطل، فهو رأى حالِقَ لِحْيَته ومُعْفِيها فأخذ طريقاً متوسِّطاً بينهما - أيْ مُتَوسِّطاً بين توفير شَعْر اللحية كله وبين إزالته كله - وقال له شيطانه: " هذا خير الأمور، وهو الوسَط "!، فَصَار فِعْلُ المأمور وهو إعفاء اللِّحْية ليس هو الوَسَط!. فهذا وَزَنَ أمورَ الشَّرع بِعَقله القاصر وفهمه الخاسر!، ولو أقرَّ بمعصيته ولَم يستدل بهذا الكلام لكان خيراً له، لأنَّ معناه أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ومَن أطاعه فِي توفير لِحْيَتِه ليسُوا على خير الأمور الذي هو أوساطها، ولو كان ميزان الشَّرع هكذا بعقول الناس لضاع الدِّين!. وَيُقَال لِهَذا الأحْمَقِ: إنَّ إنساناً رأى مَن لا يَصُوم " رَمَضانَ " كُلَّه، ورأى مَن يصومَه كلَّه، فصَام هو نِصْفه فقط وقال: " خير الأمور أوساطها " فماذا تقول؟!؛ سيقول: " هذا لاَ يَجُوز " فيقال له: ولِمَ؟!؛ فسيقول: " لِأنَّ الرسولَ أمرَ بِصِيَام شهرِ رمضانَ كلِّه "؛ فيقال له: وكذلك اللحية أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإعفائِهَا كُلِّها، وليس خير الأمور وأوساطها ما تَخَيَّلته، بل خير الأمور وأوساطها هو إعفاؤك لِحْيَتَك كُلَّها كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل وبه يأمر، كذلك الشأن في صيام رمضان فخير الأمور أوساطها بصيامهِ كلِّه.

ذلك لأنَّ ما كانَ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وما أمر به هو خير الأمور وأوساطها، فمَا زادَ عن ذلك فهو غُلُوٌّ، وَمَا نَقَص عنه فهو تَفْرِيطٌ!؛ فهذا هو الميزان الضَّابط لِهَذه الأمور وغيرها وليس عقلك وهواك!. ولذلك فقد تبين أنَّ لفظَ الغلوِّ والتشديد، وكذلك الوسَط ونحو ذلك مِمَّا يقوله الْمُبْطِلُون ويقصُدون به دفعَ الْحَقِّ وردَّه والتلبيس على الجهلة له قيودٌ وموازين خِلاَف ما يَهْوَوْن. وقد قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: (ولكن كثير من الناس يزعم أنَّ لِظَاهر الآية معنى إمَّا معنى يعتقده، وإمَّا معنىً باطلاً فيحتاج إلَى تأويله، ويكون ما قاله باطِلاً لا تدل الآية على معتقده، ولا على المعنى الباطل، وهذا كثير جِدًّا!) انتهى (¬1). كذلك فإنَّ هؤلاء يبحثون عن آيةٍ أو حديثٍ يَرَدُّونَ بذلك الحقَّ ويصدون به الخلْقَ وَيُوهِمُون أنَّ ذلك يَدُل على مُرَادِهِم وليس كذلك: وَقُلْ لِلْعُيُونِ العُمْيِ لِلشَّمْسِ أعْيُنٌ ... سِوَاكِ تَرَاهَا فِي مَغِيبٍ وَمَطْلَعِ وَسَامِحْ نُفُوساً أطْفَأَ اللَّهُ نُورَهَا ... بِأَهْوَائِهَا لاَ تَسْتَفِيقُ وَلاَ تَعِي! فالواجِبُ رَدُّ مَا يَتَكَلَّم الناس فيه إلَى الكِتَابِ والسُّنَّةِ، لأنَّ هذا ¬

_ (¬1) «مجموع الفتاوى»، (17/ 401).

هو الأصل، وهو الْمِيزَانُ لِمَعرفَةِ الْحَقِّ والبَاطل. وقد قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: (فالواجب أنْ يُجعل ما أنزلَ الله من الكتاب والحكمة أصْلاً في جَمِيعِ هذه الأمور، ثم يُردُّ ما تكلم فيه الناس إلى ذلك، ويُبيِّن ما في الألفاظ المجملة من المعاني الْمُوَافقةِ للكتاب والسُّنَّةِ فَتُقْبَل، وما فيها من المعانِي المخالفة للكتاب والسُّنَّة فتُرَدُّ) انتهى (¬1). وهكذا فَعَلْنا - وللهِ الْحَمْد - على مقتضى هذا الكلام الذي قاله شيخ الإسلام - رحمه الله -، أمَّا الظَّن واتباع الهوى فإنه لا يغني من الحق شيئاً!. ومن ذلك أيضاً احتجاج أهل الباطِل بأنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وليس مرادهم ما أراد الله ورسوله بذلك، وإنَّمَا يَحْتَجُّون بهذا على ما يَرتكبونَ من الْمُحَرَّمَاتِ ويتركونه من الواجبات، فإذَا أنكر عليهم مُنْكِرٌ قالوا: " الدِّين يُسْر "!. فَيُقَال لَهُمْ: صحيحٌ أنَّ الدينَ يُسْر، فقد أباح الله لك أكلَ الْمَيْتَةِ إنْ خِفْتَ على نَفْسِك الهلاكَ، وكذلك إذا لَم تَجِد الماءَ للطهارةِ فقد أباح الله لك التيمُّمَ، وإذا لَم تستطع أنْ تُصَلِّي قائماً فعَلَى حَسَبِ استطاعتك تُصَلِّي؛ بل أعظم من هذا كلِّه فقد أباح الله لك أن تقولَ كَلِمَةَ الكُفْر بِشَرط اطمئنان قَلْبِك بالإِيِمَان إذا خِفْتَ على نَفْسِك ¬

_ (¬1) «مجموع الفتاوى»، (17/ 306).

الهلاكَ!؛ فهذا من اليسْرِ - والحمد لله على تيسيره. وبالْجُملة فالدِّين كلُّه يُسْر حتى الذي جعلته أنتَ عُسْراً هو يُسْر، ولكنَّك لَمْ تَعْرِفه على حقيقته - كما سيتَّضِح ذلك إن شاء الله تعالى -. ثم يُقال: ماذا تريد بالدِّين الذي هو يُسْر؟!، فهل هو الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من عند الله، أم تريد به دينَ الناس على حسَبِ أهوائهم وأزمانهم؟!. فإنْ قال: " أقصد الدِّينَ الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من عند الله ". فيقال له: أتريد باليسْر أنه يُجَاري الناسَ ورغباتهم وانحرافاتهم بحيث إذا اعترضَ طريقَهُم أمْرٌ مُنْكَر في الدِّين قالوا: " الدِّين يُسْر " وفعلوا ما شاءوا؟!، فهذا خِلاَف الدِّينِ الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد حذَّرنا - صلى الله عليه وسلم - من التغيير والتبديل والزيادة والنقص عما كان عليه، وأدلة ذلك أكثر من أنْ تُحْصَر، وهي معروفةٌ مَشهورةٌ. وإنْ قال: " أقصد الدِّينَ الذي عليه الناس "، يُبيَّن لَه - كمَا تَقَدَّم - أنه ليس لنا أنْ نُغيِّر في الدين لأجل أهواء الناس، وليس الدين الحق إذا أُطلق هو ما عليه الناس في كل زمَان، بل هو ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم -. والعجيب أنَّ مُدَّعي العُسْر والشِّدَّة للأمر الذي يخالف هواه من الدين هو الذي وقع في العُسْر والتشديد من حيث لا يَشْعر، وهذا

من آيات الله الدَّالَّةِ على رحمته بعباده وإحسانه إليهم وعلى الثواب والعقاب، فقد ذَكَر أهلُ العلمِ أنَّ الذنوبَ والمعاصي يَجِد لَهَا الإنسان لذَّة، وهذا مَحْسُوس، وَيَصِفُون ذلك بلذَّةِ حَكِّ الْجَرَبِ ونحوه، وأكلُ الجائعِ الطعامَ الشهيَّ المسْمُوم (¬1). فتأمَّلْ عاقبةَ ذلك، فَحَكُّ الْجَرَبِ ونحوه فيه لَذَّة، ولولاَ إحساس المصاب به بلذته لَمَا فَعَلَهُ، غير أنَّ الألَمَ يتضاعف ويزيد وإنْ سَكَن في تلك الساعة، أمَّا الطعام المسموم فعاقبةُ أكْلِهِ ظَاهِرَة مع أنه شَهِيٌّ لذيذ. وقد يقول بعض الناس: " أنَا لاَ أجِد هذه الآثار الْمُترتبة على الذُّنوب ". فيقال له: هذه الآثار السَّيئة الْمُؤْلِمَة موجودة، ولكن غَرَقَكَ في لذَّاتك وشهواتك يُواريها عنك، وإلاَّ فهي موجودة وتعمل عَمَلَها، وإنْ شِئْتَ أنْ تعرف بعضَ ذلك فانظر عندما تفقِدْ مَا تَعَلَّقَه قلبك من هواك مِمَّا هو غير مُرْضٍ لربِّك فَسَتَعْرِف ما كُنتَ فيه!، أمَّا إذا تركته من خَوفِ اللهِ فالله - عز وجل - أكرم مِن أنْ يُعَذِّب قلبك به، بل يُبْدِلَك بذلك سُروراً وَفَرَحاً؛ فيعَوِّضَك بِخَيرٍ مِمَّا تَرَكْتَه مِن أجْلِهِ. وأعظم ما تَظْهَرُ هذهِ الآلامُ عِندَ مُفَارقة الْحَيَاةِ، وما بعد ذلك ¬

_ (¬1) أنظر للفائدة: «مجموع الفتاوى» (1/ 24)، و «طريق الهجرتين» ص (100؛ 106)، و «إغاثة اللهفان» (1/ 30).

