إمام المسجد مقوماته العلمية والخلقية

سعود بن محمد البشر

مقدمة

[مقدمة] إمام المسجد مقوماته العلمية والخلقية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله الأمين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فاستجابة لطلب وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، أعددت هذه المشاركة في موضوع: " إمام المسجد ومقوماته العلمية والخلقية ". وإنني بهذه المناسبة أشكر لخادم الحرمين الشريفين حفظه الله جهوده العظيمة والموفقة في خدمه الحرمين الشريفين المتمثلة في توسعتهما وتوفير كل ما يحتجان إليه وتهيئتهما لتأدية وظائفهما الدينية والاجتماعية بأعلى مستوى. مع العناية بكافة المساجد في المملكة وغيرها والاهتمام بطباعه المصحف الشريف وتوزيعه في الداخل والخارج. كما أشكر معالي وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، على ما يقوم به من عمل مخلص لخدمة العمل الإسلامي، وخدمة بيوت الله، وتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة. أسال الله للجميع العون والتوفيق.

مكانة المسجد

[مكانة المسجد] مكانة المسجد: لقد نوه الله تعالى في كتابه الكريم بالمسجد ورفع قدره وأعلى مكانته وعظم شأنه واختاره بيتا له وأضافه إلى نفسه وأمر أن يرفع ويذكر فيه اسمه وجعله أحب البلاد إليه كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه " «أحب البلاد إلى الله مساجدها. . .» إلخ، واعتبر عمارة المساجد من علامات الإيمان وسببا للهداية قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18] (¬1) . وقد أثنى الله على عمار بيوته سواء كانت عمارتهم لها ببنائها وصيانتها ونظافتها أم كانت بإقامة الصلاة وذكر الله فيها، فكلا المعنيين مقصود بالعمارة (¬2) . والجهاد شرع لإعلاء كلمة الله والمساجد هي أفضل مكان ترفع فيه كلمة الله وتؤدى فيه أعظم فرائضه بعد الشهادتين، ولهذا كان الدفاع عنها دفاعا مشروعا بل واجبا على المسلمين قال ¬

(¬1) سورة التوبة الآية 18. (¬2) فتح الباري ج1 ص541، المكتبة السلفية القاهرة.

تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج: 40] (¬1) . والدفاع عن هذه المقدسات نصر لله بدليل قوله - تعالى- بعد ذلك {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40] (¬2) . ثم ذكر تعالى صفات حماة العقيدة الذين يدافعون عن المقدسات الإسلامية فقال: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41] (¬3) . ومن أقبح القبائح وأظلم الظلم، المنع من عمارة المساجد وتعطيلها وصد الناس عنها ومحاربة عمارها أو تخريبها أو تحويلها لغير ما بنيت له من العبادة، قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة: 114] وكتب الخزي الدنيوي، وتوعد بالعذاب الأخروي من يفعل ذلك قال تعالى مخبرا عن ذلك: {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114] (¬4) . ¬

(¬1) سورة الحج الآية: 40. (¬2) سورة الحج الآية: 40. (¬3) سورة الحج الآية: 41. (¬4) سورة البقرة 114.

وكما نوه القرآن العظيم بمكانة المسجد أشادت السنة كذلك بما للمسجد من مكانة عظيمة يتجلى ذلك في حب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسجد، فقد بدأ ببناء مسجده أول ما وصل إلى المدينة، لتنطلق منه الدعوة الإسلامية وليكون مدرسة ومعهدا وجامعه يتلقى فلها أصحابه تعليم القرآن الكريم والسنة المطهرة. وفي المسجد تأسست الدولة الإسلامية وتكون المجتمع الإسلامي الذي حمل أعباء الرسالة وانطلق بها إلى مشارق الأرض ومغاربها ففتح الله به البلاد وقلوب العباد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي فيه جل وفته إماما ومعلما وداعيا إلى الله وقاضيا وقائدا لمسيرة العمل الإسلامي، وكان صلى الله عليه وسلم حريصا على نظافة المسجد، رأى مرة نخامه في جدار قبلة المسجد فحكها بيده ورؤي كراهيته لذلك وشدته عليه (¬1) وإظهارا لأهمية نظافة المسجد كرم النبي صلى الله عليه وسلم المرأة السوداء التي كانت تقم مسجده وصلى على قبرها ولام بعض أصحابه حيث لم يخبروه بموتها تقليلا لشأنها. وحرصا على كرامة المسجد وأهله نهى صلى الله عليه وسلم من أكل ذا رائحة كريهة عن دخول المسجد حتى تزول تلك ¬

(¬1) انظر صحيح البخاري 1 / 106.

