إفادة المبتدي المستفيد فى حكم إتيان المأموم بالتسميع
برهان الدين الناجي
جَمِيْعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَةٌ الطَّبْعَةُ الأولى 1422 هـ - 2001 م دَار البشائر الإسْلاميّة للطّباعَة وَالنّشر وّالتّوزيْع هَاتفْ: 702857 - فَاكسْ: 704963/ 009611 بَيروتَ - لبنان ص ب: 5955/ 14 e-mail: [email protected]
مقدمة التحقيق
بسم الله الرحمن الرحيم المقَدّمَة الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل المرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد: فهذه رسالة لطيفة، في مسألة فقهية مشهورة، الخلافُ فيها بين الفقهاء معروف، ألا وهي مسألة التسميع للمأموم، أي: قولُ "سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِده"، هل يأتي به المأمومُ أوْ لا؟ ولا شك أن هذه المسألة تصلح لأن تكون مثالاً من الأمثلة الكثيرة للمسائل التي يسوغ فيها الاختلاف والاجتهاد، وأنه لا إنكار فيها؛ فقد قرَّر العلماء رحمهم الله القاعدةَ الفقهية النفيسة: "لا يُنكَر المختلفُ فيه، وإنما ينكر المجمع عليه" (¬1)، وذلك إذا لم يكن الخلاف ضعيفًا، بأن تكون مآخذ الأقوال معتبرة، كما هو الحال في مسألتنا. وليس كلُّ خلافٍ جاء معتبرًا ... إلاَّ خلافِ له حظُّ من النظرِ ¬
والمؤلف رحمه الله قد نصر في هذه المسألة قولَ الشافعية ومَن وافقهم، في أن المأموم يأتي بالتسميع، وهو قول وجيه وقويّ بلا شك، لكن الذي ظهر لي- والله تعالى أعلم- أن قول الحنابلة ومن وافقهم، في أن المأموم لا يأتي بالتسميع، هو الأرجح، كما أشرت إلى وجه ذلك في تحقيق هذه الرسالة (¬1). ¬
وعلى كل حال، فإن صاحب هذه الرسالة هو إمام جليل، وعالِمٌ فذٌّ، يتضح ذلك لكل من طالع كتابه "عجالة الإِملاء" في التعليق على "الترغيب والترهيب" للمنذري. وللمؤلف رحمه الله مصنفات كثيرة، لكنها لم تخرج إلى عالَم المطبوعات بعد، فها نحن ننشر واحداً منها؛ إحياءَ لذكره وعلمه، وبيانَّا لفضله ومنزلته، نسأل الله تعالى أن يكتب لنا وله الرحمة والرضوان، وأن يحشرنا جميعًا مع المتقين الأبرار. * * * ¬
ترجمة المؤلف
ترجمة المؤلِّف (¬1) نسبه ومولده: هو: برهان الدين، أبو إسحاق: إبراهيم بن محمد بن محمود بن بدر، الحلبي الأصل، الدمشقي، القبيباتي، الشافعي. ويُعْرَف بالناجي -بالنون والجيم- لكونه -فيما قيل- حنبليَّا ثم تَشفَّع. وربما قيل له: المحدَّث. وُلِدَ في أحد الربيعين، سنةَ عشر وثمانمائة، بدمشق. شيوخه ومسموعاته وتلاميذه: سمع على الحافظ ابن حجر العسقلاني، وابنِ ناصر الدين، والفخرِ عثمان بنِ الصَّلِف، والعلاء بن بردس، والشهاب أحمد بن حسن بن عبد الهادي، والزينِ عبد الرحمن بن الشيخ خليل، والأريحي. ¬
علمه ومنزلته
ومما سمعه على العلاء: "الشمائل" و"مشيخة الأشرف الفخر" و"السنن" لأبي داود والترمذي. وسمع على الأريحي "صحيح البخاري". وسمع -أيضاً- على عبد الله وعبد الرحمن ابني زريق، واختص بالعلاء بن زكنون، وقرأ عليه القرآن وغيرَه، وتزوج ابنته، ثم فارقه. وقد تحوّل شافعيّا غير مرة. وتتلمذ عليه عدد من العلماء، منهم أبو البركات محمد بن أحمد بن الكيال، والشيخ عبد القادر بن محمد النعيمي الشافعي صاحب "الدارس في تاريخ المدارس". عِلْمُه ومنزلته: كان محبًّا في أهل السنة، شديدَ الإِنكار على معتقدي ابن عربي ونحوِه كابن حامد، منجمعًا عن بني الدنيا، قانعًا باليسير. قال السخاوي رحمه الله: "والثناء عليه مستفيض، ووصَفه الخضيري بأنه شيخ عالم فاضل، محدث محرِّر متقن معتَمَد، خدم هذا الشأن بلسانه وقلمه، وطالع كثيراً من كتبه". اهـ (¬1). وقال عنه تلميذه أبو البركات ابن الكيال: "شيخ الإِسلام والمسلمين، حافظ العصر، وأمير المؤمنين في حديث سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم" (¬2).