حينما يفارق الإنسان شهواته وملذَّاتِه، ويستقبل عقوبات ذلك وتبعاته، قال تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} (¬1). وعليه، فَقد تبيَّن أن الذي يَفِرُّ مِمَّا زَعم أنه عُسْر وشدَّة قَد وقَع فيما لاَ يَخْطُرُ على بَالِهِ من الشِّدة والعُسْر، وكُلٌّ بِحَسَبِهِ. وَإِنَّمَا يتضِحُ ذلك بِمَعرفة الأمر والنهي الشرعي، هل هو مُجَرَّد تكليفٍ، أم أنه رَحْمَةٌ وإحسانٌ، وموافقته لروح الإنسانِ وَقلْبِهِ أعظم مِنْ موافقةِ الأغذية الطَّيِّبَةِ لِبَدَنِهِ؟!. فمَن أراد معرفةَ هذا فلينظر في " الجزء الثاني " مِن «مفتاح دار السعادة» و «مدارج السالكين»، ومواضع كثيرة من كتب ابن القيِّم - رحمه الله - حيث يبيِّن فيها هذا الأصل العظيم أحسَن بيانٍ، وهو أنَّ سَعادةَ الإنسانِ في الدنيا - وقبل الآخرة - وسُروره وانشراح صَدره هو بالتزامِ مَا أمرَ الله به واجتناب ما نَهَى عنه، كما قال في معنى قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} (¬2) أنه في الدنيا وفي البرزخ ويوم القيامة (¬3)؛ فهذا النعيم في الدنيا إنما حصل لَهم لِمُوافقة طاعة ربِّهم ورسوله لقلوبهم خِلاَف ما يَظُنُّ الْمُنحَرِفوُنَ أنه عُسْرٌ وتشديد وَيَدْعُونَ إِلَى مَا يُسمُّونه بالاعتدال - أيْ مُجَاراة كل حادثة بإلباسها لباس الدين لتصير غصبًا: «إسلامية» -!. ¬

_ (¬1) سورة سبأ، من الآية: 54. (¬2) سورة الانفطار، آية: 13. (¬3) أنظر: «مدارج السالكين»، (1/ 423).

وقد وَصَف ابنُ القيم - رحمه الله - محبةَ العبدِ لربه: أنها للقلْبِ مثل النور الباصِرِ للعَين (¬1)، فالعين إذا فقَدَت هذا النورَ تألَّمَت، وهذا تَمْثيل وإلاَّ فإنَّ الأمرَ أجلُّ من ذلك وأعظم، لأن القلب إنَِّما خُلِقَ لِهَذه الْمَحبة، فإذا فَقَدَهَا فهو مُعَذَّبٌ!. وإذا فَهِمْنَا هذا كَمَا يَنبغي اتضحَ لنا فَهْمُ العُسْرِ واليسْرِ في الدِّين وأنه كما في المثل: " على نفْسِها تَجْنِي بَراقش "!. كذلك يتضح لنا فَهْمُ اليسْرِ وأنه ما جاء به الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - دون تغيير ولاَ زِيادةٍ ولا نُقصَانٍ، وذلك في كلِّ زمَانٍ ومَكَانٍ. وَلَمَّا ثَقُلَ على أكثر الناس الهجْرُ الديني والتغليظ على العُصَاةِ لأنَّ الجميعَ وَقَعَ في المخَالَفَات، فَمُقِلٌّ وَمُسْتكْثِرٌ لَجَئُوا إلى حِيَلٍ يَحتالونها على هذا الأمر العظيم لِيضْعِفُوه ويُوهِنوا جَانِبَه، بَل وليبلطوه بالكلية، فأحياناً يَنْسبون الغِلْظَةَ على العُصَاةِ لِلْغُلُوِّ والتشديد، وأحيانا لِطَبِيعَةِ الشخص ومزاجه وجهله، كذلك يستدلون بأدِلَّةٍ ليس لهم فيها حجة، ولا تدل على مقصودهم، ولاَ تخدم أغراضَهُم مثل قِصَّةِ الأعرابِي الذي بَالَ في المسجد (¬2)، أو قِصَّة الصَّحَابِي الذي تكلَّم في الصلاة (¬3)، أو اليهودي الذي زاره ¬

_ (¬1) أنظر: «مدارج السالكين»، (1/ 92). (¬2) أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (5679)، ومسلم في «صحيحه» برقم (284) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (¬3) أخرجه أبو داود في «سننه» برقم (931)، وابن خزيمة في «صحيحه» برقم (859) من حديث معاوية بن الحكم السلمي - رضي الله عنه -.

النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، وأمثال ذلك يستدِلُّونَ به على إبطالِ الغضَبِ لله تعالى، والتغليظ على العصاة المخالفين لأمر الله - عز وجل -. وَيَتنَاَسون ويتجاهلون غَضَبَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا انْتُهِكَتْ مَحَارِمُ الله وأنه لاَ يقومُ لِغَضَبِه شَيءٌ (¬2)، وكذلك هَجْرَهُ لبعض أصحابه مثل الثلاثة الذين تَخَلَّفُوا عن غزوةِ تَبوُك (¬3)، وهجْرَه بعضَ زَوْجَاتِهِ (¬4)، وَتَلَوُّنُ وَجْهِهِ وَغَضَبه لَمَّا رأى السِّترَ الذي فيه الصُّوَر (¬5)؛ وغير ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (1290) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (¬2) وقد جاء عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: (مَا ضَرَبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً قَطُّ بِيَدِهِ ولاَ امْرَأة ولا خادِماً إلاَّ أنْ يُجَاهد في سبيل الله، ومَا نِيلَ منه شيءٌ قَطُّ فَينْتَقِمُ من صَاحبِهِ إلاَّ أنْ يُنتَهَك شَيءٌ مِن مَحَارِمِ اللهِ فينتقم لِلَّهِ - عز وجل -) أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (6461)، ومسلم برقم (2328) واللفظ له. (¬3) وقد تقدمت الإشارة لذلك مرات عِدَّة في هذا الكتاب، وقصة هجره - صلى الله عليه وسلم - للثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وهم (كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع العمري - رضي الله عنهم -) قصة مشهورة معروفة أخرجها البخاري في «صحيحه» برقم (4156) ومسلم في «صحيحه» برقم (2769) وغيرهم. (¬4) كَهَجْره مَثَلاً لزوجته " زينب بنت جحش " - رضي الله عنها - حينما نالت من زوجته الأخرى " صفية بن حُيَيٍّ " - رضي الله عنها -، وقد أخرج ذلك أبو داود في «سننه» برقم (4602)، وأحمد في «مسنده» برقم (25046)، والطبراني في «المعجم الأوسط» برقم (2609)؛ وقال الهيثمي في «مُجمع الزوائد» (4/ 323): (رواه أبو داود باختصار، ورواه الطبراني في " الأوسط "، وفيه " سُمَيَّة " روى لَهَا أبو داود وغيره، ولَم يَجرحها أحد، وبقية رجاله ثقات) انتهى. (¬5) كما في حديث عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: دَخَل عَلَيَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا متسترة بقرام فيه صورة، فتلوَّن وجهه ثم تناول السِّتر فهتكَه ثم قال: (إنَّ مِن أشدِّ الناس عذاباً يوم القيامة الذين يشبهون بِخَلق الله) أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (5758) ومسلم برقم (2107).

ذلك مِمَّا هو مِثله لاَ يَذكُرونه ولاَ يَعتبرون بِهِ لأنه يُخَالِفُ الْهَوى!. وَحتَّى هذا الذي يَحتجون به على عدم التغليظِ على العُصَاة وعدم الْهَجْر لاَ يدل على مُرادهم، فالأعرابي الذي بال في المسجد ولم يُغلِّظ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لاَ يَعرف المسجد ولاَ الصَّلاة حتى يُنتهَر ويُغلَّظ عليه، كذلك قد يتضرر بانتهارِه وَيُلَوِّث مساحةً أكبر من المسجد، فَحَسُنَ هنا الرفقُ به، ولتأليفه على الإسلام - أيضاً - لأنَّ الإسلام في أوله، فهو لا يعرف للمسجد حُرْمَة ولاَ فَرْقَ عنده بينه وبين معاطن الإبل!، لكن لو فعل هذا الفعل أحد اليوم هل يُعَامَل بِمِثْل هذا الذي عامله به النبي - صلى الله عليه وسلم -؟!؛ هذا قياس فاسِد لأنه لا يَخفى على أحدٍ ما للمسجد من الْحُرْمَة والتطهير والتنْزِيه عمَّا هو دون ذلك وأنَّ مِثل هذا الفعل عظيم بخلاف حال ذلك الأعرابي للأسباب التي ذَكَرْنا، ومَن يفعل كفِعلَتِهِ فإنه يُتْرك حتى يَفْرغ لئلا يُلَوِّث مكاناً أكبر من المسجد، ثُمَّ يُردَع وَيُغلَّظ عليه وَيُعَزَّر، وهل يفعل هذا اليوم إلاَّ مُجْرم أو مجنون!؛ وهل ذلك إلاَّ تسهيلاً لانتهاك محارم الله وفتح أبواب الاستهانة بها بحجة أنَّ أعرابياً بال في مسجد رسول الله ولَمْ يُغَلَّظ عليه، وهل الاحتجاج بذلك إلاَّ تَمييعاً للدين وتهويناً لشأنه!.