إمام المسجد

الرائحة فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أكل من هذه الشجرة يعني الثوم فلا يأتين المساجد» (¬1) وفي حديث جابر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل البصل والكراث فغلبتنا الحاجة فأكلنا منها فقال صلى الله عليه وسلم: «من أكل من هذه الشجرة النتنة فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الأنس» (¬2) وخطب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوما فقال في خطبته: ". . . . ثم أنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين هذا البصل والثوم، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحها من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع فمن أكلهما فليمتهما طبخا" (¬3) . [إمام المسجد] إمام المسجد: المسجد هو المؤسسة الثابتة في الإسلام وهو الرابطة الدينية والاجتماعية التي توثق الصلة وتحقق التعارف بين فئات المجتمع المسلم. ويعتبر إمام المسجد وخطيبه عماد المسجد وقوته، به يؤدي المسجد رسالته في نشر الدعوة وتوعية المجتمع وتبصير الناس بأمور دينهم، فإذا كان الخطيب عالما قوي الشخصية نافذ البصيرة ¬

(¬1) متفق عليه واللفظ لمسلم، انظر صحيح البخاري 1 / 207 وصحيح مسلم 1 393. (¬2) رواه مسلم 1 / 396 كتاب المساجد (¬3) المصدر السابق.

عارفا بعادات الناس وأحوالهم كان تأثيره جيدا ومفيدا في جماعة المسجد، وفي سكان الحي الذي فيه المسجد يعلمهم ويرشدهم ويقودهم إلى كل خير وفضيلة. وقد كان كذلك الخطباء المستجمعون لشروط الإمامة والخطابة. ففي صدر الإسلام كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الإمام والخطيب ثم خلفاؤه الراشدون ثم الأمراء والقواد والعلماء والأعلام، وهذا يدل على أنه يجب أن يكون متولي هذه الوظيفة في المنزلة العالية من الدين والخلق والعلم والسلوك (¬1) وهنا تظهر أهمية هذه الوظيفة في حياة الناس إذ إن قوة الخطباء تبدو على مجتمعاتهم، وضعفهم يظهر أثره في تلك المجتمعات، لأن المسجد هو الذي يعلم المجتمع ربط القول بالعمل فإذا كان الخطيب ضعيف العلم والشخصية أو سيئ الخلق والسلوك فإنه يضر ولا ينفع، وإذا كان من مهمة الإمام الخطيب قيادة المصلين إلى الخير والبر والصلاح فمن العسير أن يحقق الخطيب الجاهل هذه المهمة الجليلة (¬2) . وقد يكون الإمام الخطيب جامعا لشروط هذه الوظيفة من حيث العلم والقدرة الشخصية ولكنه مشغول عن وظيفته بأعمال ¬

(¬1) الشيخ على محفوظ، الخطابة ص21. (¬2) أحمد بن عبد الله أحمد، رسالته ماجستير عن المسجد وأثره في الدعوة الإسلامية ص2.

مقومات الإمام العلمية

أخرى تؤثر على مستوى الخطبة، فلا يجد الوقت الكافي لإعداد الخطبة بما يناسب الحال، فيخرج للناس كما يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله بخطبة لا تحصل في القلب إيمانا بالله ولا توحيدا له ولا معرفة خاصة به ولا تذكيرا بأيامه ولا بعثا للنفوس على محبته والشوق إلى لقائه. . . . الخ (¬1) . وقد يغلبه الهوى وتجمع به النزاعات السياسية والحزبية والتطرف المذموم فيخرج عن الموضوعية والتوجيه التربوي والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة إلى التشهير والتجريح والإثارة والأسلوب المتشنج، وهذه بلاء وضجيج وصيحات خاسرة جاء بها الفكر الوافد والثقافة الدخيلة، فنعوذ بالله من الهوى والشيطان ودعاة الهدم والضلع، ونسأل الله أن يرزقنا السداد في القول والعمل إنه ولي ذلك والقادر عليه. [مقومات الإمام العلمية] مقومات الإمام العلمية: يعيش المجتمع الإسلامي اليوم في بحر من المنكرات والبدع والخرافات واتباع الشهوات والوقوع في الشبهات، وقد غلبت عليه النزعة المادية فجعل همه السعي وراء متطلبات الحياة دون وازع ¬

(¬1) زاد المعاد ج1 ص423. تحقيق شعيب الأرناؤوط.