اهـ. وقال شيخ الإِسلام بدمشق كمال الدين محمد بن حمزة الحسيني لمَّا ذكر محلة ميدان الحصا: "هذه المحلة خَصَّها الله تعالى بثلاثة ¬
مصنفاته
أبارية، كل منهم انفرد بفنٍّ لا يُشارَك فيه، الشيخ إبراهيم الناجي بعلم الحديث ... " اهـ (¬1). وقال ابن العماد الحنبلي في وصفه: "الإِمام العالم" (¬2). اهـ. مصنفاته: للناجي رحمه الله مصنفات كثيرة، نذكرها مرتبةً على حسب حروف المعجم: 1 - إفادة المبتدي المستفيد في حكم إتيان المأموم بالتسميع وجهره به إذا بلَّغ وإسراره بالتحميد (¬3). (وهو رسالتنا هذه). 2 - الأمر بالمحافظة على الكتاب والسنَّة (¬4). 3 - تحذير الإِخوان فيما يورث الفقر والنسيان (¬5). 4 - تقريب المبطَّإ بترتيب رواة الموطإ. ذكره الناجي نفسه في كتابه "عجالة الإِملاء" (¬6)، ووصفه بأنه جزء لطيف نفيس، وأنه جاوز برواة الموطإ الثمانين. 5 - ثلاثيات في الحديث، روايةً عن ابن حجر (¬7). ¬
6 - جزء في طرق حديث الإِنصات للجمعة. ذكره في "العجالة" (¬1) وقال: "وقد صَنَّفْتُ في ألفاظ هذا الحديث جزءًا، أطرفته وطرقته من الكتب الستة والموطإ ومسندي الشافعي وأحمد، والدارمي، فلتراجعه فإنه مفيد جدًّا". اهـ. 7 - جزء في طرق حديث البركة في البكور. ذكره في "العجالة" (¬2) وقال: "وقد عزوت هذه الرواياتِ كلَّها إلى مَن خرَّجها، وذكرت الحديث بالزيادة فيه وبدونها، في جزء لطيف يُرْحَل إليه". اهـ. 8 - جزء في طرق حديث رويفع بن ثابت: "من قال: اللَّهُمَّ صلِّ على محمد، وأَنْزِلْه المقعد المقرب عندك يوم القيامة، وجبت له الشفاعة" (¬3) 9 - جواب في إلياس. ذكره في "العجالة" (¬4)، وقال: "وقد قررت نبوته [أي الخضر]، وذكرت القائلين بها من المتقدمين والمتأخرين وأتباعِ المذاهب الأربعة وغيرهم، ضمن جواب حافل في إلياس".اهـ. 10 - الجواب المجلي للفظ تشويش القارئ على المصلي (¬5). ¬
11 - جواب الناجي عن الناسخ المنسوخ: هل يمكن جمعه (¬1)؟. 12 - حاشية على شرح مسلم للنووي (¬2). 13 - حاشية على كتاب الأذكار للنووي (¬3). 14 - حاشية على كتاب تجريد أسماء الصحابة للذهبي (¬4). 15 - حصول البغية، لسائل: هل لأحد في الجنة لحية؟ (¬5) 16 - رسالة في الشفاعة (¬6). 17 - شرح "القواعد المنظومة" لشهاب الدين الهائم (ت 887 هـ) (¬7). 18 - عجالة الإِملاء المتيسرة من التذنيب على ما وقع للحافظ المنذري من الوهم وغيره في كتابه الترغيب والترهيب (¬8). ¬
وفاته
19 - قلائد المرجان في الحديث الوارد كذبًا في الباذنجان (¬1). 20 - كفاية المسمَّع المصيخ في البطيخ (¬2). 21 - كنز الراغبين العفاة (¬3) في الرمز إلى المولد المحمدي والوفاة (¬4). 22 - مصنف في صلاة الضحى (¬5). 23 - مصنف في مؤذني النبي (صلى الله عليه وسلم) (¬6). 24 - المعين على فعل سنَّة التلقين (¬7). 25 - نصيحة الأحباب عن أكل التراب (¬8). وفاته: توفي الناجي رحمه الله تعالى بدمشق، في رمضان سنة تسعِمائة، غفر الله تعالى له برحمته، وأسكنه دار كرامته. ¬