أمَا أوْحى الله إلى يوشع بن نون أني مُهْلِك من قومك أربعينَ ألْفاً من خِيَارِهم وَسِتِّين ألفاً من شِرَارِهم، فقال: " يا رَبُّ؛ هؤلاء الأشرَار، فمَا بالُ الأخيَار؟! "، قال: (إنَّهُمْ لَمْ يَغْضَبُوا لِغَضَبِي، وَكَانوُا يُواكِلُونَهُمْ وَيُشَارِبُونَهُمْ)؟! (¬1). فالْمَطلوبُ أنْ نُفَرِّق بين أول الإسلام وَخَفَاء أحكامه على كثير من الناس، وكذلك تأليفهم على الإسلام وبين اليوم، ولأنَّ مَن لا يدري ليس كمَن يدري، فالْمُخَالفات اليوم تُرتكب على عِلْمٍ وبإصْرار!؛ ويُوضح ذلك أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عَزَل إماماً لأجل بُصَاقِهِ في القِبْلة وقال لأهل المسجد: (لاَ تُصَلُّوا خَلْفَهُ)، فَجاء إلَى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله .. أنتَ نَهَيتهم أنْ يُصَلُّوا خَلْفي؟!؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نَعَمْ، إِنكَ قَدْ آذَيْتَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ!) (¬2). فانظُرْ كيف غَلَّظ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنواعٍ من التغليظِ الشديد، فإنه عَزَله عن الإمامة، ونَهَى أهلَ المسجدِ أنْ يُصلُّوا خَلْفَه، وأعظم من ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: (نَعَمْ إِنكَ قَدْ آذَيْتَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ!)؛ وهذا كله ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي الدنيا في «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» برقم (75). (¬2) أخرجه أبو داود في «سننه» برقم (481)، وابن حبان في «صحيحه» برقم (1636)؛ وقال المنذري في «الترغيب والترهيب» (1/ 162): (إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربَهما)، وقال العراقي في «طرح التثريب» (2/ 381): (إسناده جيِّد).

لأجْلِ بُصاقٍ فِي جِهَةِ القِبلة (¬1)!؛ لكن أهل وقتنا لا يُرِيدون مثل هذا لأنه لا يُناسبهم، ونحن ليس لنا أنْ نُغَيِّر الدِّينَ على مُقتضى الأهواءِ والآراءِ والأزمان، كذلك نَعُوذُ باللهِ أنْ ندعو إلى الشِّدَّةِ، ونلتمس الأدلةَ التي تدل على ذلك لنَشُد بِها ما نقول؛ فنكون نحن ومَن يَسْتدلون على التساهل كَطَرَفَيْ نقيض، بل مُرادنا الحق وأن نبيِّن فسادَ دعاويهم الباطلة وفسادَ استدلالهم بالأدلة التي يُوهِمُون أنَّهَا تُسَاعِدُهم؛ فَلِلْغِلْظَةِ مَقامٌ لا يَصلح فيه اللين، كذلك اللِّين له مقامٌ لا تصلح فيه الغِلْظَة، ومَن دَعَا إلى أحدهما وتَرَك الآخرَ فَهُوَ مُبْطِلٌ. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ مرَّةٍ على ظَهْرِ دَابته، وأمَرَ مَن معه أنْ يُصلوا على ظهور دوابهم فوثَب رَجُلٌ عن ظهر دابته فصَلَّى على الأرض فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (مُخَالِفٌ خَالَفَ اللَّهُ بِهِ) فلم يَمُتْ حتى ارتدَّ عن الإسلام (¬2)؛ فتأمَّل هذا التغليظَ مع أنَّ الرَّجُلَ فَعَلَ فِعْلاَ مَشروعاً لكنه في غير موضعه وَأَوَانِه مع مُخالفته نَبيه وهو برأيه هذا يريد الْمُبالَغة بالتعبُّد فَصَار مُخَالَفَةً عظيمةً في هذا الموضِعِ والوقتِ، ونحن لا نَخَافُ مِن شَيء وكأنَّ النجاةَ مضمونةٌ لَنا!. ¬

_ (¬1) كيف لو رأى - صلى الله عليه وسلم - ما يُدخل في المساجد اليوم من ميكرفونات وصور وآلات تصوير وجوالات، حتى أن الموسيقى تعزف بالجوال في المسجد وأحيانًا تعزف وهم يصلون فيسمع مزامير الشيطان كل المصلين!، وهذه واللهِ فِتَنٌ وعظائم!. (¬2) أورده شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى»، (25/ 276).

كذلك رَفْعُ البصَرِ في الصلاة، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (مَا بَالُ أقوامٍ يَرْفَعُونَ أبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلاتِهِمْ) فاشْتَدَّ قوله في ذلك حتى قال: (لينتَهُنَّ عَنْ ذلك أوْ لَتُخْطَفَنَّ أبصَارُهُمْ) (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: (أَمَا يَخْشَى أَحَدُكُمْ أَوْ لا يَخْشَى أَحَدُكُمْ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ) (¬2)؛ هذا إخلال في الصلاة، وهو في نظر كثير من الناس يسير!، ولكنْ تأمَّل التغليظ، فمَا بَالك بِمَنْ لاَ يُصَلِّي بالكُلِّية؟!. فَمِن اتباع الْهَوى وإفساد الدين أنْ ينظر الإنسان من جانب ويدع الجانب الآخر، بل يتهجَّم على مَن عَمِل بِمُقتضاه وَيَصِفُه بأشنع الأوصاف، ويحتجون أيضاً على التساهل بالصَّحَابِي الذي تكلَّم بالصلاة (¬3). فالصَّحابي الذي تكلم في الصلاة هو كذلك لا يدري أنه لا يَحِل الكلام فيها، لأنهم كانوا يتكلَّمُون فيها في أول الأمر حتى نُهُوا عن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (717) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -، ومسلم برقم (482) من حديث جابر بن سَمُرة - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (650)، ومسلم برقم (427) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) أخرجه أبو داود في «سننه» برقم (931)، وابن خزيمة في «صحيحه» برقم (859) من حديث معاوية بن الْحَكَمٍ السلمي - رضي الله عنه -.

ذلك ولَمْ يَبلُغْه النهي، فَحَسُنَ تعليمه برِفْق، فلو تكلم اليوم إنسان في الصلاة، هل يكون مثل هذا، فلا ينتهر ولا يغلظ عليه؟ فلابد من معرفة تباين الأحوال لتغاير صور مثل هذه الأحكام. أما اليهودي الذي زاره النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - جاءَ إليه يَدْعُوه إلى الإسلام، ومن استدل بِهَذا على مداهنة العصاة ومجالستهم وموادَّتِهم فَضْلاً عن الكفار فقد قال أعظم الفرية على الدين، وكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد كان اليهودي في النَّزْع، فدعاه - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام فأسْلَم، وكان هذا عمله - صلى الله عليه وسلم - يأتي المشركين وأهل الكتاب، ويدعوهم إلى الله تعالى، وليس هو يُوَادهم ويأنس بِمُجَالَسَتِهم!؛ هذا لا يقوله مُسلم، كيف وقد أنزل الله تعالى عليه: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬2). وَلِمُفْتَرٍ أنْ يقول: " إنَّ مُوسَى زَارَ فِرعَون " - لَمَّا ذَهب إليه يدعوه إِلى رَبِّه - فهي مِثْل ذَهاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لليهودي ودَعْوَتِه إلى الله تعالى!. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (1290) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (¬2) سورة المجادلة، آية: 22.

وإنَّ أمر الناس في هذا الزمان عجيبٌ! حيث إنَّ كلَّ أحدٍ من المتميعين يذكر بول الأعرابي في الْمَسْجِد!، وكلٌّ منهم يذكر زيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - لليهودي!، هكذا يسمونها زيارة، ولا يَذكرُونَ الداعي لذلك، فهم يفهمون فُهُوماً تتناسب مع انحرافهم!، بل يُكيِّفُون أفهامَهُم على ذلك!، ولا يُطيقون البغضَ في الله والمعاداةَ فيه، فيذكرون هذه القصص دفعاً للحقِّ، لأنهم هم بأنفسهم مستحقين من الْمَلامة بقدر انحرافهم؛ هذا هو السِّرُّ!، ولذلك يُحاولون إبعادَ هذا الجانب من الدِّين وَثَلْب مَن عَمِل به!. ولو أرَدْنَا أنْ نذكُرَ كلامَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وكلامَ الصحابةِ والعلماء بعدهم وأفعالهم مع الكفار والعصاة من المسلمين من البغض والهجر لَطَال الْمَقام!، وذلك - ولله الحمد - مشهور ومعروف ولكنهم يتعامَوْنَ عنه!، فالله المستعان. ولتعلم أنه مُفْتَرٍ وَكَاذِب مَن جَعَل التغليظ والهجر إنَّمَا يَحصُل نتيجة الجهل بالدِّين أو لاختلاف طبائع الناس وأمزجتهم. نعَم، إذَا ثَبَتَ أنَّ أحداً يَزيد في البغْضِ عَن الحدِّ الشرعي مِثْل أنْ يهجر المسلمُ أخاه المسلم فوق ثلاث هَجْراً غير دِينِيٍّ كأنْ يكون بينه وبينه شيء مِمَّا يكون بين الناس؛ فهذا مَنْهِيٌّ عنه لأنَّ هذا في أمور خاصة ودنيوية ليست حقاً لله تعالَى، وقد تقدَّمَ بَيَانُ ذلك، وهو المقصود بنهي النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ

فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ) (¬1). والحقيقةُ أنَّ زمَانَنَا هذا زمان المداهنة والمصانعة والْمُلاَينة، والسبب كما يُقال: (افْتَضَحُوا فَاصْطَلَحُوا)!. وقد قال ابن القيم - رحمه الله -: (وليس الدِّين مجرد ترك المحرمات الظاهرة، بل بالقيام مع ذلك بالأوامر المحبوبة لله، وأكثر الدَّينين لا يعبئون منها إلاَّ بِمَا شَارَكَهُم فيه عمومُ الناس. وأما الْجِهَاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن الْمُنكَر، والنصيحة لله ورسوله وعباده، ونُصرة الله ورسوله ودينه وكتابه؛ فهذه الواجبات لا تَخْطُر ببالهم فضلاً عن أن يريدوا فعلها وفضلاً عن أن يفعلوها. وأقل الناس دِيناً وأمقتهم عند الله مَن تَرَك هذه الواجبات وإنْ زَهِد في الدنيا جميعِهَا!؛ وقَلَّ أنْ ترى منهم مَن يَحمَرَّ وجهه ويُمَعِّره لله ويغضب لِحُرُماته ويبذل عرضه في نَصْرِ دِينه، وأصحاب الكبائر أحسَن حالاً عند الله مِن هؤلاء!) انتهى (¬2). انظر قوله: (يَحْمَر وَجْهه ويتمعر في الله ويغضب لحرماته)؛ فهذا عند أكثر أهل وقتنا تشنُّجاً وَمَرضاً نفسِيًّا!؛ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (5727)، ومسلم برقم (2560) من حديث أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -. (¬2) «عدة الصابرين»، ص (121).

{وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (¬1). قال الشيخُ حمد بن عتيق بعد أنْ ذَكَر كلامَ ابن القيم هذا؛ قال - رحمه الله -: (فلو قُدِّر أنَّ رَجُلاً يصوم النهار، ويقوم الليل، ويزهد في الدنيا كلِّها، وهو مع هذا لا يغضب لله، ولا يتمَعَرُّ وجهُه ولا يحمرُّ، فلا يَأمر بالمعروف، ولاَ ينهى عن المنكَر؛ فهذا الرَّجُل من أبغض الناس عند الله، وأقلهم دِيناً، وأصحابُ الكبائر أحسن عند الله منه!). ثم قال الشيخ حَمَد - رحمه الله -: (وقد حدَّثني مَن لاَ أتَّهِم عن شيخ الإسلام - إمام المسلمين وَمُجَدِّد القرن الثاني عشر - «محمد بن عبد الوهاب» - رحمه الله - أنه قال مَرَّةً: [أرى أُناساً يَجْلِسُون في المساجد على مصاحفهم يقرؤون ويبكون فإذا رأوْا المعروف لَمْ يأمروا به وإذا رأوْا المنكر لَم يَنْهَوْا عنه، وأشوف أناساً يعكُفُون عِندهم يقولون: " هؤلاء لِحَىً غَوَانمِ " وأنا أقول: إنهم لِحَى فَوَايِن]؛ فقال السَّامِع: " أنا ما أقدر أقول: إنهم لِحَى فواين " (¬2)، فقال الشيخ: [إنهم من الصُّمِّ البُكْم]؛ ويشهد لِهَذا ما جاء عن بعض السَّلفِ أنَّ الساكت عن الحقِّ شيطان أخرس والمتكلم بالباطل شيطان ناطق) إلى آخره (¬3). ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء، من الآية: 112. (¬2) (فواين): كلمة عامية، وتعني: الذلة والْهَوان والخسران. (¬3) أنظر: «الدرر السنية» (8/ 77)، و «التحذير عن السفر إلى بلاد المشركين» ص (13 - 14).

تأمَّلْ كلامَ ابن القيم الْمُتقدِّم، وأيضاً كلام الشيخ حمد بن عتيق، ثم كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمهم الله أجمعين - لِتَعلم قدْرَ ما نحن فيه من الإدبار عن الدِّين!. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (ومن عُرِفَ منه التظاهر بترك الواجبات، أو فِعْل المحرمات، فإنه يستحق أنْ يُهجر، ولاَ يُسَلَّم عليه تعزيرًا له على ذلك حتى يتوب!) انتهى (¬1). وَلَمَّا تَرك غالب الْخَلْق اليوم هذا الجانب العظيم من الدِّين، وَدَخَلوا مداخلَ لاَ تُرضي الله - عز وجل - ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، استخدمهم الشيطان في مقاومةِ ذلك، ودَفْعِه وإبطاله وتهجين مَن تَمَسَّك به على حَسَبِه، وَرَمْيه بالْجَهَالة والضلالة والشِّدَّة وغير ذلك!، فالله المستعان. وحتى أقاربِ الإنسان وَرَحِمِه إذا كانوا كُفاراً أو فُجَّاراً - أيْ مسلمين عُصَاة -، فإنه يُقيم أمرَ الله عليهم من البغْضِ والْهَجْر، وقد تقدَّم بيانُ ذلك ولله الحمدُ والْمِنَّة. فتأمَّل كلامَ أهلِ العِلْم الصادقينَ وخُذْ به، {ولا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} (¬2)، واحذَرْ كلَّ الْحَذَر مِمَّن يتكلَّم في الدِّين برأيه ¬

_ (¬1) «مجموع الفتاوى»، (23/ 252). (¬2) سورة الروم، من الآية: 60.

وهواه فإنه فتنةٌ لكل مفتون!، وما أكثرهم في هذا الزمانِ الدجَّالِي!. ولاَ تَعْجَبْ من معاداةِ الناس لأهلِ الْحَقِّ، وتنفيرهم عنهم، وتشنيعهم عليهم؛ فقد قال ابنُ القيم - رحمه الله -: (ولاَ يذوقُ العبدُ حلاوةَ الإِيِمان، وطَعْمَ الصِّدق واليقين حتى تَخْرُج الجاهليةُ كُلُّها مِن قَلبه، واللهِ لو تَحَقَّق الناسُ في هذا الزمانِ ذلك مِن قَلْبِ رَجُلٍ لَرَمَوْه عن قوس واحدة، وقالوا " مُبْتَدِع، وَمِن دُعَاة البِدَع "، فإلى الله المشتكى، وهو المسئول الصبر والثبات فلاَبُدَّ مِن لقائه؛ {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} (¬1)، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (¬2)) انتهى (¬3). تأمَّل قسَمَ «ابن القيم» في زَمَانِه وعلى أيِّ شيءٍ أقسَمَ - رحمه الله -!. والحقيقةُ أنَّ (المعروفَ) عند أكثرَ أهلِ وَقْتِنَا هو ما تعارف عليه أمثالهم من الناس وَقَبِلُوه، و (الْمُنكَر) هو مَا أنكروه وردوه. وأمَّا الميزانُ الشرعي الدِّيني فالذي يلتفتُ إليه منهم لا يقبله إلاَّ مِمَّن يُقلِّدهم من الْمُحرِّفين له على مقتضى الأهواء!، فالله المستعان. ¬

_ (¬1) سورة طه، الآية: 61. (¬2) سورة الشعراء، الآية: 227. (¬3) «مدارج السالكين»، (2/ 370).

حرية الرأي والتعبير!.

حرية الرأي والتعبير إنَّ مِنْ أعجَب مَا يَجْعَل أكثر مَن يَتركُونَ إنكارَ المنكَر والبُغْضَ في الله والْهَجْرَ فيه هو أنَّ (حريةَ الرأي والتعبير) من حقِّ الجميع!، وطالَمَا أنَّ الأمرَ كذلك عند هؤلاءِ فمَا الفائدة مِنْ هجْرِ الْمُخالِفِ الذي هو حرٌّ في رأيه وتعبيره؟!. إنَّها عظائم قد ظَهرَت في عصْرنا لَم يُعهَد لَها مَثيلٌ!، ومنها مَا يُردِّده بعض الأفَّاكيِن مِن قوْلِهِم: (حُرِّية التعبير) و (حرية الرأي)، ومَن اعتقد ذلك فهو كافر لأنَّ معناه أنَّ لكل أحدٍ أن يعتقد ما يشاء ويقول ما يشاء بلاَ ضابط شرعي والله سبحانه يقول: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} (¬1)، وقال سبحانه: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (¬2). والْمُسلم يَكْفُرُ بِكَلِمَةٍ يقولها، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصَّحِيحِ: (إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لاَ يُلْقِي لَهَا بَالاً يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لاَ يُلْقِي لَهَا بَالاً يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ) (¬3)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (إِنَّ ¬

_ (¬1) سورة التوبة، من الآية: 74. (¬2) سورة ق، آية: 18. (¬3) أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (6113) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) (¬1)، فهَذِه الكَلمةُ أوْرَدَتْ قائلَها النارَ فانظر حصائدَ الألْسُنِ كيف كانت عواقبها؟!. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: «كَلٌّ يَعْمَلُ فِي دِينِهِ الَّذِي يَشْتَهِي» فَهِيَ كَلِمَةٌ عَظِيمَةٌ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ مِنْهَا وَإِلاَّ عُوقِبَ؛ بَلْ الإصْرَارُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ يُوجِبُ الْقَتْلَ؛ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَعْمَلَ فِي الدِّينِ إلاَّ مَا شَرَعَهُ الله وَرَسُولُهُ دُونَ مَا يَشْتَهِيهِ وَيَهْوَاهُ، قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} (¬2)، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬3)، وقال {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (¬4)، وَقَال: {وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} (¬5)). وذَكَر - رحمه الله - آيات أخرى كثيرة بِهَذا الشَّأنِ، ثم قالَ: (فَتَبَيَّنَ أَنَّ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (6112)، ومسلم برقم (2988) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) سورة القَصَص، من الآية: 50. (¬3) سورة الأنعام، من الآية: 119. (¬4) سورة ص، من الآية: 26. (¬5) سورة المائدة، من الآية: 77.

عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَتَّبِعَ الْحَقَّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَلاَ يَجْعَلَ دِينَهُ تَبَعًا لِهَوَاهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ) انتهى (¬1). فتأمَّل ذلك تعلَمْ أنَّ مُرادَ القومِ من (حرية الرأيِ والتعبير) هو الفِرَارُ من الْحِسَاب الشَّرْعِي واتباع الْهَوى!، وذلك في حقيقته دعوة إلى الكفر بحيث مَن أراد أن يتكلم بالكفر فله ذلك باعتبار أنَّ دين إبليس هو (حُرِّية الرأيِ والتعبير) حتى لو قال شَخْصٌ: (الله والشيطانُ وجهانِ لِعُمْلَةٍ واحدة!) - قطع الله لسانه وبَطَشَ به - فله حرية التعبير!، أيْ ينوب عن إبليس!؛ وهؤلاء هُم أهلُ هذا البيتِ الذي قاله ابن القيِّم: هَرَبُوا مِنَ الرِّقِّ الَّذِي خُلِقُوا لَهُ ... فَبُلُوا بِرِقِّ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ! (¬2) وهؤلاء إنَّما نادَوْا بِمَا يُسمونه (حرية الرأيِ والتعبير) بعد أنْ نَبَذوا القرآنَ وَرَاء ظهُورِهمْ لِفِتنتهم بالغَرْب الكافِرِ وخوارقه الشَّيطَانية؛ قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: (فَعَدَلَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الإِسْلاَمِ إلَى أَنْ نَبَذَ الْقُرْآنَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَاتَّبَعَ مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ، فَلاَ يُعَظِّمُ أَمْرَ الْقُرْآنِ وَنَهْيَهُ وَلاَ يُوَالِي مَنْ أَمَرَ الْقُرْآنُ بِمُوَالاَتِهِ وَلاَ يُعَادِي مَنْ أَمَرَ الْقُرْآنُ بِمُعَادَاتِهِ؛ بَلْ يُعَظِّمُ مَنْ يَأْتِي بِبَعْضِ الْخَوَارِقِ؛ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَعْرِفُ أَنَّهُ مِنْ الشَّيَاطِينِ؛ لَكِنْ يُعَظِّمُهُ لِهَوَاهُ ¬

_ (¬1) «مجموع الفتاوى»، (22/ 240 - 241). (¬2) «الكافية الشافية بشرح ابن عيسى " توضيح المقاصد "»، (2/ 466).

وَيُفَضِّلُهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْقُرْآنِ؛ وَهَؤُلاَءِ كُفَّارٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالى فِيهِمْ: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ .. } (¬1)) انتهى (¬2). ويُوضِّح مقاصدَ مَن أحدثوا ما سَمَّوْه (حريةَ التعبيرِ) أنه لا مُقَابل له إلاَّ التقيُّد بالشريعة، وهم يقصدون التفَلُّت منها بألاَّ تكون ميزان أقوالهم وأفعالهم، وتأمَّل: (أَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ) وجوابه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك حيث جاء في حديث معاذ بن جَبل، وفي آخره قال مُعاذ - رضي الله عنه -: فأخَذَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِلِسَانِهِ فقال (كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا)، فقلتُ: يا نبي الله: وإنا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نتكَلَّمَ بِهِ؟!؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ!، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ!) (¬3). وآخِرُ ما بَلَغني عَمَّن يَحتج بِحُرية التعبير أنَّ ضَالاًّ يُترْجِم ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 50. (¬2) «مجموع الفتاوى» (14/ 227)؛ وأورد ذلك الإمام محمد بن عبد الوهاب في «135 فائدة من فتاوى شيخ الإسلام» ص (27). (¬3) أخرجه النسائي في «سننه الكبرى» برقم (11394)، وابن ماجه «سننه» برقم (3973)، وأحمد في «مسنده» برقم (22 069)، وعبد الرزاق في «مصنفه» برقم (20302)، وأخرجه الترمذي في «سننه» برقم (2621) وقال: (هذا حديث حسَن صحيح)، وصحَّحه ابن القيم في «أعلام الموقعين» (4/ 259).

(روايةً) تتضمَّن ترويج نظريةَ القِرْد «داروين» الكُفرية الْمَسْخِيَّة (¬1) بدعوى حرية التعبير!. ومِن هذا البابِ ما زعَمَهُ بعضُ الضُّلاَّلِ وأهلِ النِّفَاق أنَّ مَن كتَب قِصَّةً خَيَالية يُسمُّونَهَا (رِوَايةً) وجعْل بعض شَخصِيَّاتها يَتكَلَّم بكلامِ كُفْرٍ ولَوْ كان سَب الإله سُبحانه أنه لاَ يَكْفُر لأنَّ الشَّخْصِيَّةَ هي التي تَتَحَدَّث مَع أنه ليس هناك شَخْصية بل الرَّاوي هُو الذي تَحَدَّثَ!، فكَانَ كَمَن جَمَع حَشَفاً وسُوءَ كَيْلَةٍ حيثُ اقترف الكَذِب فِي ذِكرِهِ شَخصياتٍ وَهْمِيَّةٍ لاَ حقيقة لَهَا وحَسْبك أنَّ من آياتِ الْمُنافق أنه إذا حدَّثَ كذَبَ! (¬2)، وجَمَع مَع كَذِبِهِ سبَّه لله {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} (¬3)!، ومع ذلك يأتِي بعضُ الْمُنافقين ويزعم بأنه لا بأسَ بذلك طَالَمَا أنَّ كاتِبَه لاَ ¬

_ (¬1) والقائمة على أنَّ أصل الإنسان من قرد!، وقد فندَنا - بحمد الله تعالى - مزاعمه بالأدلة النقلية والعقلية في كتابنا «وِحْدة الوجود العصرية». (¬2) وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (آيَة المنافق ثلاث: إذا حَدَّث كَذَب، وإذا وَعَد أخلَف، وإذا اؤتمن خَانَ) أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (33) ومسلم برقم (59) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -؛ وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (عليكم بالصِّدق فإنَّ الصدق يهدي إلى البِرِّ، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يُكتب عند الله صِدِّيقاً؛ وإياكم والكَذِب فإنَّ الكَذِب يَهدي إلى الفجُور، وإن الفجورَ يهدي إلى النار، وإن الرَّجُل لَيكْذِب ويتحرَّى الكَذِب حتى يُكتب عند الله كَذاباً) أخرجه مسلم في «صحيحه» برقم (2607) وغيره من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. (¬3) سورة الإسراء، آية: 43.

يَنسب ذلك لنفْسِه!؛ ولاَ عَجَبَ فَزَمَاننا زمن العجائبِ والغَرائب!؛ وجوابُ هذا أنَّ الكاتب إذا ساقَ ذلك الكلام الكُفْري عن شخصية حقيقيةٍ مُنْكِراً على مَن قاله بحيث يَذكره على سبيل الإنكار فهذا صحيحٌ ومُثابٌ عليه إنْ شاء الله، وأمَّا إنْ أورده على غير سبيل الإنكار ولَم يُنْكِرْه فهو كافرٌ لاسِيَّمَا إذا كَانَ صَادراً عنه ومِنْ نَسيج خيَالِهِ حيثُ طَرحَه كأيِّ كلامٍ لا بأس به!. ويوضِّحُ ذلك أنه لو كَتَبَ إنسَانٌ قِصَّةً خَيالية كَالَّتِي يُسمُّونَها بـ (الرَّاوية) بِحيثُ يكْتُبُ بأنَّ اثنين اختصَمَا في (محمد) - صلى الله عليه وسلم - فقال أحَدُهُمَا: (هو رسولُ اللهِ وأكمَل الناسِ عَقْلاً وأهدَاهُم سَبِيلاً)، فقال الآخر: (بل هو مجنون ولا فرق بينه وبين المجانين)، وأنهى الكاتب القصة أوْ أتى بكلامٍ بعده ولكن لَمْ يَرُدَّ كلام الآخر ويبين أنه كفر فهو بمنزلة الذي وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنون لأنه منتحل لِهَذا الكلام قاصِداً تَروِيِجَه، وهذا بِخَلافِ مَا لوْ أوْرد قصة كافرٍ معلوم كُفره مثل أبي جَهْلٍ وأضرابه وذِكر ما يتكلم به من الكفر، فهذا شيءٌ وذلك شيءٌ آخَر. وَمِثَالٌ آخر: فلو أنَّ اثنين قال أحدهما: (الله حيٌّ موجود)، وقال آخر: (لا وجود لله)، وروى إنسانٌ ذلك كقصة هكذا دون إنكار لقول الثاني فهو إمَّا أنه يُقرِّر هذا الكفر ويروِّجه أو أنه شاكٌّ في هذا

الكفر، والشَّكُّ في هذا كُفْرٌ؛ فما عُذْرُ مَن انتحل قصة صاغها في مُخيَّلته وأنطق بعض شخصياتها الوهمية بالكفر دون بيان أنَّ هذا كُفْر ثُمَّ يقوم بِبَثِّهَا وَنَشْرها؟!، وهذه حيَلٌ خبيثة!. وهل يرضى مَن يُدافِع عن مِثل هذا أن يَكتُب إنسانٌ (رِوايةً) ويَجعله هو أحَد شَخصِيَّاتِهَا ويذكر عنه أنه يتكلم بكلامٍ قبيح أو يعمل عملاً قبيحاً؛ فهل يشفع لهذا الكاتب وينفعه إذا قال: (هذه رواية وشخصياتها هي التي تتحدث)؟!، فإنْ قال: (لا أرضى، وهذه جناية لأنه ذكرني باسمي) فحينئذٍ يُقالُ له: هلْ أنتَ وحتى الْخَلْق كلهم أعزُّ من الله ورسوله؟! .. وكيف إذَنْ تُجَادِل عن أولئك الرُّوَاة الكَذَبة السَّاخرين بالله وَدِينِه، وقد قال تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} (¬1)؟!. والكلام على تلك الكلمة الكُفرية السَّاقطة (حُرِّية الرأي والتعبير) يحتاج إلى مُؤلَّفٍ مُستقِلٍّ لأنَّ أدِلَّةَ بُطلاَنِهَا وضلالِ قائلِهَا أكثر مِنْ أنْ تُحصَر!، ولكنَّ الْمُراد هنا أنه كيف يَتَّفِق حُبٌّ في الله وبغضٌ فيه وموالاةٌ ومعاداةٌ مع هذه الكلمة الإبليسية؟!، وكيف يَتَّفِق معَها إسْلاَمٌ؟!. ولكَ أنْ تتصوَّر مَجْلِساًَ حَضَرَه النبي - صلى الله عليه وسلم - وجماعة من الصحابة ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: 109.