أو حذر من الوقوع في المحرمات ولم ينج من ذلك إلا من ركب سفينة النجاة وعصمه الله من الوقوع في الشهوات والشبهات. وإن للمسجد أثرا عظيما في هذا الدين؛ إذ هو منارة هدى يتصل العبد فيه بربه، ويتقوى إيمانه، ويجتمع بإخوانه ليتعاون الجميع على نشر الفضيلة ومحاربة الرذيلة ولن يكون المسجد قادرا على ذلك إلا إذا هيأ الله له إماما توفرت له المقومات العلمية المطلوبة لكل من يشغل هذا المنصب العظيم ويؤدي مهام هذه الوظيفة الجليلة وأهم هذه المقومات. 1 - إخلاص العمل لله حتى يكون مؤيدا منصورا مقبولا ومحبوبا عند الله وعند الناس. 2 - الابتعاد عن الرياء والمباهاة، فإن الأمور بمقاصدها والأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ومن تزين بما ليس فيه شانه الله. 3 - أن يكون حافظا لكتاب الله أو يحفظ قدرا كبيرا من القرآن الكريم. 4 - أن يحفظ عددا من الأحاديث النبوية، من رياض الصالحين أو الأربعين النووية أو من بلوغ المرام أو غيرها من كتب الحديث المعتمدة.

5 - أن يعرف الفقه في الدين عقيدة وشريعة وبالأخص فقه العبادات وأهم ذلك ما يتعلق بالطهارة، والصلاة، والصيام، وكذلك فقه المعاملات ليعرف ضوابط الكسب والإنفاق، ويحذر الناس من الغش والتدليس وأخذ أموال الناس بالباطل، ويحذرهم كذلك من الإسراف والتبذير والبخل والتقتير، حتى تكون تصرفاتهم المالية في ضوء الكتاب والسنة. كقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31] (¬1) وقوله عز وجل: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29] (¬2) . ولما ذكر تعالى صفات المؤمنين في سورة الفرقان أخبر أنهم وسط في الإنفاق بين الإسراف والتقتير قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] (¬3) . وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كلوا واشربوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة» (¬4) . ¬

(¬1) سورة الأعراف الآية رقم 31. (¬2) سورة الإسراء الآية رقم 29. (¬3) سورة الفرقان الآية رقم 67. (¬4) صحيح البخاري. ج7 ص33. ط المكتبة الإسلامية - استانبول - تركيا.

6 - أن يجيد اللغة العربية حتى يعرف معاني ما أنزل الله على رسوله صلى الله علبه وسلم فإن القرآن نزل بلغة العرب وبعض ألفاظه لم يعرفها بعض كبار الصحابة إلا منهم، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "ما كنت أفهم معنى (فاطر) حتى سمعت قول الأعرابي: أنا فطرتها. " حين تنازع عنده أعرابيان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها أي ابتدأت حفرها (¬1) . 7 - أن يقرأ السيرة النبوية والشمائل المحمدية وسير السلف الصالح ففيها قدوة صالحة، وأسوة حسنة وثروة علمية نافعة، وثقافة إسلامية عالية. 8 - أن يعرف الفرق الإسلامية وعقائدها، والاتجاهات الفكرية ومقاصدها، والمذاهب الهدامة وأهدافها، حتى يتمكن من مناقشتها في ضوء كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما كتبه علماء المسلمين المحققون وينقد زيفها ويحذر من باطلها. 9 - أن يتعرف على مشكلات العالم الإسلامي، وأحوال الأقليات الإسلامية المضطهدة وكيف السبيل لحل هذه المشكلات، ونصرة هذه الأقليات وما المخرج المنقذ من المآزق التي وقع فيها ¬

(¬1) تفسير ابن عطية، سورة فاطر.

المسلمون بسبب ضعف الإيمان وقلة الوازع الديني، وبعدهم عن منهج الله السوي المستقيم. 10 - أن يتعرف على وسائل الإعلام المختلفة، ويعرف اجابياتها وسلبياتها، وما أصيب به المسلمون بسبب هذا الانفتاح الجديد، وتبادل الثقافات المختلفة والغزو الفكري المكثف، وأخطار البث المباشر عن طريق الإعلام الوافد الذي يستهدف العقيدة والأخلاق والقيم. وإذا توافرت هذه المقومات لإمام المسجد وبخاصة إمام الجمعة فإن ذلك يحصل استقامة وتوازنا فلا إفراط ولا تفريط، ولا طيش ولا شطط؛ لأنه حينئذ يتحدث من مشكاة القرآن والسنة ومن منهج خير الناس بعد الأنبياء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه يتحدث للناس من خلال رؤية واضحة وثقافة إسلامية مؤصلة، ومعرفة لفقه الواقع. وسيظهر أثر ذلك في تعليمه وتوجيهه وإرشاده الذي يتلقاه السامعون من خطبته من حيث الموضوعية، والمنهجية، والالتزام بمنهاج النبوة فلا إطالة ولا تقصير، ولا إثارة ولا تجريح ولا شتم ولا تثريب ولا عتب ولا انتقام ولنضرب لذلك كله مثالا جامعا من منهج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حين جاء إلى المدينة وصلى بالناس أول