وصف النسخة المعتمدة
وصف النسخة المعتمدة اعتمدت في إخراج هذه الرسالة على نسخة مكتبة الملك فهد الوطنية بالرياض -وهي مشتراة مِن أحد الورَّاقين الدمشقيين، ولم تُرَقَّمْ بعد- ضمن مجموع للعلاَّمة الحافظ برهان الدين إبراهيم بن محمد الدمشقي، المعروف بالناجي. والمجموع كله بخط إبراهيم بن عثمان بن محمَّد، في شهر رمضان، سنة (878 هـ)، وهذا يدل على أنها منسوخة في حياة المصنَّف المتوفى سنة (900 هـ)، وقد صرَّح الناسخ بذلك حيث قال عن المصنِّف: "حفظه الله". وتقع مخطوطتنا في أربع ورقات، وعدد الأسطر فيها (21) سطرًا، وهي بخطَّ نسخِىٍّ واضح. وقد قمت بعزو الآيات الكريمة إلى سورها وترقيمها، وعزو الأحاديث إلى مخرِّجيها، والأقوال إلى مصادرها، والتعليق على ما يحتاج إلى تعليق، على وجه الاختصار. ولا يفوتني أن أشكر أخي المفضال، الشيخ المحقق محمد بن ناصر العجمي، على ما أكرمني به من تهيئة المخطوطة، فجزاه الله خيرًا. وصلَّى الله على نبينا محمَّد، وعلى آله وصحبه وسلَّم. * * *
مخطوطااات ممم صورة الصفحة الأولى من المخطوطة
صورة الصفحة الأخيرة من المخطوطة
مسألة إتيان المأموم بالتسميع والتحميد وأقوال العلماء في ذلك
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله على ما أنعم، وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آل محمد وصحبه وسَلَّم، وبعد: فإنَّ السنَّة عند إمامنا الشافعي رضي الله عنه لكل مُصل -من إمام ومأموم ومنفرد- إذا ابتدأ برفع رأسه من الركوع أن يقول: "سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَه"، فإذا انتصب قائمًا، واعتدل بعوده إلى الهيئةِ التي كان عليها قبل رُكُوعِه، قال: "ربَّنا لك الحمد"؛ لما ثبت في الصحيحين (¬1) وغيرِهما من حديث أبي هريرة: "أنه عليه الصلاة والسلام كان يقولُ: (سمع الله لمن حَمِدَه) حين يَرْفَعُ صُلْبَهُ من الركوع، ثم يقول وهو قائم: (ربنا ولك [الحمد] (¬2) ". وعند البخاري: "ربنا لك الحمد" (¬3)، وقال بعض رواته: "ولك الحمد" (¬4). ¬
وسيأتي التَّعَرُّضُ لِلَفْظِ التحميد بزيادةٍ في التسميع، وإنما المقصود هنا تقريرُ أنه لا خلاف في مذهبه في الجمع بينهما كما نقله شيخ المذهب محيي الدين النووي، في كتابه: "شرح المهذب" (¬1) وغيره عن الشافعي وأصحابه، وقال: "هذا لا خلاف فيه عندنا"، وقرَّر أنَّ التسميعَ ذِكْرُ رفعِ الرأس من الركوع، والتحميدَ بعده ذكرُ الاعتدالِ منه. وقد روى البخاري ومسلم وغيرهما من الأئمة، من حديث جماعات من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين (¬2): أن الشارع صلوات الله وسلامه عليه كان يجمع بينهما في صلاة الفرض والتطوع (¬3). ¬
وقد صح عنه في البخاري (¬1) وغيره أنه قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، كذا قرَّره النووي في "شرح المهذب" (¬2) وغيره، وفي مواضع من "شرح مسلم" (¬3)، والاستدلالُ به ظاهر. وقال الإِمام البخاري: "باب ما يقول الإِمام ومَن خلفَه إذا رفع رأسه من الركوع" (¬4). ثم روى بسنده الصحيح المشهور إلى أبي هريرة قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال: (سمع الله لمن حمده)، قال: (اللَّهُمَّ ربنا ولك الحمد) ". وروى الحافظ أبو بكر ابن أبي شيبة في "مصنفه" (¬5) عن عليّ بن أبي طالب: "أنه كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد، بحولك وقوتك أقوم وأقعد". وقد ورد في جمع المأموم بينهما أيضاً ما سنذكره. ¬