- رضي الله عنهم - وغيرهم ثم قال أحدُ الحاضرين: " لاَ بأس بِعِبَادَةِ اللاَّتِ والعُزَّى "، وقال الآخر: " دِينُ اليهودِ حَقٌّ، وَدِينُ النصارى حَقٌّ " وقال ثالثٌ: " قَطْعُ يَدِ السارق وحْشِيَّة فلوْ سُجِن أوْ غُرِّم غَرَامة " ونحو ذلك مِنْ مُعارضةِ التشريع السَّماوي الْمُحَمَّدي، فهَل سيَسْكتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هؤلاء أمْ أنه سيغضب ويُنكر عليهم ويُعاقبهم؟!؛ والْجَوَاب: أنه لاَ يقول مُسْلِمٌ: " إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يَغضب ولا يُنكر عليهم كلهم ويُعاملهم بِمَا يستحقون "؛ فهذا ظاهر، لكن هُمْ سَوف يقولون: " لنا حرية الرأي والتعبير "، فهل تَجِد في شريعتِهِ الْمُطهَّرة أنه - صلى الله عليه وسلم - يُقِرِّهم على هذه الْحُجَّةِ الشيطانية الْهادِمَةِ للمِلِّةِ الإبراهيمية الْمُحمَّدِية أوْ أنه يفعل - صلى الله عليه وسلم - ما يُرضي رَبَّه بِهِم؟!. وعلى هذا فَقِسْ لِتَعْلَم الْمُراد بِهَذه الكلمة!، وَمَعلُومٌ أنَّ هؤلاء المتشدقين بكلمة (حرية الرأي والتعبير) ينقضون أصلَهم لوْ نِيل منهم أوْ سُبُّوا ولاَ يَقبلون عُذْرَ مَن يَحتج بِحُرية التعبير لأنَّ المرادَ منها فقط الهجومُ على الدِّينِ وانتهاكِ حُرُمَاتِهِ .. {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (¬1)، ومَن شاء فلْيشْتُم أحدَهم أوْ ينْتَقِصه!، فإذا ثَارَت ثائرته وَغَضِب فليقل له: (هذه حرية تعبير) فهلْ يَقبلْ ويُسَلِّم؟!، فهُنا تعلم أنهم يُريدون ¬

_ (¬1) سورة الشعراء، من الآية: 227.

بِهَذه الكَلِمَة إلغاءَ الأحكام الشرعية!، ولذلك فإنهم يحتجون بهذه العبارات إذا أُنكِرَ عليهم ما خالف الشريعة!. ثُمَّ إنَّهُم يُوهِمون الْجُهَّالَ بِهَذِهِ العِبَاراتِ بأنَّ الدِّينَ كَبْتٌ للحُرِّياتِ وتكميمٌ للأفواهِ وحَجْرٌ على العقول، وهذا كلُّه يُمْلِيهِ عليهم إبليسُ لِيُزَيِّن لَهُم سُوءَ أعمالِهِم، ولِيُنَفِّرُوا الناسَ عن دِين خَالِقِهِمْ - عز وجل - ويوُحشونَهم مِنْ أحكامِهِ وكأنه ليس في الدين أن يُعَبِّر الإنسانُ عمَّا فِي نَفْسِه ليهتدي إلى الحقِّ وكأنه يُؤَاخَذ ويُعاقَب دون سَمَاعِ قَوْلِهِ والنظرِ في أمْرِه!، وغير ذلك مِن التشنيع على الدِّين، والله المستعان. وإنَّ أدنَى نَظَرٍ في أحكام الشريعةِ والقضاءِ والقُضَاةِ لَيَدْحَض زيغَ هؤلاء الزائغين ويكشف زَيْفَهَم - وللهِ الحمدُ والْمِنَّةُ -.

إنكار البغض في الله والهجر فيه عز وجل، وأبيات للعلامة (ابن سحمان) في ذلك.

إنكار البغض في الله والهجر فيه - عز وجل -[، وأبيات للعلامة (ابن سحمان) في ذلك]. قال الشيخُ سليمان بن سحمان - رحمه الله - (¬1) في قصيدةٍ طويلةٍ له ردًّا على مَن أنكر مَشروعية الْهَجْر في الله تعالى: وَأَبْكِي وَمَا مِثْلِي يَضِنُّ بِدَمْعِه ِ (¬2) ... عَلَى قِلَّةِ الدَّاعِي وَقِلَّةِ ذِي الْفَهْمِ أَرُكْنٌ مِنَ الأَرْكَانِ يَا قَوْمَنَا اجْتَرَا ... عَلَى هَدِّهِ أَعْمَى وَبَالَغَ فِي الْهَدْمِ أَيُنْكِرُ أَقْوَامٌ عَلَيْنَا بِزَعْمِهِمْ ... مُهَاجَرَةَ الْعَاصِينَ قُبِّحَ مِنْ زَعْمِ فَحِرْفَتُهُمْ زُورٌ وَبُهْتٌ وَمَا لَهُمْ ... سِوَى الطَّعْنِ فِي الإخْوَانِ يَا قَوْمِ مِنْ سَهْمِ نَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مِنْ كُلِّ طَاعِنٍ ... عَلَيْنَا بِسُوءٍ قَدْ تَهَوَّرَ فِي الإثْمِ مَتَى جَادَلُوا فَاللهُ مُوهِنُ كَيْدِهِمْ ... فَكَمْ قَدْ ظَفِرْتُمْ بَالدَّلِيلِ عَلَى الْخَصْمِ فَقُولُوا لَهُمْ رَدُّ التَّنَازُعِ بَيْنَنَا ... إلَى اللَّهِ وَالْمَبْعُوثِ خَيْرِ أُولِي الْعَزْمِ وَكَثْرَةِ مَنْ يَعْمَى عَنِ الْحَقِّ بَلْ يَصْمِي ... فَفِيهِ شِفَا عِيٍّ وَفِيهِ جَلاَ فَهْمِ (¬3) فَوَا غُرْبَةَ الإسْلامِ وَا قِلَّةَ الْعِلْمِ ... وَقَدْ صَدَقُوُا فِيمَا ادَّعَوْهُ بِلاَ كَتْمِ! (¬4) فَأَهْلاً بِهِ أَهْلاً وَسَمْعًا لِحُكْمِهِ ... أَمَا هَجَرَ الْمَعْصُومُ «كَعْبًا» وَصَحْبَهُ ¬

_ (¬1) توفي - رحمه الله - سنة 1349هـ. (¬2) يضن: يبخل. (¬3) العي: العجز عن التعبير اللفظي بِمَا يُفيد المعنى المقصود، أو عدم الاهتداء لوجهِ الْمُراد. (¬4) «دِيوان ابن سَحمان»، ص (293 - 294).

وقد أوْردنا في المقدِّمَة ما جَاءَ عن ابنِ عَباس - رضي الله عنهما - أنه قَالَ: (أَحِبَّ فِي اللَّهِ , وَأَبْغِضْ فِي اللَّهِ , وَوَالِ فِي اللَّهِ , وَعَادِ فِي اللَّهِ , فَإِنَّهُ لا تُنَالُ وَلاَيَةُ اللَّهِ - عز وجل - إِلا بِذَلِكَ؛ وَلاَ يَجِدُ رَجُلٌ طَعْمَ الإِيمَانِ وَإِنْ كَثُرَتْ صَلاتُهُ وَصِيَامُهُ حَتَّى يَكُونَ كَذَلِكَ؛ وَصَارَتْ مُؤَاخَاةُ النَّاسِ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا , وَإِنَّ ذَلِكَ لا يُجْزِئ عَنْ أَهْلِهِ شَيْئًا، ثُم قرأ: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} [الزخرف، آية: 67]، وقرأ: {لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬1)) انتهى (¬2). قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمهم الله تعالى - مُعلِّقاً على هذا الأثَر: (فإذا كانتْ البلوى قد عمَّتْ بِهَذا فِي زمن ابن عباس - رضي الله عنهما - خير القرون فمَا ¬

_ (¬1) سورة المجادلة، آية: 22. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» برقم (34770)، واللالكائي في «اعتقاد أهل السنة» برقم (1691)، وابن أبي الدنيا في «الإخوان» برقم (22)، وابن الْمُبارك في «الزهد» ص (120)، والعدني في «الإيِمَان» برقم (56) واللفظ له، وكلهم عن ابن عباس موقوفاً؛ وأخرجه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (1/ 312) عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - مرفوعاً، والطبراني في «المعجم الكبير» برقم (13537) عن ابن عمر موقوفاً؛ والصحيح أنه موقوف على ابن عباس، والله أعلم.

زاد الأمرُ بعد ذلك إلاَّ شِدَّة حتى وَقَعَت الْمُوَالاةُ على الشِّرك والبِدَع والفُسُوقِ والعِصْيَان!) انتهى (¬1). وبعد أنْ أوْرد الشيخ حمود التويجري - رحمه الله - كلام الشيخ عبد الرحمن بن حسَن - رحمه الله - قال: (قُلْتُ: والأمرُ بعد زمن الشيخ «عبد الرحمن» أعظم وأعظم ولاسِيَّمَا في زماننا هذا الذي قد اشتَدَّتْ فيه غُربةُ الدِّينِ وانعكَسَتْ فيه الحقائق عند الأكثرين حتى عاد المعروف منكراً والمنكر معروفاً؛ ومن ذلك موالاة الكفار والمنافقين وموادتهم ومصاحبتهم ومُجَالستهم ومواكلتهم ومشاربتهم والأنس بِهِم والانبساط معهم، كُل ذلك صَار مِنْ قَبِيلِ الْمَعروفِ عند أكثر الناس بل عند كثيرٍ مِمَّن يَنتسب إلى العِلْم والدِّين!. وأمَّا الْحُبُّ في الله والبغض في الله والْمُوالاة في الله والْمُعاداة في الله وهَجْر أهل المعاصي لله والإكفهرار في وجوههم من أجل ما ارتكبوه من المعاصي، فكُل ذلك قد صَار عند كثير من الناس من قَبِيل الْمُنكَرات!. حتى إنَّ كثيراً من المنتسبين إلى العِلْم قد صَاروا يُدندنون حول إنكار هذه الأعمال الفاضلة الْمَحبوبة إلى الله تعالى ويعدونها من مساوئ الأخلاق، ويعيبون على من يعمل بها ويذمونهم، ويعدونهم لذلك أهل تَجبُّرٍ وتكبُّرٍ وتعنُّتٍ وشذوذٍ وتشديدٍ وغُلوٍّ في ¬

_ (¬1) «فتح المجيد بشرح كتاب التوحيد»، ص (176).