جمعة صلاها في الإسلام وكانت هناك في بني سالم بن عوف فإنه صلى الله عليه وسلم خطب خطبة قصيرة جامعة مباركة، قال فيها بعد أن حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله. «أما بعد: أيها الناس، فقدموا لأنفسكم تعلمن والله ليصعقن أحدكم ثم ليدعن غنمه ليس لها راع ثم ليقولن له ربه وليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه: ألم يأتك رسولي فبلغك، وآتيتك مالا وأفضلت عليك فما قدمت لنفسك، فلينظرن يمينا وشمالا فلا يرى شيئا ثم لينظرن قدامه فلا يرى غير جهنم، فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق من تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة فإن بها تجزى الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» (¬1) . قارن بين هذا المضمون وهذا الإيجاز وبين خطب خطباء هذا العصر من وجهين على الأقل تجد: أولا: أن خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت تملأ القلوب بالإيمان وتذكر الناس بلقاء الله قال ابن القيم رحمه الله: ¬

(¬1) أنظر ابن القيم زاد المعاد، ط مؤسسة الرسالة ج1 ص 373، 374، الحديث أخرج البخاري نحوه في كتاب المناقب باب علامة النبوة في الإسلام رقم الحديث (3595) . وانظر المقريزي إمتاع الأسماع. . . مطابع قطر الوطنية ص46 ج1.

(ومن تأمل خطب النبي صلى الله عليه وسلم وخطب أصحابه وجدها كفيلة ببيان الهدى والتوحيد، وذكر صفات الرب جل جلاله، وأصول الإيمان الكلية والدعوة إلى الله، وذكر آلائه تعالى التي تحببه إلى خلقه وأيامه التي تحذر من بأسه، والأمر بذكره وشكره الذي يحببهم إليه فيذكرون من عظمة الله وصفاته وأسمائه ما يحببه إلى خلقه، ويأمرون من طاعته وشكره وذكره ما يحببهم إليه فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم ثم طال العهد وخفي نور النبوة وصارت الشرائع والأوامر رسوما تقام من غير مراعاة حقائقها ومقاصدها) (¬1) . رحم الله هذا العالم الجليل كأنه يرى بعينيه ويسمع بأذنيه ما عليه معظم خطباء هذا الزمان من الضجيج الإعلامي الفارغ، إذا سمع أحدهم خبرا في إذاعة مسموعة أو مرئية أو قرأ خبرا في صحيفة أو سمع قصة لا يدري ما مدى صحتها جعل من ذلك خطبة جمعة يرفع صوته ويمعر وجهه وينسج من الحبة قبة، فيخرج السامعون بقيل وقال ما له من حاصل إلا العناء وكلة الأذهان، ولقلة الفقه في الدين صار الناس يكثرون حول هذا الخطيب الذي جعل خطبة الجمعة محاضرة مليئة بالصراخ وصار ¬

(¬1) انظر ابن القيم زاد المعاد. ج1 ص423 - 424

مقصد الدهماء من الجمعة حضور الخطبة لا الصلاة ونخشى مع طول الزمن أن ينسى الناس معنى الصلاة والخطبة. هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدم من مكة وهي مليئة بالمشكلات ومشحونة بالأحداث الجسام والرسول صلى الله عليه وسلم حديث عهد بالمؤامرة الفاشلة التي دبرها خصوم الدعوة لاغتياله وكان المشركون قد خنقوه حتى كادت روحه تزهق لولا أن تداركه أبو بكر وهو يقول أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ولقي أصحابه في سبيل اتباعه أشد ما يلقاه أتباع نبي حيث عاملهم المشركون بما لا حد له من قسوة ووحشية. وكان من الطبيعي في مفهومنا المعاصر أن يتعرض الرسول صلى الله عليه وسلم في أول خطبة يلقيها في المجتمع المدني المناصر له إلى هذه الأحداث ويذكر الأعداد ويندد بهم لكنه لم يذكر شيئا من ذلك إنما قصد المعنى الأسمى وهو التذكير بالله ولقائه فأين خطباء هذا العصر من هذا المنهج النبوي، ليتهم يفهمون ذلك جيدا حتى لا يشغلوا المنابر والمصلين بتتبع الأحداث التي تسمع في أكثر من وسيلة إعلامية بما يغني عن شغل المنابر بها ويحول الخطبة نشرة أخبار.