قال الشيخ ولي الدين (¬1) في "تكملة شرح تقريب الأسانيد" (¬2) الذي عمله له والده زين الدين (¬3) في الكلام على حديث: "إنما جعل الِإمامُ لِيُؤْتَمَّ به" (¬4): "مع (¬5) أن الاعتماد على قوله عليه الصلاة والسلام: "صَلُّوا كما رأيتموني أصلِّي" (¬6) ". اهـ. فروى الحافظان أبو الحسن الدارقطني وأبو بكر البيهقي في "خلافيَّاته" (¬7) عن سعيد المَقْبُري: "أنَّه سمع أبا هريرة وهو إمام للناس في الصلاة يقول: (سمع الله لمن حمده، اللَّهُمَّ ربنا لك الحمد، الله أكبر)، يرفع بذلك صوته ونتابعه معًا". وسيأتي أنه يستحب للإِمام أو المبلِّغ عنه الجهرُ بالتسميعِ وتكبيرِ ¬
الانتقالات بحيث يسمع المأموم. وقالَ النووي في "شرح مسلم" (¬1): "باب إثبات التكبير في كل خفض ورفع إلاَّ في رفعه من الركوع؛ فإنه يقول فيه: (سمع الله لمن حمده) ". قال البيهقي: ورُوِي عن أبي بُردة بنِ أبي موسى -وهو الأشعري التابعي- أنه كان يقول خلف الإِمام: (سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد). وقال عطاء بن أبي رَبَاح: يجمعهما مع الإِمام أحبُّ إلى. وروى البيهقي والدارقطني (¬2) بإسناد صحيح عن ابن عون قال: قال ابن سيرين: "إذا قال الإِمام: (سمع الله لمن حمده)، قال من خلفه: (سمع الله لمن حمده) ". زاد البيهقي: (اللَّهُمَّ ربنا لك الحمد). إلى غير ذلك. وروى الحافظ الدارقطني في "سننه" (¬3) من طريق عمرو بن شَمِر، عن جابر -وهو الجُعْفِيُّ- وهما واهيان (¬4)، عن عبد الله بن بريدة، عن ¬
أبيه قال: قال لنا النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا بُريدة، إذا رفعت رأسك من الركوع فقل: (سمع الله لمن حمده، اللَّهُمَّ ربنا لك الحمد مِلْءَ السماوات ومِلْءَ الأرض ومِلْءَ ما شئت من شيء بعد) ". وجه الدلالة منه: أمره بالجمع بين التسميع والتحميد. ورَوَى -أيضًا- (¬1) من طريق عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان -وفيه لينٌ (¬2) - عن عبد الله بن الفضل، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: "كنا إذا صلينا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (سمع الله لمن حمده)، قال مَن وراءه: (سمع الله لمن حمده) ". لكنه قال: المحفوظ لهذا الإِسناد إنما هو: "إذا قال الإِمام: (سمع الله لمن حمده) فليقل من وراءَه: (اللَّهُمَّ ربنا لك الحمد) ". وسيأتي الجواب عنه وعن نظائره فيما بعد إن شاء الله. وقد وافق الشافعيَّ على أن المأموم يأتي بالتسميع والتحميد كالإِمام -غيرُ من تقدم- اثنان من المالكيَّةِ. قال الشيخ سراج الدين بنُ الملَقِّن في شرح حديث: "إنما جُعِل ¬
الِإمامُ لِيُوْتَمَّ به" من "شرح العمدة": "قاله من المالكية عيسى بن دينار (¬1) وابن نافع (¬2)، وإن كان القاضي عياض في "إكماله" (¬3) خطَّأ من تأوَّل ذلك عليهما". قال: "وقال مالك في مختصر ما يسر في المختصر": للمأموم أن يجمع بينهما". انتهى. وقد وافق الشافعىَّ على جمع المنفرد بينهما: مالك وأحمد وابن حزم الظاهري (¬4)، وعزاه إلى طائفة من السلف. ¬