الدِّين!. وقد سَمِعْتُ هذا أو بعضه من بعض الْخُطبَاء والقُصَّاص الثرثارين المتشدقيِن الذين يقولون مَالاَ يَفعلون، ويفعلون ما لاَ يُؤمَرُون، ويأمُرونَ الناس بالبِرِّ وينسون أنفُسَهم وهم يتلون الكتاب أفلاَ يعقلون!. وسَمِعْتُ بعضهم يُصَرِّح على رؤوس الأشهادِ بإِنكار الحب في الله والبغض في الله. وَسَمِعْتهم أيضاً يَحُثُّونَ الناس في خُطَبِهِم وَقَصَصِهم على حُسْن السُّلوك مع الناس كلِّهِم واستجلاب مودتهم ومحبتهم ويُرَغِّبُونَهم في إظهار البشاشة لكلِّ أحدٍ، وسواء على ظاهر كلامهم الصالح والطالح!. ورُبَّمَا صَرَّح بعضهم أنَّ هذه الأفعال الذميمة من حُسن الْخُلُق ومن مُقتضيات العَقْل (¬1)؛ فَيُقَال لِهَؤلاَءِ الْحَيارى والمغرورين: ¬

_ (¬1) عِلْماً بأنَّ الشيخ حمود - رحمه الله - يقول هذا الكلام في كتابه «تحفة الإخوان» الذي ذكر في آخره أنه فَرَغ منه عام (1383هـ)!، فكيف لو رأى ما آلَت إليه الأحوال اليوم؟!.

العقل في باب الحب والبغض والموالاة والمعاداة عقلان: أحدهما: عقلٌ مُسَدَّدٌ مُوَفَّقٌ قاهرٌ للهوى والنفْس الأمَّارَة بالسُّوء، قد استنار بنورِ الإِيِمَان وصار الْحَاكم عليه كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا العقلُ يقتضي من أصحابه أن لاَ يُقَدِّموا على طاعة الله تعالى وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً أبداً، ويقتضي من أصحابه أن يُحِبُّوا في الله ويبغضوا في الله ويوالوا في الله ويُعادوا في الله وَيُعطوا لله وَيَمْنعوا لله، وَيُسَارعوا إلى كُلِّ ما يُحِبُّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال سَواء رضي الناس أو سَخطوا لاَ تأخذهم في الله لومة لائم؛ وما أقَلَّ هذا العقل في هذه الأزمانِ الْمُظْلِمَةِ!. والعقل الآخر: عَقلٌ معيشي نِفَاقي مَخْذول، قَدْ قَهَرَته النفْس الأمَّارة بالسُّوءِ، وأسَرَتْه الحظوظُ الدنيويةُ والشهواتُ النفْسية، وصار الحاكم عليه الهوى، فمَحبته لِهَوَاهُ وَبُغضه لِهَواه وموالاته ومعاداته لِهَواه وبذْله لهواه ومنعه لِهَواه؛ فهذا العقل يقتضي من أربابه أن يتمَلَّقوا لسائر أصناف الناس بألسنتهم ويُحسِّنوا السلوكَ مع الصالح والطالح، وهذا العقل هو الغالب على أكثر الناس في زماننا عامتهم وخاصتهم!، وما أكثره في المنتسبين إلى العلم!، فلا حولَ ولا قوة

إلاَّ بالله العلي العظيم) انتهى (¬1). وهذا العَقْل المعيشي - الذي ذكَره الشيخ التويجري - قال فيه ابن القيم - رحمه الله -: (يظن أربابه أنهم على شَيْءٍ، ألاَ إنَّهُم هُمُ الكَاذِبوُن، فإنَّهُم يَرَوْن العقلَ أن يُرضوا الناسَ على طَبَقَاتِهِم وَيُسَالِمُوهم ويَستجْلِبوُا مَوَدَّتَهُم وَمَحَبَّتَهم؛ وهذا مَع أنه لاَ سبيل إليه فهو إيثارٌ للرَّاحَةِ والدَّعَة على مُؤْنةِ الأذَى في اللهِ والْمُوالاَةِ فيه والمعاداةِ فيه؛ وهو وإنْ كان أسْلَمُ عَاجِلَةً فهو الْهُلْك فِي الآجلة، فإنه ماذاق طعم الإيمان مَن لَمْ يُوالِ في الله وَيُعَادِ فيه، فالعَقْلُ كُلُّ العَقْلِ مَا أوصل إلَى رِضَا الله ورسوله، والله الموفق) انتهى (¬2). ثم قال الشيخ حمود التويجري بعد أن أوْردَ كلام ابن القيم: (إذا عُلم هَذا فأهلُ العقل الْمَعِيشِي لا يَرَوْن بِمُداهنة أهل البدع والفسوق والعِصْيان بَأساً، وكثير منهم لاَ يَرَوْنَ بِمُداهنة الكفار والمنافقين بَأساً) انتهى (¬3). وقد جاء عن سفيان الثوري - رحمه الله - أنه قال: بَلَغَنا أنَّ هذا الكَلام في وصية عِيسى بنِ مَريم - عليه السلام -: (يا مَعْشَرَ الْحَوَارِيِّينَ تَحَبَّبُوا إِلَى اللهِ بِبُغْضِ أهْلِ الْمَعَاصِي، وَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِالْمَقْتِ لَهُمْ، وَالتَمِسُوا رِضَاهُ بِسَخَطِهِمْ)، قَالوا: يا نبي الله فمَن نُجَالِس؟!؛ ¬

_ (¬1) «تحفة الإخوان»، ص (34 - 37). (¬2) «مفتاح دار السعادة»، (1/ 117). (¬3) «تحفة الإخوان»، ص (37).

قال: (جَالِسُوا مَنْ يَزِيدُ فِي أعْمَالِكُمْ مَنْطِقُهُ، وَمَن تُذَكِّرُكُمْ بِاللهِ رُؤْيَتُهُ، وَيُزَهِّدُكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ عَمَلُهُ) انتهى (¬1). وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} (¬2)؛ قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: (أيْ إنْ لَم تُجانِبوُا الْمُشْرِكين وتُوَالوُا المؤمنين وإلاَّ وَقَعَتْ فِتنَةٌ في النَّاسِ، وهُو الْتِبَاسُ الأمْرِ واختلاطُ المؤمنين بالكافرين، فَيَقَع بين الناسِ فَسَادٌ مُنتَشِرٌ عَرِيضٌ طويل) انتهى (¬3). وقد تقدَّمَ الكلام في المقدِّمة أنَّ هذا الكِتاب ليسَ في شأنِ الكفار والبراءة منهم ومعاداتهم وإنَّمَا هو في فُسَّاقِ المسلمين وأهل البِدَعِ والأهواءِ، ومعلوم أنَّ الآيات التي نزلت في شأن الكفار لِعُصَاة المسلمين منها نَصِيبٌ بِقَدْرِ بُعدِهم عن الإسلام وإنْ لَمْ يَكُن خُرُوجاً منه، وقُرْبهُم من الكفر وإنْ لَمْ يَكن دُخولاً فيه؛ وهذا لاَبُدَّ منه. وأمَّا إذا كان التقسيم هكذا: كافِرٌ له البرَاءة والْمُعَاداة، وَمُسلمٌ له الموالاة والمحبة دون التفصيلِ في البَرْزَخ الذي وَلَجَهُ المسلم بكبائره وَفِسْقه الْمُوجِب له أنْ يُعامَل بِمَا يَستحق، فعلى هذا لاَ يُهجَر ولا ¬

_ (¬1) أنظر: «حلية الأولياء» (7/ 46)، و «الزهد» للإمام أحمد ص (54)، و «شُعَبَ الإيمان» (7/ 57). (¬2) سورة الأنفال، آية: 73. (¬3) «تفسير ابن كثير»، (2/ 331).

يُبْغَض مُسْلم لكبائره وَفِسْقه ويُحَب مطلقاً كما يُبْغَض الكافر مطلقاً!؛ وهذا مَذْهَبٌ إرجائي سَلَكَه كثيرون يدَّعُون الْمَعرفة والعِلم، وكتابنا هذا كله في هذا الشأن، وهو تفنيدٌ لِهَذا الرأيِ الضَّال الفَاسِد. وتأمل ما تقدَّم ذِكره قبل قليل من قوله تعالى: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} وكلامُ «ابنِ كَثِير» عن ذلك؛ فَبِمَا أن العبدَ إذا لَمْ يُعادِ الكفار ويُوالِ أهل الإيمان تَحْصل الفتنة وهي قوة الكفر، والفساد الكبير وهو ضعف الإسلام؛ فكذلك إذا لَمْ يُهْجَر ويصارَم ويُبغض العصاة تكون الفتنةُ والفساد الكبير، وقد أخَذَت الأمة في وقتنا بنصيبٍ وافرٍ من القِسْمين حتى طَبَّقَت الفِتنة وعَمَّ الفَسَاد الكبير كمَا أخبر سبحانه، لكن الكلام في هذا المؤلف على معاملة عصاة المسلمين وما يَحْصُل من الفتنة والفساد بِمُداهنتهم. وآيات القرآن كثيرة في ذمِّ الكُفر والكفار للظلمة والمبتدعة والفسَقة نصيب منها. فلْيُنْظَر مَا أَهْمَل من هذا الأمر مِن المتديِّنين لاَسِيَّمَا مَن ابتُلْي منهم بِمَعنى (نَفْسَك إنْ لَمْ تَشْغَلْهَا بِالْحَقِّ شَغَلَتْكَ بِالبَاطِلِ) حيث يكتبُ بعضُهُم عني ويتكلَّم آخرون من الْمُدَاهنين ثالباً عائباً أنِّي لاَ أسلِّم على أهل هذه التعاليم الحادثة والأعمَال التي هي سُلَّم إليها والشاشات المدمِّرة، ونحو ذلك مِمَّا عَمَّ اليوم وَطَمَّ!،