ثانيا: خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة قصيرة وهذا ثابت من قوله وفعله. وأما من فعله فقد ذكرنا نص الخطبة وهي كلمات طيبات مباركات جامعات نافعات. وأما من قوله فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك: 1 - روى مسلم في صحيحه عن واصل بن حبان قال: قال أبو واتل: خطبنا عمار فأوجز وأبلغ فلما نزل قلنا يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت فلو كنت تنفست (أي أطلت قليلا) فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة وإن من البيان سحرا (¬1) » . 2 - وروى مسلم أيضا عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: «كنت أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت صلاته قصدا وخطبته قصدا.» (¬2) . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالتخفيف ومراعاة أحوال الناس حتى في صلاة الفرض، فعن أبي هريرة رضى الله ¬

(¬1) زاد المعاد ج1 ص427، مؤسسة الرسالة 1415 هـ، صحيح مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة (47) . (¬2) صحيح مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة (41، 42) .

عنه قال قال رسول صلى الله عليه وسلم: «إذا صلى أحدكم للناس فليخفف فإن في الناس الضعيف والسقيم وذا الحاجه» (¬1) . وعنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أم أحدكم الناس فليخفف فإن فيهم الصغير والكبير والضعيف والمريض فإذا صلى وحده فليصل كيف شاء» (¬2) . فأين خطباء هذا العصر من هذا التوجيه النبوي، لقد بعد الناس عن فقه الصلاة والخطبة حتى رأيناهم يعكسون الأمر فيقصرون الصلاة ويطيلون الخطبة وربما يكون في الناس المريض والكبير وصاحب الحاجة وفي هذا مخالفة للسنة ومن لم تسعه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقع في البدعة ومهما يكن من مبررات فإن السنة أولى بالاتباع قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] (¬3) . والملاحظ أخيرا أن الإطالة ليست في خطبة الجمعة فقط بل حتى في القنوت في رمضان، وما كان هذا التطويل من هدي ¬

(¬1) صحيح مسلم كتاب الصلاة باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة (185) . (¬2) المرجع السابق ص183. (¬3) سورة الأحزاب آية 21.

النبي صلى الله علبه وسلم وليس من منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم. ثم رفع الصوت بالقراءة والدعاء عبر مكبرات الصوت حتى تختلط أصوات الأئمة في الأحياء التي تكثر فيها المساجد وهذا فيه مخالفتان على الأقل: الأولى: المغالبة. قال القرطبي- رحمه الله-: (ومن حرمته (أي: القرآن) ألا يجهر بعض على بعض في القراءة فيفسد عليه حتى يبغض إليه ما يسمع ويكون كهيئة المغالبة) (¬1) . والثانية: أنه يخشى على هذا من الرياء المحبط للعمل حين يعجب بحسن صوته وجملة الأدعية التي يحفظها، وحينما يشعر أن الناس يعجبهم ما يسمعون فيقع في نفسه أنه يناجي جماعة المسجد وأهل البيوت المجاورة وأصحاب المحلات القريبة من المسجد فينسى أنه بين يدي الله وأنه في صلاة وأنه يناجي ربه ويذهب منه الخشوع والتذلل والانكسار بين يدي ربه وقد أرشد الله إلى غير هذا في قوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110] (¬2) قال أهل التفسير: لا تصل مراءاة ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن ج1 ص290. (¬2) سورة الإسراء آية 110.