وقال ابن عبد البر: لا أعلم فيه خلافًا (¬1). وقال صاحِبُ "الهداية" من الحنفية: يجمع بينهما في الأصح، وإن كان يروى الاكتفاء بالتسميع، ويُرْوَى بالتحميد (¬2). وكذا نقل أبو عيسى الترمذي في "جامعه" عن ابن سيرين وغيره (¬3). قال: وبه يقول الشافعي وإسحاق. وكذا نقله عنهما ابن المنذر في "الإِشراف"، وعن أبي بردة وابن سيرين وعطاء. وذكره الخطابي في "معالم سنن أبي داود" (¬4) عن ابن سيرين وعطاء. وقد وافق الشافعىَّ على أن الإِمام يجمع بينهما أيضًا -غيرُ من تقدم-: أبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة (¬5). قال ابن العراقي: "وهو قول في مذهب مالك أيضًا، حكاه ابن ¬
شاس (¬1) في "الجواهر" (¬2)، أنه يجمع الإِمام بينهما" (¬3). انتهى. وقد أشار إلى هذا الإِمام ابن الحاجب في "فروع الأمهات" (¬4) فقال: "ويستحب للمنفرد في الرفع: (سمع الله لمن حمده، اللَّهُمَّ ربنا ولك الحمد)، وللإِمام الأول، وقيل مثله، وللمأموم الثاني". انتهى. * فالشافعي جمع للمصلي في هذه المسألة المذاهب كلها، فكان مذهبُه الجامعُ للمحاسن أحقَّها بالاتباع وأَهْلَها. * وكيف لا وهو ابنُ عَمِّ نبينا وابن عمته، وسميُّه وناصِرُ سُنَّتِهِ، القرشي الشافعي المنسوب إلى جده شافِع؟! ويجتمع نسبه الشريف مع أشرف الأشراف في عبد مناف. ولقد أحسن أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البوشنجي من ¬
أصحابنا (¬1) حيث قال في إمامه -بل وإمامنا وإمام الأئمة الأعظم، رضي الله عنه وعنهم أجمعين-: ومِنْ شُعَبِ الِإيمانِ حُبُّ ابنِ شافع ... وفَرْضٌ أكيدٌ حُبُّهُ لا تَطَوُّعُ وإني حياتي شافعىُّ فإن أَمُتْ ... فوصِيَّتي بعدي بأن تتشفَّعوا وروى الحافظ الكبير أبو بكر الخطيب البغدادي -الذي كان أوَّلاً حنبليًّا ثم انتقل فصار شافعيًّا- بسنده المتصل إلى الإِمام المُزَني قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فسألتُهُ عن الشافعي فقال: "من أراد محبتي وسُنَّتي فعليه بمحمد بن إدريس الشافعيِّ المطَّلِبي؛ فإنَّه مني وأنا منه". ومن الغرائب: ما ذكره الحافظ الذهبي -في "ميزانه" (¬2)، في ترجمة أبي بكر البندنيجي الفقيه، محمد بن حمد بن خلف -وهو من مشايخ السَّمعاني وابن عساكر-: أنه عمل حنبليَّا، ثم حنفيَّا، ثم شافعيَّا واستمرَّ، فلُقِّبَ حنفش. وقال أبو الحسن علي بن أحمد الدِّينَوَرىُّ الزاهِدُ: رأيت ¬
النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله، بقول مَن آخذ؟ "فأشار إلى عليّ بن أبي طالب، فقال: خذ بيد هذا، فأتِ به ابنَ عمنا الشافعي؛ ليعمل بمذهبِهِ فيرشُدَ ويبلغَ باب الجنة"، ثم قال: "الشافعي بين العلماء كالبدر بين الكواكب". ويكفيه هذا الثناءُ البليغ، والحثُّ على اتِّباع مذهبه دون بقية أئمة المذاهب، ولهذا أفتى الشيخ محيي الدين النووي، فيما لو حلف الحالف بالطلاق أن الشافعي أفضل الأئمة في عصره، ومذهبه خَيْرُ المذاهب، أنه لا يقع عليه طلاق. وقال أحمد بن حنبل: ما أحدٌ مسَّ بيده مَحْبَرَةً ولا قلمًا إلاَّ وللشافعي في رقبته مِنَّةً (¬1). وقال الربيع بن سليمان المرادي -خادمُ الشافعي وصاحبُه-: "رأيت في المنام كأنَّ آدمَ عليه السلام مات، فسألت عن ذلك، فقيل: هذا موتُ أعلمِ أهل الأرض؛ لأن الله تعالى عَلَّمَ آدمَ الأسماءَ كلَّها، فما كان إلاَّ يسيرٌ ومات الشافعي". ورأى غيرُ الرَّبيع ليلةَ مات الإِمامُ الشافعيُّ قائلاً يقول: "الليلةَ مات النبي صلى الله عليه وسلم" (¬2). ¬