وقد قال الأوزاعي - رحمه الله -: (عَلَيْكَ بِآثَارِ مَنْ سَلَفَ وَإِنْ رَفَضَكَ النَّاسُ، وَإيَّاكَ وأقْوَالَ الرِّجَالِ وَإِنْ زَخْرَفُوهَا وَحَسَّنوُهَا، فَإِنَّ الأمْرَ يَنْجَلِي وَأنْتَ مِنْهُ عَلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ!) انتهى (¬1). وقد كان حَمَّاد بن سَلَمة - رحمه الله - إذا جلسَ يقول: (مَن كَانَ قَدَرِيًّا فَلْيَقُمْ!) (¬2). قال ابنُ مُفْلِحٍ بعد أنْ ذَكَرَ ذلك: (وعن طاووس وأيوب وسليمان التيمي ويونس بن عبيد وغيرهم معنى ذلك) انتهى (¬3). وذلك من جنس مَن يقول: (مَن كانت مُخَالَفَتُه كذا فلاَ يُسَلِّم عَلَيَّ) لاَسِيَّمَا وقَد دَخَل عُمومُ الناسِ الْمَدَاخِلَ الْمُظْلِمَة ولَم ينجُ إلاَّ القليلُ النَّادر (¬4)، والنادرُ لاَ حُكْم له. وقد أخَذَ عبد الصَّمَد - والي مَكَّة - بِيَدِ سُفيان الثوري فَذَهب به إلى المهْدِي وهو بِمِنَى، فلمَّا رآه صاح بأعلى صَوته: (ما هذه الفسَاطيطِ؟!، ما هذه السُّرَادِقَات؟!، وقد حَجَّ عُمَر بن الخطابِ فسَأل: " كَمْ أنْفَقْنَا فِي حَجَّتِنَا ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في «المدخل إلى السُّنن الكبرى» برقم (233)، والخطيب البغدادي في «شَرَفِ أصحابِ الحديث» ص (7). (¬2) «الآداب الشرعية»، (1/ 262). (¬3) «الآداب الشرعية»، (1/ 262). (¬4) وكل الأمة سَلكت هذا الطريق إلاَّ ما ندَر، فلا يطبّق على ذلك قياس، ولذلك فلاَبُدَّ من إظهار الدِّين.

هَذِهِ؟! " فقيل: كذا وكذا ديناراً - ذَكَر شَيئاً يسيراً -؛ فقال: " لَقَدْ أسْرَفْنَا! ") انتهى (¬1). فانظُرْ ما الذي أنكَرَه سُفْيَان على المهدي ورفْع صَوْته بذلك!، وهذا جُنونٌ عند كثيرٍ من أهل وقتنا!. ¬

_ (¬1) «حلية الأولياء» (7/ 49)، و «سير أعلام النبلاء» (7/ 265).

ذم الباطل وأهله.

ذمُّ الباطل وأهله إنَّ أكثرَ أهلِ الوقت لا يرضون بِذَمِّ الباطل ولا ذَم أهله وسِرُّ ذلك هو المشاركة إمَّا في الباطل المذموم نفْسِه أو مَا هُو مِن جِنْسِه!، ولاَ يستقيمُ الدِّينُ بالآرَاءِ العَوْجَاء والفهوم الْهَوْجَاء!. قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد كلام له في سورة (العَصْر) قال - رحمه الله -: (وأولُ ذلك أنَّ تُذكر الأقوال والأفعال على وجه الذَّمِّ لَهَا والنهي عنها وبيان ما فيها من الفسَاد، فإنَّ الإنكارَ بالقلب قبل الإنكار باليَدِ، وهذه طريقةُ القرآن فيما يذكره تعالى عن الكفار والفُسَّاق والعصاة من أقوالهم وأفعالهم يذكر ذلك على وجه الذم والبغض لَهَا ولأهلها وبيان فسادها وضدها والتحذير منها، كمَا أنَّ مَا يذكره من أهل العلم والإيمان ومَن فيهم من أنبيائه وأوليائه على وجه المدح والْحُبِّ وبيان صلاحه ومنفعته والترغيب فيه) إلى آخر كلامه - رحمه الله - (¬1). تأمل قوله: (وهذه طريقة القرآن فيما يذكره تعالى عن الكفار والفساق والعصاة من أقوالهم وأفعالهم يذكر ذلك على وجه الذم والبغض لها ولأهلها وبيان فسادها وضدها والتحذير منها) واقرأ ¬

_ (¬1) «مجموع الفتاوى»، (15/ 338).

القرآن بِقَلب حاضر تعرف هذا، وتأمَّلْ حالَ زماننا وغالب أهله تعرف أيَّ وادٍ سَلَكُوا!. وإذا تبين ما ذكره شيخ الإسلام - رحمه الله - من طريقة القرآن فاعلم أنَّ أغلب أهل الوقتِ ينكرونه ويَدْفعونه بِشِدَّة بِحُجَّةِ أنه أسلوب (غير حضاري) وهي معارضة جاهلية!، وقد قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (¬1)، ولَمْ يقل سبحانه: (إلى الحضارة)!، وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (¬2)، وقال تبارك وتعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (¬3). فعَلى الْمُسْلم أنْ يكون مَرْجِعُه وَرَدُّه فِي كُلِّ أموُرِه وشأنه ما أمره الله - عز وجل - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بالرجوع والردّ إليه. وقد تقدم الكلام على (حرية التعبير والرأي) فَالْحَذَر الْحَذَر، فالسؤال في القبر وفي القيامة إنما هو عن محمد - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به، وهذا هو الصراط المستقيم .. ¬

_ (¬1) سورة الشورى، من الآية: 10. (¬2) سورة النساء، من الآية: 59. (¬3) سورة النساء، آية: 65.

قصيدة للمؤلف في موضوع البغض في الله والهجر فيه تبارك وتعالى.

[قصيدة للمؤلف في موضوع البغض في الله والهجر فيه تبارك وتعالى.] نَشْكُو إِلَيْكَ وَلاَ لِغَيْرِكَ نَلْتَجِي ... خَابَتْ مَقَاصِدُ مَنْ سِوَاك تيَّمَمُوا أنتَ الْمُؤَمَّلُ أنَتَ كُلّ رَجَائِنَا ... مَا دُونَ بَابِكَ مَلْجَأٌ يُتَيَمَّمُ يَا مَنْ يُغِيثُ وَكُلُّ عُسْرٍِ عِنْدَهُ ... قَدْ حُفَّ فِي يُسْرَيْنِ جُودُكَ أعْظَمُ نَشْكُو إِلَيْكَ الدِّينَ نَرْجُو نَصْرَهُ ... فَلَقَدْ أصَابَ الدِّينَ كَسْرٌ مُؤْلِمُ فِي كُلِّ يَوْمٍ ضَعْفُهُ مُتَحَقِّقٌ ... يَشْهَدْهُ عَالِمُنَا وَمَنْ لاَ يَعْلَمُ مَا زَالَ يَحْدُثُ كُلّ وَقْتٍ حَادِثٌ ... يُنْسِيهِ تَابِعُهُ بِهَوْلٍ أعْظَمُ فِتَنٌ تَوَالَتْ طَبَّقَتْ بِظَلاَمِهَا ... لَيْلٌ طَوِيلٌ وَالظَّلاَمُ مُخَيِّمُ حَتَّى الطُّغَاةُ تَمَتَّعُوا بِكَرَامَةٍ ... جَهْراً نَرَاهُمْ يُكْرَمُوا وَيُعَظَّمُوا بُغْضُ العُصَاةِ وِرَاثَةٌ نَبَوِيَّةٌ ... وَالكَافِرِينَ بَرَاءَةٌ لَكَ مِنْهُمُو الْحُبُّ أوْثَقُ عُرْوَةٍ فِي دِينِنَا ... وَالْبُغْضُ أَيْضاً مِثْلهُ مُتَحَتِّمُ وَالْبُغْضُ دِينٌ وَالْمَحَبَّةُ مِثْلُهُ ... مَا قَامَ دِينٌ دُونَ هَذَا الْمَعْلَمُ وَالدِّينُ فَرْقٌ ثُمَّ أنْتَ مَعَ الَّذِي ... أَحْبَبْتَ فَاخْتَرْ مَا تَشَاءُ سَتَعْلَمُ إحْذَرْ مُدَاهَنَةَ العُصَاةِ فَإِنَّهَا ... تَجْعَلْكَ لَوْ لَمْ تَعْصِ رَبَّكَ مِنْهُمو قَالَ الْمَسِيحُ تَحَبَّبُوا لِإِِلَهِكُمْ ... فِي بُغْضِ مَنْ يَعْصِيهِ فَهْوَ مُذَمَّمُ وَبِمَقْتِهِمْ فتَقَرَّبوُا لِمَلِيكِكُمْ ... أَرْضَوهُ فِي إسْخَاطِهِمْ كَيْ تَغْنَمُوا أوَ مَا قَرَأْتَ كَلاَمَ رَبِّكَ إِنَّهُ ... يَكْفِيكَ بَلْ يَشْفِيكَ بَلْ هُوَ مَغْنَمُ أوَ مَا نَهَاكَ اللَّهُ عَنْ أعْدَائِهِ ... لَوْ كَانَ وَالِدُكَ الْمُفَدَّى مِنْهُمُو لاَ تَرْكَنُوا لِلظَّالِمِينَ تَمَسَّكُمْ ... نَارُ الْجَحِيمِ وَبِئْسَ دَارُ الْمُجْرِمُ لَوْ كَانَ صَاحِبُكَ العَزِيزُ مُعَادِياً ... قَوْمًا وَأنْتَ لَهُمْ تَوَدُّ وَتُكْرِم لَجَفَاكَ زُهْداً فِي مَوَدَّتِكَ الَّتِي ... أَوْلَيْتَهَا الأَعْدَاءَ لاَ تَتَحَشَّمُ

هَذَا الصَّدِيقُ يَغَارُ لَمَّا خُنْتَهُ ... فَاللَّهُ أوْلَى مِنْهُ بَلْ هُوَ أعْظَمُ إنْ كَانَ دِينُكَ تَابِعٌ لِمُحَمَّدٍ ... فَالْحَقُّ أَبْلَجُ لَيْسَ يَخْفَى مُسْلِمُ هَذَا هُوَ النَّهْجُ القَوِيِمُ وَغَيْرُهُ ... نَهْج الضَّلاَلَةِ لَيْسَ فِيهِ تَوَهُّمُ وَعَلَى النَّبِيِّ صَلاَةُ رَبِّي دَائِماً ... يَا قَوْمَنَا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا. عبد الكريم بن صالح الحميد بُرَيْدَةُ - شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ / 1428 تم بحمد الله

§1/1