الناس ولا تدعها مخافة وهذا هو تفسير ابن عباس الذي نقله عنه ابن جرير الطبري (¬1) . وإنما ذكر ابن عباس هذا المعنى وهو قوله " لا تصل مراءاة الناس ولا تدعها مخافة " من باب بيان المعاني التي تستفاد من الآية حيت إن الجهر بالصلاة قد يكون الدافع إليه الرياء، وإخفاء الصلاة قد يكون الدافع إليه الخوف من الأعداء (¬2) . وقال محمد بن سيرين: كان أبو بكر يخافت وعمر يجهر قيل لأبي بكر في ذلك فقال: أسمع من أناجي وقيل لعمر فيه فقال: أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان، وأذكر الرحمن فقيل لأبي بكر ارفع قليلا وقيل لعمر اخفض قليلا (¬3) . وقال الحسن- رحمه الله-: (لا تحسن صلاتك في الجهر ولا تسئها في السر، بل اتبع طريقا وسطا يكون دائما في كل حال) (¬4) . وقال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55] (¬5) . ¬

(¬1) تفسير الطبري 15 ص 187. (¬2) تفسير ابن عباس ج2 ص580 ط شركة العبيكان للطباعة والنشر. (¬3) أبو بكر بن العربي، أحكام القرآن ج2 ص1215. (¬4) المحرر الوجيز ج5 ص530. (¬5) سورة الأعراف آية 55.

قال ابن عطية- رحمه الله-: (والشريعة مقررة أن السر فيما لم يفترض من أعمال البر أعظم أجرا من الجهر ونقل عن الحسن بن أبي الحسن قال: لقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض عمل يقدرون أن يكون سرا فيكون جهرا أبدا ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء فلا يسمع لهم صوت إن هو إلا الهمس بينهم وبين ربهم، ثم قال ابن عطية والاعتداء في الدعاء على وجوه منها الجهر الكثير والصياح، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سيكون أقوام يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول: اللهم أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من. . . .» ) (¬1) . وقال القرطبي- رحمه الله- في قوله: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55] (يريد في الدعاء وإن كان اللفظ عاما، والمعتدي هو المجاوز للحد. . . . ثم قال والاعتداء في الدعاء على وجوه منها: الجهر الكثير، والصياح، قال. . . . ومنها أن يدعو بما ليس في الكتاب والسنة فيتخير ألفاظا مفقرة، وكلمات مسجعة قد وجدها في كراريس لا أصل لها ولا معول عليها (¬2) . ¬

(¬1) سنن ابن ماجه، كتاب الدعاء، باب كراهية الاعتداء في الدعاء رقم 3864. (¬2) الجامع لأحكام القرآن، مختصر متن القرطبي 226 ج7.

وقال الإمام البخاري- رحمه الله- قال ابن عباس- رضي الله عنهما-: إنه لا يجب المعتدين في الدعاء وغيره (¬1) ورفع الصوت بالدعاء ينافي الخشوع وقد يخالطه شيء من الرياء. وقد أرشد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بمثل ما أرشد إليه القرآن، فعن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه- قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس أربعوا على أنفسكم إنكم ليس تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم» (¬2) . قال النووي- رحمه الله- ففيه الندب إلى خفض الصوت بالذكر إذا لم تدع حاجة إلى رفعه فإنه إذا خفضه كان أبلغ في توقيره وتعظيمه (¬3) وقال الحسن- رحمه الله-: " ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت وإن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم وذلك أن الله تعالى يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] ¬

(¬1) صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب رقم 7. (¬2) انظر صحيح مسلم، كتاب الذكر، باب استحباب خفض الصوت بالذكر (2704) . (¬3) انظر صحيح مسلم بشرح النووي ج17 ص26 ط دار الفكر.

المقومات الخلقية

وقال ابن جريج: يكره رفع الصوت والنداء والصياح في الدعاء ويؤمر بالتضرع والاستكانة، ثم روى عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55] في الدعاء ولا في غيره (¬1) . [المقومات الخلقية] المقومات الخلقية: ينبغي للإمام أن يتحلى بالصبر واليقين؛ ليستحق شرف الإمامة في موقفه فإن الصبر واليقين يوصلان العبد إلى مرتبة الإمامة في الدين. قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] (¬2) . وينبغي أن يكون رفيقا حليما فإن الرفق ما صار في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه كما جاء بذلك الحديث: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه» (¬3) وبالرفق تلين القلوب ويحصل المقصود، والحلم خصلة حميدة يحبها الله، كما في الحديث الذي رواه مسلم: " أن النبي ¬

(¬1) انظر تفسير القرآن العظيم ج2 ص221، ط دار الفكر. (¬2) سورة السجدة الآية 24. (¬3) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، الحديث رقم 2594 ج4. .