اقتصار المأموم على التحميد والجواب عليه
* وأما ما احْتَجَّ به الغير على أن المأموم يقتصر على التحميد، من الحديث: "إذا قال الإِمام: (سمع الله لمن حمده)، فقولوا: (اللَّهُمَّ ربنا لك الحمد) "، وفي لفظ: "ولك"، وفي آخَر: "ربنا ولك" (¬1)، والحديث الآخر: "إنما جُعِلَ الإِمامُ لِيُؤْتَمَّ به"، وفيه: "وإذا قال: (سمع الله لمن حمده)، فقولوا: (ربنا ولك) وفي لفظ: (اللَّهُمَّ ربنا لك الحمد) "؟!. فأجاب عنهما أئمتنا الشافعية رضي الله عنهم، بأنه: ليس في الكلام حصرٌ، وغايةُ ما في الحديث السكوتُ عن إتيان المأموم بالتسميع والإِمامِ بالتحميد (¬2)، فيستفاد ذلك من دليل آخر، وهو ثبوته مِن فعل الشارع وغيره مما قدَّمناهُ مبسوطًا (¬3). ¬
قال ابن العراقي: "عنى الحديث على مذهب الشافعي: إذا قال الإِمام: (سمع لمن حمده) في انتقاله، فقولوا: (ربنا لك الحمد) في اعتدالكم". قال: بل نزيد على هذا ونقول: إن في الحديث دلالةً على أن المأموم يقول: (سمع الله لمن حمده)، مِن قوله: "إنما جُعِلَ الإِمامُ لِيُؤْتَمَّ به" (¬1).انتهى (¬2). يعني لما فيه من الأمر بمتابعته في غير هذا. وقال العلاَّمة شمس الدين الكِرْمانيُّ في هذا الحديث من شرحه للبخاري (¬3): "فإن قلت: هذا دليل لمن قال: لا يزيد المأموم على (ربنا لك الحمد)، ولا يقول (سمع الله لمن حمده ...). قلت: لا نُسَلِّمُ أنه دليل له؛ إذ ليس فيه نفيُ الزيادة، ولئن سلَّمنا فهو معارَض بما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم جمع بينهما، وثبت أنه قال: "صلُّوا كما رأيتموني أصلي". وأما وجه الجمع، فهو أن يقول حال الارتفاع: (سمع الله لمن حمده)، وحال الانتصاب (ربَّنا لك الحمد) ". قال: "وفي الكلام التفاتٌ، أي من الغَيْبَةِ إلى الحضور" (¬4). ¬
قال: "فيه دلالة على أنه يستحب للإِمام الجهر بقوله: (سمع الله لمن حمده) ". انتهى. وقال ابن المُلَقِّن في شرح "عمدة الأحكام": "الجواب عن الحديث: أنه عليه الصلاة والسلام علَّمهم ما جهلوه من ذكر الاستواء، بخلاف ذكر الرفع من الركوع وهو التسميع؛ فإنهم كانوا يَعْلَمونه ويعملون به ويتابعون فيه، فلم يُحْتج إلى التنبيه عليه، بخلاف قوله: (ربنا لك الحمد) ". قال: "وكذا الحديث الآخر الذي فيه: "فإنه من وافق قولُه قولَ الإِمام" جوابه ما ذكرناه". وقال في شرحه للبخاري: "استَحَبَّ الشافعيةُ الجمعَ بين (سمع الله لمن حمده) وبين (ربنا لك الحمد). وقالوا: معنى حديث "فقولوا: (ربنا لك الحمد)، أي مع ما قد علمتموه من قول (سمع الله لمن حمده) ". قال: وإنما خصَّه بالذكر؛ لأنه كان يجهر بـ (سمع الله لمن حمده)، فهم كانوا يعلمونه، ولا يعرفون (ربنا لك الحمد)؛ لأنه يُسِرُّ به؛ فلذلك علَّمهم إياه". وهذا سبقه إلى نحوه الشيخ تقي الدين السُّبْكي (¬1) في شرحه للمنهاج (¬2). ¬