صلى الله عليه وسلم قال لأشج عبد القيس: «إن فيك خصلتين يحبهما الله الحلم والأناة» (¬1) . وينبغي أن يكون رحيما فالرحمة خصلة إيمانية وهي من صفات الرب تبارك وتعالى فهو الرحمن الرحيم، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء. والرحمة تفجر في القلب ينابيع السعادة، وحين تستقر الرحمة في قلب بشر يتم فيه تحول كامل عجيب في تصوراته ومشاعره ومجامع قلبه وفي اتجاهاته وموازينه وقيمه في هذه الحياة قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر: 2] (¬2) . ورحمة الله موجودة غير معدومة يجدها من طلبها بمرضاة الله ويفقدها من طلبها بمعصيته. وقد وصف الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بصفات عدة منها هذه الصفة العظيمة قال تعالى: ¬

(¬1) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله. . . الحديث رقم (25، 26) . (¬2) سورة فاطر آية رقم 2.

{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] (¬1) . وينبغي أن يكون لينا رقيق القلب ليجمع الناس حوله فيستفيدوا من عطفه، ومساعدته وعلمه، ووقوفه معه في نوائبهم وحوائجهم وينبغي أن يشاورهم فيما يتعلق برسالة المسجد. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المقام الأعلى من ذلك كله كما قال تعالى عنه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] (¬2) . وإمام المسجد داعية ومعلم وإمام قائد لجماعة المسجد وأهل الحي ومن يرتاد مسجده فيجب أن يكون له في رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة فهو القدوة الصالحة، والأسوة الحسنة، والمثل الأعلى للأمة والقادة. ويجب أن يكون صادقا فيما يقول سواء أكان ذلك في خطبة الجمعة أو في حلقة الذكر والموعظة ليكون من الصادقين المهتدين الفائزين بالنعيم. ¬

(¬1) سورة التوبة آية 128. (¬2) سورة آل عمران الآية 159.

فقد جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الصدق يهدي إلي البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا» متفق عليه (¬1) . والكذب شر وبلاء وأعظم الكذب وأفرى الفرى الكذب على الله والقول عليه بلا علم. قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] (¬2) . فهذه الآية الكريمة جمعت أعظم الذنوب بدأت بالأدنى فالأعلى وهو القول على الله بلا علم في أسمائه وصفاته وشرعه. والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعظم الكذب وأقبح الذنوب وهو من الكبائر التي توعد صاحبها بالنار كما في الحديث الذي رواه البخاري عن سلمة بن الأكوع قال: ¬

(¬1) رياض الصالحين باب تحريم الكذب (الحديث 1540) . (¬2) سورة الأعراف آية 33.

«سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من يقل علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار» (¬1) . حتى ولو كان عن حسن نية لغرض الترغيب في الخير وحث الناس على عمل الصالحات كما يفعل بعض الوعاظ فهذا قبح لا خير فيه ولا هداية وقائله مأزور غير مأجور وآثم غير غانم. ويجب على الإمام مع هذه الصفات التي ذكرناها آنفا أن يكون أمينا في نقل الكلمة يتبين ويتثبت من صحة الأخبار ولا يتعجل في الأخذ بالشائعات، ولا يعتمد إلا قولا موثوقا، وقد أمرنا الله تعالى بذلك في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] (¬2) . ويجب على الإمام والخطيب أن يبالغا في الستر ويحذرا الشائعات، فمن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن يتبع عورات المسلمين يتبع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف رحله، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: 19] (¬3) . ¬

(¬1) صحيح البخاري باب إثم من كذب النبي صلى الله عليه وسلم ج1 ص350. (¬2) سورة الحجرات الآية رقم 6. (¬3) سورة النور آية 19.

الخلاصة

نسأل الله لنا ولإخواننا المسلمين السلامة والعافية وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات [الخلاصة] الخلاصة: المسجد هو الرابطة القوية التي توثق الصلة بين فئات المجتمع الإسلامي وتحقق التعارف والتآلف بين عموم المسلمين، وفيه وبه تقوى الأخوة الدينية ويتماسك بناء العمل الإسلامي وهو أنسب مكان لنشر الدعوة الإسلامية وتعليم الناس أمور دينهم. وقد نوه الله تعالى بالمسجد ورفع قدره وعظم شأنه واختاره بيتا وأضافه إلى نفسه واعتبره أحب البقاع إليه. ولذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب المسجد ويعظمه ويقضي جل وقته فيه إماما ومعلما وقاضيا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا. فكان المسجد في زمنه هو المعهد والجامعة ومركز القيادة، وكذلك كان خلفاؤه وسلف هذه الأمة يعظمون المسجد حتى صار منطلق أعمالهم العلمية والعملية. ويعتبر إمام المسجد وخطيبه عماد المسجد ونبراسه وقوته، به يؤدي المسجد وظائفه الدينية والاجتماعية، فإذا كان خطيب المسجد عالما عاملا قوي الشخصية، نافذ البصيرة، سديد الرأي، رفيقا حليما ثبتا، ثقة عارفا بعادات الناس وأحوالهم، كان تأثيره في جماعة المسجد وأهل الحي قويا مفيدا يعلمهم ويرشدهم ويقودهم إلى الخير والفضيلة.