وأنا أقول: قد جاء في الصحيحين وغيرهما عِدَّةُ أحاديثَ اكتُفي فيها بـ (سمع الله لمن حمده) عن (ربنا لك الحمد). وقد استدل القاضي عبدُ الوهابِ المالكىُّ (¬1) بالحديث السابق -"إذا قال الإِمام فقولوا"- على أن الإِمام يقتصر على التسميع، والمأموم على التحميد. قال شيخنا الحافظ شهاب الدين ابن حَجَر في شرح حديث: "إنما جُعِلَ الإِمامُ لِيُؤْتَمَّ به" من شرحه للبخاري: "وليس في السياق ما يقتضي المنعَ من ذلك؛ لأن السكوت عن الشيء لا يقتضي تركَ فِعْلِه (¬2)، نَعَمْ مقتضاه أن المأموم يقول: (ربنا لك الحمد) عقب قول الإِمام: (سمع الله لمن حمده)، وأما منع الإِمام من التحميد فليس بشيء؛ لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بينهما" (¬3). ثم بسطه في شرح الحديث الآخر: "إذا قال الإِمام فقولوا"، فقال: "استُدِلَّ به على أن الإِمام لا يقول: (ربنا لك الحمد)، وعلى أن المأموم لا يقول: (سمع الله لمن حمده)؛ لكون ذلك لم يُذكر في هذه الرواية. كذا حكاه الطحاوي، وهو قول مالك وأبي حنيفة". قال: "وفيه نظر؛ لأنَّه ليس فيه ما يدل على النَّفي، بل فيه أن قول ¬
المأموم: (ربنا لك الحمد) يكون عقب قول الإِمام: (سمع الله لمن حمده) ". قال: "والواقع في التصوير ذلك؛ لأن الإِمام يقول التسميع في حال انتقاله، والمأموم يقول التحميد في حال اعتداله عقب قول الإِمام، كما في الخَبَر". قال: "وهذا الموضع يَقْرُب من مسألة التأمين؛ أنه لا يلزم من قوله -يعني في الحديث المشهور-: "إذا قال الإِمام: (ولا الضَّالين)، فقولوا: (آمين) "، أن الإِمام لا يُؤمِّنُ بعد قوله (ولا الضالين)، وليس فيه أن الإِمام يُؤَمِّن، كما أنه ليس في هذا أنه يقول: (ربنا لك الحمد)، لكنهما مستفادان من أدلة أخرى صحيحةٍ صريحةٍ، منها: أنه صلى الله عليه وسلم كان يجمع التسميع والتحميد". قال: "وأما ما احتجوا به من حيث المعنى، من أنَّ معنى (سمع الله لمن حمده)، طلبُ التحميد فيناسب حالَ الإِمام، وأما المأموم فيناسبه الإِجابة بقوله: (ربنا لك الحمد)، ويقويه حديث أبي موسى الأشعري عند مسلم (¬1) وغيره، ففيه: "وإذا قال: (سمع الله لمن حمده)، فقولوا: (ربنا ولك الحمد)؛ يَسْمَعِ الله لكم". فجوابه أن يقال: لا يدل ما ذكرتم على أن الإِمام لا يقول التحميد؛ إذ لا يمتنع أن يكون طالبًا ومجيبًا". قال: "وهو نظير مسألة التأمين؛ أنه لا يلزم من كون الإِمامِ داعياً ¬
بقية مسألة الجهر بالتسميع
والمأمومِ مؤمِّنًا، أن لا يكون الإِمامُ مُؤمِّنًا". قال: "ويَقْرُبُ منه الجمعُ بين الحيعلة والحوقلة لسامع المؤذن" (¬1).انتهى ملخصًا. وهذا القدر كافٍ شافٍ وافٍ والجواب (¬2) عمَّا تمسك به الغير، وإلزامهم نظير ما احتجوا به، و"سنةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحقُّ أن تُتَّبَع"، رواه البخاري في كتابه "رفع اليدين في الصلاة" (¬3) بإسناده الصحيح، عن سالم بن عبد الله بن عمر. ورَوى فيه عن مجاهد قال: "ليس أحدٌ بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلاَّ يُؤخَذُ مِن قوله ويترك إلاَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم" (¬4). وهذا الثاني معناه مشهور عن الإِمام مالك. بقية مسألة الجهر بالتسميع: قال الإِمام النووي في "شرح المهذب" (¬5): "قال صاحب "الحاوي" (¬6) -يعني القاضي الماوردي- وغيرُه: يستحب للإِمام أن يجهر بقوله: (سمع الله لمن حمده)؛ لِيَسْمَعَ المأمومون ويَعْلَموا انتقالَه، ¬
كما يجهر بالتكبير، ويُسِرُ بقوله: (ربنا لك الحمد)؛ لأنه يفعله في الاعتدال، فأُسِرَّ به؛ كالتسبيح في الركوع والسُّجود. وأما المأموم فيُسِرُّ بهما كما يسر بالتكبير، فإن أراد تبليغ غيره انتقالَ الإِمام كما يُبَلَغُ التكبير، جَهَرَ بقوله: (سمع الله لمن حمده)؛ لأنَّه المشروع في حال الارتفاع، ولا يجهر بقوله: (ربنا لك الحمد)؛لأنه إنما يشرع في حال الاعتدال". انتهت عبارته. قال شيخنا شهاب الدين ابن رِسْلان فيما عمله على كتاب "الأذكار" للنووي بعد أن ذكر من"المجموع" له جَهْرَ المبلغ بالتسميع: "ينبغي معرفتُه؛ فإنَّ عَمَلَ الناسِ على خلافه" انتهى. وكذا نقله عنه الشيخ جمالُ الدينِ الإِسنانيُّ في "شرح المنهاج". وجزم سراج الدين ابن الملقِّن وشهاب الدين الأذرعي (¬1) وكمال الدين الأدميري (¬2)، وغير واحد من الشافعية بهذه السُّنَّةِ السَّنِيَّةِ ¬
التي كانت ميتةً في زماننا، لكن أحياها الله على يد مَن شاء، فأحياهُ الله كما أحياها وغَيْرَها مِن الأمور المهملة. وقد اقتصرت فيها على هذه الأحرف النزْرةِ، متبرِّعًا بالإِشارة إلى دليلها وتعليلها؛ لتُحْفَظَ ويُعْلَمَ أنها مذهبنا لا شك فيه، ولا خلاف ولا غبار عليه، عَلِمَه مَن عَلِمَه، وجَهِله مَن جهله. ومع اختصارها ضمَّنتُها ما لا يوجد في الكتب المطوَّلة، مع أنَّ المصلِّيَ لو اقتصر على التسميع دون التحميد، أو تركهما معًا، وتكبيراتِ الانتقال أو الأذكار التي هي هيئاتٌ -وهي معروفة- عمدًا أو سهوًا، كُرِه له كراهةَ ننزيه عندنا وعند الجمهور (¬1) ولم يأثم ولا تبطُل صلاته، ولا يسجد للسهو. لكن ينبغي الإِتيان به (¬2)، والمحافظة عليها (¬3)، بل قال الشافعي في كتابه "الأم" -وتابعه الأصحاب (¬4) -: "لو قال: (مَن حمد الله سمع له) أجزأه". ¬
قال الشيخ أبو إسحاقَ الشيرازيُّ في "المهذب" (¬1) "لأنه أتى باللفظ والمعنى". قال النووي في "الروضة" (¬2): "ولكن (سمع الله لمن حمده) أولى". وقال في "التحقيق" (¬3): "أفضل". وقال في "التحرير" (¬4) و"التهذيب" (¬5) وغيرهما: " (سمع الله ¬
لمن حمده)، أي: تَقَبَّلَ منه حَمْدَه وجازاه به". انتهى. ويقْرُبُ منه اللفظ الآخر: "سمع الله لمن دعا" (¬1)، وكذا لو قال: "ربنا لك -أو: ولك- الحمد"، أو: "اللَّهُمَ ربنا لك -أو: ولك- الحمد". وكذا: "لك الحمد ربَّنا"، فالكُلّ جائز قد ورد به الحديث سوى الأخير، فإنه في "الروضة" (¬2)، وقال: "إن الأول أولى". ولبسط هذا كلِّه موضع آخرُ، وإنما المقصود تقرير هذه السُّنَّة المذكورة، وحثُّ كل من كان على مذهب الشافعي من الخاصَّة والعامة على فعلها وإظهارها؛ لكونها عند من لا يعرفها مستغرَبةً مستهجنةً مهجورةً، ومَن ساءَهُ إحياؤها فأَرغم اللهُ أنفه، وأمات ذكره وعجَّل حتفه (¬3). وقد رُوِيَ عن عليّ بن أبي طالب أنَّه قال: اتَّبع الطريقَ ¬
المستقيم، ولا تستوحِشْ لِقِلَّةِ أهلها، فإنَّ إبراهيم - عليه السلام - كانَ أمَّةً قانتًا لِلَّه وحده". والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنَّا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وصلواته وسلامه على نبيِّه وصفيِّه محمد، الذي أعطاه ما لَم يُعْطِ سواه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه مِن كل حُرٍّ أوَّاه. علَّقه فقير رحمة ربه الغفورِ الرحيم، العبدُ الفقيرُ إليه: إبراهيم، في شهر رمضان المعظم، سنة ثمانٍ وسبعين وثمانمائة (¬1). * * * ¬