التوصيات

وهكذا كان الخطباء المستجمعون لشروط الإمامة والخطابة وفي مقدمتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون ثم الأمراء والقادة المصلحون والعلماء الأعلام. وقد يكون للإمام هذه الصفات من حيث العلم والقدرة على تحمل أعباء وظيفة المسجد ولكنه يكون مشغولا بما لا يعطيه الفرصة لتأدية هذه الوظيفة على الوجه المطلوب، وقد يغلبه الهوى وتأخذه الحماسة المتطرفة وتجمع به النزعات الحزبية إلى الخروج عن المنهجيه والموضوعية وطريق الإصلاح المتجرد والتوجيه التربوي والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة إلى التشهير والإثارة والتجريح وفي هذا بلاء عظيم وخسارة فادحة وتضييع لرسالة المسجد عافانا الله وإخواننا المسلمين من ذلك. [التوصيات] التوصيات: أوصي نفسي وإخواني وزملائي أئمة المساجد وخطباء الجوامع بما يلي: 1 - تقوى الله في السر والعلانية قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] (¬1) . ¬

(¬1) آل عمران آية 102.

2 - الاعتصام بحبل الله المتين ففيه الهدى والنور وهو العصمة والمنجي من الهلكة قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] (¬1) . 3 - الأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي» . 4 - الارتباط بالعلماء وتقوية الصلة بهم، فهم أكثر الناس أخذا بالكتاب والسنة وهم أقرب إلى الحق من غيرهم، بل هم أعلام الهدى ومصابيح الدجى، والحاجة إليهم ماسة في كل زمان ومكان ولا سيما في هذا العصر الذي كثرت فيه الفتن والشبهات كفانا الله شرها. 5 - الحرص على إصابة الحق والبعد عن زيف الباطل قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71] (¬2) . 6 - مراعاة أحوال الناس في الصلاة وفي خطبة الجمعة والقنوت ودعاء ختم القرآن فإن فيهم الضعيف والمريض والكبير وذا الحاجة. ¬

(¬1) آل عمران آية 103. (¬2) سورة الأحزاب آية 70، 71.

7 - خفض الصوت في الصلاة الجهرية في القراءة ودعاء القنوت وبخاصة في الأحياء التي تكثر فيها المساجد حتى لا يحصل التشويش على جماعة المسجد الآخرين أو يكون على هيئة المغالبه، وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم وهم يصلون ويجهرون بالقراءة فقال صلى الله عليه وسلم «كلكم يناجي ربه فلا يجهر بعضكم على بعض في القرآن» رواه مالك في الموطأ قال ابن عبد البر وهو حديث صحيح. 8 - المبالغة في الستر والحذر من الأخذ بالشائعات والتثبت والتبين امتثالا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] (¬1) . نسأل الله أن ينفعنا بما علمنا ويثبتنا على كلمة الحق. {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8] (¬2) . ¬

(¬1) سورة الحجرات آية 6. (¬2) سورة آل عمران آية 8.

عن أبي مسعود رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلما- وفي رواية (سنا) ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه» . رواه مسلم في صحيحه كتاب المساجد حديث رقم (673) . وبعد فهذا ما تيسر جمعه وتدوينه سائلا المولى جلت قدرته وعز شأنه أن يهدي للتي هي أقوم من العمل، والأحسن من القول، ويوفق للإخلاص في القول والعلم والعمل، وما كان من صواب هنا فمن الله وما كان خطأ فمن نفسي ومن الشيطان، ورحم الله من أهدى إلي عيوبي، ولا عدمت أخا يدمح زلة، وينبه إلى غلطة، وكفى بربك هاديا ونصيرا وصلى الله وسلم على خير خلقه، نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (¬1) . ¬

(¬1) مصادر البحث الخطابة وأصولها وتاريخها في أزهر عصورها عند العرب. محمد أبو زهرة. الخطابة وإعداد الخطيب. د/ عبد الجليل شلبي. قواعد الخطابة وفقه الجمعة والعيدين. د/ أحمد أحمد غلوش. كيف تكون خطيبا. عبد الرحمن خليفة. '

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ - وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة: 9 - 11]

§1/1